الكتاب: التبيان
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٥
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
ردمك:
ملاحظات:

التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 ه‍.
تحقيق وتصحيح
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد الخامس
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي وفقنا لطاعته والعمل على فهم كتابه واحكامه. وإني أشكره
استتماما لنعمته ورضاء بتدبيره واعترافا بربوبيته واعتقادا بحكمته. وصلى الله على
محمد رسوله الأمين وعلى آله الميامين الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وبعد فاني أقدم لاخواني المؤمنين العاملين بأحكام القرآن هذا المجلد الخامس
من تفسير التبيان. وقد لاقيت من العناء في اخراجه الشئ الكثير.
ولما نفد هذا الجزء ورأينا الطلب باقيا توكلنا على الله وأعدناه طبعة ثانية
منقحة والله الملهم للصواب.
أحمد حبيب قصير
3

قوله تعالى:
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له
ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا
بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه
لعلكم تهتدون) (157) آية.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يخاطب الخلق، ويقول لهم إني رسول الله
أرسلني إليكم يعني إلى الناس أجمع " الذي له ملك السماوات والأرض " يعني أرسلني
إليكم الذي له التصرف في السماوات والأرض من غير دافع، ولا منازع " لا إله
اي لا معبود " إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله " أمر من النبي صلى الله عليه وآله للخلق بأن
يصدقوا بتوحيد الله ويقروا بنبوة النبي " الأمي الذي يؤمن " يعني يصدق بالله
وكلماته، وأمرهم بأن يتبعوه ويرجعوا إلى طاعته لكي يهتدوا إلى الثواب والجنة.
و " جميعا " نصب على الحال من ضمير المخاطب الذي عمل حرف الإضافة فيه
والعامل في الحال معنى الفعل في " رسوله " الا أنه لا يتقدم على حرف الإضافة،
لأنه قد صار بمنزلة العامل.
وإنما وصفه بأنه يحيي ويميت لأنه لا يقدر على الاحياء إلا الله، ولا على
الإماتة أيضا سواه لأنه لو قدر أحد على الإماتة لقدر على الاحياء، لان من شأن
القادر على الشئ أن يكون قادرا على ضده، وإنما استعمل بمعنى لتهتدوا على الرجاء
والطمع في الفوز به من العذاب.
قوله تعالى:
(ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (158) آية.
5

أخبر الله تعالى أن من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
قال ابن عباس والسدي: قوم وراء الصين.
وقال أبو جعفر عليه السلام: هم قوم خلف الرمل لم يغيروا ولم يبدلوا.
وأنكر الجبائي قول ابن عباس، وقال شرع موسى عليه السلام، منسوخ بشرع
عيسى عليه السلام وشرع محمد صلى الله عليه وآله فلو كانوا باقين لكفروا بنبوة محمد.
وهذا ليس بشئ، لأنه لا يمتنع أن يكون قوم لم تبلغهم الدعوة من النبي صلى الله عليه وآله
فلا نحكم بكفرهم.
وقال الجبائي يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما - انهم كانوا قوما متمسكين بالحق في وقت ضلالتهم (1) بقتل أنبيائهم.
والاخر - انهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله مثل ابن سلام وابن صوريا وغيرهما.
وتقدير الكلام في معنى الآية إذا: كان من قوم موسى أمة يهدون بالحق
وبه يعدلون، قد مدحوا بذلك وعظموا، فعلى كل أمة أن يكونوا كهذه الأمة
الكريمة في هذا المعنى. والأمة الجماعة التي تؤم أمرا بأن تقصده وتطلبه وأمة
محمد صلى الله عليه وآله تؤم شريعته وأمة موسى وعيسى مثل ذلك.
وليس في الآية ما يدل على أن في كل عصر أمة هادية من قوم موسى لان
بعد نبوة نبينا صلى الله عليه وآله لم يبق أحد يجب اتباعه في شرع موسى عليه السلام وكذلك قوله
تعالى " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " (2) ولا دلالة في ذلك على أن
تلك الأمة موجودة في كل عصر، بل لو لم توجد هذه الأمة الا في وقت واحد هادية
بالحق عادلة به لصح معنى الآية على أن عندنا في كل عصر لا يخلون من قوم بهذا
الوصف وهم حجج الله على خلقه، المعصومين الذين لا يجوز عليهم الخطأ والزلل،
فقد قلنا بموجب الآية.

(1) أي وقت ضلالة قومهم
(2) سورة 7 الأعراف آية.
6

وصريح الآية يدل على بطلان قول من قال لا يهدي إلى الحق الا الله تعالى،
لان الله تعالى بين ان فيمن خلقه أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وظاهر ذلك الحقيقة
وصريح الآية بخلاف ما يقوله المخالف، ولا ينافي ذلك قوله تعالى " من يهد الله
فهو المهتدي " (1) لأنه يصح اجتماعه مع ذلك، والمعنى من يهده الله إلى الجنة فهو
المهتدي إليها على أن قوله تعالى " من يهد الله فهو المهتدي، لا يمنع من أن يهديه
أيضا غير الله ويهتدي، لان المتعلق بذلك تعلق بدليل الخطاب. وهو ليس بصحيح
عند أكثر العلماء، على أن من هدى غيره إلى الحق فإنما يهديه بأن ينبهه على الحجج
التي نصبها الله على الحق فجاز ان يضاف ذلك إلى أنه بهداية الله. ومن حمل قوله
تعالى " يهدون " على أن المعنى يهتدون فقد غلط، لان ذلك لا يعرف في اللغة.
قوله تعالى:
(وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى
إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه
اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام
وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما
ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (159) آية.
قد مضى تأويل معنى أكثر هذه الآية في سورة البقرة (2) فلا معنى
للتطويل بذكر ما مضى وإنما نذكر ما لم يذكر هناك: إنما أنث قوله اثنتي عشرة
أسباطا لأن النية التقديم والتأخير والتقدير وقطعناهم أمما اثنتي عشرة أسباطا ولم

(1) سورة الأعراف آية 177
(2) آية 60 من سورة البقرة المجلد 1 / 269
7

يقل سبطا لاحد ثلاثة أشياء:
أحدها - انه بدل ليس بتمييز والمعنى قطعناهم أسباطا ذكر ذلك الزجاج.
الثاني - على أن كل قسم أسباط لان الواحد يقال له سبط، فيجوز على هذا
عندي عشرون دراهم على أن كل قسم منها دراهم قال كثير:
علي والثلاثة من بنيه * هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط ايمان وبر * وسبط غيبته كربلا (1)
الثالث - أن يكون أقام الصفة مقام الموصوف. وتقديره اثنتي عشرة
فرقة أسباطا.
والسبط: الجماعة التي تجري في الامر بسهولة لاتفاقهم في الكلمة على أنه
مأخوذ من السبوط. وقيل إنه مأخوذ من السبط ضرب من الشجر، فجعل الأب
الذي يجمعهم كالشجرة التي تتفرع عنها الأغصان الكثيرة. وقال أبو علي لأنهم
كانوا بني اثني عشر رجلا من ولد يعقوب وقيل إنما فرقوا أسباطا لاختلاف رتبتهم.
والانبجاس: خروج الماء الجاري بقلة، والانفجار خروجه بكثرة، فكان
يبتدئ بقلة ثم يتسع حتى يصير إلى الكثرة، فلذلك ذكره ههنا بالانبجاس وفي
البقرة بالانفجار.
والظلة السترة التي تقي من الشمس، والأغلب عليها العلو.
فجعل الله عز وجل لهم من الغمام ظلة تكنهم لما احتاجوا إلى ذلك في التيه كما
أعطاهم المن والسلوى. والمن ضرب من الحلاوة يسقط على الشجر. والسلوى طائر
كالسماني. وإنما أنث " اثنتا عشرة أسباطا " مع أن السبط ذكر، لاحد ثلاثة أشياء:
أحدها - اثنتي عشرة فرقة ثم حذف.
الثاني - وقطعناهم قطعا اثنتي عشرة، فحذف على هذا التقدير.
الثالث - أن السبط لما وقع على الأمة أنث. كما قال الشاعر:

(1) الأغاني 9 / 14.
8

وان كلابا هذه عشر أبطن * وأنت برئ من قبائلها العشر
وقوله تعالى " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " معناه: ما أنقصونا
شيئا ولكن انقصوا أنفسهم تقول العرب: ظلمت سقاك إذا سقيته قبل ان يخرج
زبده، ويقال: ظلم الوادي إذا بلغ الماء منه موضعا لم يكن ناله فيما مضى، قال
الفراء وأنشدني بعضهم:
يكاد يطلع ظلما ثم يمنعه * عن الشواهق فالوادي به شرق
ويقال هو أظلم من حية. لأنها تأتي حجر ألم تحفره فتسكنه ويقال ما ظلمك
ان تفعل كذا أي ما منعك. والأرض المظلومة التي لم ينلها المطر.
قوله تعالى:
(وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث
شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم
سنزيد المحسنين) (160) آية بلا خلاف.
قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب (يغفر) بالياء وضمها، وفتح الفاء الباقون
بالنون وكسر الفاء، وقرأ أهل المدينة ويعقوب (خطيئاتكم) على جمع السلامة
ورفع التاء، وقرأ ابن عامر على التوحيد ورفع التاء، وقرأ أبو عمرو (خطاياكم)
بغير همز على جمع التكسير، الباقون وهم ابن كثير وأهل الكوفة (خطيأتكم)
على جمع السلامة وكسر التاء.
من قرأ " يغفر " حمله على قوله تعالى " وإذ قيل لهم " ادخلوا.. يغفر،
والتي في البقرة (نغفر) بالنون، فالنون هناك أحسن لقوله " وإذ قلنا " وجاز ههنا
بالنون كأنه قيل لهم ادخلوا.. نغفر. أي إن دخلتم غفرنا.
ومن قرأ تغفر بالتاء المضمومة فلانه اسند إليها خطيئاتكم وهو مؤنث فأنث
9

وبنى الفعل للمفعول أشبه بما قبله، لان قبله وإذ قيل.
ومن قرأ بالنون فلقوله " سنزيد المحسنين "
وخطايا جمع خطيئة جمع تكسير (وخطياتكم) مسكنا لأنه يكثر فيه السكون
وسميت القرية قرية لأن الماء يقري إليها يقال قريت الماء في الحوض أقريه قريا
إذا جمعته. ويجوز أن يكون مشتقا من اجتماع الناس إليها.
وقد مضى تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة (1) فلا معنى لإعادته.
وإنما نذكر جمل ذلك فنقول:
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله يقول اذكر يا محمد إذ قيل لبني
إسرائيل اسكنوا هذه القرية وهي بيت المقدس على قول الجبائي وغيره من المفسرين
وقال الحسين هي ارض الشام. وقال قوم غير ذلك. وقد ذكرنا اختلافهم
في سورة البقرة (2) لأنه كان أمرهم بدخولها واخراج من فيها من الكفار وغيرهم
ووعدهم ان يوسع عليهم فيها الزرق ويبيحهم ذلك ليأكلوا من حيث شاؤوا ما يريدون
من أنواع الأغذية والرزق. وقال لهم: " كلوا من حيث شئتم " على كثرة الرزق
والغذاء في هذه القرية وفي كل ناحية منها.
وقوله تعالى: " وادخلوا الباب سجدا " يعني متواضعين وكانوا أمروا بأن
يدخلوا بابا منه معينا في هذا الموضع كانوا فيه - في قول الجبائي - وقال ذلك قبل
دخلوهم إلى بيت المقدس، قال ولم يد ان يدخلوا الباب سجدا منحنين.
قال ابن عباس كان هناك باب ضيق أمروا بان يدخلوه ركعا فدخلوه على
استاههم. وقيل لهم " قولوا حطة " أي مغفرة، فقالوا حنطة. وذكرنا اختلاف
الناس في ذلك.
وقوله " وقولوا حطة " معناه قولوا حط عنا ذنوبنا وهو بمنزلة الاستغفار والتوبة.
وقوله " نغفر لكم خطاياكم " جواب الامر وفيه معنى الجزاء. والتقدير انكم

(1) آية 58 المجلد 1 / 263
(2) آية 58 المجلد 1 / 263
10

ان فعلتم ذلك غفرنا لكم خطاياكم. وقوله (سنزيد المحسنين) معناه سنزيد
المحسنين منكم نعما وفضلا في الدنيا والآخرة، ولا نقتصر لهم على نعم هذه القرية.
ورفع حطة على تقدير مسألتنا حطة ومطلوبنا حطة. وان نصب جاز بمعنى
حط عنا حطة. وقوله سجدا نصب على الحال من دخول الباب. وقال أبو علي ليس
بحال لدخول الباب، لأنهم بدلوا في حياة موسى.
قوله تعالى:
فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا
عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (161) آية
اخبر الله تعالى عن هؤلاء الذين أمرهم بدخول القرية متواضعين، وان
يقولوا حطة لذنوبنا، انهم بدلوا قولا غير الذي قيل لهم.
والتبديل تغيير الشئ برفعه إلى بدل، فقال الحسن قالوا حنطة بدل حطة.
وقال قوم: قالوا قولا ينافي الاستغفار ويخالف التوبة. وقالوا ما يدل على الاصرار.
وأخبر تعالى انه ارسل عليهم عند ذلك رجزا وهو العذاب والعقوبة جزاء بما
كانوا يفعلونه من معاصي الله تعالى ويظلمون بها أنفسهم.
واصل الرجز الميل عن الحق فمنه الرجازة وما يعدل به الحمل إذا مال عن خفة
والرجز عبادة الوثن. والناقة الرجزاء التي تميل في أحد شقيها لداء يعرض لها في عجزها
قوله تعالى:
وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في
السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون
لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (162) آية.
11

القراء كلهم على فتح الياء في قوله تعالى (لا يسبتون) وروي عن الحسن ضمها.
من قال أسبتوا أراد دخلوا في السبت ومن فتح الياء أراد يفعلون السبت اي
يقومون بأمره كما يفعل المسلمون يوم الجمعة، ومثله أجمعنا اي مرت بنا جمعة،
وجمعنا شهدنا الجمعة. قال الفراء: قال لي بعض العرب: أترانا اشهرنا منذ لم
نلتق يريد مر بنا شهرا.
امر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يسأل بني إسرائيل الذين كانوا في وقته عن القرية التي
كانت حاضرة البحر، وعن سبب هلاكها، سؤال تقرير وتوبيخ لا سؤال استفهام،
كما يقول الرجل لغيره أنا فعلت كذا؟ وأنت تعلم أنك لم تفعل، وإنما تسأله لتقريره
وتوبيخه، فوجه امر النبي صلى الله عليه وآله ان يسأل أهل الكتاب عن أهل هذه القرية مع ما اخبره
الله تعالى بقصتها لتقرير هم تقديم كفرهم وتعلمهم ما لا يعلم الا بكتاب أو وحي، وهو صلى الله عليه وآله
لم يكن ممن قرأ الكتب، فعلموا بذلك ان ذلك وحي انزل عليه.
وقوله تعالى (إذ يعدون في السبت) معناه إذ يظلمون في السبت، يقال عدا
فلان يعدو عدوانا، وعدا عدوا إذا ظلم.
وقوله تعالى (إذ تأتيهم حيتانهم) في موضع نصب بيعدون.
والمعنى سلهم إذ عدوا في وقت اتيان الحيتان " شرعا " اي ظاهرة والحيتان
جمع حوت وأكثر ما يسمي العرب السمك بالحيتان والنيتان، وكانت الحيتان تأتي
ظاهرة فكانوا يحتالون بحبسها يوم السبت ثم يأخذونها في يوم الأحد. وقال
قوم: جاهروا بأخذها يوم السبت.
وقوله تعالى (كذلك نبلوهم) اي مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم.
وموضع الكاف نصب بقوله: (نبلوهم بما كانوا يفسقون) اي شددت عليهم المحنة
بفسقهم. قال الزجاج ويحتمل أن يكون " ويوم يسبتون لا تأتيهم كذلك " اي
لا تأتيهم شرعا ويكون " نبلوهم " مستأنفا. والأول قول أكثر المفسرين.
والوجه في تشديد المحنة التي هي التكليف أن الله تعالى أمر بني إسرائيل
12

بامساك السبت والتفرغ فيه للعبادة وأن لا يتشاغلوا بشئ من أمر الدنيا فيه فتهاون
قم ممن كان يسكن هذه القرية وهي (أيلة) في قول قوم من المفسرين. وقال
قوم هي مدين. ورويا جميعا عن ابن عباس، ولم يقوموا بما وجب عليهم فشدد الله
على من اخذوه. قال الحسن: كانت تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض
فيعدون فيأخذونها وتبعد عنهم في باقي الأيام وأمرهم ان لا يصطادوا يوم السبت فكان
ذلك تشديدا للتكليف وتغليظا للمحنة والبلوى، وكان ذلك عقوبة على تهاونهم بما
أوجب الله عليهم فخالفوا فأرسلوا الشباك يوم السبت وأخرجوها يوم الأحد.
قوله تعالى:
وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم
أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون
(163) آية بلا خلاف.
قرأ حفص وحده عن عاصم " معذرة " بالنصب. الباقون بالرفع.
من رفع فعلى تقدير موعظتنا معذرة إلى ربكم. ومن نصب فعلى المصدر،
كما يقول القائل لغيره: معذرة إلى الله واليك من كذا على النصب.
والمعنى قالوا نعتذر معذرة واعذارا.
قال أبو زيد عذرته أعذره عذرا ومعذرة وعذرى. والتقدير واذكر إذ قالت
أمة منهم لطائفة منهم لم تعظون قوما علمتم انهم هالكون في الدنيا ويعذبهم الله
عذابا شديدا في الآخرة، فقالوا في جوابهم وعظناهم إعذارا إلى الله اي نعظهم
اعتذارا إلى ربكم لئلا يقول لنا لم لم تعظوهم ولعلهم أيضا بالوعظ يتقون ويرجعون.
وفي ذلك دليل على أنه يجب النهي عن القبيح وإن علم الناهي ان المنهي
لا ينزجر ولا يقبل، وان ذلك هو الحكمة والصواب الذي لا يجوز غيره.
13

واختلفوا في هذه الفرقة التي قالت: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ هل كانت من
الناجية أو من الهالكة عن الاعتداء في السبت. ذهب إليه ابن عباس وقال نجت
الطائفتان من الهلاك الناهية والتي قالت لها لم تعظون، وبه قال السدي
وقال قوم الفرقة التي قالت لم تعظون قوما الله مهلكهم كانت من الفرقة الهالكة
ذهب إليه ابن عباس في رواية أخرى عنه.
وقال قتادة عن ابن عباس هم ثلاث فرق التي وعظت والموعظة، فنجت الأولى
وهلكت الثانية، والله أعلم ما فعلت الفرقة الثالثة، وهم الذين قالوا لم تعظون
واختاره الجبائي.
وقال الكلبي: هما فرقتان الواعظة والمواعظة.
وقال الجبائي لم يريدوا بذلك الا نهيهم إياهم عن ذلك القبيح. وإنما قالوا ذلك
على سبيل الاياس من قبولهم منهم.
وقوله " لم " أصله (لما) الا انه حذف الألف مع حرف الجر نحو " عم يتساءلون "
ولم يقولوا (عن ما).
قوله تعالى:
فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء
وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (164) آية
قرأ أبو بكر إلا العليمي " بيئس " بفتح الباء وبعدها ياء ساكنة وبعدها همزة
مفتوحة على وزن (فيعل) وروي عنه بكسر الهمزة. وقرأ أهل المدينة والداحوني
عن هشام بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة من غير همز. وقرأ مثل ذلك ابن عامر
الا الداحوني عن هشام إلا أنه همز. والباقون بفتح الباء وبعدها همزة مكسورة
بعدها ياء ساكنة على وزن (فعيل). وروى خارجة عن نافع بفتح الباء بعدها
14

ياء بلا همز على وزن (فعل).
قال أبو زيد: قد بؤس الرجل يبؤس بأسا إذا كان شديد البأس، وفي البؤس
بئس وبيس يبأس بؤسا وبيئسا وباسا والبأساء الاسم.
قال أبو علي: من قرأ على وزن (فعيل) يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون فعيلا من بؤس يبؤس إذا كان شديد البأس مثل " من
عذاب شديد " (1) قال أبو محمد الفقعسي:
أشعث غير حسن اللبوس * باق على عيش له بئيس
أي شديد.
والثاني - أن يكون من عذاب ذي بئيس. فوضعه بالمصدر، والمصدر قد
يجئ على (فعيل) مثل نكير ونذير وشحيح وعذير الحي، والتقدير من عذاب ذي
بئيس أي عذاب ذي بؤس.
ومن قرأ بكسر الباء من غير همز فإنه جعلها اسما، فوصفه به مثل قوله صلى الله عليه وآله
(إن الله نهى عن قيل وقال) ومثله: منذ شب إلى رب. ونظيره من الصفة نقض وبصق.
ومن فتح الباء من غير همز فهو أيضا (فعل) في الأصل وصف به وأبدلت الهمزة
ياء وحكى سيبويه أنه سمع بعض العرب يقول: بيس فلا يحقق الهمزة ويدع الحرف
على الأصل الذي هو (فعل) كأنه يسكن العين كما يسكن من (علم) ويقلب
الهمزة ياء الا أنه لما أسكنها لم يجز أن يجعلها بين بين فأخلصها ياء.
وقراءة ابن عامر مثل قراءة نافع إلا أن ابن عامر حقق الهمزة.
وقراءة أبي بكر على وزن " فيعل " فإنه جعله وصفا كضيغم وحيدر، وهذا
البناء كثير في الصفة ولا يجوز كسر العين من بيئس لان " فيعل " بناء اختص به ما
كان عينه ياء أو واوا مثل سيد وطيب، ولم يجئ مثل ضيغم وجاء في المعتل
حكى سيبويه عين وانشد لرؤبة.

(1) سورة 14 إبراهيم آية 2
15

ما بال عيني كالشعيب العين (1)
فينبغي ان يحمل بيئس على الوهم عمن رواه عن عاصم والأعمش بالكسر وقد
أنشد بعضهم:
كلاهما كان رئيسا بيئسا * يضرب في يوم الهياج القونسا (2)
أعلى كل شئ قونسه بكسر العين. فمن كسر العين حمله على هذه اللغة.
أخبر الله تعالى أنه لما ترك أهل هذه القرية الرجوع عن ارتكاب المعصية بصيد
السمك يوم السبت بعد أن ذكرهم الواعظون ذلك ولم ينتهوا عن ذلك أنه أنجى
الناهين عن ذلك وأخذ الذين ظلموا أنفسهم بعذاب شديد جزاء بما كانوا يفسقون
ويخرجون عن طاعة الله إلى معصيته.
وروي عن عطا أن رجلا دخل على ابن عباس وبين يديه المصحف وهو يبكى
وقد أتى على هذه الآية إلى آخرها، فقال ابن عباس قد علمت أن الله أهلك الذين
أخذوا الحيتان وأنجى الذين نهوهم، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوهم ولم
يواقعوا المعصية وهي حالنا.
و " نسوا " في الآية معناه تركوا ويحتمل أن يكون تركهم القبول في منزلة
من نسئ، ولا يجوز أن يكون المراد النسيان الذي هو السهو، لأنه ليس من فعلهم
فلا يذمون عليه.
وقال الجبائي العذاب الشديد لحقهم قبل ان يمسخوا قردة خاسئين.
قوله تعالى:
فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (165) آية

(1) وقيل قائله الطرماح. اللسان (عين)
(2) قائله امرئ القيس بن عابس الكندي. تفسير ابن حيان 4 / 143
وتفسير الطبري 13 / 200
16

اخبر الله تعالى عن هؤلاء العصاة الذين عصوا بصيد السمك في السبت، ونهوا
فلم ينتهوا ووعظوا فلم يتعظوا، وأنه أنزل عليهم العذاب الشديد، فلما عتوا عما نهى
الله وتمردوا في معصيته مسخهم الله قردة خاسئين.
والعاتي الشديد الدخول في الفساد المتمرد الذي لا يقبل موعظة. والعتو الخروج
إلى الجرأة على أفحش الذنوب. وقوله " خاسئين " معناه مبعدين من قولهم خسأت
الكلب إذا أقصيته فخسأ أي بعد. وقال الحسن معناه صاغرين، وقال: إن أهل
المسخ يتناسلون. وقال ابن عباس: لا يتناسلون، وأجاز الزجاج كلا الامرين.
وسئل أبو مالك: أكانت القردة والخنازير قبل ان يمسخوا؟ قال: نعم وكانوا
فيما خلق الله من الأمم. وقول ابن عباس أصح، لان المعلوم أن القردة ليست
من ولد آدم كما أن الكلاب ليست من ولد آدم. قال قتادة: صاروا قردة لها
أذناب تعاوي بعد ما كانوا نساء ورجالا.
وقوله تعالى: " كونوا قردة " صيغته صيغة الامر والمراد به الاخبار: من
أنه جعلهم قردة على وجه يسهل عليه ولم يتعب به ولم ينصب كما قال تعالى: " إنما
قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " (1). وقال " ائتيا طوعا أو كرها
قالتا أتينا طائعين " (2) ولم يكن هناك أمر لأنه تعالى لا يأمر المعدوم، وإنما هو
إخبار عن تسهيل الفعل، وأجاز الزجاج أن يكون قيل لهم ذلك بكلام سمعوه فيكون
ذلك أبلغ في الآية النازلة بهم لما يدل على وقوع الأول الذي تبعه الثاني. وليس
كذلك إذا قلت: لما جاء المطر خرج النبات، وقوله تعالى " ولو ردوا لعادوا "
فلا يقع الرد أصلا.
قوله تعالى:
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيمة من

(1) سورة 16 النحل آية 40
(2) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 11
17

يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور
رحيم (166) آية بلا خلاف.
التقدير اذكر يا محمد " إن تأذن ربك " ومعنى تأذن: أعلم، والعرب تقول
تعلم أن هذا كذا بمعنى إعلم، قال زهير:
تعلم أن شر الناس حي * ينادي في شعارهم يسار (1)
ويسار اسم عبد. وقال زهير أيضا:
فقلت تعلم أن للصيد غرة * والا تضيعه فإنك قاتله (2)
وقال الزجاج معنى (تأذن) تألا ربك ليبعثن. وقال قوم: معناه امر من اذن
يأذن. وقوله: " ليبعثن عليهم إلى يوم القيمة من يسومهم سوء العذاب " قسم من
الله تعالى انه يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب اي من يوليهم سوء العذاب.
قال أبو جعفر عليه السلام وابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير والحسن: أراد به
أمة محمد صلى الله عليه اله يأخذون منهم الجزية.
فان قيل فقد جعلوا قردة كيف يبقون إلى يوم القيامة؟
قلنا: إن الذكر لليهود فمنهم من مسخ فجعل منهم القردة والخنازير ومن
بقي قمع بذل من الله، فهم أذلاء بالقتل أو أذلاء باعطاء الجزية، فهم في كل مكان
أذل أهله لقوله تعالى " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل
من الناس " (3) أي إلا أن يعطوا الذمة والعهد.
وفي الآية دليل على أن اليهود لا يكون لهم دولة إلى يوم القيامة ولا عزلهم
أيضا وقيل في معنى البعث ههنا قولان: أحدهما - الامر والاطلاق. والاخر -

(1) الأغاني - دار الثقافة بيروت - 10: 317 الشعار علامة ينصبونها في سفرهم
(2) تفسير القرطي 7: 309. وروايته (تضيعها) بدل (تضيعه).
(3) سورة 3 آل عمران آية 112
18

التخلية، وإن وقع على وجه المعصية، كما قال تعالى: " أنا أرسلنا الشياطين على
الكافرين تؤزهم أزا " (1).
وقوله تعالى: " إن ربك لشديد العقاب " معناه إن ربك يا محمد لسريع العقاب
لمن يستوجبه على كفره ومعصيته " وانه لغفور رحيم " اي صفوح عن ذنوب
من تاب إليه من معاصيه ورجع إلى طاعته يستر عليهم بعفوه وبفضله رحمة بهم
فلا ينبغي لاحد ان يصر ويأمن عقابه بل ينبغي ان يجوز سرعة عقابه فيبادر إلى
التوبة والاستغفار.
قوله تعالى:
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون
ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون (167) آية
اخبر الله تعالى انه قطع بني إسرائيل يعنى فرقهم فرقا في الأرض " أمما " يعني
جماعات شتى متفرقين في البلاد، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وعلى اي وجه
فرقهم؟ قيل فيه قولان:
أحدهما - فرقهم حتى تشتت أمرهم وذهب عزهم عقوبة لهم.
الثاني - فرقهم على ما علم أنه أصلح لهم في دينهم.
ثم اخبر عنهم فقال: من هؤلاء الصالحون يعني من بني إسرائيل الصالحون،
وهم الذين يؤمنون بالله ورسله، ومنهم دون ذلك يعني دون الصالح، وإنما
وصفهم بذلك لما كانوا عليه قبل ارتدادهم عن دينهم، وقبل كفرهم بربهم، وذلك
قبل ان يبعث فيهم عيسى عليه السلام.
وقوله: " وبلوناهم بالحسنات والسيئات " معناه اختبرناهم بالرخاء في العيش

(1) سورة 19 مريم آية 84
19

والحفض في الدنيا والدعة والسعة في الرزق، وهي الحسنات. ويعني بالسيئات الشدائد
في الحبس والمصائب في الأنفس والأموال " لعلهم يرجعون " اي لكي يرجعوا
إلى طاعته وينيبوا إلى امتثال امره.
فان قيل كيف قال: لكي يرجعوا إلى الحق. وهم لم يكونوا عليه قط؟!
قلنا عنه جوابان:
أحدهما - انهم مارون على وجوههم إلى جهة الباطل فدعوا إلى الرجوع إلى
جهة الحق لان الانصراف عن الباطل رجوع إلى الحق.
الثاني - انهم ولدوا على الفطرة وهي دين الحق الذي يلزمهم الرجوع إليه.
قوله تعالى:
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون
عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض
مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على
الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون
أفلا تعقلون (168) آية بلا خلاف.
معنى الآية ان الله اخبر انه خلف - بعد القوم الذين كانوا فرقهم في الأرض -
خلف، وهم قوم نشؤوا بعدهم من أولادهم ونسلهم، يقال للقرن الذي يجئ في
اثر قرن خلف، والخلف ما اخلف عليك بدلا مما اخذ منك. ويقال في هذا خلف
أيضا. فأما ما اخلف عليك بدلا مما ذهب منك، فهو - بفتح اللام - افصح. قال
الفراء: يقال: أعطاك خلفا مما ذهب لك، فأنت خلف صدق وخلف سوء، قال
الله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة " (1) وأكثر ما يجئ في المدح

(1) سورة 19 مريم آية 59
20

بفتح اللام - وفي الذم بتسكينها - وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح، فمن
ذلك في تسكين اللام في المدح قول حسان بن ثابت:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة الله تابع (1)
ويقال: خلف اللبن إذا حمض من طول تركه من السقاء حتى يفسد، فالرجل
الفاسق مشبه به، ومنه خلوف فم الصائم وهو تغيره. وأما بتسكين اللام في الذم
فقول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب (2)
وقيل إن الخلف الذين ذكرهم الله في هذه الآية أنهم خلفوا من قبلهم هم
النصارى - ذهب إليه مجاهد - وهذا الذي قاله جائز، وجائز أيضا أن يكون المراد به
قوم خلفوهم من اليهود.
وقوله تعالى " ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى " قال قوم. كانوا
يرتشون على الاحكام، ويحكمون بجور. وقال آخرون: كانوا يرتشون
ويحكون بحق، وكل ذلك عرض خسيس، ومعنى " هذا الأدنى " هذا العاجل
و " يقولون سيغفر لنا " معناه إذا فعلوا ذلك يقولون الله يغفر لنا ذلك تمنيا منهم
للأباطيل كما قال تعالى " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا
من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " (3).
وقوله تعالى " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " دليل على اصرارهم وأنهم تمنوا
أن يغفر لهم مع الاصرار، لان المعنى وان جاءهم حرام من الرشوة بعد ذلك أخذوه
واستحلوه، ولم يرتدعوا عنه - وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن عباس
وقال الحسن: معناه لا يشبعهم شئ.

(1) ديوانه: 84.
واللسان (خلف) وتفسير القرطبي 7 / 310
(2) ديونه القصيدة: 8. واللسان (خلف) وتفسير القرطبي 7 / 310
(3) سورة 2 البقرة آية 79
21

وقوله " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ان لا يقولوا على الله الا الحق ودرسوا
ما فيه " معناه ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في الاحكام القائلين سيغفر لنا هذا إذا
عوتبوا على ذلك و " ميثاق الكتاب " هو ما أخذ الله على بني إسرائيل من العهود
بإقامة التوراة والعمل بما فيها، فقال تعالى لهؤلاء الذين قصهم توبيخا لهم على
خلافهم امره ونقضهم عهده وميثاقه: ألم يأخذ الله عليهم الميثاق في كتابه ان
لا يقولوا على الله الا الحق، ولا يضيفوا إليه الا ما أنزله على رسوله موسى في التوراة
ولا يكذبوا عليه وإنما احتج عليهم بميثاق الكتاب، ولم يحتج عليهم بالعقل، ليعلمنا
ما لا نعلمه مما هو في كتبهم من أدلة تؤكد ما في العقل.
وقوله تعالى: " ودرسوا ما فيه " المعنى قرؤوا ما فيه ودرسوه فضيعوه،
وتركوا العمل به. والدرس تكرر الشئ يقال درس الكتاب إذا كرر قراءته،
ودرس المنزل: إذا تكرر عليه مرور الأمطار والرياح حتى يمحى اثره.
وقوله تعالى " والدار الآخرة خير للذين يتقون " أي ما أعده الله تعالى لأوليائه
في دار الآخرة من النعيم والثواب وذخره للعاملين بطاعته الحافظين لحدوده " خير
للذين يتقون " يعني يجتنبون معاصي الله ويحذرون عقابه.
وقوله: " أفلا تعقلون " فمن قرأ بالياء معناه تعقل هذه الطائفة التي
تقدم ذكرها وهم الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم ويقولون سيغفر
لنا. ومن قرأ بالتاء قال: معناه قل لهم: أفلا تعقلون الامر على ما اخبر الله به.
وحكي ان طيا في جمع ميثاق: مياثيق، وفي جمع ميزان: ميازين،
وحكي عن غيرهم من أهل الحجاز أيضا ذلك وانشد بعض الطائيين:
حمى لا يحل الدهر الا باذننا * ولا نسل الأقوام عقد المياثيق (1)

(1) قائله عياض بن درة الطائي. اللسان (وثق)
22

قوله تعالى:
والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع
أجر المصلحين (169) آية.
قرأ أبو بكر " يمسكون " بتسكين الميم، الباقون بفتحها وتشديد السين. من
خفف السين فلقوله تعالى " فامساك بمعروف " (1) وقوله " إمسك عليك زوجك " (2)
وقوله " فكلوا مما أمسكن " (3). ومن شدد أراد التكثير، وهو أولى لقول تعالى
" وتؤمنون بالكتاب كله " (4) اي لا تؤمنون ببعضه وتكفرون ببعضه بل تؤمنون
بجميعه. ويقوي التشديد ما روي عن أبي أنه قرأ (مسكوا بالكتاب " ومعنى
" يمسكون " اي يأخذون فيه من حلاله وحرامه.
أخبر الله تعالى ان الذين يعملون بما في الكتاب ويقيمون الصلاة مع دخولها
في التمسك بالكتاب لجلالة موقعها وشدة تأكدها أنه لا يضيع جزاء عملهم، ويثيبهم بما
يستحقونه، لأني لا أضيع لاحد - أصلح عمله فعمل بطاعتي - أجر عمله، وهو قول
ابن زيد ومجاهد، وجميع المفسرين. والتقدير إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم
لان من كان غير مؤمن وأصلح فأجره ساقط، لأنه يوقعه على خلاف الوجه الذي
يستحق به الثواب. ويمسكون بالكتاب ويمسكون ويتمسكون ويستمسكون بمعنى
واحد أي يعتصمون به ويعملون بما فيه. وخبر (الذين) قوله " إنا لا نضيع اجر
المصلحين " فاستغنى بذكر العلة عن ذكر المعلول.

(1) سورة 2 البقرة آية 229
(2) سورة 33 الأحزاب آية 37.
(3) سورة 5 المائدة آية 5
(4) سورة 3 آل عمران آية 119
23

قوله تعالى:
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم
خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (170) آية
هذا خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وآله يقول الله له: اذكر يا محمد الوقت الذي نتقا فيه
الجبل اي رفعناه فوقهم حتى صار كأنه ظلة. وقيل: إنه رفع الجبل على عسكرهم
فرسخا في فرسخ.
وامرأة منتاق وناتق كثيرة الولد. وقال ابن الاعرابي الناتق الرافع، والناتق
الفاتق، الناتق الباسط، وقال العجاج:
ينتق انتقاق الشليل نتقا (1)
يعني يرفعه عن ظهره. وقال الآخر:
ونتقوا أحلامنا الاثاقلا (2)
وقال النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم * دحقت عليك بناتق مذكار (3)
ويروى طفحت عليك بناتق. ويقال: تتق السير إذا حركه، ويقال: ما ينتق
برجله ولا يركض، والنتق نتق الدابة صاحبها حين تعدو به وتتبعه حتى تربو فذلك
النتق. وقال بعضهم: معنى " نتقنا الجبل فوقهم " فرفعناه بنتقه نتقا. قال أبو عبيدة:
سمعت من يقول: أخذ الجراب فنتق ما فيه إذا نثر ما فيه والأصل نتقت كل شئ
وقوله عز وجل " كأنه ظلة " يعني به غماما من الظلال وقول " وظنوا أنه واقع بهم "
قال الحسن معناه علموا. وقال الجبائي والرماني: هو الظن بعينه، لأنه قوي في

(1) ديوانه 40 وتفسير الطبري الطبعة الثانية 9 / 109
(2) اللسان (نتق) وتفسير الطبري الطبعة الثانية 9 / 110
(3) اللسان (نتق) وتفسير الطبري الطبعة الثانية 9 / 110
24

نفوسهم ذلك.
وقوله " خذوا ما آتيناكم بقوة " أي قلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بجد يعني
ما ألزمناكم من احكام كتابنا وفرائضه فاقبلوه باجتهاد منكم في أوانه من غير
تقصير ولا توان. وقال الجبائي: معناه خذوه بالقدرة التي آتاكم الله وأقدركم بها
لأنهم لو لم يكونوا قادرين لما كلفهم الله ذلك، وذلك يفسد مذهب من قال القدرة
مع الفعل.
وقوله " واذكروا ما فيه " معناه ما في كتابه من العهود والمواثيق التي
أخذناها عليكم، بالعمل بما فيه لكي تتقوا ربكم فتخافوا عقابه بترككم العمل به
إذا ذكرتم ما اخذ عليكم فيه من مواثيق.
وكان سبب رفع الجبل عليهم ان موسى عليه السلام لما اتاهم بالتوراة ووقفوا على
ما فيها من الاحكام والحدود والتشديد في العبادة أبوا أن يقبلوا ذلك وان يتمسكوا
به وان يعملوا بما فيه. وقالوا: إن ذلك يغلظ علينا، فرفع الله الجبل كالظلة عليهم،
وعرفهم موسى انهم إن لم يقبلوا التوراة ولم يعملوا بما فيها وقع عليهم فأخذوا
بالتوراة وقبلوا ما فيها وصرف الله نزول الجبل عليهم. قال ابن عباس فلذلك صارت
اليهود تسجد على قرنها الأيسر، لأنهم سجدوا كذلك ينظرون إلى الجبل وكأنها
سجدة نصبها الله. وإنما اتخذت النصارى المشرق قبلة، لان مريم عليها السلام اتخذت
مكانا شرقيا حين حملت بعيسى. وقال مجاهد: معناه إن أخذتموه بجد وحسن نية
وإلا القي الجبل عليكم. وقال أبو مسلم إن رفع الجبل كان ليظلم من الغمام، وذلك
خلاف أقوال المفسرين وما يقتضيه سياق الكلام.
قوله تعالى:
وإذ أخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم
على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيمة
25

إنا كنا عن هذا غافلين (171) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من
قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (172) آية
قرأ ابن كثير وأهل الكوفة " ذريتهم " على التوحيد. الباقون ذرياتهم على
الجمع. وقرأ أبو عمرو " وان يقولوا، أو يقولوا " بالياء فيهما. الباقون بالتاء
و (الذرية) قد يكون جمعا نحو قوله تعالى " وكنا ذرية من بعدهم " وقوله
تعالى " ذرية من حملنا مع نوح " (1) وقد يكون واحدا كقوله: " هب لي من لدنك
ذرية طيبة.. فنادته الملائكة.. أن الله يبشرك بيحيى " (2) فهو مثل قوله:
" فهب لي من لدنك وليا يرثني " (3) فقال الله: " يا زكريا إنا نبشرك بغلام
اسمه يحيى " (4).
فمن أفرد جعله اسما واستغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع.
ومن جمع قال: لأنه إن كان واقعا على الواحد فلا شك في جواز جمعه وإن
كان جمعا فجمعه أيضا حسن، لأنه قد وردت الجموع المكسرة وقد جمعت نحو الطرقات
وصواحبات يوسف.
وحجة من أفرد قال: لا يقع على الواحد والجميع. فأما وزن (ذرية) فإنه
يجوز أن تكون (فعلولة) من الذر، فأبدلت من الراء التي هي لام الفعل الأخيرة
ياء كما أبدلت من دهرية، يدلك على البدل فيه قولهم: دهرورة، ويحتمل أن تكون
فعلية منه فأبدلت من الراء الباء، كما تبدل من هذه الحروف في التضعيف
وإن وقع فيها الفصل. ويحتمل أن تكون (فعليه) نسبة إلى الذر وأبدلت الفتحة منها
ضمة كما أبدلوا في الإضافة إلى الدهر دهري والى سهل سهلي ويجوز أن تكون (فعلية)
من ذرأ الله الخلق، أجمعوا على تخفيفها كما أجمعوا على تخفيف البرية. ويجوز ان

(1) سورة 17 الاسراء آية 3
(2) سورة 3 آل عمران آية 38 - 39
(3) سورة 19 مريم آية 4
(4) سورة 19 مريم آية 6
26

تكون من قوله " تذروه الرياح " (1) أبدلت من الواو الياء لوقوع ياء قبلها.
وحجة أبي عمرو في قراءته بالياء ان ما تقدم ذكره من الغيبة وهو قوله عز وجل
" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على أنفسهم " كراهية
ان يقولوا أو لئلا يقول، ويؤكد ذلك ما جاء بعد من الاخبار عن الغيبة وهو قوله:
" قالوا بلى ".
وحجة من قرأ بالتاء انه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله " ألست بربكم
قالوا بلى شهدنا " وكلا الوجهين حسن لان الغيب هم المخاطبون في المعنى.
وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله قال الله تعالى له: واذكر أيضا الوقت الذي اخذ الله
فيه من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟.
واختلفوا في معنى هذا الاخذ فيه وهذا الاشهاد:
فقال البلخي والرماني أراد بذلك البالغين من بني آدم واخراجه إياهم ذرية
قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر واشهاده إياهم على أنفسهم تبليغه إياهم وإكماله
عقولهم، وما نصب فيها من الأدلة الدالة بأنهم مصنوعون وان المصنوع لابد له من صانع،
وبما أشهدهم مما يحدث فيهم من الزيادة والنقصان والآلام والأمراض الدال بجميع
ذلك على أن لهم خالقا رازقا تجب معرفته والقيام بشكره، وما أخطر بقلوبهم من
تأكيد ذلك والحث على الفكر فيه، ثم إرساله الرسل وإنزاله الكتب، لئلا يقولوا
إذا صاروا إلى العذاب: إنا كنا عن هذا غافلين، لم ينبه علينا ولم تقم لنا حجة عليه
ولم تكمل عقولنا فنفكر فيه، أو يقول قوم منهم: إنما أشرك آباؤنا حين بلغوا
وعقلوا فأما نحن فكنا أطفالا لا نعقل ولا نصلح للفكر والنظر والتدبير.
وقال الجبائي: أخذه ذرياتهم من ظهورهم انه خلقهم من ظهور الاباء، ثم
خلقهم في أرحام الأمهات، ثم نقلهم من خلقة إلى خلقة، وصورة إلى صورة، ثم صاروا
حيوانا بأن أحياهم الله في الأرحام، وأتم خلقهم، ثم أخرجهم من الأرحام بالولادة

(1) سورة 18 الكهف آية 46
27

وقوله تعالى: " واشهدهم على أنفسهم " يعني عند البلوغ وكمال العقل وعندما
عرفوا ربهم فقال لهم على لسان بعض أنبيائه " الست بربكم "؟ فقالوا: بلى شهدنا
بذلك وأقررنا به لأنهم كانوا بالله عارفين انه ربهم.
وقوله تعالى " ان تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين " معناه لئلا تقولوا يوم القيامة
إنا كنا عن هذا غافلين فأراد بذلك اني انا قررتكم بهذا لتواظبوا على طاعتي
وتشكروا نعمتي ولا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين.
وقوله تعالى " أو تقولوا إنما اشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم "
فنشأنا على شركهم فتحتجوا يوم القيامة بذلك، فبين انى قد قطعت بذلك حجتكم
هذه بما قررتكم به من معرفتي وأشهدتكم على أنفسكم باقراركم وبمعرفتكم إياي.
وقوله " أفتهلكنا بما فعل المبطلون " من آبائنا. وهذا يدل على أنها
مخصوصة في قوم من بني آدم وانها ليست في جميعهم، لان جميع بني آدم لم يؤخذوا
من ظهور بني آدم لان ولد آدم لصلبه لا يجوز ان يقال: إنهم اخذوا من ظهور بني
آدم فقد خرج ولد آدم لصلبه من ذلك وخرج أيضا أولاد المؤمنين من ولد آدم
الذين لم يكن آباؤهم مشركين، لأنه بين ان هؤلاء الذين أقروا بمعرفة الله واخذ
ميثاقهم بذلك كان قد سلف لهم في الشرك آباء. فصح بذلك انهم قوم مخصوصون من
أولاد آدم.
فأما ما روي أن الله تعالى اخرج ذرية آدم من ظهره واشهدهم على أنفسهم
وهم كالذر، فان ذلك غير جائز لان الأطفال فضلا عمن هو كالذر لا حجة عليهم،
ولا يحسن خطابهم بما يتعلق بالتكليف، ثم إن الآية تدل على خلاف ما قالوه.
لان الله تعالى قال " وإذ اخذ ربك من بني آدم " وقال " من ظهورهم " ولم يقل
من ظهره. وقال " ذريتهم " ولم يقل ذريته، ثم قال " أو تقولوا إنما اشرك آباؤنا
من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون " فأخبر ان هذه الذرية
قد كان قبلهم آباء مبطلون وكانوا هم بعدهم.
28

على أن راوي هذا الخبر سليمان بن بشار الجهني، وقيل مسلم بن بشار عن
عمر بن الخطاب وقال يحيى بن معين: سليمان هذا لا يدري أين هو. وأيضا فتعليل
الآية يفسد ما قالوه. لأنه قال: فعلت هذا لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
والعقلاء اليوم في دار الدنيا عن ذلك غافلون.
فان قيل نسوا ذلك لطول العهد أو لان الزمان كان قصيرا كما يعلم الواحد منا
أشياء كثيرة ضرورة ثم ينساها كما ينسى ما فعله في امسه وما مضى من عمره.
قلنا إنما يجوز ان ينسى مالا يتكرر العلم به ولا يشتد الاهتمام به، فأما
الأمور العظيمة الخارقة للعادة، فلا يجوز ان ينساها العاقل. الا ترى ان الواحد منا
لو دخل بلاد الزنج ورأي الافيلة ولو يوما واحدا من الدهر لا يجوز ان ينسى ذلك
حتى لا يذكره أصلا مع شدة اجتهاده واستذكاره؟ ولو جاز ان ينساه واحد لما
حاز ان ينساه الخلق بأجمعهم. ولو جوزنا ذلك للزمنا مذهب التناسخ وان الله كان
قد كلف الخلق فيما مضى وأعادهم، إما لينعمهم أو ليعاقبهم. ونسوا ذلك. وذلك
يؤدي إلى التجاهل.
على أن أهل الآخرة يذكرون ما كان منهم من أحوال الدنيا ولم يجب ان ينسوا
ذلك لطول العهد، ولا المدة التي مرت عليهم وهم أموات وكذلك أصحاب الكهف
لم ينسوا ما كانوا فيه قبل نومهم لما انتبهوا مع طول المدة في حال نومهم، فعلمنا
ان هؤلاء العقلاء لما كانوا شاهدوا ذلك وحضروه وهم عقلاء لما جاز ان يذهب عنهم
معرفة ذلك لطول العهد، ولوجب أن يكونوا كذلك عارفين.
وقال قوم وهو المروي في أخبارنا إنه لا يمنع أن يكون ذلك مختصا بقوم
خلقهم الله وأشهدهم على أنفسهم بعد ان أكمل عقولهم وأجابوه ب‍ (بلى)، وهم
اليوم يذكرونه ولا يغفلون عنه، ولا يكون ذلك عاما في جميع العقلاء وهذا وجه
أيضا قريب يحتمله الكلام.
وحكى أبو الهذيل في كتابة الحجة: أن الحسن البصري وأصحابه كانوا
29

يذهبون إلى أن نعيم الأطفال في الجنة ثواب عن إيمانهم في الذر.
وحكى الرماني عن كعب الأحبار: انه كان يخبر خبر الذر غير أنه يقول
ليس تأويل الآية على ذلك. وإنما فعل ليجروا على الأعراف الكريمة في شكر النعمة
والاقرار لله بالوحدانية، كما روي أنهم ولدوا على الفطرة.
ويدل على فساد قولهم قوله تعالى " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون
شيئا " (1) فهم لو كانوا أخرجوا من ظهر آدم على صورة الذر كانوا بعد من أن
يعلموا أو يعقلوا ومتى قالوا أكمل الله عقولهم فقد مضى الكلام عليهم.
وذكر الأزهري وروي ذلك عن بعض من تقدم ان قوله: " وإذ اخذ ربك
من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " تمام
الكلام. وقوله " شهدنا ان تقولوا يوم القيامة " حكاية عن قول الملائكة انهم يقولون
شهدنا لئلا تقولوا.
وهذا خلاف الظاهر وخلاف ما عليه جميع المفسرين لان الكل قالوا (شهدنا)
من قول من قال (بلى) وان اختلفوا في كيفية الشهادة على أن الملائكة لم يجر
لها ذكر، فكيف يكون ذلك إخبارا عنهم.
قوله تعالى:
وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (173) آية
إنا كما بينا لكم هذه الآيات كذلك نفصلها للعباد ونبينها لهم. وتفصيله
الآيات هو تمييز بعضها من بعض ليتمكنوا من الاستدلال بكل واحدة منها على
جهتها وبين أنه فعل ذلك بهم ليتوبوا وليرجعوا عن معاصيه إلى طاعته وعن الكفر
إلى الايمان به.

(1) سورة 16 النحل آية 78
30

قوله تعالى:
واتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه
الشيطان فكان من الغاوين (174) آية بلا خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله يأمره بأن يقرأ على بني إسرائيل
وغيرهم من أمته خبر الذي اتاه الله حججه وبيناته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان
وكان من جملة الغاوين الخائبين الخاسرين. وقيل معناه الضالين الهالكين.
واختلفوا في المعني بقوله " آتيناه آياتنا ": فقال ابن عباس ومجاهد:
هو بلعام بن باعورا من بني إسرائيل. وقال: معنى " فانسلخ منها " ما نزع منه
من العلم. وروي عن عبد الله بن عمر انها نزلت في أمية بن أبي الصلت. وقال
مسروق وعبد الله: هي في رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء. وقال
قوم: هو رجل من الكنعانيين. وقال الحسن: هذا مثل ضربه الله للكافر آتاه الله
آيات دينه " فانسلخ منها " يقول اعرض عنها وتركها " فاتبعه الشيطان " خذله الله
وخلى عنه وعن الشيطان، وهو مثل قوله تعالى " كتب عليه انه من تولاه فإنه
يضله " (1) أي كتب على الشيطان انه من تولى الشيطان فان الشيطان يضله. وقال
الجبائي أراد به المرتد الذي كان الله آتاه العلم به وبآياته فكفر به وبآياته وبدينه
من بعد إن كان به عارفا فانسلخ من العلم بذلك ومن الايمان.
وقوله " فأتبعه الشيطان " معناه ان الشيطان اتبعه كفار الانس وغواتهم حتى
اتبعوه على ما صار إليه من الكفر بالله وبآياته. وقيل اتبعه الشيطان بالتزيين
والاغواء حتى تمسك بحبله وكان من الغاوين الخائبين من رحمة الله، قال وهو
رجل من المتقدمين يقال له: بلعام بن باعورا.

(1) سورة 22 الحج آية 4
31

اتبعه الشيطان، واتبعه لغتان وبالتخفيف معناه فقاه، وبالتشديد حذا حذوه
وإذا أردت اقتدا به فبالتشديد لا غير. فأما ما روي أن الآية كانت النبوة فإنه
باطل، فان الله تعالى لا يؤتي نبوته من يجوز عليه مثل ذلك، وقد دل دليل العقل
والسمع على ذلك قال الله تعالى " ولقد اخترناهم على علم على العالمين " (1) وقال
" المصطفين الأخيار " (2) فكيف يختار من ينسلخ عن النبوة.
وقيل: إن الآية كانت الاسم الأعظم وهذا أيضا نظير الأول لا يجوز أن يكون
مرادا، والقول هو ما تقدم من أكثر المفسرين: ان المعني به بلعم بن باعورا
ومن قال أمية بن أبي الصلت قال كان أوتي علم الكتاب فلم يعمل به. والوجه الذي
قاله الحسن يليق بمذهبنا دون الذي قاله الجبائي، لان عندنا لا يجوز ان يرتد
المؤمن الذي عرف الله على وجه يستحق به الثواب.
والنبأ الخبر عن الامر العظيم ومنه اشتقاق النبوة: نباه الله جعله نبيا وإنما
آتاه الله الآيات باللطف حتى تعلمها وفهم معانيها وقال أبو مسلم: الآية في كل كافر
بين الله له الحق فلم يتمسك به. وقال أبو جعفر عليه السلام في الأصل بلعم ثم ضرب مثلا
لكل مؤثر هواه على هدى الله تعالى من أهل القبلة.
قوله تعالى:
ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع
هويه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه
يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص
لعلهم يتفكرون (175) آية.

(1) سورة 44 الدخان آية 32
(2) سورة 38 ص آية 47
32

الهاء في (لرفعناه) كناية عن الذي تقدم ذكره، وهو الذي آتاه اله آياته
فانسلخ منها، فأخبره الله تعالى انه لو شاء لرفعه بتلك الآيات.
واختلفوا في معنى هذه المشيئة فقال الجبائي: المعنى لو شئنا لرفعناه بايمانه
ومعرفته قبل ان يكفر لكن أبقيناه ليزداد الايمان، فكفر. وقال البلخي هذا
اخبار عن قدرته انه لو شاء لحال بينه وبين الكفر والارتداد، وهو الذي نختاره
لأنا قد بينا ان المؤمن لا يجوز ان يرتد. وقال الزجاج: معناه لو شئنا ان نحول
بينه وبين المعصية لفعلنا.
وقوله " ولكنه أخلد إلى الأرض " معناه سكن إلى الدنيا وركن إليها ولم
يسم إلى الغرض الاعلى. يقال أخلد فلان إلى كذا وكذا وخلد، وبالألف أكثر في
كلام العرب، والمعنى إنه سكن إلى لذات الدنيا واتبع هواه أي لم نرفعه بالآيات
لاتباع هواه. وقيل معنى أخلد قعد ويقال: فلا مخلد إذا أبطأ عنه الشيب ومخلد
إذا لم تسقط أسنانه - هكذا ذكره الفراء - ومن الدواب الذي تبقى ثناياه حتى
تخرج رباعيتاه. وأخلد بالمكان إذا أقام به، قال زهير:
لمن الديار غشيتها بالفدفد * كالوحي في حجر المسيل المخلد (1)
وقال مالك بن نويرة:
بأبناء حي من قبائل مالك * وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا (2)
وقال أبو عبيدة هو اللزوم للشئ والتقاعس فيه وقال سعيد بن جبير معناه
ركن إلى الأرض، وقال مجاهد: معناه سكن إليها.

(1) ديوانه 268، واللسان (خلد). و (الفدفد) الفلاة التي لا شئ بها.
وقيل: هي الأرض الغليظة ذات الحصى، وقيل غير ذلك و (الوحي) الكتابة
و (حجر المسيل) هو حجر صلب يكتبون فيه.
(2) الأصمعيات: 323.
33

وقوله: " فمثله كمثل الكلب " ضرب الله مثل البارك لاياته والعادل عنها
بأخس مثل في أخس أحواله، فشبهه بالكلب، لان كل شئ يلهث فإنما يلهث في
حال الاعياء والكلال إلا الكلب فإنه يلهث في حال الراحة والتعب، وحال الصحة
وحال المرض. وحال الري وحال العطش وجميع الأحوال، فقال تعالى إن وعظته
فهو ضال وان لم تعظه فهو ضال كالكلب إن طردته وزجرته فإنه يلهث، وإن تركته
يلهث، وهو مثل قوله " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم
أم أنتم صامتون " (1)
وقوله تعالى " ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا " يعني هذا المثل الذي
ضربه بالكلب هو مثل الذين كذبوا بآيات الله. وقال الجبائي إنما شبهه بالكلب
لأنه لما كفر بعد ايمانه صار يعادي المؤمنين ويؤذيهم، كما أن الكلب يؤذي الناس
طردته أو لم تطرده فإنه لا يسلم من أداه.
وقوله تعالى " فاقصص القصص " معناه فاقصص على الناس ما نبينه لك لكي
يتذكروا ويتفكروا فيرجعوا إلى طاعة الله وينزجروا عن معاصيه. وقال ابن جريج
مثله بالكلب، لان الكلب لا فؤاد له فيقطعه الفؤاد حملت عليه أو تركته، شبه من
ترك الآيات كأنه لا فؤاد له. واللهث التنفس الشديد من شدة الاعياء، وفي الكلب
طباع يقال: لهث يلهث لهثا فهو لاهث ولهثان.
قوله تعالى:
ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا
يظلمون (176) آية بلا خلاف.
التقدير ساء مثلا مثل القوم، وحذف لدلالة الكلام عليه و " أنفسهم " نصب

(1) سورة 7 الأعراف آية 192
34

ب‍ (يظلمون) وصف الله تعالى هذا المثل الذي ضربه وذكره بأنه ساء مثلا اي
بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، وانهم بذلك لا يظلمون إلا أنفسهم دون
غيرهم، لان عقاب ما يفعلونه من المعاصي يحل بهم فان الله تعالى لا يضره كفرهم
ولا معصيتهم كما لا ينفعه طاعتهم وإيمانهم.
قوله تعالى:
من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم
الخاسرون (177) آية.
" فهو المهتدي " كتب - ههنا - بالياء ليس في القرآن غيره بالياء، وأثبت
الياء في اللفظ ههنا جميع القراء. وقال الجبائي: معنى الآية من يهديه الله إلى
نيل الثواب. كما يهدي المؤمن إلى ذلك والى دخول الجنة فهو المهتدي للايمان
والخير، لان المهتدي هو المؤمن فقد صار مهتديا إلى الايمان والى نيل الثواب.
ومن يضله الله عن الجنة وعن نيل ثوابها عقوبة على كفره أو فسقه، " فأولئك هم
الخاسرون " لأنهم خسروا الجنة ونعيمها وخسروا أنفسهم والانتفاع بها. وقال
البلخي المهتدي هو الذي هداه الله فقبل الهداية وأجاب إليها، والذي أضله الله هو
الضال الذي اختار الضلالة فأضله الله بمعنى خلى بينه وبين ما اختاره وترك منعه
بالخير على أنه إذا ضل عن امر الله عند امتحانه وتكليفه جاز أن يقال: ان الله
أضله. وقيل: معنى " من يهدي الله " من يحكم الله بهدايته " فهو المهتدى " ومن
حكم بضلالته فهو الخائب الخاسر.
قوله تعالى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب
35

لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم اذان لا يسمعون
بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون
(178) آية بلا خلاف.
معنى " ذرأنا " خلقنا يقال: ذرأهم يذرأهم واللام في (لجهنم) لام العاقبة.
والمعنى انه لما كانوا يصيرون إليها بسوء اختيارهم وقبح أعمالهم جاز أن يقال: إنه
ذرأهم لها والذي يدل على أن ذلك جزاء على اعمالهم قوله " لهم قلوب لا يفقهون بها "
وأخبر عن ضلالهم الذي يصيرون به إلى النار، وهو مثل قوله تعالى " إنما نملي لهم
لازدادوا إثما " (1) ومثل قوله " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في
الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك " (2) ومثل قوله عز وجل " فالتقطه آل فرعون
ليكون لهم عدوا وحزنا " (3) وإنما التقطوه ليكون قرة عين كما قالت امرأة
فرعون عند التقاطه " فرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا " (4)
ومثله قول القائل: أعددت هذه الخشبة ليميل الحائط فأسنده بها وهو لا يريد ميل
الحائط. ومثله قول الشاعر:
وللموت تغذو الوالدات سخالها * كما لخراب الدهر تبنى المساكن (5)
وقال الآخر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها * ودورنا لخراب الدهر نبنيها (6)
وقال الآخر:

(1) سورة 3 آل عمران آية 178
(2) سورة 10 يونس آية 88
(3) سورة 28 القصص آية 8
(4) سورة 28 القصص آية 9
(5) قائله سابق البربري أو (البريدي) العقد الفريد 1 / 269
(6) انظر 3 / 60 من هذا الكتاب
36

وأم سماك فلا تجزعي * فللموت ما تلد الوالدة (1)
وقال آخر:
لدوا للموت وابنوا للخراب * فكلكم يصير إلى ذهاب (2)
وقوله " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا
يسمعون بها " معناه انهم لما لم يفقهوا بقلوبهم ولم يسمعوا بآذانهم ولم يبصروا بعيونهم
ما كانوا يؤمرون به ويدعون إليه سموا بكما عميا صما. ولما لم ينتفعوا بجوارحهم
اشبهوا العمي البكم الصم، لان هؤلاء لا ينتفعون بجوارحهم فأشبهوهم في زوال
الانتفاع بالجوارح وسموا بأسمائهم، ومثله قول مسكين الدارمي:
أعمي إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما * سمعي وما بي غيره وقر (3)
فجعل نفسه أصما وأعمى لما لم ينظر ولم يسمع وقال آخر:
وكلام سئ قد وقرت * أذني عنه وما بي من صمم
وقال آخر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (4)
وهذا كثير. ويجوز أن يكون قوله تعالى " ذرأنا لجهنم " معناه ميزنا.
ويقال: ذرأت الطعام والشعير أي ميزت ذلك من التبن والمدر، فلما كان الله

(1) انظر 3 / 60 من هذا الكتاب.
(2) انظر 3 / 60 من هذا الكتاب.
(3) تفسير الطبري الطبعة الثانية 9 / 132. وروايته " الستر " بدل " الخدر "
" وما بالسمع من وقر " بدل " وما بي غيره وقر " وقد مر البيتان في 1 / 90 وفي
2 / 113 من هذا الكتاب.
(4) قائله قنعب بن أم صاحب اللسان والتاج (أذن) وفي مجاز القرآن 1 / 177 هكذا:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
37

تعالى قد ميز أهل النار من أهل الجنة في الدنيا بالتسمية والحكم والشهادة جاز ان
يقول ذرأناهم اي ميزنا هم. ثم وصفهم بصفة تخالف أوصاف أهل الجنة يعرفون بها
فقال " لهم قلوب لا يفقهون بها " إلى آخرها.
ويجوز أن يكون قوله " ذرأنا " بمعنى سنذرأ كما قال: " ونادى أصحاب
الجنة أصحاب النار " (1) بمعنى سينادون، فكأنه قال سيخلقهم خلقا ثانيا للنار
بأعمالهم التي تقدمت منهم في الدنيا إذ كانوا استحقوا النار بتلك الاعمال. ولا يجوز
أن يكون معنى الآية إن الله خلقهم لجهنم وأراد منهم ان يفعلوا المعاصي فيدخلوا
بها النار، لان الله تعالى لا يريد القبيح، لان إرادة القبيح قبيحة، ولان مريد
القبيح منقوص عند العقلاء تعالى الله عن صفة النقص، ولأنه قال " وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون " (2) فبين انه خلق الخلق للعبادة والطاعة وقال " وما أرسلنا
من رسول إلا ليطاع " (3) وقال " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا " (4) وقال " ولقد
أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " (5) وقال
" إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله " (6) ونظائر ذلك
أكثر من أن تحصى، فكيف يقول بعد ذلك " ولقد ذرأنا لجهنم " وهل هذا إلا
تناقض تنزه كلام الله عنه.
وقوله " أولئك كالانعام " يعني هؤلاء الذين لا يتدبرون بآيات الله ولا
يستدلون بها على وحدانيته وصدق رسله أشباه الانعام والبهائم التي لا تفقه ولا تعلم
ثم قال " بل هم أضل " يعني من البهائم، لان في البهائم ما إذا زجرتها انزجرت وإذا
أرشدتها إلى طريق اهتدت. وهؤلاء لعتوهم وكفرهم لا يهتدون إلى شئ من
الخيرات مع ما ركب الله فيهم من العقول التي تدلهم على الرشاد وتصرفهم عن الضلال

(1) سورة 7 الأعراف آية 43
(2) سورة 51 الذاريات آية 56
(3) سورة 4 النساء آية 63
(4) سورة 25 الفرقان آية 50
(5) سورة 57 الحديد آية 25
(6) سورة 63 المؤمنون آية 45
38

وليس ذلك في البهائم. ومع ذلك تهتدي إلى منافعها وتتحرز عن مضارها، والكافر
لا يفعل ذلك. ثم قال " أولئك هم الغافلون " يعني هؤلاء هم الغافلون عن آياتي وحججي
والاستدلال بها والاعتبار بتدبرها على ما تدل عليه من توحيده، لان البهائم التي
هي مسخرة مصروفة لا اختيار لها.
قوله تعالى:
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في
أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (179) آية اجماعا.
قرأ حمزة " يلحدون " بفتح الحاء والياء - ههنا - وفي النحل وحم السجدة
وافقه الكسائي وخلف في النحل، والباقون بضم الياء. من قرأ بكسر الحاء، فلقوله
" ومن يرد فيه بالحاد " (1) وألحد أكثر في الكلام قال الشاعر:
ليس الامام بالشحيح الملحد * ولا يكاد يسمع لاحد (2)
والالحاد العدول عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه اللحد الذي يحفر في
جانب القبر خلاف الضريح الذي يحفر في وسطه فمعنى " يلحدون في آياتنا " يجورون
عن الحق فيها. وروى أبو عبيدة عن الأحمر: لحدت جرت وملت وألحدت ماريت
وجادلت قال: وقال أبو عبيدة: لحدت له وألحدت للميت بمعنى واحد.
قال أبن جريج اشتقوا العزى من العزيز واللات من الله. وكان ذلك إلحادا.
وقال ابن عباس: الحادهم تكذيبهم. وقال قتادة: هو شركهم. وقال قوم: هو
تسميتهم الأصنام بأنها آلهة.
أخبر الله تعالى ان له الأسماء الحسنى نحو قوله تعالى " بسم الله الرحمن الرحيم "

(1) سورة 22 الحج آية 25
(2) قائله حميد بن ثور. اللسان " لحد "
39

وغير ذلك من الأسماء التي تليق به، وهي الأسماء الراجعة إلى ذاته أو فعله نحو العالم
العادل، والسميع البصير المحسن المجمل، وكل اسم لله فهو صفة مفيدة لان اللقب
لا يجوز عليه. وامر تعالى ان يدعوه خلقه بها وان يتركوا أسماء أهل الجاهلية
وتسميتهم أصنامهم آلهة ولاتا وغير ذلك. وقال الجبائي: يحتمل أن يكون أراد
تسميتهم المسيح بأنه ابن الله وعزيزا بأنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقال قوم: هذا يدل على أنه لا يجوز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه.
وقوله " وذروا الذين يلحدون " فيه تهديد للكفار وأن الله تعالى سيعاقبهم
على عدولهم عن الحق في تغيير أسمائه.
وقوله تعالى " سيجزون ما كانوا يعملون " معناه سيجزون جزاء ما كانوا
يعملون من المعاصي بأنواع العذاب. قال الرماني الاسم كلمة تدل على المعني
دلالة الإشارة، والفعل كلمة تدل على المعني دلالة الإفادة. والصفة كلمة مأخوذة
للمذكور من أصل من الأصول لتجري عليه تابعة له.
قوله تعالى:
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (180) آية.
أخبر الله تعالى أن من جملة من خلقه جماعة يهدون بالحق. وهداهم بالحق
هو دعاؤهم الناس إلى توحيد الله والى دينه وتنبيههم إياهم على ذلك. وقال قوم معنى
(يهدون) يهتدون " وبه يعدلون " معناه إنهم يعملون بالعدل والانصاف فيما
بينهم وبين الناس.
وهذا إخبار ان فيما خلق قوما هذه صفتهم ولا يدل ذلك على أن في كل عصر
يوجد قوم هذه صفتهم ولو لم يوجدوا إلا في وقت واحد كانت الفائدة حاصلة بالآية،
فلا يمكن الاستدلال بها على أن اجماع أهل الاعصار حجة. على أن عندنا انه
لا يخلوا وقت من الأوقات ممن يجب اتباعه وتثبت عصمته ويكون حجة الله على
40

خلقه فيمكن أن يكون المراد بالآية من ذكرناه. وقال أبو جعفر عليه السلام وقتادة
وابن جريج: الآية في أمة محمد صلى الله عليه وآله وهو مثل قوله تعالى " وجعلناهم أئمة يهدون
بأمرنا " (1) فكما أنه لا يدل على وجود أئمة في كل وقت فكذلك ما قالوه.
قوله تعالى:
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا
يعلمون (181) وأملي لهم إن كيدي متين (182) آيتان
المعنى إن الذين كذبوا بآيات الله التي تضمنها القرآن والمعجزات الدالة
على صدق النبي صلى الله عليه وآله وكفروا بها سنستدرجهم من حيث لا يعلمون استدراجا لهم
إلى الهلكة حتى يقعوا فيها بغتة من حيث لا يعلمون، كما قال تعالى " بل تأتيهم بغتة
فتبهتهم فلا يستطيعون ردها " (2) وقال: " فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون " (3)
فيقولوا هل نحن منظرون؟ ويجوز أن يكون من عذاب الآخرة.
فأما من قال من المجبرة: إن معنى الآية أن الله يستدرجهم إلى الكفر والضلال
فباطل، لان الله تعالى لا يفعل ذلك لأنه قبيح ينافي الحكمة، ثم إن الآية بخلاف ذلك
لأنه بين أن هؤلاء الذين يستدرجهم كفار بالله ورسوله وبآياته، وانه سيستدرجهم
في المستقبل لان السين لا تدخل إلا على المستقبل فلا معنى لقوله " إن الذين كفروا
سنستدرجهم " إلى الكفر، لأنهم كفار قبل ذلك، ولا يجب في الكافر أن يبقى حتى
يواقع كفر آخر، لأنه يجوز أن يميته الله تعالى، فبان بذلك أن المراد أنه سيستدرجهم
إلى العذاب والعقوبات من حيث لا يعلمون في مستقبل أمرهم بقوا أو لم يبقوا.
على أن الاستدراج عقوبة من الله والله لا يعاقب أحدا على فعل نفسه كما لا يعاقبهم

(1) سورة 21 الأنبياء آية 73
(2) سورة 21 الأنبياء آية 40
(3) سورة 26 الشعراء آية 202
41

على طولهم أو قصرهم.
ويحتمل أن يكون معنى الآية إنا نعاقبهم على استدراجهم للناس وإغوائهم
إياهم ونعاقبهم على كيدهم، فجعل العقوبة على الاستدراج استدراجا، والعقوبة على
الكيد كيدا، كما قال " سخر الله منهم " (1) وقال " الله يستهزئ بهم " (2) وقال
يخادعون الله وهو خادعهم " (3) وقال " والله خير الماكرين " (4) وما
أشبه ذلك.
ويحتمل أن يكون المراد: إني سأفعل بهم ما يدرجون في الفسوق والضلال
عنده ويكون ذلك إخبار عن بقائهم على الكفر عند إملائه لهم، فسمى ذلك استدراجا
لأنهم عند البقاء كفروا وازدادوا كفرا ومعصية. وإن كان الله لم يرد منهم ذلك
ولا بعثهم عليه، كما قال " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " (5) كما يقول
القائل: أبطر فلان فلانا بانعامه عليه. ولقد أبطرته النعمة وأكفرته السلامة،
وإن كان المنعم لا يريد ذلك بل أراد ان يشكره عليها.
ومعنى قوله " وأملي لهم " أؤخر هؤلاء الكفار في الدنيا وأبقيهم مع إصرارهم
على الكفر ولا أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم، لأنهم لا يفوتوني ولا يعجزوني، ولا
يجدون مهربا ولا ملجأ.
وقوله تعالى " إن كيدي متين " معناه إن عذابي وسماه كيدا لنزوله بهم من
حيث لا يشعرون. وقيل: إنه أراد أن جزاء كيدهم وسماه كيدا للازدواج على
ما بينا نظائره. ومعنى " متين " شديد قوي قال الشاعر:
عدلن عدول اليأس والشيخ يبتلى * افانين من الهوب شد مماتني (6)

(1) سورة 9 التوبة آية 80
(2) سورة 2 البقرة آية 15
(3) سورة 4 النساء آية 141
(4) سورة 3 آل عمران آية 54
(5) سورة 35 فاطر آية 47
(6) تفسير الطبري 13 / 288 والطبعة الثانية 9 / 136 وفيه اختلاف
42

يعني شد أو شديدا باقيا لا ينقطع. والمتن أصله اللحم الغليظ الذي عن جانب
الصلب وهما متنان. والكيد والمكر واحد، وهو الميل إلى الشر في خفى، كاد
يكيد كيدا ومكيدة، وفلان يكيد بنفسه.
وأصل الاستدراج اغترار المستدرج من حيث يرى أن المستدرج محسن إليه
حتى يورطه مكروها. والاستدراج أن يأتيه من مأمنه من حيث لا يعلم.
و (أملي) بمعنى أؤخر من الملي - ثقيلة الياء - يقال مضى عليه ملي من الدهر
وملاؤ من الدهر - بفتح الميم وضمها وكسرها - أي قطعة منه. ووجه الحكمة في
اخذهم من حيث لا يعلمون أنه لو اعلمهم وقت ما يأخذهم وعرفهم ذلك لامنوه قبل
ذلك وكانوا مغريين بالقبيح قبله تعويلا على التوبة فيما بعد وذلك لا يجوز عليه تعالى.
والاستدراج على ضربين:
أحدهما - أن يكون الرجل يعادي غيره فيطلب له المكايدة والختل من وجه
يغتره به ويخدعه ويدس إليه من يوقعه في ورطة حتى يشفي صدره ولا يبالي كيف كان
ذلك، فهذا سفيه غير حكيم.
والاخر - أن يحلم فيه ويتأنى ويترك العجلة في عقوبته التي يستحقها على
معاصيه كيدا ومكرا واستدراجا. ألا ترى لوان إنسانا عادى غيره فجعل يشتمه
ويعيبه وذاك يعرض عنه ولا يكافيه مع قدرته على مكافاته جاز أن يسمى كيدا
واستدراجا ومكرا وحيلة، ولجاز ان يقال: فلان متين الكيد شديد الاستدراج،
بعيد الغور محكم التدبير.
وقيل في معنى " سنستدرجهم " سنأخذهم قليلا قليلا ولا نباغتهم، يقال:
امتنع فلان على فلان واتى عليه حتى استدرجه اي خدعه حتى حمله على أن درج
إليه درجانا أي اخذ في الحركة نحوه كما يدرج الصبي أول ما يمشي، ويقال:
صبي دراج: ويقال: درجوا قرنا بعد قرن اي فنيوا قليلا قليلا.
43

قوله تعالى:
أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير
مبين (183) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما
خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي
حديث بعده يؤمنون (184) آيتان
هذا خطاب من الله تعالى للكفار الذين كانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وآله إلى
الجنون على وجه التوبيخ لهم والتقريع " أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة " اي
وليس بالنبي صلى الله عليه وآله جنة وهي الجنون، فإنه لا يأتي بمثل ما يأتي به المجنون، وهم
يرون الأصحاء منقطعين دونه ويرون صحة تدبيره واستقامة أعماله وذلك ينافي
أعمال المجانين.
وبين انه ليس به صلى الله عليه وآله إلا الخوف للعباد من عقاب الله، لان الانذار هو
الاعلام عن المخاوف، فبين لهم ما عليهم من أليم العذاب بمخالفته ثم قال " أولم ينظروا "
ومعناه يفكروا " في ملكوت السماوات والأرض " وعجيب صنعهما فينظروا فيهما
نظر مستدل معتبر، فيعرفون بما يرون من إقامة السماوات والأرض مع عظم
أجسامهما وثقلهما على غير عمد وتسكينها من غير آلة فيستدلوا بذلك على أنه
خالقها ومالكها وأنه لا يشبهها ولا تشبهه.
وقوله " وما خلق الله من شئ " يعني وينظروا فيما خلق الله تعالى من أصناف
خلقه فيستدلوا بذلك على أنه تعالى خالق جميع الأجسام وأنه أولى بالإلهية من
الأجسام المحدثة.
وقوله تعالى " وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم " معناه أولم يتفكروا
44

في أن عسى أن يكون قد اقترب اجلهم، وهو اجل موتهم فيدعوهم ذلك إلى أن
يحتاطوا لدينهم ولا نفسهم فيما يصيرون إليه بعد الموت من أمور الآخرة ويزهدهم
في الدنيا وفيما يطلبونه من فخرها وعزها وشرفها فيدعوهم ذلك إلى النظر في الأمور
التي أمرهم بالنظر فيها.
وقوله تعالى " فبأي حديث بعده يؤمنون " معناه بأي حديث بعد القرآن
يؤمنون مع وضوح دلالته على أنه كلام الله إذ كان معجزا لا يقدر أحد من
البشر ان يأتي بمثله، وسماه حديثا لأنه محدث غير قديم لان إثباته حديثا ينافي
كونه قديما.
وفي الآية دلالة على وجوب النظر وفساد التقليد، لان النظر المراد به الفكر
دون نظر العين، لان البهائم أيضا تنظر بالعين، وكذلك الأطفال والمجانين، والفكر
موقوف على العقلاء.
وقال الحسن وقتادة سبب نزول الآية ان النبي صلى الله عليه وآله وقف على الصفا يدعوا
قريشا فخذا فخذا، فيقول: يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال
قائلهم: إن صاحبكم لمجنون بأن يصوت على الصباح: فأنزل الله الآية.
والملكوت هو الملك الأعظم للمالك الذي ليس بمملك.
قوله تعالى:
من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم
يعمهون (185) آية.
قرأ أهل العراق " ويذرهم " بالياء، واسكن الراء منه حمزة والكسائي وخلف
الباقون بالنون وضم الراء من قرأ بالنون قال لان الشرط من الله، فكأنه قال " من
يضلل الله.. فنذرهم " ومن قرأ بالياء رده إلى اسم الله تعالى وتقديره الله يذرهم.
45

ومن ضم الراء قطعه عن الأول ولم يجعله جوابا. ويجوز أن يكون أضمر المبتدأ
وكان تقديره ونحن نذرهم، فيكون في موضع الجزم. ويجوز أن يكون استأنف
الفعل فيرفعه ومن جزمه فإنه عطفه لي موضع الفاء وما بعدها من قوله " فلا هادي
له " لان موضعه جزم، فحمل " ونذرهم " على الموضع، ومثله في الحمل على الموضع
قوله تعالى " فأصدق وأكن " (1) لأنه لو لم يلحق الفاء لقلت لولا أخرتني أصدق،
لان معنى " لولا أخرتني " (2) أخرني أصدق. فحمل قوله تعالى " واكن "
على الموضع.
ومعنى قوله " من يضلل الله فلا هاي له " اي يمتحنه الله فيضل عند امتحانه
وأمره إياه بالطاعة والخير والرشاد " فلا هادي له " أي لا يقدر أحد أن يأتيه بالهدى
والبرهان بمثل الذي آتاه الله تعالى، ولا بما يقارنه أو يزيد عليه " ويذرهم في طغيانهم "
بمعنى يخلي بينهم وبين ذلك، وترك اخراجه بالقسر والجبر، ومنعه إياه لطفه
الذي يؤتيه من آمن واهتدى وقيل الوعظ.
والطغيان الغلو في الكفر، والعمه: التحير والتردد في الكفر. ويحتمل أن يكون
المراد من يضلل الله عن الجنة عقوبة على كفره فلا هادي له إليها وإن الله
لا يحول بين الكافر بل يتركه مع اختياره لان ما فعله من الزجر والوعيد كاف في
إزاحة علة المكلف. وقيل معناه من حكم الله تعالى بضلاله وسماه ضالا بما فعله من
الكفر والضلال فلا أحد يقدر على إزالة هذا الاسم عنه ولا يوصف بالهداية، وكل
ذلك واضح بحمد الله تعالى.
قوله تعالى:
يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند

(1) سورة 63 المنافقين آية 10
(2) سورة 63 المنافقين آية 10
46

ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض
لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها
عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون 186) آية بلا خلاف.
" أيان " معناه متى، وهي سؤال عن الزمان على وجه الظرف.
أخبر الله تعالى ان الكفار يسألون النبي صلى الله عليه وآله عن الساعة، وهي القيامة
" أيان مرساها " أي وقت قيامها وثباتها. ومعنى " أيان " متى قال الراجز:
إيان تقضي حاجتي أيانا * أما ترى لنججها إبانا (1)
و " مرساها " في موضع رفع بالابتداء، يقال: رسى يرسوا إذا ثبت فهو رأس
وجبال راسيات ثابتات، وأرساها الله اي ثبتها. وقيل معنى " مرساها " الوقت
الذي يموت فيه جميع الخلق، ومعنى سؤالهم عنها اي متى وقوعها وكونها. فأمر
الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يجيبهم ويقول لهم " علمها عند الله " لم يطلع عليها أحدا
كما قال " إن الله عنده علم الساعة " (2) وقوله تعالى " لا يجليها لوقتها الا هو "
اي لا يظهرها في وقتها إلا الله.
وقوله تعالى " ثقلت في السماوات والأرض " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ثقل علمها على السماوات والأرض ذهب إليه السدي وغيره.
الثاني - ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرض - ذكره بن جريج وغيره -.
ثم اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بكيفية وقوعها فقال " لا تأتيكم إلا بغتة " يعني فجأة.
وقوله " يسألونك كأنك حفي عنها " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - ان معناه وتقديره حفي عنها يسألونك عن الساعة ووقتها كأنك عالم بها

(1) تفسير القرطبي 7 / 335 ومجاز القرآن 1 / 234 واللسان (ابن)
(2) سورة 31 لقمان آية 34.
47

وقيل: معناه كأنك فرح بسؤالهم عنها. وقيل: معناه كأنك أكثرت السؤال عنها
ذكره مجاهد. يقال حفيف بفلان في المسألة إذا سألته سؤالا أظهرت فيه المحبة
والبر، قال الشاعر:
سؤال حفي عن أخيه كأنه * بذكرته وسنان أو متواسن (1)
ويقال: احفى فلان بفلان في المسألة إذا أكثر عليه. ويقال: حفيت الدابة
تحفى حفا مقصورا إذا أكثر عليها ألم المشي، والحفاء - ممدودا - المشي بغير نعل.
ثم امر الله نبيه ان يقول " إنما علمها عند الله " اي لا يعلمها إلا الله.
وقوله تعالى " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " معناه أكثر الناس لا يعلمون
ان ذلك لا يعلمه إلا الله، ويظنون انه قد يعلمه الأنبياء وغيرهم من خلقه. وقال
الجبائي معناه " لكن أكثر الناس لا يعلمون " لم اخفى الله تعالى علم ذلك على
التعيين على الخلق. والوجه فيه انه ازجر لهم عن معاصيه لأنهم إذا جوزوا في كل
وقت قيام الساعة وزوال التكليف كان ذلك صارفا لهم عن فعل القبيح خوفا من
فوات وقت التوبة. وقوله في أول الآية " قل إنما علمها عند ربي " يعني علم
وقت قيامها. وقوله في آخرها " قل إنما علمها عند الله " معناه علم كيفيتها وشرح
هيئتها وتفصيل ما فيها لا يعلمه إلا الله، فلا تكون تكرارا لغير فائدة.
وقال قتادة الذين سألوا عن ذلك قريش. وقال ابن عباس: هم قوم من اليهود
وقال الفراء: في الآية تقديم وتأخير وتقديرها يسألونك عنها كأنك حفي بهم.
قال الجبائي وفي الآية دليل علي بطلان قول الرافضة من أن الأئمة معصومون
منصوص عليهم واحدا بعد الاخر إلى يوم القيامة، لان على هذا لابد أن يعلم آخر
الأئمة أن القيامة تقوم بعده ويزول التكليف عن الخلق، وذلك خلاف قوله " قل
إنما علمها عند الله ".

(1) قائله المعطل الهذلي. ديوانه 3 / 45 وتفسير الطبري 13 / 301 (طبعة
دار المعارف) و 9 / 142 الطبعة الثانية.
48

وهذا الذي ذكره باطل لأنه لا يمتنع أن يكون آخر الأئمة آخر الأئمة يعلم أنه لا إمام
بعده وإن لم يعلم متى تقوم الساعة، لأنه لا يعلم متى يموت، فهو يجوز أن يكون
موته عند قيام الساعة إذا أردنا بذلك انه وقت فناء الخلق. وإن قلنا إن الساعة
عبارة عن وقت قيام الناس في الحشر فقد زالت الشبهة، لأنه إذا علم أنه يفنى الخلق
بعده لا يعلم متى يحشر الخلق. على أنه قد روي أن بعد موت آخر الأئمة يزول
التكليف لظهور اشراط الساعة وتواتر إماراتها نحو طلوع الشمس من مغربها
وخروج الدابة وغير ذلك، ومع ذلك فلا يعلم وقت قيام الساعة، ولهذا قال الحسن
وجماعة من المفسرين: بادروا بالتوبة قبل ظهور الست: طلوع الشمس من مغربها،
والدجال، والدابة، وغير ذلك مما قدمناه فعلى هذا سقط السؤال.
قوله تعالى:
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت
أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا
نذير وبشير لقوم يؤمنون (187) آية بلا خلاف.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول للمكلفين إني " لا أملك لنفسي نفعا ولا
ضرا إلا ما شاء الله " ان يملكني إياه فمشيئته تعالى في الآية واقعة على تمليك النفع
والضر لا على النفع والضر، لأنه لو كانت المشيئة إنما وقعت على النفع والضر كان
الانسان يملك ما شاء الله من النفع، وكان يملك الأمراض والاسقام وسائرها ما يفعله
الله فيه مما لا يجدله عن نفسه دفعا. ومعنى الآية إني أملك ما يملكني الله من
الأموال وما أشبهها مما يملكهم ويمكنهم من التصرف فيها على ما شاؤوا، وكيف شاؤوا.
والضر الذي ملكهم الله إياه هو ما مكنهم منه من الاضرار بأنفسهم وغيرهم، ومن
لم يملكه الله شيئا منه لم يملكه.
49

وذلك يفسد تأويل المجبرة الذين قالوا: معنى الآية إن الله يريد جميع ما
ينال الناس من النفع والضرر وإن كان ظلما وجورا من أفعال عباده
وقوله عز وجل " ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء "
معناه إني لو كنت أعلم الغيب لعلمت ما يربح من التجارات في المستقبل وما يخسر
من ذلك فكنت أشتري ما أربح وأتجنب ما أخسر فيه، فتكثر بذلك الأموال
والخيرات عندي، وكنت أعده في زمان الخصب لزمان الجدب " وما مسني السوء "
يعني الفقر إذا فعلت ذلك. وقيل: وما مسني تعذيب. وقيل: وما مسني جنون
جوابا لهم حين نسبوه إلى الجنون. وقال ابن جريج " لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت "
من العمل الصالح قبل حضور الأجل، وهو قول مجاهد وابن زيد. وقال البلخي:
لو كنت اعلم الغيب لكنت قديما، والقديم لا يمسه السوء لان أحدا لا يعلم
الغيب الا الله.
وفي الآية دلالة على أن القدرة قبل الفعل، لان قوله " لو كنت اعلم الغيب
لاستكثرت من الخير " يفيد أنه كان قادرا لأنه لو لم تكن القدرة إلا مع الفعل لو علم
الغيب لما أمكنه الاستكثار من الخير وذلك خلاف الآية.
وقوله تعالى " إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون " معناه لست الا مخوفا
من العقاب محذرا من المعاصي ومبشرا بالجنة حاثا عليها غير عالم بالغيب " لقوم
يؤمنون " فيصدقون بما أقول، وخصهم بذلك لأنهم الذين ينتفعون بانذاره وبشارته
دون من لا يصدق به كما قال " هدى للمتقين ".
قوله تعالى:
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها
ليسكن إليها فلما تغشيها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت
50

دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين (188)
فلما آتيهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتيهما فتعالى الله عما
يشركون (189) آيتان.
قرأ أهل المدينة وأبو بكر وعكرمة والأعرج " شركا " بكسر الشين منونا
الباقون بضم الشين على الجمع. وقرا ابن يعمر " فمرت " بتخفيف الراء وهو شاذ.
قال أبو علي الفارسي: من قرا " شركا " بكسر الشين منونا - حذف المضاف
كأنه أراد جعلا له ذا شرك اي ذا نصيب أو ذوي شرك، ويكون كقول من جمع
فالقراءتان يؤلان إلى معنى واحد. والضمير في قوله " له " يعود إلى اسم الله كأنه
قال جعلا لله شركاء.
وقال أبو الحسن: كان ينبغي لمن قرأ بكسر الشين - أن يقول جعلا لغيره
شركا. وقول من قرا " جعلا له شركاء " يجوز ان يريد جعلا لغيره فيه شركاء.
فحذف المضاف، فالضمير على هذا أيضا في " له " راجع إلى الله تعالى. وقال أبو علي
يجوز أن يكون الكلام على ظاهره، ولا يقدر حذف المضاف في قوله تعالى " جعلا له "
وأنت تريد لغيره ولكن يقدر حذف المضاف إلى شرك فيكون المعنى جعلا له ذوي
شرك، وإذا جعلا له ذوي شرك كان في المعنى مثل لغيره شركا، فلا يحتاج إلى
تقدير جعلا لغيره شركا.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون قوله تعالى " جعلا له شركاء " جعل أحدهما
له شركاء أو ذوي شرك فحذف المضاف واقام المضاف إليه مقامه كما حذف من قوله
تعالى " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " والمعنى على رجل واحد
من أحد رجلي القريتين. وحكى الأزهري ان الشرك والشريك واحد ويكون
بمعنى النصيب.
51

قوله " هو الذي " كناية عن الله تعالى وإخبار عن الذي خلق البشر من
نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها يعي حواء.
وقيل: انه خلقها من ضلع من أضلاعه وبين انه إنما خلقها ليسكن إليها آدم
ويأنس بها.
وقوله " فلما تغشاها " معناه لما وطأها وجامعها. وقيل: تغشاها بدنوه بها
لقضاء حاجة، فقضى حاجته منها " حملت " ففي الكلام حذف " حملت حملا خفيفا "
لان الحمل أول ما يكون خفيفا، لأنه الماء الذي يحصل في رحمها. والحمل
- فتح الحاء ما كان في الجوف وكذلك ما كان على نخلة أو شجرة فهو مفتوح.
- وبكسر الحاء - ما كان من الثقل على الظهر.
وقوله تعالى " فمرت به " معناه استمرت به وقامت وقعدت وقيل: شكت له
وآلمها ثقلها. ومن خفف الراء أراد شكت ومارت فلم تدر هي حامل أم لا. وقال
الحسن أغلاما أم جارية.
وقوله تعالى " فلما أثقلت " اي صارت ذات ثقل كما يقال أثمر اي صار ذا
ثمر، وذلك قرب ولادتها. " دعوا الله ربهما " يعني آدم وحواء دعوا الله اي سألاه
" لئن آتيتنا صالحا " اي لو أعطيتنا ولدا صالحا. قال الحبائي: صالحا يعني سليما
من الآفات صحيح الحواس والآلات. وقال غيره: معنى صالحا مطيعا فاعلا للخير
" لنكونن من الشاكرين " اي نكونن معترفين نعمك علينا نعمة بعد نعمة
تسديها الينا.
وقوله عز وجل " فلما آتاهم صالحا " يعني فلما آتى الله آدم وحواء ولدا
صالحا جعلا له شركاء، واختلفوا في الكناية إلى من ترجع في قوله " جعلا ":
فقال قوم هي راجعة إلى الذكور والإناث من أولادهما أو إلى جنسي من
اشرك من نسلهما، وإن كانت الأدلة تتعلق بهما. ويكون تقدير الكلام فلما آتى الله
آدم وحواء الولد الصالح الذي تمنياه وطلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير
52

الله ويقوي ذلك قوله تعالى " فتعالى الله عما يشركون " فلو كانت الكناية عن آدم
وحواء لقال عما يشركان. وإنما أراد تعالى الله عما يشرك هذان النوعان أو الجنسان
وجمعه على المعنى. وقد ينتقل الفصيح من خطاب إلى خطاب غيره. ومن كناية
إلى غيرها. قال الله تعالى " إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله
ورسوله " (1) فانصرف من مخاطبة الرسول إلى المرسل إليهم ثم قال " وتعزروه
وتوقروه " (2) يعني الرسل ثم قال " وتسبحوه " يعني الله تعالى، قال الهذلي:
يا لهف نفسي كان جده خالد * وبياض وجهك للتراب الأعفر (3)
ولم يقل وبياض وجهه. وقال كثير:
اسئ بنا أو احسني لا ملومة * لدنيا ولا مقلية إن تقلت (4)
فخاطبها ثم ترك الخطاب. وقال الآخر:
فدى لك ناقتي وجميع أهلي * ومالي إنه منه آتاني
ولم يقل منك اتاني. وليس لاحد ان يقول كيف يكني عمن لم يجر له
ذكر، وذلك أن لنا عنه جوابين:
أحدهما - انه يجوز ذلك إذا دل الدليل عليه، كما قال " حتى توارت
بالحجاب (5) ولم يتقدم للشمس ذكر. وقال الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (6)
ولم يتقدم للنفس ذكر.
والجواب الثاني - انه تقدم ذكر ولد آدم في قوله " هو الذي خلقكم من نفس
واحدة " وأراد بذلك جميع ولد آدم، وتقدم أيضا في قوله " فلما آتاهما صالحا "

(1) سورة 48 الفتح آية 8 - 9
(2) سورة 48 الفتح آية 8 - 9
(3) مر هذا البيت في 1: 35 من هذا الكتاب.
(4) اللسان (سوأ)
(5) سورة 38 ص آية 32
(6) اللسان (حشرج)
53

لان معناه ولدا صالحا، ويريد بذلك الجنس. وإن كان لفظه واحدا، وإذا تقدم
مذكوران وعقبا بأمر لا يليق بأحدهما وجب ان يضاف إلى الاخر، والشرك لا يليق
بآدم، لأنه نبي نزهه الله عن ذلك، وعن جميع القبائح، ويلق بكفار ولده ونسله
فوجب ان نرده إليهم.
وقال الزجاج وابن الاخشاد: جعل من كل نفس زوجها كأنه قال: وجعل من
النفس زوجها على طريق الجنس وأضمر لتقدم الذكر.
وقال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني: الكناية في جميع ذلك غير بآدم
وحواء وجعل الهاء في " تغشاها " والكناية في " دعوا الله ربهما، وآتاهما صالحا "
راجعين إلى من اشرك ولم يتعلق بآدم وحواء إلا قوله: " خلقكم من نفس واحدة "
والإشارة بذلك إلى جميع الخلق. وكذلك قوله " وجعل منها زوجها " ثم خص بها
بعضهم، كما قال " هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين
بهم بريح طيبة " (1) فخاطب الجماعة ثم خص راكب البحر، فكذلك اخبر الله
تعالى عن جملة امر البشر بأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها وهما آدم وحواء
ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ادعى له الشركاء
في عطيته.
وقال قوم: يجوز أن يكون عنى بقوله " هو الذي خلقكم من نفس واحدة "
المشركين خصوصا، إذا كان كل بني آدم مخلوقون من نفس واحدة كأنه قال:
خلق كل أحد من نفس واحدة وخلق من النفس الواحدة زوجها، ومثله كثير نحو
قوله عز وجل " فاجلدوهم ثمانين جلدة " (2) والمعنى فاجلدوا كل واحد منهم.
وقال قوم: ان الهاء في قوله: " جعلا له شركاء " راجعة إلى الولد لا إلى الله ويكون
المعنى انهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح فاشركا بين الطلبتين، كما يقول القائل:
طلبت مني درهما فلما أعطيتكه شركته بآخر أي طلبت آخر مضافا إليه، فعلى هذا

(1) سورة 10 يونس آية 22
(2) سورة 24 النور آية 4
54

يجوز أن تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم وحواء.
فان قيل: فعلى هذا فأي تعلق لقوله " فتعالى الله عما يشركون " بذلك.
وكيف ينزه نفسه عن أن يطلب منه ولد آخر؟!
قلنا: لم ينزه نفسه عن ذلك وإنما نزهها عن الاشراك به، ليس يمتنع ان
يقطع هذا الكلام عن حكم الأول، لأنه قال بعد ذلك " أيشركون ما لا يخلق شيئا
وهم يخلقون " فنزه نفسه عن هذا الشرك دون ما تقدم.
فأما الخبر المدعى في هذا الباب، فلا يلتفت إليه، لان الاخبار تبنى على أدلة
العقول، فإذا علمنا بدليل العقل ان الأنبياء لا يجوز عليهم المعاصي تأولنا كل خبر
يتضمن خلافه أو أبطلناه، كما نفعل ذلك بأخبار الجبر والتشبيه. على أن هذا الخبر
مطعون في سنده، لأنه يرويه قتادة عن الحسن عن سمرة، وهو مرسل، لان الحسن
لم يسمع من سمرة شيئا - في قول البغداديين - ولان الحسن قال بخلاف ذلك فيما
روى عنه عروة - في قوله عز وجل " فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما "
قال هم المشركون. ويعارض ذلك ما روي عن سعيد بن جبير وعكرمة والحسن
وغيرهم: من أن الشرك غير منسوب إلى آدم وزوجته، وأن المراد به غيرهما
على أن في الخبر أشركا إبليس اللعين فيما ولد لهما بأن سمياه عبد الحرث، والآية
تقضي انهم أشركوا الأصنام التي لا تخلق وهي تخلق، والتي لا تستطيع ضرا ولا نفعا
وليس لإبليس في الآية ذكر، ولو كان له ذكر لقال أتشركون من. وقال في
آخر القصة " ألهم أرجل يمشون بها.. " وكذا، ولا يليق ذلك بإبليس. ويقوي
ان الآية مصروفة عن ادم إلى ولده أنه قال " فلما تغشاها " ولو كان منسوقا على
النفس الواحدة لقال فلما تغشتها، لان ذلك هو الأجود والأفصح وإن جاز خلافه.
وحكي البلخي عن قوم انهم قالوا: لو صح الخبر لم يكن في ذلك الا إشراكا في
التسمية، وليس ذلك بكفر ولا معصية كبيرة، وذهب إليه كثير من المفسرين
واختاره الطبري.
55

قوله تعالى:
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (190) ولا
يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (191) وإن
تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم
صامتون (192) ثلاث آيات
قرأ نافع " لا يتبعوكم " وفي الشعراء " يتبعهم " بالتخفيف. الباقون بالتشديد
وهما لغتان، وبالتشديد أكثر. قال أبو زيد تقول: رأيت القوم فأتبعتهم اتباعا
إذا سبقوك فأسرعت نحوهم ومروا علي فاتبعتهم اتباعا إذا ذهبت معهم ولم يسبقوك،
قال: وتبعتهم اتبعهم تبعا مثل ذلك.
وفي الآية توبيخ من الله وتعنيف للمشركين، وإن خرج مخرج الاستفهام،
بأنهم يعبدون مع الله جمادا لا يخلق شيئا من الأجسام ولا ما يستحق به العبادة، وهم
مع ذلك مخلوقون محدثون ولهم خالق خلقهم. ونبههم بذلك على أنه لا ينبغي أن
يعبد إلا من يقدر على إنشاء الأجسام واختراعها وخلق أصول النعم التي يستحق
بها العبادة، وان ذلك لا يقدر عليه إلا الله تعالى الذي ليس بجسم، والقادر لنفسه،
ثم بين أن هذه الأشياء التي يعبدونها ويتخذونها آلهة وأشركوا بها مع الله تعالى
لا تقدر لمن عبدها واتخذها إلها على نفع ولا على ضر ولا أن ينصروهم، ولا ان
ينصروا أنفسهم إن أراد بهم غيرهم سواء، ومن هذه صورته فهو على غاية العجز،
ولا يجوز أن يكون إلها. وإنما يجب أن يكون كذلك من يقدر على الضر والنفع
ونصرة أوليائه.
وقوله تعالى " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم " معناه إن الأصنام والأوثان
56

التي كانوا يعبدونها ويتخذونها آلهة إن دعوها إلى الهدى والرشد لم يستمعوا ذلك،
ولا تمكنوا من اتباعهم، لأنها جمادات لا تفقه ولا تعقل - في قول أبي وغيره - وقال
الحسن: ان ذلك راجع إلى قوم من المشركين قد عموا بالكفر فهم لا يعلمون.
ثم قال " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " يعني سواء عندها دعاؤها
والسكوت عنها لكونها جمادا لا تعقل وإنما قال " أم أنتم صامتون " ولم يقل أم
صمتم ليكون في مقابلة " أدعوتموهم " فيفيد الماضي والحال لان المقابلة دلت على معنى
الماضي، واللفظ يدل على معنى الحال، وعليه أكثر الكلام يقولون: سواء علي
أقمت أم قعدت، ولا يقولون أقمت أم أنت قاعد، قال الشاعر:
سواء إذا ما أصلح الله أمرهم * علينا ادثر ما لهم أم اصارم (1)
وانشد الكسائي:
سواء عليك النفر أم بت ليلة * بأهل القبا من نمير بن عامر (2)
وانشد بعضهم: (أم أنت بائت)
قوله تعالى:
إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم
فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (193) آية.
إنما قال " إن الذين " وهو يريد الأصنام، لأنها لما كانت عندهم معبودة تنفع
وتضر، جاز أن يكني عنها بما يكنى عن الحي، كما قال في موضع آخر " بل فعله كبيرهم

(1) معاني القرآن 1 / 401 " الدثر " المال الكثير. و " اصارم " جمع
اصرام وهو الفريق القليل العدد ويقصد - هنا - الفريق من الإبل. واصله اصاريم،
وحذف الياء لضرورة الشعر.
(2) معاني القرآن 1 / 401. يريد النفر من منى.
57

هذا فأسلوهم " (1) ولم يقل فعله كبيرها فاسألوها، وقال " والشمس والقمر رأيتهم
لي ساجدين " (2) لما أضاف السجود إليها جمعها بالواو والنون التي تختص بالعقلاء
ومعنى " من دون الله " غير الله، كأنه قال كل مدعو إلها غير الله " عباد أمثالكم "
و " من " لابتداء الغاية في أن الدعاء دون دعاء الله إلى حيث انتهى إنما هو لعباد الله.
ثم قال " عباد أمثالكم " فإنما سماها كذلك لان التعبد التذلل، فلما كانت الأصنام
تنصرف على مشيئة الله، وهي غير ممتنعة عما يريد الله تعالى بها كانت بذلك في معنى
العباد. ويقال عبدت الطرق إذا وطئته حتى تقرر وسهل سلوكه. ومنه قوله تعالى
" وتلك نعمة تمنها علي ان عبدت بني إسرائيل " (3) اي ذللتهم واستخدمتهم
ضروبا من الخدم. وقال الجبائي وغيره: معنى " عباد " أي املاك لربهم كما أنتم
عبيد له، فان كنتم صادقين في ادعائكم انها آلهة فادعوهم ليستجيبوا لدعائكم.
وهذه لام الامر على معنى التهجين كما قال " هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " (4)
فإذا لم يستجيبوا لكم، لأنها لا تسمع دعاءكم فاعلموا انها لا تنفع ولا تضر ولا
تستحق العبادة.
فأما من قال الأصنام تعبد الله على الحقيقة كما يعبد العقلاء، وان كنا لا نفقه
ذلك فقد تجاهل، لان العبادة ضرب من الشكر، والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع
ضرب من التعظيم. والعبادة وان كانت شكرا فإنه يقارنها خضوع وتذلل. وكل
ذلك يستحيل من الجماد.
ويحتمل من حيث إنهم توهموا انها تضر وتنفع فقيل لهم ليس يخرج هؤلاء
بذلك عن حكم الله تعالى. وقال الحسن: معناه إنها مخلوقة أمثالكم. والعبد
المملوك من جنس ما يعقل، لان الثوب مملوك، ولا يسمى عبدا.
وقيل الدعاء الأول في الآية تسميتهم الأصنام آلهة كأنه قال: " إن الذين تدعون "

(1) سورة 21 الأنبياء آية 63
(2) سورة 12 يوسف آية 4
(3) سورة 26 الشعراء آية 22
(2) سورة 27 النمل آية 64
58

آلهة من دون الله فاطلبوا منهم المنافع وكشف المضار، فإذا كان ذلك ميؤوسا منها،
فعبادتها جهل وسخف. وقوله " إن كنتم صادقين " قال الحسن: معناه في أنهم آلهة.
قوله تعالى:
ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم عين
يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم
كيدون فلا تنظرون (194) آية
قرأ أبو جعفر " يبطشون " ويبطش - بضم الطاء - حيث وقع. الباقون
بكسرها. وهما لغتان، والكسر افصح وأكثر. وقرأ " كيدوني " بياء في الحالين
الوقف والوصل الحلواني عن هشام ويعقوب وافقهما في الوصل أبو عمرو وأبو جعفر
وإسماعيل والداحوني عن هشام. الباقون بغير ياء في الحالين. و " تنظروني " بياء
في الحالين عن يعقوب.
قال أبو علي الفارسي: الفواصل وما أشبهها من الكلام التام تجري مجرى
القوافي لاجتماعهما في أن الفاصلة آخر الآية، كما أن القافية آخر البيت وقد
الزموا الحذف في هذا الباب في القوافي كقوله:
فهل يمنعن ارتيادي البلاد * من قدر الموت أن يأتين
والياء التي هي لام الكلمة كذلك نحو قوله:
يلمس الأحلاس في منزله * بيديه كاليهودي المصل (1)
أكد الله تعالى في هذه الآية الحجة على المشركين في أنه لا ينبغي لهم أن يعبدوا
هذه الأصنام ولا يتخذونها آلهة، فقال " ألهم أرجل يمشون بها ". لان لفظه وإن

(1) قائله لبيد. اللسان " لمس " والاحلاس ملازمة المنزل وعدم التدخل
بشؤون الدولة. و " المصل " بمعنى الخاسر الذي ليس له شئ في الامر.
59

كان لفظ الاستفهام، فالمراد به الانكار، اي ليس لهم أرجل يمشون بها ولا لهم
أيد يبطشون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها، فعرفهم بذلك انهم
دون منزلتهم وأن الكفار مفضلون عليهم بما أنعم الله عليهم من هذه الحواس التي
لم تؤت الأصنام. وإذا كنتم مفضلين عليها وكنتم أقدر على الأشياء وأعلم، فكيف
يجوز لكم ان تتخذوها مع ذلك آلهة لأنفسكم.
وقوله تعالى " قل ادعوا شركاء كم ثم كيدون فلا تنظرون " معناه ادعوا هذه
الأوثان والأصنام التي تزعمون أنها آلهة وتشركونها في أموالكم فتجعلون لها حظأ
من الأموال والمواشي وتوجهون عبادتكم إلهيا أشركا بالله لها. واسألوها ان يضروني
وان يكيدوني معكم، ولا تؤخروا ذلك إن قدروا عليه، ومتى لم يتمكنوا من ذلك
فتبينوا انها لا تستحق العبادة، لأنها في غاية الضعف والعجز.
قوله تعالى:
إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين
(195) آية بلا خلاف.
روى ابن خنيس عن السوسي " ان ولي الله " بياء مشددة مفتوحة. الباقون
بثلاث ياءات الأولى ساكنة والثانية مكسورة والثالثة مفتوحة - على الإضافة -
ومن قرأ مشددا حذف الوسطى وادغم الأولى في الثالثة. ولا يجوز إدغام الثانية في
الثالثة، لأنها متحركة وقبلها ساكن لا يمكن الادغام.
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول للمشركين " ان وليي الله الذي " يحفظني
وينصرني ويحوطني ويدفع شرككم عني هو الله الذي خلقني وإياكم جميعا ويملكني
ويملككم الذي نزل القرآن، وهو ينصر الصالحين الذين يطيعونه ويجتنبون معاصيه
تارة بالحجة وأخرى بالدفع عنهم.
60

قوله تعالى:
والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا
أنفسهم ينصرون (196) آية.
هذا عطف على الآية الأولى، فكأنه قال قل وليي الله القادر على نصرتي عليكم
وعلى من أراد بي ضرا. والذين تتخذونهم أنتم آلهة لا يقدرون على أن ينصروكم ولا
أن يدفعوا عنكم ضررا. ولا يقدرون ان ينصروا أنفسهم أيضا لو أن إنسانا أراد
بهم سوءا من كسر أو غيره.
وإنما كرر هذا المعنى لأنه ذكره في الآية التي قبلها على وجه التقريع، وذكره
ههنا على وجه الفرق بين صفة من تجوز له العبادة ممن لا تجوز، كأنه قال: إن ناصري
الله ولا ناصر لكم ممن تعبدون.
وإنما قال تدعون من دونه وهم يدعونهم معه، لان معنى من دونه من غيره ومع
ذلك فإنه بمنزلة من افرد غيره بالعبادة في عظم الكفر والشرك.
قوله تعالى:
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتريهم ينظرون إليك
وهم لا يبصرون (197) آية.
قال الفراء والزجاج: المعنى إن دعوتم هؤلاء الذين تعبدونهم من الأصنام إلى
صلاح ومنافع لا يسمعوا دعاءكم، وتراهم فاتحة أعينهم نحو كم على ما صورتموهم
عليه من الصور، وهم مع ذلك لا يبصرونكم.
قال الجبائي: جعل الله انفتاح عيونهم في مقابلتهم نظرا منهم إليهم مجازا، لان
النظر حقيقة تقلب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته وذلك لا يتأتى في الجماد.
61

ويقال في اللغة: تناظر الحائطان إذا تقابلا وكل شئ قابل غيره يقال: نظر إليه.
وقال الحسن: المعنى وإن تدع يا محمد المشركين، فلم يجعل الكناية عن الأوثان
وقال الرماني: الكناية عن الأوثان لأنهم جعلوها تضر وتنفع، كما يكون
ذلك فيما يعقل.
وفي الآية دلالة على أن النظر غير الرؤية، لأنه تعالى أثبت النظر ونفى الرؤية
وقوله " وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون " وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله ولو
كان امره بخطاب المشركين بمعنى قل لهم لقال وترونهم. وقال السدي ومجاهد:
أراد به المشركين، فعلى هذا يكون قوله " وإن تدعوهم " خطابا للنبي صلى الله عليه وآله انه
ن دعا المشركين إلى الهدى لا يسمعوا بمعنى لا يقبلوا وهم يرونه ولا ينتفعون برويته.
قوله تعالى:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (198) آية
امر الله تعالى نبيه أن يأخذ مع الناس بالعفو، وهو التساهل فيما بينه وبينهم
وقبول اليسير منهم الذي سهله عليهم ويسر فعله لهم، وان يترك الاستقصاء عليهم في
ذلك، وهذا يكون في مطالبة الحقوق الواجبة لله تعالى وللناس وغيرها. وهو في معنى
الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله " رحم الله سهل القضاء سهل الاقتضاء ". ولا ينافي ذلك ان
لصاحب الحق والديون وغيرها استيفاء الحق وملازمة صاحبه حتى يستوفيه، لان
ذلك مندوب إليه دون أن يكون واجبا. وقد يكون العفو في قبول العذر من المعتذر
وترك المؤاخذة بالإساءة.
وقوله " وامر بالعرف " يعني بالمعروف، وهو كل ما حسن في العقل فعله أو
في الشرع، ولم يكن منكرا ولا قبيحا عند العقلاء.
وقوله عز وجل " وأعرض عن الجاهلين " امر بالاعراض عن الجاهل: السفيه
الذي إن كلمه سفه عليه وآذاه بكلامه. وأمره إذا أقام عليهم الحجة وبين بطلان
62

ما هم عليه من الكفر والمعاصي أن يعرض عنهم ولا يجاوبهم في مكروه يسمعه، صيانة
لنفسه عنهم. وقال عطا العفو: الفضل. وقال مجاهد: العفو من اخلاق الناس،
وعفو أموالهم من غير تجسس عليهم. وقال: ما عفا لك من أموالهم، وذلك قبل
فرض الزكاة. وقال السدي: نسخ ذلك بآية الزكاة وقال ابن زيد: امره بالاعراض
عنهم ثم نسخ بقوله " واغلظ عليهم " (1).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله: " وامر بالعرف " أن جبرائيل قال له
معناه تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك.
قوله تعالى:
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع
عليم (199) آية.
النزغ أدنى حركة تقول: نزغته إذا حركته. والمعنى ان نالك يا محمد من
الشيطان أدنى حركة من معاندة وسوء عشرة " فاستعذ بالله " اي سل الله ان يعيذك،
ويحفظك منه فإنه سميع للمسموعات وعالم بالخفيات يسمع دعاء من يدعوه ويعلم
دعاءه وما يستحقه بذلك من الله.
والنزغ الفساد أيضا يقال: نزغ فلان بيننا اي افسد، ومنه قوله تعالى: " نزغ
الشيطان بيني وبين اخوتي " (2) ونزع ينزع ونغز ينغز إذا أفسد. وموضع ينزغنك
جزم ب‍ (إن) التي للجزاء الا انه لا يبين فيه الاعراب، لأنه مبني مع نون التأكيد
على الفتح وإذا كانت مشددة لابد من تحريك ما قبلها في الجزم لالتقاء الساكنين
والنزغ الازعاج بالاغواء وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب واصل النزغ الازعاج
بالحركة نزغته انزغه نزغا.

(1) سورة 9 التوبة آية 74 وسورة 66 التحريم آية 9
(2) سورة 12 يوسف آية 100
63

قوله تعالى:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا
هم مبصرون (200) آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وأهل البصرة والكسائي " طيف " بغير الف وبغير همز. الباقون
بألف بعدها همزة. قال الحسن: الطيف في كلام العرب أكثر من طائف. وقال
أبو زيد: طاف الرجل يطوف طوفا إذا أقبل وأدبر وأطاف يطوف طوفا إذا جعل
مستدبر القوم ويأتيهم من نواحيهم. وطاف الخيال طيفا إذا ألم في المنام. وقال
أبو عبيدة: طيف من الشيطان بأن يلم به، لما يقال منه: طفت أطيف طيفا. وقال
قوم: الطائف ما أطاف بك من وسوسة الباطل. والطيف اللمم والمس. وقال أبو عمرو
ابن العلا: العطيف الوسوسة. وحكى الرماني: ان الطيف أصله طوف من الواو
مثل سيد وميت، فخفف، وانشد أبو عبيدة للأعشى في الالمام.
ونصبح عن غب السرى وكأنما * ألم بها من طائف الجن اولق (1)
وكأن معنى الآية إذا مسهم من ينظر لهم نظرة من الشيطان. ويكون طائف
مثل العاقبة والعافية، مما جاء المصدر منه على فاعل وفاعلة، فالطيف أكثر لان
المصدر على هذا الوزن أكثر منه على وزن فاعل، والطائف كالخاطر. وقال الحسن
معناه يطوف عليهم الشيطان بوساوسه، فيقبل بعض وحبه من يعصي الله. وقوله
" تذكروا " أي تذكروا ما عندهم من المخرج والتوبة " فإذا هم مبصرون " قد
تابوا. وقال مجاهد: هم المؤمنون إذا مسهم طيف أي غضب تذكروا. وقال سعيد
ابن جبير: هو الرجل يغضب الغضب فيذكر فيكظم غيظه. وقال مجاهد: هو الرجل
يهم بالذنب فيذكر الله تعالى فيتركه.

(1) ديوانه 147 ومجاز القرآن 1 / 236 واللسان " طيف "
64

اخبر الله تعالى بأن الذين يتقون الله باجتناب معاصيه إذا وسوس إليهم الشيطان
وأغراهم بمعاصيه تذكروا، فعرفوا ما عليهم من العقاب بذلك فيجتنبونه ويتركونه.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الطيف الغضب. وقال ابن عباس والسدي: هي الزلة
التي إذا ارتكبها تاب منها. و " إذا " الأولى بمنزلة الجزاء ولها جواب، والثانية
بمعنى المفاجأة كقولك خرجت، فإذا زيد. وقال ابن عباس الطيف النزغ. وقال
أبو عمرو بن العلا: الوسوسة. وقال غيره هو المم.
قوله تعالى:
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (201) آية.
قرئ " يمدونهم " بضم الياء وكسر الميم عن نافع. الباقون بفتح الياء وضم الميم
ومعنى الآية أن إخوان الشياطين من الكفار يمدهم الشياطين في الغي، ومعناه
يزيدونهم في الغواية، والاضلال، ويزينون لهم ما هم فيه.
ثم اخبر ان هؤلاء مع ذلك " لا يقصرون " كما يقصر الذين اتقوا إذا مسهم
طيف من الشيطان. وهو قول ابن عباس والسدي وابن جريج وأبي علي، وأكثر
المفسرين. وقال مجاهد: هم إخوان المشركين من الشياطين. وقال قتادة قوله
" ثم لا يقصرون " يعني الشياطين " لا يقصرون " عن استغوائهم ولا يرحمونهم.
وقصرت وأقصرت لغتان، والقراءة على لغة أقصرت، ومن ضم الياء من " يمدونهم "
فلقوله تعالى " إنما نمدهم به من مال وبنين " (1) وقوله عز وجل " وأمددناهم بفاكهة " (2)
وقوله " أتمدونني بمال " (3) ومن فتح الياء فلقوله تعالى " ويمدهم في طغيانهم
يعمهون " (4). وأمددت فيما يستحب، ومددت فيما يكره. قال أبو زيد: امددت
القائد بالجند وأمددت الدواة وأمددت القوم بالمال والرجال. وقال أبو عبيدة

(1) سورة 23 المؤمنون آية 55
(2) سورة 52 الطور آية 22
(3) سورة 27 النمل آية 36
(4) سورة 2 البقرة آية 15
65

" يمدونهم في الغي " اي يزينون لهم يقال: مد له في غيه. هكذا يتكلمون به
ووجه قراءة نافع قوله تعالى " فبشرهم بعذاب أليم ".
قوله تعالى:
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع
ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم
يؤمنون (202) آية.
معنى الآية انك يا محمد إذا لم تأتهم بآية يقترحونها، قالوا: لم لا تطلبها من
الله فيأتينا بها. وقوله " لولا " معناه هلا " اجتبيتها " معناه اختلقتها واقتلعتها
من قبل نفسك في قول الزجاج، والفراء والحسن، والضحاك، وقتادة، وابن
جريج، وابن زيد، وابن عباس.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس وقتادة: معناه هلا اخذتها من ربك وتقبلتها
منه. ويكون الاجتباء بمعنى الاختيار. وقال الفراء: اجتبيت الكلام واختلقته
وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك. وقال أبو عبيدة: اخترعته مثل ذلك. وقال
أبو زيد: هذه الحروف تقولها العرب للكلام يبتدؤه الرجل لم يكن أعده قبل
ذلك في نفسه.
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهم إني لست آتي بالآيات من عندي
وإنما يفعلها الله ويظهرها على حسب ما يعلم من المصلحة في ذلك لا بحسب اقتراح
الخلق، وإنما اتبع ما يوحي إلي.
وقوله " هذا بصائر من ربكم " يعني هذا القرآن حجج وبراهين وأدلة من
ربكم. والبصائر جمع بصيرة، وهي البراهين الواضحة والحجج النيرة. وتكون البصائر
جمع بصيرة. وهي طريق الدم. والبصيرة الرأس أيضا. وجمها بصائر، ومعناه ظهور
66

الشئ وبيانه. وإنما قال " هذا بصائر " لان المراد به القرآن، وقوله تعالى " وهدى "
يعني بيان وحجة ورحمة لقوم يؤمنون، فأضافه إليهم لأنهم هم المنتفعون بها، دون
غيرهم من الكفار، وإن كان بيانا للكل. وقال الجبائي قوله " هذا بصائر " إشارة
إلى الأدلة الدالة على توحيده وصفاته وعدله وحكمته وصحة نبوة النبي وصحة ما أتى
به النبي صلى الله عليه وآله.
قوله تعالى:
وإذا قرئ القران فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم
ترحمون (203) آية بلا خلاف.
امر الله تعالى المكلفين بأنه إذا قرئ القرآن ان يسمعوا له ويصغوا إليه
ليفهموا معانيه ويعتبروا بمواعظه وان ينصتوا لتلاوته ويتدبروه ولا يلغوا فيه ليرحمهم
بذلك ربهم، وباعتبارهم به واتعاضهم بمواعظه.
واختلفوا في الوقت الذي أمروا بالانصات والاستماع:
فقال قوم: أمروا حال كون المصلي في الصلاة خلف الامام الذي يأتم به. وهو
يسمع قراءة الإمام، فعليه أن ينصت ولا يقرأ ويتسمع لقراءته.
ومنهم من قال: لأنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم ويسلم بعضهم على بعض، وإذا
دخل داخل وهم في الصلاة قال لهم كم صليتم فيخبرونه وكان مباحا فنسخ ذلك،
ذهب إليه عبد الله بن مسعود، وأبو هريرة والزهري وعطا عبيد الله بن أبي عمير
ومجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم وعامر الشعبي
وابن عباس وابن زيد، واختاره الجبائي.
وقال قوم: هو امر بالانصات للامام إذا قرأ القرآن في خطبته. روي ذلك
عن مجاهد. وقال قوم: هو امر بذلك في الصلاة والخطبة. وروي ذلك عن مجاهد
67

أيضا، والحسن. وأقوى الأقوال الأول. لأنه لا حال يجب فيها الانصات لقراءة
القرآن إلا حال قراءة الإمام في الصلاة، فان على المأموم الانصات لذلك والاستماع
له. فأما خارج الصلاة فلا خلاف أنه لا يجب الانصات والاستماع. وعن أبي عبد الله
عليه السلام انه في حال الصلات وغيرها. وذلك على وجه الاستحباب.
وقال الجبائي: يحتمل أن يكون أراد الاستماع إذا قرأ النبي صلى الله عليه وآله عليهم
ذلك، فإنه كان فيهم من المنافقين من لا يستمع. والأول أكثر فائدة وأعم. وقال
الزجاج: يجوز أن يكون الامر بالاستماع للقرآن للعمل بما فيه وان لا يتجاوزه
كما تقول سمع الله لمن حمده بمعنى أجاب الله دعاه، لان الله سميع عليم.
والانصات السكوت مع الاستماع، قال الطرماح يصف وحشا،
وحذرها الصيادين:
يخافتن بعض المضغ من خشية الردى * وينصتن للسمع إنصات القناقن (1)
والقناقن عراف الماء.
قوله تعالى:
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول
بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (204) آية.
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يذكره على حال التضرع والمراد به الأمة.
ونصب " تضرعا " على الحال، وعلى وجه الخوف من عذابه، والخيفة هو الخوف
ويكون دعاؤه خالصا لله ويفعل هذا الدعاء " بالغدو " وهو أول النهار، " والآصال "
وهو جمع أصل. والأصل جمع الأصيل، فالآصال جمع الجمع وتصغيره أصيلال
على بدل النون. وقال قوم: هو جمع أصل، والأصل يقع على الواحد والجمع ومعناه

(1) اللسان (نصت)
68

العشيات، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.
وقال ابن زيد: الخطاب متوجه إلى المستمع للقران إذا تلي ثم اكد توصيته
له في الدعاء بقوله " ولا تكن من الغافلين " والمعنى لا تكن من الغافلين عما أمرتك
به من الدعاء له والذكر لله. وقال الجبائي: في الآية دليل على أن الذين يرفعون
أصواتهم بالدعاء ويجهرون بها مخطئون على خلاف الصواب.
ومن قرأ " خفية " أراد أخف الدعاء واترك الاجهار، وهو تأكيد لما امر به
من الدعاء إخفاء
وقوله " ودون الجهر " يعني دعاء باللسان في خفاء الاجهار.
وقال قوم: الآية متوجهة إلى من أمر بالاستماع للقرآن والانصات له الذين
كانوا إذا سمعوا القرآن رفعوا أصواتهم بالدعاء عند ذكر الجنة أو النار - ذهب إليه
ابن زيد ومجاهد وابن جريج، واختاره الطبري - والأولى أن يكون ذلك متوجها
إلى النبي، والمراد به جميع الأمة، فإنه أكثر فائدة.
وإنما امره بالذكر في النفس وإن كان لا يقدر عليه العبد لامرين:
أحدهما - ان المراد به التعرض للذكر من جهة الفكر، وهذا في الذكر المضاد للسهو
الثاني - انه امر بالذكر الذي هو القول فيما يخفى كحديث النفس.
قوله تعالى:
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه
وله يسجدون (205) آية
بين الله تعالى ان الذين عنده، وهم الملائكة، ومعناه انهم عنده بالمنزلة الجليلة
لا بقرب المسافة، لأنه تعالى ليس في مكان ولا جهة فيقرب غيره منه، لان ذلك من
صفات الأجسام، وهذا حث منه على الطاعة والاستكانة والخضوع له، لان الملائكة
مع فضلها وارتفاع منزلتها إذا كانت لا تستكبر عن عبادته بل تسبحه دائما وتسجد
69

مثل ذلك فبنوا آدم بذلك أولى وأحق ولهم أوجب والزم.
قال الجبائي معنى " عند ربك " إنهم في المكان الذي لا يملك فيه الحكم بين
الخلق سواه لأنه ملك عباده الحكم في الأرض على وجه حسن. قال: ويجوز أن يكون
المراد بذلك أنهم رسله الذين يبعثهم في أمور الانس، وإذا كانوا رسله جاز
أن ينسبهم إلى نفسه فيقول: إنهم عنده، كما يقال: عند الخليفة جيش كثير، ولا
يراد به في مكانه، ولا بالقرب منه، وإنما يراد انهم أصحابه وإن كانوا متفرقين
في البلاد. وقال الزجاج: من قرب من رحمة الله وفضله فهو عند الله اي قريب من
تفضله وإحسانه.
وهذا أول سجدات القرآن، وهي - عندنا - مستحبة غير واجبة وفي ذلك
خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.
وسبب نزول الآية ان قريشا لما قالت: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟!
نزلت هذه الآية.
70

8 - سورة الأنفال
هذه السورة مدنية في قول قتادة وابن عباس ومجاهد وعثمان، وقال: هي أول
ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله بالمدنية، وحكي عن ابن عباس: انها مدنية إلا سبع آيات:
أولها " وإذ يمكر بك الذين كفروا) إلى آخر سبع آيات بعدها. وهي خمس
وسبعون آية في الكوفي، وسبع وسبعون آية في الشامي، وست وسبعون في
المدنيين والبصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
يسئلونكم عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا
الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم
مؤمنين (1) آية.
اختلف المفسرون في معنى الأنفال - ههنا - فقال بعضهم: هي الغنائم التي
غنمها النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر، فسألوه لمن هي؟ فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم:
هي لله ولرسوله - ذهب إليه عكرمة ومجاهد والضحاك وابن عباس وقتادة وابن زيد -
وقال قوم: هي أنفال السرايا - ذهب إليه علي بن صالح بن يحيى - وقال قوم:
وهو ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو جارية من غير قتال أو ما أشبه
ذلك - عن عطا - وقال: هو للنبي صلى الله عليه وآله خاصة يعمل به ما يشاء.
وروي عن ابن عباس - في رواية أخرى - انه ما سقط من المتاع بعد قسمة
71

الغنائم من الفرس والدرع والرمح. وفي رواية أخرى - أنه سلب الرجل وفرسه
ينفل النبي صلى الله عليه وآله من شاء.
وقال قوم: هو الخمس، روي ذلك مجاهد، قال: قال المهاجرون: لم يرفع
منا هذا الخمس ويخرج منا؟ فقال الله: هو لله والرسول.
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام (أن الأنفال كل ما اخذ من دار
الحرب بغير قتال إذا انجلى عنها أهلها). ويسميه الفقهاء فيئا، وميراث من لا وارث
له، وقطائع الملوك إذا كانت في أيديهم من غير غصب، والآجام وبطون الأودية
والموات وغير ذلك مما ذكرناه في كتب الفقه. وقالا: هو لله وللرسول وبعده للقائم
مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالح نفسه ومن يلزمه مؤنته ليس لأحد فيه شئ.
وقالا: إن غنائم بدر كانت للنبي صلى الله عليه وآله خاصة، فسألوه أن يعطيهم.
وفي قراءة أهل البيت: " يسألونك الأنفال " فأنزل الله تعالى قوله " قل
الأنفال لله والرسول " ولذلك " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " ولو سألوه
عن موضع الاستحقاق لم يقل لهم: اتقوا الله.
والأنفال جمع نفل والنفل هو الزيادة على الشئ، يقال: نفلتك كذا إذ ازدته
قال لبيد بن ربيعة:
إن تقوى ربنا خير نفل * وباذن الله ريثي والعجل (1)
والنفل هو ما أعطيته المرء على البلاء، والفناء على الجيش على غير قسمة.
وكل شئ كان زيادة على الأصل فهو نفل ونافلة، ومنه قيل لولد الولد: نافلة،
ولما زاد على فرائض الصلاة نافلة.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال قوم: نزلت في غنائم بدر، لان
النبي صلى الله عليه وآله كان نفل أقواما على بلاء فأبلى أقوام وتخلف آخرون مع النبي صلى الله عليه وآله
فلما انقضى الحرب اختلفوا، فقال قوم: نحن أخذنا، لأنا قتلنا. وقال آخرون:

(1) تفسير القرطبي 8 / 361 واللسان (نفل) ومجاز القرآن 1 / 240.
72

نحن أحطنا بالنبي صلى الله عليه وآله ولو أردنا لاخذنا. وقال آخرون: نحن كنا وراءكم نحفظكم
فأنزل الله هذه الآية يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله ماض جائز - ذهب إليه
ابن عباس وعكرمة وعبادة بن الصامت -.
وقال قوم: نزلت في بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله سأل من المغنم شيئا قبل قسمتها
فلم يعطه إياها إذ كان شركا بين الجيش، فجعل الله جميع ذلك للنبي صلى الله عليه وآله روي ذلك
عن سعد بن مالك، وهو ابن أبي وقاص. قال: وكان سيف سعد بن العاص لما قتله
اخوته، وكان يسمى ذا الكثيفة، قال سعد أتيت النبي صلى الله عليه وآله فسألته سيفا فقال:
ليس هذا لي ولا لك فوليت عنه. قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله خلفي فقال: إن السيف قد
صار لي فأعطانيه، ونزلت الآية.
وروي عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال: أصبت سيف ابن عابد، وكان يسمى
المرزبان فألقيته في النفل، فقام الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فسأل رسول الله
فأعطاه إياه.
وقال آخرون: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله سألوه أن يقسم غنيمة بدر عليهم يوم
بدر، واعلمهم الله أن ذلك لله ولرسوله دونهم ليس لهم فيه شئ.
وقالوا معنى " عن " ههنا معنى " من " وكان ابن مسعود يقرأه " يسألونكم الأنفال "
على هذا التأويل. وهذا مثل ما رويناه عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وروي
ذلك عن الأعمش، والضحاك عن ابن مسعود، وروي ذلك عن ابن عباس وابن
جريح وعمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وعن الضحاك، وعكرمة، واختاره
الطبري وهو قول الحسن. وقال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أيما سرية خرجت
بغير إذن إمامها فما أصابت من شئ، فهو غلول. وقال الزجاج: كانت الغنائم
قبل النبي صلى الله عليه وآله حراما، فسألوا النبي عن ذلك، فنزلت الآية، وهذا بعيد.
واختلفوا هل هي منسوخة أم لا؟
فقال قوم: هي منسوخة بقوله " واعلموا إنما غنمتم من شئ.. " الآية وروي
73

ذلك عن مجاهد وعكرمة والسدي وعامر الشعبي واختاره الجبائي.
وقال آخرون: ليست منسوخة، ذهب إليه ابن زيد واختاره الطبري، وهو
الصحيح، لان النسخ محتاج إلى دليل، ولا تنافي بين هذه الآية وبين آية الخمس،
فيقال انها نسختها.
واختلفوا هل لاحد بعد النبي صلى الله عليه وآله ان ينفل أحدا - ذكرناه في الخلاف -
فقال سعيد بن المسيب لا نفل بعد رسول الله. وبه قال عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده. وعندنا وعند جماعة من الفقهاء واختاره الطبري: أن للأئمة أن يتأسوا
بالنبي صلى الله عليه وآله في ذلك.
وقوله " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " امر من الله للمكلفين أن يتقوا
معاصيه ويفعلوا طاعاته ان يصلحوا ذات بينهم.
واختلفوا في معناه، فقال قوم: هو ان النبي صلى الله عليه وآله كان ينفل الرجل من
المؤمنين سلب الرجل من الكفار إذا قتله، فلما نزلت الآية أمرهم أن يرد بعضهم
على بعض، ذهب إليه قتادة وابن جريج.
وقال قوم: هذا نهي من الله للقوم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر
الغنيمة يوم بدر. ذهب إليه مجاهد وابن عباس وسفيان والسدي.
واختلفوا لم قال " ذات بينكم " فأنث، والبين مذكر؟ فقال قوم: أراد
" ذات بينكم " للحال التي للبين، كما يقولون ذات العشاء يريدون الساعة التي فيها
العشاء، ولم يصفوا مذكرا لمؤنث ولا مؤنثا لمذكر. قال الزجاج: أراد الحال التي
يصلح بها أمر المسلمين. وقال الأخفش: جعله " ذات " لان بعض الأشياء يوضع
عليه اسم المؤنث وبعضه يذكر مثل الدار والحائط أنث الدار وذكر الحائط.
وقوله " وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " امر من الله للخلق ان يطيعوه
ولا يعصوه، ويطيعوا رسوله فيما يأمرهم به إن كانوا مصدقين لرسوله فيما يأتيهم
به من قبل الله، لأنهم متى لم يطيعوه ولم يقبلوا منه لم يكونوا مؤمنين.
74

وروي: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قسم غنائم بدر بينهم عن تواء، يعني سواء،
ولم يخمس وإنما خمس بعد ذلك.
وقال الزجاج: " ذات بينكم " معناه حقيقة وصلكم، والبين الوصل، لقوله تعالى
" لقد تقطع بينكم " اي وصلكم.
قوله تعالى:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا
تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين
يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون
حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم (4)
ثلاث آيات بلا خلاف.
استدل - من قال: إن الايمان يزيد وينقص وان أفعال الجوارح قد تكون
إيمانا - بهذه الآيات، فقالوا: نفى الله أن يكون المؤمن إلا من إذا ذكر الله وجل
قلبه وإذا تليت عليه آياته أي قرئت زادتهم الآية إيمانا، بمعنى أنهم يزدادون عند
تلاوتها ايمانا، وانهم على الله يتوكلون في جميع أمورهم " الذين يقيمون الصلاة "
بمعنى يأتون بها على ما بينها النبي صلى الله عليه وآله وينفقون مما رزقهم الله في أبواب البر.
وإخراج الواجبات من الزكاة وغيرها. ثم وصفهم بأن هؤلاء الذين وصفهم بهذه
الأوصاف هم المؤمنون حقا، يعني الذين أخلصوا الايمان، لاكمن كان له اسمه على
الظاهر، وإن لهم الدرجات عند الله وهي المنازل التي يتفاضل بها بعضهم على بعض
وإن لهم المغفرة والرزق الكريم فدل على أن من ليس كذلك ليس له ذلك.
ومن خالف في ذلك قال: هذه أوصاف أفاضل المؤمنين، وخيارهم، وليس
75

يمتنع أن يتفاضل المؤمنون في الطاعات وان لم يتفاضلوا في الايمان، يبين ذلك أنه قال
في أول الآية " إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " ووجل القلب ليس بواجب بلا خلاف،
وإنما ذلك من المندوبات. وقوله " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم
يتوكلون " لأنه إذا صدق بآية آية انها من عند الله، فلا شك ان معارفه تزداد
وإن لم يزد بفعل الجوارح.
وقوله " الذين يقيمون الصلاة " يدخل في ذلك الفرائض والنوافل، ولا شك
أن الاخلال بالنوافل لا يخرج من الايمان ولا ينقص منه عند الأكثر. والانفاق
أيضا قد يكون بالواجب والنفل. والاخلال بما ليس بواجب منه لا يخرج من الايمان
بلا خلاف. وقوله " أولئك هم المؤمنون حقا " يبين ذلك أنه أشار به: إلى خيارهم
وأفاضلهم، لأن هذه أوصافهم فمن أين ان غيرهم وإن كان دونهم في المنزلة
لا يكون مؤمنا؟!
وقال ابن عباس: أراد ان المنافق لا يدخل قلبه شئ من ذلك عند ذكر الله.
وأن هذه الأوصاف منتفية عنه.
والوجل والخوف والفزع واحد، يقال وجل فلان يوجل وجلا، ويقال ياجل
وييجل وأفصحها يوجل. قال الله تعالى " لا توجل " أي لا تخف وقال الشاعر:
لعمرك ما أدري وإني لا وجل * على أينا تعدوا المنية أول (1)
وإنما وصفهم بالوجل - ههنا - وباطمئنان القلوب في قوله: " الذين آمنوا
وتطمئن قلوبهم بذكر الله " (2) لان الوجل يكون بالخوف من عقابه وبارتكاب معاصيه.
والاطمئنان بذكر الله معناه: ينعمه وعدله، ووصفهم بالوجل يكون في دار الدنيا،
وأما في الآخرة فإنه " لا يحزنهم الفزع الأكبر " (3)

(1) قطر الندى 23 الشاهد 6 باب المعرب والمبني.
(2) سورة 13 الرعد آية 30
(3) سورة 21 الأنبياء آية 103
76

وقال الربيع: معنى زادتهم إيمانا زادتهم حسنة، والدرجات عند الله، قال
قوم: معناه أعمال رفيعة وفضائل استحقوها في أيام حياتهم - ذهب إليه مجاهد -
وقال غيره: معناه لهم مراتب رفيعة. والرزق الكريم، قال قتادة: هو الجنة. وقال
غيره: هو ما أعد الله ووعدهم به في الجنة من أنواع النعيم والمغفرة يعني لذنوبهم
ومعاصيهم سترها الله عليهم.
وقوله " حقا " منصوب بمعنى دلت عليه الجملة، وهي قوله " أولئك هم
المؤمنون " والمعنى أحق ذلك حقا. والتوكل هو الثقة بالله في كل امر يحتاج إليه
تقول وكلت الامر إلى فلان، إذا جعلت إليه القيام به، ومنه الوكيل القائم بالامر
لغيره. والكريم القادر على النعم من غير مانع، ولم يزل الله كريما بهذا المعنى.
قوله تعالى:
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من
المؤمنين لكارهون (5) يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما
يساقون إلى الموت وهم ينظرون (6) آيتان
من مد الف (كما) فلان المد يقع في حروف اللين، وهي الألف والواو والياء،
فإذا كان الحروف منها قبل همزة، وكانت الواو والياء ساكنتين والألف لا تكون الا
ساكنة مدوا الألف كألف هذه الكلمة، وكقوله " من السماء من ماء " (1) بمد
الف السماء والف مساء، والياء نحو قوله " وما ينطق عن الهوي ان هو الا وحي
يوحي " (2) بمد الياء من الهوي، والواو نحو قوله " " قالوا أأنت فعلت هذا " (3)
بمد الواو.

(1) سورة 2 البقرة آية 164
(2) سورة 53 النجم آية 3 - 4
(3) سورة 21 الأنبياء آية 62
77

واختلفوا في الكاف من قوله " كما " إشارة إلى ماذا؟ فقال الزجاج وغيره:
قوله " كما أخرجك " معطوف على قوله " قل الأنفال لله والرسول " والمعنى في ذلك
أن رسول الله لما جعل النفل لمن جعله له وسلمه المؤمنون لذلك على كراهية بعضهم
له كراهية طباع، فقال " الأنفال لله والرسول " فامض لذلك، وإن كرهه قوم
كما مضيت " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " وهم كارهون أيضا لأنهم كانوا
كرهوا خروجه الكراهية التي ذكرناها، وليس على المؤمنين في هذه الكراهية
حرج، إذا سلموا الامر لله ورسوله وعملوا بما فيه طاعاتهما. وقال غيره: ذلك معطوف
على قوله " يسألونك عن الأنفال " كأنه قال: يسألونك الأنفال كما جادلوك عندما
أخرجك ربك من بيتك، فذلك قوله " يجادلونك في الحق بعد ما تبين ". وقال
قوم: يجوز أن يكون الكاف عطفا على قوله " أولئك هم المؤمنون حقا.. كما
أخرجك ربك من بيتك بالحق ". قال بعضهم " كما أخرجك ربك من بيتك..
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ". وقال مجاهد " كما أخرجك ربك من بيتك
بالحق.. يجادلونك في الحق من بعد ما تبين " يعني يجادلونك في القتال بعد ما
أمرت به. وقال الفراء: قوله " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " جواب قوله
" وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " فقال: فامض لأمرك في الغنائم على ما شئت
" كما أخرجك ربك " مجاز اليمين كأنه، قال والذي أخرجك ربك، فتكون " ما "
في موضع الذي كقوله " وما خلق الذكر والأنثى " (1) وتقديره والذي خلق
الذكر، وقال أبو عبيدة معمر بن المبنى: " ما " في قوله " كما أخرجك " كما
في قوله " وما بناها " (2) اي وبنائها. وقال عكرمة: المعنى " اتقوا الله واصلوا ذات
بينكم " فان ذلك خير لكم " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " وكان خير لكم.
وقال بعضهم: الكاف بمعنى (على) كأنه قال: إمض على الذي أخرجك

(1) سورة 92 الليل آية 3
(2) سورة 91 الشمس آية 5
78

من بيتك. والحق الذي جادلوا فيه هو القتال في قول مجاهد. و " بيتك " يراد به
المدينة، اخرجه الله إلى بدر - في قوله ابن جريج، وابن أبي نجيح وأكثر المفسرين -
ووجه كراهية القتال - ما ذكره ابن عباس - من أن أبا سفيان لما اقبل
بعير قريش من الشام فيها أموالهم، ندب النبي صلى الله عليه وآله المسلمين إلى الخروج إليها،
قال لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب إليهم، فخف بعضهم، وثقل بعضهم، ولم يظنوا
أن رسول الله ملقي كيدا ولا حزنا، وهو قول السدي والمفسرين. واختلفوا في
المؤمنين الذين كرهوا القتال، وجادلوا النبي صلى الله عليه وآله. فقال قوم: أراد به أهل
الايمان يوم بدر - ذكر ذلك عن ابن عباس، وابن إسحاق - وقال قوم: عنى
المشركين - ذهب إليه ابن زيد - وقال: هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما
يساقون إلى الموت حين يدعوهم إلى الاسلام، وهم ينظرون، قال وتكون هذه صفة
مبتدأة لأهل الكفر. وقول ابن عباس هو الظاهر، وعليه أكثر المفسرين، وهو
ان هذا صفة للمؤمنين لكن كرهوا ذلك كراهية الطبع، لكونهم غير مستعدين
للقتال، ولقلتهم وكثرة المشركين، ويقوي ذلك قوله بعد هذه الآية " وإذ يعدكم
الله احدى الطائفتين انها لكم وتودون ان غير ذات الشوكة تكون لكم " فبين بذلك
انهم كانوا يودون العير دون الحرب.
وقوله " بعد ما تبين " انك يا محمد لا تصنع إلا ما امرك الله به. وقال ابن عباس
معناه يجادلونك في القتال بعد ما أمرت به. والجدل شدة الفتل ومنه قولهم: جدلت
الزمام إذا شددت فتله، والاجدل الصقر لشدته.
وقوله " كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " معناه كأن هؤلاء الذين
يجادلونك في لقاء العدو في كراهتهم للقتال إذا دعوا إليه وصعوبته عليه بمنزلة من
يساق إلى الموت، وهم يرونه أو يتوقعونه.
والسوق الحث على السير عجلة. والاخراج في الآية معناه الدعاء إلى الخروج
الذي يقع به، تقول: اخرجه فخرج اي دعاه فخرج، ومثله اضربت زيدا عمرا،
79

فضربه وسمي البيت بيتا لأنه جاء مهيئا للبيتوتة فيه. وقوله " من بيتك " قال الحسن
وابن أبي برة وابن جريج معناه من المدينة.
قوله تعالى:
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير
ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته
ويقطع دابر الكافرين (7) ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره
المجرمون (8) آيتان
تقدير الآية واذكر يا محمد إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا.
قال الحسن كان المسلمون يريدون العير، ورسول الله يريد ذات الشوكة لما وعده
الله. وقوله " إحدى الطائفتين " يعني عير قريش أو قريشا، وكان الله وعد نبيه
حصول إحداهما.
وقوله " إحدى الطائفتين " في موضع نصب ب‍ " يعدكم الله " وقوله " إنها
لكم " نصب بدل من قوله " إحدى الطائفتين " ومثله " هل ينظرون إلا الساعة أن
تأتيهم بغتة " (1) فإنها في موضع نصب بدلا من (الساعة). ومثله: " ولولا رجال
مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ان تطؤهم " (2) قال الزجاج: تقديره لولا
أن تطؤهم.
وقوله " وتودون " معناه وتحبون " ان غير ذات الشوكة " يعني القتال. وإنما
قال " ذات الشوكة " فأنث لأنه عنى الطائفة، والشوكة الجد، يقال: ما أشد شوكة
بني فلان، وفلان شاك في السلاح وشائك وشاك - بتشديد الكاف - من الشكة.

(1) سورة 43 الزخرف آية 66
(2) سورة 48 الفتح آية 25
80

ومثله شاك في قوله الشاعر:
فيوهموني انني هوذاكم * شاك سلاحي في الحوادث معلم
وقال الضحاك، وغيره: كرهوا القتال وأعجبهم أن يأخذوا العير.
وقوله " ويريد الله ان يحق الحق " معناه إن الله يريد أن يظهر محمد صلى الله عليه وآله
ومن معه على الحق " ويبطل الباطل " اي يبطل ما جاء به المشركون.
وقيل: هذه الآية نزلت قبل قوله " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق "
وهي في القراءة بعدها - ذكره البلخي والحسن -
وفي الآية دلالة على أن الله لا يريد الباطل ولا يريد ابطال الحق بخلاف ما يقول
المجبرة من أن كل ما في الأرض من باطل وسفه وفسق فان الله يريده لان ذلك
خلاف الآية.
وقوله " ويقطع دابر الكافرين " معناه يريد الله ان يجتث الجاحدين من أصلهم
والدابر المأخر، وقطعه الاتيان على جميعهم - وهو قول ابن زيد وغيره - وقال
قوم: الحق في هذا الموضع القرآن. والباطل إبليس. وقيل الحق الاسلام،
والباطل الشرك.
وقال ابن عباس: كان عدة أهل بدر مع النبي صلى الله عليه وآله ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا
وروي ان النبي صلى الله عليه وآله لما بلغه خروج قريش لحماية العير شاور أصحابه، فقال قوم:
خرجنا غير مستعدين للقتال. وقال المقداد: امض لما امرك الله به، فوالله لو خضت
بنا الجمر لتبعناك، فجزاه خيرا. وأعاد الاستشارة، فقال سعد بن معاذ (رحمه الله)
يا رسول الله تريدنا؟ قال: نعم فقال سعد: إنا آمنا بك وصدقناك، وشهدنا
أن ما جئت به حق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض
يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لنخوضنه
معك، فسر رسول الله صلى الله عليه وآله بقول سعد ونشطه ذلك. ثم قال سيروا على بركة الله
وأبشروا فان الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الان انظر إلى مصارع القوم.
81

و (الحق) وقوع الشئ في موضعه الذي هو له فإذا اعتقد شئ بضرورة أو حجة
فهو حق، لأنه وقع موقعه الذي هو له، وعكسه الباطل.
وروي ان أحدا لم يشاهد الملائكة يوم بدر إلا رسول الله صلى الله عليه وآله. ومعنى
قوله " ليحق الحق " ليظهر تحقيق الحق للمخلوقين، ويبطل الباطل، لا أنهما لم يكونا
كذلك عنده.
قوله تعالى:
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من
الملائكة مردفين (2) آية بلا خلاف.
قرأ أهل المدينة ويعقوب " مردفين " بفتح الدال. والباقون بكسرها. قال أبو
علي: من قرأ بكسر الدال احتمل شيئين:
أحدهما - ان يكونوا مردفين مثلهم. كما تقول: أردفت زيدا دابتي فيكون
المفعول الثاني محذوفا في الآية وذلك كثير.
الثاني - أن يكون معنى " مردفين " جاءوا بعدهم. قال أبو الحسن: تقول
العرب بنو فلان يردفوننا أي هم يجيئون بعدنا. وهو قول أبي عبيدة. وردفني
وأردفني واحد. قال الشاعر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا * ظننت بآل فاطمة الظنونا (1)
وقال قوم: ردفه صار له ردفا وأردفه جعله له ردفا. ويكون أردفت الثريا
الجوزاء. ومعنى البيت ان الجوزاء إذا طلعت في شدة الحر لم يبق حينئذ أحد من

(1) قائله خزيمة بن مالك وهو من قدماء شعراء الجاهلية الأغاني 13 / 75
طبعة دار الثقافة. ومعجم ما استعجم 19، وسمط اللآلي 100 واللسان
(قرظ)، (ردف).
82

البوادي في مناجعهم، لان مياه الغدر ان يبست فتفرق الحلل بعد اجتماعها فتفترق
ظنونه في امر فاطمة انها اي ماء تأخذ لتعلق قلبه بها، وهي فاطمة بنت حل بن عدي.
وقول أبي عبيدة: ردفني وأردفني واحد أقوى لقوله " إذ تستغيثون ربكم
فاستجاب لكم اني ممد كم بألف من الملائكة مردفين " اي جاء من بعد استغاثتكم
ربكم ف‍ " مردفين " على هذه صفة للألف الذين هم الملائكة.
ومن قرأ بفتح الدال فمعناه اردفوا الناس أي أنزلوا بعدهم، فيجوز على هذا
أن يكون حالا من الضمير المنصوب في " ممدكم " مردفين بألف من الملائكة، والعامل
في (إذ) يحتمل شيئين: أحدهما - ويبطل الباطل (إذا) والثاني - بتقدير اذكروا (إذ)
فعلى الوجه الأول يكون متصلا بما قبله وعلى الثاني يكون مستأنفا.
والاستغاثة طلب المعونة وهو سد الخلة في وقت شدة الحاجة. وقيل: في معنى
" تستغيثون ربكم " تستجيرون به من عدوكم والاستجابة موافقة المسألة بالعطية،
وأصله طلب الموافقة بالإرادة وليس في الإجابة معنى الطلب من هذه الجهة.
وقيل في معنى " مردفين " ثلاثة أقوال:
قال ابن عباس: مع كل ملك ملك ردفا له، وقال الجبائي: هم ألفان لان
مع كل واحد واحد ردفا له.
والثاني - قال السدي وقتادة: إن معناه متتابعين:
والثالث - قال مجاهد ممدين بالارداف وامداد المسلمين بهم. ويقال هذه دابة
لا ترادف. ولا يقال تردف، ويقال: أردفت الرجل إذا جئت بعده. وكان يجوز أن
يقرأ بتشديد الدال وفتح الراء وضمها - لان الأصل مرتدفين، وقرئ في الشواذ
- بضمها - فمن فتح الراء نقل فتحة التاء إليها، ومن كسرها فلاجتماع الساكنين
ومن ضمها فللاتباع.
أخبر الله تعالى عن حال أهل بدر انهم لقلة عددهم استغاثوا بالله والتجأوا إليه
فأمدهم الله بألف من الملائكة مردفين، رحمة لهم ورأفه بهم، وهو قول ابن عباس،
83

وقال: الداعي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وهو قول أبي جعفر عليه السلام والسدي وأبي صالح
وهو المروي عن عمر بن الخطاب. وقيل: إنهم قتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وقال
الحسن: جميع ما أمدوا به من الملائكة خمسة آلاف: ما ذكر هنا، وما ذكر في آل
عمران. وقال غيرهم: جميعهم ثمانية آلاف. وقال الحسن: أردف بهؤلاء الألف الثلاثة
آلاف الذين ذكرهم في آل عمران ثم أردفهم بألف آخر فصاروا خمسة آلاف.
قوله تعالى:
وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر
إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم (10) آية.
الهاء في قوله " جعله الله " يحتمل أن تكون عائدة إلى الامداد، لأنه معتمد
الكلام. وقال الفراء: هي راجعة إلى الارداف.
ويحتمل أن تكون عائدة على الخبر بالمدد، لان تقديم ذلك إليهم بشارة في
الحقيقة اخبر الله تعالى أنه لم يجعل هذه الذي أخبر به من إمداد الملائكة إلا بشرى.
وإنما جعله بأن اراده به فقلبه إلى هذا المعنى. وقيل: جعله بشرى بأن امر الملائكة
أن تبشر به، والجعل على ضروب: أولها - أن يكون بمعنى القلب، كقولك: جعلت
الطين خزفا. وبمعنى الحكم كقولك: جعله الحاكم فاسقا. وبمعنى الظن كقولك
جعلته كريما بحسن ظني به. وبمعنى الامر كقولك جعله الله مسلما بمعنى
امره بالاسلام.
وقوله " ولتطمئن به قلوبكم " فالاطمئنان الثقة ببلوغ المحبوب، وهو خلاف
الانزعاج. والطمأنينة: السكون والدعة.
وقوله " وما النصر إلا من عند الله " معناه لا يكون النصر وقهر الأعداء من
الكفار إلا بفضل من عند الله ونصر من جهته. وليس ذلك بشدتكم وقوة بأسكم
84

وإنما أضافه إلى الله، لئلا يظن أنه من قبل الملائكة من غير امره.
فأما الغلبة بكثرة العدد، فقد ينفق للكافر والمبصل، فعلى هذا المؤمن وان
قتل، فهو منصور غير مخذول، والكافر وإن غلب وقتل فهو مخذول.
وهل قاتلت الملائكة يوم بدر قيل فيه قولان:
قال أبو علي الجبائي: ما قاتلت، وإنما أراد الله بالامداد البشارة بالنصر
واطمئنان القلب ليزول عنهم الخوف الذي كان بهم، قال لان ملكا واحدا يقدر ان
يدمر على جميع المشركين كما أهلك جبرائيل قريات لوط.
وروي عن ابن مسعود: أنها قاتلت. وقيل: سأل أبو جهل من أين كان يأتينا
الضرب ولا نرى الشخص، قالوا له: من قبل الملائكة، فقال هم غلبونا لا أنتم.
وقوله " إن الله عزيز " يعني قادر لا يغالب " حكيم " في أفعاله ليثقوا بوعده.
قوله تعالى:
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء
ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على
قلوبكم ويثبت به الاقدام (11) آية.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يغشاكم " بفتح الياء وسكون الغين وبألف مخفف.
وقرأه أهل المدينة - بضم الياء وسكون الغين وكسر الشين مخفا من غير الف. الباقون
بضم الياء وفتح الغين وتشديد الشين وكسرها من غير الف. وكلهم نصب النعاس
إلا ابن كثير وأبو عمرو، فإنهما رفعاه.
وحجة من فتح الياء قوله " أمنة نعاسا يغشى " (1). فكما اسند الفعل إلى النعاس
والامنة، كذلك ههنا. ومن قرأ بضم الياء وشدد الشين أو خففها، فالمعنى واحد.

(1) سورة 3 آل عمران اية 154
85

قال الله تعالى " فأغشيناهم فهم لا يبصرون " (1) وقال " فغشاها ما غشى " (2) وقال
" كأنما أغشيت وجوههم " (3) وحجتهما أنه أشبه بما بعده. لأنه قال " وينزل
عليكم من السماء ماء " فكما أن (ينزل) مسند إلى اسم الله كذلك " يغشي ".
و " الغشيان " لباس الشئ ما يتصل به، ومنه غشي الرجل امرأته، فكأن النعاس
قد لا بسهم بمخالطته إياهم. و " النعاس " ابتداء حال النوم قبل الاستثقال فيه،
وهو السنة، تقول: نعس ينعس نعاسا فهو ناعس. وحكى الفراء أنه سمع نعسان.
و " الامنة " الدعة التي تنافي المخافة، تقول: أمن أمنا وأمانا وأمنة. وانتصب
" أمنة " بأنه المفعول له، والعامل فيه " يغشى ".
وقوله " وينزل عليكم من السماء ماء " يعني مطرا وغيثا.
وقوله: " ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان " قال ابن عباس: معناه
يذهب منكم وسوسة الشيطان، بأنه غلبكم على الماء المشركون حتى تصلوا وأنتم
مجنبين، لان المسلمين باتوا ليلة بدر على غير ماء، فأصبحوا مجنبين، فوسوس إليهم
الشيطان، فيقول: تزعمون أنكم على دين الله وأنتم على غير الماء تصلون مجنبين،
وعدوكم على الماء، فأرسل الله عليهم السماء، فشربوا واغتسلوا وأذهب به وسوسة
الشيطان، وكانوا في رمل تغوص فيه الاقدام، فشدده المطر حتى تثبت عليه الرجال
فهو قوله " ويثبت به الاقدام ". والهاء في " به " راجعة إلى الماء. وقال ابن زيد:
يذهب بوسوسته أنه ليس لكم بهؤلاء طاقة. وقال الجبائي: لان الاحتلام
بوسوسة الشيطان.
وقوله " وليربط على قلوبكم " معناه ليشد عليها بما يسكنها
وقوله " ويثبت به الاقدام " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وأكثر المفسرين: لتلبيده الرمل

(1) سورة 36 يس آية 9
(2) سورة 53 النجم آية 54
(3) سورة 10 يونس آية 27
86

الذي لا يثبت عليه القدم.
والثاني - الصبر الذي أفرغه عليهم عند ذلك حتى ثبتوا لعدوهم - في قول
أبي عبيدة والزجاج -. و " إذ " في موضع نصب على معنى وما جعله الله إلا بشرى
في ذلك الوقت، ويجوز على تقدير إذكروا " إذ يغشاكم ".
قوله تعالى:
إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين
آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق
الأعناق واضربوا منهم كل بنان (12) آية
معنى الآية اذكروا " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم " يعني بالمعونة
والنصرة، كما يقال: فلان مع فلان بمعني ان معونته معه. وذكر الفراء قال:
كان الملك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله فيقول سمعت المشركين يقولون،
والله لئن حملوا علينا لنكشفن، فيحدث المسلمون بعضهم فيقوي أنفسهم بذلك
و " الايحاء " إلقاء المعنى إلى النفس من وجه يخفى، وقد يكون ذلك بنصب
دليل يخفى إلا على من ألقي إليه من الملائكة.
وقوله " فثبتوا الذين آمنوا " قيل في معناه قولان: أحدهما - احضروا معهم
الحرب. والثاني - قال الحسن: قاتلوا معهم يوم بدر. وقال قوم: معنى ذلك الاخبار
بأنه لا بأس عليهم من عدوهم.
وقوله " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب " اخبار من الله تعالى انه يلقي
في قلوب الكفار الرعب، وهو الخوف. تقول: رعبته أرعبه رعبا ورعبانا، فانا
راعب، وذاك مرعوب. و " الرعب " انزعاج النفس بتوقع المكروه. واصل الرعب
التقطيع من قولهم رعبت السنام ترعيبا: إذا قطعته مستطيلا. والرعب يقطع حال
87

السرور بضده من انزعاج النفس بتوقع المكروه. وجارية رعبوبة إذا كانت شطنة
مشبهة بقطعة من السنام. ورعب السيل فهو راعب: إذا امتلأ منه الوادي، لأنه
انقطع إليه من كل جهة. والرعيب من الرجال النصير. قال الراجز:
ولا أجيب الرعب ان دعيت (1)
وقوله " فاضربوا فوق الأعناق " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - اضربوا الأعناق - ذهب إليه عطية - وقال غيره اضربوا على الأعناق.
وقال قوم اضربوا فوق جلدة الأعناق.
وقوله " واضربوا منهم كل بنان " قال ابن جريج والضحاك والسدي:
أراد بنان الأطراف من اليدين والرجلين والواحد بنانة. ويقال: للإصبع بنانة.
واصله اللزوم من قولهم: أبنت السحابة إبنانا إذا لزمت. وأبن بالمكان إذا لزمه
فسمي البنان بنانا، لأنه يلزم به ما يقبض عليه، قال الشاعر:
ألا ليتني قطعت مني بنانة * ولاقيته في البيت يقظان حاذرا (2)
وقال الفراء: أعلمهم مواضع الضرب، فقال: اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل.
وقال الزجاج: أباح الله قتلهم بكل نوع يكون في الحرب. و " إذ " في موضع نصب
على قوله " وليربط.. إذ يوحي " ويجوز على تقدير واذكروا.
قوله تعالى:
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله
فان الله شديد العقاب (13) آية.
أخبر الله تعالى أنه فعل بهؤلاء الكفار، ما فعل وامر بقتلهم وضرب أعناقهم

(1) قائله رؤبة. اللسان (رعب) ويروى (إن رقبت)
(2) قائله عباس بن مرداس اللسان والتاج (بنن) ومجاز القرآن 1 / 242
88

وقطع بنانهم جزاء بما شاقوا الله ورسوله. قال الزجاج: معناه جانبوا الله، اي
صاروا في جانب غير جانب المؤمنين، ومثله حاربوا الله. و " الشقاق " أصله الانفصال
من قولهم: انشق انشقاقا، وشقه شقا، واشتق القوم إذا مر بينهم، وشاقه شقاقا
إذا صار في شق عدوه عليه، وتشقق تشققا، وشقق تشقيقا، ومنه اشتقاق الكلام
لأنه انفصال الكلمة عما يحتمله الأصل. ومعنى " شاقوا الله " شاقوا أولياء الله كما
قال " ان الذين يؤذون الله ورسوله " (1). وقوله " ومن يشاقق الله " يجوز في
العربية الاظهار والادغام، فاما أن يأتي على الأصل للحاجة إلى حركة الأول،
وإما ان يحرك الثاني - لالتقاء الساكنين - بالكسر. ويجوز الفتح والأول أجود مع
الألف واللام لتأكد سببه.
وقوله " فان الله شديد العقاب " شدة العقاب عظمه بجنس فوق جنس أدنى
منه، لان العظم على ضربين: أحدهما - بالتضاعف في المرتبة الواحدة. والثاني -
بالترقي إلى مرتبة بجنس يخالف الجنس الذي في أدنى مرتبة.
قوله تعالى:
ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار (14) آية.
العامل في " ذلكم " يحتمل أحد وجهين: أحدهما - الابتداء على تقدير الامر
" ذلكم "، قال الزجاج: من قال: إنه يرفع " ذلكم " بما عاد عليه من الهاء أو
بالابتداء وجعل " فذوقوه " الخبر، فقد أخطأ، لان ما بعد الفاء لا يكون خبر المبتدأ
لا يجوز " زيد فمنطلق " ولا " زيد فاضربه " الا ان تضمر هذا كقول الشاعر:
وقائله خولان فانكح فتاتهم * وأكرومة الحيين خلو كما هيا (2)
أي هذه خولان. الثاني - أن يكون نصبا يذوقوا، كما تقول: زيدا فاضربه.

(1) سورة 33 الأحزاب آية 57
(2) اللسان (خلا)
89

والكاف في قوله " ذلكم " لا موضع له من الأعراف لأنه حرف خطاب، ولو كان
اسما لجاز أن يؤكد بالنفس وذلك غير جائز اجماعا. والإشارة بذلك إلى ما تقدم
من أنواع العقوبات، وإنما ضم إلى الكاف الميم، لأنه خطاب للمشركين.
وقوله " فذوقوه " فالذوق طلب ادراك الطعم بتناول اليسير بالفم كما أن الشم
طلب ادراك الرائحة بالأنف، وليس بالادراك، لأنه يقال ذقته فلم أجد له طعما،
وشممته فلم أجد له رائحة، وإنما قال " فذوقوه " والذوق اليسير من الطعام، لان
المعنى كونوا للعذاب كالذائق للطعام، لان معظمه بعده. وقيل: لان الذائق أشد
احساسا بالطعم من المستمر عليه، فكأن حالهم ابدا حال الذائق في شدة احساسه
نعوذ بالله منه.
وقوله " وأن للكافرين " فموضع " أن " يحتمل النصب والرفع، فالرفع بالعطف
على ذلكم كأنه قال " ذلكم، فذوقوه " وذلكم " ان للكافرين عذاب النار " مع ذا
والنصب من وجهين: أحدهما - وبان للكافرين، والاخر - واعلموا ان
للكافرين، كما انشده الفراء:
تسمع للأحشاء منه لغطا * ولليدين جسأة وبددا (1)
اي وترى لليدين وإنما قدم الخبر في قوله: " وأن للكافرين " على الاسم
لدلالته على الكفر الذي هو السبب للعذاب. ومرتبة السبب قبل المسبب.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا
تولوهم الادبار (15) آية.

(1) معاني القرآن للفراء 1 / 405. (اللغط) الأصوات المبهمة، والجسأة
- بضم الجيم - الخشونة والصلابة والغلظ. والبدد تباعد ما بين اليدين.
90

هذا خطاب للذين آمنوا من بين المكلفين ناداهم الله ليقبلوا إلى امر الله بما
يأمرهم به وانتهائهم عما ينهاهم عنه بالتأمل له والتدبر لموجبه ليعملوا به ويكونوا على
يقين منه. وقوله " إذا لقيتم الذين كفروا " فالالتقاء الاجتماع على وجه المقاربة
لان الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة، فلا يكون لقاء كاجتماع الاعراض في
المحل الواحد. و " الذين كفروا " هم الذين جحدوا نعم الله أو من كان بمنزلة الجاحد.
فالمشرك كافر، لأنه في حكم الجاحد لنعم الله إذا عبد غيره.
وقوله " زحفا " نصب على المصدر، فالزحف هو الدنو قليلا قليلا والتزاحف
التداني، زحف يزحف زحفا، وازحفت القوم إذا دنوت لقتالهم وثبت لهم، والمزحف
من الشعر الذي قد تدانت حروفه على ما أبطلت وزنه.
وقوله: " فلا تولوهم الادبار " نهي لهم عن الفرار عند لقائهم الكفار
وقتالهم إياهم.
قوله تعالى:
ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى
فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16) آية
اخبر الله تعالى ان " من يولهم " يعني الكفار " يومئذ " يوم القتال " دبره فقد باء
بغضب من الله ". والتولية جعل الشئ يلي غيره وهو متعد إلى مفعولين. ولاه دبره
إذا جعله يليه، ومنه ولاه البلد من ولاية الامارة، وتولى هو إذا قبل الولاية وأولاه
نعمة، لأنه جعلها تليه.
وقوله " يومئذ " يجوز اعرابه وبناؤه، فاعرابه لأنه متمكن أضيف على تقدير
الإضافة الحقيقية، كقولك هذا يوم ذلك، وأما البناء فلانه أضيف إلى مبني إضافة
غير حقيقية، فأشبه الأسماء المركبة، وقوله " الا متحرفا لقتال " فالتحرف الزوال
91

من جهة الاستواء إلى جهة الحرف. تقول تحرف تحرفا، وانحرف انحرافا وحرفه
تحريفا واحترف احترافا، لأنه يقصد جهة الحرف لطلب الرزق، مثل أبعد في طلب
الرزق، والمحارف المحدود من جهة الرزق إلى جهة الحرف. ومنه حروف الهجاء لأنها
أطراف الكلمة كحرف الجبل، ونحوه.
وقوله " أو متحيزا إلى فئة " فالتحيز طلب حيز يتمكن فيه، تحيز تحيزا وانحاز
انحيازا وحازه يحوزه حوزا، والحيز المكان الذي فيه الجوهر. والفئة القطعة من
الناس، وهي جماعة منقطعة عن غيرها. وذكر الفئة في هذا الموضع حسن جدا،
وهو من فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته.
وفي تناول الوعيد لكل فار من الزحف خلاف.
فقال الحسن وقتادة والضحاك: إنما كان ذلك يوم بدر خاصة.
وقال ابن عباس: هو عام، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
ثم اخبر تعالى ان من ولي دبره على غير وجه التحرف للقتال، أو التحيز إلى
الفئة انه باء بغضب من الله. أي رجع بسخطه تعالى واستحقاق عقابه. وان مستقره
" جهنم وبئس المصير " هي لمن صار إليها.
وقوله " متحرفا لقتال " نصب على الحال، وتقديره الا ان يتحرف لان
يقاتل، وكذلك " متحيزا " نصب على الحال وتقريره حال تحيزه إلى فئة، ويجوز
النصب فيهما على الاستثناء، تقديره الا رجلا متحيزا أو يكون متفردا، فينحاز
ليكون مع المقاتلة. واصل متحيز متحيوز فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء.
قوله تعالى:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت
ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع
عليم (17) آية بلا خلاف.
92

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف " ولكن الله قتلهم. ولكن الله رمى "
بالتخفيف فيهما ورفع اسم الله فيهما. والباقون بتشديد النون ونصب " الله ".
نفى الله أن يكون المؤمنون قتلوا المشركين يوم بدر فقال " فلم تقتلوهم
ولكن الله قتلهم " وإنما نفى القتل عمن هو فعله على الحقيقة ونسبه إلى نفسه
وليس بفعل له من حيث كانت أفعاله تعالى كالسبب لهذا الفعل، والمؤدي إليه من
إقداره إياهم ومعونته لهم وتشجيع قلوبهم فيه، والقاء الرعب في قلوب أعدائهم
المشركين حتى خذلوا وقتلوا على شركهم عقابا لهم. وقوله " وما رميت إذا رميت
ولكن الله رمى " مثل الأول في أنه نفى الرمي عن النبي صلى الله عليه وآله وإن كان هو الرامي
وأضافه إلى نفسه من حيث كان بلطفه، واقداره.
وهذه الرمية ذكر جماعة من المفسرين، كابن عباس وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله
أخذ كفا من الحصباء فرماها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فقسمها الله تعالى
على أبصارهم، وشغلهم بأنفسهم حتى غلبهم المسلمون، وقتلوهم كل مقتل. وقال
بعضهم: أرد بذلك رمي النبي صلى الله عليه وآله أبي أمية بن الخلف الجمحي يوم أحد فأصابه
فقتله. وقال آخرون: أراد بذلك رمية سهمه يوم خيبر، فأصاب ابن أبي الحقيق في
فراشة رأسه، فقتله. والأول أشهر الأقوال.
فأما تعلق من تعلق بذلك من الغلاة، بأن قال: لما قال " ولكن الله رمى "
- وكان النبي هو الرامي - دل ذلك على أنه هو الله تعالى، فهو جهل وقلة معرفة بوجوه
الكلام لأنه لو كان على ما قالوه لكان الكلام متناقضا، لأنه خطاب للنبي صلى الله عليه وآله بأنه
لم يرم، فإن كان هو الله تعالى فإلى من توجه الخطاب؟ وإن توجه إليه الخطاب دل
على أن الله غيره. وأيضا فإذا كان هو الله فقد نفى عنه الرمي فإذا أضافه بعد ذلك
إلى الله كان متناقضا على أنه قد دلت الأدلة العقلية على أن الله ليس بجسم، ولا
حال في جسم، فبطل قول من قال إن الله كان حل في محمد صلى الله عليه وآله وليس هذا موضع
نقضه. وقد ذكرنا الكلام في ذلك واستوفيناه في الأصول.
93

وأما من قال: إن الفعل واجد، وهو من الله تعالى بالايجاد، ومن العبد
بالاكتساب فباطل، لأنه خلاف المفهوم من الكلام، ولو كان كذلك لم يجز أن
ينفى عنه إلا بتقييد كما لا ينفى عن الله الا بتقييد.
وقوله " وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا " معناه لينعم عليهم نعمة حسنة.
والمعنى ولينصرهم الله نصرا جميلا ويختبرهم بالتي هي أحسن، ومعنى يبليهم - ههنا -
يسدي إليهم. وقيل للنعمة بلاء وللمضرة أيضا مثل ذلك، لان أصله ما يظهر به الامر
من الشكر أو الصبر، ومنه يبتلي بمعنى يختبر ويمتحن وسميت النعمة بذلك لاظهار
الشكر، والضر لاظهار الصبر الذي يجب به الاجر.
وقوله " إن الله سميع عليم " معناه انه يسمع دعاء من يدعوه ويعلم ماله فيه
من المصلحة فيجيبه إليه.
قوله تعالى:
ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين (18) آية.
قرأ ابن عامر وحمزة الكسائي وأبو بكر عن عاصم: " موهن " خفيفة منونة.
وقرا أبو عمرو وابن كثير ونافع شديدة. وقرأ حفص عن عاصم خفيفة مضافة وخفض
" كيد ". وقرأ الباقون بنصب كيد.
تقول: وهن الشئ وأوهنته انا كما تقول: فرح وأفرحته، وخرج وأخرجته
فمن قرأ " موهن " مخففا فمن أوهن اي جعله واهنا، ومن شدد فمن قولهم: وهنته
كما تقول خرج وخرجته وعرف وعرفته. ومنه قوله " فما وهنوا لما أصابهم " (1)
وتقول: وهن يهن مثل ومق يمق وولي يلي، وهو أيضا ينقل بالهمزة وتثقيل العين
أيضا والأمران جميعا حسنان، واختار الأخفش القراءة بالتخفيف. والوهن الضعف
ومنه قولهم: توهن توهنا اي ضعف، ومن قال قوله " ذلكم " في موضع رفع قال

(1) سورة 3 آل عمران آية 146
94

الزجاج: تقديره الامر " ذلكم وأن الله " والامر ان الله.
وقوله " ذلكم " إشارة إلى قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا وابتلاء المؤمنين
البلاء الحسن بالظفر بهم وامكانهم من قتلهم وأسرهم فعلنا الذي فعلناه. ومعنى
" وأن الله موهن كيد الكافرين " يضعف مكرهم حتى يذلوا ويهلكوا. وفي فتح
" أن " من الوجوه ما في قوله " ذلكم " فذوقوه، وأن للكافرين عذاب النار " - وقد
بيناه - والكيد يقع بأشياء منها الاطلاع على عوراتهم، ومنها إبطال حيلتهم، ومنها
إلقاء الرعب في قلوبهم، ومنها تفريق كلمتهم، ومنها نقض ما أبرموا باختلاف عزومهم
قوله تعالى:
إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم
وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن
الله مع المؤمنين (19) آية
قرأ نافع وابن عامر وحفص " وان الله " بفتح الألف. الباقون بالكسر، من
فتح الهمزة فوجهه " ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت " ولان الله مع المؤمنين
اي لذلك لا تغني عنكم فئتكم شيئا. ومن كسر قطعه عما قبله واستأنفه، وقوي ذلك
لما روي أن في قراءة ابن مسعود " والله مع المؤمنين ". والكسر اختيار الفراء، ومن
نصب فعلى ان موضعه نصب بحذف حرف الجر، ويجوز أن يكون عطفا على قوله
" وأن الله موهن ".
والاستفتاح طلب النصرة التي بها يفتح بلاد العدو كأنه قال إن تستنصروا على
أعدائكم فقد جاءكم النصر بالنبي صلى الله عليه وآله. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المراد
استحكموا لان الاستفتاح الاستقضاء. ويقال للقاضي: الفتاح، والمعنى فقد جاءكم
الحكم من عند الله، وهو قول الضحاك وعكرمة ومجاهد والزهري، والأول قول
95

ابن عباس وغيره، والمعنيان متقاربان. وقيل في معنى الآية قولان:
أحدهما - قال الحسن ومجاهد والزهري والضحاك والسدي والفراء: انه خطاب
للمشركين لأنهم استنصروا بان قالوا: اللهم اقطعنا للرحم، واظلمنا لصاحبه فانصرنا
عليه روي أن أبا جهل قال ذلك.
الثاني - قال أبو علي: هو خطاب للمؤمنين والمعنى وان تعودوا إلى مثل ما
كان منكم يوم بدر في الأشر والبطر بالنعمة بعد الانكار عليكم. وقال الحسن وان
تعودوا لقتال محمد صلى الله عليه وآله نعد عليكم بالقتل والأسر يا معشر قريش وجماعة الكفار
وان تنتهوا عن الكفر بالله العظيم ورسوله وعن قتال نبيه فهو خير لكم وانفع لكم
وأقرب إلى مرضاة الله.
والانتهاء ترك الفعل لأجل النهي عنه، تقول نهيته عن كذا فانتهى، وأمرته
فأتمر، على فعل المطاوع وقد يطاوع بأن يقال: كسرته فانكسر، وقد يكون الانتهاء
بمعنى بلوغ الغاية.
وقوله تعالى " ولن تغني عنكم فئتكم شيئا " معناه انه لن يغني عنكم جمعكم في
الدفاع عنكم والنصرة - وان كانوا كثيرين - وإن الله مع المؤمنين بالنصرة
لهم والمعونة
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم
تسمعون (20) آية.
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين، وإنما خصهم بالخطاب، لان غيرهم
بمنزلة من لا يعتد به في العمل بما يجب عليه مع ما في إفراده إياهم بالخطاب من
إعظام لهم واجلال ورفع من أقدارهم، وإن دخل في معناه غيرهم.
والايمان: هو التصديق بما أوجب الله على المكلف أو ندبه إليه.
96

وقال الرماني: هو التصديق بما يؤمن من العقاب مع العمل به.
امر الله تعالى المؤمنين أن يطيعوا الله ورسوله، والطاعة هي امتثال امره
وموافقة إرادته الجاذبة إلى الفعل بطريق الرغبة أو الرهبة، والإجابة موافقة الإرادة
فيما يعمل من اجلها. وقوله " ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون " معناه ولا تعرضوا عن
امره ونهيه وأنتم تسمعون دعاءه لكم، فنهاهم عن التولي في هذه الحال. وقال الحسن:
معناه وأنتم تسمعون الحجة.
قوله تعالى:
ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21) آية.
" ولا تكونوا " في موضع جزم وحذف النون دلالة على الجزم.
نهى الله تعالى المؤمنين الذين خصهم بالذكر في الآية الأولى عن أن يكونوا
كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، وفي الكلام حذف المنهي عنه، لأنه قد دل عليه
من غير جهة الذكر له، وفي ذلك غاية البلاغة، والتقدير ولا يكونوا في قولهم المنكر
هذا " كالذين " والتشبيه على ثلاثة أوجه: أعلى وأدنى وأوسط، فالأعلى هو الذي
حذف معه أداة التشبيه، كقولهم للانسان: هذا الأسد، والأوسط تثبت معه مجردة
كقوله " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة " (1) والأدنى تأتي معه مقيدة كقولهم
الجسم كالعرض في الحدوث.
ومعنى قوله " قالوا سمعنا وهم لا يسمعون " معناه سمعنا سماع عالم قابل،
وليسوا كذلك، وهو من صفة المنافقين في قول ابن إسحاق وأبي علي. وقال
الحسن: يعني به أهل الكتاب. وقيل: هو من صفة المشركين، فجعلوا بمنزلة
من لا يسمع في أنهم لم ينتفعوا بالمسموع. وقال أبو علي: هي نفي القبول من قولك

(1) سورة 24 النور آية 39
97

سمع الله لمن حمده. وقال الزجاج: يعني الذين قالوا " لو نشاء لقلنا مثل هذا "
فسماهم الله لا يسمعون لأنهم استمعوا استماع عداوة وبغضاء فلم يتفهموا ولم يتفكروا
فكانوا بمنزلة من لم يسمع. وقال ابن إسحاق: أراد به الذين يظهرون الايمان
ويسرون النفاق.
قوله تعالى:
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون
(22) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى " إن شر الدواب عند الله الصم " والشر إظهار السوء الذي يبلغ من
صاحبه وهو نقيض الخير. وقيل الشر الضر القبيح، والخير النفع الحسن. وقيل الشر
الضر الشديد. والخير النفع الكثير، واصل الشر الاظهار من قول الشاعر:
كما أشرت بالأكف المصاحف (1)
اي أظهرت، وشر الرجل يشر شرا وشروت الثوب إذا بسطته في الشمس وشرر
النار ما تطاير منه لظهوره بانتشاره وتفرقه، ومنه الشر وهو ما يظهر من الضرر
كشرر النار.
والدواب جمع دابة وهي ما دب على وجه الأرض إلا أنه تخصص في العرف
بالخيل دب يدب دبيبا.
فبين ان هؤلاء الكفار شر ما دب على الأرض من الحيوان. ثم شبههم بالصم

(1) نسب إلى كعب بن جعيل. وقيل هولا بن الحمام المري. وقيل لابن جهمة
الأسدي راجع: وقعة صفين: 336، 411، واللسان " شرر " وروايته:
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم * وحتى أشرت بالأكف المصاحف
وأشرت - بتشديد الراء المفتوحة، مبني للمفعول - اي أظهرت بكثرة.
98

البكم الذين لا يعقلون من حيث لم ينتفعوا بما كانوا يسمعون من وعظ الله ولا يتكلمون
بكلمة الحق، والصم آفة في الاذن تمنع السمع، ثم يصم صمما وهو أصم. وصمم
على الامر إذا حقق العزم عليه وتصام عن القول إذا تغافل عنه. وعود أصم خلاف
المجوف وأصله المطابقة من غير خلل. والبكم الخرس: الذي يولد به صاحبه لأنه
قد يكون لآفة عارضة، وقد يكون لآفة لازمة.
وقال أبو جعفر عليه السلام نزلت الآية في بني عبد الدار لم يكن أسلم منهم غير
مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له سويبط. وقيل: نزلت الآية في النضر ابن
الحارث بن كلدة من بني عبد الدار بن قصي.
قوله تعالى:
ولو علم الله فيهم خيرا لا سمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم
معرضون (23) آية.
معنى الآية ان الله تعالى اخبر انه لو علم فيهم. يعني هؤلاء الكافرين
انهم يصلحون بما يورده عليهم من حججه وآياته لا سمعهم إياها ولم يخلف عنهم شيئا
منها وإن كان قد أزاح علتهم في التكليف بما نصب لهم من الأدلة الموصلة إلى الحق،
ولكنهم لا يصلحون بل يتولون وهم معرضون.
وقال ابن جريج وابن زيد: لا سمعهم الحجج والمواعظ سماع تفهم.
وقال أبو علي: لا سمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم من قصي بن كلاب وغيره
وقال الزجاج: لا سمعهم جواب كل ما يسألون عنه.
والاعراض خلاف الاقبال وهو الانصراف بالوجه عن جهة الشئ والاقبال
الانصراف بالوجه إلى جهته والاستماع إيجاد السماع بايجاده والتعريض له. فان
الله تعالى يسمعهم بأن يوجد السماع لهم. والانسان يسمعهم بأن يعرضهم للسماع
99

الذي يوجد لهم، هذا على مذهب من قال: إن الادراك معنى، ومن قال: انه ليس
بمعنى، فمعنى الاسماع هو ان يوجد من كلامه الدال على ما يجب أن يسمعوه لكونهم
أحياء لا آفة بهم في حواسهم.
وقال الزجاج المعنى " ولو علم الله فيهم خيرا لا سمعهم " كلما يسألون عنه ولو
أسمعهم كلما يخطر ببالهم لتولوا وهم معرضون. وقال الحسن: هو إخبار عن علمه
كما قال " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " (1).
وفي الآية دلالة على بطلان قول من يقول: يجوز أن يكون في مقدوره لطف
لو فعله بالكافر لامن.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما
يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه
تحشرون (24) آية.
أمر الله المؤمنين ان يجيبوا الله والرسول إذا دعاهم وان يطلبوا موافقته
والاستجابة طلب موافقة الداعي فيما دعا إليه على القطع به. وقال أبو عبيدة والزجاج:
معنى استجيبوا أجيبوا. وقال كعب بن سعد الغنوي.
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا * فلم يستجبه عند ذاك مجيب (2)
اي لم يجبه. والفرق بين الدعاء إلى الفعل وبين الامر به أن الامر فيه ترغيب
في الفعل المأمور به، ويقتضي الرتبة. وهي أن يكون متوجها إلى من دونه، وليس

(1) سورة 6 الانعام آية 28
(2) مر هذا البيت في 1 / 86 و 2 / 131 و 3 / 88.
100

كذلك الدعاء لأنه يصح من دونك لك.
وقوله " إذا دعاكم لما يحييكم " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - دعاكم إلى احياء امركم بجهاد عدوكم مع نصر الله إياكم، وهو
قول ابن إسحاق والفراء والجبائي. وقال البلخي: معناه لما يبقيكم ويصلحكم ويهديكم
ويحيي امركم.
الثاني - معناه لما يورثكم الحياة الدائمة في نعيم الآخرة من اتباع الحق: القرآن
الثالث - معناه لما يحييكم بالعلم الذي تهتدون به من اتباع الحق، والاقتداء
بما فيه.
وقوله " واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - ان يفرق بين المرء وقلبه بالموت أو الجنون وزوال العقل. فلا يمكنه
استدراك ما فات. والمعنى بادروا بالتوبة من المعاصي قبل هذه الحال.
الثاني - ان معناه بادروا بالتوبة لأنه أقرب إلى المرء من حبل الوريد لا يخفى
عليه خافية من سره وعلانيته وفي ذلك غاية التحذير.
والثالث - تبديل قلبه من حال إلى حال لأنه مقلب القلوب من حال الامن إلى
حال الخوف ومن حال الخوف إلى حال الامن على ما يشاء.
وروي عن أبي عبد الله عليه السلام في معنى قوله " يحول بين المرء وقلبه " قال
لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبدا ولا يستيقن أن الباطل حق ابدا.
فأما من قال من المجبرة: إن المراد إن الله يحول بين المرء والايمان بعد
امره إياه به فباطل، لأنه تعالى لا يجوز عليه أن يأمر أحدا بما يمنعه منه ويحول
بينه وبينه، لان ذلك غاية السفه، تعالى الله عن ذلك. وأيضا فلا أحد من الأمة
يقول: إن الايمان مستحيل من الكافر، فإنهم وان قالوا إنه لا يقدر على الايمان
يقولون يجوز منه الايمان ويتوقع منه ذلك، ومن ارتكب ذلك فقد خرج
من الاجماع.
101

ويحتمل أن يكون المراد ان امر الله بالموت يحول بين المرء وقلبه، كما قال
" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله " (1) أي أمر الله.
وقال قوم: يجوز أن يكون معناه يحول بينه وبين قلبه بان يسلبه قلبه فيبقى
حيا بلا قلب وهذا قريب من معنى زوال العقل، قالوا: يجوز أن يكون المراد: انه
عالم بما ينظرون إليه، وما يضمره العبد في نفسه من معصيته فهو في المعنى كأنه حائل
بينه وبينه، لان العبد لا يقدر على اضمار شئ في قلبه إلا والله عالم به، وهذا وجه
حسن وروي في التفسير أن الله يحول بين المؤمن وبين الكفر. والمعنى في ذلك
ان الله يحول بينه وبين الكفر بالوعد والوعيد، والأمر والنهي، والترغيب في الثواب
والعقاب. فأما ما روي عن سعيد بن جبير وغيره من أن الله يحول بين الكافر والايمان
فقد بينا ان ذلك لا يجوز على الله. والعقل مانع منه. ولو صح ذلك لكان الوجه
فيه ان الله يحول بين الكافر وبين الايمان في المستقبل بان يميته، لأنه لا يجب
تبقيته حتى يؤمن، بل لو أبقاه لكان حسنا، وان لم يبقه كان أيضا حسنا. وقوله
تعالى " وانه إليه تحشرون " معناه انكم تحشرون يوم القيامة للجزاء على اعمالكم
إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فلذلك يجب المبادرة بالطاعة والاقلاع عن المعصية
بالتوبة وترك الاصرار على القبائح.
قوله تعالى:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا
أن الله شديد العقاب (25) آية
امر الله تعالى المكلفين من خلقه أن يتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منهم خاصة
والفتنة البلية التي يظهر بها باطن امر الانسان فيها. والفتنة الهرج الذي يركب فيه

(1) سورة 2 البقرة آية 210
102

الناس بالظلم قال ابن عباس امر الله المؤمنين ان لا يقروا المنكر بين أظهرهم،
فيعمهم الله بالعذاب. وقال عبد الله: هو من قوله تعالى " إنما أموالكم وأولادكم
فتنة " (1) وقال الحسن: الفتنة البلية. وقال ابن زيد: هي الضلالة. وقال الجبائي:
هي العذاب. " لا تصيبن " فالإصابة الايقاع بالشئ بحسب الإرادة، وضده الخطأ.
يقال: أصاب الغرض أو أخطأه.
وقوله " لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " معناه انها تعم لان الهرج إذا وقع
دخل ضرره على كل أحد. ويجوز أن يقال يخص الظالم، ولا يعتد بما وقع بغيره
للعوض الذي يصل إليه. ويحتمل أن يكون أراد إن هذه العقوبة على فتنتكم لا تختص
بالظالمين منكم بل كل ظالم منكم كان أو من غيركم فستصيبه عقوبة ظلمه وفسقه وفتنته
وأراد بذلك تحذير الناس كلهم، وأنهم سواء في المعصية، وما توجبه من العقوبة
ليكون الزجر عاما.
وفي دخول النون الثقيلة في " تصيبين " قولان:
أحدهما - قال الفراء: لأنه نهي بعد أمر وفيه معنى الجزاء كقوله " يا أيها
النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده " (2) ومثله لا ارينكم ههنا.
والثاني - أن يكون خرج مخرج جواب القسم.
وقال الزجاج: يحتمل أن يكون نهيا بعد أمر وتقديره اتقوا فتنة، ثم نهى،
فقال " لا تصيبن الذين ظلموا " أي لا يتعرض الذين ظلموا لما ينزل معه العذاب.
ومثله قال في قوله " لا يحطمنكم " فيكون لفظ النهي لسليمان، ومعناه النمل، كما
يقول القائل لا أرينك ههنا، فلفظ النهي لنفسك، والمراد لا تكون ههنا، فاني أراك.
و " الخاصة " للشئ ما كان له دون غيره ونقيضة العامة.

(1) سورة 8 الأنفال آية 28 وسورة 64 التغابن آية 15
(2) سورة 27 النمل آية 18
103

وقوله " واعلموا أن الله شديد العقاب " معناه لمن لم يتق معاصيه ولم
يتبع أو امره،
وقال الحسن والسدي ومجاهد وابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل الجمل.
وقال قتادة قال الزبير: لقد نزلت وما نرى ان أحدا منا يقع فيها ثم اختلفنا حتى
أصابتنا خاصة. وروي ذلك عن الزبير من جهات.
قوله تعالى:
واذكروا إذا أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن
يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات
لعلكم تشكرون (26) آية.
الذكر ضد السهو، وهو إحضار المعنى للنفس. وإنما أمروا بالتعرض له، لان
إحضار المعنى بقلوبهم ليس من فعلهم.
وقوله " إذ أنتم قليل " فالقلة النقصان عن المقدار في العدد وكان أصحاب
النبي صلى الله عليه وآله قليلين في الأصل فلطف الله لهم حتى كثروا وعزوا، وقل أعداؤهم وذلوا
وكانوا مستضعفين، فقووا.
والاستضعاف طلب ضعف ألح شئ بتهوين حاله. والضعف خلاف القوة.
والاستضعاف استجلاب ضعفه بتحقير حاله، فامتن الله عليهم بذلك وبين انهم كانوا
قليلين فكثرهم وكانوا مستضعفين، فقواهم بلطفه.
وقوله " تخافون أن يتخطفكم الناس " فالتخطف الاخذ بسرعة انتزاع،
تخطف تخطفا وخطف خطفا واختطف اختطافا، فبين انهم كانوا خائفين من أن ينال
منهم العدو.
وقوله " فآواكم " اي جعل لكم مأوى حريزا ترجعون إليه وتسكنون فيه
104

وقال السدي " آواكم " إلى المدينة. وقوله " وأيدكم بنصره " يعني بالأنصار في
قول السدي وقيل في المعني بقوله " الناس " قولان:
أحدهما - مشركوا قريش في قول عكرمة وقتادة.
وقال وهب بن منية يعني فارس والروم،
وقوله " ورزقكم من الطيبات " أي أطعمكم غنيمتكم حلالا طيبا " لعلكم
تشكرون " أي لكي تشكروه على هذه النعم المترادفة والا لاء المتضاعفة.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا
أمانا تكم وأنتم تعلمون (27) آية.
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين ينهاهم ان يخونوا الله والرسول. والخيانة
منع الحق الذي قد ضمن التأدية فيه. وهي ضد الأمانة. وأصل الخيانة ان تنقص
من ائتمنك أمانته، قال زهير:
بارزة الفقاوة لم تخنها * قطاف في الركاب ولاخلاء (1)
أي لم تنقص من فراهتها. والمعنى لا تخونوا مال الله الذي جعله لعباده
فلا يخن بعضكم بعضا فيما ائتمنه عليه في قول ابن عباس. وقال الحسن، والسدي:
لا تخونوه كما صنع المنافقون. وقال الجبائي: نهاهم ان يخونوا الغنائم. وقال
ابن زيد: الأمانة ههنا الدين، نزلت في بعض المنافقين. والأمانة مأخوذة من
الامن من منع الحق وهي حال يؤمن معها منع الحق الذي تجب فيه التأدية
وقوله " وأنتم تعلمون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - وأنتم تعلمون انها أمانة من غير شبهة.

(1) مقاييس اللغة 1 / 79
105

والثاني - وأنتم تعلمون ما في الخيانة من الذم والعقاب بخلاف الجهال
بتلك المنزلة.
وقوله: " وتخونوا " موضعه الجزم بتقدير، ولا تخونوا في قول ابن عباس
وقال السدي: هو نصب على الظرف (1) أي إنكم إذا خنتم الرسول فقد خنتم
أماناتكم. قال الفراء، ومثله قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأت مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم (2)
وحكى الفراء في بعض القراءات: " ولا تخونوا أمانتكم "
وقال جابر بن عبد الله: نزلت الآية في بعض المنافقين حين انذر أبا سفيان
بخروج النبي لاخذ العير. وقال الزهري: نزلت في أبي لبابة في قصة بني قريظة
وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام).
قوله تعالى:
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر
عظيم (28) آية.
أمر الله تعالى المكلفين ان يعلموا ويتحققوا ان أموالهم وأولادهم فتنة. وإنما
يمكنهم معرفة ذلك بالنظر والفكر في الأدلة المؤدية إليه، وهو ما يدعوا إليه الهوى
في الأموال والأولاد، وما يصرف عنه فمن تفقد ذلك وتحرز منه نجاه من مضرته
والمراد بالفتنة ههنا المحنة التي يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى أو
تجنبه فيخلص حاله للجزاء بالثواب أو العقاب بحسب الاستحقاق.

(1) المقصود من الظرف كونه بعد الواو التي بمعنى (مع)
(2) قطر الندى 77 الشاهد 23 وقد مر في أماكن كثيرة من هذا الكتاب
106

والولد حيوان يتكون من حيوان بخلق الله له، فعلى هذا لم يكن آدم
ولدا وكان عيسى ولد مريم. والمال هو النصاب الذي تتعلق به الزكاة من ذهب أو
فضة أو إبل أو بقر أو غنم عند بعض المفسرين. وأصله الكسر من العين والورق.
و (العظيم) استحقاق الصفة بالغنى. فالكثير عظيم للاستغناء به عن القليل
من جنسه، والقليل لا يستغنى (به) عنه.
بين الله تعالى ان الأموال والأولاد في هذه الدنيا محنة وبلاء وان الله تعالى
عنده الثواب العظيم على الطاعات وترك المعاصي.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس أحد منكم إلا وهو مشتمل على فتنة
لقوله " واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة " فاسألوا الله تعالى ان يعيذكم منها.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر
عنكم سيأتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم (29) آية.
هذا خطاب للمؤمنين خاطبهم الله بأنهم ان يتقوا معاصيه ويمتثلوا طاعاته
ويتقوا عقابه باجتناب معاصيه يجعل لهم اجرا على ذلك " فرقانا ". وقيل في معنى
الفرقان أقوال: -
أحدها - قال ابن زيد وابن إسحاق يجعل هداية في قلوبكم تفرقون بها
بين الحق والباطل.
وقال مجاهد: معناه يجعل لكم محرجا في الدنيا والآخرة.
وقال السدي: معناه يجعل لكم نجاة. وقال الفراء: يجعل لكم فتحا ونصرا
107

وعزا كقوله: " يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " (1) وقال الجبائي: يجعل لكم
نصر وعزا وثوابا لكم، وعلى أعدائكم خذلانا وذلا وعقابا كل ذلك يفرق بينكم
وبينهم في الدنيا والآخرة.
وإنما جاز الشرط في اخبار الله مع اقتضائه شك المخبر منا من حيث إن الله
تعالى يعامل عباده في الجزاء معاملة الشاك للمظاهرة في العدل ولذلك جازت صفة
الابتلاء والاختبار لما في ذلك من البيان ان الجزاء على ما يظهر من الفعل دون ما في
المعلوم مما لم يقع منه. ثم بين انه يضيف إلى ذلك تكفير سيئاتهم وغفران ذنوبهم
وسترها عليهم تفضلا منه تعالى.
وقوله " والله ذو الفضل العظيم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الجبائي: معناه ان من ابتدأكم بالفضل العظيم لأنه كريم
لنفسه لا يمنعكم ما استحقيتموه بطاعاتكم له.
الثاني - انه الذي يملك الفضل العظيم فينبغي ان يطلب من جهته.
قوله تعالى:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو
يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30) آية.
خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله فقال: واذكر " إذ يمكر بك الذين كفروا "
والمكر الفتل إلى جهة الشر في خفى وأصله الالتفاف من قول ذي الرمة.
عجزاء ممكورة خمصانة قلق * عنها الوشاح وتم الجسم والقصب (2)
اي ملتفة. والمكر والختل والغدر نظائر. والفرق بين المكر والغدر ان
الغدر نقض العهد الذي يلزم الوفاء به، والمكر قد يكون ابتداء من غير عقد.

(1) سورة 8 الأنفال آية 41
(2) مقايس اللغة 4 / 133
108

ووصف الله تعالى بأنه ما كر يحتمل وجهين:
أحدهما - انه سمى الجزاء على المكر مكرا للازدواج، كقوله " الله
يستهزئ بهم " (1) اي يجازيهم على الاستهزاء فيكون التقدير والله خير المجازين
على المكر، ذكره الزجاج،
والثاني - أن يكون على غير تضمن الحيلة لكن على أصل اللغة. قال أبو
علي: ومكره بهم حق وصواب " وهو خير الماكرين " مكرا.
وقوله " ليثبتوك " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ليثبتوك في الوثاق، في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة:
والثاني - قال عطا وعبد الله بن كثير، والسدي " ليثبتوك " في حبس وقال
أبو علي الجبائي: معناه ليخرجوك، يقال: أثبته في الحرب إذا جرحه
جراحة ثقيلة.
وقوله " أو يخرجوك " قال الفراء: أو يخرجوك علي بعير تطرد به حتى تهلك
أو يكفيكموه بعض العرب. وهو قول أبي البختري وهشام.
وكان سبب ذلك أنهم تآمروا في دار الندوة، فقال عمرو بن هشام: قيدوه
تتربصون به ريب المنون. وقال البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه
لكم. وقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن اقتلوه بان يجتمع عليه من كل بطن
رجل فيضربونه بأسيافهم ضربة رجل واحد، فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية
فصوب إبليس هذا الرأي وخطأ الأولين وزيفهما، فأوحى الله تعالى إلى نبيه
صلى الله عليه وآله بذلك فأمره بالخروج، فخرج إلى الغار، في قول ابن عباس، ومجاهد
وقتادة، وهو قوله " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ولا خلاف بين
المفسرين أنه بات علي تلك الليلة، وهي الليلة التي أمر النبي صلى الله عليه وآله بالخروج
على فراشه إلى أن أصبح، وكانوا يحرسونه إلى الصباح، ولما طلع الفجر ثاروا إليه

(1) سورة 2 البقرة آية 15
109

فإذا علي، قالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فتركوه وخرجوا في أثره.
قوله تعالى:
وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل
هذا إن هذا إلا أساطير الأولين (31) آية.
اخبر الله تعالى عن عناد هؤلاء الكفار ومباهتتهم للحق بأنهم بلغوا في ذلك
إلى رفع الحق بما ليس فيه شبهة. وهو أنه " إذا تتلى عليهم آياته " يعني القرآن
قالوا " لو نشاء لقلنا مثل هذا " وقد أبان التحدي كذبهم في ذلك وتخرصهم فيه
بما ظهر من عجزهم عن سورة مثله، وإنما قالوا " لو نشاء لقلنا مثل هذا " ولم يجز
أن يقولوا لو نشاء لقلبنا الجماد حيوانا، لأنه يتموه هذا على كثير من الناس
ولا يتموه ذلك، على أن قوم فرعون ظنوا أن السحرة يمكنهم قلب الجماد حيوانا.
وقوله " قد سمعنا " معناه أدركناه بآذاننا. والسماع إدراك الصوت بحاسة
الاذن، ولو لم نذكر الصوت لانتقض بالحرارة والبرودة والآلام واللذة إذا أدرك
بها، ولا يسمى سماعا. وعلى هذا إذا قيل: ما الرؤية بالبصر؟ ينبغي أن يقال: هي
ادراك المرئيات بها، لأنه قد يدرك الحرارة والبرودة بها. فإذا قلنا المرئيات
لم ينتقض بذلك.
ثم أخبر الله تعالى عن قولهم بأن قالوا ليس هذا الذي سمعناه " إلا أساطير
الأولين " والأساطير جمع واحده أسطورة في قول الزجاج. وقال غيره: هو جمع
أسطر، وأسطر جمع سطر، وزيدت الياء للمد، كما قالوا دراهم، وأرادوا ما هذا
إلا ما سطره من الأحاديث بكتبه سطرا بعد سطر.
قوله تعالى:
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا
110

حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (32) آية بلا خلاف.
تقديره واذكر يا محمد إذ قال هؤلاء الكفار " إن كان هذا " القرآن " هو
الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم " شديد مؤلم.
قال سعيد ابن جبير، ومجاهد: كان الطالب لذلك النضر بن الحارث بن كلدة
لأنه كان سمع سجع أهل الحيرة وكلام الرهبان، فقتله النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر صبرا
فقال: يا رسول الله من للصبية؟ قال النار وقيل عقبة بن أبي معيط، والمطعم بن
عدي، قتل هؤلاء الثلاثة صبرا من جملة من أسر، وفي النضر نزل قوله " سأل
سائل بعذاب واقع للكافرين " (1) يعني ما سأله ههنا. وهذا القول من قائله يجوز
أن يكون عنادا، فان المعاند قد تحمله شدة عداوته للحق على اظهار مثل هذا
القول. ليوهم انه على بصيرة في أمره. ويجوز أن يكون ذلك لشبهة تمكنت في
نفوسهم.
وقال الجبائي: ذلك دليل على اعتقادهم خلاف الحق الذي اتى به النبي صلى الله عليه وآله
وهو حجة أهل المعارف، لأنهم لو عرفوا بطلان ما هم عليه، لما قالوا مثل هذا
القول.
فان قالوا كيف طلبوا بالحق من الله العذاب وإنما يطلب به الخير والثواب؟.
قلنا: لأنهم قالوا ذلك على أنه ليس بحق من الله عندهم. وإذا لم يكن حقا
من الله لم يصبهم البلاء الذي طلبوه.
فان قيل لم قالوا " أمطر علينا حجارة من السماء " والأمطار لا يكون إلا من
السماء؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أن أمطار الحجارة يمكن أن يكون من عل دون السماء.
والثاني - أن يكون على حجة البيان ب‍ (من).

(1) سورة 70 المعارج آية 1 - 2
111

والحجارة واحد الأحجار، وهو ما صلب من الأجسام، يقال استحجر الطين
إذا صلب، فصار كالحجر. وأكثر ما يقال حجر للمدر، مع ذلك فالياقوت حجر
ولذلك يقال الياقوت أفضل الحجارة، ولا يقال الياقوت أفضل الزجاج، لأنه ليس
من الزجاج وكل شئ من العذاب يقال أمطرت ومن الرحمة يقال مطرت.
وقوله " هو " يجعل عمادا في ظننت وأخواتها. ويسميه البصريون صلة زائدة
وتوكيدا كزيادة (ما) ولا يزاد إلا في كل فعل لا يستغنى عن خبره، وفي لغة
تميم يرفع ذلك كله، فيقولون " إن كان هذا هو الحق " وكذلك قوله " ولكن
كانوا هم الظالمين " (1) و " تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم اجرا " (2) كل ذلك
يرفعونه. وعلى الأول ينصب ما بعدها ومثله قوله " ويرى الذين أوتوا العلم " إلى
قوله " هو الحق " (3).
قوله تعالى:
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون (33) آية
اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله على وجه الامتنان عليه واعلامه منزلته عنده انه
لا يعذب أحدا من هؤلاء الكفار بهذا العذاب الذي اقترحوه على وجه الفساد للحق
" وأنت " يا محمد " فيهم " موجود.
والتعذيب تجديد الآلام حالا بعد حال، لان أصله الاستمرار، فالعذب
من استمرار الشئ لما فيه من الملاذ. والعذاب من استمراره لما فيه من الآلام
واللام في قوله " ليعذبهم " لام الجحد. واصلها لام الإضافة. وإنما دخلت في النفي

(1) سورة 43 الزخرف آية 76
(2) سورة 73 المزمل آية 20
(3) سورة 34 سبأ آية 6
112

ولم تدخل في الايجاب لتعلق الخبر بحرف النفي، كما دخلت الباء في خبر (ما)
ولم تدخل في الايجاب.
وإنما لم يعاقب الله تعالى الخلق مع كون النبي صلى الله عليه وآله فيهم على سلامته
مما ينزل بهم، لأنه تعالى أرسله رحمة للعالمين. وذلك يقتضي ألا يعذبهم
وهو فيهم.
وقوله " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " قيل في معناه أقوال:
أحدها - ان النبي صلى الله عليه وآله لما خرج من مكة بفي فيها بقية من المؤمنين
يستغفرون، وهو قول ابن عباس، وعطية، وأبي مالك، والضحاك، واختاره
الجبائي.
وقال آخرون: أراد بذلك لا يعذبهم بعذاب الاستئصال في الدنيا، وهم يقولون
يا رب غفرانك. ويعذبهم على شركهم في الآخرة، وذلك عن ابن عباس في رواية
أخرى، وهو قول أبي موسى، ويزيد بن رومان، ومحمد بن مبشر.
الثالث - أنهم لو استغفروا لم يعذبوا، وفي ذلك استدعاء إلى الاستغفار
روي ذلك عن ابن عباس في رواية أخرى، وبه قال مجاهد وقتادة والسدي
وابن زيد.
وقال الزجاج: معناه لا يعذب الله من يؤول إلى الاسلام.
وقال الحسن وعكرمة: هذه الآية منسوخة بالتي بعدها. قال الرماني: هذا
غلط، لان الخبر لا ينسخ.
قوله تعالى:
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام
وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم
113

لا يعلمون (34) آية.
(ما) في قوله " وما لهم ان لا يعذبهم الله " خرجت مخرج الاستفهام ومعناه
إيجاب العذاب، وجاز ذلك، لأنه أبلغ في معنى الايجاب، من حيث إنه لا جواب -
لمن سأل عن مثل هذا - يصح في نفي العذاب، والمعنى لم لا يعذبهم وهذا فعلهم.
وموضع (أن) نصب بمعنى أي شئ لهم في أن لا يعذبهم، لكن لما حذف
الجار عمل معنى الفعل من الاستقرار، وجاز الحذف مع (أن) ولم يجز مع المصدر
لطول (أن) بالصلة اللازمة من الفعل والفاعل، وليس كذلك المصدر. وحكي
عن الأخفش ان (أن) زائدة مع عملها.
وقوله " وهم يصدون عن المسجد " والصد المنع، والصد الاعراض عن الشئ
من غير حيلولة بينه وبين غيره والمراد ههنا المنع.
وقوله: " وما كانوا أولياءه " جمع ولي وهو الذي يستحق القيام بأمر الشئ
ويكون أحق به من غيره، فعلى هذا الله تعالى ولي المتقين دون المشركين. وقال
أبو جعفر عليه السلام والحسن قال المشركون: نحن أولياء المسجد، فرد الله ذلك
عليهم، فقال " وما كانوا أولياءه ". ثم اخبر الله تعالى " إن أولياؤه " بمعنى ليس
أولياء المسجد إلا المتقون الذين يتركون معاصي الله ويجتنبونها.
وقال قوم: المعنى إن أولياء الله إلا المتقون والأول أحسن: لأنه مما
يقتضيه الانكار.
وقيل في معنى (لا) قولان: أحدهما - ان معناها الجحد اي ما لهم في
الامتناع من العذاب. وقيل هي صلة، لان المعنى ايجاب العذاب، كما
قال الشاعر:
لو لم تكن غطفان لا دنوت لها * إذن للام ذووا احسابها عمرا (1)

(1) قائله الفرزدق ديوانه 283 والخزانة 2 / 87 والطبري 5 / 302 و 13 / 519
114

والأول أحسن، لان المعنى لم لا يعذبهم الله. فان قيل: كيف تجمعون بين الآيتين
على قول من لا ينسخ الأولى، فان في الأولى نفى ان يعذبهم الله وهم يستغفرون
وفي الثانية أثبت ذلك؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها - أن يكون أراد وما لهم ان لا يعذبهم الله في الآخرة
والثاني - أن يكون يعني بالأولى عذاب الاستئصال كما فعل بالأمم الماضية
وبالثانية أراد عذاب السيف والأسر وغير ذلك ويكون قوله " وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون " اي انه لا يعذبهم بعذاب الدنيا، والآخرة إذا تابوا واستغفروا.
الثالث - أنه لا يعذبهم ما دام النبي فيهم وما داموا يستغفرون وإن كانوا
يستحقون العذاب بكفرهم وعنادهم.
وقوله: " ولكن أكثرهم لا يعلمون " دليل على بطلان قول من قال
المعارف ضرورة.
قوله تعالى:
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا
العذاب بما كنتم تكفرون (35) آية.
روى الحسين العجفي عن أبي بكر " صلاتهم " نصبا " إلا مكاء وتصدية "
رفع فيها. والصواب ما عليه القراء، لان " صلاتهم " معرفة و " مكاء وتصدية "
نكرة ولا يجوز ان يجعل اسم كان نكرة وخبره معرفة. ومن قرأ كذلك فلان
الصلاة لما كانت مؤنثة ولم يكن في كان علامة التأنيث أضاف الفعل إلى المذكور وهو
" مكاء ". وهذا ليس بصحيح، لان " صلاتهم " لما كان مضافا إلى المذكر جاز
ان يذكر كما أن المذكر إذا أضيف إلى المؤنث جاز ان يؤنث، نحو قولهم: ذهبت
بعض أصابعه.
115

ومعنى الآية الاخبار من الله تعالى أنه لم تكن صلاة هؤلاء الكفار الصادين
عن المسجد الحرام " إلا مكاء " لئلا يظن ظان ان مع كونهم مصلين ومستغفرين
لا يعذبهم الله، كما قال في الآية الأولى، فبين ان صلاتهم كانت مكاء وتصدية.
والمكاء صفير كصفير المكاء. وهو طائر يكون بالحجاز وله
صفير قال الشاعر:
ومكابها فكأنما يمكو بأعصم عاقل (1)
وأصل المكاء جمع الريح للصفير. ويقال مكا يمكوا مكاء إذا صفر بفيه
ومنه يمكوا است الدابة إذا انتفخت بالريح. والاست: الكوة، والمكو ان يجمع
الرجل يديه ثم يدخلهما في فيه ثم يصيح. ومنه قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلا * تمكو فريضته كشدق الأعلم (2)
اي يصفر بالريح لما طعنه والتصدية التصفيق يقال صدى يصدي تصدية إذا
صفق بيديه. ومنه الصدى صوت الجبل، ونحوه. ومنه تصدى للملك إذا تعرض
له ليكلمه. وقال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، وعطية، ومجاهد، وقتادة
والسدي: المكاء الصفير، والتصدية التصفيق، قال الراجز:
ضنت بخد وجلت عن خد * فأنا من غرو الهوى أصدي
أي اصفق بيدي تعجبا. والغرو: العجب.
وقال أبو علي الجبائي: كان بعضهم يتصدى لبعض ليراه بذلك الفعل، وكان
يصفر له. وقال سعيد بن جبير وابن زيد: التصدية صدهم عن البيت الحرام. وقيل:
إنهم كانوا يخلطون ويشوشون بذلك على النبي صلى الله عليه وآله.
وإنما سمي مكاؤهم بأنه صلاة لامرين:

(1) مجاز القرآن 1 / 246
(2) ديوانه: 24 من معلقته الشهيرة. واللسان (مكا) وتفسير القرطبي
7 / 400 والطبري 13 / 521.
116

أحدهما - انهم كانوا يقيمونه فعلهم الصفير والتصفيق مقام الصلاة والدعاء
والتسبيح.
والاخر - انهم كانوا يعملون كعمل الصلاة مما فيه هذا.
وقوله " فذوقوا العذاب " قال الحسن، والضحاك، وابن جريج، وابن
إسحاق: إن معناه عذاب السيف. وقال أبو علي الجبائي: يقال لهم في الآخرة
" ذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " في دار الدنيا وهو قول البلخي. والمعنى
باشروه وليس المراد به من ذوق الفم.
قوله تعالى:
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله
فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون * والذين
كفروا إلى جهنم يحشرون (36)
آية في الكوفي والمدنيين وآيتان في البصري خاصة.
أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار بأنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل
الله وغرضهم المنع عن سبيل الله. وسبيل الله ههنا، هو دين الله الذي أتى به
محمد صلى الله عليه وآله وسمي سبيل الله ههنا، لان بسلوكه واتباعه يبلغ ما عند الله، وإن لم يعلموا
أنها سبيل الله لأنهم قصدوا إلى الصد عنها، وهي سبيل الله على الحقيقة. ويجوز أن
يقال قصد الصد عن سبيل الله، وإن لم يعلم. ولا يجوز قصد أن يصد من غير أن
يعلم، لان (أن) تفسر الوجه الذي منه قصد، فلا يكون إلا مع العلم بالوجه كقولك
قصد أن يكذب، وقصد الكذب من غير أن يعلم أن كذب.
وإنما قال " ينفقون " ثم قال " فسينفقونها "، لان الأول معناه ان من
117

شأنهم ان ينفقوا للصد، والثاني - معناه انه سيقع الانفاق الذي يكون حسرة بما
يرونه من الغلبة. والحسرة الغم بما انكشف من فوت استدراك الخطيئة. والأصل
الكشف من قولهم حسر عن ذراعه يحسر حسرا والحاسر خلاف الدارع. وحسر
حسرة وهو حسير قال المراد:
ما انا اليوم على شئ خلا * يا بنة ألقين تولي يحسرا (1)
وكان الانفاق المذكور في الآية القائم به أبو سفيان: صخر بن حرب
استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من كنانة في قول سعيد، وابن ابرى، ومجاهد
والحكم ابن عيينة. وفي ذلك قال كعب بن مالك:
وجئنا إلى موج من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئين ان كثرن فأربع (2)
وقال الضحاك: إنما عنى بالآية الانفاق يوم بدر.
وفي الآية دلالة على نبوة النبي صلى الله عليه وآله لأنه اخبر بالشئ قبل كونه فكان
على ما اخبر به.
قوله تعالى:
ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه
على بعض فيركمه جميعا في جهنم أولئك هم الخاسرون
(37) آية بلا خلاف.

(1) اللسان (حسر). الحسر: الندامة. والقين العبد المملوك.
(2) سيرة ابن هشام 3 / 141، طبقات فحول الشعراء: 183. والطبري
13 / 530 ومقاييس اللغة 2 / 129
118

قرأ حمزة والكسائي " ليميز " مضمومة الياء مشددة، والباقون بفتح الياء
خفيفا.
اخبر الله تعالى انه يحشر الكفار إلى جهنم " ليميز الخبيث " الذي هو الكافر
" من الطيب " الذي هو المؤمن. (والتمييز) هو إخراج الشئ عما خالفه مما
ليس منه، وإلحاقه بما هو منه. تقول مازه يميزه، وميزه تمييزا. وامتاز امتيازا
وانماز انميازا والخبيث الردئ من كل شئ. وضده الطيب. ومنه خبث الحديد
وخبث الفضة، وخبث الانسان خبثا، وتخبث تخبثا، وتخابث تخابثا وخبثه تخبيثا
و (الطيب) المستلذ من الطعام والطيب الحلال من الرزق، والطيب من الولد الذي
يفرح به والطيب نقيض الخبيث، وهو الجيد من كل شئ.
وقيل المعنى ليميز الله ما انفقه المؤمنون في طاعة الله مما انفقه المشركون
في معاصيه. وقوله " ويجعل الخبيث بعضه على بعض " معناه إن الكافر يكون على
أسوء حال كالمتاع والركام، هوانا، وتحقيرا، وإذلالا.
وقوله " فيركمه جميعا " معناه تراكب بعضه فوق بعضه. كالرمل الركام
وهو المتراكب. ركمه يركمه ركما وتراكم تراكما وارتكم ارتكاما. ومنه
قوله تعالى في صفة السحاب " ثم يجعله ركاما " (1) وقال الحسن يركمهم الله مع
ما انفقوا في جهنم، كما قال " يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم
وجنوبهم وظهورهم " (2)
ثم اخبر انه إذا ركمه جميعا يجعله في جهنم وأخبر
عنهم بأنهم الخاسرون نفوسهم باهلاكهم إياها بارتكاب المعاصي والكفر المؤدي
إلى عذاب الأبد.
قوله تعالى:
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن

(1) سورة 24 النور آية 43
(2) سورة 9 التوبة آية 36
119

يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38) آية.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول للكفار إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
والمعنى إن أنابوا عن الكفر والمعاصي وتابوا منها توبة خالصة، لان الكف عن
المعاصي مع الاصرار لا يوجب الغفران. وإنما أطلق الوعد في الآية بالانتهاء عن
المعصية، لان الانتهاء عنها لا يكون مع الاصرار عليها، لان الاصرار معصية.
وقوله " وان يعودوا فقد مضت سنة الأولين " معناه وان يعودوا، ويرجعوا إلى
المعصية " فقد مضت سنة الأولين " في تعجيل العقاب لهم في الدنيا بعذاب الاستئصال
وما جرى مجراه من الأسر والقتل، يوم بدر، وبالنصر من الله، من قول الحسن
ومجاهد، والسدي.
والسلوف: التقدم، تقول سلف يسلف سلوفا وأسلف إسلافا وتسلف تسلفا
وسلفه تسلفا وتسليفا واستسلف استسلافا، والسالفة أعلى العنق، والسلافة اخلص
الخمر وأجودها. والسلفان المتزوجان بأختين والسنة الطريقة التي يجري عليها
الامر، ومنه قولهم هذا مستمر على سنن واحد.
قوله تعالى:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن
انتهوا فان الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله
مولاكم نعم المولى ونعم النصير (40) آيتان.
أمر الله تعالى بهذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله والمؤمنين ان يقاتلوا الكفار
" حتى لا تكون فتنة " وهي الكفر من غير أهل العهد، وما جرى مجراه من البغي، لأنهم
يدعون الناس إلى مثل حالهم بتعززهم على أهل الحق وتطاولهم فيفتنونهم في دينهم.
120

وقال ابن عباس، والحسن: معناه حتى لا يكون شرك. وقال ابن إسحاق حتى
لا يفتن مؤمن عن دينه. والفرق بين قوله " حتى لا يكون فتنة " وبين قوله حتى
لا يكون كفر هو ان الذليل والأسير والشريد لا يفتن الناس في دينهم لان الذل لا يدعوا
إلى حال صاحبه كما يدعو العز.
وقوله " ويكون الدين كله لله " معناه ان يجمع أهل الباطل وأهل الحق
على الدين الحق فيما يعتقدونه ويعملون به، فيكون الدين كله حينئذ لله بالاجتماع
على طاعته وعبادته، والدين ههنا الطاعة بالعبادة.
وقوله " فان انتهوا فان الله بما تعملون بصير " معناه فان رجعوا عن الكفر
وانتهوا عنه فان الله يجازيهم مجازاة البصير بهم وبأعمالهم باطنها وظاهرها لا يخفى
عليه شئ منها.
وقوله " وإن تولوا فاعلموا ان الله مولاكم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - وان تولى هؤلاء الكفار واعرضوا عن الدين الحق واتباعه فثقوا
بالله وتذكروا ما وعدكم به أيها المؤمنون تسكينا لنفوسهم وتمكينا للحق عندهم.
والثاني - فاعلموا ان الله ينصركم عليهم على طريق الامر بعلم هذا
ليكونوا على بصيرة في أن الغلبة لهم وقوله " وإن تولوا " شرط. وقوله " فاعلموا
أن الله " امر في موضع الجواب، وإنما جاز ذلك لان فيه معنى الخبر، فلم يخرج
من أن يجب الثاني بالأول، كأنه قال فواجب عليكم العلم بأن الله مولاكم أو
فينبغي ان تعلموا ان الله مولاكم.
والمولى ههنا هو الناصر. وهو الذي يوليكم عن الغلبة. والمولى على اقسام
بمعنى الناصر وبمعنى الحليف، وبمعنى المعنق والمعتق. وبمعنى الأولى والأحق
كما قال لبيد:
فقدت كلا الفرحين يحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها (1)

(1) مقاييس اللغة 2 / 212
121

ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله " أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل "،
اي من هو أولى بالعقد عليها. وقال الأخطل يمدح عبد الملك بن
مروان:
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش ان تهاب وتحمدا (1)
وقال أبو عبيدة: ومنه قوله " النار مولاهم " معناه الأولى بهم واستشهد ببيت
لبيد المتقدم ذكره. وقد استوفينا اقسام مولى في غيره هذا الموضع (2) فلا نطول
بذكره ههنا. والتولي عن الدين هو الذهاب عنه إلى خلافه وهو والاعراض بمعنى
واحد والتولي في الدين هو الذهاب إلى جهة الحق ومتابعة النبي صلى الله عليه وآله والنصرة له
والمعونة له.
قوله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شئ فان الله خمسه وللرسول
ولذي القربى واليتامى المساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم
بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله
على كل شئ قدير (41) آية.
الغنيمة ما اخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال. وهي هبة من الله
تعالى للمسلمين. والفئ ما اخذ بغير قتال في قول عطا بن السائب، وسفيان الثوري
وهو قول الشافعي، وهو المروي في اخبارنا.
وقال قوم: الفئ والغنيمة واحد. وقالوا هذه الآية ناسخة للتي في
الحشر من قوله " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي

(1) مر هذا البيت في 3 / 187
(2) في 3 / 186، 187.
122

القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " (1) لأنه بين في هذه الآية ان الأربعة
أخماس للمقاتلة. وعلى القول الأول لا يحتاج إلى هذا، وعند أصحابنا ان مال
الفئ للامام خاصة يفرقه فيمن شاء بعضه في مؤنة نفسه وذوي قرابته. واليتامى
والمساكين وابن السبيل من أهل بيت رسول الله ليس لسائر الناس فيه شئ. واما
خمس الغنيمة، فإنه يقسم عندنا ستة أقسام: فسهم الله، وسهم لرسوله للنبي، وهذان
السهمان مع سهم ذي القربى، للقائم مقام النبي صلى الله عليه وآله ينفقها على نفسه وأهل
بيته من بني هاشم، وسهم لليتامى: وسهم للمساكين: وسهم لأبناء السبيل من أهل
بيت الرسول لا يشركهم فيها باقي الناس لان الله تعالى عوضهم ذلك عما أباح لفقراء
المسلمين ومساكينهم وأبناء سبيلهم من الصدقات إذا كانت الصدقات محرمة على أهل
بيت الرسول عليهم السلام وهو قول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي
الباقر ابنه عليهم السلام رواه الطبري باسناده عنهما.
وقال الحسين بن علي المغربي حاكيا عن الصابوني من أصحابنا، إن
هؤلاء الثلاثة فرق لا يدخلون في سهم ذي القربى وإن كان عموم اللفظ يقتضيه، لان
سهامهم مفردة، وهو الظاهر من المذهب. والذين يستحقون الخمس عندنا من كان
من ولد عبد المطلب، لان هاشما لم يعقب إلا منه: من الطالبيين والعباسيين
والحارثيين واللهبيين، فاما ولد عبد مناف من المطلبيين، فلا شئ لهم فيه، وعند
أصحابنا الخمس يجب في كل فائدة تحصل للانسان من المكاسب وأرباح التجارات
والكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك مما ذكرناه في كتب الفقه.
ويمكن الاستدلال على ذلك بهذه الآية، لان جميع ذلك يسمى غنيمة.
وقال ابن عباس، وإبراهيم، وقتادة، وعطا: الخمس يقسم خمسة أقسام
فسهم الله وسهم الرسول واحد.
وقال قوم: يقسم أربعة أقسام سهم لبني هاشم وثلاثة للذين ذكروا بعد ذلك

(1) سورة 59 الحشر آية 7
123

من سائر المسلمين، ذهب إليه الشافعي.
وقال أهل العراق: يقسم الخمس ثلاثة أقسام، لان سهم الرسول صرفه الأئمة
الأربعة إلى الكراع والسلاح.
وقال مالك: يقسم على ما ذكره الله. ويجوز للامام ان يخرج عنهم حسب
ما يراه وإنما جاء على طريق الأولى في بعض الأحوال.
وقال أبو العالية - وهو رجل من صالحي التابعين - يقسم ستة أقسام، فسهم
الله للكعبة، والباقي لمن ذكر بعد ذلك.
وقال ابن عباس ومجاهد: ذو القربى هم بنو هاشم، وقد بينا نحن ان المراد
بذي القربى أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله: وبعد النبي القائم مقامه، وبه قال علي بن الحسين عليه السلام
وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وآله انهم بنو هاشم، وبنوا المطلب واختاره الشافعي وقال
الحسن وقتادة: سهم الله وسهم رسوله وسهم ذي القربى لولي الأمر من بعده وهو مثل مذهبنا.
وقال أبو علي الجبائي: إن الأئمة الأربعة جعلوا سهم الرسول وذي القربى في الكراع والسلاح
واجمعوا على أن سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل شائع في الناس بخلاف ما قلناه.
واليتيم من مات أبوه وهو صغير قبل البلوغ. وكل حيوان يتيم من قيل أمه
إلا ابن آدم، فإنه من قبل أبيه.
واما ابن السبيل، فهو المنقطع به في سفره. وإنما قيل ابن السبيل بمعنى
اخرجه إلى هذا المستقر، كما يخرجه أبوه من مستقره لقي محتاجا.
والمسكين المحتاج الذي من شأنه ان تسكنه الحاجة عما ينهض به الغنى.
وقوله " فأن الله خمسه " قيل في فتح (ان) قولان: أحدهما - فعلى ان
لله خمسه وحذف حرف الجر فنصب. الثاني - انه عطف على (ان) الأولى وحذف
خبر الأولى لدلالة الكلام عليه، وتقديره اعلموا ان ما غنمتم من شئ يجب قسمته
واعلموا ان لله خمسه. قال الفراء: إنه جزاء بمنزلة " ألم يعلموا انه من يحادد
الله ورسوله فان له نار جهنم خالدا " (1) قال الرماني: هذا غلط
124

لان (ان) لا تدخل على الجزاء إلا مع العماد، كما لا تدخل (ان) إلا على
هذا الوجه.
وقوله " إن كنتم آمنتم بالله واما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان " معناه اعلموا أنما غنمتم من شئ لهؤلاء الذين ذكرناهم ان كنتم مؤمنين
بالله مصدقين له في اخباره وما أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وآله من القرآن.
وقال الزجاج يجوز أن يكون قوله " إن كنتم آمنتم بالله " متعلقا بقوله
" فاعلموا ان الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير. ان كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا
على عبدنا يوم الفرقان " اي فأيقنوا ان الله ناصركم إذ كنتم شاهدتم من نصره
ما شاهدتم. ومعنى " يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " يوم بدر وسمي يوم الفرقان
لأنه تميز أهل الحق مع قلة عددهم من المشركين مع كثرة عددهم بنصر الله
المؤمنين. وقيل كان يوم السابع عشر من شهر رمضان وقيل التاسع عشر، سنة
اثنتين من الهجرة؟ وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام ثم قال " والله على كل شئ
قدير " اي هو قادر على مجازاة من اطاعه بجزيل الثواب، وعلى عقاب من عصاه
بأليم العذاب.
قوله تعالى:
إذا أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب
أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي
الله أمرا كان مفعولا (42) ليهلك من هلك عن بينة ويحيى
من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (43)

(1) سورة 9 التوبة آية 64
125

آيتان في المدنيين والبصري اية واحدة في الكوفي.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (بالعدوة) بكسر العين، الباقون بضمها وهما
لغتان قال الراعي في الكسر:
وعينان حمر مآقيهما * كما نظر العدوة الجؤذر (1)
وقال أوس بن حجر في الضم:
وفارس لا يحل الحي عدوته * ولوا سراعا وما هموا باقبال (2)
والعدوة شفير الوادي. وقال البصريون: الكسر أكثر اللغات. وقال احمد
ابن يحيي: بالضم أكثر. وقال قوم: هما لغتان سواء، وقرأ نافع وأبو بكر عن
عاصم وابن كثير في رواية البزي وشبل " حيي " باظهار الياءين. وقرأ الباقون
بالادغام وإنما جاز الادغام في (حيي) للزوم الحركة في الثاني يجري مجرى
(ردوا) إذا أخبروا عن جماعة قالوا: حيوا فخففوا وقد جاء مدغما، فقالوا حيوا
ومن اختار الاظهار، فلامتناع الادغام في مضارعه من يحيي فجرى على شاكلته
قال الزجاج، لان الحرف الثاني ينتقل عن لفظ الياء تقول حيي يحيى فاما أحيا
يحيي فلا يجوز فيه الادغام عند البصريين، لان الثاني إذا سكن في الصحيح من
المضاعف في نحو لم يردد كان الاظهار أجود فالمعتل بذلك أولى، لان سكونه ألزم
فلذلك وجه الاظهار في (يحيي) لأنه أحق من (لم يردد) لان السكون له ألزم
وقد أجاز الفراء الادغام في يحيي وانشد بيتا لا يعرف شاعره:
وكأنها بين النساء سبيكة * تمشي بشدة بأنها فتعي (3)
تقدير معنى الآية واذكروا أيها المؤمنون " إذ أنتم بالعدوة " وهي الجهة
التي هي نهاية الشئ من أحد جانبيه. ومنه قولهم عدوتا الوادي. وهما شفيراه
وجانباه. و (الدنيا) بمعنى الأدنى إلى المدينة. و (القصوى) بمعنى الأقصى

(1) تفسير الطبري 13 / 565
(3) معاني القرآن 1 / 412
126

منها إلى جهة مكة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه نزلوا بالجانب الأدنى إلى
المدينة. وقريش نزلت بالجانب الأقصى منها إلى مكة فنزلا الوادي بهذه الصفة،
قد اكتنفا شفيريه. وقوله " والركب أسفل منكم " يعني أبا سفيان وأصحابه في
موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر. وإنما نصب أسفل، لان تقديره بمكان
أسفل. فهو في موضع خفض، ونصب لأنه لا ينصرف وكان يجوز الرفع على تقدير
والركب أشد سفلا منكم، ومن نصب يجوز أن يكون أراد والركب مكانا أسفل
منكم بجعله ظرفا. والذي حكيناه، هو قول الحسن، وقتادة، وابن إسحاق
ومجاهد والسدي.
واصل الدنيا الدنو بالواو، بدلالة قولهم دنوت إلى الشئ أدنو دنوا، فقلبت
الواو ياء. ولم تقلب مثل ذلك في القصوى، لأنه ذهب بالدنيا مذهب الاسم في قولهم
الدنيا والآخرة، وإن كان أصلها صفة، فخففت. لان الاسم أحق بالتخفيف.
وتقول: أدناه ادناء واستدناه استدناء، وتدانوا تدانيا. وداناه مداناة. و (العلو)
قرار تحته قرار. و (السفل) قرار فوقه قرار، تقول: سفل يسفل سفلا، وتسفل
تسفلا وتسافل تسافلا وسفل تسفيلا، وسافله مسافلة، وهو الأسفل، وهي
السفلى.
وقوله " ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد " والمواعدة وعد كل واحد من
الاثنين الاخر وتواعدوا تواعدا. و (الاختلاف) مذهب كل واحد من الشيئين
في نقيض الاخر، ومنه الاختلاف في الميعاد لذهاب كل واحد من الفريقين فيما
يناقض الميعاد من التقدم والتأخر والزيادة والنقصان عما انعقد به الميعاد.
وقيل: اختلافهم في الميعاد بمعنى " لو تواعدتم " أيها المؤمنون على الاجتماع في
الموضع الذي اجتمعتم فيه ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم لتأخر تم فنقضتم
الميعاد، في قول ابن إسحاق. ووجه آخر " ولو تواعدتم " من غير لطف الله لكم
" لاختلفتم " بالعوائق والقواطع فذكر الميعاد لتأكيد امره في الاتفاق ولولا
127

لطف الله مع ذلك لوقع على الاختلاف كما قال الشاعر:
جرت الرياح على محل ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد
وقوله " ليقضي الله امرا كان مفعولا " معناه ليفصل الله امرا كان مفعولا
من عز الاسلام وعلو أهله على عبدة الأوثان وغيرهم من الكفار بحسن
تدبيره ولطفه.
وقوله " ليهلك من هلك عن بينة " معناه ليهلك من هلك عن قيام حجة عليه
بما رأى من المعجزات الباهرات للنبي صلى الله عليه وآله في حروبه وغيرها " ويحيى من حي
عن بينة " يعني ليستبصر من استبصر عن قيام حجة، فجعل الله المتبع للحق بمنزلة
الحي، وجعل الضال بمنزلة الهالك.
وقوله: " وإن الله لسميع عليم " معناه " سميع " لما يقوله القائل في ذلك
" عليم " بما يضمره، فهو يجازيه بحسب ما يكون منه.
قوله تعالى
إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أريكهم كثيرا
لفشلتم ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلم إنه عليم بذات
الصدور (44) آية.
التقدير واذكر يا محمد " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " والهاء والميم كناية
عن الكفار الذين قاتلوه يوم بدر " ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر "
وهذه الرؤية كانت في المنام عند أكثر المفسرين. والرؤيا في المنام تصور يتوهم
معه الرؤية في اليقظة والرؤيا على أربعة أقسام: رؤيا من الله عز وجل، ولها تأويل
ورؤيا من وسوسة الشيطان، ورؤيا من غلبة الاخلاط، ورؤيا من الأفكار، وكلها
أضغاث أحلام إلا الرؤيا من قبل الله تعالى التي هي إلهام في المنام يتصور به الشئ
128

كأنه يرى في اليقظة. ورؤيا النبي صلى الله عليه وآله هذه بشارة له، وللمؤمنين بالغلبة
وقال الحسن: معنى " في منامك " في عينك التي تنام بها، وليس من الرؤيا
في النوم، وهو قول البلخي، وهو بعيد، لأنه خلاف الظاهر من مفهوم الكلام.
قال الرماني: ويجوز أن يريه الله الشئ في المنام على خلاف ما هو به، لان
الرؤيا في المنام يخيل له المعنى من غير قطع وإن جاء معه تطلع من الانسان على
المعنى وإنما ذلك على مثل تخييل السراب ماء من غير تطلع على أنه ماء، فهذا
يجوز ان يفعله الله. ولا يجوز ان يلهمه اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به. لان
ذلك يكون جهلا، ولا يجوز أن يفعله الله تعالى.
والنوم ضرب من السهو يزول معه معظم الحس، تقول نام ينام نوما ونومه
تنويما وأنامه إنامة وتناوم تناوما واستنام استنامة. و (المنام) موضع النوم
والمضطجع موضع الاضطجاع.
و (القلة) نقصان عن عدد، كما أن الكثرة زيادة على عدد يقال: قل يقل
قلة وقلله تقليلا، واستقل استقلالا وتقلل تقللا. والشئ يكون قليلا بالإضافة إلى
ما هو أكثر منه. ويكون كثيرا بالإضافة إلى ما هو أقل منه. وأقله إقلالا إذا
أطاقه فصادفه قليلا في طاقته، فهو مشتق من هذا واستقل من المرض إذا قوي
قوة يزول بها المرض اي وجده قليلا في قوته لا يعتد به.
وقوله " لفشلتم " فالفشل ضعف الوجل لان الضعف قد يكون لمرض من غير
فزع وقد يكون من فزع. فالفشل إنما هو الضعف عن فزع. وفشل يفشل فشلا
فهو فاشل، وفشله تفشيلا: إذا نسبه إلى الفشل، وتفاشلوا تفاشلا.
وقوله " ولتنازعتم " فالتنازع الاختلاف الذي يحاول كل واحد منهم نزع
صاحبه مما هو عليه تنازعوا تنازعا، ونازعه منازعة ونزع عن الامر ينزع نزوعا،
واستنزعه إذا طلب نزوعه. وانتزعه إذا اقتلعه عن مكانه.
وقوله " ولكن الله سلم " فالسلامة النجاة من الآفة. سلم يسلم سلامة وأسلمه
129

إسلاما إذا دفعه على السلامة، وأسلم الانسان إذا دخل في السلامة من جهة الدين
وسلمه تسليما إذا نجاه. واستسلم استسلاما إذا سلم نفسه للامر، وتسلم تسلما إذا
طلب السلامة، واستلم الحجر إذا طلب لمسه على السلامة وسالمه مسالمة، وتسالما
تسالما.
وقوله " إنه عليم بذات الصدور " فالصدر الموضع الأجل لكون القلب فيه.
وصدر المجلس أجله، لأنه موضع الرئيس، وصدر الدار مشبه بصدر الانسان
لأنه المستقبل منه كاستقباله من الانسان يقال صدر يصدر صدورا وأصدره إصدارا
وتصدر تصدرا وصدره تصديرا وصادره مصادرة، وتصادروا تصادرا.
ففائدة الآية إن الله لطف للمؤمنين بما لو لم يكن لفشلوا ولاضطرب أمرهم
واختلفت كلمتهم. ولكن سلمهم الله من ذلك بلطفه لهم واحسانه بهم حتى بلغوا
ما أرادوه من عدوهم.
قوله تعالى:
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في
أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور (45) آية
التقدير اذكروا أيها المؤمنون إذ يريكموهم، فالهاء والميم كناية عن
المشركين، والكاف والميم كناية عن المؤمنين، أرى الله تعالى الكفار قليلين في أعين
المؤمنين ليشتد بذلك طمعهم فيهم وجرأتهم عليهم، وقلل المؤمنين في أعين الكفار
لئلا يتأهبوا ولا يستعدوا لقتالهم ولا يكترثوا بهم ويظفر بهم المؤمنون. والمراد
بالرؤية ههنا الرؤية بالبصر، وهو الادراك بحاسة البصر والرائي هو المدرك. والعين
حاسة يدرك بها البصر، والعين مشتركة، فمنها عين الماء، وعين الميزان، وعين
الركبة، وعين الذهب، والعين النفس، والالتقاء اجتماع الاتصال، لان الاجتماع
130

على وجهين: اجتماع الاتصال واجتماع في معنى من غير اتصال كاجتماع القوم
في الدار، وان لم يكن هناك اتصال. ويقال للعسكرين إذا تصافا التقيا لوقوع
العين على العين.
فان قيل كيف قللهم الله في أعينهم مع رؤيتهم لهم؟
قلنا: بأنه يتخيلوهم بأعينهم قليلا من غير رؤية على الصحة لجميعهم وذلك
بلطف من ألطافه تعالى مما يصد به عن الرؤية من قتام يستر بعضهم ولا يستر بعضا
آخر. وروي عن ابن مسعود أنه قال رأيناهم قليلا حتى قلت لمن كان إلى جانبي
أتراهم سبعين رجلا؟ فقال لي هم نحو المئة. فلما أسرنا رجلا منهم سألناه كم
كانوا، فقال ألفا.
وقوله " ليقضي الله امرا كان مفعولا " إنما كرره في هذه الآية مع ذكره
في الآية الأولى، لاختلاف الفائدة، فمعناه في الآية الأولى " ولو تواعدتم
لاختلفتم في الميعاد. ولكن ليقضي الله امرا كان مفعولا " من الالتقاء على الصفة
التي حصلتم عليها. ومعناه في الثانية يقلل كل فريق في عين صاحبه " ليقضي الله
امرا كان مفعولا " من اعزاز الدين بجهادكم على ما دبره لكم. وإنما قال " كان
مفعولا " والمعنى يكون مفعولا في المستقبل لتحقيق كونه لا محالة حتى صار بمنزلة
ما قد كان إذ قدم علم الله انه كائن لا محالة.
وقوله تعالى " والى الله ترجع الأمور " اي ترجع الأمور إلى ملكه وتدبيره
خاصة، ويزول ملك كل من ملكه في دار الدنيا.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
كثيرا لعلكم تفلحون (46) آية بلا خلاف.
131

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين خاصة يأمرهم بأنهم إذا لقوا جماعة من
الكفار لحربهم أن يثبتوا ويذكروا الله كثيرا، ويستنصروه عليهم لكي يفلحوا
ويفوزوا بالظفر بهم، وبالثواب عند الله يوم القيامة. وقد بينا ان معنى الايمان
هو التصديق بما أوجبه الله على المكلفين أو ندبهم إليه. والفئة الجماعة المنقطعة من
غيرها وأصله من فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته. والثبوت حصول الشئ في المكان
على استمرار، يقال لمن استمر على صفة: قد ثبت كثبوت الطين. والذكر ضد
السهو، وقد يكون الذكر القول من غير سهو. والفئة المذكورة في الآية وان
كانت مطلقة، فالمراد بها المشركة أو الباغية، لان الله لا يأمر المؤمنين بالثبوت
لقتال أحد الا من هو بهذه الصفة، ولا يأمر بقتال المؤمنين.
قوله تعالى:
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب
ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (47) آية.
أمر الله تعالى هؤلاء المؤمنين الذين ذكرهم بأن يطيعوا الله ورسوله، ولا
يختلفوا فيضعفوا عن الحرب. والعامل في " فتفشلوا " الفاء التي هي بدل من (أن) على
معنى جواب النهي كقولك لا تأت زيدا فيهينك، ولذلك عطف بالنصب في قوله
" وتذهب ريحكم " عليه.
وقوله " وتذهب ريحكم " معناه كالمثل أي ان لكم ريحا تنصرون بها
يقال ذهب ريح فلان اي كان يجري في امره على السعادة بريح تحمله إليها، فلما
ذهبت وقف امره، فهذه بلاغة حسنة. وقيل: المعنى ريح النصرة التي يبعثها الله مع
من ينصره على من يخذله، في قول قتادة وابن زيد. وقيل: تذهب دولتكم، من
قولهم ذهب ريحه، أي ذهبت دولته. في قول أبي عبيدة وأبي علي. وقال عبيد
132

ابن الأبرص:
كما حميناك يوم النعف من شطب * والفضل للقوم من ريح ومن عدد (1)
اي من ريح عز ومن عدد. وقال أبو جعفر عليه السلام: هذه الآية نزلت حين
أشار خباب بن المنذر على النبي صلى الله عليه وآله ان ينتقل من مكانه حتى ينزلوا على الماء
ويجيؤهم من خلفهم، فقال بعضهم لا تنغفر معصاتك يا رسول الله. فتنازعوا، فنزلت
الآية وعمل النبي صلى الله عليه وآله على قول خباب.
قوله تعالى:
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس
ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط (48) آية.
نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية ان يكونوا مثل " الذين خرجوا من
ديارهم بطرا ورئاء الناس " وهم قريش، لما خرجت لتحمي العير، فلما نجا أبو
سفيان ارسل إليهم ان ارجعوا، فقد سلمت عيركم وهم بالجحفة: فقال أبو جهل
والله لا نرجع حتى نرد بدرا وننحر جزرا، ونشرب خمرا وتعزف علينا القيان
ويرانا من غشينا من أهل الحجاز، ذكره ابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير
وابن إسحاق. والبطر الخروج عن موجب النعمة - من شكرها، والقيام بحقها -
إلى خلافه. وأصله الشق فمنه البيطار الذي يشق اللحم بالمبضع، وبطر الانسان بطرا
وابطره كثرة النعمة عليه إبطارا وبطره تبطيرا. والرئاء اظهار الجميل مع إبطان القبيح
تقول: راءى يرائي مراءاة ورياء. والمرائي رجل سوء لما بينا. والنفاق اظهار
الايمان مع إبطان الكفر. والصد المنع. وقيل هو جعل ما يدعو إلى الاعراض

(1) ديوانه: 49 والطبري 13 / 575 واعجاز القرآن للباقلاني: 131
و (النعف) ما انحدر من حزونة الجبل و (شطب) اسم جبل.
133

فهؤلاء يصدون عن سبيل الله بما يدعون الناس إلى الاعراض عنها من معاداة أهلها
وقتالهم عليها وتكذيبهم بما جاء به الداعي إليها. والفرق بين الصد والمنع أن المنع
ما يتعذر معه الفعل والصد ما يدعو إلى ترك الفعل.
وقوله " والله بما تعملون محيط " معناه يحتمل أمرين: أحدهما - انه يحيط
علمه بما يعملونه. الثاني - انه قادر على جزاء ما يعملونه من ثواب أو عقاب.
قوله تعالى:
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم
اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على
عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف
الله والله شديد العقاب (49) آية.
التقدير: واذكر " إذ زين لهم " يعني المشركين " زين لهم الشيطان اعمالهم
بمعنى حسنها في نفوسهم والتزيين هو التحسين. والمعنى أن إبليس حسن للمشركين
أعمالهم وحرضهم على قتال محمد، وخروجهم من مكة، وقوى نفوسهم، وقال لهم
" لا غالب لكم اليوم من الناس ". تقول غلب يغلب غلبة، فهو غالب، وغالبه مغالبة
وتغالبا تغالبا وغلبه تغليبا. والغلبة القهر للمنازع، والملك لامره.
وقوله " وإني جار لكم " حكاية عما قال إبليس للمشركين، فإنه قال لهم
اني جار لكم، لأنهم خافوا بني كنانة لما كان بينهم، فأراد إبليس بأن يسكن
خوفهم، والجار هو الدافع عن صاحبه السوء أجاره يجيره جوارا. ومنه قوله
" وهو يجير ولا يجار عليه " (1) اي يعقد لمن أحب دفع الضرر عنه من كل أحد

(1) سورة 23 المؤمنون آية 89
134

ولا يعقد عليه، فالجار المجير. وقوله " فلما تراءت الفئتان " معناه، فلما التقتا
ورأي بعضهم بعضا " نكص " يعني إبليس " على عقبيه " والنكوص هو الرجوع
ققهرى خوفا مما يرى. نكص ينكص نكوصا، قال زهير.
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا * لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا (1)
واختلفوا في ظهور الشيطان لهم حتى رأوه، فقال ابن عباس، والسدي
وقتادة، وابن إسحاق: ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني
المدلجي في جماعة من جنده، وقال لهم: هذه كنانة قد أتتكم نجدة، فلما رأى
الملائكة " نكص على عقبيه " فقال الحارث بن هشام إلى أين يا سراقة، فقال
" اني أرى ما لا ترون " وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وقيل إنه
رأى جبرائيل بين يدي النبي صلى الله عليه وآله. وقال أبو علي الجبائي حوله الله على صورة
إنسان علما للنبي صلى الله عليه وآله بما يخبر به عنه. وقال الحسن والبلخي: إنما هو يوسوس
من غير أن يحول في صورة انسان.
وقوله " اني أخاف الله والله شديد العقاب " حكاية عن قول إبليس حين ولى
فقال لقريش اني أرى من الملائكة ما لا ترون اني أخاف الله والله شديد العقاب.
وإنما خافه من أن يأخذه في تلك الحال بعقوبته دون أن يكون خاف معصيته
فامتنع منها.
قال الحسن: إبليس عدو الله لا يخاف الله لكن كلما استؤصل جند من
جنوده وقعت بذلك عليه مخافة وذلة. وقال البلخي هو كقولك للرجل جمعت بين
الفريقين حتى إذا وقع الشر بينهم خليتهم وانصرفت، وقلت اعملوا ما شئتم وتريد
بذلك انك خليت بينهم دون أن يكون هناك قول، والأول هو المشهور في التفاسير.

(1) ديوانه 159 من قصيدته في هرم بن سنان. والطبري 14 / 11 و (حبيك
البيض) طرائق حديد. و (البيض) الخوذ من سلاح المحارب. و (حموا) من
الحمية، وهي الأنفة والغضب.
135

والواو دخلت في قوله " وإذ زين لهم الشيطان " للعطف على خروجهم بطرا ورئاء
الناس، فعطف حالهم في تزيين الشيطان اعمالهم على حالهم في خروجهم بطرا.
قوله تعالى:
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء
دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (50) آية.
العامل في " إذ " يحتمل أن يكون شيئين: أحدهما - الابتداء والتقدير
ذاك " إذ يقول " والاخر بتقدير اذكر " إذ يقول المنافقون " وهم الذين يبطنون
الكفر ويظهرون الايمان " والذين في قلوبهم مرض " الشاكين في الاسلام مع اظهارهم
كلمة الايمان، وهم بمكة جماعة خرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة
المسلمين قالوا هذا القول، وهم قيس بن الوليد بن المغيرة (1) والحارث بن زمعة
وعلي بن أمية والعاص بن المنبه بن الحجاج، هذا قول مجاهد، والشعبي وقال
الحسن: المرض الشرك " والذين في قلوبهم مرض " المشركون. وقال أبو علي
فصلوا في الذكر لان المنافقين كانوا يضمرون عداوة النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين، وكانوا
هؤلاء مرتبتين وكلهم في معنى المنافقين، لأن الشك في الاسلام كفر.
وقوله " غر هؤلاء دينهم " معناه ان المسلمين اغتروا بالاسلام. والغرور: اظهار
النصح مع إبطان الغش تقول: غره يغره غرورا واغتر به اغترارا ومنه الغرر، لأنه
عمل بما لا يؤمن معه الغرور. وقوله " ومن يتوكل على الله " معناه ومن يسلم لامر
الله ويثق به ويرضى بفعله، لان التوكل على الله هو التسليم لامره مع الثقة والرضا
به، تقول: وكل امره إلى الله، يكل واتكل عليه يتكل اتكالا وتوكل توكلا
وتواكل القوم تواكلا إذا اتكل بعضهم على بعض، ووكل توكيلا. وقوله

(1) في بعض النسخ (أبو قيس بن الفاكهة بن المغيرة)
136

" فان الله عزيز حكيم " معناه انه قادر لا يغالب واضع للأشياء مواضعها
قوله تعالى:
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون
وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق (51) آية.
قرأ ابن عامر " إذ تتوفى " بتاءين فأدغم أحدهما في الأخرى هشام عنه.
الباقون بالياء والتاء. من قرأ بالتاء أسند الفعل إلى الملائكة كقوله " إذ قالت
الملائكة " (1) ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث غير حقيقي.
هذا خطاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى له: " ولو ترى " الوقت
الذي تتوقى الملائكة الذين كفروا بمعنى انهم يقبضون أرواحهم على استيفائها،
لان الموت إنما يكون باخراج الروح على تمامها. وجواب " لو " محذوف، وتقديره
لرأيت منظرا عظيما أو امرا عجيبا أو عقابا شديدا، وحذف الجواب في مثل هذا
أبلغ، لان الكلام يدل عليه. والمرئي ليس بمذكور في الكلام لكن فيه دلالة عليه
لان تقديره: لو رأيت الملائكة يضربون من الكفار الوجوه والادبار، وحذفه أبلغ
وأوجز مع أن الكلام يدل عليه. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: معنى أدبارهم استاههم
لكنه كنى عنه. وقال الحسن: معناه ظهورهم. وقال أبو علي: المعنى ستضربهم
الملائكة عند الموت. قال الرماني: وهذا غلط، لأنه خلاف الظاهر، وخلاف
الاجماع المتقدم أنه يوم بدر. وروى الحسن: ان رجلا قال يا رسول الله إني رأيت
بظهر أبي جهل مثل الشرك، فقال: ذاك ضرب الملائكة. وروي عن مجاهد ان رجلا
قال للنبي صلى الله عليه وآله اني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه فبدر رأسه.
فقال: سبقك إليه الملائكة. وعن ابن عباس انه كان يوم بدر.

(1) سورة 3 آل عمران آية 45
137

وقوله: " وذوقوا عذاب الحريق " تقديره، ويقولون يعني الملائكة للكفار
يقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق يوم القيامة وحذف لدلالة الكلام عليه. ومثله قوله
" ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا " (1) أي
يقولون ربنا أبصرنا، ودل الكلام عليه. والحريق تفريق الأجسام الكبيرة العظيمة
بالنار العظيمة يقال: احترق احتراقا واحرق إحراقا وتحرق تحرقا وحرقه
تحريقا، وجواب " لو " محذوف، وتقديره لرأيت منظرا هائلا وإنما حذف جواب
" لو " لان ذكره يخص وجها ومع الحذف يظن وجوه كثيرة فهو أبلغ.
قوله تعالى:
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (52) آية.
قوله " ذلك " إشارة من الملائكة للكفار إلى ما تقدم ذكره من قولهم " ذوقوا
عذاب الحريق " قالوا ذلك العذاب " بما قدمت أيديكم " وموضع " بما قدمت أيديكم "
يحتمل وجهين من الاعراب: أحدهما - الرفع بأنه خبر ذلك. والثاني - النصب
بأنه متصل بمحذوف، وتقديره ذلك جزاؤكم " بما قدمت أيديكم " وإنما قيل بما
قدمت أيديكم مع أن اليد لا تعمل شيئا لتبين أنه بمنزلة ما يعمل باليد في الجناية،
ولذلك لم يذكر القلوب، وإن كان بها معتمد العصيان، لأنه قصد إظهار ما يقع به
الجنايات في غالب الامر وتعارف الناس. والتقديم ترتيب الشئ أولاء قبل غيره:
قدمه تقديما وتقدم تقدما واستقدم استقداما وتقادم عهده تقادما واقدم على
الامر إقداما.
وقوله: " ان الله ليس بظلام للعبيد " العامل في " ان " يحتمل شيئين:
أحدهما - أن يكون موضعه نصبا بتقدير وبأن الله أو خفضا على الخلاف فيه.
والثاني - أن يكون رفعا بمعنى وذلك أن الله كما تقول ذلك هذا.

(1) سورة 32 ألم السجدة آية 12
138

وإنما نفى المبالغة في الظلم عنه تعالى دون نفي الظلم رأسا، لأنه جاء على جواب
من أضاف إليه فعل جميع الظلم، ولان ما ينزل بالكفار لو لم يكن باستحقاق لكان
ظلما عظيما، ولكان فاعله ظلاما.
قوله تعالى:
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله
فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب (53) آية.
العامل في قوله: " كدأب آل فرعون " الابتداء وتقديره دأبهم كدأب
آل فرعون، فموضعه رفع، لأنه خبر المبتدأ، كما تقول زيد خلفك، فموضع
خلفك رفع بأنه خبر المبتدأ، ولفظه نصب بالاستقرار، فكذلك الكاف في
" كدأب ". والدأب العادة والطريقة تقول ما ذلك دأبه ودينه وديدنه.
والمعنى انه جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق.
وقال الزجاج الدأب إدامة الفعل دأب يدأب في كذا إذا دام عليه، ودأب يداب دأبا
ودؤبا فهو دائب يفعل كذا اي يجري فيه على عادة. وقال خداش بن زهير العامري:
وما زال ذاك الدأب حتى تجادلت * هوازن وارفضت سليم وعامر (1)
وآل فرعون المراد به اتباعه فيما دعاهم إليه من ربوبيته. سموا " آل " لان
مرجع أمرهم إليه بسبب أكيد. والفرق بين " آل فلان " و " الأصحاب " ان
الأصحاب مأخوذ من الصحبة لطلب علم أو غيره. كالأصحاب في السفر، وكثر في
الموافقة على المذهب، كما يقولون أصحاب مالك وأصحاب الشافعي يراد به الموافقة
في المذهب، لا يوصفون بأنهم آل الشافعي أو أبي حنيفة. والال يرجعون إليه
بالسبب الأوكد الأقرب.

(1) روح المعاني 10 / 17، ومجاز القرآن 1 / 248.
139

وقوله: " إن الله قوي " معناه قادر وقد يكون القوي بمعني الشديد، وذلك
لا يجوز اطلاقه على الله، وكذلك لا يوصف بأنه شديد العقاب وإنما وصف عقابه
بأنه شديد دون الله تعالى.
فمعنى الآية تشبيه حال المشركين في تكذيبهم بآيات الله التي اتى بها
محمد صلى الله عليه وآله بحال آل فرعون في التكذيب بآيات الله التي اتى بها موسى عليه السلام لان
تعجيل العقاب لهؤلاء بالاهلاك كتعجيله لأولئك بعذاب الاستئصال.
قوله تعالى:
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (54) آية.
الإشارة بقوله: " ذلك " إلى ما تقدم ذكره من اخذ الله الكفار بالعقاب
فكأنه قال ذلك العقاب المدلول عليه بأن الله لا يغير النعمة إلى النقمة إلا بتغيير النفس
إلى الحال القبيحة، ف‍ " ذلك " ابتداء وخبره " بان الله " كما يقول القائل: العقاب
بذنوب العباد، والكاف في " ذلك " للخطاب و " ذلك " إشارة إلى البعيد و " ذاك " إشارة
إلى ما دونه، و " ذا " إشارة إلى ما هو حاضر. وقوله " لم يك " أصله يكون
فحذفت الواو للجزم والتقاء الساكنين، ثم حذفت النون استخفافا لكثرة الاستعمال مع أنه
لا يقع بالحذف إخلال بالمعنى، لان " كان ويكون " أم الافعال الا ترى أن كل فعل
فيه معناها، لأنك إذا قلت ضرب معناه كان ضرب: ويضرب معناه يكون يضرب
فلما قربت بأنها أم الافعال وكثر استعمالها احتمل الحذف ولم يحتمل نظائرها،
وذلك مثل لم يجز ولم يصن كما جاز فيما. والتغيير تصيير الشئ على خلاف ما كان
بما لو شوهد لشوهد على خلاف ما كان. وإنما قيل بما لو شوهد لشوهد على خلاف
ما كان للتفريق بينه وبين ما يصير على خلاف ما كان بالحكم فيه بما لم يكن عليه،
140

ألا ترى ان المعلوم بعد ان لم يكن معلوما لا يتغير بهذا العلم، لأنه لو شوهد لم
يشاهد على خلاف ما كان، والقدرة شوهدت على خلاف ما يشاهد العجز.
وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لأنها تدل على أنه لا يكون
العقاب الا بتغيير النفس إلى ما لا يجوز ان يغير إليه، وهذا يبين انه لا يحسن من الله
العقاب الا لمن فعل قبيحا أو أخل بواجب، وذلك يبطل قول من قال: يجوز ان
يعاقب الله البرئ بجرم السقيم، وجملة معنى الآية إنا أخذنا هؤلاء الذين كذبوا
بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم، وتغييرهم نعمة الله عليهم من بعث رسوله
وتكذيبهم إياه واخراجهم له من بين أظهرهم، ففعلنا بهم مثل ما فعلنا بالماضين
من الكفار.
قوله تعالى:
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم بآيات ربهم
فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين (55) آية
إنما أعاد قوله: " كدأب آل فرعون والذين من قبلهم " لا على وجه التكرار
بلا فائدة بل لوجهين: أحدهما - قال أبو علي: لأنه على نوعين مختلفين من العقاب.
وقال الرماني: فيه تصريف القول في الذم بما كانوا عليه من قبح الفعل وتقدير
الكلام: دأب هؤلاء الكفار مثل دأب آل فرعون. ويحتمل أن يكون كناية عن
هؤلاء الكفار " كذبوا بآياتنا ".
والتكذيب نسبة الخبر إلى الكذب، فالتكذيب بالحق مذموم، والتكذيب
بالباطل - لأنه باطل - ظاهره امره محمود، وإنما وجب في التكذيب بآيات الله تعجيل
العقوبة، ولم يجب ذلك في غيره، لما في تعجيل عقوبتهم من الزجر لغيرهم، فيصلحون
به مع علم الله بأنه ليس فيهم من يفلح - على مذهب من يقول: لو علم الله ان فيهم
141

من يؤمن، لابقاه. وإنما كان التكذيب بآيات الله من أعظم الاجرام، لما يتبعه من
تضييع حقوق الله فيما يلزم من طاعاته التي لا تصح الا بالتصديق بآياته التي جاءت
بها رسله. اخبر الله انه كما أهلك هؤلاء الكفار بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وآله كذلك أهلك
من الكفار قوما آخرين بتكذيبهم بآيات الله، وأغرق آل فرعون بمثل ذلك، ثم
اخبر ان كل هؤلاء كانوا ظالمين لنفوسهم بارتكاب معاصي الله وبترك طاعاته.
قوله تعالى:
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (56) آية
الشر الرامي بالمكاره كشرر النار ومثله الضرر، وضد الشر الخير وضد الضرر
النفع. والدابة ما من شأنه ان يدب على الأرض لكن بالعرف لا يطلق إلا على الخيل،
ومن ذلك قوله " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها (1) " وقوله " عند الله "
معناه في معلوم الله وفي حكمه. وأصل " عند " أن يكون ظرفا من ظروف المكان إلا
أنه قد تصرف فيها على هذا المعنى. والفاء في قوله " فهم لا يؤمنون " عطف جملة
على جملة، وهو من الصلة، كأنه قال: كفروا مصممين على الكفر " فهم لا يؤمنون "
وإنما حسن عطف جملة من ابتداء وخبره على جملة من فعل وفاعل، لما فيها من
التأدية إلى معنى الحال وذلك أن صلابتهم بالكفر أدى إلى الحال في أنهم لا يؤمنون.
فأخبر الله تعالى في هذه الآية ان شر خصلة يكون الانسان عليها هو الكفر
لما في ذلك من تضييع نعم الله التي توجب أعظم العقاب.
والآية متناولة لمن علم الله منه انه لا يؤمن، لان قوله " فهم لا يؤمنون "
اخبار عن نفى ايمانهم فيما بعد.

(1) سورة 11 هود آية 6.
142

قوله تعالى:
الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم
لا يتقون (57) آية.
قال مجاهد: هذه الآية نزلت في بني قريظة، لما نقضت عهد النبي صلى الله عليه وآله
في ألا يحاربوه ولا يمالؤا عليه، فنقضوا عهده، ومالؤا عليه، وعاونوا قريشا يوم
الخندق، فانتقم الله منهم. والمعاهدة المعاقدة على أمر يتقدم فيه للوثيقة به بالايمان
المؤكدة على ما يعقد عليه، ونقض العهد مثل نقض الوعد لأنه حق للمعاهد كما أن
ذلك حق للموعود. ونقض العزم هو الرجوع عما عزم عما عزم عليه. والنقض يكون
بشيئين: أحدهما - فيما كان من بناء وشبهه. الثاني - في عقد أو امر يعزم عليه.
وقوله تعالى " ثم ينقضون " عطف المستقبل على الماضي، لان الغرض ان من شأنهم
نقض العهد مرة بعد أخرى في مستقبل أوقاتهم بعد العهد إليهم. وقوله " فهم
لا يتقون " معناه نقضوا عهدك من غير أن يتقوا عقاب الله عاجلا وآجلا.
قوله تعالى:
فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم
يذكرون (58) آية
معنى " تثقفن " تصادفن وتلقين. واصله الادراك بسرعة تقول ثقف الكلمة
فهو ثقف، وثقفه إذا قومه وثاقفة مثاقفة إذا تدارك كل واحد منهما امر صاحبه بسرعة
ودخلت نون التأكيد لما دخلت " ما " ولو لم تدخله لما حسن دخول النون،
لان دخول " ما " كدخول القسم في أنه علامة تؤذن أنه من مواضع التأكيد المطلوب
من التصديق، لان النون تدخل لتأكيد المطلوب فيما يدل على المطلب، وهي في
143

ستة مواضع: الامر، والنهي، والاستفهام، والعرض، والقسم، والجزاء مع " ما "
وقوله " فشرد بهم من خلفهم " يحتمل معنيين:
أحدهما - إذا أسرتهم فنكل بهم تنكيلا يشرد غيرهم من ناقضي العهد خوفا
منك، وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد.
الثاني - افعل بهم من القتل ما يفرق من خلفهم، في قول الزجاج.
والتشريد التفريق على اضطراب، شرد يشرد شرودا وشرده تشريدا وتشرد
تشردا. ودابة شرود. والتشريد والتطريد والتبديد والتفريق نظائر.
وقوله " لعلهم يذكرون " معناه لكي يفكروا فيتعظوا وينزجروا عن الكفر
والمعاصي. وروي في الشواذ " من خلفهم " والمعنى نكل بهم أنت يا محمد من ورائهم
والأول أجود. وعليه القراء.
قوله تعالى:
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله
لا يحب الخائنين (59) آية.
بني المضارع مع نون التأكيد، لان النون لما أبطلت السكون اللازم للجزم
الذي هو أمكن في الفعل، كانت على إبطال غيره من الاعراب أقوى. وإنما بني على
الفتح لسلامتها من البابين الكسرة والضمة في المؤنث والجمع، في قولهم لا تحسبن
يا امرأة، ولا تحسبن يا قوم. وتثبت الألف مع الجازم في (أما تخافن) ولم تثبت
مع الجازم في قولك (لا تخف القوم) لان الحركة في هذا عارضة، لان التقاء
الساكنين من كلمتين.
أمر الله تعالى نبيه انه متى خاف - ممن بينه وبينه عهد - خيانة أن ينبذ إليه عهده
على سواء. والخيانة نقض العهد فيما ائتمن عليه، تقول: خانه يخونه خيانة، وأختان
144

المال اختيانا. وتخونه تخونا وخونه تخوينا. و (النبذ) القاء الخبر إلى من لا يعلمه
بما يوجب أنه حرب بنقض عهد أو إقامة على بغي تقول: نبذ ينبذ نبذا وانتبذ انتباذا
وتنابذ القوم تنابذا، ونابذه منابذة.
وقوله " على سواء " قيل في معناه قولان: أحدهما - على استواء في العلم به
أنت وهم في انكم حرب لئلا يتوهموا أنك العهد بنصب الحرب. والثاني - ان
معناه على عدل من قول الراجز:
فاضرب وجوه الغدر الاعداء * حتى يحيوك على السواء (1)
أي على العدل. ومنه قيل للوسط سواء، لاعتداله إلى الجهات، كما قال
حسان بن ثابت:
يا ويح أنصار النبي ورهطه * بعد المغيب في سواء الملحد (2)
اي في وسطه. وقال الوليد بن مسلم: معناه على مهل وهذا بعيد، لأنه لا يعرف
في اللغة. فان قيل كيف جاز نبذ العهد ونقضه بالخوف من الخيانة؟
قيل: إنما فعل ذلك لظهور امارات الخيانة التي دلت على نقض العهد ولم تشتهر
ولو اشتهرت لم يجب النبذ، كما حارب رسول الله صلى الله عليه وآله أهل مكة، لما نقضوا العهد
بقتل خزاعة، وهم في ذمة النبي صلى الله عليه وآله فلما فعلوا ذلك فعلا ظاهرا مشهورا أغنى ذلك
عن نبذ العهد إليهم، ولو نقضوه على خفى لم يكن بد من نبذ العهد إليهم، لئلا ينسب
إلى نقض العهد والغدر.
وقوله " ان الله لا يحب الخائنين " معناه انه يبغضهم وإنما عبر بحرف النفي، لان
صفة النفي تدل على الاثبات إذا كان هناك ما يدل عليه، وهو أبلغ في هذا الموضع
لان معناه: انهم حرموا محبة الله بخيانتهم وأوجب ذلك بغضه إياهم. ومحبة الله للخلق
إرادة منافعهم وبغضه إياهم إرادة عقابهم.

(1) تفسير الطبري 14 / 27 والقرطبي 8 / 33
(2) تفسير القرطبي 8 / 33 وقد مر في 1 / 405 من هذا الكتاب.
145

والآيتان معا نزلتا في بني قريظة، قال الواقدي: نزلت هذه الآية في بني
قينقاع، وبهذه الآية سار النبي صلى الله عليه وآله إليهم.
قوله تعالى:
ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون (60) آية.
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص وأبو جعفر " ولا يحسبن " بالياء. الباقون بالتاء.
وقرأ ابن عامر " انهم " بفتح الهمزة. الباقون بكسرها.
قال أبو علي الفارسي: من قرأ بالتاء جعل " الذين كفروا " المفعول الأول
و " سبقوا " المفعول الثاني، وموضعه النصب، وهو واضح. ومن قرأ بالياء احتمل
ثلاثة أشياء:
أحدها - (لا يحسبن الذين كفروا) وهو قول أبي الحسن.
الثاني - أن يكون أضمر المفعول الأول وتقديره: ولا يحسبن الذين كفروا
أنفسهم سبقونا وإياهم سبقوا
الثالث - ان يقدر على حذف (أن) كأنه قال: ولا يحسبن الذين كفروا ان
سبقوا. قال الزجاج يقوي ذلك، ان في قراءة ابن مسعود " إنهم لا يعجزون " فعلى
هذا يكون ان سبقوا سد مسد المفعولين، كما أن قوله " أحسب الناس أن يتركوا
ان يقولوا " (1) كذلك. ومن فتح الهمزة جعل الجملة متعلقة بالجملة الأولى والتقدير
ولا تحسبنهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون فهم يجازون على كفرهم. ومن كسر استأنف
الكلام، قال أبو عبيدة: سبقوا معناه فاتوا، فإنهم لا يعجزون اي لا يفوتون، ومثله
" أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا " ثم استأنف، فقال: " ساء ما يحكمون (2)

(1) سورة 29 العنكبوت آية 2.
(2) سورة 29 العنكبوت آية 4.
146

فكذلك ها هنا استأنف الكلام. وإنما امتنع الاقتصار على أحد المفعولين في (حسب)
لان المفعول الثاني خبر عن الأول، والفعل متعلق بما دلت عليه الجملة فهو بخلاف
(أعطيت) في هذا.
والحسبان هو الظن. وقال الرماني: هو شك يقوى فيه احدى النقيضين لقوة
المعنى في حيز القولين. وأصله الحساب، لان المعنى فيه داخل فيما يحسب به ويعمل
عليه. والاحتساب قبول الحساب والاعتداد به وفي المضارع لغتان، فتميم تفتح السين
وأهل الحجاز يكسرونها. والسبق تقدم الشئ على طالب اللحوق به: سبق يسبق
سبقا وتسابقا تسابقا، وسابقة مسابقة واستبقوا استباقا وسبقه تسبيقا إذا أعطاه السبق.
والسابق والمصلي في صفة الفرس. والاعجاز ايجاد ما يعجز عنه: أعجزه إعجازا
وعجزه تعجيزا وعاجزه معاجزة واستعجز استعجازا. وقال أبو عبيدة: معنى " لا
يعجزون " لا يفوتون. وقال الحسن: معنى لا يعجزون الله لا يفوتونه حتى لا يثقفنهم
يوم القيامة. وقال الجبائي: معناه لا يعجزونك حتى يظفرك الله بهم. وقال الزجاج:
المعنى لا يحسبن من أفلت من هذه الحرب قد سبق إلى الحياة. وقال الزجاج:
يجوز أن تكون (لا) صلة على ضعف فيه. والمعنى لا يحسبن الذين كفروا انهم
يعجزون. اي يفوتون.
قوله تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به
عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما
تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (61) آية.
امر الله تعالى المؤمنين ان يعدوا ما قدروا عليه من السلاح وآلة الحرب والخيل
وغير ذلك. والاعداد اتخاذ الشئ لغيره مما يحتاج إليه في امره ولو اتخذه له في
147

نفسه محبة له لم يكن اعدادا وهو مما يعد فيما يحتاج إليه من غيره والاستطاعة معنى
تنطاع بها الجوارح للفعل مع انتفاء المنع، تقول: استطاع استطاعة، وطاوع مطاوعة
وأطاع طاعة، وتطوع تطوعا، وانطاع انطياعا. وقوله تعالى " من قوة " اي مما
تقوون به على عدوه. وقيل: معناه من الرمي، ذكره الفراء. ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله
عقبة بن عامر، على ما ذكره الطبري. وقال عكرمة: أراد به الحصون.
وقوله تعالى: " ومن رباط الخيل " فالرباط شد أيسر من العقد. ربطه يربطه
ربطا ورباطا وارتبطه ارتباطا ورابطه مرابطة.
وقوله " ترهبون به عدو الله وعدوكم " فالهاء في (به) راجعة إلى الرباط
وذكره لأنه على لفظ الواحد وإن كان في معنى الجمع، لأنه كالجراب والقراب
والذراع. والارهاب ازعاج النفس بالخوف تقول: أرهبه إرهابا ورهبه ترهيبا ورهب
رهبة وترهب ترهبا واسترهبه استرهابا، وقال طفيل:
ويل أم حي دفعتم في نحورهم * بني كلاب غداة الرعب والرهب (1)
والعدو المراصد بالمكاره لتعديتها إلى صاحبها والعدو ضد الولي.
وقوله " وآخرين من دونهم " لا تعلمونهم تقديره وترهبون آخرين، فهو
نصب ب‍ (ترهبون) يجوز أن يكون نصبا بقوله: (وأعدوا لهم) وللآخرين من
دونهم. وقيل في المعنيين بذلك خمسة أقوال: أحدها - قال مجاهد: هم بنو قريظة
وقال السدي. هم أهل فارس. وقال الحسن وابن زيد: هم المنافقون. الرابع - الجن،
وهو اختيار الطبري، قال: لان الاعداد للأعداء دخل فيه جميع المتظاهرين بالعداوة
فلم يبق إلا من لا يشاهد. الخامس - قال الجبائي: كل من لا تعرفون عداوته داخل
فيه. ومعنى " لا تعلمونهم " لا تعرفونهم فلذلك لم يكن معه المفعول الثاني.
وقوله: " الله يعلمهم " معناه يعرفهم كما قال الشاعر:

(1) ديوانه: 65 ومجاز القرآن 1 / 249.
148

فان الله يعلمني ووهبا * وإنا سوف نلقاه كلانا (1)
وقوله تعالى: " وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون "
يعني ما من شئ تنفقونه في الجهاد إلا والله يوفيكم ثوابه على ذلك بأتم الجزاء
ولا تبخسون، فمعنى الآية الامر باعداد السلاح والكراع لإخافة أعداء الله بما
يملا صدورهم من الاستعداد لقتالهم مع تضمن اخلاف ما انفق في سبيل الله بأحوج
ما يكون صاحبه إليه بما تربح فيه تجارته.
قوله تعالى:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع
العليم (62) آية.
قرأ أبو بكر عن عاصم " السلم " بكسر السين. الباقون بفتحها وفي ذلك ثلاث لغات:
الفتح والكسر مع سكون اللام، وفتح السين واللام معا ومعناها المسالمة ولذلك أنث
قال رجل من اليمن جاهلي:
أنا بل انني سلم * لأهلك فاقبلي سلمى (2)
قال أبو الحسن: السلم فيها الكسر والفتح لغتان. وقال غيره: السلم بفتح السين
واللام على ثلاثة أوجه. تقول: أخذت الأسير سلما اي على الاستسلام. والسلم السلف
على السلامة. والسلم شجر واحده سلمة، تقول له بالسلامة.
وقوله: " وان جنحوا للسلم " معناه ان مالوا إلى المسالمة، تقول: جنح يجنح
جنوحا وجنحت السفينة إذا مالت إلى الوقوف، ومنه جناح الطائر لأنه يميل به في

(1) قائله النمر بن ثولب العلكي. الاقتضاب: 303، والمفصل للزمخشري: 88
وتفسير الطبري 14 / 39.
(2) مجاز القرآن 1 / 250 والتاج واللسان (سلم).
149

أحد شقيه. ولا جناح عليه في كذا اي لا ميل إلى مأثم، قال أبو زيد: جنح يجنح
جنوحا إذا اعطى بيده أو عدل إلى ما يحب القوم، وجنح العدو والخيل، وجنحت
الإبل إذا أخفضت في السير. وليس في الآية ما يدل على أن الكفار إذا ما لو إلى
الهدنة وجب اجابتهم إليها على كل حال، لان الأحوال تختلف في ذلك، فتارة
تقتضي الإجابة، وتارة لا تقتضي، وذلك إذا وتروا المسلمين بأمر يقتضي الغلظة مع
حصول العدة والقوة.
فان قيل: إذا جازت الهدنة مع الكفار فهلا جاز المكافة في أمر الإمامة حتى
يجوز تسليمها إلى من لا يستحقها؟ قلنا: تسليم الإمامة إلى من لا يستحقها فساد في
الدين كفساد تسليم النبوة إلى مثله. وقوله " وتوكل على الله " اي فوض امرك إليه
تعالى وثق بأنه لا يدبره الا على ما تقتضيه الحكمة.
واختلفوا هل في الآية نسخ؟ فقال الحسن وقتادة وابن زيد: نسخها قوله:
" اقتلوا المشركين " (1) وقال قوم: ليست منسوخة، لأنها في الموادعة لأهل
الكتاب والأخرى في عباد الأوثان، والصحيح أنها ليست منسوخة، لان قوله: " اقتلوا
المشركين " نزلت في سنة تسع وبعث بها رسول الله إلى مكة ثم صالح أهل نجران
بعد ذلك على الفي حلة: ألف في صفر وألف في رجب. وقوله " إنه هو السميع العليم "
معناه انه يسمع دعاء من يدعوه عليم بما تقتضي المصلحة من اجابته وحسن تدبيره
قوله تعالى:
وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك
بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض

(1) سورة 9 التوبة آية 6.
150

جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز
حكيم (63) آيتان في الكوفي والمدني، وآية في البصري.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله يقول له: " ان يريدوا " يعني الكفار. وقيل هم بنو
قريظة، ومعناه ان قصدوا بالصلح خديعتك. والخديعة اظهار المحبوب في الامر
للاستجابة له مع إبطان خلافه: خدع خدعا وخديعة واختدعه اختداعا وتخادع
له تخادعا. وانخدع انخداعا. وقوله " فان حسبك الله " معناه، فان الله كافيك
يقال: أعطاني ما احسبني اي كفاني. واصله الحساب، وإنما أعطاه بحساب ما
يكفيه. وقوله " هو الذي أيدك بنصره " وبالمؤمنين " فالتأييد التكمين من الفعل على
أتم ما يصح فيه، تقول: أيده تأييدا وتأيد تأيدا. والأيد القوة. والمعنى ان الله
قواه بالنصر من عنده، بالمؤمنين الذين ينصرونه على أعدائه. وقوله " وألف
بين قلوبهم " والتأليف الجمع على تشاكل، فلما جمعت قلوبهم على تشاكل فيما
تحبه وتنازع إليه كانت قد ألفت، ولذلك قيل: هذه الكلمة تأتلف مع هذه، ولا
تأتلف. والمراد بالمؤمنين الأنصار وبتأليف قلوبهم ما كان بين الأوس والخزرج من
العداوة والقتال، هذا قول أبي جعفر عليه السلام والسدي وبشر بن ثابت الأنصاري
وابن إسحاق. وقال مجاهد: هو في كل متحابين في الله. وإنما كان الجمع على
المحبة تأليفا بين القلوب، لأنه مأخوذ من الألفة وهي الاجتماع على الموافقة في
المحبة، ولا يجوز في الجمع على البغضاء ان يمسى بذلك. وقوله " لو أنفقت ما في
الأرض جميعا " فالانفاق اخراج الشئ عن الملك. والمعنى " لو أنفقت ما في الأرض
جميعا " لتجمعهم على الألفة ما تم لك ذاك، ولكن الله الف بينهم بلطف من ألطافه
وحسن تدبيره، وبالاسلام الذي هداهم الله إليه. ونصب " جميعا " على الحال.
وقوله " انه عزيز حكيم " معناه قادر لا يمتنع عليه شئ يريد فعله " حكيم عليم "
لا يفعل الا ما تقتضيه الحكمة فعلى ذلك جمع قلوبهم على الألفة.
151

قوله تعالى:
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64) آية.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله يقول له: يكفيك أن يكون ناصرك
على أعدائك الله تعالى، والذين اتبعوك من المؤمنين من المهاجرين والأنصار،
وإنما كرر قوله " حسبك " مع أنه قد ذكر فيما قبل، لان المعنى هناك إن
أرادوا اخداعك كفاك الله أمرهم. وهاهنا معناه عام في كل ما يحتاج فيه إلى
كفاية الله إياه. وقوله " ومن اتبعك " يحتمل اعرابه وجهين:
أحدهما - أن يكون نصبا. والمعنى ويكفي من اتبعك على التأويل، لان
الكاف في موضع خفض بالإضافة لكنه مفعول به في المعنى، فعطف على المعنى، وليس
ذلك بكثير. وأجاز الفراء الرفع لقوله " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا
مئتين " ومثله قوله " انا منجوك وأهلك " (1) وقال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا * فحسبك والضحاك سيف مهند (2)
وهو معنى قول الشعبي وابن زيد. وقال الحسن: هو عطف على اسم الله،
فيكون رفعا. والكسائي، والفراء، والزجاج أجازوا الوجهين وحمل عليهما معا
أبو علي الجبائي. والاتباع موافقة الداعي فيما يدعوا إليه من اجل دعائه.
والمؤمنون يوافقون النبي صلى الله عليه وآله في كل ما دعا إليه. وقال الواقدي: نزلت هذه
الآية في بني قريظة وبني النضير لما قالوا له: نحن نسلم ونتبعك.
قوله تعالى:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم

(1) سورة 29 العنكبوت آية 33.
(2) القرطبي 8 / 42 ومعاني القرآن 1 / 417 وتفسير القاسمي 8 / 303
152

عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا
ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (65) آية.
وهذا أيضا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله يأمره الله بأن يحرض المؤمنين على قتال
المشركين.
والتحريض والحث نظائر، وهو الدعاء الأكيد بتحريك النفس على أمر من
الأمور. وضده التفتير. والمعنى حثهم على القتال. والتحريض الحث على الشئ الذي
يعلم معه انه حارض إن خالف وتأخر. والحارض هو الذي قارب الهلاك. ومنه قوله:
" حتى تكون حرضا " اي حتى تذوب غما على ذلك وتقارب الهلاك " أو تكون
من الهالكين " (1) وحارض فلان على أمره إذا واظب عليه. والتحريض ترغيب في
الفعل بما يبعث على المبادرة إليه مع الصبر عليه. والقتال محاولة الصد والمنع بما فيه
تعرض للقتل. والمجاهدة ان يقصد إلى قتل المشركين بقتاله، ومن يدفع عن نفسه
فليس كذلك. والصبر هو حبس النفس عما تنازع إليه من صد ما ينبغي أن يكون عليه
وضده الجزع، وقال الشاعر:
فان تصبروا فالصبر خير مغبة * وان تجزعا فالامر ما تريان (2)
والغلبة الظفر بالبغية في المحاربة قتلا أو اسرا أو هزيمة. وقد يقال في الظفر
بالبغية في المنازعة بالغلبة. ومعنى " لا يفقهون " هاهنا انهم على جهالة، خلاف من
يقاتل على بصيرة، وهو يرجو به ثواب الآخرة. وقال قوم: معناه لا يعلمون ما لهم من
استحقاق الثواب بالقتال. وقوله " ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين "
وإن كان بلفظ الخبر، فالمراد به الامر، ويدل على ذلك قوله " الان خفف الله عنكم "
لان التخفيف لا يكون الا بعد المشقة.

(1) سورة 12 يوسف آية 85
(2) مجمع البيان 2 / 556
153

قوله تعالى:
ألان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم
مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين
بإذن الله والله مع الصابرين (66) آية.
قرأ أهل الكوفة " إن يكن.. مئة. وان يكن.. الف " بالياء فيهما
وافقهم أهل البصرة في الأولى. وقرأ أهل الكوفة الا الكسائي " ضعفا " بفتح الضاد
الباقون بضمها، ولكنهم سكنوا العين الا أبا جعفر، فإنه فتحها ومد وهمز على
وزن " فعلاء " على الجمع. ومن قرأ " ان يكن " بالياء فلان المراد به المذكر
بدلالة قوله " يغلبوا " وكذلك ما وصف به المئة بقوله " صابرة " لأنهم رجال: حملا
على المعنى كما حمل على المعنى في قوله " فله عشر أمثالها " (1) فأنث لما كانت
في المعنى حسنات. ومن قرأ بالتاء فلان اللفظ التأنيث. ومن قرأ الأول بالتاء
والثاني بالياء فلان القراءة بالتاء في الأولى أشد مشاكلة لقوله " مئة صابرة " وليس
كذلك في الأخرى، لأنه اخبر عنهم بقوله " يغلبوا ". وقال سيبويه يقال: ضعف
ضعفا فهو ضعيف. قال وقالوا الفقر كما قالوا الضعف، فعل ذلك انهما لغتان.
هذه الآية نسخت حكم ما تقدمها، لان في الأولى كان وجوب ثبات الواحد
للعشرة والعشرة للمئة، فلما علم الله تعالى ان ذلك يشق عليهم وتغيرت المصلحة في ذلك
نقلهم إلى ثبات الواحد للاثنين والمئة للمئتين، فخفف ذلك عنهم، وهو قول ابن عباس
والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد والسدي وعطا والبلخي والجبائي والرماني،
وجميع المفسرين. والتخفيف رفع المشقة بالخفة. والخفة نقيض الثقل والخفة
والسهولة بمعنى واحد. والضعف نقصان القوة، وهو من الضعف لأنه ذهاب بعض القوة

(1) سورة 6 الانعام آية 160
154

وقوله " بإذن الله " فالاذن الاطلاق في الفعل، لأنه يسمع بالاذن، ومنه الاذان
والايذان والاستئذان، وقوله " الان " مبني مع الألف واللام لأنه خرج عن
التمكن بشبه الحرف، لأنه ينكر تارة ويعرف أخرى، فاستبهم استبهام الحروف بأنه
للفصل بين الزمانين على انتقال معناه إلى الذي يليه من الوقت كما ينتقل أمس،
فالأمس والغد والآن نظائر واحكامها مختلفة لعلل لزمتها.
وقوله تعالى " والله مع الصابرين " معناه انه معهم بالمعونة لهم. والمعنى ان
معونة الله مع الصابرين وحقيقة " مع " أن تكون للمصاحبة للجهة بالمعونة وذلك
لا يجوز عليه تعالى. وقيل هذه الآية نزلت بعد الأولى بمدة.
قوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في
الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز
حكيم (67) آية.
قرأ أهل البصرة وابن شاهي " أن تكون " بالتاء. الباقون بالياء. وقرأ أبو
جعفر " أسارى " ومن الأسارى - بفتح الهمزة منهما وبألف بعد السين - وافقه أبو
عمرو في الثاني. الباقون بفتح الهمزة وسكون السين من غير الف فيهما.
من قرأ بالتاء فلان لفظ الاسرى لفظ التأنيث، فحمله على اللفظ.
ومن قرأ بالياء فلان الفعل متقدم والأسرى المراد به المذكورون.
وأيضا فقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل وكل واحد من ذلك إذا انفرد يذكر
الفعل معه، مثل جاء الرجل وحضر القاضي امرأة، فإذا اجتمعت هذه الأشياء
كان التذكير أولى. واختار الأخفش التذكير. وقال أبو علي الفارسي: الاسرى
أقيس من الأسارى لان أسير فعيل بمعنى مفعول، وما كان كذلك لا يجمع بالواو
155

والنون، ولا بالألف والتاء. وإنما يجمع على فعلى مثل جريح وجرحى وقتيل
وقتلى وعفير وعفرى، ولديغ ولدغى، وكذلك لك من أصيب في بدنه مثل مريض
ومرضى وأحمق وحمقى وسكران وسكرى. ومن قرأ أسارى شبهه بكسالى وقالوا
كسلى شبهوه بأسرى. وأسارى في جمع أسير ليس على بابه، وقال أبو الحسن: الاسرى
ما لم يكن موثقا والأسارى موثوقون. قال: والعرب لا تعرف ذلك بل هما عندهم
سواء. وقال الأزهري: الأسارى جمع اسرى فهو جمع الجمع، والأسر الشد على
المحارب بما يصير به في قبضة الاخذ له. واصله الشد، يقال: قتب مأسور اي
مشدود وكانوا يشدون الأسير بالفداء.
والمعنى: ما كان لنبي ان يحبس كافرا للفداء والمن حتى يثخن في الأرض،
والاثخان في الأرض تغليظ الحال بكثرة القتل. وقال مجاهد: الاثخان القتل.
والثخن والغلظ والكثافة نظائر. وقوله " يريدون عرض الدنيا " يعني تريدون
الفداء والعرض متاع الدنيا وسماه عرضا لقلة لبثه لأنه بمعنى العرض في اللغة.
وقوله " والله يريد الآخرة " معناه والله يريد عمل الآخرة من الطاعات التي
تؤدي إلى الثواب وإرادة الله لنا خير من إرادتنا لأنفسنا.
وقوله " والله عزيز حكيم " معناه يريد عمل الآخرة، فإنه يعزكم ويرشدكم
إلى اصلاحكم، لأنه عزيز حكيم، فلا تخافوا قهرا مع إعزازه إياكم.
وهذه الآية نزلت في أسارى بدر قبل ان يكثر الاسلام، فلما كثر المسلمون
قال الله تعالى " فاما منا بعد وإما فداء " (1) وهو قول ابن عباس وقتادة. وقال
فادوهم بأربعة آلاف، وفي الآية دليل على بطلان مذهب المجبرة لأنه تعالى فصل
إرادة نفسه من إرادتهم، ولو كان يريد ما أرادوه لم يصح هذا الفعل من التفصيل
فان قيل: كيف يكون القتل فيهم كان أصلح وقد أسلم منهم جماعة، ومن
علم الله من حاله انه يؤمن يجب تبقيته؟! قلنا: في ذلك خلاف، فمن قال:

(1) سورة 47 محمد آية 4
156

لا يجب ذلك لا يلزمه السؤال. ومن قال: ذلك أوجب قال: ان الله أراد ان يأمرهم
بأخذ الفداء وإنما عاتبهم على ذلك لأنهم بادروا إليه قبل ان يؤمروا به.
قوله تعالى:
لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب
عظيم (68) آية.
قيل في معنى قوله " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم " قولان:
قال الحسن لولا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ من أنه لا يعذبهم على ذلك.
وقال غيره: لولا ما كتب الله فيه انه يغفر لأهل بدر ما تقدم وما تأخر.
الثاني - قال مجاهد: يعني ما ذكره من قوله " وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا " (1) فكأنه قال: لا أعذب إلا بعد المظاهرة في البيان وتكرير الحجة به.
وقال قوم " لولا ما كتبه الله " من أن الفدية ستحل لهم فيما بعد، ذهب إليه سعيد
ابن جبير. ومعنى الآية " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم " من فداء
الاسرى والغنيمة عذاب عظيم، لأنهم اخذوه قبل ان يؤذن لهم. وقد كان سبق ان
الله سيحله لهم في قول ابن عباس والحسن، وقال الجبائي: والمعنى " لولا كتاب
من الله سبق " وهو القرآن الذي آمنتم به واستحقيتم لذلك غفران الصغائر لمسكم
فيما أخذتم به من الفداء عذاب عظيم. ولا يجوز أن يكون المراد به الا الصغائر
لأنهم قبل الغفران لم يكونوا فساقا اجماعا. قال الجبائي: وقد كان من النبي صلى الله عليه وآله
في هذا معصية اجماعا من غير تعيين ما هي، وأظن أنها في ترك قتل الاسرى وهذا
الذي ذكره غير صحيح، لأنه لا إجماع في ذلك بل عندنا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وآله
فعل شئ من القبائح صغيرا كان أو كبيرا لما في ذلك من التنفير عنه على ما بيناه

(1) سورة 17 الاسرى آية 15
157

في غير موضع. وأكثر المفسرين على أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقع منه خلاف لامر الله
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله كره اخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك
في وجهه، فقال يا رسول الله هذا أول حرب لقينا فيه المشركين أردت ان يثخن
فيهم القتل حتى لا يعود أحد بعد هذا إلى خلافك وقتالك، فقال رسول الله: قد
كرهت ما كرهت، ولكن رأيت ما صنع القوم، فالمعصية في ذلك كانت من قوم
من الصحابة الذين مالوا إلى الدنيا واخذ الفداء. وقد قال البلخي أيضا إن اجلاء
الصحابة براء من ذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه اله أنه قال إن الغنائم أحلت لي ولم تحل
لنبي قبلي.
ومعنى " لولا " امتناع الثاني لوقوع الأول كقولك: لولا زيد بالمكان
الذي هو به لاتيتك، فامتنع الاتيان لمكان زيد. والسبق يكون تقدما في الزمان
والمكان والرتبة بأن يكون له وإن لم يكن فيها. والمس مماسة يقع معها إدراك،
وهو كاللمس في الحقيقة. والعظيم ما يصغر فيه قدر غيره، ويكون ذلك بعظم الجثة
تارة وبعظم الشأن أخرى. والعظيم هو المستحق للصفة بأن قدر غيره صغير عنده.
وقال أبو جعفر عليه السلام كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية
من فضة والأوقية أربعون مثقالا إلا العباس فان فداءه كان مئة أوقية وكان أخذ منه
حين أسر اثنين وعشرين أوقية ذهبا، فقال النبي صلى الله عليه وآله ذاك غنيمة ففاد نفسك وابني
أخيك عقيل ونوفل بن الحارث، فقال: ليس معي، فقال: أين الذهب الذي سلمته
إلى أم الفضل وقلت: ان حدث بي حدث، فهو لك وللفضل وعبد الله وميثم، فقال
من أخبرك بهذا؟ قال: الله، قال: اشهد انك رسول الله، والله ما اطلع على هذا
أحد إلا الله تعالى.
قوله تعالى:
فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور
158

رحيم (69) آية.
أباح الله تعالى للمؤمنين بهذه الآية أن يأكلوا مما غنموه من أموال المشركين
بالقهر من دار الحرب. ولفظه وإن كان لفظ الامر. فالمراد به الإباحة ورفع الحظر.
والغنيمة ما أخذ من دار الحرب بالقهر. والفئ ما رجع إلى المسلمين، وانتقل إليهم
من المشركين. والاكل تناول الطعام بالفم مع المضغ والبلع، فمتى فعل الصائم هذا فقد
أكل في الحقيقة. والفرق بين الحلال والمباح ان الحلال من حل العقد في التحريم
والمباح من التوسعة في الفعل وان اجتمعا في الحل والطيب المستلذ، وشبه الحلال
به فسمي طيبا. واللذة نيل المشتهى. قال الزجاج: الفاء في قوله " فكلوا " على
تقدير قد أحللت لكم الفداء فكلوه.
وقوله " واتقوا الله " معناه اتقوا معاصيه فان الله غفور رحيم لمن اطاعه
وترك معاصيه.
قوله تعالى:
يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم
الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم
والله غفور رحيم (70) آية
قرأ أبو عمرو وحده من السبعة وأبو جعفر " الأسارى " الباقون " الاسرى "
وأبو عمرو جمع المذهبين في الأول والثاني. وحمله الباقون على النظير في المعنى.
وقد فسرنا فيما مضي الأسير من اخذ من دار الحرب من أهلها، ولو اخذ
مسلم لكان قد فك اسره. خاطب الله بهذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله وأمره ان يقول لمن
حصل في يده من الاسرى يعني من حصل في وثاقه وسماه في يده لأنه بمنزلة ما
159

قبض على يده بالاستيلاء عليه ولذلك يقال في الملك المتنازع فيه لمن اليد؟ وقوله
" ان يعلم الله في قلوبكم خيرا " يعني اسلاما. وقيل معناه إن يعلم منكم خيرا في
المستقبل بأن يفعلوه فيعلمه الله موجودا، لان ما لم يفعل لا يعلمه موجودا والخير
النفع العظيم، وهو هاهنا البصيرة في دين الله وحسن النية في امر الله. وقوله
" يؤتكم خيرا " يعني يعطيكم خيرا " مما اخذ منكم " من الفداء. وقال الحسن
أطلقهم بالفداء، ولو لم يسلموا لم يتركهم.
وقوله " ويغفر لكم " يعني زيادة مما يؤتيهم يغفر لهم معاصيهم ويسترها عليهم
لأنه غفور رحيم. وروي عن العباس أنه قال: كان معي عشرون أوقية فأخذت مني
فأعطاني مكانها عشرين عبدا ووعدني بالمغفرة. وقال العباس في نزلت وفي أصحابي
هذه الآية، وهو قول ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم:
قوله تعالى:
وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم
والله عليم حكيم (71) آية.
معنى الآية ان هؤلاء الأسارى ان علم الله في قلوبهم خيرا اخلف عليهم خيرا
مما اخذ منهم. وان عزموا على الخيانة، ونقض العهد وفعلوا خلاف ما وقع عليه
العقد من تأدية فرض الله، فقد خانوا الله من قبل هذا. والمعنى فقد خانوا أولياء
الله، لان الله لا يمكن ان يخان، لأنه عالم بالأشياء كلها لا يخفى عليه خافية.
والخيانة هاهنا نقض الطاعة لله ورسوله التي شهدت بها الدلالة. وقوله " فأمكن
منهم " المعنى لما خانوا بأن خرجوا إلى بدر وقاتلوا مع المشركين، فقد أمكن
الله منهم بان غلبوا وأسروا. فان خانوا ثانيا فيمكن الله منهم مثل ذلك. والامكان
هو القدرة على الشئ مع ارتفاع المانع، وما لو حرص عليه صاحبه أتم الحرص لم
160

يصح ان يقع منه لا يكون امكانا، فالامكان ينافي المنع والالجاء كما ينافي
العجز القدرة.
وقوله " والله عليم حكيم " معناه عالم بما تقولونه وما في نفوسكم وبجميع
الأشياء " حكيم " فيما يفعله. والحكيم هو العالم بوجوه الحكمة في الفعل مما يصرف
عن خلافها والأصل في الحكمة المنع فهي تمنع الفعل من الخلل والفساد.
قوله تعالى:
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم
في سبيل الله الذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض
والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى
يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم
بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72) آية.
قرأ حمزة " ولايتهم " بكسر الواو. الباقون بفتحها. قال الزجاج: إنما
جاز الكسر لأنه يشبه الصناعة كالخياطة والقصارة والحياكة، وقال الشاعر في الفتح:
دعيهم فهم ألب علي ولاية * وحفرهم ان يعلموا ذاك دائب (1)
قال أبو عبيدة: بفتح الواو مصدر المولى تقول: مولى بين الولاية وإذا كسرت
فهو من وليت الشئ. قال أبو الحسن: يفتح الواو من الولاية إلا الولاية في السلطان
بكسر الواو، وكسر الواو في الأخرى لغة. وقرأ الأعمش بكسر الواو من الولاية
في الدين هنا. قال أبو علي الفارسي: الولاية هاهنا في الدين والفتح أجود. قال
أبو الحسن. وهي قراءة الناس. وعن الأعمش أنه كسر الواو، وهي لغة. وليست

(1) معاني القرآن 1 / 419
161

بذلك. قال المبرد عن الأصمعي: ان الأعمش لحن في كسره لذلك. قال أبو علي:
إذا كان ذلك لغة لا يكون لحنا. قال الفراء: والكسر أحب إلي، لأنها ولاية
المواريث. وقال الأزهري: في النصرة والنسب بفتح الواو. وفي الامارة بكسرها.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن أحوال المؤمنين الذين هاجروا من مكة
إلى المدينة بقوله " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل
الله " وعن أحوال الأنصار بقوله " والذين آووا ونصروا " يعني النبي صلى الله عليه وآله. ثم
قال " أولئك " يعني المهاجرين والأنصار " بعضهم أولياء بعض " والهجرة فراق
الوطن إلى غيره من البلاد فرارا من المفتنين في الدين، لأنهم هجروا دار الكفار إلى
دار الاسلام. والجهاد تحمل المشاق في قتال أعداء الدين جاهد جهادا وجهده الامر
جهدا واجتهد اجتهادا، وجاهد مجاهدة. والايواء ضم الانسان صاحبه إليه بانزاله
عنده وتقريبه له، تقول: آواه يؤويه ايواء وآوى يأوي اويا، وأويت معناه رجعت
إلى المأوى. والولاية عقد النصرة للموافقة في الديانة.
ثم اخبر الله تعالى عن الذين آمنوا ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة فقال " والذين
آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ " وقيل في معناه قولان:
أحدهما - ولاية القرابة نفاها عنهم لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة
دون الرحم - في قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي - وعن أبي جعفر عليه السلام
انهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى.
الثاني - انه نفي الولاية التي يكونون بها يدا واحدة في الحل والعقد، فنفى
عن هؤلاء ما أثبته للأولين حتى يهاجروا. ثم قال " وإن استنصروكم " اي طلبوا
نصركم " في الدين " يعني الذين آمنوا ولم يهاجروا " فعليكم النصر " اي نصرهم
بسبب الايمان الذي يجب علكيم ان تنصروهم على الكفار " إلا على قوم بينكم "
وبينهم ميثاق، يعني موادعة ومهادنة تقتضيه من جهة ان عقدهم بخلاف عقدهم.
162

وقيل إنه نسخ ذلك بقوله " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " (1).
وقوله " والله بما تعملون بصير " يعني عالم بما يعملونه.
قوله تعالى:
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة
في الأرض وفساد كبير (73) آية.
اخبر الله تعالى عن الكافرين أن بعضهم أولياء بعض بمعنى النصرة، لأنه ينصر
بعضهم بعضا. وقوله " الا تفعلوه " الهاء عائدة إلى معنى ما أمروا به في الآية
الأولى والثانية، ومخرجه مخرج الخبر والمراد به الامر، وتقديره الا تفعلوا ما
أمرتم به من التناصر والتعاون والبراءة من الكفار " تكن فتنة في الأرض وفساد
كبير " على المؤمنين الذين لم يهاجروا. فالفتنة هاهنا المحنة بالميل إلى الضلال
لأنه إذا لم يتوال المؤمن المؤمن على ظاهر حاله من الايمان والفضل، ولم يدعه إلى
التبري من الضلال أدى ذلك إلى الضلال. والفساد ضد الصلاح وهو الانقلاب إلى الضرر
القبيح. والصلاح جريان الشئ على استقامة. والولي هو المختص بالعقد على
النصرة في وقت الحاجة، وقد يعقد بالعزم، وقد يعقد بالحكم. وقيل في معنى
قوله " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض " قولان: أحدهما - في الميراث، في قول
ابن عباس، وأبي مالك. والثاني - قال قتادة وابن اسحق في النصرة.
قوله تعالى
والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين
آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق

(1) سورة 9 التوبة آية 72
163

كريم (74) آية.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله وهاجروا
من ديارهم وأوطانهم، يعني من مكة إلى المدينة، وجاهدوا مع ذلك في سبيل الله وقتال
أعدائه. والذين آووا من الأنصار ومعناه ضموهم إليهم ونصروا النبي صلى الله عليه وآله بأنهم
المؤمنون حقا، وقيل في معناه قولان: أحدهما انهم المؤمنون الذين حققوا ايمانهم
لما يقتضيه من الهجرة والنصرة بخلاف من أقام بدار الشرك. الثاني - قال أبو
علي الجبائي: معناه انهم المؤمنون حقا، لان الله حقق ايمانهم بالبشارة التي بشرهم
بها، ولو لم يهاجروا ولم ينصروا لم يكن مثل هذا.
واختلفوا في هل تصح الهجرة في هذا الزمان أو لا؟
فقال قوم: لا تصح لان النبي صلى الله عليه وآله قال: لا هجرة بعد الفتح ولان الهجرة
انتقال من دار الكفر إلى دار الاسلام على هجر الأوطان، وليس يقع مثل هذا في
هذا الزمان لاتساع بلاد الاسلام إلا أن يكون نادرا لا يعتد به.
وقال الحسن: بقيت هجرة الاعراب إلى الأمصار إلى يوم القيامة.
والأقوى أن يكون حكم الهجرة باقيا، لان من أسلم في دار الحرب ثم هاجر
إلى دار الاسلام كان مهاجرا، وسمي الجهاد في سبيل الله لأنه طريق إلى ثواب الله
في دار كرامته.
وقوله " لهم مغفرة ورزق كريم " اخبار منه تعالى أن لهؤلاء المغفرة لذنوبهم
والرزق الكريم يعني العظيم الواسع والكريم الذي يصح منه الكرم من غير مانع.
والكرم الجود العظيم والشرف قال الشاعر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وقيل: الرزق الكريم هنا طعام الجنة لأنه لا يستحيل إلى أجوافهم نجوا بل
يصير كالمسك ريحا.
164

قوله تعالى:
والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك
منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله
بكل شئ عليم (75) آية.
اخبر الله تعالى بأن الذين هاجروا بعد هجرة من هاجر، وقيل أراد بعد الفتح
وجاهدوا مع المؤمنين بأن قال " فأولئك منكم " ومعناه حكمهم حكمكم في وجوب
موالاتهم ومواريثهم ونصرتهم. وقوله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في
كتاب الله " قيل في معنى " كتاب الله " قولان:
أحدهما - في كتاب الله من اللوح المحفوظ، كما قال " ما أصاب من مصيبة
في الأرض، ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " (1).
والثاني - قال الزجاج: يعني في حكم الله.
ومعنى " أولوا " ذووا، واحده ذو، ولا واحد له من لفظه.
وفي الآية دلالة على أن من كان قرباه أقرب إلى الميت كان أولى
بالميراث سواء كان عصبة أولم يكن أو له تسمية أو لم يكن لان مع كونه أقرب
تبطل التسمية. ومن وافقنا في توريث ذوي الأرحام يستثني العصبة، وذوي السهام.
وهذه الآية نسخت حكم التوارث بالنصرة والهجرة فإنهم كانوا لا يورثون
الاعراب من المهاجرين على ما ذكره في الآيات الأول. ومن قال: الولاية في الآية
الأولى ولاية النصرة دون الميراث يقول: ليست هذه ناسخة لها بل هما محكمتان.
ودخلت الفاء في قوله: " فأولئك " كما تقول الذي يأتيني فله درهم، لان فيه
معنى المجازات وقال مجاهد: في هذه الآيات الثلاث ذكر ما ولاية رسول الله بين

(1) سورة 57 الحديد آية 22
165

المهاجرين والأنصار في الميراث، ثم نسخ ذلك بآخرها من قوله " وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وقال عبد الله بن الزبير نزلت في العصبات كان
الرجل يعاقد الرجل يقول ترثني وارثك فنزلت " وأولو الأرحام " إلى آخرها.
وقال الحسن: والذين آمنوا من بعد يعني بعد فتح مكة. وقوله " منكم "
معناه مؤمنون مثلكم، ولا هجرة بعد فتح مكة، وقال: الهجرة إلى الأمصار
قائمة إلى يوم القيامة. وكان الحسن يمنع ان يتزوج المهاجر إلى اعرابية. وروي
عن عمر أنه قال: لا تنكحوا أهل مكة، فإنهم اعراب.
وأكثر هذه السورة في قصة بدر. وكانت في صبيحة السابع عشر من شهر
رمضان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، من شهد هذه الواقعة فله الفضل.
166

9 - سورة براءة
وتسمى سورة التوبة
مدنية وهي مئة وتسع وعشرون آية في الكوفي وثلاثون في البصري والمدنيين
قال مجاهد وقتادة وعثمان: هي آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة وروي
عن حذيفة أنه قال: كيف يسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب؟!
وروي عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس سورة التوبة قال: تلك الفاضحة
ما زالت تنزل وفيهم حتى خشينا الا تدع أحدا. قال وسورة الأنفال نزلت
في بدر، وسورة الحشر في بني النضير.
قوله تعالى:
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) آية.
قيل في علة ترك افتتاح هذه السورة ب‍ (بسم الله الرحمن الرحيم) قولان:
أحدهما - ما روي عن أبي بن كعب أنه ضمت هذه السورة إلى الأنفال
بالمقاربة، فكانتا كسورة واحدة لان الأولى في ذكر العهود والأخرى في رفع
لعهود. وقال عثمان لاشتباه قصتهما، لان الأولى في ذكر العهود والأخرى في رفع
لعهود. وقال المبرد: لان " بسم الله الرحمن الرحيم " أمان وبراءة نزلت
لرفع الأمان.
ويحتمل رفع " براءة " وجهين:
أحدهما - أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف وتقديره هذه الآيات براءة.
167

والثاني - أن يكون مبتدأ وخبره الظرف في قوله " إلى الذين ". والأول
أجود لأنه يدل على حصول المدرك كما تقول لما تراه حاضرا: حسن والله اي
هذا حسن.
ومعنى البراءة انقطاع برئ براءة وأبرأه ابراءا وتبرأ تبرؤا وبرئت
من المرض وبرأت أبرأ وأبرؤ وبرأ تبريئا. وروى أهل اللغة برأت أبرؤ برءا، ولم
يجئ من المهموز (فعلت أفعل) إلا في هذا الحرف الواحد وبريت القلم أبريه بريا
بغير همز، وبراه السير إذا هزله. وبرئ له يبرئ إذا تعرض له، وباراه إذا عارضه
وأبرأت البعير إذا جعلت لانفه براه بالألف.
ومعنى الآية برئ الله من المشركين ورسوله " إلا الذين عاهدتم من
المشركين " من اعطائهم الأمان، والعهود والوفاء لهم بها إلا إذا نكثوا، لأنهم كانوا
ينكثون ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله، فأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله ان ينبذ أيضا
إليهم عهدهم. وقوله " إلا الذين عاهدتم من المشركين " فالعهد العقد الذي يتقدم به
لتوثيق الامر عهد عهدا وعاهد معاهدة وتعاهد الامر تعاهدا وتعهده تعهدا وقوله:
" عاهدتم " إنما جاء بلفظ الخطاب، لان فيه دلالة على الامر بالنبذ إلى المشركين
برفع الأمان ولولا ذلك لجاز عاقدنا، لان معاقدة النبي صلى الله عليه وآله إنما هي عن الله
عز وجل. ويجوز رفع الأمان والبراءة من غير نقض العهد إذا كان مشروطا إلى أن
يرفعه الله إليهم.
قوله تعالى:
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي
الله وأن الله مخزي الكافرين (2) آية.
السيح السير في الأرض على مهل تقول: ساح يسيح سيحا وسياحة وسيوحا
168

وسيحانا وانساح الماء انسياحا وسيحه تسييحا.
امر الله تعالى في هذه الآية ان يقال لهؤلاء المشركين أن يسيحوا في الأرض
أربعة اشهر آمنين وإنما أحلهم هذه الأشهر لأنها الأشهر الحرم إلى آخر المحرم من
أول شوال، في قول ابن عباس والزهري. وقال الفراء: كانت المدة إلى آخر
المحرم لأنه كان فيهم من كان مدته خمسين ليلة، وهو من لم يكن له عهد من
النبي صلى الله عليه وآله فجعل الله ذلك له. قال: ومعنى الأشهر الحرم المحرم وحده وإنما
جمعه لأنه متصل بذي الحجة وذي القعدة فكأنه قال: فإذا انقضت الثلاثة أشهر.
وقال أبو عبد الله عليه السلام أول الأربعة الأشهر يوم النحر وآخرها العاشر من شهر
ربيع الاخر، وهو قول محمد بن كعب القرطي ومجاهد، وقال الحسن: إنما جعل
لهم هذه المدة، لان منهم من كان عهده أكثر من أربعة اشهر فحط إليها. ومنهم من
كان أقل فرفع إليها. وقال أبو علي الجبائي: كان يوم النحر لعشرين من ذي القعدة
إلى عشرين من ربيع الأول، لان الحج كان تلك السنة في ذلك الوقت ثم صار في
السنة الثانية في ذي الحجة وفيها حجة الوداع، وكان سبب ذلك النسئ الذي كان
في الجاهلية.
وقرأ براءة على الناس يوم النحر بمكة علي بن أبي طالب عليه السلام لان
أبا بكر كان على الموسم في تلك السنة فاتبعه النبي صلى الله عليه وآله بعلي عليه السلام، وقال:
لا يبلغ عني الأرجل منى - في قول الحسن وقتادة ومجاهد والجبائي - وروى
أصحابنا ان النبي صلى الله عليه وآله كان ولاه أيضا الموسم، وأنه حين أخذ البراءة من أبي بكر
رجع أو بكر فقال: يا رسول الله انزل في قرآن؟ فقال: لا، ولكن لا يؤدي إلا أنا
أو رجل مني. وروى الشعبي عن محرز بن أبي هريرة: قال: قال أبو هريرة: كنت أنادي
مع علي عليه السلام حين أذن المشركين فكان إذا اضمحل صوته مما ينادي دعوت مكانه
قال فقلت يا ابه اي شئ كنتم تقولون؟ قال: كنا نقول لا يحج بعد عامنا هذا
169

مشرك - قال وما حج بعد عامنا مشرك - ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة
الا مؤمن ومن كانت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله مدة فان اجله إلى أربعة اشهر فإذا
انقضت أربعة اشهر فان الله برئ من المشركين ورسوله. وفتحت مكة سنة ثمان
ونزلت براءة سنة تسع وحج رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع سنة عشر. وقوله
" واعلموا انكم غير معجزي الله " معناه انكم غير فائتين كما يفوت ما يعجز عنه
لأنكم حيث ما كنتم في سلطان الله وملكه والاعجاز ايجاد العجز والعجز ضد القدرة
عند من أثبته معنى.
وقوله " وان الله مخزي الكافرين " فالاخزاء الاذلال بما فيه الفضيحة والعار.
والخزي النكال ضح.
قوله تعالى:
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله
برئ من المشركين ورسوله (3) فإن تبتم فهو خير لكم وإن
توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا
بعذاب أليم (4) آية في الكوفي والمدني، وآيتان في البصري.
الاذان الاعلام في قول ابن زيد والزجاج والجبائي، تقول: أذنني فلان
كذا فأذنت اي اعلمني فعلمت. وقال بعضهم: معناه النداء الذي يسمع بالاذن.
وقال الفراء والزجاج: إنما ارتفع لأنه عطف على قوله " براءة " وقيل معناه
عليكم اذان، لان فيه معنى الامر. والحج المقصد إلى اعمال المناسك على ما امر
الله به وقد بينا شرائط الحج وأركانه وفرائضه في كتب الفقه، ولا نطول بذكره
هاهنا والحج الأكبر قال عطا، ومجاهد، وعامر وبشر بن عبادة: هو ما فيه الوقوف
170

بعرفه، والأصغر العمرة، وقال مجاهد: الحج الأكبر هو القران، والحج الأصغر
هو الافراد. وقيل في معنى " يوم الحج الأكبر " ثلاثة أقوال:
أحدها - ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: عرفة، وهو المروي عن عمر
وابن عباس بخلاف فيه وبه قال عطا ومجاهد وابن الزبير وأبو حنيفة.
الثاني - في رواية أخرى عن النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام وابن عباس وسعيد
ابن جبير، وعبد الله بن أبي أوفى، وإبراهيم ومجاهد أنه يوم النحر، وهو المروي
عن أبي عبد الله عليه السلام. وسمي بالحج الأكبر لأنه حج فيه المشركون والمسلمون
ولم يحج بعدها مشرك.
الثالث - قال مجاهد وشعبة: هو جميع أيام الحج.
اعلم الله تعالى في هذه الآية المشركين انه ورسوله برئ من المشركين وانه
ان تبتم ورجعتم إلى الايمان وطاعة الرسول " فهو خير لكم " وان أعرضتم وتوليتم
فاعلموا انكم لا تفوتون الله وان الله يبشر الكافرين بعذاب اليم اي شديد مؤلم.
قال الحسن الحج الأكبر ثلاثة أيام الحج اجتمعت في تلك الأيام الثلاثة أعياد
المسلمين وأعياد اليهود وأعياد النصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن فيما خلا
ولا يكون إلى يوم القيامة.
قوله تعالى:
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا
ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله
يحب المتقين (5) آية اجماعا.
استثنى الله تعالى من براءته عز وجل، وبراءة ورسوله صلى الله عليه وآله من المشركين
من كان لهم العهد، في قول الزجاج. وقال الفراء: هذا استثناء في موضع نصب، وهو
171

قوم من بني كنانة كان قد بقي من اجلهم تسعة اشهر، فقال الله تعالى " فأتموا
إليهم عهدهم إلى مدتهم " لا تحطوهم إلى الأربعة اشهر، وقال مجاهد: عنى بذلك
جماعة من خزاءة ومدلج. وقال ابن عباس: توجه ذلك إلى كل من كان بينه وبين
رسول الله عهد قبل براءة. وينبغي أن يكون ابن عباس أراد بذلك من كان بينه
وبينه عقد هدنة أو إلى قوم من المشركين لم يتعرضوا له صلى الله عليه وآله بعداوة ولا ظاهروا
عليه عدوه، لان النبي صلى الله عليه وآله صالح أهل هجر وأهل البحرين وايلى ودومة الجندل،
وادرج، وأهل معنا، وهم ناس من اليهود في توجهه إلى تبوك أو في مرجعه منها،
وله عهود الصلح والحرب غير هذه، ولم ينبذ إليهم بنقض عهد، ولا حاربهم بعد ان
صاروا أهل ذمة إلى أن مضى لسبيله. ووفى لهم بذلك من بعده، فمن حمل ذلك
على جميع العهود فقد أخطأ. وقال الحسن: هذا استثناء من قوله تعالى " اقتلوا
المشركين "، " إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام " ثم نقلت إلى هاهنا وباقي
الناس على خلافه.
وقوله " ثم لم ينقصوكم شيئا " النقصان حط العدة عن عدة، والزيادة الحاق
العدة بعدة. والمعنى ثم لم ينقصوكم من شروطكم العهد شيئا، ولم يظاهروا عليكم
أحدا فالمظاهرة المعاونة على العدو للظهور عليه فهؤلاء إن لم يعاونوا عليكم أحدا
من أعدائكم ولا نقصوكم شيئا من حقكم في عهدهم فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم،
وهو أمن من الله تعالى إلى أن يبلغوا المدة التي وافقهم عليها. قال قتادة: وهم
مشركوا قريش كانوا عاهدوه في الحديبية وبقي من مدتهم أربعة اشهر بعد يوم
النحر. والاتمام بلوغ الحد في العدة من غير زيادة ولا نقصان فهنا معناه امضاء
الامر على ما تقدم به العهد إلى انقضاء اجل العقد. والمدد زمان طويل الفسحة،
واشتقاقه من مددت له في الأجل للمهلة. والمعنى إلى انقضاء مدتهم.
وقرأ عطاء " ثم لم ينقضوكم " بالضاد المعجمة وهي شاذة (وأن) بفتح الهمزة،
لان تقديره بأن الله برئ عمن المشركين، ولا يجوز أن يكون المراد نبذ العهد إلى
172

مكة، لان مكة فتحت سنة ثمان وصارت دار الاسلام، ونبذ العهد كان في سنة تسع
فعلم بذلك ان المراد غيرهم.
قوله تعالى:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله
غفور رحيم (6) آية.
الانسلاخ اخراج الشئ مما لابسه، وكذلك سلخ الشاة إذا نزع الجلد عنها
وسلخنا شهر كذا نسلخه سلخا وسلوخا. وقيل في الأشهر الحرم قولان:
أحدهما - رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد
الثاني - الأشهر الأربعة التي جعل لهم ان يسيحوا فيها آمنين، وهي عشرون
من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من ربيع الاخر،
في قول الحسن والسدي وغيرهما.
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله والمؤمنين انه إذا انقضت مدة هؤلاء المعاهدين،
وهي الأربعة اشهر ان يقتلوا المشركين حيث وجدوهم. قال الفراء: سواء كان
في الأشهر الحرم أو غيرها وسواء في الحل أو في الحرم، وان يأخذوهم، ويحصروهم
والحصر المنع من الخروج عن محيط واحصر الرجل إحصارا وحاصره العدو
محاصرة وحصارا، وحصر في كلامه حصرا وانحصر الشئ انحصارا. والحصر والحبس
والأسر نظائر. وقوله " واقعدوا لهم كل مرصد " يعني كل موضع يرقب فيه العدو
والمرصد الطريق ومثله المرقب والمربأ، يقال: رصده يرصده رصدا، ونصب كل
173

مرصد على تقدير على كل مرصد - على قول الأخفش - كما قال الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نيا * ونرخصه إذا نضج القدور (1)
اي نغالي باللحم. وقال الزجاج هو ظرف كقولك ذهبت مذهبا وقال الشاعر:
إن المنية للفتى بالمرصد (2)
فجعله بمنزلة المحدود، والمرصد مبهم، والطريق محدود، فهذا فرق ما بينهما
واستدل بهذه الآية على أن تارك الصلاة متعمدا يجب قتله، لان الله تعالى
أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرطين: أحدهما - ان يتوبوا من الشرك.
والثاني - ان يقيموا الصلاة، فإذا لم يقيموا الصلاة وجب قتلهم.
قوله تعالى:
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام
الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (7) آية
قوله " أحد " ليست التي تقع في النفي في مثل قولك (ما جاءني أحد)
لان الايجاب لا يصح فيه أعم العام الذي هو هو على الجملة والتفصيل كقولك:
ليسوا مجتمعين، ولا متفرقين. ولا يصح مثل ذلك في الايجاب، ويصح في الاستفهام
لان فيه معنى النفي، ولولا ذلك لم يصح جوابه ب‍ " لا " والتقدير وإن استجارك
أحد من المشركين استجارك فأضمر الفعل، ولم يجز في الجواب ان يقول: إن
يقوم أحد زيد يذهب، لقوة " إن " إنها للفعل خاصة ومثله انشد الأخفش:
لا تجزعي إن منفسا أهلكته * فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (3)

(1) مر تخريج هذا البيت في 1 / 470 تعليقة 3
(2) تفسير القرطبي 8 / 73 ومجاز القرآن 1 / 253
(3) القرطبي 8 / 77. نسبه للنمير بن تولب.
174

فأخبر، ثم جزم على جواب الجزاء، لأنها شرط وليس كذلك الجواب،
لأنه قد يكون بالفاء ولا يجوز اضمار الفعل في شئ من حروف المجازاة إلا في " إن "
لأنها أم الباب، وهي الأصل الذي يلزمه، قال الشاعر:
فان أنت تفعل فللفاعلين أنت المجيرين تلك الغمارا (1)
واما قول الشاعر:
فمتى واغل ينبهم يحيوه * ويعطف عليه كأس الساقي
فإنما هو ضرورة، لا يجوز مثله في الكلام قال الفراء " استجارك " في
موضع جزم، وانه فرق بين الجازم والمجزوم ب‍ " أحد " وذلك جائز في " ان "
خاصة وقد يفرق بينهما وبين المجزوم بالمنصوب والمرفوع، فالمنصوب مثل قولك:
إن أخاك ضربت ظلمت، والمرفوع مثل قوله تعالى " إن امرؤ هلك ليس له ولد " (2)
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله انه متى استجارك أحد من المشركين الذين أمرتك
بقتالهم اي طلب منه الجار في رفع الأذى عن صاحبه. وقيل: المعنى ان استأمنك
أحد فأمنه " حتى يسمع كلام الله " والمشرك يصح ان يسمع كلام الله على الحقيقة
لان حكاية كلام الله يطلق عليه الاسم بأنه كلام الله لظهور الامر فيه، ولا يحتاج
ان يقدر أصل له، كما يقال: كلام سيبويه وغيره. ومن ظن أن الحكاية تفارق
المحكي لأجل هذا الظاهر فقد غلط، لان المراد ما ذكرناه فيما يقال في العرف انه
كلام الله. وقوله " ثم أبلغه مأمنه " فالابلاغ النصير إلى منتهى الحد. والابلاغ
والأداء نظائر. وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال: المعارف ضرورية لأنها
لو كانت كذلك لما كان لطلب ما هو عالم به معنى. ومعنى قوله " لا يعلمون "
اخبار عن جهلهم في افعالهم، لا انهم لا يعقلون، وإنما أراد لا ينتفعون بمثله.
ولا يعرفون مالهم وعليهم من الثواب والعقاب.

(1) معاني القرآن 1 / 422. نسبه للكميت.
(2) سورة 4 النساء آية 175
175

قوله تعالى:
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين
عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم
إن الله يحب المتقين (8) آية.
قال الفراء: هذا على التعجب كما تقول: كيف تستبقي مثلك؟! اي لا
ينبغي ان يستبقى، وفي قراءة عبد الله: كيف يكون لهم عهد عند الله، ولا ذمة، فادخل
الكلام " لا " مع الواو، ولا معنى الأول جحد. وقال غيره: في الكلام حذف
لان الكلام خرج مخرج الانكار عليهم. وتقديره كيف يكون للمشركين عهد
عند الله وعند رسوله مع اضمار الغدر في عهدهم، فجاء الانكار أن يكون لهم عهد
مع ما ينبذ من العهد على ذلك، وذلك يقتضي اضمار الغدر فميا وقع من العهد.
ثم استثنى من ذلك " الذين عاهدتم عند المسجد الحرام " فكان ذلك ايجابا فيهم
لان ما قبله في معنى النفي، والتقدير ليس للمشركين عهد الا الذين. وموضع
" الذين " يحتمل الجر والنصب. وحكى الكسائي: أين كنت لتنجو مني اي
ما كنت.
و " المسجد " الموضع المهيأ لصلاة الجماعة، والمراد هاهنا مسجد مكة خاصة
واصله موضع السجود كالمجلس موضع الجلوس و " الحرام " المحظور بعض أحواله
فالخمر حرام لحظر شربها وسائر أنواع التصرف فيها. والام حرام بحظر نكاحها
والمسجد الحرام لحظر صيده وسفك الدم فيه وابتذاله ما يبتذل به غيره. وقوله
" فما استقاموا لكم " معناه ما استمروا لكم على العهد. والاستقامة الاستمرار على
جهة الصواب. ومتى كان الاستمرار على وجه الخطأ لا يسمى استقامة. ومعنى
" فاستقيموا لهم " استمروا لهم على العهد مثلهم والمراد بالذين عوهدوا عند المسجد
176

لحرام، قيل فيهم ثلاثة أقوال: قال مجاهد: هم خزاعة. وقال ابن إسحاق: هم قوم
من بني كنانة. وقال ابن عباس: هم قريش.
وقوله " ان الله يحب المتقين " اخبار منه تعالى انه يحب من يتقي معاصيه
ويعمل بطاعاته وانه يريد ثوابه ومنافعه. وفي الآية دليل على أن تمكين الحربي
من المقام في دار الاسلام بعد قضاء حاجته ليس بجائز.
قوله تعالى:
كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة
يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (9) آية.
تقدير الآية كيف لهم عهد وكيف لا تقتلونهم وحذف، لان قوله في الآية
لاولى " كيف يكون للمشركين عهد " دل على ذلك ومثله قول الشاعر:
وخبر تماني أنما الموت في القرى * فكيف وهاتا هضبة وقليب (1)
ويروى وهذي اي كيف مات وليس في قرية. وقال الحطيئة في حذف الفعل
بعد كيف:
فكيف ولم أعلمهم خذلوكم * على معظم ولا أديمكم قدوا (2)
أي كيف تلومونني على مدح قوم وتذمونهم. والمعنى كيف لهم يعني لهؤلاء
المشركين عهد، وهم إن يظهروا عليكم بمعنى يعلوا عليكم بالغلبة، لان الظهور هو
العلو بالغلبة. واصله خروج الشئ إلى حيث يصح ان يدرك " لا يرقبوا فيكم " معناه
لا يراعون فيكم، والرقوب هو العمل في الامر على ما تقدم به العهد. والمراقبة

(1) قائله كعب بن سعد الغنوي. الأصمعيات 99 وتفسير الطبري 14 / 145
وأمالي القالي 2 / 151 ومعاني القرآن 1 / 424
(2) معاني القرآن 1 / 424
177

والمراعاة نظائر في اللغة. وقوله: " إلا ولا ذمة " قيل في معنى الئل ستة أقوال:
أولها - قال مجاهد وابن زيد: إن معناه العهد. والثاني - في رواية أخرى
عن مجاهد أنه اسم الله. ومنه قول أبي بكر لما سمع كلام مسيلمة: لم يخرج هذا
من إل، فأين يذهب بكم. الثالث - قال ابن عباس: هو القرابة. الرابع - قال
الحسن: هو الجوار. الخامس - قال قتادة: هو الحلف. السادس - قال أبو عبيدة:
هو التميز. والأصل في جميع ذلك العهد وهو مأخوذ من الاليل وهو البريق،
يقال: أل يؤول إذا لمع والآلة الحربة للمعانها، وأذن مؤللة مشبهة بالحربة في
تحديدها وقال الزجاج: أصله التحديد قال الشاعر:
وجدناهم كاذبا إلهم * وذو الال والعهد لا يكذب (1)
أي ذو العهد، وقال ابن مقبل:
أفسد الناس خلوف خلفوا. * قطعوا الال واعرق الرحم (2)
يعني القرابة، وقال حسان:
لعمرك إن إلك في قريش * كال السقب من رأل النعام (3)
وقوله " يرضونكم بأفواههم " معناه يقولون قولا يرضيكم بذلك في الظاهر
وتأبى قلوبهم أن يذعنوا لكم بتصديق ما يبدونه لكم. ثم اخبر الله تعالى عن حالهم
لان الفاسق هو الخارج من الشئ من قولهم فسقت الرطبة. وإنما كان أكثر هم بهذه
الصفة ولم يكن جميعهم وإن كانوا كلهم فاسقين لان المراد به رؤساءهم.

(1) تفسير الطبري 14 / 148، 149
(3) ديوانه: 407 واللسان (ألا) وتفسير الطبري 14 / 149
178

قوله تعالى:
اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء
ما كانوا يعملون (10) آية.
قيل في من نزلت هذه الآية بسببه قولان:
قال مجاهد: نزلت في أبي سفيان لما جمعهم على طعامه فاطعم حلفاءه وترك
حلفاء النبي صلى الله عليه وآله. وقال أبو علي الجبائي: نزلت في قوم من اليهود دخلوا في
العهد فيما دلت عليه هذه الصفة. ومعنى " اشتروا بآيات الله " استبدلوا بحجج
الله وبيناته العظيمة الشأن " ثمنا قليلا " اي عرضا قليلا. واصل الاشتراء استبدال
ما كان من المتاع بالثمن، ونقيضه البيع، وهو العقد على تسليم المتاع بالثمن.
والثمن ما كان من العين والورق - في الأصل - ثم قيل لما اخذوه بدل آيات الله
ثمن، لأنه بمنزلته في أنه يستبدل به. وقوله " فصدوا عن سبيله " اي صدوا عن
الاسلام، ومعنى هذه الفاء كمعنى جواب الجزاء، لان اشتراءهم هذا اداهم إلى
الصد عن سبيل الله. والصد هو المنع. ثم اخبر تعالى عنهم انهم بئس ما كانوا يعملونه
من هذا الاستبدال.
قوله تعالى:
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون (11) آية.
قد بينا ان المراقبة هي المراعاة لما تقدم من العهد الذي يلزم الديانة، لئلا
يقع اخلال بشئ منه. والئل العهد. والذمة عقد الجوار، وهما متقاربان. وفصل
بينهما بأن الذمة عقد قوم يذم نقضه. والئل الذي هو العهد عقد يدعو إلى الوفاء
والبيان الذي فيه، لأنه يلوح المعنى الذي يدعوا إلى الوفاء إذا ضل كل واحد
179

منهما يقتضي هذا. وإنما أعيد ذكر " لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة " لأنه في صفة
" والذين اشتروا بآيات الله ثمنا " والأول في صفة جميع الناقضين للعهد. وقال في
الثاني " فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فاخوانكم في الدين "، فلذلك
كرر بوصفين مختلفين. وقال الجبائي: لأنه في صفة اليهود خاصة، والأول في صفة
الناقضين عامة، وإنما ذموا بترك المراقبة، لان مع تركها الغالب ان يقع إخلال
بما تقدم من العقد، فلزمت المراقبة لهذه العلة. وترك المراقبة في عهد المؤمن أعظم
منها في ترك عهد غيره لكثرة الزواجر عن الغدر بالمؤمن، لأنه ليس من شأنه الغدر.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء المشركين انهم لا يراعون في المؤمن عقد العهد
ولا ذمة الجواز، وانهم مع ذلك معتدون. والاعتداء الخروج من الحق واصله
المجاوزة، ومنه التعدي وهو تجاوز الحد ومعاداة القوم مجاوزة الحد في البغضة
وكذلك العداوة. والاستعداء طلب معاملة العدو في الايقاع به، والعدو مجاوزة
حد السعي. والغرض بالآية حث المسلمين على قتالهم، وأن لا يبقوا عليهم كما أنهم
لو ظهروا على المسلمين لم يبقوا عليهم.
قوله تعالى:
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فاخوانكم في
الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون (12) آية.
شرط الله لهؤلاء المشركين بأنهم إن تابوا ورجعوا عما هم عليه من الشرك إلى
طاعة الله والاعتراف بوحدانيته، والاقرار بالنبي صلى الله عليه وآله، وأقاموا الصلاة المفروضة
على ما شرعها الله وأعطوا الزكاة الواجبة عليهم، فإنهم يكونون اخوان المؤمنين في
الدين، والايمان وتقديره فهم اخوانكم. والتوبة هي الندم على القبيح لقبحه
مع العزم على ترك العود إلى مثله في القبح، وفي الناس من قال إلى مثله في صفته
180

فمن قال ذلك قال توبة المجبوب من الزنا هي الندم على الزنا مع العزم على ترك
المعاودة إلى مثله على ما يصح ويجوز من الامكان، وهو انه لو رد الله عز وجل
عضوه ما زنى، فاما من نسي الذنب فان توبته صحيحة لا يؤاخذ بالذنب، لأنه مكلف
قد أدى جميع ما عليه في الحال، فقد تخلص بذلك من العقاب. فان قيل لم شرط
مع التوبة من الشرك وحصول الايمان إيتاء الزكاة؟ مع أنه ليس كل مسلم عليه
الزكاة! قلنا: إنما يجب عليه بشرط الامكان فإذا أقر بحكم الزكاة مع التعذر
عليه دخل في حكم الصفة التي يجب بها.
وقوله " ونفصل الآيات " معناه نبينها ونميزها بخاصة لكل واحد منها بما
يتميز به من غيرها حتى يظهر مدلولها على أتم ما يكون من الظهور فيها " لقوم
يعلمون " ذلك ويثبتونه دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله.
قوله تعالى:
وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم
فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (13) آية.
قرأ أهل الكوفة وابن عامر " أئمة " بهمزتين، إلا هشاما عن ابن عامر
فإنه فصل بين الهمزتين بألف. والباقون بهمزة واحدة وياء بعدها. وفصل بينهما
بألف أبو جعفر والمرى عن المسيبي والسوسنجرذي عن يزيد بن إسماعيل. وقرأ
ابن عامر والحسن " لا إيمان لهم " بكسر الألف. الباقون بفتحها. والكسر يحتمل
وجهين: أحدهما - انهم ارتدوا، ولا إسلام لهم، ذكره الزجاج قال: ويجوز
" لا إيمان لهم " على المصدر، وتقديره لا تأمنوهم بعد نكثهم العهد. والاخر -
لأنهم كفروا " لا إيمان لهم " ويحتمل أن يكون المراد أنهم آمنوا إيمانا لا يفون
به فلا إيمان لهم. ومن فتح الهمزة فلقوله: " وان نكثوا ايمانهم " ولقوله
181

" عهدهم " وأثبت لهم الايمان. فان قيل كيف نفى فقال " إنهم لا أيمان لهم "
وقد أثبتها في الأول من الآية بقوله " وان نكثوا أيمانهم "؟!
قلنا: اليمين التي أثبتها هي ما حلفوا بها وعقدوا عليها، ولم يفوا، وإنما
المراد به انهم لا أيمان لهم يفون بها، ويتمسكون بموجبها. وقال أبو علي النحوي
" أئمة " على وزن " افعلة " جمع إمام نحو مثال وأمثلة فصار أئمة، واجتمع
همزتان الف أفعلة، والهمزة التي هي فاء الفعل، والتي هي فاء الفعل ساكنة فنقل
إليها حركة التي بعدها ليمكن النطق بها. فمن خففها اتى بالهمزتين الأولى مفتوحة
والثانية مكسورة. ومن كره ذلك قلب الثانية ياء ولم يجعلها بين بين، لان همزة
بين بين في تقدير التحقيق وذلك مكروه عندهم. وقال الرماني: إنما جاز اجتماع
الهمزتين في كلمة، لئلا يجتمع على الكلمة تغيير الادغام والانقلاب مع خفة التحقيق
لأجل ما بعده من السكون، وهو مذهب ابن أبي إسحاق من البصريين. والباقون
لا يجيزونه، ذكره الزجاج، قال لأنه يلزم عليه ان يقرأ " أأم " بهمزتين
وذلك باطل بالاتفاق. وعلى هذا القول هذا أأم بهمزتين، قال: وإنما قلبت
الهمزة في أئمة على حركتها دون حركة ما قبلها، لان الحركة إنما نقلها إلى
الهمزة لبيان زنة الكلمة، فلو ذهبت تقلبها على ما قبلها لكان مناقضا للغرض فيها
وإذا بنيت من الإمامة هذا افعل من هذا قلت هذا أوم من هذا في قول المازني -
لان أصله كان أأم فلم يمكنه ان يبدل منها الفاء لاجتماع الساكنين، فجعلها واوا
كما قالوا في جمع آدم أوادم. قال الزجاج: وهو القياس وهذا أيم من هذا في
قول الأخفش، قال: لأنها صارت الياء في أيمة بدلا لازما.
وقوله " وان نكثوا ايمانهم " فالنكث نقض العهد الذي جعل لتوثيق
الامر وذلك بالخلاف لما تقدم من العزم. و " الايمان " جمع يمين، وهو القسم
والقسم هو قول عقد بالمعنى لتأكيده، وتغليظ الامرة فيه نحو والله ليكونن وتالله ما
كان، فيجوز أن يكون من اعطى صفقة بمينه، ويجوز أن يكون من يمن
182

التيسير في فعله. وقوله " وطعنوا في دينكم " فالطعن هو الاعتماد بالعيب. واصله
الطعن بالرمح، ونحوه في الشئ لنقض بنيته.
وقوله " فقاتلوا أئمة الكفر " امر من الله تعالى بقتال أئمة الكفر، وهم
رؤساء الضلال والكفار، والامام هو المتقدم الاتباع، فأئمة الكفر رؤساء الكفر
والامام في الخير مهتد هاد، وفي الشر ضال مضل، كما قال تعالى " وجعلناهم
أئمة يدعون إلى النار " (1) والمني بأئمة الكفر رؤساء قريش، في قول ابن عباس
ومجاهد. وقال قتادة: هم أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو
سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وهم الذين هموا باخراجه، وكان حذيفة
يقول: لم يأت أهل هذه الآية.
وروي عن أبي جعفر عليه السلام انها نزلت في أهل الجمل وروي ذلك عن علي عليه السلام
وعمار، وغيرهما. ويقول حذيفة قال يزيد بن وهب: قوله " انهم لا أيمان لهم "
معناه لا تأمنوهم. ومن كسر معناه، لأنهم كفروا لا إيمان لهم.
وقوله " لعلهم ينتهون " معناه لكي ينتهوا.
وفي الآية دلالة على أن الذمي إذا اظهر الطعن في الاسلام فإنه يجب قتله،
لان عهده معقود على أن لا يطعن في الاسلام، فإذا طعن فقد نكث عهده.
قوله تعالى:
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول
وهم بدؤكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (14) آية.
قوله " ألا " كلمة موضوعة للتحضيض على الفعل، وأصلها " لا " دخلت عليها

(1) سورة 28 القصص آية 41.
183

الف الاستفهام، فصارت تحضيضا كما انها إذا دخلت على " ليس " صارت تقريرا
و " ألا " موافقة للتحضيض بالاستقبال و " أليس " إنما هي للحال، فهي موافقة
للحال بهذا المعنى. وإذا قال: " ألا تقاتلون " كان معناه التحضيض على قتالهم
وإذا قال: " الا قاتلتم " كان ذلك تأنيبا، لان ما يلزم إذا ترك ذم على تركه
ويحض على فعله قبل وقته. حض الله تعالى المؤمنين على قتال الكفار الذين
" نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول " من مكة اي قصدوه. والهم مقاربه الفعل
بالعزم من غير اتباع له، وقد ذموا بهذا الهم ففيه دليل على العزم وقد يستعمل
الهم على مقاربة العزم.
وقوله " وهم بدؤكم أول مرة " فالبدوء فعل ما لم يتكرر والمرة الفعلة من
المر، والمرة والكرة والدفعة نظائر. ومعنى " بدؤكم أول مرة " بدؤا حلفاء
النبي صلى الله عليه وآله بالقتال من خزاعة، في قول الزجاج، وقال ابن إسحاق والجبائي:
بدؤوا بنقض العهد. وقال الطبري: بدؤهم بخروجهم إلى بدر، لقتالهم.
وقوله " أتخشونهم " معناه أتخافونهم. ثم قال: " والله أحق ان تخشوه "
اي تخافوه " ان كنتم مؤمنين " وفي ذلك غاية الفصاحة لأنه جمع بين التقريع
والتشجيع. والمعنى أتخشون ان ينالكم من قتالهم مكروه، فالله أحق ان تخشوا
عقابه في ارتكاب معاصيه إن كنتم مصدقين بعقابه وثوابه.
قوله تعالى:
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم
ويشف صدور قوم مؤمنين (15) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب
الله على من يشاء والله عليم حكيم (16) آيتان.
هذه امر من الله تعالى للمؤمنين بأن يقاتلوا هؤلاء الناقضين للعهد البادئين
184

بقتال حلفاء النبي صلى الله عليه وآله من خزاعة، فإنهم إذا قاتلوهم يعذب الله الكفار بأيديهم
يعني بأيدي المؤمنين الذين يقاتلونهم، وينصركم أيها المؤمنون ينصركم الله " عليهم
ويشف " بذلك " صدور قوم مؤمنين " وفي ذلك دليل على أنه اشتد غضب جماعة
المؤمنين لله، فوعدهم الله النصر، في قول قتادة والزجاج. وفيها دلالة على نبوة
النبي صلى الله عليه وآله لأنه وعده النصر فكان الامر على ما قال. وقوله " ويذهب غيظ قلوبهم "
قيل المراد بهم خزاعة الذين قاتلوهم، في قول السدي وغيره، لأنهم كانوا حلفاء
النبي صلى الله عليه وآله. والتعذيب ايقاع العذاب لصاحبه والعذاب ألم يستمر به، قال عبيد
ابن الأبرص:
والمرء ما عاش في تكذيب * طول الحياة له تعذيب
ومعنى " يعذبهم الله بأيديكم " اي انكم إذا تناولتموهم بالسلاح من السيوف
والنبل والرماح انزل الله بهم العذاب. وقال أبو علي: ذلك مجاوز والمعنى انه لما كان
ذلك بأمر الله اضافه إلى نفسه، وهو أحسن من الأول.
وقوله " ويخزهم " معناه يذلهم والاخزاء الاذلال بما فيه الفضيحة على صاحبه
خزي خزيا وأخزاه الله إخزاء. ويجوز في " ويخزهم " ثلاثة أوجه من الاعراب:
الجزم باللفظ وعليه القراء. والنصب على الظرف، والرفع على الاستئناف ولم
يقرأ بهما.
وقوله " ويشف صدور قوم مؤمنين " فالشفاء سلامة النفس بما يزيل عنها
الأذى، فكلما وافق النفس وأزال عنها الهم فهو شفاء وقيل " ويشف صدور قوم مؤمنين "
يعني خزاعة، لأنهم نقضوا العهد بقتالهم - في قول مجاهد والسدي - والصدور جمع الصدر
وهو الموضع الأجل الذي يصدر عنه الامر، ومنه الايراد والاصدار.
وقوله " ويذهب غيظ قلوبهم " معناه يبطل غيظهم ويعدمه. والاذهاب جعل
الشئ يذهب والذهاب الانتقال عن الشئ، والمجئ الانتقال إلى الشئ، والغيظ
نقض الطبع بانزعاج النفس. تقول: غاظه يغيظه غيظا واغتاظ اغتياظا وغايظه مغايظة.
185

وقوله " ويتوب الله على من يشاء " معناه يقبل الله توبة من يشاء من عباده.
ووجه اتصال قوله " ويتوب الله على من يشاء " بما قبله من وجهين:
أحدهما - بشارتهم بأن فيهم من يتوب ويرجع عن الكفر إلى الايمان.
والاخر - انه ليس في قتالهم اقتطاع لاحد منهم عن التوبة.
ورفع " ويتوب " بخروجه عن موجب القتال فاستأنفه.
وقوله " والله عليم حكيم " معناه عليم بتوبتهم إذا تابوا حكيم في أمركم
بقتالهم إذا نكثوا قبل أن يتوبوا ويرجعوا، لان أفعاله كلها صواب وحكمة.
قوله تعالى:
أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم
يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما
تعملون (17) آية.
قوله " أم حسبتم " من الاستفهام الذي يتوسط الكلام فيجعل ب‍ (أم) ليفرق بينه
وبين الاستفهام المبتدأ الذي لم يتصل بكلام ولو كان المراد الابتداء لكان اما بالألف
أو ب‍ (هل) كقوله " هل اتى على الانسان " (1) والمعنى ظننتم أن تتركوا. والظن
والحسبان نظائر، والحسبان قوة المعنى في النفس من غير قطع، وهو مشتق من الحساب
لدخوله فيما يحتسب به " ان تتركوا " معنى الترك هو ضد ينافي الفعل المبتدأ في
محل القدرة عليه. ويستعمل بمعنى (ألا يفعل) كقوله " وتركهم في ظلمات لا
يبصرون " (2) وقوله " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " إذا قيل: لما يفعل،
فهو نفي للفعل مع تقريب لوقوعه. وإذا قيل: لم يفعل، فهو نفي بعد أطماع في

(1) سورة 76 الدهر آية 1.
(2) سورة 2 البقرة آية 17
186

وقوعه. والمعنى ولما يجاهدوا ويمتنعوا ان يتخذوا وليجة ويعلم الله ذلك منكم
فجاء مجئ نفي العلم لنفي المعلوم، لأنه متى كان علم الله انه كائن. وكان أبلغ
وأوجز، لأنه اتى على طريقة نفي صفات الله تعالى.
وقوله " ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة " تقديره ولما
يعلم الله الذين آمنوا لم يتخذوا من دون الله ولا رسوله وليجة، فالوليجة الدخيلة في
القوم من غيرهم تقول: ولج يلج ولوجا وأولج إيلاجا وتولج تولجا بمعنى الدخول.
والوليجة والدخيلة والبطانة نظائر. وكل شئ دخل في شئ وليس منه فهو وليجة،
قال طرفة:
فان القوافي يتلجن موالجا * تضايق عنها ان تولجها الابر (1)
وقال آخر:
متخذا من ضعوات تولجا * متخذا فيها ايادا دولجا (2)
يعني الكأس. وقال الفراء: نهوا ان يتخذوا بطانة يفشون إليهم اسرارهم.
وقال الجبائي: اتخاذ الوليجة من دون الله ودون رسوله هو النفاق. نهوا أن يكونوا
منافقين، وهو قول الحسن، فإنه قال: الوليجة هي الكفر والنفاق. وفي الآية
دلالة على أنه لا يجوز ان يتخذ من الفساق وليجة، لان في ذلك تأليفا بالفسق
يجري مجرى الدعاء إليه مع أن الواجب معاداة الفساق والبراءة منهم، ومع ذلك
فهو غير مأمون على الاسرار والاطلاع عليها. قال الزجاج: كانت براءة تسمى الحافرة،
لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، لأنه لما فرض القتال تميز المؤمنون من المنافقين
ومن يوالي المؤمنين ممن يوالي أعداءهم.
قوله تعالى:
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم

(1) مجاز القرآن 1 / 254 واللسان (ولج)
(2) مجاز القرآن 1 / 254 واللسان (ولج)
187

بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون (18) آية.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " مسجد الله " على التوحيد. الباقون على الجمع،
فمن قرأ على التوحيد، قال الحسن أراد به المسجد الحرام وبه قال الجبائي. ويحتمل
أن يكون أراد المساجد كلها، لان لفظ الجنس يدل على القليل والكثير. ومن قرأ
على الجمع يحتمل أن يكون أراد جميع المساجد. ويحتمل أن يكون أراد المسجد
الحرام. وإنما جمع لان كل موضع منه مسجد يسجد عليه. والقراءتان متناسبتان.
والأصل في المسجد هو موضع السجود في العرف يعبر به عن البيت المهيأ لصلاة
الجماعة فيه.
اخبر الله تعالى انه ليس لمشرك ان يعمر مسجد الله. والعمارة ان يجدد منه
ما استرم من الأبنية، ومنه قولهم: اعتمر إذا زار، لأنه يجدد بالزيارة ما استرم
من الحال. وقوله " شاهدين على أنفسهم بالكفر " نصب على الحال، فالشهادة خبر
عن علم مشاهد بأن يشاهد المعنى أو يظهر ظهور ما يشاهد كظهور المعنى في شهادة
أن لا إله إلا الله. والمعني بذلك أحد شيئين:
أحدهما - ان فيما يخبرون به دليلا على كفرهم، لان أنهم يقولون نحن
كفار، ولكن كما يقال للرجل ان كلامك ليشهد انك ظالم - هذا قول الحسن.
والثاني - قال السدي: ان النصراني إذا سئل ما أنت؟ قال نصراني واليهودي
يقول انا يهودي وعابد الوثن يقول مشرك فذلك شهادتهم على أنفسهم بالكفر.
وقال الكلبي: معناه شاهدين على النبي بالكفر، وهو من أنفسهم. وقوله " أولئك
حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون " اخبار منه تعالى ان اعمال هؤلاء الذين شهدوا
على أنفسهم بالكفر باطلة بمنزلة ما لم يعمل، لأنهم أوقعوها على وجه لا يستحق
بها الثواب، وانهم مع ذلك مخلدون في نار جهنم معذبون بأنواع العذاب.
188

قوله تعالى:
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام
الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من
المهتدين (19) آية
اخبر الله تعالى في هذه الآية انه ينبغي الا " يعمر مساجد الله " إلا " من
آمن بالله " وأقر بوحدانيته واعترف باليوم الاخر يعني يوم القيامة ثم أقام بعد
ذلك " الصلاة " بحدودها. وأعطى " الزكاة " الواجبة - ان وجبت عليه - مستحقيها
ولم يخف سوى الله أحدا من المخلوقين، فإذا فعلوا ذلك فإنهم " يكونون من المهتدين "
إلى الجنة ونيل ثوابها، لان عسى من الله واجبة ليست على طريق الشك، وهو قول
ابن عباس والحسن. وقال قوم: إنما قال عسى ليكونوا على طريق الحذر، مما يحبط
اعمالهم، ويدخل في عمارة المساجد عمارتها بالصلاة فيها، والذكر لله. والعبادة له،
لان تجديد أحوال الطاعة لله من أو كد الأسباب التي تكون بها عامرة، كما أن
اهمالها من أوكد الأسباب في اخرابها، وذكر قوله " وأقام الصلاة وآتى الزكاة
ولم يخش إلا الله " بعد ذكر قوله " من آمن بالله واليوم الآخر " يدل على أن
الايمان لا يقع على افعال الجوارح، لأنه لو كان الايمان متناولا لذلك اجمع لما
جاز عطف ما دخل فيه عليه. ومن حمل ذلك على أن المراد به التفصيل وزيادة البيان
فيما يشتمل على الايمان تارك للظاهر. والخشية انزعاج النفس لتوقع ما لا يؤمن
من الضرر تقول: خشي يخشى خشية فهو خاش، ومثله خاف يخاف خوفا ومخافة،
فهو خائف. والخاشي نقيض الامن. والاهتداء المذكور في الآية هو التمسك بطاعة
الله التي تؤدي إلى الجنة وفاعلها يسمى مهتديا.
189

قوله تعالى:
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله
واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي
القوم الظالمين (20) آية.
خاطب الله تعالى بهذه الآية قوما جعلوا القيام بسقي الحجيج وعمارة المسجد
الحرام من الكفار مع مقاومهم على الكفر مساويا أو أفضل من ايمان من آمن بالله
واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، فأخبر تعالى انهما لا يستويان عند الله في الفضل
لان الذي آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله أفضل ممن يسقي الحجيج
ولم يفعل ذلك. وفي الآية حذف أحد أمرين: أحدهما - أن يكون تقديره
كايمان من آمن بالله وأقام الاسم مقام المصدر، لان أصل السقاية مصدر كما قال الشاعر:
لعمرك ما الفتيان ان تنبت اللحى * ولكنما الفتيان كل فتى ندى (1)
اي فتيان نبات. والسقاية آلة تتخذ لسقي الماء. وقيل كانوا يسقون الحجيج الماء
والشراب. وبيت البئر سقاية أيضا قال الرماني المشبه لا يجوز أن يكون مجاهدا في سبيل الله
لأنه لا يعرف الله فيتبع امره في ذلك والمجاهد إذا عرف الله صح أن يكون مطيعا
بالجهاد لاتباعه امر الله فيه. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ان الآية نزلت في
أمير المؤمنين عليه السلام والعباس. وروى الطبري باسناده عن ابن عباس انها نزلت في
العباس حين قال يوم بدر: إن سبقتمونا إلى الاسلام والهجرة لم تسبقونا إلى سقاية
الحاج وسدنة البيت، فأنزل الله الآية. وروى الطبري باسناده عن الحسن انها
نزلت في علي والعباس وعثمان وشيبة. وقال الشعبي: نزلت في علي والعباس، وبه
قال ابن وهب والسدي.

(1) تفسير الطبري 14 / 172 ومعاني القرآن 1 / 427
190

وقوله " والله لا يهدي القوم الظالمين " اخبار منه تعالى انه لا يهدي أحدا ممن
ظلم نفسه وكفر بآيات الله، وجحد وحدانيته إلى الجنة كما أنه يهدي إليها من كان
عارفا بذلك فاعلا لطاعته مجتنبا لمعصيته.
واختلفوا في سبب نزول الآية فقال قوم: سأل المشركون اليهود فقالوا:
نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود
لهم: أنتم أفضل، عنادا للنبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين. وقال آخرون: تفاخر المسلمون
الذين جاهدوا والذين لم يجاهدوا. فنزلت الآية، ذكره الزجاج.
قوله تعالى:
الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (21) آية.
موضع " الذين " رفع بالابتداء وخبره أعظم درجة. اخبر الله تعالى ان الذين
آمنوا يعني صدقوا بالله واعترفوا بوحدانيته، وأقروا بنبوة نبيه، وهاجروا عن
أوطانهم التي هي دار الكفر إلى دار الاسلام، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم أعظم درجة عند الله. ومعناه يتضاعف فضلهم عند الله مع شرف الجنس.
ولو قال أعلى درجة أفاد شرف الجنس فقط.
وقوله " أولئك هم الفائزون " اخبار منه تعالى ان من وصفه هم الذين يظفرون
بالبغية ويدركون الطلبة، لان الفوز هو الظفر بالبغية وهو والفلاح والنجاح نظائر.
وقيل: إنه يلحق بمثل منزلة المجاهدين من لم يجاهد بأن يجاهد في طلب العلم
الديني فيتعلمه ويعلم غيره ويدعو إليه والى الله. وربما كانت هذه المنزلة فوق تلك
فان قيل كيف قال " أعظم درجة " من الكفار بالساقية والسدانة؟ قلنا: على ما
روينا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وابن عباس وغيرهم لا يتوجه السؤال عن
191

ذلك لان المفاضلة جرت بينهم، لان لجميعهم الفضل عند الله ومن لا يقول ذلك
يجيب بجوابين: أحدهما - انه على تقدير ان لهم بذلك منزلة كما قال تعالى
" أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا " (1) هذا قول الحسن وأبي علي. والثاني -
قال الزجاج المعنى أعظم من غيرهم درجة. و (الذي) يجوز وصفها ولا يجوز وصف
" من " إذا كانت بمعنى الذي، لان " من " تكون تارة معرفة موصولة فلذلك
افترقا. وقيل معنى " الفائزي " انهم الظافرون بثواب الله الذي استحقوه على طاعتهم.
قوله تعالى:
يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها
نعيم مقيم (22) آية.
في الآية اخبار من الله تعالى بالبشارة واعلام للذين آمنوا وهاجروا برحمة
من جهته تعالى، والبشرى والبشارة الدلالة على ما يظهر به السرور في بشرة الوجه
تقول بشرته أبشره بشرى وأبشر ابشارا واستبشر استبشارا وتباشر تباشرا وبشره
تبشيرا فاما باشره مباشرة، فبمعنى لاقاه ببشر ورضوان. وهو معنى يستحق
بالاحسان، يدعو إلى الحمد على ما كان، ويضاد سخط الغضبان، تقول: رضي
رضا ورضوانا وأرضاه إرضاء وترضاه ترضيا وارتضاه ارتضاء واسترضاه استرضاء
وتراضوه تراضيا.
وقوله " وجنات " يعني البساتين التي يجنها الشجر، وأما الرياض فهي
الموطأة للخضرة التي قد ينبت فيها نبات الزهر ومنه الرياضة لأنها توطئة
لتقريب العمل.
وقوله " لهم فيها نعيم مقيم " فالنعيم لين العيش اللذيذ، وهو مشتق من النعمة

(1) سورة 25 الفرقان آية 24
192

وهي اللين، وأما النعمة بكسر النون، فهي منفعة يستحق بها الشكر لأنها كنعم العيش
والمقيم الدائم بخلاف الراحل فكأنه قال: المقيم ابدا.
قوله تعالى:
خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (23) آية.
" خالدين " نصب على الحال من الهاء والميم في قوله: " لهم " والخلود في
العرف الدوام في الشئ كالخلود في الجنة مأخوذ من قولهم: خلد هذا الكتاب في
الديوان على تقدير الدوام من غير انقطاع. والأبد الزمان المستقبل من غير آخر كما
أن (قط) للماضي تقول: ما رأيته قط، ولا أراه ابدا وجمع الأبد آباد وأبود تقول
لا أفعل ذلك أبدا، وتأبد المنزل إذا اقفر وأتى على الأبد، والأوابد الوحوش
سميت بذلك لطول أعمارها وبقائها. وقيل: لم يمت وحش حتف أنفه وإنما يموت
بآفة، وجاء فلان بأبدة اي بداهية وأتان آبد تسكن القفر متأبدة.
وقوله " ان الله عنده أجر عظيم " اخبار منه تعالى ان عنده الجزاء أي في
مقدوره الجزاء الذي يستحق بالاعمال تقول: أجره يأجره أجرا وآجره إجارة
واستأجره استئجارا ومنه الأجير.
وقوله " عظيم " يعني كبير متضاعف لا تبلغه نعمة غيره من الخلق، والأبد
قطعة من الدهر متتابعة في اللغة قال الحر بن البعيث:
أهاج عليك الشوق اطلاق ذمنة * بناصفة البردين أو جانب الهجل
اتى ابد من دون حدثان عهدها * وجرت عليها كل نافحة شمل (1)
ومن الدليل على أن الأيد قطعة من الدهر أنه ورد مجموعا في كلامهم. قالت
صفية بنت عبد المطلب تخاطب ولدها الزبير:
وخالجت آباد الدهور عليكم * وأسماء لم تشعر بذلك أيم

(1) اللسان " شمل "
193

فلو كان زبر مشركا لعذرته * ولكن زبرا يزعم الناس مسلم
ويقال: تأبد الربيع إذا مر عليه قطعة من الدهر وليس يعنون انه مر عليه
أبد لا غاية له قال مزاحم العقيلي:
أتعرف بالغريق دارا تأبدت * من الحي واستبقت عليها العواصف
فأما الخلود، فليس في كلام العرب ما يدل على أنه بقاء لا غاية له وإنما
يخبرون به عن البقاء إلى مدة كما قال المخبل السعدي:
الا رمادا هامدا دفعت * عنه الرياح خوالد سحم (1)
أراد دفع الرياح عن النؤي إلى هذا الوقت هذه الأثافي التي بقيت إلى هذا الوقت.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء
إن استحبوا الكفر على الايمان ومن يتولهم منكم فأولئك
هم الظالمون (24) آية.
روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ان هذه الآية نزلت في حاطب بن
بلتعة حيث كتب إلى قريش بخبر النبي صلى الله عليه وآله حين أراد فتح مكة.
هذه خطاب من الله تعالى للمؤمنين ينهاهم فيه عن اتخاذ آبائهم وإخوانهم
أولياء متى استحبوا الكفر. وآثروه على الايمان. و " الاتخاذ " هو
الافتعال من اخذ الشئ. والاتخاذ اعداد الشئ لامر من الأمور.
واتخاذهم أولياء: هو ان يعتقدوا موالاتهم ووجوب نصرتهم فيما ينوبهم، وليس
ذلك بمانع من صلتهم. والاحسان إليهم، لأنه تعالى حث على ذلك، فقال: " وان
جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا

(1) مر هذا البيت في 2 / 28
194

معروفا (1). والأب والوالد نظائر. والأخ الشقيق في النسب من قبل الأب
والام، وكل من رجع مع آخر إلى واحد في النسب من والد ووالد ة، فهو أخ.
والأولياء جمع ولي وهو من كان مختصا بايلاء التصرف في وقت الحاجة. وقال
الحسن: من تولى المشرك. فهو مشرك. وهذا إذا كان راضيا بشركه، ويكون
سبيله سبيل من يتولى الفاسق أن يكون فاسقا.
وقوله " إن استحبوا الكفر على الايمان " معناه إن طلبوا محبة الكفر على
الايمان. وقد يكون استحب بمعنى أحب كما أن استجاب بمعنى أجاب. ثم اخبر
تعالى ان من استحق الكفار على المؤمنين فإنهم أيضا ظالمون نفوسهم والباخسون
حظها من الثواب، لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها.
قوله تعالى
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم
وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها
ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في
سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم
الفاسقين (25) آية.
قرأ أبو بكر عن عاصم و " عشيراتكم " على الجمع. الباقون على التوحيد.
من جمع فلان كل واحد من المخاطبين له عشيرة، فإذا جمع قال وعشيراتكم.
ومن افرد قال العشيرة تقع على الجمع. وقال أبو الحسن: العرب لا تجمع العشيرة
عشيرات. وإنما تقول عشائر.

(1) سورة 31 لقمان آية 15
195

أمر تعالى بهذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله أن يخاطب هؤلاء الذين تخلفوا عن
الهجرة إلى دار الاسلام. وأقاموا بدار الكفر، وقال الجبائي: هو خطاب للمؤمنين
أجمع وتحذير لهم من ترك الجهاد وحث لهم عليه، فأمره أن يقول لهم " إن كان
آباؤكم " الذين ولدوكم " وأبناؤكم " الذين ولدتموهم، وهم الأولاد الذكور
" وأزواجكم " جمع زوجة وهي المرأة التي عقد عليها عقدة نكاح صحيح، لان
ملك اليمين والمعقود عليها عقد شبهة لا تسمى زوجة " وعشيرتكم " وهي الجماعة التي
ترجع إلى عقد كعقد العشرة. ومنه المعاشرة، وهي الاجتماع على عقد يعم.
ومنه العشار النوق التي أتى على حملها عشرة أشهر " وأموال جمع مال " اقترفتموها "
أي اقتطعتموها واكتسبتموها، ومثله الاحتراف. والاقتراف اقتطاع الشئ عن
مكانه إلى غيره " وتجارة تخشون كسادها " يعني ما اشتريتموه طلبا للربح تخافون
خسرانها ووقوفها " ومساكن " جمع مسكن وهي المواضع التي تسكنونها وترضونها
" أحب إليكم من الله ورسوله " يعني آثر في نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم. والمحبة
إرادة خاصة للشئ فمن أحب الجهاد فقد أراد فعله ومن أحب الله أراد شكره
وعبادته ومن أحب النبي أراد إجلاله وإعظامه. والذي اقتضى نزول هذه الآية محبتهم
التي منعتهم الهجرة. وقوله " فتربصوا " اي فتثبتوا. والتربص التثبت في الشئ
حتى يجئ وقته. والتربص والتنظر والتوقف نظائر في اللغة. ونقيضه التعجل بالامر.
وقال مجاهد قوله " حتى يأتي الله بأمره " من عقوبة عاجلة أو آجلة. وقوله
" والله لا يهدي القوم الفاسقين " معناه إنه لا يهديهم إلى الثواب والجنة لأنه تعالى
قد هداهم إلى الايمان فقال " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " (1)
قوله تعالى:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم

(1) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 17
196

كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما
رحبت ثم وليتم مدبرين (26) آية.
أقسم الله تعالى في هذه الآية - لان لام " لقد " لام القسم - بأنه نصر المؤمنين
في مواطن كثيرة ومواطن في موضع جر ب‍ " في " وإنما نصب، لأنه لا ينصرف
لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فلا ينصرف. وجر كثيرة على المواضع وأنثه
على اللفظ. ومواطن جمع موطن. ومعنى النصر الغلبة على العدو. والمعونة قد
تكون في حمل الثقيل، وتكون في شراء متاع وتكون في قضاء حاجة، ولا يكون
النصر إلا المعونة على العدو خاصة. والمواطن هو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه
وإنما قد أقاموا في هذه المواطن للقتال. ومعنى كثيرة روي عن أبي عبد الله عليه السلام
انها كانت ثمانين موطنا، والكثيرة عدة زائدة على غيرها فهي كثيرة بالإضافة إلى
ما دونها قليلة بالإضافة إلى ما فوقها.
وقوله " ويوم حنين "، وحنين اسم واد بين مكة والطائف في قول قتادة.
وقال عروة: هو واد إلى جانب ذي المجاز، فلذلك صرف، ويجوز ترك
صرفه على أنه اسم للبقعة قال الشاعر:
نصروا نبيهم وشدوا أزره * بحنين يوم تواكل الابطال (1)
وقوله " إذ أعجبتكم كثرتكم " فالاعجاب السرور بما يتعجب منه، والعجب
السرور بالنفس على الفخر بما يتعجب منه. وقال قتادة: إنه كان سبب انهزام
المسلمين يوم حنين أن بعضهم قال حين رأى كثرة المسلمين يوم حنين لأنهم كانوا
اثني عشر ألفا، فقال: لن نغلب اليوم عن قلة. فانهزموا بعد ساعة. وقيل: إنهم
كانوا عشرة آلاف. وقال بعضهم: ثمانية آلاف والأول أشهر. ولما انهزموا لم يبق
مع النبي صلى الله عليه وآله الا تسعة نفر من بني هاشم وأيمن ابن أم أيمن. والعباس بن عبد

(1) قائله حسان ديوانه 334 ومعاني القرآن 1 / 429 واللسان (حنن)
197

المطلب. وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب عليه السلام في
آخرين، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله كفا من الحصباء فرماهم به، وقال شاهت الوجوه
فانهزم المشركون.
وقوله " فلم تغن عنكم شيئا " معناه لم تغن كثرتكم شيئا، والاغناء اعطاء
ما يرفع الحاجة. ولذلك قيل في الدعاء أغناك الله " فلم تغن عنكم شيئا " معناه لم
تعطلكم ما يرفع حاجتكم.
وقوله " وضاقت عليكم الأرض بما رحبت " معناه ليس فيها موضع يصلح لكم
لفراركم عن عدوكم. والضيق مقدار ناقص عن مقدار، والرحب السعة في المكان
وقد يكون في الرزق. والسعة في النفقة.
وقوله " ثم وليتم مدبرين " فالادبار الذهاب إلى جهة الخلف والاقبال إلى
جهة القدام. والمعنى وليتم عن عدوكم منهزمين. وتقديره وليتموهم الادبار.
وكانت غزوة حنين عقيب الفتح في شهر رمضان أو في شوال سنة ثمان.
فان قيل كيف قال إنه نصرهم في مواطن كثيرة؟ والمؤمنون منصورون في
جميع الأحوال؟
قلنا عنه جوابان: أحدهما - ان ذلك اخبار بأنه نصرهم دفعات كثيرة
ولا يدل على أنه لم ينصرهم في موضع آخر، والثاني - لأنهم لما انهزموا لم يكونوا
منصورين وكان ذلك منهم خطأ وإن وقع مكفرا.
قوله تعالى:
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين
وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء
الكافرين (27) آية.
198

اخبر الله تعالى أنه حين انهزم المسلمون وبقي النبي صلى الله عليه وآله في نفر من قومه
أنه أنزل السكينة، وهي الرحمة التي تسكن إليها النفس ويزول معها الخوف حتى رجعوا
إليهم. وقاتلوهم وهزمهم الله تعالى بأن أنزل النصر وأنزل السكينة. وقيل السكينة هي
الطمأنينة والامنة. وقال الحسن: هي الوقار قال الشاعر:
لله قبر غالها ماذا يجن * لقد اجن سكينة ووقارا (1)
وقوله " وأنزل جنودا لم تروها " والجنود هي الجموع التي تصلح للحروب.
والمراد بها هاهنا الملائكة، جند وأجناد وجنود، فأنزل الله الملائكة مدادا للمؤمنين
وقال الجبائي: إنما نزلت الملائكة يوم حنين من جهة الخاطر الذي يشجع قلوبهم
ويجبن عنهم أعداءهم، ولم تقاتل إلا يوم بدر خاصة.
وقوله " وعذب الذين كفروا " معناه - هاهنا - القتل والأسر وسلب الأموال
مع الاذلال والصغار. ثم قال " وذلك " يعني ذلك العذاب " جزاء الكافرين " من
جحد نعم الله وانكر وحدانيته، وجحد نبوة نبيه مع ما أعده لهم من عذاب النار.
قوله تعالى:
ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (28) آية
معنى (ثم) هاهنا العطف على الفعل الأول، وقد ذكرت (ثم) في ثلاثة مواضع
متقاربة: فالأول - عطف على ما قبلها. والثانية - عطف على " وليتم مدبرين، ثم
انزل الله سكينته " والثالثة - عطف على (أنزل.. ثم يتوب) وإنما حسن عطف
المستقبل على الماضي لأنه مشاكله فان الأول تذكير بنعمه والثاني وعد بنعمه.
والتوبة هي الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله إما في

(1) مجاز القرآن 1 / 286
199

الجنس أو في القبح على الخلاف فيه، فشرط الندم بالعزم، لان الندم إنما هو على
الماضي والعزم على ما يستقبل، فلو لم يجتمعا لم تكن توبة. ومعنى " ثم يتوب الله
من بعد ذلك على من يشاء " انه يقبل التوبة من بعد هزيمة من انهزم. ويجوز أن
يكون المراد بعد كفر من كفر يقبل توبة من يتوب ويرجع إلى طاعة الله والاسلام
ويندم على ما فعل من القبيح " على من يشاء " وإنما علقه بالمشيئة، لان قبول التوبة
واسقاط العقاب عندها تفضل - عندنا - ولو كان ذلك واجبا لما جاز تعلق ذلك بالمشيئة
كما لم يعلق الثواب على الطاعة والعوض على الألم في موضع بالمشيئة. ومن خالف
في ذلك قال: إنما علقها بالمشيئة، لان منهم من له لطف يؤمن عنده فالله تعالى يشاء
أن يلطف له مع صرف العمل في ترك التوبة إلى الله.
وقوله " والله غفور رحيم " معناه انه ستار للذنوب لا يفضح أحدا على معاصيه
بل يسترها عليه إذا تاب منها، وهو رحيم بعباده.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس لا يقربوا المسجد
الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم علية فسوف يغنيكم الله من
فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (29) آية.
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين يخبرهم فيه أن المشركين أنجاس ويأمرهم
ان يمنعوا المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا أي الذي أشار
إليه، وهي سنة تسع من الهجرة التي نبذ فيها براءة المشركين. وكانت بعده حجة
الوداع - وهو قول قتادة وغيره من المفسرين - والمراد بالمسجد الحرام الحرم
كله - في قول عطاء وغيره - وكل شئ مستقذر في اللغة يسمى نجسا، فإذا استعمل
مفرد قيل: نجس - بفتح النون والجيم معا - ويقع على الذكر والأنثى سواء. وظاهر
200

الآية يقتضي أن الكفار أنجاس، ولا يجوز مع ذلك أن يمكنوا من دخول شئ من
المساجد، لان شركهم أجري مجرى القذر الذي يجب تجنبه، وعلى هذا من باشر
يد كافر، وجب عليه ان يغسل يده إذا كانت يده أو يد المشرك رطبة. وإن كانت
أيديهما يا بستين مسحها بالحائط. وقال الحسن: من صافح مشركا فليتوضأ، ولم يفصل.
واختلفوا في هل يجوز دخولهم المسجد الحرام بعد تلك السنة أم لا؟
فروي عن جابر ابن عبد الله، وقتادة أنه لا يدخله أحد إلا أن يكون عبدا
أو أحدا من أهل الذمة. وقال عمر بن عبد العزيز: لا يجوز لهم دخول المسجد
الحرام، ولا يدخل أحد من اليهود والنصارى شيئا من المساجد بحال. وهذا هو الذي
نذهب إليه. وقال الطبري وقتادة: سموا أنجاسا، لأنهم لا يغتسلون من جنابة.
وقوله " فان خفتم عيلة " فالعيلة الفقر، تقول: عال يعيل إذا افتقر قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل (1)
وكانوا خافوا انقطاع المتاجر بمنع المشركين، فقال الله تعالى " وإن خفتم
عيلة " يعني فقرا بانقطاعهم، فالله يغنيكم من فضله إن شاء - في قول قتادة ومجاهد -
وإنما علقه بالمشيئة لاحد أمرين: أحدهما - لان منهم من لا يبلغ هذا المعنى الموعود
به، لأنه يجوز ان يموت قبله - في قول أبي علي - والثاني - لتنقطع الآمال إلى
الله تعالى، كما قال " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمين " (2). وقوله
" أن الله عليم حكيم " معناه عالم بمصالحكم حكيم في منع المشركين من دخول
المسجد الحرام.
قوله تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون

(1) مر هذا البيت في 3 / 109 وهو في مجاز القرآن 1 / 255
(2) سورة 48 الفتح آية 27.
201

ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا
الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (30) آية.
قوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر " امر من الله
تعالى لنبيه وللمؤمنين بأن يقاتلوا الذين لا يعترفون بتوحيد الله، ولا يقرون باليوم
الاخر والبعث والنشور. وذلك يدل على صحة مذهبنا في اليهود والنصارى
وأمثالهم انه لا يجوز أن يكونوا عارفين بالله وإن أقروا بذلك بلسانهم. وإنما يجور
أن يكونوا معتقدين لذلك اعتقادا ليس بعلم. والآية صريحة بأن هؤلاء الذين هم
أهل الكتاب الذين تؤخذ منهم الجزية لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر وانه يجب
قتالهم " حتى يعطوا الجزية عن يد ". ومن قال: إنهم يجوز أن يكونوا عارفين
بالله تعالى، قال: الآية خرجت مخرج الذم لهم، لأنهم بمنزلة من لا يقربه في
عظم الجرم. كما أنهم بمنزلة المشركين في عبادة الله بالكفر. وقال الجبائي:
لأنهم يضيفون إليه ما لا يليق به فكأنهم لا يعرفونه. وإنما جمعت هذه الأوصاف
لهم ولم يذكروا بالكفار من أهل الكتاب للتحريض على قتالهم بما هو عليه من
صفات الذم التي توجب البراءة منهم والعداوة لهم.
وقوله " ولا يدينون دين الحق " يدل على أن دين اليهودية والنصرانية غير
دين الحق، وذلك يقوي انهم غير عارفين بالله، لأنهم لو كانوا عارفين كانوا في
ذلك محقين، فأما اعتقادهم لشريعة التوراة فإنما وصف بأنه غير حق لامرين:
أحدهما - انها نسخت فالعمل بها بعد النسخ باطل غير حق. الثاني - ان التوراة
التي هي معهم مغيرة مبدلة لقوله " يحرفون الكلم عن مواضعه " (1) ويقلبونه
عن معانيه.
وقوله " ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله " معناه انهم لا يعترفون بالاسلام.

(1) سورة 4 النساء آية 45 وسورة 5 المائدة آية 14
202

الذي هو الدين الحق، ولا يسلمون لامر الله الذي بعث به نبيه محمد صلى الله عليه وآله في تحريم
حرامه وتحليل حلاله. والدين في الأصل الطاعة قال زهير:
لئن حللت بجو في بني أسد * في دين عمرو وحالت بيننا فدك (1)
وقوله " حتى يعطوا الجزية عن يد " فالجزية عطية عقوبة جزاء على الكفر
بالله على ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل الذمة - وهو على وزن جلسة، وقعدة -
لنوع من الجزاء. وإنما قيل " عن يد " ليفارق حال الغصب على اقرار أحد. وقال
أبو علي: معناه يعطونا من أيديهم يجيئون بها بنفوسهم لا ينوب عنهم فيها غيرهم
إذا قدروا عليه. فيكون أذل لهم. وقال قوم: معناه عن نقد كما يقال: باع يدا
بيد. وقال آخرون: معناه عن يد لكم عليهم ونعمة تسدونها إليهم بقبول الجزية
منهم. وقال الحسين بن علي المغربي: معناه عن قهر، وهو قول الزجاج.
وقوله " وهم صاغرون " فالصغار الذل والنكال الذي يصغر قدر صاحبه، صغر
يصغر صغارا، فهو صاغر. وقيل: الصغار اعطاء الجزية قائما، والاخذ جالس ذهب
إليه عكرمة والجزية لا تؤخذ عندنا إلا من اليهود والنصارى والمجوس. وأما غيرهم
فلا يقبل منهم غير الاسلام أو السبي. وإنما كان كذلك لما علم الله تعالى من المصلحة
في اقرار هؤلاء على كفرهم ومنع ذلك في غيرهم، لان هؤلاء على كفرهم يقرون
بألسنتهم بالتوحيد وبعض الأنبياء، وان لم يكونوا على الحقيقة عارفين. وأولئك
يجحدون ذلك كله، فلذلك فرق بينهما.
فان قيل: اعطاء الجزية منهم لا يخلوا أن يكون طاعة أو معصية، فإن كان معصية فكيف أمر الله بها؟ وإن كان طاعة وجب أن يكونوا مطيعين لله.
قلنا: إعطاؤهم ليس بمعصية. وأما كونها طاعة لله فليس كذلك، لأنهم
إنما يعطونها دفعا للقتل عن أنفسهم لا طاعة لله. فان الكافر لا يقع منه طاعة عندنا

(1) ديوانه 183 ومجاز القرآن 1 286 وتفسير الطبري 14 198
203

بحال، لأنه لو فعل طاعة لله لاستحق الثواب والاحباط باطل، فكان يجب أن يكون
مستحقا للثواب وذلك خلاف الاجماع.
قوله تعالى:
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح
ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الذين كفروا من
قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (31) آية.
قرأ " عزير " بالتنوين عاصم والكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو. الباقون
بترك التنوين. وقرأ عاصم وحده " يضاهؤن " بالهمزة. الباقون بغير همزة.
من ترك التنوين في " عزير " قيل في وجه ذلك ثلاثة أقوال: أحدها -
انه أعجمي معرفة لا ينصرف. والثاني - لان ابن هاهنا صفة بن علمين والخبر محذوف
والتقدير معبودنا أو نبينا عزير ابن الله. الثالث - انه حذف التنوين لالتقاء الساكنين
تشبيها بحرف اللين، كما قال الشاعر:
فألفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا (1)
هذا الوجه قول الفراء: وعند سيبويه هو ضرورة في الشعر قال أبو علي:
من نونه جعله مبتدأ وجعل ابنا خبره، ولابد مع ذلك من التنوين في حال السعة
والاختيار، لان أبا عمرو وغيره يصرف عجميا كان أو عربيا.
ومن حذف التنوين يحتمل وجهين: أحدهما - أنه جعل الموصوف والصفة
بمنزلة اسم واحد، كما يقال: لا رجل ظريف. وحذف التنوين ولم يحرك لالتقاء
الساكنين، كما يحرك يا زيد العاقل، لان الساكنين كأنهما التقيا في تضاعيف
كلمة واحدة، فحذف الأول منهما ولم يحرك لكثرة الاستعمال. والوجه الاخر -

(1) مر تخريجه في 2 / 76 تعليقة 3
204

أن يجعل مبتدأ والاخر الخبر مثل من نون وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وعلى
هذا قراءة من قرأ " قل هو الله أحد الله " فحذف التنوين لالتقاء الساكنين.
فان قيل كيف أخبر الله عن اليهود بأنهم يقولون عزير ابن الله واليهود تنكر
هذا؟! قلنا: إنما اخبر الله بذلك عنهم، لان منهم من كان يذهب إليه، والدليل على
ذلك ان اليهود في وقت ما انزل الله القرآن سمعت هذه الآية فلم تنكرها. وهو
كقولك: الخوارج تقول بتعذيب الأطفال، وإنما يقول بذلك الأزارقة منهم خاصة.
قال ابن عباس: القائل لذلك جماعة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقالوا له ذلك، وهم
سلام ابن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فأنزل الله
فيهم الآية.
وقوله " ذلك قولهم بأفواههم " معنا انه لا يرجع إلى معنى صحيح: فهو لا
يجاوز أفواههم، لان المعنى الصحيح ما رجع إلى ضرورة العقل أو حجته أو برهانه
أو دليل سمعي. وقوله " يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل " معناه يشابهون. ومنه
قولهم امرأة ضهياء التي لا تحيض، ولا يخرج ثدياها اي اشبهت الرجال. وقال
أبو علي الفارسي: ليست يضاهؤن من قولهم امرأة ضهياء، لأن هذه الهمزة زائدة
غير أصلية لأنه ليس في الكلام شئ على وزن (فعيآء) ويشبه أن يكون ذلك لغة،
كما قالوا أرجأت وأرجيت. واختار الزجاج أن تكون الهمزة أصلية، كما جاء
كثير من الأشياء على وزن لا يطرد نحو (كنهبل) وهو الشجر العظام، وكذلك
(قر نفل) لا نظير له. ووزنه (فعنلل).
وقال ابن عباس " الذين كفروا " أراد به عبدة الأوثان، وقال الفراء: يشابهونهم
في عبادة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وقال قوم في قولهم: الملائكة
بنات الله. وقال الزجاج: شابهوهم في تقليدهم اسلافهم في هذا القول.
وقوله " قاتلهم الله " قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - قال ابن عباس
معناه لعنهم الله. الثاني - معناه قتلهم الله كقولهم عافاه الله من السوء. الثالث -
205

كالمقاتل لغيره في عداوة الله.
وقوله " انى يؤفكون " معناه كيف يصرفون عن الحق إلى الافك الذي هو
الكذب، ورجل مأفوك عن الخير وارض مأفوكة صرف عنها المطر قال الشاعر:
أنى ألم بك الخيال تطيف
قوله تعالى:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح
ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو
سبحانه عما يشركون (32) آية.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء اليهود والنصارى الذين حكى حكايتهم انهم اتخذوا
أحبارهم، وهو جمع حبر، وهو العالم الذي صناعته تحبير المعاني بحسن البيان
وقيل حبر وحبر - بفتح الباء وكسرها - حكاه الفراء. والرهبان جمع راهب
وهو الخاشي الذي يظهر عليه للناس الخشية. وقد كثر استعماله في متنسكي النصارى
وروي عنه صلى الله عليه وآله أن معنى اتخاذهم أربابا أنهم قبلوا منهم التحريم والتحليل بخلاف
ما أمر الله تعالى، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، فسمى الله ذلك
اتخاذهم إياهم أربابا من حيث كان التحريم والتحليل لا يسوغ إلا الله تعالى. وهو
قول أكثر المفسرين.
وقوله " والمسيح ابن مريم " عطف على الأرباب أي واتخذوا عيسى ربا.
وقوله " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا " معناه ان الله تعالى لم يأمر
هؤلاء اليهود والنصارى وغيرهم إلا بعبادة الله وحده لا شريك له. ثم أخبر فقال
" لا إله إلا هو سبحانه " يعني تنزيها عما يشركون. ومعنى سبحانه براءة الله
من السوء كما قال الشاعر:
206

أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (1)
والآية تدل على أن المشرك مع الله في التحليل والتحريم على مخالفة امر الله
كالمشرك في عبادة الله، لان استحلال ما حرم الله كفر بالاجماع. وكل كافر مشرك
ولا يلزم على ذلك أن يكون من قبل من الشيطان باغوائه فارتكب المعاصي أن يكون
كافرا على ما استدل به بعض الخوارج، لأنه إذا قبل من الشيطان ما يعتقد انه معصية
ولا يقصد بذلك طاعة الشيطان ولا تعظيمه يكون فاسقا، ولا يكون كافرا. وليس
كذلك من ذكره الله تعالى في الآية، لأنهم كانوا يقبلون تحريم علمائهم وأحبارهم
ويقصدون بذلك تعظيمهم. ولا يلزم على ذلك قبول المعاصي من العالم، لان العامي
يعتد بالرجوع إلى العالم فيقبل منه ما أدى اجتهاده إليه وعلمه، فإذا قصد العالم وأفتاه
بغير ما علمه فهو المخطئ دون المستفتي. وليس كذلك هؤلاء، لأنهم ما كانوا
تعبدوا بالرجوع إلى الأحبار والقبول منهم لأنهم لو كانوا تعبدوا بذلك لما ذمهم الله
على ذلك.
قوله تعالى:
يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون (33) آية.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى انهم " يريدون ان
يطفؤا نور الله بأفواههم " والاطفاء اذهاب نور النار. ثم استعمل في اذهاب كل
نور. و " نور الله " القرآن والاسلام، في قول المفسرين: السدي والحسن. وقال
الجبائي: نور الله: الدلالة والبرهان، لأنه يهتدى بها كما يهتدى بالأنوار.
وواحد الأفواه فم في الاستعمال، وأصله فوه فحذفت الهاء وأبدلت من الواو

(1) قائله الأعشى. وقد مر تخريجه في 3 / 81
207

ميم، لأنه حرف صحيح من مخرج الواو مشاكل لها. ولما سمى الله تعالى الحجج
والبراهين نورا سمى معارضتهم له اطفاء. وأضاف ذلك إلى الأفواه، لان
الاطفاء يكون بالأفواه، وهو النفخ، وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير
شأنهم وتضعيف كيدهم، لان النفخ يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الاقباس العظيمة
ذكره الحسين بن علي المغربي. وقوله " ويأبى الله الا ان يتم نوره " الاباء الامتناع
مما طلب من المعنى. قال الشاعر:
وإن أرادوا ظلمنا أبينا
أي منعناهم من الظلم، وليس الاباء من الكراهة في شئ على ما يقول المجبرة
لأنهم يقولون: فلان يأبى الضيم، فيمدحونه، ولا مدحة في كراهة الضيم لتساوي
الضعيف والقوي في ذلك. وإنما المدح في المنع خاصة، ولذلك مدح عورة بن الورد
بأنه أبى للضيم بمعنى أنه ممتنع منه، وقوله (وإن أرادوا ظلمنا أبينا) يدل على
ذلك لأنه لا مدحة في أن يكرهوا ظلم من يظلمهم. وإنما المدحة في منع من أراد
ظلمهم. والمنع في الآية يمنع الله إلا إتمام نوره. وإن كره الكافرون. ولا يجوز
على قياس " ويأبى الله إلا أن يتم نوره " أن تقول: ضربت إلا أخاك، لان في الاباء
معنى النفي، فكأنه قال: لا يمكنهم الله إلا أن يتم نوره. وإذا لم يكن في اللفظ
مستثنى منه لم تدخل " إلا " في الايجاب، وتدخل في النفي على تقدير الحذف
قال الشاعر:
وهل لي أم غيرها ان تركتها * أبى الله إلا أن أكون لها ابنما (1)
والتقدير في الآية ويأبى الله كل شئ الا اتمام نوره. في قول الزجاج،
وأنكر أن يكون في الآية معنى الجحد.

(1) تفسير القرطبي 8 / 121 ومعاني القرآن 4331.
208

قوله تعالى:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله ولو كره المشركون (34) آية.
اخبر الله تعالى انه " هو الذي ارسل رسوله " صلى الله عليه وآله وحمله الرسالة التي يؤديها
إلى أمته " بالهدى " يعني بالحجج والبينات والبيان لما يؤديهم العمل به إلى أبواب
الجنة. و " دين الحق " هو الاسلام وما تضمنه من الشرائع، لأنه الذي يستحق
عليه الجزاء بالثواب. وكل دين سواه باطل لأنه يستحق به العقاب. ومن شأن
الرسول أن يكون أفضل من جميع أمته من حيث يجب عليهم طاعته وامتثال ما يأمرهم
به بما هو مصلحة لهم، ولأنه رئيس لهم في الدين، ويقبح تقديم المفضول على
الفاضل فيما كان أفضل فيه.
وقوله " ليظهره على الدين كله " معناه ليعلي دين الاسلام على جميع الأديان
بالحكم والغلبة والقهر لهم. وقال البلخي: ظهوره على جميع الأديان بالحكم، لان
جميع الأديان نال المسلمون منهم وغزوا فيهم وأخذوا سبيهم وجزيتهم.
وفي الآية دلالة على صدق نبوته صلى الله عليه وآله لأنها تضمنت الوعد بظهور الاسلام
على جميع الأديان، وقد صح ظهوره عليها. وقال أبو جعفر عليه السلام ان ذلك يكون
عند خروج القائم عليه السلام. وقال ابن عباس: إن الهاء في " ليظهره " عائدة إلى
الرسول صلى الله عليه وآله أي ليعلمه الله الأديان كلها حتى لا يخفى عليه شئ منها.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان
ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين
209

يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب
أليم (35) آية.
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين يعلمهم أن كثيرا من أحبار اليهود وعلمائهم
ورؤسائهم، وكثيرا من رهبان النصارى ليأكلون أموال الناس بالباطل من حيث
كانوا يأخذون الرشا في الاحكام - في قول إسحاق والجبائي - وأكل المال بالباطل
تملكه من الجهات التي يحرم منها اخذه. وقيل في معنى " ليأكلون أموال الناس
بالباطل " وجهان: أحدهما - انهم يتملكون. فوضع يأكلون موضعه لان الاكل
غرضهم. والثاني - يأكلون أموال الناس من الطعام، فكأنهم يأكلون الأموال،
لأنها من المأكول، كما قول الشاعر:
ذر الا كلين الماء لوما فما أرى * ينالون خيرا بعد أكلهم الماء (1)
اي ثمن الماء. وقوله " ويصدون عن سبيل الله " معناه يمنعون غيرهم من
اتباع الاسلام الذي هو سبيل الله التي دعاهم إلى سلوكها. والغرض بذلك التحذير
من اتباعهم والتهوين على المسلمين مخالفتهم.
وقوله " والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله " معناه
الذين يخبئون أموالهم من غير أن يخرجوا زكاتها، لأنهم لو اخرجوا زكاتها وكنزوا
ما بقي لم يكونوا ملومين بلا خلاف. وهو قول ابن عباس: وجابر، وابن عمر، والحسن
والسدي، والجبائي. قال: وهو إجماع. واصل الكنز كبس الشئ بعضه على بعض.
ومنه قولهم كنز التمر والطعام قال الهذلي:
لا در دري إن أطعمت نازلكم * قرف الحتي وعندي البر مكنوز (2)

(1) اللسان (أكل) وروايته (من) بدل (ذر) و (ظلما) بدل (لوما).
(2) مقاييس اللغة 2 / 136 واللسان " كنز ".
210

الحتي سويق المقل. وقوله " ولا ينفقونها في سبيل الله " إنما لم يقل ولا
ينفقونهما لاحد أمرين: أحدهما - أن تكون الكناية عائدة إلى مدلول عليه وتقديره
ولا ينفقون الكنوز أو الأموال. والاخر - أن يكون اكتفى بأحدهما عن الاخر
للايجاز ومثله " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " (1) وقال حسان:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود * ما لم يعاص كان جنونا (2)
وقال الآخر:
نحن ما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف (3)
وكان يجب ان يقول راضيان. ومعنى البيت نحن بما عندنا راضون وأنت
بما عندك راض وحذف الخبر من الأول لدلالة الثاني عليه كما حذف المفعول في
الثاني لدلالة الأول عليه في قوله " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (4) والتقدير
والذاكرات الله. ومثل ذلك الآية. وتقديرها والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه
في سبيل الله ويكنزون الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله. وموضع " والذين يكنزون "
يحتمل وجهين من الاعراب: أحدهما - أن يكون نصبا بالعطف على اسم (إن)
وتقديره: يأكلون والذين يكنزون الذهب: والثاني - أن يكون رفعا على الاستئناف.
وقال ابن عمر كل ما أخرجت زكاته فليس بكنز، وبه قال عكرمة. وقال
الجبائي وغيره: " الذين يكنزون " نزلت في مانعي الزكاة من أهل الصلاة. وقال
قوم: نزلت في المشركين، والأولى أن تحمل الآية على العموم في الفريقين.
وقوله " فبشرهم بعذاب اليم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ان أصل البشرى مما يظهر في بشرة الوجه من فرح أو غم، إلا

(1) سورة 62 الجمعة آية 11
(2) تفسير القرطبي 8 / 128 ومجاز القرآن 1 / 258
(3) تفسير القرطبي 8 / 128 ومعاني القرآن 1 / 434، 445.
(4) سورة 33 الأحزاب آية 35.
211

انه كثر استعماله في الفرح كما قال الجعدي.
وأراني طربا في إثرهم * طرب الواله اء كالمختبل (1)
لان أصل الطرب ما يستخف من سرور أو حزن.
والثاني - انه وضع الوعيد بالعذاب الأليم موضع البشرى بالنعيم. وروي
عن علي عليه السلام أنه قال: كلما زاد على أربعة آلاف، فهو كنز. أديت زكاته أو لم
تؤد، وما دونها فهو نفقة. وقال أبو ذر: من ترك بيضاء أو صفراء كوي بها وسئل
رسول الله صلى الله عليه وآله عند نزول هذه الآية أي مال يتخذ، فقال: لسانا ذاكرا وقلبا
شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه.
قوله تعالى:
يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم
وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم
تكنزون (36) آية.
قوله " يوم يحمى " متعلق بقوله " فبشرهم بعذاب اليم " في يوم يحمى عليها.
ومعناه انه يدخل الذهب والفضة إلى النار فيوقد عليها يعني على الكنوز التي كنزوا
فالهاء في قوله " عليها " عائدة على الكنوز أو الفضة.
والاحماء جعل الشئ حارا في الاحساس، وهو فوق السخان، وضده التبريد
تقول: حمى حما وأحماه احماء إذا امتنع من حر النار.
وقوله " فتكوى " فالكي إلصاق الشئ الحار بالعضو من البدن. ومنه قولهم
اخر الداء الكي لغلظ أمره كقطع العضو إذا عظم فساده تقول: كواه يكويه كيا

(1) مقاييس اللغة 3 / 445 واللسان (خيل).
212

واكتوى اكتواء. وقوله " جباههم " جمع جبهة وهي صفحة أعلى الوجه فوق الحاجبين.
وجبهه بالمكروه يجبهه جبها إذا استقبله به " وجنوبهم " جمع جنب والجنب والضلع
والا بطل نظائر " وظهورهم " جمع ظهر، وهو الصفحة العليا من خلف، المقابلة للبطن
يقال: كتب في ظهر الدرج وبطنه إذا كتب في جانبيه. والمعنى ان الله يحمي هذه
الكنوز بالنار ليكوي بها جباه من كنزها ولم يخرج حق الله منها وجنوبهم وظهورهم،
فيكون ذلك أشد لعذابهم وأعظم لخزيهم.
وقوله " هذا ما كنزتم " اي يقال لهم: هذا ما ذخرتموه لأنفسكم " فذوقوا
ما كنتم تكنزون " ومعناه فاطعموا جزاء ما كنتم تدخرونه من منع الزكوات
والحقوق الواجبة في أموالكم.
قوله تعالى:
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم
خلق السماوات والأرض منها أربعة ذلك الدين القيم فلا
تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم
كافة واعلموا أن الله مع المتقين (37) آية.
قرأ أبو جعفر " اثنا عشر " و " أحد عشر " و " تسعة عشر " بسكون الشين فيهن إلا أن
النهرواني روى عنه حذف الألف التي قبل العين.
لما ذكر الله تعالى وعيد الظالم لنفسه بكنز المال من غير اخراج الزكاة وغيرها
من الحقوق التي لله منه اقتضى ذلك ان يذكر النهي عن مثل حاله، وهو الظلم في
الأشهر الحرم التي تؤدي إلى مثل حاله أو شر منها في سوء المنقلب، فأخبر تعالى
" ان عدة الشهور " في السنة على ما تعبد الله المسلمين بأن يجعلوه لسنتهم دون ما يعتبره
مخالفوا الاسلام " إثنا عشر شهرا " وإنما قسمت السنة اثني عشر شهرا لتوافق أمر
213

الأهلة مع نزول الشمس في اثني عشر برجا تجري على حساب متفق، كما قال:
" الشمس والقمر بحسبان " (1) والشهر مأخوذ من شهرة أمره لحاجة الناس
إليه في معاملاتهم ومحل ديونهم وحجهم وصومهم، وغير ذلك من مصالحهم
المتعلقة بالشريعة.
وقوله " في كتاب الله " معناه فيما كتبه الله في اللوح المحفوظ وفي الكتب
المنزلة على أنبيائه.
وقوله " يوم خلق السماوات والأرض " متصل ب‍ " عند الله " والعامل فيها
الاستقرار. ثم بين أمر هذه الاثني عشر شهرا " منها أربعة حرم " وهي ذو القعدة،
وذو الحجة، والمحرم، ورجب: ثلاثة سرد وواحد فرد كما يعتقده العرب.
ومعنى " حرم " انه يعظم انتهاك المحارم فيها أكثر مما يعظم في غيرها، وكانت
العرب تعظمها حتى أن الرجل لو لقي قاتل أبيه لم يهجه لحرمته. وإنما جعل الله
تعالى بعض الشهور أعظم حرمة من بعض لما علم في ذلك من المصلحة في الكف عن
الظلم فيها، فعظم منزلتها، وانه ربما أدى ذلك إلى ترك الظلم أصلا لانطفاء النائرة
تلك المدة وانكسار الحمية، فان الأشياء تجر إلى اشكالها.
وقوله " ذلك الدين القيم " معناه التدين بذلك هو الدين المستقيم.
وقوله " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " نهي منه تعالى لخلقه عن أن يظلموا أنفسهم
لان من فعل قبيحا يستحق عليه العقاب، فقد ظلم نفسه بذلك بادخال الضرر عليها
وقال أبو مسلم: معناه لا تدعوا قتال عدوكم في هذه الأشهر بأجمعكم، ولا تمتنعوا
من أحد الا من دخل تحت الجزية والصغار، وكان من أهلها بدلالة قوله " وقاتلوا
المشركين كافة " وكافة مشتقة من كفة الشئ وهي طرفه وإنما أخذ من أن
الشئ إذا انتهى إلى ذلك كف عن الزيادة، ولا يثنى كافة ولا يجمع.
وقوله " وقاتلوا المشركين كافة " امر منه تعالى بقتال المشركين أجمع: امر

(1) سورة 55 الرحمان آية 5
214

الله تعالى المؤمنين بأن يقاتلوهم كما أن المشركين يقاتلونهم كذلك، والضمير في قوله
" فيهن " يحتمل أن يكون عائدا على الشهور كلها على ما قال ابن عباس، ويحتمل
أن يعود على الأربعة الحرم على ما قال قتادة لعظم أمرها. واختار الفراء رجوعه
إلى الأشهر الحرم. قال لأنه لو رجع إلى الاثني عشر لقال فيها. والصحيح ان الجميع
جائز وإنما خص الأربعة اشهر بذلك في قول قتادة لتعاظم الظلم لان أن الظلم يجوز
فعله على حال من الأحوال.
وقوله " ذلك الدين القيم " معناه ذلك الحساب الصحيح هو الدين القيم لا
ما كانت عليه العرب من النسئ. وقيل: معناه ذلك التدين هو الدين القيم. وقوله
" كافة " نصب على المصدر، ولا يدخل عليها الألف واللام، لأنه من المصادر التي
لا تنصرف لوقوعه موقع معا وجمعا بمعنى المصدر الذي هو في موضع الحال
المذكورة، فهو في لزوم النكرة نظير أجمعين في لزوم المعرفة.
وقوله " واعلموا ان الله مع المتقين " لمعاصيهم وما يؤدي إلى عقابه ويكون
معهم بالنصرة والولاية دون الاجتماع في مكان أو محل، لان الله لا يجوز عليه ذلك
لأنه من امارات الحدث.
قوله تعالى:
إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه
عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم
الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين (38) آية
قرأ أبو جعفر وابن فرج عن البزي " إنما النسي " من غير همز قلب الهمزة
ياء وادغم الياء الأولى فيها فلذلك شدد.. الباقون " النسئ " ممدود مهموز على وزن
فعيل. وروي عن ابن مجاهد وابن مسعود عن عبيد بن عقيل عن شبل عن ابن كثير
215

" النس ء " على وزن النسع. وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " يضل " بضم الياء وفتح
الضاد. وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد. الباقون بفتح الياء وكسر الضاد
قال أبو علي: وجه قراءة ابن كثير إذا قرأت على وزن النسع ان (النسئ)
التأخير. قال أبو زيد: نسأت الإبل في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك،
والمصدر " النسئ " ويقال: الإبل نسأتها على الحوض وأنا أنسأنها نسئا إذا اخرتها
عنه. قال: وما روي عن ابن كثير من قراءته بالياء فذلك على ابدال الياء من
الهمزة، ولا أعلمها لغة في التأخير، كما أن أرجيت لغة في أرجأت. وما روي
فيه من التشديد فعلى تخفيف الهمز، لان النسي بتشديد الياء على وزن فعيل
بالتخفيف قياسي. وسيبويه لا يجيز نحو هذا القلب الذي في النسئ الا في ضرورة
الشعر. وابن زيد يراه ويروي كثيرا عن العرب. ومن قرأ بالمد والهمز فلانه
أكثر هذا في المعنى. قال أبو زيد: أنسأته الدين إنساء إذا أخترته واسم ذلك
النسيئة والنسأ. وكان النسئ في الشهور تأخير حرمة شهر إلى شهر ليست له تلك
الحرمة فيحرمون بهذا التأخير ما أحل الله ويحلون ما حرم الله. والنسئ مصدر
كالنذير والنكير وعذير الحي. ولا يجوز أن يكون (فعيلا) بمعنى مفعول لأنه
حمل على ذلك كأن معناه إنما المؤخر زيادة في الكفر. المؤخر الشهر وليس
الشهر نفسه بزيادة في الكفر، وإنما الزيادة في الكفر تأخير حرمة الشهر إلى شهر
آخر ليست له تلك الحرمة. وقال أبو عبيدة فيما روى عن الثوري من قوله: إنما
النسئ زيادة في الكفر، قال: كانوا قد وكلوا قوما من بني كنانة يقال لهم:
بنوا فقيم وكانوا يؤخرون المحرم وذلك نساء الشهور لا يفعلون ذلك الا في ذي الحجة
إذا اجتمعت العرب للموسم، فينادي مناد أن افعلوا ذلك لحاجة أو لحرب، وليس كل
سنة يفعلون ذلك، فان أرادوا ان يحلوا المحرم نادوا هذا صفر وان المحرم الأكبر
صفر، وربما جعلوا صفرا محرما مع ذي القعدة حتى يذهب الناس إلى منازلهم إذا
نادى المنادي بذلك، وكانوا يسمون المحرم صفرا ويقدمون ويقدمون صفرا سنة ويؤخرونه.
216

وقال الفراء: والذي يتقدم به رجل بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان
رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء فيقولون:
نعم صدقت انسئنا شهرا أو أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر وأحل المحرم فيفعل
ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة اشهر حرم لا يغيرون فيها وكان معاشهم في
الغارة. والذي كان ينسأها حين جاء الاسلام هو جنادة بن عوف بن أبي أمية وكان
في بني معد إن قبل بنو كنانة قال الشاعر:
ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما (1)
وقال ابن عباس كانوا يجعلون المحرم صفرا وقال أبو علي: كانوا يؤخرون
الحج في كل سنة شهرا وكان الذين ينسئون بنو سليم، وغطفان، وهوازن، ووافق
حج المشركين في السنة التي حج فيها أبو بكر في ذي القعدة، فلما حج النبي صلى الله عليه وآله
في العام المقبل وافق ذلك في ذي الحجة فلذلك قال: ألا إن الزمان قد استدركه كهيئة
يوم خلق السماوات والأرض وقال مجاهد: فكان النسئ المنهي عنه في الآية تأخير
الأشهر الحرم عما رتبها الله، وكانوا في الجاهلية يعملون ذلك وكان الحج يقع في
غير وقته واعتقاد حرمة الشهر في غير أوانه، فبين تعالى أن ذلك زيادة في الكفر.
قال أبو علي: من قرأ " يضل " بفتح الياء وكسر الضاد قال الذين كفروا
لا يخلوا أن يكونوا مضلين لغيرهم أو ضالين هم في أنفسهم فإذا كان كذلك لم يكن
في حسن اسناد الضلال في قوله " يضل " اشكال، ألا ترى أن المضل لغيره ضال
بفعله اضلال غيره كما أن الضال في نفسه الذي لم يضله غيره لا يمتنع اسناد
الضلال إليه ومن ضم الياء وكسر الضاد فمعناه ان كبراءهم واتباعهم يضلونهم بأمرهم
إياهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور. وروي في التفسير ان رجلا من كنانة
يقال له أبو ثمامة كان يقول للناس في منصرفهم من الحج إن آلهتكم قد أقسمت

(1) قائله الكميت. تفسير القرطبي 8 / 138
217

لنحر من. وربما قال لنحلن هذا الشهر يعني المحرم فيحلونه ويحرمون صفرا وان
حرموه أحلوا صفرا وكانوا يسمونهما الصفرين فهذا اضلال من هذا المنادي.
ومن قرأ بضم الياء وفتح الضاد - وقيل إنها قراءة ابن مسعود - يقوي ذلك قوله
" زين لهم سواء اعمالهم " اي زين ذلك لهم حاملوهم عليه وداعوهم إليه. وعلى
هذه القراءة يكون " الذين كفروا " في موضع رفع بأنهم فاعلون والمفعول به
محذوف وتقديره يضل منسؤا الشهور الذين كفروا تابعيهم والاخذين لهم بذلك.
ومعنى قوله " ليواطئوا " فالمواطأة موافقة امر التوطئة المعنى ليواطئوا
العدة في الأربعة اشهر.
وقوله " زين لهم اعمالهم " قال الحسن وأبو علي المزين لهم أنفسهم
والشيطان وقيل: زين بالشهوة وليجتنبوا المشتهى فذكر ذلك للتحذير والاعتراف
به. والتزيين يكون بمعنى الفعل له ويكون بمعنى تقبل الطبع. وإنما سمي انساؤهم
زيادة في الكفر من حيث أنهم اعتقدوا أن ذلك صحيح وصواب فلذلك كان كفرا
فلا حجة في ذلك أن تكون افعال الجوارح كفرا.
وقوله " والله لا يهدي القوم الكافرين " معناه انه لا يهديهم إلى طريق الجنة
إذ كانوا كفارا مستحقين لعذاب الأبد.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل
الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة
فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل (39) آية.
هذا خطاب من الله تعالى لجماعة من المؤمنين وعتاب وتوبيخ لهم بأنهم إذا قيل
لهم على لسان رسوله " انفروا في سبيل الله " ومعناه اخرجوا في سبيل الله يعني الجهاد
218

وسماه سبيل الله، لان القيام به موصل إلى معنى الجنة ورضا الله تعالى والنفر الخروج
إلى الشئ لامر هيج عليه وضده الهدوء تقول: نفر إلى الثغر ينفر نفرا ونفيرا ولا يقال
النفور إلا في المكروه كنفور الدابة عما تخاف، وقوله " اثاقلتم إلى الأرض "
أصله تثاقلتم وأدغمت التاء في الثاء لمناسبتها لها وأدخلت الف الوصل ليمكن الابتداء
بها ومثله اداركوا قال الشاعر:
تولى الضجيع إذا ما استافها خصرا * عذب المذاق إذا ما أتابع القبل (1)
والتثاقل تعاطي اظهار ثقل النفس ومثله التباطئ وضده التسرع. ومعنى
" اثاقلتم إلى الأرض " قيل فيه قولان:
أحدهما - إلى المقام بأرضكم ووطنكم.
الثاني - لما اخرج من الأرض من الثمر والزرع. قال الحسن ومجاهد:
دعوا إلى الخروج إلى غزوة تبوك بعد فتح مكة وغزوة الطائف، وكان أيام ادراك
الثمرة ومحبة القعود في الظل فعاتبهم الله على ذلك. والآية مخصوصة بقوم من
المؤمنين دون جميعهم، لان من المعلوم ان جميعهم لم يكن بهذه الصفة من التثاقل
في الجهاد، وهو قول الجبائي وغيره. فقال الله تعالى لهم على جهة التوبيخ، والتعنيف
أرضيتم بالحياة الدنيا على الآخرة، آثرتم الحياة الدنيا الفانية على الحياة الآخرة
الباقية. وهو استفهام، والمراد به الانكار. والرضا هو الإرادة غير أنها لا توصف
بذلك إلا إذا تعلقت بما مضى من الفعل والإرادة توصف بما لم يوجد بعد قال
تعالى مخبرا " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة الا قليل " اي ليس الانتفاع بما
يظهر للحواس الا قيل ومنه قولهم: تمتع بالرياض والمناظر الحسان. ويقال للأشياء
التي لها أثمان: متاع تشبيها بالانتفاع به.

(1) معاني القرآن 1 / 438 والطبري 14 / 252 (استاف) الشئ قرب منه
وشمه، و (القبل) - بضم القاف - جمع قبلة.
219

قوله تعالى:
إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم
ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير (40) آية.
هذا تحذير من الله تعالى لهؤلاء الذين استبطأهم ووصفهم بالتثاقل عن سبيل
الله بقوله " إلا تنفروا " أي إن لم تخرجوا إلى سبيل الله التي دعيتم إليها من الجهاد
" يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم " يقومون بنصرة نبيه ولا يتثاقلون فيه.
والاستبدال جعل أحد الشيئين بدل الاخر مع الطلب له والتعذيب بطول وقت
العذاب، لأنه من الاستمرار وقد يكون عقابا وغير عقاب.
وقوله " ولا تضروه شيئا " قيل فيمن يرجع إليه قولان: أحدهما - انه
يعود على اسم الله في قول الحسن. قال: لأنه غني بنفسه عن جميع الأشياء
والاخر - قال الزجاج: إنها تعود إلى النبي صلى الله عليه وآله لان الله عصمه من جميع الناس
وقوله " والله على كل شئ قدير " معناه قادر على الاستبدال بكم وعلى غيره من
الأشياء. وفيه مبالغة.
قوله تعالى:
إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا تاني
اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا
فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة
الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز
حكيم (41) آية.
220

قرأ يعقوب وجده " وكلمة الله هي العليا " بالنصب على تقدير وجعل كلمة الله هي
العليا ومن رفع استأنف، وهو أبلغ لأنه يفيد أن كلمة الله العليا على كل حال.
وهذا أيضا زجر آخر وتهديد لمن خاطبه في الآية الأولى بأنهم إن لم ينصروا
النبي صلى الله عليه وآله ولم يقاتلوا معه ولم يجاهدوا عدوه " فقد نصره الله " أي قد فعل الله به
النصر حين اخرجه الكفار من مكة " ثاني اثنين ". وهو نصب على الحال اي هو ومعه
آخر، وهو أبو بكر في وقت كونهما في الغار من حيث " قال لصاحبه " يعني
أبا بكر " لا تحزن " اي لا تخف. ولا تجزع " ان الله معنا " أي ينصرنا. والنصرة
على ضربين: أحدهما - يكون نعمة على من ينصره. والاخر - لا يكون
كذلك، فنصرة المؤمنين تكون إحسانا من الناصر إلى نفسه لان ذلك طاعة لله ولم
تكن نعمة على النبي صلى الله عليه وآله. والثاني - من ينصر غيره لينفعه بما تدعوا إليه الحكمة
كان ذلك نعمة عليه مثل نصرة الله لنبيه صلى الله عليه وآله
ومعنى " ثاني اثنين " أحد اثنين يقولون هذا ثاني اثنين، وثالث ثلاثة، ورابع
أربعة، وخامس خمسة، لأنه مشتق من المضاف إليه. وقد يقولون خامس أربعة أي
خمس الأربعة بمصيره فيهم بعد أن لم يكن.
والغار ثقب عظيم في الجبل. قيل: وهو جبل بمكة يقال له ثور، في قول قتادة.
وقال مجاهد: مكث النبي صلى الله عليه وآله في الغار مع أبي بكر ثلاثا. وقال الحسن: أنبت
الله على باب الغار ثمامة، وهي شجيرة صغيرة. وقال غيره: الهم العنكبوت؟؟؟؟
على باب الغار. وأصل الغار الدخول إلى عمق الخباء. ومنه قوله " إن أصبح ماؤكم
غورا " (1) وغارت عينه تغور غورا إذا دخلت في رأسه. ومنه أغار على القوم إذا
أخرجهم من أخبيتهم بهجومه عليهم.
وقوله " فأنزل الله سكينته عليه " قيل فيمن تعود الهاء إليه قولان: أحدهما -
قال الزجاج: إنها تعود إلى النبي صلى الله عليه وآله. والثاني - قال الجبائي: تعود على أبي بكر

(1) سورة 67 الملك آية 30
221

لأنه كن الخائف واحتاج إلى الامن لان من وعد بالنصر فهو ساكن القلب. والأول
أصح، لان جميع الكنايات قبل هذا وبعده راجعة إلى النبي صلى الله عليه وآله ألا ترى أن قوله
" إلا تنصروه " الهاء راجعة إلى النبي صلى الله عليه وآله بلا خلاف، وقوله " فقد نصره الله "
فالهاء أيضا راجعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وقوله " إذا اخرجه " يعني النبي صلى الله عليه وآله " إذ
يقول لصاحبه " يعني صاحب النبي صلى الله عليه اله ثم قال " فأنزل الله سكينته عليه " وقال
بعده " وأيده بجنود " يعني النبي صلى الله عليه وآله فلا يليق أن يتخلل ذلك كله كناية عن
غيره وتأييد الله إياه بالجنود ما كان من تقوية الملائكة لقلبه بالبشارة بالنصر من
ربه ومن القاء اليأس في قلوب المشركين حتى انصرفوا خائبين.
وقوله " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى " أي جعلها نازلة دنية وأراد
بذلك أن يسفل وعيدهم النبي صلى الله عليه وآله وتخويفهم إياه فأبطل وعيدهم ونصر رسول الله
والمؤمنين عليهم فعبر عن ذلك بأنه جعل كلمتهم كذلك، لا انه خلق كلمتهم كما
قال " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " (1).
وقيل: إن كلمة الذين كفروا الشرك، وكلمة الله التوحيد، وهي قول:
لا إله إلا الله. وقيل: كلمتهم هو ما تغامزوا عليه ومن قتله. و " كلمة الله " ما
وعد به من النصر والنجاة. ثم أخبر ان " كلمة الله هي العليا " المرتفة اي هي
المنصورة بغير جعل جاعل، لأنها لا يجوز أن تدعو إلى خلاف الحكمة. وقوله
" والله عزيز " معناه قادر لا يقهر " حكيم " واضع الأشياء مواضعها ليس فيها وجه
من وجوه القبح.
وليس في الآية ما يدل على تفضيل أبي بكر، لان قوله " ثاني اثنين " مجرد
الاخبار أن النبي صلى الله عليه وآله خرج ومعه غيره، وكذلك قوله " إذ هما في الغار " خبر
عن كونهما فيه، وقوله " إذ يقول لصاحبه " لا مدح فيه أيضا، لان تسمية الصاحب
لا تفيد فضيلة ألا ترى أن الله تعالى قال في صفة المؤمن والكافر " قال له صاحبه وهو

(1) سورة 43 الزخرف آية 19.
222

يحاوره أكفرت بالذي خلقك " (1) وقد يسمون البهيمة بأنها صاحب الانسان
كقول الشاعر (وصاحبي بازل شمول) وقد يقول الرجل المسلم لغيره: ارسل إليك
صاحبي اليهودي، ولا يدل ذلك على الفضل، وقوله " لا تحزن " إن لم يكن ذما فليس
بمدح بل هو نهي محض عن الخوف، وقوله " إن الله معنا " قيل إن المراد به
النبي صلى الله عليه وآله، ولو أريد به أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة، لأنه يحتمل أن يكون ذلك
على وجه التهديد، كما يقول القائل لغيره إذا رآه يفعل القبيح لا تفعل إن الله معنا
يريد أن متطلع علينا، عالم بحالنا. والسكينة قد بينا أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وآله
بما بيناه من أن التأييد بجنود الملائكة كان يختص بالنبي صلى الله عليه وآله فأين موضع الفضيلة
للرجل لولا العناد، ولم نذكر هذا للطعن على أبي بكر بل بينا أن الاستدلال
بالآية على الفضل غير صحيح.
قوله تعالى:
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في
سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (42) آية.
هذا امر من الله تعالى للمؤمنين أن ينفروا إلى جهاد المشركين خفافا وثقالا
وقيل في معنى " خفافا وثقالا " ثمانية أقوال: أحدها - قال الحسن ومجاهد
والضحاك والجبائي: إن معناه شبانا وشيوخا. وثانيها - قال صالح: معناه أغنياء
وفقراء. وثالثها - قال ابن عباس وقتادة: نشاطا وغير نشاط. ورابعها - قال
أبو عمرو: ركبانا ومشاة. وخامسها - قال ابن زيد: ذا صنعة وغير ذي صنعة.
وسادسها - قال الحكم: مشاغيل وغير مشاغيل. وسابعها - قال الفراء: ذو العيال،
والميسرة: هم الثقال، وذو العسرة وقلة العيال هم الخفاف. وثامنها - ان يحمل

(1) سورة 18 الكهف آية 38
223

على عمومه فيدخل فيه جميع ذلك، وهو الأولى والأليق بالظاهر، وهو اختيار
الطبري، والرماني ويكون ذلك على حال خفة النفير وثقله لان هذا الذي ذكر
يجري مجرى التمثيل لما يعمل هذا العمل به.
وقوله " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم " أمر من الله لهم بأن يجاهدوا في
قتال أعدائه بأموالهم وأنفسهم. والجهاد بالمال واجب كالجهاد الأنفس، وهو
الانفاق في سبيل الله، وظاهر الآية يدل على وجوب ذلك بحسب الامكان. فمن لم
يطق الجهاد إلا بالمال فعليه ذلك يعين به من ليس له مال.
وظاهر الآية يقتضي وجوب مجاهدة البغاة كما يجب مجاهدة الكفار، لأنه
جهاد في سبيل الله، ولقوله " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى امر الله " (1) فأوجب
قتال البغاة إلى حين يرجعوا إلى الحق. وقوله " ذلكم خير لكم " إشارة إلى الجهاد
وتقديره ذلك الجهاد خير لكم. وإنما قال " خير لكم " وان لم يكن في ترك الجهاد
خير، لاحد أمرين: أحدهما - خير من تركه إلى المباح. والثاني - ان فيه الخير
لكم لا في تركه، فلا يكون خير بمعنى أفعل من كذا.
وقوله " إن كنتم تعلمون " معناه إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا
أن هذا خير. وقال أبو علي: معناه " ان كنتم تعلمون " صدق الله فيما وعد به من
الثواب الدائم.
وقال أبو الضحى: أول ما نزل من سورة براءة " انفروا ".
وقال مجاهد: أول ما نزل قوله " لقد نصركم الله.
وقال ابن عباس: نسخ هذه الآية قوله " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " (2).
وقال جعفر بن قيس: هذا ليس بمنسوخ، لان المنسوخ ما لا يجوز فعله.
وهذا ليس بصحيح، لأنه يجوز أن يكون وجوبه زال إلى الندب أو الإباحة.

(1) سورة 49 الحجرات آية 9
(2) سورة 9 التوبة آية 123
224

قوله تعالى:
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لا تبعوك ولكن بعدت
عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم
يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (43) آية.
هذه الآية في قوم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وآله ولم يخرجوا معه إلى غزوة تبوك.
وحسن الكناية عنهم وإن لم يجر لهم ذكر لكونهم داخلين في جملة الذين أمروا
بالخروج مع النبي صلى الله عليه وآله إلى الجهاد وأن ينفروا معه. والمعنى لو كان المدعو إليه
عرضا قريبا من الغنيمة وما يطمع فيه من المال " وسفرا قاصدا " معناه سفرا سهلا
باقتصاده من غير طول في آخره. وسمي العدل قصدا، لأنه مما ينبغي أن يقصد
" لا تبعوك " يعني خرجوا معك وبادروا إلى اتباعك " ولكن بعدت عليهم الشقة "
اي بعدت عليهم المسافة، لأنهم دعوا إلى الخروج إلى تبوك ناحية الشام، فالشقة
القطعة من الأرض التي يشق ركوبها على صاحبها لبعدها. ويحتمل أن يكون من
الشق ويحتمل أن يكون من المشقة. والشقة السفر والمشاقة. وقريش يضمون الشين،
وقيس يكسرونها. وقريش يضمون العين من (بعدت).
وقوله " وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم " اخبار منه تعالى ان
هؤلاء الذين ذكرهم يحلفون ويقسمون على وجه الاعتذار إليك ويقولون فيما
بعد " لو استطعنا لخرجنا معكم " اي لو قدرنا وتمكنا من الخروج لخرجنا معكم
ثم اخبر تعالى انهم " يهلكون أنفسهم " بذلك وأخبر تعالى انه يعلم أنهم يكذبون
في هذا الخبر الذي أقسموا عليه. وفي الآية دلالة على أن الاستطاعة قبل الفعل
لأنهم لا يخلون من أحد أمرين: إما أن يكونوا مستطيعين من الخروج وقادرين
عليه ولم يخرجوا أولم يكونوا قادرين عليه وإنما حلفوا أنهم لو قدروا في المستقبل
225

لخرجوا، فإن كان الأول فقد ثبت ان القدرة قبل الفعل، وإن كان المراد الثاني
فقد أكذبهم الله في ذلك وبين انه لو فعل لهم الاستطاعة لما خرجوا، وفي ذلك أيضا
تقدم القدرة على المقدور، وليس لهم أن يجعلوا الاستطاعة على آلة السفر وعدة
الجهاد، لان ذلك ترك الظاهر من غير ضرورة فان حقيقة الاستطاعة القدرة وإنما
يشبه غيرها بها على ضرب من المجاز، على أنه إذا كان عدم الآلة والعدة يعذر
صاحبه في التأخر فمن ليس فيه قدرة أولى بأن يكون معذورا وفي الآية دلالة
على النبوة لأنه اخبر انهم سيحلفون في المستقبل على ذلك بالله " لو استطعنا لخرجنا
معكم " فجاؤوا فيما بعد وحلفوا على ما اخبر به.
قوله تعالى:
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا
وتعلم الكاذبين (44) آية.
هذه خطاب فيه بعض العتاب للنبي صلى الله عليه وآله في إذنه من استأذنه في التأخر فأذن
له، فأخبر الله بأنه كان الأولى ان لا تأذن لهم وتلزمهم الخروج معك حتى إذا لم
يخرجوا ظهر نفاقهم، لأنه متى أذن لهم ثم تأخروا لم يعلم بالنفاق كان تأخر هم أم
بغيره. وكان الذين استأذنوه منافقين. وحقيقة العفو الصفح عن الذنب، ومثله
الغفران، وهو ترك المؤاخذة على الاجرام. وقد كان يجوز أن يعفو الله عن جميع
المعاصي كفرا كان أو غيره، غير أنه أخبر أنه لا يعفو عن عقاب الكفر، لاجماع الأمة
على ذلك، وما عداه من الفسق باق على ما كان عليه من الجواز.
وإنما قال " عفا الله عنك " على غير لفظ المتكلم لأنه أفخم من الكناية لان
هذا الاسم من أسماء التعظيم كما أن قولك إن رأي الأمير افخم من قولك إني رأيت.
وقال أبو علي الجبائي: في الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله كان وقع منه ذنب
226

في هذا الاذن. قال: لأنه لا يجوز أن يقال لم فعلت ما جعلت لك فعله؟ كما لا يجوز
أن يقول لم فعلت ما أمرتك بفعله. وهذا الذي ذكره غير صحيح، لان قوله " عفا
الله عنك " إنما هي كلمة عتاب له صلى الله عليه وآله لم فعل ما كان الأولى به أن لا يفعله، لأنه
وإن كان له فعله من حيث لم يكن محظورا فان الأولى ان لا يفعله، كما يقول القائل
لغيره إذا رآه يعاتب أخاله: لم عاتبته وكلمته بما يشق عليه؟ وإن كان له معاتبته
وكلامه بما يثقل عليه. وكيف يكون ذلك معصية وقد قال الله في موضع آخر:
" فان استأذنوك لبعض شأنهم فاذن لمن شئت منهم " وإنما أراد الله أنه كان ينبغي
أن ينتظر تأكيد الوحي فيه. ومن قال هذا ناسخ لذلك فعليه الدلالة.
وقوله " لم أذنت " فالاذن رفع التبعة، عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله لم أذن لقوم
من المتأخرين عن الخروج معه إلى تبوك وإن كان له اذنهم لكن كان الأولى ان
لا يأذن " حتى يتبين لك " حتى يظهر لك " الذين صدقوا " في قولهم لو استطعنا
لخرجنا معكم، لأنه كان فيهم من اعتل بالمرض والعجز وعدم الحمولة " وتعلم الكاذبين "
منهم في هذا القول.
قوله تعالى:
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين (45) آية.
أخبر الله تعالى نبيه بعلامة المنافقين والكاذبين بأن بين أنه لا يستأذن أحد
النبي صلى الله عليه وآله في التأخر عنه والخروج معه إلى جهاد أعدائه ولا يسأله الاذن في
التأخر القوم الذين يؤمنون بالله ويصدقون به ويقرون بوحدانيته ويعترفون باليوم
الاخر. والاستئذان طلب الاذن من الاذن. ومعنى قوله " أن يجاهدوا " فيه حذف
وتقديره لان لا يجاهدوا بحذف (لا) لان ذمهم قد دل عليه - هذا قول أبي علي
227

الجبائي - وقال الحسن: تقديره كراهية أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم. وقال
الزجاج: هو في موضع نصب، لان تقديره في أن يجاهدوا، فلما حذف حرف الجر
انتصب، وعند سيبويه وغيره هو في موضع الجر.
وقوله " والله عليم بالمتقين " اخبار منه تعالى بأنه يعلم من يتقي معصية الله
ويخاف عقابه، ومن لا يتقيه. قال ابن عباس هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوه في
القعود عن الجهاد وعذر للمؤمنين، فقال: لم يذهبوا حتى يستأذنوه. والمعنى انه لم
يخرجهم من صفة المتقين إلا أنه علم أنهم ليسوا منهم.
فان قيل أي الجهادين أفضل: أجهاد السيف أم جهاد العلم؟
قيل: هذا بحسب الحاجة إليه والمصلحة فيه، وكذلك الجهاد بالمال والجهاد
بالنفس. وإنما يقع التفاضل مع استواء الأحوال الا بمقدار الخصلة الزائدة من
خصال الفضل. وأجاز الرماني الجهاد مع الفساق إذا عاونوا على حق في قتال الكفار
لأنهم يطيعون في ذلك الفعل كما هم مطيعون في الصلاة والصيام وغير ذلك من شريعة
الاسلام. والظاهر من مذهب أصحابنا أنه لا يجوز ذلك إلا ما كان على وجه الدفع
عن النفس وعن بيضة الاسلام.
قوله تعالى:
إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (46) آية.
أخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه إنما يستأذن النبي صلى الله عليه وآله في التأخر عن الجهاد
والقعود عن القتال معه القوم " الذين لا يؤمنون بالله " اي لا يصدقون بالله ولا يعترفون
به " واليوم الآخر " يعني بالبعث والنشور " وارتابت قلوبهم " يعني اضطربت
وشكت. والارتياب هو الاضطراب في الاعتقاد بالتقدم مرة والتأخر أخرى. والريبة
228

شك معه تهمة: رابني ريبا وريبة وارتاب ارتيابا، واستراب استرابة.
وقوله " فهم في ريبهم يترددون " معناه فهم في شكهم يذهبون ويرجعون
والتردد هو التصرف بالذهاب والرجوع مرات متقاربة، مثل المتحير، رده ردا
وردده ترديدا، وتردد ترددا وارتد ارتدادا، وراده مرادة، وتراد القوم
تردادا، واسترده استردادا. وقوله " في ريبهم يترددون " يدل على بطلان قول
من يقول: إن المعارف ضرورة، لأنه تعالى أخبر أنهم في شكهم يترددون، صفة الشاك
المتحير في دينه الذي ليس على بصيرة من أمره. وقيل في معنى اليوم الآخر قولان:
أحدهما - انه آخر يوم من أيام الدنيا والمؤذن بالكرة الأخيرة.
الثاني - وهو الأقوى - انه يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة وهو الأظهر
من مفهوم هذه اللفظة.
قوله تعالى:
ولو أرادوا الخروج لا عدوا له عدة ولكن كره الله
انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (47) آية.
اخبر الله تعالى ان هؤلاء المنافقين لو أرادوا الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله نصرة
له ورغبة في جهاد الكفار كما أراد المؤمنون ذلك لا عدوا للخروج عدة، وهو ما يتهيأ
لهم معها الخروج، ولكن لم يكن لهم في ذلك نية وكان عزمهم على أن النبي صلى الله عليه وآله
ان لم يأذن لهم في الإقامة فخرجوا، أفسدوا عليك وضربوا بين أصحابك، وأفسدوا
قلوبهم، فكره الله خروجهم على هذا الوجه، لان ذلك كفر ومعصية. والله لا يكره
الخروج الذي أمرهم به، وهو أن يخرجوا لنصرة نبيه وقتال عدوه والجهاد في
سبيله كما خرج المؤمنون كذلك، فثبطهم الله عن الخروج الذي عزموا عليه ولم
يثبطهم عن الخروج الذي أمرهم به، لان الأول كفر. والثاني طاعة.
وقوله " وقيل اقعدوا مع القاعدين " يحتمل شيئين: أحدهما - أن يكون
229

القائلون لهم ذلك أصحابهم الذين نهوهم عن الخروج مع النبي نصرة له ورغبة في
الجهاد. والثاني - أن يكون ذلك من قول النبي صلى الله عليه وآله لهم على وجه التهديد لا على
وجه الاذن، ويجوز أن يكون إذنه لهم في القعود الذي عاتبه الله عليه. وأنه كان
الأولى أن لا يأذن لهم فيه، ولا يجوز أن يكون ذلك من قول الله، لأنه لو كان
كذلك لكان مباحا لهم التأخر. اللهم إلا أن يكون ذلك على وجه التهديد، فيجوز
أن يكون ذلك من قول الله. والعدة والأهبة والآلة نظائر. والانبعاث الانطلاق
بسرعة في الامر، ولذلك يقال: فلان لا ينبعث في الحاجة أي ليس له نفاذ فيها.
والتثبط التوقف عن الامر بالتزهيد فيه ومثله التعقيل. وقوله " مع القاعدين "
يعني مع النساء والصبيان والمرضى والزمنى، ومن ليس به حراك. وقال ابن إسحاق:
كان الذين استأذنوه اشرافا ورؤساء كعبد الله بن أبي بن أبي سلول والحد بن قيس.
وزاد مجاهد رفاعة بن التابوت وأوس بن قبطي.
قوله تعالى:
لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا
خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم
بالظالمين (48) آية.
بين الله تعالى في هذه الآية الوجوه في كراهية انبعاثهم ووجه الحكمة في
تثبيطهم عن ذلك وهو ما علم من أن في خروجهم مفسدة للمؤمنين، لأنه قال " لو خرجوا
فيكم ما زادوكم إلا خبالا " قال الفراء: لو قال ما زادكم يريد خروجهم لكان
جائزا، وهذا من سعة العربية. والخبال الفساد، والخبال الموت، والخبال
لاضطراب في الرأي بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين ليختلفوا وتفترق كلمتهم.
قوله " ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة " والايضاع الاسراع في السير بطرح العلق
230

قال الشاعر:
أرانا موضعين لامر غيب * ونسحر بالطعام وبالشراب (1)
وقال آخر:
يا ليتني فيها جذع * أخب فيها وأضع (2)
وربما قالوا للراكب: وضع بغير الف، ومنه وضعت الناقة تضع وضعا،
وأوضعتها إيضاعا. ومعنى الايضاع هاهنا إسراعهم في الدخول بينهم للتضريب بنقل
الكلام على وجه التخويف. قال الحسن: معناه مشوا بينكم بالنميمة، لافساد ذات
بينكم. وقوله " وفيكم سماعون لهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال قتادة وابن إسحاق: فيكم القابلون منهم عند سماع
قولهم، وقوله " إلا خبالا " استثناء منقطع وتقديره ما زادوكم قوة ولكن طلبوا
لكم الخبال ويحتمل أن يكون المعنى إنهم على خبال في الرأي فيعقده حتى يصير
خبالا فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا.
الثاني - قال مجاهد وابن زيد: لهم عيون منهم ينقلون أخباركم إلى المشركين.
وقوله " يبغونكم الفتنة " معناه يطلبون لكم المحنة باختلاف الكلمة والفرقة.
قال الحسن: يبغونكم أن تكونوا مشركين. وأصل الفتنة إخراج خبث الذهب
بالنار، تقول: بغيتك كذا بمعني بغيت لك ومثله جلبتك وجلبت لك و " خلالكم "
أي بينكم مشتق من التخلل، وهي الفرج تكون بين القوم في الصفوف وغيرها،
ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله تراصوا في الصفوف لا يتخللكم أولاد الخذف.
وقوله: " والله عليم بالظالمين " معناه - هاهنا - عالم بمن يستأذن

(1) مر تخريجه في 1 / 372
(2) قائله دريد بن الصمة قاله يوم حنين: اللسان (وضع) وسيرة ابن هشام
4 / 82 وتفسير الطبري 14 / 278
231

النبي صلى الله عليه وآله في التأخر شكا في الاسلام ونفاقا، وعالما بمن سمع حديث المؤمن
وينقله إلى المنافقين فان هؤلاء ظالمون أنفسهم وباخسون لها حظها من الثواب.
قوله تعالى:
لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لكم الأمور حتى جاء
الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (49) آية.
اقسم الله تعالى أن هؤلاء المنافقين " ابتغوا " أي طلبوا إفساد ذات بينكم
وافترق كلمتكم في يوم أحد حتى انصرف عبد الله بن أبي بأصحابه وخذل النبي صلى الله عليه وآله
وكان هو وجماعة من المنافقين يبغون للاسلام الغوائل قبل هذا، فسلم الله المؤمنين
من فتنتهم وصرفها عنهم. وقوله " وقلبوا لك الأمور " فالتقليب هو تصريف الشئ
بجعل أسفله أعلاه مرة بعد أخرى، فهؤلاء صرفوا القول في المعنى للحيلة والمكيدة
وقوله " حتى جاء الحق " أي حتى اتى الحق " وظهر أمر الله وهم كارهون "
أي في حال كراهتهم لذلك، فهي جملة موضع الحال. والظهور خروج الشئ
إلى حيث يقع عليه الادراك وقد يظهر المعنى للنفس إذا حصل العلم به.
قوله تعالى:
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (50) آية.
قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد: نزلت هذه الآية في ألحد بن قيس، وذلك أن
النبي صلى الله عليه وآله لما دعا الناس إلى الخروج إلى غزوة تبوك لقتال الروم جاءه ألحد
ابن قيس، فقال: يا رسول الله إني رجل مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر،
قال الفراء: سمي الروم أصفر، لان حبشيا غلب على ناحية الروم، وكان له بنات
232

قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرا لعسا، فنزلت هذه الآية فيه.
وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وأبو علي والزجاج: معنى ولا تفتني ولا تؤثمني
بالعصيان في المخالفة التي توجب الفرقة، فتضمنت الآية ان من جملة المنافقين
من استأذن النبي صلى الله عليه وآله في التأخر عن الخروج، والاذن رفع التبعة في الفعل، وهو
والإباحة بمعنى، وقال له " لا تفتني " اي لا تؤثمني بأن تكلفني المشقة في ذلك
فأهم بالعصيان أو لا تفتني ببنات أصفر على ما حكيناه، فقال الله تعالى " ألا في
الفتنة سقطوا " أي وقعوا في الكفر والمعصية بهذا القول وبهذا الفعل. والسقوط الوقوع
إلى جهة السفل ووقوع الفعل حدوثه وسقوطه أيضا. وقوله " وإن جهنم لمحيطة
بالكافرين " اخبار منه تعالى أن جهنم مطيفة بما فيها من جميع جهاتها بالكافرين.
والإحاطة والإطافة والإحداق نظائر في اللغة. ولا يدل ذلك على أنها لا تحيط بغير
الكفار من الفساق الا ترى أنها تحيط بالزبانية والمتولين للعقاب، فلا تعلق
للخوارج بذلك.
قوله تعالى:
إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا
أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (51) آية.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله بأن هؤلاء المنافقين الذين ذكر هم متى
نال النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين حسنة أي نعمة من الله تعالى وظفر بأعدائهم وغنيمة ينالونها
ساءهم ذلك وأحزنهم، وإن تصبهم مصيبة أي آفة في النفس أو الأهل أو المال
- وأصلها الصوب - وهو الجري إلى الشئ، يقال: صاب يصوب صوبا، ومنه
صوب الاناء إذا ميله للجري، والصواب إصابة الحق " يقولوا " يعني هؤلاء المنافقين
" قد أخذنا أمرنا من قبل " ومعناه قد حذرنا واحترزنا، في قول مجاهد وغيره، ومعناه
233

أخذنا أمرنا من مواضع الهلكة فسلمنا مما وقعوا فيه " ويتولوا " اي يعرضوا " وهم
فرحون " يعني فرحين بتأخرهم وسلامتهم مما نال المؤمنين من المصيبة. والإصابة
وقوع الشئ بما قصد به.
قوله تعالى:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولينا وعلى الله فليتوكل
المؤمنون (52) آية.
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء المنافقين الذين يفرحون بمصيبات
المؤمنين وسلامتهم منها " لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " وقيل في معناه قولان:
أحدهما - ان كل ما يصيبنا من خير أو شر فهو مما كتبه الله في اللوح المحفوظ
من أمرنا، وليس على ما تظنون وتتوهمون من اهمالنا من غير أن نرجع في أمرنا
إلى تدبير ربنا، هذا قول الحسن. الثاني - قال الجبائي والزجاج: يحتمل أن يكون
معناه لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا في القرآن من النصر الذي
وعدنا. وقال البلخي: يجوز أن يكون (كتب) بمعنى علم ويجوز أن يكون
بمعنى حكم، والأولان أقوى. فان قيل: ما الفائدة في كتب ما يكون من افعال
العباد قبل كونها؟ قلنا في ذلك مصلحة للملائكة ما يقابلون به فيجدونه متفقا
في الصحة، مع أن تصور كثرته أهول في النفس وأملا للصدر.
وقوله: " هو مولانا " يحتمل معنيين: أحدهما - انه مالكنا ونحن عبيده.
والثاني - فان الله يتولى حياطتنا ودفع الضرر عنا.
وقوله " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " امر منه تعالى للمؤمنين ان يتوكلوا
عليه تعالى دون غيره. والتوكل تفويض الامر إلى الله والرضا بتدبيره والثقة بحسن
اختياره. كما قال " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " (1) وحرف الجر الذي في

(1) سورة 63 الطلاق آية 3.
234

معنى الظرف متعلق بالامر في قوله " فليتوكل " وتقديره فليتوكل على الله المؤمنون
وإنما جاز تقديمه لأنه لا يلبس، ولا يجوز تقديمه على حرف الجزاء لأنه يلبس
بالجزاء في الجواب.
قوله تعالى:
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص
بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا
معكم متربصون (53) آية.
روى ابن فليح والبزي إلا النقاش " هل تربصون " بتشديد التاء، وجهه أنه
أراد تتربصون فادغم أحد التاءين في الأخرى.
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء المنافقين " هل تربصون بنا " والتربص
التمسك بما ينتظر به مجئ حينه ولذلك قيل تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين
زيادة سعره، وقوله " إلا احدى الحسنيين " واحدى الشيئين واحدة منهما،
واحد العشر واحد منها، واحدى النساء معناه واحدة منهن. والحسنيان عظيمان
في الحسن من النعم ومعانيهما هاهنا إما الغلبة بنصر الله عز وجل والشهادة المودية
إلى الجنة، في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وغيرهم. و (هل) حرف من
حروف الاستفهام والمراد هاهنا التقريع بالتربص المؤدي صاحبه إلى كل ما يكرهه
من خيبته وفوز خصمه. وقوله " ونحن نتربص بكم " أي قل لهؤلاء: ونحن أيضا
نتوقع بكم ان يوقع بكم عذابا " من عنده " يهلككم به " أو بأيدينا " بأن ينصرنا
عليكم فيقتلكم بأيدينا. وقوله " فتربصوا " صورته صورة الامر والمراد به التهديد
كما قال: " اعملوا ما شئتم " (1) " واستفزز من استطعت " (2) وإنما قلنا ذلك لان

(1) سورة 41 حم السجدة آية 40
(2) سورة 17 الاسرى آية 64
235

تربص المنافقين بالمؤمنين تمسك بما يؤدي إلى الهلاك وذلك قبيح لا يريده الله ولا
يأمر به. وقال الفراء: العرب تدغم لام هل وبل في التاء خاصة وهو كثير في كلامهم
قوله تعالى:
قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم
قوما فاسقين (54) آية.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء المنافقين " انفقوا " وصورته صورة
الامر وفيه ضرب من التهديد وهو مثل قوله " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " (1)
وإنما هو بيان عن توسعة التمكين من الطاعة والمعصية، وقال قوم: معناه الخبر الذي
تدخل (إن) فيه للجزاء كما قال كثير:
اسيئي بنا أو احسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية ان تقلت (2)
كأنه قال: إن أحسنت أو أسأت لم تلامي، وإنما حسن ان يأتي بصيغة الامر
على معنى الخبر بتوسعة التمكين لأنه بمنزلة الامر في طلب فعل ما يتمكن الذي قد
عرفه المخاطب، كأنه قيل اعمل بحسب ما يوجبه الحق فيما مكنت من الامرين.
ووجه آخر أن كل واحد من الضربين كالمأمور به في أنه لا يعود وبال العائد
الا على المأمور. وقوله " طوعا " فالطوع الانقياد بإرادة لمن عمل عليها. والكره
فعل الشئ بكراهة حمل عليها. وقوله " لن يتقبل منكم " معناه لا يجب لكم به
الثواب على ذلك مثل تقبل الهدية ووجوب المكافاة وتقبل التوبة وايجاب الثواب
عليها، ومثله في كل طاعة.
وقوله " إنكم كنتم قوما فاسقين " اخبار منه تعالى وخطاب لهؤلاء المنافقين
بأنهم كانوا فاسقين متمردين عن طاعة الله، فلذلك لم يقبل نفقاتهم وإنما كانوا ينفقون

(1) سورة 18 الكهف آية 29.
(2) معاني القرآن 1 / 441 وقد مر في 1 / 327
236

أموالهم في سبيل الله المرياء دفعا عن أنفسهم.
قوله تعالى:
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله
وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا
وهم كارهون (55) آية.
قرأ أهل الكوفة الا عاصما " ان يقبل " بالياء. الباقون بالتاء. وجه قراءة
من قرأ بالياء ان التأنيث ليس بحقيقي فجاز أن يذكر كقوله " فمن جاء موعظة " (1)
ومن قرأ بالتاء فعلى ظاهر التأنيث.
والمنع أمر يضاد الفعل وينافيه. والمعنى هاهنا أن هؤلاء المنافقين منعوا
أنفسهم ان يفعل بهم قبول نفقاتهم، كما يقول القائل: منعته بري وعطائي.
وقوله " ان تقبل " في موضع نصب، وتقديره وما منعهم من أن تقبل وحذف
(من). وقوله " إلا أنهم كفروا بالله ورسوله " انهم في موضع رفع والعامل في
اعراب انهم يحتمل أحد أمرين: أحدهما - ما منعهم من ذلك إلا كفرهم.
والثاني - أن يكون تقديره ما منعهم الله منه إلا لأنهم كفروا بالله. وعندنا ان
الكافر لا يقع منه الانفاق على وجه يكون طاعة، لأنه لو أوقعها على ذلك الوجه
لاستحق الثواب. والاحباط باطل، فكان يؤدي إلى أن يكون مستحقا للثواب.
وذلك خلاف الاجماع وعند من خالفنا من المعتزلة وغيرهم يصح ذلك، غير أنه ينحبط
بكفره فأما الصلاة فلا يصح أن تقع منهم على وجه تكون طاعة بلا خلاف،
لان الصلاة طريقها الشرع فمن لا يعترف بالشرع لا يصح أن يوقعها طاعة، وليس
كذلك الانفاق، لان العقل دال على حسنه غير أنهم وإن علموا ذلك لا يقع منهم

(1) سورة 2 البقرة آية 275
237

كذلك على ما بيناه.
وقوله " ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى " اي يقومون إليها على وجه الكسل
وذلك ذم لهم بأنهم يصلون الصلاة على غير الوجه الذي أمروا به، من النفاق الذي
يبعث على الكسل عنها دون الايمان الذي يبعث على النشاط لها.
وقوله " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " اخبار منه تعالى بأنهم لا ينفقون ما
ينفقونه لكونه طاعة بل ينفقونه كارهين لذلك وذلك يقوي ما قلناه.
قوله تعالى:
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم
بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (56) آية.
هذا نهي للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به المؤمنون والمعنى: لا يروق ناظر كم
أيها المؤمنون ظاهر حسنها يعني أموال المنافقين والكفار وأولادهم تستحسنونه
بالطبع البشري. وإنما قلنا ذلك. لان النبي صلى الله عليه وآله مع زهده لا يجوز ان يعجب بها
اعجاب مشته لها. وقوله " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " وقيل في معنى
ذلك وجوه: أحدها - قال ابن عباس وقتادة والفراء: ان فيه التقديم والتأخير
والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها
في الآخرة، فيكون الظرف على هذا متعلقا بأموالهم وأولادهم، ومثله قوله تعالى
" فالقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون " (1) وتقديره فالقه إليهم فانظر
ماذا يرجعون ثم تول عنهم الثاني - قال ابن زيد: معناه إنما يريد الله ليعذبهم
بحفظها والمصائب فيها مع حرمان النفقة بها. والثالث - قال الجبائي: تقديره إنما

(1) سورة 27 النمل آية 28
238

يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا عند تمكن المؤمنين من اخذها وغنمها فيتحسرون
عليها ويكون ذلك جزاء على كفرهم نعم الله تعالى بها. والرابع - قال البلخي
والزجاج: ان معناه فلا تعجبك أموالهم، فإنها وبال عليهم، لان الله يعذبهم بها
اي بما يكلفهم من انفاقها في الوجوه التي أمرهم بها فتزهق أنفسهم لشدة ذلك
عليهم لانفاقهم، وهم مع هذا كله كافرون وعاقبتهم النار فيكون قوله " وهم كافرون "
اخبارا عن سوء أحوالهم وقلة نفع المال والولد لهم ولا يكون عطفا على ما مضى.
والخامس - أن يكون المعنى أن مفارقتها وتركها والخروج عنها بالموت صعب
عليهم شديد، لأنهم يفارقون النعم ولا يدرون إلى ماذا يصيرون بعد الموت فيكون
حينئذ عذابا عليهم. بمعنى ان مفارقتها غم وعذاب. ومعنى " وتزهق أنفسهم " اي
تهلك وتذهب بالموت يقال: زهق بضاعة فلان اي ذهبت اجمع. السادس - قال
الحسن: اخبر الله تعالى عن عاقبتهم انهم يموتون على النفاق. وقال: ليعذبهم
بزكاتها وانفاقها في سبيل الله، وهو قول البلخي أيضا والزجاج مع اعتقادهم ان
ذلك ليس بقربة، فيكون ذلك عذابا أليما.
واللام في قوله " ليعذبهم " يحتمل أن يكون بمعنى (أن) والتقدير إنما يريد
الله أن يعذبهم. والزهق الخروج بصعوبة. وأصله الهلاك، ومنه قوله " قل جاء "
الحق وزهق الباطل " (1) وكل هالك زاهق، زهق يزهق زهوقا. والزاهق من
الدواب السمين الشديد السمن، لأنه هالك يثقل بدنه في السير والكر والفر. وزهق
فلان بين أيدي القوم إذا زهق سابقا لهم حتى يهلك منهم. والاعجاب السرور بما
يعجب منه تقول: أعجبني حديثه اي سرني بظرف حديثه.
وليس في الآية ما يدل على أن الله تعالى أراد الكفر على ما يقوله المجبرة،
لان قوله " وهم كافرون " في موضع الحال كقولك أريد ان تذمه وهو كافر
وأريد ان تضربه وهو عاص وأنت لا تريد كفره ولا عصيانه بل تريد ذمه في حال

(1) سورة 17 الاسرى آية 81
239

كفره وعصيانه، وتقديره الآية إنما يريد الله عذابهم وازهاق أنفسهم اي اهلاكها
في حال كونهم كافرين، كما يقول القائل للطبيب: اختلف إلي كل يوم وأنا
مريض، وهو لا يريد المرض، ويقول لغلامه: اختلف إلي وأنا محبوس، ولا يريد
حبس نفسه.
قوله تعالى:
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم
يفرقون (57) آية.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين انهم يقسمون بالله انهم لمنكم يعني من
المؤمنين وعلى دينهم الذي يدينون به. ثم قال الله تعالى مكذبا لهم " وما هم منكم " اي
ليسوا مؤمنين مثلكم ولا مطيعين لله في اتباع دينه كما أنتم كذلك، ولكنهم قوم
يفرقون اخبار منه تعالى ان هؤلاء المنافقين يفرقون من اظهار الكفر لئلا يقتلوا
والفرق انزعاج النفس بتوقع الضرر. وأصله من مفارقة الامن إلى حال الانزعاج.
قوله تعالى:
لو يجدون ملجا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم
يجمحون (58) آية.
قرأ يعقوب " أو مدخلا " بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها. وقرأ شاذ
" مدخلا " بضم الميم وسكون الدال.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين انهم لو وجدوا ملجأ. ومعناه لو أدركوا
مطلوبهم، يقال: وجدت الضالة وجدانا ووجدت على الرجل وجدا وموجدة.
والملجأ الموضع الذي يتحصن فيه ومثله المعقل والموئل، والمعتصم والمنتصر. وقال
240

ابن عباس: معناه هاهنا حرزا. وقال مجاهد: أي حصنا، ومثله يستعمل في الناصر
والمساعد. وقوله " أو مغارات " اي لو وجدوا مغارات، وهي جمع مغارة وهي المداخل
الساتر من دخل فيه. وقال ابن عباس: معناه المغارات والغيران والغار الثقب الواسع
في الجبل، ومنه غارت العين من الماء إذا غابت في الأرض، وغارت عينه إذا دخلت
في رأسه. والمدخل المسلك الذي يتدسس بالدخول فيه وهو مفتعل من الدخول كالمتلج
من الولوج. وأصله متدخل. وقال ابن عباس وأبو جعفر عليه السلام والفراء: المدخل
الاسراب في الأرض. وقوله " لولوا إليه وهم يجمحون " فالجماح مضي الماء مسرعا
على وجهه لا يرده شئ عنه. وقال الزجاج: فرس جموع، وهو الذي إذا حمل
لم يرده اللجام. وقيل: هو المشئ بين المشيين قال مهلهل:
لقد جمحت جماحا في دمائهم * حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا
وقال الزجاج: معنى (مدخلا) اي لو وجدوا قوما يدخلون في جملتهم أو
قوما يدخلونهم في جملتهم يعتصمون بهم لفعلوا.
قوله تعالى:
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم
يعطوا منها إذا هم يسخطون (59) آية.
قرأ يعقوب " يلمزك " بضم الميم. الباقون بكسرها، وهما لغتان، وهذه الآية
فيها اخبار أن من جملة المنافقين الذين ذكرهم من يلمزك يا محمد صلى الله عليه وآله في الصدقات
اي يعيبك. وفي قول الحسن. واللمز العيب على وجه المساترة، والهمز العيب - بكسر
العين وغمزها - في قول الزجاج - تقول: لمزه يلمزه ويلمزه - بالكسر والضم -
وهي صفتهم قال الشاعر:
241

إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة * وان تغببت كنت الهامز اللمزه (1)
وقال رؤبة:
قالت بين عنقي وجمزي * في ظل عصري باطلي ولمزي (2)
وقال أبو عبيدة: يلزمك معناه يعيبك. وقال قتادة: معناه يطعن عليك.
والهمز الغيبة. ومنه قوله " هماز مشاء بنميم " (3). وقيل لاعرابي: أتهمز الفأرة؟
قال: الهر يهمزها، فأوقع الهمز على الاكل، والهمز كاللمز، ومنه قوله " أيحب
أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا " (4) والصدقات جمع صدقة وهي العطية للفقير
على وجه البر والصلة، والصدقة الواجبة في الأموال حرام على رسول الله وأهل بيته
كأنهم جعلوا في تقدير الأغنياء، فأما البر على وجه التطوع فهو مباح لهم.
وقوله " فان أعطوا منها رضوا " يعني من الصدقات رضوا بذلك وحمدوك عليه
وان لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " يعني إذا لم يعطوا ما طلبوه من الصدقات
سخطوا وغضبوا. والصدقة محرمة على من كان غنيا.
واختلفوا في حد الغني، فقال قوم: هو من ملك نصابا من المال. وقال آخرون:
هو من كانت له مادة تكفيه، ملك النصاب أو لم يملك، والذي كان يلمز النبي صلى الله عليه اله
في الصدقات بلتعة بن حاطب، وكان يقول: إنما يعطي محمد الصدقات من يشاء فربما
أعطاه النبي صلى الله عليه وآله فيرضى وربما منعه فسخط، فتلكم فيه، فنزلت الآية فيه.
قوله تعالى:
ولو أنهم رضوا ما آتيهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا

(1) قائله زياد الأعجم مجاز القرآن 1 / 263 واللسان " همز " ومقاييس
اللغة 6 / 66 وتفسير الطبري 14 / 301 وفيه اختلاف كثير في الرواية.
(2) ديوانه: 64 وتفسير الطبري 14 / 300
(3) سورة 68 القلم آية 11
(4) سورة 49 الحجرات آية 12
242

الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (60) آية.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان هؤلاء المنافقين الذين طلبوا منك الصدقات
وعابوك بها لو رضوا بما أعطاهم الله ورسوله " وقالوا " مع ذلك " حسبنا الله " اي
كفانا الله وانه سيعطينا الله من فضله وانعامه ويعطينا رسوله مثل ذلك وقالوا " انا
إلى الله راغبون " والجواب محذوف والتقدير لكان خيرا لهم وأعود عليهم وحذف
الجواب في مثل هذا أبلغ لأنه لتأكيد الخبر به استغنى عن ذكره.
قوله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة
من الله والله عليم حكيم (61) آية.
اخبر الله تعالى في هذه الآية انه ليست الصدقات التي هي زكاة الأموال إلا
للفقراء والمساكين ومن ذكرهم في الآية.
واختلفوا في الفرق بين الفقير والمسكين، فقال ابن عباس والحسن وجابر
وابن زيد والزهري ومجاهد: الفقير المتعفف الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل،
ذهبوا إلى أنه مشتق من المسكنة بالمسألة. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال
(ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين
الذي لا يجد غنى فيغنيه ولا يسأل الناس إلحافا) وقال قتادة: الفقير ذو الزمانة من
أهل الحاجة. والمسكين من كان صحيحا محتاجا. وقال قوم: هما بمعنى واحد إلا أنه
ذكر بالصفتين لتأكيد امره قال الشاعر:
انا الفقير كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد (1)

(1) اللسان (وفق). الحلوبة: الناقة التي تحلب (وفق العيال) على قدر
حاجتهم و (السبد) كناية عن القليل وأصله الوبر وهو الشعر الضعيف.
243

ويسمى المحتاج فقيرا تشبيها بأن الحاجة كأنها قد كسرت فقار ظهره يقال:
فقر الرجل فقرا وأفقره الله افقارا وافتقر افتقارا، وتفاقر تفاقرا. وسمي المسكين
بذلك تشبيها بأن الحاجة كأنها سكنته عن حال أهل السعة والثروة. قال الله تعالى
" أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " (1) فمن قال: المسكين أحسن
حالا احتج بهذه الآية. ومن قال هما سواء قال: السفينة كانت مشتركة بين جماعة
لكل واحد منهم الشئ اليسير.
وقوله " والعاملين عليها " يعني سعاة الزكاة وجباتها، وهو قول الزهري
وابن زيد وغيرهم. وقوله " والمؤلفة قلوبهم " معناه أقوام أشراف كانوا في زمن
النبي صلى الله عليه وآله فكان يتألفهم على الاسلام ويستعين بهم على قتال غيرهم ويعطيهم سهما من
الزكاة. وهل هو ثابت في جميع الأحوال أم في وقت دون وقت؟ فقال الحسن والشعبي:
ان هذا كان خاصا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله. وروى جابر عن أبي جعفر محمد بن
علي عليهما السلام ذلك. واختار الجبائي انه ثابت في كل عصر الا ان من شرطه أن يكون
هناك امام عدل يتألفهم على ذلك.
وقوله " وفي الرقاب " يعني المكاتبين وأجاز أصحابنا ان يشترى به عبد مؤمن
إذا كان في شدة ويعتق من مال الزكاة، ويكون ولاؤه لأرباب الزكاة، وهو قول
ابن عباس وجعفر بن مبشر.
وقوله " والغارمين " قال مجاهد وقتادة والزهري وجميع المفسرين، وهو قول
أبي جعفر عليه السلام انهم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف فتقضى عنهم
ديونهم، و " في سبيل الله " يعني الجهاد بلا خلاف. ويدخل فيه عند أصحابنا جميع
مصالح المسلمين، وهو قول ابن عمر وعطاء. وبه قال البلخي، فإنه قال: تبنى به
المساجد والقناطر وغير ذلك، وهو قول جعفر بن مبشر. و " ابن السبيل " وهو المسافر

(1) سورة 18 الكهف آية 80.
244

المنقطع به فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنيا في بلده من غير أن يكون دينا عليه،
وهو قول مجاهد وقتادة قال الشاعر:
انا ابن الحرب ربتني وليدا * إلى أن شبت واكتهلت لداتي (1)
وقال بعضهم: جعل الله الزكاة لامرين: أحدهما - سد خلة. والاخر -
تقوية ومعونة لعز الاسلام. واستدل بذلك على أن المؤلفة قلوبهم في كل زمان.
واختلفوا في مقدار ما يعطى الجابي للصدقة، فقال مجاهد والضحاك: يعطى
الثمن بلا زيادة. وقال عبد الله بن عمر بن العاص والحسن وابن زيد: هو على قدر
عمالته، وهو المروي في اخبارنا. وقال ابن عباس وحذيفة وعمر بن الخطاب وعطاء
وإبراهيم وسعيد بن جبير، وهو قول ابن جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام ان لقاسم الزكاة
ان يضعها في اي الأصناف شاء. وكان بعض المتأخرين لا يضعها الا في سبعة أصناف
لان المؤلفة قد انقرضوا. وان قسمها الانسان عن نفسه، ففي ستة لأنه بطل سهم
العامل، وزعم أنه لا يجزي في كل صنف أقل من ثلاثة. وعندنا ان سهم المؤلفة
والسعاة وسهم الجهاد قد سقط اليوم، ويقسم في الخمسة الباقية كما يشاء رب المال
وان وضعها في فرقة منهم جاز.
وقوله " فريضة من الله " نصب على المصدر اي فرض ذلك فريضة وكان يجوز
الرفع على الابتداء ولم يقرأ به، ومعناه ان ما فرضه الله وقدره واجب عليكم.
وقوله " والله عليم حكيم " معناه عالم بمصالحكم حكيم فيما يوجبه عليكم
من اخراج الصدقات وغير ذلك.
قوله تعالى:
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم
يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين

(1) تفسير الطبري 14 / 320
245

يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم (62) آية.
قرأ نافع " أذن خير " بالتخفيف الباقون بالتثقيل. وكلهم أضاف. ورفع
" ورحمة " الا أبا عمرو فإنه جر (ورحمة) وكان يجوز النصب على (ورحمة) يفعل
ذلك، ولم يقرأ به أحدا، قال أبو علي: تخفيف " أذن " من أذن قياس مطرد نحو طنب
وطنب، وعنق وعنق وظفر وظفر لان ذلك تخفيف وتثقيل لاتفاقهما في الوزن وفي
جمع التكسير تقول: آذان وأطناب وأعناق وأظفار، فأما الاذن في الآية فإنه يجوز
ان يطلق على الجملة وإن كان عبارة عن جارحة فيها، كما قال الخليل في الناب
من الإبل سميت به لمكان الناب البازل، فسميت الجملة كلها به. ويجوز أن يكون
(فعلا) من اذن يأذن إذا استمع. ومعناه انه كثير الاستماع مثل شلل وأنف وشحح،
قال أبو زيد: رجل اذن ويقن إذا كان يصدق بكل ما يسمع فكما ان (يقن)
صفة كبطل كذلك (اذن) كشلل، ويقولون: اذن يأذن إذا استمع، ومنه قوله
" وأذنت لربها " (1) اي استمعت، وقوله " ائذن لي " (2) اي استمع. وفي الحديث
(ما اذن الله لشئ كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن) قال الشاعر:
في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ما ذي مشار (3)
والمعنى - في الإضافة - مستمع خير لكم وصلاح ومصغ إليه، لا مستمع شر
وفساد. ومن رفع (رحمة) فالمعنى فيه أذن خير ورحمة اي مستمع خير ورحمة
فجعله للرحمة لكثرة هذا المعنى فيه، كما قال " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (4)
ويجوز ان يقدر حذف المضاف من المصدر. وأما من جر فعطفه على (خير) كأنه
قال اذن خير ورحمة، وتقديره مستمع خير ورحمة. وجاز هذا كما جاز مستمع

(1) سورة 84 الانشقاق آية 2
(2) سورة 9 التوبة آية 50
(3) اللسان (اذن) نسبه إلى (عدي) والماذي المشار: العسل المصفى
(4) سورة 21 الأنبياء آية 107.
246

خير، لان الرحمة من الخير وإنما خص تشريفا، كما قال " اقرأ باسم ربك الذي
خلق " ثم قال " خلق الانسان من علق " (1) وإن كان قوله تعالى " خلق " عم
الانسان وغيره. والبعد بين الجار وما عطف عليه لا يمنع من العطف ألا ترى ان من
قرأ " وقيله يا رب " إنما جعله عطفا على " وعنده علم الساعة " (2) وعلم قيله.
وروي ان الأعمش قرأ قل " اذن خير ورحمة " وهي قراءة ابن مسعود.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان من جمله هؤلاء - المنافقين الذين وصفهم
وذكرهم - من يؤذي النبي صلى الله عليه وآله والأذى هو ضرر ربما تنفر منه النفس في عاجل
الامر وانهم يقولون هو اذن يعنون النبي صلى الله عليه وآله. ومعنى (اذن) انه يصغي إلى كل
أحد فيقبل ما يقوله - في قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك - وقيل أصله من
اذن إذا استمع على ما بيناه قال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بددن * ان همي في سماع واذن (3)
وقيل السبب في ذلك: ان قوما من المنافقين تكلموا بما أرادوه، وقالوا ان
بلغه اعتذرنا إليه، فإنه اذن يسمع ما يقال له، فقال الله تعالى " قل " يا محمد " اذن
خير لكم " لا اذن شر، وليس بمعنى أفعل. وإنما معناه أذن صلاح ولو رفع خيرا
لكان معناه أصلح، وهي قراءة الحسن والأعشى والبرجمي. وإنما قال بعد ذلك
" يؤمن بالله " لان معناه انه لايمانه بالله يعمل بالحق فيما يسمع من غيره. وقيل
يصغي إلى الوحي من قبل الله.
وقوله " ويؤمن للمؤمنين " قال ابن عباس: معناه ويصدق المؤمنين. وقيل
دخلت اللام كما دخلت في قوله " درف لكم " (4) وتقديره ردفكم، واللام مقحمة
ومثله " لربهم يرهبون " (5) ومعناه يرهبون ربهم. واللام مقحمة.

(1) سورة 96 العلق 2.
(2) سورة 43 الزخرف آية 88، 85
(3) اللسان (اذن) وأمالي المرتضى 1 / 33 وتفسير الطبري 14 / 325
(4) سورة 27 النمل آية 72
(5) سورة 7 الأعراف آية 153.
247

وقال قوم: دخلت اللام للفرق بين إيمان التصديق وايمان الأمان.
وقوله " ورحمة للذين آمنوا منكم " يعني ان النبي صلى الله عليه وآله رحمة للمؤمنين
منكم وإنما خص المؤمنين بالذكر وإن كان رحمة للكفار أيضا من حيث انتفع
المؤمنون به دون غيرهم من الكفار. ثم قال " والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب
اليم " اي مؤلم موجع جزاء لهم على أذاهم للنبي صلى الله عليه وآله.
وقال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية في نبتل بن الحارث كان يقول: إني
لا نال من محمد ما شئت، ثم آتيه اعتذر إليه وأحلف له فيقبل، فجاء جبرائيل إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: انه يجلس إليك رجل ادلم ثائر شعر الرأس اسفع الخدين
احمر العينين كأنهما قدر ان من صفر كبده أغلظ من كبد الجمل ينقل حديثك إلى
المنافقين فاحذره وكان ذلك صفة نبتل بن الحارث من منافقي الأنصار، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله من اختار أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث، ذكره
ابن إسحاق.
قوله تعالى:
يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه
إن كانوا مؤمنين (63) آية.
اخبر الله تعالى أن هؤلاء المنافقين يقسمون بالله أنهم على دينكم وأن الذي
بلغكم عنهم باطل " ليرضوكم " ومعناه يريدون بذلك رضاكم لتحمدوهم عليه. ثم
قال تعالى " والله ورسوله أحق أن يرضوه " أي الله ورسوله أولى بأن يطلبوا مرضاتهما
" ان كانوا مؤمنين " مصدقين بالله مقرين بنبوة نبيه، والفرق بين الأحق والأصلح ان
الأحق قد يكون موضعه غير الفعل كقولك: زيد أحق بالمال، والأصلح لا يقع
هذا الموقع لأنه من صفات الفعل وتقول: الله أحق أن يطاع ولا تقول أصلح،
وقيل في رد ضمير الواحد في قوله " والله ورسوله أحق أن يرضوه " قولان:
248

أحدهما أنه لما كان رضى رسول الله رضى الله ترك ذكره، لأنه دال عليه
والتقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه كما قال الشاعر:
نحن بما عندك وأنت بما * عندك ارض والرأي مختلف (1)
والثاني - أنه لا يذكر على طريق المجمل مع غيره تعظيما له بافراد الذكر
المعظم بما لا يجوز إلا له، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله لمن سمعه يقول: من أطاع الله
ورسول هدى (ومن يعصمه فقد غوى) وإنما أراد ما قلناه.
قوله تعالى:
ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم
خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (64) آية.
يقول الله تعالى على وجه التهديد والتقريع والتوبيخ لهؤلاء المنافقين " ألم يعلموا "
أي أو ما علموا " انه من يحادد الله " اي يتجاوز حدود الله التي أمر المكلفين ان
لا يتجاوزوها، فالمحادة مجاوزة الحد بالمشاقة ومثله المباعدة. والمعنى مصيرهم في
حد غير حد أولياء الله. فالمخالفة والمحادة والمجانبة والمعاداة نظائر في اللغة.
وإنما قال: لمن لا يعلم " ألم يعلموا " لاحد أمرين: أحدهما - على وجه
الاستبطاء لهم والتخلف عن علمه. والاخر - انه يجب ان تعلموا الان هذه الأخبار
. وقال الجبائي: معناه ألم يخبرهم النبي صلى الله عليه وآله بذلك.
وقوله " فإن لم نار جهنم خالدا فيها " يحتمل أن يكون على التكرير، لان
الأولى للتأكيد مع طول الكلام، وتقديره فله نار جهنم أو فان له نار جهنم.
قال الزجاج: ولو قرئ (فان) بكسر الهمزة على وجه الاستئناف كان جائزا،
غير أنه لم يقرأ به أحد. وقوله " ذلك الخزي العظيم " معناه ذلك الذي ذكرناه

(1) انظر 1 / 172. و 5 / 211
249

من أن له نار جهنم هو الخزي يعني الهوان بما يستحى من مثله. تقول: خزي
خزيا إذا انقمع للهوان فأخزاه إخزاء وخزيا.
قوله تعالى:
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في
قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون (65) آية.
قيل في معنى يحذر المنافقون قولان:
أحدهما - قال الحسن ومجاهد واختاره الجبائي: ان معناه الخبر عنهم بأنهم
كانوا يحذرون ان تنزل فيهم آية يفتضحون بها لأنهم كانوا شاكين، حتى قال
بعضهم: لوددت ان اضرب كل واحد منكم مئة ولا ينزل فيكم قرآن، ذكره أبو جعفر
وقال: نزلت في رجل يقال له مخشى بن الحمير الأشجعي.
الثاني - قال الزجاج: انه تهديد ومعناه ليحذروا، وحسن ذلك لان موضوع
الكلام على التهديد. والحذر اعداد ما يتقي الضرر، ومثله الخوف والفزع تقول:
حذرت حذرا وتحذر تحذرا وحاذره محاذرة وحذارا وحذره تحذيرا. والمنافق الذي
يظهر من الايمان خلاف ما يبطنه من الكفر واشتق ذلك من نافقاء اليربوع لأنه
يخفي بابا ويظهر بابا ليكون إذا أتي من أحدهما خرج من الاخر.
وقوله " تنبئهم بما في قلوبهم " أي تخبرهم، غير أن (تنبئهم) يتعدى إلى
ثلاثة مفاعيل بمنزلة أعلمت. وقوله " قل استهزؤا " أمر للنبي صلى الله عليه وآله أن يقول
لهؤلاء المنافقين (استهزؤا) اي اطلبوا الهزء. والهزء إظهار شئ وإبطان خلافه
للتهزئ به، وهو بصورة الامر والمراد به التهديد. وقوله " ان الله مخرج
ما تحذرون " إخبار من الله تعالى أن الذي تخافون من ظهوره فان الله يظهره بأن
يبين لنبيه صلى الله عليه وآله باطن حالهم ونفاقهم.
250

قوله تعالى:
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله
وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون (66) آية.
خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله فأقسم، لان اللام لام القسم بأنك يا محمد صلى الله عليه وآله
إن سألت هؤلاء المنافقين عما تكلموا به " ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " قال
الحسن وقتادة: هؤلاء قالوا في غزاة تبوك: أيرجو هذا الرجل ان يفتح قصور
الشام وحصونها - هيهات هيهات - فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله على ما قالوه، فلما سألهم
النبي عن ذلك على وجه التأنيب لهم والتقبيح لفعلهم: لم طعنتم في الدين بالباطل
والزور؟ فأجابوا بما لا عذر فيه بل هو وبال عليهم: بأنا كنا نخوض ونلعب.
والخوض دخول القدم فيما كان مائعا من الماء أو الطين هذا في الأصل ثم كثر
حتى صار في كل دخول منه أذى وتلويث. واللعب فعل ما فيه سقوط المنزلة لتحصيل
اللذة من غير مراعاة الحكمة كفعل الصبي، وقالوا: ملاعب الأسنة اي انه لشجاعته
يقدم على الأسنة كفعل الصبي الذي لا يفكر في عاقبة امره. فقال الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وآله: " قل " لهم " أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون " قال أبو علي:
ذكر الاستهزاء هاهنا مجاز، لأنه جعل الهزء بالمؤمنين وبآيات الله هزءا بالله.
والهزء ايهام امر على خلاف ما هو به استصغارا لصاحبه.
قوله تعالى:
لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة
منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين (67) آية.
قرأ عاصم " ان نعف " بنون مفتوحة وضم الفاء " نعذب " بالنون وكسر
251

الذال " طائفة " بالنصب. الباقون بضم الياء في (يعف تعذب طائفة) بضم التاء
ورفع طائفة. من قرأ بالنون فلقوله " ثم عفونا عنكم " (1). ومن قرأ بالتاء
فالمعنى ذاك بعينه. وأما " تعذب " فمن قرأ بالتاء، فلان الفعل في اللفظ مسند
إلى مؤنث.
قوله تعالى: " لا تعتذروا " صورته صورة النهي والمراد به التهديد. والمراد
ان الله تعالى امر نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء المنافقين الذين يحلفون بأنهم ما قالوه
إلا لعبا وخوضا على وجه التهزئ بآيات الله " لا تعتذروا " بالمعاذير الكاذبة
فإنكم بما فعلتموه " قد كفرتم " بعد أن كنتم مظهرين الايمان الذي يحكم لمن
أظهره بأنه مؤمن، ولا يجوز ان يكونوا مؤمنين على الحقيقة مستحقين للثواب ثم
يرتدون، لما قلناه في غير موضع: ان المؤمن لا يجوز عندنا أن يكفر لأنه كان
يؤدي إلى اجتماع استحقاق الثواب الدائم والعقاب الدائم، لبطلان التحابط.
والاجماع يمنع من ذلك. والاعتذار اظهار ما يقتضي العذر، والعذر ما يسقط الذم
عن الجناية.
وقوله " إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " اخبار منه تعالى أن ان عفا
عن قوم منهم إذا تابوا يعذب طائفة أخرى لم يتوبوا. والعفو رفع التبعة عما وقع
من المعصية وترك العقوبة عليها. ومثله الصفح والغفران. وقوله " بأنهم كانوا
مجرمين " معناه انه إنما يعذب الطائفة التي يعذبها لكونها مجرمة مذنبة مرتكبة لما
يستحق به العقاب. والاجرام الانقطاع عن الحق إلى الباطل. واصله الصرم تقول:
جرم الثمر يجرمه جرما وجراما إذا صرمه. والجرم مصرم الحق بالباطل وتجرمت
السنة إذا تصرمت قال لبيد:
دمن تجرم بعد عهد انيسها * حجج خلون حلالها وحرامها (2)
قال الزجاج والفراء: نزلت الآية في ثلاثة نفر فهزئ اثنان وضحك واحد

(1) سورة 2 البقرة آية 52.
(2) اللسان " جرم "
252

قال ابن إسحاق: كان الذي عفا عنه مخشى بن حصين الأشجعي حليف بني سلمة
لأنه انكر منهم بعض ما سمع فجعلت طائفة للواحد ويراد بها نفس طائفة. وأما في
اللغة فيقال للجماعة طائفة، لأنهم يطيفون بالشئ. وقوله تعالى " وليشهد عذابهما
طائفة من المؤمنين " (1) يجوز أن يراد به واحد على ما فسرناه.
قوله تعالى:
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر
وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن
المنافقين هم الفاسقون (68) آية.
أخبر الله تعالى بأن المنافقين الذين يظهرون الايمان ويسرون الكفر بعضهم من
بعض. والمعنى إن بعضهم يضاف إلى بعض بالاجتماع على النفاق، كما يقول القائل
لغيره: أنت مني وأنا منك والمعنى إن أمرنا واحد لا ينفصل. وقيل: بعضهم من بعض
فيما يلحقهم من مقت الله وعذابه أي منازلهم متساوية في ذلك. ثم أخبر أن هؤلاء
المنافقين يأمرون غيرهم بالمنكر الذي نهى الله عنه وتوعد عليه من الكفر بالله ونبيه
وجحد آياته " وينهون عن المعروف " يعني الأفعال الحسنة التي أمر الله بها وحث
عليها، وانهم يقبضون أيديهم اي يمسكون أموالهم عن انفاقها عن طاعة الله ومرضاته
وهو قول قتادة، وقال الحسن ومجاهد: أراد إمساكها عن الانفاق في سبيل الله.
وقال الجبائي: أراد به إمساك الأيدي عن الجهاد في سبيله الله.
وقوله " نسوا الله فنسيهم " معناه تركوا امر الله يعني صار بمنزلة المنسي
بالسهو عنه فجازاهم الله بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته، وذكر ذلك
لازدواج الكلام. وقال قتادة: اي نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر. ثم اخبر

(1) سورة 24 النور آية 2
253

تعالى فقال " إن المنافقين " الذين يخادعون المؤمنين باظهار الايمان مع ابطانهم
الكفر " هم الفاسقون " الخارجون عن الايمان بالله وبرسوله وعن طاعاته.
قوله تعالى:
وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين
فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم (69) آية.
اخبر الله تعالى بأنه " وعد المنافقين والمنافقات " الذين يظهرون الاسلام
ويبطنون الكفر " نار جهنم " يعاقبون فيها أبد الآبدين وكذلك الكفار الذين
يتولونهم، وهم على ظاهر الكفر. فلذلك أفردهم بالذكر ليعلم أن الفريقين معا
يتناولهم الوعيد وتقول: وعدته بالشر وعيدا ووعدته بالخير وعدا وأوعدته إيعادا
وتوعدته توعدا في الشر لا بالخير، وواعدته مواعدة، وتواعدوا تواعدا وقوله
" هي حسبهم " يعني نار جهنم والعقاب فيها كافيهم، ولعنهم الله يعني أبعدهم الله من
جنته وخيره " ولهم " مع ذلك " عذاب مقيم " ومعناه دائم لا يزول وقيل معنى " هي
حسبهم " أي هي كفاية ذنوبهم، ووفاء لجزاء عملهم. واللعن الابعاد من الرحمة
عقابا على المعصية، ولذلك لا يقال لعن البهيمة كما لا يدعا لها بالعفو
قوله تعالى:
كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا
وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع
الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت
أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (70) آية.
254

الكاف في قوله " كالذين " في موضع نصب، والتقدير احذروا أن يحل بكم
من العذاب والعقوبة كالذين. ويحتمل أن يكون المراد وعدكم الله على الكفر كما
وعد الذين من قبلكم، فشبه المنافقين في عدولهم عن أمر الله للاستمتاع بلذات
الدنيا بمن قبلكم مع أن عاقبة امر الفريقين يؤول إلى العقاب مع أن الأولين كانوا
أشد من هؤلاء قوة في أبدانهم وأطول أعمارا وأكثر أموالا وأشد تمكينا فلم يقدروا
ان يدفعوا عن نفوسهم ماحل بهم من عقاب الله.
وقوله " فاستمتعوا بخلاقهم " فالاستمتاع هو طلب المتعة وهي فعل ما فيه اللذة
من المآكل والمشارب والمناكح. ومعناه انهم تمتعوا بنصيبهم من الخير العاجل
وباعوا بذلك الخير الأجل فهلكوا بشر استبدال، كما تمتعتم أيها المنافقون
بخلاقكم اي بنصيبكم والخلاق النصيب سواء كان عاجلا أو آجلا.
وقوله " وخضتم كالذي خاضوا " خطاب للمنافقين بأن قيل لهم خضتم في
الباطل والكذب على الله كالذين تابعوهم على ذلك من المنافقين وغيرهم من الكفار
" حبطت أعمالهم " لأنهم كانوا أوقعوها على خلاف ما أمرهم الله به فلم يستحقوا
عليها ثوابا بل استحقوا عليها العقاب، فلذلك كانوا خاسرين أنفسهم ومهلكين لها
بفعل المعاصي المؤدي إلى الهلاك وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:
ما أشبه الليلة بالبارحة كذلك من قبلكم هؤلاء بنوا إسرائيل لشبهنا بهم لا أعلم
إلا أنه قال (والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم حجر ضب
لدخلتموه) ومثله روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وعن أبي سعيد الخدري مثله.
قوله تعالى:
ألم يأتهم نبا الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود
وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم
255

بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (71)
آية في الكوفي والبصري وآيتان في المدنيين آخر الأولى " وثمود "
قوله " ألم " صورته صورة الاستفهام، والمراد به التقرير والتحذير. وإنما
حسن في الاستفهام أن يخرج إلى معنى التقرير لان الاحتجاج بما يلزمهم الاقرار به
فقال الله تعالى مخاطبا لنبيه: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين وصفهم خبر من كان
قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين، على وجه الاحتجاج
عليهم فيتعظوا، لان الأمم الماضية والقرون السالفة إذا كان الله تعالى إنما أهلكها
ودمرها لتكذيبهم رسلها كانت ذلك واجبا في كل أمة يساوونهم في هذه العلة،
فأقل أحوالهم ألا يأمنوا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك. قال الرماني: والحكمة
تقتضي إذا تساوى جماعة في استحقاق العقاب ان لا يجوز العفو عن بعضهم دون بعض
مع تساويهم في الأحوال. وإنما يجوز العدول من قوم إلى قوم في الواحد منا للحاجة
وهذا يتم على قول من يقول بالأصلح، ومن لا يقول بذلك يقول: هو متفضل بذلك
وله ان يتفضل على من يشاء ولا يلزم ان يفعل ذلك بكل مكلف.
وقوله " والمؤتفكات " قال الحسن وقتادة: هي ثلاث قريات لقوم لوط ولذلك
جمعها بالألف والتاء. وقال في موضع آخر " والمؤتفكة أهوى " (1) فجاء به على
طريق الجنس. قال الزجاج: معناه ائتفكت بأهلها انقلبت. ومدين ابن إبراهيم
اسم له. وقوله " أتتهم رسلهم بالبينات " معناه جاءت هؤلاء المذكورين الرسل
من عند الله معها حجج ودلالات على صدقها فكذبوا بها فأهلكهم الله، وحذف
لدلالة الكلام عليه. ثم قال " فما كان الله ليظلمهم " اي لم يكن الله ظالما لهم بهذا
الاهلاك " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بأن فعلوا من الكفر والمعاصي ما استحقوا
به الهلاك.

(1) سورة 53 النجم آية 53
256

وقيل إن الله تعالى أهلك قوم نوح بالغرق. وأهلك عادا بالريح الصرصر
العاتية. وأهلك ثمود بالرجفة والصاعقة. وأهلك قوم إبراهيم بالتشتيت وسلب
الملك والنعمة. وأهلك أصحاب مدين بعذاب يوم الظلة. وأهلك قوم لوط بانقلاب
الأرض، كل ذلك عدل منه على من ظلم نفسه وعصى الله واستحق عقابه.
قوله تعالى:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله
عزيز حكيم (72) آية.
لما ذكر الله تعالى المنافقين ووصفهم بأن بعضهم من بعض بالاتفاق والتعاضد
اقتضى ان يذكر المؤمنين. ويصفهم بضد أوصافهم، فقال تعالى " والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " أي يلزم كل واحد منهم نصرة صاحبه وان يواليه
وقال الرماني: العقل يدل على وجوب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، لأنها تجري
مجرى استحقاق الحمد على طاعة الله والذم على معصيته. ولا يجوز ان يرد الشرع
بخلاف ذلك. وإذا قلنا: المؤمن ولي الله معناه أنه ينصر أولياء الله وينصر دينه، والله
وليه بمعنى أولى بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه. ثم قال " يأمرون بالمعروف "
يعني المؤمنين يأمرون بما أوجب الله فعله أو رغب فيه عقلا أو شرعا وهو المعروف
" وينهون عن المنكر " وهو ما نهى الله تعالى عنه وزهد فيه إما عقلا أو شرعا.
ويضيفون إلى ذلك إقامة الصلاة اي إتيانها بكمالها والمداومة عليها ويخرجون زكاة
أموالهم حسب ما أوجبها الله عليهم، ويضعونها حيث امر الله بوضعها فيه ويطيعون
257

الله ورسوله اي يمتثلون أمرهما ويتبعون ارادتها ورضاهما.
ثم قال " أولئك سيرحمهم الله " يعني المؤمنين الذين وصفهم ان ستنالهم في
القيامة رحمته. ثم اخبر عن نفسه فقال " ان الله عزيز حكيم " فالعزيز معناه قادر
لا يغلبه أحد من الكفار والمنافقين، حكيم في عقاب المنافقين وإثابة المؤمنين. وغير
ذلك من الافعال. وإنكار المنكر يجب بلا خلاف سمعا وعليه الاجماع وكذلك
الامر بالمعروف واجب، فأما العقل فلا يدل على وجوبهما أصلا. لأنه لو أوجب
ذلك لوجب ان يمنع الله من المنكر، لكن يجب على المكلف اظهار كراهة المنكر
الذي يقوم مقام النهي عنه. وفي الآية دلالة على أن الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر من فروض الأعيان لان الله تعالى جعل ذلك من صفات المؤمنين، ولم يخص
قوما دون قوم.
قوله تعالى:
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان
من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (73) آية.
اخبر الله تعالى بأنه كما وعد المنافقين بنار جهنم والخلود فيها كذلك " وعد
الله المؤمنين " المعترفين بوحدانيته وصدق رسله وكذلك " المؤمنات جنات " يعني
بساتين يجنها الشجر " تجري من تحتها الأنهار " وتقديره تجري من تحت أشجارها
الأنهار. وقيل: أنهار الجنة أخاديد في الأرض. فلذلك قال " من تحتها " وانهم فيها
خالدون اي دائمون " ومساكن طيبة " معناه وعدهم مساكن طيبة. والمسكن
الموضع الذي يسكن وروى الحسن انها قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد
الأخضر مبنية بهذه الجواهر. وقوله " في جنات عدن " فالعدن الإقامة والخلود:
258

ومنه المعدن قال الأعشى:
وان يستضافوا إلى حكمه * يضافوا إلى راجح قد عدن (1)
وروي أنها جنة لا يسكنها إلا النبيون والشهداء والصالحون.
وقوله " ورضوان من الله أكبر " قال الرماني: الرضوان معنى يدعو إلى
الحمد بالإجابة يستحق مثله بالطاعة فيما تقتضيه الحكمة. وإنما رفع (رضوان)
لأنه استأنفه للتعظيم كما يقول القائل: أعطيتك ووصلتك ثم يقول: وحسن رأي
فيك ورضاي عنك خير من جميع ذلك. وقوله " ذلك هو الفوز العظيم " معناه هذا
النعيم الذي وصفه هو النجاح العظيم الذي لا شئ فوقه ولا أعظم منه.
قوله تعالى:
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم
ومأويهم جهنم وبئس المصير (74) آية.
امر الله تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله أن يجاهد الكفار والمنافقين. والجهاد
هو ممارسة الامر الشاق والجهاد يجب باليد واللسان والقلب، فمن أمكنه الجميع
وجب عليه جميعه. ومن لم يقدر باليد فباللسان فإن لم يقدر فبالقلب. واختلفوا
في كيفية جهاد الكفار والمنافقين. فقال ابن عباس: جهاد الكفار بالسيف وجهاد
المنافقين باللسان والوعظ والتخويف، وهو قول الجبائي. وقال الحسن وقتادة:
جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. وكانوا أكثر من
يصيب الحدود. وقال ابن مسعود: هو بالأنواع الثلاثة حسب الامكان فإن لم يقدر
فليكفهر في وجوههم وهو الأعم.

(1) ديوانه: 16 وروايته (هادن قد رزن) بدل " راجح قد عدن "
وتفسير الطبري 14 / 350، واللسان " وزن " ومجاز القرآن 1 / 264
259

ووري في قراءة أهل البيت عليهم السلام " جاهد الكفار بالمنافقين ".
وقوله " واغلظ عليهم " امر منه تعالى لنبيه ان يقوي قلبه على احلال الألم
بهم واسماعهم الكلام الغليظ الشديد ولا يرق عليهم. ثم قال " ومأواهم جهنم " اي
منزلهم جهنم ومقامهم. والمأوى منزل مقام، لا منزل ارتحال. ومثله المثوى
والمسكن وقوله " وبئس المصير " اخبار منه تعالى ان مرجع هؤلاء ومآلهم بئس
المرجع والمال.
قوله تعالى:
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد
إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغنيهم الله ورسوله
من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله
عذبا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي
ولا نصير (75) آية.
اختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال عروة وابن إسحاق ومجاهد:
إنها نزلت في الخلاس بن سويد بن الصامت بأنه قال: فإن كان ما جاء به محمد حقا
لنحن شر من الحمير، ثم حلف بالله أنه ما قال. وقال قتادة: نزلت في عبد الله بن
أبي بن سلول حين قال " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " (1)
وقال الحسن: كان ذلك في جماعة من المنافقين. وقال الواقدي والزجاج: نزلت
في أهل العقبة فإنهم ائتمروا أن يغتالوا رسول الله في عقبة في الطريق عند مرجعهم
من تبوك. وأرادوا ان يقطعوا اتساع راحلته، واطلعه الله على ذلك. وكان ذلك

(1) سورة 63 المنافقون آية 8
260

من معجزاته صلى الله عليه وآله لأنه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلا بوحي من الله تعالى، فسار
رسول الله في العقبة وحده وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي وكانوا اثني عشر
رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه. وعرفهم واحدا واحدا عمار بن ياسر
وحذيفة، وكان أحدهما يقود ناقة رسول الله والاخر يسوقها، والحديث مشروح
في كتاب الواقدي. وقال أبو جعفر عليه السلام كانوا ثمانية من قريش وأربعة من العرب
وقوله " وهموا بما لم ينالوا " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما - قال مجاهد: هم المنافقون بما لم يبلغوه من التنفير برسول الله.
الثاني - قال قتادة: هموا بما ذكر في قوله " ليخرجن الأعز منها الأذل "
فلم يبلغوا ذلك.
والثالث - عن مجاهد أنهم هموا بقتل من أنكر عليهم ذلك. وقال بعضهم:
كان المنافقون قالوا: لو رجعنا وضعنا التاج على رأس عبد الله ابن أبي، فلما
أوقفوا على ذلك حلفوا بأنهم ما قالوا ذلك ولا هموا به، فأخبر الله تعالى عن حالهم
انهم يحلفون بالله ما قالوا، ثم اقسم تعالى بأنهم قالوا ذلك، لان لام لقد لام القسم
وانهم قالوا كلمة الكفر، وهي كل كلمة فيها جحد لنعم الله أو بلغت منزلتها في
العظم، وكانوا يطعنون في الاسلام والنبوة، وأخبر انهم هموا بما لم يبلغوه. والهم
مقاربة الفعل بتغليبه في النفس تقول: هم بالشئ يهم هما، ومنه قوله " ولقد همت
به وهم بها لولا رأى " (1) وليس الهم من العزم في شئ إلا أن يبلغ نهاية العزم
في النفس. والنيل لحوق الامر. ومنه قوله (نال السيف ونال ما اشتهى أو قدر أو
تمنى) فهؤلاء قدروا في أنفسهم من كيد الاسلام ما لم يبلغوه.
وقوله " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله " يعني ما فتح الله
عليهم من الفتوح وأخذ الغنائم واستغنوا بعد أن كانوا محتاجين وقيل في معناه
قولان: أحدهما - انهم عملوا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر الغنى أن نقموا

(1) سورة 12 يوسف آية 24.
261

قال الشاعر:
ما نقموا من بني أمية إلا * انهم يحلمون ان غضبوا (1)
والاخر - انهم بطروا النعمة بالغنى فنقموا بطرا واشرافهم لا يفلحون بهذه
الحال ولا بعدها. والفضل الزيادة في الخير على مقدار ما. والتفضل هو الزيادة من
الخير الذي كان للقادر عليه ان يفعله وأن لا يفعله.
ثم قال تعالى " فان يتوبوا " هؤلاء المنافقون ويرجعوا إلى الحق " يك خيرا
لهم " في دينهم ودنياهم " فإنهم ينالون بذلك رضى الله ورسوله والجنة " وإن يتولوا "
اي يعرضوا عن الرجوع إلى الحق وسلوك الطريق الصحيح " يعذبهم الله عذابا أليما "
اي مؤلما " في الدنيا " بما ينالهم من الحسرة والغم وسوء الذكر وأنواع المصائب
وفي " الآخرة " بعذاب النار " وما لهم في الأرض " اي ليس لهم في الأرض " من ولي "
اي محب " ولا نصير " يعني من ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله. وقيل: إن خلاسا
تاب بعد ذلك، وقال: استثنى الله تعالى لي التوبة فقبل الله توبته.
قوله تعالى:
ومنهم من عاهد الله لئن آتينا من فضله لنصدقن
ولنكونن من الصالحين (76) آية.
اخبر الله تعالى أن من جملة المنافقين الذين تقدم ذكرهم " من عاهد الله
لئن آتانا من فضله لنصدقن " أي منه " ولنكونن من الصالحين " بانفاقه في طاعة الله
وصلة الرحم والمواساة وأن يعمل الأعمال الصالحة التي يكون بها صالحا.
وقيل: نزلت الآية في بلتعة بن حاطب كان محتاجا فنذر لئن استغنى ليصدقن
فأصاب اثني عشر ألف درهم، فلم يتصدق، ولم يكن من الصالحين. هكذا قال

(1) مر تخريجه في 3 / 559
262

الواقدي. وقال ابن إسحاق: هما بلتعة ومقنب بن قشير. وقيل: سبب ذلك أنه
قتل مولى له فأخذ ديته اثني عشر ألف درهم: أعطاه النبي صلى الله عليه وآله.
فان قيل: كيف يصح أن يعاهد الله من لا يعرفه؟
قلنا: إذا وصفه بأخص صفاته جاز منه أن يصرف عهده إليه وإن جاز أن
يكون غير عارف وقال الجبائي: كانوا عارفين، وإنما كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله.
والمعاهدة هي أن يقول علي عهد الله لا فعلن كذا، فإنه يكون قد عقد على نفسه
وجوب ما ذكره، لان الله تعالى حكم بذلك وقدر وجوبه عليه في الشرع.
والآية دالة على وجوب الوفاء بالعهد. واللام الأولى من قوله " لئن آتانا
من فضله " والثانية من قوله " لنصدقن " جميعهما لام القسم غير أن الأولى وقعت
موقع الجواب، والتقدير علينا عهد الله لنصدقن إن آتانا من فضله. ولا يجوز أن تكون
اللام الأولى لام الابتداء، لان لام الابتداء لا تدخل إلا على الاسم المبتدأ، لأنها
تقطع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها إلا في باب (إن) فإنها زحلقت إلى الخبر لئلا
يجتمع تأكيدان، ويجوز ان يقو ل: ان رزقني الله ما لا صلحت بفعل الصلاة
والصوم لان ذلك واجب عليه آتاه ما لا أو لم يؤته.
قوله تعالى:
فلما آتيهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (77) آية
أخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين الذين عاهدوا الله، وقالوا متى آتانا الله
من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين أنه آتاهم ما اقترحوه ورزقهم ما تمنوه من
الأموال، وانهم لما آتاهم ذلك شحت نفوسهم عن الوفاء بالعهد.
ومعنى (لما) معنى (إذا) إلا أن (لما) الغالب عليها الجزاء، وهي اسم،
لأنها تقع في جواب (متى) على تقدير الوقت كقولك: متى كان هذا، فيقول
السامع: لما كان ذلك. و (لما) و (لو) لا يكونان إلا لما مضى بخلاف (إن)
263

و (إذا) فإنهما لما يستقبل الا أن (لو) على تقدير نفي وجوب الثاني لانتفاء الأول
و (لما) يدل على وقوع الثاني لوقوع الأول.
والبخل منع النائل لشدة الاعطاء، ثم صار في أسماء الذي منع الواجب، لان
من منع الزكاة فهو بخيل. قال الرماني: ولا يجوز أن يكون البخل منع الواجب
بمشقة الاعطاء قال الزهير:
ان البخيل ملوم حيث كان ولكن * الجواد على علاته هرم (1)
قال: لأنه يلزم على ذلك أن يكون الجود هو بذل الواجب من غير مشقة.
وإنما قال زهير ما قاله لان البخل صفة نقص. قال الرماني: ومن منع ما لا يضره
بذله ولا ينفعه منعه مما تدعو إليه الحكمة فهو بخيل، لأنه لا يقع المنع على هذه
الصفة إلا لشدة في النفس، وإن لم يرجع إلى ضرر، وقال عبد الله بن عمر والحسن ومحمد
ابن كعب القرطي: يعرف المنافق بثلاث خصال: إذا حدث كذب، وإذا وعد خلف
وإذا ائتمن خان. وخالفهم عطاء ابن أبي رياح في ذلك وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله إنما
قال ذلك في قوم من المنافقين. وروي ان الحسن رجع إلى قول عطاء. وقوله
" وتولوا " اي أعرضوا عما عاهدوا الله عليه. وقوله " وهم معرضون " اخبار منه
بأنهم معرضون عن الحق بالكلية.
قوله تعالى
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله
ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (78) آية.
بين الله تعالى أنه أعقب هؤلاء المنافقين ومعناه أورثهم وأداهم إلى نفاق في

(1) اللسان (هرم).
264

قلوبهم بخلهم بما آتاهم الله من فضله مع الاعراض عن أمر الله، وهو قول الحسن
وقال مجاهد: معناه أعقبهم ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس، وجعل ذلك
إمارة ودلالة على أنهم لا يتوبون أبدا لاحد شيئين: من قال: أعقبهم بخلهم رد
الضمير إليه. والمعنى يلقون جزاء بخلهم. ومن ذهب إلى أن الله أعقبهم رد الضمير
إلى اسم الله.
وقوله " بما أخلفوا الله ما وعدوه " فالاخلاف نقض ما تقدم به العقد من
وعد أو عزم وأصله الخلاف، لأنه فعل خلاف ما تقدم به العقد. والوعد متى كان
بأمر واجب أو ندب أو أمر حسن قبح الاخلاف، وإن كان الوعد وعدا بقبيح
كان إخلافه حسنا. وقوله " وبما كانوا يكذبون " يقوي قول من قال: إن الضمير
عائد إلى الله لأنه بين انه فعل ذلك جزاء على اخلافهم وعده وجزاء على ما
كانوا يكذبون في اخبارهم عليه.
قوله تعالى:
ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجويهم وأن الله علام
الغيوب (79) آية.
الألف في قوله " ألم يعلموا " الف استفهام والمراد به الانكار. يقول الله
تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " ألم يعلموا " هؤلاء المنافقون " أن الله يعلم سرهم " يعني ما يخفون
في أنفسهم وما يتناجون بينهم، والمعنى انه يجب عليهم أنت يعلموا ذلك. تقول:
أسره إسرارا، واستسر استسرارا، وساره مسارة وسرارا، وتسارا إسرارا، والاسرار
اخفاء المعنى في النفس والنجوى رفع الحديث باظهار المعنى لمن يسلم عنده من
اخراجه إلى عدو فيه لأنه من النجاة تقول: ناجاه مناجاة، وتناجوا تناجيا فكأن
هؤلاء المنافقون يسرون في أنفسهم الكفر ويتناجون به بينهم. وقيل: السر والنجوى
265

واحد مكرر باختلاف اللفظين كما يقول القائل: آمرك بالوفاء وأنهاك عن الغدر
والمعنى واحد مكرر باختلاف اللفظين. وقوله " ان الله علام الغيوب " معناه يعلم
كل ما غاب عن العباد مما غاب عن احساسهم أو ادراكهم من موجود أو معدوم من
كل وجه يصح ان يعلم منه، لأنها صفة مبالغة واقتضى ذكر العمل - هاهنا -
حال المنافقين في كفرهم سرا وإظهارهم الايمان جهرا، فقيل لهم ان المجازي لكم
يعلم سركم ونجواكم، كما قال: ذو الرمة في معنى واحد بلفظين مختلفين:
لمياء في شفتيها حوة لعس * وفي اللثات وفي أنيابها شنب
فاللعس حوة وكرر لاختلاف اللفظين، ويمكن أن يكون لما ذكر الحوة خشي
أن يتوهم السامع سوادا قبيحا فبين انه لعس لأنه يستحسن ذلك.
قوله تعالى:
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات
والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم
ولهم عذاب أليم (80) آية.
قيل: نزلت هذه الآية في علية بن زيد الحارثي وزيد بن أسلم العجلاني
فجاء عليه بصاع نم تمر فنثره في الصدقة، وقال: يا رسول الله عملت في النخل بصاعين
فصاعا تركته لأهلي وصاعا أقرضته ربي، وجاء زيد بن أسلم بصدقة فقال: معتب
ابن قشير وعبد الله بن نهيك إنما أراد الرياء. وقال قتادة وغيره من المفسرين:
إن هذه الآية نزلت حجاب بن عثمان، لأنه أتى النبي صلى الله عليه وآله بصاع من تمر
وقال: يا رسول الله إني عملت في النخل بصاعين من تمر فتركت للعيال صاعا
وأهديت لله صاعا. وجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينار وهي شطر ماله
للصدقة، فقال المنافقون: إن عبد الرحمن لعظيم الرياء، وقالوا في الاخر: إن
266

الله لغني عما أتى به، فأنزل الله تعالى الآية فقال " الذين يلمزون المطوعين " أي
ينسبونهم إلى النقص في النفس يقولون: لمزه يلمزه لمزا إذا انتقصه وعابه والمطوعين
على وزن (المتفعلين) وتقديره المتطوعين. فأدغمت التاء في الطاء، ومعناه المتقلين
من طاعة الله بما ليس بواجب عليهم، لان الخير قد يكون واجبا وقد يكون ندبا
وقد يكون مباحا ولا يستحق المدح الا على الواجب والندب دون المباح، وقوله
" والذين لا يجدون الا جهدهم " والجهد هو الحمل على النفس بما يشق تقول:
جهده يجهده جهدا وجهدا - بالضم والفتح - كالوجد والوجد والضعف والضعف. وقال
الشعبي: الجهد في العمل والجهد في القوت. وقوله " فيسخرون منهم " يعني المنافقين
يهزؤون بالمطوعين " سخر الله منهم " اي يجازيهم على سخريتهم بأنواع العذاب
" ولهم عذاب اليم " اي مؤلم موجع. ولما كان ضرر سخريتهم عائدا عليهم جاز
ان يقال " سخر الله منهم " لا انه يفعل السخرية.
قوله تعالى:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة
فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله
لا يهدي القوم الفاسقين (81) آية.
قوله " استغفر لهم " صيغته صيغة الامر والمراد به المبالغة في الاياس من
المغفرة انه لو طلبها طلبة المأمور بها أو تركها ترك المنهي عنها لكان ذلك سواء في أن
الله لا يفعلها، كما قال في موضع آخر " سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر
لهم لن يغفر الله لهم " (1). والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى بالدعاء بها
والمغفرة ستر المعصية برفع العقوبة عليها. وتعليق الاستغفار بالسبعين مرة، والمراد

(1) سورة 63 المنافقون آية 6
267

به المبالغة لا العدد المخصوص، ويجري ذلك مجرى قول القائل: لو قلت ألف مرة
ما قبلت، والمراد بذلك إني لا أقبل منك، وكذلك الآية المراد بها نفي الغفران
جملة. وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (والله لأزيدن على السبعين) خبر واحد
لا يلتفت إليه، ولان في ذلك ان النبي صلى الله عليه وآله استغفر للكفار وذلك لا يجوز بالاجماع.
وقد روي أنه قال (لو علمت اني لو زدت على السبعين مرة لغفر لفعلت).
وكان سبب نزول هذه الآية ان النبي صلى الله عليه وآله كان إذا مات ميت صلى عليه
واستغفر له، ولم يكن بمنزلة المنافقين بعد، فأعلمه الله تعالى ان في جملة من تصلي
عليهم من هو منافق وإن استغفاره له لا ينفع قل ذلك أم كثر، ثم نهى الله نبيه أن
يصلي على أحد منهم وأن يستغفر له حين عرفه إياهم بقوله " ولا تصل على أحد منهم
مات ابدا ولا تقم على قبره " (1) الآية. وقوله " ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله "
إشارة منه تعالى إلى أن ارتفاع الغفران إنما كان لأنهم كفروا بالله وجحدوا
نعمه، وكفروا برسوله فجحدوا نبوته " والله لا يهدي القوم الفاسقين " فمعناه انه
لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب. فأما الهداية إلى الايمان بالاقرار بالتوحيد لله
والاعتراف بنبوة النبي صلى الله عليه وآله فقد هدى الله إليه كل مكلف متمكن من النظر
والاستدلال، بأن نصب له على ذلك الدلالة وأوضحها له.
قوله تعالى:
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن
يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر
قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (82) آية.
اخبر الله تعالى بأن جماعة من المنافقين الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وآله ولم يخرجهم

(1) سورة 9 التوبة آية 85.
268

معه إلى تبوك لما استأذنوه في التأخر فأذن لهم، فرحوا بقعودهم خلاف رسول الله.
والمخلف المتروك خلف من مضى، ومثله المؤخر عمن مضى تقول: خلف تخليفا
وتخلف تخلفا. والفرح ضد الغم، والغم ضيق الصدر بفوت المشتهى، وعند البصريين
من المعتزلة هو اعتقاد وصول الضرر إليه في المستقبل أو دفع الضرر المظنون والمعلوم
عنه. ومعنى خلاف رسول الله قال أبو عبيدة: بعد رسول الله وأنشد:
عقب الربيع خلافهم فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصيرا (1)
وقال غيره: معناه المصدر من قولك خالف خلافا وهو نصب على المصدر.
وقوله " وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " اخبار منه
تعالى ان هؤلاء المخلفين فرحوا بالتأخر وكرهوا إنفاق أموالهم والجهاد بنفوسهم
في سبيل الله، فالجهاد بالمال هو تحمل لمشقة الانفاق في وجوه البر، والجهاد
بالنفس هو تعريضها لما يشق عليها اتباعا لامر الله. وقوله " لا تنفروا في الحر "
معناه انهم قالوا لنظرائهم ومن يقبل منهم: لا تخرجوا في الوقت الحار، فقال الله
تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله قل لهم " نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون " لأنهم توقوا
بالقعود عن الخروج حر الشمس، فخالفوا بذلك أمر الله وأمر رسوله، واستحقوا
حر نار جهنم، وكفى بهذا الاختيار جهلا ممن اختاره. وقوله " لو كانوا يفقهون "
معناه لو كانوا يفقهون وعظ الله وتحذيره وتزهيده في معاصيه.
قوله تعالى:
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا
يكسبون (83) آية.

(1) قائله الحارث بن خالد المخزومي. الأغاني 3 / 333 وروايته (الرذاذ)
بدل (الربيع) واللسان (عقب)، (خلف).
269

قوله " فليضحكوا " صيغته صيغة الامر والمراد به التهديد، وإنما قلنا: إنه
بصورة الامر، لان اللام ساكنة ولو كانت لام الإضافة لكانت مكسورة لأنها
تؤذن بعملها للجزاء المناسب لها، فلذلك الزمت الحركة. والمراد بالآية الاخبار
عن حال هؤلاء المنافقين وأنها في وجه الضحك كحال المأمور منه فيما يؤول إليه
من خير أو شر على صاحبه، فلذلك دخله معنى التهدد، والضحك حال تفتح وانبساط
يظهر في وجه الانسان عن تعجب مع فرح، والضحاك هو الانسان خاصة. والبكاء
حال يظهر عن غم في الوجه مع جري الدموع على الخد، وهو ضد الضحك تقول:
بكا بكاءا، وأبكاه الله إبكاءا، وبكاه تبكية وتباكى تباكيا واستبكي استبكاءا
ومعنى الآية أن يقال لهؤلاء المنافقين: فاضحكوا بقليل تمتعكم في الدنيا فإنكم
ستبكون كثيرا يوم القيامة إذا حصلتم في العقاب الدائم " جزاء بما كانوا يكسبون "
نصب (جزاء) على المصدر أي تجزون على معاصيكم، ذلك جزاء على أفعالكم
التي اكتسبتموها.
قوله تعالى:
فان رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج
فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم
بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين (84) آية.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " فان رجعك الله " يعني ان ردك الله " إلى طائفة
منهم يعني جماعة. فالرجوع هو تصيير الشئ إلى المكان الذي كان فيه، تقول:
رجعته رجعا كقولك رددته ردا، وقد يكون التصيير إلى الحال التي كان عليها
كرجوع الماء إلى حال البرودة. والطائفة الجماعة التي من شأنها أن تطوف ولهذا
لا يقال في جماعة الحجارة طائفة، وقد يسمى الواحد بأنه طائفة بمعنى نفس طائفة
270

والأول أظهر. وقوله " فاستأذنوك للخروج " اي طلبوا منك الاذن في الخروج في
غزوة أخرى، والاذن رفع التبعة في الفعل وأصله أن يكون بقول يسمع بالاذن.
والخروج الانتقال عن محيط، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله قل لهم حينئذ " لن تخرجوا معي
أبدا " اي لا يقع منكم الخروج أبدا، فالأبد الزمان المستقبل من غير انتهاء إلى
حد، ونظير للماضي (قط) إلا أنه مبني كما بني أمس لتضمنه حروف التعريف
وأعرب (الأبد) كما أعرب (غد) لان المستقبل أحق بالتنكير.
وقوله " ولن تقاتلوا معي عدوا " اخبار بأنهم لا يفعلون ذلك ابدا
ولا يختارونه. وقوله " إنكم رضيتم بالقعود " أول مرة فاقعدوا مع الخالفين " معناه
اخبار منه تعالى انهم رضوا بالقعود أول مرة فينبغي ان يقعدوا مع الخالفين. وقيل
في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - قال الحسن وقتادة: هم النساء والصبيان. وقال ابن
عباس: هم من تأخر من المنافقين. وقال الجبائي: هم كل من تأخر لمرض أو نقص
وقيل: معناه مع أهل الفساد مشتقا من قولهم: خلف خلوفا اي تغير إلى الفساد.
وقيل: الخالف كل من تأخر عن الشاخص.
قوله تعالى:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم
كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (85) آية.
هذا نهي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله عن أن يصلي على أحد من المنافقين أو يقوم
على قبره ومعناه أن يتولى دفنه أو ينزل في قبر كما يقال: قام فلان بأمر فلان.
وقال ابن عباس وابن عمر وقتادة وجابر: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله على عبد الله
ابن أبي بن أبي سلول وألبسه قميصه قبل أن ينهي عن الصلاة على المنافقين. وقال
أنس: أراد أن يصلي عليه فأخذ جبرائيل بثوبه. وقال له " لا تصل على أحد
271

منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ".
والصلاة على الأموات فرض على الكفايات إذا قام به قوم سقط عن الباقين.
وأقل من يسقط به الفرض واحد وهي دعاء ليس فيها قراءة ولا تسبيح، وفيه خلاف.
وفيها خمس تكبيرات عندنا، وعند الفقهاء أربع تكبيرات، فالتكبيرة الأولى يشهد
بعدها الشهادتين ويكبر بالثانية، ويصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وآله ويكبر الثالثة
ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويكبر الرابعة ويدعوا للميت إن كان مؤمنا وعليه
إن كان منافقا، ويكبر الخامسة ويقف يومي إلى يمينه حتى ترفع الجنازة، وليس
فيها تسليم. وسمعت أبا الطيب الطبري وكان امام أصحاب الشافعي يقول: الخلاف
بيننا وبينكم في عبارة، لان عندكم ينصرف بالخامسة. وعندنا بالتسليم، فجعلتم
مكان التسليم التكبير. وذلك خلاف في عبارة.
وقوله " مات " موضع (مات) جر لأنه صفة ل‍ (أحد) لان تقديره على
أحد ميت منهم و " أبدا " منصوب متصل، و (أحد) هذه هي التي تكون في النفي دون
الايجاب لأنه يصح النهي عن الصلاة عليهم مجتمعين ومتفرقين، كما يصح في النفي
ولا يمكن في الايجاب لأنه كنفي الضدين في حال واحدة، فإنه لا يصح اثباتها في
حال أصلا. والقبر حفرة يدفن فيها الميت، تقول: قبرته أقبره قبرا فأنا قابر وهو
مقبور وأقبرت فلانا إقبارا إذا جعلته بقبره.
وقوله " إنهم كفروا بالله ورسوله " والمعنى إنما نهيتك عن الصلاة عليهم
لأنهم كفروا بالله ورسوله، فهي للتعليل، وإنما كسرت لتحقيق الاخبار بأنهم على
الصفة التي ذكرها وأنهم " ماتوا وهم فاسقون " اي خارجون عن طاعة الله
إلى معصيته.
قوله تعالى:
ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم
272

في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (86) آية
قد مضى تفسير مثل هذه الآية فلا وجه لإعادته (1) وبينا أنه خطاب
للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به الأمة، ينهاهم الله أن يعجبوا بما اعطى الله الكفار من الأموال
والأولاد في الدنيا حتى يدعوهم ذلك إلى الصلاة عليهم، ولا ينبغي ان يغتروا بذلك
فإنما يريد الله ان يعذبهم بها في الدنيا، لأنهم لا ينفقونها في طاعة الله ولا يخرجون
حق الله منها. ويجوز أن يعذبهم بها في الدنيا بما يلحقهم فيها من المصائب والغموم
وبما يأخذها المسلمون على وجه الغنيمة وبما يشق عليهم من إخراجها في الزكاة
والانفاق في سبيل الله مع اعتقادهم بطلان الاسلام وتشدد ذلك عليهم ويكون عذابا
لهم، وان نفوسهم تزهق اي تهلك بالموت " وهم كافرون " أي في حال كفرهم،
فلذلك عذبهم الله في الآخرة. والاعجاب هو ايجاد السرور بما يتعجب منه من
عظيم الاحسان، تقول: أعجبني امره اعجابا إذا سررت بموضع التعجب منه والزهق
خروج النفس بمشقة شديدة ومنه قوله " فإذا هو زاهق " (2) أي هالك.
وقيل: في وجه حسن تكرار هذه الآية دفعتين قولان:
أحدهما - قال أبو علي: يجوز أن تكون الآيتان في فريقين من المنافقين
كما يقول القائل: لا يعجبك حال زيد ولا يعجبك حال عمرو.
الثاني - أن يكون الغرض البيان عن قوة هذا المعنى فيما ينبغي ان يحذر
منه مع أنه للتذكير في موطنين بعد أحدهما عن الاخر، فيجب العناية به، وليس
ذلك بقبيح، لان الواحد منا يحسن به أن يقوم في مقام بعد مقام، ويكرر الوعظ
والزجر والتخويف ولا يكون ذلك قبيحا.

(1) في تفسير آية 56 من هذه السورة
(2) سورة 21 الأنبياء آية 18
273

قوله تعالى
وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا ومع رسوله استأذنك
أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (87) آية.
بين الله تعالى في هذه الآية أنه إذا أنزل سورة من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله
" أن آمنوا " ومعناه بأن آمنوا فحذفت الباء وجعل " أن آمنوا " في موضع نصب
والتقدير بالايمان على وجه الامر ولا يجوز الحذف مع صريح المصدر، وإنما جاز
مع (أن) للزوم الصلة والحمل على التأويل في اللفظ كما حمل على المعنى.
وهذا خطاب للمؤمنين وأمر لهم بأن يدوموا على الايمان ويتمسكوا به في مستقبل
الأوقات ويدخل فيه المنافق ويتناوله الامر بأن يستأنف الايمان ويترك النفاق ثم
يجاهدا بعد ذلك بنفوسهم وأموالهم لأنه لا ينفعهم الجهاد مع النفاق.
وقوله " استأذنك أولوا الطول " معناه أن ذوي الغنى من المنافقين إذا
أنزلت السورة يأمرهم فيها بالايمان والجهاد يستأذنون النبي صلى الله عليه وآله في القعود والتأخر
عنه. مع اعتقادهم بطلان الاسلام فيشد ذلك عليهم ويكون عذابا لهم - وهو قول
الحسن وابن عباس - فإنهما قالا: إنما لحق هؤلاء الذم لأنهم أقوى على الجهاد.
وقوله " وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين " اخبار منه تعالى أن هؤلاء المنافقين من
ذوي الغنى يقولون للنبي صلى الله عليه وآله: اتركنا نكن مع القاعدين من الصبيان والزمنى
والمرضى الذين لا يقدرون على الخروج. قال الرماني: والسورة جملة من القرآن
تشتمل على آيات قد أحاطت بها كما يحبط سور القصر بما فيه، وسؤر الهر بقيته
من الماء. والجهاد بالقتال دفعا عن النفس معلوم حسنه عقلا لأنه مركوز في العقل
وجوب التحرز من المضار، وليس في العقل ما يدل على أنه يجب على الانسان ان
يمنع غيره من الظلم وإنما يعلم ذلك سمعا.
274

قوله تعالى:
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم
لا يفقهون (88) آية.
اخبر الله تعالى بأن هؤلاء الذين قالوا " ذرنا نكن مع القاعدين " من المنافقين
رضوا لنفوسهم أن يكونوا مع الخوالف وهم النساء والصبيان والمرضى والمقعدون.
قال الزجاج: الخوالف النساء لتخلفهن عن الجهاد، ويجوز أن يكون جمع خالفة في
الرجال، والخالف والخالفة الذي هو غير نجيب، ولم يأت في (فاعل) (فواعل)
صفة إلا حرفين قولهم: فارس وفوارس. وهالك وهوالك.
وقوله " وطبع على قلوبهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - انه تعالى يجعل نكته سوداء في قلب المنافق والكافر لتكون علامة
للملائكة يعرفون بها أنه ممن لا يفلح أبدا.
الثاني - أن يكون المراد بذلك الذم لها بأنها كالمطبوع عليها فلا يدخلها صبر
ولا ينتفي عنها شر، لان حال الذم لها يقتضي صفات الذم، كما أن حال المدح
يقتضي صفات المدح، كما قال جرير في قصيدة أولها:
أتصحوا أم فؤادك غير صاح * عشية هم صحبك بالرواح
ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح (1)
ولا تحمل الا على المدح دون الاستفهام. والطبع في اللغة هو الختم تقول:
طبعه وختمه بمعنى واحد.
قوله تعالى:
لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم

(1) مر تخريجه في 1 / 132، 400 وقد مر في 2 / 327
275

وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (89) آية.
لما أخبر الله تعالى عن حال المتأخرين عن النبي صلى الله عليه وآله والقاعدين عن الجهاد
معه وأنهم منافقون قد طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. أخبر عن الرسول صلى الله عليه وآله ومن
معه من المؤمنين المطيعين لله ورسوله بأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم
بالأموال التي ينفقونها في مرضاة الله وعدة الجهاد ويقاتلون الكفار بنفوسهم. ثم
اخبر عما أعدلهم من الجزاء على أفعالهم تلك وانقيادهم لله ورسوله، فقال " أولئك "
يعني النبي والذين معه " لهم الخيرات " في الجنة ونعيمها وخيراتها، وانهم المفلحون
أيضا الفائزون بكرامة الله. والخيرات هي المنافع التي تسكن النفس إليها وترتاح
بها من النساء الحسان وغيره من نعيم الجنان واحده خيرة - هذا قول أبي عبيدة -
وقال رجل من بني عدي:
ولقد طعنت مجامع الربلات * ربلات هند خيرة الملكات (1)
والفلاح النجاح بالوصول إلى البغية من نجح الحاجة وهو قضاؤها.
قوله تعالى:
أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
ذلك الفوز العظيم (90) آية.
بين الله تعالى انه " أعد " لهؤلاء المؤمنين والرسول " جنات " يعني بساتين
" تجري من تحتها " ومعناه من تحت أشجارها " الأنهار ". والاعداد جعل الشئ
مهيئا لغيره تقول: أعد إعدادا واستعد له استعدادا وهو من العدد، لأنه قد عد
الله جميع ما يحتاج إلى تقديمه له من الأمور ومثله الاتخاذ. والوجه في اعداد ذلك
قبل مجئ وقت الجزاء أن تصوره لذلك ادعى إلى الطاعة وآكد في الحرص عليها.

(1) مجاز القرآن 1 / 267 واللسان (خير) الربلة لحمة الفخذ
276

ويحتمل أن يكون المراد أنه سيجعل لهم جنات تجري من تحتها الأنهار غير أنه
ترك للظاهر. وقوله " ذلك الفوز العظيم " إشارة إلى ما أعده لهم واخبار منه بأنه
الفوز العظيم. والفوز النجاة من الهلكة إلى حال النعمة، وسميت المهلكة مفازة تفاؤلا
بالنجاة وإنما وصفه بالعظيم لأنه حاصل على جهة الدوام.
قوله تعالى:
وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد
الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب
أليم (91) آية.
قرأ يعقوب وقتيبة (المعذرون) بسكون العين وتخفيف الذال. الباقون
بفتح العين وتشديد الذال، وجه قراءة من قرأ بالتخفيف أنه أراد جاءوا بعذر.
ومن قرأ بالتشديد احتمل أمرين: أحدهما - انه أراد المعتذرون، كان لهم عذر
أولم يكن، وإنما أدغم التاء في الذال لقرب مخرجهما مثل قوله " يذكرون
ويدكرون " وغير ذلك، وأصله يتذكرون. الثاني - انه أراد المقصرون، والمعذر
المقصر، والمعذر المبالغ الذي له عذر. وأما المعتذر فإنه يقال لمن له عذر ولمن
لا عذر له قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (1)
معناه جاء بعذر. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعذرون الذين يعتذرون
فيوهمون أن لهم عذرا ولا عذر لهم وروي عن ابن عباس انه قرأ بالتخفيف، وقال:
لعن الله المعذرين أراد من يعتذر بغير عذر، وبالتخفيف من بلغ أقصى العذر.

(1) ديوانه القصيدة: 21، وخزانة الأدب 2 / 217 وتفسير الطبري 1 / 119
14 / 117 واللسان (عذر).
277

وأصل التعذير التقصير مع طلب إقامة العذر، عذر في الامر تعذيرا إذا لم يبالغ
فيه. والفرق بين الاعتذار والتعذير، أن الاعتذار قد يكون بعذر من غير تصحيح
الامر، والتعذير تقصير يطلب معه إقامة العذر فيه. واختلفوا في معنى " وجاء
المعذرون " على قولين: قال قتادة واختاره الجبائي: انه من عذر في الامر تعذيرا
إذا قصر. وقال مجاهد: جاء أهل العذر جملة على معنى المعتذرين. وقال الحسن:
اعتذروا بالكذب. وقال قوم: إنما جاء بنو عفار، خفاف بن ايماء بن رخصة وقومه.
ومعنى الآية أن قوما من الاعراب جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله يظهرون أنهم مؤمنون
ولم يكن لهم في الايمان والجهاد نية فيعرفون نفوسهم عليه وغرضهم أن يأذن
النبي صلى الله عليه وآله لهم في التخلف، فجعلوا عرضهم أنفسهم عليه عذرا في التخلف عن الجهاد
وقوله " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " يعني المنافقين، لأنهم الذين
كذبوا الله ورسوله فيما كانوا يظهرون من الايمان، فقال الله " سيصيب الذين
كفروا منهم عذاب اليم " اي ينالهم عذاب مؤلم موجع في الآخرة.
قوله تعالى:
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين
لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين
من سبيل والله غفور رحيم (92) آية.
عذر الله تعالى في هذه الآية من ذكره ووصفه، فقال " ليس على الضعفاء "
وهو جمع ضعيف، وهو الذي قوته ناقصة بالزمانة وغيرها " ولا على المرضى " وهو
جمع مريض وهم الاعلاء " ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون " يعني من ليس معه
نفقة الخروج وآلة السفر " حرج " يعني ضيق وجناح. وأصل الضيق الذي يتعذر
معه الامر. وقوله " إذا نصحوا لله ورسوله " شرط تعالى في رفع الجناح والاسم عن
278

المذكورين ان ينصحوا الله ورسوله بأن يخلصوا العمل من الغش، يقال: نصح في
عمله نصحا، وناصح نفسه مناصحة، ومنه التوبة النصوح. ثم قال " ما على المحسنين من
سبيل " أي ليس على من فعل الحسن الجميل طريق. والاحسان هو ايصال النفع
إلى الغير لينتفع به مع تعريه من وجوه القبح. ويصح أن يحسن الانسان إلى نفسه
ويحمل على ذلك، وهو إذا فعل الافعال الجميلة التي يستحق بها المدح والثواب.
وقوله " والله غفور رحيم " معناه ساتر على ذوي الأعذار بقبول العذر منهم " رحيم "
بهم لا يلزمهم فوق طاقتهم. وقال قتادة: نزلت هذه الآية في عابد بن عمرو المزني
وغيره. وقال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن معقل المزني، فإنه وجماعة معه
جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا له: احملنا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لا أجد ما
أحملكم عليه.
قوله تعالى
ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما
أحملكم عليه تولوا وأعينهم تقيض من الدمع حزنا ألا
يجدوا ما ينفقون (93) آية.
هذه الآية عطف على الأولى والتقدير ليس على الذين جاءوك - وسألوك حملهم
حيث لم يكن لهم حملان، فقلت لهم يا محمد " لا أجد ما أحملكم عليه " اي ليس لي
حملان فحينئذ " تولوا وأعينهم تفيض من الدمع " يبكون " حزنا أن لا يجدوا
ما ينفقون " في هذا الطريق ويتابعونك - حرج وأثم ولا ضيق وإنما حذف لدلالة
الكلام عليه. والحمل إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول حمله
يحمله حملا إذا أعطاه ما يحمل عليه. وحمل على ظهره حملا، وحمله الامر تحميلا
وتحمل تحملا، واحتمله احتمالا، وتحامل تحاملا. واللام في قوله " لتحملهم "
279

لام الغرض، والمعنى جاؤوك وأرادوا منك حملهم وتقول: وجدت في المال وجدا
وجدة، ووجدت الضالة وجدانا ووجدت عليه - من الموجدة - وجدا. والفيض
الجري عن امتلاء من حزن قلوبهم، والحزن ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن
الأرض وهي الغليظة المسلك.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في نفر من مزينة، وقال محمد بن كعب القرطي
وابن إسحاق: نزلت في سبعة نفر من قبائل شتى. وقال الحسن: نزلت في أبي
موسى وأصحابه. وقال الواقدي: البكاؤن سبعة من فقراء الأنصار، فلما بكوا حمل
عثمان منهم رجلين، والعباس بن عبد المطلب رجلين، ويامين بن كعب بن نسيل
النصري من بني النضير ثلاثة، ومن جملة البكائين عبد الله بن معقل. وقال الواقدي:
كان الناس بتبوك ثلاثين ألفا، وعشرة آلاف فارس.
قوله تعالى.
إنما السبيل على الذين يستأذنوك وهم أغنياء رضوا بأن
يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (94) آية.
بين الله تعالى في هذه الآية ان السبيل والطريق بالعقاب والحرج إنما هو
للذين يطلبون الاذن من رسول الله في المقام، وهم مع ذلك أغنياء يتمكنون من
الجهاد في سبيل الله، الراضين بكونهم مع الخوالف من النساء والصبيان ومن لا حراك
به. ثم قال: وطبع الله على قلوبهم بمعنى وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة
فيميزون بينهم وبين غيرهم من المؤمنين، ويحتمل أن يكون المراد انه بمنزلة
المطبوع في أن لا يدخلها الايمان كما لو طبعوا على الكفر. ومثله قوله " صم بكم
عمي " ومعناه لترك تلفظهم بالحق وعدولهم عن سماع الحق وانصرافهم عن النظر إلى
الصحيح كأنهم صم بكم عمي، وهم لا يعلمون ذلك، ولا يدرون إلى ما يصير أمرهم من
280

عقاب الأبد، ولا يعرفون ما يلزمهم من احكام الشرع ما يعرفه المؤمنون. وقال
البلخي: معناه لا لفهم للخلاف والمعصية كأنهم لا يعلمون، والتقدير ان حكم هؤلاء
المذكورين بهذه الأوصاف بخلاف من قد تحصن من العقاب بالايمان، لأنهم قد فتحوا
على أنفسهم أبواب العذاب.
قوله تعالى:
يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن
نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم
ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما
كنتم تعملون (95) آية.
اخبر الله تعالى ان هؤلاء القوم الذين تأخروا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله
من غير عذر كان يبيحهم ذلك إذا عاد النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنون إنهم كانوا يجيؤن إليهم
ويعتذرون إليهم عن تأخرهم بالأباطيل والكذب، فقال الله تعالى لنبيه: قل يا محمد
لهم " لا تعتذروا " فلسنا نصدقكم على ما تقولون، فان الله تعالى قد أخبرنا من
اخباركم واعلمنا من امركم ما قد علمنا به كذبكم " وسيرى الله عملكم ورسوله "
أي سيعلم الله فيما بعد عملكم هل تتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ ويحتمل
أن يكون المراد أنه يحل في الظهور محل ما يرى " ثم تردون " اي ترجعون إلى من
يعلم الغيب والشهادة يعني السر والعلانية الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم
" فينبئكم " بما كنتم تعملون " أي فيخبركم بأعمالكم كلها حسنها وقبيحها فيجازيكم
عليها أجمع.
والاعتذار اظهار ما يقتضي العذر ويمكن أن يكون صحيحا ويمكن أن يكون
فاسدا كاعتذار هؤلاء المنافقين. والفرق بين الاعتذار والتوبة ان التوبة اقلاع عن
281

سيئة قد وقعت، والاعتذار اظهار ما يقتضي انها لم تقع، ولذلك يجوز ان يتوب إلى
الله ولا يجوز ان يعتذر إليه. والاعتذار الذي له قبول هو ما كان صاحبه محقا، فأما
الاعتذار بالباطل فهو أسوء لحال صاحبه قال الشاعر:
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه * وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب (1)
قوله تعالى:
سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم
فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأويهم جهنم جزاء بما كانوا
يكسبون (96) آية.
أخبر الله تعالى عن هؤلاء الذين يعتذرون بالباطل إلى النبي والمؤمنين
في تأخرهم عن الخروج معهم أنهم سيقسمون أيضا على ذلك للمؤمنين " إذا انقلبتم
إليهم " يعني إذا رجعتم إليهم " لتعرضوا عنهم " اي لتصفحوا عنهم ولا توبخوهم ولا
تعنفوهم. ثم أمر الله تعالى المؤمنين والنبي صلى الله عليه وآله أن يعرضوا عنهم اعراض المقت
وبين " انهم رجس " اي هم كالنتن في قبحه وهم أنجاس ويقال: رجس نجس على
الاتباع، وان " مأواهم " يعني مصيرهم ومآلهم ومستقرهم " جهنم جزاء " اي مكافاة
على ما كانوا يكسبونه من المعاصي. والجزاء مقابلة العمل بما يقتضيه من خير
أو شر. قال أحمد بن يحيى ثعلب: اللام في قوله " لتعرضوا عنهم " ليست لام غرض
وإنما معناه لاعراضكم، وإنما علق - هاهنا - بذلك لئلا يتوهم أنه إذا رضي المؤمنون
فقد رضي الله عنهم أيضا فذكر ذلك ليزول هذه الالباس لان المنافقين لم يحلفوا
لهم لكي يعرضوا، ولكنهم حلفوا تبرئا من النفاق ولا عراض المسلمين عنهم وأنشد:
سموت ولم تكن أهلا لتسمو * ولكن المضيع قد يصاب

(1) العقد الفريد 2 / 15
282

أراد ما كنت للسمو.
قوله تعالى:
يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله
لا يرضى عن القوم الفاسقين (97) آية.
بين الله تعالى أن هؤلاء المنافقين يقسمون بالله طلبا لمرضاتكم عنهم " فان
ترضوا " أيها المؤمنون " عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " الخارجين من طاعته
إلى معصيته، والمعنى انه لا ينفعهم رضاكم مع سخط الله عليهم وارتفاع رضاه عنهم:
رضي المؤمنون عنهم أو لم يرضوا، وإنما علق هاهنا بذلك لئلا يتوهم أنه إذا
رضى المؤمنون فقد رضي الله عنهم أيضا، فذكر ذلك ليزول هذا الالباس ولان
المراد بذلك انه إذا كان الله لا يرضى عنهم فينبغي لكم أيضا أن لا ترضوا عنهم.
قوله تعالى:
الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر لا يعلموا حدود ما أنزل
الله على رسوله والله عليم حكيم (98) آية.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الاعراب الجفاة الذين لا يعرفون الله ورسوله
حق معرفتهما أشد كفرا ونفاقا وجحودا لنعم الله، وأعظم نفاقا من غيرهم. وقيل:
انها نزلت في اعراب كانوا حول المدينة من أسد وغطفان، فكفرهم أشد، لأنهم
أقصى وأجفى من أهل المدن، ولأنهم أبعد عن سماع التنزيل ومخالطة أهل العلم
والفضل، ويقال: رجل عربي إذا كان من العرب وإن سكن البلاد، وإعرابي إذا
كان ساكنا في البادية. وروي أن زيد بن صوحان كانت يده اليسرى قد قطعت يوم
اليمامة وكان قاعدا يوما يروي الحديث والى جانبه إعرابي، فقال له: ان حديثك
283

يعجبني وان يدك تريبني فقال زيد: إنها الشمال، فقال: والله ما أدري اليمين يقطعون
أو الشمال، فقال زيد: صدق الله، وقرأ " الاعراب أشد كفرا " الآية.
وقوله " وأجدر " معناه أخلق وأولى وأقرب إلى " أن " لا يعلموا حدود ما أنزل
الله على رسوله " من الشرائع والاحكام. وموضع (أن) نصب لان تقديره أجدر
بأن، فحذف الباء فانتصب، وتقديره أجدر بترك العلم غير أن الباء لا تحذف مع
المصدر الصريح، وإنما تحذف مع (أن) للزوم العلم بها وحملها على التأويل.
و (أجدر) مأخوذ من جدر الحائط. وقوله " والله عليم حكيم " معناه عالم بأحوالهم
وبواطنهم حكيم فيما يحكم به عليهم من الكفر وغير ذلك من أفعاله.
قوله تعالى:
ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم
الدواثر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم (99) آية.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " دائرة السوء " بضم السين. الباقون بفتح السين.
من فتح أراد المصدر، وإنما أضاف الدائرة إلى السوء تأكيدا كما يقال: عيني رأسه
وشمس النهار، تقول: سؤته أسوءه سوءا ومساءة ومسائية، وقوله " ما كان أبوك
امرأ سوء " (1) لا يجوز فيه غير فتح السين، وكذلك في قوله " وظننتم ظن
السوء " (2) لان الضم بمعنى الاسم، وتقديره عليهم دائرة العذاب والبلاء.
أخبر الله تعالى ان من جملة هؤلاء المنافقين من الاعراب من يتخذ ما ينفقه
في الجهاد وغيره من طرق الخير " مغرما " اي غرما من قولهم: غرمته غرما وغرامة.
والغرم لزوم نائبة في المال من غير جناية، ومنه قوله " من مغرم مثقلون " (3)

(1) سورة 19 مريم آية 28.
(2) سورة 48 الفتح آية 12
(3) سورة 52 الطور آية 40 وسورة 68 القلم آية 46.
284

وأصل المغرم لزوم الامر، ومنه قوله " إن عذابها كان غراما " (1) أي لازما،
وحب غرام أي لازم، والغريم كل واحد من المتداينين، وغرمته كذا ألزمته إياه
في ماله. وقوله " ويتربص بكم الدوائر " فالتربص التمسك بالشئ لعاقبة ومنه
التربص بالطعام لزيادة السعر، فهؤلاء يتربصون بالمؤمنين لعاقبة من الدوائر.
والدائرة جمعها دوائر وهي العواقب المذمومة. وقال الفراء والزجاج: كانوا
يتربصون بهم الموت والقتل، وإنما خص رفع النعمة بالدوائر دون رفع النقمة، لان
النعمة أغلب وأعم لان كل واحد لا يخلو من نعم الله وليس كذلك النقمة، لأنها
خاصة. والنعمة عامة. وقد قيل: دارت لهم الدنيا بخلاف دارت عليهم. ثم قال
تعالى " عليهم دائرة السوء " يعني على هؤلاء المنافقين دائرة العذاب والبلاء - في
قراءة من قرأ بالضم - وقوله " والله سميع عليم " معناه - هاهنا - انه يسمع
ما يقوله هؤلاء المنافقون ويعلم بواطن أمورهم، ولا يخفى عليه شئ من حالهم
وحال غيرهم.
قوله تعالى:
ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق
قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم
الله في رحمته إن الله غفور رحيم (100) آية.
قرأ ورش وإسماعيل " قربة " بضم الراء، اتبع الضمة التي قبلها. وقال أبو
علي: لا يجوز أن يكون اتباعا لما قبله لان ذلك إنما يجوز في الوقف آخر الكلم
وإنما الضمة فيها الأصل، وإنما خففت في قولهم: رسل وطنب، فقالوا: رسل وطنب
فإذا جمع فلا يجوز فيه غير ضم الراء، لان الحركة الأصلية لا بد من ردها في الجمع.

(1) سورة 25 الفرقان آية 65.
285

لما ذكر الله تعالى ان من جملة الاعراب من يتخذ انفاقه في سبيل الله مغرما
ذكر ان من جملتهم أيضا " من يؤمن بالله " اي يصدق به وباليوم الاخر يعني
يوم القيامة وانه يتخذ ما ينفقه في سبيل الله قربات عند الله. قال الزجاج: يجوز في
(قربات) ثلاثة أوجه - ضم الراء وإسكانها وفتحها - وما قرئ إلا بالضم، والقربة
هي طلب الثواب والكرامة من الله تعالى بحسن الطاعة، وهي تدني من رحمة الله
والتقدير انه يتخذ نفقته وصلوات الرسول اي دعاءه له قربة إلى الله. وقال ابن
عباس والحسن: معنى وصلوات الرسول استغفاره لهم، وقال قتادة: معناه دعاؤه
بالخير والبركة قال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا * يا رب جنب أبي الاوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي * نوما فان لجنب المرء مضطجعا (1)
ثم قال " ألا إنها " يعني صلوات الرسول " قربة لهم " اي تقربهم إلى
ثواب الله. ويحتمل أن يكون المراد ان نفقتهم قربة إلى الله. وقوله " سيدخلهم الله
في رحمته " وعد منه لهم بان يرحمهم ويدخلهم فيها، وفيه مبالغة " فان الرحمة
وسعتهم وغمرتهم، ولو قال فيهم رحمة الله لأفاد انهم اتسعوا للرحمة من الله تعالى
وقوله " إن الله غفور رحيم " معناه إنه يستر كثيرا على العصاة ذنوبهم ولا
يفضحهم بها لرحمته بخلقه " وغفور رحيم " جميعا من ألفاظ المبالغة فيما وصف به
نفسه من المغفرة والرحمة.
قوله تعالى:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين
اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم

(1) ديوانه 720 القصيدة 13 وقد مر البيت الثاني في 1 / 193
286

جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز
العظيم (101) آية.
قرأ ابن كثير وحده " جنات تجري من تحتها " باثبات (من) وكذلك
هو في مصاحف أهل مكة. الباقون بحذف (من) ونصبوا تحتها على الظرف
وقرأ يعقوب " والأنصار والذين " بضم الراء. الباقون بجرها. من رفع عطف على
قوله " والسابقون الأولون " ورفع على الابتداء والخبر قوله " رضي الله عنهم "
ومن جر عطفه على " المهاجرين " كأنه قال: من المهاجرين ومن الأنصار. ومن
أثبت (من) فلان في القرآن مواضع لا تحصى " جنات تجري من تحتها " ومن
أسقطها تبع مصحف غير أهل مكة. والمعنى واحد.
اخبر الله تعالى أن الذين سبقوا أولا إلى الايمان بالله ورسوله والاقرار
بهما من الذين هاجروا من مكة إلى المدينة والى الحبشة، ومن الأنصار الذين سبقوا
أولا غيرهم إلى الاسلام من نظرائهم من أهل المدينة، والذين تبعوا هؤلاء بأفعال
الخير والدخول في الاسلام بعدهم وسلوكهم منهاجهم. وقال الفراء: يدخل في
ذلك من يجئ بعدهم إلى يوم القيامة. وقال الزجاج: مثله.
ثم اخبر أن الله رضي عنهم ورضي أفعالهم ورضوا هم أيضا عن الله لما أجزل
لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به وبنبيه. والسبق كون الشئ قبل غيره.
ومنه قيل في الخيل السابق، والمصلي هو الذي يجئ في اثر السابق يتبع صلاه.
وإنما كان السابق إلى الخير أفضل لأنه داع إليه بسبقه - والثاني تابع - فهو امام فيه
وكذلك من سبق إلى الشر كان أسوء حالا لهذه العلة. والاتباع طلب الثاني لحال
الأول أن يكون على مثلها على ما يصح ويجوز، ومثله الاقتداء. والاحسان هو
النفع الواصل إلى الغير مع تعريه من وجوه القبح. فأما قولهم أحسن فمن فعله
فقد يكون بفعل النفع وبفعل الضرر، لأنه تعالى إذا فعل في الآخرة العقاب يقال
287

إنه أحسن لكن لا يقال: أحسن إليه. وقوله " واعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار "
اخبار منه تعالى انه مع رضاه عنهم ورضاهم عنه أعد لهم الجنات يعني البساتين التي
تجري تحت أشجارها الأنهار، وقيل: ان أنهارها أخاديد في الأرض فلذلك قال:
تحتها " خالدين فيها ابدا " اي يبقون فيها ببقاء الله لا يفنون، منعمين. وقوله
" ذلك الفوز العظيم " معناه إن ذلك النعيم الذي ذكره هو الفلاح العظيم الذي تصغر
في جنبه كل نعمة.
واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال أبو موسى وسعيد بن المسيب
وابن سيرين وقتادة: نزلت فيمن صلى القبلتين، وقال الشعبي: نزلت فيمن بايع
بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية، وقال: من أسلم بعد ذلك وهاجر فليس من
المهاجرين الأولين. وقال أبو علي الجبائي: نزلت في الذين أسلموا قبل الهجرة.
وروي أن عمر قرأ " والأنصار " بالرفع " الذين اتبعوهم " باسقاط الواو، فقال أبي: والذين اتبعوهم بأمير المؤمنين فرجعوا إلى قوله.
قوله تعالى:
وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة
مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين
ثم يردون إلى عذاب عظيم (102) آية.
معنى قوله " وممن حولكم " من جملة من حولكم يعني حول مدينتكم
وحول الشئ المحيط به، وهو مأخوذ من حال يحول إذا دار بالانقلاب. ومنه المحالة
لأنها تدور في المحول. وقوله " من الاعراب " والاعراب هم الذين يسكنون البادية
إذا كانوا مطبوعين على العربية وليس واحدهم عربا، لان العرب قد يكونوا حاضرة
والاعراب بادية. وقوله " منافقون " معناه من يظهر الايمان ويبطن الكفر " ومن
288

أهل المدينة " أيضا منافقون، وإنما حذف لدلالة الأول عليه " مردوا على النفاق "
يقال: مرد على الشئ يمرد مرودا فهو مارد ومريد إذا عتا وطغى وأعيا خبثا، ومنه
(شيطان مارد، ومريد) وقال ابن زيد: معناه أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب
غيرهم. وقال ابن إسحاق: معناه لجوا فيه وأبوا غيره. وقال الفراء: معناه مرنوا
عليه وتجرءوا عليه وقال الزجاج: فيه تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من
الاعراب منافقون مردوا على النفاق ومن أهل المدينة أيضا مثل ذلك. وأصل
المرود الملاسة. ومنه قوله " صرح ممرد من قوارير " (1) اي مملس ومنه الأمرد
الذي لا شعر على وجهه، والمرودة والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا، والتمراد بيت
صغير يتخذ للحمام مملس بالطين، والمرداء الصخرة الملساء. " لا تعلمهم " معناه
لا تعرفهم يا محمد " نحن نعلمهم " اي نعرفهم.
وقوله " سنعذبهم مرتين " قيل في معناه أقوال:
أحدها - قال الحسن وقتادة والجبائي: يعني في الدنيا وفي القبر. وقال ابن
عباس: نعذبهم في الدنيا بالفضيحة لان النبي صلى الله عليه وآله ذكر رجلا منهم وأخرجهم
من المسجد يوم الجمعة في خطبته قال: اخرجوا فإنكم منافقون، والأخرى في القبر.
وقال مجاهد: يعني في الدنيا بالقتل والسبي والجوع. وفي رواية أخرى عن ابن
عباس: أن إحداهما إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر، وقال الحسن:
إحداهما أخذ الزكاة منهم: والأخرى عذاب القبر، وقال ابن إسحاق: إحداهما
غيظهم من أهل الاسلام، والأخرى عذاب القبر. وكل ذلك محتمل غير أنا نعلم أن
المرتين معا قبل ان يردوا إلى عذاب النار يوم القيامة. وقوله " ثم يردون إلى عذاب
عظيم " معناه ثم يرجعون يوم القيامة إلى عذاب عظيم مؤبد في النار. وروي أن
الآية نزلت في عيينة بن حصين وأصحابه.

(1) سورة 27 النمل آية 44.
289

قوله تعالى:
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا
عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (103) آية.
روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في عشرة أنفس تخلفوا عن
غزوة تبوك فيهم أبو لبابة، فربط سبعة منهم أنفسهم إلى سواري المسجد إلى أن قبلت
توبتهم. وقيل: كانوا سبعة منهم أبو لبابة. وقال أبو جعفر عليه السلام: نزلت في أبي
لبابة. ولم يذكر غيره، وكان سبب نزولها فيه ما جرى منه في غزوة بني قريظة
وبه قال مجاهد. وقال الزهري: نزلت في أبي لبابة خاصة حين تأخر عن تبوك.
وأكثر المفسرين ذكروا أن أبا لبابة كان من جملة المتأخرين عن تبوك. وروي
عن ابن عباس أنها نزلت في قوم من الاعراب. وقيل: نزلت في خمسة عشر نفسا
ممن تأخر عن تبوك.
هذه الآية عطف على قوله " ومن أهل المدينة " أي ومنهم " آخرون "
اعترفوا بذنوبهم " أي أقروا بها مع معرفتهم بها فان الاعتراف هو الاقرار بالشئ
عن معرفة. والاقرار مشتق من قر الشئ إذا ثبت. والاعتراف من المعرفة. وقوله
" خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " معناه انهم يفعلون أفعالا جميلة، ويفعلون أفعالا سيئة
قبيحة، فيجتمعان، وذلك يدل على بطلان القول بالاحباط، لأنه لو كان صحيحا
لكان أحدهما إذا طرا على الاخر أحبطه، فلا يجتمعان، فكيف يكون خلطا.
وقوله " عسى الله ان يتوب عليهم " قال الحسن وكثير من المفسرين: إن (عسى)
من الله واجبة. وقال قوم: إنما قال (عسى) حتى يكونوا على طمع واشفاق
فيكون ذلك أبعد من الاتكال على العفو واهمال التوبة، والتقدير في قوله
" خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا " اي بآخر سئ ومثله قولك: خلطت الماء واللبن
290

اي بالبن. وقد يستعمل ذلك في الجمع من غير امتزاج كقولهم: خلطت الدارهم
والدنانير. وقال قوم: هو يجري مجرى قولهم: استوى الماء والخشبة اي مع
الخشبة. وقال أهل اللغة: خلط في الخير مخففا وخلط في الشر مشددا. وقوله
" ان الله غفور رحيم " تعليل لقبول التوبة من العصاة لأنه غفور رحيم.
قوله تعالى:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم
إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (104) آية.
قرأ أهل الكوفة الا أبا بكر " إن صلاتك " على التوحيد ونصب التاء الباقون
على الجمع وكسر التاء، لأنه جمع السلامة. فمن قرأ على التوحيد فلانه مصدر
يقع على القليل والكثير، فلا يحتاج إلى جمعه. ومثله " لصوت الحمير " (1)
ومما ورد في القرآن بلفظ التوحيد والمراد به الجمع قوله " وما كان صلاتهم عند
البيت إلا مكاء " (2) وقوله " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (3) ومن جمع فلاختلاف
الصلاة، كما أن قوله " ان انكر الأصوات " (4) جمع لاختلاف ضروبه والصلاة
في اللغة الدعاء قال الأعشى في الخمر:
وقابلها الريح في دنها * وصلى على دنها وارتسم (5)
ومعنى " صل عليهم " ادع لهم، فان دعاءك سكن لهم بمعنى تسكن إليه

(1) سورة 31 لقمان آية 19
(2) سورة 8 الأنفال آية 35
(3) سورة 4 النساء آية 76 وسورة 22 الحج آية 78 وسورة 24 النور آية 56
وسورة 58 المجادلة آية 13 وسورة 73 المزمل آية 20
(4) سورة 31 لقمان آية 19
(5) ديوانه: 29 القصيدة 4 وقد سلف في 1 / 56، 193
291

نفوسهم وتطيب به، ولفظ التوحيد - هاهنا - أحسن لان المراد دعاء النبي صلى الله عليه وآله
لهم لا أداء الصلوات، والجمع على ضروب دعائه. وقولهم: صلى الله على رسول الله
وعلى ملائكته، ولا يقال: إنه دعاء لهم من الله كما لا يقال في نحو (ويل للمكذبين)
أنه دعاء عليهم، لكن المعنى أن هؤلاء ممن يستحق عندكم أن يقال فيهم هذا اللغو
من الكلام. ومثله قوله " بل عجبت ويسخرون " (1) فيمن ضم التاء هذا مذهب
سيبويه، وذكر الفراء وغيره أن هؤلاء الذين تابوا وأفلعوا قالوا للرسول: خذ من
أموالنا ما تريد، فقال رسول الله: لا أفعل حتى يؤذن لي فيه، فأنزل الله " خذ من
أموالهم صدقة " فأخذ منهم بعضا وترك الباقي وروي ذلك عن ابن عباس وزيد بن
أسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك، وهي في أبي لبابة وجد بن قيس وأوس
وحذام. وقوله " خذ من أموالهم صدقة " امر من الله تعالى أن يأخذ من المالكين
لنصاب الزكاة: الورق إذا بلغ مئتين، والذهب إذا بلغ عشرين مثقالا، والإبل إذا
بلغت خمسا، والبقر إذا بلغت ثلاثين، والغنم إذا بلغت أربعين، والغلات إذا بلغت
خمسة أوسق.
وقوله " خذ من أموالهم " يدل على أن الاخذ من اختلاف الأموال، لأنه
جمعه. ولو قال: خذ من مالهم أفاد وجوب الاخذ من جنس واحد متفق. و (من)
دخلت للتبعيض، فكأنه قال: خذ بعض مختلف الأموال. وظاهر الآية لا يدل
على أنه يجب أنه يأخذ من كل صنف لأنه لو اخذ من صنف واحد لكان قد اخذ
بعض الأموال وإنما يعلم ذلك بدليل آخر. والصدقة عطية ماله قيمة للفقر
والحاجة. والبر عطية لاجتلاب المودة. ومثله الصلة.
وقوله " تطهرهم وتزكيهم بها " إنما ارتفع (تطهرهم) لاحد أمرين:
أحدهما - أن تكون صفة للصدقة وتكون التاء للتأنيث، وقوله " بها " تبيين
له والتقدير صدقة مطهرة.

(1) سورة 37 الصافات آية 12
292

والثاني - أن تكون التاء خطابا للنبي صلى الله عليه وآله والتقدير فإنك تطهرهم بها، وهو
صفة للصدقة أيضا الا انه اجتزاء بذكر (بها) في الثاني عن الأول. وقيل: انه
يجوز أن يكون على الاستئناف، وحمله على الاتصال أولى، ولا يجوز أن يكون
جوابا للامر لأنه لو كان كذلك لكان مجزوما. وقوله " وتزكيهم " تقديره وأنت
تزكيهم على الاستئناف. وقيل في هذه الصدقة قولان: قال الحسن: انها هي كفارة
الذنوب التي أصابوها، وقال أبو علي: هي الزكاة الواجبة. وأصل التطهير إزالة
النجس، والمراد - هاهنا - إزالة النجس: الذبوب بما يكفرهم من الطاعة. وقوله
" وصل عليهم " أمر من الله تعالى للنبي أن يدعو لمن يأخذ منه الصدقة. وقال
الجبائي: يجب ذلك على كل ساع يجمع الزكوات ان يدعوا لصاحبها بالخير
والبركة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله. وقوله " والله سميع عليم " معناه انه تعالى
يسمع دعاءك لهم بنياتهم في الصدقة التي يخرجونها.
قوله تعالى:
ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ
الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم (105) آية.
الألف في قوله " ألم يعلموا " الف استفهام والمراد بها التنبيه على ما يجب
ان يعلم المخاطب إذا رجع إلى نفسه وفكر فيما نبه عليه علم وجوبا. وإنما وجب
ان يعلم أن الله يقبل التوبة، لأنه إذا علم ذلك كان ذلك داعيا له إلى فعل التوبة
والتمسك بها والمسارعة إليها، وما هذه صورته وجب عليه ان يعلمه ليتخلص به
من العقاب ويحصل له الثواب. وسبب ذلك انهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وآله ان يأخذ من
ما لهم ما يكون كفارة لذنوبهم فامتنع النبي من ذلك وقال: حتى يؤذن لي فيه
فبين الله تعالى انه ليس إلى النبي قبول توبتكم وان ذلك إلى الله تعالى دونه، فإنه
293

الذي يقبل التوبة ويقبل الصدقات. وفعل التوبة يستحق به الثواب لأنها طاعة. فأما
اسقاط عقاب المعاصي المتقدمة عندها فالعقل لا يوجب ذلك. وإنما علم ذلك سمعا
لان السمع قطع العذر بأن الله يسقط العقاب عند التوبة الصحيحة. وقد بينا في غير
موضع فيما تقدم ان التوبة التي يسقط العقاب عندها قطعا هي الندم على القبيح
والعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، لان الأمة مجمعة على سقوط العقاب عند
هذه التوبة وفيما خالف هذه التوبة خلاف.
وقوله " ويأخذ الصدقات " معناه انه يأخذها بتضمن الجزاء عليها كما تؤخذ
الهدية كذلك. وقال أبو علي الجبائي: جعل الله أخذ النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين للصدقة
أخذا من الله على وجه التشبيه والمجاز، ومن حيث كان بأمره. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله
ان الصدقة قد تقع في يد الله قبل ان تصل إلى يد السائل، والمراد بذلك انها تنزل
هذا التنزيل ترغيبا للعباد في فعلها، وذلك يرجع إلى تضمن الجزاء عليها.
وقوله " وان الله هو التواب الرحيم " عطف على قوله " ألم يعلموا "
ولذلك فتح (أن) لأنها مفعول به. والتواب في صفة الله معناه انه يقبل التوبة كثيرا
وفي صفة العبد يفيد انه يفعل التوبة كثيرا وقيل في معنى " وتاب الله عليكم " (1)
صفح عنكم ولم يكونوا أذنبوا فيتوبوا ليتوب الله عليهم وكذلك قوله " علم الله انكم
كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم " (2) بمعنى صفح لأنهم لم يتوبوا.
قوله تعالى
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون
وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم
تعملون (106) آية.

(1) سورة 58 المجادلة آية 13
(2) سورة 2 البقرة آية 187
294

هذا امر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله أن يقول للمكلفين " اعملوا " ما أمركم
الله به من الطاعة واجتنبوا معاصيه فان الله " سيرى عملكم ورسوله والمؤمنون "
وفي ذلك ضرب من التهديد، كما قال مجاهد، والمراد بالرؤية هاهنا العلم الذي هو
المعرفة ولذلك عداه إلى مفعول واحد، ولو كان بمعنى العلم الذي ليس بمعرفة
لتعدى إلى مفعولين، وليس لاحد أن يقول: ان اعمال العباد من الحركات يصح
رؤيتها لمكان هذه الآية، لأنه لو كان المراد بها العلم لعداه إلى الجملة وذلك
أن العلم الذي يتعدى إلى مفعولين ما كان بمعنى الظن، وذلك لا يجوز على الله
وإنما يجوز عليه ما كان بمعنى المعرفة. وروي في الخبر أن أعمال العباد تعرض
على النبي صلى الله عليه وآله في كل اثنين وخميس فيعلمها، وكذلك تعرض على الأئمة عليهم السلام
فيعرفونها، وهم المعنيون بقوله " والمؤمنون "، وإنما قال " فسيرى الله " على وجه
الاستقبال. وهو عالم بالأشياء قبل وجودها. لان المراد بذلك انه سيعلمها موجودة
بعد أن علمها معدومة وكونه عالما بأنها ستوجد من كونه عالما بوجودها إذا وجدت
لا يجدد حال له بذلك. وقوله " وستردون إلى عالم الغيب والشهادة " معناه سترجعون إلى
الله الذي بعلم السر والعلانية " فينبئكم " اي يخبركم " بما كنتم تعملون " ويجازيكم عليه.
قوله تعالى:
وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم
والله عليم حكيم (107) آية.
قرأ أهل المدينة عن أبي بكر " مرجون " بغير همزة. الباقون بالهمزة
والوجه فيهما أنهما لغتان.. ويقال: أرجأت وأرجيت بمعنى واحد.
وهذه الآية عطف على قوله " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق..
وآخرون اعترفوا بذنوبهم.. وآخرون مرجون لامر الله " والارجاء تأخير الامر
295

إلى وقت، يقال: أرجأت الامر إرجاء وأرجيته بالهمزة وترك الهمزة لغتان.
وقوله " اما يعذبهم وإما يتوب عليهم " فلفظة (إما) لوقوع أحد الشيئين
والله أعلم بما يصير إليه أمرهم إلا أن هذا للعباد، خوطبوا بما يعلمون. والمعنى
وليكن أمرهم عندكم على هذا اي على الخوف والرجاء. والآية تدل على صحة
قولنا في جواز العفو عن العصاة، لأنه تعالى بين ان قوما من هؤلاء العصاة أمرهم
مرجأ إلى الله: ان شاء عذبهم وان شاء قبل توبتهم فعفا عنهم فلو كان سقوط العقاب
عند التوبة واجبا، لما جاز تعليق ذلك بالمشيئة على وجه التخيير، لأنهم ان تابوا
وجب قبول توبتهم عند الخصم واسقاط العقاب عنهم، وان أصروا ولم يتوبوا فلا
يعفي عنهم، فلا معنى للتخيير - على قولهم - وإنما يصح ذلك على ما نقوله: من أن
مع حصول التوبة تحسن المؤاخذة فان عفا فبفضله وان عاقب فبعدله. وقوله
" وإما يتوب عليهم " معناه وإما يقبل توبتهم. وقوله " والله عليم حكيم " معناه
عالم بما يؤول إليه حالهم " حكيم " فيما يفعله بهم. والفرق بين الاخر والاخر
أن الاخر يفيد أنه بعد الأول، والاخر مقابل لاحد في تفصيل ذكر اثنين أحدهما
كذا والاخر كذا.
وقال مجاهد وقتادة: الآية نزلت في هلال بن أمية الرافعي وفزارة بن ربعي
وكعب بن مالك من الأوس والخزرج، وكان كعب بن مالك رجل صدق غير مطعون
عليه، وإنما تخلف توانيا عن الاستعداد حتى فاته المسير وانصرف رسول الله ولم
يعتذر إليه بالكذب. وقال: والله ما لي من عذر، فقال صلى الله عليه وآله: صدقت فقم حتى
يقضي الله فيك. وجاء الرجلان الاخر ان فقالا مثل ذلك وصدقا، فنهي رسول
الله صلى الله عليه وآله عن كلامهم بعد ما عذر المنافقين وجميع المتخلفين، وكانوا نيفا وثمانين
رجلا فأقام هؤلاء الثلاثة على ذلك خمسين ليلة حتى هجرهم ولدانهم ونساؤهم
طاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله بأمره. وبنى كعب خيمة على سلع يكون فيها وحده. وقال
في ذلك:
296

أبعد دور بني ألقين الكرام وما * شادوا علي بنيت البيت من سعف
ثم نزلت التوبة عليهم في الليل فأصبح المسلمون يبتدرونهم يبشرونهم، قال
كعب: فجئت إلى رسول الله في المسجد وكان إذا سر يستبشر كأن وجهه فلقة قمر
فقال لي ووجهه يبرق من السرور: ابشر بخير يوم طلع عليك شرفه منذ ولدتك
أمك قال كعب، فقلت له: أمن عند الله أو من عندك يا رسول الله؟ قال فقال: من
عند الله. وتصدق كعب بثلث ما له شكرا تالله على توبته.
قوله تعالى:
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين
المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن
إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (108) آية.
قرأ ابن عامر وأهل المدينة " الذين اتخذوا " باسقاط الواو الباقون
باثبات الواو. فمن أثبت الواو، عطفه على ما تقدم من الآيات وتقديره: ومنهم
الذين اتخذوا مسجدا ضرارا ومن حذفها ابتدأ الكلام وحذف الخبر لطول الكلام
قال الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر. وعاصم بن عمر بن قتادة:
نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين، قال الفراء: كانوا من بني عمرو
ابن عوف من الأنصار. وقال غيره: كانوا من بني غنم ابن عوف من الأنصار
الذين بنوا مسجد الضرار. وقيل إنهم كانوا خمسة عشر رجلا منهم عبد الله بن نفيل
- في قول الواقدي - وقال ابن إسحاق: هو نفيل بن الحارث ولم يذكر عبد الله
وهذا المختلف في اسمه هو الذي كان ينقل حديث النبي إلى المنافقين فأعلم الله نبيه
ذلك. وأخبر الله عنهم انهم بنوا المسجد الذي بنوه ضرارا اي مضارة. ونصب على
أنه مفعول له أي بنوه للمضارة. والضرار هو طلب الضر ومحاولته كما أن الشقاق
297

محاولة ما يشق، تقول: ضاره مضارة وضرارا. والآية تدل على أن الفعل يقع
بالإرادة على وجه القبح دون الحسن، أو الحسن دون القبح، لأنهم لو بنوا المسجد
للصلاة فيه لكان حسنا، لكن لما قصدوا المضارة كان ذلك قبيحا ومعصية.
وقوله " وتفريقا بين المؤمنين " أي بنوه للمضارة والكفر والتفريق بين
المؤمنين. وإنما يكون تفريقا بين المؤمنين بأن يتحزبوا، فحزب يصلي فيه وحزب
يصلي في غيره لتختلف الكلمة وتبطل الألفة. واتخذوه أيضا ليكفروا فيه بالطعن
على النبي صلى الله عليه وآله والاسلام والمسلمين. وقوله " وارصادا لمن حارب الله ورسوله "
معناه اتخذوا له ليكون متى أراد الاجتماع معهم حضره وأنس به، وهو رجل يقال
له أبو عامر الراهب لحق بقيصر فتنصر وبعث الهيم سأتيكم بجند فأخرج به محمدا
وأصحابه. فبنوه يترقبونه، وهو الذي حزب الأحزاب وحارب مع المشركين، فلما
فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم
وتنصر، وابنه عبد الله قتل يوم أحد - وهو غسيل الملائكة - ذهب إليه أكثر
المفسرين كابن عباس ومجاهد وقتادة. وأصل الارصاد الارتقاب تقول: رصده يرصده
رصدا وأرصد له وراصده مراصدة وتراصد تراصدا وارتصده ارتصادا.
وقوله " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " معناه إن هؤلاء يحلفون على أنهم
ما أرادوا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى يعني إلا الفعلة الحسنى، فقال الله تعالى
تكذيبا لهم " والله يشهد انهم لكاذبون " وكفى بمن يشهد الله بكذبه خزيا
ووجه رسول الله صلى الله عليه وآله قبل قدومه من تبوك عاصم بن عون العجلاني ومالك بن
الدخثم وكان مالك من بني عوف، فقال لهما (انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله
فاهدماه ثم حرقاه) فخرجا يشتدان سريعين على أقدامها ففعلا ما أمرهما به
فثبت قوم من جملتهم زيد بن حارثة بن عامر حتى احترقت البتة.
298

قوله تعالى:
لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم
أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب
المطهرين (109) آية.
نهى الله نبيه - وعنى معه جميع المؤمنين - أن يقوموا في المسجد الذي بني
ضرارا " ابدا " أو يصلوا فيه، وأقسم ان المسجد الذي " أسس على التقوى من
أول يوم أحق ان تقوم فيه " وقيل في مسجد الذي أسس على التقوى قولان:
أحدهما - قال ابن عباس والحسن وعطية: إنه مسجد قباء.
وقال ابن عمرو ابن المسيب: هو مسجد المدينة. وقال عمر بن شبه:
المسجد الذي أسس على التقوى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله والذي أسس على تقوى
ورضوان مسجد قباء كذلك فصل بينهما، ورواه عن أشياخه. والنقوي خصلة من
الطاعة يحترز بها من العقوبة، والمتقي صفة مدح لا تطلق الا على مستحق الثواب.
وواو (تقوى) أبدلت من الياء، لأنه من تقيت وإنما أبدلت للفرق بين الاسم والصفة
في الأبنية. ومثله شروى من شريت، فأما الصفة فنحو خزيا. ولو قيل: كيف
يبنى (فعلى) من قصيت؟ قلت: قصوى في الاسم وقصيا في الصفة. وقوله " من أول
يوم " معناه أول الأيام إذا ميزت يوما يوما، لان افعل بعض الضيف إليه. ومثله
أعطيت كل رجل في الدار اي كل الرجال إذا ميزوا رجلا رجلا. والفرق بين
من أول يوم، ومنذ أول يوم، ان (منذ) إذا كانت حرفا، فهي الوقت الخاص
كقولك: منذ اليوم ومنذ الشهر ومنذ السنة، وليس كذلك (من) وإذا كانت اسما
وقع على ما بعدها على تقدير كلامين و (من) على النهاية لأنها نقيض (إلى)
قال زهير:
299

لمن الديار بقنة الحجر * أقوين من حجج ومن شهر (1)
وقوله " أحق أن تقوم فيه " مع أن القيام في الاخر قبيح منهي عنه، وإنما
قال ذلك على وجه المظاهرة بالحجة بأنه لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا
أحق. ويجوز على هذا أن تقول: عمل الواجب أصلح من تركه. وقيل: المراد به
القيام فيه حق ظاهروا وباطنا إذ كانت الصلاة في المساجد على ظاهرها حق.
وقوله " فيه رجال " الأول ظرف للقيام. والثاني ظرف لكون الرجال
وقوله " يحبون ان يتطهروا " قال الحسن: معناه يريدون أن يتطهروا من الذنوب
وقيل: يتطهرون بالماء من الغائط والبول، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي
عبد الله عليهما السلام ثم قال " والله يحب المطهرين " اي يريد منافع المتطهرين من
الذنوب وكذلك المتطهرين من النجاسة بالماء. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لأهل
قباء (ماذا تفعلون في طهركم فان الله أحسن عليكم الثناء) قالوا: نغسل أثر الغائط
فقال (أنزل الله فيكم والله يحب المطهرين). وقيل: إن سبب نزول هذه الآية
أن أهل مسجد ضرار جاءوا إليه، فقالوا يا رسول الله بنينا مسجدا للضعيف في وقت
المطر نسألك أن تصلي فيه وكان متوجها إلى تبوك فوعدهم أن يفعل إذا عاد فنهاه
الله عن ذلك. وقوله " والذين اتخذوا مسجدا " مبتدأ وخبره في قوله " لا تقم فيه
ابدا " كما تقول: والذي يدعوك إلى الغي فلا تسمع دعاءه. والتقدير في الآية
لا تقم في مسجدهم أبدا. واسقط ذلك اختصارا.
قوله تعالى:
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من
أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله

(1) اللسان (حجر) وتفسير القرطبي 8 / 260
300

لا يهدي القوم الظالمين (110) آية.
قرأ نافع وابن عباس " أسس بنيانه " بضم الهمزة وكسر السين ورفع النون
من بنيانه في الموضعين جميعا. الباقون بفتح الهمزة ونصب النون من بنيانه. وقرأ
ابن عامر الا الداحوني عن هشام وحمزة وخلف وأبوا بكر الا الأعشى والبرجمي
" جرف " بسكون الراء. الباقون بضمها. وقرأ أبو عمرو والكسائي والداحوني عن
أبي ذكوان وهبة الله عن حفص من طريق النهرواني والدوري عن سليم من طريق
ابن فرج وأبو بكر الا الأعشى والبرجمي " هار " بالإمالة. وافقهم على الوقف
علي بن مسلم وابن غالب ومحمد في الوقف من طريق السوسي من طريق ابن جيش.
قال أبو علي الفارسي: البنيان مصدر، وهو جمع كشعير وشعيرة لأنهم قالوا في
الواحد بنيانة قال أوس:
كبنيانة القري موضع رحلها * وآثار نسعيها من الدف أبلق
وجاء بناء المصادر على هذا المثل في غير هذا الحرف نحو الغفران وليس
بنيان جمع بناء، لان فعلانا إذا كان جمعا نحو كثبان وقضبان لم تلحقه تاء
التأنيث، وقد يكون ذلك في المصادر، نحو: أكل وأكلة وضرب وضربة من ذلك.
وقال أبو زيد يقال: بنيت أبني بنيا وبناء وبنية وجمعها البنى وأنشد:
بنى السماء فسواها ببنيتها * ولم تمد باطناب ولا عمد
فالبناء والبنية مصدر ان ومن ثم قوبل به الفراش في قوله " الذي جعل لكم
الأرض فراشا والسماء بناء " (1) فالبناء لما كان رفعا للمبني قوبل به الفراش الذي
هو خلاف البناء. ومن ثم وقع على ما كان فيه ارتفاع في نصبته وان لم يكن مبنيا
فأما من فتح الهمزة وبنى الفعل للفاعل، فلانه الباني والمؤسس فأسند الفعل إليه
وبناه له كما أضاف البنيان إليه في قوله " بنيانه " فكما ان المصدر مضاف إلى الفاعل

(1) سورة 2 البقرة آية 22.
301

كذلك يكون الفعل مبنيا له. ومن بنى الفعل للمفعول لم يبعد أن يكون في المعنى
كالأول، لأنه إذا أسس بنيانه فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه هو له. والأول
أقوى لما قلناه. وقال أبو علي (الجرف) - بضم العين - هو الأصل، والاسكان
تخفيف ومثله الشغل. والشغل. ومثله الطنب والطنب. والعنق والعنق، يجوز في
جميعه التثقيل والتخفيف. وكلاهما حسن وقال أبو عبيدة " على شفا جرف هار "
مثل، قال: لان ما يبنى على التقوى فهو أثبت أساسا من بناء يبنى على شفا جرف
ويجوز أن تكون المعادلة وقعت بين البنائين، ويجوز أن تكون بين البناءين. فإذا
عادلت بين البنائين كان المعنى المؤسس بنيانه متقنا خير أم المؤسس بنيانه غير متقن
لان قوله " على شفا جرف " يدل على أن بانيه غير متق لله. ويجوز أن يكون على
تقدير حذف المضاف كأنه قال: أبناء من أسس بنيانه على تقوى خير أم بناء
من أسس بنيانه على شفا جرف. والبنيان مصدر يراد به المبني، كما أن الخلق يراد
به المخلوق إذا أردت ذلك، وضرب الأمير إذا أردت به المضروب. وكذلك نسج
اليمن يراد به المنسوج، فإنما قلنا ذلك لأنه لا يجوز أن يراد به الحدث، لأنه إنما
يؤسس المبني الذي هو عين. يبين ذلك قوله " على شفا جرف " والحدث لا يكون
على شفا جرف. والجار في قوله " على تقوى " وفي قوله " على شفا جرف " في
موضع نصب، والتقدير أفمن أسس بنيانه متقيا خير أم من أسس بنيانه معاقبا على
بنيانه، وفاعل (انهار) البنيان، وتقديره انهار البنيان بالباني في نار جهنم، لأنه
معصية وفعل لما كرهه الله من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين. ومن أمال
" هار " فقد أحسن لما في الراء من التكرير فكأنك لفظت براءين مكسورتين
وبحسب كثرة الكسرات تحسن الإمالة. ومن لم يمل فلان كثيرا من العرب
لا يميلون هذه الالفات. وترك الإمالة هو الأصل. وأما ألف " هار " فمنقلبة عن
الواو، لأنهم قالوا: تهور البناء إذا تساقط وتداعى، والانهيار والانهيال متقاربان
في المعنى. والألف في قوله " أفمن " الف استفهام يراد بها - هاهنا - الانكار
302

ومعنى " خير " في الآية أفضل، وليس فيه اشتراك، يقولون: هذا خير، وهذا
شر، ولا يراد به (أفعل من) قال الشاعر:
والخير والشر مقرونان في قرن * فالخير متبع والشر محذور
وأما قوله: وافعل الخير معناه افعلوا الأفضل. و (الشفا جرف) الشئ
وشفيره وجرفه نهايته في المساحة ويثنى شفوان، والجرف جرف الوادي وهو جانبه
الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهيا، وهو من الجرف والاجتراف، وهو اقتلاع
الشئ من أصله. ومعنى (انهارا) انصدع بالتهدم هار الجرف يهور هورا فهو هائر
وتهور تهورا وانهار انهيارا، ويقال أيضا: هار يهار، وأصل هار هائر إلا أنه
قلب كما قال الشاعر:
لاث به الاشاء والعبري (1)
اي لائث بمعنى دائر، ومثله شاك في السلاح وشائك والاشاء النخل، والعبري
السدر الذي على ساقي الأنهار، ومعنى لاث أي مطيف به.
شبه الله تعالى بنيان هؤلاء المنافقين مسجد الضرار ببناء يبنى على شفير جهنم
فانهار ذلك البناء بأهله في نار جهنم، ووقع فيه. وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال
: رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان، وهو قول ابن جريح.
قوله تعالى:
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع
قلوبهم والله عليم حكيم (111) آية.
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص وأبو جعفر ويعقوب " تقطع " بفتح التاء الباقون
بضمها. وقرأ يعقوب وحده " إلى أن " على أنه حرف جر.

(1) اللسان (عبر) (لوث) (لثي) والتاج (عبر) ومجاز القرآن 1 / 269
303

وقوله " لا يزال " من أخوات (كان) ترفع الاسم وتنصب الخبر وإنما عمل
في الاسم والخبر، لأنه إنما يتعلق في معنى الجملة، فيدل على أنه يدوم إذ المعنى
فيه أن يكون الشئ على الصفة أبدا. قال أبو علي: البنيان مصدر واقع على المبني
وتقديره لا يزال بناء المبني الذي بنوه ريبة أي شكا في قلوبهم فيما كان من إظهار
اسلامهم وثباتا على النفاق إلى أن تقطع قلوبهم بالموت والبلى لا يخلص لهم إيمان
ولا ينزعون عن النفاق إلى أن تقطع قلوبهم بالموت والبلى. ومن قرأ " إلى أن
تقطع " فإنه يريد حتى تبلى وتقطع بالبلى أي لا تثلج قلوبهم بالايمان ابدا ولا
ينزعون عن الخطيئة في بناء المسجد ولا يتوبون. ومن ضم الياء أضاف الفعل إلى
المقطع المبلي للقلوب بالموت، ومن فتحها اسند الفعل إلى القلوب لما كانت هي
البالية، كما قالوا: مات زيد ومرض عمرو، ووقع الحائط. وفي قراءة أبي
(حتى الممات).
ومعنى قوله " الذي بنوا " مع قوله " بنيانهم " إنما هو ليعلم ان البناء ماض
دون المستقبل إذ قد تجوز الإضافة على جهة الاستقبال كقولك للغير: أقبل
على عملك. وقيل في معنى الريبة في الآية ثلاثة أقوال: أحدها - ان هذا البنيان
الذي بنوه لا يزال شكا في قلوبهم. وقيل معناه حزازة في قلوبهم، وقيل حسرة
في قلوبهم يترددون فيها. وقوله " الا ان تقطع قلوبهم " موضع " ان تقطع "
نصب والتقدير الا على تقطع قلوبهم غير أن حرف الإضافة يحذف مع (ان) ولا
يحذف مع المصدر. ومعنى (إلا) هاهنا (حتى) لأنه استثناء من الزمان
المستقبل، والاستثناء منه منته إليه فاجتمعت مع (حتى) في هذا الموضع على
هذا المعنى. قال الزجاج: يحتمل أن يكون المراد الا ان يتوبوا توبة تتقطع بها
قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم. وقوله " والله عليم حكيم " اي عالم بنيتهم في
بناء مسجد الضرار " حكيم " في امره بنقضه والمنع من الصلاة فيه.
304

قوله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم
الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا
في التورية والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (112) آية
قرأ حمزة والكسائي " فيقتلون ويقتلون " على مفعول وفاعل. الباقون
على فاعل ومفعول. من قدم الفعل المسند إلى الفاعل، فلأنهم يقتلون أولا في سبيل
الله ويقتلون، ولا يقتلون إذا قتلوا. ومن قدم الفعل المسند إلى المفعول جاز أن يكون
أراد ذلك المعنى أيضا لان المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم وان لم يقدر
ذلك كأن المعنى يقتل بعضهم ويقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل منهم، كما
أن قوله " فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله " (1) ومعناه ما وهن من بقي منهم لقتل
من قتل من المؤمنين. وحقيقة الاشتراء لا نجوز على الله تعالى، لان المشتري إنما
يشتري ما لا يملك، والله تعالى مالك الأشياء كلها. وإنما هو كقوله " من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا " (2) في أنه أجري بحسن المعاملة والتلفظ في الدعاء إلى
الطاعة مجرى ما لا يملكه المعامل فيه، ولما كان الله تعالى رغب في الجهاد وقتال
الاعداء وضمن على ذلك الثواب عبر عن ذلك بالاشتراء. فجعل الثواب ثمنا والطاعات
مثمنا على ضرب من المجاز، وكما أن في مقابلة الطاعة الثواب فكذلك في مقابلة
الألم العوض غير أن الثواب مقترن بالاجلال والاكرام، والعوض خال منهما، والمثاب
محسن مستحق على احسانه المدح وليس كذلك المعوض.

(1) سورة 3 آل عمران آية 146
(2) سورة 2 البقرة آية 245
305

أخبر الله تعالى أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بما ضمن لهم على
بذلها من الثواب في قوله " بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله " أعداء الله وأعداء
نبيه فيقتلون أعداء الله ويقتلهم أعداء الله فيصبرون على ذلك. ومن قدم المفعول
أراد يقتل بعضهم، فيقتل الباقون أعداء الله.
وقوله " وعدا عليه حقا " نصب (وعدا) على المصدر بما دل عليه اشترى إذ
يدل على أنه وعد، ومثله " صنع الله الذي أتقن كل شئ " (1) و " فطرة الله التي قطر
الناس عليها " (2) والوعد خبر بما يفعله المخبر من الخير بغيره. والوعيد خبر بما
الناس عليها " (2) والوعد خبر بما يفعله المخبر من الخير بغيره. والوعيد خبر بما
يفعله المخبر من الشر بغيره. وقوله " حقا " معناه يتبين الوعد بالحق الواجب من
الوعد بما لم يكن واجبا. فالوعد بالثواب دل على وجوبه من وجهين: أحدهما -
من حيث إنه جزاء على الطاعة. والثاني - أنه إنجاز الوعد. وقوله " في التوراة
والإنجيل والقرآن " معناه إن هذا الوعد للمجاهدين مذكور في هذه الكتب.
قال الزجاج: وذلك يدل على أن. الجهاد كان واجبا على أهل كل ملة. وقوله
" ومن أوفى بعهده من الله؟! " معناه لا أحد أحق بالوفاء بالعهد من الله " فاستبشروا "
أيها المؤمنون " ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " يعني ذلك الشراء
والبيع هو الفلاح العظيم الذي لا يقارنه شئ.
قوله تعالى:
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود
الله وبشر المؤمنين (113) آية.
قيل في ارتفاع قوله " التائبون " ثلاثة أقوال: أحدها - انه ارتفع بالمدح

(1) سورة 27 النمل آية 88
(2) سورة 30 الروم آية 30
306

والتقدير هم التائبون. الثاني - بالابتداء وخبره محذوف بعد قوله: " والحافظون
لحدود الله " لهم الجنة. الثالث - على أن يكون بدلا من الضمير في " يقاتلون "
أي إنما يقاتل في سبيل الله من هذه صفته. وقيل هو كقوله " لكن الرسول
والذين آمنوا معه (1).. التائبون " وقرأ أبي كل ذلك بالنصب على أنه
صفة للمؤمنين.
وصف الله تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأنهم التائبون
ومعناه الراجعون إلى طاعة الله المنقطعون إليه والنادمون على ما فعلوه من قبيح
" العابدون " اي يعبدون الله وحده لا شريك له " الحامدون " يعني الشاكرون
لنعم الله عليهم على وجه الاخلاص له. وقال الحسن: هم الذين يحمدون الله على
كل حال في سراء كانوا أو ضراء، وبه قال قتادة: " السائحون " قيل معناه الصائمون.
وقال المؤرج: السائحون الصائمون بلغة هذيل. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال
(سياحة أمتي الصوم) وهو قول ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن
ومجاهد. وقال الحسن: هم الذين يصومون ما افترض الله عليهم. وقال غيره: هم
الذين يصومون دائما وكذلك قال في قوله " الراكعون الساجدون " انهم الذين
يؤدون ما افترض الله عليهم من الصلاة والركوع والسجود. وأصل السيح الاستمرار
بالذهاب في الأرض كما يسيح الماء فالصائم مستمر على الطاعة في ترك المشتهى
من المآكل والمشارب والمنكح.
وقوله " الراكعون الساجدون " معناه الذين يقيمون التي فيها الركوع
والسجود " الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر " معناه الذين يأمرون بما امر
الله به من الواجبات والمندوبات وينهون عما نهى الله عنه وزهد فيه من القبائح.
وإنما عطف الناهون بالواو دون غيره من الصفات لأنه لا يكاد يذكر على الافراد
بل يقال: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاءت الصفة مصاحبة للأولى، فأما

(1) سورة 9 التوبة آية 89
307

قوله " والحافظون " فلانه جاء وهو أقرب إلى المعطوف، ومعنى " الحافظون
لحدود الله " انهم يحفظون ما أمر الله به ونهى عنه فلا يتجاوزونه إلى غيره. وقوله:
" وبشر المؤمنين " امر للنبي صلى الله عليه وآله ان يبشر المؤمنين المصدقين بالله المعترفين بنبوته
بالثواب الجزيل والمنزلة الرفيعة وخاصة إذا جمعوا هذه الأوصاف على كمالها
وتمامها دون غيرهم.
قوله تعالى:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا
أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (114) آية.
أخبر الله تعالى أنه لم يكن " للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا " ومعناه أن
يطلبوا المغفرة " للمشركين " الذين يعبدون مع الله إلها آخر والذين لا يوحدونه
ولا يقرون بالاهيته " وإن كان " الذي يطلب لهم المغفرة أقرب الناس إليهم بعد أن
يعلموا أنهم كفار مستحقون للخلود في النار. والقربى معناه القرب في النسب بالرجوع
إلى أب أو أم بإضافة قريبة. ومعنى قوله " ولو كانوا أولي قربى " أي القرابة وإن
دعت إلى الحنو والرقة، فإنه لا يلتفت إلى دعائها في الخصلة التي نهى الله عنها.
قوله تعالى:
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها
إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه
حليم (115) آية.
لما ذكر الله تعالى أنه ليس للنبي والذين آمنوا أن يطلبوا المغفرة للمشركين
308

بين الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه مع أنه كان كافرا سواء كان أباه الذي ولده
أو جده لامه أو عمه على ما يقوله أصحابنا. وهو أن قال: وجه حسن ذلك أنه كان
تقدم ذلك موعدة، فلأجلها وجب عليه الوفاء به.
وقيل في معنى الموعدة التي كانت عليه في حسن الاستغفار قولان:
أحدهما - ان المواعدة كانت من أبي إبراهيم لإبراهيم أنه يؤمن إن استغفر
له فاستغفر له لذلك وطلب له الغفران بشرط أن يؤمن " فلما تبين له " بعد ذلك
" أنه عدو لله تبرأ منه ".
والثاني - أن الوعد كان من إبراهيم بالاستغفار ما دام يطمع في الايمان
كما قال " إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ " (1)
فاستغفر له على ما يصح ويجوز من شرائط الحكمة " فلما تبين له انه عدو لله " وآيس
من ايمانه " تبرأ منه ". والذي عندي وهو الأقوى أن أباه أظهر له الايمان وصار
إليه، وكان وعده أن يستغفر له إن آمن أظهر الايمان استغفر له، فأعلمه
الله ان ما ظهر منه بخلاف ما يبطنه " فتبرأ منه " ويقوي ذلك قوله " واغفر لأبي إنه
كان من الضالين " (2) اي فيما مضى، ويجوز أن يكون أظهر الكفر بعد ذلك
فلما تبين ذلك تبرأ منه. فأما من قال: إن الوعد كان من إبراهيم فالسؤال باق
لان لقائل أن يقول ولم وعد كافرا أن يستغفر له؟ فان قلنا: وعده بأن يستغفر
له إن آمن كان الرجوع إلى الجواب الاخر.
والعداوة هي الابعاد من النصرة إلى اعداد العقوبة. والولاية التقريب من
النصرة من غير فاصلة بالحياة والكرامة.
وقوله " إن إبراهيم لاواه حليم " قيل في معنى " أواه " ثمانية أقوال:
فقال ابن عباس في معنى (أواه) تواب. وقال ابن مسعود: معناه دعاء. وقال
الحسن وقتادة: معناه رحيم. وقال مجاهد: معناه موقن. وقال كعب: معناه إذا

(1) سورة 60 الممتحنة آية 4
(2) سورة 26 الشعراء آية 86
309

ذكر النار قال أوه. وقال الضحاك: معناه المؤمن الموقن بالخشية الرحيم. وقال
آخرون: معناه فقيه. وقال أبو عبيدة: معناه المتوجع المتضرع إلى الله خوفا
وإشفاقا. وأصل الأواه من التأوه وهو التوجع والتحزن تقول، تأوه تأوها وأوه
تأويها، قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل * تأوه آهة الرجل الحزين (1)
والعرب تقول: أوه من كذا بكسر الواو وتسكين الهاء قال الشاعر:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها * ومن بعد أرض دونها وسماء (2)
والعامة تقول: أوه يقال أيضا أوه بكسر الواو وكسر الهاء وينشد البيت المتقدم.
ذكره كذلك، وقال الجعدي:
صروح مروح يتبع الورق بعد ما * يعرس شكوى آهة وتنمرا (3)
وقال الراجز:
فأوه الداعي وضوضاء أكلبه (4)
ولو جاء منه (فعل يفعل) لكان آه يؤوه أوها على وزن (قال يقول قولا)
والحليم هو المهمل على وجه حسن. والحلم الامهال على ما تقتضيه الحكمة. وهي
صفة مدح. والله حليم عن العصاة بإمهاله لهم مع قدرته على تعجيل عقوبتهم وقال
ابن عباس ومجاهد وقتادة: إنما تبين عداوته لما مات على كفره. وقال أبو علي
الجبائي: لما آيس من فلاحه عند تصميمه على بعد الوعد في الايمان بالله الذي

(1) ديوانه: 29 ومجاز القرآن 1 / 270 واللسان (أوه) وتفسير الطبري
14 / 535 يصف ناقته بأنها تحن إلى الديار.
(2) اللسان (أوه) والطبري 14 / 535
(3) ديوانه: 33، 52 وجمرة أشعار العرب: 146 والطبري 14 / 534
ويروى (خنوف) و (ظروح) و (طروح) بدل (صروح).
(4) تفسير الطبري 14 / 535
310

كان وعد باظهاره في وقت بعينه.
قوله تعالى:
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم
ما يتقون إن الله بكل شئ عليم (116) آية.
قال مجاهد: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه لما حرم الله تعالى على
المؤمنين الاستغفار للمشركين بين أنه لم يكن الله ليآخذكم به إلا بعد ان يدلكم على
تحريمه وأنه يجب عليكم أن تتقوه.
وقوله " ليضل قوما " معناه - هاهنا - لم يكن الله ليحكم بضلال من عدل
عن طريق الحق على وجه الذم له إلا بعد أن ينصب له على ذلك الدليل، والهدى
هو الحكم بالاهتداء إلى الحق على وجه الحمد له. والبيان والبرهان والحجة
والدلالة بمعنى واحد، وفرق الرماني بين البيان والبرهان، فقال: البيان إظهار
المعنى في نفسه بمثل اظهار نقيضه. والبرهان اظهار صحته بما يستحيل في نقيضه
كالبيان عن معنى قدم الأجسام ومعنى حدوثها، فالبرهان يشهد بصحة حدوثها
وفساد قدمها. وقال مجاهد: معناه حتى يبين لهم ما يتقون من ترك الاستغفار
للمشركين لأنهم كانوا يستغفرون لهم، فلما نهوا عنه انتهوا. وقوله " ان الله
بكل شئ عليم " معناه انه يعلم جميع المعلومات حتى لا يشذ شئ منها عنه لكونه
عالما لنفسه. وقال الحسن: مات قوم من المسلمين على الاسلام قبل فرض الصلاة
والزكاة وغيرهما من فرائض الدين. فقال المسلمون: يا رسول الله اخواننا الذين
ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فقال الله تعالى " وما كان الله ليضل قوما " وهم
مؤمنون ولم يبين لهم الفرائض.
311

قوله تعالى:
إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم
من دون الله من ولي ولا نصير (117) آية.
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها الحض على ما تقدم ذكره من جهاد المشركين
ملوكهم وغير ملوكهم، لأنهم عبيد من له ملك السماوات والأرض يأمر فيهم ما يشاء
ويدبرهم على ما يشاء. فأخبر الله ان " له ملك السماوات والأرض " ومعناه انه قادر
على التصرف فيهما وليس لاحد منعه منهما. والملك اتساع المقدور لمن له السياسة
والتدبير. وخزائن الله لا تفنى وملكه لا يبيد ولا يبلى، وكل ذلك يرجع إلى
مقدوراته في جميع أجناس المعاني. وقوله " يحيي ويميت " معناه انه يحيي الجماد
ويميت الحيوان. والحياة معنى يوجب كون الحيوان حيا. والحي المختص بصفة
لا يستحيل معها كونه عالما قادرا. والموت عند من أثبته معنى هو ما يضاد الحياة.
ومن لا يثبته معنى، يقول: هو عبارة عن فساد بنية الحياة. وقوله " ومالكم من
دون الله من ولي ولا نصير " فالولي هو المقرب بالنصرة من غير فاصلة. والانسان
ولي الله، لأنه يقربه بالنصرة من غير فاصلة. والله وليه بهذا المعنى، والنصير
والاستنصار طلب النصرة والانتصار والانتصاف بالنصرة.
قوله تعالى:
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه
في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب
عليهم إنه بهم رؤوف رحيم (118) آية.
312

قرأ حمزة وحفص " يزيغ " بالياء. الباقون بالتاء. قال أبو علي النحوي:
يجوز أن يكون فاعل (كاد) أحد ثلاثة أشياء:
أحدها - ان يضمر فيه القصة أو الحديث ويكون (تزيغ) الخبر وجاز ذلك
للزوم الخبر لها، فأشبه العوامل الداخلة على الابتداء للزوم الخبر لها، ولا يجوز
ذلك في (عسى) لان (عسى) يكون فاعله المفرد في الأكثر ولا يلزمه الخبر، نحو
قوله " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر
لكم " (1) فإذا كان فاعله المفرد في كثير من الامر لم يحتمل الضمير الذي احتمله
(كاد) كما لم تحتمله سائر الأفعال التي تسند إلى فاعلها مما لا يدخل على المبتدأ.
وما يجئ في الشعر من كاد أن يفعل، وعسى يفعل، فلا يعتد به، لأنه من
ضرورة الشعر.
الثاني - من فاعل (كاد) أن يضمنه ذكرا مما تقدم، ولما كان النبي صلى الله عليه وآله
والمهاجرون والأنصار قبيلا واحدا وفريقا جاز أن يضمر في (كاد) ما يدل عليه ما
تقدم ذكره من القبيل والحزب والفريق. وقال: منهم من حمله على المعنى كما
قال " من آمن بالله واليوم الآخر " ثم قال " فلا خوف عليهم " (2) فكذلك
فاعل (كاد).
والثالث - من فاعل (كاد) أن يكون فاعلها (القلوب) كأنه بعد ما كاد
قلوب فريق منهم تزيغ وإنما قدم (تزيغ) كما قدم خبر كان في قوله " وكان
حقا علينا نصر المؤمنين " (3) وجاز تقديمه وإن كان فيه ضمير من القلوب ولم يكن
ذلك من الاضمار قبل الذكر، لأن النية به التأخير. ومن قرأ بالياء يجوز أن يكون
جعل في (كاد) ضمير الحديث فإذا اشتغل (كاد) بهذا الضمير ارتفع القلوب

(1) سورة 2 البقرة آية 216
(2) سورة 2 البقرة آية 62، وسورة 5 المائدة آية 72
(3) سورة 30 الروم آية 47.
313

ب‍ (تزيغ) فذكر وإن كان فاعله مؤنثا لتقدم الفعل. ومن قرأ بالتاء
جاز أن يكون ذهب إلى أن القلوب مرتفعة ب‍ (كاد) فلا يكون يرفع فعلا مقدما
فإذا لم يكن مقدما قبح التذكير لتقدم ذكر الفاعل كما قبح في قول الشاعر:
ولا أرض أبقل إبقالها (1)
ولم يصح أبقل أرض. ويجوز أن يكون الفعل المسند على القصة والحديث
يؤنث إذا كان في الجملة التي تفسيرها مؤنث كقوله " فإذا هي شاخصة أبصار الذين
كفروا " (2) ويجوز إلحاق التاء في " كاد " من وجه آخر، وهو أن يرفع " تزيغ
قلوب " ب‍ " كاد " فتلحقه علامة التأنيث من حيث كان مسندا إلى مؤنث كقوله
" قالت الاعراب (3) فعلى هذا يكون في " تزيغ " ضمير القلوب. لأن النية في
" تزيغ " التأخير.
اقسم الله تعالى في هذه الآية - لان لام " لقد " لام القسم - بأنه تعالى تاب على
النبي والمهاجرين والأنصار بمعنى أنه بمعنى أنه رجع إليهم، وقبل توبتهم " الذين اتبعوه في
ساعة العسرة " يعني في الخروج مع إلى تبوك. و " العسرة " صعوبة الامر وكان
ذلك في غزوة تبوك لأنه لحقهم فيها مشقة شديدة من قلة الماء حتى نحروا الإبل
وعصروا كروشها ومصوا النوى. وقل زادهم وظهرهم - في قول مجاهد وجابر
وقتادة - وروي عن عمر أنه قال: أصابنا عطش شديد فأمطر الله السماء بدعاء
النبي صلى الله عليه وآله فعشنا بذلك " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم " والزيغ ميل
القلب عن الحق، ومنه قوله " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (4) ومنه قوله " لا تزغ
قلوبنا بعد إذ هديتنا " (5) وكان أبو خيثمة عبد الله بن خيثمة تخلف إلى أن مضى
من مسير رسول الله عشرة أيام ثم دخل يوما على امرأتين له - في يوم حار - عريشين

(1) مر تخريجه في 1 / 126
(2) سورة 21 الأنبياء آية 97
(3) سورة 49 الحجرات آية 14
(4) سورة 61 الصف آية 5
(5) سورة 3 آل عمران آية 8
314

لهما قد رشتاهما وبردتا الماء وهيأتا له الطعام، فقام على العريشين فقال: سبحان
الله رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضح والريح والحر والقر
يحمل سلاحه على عاتقه وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيأ وامرأتين حسناوين
ما هذا بالنصف، ثم قال. والله لا أكلم واحدة منكما كلمة ولا ادخل عريشا حتى
الحق بالنبي صلى الله عليه وآله فأناخ ناضحه واشتد عليه وتزود وارتحل وامرأتاه تكلمانه
ولا يكلمهما ثم سار حتى إذا دنا من تبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق
فقال النبي صلى الله عليه وآله كن أبا خيثمة، فلما دنا قال الناس: هذا أبو خيثمة يا رسول الله
فأناخ راحلته وسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له النبي صلى الله عليه وآله أولى لك. فحدثه
الحديث، فقال له خيرا، ودعا له، فهو الذي زاغ قلبه للمقام. ثم ثبته الله.
وقيل: إن من شدة ما لحقهم هم كثير منهم بالرجوع فتاب الله عليهم، وقيل من
بعد ما كان شك جماعة منهم في دينه ثم تابوا فتاب الله عليهم، وقوله " ثم تاب
عليهم " أي رجع عليهم بقبول توبتهم " إنه بهم رؤوف رحيم " إخبار منه تعالى أنه
بهم رؤوف، فالرأفة أعظم الرحمة، قال كعب بن مالك الأنصاري:
نطيع نبينا ونطيع ربا * هو الرحمن كان بنا رؤوفا (1)
وقال آخر:
ترى للمسلمين عليك حقا * كمثل الوالد الرؤف الرحيم (2)
قوله تعالى:
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض

(1) مر تخريجه في 2 / 12 وهو مجاز القرآن 1 / 270
(2) اللسان " رأف " نسبه إلى جرير وروايته " يرى للمسلمين عليه " و " كفعل "
بدل " كمثل " ومجاز القرآن 1 / 271
315

بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا
إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (119) آية
تقدير الكلام وتاب الله على الثلاثة الذين خلفوا. وقيل نزلت هذه الآية بسبب
الثلاثة الذين تخلفوا عن غزاة تبوك ولم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله لا عن نفاق، لكن
عن توان، ثم ندموا، فلما ورد النبي صلى الله عليه وآله جاءوا اعتذروا، فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وآله
وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتى الصبيان وأهاليهم
وجاءت نساؤهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله تعتزلهم، فقال: لا ولكن لا يقربونكن فضاقت
عليهم المدينة، فخرجوا إلى رؤس الجبال، فكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام
ويتركونه لهم ولا يكلمونهم، فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلمنا
أحد، فهلا نتهاجر نحن أيضا، فتفرقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وثبتوا على ذلك
نيفا وأربعين يوما. وقيل سنة يضرعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى
حينئذ توبتهم، وانزل فيهم هذه الآية والثلاثة هم كعب بن مالك وهلال بن أمية
وفزارة بن ربيعة، وكلهم من الأنصار - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر -
والتخليف تأخير الشئ عمن مضى، فأما تأخير الشئ عنك في المكان، فليس
بتخليف، وهو من الخلف الذي هو مقابل لجهة الوجه. وقال مجاهد: خلفوا عن
قبول التوبة بعد قبول توبة من قبل توبته من المنافقين، كما قال تعالى فيما مضى
" وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم " (1) وقال قتادة " خلفوا "
عن غزوة تبوك كما تخلفوا هم. وبه قال الحسن. وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام
" خالفوا " قالوا لأنهم لو خلفوا لما توجه عليهم العتب.
وقوله " حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت " فالضيق ضد السعة ومنه
ضيق الصدر، خلاف اتساعه بالهم الذي يحدث فيه فيشغله عن غيره، وليس كذلك

(1) سورة 9 التوبة آية 107
316

السرور لأنه لا يشغل عن ادراك الأمور. ومعنى " بما رحبت " اي بما اتسعت تقول:
رحبت رحبا، ومنه مرحبا واهلا اي رحبت بلادك وأهلت، وضيق أنفسهم ههنا
بمعنى ضيق صدورهم، بالهم الذي حصل فيها. وقوله " وظنوا ان لا ملجأ
من الله إلا إليه " معناه وعلموا انه لا يعصمهم منه موضع إذا اعتصموا به والتجؤا
إليه كأنه قال: لا معتصم من الله إلا به، لجأ يلجأ لجاء وألجأه إلى كذا إلجاء إذا
صيره إليه بالمنع من خلافه. والتجأ إليه التجاء وتلاجؤا تلاجؤا. وقوله " ثم تاب
عليهم ليتوبوا " قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - لطف لهم في التوبة، كما
يقال في الدعاء: تاب الله عليه. الثاني - قبل توبتهم ليتمسكوا بها في المستقبل.
الثالث - قبل توبتهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم. وقال الحسن: جعل لهم
التوبة ليتوبوا بها، والمخرج ليخرجوا به. وقوله " ان الله هو التواب الرحيم "
اخبار منه تعالى بأنه يقبل توبة عباده كثيرا ويغفر ذنوبهم إذا رجعوا إليه لرحمته
عليهم ورأفته بهم. وكان أبو عمرو يحكي عن عكرمة بن خالد " وعلى الثلاثة الذين
خلفوا " بفتح الخاء والتخفيف وكان لا يأخذ بها. فان قيل: ما معنى التوبة عليهم
واللائمة لهم وهم قد خلفوا فهلا عذروا؟
قيل: ليس المعنى انهم أمروا بالتخلف أو رضي منهم به بل كقولك لصاحبك:
أين خلفت فلانا؟ فيقول: بموضع كذا ليس يريد انه امره بالتخلف هناك بل لعله
أن يكون نهاه وإنما يريد انه تخلف هناك
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (120) آية
هذا امر من الله تعالى للمؤمنين المصدقين بالله والمقرين بنبوة نبيه بأن يتقوا
معاصي الله ويجتنبوها وأن يكونوا مع الصادقين الذين يصدقون في اخبارهم ولا
يكذبون، قال ابن مسعود: لا يصلح من الكذب جد ولا هزل، ولا ان يعد
317

أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجزه ثم قرأ " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله.. " الآية
وقال: هل ترون في هذه رخصة؟. وقال نافع والضحاك: أمروا بأن يكونوا مع
النبيين والصديقين في الجنة بالعمل الصالح. وقيل: إن المراد بالصادقين هم الذين
ذكرهم الله في قوله " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه " وهم
حمزة وجعفر " ومنهم من ينتظر " (1) يعني عليا عليه السلام فأمر الله تعالى بالاقتداء
بهم والاهتداء بهديهم، وهم الذين وصفوا في قوله: " ليس البر أن تولوا وجوهكم
قبل.. " الآية إلى قوله " أولئك الذين صدقوا " (2) فأمر بالاقتداء بهؤلاء.
وقال بعضهم: ان (مع) بمعنى (من) وكأنه أمر بأن يكونوا في جملة
الصادقين وفي قراءة ابن مسعود " وكونوا من الصادقين ". وقيل: أراد كونوا
مع كعب بن مالك وأصحابه الذين صدقوا في أقوالهم ولم يكذبوا في الاعتذار.
والصادق هو القائل بالحق العامل به، لأنها صفة مدح لا تطلق الا على من يستحق
المدح على صدقه. فأما من فسق بارتكاب الكبائر فلا يطلق عليه اسم صادق
ولذلك مدح الله الصديقين وجعلهم تالين للنبيين في قوله " فأولئك مع الذين أنعم الله
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " (3).
قوله تعالى:
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا
عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا
يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن
موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به

(1) سورة 33 الأحزاب آية 23
(2) سورة البقرة آية 177
(3) سورة 4 النساء آية 68
318

عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين (121) آية.
لما قص الله تعالى قصة الذين تأخروا عن النبي صلى الله عليه وآله والخروج معه إلى تبوك
ثم اعتذارهم عن ذلك وتوبتهم منه وأنه قبل توبة من ندم على ما كان منه لرأفته
بهم ورحمته عليهم، ذكر عقيب ذلك على وجه التوبيخ لهم والازراء على ما كانوا
فعلوه فقال: لم يكن لأهل المدينة ولا من يسكن حول المدينة من الاعراب والبوادي
" ان يتخلفوا " بمعنى ان يتأخروا عن رسول الله " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه "
ومعناه ولا أن يطلبوا نفع نفوسهم، لان الرغبة المنفعة ونقيضها الرهبة. ويقال
رغب فيه إذا طلب المنفعة به ورغب عنه طلب المنفعة بتركه، والترغيب ضد الترهيب
ومعنى " يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " اي يطلبون المنفعة بترفيه أنفسهم دون نفسه
وهذه فريضة ألزمهم الله إياها، لحقه فيما دعاهم من الهدى الذي اهتدوا به وخرجوا
من ظلمة الكفر إلى نور الايمان.
وقوله " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب " إشارة إلى ما ألزمهم الله إياه
من تحمل هذه المشقة لأنهم لا يصيبهم ظمأ وهو شدة العطش تقول: ظمئ يظمأ
ظمأ وهو ظمئ وظمآن وأظمأه الله إظماء. ومنه قيل: أنا ظمآن إلى رؤية فلان
ومعنى " ولا نصب " اي تعب تقول: نصب ينصب نصبا فهو نصب. ومثله الوصب
قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1)
وقوله " ولا مخمصة " يعني مجاعة وأصله ضمور البطن للمجاعة ومنه رجل
خميص البطن وامرأة خمصانة. وقوله " في سبيل الله " يعني من قتال أعدائه
المشركين. وقوله " ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار " اي لا يخطون خطوة إلا كتب
لهم اجرها، والموطئ الأرض، والغيظ انتقاض الطبع بما يرى مما يشق. والغضب

(1) اللسان (نصب) والأغاني 11 / 15
319

هو ما يدعوا إلى الانتقام على ما سلف من المعصية مما هي متعلقة به، وهو مستحق
بها ولذلك جاز ان يطلق الغضب على الله ولم يجز اطلاق الغيض عليه.
وقوله " ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح " والنيل
لحوق الشئ تقول: نلته أناله نيلا إذا نلته بيدك وهو منيل، وليس من التناول
لان هذا من الواو تقول: نلته بخير انوله نولا ونوالا وأنالني خيرا انالة
والمعنى ان هؤلاء المؤمنين لا يصيبون من المشركين امرا، من قتل أو جراح
أو مال، أو امر يغمهم الا ويكتب الله للمؤمنين " به عملا صالحا ان الله
لا يضيع اجر المحسنين " اخبار منه تعالى انه لا يضيع اجر من فعل الأفعال الحسنة
التي يستحق بها المدح وقد يكون فاعل الحسن لا يستحق المدح مثل فاعل المباح.
وقال قتادة: حكم هذه الآية مختص بالنبي فإنه إذا غزا النبي صلى الله عليه وآله لم يكن
لاحد ان يتخلف عنه، فاما من بعده من الخلفاء فان ذلك جائز، وقال الأوزاعي
وعبد الله بن المبارك والفرازي والسبيعي وأبو جابر وسعيد بن عبد العزيز: ان
هذه الآية لأول الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله. وقال ابن زيد: هذا
حين كان المسلمون قليلين، فلما كثروا نسخ بقوله " وما كان المؤمنين لينفروا
من فروض الكفايات فلو لزم كل أحد النفر لصار من فروض الأعيان
قوله تعالى:
ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا
كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (122) آية.
هذه الآية عطف على ما تقدم ذكره في الآية الأولى من قوله " ولا يطؤن
موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا.. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة "
320

اي لا ينفق هؤلاء المؤمنون في سبيل الله وجهاد أعدائه نفقة صغيرة ولا كبيرة
يريدون بها اعزاز دين الله ونفع المسلمين والتقرب إلى الله بها، لا الانفاق متى
كان للشهوة أو ليذكر بالجود كان ذلك مباحا. وإن كان للرياء والسمعة وللمعاونة
على فساد كان معصية. والصغير ما نقص ثوابه ما هو أكبر منه، والكبير
ما زاد ثوابه على ثواب ما هو دونه. وقوله " ولا يقطعون واديا " معناه ولا
يتجاوزون وأدبا.
وقوله " إلا كتب لهم " ثواب ذلك لهم " ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون "
معناه انه يكتب طاعاتهم ليجزيهم عليها أحسن مما فعلوه. وقال الرماني: ذلك
يدل على أنه يكون حسن أحسن من حسن، قال: لان لفظة أفعل تقتضي التفاضل
فيما شاركه في الحسن. وهذا ليس بشئ لان المعنى ان الله تعالى يجزيهم أحسن
ما كانوا يعملون يعني ماله مدخل في استحقاق المدح والثواب من الواجبات
والمندوبات دون المباحات التي لا مدخل لها في ذلك وان كانت حسنة.
قوله تعالى:
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل
فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (123) آية.
قوله " فلولا نفر " معناه هلا نفر، وهي للتحضيض إذا دخلت على الفعل، فإذا
دخلت على الاسم فهي بمعنى امتناع الشئ لأجل وجود غيره. وقيل في معناه ثلاثة
أقوال: أحدها - قال الحسن: حث الله تعالى الطائفة النافرة على التفقه لترجع إلى
المتخلفة فتحذرها. وقال قتادة: ان المعنى انه لم يكن لهم ان ينفروا بأجمعهم في
السرايا ويتركوا النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة وحده، ولكن تبقى بقية لتتفقه البقية ثم تنذر
321

النافرة وبه قال الضحاك وابن عباس، وقال أبو علي الجبائي: تنفر الطائفة من كل
ناحية إلى النبي صلى الله عليه وآله لتسمع كلامه وتتفقه عنه، ثم يبينوا ذلك لقومهم إذا رجعوا
إليهم. وقال مجاهد: نزلت الآية في قوم خرجوا إلى البادية ليفقهوهم ولينالوا
منهم خيرا، فلما عاتب الله من تأخر عن النبي عند خروجه إلى تبوك وذم آخرين
خافوا ان يكونوا فمنهم فنفروا بأجمعهم، فقال الله: هلا نفر بعضهم ليفقه عن
النبي صلى الله عليه وآله ما يجب عليهم وما لا يجب ويرجعون فيخبرون أصحابهم بذلك ليحذروا.
والنفور عن الشئ هو الذهاب عنه لتكره النفس له، والنفور إليه الذهاب إليه لتكره
النفس لغيره. والتفقه تعلم الفقه. والفقه فهم موجبات المعنى المضمنة بها من غير
تصريح بالدلالة عليها، وصار بالعرف مختصا بمعرفة الحلال والحرام، وما طريقه
الشرع. وقوله " لعلهم يحذرون " معناه لكي يحذروا، لأن الشك لا يجوز على
الله. والحذر تجنب الشئ لما فيه من المضرة يقال: حذر حذرا وحذرته تحذيرا
وحاذره محاذرة وتحذر تحذرا.
واستدل جماعة بهذه الآية على وجوب العمل بخبر الواحد بأن قالوا:
حث الله تعالى الطائفة على النفور والتفقه حتى إذا رجعوا إلى غيرهم لينذروهم
ليحذروا، فلولا انه يجب عليهم القبول منهم لما وجب عليهم الانذار والتخويف.
والطائفة تقع على جماعة لا يقع بخبرهم العلم بل تقع على واحد. لان المفسرين
قالوا في قوله " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " أنه يكفي أن يحضر واحد.
وهذا الذي ذكروه ليس بصحيح، لان الذي يقتضيه ظاهر الآية وجوب النفور
على الطائفة من كل فرقة، ووجوب التفقه والانذار إذا رجعوا، ويحتمل أن يكون
المراد بالطائفة الجماعة التي يوجب خبرهم العلم، ولو سلمنا انه يتناول الواحد أو
جماعة قليلة، فلم إذا وجب عليهم الانذار وجب على من يسمع القبول؟ والله تعالى
إنما أوجب عليه المنذرين الحذر، والحذر ليس من القبول في شئ بل الحذر يقتضي
وجوب البحث عن ذلك حتى يعرف صحته من فساده بالرجوع إلى الأدلة، ألا ترى
322

ان المنذر إذا ورد على المكلف وخوفه من ترك النظر فإنه يجب عليه النظر ولا يجب
عليه القبول منه قبل ان يعلم صحته من فساده، وكذلك إذا ادعى مدع النبوة وان
معه شرعا وجب عليه ان ينظر في معجزه ولا يجب عليه القبول منه وتصديقه قبل
ان يعلم صحة نبوته. فكذلك لا يمتنع ان يجب على الطائفة الانذار ويجب على
المنذرين البحث والتفتيش حتى يعلموا صحة ما قالوه فيعملوا به، وقد استوفينا
الكلام في ذلك في كتاب أصول الفقه لا نطول بذكره هاهنا.
وقيل: ان اعراب أسد قدموا على النبي صلى الله عليه وآله المدينة فغلت الأسعار وملؤوا
الطرق بالعذرة فأنزل الله تعالى الآية يقول: فهلا جاء منهم طوائف ثم رجعوا
إلى قومهم فأخبروهم بما تعلموا. وروى الواقدي ان قوما من خيار المسلمين خرجوا
إلى البدو يفقهون قومهم فاحتج المنافقون في تأخرهم عن تبوك بأولئك فنزلت
" وما كان المؤمنون لينفروا كافة " قال: وفيهم نزلت " والذين يحاجون في الله
من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة " (1) يعني ان احتجوا بتأخير هؤلاء في البادية
فإنهم مستجيبون مؤمنون، فكيف يكون لهم بهم أسوة أو حجة في تأخرهم وهم
منافقون مدهنون. وقال أبو جعفر عليه السلام كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله
ان ينفر منهم طائفة وتقيم للتفقه وأن يكون الغزو نوبا.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار
وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين (124) آية.
روى المفضل عن عاصم (غلظة) بفتح الغين. الباقون بكسرها، قال أبو الحسن
قراءة الناس بالكسر، وهي العربية، قال وبه أقرأ ولا أعلم الفتح لغة. وقال غيره:

(1) سورة 42 الشورى آية 16.
323

هي لغة. وذكر الزجاج أن فيه ثلاث لغات الفتح والضم والكسر، والكسر أفصحها
والكسر لغة أهل الحجاز والضم لغة تميم.
امر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار الذين يلونهم يعني الأقرب فالأقرب
وذلك يدل على أنه يجب على أهل كل ثغر أن يقاتلوا دفاعا عن أنفسهم إذا خافوا على
بيضة الاسلام إذا لم يكن هناك إمام عادل، وإنما جاز من الله تعالى ان يأمر
بالقتال ليدعوهم إلى الحق، ولم يجز ان يمنعهم من الكفر، لان المنع ينافي التكليف.
ومن قاتل الابعد من الكفار وترك الأقرب فالأقرب فإن كان باذن الامام كان
مصيبا وإن كان بغير أمره كان مخطئا، ولو قال: قاتلوا الأقرب فالأقرب لصح
لأنه يمكن ذلك. ولو قال: قاتلوا الا بعد فالأبعد لم يصح لأنه لاحد للأبعد يبتدأ
منه كما للأقرب. وقوله " وليجدوا فيكم غلظة " معناه وليخشوا منكم بالغلظة،
والغلظة ضد اللين وخلاف الرقة، وهي الشدة في احلال النقمة، ومخرج الكلام على
الامر بالوجود، وإنما معناه يجدون ذلك، ويجوز أن يكون المراد وليعلموا
منكم الغلظة.
وقوله " واعلموا ان الله مع المتقين " امر من الله للمؤمنين ان يتيقنوا أن
الله مع الذين يتقون معصيته، بالنصرة لهم، ومن كان الله ناصره في الحرب لم يغلبه
أحد. فأما إذا نصره بالحجة في غير الحرب فإنه يجوز أن يغلب بالحرب لضرب من
المحنة وشدة والتكليف.
قوله تعالى:
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه
إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (125) آية
(ما) في قوله: " وإذا ما " يحتمل أمرين: أحدهما - أن تكون دخلت لتسليط (إذا)
324

على الجزاء. والثاني - أن تكون صلة مؤكدة، وقوله " فمنهم من يقول " الضمير عائد
على المنافقين في قول الحسن والزجاج، والتقدير فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض
على وجه الانكار " أيكم زادته هذه ايمانا " وقال الجبائي: يقول المنافقون لضعفة
المؤمنين على وجه الاستهزاء. فأخبر الله تعالى انه متى نزلت سورة من القرآن قال
المنافقون على وجه الاستهزاء والانكار " أيكم زادته هذه ايمانا " ثم قال تعالى
" فاما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا " المعنى ازدادوا عندها ايمانا. وإنما أضافه إلى
السورة لان عندها ازداوا، فوجه زيادة الايمان انهم يصدقون بأنها من عند الله
ويعترفون بذلك ويعتقدونه وذلك زيادة اعتقاد على ما كانوا معتقدين له. وقوله
" وهم يستبشرون " جملة في موضع الحال، وتقديره انهم يزدادون الايمان عندها
مستبشرين بذلك فرحين بما لهم في ذلك من السرور والثواب. والزيادة ضم الشئ
إلى جنسه لأنك لو ضممت حجرا إلى ذهب لم تكن زدت، ولو ضممت ذهبا إلى
ذهب أو حجرا إلى حجر لكنت زدته.
قوله تعالى:
وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم
وماتوا وهم كافرون (126) آية.
لما بين الله تعالى ان المؤمنين يزدادون الايمان عند نزول السورة بين ان الذين
في قلوبهم مرض يعني شك ونفاق من الاسلام يزدادون عند ذلك رجسا إلى رجسهم
اي نفاقا وكفرا إلى كفرهم، لأنهم يشكون في هذه السورة كما يشكون في الذي
تقدم، فكان ذلك هو الزيادة. وسمي الشك في الدين مرضا، لأنه فساد يحتاج
إلى علاج كالفساد في البدن الذي يحتاج إلى مداواة. ومرض القلب أعضل وعلاجه
أعسر ودواؤه أعز وأطباؤه أقل. والرجس والنجس واحد. وسمي الكفر رجسا على
وجه الذم، وأنه يجب تجنبه كما يجب تجنب الأنجاس. وإنما أضاف الزيادة إلى
325

السورة لأنهم يزدادون عندها، ومثله كفى بالسلامة داء، كما قال الشاعر:
أرى بصري قد رابني بعد صحة * وحسبك داء أن تصح وتسلما (1)
وقوله " وماتوا وهم كافرون " فيه بيان أن المرض في القلب أداهم إلى أن
ماتوا على شر حال، لأنها تسوق إلى النار نعوذ بالله منها، وإنما قال " وماتوا " على
لفظ الماضي لأنه عطف على قوله " زادتهم رجسا إلى رجسهم " والمعنى انهم يموتون
وهم كافرون.
قوله تعالى:
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا
يتوبون ولا هم يذكرون (127) آية.
قرأ حمزة ويعقوب " أولا ترون " بالتاء. الباقون بالياء.
قوله " أولا يرون " تنبيه وتقريع لمن عنى بالخطاب.
فمن قرأ بالتاء فوجهه أن المؤمنين نبهوا على إعراض المنافقين عن النظر
والتدبر لما ينبغي أن ينظروا فيه ويتدبروا، لأنهم يمتحنون بالأمراض والأسباب
التي لا يؤمن معها الموت، فلا يرتدعون عن كفرهم ولا ينزجرون عما هم عليه من
النفاق، فلا يقدمون عليه إذا ماتوا فنبه المسلمين على قلة اعتبارهم واتعاظهم.
ومن قرأ بالياء وجه التقريع - بالاعراض عما يجب أن لا يعرضوا عنه من
التوبة والاقلاع عما هم عليه من النفاق - إلى المنافقين دون المسلمين، لان المسلمين
قد عرفوا ذلك من أمرهم. وكان الأولى أن يلحق التنبيه من يراد تنبيهه وتقريعه
بتركه ما ينبغي ان يأخذ به. وتحتمل الرؤية في الآية على القراءتين أن تكون
متعدية إلى مفعولين. وأن تكون من رؤية العين أولى فإذا جعلت متعدية إلى مفعولين

(1) قائله حميد بن ثور الهلالي العقد الفريد 2 / 331
326

سد (أن) مسدهما. وإن جعلت من رؤية العين كان أولى، لأنهم مبتلون في الاعراض
عنه على ترك الاعتبار به، وهذا أبلغ من المتعدية إلى مفعولين ألا ترى أن تارك
الاستدلال أعذر ممن يكابر المشاهدات. ولو قرئ بضم الياء وبني الفعل للمفعول
به كان (ان) في موضع نصب بأنه مفعول الفعل الذي يتعدى إلى مفعول، وفتحت
الواو في قوله " أولا " لأنها واو العطف دخلت عليها الف الاستفهام، فهو متصل بذكر
المنافقين ومتصل بذكر آخرين ذكرهم بدليل العلامتين الواو والألف.
والفتنة المحنة بالقتل والسبي ونصر الله لنبيه حتى يستعلي على كل من ناواه
- في قول الحسن وقتادة - وقال مجاهد: هي بالقحط والجوع. وقال الجبائي: هي
بالمرض الذي ينزل بهم. وقيل: تهتك أستارهم بما يظهره الله من سوء نياتهم وخبث
سرائرهم. وقال الزجاج: معناه انهم يختبرون بالدعاء إلى الجهاد، وهو قول الحسن
وقتادة: وأجاز الرماني أن تفعل التوبة خوفا من العقاب، كما يجوز أن تفعل
لقبح المعصية. قال: لان كل واحد من الامرين يدعوا إليه الفعل. ومن جحد أحد
الامرين كمن جحد الاخر. والذي عليه أكثر أهل العدل أنه لا يجوز أن تفعل
التوبة الا لوجه قبح المعصية. ومتى فعلت لخوف العقاب لم تكن مقبولة.
وقوله " ثم لا يتوبون ولاهم يذكرون " اخبار منه تعالى انه مع ما يمتحنهم
في كل سنة دفعة أو دفعتين فإنهم لا يقلعون عن المعاصي ولا يتوبون منها ولا
يتفكرون فيها. والتذكير طلب الذكر بالفكر فيه.
قوله تعالى:
وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يريكم
من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم
لا يفقهون (128) آية.
327

أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه متى أنزل سورة من القرآن " نظر بعضهم
إلى بعض " نظرا يومئون به " هل يراكم من أحد " وإنما يفعلون ذلك، لأنهم
منافقون يتحذرون أن يعلم بهم، فكأنهم يقول بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد
ثم يقومون فينصرفون. ويحتمل أن يكون انصرافهم عن العمل بشئ مما يستمعون.
فقال الله تعالى " صرف الله قلوبهم " يعني عن رحمته عقوبة لهم " بأنهم قوم
لا يفقهون " مواعظ الله ولا أمره ونهيه. وإنما صرف قلوبهم عن السرور بالفائدة
التي تحصل للمؤمنين بسماع الوحي، فيحرمون ما للمؤمنين من الاستبشار بتلك
الحال. والفقه فهم موجب المعنى المضمن به، وقد صار علما على علم الفتيا في الشعرية
لان المعتمد على المعنى. وكان القوم عقلاء يفقهون الأشياء، وإنما نفى الله عنهم
ذلك لأنهم لم ينظروا فيه، ولم يعملوا بموجبه، فكأنهم لم يفقهوه، كما قال " صم
بكم عمي " (1) لما لم ينتفعوا بما سمعوه ورأوه.
قوله تعالى:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (129) آية.
أقسم الله تعالى في هذه الآية بأنه قد " جاءكم رسول من أنفسكم " لان
لام (لقد) هي اللام التي يتلقى بها القسم. والخطاب متوجه إلى جميع الخلق.
ومعنى " من أنفسكم " أي انكم ترجعون إلى نفس واحدة كما قال " قل إنما أنا
بشر مثلكم " (2) ويحتمل أن يكون المراد به من العرب انكم كذلك.
ويكون - على هذا - الخطاب متوجها إلى العرب خاصة، فأنتم تخبرونه قبل
مبعثه. وقيل: إنه لم يبق بطن من العرب إلا وولد النبي صلى الله عليه وآله وإنما ذكر ذلك
لأنه أقرب إلى الألفة، وأبعد من المحك واللجاج، واسرع إلى فهم الحجة، فهو

(1) سورة 2 البقرة آية 18
(2) سورة 18 الكهف آية 111
328

من أنفسكم في اشرف نسبه منكم، ومن أنفسكم في القرب منكم، ومن أنفسكم
بالاختصاص بكم.
وقوله " عزيز عليه " أي شديد عليه لأنه لا يقدر على ازالته، والعزيز في
صفات الله معناه المنيع القادر الذي لا يتعذر عليه فعل ما يريده. والعزة امتناع الشئ
بما يتعذر معه ما يحاول منه، وهو على ثلاثة أوجه: امتناع الشئ بالقدرة أو بالقلة
أو بالصعوبة. وقوله " ما عنتم " يعني ما يلحقكم من الأذى الذي يضيق الصدر به
ولا يهتدى للخروج منه. ومنه قيل: فلان يعنت في السؤال، ومنه قوله تعالى
" ولو شاء الله لا عنتكم " (1) أي ضيق عليكم حتى لا تهتدوا للخروج منه، والعنت
إلقاء الشدة. و (ما) في قوله " ما عنتم " بمعنى الذي، وهو في موضع رفع بالابتداء
وخبره (عزيز) قدم عليه. وقال الفراء: هو رفع ب‍ (عزيز). وقوله " حريص
عليكم " فالحرص شدة الطلب للشئ على الاجتهاد فيه. والمعنى: حريص عليكم
ان تؤمنوا - في قول الحسن - ثم استأنف فقال " بالمؤمنين رؤوف رحيم " أي رفيق
بهم رحيم عليهم.
قوله تعالى:
فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو
رب العرش العظيم (130) آية.
معنى " فان تولوا " إن ذهبوا عن الحق واتباع الرسول وما يأمرهم به واعرضوا
عن قوله. ونقيض التولي عنه التوجه إليه. ومثل التولي الاعراض. وقال الحسن:
المعنى فان تولوا عن طاعة الله. وقيل " فان تولوا " عنك، ومعناه فان ذهبوا عنك
هؤلاء الكفار، ولم يقروا بنبوتك " فقل " يا محمد " حسبي الله " ومعناه كفاني الله وهو

(1) سورة 2 البقرة آية 220
329

من الحساب لأنه تعالى يعطي بحسب الكفاية التي تغني عن غيره، ويزيد من نعمه مالا
يبلغ إلى حد ونهاية، إذ نعمه دائمة ومننه متظاهرة. وقوله " إله إلا هو " جملة في موضع الحال، وتقديره حسبي الله مستحقا لاخلاص العبادة والاقرار بأن لا إله
إلا هو. وقوله " عليه توكلت " فالتوكل تفويض الامر إلى الله على الثقة بحسن
تدبيره وكفايته، باخلاص النية في كل شئ يحذر منه، ومنه قوله " حسبنا الله
ونعم الوكيل " (1) أي المتولي للقيام بمصالح عباده وفي هذه الصفة بلطف. وقوله
" وهو رب العرش العظيم " قيل في تخصيصه الذكر بأنه " رب العرش العظيم "
ثلاثة أقوال: أحدها - انه لما ذكر الأعظم دخل فيه الأصغر. الثاني - أنه خص
بالذكر تشريفا له وتفخيما لشأنه. الثالث - ليدل به على أنه ملك الملوك لأنه
رب السرير الأعظم. وجر القراء كلهم " العظيم " على أنه صفة للعرش. وقال
الزجاج: يجوز رفعه بجعله صفة لرب العرش.
قال أبي بن كعب وسعيد بن جبير والحسن وقتادة: هذه آخر آية نزلت
من القرآن ولم ينزل بعدها شئ.

(1) سورة 3 آل عمران آية 173
330

10 - سورة يونس
(مكية وهي مئة وتسع آيات)
بسم الله الرحمن الرحيم
آلر تلك آيات الكتاب الحكيم (1) آية.
إنما لم تعد (الر) آية كما عد (ألم) آية في عدد الكوفيين لان آخره لا يشاكل
رؤس الآي التي بعده، إذ هي بمنزلة المردف بالياء. و (طه) عد، لأنه يشاكل
رؤس الآي التي. وقرأ (الر) بالتفخيم ابن كثير ونافع وأبو جعفر. وقرأ
بالإمالة أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة والكسائي. واختلفوا عن عاصم: فروى
هبيرة عن حفص بكسر الراء. الباقون عنه بالتفخيم. قال أبو علي الفارسي: من
ترك الإمالة، فلان كثيرا من العرب لا يميل ما يجوز فيه الإمالة كما يمنعها
المستعلي. ومن أمال، فلأنها اسم لما يلفظ به من الأصوات، فجازت الإمالة من
حيث كانت اسما ولم تكن كالحروف التي تمنع فيها الإمالة. وقال الرماني: إنما
جاز إمالة حروف الهجاء، لان ألفه في تقدير الانقلاب عن ياء.
وقد بينا في أول سورة البقرة معنى هذه الحروف التي في أول السور، واختلاف
المفسرين، وقلنا: إن أقوى الوجوه أنها أسماء السور، فلا وجه لإعادته.
وقوله " تلك قال أبو عبيدة معنا هذه. وقال الزجاج: المعنى الآيات
التي تقدم ذكرها، وهو قول الجبائي. وقال قوم: إنما قال " تلك " لتقدم الذكر
(الرفي) كقولك هند هي كريمة. وإنما أضيفت الآيات إلى الكتاب لأنها أبعاض
331

الكتاب، كما أن السورة ابعاضه، وكذلك محكمه ومتشابهه وأسماؤه وصفاته ووعده
ووعيده وأمره ونهيه وحلاله وحرامه والآية العلامة التي تنبئ عن مقطع الكلام
من جهة مخصوصة. والقرآن مفصل بالآيات مضمن بالحكم النافية للشبهات وإنما
وصف الكتاب بأنه حكيم، لأنه دليل على الحق كالناطق بالحكمة، ولأنه يؤدي إلى
المعرفة التي يميز بها طريق الهلاك من طريق النجاة. وقال أبو عبيدة: حكيم ههنا
بمعنى محكم وأنشد لأبي ذؤيب:
يواعدني عكاظ لننزلنه * ولم يشعر إذن أني خليف (1)
أي مخلف من أخلفته الوعد. ويؤكد ذلك قوله " الر كتاب أحكمت آياته "
والآيات العلامات. والكتاب اسم من أسماء القرآن وقد بيناه فيما مضى. وحكي عن
مجاهد أنه قال (تلك) إشارة إلى التوراة الإنجيل. وهذا بعيد لأنه لم يجر لهما ذكر.
قوله تعالى:
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر
الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال
الكافرون إن هذا لساحر مبين (2) آية.
قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي " لساحر مبين " بألف. الباقون بغير
ألف. قال أبو علي الفارسي: يدل على ساحر قوله " وقال الكافرون هذا ساحر
كذاب " (2) ويدل على " سحر " قوله " ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به
كافرون " (3) والقول في الوجهين أنه قد تقدم قوله " أن أوحينا إلى رجل منهم "
فمن قال " ساحر " أراد به الرجل ومن قال " سحر " أراد الذي أوحي " سحر "

(1) ديوان الهذليين 1 / 99 واللسان (خلف) ومجاز القرآن 1 / 273
(2) سورة 38 ص آية 4
(3) سورة 43 الزخرف آية: 30
332

أي الذي يقول أنه وحي " سحر " وليس بوحي.
ومعنى قوله " أكان للناس عجبا " أكان إيحاؤنا القرآن إلى رجل منهم عجبا؟
وإنذارهم عقاب الله على معاصيه كأنهم لم يعلموا أن الله قد أوحى من قبله إلى مثله
من البشر، فعجبوا من وحينا إليه الان؟ فالألف ألف استفهام والمراد به الانكار.
وقال ابن عباس ومجاهد وابن جريح: عجبت العرب وقريش أن يبعث الله منهم نبيا
فأنزل الله الآية. وقال الحسن: معنا ليس بعجب ما فعلنا في ذلك. والمعنى ألم
يبعث الله رسولا من أهل البادية ولا من الجن ولا من الانس. والعجب تغير النفس
بما لا يعرف سببه مما خرج عن العادة إلى ما يجوز كونه. والانذار هو الاخبار على
وجه التخويف، فمن حذر من معاصي الله فهو منذر. وهذه صفة النبي صلى الله عليه وآله.
وقوله " أن أوحينا " في موضع رفع وتقديره أكان للناس عجبا وحينا و " أن
أنذر " في موضع نصب، وتقديره وحينا بأن أنذر، فحذف الجار فصار موضعه
نصبا، و " أن لهم " نصب بقوله " وبشر الذين آمنوا " ولو قرئ بالكسر كان جائزا
لان البشارة هي القول إلا أنه لم يقرأ به. وقوله " وبشر الذين آمنوا " أمر
للنبي صلى الله عليه وآله أن يبشر المؤمنين، وهو أن يعرفهم ما فيه السرور بالخلود في نعيم الجنة
على وجه الاكرام والاجلال بالأعمال الصالحة. وقوله " أن لهم قدم صدق عند ربهم "
معناه ان لهم سابقة إخلاص الطاعة كاخلاص الصدق من شائب الكذب. وقالوا:
له قدم في الاسلام، والجاهلية. وهو كالقدم في سبيل الله، قال حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة الله تابع (1)
وقال ذو الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها * مع الحسب العادي طمت على البحر (2)
وقال أبو سعيد الخدري وأبو عبد الله عليه السلام: معناه إن محمدا صلى الله عليه وآله لهم
شفيع يوم القيامة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقال مجاهد: معناه لهم

(1) ديوانه 254 وقد مر في 5 / 21
(2) ديوانه 19 والطبري 11 / 53
333

قدم خير بأعمالهم الصالحة. وقال قتادة: معناه لهم سلف صدق. وقال الضحاك: لهم
ثواب صدق. وقال ابن عباس: لهم ما قدموه من الطاعات.
وقوله " قال الكافرون إن هذا لساحر مبين " حكاية عن الكفار أنهم يقولون
إن النبي ساحر مظهر، أو ما أتى به سحر مبين على اختلاف القراءات. والسحر
فعل يخفى وجه الحيلة فيه حتى يتوهم أنه معجز. والعمل بالسحر كفر لادعاء
المعجزة به، ولا يمكن مع ذلك معرفة النبوة. وقال الزجاج: المراد ب‍ (الناس)
في الآية أهل مكة. وقيل إنهم قالوا: لم يجد الله من يبعثه رسولا إلا يتيم
أبي طالب؟!
قوله تعالى
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام
ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد
إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون (3) آية
خاطب الله تعالى بهذه الآية جميع الخلق وأخبرهم بأن الله الذي يملك تدبيركم
وتصريفكم بين أمره ونهيه ويجب عليكم عبادته " الله الذي خلق السماوات والأرض "
فاخترعهما وأنشأهما على ما فيهما من عجائب الصنعة ومتقن الفعل. وإطلاق الرب
لا يقال إلا فيه تعالى، فاما غيره فإنه يقيد له، فيقال: رب الدار، ورب الضيعة بمعنى
أنه مالكها. وكذلك معنى قوله " رب العرش " والربوبية ملك التدبير الذي يستحق
به العبادة. وقيل في الوجه " الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام " بلا زيادة
ولا نقصان مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة قولان:
أحدهما - أن في اظهارهما كذلك مصلحة للملائكة وعبرة لهم.
والثاني - لما فيه من الاعتبار إذا أخبر عنه بتصرف المال كما صرف الله
334

الانسان من حال إلى حال، لان ذلك أبعد من توهم الاتفاق فيه.
وقوله " ثم استوى على العرش " معناه استولى عليه بانشاء التدبير من جهته
كما يستوي الملك على سرير ملكه بالاستيلاء على تدبيره، قال الشاعر:
ثم استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (1)
يعني بشر بن مروان. ودخلت (ثم) لان التدبير من جهة العرش بعد استوائه.
وقوله " يدبر الامر " فالتدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها،
وهو مأخوذ من الدبور، فتجري على أحكام الدابر في الباري.
وقوله " وما من شفيع إلا من بعد إذنه " فالشفيع هو السائل في غيره لاسقاط
الضرر عنه. وعند قوم أنه متى سأله في زيادة منفعة توصل إليه كان شفيعا. والذي
اقتضى ذكره - ههنا - صفات التعظيم مع اليأس من الاتكال في دفع الحق على
الشفيع. والمعنى - ههنا - ان تدبيره للأشياء وصنعته لها ليس يكون منه بشفاعة
شفيع ولا بتدبير مدبر لها سواه، وأنه لا يجسر أحد أن يشفع إليه إلا بعد ان يأذن
له فيه، من حيث كان تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب من خلقه بمصالحهم. وقوله
" ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون " معناه إن الموصوف بهذه الصفات هو
ربكم وإلهكم فاعبدوه وحده، لأنه لا إله لكم سواه، ولا يستحق هذه الصفات
غيره. وحثهم على التذكير والتفكر في ذلك وعلى تعرف صحة ما أخبرهم به
وقيل: ان العرش المذكور - ههنا - هو السماوات والأرض، لأنهن من بنائه. والعرش
البناء. ومنه قوله " يعرشون " (2) أي يبنون. وأما العرش المعظم الذي تعبد الله
الملائكة بالحفوف به والاعظام له وعناه بقوله " الذين يحلمون العرش ومن
حوله (3) فهو غير هذا. وإنما ذكر الشفيع في الآية ولم يجر له ذكر، لان

(1) مر هذا البيت في 1 / 125 و 2 / 396
(2) سورة 16 النحل آية 68 وسورة 7 الأعراف آية 136
(3) سورة 40 المؤمن آية 7
335

المخاطبين بذلك كانوا يقولون الأصنام شفعاؤهم عند الله. وذكر بعدها " ويعبدون "
من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله (1) وإذا
كانت الأصنام لا تعقل فيكف تكون شافعة؟! مع أنه لا يشفع عنده الا من ارتضاه الله.
واختار البلخي أن يكون خلق السماوات والأرض في ستة أيام إنما كان لان
خلقه لهما دفعة واحدة لم يكن ممكنا كما لا يمكن الجمع بين الضدين، ولا يمكن
الحركة إلا في المتحرك. وهذا الذي ذكره غير صحيح، لان خلق السماوات
والأرض خلق الجواهر واختراعها، والجواهر لا تختص بوقت دون وقت، فلا حال
إلا ويصح اختراعها فيه ما لم يكن فيما لم يزل. وإنما يصح ما ذكره في الاعراض
التي لا يصح عليها البقاء أو ما يستحيل جمعه للتضاد، فأما غيره فلا يصح
ذلك فيه.
قوله تعالى:
إليه مرجعكم جمعيا وعد الله حقا إنه يبدؤ الخلق ثم
يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين
كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا
يكفرون (4) آية.
قرأ أبو جعفر " حقا أنه " بفتح الهمزة. الباقون بكسرها. من فتح، فمعناه
إليه مرجعكم، لأنه يبدأ. ومن كسر استأنف. قال الفراء: من فتح جعله مفعول
حقا كأنه قال حقا أنه. قال الشاعر:
أحقا عباد الله ان لست زائرا * بثينة أو يلقى الثريا رقيبها (2)

(1) آية 18 من هذه السورة
(2) تفسير الطبري 11 / 54
336

اخبر الله تعالى أن الذي خلق السماوات والأرض هو الله تعالى، وهو الذي
يستحق العبادة لا غيره وان إليه مرجع الخلق كلهم. والمرجع يحتمل معنيين:
أحدهما أن يكون في معنى الرجوع فيكون مصدرا.
والاخر - موضع الرجوع فيكون ظرفا، كأنه قال: إليه موضع رجوعكم
يكونه إذا شاء. ومعنى الرجوع إليه يحتمل أمرين: أحدهما - ان يعود الامر
إلى أن لا يملك أحد التصرف في ذلك الوقت غيره تعالى بخلاف الدنيا، لأنه تعالى
قد ملك كثيرا من خلقه التصرف في دار الدنيا ومكنهم من ذلك. والثاني - أن يكون
معناه انكم ترجعون إليه احياء بعد الموت أي إلى موضع جزائه.
وقوله " وعد الله حقا " نصب على المصدر وتقديره احقه حقا أو وعد الله
وعدا حقا، لان في قوله " مرجعكم " انه وعد بذلك الا انه لما لم يذكر الفعل
أضيف المصدر إلى الفاعل، كما قال كعب بن زهير:
يسعى الوشاة جنابيها وقيلهم * انك يا ابن أبي سلمى لمقتول (1)
اي ويقولون قيلهم. وقوله " انه يبدأ الخلق ثم يعيده " اخبار منه تعالى
انه الذي أنشأ الخلق ابتداء، وهو الذي يعيدهم بعد موتهم النشأة الأخرى ليدل
بذلك خلقه على أنه إذا كان قادرا على الابتداء فهو قادر على الإعادة.
وقوله " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فيه بيان أنه إنما يعيد الخلق
ليعطيهم جزاء اعمالهم من طاعة ومعصية، والعطاء إذا كان ابتداء لا يسمى جزاء.
وقوله " بالقسط " معناه بالعدل، لأنه لو زاد الجزاء أو نقص لخرج عن العدل،
ولكن يجزيهم وفق اعمالهم حتى لا يكون الجزاء على النبوة كالجزاء على الايمان بل
كل طاعة يستحق الجزاء على قدرها.
وقوله " والذين كفروا لهم شراب من حميم " معناه ان الذين يجحدون نعم
الله ويكفرون بوحدانيته ويجحدون رسله " لهم شراب من حميم " وهو الذي أسخن

(1) ديوانه 19 ومجاز القرآن 1 / 112، 273 وقد مر في 1 / 300
337

بالنار أشد اسخان. قال المرقش الأصغر:
وكل يوم لها مقطرة * فيها كباء معد وحميم (1)
الكباء العود الذي يتبخر به. وقوله " وعذاب أليم " معناه مؤلم " بما كانوا
يكفرون " اي جزاء على كفرهم.
قوله تعالى:
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل
لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق
يفصل الآيات لقوم يعلمون (5) آية.
روى ابن مجاهد عن قنبل. والمولى عن الربيبي (ضئاء) بهمزة بعد الضاد مكان
الياء حيث وقع. الباقون بياء بعد الضاد ومدة بعدها. قال أبو علي الفارسي:
لا يخلو " ضياء " من أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط، وحوض وحياض، أو
مصدر (ضاء) يضوء ضياء مثل عاذ يعوذ عياذا أو قام يقوم قياما، وعلى أي الوجهين
حملته فالمضاف محذوف، والمعنى جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور. أو
يكون جعل النور والضياء لكثرة ذلك فيهما، فأما الهمزة في موضع العين من
" ضياء " فيكون على القلب كأنه قدم اللام التي هي همزة إلى موضع العين واخر
العين التي هي واو إلى موضع اللام، فلما وقعت طرفا بعد الف زائدة قلبت همزة.
كما فعلوا ذلك في (سقاء وعلاء) وهذا إذا قدر جمعا كان أسوغ. كما قالوا
قوس وقسي. فصححوا الواحد وقلبوا في الجمع، وإذا قدرته مصدأ كان أبعد، لان
المصدر يجري على فعله في الصحة والاعتلال، والقلب ضرب من الاعتلال فإذا لم
يكن في الفعل يمتنع أن يكون أيضا في المصدر ألا ترى انهم قالوا: لاذ لواذا

(1) لسان العرب " قطر "، " حمم " ومجاز القرآن 1 / 274
338

وباع بياعا، فصححوها في المصدر كصحتها في الفعل، وقالوا: قام قياما فأعلوه
ونحوه، لاعتلاله في الفعل. وقرأ ابن كثير وأهل البصرة وحفص (يفصل) بالياء.
الباقون بالنون. من قرأ بالياء فلانه قد تقدم ذكر الله تعالى فأضمر الاسم في
الفعل. ومن قرأ بالنون فهذا المعنى يريد. ويقويه بقوله " تلك آيات الله نتلوها "
وقد تقدم " أوحينا " فيكون نفصل محمولا على " أوحينا " والياء أقوى، لان الاسم
الذي يعود إليه أقرب إليه من (أوحينا).
اخبر الله تعالى ان الذي يرجع إليه الخلق هو الله " الذي جعل الشمس ضياء "
والجعل وجود ما به يكون الشئ على صفة لم يكن عليها، فتارة يكون باحداثه
وأخرى باحداث غيره. والشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لما فيهما من
عظم النور، ومسيرهما بغير علاقة ولا دعامة، وفيهما أعظم الدلالة على وحدانية الله
تعالى. والنور شعاع فيه ما ينافي الظلام. ونور الشمس لما كان أعظم الأنوار سماه الله
ضياء، كما قيل للنار نارا، لما فيها من الضياء، ولما كان نور القمر دون ذلك
سماه نورا، لان نور الشمس وضياءها يغلب عليه، ولذلك يقال أضاء النهار، ولا
يقال أضاء الليل بل يقال أنار الليل، وليلة منيرة. ويقولون: في قلبه نور، ولا
يقال فيه ضياء، لان الضوء يقال لما يحس بكثرته. وقوله " وقدره منازل " إنما
وحد في قوله " وقدره " ولم يقل وقدرهما، لاحد أمرين: أحدهما - أنه أراد به
القمر، لان بالقمر تحصى شهور الأهلة التي يعمل الناس عليها في معاملتهم. والاخر - ان
معناه التثنية غير أنه وحده للايجاز اكتفاء بالمعلوم، كقوله " والله ورسوله أحق
أن يرضوه " (1) وقال الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا ومن جول الطوي رماني (2)
وقوله " ما خلق الله ذلك إلا بالحق " معناه لم يخلق ما ذكر من السماوات
والأرض والشمس والقمر وقدرهما منازل إلا حقا. وقوله " يفصل الآيات " اي

(1) سورة 9 التوبة آية 63
(2) مر تخريجه في 1 / 172، 203
339

يميز بعضها من بعض " لقوم يعلمون " ذلك ويتبينونه. وقال قوم: معناه لقوم لهم
عقول يتناولهم التكليف ويصح منهم الاستدلال دون البهائم ومن لا عقل له.
قوله تعالى:
إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق في السماوات
والأرض لايات لقوم يتقون (6) آية.
الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين في غير جهة الاخر، فاختلاف الليل
والنهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء والاخر في جهة الظلام. والليل عبارة عن
وقت غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، وهو جمع ليلة كتمرة وتمر. والنهار
عبارة عن اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. والنهار واليوم
معناهما واحد إلا أن في النهار فائدة اتساع الضياء. وقوله " وما خلق الله في
السماوات والأرض " معناه ما قدر فيهما وفعله على مقدار تقتضيه الحكمة: من الحيوان
والنبات وغيرهما ومن غير نقصان ولا زياد، وإن في رفعه السماء بلا عمد، وتسكينه
الأرض بلا سند، مع عظمها لا عظم آيات لمن تفكر في ذلك وتعقله، ويتقي
مخالفته. والخلق مأخوذ من خلقت الأديم إذا قدرته. وإنما خص ما خلق في
السماوات والأرض بالذكر للاشعار بوجوه الدلالات إذ قد يكون الدلالة في الشئ
من جهة الخلق، وقد تكون من جهة اختلاف الصورة ومن جهة حسن المنظر،
ومن جهة كثرة النفع ومن جهة عظم الامر، كالجبل والبحر. وقوله " لايات
لقوم يتقون " معناه ان في هذه الأشياء التي ذكرها دلالات على وحدانية الله لقوم
يتقون معاصيه ويخافون عقابه، وخص المتقين بالذكر لما كانوا هم المنتفعين بها
دون غيرهم.
340

قوله تعالى:
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمئنوا
بها والذين هم عن آياتنا غافلون (7) آية.
معنى " إن الذين لا يرجون لقاءنا " يحتمل أمرين:
أحدهما - لا يخافون عقابنا، كما قال الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وخالفها في بيت نوب عواسل (1)
والثاني - أن يكون معناه لا يطمعون في ثوابنا، كما يقال تاب رجاء لثواب
الله وخوفا من عقابه. والملاقاة وإن كانت لا تجوز الاعلى الأجسام. فإنما أضافها
إلى نفسه، لان ملاقاة ما لا يقدر عليه إلا الله يحسن ان يجعل لقاء الله تفخيما لشأنه
كما جعل إتيان ملائكته اتيانا لله في قوله " هل ينظرون الا أن يأتيهم الله في ظلل
من الغمام " (2) وكما قال " وجاء ربك " (3) وإنما يريد وجاء امر ربك.
ومعنى قوله " ورضوا بالحياة الدنيا " قنعوا بها دون غيرها من خير الآخرة
ومن كان على هذه الصفة، فهو مذموم لانقطاعه بها عن الواجب من أمر الله. وقوله
" واطمأنوا بها " معناه ركنوا إليها على وجه التمكين فيه، فهؤلاء مكنوا الأحوال
الدنيا، فصاحبها يفرح لها ويغتم لها ويرضى لها ويسخط لها. وقوله " والذين هم
عن آياتنا غافلون " معنان الذين يذهبون عن تأمل هذه الآيات ولا يعتبرون بها.
والغفلة والسو نظائر، وهو الذهاب المعنى عن القلب بما يضاده وقد تستعمل الغفلة في
التعرض لها، ولذلك يقولون: تغافل ولا يقولون مثله في السهو.

(1) اللسان (خلف) ومجاز القرآن 1 / 275 وقد مر في 2 / 210 و 3 / 315
(2) سورة 2 البقرة آية 210
(3) سورة 89 الفجر آية 22
341

قوله تعالى:
أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (8) آية
" أولئك " إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم في الآية الأولى، والكاف في " أولئك "
حرف الخطاب، مثل الكاف في قولهم أنا ذاك، ولهذا لم يجز تأكيده ولا البدل
منه، ولو كان اسما لجاز: أولئك نفسك، وأولاء مبني على الكسر، وإنما بني
لتضمنه معنى الإشارة إلى المعرفة لان أصله أن يتعرف بعلامة، إذ لم يوضع للشئ
بعينه، كما وضع زيد وعمرو، وبني على الحركة لالتقاء الساكنين، وبني على
الكسر لأنها في الأصل في حركة التقاء الساكنين إذا كثر ذلك في الفعل لما يدركه
من الجزم فاستحق الكسر لأنه لما يدخله في حال الاعراب و (هؤلاء) لما قرب
و (أولئك) لما بعد، كما تقول في (هذا) و (ذاك) لان ما بعد يقتضي التعريف
بالخطاب وما قرب يكفي فيه التنبيه. اخبر الله تعالى أن الذين تقدم وصفهم في الآية
الأولى مستقرهم النار جزاء بما كانوا يكسبون من المعاصي.
قوله تعالى:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم
تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم (9) آية.
لما ذكر الله تعالى الكفار وما يستحقونه من المصير إلى النار في الآيات الأول
ذكر في هذه " ان الذين آمنوا " يعني صدقوا بالله ورسوله، واعترفوا بهما وأضافوا
إلى ذلك الاعمال الصالحات " يهديهم " الله تعالى جزاء بايمانهم إلى الجنة " تجري من
تحتهم الأنهار في جنات النعيم " يعني البساتين التي تجري تحت أشجارها الأنهار التي
فيها النعيم يعني أنواع اللذات والمنافع يتنعمون فيها. ومعنى " تجري من تحتهم
342

الأنهار " تجري بين أيديهم، وهم يرونها من عل، كما قال تعالى " قد جعل ربك
تحتك سريا " (1) ومعلوم انه لم يجعل السري تحتها وهي قاعدة عليه، لان السري
هو الجدول، وإنما أراد أنه جعل بين يديها. وقال حاكيا عن فرعون " أليس لي
ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي " (2) وقيل من تحت بساتينهم وأسرتهم
وقصورهم - في قول أبي علي. معنى الهدى - هنا - الارشاد إلى طريق الجنة
ثوابا على أعمالهم الصالحة، ألا ترى أنه قال " يهديهم ربهم بايمانهم " يعني جزاء
على إيمانهم، وذلك لا يليق إلا بما قلناه. ويحتمل أن يكون وصفهم بالهداية على
وجه المدح جزاء على إيمانهم بالله تعالى.
قوله تعالى:
دعويهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر
دعويهم أن الحمد لله رب العالمين (10) آية
معنى " دعواهم فيها " ان دعاء المؤمنين لله في الجنة، وذكرهم له فيها هو
ان يقولوا " سبحانك اللهم " ويقولون ذلك ولهم فيها لذة لا على وجه العبادة، لأنه
ليس هناك تكليف. وقيل: إنه إذا مر بهم الطير ويشتهونه قالوا " سبحانك اللهم "
فيؤتون به، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا " الحمد الله رب العالمين " هذا قول ابن
جريح. وقال الحسن: آخر كلام يجري لهم في كل وقت " الحمد لله رب العالمين "
لا أنه ينقطع. والدعوى قول يدعى به إلى أمر، ومعنى " سبحانك اللهم " ننزهك
يا الله من كل ما لا يليق بك ولا يجوز من صفاتك من تشبيه أو فعل قبيح. وقيل
معناه براءة الله من السوء فيما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وقال الشاعر:

(1) سورة 19 مريم آية 23
(2) سورة 43 الزخرف آية 51
343

أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (1)
أي براءة منه. والتحية التكرمة بالحال الجليلة، ولذلك يسمون الملك
التحية، قال عمرو بن معد يكرب:
أزور بها أبو قابوس حتى * أنيخ على تحيته بجند (2)
وقال زهير بن خباب الكلبي:
من كل ما نال الفتى * قد نلته الا التحيه (3)
وهو مأخوذ من قولهم أحياك الله حياة طيبة. والمعنى تحية بعضهم لبعض سلام
اي سلمت وامنت مما ابتلى به أهل النار. و (أن) في الآية هي المخففة من
الثقيلة وجاز ان لا تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل، كما قال الشاعر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا * ان هالك كل من يحفى وينتعل (4)
والميم في اللهم بمعنى (يا) كأنه قال يا الله، ولم يجعل في موضع (يا) لئلا
يكون كحروف النداء التي تجري في كل اسم.
قوله تعالى:
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي
إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم
يعمهون (11) آية
قرا ابن عامر ويعقوب " لقضى إليهم اجلهم " بفتح القاف. الباقون بضمها على
ما لم يسم فاعله. قال أبو علي الفارسي: اللام في قوله " لقضي إليهم اجلهم " جواب
(لو) في قوله " ولو يعجل الله للناس " والمعنى " ولو يعجل الله للناس " دعاء

(1) مر هذا البيت في 1 / 134 و 3 / 81 و 5 / 241
(2) تفسير الطبري 11 / 58
(3) تفسير الطبري 11 / 58
(4) حاشية الصبان 1 / 290
344

" الشر " اي ما يدعون به من الشر على أنفسهم في حال ضجر وبطر " استعجالهم "
إياه بدعاء " الخير " فأضاف المصدر إلى المفعول به وحذف الفاعل كقوله دعاء
الخير، وحذف ضمير الفاعل، والتقدير " ولو يعجل الله للناس الشر " استعجالا مثل
" استعجالهم بالخير لقضي إليهم اجلهم " قال أبو عبيدة: معنا الفراغ من اجلهم ومدتهم
المضروبة للحياة، فهلكوا. وهو قريب من قوله " ويدعو الانسان بالشر دعاؤه
بالخير وكان الانسان عجولا " (1). وقيل للميت مقضي كأنه قضي إذا مات وقضى
فعل، التقدير استوفى أجله، قال ذو الرمة:
إذا الشخص فيها هزه الال أغمضت * عليه كاغماض المقضي هجولها (2)
والمعنى أغمضت هجول هذه البلاد على الشخص الذي فيها، فلم ير لقربه
كاغماض المقضي، وهو الميت. فأما قوله " لقضي إليهم " وبما يتعلق هذا الجار، فإنه
لما كان معنى (قضى) معنى (فرغ) وكان قولك (فرغ) قد يتعدى بهذا الحرف
وفي التنزيل " سنفرغ لكم " (3) فإنه يمكن أن يكون الفعل يتعدى باللام كما
يتعدى ب‍ (إلى) كما أن أوحى في قوله " وأوحينا إليه " قد تعدى ب‍ (إلى) وفي
قوله " بأن ربك أوحى لها " (4) تعدى باللام، فلما كان معنى قضى فرغ،
وفرغ تعلق بها (إلى) كذلك تعلق بقضى. ووجه قراءة ابن عامر واسناده الفعل
إلى الفاعل، لان الذكر قد تقدم في قوله " ولو يعجل الله للناس " فقال (لقضى)
الله - على هذا - وقوى ذلك بقوله " ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده " (5) فقوله
" قضى اجلا " اضافه إلى الفاعل فكذلك في هذه الآية. وقوله " واجل مسمى
عنده " يعني أجل البعث بدلالة قوله " ثم أنتم تمترون " (6) أي تشكون في البعث.

(1) سورة 17 الاسرى آية 11
(2) اللسان " غمض " الال ما أشرف من البعير ومعنى البيت أن الإبل مسرعة.
(3) سورة 55 الرحمن آية 31
(4) سورة 99 الزلزال آية 5
(5) سورة 6 الانعام آية 2
(6) سورة 6 الانعام آية 2
345

ومن ضم القاف وبنى الفعل للمفعول، فلانه في المعنى مثل قول من بنى
الفعل للفاعل.
أخبر الله تعالى في هذه الآية انه لو عجل للخلق الشر، والتعجيل تقديم الشئ
قبل حينه. وقد يكون تقديم الشئ في المكان، فلا يكون تعجيلا. والفرق بين
التعجيل والاسراع ان التعجيل بالشئ عمله قبل وقته الذي هو أولى به. والاسراع
عمله في وقته الذي هو أحق به، وضده الابطاء. الشر ظهور ما فيه الضرر. واصله
الاظهار من قولهم: شررت الثوب إذا أظهرته للشمس، ومنه شرر النار لظهوره
وانتشاره. وقوله " لقضي إليهم أجلهم " قيل: إن معناه لأميتوا كأنه قيل لقطع
اجلهم وفرغ منه قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع (1)
وقال الحسين بن علي المغربي: معناه رد قطع أجلهم إليهم لكون السبب فيه
دعاؤهم. وقوله " استعجالهم بالخير " نصب استعجالهم على المصدر وتقديره ولو
يعجل الله للناس تعجيله استعجالهم بالخير إذا دعوا. وقيل في معناه قولان أحدهما -
قال مجاهد وقتادة: وهو كقول الرجل لولده وماله في حال غضبه: اللهم لا تبارك
فيه والعنه. وقال الحسن: هو كقوله " ويدعو الانسان بالشر دعاؤه بالخير " (2)
وقال الجبائي: معناه إنهم يطلبون الخير قبل حينه، وسبيله في أنه لا ينبغي أن يكون
كسبيل الشر من الاهلاك بالعقاب قبل حينه لما فيه من الاقتطاع عن التوبة واللطف.
وقوله " فنذر الذين لا يرجون لقاءنا " معناه نترك الذين لا يخافون لقاءنا
أو لا يطمعون فيه بمعنى أنه لا يخافون عقاب معاصينا، ولا يطمعون في ثواب طاعتنا
" في طغيانهم يعمهون " فالطغيان الغلو في ظلم العباد والطاغي والباغي نظائر. و (العمة)
شدة الحيرة، وتقديره نتركهم وهم يترددون في ضلالتهم، لا أنه يريد منهم العمة

(1) مجاز القرآن 1 / 275 وقد مر في 1 / 429 و 4 / 88، 165
(2) سورة 17 الاسراء آية 11.
346

في الطغيان، لأنه إنما يتركهم ليتوبوا من ذلك ويؤمنوا لكنه بين أنه لا يعاجلهم
بالعقاب في الدنيا، وهم مع ذلك لا يرعوون بل يترددون في الطغيان. وقيل المعنى
نتركهم في الآخرة يتحيرون في جزاء طغيانهم.
قوله تعالى:
وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما
كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين
للمسرفين ما كانوا يعملون (12) آية.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن قلة صبر الانسان، إذا ناله الضر دعا ربه على
سائر حالاته التي يصيبه ذلك عليها، سواء كان قائما أو قاعدا إذا أطاقه، أو على جنبه
من شدة المرض فيجتهد الدعاء لان يهب الله له العافية. وليس غرضه بذلك نيل
الثواب للآخرة. وإنما غرضه زوال ما هو فيه من الآلام، فإذا كشف الله عنه
ذلك الضرر، ووهب له العافية، مر معرضا عن شكر ما وهبه له من نعمة عافية
فلا يتذكر ما كان فيه من الآلام، وصار في الاعراض عن ذلك بمنزلة من لم يدع
الله كشف ألمه ولا سأله إزالة الضرر عنه الذي كان به. وقوله " كذلك زين
للمسرفين ما كانوا يعملون " قال أبو علي الجبائي: الشياطين الذين دعوا المسرفين
إلى المعاصي واغووهم بها وبترك شكر نعم الله زينوا لهؤلاء المسرفين ما كانوا
يعملونه من المعاصي والاعراض عن ذكر نعمه وأداء شكره. والغرض بذلك انه
ينبغي لمن وهب الله له العافية بعد المرض ان يتذكر حسن صنع الله إليه وجزيل
نعمه عليه، فيشكره على ذلك ويسأله إدامة ذلك عليه. ونبه بذلك على أنه يجب
عليه الصبر عند المرض وترك الجزع عند احتساب الاجر وطلب الثواب في الصبر
على ذلك، وأن يعلم أن الله محسن إليه بذلك، وليس بظالم له. وقال الحسن
347

التزيين هو التحسين من الشيطان والغواة. وقال غيره هو التحبيب بالشهوة لتحبيب
المشتهى. وقوله " أو قاعدا أو قائما " نصب على الحال. وقوله " كأن " هي المخففة
عن الثقيلة، وتقديره كأنه لم يدعنا، ومثله قول الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى متقى * إذ الناس إذ ذاك من عزبز (1)
اي كأنهم. وقوله " مر كأن لم " اي استمر على طريقته الأولى كأنه لم يدعنا
ولم يسألنا ذلك. وموضع الكاف نصب على أنه مفعول ما لم يسم فاعله والمعنى زين
للمسرفين عملهم " كذلك " أي مثل ذلك.
قوله تعالى:
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم
بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين (13) آية
أقسم الله تعالى في هذه الآية أنه أهلك من كان قبل هذه الأمة من القرون،
وهو جمع قرن. وسمي أهل كل عصر قرنا لمقارنة بعضهم لبعض. والقرن هو
المقاوم لقرينه في الشدة، ويعني بذلك الذين كذبوا رسل الله الذين بعثهم الله إليهم
فكفروا بذلك بربهم وظلموا أنفسم، فأهلكهم الله بأنواع العذاب وفنون الاستئصال
كما أهلك قوم لوط وقوم موسى وغيرهم، وبين بقوله " وما كانوا ليؤمنوا " ان
هذه الأمم التي أهلكهم لم يكونوا مؤمنين ولو أبقاهم الله لم يؤمنوا بالرسل الذين
أتوهم والكتب التي جاؤوهم بها، ولما كان ذلك المعلوم من حالهم استحقوا من
الله تعالى العذاب فأهلكهم.
وقوله " كذلك نجزي القوم المجرمين " اي نعاقب مثل عقوبة هؤلاء المجرمين
إذا استحقوا أو كانوا ممن لا يؤمن ولا يصلح. وجعل أبو علي الجبائي ذلك دليلا

(1) ديوانها أنيس الجلساء 144
348

على أن تبقية الكافر إذا علم من حاله أنه يؤمن فيما بعد واجبة.
قوله تعالى:
ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم بعدهم لننظر كيف
تعملون (14) آية.
بين الله تعالى بهذه الآية أنه إنما جعل المخاطبين بهذه الخطاب بعد إهلاك
من أهلك وتكليفه إياهم بطاعته وتصديق رسله مثل ما كان كلفهم " لننظر كيف
تعملون " معناه إنكم إن عملتم بالمعاصي مثل وما عمل بها أولئك وكذبتم الرسول ولم
ترجعوا عن الكفر أهلككم ببعض العقاب كما أهلك من تقدم. وإن آمنتم أثابكم
الله في الدنيا والآخرة ورضي عنكم، فجعل قوله " لننظر كيف تعلمون " دلالة
لهم على اني أفعل بكم أحد هذين: الثواب إن آمنتم وأطعتم، والعذاب إن كفرتم
وعصيتم. واستعمل ذلك على هذا المعنى مجازا كما يستعمله أهل اللغة على هذا
المعنى، لأنهم لا يعلمون ما يكون من المكلفين وما يفعل بهم من الثواب والعقاب
وهو عالم بذلك. ومثل ذلك يستعمله العرب فيما يعلمه الانسان يقول القائل لغلامه
الذي يأمره: إني سأعاقبك وأضربك لا نظر كيف صبرك، وأعطيك ما لا لا نظر
كيف تعمل، وإن كان عالما بما يؤول إليه الامر في ذلك.
وموضع (كيف) نصب بقوله " تعملون " وإنما قدم لأنه للاستفهام ولا يجوز
أن يكون معمولا " لننظر " لان ما قبل الاستفهام لا يعمل في الاستفهام ولو قلت
لننظر أخيرا يعملون أو شرا؟ كان العامل في (خير، وشر) يعملون.
قوله تعالى:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا
349

ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبد له من تلقاء
نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى إني أخاف إن عصيت ربي عذاب
يوم عظيم (15) آية.
اخبر الله تعالى في هذه الآية أنه إذا قرأ النبي صلى الله عليه وآله على الكفار آيات الله
وكلامه. و (بينات) نصب على الحال. وهي الآيات التي امر فيها عباده بأشياء
ونهاهم عن أشياء " قال الذين لا يرجون لقاءنا " اي لقاء عذاب الله أو ما وعدهم به من
ثوابه ان أطاعوه " ائت بقرآن غير هذا " الذي تتلوه علينا " أو بدله " فاجعله على
خلاف ما تقرأه علينا، وإنما فرق بين قوله " ائت بقرآن غير هذا أو بدله " لان
الاتيان بغيره قد يكون معه، وتبديله لا يكون إلا برفعه، والاتيان بغيره. وإنما
لم يرجوا ثواب الله وعذابه لأنهم كانوا غير مقرين بالله ولا معترفين بنبوة نبيه صلى الله عليه وآله
ولا يصدقونه فيما يخبرهم به عن الله ويذكرهم به من البعث والنشور والحساب
والجزاء. وكان قولهم هذا له على وجه التعنت والتسبب إلى الكفر به وتكذيبه،
واحتجاجا عليه بما ليس بحجة لأنه صلى الله عليه وآله كان قد بين لهم ان هذا القرآن ليس
من كلامه وانه ليس له تغييره وتبديله، فأرادوا أن يوهموا ان الامر موقوف
على رضاهم به، وليس يرضون بهذا فيريدون غيره. وقال الزجاج: إنه كان غرضهم
اسقاط ما فيه من عيب آلهتم وتسفيه أحلامهم ومن ذكر البعث والنشور، فأمر الله
تعالى نبيه أن يقول لهم في جواب ذلك: ليس لي " أن أبدله من تلقاء نفسي "
أي من جهة نفسي ومن ناحية نفسي كأنه قيل له: قل ليس لي أن أتلقاه بالتبديل
كما ليس لي أن أتلقاه بالرد. والتلقاء جهة مقابلة الشئ إلا أنه قد يستعمل
ظرفا فيقال: هو تلقاءه كما يقال: هو حذاه وقبالته وتجاهه.
قوله " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي ليس لي أن أتبع إلا الذي يوحى إلي
350

" إني أخاف إن عصيت ربي " في اتباع غيره " عذاب يوم عظيم " يعني يوم القيامة
ومن استدل بهذه الآية على أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز فقد أبعد، لأنه إذا
نسخ ما يتضمنه القرآن بالسنة، فالسنة لا يقولها النبي صلى الله عليه وآله إلا بوحي من الله.
وليس بنسخه من قبل نفسه. بل يكون ذلك النسخ مضافا إلى الله. وإنما لا يكون
قرآنا لأنه تعالى قد يوحي إلى نبيه ما هو قرآن وما ليس بقرآن، لان جميع ما
بينه النبي صلى الله عليه وآله من الشريعة لم يبينها إلا بوحي من الله لقوله " وما ينطق عن الهوى
ان هو الا وحى يوحى " (1) وإن كان تفصيل ذلك ليس بموجود في القرآن
فالاستدلال بذلك على ما قالوه بعيد.
قوله تعالى:
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت
فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16) آية.
حكي عن الحسن انه قرأ " ولا أدراكم به " وقرأ أبو ربيعة وقنبل الا المالكي
والعطار " ولا درأكم به " يجعلانها (لا ما) أدخلت على (ادراكم) وأمال (أدراكم)
و (ادراك) في جميع القرآن أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف والداحوني عن
ابن ذكوان، والكسائي عن أبي بكر، وافقهم يحيى والعليمي في هذه السورة.
حكى سيبويه: دريته ودريت به، قال وأكثر الاستعمال التعدي بالباء، يبين ذلك قوله
" ولا أدراكم به " ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا ادراكموه، وقالوا: الدرية
على وزن (فعلة) كما قالوا الشعرة والفطنة، وهي مصادر يراد بها ضروب من
العلم. فأما الدراية فكالهداية والدلالة، وكأن الدراية التأني والتعمل لعلم الشئ وعلى
هذا المعنى ما تصرف من هذه الكلمة، وقالوا: داريت الرجل إذا لاينته وختلته

(1) سورة 53 النجم آية 3 - 4
351

فعلى هذا لا يوصف الله تعالى بالداري، واما قول الراجز.
اللهم لا أدري وأنت الداري
فلا يكون حجة في جوزا ذلك لامرين: أحدهما - انه لما تقدم قوله:
لا أدري استجاز أن يذكر الداري بعده، ليزدوج الكلام، كما قال تعالى " فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " (1) ونظائره كثيرة. والثاني - إن الاعراب ربما
ذكروا أشياء امتنع جوازها كما قال:
لو خافك الله عليه حرمه (2)
وقال آخر:
اللهم إن كنت الذي بعهدي * ولم تغيرك الأمور بعدي
فاما الهمزة على ما حكي عن الحسن، فلا وجه له لان الدرء الدفع، كما
قال " فادرءوا عن أنفسكم الموت " (3) وقال " فادارأتم فيها " (4) وقوله عليه السلام
(ادرأوا الحدود بالشبهات) قال الفراء: إن كان ما حكي عن الحسن لغة، وإلا
يجوز أن يكون الحسن ذهب إلى طبعه وفصاحته فذهب إلى درأت الحد، وقد يغلط
بعض العرب في الحرف إذا ضارعه آخر في الهمزة فيهمز ما ليس مهموزا، سمعت
امرأة من غني تقول: رثأت زوجي بأبيات، ويقولون: لبأت بالحج وحلات
السويق. وكل ذلك غلظ، لان (حلات) إنما هو من دفع الإبل العطاش عن الماء
و " لبأت " من اللباء الذي يؤكل، و " رثأت " من الرثية إذا حلبت الحليب
على الرايب، ومن أمال فتحة الراء وأمال الألف بعدها، فلان هذه الألف تنقلب
ياء في أدريته، وهما مدريان. ومن لم يمل فلان الأصل عدم الإمالة، ولان كثيرا
من الفصحاء لا يميل ذلك.
ومعنى قوله " ولا أدراكم به " قال ابن عباس ولا أعلمكم به من (دريت به)

(1) سورة 2 البقرة آية 194
(2) قد مر في 2 / 185
(3) سورة 3 آل عمران آية 168
(4) سورة 2 البقرة آية 72
352

وأدراني الله به. ومعنى الآية الامر للنبي صلى الله عليه وآله بأن يقول لهؤلاء الكفار لو أراد
الله ان يمنعهم فائدته ما أعلمهم به، ولا أمر النبي صلى الله عليه وآله بتلاوته عليهم.
وقوله " فقد لبثت فيكم عمرا من قبله " معناه لبثت عليه هذه الصفة لا أنلوه
عليكم ولا يعلمكم الله به حتى أمرني به وشاء اعلامكم. وقال قتادة: لبث في قومه
أربعين سنة قبل أن يوحى إليه.
وقوله " أفلا تعقلون " معناه هلا تتفكرون فيه بعقولكم فتتبينوا بذلك ان
هذا القرآن من عند الله أنزله تصديقا لنبيه صلى الله عليه وآله. قال الرماني: والعقل هو العلم
الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب. الناس يتفاضلون فيه بالامر المتفاوت
فبعضهم أعقل من بعض إذ كان أقدر على الاستدلال من بعض. ومعنى ذلك ان
يقول لهم قد لبثت فيكم حينا طويلا ونشأت بين أظهركم وعرفتم منصرفي ومنقلبي
فلو كان ما أتيت به مخترعا أو كان ما فيه من الاخبار من عند غير الله لكنتم عرفتم
ذلك إذ فيكم ولدت ونشأت ومعكم تصرفت " أفلا تعقلون " في التدبير والنظر
والانصاف فتفعلون فعل من يعقل. وعلى انه صلى الله عليه وآله لو كان اخذ ذلك من غيره
وخالط أهلها، أو لو كان شاعرا، أولو كان يعلم السحر - كما ادعوا - ثم خفي ذلك
اجمع عليهم حتى لم يعرفوا الوجه الذي منه اخذ لكان في ذلك أعظم الحجة. وعلى
ما روي عن قنبل يكون المعنى " لو شاء الله ما تلوته " يكون نفيا للتلاوة
" ولا درأكم " ولا علمكم ثبوته، ويكون اثباتا للعلم، وعلى قراءة الباقين يكون
نفيا للامرين معا.
قوله تعالى:
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه
لا يفلح المجرمون (17) آية.
353

قوله " فمن أظلم ممن " ظاهره الاستفهام والمراد به الاستعظام والاخبار به
انه لا أحد أظلم ممن اخترع كلاما أو خبرا ثم اضافه إلى الله ويرد به النبي نفسه
لو كان فعل " أو كذب بآياته " يعنيهم " إنه لا يفلح " اي لا يفوز " المجرمون "
وإنما قال: لا أحد أظلم ممن هذه صفته، لأنه ظلم كفر، وهو أعظم من ظلم ليس
بكفر. والتقدير لا أحد أظلم ممن يظلم ظلم كفر، فعلى هذا من يدعي الربوبية داخل
في هذه الجملة لان ظلمه ظلم كفر، كأنه قيل لا أحد أظلم من الكافر، وليس
لاحد ان يقول: المدعي للربوبية أظلم من المدعي للنبوة وهو كاذب. والكذاب
بآيات الله ظالم لنفسه بما يدخل عليها من استحقاق العقاب وظالم لغيره ممن يجوز
ان تلحقه المنافع والمضار بتكذيبه إياه ورده عليه، لان من شأنه ان يعمه مثل
هذا التكذيب. و (من)
في الآية للاستفهام وهي لا توصل لأنها تضمنت حرف
الاستفهام فعوملت معاملته، كما انها إذا كانت بمعنى الجزاء لم توصل لتضمنها
معنى (إن) التي هي أم الباب في الجزاء.
قوله تعالى:
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون
هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات
ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون (18) آية.
قرأ أهل الكوفة الا عاصما " عما تشركون " بالتاء ههنا وفي النحل في موضعين
وفي الروم. الباقون بالياء. من قرأ بالتاء بناه على ما تقدم من قوله " أتنبئون
الله بما لا يعلم " فلما خاطبهم بذلك وجه إليهم الخطاب بتنزيهه عما يشركون. ومن
قرأ بالياء بناه على الخبر عن الغائب لان أول الآية مبني على ذلك، وهو قوله
ويعبدون من دون الله " وكلاهما حسن.
354

اخبر الله تعالى على وجه الذم للكفار بأنهم يوجهون عبادتهم إلى من هو دون
الله من الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.
فان قيل: كيف ذمهم على عبادة الوثن الذي لا ينفع ولا يضر مع أنه لو نفع
وضر لم تجز عبادته؟! قلنا: لأنه إذا كان من يضر وينفع قد لا يستحق العبادة
إذا لم يقدر على أصول النعم، فمن لا يقدر على النفع والضر أصلا أبعد من أن
يستحق العبادة.
وقوله " ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " اخبار منه تعالى عن هؤلاء الكفار
انهم يقولون انا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله، فتوهموا ان عبادتها أشد
في تعظيم الله من قصده تعالى بالعبادة، فحلت من هذه الجهة محل الشافع عند الله.
وقال الحسن: شفعاء في صلاح معاشهم في الدنيا، لأنهم لا يقرون بالبعث بدلالة قوله
" وأقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت " والعبادة خضوع بالقلب في
أعلى مراتب الخضوع، فكل طاعة فعلت على هذا الوجه فهي عبادة. وإنما قال
" ويعبدون من دون الله " مع أنهم كانوا يشركون في عبادة الله لامرين:
أحدهما - ان عابد الوثن خاصة قد اشرك في استحقاق العبادة.
الثاني ان من عبد الله وعبد الوثن فقد عبده من دون اخلاص العبادة لله.
وقوله " أتنبئون الله بمالا يعلم " امر منه تعالى لنبيه ان يقول لهم على وجه
الالزام أتخبرون الله بما لا يعلم من حسن عبادة الأوثان وكونها شافعة لان ذلك لو
كان صحيحا لكان الله به عالما ولما نفى العلم بذلك نفي المعلوم.
وقوله " سبحانه وتعالى عما يشركون " تنزيه منه تعالى لنفسه، وتنزيه من أن
يعبد معه إله أو يتخذ من دونه معبود.
قوله تعالى:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة
355

سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون (19) آية
اخبر الله تعالى في هذه الآية انه لم يكن الناس فيما مضى الا أمة واحدة
والأمة الجماعة التي على معنى واحد في خلق أو ما يستمر على عبادته بالظاهر،
فعلى هذا الناس أمة والطير أمة. والمراد - ههنا - أنها كانت على دين واحد.
واختلفوا في الدين الذي كانوا مجتمعين عليه قبل حدوث الاختلاف بينهم على
قولين: فقال الحسن كانوا على الشرك كما قال تعالى " كان الناس أمة واحدة
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " (1) وقال الزجاج: أراد بذلك العرب الذين
كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله فإنهم كانوا مشركين، فلما بعث النبي آمن به قوم
وكفر به آخرون. وقال الجبائي: انهم كانوا على الاسلام، في عهد آدم وولده
وأنكر الأول. قال لان الله تعالى قال " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا
بك على هؤلاء شهيدا " (2) فلو كانوا كلهم على الكفر لما كان فيهم شهيدا أصلا
قال الرماني: لا يمتنع أن يكون الامر على ما قال الحسن ويكون المراد التغليب
كأن المسلمين كانوا قليلين، فلا يعتد بهم، فيجوز أن يقال فيهم أنهم أمة مشركة
كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (ان الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم الا بقايا من
أهل الكتاب). وقال مجاهد: فاختلفوا حين قتل ابن آدم أخاه. والاختلاف هو
الذهاب في الجهتين فصاعدا من الجهات، وحد المختلفين ان لا يسد أحدهما مسد
صاحبه فيما يرجع إلى ذاته كما لا يسد السواد مسد البياض.
وقوله " ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " معناه لولا كلمة سبقت
من ربك من أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة انعاما عليهم في التأني بهم " لقضي بينهم "
في اختلافهم بما يضطرهم إلى علم المحق من المبطل. وقيل معنى ذلك " لقضي بينهم "
اي فصل بينهم بأن أهلك العصاة وأنجى المؤمنين، لكنه أخرهم إلى يوم القيامة

(1) سورة 2 البقرة آية 213
(2) سورة 4 النساء آية 40
356

تفضلا منه وزيادة في الانعام عليهم.
قوله تعالى:
ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب
لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين (20) آية
حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا: هلا أنزل على محمد آية وأرادوا
بذلك أنه يضطرهم إلى المعرفة ولا يحتاجون معها إلى النظر والاستدلال، ولم يطلبوا
معجزة يستدل بها على صدقه، لأنه قد كان أتاهم بالمعجزات التي تدل على صدقه
فلم يجبهم الله على التمسوه، لان التكليف يمنع من الاضطرار إلى المعرفة، لان
الغرض بالتكليف التعريض للثواب. واو عرفوا الله تعالى ضرورة لما استحقوا
ثوابا فكان ذلك ينقض غرضهم. وقال أبو علي: طلبوا آية سوى القرآن.
والأصل في (لولا) امتناع الثاني لكون الأول كقولك: لو لأزيد لجئتك
فخرجت إلى معنى التحضيض بأنه ليس ينبغي ان يمتنع ذا لكون غيره
قوله " فقل إنما الغيب لله " معناه إن ما لا تعرفونه ولا نصب لكم عليه دليل
يجب أن تسلموا علمه إلى الله، لأنه العالم بالخفيات وما يكون في المستقبل، فلأجل
ذلك لا يفعل الآية التي اقترحتموها في هذا الوقت لما في ذلك من حسن التدبير
ووجه المصلحة. والغيب خفاء الشئ عن علم العباد، والله تعالى عالم الغيب والشهادة
لأنه عالم لنفسه يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها لا يخفى عليه خافية.
وقوله " فانتظروا " معناه انتظروا ما وعدكم الله من نصر المؤمنين وقهر
الكافرين وانزال الذل العقاب بهم إن أقاموا على كفرهم ف‍ " إني معكم من
المنتظرين " لذلك.
357

قوله تعالى:
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم
مكر في آياتنا قل الله أسرع مكر إن رسلنا يكتبون ما
تمكرون (21) آية.
روى روح " يمكرون " بالياء. الباقون بالتاء.
أخبر الله تعالى بأنه إذا أذاق الناس يعني الكافرون " رحمة " بأن أنعم عليهم
وأوسع أرزاقهم وأخصب أسعارهم " من بعد ضراء " يعني بعد شدة كانوا فيها من
جدب وضيق نالتهم " مكروا في آياتنا " فجواب (إذا) الأولى في (إذا) الثانية
وإنما جعلوا (إذا) جوابا إذا كانت بمعنى الجملة على ما فيها من المفاجأة، كما
قال تعالى " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون " (1). وحقيقة الذوق
تناول ما له طعم بالفم ليوجد طعمه. وإنما قال: أذقناهم الرحمة على طريق البلاغة
لشدة إدراك الحاسة. والمكر فتل الشئ إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه،
فهؤلاء محتالون لدفع آيات الله بكل ما يجدون السبيل إليه من شبهة أو تخليط في
مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة. وقال مجاهد: مكرهم استهزاؤهم وتكذيبهم.
فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله " قل " لهم " الله اسرع مكرا " يعني أقدر جزاء على المكر،
وذلك أنهم: جعلوا جزاء النعمة المكر مكان الشكر، فقوبلوا بما هو أشد. والسرعة
عمل الشئ في وقته الذي هو أحق به، والمعنى: إن ما يأتيهم من العقاب اسرع مما
أتوه من المكر اي وقع في حقه. وقوله " ان رسلنا يكتبون ما تمكرون " إخبار
منه تعالى أن ملائكة الله الموكلين بهم يكتبون ما يمكرون من كفرهم وتكذيبهم،
ففي ذلك غاية الزجر والتهديد على ما يفعلونه من المكر والحيل في امر النبي صلى الله عليه وآله

(1) سورة 30 الروم آية 36
358

وقيل إنما سمى جزاء المكر مكرا، لأنهم إذا نالهم العذاب على مكرهم بحيث
لا يحتسبونه ولا يتوقعونه فكأنه مكر بهم.
قوله تعالى:
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في
الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف
وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا
الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من
الشاكرين (22) آية
قرأ ابن عامر وأبو جعفر " ينشركم " بالنون والشين من النشر. والباقون بالياء
والسين وتشديد الياء من التسيير. قال أبو علي: حجة ابن عامر أن (ينشركم)
مثل قوله " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " (1) فالبث تفريق ونشر. وحجة
الباقين قوله " قل سيروا في الأرض " (2) " فامشوا في مناكبها " (3) فالمعنيان متقاربان.
امتن الله على خلقه في هذه الآية وعدد نعمه التي يفعلها بهم في كل حال،
فقال " هو الذي يسيركم في البر والبحر " وتسييره إياهم اما في البحر، فلانه بالريح
والله المحرك لها دون غيره، فلذلك نسبه إلى نفسه، واما في البر فلانه كائن باقداره
وتمكينه وتسبيبه، فلذلك نسبه إلى نفسه. والتسيير التحريك في جهة تمتد كالسير
المدود، والبر الأرض الواسعة التي تقطع من بلد إلى بلد، ومنه البر لا تساع الخير به

(1) سورة 4 النساء آية 1
(2) سورة 6 الانعام آية 11 وسورة 27 النمل آية 69 وسورة 29 العنكبوت
آية 20 وسورة 30 الروم آية 42
(3) سورة 67 الملك آية 15
359

والبحر مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه وجمعه أبحر وبحور،
ويشبه به الجواد، فيقال إنما هو بحر لاتساع عطائه. وقوله " حتى إذا كنتم في
الفلك " خص الخطاب براكبي البحر. والفلك السفن، وسميت فلكا لدورانها في
الماء، وأصله الدور، ومنه فلكة المغزل، والفلك الذي تدور فيه النجوم. وتفلك
ثدي الجارية إذا استدار. والفلك - ههنا - جمع، وقد يكون واحدا. كقوله
" في الفلك المشحون " (1) وقوله " وجرين بهم بريح طيبة " عدل عن الخطاب إلى
الاخبار عن الغائب تصرفا في الكلام مع أنه خطاب لمن كان في تلك الحال وإخبار
لغيره من الناس، قال لبيد:
باتت تشكي إلي النفس مجهشة * وقد حملتك سبعا بعد سبعينا (2)
وقوله " وفرحوا بها " يعني بالريح الطيبة " جاءتها ريح عاصف " يعني ريحا
شديدة يقولون: عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة، ومنهم من يقول: أعصفت فهي
معصف ومعصفة. والريح مؤنثة، وإنما قال عاصف، لأنه لا يوصف بذلك غير الريح
فجرى مجرى قولهم امرأة حائض، قال الشاعر:
حتى إذا عصفت ريح مزعزعة * فيها قطار ورعد صوته زجل (3)
وقوله " وجاءهم الموج من كل مكان " معناه جاء راكبي الفلك الأمواج
العظيمة الهائلة من جميع الوجوه. " وظنوا أنهم أحيط بهم " أي ظنوا انهم هالكون
لما أحاط بهم من الأمواج " دعوا الله مخلصين له الدين " اي عند هذه الشدائد والأهوال
والتجؤا إلى الله ودعوه وجه الاخلاص، ولم يذكروا الأوثان والأصنام لعلمهم
بأنها تنفع ههنا شيئا وقالوا " لئن أنجيتنا " يا رب من هذه الشدة " لنكونن "
من جملة من يشكرك لنعمك، ويقوم بآدابها. ويقال لمن اشرف على الهلاك أحيط

(1) سورة 36 يس آية 41 وسورة 26 الشعراء آية 119
(2) مر تخريجه في 1 / 35، 472.
(3) تفسير الطبري " الطبعة الأولى " 11 / 63
360

به، ومنه قوله " وأحبط بثمره " (1) أي أهلكت.
قوله تعالى:
فلما أنجيهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها
الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا
مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23) آية
قرأ حفص " متاع الحياة " بنصب العين. الباقون بالرفع. من رفع يحتمل
أمرين: أحدهما - أن يكون رفعا بأنه خبر المبتدأ والمبتدأ قوله " بغيكم "
الثاني - أن يكون بغيكم مبتدأ، وقوله " على أنفسكم " خبره. ورفع متاع على
تقدير ذلك متاع الحياة الدنيا. ومن نصب فعلى المصدر. قال أبو علي الفارسي
" على أنفسكم " يحتمل أن يكون متعلقا بالمصدر، لان فعله متعد بهذا الحرف
كما قال " بغى بعضنا على بعض " (2) وقال " ثم بغي عليه لينصرنه الله " (3) فإذا
جعلت الجار من صلة المصدر كان الخبر متاع الحياة الدنيا والمعنى بغي بعضكم
على بعض متاعا في الحياة الدنيا. ويجوز ان تجعله متعلقا بمحذوف، ولا تجعله
من صلة المصدر، وفيه ذكر يعود إلى المصدر. والتقدير إنما بغي بعضكم على
بعض عائد على أنفسكم، فعلى هذا يتعلق بالمحذوف دون المصدر المبتدأ وهو في
المعنى كقوله " ولا يحيق المكر السئ الا بأهله " (4) وقوله " فمن نكث فإنما
ينكث على نفسه " (5) فإذا رفعت متاع الحياة على هذا كان خبر مبتدأ محذوف
كأنك قلت: ذاك متاع الحياة الدنيا أو هو متاع. ومن نصب احتمل وجهين:

(1) سورة 18 الكهف آية 43
(2) سورة 38 ص آية 22
(3) سورة 22 الحج آية 60
(4) سورة 35 فاطر آية 43
(5) سورة 48 الفتح آية 10
361

أحدهما - ان يجعل من صلة المصدر، فيكون الناصب للمتاع هو المصدر الذي
هو البغي، ويكون خبر المبتدأ محذوفا، وحسن ذلك لطول الكلام، لان بغيكم
يدل على تبغون. والاخر - ان يجعل على أنفسكم خبر المبتدأ، ويكون نصب
متاع على أحد وجهين: أحدهما - يمتعون متاع الحياة فيدل انتصاب المصدر
عليه والاخر - ان يضمر تبغون كأنه قال تبغون متاعا، فيكون مفعولا له.
ولا يجوز أن يتعلق بالمصدر إذا جعلت (على) خبرا، لقوله إنما بغيكم على
أنفسكم، لفصلك بين الصلة والموصول.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن هؤلاء الكفار الذين إذا رأوا الأهوال والشدائد
في الفلك في البحر فزعوا إلى الله ودعوه مخلصين له الدين، وقالوا متى أنجيتنا من
هذه " لنكونن من الشاكرين " أنه إذا أنجاهم وخلصهم من تلك الشدائد عادوا إلى
البغي وهو الاستعلاء بالظلم. واصل البغي الطلب. تقول بغاه يبغيه إذا طلبه. والبغية
الطلبة، والنجاة التخلص من الهلاك. والتخليص من الاختلاط لا يسمى نجاة. ومعنى
" لما " ايجاب وقوع الثاني بالأول كقولك: لما قام قمت، ولما جاء زيد قام
عمرو. والحق وضع الشئ في موضعه على ما يدعوا العقل إليه، والحق والحسن
معناهما واحد. وقوله " يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم " خطاب من الله
تعالى للخلق بأن بغيكم على أنفسكم من حيث إن عقابه يلحقكم دون غيركم
" متاع الحياة الدنيا " معناه إنكم تطلبون بالبغي بغير الحق التمتع في الحياة الدنيا. ثم
بعد ذلك ترجعون إلى الله بعد موتكم فيجازيكم بأعمالهم بعد أن يعلمكم ما عملتموه
وما استحققتم به من أنواع العقاب. وقال مقاتل: معنى " يبغون في الأرض
بغير الحق " يعبدون غير الله. وقال غيره: معناه كلما أنعمنا عليهم بغوا للدين
وأهله الغوائل.
362

قوله تعالى:
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط
به نبات الأرض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت
الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها
أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس
كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون (24) آية.
المثل قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول. وقيل " مثل الحياة الدنيا "
صفة الحياة الدنيا. وقيل في المشبه والمشبه به في الآية ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الجبائي: إنه تعالى شبه الحياة الدنيا بالنبات على ما وصفه الله
تعالى في الاغترار به والمصير إلى الزوال كالنبات الذي يصير إلى مثل ذلك.
الثاني - انه شبه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثم الانقطاع.
الثالث - انه شبه الحياة الدنيا بحياة مقدرة على هذه الأوصاف، لما يقتضيه
" وظن أهلها أنهم قادرون عليها " أي علموا الانتفاع بها.
وقوله " فاختلط به نبات الأرض " فالاختلاط تداخل الأشياء بعضها في بعض
فربما كان على صفة مدح، وربما كان على صفة ذم. وقوله " حتى إذا أخذت
الأرض زخرفها " فالزخرف حسن الألوان كالزهر الذي يروق البصر، ومنه قيل
زخرفت الجنة لأهلها وقوله " وظن أهلها انهم قادرون عليها " معناه ظنوا أنهم
قادرون على استصحاب تلك الحال منها - جعلها على غير شئ منها، لان القادر
عليهم وعليها أهلكها. وقوله " وازينت " أصله تزينت فأدغمت التاء في الزاي
وأجلبت الهمزة لامكان النطق بها. وقرأ الأعرج وغيره " وازينت " على وزن
363

(أفعلت) والأول أجود لان عليه القراء. وقوله " كأن لم تغن بالأمس " معناه
كأن لم تقم على تلك الصفة فيما قبل، يقال: غني بالمكان إذا أقام به والمغاني
المنازل، قال النابغة:
غنيت بذلك إذ هم لك جيرة * منها بعطف رسالة وتودد
وقوله " كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون " معناه مثل ذلك نميز الآيات
ونبينها لقوم يفكرون فيها ويعتبرون بها، لان من لا يفكر فيها ولا يعتبر بها كأنها لم
تفصل له، فلذلك خصصهم بالذكر.
قوله تعالى:
والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم (25) آية.
أخبر الله تعالى بأنه الذي يدعو عباده إلى دار السلام. والدعاء طلب الفعل
بما يقع لأجله، والداعي إلى الفعل خلاف الصارف عنه. وقد يدعو إليه باستحقاق
المدح عليه. والفرق بين الدعاء والامر أن في الامر ترغيبا في الفعل، وزجرا عن
تركه، وله صيغة تنبئ عنه، وليس كذلك الدعاء، وكلاهما طلب. وأيضا الامر
يقتضي أن يكون المأمور دون الامر في الرتبة. والدعاء يقتضي أن يكون فوقه.
وفي معنى دار السلام قولان: أحدهما - قال الحسن: السلام هو الله. وداره
الجنة. وبه قال قتادة. الثاني - قال الجبائي والزجاج: معناه دار السلامة.
وقوله " ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " قيل في الهداية ههنا ثلاثة أقوال:
أحدها - يفعل الألطاف التي تدعوهم إلى طريق الحق لمن كان المعلوم أن له لطفا.
الثاني - الاخد بهم في الآخرة إلى طريق الجنة. الثالث - قال أبو علي: يريد به
نصب الأدلة لجميع المكلفين دون الأطفال والمجانين. والاستقامة المرور في جهة
364

تؤدي إلى البغية، فالأدلة طرق إلى العلم على الاستقامة لأنها تؤدي إليه.
قوله تعالى:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر
ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26) آية.
أخبر الله تعالى بأن للذين يفعلون الحسن من الطاعات التي أمرهم الله بها
جزاء على ذلك " الحسنى " وهي الجنة ولذاتها. وقيل: جامعة المحاسن من السرور
واللذات على أفضل ما يكون وهي تأنيث الأحسن. وقوله " وزيادة " معناه إن لهم
زيادة التفضل على قدر المستحق على طاعاتهم من الثواب، وهي المضاعفة المذكورة
في قوله " فله عشر أمثالها " (1) ذهب إليه ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعلقمة
ابن قيس. وقال أبو جعفر عليه السلام " وزيادة " معناه ما أعطاهم الله في الدنيا لا يحاسبهم
به في الآخرة. وقوله " ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة " فالرهق لحاق الامر،
ومنه راهق الغلام إذا لحق حال الرجال، ورهقه في الحرب إذا أدركه. و (الرهاق)
الاعجال. و (القتر) الغبار. والقترة الغبرة. ومنه الاقتار في النفقة لقلته، قال الشاعر:
متوج برداء الملك يتبعه * موج ترى فوقه الرايات والقترا (2)
والذلة صغر النفس بالإهانة. والذلة نقيض العزة. وقد يكون صغر النفس
بضيق المقدرة. وقوله " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " اخبار منه تعالى
بأن الذين وصفهم الملازمون للجنة على وجه الخلود والنعيم فيها ولا زوال لذلك عنهم.

(1) سورة 6 الانعام آية 160
(2) قائله الفرزدق ديوانه 290 وتفسير الطبري 11 / 69 وتفسير القرطبي
8 / 311 واللسان " قتر ". ورواية الديوان " معتصب " بدل " متوج "
365

قوله تعالى:
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة
ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل
مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (27) آية.
لما وصف الله تعالى المطيعين، وما لهم من الثواب الجزيل في الجنة والخلود
فيها، ذكر حكم العصاة الذين يرتكبون السيئات ويكسبونها وأن لهم جزاء كل
سيئة مثلها يعني قدر ما يستحق عليها من غير زيادة، لان الزيادة على قدر المستحق
من العقاب ظلم، وليس كذلك الزيادة على قدر المستحق من الثواب، لان ذلك
تفضل يحسن فعله ابتداء. فالمثل - في الآية - المراد به مقدار المستحق من غير
زيادة ولا نقصان. والكسب فعل يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر، وقد يكتسب
الانسان الحسنة والسيئة، ولهذا لا يوصف الله تعالى بالكسب. وقوله " وترهقهم ذلة "
اي يلحقهم هو ان في أنفسهم. " وما لهم من الله من عاصم " أي ما لهم مانع من عقاب
الله. وفي رفع (جزاء) في الآية وجهان: أحدهما - ان تقديره فلهم جزاء سيئة
بمثلها ليشاكل " للذين أحسنوا ". والآخرة - أن يكون الخبر بمثلها والباء
زيادة كزيادتها في قولك ليس زيد بقائم. وقوله " كأنما أغشيت وجوههم قطعا
من الليل مظلما " شبه سواد وجوههم بقطع من الليل المظلم وإنما ذكر ووحد
مظلم لاحد أمرين: أحدهما - أن يكون حالا من الليل. والثاني - على
قول الشاعر:
لو أن مدحة تنشرن أحدا * أحيا أبا كن يا ليلى الأماديح
و (القطع) قرأه بتسكين الطاء ابن كثير والكسائي. الباقون بالتحريك،
366

وهما لغتان. وقوله " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " اخبار منه تعالى بأن من
وصفهم ملازمون للنار خالدون فيها غير زائل عنهم عذابها. قال أبو عبيدة " قطعا من
الليل " وهو بعض الليل تقول اتيته لقطع من الليل اي ساعة من الليل، وقطع
واقطاع. وقال أبو علي: القطع الجزء من الليل الذي فيه ظلمة. فأما قوله " مظلما "
إذا أجريته على (قطع) فيحتمل نصبه وجهين: أحدهما - أن يكون صفة من
القطع وهو أحسن، لأنه على قياس قوله " وهذا كتاب أنزلناه مبارك " (1) وصف
الكتاب بالمفرد بعد ما وصفه بالجملة واجراه على النكرة. والثاني - يجوز أن
يكون حالا من الذكر الذي في الظرف. ومن قرأ " قطعا " لم يكن مظلما صفة
ل‍ (قطع) ولا حالا من الذكر الذي في قوله " من الليل " ولكن يكون حالا من
الليل المظلم فلما حذف الألف واللام نصب على ا لحال.
قوله تعالى:
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم
أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم
إيانا تعبدون (28) آية
اخبر تعالى في هذه الآية أنه يوم يحشر الخلائق أجمعين. والحشر هو الجمع
من كل أوب إلى الموقف، وإنما يقومون من قبورهم إلى ارض الموقف " ثم نقول
للذين أشركوا " يعني من اشرك مع الله في عبادته غيره، والمشرك بالاطلاق لا يقال
إلا فيمن في العبادة، لأنها صفة ذم مثل كافر وظالم وقوله " مكانكم "
معناه انتظروا مكانكم. " جمعيا " نصب على الحال و (مكانكم) نصب على الامر
كأنه قال انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم. ويقول المتوعد لغيره: مكانك

(1) سورة 6 الانعام آية 92، 155
367

فانتظر، يستعمل ذلك في الوعيد. وقوله " أنتم وشركاؤكم " يعني انتظروا أنتم
مع شركائكم الذين عبدتموهم من دون الله. وقوله " فزيلنا بينهم " مأخوذ من
قولهم زلت الشئ عن مكانه أزيله - وزيلنا للكثرة من هذا - إذا نحيته عن مكانه
وزايلت فلانا إذا فارقته. وقال القتيبي: وهو مأخوذ من زال يزول، وهو غلط
وخلاف لقول جميع المفسرين وأهل اللغة. والتزييل التفريق. والمعنى فرقنا
بين المشركين بالله وما أشركوا به.
وقوله " وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال مجاهد: انه ينطق الأوثان يوم القيامة فيقولوا: ما كنا نشعر بأنكم
إيانا تعبدون. والثاني - ان ذلك قول من كانوا يعبدونهم من الشياطين.
وفي كيفية جحدهم لذلك قولان: أحدهما - انهم يقولون ذلك على وجه
الإهانة بالرد عليهم. والمعنى ما اعتذرنا بذلك لكم. والاخر - انه في حال دهش
ككذب الصبي. وقال الجبائي: يريد انكم لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا ولم يرد
انهم لم يعبدوها أصلا، لان ذلك كذب وهو لا يقع في الآخرة لكونهم ملجئين
إلى ترك القبيح. وهذه الآية نظيرة قوله " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " (1)
وكان مجاهد يقول: الحشر ههنا هو الموت. والأول أولى.
قوله تعالى:
فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم
لغافلين (29) آية.
هذا اخبار من الله تعالى عن شركاء المشركين من الآلهة والأوثان يوم القيامة
حين قال المشركون إنا إنما إياكم كنا نعبد، وأنهم يجحدون ذلك ويقولون:

(1) سورة 2 البقرة آية 166
368

حسبنا الله شاهدا بيننا وبينكم أيها المشركون بأنه تعالى عالم أنا ما علمنا ما
تقولون، وأنا كنا عن عبادتكم إيانا غافلين، لا نشعر به ولا نعلمه. وإنما قال
" شهيدا بيننا " ولم يقل علينا، لأنه إذا قال بيننا فمعناه لنا وعلينا، فهو أعم
وأحسن. ونصب (شهيدا) على التمييز، وتقديره وكفى بالله من الشهداء. وقال
الزجاج: نصب على الحال وتقديره كفى بالله في حال الشهادة. وقوله " إن كنا "
فهذه (إن) المخففة عن الثقيلة بدلالة دخول اللام في الخبر للفرق بين (إن) الجحد
و (إن) المؤكدة. وقال الزجاج: هي بمعنى (ما) ومعناه ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين.
قوله تعالى:
هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله موليهم
الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون (30) آية.
قرأ أهل الكوفة الا عاصما (تتلوا) بالتاء من التلاوة. الباقون بالياء. من قرأ بالباء
فمعناه تختبر من قوله " وبلوناهم بالحسنات والسيئات " (1) اي اختبرناهم، ومنه
قولهم البلاء ثم الثناء أي الاختبار للثناء عليه ينبغي أن يكون قبل الثناء ليكون عن علم
بما يوجبه. ومعنى اختبار النفس ما أسلفت إن قدم خيرا أو شرا جزي عليه.
كما قال " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " (2)
وغير ذلك. ومن قرأ بالتاء فمن التلاوة. ويقوي ذلك قوله " فأولئك يقرؤن
كتابهم " (3) وقوله " اقرأ كتابك " (4) وقوله " ورسلنا لديهم يكتبون " (5)
ويكون (تتلو) بمعنى تتبع ويكون المعنى هنالك تتبع كل نفس ما أسلفت من

(1) سورة 7 الأعراف آية 167
(2) سورة 99 الزلزال آية 7 - 8
(3) سورة 17 الاسرى آية 71
(4) سورة 17 الاسرى آية 14
(5) سورة 43 الزخرف آية 80
369

حسنة وسيئة، فمن أحسن جوزي بالحسنات ومن أساء جوزي به، فعلى هذا يكون
المعنى مثل قراءة من قرأ بالباء. وقال ابن زيد: معنى " تتلو " تعاين. وقال
الفراء: معناه تقرأ، وقال غيره تتبع. وقال ابن عباس معنى (تتلو) تخبر قال الشاعر:
قد جعلت دلوي تستتليني * ولا أحب تبع القرين
اي تتبعني من ثقلها، ومعنى " هنالك " في ذلك المكان، وهو ظرف ف‍ (هنا)
للقريب و (هنالك) للبعيد و (هناك) لما بينهما قال زهير:
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا * وإن يسألوا يعطوا وإن ييسيروا يغلوا (1)
والاسلاف تقديم امر لما بعده، فمن أسلف الطاعة لله جزي بالثواب. ومن
أسلف المعصية جزي بالعقاب. وقوله " وردوا إلى الله " فالرد هو الذهاب إلى الشئ
بعد الذهاب عنه، فهؤلاء ذهبوا عن أمر الله فأعيدوا إليه. والرد والرجع نظائر،
ويجوز أن يكون الرد بمعنى النشأة الثانية، وهو الأليق ههنا. وقوله " مولاهم
الحق " فالمولى المالك للعبيد، ومعناه مالكهم لأنه يملك أمرهم، وهو أملك بهم
من أنفسهم. وقوله " وضل عنهم ما كانوا يفترون " يعني ما كانوا يدعونهم
- بافترائهم من الشركاء - مع الله يضلون عنهم يوم القيامة ويبطلون.
قوله تعالى:
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع
والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من
الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) آية
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار وغيرهم من خلقه " من يرزقكم "
من السماء " بانزال المطر والغيث، ومن الأرض باخراج النبات وأنواع الثمار.

(1) ديوانه 112 واللسان (خبل) وفيه اختلاف في الرواية.
370

والرزق العطاء الجاري يقال: رزق السلطان الجند، الا ان كل رزق، فالله رازق
به، لأنه لو لم يطلقه على يد الانسان لم يجئ منه شئ. والواحد منا يرزق غيره
إلا أنه لا يطلق اسم رازق إلا على الله، كما لا يقال: (رب) بالاطلاق إلا في الله
وفي غيره يقيد.، فيقال رب الدار ورب الفرس. ويطلق فيه، لأنه يملك الجميع
غير مملك، وكذلك هو تعالى رازق الجميع غير مرزوق، ولا يجوز أن يخلق الله
حيوانا يريد تبقيته إلا ويرزقه، لأنه إذا أراد بقاءه فلا بدله من الغذاء، فإن لم
يرد تبقيته كالذي يولد ميتا فإنه لا رزق له في الدنيا. وقوله " أم من يملك السمع
والابصار " يعني من الذي له التصرف فيها بلا مانع يمنعه منها وان شاء أصحها وان
شاء أمرضها. و " من يخرج الحي من الميت " معناه من الذي يخلق الحيوان
ويخرجه من أمه حيا سويا إذا ماتت أمه " ويخرج الميت من الحي " يعني من
يخرجه غير تام ولا بالغ حد الكمال. وقيل: معناه انه يخرج الحي من النطفة، وهي
ميتة ويخرج النطفة من الحي. وقيل: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
و " من يدبر الامر " اي ومن الذي يدبر جميع الأمور في السما والأرض؟
وليس جواب ذلك لمن انصف ولم يكابر الا ان يقول: الله الفاعل لجميع ذلك.
وإذا قالوا ذلك واعترفوا به قيل لهم " أفلا تتقون " ومعناه فهلا تتقون خلافه
وتحذرون معاصيه؟ وفي الآية دلالة على التوحيد، لان ما ذكره في الآية يوجب
أن المدبر واحد ولا يجوز أن يقع ذلك اتفاقا، لإحالة العقل ذلك، ولا يجوز أن
يقع بالطبيعة، لأنها في حكم الموات لو كانت معقولة، فلم يبق بعد ذلك إلا أن
الفاعل لذلك قادر عالم يدبره على ما يشاء، وهو الله تعالى، مع أن الطبيعة مدبرة
- مفعولة - فكيف تكون هي المدبرة. وإنما دخلت (أم) على (من) لان (من)
ليست أصل الاستفهام بل أصله الألف، فلذلك جاز الجمع بينهما.
371

قوله تعالى:
فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال
فانى تصرفون (32) آية.
" ذلك " إشارة إلى اسم الله الذي ذكره في الآية الأولى، ووصفه بأنه الذي
يخرج الحي من الميت من الحي ويرزق الخلق من السماء والأرض. و (الكاف
والميم) للمخاطبين، وإنما جمع لأنه أراد جميع الخلق، فأخبر الله تعالى ان
الذي وصفه في الآية الأولى هو " الله ربكم " الذي خلقكم ويملك تصرفكم. وإنما
وصفه بأنه " الحق " لأنه له معنى الإلهية دون غيره من الأوثان والأصنام، وهو
الرب تعالى وحده.
وقوله " فماذا بعد الحق إلا الضلال " صورته صورة الاستفهام والمراد به
التقرير على موضع الحجة، لأنه لا يجد المجيب محيدا عن الاقرار به إلا بذكر
ما لا يلتفت إليه، وكلما تدعو إليه الحكمة على اختلافه فهو حق، والمراد انه ليس
بعد الاقرار بالحق والانقياد له إلا الضلال والعدول عنه. وقوله " فأنى تصرفون "
أي كيف تصرفون وتعدلون عبادته مع وضوح الدلالة على أنه لا معبود سواه
والصرف هو الذهاب عن الشئ، فالصرف عن الحق ذهاب إلى الباطل، وقد أنكر الله
ذلك. وفيه دلالة على أنه من فعل غيره من الغواة لأنه لو كان من فعله لما أنكره
كما لم ينكر شيئا من أفعال نفسه.
قوله تعالى:
كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا
يؤمنون (33) آية
372

قرأ أهل المدينة وابن عامر (كلمات) ههنا وفي آخرها، وفي المؤمن على
الجمع. الباقون على التوحيد. قال أبو علي: من قرأ على التوحيد احتمل في
ذلك وجهين:
أحدهما - أن يكون جعل ما أوعد به الفاسقين كلمة وإن كانت في الحقيقة
كلمات، لأنهم قد يسمون القصيدة والخطبة كلمة، فكذلك ما ذكرناه.
والثاني - ان يريد بذلك الجنس وقد أوقع على بعض الجنس كما أوقع اسم
الجنس على بعضه في قوله " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل " (1) ومن جمع
فإنه جعل الكلمات التي يوعدون بها كل واحدة منها كلمة ثم جمع، فقال: كلمات.
وأما قوله " كلمة الله هي العليا " (2) فيجوز أن يكون عنى بها قوله " كتب الله لأغلبن
انا ورسلي " (3) كما فسر قوله " وألزمهم كلمة التقوى " (4) انه لا إله الا الله،
ذكره مجاهد. والكاف في قوله كذلك في موضع نصب والتقدير مثل أفعالهم جازاهم
ربك. وقيل في المشبه به " كذلك حقت كلمة ربك " قولان:
أحدهما - المعنى في أنه ليس بعد الحق الا الضلال فشبه به كلمة الحق بأنهم
لا يؤمنون في الصحة.
الثاني - ما تقدم من العصيان شبه به الجزاء بكلمة العذاب في الوقوع على
المقدار. وإنما أطلق في الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون، لأنه أريد به الذين تمردوا في
كفرهم. و (انهم) في موضع نصب على قول الفراء والتقدير بأنهم أو لأنهم لا يؤمنون
فقوله " انهم لا يؤمنون " بدل من كلمة ربك. فأعلم الله أنهم باعمالهم قد منعوا من
الايمان، وجائز أن تكون الكلمة ما وعدوا به من العقاب. والفسق في الشرع هو
الخروج في المعصية إلى الكبيرة فان كانت كفرا فالخروج إلى أكبره وكذلك ان
كانت منع حق. وفائدة الآية الإبانة عن الحال التي لا يفلح صاحبها ليحذر من

(1) سورة 27 الصافات آية 137
(2) سورة 9 التوبة آية 41
(3) سورة 58 المجادلة آية 21
(4) سورة 48 الفتح آية 26
373

مثلها، لأنه قد يكون في المعلوم أنه من بلغ ذلك الحد لم يفلح، قال: وأصل المعنى
حقت كلمة ربك ان الفساق والكفار ما داموا كفارا فساقا فلا يكونون مؤمنين.
وقال الجبائي: معناه وجدانكم إياهم على الكفر والاصرار عليه دليل على أن ما
أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون حق وصدق.
قوله تعالى:
قل هل من شركائكم من يبدؤ الخلق ثم يعيده قل الله
يبدؤ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34) آية.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا مع الله آلهة
يعبدونها " هل من شركائكم من يبدؤ الخلق " بأن ينشئهم ويخترعهم. ثم إذا أماتهم
يعيدهم ويحييهم، لينبئهم بذلك على أنه لا يقدر على ذلك الا الله القادر لنفسه الذي
لا يعجزه شئ. وقيل في معنى (شركائكم) قولان: أحدهما - انهم الذين جعلوهم
شركاء في العبادة. الثاني - الذين جعلوهم شركاء في أموالهم من أوثانهم، كما قال
" فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا " (1) والإعادة ايجاد الشئ ثانيا، وقال لنبيه قل
لهم: الله تعالى القادر لنفسه هو الذي يبدؤ الخلق فينشئهم ثم يميتهم ثم يعيدهم
لا يعجزه شئ عن ذلك. وقوله " فانى تؤفكون " معناه انى تصرفون عن الحق
وتقلبون عنه، ومنه الافك، والكذب، لأنه قلب المعنى عن جهته.
قوله تعالى:
قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي
للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا

(1) سورة 6 الانعام آية 136
374

أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35) آية
قرأ أهل الكوفة الا عاصما " يهدي " بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال.
وقرأه أهل المدينة إلا ورشا بفتح الياء، وسكون الهاء، وتشديد الدال. وقرأه ابن
كثير وابن عامر وأبو عمرو وورش بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، الا أن
السوسي من طريق ابن جيش لا يشبع فتحة الهاء، وكذلك روى الحماني عن شجاع
وقرأه يعقوب وحفص والأعشى والبرجمي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال
ورواه أبو بكر الا الأعشى والبرجمي بكسر الياء والهاء وتشديد الدال. قال أبو
علي: من قرأ " يهدي " بفتح الياء والهاء وتشديد الدال فقد نسبهم إلى غاية الذهاب
عن الحق في معادلتهم الآلهة بالله تعالى، ألا ترى ان المعنى أفمن يهدي غيره إلى
طريق التوحيد والحق أحق ان يتبع أم من لا يهتدي هو إلا أن يهدى، والتقدير
أفمن يهدي غيره فحذف المفعول الثاني: فان قيل: هذه التي اتخذوها آلهة
لا تهتدي وإن هديت لأنها موات من حجارة وأوثان ونحو ذلك!؟ قيل: تقدير
الكلام على أنها إن هديت اهتدت وإن لم تكن في الحقيقة كذلك لأنهم لما اتخذوها
آلهة عبر عنها كما يعبر عن الذي يجب له العبادة، كما قال " ويعبدون من دون
الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون (1) وقال " ان
تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم " (2) فاجرى عليه اللفظ
كما يجري على من يعلم، كأنه قال أم من لا يهدي الا ان يهدى أي أم من لا يعلم
حتى يعلم، ومن لا يستدل على شئ حتى يدل، وإن كان لو دل أو أعلم لم يعلم
ولم يستدل. وأراد الله بذلك تعجيبهم من أنفسهم وتبيين جهلهم وقلة تمييزهم في
تسويتهم من لا يعلم ولا يقدر بالله القادر العالم. وقرأ حمزة والكسائي " أم من لا
يهدي " معناه أم من لا يهدي غيره، ولكن يهدى أي لا يعلم شيئا ولا يعرفه، ولكن

(1) سورة 16 النحل آية 73
(2) سورة 35 فاطر آية 14
375

يهدى أي لا هداية له، ولو هدي أيضا لم يهتد، غير أن اللفظ جرى عليه كما قلناه
فيما تقدم. ومن شدد، فلان أصله يهتدي فأدغم التاء في الدال. ومن حرك الهاء
القى حركة الحرف المدغم على الهاء لأنها من كلمة واحدة. ومن كسر الهاء لم
يلق الحركة تشبيها بالمنفصل، وكسر الهاء لالتقاء الساكنين. ومن سكن الهاء
جمع بين الساكنين. من أشم فلان الاشمام في حكم التحريك. ومن كسر الياء
اتبع الياء ما بعدها من الكسر لان أصله يفتعل. وقال قوم: معنى " أم من لا يهدي
إلا أن يهدى " لا يتحرك حتى يحرك.
أمر الله تعالى نبيه أن يقول أيضا لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا مع الله شركاء
في العبادة " هل من شركائكم " الذين تعبدونهم من دون الله أو تشركون بينهما في
العبادة من يهدي غيره إلى الحق والى طريق الرشاد، ثم قال: قل يا محمد " الله يهدي
للحق " وأفعال الخير، ثم قال " أفمن يهدي غيره إلى الحق " والى الصراط المستقيم
أولى " أن يتبع " ويقبل قوله، " أم من لا يهدي إلا أن يهدى " أي إلا بعد أن يهدى
وحكي عن البلخي أنه قال: هدى واهتدى بمعنى واحد.
وقوله " فمالكم كيف تحكمون " أي بما تدعونه من عبادة - من دون الله -
فالهداية المعرفة بطريق الرشاد من الغي، فكل هداية قائدة إلى سلوك طريق النجاة
بدلا من طريق الهلاك. وقال الزجاج " ما لكم " كلام تام، كأنه قال أي شئ
لكم في عبادة الأوثان ثم قال لهم " كيف تحكمون؟! " على أي حال، فموضع
(كيف) نصب ب‍ (تحكمون) ويقال هديته للحق والى الحق بمعنى واحد.
قوله تعالى:
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا
إن الله عليم بما يفعلون (36) آية.
376

أخبر الله تعالى أنه ليس يتبع أكثر هؤلاء الكفار إلا الظن الذي لا يجزي
شيئا، من تقليد آبائهم رؤسائهم. ثم قال تعالى " إن الظن لا يغني من الحق شيئا "
لان الحق إنما ينتفع به من عرفه وعلمه حقا، لان الظن حقيقة ما قوي كون المظنون
عند الظان على ما ظنه مع تجويز أن يكون على غيره، فإذا كان معه تجويز كون
المظنون على خلاف ما ظنه، فلا يكون مثل العلم. وقد يكون للظن حكم إذا قام على
ذلك دليل إما عقلي أو شرعي، ويكون صادرا عن إمارات معروفة بالعادة والخبر
أورده إلى نظيره عند من قال بالقياس، وكل ذلك إذا اقترن به دليل يوجب العمل
به، وكل موضع يمكن أن يقوم عليه دليل ويعلم صحته من فساده فلا يجوز أن
يعمل فيه على الظن، لان بمنزلة من ترك العلم وعمل على ظن غيره. وقوله " ان
الظن لا يغني من الحق شيئا " معناه انه لا يقوم العلم مع وجوده أو امكان
وجوده، وإنما يعبد الله في الشرع في مواضع بالرجوع إلى الظن مع أنه كان يمكنه
أن ينصب عليه دليلا يوجب العلم لما في ذلك من المصلحة. وقوله " إن الله عليم
بما يفعلون " فيه ضرب من التهديد، لأنه أخبر أنه تعالى يعلم ما يفعلونه ولا يخفى
عليه منه شئ فيجازيهم على جميعه: على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب.
قوله تعالى:
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن
تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من
رب العالمين (37) آية.
نفى الله تعالى في هذه الآية أن يكون هذا القرآن الذي أنزله على نبيه
محمد صلى الله عليه وآله مفترى من دون الله والافتراء الاخبار على القطع بالكذب، وهو
مأخوذ من فري الأديم، وهو قطعه بعد تقديره. والقرآن عبارة عن هذا الكلام
377

الذي هو في أعلى طبقات البلاغة مع حسن النظم والجزالة، وكل شئ منه فيه
فائدة وكل فصل منه فيه فائدة أخرى. وقوله " ولكن تصديق الذي بين يديه "
شهادة من الله له بأنه صدق وبأنه شاهد لما تقدم من التوراة والإنجيل والزبور
بأنها حق، وشاهد أيضا من حيث إنه مصدق لها إذ جاء على ما تقدمت البشارة
به فيها. وقبل مصدق لما بين يديه من البعث والنشور والجزاء والحساب. وقوله
" وتفصيل الكتاب " أي تبيين الفصل من المعاني الملتبسة حتى يظهر كل معنى على
حقيقته. والتفصيل والتمييز والتقسيم نظائر، وضده التلبيس والتخليط. وقوله
" لا ريب فيه " أي لا شك فيه " من رب العالمين " اي نازل من عند مالك العالمين.
وقيل: إن معنى " تفصيل الكتاب " أي تفصيل الفروض الشرعية. والكتاب
- ههنا - المفروض. وقال الفراء: معنى " وما كان هذا القرآن ان يفترى " اي
لا ينبغي أن يكون افتراء، كما قال تعالى: " وما كان لنبي أن يغل " (1) أي لا
ينبغي له. وقال غيره: تقديره وما كان هذا القرآن مفترى.
قوله تعالى:
أم يقولون افتراه فأتوا بسورة مثله وادعوا من
استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38) آية
معنى " أم " ههنا تقرير على موضع الحجة بعد مضي حجة أخرى، وتقديره
بل أتقولون افتراه، فالزموا على هذا الأصل الفاسد امكان أن يأتوا بمثله.
وقوله " فاتوا بسورة مثله " صورته صورة الامر، والمراد به التحدي باتيان
سورة، وهو الزام لهم على أصلهم إذ أصلهم فاسد يوجب عليهم أن يأتوا بسورة
مثله، فالتحدي يطلب ما يوجبه أصلهم عليهم. وقوله " فأتوا بسورة مثله " معناه

(1) سورة 3 آل عمران آية 161
378

سورة منه. وقيل في معناه قولان: أحدهما - أن فيه حذفا وتقديره فاتوا بسورة
مثل سورته ذكره بعض البصريين. والاخر - ائتوا بسورة مثله في البلاغة، وهو
أحسن الوجهين. والسورة منزلة محيطة بآيات الله كإحاطة سور البناء من أجل
الفاتحة والخاتمة، وكل منزلة من سورة البناء محيطة بما فيها. وقوله " وادعوا
من استطعتم من دون الله " معناه ادعوهم إلى الموازنة على المعارضة بسورة مثله
أي استعينوا بكل من قدرتم عليه. والاستطاعة حالة للحي تنطاع بها الجوارح
للفعل وهي مأخوذ من الطوع. والقدرة مأخوذة من القدر، فهي معنى يمكن أن
يوجد به الفعل وان لا يوجد لتقصير قدره عن ذلك المعنى. وقوله " ان كنتم
صادقين " معناه ان كنتم صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون الله فأنتم
تقدرون على معارضته، فحيث لا تقدرون على ذلك علم أن الامر بخلاف ما تذكرونه
لقدرتم على معارضته لمشاركتكم إياه في النشوء والفصاحة.
قوله تعالى:
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك
كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة
الظالمين (39) آية
أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين حكى عنهم أنهم قالوا إن محمد صلى الله عليه وآله
افترى هذا القرآن ولم ينزله الله عليه بأنهم " كذبوا " بما لم يحيطوا بعلمه " ومعناه
بما لم يعلموه من كل وجوهه، لان في القرآن ما يعلم المراد منه بدليل، ويحتاج
إلى الفكر فيه والرجوع إلى الرسول في معرفة مراده وذلك مثل المتشابه، فالكفار
لما لم يعرفوا المراد بظاهره كذبوا به، وقالوا انه افترى على الله كذبا، ومعنى
379

كذبوا انهم شهدوا بان الدعاة إلى الله والدعاة إلى الحق من المؤمنين كاذبون جهلا
منهم وتوهما لا حقيقة لهم ولا حجة معهم به. وقوله " ولما يأتهم تأويله " معناه ما يؤول
أمره إليه وهو عاقبته. ومعناه متأوله من الثواب والعقاب. ثم حكى الله أنه مثل
ذلك كذب الذين من قبلهم أنبياء الله ورسله فأهلكهم الله ودمرهم ثم قال لنبيه
" فانظر كيف كان عاقبة الظالمين " يعني ما أدى إلى إهلاكهم بعذاب الاستئصال على
ما تقدم من ظلمهم لا نفسهم وغيرهم في كذبهم. وقيل في موضع " كيف كان " نصب
بأنه خبر كان. ولا يكون معمول (انظر) لان ما قبل الاستفهام لا يعمل في الاستفهام.
قوله تعالى
ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم
بالمفسدين (40) آية
أخبر الله تعالى ان من جملة هؤلاء الكفار الذين كذبوا بالقرآن ونسبوه
إلى الافتراء من سيؤمن به أي بالقرآن في المستقبل، ومنهم من لا يؤمن بل
يموت على كفره. وقوله " وربك أعلم بالمفسدين " معناه من يدوم على الفساد
ممن يتوب، وإنما بقاهم الله لما في معلومه انه يتوب منهم. وإنما جاز ان يقول
" أعلم " وان لم يكن هناك كثرة علوم لاحد أمرين: أحدهما - ان الذات تغني
عن كل علم. والثاني - انه يراد كثرة المعلوم.
قوله تعالى:
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما
أعمل وأنا برئ مما تعملون (41) آية.
خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله فقال " وان كذبوك " هؤلاء الكفار ولم يصدقوك
380

وردوا عليك بذلك ونسبوك إلى الكذب " فقل لي عملي " أي إن كنت كاذبا فوباله
علي " ولكم عملكم " أي ان كنتم غير محقين فيما تردونه علي وتكذبوني، فلكم
جزاء عملكم، فأنتم تبرؤن مما أعمل وأنا أبرأ من أعمالكم. وفائدة ذلك الاخبار
بأنه لا يجازى أحد الا على عمله، ولا يؤخذ أحد بجرم غيره كما قال تعالى " ولا
تزر وازرة وزر أخرى " (1) والبراءة قطع العلقة التي توجب رفع المطالبة وذلك
كالبراءة من الدين، والبراءة من العيب في البيع، ولم يقل النبي صلى الله عليه وآله هذا القول
شكا منه فيما يجازي الله الكفار والمؤمنين به من الثواب والعقاب. وإنما قال على
وجه التلطف لخصمه وحسن العشرة، وأن لا يستقبلهم بما يكرهونه من الخطاب
فربما كان داعيا لهم ذلك إلى الانقياد والنظر في قوله. وقال ابن زيد: هذه الآية
منسوخة بآية الجهاد، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى ذلك.
قوله تعالى:
ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو
كانوا لا يعقلون (42) آية.
اخبر الله تعالى ان من جملة هؤلاء الكفار " من يستمع إليك " يا محمد.
والاستماع طلب السمع، فهم كانوا يطلبون السمع للرد لا للفهم، فلذلك لزمهم
الذم، فهم إذا سمعوه على هذا الوجه كأنهم صم لم يسمعوه حيث لم ينتفعوا به.
وقوله " أفأنت تسمع الصم " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله بأنه لا يقدر على اسماع الصم الذين
لا يسمعون، وبهم صمم، وهم الذين ولدوا صما، والأصم المفسد السمع بما يمنع
من ادراك الصوت، وقد صم يصم صمما، والسمع إدراك الشئ بما به يكون مسموعا.

(1) سورة 6 الانعام آية 164 وسورة 17 الاسرى آية 15 وسورة 35 فاطر
آية 18 وسورة 39 الزمر آية 7
381

وتسمى الاذن السليمة سمعا، لأنه يسمع بها. وقوله " ولو كانوا لا يعقلون " تشبيه
من الله تعالى لهؤلاء الكفار في ترك إصغائهم إلى النبي صلى الله عليه وآله واستماع كلامه طلبا
للفائدة بالذين لا يسمعون أصلا، وان النبي صلى الله عليه وآله ولا يقدر على اسماعهم على وجه
ينتفعون به إذا لم يستمعوا بنفوسهم، للفكر فيه، كما لا يقدر على اسماع الصم.
وقوله " من " يقع على الجمع كما يقع على الواحد، فلذلك أخبر عنه بلفظ
الجمع بقوله " يستمعون إليك " و (لو) في أكثر الامر يكون ما بعدها أقل مما
قبلها تقول: أعطني دابة ولو حمارا، وقد يجئ ما بعدها أكثر مما قبلها، كما
يقول الرجل:: انا أقاتل الأسد فيستعظم ذلك منه، فيقال: أنت تقاتل الأسد ولو
كان ضاريا، وعلى هذا مخرج الآية. قال الزجاج: والمعنى ولو كانوا جهالا
كما قال الشاعر:
أصم عما ساءه سميع (1)
قوله تعالى:
ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا
لا يبصرون (43) آية.
اخبر الله تعالى بأن من جملة الكفار " من ينظر إليك " يا محمد صلى الله عليه وآله، فلم
يخبر بلفظ الجمع لأنه حمله على اللفظ، واللفظ لفظ الواحد. والنظر المذكور
في الآية معناه تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته. وقيل: معناه من
ينظر إلى أدلتك. والنظر يكون بمعنى الاعتبار والفكر، وهو الموازنة بين الأمور
حتى يظهر الرجحان أو المساواة، وذلك الجمع بين الشيئين في التقدير بما يظهر
به شهادة أحدهما بالاخر، ثم قال " أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون "

(1) مر في 2 / 80 و 4 / 125
382

اي نظرهم إليك لا على وجه الاستفادة بمنزلة نظر الأعمى الذي لا يبصر، فكما
لا يقدر ان يهدي الأعمى. فكذلك هؤلاء لا ينتفعون بنظرهم إليك، فكأنهم لا يبصرون.
والعمى آفة تمنع من الرؤية، وهو على وجهين: عمى العين، وعمى القلب. وكلاهما
يصلح له هذا الحد. والابصار إدراك المبصر بما يكون به مبصرا، كما أن السمع
إدراك المسموع بما به يكون مسموعا.
قوله تعالى:
إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم
يظلمون (44) آية
اخبر الله تعالى في هذه الآية على وجه التمدح به بأنه لا يظلم أحدا شيئا
وإنما الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بارتكاب ما نهى الله عنه من القبائح فيستحقون
بها عقابا، فكأنهم الذين أدخلوا عليها ضررا فلذلك كانوا ظالمين لنفوسهم. والمعنى
- ههنا - ان الله لا يمنع أحدا الانتفاع بما كلفهم الانتفاع به من القرآن وأدلته،
ولكنهم يظلمون أنفسهم بترك النظر فيه والاستدلال به، وتفويتهم أنفسهم الثواب
وإدخالهم عليها العقاب. ففي الآية دلالة على أنه لا يفعل الظلم، لان فاعل الظلم
ظالم، كما أن فاعل الكسب كاسب، وليس لهم أن يقولوا يفعل الظلم ولا
يكون ظالما به، كما يفعل العلم ولا يكون به عالما. وذلك أن معنى قولنا: ظالم
أنه فعل الظلم، كقولنا: ضارب، أنه يفيد انه فعل الضرب. وكذلك يكون ظالما
بما يفعله من الظلم في غيره، وليس كذلك العالم، لأنه يفيد انه على صفة مخصوصة
ولذلك قد يكون عالما بما يفعل فيه من العلم، ولا يكون ظالما بما يفعل فيه من الظلم
ولا يكون عالما بما يفعل في غيره من العلم وليس كذلك الظلم، فبان الفرق بينهما.
383

وليس لاحد ان يقول: ان الانتفاء من الظلم كالانتفاء من السنة والنوم، في أنه
ليس بنفي الفعل، وذلك أن الظلم مقدور قبل العدل، وليس كذلك النوم واليقظة
لأنهما يستحيلان عليه. و (لكن) إذا كانت مشددة عملت عمل (إن) وإذا خففت
لم تعمل لان المخففة تدخل على المفرد كما يدخل حرف العطف، والثقيلة تدخل
على الجملة فتزيل الابتداء.
قوله تعالى:
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار
يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا
مهتدين (45) آية.
قرأ حفص " يحشرهم " بالياء. الباقون بالنون. قال أبو علي الفارسي: قوله
" كأن لم يلبثوا " يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها - أن يكون صفة اليوم.
والاخر - أن يكون صفة للمقدر المحذوف. والثالث - أن يكون حالا من
الضمير في " يحشرهم " فإذا جعلته صفة لليوم احتمل أن يكون التقدير " كأن لم
يلبثوا " قبله " إلا ساعة " كما قال " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف " (1)
أي امسكوهن قبله، وكذلك قوله " فان فاءوا فان الله " (2) معناه فان فاء واقبل
انقضاء الأربعة أشهر. ويحتمل أن يكون المعنى " كأن لم يلبثوا " قبله، فحذف
المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ثم حذفت الهاء من الصفة. ومثله " وترى الظالمين
مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم " (3) والتقدير وجزاؤه واقع بهم. وإن جعلته
صفة للمصدر كان على هذا التقدير الذي وصفيناه، ومثله " كأن لم يلبثوا " قبله

(1) سورة 2 البقرة آية 231 وسورة 65 الطلاق آية 2
(2) سورة 2 البقرة آية 226
(3) سورة 42 الشورى آية 22
384

فحذف وأقام المضاف إليه مقام المضاف، ثم حذف العائد من الصفة، كما يحذف
من الصلة في نحو قوله " أهذا الذي بعث الله رسولا " (1) وإن جعلته حالا من
الضمير المنصوب لم يحتج إلى حذف شئ في اللفظ، لان الذكر من الحال قد عاد
إلى ذي الحال. والمعنى يحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم يلبث الا ساعة.
ويحتمل أن يكون معمولا بما دل عليه قوله " كأن لم يلبثوا " فإذا جعلته معمولا
ل‍ (يتعارفون) انتصب (يوم) على وجهين: أحدهما - أن يكون ظرفا
والاخر - أن يكون مفعولا على السعة، على يا سارق الليلة أهل الدار.
ومعنى " يتعارفون " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون المعنى يتعارفون مدة إماتتهم التي وقع حشرهم بعدها
وحذف المفعول للدلالة عليه، أو يكون أعمل الفعل الذي دل عليه " يتعارفون " ألا
ترى انه قد دل على سيعلمون إذ يتعارفون، فعلى هذا يكون قوله " ويوم يحشرهم "
معمول " يتعارفون ".
والاخر - أن يكون " يوم يحشرهم " معمول ما دل عليه قوله " كأن لم
يلبثوا " لان المعنى تشابه أحوالهم أحوال من لم يلبث، فعمل في الظرف هذا المعنى
ولا يمنع المعنى من أن يعمل في الظرف وان تقدم الظرف عليه كقولهم: أكل يوم
لك ثوب؟ وإذا جعلت " يتعارفون " العامل في " يحشرهم " لم يجز أن يكون صفة
اليوم، على أنك كأنك وصفت اليوم بقوله كأن لم يلبثوا ويتعارفون، فوصفت يوم
يحشرهم بجملتين لم يجز أن يكون معمولا لقوله " يتعارفون " لان الصفة لا تعمل
في الموصوف، وجاز وصف اليوم بالجمل وان أضيف، لان الإضافة ليست محضة،
فلم تعرفه. ومن قرأ بالنون فلقوله " وحشرناهم فلم نغادر " (2) وقوله " فجمعناهم
جمعا " (3) وقوله " ونحشره يوم القيامة أعمى " (4). ومن قرأ بالياء فلقوله

(1) سورة 25 الفرقان آية 41
(2) سورة 18 الكهف آية 48
(3) سورة 18 الكهف آية 100
(4) سورة 20 طه آية 124
385

" ليجمعنكم إلى يوم القيامة " (1) والنون والياء متعارفان في مثل هذا بدلالة قوله
" وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه " (2) فعلم من هذا ان كل
واحد منهما يجري مجرى الاخر.
يقول الله تعالى في هذه الآية أنه يوم يحشر الخلق إلى المحشر والموقف
" كأن لم يلبثوا الا ساعة من النهار " عند أنفسهم، لقلة بقائهم فيها وسرعة تصرمها
عنهم مع طول وقوفهم يوم القيامة ومع علمهم بدوام بقائهم في الآخرة، شبه قرب
الوقت إلى ذلك الحين بساعة من النهار لان كل ما هو آت قريب، كما قال " اقتربت
الساعة " (3) ودل بذلك على أنه لا ينبغي لاحد أن يغتر بطول ما يأمله من البقاء
في الدنيا إذ كان عاقبة ذلك إلى الزوال. وقوله " يتعارفون بينهم " اخبار منه
تعالى أن الخلق يعرف بعضهم بعضا في ذلك الوقت خسرانهم ويتذاكرونه. وقوله
" قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله " اخبار منه تعالى بأن الذين كذبوا بالبعث
والنشور ولقاء ثواب الله ولقاء عقابه يخسرون نفوسهم. والخسران ذهاب رأس
المال، فالنفس أكبر من رأس المال. وقوله " وما كانوا مهتدين " معناه لا يكونون
مهتدين إلى طريق الجنة لكونهم مستحقين للعقاب. وقال الزجاج: معنى الآية
قرب ما بين موتهم كما قالوا " لبثنا يوما أو بعض يوم " (4) و " يتعارفون
بينهم " أي يعرف بعضهم بعضا، وفي ذلك توبيخ لم وإثبات الحجة عليهم.
قوله تعالى:
وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا

(1) سورة 4 النساء آية 86 وسورة 6 الانعام آية 12
(2) سورة 20 طه آية 127
(3) سورة 54 القمر آية 1
(4) سورة 23 المؤمنون آية 114، وسورة 18 الكهف آية 19
386

مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46) آية.
نون التأكيد في الجزاء لا تجوز الا مع (ما) كما لا يجوز الجزاء ب‍ (إذ،
وحيث) الا مع (ما) يخرجونها عن أخواتها، فدخلت (ما) لتقريبها منها،
فالنون تدخل في الأمر والنهي والاستفهام والعرض، وكله طلب، وكله غير واجب.
وليس في الجزاء طلب إلا أنه يشبه غير الواجب.
وقوله " نرينك " من رؤية العين لأنها لو كانت من رؤية الاعلام لتعدى
إلى مفعولين والبعض شئ يفصل من الكل، والبعض والقسم والجزء نظائر. والتوفي
القبض على الاستيفاء بالأمانة، لان الروح تخرج من البدن على تمام وكمال من
غير نقصان. ومعنى الآية إن أريناك يا محمد بعض ما نعد هؤلاء الكفار من العذاب
عاجلا بأن ننزل عليهم ذلك في حياتك، وإن أخرنا ذلك عنهم إلى بعد وفاتك
ووفاتهم، فان ذلك لا يفوتهم، لأنه الينا مرجعهم، والله شاهد بأعمالهم، وعالم
بها، وحافظ لها، فهو يوفيهم عقاب معاصيهم. وقال مقاتل: المعنى إما نرينك
بعض الذي نعد المؤمنين من النصر والاعلاء، وهو يوم بدر. وقوله " ثم الله " عطف
في قول الفراء، وقال غيره: (ثم) بمعنى الواو.
قوله تعالى:
ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم
بالقسط وهم لا يظلمون (47) آية.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن لكل جماعة على دين واحد وطريقة واحدة
كأمة محمد وأمة موسى وعيسى عليهم السلام رسولا بعثه الله إليهم وحمله الرسالة التي يؤديها
إليهم ليقوم بأدائها. وقوله " فإذا جاء رسولهم " يعني يوم القيامة - في قول
مجاهد - وقال الحسن: في الدنيا، بما أذن الله تعالى من الدعاء عليهم. وقوله " قضي
387

بينهم " معناه فصل بينهم الامر على الحتم. والله تعالى يقضي بين الخصوم أي يفصل
بينهم فصلا لا يرد " بالقسط " يعني بالعدل. والمقسط العادل. والقاسط الجائر،
ومنه قوله " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " (1) والأصل واحد، والمقسط
العادل إلى الحق والقاسط العادل عن الحق. وقوله " وهم لا يظلمون " إنما نفى
عنهم الظلم بعد أن وصف أنه يقضي بينهم بالعدل ليكون العدل في جميع الأحوال
من الابتداء إلى الانتهاء، لأنه كان يمكن أن يكون العدل في أوله والظلم في آخره،
فنفي بذلك نفيا عاما ليخلص العدل في كل أحوالهم.
قوله تعالى:
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) آية
حكى الله تعالى عن الكفار والذين تقدم وصفهم أنهم " يقولون متى هذا الوعد "
الذي تعدوننا به من البعث والنشور والثواب والعقاب " إن كنتم صادقين " في كون
ذلك. والقول كلام مضمن في ذكره بالحكاية، وقد يكون كلام لا يعبر عنه، فلا
يكون له ذكر متضمن بالحكاية، فلا يكون قولا، لأنه إنما يكون قولا من أجل
تضمين ذكره بالحكاية. و " متى " سؤال عن الزمان. و (أين) سؤال عن
المكان، وهما ظرفان يتصلان بالفعل من غير حرف إضافة تقول: متى يكون
هذا، ولا يجوز أن تقول: ما يكون هذا على معنى الظرف. ولكن في ما يكون
هذا. والوعد خبر ما يعطى من الخير. والوعيد خبر ما يعطى من الشر، هذا إذا
فصل فان أجمل وقع الوعد على الجميع. والصدق الاخبار عن الشئ على ما هو به.
قوله تعالى:
قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل

(1) سورة 72 الجن آية 15
388

أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون (49) آية
لما حكى الله تعالى عن الكفار استبطاءهم ما وعد الله وقولهم " متى هذا
الوعد " امر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهم على وجه الانكار عليهم إني " لا أملك
لنفسي ضرا ولا نفعا " من الثواب والعقاب بل ذلك إلى الله، ولا أملك إلا ما
ملكني الله، فكيف أملك لكم. والملك هو القدرة على التصرف في الشئ على
وجه ليس لأحد منعه منه، فالانسان لا يملك إلا ما ملكه الله، لان له تعالى منعه
منه. وقد يملك الطفل ومن لا عقل له من المجانين بالحكم. والنفع هو اللذة
أو السرور أو ما أدى إليهما أو إلى واحد منهما. والضرر الألم نفسه أو الغم أو ما
أدى اليهما أو إلى واحد منهما. وقوله " إلا ما شاء الله " أن يملكني إياه من نفع
أو ضر، فيمكنه مما جعل له أخذه أو أوجب عليه تركه. والأجل هو الوقت
المضروب لوقوع امر، كأجل الدين وأجل البيع واجل الانسان واجل المسافر
فأخبر تعالى انه إذا اتى اجل الموت الذي وقته الله لكل حي بحياة، لا يتأخر
ذلك ساعة ولا يتقدم على ما قدره الله تعالى.
قوله تعالى
قل أرأيتم إن أتيكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل
منه المجرمون (50) آية
امر الله تعالى نبيه بهذه الآية ان يقول لهؤلاء الكفار الذين استبطأوا وعد
الله " أرأيتم " اي أعلمتم؟ لأنها من رؤية القلب، لأنها دخلت على الجملة من
الاستفهام " ان اتاكم عذابه " يعني عذاب الله. والعذاب الألم المستمر واصله
389

الاستمرار. ومنه العذوبة لاستمرارها في الحلق " بياتا " وهو إتيان الشئ ليلا
يقال بيته تبييتا وبياتا وبات بيتوتة، وفلان لا يستبيت إذا لم يكن له ما يبيت به
وجواب " إن " محذوف، وتقدير الكلام أرأيتم ماذا يستعجل المجرمون من العذاب
إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا، ووقع " إن أتاكم " في وسط الكلام موقع
الاعتراض. ومعنى (ما) في قوله " ماذا " للانكار لان يكون في العذاب شئ يستعجل
به، وجاء على صيغة الاستفهام، لأنه لا جواب لصاحبه يصح له. وقال أبو جعفر عليه السلام
هو عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة. نعوذ بالله منه. وقال
الزجاج: موضع (ماذا) رفع من وجهين: أحدهما - أن يكون (ذا) بمعنى
(الذي) والتقدير ما الذي يستعجل منه المجرمون. ويجوز أن يكون (ماذا) اسما
واحدا، والمعنى اي شئ يستعجل منه. والهاء في قوله " منه " عائدة على
العذاب ويجوز أن تكون عائدة على الاستعجال.
قوله تعالى:
أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به
تستعجلون (51) آية
" أثم " دخلت الف الاستفهام على (ثم) ليدل على أن الجملة الثانية بعد
الأولى مع أن للألف صدر الكلام. وقال الطبري معنى (ثم) - ههنا - (هنالك)
وهذا غلظ، لان (ثم) بالفتح تكون بمعنى هنالك، وهذه مضمومة فلا تكون
الا للعطف. والعامل في (إذا) يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون " آمنتم به "
على أن تكون (ما) صلة. الثاني - أن يكون العامل (وقع) وتكون (ما)
مسلطة على الجزاء. وإنما جاز ان يعمل الفعل الأول في الجزاء دون الثاني، ولم
؟؟؟ في (إذا) لئلا يختلط الشرط بجزائه وليس كذلك (إذا) لأنها مضافة إلى
390

الفعل الذي بعدها. والوقوع الحدوث. وقوله " الآن " مبني على الفتح، لان
تعريفه كتعريف الحرف في الانتقال من معنى إلى معنى. ومعناه عند سيبويه أنحن
من هذا الوقت نفعل كذا، وفتحت لالتقاء الساكنين. وقال الفراء: أصلها (آن)
دخلت عليها الألف واللام وبنيت كالذين، ودخول الألف واللام على اللزوم لا
يمكنه، كما لا يمكن الذي. ومعنى الآية أتأمنون حلول هذا العذاب بكم؟
ثم يقال لكم إذا وقع بكم العذاب وشاهدتموه: الآن آمنتم به، وكنتم به
تستعجلون. وفائدتها الإبانة عما يوجبه استعجال العذاب من التوبيخ عند وقوعه
حين لا يمكن استدراك الامر فيه بعد أن كان ممكنا لصاحبه.
قوله تعالى:
ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا
بما كنتم تكسبون (52) آية.
قوله (ثم) عطف على الا يمان الذي وقع في حال الالجاء إليه. و " قيل "
لهم بعد ذلك هذا القول على وجه التوبيخ والتقريع، لأنها ليست حال استدراك
لما فات. والمعنى انه يقال لهؤلاء الذين آمنوا حين نزول العذاب بهم - وقيل لهم
الآن وقد استعجلتم " ذوقوا عذاب الخلد " يعني الدائم. ويقال لهم " هل تجزون "
بهذا العقاب الا بما كنتم تكسبون من المعاصي والذوق طلب الطعم بالفم في
الابتداء، شبهوا بالذائق لأنه أشد إحساسا. وقيل لأنهم يتجرعون العذاب
بدخوله أجوافهم.
قوله تعالى:
ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم
391

بمعجزين (53) آية
معنى " ويستنبؤنك " يستخبرونك أي يطلبون النبأ الذي هو الخبر " أحق
هو " يعني هذا الوعيد الذي ذكره الله في هذه الآية الأولى، فقال الله لنبيه " قل
إي وربي " أي نعم وحق الله انه لحق. والحق في الدين ما شهدت به الأدلة الموجبة
للعلم أو اقتضاه غالب الظن فيما طريقه الظن. وقوله " وما أنتم بمعجزين " أي
لستم تقدرون على اعجاز الله عما يريده من انزال العذاب بكم.
قوله تعالى:
ولو أن لكل ظلمت ما في الأرض لافتدت به
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم
لا يظلمون (54) آية.
أخبر الله تعالى على وجه التعظيم لهذا العذاب وشدته بأنه لو كان لمن ظلم بارتكاب
المعاصي " ما في الأرض " من الأموال " لافتدت به " من هول ما يلحقه من العذاب.
وفتحت (أن) بعد (لو) لأنها مبنية على ما هو بمنزلة العامل لاختصاصها بالفعل،
والتقدير لو كان أن لكل نفس، إلا أنه لا يظهر المعنى عن اظهاره بطلب (أن)
له. وجاز أن تقع (أن) بعد (لو) ولم يجز المصدر، لان فتحها يدل على إظمار
العامل اللفظي وليس كذلك المصدر، لأنه مما يعمل فيه الابتداء.
والافتداء إيقاع الشئ بدل غيره لدفع المكروه يقال: فداه يفديه فدية
وفداء، وافتداه افتداء، وفاداه مفاداة وتفادى تفاديا، وفداه تفدية.
وقوله " وأسروا الندامة لما رأوا العذاب " أي أخفوا الندامة. وقيل " وأسروا
الندامة " رؤساء الضلالة من الاتباع والسفلة. وقيل " أسروا الندامة " أي أخلصوها.
392

والندامة الحسرة على ما كان يتمنى انه لم يكن، وهي حالة معقولة يتأسف صاحبها
على ما وقع منه ويود أنه لم يكن أوقعه. وقال أبو عبيدة " أسروا " معناه أظهروا.
قال الأزهري: هذا غلط إنما يكون بمعنى الاظهار ما كان بالشين المنقطة من فوق
وقوله " وقضي بينهم بالقسط " اي فصل بينهم بالعدل " وهم لا يظلمون " في القضاء
والحكم بينهم وما يفعل بهم من العقاب، لأنهم جروه على أنفسهم بارتكاب المعاصي.
وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله ما يغنيهم اسرار الندامة وهم في النار؟ قال:
(يكرهون شماتة الاعداء) وروي مثله عن أبي عبد الله عليه السلام.
قوله تعالى:
ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن
أكثرهم لا يعلمون (55) آية
" ألا " كلمة تستعمل في التنبيه، وأصلها (لا) دخلت عليها حرف الاستفهام
تقريرا وتأكيدا، فصارت تنبيها وكسرت (إن) بعد (ألا) لان (ألا) يستأنف
ما بعدها لينبه بها على معنى الابتداء: ولذلك وقع بعدها الامر والدعاء كقول
امرئ القيس:
ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي * وهل ينعمن من كان في العصر الخالي (1)
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أحد أمرين: أحدهما - للاثبات بعد النفي
لان ما قبلها ليس للظالم ما يفتدي به بل جميع الملك لله تعالى. والثاني -
أن يكون معناه من يملك السماوات والأرض يقدر على ايقاع ما توعد به. والسماوات
جمع سماء وهو مأخوذ من السمو الذي هو العلو، وهي المزينة بالكواكب وهي سقف
الأرض، وهي طبقات، كما قال سبع سماوات طباقا. وجمعت السماوات، ووحدت

(1) ديوانه 158 وهو مطلع قصيدة له مشهورة.
393

الأرض في جميع القرآن، لان طبقاتها السبع خفية عن الحس وليس كذلك
السماوات. وقوله " ألا ان وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " صحة ذلك
لجهلهم به تعالى وبما يجوز عليه وما لا يجوز، وجهلهم بصحة ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله
قوله تعالى
هو يحيي يميت وإليه ترجعون (56) آية.
في هذه الآية اخبار منه تعالى أن الذي يملك التصرف في السماوات والأرض
هو الذي يحيي الخلق بعد كونهم أمواتا وهو الذي يميتهم إذا كانوا أحياء. ثم
يرجعون إليه يوم القيامة فيجازيهم بمثل أعمالهم إن كانوا مطيعين بالثواب الدائم،
وان كانوا كفارا بالعقاب الدائم. قال أبو علي: في هذه الآية دلالة على أنه لا يقدر
على الحياة إلا الله لأنه تعالى تمدح بكونه قادرا على الاحياء والإماتة، فلو كان
غيره قادرا على الحياة لما كان في ذلك مدح. وفيها دلالة على كونه قادرا على
الإعادة لان من قدر على النشأة الأولى يقدر على النشأة الثانية.
قوله تعالى:
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في
الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) آية
هذا خطاب من الله تعالى للمكلفين من الناس يخبرهم الله تعالى بأنه أتاهم
موعظة من الله. والموعظة ما يدعوا إلى الصلاح ويزجر عن القبيح بما يتضمنه من
الرغبة والرهبة ويدعو إلى الخشوع والنسك، ويصرف عن الفسوق والاثم، ويريد
بذلك القرآن وما أتى به النبي صلى الله عليه وآله من الشريعة. وقوله " وشفاء لما في الصدور "
فالشفاء معنى كالدواء لإزالة الداء. فداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر
394

وأطباؤه أقل والشفاء منه أجل. والصدور جمع صدر وهو موضع القلب، وهو
اجل موضع في الحي لشرف القلب. وقوله " وهدى ورحمة للمؤمنين " وصف
القرآن بأنه يقال عما يؤدي إلى الحق ودلالة تؤدي إلى المعرفة ونعمة على المحتاج
لأنه لا يقال للملك إذا اهدى إلى ملك آخر جوهرة أنه قدر رحمه بذلك، وإن
كانت نعمة يجب بها شكره ومكافأته. وإنما أضافه إلى المؤمنين، لأنهم الذين
انتفعوا به دون الكفار الذين لم ينتفعوا به، كما قال " هدى للمتقين " وإن كان
هدى لغيرهم.
قوله تعالى:
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما
يجمعون (58) آية.
قرأ الحسن " فلتفرحوا " بالتاء. وبه قرأ أبو جعفر المدني ورويس وروي
ذلك عن أبي بن كعب. الباقون بالياء. وكان الكسائي يعيب القراءة بالتاء
وأجازها الفراء واحتج بقولهم: لتأخذوا مصافكم. واللام في قوله " فليفرحوا "
لام الامر وإنما احتيج إليها ليؤمر الغائب بها. وقد يجوز أن يقع في الخطاب
للتصرف في الكلام. وقرأ أبو جعفر وابن عامر ورويس " تجمعون " بالتاء.
الباقون بالياء. قال أبو علي: الجار في قوله " فبذلك يتعلق بقوله " فليفرحوا "
لان هذا الفعل يصل به قال الشاعر:
فرحت بما قد كان من سيديكما (1)
والفاء في قوله " فبذلك فليفرحوا " زائدة لان المعنى فافرحوا بذلك ومثله
قول الشاعر:

(1) قائله زهير ابن أبي سلمى ديوانه: 109
395

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (1)
فالفاء في قوله فاجزعي زيادة مثل التي في " فليفرحوا " وقال الفراء " فبذلك "
بدل من قوله " بفضل الله وبرحمته ". ومن قرأ بالياء جعله أمرا للغائب، واللام
إنما تدخل على فعل الغائب لان المواجهة استغني فيها عن اللام بقولهم (افعل)
فصار مشبها للماضي في قولك (يدع) الذي استغني عنه ب‍ (ترك)، ولو قلت بالتاء
لكنت مستعملا لما هو كالمرفوض، وإن كان الأصل. ولا يرجح القراءة بالتاء
لكونها هي الأصل لأنه أصل مرفوض. ومن قرأ بالتاء اعتبر الخطاب الذي قبله
من قوله " قد جاءتكم موعظة.. فلتفرحوا " وزعموا أنها في قراءة أبي فافرحوا
قال أبو الحسن: وزعموا انها لغة وهي قليلة بمعنى لتضرب، وأنت تخاطب. فان
قيل: كيف جاء الامر للمؤمنين بالفرح، وقد ذم الله ذلك في مواضع من
القرآن كقوله " إن الله لا يحب الفرحين " (2) وقال " إنه لفرح فخور " (3)
وغير ذلك؟. قيل: أكثر ما جاء مقترنا بالذم من ذلك ما كان مطلقا، فإذا قيد
لم يكن ذما كقوله " يرزقون فرحين " (4) وفي الآية مقيد بذلك. فأما قوله " فرح
المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " (5) فإنه مقيد ومع ذلك فهو مذموم، لكنه
مقيد بما يقتضي الذم، كما جاء مقيدا بما لا يقتضي الذم وإن قيد بما يقتضي
ومقيده بحسب ما يقيد به، فان قيد بما يقتضي الذم، أفاد الذم وإن قيد بما يقتضي
المدح أفاد المدح. فأما قوله " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من
العلم " (6) وقوله " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله " (7) والفرح بنصر الله
للمؤمنين محمود، كان ان القعود عن رسول الله بالتقييد في الموضعين مذموم.

(1) قد مر في 5 / 174
(2) سورة 28 القصص آية 76
(3) سورة 11 هود آية 10
(4) سورة 3 آل عمران آية 170
(5) سورة 9 التوبة آية 82
(6) سورة 40 المؤمن آية 83
(7) سورة 30 الروم آية 4 - 5
396

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول للمكلفين افرحوا بفضل الله، وهو زيادة
نعمه وإنما جاز أن يقول: فضل الله، وإنما هو من أفضال الله، لأنه في موضع
أفضال، كما أن النبات في موضع إنبات في قوله " أنبتكم من الأرض نباتا " (1)
وأيضا فان إضافة الفضل إلى الله بمعنى الملك كما يضاف العبد إليه بمعنى انه مالك
له. والفرح لذة في القلب بادراك ما يحب، وان شئت قلت: هو لذة في القلب بنيل
المشتهى، وقد حسنه الله في هذه الآية فدل على أنه لا يحب الفرحين بمعنى البطرين.
وقوله " هو خير مما يجمعون " قيل فضل الله هو القرآن، ورحمته هو الاسلام
" خير مما يجمعون " من الذهب والفضة. ذكره ابن عباس وأبو سعيد الخدري
والحسن وقتادة ومجاهد. ومن قرأ بالياء عنى به المخاطبين والغيب، غير أنه
غلب الغيب على المخاطبين، كما غلب التذكير على التأنيث، فكأنه أراد به المؤمنين
وغيرهم. ومن قرأ بالتاء كان المعنى فافرحوا بذلك أيها المؤمنون اي افرحوا
بفضل الله، فان ما آتاكموه من الموعظة شفاء ما في الصدور خير مما يجمع غيركم
من اعراض الدنيا. وقال أبو جعفر عليه السلام " بفضل الله " يعني الاقرار برسول الله
و " برحمته " الائتمام بعلي عليه السلام " خير مما " يجمع هؤلاء من الذهب والفضة. وإذا
حملت الآية على عمومها كان هذا أيضا داخلا فيها.
قوله تعالى
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما
وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون (59) آية.
قال الحسن: المعنى بهذه الآية مشركوا العرب قال الله لهم " أرأيتم " ما أنزل
الله لكم من رزق " أي أرزاق العباد من المطر الذي ينزله الله " فجعلتم منه حراما

(1) سورة 71 نوح آية 17
397

وحلالا " يعني ما حرموا من السائبة والوصيلة والحام، وما حرموا من زروعهم.
قل يا محمد لهم " آلله أذن لكم أم على الله تفترون؟ " معناه انه لم يأذن لكم في شئ
من ذلك بل أنتم تكذبون في ذلك على الله. واستدل قوم بذلك على أن القياس
في الاحكام لا يجوز. قال الزجاج (ما) في قوله " ما أنزل الله " في موضع نصب
ب‍ (انزل) والمعنى انكم جعلتم البحائر والسوائب حراما، والله تعالى لم يحرم
ذلك وتكون (ما) بمعنى الاستفهام. ويحتمل أن تكون (ما) بمعنى الذي
وتكن نصبا ب‍ (أرأيتم). والرزق منسوب كله إلى الله لأنه لا سبيل للعبد إليه
الا باطلاقه بفعله له أو اذنه فيه اما عقلا أو سمعا. ولا يكون الشئ رزقا بمجرد
التمكين لأنه لو كان كذلك لكان الحرام رزقا، لان الله مكن فيه. قال الرماني:
التحريم عقد بمعنى النهي عن الفعل والتحليل حل معنى النهي بالاذن.
قوله تعالى:
وما ظن الذين يفترون على الله كذب يوم القيمة إن الله لذو
فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (60) آية
المعنى أي شئ يظن الذين يكذبون على الله انه يصيبهم يوم القامة على افترائهم
على الله، اي لا ينبغي ان يظنوا ان يصيبهم على ذلك الا العذاب والعقاب، وجعل
ذلك زجرا عن الكذب على الله. ثم اخبر تعالى " ان الله لذو فضل على الناس "
بما فعل بهم من ضروب النعم " ولكن أكثرهم لا يشكرون " نعمه ولا يعترفون به
ويجحدونه. وهذا خرج مخرج التقريع على افتراء الكذب، وإن كان بصورة
الاستفهام وتقديره أيؤديهم إلى خير أم شر؟. وافتراء الكذب أفحش من فعل الكذب
بتزويره وتنميقه فالزاجر عنه أشد. وقيل: معنى قوله " لذو فضل على الناس "
أي لم يضيق عليهم بالتحريم لما لا مصلحة لهم في تحريمه كما ادعيتم عليه. وقيل:
398

معناه انه لذو فضل على خلقه بتركه معاجلة الكذاب بالعقوبة في الدنيا، وامهاله
إياه إلى يوم القيامة.
قوله تعالى:
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من
عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك
من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك
ولا أكبر إلا في كتاب مبين (61) آية.
قرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي هنا وفي سبأ. الباقون بضمها، وهما
لغتان. وإن كان الضم أفصح وأكثر. وقرأ حمزة وخلف ويعقوب " ولا أصغر..
ولا أكبر " بالرفع فيهما. الباقون بفتحهما. فمن فتح الراء فلان (افعل) في
الموضعين في موضع جر، لأنه صفة المجرور الذي هو قوله " مثقال ذرة " وإنما
فتح، لان (افعل) إذا اتصل به منكر كان صفة لا تنصرف في النكرة. ومن
رفعه حمله على موضع الموصوف، لان الموصوف الذي هو " من مثقال ذرة " الجار
والمجرور في موضع رفع، كما كانا في موضعه في قوله " كفى بالله " (1) ومثل
قوله " من إله غيره " (2) فمن رفع يجوز أن يكون صفة بمنزلة (مثل) ويجوز
أن يكون استثناء كما تقول: مالكم من إله الا الله. ومثله " فاصدق واكن

(1) سورة 4 النساء آية 5، 44، 69، 78، 80، 131، 165، 170،
ويونس آية 29 والرعد 45 والأسرى 96، والعنكبوت 52، والأحزاب 3، 48
والفتح 28.
(2) سورة 11 هود آية 50، 61، 83 وسورة 23 المؤمنون آية 23، 32
399

من " (1) وغير ذلك. ويجوز أن يعطف قوله " ولا أصغر " على " ذرة " فيكون
التقدير وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا مثقال أصغر، فعلى هذا لا يجوز الا الجر
لأنه لا موضع للذرة غير لفظها، كما كان لقولك من مثقال ذرة موضع غير لفظه.
ولا يجوز على قراءة حمزة أن يكون معطوفا على (ذرة) كما جاز في قول الباقين
لأنه إذا عطف على (ذرة) وجب أن يكون أصغر مجرورا، وإنما فتح، لأنه
لا ينصرف وكذلك يكون على قول من عطفه على الجار الذي هو (من).
معنى قوله " وما تكون في شأن " ليس تكون في حال من الأحوال، لان
الشأن والبال الحال نظائر وجمعه شؤون. والشأن معنى مفخم على طريق الجملة
يقال: ما شأنك وما حالك وما بالك. وقوله " وما تتلو منه من قرآن " اي وليس
تتلو من القرآن، فتكون الهاء كناية عن القرآن قبل الذكر لتفخيم ذكر القرآن،
كما قال " إنه أنا الله العزيز الحكيم " (2) ويحتمل أن تكون الهاء عائدة على
الشأن وتقديره وما يكون من الشأن. وقوله " وما تعملون من عمل الا كنا عليكم
شهودا " اي ليس يخفى على الله شئ من اعمالكم بل يعلمها كلها ويشهدها.
والمشاهدة الادراك بالحاسة. والمشاهد المدرك بحاسة اي ذات يعني عن حاسة يقال:
شاهد وشهود وشهداء. وقوله " إذ تفيضون فيه " فالإضافة الدخول في العمل على
جهة الانصباب إليه، وهو الانبساط إليه في العمل مأخوذ من فيض الاناء إذا انصب
من جوانبه. ومنه قوله " أفضتم من عرفات " (3) اي تفرقتم كتفرق الماء الذي
ينصب من الاناء. ومثله أفاض الماء عليه وأفاض في الحديث وقوله " وما يعزب عن
ربك " فالعزوب الذهاب عن المعلون وضده حضور المعنى للنفس. وتعزب إذا
انفرد عن أهله. وقال ابن عباس معنى لا يعزب لا يغيب. وقوله " من مثقال ذرة "
فالذر صغار النمل واحده ذرة، وهو خفيف الوزن جدا. ومعنى مثقال ذرة وزن

(1) سورة 63 المنافقون آية 10
(2) سورة 27 النمل آية 9
(3) سورة 2 البقرة آية 198
400

ذرة يقال: خذ هذا فإنه أخف مثقالا اي أخف وزنا. وقوله " ولا أصغر من ذلك
ولا أكبر الا في كتاب مبين " معناه لا يخفى عليه ما وزنه مثقال ذرة ولا ما هو أصغر
منها ولا ما هو أكبر الا وقد بينه في الكتاب المحفوظ وكتبته ملائكته وحفظوه.
قوله تعالى:
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) آية.
بين الله تعالى في هذه الآية أن أولياءه لا خوف عليهم يوم القيامة من العقاب
" ولا هم يحزنون " اي ولا يخافون. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هم قوم
ذكرهم الله بما هم عليه من سيماء الخير والاخبات وقال ابن زيد: هم الذين آمنوا
وكانوا يتقون. وقد بينهم في الآية بعدها. وقال قوم: هم المتحابون في الله ذكر
ذلك في خبر مرفوع. والأولياء جمع ولي وهو الذي يستحق من الله ان يوليه
ثوابه وكرامته، وهو المطيع لله الذي يتولى اجلاله واعظامه. وقيل: الولي النصير ولا
يسمى المتولي الانعام على غيره انه وليه، لأنه قد يتولى الانعام عليه للمظاهرة
بالجميل في امره واستصلاحه الذي يصرف عن القبيح، وإن كان عدوه. ولا يجتمع
الولاية والعداوة. والخوف انزعاج القلب لما يتوقع من المكروه. والخوف والفزع
والجزع نظائر، وضده الامن، والحزن غلظ الهم مأخوذ من الحزن، وهي الأرض
الغليظة، وضده السرور. قال الجبائي: هذه الآية تدل على أن المؤمنين المستحقين
للثواب لا يخافون يوم القيامة أصلا بخلاف ما يقول قوم انهم يخافون إلى أن يجوزوا
الصراط. وقال البلخي: ليس يمتنع ان يخافوا من أهوال يوم القيامة وان علموا ان
مصيرهم إلى الجنة والثواب. وعلى ما نذهب إليه من أنه يجوز ان يعاقب الله بعض
الفساق ثم يردهم إلى الثواب ينبغي أن تكون الآية مخصوصة بمن لا يستحق
العقاب أصلا. أو نقول المراد بذلك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لذلك. وروي
عن الحسن عليه السلام انهم الذين أدوا فرائض الله واخذوا بسنن رسول الله وتورعوا
401

عن محارم الله وزهدوا في عاجل زهرة الدنيا، ورغبوا فيما عند الله واكتسبوا الطيب
من رزق الله لمعايشهم لا يريدون به التفاخر والتكاثر. ثم انفقوه فيما يلزمهم من
حقوق واجبة، فأولئك الذين يبارك الله لهم فيما اكتسبوا ويثابون على ما قدموا
منه لاخرتهم.
قوله تعالى:
الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) آية.
يحتمل موضع (الذين) ثلاثة أوجه من الاعراب: أحدها - أن يكون
نصبا بأن يكون صفة للأولياء. والثاني - أن يكون رفعا على المدح. والثالث -
أن يكون رفعا بالابتداء، وخبره " لهم البشرى ".
اخبر الله تعالى ان الذين آمنوا هم الذين يصدقون بالله ويعترفون بوحدانيته
وهم مع ذلك يتقون معاصيه. والفرق بين الايمان والتقوى ان التقوى مضمن باتقاء
المعاصي مع منازعة النفس إليها. والايمان من الامن بالعمل من عائد الضرر.
والفرق بين الايمان بالله والطاعة له ان الطاعة من الانطياع بجاذب الامر والإرادة
المرغبة في الفعل. والايمان هو الامن المنافي لانزعاج القلب. وقوله " يتقون "
فالاتقاء أصله من (وقيت) فقلبت الواو، وأدغمت في تاء الافتعال كما قلبت في
اتجاه وتراث.
قوله تعالى:
لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل
لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64) آية
ذكر الله تعالى ان الذين وصفهم في الآية الأولى من أنهم مؤمنون بالله ويتقون
معاصيه " لهم البشرى " وهي الخبر بما يظهر سروره في بشرة الوجه. والبشرى
402

والبشارة واحد. وقوله " في الحياة الدنيا " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال قتادة والزهري والضحاك والجبائي: هو بشارة الملائكة عليهم السلام
انها الرؤيا الصادقة الصالحة يراها الرجل أو يرى له. وقال أبو جعفر عليه السلام البشرى في
الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو يرى له وفي الآخرة الجنة. والثالث - بشرى
القرآن بشرف الايمان - ذكره الفراء والزجاج وغيرهما. وقوله " لا تبديل
لكلمات الله " معناه لا خلف لما وعد الله تعالى به من الثواب بوضع كلمة أخرى مكانها
بدلا منها، لأنها حق والحق لا خلف له بوجه. وقوله " ذلك هو الفوز العظيم "
إشارة إلى هذه البشرى المتقدمة بأنه الفوز الذي يصغر كل شئ في جنبه.
قوله تعالى:
ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع
العليم (65) آية.
ظاهر قوله " ولا يحزنك قولهم " ظاهره النهي والمراد به التسلية للنبي صلى الله عليه وآله
عن قولهم الذي يؤذونه به. والنهي في اللفظ القول. وإنما هو عن السبيل المؤدي
إلى التأذي بالقول. ومثله لا أراك ههنا والمعنى لا تكن ههنا فمن كان ههنا رأيته،
فكذلك المراد بالآية لا تعبأ بالأذى فيمن عني به اذاه. وقوله " ان العزة لله
جميعا " كسرت (إن) بالاستئناف بالتذكير لما ينفي الحزن لا انها مفعول القول
لأنها ليست حكاية عنهم، لأنهم لم يقولوا ان العزة لله. ولا يجوز نصبها على أن
تكون معمول القول لأنهم لو قالوه لما احزن ذلك النبي صلى الله عليه وآله ولو فتحت (ان)
على معنى (لان) جاز. والعزة القدرة على كل جبار بالقهر بأن لا يرام ولا يضام
عز يعز عزا فهو عزيز. والمعنى انه الذي يعزك وينصرك حتى تصير أعز ممن ناواك
وقوله " هو السميع العليم " معناه انه يسمع قولهم ويعلم ضميرهم فيجازيهم بما
تقتضيه حالهم ويدفع عنك شرهم.
403

قوله تعالى
ألا إن الله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين
يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون (66) آية
قد بينا مضى أن أصل (ألا) (لا) وإنما دخلت عليها حرف الاستفهام
تنبيها. والفرق بين (ألا) و (أما) أن (ألا) للاستقبال ولا تقع بعدها (إن)
الا مكسورة. و (اما) تكون بمعنى حقا كقولهم اما انه منطلق، لأنها للحال
ويجوز بعد (اما) كسر (ان) وفتحها.
لما سلى الله النبي صلى الله عليه وآله فقال " لا يحزنك " قول هؤلاء الكفار ف‍ " ان العزة
لله " يعني القدرة والقهر فإنهم لا يفوتونه، بين بعد ذلك ما يدل عليه وينبه على صحته
وهو أن له تعالى " من في السماوات ومن في الأرض " يعني العقلاء. وإذا كان له
ملك العقلاء فما عداهم تابع لهم، ووجب أن يكون ملكا له وإنما خص العقلاء
تعظيما للامر. وقوله " وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء " تحتمل (ما)
في قوله " وما يتبع " وجهين: أحدهما - أن تكون بمعنى (اي) كأنه قال واي
شئ يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، تقبيحا لفعلهم. الثاني - أن تكون
نافية، وتقديره وما يتبعون شركاء في الحقيقة والمعرفة.
وقوله " ان يتبعون الا الظن " معناه ليس يتبعون في اتخاذهم مع الله شركاء
الا الظن لتقليدهم اسلافهم في ذلك أو لشبهة دخلت عليهم بأنهم يتقربون بذلك إلى
الله تعالى وبين بعد ذلك انهم ليسوا الا كاذبين بهذا القول والاعتقاد - في قوله " ان
هم الا يخرصون ". وفائدة الآية الإبانة عن انه يجب اخلاص العبادة لمن يملك
السماوات والأرض وان لا يشرك معه في العبادة غيره.
404

قوله تعالى:
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا
إن في ذلك لا يأت لقوم يسمعون (67) آية
بين الله تعالى في هذه الآية ان الذي يملك من في السماوات ومن في الأرض
" هو الذي جعل الليل " اي خلقه " لتسكنوا فيه " اي خلقه وعرضه لتسكنوا فيه
وانه لأجل ذلك خلقه ليزول التعب والكلال بالسكون فيه وجعل " النهار مبصرا "
وإنما يبصر فيه تشبيها ومجازا واستعارة في صفة الشئ بسببه على وجه المبالغة
ومثله قول جرير:
لقد لمتنا يا أم عيلان في السرى * ونمت وما ليل المطي بنائم (1)
وقال رؤبة:
ونام ليلي وتجلى همي (2)
والفرق بين الجعل والفعل ان جعل الشئ قد يكون باحداث غيره كجعل
الطين خزفا ولا يكون فعله إلا باحداثه. والفرق بين الجعل والتغيير أن تغيير الشئ
لا يكون الا بتصييره على خلاف ما كان، وجعله يكون بتصييره على مثل ما كان
كجعل الانسان نفسه ساكتا على استدامة الحال.
وقوله " ان في ذلك لايات لقوم يسمعون " اخبار منه تعالى وتنبيه على أن
هذا جعل لا يقدر عليه الا الله تعالى، وانه لا يصح الا من عالم قاصد، وانه نعمة
على الخلق بما لهم في ذلك من النفع والصلاح، وانه من الأمور الأزمة الدائرة،
وانه منصوب للفكر لا يغيب عنه طرفة عين.

(1) ديوانه 544 وتفسير الطبري 11 / 89 ومجاز القرآن 1 / 279
(2) ديوانه 143 ومجاز القرآن 1 / 279
405

قوله تعالى:
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما
في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله
ما لا تعلمون (68) آية
الذين أضافوا اتخاذ الولد طائفتان: إحداهما - كفار قريش والعرب، فإنهم
قالوا: الملائكة بنات الله. والأخرى - النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله،
فكذب الله الفريقين. ولا يجوز اتخاذ الولد على الله على وجه التبني، كما لا يجوز
عليه اتخاذ إله على التعظيم، لأنه لما استحال حقيقته عليه استحال مجازه المبني
عليها. وحقيقة الولد من ولد على فراشه أو خلق من مائه، ولذلك لا يقال: تبنى
الشاب شيخا، ولا تبنى الانسان بهيمة لما كان ذلك مستحيلا، وهذه الحقيقة
مستحيلة فيه تعالى، فاستحال مجازها أيضا. واتخاذ الخليل جائز، لان الخلة
اصفاء المودة التي توجب الاطلاع على سره ثقة به. وإن كان مشتقا من الخلة
- بفتح الخاء - فهو لافتقاره إليه، لان الخلة هي الحاجة. ويجوز ان يقال المسيح
روح الله، لان الأرواح كلها ملك لله. وإنما خص المسيح بالذكر تشريفا له
بهذا الذكر كما خص الكعبة بأنها بيت الله، وان كانت الأرض كلها لله تعالى.
وقوله " وسبحانه هو الغني " تنزيه من الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد لكونه غير
محتاج إلى ذلك، لأنه مالك ما في السماوات والأرض. وقوله " ان عندكم من
سلطان بهذا " إخبار منه أنه ليس مع هؤلاء الذين يتخذون مع الله ولدا برهان
ولا حجة، لان السلطان هو البرهان الظاهر، ووبخهم على قولهم ذلك فقال
" أتقولون على الله ما لا تعلمون " لان من أقدم على الاخبار عما لا يعلم صحته
ولا يأمن كونه كذبا مقبح عند العقلاء.
406

قوله تعالى:
قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (69)
متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما
كانوا يكفرون (70) آيتان عند الجميع.
قوله " لا يفلحون " وقف تام. أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول للمكلفين
" إن الذين " يكذبون على الله باتخاذ الولد وغير ذلك " لا يفلحون " اي لا يفوزون
بشئ من الثواب. وكسرت (إن) بعد القول، لأنه حكاية لما يستأنف الاخبار
به ولذلك دخلت لام الابتداء في الخبر، لأنها تؤذن بأنه موضع ابتداء. والكذب
يتعاظم الاثم عليه بحسب تعاظم الضرر به وكثرة الزواجر عنه، فالكذب على الله
أعظم لكثرة الزواجر عنه لما فيه من تضييع حق المنعم بأجل النعم. وقوله
" متاع في الدنيا " رفع بأنه خبر الابتداء. وتقديره ذاك متاع أو هو متاع.
ويجوز أن يكون على تقدير لهم متاع. وإنما خص بالدنيا لئلا يغتر به. والمتاع
ما يقع به الانتفاع من أثاث أو غيره. والانتفاع حصول الالتذاذ. وإنما جاز أن
يمتعوا في الدنيا دون الآخرة، لان الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، ولذلك
كان التكليف في الدنيا دون الآخرة. وقوله " ثم الينا مرجعهم " فالمرجع المصير
إلى الشئ بعد الذهاب عنه، فهؤلاء ابتدأهم الله ثم يصيرون إلى الهلاك بالموت. ثم
يرجعون بالانشاء ثانية. وقوله " ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " معناه
انا لا نقتصر بعثهم بعد موتهم بل نوصل إليهم العذاب الشديد وننزله بهم جزاء بما
كانوا يكفرون في دار الدنيا.
407

قوله تعالى:
واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان
كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت
فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة
ثم أقضوا إلي ولا تنظرون (71) آية.
قرأ نافع في رواية الأصمعي عنه " فاجمعوا " من جمع. الباقون بقطع الهمزة
وقرأ يعقوب " وشركاؤكم " بالرفع. الباقون بالنصب. قال أبو علي: ما رواه الأصمعي
عن نافع من وصل الهمزة من جمعت، والأكثر في الامر يقال أجمعت. كقوله
" وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم " (1) وكما قال الشاعر:
(يا ليت شعري والمنى لا تنفع) هل أغدون يوما وأمري مجمع (2)
اي معد ويمكن أن يكون المراد، واجمعوا ذوي الامر منكم أي رؤساءكم
ووجوهكم، كما قال " وأولي الأمر منهم " (3) فحذف المضاف وأجرى على
المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت. ويجوز أن يكون جعل الامر
ما كانوا يجمعونه من كيدهم ثم الذين يكيدونه به، فيكون بمنزلة قوله " فاجمعوا
كيدكم ثم ائتوا صفا " على أن أبا الحسن يزعم أن وصل الألف في " واجمعوا
أمركم وشركاءكم " أكثر في كلام العرب. قال " وإنما يقطعون الهمزة إذا قالوا
أجمعوا على كذا وكذا، قال: والقراءة بالقطع غريبة. ومن وصل الهمزة حمل
الشركاء على هذا الفعل الظاهر لأنك جمعت الشركاء وجمعت القوم، وعلى هذا

(1) سورة 12 يوسف آية 102
(2) تفسير الطبري 11 / 90 والقرطبي 8 / 362
(3) سورة 4 النساء آية 82
408

قال " ذلك يوم مجموع له الناس " (1) ومن قطع الهمزة أضمر للشركاء فعلا آخر
كأنه قال فاجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم أو ادعوا شركاءكم، قال الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا (2)
وقال آخر:
شراب البان وتمر واقط
وفي قراءة أبي " وادعوا شركاءكم " ويجوز أن يكون انتصاب الشركاء على أنه
مفعول معه، وهو قول الزجاج، كما قالوا: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد
والطيالسة، وقالوا: لو ترك الفصيل وأمه لرضع لبنها. ومن رفع " وشركاؤكم "
كيعقوب والحسن حمله على الضمير، وتقديره فاجمعوا أنتم وشركاؤكم. قال
الزجاج: وحسن ذلك لدخول المنصوب بينهما. ولو لم يدخل لما حسن. ولا يجوز
أن تقول اجمعوا وشركاؤكم. وإنما يجوز العطف على الضمير إذا اكد. وزعم
أبو الحسن أن قوما يقيسون هذا الباب. وقوما يقصرونه على ما سمع. قال أبو
علي الفارسي: والأول عندي أقيس.
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقرأ على هؤلاء الكفار أخبار نوح عليه السلام حين
" قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي " بين أظهركم " وتذكيري " إياكم
" بآيات الله " وحججه وهممتم بقتلي وأذاي فافعلوا ما بدا لكم فاني على الله توكلت
وإنما جعل جواب الشرط " فعلى الله توكلت " مع أنه متوكل عليه في جميع أحواله
ليبين لهم أنه متوكل في هذا على التفصيل لما في إعلامه ذلك من زجرهم عنه لان
الله تعالى يكفيه أمرهم. والتوكل والتفويض جعل الامر إلى من يدبره للثقة به في
تدبيره فمن فوض أمره إلى لله فقد توكل عليه. وقوله " ثم لا يكن أمركم
عليكم غمة " معناه ليكن امركم ظاهرا مكشوفا ولا يكونن مغطى مستورا من

(1) سورة 11 هود آية 104
(2) تأويل مشكل القرآن 165 وأمالي المرتضى 2 / 170 واللسان (عطف)
409

غممت الشئ إذا سترته، فالغمة ضيق الامر الذي يوجب الحزن، والغمة والضغطة
والكربة والشدة نظائر، ونقيضه الفرجة. وقيل (غمة) معناه مغطى تغطية حيرة
مأخوذة من غم الهلاك. وقوله " فاجمعوا امركم وشركاءكم " فيه تهديد. وقوله
" ثم اقضوا إلي ولا تنظرون " معناه افعلوا ما تريدون، على وجه التهديد لهم، وانه
إذا كان الله ناصره وعليه وتوكله يبالي بمن عاداه وأراد به السوء فان الله يكفيه
امره. وقرئ بالفاء ومعناهما متقاربان، ولان معنى اقضوا توجهوا إلي. وقال
ابن الأنباري معنى " اقضوا " امضوا، يقال قضى فلان إذا مات ومضى. ومعنى
" ولا تنظرون " ولا تؤخرون.
قوله تعالى:
فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله
وأمرت أن أكون من المسلمين (72) آية
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله تمام ما حكاه عن نوح أنه قال لقومه إن " توليتم
اي هربتم عن الحق واتباعه ولم تقبلوه ولم تنظروا فيه. والتولي والاعراض والانصراف
نظائر. وقوله " فما سألتكم من اجر " اي لا اطلب منكم اجرا على ما أؤديه إليكم
من الله، فيثقل ذلك عليكم. والاجر النفع المستحق بالعمل والأجرة مضمنة بشريطة
أو مجرى عادة. وقوله " ان أجري الا على الله " اي ليس أجري في القيام بأداء
الرسالة الا على الله.
وقوله " وأمرت ان أكون من المسلمين " معناه قل لهم: امرني الله بأن أكون
من المسلمين لامر الله بطاعته ثقة بأنها خير ما يكسبه العباد.
قوله تعالى:
فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف
410

وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة
المنذرين (73) آية.
لما حكى الله تعالى ما قال نوح لقومه في الآيتين الأولتين، ذكر ما كان من
قومه في مقابلة ذلك، وهو انهم كذبوه اي نسبوه إلى الكذب فيما ذكره
من أنه نبي الله وان الله بعثه إليهم ليدعوهم إلى طاعته، وانه تعالى عند ذلك نجا
نوحا اي خلصه، وخلص الذين معه في السفينة وجعلهم خلائف معه، انه جعل
الذين نجوا مع نوح لمن هلك بالغرق عبرة. وقيل إنهم كانوا ثمانين نفسا.
وقال البلخي: يجوز أن يكون أراد به جعل منهم رؤساء في الأرض وأهلك باقي
أهل الأرض أجمع لتكذيبهم لنوح. والغرق الاهلاك بالماء الغامر، وقد يغرق
الحصاة بالماء على هذا المعنى. واما التغريق في رحمة الله. فإنما هو تشبيه بما
اكتنفه الماء الغامر. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " انظر كيف كان عاقبة الذين " خوفوا
بالله وعذابه فلم يخافوه، كيف أهلكهم الله ليعلمهم بذلك ان حكم هؤلاء الذين
كذبوه وجحدوا نبوته حكم أولئك في أن الله يهلكهم ويدمر عليهم. يسليه بذلك عن
ترك انقيادهم له.
قوله تعالى:
ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما
كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على
قلوب المعتدين (74) آية
أخبر الله تعالى انه بعث رسلا - بعد نوح وإهلاك قومه - إلى قومهم الذين كانوا
فيهم بعد ان تناسلوا وكثروا فأتوهم بالحجج والمعجزات الدالة على صدقهم وانهم مع
411

ذلك " ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قيل " ويحتمل ذلك أمرين: أحدهما -
انهم لم يكونوا ليؤمنوا بما كذبوا به قوم نوح من قبل: من توحيد الله وتصديق
أنبيائه والثاني - قال البلخي ما كانوا ليؤمنوا بالحجج والبينات بعد اتيان الأنبياء
بها بما كذبوا به من قيل يخبر عن عنادهم وعتوهم.
وقال " كذلك نطبع على قلوب المعتدين " معناه إنا جعلنا على قلوب هؤلاء
الكفار سمة وعلامة على كفرهم يلزمهم الذم بها، وتعرفهم بها الملائكة وإنا مثل ذلك
نفعل بقلوب المعتدين. وليس المراد بالطبع في الآية المنع من الا يمان، لان
مع المنع من الايمان لا يحسن تكليف الايمان. والطبع جعل الشئ على صفة غيره
بمعنى فيه. والمعتدون هم الظالمون لنفوسهم الذين تعدوا حدود الله.
قوله تعالى
ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه
بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (75) آية.
هذا اخبار من الله تعالى انه - بعد ارسال من أرسل من الأنبياء بعد نوح
واهلاك قومه وما ذكره من أنهم لم يؤمنوا به وانه طبع على قلوبهم عقوبة لهم على
ذلك - بعث أيضا بعدهم موسى وهارون عليهما السلام نبيين مرسلين " إلى فرعون وملائه "
يعني رؤسا قومه " بآياتنا " اي بأدلتنا وحججنا وانهم استكبروا عن الانقياد لها
والايمان بها " وكانوا قوما مجرمين " في ذلك مستحقين للعقاب الدائم. والملاء
الجماعة الذين هم وجوه القبيلة مأخوذ من أنهم تملأ الصدور هيبتهم عند منظرهم.
ومنه قوله صلى الله عليه وآله في قتلى بدر (أولئك الملاء من قريش). والاستكبار طلب الكبر
من غير استحقاق فأما المتكبر في أوصاف الله فهو الظاهر، فان له أعلى مراتب
الكبر، وهو صفة ذم في العباد ومدح في صفة الله تعالى. والاجرام اكتساب السيئة
412

وهي صفة ذم. واصل الاجرام القطع يقال: جرم التمر يجرمه جرما فهو جارم والجمع
جرام إذا صرمه، وزمن الجرام زمن الصرام. وتجرمت السنة إذا انصرمت. وفلان
جريمة أهله اي كاسبهم. وقوله " لا جرم ان لهم النار " (1) اي لابد لهم النار
قطعا قال الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * جرمت فزارة بعدها ان يغضبوا (2)
اي حملتهم على الغضب بقطعها إياهم. وانجرم الجسيم، والجرم الصوت، والجرم
الذنب. ووزن (موسى) مفعل وهو محمول على قياس العربية فزيادة الميم أولا
أكثر من زيادة الألف أخيرا وكذلك زيادة همزة الفعل في افعل لهذه العلة.
قوله تعالى:
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) آية
أخبر الله تعالى عن قوم فرعون الذين ذكرهم وأخبر عنهم بالاستكبار انهم
قالوا مع ذلك حين جاءهم الحق عند الله: ان هذا الذي اتى به موسى من
المعجزات والبراهين سحر ظاهر. و (لما) تدل على ما مضى ولابد لها من الجواب
و (إذ) لما مضى وتستغني عن الجواب كقولك: مضى إليه إذ قدم اي يوم قدم.
(وإذا) تكون للمستقبل كحرف الجزاء. والحق معنى معتقده على ما هو به، وهو
ما أتت به الرسل من البيان والبرهان عن الله تعالى. والسحر ايهام المعجزة على
طريق الحيلة، ويشبه به البيان في خفاء السبب قال الشاعر:
وحديثها السحر الحلال لو أنه * لم يجن قتل المسلم المتحرز
والساحر الذي يعتقد صحة سحره كافر، لأنه لا يمكنه مع ذلك معرفة النبوة
فإن كان يمخرق بالسحر ويعلم انه باطل لم يكفر ولم يطلق عليه صفة ساحر.

(1) سورة 16 النحل آية 62
(2) مر تخريجه في 3 / 423
413

قوله تعالى:
قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح
الساحرون (77) آية.
حكى الله تعالى عن موسى أنه قال لقومه الذين نسبوه إلى السحر " أتقولون
للحق لما جاءكم أسحر هذا " ويريد بذلك تبكيتهم وتهجينهم. ثم قال موسى " ولا
يفلح الساحرون " اي لا يفوزون بشئ من الخير. ويجوز أن يكون ذلك اخبارا
من الله تعالى لا حكاية عن موسى وذلك يدل على بطلان السحر أجمع. وقيل
في تكرير الف الاستفهام في قوله " اسحر هذا " بعد ان قال " أتقولون " ثلاثة
أقوال: أحدها - أنه يكون لتأكيد التقريع على الحذف كأنه قال أتقولون
للحق لما جاءكم ان هذا لسحر مبين اسحر هذا. والثاني - على وجه التكرار
كقولك أتقول مال. والثالث - أن يكون حكاية قولهم وان اعتقدوا انه
السحر كما يقول الرجل للجارية إذا أتته أحق هذا. فيقولونه على التعجب.
ولو قالوا الحق لا يكون سحرا. ولكن ليس بحق لقال لهم فلو كان حقا كيف
كان الا هكذا من قلب الجماد حيوانا يرونه عيانا وغير ذلك من الآيات.
قوله تعالى:
قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما
الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين (78) آية
روى العليمي " ويكون " بالياء. الباقون بالتاء. وجه الياء انه تأنيث
غير حقيقي، وقد فصل بينهما. ومن قرأ بالتاء فلان الكبريا لفظها لفظ التأنيث.
اخبر الله تعالى عن قوم موسى انهم قالوا له لما اظهر لهم المعجزات ودعاهم إلى
414

التصديق بنبوته " أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا " اي لتصرفنا عن ذلك
واللفت الصرف عن امر تقول: لفته يلفته لفتا. ولفت عنقه إذا لواها، قال رؤبة:
* ولفت لفات لها حصاد *
وقال أيضا:
لفتا وتهزيعا سواء اللفت
التهزيع الدق واللفت اللي. وقوله " وتكون لكما الكبرياء في الأرض "
قال مجاهد: الكبرياء الملك. وقال قوم هي العظمة. وقال آخرون هي السلطان.
والكبرياء استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب. والألف في قوله " أجئتنا " الف
استفهام، والمراد به الانكار على طريق اللجاج والحجاج منهم. فتعلقوا بالشبهة في أنهم
على رأي آبائهم. وان من دعاهم إلى خلافه فظاهر امره انه يريد التأمر عليهم.
وقوله " وما نحن لكما بمؤمنين " حكاية انهم قالوا لموسى وهارون لسنا بمصدقين
لكما فيما تدعيانه من النبوة.
قوله تعالى:
وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم (79) آية.
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما " بكل سحار " بتشديد الحاء والف بعدها
الباقون (ساحر) على وزن فاعل. وقد بينا الوجه في ذلك في الأعراف.
حكى الله تعالى عن فرعون انه حين أعجزه المعجزات التي ظهرت لموسى،
ولم يكن له في دفعها حيلة قال لقومه ائتوني بكل ساحر عليم بالسحر بليغ في علمه.
و (فرعون) لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة، وهو منقول في حال تعريفه ولو نقل
في حال تنكيره انصرف كياقوت. ووزن فرعون فعلون، الواو زائدة، لأنها
لحقت عند سلامة الثلاثة. ومثله فردوس. وإنما طلب فرعون كل ساحر ليتعاونوا
على دفع ما اتى به موسى وحتى لا يفوته شئ من السحر بتأخير بعضهم. وإنما
415

توهم مقاومة السحرة لموسى مع قول موسى له " قد علمت ما انزل هؤلاء إلا رب
السماوات والأرض " لأنه إنما عرف ذلك فيما بعد لما بهره الامر فكان قبل ذلك
على الجهل لتوهمه ان السحر يقاوم الحق.
قوله تعالى:
فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (80) آية
حكى الله تعالى ان السحرة الذين طلبهم فرعون وامر باحضارهم لما جاؤوا
فرعون وموسى حاضر " قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون " وهذا ظاهره الامر
ويحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون قال ذلك على سبيل التحدي والالزام
بمعنى: من كان عنده انه يقاوم المعجزات لزمه ان يأتي بها معه حتى تظهر منزلته
وإنما جاز إلزام الباطل على الخصم ليتبين ان أصله الفاسد يوجب عليه اعتقاد ذلك
الباطل. كما أن الشيطان يوجب الفساد ويدعوه إلى الضلال. الثاني - أن يكون
ذلك امرا على الحقيقة بدليل إن كان معه قوله " ألقوا ما أنتم ملقون " إنما لم
يقتصر على قوله " ألقوا " لان المراد به ألقوا جمع ما أنتم ملقون في المستأنف فلا
يكفي منه ألقوا. والالقاء اخراج الشئ عن اليد إلى جهة الأرض ويشبه بذلك قولهم
القى عليه مسألة والقى عليه كلمة، والالقاء والطرح نظائر. وفي الكلام حذف، لان
تقديره قال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فأتوه بهم فقال لهم موسى.
قوله تعالى: فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن
الله لا يصلح عمل المفسدين (81) آية
قرأ أبو عمرو وحده " السحر " على الاستفهام. الباقون على الخبر.
416

قال أبو علي الفارسي: في قراءة أبي عمرو (ما) يرفع بالابتداء، وجئتم به في موضع
الخبر والكلام استفهام، لان الكلام يستقبل بقوله جئتم به. ولو كانت موصولة
احتاج إلى خبر آخر. وهذا الاستفهام المراد به التقرير كما، قال " أأنت قلت
للناس " (1) لان موسى كان عالما بأن ذلك السحر. وإنما ألحق الف الاستفهام
بقوله " السحر " لان السحر بدلا من " ما " المبتدأ ولزم ان يلحق السحر الاستفهام
ليساوي المبدل منه في أنه استفهام، الا ترى انه ليس في قولك السحر استفهام
وعلى هذا قالوا كم مالك أعشرون أم ثلاثون، فجعلت العشرون بدلا من كم
فألحقت أم لأنك في قولك كم درهما مالك، مدع ان له مالا. ومن قرأ على الخبر
جعل (ما) موصولة (وجئتم به السحر) صلة، والهاء مجرورة عائدة على الموصول
والسحر خبر المبتدأ الذي هو الموصول. وحكى الفراء: انه دخل الألف واللام في
في قوله " السحر " للعهد، لأنهم قالوا لما اتى به موسى إنه سحر، قال موسى
ما جئتم به فهو من السحر. وفي قراءة اني ما جئتم به سحر بلا الف ولام. ومن قرأ
بالاستفهام جعل (ما) في قوله " ما جئتم به " للاستفهام. ومن قرأ على الخبر
جعل (ما) بمعنى الذي وفسرت (ما) بالواحد في السحر. لان المعنى عليه، وإنما
ذكر للتوبيخ كقولك ما صنعت الفساد.
حكى الله تعالى انه لما ألقى السحرة سحرهم قال لهم موسى: الذي جئتم به
السحر فمن قرأ على الخبر، واي شئ جئتم به السحر مقررا لهم ثم اخبر ان الله
سيبطل هذا السحر الذي فعلتموه " ان الله لا يصلح عمل المفسدين " فالاصلاح تقديم
العمل على ما ينفع بدلا مما يضر. والصلاح استقامة العمل على هذا الوجه.
والافساد تعويج العمل إلى ما يضر بدلا مما ينفع. والفساد اضطراب العمل على هذا
الوجه. والصلاح مضمن بالنفع لأنه إذا أضيف ظهر معنى النفع فيه كقولك صلاح
لزيد، وهو أصلح له اي انفع له وإن كان فيه فساد على غيره.

(1) سورة 5 المائدة آية 119
417

قوله تعالى:
ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون (82) آية
هذا عطف على قوله " قال موسى ما جئتم به السحر ان الله سيبطله ان
الله لا يصلح عمل المفسدين. ويحق الله الحق بكلماته " وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أولها - قال الحسن: بوعده لموسى. الثاني - قال أبو علي: بكلامه الذي يبين به
معاني الآيات التي اتاها نبيه صلى الله عليه وآله. الثالث - بما سبق من حكمه في اللوح
لمحفوظ بأن ذلك يكون. واحقاق الحق معناه اظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة
والآيات البينة حتى يرجع الطاعن على حسيرا والمناصب له مفلولا. وقوله " ولو
كره المجرمون " معناه انه يحق وان كرهه من هو مجرم.
وفي الآية دلالة على أن تعالى ينصر المحقين كلهم لنصره إياهم بالحجة فأما
بالغلبة في كل حال فموقوف، لان المصلحة قد تكون بالتخلية تارة وبالحيلولة
أخرى. والحق على ضربين: أحدهما - ما كان يمكن أن يكون حقا وغير حق،
فهذا لا يصير حقا إلا بأن يقصد فاعله على ايقاعه حقا. فجاز ان يقال إنه حق بالفاعل.
والاخر لا يؤثر فيه قصد فاعله فلا يقال في ذلك أنه حق بالفاعل.
قوله تعالى
فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون
وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن
المسرفين (83) آية
أخبر الله تعالى انه لم يصدق لموسى بالنبوة الا ذرية من قومه مع خوفهم من
فرعون ورؤساء قومه ان يفتنوهم. (والذرية) الجماعة من نسل القبيلة. وحكى
418

ابن عباس انه أراد الا قليل من قومه. وقيل كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم
من القبط. وقيل سموا ذرية لأنهم أولاد الذين ارسل عليهم موسى فلم يستجب الاباء
وقيل: الأبناء. وقيل: هم قوم من بني إسرائيل أخذهم فرعون بتعلم السحر وجعلهم من
أصحابه. ويحتمل أن يكون ذرية على وزن (فعلية) مأخوذا من الذر كقمرية.
والثاني - أن يكون على وزن (فعلية) من الذرو في تذروه الرياح كقولك مزقته، ويجوز
أن يكون من ذرأ الله الخلق فترك همزه والفتنة في الدين الامتحان الذي يصرف
عنه. وقد يكون ذلك بالاكراه تارة وبالهدى أخرى، وبالشبهة الداعية إلى الضلال وقوله
" إن فرعون لعال في الأرض " فالعلو في الامر عظم الشأن فيه، وكل معنى لا يخلو
من أن يكون في صفة عالية أو دانية أو فيما بينهما من الجلالة والضعة.
والضمير في قوله " وملئهم " قيل فيمن يعود إليه ثلاثة أقوال: أحدها - إلى
الذرية فقط. الثاني - إلى فرعون واتباعه. الثالث - إلى فرعون، لأنه معلوم.
وقوله " وإنه لمن المسرفين " اخبار منه تعالى ان فرعون لمن جملة من أبعد في
مجاوزة الحق. والاسراف قد يكون في القتل وفي الاكتار من المعاصي.
قوله تعالى:
وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن
كنتم مسلمين (84) آية.
حكى الله تعالى عن موسى أنه قال لقومه: إن كنتم صدقتم بتوحيد الله فتوكلوا
عليه إن كنتم مسلمين وإنما أعاد قوله " إن كنتم مسلمين " بعد قوله " إن كنتم آمنتم
بالله " ليتبين المعنى بالصفتين من الا يمان والاسلام وبالتقييد والاطلاق على أن الثقة بالله
توجب الاستسلام لامره. والتوكل التوثق باسناد الامر إلى الله. والوكالة عقد الامر
لمن يقوم به مقام مالكه. والله عز وجل أملك بالعبد من نفسه فهو أحق بهذه
419

الصفة. ويوجب التوكل على الله النجاة من كل محذور، والفوز بكل سرور وحبور
إذا اخلص العمل فيه وسلمت النية فيه. وحذفت ياء الإضافة من قوله " يا قوم " اجتزاء
بالكسرة منها وهو في النداء أحسن من اثباتها لقوة النداء على التغيير. وفائدة
الآية البيان عما يعمل عليه عند نزول الشدة من أن من كان يؤمن بالله فليتوكل
على الله ويسلم امره إليه ثقة بحسن تدبيره له.
قوله تعالى:
فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين
(85) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين (86) آيتان
الفاء في قوله " فقالوا " فاء العطف وجواب الامر كما يقال قال السائل كذا
فقال المجيب كذا. وإنما جاز الفاء في الجواب ولم تجز الواو، لان الفاء ترتيب
من غير مهلة، فهي موافقة لمعنى وجوب الثاني بالأول وليس كذلك الواو.
لما حكى الله تعالى قول موسى لقومه " إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا "
حكى ما أجاب به قومه من قولهم: توكلنا على الله، وانهم سألوا الله وقالوا " ربنا
لا تجعلنا فتنة " أي محنة واعتبارا " للقوم الظالمين " وخلصنا " برحمتك من القوم "
الذين كفروا بآياتك، وكل كافر ظالم لنفسه بتعرضه للعقاب وليس كل ظالم
كافرا. والفتنة أصلها البلية وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة. يقال فتنت الذهب
إذا أحرقته بالنار ليظهر الخلاص وقوله " يوم هم على النار يفتنون " (1) اي يحرقون
بما فيه من اظهار حالهم في الضلال وقوله " والفتنة أشد من القتل " (2) معناه
التعذيب للرد عن الدين، لما فيه من اظهار النصرة أشد، ومعنى " لا تجعلنا فتنة "
للقوم الظالمين " لا تمكنهم من ظلمنا بما يحملنا على اظهار الانصراف عن ديننا

(1) سورة 51 الذاريات آية 13
(2) سورة 2 البقرة آية 191
420

- في قول مجاهد - وقال أبو الضحى والجبائي معناه: لا يظهروا علينا فيروا أنهم خير منا.
وقوله " ونجنا " معناه خلصنا مما فيه المخافة والشماتة. وإنما جاز وصف الله
تعالى بالرحمة مع كثرة استعمالها في الرقة لدلالة التعظيم على انتفاء معنى الرقة
ان نعمه في الاسباغ والكثرة تقع موقع ما تبعث عليه الرقة. وإنما سألوا النجاة من
استعباد فرعون وملائه إياهم وأخذهم بالاعمال الشاقة والمهن الخسيسة.
قوله تعالى:
وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا
واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين (78) آية.
أخبر الله تعالى انه أوحى إلى موسى وأخيه بمعنى ألقى اليهما في خفاء
والايحاء والايماء والإشارة نظائر، وكله بيان ودلالة. وحكى الرماني أن قوما
أجازوا أن يوحي الله إلى من ليس بنبي برؤيا أو إلهام، قال: وليس يجوز عندنا على
المعنى الذي يقع الوحي إلى الأنبياء، لأنه إنما يقع على خلاف مجرى العادة بمعجزة
تشهد بأنه تعالى ألقى المعنى إليه. ولا يجوز ان تطلق الصفة بالوحي الا لنبي فان
قيد ذلك على خلاف هذا المعنى كان جائزا، كقوله " وأوحى ربك إلى النحل " (1)
ومعنى قوله " تبوءا " اتخذا يقال: بوأته منزلا أي اتخذته له وأصله
الرجوع من " باؤوا بغضب من الله " (2) أي رجعوا، والمبوء المنزل لأنه يرجع
إليه للمقام فيه ومنه قولهم (بؤ بشسع كليب) أي ارجع به. وقوله " واجعلوا
بيوتكم قبلة " معناه مصلى. وقيل قبلة: مسجدا، لأنهم كانوا خائفين فأمروا بأن
يصلوا في بيوتهم - في قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم والسدي والضحاك والربيع -

(1) سورة 16 النحل آية 68
(2) سورة 2 البقرة آية 61 وسورة 3 آل عمران آية 112
421

وقال الحسن يعني قبلة نحو الكعبة. ولم يصرف (مصر) لأنه مؤنث معرفة كقولك
هند، ولو صرفته لخفته كما صرفت هند كان جائزا، وترك الصرف أقيس. وقوله
" وأقيموا الصلاة " أمر من الله إياهم بإقامة الصلاة والدوام على فعلها " وبشر
المؤمنين " أمر منه لموسى ان يبشر المؤمنين بالجنة وما وعد الله تعالى من الثواب
وأنواع النعيم.
قوله تعالى:
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا
في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على
أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب
الأليم (88) آية
حكى الله تعالى في هذه الآية عن موسى عليه السلام أنه قال يا " ربنا انك أعطيت
فرعون وملائه " يعني قومه ورؤساءهم " زينة وأموالا في الحياة الدنيا " وإنما
أعطاهم الله تعالى ذلك للانعام عليهم مع تعريه من وجوه الاستفساد. و (الزينة)
ما يتزين به من الحلي والثياب والمتاع. ويجوز أن يراد به حسن الصورة " ليضلوا
عن سبيلك " فهذه لام العاقبة، وهي ما يؤول إليه الامر كقوله " فالتقطه آل فرعون
ليكون لهم عدوا وحزنا " (1) ويحتمل أن يكون المعنى لئلا يضلوا عن سبيلك
فحذفت (لا) كقوله " ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما " (2) اي لئلا
تضل إحداهما، وكقوله " ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين " (3)

(1) سورة 28 القصص آية 8
(2) سورة 2 البقرة آية 282
(3) سورة 7 الأعراف آية 171
422

اي لئلا يقولوا. ولا يجوز أن يكون لام الغرض، لان الله تعالى لا يفعل بهم الزينة ويعطيهم
ويريد منهم ان يضلوا بل إنما يفعل لينتفعوا ويطيعوه ويشكروه. وقال قوم: لو كان
أراد منهم الضلال لكانوا إذا ضلوا مطيعين، لان الطاعة هي موافقة الإرادة وذلك
باطل بالاتفاق. وقوله " ربنا اطمس على أموالهم " إخبار عن موسى انه دعا على
قومه فسأل الله ان يطمس على أموالهم. والطمس محو الأثر تقول: طمست عينه
اطمسها طمسا وطموسا وطمست الريح آثار الديار. فدعا موسى عليه السلام عليهم بأن
يقلب حالهم عن الانتفاع بها كقوله " من قبل ان نطمس وجوها " (1) والطمس
تغير إلى الدبور والدروس قال كعب بن زهير:
من كل نضاخة الذفرى إذا عرفت * عرصتها طامس الاعلام مجهول (2)
وقال قتادة والضحاك وابن زيد وأبو صالح: صارت أموالهم حجارة.
وقوله " واشدد على قلوبهم " معناه ثبتهم على المقام ببلدهم بعد إهلاك أموالهم
فيكون ذلك أشد عليهم. وقوله " فلا يؤمنوا " يحتمل موضعه وجهين من الاعراب:
أحدهما - النصب على جواب صيغة الامر بالفاء أو بالعطف على " ليضلوا "
وتقريره لئلا يضلوا فلا يؤمنوا. والثاني - الجزم بالدعاء عليهم، كما قال الأعشى.
فلا ينبسط من بين عينك ما انزوى * ولا تلقني إلا وانفك راغم (3)
وقال الفراء: ذلك دعاء عليهم بأن لا يؤمنوا. وحكى الجبائي عن قوم ان
المراد بذلك الاستفهام والانكار كأنه قال: إنك لا تفعل ذلك ليضلوا عن سبيلك.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب: هذه لام الإضافة، والمعنى لضلالتهم عن سبيلك
" اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ". وحكى البلخي: انه يجوز أن يكون
ذلك على التقديم والتأخير وتقديره ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا ربنا اطمس
على أموالهم وقيل إن قوله " فلا يؤمنوا " خرج مخرج الجواب للامر ومعناه

(1) سورة 4 النساء آية 46
(2) انظر 1 / 226 تعليقة 1 و 3 / 216
(3) ديوان الأعشى والأعشيين 58 وتفسير القرطبي 8 / 275
423

الاخبار، كما يقولون انظر إلى الشمس تغرب. وقيل: ان المعنى لا يؤمنون ايمان
الجاء حتى يروا العذاب الأليم وهم مع ذلك لا يؤمنون ايمان اختيار أصلا. وقال
بعضهم: اللام لام (كي) وانه أعطاهم الأموال والزينة لكي يضلوا عقوبة وهذا
خطأ، لأنه يوجب أن يكون ضلالهم عن الدين طاعة لله.
قوله تعالى:
قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل
الذين لا يعلمون (89) آية
حكى الله تعالى أنه أجاب موسى وهارون، فقال لهما " قد أجيبت دعوتكما "
والجواب موافقة للدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة. فالله تعالى يجيب
الدعاء إذا وقع بشروط الحكمة. واختلفوا في هل يجوز أن يجيب الله تعالى دعوة الكافر
أم لا؟ فقال أبو علي الجبائي: لا يجوز لان اجابته إكرام له كما يقولون: فلان
مجاب الدعوة اي هو رجل صالح. والكافر ليس بهذه المنزلة. وقال أبو بكر بن
الاخشاد: يجوز ذلك إذا كان فيه ضرب من المصلحة. والإجابة قد تكون من الأعلى
للأدون من غير ترغيب المدعو. والطاعة لا تكون إلا من الأدنى للأعلى.
ولا يجوز عند أكثر المحصلين ان يدعو نبي على قومه من غير إذن سمعي، لأنه
لا يأمن أن يكون منهم من يتوب مع اللطف في التبقية، فلا يجاب. ويكون ذلك فتنة.
والدعوة طلب الفعل بصيغة الامر وقد يدعى بصيغة الماضي كقولك: غفر الله لك
وأحسن إليك، وجزاك الله خيرا. وإنما قال " أجيبت دعوتكما " والداعي موسى
لان دعاء موسى كان مع تأمين هارون - على ما قاله الربيع وابن زيد وعكرمة
ومحمد بن كعب وأبو العالية - والمؤمن داع، لان المعنى في التأمين اللهم أجب هذا
الدعاء. وقوله " فاستقيما " امر منه تعالى لهما بالاستقامة في دعائهما لفرعون
424

وقومه على ما أمرتكما به ولا تتبعا سبيل الجاهلين لوعدي ووعيدي فإنه لا خلف له.
وقال ابن جريح: مكث فرعون بعد هذه الأمور أربعين سنة.
وقوله " ولا تنبعان سبيل الذين لا يعلمون " نهي منه تعالى لموسى وهارون
أن يتبعا طريقة من لا يؤمن بالله ولا يعرفه. وقرأ ابن عامر وحده " ولا تتبعان "
مخففة النون الا الداحوني عن هشام، فإنه خير بين تخفيفها وتشديدها. وقرأ
ابن عامر وحده " ولا تتبعان " ساكنة التاء مخففة مشددة النون. وفي قراءة الأخفش
الدمشقي عن ابن عامر بتخفيف التاء والنون. الباقون بتشديد التاء والنون. قال
أبو علي النحوي: من شدد النون فلان هذه النون الثقيلة إذا دخلت على (تفعل)
فتح لام الفعل، لدخولها وبني الفعل معها على الفتح نحو (لتفعلن) وحذفت النون
التي تثبت في (تفعلان) في حال الرفع مع النون الشديدة، وحذف الضم في
(لتفعلن)، وإنما كسرت الشديدة بعد ألف التثنية. لوقوعها بعد الف التثنية، فأشبهت
التي تلحق الألف في رجلان، لما كانت في هذه مثلها، ودخلت لمعنى كدخولها،
ولم يعتد بالنون قبلها، لأنها ساكنة، ولأنها خفيفة فصارت المكسورة كأنها وليت
الألف. ومن خفف النون يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة كما خففوا (رب)
و (ان) ونحوهما، وحذفوا الأولى من المثلين كما أبدلوا الأولى من المثلين في نحو
(قيراط ودينار) ولان اصلهما (قراط ودنار) فأبدلوا من إحدى النونين ياء.
ويحتمل أن يكون حالا من قوله " فاستقيما " وتقديره فاستقيما غير متبعين. ويحتمل
أن يكون على لفظ الخبر والمراد به الامر.
قوله تعالى:
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده
بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا
425

الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين (90) آية.
قرأ أهل الكوفة الا عاصما " آمنت انه " بكسر الألف. الباقون بفتحها
قال أبو علي: من فتح الهمزة فلان هذا الفعل فصل بحرف الجر في نحو
" يؤمنون بالغيب " (1) و " يؤمنون بالجبت " (2) فلما حذف الحرف وصل الفعل
إلى (ان) فصار في موضع نصب أو خفض على الخلاف في ذلك. ومن كسر الألف
حمله على القول المضمر كأنه قال " آمنت " فقلت إنه، واضمار القول في نحو هذا
كثير. وهذا أحسن لان قوله (انه لا إله إلا الله) في المعنى ايمان، وإذا قال
آمنت فكأنه ذكر ذلك. وقال الرماني: من كسر (إن) جعله بدلا من (آمنت).
ومن فتح جعله معمول (آمنت) وفي الكلام حذف، لان تقديره فاتبعهم فرعون
وجنوده بغيا وعدوا فيه فغرقناه حتى إذا ادركه الغرق.
حكى الله تعالى أنه جاوز ببني إسرائيل البحر بمعنى أخرجهم منه بأن جفف
لهم البحر وجعله طرقا حتى جاوزوه. والمجاوزة الخروج عن الحد من احدى الجهات
الأربعة، لأنه لو خرج عن البحر بقليل وهو متعلق عليه لم يكن قد جاوزه.
والبحر مستقر الماء الواسع بحيث لا يدرك طرفه من كان في وسطه. ويقال: ما فلان
إلا بحر لسعة عطائه. وقوله " فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا " فالاتباع طلب
اللحاق بالأول: اتبعه اتباعا وتبعه بمعنى. وحكى أبو عبيدة عن الكسائي أنه قال
إذا أريد انه اتبعه خيرا أو شرا قالوا بقطع الهمزة، وإذا أريد انه اقتدى بهم واتبع
أثرهم قالوا بتشديد التاء ووصل الهمزة. والبغي طلب الاستعلاء بغير حق. والباغي
مذموم لقوله تعالى " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى امر الله " (3). و (عدوا)
معناه عدوانا وظلما.

(1) سورة 2 البقرة آية 3
(2) سورة 4 النساء آية 50
(3) سورة 49 الحجرات آية 9
426

وقوله " حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا
إسرائيل " اخبار منه تعالى أن فرعون حين لحقه الغرق والهلاك قال ما حكاه الله
وكان ذلك ايمان إلجاء لا يستحق به الثواب كما لا يستحق بالايمان الضروري.
وقوله " بغيا وعدوا " نصب على المصدر والمراد بغيا على موسى وقومه
واعتداء عليهم.
قوله تعالى:
الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) آية
قرأ أبو جعفر من طريق النهرواني ونافع إلا أبا طاهر عن إسماعيل وأحمد ابن
صالح عن قالون والحلواني عن قالون من طريق الحمامي " الان " في الموضعين
في هذه السورة بالقاء حركة الهمزة على اللام وحذف الهمزة منهما. قال أبو علي
النحوي: اعلم أن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أولها الهمزة فخففت الهمزة فان
في تخفيفها وجهين: أحدهما - ان تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقر همزة
الوصل فيقال الحمر بالألف. والثاني - ان يقولوا: كالحمر بلا الف فيحذفون همزة
الوصل، فالذين أثبتوا الهمزة فلان التقدير باللام السكون وان كانت في اللفظ
متحركة. واللغة الأخرى كما انشد الكسائي:
فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة * فبح لان منها بالذي أنت بائح (1)
فأسكن الحاء لما كانت اللام متحركة، ولو لم يعتد بالحركة كما لم يعتد
في الوجه الأول تحرك الحاء بالكسر كما يحركه في بح اليوم. ومعنى (الان)
فصل بين الزمان الماضي والمستقبل مع أنه إلى الحاضر ولهذا بني كما بني (إذا)
وعرف (الان) بالألف واللام (وامس) بتضمين حرف التعريف لان ما مضى بمنزلة
المضمن في المعنى في أنه ليس له صورة. والحاضر في معنى المصرح في صحة الصورة.

(1) مر هذا البيت في 1 / 300 وهو في اللسان (أين)
427

واختلفوا فيمن القائل هذا القول، فقال الجبائي: ان القائل له ملك قال ذلك بأمر
الله. وقال (غيره) ان ذلك كلام من الله قاله له على وجه الإهانة والتوبيخ وكان
ذلك معجزة لموسى عليه السلام ومعنى الآية حكاية ما قبل لفرعون حين قال " آمنت أنه
لا اله لا الذي آمنت به بنوا إسرائيل " بأنك تقول هذا في هذه الساعة " وقد عصيت
قبل " هذا " وكنت من المفسدين " في الأرض بقتل المؤمنين وادعاء الإلهية،
وغير ذلك من أنواع الكفر!.
قوله تعالى:
فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا
من الناس عن آياتنا لغافلون (92) آية.
قرأ يعقوب وقتيبة " ننجيك " بالتخفيف. الباقون بالتشديد.
معنى قوله " ننجيك ببدنك " نلقيك على نجوة من الأرض ببدنك عريانا دون
روحك قال أوس بن حجر:
فمن بنجوته كمن بعقوبة * والمستكن كما يمشي بقرواح (1)
القرواح حيث لا ماء ولا مطر، والبدن مستكن روح الحيوان على صورته وكل
حيوان له روح وبدن، والحي في الحقيقة الروح دون البدن عند قوم، وفيه خلاف.
ومعنى قوله " لتكون لمن خلفك آية " قيل فيه قولان.
أحدهما - لمن يأتي بعدك ممن يراك على تلك الصفة وقد كنت تدعي الربوبية.
الثاني - ان بني إسرائيل قالوا: ما مات فرعون، فألقاه الله تعالى على نجوة
من الأرض ليروه، ذهب إليه ابن عباس وقتادة. وقوله " وإن كثيرا من الناس
عن آياتنا لغافلون " اخبار منه تعالى أن كثيرا من الخلق غافلون عن الفكر في

(1) مر هذا البيت في 1 / 218 و 3 / 326 منسوب إلى عبيد بن الأبرص
428

حجج الله وبيناته أي ذاهبون عنها والغفلة ذهاب المعنى عن النفس ونقيضها اليقظة،
والمراد بذمهم بالغفلة عن آيات الله التعريض بأنهم تركوا النظر في آيات الله.
قوله تعالى:
ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات
فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيمة
فيما كانوا فيه يختلفون (93) آية
قوله " ولقد بوأنا " اخبار منه تعالى أنه وطأ منزل بني إسرائيل والتبوء
توطئة المنزل لصاحبه الذي يأوي إليه، تقول: بوأته منزلا تبويئا وتبوأ، وباء بالامر بواء
أي رجع. وقوله " مبوأ صدق " أي منزل صدق أي فيه فضل كفضل الصدق، كما
يقال: أخو صدق وقيل: انه يصدق فيما يدل عليه من جلالة النعمة. وقوله " ورزقناهم
من الطيبات " أي ملكناهم الأشياء اللذيذة. والرزق العقد على العطاء الجاري، ودلت
الآية على سعة أرزاق بني إسرائيل. وقوله " فما اختلفوا حتى جاءهم العلم " قيل
في معناه وجهان: أحدهما - أنهم كانوا على الكفر فما اختلفوا حتى جاءهم الدليل
المؤدي إلى العلم من جهة الرسول والكتاب، فآمن فريق وكفر آخرون - وهو قول
الحسن وابن جريح وابن زيد - وقال قوم: كانوا على الاقرار بالنبي قبل مبعثه
بصفته ونعته، فما اختلفوا حتى جاءهم معلوم العلم به. والمنزل الصدق الذي
أنزلوه قيل فيه ثلاثة أقوال: قال الحسن: هو مصر وهو منزل صالح خصب آمن.
وقال قتادة: هو الشام وبيت المقدس. وقال الضحاك: هو الشام ومصر.
وقوله " إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " اخبار منه
تعالى انه الذي يتولى الفصل بين بني إسرائيل في الأمور التي يختلفون فيها.
429

قوله تعالى:
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرؤن
الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن
من الممترين (94) آية
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله يقول له " إن كنت في شك مما "
أي من الذي " أنزلنا إليك " والشك هو توقف النفس فيما يخطر بالبال عن اعتقاده على
ما هو به، وعلى ما ليس به. وقيل: إن هذا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وآله فان
المراد به الذين كانوا شاكين في نبوته. وقال قوم: إن معناه فان كنت أيها السامع
في شك مما أنزلنا على نبينا إليك، ومثله قول القائل لعبده: إن كنت مملوكي فانتبه
إلى أمري. وقوله الرجل لابنه: ان كنت ابني فبرني. وقوله " إن كنت والدي
فتعطف علي. وحكى الزجاج وجها ثالثا وهو أن يكون معنى (إن) معنى (ما)
والتقدير: ما كنت في شك مما أنزلنا إليك " فاسأل الذين " أي لسنا نريد بأمرك
لأنك شاك لكن لتزداد بصيرة، كما قال لإبراهيم " أولم تؤمن قال بلى ولكن
ليطمئن قلبي " (1) وقوله " فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك " قيل: إنما أمره
بأن يسأل أهل الكتاب مع جحد أكثرهم لنبوته لامرين:
أحدهما - أن يكون امره بأن يسأل من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن
سلام وكعب الأحبار وابن صوريا، ذهب إليه ابن عباس ومجاهد وابن زيد والضحاك.
والثاني - سلهم عن صفة النبي صلى الله عليه وآله المبشر به في كتبهم ثم انظر فمن وافق فيه
تلك الصفة. وقال البلخي ذلك راجع إلى قوله " فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم
العلم " فأمره بأن يسألهم هل الامر على ذلك؟ فإنهم لا يمتنعون عن الاخبار به ولم

(1) سورة 2 البقرة آية 260
430

يأمره بان يسألهم هل هو محق فيه أم لا؟ ولا ان ما أنزله عليه صدق أم لا؟ ووجه
آخر وهو انه إنما امره أن يسألهم إن كان شاكا ولم يكن شاكا فلا يجب عليه
مسألتهم وهذا معنى ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال (ما شككت ولا انا شاك).
وقوله " لقد جاءك الحق من ربك " قسم منه تعالى بأنه قد جاءك يا محمد الحق
من عند ربك لان لام (لقد) القسم. وقوله " فلا تكونن من الممترين " اي لا تكونن
من الشاكين. والامتراء طلب الشك مع ظهور الدليل، وهو من مري الضرع اي
مسحه ليدر، فلا معنى لمسحه بعد دروره بالحلب. وقال سعيد بن جبير والحسن
وقتادة وأبو عبد الله عليه السلام: لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله ويقوي ان الخطاب متوجه إلى النبي
والمراد به غيره قوله بعد هذا " قل يا أيها الناس ان كنتم في شك ".
قوله تعالى:
ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من
الخاسرين (95) آية
هذا الكلام عطف على قوله " فلا تكونن من الممترين. ولا تكونن من
الذين كذبوا بآيات الله " أي من جملة من يجحد بآيات الله ولا يصدق بها فإنك ان
فعلت ذلك كنت من الخاسرين. والمراد بالخطاب غير النبي صلى الله عليه وآله من جملة أمته من
كان شاكا في نبوته. والنون في قوله (لا تكونن) نون التأكيد، وهي تدخل في
غير الواجب لأنك لا تقول أنت تكونن، ودخلت في القسم على هذا الوجه لأنه
يطلب بالقسم التصديق، وبني الفعل مع نون التأكيد لأنها ركبت مع الفعل على
تقدير كلمتين كل واحدة مركبة مع الأخرى مع أن الأولى ساكنة، واقتضت
حركة بناء لالتقاء الساكنين. وإنما شبه الكافر بالخاسر مع أن حاله أعظم من
حال الخاسر لان حال الخاسر قد جرت بها عادة. وذاق طعم الحسرة فيها فرد إليها
لبيان أمرها، وخسران النفس الذي هو أعظم منها.
431

قوله تعالى:
إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو
جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم (97) آيتان عند الجميع
قد ذكرنا اختلافهم في (كلمة وكلمات) وإن من وحد فلانه اسم جنس. ومن
جمع أراد اختلاف الألفاظ. اخبر الله تعالى " ان الذين حقت عليهم كلمة ربك "
يا محمد اي وجب عليه التحقيق بأنهم لا يؤمنون من غير شرط ولا تقييد، تقول: حق الامر
يحق حقا. وإنما جاز وصف جملة من الكلام بالكلمة لأنه لما كان في معنى واحد
صار بمنزلة الكلمة الواحدة، ولذلك قالوا في قصيدة من الشغر انها كلمة. وقوله
" حتى يروا العذاب الأليم " معناه انهم إنما يؤمنون إذا شاهدوا العذاب فآمنوا
ملجئين ايمانا لا ينفعهم. والرؤية في الآية رؤية العين، لأنها تعدت إلى مفعول واحد.
والعذاب وإن كان ألما وهو لا يصح ان يرى فلانه ترى أسبابه ومقدماته فصار بمنزلة
ما يرى، فلذلك اخبر عنه بالرؤية له.
وقوله " ولو جاءتهم كل آية " اعلام بأن هؤلاء الكفار لالطف لهم يؤمنون
عنده ايمان اختيار وإنما جاز تكليفه الا يمان باخبار الله تعالى انه لا يؤمن للانعام
بالمنافع في أحوال التكليف التي لا تحصى كثرة مع ما في ذلك من اللطف لغيره.
ولا ظلم فيه لاحد. وإنما يظلم الكافر نفسه بسوء اختياره. وإنما أنث قوله " جاءتهم
كل آية " لأنه مضاف إلى الآية وهي مؤنثة كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه. ومعنى
الآية الاخبار عن أن هؤلاء لا يؤمنون ايمانا يستحقون به الثواب، ولا ينافي ذلك
قدرتهم على الايمان كما أنه إذا اخبر انه لا يقيم القيامة الساعة لم يمنع ذلك من
قدرته على اقامتها في الحال. وقيل إن التقدير في الآية ان الذين لا يؤمنون حقت
عليهم كلمة ربك.
432

قوله تعالى:
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس
لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا
ومتعناهم إلى حين (98) آية
معنى (فلولا) هلا، وهي تستعمل على وجهين: أحدهما - على وجه
التحضيض والثاني - على وجه التأنيب كقولك: هلا يأتي زيد بحاجتك، وهلا
امتنعت من الفساد الذي رغبت إليه. قال الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا (1)
أي هلا تعدون الشجعان.
وقوله " الا قوم يونس " نصب لأنه منقطع كما قال الشاعر:
أعيت جوابا وما بالربع من أحد * إلا الاواري لاياما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (2)
وحكى الفراء: لا إن ما أبينهما وقال: جمع الشاعر بين ثلاثة أحرف في النفي
(لا وان وما) وإنما جاز فلولا كانت قرية آمنت لان المراد أهل قرية فحذف
اختصارا من غير اخلال بالمعنى. وقوله " فنفعها ايمانها " معناه هلا كانت أهل
قرية آمنت في وقت ينفعها الايمان، وجرى هذا مجرى قول فرعون " حتى إذا
أدركه الغرق قال آمنت انه لا اله الا الذي " (3) فاعلم الله أن الايمان لا ينفع عند
نزول العذاب ولا عند حضور الموت، وقوم يونس لم يقع بهم العذاب كأنهم لما
رأوا الآية الدالة على العذاب آمنوا فلما آمنوا كشف عنهم العذاب. والنفع هو

(1) انظر 1 / 319، 435
(2) مر هذا الشعر في 1 / 44، 151 و 3 / 327 و 4 / 191
(3) سورة 10 يونس آية 90
433

اللذة، ومعناه ههنا انه وجبت لهم اللذة بفعل ما يؤدي إليها كما أن الصلة بالمال
نفع، لأنه يؤدي إلى اللذة، وكذلك أكل الطعام الشهي وتناول الكرية عند الحاجة
نفع لأنه يؤدي إلى اللذة. والخزي هو الهوان الذي يفضح صاحبه ويضع من قدره.
وقال الجبائي: المراد بأهل القرية - على قول كثير من أهل التأويل - ثمود الذين
أهلكهم الله بكفرهم، والتقدير هلا أهل قرية سوى قوم يونس آمنوا فنفعهم
ايمانهم وزال عنهم العذاب كما آمن قوم يونس لما أحسوا بنزول العذاب،
فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعهم وبقاهم أحياء سالمين في الدنيا
بعد توبتهم إلى مدة من الزمان. وهذا الذي ذكره إنما كان يجوز لو كان (إلا)
قوم يونس) رفعا وكان يكون " الا قوم يونس " صفة أو بدلا من الأول لان
المعنى إلا قوم يونس محمول على معنى هلا كان قوم قرية أو قوم نبي آمنوا الا
قوم يونس، قال الزجاج: لم يقرأ أحد بالرفع، ويجوز في الرفع أن يكون
بدلا من الأول، وإن لم يكن من جنس الأول كما قال الشاعر:
وبلدة ليس لها أنيس * لا اليعافير والا العيس (1)
وقال أبو عبيدة (الا) ههنا بمعنى الواو، والمعنى وقوم يونس. وقال الحسن
معنى الآية انه لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعها حتى لا يشذ منهم
أحد الا قوم يونس. فهلا كانت القرى كلها هكذا. وقرأ طلحة بن مصرف
يونس ويوسف بكسر النون والسين أراد أن يجعل الاسمين عربيين مشتقين من أسف
وأنس، وهو شاذ.
فان قيل: قوله " كشفنا عنهم العذاب " يدل على نزول العذاب بهم فكيف
ينفع مع ذلك الايمان، وهل ذلك الا ضد قوله " فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا
بأسنا " (2)؟ قلنا: ليس يجب أن يكون العذاب نزل بهم بل لا يمتنع أن يكون
ظهرت لهم دلائله وان لم يروا العذاب كما أن العليل المدنف قد يستدرك التوبة

(1) مر تخريجه في 1 / 151 و 3 / 327
(2) سورة 40 المؤمن آية 85
434

فيقبل الله توبته قبل ان يتحقق الموت، فإذا تحققه لم يقبل بعد ذلك توبته. وقد
قال الله تعالى " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " (1) ولا يدل ذلك
على أنهم كانوا دخلوا النار فأنقذوا منها فكذلك لا يمتنع أن يكون كشف عنهم
العذاب وان لم يكن حل بهم ولا عاينوه إذا كان قد قرب منهم واستحقوه في الحكم.
قوله تعالى:
ولو شاء ربك لا من من في الأرض كلهم جميعا أفأنت
تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99) آية
أخبر الله تعالى في هذه الآية انه لو شاء وأراد " لا من من في الأرض كلهم
جميعا " فكلهم رفع لأنه تأكيد ل‍ (من) وهي مرتفعة بالايمان (وجميعا) منصوب
على الحال. والمشيئة والإرادة والايثار والاختيار نظائر، وإنما يختلف عليهم
الاسم بحسب مواقعها على ما بيناه في الأصول. وقيل: إن الشئ مشتق من المشيئة
لأنه مما يصح ان يذكر ويشاء، كما اشتقوا المعنى من عنيت.
ومعنى الآية الاخبار عن قدرة الله وانه يقدر على أن يكون الخلق على
الايمان، كما قال " إن نشاء ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها
خاضعين " (2) وإنما أراد بذلك الاخبار عن قدرته بلا خلاف، ولذلك قال بعد ذلك
" أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " ومعناه انه لا ينبغي ان يريد إكراههم
لان الله عز وجل يقدر عليه ولا يريده، لأنه ينافي التكليف، وأراد بذلك تسلية
النبي صلى الله عليه وآله والتخفيف عنه مما يحلقه من التحسر والحرص على ايمانهم.
وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة، فإنه تعالى لم يزل شايئا وانه لا
يوصف بالقدرة أيضا، لأنه تعالى اخبر انه لو يشاء لقدر عليه لكنه لم يشأ فلذلك لم

(1) سورة 3 آل عمران آية 103
(2) سورة 26 الشعراء آية 4
435

يوجد ولو كان شايئا لم يزل لما جاز ان يقول ولو شاء ربك كما لا يجوز أن يقول
لو شاء لقدر لما كان قادرا حاصلا لم يزل.
قوله تعالى:
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس
على الذين لا يعقلون (100) آية
قرأ أبو بكر إلا الأعشى والبرجمي (ونجعل) بالنون. الباقون بالياء.
من قرأ بالياء فلانه تقدم ذكر الله فكنى عنه. ومن قرأ بالنون ابتدأ بالاخبار
عن الله.
ومعنى قوله " وما كان لنفس ان تؤمن إلا بإذن الله " انه لا يمكن أحد ان
يؤمن إلا باطلاق الله له في الايمان وتمكينه منه ودعاءه إليه بما خلق فيه من العقل
الموجب لذلك. وقال الحسن وأبو علي الجبائي: اذنه ههنا أمره كما قال " يا أيها
الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم " (1) وحقيقة اطلاقه
في الفعل بالامر، وقد يكون الاذن بالاطلاق في الفعل برفع التبعة. وقيل: معناه وما
كان لنفس أن تؤمن إلا بعلم الله. وأصل الاذن الاطلاق في الفعل فأما الاقدار على
الفعل فلا يسمى أذنا فيه، لان النهي ينافي الاطلاق. قال الرماني: والنفس خاصة
الشئ التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشئ، ونفسه وذاته واحد إلا أنه قد
يؤكد بالنفس ولا يؤكد بالذات. والنفس مأخوذة من النفاسة.
وقوله " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الفراء: الرجس العذاب يجعله على الذين لا يعقلون امر الله ولا نهيه
ولا ما يدعوهم إليه. والثاني - قال الحسن: الرجس الكفر أي يجعله بمعنى انه

(1) سورة 4 النساء 169
436

يحكم انهم أهله ذما لهم واسما " على الذين لا يعقلون " اي كأنهم لا يعقلون شيئا
ذما لهم وعيبا وقال ابن عباس: الرجس الغضب والسخط. وقال أبو عبيدة الرجز
العذاب ومثله الرجس، ومنه قوله " لان كشفت عنا الرجز " (1) وقوله " فلما
كشفنا عنهم الرجز " (2) وقوله " والرجز فاهجر " (3) معناه وذا الرجز أي الذي
تؤدي عبادته إلى العذاب. وقال الحسن: الرجز بضم الراء العذاب، وبكسرها
الرجس. وقال الفراء: يجوز أن يكون الرجز بمعنى الرجس وقلبت الزاي سينا
كما قالوا أسد وأزد.
قوله تعالى:
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الا يأت
والنذر عن قوم لا يؤمنون (101) آية
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يأمر الخلق بالنظر لأنه الطريق المؤدي إلى معرفة
الله تعالى. والنظر المراد في الآية الفكر والاعتبار. وقال الرماني: هو طلب الشئ
من جهة الفكر كما يطلب ادراكه بالعين. ومعنى قوله تعالى " ماذا في السماوات
والأرض " أي ما فيهما من العبر من مجئ الليل والنهار مجرى البحور والأفلاك
ونتاج الحيوان وخروج الزرع والثمار، ووقوف السماوات والأرض بغير عماد،
لان كل ذلك تدبير يقتضي مدبرا لا يشبه الأشياء ولا تشبهه. وقوله " وما تغني
الا يأت والنذر عن قوم لا يؤمنون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أن تكون (ما) نفيا بمعنى ما يغني عنهم شيئا بدفع الضرر، إذا
لم يفكروا فيها ولم يعتبروا بها كقولك: وما يغني عنك المال شيئا إذا لم تنفقه
في وجوهه.

(1) سورة 7 الأعراف آية 133، 134
(2) سورة 7 الأعراف آية 133، 134
(3) سورة 74 المدثر آية 5
437

والاخر - أن تكون (ما) للاستفهام كقولك أي شئ يغني عنهم من اجتلاب
نفع أو دفع ضرر إذا لم يستدلوا بها. والنذر جمع نذير وهو صاحب النذارة وهي
اعلام بموضع المخافة ليقع به السلامة.
قوله تعالى:
فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل
فانتظروا إني معكم من المنتظرين (102) آية
خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بلفظ الاستفهام والمراد به النفي لان تقديره ليس
ينتظر هؤلاء الكفار الأمثل أيام الذين خلوا من قبلهم. وإنما قابل بين الأيام
المنتظرة والأيام الماضية في وقوع العذاب والحسرة حين لا تنفع الندامة. والانتظار
هو الثبات لموقع ما يكون من الحال، تقول: انتظرني حتى ألحقك ولو قلت
توقعني لم تكن أمرته بالثبات. والمثل في الجنس ما سد أحدهما مسد صاحبه فيما
يرجع إلى ذاته والمثل في غير الجنس ما كان على المعنى يقربه من غيره كقربه من جنسه
كتشبيه اعمال الكفار بالسراب. وقوله " قل فانتظروا اني معكم من المنتظرين "
أمر من الله لنبيه أن يقول لهم: انتظروا ما وعد الله به من العقاب فاني منتظر نزوله
بكم مع جميع المنتظرين كما وعد الله به.
قوله تعالى:
ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج
المؤمنين (103) آية
قرأ يعقوب " ثم ننجي " بالتخفيف. وقرأ الكسائي ويعقوب وحفص والكسائي
عن أبي بكر " ننجي المؤمنين " بالتخفيف. الباقون بالتشديد فيهما. قال أبو علي
438

النحوي: يقال نجا زيد نفسه، فإذا عديته، فان شئت قلت أنجيته وان شئت قلت
نجيته. ومن شدد فلقوله " ونجينا الذين آمنوا " (1) ومن خفف فلقوله " فأنجاه
الله من النار " (2) وكلاهما حسن.
أخبر الله تعالى أنه إذا أراد إهلاك قوم استحقوا الهلاك نجى رسله من بينهم
وخلصهم من العقاب، ويخلص مع الرسل المؤمنين الذين أقروا له بالوحدانية وللرسل
بالتصديق. وقوله " كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين " وجه التشبيه في ذلك أن
نجاة من يقر من المؤمنين كنجاة من مضى في أنه حق على الله ثابت لهم ويحتمل
أن يكون العامل في " كذلك " ننجي الأول وتقديره ننجي رسلنا والذين آمنوا
كذلك الانجاء ويحتمل أن يعمل فيه الثاني، وكذلك حقا علينا.
ومعنى قوله " حقا علينا " يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون معناه واجبا
علينا ننجي المؤمنين من عقاب الكفار، ذكره الجبائي. والثاني - أن يكون
على وجه التأكيد كقولك مررت بزيد حقا إلا أن علينا يقتضي الوجه الأول.
والنجاة مأخوذة من النجوة وهي الارتفاع عن الهلاك. والسلامة مأخوذة من إعطاء الشئ
من غير نقيصه، أسلمته إليه إذا أعطيته سالما من غير آفة.
قوله تعالى:
قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد
الذين تعبدون من دون الله ولكن أ عبد الله الذي يتوفاكم
وأمرت أن أكون من المؤمنين (104) آية.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ان يقول للخلق " يا أيها الناس ان كنتم

(1) سورة 41 حم السجدة آية 18
(2) سورة 29 العنكبوت آية 24
439

في شك من ديني " فان ديني أن " لا أعبد الذين تعبدون من دون الله " أي إن كنتم
في شك مما أذهب إليه من مخالفتكم فاني أظهره لكم وأبرء مما أنتم عليه وأعرفكم
ما أمرت به وهو أن أكون مؤمنا بالله وحده وأن أقيم وجهي للدين حنيفا.
إن قيل: لم قال " إن كنتم في شك من ديني " مع اعتقادهم بطلان دينه؟
قلنا عنه ثلاثة أجوبة: أحدها - أن يكون على وجه التقدير أي من كان شاكا
في أمري وهو مصمم على أمره فهذا حكمه. والثاني - انهم في حكم الشاك
للاضطراب الذي يجدون نفوسهم عليه عند ورود الا يأت والثالث - ان فيهم الشاك
فغلب ذكرهم، وإنما جعل جواب (ان كنتم في شك) (لا أعبد) وهو لا يعبد غير
الله شكورا أولم يشكوا، لان المعنى لا تطمعوا أن تشككوني بشككم حتى أعبد غير
الله كعبادتكم، كأنه قيل: إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من
دون الله بشككم ولكن أ عبد الله الذي يتوفاكم أي الذي أحياكم ثم يقبضكم وهو
الذي يحق له العبادة دون أوثانكم ودون كل شئ سواه.
قوله تعالى
وأن أقم وجهك الذين حنيفا ولا تكونن من المشركين (105) آية
هذه الآية عطف على ما قبلها والتقدير وأمرت أن أكون من المؤمنين، وقيل
لي: أقم وجهك وقيل في معناه قولان: أحدهما - استقم باقبالك على ما أمرت
به من القيام بأعباء النبوة وتحمل أمر الشريعة ودعاء الخلق إلى الله بوجهك، إذ من
أقبل على الشئ بوجهه يجمع همته له فلم يضجع فيه. والثاني - أن يكون
معناه أقم وجهك في الصلاة بالتوجه نحو الكعبة. والإقامة نصب الشئ المنافي
لاضجاعه تقول: أقام العود إذا جعله على تلك الصفة فأما أقام بالمكان فمعناه
استمر به. والوجه عبارة عن عضو مخصوص ويستعمل بمعنى الجهة كقولهم:
هذا معلوم في وجه كذا، ويستعمل بمعنى الصواب كقولك: هذا وجه الرأي.
440

وقيل في معنى الحنيف قولان: أحدهما - الاستقامة. وقيل للمايل القدم
أحنف تفاؤلا. والثاني - الميل، وقيل الحنف في الدين لأنه ميل إلى الحق.
وقوله " ولا تكونن من المشركين " معناه نهي عن الاشراك مع الله تعالى
غيره في العبادة تصريحا بالتحذير عن ذلك والذم لفاعله.
قوله تعالى
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك
إذا من الظالمين (106) آية
قيل في معنى قوله " ولا تدع من دون الله " قولان: أحدهما - لا تدعه
إلها كما يدعو المشركين الوثن إلها. الثاني - لا تدعه دعاء الآلهة في العبادة
بدعائه. والدعاء يكون على وجهين: أحدهما - بلفظ النداء كقولك: يا زيد
إذا دعوته باسمه. والثاني - أن تدعوه إلى الفعل وتطلب منه فعله كقول القائل لمن
فوقه: إفعل. وقوله " ولا تدع من دون الله " معناه لا تدع غير الله إلها. وإنما قال
" ما لا ينفعك ولا يضرك " مع أنه لو نفع وضر لم تحسن عبادته لامرين:
أحدهما - أن يكون معناه ما لا ينفك ولا يضرك نفع الاله وضره
والثاني - انه إذا كان عبادة غير الله ممن يضر وينفع قبيحة فعبادة من لا يضر
ولا ينفع أقبح وأبعد من الشبهة. وقوله " فان فعلت فإنك إذا من الظالمين " معناه
انك إن خالفت ما أمرت به من عبادة الله كنت ظالما لنفسك بادخال الضرر الذي
هو العقاب عليها. وهذا الخطاب وإن كان متوجها إلى النبي فالمراد به أمته، ويجوز
أن يكون الانسان يضر نفسه بما يفعل بأن يؤديها إلى الضرر. ولا يجوز أن ينعم
على نفسه لان النعمة تقتضي شكر المنعم عليه وذلك لا يمكن من الانسان ونفسه
كما لا يمكن أن يثبت له في نفسه مال أو دين
441

قوله تعالى:
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك
بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور
الرحيم (107) آية
قوله " وان يمسسك الله بضر " اي ان أحل بك الضر، لان المس الحقيقي
لا يجوز عليه، لان حقيقتها تكون بين الجسمين، لكن لما ادخل الباء للتعدية جرى
مجرى ان تقول يمسك من أمسه. وأما إذا لم يتعد فيكون كقوله " مسني الضر " (1)
والمماسة والمطابقة والمجامعة نظائر، وضدها المباينة. والكشف رفع الساتر المانع
من الادراك. فكأن الضر ههنا كأنه ساتر يمنع من ادراك الانسان.
وقوله " وان يردك بخير " تقديره وان يرد بك الخير، وجاز على التقديم
والتأخير كما يقول القائل: فلان يريدك بالخير ويريد بك الخير. والمعنى انه
لا راد لما يريد الله بخلقه فان أراد بهم سوءا لا يقدر على دفعه أحد. وان أرادهم
بخير فلا يقدر أحد على صرفه عنهم " يصيب به من يشاء من عباده " يعني بالخير.
وقوله " وهو الغفور الرحيم " معناه انه الغفار لكل من تاب من شركه وذنبه
فلا ييأس من ذلك أحد في حال تكليفه. وعندنا يجوز أن يغفر الله ذنب المؤمن
من غير توبة. و (الرحيم) معناه انعامه على جميع خلقه.
قوله تعالى:
قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى

(1) سورة 21 الأنبياء آية 83
442

فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا
عليكم بوكيل (108) آية
امر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يقول للخلق قد جاءكم الحق من الله وهو الذي من عمل به من العباد نجا،
وضده الباطل وهو الذي من عمل به هلك،
فمن علم بالحق كان حكيما. ومن عمل بالباطل كان سفيها. والمراد بالحق ههنا
ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله من القرآن والشرائع والأحكام وغير ذلك من الا يأت
والدلالات " فمن اهتدى " بها بأن نظر فيها وعرفها حقا وصوابا " فإنما يهتدي
لنفسه " ومعناه فان منافع ذلك تعود عليه من الثواب دون غيره " ومن ضل " عنها
وعدل عن تأملها والاستدلال بها والعمل بموجبها " فإنما يضل " عن منافع نفسه وهو
الجاني عليها. وقوله " وما أنا عليكم بوكيل " معناه وما أنا عليكم بوكيل في منعكم
من اعتقاد الباطل بل انظروا لأنفسكم نظر من يطالب بعمله ولا يطالب غيره بحفظه
كأنه قال ما أنا حافظكم من الهلاك إذا لم تنظروا لأنفسكم ولم تعملوا بما
بخلصها ما يحفظ الوكيل مال غيره.
قوله تعالى:
واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير
الحاكمين (109) آية
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يتبع ما يوحى إليه. والايحاء إلقاء المعنى في
النفس على وجه خفي وهو ما يجئ به الملك إلى النبي صلى الله عليه وآله عن الله تعالى فيلقيه إليه
ويخصه به من غير أن يرى ذلك غيره من الخلق.
وقوله " واصبر " امر من الله تعالى له بالصبر وهو تجرع مرارة الامتناع
443

من المشتهى إلى الوقت الذي يجوز فيه تناوله، كصبر الصائم على الجوع والعطش،
وكصبر النفس عن تناول المحرمات. وإنما يعين على الصبر العلم بعاقبته وكثرة
الفكر فيه وفي الخير الذي ينال به وبذكر ما وعد الله على فعله من الثواب وعلى
تركه من العقاب. وقوله " حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين " امر منه تعالى
للنبي صلى الله عليه وآله بالصبر على اذى المشركين وعلى قولهم انك ساحر كذاب ومجنون، حتى
يحكم فيأمرك بالهجرة والجهاد. قال الحسن: وقد كان الله اعلمه انه سيفرض عليه
جهاد الكفار. وقيل نسخ ذلك فيما بعد بالامر بالجهاد، والتقدير إلى أن يحكم
الله بهلاكهم وعذابهم في يوم بدر وغيره " وهو خير الحاكمين " معناه خير الحكام
لأنه قد يكون حاكم أفضل من حاكم مع كونهما محقين كمن يحكم على الباطن
فإنه أفضل ممن يحكم على الظاهر، لان الأول لا يقع إلا حقا، والاخر يجوز أن
يكون حقا في الظاهر وإن كان فاسدا في الباطن.
444

11 - سورة هود
مكية في قراءة قتادة ومجاهد وغيرهما. وهي مئة وثلاث وعشرون
آية في الكوفي، واثنتان في المدني، وواحدة في البصري وعند إسماعيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم
خبير (1) آية
روى الكسائي عن أبي بكر " من لدن حكيم " ههنا وفي النمل، بسكون
الدال واشمامها الضم وكسر النون. الباقون بضم الدال واسكان النون. ولم يعد
أحد من القراء (الر) آية كما عد قوم (طه) و (ألم) و (حم) آية، لان ثانية
لا يشبه رؤس الآي بنفس الحرف ولا بالردف. وقد بينا في أول سورة البقرة اختلاف
المفسرين في هذه الحروف وأمثالها وأن الأقوى أن يقال إنها أسماء للسور.
وروي عن الحسن أنه قال: ما أدري تأويل (الر) غير أن المسلمين كانوا
يقولون: هي أسماء للسور ومفاتحها. وخرجت هذه الحروف على وجه التهجي
لا يعرب شئ منها، لأنها حروف ولو كانت أسماء لدخلها الاعراب. وقال الفراء
" الر كتاب " رفع بحروف الهجاء. وقال غيره " كتاب " رفع بأنه خبر المبتدأ
وتقديره هو كتاب أو هذا كتاب والمراد ب‍ (كتاب) القرآن.
445

وقوله " أحكمت آياته ثم فصلت " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الحسن: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب.
الثاني - قال قتادة أحكمت آياته من الباطل. ثم فصلت بالحرام والحلال.
الثالث - قال مجاهد " أحكمت آياته " على وجه الجملة " ثم فصلت " اي
بينت بذكرها آية آية. والاحكام منع الفعل من الفساد، قال الشاعر:
أبني حنيفة احكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم أن أغضبا (1)
وقوله " من لدن حكيم خبير " معناه من عند حكيم عليم. وقوم يجعلون
في (لدن) ضميرا فينصبون ما بعده فيقولون لدن غدوة. وقوم يجعلونه غاية
ولا يضمرون فيه شيئا بعينه فيرفعون ما بعده لان ما بعد الغاية مرفوع، فيقولون
لدن غدوة.
وروي عن عكرمة انه قرأ " فصلت " بفتح الفاء والصاد وتخفيفها - وهي
شاذة لم يقرأ بها أحد.
والحكيم يحتمل معينين: أحدهما - عليم، فعلى هذا يجوز وصفه بأنه حكيم فيما
لم يزل. والثاني - بمعنى أنه محكم لأفعاله. وعلى هذا لا يوصف به فيما لم يزل.
والحكمة المعرفة بما يمنع الفعل من الفساد والنقص وبها يميز القبيح من الحسن
والفاسد من الصحيح وقال الجبائي في الآية دلالة على أن كلام الله محدث بأنه وصفه
بأنه أحكمت آياته، والاحكام من صفات الافعال، ولا يجوز أن تكون احكامه
غيره لأنه لو كان احكامه غيره لكان قبل ان يحكمه غير محكم ولو كان كذلك لكان
باطلا، لان الكلام متى لم يكن محكما وجب أن يكون باطلا فاسدا، وهذا باطل.
قوله تعالى:
ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير (2) آية

(1) مر تخريجه في 2 / 188
446

يحتمل (أن) في قوله " أن لا تعبدوا " أمرين:
أحدهما - أن يكون بمعنى المصدر كقولك كتبت إليه أن لا تخرج بالجزم
وكان يجوز في العربية أن لا تعبدون على الوجه الأول، وهو الاخبار بأنهم لا يعبدون
كما تقول: كتبت إليه أن لا تخرج أي بأنك لا تخرج. و " أن لا تعبدوا " في موضع
نصب وتقديره فصلت آياته بأن لا تعبدوا أو لئلا تعبدوا.
والثاني - يحتمل أن يكون المعنى أمرتم بأن لا تعبدوا، فلما حذف الباء
نصب بعدها، ومعنى (إلا) في الآية ايجاب للمذكور بعدها وهو ما نفي عن كل
ما سواه من العبادة وهي التي تفرغ عامل الاعراب لما بعدها من الكلام. وقوله
" اني لكم منه نذير وبشير " اخبار أن النبي صلى الله عليه وآله مخوف من مخالفة الله وعصيانه
بأليم عقابه مبشر بثواب الله على طاعاته واجتناب معاصيه، والنذارة اعلام موضع
المخافة ليتقى، ونذير بمعنى منذر كأليم بمعنى مؤلم. والبشارة اعلام بما يظهر
في بشرة الوجه به المسرة وبشير بمعنى مبشر. وقوله " وأبشروا بالجنة " معناه
واستبشروا.
قوله تعالى:
وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا
إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني
أخاف عليكم عذاب يوم كبير (3) آية.
هذه الآية عطف على ما قبلها وتقديره ثم فصلت من لدن حكيم خبير بان
لا تعبدوا إلا الله وبأن استغفروا ربكم بمعنى سلوا الله المغفرة ثم توبوا إليه، وإنما
ذكرت التوبة بعد الاستغفار، لان المعنى اطلبوا المغفرة بأن تجعلوها غرضكم ثم
توصلوا إلى مطلوبكم بالتوبة، فالمغفرة أول في الطلب وآخر في السبب. وقيل إن
447

المعنى استغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستأنف متى وقعت منكم
المعصية، ذكره الجبائي
وقوله " يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى " يعني انكم متى استغفرتموه
وتبتم إليه متعكم متاعا حسنا في الدنيا بالنعم السابغة والملاذ المختلفة إلى الوقت الذي
قدر لكم أجل الموت فيه.
وقوله " ويؤت كل ذي فضل فضله " يحتمل أمرين: أحدهما - أن يعطي
كل ذي عمل على قدر عمله في الآخرة دون الدنيا، لأنها ليست دار الجزاء
والثاني - الترغيب في عمل الخير لأنه على مقداره يجازي صاحبه.
وقوله " فان تولوا فاني أخاف عليكم " يحتمل أمرين: أحدهما - فان
تتولوا، إلا أنه حذف للتضعيف ولذلك شدده ابن كثير في رواية البزي عنه.
والاخر - أن يكون بمعنى فقل " إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير " يعنى عذاب
يوم القيامة ووصف ذلك اليوم بالكبير لعظم ما يكون فيه من الأهوال والمجازاة
لكل انسان على قدر عمله.
قوله تعالى
إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير (4) آية
قيل في معنى قوله " إلى الله مرجعكم " قولان: أحدهما - إليه مصيركم
بإعادته إياكم للجزاء. والثاني - إلى الله مرجعكم بإعادته إلى مثل الابتداء من أنه
لا يملك لكم ضرا ولا نفعا سواه تعالى، والمرجع المصير إلى مثل الحال الأولى.
وقوله " وهو على كل شئ قدير " اخبار منه تعالى انه يقدر على كل شئ
إلا ما اخرجه الدليل مما يستحيل أن يكون قادرا عليه من مقدورات غيره وما
يقضى وقته من الأجناس التي لا يصلح عليها البقاء.
448

قوله تعالى
ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون
ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور (5) آية
روي عن ابن عباس انه قرأ " إلا انهم يثنون صدورهم " على وزن (يحلون)
وأراد المبالغة ومعنى (ألا)؟؟؟؟، وما بعده مبتدأ.
أخبر الله تعالى ان الكفار يثنون صدورهم. وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الفراء والزجاج: يثنونها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله. وقال الحسن:
يثنونها على ما هم عليه من الكفر. وقال أبو علي الجبائي، يثني الكافر صدره على
سبيل الانحناء، في خطابه لكافر مثله ممن يختصه لئلا يعرف الله ما أضمره. وقال
أبو عبد الله بن شداد: ولى ظهره إذا رأى النبي صلى الله عليه وآله وغطى وجهه بالثوب واصل
الثني العطف تقول: ثنيته عن كذا اي غطيته ومنه الاثنان لعطف أحدهما على الاخر
في المعنى، ومنه الثناء لعطف المناقب في المدح، ومنه الاستثناء لأنه عطف عليه
بالاخراج منه.
وقوله " ليستخفوا منه " فالاستخفاء طلب خفاء النفس تقول: استخفى استخفاء
وتخفى تخفيا، ونظيره استغشى وتغشى قالت الخنساء:
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها * وتارة اتغشى فضل اطماري (1)
والهاء في منه يحتمل أن تكون عائدة إلى اسم الله - في قول الحسن ومجاهد
والجبائي - جهلا منهم بأن الله لا يخفى عليه خافية. وقال أبو عبد الله بن شداد:
هي عائدة على النبي صلى الله عليه وآله.
وقوله " ألا حين يستغشون ثيابهم " معناه انهم كانوا يتغطون بثيابهم ثم يتفاوضون

(1) ديوانها 109 واللسان (رعي) وأساس البلاغة 351
449

ما كانوا يدبرونه على النبي وعلى المؤمنين ويكتمونه عن الناس، فبين الله تعالى انهم
وقت ما يتغطون بثيابهم ويجعلونها غشاء فوقهم عالم بما يسرون وما يعلنون، لا انه
يتجدد له العلم في حال استغشائهم بالثوب بل هو عالم بذلك في الأزل. ومعنى
" ما يسرون وما يعلنون " اي ما يخفونه في أنفسهم وما يعلنونه أي يظهرونه " انه
عليم بذات الصدور " ومعناه عالم بأسرار ذات الصدور.
قوله تعالى:
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها
ومستودعها كل في كتاب مبين (6) آية.
أخبر الله تعالى أنه ليس في الأرض دابة إلا والله تعالى متكفل برزقها.
والدابة الحي الذي من شأنه أن يدب يقال: دب يدب دبيبا وأدبه ادبابا، غير أنه
صار بالعرف عبارة عن الخيل والبراذين دون غيرها من الحيوان.
وقوله " ويعلم مستقرها ومستودعها " فالمستقر الموضع الذي يقر فيه الشئ
وهو قراره ومكانه الذي يأوي إليه. والمستودع المعنى المجعول في القرار كالولد في
البطن والنطفة التي في الظهر وقيل: مستودعها مدفنها بعد موتها. وقيل: مستقرها
في أصلاب الاباء ومستودعها في أرحام الأمهات. وقيل: مستقرها ما تستقر عليه،
ومستودعها ما تصير إليه.
وقوله " كل في كتاب مبين " خبر من الله تعالى أن جميع ذلك مكتوب في
كتاب ظاهر يعني اللوح المحفوظ، وإنما أثبت تعالى ذلك مع أنه عالم انه لا يعزب
عنه شئ لما فيه من اللطف للملائكة أو يكون فيه لطف لمن يخبر بذلك.
قوله تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان
450

عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم
مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا
سحر مبين (7) آية
اخبر الله تعالى أنه خلق السماوات والأرض وأنشأهما في ستة أيام، وإنما
خلقهما في هذا المقدار من الزمان مع قدرته ان يخلقهما في أقل من لمح البصر ليبين بذلك ان الأمور جارية في التدبير على منهاج، ولما علم في ذلك من مصالح
الخلق من جهة اقتضاء ان ينشأها على ترتيب يدل على أنها كانت عن تدبير عالم
بها قبل فعلها مثل سائر الأفعال المحكمة.
وقوله " وكان عرشه على الماء ليبلوكم " معناه انه خلق الخلق ودبر الامر
ليظهر احسان المحسن، لأنه الغرض الذي يجري بالفعل إليه. وفي وقوف العرش
على الماء، والماء على غير قرار أعظم للاعتبار لمن أمعن النظر واستعمل الفكر.
والمراد بقوله " في ستة أيام " ما مقداره مقدار ستة أيام، لأنه لم يكن هناك أيام
تعد، لان اليوم عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها.
وقوله " ليبلوكم " معناه ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر مظاهرة في العدل
لئلا يتوهم أنه يجازي العباد بحسب ما في المعلوم أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه.
وقوله " أيكم أحسن عملا " فيه دلالة على أنه يكون فعل حسن أحسن من
فعل حسن آخر لان لفظة أفعل حقيقتها ذلك. ولا يجوز ترك ذلك الا لدليل،
وليس ههنا ما يوجب الانصراف عنه.
وقوله " ولئن قلت انكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا ان
هذا الا سحر مبين " إعلام من الله تعالى لنبيه انه لو قال لهؤلاء الكفار ان الله يبعثكم
بعد موتكم ويجازيكم على أعمالكم لقالوا: ليس هذا القول الا سحر ظاهر. ومن
451

قرأ (ساحر) أراد ليس هذا يعنون النبي صلى الله عليه وآله الا ساحر مبين. وقال الجبائي في الآية
دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض الملائكة قال: لان خلق العرش
على الماء لا وجه لحسنه الا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به فلابد
إذا من حي مكلف. والأقوى ان يقال: انه لا يمتنع ان يتقدم خلق الله لذلك إذا
كان في الاخبار بتقدمه مصلحة المكلفين، وهو الذي اختاره الرماني. وكان علي بن
الحسين الموسوي المعروف بالمرتضى (ره) ينصره.
وظاهر الآية يقتضي ان العرش الذي تعبد الله الملائكة بحمله كان مخلوقا قبل
السماوات والأرض، وهو قول جميع المفسرين: كابن عباس ومجاهد وقتادة
والبلخي والجبائي والرماني والفراء والزجاج وغيرهم. وقال ابن عباس: كان
العرش على الماء، والماء على الهواء. وقال الجبائي: ثم نقل الله العرش إلى فوق السماوات
قوله تعالى:
ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن
ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا
به يستهزؤن (8) آية.
اللام في قوله " ولئن أخرنا " لام القسم. ولا يجوز أن تكون لام الابتداء،
لأنها دخلت على (ان) التي للجزاء، ولام الابتداء إنما هي للاسم أو ما ضارع
الاسم في باب (ان) وجواب الجزاء مستغنى عنه بجواب القسم، لأنه إذا جاء في
صدر الكلام غلب عليه كما أنه إذا تأخر أو توسط الغي. ومعنى قوله " أخرنا عنهم
العذاب إلى أمة معدودة " اخر إلى حين أمة معدودة كما قال " واد كر بعد أمة " (1)
اي بعد حين. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والزجاج والفراء وغيرهم.

(1) سورة 12 يوسف آية 45
452

وقال الجبائي: معناه إلى أمم بعد هؤلاء يكلفهم فيعصونه فتقتضي الحكمة إهلاكهم
وإقامة القيامة. وقال الرماني: معناه إلى جماعة معدودة بأنه ليس فيها من يؤمن
فإذا صاروا إلى هذه الصفة أهلكوا بالعذاب، كما أهلك قوم نوح في الدنيا.
وأهلكوا بعذاب الآخرة لكونهم على هذه الصفة.
وقوله " ليقولن ما يحبسه " فالحبس المنع بالحصر في خباء. ويقال حبس الماء
إذا منع من النفوذ. وحبس السلطان الرزق إذا معنه. وحبس عنهم العذاب إذا منع
من اتيانهم إلى الأجل المعلوم. والتقدير ما الذي يمنع من تعجيل هذا العذاب
الذي نتوعد به؟ فقال الله تعالى " ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم " ومعناه ان
هذا العذاب الذي يستبطئونه إذا نزل بهم في الوقت المعلوم لا يقدر على صرفه أحد
عنهم ولا يتمكنون من اذهابه عنهم إذا أراد الله ان تأتيهم به. وقوله " وحاق بهم
ما كانوا به يستهزئون " معناه انه نزل بهم الذي كانوا يسخرون منه من نزول
العذاب ويتحققونه.
قوله تعالى:
ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس
كفور (9) آية
أقسم الله تعالى في هذه الآية انه لو أحل تعالى بالانسان رحمة من عنده يعني
ما يفعله الله تعالى بهم في الدنيا من الأرزاق، فإنه يعم بها خلقه كافرهم ومؤمنهم.
ثم نزعها منه وسلبها، وسمى احلال اللذات بهم إذاقة تشبيها ومجازا، لان الذوق
في الحقيقة تناول الشئ بالفم لا دراك الطعم، والانسان حيوان على الصورة الانسانية
لان الصورة الانسانية بانفرادها قد تكون للتمثال ولا يكون انسانا فإذا اجتمعت
الحيوانية والصورة لشئ فهو انسان. قال الرماني: وكلما لا حياة فيه فليس بانسان
453

كالشعر والظفر وغيرهما. والنزع رفع الشئ عن غيره مما كان مشابكا له،
والنزع والقلع والكشط نظائر. واليأس القطع بأن الشئ لا يكون وهو ضد الرجاء
ويؤوس كثير اليأس من رحمة الله وهذه صفة ذم، لأنه لا يكون كذلك الا للجهل
بسعة رحمة الله التي تقتضي قوة الامل. وفائدة الآية الاخبار عن سوء خلق
الانسان وقنوطه من الرحمة عند نزول الشدة وأنه إذا أنعم عليه بنعمة لم يشكره
عليها وإذا سلبها منه يئس من رحمة الله وكفر نعمه، وهو مصروف إلى الكفار الذين
هذه صفتهم.
قوله تعالى:
ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات
عني إنه لفرح فخور (10) آية
أقسم الله تعالى في هذه الآية أنه لو أحل بالانسان " نعماء بعد ضراء مسته "
لان الهاء كناية عن الانسان الذي مضى ذكره، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه
والضراء مضرة تظهر الحال بها، لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة كحمراء
وعوراء مع ما فيها من المبالغة. معنى " مسته " نالته. وقوله " ليقولن ذهب
السيئات عني " أي يقول عند نزول النعماء به بعد أن كان في ضدها من الضراء:
ذهبت الخصال التي تسوء صاحبها من جهة نفور طبعه أو عقله، وهو - ههنا -
بمعنى المرض والفقر، ونحو ذلك. وقوله " إنه لفرح فخور " إخبار منه تعالى
أن الانسان فرح فخور. والفرح انفتاح القلب بما يلتذ به وضده الغم، ومثله
السرور والمرح. والفرح لذة في القلب أعظم من ملاذ الحواس، والفخور المتطاول
بتعديد المناقب، وفخور كثير الفخر، وهي صفة ذم إذا أطلقت لما فيه من التكبر
على من لا يجوز أن يتكبر عليه. وقيل: للعالم أن يفخر على الجاهل بالعلم لتعظيم
454

العلم وتحقير الجهل، ولذلك تفخر النبي على الكفار.
قوله تعالى:
إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة
وأجر كبير (11) آية
لما أخبر الله تعالى عن أحوال الخلق وأن أكثرهم إذا حل بهم نعمه تعالى
بعد أن كانوا في مضرة شديدة وانهم إذا يقولون ذهب السيئات عنهم وان كثيرا منهم
فرح فخور، استثنى من جملتهم المؤمنين بتوحيد الله الصابرين على طاعاته والكف
عن معاصيه وأضافوا إلى ذلك الاعمال الصالحات. والصبر حبس النفس عن المشتهى
من المحارم. والصبر على مرارة الحق يؤدي إلى الفوز بالجنة في الآخرة مع ما
فيه من الجمال في الدنيا. واستثنى الذين صبروا من الانسان، لأنه في معنى الجمع
كما قال " والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (1)
وقال الزجاج والأخفش: (إلا) بمنى (لكن) لأنه ليس من جنس الأول. والأول
قول الفراء. وقوله " أولئك لهم مغفرة وأجر كبير " إخبار من الله تعالى عن
هؤلاء المؤمنين بأن لهم عند الله المغفرة والاجر العظيم.
قوله تعالى:
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك
أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير
والله على كل شئ وكيل (12) آية

(1) سورة 103 العصر 1 - 2
455

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله يحثه على أداء جميع ما بعثه به وأوحى
إليه، وينهاه عن كتمانه، ويشجعه على الأداء، ويقول له لا يكون لعظم ما يرد على
قلبك ويضيق به صدرك من غيظهم يوهمون عليك انهم يزيلونك عن بعض ما أنت
عليه من امر ربك، وأنك تترك بعض الوحي ويضيق به صدرك مخافة أن يقولوا
أو لئلا يقولوا " لولا انزل عليه كنز " أي هلا انزل عليه كنز فينفق منه " أو جاء
معه ملك " يعينه على أمره بل " إنما أنت نذير " أي منذر مخوف من معاصي الله
وعقابه " والله على كل شئ وكيل " أي حافظ يكتب عليهم أفعالهم وأقوالهم،
ومجازيهم عليها، فلا تغمك أقوالهم ولا أفعالهم ولا يضيق بذلك صدرك فان وبال
ذلك عائد عليهم. وضائق وضيق واحد الا ان (ضائق) ههنا أحسن لمشاكلته لقوله:
تارك، والضيق قصور الشئ عن مقدار غيره أن يكون فيه، فإذا ضاق صدر الانسان
قصر عن معان يتحملها الواسع الصدر. والصدر مسكن القلب ويشبه به رفيع المجالس
ورئيس القوم لشرفه على غير. والكنز المال المدفون لعاقبته، وصار في الشرع
اسم ذم في كل مال لا يخرج منه حق الله من الزكاة وغيره، وإن لم يكن مدفونا.
قوله تعالى:
أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات
وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13) آية
هذه الآية صريحة بالتحدي وفيها قطع لاعتلال المشركين وبغيهم، لأنهم
لما عجزوا عن معارضة القرآن قالوا: إن ما فيه من الاخبار كذب اختلقه واخترعه
أو قرأ الكتب السالفة، فقال الله تعالى لهم: افتروا أنتم مثله، وادحضوا حجته
فذلك أيسر وأهون مما تكلفتموه، فعجزوا عن ذلك وصاروا إلى الحرب وبذل
النفس والمال وقتل الاباء والأبناء. ولو قدروا على إطفاء أمره بالمعارضة لفعلوه
456

مع هذا التقريع العظيم. وفيه دلالة على جهة إعجاز القرآن وأنها الفصاحة في هذا
النظم المخصوص، لأنه لو كان غيره لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق.
وقوله " فأتوا " وإن كان لفظه لفظ الامر فالمراد به التهديد والتحدي والمثل المذكور
في الآية ما كان مثله في البلاغة والنظم أو ما يقاربه، لان البلاغة ثلاث طبقات فأعلاها
معجز، وأدناها وأوسطها ممكن، فالتحدي وقع بما هو في أعلى طبقة في البلاغة،
ولا يجوز أن يكون المراد بالمثل إلا المثل في الجنسية، لان مثله في العين يكون حكايته
وذلك لا يقع به تحدي. وإنما يرجع إلى ما هو متعارف بينهم في تحدي بعضهم
بعضا كمناقضات امرئ القيس وعلقمة، وعمر بن كلثوم والحارث بن حلزة، وجرير
والفرزدق وغيرهم. ومعنى (أم) تقرير بصورة الاستفهام، وتقديره بل " يقولون
افتراه ". وقال بعضهم: إن الاستفهام محذوف، كأنه قال أيكذبونك أم يقولون
افتراه. وهذا ليس بصحيح لان (أم) ههنا منقطعة ليست معادلة، وإنما يجوز
حذف الاستفهام في الضرورة. وقوله " ادعوا من استطعتم من دون الله " أي
ادعوهم إلى معاونتكم على المعارضة. وهذا غاية ما يمكن من التحدي والمحاجة.
وقوله " بعشر سور مثله " اي مثل سورة منه كل سورة منها. ومعنى " مفتريات "
أي مختلقات يقال: افترى واختلق واخترق، وخلق وخرق وخرص واخترص
إذا كذب.
قوله تعالى:
فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا
إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14) آية
قيل في المعني بقوله " فإن لم يستجيبوا لكم " قولان:
أحدهما - ان المراد به المؤمنون، والتقدير فإن لم يقبلوا إجابتك يا محمد
457

والمؤمنين، ولا يأتون بعشر سور معارضة لهذا القرآن، فليعلم المؤمنون إنما أنزل
بعلم الله بهذا الدليل، وهو قول مجاهد والجبائي.
والاخر - أن يكون المراد به المشركين، فالتقدير فإن لم يستجب لكم
من تدعونهم إلى المعاونة ولا يهيأ لكم المعارضة، فقد قامت عليكم الحجة.
والاستجابة في الآية طلب الإجابة بالقصد إلى فعلها، يقال: استجاب وأجاب
بمعنى واحد. والفرق بين الإجابة والطاعة أن الطاعة موافقة للإرادة الجاذبة إلى
الفعل برغبة أو رهبة، والإجابة موافقة الداعي إلى الفعل من أجل أنه دعا به.
وقوله " انزل بعلم الله " يحتمل أمرين: أحدهما - بعلم الله انه حق من عنده
أي عالم به. والاخر - بعلم الله بمواقع تأليفه في علو طبقته. وقوله " وأن لا
إله إلا هو " اي فاعلموا أن لا إله إلا هو. وقوله " فهل أنتم مسلمون " معناه هل أنتم
بعد قيام الحجة عليكم بما ذكرناه من كلام الله وانه أنزله على نبيه تصديقا له فيما
أداه إليكم عن الله مسلمون له موقنون به؟ لان كل من سلم له الامر فقد استسلم
له. قال مجاهد: وهذا خطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله من المسلمين.
قوله تعالى:
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم
فيها وهم فيها لا يبخسون (15) آية
شرط الله تعالى بهذه الآية أن " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " وحسن
بهجتها، ولا يريد الآخرة، فان الله تعالى يوفيه جزاء عمله فيها يعني في الدنيا،
ولا يبخسه شيئا منه. والزينة تحسين الشئ بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة، يقال:
زانه يزينه وزينه تزيينا. والتوفية تأديه الحق على تمام. والبخس نقصان الحق،
يقال: بخسه بخسا إذا ظلمه بنقصان الحق. وفي المثل (يبخسها حمقاء) وهي
458

باخس. وقيل في العمل الذي يوفون حقهم من غير بخس قولان: أحدهما - قال
الضحاك ومجاهد: هو أن يصل الكافر رحمه أو يعطي سائلا سأله أو يرحم مضطرا
أو غير ذلك من أفعال الخير، فان الله تعالى يعجل له جزاء عمله في الدنيا بتوسيع
الرزق، وإقرار العين فميا خول، ودفع مكاره الدنيا. الثاني - الغزو مع
النبي صلى الله عليه وآله للغنيمة دون ثواب الآخرة، أمر الله نبيه أن يوفيهم قسمهم وهذا من
صفة المنافقين، ذكره الجبائي. وإنما جاز أن يقول " من كان يريد الحياة الدنيا
وزينتها نوف إليهم " ولم يجز أن تقول: من جاءني أكرمه، لان الأجود في الشرط
والجزاء أن يكونا مستقبلين أو يكونا ماضيين بنية الاستقبال، فإن كان أحدهما
ماضيا، والاخر مستقبلا كان جائزا على ضعف كما قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا تنلنه * ولو رام أسباب السماء بسلم (1)
قلنا عنه جوابان: أحدهما - قال الفراء: إن المعنى من يرد الحياة الدنيا
و (كان) زائدة. والثاني إن المعنى أن يصح أنه كان، كقوله " إن كان قميصه قد من
دبر فكذبت " (2) ولا يجوز مثل هذا في غير (كان) لأنها أم الافعال.
قوله تعالى:
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط
ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16) آية
قوله " أولئك " كناية عن الذين ذكرهم في الآية الأولى، وهم الذين يريدون
الحياة الدنيا وزينتها، دون ثواب الآخرة. فأخبر الله أنه ليس لهم في الآخرة
مستقر إلا النار، وأن أعمالهم كلها محبطة لا يستحقون عليها ثوابا، لأنهم أوقعوها

(1) اللسان (سبب) وروايته (المنية يلقها) بدل (المنايا تنلنه)
(2) سورة 12 يوسف آية 27
459

على غير الوجه المأمور به، وعلى حد لا تكون طاعة، وأن جميع ما فعلوه في الدنيا
باطل لا ثواب عليه. وقد بينا فساد القول بالاحباط (1) على ما يذهب إليه المعتزلة
وأصحاب الوعيد، سواء قالوا الاحباط بين الطاعة والمعصية أو بين المستحق عليها،
فلا معنى للتطويل بذكره ههنا. وقوله " وباطل ما كانوا يعملون " بعد قوله
" حبط ما صنعوا فيها " يحقق ما نقوله: إن نفس الاعمال تبطل بأن توقع على خلاف
الوجه الذي يستحق به الثواب.
قوله تعالى:
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله
كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من
الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك
ولكن أكثر الناس (17) آية.
الألف في قوله " أفمن كان " ألف استفهام، والمراد بها التقرير، والتقدير
هل الذي كان على بينة - يعني برهان وحجة من الله - والمراد بالبينة ههنا القرآن
والمعنى بقوله " أفمن كان على بينة " النبي صلى الله عليه وآله وكل من اهتدى به واتبعه.
وقوله " ويتلوه شاهد منه " قيل في معناه أقوال: أحدها - شاهد من الله هو محمد
صلى الله عليه وآله. وروي ذلك عن الحسين بن علي عليهما السلام وذهب إليه ابن زيد واختاره الجبائي:
والثاني - قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم والفراء والزجاج: جبرائيل يتلو
القرآن على النبي صلى الله عليه وآله. والثالث - شاهد منه لسانه، روي ذلك عن محمد بن علي
أعني ابن الحنفية، وهو قول الحسن وقتادة والرابع - روي عن أبي جعفر محمد

(1) انظر 2 / 336، 353، 522، 525
460

ابن علي بن الحسين عليهم السلام أنه علي بن أبي طالب عليه السلام ورواه الرماني، وذكره
الطبري باسناده عن جابر بن عبد الله عن علي عليه السلام. ذكر الفراء وجها خامسا -
قال: ويتلوه يعني القرآن يتلوه شاهد هو الإنجيل، ومن قبله كتاب موسى يعني
التوراة. والمعنى ويتلوه في الحجة والبينة. وقوله " ومن قبله كتاب موسى " الهاء في
" قبله " عائدة على القرآن المدلول عليه فيما تقدم من الكلام، والمعنى أنه يشهد
به بالبشارة التي فيه. وقوله " إماما ورحمة " العامل فيه أحد أمرين:
أحدهما - الظرف في قوله ومن قبله. والثاني - وشاهد من قبله كتاب موسى
إماما ورحمة، وخبر (من) في قوله " أفمن كان على بينة من ربه " محذوف
والتقدير أفمن كان على بينة من ربه وعلى الأوصاف التي ذكرت كمن لا بينة
معه، قال الشاعر:
وأقسم ولو شئ أتانا رسوله سواك * ولكن لم نجد عنك مدفعا
وأنشد الفراء:
فما أدري إذا يممت وجها * أريد الخير أيهما يليني
الخير الذي أنا أبتغيه * أم الشر الذي لا يأتليني (1)
قال: أيهما، وإنما ذكر الخير وحده، لان المعنى مفهوم، لان المبتغي للخير
متق للشر. وقال قوم خبره قوله " من كان يريد الحياة الدنيا " وقد تقدمه،
واستغني به. وقوله " أولئك يؤمنون به " كناية عمن كان على بينة من ربه أنهم
يصدقون بالقرآن ويعترفون بأنه حق. وقوله " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار
موعده " معناه إن كل من يجحده ولا يعترف به من الأحزاب الذين اجتمعوا على
عداوته. وقال الفراء: يقال كل كافر حزب النار " والنار موعده " يعني مستقره
وموعده " فلاتك " يا محمد صلى الله عليه وآله في شك من ذلك، فالخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله
والمراد به جميع المكلفين. وقوله " انه الحق من ربك " اخبار منه تعالى بأن

(1) مر هذا الشعر في 2 / 113
461

هذا الخبر الذي ذكره حق من عند الله. ولكن أكثر الناس لا يعلمون صحته
وصدقه لجهلهم بالله وجحدهم نبوة نبيه صلى الله عليه وآله. وروي أن الحسن قرأ (في مرية)
بضم الميم، وهي لغة أسد وتميم، وأهل الحجاز يكسرون الميم وعليه القراء.
قوله تعالى:
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون
على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة
الله على الظالمين (18) آية
قال الحسن معنى قوله " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " لا أحد
أظلم منه إلا أنه خرج مخرج الاستفهام مبالغة في أنه أظلم لنفسه من كل ظالم،
وإنما كان المفتري على الله كذبا أظلم من كل ظالم، لأنه يجحد نعم الله ولا
يشكرها. وقوله " أولئك يعرضون على ربهم " اخبار منه تعالى أن من هذه صفته
يعرض على الله يوم القيامة. والعرض إظهار الشئ بحيث يرى للتوقيف على حاله
يقال: عرضت الكتاب على فلان، وعرض الجند على السلطان، ومعنى العرض
على الله أنهم يقفون في المقام الذي يرى العباد، وقد جعله الله تعالى للمطالبة بالاعمال
فهو بمنزلة العرض في الحقيقة، لأنهم لا يخفون عليه في حال من الأحوال بل هو تعالى
يراهم حيث كانوا. وقوله " ويقول الاشهاد " يعني الملائكة والأنبياء والعلماء،
يشهدون بما كان منهم من الكذب عليه تعالى. وقيل: هو جمع شاهد مثل صاحب
وأصحاب، وقيل: جمع شهيد كشريف وأشراف. وقوله " ألا لعنة الله على الظالمين "
تنبيه من الله تعالى لخلقه بأن لعنته على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بادخال الضرر
عليها وعلى غيرهم بادخال الآلام عليهم. ولعنة الله إبعاده من رحمته.
462

قوله تعالى:
الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة
هم كافرون (19) آية
وصف الله تعالى الظالمين الذين جعل لعنة الله عليهم بأنهم يصدون عن سبيل
الله بمعنى أنهم يغرون الخلق ويصرفونهم عن المصير إليه واتباعه، بغير الحق،
ويجوز أن يكون صده عن الفساد بدعائه إلى تركه، والصد عن الحق سبب الامتناع
منه إذا صادف منه ما يهواه، فيفعله من أجل ذلك الداعي، وإنما جاز تمكين الصاد
من الفساد لأنه مكلف للامتناع. وليس في منعه لطف بأن ينصرف عن الفساد إلى
الصلاح، فهو كشهوة القبيح الذي به يصح التكليف. قال أبو علي: ولو لم يكن
إغواء الشيطان إضلالا لعمل من قبل نفسه ذلك أو شرا منه. وقوله " يبغونها عوجا "
معناه إنهم يطلبون لسبيل الله عدولا عنه. والعوج العدول عن طريق الصواب، وهو
في الدين عوج بالكسر، وفي العود عوج بالفتح، فرقوا بين ما يرى وبين مالا يرى
فجعلوا السهل للسهل والصعب للصعب بالفتح والكسر. والبغية طلبة أمر من الأمور
تقول: بغاه يبغيه بغية مثل طلبه يطلبه طلبة. وقوله " وهم بالآخرة هم كافرون "
إخبار منه تعالى أن هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله كافرون بالآخرة وبالبعث
والنشور والثواب والعقاب أي جاحدون غير مقرين. وقوله " وهم بالآخرة هم
كافرون " كرر (هم) مرتين كما قال " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما
أنكم مخرجون " (1) كرر (أنكم) مرتين، ووجه ذلك أنه لما طال الكلام
وفارق فعله كرره مرة أخرى.

(1) سورة 23 المؤمنين آية 35
463

قوله تعالى:
أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من
دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون
السمع وما كانوا يبصرون (20) آية
أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأن عليهم لعنة الله وأنهم الذين
يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا بأنهم غير " معجزين في الأرض " أي لم يكونوا
فائتين فيها هربا من الله تعالى إذا أراد إهلاكهم كما يهرب الهارب من عدو، وقد
جد في طلبه. والاعجاز الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه، وانهم لم يكن
لهم ولي يستطيع الدفاع عنهم من دون الله. والولي الخصيص بأن يلي بالمعاونة
لدفع الأذية، ومنه قولهم: تولاك بحفظه، فلا ولي لهؤلاء يعاونهم ويدفع
العقوبة عنهم، لان الله تعالى قد أيأسهم من ذلك. وقوله " يضاعف لهم العذاب "
قيل في معناه قولان: أحدهما - بحسب تضاعف الاجرام. والاخر - كلما مر
ضعف جاء ضعف، وكله على قدر الاستحقاق. وقوله " ما كانوا يستطيعون السمع
وما كانوا يبصرون " معناه انه كان يثقل عليهم سماع الحق ورؤيته، كما يقال:
فلان لا يستطيع النظر إلى فلان، وحقيقة الاستطاعة القوة التي تنطاع بها الجارحة
للفعل، ولذلك لا يقال في الله انه يستطيع. وليس المراد بنفي الاستطاعة في الآية
نفي القدرة بل ما ذكرناه، لأنه لو لم يكن فيهم قدرة لما حسن تكليفهم. وقد
ذكر الفراء فيه وجها مليحا، فقال: المعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا
يستطيعون السمع ولا يعقلون، وحذف الباء كما قال " اليم بما كانوا يكذبون " (1)
اي بتكذيبهم وسقوط الباء جائز، كما قال " أحسن ما كانوا يعملون " (2) ويقول

(1) سورة 2 البقرة آية 10
(2) سورة 9 التوبة آية 122
464

القائل: لأجزينك ما عملت، وبما عملت. واختار ذلك البلخي. والسمع إدراك
الصوت بما به يكون مسموعا. والابصار إدراك الشئ بما به يكون مبصرا.
قوله تعالى:
أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا
يفترون (21) آية
ثم أخبر عنهم بخبر آخر، وهو أنهم " الذين خسروا أنفسهم " من حيث أنهم
فعلوا ما يستحقون به العذاب وهلكوا بذلك في خسران أنفسهم، وخسران النفس
أعظم الخسران، لأنه ليس عنها عوض، وعن هلاك رأس المال عوض، فسلامة النفس
أجل فائدة، وما كان بعده من نفع فهو ربح. وقوله " وضل عنهم ما كانوا
يفترون " قيل في معناه قولان: أحدهما - ذهب عنهم الانتفاع بالافتراء كما
كانوا في الدنيا والثاني - ذهب عنهم الأوثان التي كانوا يأملون بها الانتفاع
- في قول الحسن - و (أولئك) إشارة إلى البعيد، (وهؤلاء) إشارة إلى القريب
وأولاء مبني على الكسر، لأنه اسم للجمع بمنزلة الواحد والكاف في (أولئك)
حرف يدل على أن الكلام الذي معه مخاطبا به. ووجه اتصال (ما) في الآية
أن (أولئك) إشارة إلى من تقدم ذكره و (الذين) صفة لهم وهو موصول
و (خسروا) صلته و (أنفسهم) معمول الصلة و (ضل) معطوف على الصلة و (كانوا)
صلة فاعل معطوف الصلة و (يفترون) خبر صلة فاعل معطوف الصلة، وهو تمام
(الاسم).
قوله تعالى:
لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون (22) آية
465

معنى (لا جرم) قال الزجاج: معنى (لا) نفي لما ظنوه أنه ينفعهم كأن
المعنى لا ينفعهم ذلك. ثم ابتدأ " جرم انهم " أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران.
وقال غيره: معناه لابد انهم، ولا محالة أنهم. وقيل: معناه حقا أنهم. واصل
(الجرم) القطع فكأنه قال لا قطع من أنهم في الآخرة هم الأخسرون و (جرم)
في قوله (لا جرم) فعل، وتقديره لا قطع قاطع عن ذا، إلا أنهم كثر في كلامهم
حتى صار كالمثل وهو من قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا (1)
اي قطعتهم إلى الغضب، فرواية الفراء نصب فزارة، والمعنى كسبهم أن يغضبوا.
وخسران النفس يتعاظم، لان خسران النفس بعذاب دائم أعظم من خسرانها بعذاب
منقطع، و (هم) في قوله هم الأخسرون " يحتمل أن يكون فصلا والأخسرون
خبر (أن) و (هم) إذا كانت فصلا لم تقع في النكرة. وقولهم: ما كانوا
في الدار هم القائمون. فلا يكون إلا اسما، فان جعلتهما فصلا قلت: كانوا في
الدارهم القائمون.
قوله تعالى:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (23) آية
لما ذكر الله تعالى الكفار، ووصف ما أعدلهم من العذاب وخسران النفس
أخبر - هنا - أن الذين يؤمنون بالله ويعتقدون وحدانيته ويصدقون رسله، وعملوا
الأعمال الصالحة التي أمرهم الله بها ورغبهم فيها " وأخبتوا إلى ربهم " أي خشعوا إليه.
والاخبات الخشوع المستمر على استواء فيه، وأصله الاستواء من الخبت، وهو

(1) مر في 3 / 423 و 5 / 413
466

الأرض المستوية الواسعة. وقيل: إن الاخبات الإنابة - ذكره ابن عباس - وقال
مجاهد: هو الاطمئنان إلى ذكر الله. وقال قتادة: هو الخشوع إليه والخضوع له.
وقال الحسن: هو الخشوع للمخافة الثابتة في القلب. وقال الجبائي: الاخبات
سكون الجوارح على وجه الخضوع لله تعالى. وليس كل عمل صالح يستحق عليه
حمد أو مدح، لأنه مثل الحسن في أنه ينقسم قسمين: أحدهما - يستحق عليه
الحمد. والاخر - لا يستحق عليه كالمباح، فكذلك الصالحات. والمراد
بالصالحات - ههنا - الطاعة، لأنه وعد عليها الجزاء في قوله " إن الحسنات يذهبن
السيئات " (1). وقوله " وأخبتوا إلى ربهم " قال قوم: معناه اخبتوا لربهم،
فوضع (إلى) مكان اللام، لان حروف الإضافة توضع بعضها مكان بعض، كما
قال " أوحى لها " (2) بمعنى أوحى إليها. والاخر - أن معناه عمدوا باخباتهم
إلى الله. وقوله " أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " إشارة إلى المؤمنين الذين
وصفهم بأنهم يعملون الصالحات ويخبتون إلى ربهم، فأخبر عنهم أنهم أصحاب الجنة
اللازمون لها وأنهم فيها مخلدون دائمون.
قوله تعالى:
مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع
هل يستويان مثلا أفلا تذكرون (24) آية
المثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول، والأمثال لا تغير عن
صورتها كقولك للرجل (اطرى انك ناعلة) وكذلك يقال للكافر: هو أعمى
أصم أي هو بمنزلة الذين قيل لهم هذا القول، ويجري هذا في كل كافر يأتي
من بعد.

(1) سورة 11 هود آية 115
(2) سورة 99 الزلزال آية 5
467

و (الواو) في قوله " كالأعمى والأصم " قيل في دخولها قولان:
أحدهما - العموم في التشبيه أي حال الكافر كحال الأعمى وكحال الأصم
وكحال من جمع العمى والصمم.
الثاني - أن المعنى واحد، وإنما دخلت الواو لاتصال الصفة الأولى بعلامة.
وإنما قال: هل يستويان، لأنه أراد الفريقين: الموصوف أحدهما بالصمم
والعمى، والاخر بالبصر والسمع. وفائدة الآية تشبيه المؤمن والكافر في تباعد
ما بينهما فشبههما، بالأعمى والبصير، والأصم والسميع، فالكافر كالأعمى والأصم في أنه
لا يبصر طريق الرشد، ولا يسمع الحق، وأنه مع ذلك على صفة النقص. والصمم
عبارة عن فساد آلة السمع، ولو كان معنى يضاد السمع لتعاقبا على الحي، والامر
بخلافه، لأنه قد ينتفي حال الصمم ولا يكون سامعا، وكذلك العمى عبارة عن
فساد آلة الرؤية، وليس بمعنى يضاد الابصار، لأن الصحيح أن الادراك أيضا ليس
بمعنى، ولو كان معنى لما وجب أن يكون العمى ضده. لأنه لو كان ضده لعاقبه
على حال الحي وكان يجوز أن يحضر المرئي من الأجسام الكثيفة من غير ساتر فلا يرى
مع حصول شروط الادراك لأجل وجود الضد، وكذلك الصمم، ولا ضد له لأنه
ليس هناك حال يعاقبه على حال مخصوصة كمعاقبة العجز القدرة على حال الحياة.
وقوله " هل يستويان مثلا " وإن كان بصورة الاستفهام فهو لضرب من التوبيخ
والتقريع. وقوله " أفلا تتفكرون " معناه أفلا تتفكرون في ذلك فتعلموا صحة ما ذكرنا.
قوله تعالى:
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين (25) أن
لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم (26) آيتان
قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة (إني) بكسر الهمزة. الباقون بفتحها
468

قال أبو علي النحوي. من فتحها حملها على (أرسلنا) أي أرسلناه بأني لكم
ولم يقل إنه، لأنه انتقل عن الغيبة إلى الخطاب، ومثله كثير، قال الله تعالى
" وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة " ثم قال بعده " فخذها بقوة " (1)
فكذلك الآية. ومن كسر يضمر القول قبلها كأنه قال: أرسلنا نوحا إلى قومه
فقال: إني لكم نذير، ومثله كثير، قال الله تعالى " والملائكة يدخلون عليهم من
كل باب سلام عليكم " (2) اي يقولون: سلام عليكم، وقوله تعالى " والذين
اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " (3) أي قالوا:
ما نعبدهم، ويكون الكلام على ظاهره لم يرجع من الغيبة إلى الخطاب. وليس
لاحد أن يرجع القراءة بالفتح من حيث أن ما بعده من قوله " أن لا تعبدوا إلا
الله " محمول على الارسال، فإذا فتحت كان أشكل بما بعدها لحملهما جميعا على
الارسال. وذلك أن من كسر حمل قوله " اني لكم " وما بعده على الاعتراض
بين المفعول وما يتصل به مما بعده، كما أن قوله " إن الهدى هدى الله " اعتراض
بينهما في قوله " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله ان يؤتى
أحد مثل ما أوتيتم " (4) فكذلك قوله " إني لكم نذير مبين " لان التقدير ولقد
أرسلنا نوحا لانذار أن لا تعبدوا الا الله إني أنذركم لتوحدوا الله وأن تتركوا
عبادة غيره.
أقسم الله تعالى في هذه الآية أنه أرسل نوحا وأمره أن يقول لهم: إني مؤد
عن الله ومخوفكم من عقابه وترك طاعاته، لان اللام في قوله " لقد " لام القسم، وهي
تدخل على الفعل والحرف الذي يختص بالفعل مما يصح معناه معه، ولام الابتداء
للاسم خاصة. ومعنى (قد) وقوع الخبر على وجه التقريب من الحال تقول: قد
ركب الأمير - لقوم يتوقعون ركوبه -

(1) سورة 7 الأعراف 144
(2) سورة 13 الرعد آية 25 - 26
(3) سورة 39 الزمر آية 3
(4) سورة 3 آل عمران آية 73
469

وقوله " أن لا تعبدوا الا الله " يحتمل أن يكون موضع (تعبدوا) من
الاعراب نصبا، والمعنى أن لا تعبدوا الا الله، ويجوز أن يكون موضعه جزما
على تقدير أي لا تعبدوا. ويحتمل أن يكون متعلقا بقوله " أرسلنا " وتقديره
أرسلنا بأن لا تعبدوا الا الله، على ما بينا من الاعتراض وحملها جميعا على الارسال.
وقوله " اني أخاف عليكم عذاب يوم أليم " أي مؤلم عذابه وإنما قال عذاب
يوم اليم بالجر ومعناه مؤلم، لان الألم يقع في اليوم، فكأنه سبب الألم. ولو
نصبته على أن يكون صفة للعذاب كان جائزا، ولم يقرأ به أحد. وإنما بدئ
بالدعاء إلى العبادة دون سائر الطاعات، لأنها أهم ما يدعى إليه من خالف الحق
فيه ولأنه يجب أن يفعل كل واحدة من الطاعات على وجه الاخلاص والعبادة
فيها لله. وإنما قال " اني أخاف عليكم عذاب يوم اليم " مع أن عذاب الكافر معلوم
لأنه يخاف ما لم يعلم ما يؤول إليه أمرهم من ايمان أو كفر، وهذا لطف في الاستدعاء
وأقرب إلى الإجابة في غالب أمر الناس.
قوله تعالى:
فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نريك إلا بشرا مثلنا
وما نريك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى
لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27) آية
قرأ أبو عمرو " بادئ الرأي " بالهمز في بادي. الباقون بلا همز.
قال أبو علي: حدثنا محمد بن السدي أن اللحياني قال: يقال: أنت بادي الرأي
تريد ظلمنا لا يهمز (بادي) وبادئ الرأي مهموز. فمن لم يهمز أراد أنت أول
الرأي ومبتدؤه وهما في القرآن. وقال أبو علي: من قال (بادي الرأي) بلا همز
جعله من بدو الشئ وهو ظهوره، وما اتبعك إلا أراذل فيما ظهر لهم من الرأي
470

اي لم يفعلوه بنظر فيه ولا بتبين له. ومن همز أراد اتبعوك في أول الأمر من غير
فكر فيه ولا روية، والقراءتان متقاربتان، لان الهمز في اللام منها ابتداء الشئ
وأوله وابتداء الشئ يكون ظهورا، وإن كان الشئ الظاهر قد يكون مبتدأ وغير
مبتدأ، فلذلك يستعمل كل واحد منهما مكان الاخر يقولون: انا بادي بدا
وبادئ بدء، فاني أحمد الله.
أخبر الله تعالى في هذه الآية عن جماعة الرؤساء من قوم نوح الذين كفروا
وجحدوا نبوته أنهم قالوا له " ما نراك الا بشرا مثلنا " والبشر مأخوذ من ظهور
البشرة، لان الغالب على الحيوان غير الانسان أن يلبس البشرة منه بالصوف أو الشعر
أو الريش أو الصدف. والانسان مأخوذ من النسيان، لأنهم يصغرونه إنيسيان
ويجوز أن يكون من الانسان الا أنهم زادوا الياء في التصغير. والمثل ما سد مسد غيره
في الجنس بمعني أنه لو ظهر للمشاهد لسد مسده كما يسد الأسود مسد الأسود في
الجنس من غير فضل. وقوله " ما نراك اتبعك الا الذين هم أراذلنا " حكاية أيضا
عما قاله قوم نوح من أنه ما نرى من اتبعك الا أنه رذل خسيس حقير من جماعتنا
تقول: رذل وجمعه أرذل، وجمع الجمع أراذل مثل كلب وأكلب وأكالب
والعامل في (الذين) قوله " اتبعك " كأنه قال ما اتبعك الا الذين هم أراذلنا ونراك
ملغى، ذكره الفراء. قال أبو علي النحوي: هو نصب على الحال، والعامل فيه
(اتبعك) وأخر الظرف وأوقع بعد (الا) ولو كان غيره لم يجز، لان الظرف
اتسع فيه في مواضع. ومعنى " بادئ الرأي " أول الرأي ما نراهم. والرأي والرؤية
من قوله " يرونهم مثليهم رأي العين " (1) وهو نصب على المصدر كقولك ضربته
أول الضرب. وقال الزجاج: نصبه ب‍ (اتبعوك أول الرأي) من غير فكر كأنه
قيل اتبعوك رأيا غير سديد، ومن قرأ بادي الرأي بلا همز أراد ظاهر الرأي
قال الشاعر:

(1) سورة 3 آل عمران آية 13
471

وقد علتني ذرأة بادي بدي * وريثة تنهض في تشددي (1)
وقال آخر:
أضحى لخالي شبهي بادي بدي * وصار للفحل لساني ويدي (2)
وقوله " وما نرى لكم علينا من فضل " تمام الحكاية عن كفار قوم نوح
وانهم قالوا لنوح: إنا لا نرى لك ولا مثالك علينا زيادة خير، لان الفضل هو زيادة
الخير، وإنما قالوا ذلك، لأنهم جهلوا في طريقة الاستدلال. وقوله " بل نظنكم
كاذبين " أيضا تمام الحكاية عن كفار قومه أنهم قالوا له ولمن آمن معه هذا القول.
قوله تعالى:
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتيني
رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها
كارهون (28) آية
قرأ حمزة والكسائي وحفص " فعميت " بضم العين وتشديد الميم. الباقون
بتخفيف الميم وفتح العين. وقال أبو علي: من قرأ " فعميت " بالتخفيف فلقوله
" فعميت عليهم الانباء يومئذ " (3) وهذه مثلها. ويجوز في قوله (فعميت) أمران:
أحدهما - أن يكون عموا هم، الا ترى ان الرحمة لا تعمى وإنما يعمى عنها، فيكون
هذا من المقلوب، كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في أصبعي
ونحو ذلك مما يقلب إذا زال الاشكال. والاخر - أن يكون معنى عميت خفيت
كقول الشاعر:
ومهمه أطرافه في مهمه * أعمى الهدى في الحائرين العمة (4)

(1) اللسان (بدا)
(2) اللسان (بدا)
(3) سورة 28 القصص آية 66
(4) قائله رؤبة ديوانه: 166 وتفسير الطبري 1 / 310 وقد مر في 1 / 81
472

أي خفي الهدى ألا ترى أن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة،
وقد قيل للسحاب: العمى لخفاء ما يخفيه، كما قيل له: الغمام ومن ذلك قول زهير:
ولكنني عن علم ما في غد عمي (1)
ومن شدد اعتبر قراءة الأعمش فإنه قرأها فعماها عليهم. وروى ذلك الفراء
عن أبي، والمعنيان متقاربان. قال الفراء: يقال عمى علي الخبر وعمي بمعنى واحد.
حكى الله تعالى عن نوح ما قاله لقومه جوابا عما قالوه له مما حكيناه
فإنه " قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة " أي برهان وحجة من المعجزة التي
تشهد بصحة النبوة. وخصهم بهذا إذ هو طريق العلم بالحق لا ما التمسوا من اختلاف
الخلق. وقوله " آتاني رحمة من عنده " يرد عليهم ما ادعوه من أنه ليس له عليهم
فضل، فبين ذلك بالهداية إلى الحق من جهة البرهان المؤدي إلى العلم. وقوله
" فعميت " يحتمل أمرين: أحدهما - خفيت علكيم، لأنكم لم تسلكوا الطريق
المؤدي إليها. والاخر - أن يكون المعنى عميتم عنها، وأضاف العمى إلى البينة لما
عموا عنها لضرب من المجاز، لان المعنى ظاهر في ذلك، كما يقال: أدخلت
الخاتم في يدي والقلنسوة في رأسي، والمراد أدخلت يدي في الخاتم ورأسي في القلنسوة.
ومن قرأ بتشديد الميم وضم العين أضاف التعمية إلى غيرهم ممن صدهم عن النظر
فيها وأغواهم في ذلك من الشياطين والمضلين عن الحق.
وقوله " أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " أنضطركم إلى موجب البينة مع
العلم مع كراهتكم لذلك فيبطل تكليفكم الاستدلال بالبينة المؤدية إلى المعرفة
أي أضطركم إلى حال الضرورة. ووجه آخر - وهو أن يكون المراد إن الذي
علي أن أدل بالبينة، وليس علي أن أضطركم إلى المعرفة.
وفي قوله " أنلزمكموها " ثلاث مضمرات ضمير المتكلم وضمير المخاطب
وضمير الغائب، وهو أحسن ترتيب: بدأ بالمتكلم، لأنه أخص بالفعل ثم بالمخاطب

(1) اللسان (عمى)
473

ثم بالغائب، ولو اتى بالمنفصل لجاز لتباعده عن العامل بما فرق بينه وبينه، فأشبه
ما ضربت إلا إياك، وما ضربني إلا أنت. وأجاز الفراء " أنلزمكموها " بتسكين
الميم جعله بمنزلة عضد وعضد وكبد وكبد. ولا يجوز ذلك عند البصريين، لان
الاعراب لا يلزم فيه النقل كما يلزم في بناء الكلمة، وإنما يجيزون مثل ذلك في
ضرورة الشعر كقول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واعل (1)
وقال آخر:
وناع يخبرنا بمهلك سيد * تقطع من وجد عليه الأنامل
وقال آخر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
قوله تعالى:
ويا قوم لا أسئلكم عليه ما لا إن أجري إلا على الله وما أنا
بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أريكم قوما
تجهلون (29) آية
في هذه الآية حكاية ما قال نوح لقومه أي لا أطلب منكم مالا أجرا على
الرسالة ودعائكم إلى الله فتمتنعون من إجابتي بل أجري وثوابي في ذلك على الله.
وقوله " وما أنا بطارد الذين آمنوا " معناه إني لست أطرد المؤمنين من عندي
ولا أبعدهم على وجه الإهانة. وقيل: انهم كانوا سألوه طردهم ليؤمنوا أنفة أن
يكونوا معهم على سواء، ذكره ابن جريح والزجاج - وقوله " إنهم ملاقوا ربهم "
اخبار بأن هؤلاء المؤمنين ملاقوا جزاء ربهم بعقاب من طردهم. في قول الزجاج.

(1) ديوانه: 130 تفسير القرطبي 9 / 26
474

وقوله " ولكني أراكم قوما تجهلون " معناه أراكم تجهلون انهم خير منكم لايمانهم
بربهم وكفركم به.
وقال قوم: إنهم قالوا له إن هؤلاء اتبعوك طمعا في المال على الظاهر دون
الباطن، فقال لهم نوح انهم ملاقوا جزاء اعمالهم فيجازيهم على ما يعلم من بواطنهم
وليس لي الا الظاهر احملهم على ظاهر الايمان فأنتم تجهلون ذلك.
قوله تعالى:
ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا
تذكرون (30) آية.
ثم قال لهم نوح عليه السلام " يا قوم " وأراد به الجماعة الذين يقومون بالامر
و (قوم) اسم جمع لا واحد له من لفظه. " من ينصرني من الله " أي من يمنعني
من الله، يقال: نصره من كذا يعني منعه منه، ونصره عليه بمعنى أعانه عليه
حتى يغلب، ونصره إلى كذا بمعنى نصره معه، ومنه قوله " من أنصاري إلى
الله " (1) ويجوز أن يقدر الله الكافر على الكفر، ولا يجوز أن ينصره عليه
لان النصرة على الشئ زيادة في القوة ليقع ذلك الشئ، وهذا لا يجوز على الله.
والقدرة تصلح للضدين على منزلة سواء ولا دليل فيها على إرادة أحدهما.
وقوله " أفلا تذكرون " معناه أفلا تتفكرون، فتعلمون أن الامر على ما
قلته. وفرق الطبري بين التذكر والتفكر بأن قال: التذكر طلب معنى قد كان
حاضرا للنفس و (التفكر) طلب معرفة الشئ بالقلب وان لم يكن حاضرا للنفس.
و (النصرة) المذكورة في الآية ليست من الشفاعة في شئ، لان النصرة
هي المنع على وجه المغالبة والقهر. والشفاعة هي المسألة على وجه الخضوع.
وليس لاحد ان يستدل بذلك على نفي الشفاعة للمذنبين.

(1) سورة 3 آل عمران آية 52
475

قوله تعالى:
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول
إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله
خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين (31) آية
في هذه الآية تمام الحكاية عما قال نوح لقومه وحاجهم به، وهو أن قال
لهم مضافا إلى ما مضى حكايته " ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب
ولا أقول اني ملك " والمعنى إني لا أرفع نفسي فوق قدرها، فأدعي أن عندي
خزائن الله من الأموال فأعطيكم منها وأستطيل عليكم بها، أو أقول إني أعلم
الغيب، أو أقول لكم إني ملك روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بخلاف ما
خلقني الله، بل أنا بشر مثلكم وإنما خصني الله بالرسالة وشرفني بها. وقيل
معنى خزائن الله مقدوراته لأنه يوجد منها ما يشاء. وفي وصفها بذلك بلاغة.
وقيل " لا أقول لكم عندي خزائن الله " فأدعوكم إلى أن أعطيكم منها، ذكره
ابن جريح. و (الغيب) ذهاب الشئ عن الادراك، ومنه الشاهد خلاف الغائب.
وإذا قيل: علم الغيب معناه علم من غير تعلم، وهو جميع الغيب، وعلى هذا لا يعلم
الغيب إلا الله تعالى. وقوله " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " أي لست أقول
للذين احتقرتهم أعينكم. و (الازدراء) الافتعال من الزراية، يقال: زريت
عليه إذا عبته، وازريت عليه إذا قصرت به، والازدراء الاحتقار. وقوله " لن
يؤتيهم الله خيرا " معناه لا أقول لهؤلاء المؤمنين الذين احتقرتموهم انهم لا يعطيهم
الله في المستقبل خيرا من أعمالهم، ولا يثيبهم عليها، من حيث لا علم لي بباطنهم
بل الله اعلم بما في أنفسهم، هل هم مؤمنون في باطنهم أم لا، ومتى قلت لا يعطيهم
خيرا كنت إذا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم.
476

قوله تعالى:
قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا
إن كنت من الصادقين (32) آية
في هذه الآية حكاية عما قال قوم نوح لنوح جوابا عما قاله لهم فيما تقدم
" يا نوح قد جادلتنا " اي خاصمتنا وحاجتنا فأكثرت مجادلتنا، وروي فأكثرت
جدلنا - والمعنى واحد، فلسنا نؤمن لك " فأتنا بما تعدنا " من العذاب " إن كنت
من الصادقين " فيما تقوله على الله تعالى. وحقيقة المجادلة المقابلة بما يقبل الخصم
من مذهبه بالحجة أو شبهه، وهو من الجدل لشدة الفتل، ويقال للصقر أجدل، لأنه
أشد الطير. و (الاكثار) الزيادة على مقدار الكفاية. و " الاقلال " النقصان عن مقدار
الكفاية. والفرق بين الجدال والحجاج: ان المطلوب بالحجاج ظهور الحجة،
والمطلوب بالجدال الرجوع عن المذهب. والمراء مذموم لأنه مخاصمة في الحق
بعد ظهور الحق كمري الضرع بعد دروره، وليس كذلك الجدال. وفي الآية
دلالة على حسن الجدال في الدين، لأنه لو لم يكن حسنا لما استعمله نوح مع
قومه، لان الأنبياء لا يفعلون إلا ما يحسن فعله.
قوله تعالى:
قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين (33) آية
فأجابهم نوح عليه السلام عما قالوه فقال: إنما يأتي بالعذاب الله تعالى دون غيره
يأتي به متى يشاء، ولستم تفوتونه هربا. ومعنى (إنما) اختصاص ما ذكر لمعنى
دون غيره، تقول: إنما زيد كريم أي هو كريم دون غير. وإنما دخل (إنما)
بمعنى الاختصاص بالمذكور دون غيره، لأنها لتحقيق المعنى: ومن تحقيقه أن
477

يكون لها دون غيره إذ المشرك لم يحقق على شئ بعينه، وإذا دخلت (إنما)
هذه على (اسم) كان الاسم مرفوعا، لان (ما) كافة للعامل، ولولا ذلك لما
دخلت على الفعل، والاعجاز هو الفوت بالهرب. وفي الآية دلالة على أن المجادلة
تقوم بها الحجة على مخالف الحق، لأنه لو لم تقم بها الحجة ما جادلهم نوح ولما
قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله " وجادلهم بالتي هي أحسن " (1).
قوله تعالى
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله
يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (34) آية
هذه الآية عطف على قول نوح: إنما يأتيكم بالعذاب الله إن شاء ولستم
تفوتونه، " ولا ينفعكم نصحي " ويحتمل قوله " يريد أن يغويكم " أمرين:
أحدهما - إن كان الله يريد أن يخيبكم من رحمته بأن يحرمكم ثوابه،
ويعاقبكم لكفر كم به، ولا ينفعكم نصحي يقال: غوى يغوي غيا، ومنه قوله تعالى
" فسوف يلقون غيا " (2) أي خيبة وعذابا وقال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (3)
فلما كان الله قد خيب قوم نوح من رحمته وثوابه وجنته أعلم نبيه نوحا
بذلك في قوله " لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " (4) وأنهم سيصيرون إلى
خيبة وعذاب، أخبرهم الله بذلك على لسان نبيه، فقال " ولا ينفعكم نصحي "
مع إتيانكم ما يوجب خيبتكم والعذاب الذي جره عليكم قبيح أفعالكم، ويريد الله
إهلاككم وعقوبتكم على ذلك. وحكي عن طي انها تقول: أصبح فلان غاويا أي

(1) سورة 16 النحل آية 125
(2) سورة 19 مريم آية 59
(3) مر تخريجه في 2 / 312
(4) سورة 11 هود آية 36
478

مريضا. وحكي عن غيرهم سماعا منهم: أغويت فلانا أهلكته، وغوي الفصيل إذا
فقد اللبن فمات: بكسر الواو في الماضي، وفتحها في المستقبل، ومنه قوله تعالى
" وعصى آدم ربه فغوى " (1) اي خاب من الثواب الذي كان يحصل له بتركه.
والوجه الثاني - أن يكون جرى على عادة العرب في تسمية العقوبة باسم
الشئ المعاقب عليه، فيكون المعنى إن كان الله يريد عقوبتكم على اغوائكم
الخلق واضلالكم إياهم، فسمى عقوبته إياهم على اغوائهم اغواء كما قال " وجزاء
سيئة سيئة " (2) " ومكروا ومكر الله " (3) و " الله يستهزئ بهم " (4) ونظائر
ذلك كثيرة. ومثله قوله حكاية إبليس " بما أغويتني " (5) فإنه يحتمل هذين
الوجهين، الأول يحتمل أن يكون فبما خيبتني، والثاني - فبما جازيتني على
اغوائي الخلق عن الهدى. ولا يجوز أن يكون المراد بذلك أن يجعلهم كفارا على
ما يذهب إليه المجبرة، لان الاغواء بمعنى الدعاء إلى الكفر أو فعل الكفر لا يجوز
عليه تعالى، لقبحه كقبح الامر بالكفر. والنصح اخلاص العمل من الفساد على
الاجتهاد فيه. والنصح نقيض الغش. وكان نصح نوح لقومه اعلامهم موضع الغي
ليتقوه، وموضع الرشد ليتبعوه. وإنما شرط النصح بالإرادة - في قوله " ان
أردت أن أنصح " مع وقوع هذا النصح - استظهارا في الحجة: لأنهم ذهبوا إلى أنه
ليس بنصح، فقال: لو كان نصحا ما نفع من لا يقبله. وقوله " هو ربكم واليه
ترجعون " اخبار من نوح أن الله الذي عذبكم وخيبكم من رحمته هو الذي خلقكم
ويميتكم ثم يردكم بأن يحبيكم ليجازيكم على افعالكم ويعاقبكم على كفركم
بنعمه حيث لا ينفعكم استدراك ما فات، ولا ينفعكم الندم على ما مضى. وقال الحسن:
معنى الآية إن كان الله يريد أن يعذبكم وينزل بكم عذابه فأنتم عند ذلك لا ينفعكم

(1) سورة 20 طه آية 121
(2) سورة 42 الشورى آية 40
(3) سورة 3 آل عمران آية 54
(4) سورة 2 البقرة آية 15
(5) سورة 7 الأعراف آية 15 وسورة 15 الحجر آية 39
479

نصحي، لان الله تعالى لا يقبل الايمان عند نزول العذاب.
وقال بعض العلماء: ان قوم نوح كانوا يعتقدون أن ما هم عليه بإرادة الله
لولا ذلك لغيره وأجبرهم على خلافه، فقال نوح على وجه الانكار عليهم والتعجب
من قولهم: ان نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون وتعتقدونه، حكى
ذلك البخلي.
قوله تعالى:
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا برئ
مما تجرمون (35) آية.
معنى قوله " أم يقولون " اخبار من الله تعالى بأن هؤلاء الكفار الذين ليس
يقبلون ما أتاهم به من عند الله يقولون: ليس هذا القرآن من عند الله بل افتراه
وتخرصه وكذبه على الله، فمعنى (أم) في الآية (بل)، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله
ان يقول لهم: إن افتريته، فعلي اجرامي. وقيل في معناه قولان: أحدهما -
انه وعيد، بأني ان كنت افتريته فيما أخبرتكم به من الخبر عن نوح فعلي عقاب
جرمي، وان كانت الأخرى فعليكم عقاب تكذيبي، وستعلمون صدق قولي وأينا
الأحق. والثاني - أنه قال ذلك على وجه الاحتجاج بصحة امره بأن لا يتقول مثل
هذا مع ما فيه من العذاب في الآخرة والعار في الدنيا مع أنه ذو أمانة وصيانة. وهو
في خطاب محمد صلى الله عليه وآله.
وقوله " وانا برئ مما تجرمون " معناه ليس علي من اجرامكم ضرر وإنما
ضرر ذلك عليكم فاعملوا بحسب ما يقتضيه العقل من التفكر في هذا المعنى.
والفرق بين افتراء الكذب وبين قول الكذب: ان قول الكذب قد يكون على وجه
تقليد من الانسان لغيره، واما افتراؤه فهو افتعاله من قبل نفسه. ومعنى اجرام
480

أذنب ومثله جرم قال النميري حار الزبرقان:
طريد عشيرة، ورهين ذنب * بما جرمت يدي وجنى لساني (1)
ومعنى أجرم اقترف السيئة بفعلها لأنه من القطع، وأذنب اي تشبه بالذنب
في السقوط، وجرم وأجرم في المأثم أكثر، قال الشاعر:
كذا الناس مجروم عليه وجارم
قوله تعالى:
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36) آية
اخبر الله تعالى في هذه الآية انه أوحى إلى نوح، وقال له انه لن يؤمن
أحد من قومك في المستقبل أكثر من الذين آمنوا، فلا تبتئس أي لا تغتم ولا
يلحقك حزن لأجلهم، يقال ابتأس ابتآسا فهو مبتئس، وقد يكون البؤس الفقر
والابتآس حزن في الاستكانة انشد أبو عبيدة.
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس * منه وأقعد كريما ناعم البال (2)
واصله البؤس وهو الفقر والمسكنة. ولما اعلم الله نوحا عليه السلام أن أحدا من
قومه لا يؤمن فيما بعد، ولا من نسلهم قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " (3) ذكره قتادة
وغيره. والعقل لا يدل على أن قوما لا يؤمنون في المستقبل وإنما طريق ذلك
السمع، وقد يغلب في الظن ذلك مع قيام التجويز، ألا ترى انه يغلب في ظنوننا

(1) تفسير الطبري 12 / 18 واللسان والتاج (جرم)
(2) قائله حسان ديوانه 326 واللسان (بأس)
(3) سورة 71 نوح آية 26 - 27
481

أن الروم مع كثرتهم لا يؤمنون جملة إلا أنه ليس يمتنع مع ذلك أن يؤمنوا،
لان الله كلفهم الايمان، فلو لم يكن ذلك جائزا لما كلفهم.
قوله تعالى:
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين
ظلموا إنهم مغرقون (37) آية
في هذه الآية اخبار من الله تعالى عما أمر به - عز وجل - نوحا عليه السلام
حين أيأسه من ايمان قومه فيما بعد، وأنه مهلكهم بالطوفان. بأن يتخذ الفلك
ويصنعها، والصنع جعل الشئ موجودا بعد أن كان معدوما، ومثله الفعل،
وينفصلان من الحدوث من حيث أن الصنعة تقتضي صانعا، والفعل يقتضي فاعلا
من حيث اللفظ، وليس كذلك الحدوث، لأنه يفيد تجدد الوجود لا غير. والصناعة
الحرفة التي يكتسب بها، والفلك السفينة، ويكون ذلك واحدا وجمعا، كما
قيل في أسد وأسد قالوا: في فلك وفلك، لان (فعلا وفعلا) جمعهما واحد،
ويأتيان بمعنى واحد كثيرا يقال عجم وعجم، وعرب وعرب، ومثله فلك وفلك.
والفلك والفلكة يقال لكل شئ مستدير أو شئ فيه استدارة، وتفلك ثدي المرأة
إذا استدار، ومنه الفلك. وقوله " بأعيننا " معناه بحيث نراها وكأنها ترى بأعين
على طريق المبالغة، والمعنى بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك.
وقال الجبائي بأعين أوليائنا من الملائكة الذين يعلمونك كيفية عملها، والموكلين
بك. وقيل: معناه بعلمنا. وقوله " ووحينا " اي على ما أوحينا إليك من صفتها
وحالها. قال ابن عباس: امره الله تعالى ان يبنيها على هيئة جؤجؤ الطائر. ويجوز
أن يكون المراد بوحينا إليك أن أصنعها. وقوله " ولا تخاطبني في الذين ظلموا
إنهم مغرقون " نهي لنوح عليه السلام أن يراجع الله تعالى ويخاطبه ويسأله في أمرهم
482

بأن يمهلهم، ويؤخر إهلاكهم، لأنه حكم بإهلاكهم وأخبر بأنه سيغرقهم، فلا
يكون الامر بخلاف ما أخبر به. ويجوز الامر بما علم أنه لا يكون، ولا يجوز
أن يدعو بما يعلم أنه لا يكون، لان في ذلك إيهاما بأنه لا يرضى باختياره، وليس
كذلك الامر، لأنه يتناول من يجوز عليه هذا المعنى. وكسر (إنهم)
على الابتداء.
قوله تعالى:
ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه
قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (38) فسوف
تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (39) آيتان
أخبر الله تعالى في هذه الآية عن نوح أنه أخذ في عمل السفينة، قال الحسن:
كان طولها ألف ذراع ومئتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع. وقال قتادة: كان طولها
ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعا، وارتفاعها ثلاثين ذراعا، وبابها في عرضها
وقال ابن عباس: كانت ثلاث طبقات طبقة للناس، وطبقة للطير وطبقة
للدواب والوحش.
وقوله " وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه " اخبار من الله عن أشراف
قومه ورؤسائهم أنهم كلما اجتازوا به وهو يعمل السفينة هزئوا من فعله. وقيل:
إنهم كانوا يقولون: يا نوح صرت نجارا بعد النبوة على طريق الاستهزاء. وقال
الرماني: السخرية إظهار خلاف الباطن على جهة يفهم منها استضعاف العقل
ومنه التسخير: التذليل استضعافا بالقهر. والفرق بين السخرية واللعب أن في
السخرية خديعة واستنقاصا، ولا يكون إلا الحيوان، وقد يكون اللعب بجماد لأنه
طلب الفرجة من غير مراعاة لما يعقب، كفعل الصبي. وإنما كانوا يسخرون من
483

عمل السفينة، لأنه كان يعملها في البر على صفة من الهول، ولا ماء هناك يحمل مثلها
فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله. وقوله " إنا نسخر منكم كما تسخرون "
جواب من نوح لهم بأنا نسخر منكم يعني نذمكم على سخريتكم، وسماه سخرية،
كما قال " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (1) وقوله " ومكروا ومكر الله " (2)
وأطلق عليه اسم السخرية على وجه الازدواج. وقال قوم: معناه إن تستجهلونا
في هذا الفعل فانا نستجهلكم، كما تستجهلون، ذكره الزجاج. وقوله " فسوف
تعلمون " (سوف) ينقل الفعل عن الحال إلى الاستقبال مثل السين سواء إلا أن فيه
معنى التسويف وهو تعليق النفس بما يكون من الأمور. وقوله " من يأتيه عذاب "
قيل في معنى (من) قولان: أحدهما - أن يكون بمعنى (أي) كأنه قال فسوف
تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه.
الثاني - أن يكون بمعنى الذي، والمعنى واحد، و (من) إذا كانت
استفهاما استغنت عن الصلة، وإذا كانت الذي فلا بدلها من الصلة، كما
استغنت (كم. وكيف) لان البيان مطلوب من المسؤول دون السائل. والخزي
العيب الذي تظهر فضيحته والعار به، ومنه الذل والهوان. وقوله " ويحل عليه "
معناه ينزل عليه. وقال الرماني: الحلول النزول للمقام وهو من الحل خلاف
الارتحال. وحلول العرض وجوده في الجوهر من غير شغل حيز. وقوله " عذاب
مقيم " أي دائم لا يزول.
قوله تعالى:
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل
زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن

(1) سورة 42 الشورى آية 40
(2) سورة 3 آل عمران آية 54
484

وما آمن معه إلا قليل (40) آية
قرأ حفص " من كل زوجين " بتنوين في اللام هنا، وفي المؤمنون. وقال
أبو الحسن: يقال للاثنين هما زوجان، قال الله تعالى " ومن كل شئ خلقنا
زوجين " (1) يقال للمرأة زوج، وللرجل زوجها، قال الله تعالى " وخلق منها
زوجها " (2) وقال " امسك عليك زوجك " (3) وقال بعضهم زوجة، قال الأخطل:
زوجة أشمط مرهوب بوادره * قد صار في رأسه التخويص والنزع (4)
وقال أبو الحسن: يقال للاثنين هما زوج. قال أبو علي الفارسي: يدل
على أن الزوج يقع للواحد، قوله " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين "
إلى قوله " ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " (5) وقال الكسائي أكثر كلام العرب
بالهاء. وقال القاسم بن معن أنه سمعها من العرب من أسد شنوءة، وليس في
القرآن بالهاء، وهو أفصح من اثباتها عند البصريين. ومن قرأ بالإضافة كان قوله
" اثنين " مفعول الحمل. والمعنى احمل من الأزواج إذا كانت اثنين اثنين
زوجين، فالزوجان من قوله " من كل زوجين " يريد بهما الشياع، ولا يراد به
الناقص من الاثنين، ومنه قول الشاعر:
فمالك بالامر الذي لا تستطيع بدارا
ومن نون حذف المضاف من (كل) والمعنى من كل شئ أو من كل زوج
زوجين اثنين، فيكون اثنين على أنه صفة لزوجين، وذكر تأكيدا كما
قال " الهين اثنين " (6).

(1) سورة 51 الذاريات آية 49
(2) سورة 4 النساء آية 1
(3) سورة 33 الأحزاب آية 37
(4) ديوانه 69 واللسان (خوص) الشمط:
البياض من السواد، وإذا بدا في رأسه البياض قيل: خوصه الشيب. والنزع: الصلع
(5) سورة 6 الانعام آية 143 - 144
(6) سورة 16 النحل آية 51
485

اعلم الله نوحا في هذه الآية ان وقت هلاك قومه الكفار فور التنور، وفي
(التنور) أقوال: منها أن الماء إذا فار من التنور الذي يخبز فيه. وقيل: التنور
عين ماء معروفة، وتنور الخابزة وافقت فيه لغة العرب العجم. وقيل: ان
التنور وجه الأرض، ذكره ابن عباس، واختاره الزجاج. وقيل التنور تنور
الصبح، وروي ذلك عن علي عليه السلام. و (حتى) متعلقة بقوله " واصنع الفلك
بأعيننا ووحينا.. حتى ".
أخبر الله تعالى أنه لما جاء أمره باهلاك قوم نوح عليه السلام لاستحقاقهم ذلك
بالكفر، وفار التنور يعني خروج الماء من موضع لم يعهد خروجه منه علامة
لنوح عليه السلام وهو تنور الخبز - في قول ابن عباس والحسن ومجاهد - وقيل: هو
تنور آدم عليه السلام ويقال: فار إذا ارتفع ما فيه، كما يفور القدر بالغليان، فار يفور
فورا وفؤرا. وقال ابن عباس: فار إذا نبع. وقوله " قلنا احمل فيها من كل زوجين
اثنين " إخبار منه تعالى أنه أمر نوحا أن يحمل معه في سفينته من كل جنس
زوجين: والزوج واحد له شكل إلا أنه قد كثر على الرجل الذي له امرأة:
قال الحسن: في قوله " من كل شئ خلقنا زوجين " فالسماء زوج، والأرض زوج
والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار زوج، حتى يصير الامر إلى
الله الفرد الذي لا يشبهه شئ قال الأعشى:
وكل زوج من الديباج يلبسه * أبو قدامة محبوا بذاك معا (1)
وقوله " وأهلك " معناه واحمل معك أهلك " الا من سبق عليه القول " بالاهلاك
قال الضحاك وابن جريح: هو ابنه وامرأته. وقوله " ومن آمن " تقديره واحمل
من آمن. ثم أخبر تعالى فقال " وما آمن معه الا قليل ". قال ابن جريح: القليل
الذين نجو معه كانوا ثمانية. وقال الأعمش: كانوا سبعة، وقال ابن عباس:
كانوا ثمانين، وكان فيهم ثلاثة: بنيه: يافث، وسام، وحام. وثلاث كائن له

(1) ديوانه 86 وتفسير القرطبي 9 / 35
486

ويافث جد الترك والروم والصقالبة وأصناف البيضان. وحام جد السودان، وهم
الحبش والنوبة والزنج وغيرهم. وسام أبو فارس وأصناف العجم.
قوله تعالى:
وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربي لغفور
رحيم (41) آية
قرأ حمزة والكسائي " مجراها " بفتح الميم. الباقون بضمها، وكلهم ضم
ميم مرساها. ومن ضمها قابل بينها وبين مرسها لما بينهما من المشاكلة ومن فتح
فلانه قال بعده " وهي تجري " ومن اختار الأول، قال التقدير أجري فجرت.
قال أبو علي الفارسي: يجوز في " بسم الله مجراها ومرساها " أن يكون حالا من
شيئين: أحدهما - أن يكون من الضمير الذي في (اركبوا) أو من الضمير الذي في
(فيها)، فان جعلت " بسم الله مجراها " خبر مبتدأ مقدم في قول من لا يرفع
بالظرف، أو جعلته مرتفعا بالظرف، ولم يكن قوله " بسم الله مجراها " الا جملة
في موضع الحال من الضمير الذي في (فيها) ولا يجوز أن يكون الضمير في قوله
" اركبوا فيها "، لأنه لا ذكر فيها يرجع إلى الضمير، ألا ترى أن الظرف في قول
من يرفع به ارتفع به الظاهر، وفي قول من رفع مثل هذا بالابتداء قد حصل
في الظرف ضمير المبتدأ، فإذا كان كذلك خلت الجملة من ضمير يعود من الحال
إلى ذي الحال. وإذا كان كذلك لم يكن الا حالا من الضمير الذي في (فيها).
والثاني - يجوز أن يكون قوله " بسم الله " حالا من الضمير الذي في (اركبوا)
على أن لا يكون الظرف خبرا عن الاسم الذي هو (مجراها) على ما كان في الوجه
الأول، ويكون المعنى اركبوا الان متبركين ببسم الله في الوقتين اللذين لا ينفك
الراكبون فيها منهما من الارساء والاجراء، وليس يريد اركبوا في وقت الجري
487

والرسو، فموضع " مجراها " نصب على هذا الوجه بأنه ظرف عمل فيه على المعنى.
وفي الوجه الأول وقع. بالابتداء وبالظرف. ومن فتح الميم فلانه قال " وهي
تجري ". ومن ضم، فلان جرت بهم وأجري بهم متقاربان في المعنى، ويقال:
جرى الشئ وجريت به وأجريته، وإنما ضموا الميم من (مرساها) لقوله " أيان
مرساها " (1) وقوله " والجبال أرساها " (2) ومن أمال أو ترك الإمالة،
فكلاهما حسنان.
اخبر الله تعالى عما قال نوح حين دنا ركوبهم السفينة " اركبوا فيها " يعني
في السفينة، والركوب العلو على ظهر الشئ، فمنه ركوب الدابة وركوب السفينة
وركوب البر وركوب البحر.
والعامل في " بسم الله " يحتمل ثلاثة أشياء: أحدها - (اركبوا). والثاني -
ابتدؤا ببسم الله. والثالث - أجراها وأرساها. والمجرى يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها - أن يكون موضع الاجراء. والثاني - وقت الاجراء. والثالث - نفس
الاجراء. وقيل: كان إذا أراد أن تجري قال " بسم الله " فجرت، فإذا أراد أن
ترسوا قال " بسم الله " فرست ذكره الضحاك. قال لبيد:
عمرت حين ثلاثا قبل مجرى داحس * لو كان للنفس اللجوج خلود (3)
والارساء إمساك السفينة بما تقف عليه أرساها إرساء ورست ترسو قال عنترة:
فصرت نفسا عند ذلك حرة * ترسوا إذا نفس الجبان تطلع (4)
وقوله " ان ربي لغفور رحيم " إخبار منه تعالى حكاية عما قال نوح لقومه
" ان ربي لغفور رحيم " أي ساتر عليهم ذنوبهم رحيم بهم منعم عليهم.
ووجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما ذكرت النجاة بالركوب في السفينة

(1) سورة 7 الأعراف آية 186 وسورة 79 النازعات آية 42
(2) سورة 79 النازعات آية 32
(3) ديوانه: 25 واللسان والتاج (جرى)
(4) ديوانه: 29 والدر المنثور 3 / 338
488

ذكرت النعمة بالمغفرة والرحمة ليجتلب الطاعة كما اجتلب النجاة.
قوله تعالى:
وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان
في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) آية
أخبر الله تعالى عن حال السفينة بعد الغرق أنها كانت تجري على الماء في أمواج
كالجبال. والجري مر سريع كمر الماء على وجه الأرض. والسفينة تجري بالماء
والفرس يجري في عدوه، ويقال: هذه العلة تجري في أحكامها، أي تمر فيها
من غير مانع منها. والموج جمع موجة، وهي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء
الكثير، ومنه أمواج البحر وأعظم ما يكون إذا اشتدت به الريح، وشبه الله تعالى
الأمواج بالجبال في عظمها، والجبل جسم عظيم الغلظ شاخص من الأرض هو لها
كالوتد في عظمه، وجمعه أجبال وجبال. وقوله " ونادى نوح ابنه وكان في معزل "
فالمعزل موضع منقطع عن غيره. وكان ابن نوح في ناحية منقطعة عنه حين ناداه
وقرأ عاصم " يا بني اركب " بفتح الياء. الباقون بكسرها. وفي قوله " يا بني "
ثلاث ياءات، ياء التصغير، وياء الأصل، وياء الإضافة. وفي قوله " يا بني ان الله
اصطفى لكم الدين " (1) يا آن، ياء الجمع، وياء الإضافة. قال أبو علي الفارسي:
الوجه كسر الياء، لان اللام من (ابن) ياء أو واو، وحذفت من (ابن) كما
حذفت من (اسم) فإذا حقرت ألحقت ياء التحقير، لزم أن ترد اللام الذي حذفت
لأنك لو لم تردها لوجب أن تحرك ياء التصغير بحركات الاعراب، وهي لا تحرك
أبدا بحركات الاعراب ولا غيرها، فإذا أضفته إلى نفسك اجتمعت ثلاث ياء آت:،
الأولى التي للتحقير، والثانية لام الفعل، والثالثة هي التي للإضافة تقول: بني،

(1) سورة 2 البقرة آية 132
489

فإذا ناديت جاز فيه وجهان: إثبات الياء وحذفها، فمن قال يا عبادي فأثبت الياء
فقياسه أن يقول يا بني، ومن قال يا عباد يقول يا بني حذفت التي للإضافة، وأبقيت
الكسرة دلالة عليها. وهذا هو الجيد عندهم. ومن فتح الياء أراد الإضافة كما أرادها
في قوله يا بني إذا كسر الياء التي هي آخر الفعل، كأنه قال يا بني ثم أبدل من
الكسرة الفتحة، ومن الياء الألف. فصار (يا بنيا) كما قال:
يا بنت عما لا تلومي واهجعي
ثم حذفت الألف كما كانت تحذف الياء: في يا بني إنها؟، وقد حذفت الياء
التي للإضافة إذا أبدلت الألف منها قال أبو الحسن:
فلست بمدرك ما فات مني * بلهف ولا بليت ولا لو أني ()
كذلك سمع من العرب، فقوله: بلهف إنما هو بلهفا، فحذفت الألف. قال
أبو عثمان: ووضع الألف مكان الياء في الإضافة مطرد وأجاز يا زيد اقبل إذا
أردت الإضافة.
قوله تعالى:
قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم
من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من
المغرقين (43) آية
حكى الله تعالى في هذه الآية ما أجاب ابن نوح أباه عليه السلام فإنه " قال سآوي
إلى جبل يعصمني من الماء " أي سأرجع إلى مأوى من جبل يعصمني من الماء أي
يمنعني منه، يقال آوى يأوي إذا رجع إلى منزل يقيم فيه و (العصمة) المنع
من الآفة والمعصوم في الدين الممنوع باللطف من فعل القبيح لا على وجه الحيلولة.

(1) اللسان (لهف)
490

فان قيل كيف دعا نوح ابنه إلى الركوب معه في السفينة مع أن الله تعالى
نهاه أن يركب فيها كافرا. قلنا: فيه جوابان: أحدهما - أنه دعاه إلى الركوب
بشرط أن يؤمن. الثاني - قال الحسن والجبائي: انه كان ينافق باظهار الايمان.
فان قيل: هلا كان ما صار إليه ابن نوح من تلك الحال الهائلة إلجاء؟.
قلنا: لا. لان الالجاء لا يكون إلا بأحد شيئين: أحدهما - بأن يخلق
فيه العلم بأنه متى رام خلافه منع منه. الثاني - تتوفر الدواعي من ترغيب
أو ترهيب، ولم يحصل له واحد من الامرين، لأنه جوز أن يكون من عجائب
الزمان، وأنه وقع إلى نوح علم به، فتقدم فيه. وقوله " لا عاصم اليوم من أمر
الله إلا من رحم " حكاية لما قال نوح لولده حين " قال سآوي إلى جبل يعصمني
من الماء " بأنه لا مانع اليوم من أمر الله. واستثنى من رحم، وقيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه استثناء منقطع، كأنه قال من رحم فإنه معصوم. الثاني - لا عاصم
إلا من رحمنا برحمة الله سبحانه لنا كأنه قال: لا عاصم إلا من عصمه الله فنجا، وهو
نوح عليه السلام، وهو اختيار أبي علي النحوي. وقال: لأنه يحتمل أن يكون (عاصم)
بمعنى معصوم مثل دافق بمعنى مدفوق، فيكون الاستثناء متصلا. وقال ابن
كيسان: لما قال (لا عاصم) كان معناه لا معصوم، لان في نفي العاصم نفي المعصوم
ثم قال " إلا من رحم " فاستثناه على المعنى ويكون متصلا. وقوله " وحال بينهما
الموج " إخبار منه تعالى انه حال بين نوح وولده الموج، " فكان من المغرقين ".
قوله تعالى:
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء
وقضي الامر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم
الظالمين (44) آية
491

حكى الله تعالى في هذه الآية قصة نوح وقومه بأوجز لفظ وأبلغه، وبلوغ
الغاية التي لا تدانيها بلاغة ولا تقاربها فصاحة، لان قوله " وقيل يا أرض ابلعي
ماءك " اخبار منه عن إذهاب الماء عن وجه الأرض في أوجز مدة فجرى ذلك مجرى
ان قال لها ابلعي فبلعت. والبلع في اللغة انتزاع الشئ من الحلق إلى الجوف،
فكانت الأرض تبلع الماء هكذا حتى صار في بطنها الغراء، يقال: بلعت وبلعت
بفتح اللام وكسرها. وقوله " ويا سماء اقلعي " اخبار أيضا عن اقشاع السحاب،
وقطع المطر في أسرع وقت، فكأنه قال لها اقلعي فأقلعت. والاقلاع إذهاب الشئ
من أصله حتى لا يبقى منه شئ. وأقلع عن الامر إذا تركه رأسا. وقوله " وغيض
الماء " أي أذهب به عن وجه الأرض إلى باطنها، يقال: غاض الماء يغيض غيضا إذا
ذهب في الأرض. وقوله " وقضي الامر " معناه أوقع الهلاك بقوم نوح على تمام
والقضاء وقوع الامر على تمام وإحكام. وقوله " واستوت على الجودي " جبل
معروف. قال الزجاج بناحية أمد، وقال غيره: بقرب جزيرة الموصل، قال زيد بن
عمر بن نفيل:
وقبلنا سبح الجودي والجمد.
وقيل: أرست على الجودي شهرا، وقال قتادة: اهبطوا يوم عاشوراء.
وقوله " وقيل بعدا للقوم الظالمين " معناه أبعدهم الله من الخير بعدا، على
وجه الدعاء. ويجوز أن يكون الله تعالى قال لهم ذلك. ويجوز أن يكون المؤمنون
دعوا عليهم بذلك، وهو منصوب على المصدر.
وقيل في هذه الآية وجوه كثيرة من عجيب البلاغة: منها انه خرج مخرج
الامر على وجه التعظيم من نحو " كن فيكون " (1) لأنه من غير معاناة، ولا

(1) سورة 2 البقرة آية 118 وسورة 3 آل عمران آية 47، 59 وسورة 6
الانعام آية 73 وسورة 16 النحل آية 40 وسورة 19 مريم آية 35 وسورة 36 يس
آية 82 وسورة 40 المؤمن آية 68.
492

لغوب. ومنها حسن تقابل المعنى. ومنها حسن ائتلاف الألفاظ. ومن ذلك حسن
البيان في تصوير الحال. ومنها الايجاز من غير إخلال. ومنها تقبل الفهم على أتم
الكمال إلى غير ذلك مما عليه هذا الكلام في الحسن العجيب واللطف البديع.
قوله تعالى:
ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك
الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) آية
حكى الله تعالى عن نوح أنه حين رأى قومه قد أهلكهم الله تعالى " فقال يا رب
ان ابني من أهلي وإن وعدك الحق " لأنه تعالى كان وعده بأنه ينجيه وأهله، وأمره
بأن يحملهم معه في الفلك في قوله " وقلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك "
فسأل نوح ربه أن ابنه إن كان ممن وعده بنجاته أن ينجيه، فسأله بهذا الشرط
لأنه لا يجوز أن يسأل نبي من أنبياء الله أمرا لايجاب إليه، وخاصة على رؤس
الملا لان ذلك ينفر عنهم. وإنما يجوز أن يسأل بما يظهر له بشرط مقترن
بالكلام وحال يدل عليه، فيعرف أنه لم يحصل الشرط. والرب والمالك واحد.
وقيل: ان الرب المالك للشئ من كل وجه يصح أن يملك به، وهو أتم الملك،
ولا تصح الصفة به على الاطلاق الا الله تعالى. والانسان قد يكون مالكا بالاطلاق.
وقوله " وأنت احكم الحاكمين " يعني في قولك وفعلك، لأنه حق تدعو
إليه الحكمة، فقال نوح ذلك على وجه الاعتراف تعظيما لله تعالى.
قوله تعالى:
قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح
فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من
493

الجاهلين (46) آية
قرأ الكسائي ويعقوب " انه عمل غير صالح " على الفعل، ونصب (غير)
الكسائي. الباقون " عمل " اسم مرفوع منون (غير) رفع. وقرأ ابن كثير
(تسألن) بالتشديد، وفتح النون، وافقه نافع في التشديد الا انه كسر النون.
الباقون بالتخفيف وكسر النون الا أن أبا عمرو يثبت الياء في الأصل. قال أبو
علي النحوي (سألت) فعل يتعدى إلى مفعولين وليس مما يدخل على المبتدأ
وخبره، ويمتنع ان يتعدى إلى مفعول واحد. فمن قرأ بفتح اللام، ولم يكسر
النون عداه إلى مفعول واحد في اللفظ. والمعنى على التعدي إلى ثان ومن كسر
النون دل على أنه عداه إلى مفعولين، أحدهما: اسم المتكلم. والاخر - الاسم
الموصول، وحذف النون المتصلة بياء المتكلم، كما حذفت من قولهم (اني)
كراهة اجتماع النونات. ومن أثبت الياء فهو الأصل، ومن حذفها اجتزأ بالكسرة
الدالة عليها.
في هذه الآية حكاية عما أجاب الله به نوحا حين سأله نجاة ابنه بأن قال له
" يا نوح انه ليس من أهلك.. " وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين: انه
ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم معك، وانه كان ابنه لصلبه، بدلالة قوله
" ونادى نوح ابنه " فأضافه إليه إضافة مطلقة. والثاني - انه أراد بذلك أنه ليس
من أهل دينك، كما قال النبي صلى الله عليه وآله (سلمان) منا أهل البيت) وإنما أراد على ديننا.
وثالثها - قال الحسن ومجاهد: انه كان لغيره، وولد على فراشه، فسأل نوح على
الظاهر فأعلمه الله باطن الامر، فنفاه منه على ما علمه، فيكون على هذا هو نفسه
عمل غير صالح، كما يقولون: الشعر زهير. وهذا الوجه ضعيف، لان في ذلك
طعنا على نبي وإضافة ما لا يليق به إليه. والمعتمد الأول. وقال ابن عباس:
494

ما زنت امرأة نبي قط، وكانت الخيانة من امرأة نوح انها كانت تنسبه إلى الجنون
والخيانة من امرأة لوط انها كانت تدل على أضيافه. وروي عن علي عليه السلام أنه قرأ
ونادى نوح ابنها فنسبه إلى المرأة، وأنه كان يربيه. وروي عن محمد بن علي بن
الحسين عليهم السلام وعروة بن الزبير أنهما قرءا " ونادى نوح ابنه " بفتح الهاء وترك
الألف كراهة ما يخالف المصحف، وأرادا أن ينسباه إلى المرأة، وأنه لم يكن ابنه
لصلبه. وقال الحسن: كان منافقا يظهر الايمان ويستر الكفر.
وقوله " انه عمل غير صالح " فمن قرأ على الفعل، فمعناه انه ليس من أهلك
لأنه عمل غير صالح، وتقديره انه عمل عملا غير صالح، وحذف الموصوف وأقام الصفة
مقامه، وذلك يستعمل كثيرا، وهذه القراءة تقوي قول من قال: إن ابنه لم يكن
على دينه، لان الله تعالى علل كونه ليس من أهله بأنه عمل عملا غير صالح.
وأما من قرأ على الرفع والتنوين على الاسم فتقديره إنه ذو عمل غير صالح
فجاء على المبالغة في الصفة كما قالت الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت * فإنما هي إقبال وإدبار (1)
قال الزجاج: تقديره فإنما هي ذات إقبال وادبار، تصف الناقة في حنينها
إلى ولدها. وقيل: ان المعنى ان سؤالك إياي هذا عمل غير صالح، ذكره ابن عباس
ومجاهد وإبراهيم. وهذا وضعيف، لان فيه إضافة القبيح إلى الأنبياء عليهم السلام وذلك
لا يجوز عندنا على حال. فالأول هو الجيد. ويحتمل أن يكون المراد ان كونه
مع الكافرين وانحيازه إليهم وتركه الركوب مع نوح عمل غير صالح.
وقوله " فلا تسألني ما ليس لك به علم " معناه لا تسألني ما لا تعلم أنه جائز
في حكمي لان هذا من سؤال الجاهلين، نهاه عن ذلك، ولا يدل على أن ما نهاه
عنه قد وقع كما أن قوله " لئن أشركت ليحبطن علمك " (2) لا يدل على وقوع

(1) مر تخريجه في 2 / 95 وهو في تفسير القرطبي 9 / 49
(2) سورة 39 الزمر آية 65
495

الشرك. وقوله " اني أعظك أن تكون من الجاهلين " فالوعظ الزجر عن القبيح
بما يدعوا إلى الجهل على وجه الترغيب والترهيب. والصحيح أن الجهل قبيح على
كل حال. وقال الرماني: إنما يكون قبيحا إذا وقع عن تعمد، فاما إذا وقع
غلطا أو سهوا لم يكن قبيحا ولا حسنا. وهذا ليس بصحيح، لان استحقاق الذم
عليه يشرط بالعمد فاما قبحه فلا كما نقوله في الظلم سواء.
قوله تعالى:
قال رب إني أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم وإلا
تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47) آية
في هذه الآية اخبار عما قاله نوح عليه السلام حين عرفه الله حال ولده وأنه
لا يستحق الغفران ووعظه بان يكون من الجاهلين، فإنه قال " اني أعوذ بك أن
أسألك ما ليس لي به علم " فالعياذة طلب النجاة بما يمنع من الشر، يقال: عاذ يعوذ
عوذا وعياذا فهو عائد بالله. والعياذ الاعتصام بما يمنع من الشر. والمعنى اني أعتصم
بك أن أسألك ما لا أعلمه، وإنما اعتصم من ذلك، لان ما يعلمه الانسان يجوز أن
يكون حسنا ويجوز كونه قبيحا. ولا يحسن أن يسأل ما يجوز كونه قبيحا وان
شرط حسن السؤال. وينبغي أن يشرط إن كان ما سأله حسنا فيحسن السؤال
حينئذ. وقال الرماني: لا يحسن أن تسال فتقول: اللهم أحيي أقاربي في دار
الدنيا على ما يصح ويجوز. لأنه قد دل الدليل على أن ذلك لا يحسن في الحكمة
فلا يجوز أن يسأله بحال. وإنما جاز اطلاق " ما ليس لي به علم " مع أنه قد
علمه سؤالا. لان هذا العلم لا يعتد به لان المراد علم ماله أن يسأله إياه.
وإنما حذفت (يا) من قوله " رب اني أعوذ بك " وأثبته في قوله " يا نوح "
لان ذلك نداء تعظيم. وهذا نداء تنبيه فوجب أن يأتي بحرف التنبيه. وقوله (به)
496

يحتلم وجهين: أحدهما - أن يكون كقوله " وكانوا فيه من الزاهدين " (1)
و " اني لك من الناصحين " (2) و " انا على ذلكم من الشاهدين " (3) قال
أبو الحسن: إنما يجوز في حروف الجر ذلك، لان التقدير فيه التعلق بمضمر
يفسره هذا الذي يظهر بعد، وإن كان لا يجوز تسليطه عليه. ومثله " يوم يرون
الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين " (4) فانتصب " يوم يرون " بما دل عليه
" لا بشرى يومئذ " ولا يجوز فيما بعد (لا) هذه أن يتسلط على (يوم) وكذلك
" ما ليس لك به علم " يتعلق بما دل عليه (علم) المذكور وإن لم يجز أن يعمل
فيه. والثاني - أن يكون متعلقا بالمستقر، وهو العامل فيه كتعلق الظروف بالمعاني
كما تقول: ليس لك فيه رضاء، فيكون (به) في الآية بمنزلة (فيه).
قوله تعالى:
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم
ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم (48) آية
في هذه الآية حكاية ما أمر الله تعالى به نوحا حين استوت السفينة على
الجبل، وأنه قال له " اهبط " أي انزل من الجبل، فالهبوط نزول من أعلى مكان
في الأرض إلى ما دونه ومن السماء. وقوله " بسلام منا " قيل في معناه وجهان:
أحدهما - بسلامة منا وتحية منا، قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (5)
قيل: انه بمعنى السلام عليكما. وقيل: معناه بتسليم منا عليك وقوله

(1) سورة 12 يوسف آية 20
(2) سورة 28 القصص آية 20
(3) سورة 21 الأنبياء آية 56
(4) سورة 25 الفرقان آية 22
(5) ديوانه 2 / 1 واللسان " عذر "
497

" وبركات عليك " معناه ونعم دائمة وخير ثابت حالا بعد حال، وأصله الثبوت،
فمنه البروك، والبركة لثبوت النماء فيها قال الشاعر:
ولا ينجي من الغمرات إلا * براكاء القتال أو الفرار (1)
أي الثبوت للقتال. ومعنى تبارك الله ثبت تعظيم ما لم يزل ولا يزال.
وقوله " وعلي أمم ممن معك " فالأمة الجماعة الكثيرة على ملة واحدة متفقة،
لأنه من (أمه يؤمه أما) إذا قصده، أو الاتفاق في المنطق على نحو منطق الطير
والمأكل والمشرب والمنكح، حتى قيل: إن الكلاب أمة. وقيل في معناه - هنا -
قولان: أحدهما - أنه أراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، فأخرج الله
أمما من نسلهم وجعل فيهم البركة. وقال قوم: يعني بذلك الأمم من سائر
الحيوان الذين كانوا معه، لان الله تعالى جعل فيها البركة، وتفضل عليها
بالسلامة حتى كان منها نسل العالم. وقوله " وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب
أليم " معناه إنه يكون من نسلهم أمم سيمتعهم الله في الدنيا بضروب من النعم،
فيكفرون نعمه ويجحدون ربوبيته، فيهلكهم الله. ثم يمسهم بعد ذلك عذاب مؤلم
موجع. وإنما رفع (أمم) لأنه استأنف الاخبار عنهم.
قوله تعالى:
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت
ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (49) آية
الإشارة بقوله " تلك " إلى ما تقدم ذكره من اخبار نوح وقومه وما أحل الله بهم
من الاهلاك، والتقدير تلك الانباء من أنباء الغيب، ولو قال ذلك كان جائزا،
لان المصادر يكنى عنها بالتأنيث تارة وبالتذكير أخرى يقولون: قدم فلان

(1) قائله بشر بن أبي خازم اللسان (برك)
498

ففرحت بها وفرحت به أي بقدومه أو بقدمته. والغيب ما غاب عن النفس معرفته
بطريق الستر له بخلاف السهو لأنه ذهاب المعنى عن النفس بحال ينافي الذكر.
وقوله " نوحيها إليك " أي نوحي إليك تلك الأخبار. وقوله " ما كنت تعلمها أنت
ولا قومك " معناه إن هذه الأخبار التي أعلمناك إياها لم تكن تعلمها قبل وحبنا
إليك ولا قومك من العرب يعرفونها قبل إيحائنا إليك. وقوله " فاصبر ان العاقبة
للمتقين " أمر للنبي صلى الله عليه وآله بأن يصبر على أذى قومه وجهلهم بموضعه كما صبر
نوح مثل ذلك على قومه، وهو أحد الوجوه التي لأجلها كرر الله تعالى قصص
الأنبياء: في الأعراف، وهود، والشعراء، ليصبر النبي صلى الله عليه وآله على أذى قومه حالا
بعد حال. وقوله " إن العاقبة للمتقين " اخبار منه تعالى بأن العاقبة المحمودة لمن
اتقى معاصي الله وتحرز من عقابه.
تم المجلد الخامس - ويليه المجلد السادس
وأوله قوله تعالى: وإلى عاد أخاهم هودا قال
يا قوم اعبدوا الله.. آية (50) من سورة هود
499