الكتاب: التبيان
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٦
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
ردمك:
ملاحظات:

التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 ه‍
تحقيق وتصحيح
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد السادس
1

اسم الكتاب: التبيان في تفسير القرآن المجلد السادس
المؤلف: شيخ الطائفة أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي
الناشر: مكتب الاعلام الاسلامي
طبع على مطابع: مكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: رمضان المبارك 1409 ه‍. ق
طبع منه:
3000 نسخة
السعر: 1500 ريال
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفقنا لاتمام طبع المجلد الخامس من هذا السفر النفيس، وسهل
لنا السبل لا تجاز المجلد السادس والشكر له وحده فإنه المتفضل بأصول النعم
والحمد له على إلها منا الحمد، والشكر له على إلها منا الشكر، ولا حول لنا ولا
قوة إلا به ومآبنا إليه واتكالنا عليه نسأله أن يلهمنا الصواب، ويوفقنا إلى ما
فيه مرضاته، وصلى الله عليه نبينا محمد وآله الذي أرسله الله لهداية خلقه وتبليغ
كتابه وتطبيق تشريعه في الأرض وإظهار كلمة التقوى، وكلمة الله العليا، فقام
بأداء الرسالة خير قيام، وقد بلغ عن ربه ما أمر به على تمام وكمال، وقام بعده
أهل العلم بما وجب عليهم، ومنهم المؤلف قدس الله روحه الطاهرة (راجع ترجمته
في المقدمة بقلم آية الله الاغا بزرك الطهراني - مد ظله العالي -)
وبالختام ابتهل إلى الله - جل شأنه - أن يوفقنا وجميع المؤمنين لما فيه السداد
انه أرحم الراحمين.
أحمد حبيب قصير العاملي
3

قوله تعالى:
(وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم
من إله غيره إن أنتم إلا مفترون) (50) آية بلا خلاف.
قوله " أخاهم " نصب بتقدير (أرسلنا) كأنه قال: وأرسلنا إلى عاد أخاهم
ودل عليه ما تقدم من قوله " ولقد أرسلنا نوحا " و (عاد) مصروف، لان المراد
به الحي وقد يقصد به القبيلة، فلا يصرف قال الشاعر:
لو شهد عاد في زمان عاد * لابتزها مبارك الجلاد (1)
وإنما سمى هودا أخا عاد مع أنهم كفار، وهو نبي لان المراد بذلك الاخوة
في النسب، لا في الدين، فحذف لدلالة الحال عليه.
وقوله " ما لكم من إله غيره " حكاية ما قال هود (ع) لهم وأمرهم ان يوجهوا
عبادتهم إلى الله ونفى أن يكون معبود يستحق العبادة غيره.
ومن ضم الراء حمله على الموضع، لان فيها معنى الاستثناء، فكأنه قال ما
لكم من إله إلا هو، ولا يجوز في هذا الاستثناء الحمل على اللفظ، لان الواجب
لا يدخله (من) الزائدة.
ومن جره حمله على اللفظ. وقال بعضهم تقديره ما لكم إله غيره و (من)
زائدة، فلذلك رفع.
وقوله " ان أنتم إلا مفترون " أخبار من الله تعالى: حكاية ما قال هود لهم
بأنه ليس أنتم إلا متخرصون. وإنما سماهم مفترين بعبادة غير الله، لأنهم في حكم
من قال هي جائزة لغير الله، فلذلك قال لهم ذلك. ومساكن عاد كانت بين بلاد
الشام واليمن تعرف بالأحقاف، وكانوا أصحاب بساتين وزروع، ويسكنون

(1) مجمع البيان 3: 169 وروايته (لاقبرها) بدل (لابتزها)
5

الرمال، دعاهم هود إلى الا يمان بالله وتوجيه العبادة إليه، فكفروا به فأهلكهم
الله بالريح، فذكر انها كانت تدخل في أفواههم فتخرج من استاههم فتقطعهم
عضوا عضوا، نعوذ بالله منها.
قوله تعالى:
(يا قوم لا أسئلكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي
فطرني أفلا تعقلون (51) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن هود أنه قال لقومه: لست أطلب منكم
- على دعائي لكم إلى عبادة الله - أجرا، لأنه ليس جزائي في ذلك إلا على الله
الذي خلقني، فهلا تتكفرون - بعقولكم - في ذلك، فتعلمون أن ذلك محض
النصيحة لأنه لو كان لغيره لطلبت عليه الاجر.
اللغة.
والسؤال والطلب معناهما واحد، الا ان الطلب قد يكون في غير معنى
السؤال، لان من ضاع منه شئ يطلبه، أو طلب الماء إذا استعذبه أو طلب
المعادن، لا يقال فيه (سأل) ولا هو سائل. و (الاجر) هو الجزاء على العمل
على عمل الخير بالخير. وقد يستحق الاجر على الشكر، كالاجر الذي يعطيه الله
العبد على شكره لنعمه. و (الفطر) الشق عن أمر الله، كما ينفطر الورق عن
الثمر، ومنه فطر الله الخلق. ومنه قوله " إذا السماء انفطرت " (1) و " هل ترى
من فطور " (2) ومنه فطر الله الخلق لأنه بمنزلة ما شق عنه فظهر. وقوله
" أفلا تعقلون " يقال لمن عدل عن الاستدلال: لا يعقل، لأنه بمنزلة من لا يعقل،

(1) سورة الانفطار آية 1.
(2) سورة الملك آية 3.
6

في أنه لا ينتفع بموجب العقل. وقيل إن المنى " أفلا تعقلون " أني اطلب بذلك
نصحكم وصلاحكم فتقبلوه ولا تردوه.
قوله تعالى:
(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء
عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين)
(52) آية بلا خلاف.
هذه الآية عطف على ما قبلها، وفيها حكاية أيضا عما قال هود لقومه، فإنه
ناداهم، وقال " يا قوم استغفروا ربكم " اي اطلبوا منه المغفرة " ثم توبوا إليه " وإنما
قدم الاستغفار قبل التوبة، لأنه طلب المغفرة التي هي الغرض، ثم بين ما به
يتوصل إليها هو التوبة، والغرض مقدم في النفس، لان الحاجة إليه ثم السبب،
لأنه يحتاج إليه من اجله. وقيل إن (ثم) في الآية بمعنى الواو، كما قال " خلقكم من
نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " (1) وكان جعل الزوج منها قبل جميع البشر.
وقبل ان المعنى استغفروا ربكم من الوجه الذي يصح، من الا يمان به وتصديق
رسله، والاقلاع عن معاصيه، والتوبة من القبائح " ثم توبوا إليه " بمعنى استديموا على
ذلك وجددوا التوبة بعد التوبة، لئلا يكونوا مصرين. وكل ذلك جائز
وظاهر هذه الآية يقتضي أن الله تعالى يجعل الخير بالتوبة ترغيبا فيها، لأنه
وعد متى تاب العاصي يرسل السماء عليهم مدرارا وهو الدرر الكثير المتتابع على
قدر الحاجة إليه دون الزائد المفسد المضر، ونصبه على الحال.
وروي انهم كانوا أجدبوا، وانهم متى تابوا أخصبت بلادهم وأثمرت أشجارهم
وانزل عليهم الغيث الذي يعيشون به.

(1) سورة الزمر آية 6.
7

و (مفعال) صفة للمبالغة كقولهم: منجار، ومعطار، ومغزار. ومثله " ومن
يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب " (1) ولولا هذا الوعد لما وجب
ذلك. واما الثواب على التوبة فمعلوم عقلا.
وقوله " ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين " معنا ان الله تعالى إذا تبتم
" يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى " القوة التي فعلها فيكم، ويجوز
ان يريد بذلك تمكينهم من النعم التي ينتفعون بها ويلتذون باستعمالها، فان
ذلك يسمى قوة.
وقوله " ولا تتولوا مجرمين " تمام الحكاية عنه أنه قال لقومه لا تتولوا من عصا
الله وترك عبادته.
قوله تعالى:
(قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن
قولك وما نحن لك بمؤمنين) (53) آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية عما قاله قوم هودله حين دعاهم إلى عبادة الله وترك ما
سواه بأنهم قالوا له يا هود لم تجئنا ببينة يعني بحجة دالة على صدقك ولسنا نترك
عبادة آلهتنا لأجل قولك ولسنا مصدقيك، ولا معترفين بعبادة إلهك الذي تدعي
انك رسوله، فالبينة الحجة الواضحة التي تفصل بين الحق والباطل. والبيان
فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس متميزا مما سواه، ويجوز أن يكون حملهم
على رفع البينة مع ظهورها أمور:
أحدها - تقليد الآباء والرؤساء فدفعوها لذلك
ومنها اتهامهم لمن جاء بها حيث لم ينظروا فيها.

(1) سورة الطلاق آية 2 - 3
8

ومنها انهم دخلت عليهم الشبهة في صحتها.
ومنها اعتقادهم لأصول فاسدة تدعوهم إلى جحدها.
واما الداعي إلى عبادة الأوثان فيحتمل أن يكون أحد أشياء:
أحدها - انهم ظنوا انها تقربهم إلى الله زلفى إذا عبدوها.
الثاني - ان يكونوا على مذهب المشبهة فجعلوا وثنا على صورته فعبدوه.
الثالث - أن يكون القي إليهم ان عبادتها تحظي في دار الدنيا.
وقوله " عن قولك " معناه بقولك، وجعلت (عن) مكان الباء، لان معنى
كل واحد من الحرفين يصح فيه. وقال الرماني: من عبد إلها في الجملة هو ممن
عبد غير الله، لان كل واحد منها لم تخلص العبادة له ولا أوقعها على وجه
يستحق به الثواب.
قوله تعالى:
(إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد
الله واشهدوا أني برئ مما تشركون) (54) آية.
في هذه الآية تمام الحكاية عن جواب قوم هود لهود، وهو انهم قالوا مع
جحدهم لنبوته " ان نقول " لسنا نقول " إلا اعتراك " أصابك من قولهم عراه
يعروه إذا اصابه، قال الشاعر:
من القوم يعروه اجترام ومأثم (1)
وقيل " اعتراك " أصابك يحنون خبل عقلك، ذهب إليه ابن عباس، ومجاهد.
وإنما جاز ان يقول " إلا اعتراك " مع أنهم قالوا أشياء كثيرة غير هذا، لان المعنى

(1) قائله أبو خراش: مجمع البيان 3: 169، وتفسير الطبري 12: 35 ومجاز القرآن
1: 290 وصدره: (تذكر داخلا عندنا وهو فاتك)
9

ما نقول في سبب الخلاف الا اعتراك، فحذف، لان الحال يقتضي ان كلامهم في
الخلاف وسببه.
وقوله " قال إني اشهد الله " اخبار عما أجابهم به هود بأن قال: اشهد الله
على أدائي إليكم ونصحي إياكم، وعلى ردكم ذلك علي وتكذيبكم إياي و " اشهدوا "
أنتم أيضا انني برئ مما تشركون، وإنما أشهدهم - على ذلك وان لم يكونوا أهل
شهادة من حيث كانوا كفارا فساقا - إقامة للحجة عليهم لا لتقوم الحجة بهم،
فقيل هذا القول اعذارا وانذارا، ويجوز أن يكون يريد بذلك اعلموا كما قال
" شهد الله " بمعنى علم الله.
قوله تعالى (من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55) آية
بلا خلاف.
في هذه الآية دلالة على صحة النبوة، لأنه قال لقوم من أهل البأس والنجدة
" كيدوني جميعا ثم لا تنظرون " اي لا تمهلوني ثقة بأنهم لا يصلون إليه بسوء،
لما وعده الله (عز وجل) من العز والغلبة. ومثله قال نوح لقومه " فاجمعوا
أمركم وشركاء كم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون " (1) وقال
نبينا صلى الله عليه وآله " فإن كان لكم كيد فكيدون " (2).
والفرق بين الانظار والتأخير ان الانظار امهال لينظر صاحبه في امره،
والتأخير خلاف التقديم من غير تضمين.
وفي هذه الآية تضمين بما قبلها، لان التقدير اني برئ مما تشركون من دونه،
وههنا يحسن الوقف ويحسن أيضا ان يقف على قوله " تشركون " كان ذلك وقفا
كافيا، لأنه يحسن الوقف عليه، ولا يحسن استئناف ما بعده. واما الوقف التام

(1) سورة يونس آية 71.
(2) سورة المراسلات آية 39.
10

فهو الذي يحسن الوقف عليه ويحسن استئناف ما بعده نحو قوله " وإياك نستعين "
ثم يستأنف " اهدنا صراط المستقيم " (1).
والكيد طلب الغيظ بالسر وهو الاحتيال بالسر، تقول: كاده يكيده
كيدا وكايده مكايدة مثل غايظه مغايظة.
قوله تعالى:
(إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو
آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) (56) آية بلا خلاف.
هذه الآية فيها حكاية ما قال هود لقومه بعد ذكر ما قدم من القول فيه اني
توكلت على الله. والتوكل تفويض الامر إلى الله تعالى على طاعته فيما امر به، لان
ذلك من تسليم التدبير له، لأنه افعاله كلها جارية على ما هو أصلح للخلق.
وقوله " ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها " معناه ليس من حيوان يدب الا
وهو تعالى آخذ بناصيته اي قادر على التصرف فيه، وتصريفه كيف شاء.
و (الناصية) قصاص الشعر ومنه قوله " فيؤخذوا بالنواصي والاقدام " (2) وفي
جر الرجل بناصيته اذلال له. واصل الناصية الاتصال من قولهم: (مفازة
بناصي مفازة) إذا كانت الأخيرة متصلة بالأولى قال الشاعر:
فئ تناصيها بلاد فئ (3)
وقال ذو الرمة:
ينصو الجماهين (4)
ونصوته انصوه نصوا إذا اتصلت به.

(1) سورة الفاتحة اية 5 - 6
(2) سورة الرحمن آية 41
(3) مجمع البيان 3: 169
(4) لم أجده
11

وقال أبو النجم:
ان يمس رأسي اشمط العناصي * كأنما فرقه مناصي (1)
اي يجاذب ليتصل به في مره، وإنما قال اخذ بناصيتها مع أنه مالك لجميعها
لما في ذلك من تصوير حالها على عادة معروفة من أمرها في اذلالها، فكل دابة
في هذه المنزلة في الذلة لله تعالى. وقوله " ان ربي على صراط مستقيم " معناه أن
أمر ربي في تدبير خلقه على صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اضطراب، فهو يجري
على سبيل الصواب لا يعدل إلى اليمين والشمال والفساد. والفائدة هنا ان ربي
وإن كان قادرا على التصريف في كل شئ فإنه لا يفعل إلا العدل ولا يشاء
الا الخير.
قوله تعالى:
(فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف
ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شئ حفيظ
(57) آية بلا خلاف.
معنى الآية حكاية ما قال هود لقومه من قوله لهم ان توليتم، فليس ذلك
لتقصير في ابلاغكم وإنما هو لسوء اختياركم في الاعراض عن نصحكم، ويجوز أن يكون
ذلك حكاية ما قال الله لهود انهم ان تولوا فقل لهم فقد أبلغتكم. وقال
الزجاج: التقدير فان تتولوا فحذف احدى التائين، لدلالة الكلام عليها، فعلى
هذا تقديره قل لهم فان تتولوا، ومثله قال الجبائي. والتولي الذهاب إلى خلاف
جهة الشئ وهو الاعراض عنه. والمعنى هنا التولي عما دعوتكم إليه من عبادة
الله، واتباع امره، والابلاغ إلحاق الشئ بنهايته، وذلك أنه قد يلحق الحرف
بالحرف على جهة الوصل، فلا يكون إبلاغا، لأنه لم يستمر إلى نهايته.

(1) اللسان (نصا) ومجمع البيان 3: 169.
12

وقوله " ويستخلف ربي قوما غيركم " فالاستخلاف جعل الثاني بدل الأول يقوم
مقامه فيما كان عليه الأول، فلما كانوا قد كلفوا، فلم يجيبوا، جعل الثاني بدلا منهم
في التكليف.
وقوله " ولا تضرونه شيئا " معناه انه إذا استخلف غيركم، لا تقدرون له
على ضر ولا نفع. وقيل إن معناه لا ينقصه هلاككم شيئا، لأنه يجل عن الحاق
المنافع والمضاربة.
وقوله " ان ربي على كل شئ حفيظ " لاعمال العباد حتى يجازيهم عليها.
وقيل معناه يحفظني من أن تنالوني بسوء.
قوله تعالى:
(ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا
ونجيناهم من عذاب غليظ) (58) آية.
المعنى ولما جاء أمرنا بهلاك عاد، ودلائله " نجينا هودا، والذين آمنوا معه
برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ " يعنى من عذاب الدنيا والآخرة فسلموا من
الامرين.
والنجاة السلامة من الهلاك، وقد تكون السلامة من إصابة ألم ما، والرحمة
قد تكون مستحقة بدلالة قوله " ونجيناهم برحمة منا " ويجوز أن يكون المراد بما
أريناهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة. والرحمة مستحقه بالوعد وحسن
التدبير في الفصل بين الولي والعدو. والغليظ عظيم الجثة والكثيفة، وإنما وصف.
به العذاب لأنه بمنزلته في الثقل على النفس وطول المكث.
13

قوله تعالى:
(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا
أمر كل جبار عنيد) (59) آية بلا خلاف.
قوله " وتلك " إشارة إلى من تقدم ذكره، وتقديره و " تلك " القبيلة " عاد
جحدوا بآيات ربهم " والجحد الخبر بأن المعنى ليس بكائن على صحة، فعلى هذا
جحدوا هؤلاء الكفار بآيات الله، اي أخبروا بأن المعنى لا نعرف صحته، والنفي
خبر بعدمه.
وقال صاحب العين: الجحد انكارك بلسانك ما تستيقنه نفسك.
وقوله " وعصوا رسله " فيه أخبار أنهم مع جحدهم دلالة رسل الله، وانكارهم
آيات الله، خالفوا ما اراده الدعاة إلى الله، على طريق الا يجاب بالترغيب
والترهيب فالرسول دعاهم إلى عبادة الله، فخالفوه وإنما قال " عصوا رسله "
وهم عصوا هودا، لان الرسل قد تقدمت عليهم بمثل ذلك، وذلك عصيان لهم
فيما أمروا به ودعوا إليه من توحيد الله وعدله وان لا يشركوا به شيئا.
وقوله " واتبعوا امر كل جبار عنيد والعنيد العاتي الطاغي، عند يعند عندا
وعنودا إذا حاد عنه كثيرا قال الشاعر.
اني كبير لا أطيق العندا (1)
قوله تعالى:
(وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة الا إن عادا

(1) مجاز القرآن 1: 291 وتفسير الطبري 12: 35 والقرطي 9: 54 وصدره:
إذا رحلت فاجعلوني وسطا.
14

كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) (60) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان عادا لما عصوه، وكفروا به، وكذبوا هودا
ألحق الله بهم الهلاك واتبعهم في دار الدنيا لعنة، بمعنى انه اخبر نبينا والأمم المستقبلة
باهلاكهم وانه لعنهم وامر بلعنهم، وعرفهم انه أبعدهم من رحمته.
واللعنة الدعاء بالابعاد من قولك لعنه إذا قال عليه لعنة الله، واصله الابعاد
من الخير يقال ذئب لعين اي طريد، ولا يجوز ان يلعن شئ من البهائم، وان
كانت مؤذية، لأنه لا يجوز ان يدعى عليها بالابعاد من رحمة الله.
وقوله " ويوم القيامة " اي ويتبعون لعنة يوم القيامة، يعني يوم يقوم الناس
من قبورهم للجزاء والحساب، كما قال " يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم
إلى نصب يوفضون " (1) وقوله " ألا ان عادا كفروا ربهم " (ألا) معناها التنبيه،
وما بعدها أخبار بأن قوم عاد كفروا ربهم.
وقوله " الا بعدا لعاد قوم هود " نصب (بعدا) على المصدر، والمعنى ابعدهم
الله بعدا، ووقع (بعدا) موضع ابعاد، كما وقع نبات موضع انبات في قوله
" أنبتكم من الأرض نباتا " (2).
قوله تعالى:
(وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من
إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه
ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) (61) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية أنه أرسل " إلى ثمود أخاهم صالحا " ونصب

(1) سورة المعارج آية 43.
(2) سورة نوح آية 17.
15

(أخاهم) بأرسلنا، عطف على ما تقدم، وانه " قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " وقد فسرناه (1).
وقوله " هو أنشأكم من الأرض " قيل في معناه
قولان:
أحدهما - انه خلقكم من آدم وآدم من تراب.
الثاني - انه خلقكم من الأرض، والأول اختيار الجبائي وهو الأقوى. والانشاء
الا يجاد ابتداء من غير استعانة بشئ من الأسباب، وهما نشأتان الأولى في الدنيا
والثانية في الآخرة.
وقوله " واستعمركم فيها " اي جعلكم قادرين على عمارة الأرض، ومكنكم من
عمارتها والحاجة إلى سكناها. والاستعمار جعل القادر يعمر الأرض كعمارة الدار.
وقال مجاهد معنى " استعمركم فيها " أي أعمركم بأن جعلها لكم طول أعماركم. ومنه
العمرى المسألة المعروفة في الفقه.
وفي الآية دلالة على فساد قول من حرم المكاسب، لأنه تعالى امتن على خلقه
بأن مكنهم من عمارة الأرض فلو كان ذلك محرما لم يكن لذلك وجه، والعبادة
لا تستحق إلا بالنعم المخصوصة التي هي أصول النعم فلذلك لا يستحق بعضنا على
بعض العبادة ابتداء، وان استحق الشكر، ولذلك لا تحسن العبادة ابتداء، كما
لا يحسن الشكر إلا في مقابلة النعم.
وقوله " فاستغفروا ربكم ثم توبوا إليه " قد بينا معناه (2) وقوله " ان ربي قريب
مجيب " معناه أنه قريب الرحمة لا من قرب المكان، لكنه خرج هذا المخرج لحسن
البيان في المبالغة، وقيل إن بلاد ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام، وكانت
عاد باليمن.

(1) في تفسير آية. 5 من هذه السورة صفحة 5 من هذا المجلد.
(2) انظر 5: 514 في تفسير آية 3 من هذه السورة.
16

قوله تعالى:
(قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن
نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)
(62) آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية ما أجاب به قوم صالح له حين قالوا له يا صالح قد كنت
فينا مرجوا قبل هذا، ومعناه قد كنا نرجو منك الخير، ونطمع فيه من جهتك
قبل هذا لما كنت عليه من الأحوال الجميلة، فالآن يئسنا منك.
والرجاء تعلق النفس بمجئ الخير على جهة الظن، ومثله الامل والطمع.
وقوله " أتنهانا ان نعبد ما يعبد آباؤنا " معناه تحظر علينا عبادة كان يعبدها
آباؤنا.
وقوله " اننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب " معناه إن الذي أتيتنا به لا
يوجب العلم بل يوجب الشك فنحن في شك مما جئتنا به. والريبة هي الشك إلا أن
مع الريبة تهمة للمعنى ليست في نقيضه، والشك قد يعتدل فيه النقيضان.
قوله تعالى:
(قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه
رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير)
(63) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية ما أجاب به صالح قومه ثمود بأن قال لهم
" أرأيتم ان كنت على بينة " أي حجة من ربي ودليل من جهته ولا مفعول
تفسير التبيان ج 6 - م 2
17

ل‍ (رأيتم) لأنه يلغى كما يلغى إذا دخل عليه لام الابتداء، في قولك (رأيت لزيد
خير منك) فكذلك الجزاء. وجواب (إن) الأولى الفاء، وجواب (إن) الثانية
محذوف، وتقديره ان عصيته فمن ينصرني، إلا أنه يستغني بالأول، فلا يظهر.
وقوله " فمن ينصرني من الله ان عصيته " صورته صورة الاستفهام، ومعناه النفي
كأنه قال فلا ناصر لي من الله ان عصيته، ومعنى الكلام أعلمتم من ينصرني من
الله ان عصيته بعد بينة من ربى ونعمة، وإنما جاز إلغاء (رأيت) لأنها دخلت على
جملة قائمة بنفسها من جهة انها تفيد لو انفردت عن غيرها، و (من) يتعلق بمعناها
دون تفصيل لفظها.
وقوله " فما تزيدونني غير تخسير " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - ليس تزيدونني باحتجاجكم بعبادة آبائكم اي ما تزدادون أنتم الا
خسارا، هذا قول مجاهد.
والثاني - قال قوم: تزيدونني لأنهم يعطونه ذاك بعد أول أمرهم.
الثالث - قال الحسن معناه ان أجبتكم إلى ما تدعونني إليه كنت بمنزلة من
يزداد الخسران.
وقال آخرون معناه ما تزيدونني على ما انا عندكم الا خسارا.
قوله تعالى:
(ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله
ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) (64).
في هذه الآية حكاية ما قال صالح لقومه بعد ان أنذرهم وخوفهم عبادة غير
الله، وحذرهم معاصيه. " ويا قوم هذه ناقة الله لكم اية " وأشار إلى ناقته التي
جعلها الله معجزة، لان الله تعالى أخرجها لهم من جوف صخرة وهم يشاهدونها
على تلك الصفة، وخرجت وهي حامل كما طلبوا، انها كانت تشرب يوما فتنفرد
به ولهم يوم وتأتي المرعى يوما والوحش يوما.
18

وقوله " ولا تمسوها بسوء " نهي منه لهم ان يمسوا الناقة بسوء اي بعقر أو
ضرر. المس واللمس متقاربان. وفرق بينهما الرماني بان المس يكون بين جمادين
واللمس لا يكون إلا بين حيين لما فيه من الادراك، وقوله " فيأخذكم عذاب قريب "
جواب النهي بالفاء وكذلك نصبه. والمعنى ان مسستموها بضر اخذكم عذاب
عاجل.
قوله تعالى:
(فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير
مكذوب) (65) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن قوم صالح بأنهم عصوه فيما أمرهم وارتكبوا ما نهاهم عنه
من اذى الناقة وانهم عقروها والعقر قطع العضو الذي له سراية في النفس قال
امرؤ القيس:
يقول وقد مال الغبيط بنا معا * عقرت بعيري يا امرء القيس فأنزل (1)
وكان سبب عقرهم لها انهم كرهوا أن يكون لها يوم، ولهم يوم في الشرب
لضيق الماء عليهم والمرعى على ماشيتهم فعقرها (احمر ثمود) وضربت به العرب
المثل في الشؤم، فلما فعلوا ذلك قال لهم صالح " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام " أي
تلذذوا، فيما يريدون من المدركات الحسان من المناظر والأصوات وغيرها مما
يدرك بالحواس، ويقال للبلاد: دار، لأنها تجمع أهلها كما تجمع الدار. ومنه قولهم:
ديار ربيعة، وديار مضر.
وقيل معنى " في داركم " اي في دار الدنيا وأيام أصله (ايوام) فقلبت الواو ياء
وأدغمت الياء الأولى فيها فصارت أيام لاجتماعها وسكون الأولى وإنما وجب ذلك
لاشتراكهما في أنهما حرفا علة. وقوله " ذلك وعد غير مكذوب " معناه إن

(1) ديوانه 127 (الطبعة المصرية)
19

ما وعدتكم به من نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وعد صدق ليس فيها كذب.
قوله تعالى:
(فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا
ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز) (66) آية
بلا خلاف.
قرأ أهل المدينة إلا إسماعيل والكسائي والبرجمي والسموني " يومئذ " بفتح
الميم، هنا وفي المعارج. الباقون بكسر الميم على الإضافة. قال أبو علي قوله
" يومئذ " ظرف - كسرت أو فتحت - في المعنى إلا أنه اتسع فيه فجعل اسما كما
اتسع في قوله " بل مكر الليل والنهار " (1) فأضيف المكر اليهما وإنما هو فيهما،
فكذلك العذاب والخزي والفزع أضفن إلى اليوم، والمعنى على أن ذلك كله في
اليوم كما أن المكر في الليل والنهار.
ومن كسر الميم من " عذاب يومئذ " فلان يوما اسم معرب أضاف إليه ما
اضافه من العذاب والخزي والفزع، فانجر بالإضافة، ولم تفتح اليوم فتبنيه
لإضافته إلى المعنى، لان المضاف منفصل عن المضاف إليه ولا يلزمه الإضافة، والمضاف لم يلزم البناء.
ومن فتح فقال: من عذاب يومئذ فيفتح مع أنه في موضع جر، فلان المضاف
يكتسب من المضاف إليه التعريف والتنكير، ومعنى الاستفهام والجزاء في نحو
غلام من تضرب اضربه، فلما كان يكتسب من المضاف إليه هذه الأشياء اكتسب
منه الاعراب والبناء أيضا، إذا كان المضاف من الأسماء الشائعة المبنية نحو (أين.
وكيف) ولو كان المضاف مخصوصا نحو (رجل وغلام) لم يكتسب منه البناء كما
اكتسبت من الأسماء الشائعة. ومن أضاف على تقدير من عذاب يومئذ ومن خزي

(1) سورة سبأ آية 33.
20

يومئذ، فلأنها معارف تعرفت بالإضافة إلى اليوم.
اخبر الله تعالى انه لما جاء امره باهلاك قوم صالح الذين هم ثمود نجا صالحا
والمؤمنين معه برحمة منه تعالى.
وقوله " ومن خزي يومئذ " فالخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من
مثله، خزي يخزى خزيا إذا ظهر له عيب بهذه الصفة.
وقوله " ان ربك هو القوي العزيز " فالقوي هو القادر، والعزيز هو القادر على
منع غيره من غير أن يقدر أحد على منعه. واصله المنع فمنه عز علي الشئ إذا امتنع
بقلبه ومنه العز الأرض الصلبة الممتنعة بالصلابة، ومنه تعزز بفلان اي امتنع به
ويقال (من عزبز) اي من غلب سلب.
وكانت علامة العذاب في ثمود ما قال لهم صالح: آية ذلك ان وجوهكم تصبح
في اليوم الأول مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي الثالث مسودة، ذكره الحسن،
هذا من حكمته تعالى وحسن تدبيره في الانذار بما يكون من العقاب قبل أن يكون
، للمظافرة في الحجة.
ولم يختر أبو عمرو بناء (يوم) إذا أضيف إلى مبني كما اختير في قوله " على حين
غفلة " (1) لان هذا أضيف إلى اسم مبني، وذلك أضيف إلى فعل مبني فباعده من
التمكن بأكثر مما باعده الأول.
قوله تعالى:
(وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين)
(67) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى أنه لما نجا صالحا والمؤمنين وأراد اهلاك الكفار أخذ الذين
ظلموا الصيحة، وهي الصوت العظيم من الحيوان. وقال الجبائي لا تكون

(1) سورة القصص آية 15.
21

الصيحة إلا حدوث صوت في فم وحلق حيوان. وقيل إن جبرائيل عليه السلام
صاح بهم، ويجوز أن يكون الله تعالى احدث الصيحة في حلق حيوان، وإنما
ذكر اللفظ لأنه حمله على المعنى، لان الصيحة والصياح واحد، ويجوز تأنيثه حملا
على اللفظ، كما جاء في موضع آخر (1). وقوله " فأصبحوا في ديارهم جاثمين " معناه
أنه لما اتتهم الصيحة ليلا أصبحوا في ديارهم خامدين على هذه الصفة، والعرب
تقول في تعظيم الامر: (وا سوأة صباحاه). والجثوم السقوط على الوجوه. وقيل
هو القعود على الركب، يقال: جثم على القلب إذا ثقل عليه، وذكرهم الله بالظلم
هنا دون الكفر ليعلم أن الكفر ظلم النفس إذ يصير إلى أعظم الضرر بعذاب
الأبد.
قوله تعالى:
(كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا
لثمود) (68) آية بلا خلاف.
قرأ الكسائي وحده " لثمود " بخفض الدال وتنوينها. والباقون بغير صرف.
وقرأ حمزة وحفص ويعقوب " ألا إن ثمود " وفي الفرقان. و " عادا وثمود " وفي
العنكبوت " وثمود فما أبقى " بغير تنوين فيهن وافقهم يحيى والعليمي والسموني في
سورة (النجم).
قال الفراء قلت للكسائي: لم صرفت (ثمود) هنا؟ فقال: لأنه قرب من
المنصوب، وهو مجرور، وإنما صرف ثمود في النصب دون الجر والرفع، لأنه لما
جاز الصرف اختير الصرف في النصب، لأنه أخف.
قال أبو علي الفارسي: الأسماء التي تجري على القبائل والاحياء على اضرب

(1) سورة هود اية 95 وسورة الحجر آية 73، 83، وسورة المؤمنون آية 41 وغيرها
كثير والآيات التي ذكرناها الفعل فيها لمؤنث.
22

أحدها - أن يكون اسما للحي أو للأب.
والثاني - أن يكون اسما للقبيلة.
الثالث - أن يكون غلب عليه الأب دون الحي والقبيلة.
والرابع - ان يستوي ذلك في الاسم فيجري على الوجهين، ولا يكون لاحد
الوجهين مزية على الآخر في الكثرة، فمها جاء اسما للحي قولهم ثقيف وقريش،
وكلما لا يقال فيه بنو فلان. واما ما جاء اسما للقبيلة فنحو تميم بنت مرة قال
سيبويه سمعناهم يقولون: قيس ابنة عيلان، وتميم صاحبة ذلك، وقال تغلب ابنة
وابل. واما ما غلب عليه اسم أم الحي أو القبيلة، فقد قالوا باهلة ابن اعصر،
وقالوا يعصر، وباهلة اسم امرأة، قال سيبويه جعل اسم الحي، ومحوس لم يجعل
اسم قبيلة، وسدوس أكثرهم يجعله اسم القبيلة، وتميم أكثرهم يجعله اسم قبيلة ومنهم
من يجعله اسم الأب. واما ما يستوي فيه اسم قبيلة، وأن يكون اسما للحي،
فقال سيبويه نحو ثمود وعاد، وسماهما مرة للقبيلتين ومرة للحيين، فكثرتهما سواء.
قال: وعادا وثمودا، وقال " ألا إن ثمود كفروا ربهم " وقال " واتينا ثمود الناقة "
فإذا استوى في ثمود أن يكون مرة للقبيلة ومرة للحي ولم يكن لحمله على أحد
الوجهين مزية في الكثرة:
فمن صرف في جميع المواضع كان حسنا، ومن لم يصرف أيضا كذلك،
وكذلك ان صرف في موضع ولم يصرف في موضع آخر إلا أنه لا ينبغي ان يخرج
عما قرأت به القراء لان القراءة سنة، فلا يجوز ان تحمل على ما يجوز في العربية
حتى تنضم إليه الرواية.
معنى قوله " كان لم يغنوا " أي كأن لم يقيموا فيها لانقطاع آثارهم بالهلاك وما
بقي من اخبارهم الدالة على الخزي الذي نزل بهم، يقال غنى بالمكان إذا أقام به
والمغاني المنازل قال النابغة:
23

غنيت بذلك إذ هم لك جيرة * منها بعطف رسالة وتودد (1)
واصل الغنى الاكتفاء فمنه الغنى بالمال والغناء الصوت الذي يتغنى به، والغناء
الاكتفاء بحال الشئ وغنى بالمكان إذا أقام به، لاكتفائه بالإقامة فيه، والغانية الشابة
المتزوجة. و (ألا) معناها التنبيه وهي الف استفهام دخلت على (لا) فالألف
يقتضي معنى و (لا) ينفي معنى، فاقتضى الكلام بهما معنى التنبيه مع نفي
الفعلية.
قوله تعالى:
(ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام
فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) (69) آية بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي " قال سلم " بكسر السين وسكون اللام من غير الف
هنا، وفي الذاريات. قال محمد بن يزيد المبرد (السلام) في اللغة يحتمل أربعة
أشياء، منها مصدر سلمت، ومنها جمع سلامة، ومنها اسم من ا سماء الله، ومنها
اسم شجرة، ومنه قول الأخطل:
الاسلام وحرمل
وقوله " دار السلام " (2) يحتمل أن يكون مضافا إلى الله تعظيما لها، ويجوز
أن يكون دار السلام من العذاب لمن حصل فيها. واما انتصاب قوله " سلاما "
فإنه لا يحك شيئا تكلموا به فيحكي كما تحكى الجمل، ولكن هو ما تكلمت به
الرسل، كما أن القائل إذا قال لا إله إلا الله، فقلت له قلت حقا أو قلت اخلاصا
أعملت القول في المصدر لأنك ذكرت معنى ما قال، فلم يحك نفس الكلام الذي
هو جملة يحكى، فكذلك نصب سلاما هنا، لما كان معنى ما قيل ولم يكن نفس

(1) ديوانه: 65 ومجمع البيان 3: 178 وتفسير الطبري 15: 56، 465.
(2) سورة الأنعام 127 وسورة يونس اية 25.
24

القول بعينه وقوله " إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " (1) قال بسيبويه زعم أبو
الخطاب: ان مثله يراد به مثل قولك سبحان الله الذي، تفسيره براءة الله من
السوء، وقولك للرجل سلاما تريد مسلما منك لا ابتلي بشئ من امرك. وقوله
" سلام " مرفوع، لأنه من جملة الجملة المحكية، وتقديره سلام عليكم فحذف الخبر
كما حذف من قوله " فصبر جميل " (2) اي فصبر جميل أمثل أو يكون المعنى أمري
سلام وشأني سلام، كما يجوز أن يكون في قوله " فصبر جميل " المحذوف منه المبتدأ،
ومثله على حذف المبتدأ قوله تعالى " فاصفح عنهم وقل سلام " (3) أو حذف الخبر
ويكون سلام مبتدأ وأكثر ما يستعمل (سلام) بغير الف ولام لأنه في معنى
الدعاء، فهو مثل قولهم خير بين يديك، فمن ذلك قوله " قال سلام عليك سأستغفر
لك ربي " (4) وقوله " سلام عليكم بما صبرتم " (5) وقوله " سلام على نوح " (6) و " سلام؟
على إبراهيم " (7) وقوله " سلام على عباده الذين اصطفى " (8) وقد جاء بالألف والا
قال تعالى " والسلام على من اتبع الهدى " (9) و " السلام علي يوم ولدت " (10) وز
أبو الحسن ان من العرب من يقول: السلام عليكم، ومنهم من يقول سلام عليك
فمن ألحق فيه الألف واللام حمله على المعهود. ومن لم يلحقه حمله على غير المعهود
وزعم أن منهم من يقول سلام عليكم بلا تنوين، وحمل ذلك على وجهين:
أحدهما - انه حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الأصل في نحو لم يك ولا
ادر ويوم يأت.

(1) سورة الفرقان آية 63.
(2) سورة يوسف آية 18، 83.
(3) سورة الزخرف آية 89.
(4) سورة مريم آية 47.
(5) سورة الرعد اية 26.
(6) سورة الصافات آية 79.
(7) سورة الصافات آية 109.
(8) سورة النمل آية 59.
(9) سورة طه آية 47.
(10) سورة مريم آية 33.
25

والآخر - انه لما كثر استعمال هذه الكلمة، وفيها الألف والام جاز حذفها منها
لكثرة الاستعمال كما حذفوا من اللهم فقالوا: لا هم كما قال الشاعر:
لا هم لا هم ان عامر العجوز * قد حبس الخيل على يعمور
ومن قرأ (سلم) بلا الف احتمل أمرين: أحدهما - أن يكون بمعنى (سلم)
والمعنى أمرنا سلم وسلم عليكم، ويكون سلام بمعنى سلم، كقولهم حل وحلال،
وحرم وحرام، انشد الفراء:
وقفنا فقلنا ايه سلم فسلمت * كما أكيل بالبرق الغمام اللوائح (1)
وروي كما أنكل. ثم قال الفراء في رفع سلام انه حين نكرهم، قال هو سلم
إن شاء الله، من أنتم؟ فعلى هذا القراءتان بمعنى واحد. والآخر أن يكون
(سلم) خلاف العدو، والحرب. كأنهم لما كفوا عن تناول ما قدم إليهم فنكرهم وأوجس
منهم خيفة، قال انا سلم، ولست بحرب ولا عدو، فلا تمتنعوا من تناول طعامي،
كما يمتنع من تناول طعام العدو، وقوله " ولقد " دخلت اللام لتأكيد الخبر، كما
يؤكد القسم، ومعنى (قد) هنا ان السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة،
و (قد) للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع. أخبر الله تعالى أنه لما
جاءت رسل إبراهيم يبشرونه.
وقيل في البشارة بماذا كانت قولان:
أحدهما - قال الحسن كانت بأن الله تعالى يهب له إسحاق ولدا ويجعله رسولا
إلى عباده.
وقال غيره كانت البشارة باهلاك قوم لوط. وقوله " قالوا سلاما " حكاية ما
قال رسل الله لإبراهيم مجيبا لهم " سلام ".

(1) تفسير الطبري 12: 39 واللسان (سلم) وقد روى أيضا:
وقفنا فقلنا ايه سلم فسلمت * فما كان الا ومؤها بالحواجب
26

وقوله " فما لبث ان جاء بعجل حنيذ " معنى ذلك لم يتوقف حتى جاء
- على عادته في اكرام الأضياف وتقديم الطعام إليهم - بعجل، وهو ولد البقرة
يسمى بذلك لتعجيل امره بقرب ميلاده. ويقال: فيه عجول وجمعه عجاجيل،
و " الحنيذ " المشوي ومعناه محنوذ، فجاء " فعيل " بمعنى " مفعول " كطبيخ
ومطبوخ، وقتيل ومقتول تقول: حنذه حنذا ويحنذه قال العجاج:
ورهبا من حنذه أن يهجرا (1)
يعني الحمراء الوحشية أي حنذها حر الشمس على الحجارة. وقال الحسن حنيذ
بمعنى نضيج مشوي. وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: نضيج.
وحكى الزجاج أن الحنيذ هو الذي يقطر ماؤه تقول العرب أحنذ هذا
الفرس أي جلله حتى يقطر عرقا.
وإنما قدم الطعام إليهم وهم ملائكة لأنه رآهم في صورة البشر، فظنهم
أضيافا.
وقال الحسن: جاؤوه فاستضافوه، والألم يخف عليه أن الملائكة لا يأكلون
ولا يشربون. وقوله " أن جاء " في موضع نصب بوقوع لبث عليه، كأنه قال
فما أبطأ عن مجيئه بعجل، فلما حذف حرف الجر نصب.
قال الفراء: ويحتمل " ان جاء بعجل " أن يكون في موضع رفع بأن تجعل
(لبث) فعلا له كأنك قلت فما أبطأ مجيئه بعجل حنيذ، قال الفراء: (الحنيذ) ما
حفرت له في الأرض ثم عمته وهو فعل أهل البادية. قال الفراء وغيره: وإنما

(1) ديوانه: 9 ومجاز القرآن 1: 292 وتفسير الطبري 12: 41 واللسان
(حنذ)، (هرج).
27

خافهم إبراهيم من حيث لم ينالوا طعامه، لان عادة ذلك الوقت إذا قدم الطعام
إلى قوم فلا يمسونه ظنوا أنهم أعداء
قوله تعالى:
(فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم
خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) (70) آية بلا خلاف.
قيل في وجه اتيان الملائكة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في صورة الأضياف قولان:
أحدهما - قال الحسن أنهم اتوه على الصفة التي كان يحبها، لأنه كان يقري
الضيف.
والآخر - انهم أروه معجزا من مقدور الله في صورتهم مع البشارة له بالولد
على الكبر، فأخبر الله تعالى ان إبراهيم لما رآهم ممتنعين من تناول الطعام وان
أيديهم لا تصل إليه، والعقل لم يكن مانعا من أكل الملائكة الطعام وإنما علم ذلك
بالاجماع وبهذه الآية، والا ما كان يجوز أن يقدم إبراهيم الطعام مع علمه بأنهم
ملائكة. ويجوز بأن يأكلوه وإنما جاز ان يتصور الملائكة في صورة البشر مع ما
فيه من الايهام لأنهم أتوه به دلالة، وكان فيه مصلحة فجرى مجرى السراب الذي
يتخيل انه ماء من غير علم أنه ماء
وقوله " نكرهم " يقال نكرته وأنكرته بمعنى. وقيل نكرته أشد مبالغة وهي
لغة هذيل وأهل الحجاز، وأنكرته لغة تميم قال الأعشى في الجمع بين اللغتين:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت * من الحوادث الا الشيب والصلعا (1)

(1) ديوانه: 72 القصيدة 13 وتفسير الطبري 12: 41 والأغاني 16: 18، والصحاح،
والتاج واللسان (نكر) وتفسير القرطي 9، 66. ومجمع البيان 3: 177 وتفسير
الشوكاني 2: 486.
28

وقال أبو ذؤيب:
فنكرته فنفرن وافترست به * هو جاء هاربة وهاد خرسع (1)
وقوله " أوجس منهم خيفة " اي اضمر الخوف منهم، والايجاس الاحساس
قال ذو الرمة:
وقد توجس ركزا مغفرا ندسا * بنبأة الصوت ما في سمعه كذب (1)
اي تجسيس. وقيل أوجس أضمر، وإنما خافهم حين لم ينالوا من طعامه لأنه
رآهم شبابا أقوياء وكان ينزل طرفا من البلد لم يأمن - من حيث لم يتحرموا بطعامه
أن يكون ذلك البلاء حتى قالوا له لا تخف يا إبراهيم " انا أرسلنا إلى قوم لوط "
بالعذاب والاهلاك وقيل إنهم دعوا الله فأحيا العجل الذي كان ذبحه إبراهيم وشواه
فظهر ورعى، فعلم حينئذ انهم رسل الله.
قوله تعالى:
وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء
إسحق يعقوب (71) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عباس وحمزة وحفص ويعقوب (فبشرناها) بنصب الباء. الباقون
بالرفع. قال أبو علي من رفع فبأحد أمرين: أحدها بالابتداء، والآخر بالظرف
على مذهب من رفع وذلك بين. ومن فتح احتمل ثلاثة أشياء:
أحدها - أن يكون في موضع جر والمعنى فبشرناها بإسحاق ويعقوب، وقال
أبو الحسن: وهو قوي في المعنى، لأنها قد بشرت به قال وفي اعمالها ضعف،
لأنك فصلت بين الجار والمجرور بالظرف كما لا يجوز مررت بزيد في الدار والبيت

(1) مجمع البيان 3: 178
(2) مجمع البيان 3: 178
29

عمرو. وقال الرماني لا يجوز ذلك لأنه يجب منه العطف على عاملين، وذلك لا
يجوز، لأنه أضعف من العامل الذي قام مقامه وهولا يجر ولا ينصب.
الثاني - بجمله على موضع الجار والمجرور كقول الشاعر:
إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا (1)
وكقراءة من قرأ " حورا عينا " بعد قوله " يطاف عليهم " بكذا (2)
ومثله قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا (3)
وكقول الشاعر:
جئني بمثل بني بدر لقومهم * أو مثل أسرة منظور بن سيار
أو عامر بن طفيل في مراكبه * أو حارثا حين نادى القوم يا جار (4)
فنصب (عامرا) و (حارثا) كأنه قال أو جئتي بعامر فلما اسقط حرف الجر نصب.
الثالث - أن تحمله على فعل مضمر، كأنه قال فبشرناه بإسحاق، ووهبنا
له يعقوب.
قال أبو علي الفارسي: والوجه الأول نص سيبويه في فتح مثله نحو مررت بزيد
أول أمس وأمس عمرو، وكذلك قال أبو الحسن قال: لو قلت مررت بزيد اليوم
وامس عمرو، كان حسنا ولم يحسن الحمل على الموضع على حد مررب بزيد وعمرا، فالفصل
فيها أيضا قبيح كما قبح الحمل على الجار وغير الجار، فهذا في القياس مثل الجار في القبح
لان الفعل يصل بحرف العطف وحرف العطف هو الذي يشرك في الفعل، وبه يصل

(1) لم أجده.
(2) سورة الصافات آية 45 وسورة الزخرف آية 71 وسورة الدهر اية 15
(3) مر هذا البيت في 3: 455 تاما
(4) تفسير الطبري 12: 43 (الطبعة الأولى)
30

الفعل إلى المفعول به، كما يصل الجار فإذا قبح الأمران وجب أن تحمل قراءة من
قرأ بالنصب على تقدير فعل آخر مضمر يدل عليه (بشرنا).
وقيل في معنى قوله " وامرأته قائمة " ثلاثة أوجه:
أحدها - انها كانت قائمة بحيث ترى الملائكة فضحكت سرورا بالسلامة
وأردف ذلك السرور بما كان من البشارة.
والثاني - انها كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل.
والثالث - انها كانت قائمة تخدم الأضياف وإبراهيم جالس.
وقال مجاهد: معنى فضحكت حاضت، قال الفراء: لم أسمع ذلك من ثقة
وجدته كتابة قال الكميت.
وأضحكت السباع سيوف سعد * لقتلى ما دفن ولا ودينا (1)
يعني بالحيض وقالوا لحرب بن كعب: تقول ضحكت النخلة إذا أخرجت الطلع
والبسر، وقالوا الضحك الطلع وسمع من يحكى أضحكت حوضك إذا ملأته حتى
فاض، وانشد بعضهم في الضحك بمعنى الحيض قول الشاعر:
وضحك الأرانب فوق الصفا * كمثل دم الجوف يوم القا (2)
وقال قوم: الضحك العجب وانشد لأبي ذؤيب.
فجاء بمزج لم ير الناس مثله * هو الضحك إلا أنه عمل النحل (3)
وقيل في معنى " ضحكت " ثلاثة أقوال:

(1) تفسير الطبري 12: 42 ومجمع البيان 3: 180.
(2) مجمع البيان 3: 180 وتفسير القرطي 8: 66 والطبري 12: 42
والشوكاني 2: 486.
(3) تفسير القرطي 8: 67 والطبري 12: 543.
31

أحدها - انها ضحكت تعجبا من حال الأضياف في امتناعهم من اكل الطعام
مع أن إبراهيم وزوجته سارة يخدمانهم.
وثانيها - قال قتادة: ضحكت تعجبا من حال قوم لوط اتاهم العذاب
وهم في غفلة.
وثالثها - قال وهب بن منية: انها ضحكت تعجبا من أن يكون لهما ولد،
وقد هرما، فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، كأنه قال فبشرناها بإسحاق
فضحكت بعد البشارة.
قوله " فبشرناها " يعني امرأة إبراهيم سارة بإسحاق انها تلده ومن بعد إسحاق
يعقوب من ولده فبشرت بنبي بين نبيين، وهو إسحاق أبوه نبي وابنه نبي.
وقال الزجاج: إنما ضحكت لأنها كانت قالت لإبراهيم اضمم لوطا ابن أخيك
إليك فاني أعلم ان سينزل على هؤلاء القوم عذاب فضحكت سرورا لما اتى الامر
على ما توهمت.
وقال ابن عباس والشعبي والزجاج يقال لولد الولد هذا ابني من ورائي هو
ابن ابني.
قوله تعالى:
(قالت يا ويلتي ألد وانا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا
لشئ عجيب) (72) آية بلا خلاف.
في هذه الآية اخبار عما قالت امرأة إبراهيم حين بشرت بأنها تلد إسحاق وهو
ان قالت يا ويلتي. ومعنى يا ويلتي الانذار بورود الامر الفظيع تقول العرب يا
للدواهي اي تعالين فإنه من ازمانك بحضور ما حضر من اشكالك. والف (يا
ويلتي) يجوز أن يكون الف ندبة. ويحتمل أن يكون للإضافة انقلبت من الياء
32

وكان هذا القول من امرأة إبراهيم على وجه التعجب بطبع البشرية، إذ ورد
عليها ما لم تجربه العادة قبل ان تفكر في ذلك كما ولى موسى مدبرا حين انقلبت
العصا حية حتى قيل له " أقبل ولا تخف " (1) وإلا هي كانت مؤمنة عارفة بأن
الله تعالى يقدر على ذلك.
قال الرماني: والسبب في أن العجوز لا تلد أن الماء - الذي يخلق الله (عز
وجل) منه الولد مع نطفة الرجل - قد انقطع بدلالة ارتفاع الحيض، فجعل
الله الولد على تلك الحال معجزا لنبيه إبراهيم (ع).
وقال مجاهد: كان لإبراهيم في ذلك مئة سنة ولها تسع وتسعون سنة.
وقال ابن إسحاق: كان لإبراهيم مئة وعشرون سنة، ولسارة تسعون سنة.
والبعل الزوج، واصله القائم بالامر، فيقولون للنخل الذي يستغني بماء السماء
عن سقي الأنهار والعيون: بعل، لأنه قائم بالامر في استغنائه عن تكلف السقي
له، ومالك الشئ القيم بتدبيره: بعل، ومنه قوله تعالى " أتدعون بعلا وتذرون
أحسن الخالقين " (2).
و (شيخا) نصب على الحال، والعامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة أو
التنبيه. وفي قراءة ابن مسعود بالرفع. ويحتمل الرفع في قوله سيبويه والخليل
أربعة أوجه، فيرفع (هذا) بالابتداء، و (بعلي) خبره، و (شيخ) خبر ثاني،
كأنه قال هذا شيخ، ويجوز ان يكونا خبرين لهذا، كقولك هذا حلو حامض،
ويجوز أن يكون (بعلي) بدلا من (هذا) وبيانا له و (شيخ) خبره.
وقوله " ان هذا لشئ عجيب " أن يكون الولد بين عجوزين شيخين شئ
يتعجب منه.

(1) سورة القصص آية 31.
(2) سورة الصافات آية 125.
33

قوله تعالى:
(قالوا) أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل
البيت إنه حميد مجيد) (73) آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية عما قالت الملائكة لامرأة إبراهيم، حين تعجبت من أن تلد
بعد الكبر، فإنهم قالوا لها " أتعجبين من أمر الله " وهذه الألف للاستفهام ومعناها
ههنا التنبيه، وليست الف انكار، وإنما هي تنبيه وتوقيف. والعجب يجري على
المصدر وعلى المتعجب منه كقولك: هذا أمر عجب، ولا يجوز العجب من أمر
الله، لأنه يجب ان يعلم أنه قادر على كل شئ من الأجناس، لا يعجزه شئ، وما
عرف سببه لا يعجب منه.
وقوله " رحمة الله وبركاته عليكم " يحتمل معنيين:
أحدهما - الدعاء لهم بالرحمة والبركة.
الثاني - التذكير بنعمة الله وبركاته عليهم، والاخبار لهم بذلك
وقوله " أهل البيت " يدل على أن زوجة الرجل تكون من أهل بيته في -
قول الجبائي - وقال غيره إنما جعل سارة من أهل البيت لما كانت بنت، عمه على
ما قاله المفسرون.
وقوله " انه حميد مجيد " معناه مستحمد إلى عباده. وقال أبو علي: يحمد
المؤمنين من عباده، والمجيد الكريم - في قول الحسن - يقال: مجد الرجل يمجد
مجدا إذا كرم قال الشاعر:
رفعت مجد تميم باهلال لها * رفع الطراف على العلياء بالعمد (1).

(1) لم أجده في ما حضرني من المصادر.
34

قوله تعالى:
(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في
قوم لوط) (74) آية في الكوفي والمدني.
أخبر الله تعالى انه حين ذهب عن إبراهيم الروع، وهو الافزاع، يقال: راعه
يروعه روعا إذا أفزعه قال عنترة:
ما راعني الا حمولة أهلها * وسط الديار تسف حب الخمخم (1)
أي ما أفزعني، وارتاع وارتياعا إذا خاف. و (الروع) بضم الراء النفس،
يقال ألقي في روعي، وهو موضع المخافة و " جاءته البشرى " يعنى بالولد
" يجادلنا " وتقديره جعل يجادلنا، فجواب (لما) محذوف لدلالة الكلام عليه،
لان (لما) تقتضيه، والفعل خلف منه. وقال الأخفش (يجادلنا) بمعنى جادلنا.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون ذلك حكاية حال قد جرت، والا فالجيد ان
تقول: لما قام قمت، ولما جاء جئت. ويضعف ان تقول: لما قام أقوم، والتقدير
في الآية لما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى اقبل يجادلنا واخذ يجادلنا.
وقوله " يجادلنا " يحتمل معنيين أحدهما يجادل رسلنا من الملائكة - في قول
الحسن - الثاني - يسألنا في قوم لوط. والمعنى انه سأل الله، إلا أنه استغني بلفظ
(يجادلنا) لأنه حرص في السؤال حرص المجادل.
وقيل في ما به جادل ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الحسن: انه جادل الملائكة بأن قال لهم: " ان فيها لوطا " (2)
كيف تهلكونهم، فقالت له الملائكة " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله " (3).

(1) ديوانه (دار بيروت): 17 والمعلقات العشر: 124 وتفسير الطبري 15: 401.
(2) سورة العنكبوت آية 32.
(3) سورة العنكبوت آية 32.
35

الثاني - قال قتادة انه سألهم: أتعذبون خمسين من المؤمنين ان كانوا؟ قالوا:
لا، ثم نزل إلى عشرة فقالوا: لا.
الثالث - قال أبو علي: جادلهم ليعلم بأي شئ استحقوا عذاب الاستئصال
وهل ذلك واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة؟ ليرجعوا إلى الطاعة.
قوله تعالى:
(إن إبراهيم لحليم أواه منيب) (75) آية في الكوفي والمدني
وهذا آخر الآية مع الأولى في البصري.
هذا إخبار من الله تعالى عن حال إبراهيم، وصفه بأنه كان اواها. وقيل في
معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الحسن: الأواه الرحيم. وقال مجاهد هو الرجاع، وقال
الفراء: هو كثير الدعاء.
وقال قوم: هو المتأوه. وقال قوم: هو الرجاع المتأوه خوفا من العقاب،
ولمثل ذلك حصل له الأمان لتمكين الأسباب الصارفة عن العصيان. و (الحليم)
هو الذي يمهل صاحب الذنب، فلا يعاجله بالعقوبة.
وقيل: كان إبراهيم ذا احتمال لمن آذاه وخنى عليه لا يتسرع إلى المكافأة،
وان قوي عليه. والأناة السكون عند الحال المزعجة عن المبادرة، وكذلك
التأني: التسكن عند الحال المزعجة من الغضب، ويوصف الله تعالى بأنه حليم من
حيث لا يعاجل العصاة بالعقاب الذي يستحقونه لعلمه بما في العجلة من صفة
النقص.
و (المنيب) هو الراجع إلى الطاعة عند الحال الصارفة، ومنه قوله " وأنيبوا
إلى ربكم " (1) والتوبة الإنابة، لأنها رجوع إلى حال الطاعة، وكون إبراهيم منيبا.

(1) سورة الزمر آية 54.
36

إلى طاعة الله لا يدل على أنه كان عاصيا قبل ذلك، بل إنه يفيد أنه كان يرجع
إلى طاعته في المستقبل، وإن كان على طاعته أيضا فيما مضى، وقال أبو علي: كان
يرجع إلى الله في جميع أموره ويتوكل عليه.
قوله تعالى:
(يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم
آتيهم عذاب غير مردود (76) آية.
في هذه الآية حكاية ما قالت الملائكة لإبراهيم (ع) فإنها نادته بأن قالت " يا
إبراهيم اعرض عن هذا " القول. والاعراض الذهاب عن الشئ في جهة العرض،
ويكون انصرافا عنه بالوجه والتفكر.
والإشارة بقوله " عن هذا إلى الجدال، وتقديره يا إبراهيم اعرض عن هذا
الجدال في قوم لوط، لان العذاب نازل بهم لا محالة.
وقوله " جاء أمر ربك " يحتمل أمرين: أحدهما - جاء امره لنا بالعذاب.
والثاني - جاء اهلاكه لهم بما لا مرد له.
وقوله " غير مردود " اي غير مدفوع، والرد اذهاب الشئ إلى حيث جاء
منه، تقول رده يرده ردا، فهو راد والشئ مردود والرد والدفع واحد، ونقيضه
الاخذ. والفرق بين الدفع والرد، ان الدفع قد يكون إلى جهة القدام والخلف،
والرد لا يكون إلا إلى جهة الخلف.
قوله تعالى:
(ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال
هذا يوم عصيب) (77) آية بلا خلاف.
37

في هذه الآية إخبار من الله تعالى أنه لما جاءت رسله لوطا سئ بهم، معناه
ساءه مجيؤهم، وأصله سوئ بهم فنقلت حركة الواو إلى السين، وقلبت همزة،
والضمير في " بهم) عائد إلى الرسل، ويجوز تخفيف الهمزة بإلقاء الحركة على ما
قبلها، ومنهم من يشدد على الشذوذ.
وقوله " وضاق بهم ذرعا " قال ابن عباس ساء بقومه " وضاق بهم ذرعا " أي
باضيافه، وانه لما رأى لهم من جمال الصورة، وقد دعوه إلى الضيافة، وقومه
كانوا يسارعون إلى أمثالهم بالفاحشة، فضاق بهم ذرعا، لهذه العلة.
والمعنى انه ضاق بهم ذرعه: ضاق بأمره ذرعا إذ لم يجد من المكروه مخلصا.
وقوله " ضاق " بحفظهم من قومه ذرعه. حيث لم يجد سبيلا إلى حفظهم من
فجار قومه.
والفرق بين السوء والقبيح ان السوء ما يظهر مكروهه لصاحبه، والقبيح
ما ليس للقادر عليه ان يفعله.
وقوله " وقال هذا يوم عصيب " حكاية ما قاله لوط في ذلك الوقت بأن هذا
يوم شديد الشر، لان العصيب الشديد في الشر خاصة، كأنه التف على الناس
بالشر أو يكون التف شره بعضه على بعض يقال يوم عصيب، قال عدي بن زيد:
وكنت لزاز قومك لم اعرد * وقد سلكوك في يوم عصيب (1)
وقال الراجز:

(1) تفسير الطبري 15: 409 والأغاني (دار الثقافة) 2: 93 ومجاز القرآن 1: 294
وقد روى (خصمك) بدل (قومك) والبيت من قصيدة قالها وهو في حبس النعمان بن
المنذر. و (اللزاز) هو شدة الخصومة. ومعنى (لم اعرد) لم أحجم، ولم أنكص.
38

يوم عصيب يعصب الابطالا * عصب القوي السلم الطوالا (1)
وقال آخر:
فإنك إلا لا ترض بكر بن وائل * يكن لك يوم بالعراق عصيب (2)
وقال كعب بن جعيل:
ويلبون بالحضيض قيام * عارفات منه بيوم عصيب (3)
قوله تعالى:
(وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون
السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا
تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) (78).
اخبر الله تعالى عن قوم لوط أنهم حين أحسوا بمن نزل بلوط، وظنوهم أضيافه.
جاءوا لوطا " يهرعون " أي يسرعون، والاسراع: الاهراع في الشئ - في قول
مجاهد، وقتادة، والسدي - وإنما أهرعوا لطلب الفاحشة، لما أعلمتهم عجوز
السوء: امرأة لوط بمكان الأضياف، فقالت ما رأيت أحسن وجوها، ولا أطيب
ريحا، ولا انطق لسانا وثنايا منهم. وقال الشاعر:
بمعجلات نحوه مهارع (4)

(1) تفسير الطبري 15: 410 ومجاز القرآن 1: 294 وروح المعاني 12: 95
ولم يعرف قائله.
(2) تفسير الطبري 15: 410 ومجاز القرآن 1: 294.
(3) تفسير الطبري 15: 410 ومجاز القرآن 1: 294 وروايته (فئام).
(4) تفسير الطبري 15: 412 ومجاز القرآن 1: 294.
39

وقال مهلهل:
فجاءوا يهرعون وهم أسارى * نقودهم على رغم الأنوف (1)
وقوله " ومن قبل كانوا يعملون السيئات " وهي اتيان الذكور في الادبار،
ومعناه انهم كانوا قبل هذا المجئ يعملون ذلك. قيل من قبل ألفوا الفاحشة،
فجاهروا بها، ولم يستحيوا منها.
وقوله " قال يا قوم " يعني لوطا لما رآهم هموا باضيافه عرض عليهم النكاح
المباح، وأشار إلى نساء فقال " هؤلاء بناتي هن أطهر لكم " قال قتادة، كن
بناته لصلبه. وقال مجاهد كن بنات أمته فكن كالبنات له، فان كل نبي أبو
أمته وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم.
وقوله " فاتقوا الله " امر من لوط لهم بتقوى معاصي الله وأن لا يفضحوه في
أضيافه. وقوله " أليس منكم رجل رشيد " خرج مخرج الانكار عليهم وإن كان
لفظه لفظ الاستفهام. والرشيد هو الذي يعمل بما يقتضيه عقله، لأنه يدعو إلى
الحق، ومنه الارشاد في الطرق، فقال: أما منكم من يدعو إلى الحق ويعمل به.
ونقيض الرشد الغي.
ولا يجوز نصب (أطهر) في - قول سيبويه وأكثر النحويين - لان الفصل
إنما يدخله مع الخبر ليؤذن بأنه معتمد الفائدة دون ما هو زائد في الفائدة، أو
على معنى الصفة، فلهذا لم يخبر في الحال. وأجمعوا على أنه لا يجوز (قدم زيد هو
ابنك) الا بالرفع. ومن أجاز فإنما يجيزه مع المبهم من (هذا) ونحوه تشبيها بخبر
(كان). وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو بالنصب.
وقيل في وجه عرض المسلمة على الكفار قولان:
قال الحسن: ان ذلك كان جائزا في شرع لوط، وفي صدر الاسلام أيضا،

(1) اللسان (هرع) وتفسير الطبري 15: 412 وتفسير روح المعاني 12: 95، وغيرها.
40

ولذلك زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته بابي العاص قبل أن يسلم. ثم نسخ بقوله " ولا تنكحوا
المشركين حتى يؤمنوا " (1).
والثاني - قال الزجاج إن ذلك عرض بشرط ان يؤمنوا، على ما هو شرط
النكاح الصحيح.
والضيف يقع على الواحد والاثنين والجماعة.
قوله تعالى:
(قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم
ما نريد) (79) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما أجاب به قوم لوط حين عرض عليهم بناته ونهاهم عن
الفواحش، ودعاهم إلى النكاح المباح، بأن قالوا: " ما لنا في بناتك من حق " وقيل
في معناه قولان:
قال ابن إسحاق والجبائي: معناه انهن لسن لنا بأزواج.
والآخر - اننا ليس لنا في بناتك من حاجة، فجعلوا تناول ما ليس لهم فيه
حاجة بمنزلة ما لا حق لهم فيه. فمن قال بالأول رده على ظاهر اللفظ. ومن
قال بالثاني حمله على المعنى. وقوله " وانك لتعلم ما نريد " تمام حكاية ما قالوه
للوط، كأنهم قالوا له انك تعلم مرادنا من اتيان الذكران دون الإناث.
قوله تعالى:
(قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) (80)
آية بلا خلاف.
هذه حكاية ما قال لوط عند أياسه من قبول قومه، بأنه قال " لو أن لي بكم قوة "

(1) سورة البقرة آية 221.
41

ومعناه اني لو قدرت على دفعكم وقويت على منعكم من أضيافي لحلت بينكم وبين ما
جئتم له من الفساد، وحذف لدلالة الكلام عليه.
وقوله " أو آوي إلى ركن شديد " معناه لو كان لي من أستعين به في دفاعكم.
وقيل معناه لو كان لي عشيرة، قال الراجز:
يأوي إلى ركن من الأركان * في عدد طيس ومجد بان (1)
والركن معتمد البناء بعد الأساس، وركنا الجبل جانباه. وإنما قال هذا
القول مع أنه كان يأوي إلى الله تعالى، لأنه إنما أراد العدة من الرجال، وإلا،
فله ركن وثيق من معونة الله ونصره، إلا أنه لا يصح التكليف إلا مع التمكين.
والقوة القدرة التي يصح بها الفعل، ويقال للعدة من السلاح قوة، كقوله " واعدوا
لهم ما استطعتم من قوة " (2) والشدة بجمع يصعب معه التفكك، وقد يكون
بعقد يصعب معه التحلل.
قوله تعالى:
(قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك
بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها
ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) (81)
آية بلا خلاف.
القراءة والحجة:
قرأ أهل الحجاز (فاسر) بوصل الهمزة من سريت. الباقون بقطعها. وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو " إلا امرأتك " بالرفع. الباقو بالنصب.

(1) مجاز القرآن 1: 294 وتفسير الطبري 15: 422 ومعنى (عدد طيس) عدد كثير.
(2) سورة الأنفال آية 61.
42

فحجة من قرأ بقطع الهمزة قوله تعالى " سبحان الذي اسرى بعبده " (1) ومن
وصل الهمزة فالمعنى واحد.
اللغة والمعنى:
يقال اسرى يسرى وسرى يسرى، فهو سار لغتان بمعنى واحد. والاسراء:
سير الليل قال امرؤ القيس:
سريت بهم حتى تكل مطيهم * وحتى الجياد ما يقدن بارسان (2)
وقال النابغة:
أسرت عليه من الجوزاء سارية * تزجي الشمال عليه جامد البرد (3)
اخبر الله تعالى عما قالت الملائكة رسله للوط حين رأته كئيبا بسببهم " انا
رسل ربك " بعثنا الله لا هلاك قومك، فلا تغتم، فإنهم لا ينالونك بسوء (فاسر
باهلك " اي امض ومعك أهلك بالليل.
وقوله " بقطع من الليل " والقطع القطعة العظيمية تمضي من الليل. وقال ابن
عباس: طائفة من الليل. وقيل هو نصف الليل كأنه قطع نصفين، ذكره الجبائي
وقيل معناه في ظلمة الليل.
وقوله " ولا يلتفت منكم أحد " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال مجاهد لا ينظر أحد وراءه، كأنهم تعبدوا بذلك للنجاة
بالطاعة في هذه العبادة.
والآخر - قال أبو علي لا يلتفت منكم أحد إلى ماله ولا متاعه بالمدينة، وليس

(1) سورة الاسرى آية 1.
(2) ديوانه: 210 وروايته (مطوت) بدل (سريت) والمعنى واحد لان المطو: هو امتداد
السير. و (مطيهم) ما يركبونه من خيل أو جمال. والارسان هي الحبال التي يقودون
الخيل بها.
(3) ديوانه 31 ومجمع البيان 3: 182.
43

المعنى لا يلتفت من الرؤية، كأنه أراد ان في الرؤية عبرة، فلم ينهوا عنها وإنما
نهوا عما يفترهم عن الجد في الخروج من المدينة.
ومن رفع (امرأتك) جعله بدلا من قوله " ولا يلتفت منكم أحد " ومن نصبه
جعله استثناء من قوله " فأسر بأهلك " كأنه قال فأسر بأهلك إلا امرأتك، وزعموا أن
في مصحف عبد الله وأبي " فاسر باهلك بقطع من الليل إلا امرأتك "، وليس
فيه " ولا يلتفت منكم أحد " وجاز النصب على ضعفه. والرفع الوجه. وقيل إن
لوطا لما عرف الملائكة اذن لقومه في الدخول إلى منزله، فلما دخلوه طمس
جبرائيل (ع) أعينهم فعميت - هكذا ذكره قتادة - وعلى أيديهم، فجفت
حكاه الجبائي.
وقوله " ان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب " معناه إن موعد اهلاكهم
عند الصبح. وإنما قال " أليس الصبح بقريب، لأنه لما اقتضى عظيم ما قصدوا له
- من الفحش - إهلاكهم، فقالت الملائكة هذا القول تسلية له.
وقيل أنه قال لهم اهلكوهم الساعة، فقالت الملائكة له ان وقت اهلاكهم
الصبح " أليس الصبح بقريب ".
قوله تعالى:
(فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة
من سجيل * منضود (82) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين
ببعيد) (83) آيتان تمام الآية الأولى في المدني قوله " سجيل " وعند
الباقين قوله " منضود ".
قيل في قوله " فلما جاء أمرنا " ثلاثة أقوال.
أحدها - جاء أمرنا الملائكة باهلاك قوم لوط.
44

الثاني - جاء أمرنا يعني العذاب، كأنه قيل (كن) على التعظيم وطريق المجاز،
كما قال الشاعر:
فقالت له العينان سمعا وطاعة * وحدرتا كالدر لما يثقب (1)
والثالث - أن يكون الامر نفس الاهلاك، كما يقال: لامر ما، أي لشئ ما
وقال الرماني: إنما قال أمرنا بالإضافة ولم يجز مثله في شئ، لان في الامر معنى
التعظيم، فمن ذلك الامر خلاف النهي، ومن ذلك الامارة، والتأمر.
وقوله " جعلنا عاليها سافلها " معناه قلبنا القرية أسفلها أعلاها " وأمطرنا
عليها " يعني أرسلنا على القرية حجارة بدل المطر حتى أهلكتهم عن آخرهم.
والأمطار إحدار المطر من السماء.
وقوله " من سجيل " قيل في معنى سجيل ثمانية أقوال:
أحدها - انها حجارة صلبة ليست من جنس حجارة الثلج والبرد. وقيل هو
فارسي معرب (سنل، وكل) ذكره ابن عباس وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.
والثاني - قال الفراء من طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الآجر، ويقويه قوله
" لنرسل عليهم حجارة من طين " (2). وقال أبو عبيدة انها شديدة من الحجارة
وانشد لابن مقبل:
ضربا تواصى به الابطال سجينا " (3)
إلا أن النون قبلت لاما.
الثالث - من مثل السجيل في الارسال، والسجيل الدلو، وقال الفضل ابن
العباس:
من يساجلني يساجل ماجدا * يملا الدلو إلى عقد الكرب (4)

(1) مر تخريجه في 1: 431 وهو في مجمع البيان 3. 185.
(2) سورة الذاريات آية 33.
(3) مجمع البيان 3. 183 ومجاز القرآن 1. 296 واللسان (سجل)، (سجن) وتفسير
الطبري 15. 434.
(4) تفسير الطبري 15. 435.
45

الرابع - من أسجلته إذا أرسلته، فكأنه مثل ما يرسل في سرعة الارسال.
الخامس - من أسجلته إذا أعطيته، فتقديره مرسل من العطية في الادرار.
السادس - من السجل وهو الكتاب، فتقديره من مكتوب الحجارة، ومنه
قوله " كلا ان كتاب الفجار لفي سجين وما ادراك ما سجين كتاب مرقوم " (1)
وهي حجارة كتب الله ان يعذبهم بها، اختاره الزجاج.
السابع - من سجين اي من جهنم ثم ابتدلت النون لاما.
الثامن - قال ابن زيد من السماء الدنيا، وهي تسمى سجيلا.
ومعنى " منضود " قيل فيه قولان:
أحدهما - قال الربيع نضد بعضه على بعض حتى صار حجرا، وقال قتادة
مصفوف في تتابع، وهو من صفة سجيل، فلذلك جره.
وقوله " مسومة " يعنى معلمة، وذلك أنه جعل فيها علامات تدل على أنها
معدة للعذاب، فأهلكوا بها، قال قتادة: كانوا أربعة آلاف الف. وقيل:
كانت مخططة بسواد وحمزة ذكره الفراء فتلك تعليمها، ونصب (مسومة) على
الحال من الحجارة.
وقوله " عند ربك " معناه في خزائنه التي لا يتصرف في شئ منها إلا باذنه،
فإذا أمر الملك ان يمطرها على قوم فعل ذلك باذنه. واصل المسومة من السيماء،
وهي العلامة، وذلك أن الإبل السائمة تختلط في المرعي، فيجعل عليها السيماء
لتمييزها.
وقوله " وما هي من الظالمين ببعيد " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ان مثل ذلك ليس ببعيد من ظالمي قومك يا محمد أراد به اذهاب
قريش، وقال أبو علي ذلك لا يكون إلا في زمان نبي أو عند القيامة، لأنه معجز.
والثاني - قال " وما هي من الظالمين ببعيد " يعنى من قوم لوط انها لم تكن
تخطيهم. وقال مجاهد: إن جبرائيل (ع) ادخل جناحه تحت الأرض السفلى من قوم

(1) سورة المطففين آية 7 - 9
46

لوط ثم أخذهم بالجناح، الأيمن فاخذهم مع سرحهم ومواشيهم. ثم رفعها إلى سماء
الدنيا حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم. ثم قلبها، فكان أول ما سقط منها شرافها،
فذلك قول الله تعالى " فجعلنا عاليها سافلها " قال السدي وهو قوله " والمؤتفكة
اهوى " (1) وإنما أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن قبلت قريتهم تغليظا للعذاب
وتعظيما له، وقيل قتل بها من كان بقي حيا، وقرية قوم لوط يقال لها:
سدوم، بين المدينة والشام. وقيل إن إبراهيم (ع) كان يشرف عليها فيقول:
سدوم يوم مالك.
قوله تعالى:
(وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من
إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني
أخاف عليكم عذاب يوم محيط) (84) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى انه أرسل شعيبا - أخامدين - إليهم نبيا، وإنما سمى شعيبا
أخاهم، لأنه كان من نسبهم. وقيل: انهم من ولد مدين بن إبراهيم. وقيل إن
مدين اسم القبيلة أو المدينة التي كانوا فيها - في قول الزجاج - فعلى هذا
يكون التقدير، والى أهل مدين أخاهم كما قال " واسأل القرية، فقال لهم شعيب:
يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فإنه ليس لكم إله يستحق العبادة سواه،
ونهاهم ان يبخسوا الناس فيما يكيلوا به لهم ويزينونه لهم، وقال لهم إني أراكم
بخير، يعني برخص السعر، وحذرهم الغلاء - في قول ابن عباس والحسن - وقال
قتادة وابن زيد: أراد بالخير زينة الدنيا والمال. وقال لهم " إني أخاف عليكم
عذاب يوم محيط " يعني يوم القيامة، لأنه يحيط عذابه بجميع الكفار في قول
الجبائي، فوصف اليوم بالإحاطة، وهو من نعت العذاب في الحقيقة، لان اليوم

(1) سورة النجم آية 53.
47

محيط بعذابه بدلا من إحاطته بنعيمه، وذلك أظهر في الوصف وأهول في النفس.
والنقصان اخذ الشئ عن المقدار والزيادة ضم الشئ إلى المقدار، وكله خروج
عن المقدار أو نقصه عنه. والوزن تعديل الشئ بغيره في الخفة والثقل بآلة
التعديل، وإذا قيل شعر موزون معناه معدل بالعروض.
قوله تعالى:
(ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا
الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (85) آية بلا خلاف.
وهذا أيضا حكاية ما قال شعيب لقومه، وإنه أمرهم ان يوفوا المكيال
والميزان بالقسط يعني بالعدل والسوية، " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " أي لا
تنقصوهم " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " أي لا تضطربوا بالقبيح.
اللغة:
يقال عثى يعثي عثاء، وعاث يعيث عيثا، بمعني واحد، والوفاء تمام الحق.
والوفاء به إتمامه يقال: وفي يفي وأوفى لغتان، ونقيض الوفاء البخس. والفرق
بين البخس والظلم أن الظلم أعم، لان البخس نقصان الحق اللازم، وقد يكون
الظلم الألم بغير حق.
قوله تعالى:
(بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنون * وما أنا عليكم
بحفيظ) (86) آية.
البقية تركه شئ من شئ قد مضى، والمعنى بقية الله من نعمه. وقيل " بقية
الله " طاعة الله - في قول الحسن ومجاهد - لأنه يبقي ثوابها أبدا، وكانت هذه البقية
خيرا من تعجيلهم النفع بالبخس في المكيال والميزان، وإنما شرط أنه خير بالايمان
في قوله " ان كنتم مؤمنين " وهو خير على كل حال، لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله
48

عرفوا صحته. ووجه آخر - ان المراد " إن كنتم مؤمنين " فهو ثابت.
وقوله " وما انا عليكم بحفيظ " معناه ههنا ان هذه النعمة التي أنعمها الله عليكم
لست أقدر على حفظها عليكم وإنما يحفظها الله عليكم. إذا أطعتموه، فان
عصيتموه أزالها عنكم.
وقال قوم " وما انا عليكم بحفيظ " احفظ عليكم كيلكم ووزنكم حتى توفوا
الناس حقوقهم، ولا تظلموهم، وإنما علي ان انها كم عنه.
قوله تعالى:
(قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا
أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لانت الحليم الرشيد) (87)
آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " أصلاتك " على التوحيد. الباقون على الجمع.
هذا حكاية ما قال قوم شعيب له (ع) حين نهاهم عن بخس المكيال والميزان
وأمرهم بإيفاء الحقوق " يا شعيب أصلاتك تأمرك " بهذا، قال الحسن وأرادوا
بالصلاة الدين أي أدينك. وقال الجبائي يريدون ما كانوا يرونه من صلاته لله
وعبادته إياه، وإنما أضاف ذلك إلى الصلاة، لأنها بمنزلة الامر بالخير، والتناهي
عن المنكر، وقيل أدينك، على ما حكيناه عن الحسن.
وقوله " ان نترك ما يعبد آباؤنا " كرهوا الانتقال عن دين آبائهم ودخلت
عليهم شبهة بذلك، لأنهم كانوا يعظمون آباءهم وينزهونهم عن الغلط في الامر،
فقالوا لو لم يكن صوابا ما فعلوه، وان خفي عنا وجهه. وقوله " انك لانت
الحليم الرشيد " قيل في معناه قولان:
تفسير التبيان ج 6 - م 4
49

أحدهما - أنهم قالوا ذلك على وجه الاستهزاء - في قول الحسن وابن جريج
وابن زيد. والآخر - أنهم أرادوا " أنت الحليم الرشيد " عند قومك، فلا يليق
هذا الامر بك، وقال المؤرج " الحليم الرشيد " معناه الأحمق السفيه، بلغة هذيل،
والحليم الذي لا يعاجل مستحق العقوبة بها، والرشيد المرشد.
قال الزجاج " أو ان نفعل " موضع (أن) نصب والمعنى أو تأمرك ان نترك
أو ان نفعل في أموالنا ما نشاء، والمعنى إنا قد تراضينا بالبخس فيما بيننا. وقال
الفراء: معناه أتأمرك ان نترك ان نفعل في أموالنا ما نشاء، ف‍ (ان) مردودة على
نترك. ووجه آخر، وهو ان يجعل الامر كالنهي، كأنه قال أصلاتك تأمرك
بذا أو تنهانا عن ذا، فهي حينئذ مردودة على (ان) الأولى ولا اضمار فيه، كأنك
قلت تنهانا ان نفعل في أموالنا ما نشاء، كما تقول أضربك ان تسئ، كأنه قال
أنهاك بالضرب عن الإساءة. ويقرأ " ان نفعل في أموالنا ما تشاء ". والذي
نقوله ان قوله " ان نفعل " ليس بمعطوف على (ان) الأولى، وإنما هو معطوف
على (ما) وتقديره فعل ما نشاء في أموالنا، وليس المعنى أصلاتك تأمرك ان
نفعل في أموالنا ما نشاء، لأنه ليس بذلك أمرهم.
و " الرشيد " معناه رشيد الامر، في امره إياهم ان يتركوا عبادة الأوثان.
وقيل إن قوم شعيب عذبوا في قطع الدراهم وكسرها وحذفها.
قوله تعالى:
(قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني
منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد
إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه
أنيب) (88) آية بلا خلاف.
50

جواب (أن) في الآية محذوف، والتقدير يا قوم إن كنت على حجة ودلالة من
ربي، ومع ذلك رزقني منه رزقا حسنا، وإنما وصفه بأنه حسن مع أن جميع
رزق الله حسن لامرين:
أحدهما - انه أراد ب‍ (حسنا) حسن موقعه لجلالته وعظمته.
والثاني - انه أراد ما هو عليه على وجه التأكيد. وقيل إن الرزق الحسن
ههنا النبوة. وقال البلخي معناه الهدي والايمان، لأنهما لا يوصل اليهما إلا بدعائه
وبيانه ومعونته ولطفه، وتريدون أن أعدل عما انا عليه من عبادته مع هذه الحال
الداعية إليها؟، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه، والرزق عطاء الخير الجاري في
حكم المعطي، والعطية الواصلة من الانسان رزق من الله. وصلة من الانسان، لا درار
الخير على العبد في حكمه.
وقوله " وما أريد ان أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ". قيل في معناه قولان:
أحدهما - ليس نهيي لكم لمنفعة اجرها إلى نفسي بما تتركون من منع الحقوق.
والثاني - أنا لا انهى عن القبيح وافعله مثل من ليس بمستبصر في امره، كما
قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم (1)
وقوله " ان أريد الا الاصلاح " معناه لست أريد بما آمركم به وأنهاكم عنه الا
اصلاح حالكم ما قدرت عليه.
وقوله " وما توفيقي الا بالله " والتوفيق عبارة عن اللطف الذي تقع عنده
الطاعة وذلك بحسب ما يعلم الله تعالى. وإنما لم يكن الموفق للطاعة الا الله، لان
أحدا لا يعلم ما يتفق عنده الطاعة - من غير تعليم - سواه تعالى.
وقوله " عليه توكلت " معناه على الله توكلت وفوضت أمري إليه على وجه
الرضا بتدبيره مع التمسك بطاعته " واليه أنيب " قيل في معناه قولان:

(1) مر هذا البيت في 1: 191 و 2: 193 و 3: 4 و 5: 125.
51

أحدهما - قال مجاهد: إليه ارجع. والثاني - قال الحسن: إليه ارجع بعملي
وبنيتي اي اعمل أعمالي لوجه الله.
قوله تعالى:
(ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب
قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم
ببعيد) (89) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما قال شعيب لقومه حين لم يقبلوا أمره ونهيه " يا قوم لا
يجر منكم " وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن وقتادة لا يحملنكم.
والثاني - قال: الزجاج معناه لا يكسبنكم، كأنه قال لا يقطعنكم إليه بحملكم عليه.
والشقاق والمشاقة المباعدة بالعداوة إلى جانب المباينة، وشقها. وكان سبب
هذه العداوة دعاؤه لهم إلى مخالفة الاباء والأجداد في عبادة الأوثان. وما يثقل
عليهم من الايفاء في الكيل والميزان.
وقوله " ان يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح " قيل
أهلك الله قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح العقيم، وقوم صالح بالرجفة، وقوم
لوط بالائتفاك، فحذرهم شعيب ان يصيبهم مثل ذلك.
وقوله " وما قوم لوط منكم ببعيد " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قريب منكم في الزمان الذي بينهم وبينكم، في قول قتادة.
والاخر - ان دارهم قريبة من دارهم فيجب ان يتعظوا بهم.
قوله تعالى:
(واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم
52

ودود) (90) آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية ما قال شعيب أيضا لقومه بعد تحذيره إياهم عذاب الله
وحثهم على أن يطلبوا مغفرة الله. ثم يرجعوا إلى طاعته، وأخبرهم ان الله رحيم
بعباده، يقبل توبتهم ويعفو عن معاصيهم، ودود بهم أي محب لهم، ومعناه
مريد لمنافعهم.
وقيل في معنى " استغفروا ربكم ثم توبوا إليه " قولان:
أحدهما اطلبوا المغفرة من الله بأن يكون غرضكم. ثم توصلوا إليها بالتوبة.
الثاني - استغفروا ربكم ثم أقيموا على التوبة.
ووجه ثالث - ان معناه استغفروا ربكم على معاصيكم الماضية. ثم ارجعوا
إليه بالطاعات في المستقبل.
والمودة على ضربين: أحدهما - بمعنى المحبة، تقول وددت الرجل إذا أحببته،
والثاني - وددت الشئ إذا تمنيته أود فيهما مودة وانا واد، والودود المحب لا غير.
قوله تعالى:
(قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا
ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) (91)
آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية ما أجاب به قوم شعيب له (ع) فقالوا له حين سمعوا منه
الوعظ والتخويف: لسنا نفقه أي لسنا نفهم عنك معنى كلامك، والفقه: فهم
الكلام على ما تضمن من المعنى، وقد صار علما لضرب من علوم الدين، فصار
الفقه عبارة عن علم مدلول الدلائل السمعية، وأصول الدين علم مدلول
الدلائل العقلية.
53

وقوله " وانا لنراك فينا ضعيفا " قيل في معناه أربعة أقوال: قال الحسن:
معناه مهينا، وقال سفيان: معناه ضعيف البصر، وقال سعيد بن جبير وقتادة:
كان أعمى. قال الزجاج ويسمى الأعمى بلغة حمير ضعيفا.
وقال الجبائي معناه: ضعيف البدن.
وقوله " ولولا رهطك " فالرهط عشيرة الرجل وقومه، واصله الشد،
والترهط شدة الاكل، ومنه الرهطاء جحر اليربوع لشدته وتوثيقه ليخبئ فيه ولده.
وقوله " لرجمناك " فالرجم الرمي بالحجارة، والمعنى لرميناك بالحجارة.
وقيل معناه لسبيناك " وما أنت علينا بعزيز " اي علينا لست بممتنع،
فلا نقدر عليك بالرجم، ولا أنت بكريم علينا، وإنما تمتنع لمكان عشيرتك. وعشيرته
كانوا على دينه.
قوله تعالى:
(قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه
وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط) (92) آية.
هذا حكاية ما قال شعيب لقومه حين قالوا " لولا رهطك لرجمناك " يا قوم
أعشيرتي وقومي أعز عليكم من الله. والأعز الأقوى الأمنع. والأعز نقيض الأذل،
والعزة نقيض الذلة والعزيز نقيض الذليل.
وقوله " واتخذ تموه وراءكم ظهريا " فالاتخاذ اخذ الشئ لامر يستمر في المستأنف
كاتخاذ البيت واتخاذ المركوب، والظهري جعل الشئ وراء الظهر قال الشاعر:
وجدنا نبي البرصاء من ولد الظهر (1)

(1) قائله أرطأة ابن سيهة، انظر نسبه في الأغاني 13: 27 (دار الثقافة). والبيت في
اللسان (ظهر) ومجاز القرآن 1: 398 وتفسير الطبري (دار المعارف) 15: 459 وصدره:
فمن مبلغ أبناء مرة أننا..
54

وقال آخر:
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي * بظهر ولا يعيا علي جوابها (1)
وقيل فيما تعود الهاء إليه من قوله " اتخذتموه " ثلاثة أقوال: فقال ابن عباس
والحسن: انها عائدة على الله. وقال مجاهد: هي عائدة على ما جاء به شعيب.
وقال: الزجاج: هي عائدة على أمر الله.
وقوله " ان ربي بما تعملون محيط " قيل في معناه ههنا قولان:
أحدهما - انه محص لاعمالكم لا يفوته شئ منها.
الثاني - انه خبير باعمال العباد ليجازيهم بها - ذكره الحسن - قال سفيان
كان شعيب خطيب الأنبياء.
قوله تعالى:
(ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون (93)
من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم
رقيب) (94) آيتان.
فقال لهم شعيب أيضا " يا قوم اعملوا على مكانتكم " والمكانة الحال التي يتمكن
بها صاحبها من عمل ما، فقال لهم قد مكنتم في الدنيا من العمل، كما مكن غيركم
ممن عمل بطاعة الله، وسترون منزلتكم من منزلته. وهذا الخطاب وإن كان
ظاهره ظاهر الامر فالمراد به التهديد، وتقديره كأنكم إنما أمرتم بأن تكونوا على
هذه الحال من الكفر والعصيان. وفي هذا نهاية الخزي والهوان.
وقوله " سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه " معناه انكم تعلمون في المستقبل

(1) قائله الفرزدق ديوانه 1: 95 وقد مر في 3: 74 وهو في اللسان (ظهر) ورواية
الديوان (زيد لا تهونن) بدل (قيس لا تكونن).
55

من يحل به العذاب الذي يخزيه اي يفضحه ويذله، وهو أشد من العذاب الذي
لا يفضح " ومن هو كاذب " وتعرفون من هو الكاذب مني ومنكم.
وقوله " وارتقبوا " معناه انتظروا ما وعدتكم به من العذاب، يقال رقبه
يرقبه رقوبا وارتقبه ارتقابا وترقبه ترقبا " اني معكم رقيب " اي منتظر لنزول
ذلك بكم. وموضع " من يأتيه " ان جعلت (من) بمعنى الذي نصب، وقوله " ومن
هو كاذب " عطف عليه، وان جعلتها للاستفهام كان موضعها الرفع، ذكره الفراء
وادخلوا (هو) في قوله " ومن هو " لأنهم لا يقولون: من قائم؟ ولا من قاعد؟، وإنما
يقولون: من قام؟ ومن يقوم؟ أو من القائم؟ فلما لم يقولوا إلا المعرفة أو يفعل،
ادخلوا (هو) مع قائم، ليكونا جميعا في مقام (فعل، ويفعل) لأنهما يقومان مقام
اثنين، وقد ورد في الشعر من قائم؟ قال الشاعر:
من شارب مربح بالكأس نادمني * لا بالحصور ولا فيها بسئوار (1)
قال الفراء: وربما خفضوا بعدها، فيقولون: من رجل يتصدق علي؟ بتأويل
هل من رجل؟
قوله تعالى:
(ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة
منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) (95)
آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى انه " لما جاء أمر " الله باهلاك قوم شعيب، وقد بينا معناه فيما
مضى (2) " نجينا شعيبا " اي خلصناه، ونجينا معه من كان مؤمنا من قومه برحمة

(1) قائله الأخطل ديوانه 107 واللسان (سور) وروايته: (وشارب مرج)
(2) في 4: 462 - 504.
56

من جهته تعالى، ويجوز أن يكون في نجاة شعيب، ومن آمن معه لطف لمن سمع
بأخبارهم فيؤمن، كما أنه متى كان في نجاة الظالمين لطف وجب تخليصهم، وكذلك
إن كان المعلوم من حال الكافر انه يؤمن فيما بعد وجب تبقيته - عند أبي علي
ومن وافقه - وعند قوم آخرين لا يجب.
وقوله " وأخذت الذين ظلموا الصيحة " أنث الفعل ههنا لأنه رده إلى الصيحة،
وفيما قبل (1) ذكر، لأنه رده إلى الصياح.
وقوله " فأصبحوا في ديارهم جاثمين " قال الجبائي: معناه منكبين على وجوههم.
وقال قوم: الجثو على الركب. وقال قوم: معناه خامدين موتى. قال البلخي
يجوز أن تكون الصيحة صيحة على الحقيقة، كما روي أن الله تعالى امر جبرائيل
فصاح بهم صيحة ماتوا كلهم من شدتها، ويجوز أن يكون ضربا من العذاب
أهلكهم واصطلمهم تقول العرب: صاح الزمان بآل فلان إذا هلكوا. قال امرؤ
القيس:
دع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديث ما حديث الرواحل (2)
(معنى صيح في حجراته) اي أهلك وذهب به.
قوله تعالى:
(كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) (96) آية بلا خلاف.
شبه الله تعالى هلاك قوم شعيب وانقطاع آثارهم منها بحالهم لو لم يكونوا فيها
يقال: غنى بالمكان إذا أقام به على وجه الاستغناء به عن غيره. واتخاذه وطنا
ومأوى يأوي إليه، ولذلك قيل للمنازل المغاني، وإنما شبه حالهم بحال ثمود
خاصة، لأنهم أهلكوا بالصيحة كما أهلكت ثمود مثل ذلك مع الرجفة.

(1) آية 67 من هذه السورة.
(2) ديوانه: 174 واللسان (حجر).
57

وقوله " ألا بعدا لمدين " دعاء عليهم بانتفاء الرحمة عنهم كما أهلك الله تعالى
ثمود، فلم يرحمهم، وجعل انتفاء الرحمة بعدا من الرحمة، لأنه أظهر فيما يتصور
فكأنهم يرونها حسرة لأنها لا تصل إليهم منها منفعة لما يحصلون عليه من مضرة
الحسرة، و (كأن) هذه يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة على أن يضمر فيها،
كالاضمار في (ان) من قوله " وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين " (1) ويجوز أن تكون
(ان) التي تنصب الفعل بمعنى المصدر. وبعدت وبعدت بالكسر والضم
لغتان. وكانت العرب تذهب بالرفع إلى التباعد، وبالكسر إلى الدعاء، وهما
واحدا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما بعدت بضم العين. والآخر بعدا فنصب
على المصدر، وتقديره ألا أهلكهم الله فبعدوا بعدا.
قوله تعالى:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (97) إلى فرعون
وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد) (98)
آيتان بلا خلاف.
اخبر الله تعالى واقسم انه ارسل موسى نبيا بالآيات، وهي الحجج والمعجزات
الدالة على نبوته " وسلطان مبين " اي وحجة ظاهرة مخلصة من تلبيس وتمويه،
على أتم ما يمكن فيه. والسلطان والآيات إن كان معناهما الحجج، فأنما عطف
إحداهما على الأخرى، لاختلاف اللفظ، ولان معناهما مختلف، لان الآيات حجج
من وجه الاعتبار العظيم بها، والسلطان من جهة القوة العظيمة على المبطل، وكل
علم له حجة يقهر بها شبهة من نازعه من أهل الباطل تشبهه، فله سلطان. وقد
قيل إن سلطان الحجة انفذ من سلطان المملكة، والسلطان متى كان محقا حجة

(1) سورة يونس آية. 1.
58

وجب اتباعه، وإذا كان بخلافة لا يجب اتباعه.
وقال الزجاج. سمي السلطان سلطانا، لأنه حجة الله في ارضه، واشتقاقه
من السليط وهو مما يستضاء به، ومن ذلك قيل للزيت السليط.
وقوله " إلى فرعون وملائه " معناه انه ارسل موسى إلى فرعون واشراف
قومه الذين تملأ الصدور هيبتهم.
وقوله " فاتبعوا أمر فرعون " فالاتباع طلب الثاني للتصرف بتصرف الأول
في اي جهة اخذ، ولامر هو قول القائل لمن دونه: (افعل). وفيه أخبار ان
قوم فرعون اتبعوه على ما كان يأمرهم به. ثم اخبر تعالى ان أمر فرعون لم يكن
رشيدا. والرشيد هو الذي يدعو إلى الخير ويهدي إليه فأمر فرعون بضد هذه
الحال، لأنه يدعو إلى الشر ويصد عن الخير.
واستدل قوم بهذه الآية على أن لفظة الامر مشتركة بين القول والفعل، لأنه
قال " وما أمر فرعون برشيد " يعني وما فعل فرعون برشيد، وهذا ليس
بصحيح، لأنه يجوز أن يكون أراد بذلك الامر الذي هو القول، أو يكون
مجازا.
قوله تعالى:
(يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد
المورود) (99) آية بلا خلاف.
هذا اخبار من الله تعالى ان فرعون يوم القيامة يقدم قومه، ومعناه يمشي على
قدمه يقودهم إلى النار، ولو قال يسبق، لجاز ان يوجده الله (عز وجل) قبلهم في
النار. والقيامة هو وقت قيام الناس من قبورهم للجزاء والحساب باعمالهم.
وقوله " فأوردهم النار " معناه أوجب ورودهم إلى النار، والايراد ايجاب
الورود إلى الماء أو ما يقوم مقامه. قال أبو علي: إنما لم يقل يوردهم النار، لأنه
59

ذكر ليوم القيامة انه يقدمهم فيه، يدل على أنه فعل مستقبل فأجرى الماضي
مجرى المستقبل لدلالة الكلام عليه.
وقوله " وبئس الورد المورود " قال أبو علي: انه مجاز، والمعنى بئس وارد
النار. وقال البلخي: بل هو حقيقة، لأنه تعالى وصف النار بأنها بئس الورد
المورود، وهي كذلك. والورد الماء الذي ترده الإبل، والورد الإبل التي ترد
الماء، والورد ما يجعله عادة لقراءة أو تلاوة للقرآن. والورد ورد الحمى، كل ذلك
بكسر الواو، وحكي عن ابن عباس ان الورد الدخول. والمعنى ان ما وردوه من
النار هو المورود بئس الورد لمن ورده. ويقال إنهم إذا وردوه عطاشا فيردون
على الحميم والنيران ولا يزيدون بذلك إلا عذابا وعطشا. وإنما وصف بأنه بئس،
وإن كان عدلا حسنا لما فيه من الشدة مجازا.
قوله تعالى:
(وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد
المرفود) (100) آية بلا خلاف.
معنى قوله " واتبعوا في هذه لعنة " ان الله لعنهم والملائكة والمؤمنون، فاختصر
على وجه ما ذكرنا على ما لم يسم فاعله، لان الا يجاز لا يخل بهذا المعنى. واللعن
من العباد الدعاء والمسألة لله تعالى بالابعاد من الرحمة - في قولهم لعنة الله - والذم
الوصف بالقبيح على وجه التحقير.
ومعنى الآية انهم كيف تصرفوا، وحيث كانوا، فاللعنة تتبعهم. واللعنة من
الله الابعاد من رحمته بان يحكم بذلك، فمن لعنه الله فقد حكم بابعاده من رحمته وانه
لا يرحمه.
وقوله " ويوم القيامة بئس الرفد " والرفد العون على الامر، وإنما قيل
60

ههنا - رفد، لان اللعنة جعلت بدلا من الرفد بالعطية، ويقال: رفده وهو
يرفده رفدا، ورفد - بفتح الراء وكسرها - قال الزجاج كل شئ جعلته عونا
لشئ وأسندت به شيئا فقد رفدته، يقال عهدت الحائط ورفدته بمعنى واحد،
والرفد القرح العظيم، وروي - بفتح الراء - في الآية وهي لغة شاذة.
قوله تعالى:
(ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد)
(101) آية بلا خلاف.
قوله " ذلك " إشارة إلى النبأ كأنه قال النبأ من انباء القرى، وقد تقدم
ذكره. ثم وقعت الإشارة إليه، والانباء جمع نبأ كالاخبار جمع خبر الا انه لا يقال
نبأ الا في خبر عظيم، يقال لهذا الامر نبأ اي خبر عظيم.
قوله " نقصه عليه " فالقصص الخبر عن الأمور التي يتلو بعضها بعضا، يقال
قص قصصا وهو يقص اثره اي يتبع اثره، واقتص منه اي يتبعه بجنايته.
وقوله " منها قائم وحصيد " فالقائم المعمور، والحصيد الخراب من تلك
الديار، لان الاهلاك قد اتى عليها ولم تعمر فيها بعد. وقيل " منها قائم " على
بنائه وإن كان خاليا من أهله، والحصد قطع الزرع من الأصل، فالحصيد منهم
كالزرع المحصود، وحصدهم بالسيف إذا قتلهم.
قوله تعالى:
(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم
آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما
زادوهم غير تتبيب) آية بلا خلاف.
61

اخبر الله تعالى انه بما فعله بالأمم التي أهلكها لم يظلم أحدا منهم، ولكن
ظلموا هم أنفسهم بأن ارتكبوا المعاصي التي استحقوا بها الهلاك فكان ذلك ظلمهم
لأنفسهم، وبين انه " ما أغنت عنهم آلهتهم " يعني الأوثان التي كانوا يعبدونها
من دون الله ما دفعت عنهم ولا اعانتهم بشئ لما جاء امر الله واهلاكه وعذابه
" وما زادوهم غير تتبيب " بمعنى غير تخسير - في قول مجاهد وقتادة - مأخوذ
من تبت يده أي خسرت، ومنه تباله، وقال جرير:
عرادة من بقية قوم لوط * ألا تبا لما فعلوا تبابا (1)
وإنما قال يدعون من دون الله، لأنهم كانوا يسمونها آلهة ويطلبون الحوائج
منها، كما يطلب الموحدون من الله. ومعنى " من دون الله " من منزلته أدنى
من منزلة عبادة الله، لأنه من الأدون، وهو الأقرب إلى جهة السفلى.
قوله تعالى:
(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن
أخذه أليم شديد) (103) آية بلا خلاف.
وجه التشبيه في قوله " وكذلك اخذ ربك " ان اخذه الظالم الذي يساوي
من تقدمه في ظلمه وحاله في بطلان الفلاح ببقائه، كأخذه الذي قبله، لأنه ليس
هناك محاباة لاحد من خلقه. والاخذ نقل الشئ إلى جهة الآخذ، فلما نقلهم الله
إلى جهة عقابه كان قد اخذهم به، والظالم الفاعل للظلم والعادل الفاعل للعدل.
ثم اخبر تعال ان اخذه للظالم مؤلم شديد، والشدة تجمع يصعب معه التفكك،
ويقال للنقص شدة، وشدة الألم لجمعه على النفس بما يعسر زواله.

(1) ديوانه: 72 من قصيدة في هجاء الراعي النميري، وهو في تفسير الطبري 15: 472
62

قوله تعالى:
(إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم
مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) (104) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى ان فيما أخبر به - من إهلاك من ذكره على وجه العقوبة لهم على
كفرهم - أية أي علامة عظيمة بما فيها من البيان عن الامر الكثير قال الشاعر:
بآية تقدمون الخيل زورا * كأن على سنابكها مداما (1)
قوله " لمن خاف عذاب الآخرة " أي لمن خشي عقوبة الله يوم القيامة،
والخوف انزعاج النفس بتوقع الشر ونقيضه الامن، وهو سكون النفس بتوقع
الخير. والفرق بين العذاب والألم أن العذاب استمرار الألم قال عبيد:
فامرؤ ما عاش في تكذيب * طول الحياة له تعذيب (2)
وقوله " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " معناه ان يوم القيامة
يوم يجمع فيه الناس ويشهده جميع الخلائق، وليس يوصف في هذه الصفة يوم
سواه، والجمع ضم أحد الشيئين إلى الآخر. وقيل هو جعل الشيئين فصاعدا في
معنى، والقبض ضم الشئ إلى الوسط كقبض البساط، وهو نقيض بسطه من
غير تبري اجزائه.
قوله تعالى:
(وما نؤخره إلا لأجل معدود (105) يوم يأت لاتكلم
نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد) (106) آيتان بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة إلا الكسائي وابن عامر يوم (يأت) بغير ياء. الباقون بياء في

(1) اللسان (أي) وروايته (شعثا) بدل (زورا)
(2) مر هذا البيت في 5: 216.
63

الوصل دون الوقف، إلا ابن كثير، فإنه أثبت الياء في الحالين.
قال أبو علي: من أثبت الياء في الوصل، فهو القياس البين، لأنه لا شئ
ههنا - يوجب حذف الياء في الوصل، ومن حذفها في الوقف شبهها بالفاصلة،
وان لم يكن فاصلة، لأن هذه الياء تشه الحركات المحذوفة بدلالة انهم قد حذفوها
كما حذفوا الحركة، فكما ان الحركة تحذف في الوقف، فكذلك ما يشبهها من
هذه الحروف، فكان في حكمها، ومن أثبتها في الحالين فقد أحسن، لأنها أكثر
من الحركة في الصوت، فلا ينبغي إذا حذفت الحركة للوقف ان تحذف الياء له،
كما لا تحذف سائر الحروف، ومن حذف الياء في الحالين جعلها في الحالين بمنزلة
ما يستعمل محذوفا مما لم يكن ينبغي في القياس ان يحذف نحو (لم يك، ولا أدر)
وهي لغة هذيل، وقال الشاعر:
كفاك كفا لا تليق درهما * جوادا وأخرى تعط بالسيف الدما (1)
فحذف الياء في تعط، وليس هذا ما يوجب حذفها.
والضمير في قوله " وما نؤخره " عائد على قوله " يوم مشهود " وهو يوم
الجزاء. ومعناه الاخبار بأنه تعالى ليس يؤخر يوم الجزاء إلا ليستوفي الأجل
المضروب لوقوع الجزاء فيه. وإنما قال " لأجل " ولم يقل إلى اجل، لان قوله
" لأجل " يدل على الغرض، وان الحكمة اقتضت تأخيره. ولو قال إلى اجل
لما دل على ذلك. وقوله " يوم يأتي " يعنى يوم القيامة الذي تقدم ذكره بأنه
مشهود والضمير في (يأتي) حين الجزاء، لأنه قد تقدم الدليل عليه في قوله
" يوم مشهود " وأحسن الاضمار ما يدل الكلام عليه، وإنما أضاف (يوم) إلى
الفعل، لأنه اسم زمان فناسب الفعل للزمان من حيث إنه لا يخلو منه، وانه
يتصرف بتصرفه. وانه لا يكون حادثا الا وقتا، كما أن الزمان لا يبقي.
ومعنى قوله " لاتكلم نفس إلا باذنه " أي لا تتكلم فحذف إحدى التائين.

(1) تفسير القرطبي 9: 98 واللسان (ليق)
64

لدلالة الكلام عليه. وقيل في معنى " لاتكلم " قولان:
أحدهما - ان فيه وقتا يمنعون من التكلم إلا بالحق فهو باذنه تعالى.
والاخر - انه لا يتكلم بكلام ينفع إلا بإذنه: من شفاعة ووسيلة، بدلالة
قولهم " والله ربنا ما كنا مشركين. انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم
ما كانوا يفترون (1) ".
وقال الجبائي: الاذن الجاؤهم إلى الحسن، لأنه لا يقع منهم ذلك اليوم قبيح.
وقوله " فمنهم شقي وسعيد " اخبار منه تعالى بأنهم ينقسمون قسمين منهم
الأشقياء، وهم المستحقون للعقاب، ومنهم السعداء وهم المستحقون للثواب.
والشقاء قوة أسباب البلاء، والشقي من شقي بسوء عمله في معاصي الله،
والسعيد من سعد بحسن عمله في طاعة الله، وإنما وصف الأجل بأنه معدود،
لأنه متناه منقض، لان كل معدود قد وجد عدده، لا يكون ذلك الا متناهيا.
فان قيل كيف قال - ههنا - " يوم يأتي لا تكلم نفس إلا باذنه " وقال في
موضع آخر " هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون " (2) وقال في
موضع آخر " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " (3) وقال " وقفوهم انهم
مسؤولون (4) وقال في موضع آخر فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان " (5)
وهل هذا إلا ظاهر التناقض؟!.
قلنا: لا تناقض في ذلك لان معنى قوله " وقفوهم انهم مسؤولون " انهم يسألون
سؤال توبيخ وتقرير وتقريع، لا يجاب الحجة عليهم لا سؤال استفهام، لأنه تعالى

(1) سورة الأنعام آية 24 - 25
(2) سورة المرسلات 35 - 36
(3) سورة النحل آية 111
(4) سورة الصافات آية 24
(5) سورة الرحمن آية 39
65

عالم بذلك لنفسه. وقوله " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان " (1) اي لا
يسأل ليعلم ذلك منه حيث إنه تعالى قد علم اعمالهم قبل ان يعملوها. وقيل إن
معناه إنه لا يسأل عن ذنب المذنب إنس ولا جان غيره، وإنما يسأل المذنب لا
غير، وكذلك قوله " يوم لا ينطقون " (2) أي لا ينطقون بحجة، وإنما يتكلمون
بالاقرار بذنوبهم ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم على بعض الذنوب، فاما
المتكلم بحجة، فلا. وهذا كما يقول القائل لمن يخاطبه بخطاب كثير فارغ من
الحجة: ما تكلمت بشئ، وما نطقت بشئ، فسمي من يتكلم بمالا حجة فيه
له: غير متكلم، كما قال " صم بكم عمي فهم لا يعقلون " (3) وهم كانوا يبصرون
ويسمعون إلا انهم لا يقبلون ولا يكفرون فيما يسمعون، ولا يتأملون، فهم بمنزلة
الصم، قال الشاعر:
أصم عما ساءه سميع (4)
وقال بعضهم ان ذلك اليوم يوم طويل له مواضع، ومواطن، ومواقف،
في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم ذلك بدلالة قوله " يوم يأتي
لا تكلم نفس إلا باذنه " وكلاهما حسن والأول أحسن.
قوله تعالى:
(فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (107)
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن
ربك فعال لما يريد) (108) آيتان بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية ان الذين شقوا باستحقاقهم عذاب النار جزاء
بسوء اعمالهم داخلون في النار، وإنما سمي الشقي شقيا قبل دخوله في النار، لأنه

(1) سورة الرحمن آية 39
(2) سورة المرسلات 35.
(3) سورة البقرة آية 171
(4) مر تخريجه في 2: 80، 4: 134، 5: 439
66

على حال تؤديه إلى دخولها، من قبائح اعماله. فاما ما روي من قوله (ع) (إن
الشقي شقي في بطن أمه)، فجاز، لان المعنى ان المعلوم من حال انه سيشقى
بارتكاب المعاصي التي تؤديه إلى عذاب النار، كما يقال لولد شيخ هرم هذا يتيم
ومعناه انه سيتيتم.
وقوله " لهم فيها زفير وشهيق " قال أهل اللغة: الزفير أول نهاق الحمير،
والشهيق آخر نهاقها، قال رؤبة:
حشرج في الجوف سحيلا أو شهق * حتى يقال ناهق وما نهق (1)
والزفير ترديد النفس مع الصوت من الحزن حتى تنتفخ الضلوع قال الجعدي:
خيط على زفيرة فتم ولم * يرجع إلى دقة ولا هضم (2)
وأصل الزفير الشدة من قولهم للشديد الخلق المزفور، والزفر الحمل على
الظهر خاصة لشدته، قال الشاعر:
طوال انضية الأعناق لم يجدوا * ريح الإماء إذا راحت بأزفار (3)
والزفر السيد، لأنه يطيق عمل الشدائد، وزفرت النار إذا سمع لها صوت
في شدة توقدها، والشهيق صوت فظيع يخرج من الجوف عند النفس. واصله
الطول المفرط من قولهم: جبل شاهق أي ممتنع طولا.
وقوله " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " فالخلود الكون في الامر
أبدا، والدوام البقاء أبدا، ولهذا يوصف الله تعال بأنه دائم، ولا يوصف
بأنه خالد.
وقوله " إلا ما شاء ربك " اختلفوا في هذا الاستثناء على عدة أقوال:
فالذي نختاره - ويليق بمذهبنا في الارجاء - ان الله تعالى أخبر ان الأشقياء

(1) ديوانه 106 وتفسير القرطبي 9: 98 واللسان (حشرج) وتفسير الطبري 15: 479
(2) اللسان (زفر)
(3) اللسان (زفر)
67

المستحقين للعقاب يحصلون في النار ثم استثنى من أراد من فساق أهل الصلاة إذا
أراد التفضل باسقاط عقابه، أو من يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه عند ذلك لا يدخله
النار وتكون - على هذا - (ما) معناها (من) كأنه قال الا من شاء ربك،
فلا يدخله النار، وهو قول ابن عباس وقتادة والضحاك، وجابر بن عبد الله،
وأبي سعيد الخدري وجماعة من المفسرين. ويجوز على هذا المذهب أن يكون استثناء
من الخلود، فكأنه قال إلا ما شاء ربك بأن لا يخلدهم في النار بل يخرجهم عنها.
وقال قتادة: ذكر لنا أن ناسا يصيبهم سفع من النار بذنوب أصابوا، ثم
يدخلهم الله الجنة بفضله ورحمته يقال لهم الجهنميون، قال قتادة وحدثنا أنس ابن
ما لك أرسول الله صلى الله عليه وسلم قال يخرج قوم من النار. وقال قتادة: ولا نقول ما
يقول أهل حروراء.
وروي عن ابن عباس أنه قال قوله " لابثين فيها أحقابا " (1) وقوله " خالدين
فيها إلا ما شاء ربك " في أهل التوحيد. وروي عن ابن مسعود أنه قال:
ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد. وذلك بعد أن يلبثوا فيها
أحقابا. وقال الشعبي: جهنم أسرع الدارين عمرانا، وأسرعهما خرابا.
ثانيها - قال ابن زيد وحكاه الرماني: إن المعنى خالدين فيها ما دامت
السماوات سماوات، والأرض أرضا إلا ما شاء ربك، من الزيادة المضاعفة.
وثالثها - قال الجبائي: إن المعنى ما دامت السماوات لأهل الآخرة وأرضهم
إلا ما شاء ربك مما كان قبل أن يدخلوها من أوقات وقوفهم في صدر يومهم في
الموقف، لان الله تعالى قال " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ".
ورابعها - ما ذكره كثير من أهل العربية كالفراء والزجاج وغيرهم: ان (إلا)
في الآية بمعنى (سوى) والتقدير ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك
كما يقول القائل: لو كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد، ولك عندي ألف درهم

(1) سورة النبأ آية 23
68

الا الألفين التي لك عندي، أي سوى الألفين ومثله قوله " ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء إلا ما قدم سلف " (1) أي سوى ما قد سلف، لان قوله " ولا
تنكحوا " مستقبل " وإلا ما شاء ربك " ماض، والمعنى على هذا " خالدين فيها "
مقدار دوام السماوات والأرض سوى " ما شاء ربك " من الخلود والزيارة.
وخامسها - ما قال الفراء: إن (الا) بمعنى الواو كما قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك الا الفرقدان (2)
وعلى هذا لو قال القائل لك عندي ألف الا الفين لزمه ثلاثة آلاف درهم،
لأنه استثناء الزائد من الناقص، فكأنه قال الا ألفين منفردين. ولو قال ما لك
عندي الف الا الفين فإنما أقر بألفين كأنه قال ما لك عندي سوى الفين ولو
قال لك عندي ألف الا ألفان بالرفع أقر بألف فقط، لأنها صفة مثبتة، كأنه
قال الف لا الفان.
وسادسها - أن ذلك تعليق لما لا يكون بمالا يكون، كأنه قال " الا ما
شاء ربك " وهو لا يشاء ان يخرجهم منها وتكون الفائدة أن لو شاء أن يخرجهم
لقد ر، ولكنه قد أعلمنا انهم خالدون أبدا.
وسابعها - ذكره الزجاج: ان الاستثناء وقع على أن لهم زفيرا وشهيقا إلا
ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم يذكرها.
وثامنها - ذكره البلخي: ان المراد بذلك الا ما شاء ربك من وقت نزول
الآية إلى دخولهم النار، ولولا هذا الاستثناء لوجب ان يكونوا في النار من
وقت نزول الآية أر من يوم يموتون.
فان قيل كيف يستثنى من الخلود فيها ما قبل الدخول فيها؟!
قلنا: يجوز ذلك إذا كان الاخبار به قبل دخولهم.

(1) سورة النساء آية 22.
(2) امالي السيد المرتضى 2: 88 وسيبويه 1: 371 وتفسير القرطبي 9: 101 وقد نسب إلى
عمرو بن معد كرب.
69

وتاسعها - ما ذكره قوم من أصحابنا في التفسير إن المعنى انهم فيها يعني في
النار في حال كونهم في القبور دائمين فيها ما دامت السماوات والأرض، فإنها
إذا عدمت انقطع عقابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب.
وقوله " الا ما شاء ربك " مما يكون في الآخرة.
وقوله " إن ربك فعال لما يريد " معناه انه كلما أراد شيئا فعله، لأنه لا
يجوز عليه البداء بالرجوع عما أراده، ولا المنع من مراده ولا يتعذر عليه شئ
منه مع كثرته بإرادة من أفعاله.
قوله تعالى:
(وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) (109) آية بلا خلاف.
القراءة واللغة:
قرأ أهل الكوفة الا أبا بكر " سعدوا " بضم السين. الباقون بفتحها.
قال أبو علي: حكى سيبويه: سعد يسعد سعادة، فهو سعيد. وينبغي أن
يكون غير متعد، كما أن خلافه الذي هو (شقي) كذلك، وإذا لم يكن متعديا لم
يجب أن يبني منه المفعول به، وإذا كان كذلك، ضم السين مشكل الا أن يكون
سمع فيه لغة خارجة عن القياس أو يكون من باب (فعل وفعلته) نحو غاض الماء
وغضته، وحزن وحزنته، ولعلهم استشهدوا على ذلك بقولهم (مسعود) فإنه
على سعد فهو مسعود، ولا دلالة في ذلك، لأنه يجوز أن يكون مثل أجنه الله
فهو مجنون، وأحبه فهو محبوب، فالمفعول جاء في هذا على أنه حذفت الزيادة منه،
كما حذف من اسم الفاعل في نحو (ويكشف جمانة دلو الدالي) وإنما هو المدلي،
70

ومثله " وأرسلنا الرياح لواقح " (1) يعني ملاقح فجاء على حذف الزيادة، فعلى
هذا يكون أصله أسعدوا بحذف الزائد. وحكى البلخي انهما لغتان - ضم السين -
لغة هذيل، وفتحها لغة سائر العرب.
المعنى:
لما اخبر الله تعالى أن الذين شقوا بفعلهم المعاصي واستحقوا الخلود في النار،
اخبر ان الذين سعدوا بطاعات الله والانتهاء عن معاصيه يكونون في الجنة " ما
دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك، ومعنى ما دامت السماوات والأرض
المصدر، كأنه قال دوام السماوات والأرض الا مشيئة ربك، وفيه حسن التقابل،
وفيه جميع ما ذكرنا ه في الاستثناء من الخلود في النار إلا الوجهين الذين ذكرناهما
في جواز إخراج بعض الأشقياء ممن تناول الوعيد لهم وإخراجهم من النار بعد
دخولهم فيها، فان ذلك لا يجوز - ههنا - لاجماع الأمة على أن كل مستحق
للثواب لابد أن يدخل الجنة، ولا يخرج منها بعد دخوله فيها.
وقيل فيه وجه آخر يوافق ما قلناه في الآية الأولى، وهو أن يكون المعنى
" ان الذين سعدوا بطاعات الله يدخلون الجنة خالدين فيها، واستثنى من جملتهم
من كان مستحقا للنار، وأراد الله عقابهم. ثم إخراجهم منها فكأنه قال خالدين
فيها الا مدة ما كانوا معاقبين في النار، ذهب إليه الضحاك وهو يليق بقولنا
في الارجاء.
وقوله " عطاء غير مجذوذ " يعني غير مقطوع - في قول ابن عباس، ومجاهد،
وقتادة، والضحاك - يقال جذه يجذه جذا فهو جاذ، وجذ الله أثرهم قال النابغة:
يجذ السلوقي المضاعف نسجه * ويوقد بالصفاح نار الحباحب (2)

(1) سورة الحجر آية 22.
(2) ديوانه: 44 وتفسير القرطبي 9: 103 واللسان (حبحب)، (سلق)، (صفح)
وروايته (تقد) بدل (يجذ) و (توقد) بدل (يوقد).
71

ويقال جذه الله جذ الصليانة، وهي نبات، وقوله (عطاء) نصب على المصدر
بما يدل عليه الأول كأنه قال أعطاهم النعيم عطاء غير مجذوذ.
قوله تعالى:
(فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد
آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) (110)
آية بلا خلاف.
نهى الله تعالى نبيه - والمراد به أمته - ان يكونوا في شك من عبادة هؤلاء
يعني الكفار الذين تقدم ذكرهم، وانه باطل. و (المرية) - بكسر الميم وضمها -
الشك مع ظهور الدلالة البينة. وأصله مري الضرع ليدر بعد دروره، فلا معنى
له إلا العبث بفعله.
وقوله " ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل " أنهم مقلدون في عبادتهم
الأوثان، كما كان آباؤهم كذلك.
وقوله " وانا لموفوهم نصيبهم غير منقوص " أخبار منه تعالى انه يعطيهم
- على جهة الوفاء - قسمتهم من خير أو شر على قدر استحقاقهم - في قول ابن
عباس - وقال ابن زيد: ما يستحقونه من العذاب من غير أن ينقص منه شئ
على وجه العقوبة بعد أو يوفوا ما حكم لهم به من الخير في الدنيا.
و (النصيب) القسم المجعول لصاحبه ومنه أنصباء الورثة. والنصيب الحظ
والنقص البخس والمنقوص المبخوس.
قوله تعالى:
(ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة
72

سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (111)
آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى أنه أعطى موسى الكتاب يعني التوراة وإن قومه اختلفوا
فيه يعني في صحة الكتاب الذي انزل إليه، وأراد بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن
تكذيب قومه إياه وجحدهم للقرآن المنزل عليه، فبين له أنه كذلك فعل قوم
موسى بموسى، فلا تحزن لذلك، ولا تغتم له. ثم قال " ولولا كلمة سبقت من
ربك لقضي بينهم " معناه ولولا خبر الله السابق بأنه يؤخر الجزاء إلى يوم القيامة
لما في ذلك من المصلحة، لجعل الثواب والعقاب لأهله. (والكلمة) واحدة الكلم
ولذلك، يقال للقصيدة: كلمة. ثم أخبر عن حال كفار قوم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم
لفي شك مما أخبرناك به مريب، و (الريب) أقوى الشك. (والاختلاف) ذهاب
كل واحد إلى جهة غير جهة الآخر، وهو على ثلاثة أوجه:
أحدها - اختلاف النقيضين فهذا لا يجوز أن يصحا معا، فأحدهما مبطل
لصاحبه.
والآخر اختلاف الجنسين، كاختلاف المجتهدين في جهة القبلة، فهذا يجوز أن
يصحا، لأنه تابع للمصلحة ولا تناقض في ذلك، ومنه اختلاف المجتهدين في
الفروع على مذهب من قال بجوازه.
قوله تعالى:
(وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير)
(112) آية بلا خلاف.
القراءة:
اختلف القراء في قوله " وان كلا لما " على أربعة أوجه:
قرأ ابن كثير ونافع بتخفيف (إن) وتخفيف (لما) وقرأ ابن عامر وحمزة
73

وحفص عن عاصم بتشديدهما معا. وقرأ أبو عمرو والكسائي بتشديد الأولى
وتخفيف الثانية.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الأولى وتشديد الثانية.
اللغة والاعراب والمعنى:
وقيل في معنى (لما) بالتشديد خمسة أوجه:
أولها - قول الفراء إنها بمعنى (لمن ما) فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت
واحدة ثم أدغمت الأولى في الثانية، كما قال الشاعر:
واني لما أصدر الامر وجهه * إذا هو أعيا بالسبيل مصادره (1)
ثم تخفف، كما قرأ بعض القراء: " والبغي يعظكم " (2) فحذف احدى اليائين
ذكره الفراء.
والثاني - ما اختاره الزجاج: أن (لما) بمعنى (إلا) كقولهم سألتك لما فعلت،
ومثله " إن كل نفس لما عليها حافظ " (3) لأنه دخله معنى ما كلهم إلا لنوفينهم.
وقال الفراء هذا لا يجوز إلا في التمييز، لأنه لو جاز ذلك لجاز ان تقول جاءني
القوم لما زيدا بمعنى الا زيدا، هذا لا يحوز بلا خلاف.
الثالث - اختاره المازني: أنها هي المخففة شددت للتأكيد. قال الزجاج:
هذا لا يجوز، لأنه إنما يجوز تخفيف المشددة عند الضرورة، فأما تشديد المخففة،
فلا يجوز بحال.
الرابع - حكاه الزجاج: إنها من لممت الشئ ألمه لما إذا جمعته إلا أنها

(1) قائله العجاج تفسير الطبري 15: 494 وتفسير القرطبي 9: 105 ومجمع البيان 3: 200
(2) سورة النحل آية 90.
(3) سورة الطارق آية 4.
74

بنيت على (فعلى) فلم تصرف نحو (تترى) كأنه قال وإن كلا جميعا ليوفينهم.
الخامس قراءة الزهري (لما) بالتنوين بمعنى شديدا، كقوله " وتأكلون
التراث اكلا لما " (1).
واللام في قوله (لما) يحتمل أن تكون لام القسم دخلت على (ما) التي
للتوكيد، ويحتمل أن تكون لام الابتداء دخلت على (ما) بمعنى الذي، كقوله
" فانكحوا ما طاب لكم من النساء " (2) ومثله " وان منكم لمن ليبطئن " (3) قال الشاعر
فلو ان قومي لم يكونوا أعزة * لبعد لقد لاقيت لابد مصرعا (4)
وحكي عن العرب اني لبحمد الله لصالح قال أبو علي من قرأ من قرأ بتشديد (إن)
وتخفيف (لما) فوجهه بين، وهو انه نصب (كلا) ب‍ (إن) و (إن) تقتضي
أن يدخل على خبرها أو اسمها لام، فدخلت هذه اللام وهي لام الابتداء على
الخبر في قوله " وان كلا لما " وقد دخلت الخبر لام أخرى وهي التي يتلقى بها
القسم، وتختص بالدخول على الفعل ويلزمها في أكثر الامر النونين، فلما اجتمعت
اللامان واتفقا في تلقى القسم، واتفقا في اللفظ فصل بينهما، كما فصل بين (إن)
واللام، فدخلت (ما) لهذا المعنى، وان كانت زائدة للفصل، كما جاءت النون
- وإن كانت زائدة - في قوله " فاما ترين من البشر " (5) وكما صارت عوضا من
الفعل في قولهم: أمالي، فهذا بين، ويلي هذا الوجه في البيان قول من خفف
(ان) ونصب (كلا) وخففت (لما)، كما قال الشاعر:
كأن ثدييه حقان (6)

(1) سورة الفجر آية 19
(2) سورة النساء آية 3
(3) سورة النساء آية 72
(4) تفسير الطبري 15: 498
(5) سورة مريم آية 26
(6) الكتاب لسيبويه 1: 280 وألفية ابن
عقيل 1: 334 الشاهد 108 وتفسير الطبري 15: 497 وتمام البيت:
وصدر مشرق النحر * كأن ثدياه حقان
75

وأراد (كأن) المشددة، فخفف، واعمل، لان سيبويه حكى عمن يثق به
أنه سمع من العرب من يقول: ان عمرا لمنطلق، قال وأهل المدينة يقرؤن
" وان كلا لما جميع لدينا محضرون " (1) يخفون وينصبون، ووجه النصب بها مع
التخفيف ان (ان) مشبهة في نصبها بالفعل، والفعل يعمل محذوفا كما يعمل غير
محذوف في نحو (لم يك زيد منطلقا، فلا تك منطلقا) وكذلك " فلاتك في
مرية " فاما من خفف (ان) ونصب (كلا) وشدد (لما) فقراءته مشكلة لان (أن)
إذا نصب بها وكانت مخففة كانت بمنزلة الثقيلة و (لما) إذا شددت كانت بمنزلة (إلا)
فكذلك قراءة من شدد (لما) وثقل (ان) مشكلة، لأنه كما لا يحسن أن تقول: ان
زيد إلا منطلقا فكذلك لا يحسن تثقيل (ان) وتخفيفها ويراد الثقيلة مع تثقيل (لما)
فاما قولهم: نشدتك الله لما فعلت، والا فعلت، فقال الخليل: معناه لتفعلن، كما
تقول: أقسمت عليه لتفعلن وإنما دخل (إلا ولما) لان المعنى الطلب، فكأنه
قال: ما أسألك إلا فعل كذا، فلم يذكر حرف النفي في اللفظ، وإن كان
مرادا، وليس في الآية معنى نفي ولا طلب، وضعف أبو علي. الوجه الذي حكيناه
من أن أصله (لمن ما) فادغم النون في الميم بعد ما قلبت ميما. قال: لان
الحرف المدغم، إذا كان قبله ساكن نحو (يوم مالك) لم يقو الادغام فيه على أن
يحرك الساكن الذي قبل الحرف المدغم، فإذا لم يجز ذلك فيه، وكان التغيير أسهل
من الحذف، فإنه لا يجوز الحذف الذي هو أجدر، في باب التغيير من تحريك الساكن
على أن في هذه السورة ميمات اجتمعت في الادغام، أكثر مما اجتمعت في (لمن ما)
ولم يحذف منها شئ نحو قوله " وعلى أمم ممن معك " (2) ولم يحذف شئ منها فبأن
لا يحذف - ههنا أجدر وحكي عن الكسائي أنه قال لا أعرف وجه التثقيل في
(لما) قال أبو علي: ولم يبعد في ذلك، قال أبو علي: ولو خففت مخفف (ان)
ورفع (كلا) وثقل (لما) ويكون المعنى ما كل الا ليوفينهم، كما قال " وان
كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا " (3) لكان ذلك أبين من النصب في (كل) وتثقيل

(1) سورة يس آية 32
(2) سورة هود آية 48
(3) سورة الزخرف آية 35
76

(لما) و (كل) في الآية معرفة، والمعنى وإن كل المكلفين ليوفينهم ربك أعمالهم
أو كل المختلفين على ما تقدم ذكره كما يقولون: مررت بكل قائما، والتوفية بلوغ
المقدار من غير نقصان، والتوفية مساواة المقدار في معناه، لأنه إذا ساواه في
جنسه لم يجب به توفية.
المعنى
أخبر الله تعالى في هذه الآية انه يوفي جميع المكلفين ما يستحقونه على اعمالهم
من الثواب والعقاب، لأنه عالم بما فعلوه خبير به، لا يخفى عليه شئ من ذلك
ومن ليس بعالم لا يمكنه ذلك، لأنه يجوز أن يكون قد خفي عليه كثير منه،
وهو تعالى لا يخفى عليه خافية.
قوله تعالى:
(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما
تعملون بصير) (113) آية بلا خلاف.
أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يستقيموا كما أمرهم الله، وكذلك من رجع إلى
الله والى نبيه " ولا تطغوا " يعني في الاستقامة، فيخرجوا عن حدها بالزيادة
على ما أمرهم فرضا كان أو نفلا. وقيل: معناه لا تطغينكم النعمة، فتخرجوا
من الاستقامة.
و (الاستقامة) الاستمرار في جهة واحدة، وان لا يعدل يمينا وشمالا.
و (الطغيان) تجاوز المقدار في الفساد. والطاغي كالباغي في صفة الذم، وطغى
الماء مشبه بحال الطاغي، وإنما خص من تاب دون ان أسلم من أول حاله للتغليب
في الأكثر ويدخل فيه الأقل على وجه التبع.
وقوله " انه بما تعملون بصير " اخبار منه تعالى أنه عالم بأعمالهم لا يخفى
عليه شئ منها
77

قوله تعالى:
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من
دون الله من أولياء ثم تنصرون) (114) آية بلا خلاف.
نهى الله تعالى في هذه الآية عباده المكلفين عن أن يركنوا إلى الذين ظلموا
نفوسهم وغيرهم. و (الركون) إلى الشئ هو السكون إليه بالمحبة إليه والانصات
إليه، ونقيضه النفور عنه. وإنما نهاهم عن الركون إلى الظلمة لما في ذلك من
الاستئناس به " فتمسكم النار " جواب النهي وبيان، لأنهم متى خالفوا هذا النهي،
وسكنوا إلى الظالمين نالتهم النار، ولم يكن لهم ناصر من دون الله يدفع عنهم ثم
لا يجدون من ينصرهم، ويدفع عنهم على وجه المغالبة، والولي ضد العدو،
وجمعه أولياء. وقال الجبائي معنى " ثم لا تنصرون " انكم إن ركنتم إلى الكفار
والظالمين: وسكنتم إليهم مستكم النار في الآخرة ثم لا تنصرون في الدنيا على
الكفار.
قوله تعالى:
(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات
يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) (115) آية بلا خلاف.
قرأ أبو جعفر (زلفا) بضم اللام. أمر الله تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم وأمة
نبيه بإقامة الصلاة، وإقامتها هو الاتيان بأعمال الصلاة على وجه التمام في
ركوعها وسجودها وسائر فروضها. وقيل إقامة الصلاة هو عمل على استواء
كالقيام الذي هو الانتصاب في الاستواء. وقيل هو الدوام على فعلها من قولهم:
قائم اي دائم واقف.
78

وقوله " طرفي النهار " يريد بهما صلاة الفجر والمغرب - في قول ابن عباس
والحسن وابن زيد الجبائي - وقال الزجاج يعنى الغداة الظهر والعصر، وبه قال
مجاهد، ومحمد بن كعب القرطي، والضحاك. ويحتمل أن يريد بذلك صلاة
الفجر والعصر، لان طرف الشئ من الشئ وصلاة المغرب ليست من النهار.
وقوله " وزلفا من الليل " قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد: يريد العشاء
الآخرة وقال الزجاج يعني المغرب والعشاء الآخرة. و (الزلفة) بمنزلة وجمعها
زلف قال العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا * طي الليالي زلفا فزلفا (1)
قال الزجاج: ويجوز زلفا بضم اللام، ونصبه على الظرف وهو واحد مثل الحلم،
ويجوز أن يكون جمع زليف مثل قريب وقرب، ومنه اشتقاق المزدلفة لان
ازدلاف الناس إليها منزلة من عرفات.
ومن قال: المراد ب‍ (طرفي النهار) الفجر والمغرب، قال ترك ذكر الظهر
والعصر لاحد أمرين:
أحدهما ترك ذكرهما لظهورهما في أنهما صلاة النهار، والتقدير أم الصلاة
طرفي النهار مع الصلاة المعروفة من صلاة النهار.
والآخر - انهما ذكرا على التبع للطرف الأخير، لأنهما بعد الزوال، فهما أقرب
إليه. وقد قال الله تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل " (2) ودلوكها
زوالها.

(1) ديوانه: 84 ومجاز القرآن 1 / 300 وسيبويه 1: 180 واللسان (زلف، حقف،
سما، وجف) والصحاح، والتاج (زلف) يصف الشاعر بعيره. وبعده:
* سماوة الهلال حتى احقوقفا *
والأين التعب، والوجف السرعة في السير. شبهه بالهلال. لاعوجاجه، عند علوه
وصعوده.
(2) سورة الاسرى آية 78.
79

وقوله " ان الحسنات يذهبن السيئات " قيل فيه وجهان:
أحدهما - تذهب به على وجه التكفير إذا كانت المعصية صغيرة.
والآخر - ان المراد بالحسنات التوبة تذهب بالسيئة أي تسقط عقابها، لأنه
لا خلاف في أن سقوط العقاب عند التوبة. وقد قيل إن الدوام على فعل الحسنات
يدعو إلى ترك السيئات فكأنها أذهبت بها.
وقوله " ذلك ذكرى للذاكرين " يعني ما ذكره من قوله " ان الحسنات يذهبن
السيئات فيه تذكار لمن تذكر به وفكر فيه.
قوله تعالى:
(واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) (116) آية بلا خلاف.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه وتكذيبهم إياه، والتجلد
عليه، وعلى القيام بما افترض عليه من أداء الواجب، والامتناع من القبيح،
وبين له انه يضيع ولا يهمل أجر المحسنين على احسانهم بل يكافيهم عليه أتم
الجزاء وأكمل الثواب، و (الصبر) حبس النفس عن الخروج إلى ما لا يجوز من
ترك الحق، وضده الجزع قال الشاعر:
فان تصبرا فالصبر خير مغبة * وان تجزعا فالامر ما تريان (3)
والصبر على الباطل مذموم، قال الله تعالى " وانطلق الملا منهم أن امشوا
واصبروا على آلهتكم " (2) ويعين على الصبر شيئان:

(1) مر هذا البيت في 1: 202.
(1) سورة ص آية 6.
80

أحدهما - العلم بما يعقب من الخير في كل وجه وعادة النفس له.
والثاني - استشعار ما في لزوم الحق من العز والاجر بطاعة الله والصبر
مأخوذ من الصبر المر، لأنه تجرع مرارة الحق بحبس النفس عن الخروج إلى
المشتهى.
قوله تعالى:
(فلو لا كان من القرون من قبلكم أو لوا بقية ينهون عن
الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما
أترفوا فيه وكانوا مجرمين (117) آية بلا خلاف.
معنى " فلولا كان " هلا كان، ولم لا، وألا كان، ومعناه النفي وتقديره لم
يكن من القرون من قبلكم، فهو تعجيب وتوبيخ لهؤلاء الذين سلكوا سبيل من
كان قبلهم في الفساد نحو عاد وثمود، وسائر القرون الذين مر ذكرهم في القرآن،
وأخبر الله بهلاكها " أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض " أي كان يجب
أن يكون منهم قوم باقون في الأرض ينهون عن الفساد في الأرض مع إنعام الله
عليهم بكمال العقل والقدرة، وبعثة الرسل إليهم، وإقامة الحجج. وأولوا
بقية هم الباقون، فعجب الله نبيه كيف لم يكن منهم بقية في الأرض يأمرون
فيها بالمعروف وينهون فيها عن المنكر، وكيف اجتمعوا على الكفر حتى
استأصلهم الله بالعذاب والعقوبات لكفرهم بالله ومعاصيهم له ثم استثنى بقوله " الا
قليلا " والمعنى انهم هلكوا جميعا الا قليلا ممن أنجى الله منهم، وهم الذين آمنوا
مع الرسل، ونجوا معهم من العذاب الذي نزل بقومهم.
وقوله " واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين " معناه أنهم اتبعوا
تفسير التبيان ج 6 - م 6
81

التلذذ والتنعم بالأموال والنعم التي أعطاهم الله إياها، وقضوا الشهوات وذلك من
الحرام. وبين انهم كانوا بذلك مجرمين عاصين الله تعالى.
وقال الفراء والزجاج: ان قوله " الا قليلا " استثناء منقطع، لأنه ايجاب لما
تقدم فيه صيغة النفي وإنما تقدم تهجين لمخرج السؤال، ولو رفع لجاز في الكلام.
ومعنى " أترفوا فيه " اي عودوا الترفة بالتنعيم واللذة، وذلك أن الترفة عادة
النعمة قال الشاعر:
يهدي رؤس المترفين الصداد * إلى أمير المؤمنين الممتاد (1)
اي المسؤول، وأبطر بهم النعمة حتى طغوا وبغوا، وفي الآية دلالة على وجوب
النهي عن المنكر، لأنه تعالى ذمهم بترك النهي عن الفساد، وانه نجا القليل
بنهيهم عنه، فلو نهى الكثير كما نهى القليل لما أهلكوا، ومعنى " أولوا بقية "
أصحاب جماعة تبقى من نسلهم، والبقية ممدوحة يقال في فلان بقية أي فيه
فضل وخير، كأنه قيل بقية خير من الخير الماضي.
قوله تعالى:
(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)
(118) آية بلا خلاف.
وأخبر الله تعالى انه لم يهلك أهل قرية فيما مضى، ممن ذكر إهلاكهم مع أن
أهلها أو أكثرهم يفعلون الصلاح، وإنما أهلكهم إذا أفسدوا كلهم أو أكثرهم
والاصلاح فعل الصلاح. وقوله " بظلم " فيه ثلاثة أوجه: أولها بظلم صغير، فيكون
منهم لأنه يقع مكفرا بما معهم من الثواب الكثير.

(1) قائلة رؤبة وقد مر في 4 / 63 من هذا الكتاب؟ وهو تفسير الطبري 12 / 79
(الطبعة الأولى).
82

الثاني - بظلم كثير من قليل منهم، مع أن أكثرهم المصلحون، لان القليل لا
يعتد به في جنب الكثير.
الثالث - ان المعنى بظلم منا، كما قال الله تعالى " إن الله لا يظلم الناس شيئا " (1).
قوله تعالى:
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون
مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت
كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (119) آيتان
في الكوفي والبصري تمام الأولى عند قوله مختلفين وهي آية فيما
سوى ذلك.
هذه الآية تتضمن الاخبار عن قدرته تعالى بأنه لو شاء تعالى لجعل الناس أمة
واحدة أي على دين واحد، كما قال " إنا وجدنا آباءنا على أمة " (2) وقال " ولولا
أن يكون الناس أمة واحدة " (3) أي على دين واحد بأن يلجئهم إلى الاسلام بأن
يخلق في قلوبهم العلم بأنهم لو داموا على غير ذلك لمنعوا منه، لكن ذلك ينافي التكليف
ويبطل الغرض بالتكليف لان الغرض به استحقاق الثواب.
وقوله " ولا يزالون مختلفين " معناه في الأديان كاليهود والنصارى والمجوس
وغير ذلك من اختلاف المذاهب الباطلة في قول مجاهد وقتادة وعطا والأعمش
والحسن في رواية، وفي رواية أخرى عن الحسن أنهم يختلفون بالأرزاق والأحوال
ويتحيز بعضهم لبعض والأول أقوى.

(1) سورة يونس آية 44.
(2) سورة الزخرف آية 22، 23.
(3) سورة الزخرف آية 33.
83

والاختلاف هو اعتقاد كل واحد نقيض ما يعتقده الآخر، وهو ما لا يمكن
أن يجتمعا في الصحة وان أمكن ان يجتمعا في الفساد، ألا ترى أن اليهودية
والنصرانية لا يجوز أن يكونا صحيحين مع اتفاقهما في الفساد، ويجوز أن يكون
في اختلاف أهل أملل المخالفة للاسلام حق، لان باعتقاد اليهودي ان النصرانية
باطلة واعتقاد النصراني ان اليهودية فاسدة حق.
وقوله " الا من رحم ربك " استثناء منقطع، ولذلك جعل رأس آية، ولو كان
متصلا لم يجز ذلك، وإنما كان استثناء منقطعا، لان الأول على أنهم يختلفون
بالباطل، وليس كذلك من رحم لاجتماعهم على الحق. والمعنى " ولا يزالون
مختلفين " بالباطل " الا من رحم ربك " بفعل اللطف لهم الذي يؤمنون عنده
ويستحقون به الثواب، فان من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل.
وقوله " ولذلك خلقهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ان المراد وللرحمة خلقهم
وليس لاحد ان يقول لو أراد ذلك لقال: ولتلك خلقهم لان الرحمة مؤنثة اللفظ
وذلك أن تأنيث الرحمة ليس بتأنيث حقيقي، وما ذلك حكمه جاز ان يعبر عنه
بالتذكير، ولذلك قال الله تعالى " ان رحمة الله قريب من المحسنين " (1) ولم
يقل قريبة على أنه لا يمتنع أن يكون المراد: ولان يرحم خلقهم، لان الرحمة
تدل على ذلك، فعلى هذا يكون التذكير واقعا موقعه.
الثاني - أن يكون اللام لام العاقبة، والتقدير أنه خلقهم وعلم أن عاقبتهم.
تؤل إلى الاختلاف المذموم، كما قال " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا
وحزنا " (2) وكما قلنا في قوله " ولقد ذرأنا لجهنم " (3) وهو المروي عن ابن عباس
والحسن وعطاء ومالك، وقد يكون اللام بمعنى (على) كقولك أكرمتك على

(1) سورة الأعراف آية 56.
(2) سورة القصص آية 8.
(3) سورة الأعراف آية 179.
84

برك بي اي لبرك بي، فيكون التقدير، وعلى ذلك خلقهم، ولا يجوز أن يكون
اللام لام الغرض، ويرجع إلى الاختلاف المذموم، لان الله تعالى لا يخلقهم ويريد
منهم خلاف الحق، لأنه صفة نقص يتعالى الله عن ذلك. وأيضا فلو أراد
منهم ذلك الاختلاف، لكانوا مطيعين له، لان الطاعة هي موافقة الإرادة
والامر، ولو كانوا كذلك لم يستحقوا عقابا. وقد قال تعالى " وما خلقت الجن والإنس
الا ليعبدون " (1) فبين تعالى انه خلقهم وأراد منهم العبادة، فكيف
يجوز مع ذلك أن يكون مريدا لخلاف ذلك، وهل هذا الا تناقض؟! يتعالى الله
عن ذلك.
على أن في اختلاف أهل الضلال ما يريده الله، وهو اختلاف اليهود والنصارى
في التثليث، واختلاف النصارى لليهود في تأبيد شرع موسى
وقيل إن معنى الاختلاف ههنا هو مضي قوم ومجئ قوم آخرين، كما قال " هو
الذي جعل الليل والنهار خلفة " (2) وهذا الاختلاف يجوز ان يريده الله.
وقال الحسن قوله " ولذلك خلقهم " مردود على قوله " وما كان ربك ليهلك
القرى بظلم وأهلها مصلحون " (3) والمعنى خلقهم ليكون عدله فيهم، هذا، لا أن
يهلكهم وهم مصلحون.
وقوله " ولو شاء ربك الجعل الناس أمة واحدة " على الايمان، وهذه مشيئة
القدرة " ولذلك خلقهم " أن تكون مشيئته وقدرته عليهم، ولا يزالون مختلفين "
الا من رحم ربك ولذلك خلقهم " قال ليخالف أهل الحق أهل الباطل، وهو
كقوله " لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة
وفريق في السعير " (4)

(1) سورة الذاريات آية 56.
(2) سورة الفرقان آية 62.
(3) سورة هود آية 118.
(4) سورة الشورى آية 7.
85

ويقوي هذا التأويل قوله " وان كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون
مما أعمل وانا برئ مما تعملون " (1). وقوله " قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما
تعبدون ولا أنتم عابدون ما اعبد " (2)، فيكون الله خلقهم ليخالفوا الكافرين
والمبطلين. وقال عمر عن الحسن: ان معنى " ولذلك خلقهم " ليكون أمر الكفار
مختلفا بكفرهم وتكذيبهم. وقال البلخي: أخبر أنهم لا يزالون مختلفين إلا من
رحم، فإنهم غير مختلفين، هذا معنى الآية، والا فلا معنى لها. ثم قال " ولذلك
خلقهم " اي لان يكونوا أمة واحدة متفقين غير مختلفين.
وقوله " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين "، معناه
التحذير لكل أحد أن يكون ممن تملأ جهنم به، وتمامها وقوع مخبرها على ما تقدم
بها، وهذا يمين أقسم الله به، وتقديره يمينا لا ملان، كما تقول: حلفي لأضربنك،
وبدا لي لأضربنك. وكل فعل كان تأويله كتأويل بلغني، أو قيل لي أو انتهى
إلي، فان (اللام) و (ان) يصلحان فيه، فتقول بدا لي لأضربنك، وبدا لي ان
أضربك، فلو قيل وتمت كلمة ربك أن يملا جهنم من الجنة والناس كان صوابا.
قوله تعالى:
(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) (120) آية بلا
خلاف.
قوله " وكلا " نصب على المصدر، وتقديره، كل القصص نقص عليك. وقال
قوم: نصب على الحال، فقدم الحال قبل العامل، كما تقول: كلا ضربت، ويجوز
أن يكون نصبا على أنه مفعول به، وتقديره: وكل الذي تحتاج إليه نقص عليك،

(1) سورة يونس آية 41.
(2) سورة الكافرون آية 1 - 2.
86

ويكون " ما نثبت به فؤادك " بدلا منه - في قول الزجاج - والقصص الخبر عن
الأمور بما يتلو بغضه بغضا، مأخوذا من قصه يقصه إذا اتبع أثره، ومنه قوله
" قالت لأخته قصيه " (1) أي اتبعي اثره. والانباء جمع نبأ، وهو الخبر بما فيه
عظم الشأن، وكذلك يقولون لهذا الامر نبأ، والتثبيت تمكين إقامة الشئ
ثبته تثبيتا إذا مكنه، ومعنى " ما نثبت به فؤادك " يحتمل أن يكون ذلك
بتسكينه، ويحتمل أيضا أن يكون بالدلالة على وجوده. والفؤاد القلب مأخوذ
من المفتاد، وهو المشوي قال النابغة:
كان خارجا من حيث صفحته * سفود شرب نسوه عند مفتأد (2)
ومعنى " وجاءك في هذه الحق " قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: يعني في
هذه السورة. وقال الجبائي يعني جاءك في هذه الانباء. وقال الزجاج: يعني في
هذه الأزمان. وقال قتادة: معناه في هذه الدنيا. والأول أصح، والتقدير
وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك في سائر السور.
ومعنى (الآية) الاعتبار بقصص الرسل لما فيه من حسن صبرهم على أمتهم
واجتهادهم في دعائهم إلى عبادة الله مع الحق الذي من عمل عليه نجا، ومع الوعظ
الذي يلين القلب لسلوك طريق الحق، ومع تذكر الخير والشر، وما يدعو إليه
كل واحد منهما في عاقبة النفع أو الضرر.
وقوله " وموعظة " يعني جاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله.
وقوله (وذكرى للمؤمنين " معناه تذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله كي لا
يفعلوا غير الواجب.

(1) سورة القصص آية 11.
(2) اللسان (فأد) ومجمع البيان 3 / 203
87

قوله تعالى:
(وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا
عاملون) (121) وانتظروا إنا منتظرون (122). آيتان في الكوفي
والبصري، وإحدى المدينين تمام الأولى انا عاملون، وآية فيما
سوى ذلك.
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقول للكفار الذين لا يصدقون بتوحيد الله ولا يعترفون
بنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم " اعملوا على مكانتكم " والمكانة الطريقة التي يتمكن من العمل
عليها، ويقال: له مكانة عند السلطان - أي جاه، وقدر وهذا خرج مخرج
التهديد، وهو مثل قوله " اعملوا ما شئتم " (1).
وقوله " إنا عاملون " معناه إنا عاملون على الايمان الذي أمرنا الله به ودعانا
إليه.
وقوله " وانتظروا " أي توقعوا، وقد فرق بينهما بأن التوقع طلب ما يقدر
أنه يقع، لأنه من الوقوع. والانتظار طلب ما يقدر النظر إليه، لأنه من النظر.
والفرق بين الانتظار والترجي، أن الترجي للخير خاصة، والانتظار في الخير
والشر. ولو دخلت الفاء في قوله " إنا " لأفاد أن الثاني لأجل الأول وحيث لم
تدخل لم تفد ذلك.
ومتعلق الانتظار يحتمل أمرين:
أحدهما - انتظروا ما يعدكم الشيطان من الغرور، فانا منتظرون ما يعدنا
ربنا من النصر والعلو، في قول ابن جريج.

(1) سورة حم السجدة آية 40.
88

الثاني - انتظروا ما يعدكم ربكم على الكفر من العذاب، فانا منتظرون ما
يعدنا على الايمان من الثواب.
قوله تعالى:
(ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الامر كله
فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) (123)
آية بلا خلاف.
قرأ نافع وحفص يرجع - بضم الياء وفتح الجيم - وقرأ أهل المدينة، وابن
عامر، وحفص، ويعقوب (يعملون) بالياء - ههنا، وفي النمل. الباقون بالتاء.
من ضم الياء فلقوله " ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق " (1)، والمعنى رد أمرهم
إلى الله.
ومن فتح الياء فلقوله " والامر يومئذ لله " (2)، والمعنيان متقاربان.
ومن قرأ بالتاء في " تعملون " جعل الخطاب للنبي ولامته، وهو أعم فائدة
ومن قرأ بالياء في " يعملون " جعل ذلك متوجها إلى من تقدم ذكره من
الكفار، وفيه ضرب من التهديد.
أخبر الله تعالى في هذه الآية بأن له غيب السماوات والأرض، وخص الغيب
بذلك لاحد أمرين:
أحدهما - لان ذلك يدل على أن له شهادة أيضا.

(1) سورة الأنعام اية 62، وفي سورة يونس آية 30 " ووردوا إلى الله ".
(2) سورة الانفطار آية 19.
89

الثاني - لعظم شأن الغيب الذي له. ومن كان له الغيب كان له الشهادة،
والغيب كون الشئ بحيث لا يلحقه الحس، ومنه " عالم الغيب والشهادة " (1).
أي عالم الموجود والمعدوم، وما يغيب عن احساس الناس وما يظهر لها، ومعنى
" واليه يرجع الامر كله " أي يذهب إلى حيث ابتدأ منه، فرجوع الامر إلى الله
بالإعادة بعد النشأة الأولى. وقيل ترجع الأمور إلى أن لا يملكها سواه تعالى -
في قول أبي علي الجبائي.
وقوله " فاعبده " أي وجه عبادتك إليه وحده " وما ربك بغافل عما
تعملون " فالغفلة السهو، الا ان الغفلة يغلب عليها أن تكون بعد اليقظة، كالنوم
بعد الانتباه، والسهو نقيض الذكر من غير علة في الصفة. والمعنى انه ليس ربك
يا محمد صلى الله عليه وسلم بساه عن اعمال عباده، بل هو عالم بها ومجاز كلا على ما يستحقه من
ثواب أو عقاب، فلا يحزنك إعراضهم عنك، وترك قبولهم منك. وقال كعب
الأحبار خاتمه التوراة خاتمه هود.

(1) سورة التوبة آية 95، 106 وسورة المؤمنون آية 93، وسورة الزمر آية 46،
وسورة الجمعة آية 8.
90

(12) سورة يوسف
مكية في قول مجاهد، وقتادة،
وهي مئة واحدى عشر آية بلا خلاف في ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم.
(الر تلك آيات الكتاب المبين) (1) آية بلا خلاف.
لم يعدوا (الر) آية، لأنه على حرفين، ولا يشاكل رؤوس الآي، فيعد من
الفواصل بالوجهين، لأنه بالحرفين يجري مجرى الأسماء الناقصة، وإنما يؤم
بالفواصل التمام، وإنما يعد (طه) لأنه يشبه رؤوس الآي. وقد بينا فيما تقدم
اختلاف المفسرين في مبادئ السور بهذه الحروف (1). وقلنا أن أقوي الأقوال
قول من قال إنها أسماء للسور، فلا وجه، لإعادة القول فيها.
قوله " تلك آيات " قال قوم: هو إشارة إلى ما تقدم من ذكره السورة في
قول " الر " كأنه قال سورة يوسف " تلك آيات الكتاب المبين ".
الثاني - انه إشارة إلى ما يأتي من ذكرها على وجه التوقع لها. وقال قوم:

(1) انظر 1 / 47 - 50، 2 / 388، 4 / 367، 5 / 381، 511.
91

معناه هذه تلك الآيات التي وعدتم بها في التوراة، كما قال " ألم ذلك الكتاب "
المبين " معناه المظهر لحلال الله وحرامه والمعاني المرادة به، وهو قول مجاهد وقتادة،
ويروي عن معاذ أنه قال (المبين) قال بين الحروف التي سقطت عن السن
الأعاجم، وهي ستة يعني حروف الحلق.
والبيان هو الدلالة. وقال الرماني البيان: إظهار المعنى من الطريق التي من
جنسه. والبرهان إنما هو إظهار صحة المعنى بما يشهد به، وإنما سميت (آيات)
لما فيها من الدلالة القاطعة على صحة ما تضمنته الآية الدالة.
قوله تعالى:
(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) (2)
آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى أنه انزل هذا الكتاب قرآنا عربيا لكي يعقلوا معانيه
وأغراضه، وسماه (قرآنا) لما تضمن مجموع خبر يوسف وغير ذلك. و (القرآن)
كلام في أعلا طبقة البلاغة، ووجه بلاغة القرآن كونه في نهاية التلاؤم المنافي
للتنافر في تأليف اللفظ والمعنى: مع تشاكل المقاطع في الفواصل بما يقتضيه المعنى
ومع تصريف القول على أحسن ما تصرف به المعنى.
والعقل مجموعة علوم يتمكن معها من الاستدلال بالشاهدين على الغائب،
ويفصل به بين الحسن والقبيح. ثم يجري على كل ما يعقله الانسان في نفسه
من المعاني.
وفي الآية دليل على أن كلام الله محدث، لأنه وصفه بالانزال وبأنه عربي، ولا
يوصف بذلك القديم.
وفيه دلالة على أن القرآن غير الله، لأنه وصفه بأنه عربي، ومن يزعم أن الله
عربي، فقد كفر، وما كان غير الله فهو محدث.
92

والهاء في قوله " انا أنزلناه " كناية عن الكتاب الذي تقدم ذكره. قال
الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى إنا أنزلنا خبر يوسف، وقصته، لان علماء اليهود،
قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم لم انتقل يعقوب من الشام إلى مصر،
وعن قصة يوسف، فأنزل الله الآية ودليله قوله " لقد كان في يوسف واخوته آيات
للسائلين.
قوله تعالى:
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا
القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) (3) آية بلا خلاف.
أخبر الله انه يقص على نبيه أحسن القصص، و (القصص) يتعدى بحرف الجر
في عليك لان معناه يتلو بعض الحديث بعضا، ولو قال: نخبرك، لتعدى بنفسه
وقوله " أحسن القصص " يدل على أن الحسن يتفاضل ويتعاظم، لان لفظ
أفعل حقيقتها ذلك، وإنما يتعاظم بكثرة استحقاق المدح عليه.
وقوله " بما أوحينا إليك هذا القران " دخلت الباء في بما أوحينا، لتبيين
أن القصص يكون قرآنا وغير قرآن، والقصص - ههنا - بالوحي: القرآن
كأنه قال أوحينا إليك هذا القرآن، ونصب القرآن بايقاع الوحي عليه، وكان
يجوز فيه الجر على البدل من (ما) والرفع على أن يكون جواب (ما) (هذا) في
قول الزجاج، ولم يقرأ بغير النصب.
وقوله " وان كنت من قبله لمن الغافلين " بمعنى كنت يا محمد صلى الله عليه وسلم قبل وحينا
إليك غافلا عن الاحكام التي ذكرناها في القرآن حتى أتيناك بها، ودللناك عليها،
ولم تكن تهتدي إليها. وقيل معناه من الغافلين عن قصة يوسف وأخوته، حتى
أخبرناك بها.
93

قوله تعالى:
(إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) (4) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر وأبو جعفر " يا أبت " بفتح التاء في جميع القرآن. الباقون بكسر
التاء، وابن كثير يقف بالهاء. الباقون يقفون بالتاء، وقرأ أبو جعفر أحد عشر
وتسعة عشر بسكون العين فيها. الباقون بفتحها.
العامل في (إذ) أحد أمرين: أحدهما - اذكر " إذ قال يوسف ". والثاني -
نقص عليك " إذ قال " في قول الزجاج، ولا يكون على هذا الوجه ظرفا
للقصص في معنى نذكره، ويجوز في " يا أبت " ثلاثة أوجه من الاعراب:
أحدهما - الكسر على حذف ياء الإضافة.
الثاني - (يا أبت) بفتح التاء على حذف الألف المنقلبة عن ياء الإضافة، كأنه
أراد يا أبتا، فحذف الألف كما تحذف الياء، فتبقى الفتحة دالة على الألف، كما أن
الكسرة دالة على الياء، قال رؤبة:
* يا أبتا علك أو عساكا (1) *.
فلما كثرت هذه الكلمة في كلامهم ألزموه القلب، قال أبو علي الفارسي:
ويحتمل أن يكون مثل يا طلحة اقبل، ووجهه ان الأسماء التي فيها تاء التأنيث
أكثر ما ينادى مرخما، فلما كان كذلك رد التاء المحذوفة في الترخيم وترك الامر
يجري على ما كان يجري عليه في الترخيم من الفتح، فلم يعتد بالهاء، واقحامها
كما قالوا: وأجمعت اليمامة يريدون أهل اليمامة، قالوا: أجمعت أهل اليمامة، فلم يعتدوا
برد أهل.

(1) تفسير القرطبي 9: 119 وصدره:
* تقول بنتي قد انى اناكا *
94

الثالث - يا أبة بضم الهاء في قول الفراء ولم يجره الزجاج، قال: لان التاء
عوض من ياء الإضافة. قال الرماني هذا جائز لان العوض لا يمنع من الحذف،
والوقف يجوز على التاء، لان الإضافة مقدرة بعدها، وان قدر على حذف الألف
لم يجز الوقف، الا بالتاء وان قدر على الاقحام جاز الوقف كقول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1)
وإنما دخلت الهاء في (يا أبت) للعوض من ياء الإضافة إذ يكثر في النداء،
مع لزوم معنى الإضافة، فكان أحق بالعلامة لهذه العلة. وقال أبو علي: إنما وقف
ابن كثير بالهاء، فقال يا أبة، لان التاء التي للتأنيث تبدل منها الهاء في الوقف،
ولم يجز على تقدير الإضافة، لأنه إذا وقف عليها سكنت للوقف وإذا سكنت
كانت بمنزلة مالا يراد به الإضافة فأبدل منها الهاء كما إذا قال يا طلحة أقبل بفتح
التاء، وإذا وقف عليها أبدل الهاء ياء.
وإنما - أعاد ذكر " رأيتهم " لامرين: أحدهما - للتوكيد حيث طال الكلام.
الثاني - ليدل انه رآهم ورأي سجودهم، وفي معنى سجودهم قولان:
أحدهما - هو السجود المعروف على الحقيقة تكرمة له لا عبادة له.
الثاني - الخضوع - في قول أبي علي - كما قال الشاعر:
ترى الا كم فيه سجدا للحوافر (2)
وهو ترك للظاهر، وقال الحسن: الأحد عشر اخوته، والشمس والقمر أبواه،
وإنما قال ساجدين بالياء والنون، وهو جمع مالا يعقل، لأنه لما وصفها بفعل
ما يعقل من السجود أجرى عليها صفات ما يعقل، كما قال " يا أيها النمل ادخلوا
مساكنكم " (3) لما أمروا امر من يعقل.

(1) مر تخريجه في 5: 368.
(2) مر هذا الشعر في 1: 148، 263، 311، 4: 233، 383.
(3) سورة النمل آية 18.
95

و (كوكبا) منصوب على التمييز و (أحد عشر) الاسمان جعلا اسما واحدا،
وكذلك إلى تسعة عشر، واللغة الجيدة عند البصريين فتح العين، وحكي سكون
العين، وحكى الزجاج احدى عشر وهي لغة ردية.
قوله تعالى:
(قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا
لك كيدا إن الشيطان للانسان عدو مبين) (5) آية
بلا خلاف.
قرأ الكسائي الا أبا الحارث وقتيبة، والعبسي، وابن اليزيدي بإمالة " رؤياك "
والرؤيا في جميع القرآن، وروى أبو الحارث فتح " رؤياك " وإمالة الباقي. وقرأ
قتيبة إمالة " الرؤيا " ونصب " رؤياك ".
وقرأ خلف في اختياره بإمالة ما فيه ألف ولام. الباقون بالتفخيم.
وخفف الهمزة في جميع ذلك أبو جعفر، وورش، والسموني، وشجاع
والترمذي في الادراج، إلا أن أبا جعفر يدغم الواو في الياء فتصير ياء مشددة،
قال أبو علي النحوي (الرؤيا) مصدر كالبشرى والسقيا والبقيا والشورى إلا أنه
لما صار اسما لهذا التخيل في المنام جرى مجرى الأسماء، كما أن (در) لما كثر في
كلامهم في قولهم لله درك جرى مجرى الأسماء، وخرج من حكم الاعمال: فلا يعمل
واحد منهما اعمال المصدر، ومما يقوي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم لها
(دري) فصادر بمنزلة (ظلم) والمصادر في الأكثر لا تكسر، والرؤيا على تحقيق
الهمزة، فان حذفت قلبتها في اللفظ واوا ولم يدغم الواو في الياء، لان الواو في
تقدير الهمزة فهي لذلك غير لازمة، فلا يقع الاعتداد بها فلم تدغم، وقد كسر
أولها قوم فقالوا (ريا) فهؤلاء قلبوا الواو قلبا لا على وجه التخفيف، ومن ثم
كسروا الفاء، كما كسروا من قولهم: قرن لوى وقرون لي.
96

في هذه الآية حكاية ما أجاب به يعقوب يوسف حين قص عليه رؤياه ومنامه،
فقال له " يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك " أي لا تخبرهم بها فإنك إن أخبرتهم
بذلك حسدوك وكادوك واحتالوا عليك، وإنما قال ذلك لعلمه بأن تأويل الرؤيا
أنهم يخضعون له.
وقوله " يا بني " فيه ثلاث يا آت، الياء الأصلية، وياء الإضافة، وياء التصغير.
وحذفت ياء الإضافة اجتزاء بالكسرة وأدغمت احدى اليائين في الأخرى. وفتح
الياء وكسرها لغتان. وإنما صغر (بني) مع عظم منزلته، لأنه قصد بذلك صغر
السن، ولم يقصد به تصغير الذم.
والرؤيا تصور المعنى في المنام على توهم الابصار، وذلك أن العقل مغمور بالنوم،
فإذا تصور الانسان المعنى توهم أنه يراه.
والأخ المساوي في الولادة من أب أو أم أو منهما، ويجمع أخوة وآخاء. والكيد
طلب الغيظ بأذى الطالب لغيره كاده يكيد كيدا، فهو كائد.
وقوله " ان الشيطان للانسان عدو مبين " اخبار منه تعالى بأن الشيطان
معاد للانسان، ويلقى العداوة بينهم، واللام في قوله (لك كيدا) لام التعدية، كما
يقال قدمت له طعاما، وقدمت إليه طعاما. وقال قوم: هو مثل قولهم شكرته
وشكرت له، لأنه يقال كاده يكيده، وكاد له.
وحكى الكسائي أن قوما يقولون: (الريا) بكسر الراء وتشديد الياء
فيقلبون الهمزة واوا ويدعمون الواو في الياء. و (رؤيا) فيها أربع لغات بضم
الراء مع الهمزة وبالواو بلا همزة. وقد قرئ بهما، وبضم الراء والادغام. وبكسر
الراء، ولا يقرأ بهاتين.
قوله تعالى:
(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث
تفسير التبيان ج 6 - م 7
97

ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من
قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم) (6) آية بلا خلاف.
هذه حكاية ما قال يعقوب لابنه يوسف (ع) وقوله له ان الله يجتبيك،
ويختارك، ويصطفيك ويكرمك بذلك، كما أكرمك بأن أراك في منامك هذه
الرؤيا، فوجه التشبيه وهو اعطاء الرؤيا باعطاء الاجتباء مع ما انضاف إليه من
الصفات الكريمة المحمودة التي ذكرها. والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى
مثل ما اختاره الله تعالى ليوسف من الخصال الكريمة والأمور السنية، وقال
الحسن: اجتباه الله بالنبوة، وبشره بذلك. وأصله من جبيت الشئ إذا أخلصته
لنفسك، ومنه جبيت الماء في الحوض.
وموضع الكاف من و (كذلك) نصب، والمعنى مثل ما رأيت تأويله
يجتبيك ربك.
" ويعلمك من تأويل الأحاديث " معناه أنه تعالى يعرفك عبارة الرؤيا
في قول قتادة، ومجاهد - وذلك تأويل أحاديث الناس عما يرونه في منامهم،
وقيل كان أعبر الناس للرؤيا، ذكره ابن زيد. وقال الزجاج، والجبائي: معناه
يعلمك تأويل الأحاديث في آيات الله تعالى ودلائله على توحيده، وغير ذلك من
أمور دينه. والتأويل في الأصل هو المنتهى الذي يؤول إليه المعنى. وتأويل
الحديث فقهه الذي هو حكمه، لأنه اظهار ما يؤول إليه أمره مما يعتمد عليه
وفائدته.
وقوله " ويتم نعمته عليك " فاتمام النعمة هو أن يحكم بدوامها على اخلاصها
من شائب بها فهذه النعمة التامة بخلوصها مما ينغصها، ولا تطلب الا من الله تعالى
لأنه لا يقدر عليها سواه. وقوله " كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق "
اخبار من يعقوب ليوسف أن الله تعالى يديم عليه هذه النعمة، كما أدامها على
أبويه قبله: إبراهيم وإسحق، واصطفائه إياهما وجعله لهما نبيين رسولين إلى خلقه.
98

ثم أخبر مع ذلك أن الله تعالى عليم بمن يصلح أن يجتبى، حكيم في اجتبائه من
يجتبيه واضع للشئ في موضعه، وفي غير ذلك من افعاله. قال الفراء: قوله
" وكذلك يجتبيك ربك " جواب لقوله إني رأيت أحد عشر كوكبا، فقيل له،
وهكذا يجتبيك ربك (فكذلك، وهكذا) سواء في المعنى، وقال ابن إسحاق
إنما قص الله تعالى قصة يوسف علي محمد (صلى الله عليه وسلم) ليعلمه أنه بغى عليه أخوته
وحسدوه، فيسليه بذلك من بغي قومه عليه وحسدهم إياه.
قوله تعالى:
(لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) (7)
آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وحده " آية للسائلين " على التوحيد الباقون " آيات " على الجمع. قال
أبو علي النحوي من أفرد جعل شأنه كله آية. ويقوي ذلك قوله " وجعلنا ابن مريم
وأمه آية " (1) فأفرد، وكل واحد منهما على انفراده يجوز أن يقال آية، فافرد مع
ذلك، ومن جمع جعل كل واحد من أحواله آية، ومن جمع على ذلك على أن
المفرد المنكر في الايجاب يقع دالا على الكثرة كما يكون ذلك في غير الايجاب
قال الشاعر:
فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم * جزاء العطاش لا ينام من الثار (2)
اللام في قوله " لقد " هي اللام التي يتلقى بها القسم. أقسم الله تعالى في هذه الآية
أنه كان في يوسف وفي اخوته آيات. والآية الدلالة على ما كان من الأمور العظيمة.
والآية والعلامة والعبرة نظائر في اللغة. وقال الرماني: الفرق بين الآية والحجة:
أن الحجة معتمد البينة التي توجب الثقة بصحة المعنى. والآية تكشف عن المعنى

(1) سورة المؤمنون آية 51
(2) مجمع البيان 3: 210
99

الذي فيه أعجوبة. ووجه الآية في يوسف واخوته أنهم نالوه للحسد بالأذى مع
أنهم أولاد الأنبياء: يعقوب وإسحاق وإبراهيم، فصفح وعفا، وأحسن ورجع
إلى الأولى، وكان ذلك خروجا عن العادات.
وقال الزجاج: معناه بصيرة للذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنبأهم بقصة يوسف -
وهو صلى الله عليه وسلم لم يقرأ كتابا، ولم يعلمه إلا من جهة الوحي - جوابا لهم حين سألوه.
وفي يوسف لغتان ضم السين وكسرها، وكذلك يونس بضم النون، وكسرها،
والقراء على الضم فيهما، وحكى قطرب فتح النون في يونس وهي شاذة.
قوله تعالى:
(إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة
إن أبانا لفي ضلال مبين) (8) آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير ونافع والكسائي " مبين اقتلوا " بضم التنوين. الباقون بكسره
قال أبو علي: من ضم التنوين اتبع حركة التنوين ضمة الهمزة بعده، لان تحريكه
ملزم لالتقاء الساكنين، كما قالوا مذ به وفي ظلمات فاتبعوا الضمة وكذلك
" مبين اقتلوا " " وقالت اخرج "، ومن كسر لم يتبع، وكسر على أصل الحركة
لالتقاء الساكنين في الامر الأكثر.
والعامل في (إذا) اذكر، وتقديره اذكر إذ قالوا ليوسف. ويحتمل أن
يكون العامل فيه ما في الآية الأولى من قوله " لقد كان في يوسف وأخوته آيات
للسائلين. إذ قالوا ليوسف ".
وفي الآية اخبار عما قالت أخوة يوسف حين سمعوا منام يوسف وتأويل
يعقوب إياه. وقولهم: ان يوسف وأخاه لأبيه وأمه، وهو ابن يامين " أحب إلى
أبينا " يعقوب " منا " مع انا عصبه أي جماعة، والحب ضد البغض، والحب
100

- بفتح الحاء - سمي به، لأنه مما يحب، والحب بكسر الحاء - المفرط لما فيه من
الحب، والأحباب ان يبرك البعير فلا يثور، لأنه يحب البروك والمحبة، على ضربين:
أحدهما - المحبة التي هي ميل الطباع.
والثاني - إرادة المنافع.
والفرق بين المحبة والشهوة أن الانسان يحب الولد، ولا يشتهيه بأن يميل
طبعه إليه ويرق عليه ويريد له الخير. والشهوة منازعة النفس إلى ما فيه اللذة.
والعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، وقولهم " ونحن عصبة " أي جماعة
يعين بعضها البعض، وكانوا عشرة. والعصبة يقع على الجماعة من عشرة إلى خمسة
عشر، ولا واحد له من لفظه، كالرهط والقوم والنفر.
وقوله " ان أبانا لفي ضلال مبين " معناه الاخبار عن قولهم إن أبانا في ذهاب
عن طريق الحق والصواب الذي فيه التعديل بيننا في المحبة. وقيل: انهم أرادوا
انه غلط في تدبير أمر الدنيا إذ كانوا انفع له من يوسف وأخيه من أمه وأبيه إذ
كانوا يقومون بأمواله ومواشيه، ولم يريدوا الضلال في الدين، لأنهم لو أرادوا
ذلك، لكانوا كفارا، وذلك خلاف الاجماع.
وأكثر المفسرين على أن اخوة يوسف كانوا أنبياء، وقال قوم: لم يكونوا
كذلك، وهو مذهبنا، لان الأنبياء، لا يجوز ان تقع منهم القبائح، وخاصة ما
فعلوه مع أخيهم يوسف من طرحه في الجب، وبيعهم إياه بالثمن البخس، وادخالهم
الغم به على أبيهم يعقوب، وكل ذلك يبين أنهم لم يكونوا أنبياء. وقال البلخي:
ذهب قوم إلى أنهم لم يكونوا في تلك الحال بلغوا الحلم، وقد يقع مثل ذلك ممن قارب
البلوغ، وان لم يبلغ، ويعاتب عليه ويذم، ويضرب على فعله.
ومن قال: كانوا بالغين غير أنهم لم يكونوا أنبياء استدل على بلوغهم بقوله
" وتكونوا من بعده قوما صالحين "، وقولهم " يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا " وقال
الأنبياء الأسباط من بني يعقوب غير هؤلاء.
101

قوله تعالى:
(اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم
وتكونوا من بعده قوما صالحين) (9) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن اخوة يوسف انهم قال بعضهم لبعض " اقتلوا يوسف
أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعده قوما صالحين " ومعناه
اطرحوه في أرض تأكله السباع أو يهلك بغير ذلك من الأمور. وقيل: معناه
اطرحوه في أرض يبعد عن أبيه، ولا يقدر عليه.
وقوله " يخل لكم وجه أبيكم " جواب الامر في قوله " اقتلوا يوسف " ولا يجوز فيه
غير الجزم، لأنه ليس فيه ضمير، والمعنى انكم متى قتلتموه أو طرحتموه في أرض
أخرى خلا لكم أبوكم وحن عليكم " وتكونوا من بعده قوما صالحين " معناه إنكم
إذا فعلتم ذلك وبلغتم أغراضكم تبتم مما فعلتموه، وكنتم من جملة الصالحين الذين
يفعلون الخيرات، فيكفر عنكم عقاب ما فعلتموه. وقال الحسن: معناه تكونوا
قوما صالحين في أمر دنياكم، ولم يريدوا أمر الدين.
قوله تعالى:
(قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب
يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين) (10) آية بلا خلاف.
قرأ نافع وأبو جعفر، " غيابات " على الجمع. الباقون " غيابة " على التوحيد، وقرأ
الحسن تلتقطه بالتاء، كما قالوا ذهبت بعض أصابعه، قال أبو علي: وجه قول
من أفرد، أن الجب لا يخلوا أن يكون له غيابة واحدة أو غيابات، فغيابة المفرد
يجوز ان يعنى به الجمع، كما يعنى به الواحد، ووجه قول من جمع: انه يجوز أن يكون
له غيابة واحدة، فجعل كل جزء منه غيابة، فجمع على ذلك، كقولهم
102

شابت مفارقة، ويجوز أن يكون عنده للجب غيابات، فجمع على ذلك.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن واحد من جملة القوم أنه قال على وجه المشورة
عليهم " لا تقتلوا يوسف " ولكن اطرحوه في جب عميق قليل الماء. وقيل إنه كان
اسم القائل لذلك (روبيل) وكان ابن خالة يوسف - في قول قتادة وابن إسحاق -
وقال الزجاج: كان يهوذا، والغيابة الموضع الذي يغيب فيه صاحبه وغيابة البئر
شبه الجاف أو طاف فوق الماء وضعوه فيها. وكلما غيب شئ عن الحس بكونه،
فهو غيابة. وقال الحسن يعني في قعر الجب قال المنخل:
فان انا يوم غيبتني غيابتي * فسيروا بسيري في العشيرة والاهل (1)
والجب البئر التي لم تطو، لأنه قطع عنها ترابها حتى طغى الماء من غير طي،
ومنه المجبوب قال الأعشى:
لئن كنت في جب ثمانين قامة * ورقيت أسباب السماء بسلم (2)
و (السيارة) الجماعة المسافرون، لأنهم يسيرون في البلاد. وقيل: هم مارة
الطريق. و (الالتقاط) تناول الشئ من الطريق، ومنه اللقطة واللقيطة.
وقيل: انهم أشاروا عليه بأن يقعد في دلو المدلي إذا استسقى ليخرجه من البئر
ففعل. ومعنى التقاطه أن يجدوه من غير أن يحسبوه، يقال وردت الماء التقاطا
إذا وردته من غير أن تحسبه.
قوله تعالى:
(قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون)
(11) آية بلا خلاف.

(1) الشاعر هو المنخل بن نسيع العنبري. تفسير القرطبي 9 / 132 والتاج (غيب) ومجاز
القرآن 1 / 302
(2) ديوان (دار بيروت) 182 والصبح المنير 84 ومجاز القرآن 1 / 2. 3 وتفسير
القرطبي 9 / 132 والكتاب لسيبويه 1 / 231.
103

كلهم قرأ " تأمنا " بفتح الميم وادغام النون الأولى في الثانية، والإشارة إلى اعراب
النون المدغمة بالضم اتفاقا، قال أبو علي وجه ذلك ان الحرف المدغم بمنزلة
الموقوف عليه من حيث جمعهما السكون، فمن حيث اشموا الحرف الموقوف عليه
إذا كان مرفوعا في الادراج أشموا النون المدغمة في (تأمنا) وليس ذلك بصوت
خارج إلى اللفظ، وإنما هي هيئة العضو لاخراج ذلك الصوت به ليعلم بذلك أنه
يريد ذلك المتهيأ له.
حكى الله تعالى عن أخوة يوسف لما تآمروا على ما يفعلونه بيوسف أنهم،
قالوا لأبيهم لم " لا تأمنا على يوسف " قال الزجاج: يجوز في (تأمنا) أربعة أوجه:
تأمننا بالاظهار ورفع النون الأولى، لان النونين من كلمة، و " تأمنا " بالادغام
وهي قراءة القراء لالتقاء المثلين، و (تأمنا) بالادغام والاشمام، وهو الذي حكاه
ابن مجاهد عن الفراء، للاشعار بالضمة، و (تئمنا) بكسر التاء وهي قراءة يحيى
ابن وثاب، لان ماضيه فعل، كما قالوا تعلم ونعلم إلا أن القراءة بالادغام والاشمام.
والامن سكون النفس إلى انتفاء الشر، وضده الخوف، وهو انزعاج النفس لما
يتوقع من الضر. وقوله " وانا له لناصحون " تمام الحكاية عنهم أنهم قالوا إنا
ليوسف لنا صحون مشفقون عليه. والنصح إخلاص العمل من فساد يتعمد.
ونقيضه الغش. والنصح في التوبة اخلاصها مما يفسدها. وذلك واجب فيها وهي
التوبة النصوح.
قوله تعالى:
(أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون) (12)
آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " نرتع ونلعب " بالنون فيهما. وكسر
العين من " يرتع " من غير بلوغ إلى الياء أهل الحجاز، إلا المالكي. والعطار عن
الزبيبي اثبات (ياء) في الوصل، والوقف بعد العين. الباقون بسكون العين، ولم
104

يختلفوا في سكون الباء من ويلعب، وقرأ نافع يرتع، ويلعب بالياء فيهما، وكسر
العين. وقرأ أهل الكوفة بالياء فيهما، وجزم العين والباء. قال أبو علي: قراءة
ابن كثير حسنة، لأنه جعل الارتعاء القيام على المال لمن بلغ وجاوز الصغر،
واسند اللعب إلى يوسف لصغره، ولا لوم على الصغير في اللعب، ولا ذم.
والدليل على صغر يوسف قول أخوته " وانا له لحافظون " ولو كان كبيرا ما
احتاج إلى حفظهم. وأيضا قال يعقوب أخاف ان يأكله الذئب، ولو لم يكن
صغيرا ما خاف عليه، وإنما يخاف الذئب على من لا دفاع فيه، ولا ممانعة له: من
شيخ، فان أو صبي صغير قال الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير ان نفرا
والذئب أخشاه ان مررت به * وحدي وأخشى الرياح والمطرا (1)
فأما اللعب فمما لا ينبغي ان ينسب إلى أهل النسك والصلاح، ألا ترى إلى
قوله: " أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " (2) فقوبل اللعب بالحق فدل على أنه
خلافه، وقال " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب " (3) وقال " وذر الذين
اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " فأما الارتعاء فهو افتعال من رعيت مثل سويت واستويت
وكل واحد منهما متعد إلى مفعول به، قال الشاعر:
ترتعي السفح فالكثيب فذا قار * فروض القطا فذات الرئال (4)
وقال أبو عبيدة: ويجوز ان يقال نرتع ويراد ترتع إبلهم ووجه ذلك أنه
كان الأصل ترتع إبلنا ثم حذف المضاف وأسند الفعل إلى المتكلمين، فصار نرتع
وكذلك نرتعي على ترتعي إبلنا، ثم يحذف المضاف فيكون نرتعي. وقال أبو
عبيدة: نرتع نلهو، وقد تكون هذه الكلمة على غير معنى النيل من الشئ
كقولهم في المثل العبد والرتعة، فكان على هذا النيل والتناول مما يحتاج إليه الحيوان.

(1) قائله الربيع بن ضبيع الفزاري. سيبويه 1: 46 ومجمع البيان 3: 214.
(2) سورة الأنبياء آية 55،
(3) سورة التوبة 9 آية 65
(4) قائله الأعشى، ديوان: 163 واللسان (سفح)، (رأل).
105

واما قراءة أبي عمرو، وابن عامر، فعلى أن معناه نرتع أبلنا، أو على اننا
ننال ما نحتاج إليه ومعناه ننال. فأما قوله " ونلعب " فحكي ان أبا عمرو قيل
له كيف يقولون نلعب، وهم أنبياء؟ فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء، فعلى هذا
سقط الاعتراض ولا يجوز أن يكون المراد به مثل ما قال الشاعر.
حدت حداد تلاعب وتقشعت * غمرات قالت ليسه حيران (1)
فكان اللعب ههنا الذي لم يتشمر في امره، فدخله بعض الهوينا، فهذا أسهل
من الوجه الذي قوبل بالحق، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر: (فهلا
بكرا تلاعبها وتلاعبك) وإنما أراد بذلك التشاغل بالمباح والعمل بما يتقوى به
على العبادة والطاعة. وقد روي عن بعض السلف انه كان إذا أكثر النظر في
مسائل الفقه قال احمضونا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن هذا الدين متين
فأوغلوا فيه برفق فان المبتت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. فليس هذا اللعب
من الذين " قال إنما كنا نخوض ونلعب " في شئ.
ومن قرأ بالياء فإن كان يرتع من اللهو، كما فسره أبو عبيدة، فلا يمتنع ان
يخبر به عن يوسف لصغره، كما لا يمتنع ان ينسب إليه اللعب كذلك إن كان
" يرتع " من النيل من الشئ، فلذلك أيضا لا يمتنع عليه أيضا، فوجهها بين، وهو
أبين من قول من قال " ونلعب " بالنون، لأنهم سألوا ارساله ليتنفس بلعبه،
ولم يسألوا ارساله ليلعبوا هم.
والرتع الاتساع في البلاد بالذهاب في جهاتها من اليمين والشمال، فلان يرتع
في المال وغيره من ضروب الملاذ، واصل الرتعة التصرف في الشهوات رتع
فلان في ماله إذا انفق في شهواته قال القطامي:
أكفرا بعد رد الموت عني * وبعد عطائك المائة الرتاعا (2)

(1) مجمع البيان 3: 214 وروايته:
جدت جداد بلا عب وتقشعت * عمرات قالت ليسه حيران
(2) مر في 1 / 26 وتفسير الطبري (دار المعارف) 15: 569، والطبعة الأولى 12 / 88.
106

وقال مجاهد معنى " نرتع " يحفظ بعضنا بعضا من الرعاية. واللعب يحتمل
ما يستهجن ويستر ذل لطلب الفرح من غير مراعاة شئ من الحلم كفعل الصبي
إذا قصد هذا القصد.
أخبر الله تعالى عن اخوة يوسف انهم قالوا لأبيهم ارسل يوسف معنا ينال
الملاذ ويتفرح، ونحن حافظون له ومراعون لأحواله فلا تخشى عليه.
قوله تعالى:
(قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب
وأنتم عنه غافلون) (13) آية بلا خلاف.
قرأ الكسائي وخلف في اختياره، وأبو جعفر وورش والأعشى واليزيدي
في الادراج إلا سجادة، ومدين من طريق عبد السلام " الذيب " بتخفيف
الهمزة في المواضع الثلاثة. الباقون بالهمزة. والهمز وترك الهمز لغتان مشهورتان
قال أبو علي: والأصل فيه الهمزة، فان خفف جاز، وان وقع في مكان الردف
قلب قلبا كما قال الشاعر:
كأن مكان الردف منه على رال (1)
فقلب الهمزة ألفا.
أخبر الله تعالى حكاية عن يعقوب أنه قال حين طلب اخوة يوسف انفاذ يوسف
معهم، واحتيالهم في ذلك. واشفق من ذلك، قال " اني ليحزنني " اي يؤلم
قلبي. يقال حزنتك وأحزنتك لغتان، والحزن ألم القلب بفراق المحب ويعظم إذا
كان فراقه إلى ما يبغض " أن تذهبوا به " اي ليحزنني اذهابكم به، والذهاب

(1) قائله امرؤ القيس، ديوانه: 165 وأمالي الشريف المرتضى 1: 229 وصدره:
وصم صلاب ما يقين من الوجى
وهو يصف حوافر الفرس بأنها (صم) اي صلبة (لا يقين) ليس فيها تجويف (من الوجى)
وهو الخفاء. و (مكان الردف) الموضع الذي يردف عليه الراكب. و (الرال) فرخ الغزال.
107

والمرور والانطلاق نظائر وبين انه يخاف عليه الذئب ان يأكله لان الذئاب
كانت ضارية في ذلك الوقت. والذئب سبع معروف، واشتقاقه من تذاءب
الريح إذا جاءت من كل جهة، فالذئب يختل بالحيلة من كل وجه
وقوله " وأنتم عنه غافلون " جملة في موضع الحال وتقديره أخاف ان يأكله
الذئب في حال كونكم ساهين عنه، والخوف والفزع والقلق نظائر ونقيضه
الامن.
قوله تعالى:
(قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون)
(14) آية بلا خلاف.
لما قال لهم يعقوب ما ذكره في الآية الأولى، قالوا في الجواب عن ذلك " لئن
اكله الذئب ونحن جماعة متعاضدون متناصرون نرى الذئب قد قصده، فلا
نمنع عنه " انا إذا لخاسرون " أي بمنزلة الخاسر الذي ذهب رأس ما له على رغم
منه، والخسران ذهاب رأس المال، والربح زيادة على رأس المال. واللام في
قوله " لئن " هي التي يتلقى بها القسم، فكأنهم أقسموا على ما قالوه. وأعظم
الخسران ما يذهب بالثواب، ويؤدي إلى العقاب، فلذلك أقسموا عليه، وقال
المؤرج: معناه إنا إذا لمضيعون بلغة قيس عيلان.
قوله تعالى:
(فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب
وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) (15)
آية بلا خلاف.
108

حكى الله تعالى انه لما أذن يعقوب ليوسف في المضي معهم، وذهبوا به
" وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " اي عزموا على فعل ذلك، ولا يقال:
أجمع الا إذا قويت الدواعي إلى الفعل من غير صارف وأما من دعاه داع واحد،
فلا يقال فيه أنه أجمع، فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي، ويجوز أن يكون المراد
انهم اتفقوا على إلقائه في غيابة الجب، والجعل والتصيير والعمل نظائر في اللغة.
والغيابة البقعة التي يغيب فيها الشئ عن الحس. وقيل طلبوا بئرا قليلة الماء
تغيبه ولا تغرقه. وقيل بل جعلوه في جانب جبها، وسمى البئر التي لم تطو
جبا لأنه جب ترابها عنها فقط، كأنه ليس فيها إلا قطع التراب. وجواب
(لما) محذوف وتقديره عظمت فتنتهم أو كبر ما قصدوا له. وقال قوم: الواو في
وأجمعوا مقحمة. والمعنى أجمعوا أن يجعلوه وهو مذهب الكوفيين، وأنشدوا
قول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * بنا بطن خبت ذي قفاف وعقنقل (1)
يريد، فلما أجزنا ساحة الحي انتحى، وقال آخر:
حتى إذا قملت بطونكم * ورأيتم أبناءكم شبوا
وقلبتم ظهر المجن لنا * ان اللئيم العاجز الخب (2)
يريد قلبتم، فادخل الواو. والبصريون لا يجيزونه. وقوله " وأوحينا إليه "
يعني إلى يوسف، قال الحسن أعطاه الله النبوة، وهو في الجب " لتنبئنهم بأمرهم
هذا " معناه ستخبرهم بذلك في المستقبل و " هم لا يشعرون " قال ابن عباس
والحسن وابن جريج لا يشعرن بأنه يوسف. وقال مجاهد وقتادة: لا يشعرون
بأنه أوحي إليه.
والشعور ادراك الشئ بمثل الشعرة في الدقة، ومنه المشاعر في البدن. وقال

(1) ديوانه: 149 من معلقته الشهيرة وتفسير الطبري 15: 575 وفي المعلقات العشر
(حقاف) بدل (قفاف) وقال وروي (حقف ذي ركام).
(2) انظر 3: 19 تعليقة 4.
109

قوم: معنى قوله " لتنبئنهم بأمرهم " لتجازينهم على فعلهم، تقول العرب للرجل:
تتوعده بمجازاة سوء فعله: لأنبئنك، ولأعرفنك، يعني لأجازينك.
قوله تعالى:
(وجاؤا أباهم عشاء يبكون (16) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا
نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت
بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) (17) آيتان بلا خلاف.
في الكلام حذف، لان التقدير إنهم أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب،
وفعلوا ذلك، فلما فعلوه جاؤوا حينئذ " أباهم عشاء يبكون " والمجئ والمصير
إلى الشئ واحد، وقد يكون المصير بالانقلاب، كمصير الطين خزفا، وقد يكون
بمعنى الانتقال. والعشاء آخر النهار. ونصبه لأنه من ظروف الزمان. ومنه
اشتق (الأعشى) لأنه يستضئ ببصر ضعيف. والبكاء جريان الدمع من العين عند
حال الحزن، فكانوا يعلمون أن أباهم يحزن لما جاؤوا من خبر يوسف، فبكوا مع
بكائه عليه، وفي حال خبره لما تصوروا تلك الحال. وقيل: إنهم أظهروا البكاء
ليوهموا أنهم صادقون فيما قالوه.
وقوله " إنا ذهبنا نستبق " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الزجاج: ذهبنا نتنصل مشتق من السباق في الرمي. وقال
الجبائي: نستبق في العدو لنعلم أينا أسرع عدوا " وتركنا يوسف عند متاعنا "
يعني تركناه عند الرحل ليحفظه.
وقوله " وما أنت بمؤمن لنا " أي لست بمصدق لنا " ولو كنا صادقين "
وجواب (لو) محذوف، وتقديره: ولو كنا صادقين ما صدقتنا، لاتهامك لنا في
أمر يوسف، ودل الكلام عليه. ولم يصفوه بأنه لا يصدق الصادق، لان المعنى
110

انه لا يصدقهم إتهاما لهم لشدة محبته ليوسف يسئ الظن بهم، ولا تسكن نفسه
إلى خبرهم.
قوله تعالى:
(وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم
أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) (18)
آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن أخوة يوسف انهم جاؤوا أباهم، ومعهم قميص يوسف ملطخ
بدم. وقالوا له هذا دم يوسف حين أكله الذئب. وقال ابن عباس ومجاهد كان
دم سخلة، قال الحسن: لما رأى يعقوب القميص صحيحا، قال: يا بني والله ما
عهدت الذئب عليما.
قال عامر الشعبي: كان في قميص يوسف ثلاث آيات:
أحدها - حين ألقي على وجه أبيه، فارتد بصيرا، وحين قد من دبر، وحين
جاؤوا على قميصه بدم كذب. ومعنى (كذب) مكذوب فيه، كما قيل الليلة الهلال
فيرفع، وكما قال " فما ربحت تجارتهم " (1) أي ما ربحوا في تجارتهم إلا أنه وصف
في المصدر، وتقديره بدم ذي كذب، لكن إذا بولغ في الصفة أجري على هذه
الصفة، وقال الفراء يجوز أن يكون المصدر وقع موقع مفعول، كما يقع مفعول
موقع المصدر في مثل قول الراعي القطامي:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه * لحما ولا لفؤاده معقولا (2)

(1) سورة البقرة آية 16.
(2) تفسير الطبري 15: 583، وجمهرة اشعار العرب: 175 ومجاز القرآن 1: 303
وأمالي الشريف المرتضى 1: 106.
111

ولا يجيزه سيبويه، ويقول مفعول لا يكون مصدرا، ويتأول قولهم: خذ
ميسوره، ودع معسوره أي خذ ما يسر ودع ما عسر عليه، وكذلك: ليس
لفؤاده معقولا أي ما يعقل به.
وقوله " قال بل سولت لكم أنفسكم امرا " حكاية ما قال يعقوب لهم. والتسويل
تزيين النفس ما ليس بحسن - في قول قتادة - وقيل معناه تقرير معنى في النفس
على الطبع في تمامه، وهو تقدير معنى في النفس على توهم تمامه.
وقوله " فصبر جميل " فالصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه على ما
يدعو إليه العقل، ويحتمل رفع الصبر أمرين: أحدهما - أن يكون خبر ابتداء
وتقديره فأمري صبر جميل. الثاني - أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره
فصبر جميل أولى من الجزع الذي لا ينبغي لي، قال الشاعر:
يشكوا إلي جملي طول السرى صبر جميل فكلانا مبتلى (1)
ولو نصب لجاز، ولكن الأحسن الرفع، لأنه موصوف. وقوله " والله
المستعان على ما تصفون " حكاية ما قال يعقوب عند ذلك، بأن الله تعالى هو
الذي يطلب منه المعونة على ما ذكروه، وتقديره أستعين بالله على احتمال ما
تصفونه، وعلى الصبر كله.
قوله تعالى:
(وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى
هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون) (19)
آية بلا خلاف.

(1) امالي الشريف المرتضى 1: 107، وروايته:
شكا إلي جملي طول السرى * يا جملي ليس إلي المشتكى
الدرهمان كلفان ما ترى * صبر جميل فكلانا مبتلى
112

قرأ أهل الكوفة " يا بشري " بغير الف. الباقون بالألف والياء، وكان
يجوز أن يقرأ بياء مشددة " بشري " وهي لغة هذيل غير أنه لم يقرأ به أحد،
قال أبو ذؤيب:
سبقوا هوي واعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع (1)
قال أبو علي: من قرأ (يا بشراي) فأضافه إلى الياء التي للمتكلم، كأن للألف
التي هي حرف الاعراب موضعان من الاعراب:
أحدهما - أن تكون في موضع نصب لأنه منادى مضاف.
والآخر - أن تكون في موضع كسر، لأنه بمنزلة حرف الاعراب في غلامي.
ومن قرأ " يا بشرى " احتمل وجهين:
أحدهما - أن يكون في موضع ضم مثل يا رجل بالنداء لاختصاصه كاختصاص
الرجل.
والآخر - أن يكون في موضع النصب لأنك اشعت النداء ولم تخص به، كما
فعلت في الوجه الأول كقوله " يا حسرتا على العباد " (2).
اخبر الله تعالى أنه حين ألقى أخوة يوسف يوسف في غيابة الجب جاءت سيارة، وهم
جماعة مسافرون مارة فبعثوا واردهم، وهو الذي يصير إلى الماء ليستسقي منه
" فأدلى دلوه " يعني أرسل دلوه ليملأ، يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها لتملأ،
ودلوتها إذا أخرجتها مملاة، وقيل إنه لما ارسل الدلو تعلق بها يوسف، فقال
المدلي " يا بشراي " هذا غلام، في قول قتادة والسدي.
وقيل في معنى (بشراي) قولان:

(1) ديوانه 1: 2 وأمالي الشريف المرتضى 1: 293 ورواية الأمالي (لسبيلهم) بدله
(لهواهم).
(2) سورة يس آية 30.
113

أحدهما - انه بشر أصحابه بأنه وجد عبدا.
والثاني - قال السدي كان اسمه (بشرى) فناداه.
وقوله " وأسروه بضاعة " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال مجاهد والسدي أسره المدلي، ومن معه من باقي التجار لئلا
يسألوهم الشركة فيه.
الثاني قال ابن عباس اسره اخوته يكتمون أنه أخوهم وتابعهم على ذلك
يوسف لئلا يقتلوه. والبضاعة قطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشئ
إذا قطعته، ومنه المبضع، لأنه يبضع به العرق. ومعنى " وأسروه " أنهم لما
وجدوه أحبوا أن لا يعلم أنه موجود، وان يوهموا أنه بضاعة دفعها إليهم أهل
الماء، ونصب بضاعة على الحال.
وقوله " والله عليم بما يعملون " اخبار منه تعالى بأنه عالم بافعالهم، فيجازيهم
على جميعها، وان أسروا بها، وفي ذلك غاية التهديد.
قوله تعالى:
(وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من
الزاهدين) (20) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن اخوة يوسف أنهم باعوا يوسف. يقال شريت أشري إذا
بعت. ومنه قوله " ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون " (1) وقال يزيد
ابن مفرغ الحميري:
وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه (2)

(1) سورة البقرة آية 102
(2) مر هذا البيت في 1: 348، 3: 257.
114

وقوله " بثمن بخس دراهم معدودة " أي بثمن ذي بخس، أي ناقص. وقيل
بثمن ذي ظلم، لأنه كان حرا، لا يحل بيعه، فالثمن هو بدل الشئ من العين أو
الورق. ويقال في غيرهما أيضا مجازا. والبخس النقص من الحق، يقال: بخسه في
الوزن أو الكيل إذا نقصه من حقه فيهما. ومعنى " معدودة " اي قليلة، لان
الكثير قد يمنع من عدده لكثرته. وقيل: عدوها ولم يزنوها. وقيل: انهم كانوا
لا يزنون الدراهم حتى تبلغ أوقية، وأوقيتهم أربعون درهما. وقال عبد الله بن مسعود
وابن عباس وقتادة: إنها كانت عشرين درهما. وعن أبي عبد الله (ع) إنها كانت
ثمانية عشر درهما. وقال ابن عباس ومجاهد: ان الذين باعوه اخوته، وانهم كانوا
حضورا، فقالوا هذا عبد لنا ابق، فباعوه. وقال قتادة الذين باعوه السيارة.
وقوله " وكانوا فيه من الزاهدين " يعني الذين باعوه، زهدوا فيه، فلذلك
باعوه بثمن بخس، وتقديره وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين بجهلهم بماله عند الله
من المنزلة الرفيعة، وإنما قدموا الظرف، لأنه أقوى في حذف العامل من غيره،
ولا يجوز قياسا على ذلك (وكانوا زيدا من الضاربين)
قوله تعالى:
(وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى
أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض
ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر
الناس لا يعلمون) (21) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن من اشتري يوسف (ع) من بايعه من أهل مصر أنه قال:
لامرأته حين حمله إليها " أكرمي مثواه " يعني موضع مقامه، وإنما أمرها باكرام
مثواه دون اكرامه في نفسه، لان من أكرم غيره لأجله كان أعظم منزلة ممن
يكرم في نفسه فقط، والاكرام اعطاء المراد على جهة الاعظام، وهو يتعاظم
115

فأعلاه منزلة ما يستحق بالنبوة، وأدناه ما يستحق لخصلة من الطاعة أدناها كإماطة
الأذى من الطريق وغيره.
وقوله " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا "، بين أنه إنما يأمرها باكرامه لما
يرجو من الانتفاع به فيما بعد أو للتبني به. وقال ابن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة:
العزيز حين قال لامرأته " أكرمي مثواه عسى ان ينفعنا " وابنة شعيب حين
قالت في موسى " يا أبت استأجره " (1) وأبو بكر حين ولى عمر.
وقوله " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض " ووجه التشبيه فيه انه تعالى
شبه التمكين له في الأرض بالتوفيق للأسباب التي صار بها إلى ما صار بالنجاة من
الهلاك والاخراج إلى اجل حال.
وقوله " ولنعلمه من تأويل الأحاديث " اللام فيه محمولة على تقدير دبرنا ذلك
لنمكنه في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث.
وقوله " والله غالب على امره " معناه أنه قادر عليه من غير نافع حتى يقع
ما أراد، ومنه وقوع المقهور بالغلبة في الذلة. وقيل غالب على امر يوسف يدبره
ويحوطه.
وقوله " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " اخبار منه تعالى ان أكثر الخلق غير
عالمين بحسن تدبير الله لخلقه، وما يجريه إليهم من مصالحهم وانه قادر لا يغالب،
بل هم جاهلون بتوحيده، ولا يدل ذلك على أن من فعل ما كرهه الله يكون
قد غالب الله، لان المراد بذلك ما قلناه من أنه غالب على ما يريد فعله بعباده.
فاما ما يريده على وجه الاختيار منهم فلا يدل على ذلك، ولذلك لا يقال إن
اليهودي المقعد قد غلب الخليفة حيث لم يفعل ما اراده الخليفة من الايمان، وفعل
ما كرهه من اليهودية وهذا واضح.

(1) سورة القصص آية 26.
116

قوله تعالى:
(ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي
المحسنين) (22) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى ان يوسف لما بلغ أشده، وهو كمال القوة. وقال قوم هو من
ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة، وقال ابن عباس من عشرين. وقال مجاهد من
ثلاث وثلاثين سنة، والأشد جمع، لا واحد له من لفظه مستعمل. وفي القياس
واحد شد، كواحد الاضر ضر، وواحد الأشر شر قال الشاعر:
هل غير أن كثر الأشر وأهلكت * حرب الملوك أكاثر الأموال (1)
وقوله " آتيناه حكما وعلما " يعني أعطيناه ذلك، والحكم القول الفصل
الذي يدعو إلى الحكمة ويقال تقديرا لما يوتى له بعلة: يعلم من دليل الحكم ومن غير
دليل الحكم. والأصل في الحكم تبيين ما يشهد به الدليل، لان الدليل حكمة
من اجل أنه يقود إلى المعرفة. وقيل: معناه آتيناه الحكم على الناس. وقيل آتيناه
الحكمة في فعله بألطافنا له، والحكيم العامل بما يدعو إليه العلم. والعلم ما اقتضى
سكون النفس. وقال قوم هو تبيين الشئ على ما هو به، وزاد فيه الرماني: ما
يحل في القلب تحرزا من الرؤية، لأنها يبين بها الشئ على ما هو به، لكنه معنى
يحل في العين، ومن قال الادراك ليس بمعنى لا يحتاج إلى ذلك.
وقوله " وكذلك نجزي المحسنين " معناه مثل ما جازينا يوسف نجازي كل من
أحسن وفعل الأفعال الحسنة من الطاعات. والاحسان هو النفع بالحسن الذي
يستحق به الحمد، فعلى هذا يصح أن يحسن الانسان إلى نفسه كما يصح أن يسئ إلى

(1) مجمع البيان 3: 221 وتفسير الطبري (الطبعة الأولى) 12: 98 وروايته (الأشد)
بدل (الأشر).
117

نفسه، ولا يصح ان ينعم على نفسه، لان النعمة تقتضي استحقاق الشكر عليها، ولا يصح ذلك بين الانسان ونفسه.
قوله تعالى:
(وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب
وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه
لا يفلح الظالمون) (23) آية بلا خلاف.
قرأ أبو عمرو، وعاصم وحمزة والكسائي (هيت) بفتح الهاء والتاء، وقرأ
ابن كثير بفتح الهاء، وضم التاء. وقرأ نافع وابن عامر (هيت) بكسر الهاء وفتح
التاء. وروى هشام بن عامر عن ابن عامر (هئت) بالهمز من تهيأت، وكسر
الهاء، وضم التاء، وانكر الهمزة أبو عمرو بن العلاء والكسائي، قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا * ما قال داع من العشيرة هيت
هم يجيبون ذا هلم سراعا * كالأبابيل لا يغادر بيت (1)
فهذا شاهد لابن كثير قال أبو عبيدة: هيت لك " معناه هلم، قال: وقال:
رجل لعلي (ع):
أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا
ان العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا (2)
قال أبو الحسن: وكسر الهاء لغة، وقال بعضهم بالهمز من تهيأت لك، وهي
حسنة إلا أن المعنى الأول أحسن، لأنها دعته، والمفتوحة أكثر اللغات، ففيه
ثلاث لغات.

(1) مجاز القرآن 1: 303، وتفسير القرطبي 9: 194، وتفسير الشوكاني (الفتح
القدير) 3: 15، وتفسير الطبري (الطبعة الأولى) (12: 100.
(2) انظر تخريجه في الصفحة التي بعدها.
118

ومعنى قوله " وراودته " أي طالبته، والمراودة المطالبة بأمر للعمل به،
ومنه المرود لأنه يعمل به، ولا يقال في المطالبة بدين راوده. ومعنى " التي هو في
بيتها " يعني امرأة العزيز " وغلقت الأبواب " فالتغليق اطباق الباب بما يعسر
فتحة. وإنما قيل (غلقت) لتكثير الاغلاق أو المبالغة في الاغلاق، وألف (باب)
منقلبة من الواو لقولهم: بويب وأبواب
ومعنى " هيت لك " تعال وهلم إلى ما هو لك، أنشد أبو عمرو بن العلاء:
أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا اتيت
ان العراق وأهله سلم إليك فهيت هيت (1)
ويقال للواحد والاثنين والجمع والذكر والأنثى (هيت) بلفظ واحد. وقال
ابن عباس والحسن وابن زيد معنى " هيت لك " هلم لك.
وقوله " معاذ الله " حكاية عن يوسف أنه قال ذلك. والمعنى أعوذ عياذا بالله
أن أجيب إلى هذا أو أن يكون هذا أي اعتصم بالله من هذا. وقوله " ان ربي
أحسن مثواي " معناه ان الملك الذي هو زوجها، مالكي في الحكم " أحسن
مثواي " باكرامي وبسط يدي ورفع منزلتي، وهو قول مجاهد وابن إسحاق
والسدي والجبائي، وقال الحسن يعني العزيز، وقال الزجاج يجوز أن يكون أراد
ان الله ربي أحسن مثواي أي في طول مقامي. وقوله " انه لا يفلح الظالمون " حكاية
ان يوسف قال: ان من ظلم نفسه بارتكاب المعاصي لا يفلح ولا يفوز بشئ من
الثواب.
قوله تعالى:
(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك

(1) اللسان (هيت) ومجاز القرآن 1: 305، وتفسير القرطبي 9: 194 وتفسير
الشوكاني (الفتح القدير) 3: 15، وتفسير الطبري 12: 99.
119

لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) (24)
آية بلا خلا ف.
قرأ أهل الكوفة، ونافع " المخلصين " بفتح اللام. الباقون بكسرها. قال
أبو علي حجة من كسر اللام قوله " أخلصوا دينهم " (1) ومن فتح اللام، فيكون
بنى الفعل للمفعول به، ويكون معناه ومعنى من كسر اللام واحد، فإذا
أخلصوا هم دينهم فهم مخلصون، وإذا أخلصوا فهم مخلصون.
ومعنى (الهم) في اللغة على وجوه، منها: العزم على الفعل، كقوله " إذ هم
قوم ان يبسطوا إليكم أيديهم " (2)، أي أرادوا ذلك وعزموا عليه ومثله قول
الشاعر:
هممت ولم افعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله (3)
وقال حاتم طي:
ولله صعلوك تساور همه * ويمضي على الأيام والدهر مقدما (4)
ومنها: خطور الشئ بالبال، وان لم يعزم عليه. كقوله " إذ همت طائفتان
منكم أن تفشلا والله وليهما " (5) والمعنى ان الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم ههنا
عزما لما كان الله وليهما، لأنه قال " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو
متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله " (6)، وإرادة المعصية والعزم عليها معصية
بلا خلاف، وقال قوم: العزم على الكبير كبير، وعلى الكفر كفر، ولا يجوز أن
يكون الله ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوى ذلك ما قال كعب
ابن زهير:

(1) سورة النساء آية 145.
(2) سورة المائدة آية 12.
(3) تفسير القرطبي 9: 166 ومجمع البيان 3: 223
(4) مجمع البيان 3: 223
(5) سورة آل عمران آية 122
(6) سورة الأنفال آية 16.
120

فكم فيهم من سيد متوسع * ومن فاعل للخير إن هم أو عزم
ففرق بين الهم والعزم وظاهر التفرقة يقتضي اختلاف المعنى، ومنها المقاربة
يقولون: هم بكذا، وكذا أي كاد يفعله قال ذو الرمة:
أقول لمسعود بجرعاء مالك * وقد هم دمعي ان تسيح أوائله (1)
والدمع لا يجوز عليه العزم، وإنما أراد كاد، وقارب، وقال أبو الأسود
الدؤلي:
وكنت متى تهمم يمينك مرة * لتفعل خيرا يعتقبها شمالكا (2)
وعلى هذا قوله تعالى " جدارا يريد ان ينقض " (3) أي يكاد وقال الحارثي:
يريد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل (4)
ومنها الشهوة وميل الطباع، يقول القاتل فيما يشتهيه، ويميل طبعه ونفسه
إليه هذا من همي، وهذا أهم الأشياء إلي. وروي هذا التأويل في الآية عن
الحسن. وقال: اما همها وكان أخبث الهم، واما همه فما طبع عليه الرجال من
شهوة النساء، وإذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (ع) العزم على القبيح
وأجزنا باقي الوجوه، لان كل واحد منها يليق بحال، ويمكن ان يحمل الهم في
الآية على العزم، ويكون المعنى، وهم بضربها ودفعها عن نفسه، كما يقول القائل
كنت هممت بفلان اي بأن أوقع به ضربا أو مكروها وتكون الفائدة على
هذا الوجه في قوله " لولا أن رأى برهان ربه " مع أن الدفع عن نفسه طاعة لا
يصرف البرهان عنها، إنه لما هم بدفعها أراه الله برهانا على أنه ان أقدم على ما يهم
به، أهلكه أهلها وقتلوه، وانها تدعي عليه المراودة لها على القبيح وتقذفه بأنه
دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر تعالى انه صرف بالبرهان عنه السوء

(1) الأغاني (دار الثقافة) 17: 308
(2) مجمع البيان 3: 224.
(3) سورة الكهف آية 78.
(4) تأويل مشكل القرآن: 100، ومجمع البيان 3: 224.
121

والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه أو ظن القبيح واعتقاده فيه.
فان قيل هذا يقتضي ان جواب (لولا) تقدمها في ترتيب الكلام، ويكون
التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهم بضربها، وتقدم جواب (لولا) قبيح أو
يقتضي أن تكون (لولا) بغير جواب!.
قلنا: اما تقدم جواب (لولا) فجائز مستعمل وسنذكر ذلك فيما بعد، ولا
نحتاج إليه في هذا الجواب، لان العزم على الضرب والهم به وقعا إلا أنه انصرف
عنها بالبرهان الذي رآه، ويكون التقدير ولقد همت به، وهم بدفعها لولا أن
رأى برهان ربه، لفعل ذلك، فالجواب المتعلق ب‍ (لولا) محذوف في الكلام، كما
حذف في قوله " ولولا فضل الله عليكم ورحمته. وان الله رؤوف رحيم " (1) معناه،
ولولا فضل الله عليكم لهلكتم ومثله " كلا لو تعلمون علم اليقين " (2) لم تنافسوا في
الدنيا وتحرصوا على حطامها، وقال امرؤ القيس:
فلو انها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط أنفسا (3)
والمعنى فلو انها نفس تموت سوية لنقصت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا على أن
الكلام يقتضيه، ولابد لمن حمل الآية على أنه هم بالفاحشة ان يقدر الجواب،
لان التقدير، ولقد همت بالزنا وهم بمثله،، و " لولا أن رأى برهان ربه " لفعله.
وإنما حمل همها على الفاحشة وهمه على غير ذلك، لان الدليل دل من جهة العقل
والشرع على أن الأنبياء، لا يجوز عليهم فعل القبائح، ولم يدل على أنه لا يجوز
عليها ذلك بل نطق القرآن بأنها همت بالقبيح، قال الله تعالى " وقال نسوة في
المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه. وقوله حاكيا عنها " الآن حصحص
الحق انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين وقال " قالت فذلكن الذي لمتنني به
ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " وأجمعت الأمة من المفسرين وأصحاب الاخبار

(1) سورة النور آية 20
(2) سورة التكاثر آية 5.
(3) ديوان: 117 واللسان " جمع " وأمالي السيد المرتضى 1: 479. ورواية اللسان
" جميعه " بدل " سوية ".
122

على أنها همت بالمعصية، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة ان يوسف لم يهم
بالفاحشة. ولا عزم عليها منها قوله " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء "
وقوله " انه من عبادنا المخلصين " ومن ارتكب الفاحشة لا يوصف بذلك وقوله
" ذلك ليعلم اني لم أخنه بالغيب " ولو كان الامر على ما قاله الجهال من جلوسه
مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل، لكان خائنا، ولم يكن صرف عنه
السوء والفحشاء. وقال أيضا " ولقد راودته عن نفسه " فاستعصم " وفي
موضع آخر حكاية عنها " أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " وقوله
حكاية عن العزيز حين رأى القميص قد من دبر " انه من كيد كن إن كيد كن
عظيم " فنسب الكيد إليها دونه، وقوله أيضا " يوسف أعرض عن هذا واستغفري
لذنبك انك كنت من الخاطئين " فخصها بالخطاب وأمرها بالاستغفار دونه. وقوله
" رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه. وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن
واكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " والاستجابة تقتضي
براءة ساحته من كل سوء، ويدل على أنه لو فعل ما ذكروه، لكان قد صبا ولم
يصرف عنه كيدهن. وقوله " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء " والعزم على
المعصية من أكبر السوء. وقوله حاكيا عن الملك " ائتوني به استخلصه لنفسي، فلما
كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين امين " ومن فعل ما قاله الجهال لا يقال له ذلك.
ووجه آخر في الآية: إذا حمل الهم على أن المراد به العزم، وهو ان يحمل الكلام
على التقديم والتأخير، ويكون التقدير ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه
لهم بها ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت، لولا أني تداركتك، وقتلت
لولا أني خلصتك، والمعنى لولا تداركي لك لهلكت ولولا تخليصي لك لقتلت،
وان لم يكن وقع هلاك ولا قتل قال الشاعر:
فلا يدعني قومي صريحا لحرة * لئن كنت مقتولا ويسلم عامر (1)

(1) الكتاب لسيبويه 1 / 427 وأمالي الشريف المرتضى 1 / 480 ومجمع البيان 3 / 226
123

وقال آخر:
فلا يدعني قومي صريحا لحرة * لئن لم أعجل طعنة أو اعجل (1)
فقدم جواب (لئن) في البيتين جميعا. وقال قوم: لو جاز هذا لجاز أن
تقول: قام زيد لولا عمرو، وقصد زيد لولا بكر، وقد بينا ان ذلك غير
مستبعد، وان القائل قد يقول: قد كنت قمت لولا كذا، وكذا، وقد كنت
قصدتك لولا أن صدني فلان، وان لم يقع قيام ولا قصد. على أن في الكلام
شرطا، وهو قوله " لولا أن رأى برهان ربه " فكيف يحمل على الاطلاق.
والبرهان الذي رآه، روي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير،
ومجاهد: انه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله.
وقال قتادة: انه نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء.
وروي في رواية أخرى عن ابن عباس: انه رأى الملك.
وهذا الذي ذكروه كله غير صحيح، لان ذلك يقتضي الالجاء وزوال التكليف،
ولو كان ذلك لما استحق يوسف على امتناعه من الفاحشة مدحا ولا ثوابا، وذلك
ينافي ما وصفه الله تعالى. من أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وانه من عبادنا
المخلصين.
ويحتمل أن يكون البرهان لطفا لطف الله تعالى له في تلك الحال أو قبلها، اختار
عنده الامتناع من المعاصي، وهو الذي اقتضى كونه معصوما ويجوز أن تكون
الرؤية بمعنى العلم، وقال قوم: البرهان هو ما دل الله تعالى يوسف على تحريم ذلك
الفعل، وعلى ان من فعله استحق العقاب، لان ذلك صارف عن الفعل ومقوي لدواعي
الامتناع، وهذا أيضا جائز، وهو قول محمد بن كعب القرطي واختيار الجبائي.

(1) مجمع البيان 3 / 225 وأمالي السيد المرتضى 1 / 480
124

قوله تعالى:
(واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا
الباب قالت ما جزاء من أرد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو
عذاب أليم) (25) آية بلا خلاف.
معنى قوله " واستبقا الباب " اي طلب كل واحد من يوسف وامرأة العزيز
السبق إلى الباب، والسبق تقدم الشئ لصاحبه في مجيئه.
وقوله " وقدت قميصه من دبر " اي شقته طولا، والقد شق الشئ طولا، ومنه:
قد الأديم يقده قدا، فهو مقدود، إذا كان ذاهبا في جهة الطول على استواء.
وقوله " من دبر " اي من جهة الخلف. والقبل جهة القدام، يقال اتاه
قبلا، ودبرا، إذا أتاه من الجهتين ومعنى " الفيا سيدها " صادفاه، ألفي يلفي
ألفا قال ذو الرمة:
ومطعم الصيد هبال لبغيته * الفي أباه بذاك الكسب يكتسب (1)
وقوله " قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا " حكاية ما قالت المرأة للملك،
وما في مقابلة من أراد باهلك سوءا، والجزاء مقابلة العمل بما هو حقه من خير
أو شر يقال: جازاه يجازيه مجازاة، وجزاءا " إلا أن يسجن أو عذاب أليم "
معناه انه ليس مقابلته إلا سجنه أو يعذب على فعله عذابا مؤلما موجعا. وعطف
العذاب - وهو اسم - على الفعل، وهو قوله " ان يسجن " لان تقديره إلا السجن
أو عذاب اليم.
قوله تعالى:
(قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان

(1) اللسان " طعم "
125

قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان
قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى
قميصه قد من دبر قال إنه من كيد كن إن كيد كن عظيم)
(28) ثلاث آيات بلا خلاف.
حكى الله تعالى في الآية الأولى عن يوسف أنه قال للملك حين قذفته زوجته
بالسؤ: هي طالبتني عن نفسي، وانا برئ الساحة، وشهد له بذلك شاهد من أهل
المرأة. قال ابن عباس، وسعيد بن جبير - في رواية عنهما - وأبو هريرة: انه
كان صبيا في المهد. وفي رواية أخرى عن ابن عباس، وابن جبير، وهو قول
الحسن وقتادة: انه كان رجلا حكيما، واختاره الجبائي، قال: انه لو كان طفلا
لكان قوله معجزا لا يحتاج معه إلى الثاني، فلما قال الشاهد إن كان قميصه
كذا، وكذا ذهب إلى الاستدلال بأنه لو كان هذا المراود، لكان القميص مقدودا
من قبل، وحيث هو مقدود من دبر علم أنها هي المراودة ومع كلام الطفل لا
يحتاج إلى ذلك.
وقوله " إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين " حكاية ما قال
الشاهد، وكذلك قوله " وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين "
تمام الحكاية عن الشاهد.
و (من) في قوله " قد من دبر... و... من قبل " لابتداء الغاية، لان
ابتداء القد كان منها، التي في قوله " من الكاذبين " للتبعيض، لأنه بعض
الكاذبين واسقط (أن) من شهد أنه إن كان لأنه ذهب مذهب القول في
الحكاية، كما قال " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " (1) لان التقدير
يوصيكم الله في أولادكم ان المال، وقال أبو العباس المبرد: معنى " إن كان

(1) سورة النساء آية 11
126

قميصه " ان يكن، وجاز ذلك في كان، لأنها أم الباب، كما جاز ما كان ابردها.
ولم يجز ما أصبح أبردها. وقال ابن السراج: إن يكن بمعنى ان يصح قد قميصه
من دبر.
وقوله " فلما رأى قميصه قد من دبر " حكاية من الله ان الملك لما سمع قول
الشاهد ورأي قميصه قد من دبر اقبل عليها وقال: " إنه من كيد كن إن كيد كن
عظيم " وقال قوم إن ذلك من قول الشاهد. والكيد طلب الشئ بما يكرهه،
كما طلبت المرأة يوسف بما يكرهه ويأباه.
وقوله " فلما رأى " تحتمل الرؤية أمرين:
أحدهما - أن يكون المعنى رؤية العين، فلا يكون روية للقد، لأنه حال، وإنما
بين رؤية القميص.
والاخر - أن يكون بمعنى العلم فيكون رؤية للقد، لأنه خبر والهاء في قوله
(إنه) يحتمل أن تكون عائدة إلى السوء، ويحتمل أن تكون عائدة إلى ما
تقدم ذكره من معنى الكذب.
والنون في قوله " كيد كن " نون جماعة النساء، وشددت لتكون على قياس
نظيرها من المذكر في ضربكموا في أنه على ثلاثة أحرف. وقال قوم ان ذلك من قول
الزوج. وقال آخرون من قول الشاهد.
قوله تعالى:
(يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من
الخاطئين) (29) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما نادى زوج المرأة يوسف، فقال له يا يوسف، ولذلك قال قوم:
إنه لم يكن له غيرة. وروي عن ابن عباس أنه قال ذلك من قول الشاهد
واسقط حرف النداء لأنه اسم علم ولم يجز ذلك في المبهم " اعرض عن هذا " اي
اصرف وجهك عنه. والاغراض صرف الوجه عن الشئ إلى جهة العرض،
127

فكأنه قال اجعله بمنزلة ما تصرف وجهك عنه بأن لا تذكره " واستغفري
لذنبك " اي اطلبي المغفرة من الله من خطيئتك، والذنب الخطيئة، والخطيئة
العدول عما تدعوا إليه الحكمة إلى ما تزجر عنه، ويقال لصاحبه خاطئ إذا قصد
ذلك، فإذا وقع عن غير قصد قيل أخطأ المقصد، فهو مخطئ، وان لم يكن
صفة ذم. واصل الخطأ العدول عن الغرض الحكمي بقصد أو غير قصد، فإن كان
بقصد قيل خطئ يخطأ خطأ فهو خاطئ قال أمية:
عبادك يخطئون وأنت رب * بكفيك المنايا والحياة (1)
وإنما قال " من الخاطئين " ولم يقل من الخاطئات تغليبا للمذكر على المؤنث إذا
اختلطا، كما تقول عبيدك وإماءك جاؤني.
قوله تعالى:
(وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن
نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين) (30) آية بلا
خلاف.
اخبر الله تعالى انه " قال نسوة في المدينة " التي كان فيها الملك وزوجته ويوسف
إن امرأة العزيز تطلب فتاها عن نفسه، والعزيز المنيع بقدرته عن أن يضام في
أمره وسمي بذلك لأنه كان ملكا ممتنعا بملكه واتساع قدرته قال أبو داود:
درة غاص عليها تاجر * حليت عند عزيز يوم ظل (2)
والفتى الغلام الشاب والمرأة فتاة قال الشاعر:

(1) مجمع البيان 3 / 226، وتفسير الطبري " الطبعة الأولى " 12 / 109 وروايته
" الحتوم " يدل " الحياة "
(2) تفسير الطبري 12 / 110 ومجمع البيان 3 / 229. ورواية الطبري " عاص " بدل
" غاص " و " جليت " بدل " حليت ".
128

كأنا يوم فري إنما يقتل إيانا * قتلنا منهم كل فتى ابيض حسانا (1)
ومعنى " شغفها حبا " بلغ الحب شغاف قلبها، وهو داخله. وقوله " انا لنراها
في ضلال مبين " معناه إنا لنعلمها في عدول عن طريق الرشد، فعابوها بذلك
وذلك أن تصير إلى ما يذهلها ويبلغ صميم قلبها بحب إنسان. وإنما حذف حرف
التأنيث في قوله " وقال نسوة " لأنه تأنيث جمع قدم عليه الفعل، وتأنيث الجمع
تأنيث لفظ يبطل تأنيث المعنى، لأنه لا يجتمع في اسم واحد تأنيثان، وكما
يبطل تذكير المعنى في رجال، فإذا صار كذلك جاز فيه وجهان، ان حمل على
اللفظ أنث، وان حمل على المعنى ذكر.
وقيل في معنى الشغاف ثلاثة أوجه: شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه
تقول دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب - في قول السدي وأبي عبيدة - الثاني -
قال الحسن: هو باطن القلب. الثالث - قال أبو علي الجبائي: هو وسط القلب قال
النابغة:
وقد حال هم دون ذلك داخل * مكان الشغاف تبتغيه الأصابع (2)
وروي شعفها بالعين اي ذهب بها الحب كل مذهب من شعف الجبال وهي
رؤسها قال امرؤ القيس:
أتقتلني وقد شعفت فؤادها * كما شغف المهنؤة الرجل الطالي (3)
قال بو زيد هما مختلفان فالشعف بالعين في البغض وبالغين في الحب.

(1) الكتاب لسيبويه 1 / 271، 383
(2) ديوانه 79 وروايته (شاغل) بدل (داخل) وتفسير القرطبي 9 / 179 وتفسير الطبري
(الطبعة الأولى) 12 / 110
(3) ديوانه 162، وتفسر الطبري 12 / 111 والقرطبي 9 / 177 والشوكاني (الفتح
القدير) 3 / 19 ورواية الديوان:
ليقتلني اني شغفت فؤادها * كما شغف المهنوءه الرجل الطالي
129

قوله تعالى:
(فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا
وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه
أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا
إلا ملك كريم) (31) آية بلا خلاف.
قرأ أبو عمرو ونافع في رواية الأصمعي عنه " حاشا " بألف. الباقون بلا الف، فمن
حجة أبي عمرو، قال الشاعر:
حاشى أبي ثوبان إن به * ضنا عن الملحاة والشتم (1)
قال أبو علي الفارسي لا يخلوا قولهم: حاش لله من أن يكون الحرف الجار
في الاستثناء، كما ذكرناه في البيت أو فاعل من قولهم: حاشى يحاشي، ولا يجوز
أن يكون حرف الجر لان حرف الجر لا يدخل على مثله، ولان الحروف لا
تحذف إذا لم يكن فيها تضعيف، فإذا بطل ذلك ثبت انها فاعل مأخوذا من
الحشا الذي هو الناحية. والمعنى انه صار في حشاء اي ناحية مما قذف به،
وفاعله يوسف، والمعنى بعد عن هذا الذي رمي به " لله " اي لخوفه من الله،
ومراقبة امره. ومن حذف الألف، فكما حذف لم يك، ولا أدر، فإذا أريد به
حرف الجر يقال حاشا، وحاش، وحشا، ثلاث لغات قال الشاعر:
حشا رهط النبي فان فيهم * بحورا لا تكدرها الدلاء (2)
حكى الله تعالى عن امرأة العزير انها حين سمعت قول نسوة المدينة فيها

(1) تفسير القرطبي 9 / 181 ومجاز القرآن 1 / 310، والمفضليات 190 والأصمعيات 80،
واللسان والتاج " حشى " وتفسير الطبري " الطبعة الأولى " 12 / 115
(2) اللسان " حشا " ومجمع البيان 3: 229
130

وعذلهن إياها، ومكرهن بها. وقيل انهن مكرن بها لتريهن يوسف، فلما
أطلعتهن على ذلك أشعن خبرها؟، والمكر الفتل بالحيلة إلى ما يراد من الطلبة
يقال: هي ممكورة الساقين بمعنى مفتولة الساقين، وممكورة البدن أي ملتفة
" أرسلت إليهن " أي بعثت إليهن تدعوهن إلى دعوتها.
وقوله " واعتدت لهن متكئا " معناه أعدت، ومعناه اتخذت من العتاد،
وقولهم: اعتدت من العدوان، والألف فيه ألف وصل، والمتكأ الوسادة،
وهو النمرق الذي يتكأ عليه. وقال قوم: انه الأترج. وانكر ذلك
أبو عبيدة.
وقوله " وآتت كل واحدة منهن سكينا " قيل إنها قدمت إليهن فاكهة
وأعطتهن سكينا ليقطعن الفاكهة، فلما رأينه - يعني يوسف - دهشن
" وقطعن أيديهن " وقوله " أكبرنه " أي أعظمنه وأجللنه. وقال قوم: معنى
ذلك انهن حضن حين رأينه وأنشد قول الشاعر:
يأتي النساء على أطهارهن ولا * يأتي النساء إذا أكبرن اكبارا (3)
وانكر ذلك أبو عبيدة، وقال: ذلك لا يعرف في اللغة، لكن يجوز أن يكون
من شدة ما أعظمنه حضن، والبيت مصنوع لا يعرفه العلماء بالشعر.
وقوله " حاش لله " تنزيه له عن حال البشر، وانه لا يجوز أن تكون هذه
صورة للبشر، وإنما هو ملك كريم. وقال الجبائي: فيه دلالة على تفضيل الملائكة
على البشر لأنه خرج مخرج التعظيم، ولم ينكره الله تعالى، وهذا ليس بشئ،
لان الله تعالى حكى عن النساء انهن أعظمن يوسف، لما رأبن من وقاره وسكونه
وبعده عن السوء. وقلن: ليس هذا بشرا، بل هو ملك يريدون في سكونه،
ولم يقصدن كثرة ثوابه على ثواب البشر، وكيف يقصدنه، وهن لا طريق لهن
إلى معرفة ذلك، على أن هذا من قول النسوة اللاتي وقع منهن من الخطأ والميل

(1) تفسير القرطبي 9: 180 وتفسير الشوكاني 3: 20.
131

إليه مالا يجوز ان يحتج بقولهن. وقوله لم ينكره الله، إنما لم ينكره، لأنه تعالى
علم انهن لم يقصدن ما قال الجبائي، ولو كن قصدنه لأنكره، على أن ظاهر الكلام
انهن نفين أن يكون يوسف من البشر، وفيه قطع على أنه ملك، وهذا كذب، ولم
ينكره الله. والوجه فيه انهن لم يقصدن الاخبار بذلك عن حاله، وإنما أخبرن
بتشبيه حاله فيما قلناه بحال الملائكة، فلذلك لم ينكره الله.
وقوله " ما هذا بشرا " نصب بشرا على مذهب أهل الحجاز في اعمال (ما)
عمل ليس، فيرفعون بها الاسم، وينصبون الخبر، فأما بنو تميم، فلا يعلونها
قال الشاعر:
لشتان ما أنوي وينوي بنو أبي * جميعا فما هذان مستويان
تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى * وكل فتى والموت يلتقيان (4)
وقد قرئ " ما هذا بشرى " أي ليس بمملوك، وهو شاذ، لا يقرأ به.
وقرئ (متكأ) بتسكين التاء قال مجاهد: معنا الأترج، وقال قتادة:
معناه طعاما، وبه قال عكرمة وابن اسحق وابن زيد والضحاك، وقال
مجاهد، وغيره: أعطي يوسف نصف الحسن، وقيل ثلثه. وقيل ثلثاه، والباقي
لجميع الخلق.
قوله تعالى:
(قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه
فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين)
(32) آية بلا خلاف.
هذه الآية فيها حكاية ما قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي عذلنها على محبتها ليوسف،

(1) مجمع البيان 3 / 229 وتفسير الطبري 12 / 115.
132

وانها حين رأت ما فعلت النسوة للدهش بيوسف، قالت لهن هذا هو ذلك الذي
لمتنني فيه، واللوم الوصف بالقبيح على وجه التحقير، ومثله الذم وضده
الحمد.
وقوله " ولقد راودته عن نفسه " اعتراف منها انها هي التي طلبته عن نفسه
وانه استعصم منها أي امتنع من ذلك، والاستعصام طلب العصمة من الله بفعل
لطف من ألطافه ليمتنع من الفاحشة. وفيه دلالة على أن يوسف لم يقع منه
قبيح.
وقوله " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن " اخبار عما قالت امرأة العزيز على وجه
التهديد ليوسف من أنه ان لم يفعل ما تأمره به من المعصية ويجيبها إلى ملتمسها
لتمنعنه التصرف من مراده بالحبس، تقول: سجنه يسجنه سجنا، والسجان المتولي
للسجن على وجه الحرفة.
وقوله " وليكونن من الصاغرين " هذه النون الخفيفة التي يتلقى بها القسم،
وإذا وقفت عليها وقفت بالألف، تقول: وليكونا، وهي بمنزلة التنوين الذي يوقف
عليه بالألف قال الشاعر:
وصل على حين العشيات والضحى * ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا (1)
اي فاعبدن، فأبدل في الوقف من النون ألفا. والصغار الذل بصغر القدر
صغر يصغر صغارا، ومنه قوله " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (2).
قوله تعالى:
(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف

(1) قائله الأعشى، ديوانه 103 القصيدة 17 وروايته " فاحمدا " بدل " فاعبدا " وهو في
مجمع البيان 3. 230 وتفسير الطبري 12: 16 " فاعبدا ".
(2) سورة التوبة آية 29؟.
133

عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) (33) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن يوسف انه لما سمع وعيد المرأة له بالحبس والصغار ان لم
يجبها إلى ما تريده، قال يا " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " من
ركوب الفاحشة، وإنما جاز ان يقول السجن أحب إلي من ذلك، وهو لا يحب
ما يدعونه إليه، ولا يريده، ولا يريد السجن أيضا، لأنه ان أريد به المكان
فذلك لا يراد، وان أريد به المصدر، فهو معصية منهي عنها، فلا يجوز ان يريده
لامرين:
أحدهما - ان ذلك على وجه التقدير، ومعناه اني لو كنت مما أريد لكانت
إرادتي لهذا أشد
الثاني - ان المراد ان توطين نفسي على السجن أحب إلي.
وقيل معناه ان السجن أسهل علي مما يدعونني إليه.
وقرأ الحس (السجن) بفتح السين وأراد المصد ر، وبه قرأ يعقوب،
وتأويله ما قلنا ه. والدعاء طلب الفعل من المدعو وصيغته صيغة الامر إلا أن
الدعاء لمن فوقك والامر لمن دونك.
وقوله " إلا تصرف عني كيدهن " معناه ضرر كيدهن، لان كيدهن قد
وقع، والصرف نفي الشئ عن غيره بضده أو بأن لا يفعل، وصورته كصورة
النهي إلا أن النهي مع الزجر لمن هو دونك، وليس كذلك الصرف (والصبا)
رقة الهوى، يقال صبا يصبو صبا فهو صاب، فكأنه قيل أميل هواي إليهن،
قال الشاعر:
إلى هند صبا قلبي * وهند مثلها يصبي (2)
وقال أيضا:

(1) قائله زيد بن ضبة، تفسير القرطبي 9: 185 ومجاز القرآن 1: 311 واللسان (صبا)
وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 21 وتفسير الطبري 12 / 117.
134

صبا صبوة بل لج وهو لجوج * وزالت له بالأنعمين حدوج (1)
وقوله " وأكن من الجاهلين " معناه. أكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل،
لأنه بمنزلة من قد اعتقد الشئ على خلاف ما هو ربه، وإلا فهو كان عالما بأن
ذلك معصية، والغرض فيه بيان ان صفة الجهل من أغلظ صفة الذم.
وقال البلخي والجبائي: في الآية دلالة على أنه لا ينصرف أحد عن معصية إلا
بلطف الله عز وجل، لأنه لو لم يعلم ذلك، لما صح خبره به، وليس في الآية
ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على أن يوسف كان له لطف، ولولاه لفعل
المعصية، وأما ان يدل على أنه لا أحد ينتهي عن معصية إلا بلطف، فلا، بل
ذلك مجوز، وليس فيها ما يمنع منه، ويحتمل قوله " أصب إليهن " على لفظ
الجمع أشياء:
أحدها - قال أبو علي الجبائي: ان كل واحدة منهن دعته إلى مثل ما دعت
إليه امرأة العزيز بدلالة هذا الكلام. وقال قوم: انهن قلن لها نحن نسأله ان
يفعل ما دعوته إليه، فخلت كل واحدة منهن به. ويحتمل أن يكون المراد
أصب إلى قولهن في الدعاء إلى إجابة امرأة العزيز.
قوله تعالى:
(فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم)
(34) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى انه أجاب يوسف إلى ما دعاه به وأراد منه ورغب إليه فيه
وانه فعل، لأنه دعا به، فهو إجابة له واستجابة والذي تعلقت به الإرادة مستجاب،
وقال أبو علي الجبائي: الإجابة من الله تعالى ثواب لقوله تعالى " وما دعاء

(1) قائله أبو ذؤيب الهذلي، ديوانه 1 / 50 وشواهد المغنى 109، والخزانة 1 / 194
ومجاز القرآن 1 / 311 ومجع البيان 3 / 229.
135

الكافرين إلا في ضلال " (1) وهذا إنما هو في الجملة، قال الرماني: وصرف الله
تعالى له عن الفعل بالزجر عنه واعلامه الذم على فعله، وفرق بين الصرف عن
الفعل والزجر عنه، بأن الزجر عنه بالذم على ايقاعه. والصرف عنه اعلامه ان
غيره أصلح له من غير ذم عليه لو عمله كما يجب في الزجر، والظاهر بغير ذلك
أشبه، لان يوسف (ع) كان عالما بأن ما دعته إليه قبيح يستحق به الذم، ومع
ذلك سأل ان يصرف ضرر كيدهن عنه، لان كيدهن الذي هو دعاؤهن
وأغواؤهن، كان قد حصل، فكأنه قد سأل الله تعالى لطفا من ألطافه يصرفه
عنده عن إجابة النسوة إلى ما دعونه من ارتكاب المعصية، لان ظاهر القول
خرج مخرج الشرط والجزاء المقتضيين للاستقبال، فكان ما قلناه أولى. فقوله
" انه هو السميع العليم " معناه ههنا انه السميع لدعاء الداعي العليم باخلاصه في
دعائه أو ترك اخلاصه وبما يصلحه من الإجابة أو يفسده، قال الرماني: ولا
يجوز أن يكون السميع للصوت بمعنى العليم بالصوت موجودا، لأنه قد يعلم
الانسان موجودا، إذا كان بعيدا وهو لا يسمعه كعلمه بصوت المطارق في
الحدادين، وليس من طريق الحاسة وإنما يعلمه بضرب من الاستدلال أو يظن
ذلك، وإذا علمه من طريق الحاسة علمه ضرورة، فكان ذلك فرقا بين
الموضعين.
وقال أبو علي الجبائي: في الآية دلالة على جواز الدعاء بما يعلم أنه يكون،
لان يوسف عالما بأنه إن كان له لطف فلابد ان يفعل الله به، ومع هذا سأله
وليس في الآية ما يدل على ذلك لأنه لا يمتنع أن يكون يوسف سأل لتجويزه أن يكون
له لطف عند الدعاء، ولو لم يدع له لم يكن ذلك لطفا، فما سأل الا ما
جوز ان لا يكون لو لم يدع، غير أن المذهب: ما قال أبو علي لأنه تعالى تعبدنا بأن
نقول " رب احكم بالحق (2) وقد علمنا أنه لا يحكم الا بالحق، ولكن الآية لا تدل
على ذلك.

(1) سورة الرعد آية 15 وسورة المؤمن (غافر) آية 50.
(2) سورة الأنبياء آية 112.
136

قوله تعالى:
(ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)
(35) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى انه ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات، يقال بدا يبدو بدوا،
وبدأ والبداء في الرأي التلون فيه، لأنه كلما ظهر رأي مال إليه، وإنما قال
" لهم " ولم يقل (لهن) مع تقدم ذكر النسوة، لامرين: أحدهما - قال الحسن
انه أراد بذلك الملك. والثاني - انه أراد ذكر الذكور معهن من أعوانها فغلب
المذكر، فقال لهم، قال الرماني: وفاعل (بدا) مضمر وتقديره ثم بدا لهم بداء،
ودل عليه قوله " ليسجننه ".
والآيات التي رأوها، قال قتادة: هو قد القميص وحز الأيدي وقال غيره:
هو قطع الأيدي والاستعظام، وقد القميص.
وقوله " ليسجننه " إنما هو فعل المذكر كما قال " بدا لهم " ولم نقل (لهن) ودخلت
النون الثقيلة جوابا للقسم وليس بفعل المؤنث، ولو كان على صيغة فعل المؤنث
قيل (ليسجن) (وليقتلن) ثم تدخل عليها نون التأكيد الشديدة فيصير ليسجنانه
كقولك تقتلنانه.
وقوله " حتى حين " ف‍ (حتى) تنصرف على أربعة أوجه، تكون حرف
جر، وحرف عطف، وناصبة للفعل، وحرف من حروف الابتداء، فالجارة
نحو هذه التي في الآية، والعاطفة كقولهم خرج الناس حتى الأمير، والناصبة
كقوله " حتى يأتي وعد الله " (1)، وحرف الابتداء كقولك سرحت القوم حتى
زيد مسرح.

(1) سورة الرعد آية 33.
137

قوله تعالى:
(ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر
خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه
نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) (36) آية بلا خلاف.
وفي الآية تقدير فسجن يوسف، ودخل معه فتيان يعني شابان والفتى الشاب
القوي قال الشاعر:
يا عز هل لك في شيخ فتى ابدا * وقد يكون شباب غير فتيان
وقال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى، شيخا كان أو شابا. والفتيان قال
السدي وقتادة: كانا غلامي ملك مصر الأكبر أحدهما صاحب شرابه والآخر
صاحب طعامه، فنمي إليه ان صاحب طعامه يريد ان يسمه. وظن أن الآخر
ساعده ومالأه على ذلك.
وقوله " قال أحدهما " يعني أحد الفتيين ليوسف: " إني أراني أعصر خمرا "
من رؤيا المنام، والخمر عصير العنب إذا كان فيه الشدة والتقدير اعصر العنب
للخمر، وقال الضحاك: هي لغة، تسمي العنب خمرا ذكر جماعة انها لغة عمان.
وقال الزجاج: تقديره عنب الخمر.
وقوله " وقال الآخر إني أراني احمل فوق رأسي خبزا " فالحمل رفع الشئ
بعماد، يقال: حمل يحمل حملا، واحتمل احتمالا، وتحمل تحملا، وحمله تحميلا.
و (الخبز) معروف " تأكل الطير منه " وقوله " نبئنا بتأويله " اي أخبرنا
بتأويل رؤيانا " انا نراك من المحسنين " معناه انا نعلمك أو نظنك ممن يعرف
تأويل الرؤيا. ومن ذلك قول علي (ع) (قيمة كل ما يحسنه) اي ما يعرفه.
والاحسان النفع الواصل إلى الغير إذا وقع على وجه يستحق به الحمد وإذا
اختصرت فقلت هو النفع الذي يستحق عليه الحمد جاز، لان ما يفعله الانسان
لا يسمى احسانا. وقيل إنه * كان يداوي مريضهم ويعزي حزينهم
138

ويجتهد في عبادة ربه. وقال الزجاج: كان يعين المظلوم وينصر الضعيف ويعود
المريض. وقيل " من المحسنين " في عبارة الرؤيا، لأنه كان يعبر لغيرهم، فيحسن
ذكره الجبائي.
قوله تعالى:
(قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل
أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا
يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون) (37) آية بلا خلاف.
في هذه الآية اخبار بما أجاب به يوسف للفتيين اللذين سألاه عن المنام، فقال
لهما " لا يأتيكما طعام ترزقانه " والطعام كل جسم فيه طعم يصلح للاكل، غير أنه
يختلف بإضافته إلى الحيوان. والرزق العطاء الجاري في الحكم وكذلك لو أعطاه
مرة واحدة، وقد حكم بأنه يجريه كان رزقا. وقال السدي وابن إسحاق: معنى
ذلك اني عالم بتعبير الرؤيا إذ لا يأتيكما ما ترزقانه في منامكما إلا نبأتكما بتأويله
في اليقظة. وقال ابن جريج: كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما
معلوما، فأرسل به إليه، فعلى هذا يرزقانه في اليقظة. وقيل إنه كان يخبر بما
غاب كما كان عيسى (ع)، وإنما عدل عن تعبير الرؤيا إلى الجواب بهذا لاحد أمرين:
أحدهما - ما قال ابن جريج: انه كره ان يخبرهما بالتأويل على أحدهما فيه،
فلم يتركاه حتى أخبرهما. وقال أبو علي: إنما قدم هذا، ليعلما ما خصه الله به من
النبوة، وليقبلا إلى الطاعة، والاقرار بتوحيد الله. والانباء: الاخبار بما
يستفاد وذلك أن النبأ له شأن، وفيه تعظيم الخبر بما فيه من الفائدة، ولذلك
اخذت منه النبوة. والتأويل: الخبر عما حضر بما يؤول إليه أمره، فيما غاب.
ولذلك قال " قبل ان يأتيكما " وتأويل القرآن ما يؤول إليه من المعنى أي يرجع
139

إليه والتعليم تفهيم الدلالة المؤدية إلى العلم بالمعنى، وقد يكون الاعلام بخلق العلم
بالمعنى في القلب.
وقوله " اني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون " اخبار
من يوسف أنه إنما علمه الله تعالى تأويل ما سألاه لايمانه بالله وحده لا شريك له
وعدوله عن ملة الكفار وجحدهم البعث والنشور والجزاء بالثواب والعقاب،
و (هم) الثانية دخلت للتأكيد لأنه لما دخل بينهما قوله " وبالآخرة " صارت
الأولى كالملغاة، وصار الاعتماد على الثانية، كما قال " وهم بالآخرة هم يوقنون " (1)
وكما قال " أيعدكم انكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما انكم مخرجون " (2)
قوله تعالى:
(واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا
أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس
ولكن أكثر الناس لا يشكرن) (38) آية بلا خلاف.
في هذه الآية أخبار عن يوسف أنه قال لهما: إني في ترك اتباع ملة الكفار
وجحدهم البعث والنشور وفي إيماني بالله وتوحيدي له اتبعت ملة آبائي إبراهيم
وإسحاق ويعقوب، فالاتباع اقتفاء الأثر وهو طلب اللحاق بالأول، فاتباع المحق
بالقصد إلى موافقته من أجل دعائه. والملة مذهب جماعة يحمي بعضها بعضا في
الديانة، واصله الحمى من المليلة وهي حمى ما يلحق الانسان دون الحمى. والآباء
جمع أب وهو الذي يكون منه نطفة الولد، والام الأنثى التي يكون منها الولد
والجد أب بواسطة، ولا يطلق عليه صفة أب، وإنما يجوز ذلك بقرينة تدل على أنه
أب بواسطة الابن، وجد الأب أب بواسطتين.

(1) سورة النمل آية 3، وسورة الروم آية 4.
(2) سورة المؤمنون آية 35
140

وقوله " ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ " إخبار من يوسف أنه ليس له،
ولا لاحد من آبائه أن يشرك بالله شيئا، ودخلت (من) للنفي العام، والاشراك
بلوغ منزلة الجمع لعبادة غير الله إلى عبادته - في عظم الجرم. واليهودي مشرك،
لأنه بكفره بالنبي قد بلغ تلك المنزلة في عظم الجرم. وقوله " ذلك من فضل الله
علينا " اعتراف منه ان ذلك العدول عن عبادة غير الله هو من فضل الله عليهم
من حيث كان بلطفه وهدايته وتوفيقه. والفضل النفع الزائد على مقدار الواجب
بوجوب الدين الذي يستحق به الشكر، وكل ما يفعله الله تعالى بالعبد، فهو فضل
من فضله. والعقاب أيضا فضل، لأنه زجر به عن المعاصي. وقيل ذلك من
فضل الله علينا ان جعلنا أنبياء وعلى الناس ان جعلنا رسلا إليهم - في قول ابن
عباس - وقوله " على الناس " دال على أن الله قد عم جميع خلقه بفضله وهدايته
إياهم إلى التوحيد والايمان.
قوله تعالى:
(يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد
القهار) (39) آية.
هذه حكاية ما نادى به يوسف للمستفتين له عن تأويل رأياهما، فقال لهما " يا
صاحبي السجن " اي يا ملازمي السجن. والصاحب الملازم لغيره على وجه
الاختصاص بوجه من الوجوه، وهو خلاف ملازمة الاتصال، ولذلك قيل أصحاب
مالك، وأصحاب الشافعي للاختصاص بمذاهبهما، وأصحاب النبي لملازمتهم له،
والكون معه في حروبه، وصاحبا السجن هما الملازمان له بالكون فيه.
والسجن هو الحبس الذي يمنع من التصرف قال الفرزدق:
وما سجنوني غير اني ابن غالب * واني من الاثرين غير الزعانف (1)

(1) ديوانه 1: 536 وسيبويه 1: 366 وقد مر في 1: 320 من هذا الكتاب
141

وقوله " أرباب متفرقون " فيه أقوال: قال قوم املاك متباينون خير أم
المالك القاهر للجميع، يدلهم بهذا على أنه لا يجوز ان يعتقدوا الربوبية إلا لله
تعالى - عز وجل - وحده. وقال الحسن متفرقون من صغير وكبير ووسط، يعني
الأوثان. وقال قوم: معناه متفرقون بمباينة كل واحد للآخر بما يوجب النقص،
والقاهر القادر بما يجب به الغلبة لا محالة والقهار مبالغة في الصفة يقتضى انه
القادر بما يجب به الغلبة لكل أحد والخير الا بلغ في صفة المدح، والشر الا بلغ
في صفة الذم.
قوله تعالى:
ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم
ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا
إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (40)
آية بلا خلاف.
وهذا تمام ما قال يوسف للكفار الذين يعبدون غير الله، فقال لهم لستم
تعبدون من دون الله إلا أسماء سميتموها. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - انه لما كانت الأسماء التي سموا بها آلهتهم لا تصح معانيها صارت كأنها
أسماء فارغة يرجعون في عبادتهم إليها فكأنهم إنما يعبدون الأسماء، لأنه لا يصح
معاني يصح لها من إله ورب
الثاني - إلا أصحاب أسماء سميتموها لا حقيقة لها، والعبادة هي الاعتراف
بالنعمة مع ضرب من الخضوع في أعلى الرتبة، ولذلك لا يستحقها إلا الله تعالى
وقوله " ما انزل الله بها من سلطان " أي لم ينزل الله على صحة ما تدعونه
حجة، ولا برهانا فهي باطلة لهذه العلة، لأنها لو كانت صحيحة، لكان عليها
دليل.
142

وقوله " ان الحكم إلا لله " معناه ليس الحكم إلا لله فيما فعله أو أمر به، والحكم
فصل المعنى بما تدعو إليه الحكمة من صواب أو خطأ. والامر قول القائل لمن
دونه (افعل) والصحيح انه يقتضي الايجاب. وقوله " امر ان لا تعبدوا إلا إياه "
معناه أمر أن تعبدوه، وكره منكم عبادة غيره، لان الامر لا يتعلق بأن لا يكون
الشئ، لأنه إنما يكون أمرا بإرادة المأمور والإرادة لا تتعلق الا بحدوث الشئ.
وقوله " وذلك الدين القيم " معناه ان الذي أمر به من عبادته وحده، وان
لا يشرك به شئ هو " الدين القيم " المستقيم الصواب، ولكن أكثر الناس لا
يعلمون صحة ما أقوله، لعدولهم عن الحق، والنظر والاستدلال.
قوله تعالى:
(يا صاحبي السجن أما أحد كما فيسقي ربه خمرا وأما
الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذي فيه
تستفتيان) (41) آية بلا خلاف.
في هذه الآية اخبار عما أجاب به يوسف للفتيين في تأويل رؤياهما حين راجعاه في
معرفته، فقال " يا صاحبي اما أحد كما فيسقي ربه خمرا " يعني سيده، ومالكه،
لأنه كان صاحب شرابه، واجري عليه صفة الرب، لأنه مضاف، كما يقال رب
الدار، والضيعة. و " اما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه " فروي ان
صاحب الصلب، قال ما رأيت شيئا، فقال له قضي الامر الذي فيه تستفتيان.
وهذا يدل على أنه كان ذلك بوحي من الله ولفظ أحد لواحد من المضاف إليه مما له
مثل صفة المضاف في الافراد نحو أحد الانسانين، واحد الدرهمين، فهو إنسان
ودرهم لا محالة. والبعض يحتمل أن يكون لاثنين فصاعدا، ولذلك إذا قال جاءني
أحد الرجال، فهم منه إنه جاءه واحد منهم. وإذا قال جاءني بعض الرجال
جاز أن يكون أكثر من واحد. والاستفتاء طلب الفتيا. والفتيا جواب بحكم
143

المعنى، فهو غير الجواب بعينه.
قوله تعالى:
(وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك
فأنسه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) (42)
آية بلا خلاف.
وهذا حكاية عما قال يوسف (ع) للذي ظن أنه ينجو منهما، وقال أبو علي:
الظن ههنا بمعنى العلم لقوله " ظننت اني ملاق حسابيه " (1) وقال قتادة: الرؤيا
على الظن، وقال غيره: إلا رؤيا الأنبياء، فإنها يقين. والظن هو ما قوي عند
الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على خلافه. والنجاة
هي السلامة. وقوله " اذكرني عند ربك " يعني عند سيدك كما قال الشاعر:
وإن يك رب أذواد فحسبي * أصابوا من لقائك ما أصابوا (2)
وإنما سأله ان يذكره عند سيده بخير ويعرفه علمه وما خصه الله تعالى من
الفضل والعلم ليكون ذلك سبب خلاصه. والذكر حضور المعنى للنفس، وعلى
حال الذكر يتعاقب العلم واضداده من الجهل والشك. والنسيان ذهاب المعنى
عن النفس وعزوبه عنها. والهاء في قوله " فأنساه " تعود إلى يوسف في قول ابن
عباس - والتقدير فانسي يوسف الشيطان ذكر الله، فلذلك سأل غيره حتى قال
مجاعة إن ذلك كان سبب للبثه في السجن مدة من الزمان. وقال ابن إسحاق
والحسن والجبائي يعود على الساقي، وتقديره فأنسى الساقي الشيطان ذكر
يوسف.

(1) سورة الحاقة آية 20.
(2) قائله النابغة الذبياني. ديوانه 19 (دار بيروت) وروايته:
وان تكن الفوارس يوم حسبي * أصابوا من لقائك ما أصابوا
144

وقوله " فلبث في السجن بضع سنين " فاللبث في المكان هو الكون فيه على
طول من الزمان، واللبث والثبوت والسكون نظائر. والبضع قطعة من الدهر.
وقيل البضع من الثلث إلى العشر - في قول ابن عباس - وقال قتادة ومجاهد إلى
التسع وقال وهب: إلى سبع سنين. والسنة إثنا عشر شهرا ويجمع سنين وسنوات.
قوله تعالى:
(وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع
عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملا أفتوني
في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) (43) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية: إن الملك الذي كان يوسف في حبسه، وكان
ملك مصر فيما روي، قال إنه رأى في المنام " سبع بقرات سمان يأكلهن سبع
عجاف " يعنى مهازيل " وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات " ثم أقبل على قومه،
فقال " يا أيها الملا " اي يا أيها الاشراف والعظماء الذين يرجع إليهم " أفتوني في
رؤياي ان كنتم " تعبرون الرؤيا، وتدعون العلم بتأويلها، والملك القادر
الواسع المقدور الذي إليه السياسة والتدبير.
والرؤيا تخيل النفس للمعنى في المنام حتى كأنه يرى، ويجوز فيها الهمزة
وتركها. والبقرات جمع بقرة والسمن زيادة في البدن من الشحم واللحم وهو على
الشحم أغلب، والعجف يبس الهزال يقال: عجف يعجف عجفا، فهو أعجف.
والأنثى عجفاء، والجمع عجاف، وسنبلات جمع سنبل، والعبارة: نقل معنى
التأويل إلى نفس السائل بالتفسير، وهي من عبور النهر وغيره، ومنه المعبر
والعبارة، وإنما دخلت اللام في قوله " للرؤيا " مع أن الفعل يتعدى بنفسه، لأنه
تفسير التبيان ج 6 - م 10
145

إذا تقدم المفعول ضعف عمله، فجاز إدخال حرف الإضافة لهذه العلة، ولا يجوز
يعبرون للرؤيا، لأنه في قوة عمله.
قوله تعالى:
(قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين)
(44) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما أجاب به الملا الملك حين سألهم عن تعبير رؤياه ولم يعرفوا
معناها، قالوا: " أضغاث أحلام " أي هذه الرؤيا أضغاث أحلام، والأضغاث
جمع ضغث، قال قوم: هو الحزمة من الحشيش، والبقل، وغيره. وقال
آخرون: هو خلط قش المد، وهو غير متشاكل، ولا متلائم، فشبهوا به تخليط
المنام، ونفوا ان يكونوا عالمين بمثل ذلك. وقال قتادة: هي أخلاط أحلام
وقال ابن مقبل:
خود كان فراشها وضعت به * أضغاث ريحان عداه شمال (1)
وقال آخر:
يحمي ذمار جنين قل مانعه * طاو لضغث الخلا في البطن ممتكن (2)
وقال آخر:
واستقل مني هذه قدر بطنها * وألقيت ضغثا من خلا متطيب (3)
والأحلام جمع حلم، وهو الرؤيا في النوم، وقد يقال: جاء بالحلم أي الشئ
الكثير، كأنه جاء بما لا يرى إلا في النوم لكثرته. والحلم: الأناة، حلم حلما:
إذا كان ذا أناة وإمهال. والحلم ضد الطيش. ومنه " ان إبراهيم لحليم أواه

(1) تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 12: 125 وروايته (غداة) بدل (عداه).
(2) تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 12: 125 وروايته (غداة) بدل (عداه).
(3) مجاز القرآن 1: 312 وجمهرة اشعار العرب 2: 23 وقد نسب إلى عوف بن عطية
ابن عمر بن الحارث بن تميم. انظر سمط اللآلي 377، 723 ومعجم البلدان 277.
146

منيب " (1) والحليم: من له ما يصح به الأناة دون الخرق والعجلة. والله الحليم،
الكريم، و (الحلم) بضم اللام ما يرى في المنام، لأنها حال أناة وسكون ودعة
تقول: حلم يحلم حلما بسكون اللام - إذا أردت المصدر، والحلمة رأس الثدي،
لأنها، تحلم الطفل، والحلام الجدي الذي قد حلمه الرضاع، ثم كثر حتى قيل
لكل جدي.
قوله تعالى:
(وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله
فأرسلون) (45) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية أن الذي نجا من الفتيين اللذين رأيا المنام،
وفسره لهما يوسف وهو صاحب الشراب - على ما ذكره له يوسف، فتذكر بعد
وقت وحين من الزمان، لامر يوسف، وقال لهم أنا أخبركم بما يؤول إليه هذا
المنام، فابعثوني حتى أبحث عنه.
و (النجاة) التخلص من الهلاك. والادكار طلب الذكر. ومثله التذكر
والاستذكار، ووزنه (الافتعال) من الذكر وأصله الاذتكار، فقلبت التاء ذالا
وأدغمت فيها الدال على أصل ادغام الأول في الثاني ويجوز اذكر، على تغليب
الأصلي على الزائد. و (الأمة) المذكورة هي الجملة من الجبن، وأصله الجماعة من
الجبن، وسميت الجماعة الكثير من الناس أمة، لاجتماعها على مقصد في أمرها.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: " بعد أمة " أي بعد حين، وحكى
الزجاج وغيره عن ابن عباس " بعد أمة " اي بعد نسيان، يقال أمه يأمه أمها
بفتح الميم -، وحكي عن أبي عبيدة - بسكون الميم - قال الزجاج هذا ليس
بصحيح وأجازه غيره، وروى هذه القراءة عن جماعة كقتادة وعكرمة وغيرهم.

(1) سورة هود آية 75.
147

وتأويل الرؤيا تفسير ما يؤول إليه معناه، وتأويل كل شئ تفسير ما يؤول
إليه معنى الكلام. وحكي عن الحسن أنه قرأ " أنا أجبكم بتأويله " وهو
خلاف المصحف.
قوله تعالى:
(يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن
سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع
إلى الناس لعلهم يعلمون) (46) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن الذي نجا من الفتيين انه جاء يوسف بعد أن قال لهم
ابعثوني. وقال له يا " يوسف " وحذف حرف النداء، لأنه اسم علم " أيها الصديق "
والصديق الكثير التصديق بالحق للأدلة عليه، وكل نبي صديق بهذا المعنى " أفتنا
في سبع بقرات " أي أخبرنا عن حكم هذه الرؤيا، و (الفتيا) جواب عن حكم
المعنى، وقد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يسمى فتيا.
وقوله " لعلي ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون " معنى (لعل) الشك، لأنها طمع
واشفاق، وإنما قال ذلك لطمعه أن يكون، واشفق ان لا يكون، ولو قال
لأرجع إلى الناس ليعلموا، لكان فيه تعليل السؤال، غير أن الشك في (لعل) قد
يكون للمتكلم، وقد يكون للمخاطب، و (الرجوع) إلى الشئ المرور إلى الجهة
التي جاء منها، والرجوع عنه الذهاب عنه. وقوله " لعلهم يعلمون " يحتمل أمرين:
- أحدهما لعلهم يعلمون بمكانك ومنزلتك.
الثاني - لعلهم يعلمون تأويل الرؤيا.
قوله تعالى:
(قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في
148

سنبله إلا قليلا مما تأكلون) (47) آية.
حكى الله تعالى عن يوسف ما أجاب به المستفتي عن تعبير الرؤيا التي رآها
الملك، فقال له إنكم " تزرعون سبع سنين دأبا " أي مستمرة. وقيل: متوالية.
وقيل: على عادتكم. والدأب استمرار الشئ على عادة، يقال هو دأب بفعل
كذا إذا استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأبا. وسكن القراء كلهم الهمزة، إلا
حفصا فإنه فتحها، وهي لغة مثل سمع، وسمع، ونهر ونهر. ونصب (دأبا)
على المصدر أي تدأبون دأبا، وكلهم همز إلا من مذهبه ترك الهمزة وأبو عمرو
إذا أدرج.
وقوله " فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون " حكاية عن تمام ما
قال يوسف له: من أن ما تحصدونه لا تذروه ولا تدرسونه، ودعوه في السنبل
إلا القليل الذي تأكلونه. وقيل إنما أمرهم بذلك، لان السنبل لا يقع فيه السوس،
ولا يهلك، وان بقي مدة من الزمان، وإذا صفي أسرع إليه الهلاك، و (الزرع)
طرح الحب في الأرض بالدفن مع التعاهد له بالسقي، تقول. زرع يزرع زرعا،
وازرع ازراعا، وزارعه مزارعة، و (الحصد) قطع الزرع، حصده يحصده
حصدا استحصد الزرع إذا جاز حصاده.
قوله تعالى:
(ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن
إلا قليلا مما تحصنون (48) آية بلا خلاف.
وهذا تمام حكاية ما فسر به الرؤيا يوسف (ع)، فقال لهم: إنه يجئ بعد هذه
السنين التي زرعتم فيها وحصدتم، سبع سنين أخر شداد وهي جمع شديدة،
والشدة قوة الالتفات، والشدة والصلابة والصعوبة نظائر. وشدة الزمان
149

وصعوبته بمعنى. وضدها الرخاء. وقيل الشدة تكون في سبعة أصناف في الأصل:
في العقد، والمد، والزمان، والغضب، والألم، والشراب، والبدن.
وقوله " يأكلن ما قدمتم لهن " أضاف الاكل إلى السنين، لأنها بمنزلة ما يأكل
ذلك لوقوع الاكل فيها كما يكون الاكل في الآكل قال الشاعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة * وليلك نوم والردى لك لازم (1)
والتقديم التقريب إلى جهة القدام، والتأخير التبعيد إلى جهة الخلف،
والاحصان الاحراز، وهو إلقاء الشئ فيما هو كالحصن المنيع، أحصنه إحصانا
إذا أحرزه.
قوله تعالى:
(ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه
يعصرون) (49) آية بلا خلاف.
قر أحمزة والكسائي بالتاء (تعصرون) على الخطاب أي أنتم. الباقون بالياء على الرجوع
إلى الناس، وهذا حكاية ما بشر به يوسف المستفتي له أنه يأتي بعد هذه السنين
الصعبة سنة. والعام السنة مأخوذ من العوم، لما لأهله فيه من السبح الطويل.
وقال الخليل: العام حول يأتي على شتوة وصيفة. والحول، والسنة مثل ذلك.
وقوله " فيه يغاث الناس " فالغوث النفع الذي يأتي على شدة حاجة ينفي
المضرة، والغيث المطر الذي يجئ في وقت الحاجة، غاثهم الله يغيثهم غيثا،
وأصابهم غيث. والغيث الكلأ الذي ينبت من ماء السماء وجمعه غيوث. والغياث
أصله من الواو، أغاثه الله إغاثة، وغوث تغويثا: إذا قال وا غوثاه من يغيثني،
ويقول الواقع في بلية: أغثني أغاثك الله، و (يغاث) يحتمل أن يكون من الياء.

(1) تفسير القرطبي 9: 294 وتفسير الطبري (الطبعة الأولى) 12: 127
150

ويحتمل أن يكون من الواو " ويعصرون " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعصرون الثمار التي تعتصر في
الخصب من العنب والزيتون والسمسم. وحكى بعضهم أنهم لم يعصروا - أربع
عشرة سنة - زيتا ولا عنبا، فيكون المعنى تعصرون للخصب الذي أتاكم، كما
كنتم تعصرون في أيام الخصب.
الثاني - في رواية أخرى عن ابن عباس تحلبون.
الثالث - قال أبو عبيدة والزجاج: تنجون نجاء المعتصر بالماء عند الغصص،
كما قال عدي بن زيد:
لو بغير الماء حلقي شرق * كنت كالغصان بالماء اعتصاري (1)
وقال أبو زيد الطائي:
صاديا يستغيث غير مغاث * ولقد كان عصرة المنجود (2)
واصل العصر عصر العنب، ونحوه من الرطب المستخرج ماؤه وكذلك ما
فيه الدهن ليستخرج دهنه، ومنه العصارة ما يخرج بالعصر، والاعتصار شرب
الماء قليلا قليلا عند الغصص، والمعصر الكاعب، لأنه يجري فيها ماء الشباب،
والمعصرات السحائب التي تنعصر بالمطر، والأعصار ريح تثير السحاب أو الغبار،
لأنه كالمعتصر منها. والعصرة المنجاة كنجا الغصان باعتصار الماء، والعصرة
الدنية في النسب، لأنه كالمعتصر من الرطب. وقرئ يعصرون بضم الياء، وفتح
الصاد شاذا ومعناه يمطرون.
وقال البلخي: وهذا التأويل من يوسف يدل على بطلان قول من يقول:
ان الرؤيا على ما عبرت أولا، لأنهم كانوا قالوا هي أضغاث أحلام، فلو كان ما قالوه
صحيحا لما كان يتأولها.

(1) مر هذا البيت في 1: 412
(2) تفسير القرطبي 9: 204 ومجاز القرآن 1: 313 وتفسير القرطين 1: 226
151

قوله تعالى:
(وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع
إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي
بكيدهن عليم) (50) آية بلا خلاف.
قرأ البرجمي والسلموني " النسوة " بضم النون. والباقون بكسرها، وهما
لغتان. والكسر افصح. وفي الكلام حذف، لان تقديره إن الناجي الذي
استفتى يوسف عن تفسير رؤيا الملك حين فسره له، رجع إلى الملك واخبره به،
وعرفه ان ذلك فسره له يوسف، فقال الملك عند ذلك: ائتوني به والكلام دال
عليه، وذلك من عجائب القرآن، وعظم فصاحته. ومعنى " ائتوني به ".
أجيئوني به " فلما جاءه الرسول " يعني رسول الملك، قال له يوسف ارجع إلى
سيدك. " فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن " وإنما رد الرسول ليبين
للملك براءته مما قرف به، وانه حبس بظلم من غير بينة، ولا اعتراف
بذنب، وقال قتادة: طلب العذر.
وقوله " ان ربي بكيدهن عليم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - وهو الصحيح - انه أخبر ان الله تعالى عالم بكيد النسوة.
والثاني - ان سيدي العزيز عليم بكيدهن. والأول عليه أكثر المفسرين.
والملك هو القادر الواسع المقدور الذي إليه السياسة والتدبير، وكان هذا الملك
ملك مصر. ويجوز ان يمكن الله تعالى الظالم من الظلم، وينهاه عن فعله، ولا يجوز
أن يملكه الظلم، لان ما يملكه، فقد جعله له، وذلك لا يليق بعدله. والتمليك
تمكين الحي مما له ان يتصرف فيه في حكم الله تعالى بحجة العقل والسمع، وعلى
هذا إذا مكن الله تعالى من الظلم أو الغصب لا يكون ملكه، لأنه لم يجعل له
التصرف فيه. بل زجره عنه، قال الرماني: يجوز أن يسلب الله تعالى الخلق
152

ما ملكهم في الدنيا بسوء افعالهم، كما يسلب بعضهم بكفرهم، والا فهو له، فان
اخذ بالموت عنه على طريق العارية ثم يرد إليه ويعوض مما فاته بكرمه تعالى،
وقيل: إن يوسف إنما قال ما بال النسوة جميع النساء ولم يخص امرأة العزيز
حسن عشرة منه، وقال قوم ذلك يدل على أن كل واحدة منهن دعته إلى نفسها
مثل امرأة العزيز.
قوله تعالى:
(قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش
لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص
الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) (51) آية
بلا خلاف.
اخبر الله تعالى انه حين رجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف جمع النساء
وقال لهن ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه، والخطب الامر الذي يخاطب
به صاحبه، مما يستعظم شأنه، يقال هذا خطب جليل، وما خطبك، وما
شأنك؟.
وقوله " قلن حاش لله " حكاية عما اجابته به النسوة، فإنهن قلن للملك على
وجه التنزيه " حاش لله " اي عياذ بالله، وتنزيها من هذا الامر، كقوله " معاذ
الله ". وقد يستثني به، فيقال أتاني القوم حاشى زيد، بمعنى إلا زيدا " ما علمنا
عليه من سوء " اي لم نعلم عليه امرا قبيحا. قالت امرة العزيز عند ذلك معترفة
بخطئها " الآن حصحص الحق " أي بان الحق يقال حصحص الامر وحصحص
الحق اي حصل على أمكن وجوهه، وهو قول ابن عباس، ومجاهد وقتادة،
واصله حص من قولهم حص شعره إذا استأصل قطعة منه، والحصة اي القطعة
153

من الشئ، فمعنى " حصحص الحق " انقطع عن الباطل بظهوره. ومثله كبوا
وكبكبوا، وكف الدمع وكفكفه، ورده وردده، فهو زيادة تضعيف دل
عليها الاشتقاق ذكره الزجاج. واصله من حصحص البعير ثفناتة في الأرض إذا
برك حتى يستبين آثارها فيها. قال حميد بن ثور الهذلي:
وحصحص في صم القنا ثفناتة * ورام القيام ساعة ثم صمما (1)
ويقال انحص الوبر عن جنب البعير وانحت إذا انحسر ومعنى " انا راودته " انا
طالبته بذلك، " وانه لمن الصادقين " في امتناعه من ذلك.
قوله تعالى:
(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد
الخائنين) (52) آية بلا خلاف.
اختلفوا في من هذا الكلام حكاية عنه؟ فقال أكثر المفسرين كالحسن ومجاهد
وقتادة والضحاك: انه من قول يوسف " ذلك " يعني ذلك الامر من فعلي من
رد الرسول ليعلم العزيز اني لم أخنه بالغيب، وقطع الحكاية عن المرأة، وجاز
ذلك لظهور الكلام الدال على ذلك، كما قال " وكذلك يفعلون " وقبله حكاية
عن المرأة " وجعلوا أعزة أهلها أذلة " (2) وكما قال " فماذا تأمرون " ومثله حكاية
قول الملا " يريد ان يخرجكم من أرضكم بسحره " (3) وقال الجبائي والبلخي: انه
من قول المرأة. والمعنى ان اعترافي على نفسي بذلك ليعلم يوسف اني لم أخنه
بالغيب، لان العزيز سألها ولم يكن يوسف حاضرا وكلا الامرين جائزان،
والأول أشبه، والخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، وضد الخيانة الأمانة،

(1) اللسان (صمم) وروايته:
وحصحص في صم القنا ثفناته * وناء بسلمى نوءة ثم صمما
(2) سورة النمل آية 34
(3) سورة الأعراف آية 109 - 111
154

وهي تأدية الحق على ما وقع به العقد. والفرق بين الخيانة والغدر أن الخيانة
تكون على وجه السر والغدر نقض العهد بخلاف الحق جهرا، والكيد
الاحتيال في ايصال الضرر إلى صاحبه، كاده يكيده كيدا، فهو كائد.
واللام في قوله " ليعلم " لام (كي) ومعناها تعليق ما دخلت عليه بالفعل
الذي قبله، بمعنى انه وقع من اجله، وإنما يتعلق بذلك الإرادة. وقوله " وان
الله لا يهدي كيد الخائنين " اي لا يدعوهم إليها ولا يرغبهم فيها وإنما يفعلونها
بسوء اختيارهم.
قوله تعالى:
(وما أبرئ نفسي أنت النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم
ربي إن ربي غفور رحيم) (53) آية بلا خلاف.
هذا اخبار عما قال يوسف على وجه التواضع لله لست أبرئ نفسي من
السوء، والتبرئة إزالة الشئ عما كان لازما له، لان النفس امارة بالسوء اي
تنازع إلى السوء، فلست أبرئ نفسي من ذلك، وان كنت لا أطاوعها فيما
نازعت إليه، والامارة الكثيرة الامر بالشئ، والنفس بهذه المنزلة لكثرة ما
تشتهيه وتنازع إليه مما يقع الفعل لأجله، وهذا مجاز في الأصل غير أنه كثر
استعماله في العرف، فيقال نفسي تأمرني بكذا وتدعوني إلى كذا من جهة شهوتي
له، والا فلا يصح ان تأمر الانسان نفسه، لأنه يقتضي الرتبة، لأنه قول القائل
لمن دونه (افعل) وذلك لا يصح بين الانسان وبين نفسه، وأكثر المفسرين على أن
هذا من قول يوسف. وقال أبو علي الجبائي هو من كلام المرأة.
وقوله " الا ما رحم ربي " استثناء من الأنفس التي يرحمها الله، فلا تدعو
إلى القبيح، بان يفعل معها من الألطاف ما تنصرف عن ذلك.
155

وقوله " ان ربي غفور رحيم " تمام الحكاية عن قائل ذلك أنه اعترف بان الله
تعال غفور رحيم اي ساتر عليهم ذنوبهم رحيم بهم بان يعفو عنهم ويقبل توبتهم.
قوله تعالى:
(وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال
إنك اليوم لدينا مكين أمين) (54) آية بلا خلاف.
هذه السياقة تدل على أن ما مضى حكاية عن قول المرأة، لان يوسف لم يكن
حاضرا ذلك المجلس، وان الملك حين سمع جميع ذلك قال ائتوني بيوسف
استخلصه لنفسي، وطلب هذا الملك أن يكون يوسف له وحده دون شريك
فيه، والاستخلاص طلب خلوص الشئ من شائب الاشتراك. وقال ابن إسحاق
كان هذا الملك: الوليد ابن ريان.
وقوله " فلما كلمه " فيه حذف، وتقديره انه لما امر باحضاره فأحضر قال له
بعد ان كلمه " انك " يا يوسف " اليوم لدينا مكين امين " اي عرفنا أمانتك،
وثقتك، وأنت على حالة يتمكن من كان عليها مما يريد، يقال لفلان مكانة عند
الملك، وهو مكين عنده، واصله التمكن من الامر (والأمين) الموثوق به،
والأمانة حالة ثقة يؤمن معها نقض العهد بالفتح، وذلك كالعقد في الوديعة وفي
التخلية والعقد في الدين، والعقد في القيام بالحق.
قوله تعالى:
(قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) (55)
آية بلا خلاف.
وهذا حكاية ما قال يوسف حين قال له الملك انك اليوم لدينا مكين امين
156

" اجعلني " على خزائن الأرض " يعني ارضك، والألف واللام يعاقبان حرف
الكناية، وأراد بذلك الأرض التي هي ملكه ويجمع فيها ماله وطعامه، طلب
إليه ذلك ليحفظ ذلك عمن لا يستحقه ويوصله إلى الوجوه التي يجب صرف
الأموال لها، فلذلك رغب إلى الملك فيه، لان الأنبياء لا يجوز ان يرغبوا في
جمع أموال الدنيا الا لما قلناه. وقوله " اني حفيظ عليم " معناه حافظ للمال
عمن لا يستحقه عليم بالوجوه التي يجب صرفها إليه، وفي الآية دلالة على جواز
تقلد الامر من قبل السلطان الجائر إذا تمكن معه من ايصال الحق إلى مستحقه.
قوله تعالى:
(وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث
يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) (56)
آية بلا خلاف.
قرأ " نشاء " النون ابن كثير وحده. الباقون بالياء.
من قرأ بالنون، فعلى معنى ان يوسف يتبوء من الأرض حيث يشاء، وطابق
بينه وبين قوله " نصيب برحمتنا من نشاء "، ويكون على أحد معنيين:
أحدهما - أن تكون المشيئة أسندت إليه، وهي ليوسف، لما كانت بأمره
وارادته كما قال " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " (1) فأضاف الرمي إلى
الله، لما كان بقدرته وارادته.
والثاني - أن يكون الموضع المتبوء موضع نسك وعبادة أو موضعا يقام فيه
الحق، من أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، ويقوي النون قوله " نصيب برحمتنا
من نشاء ".

(1) سورة الأنفال آية 17.
157

ومن قرأ بالياء حمله، على أنه يتبوء يوسف حيث يشاء هو نفسه.
اخبر الله تعالى أنه كما لطف ليوسف حين اخرجه من السجن وخلصه من المهالك
كذلك مكنه من التصرف، والمقام في الأرض حيث يشاء كيف يشاء، وقال
الجبائي: كان هذا التمكن ليوسف ثوابا من الله على طاعته واحسانه الذي
تقدم منه في الدنيا. وقال غيره: ليس في ذلك دلالة على أنه ثواب، ويجوز أن
يكون تفضلا عليه بذلك من غير أن ينقص من ثوابه شئ، والتمكين الاقدار
بما يتسهل به الفعل من رفع الموانع وايجاد الآلات والالطاف وغير ذلك مما
يحتاج إليه في الفعل. والتبوء هو اتخاذ منزل يرجع إليه واصله الرجوع من
" باؤا بغضب من الله " قال الشاعر:
فان تكن القتلى بواء فإنكم * فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر (1)
اي يرجع بدم بعضها على بعض، فان هذا المقتول لاكفاء لدمه. وقوله
" نصيب برحمتنا من نشاء " اخبار منه تعالى انه يفعل رحمته بمن يشاء من عباده
على وجه التفضل عليهم والاحسان إليهم، وانه لا يضيع اجر الذين يحسنون
افعالهم ويفعلون ما أمرهم الله به على وجهه، بل يثيبهم على ذلك.
والاحسان على ثلاثة أوجه:
أحدها - ان يحسن إلى غيره، فذلك انعام.
وثانيها - ان يحسن إلى نفسه بأن ينفعها نفعا حسنا.
وثالثها - ان يفعل حسنا مبهما لا يضيفه إلى نفسه ولا إلى غيره.
واللام في قوله " مكنا ليوسف " يحتمل أن يكون مثل قوله " ردف لكم " (2)
و " للرؤيا تعبرون " (3) بدلالة قوله " مكناهم فيما ان مكناكم فيه " (4) وقوله
" مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " (5) " ويتبوء " في موضع نصب على الحال.

(1) قائلة ليلى الأخيلية، قد مر في 1: 378 وهو في اللسان (بوأ)
(2) سورة النمل آية 72
(3) سورة يوسف آية 44
(4) سورة الأحقاف آية 26
(5) سورة الأنعام آية 6
158

قوله تعالى:
(ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون " (57)
آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى ان الثواب الذي يثيب الله به الذين يؤمنون به ويتقون
معاصيه في الآخرة، وهي النشأة الثانية، فان الدنيا هي النشأة الأولى والآخرة
خير وأعظم نفعا من منافع الدنيا التي تنالها الكفار.
وقال أبو علي الجبائي: اجر الآخرة خير من ثواب الدنيا، لان ما تقدم في
الآية الأولى يقتضيه.
قوله تعالى:
(وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له
منكرون) (58) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن اخوة يوسف الذين كانوا ألقوه في الجب، وباعوه بثمن
بخس انهم جاؤه ودخلوا عليه، فعرفهم يوسف ولم يشك فيهم، ولم يعرفه اخوته
بل كانوا جاهلين بحاله منكرين له، وكان سبب مجيئهم إليه مجئ سني القحط
التي كان ذكرها يوسف في تعبير الرؤيا، فجاؤوا إلى مصر يمتارون كما جاء غيرهم
من الناس - في قول السدي، وابن اسحق وغيرهما، وليس لاحد ان يقول: كيف
يجوز مع كمال العقل ان يعرفهم يوسف، وهم يجهلونه مع أنه نشأ معهم؟.
وذلك أن عنه جوابين.
أحدهما - قال الجبائي: انهم فارقوه وهو صبي أمرد، فجاؤوه وقد التحى
وكبر وتغيرت حاله، فلم يعرفوه. وقال البلخي: ان ذلك مما خرق الله تعالى
فيه العادة لنبيه (ع).
159

قوله تعالى:
(ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا
ترون أني أو في الكيل وأنا خير المنزلين) (59) آية بلا
خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان يوسف لما أمر بتجهيز اخوته فجهزهم، والجهاز
فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد، ومنه قولهم: فلان يجهز، ومنه جهاز
المرأة، قال لهم جيئوني " بأخ لكم من أبيكم " وإنما قال ذلك، لأنه كان أخا
يوسف لأبيه وأمه، وهو ابن يامين - في قول قتادة وغيره - وكان أخاهم لأبيهم
خاصة.
وقوله " الا ترون اني أوفي الكيل " خطاب من يوسف لاخوته، فقال أليس
قد عرفتم عدلي وإيفائي الكيل من غير بخس له. والوفاء تمام الامر على ما يوجبه
الحق، ويكون ذلك في الكيل، وفي الوزن، وفي الذرع، وفي العد، وفي العقد.
و (الكيل) مصدر كان يكيل، وهو فصل المكيال بملئه. و (المكيال) مقدار
يفصل عليه ما يطرح فيه.
وقوله " وانا خير المنزلين " فيه قولان: أحدهما - قال مجاهد: خير المضيفين.
والثاني - خير المنزلين في سعر الطعام. و (المنزل) واضع الشئ في منزلته، وقد
يكون للشئ منزلتان، إحداهما أولى من الأخرى، فمن وضعها في الأولى فهو خير
المنزلين كسعر الطعام الذي يضعه في أولى منزلتيه.
قوله تعالى:
(فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) (60)
آية بلا خلاف.
160

ثم قال يوسف لاخوته بعد ان قال لهم " ائتوني بأخ لكم من أبيكم " متى ما لم
تفعلوا ما أمرتكم به من اتيانكم بأخيكم، فأني لا أكيل لكم الطعام، ولا أبايعكم،
ومع هذا فلا تقتربون يعني لا تجيئوني، والذي اقتضى طلبه الأخ من أبيهم انه
فاوضهم وساءلهم عن اخبارهم وأحوالهم، واخبار أهلهم، كما يتسأل الناس عن
مثل ذلك، ودل الكلام على ذلك، وهو من عجيب فصاحة القرآن، وإنما
استجاز ان يطلب أخاهم ولا معاملة بينه وبينهم، لأنهم ذكروا ان أباهم آثره
عليهم بالمحبة مع حكمته وفضله، أحب ان يراه وتطلعت نفسه إلى أن يعلم السبب
فيما يقتضي هذه الحال، وإنما أخفاهم امره ولم يطلعهم على ما أنعم الله عليه، لأنه
خاف ان يكتموا أباه امره لما تقدم لهم فيه وأحب ان يجري تدبيره على تدريج
لئلا يهجم عليه ما يشتد معه اضطرابهم.
قوله تعالى:
(قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون) (61) آية
بلا خلاف.
هذا حكاية ما أجاب به اخوة يوسف يوسف حين حثهم على الاتيان بأخيهم
بأنهم " قالوا سنراود عنه أباه " ونحن نفعل ذلك، والمراودة المطالبة من قولهم راد
يرود، فهو رائد اي طلب، وفلان يرتاد موضعا اي يطلبه، وفي المثل (الرائد
لا يكذب أهله) ومنه الإرادة وهي طلب الفعل بما هو كالسبب له، لان الداعي
إلى الفعل داع إلى ارادته، لان باجتماع الامرين يقع الفعل من عالم قادر، والفاعل
من جعل الشئ موجودا بعد إن كان معدوما، وكل فاعل جاعل، وليس كل
جاعل فاعلا، لأنه قد يكون جاعلا على صفة، كالجاعل للجسم متحركا وقال
الرماني: الفرق بين العامل والفاعل ان العامل للشئ قد يكون المتغير له،
والفاعل لا يكون إلا الموجد له، والفرق بين العامل والجاعل ان العامل لا
تفسير التبيان ج 6 - م 11
161

يكون الا مغيرا له، وقد يكون الجاعل غير مغير له، لأنه يجعله على صفة بحكمه
فيه كالذي يجعله كافرا بحكمه انه كافر.
وقال ابن إسحاق: الذي وعدوا بفعله الاجتهاد في المصير بأخيهم إليه لأنهم
جوزوا ان لا يجيبهم أبوهم إلى الارسال به معهم. وقال أبو علي: وعدوه بان يصيروا
به إليه ان ارسله أبوه معهم، فالعدة به كانت واقعة بشرط.
قوله تعالى:
(وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها
إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون) (62) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " لفتيانه " الباقون " لفتيته " قال أبو الحسن كلام
العرب قال: لفتيانك، وما فعل فتيانك، وان كانوا أيضا في أدنى العدد إلا أن
يقولوا: ثلاثة وأربعة.
اخبر الله تعالى عن يوسف انه أمر فتيانه بأن يجعلوا بضاعتهم في رحالهم.
و (الفتي) الشاب القوي، وجمعه فتية وفتيان. وقال قتادة: كانوا غلمانه.
وقال غيره: كانوا مماليكه. و (البضاعة): قطعة من المال التي للتجارة.
و (الرحال) جمع رحل وهو الشئ المعد للرحيل من وعاء المتاع أو مركب من
مراكب الجمال، وجمعه في القليل ارحل وفي الكثير رحال. وإنما جعل بضاعتهم
في رحالهم، ليقوي دواعيهم في الرجوع إليه إذا رأوا إكرامه إياهم، ورد بضاعتهم
إليهم مع جدوب الزمان وشدته. ويجوز أن يكون جعلها في رحالهم ليرجعوا
إليه متعرفين عن سبب ردها. وقال قوم معناه ليعلموا اني لست اطلب أخاهم
للرغبة في مالهم.
وقوله " لعلهم يعرفونها " معناه لكي يعرفونها، وإنما قال (لعل) لأنه جوز أن
تشتبه عليهم، فيمسكوا فيها " إذا انقلبوا " أي إذا رجعوا إلى أهليهم " لعلهم
162

يرجعون " اي لكي يرجعوا، وللأم لام الغرض، وإنما اتى ب‍ (لعل) لأنه جوز أن
لا يعودوا.
قوله تعالى:
(فلما رجعوا إلي أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل
فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون) (63) آية
بلا خلاف.
قرأ (يكتل) بالياء حمزة والكسائي. الباقون بالنون.
من قرأ بالياء رد الكناية إلى أخو يوسف، ومن قرأ بالنون رده إلى جماعتهم،
لقوله " ونمير أهلنا ".
حكى الله تعالى عن أخوة يوسف أنهم حين رجعوا إلى أبيهم وحصلوا معه،
قالوا يا أبانا منعنا الكيل " فأرسل معنا أخانا " اي ابعثه " معنا نكتل " ونحن
نحفظه ونحتاط عليه. والاكتيال هو الكيل للنفس، وهو افتعال من الكيل،
وإنما قال " منع منا الكيل، " وهو قد كال لهم، لان المعنى منع منا الكيل ان لم
نأت بأخينا. لقوله " فلا كيل لكم عندي ولا تقتربون " وهو قول الحسن والزجاج
والجبائي. وهو الصحيح.
وقال قوم: معناه إنه لما كان لهم كال لكل واحد كيل بعير ومنعهم تمام
الكيل الذي أرادوه.
قوله تعالى:
(قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) (64) آية بلا خلاف.
163

قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " حافظا " على وزن فاعل. الباقون " حفظا " على المصد ر.
وهذا حكاية ما قال يعقوب لولده حين قالوا له " ارسل معنا أخانا " فإنه قال
لهم " هل آمنكم عليه " والامن اطمئنان القلب إلى سلامة الامر يقال: أمنه يأمنه.
أمنا وائتمنه يأتمنه ائتمانا. ومنه قوله " فليؤد الذي اؤتمن أمانته " (1) ثم أخبر تعالى،
فقال " فالله خير حافظا " فمن قال على لفظ الفاعل نصبه على الحال. ويحتمل أن يكون
نصبه على التمييز، ولم ينصبه على الحال، والحال يدل على أنه تعالى الحافظ.
والتمييز يرجع إلى من يحفظ بأمره من الملائكة وكلا الوجهين أجازهما الزجاج.
ومن قرأ على المصدر نصبه على التمييز لا غير، ولو قرئ (خير حافظ) على
الإضافة لدل على أن الموصوف حافظ، وليس كذلك التمييز، وحقيقة (خير من
كذا) انه أنفع منه على الاطلاق، وانه لا شئ انفع منه، قال أبو علي الفارسي:
وجه قراءة من قرأ (حفظا) بغير ألف انه قد ثبت من قولهم " ونحفظ أخانا " وقولهم " وانا له لحافظون " انهم
أضافوا إلى أنفسهم " حفظا " فالمعنى على الحفظ
الذي نسبوه إلى أنفسهم، وإن كان منهم تفريط في حفظ يوسف، كما قال " أين
شركائي " (2) ولم يثبت لله شريك، ولكن على معنى الشركاء الذين نسبتموهم إلي،
فكذلك المعنى على الحفظ الذي نسبوه إلى أنفسهم، والمعنى " فالله خير حفظا " من
حفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم. ومن قرأ (حفظا) فعلى التمييز دون الحال.
قوله تعالى:
(ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا
يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ
أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير) (65) آية بلا خلاف.

(1) سورة البقرة آية 283.
(2) سورة النحل آية 27، وسورة القصص آية 62، 74.
164

أخبر الله تعالى عن اخوة يوسف أنهم لما فتحوا متاعهم، والمتاع مبيع التجار
مما يصلح للاستمتاع، فالطعام متاع والبر متاع وأثاث البيت متاع، والمراد به
ههنا أوعية الطعام " وجدوا بضاعتهم ردت إليهم " اي أصابوا بضاعتهم التي
كانوا وزنوها بشري الطعام قد جعلت في وسط أمتعتهم، فلما رأوا ذلك " قالوا
يا أبانا ما نبغي " وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال قتادة: ما نطلب؟ على وجه الاستفهام.
والثاني - قال الجبائي: ما نبغي: فيما أخبرناك به عن ملك مصر ليس بالكذب.
ودليله ان هذه بضاعتنا ردت الينا، وأجاز الفراء، والزجاج كلا الوجهين،
وقولهم " ونمير أهلنا " اي نجلب لهم الميرة، والميرة الأطعمة التي تحمل من بلد
إلى بلد يقال: ماره يميره ميرا إذا حمل له الطعام إلى بلده قال الشاعر:
بعثتك مائرا فمكثت حولا * متى يأتي غياثك من تغيث (2).
وقوله " ونزداد كيل بعير " اي ويعطينا فضل كيل بعير، لمكان أخينا
" ذلك كيل يسير " وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الجبائي: ان ذلك كيل قليل، لا يكفينا نحتاج ان نضيف
إليه كيل بعير أخينا.
الثاني - قال الحسن: ان ذلك متيسر على من يكيل لنا، واليسر إتيان الخير
بغير مشقة، وضده العسر. وكذلك اليسير والعسير.
قوله تعالى:
(قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني

(2) تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13 / 8 وتفسير القرطبي 9 / 224 واللسان (غوث)
وروايته:
بعثتك مائرا فلبثت حولا * متى يأتي غواثك من تغيث
165

به إلا أن يحاط بكم فلما اتوه موثقهم قال الله على ما نقول
وكيل) (66) آية بلا خلاف.
هذه حكاية ما قال يعقوب - لبنيه حين سألوه إنفاذ أخيهم معهم، وان بضاعتهم
ردت إليهم، وانه ان انفذه معهم ازدادوا كيل بعير - اني لست " ارسله معكم حتى
تؤتون موثقا من الله " ومعناه حتى تحلفوا لي بالله لتجيؤني به. والايتاء الاعطاء
آتاه يؤتيه إيتاء، والاتيان به المجئ به، والموثق العقد المؤكد بالقسم، وإنما قال
موثقا من الله، وإنما هو موثق من أنفسهم.، لان المعنى موثقا من جهة اشهاد الله
أو القسم بالله، فاما على أنفسهم، فهو العقد عليها بما لا يجوز حله لها.
وقوله " الا ان يحاط بكم " موضع (أن) نصب بأنه مفعول له، وتقديره إلا
لإحاطة بكم، كما يقول القائل: ما تأتيني إلا، لاخذ الدراهم، وما تأتيني إلا أن
تأخذ الدراهم - ذكره الزجاج - والإحاطة أصله ضرب السور حول الشئ. ومنه
قيل يعلمه علم إحاطة اي على التحديد. والمعنى ههنا إلا أن يحال بينكم وبينه.
وقوله " فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل " معناه انهم لما أجابوه
إلى اليمين، وحلفوا له واشهدوا على أنفسهم بذلك قال يعقوب " الله على ما نقول
وكيل " اي حافظ وقيم به. والوكيل القيم بالتدبير والقائم بالقسط فهو العدل
في حكمه.
قوله تعالى:
(وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من
أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شئ إن الحكم
166

إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون) (67)
آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن يعقوب أنه قال لبنيه حين أنفذ أخاهم معهم " يا بني لا
تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة " وقيل في سبب قوله ذلك
قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي، والحسن: انه
خاف عليهم العين، لأنهم كانوا ذوي صور حسنة وجمال وهيبة.
وقال الجبائي: انه خاف عليهم حسد الناس لهم، وان يبلغ الملك قوتهم وشدة
بطشهم فيقتلهم خوفا على ملكه، وانكر العين. وقال لم تثبت بحجة. وإنما هو
شئ يقول الجهال العامة.
والذي قاله غير صحيح في امر العين بل غير منكر أن يكون مال قال المفسرون.
صحيحا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العين حق)، وانه عوذ الحسن
والحسين (ع)، فقال في عوذته: (وأعيذكما من كل عين لامة) وقد رويت فيه
أخبار كثيرة، وقد جرت العادة به. واختاره البلخي، والرماني وأكثر
المفسرين، وليس يمتنع أن يكون الله تعالى أجرى العادة لضرب من المصلحة أنه
متى ما نظر انسان إلى غيره على وجه مخصوص اقتضت المصلحة اهلاكه أو إمراضه
أو اتلاف ماله، فالمنع من ذلك لا وجه له.
وقوله " وما أغني عنكم من الله من شئ " اعتراف منه بأنه لا يملك الامر،
ولا يغني عمن يريده الله بسوء. والغنى ضد الحاجة.
وقوله " ان الحكم الا لله " اي ليس للفصل بين الأمور على ما تقتضيه
الحكمة الا الله.
وقوله " عليه توكلت " اي فوضت أمري إلى الله يدبره كيف يشاء. والتوكل
من صفات المؤمنين.
167

قوله تعالى:
(ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم
من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضها وإنه لذو علم
لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (68) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى ان اخوة يوسف، لما وردوا عليه، ودخلوا عليه من أبواب
متفرقة حسب ما أمرهم به أبوهم ورغبهم فيه لم يكن يعقوب يغنى عنهم من الله
شيئا الا حاجة في نفس يعقوب قضاها من خوف العين عليهم أو الحسد على
اختلاف القولين، و (الا) بمعنى (لكن) لان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها.
وقوله " وانه لذو علم لما علمنا " اخبار من الله تعالى ان يعقوب عالم بما علمه
الله. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - ان ما ذكره الله من وصفه بالعلم كان ترغيبا فيه.
والاخر - انه ليس ممن يعمل على جهل، بل على علم، براءة له من الامر لولده بما
لا يجوز له، ولكن " أكثر الناس لا يعلمون " ذلك من حاله، كما علمه الله.
قوله تعالى:
(ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا
أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون) (69) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن اخوة يوسف أنهم لما دخلوا على يوسف آوى يوسف أخاه
إليه، والايواء ضم المحبوب وتصييره إلى موضع الراحة. ومنه المأوى المنزل الذي
يأوي إليه صاحبه للراحة فيه. وقال الحسن وقتادة: ضمه إليه وأنزله معه،
وقد اجتمعت في (آوى) حروف العلة كلها الألف والواو والياء، والعلة في ذلك
168

أن الهمزة بمنزلة الحرف الصحيح، لأنها ليست حرف مد ولين، فجاز ذلك على
قلبه لهذه العلة. وقال له حين أواه إلى نفسه " إني انا أخوك " يوسف " فلا تبتئس بما
كانوا يعملون " وإنما قال له ذلك، لأنه وإن كان علم أن له أخا من أبيه وأمه
إلا أنه لا يعلم أنه هذا، والابتئاس والاكتئاب والاغتمام نظائر، ومعناه اختلاط
البؤس بالحزن، وإنما جاز ان يأخذه بالصواع مع تعريفه انه أخوه لامرين:
أحدهما - انه كان بمواطأة منه له.
والثاني - قال وهب بن منيه: انه أراد أنا أخوك مكان أخيك الذي هلك.
والأول أصح.
قوله تعالى:
(فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن
مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) (70) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى ان يوسف لما جهز أخوته بجهازهم يعني الطعام الذي اشتروه
ليحملوه إلى بلدهم. ومنه جهاز المرأة " جعل السقاية في رحل أخيه " والسقاية
المراد بها ههنا صواع الملك الذي كان يشرب فيه. وقيل: كان من فضة. وقال
ابن زيد كان كأسا من ذهب. وقيل إنه صير مكيا لا للطعام. والسقاية في
الأصل الاناء الذي يسقى فيه، والرحل آلة السفر من وعاء أو مركب، والمراد
ههنا وعاء أخيه الذي يحمل فيه طعامه.
وقوله " ثم أذن مؤذن " اي نادى مناد. والايذان الاعلام بقول يسمع بالاذن.
ومثله الاذن، والاذن الاطلاق في الفعل بقول يسمع بالاذن، و (والعير) قافلة
الحمير - في قول مجاهد. وقيل هي القافلة التي فيها الاجمال. والأصل الحمير إلا أنه
كثر حتى صارت تسمى كل قافلة محملة عيرا تشبيها. وقوله " انكم لسارقون " فالسرقة
أخذ الشئ من حرز في خفى بغير حق، إلا أن الشرع قدر أنه لا يتعلق بها القطع
169

إلا إذا سرق مقدارا معينا على خلاف بين الفقهاء، فعندنا هو ما قدره ربع
دينار، وعند قوم عشرة دراهم، وعند آخرين ثلاث دراهم.
وقيل في وجه ندائهم بالسرقة مع أنهم لم يسرقوا شيئا قولان:
أحدهما - ان ذلك من قول أصحابه، ولم يأمرهم يوسف بذلك، ولا علم.
وإنما كان أمر بجعل السقاية في رحل أخيه على ما أمره الله تعالى، فلما فقدها
الموكلون بها اتهموهم بها. وهو اختيار الجبائي.
والثاني - انهم نادوهم على ظاهر الحال فيما يتغلب على ظنونهم ولم يكن
يوسف أمر به، وإن علم أنهم سيفعلونه. وقال قوم قولا ثالثا: ان معناه إنكم
سرقتم يوسف من أبيه حين طرحتموه في الجب. وقال آخرون: ان ذلك خرج مخرج
الاستفهام، وليس في جعل السقاية في رحل أخيه تعريضا لأخيه بأنه سارق،
لأنه إذا كان ذلك يحتمل السرقة، ويحتمل الحيلة فيه حتى يمسكه عنده، فلا
ينبغي ان يسبق أحد إلى اعتقاد السرقة فيه، وليس في ذلك ادخال الغم على
أخيه لأنا بينا انه كان اعلمه إياه، وواطأه عليه، ليتمكن من امساكه عنده
على ما أمره الله تعالى به، والنداء وإن كان للعير فالمراد به أهل العير، كما قال
" واسأل القرية " وإنما أراد أهلها.
قوله تعالى:
(قالوا واقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد
صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) (72)
آيتان.
حكى الله تعالى عن أهل العير انهم حين سمعوا نداءهم بأنكم سارقون أقبلوا
عليهم وقالوا اي شئ فقدتموه، فقال لهم أصحاب يوسف انا فقدنا صواع الملك،
ومن جاء به ورده، فله حمل بعير من الطعام. والاقبال مجئ الشئ إلى جهة المقابلة
170

بوجهه، وضده الادبار. ومثله التوجه، والتحاذي. والفقد غيبة الشئ عن الحس
بحيث لا يدرى أين هو، والفاقد من الوحش هي التي تغيب ولدها عنها قال
الشاعر:
بكاء ثكلى فقدت حميما * فهي ترثي بأبي وابني ما (1)
والصواع مكيال الطعام. وكان هذا الصواع كأسا للملك يشرب فيه وجمعه
صيعان وأصواع. وقال ابن عباس: كان من فضة، و (الحمل) بالكسر على
الظهر وبفتح الحاء في البطن، وجمعه احمال وحمول. والبعير الجمل وجمعه بعران
وابعرة. وقوله " وانا به زعيم " اي كفيل به، وضمين له، وقائل، قال الشاعر:
فلست بآمن فيها بسلم * ولكني على نفسي زعيم (2)
وإنما قال وانا به زعيم وقبله ذكر جمع، لان زعيم القوم متكلم عنهم فكأنه
قد كلم بذلك جميعهم قالت ليلى الأخيلية:
حتى إذا برزوا اللواء رأيته * تحت اللواء على الخميس زعيما (3)
وذلك أنه زعيم القوم لرئاسته، زعم زعامة وزعاما إذا صار رئيسا، قال أبو
علي: أصله القول.
قوله تعالى:
(قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما
كنا سارقين) (73) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما أجاب به أهل العير لما سمعوا النداء، وما يدل على رد الصواع

(1) قائلة رؤبة اللسان (بني) ويروى (ترثي بأبا وابنا ما).
(2) تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13: 13 ومجاز القرآن 1: 315.
(3) تفسير القرطبي 9: 232 وسمط اللآلي: 43 وتفسير الطبري 13: 13 وأمالي السيد
المرتضى 1: 497 حاشية.
171

انهم اقسموا بالله انا لم نجئ للافساد في الأرض وإنا لم نكن سارقين. والفساد
اضطراب التدبير على وجه قبيح، ونقيضه الصلاح. ويقال فسد الشئ إذا تغير
إلى حال تضر كفساد الطعام، وغيره من الأمور، وقوله " تالله " التاء بدل من
بدل، لأنها بدل من الواو والواو بدل من الباء، فضعفت عن التصرف، فاختصت
بدخولها على اسم الله لا غير دون غيره من الأسماء، لأنه لا يقال (تالرحمن)
ودخلت التاء في تالله على وجه التعجب، لأنها لما كانت نادرة في حروف القسم
جعلت للنادر من المعاني يتعجب منه. وإنما قالوا " تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد
في الأرض " مع أنهم لم يعلموا ذلك لامرين:
أحدهما - لما رأوا من صحة معاملتهم وشدة توقيهم لما لا يجوز لهم مما ينبئ
عن مقاصدهم.
الثاني - قيل لأنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم ظنا منهم أن ذلك
عن سهو، وهذا لا يليق بحال السراق من الناس. وضعف البلخي هذا الوجه،
وقال كيف يكون ذلك وهم لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم
أظهروا السرور به والفرح، وقالوا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت الينا فكيف
يردونها مع ذلك!.
قوله تعالى:
(قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه
من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين) (75)
آيتان.
حكى الله تعالى عن أصحاب يوسف انهم قالوا لأهل العير لما سمعوا جحودهم
الصواع، وأنكروا ان يكونوا سارقين " ما جزاؤه ان كنتم كاذبين " في جحودكم
وإنكاركم، وقامت البينة على انكم سرقتموه، وما الذي يستحق ان يفعل بمن
172

سرق؟ فأجابهم أهل العير، وقالوا من أدرك عنده الصواع، ووجد في رحله جزاؤه
اخذ من وجد في رحله رقا، فهو جزاؤه عندنا كجزائه عندكم لأنه كان من
عادتهم ان يسترقوا السارق - في قول الحسن، ومعمر، والسدي، وابن إسحاق -
وفيه تقدير ان في الاعراب:
أحدهما - جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، فهذا الجزاء جزاؤه، كما تقول
جزاء السارق القطع، فهو جزاؤه لتمكين البيان الأخير.
الثاني - جزاؤه من وجد في رحله، فالسارق جزاؤه، فيكون مبتدأ ثانيا،
والفاء جواب الجزاء، والجملة خبر (من) و (من) ههنا يحتمل وجهين:
أحدهما - أن يكون بمعنى الذي، وتقديره جزاؤه الذي وجد في رحله
مسترقا.
والآخر - معنى الشرط، كأنه قال جزاء السراق إن وجد في رحل إنسان
منا، فالموجود في رحله جزاؤه استرقاقا، وقوله " كذلك نجزى الظالمين " اخبار
منهم بأن ذلك عادتهم في مجازاة كل ظالم.
وقد قيل في تأويل الآية وجهان:
أحدهما - ان يكونوا في ذلك على شرع لنبي من أنبياء الله.
والآخر - أن يكون ذلك على عادة الملوك في أهل الجنايات لمصالح العباد لا
على حقيقة الجزاء الذي يعمل بأمر الله بدلالة قوله فيما بعد " ما كان ليأخذ أخاه
في دين الملك " فأضاف الجزاء إلى دين الملك دون الله.
قوله تعالى:
(فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء
أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك.
173

إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم
عليم) (76) آية بلا خلاف.
قرأ يعقوب " يرفع درجات من يشاء " بالياء فيهما على وجه الكناية عن الله.
الباقون بالنون فيهما على وجه الاخبار منه تعالى عن نفسه. ونون التاء من
(درجات) أهل الكوفة. الباقون على الإضافة.
اخبر الله تعالى ان يوسف أمر أصحابه بأن يفتشوا أوعيتهم ورحالاتهم، وان
يبدؤوا بأوعية الجماعة قبل وعاء أخيه ليكون ابعد من التهم، فلما لم يجدوا فيها
شيئا امر حينئذ باستخراجها من وعاء أخيه. ثم اخبر الله تعالى انه كاد ليوسف،
والكيد التعريض للغيظ، وكان التدبير على أخوة يوسف حتى اخذ منهم
أخوهم بما يوجبه حكمهم، هو كالتعريض للغيظ من جهة اغتمامهم بما نزل من
ذلك الامر بهم. والتقدير كدنا اخوته له بما دبرنا في امره.
وقيل الكيد التعريض للضر بما خفي، وقد يعبر عن الجزاء على المعصية
بالكيد، كقوله " وأملي لهم ان كيدي متين " اي عقوبتي.
وقوله " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " معناه إنه لم يكن يوسف ممن
يأخذ أخاه على دين الملك في جزاء من سرق ان يستعبد قال الشاعر:
تقول إذا درأت لها وضيني * أهذا دينه ابدا وديني (1)
اي هذا عادته ابدا وعادتي. وقوله " الا ان يشاء الله " قال الحسن إنما قال
ذلك لأنه تعالى كان امره بذلك بدلالة قوله " نرفع درجات من نشاء " اي بما
نريه من وجوه الصواب في بلوغ المراد.
وقوله " وفوق كل ذي علم عليم " قيل في معناه قولان:

(1) مر هذا الشعر في 1: 36، 2: 148، 3: 45.
174

أحدهما - قال ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير: معناه " وفوق كل
ذي علم " معلم " عليم " وهو الله تعالى الغني بنفسه عن التعليم.
والثاني - ان معناه " وفوق كل ذي علم " ممن رفعه الله " عليم " قد رفعه بالعلم
من وجه آخر، فهو أعلم بذلك الامر الآخر.
وفي ذلك دلالة على أنه تعالى عالم لنفسه، لأنه لو كان عالم بعلم، لكان فوقه
عليم، وذلك باطل. والضمير في قوله تعالى " استخرجها " عائدة إلى السقاية.
وقال الزجاج هي عائدة إلى الصواع وانه يذكر ويؤنث، ومن قرأ درجات من
نشاء " على الإضافة، فالمعنى نرفع منازل من نشاء رفع منازله ومراتبه في الدنيا
بالعلم على غيره، كما رفعنا مرتبة يوسف في ذلك على مراتب اخوته. ومن قرأ بتنوين
" درجات " فالمعنى نرفع من نشاء درجات ومراتب كما رفعنا ليوسف، ف‍ " من "
منصوبة على هذه القراءة، وعلى القراءة الأولى مخفوضة.
قوله تعالى:
(قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف
في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما
تصفون) (77) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن اخوة يوسف انه لما استخرج الصواع من رحل أخيه،
قالوا إن كان هذا سرق، فقد سرق أخ له من قبل يعنون يوسف، واختلفوا فيما
نسبوه إليه من السرقة من قبل، قال سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج انه
كان سرق صنما كان لجده أبي أمه، فكسره وألقاه على الطريق، فقال ابن
إسحاق: إن جدته خبأته في ثيابه منطقة إسحاق لتملكه بالسرقة محبة لمقامه
عندها. وقال قوم انه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين. وقوله " فأسرها
175

يوسف في نفسه " يعني أخفى هذه الكلمة في نفسه، " لم يبدها لهم " أي لم
يظهرها لهم.
واختلفوا فيما أسر في نفسه، فقال ابن عباس والحسن وقتادة: أسر قوله
" أنتم شر مكانا " أي ممن قلتم له هذا " والله أعلم بما تصفون " انه كذب. وقال
قوم: أسرها باضمار الكلمة للدلالة عليها قال حاتم طي:
اماوي ما يغني الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (1)
وإنما قال إن مكانكم شرا لما ظهر من الامر الذي يقتضي هذا الوصف. والصفة
والوصف مصدران بمعنى واحد مثل وعد وعدة، ووجه وجهة. وقال الحسن
لم يكن اخوة يوسف يومئذ أنبياء، وإنما أعطوا النبوة فيما بعد، وعندنا إنهم لم
يكونوا أنبياء في وقت، لا في الحال، ولا فيما بعد، لان ما فعلوه بيوسف من
الافعال القبيحة ينافي النبوة لان النبي لا يقع - عندنا - منه قبيح أصلا، لا
صغير ولا كبير.
وقال البلخي: كذبوا في قولهم " سرق أخ له من قبل " والله أعلم بما يعنون في
ذلك وانه كذب، وقال لم يصح عندنا ان اخوة يوسف كانوا أنبياء وجوز أن يكون
الأسباط غيرهم أو كانوا من أولادهم.
قوله تعالى:
(قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه
إنا نراك من المحسنين) (78) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية عن أخوة يوسف انه لما أخذ يوسف أخاه منهم
مظهرا لاسترقاقه قالوا له، وهم لا يعرفونه " يا أيها العزيز " والعزيز الممتنع

(1) مر هذا البيت في 5: 63.
176

بقدرته من أن يضام. والعز منع الضيم بسعة المقدور والسلطان " ان له أبا شيخا
كبيرا " يعنون يعقوب أبا أخيهم اي انه كبير السن، ويجوز ان يريدوا: كبير
القدر " فخذ أحدنا مكانه " اي خذ واحدا منا عبدا بدله - في قول الحسن وغيره -
" إنا نراك من المحسنين " الينا في الكيل ورد بضاعتنا. وقد أملنا ذلك منك.
قوله تعالى:
(قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا
إذا لظالمون) (79) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما أجاب به يوسف أخوته حين قالوا له خذ واحدا منا بدله،
لأنه قال لهم " معاذ الله " أي اعتصاما بالله أن يكون هذا. والاعتصام امتناع
الهارب من الامر بغيره، ولذلك يقال اعتصم بالجبل من عدوه. واعتصم بالله من
شر عدوه، فانا لا نأخذه " إلا من وجدنا متاعنا " يعني الصواع " عنده. إنا إذا
لظالمون " ومعناه إنا لو أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لكنا ظالمين، واضعين
للشئ في غير موضعه. والعرب تقول معاذ الله، ومعاذه الله وعوذه الله وعياذ
الله. وتقول: اللهم عائذا بك اي اني أعوذ عائذا بك، فكأنه قال استجير
بالله من أن آخذ بريئا بسقيم.
قوله تعالى:
(فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا
أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في
يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي
تفسير التبيان ج 6 - م 12
177

وهو خير الحاكمين) (80) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى عن اخوة يوسف حين آيسوا من تسليم أخيهم إليهم، فاليأس
ضد الطمع، يقال: يئس يأسا واستيأس استيئاسا، فهو يائس، ومستيئس،
وآيس يأس مثله.
وقوله " خلصوا نجيا " أي انفردوا من غير أن يكون معهم غيرهم ممن ليس
منهم، وهذا من عجيب فصاحة القرآن الخارقة للعادة لان بقوله " خلصوا " دل
على ما قلناه من معنى الكلام الطويل.
واصل الخلوص حصول الشئ من غير شائب فيه من غيره، كخلوص الذهب
من الشئاب، وسمي الخلاص لذلك، وقوله " نجيا " مصدر يدل بلفظه على القليل
والكثير، والواحد والجمع. والنجوى مثله، ولذلك قال تعالى في الواحد
" وقربناه نجيا " (1) وفي الجمع " خلصوا نجيا " قال الشاعر:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه * واضطرب القوم اضطراب الارشيه
هناك أوصيني ولا توصي بيه (2).
والمناجاة رفع المعنى من كل واحد إلى صاحبه على وجه خفي. واصل
النجو الارتفاع من الأرض والمناجاة المسارة ونجي جمعه أنجية، وهم يتناجون.
و " قال كبيرهم " يعني أكبرهم، وقال قتادة وابن إسحاق: هو روبيل، فإنه كان أكبرهم
سنا. وقال مجاهد: هو شمعون، وكان أكبرهم عقلا وعلما دون السن. والأول
أليق بالكلام والظاهر: " ألم تعلموا أن أباكم قد اخذ عليكم موثقا من الله " يعني أما
علمتم أن أباكم قد حلفكم وأقسمتم له بالله في حفظ أخيكم، وقبل هذا ما فرطتم في
يوسف أي قصرتم في حفظه. واصل التفريط التقديم من قوله صلى الله عليه وسلم (انا فرطكم
على الحوض) أي متقدمكم. والموثق والايثاق: العهد الوثيق و (ما) في قوله

(1) سورة مريم آية 52.
(2) مر هذا الشعر في 1: 218 وهو في تفسير القرطبي 9: 241
178

" ما فرطتم " يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب:
أحدها - أن تكون منصوبة ب‍ (تعلموا)، كأنه قال ألم تعلموا تفريطكم
في يوسف.
الثاني - رفع بالابتداء والخبر (من قبل).
الثالث - أن تكون صلة لا موضع لها من الاعراب، لأنها لم تقع موقع
اسم معرب.
وقوله " فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي " لست أقوم من موضعي الا أن
" يأذن لي أبي أو يحكم الله " اي إلى أن يحكم الله. وقيل معناه بمجازاة أو غيرهما مما أرد
به أخي ابن يامين على أبيه، وكانوا تناجوا بمحاربته بمحاربته فلم يتفقوا على ذلك خوفا من
غم أبيهم بأن يقتل بعضهم في الحرب وقوله " وهو خير الحاكمين " اخبار من
هذا القائل بأنه تعالى خير الحاكمين والفاصلين، واعتراف منه برد الامر إلى
الله تعالى.
قوله تعالى:
(ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما
شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) (81) آية بلا خلاف.
وهذا اخبار من الله تعالى بما قال أحدهم المتخلف عنهم بمصر، فإنه قال
لاخوته الباقين ارجعوا إلى أبيكم. ويحتمل أن يكون حكاية عما قال اخوة يوسف
بعضهم لبعض، فإنهم قالوا ارجعوا إلى أبيكم.
وقوله " يا أبانا ان ابنك سرق " يعنون ابن يامين، على ما ظهر لنا من الامر
ولا نشهد الا بما علمنا من الظاهر، فأما الغيب والباطن فلا نعلمه ولا نحفظه.
وقيل ما شهدنا إلا بما علمنا في قولنا لهم إن من يسرق يستعبد، لان ذلك متقرر
عندنا في شرعنا - ذكره ابن زيد - والشهادة خبر عن مشاهدة أو اقرار أو حال
179

ويجوز أن يشهد الانسان بما علمه من جهة الدليل كشهادتنا بأن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله.
وقال الرماني: علم الغيب هو علم من لو شاهد الشئ لشاهده بنفسه لا بأمر
يستفيده. والعالم بهذا المعنى هو الله وحده تعالى.
وقيل في معنى قوله " وما كنا للغيب حافظين " قولان:
أحدهما - ما كنا نشعر ان ابنك سيسرق، في قول الحسن ومجاهد وقتادة:
والثاني - انا لا ندري باطن الامر في السرقة، وهو الأقوى. وروي عن ابن
عباس وقراءة الكسائي في رواية قتيبة عنه " سرق " بتشديد الراء على ما لم يسم
فاعله، ومعناه انه قذف بالسرقة، واختار الجبائي هذه القراءة. قال لأنها ابعد
من أن يكونوا أخبروا بما لم يعلموا.
قوله تعالى:
(وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا
لصادقون) (82) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما قال اخوة يوسف ليعقوب أبيهم حين رجعوا إليه وحكوا له
ما جرى، فقالوا له سل أهل القرية التي كنا فيها، وأهل العير التي اقبلنا فيها
عما أخبرناك به " وانا لصادقون " فيما أخبرناك به، وحذف المضاف الذي هو
الأصل، واقام المضاف إليه - من القرية والعير - مقامه اختصارا لدلالة الكلام عليه.
والمراد بالقرية - ههنا - مصر، في قول ابن عباس والحسن وقتادة. وكل أرض
جامعة لمساكن كثيرة بحدود فاصلة تسمى - في اللغة - قرية، وأصلها من قريت
الماء اي جمعته، والقرية والبلدة والمدينة نظائر في اللغة. وإنما أرادوا بذلك أن من
سألت من أهلها أخبروك بما ظهر في هذه القصة. وانا ما كذبناك.
180

قوله تعالى:
(قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله
أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم) (83) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما قال يعقوب لبنيه حين قالوا له ما تقدم ذكره، فإنه قال " بل
سولت لكم أنفسكم " وقال قتادة معناه بل زينت. وقال غيره: معناه سهلت.
والتسويل حديث النفس بما تطمع فيه، ومنه السؤل، والمنى، ويقال أعطاك
الله سؤلك، فكأنه قال هذا من تقدير النفس فيما تطمع أن يكون. ثم اخبر
يعقوب، فقال " صبر جميل " اي شأني أو أمري صبر جميل، فعلى هذا يكون
واقع بأنه خبر الابتداء. ويجوز أن يكون ابتداء، وخبره محذوف، وتقديره
فصبر جميل أمثل من غيره، والصبر حبس النفس عما تنازع إليه مما لا يجوز.
والصابر على هذا الوجه من صفات المدح، والجميل معناه - ههنا - ما يتقبله
العقل، وقد يسمى ما يتقبله الطبع بأنه جميل.
وقوله " عسى الله ان يأتيني بهم جميعا " يعني روبيل وابن يامين ويوسف " انه هو
العليم الحكيم " معناه - ههنا - انه عليم بحسرتي على فقد أولادي وصدق ما
يقولونه من كذبه، انه الحكيم في تدبيره بخلقه، عسى ان يأتيني بهم اجمع.
قوله تعالى:
(وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من
الحزن فهو كظيم) (84) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن يعقوب أنه تولى عنهم بعد ان قال لهم ما تقدم ذكره بمعنى
أعرض بوجهه عنهم، والتولي والاعراض بمعنى واحد " وقال يا أسفي على يوسف "
181

اي يا حسرتاه، في قول الحسن وقتادة والضحاك. وإنما نادى بالأسف على وجه
البيان، لان الحال حال حزن كأنه قال: يا اسف احضر، فإنه من احيانك
وأوقاتك، ومثله (وا حزناه). والأسف الحزن على ما فات. وقيل: هو أشد
الحزن يقال: أسف يأسف أسفا وتأسف تأسفا، وهو متأسف.
وقوله " ابيضت عيناه " فالابيضاض انقلاب الشئ إلى حال البياض. والمعنى
انه عمي فلم يبصر شيئا. والعين حاسد الادراك للمرئيات. والحزن الغم الشديد،
وهو من الحزن، وهي الأرض الغليظة، والكظيم هو الممسك للحزن في قلبه لا يبثه
بما لا يجوز إلى غيره، ومنه قوله " والكاظمين الغيظ " (1) اي لا يتسرع بموجبه
إلى غيره. وقيل كظيم على الحزن لم يقل يا أسفاه - في قول مجاهد والضحاك،
والحسن - وقيل كظيم بالغيظ على نفسه، لم ارسله مع إخوته - في قول السدي
والجبائي.
قوله تعالى:
(قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا
أو تكون من الهالكين) (85) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما قال بنو يعقوب لأبيهم حين رأوه حزينا " تالله تفتؤ تذكر "
معناه لا تزال تذكر، في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي، يقال فتئ
يفتؤ فتئا وفتوءا، وقال أوس بن حجر:
فما فتئت خيل تثوب وتدعي * ويلحق منها لا حق وتقطع (2)
اي فما زالت، وحذفت (لا) من تفتأ، لأنه جواب القسم بمعنى نفي

(1) سورة آل عمران آية 134.
(2) ديوانه 58 ومجاز القرآن 1 / 316 وتفسير القرطبي 9 / 250.
182

المستقبل، لأنه لو كان اثباتا لم يكن بد من اللام والنون، فجاز لما فيه من الايجاز
من غير التباس، كما قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (1)
والحرض ذو المرض والبلى - في قول ابن عباس ومجاهد - وقال الحسن
وقتادة: معناه حتى تكون ذا الهرم أو تكون من الميتين. واصل الحرض فساد
الفعل والجسم للحزن والحب، قال العرجي:
اني امرؤ لج بي حب فاحرضني * حتى بليت وحتى شفني السقم (2)
ورجل محرض إذا كان مريضا قال امرؤ القيس:
أرى المرء ذا الاذواد يصبح محرضا * كإحراض بكر في الديار مريض (3)
ولا يثنى حرض ولا يجمع لأنه مصدر، يقال: حرضه على فلان اي أفسده
عليه بما يغريه، وإنما قالوا هذا القول إشفاقا عليه وكفا له عن البكاء اي لا تزال
تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك
معه، لأنه كان قد أشفى على ذهاب بصره وفساد جسمه، أو تموت بالغم.
والهلاك ذهاب الشئ بحيث لا يدري الطالب له أين هو، فالميت هالك لهذا
المعنى.
قوله تعالى:
(قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله واعلم من الله ما
لا تعلمون) (86) آية بلا خلاف.

(1) ديوانه 161 وقد مر في 2 / 227، 3 / 216.
(2) مجاز القرآن 1 / 16 وتفسير القرطبي 9 / 251 وتفسير الطبري (الطبعة الأولى)
13 / 25.
(3) ديوانه 129 وتفسير القرطبي 9 / 251 والطبري 13 / 25.
183

هذا حكاية ما أجاب به يعقوب بنيه لما قالوا له ما تقدم ذكره، أي إنما أشكو،
والشكوى صفة ما يجده من البلوى، وإنما وصف (ع) ذلك لله طلبا للفرج من
جهته، والبث تفريق الهم باظهاره عن القلب، يقال: بثه ما في نفسه بثا
وأبثه إبثاثا، وبث الخيل على العدو: إذا فرقها عليه. وقال ابن عباس معنى
(بثي) همي.
وقوله " واعلم من الله ما لا تعلمون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس: اعلم أن رؤيا يوسف صادقة واني ساجد له.
والثاني - قال قتادة: أعلم من احسان الله (عز وجل) إلي ما يوجب حسن
ظني به، وإنما جاز على يعقوب وهو نبي، ان يبكي حتى تبيض عيناه من الحزن،
لان عظم المصيبة يهجم على النفس حتى لا يملك معه القرار بالصبر حتى يرتفع
الحزن، مع أنه على ولد لا كالأولاد، في جماله، وعقله، وعفافه، وعلمه، وأخلاقه،
وبره، من غير تأس يوجب السلوة، ولا رجاء يقرب الحال الجامعة، ومع هذا
فلم يكن منه الا ما يوجب الاجر العظيم والثواب الجزيل الكريم، والبكاء ليس
بممنوع منه في الشرع، وإنما الممنوع اللطم، والخدش، والجز، وتخريق الثياب،
والقول الذي لا يسوغ، وكل ذلك لم يكن منه (ع) وإنما جاز أن يخفى خبر
يوسف على يعقوب مع قرب المسافة بينهما، لان يوسف كان بمصر ويعقوب بأرض
الجزيرة من أرض حران، ولم يعرف يوسف أباه مكانه ليزول همه، لأنه في تلك
المدة كان بين شغل وحجر على ما توجبه سياسة الملك، وبين حبس في السجن،
لأنه مكث فيه سبع سنين لما محن به من امرأة العزيز، فلما تمكن من التدبير
تلطف في ذلك لئلا يكون من أخوته حال تكره في ايصال خبره إلى أبيه لشدة
ما ينالهم من التهجين في أمره إذا وقف على خبره.
وإنما جاز ان يستخرج الصواع من رحل أخيه مع ايجاب التهمة في ذلك عند
الناس، وغم أبيه وأخيه خاصة وسائر اخوته عامة لوجوه:
أحدها - انه كان ذلك بمواطأة أخيه على ذلك بما يسر في باطنه.
184

ومنها انه ليس لأحد اتهامه بالسرقة مع امكان جعله في رحله بما لا صنع
له فيه.
ومنها اغمام أبيه بالامر اليسير ليزيل عنه الغم العظيم، وتأتيه البشرى بسلامتهما
على أجمل حال يتمنى لهما، وذلك يحسن ولا يقبح.
قوله تعالى:
(يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا
من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)
(87) آية بلا خلاف.
هذا إخبار عما قال يعقوب لبنيه بعد ان قال ما تقدم ذكره " يا بني اذهبوا
فتحسسوا " والتحسس طلب الشئ بالحاسة فاما طلبه بالدعاء إلى فعله، فلا يسمى
تحسسا، والتحسس والتجسس بالحاء والجيم بمعنى واحد.
" ولا تيأسوا من روح الله " اي لا تقطعوا رجاءكم منه. والروح والفرج
نظائر، وهو رفع ترح بلذة، مأخوذ من الريح التي تأتي بما فيه اللذة.
وقوله " انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون " اخبار منه بأن
الذي يائس من رحمة الله الكافرون، وذلك يدل على أن الفاسق الملي لا ييأس
منه، بخلاف ما يقوله أهل الوعيد، وقد أجاب عن ذلك أهل الوعيد بجوابين:
أحدهما - ان ذلك على وجه التغليب، فيدخل فيه الفاسق في الجملة.
والثاني - أنه لا ييأس في حال التكليف إلا الكافر الذي لا يعرف الله تعالى،
فاما من يعرف الله فإنه لا ييأس منه، لأنه يسوف التوبة.
قوله تعالى:
(فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر
185

وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله
يجزي المتصدقين) (88) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى ان اخوة يوسف لما قال لهم يعقوب " اذهبوا فتحسسوا من
يوسف وأخيه " رجعوا إلى يوسف ودخلوا عليه، وقالوا له " يا أيها العزيز " لأنهم
كانوا يسمون الملك العزيز. والعزيز في اللغة هو الواسع المقدور الذي لا يهتضم
المنيع بسعة مقدوره " مسنا وأهلنا الضر " أي أصابنا الضر، والمس ملابسة
ما يحس، ولما كان الضر بمنزلة الملامس لهم، وهو مما يحس، عبر عنه بأنه مسه.
والأهل: خاصة الشئ الذي ينسب إليه، ومنه قوله " ان ابني من أهلي " (1)
وتسمى زوجة الرجل بأنها أهله وكذلك أهل البلد وأهل الدار، وهم خاصته
الذين ينسبون إليه.
وقوله " وجئنا ببضاعة مزجاة " قيل في معنى المزجاة ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، وسعيد بن جبير: إنها ردية لا تؤخذ الا بوكس.
وقال الحسن ومجاهد وإبراهيم وقتادة وابن زيد: إنها قليلة. وقال الضحاك: هي
كاسدة غير نافعة. وروي انه كان معهم متاع البادية من الصوف والشعر والسمن
والحبال البالية وغير ذلك. وأصلها القلة قال الأعشى:
الواهب المئة الهجان وعبدها * عوذا يزجي خلفها أطفالها (2)
اي يسوقهم قليلا قليلا، وقال النابغة:
وهبت الريح من تلقاء ذي أرل * تزجي مع الليل من صرادها صرما (3)
يعنى تسوق، وتدفع، وقال آخر:

(1) سورة هود آية 45.
(2) ديوانه 152 (دار بيروت) وتفسير الطبري 13: 29
(3) ديوانه 102 واللسان (صرم). ومجمع البيان 3: 259
186

وحاجة غير مزجاة من الحاج (1)
وقيل الأصل الدفع بالسوق فهي مدفعه لا تنفق.
وقوله " فاوف لنا الكيل " اي لا تنقصنا من كيلنا لنقصان بضاعتنا،
وتصدق علينا. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال سعيد بن جبير: سألوا التفضل بترك النقصان من السعر، لان
الصدقة ما كانت تحل لهم. وقال سفيان بن عيينة. إنهم سألوا الصدقة وهم أنبياء
وكانت حلالا لهم، وكان مجاهد يكره ان يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق
علي، لان الصدقة ممن يبتغي الثواب. والصدقة العطية للفقراء ابتغاء الاجر،
ولهذا يطلق، فيقال: " إن الله يجزي المتصدقين " و " لا يضيع أجر المحسنين " (2)
من العباد، والمعنى انه يثيبهم على ذلك.
قوله تعالى:
(قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون)
(89) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما أجاب به يوسف إخوته حين سألوه التصدق عليهم وايفاء كيلهم،
فرق لهم، وقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟! على وجه التوبيخ لهم
والتذكير لهم بما فعلوه من إلقائه في الجب بعد ان كانوا عزموا على قتله ثم بيعهم
إياه عبدا للتاجر الذي حمله إلى مصر، وفعلوا بأخيه ما عرضوه به للغم بأن
أفردوه عن أخيه لأبيه وأمه مع جفائهم له حتى كان لاذلالهم إياه لا يمكنه ان
يكلم أحدا منهم الا كلام الذليل للعزيز، فعاملوه هذه المعاملة، وسلكوا في
امره هذه الطريقة. ومعنى قوله " إذ أنتم جاهلون " انكم فعلتم ذلك في حال

(1) اللسان (زجا) ومجاز القرآن 1: 317.
(2) سورة التوبة آية 121 وسورة هود آية 116 وسورة يوسف آية 90
187

كنتم فيها جاهلين جهالة الصبي لا جهالة المعاصي، وذلك يقتضي انهم الآن على
خلافه، ولولا ذلك لقال وأنتم جاهلون. وإنما وبخو بحال قد أقلعوا عنها وتابوا
منها على وجه التذكير وليتنبهوا على حال من يخاطبهم ويعرفوه بها، لا ان
تلك الحال ذكرت بطريق التقبيح لها. وقال السدي وابن إسحاق إن يوسف
لما قالوا له ما قالوا أدركته الرقة، فدمعت عينه وباح لهم بما كان يكتمه من
شأنه وشأنهم.
قوله تعالى:
(قالوا أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي
قدمن الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر
المحسنين) (90) آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وأبو جعفر " انك " بهمزة واحدة على الخبر. الباقون بهمزتين،
وحققهما ابن عامر، وأهل الكوفة، وروح، إلا أن الحلواني عن هشام فصل بينهما
بألف. الباقون يخففون الأولى ويلينون الثانية. وفصل بينهما بألف نافع إلا ورشا
وأبو عمرو. قال أبو علي: الأجود الاستفهام لقوله " قال انا يوسف " وهذا جواب
الاستفهام، ومن قرأ على الخبر أراد الاستفهام، وحذف حرف الاستفهام كما حكى
أبو الحسن في قوله " وتلك نعمة تمنها علي " (1) ومعناه اي تلك نعمة، وحذف
حرف الاستفهام.
هذا حكاية ما قال اخوة يوسف له حين قال لهم " هل علمتم ما فعلتم بيوسف
وأخيه " فإنهم قالوا حينئذ له " أئنك لانت يوسف " على وجه الاستفهام له، فإنهم
تنبهوا واستيقظوا غير أنهم لم يقطعوا به، فاستفهموه.

(1) سورة الشعراء آية 22.
188

وقال الزجاج يجوز في " أئنك " أربعة أوجه في العربية:
تحقيق الهمزتين، وهو مذهب أهل الكوفة وأهل الشام.
الثاني - ادخال الألف بين الهمزتين (آإنك) وهو مذهب هشام ابن عمار عن
ابن عامر.
الثالث - تليين الثانية بان يجعل بين بين أينك، وهو مذهب أبي عمرو، وابن
كثير ونافع.
الرابع - بهمزة واحدة على الخبر.
فقال يوسف مجيبا لهم " أنا يوسف وهذا أخي " يعني ابن يامين من أبي
وأمي " قدمن الله علينا " أي أنعم علينا بنعمة قطعتنا عن حال الشدة يقال: من
الله عليه يمن منا، واصله القطع من قوله " لهم اجر غير ممنون " (1) أي غير
مقطوع، ومنه من عليه في الصنيعة إذا ذكرها بما يجري مجري التعيير بها، لأنه
قاطع عن شكرها. والمنون الموت، لأنه يقطع عن تصرف الاحياء. ثم أخبر يوسف
فقال إنه من يتق الله باجتناب معاصيه، وفعل طاعاته ويصبر على بليته ويتجرع
مرارة المنع، لما يشتهي من الامر " فان الله لا يضيع اجر المحسنين " اي لا يذهب
بثوابها. والإضاعة هو الاهلاك وهو إذهاب الشئ بحيث لا يدري الطالب له أين
هو. والاجر ما يستحق على العمل الصالح من الثواب، ومنه الإجارة. وتقول:
آجره الله يآجره أجرا، والاحسان فعل حسن يستحق به الحمد.
وحكى ابن كثير انه قرأ " من يتقي " بالياء في الوصل. والوجه فيه ان
يجعل (من) بمعنى (الذي) فيكون (ينقي) في موضع رفع، ويكون قوله " ويصبر "
حذف الحركة استخفافا، أو جملة على الموضع، كما قال " فاصدق واكن من " (2)
ولا يجوز أن يكون مثل قول الشاعر:

(1) سورة حم السجدة آية 8 وسورة الانشقاق آية 25 وسورة التين آية 6.
(2) سورة المنافقون آية 10.
189

ألم يأتيك، والأبناء تنمي (1)
لان ذلك يجوز في الشعر، والأجود قول من قرأ بحذف الياء.
قوله تعالى:
(قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) (91)
آية بلا خلاف.
هذا حكاية عما قال إخوة يوسف حين سمعوا اعتراف يوسف بأنه يوسف،
وان أخاهم الذي احتبسه أخوه، وان الله من عليهم بذلك، فقالوا له عند ذلك
" تالله " على وجه القسم " لقد آثرك الله علينا " اي فضلك الله علينا. والايثار
إرادة التفضيل، لاحد الشيئين على الآخر ومثله الاختيار، ويقال: آثرت له،
وآثرت عليه ضده. وأصل الايثار الأثر الجميل، فيما يؤثر على غيره بمنزلة ما له
أثر جميل والآثار الاخبار، لأنها إخبار عن أثر ما تقدم في أمر الدين والدنيا.
وقوله " وان كنا لخاطئين " اعتراف منهم بأنهم كانوا خاطئين. وقال قوم: إنهم
كانوا كان وهم صبيان. ثم بلغوا مقيمين على كتما ن الامر عن أبيهم موهمين له ما
كانوا أخبروه به من شأنهم فالايهام معصية لا تبلغ تلك المنزلة. والخطيئة إزالة
الشئ عن جهته إلى ما لا يصلح فيه، يقال خطئ يخطأ فهو خاطئ مثل أثم إثما
فهو آثم. و (خطئ) إذا تعمد الخطأ و (أخطأ) إذا لم يتعمد الخطأ كمن رمى
شيئا فأصاب غير ما أراد.
قوله تعالى:
(قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم

(1) قائلة قيس بن زهير العبسي. اللسان (اتى) وعجزه:
بما لاقت لبون بني زياد
190

الرحمين) (92) آية بلا خلاف.
هذا اخبار من الله تعالى عما قال يوسف لاخوته حين اعترفوا بأن الله فضله
عليهم، وانهم خطئوا فيما فعلوه، بأن قال " لا تثريب عليكم اليوم " ومعناه لا بأس
عليكم بما سلف له منكم، والتثريب تعليق الضرر بصاحبه من اجل جرم كان
منه. وقال سفيان: معنى لا تثريب لا تعيير. وقيل: معناه لا تخليط بعائدة
مكروه. وقيل: معناه لا تثريب مكروه بتوبيخ، ولا غيره.
وقوله " يغفر الله لكم " معناه يستر الله عليكم خطيئاتكم ولا يعاقبكم عليها،
وهو ارحم الراحمين، فالرحمة النعمة على المحتاج، ومن الرحمة ما هو واجب
وفيها ما ليس بواجب، فالواجبة ما لا يجوز الا حلال بها، وإن كان سببها تفضلا،
كالثواب الذي سببه التكليف، وهو تفضل.
وقيل: في معنى قوله " يغفر الله لكم " قولان:
أحدهما - انه دعا لهم بالمغفرة، ويكون الوقف عند قوله " لا تثريب عليكم
اليوم " ثم ابتدأ، فقال " يغفر الله " وقد وقف بعضهم عند قوله " عليكم " والأول
أجود.
الثاني - لما كان ظلمهم له معلقا باحلاله أباهم منه حسن هذا القول، لان الله
هو الآخذ له بحقه إلا أن يصفح.
قوله تعالى:
(اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا
وأتوني بأهلكم أجمعين) (93) آية بلا خلاف.
هذا اخبار من الله تعالى بأن يوسف أعطى اخوته قميصه. وقال: احملوه
إلى أبي يعقوب واطرحوه على وجهه، فإنه يرجع بصيرا، ويزول عنه العمى
191

وذلك معجز دال على نبوته، لأنه - على قول المفسرين كالحسن والسدي
وغيرهما - كان قد عمي، ولولا أن الله أعلمه انه يرجع إليه بصره لما أرسله إليه،
وإنما حمل إليه القميص، لان الله تعالى كان جعله علامة له إذا شمه شم منه رائحة
يوسف، وبشارة له قبل لقائه.
وقوله " وأتوني بأهلكم أجمعين "، معناه احملوا أهاليكم أجمع إلى عندي
وجيؤني بهم.
قوله تعالى:
(ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا
أن تفندون) (94) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية انه حين انصرفت العير من عند يوسف. قال:
لهم أبوهم يعقوب اني لأجد ريح يوسف اي إني أحس برائحته. وقال ابن عباس
جاءت الريح برائحة يوسف من ثماني ليال. وقال الحسن من مسيرة شهر وقيل
إنه كان بينهم ثمانين فرسخا، لان يعقوب كان بوادي كنعان من ارض فلسطين.
وقيل إنه كان بأرض الجزيرة، ويوسف بمصر.
والفصل القطع بحاجز بين الشيئين. ونقيضه الوصل، ومثله الفرق. والعير
قافله الحمير، وإن كان فيها الجمال، وكل جماعة خرجت من بلد إلى بلد، فهم
قافلة.
وقوله " لولا أن تفندون " قال ابن عباس: معناه لولا أن تسفهون. وقال
الحسن ومجاهد: لولا أن تهرمون. وقال ابن إسحاق: معناه تضعفون. وقال
الضحاك معناه تكذبون.
وإنما قال يعقوب هذا القول لمن حضره من أهله وقرابته دون ولده، لأنهم
192

كانوا غيبا عنه لم يصلوا إليه. والتفنيد في اللغة هو تضعيف الرأي يقال فنده
تفنيدا إذا نسبه إلى ضعف الرأي، قال الشاعر:
يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي * فليس ما فات من امر بمردود (1)
وفنده الدهر اي أفسده، وقال ابن مقبل:
دع الدهر يفعل ما يشاء فإنه * إذا كلف الانسان بالدهر افندا (2)
وروي (إذا كلف الافناد بالناس فندا)
قوله تعالى:
(قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) (95) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما أجاب به من خاطبه يعقوب من أهله اني لأجد ريح يوسف "
فإنهم قالوا له " تالله انك لفي ضلالك القديم " والضلال هو الذهاب عن جهة
الصواب فيه، وإنما قالوا لنبي الله " انك لفي ضلالك القديم " لأنهم قالوا كلمة
غليظة لم يجز أن يقولوها لنبي الله، فحق الامر فيها أنهم قالوها اشفاقا عليه من
شدد محبته ليوسف - في قول قتادة - وقال الحسن كان عندهم ان يوسف مات،
فكان في لهوجه في تذكره ذاهبا عن الصواب في امره، والقديم في اللغة هو كل شئ
متقدم الوجود، وفي عرف المتكلمين عبارة عن الموجود لم يزل، وإنما جعلوا
الضلال قديما على وجه المبالغة في الصفة ومثله " كالعرجون القديم " (3) ويقال بناء
قديم، ولا يجوز قياسا على ذلك ان يقال: هذا جسم قديم، لما فيه من الايهام.
قوله تعالى:
(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم

(1) تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13: 34 ومجاز القرآن 1: 318
(2) تفسير القرطبي 9: 261 والطبري 13: 34.
(3) سورة يس آية 39
193

أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) (96) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى إنه لما جاء المبشر بيوسف إلى يعقوب ألقى القميص على وجهه
فرجع بصيرا، والبشير الذي يأتي بالبشارة العظيمة. وجاء على لفظ (فعيل) لما فيه
من المبالغة يقال بشره تبشيرا، ومعنى أبشرته: قلت له: استبشر، كقوله
" وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " (1) وقال الحسن، ومجاهد، والضحاك:
كان البشير يهوذ بن يعقوب، والالقاء إيقاع الشئ على الشئ، ويكون بمعنى
ايجاد الشئ.
وقوله " فارتد بصيرا " فالارتداد انقلاب الشئ إلى حال، قد كان عليها،
وهو والرجوع بمعنى واحد. والبصير من كان على صفة يجب لأجلها ان يبصر
المبصرات إذا وجدت، و (ان) بعد قوله " فلما " زائدة للتوكيد، كما قال
" ولما ان جاءت رسلنا " (2) ولا موضع لها من الاعراب وهي تزاد مع (لما)
و (حتى) على وجه الصلة تأكيدا، تقول: قد كان ذاك حتى كان كذا وكذا،
وحتى إن كان كذا.
وقوله " اني اعلم من الله ما لا تعلمون ". قيل في معناه قولان:
أحدهما - إني اعلم من صحة رؤيا يوسف، وإن تأويلها سيكون على ما رأى
" ما لا تعلمون " من تأويل الرؤيا.
والثاني " اني اعلم " من بلوى الأنبياء بالشدائد والمحن التي يصيرون منها
إلى وقت الفرج " ما لا تعلمون "، ذكره الجبائي.
قوله تعالى:
(قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) (97)
آية بلا خلاف.

(1) سورة حم السجدة آية 30.
(2) سورة العنكبوت آية 33.
194

في الكلام حذف، لان تقديره إن اخوة يوسف وصلوا إلى أبيهم بعد ان جاء
البشير وألقوا قميصه على وجهه ورد الله بصره عليه، فلما رأوه قالوا له " يا أبانا
استغفر لنا ذنوبنا " أي سل الله تعالى ان يستر علينا ذنوبنا، ولا يعاقبنا عليها،
فانا " كنا خاطئين " فيما فعلناه بيوسف.
ومتى قيل: كيف سألوه الاستغفار من مع أنهم كانوا تابوا والتوبة تسقط
العقاب؟
قلنا أما على مذهبنا فلان التوبة لا تسقط العقاب وجوبا، وإنما يسقطه الله
تعالى عندها تفضلا وأما علي مذهب مخالفنا، فإنهم سألوه ذلك، لأجل المظلمة
المتعلقة بصفح المظلوم، وسؤال صاحبه ان لا يأخذ بظلمه، لابد انه توبة خاصة منه
ووجه آخر، وهوان يبلغه منزلة بدعائه يصير بمنزلة عالية لمكان سؤاله.
قوله تعالى:
(قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم) (98)
آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما أجاب به يعقوب حين قالوا له " استغفر لنا ذنوبنا " فإنه قال في
جواب ذلك سوف استغفر لكم ربي، والمعنى إني أفعل ذلك في المستقبل، ولم
يستغفر لهم في الحال.
وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال: أخرهم إلى ليلة الجمعة.
وقال ابن مسعود وإبراهيم التيمي، وابن جريج وعمرو بن قيس: انه اخرهم
إلى السحر، لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء وقال الجبائي: وجه ذلك أنهم سألوه
ان يستغفر لهم دائما في دعائه، فوعدهم بذلك في المستقبل.
وقوله " انه هو الغفور الرحيم " اخبار من يعقوب واعتراف منه بأن الله هو
الذي يستر على عباده معاصيهم، ويعفو لهم عن عقابها رحمة منه بعباده ورأفة منه
بخلقه.
195

قوله تعالى:
(فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر
إن شاء الله آمنين) (99) آية بلا خلاف.
في الكلام حذف، لان تقديره ان يعقوب وبنيه وأهلهم رحلوا إلى يوسف،
فلما وصلوا إليه ودخلوا عليه " آوى إليه أبويه " يعنى أباه يعقوب وأمه، فثني
على لفظ الأب تغليبا للذكر على الأنثى، ولم يثن على لفظ الام، كما غلب المفرد
على المضاف في قولهم: سنة العمرين. ومثله قوله " وورثه أبواه " (1) يعني
أباه وأمه.
قال الحسن وابن إسحاق والجبائي: كانت أمه بحق، وقال السدي كانت
أمه ماتت وتزوج يعقوب أختها، وهي خالة يوسف، فأقامها مقام الام، والأول
حقيقة والثاني مجاز. والايواء ضم القريب بالمحبة لصاحبه كضم المأوى بجمع
شمله، وإنما قال لهم " ادخلوا مصر " بعد دخولهم عليه، لاميرين:
أحدهما - قال السدي وفرقد السحي: ان يوسف خرج يستقبل يعقوب وخرج
معه أهل البلد، فلما رجع قال " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين "
وقال آخرون أراد " ادخلوا مصر " مقيمين " إن شاء الله آمنين " والمشيئة
هي الإرادة، والامن سكون النفس إلى الامر والخوف انزعاج النفس من
الامر. والامن التام الامن من كل جهة، فاما الامن من جهة دون جهة، فهو أمن
ناقص.
وفي الناس من قال: ان قوله " إن شاء الله " متعلق بقوله " سأستغفر لكم "
إن شاء الله، لأنه كان قاطعا على أنهم يدخلون مصر آمين، وليس يحتاج إلى ذلك
لأنه مطابق لقوله " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله " (2)

(1) سورة النساء آية 11.
(2) سورة الكهف آية 23
196

قوله تعالى:
(ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت
هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي
إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن
نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء الله إنه هو
العليم الحكيم) (100) آية بلا خلاف.
اخبر لله تعالى عن يوسف انه حين حضر عنده أبواه وأخوته، ورفع أبويه
على العرش، والرفع النقل إلى جهة العلو. ومثله الاعلاء والاصعاد، وضده
الوضع، والعرش السرير الرفيع وأصله الرفع من قوله " خاوية على عروشها " (1)
اي على ما ارتفع من أبنيتها، وعرش الكرم إذا رفعه، وعمل عريشا إذا عمل
مجلسا رفيعا. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: العرش السرير.
وقوله " وخروا له سجدا " معناه انحطوا على وجوههم والخر الانحطاط على
الوجه، ومنه " خر من السماء فتخطفه الطير " (2) والسجود في الشرع خضوع بوضع
الوجه على الأرض وأصله الذل، كما قال الشاعر:
ترى الاكم فيها سجدا للحوافر (3)
وقيل في وجه سجودهم قولان:
قال قوم: إن الهاء في قوله " له " راجعة إلى الله، فكأنه قال فخروا لله سجدا
شكرا على ما أنعم به عليهم من الاجتماع.

(1) سورة البقرة آية 259 والكهف 43 والحج 45
(2) سورة الحج آية 31
(3) مر هذا البيت في 1: 8: 1، 163، 311 و 4: 233. 383
197

الثاني انهم سجدوا إلى جهة يوسف على وجه القربة إلى الله، كما يسجد إلى
الكعبة على وجه القربة إلى الله.
وقيل إنه كانت تحية الملوك السجود، قال أعشى بني ثعلبة:
فلما اتانا بعيد الكرى * سجدنا له ورفعنا العمارا (1)
وقوله " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " حكاية ما قال يوسف لأبيه بأن
هذا تفسير رؤياي من قبل وما تؤول إليه، وهو ما ذكره في أول السورة
" اني رأيت أحد عشر كوكبا " يعني أخوته " والشمس والقمر " يعني أبويه
سجدوا له، كما رآه في المنام.
والرؤيا تصور ما يتوهم انه يرى لغمور النوم، ومتى قيل إذا كانت رؤيا
الأنبياء لا تكون الا صادقة، فهلا تسلى يعقوب بأن تأويل الرؤيا سيكون؟
قلنا عنه جوابان:
أحدهما - انه قيل: انه رآها وهو صبي فلذلك لم يثق بها.
والآخر - ان طول الغيبة مع شدة المحنة يوجب الحزن كما يوجبه مع الثقة
بالالتقاء في الآخرة.
" وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن " بأن لطف وسهل إلي الخروج منه
" وجاء بكم من البدو " اي اتي بكم من أرض فلسطين، لان مسكن يعقوب
وولده فيما ذكر كان هناك. والبدو: البرية العظيمة مأخوذ من بدا يبدوا
بدوا. ويقال: بدو، وحضر.
وقوله " من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي " والنزغ التحريش بين
الاثنين، وهو مس بسوء يغضب، ومنه قوله " واما ينزغنك من الشيطان نزغ
فاستعذ بالله " (2)
وقوله " ان ربي لطيف لما يشاء " معنا لطيف التدبير، واللطف ما يدعو إلي

(1) ديوانه 83 (دار بيروت) وروايته (عمارا).
(2) سورة الأعراف آية 199 وحم السجدة آية 36
198

فعل الواجب ويصرف عن القبيح. وقال الحسن: كان بين الرؤيا وتأويلها
ثمانين سنة. وقال سلمان، وعبد الله بن سداد: كانت أربعين سنة. وقال ابن
إسحاق: ثماني عشرة سنة.
وقوله " انه هو العليم الحكيم " معناه إنه تعالى عالم بأحوال الخلق، وما
يصلحهم وما يفسدهم " حكيم " في افعاله لا يضع الشئ الا في موضعه.
وقال بعضهم: غاب يوسف عن أبيه وله سبع عشرة سنة، وبقي بعد
الاجتماع معهم في الملك ثلاثا وعشرين سنة، ومات، وله مئة وعشرون سنة.
قوله تعالى:
(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث
فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني
مسلما وألحقني بالصالحين) (101) آية بلا خلاف.
هذا حكاية ما قال يوسف حين اجتمع مع أبويه وأخوته وأهل بيته، وانه
قال يا " رب آتيتني من الملك " وحذف حرف النداء للدلالة عليه. وعلى وجه
الاعتراف بأنواع نعمة الله عليه، وان من جملتها أنه أعطاه الملك والسياسة والتدبير
بين الخلق، وأنه مع ذلك علمه، وفهمه أنواع العلوم، ونصب له الدلالة على
علوم كثيرة. وقد يقال: علمه تعليما إذا بين له الدليل المفضي إلى العلم.
والاعلام هو إيجاب العلم بايجاده والتعريض له. والمعنى فهمتني تأويل
الأحاديث التي تؤدي إلى العلم بما احتاج إليه. والأحاديث الاخبار عن حوادث
الزمان.
وقوله " فاطر السماوات والأرض " فالفطر الشق عن أمر باختراعه عند
انشقاقه، ففطر السماوات والأرض: اختراعهما بما هو كائن كالشق عما يظهر
فيه. ومنه تفطر الشجر بالورق. ونصبه يحتمل أمرين:
199

أحدهما - أن يكون صفة لقوله " رب قد آتيتني من الملك "، لأنه مضاف، كما
يقال: يقول يا زيد ذي الجمة.
والثاني - أن يكون على النداء بتقدير يا فاطر.
وقوله " أنت وليي " أي ناصري، والولي النصير بما يتولى من المعاونة، فإذا
وصف تعالى بأنه ولي المؤمن، فلانه ينصره بما يتولى من معونته وحياطته، وإذا
وصف المؤمن بأنه ولي الله، فلان الله ينصره بمعونته، فتجري الصفة على هذا
المعنى.
وقوله " توفني مسلما " معناه اقبضني إليك إذا امتني وأنا مسلم اي الطف لي
بما أموت معه على الاسلام " والحقني بالصالحين " من آبائي إسحاق وإبراهيم اي
اجعلني من جملتهم
و (من) في قوله " من الملك " وقوله " من تأويل الأحاديث " دخلتا للتبعيض
لأنه لم يؤته الله جميع الملك، ولا علمه جميع الأشياء، ويحتمل أن تكون دخلت
لتبيين الصفة، كما قال " اجتنبوا الرجس من الأوثان " (1)
قوله تعالى:
(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ
أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) (102) آية بلا خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال له " ذلك " يعنى الذي أخبرناك
به من أخبار ما يعظم شأنه، لان الانباء هي الاخبار بما له شأن. ومنه قولهم:
لهذا نبأ اي شأن عظيم. و (الغيب) ذهاب الشئ عن الحس، ومنه " عالم
الغيب والشهادة " (2) اي عالم بما غاب عن الحواس، وبما حضرها " نوحيه إليك "

(1) سورة الحج آية 30
(2) سورة الأنعام آية 73، والتوبة آية 94، 105 والرعد 10 والمؤمنون 93 والم
السجدة 6 والزمر 46 والحشر 22 التغابن 18
200

اي نلقيه. والايحاء إنهاء المعنى إلى النفس، فقد أفهم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم تلك
المعاني بانزال الملك بها عليه.
وقوله " وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم " اي لم تحضرهم حين عزموا على
أمورهم. وإجماع الامر هو اجتماع الرأي على الامر بالعزم عليه والمكر: فتل
الحيل عن الامر، واصل المكر من قولهم: ساق ممكورة اي مفتولة ومثله
الخديعة، وكان مكرهم بيوسف إلقاؤهم إياه في غيابت الجب - في قول ابن
عباس والحسن وقتادة وقال الجبائي: كان مكرهم احتيالهم في امر يوسف
حين القوة في الجب. وإنما قال ذلك لنبيه، لأنه لم يكن ممن قرأ الكتب
ولا خالط أهلها وإنما اعلمه الله تعالى ذلك بوحي من جهته ليدل بذلك على نبوته،
وانه صادق على الله تعالى.
قوله تعالى:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (103) آية بلا
خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية بقلة من آمن به بأن
الناس كثيرون، وان حرصت على أن يكونوا مؤمنين فإنهم قليلون. والأكثر
القسم الآخر من الجملة، ونقيضه الأقل. والناس جماعة الانسان، وهو من ناس
ينوس نوسا إذا تحرك يمينا وشمالا، من نفسه لا بمحرك. والحرص طلب الشئ
في اصابته، حرص عليه يحرص حرصا، فهو حريص على الدنيا إذا اشتد طلبه لها
والتقدير: وما أكثر الناس بمؤمنين، ولو حرصت على هدايتهم.
قوله تعالى:
(وما تسئلهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين) (104)
آية بلا خلاف.
201

هذا اخبار من الله تعالى وخطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم انك يا محمد لست تسألهم
يعني أمته الذين بعث إليهم على ما يعرفهم به من اخبار الماضين اجرا، ولا جزاء
في مقابلته. وليس ذلك إلا ذكر للعالمين. والسؤال قول القائل لمن هو فوقه
(افعل) إذا كان سؤال طلب ودعاء، وإن كان سؤال استخبار، فهو طلب
الاخبار بادلته، والاجر جزاء العمل بالخير يقال: آجره الله يآجره أجرا إذا
جازاه بالخير، ويدعابه، يقال: آجرك الله. والذكر حضور المعنى للنفس،
وهو ضد السهو. وقد يقال للقول الذي يحضر المعنى للنفس ذكر. و (العالم)
جماعة الحيوان الكثيرة التي من شأنها ان تعلم، لأنه مأخوذ من العلم، ومنه معنى
التكثير، وفي عرف المتكلمين عبارة عن الفلك وما حواه عن طريق التبع
للحيوان الذي ينتفع به، وهو مجعول لأجله. ومعنى الآية إنك لست تسألهم على
ابلاغك إياهم ما أوحى الله به إليك، ولا على ما تدعوهم إليه من الايمان اجرا،
فيكون تركهم لذلك إشفاقا من إعطاء الاجر، بل هم يزهدون في الحق مع أمنهم
من اعطاء الاجر، وليس ما تؤديه إليهم من القرآن، وجميع ما ينزله الله من
الاحكام " إلا ذكر للعالمين " اي طريق إلى العلم بما أوجب الله عليهم، فذكر
الدليل طريق إلى العلم بالمدلول عليه. والفكر سبب مولد له، فالذكر سبب
مؤد، والفكر سبب مولد ويحتمل أن يكون المراد ليس هذا القرآن الا شرفا
للعالمين لو قبلوه وعملوا بما فيه.
قوله تعالى:
(وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم
عنها معرضون) (105) آية بلا خلاف.
معنى (كأين) كم والأصل فيها (أي) فدخلت عليها الكاف للتفخيم بالابهام،
وتقديره كالعدد، فهو أبهم من نفس العدد، لما فيه من التكثير والتفخيم، وغلبت
على (كاين) (من) دون (كم) لان (كأين) أشد إبهاما، فاحتاجت إلى (من) لتدل
على أن ما يذكر بعدها تفسير لها.
202

اخبر الله تعالى ان في خلق السماوات والأرض آيات، ودلالات كثيرة تدل
على أن لها صانعا صنعها، ومدبرا دبرها، وعلى صفاته، وعلمه، وحكمته، وأنه
لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شئ، وهو ما فيها من تدبير الشمس والقمر والنجوم
والجماد والحيوان، وما بينهما من الأشجار والنبات، وغير ذلك من الأمور الظاهرة
للحواس المدركة بالعيان. وقال الحسن: من الآيات اهلاك من أهلك من الأمم
الماضية، يعرضون عن الاستدلال بها عليه وعلى ما يدلهم عليه من توحيده وحكمته،
مع مشاهدتهم لها ومرورهم عليها.
قوله تعالى:
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (106) آية بلا
خلاف.
قيل في معنى هذه الآية قولان:
أحدهما - قال الحسن: الآية في أهل الكتاب، لان معهم إيمانا وشركا.
وقال ابن عباس، ومجاهد وقتادة: المعنى " وما يؤمن أكثرهم بالله " في اقراره
بأن الله خلقه وخلق السماوات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الأوثان، وهذا
هو الأولى، لان التقدير ما يصدقون بعبادة الله إلا وهم يشركون الأوثان معه في
العبادة.
وقال الرماني: الآية دالة على أن اليهودي معه إيمان بموسى، وكفر بمحمد،
لأنها دلت على أنه قد جمع الكفر والايمان، وانه لا ينافي ان يؤمنوا بالله من وجه
ويكفروا به من وجه آخر، كما قال " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض
فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون
إلى أشد العذاب " (1).

(1) سورة البقرة آية 85.
203

وعلى مذهب من قال بالموافاة من المرجئة لا يصح ذلك، لان الاحباط عنده
باطل، فمن آمن بالله لابد ان يوافي به.
والجواب على مذهبه ان يقال تأويل الآية انه لا يؤمن أكثرهم بالله ويصدق
رسله في الظاهر الا وهو مشرك في باطنه، فتكون الآية في المنافقين خاصة - يعنى
هذه الآية - وقد ذكره البلخي أيضا.
قوله تعالى:
(أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة
بغتة وهم لا يشعرون) (107) آية بلا خلاف.
هذا خطاب لهؤلاء الكفار الذين ذكرهم بأنهم لا يؤمنون إلا وهم مشركون،
وتوبيخ لهم وتعنيف، وإن كان متوجها إلى غيرهم، فهم المعنون به، يقول:
أفأمن هؤلاء الكفار ان تجيئهم غاشية من عذاب، وهو ما يتغشاهم من عذابه.
والغاشية ما يتجلل الشئ بانبساطها عليه، يقال: غشيه يغشاه، فهو غاش،
وهي غاشية أو: تجيئهم القيامة بغتة أي فجأة. والبغتة والفجأة والغفلة نظائر،
وهي مجئ الشئ من غير تقدمة. قال يزيد بن مقسم الثقفي:
ولكنهم باتوا ولم أدر بغتة * وأفظع شئ حين يفجؤك البغت (1)
والساعة مقدار من الزمان معروف، وسمي به القيامة لتعجيل أمرها،
كتعجيل الساعة.
وقوله " وهم لا يشعرون " معناه لا يعلمون بمجيئه، فلذلك كان بغتة. والشعور
إدراك الشئ بما يلطف، كدقة الشعر يقال: شعر به يشعر شعورا وأشعره بالامر
اشعارا، ومنه اشتقاق الشاعر لدقة فكره.

(1) مر هذا البيت في 4: 122، 507.
204

قوله تعالى:
(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
وسبحان الله وما أنا من المشركين) (108) آية بلا خلاف.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى ان يقول لهؤلاء الكفار " هذه سبيلي "
يعني دينه الذي دعا إليه من توحيد الله وعدله وتوجيه العبادة إليه والعمل بشرعه
" ادعو " الناس " إلى " توحيد " الله " والى طاعته، واتباع سبيله على معرفة مني
بذلك، وحجة معي إليه، ومن تابعني على ذلك، فهو يدعو الناس إلى مثل ما
أدعو إليه من التوحيد وخلع الأنداد والعمل بشرع الاسلام " وسبحانه الله " اي
تنزيها لله من أن يعبد معه إله غيره، وان يضاف إليه ما لا يليق به ولست أنا من
المشركين الذين يشركون مع الله في عبادته سواه والسبيل هو الطريق، وهو
يذكر ويؤنث قال الشاعر:
ولا تبعد فكل فتى أناس * سيصبح سالكا تلك السبيلا (1)
والدعاء طلب الفعل من الغير، وسمي الاسلام سبيلا، لأنه طريق إلى الثواب
لمن عمل به. و (البصيرة) المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل في الدين والدنيا،
يقال: فلان على بصيرة من أمره اي كأنه يبصره بعينه.
قوله تعالى:
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل
القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين
من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون) (109) آية واحدة بلا خلاف.

(1) مجمع البيان 3: 268، ومجاز القرآن 1: 319.
205

قرأ أبو بكر " يوحى " بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص بالنون وكسر الحاء.
قال أبو علي الفارسي: وجه القراءة بالنون قوله " إنا أوحينا إليك كما أوحينا
إلى نوح " (1) ومن قرأ بالياء، فلقوله " وأوحي إلى نوح " (2) وقوله " قل أوحي إلي " (3)
فأما في " حم عسق كذلك يوحي إليك " (4)، فلان الفعل مسند إلى اسم الله تعالى، فارتفع
الاسم بأنه فاعل يوحي، ولو قرئ يوحى إليك، والى الذين واسند الفعل إلى
الجار والمجرور، لكان جائزا، وكان يكون قوله " الله العزيز الحكيم " مبتدءا
وخبرا، والأول أحسن، لان قوله " العزيز الحكيم " أن يكون صفة أحسن من
أن يكون خبر المبتدأ.
معنى الآية الاخبار من الله أني ما أرسلت قبلك من الأنبياء والمرسلين إلى
عبادي إلا رجالا يوحى إليهم بكتبي وأحكامي، " من أهل القرى " أي لم أرسل
عليهم ملكا ولا جنيا، بل رجالا أمثالك، لقول جهال قريش ان الله لو شاء ان
يرسل الينا أحدا، لأرسل إلينا ملكا، فبين ههنا انه لم يرسل فيما مضى الا رجالا،
مثل محمد، من البشر، " أفلم يسيروا في الأرض " معناه أفليس قد ساروا في
الأرض وسمعوا اخبار من ارسله الله من الأنبياء المبعوثين إلى خلقه مثل إبراهيم
وموسى وعيسى، فيعرفوا بذلك كيف كان عاقبة من كذب هؤلاء الرسل من
قبلهم، وما نزل بهم من العذاب لكفرهم ثم أخبر ان دار الآخرة خير للذين
اتقوا واجتنبوا معاصيه خير لهم من الدنيا، أفلا يعقلون ان الامر على ما أخبرنا به،
وان ذلك خير من دار الدنيا التي فيها تنغيص وتكدير، وفنون الآلام.
وقال قتادة معنى " من أهل القرى " يريد به الأمصار دون البوادي، لأنهم
اعلم وأحكم. وقال الحسن ما بعث الله نبيا من أهل البادية قط، ولا من الجن
ولا من النساء.
وقوله " ولدار الآخرة " على الإضافة وفي موضع آخر وللدار الآخرة على
الصفة. فمن اضافه قال تقديره ولدار الحال الآخرة، لان للناس حالين حال

(1) سورة النساء آية 162.
(2) سورة هود آية 36
(3) سورة الجن آية 1.
(4) سورة الشورى آية 1.
206

لدنيا وحال الآخرة. ومثله صلاة الأولى والصلاة الأولى، فمن اضافه قدر
صلاة الفريضة الأولى، ومن لم يضف جعله صفة، ومثله ساعة الأولى، والساعة
الأولى، ذكره الزجاج. وقال الفراء قد يضاف الشئ ء إلى نفسه إذا اختلف لفظهما
مثل " حق اليقين ". ومثل بارحة الأولى والبارحة الأولى ومسجد الجامع،
والمسجد الجامع.
قوله تعالى:
(حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم
نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) (110)
آية بلا خلاف.
قرأ " كذبوا " خفيفة بضم الكاف أهل الكوفة. الباقون مشددة بضم
الكاف. وقرأ عاصم وابن عامر " فنجي من نشاء " بنون واحدة وتشديد الجيم
وفتح الياء. الباقون بنونين على الاستقبال، وهي في المصحف بنون واحدة.
من قرأ " كذبوا " خفيفة، فالمعنى إن الأمم ظنت ان الرسل كذبوهم فيما
أخبروهم به من نصر الله إياهم واهلاك أعدائهم، ومثله قراءة من قرأ، وإن كان
شاذا " كذبوا " يعنى ان قومهم ظنوا ان الرسل كذبت فيما أخبرت به، وهو قول
ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد والضحاك. ومن قرأ
بالتشديد حمل الظن على العلم، والمعنى أيقن الرسل ان الأمم كذبوهم تكذيبا
عمهم حتى لا يفلح أحد منهم، وهو قول الحسن وقتادة وعائشة قال الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد (1)
معناه أيقنوا، فان قيل على الوجه الأول كيف يجوز ان يحمل الضمير على أنه
للمرسل إليهم والذين تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل إليهم، قيل إن ذلك

(1) مر هذا البيت في 1: 205، 2: 296، 4: 373 وقد روي (المشدد) بدل
(المسرد).
207

لا يمتنع لان ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وقد قال الشاعر:
امنك البرق ارقبه فهاجا * فبت أخاله دهما خلاجا (1)
اي بت اخال الرعد صوت دهم، فاضمر الرعد ولم يجر له ذكر لدلالة البرق
عليه وان قلت قد جرى لهم ذكر في قوله " أفلم يسيروا في الأرض فينظروا "
فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل كان جيدا، ذكره أبو علي.
ومن قرأ " فننجي " بنونين، فعلى انه حكاية حال، لان القصة كانت فيما مضى،
فإنما حكى فعل الحال على ما كانت، كما قال " وإن ربك ليحكم بينهم " (2) حكاية
الحال الكائنة، ومثله " وكلبهم باسط ذراعيه " (3) فلو لم يكن على الحال لم يعمل
اسم الفاعل، لأنه إذا مضى اختص، وصار معهودا، فخرج بذلك من شبه
الفعل. واما النون الثانية من (ننجي) فهم مخفاة مع الجيم، وكذلك النون مع
جميع حروف الفم، لا تكون الا مخفاة، قال أبو عثمان المازني وتبيينها معها
لحن. قال وللنون مع الحروف ثلاثة أحوال: الادغام، والاخفاء، والبيان، فهي
تدغم مع ما يقارنها كما تدغم سائر المتقارنة. والاخفاء فيها مع حروف الفم التي
لا تقارنها والبيان منها مع حروف الحلق، وحذف النون الثانية من الخط يشبه
أن يكون لكراهة اجتماع المثلين فيه. ومن ذهب إلى أن الثانية مدغمة في الجيم،
فقد غلط، لأنها ليست بمثل للجيم، ولا مقارنة له. ووجه قراءة عاصم انه اتى
به على لفظ الماضي، لان القصة ماضية. وما رواه هبيرة عن عاصم بنونين،
وفتح الياء، فهو غلط من الراوي، كما قال ابن مجاهد، وروى نصر بن علي عن
أبيه عن أبي عمرو " فنجي " بنون واحدة ساكنة الياء خفيفة الجيم، فهذا غلط،
لأنا قد بينا ان النون، لا تدغم في الجيم، لما بيناه.

(1) قائله أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1: 164، واللسان (دهم) وأمالي السيد
المرتضى 1: 616.
(2) سورة النحل آية 124
(3) سورة الكهف آية 18
208

اخبر الله تعالى ان الرسل لما يئسوا من فلاح القوم وعلموا ان القوم لقوهم
بالتكذيب ونسبوهم إلى الكذب، لان التكذيب نسبة القائل إلى الكذب، وضده
التصديق والاستيئاس واليأس انقطاع الطمع " جاءهم نصرنا " اي أتاهم نصر الله
باهلاك من كذبهم ولا يرد بأسنا فالبأس شدة الامر على النفس يقال له بأس في
الحرب والبئيس الشجاع لشدة أمره. ومنه البؤس الفقر والبائس الفقير " عن القوم
المجرمين " يعني المخطئين الذين اقترفوا السيئات.
قوله تعالى:
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا
يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى
ورحمة لقوم يؤمنون) (111) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى ان في قصص الأمم الماضين التي ذكرها دلالة لذوي العقول على
تصديق الرسل وان ما أخبرناك به لم يكن حديثا كذبا. والحديث الاخبار عن
حوادث الزمان وتسميته بأنه حديث يدل على أنه حادث، لان القديم لا يكون
حديثا، والافتراء القطع بالمعنى على خلاف ما هو به وأصله القطع من قولهم
قريت الأديم فريا إذا قطعته، ووجه الاعتبار بتلك القصص ان الذي قدر على
إعزاز يوسف بعد القائه في الجب واعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد
إن كان كبعض أهلها في حكم العبيد وجمعه بينه وبين والديه وإخوته على ما
أحبوا بعد مدة طويلة وشقة بعيدة لقادر ان يعز محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلي كلمته
وينصره على من عاداه.
وقوله " ولكن تصديق الذي بين يديه " معناه تصديق الكتب التي قبله من
التوراة، والإنجيل وغيرهما من كتب الله في قول الحسن وقتادة. وإنما قيل لما
تفسير التبيان ج 6 - م 14
209

قبله: بين يديه، لأنه قد وجد فكأنه حاضر له، وقيل بين يديه، لأنه قريب منه
كقرب ما كان بين يدي الانسان. وإنما قال " وتفصيل كل شئ " على وجه المبالغة
من حيث كان فيه تفصيل كل شئ يحتاج إليه في أمور الدين من الحلال والحرام
والحجاج والاعتبار والوعظ والازجار، أما جملة أو تفصيلا. و " هدى ورحمة "
فالهداية الدلالة " لقوم يؤمنون " اي يصدقون بها وينتفعون بالنظر فيها وخص
المؤمنين بالهداية وإن كانت هداية لغيرهم من حيث إنهم انتفعوا هم بها دون غيرهم،
ونصب تصديق على تقدير، ولكن كان تصديق الذي باضمار كان على قول
الزجاج.
210

(13) سورة الرعد
قال قتادة هي: مدنية إلا آية منها فإنها مكية وهي قوله " لا يزال الذين
كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ".
وقال مجاهد: هي مكية وليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
وهي ثلاث وأربعون آية في الكوفي وأربع في المدنيين وخمس في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك
الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) (1) آية بلا خلاف.
لم يعد أحد " المر " آية وعد الكوفيون " طه " و " حم " آية قالوا، لان (طه)
مشاكلة لرؤوس الآي التي بعدها بالألف مع أنه لا يشبه الاسم المفرد، كما أشبه
" صاد " وقاف " و " نون " لأنها بمنزلة (باب) و " نوح "، وعد " كهيعص " لأنه
يشاكل رؤوس الآي بعده بالارداف. وقد بينا في أول سورة البقرة أقوال
المفسرين في تأويل أوائل السور بالحروف (1). وان أقواها ان يقال أنها أسماء
السور واجبنا عما اعترض عليه، فلا وجه لإعادته.

(1) في 1: 47 - 51.
211

وروي عن ابن عباس ان معنى قوله " المر " انا الله أرى. وقال غيره: معناه
انا الله أعلم. وروي انها حروف تدل على اسم الرب. وقوله " تلك آيات
الكتاب " ومعناه هذه تلك آيات الكتاب التي تقدمت صفتها. والبشارة بها بما
فيها من الهداية، كما تقول تلك الدلالة اي التي وصفها بأنه لا غنا لاحد عنها،
فيقول: هذا تنبيها عليها، وتفخيما لشأنها.
وقال الحسن والجبائي: يعني بالكتاب القرآن. وقال مجاهد وقتادة: يعني
به الإنجيل. والأول أصح. وآيات الكتاب هي الكتاب، ولكن أضيف إلى
نفسه، لما اختلف لفظه كما قال " حق اليقين " (1) وغير ذلك مما قد مضى ذكره،
وكما يقال مسجد الجامع، والمسجد الجامع، والآيات الدلالات المعجبة المؤدية إلى
المعرفة بالله وانه لا يشبه الأشياء، ولا تشبهه، والكتاب الصحيفة التي فيها
الكتابة، وقد يكون مصدر كتب، تقول: كتب كتابا وكتابة. " والذي أنزل
إليك من ربك الحق " يحتمل وجهين من الاعراب: الرفع والجر، فالرفع على
الابتداء وخبره الحق، والجر على أنه عطف على الكتاب، وهو غيره - على قول
مجاهد - ويجوز أن تكون صفة - في قول الحسن - كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم 2)
" ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " اي لا يصدق أكثر الناس بأنه كذلك،
ويكفرون به. والحق وضع الشئ في موضعه على ما تقتضيه الحكمة والانزال
النقل من علو إلى سفل أنزله إنزالا، ونزله تنزيلا، وضده الاصعاد.
قوله تعالى:
(الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على
العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر

(1) سورة الواقعة آية 95
(2) مر تخريجه في 2: 98.
212

الامر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) (2) آية بلا
خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية بما يدل على وحدانيته وكونه على صفات لا
يشاركه فيها أحد من المخلوقين من كونه قادرا لنفسه، لأنه قال تعالى هو الذي
رفع السماوات بغير عمد ترونها. وقيل فيه قولان:
الأول - قال ابن عباس ومجاهد: يعنى ليس ترونها دعامة تدعمها، ولا
فوقها علاقة تمسكها.
الثاني - قال قتادة واياس بن معاوية: ان المعنى إنه رفع السماوات بلا عمد
ونحن نراها.
وقال الجبائي: تأويل ابن عباس ومجاهد خطأ لأنه لو كان لها عمد، لكانت
أجساما غلاظا ورؤيت، وكانت تحتاج إلى عمد آخر إلا هو تعالى.
وهذا هو الصحيح. والوجه في قوله " بغير عمد " انه لو كان لها عمد لرئيت.
ومثله قول الشاعر:
على لاحب لا يهتدي لمناره (1)
والمعنى انه لا منار له، لأنه لو كان له منار لاهتدي به، وقد بينا نظائر ذلك
فيما مضى (2). و (عمد) جمع عمود يقال: عمد، كما يقال: أديم وادم. قال أبو
عبيدة: وهذا الجمع قليل. وقد قرئ في الشواذ (عمد) بضم العين والميم، وهو
القياس. والعمود السارية، ومثله الدعائم والسند واصله منع الميل، فمنه التعميد
والاعتماد، قال النابغة:
وخيس الجن اني قد اذنت لهم * يبنون تدمر بالصفائح والعمد (3)

(1) مر هذا البيت في 1: 189، 279، 444، 2: 88، 356، 423، 562،
3: 380.
(2) راجع ما سبق ان أشرنا إليه في التعليقة قبل هذه رقم 1.
(3) ديوانه (دار بيروت) 33 ومعنى (خيس) ذلل. و (تدمر) بلد بالشام.
213

وقوله " ثم استوى على العرش " معناه استولى بالاقتدار عليه ونفوذ السلطان
واصله استواء التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب ثم قال: قائم بالتدبير،
فالمعنى مستو على العرش بالتدبير المستقيم من جهته بجميع الأمور. و (ثم)
دخلت على معنى " ثم استوى على العرش " بالتدبير للأجسام التي قد كونها، فهي
تدل على حدوث التدبير.
وقال أبو علي: هي لتسخير الشمس والقمر لكنه قدم في صدر الكلام، كما
قال " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين " (1) والمعنى حتى يجاهد من
نعلم من المجاهدين.
وقوله " وسخر الشمس والقمر " فالتسخير والتذليل والتوطئة نظائر،
والمسخر هو المهيأ، لأنه يجري بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير
النار للاسخان والماء للجريان، والفرس للركوب.
وقوله " كل يجري لأجل مسمى " اجراه على لفظ كل، ومثله كل منطلق اي
اكلهم، ورفع كلا، لأنه مستأنف، وذهب بمعنى الاثنين في الشمس والقمر إلى
الجمع، كما قال " فإن كان له اخوة " (2) وإنما هما أخوان. و (الأجل) هو الوقت
ضروب لحدوث أمر وانقطاعه، فاجل الدنيا الوقت المضروب، لانقضائها
واجل الآخرة، الوقت المضروب لحدوثها، واجل الدين وقت حدوث أدائه،
واجل العمر الوقت المضروب لانقضائه، والأجل المسمى - ههنا - قيل يوم
القيامة.
وقوله " يدبر الامر فالتدبير تصريف الأمور على ما يقتضيه مستقبل حاله
في عاقبته، فتدبير السماوات والأرض فيه دلالة على مدبر حكيم، قد جعل جميع
ذلك لما يصلح في عاقبته، وعاجلته. ودخلت. الألف واللام على (الشمس) وهي
واحدة لا ثاني لها، لان في اسمها معنى الصفة، لأنه لو وجد مثلها لكان شمسا،
وكذلك (القمر) لو خلق الله مثله لكان قمرا، وليس كذلك زيد وعمرو.

(1) سورة محمد آية 31.
(2) سورة النساء آية 11.
214

وقوله " يفصل الآيات " اي يميز الدلالات واختلاف مدلولاتها، من كونه
قادرا عالما حكيما لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شئ " لعلكم بلقاء ربكم توقنون " معنا
لكي توقنوا لقاء ثواب طاعات الله ولقاء عقاب معاصيه، فسمى لقاء ثوابه وعقابه
لقاءه مجازا.
قوله تعالى:
(وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن
كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في
ذلك لايات لقوم يتفكرون) (3) آية بلا خلاف.
ذكر الله تعالى في الآية الأولى بالسماء والشمس والقمر، لان أكثر ما في العالم
متعلق بذلك وجار مجراه كالنبات والحرث والنسل، ثم ذكر في هذه الآية
الأرض وتدبيره لها على ما فيه من المصلحة لينبه بذلك من ذهب عن الاستدلال به
على حكمته تعالى، وتوحيده، فقال " وهو الذي مد الأرض " يعنى بسطها طولا
وعرضا " وجعل فيها رواسي " يعني جبالا راسيات ثابتات، يقال: رسي
هذا الوتد وأرسيته. وواحد (الرواسي) راسية " وانهارا " اي وخلق فيها
أنهارا يجري المياه فيها " ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين " ثم ابتدأ
فقال: وجعل فيها من جميع الثمرات زوجين أي ضربين. قال الحسن يعني لونين
من كل ما خلق من البنات. والزوج يكون واحدا ويكون اثنين، وههنا واحد.
وقريش تقول: للأنثى زوج وللذكر زوج قال الله تعالى " أسكن أنت
وزوجك الجنة " (1) لادم.
ومعنى " يغشي الليل النهار " اي يجلل الليل النهار والنهار بالليل.
والمعنى انه يذهب كل واحد منهما بصاحبه ومثله " يكور الليل على

(1) سورة البقرة آية 35 وسورة الأعراف آية 19.
215

النهار ويكور النهار على الليل " (1) والمعنى ان أحدهما يذهب الآخر. ثم أخبر
تعالى ان فيما ذكره من الدلالات لآيات واضحات لمن فكر، واعتبر بها، لان
من لم يفكر فيها ولم يعتبر، كأنه لا آية له.
وقوله " زوجين اثنين " إنما اكد ب‍ (اثنين) وإن كان قوله " زوجين " أفاد
العدد لامرين:
أحدهما - على وجه التأكيد وهو مستعمل كثيرا.
الثاني - ان الزوجين قد يقع على الذكر والأنثى. وعلى غيرهما، فأراد ان يبين ان
المراد به ههنا لونين أو ضربين دون الذكورة والأنوثة، وذلك فائدة لا يفيدها
قوله " زوجين " فلا تكرار فيه بحال. وهو قول الحسن والجبائي وغيرهما.
قوله تعالى:
(وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع
ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها
على بعض في الاكل إن في ذلك لايات لقوم يعقلون) (4)
آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وأهل البصرة وحفص " وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان "
بالرفع فيهن. الباقون بالخفض. وروى أبو شعيب القواس عن حفص ضم الصاد
من صنوان في الموضعين. الباقون بكسرها. وقر أ ابن عامر وعاصم ويعقوب
" يسقى " بالياء. الباقون بالتاء. وقرأ أهل الكوفة الا عاصما يفضل بالياء.
الباقون بالنون.

(1) سورة الزمر آية 5.
216

قال أبو علي النحوي: من قرأ " وزرع " مرفوعا جعله محمولا على قوله " في
الأرض " ويكون تقديره وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وفي
الأرض زرع ونخيل صنوان، فالجنة على هذا تقع على الأرض التي فيها النخيل.
دون غيرها. ويقوي ذلك قول زهير:
كأن عيني غربي مقتلة * من النواضح تسقي جنة سحقا (1)
السحق جمع سحوق يوصف بها النخيل إذا بسقت فكأنه سمى الأرض ذات
النخل جنة، ولم يذكر ان فيها غيرها، فكما ان الجنة تكون من النخيل من
غير أن يكون منها شئ آخر، كذلك تكون من الكروم، وان لم يكن
فيها غيرها.
فاما من قرأ بالخفض فإنه حمل الزرع والنخيل على الأعناب، كأنه قال
جنات من أعناب ومن زرع، ومن نخيل. وقد تسمى الأرض إذا كان فيها
النخل والكرم والزرع جنة، قال الله تعالى " جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب
وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا " (2) ويقوي ذلك قول الشاعر:
أقبل سيل جاء من أمر الله * يجرد جرد الجنة المغلة (3)
فقوله (المغلة) في وصف الجنة يدل على أن الجنة يكون فيها الزرع، لان
الغلة لا يقال إلا فيما يكال ويوزن، فلذلك قال الفقهاء: إذا قال: أوصيت له بغلة
هذه القرية أنه يكون على ما فيها، من الحال من الثمرة وغيرها وقت التلفظ بالوصية
دون ما يحدث بعد.
و (الصنوان) فيما ذهب إليه أبو عبيدة صفة النخل قال: والمعنى أن يكون
الأصل واحدا ثم يتشعب من الرؤس فيصير نخلا ويحملن وقال وقوله

(1) ديوانه: 140 (دار بيروت)
(2) سورة الكهف آية 32
(3) مجمع البيان 3: 275.
217

" يسقى بماء واحد " لأنها تشرب من أصل واحد " ونفضل بعضها على بعض في
الاكل " وهو الثمرة، وأجاز غيره أن يكون (الصنوان) من صفة الجنات:
فال أبو علي فكأنه في المعنى يراد به ما في الجنات. وان جرى على لفظ الجنات.
وعلى هذا يجوز ان ترفع وان جررت النخل غير أنه لم يقرأ به. ومن ضم الصاد
من صنوان جعله مثل ذئب وذؤبان، وربما يعاقب فعلان وفعلان على بناء واحد
نحو خشن وخشان. وأظن سيبويه حكى الضم في صنوان والكسر أكثر. ومن
قرأ " تسقى " بالتاء أراد تسقى هذه الأشياء " بماء واحد " ويقوى ذلك قوله
" ونفضل بعضها على بعض " فحمله على التأنيث. ومن قرأ بالياء فعلى تقدير ما
ذكرناه. ومن قرأ " يفضل " بالياء. رده إلى الله، وتقديره ويفضل الله بعضها
على بعض ومن قرأ بالنون، فعلى الاخبار عن الله عز وجل أنه قال " ونفضل "
نحن " بعضها على بعض ".
اخبر الله تعالى على وجه التنبيه لعباده على الاستدلال بآياته بان قال في
الأرض التي خلقتها قطع متجاورات. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: معناه
سبخة وغير سبخة. وقيل عامرة وغير عامرة. والمتجاورة المتقاربة بعضها
من بعض.
وقوله " وجنات من أعناب " فالجنة البستان الذي يجنه الشجر وهي منفصلة
من الروضة والزهرة " من أعناب " جمع عنب وهو ثمر الكرم يقع على أنواع كثيرة،
والزرع القاء الحب للنبات في الأرض، والغرس جعل الأصل من الشجر الثابت.
في الأرض، والصنوان المتلاصق وهي الفسيلة تكون في أصل النخلة. ويقال:
هو ابن أخيه صنو أبيه اي لصنو أبيه في ولادته، ويجوز في جمع صنو اصناء.
كعدل واعدال. ويقال: صنو بضم الصاد وإذا كثرت، فهو الصني والصنى،
وقال البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة: الصنوان النخلات التي
أصلها واحد. وقال الحسن: الصنوان النخلتان اصلهما واحد " يسقى بماء واحد "
معناه ان ما ذكرناه يسقى بماء واحد " ونفضل بعضها على بعض في الاكل " بان
218

يكون بعضه حلوا وبعضه حامضا وبعضه مرا في الاكل. والاكل الطعام الذي
يصلح للاكل، فدل بذلك على بطلان قول من يقول بالطبع، لأنه لو كان قولهم
صحيحا لما اختلفت طعوم هذه الأشياء مع أن التربة واحد والماء واحد، وجميع
أحوالها المعقولة متساوية، فلما تفاضلت مع ذلك دل على أن المدبر لها عالم حكيم
ففعله بحسب المصلحة " ان في ذلك لايات لقوم يعقلون " اخبار منه تعالى ان فيما
ذكرناه دلالات لقوم يعقلونها ويتدبرونها لان من لا عقل له لا ينتفع بالاستدلال
بها، وإنما ينتفع بذلك ذوو الألباب والعقول.
قوله تعالى:
(وإن تعجب فعجب قولهم أ إذا كنا ترابا أإنا لفي خلق
جديد 5) أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال في
أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 6) آية في
الكوفي. وفي المدنيين والبصري آيتان تمام الأولى قوله " لفي خلق
جديد ".
قرأ ابن عامر وأبو جعفر " إذا " بهمزة واحدة على الخبر. الباقون بهمزتين على
الاستفهام. وحقق الهمزتين أهل الكوفة وروح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو
ورويس بتخفيف الأولى وتليين الثانية. وفصل بينهما بألف نافع الا ورشا وأبو عمرو.
واما " إنا " فقرأه بهمزة واحدة على الخبر نافع والكسائي ويعقوب. الباقون
بهمزتين على الاستفهام. وحقق الهمزتين ابن عامر وعاصم وحمزة وخلف الا ان
هشاما يفصل بينهما بألف. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وأبو جعفر بتحقيق
الأولى وتليين الثانية إلا أن أبا عمرو وأبا جعفر يفصلان بينهما بألف، وابن كثير
لا يفصل. وكذلك اختلافهم في الموضعين في (سبحان) وسورة المؤمنين والسجدة
ولقمان. والثاني من اللذين في الصافات. وما سوى ذلك من الاستفهامين
219

يذكر في موضعه إن شاء الله قال أبو علي الفارسي من قرأ (أإذا، أإنا) بالاستفهام
فيهما، فموضع (إذا) نصب بفعل مضمر يدل عليه قوله " انا لفي خلق جديد "
لان هذا الكلام يدل على نبعث ونحشر، فكأنه قال أنبعث إذا كنا ترابا. ومن
لم يدخل الاستفهام في الجملة الثانية كان موضع (إذا) نصبا بما دل عليه قوله
" انا لفي خلق جديد " فكأنه قال انبعث إذا كنا ترابا، وما بعد (ان) لا يعمل
فيما قبله بمنزلة الاستفهام، فكما قدرت هذا الناصب في (إذا) مع الاستفهام، لان
الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله كذلك نقدره في (إنا) لان ما بعدها أيضا لا
يعمل فيما قبلها. وقراءة ابن عباس " إذا كنا ترابا " على الخبر (أإنا) على الاستفهام
ينبغي أن يكون على مضمر كما حمل ما تقدم على ذلك، لان بعد الاستفهام منقطع
مما قبله فاما أبو عمرو، فإنه يفصل بين الهمزتين بألف، كما يفصل في " أأنذرتهم "
وكما يفصل بين النونات في (اخشينان) ويأتي بعد ذلك بالهمزة بين بين، وليست (يا)
ياء محضة، كما أن الهمزة في السائل ليست ياء محضة، وإنما هي همزة بين بين، وابن
كثير ان اتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد فليس ذلك على التخفيف القياسي،
لأنه لو كان كذلك، لوجب ان يجعل الهمزة بين بين، كما فعل في سم في المتصل
وفي إذ قال إبراهيم - في المنفصل لذلك، ولكنه يبدل من الهمزة ابدالا محضا كما حكى
سيبويه انه سمع من العرب من يقول (بئس) وقد جاء في الشعر يومئذ على القلب.
مدح الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم تعجبه من الكفار في عبادتهم ما لا يملك لهم نفعا
ولا ضرا. ثم اخبر ان هذا موضع العجب، وذمهم بعجبهم من اعادتهم ثانية مع
علمهم بالنشأة الأولى، وفيما بين الله تعالى من خلق السماوات والأرض، وما بينهما
من عجائب افعاله التي تدل على أنه قادر على الإعادة، كما دلت على الانشاء، لان
هذا مما ينبغي ان يتدبره العاقل، وقد قيل: (لا خير فيمن لا يتعجب من العجب
وأرذل منه المتعجب من غير عجب) والعجب والتعجب واحد. وهو تغير النفس
بما خفي سببه عن الكافر وخرج عن العادة، فهؤلاء الجهال توهموا انهم إذا صاروا
ترابا لا يمكن ان يصيروا حيوانا. والذي أنشأهم أول مرة قادر ان يعيدهم ثانية.
ثم اخبر تعالى عنهم، فقال: هؤلاء هم الذين جحدوا نعم الله، وكفروا بآياته
220

ودلالاته، وهم الذين يحشرهم الله يوم القيامة، والاغلال في أعناقهم. والغل
طوق يقيد به اليد في العنق، وأصله الغل في الشئ إذا انتسب فيه. وغل:
إذا خان بانتسابه في مال الحرام والأعناق جمع عنق، وهو مغرز الرأس. وقيل إن
المعنى في ذلك انهم يؤاخذون بأعمالهم، وهي الاغلال، كما قال " إذ الاغلال
في أعناقهم " (1) فكأنهم بمنزلة من الغل في عنقه لما لزمهم من الكفر به، فقال
و " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " اخبار منه تعالى انهم بعد الغل في
أعناقهم يجعلون في النار مؤبدين فيها معذبين بأنواع العذاب.
قوله تعالى:
(ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم
المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك
لشديد العقاب) (7) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار يطلبون منك ما يسوؤهم ان يعجل
لهم، كما قالوا " أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " (2) قبل ان
يسألوا الاحسان بالانتظار لهم، وقد حكم الله تعالى ان يمهلهم التوبة. ثم يأخذ من
أقام على القبح بالعقوبة. والاستعجال طلب التعجيل، والتعجيل تقديم الشئ
قبل وقته الذي يقدر له. والسيئة خصلة تسوء النفس، ساءه يسوءه سوءا، وهو
ساء وهي سايئة وسئ وسيئة قال الشاعر:
ولا سئ يردي إذا ما تلبسوا * إلى حاجة يوما مخلسه بزلا
والحسنة خصلة تسر النفس وقد يعبر بهما عن الطاعة، والمعصية.

(1) سورة المؤمن (غافر) آية 71
(2) سورة الأنفال آية 32.
221

وقوله " خلت من قبلهم المثلاث " أي مضت بانقضائها كمضي أهل الدار عنها،
يقال: خلت الديار بهلاك أهلها وخلوهم بخلو مكانهم منها، والمثلاث العقوبات
التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله واحدها مثلة مثل سمرة وصدقة، وفي الجمع
سمرات وصدقات، ويقال مثلت به أمثل مثلا بفتح الميم وسكون الثاء، وأمثلته
من صاحبه إمثالا إذا قصصته منه وتميم تقول: مثلة على وزن غرفة، ثم قال
" وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " على وجه الاخبار عن نفسه بالرحمة
بخلقه والتفضل عليهم بأنه يغفر للناس على كونهم ظالمين وذلك يدل على بطلان
قول من قال إن أصحاب الكبائر لا يجوز ان يعفو الله عنهم إلا بالتوبة، لأنه
تعالى لم يشرط في ذلك التوبة ومن شرط في الآية التوبة أو خصها بالصغائر كان
تاركا للظاهر.
وقوله " وان ربك لشديد العقاب " اخبار منه تعالى بأنه كما يغفر تارة مع
الظلم، كذلك قد يعاقب مع الاصرار عذابا شديدا فلا تغتروا بذلك ولا تعولوا
على مجرد العفو لأنه يجوز ان لا يعفو.
قوله تعالى:
(ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما
أنت منذر ولكل قوم هاد) (8) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى ان هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم يقولون هلا انزل على
محمد آية يقترحونها مثل ما حكى الله عنهم من نحو تفجير الأنهار بحيث سألوا سقي
البلاد ونقل جبال مكة عن أماكنها لتتسع على أهلها وإنزال كتاب من السماء
إلى الأرض يقرؤن فيه الأمور التي دعاهم إليها، فقال الله تعالى له ليس أمر بالآيات
إليك إنما أمرها إلى الله ينزلها على ما يعلمه من مصالح العباد " وإنما أنت منذر "
اي معلم لهم على وجه التخويف لهم معاصي الله وعقابه، " ولكل قوم هاد "
يهديهم إلى الحق. وللناس في معناه خمسة أقوال:
222

أحدها - روي عن ابن عباس بخلاف فيه ان الهادي هو الداعي إلى الحق.
والثاني - قال مجاهد وقتادة وابن زيد: انه نبي كل أمة.
الثالث - في رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ورواية عن مجاهد
والضحاك: ان الهادي هو الله.
الرابع - قال الحسن وقتادة في رواية وأبو الضحى وعكرمة: انه محمد صلى الله عليه وسلم،
وهو اختيار الجبائي.
والخامس - ما روي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع) إن الهادي هو امام
كل عصر، معصوم يؤمن عليه الغلط وتعمد الباطل.
وروى الطبري باسناده عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما
نزلت " إنما أنت منذر ولكل قوم هاد " وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره،
وقال انا المنذر ولكل قوم هاد " وأومأ بيده إلى منكب علي (ع)، فقال أنت
الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي.
قوله تعالى:
(الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما
تزداد وكل شئ عنده بمقدار (9) عالم الغيب والشهادة الكبير
المتعال) (10) آيتان بلا خلاف.
قرأ ابن كثير " المتعالي " بياء في الوصل والوقف الا المالكي والعطار عن الزبيبي
ويعقوب، وروى المالكي والعطار عن الزبيبي بياء في الوقف دون الوصل.
الباقون بغير ياء في الحالين. وروي عن أبي عمير - في رواية شاذة - مثل ابن
كثير، قال أبو علي: اثبات الياء في الحالين هو القياس، وليس ما فيه الألف
واللام من هذا الباب كما لا الف فيه ولام نحو قاض وغاز. قال سيبويه إذا لم
يكن في موضع تنوين يعنى اسم الفاعل فان الاثبات أجود في الوقف نحو هذا
223

القاضي، وهذا الغازي، لأنها ثابتة في الوصل يريد ان الياء مع الألف واللام تثبت
ولا تحذف كما تحذف من اسم الفاعل إذا لم يكن فيه الألف واللام، نحو هذا قاض،
فاعلم، فالياء مع غير الألف واللام تحذف في الوصل، فإذا حذفت في الوصل
كان القياس ان تحذف في الوقف. وهي اللغة والاقيس. فأما إذا حذفت الألف
واللام، ولا يحذف اللام - في اللغة التي هي أكثر عند سيبويه، فأما من حذف في
الوصل والوقف فلان سيبويه زعم أن من العرب من يحذف هذا في الوقف شبهه
بما ليس فيه الف ولام إذ كانت تذهب الياء في الوصل في التنوين لو لم يكن
الف ولام واما حذفهم لها في الوصل فلم يكن القياس، لأنه لم يضطر إلى حذفه
لشئ كما اضطر ما لا الف ولام فيه لالتقاء الساكنين، فكر هوا حركة الياء بالضم
والكسر لكن حذف، كما حذف في الفواصل وما أشبه الفواصل تشبيها.
بالقوافي.
اخبر الله تعالى انه عز وجل " يعلم ما تحمل كل أنثى " من علقة أو مضغة ومن
ذكر أو أنثى ومن زائد أو ناقص وعلى جميع أحواله وصفاته، لأنه عالم لنفسه.
(والحمل) بفتح الحاء ما كان في البطن - وبكسرها - ما كان على الظهر وقوله
" وما تغيض الأرحام " وما تزداد، وقيل فيه ثلاثة أقوال:
الأول ما ينقص من ستة أشهر وما يزداد لان الولد يولد لستة اشهر فيعيش
ويولد لسنتين فيعيش ذهب إليه الضحاك.
الثاني - قال الحسن ما ينقص بالسقط وما يزداد بالتمام.
الثالث قال ابن زيد ما ينقص بغور النطفة وظهور دم الحيض فينقص تلك
الأيام، لأنه لا يعتد بها في الحمل وينقص حال الولد وما يزداد من الأشهر، وفي
حال الولد. وقال الفراء الغيض النقصان، تقولون: غاضت المياه اي نقصت،
وفي الحديث (إذا كان الشتاء غيضا والولد غيضا وغاضت الكرم غيضا وفاضت
اللئام فيضا) وقال الزجاج الغيض النقصان.
وقوله " وكل شئ عنده بمقدار " قيل في معناه قولان:
224

أحدهما - ان جميع ما يفعله الله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة من غير
نقصان ولا زيادة، وقال قتادة: معناه كل شئ عنده بمقدار في الرزق والأجل.
والمقدار مثال يقدر به غيره. ثم اخبر تعالى أنه عالم بما غاب عن الحواس وبما
ظهر لها فالغيب كون الشئ بحيث يخفى عن الحس، يقال غاب يغيب، فهو
غائب. والشهادة حصول الشئ بحيث يظهر للحس ومنه الشاهد خلاف الغائب.
ويقال شهد في المصر إذا حضر فيه. ومنه قوله " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " (1)
اي من حضر المصر فيه، وإنما قال " عالم الغيب " مع أن الله تعالى لا يغيب عنه
شئ، لأنه أراد ما غاب عن احساس العباد. وقيل إنه أراد انه يعلم المعدوم
والموجود، فالغيب هو المعدوم. وقال الحسن: الغيب السر، والشهادة
العلانية.
وقوله " الكبير المتعال " فالكبير هو السيد المقتدر. ومعناه الأكبر بسعة
مقدوره. والمتعالي المقتدر بما يستحيل أن يكون أعلى منه في الاقتدار أو مساويا
له، فهو أقدر من كل قادر، ولهذا استحالت مساواته في المقدور، لان من لا
يساويه أحد في المقدور فهو أعلى في المقدور، كأنه قال: تعالى مقدوره إلى
ما يستحيل أن يكون أعلى منه. وقال الحسن: المتعالي عما يقول المشركون فيه.
قوله تعالى:
(سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف
بالليل وسارب بالنهار) (11) آية بلا خلاف.
معنى الآية ان الله تعالى الذي وصف نفسه بأنه الكبير المتعالي على غيره بسعة
قدرته سواء عليه الأشياء في أنه يعلمها على اختلاف حالاتها، وانه يعلم الانسان

(1) سورة البقرة آية 185
225

على تصرف أحواله مما يسر في نفسه اي يخفيه أو يعلنه أو يستتر بالليل أو يسرب
بالنهار، كل ذلك سواء في ظهوره له، فيجب ان يحذر من هذه صفته، ويعلم انه يأتي
بالآيات بحسب ما يعلمه من مصلحة خلقه. وقال الزجاج: المعنى ان الظاهر في
الطرقات والمستخفي في الظلمات والجاهر بنطقه والمضمر في نفسه في معلوم الله
" سواء " اي ليس ببعض ذلك اعلم من بعض. وقال الحسن: " سارب بالنهار "
اي مستتر فيه. وقال قطرب: يجوز أن يكون معنى " مستخف بالليل " اي
ظاهر بالليل " وسارب بالنهار " اي مستتر فيه. قال الزجاج: هذا جائز في
اللغة، يقال منه انسرب الوحش إذا دخل في كناسه. وقال أبو رجاء: السارب
الذاهب على وجهه، يقال انسرب فلان انسرابا. وقال ابن عباس وقتادة:
السارب الظاهر من خفى كان فيه. ويقال: فلان سارب في مذهبه اي ظاهر
يقال: خلا سربه اي طريقه، ويقال: فلان آمن في سر به بالفتح والخفض معا
قال قيس بن الخطيم:
أنى سربت وكنت غير سروب * وتقرب الأحلام غير قريب (1)
وقال قوم: السارب الذي يسلك في سربه اي في مذهبه، يقال منه:
سرب يسرب سروبا. وقال بعضهم السارب الجاري في خروجه إلى الامر
بسرعة * يقال انسرب الماء من خروز القربة، قال ذو الرمة:
ما بال عينك منها الماء منسكب * كأنها من كلى مفرية سرب (2)
فالاستخفاء طلب الاختفاء، خفي يخفى نقيض ظهره يظهر ظهورا. واختفى
اختفاء وأخفاه إخفاه، وتخفى تخفيا. والاسرار إخفاء المعنى في النفس، فأسر
القول معناه أخفى في نفسه، والجهر رفع الصوت بالقول، يقال: لصوته جهارة
اي قوة في رفعه إياه، وهو يجاهر بأمره اي يظهره ويعلنه. والسواء هو

(1) اللسان (سرب).
(2) مجمع البيان 3: 279 واللسان (سرب) والطبري 13: 66 وروايته. (تنسكب)
بدر (منسكب).
226

الاعتدال في الوزن. و (من) في موضع الذي، وهما مرتفعان و " سواء " رفع
بالابتداء، وهو يطلب اثنين. تقول: سواء زيد وعمرو، اي هما مستويان.
قوله تعالى:
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر
الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله
بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) (12)
آية بلا خلاف.
اختلفوا في الهاء في قوله " له " إلى من ترجع، فقال ابن زيد: على اسم
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " إنما أنت منذر " وقال غيره: على اسم الله في قوله " عالم الغيب
والشهادة " وقال قوم: على (من) في قوله " من أسر القول ومن جهر " فكأنه
قال للانسان معقبات وهو الأقوى. والمعقبات في هذا الموضع هم الملائكة، فقال
الحسن وقتادة ومجاهد: ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار، وقال ابن عباس - في
رواية - انهم الامراء والولاة لهم حرس وأعوان يحفظونهم. وقال الحسن: هم
أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر، والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل
واحد منها صاحبه، ويكون بدلا منه. وأصل التعقيب كون شئ بعد آخر،
فالمعقبات الكائنات على خلف بعضها لبعض بعد ذهابه، والمعقب الطالب دينه
مرة بعد أخرى قال لبيد:
حتى تهجر في الرواح وهاجه * طلب المعقب حقه المظلوم (1)
ومنه العقاب لأنه يستحق عقيب المعصية. والعقاب لأنه يعقب بطلبه لصيد ه

(1) مجمع البيان 3: 279 وتفسير الطبري 13: 72.
227

مرة بعد مرة، والعقب لأنه يعقب به لشده على الشئ مرة بعد مرة، وهو جمع
الجمع، لان واحده معقب مثل رجالة ورجالات. وفي قراءة أهل البيت " له
معقبات من خلفه ورقيب بين يديه " قالوا لان المعقب لا يكون الامن خلفه.
وقوله " يحفظونه من امر الله " قيل في معناه أقول:
أحدها - قال الحسن وقتادة: المعنى بأمر الله، كما تقول جئتك من دعائك
إياي اي بدعائك، وفي قراءة أهل البيت " بأمر الله "
وقال مجاهد وإبراهيم: يحفظونه من امر الله من الجن والهوام. والمعنى ذلك
الحفظ من امر الله.
وقال قوم: معناه عن أمر الله، كما يقال أطعمه عن جوع ومن جوع.
وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، كأنه قال له معقبات من بين يديه ومن
خلفه من أمر الله يحفظونه، وإنما قال يحفظونه على التذكير مع قوله " له
معقبات " على التأنيث حملا على المعنى، وفي تفسير أهل البيت إن معناه يحفظونه
بأمر الله.
وقوله " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " معناه ان الله لا
يسلب قوما نعمة حتى يعملوا بمعاصيه التي يستوجبون بها العقاب فإنه حينئذ
يعاقبهم ويغير نعمه عليهم.
وفي ذلك دلالة على فساد قول المجبرة: إن الله يعذب الأطفال، لأنهم لم يغيروا
ما بأنفسهم بمعصية كانت منهم. والتغيير تصيير الشئ على خلاف ما كان مما لو
شوهد شوهد على خلاف ما كان.
وقوله " وإذا أراد الله بقوم سوءا " يعنى هلاكا " فلا مرد له وما لهم من دونه
من وال " معناه لا يقدر أحد على دفعه ولا نصرته عليه بل هو تعالى الغالب.
لكل شئ القاهر لمن يريد قهره، والوالي فاعل من ولي يلي فهو وال وولي مثل
عالم وعليم، والله ولي المؤمن اي ناصره، والمعنى لا يتولاهم أحد الا الله.
228

قوله تعالى:
(هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ينشئ السحاب
الثقال (13) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل
الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد
المحال) (14) آيتان بلا خلاف.
اخبر الله تعالى انه هو الذي يرى الخلق البرق اي يجعلهم على صفة الرؤية
بايجاد المرئي لهم وجعله إياهم على هذه الصفة التي يرون معها المرتيات من كونهم
احياء ورفع الموانع والآفات منهم يقال: أراه يريه إراءة إذا جعله رائيا مثل
أقامه يقيمه إقامة، وهو مشتق من الرؤية. والبرق ما ينقدح من السحاب من
اللمعان كعمود النار وجمعه بروق وفيه معنى السرعة، يقال: امض في حاجتك
كالبرق، والخوف انزعاج النفس بتوهم وقوع الضرر، خاف من كذا يخاف
خوفا فهو خائف. والشئ مخوف. والطمع تقدير النفس لوقوع ما يتوهم من
المحبوب. ومثله الرجاء والأمل.
وقيل في معني قوله " خوفا وطمعا " قولان:
أحدهما - قال الحسن: خوفا من الصواعق التي تكون مع البرق وطمعا في
الغيث الذي يزيل الجدب والقحط.
وقال قتادة: خوفا للمسافرين من أذاه وطمعا للمقيم في الرزق به، وهما
منصوبان على أنه مفعول له.
وقوله " وينشئ السحاب الثقال " والانشاء فعل الشئ من غير سبب مولد،
ولذلك قيل النشأة الأولى، والنشأة الثانية. ومثله الاختراع والابتداع.
والسحاب هو الغيم، وسمي به، لأنه ينسحب في السماء. وإذا قيل سحابة جمعت
229

على سحائب كقولك غمامة وغمائم والسحاب جمع سحابة، والثقال جمع ثقيل
مثل شريف وشراف وكريم وكرام. والثقل الاعتماد إلى جهة السفل، والمعنى
إن السحاب ثقال بالماء، وهو قول مجاهد.
وقوله " ويسبح الرعد بحمده " فالتسبيح تنزيه الله عز وجل عما لا يجوز
عليه، والتنزيه له من كل صفة نقص تضاف إليه، واصله البراءة من الشئ قال
الشاعر:
أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (1)
اي براءة منه. و (الرعد) اصطكاك اجرام السحاب بقدرة الله تعالى وفيه
أعظم العبرة وأوضح الدلالة، لأنه مع ثقله وهو له، وغلظ جرمه حتى يسمع
مثل الرعد في عظمه معلق بقدرته تعالى لا يسقط إلى الأرض منه شئ ثم ينقشع
كأنه لم يكن، ولا شي منه، وقد ذكرنا اختلاف المفسرين في الرعد في سورة
البقرة (2). والحمد الوصف بالجميل من الاحسان على وجه التعظيم.
وقيل في معنى قوله " ويسبح الرعد بحمده " ثلاثة أقوال:
أحدها - يسبح بما فيه من الدلالة على تعظيم الله ووجوب حمده، فكأنه
هو المسبح لله عز وجل.
الثاني - انه يسبح بما فيه من الآية التي تدعو إلى تسبيح الله تعالى.
الثالث ان الرعد ملك يزجر السحاب بالصوت الذي يسمع، وهو تسبيح
الله بما يذكره من تعظيم الله.
وقوله " والملائكة من خيفته، تقديره ويسبحه الملائكة من خيفته. والفرق
بين الخيفة والخوف، ان الخيفة صفة للحال مثل قولك: هذه ركبة اي حال من

(1) مر هذا البيت في 1: 134، 3: 81، 5: 241، 395
(2) في 1: 92.
230

الركوب الحسن، وكذلك هذه خفية شديدة. والخوف مصدره مطلق غير
مضمن بالحال.
وقوله " ويرسل الصواعق " وهي جمع صاعقة وهي نار لطيفة تسقط من
السماء بحال هائلة من شدة الرعد وعظم الامر يقال: إنها قد تسقط على النخلة
وكثير من الأشجار تحرقها، وعلى الحيوان فتقتله.
وقوله " فيصيب بها " يعني بالصاعقة من يشاء من عباده. وقوله " وهم
يجادلون في الله " يعني هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات يخاصمون أهل
التوحيد، ويحاولون فتلهم عن مذهبهم بجدالهم. والجدال فتل الخصم عن
مذهبه بطريق الحجاج.
وقوله " وهو شديد المحال " فالشدة قوة العقدة وفي بدن فلان شدة اي قوة
كقوة العقدة، وشدة العقاب قوته يغلظ على النفس، كقوة العقدة، والمحال
الاخذ بالعقاب، يقال ما حلت فلانا اما حله مماحلة ومحالا، ومحلت به أمحل محلا
إذا فتلته إلى هلكه. والميم أصلية في المحل يقال محلني يا فلان اي قوني. وقال
الجبائي: شديد الكيد للكفار، وسني المحل سني الهلاك بالقحط. واصله الفتل
إلى الهلاك قال الأعشى:
فرع نبع يهتز في غصن المجد * غزير الندى شديد المحال (1)
وقيل فيمن نزلت هذه الآية قولان:
أحدهما - قال أنس بن مالك وعبد الرحمن صحار العبدي، ومجاهد: انها
نزلت في رجل من الطغاة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله، فقال يا محمد مم ربك أمن
لؤلؤ أم ياقوت أم من ذهب أم من فضة؟ فأرسل الله عليه صاعقة، فذهبت
بقحفه.

(1) ديوانه (دار بيروت) 166 وتفسير الطبري 13: 75 المحال: العقوبة
231

وقال ابن جريج: نزلت في أربد، لما أراد هو وعامر بن الطفيل قتل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فجفت يده على قائم سيفه، فرجع خائبا، فأرسل الله (عز وجل)
عليه في طريقه صاعقة فأحرقته وابتلى عامرا بغدة كغدة البعير قتلته حتى قال
عند موته: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية. وفي ذلك يقول لبيد ابن
ربيعة في أربد، وكان أخاه:
أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد
ففجعني البرق والصواعق * بالفارس يوم الكريهة النجد (1)
قوله تعالى:
(له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم
بشئ إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما
دعاء الكافرين إلا في ضلال) (15) آية بلا خلا ف.
أخبر الله تعالى بأن له (عز وجل) دعوة الحق. وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس وقتادة وابن زيد إنها شهادة ان لا إله على اخلاص
التوحيد.
الثاني - قال الحسن: الله هو الحق، فمن دعاه دعا الحق. وقال قوم: كل
دعوة هي حق جاز ان تضاف إلى الله، قال أبو علي دعوة الحق هي الدعوة التي
يدعى الله بها على اخلاص التوحيد، والدعوة طلب فعل الشئ، فالانسان يدعو
ربه ان يدخله في رحمته وهو أهل المغفرة والرحمة، وكل ما لابسه الانسان، فقد
دخل فيه. والمعنى لله من خلقه الدعوة الحق. وقوله " والذين يدعون من دونه " قيل
في معناه قولان:

(1) تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13: 71، 74 ومجمع البيان 3: 283
232

أحدهما - قال الحسن: والذين يدعون من الأوثان لحاجاتهم.
الثاني - الذين يدعون أربابا. وقيل إن المعنى الذين يدعون غيره مقصرين
عن دعائهم له، كما قال الشاعر:
أتوعدني وراء بني رياح * كذبت لتقصرن يداك دوني (1)
اي عني، " لا يستجيبون لهم بشئ " فالاستجابة متابعة الداعي فيما دعا إليه
بموافقة إرادته والاستجابة، والإجابة واحد إلا أن صيغة الاستجابة تفيد طلب
الموافقة، قال الشاعر:
وداع دعا يامن يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب (2)
وقوله " إلا كباسط كفيه إلى الماء " معناه قال مجاهد: كباسط كفه إلى الماء
مشيرا إليه من غير تناول الاناء ليبلغ فاه ببسط كفه ودعائه له. وقال الحسن
معناه كباسط كفيه إلى الماء، فمات قبل ان يصل إليه، والعرب تضربه مثلا لمن
سعى فيما لا يدركه كالقابض على الماء قال الشاعر:
فأني وإياكم وشوقا إليكم * كقابض ماء لم تسقه أنامله (3)
وقال الآخر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها * من الود مثل القابض الماء باليد (4)
" وما هو ببالغه " إخبار منه تعالى ان من كان كذلك لا يبلغ الماء فاه. ثم أخبر
تعالى فقال " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " أي ليس دعاؤهم الأوثان من دون الله إلا
الاضلال عن الحق وعدولا عن طريقه وأنه جاز مجرى ما ذكره من باسط كفيه

(1) تفسير الطبري 2: 90، 13: 76
(2) قد مر هذا البيت في 1: 36، 86، 2: 131، 3: 88، 4: 182، 5:
119 وهو في اللسان والتاج (جوب) وأمالي القالي 2: 115 ومجاز القرآن 1: 67،
326.
(3) قائلة ضابي بن الحارث البرجمي. تفسير الطبري 13: 76 ومجمع البيان 3: 284.
(4) مجاز القرآن 1: 327 والطبري 13: 76 والقرطبي 9: 301 والشوكاني 3: 96
ومجمع البيان 3: 284.
233

إلى الماء، وهو بعيد منه من غير أن يتناوله ويدعوه إلى فمه، فان ذلك لا يصل
إليه أبدا.
قوله تعالى:
(ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها
وظلالهم بالغدو والآصال) (16) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى ان جميع من في السماوات والأرض يسجدون له إما طوعا
منهم أو كرها. وقيل في معنى ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الحسن وقتادة وابن زيد: ان المؤمن يسجد طوعا، والكافر
يسجد كرها بالسيف، ويكون المعنى على هذا إن السجود واجب لله، فالمؤمن
يفعله طوعا والكافر يؤخذ بالسجود كرها اي هذا الحكم في وجوب السجود لله
الثاني - ان المؤمن يسجد لله طوعا، والكافر في حكم الساجد كرها بما فيه
من الحاجة إليه، والذلة التي تدعو إلى الخضوع لله تعالى.
الثالث - قال أبو علي: سجود الكره بالتذليل للتصريف من عافية إلى
مرض، وغنى إلى فقر وحياة إلى موت كتذليل الاكم للحوافر في قول الشاعر:
ترى الاكم فيها سجدا للحوافر (1)
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إن فيمن سجد لله من يسهل ذلك عليه
وفيهم من يشق عليه فيكرهه، كما قال " حملته أمه كرها وضعته كرها " (2).
وقوله " وظلالهم بالغدو والآصال " أي وتسجد ظلالهم. وقيل في معناه
قولان:
أحدهما - ان سجود الظلال بما فيه من تغير الذلة التي تدعو إلي صانع غير

(1) قد مر هذا البيت في 1: 263، 4: 233، 6 / 197، 235
(2) سورة الاحقاق 46 آية 15
234

مصنوع له العزة والقدرة.
والثاني - قيل سجود الظل لأنه يقصر بارتفاع الشمس ويطول بانحطاطها،
وذلك من آيات الله الدالة عليه، والسجود هو وضع الوجه على الأرض على وجه
الخضوع مذلة لمن وضع له، وأصله التذليل من قول الشاعر:
بجمع تظل البلق في حجراته * ترى الاكم فيها سجدا للحوافر (1)
واصل السجود هو الميل والتطأطؤ يقال: سجد البعير وأسجده صاحبه إذا
طأطأه ليركبه شبه السجود في الصلاة بذلك وعلى هذا يحمل سجود الظلال
وسجود الكفار، ويراد بذلك حركاتهم وتصاريفهم، فان ذلك أجمع يدل على أن
الله الخالق لهم والمدبر لمعايشهم، والطوع الانقياد للامر الذي يدعا إليه من قبل
النفس وهو نقيض الكره، والكره الجر إلى الامر على إباء النفس، واصله الكراهة
ضد الإرادة، إلا أنه جعل نقيض الطوع. والظلال جمع ظل وهو ستر الشخص
ما بإزائه. والظل الظليل هو ستر الشمس اللازم. واما الفئ فهو الذي يرجع
بعد ذهاب ضوئه، ومنه الظلة، لأنها ساترة. والظل والظلال مثل زق
وزقاق. الآصال جمع أصل، والأصل جمع أصيل، وهو العشي، فكأنه قيل
أصل الليل الذي ينشأ منه، لأنه مأخوذ من الأصيل، وهو ما بين العصر إلى
مغرب الشمس، قال أبو ذؤيب:
لعمري لانت البيت أكرم أهله * واقعد في افنائه بالاصائل (2)
قوله تعالى:
(قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من
دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي

(1) قد مر في 1: 263، 4: 233.
(2) تفسير الطبري 13 / 77 وروايته (وابعد) بدل (واقعد)
235

الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور (17) أم جعلوا
لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل
شئ وهو الواحد القهار) (18) آية في الكوفي وآيتان في البصري
والمدنيين تمام الأولى " والنور ".
قرأ أهل الكوفة إلا " حفصا أم هل يستوي " بالياء. الباقون بالتاء، من قرأ بالتاء
فلانه مسند إلى مؤنث لم يفصل بينه وبين فاعله بشئ كما قال " قالت الاعراب " (1)،
و " قالت اليهود " (2) و " إذ قالت أمة " (3) وقد جاء في مثل ذلك التذكير، كقوله
" وقال نسوة " (4) ومن قرأ بالياء، فلانه تأنيث غير حقيقي والفعل مقدم.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، يأمره بأن يقول لهؤلاء الكفار " من رب
السماوات والأرض " أي من مدبر هما ومصرفهما على ما فيهما من العجائب، فإنهم لا يمكنهم
أن يدعوا أن مدبر السماوات والأرض الأصنام التي يعبدونها، فإذا لم يمكنهم ذلك،
فقل لهم رب السماوات والأرض وما بينهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد " الله "
تعالى، فإذا أقروا بذلك فقل لهم على وجه التبكيت لهم والتوبيخ لفعلهم:
أفاتخذتم من دون الله أولياء توجهون عبادتكم إليهم؟! فالصورة صورة الاستفهام
والمراد به التقريع والتوبيخ. ثم بين ان هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من الأصنام
والأوثان لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ومن لا يملك لنفسه ذلك فإنه بأن لا يملك
لغيره، أولى وأحرى، ومن كان كذلك كيف يستحق العبادة ثم قال لهم " هل
يستوى الأعمى والبصير " أم هل يتساوى الأعمى عن طريق الحق والعادل عنه
إلى الضلال. والبصير الذي اهتدى إلى الحق، فإنهما لا يتساويان ابدا، كما لا

(1) سورة الحجرات آية 14
(2) سورة البقرة آية 113 والتوبة آية 3 والمائدة 19، 65
(3) سورة الأعراف آية 164
(4) سورة يوسف 12 آية 30،
236

يتساوى الظلمات والنور. ثم قال هل جعلوا يعني هؤلاء الكفار لله شركاء في
العبادة خلقوا أفعالا مثل خلق الله، من خلق الأجسام والألوان والطعوم
والأراجيح، والموت والحياة، والشهوة والنفار، وغير ذلك من الافعال التي
مختص تعالى بالقدرة عليها فاشتبه ذلك عليهم، فظنوا أنها تستحق العبادة، لان
افعالها مثل افعال الله، فإذا لم يكن ذلك شبيها بل كان معلوما لهم ان جميع ذلك
ليست من جهة الأصنام، فقل لهم الله خالق كل شئ اي هو خالق جميع ذلك
يعني ما تقدم من الافعال التي يستحق بها العبادة.
وقوله " وهو الواحد القهار " اي الخالق لذلك واحد لا ثاني له وهو الذي
يقهر كل قادر سواه لا يقدر على امتناعه منه.
ومن تعلق من المجبرة بقوله " قل الله خالق كل شئ " على أن أفعال العباد
مخلوقة لله، فقد أبعد، لان المراد ما قدمناه من أنه تعالى خالق كل شئ
يستحق بخلقه العبادة دون ما لا يستحق به ذلك. ولو كان المراد ما قالوه لكان
فيه حجة للخلق على الله تعالى وبطل التوبيخ الذي تضمنته الآية إلى من وجه
عبادته إلى الأصنام، لأنه إذا كان الخالق لعبادتهم الأصنام هو الله على قول المجبرة
فلا توبيخ يتوجه على الكفار، ولا لوم يلحقهم بل لهم ان يقولوا: إنك خلقت
فينا ذلك فما ذنبنا فيه ولم توبخنا على فعل فعلته؟ فتبطل حينئذ فائدة الآية. على أنه
تعالى إنما نفى أن يكون أحد يخلق مثل خلقه، ونحن لا نقول إن أحدا يخلق
مثل خلق الله، لان خلق الله اختراع مبتدع، وافعال غيره مفعولة في محل
القدرة عليه مباشرا أو متولدا في غيره بسبب حال في محل القدرة ولا يقدر
أحدنا على اختراع الافعال في غيره على وجه من الوجوه، ولان أحدنا يفعل ما
يجربه نفعا أو يدفع به ضررا، والله تعالى لا يفعل لذلك فبان الفرق بين خلقنا
وخلقه. ولان أحدنا يفعل بقدرة محدثة. يفعلها الله فيه والله تعالى يفعل، لأنه
قادر لنفسه. وأيضا فان ههنا أجناسا لا نقدر عليها، وهو تعالى قادر على جميع
الأجناس، ونحن لا نقدر ان نفعل بقدرة واحدة في وقت واحد في محل واحد
237

من جنس واحد أكثر من جزء واحد، والله تعالى يقدر ان يفعل ما لا نهاية له
فبان الفرق بيننا وبينه من هذه الوجوه.
قوله تعالى:
(أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل
زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد
مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء
واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله
الأمثال) (19) آية واحدة بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " ومما يوقدون " بالياء الباقون بالتاء قال أبو
علي: من قرأ بالتاء فلما قبله من الخطاب، وهو قوله " قل أفاتخذتم " ويجوز أن يكون
خطابا عاما، يراد به الكافة، فكان المعنى " مما توقدون " عليه أيها
الموقدون زبد مثل زبد الماء الذي عليه السيل " فاما الزبد فيذهب جفاء " لا ينتفع
به كما ينتفع بما يخلص بعد الزبد من الماء والذهب والفضة والصفر. ومن قرأ
بالياء، فلان الغيبة قد تقدم في قوله " أم جعلوا لله شركاء " ويجوز ان يراد به
جميع الناس ويقوي ذلك قوله " واما ما ينفع الناس " فكما ان الناس يعم المؤمن
والكافر كذلك الضمير في " يوقدون " وقال " ومما يوقدون عليه في النار "
كقوله " فأوقد لي يا هامان على الطين " (1) فهذا إيقاد على ما ليس في النار، وإن كان
يلحقه وهجها ولهبها وأما قوله " بورك من في النار " (2) فالمعنى على من في قرب
النار، وليس يراد به متوغلها " ومن حولها " (3) ومن لم يقرب منها قرب الآخرين

(1) سورة القصص 28 آية 38
(2) سورة النمل 27 آية 8
(3) سورة النمل 27 آية 8
238

ألا ترى ان قوله " وممن حولكم من الاعراب منافقون " (1) لم يقرب المنافقون الذين
حولهم فيه قرب المخالطين لهم حيث يحضرونه ويشهدونه في مشاهدهم.
قال الحسن يقول الذي " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها " إلى قوله
" ابتغاء حلية " الذهب والفضة والمتاع والصفر والحديد " كذلك يضرب الله
الحق والباطل " كما أوقد على الذهب والفضة والصفر والحديد، فيخلص خالصه،
" كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع
الناس فيمكث في الأرض " قال فكذلك الحق بقي لأهله فانتفعوا به.
وقرأ الحسن " بقدرها " بتخفيف الدال وهما لغتان يقال أعطى قدر شبر وفي
المصدر بالتخفيف لا غير تقول: قدرت أقدر قدرا، وفي المثل التخفيف، والتثقيل
تقول: هم يختصمون في القدر بالسكون والحركة قال الشاعر:
الا يا لقوم للنوائب والقدر * وللامر يأتي المرء من حيث لا يدري (2)
أخبر الله تعالى انه هو الذي ينزل من السماء ماء يعني الأمطار والغيوث،
فتسيل هذه المياه أودية بقدرها من القلة والكثرة. والسيل جري الماء من الوادي
على وجه الكثرة. يقال جاء السيل يغرق الدنيا، وسال بهم السيل إذا جحفهم
بكثرته. والوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، ومنه
اشتقاق الدية، لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل، والقدر إقران
الشئ بغيره من غير زيادة ولا نقصان. والوزن يزيد وينقص، فإذا كان مساويا،
فهو القدر.
وقوله " فاحتمل السيل زبدا رابيا " فالاحتمال رفع الشئ على الظهر بقوة
الحامل له، ويقال علا صوته على فلان فاحتمله، ولم يغضبه، فقوله هذا يحتمل
وجهين: معناه له قوة يحمل بها الوجهين، والزبد وضر الغليان، وهو خبث الغليان
ومنه زبد القدر، وزبد السيل، وزبد البعير. والجفاء ممدود مثل الغثاء وأصله

(1) سورة التوبة 9 آية 101
(2) مجمع البيان 3: 286
239

الهمزة يقال جفا الوادي جفاء. قال الفراء: كل شئ ينضم بعضه إلى بعض فإنه
يجئ على (فعال) مثل الحطام والقماش والغشاء والجفاء، فإذا أردت المصدر،
فهو مقصور.
وقوله " رابيا " معناه زائدا، يقال ربا يربو ربا فهو راب. ومنه الربا المحرم.
وقوله " ومما توقدون عليه " اي ومن ذلك توقدون عليه زبد مثله، والايقاد
القاء الحطب في النار أوقد ايقادا واستوقدت النار واتقدت وتوقدت.
وقوله " ابتغاء حلية " معناه طلب حلية من الذهب والفضة أو متاع يعني
الصفر والحديد، والمتاع ما تمتعت به قال الشاعر:
تمتع يا مشعث إن شيئا * سبقت به الممات هو المتاع (1)
" زبد مثله " يعني من الذي يوقد عليه زبد مثل زبد السيل، ومثل الشئ ما سد
مسده، وقام مقامه، فيما يرجع إلى ذاته.
وقوله " كذلك يضرب الله الحق والباطل " اي يضرب المثل للحق والباطل،
وضرب المثل تسييره في البلاد حتى يتمثل به الناس
وقوله " قاما الزبد فيذهب جفاء " اخبار منه تعالى ان الزبد الذي يعلو على
الماء والنار يذهب باطلا وهالكا، قال أبو عبيدة قال أبو عمرو، وتقول العرب
أجفأت القدر إذا غلت فانصب زبدها، وسكنت فلا يبقى منه شئ والجفاء
ممدود مثل الغثاء، واصله الهمز.
وقوله " واما ما ينفع الناس " من الماء الصافي، والذهب، والفضة، والحديد،
والصفر " فيمكث في الأرض " اي يلبث ويثبت. والمكث الكون في المكان على
مرور الزمان مكث يمكث مكثا وتمكث تمكثا والمكث طول المقام.
وقوله " كذلك يضرب الله الأمثال " اي يضرب الله مثل الحق والباطل بالماء
الذي ينزل من السماء، وبجواهر الأرض، فإن لهما جميعا زبدا، هذا عند سيله

(1) قائلة المشعث العامري. مجاز القرآن 1: 328 واللسان والتاج (متع) ومعجم المر زباني
475 وتفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13: 81.
240

وجريه، وهذا عند إذابته بالنار وهو وسخه وخبثه، فالحق ثابت كالماء الذي
يبقي في الأرض ينبت به الزرع والشجر وكالجواهر التي في أيدي الناس تصبر
على النار، فلا تبطل فينتفعون بها. والباطل كزبد هذين يذهب، لا منفعة فيه
بعد ان يرى له حركة واضطراب. وفي ذلك تنبيه لمن تقدم ذكره من المشركين
الذين سألوا الآيات على سبيل التكذيب والعناد.
قوله تعالى:
(للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له
لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك
لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد) (20) آية بلا
خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية ان الذين يجيبون دعاء الله إلى طريق التوحيد
والعمل بشريعته وتصديق نبيه ويطلبون مرضاته في فعل ما دعاهم إليه، لهم
الحسني، وهي المنفعة العظمى في الحسن، وقال المفسرون: أراد بالحسنى الجنة
والخلود في نعيمها. وان الذين لم يجيبوا دعاءه ولم يقروا بنبيه ولم يعملوا بما دعاهم
إليه " لو أن لهم ما في الأرض جميعا " ملكا لهم ويضيفوا إليه مثله في الكثرة لافتدوا
بجميع ذلك أنفسهم من عذاب النار وطلبوا به الخلاص منه، لو قبل ذلك منهم.
والافتداء جعل أحد الشيئين بدلا من الآخر على وجه الاتقاء به، فهؤلاء لا يقيهم
من عذاب الله شئ - نعوذ بالله منه - ثم أخبر تعالى ان لهؤلاء سوء الحساب.
وقيل في معناه قولان:
قال إبراهيم النخعي: ان سوء الحساب هو مؤاخذة العبد بذنبه لا يغفر له
شئ منه.
تفسر التبيان ج 6 - م 16
241

وقال الجبائي: معناه واخذه به على وجه التوبيخ والتقريع. والحساب
إحصاء ما على العبد وله، يقال: حاسبته حسابا ومحاسبة، وحسبه يحسبه حسبا
وحسبانا.
وقوله " ومأواهم جهنم وبئس المهاد " فالمهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه،
وإنما قيل لجهنم: مهاد أي هي موضع المهاد لهم.
قوله تعالى:
(أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى
إنما يتذكر أولوا الألباب) (21) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى ان من يؤمن بالله ويعلم ان ما أنزل إليك يا محمد من ربك الحق،
لا يكون مثل من يشهد ذلك وعمي عنه، فاخرج الكلام مخرج الاستفهام والمراد
به الانكار، أي لا يكون هذان مستويين، وبين ان الفرق بينهما بمنزلة الفرق بين
الأعمى والبصير.
وقوله " إنما يتذكر أولوا الألباب " معناه إنما يتذكر في ذلك ويفكر فيه
ويستدل به ذوو العقول والمعرفة. والألباب هي العقول، واحدها لب ولب
الشئ أجل ما فيه وأخلصه وأجوده، فلب الانسان عقله لأنه أجل ما فيه،
ولب النخلة قلبها، ولب الطلعة ثمرتها التي فيها، وإنما شبه العلم بالبصر، والجهل
بالعمى، لان العلم يهتدى به إلى طريق الرشد من الغي كما يهتدى بالبصر إلى
طريق النجاة من طريق الهلاك، وعكس ذلك حال الجهل والغي. قال الرماني:
وجه الاحتجاج بالآية انه إذا كانت حال الجاهل كحال الأعمى، وحال العالم
كحال البصير وأمكن هذا الأعمى ان يستفيد بصرا، فما الذي يبعده عن طلب
العلم الذي يخرجه عن حال الأعمى بالجهل؟!. وهذا إلزام طلب العلم، لأنه خروج
عن حال الأعمى بالجهل إلى البصير بالعلم.
242

وقوله " إنما يتذكر أولوا الألباب " معناه إنما ينتفع بالذكر من كان له لب،
كقولك: إنما يترك السرف والبغي من له عقل وعلم بالعواقب، وإن كان كثير ممن
له عقل لا يترك ذلك ولا يفكر في العواقب.
قوله تعالى:
(الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) (22) آية
بلا خلاف.
موضع " الذين " رفع لأنه صفة لأولي الألباب، فكأنه قال إنما يتذكر أولوا
الألباب الذين صفتهم أنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون مواثيقه. والايفاء جعل
الشئ على المقدار من غير زيادة ولا نقصان، والعهد العقد المتقدم على الامر بما
يفعل، والنهي عما يجتنب يقال: عهد لله عهدا، وعاهده معاهدة. وتعهده تعهدا
وتعاهده تعاهدا، والنقض حل العقد بفعل ما ينافيه، والنقيض معنى تنافي
صحته صحة غيره. والنقض في المعاني إيجاد ما لا يمكن ان يصح مع غيره،
كاعتقاد ان زيدا في الدار وليس هو فيها على وجه واحد. والميثاق العهد الواقع
على إحكام. توثق توثقا واستوثق استيثاقا، وواثقه مواثقة، ووثق به وثوقا
وارثقه ايثاقا، ووثقه توثيقا.
والعهد الذي جعله في عقول العباد ما جعل فيها من اقتضاء صحة أمور الدين
وفساد أمور أخر، كاقتضاء الفعل الفاعل، وأنه لا يصح الفعل الا أن يكون
فاعله قادرا، وان المحكم لا يصح الا من عالم، وان الصانع لابد ان يرجع إلى
صانع غير مصنوع، والا أدى إلى ما لا نهاية له، وان للعالم مدبر لا يشبهه، ولا
يحتاج إلى مدبر لحاجته وما أشبه ذلك. وقد يكون أيضا على العهد الذي عاهد
عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الآية دلالة على وجوب الوفاء بالعهود التي تنعقد بين الخلق
سواء كان بين المسلمين أو الكفار، من الهدنة وغيرها.
243

قوله تعالى:
(والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم
ويخافون سوء الحساب) (23) آية بلا خلاف.
هذه الآية عطف على الأولى، وهي من صفة الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون
ميثاقه، وانهم مع ذلك " يصلون ما أمر الله به أن يوصل " والوصل ضد الفصل
يقال وصله يصله وصلا، وأوصله إيصالا، واتصل اتصالا، وتواصلوا تواصلا،
وواصلة مواصلة، ووصله توصيلا، والوصل ضم الثاني إلى الأول من غير فاصلة.
وقيل: المعنى يصلون الرحم. وقال الحسن: المعنى يصلون محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله " ويخشون ربهم " اي يخافون عقابه فيتركون معاصيه " ويخافون
سوء الحساب " وقد فسرناه. والخوف والخشية والفزع نظائر، وهو انزعاج
النفس مما لا تأمن معه من الضرر، وضد الامن الخوف. والسوء ورود ما يشق
على النفس، ساء يسوءه سوءا، وأساء إليه إساءة. والإساءة ضد الاحسان.
وقيل " سوء الحساب " مناقشة الحساب. والحساب احصاء ما على العامل وله،
وهو - ههنا - إحصاء ما على المجازى وله.
قوله تعالى:
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا
مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤن بالحسنة بالسيئة أولئك لهم
عقبى الدار) (24) آية بلا خلاف.
هذه الآية أيضا من تمام وصف الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ميثاقه
ويصلون ما امر الله بوصله، ويصبرون على ترك معاصي الله، والقيام بما أوجبه
عليهم، والصبر على بلاء الله وشدائده من الأمراض والفقر وغير ذلك. والصبر
244

حبس النفس عما تنازع إليه مما لا يجوز من الفعل وهو تجرع مرارة تمنع النفس
مما تحب من الامر.
ومعنى قوله " ابتغاء وجه ربهم " اي يفعلون ذلك طلب عظمة ربهم.
والعرب تقول ذلك في تعظيم الشئ يقولون: هذا وجه الرأي، وهذا نفس الرأي
المعظم، فكذلك سبيل وجه ربهم اي نفسه المعظم بما لا شئ أعظم منه، ولا
شئ يساويه في العظم. والمعنى ابتغاء ثواب ربهم.
وقوله " وأقاموا الصلاة " يعني أقاموها بحدودها. وقيل: معناه داوموا على
فعلها و " انفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية " اي ظاهرا وباطنا، ما يجب عليهم
من الزكاة، وما ندبوا إليه من الصدقات. والسر إخفاء المعنى في النفس، ومنه
السرور، لأنه لذة تحصل في النفس، ومنه السرير، لأنه مجلس سرور.
وقوله " ويدرؤن بالحسنة السيئة " معناه يدفعون بفعل الطاعة المعاصي،
يقال: درأته ادرؤه درءا إذا دفعة. وقال ابن زيد: الصبر على وجهين:
أحدهما - الصبر لله على ما أحب والآخر - الصبر على ما كره، كما قال " سلام
عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " وقيل يدرأون سفه الجهال بما فيهم من الحلوم.
وقيل: انهم يدفعون ظلم الغير عن نفوسهم بالرفق والمواعظ الحسنة. ثم قال تعالى
مخبرا ان هؤلاء الذين وصفهم بهذه الصفات " لهم عقبى الدار " اي عاقبة الدار،
وهي الجنة التي وعد الله الصابرين بها.
قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم
وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (25) سلام
عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (26) آيتان في الكوفي
والبصري. وآية في الباقي تمام الأولى في الكوفي والبصري. " من كل باب "
245

يقول الله تعالى إن من وصفه بالصفات المذكورة " لهم عقبى الدار " وهي
" جنات عدن " قال الزجاج: (جنات) بدل على قوله " عقبى الدار " والجنات
البساتين التي يحفها الشجر واحدها جنة وأصله الستر من قوله " جن عليه الليل " (1)
وجنه إذا ستره. و (العدن) الإقامة الطويلة، عدن بالمكان إذا أقام به يعدن
عدنا، ومنه المعادن التي يخرج منها الذهب والفضة وغيرهما.
وقوله " ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " اي ويدخل هذه الجنات
الذين عملوا الصالحات من آباء المؤمنين، ومن أزواجهم وذرياتهم. والصلاح استقامة
الحال إلى ما يدعو إليه العقل أو الشرع. والمصلح من يفعل الصلاح، والصالح
المستقيم الحال في نفسه.
وقوله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " اي يدخلون من كل باب
بالتحية والكرامة، وفي ذلك تعظيم الذكر للملائكة. وفي الآية دلالة على أن
ثواب المطيع لله سروره بما يراه في غيره من أحبته، لأنهم يسرون بدخول الجنة مع من
صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وهم أولادهم، وذلك يقتضي سرورهم بهذا
الخبر. وقوله " سلام عليكم بما صبرتم " اي يقول هؤلاء الملائكة الداخلون عليهم
" سلام عليكم. والسلام التحية بالكرامة على انتفاء كل امر يشوبه من مضرة.
والقول محذوف لدلالة الكلام عليه. والعقبى الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء
من خير أو شر، فعقبى المؤمن الجنة فهي نعم الدار، وعقبى الكافر النار،
وهي بئس الدار. و (الباء) في قوله " بما صبرتهم " يتعلق بمعنى " سلام
عليكم " لأنه دل على السلامة لكم بما صبرتم، ويحتمل ان يتعلق بمحذوف،
وتقديره هذه الكرامة لكم بما صبرتم.
وقيل في معنى " بما صبرتم " قولان:
أحدهما - أن تكون (ما) بمعنى المصدر، فكأنه قال: بصبركم.
والثاني - أن تكون بمعنى (الذي) كأنه قال بالذي صبرتم على فعل طاعاته
وتجنب معاصيه.

(1) سورة الأنعام 6 آية 76
246

قوله تعالى:
(والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما
أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة
ولهم سوء الدار) (27) آية بلا خلاف.
لما ذكر الله تعالى الذين يوفون بعهده، ولا ينقضون ميثاقه، ووصفهم
بالصفات التي يستحقون بها الجنة، وهي عقبى الدار، اخبر بعد ذلك عن حال من
ينقض عهده من بعد اعطائه المواثيق، ويقطع ما امر الله به ان يوصل، وهو ما
بيناه من صلة الرحم أوصله النبي صلى الله عليه وسلم ويفسد مع ذلك في الأرض، ومعناه ان
يعمل فيها بمعاصي الله والظلم لعباده، واخراب بلاده، فهؤلاء لهم اللعنة، وهي
الابعاد من رحمة الله، والتبعيد من جنته، " ولهم سوء الدار " يعني عذاب النار،
والخلود فيها. وقد بينا معنى النقض، وأنه التفريق بين شيئين متآلفين، ومثله
الهدم، ونقض العهد هو العمل بخلاف موجبه، والعهد عقد يتقدم به في الامر
وعهد الله عقده، وهو لزوم العمل بالحق في جميع ما أوجبه عليه، والميثاق
احكام العقد بأبلغ ما يكون مثله، وميثاق العهد توثيقه بأوكد ما يكون من
الامر. والقطع نقيض الوصل، وقطع ما امر الله به ان يوصل، في كل عمل يجب
تنميته، من صلة رحم أو غيره من الفروض اللازمة، والافساد نقيض الاصلاح.
قوله تعالى:
(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا
وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) (28) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى انه " يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " ومعناه يوسعه على من يشاء
247

من عباده، بحسب ما يعلم من مصلحته، ويضيقه على آخرين إذا علم أن مصلحتهم.
في ذلك.
وقوله " وفرحوا بالحياة الدنيا " معناه وسروا - هؤلاء الذين بسط لهم في
الرزق - بالرزق في الحياة الدنيا فنسوا فناءه وبقاء امر الآخرة. ويحتمل أن يكون
أراد به أنهم فرحوا فرح البطر، كقوله " ان الله لا يحب الفرحين " (1)
والفرح هو السرور، وهو لذة في القلب بنيل المشتهى، ومنه قوله " فرحين بما
آتاهم الله من فضله " (2).
ثم قال تعالى " وما الحياة الدنيا في الآخرة الامتاع " ومعناه ليست هذه
الحياة الدنيا بالإضافة إلى الحياة في الآخرة " إلا متاع " اي إلا قليل ذاهب في
- قول مجاهد - وإنما كان كذلك، لأن هذه فانية وتلك دائمة باقية. والمتاع ما
يقع من الانتفاع به في العاجلة، وأصله التمتع، وهو التلذذ بالامر العاجل،
ولذلك وصفت الدنيا بأنها متاع. والقدر قطع الشئ على مساواة غيره من غير
زيادة ولا نقصان، والمقدار المثال الذي يعمل فيه غيره في مساواته، ومعنى
ويقدر - ههنا - يضيق. وقال ابن عباس: ان الله تعالى خلق الخلق فجعل
الغنا لبعضهم صلاحا، والفقر لبعضهم صلاحا، فذلك الخيار للفريقين.
قوله تعالى:
(ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن
الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب) (29) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية عن الكفار الذين وصفهم انهم يقولون " لولا
أنزل " على محمد " آية " يعني علامة ومعجزة. والمعنى هلا انزل عليه آية من ربه

(1) سورة القصص 28 آية 76
(2) سورة آل عمران 3 آية 170
248

يقترحونها، ويعلمون انها أنزلت من ربه، وذلك لما لم يستدلوا، فيعلموا مدلول الآيات
التي اتى بها لم يعتدوا بتلك الآيات، فقالوا هذا القول جهلا منهم بها، فأمر الله
نبيه ان يقول لهم " ان الله يضل من يشاء " بمعنى انه يحكم على من يشاء بالضلال إذا
ضل عن طريق الحق، ويجوز أن يكون المراد " يضل من يشاء " عن طريق
الجنة بسوء أفعالهم وعظم معاصيهم، ولا يجوز ان يريد بذلك الاضلال عن الحق،
لان ذلك سفه لا يفعله الله تعالى.
وقوله " ويهدي إليه من أناب " اي يحكم لمن رجع إلى طاعة الله والعمل بها
بالجنة ويهديه إليها. والهداية الدلالة التي تؤدي إلى طريق الرشد بدلا من طريق
الغي، والمراد بها - ههنا - الحكم له بسلوك طريق الجنة رفعا لقدره، ومدحا
لصاحبه. والاضلال العدول بالمار عن طريق النجاة إلى طريق الهلاك، والمراد
- ههنا - الحكم له بالعدول عن طريق الجنة وسلوك طريق النار، والإنابة
الرجوع إلى الحق بالتوبة، يقال: ناب ينوب نوبة إذا رجع مرة بعد مرة.
قوله تعالى:
(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله
تطمئن القلوب) (30) آية بلا خلاف.
موضع " الذين " نصب، لأنه من صفة من أناب، وتقديره ويهدي الله الذين
أنابوا إلى الله " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله " والايمان - ههنا - هو
الاعتراف بتوحيد الله على جميع صفاته، والاقرار بنبوة نبيه، وقبول ما جاء به
من عند الله، والعمل بما أوجبه عليهم، وفي اللغة: الايمان هو التصديق.
وقوله " وتطمئن قلوبهم بذكر الله " أي تسكن قلوبهم وتأنس إلى ذكر الله
الذي معه ايمان به، لما في ذلك من ذكر نعمه التي لا تحصى وآياديه التي لا تجازى،
مع عظيم سلطانه وبسط إحسانه. والذكر حضور المعنى للنفس، وقد يسمى
العلم ذكرا، والقول الذي فيه المعنى الحاضر للنفس يسمى ذكرا. ووصف الله
249

تعالى - ههنا - المؤمن بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله، ووصفه في موضع آخر بأنه
إذا ذكر الله وجل قلبه (1)، لان المراد بالأول انه يذكر ثوابه وانعامه، فيسكن
إليه، والثاني يذكر عقابه وانتقامه فيخافه ويجل قلبه.
وقوله " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " إخبار منه تعالى ان بذكر الله تسكن
القلوب وتستأنس وتطمئن إلى ما وعد الله به من الثواب والنعيم، ومن لم يكن
مؤمنا عارفا لا يسكن قلبه إلى ذلك.
قوله تعالى:
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب)
(31) آية بلا خلاف.
يحتمل قوله " الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أن يكون في موضع نصب بأن
يكون من صفة " الذين " في الآية الأولى، ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء،
فكأنه أخبر ان الذين يؤمنون بالله ويعترفون بوحدانيته ويصدقون نبيه، ويعملون
بما أوجبه عليهم من الطاعات، ويجتنبون ما نهاهم عنه من المعاصي " طوبى لهم "
وقيل في معناه عشرة أقوال:
أحدها - لهم بطيب العيش.
وثانيها - قال ابن عباس: معناه فرح لهم تقربه أعينهم.
وثالثها - قال قتادة: معناه الحسنى لهم.
ورابعها - قال عكرمة: نعم ما لهم.
وخامسها - قال الضحاك: غبطة لهم.
وسادسها - قال إبراهيم: كرامة لهم من الله.
وسابعها - قال مجاهد: الجنة لهم.

(1) في سورة الأنفال 8 آية 2 " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت
عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون ".
250

وثامنها - قال أبو هريرة: طوبى شجرة في الجنة.
وتاسعها - قال الجبائي: تأنيث الأطيب من صفة الجنة، والمعنى إنها أطيب
الأشياء لهم.
وعاشرها - قال الزجاج: المعنى العيش الأطيب لهم.
وهذه الأقوال متقاربة المعنى.
وقوله " وحسن مآب " فالمآب المرجع يقال: آب يؤب أوبا ومآبا إذا رجع،
وسمي المثوى في الآخرة مآبا، ومنقلبا، لان العباد يصيرون إليه، كما يصيرون إلى
ما كانوا انصرفوا عنه، والحسن النفع الذي يتقبله العقل، وقد يجري على ما تتقبله
النفس، كما يجري القبح الذي هو نقيضه على ما ينافره الطبع، والمعنى إن لهم
طوبى ولهم حسن مآب، و " طوبى " في موضع رفع " وحسن مآب " عطف
عليه ويجوز أن يكون موضعه النصب، وينصب " حسن مآب " على الاتباع كما
يجوز الحمد لله، ولم يقرأ به.
قوله تعالى:
(كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا
عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي
لا إلا إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) (32) آية بلا خلاف.
قيل في التشبيه في قوله " كذلك أرسلناك " وجهان:
أحدهما - قال الحسن والجبائي: إن المعنى إنا أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك.
وقال قوم: ان المعنى إن النعمة على من أرسلناك إليه، كالنعمة على من تقدم
ذكره بالثواب في " حسن مآب " والمعنى إنا أرسلناك يا محمد " في أمة " قد مضت
" من قبلها أمم " وغرضي ان تتلوا أي تقرأ عليهم ما " أوحينا إليك " من الأمر والنهي
والوعد والوعيد.
251

والارسال تحميل الرسول الرسالة، فرسول الله قد حمله الله رسالة إلى عباده،
فيها أمره ونهيه وبيان ما يريده وما يكرهه. والأمة الجماعة الكثيرة من الحيوان
التي ترجع إلى معنى خاص لها دون غيره، فمن ذلك أمة موسى، وأمة عيسى،
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك كل جنس من أجناس الحيوان أمة، لاختصاصها بمعنى
جنسها، فعلى هذا العرب أمة، والترك أمة، والزنج أمة، و (الخلو) مضي
الشئ بنقيضه على تجرد مما كان عليه، كأنه ينفيه دون أحواله التي كان عليها،
فقد انفرد عنها. و (التلاوة) جعل الثاني يلي الأول بعده بلا فصل، والتلاوة
والقراءة واحد.
وقوله " وهم يكفرون بالرحمن " إنما قال " بالرحمن " دون (الله) لان أهل الجاهلية
من قريش، قالوا الله نعرفه، والرحمن لا نعرفه. وكذلك قالوا " وما
الرحمن أنسجد لما تأمرنا " (1) وقال " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا
فله الأسماء الحسنى " (2)، وهو قول الحسن، وقتادة.
ثم أمر الله تعالى نبيه ان يقول لهم " هو " يعني الرحمن " ربي " أي خالقي
ومدبري " لا إله إلا هو " ليس لي إله ولا معبود سواه " عليه توكلت " أي وثقت به
في تدبيره وحسن اختياره. والتوكل التوثيق في تدبير النفس برده إلى الله " وإليه "
متاب " أي إلى الله الرحمن توبتي وهو الندم على ما سلف من الخطيئة مع العزم على
ترك المعاودة إلى مثله في القبح، والمتاب والتوبة مصدران، يقال: تاب يتوب
توبة ومتابا.
قوله تعالى:
(ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو
كلم به الموتى بل لله الامر جميعا أفلم ييئس الذين آمنوا أن

(1) سورة الفرقان 25 آية 60
(2) سورة الاسرى 17 آية 110
252

لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم
بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله
إن الله لا يخلف الميعاد) (33) آية بلا خلاف.
هذه الآية تتضمن وصف القرآن بغاية ما يمكن من علو المنزلة وبلوغه أعلى
طبقات الجلال، لأنه تعالى قال " لو أن قرآنا سيرت به الجبال " من مواضعها وقلعت
من أماكنها لعظم محله وجلالة قدره. والتسيير تصيير الشئ بحيث يسير، تقول
سار يسير سيرا، وسيره غيره تسييرا. " أو قطعت به الأرض " لمثل ذلك.
والتقطيع تكثير القطع.، قطعه قطعة، وقطعه تقطيعا. والقطع فصل المتصل
" أو كلم به الموتى " لمثل ذلك حتى يعيشوا أو يحيوا، تقول: كلمه كلاما، وتكلم
تكلما، والكلام ما انتظم من حرفين فصاعدا من الحروف المعقولة إذا وقع ممن
يصح منه أو من قبيلة، لإفادة. و (الموتى) جمع ميت مثل صريع وصرعى،
وجريح وجرحى. ولم يجئ جواب (لو) لدلالة الكلام عليه، وتقديره: لكان
هذا القرآن لعظم محله في نفسه وجلالة قدره. وكان سبب ذلك أنهم سألوا
النبي صلى الله عليه وسلم ان يسير عنهم جبال مكة لتتسع عليهم المواضع، فأنزل الله تعالى
الآية، وبين انه لو سيرت الجبال بكلام، ليسرت بهذا القرآن لعظم مرتبته وجلالة
قدره. وقد يحذف جواب (لو) إذا كان في الكلام دلالة عليه، قال امرؤ القيس:
فلو انها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط أنفسا (1)
وهو آخر القصيدة، وقال الآخر:
فأقسم لو شئ اتانا رسوله * سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (2)
وقال الفراء: يجوز أن يكون جوابه لكفروا بالرحمن) لتقدم ما يقتضيه،

(1) ديوانه (الطبعة الرابعة): 117 وروايته (جميعه) بدل (سوية) وبعده اربع أبيات
من القصيدة، وقد مر هذا البيت في 6: 122.
(2) تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 12: 12، 13: 90، وقد مر فيما سف في 5: 529
253

وقال البلخي. يجوز أن يكون معطوفا على قوله " وهم يكفرون بالرحمن...
ولو أن قرآنا " ويستغنى بذلك عن الجواب، كما تقول: هو يشتمني ولو أحسنت
إليه، وهو يؤذيني ولو أكرمته.
وقوله " بل لله الامر جميعا " معناه ان جميع ما ذكر - من تسيير الجبال
وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، وكل تدبير يجري هذا المجرى - لله، لأنه لا
يملكه ولا يقدر عليه سواه.
وقوله " أفلم ييأس الذين آمنوا " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد، وأبو
عبيدة: معناه أفلم يعلم، قال سحيم:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني * ألم ييأسوا اني ابن فارس زهدم (1)
معناه ألم يعلموا.
الثاني - قال الفراء: معناه " أفلم ييأس الذين آمنوا " ان ينقطع طمعهم من
خلاف هذا، علما بصحته، كما قال لبيد:
حتى إذا يئس الرماة فأرسلوا * عصفا دواجن قافلا اعصامها (2)
معناه: حتى إذا يئسوا من كل شئ الا الذي ظهر اي يئسوا من خلاف ذلك
لعلمهم بصحته، والعلم بالشئ يوجب اليأس من خلافه.
وقوله " لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " معناه ألم يعلموا ان الله لو أراد ان
يهدي خلقه كلهم إلى جنته لهداهم، لكنه كلفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه
الاستحقاق. ويحتمل أن يكون المعنى لو أراد ان يلجئهم إلى الاهتداء لقدر على
على ذلك، لكنه ينافي التكليف ويبطل الغرض منه.

(1) الشاعر هو سحيم بن وثيل الرياحي. والبيت في تفسير الطبري 13: 90
(2) تفسير الطبري 13: 91 واللسان (دجن)، (عصم) وروايته (غضفا) بدل
(عصفا)، يقصد أرسلوا الكلاب.
254

وقوله " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة " فالقارعة هي " الداهية المهلكة، وهي النازلة التي تزعج بالنعمة، تقول: قرعتهم تقرعهم قرعا
وهي قارعة، ومنه المقرعة.
وقوله " أو تحل قريبا من دارهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس: أو تحل، اي تنزل - يا محمد - قريبا من دارهم.
والحلول حصول الشئ في الشئ، وحملوا قوله " تصيبهم قارعة " على نزول السرايا
بهم أو يحل النبي صلى الله عليه وسلم قريبا منهم.
وقال الحسن: المعنى أو تحل القارعة قريبا من دارهم.
وقوله " حتى يأتي وعد الله " قال قتادة معناه حتى يأتي وعده بفتح مكة.
وقال الحسن: معناه حتى يأتي يوم القيامة.
وقوله " ان الله لا يخلف الميعاد " اخبار منه تعالى انه لا خلف لوعده بل لا
بد ان يفعل ما وعد به أو توعد عليه. وامر الله ما يصح ان يأمر فيه وينهى عنه
وهو عام. واصله الامر نقيض النهي، والإصابة لحوق ما طلب بالإرادة، أصاب
الغرض يصيبه إصابة وهو مصيب، ومنه الصواب إدراك البغية المطلوبة بداعي
الحكمة.
وروي عن ابن عباس انه قرأ " أفلم يتبين الذين آمنوا " من التبيين. وروي
مثله عن علي صلى الله عليه وسلم رواه الطبري. وقال الزجاج: معناه أفلم يعلم الذين آمنوا
ان هؤلاء لا يؤمنون مع قوله " لو شاء الله لهدى الناس جميعا ".
قوله تعالى:
(ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم
أخذتهم فكيف كان عقاب) (34) آية بلا خلاف.
اللام في قوله " ولقد " لام القسم، ومعنى الكلام انه اقسم تعالى انه لقد
255

استهزئ برسل من قبلك يا محمد أرسلهم الله والاستهزاء طلب الهمزة وهو اظهار
خلاف الاضمار للاستضعاف فيما يجري من عبث الخطاب. والرسل جمع رسول،
وهو المحمل للرسالة. والرسالة كلام يؤخذ لتأديته إلى صاحبه.
وقوله " فأميلت للذين كفروا " اي أخرت عقابهم وإهلاكهم وأمهلتهم،
يقال: أملى يملى إملاء ومنه قوله: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " (1) واصله طول
المدة، ومنه قليل لليل والنهار: الملوان لطولهما، قال ابن مقبل:
الا يا ديار الحي بالسبعان * أمل عليها بالبلى الملوان (2)
وقوله " ثم اخذتهم " يعنى الذين استهزؤا برسل الله وكفروا بآيات الله،
أهلكتهم وأنزلت عليهم عذابي " فيكيف كان عقاب " وهو العذاب على وجه
الجزاء.
ومعنى الآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من سفهاء قومه من الكفر والاستهزاء
عند دعائه إياهم إلى توحيده والايمان به، بأنه قد نال مثل هذا الأنبياء قبلك
فصبروا، فاصبر أنت أيضا مثل ذلك، كما قال " فأصبر كما صبر أولو العزم
من الرسل " (3)
قوله تعالى:
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله
شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر
من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل

(1) سورة آل عمران آية 178
(2) الكتاب لسيبويه 1: 315 وتفسير الطبري 14: 132 وسمط اللآلي 533 واللسان
(سبع) ومجاز القرآن 1: 109، 333. وقد روى (ألح) بدل (امل).
(3) سورة 46 الاحقاق آية 35.
256

ومن يضلل الله فما له من هاد) (35) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة " وصدوا " بضم الصاد. الباقون بفتحها، قال أبو علي:
قال أبو عمرو، عن أبي الحسن: صد وصددته مثل رجع ورجعته، قال الشاعر:
صدت كما صد عما لا يحل له * ساقي نصارى قبيل الفصح صوام (1)
فهذا صدت في نفسها، وقال الآخر:
صددت الكأس عنا أم عمرو
واما قوله " ان الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام " (2)
فالمعنى يصدون المسلمين عن المسجد الحرام، فكان المفعول محذوفا.
وقوله " رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا " (3) يكون على يصدون عنك اي
لا يبايعونك، كما يبايعك المسلمون، ويجوز ان يكونوا يصدون غيرهم عن الايمان،
كما صدوا هم عنه، ويثبطون عنه. وحجة من اسند الفعل إلى الفاعل، قوله
" الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " (4) وقوله " هم الذين كفروا وصدوكم عن
المسجد الحرام " (5) فكما اسند الفعل إلى الفاعل في جميع هذه الآي كذلك اسند
في قوله " وصدوا عن السبيل " وقيل: إن قوما جلسوا على الطريق، فصدوا
الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ففيهم نزلت الآية.
ومن بنى الفعل للمفعول به جعل فاعل الصد غواتهم والعتاة منهم في كفرهم،
وقد يكون على نحو ما يقال: صد فلان عن الخير وصد عنه، يعنى انه لم يفعل
خيرا، ولا يراد: ان مانعا منعه. فأما قوله " وكذلك زين لفرعون سوء عمله

(1) مجمع البيان 3: 294
(2) سورة 22 الحج آية 25
(3) سورة 4 النساء آية 61
(4) سورة 4 النساء آية 166 وسورة النحل 16 آية 88 وسورة محمد 47 آية 1، 32، 34
(5) سورة 48 الفتح آية 25.
257

وصد عن السبيل " (1) فالفتح الوجه، لأنه لم يصده عن الايمان أحد، ولم يمنعه
منه، والذي زين ذلك له الشيطان، كما قال " وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم
عن السبيل " (2)
معنى قوله " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " من هو قائم بتدبيرها
وجزائها على ما كسبت من خير أو شر، كمن ليس بهذه الصفة، وحذف الخبر
لدلالة الكلام عليه.
وقوله " وجعلوا لله شركاء " في العبادة، فعبدوا الأصنام، والأوثان.
وقوله " قل سموهم " اي سموهم بما يستحقون من الأسماء التي هي صفات. ثم
انظروا هل تدل صفاتهم على أنه يجوز أن يعبدوا أم لا؟
وقوله " أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظهار من القول " معناه إلا أن
يصفوهم بما لا يصح ان يعلم صحته، فيخرجوا بذلك إلى التجاهل أو يقتصروا على
ظاهر القول من غير رجوع إلى حقيقة، وهو قول مجاهد وقتادة. وقال أبو علي:
معنى " بظهار من القول " الذي أنزله الله على أنبيائه.
وقوله " بل زين للذين كفروا مكرهم " اي زين ذلك لهم أنفسهم وغواتهم
من شياطين الإنس والجن، ولا يجوز أن يكون المراد زين بالشهوة،، لان
المكر ليس مما يشتهى " وصدوا عن السبيل " اي منعوا عن طريق الحق بالاغواء
والمنع. ويجوز أن يكون المراد واعرضوا عن طريق الجنة.
وقوله " ومن يضلل الله فماله من هاد " قيل في معناه قولان:
أحدهما - من حكم الله عليه بأنه ضال على وجه الذم، فإنه لا ينفعه
هداية أحد.
والآخر - ان من يضله الله عن طريق الجنة إلى النار، فلا هاد يهديه إليها،
ولا يجوز أن يكون المراد من يضله عن الايمان، لان ذلك سفه لا يفعله
الله تعالى.

(1) سورة المؤمن: (غافر) 40 آية 37
(2) سورة النمل 27 آية 24
258

قوله تعالى:
(لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما
لهم من الله من واق) 36) آية بلا خلاف.
في هذه الآية إخبار منه تعالى ان لهؤلاء الكفار الذين وصفهم " لهم عذاب في
الحياة الدنيا " وهو ما يفعل بهم من القتل والاسترقاق وسبي الذراري والأموال.
ويجوز ان يريد ما يفعله الله كثير منهم من الآلام العظيمة على وجه العقوبة. ثم
قال " ولعذاب الآخرة أشق " اي أشد مشقة: غلظ الامر على النفس بما
يكاد يصدع القلب.
وقوله " وما لهم من الله من واق " أي ليس لهم من عذاب الله من يمنعهم
منه. والواقي المانع، وهو الفاعل للوقاية، والوقاية الحجر بما يدفع الأذية،
وقاه يقيه وقاية، فهو واق، ووقاه توقية.
قوله تعالى:
(مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار
أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار)
(37) آية بلا خلاف.
قيل في معني " مثل الجنة " أقوال:
قال سيبويه: فيما نقص عليكم مثل الجنة، فرفع (مثل) على الابتداء. وحذف
الخبر.
وقال بعضهم معناه شبه الجنة، والخبر محذوف، وتقديره مثل الجنة التي
هي الأنهار، كما قال الله تعالى " ولله المثل الاعلى " (1) معناه الصفة الاعلى.

(1) سورة 16 النحل آية 60.
259

وقال قوم: معناه صفة " الجنة التي وعد المتقون " صفة جنة تجري من تحتها
الأنهار، والجنة البستان الذي يجنه الشجر، والمراد - ههنا - جنة الخلد التي
أعدها الله للمتقين جزاء لهم على طاعاتهم وانتهائهم عن معاصيه، والمتقي هو
الذي يتقي عقاب الله بفعل الواجبات وترك المقبحات.
وقوله " اكلها دائم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ان ثمارها لا تنقطع، كما تنقطع ثمار الدنيا في غير ازمنتها - في
قول الحسن:
الثاني - النعيم به لا ينقطع بموت، ولا بغيره من الآفات.
وقوله " وظلها " اي وظل الجنة دائم أيضا ليس لها حر الشمس ثم اخبر
ان ذلك عاقبة الذين اتقوا معاصي الله بفعل طاعاته. وأخبر أن عاقبة الكافرين
- الجاحدين لتوحيد الله المنكرين لنعمه - النار، والكون فيها على وجه الدوام
نعوذ بالله منها -
قوله تعالى:
(والذين اتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن
الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أ عبد الله ولا أشرك
به إليه أدعو وإليه مآب) (38) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان الذين آتيناهم الكتاب، ومعناه أعطاهم،
" يفرحون بما انزل " على محمد صلى الله عليه وسلم وقال الحسن وقتادة ومجاهد: هم أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وصدقوه. والأحزاب هم اليهود والنصارى والمجوس.
وقال الجبائي: يجوز ان يعنى بالفرح به اليهود والنصارى، لان ما أتى به مصدق
لما معهم، وأما انكار بعضهم، فهو انكار بعض معانيه وما يدل على مصدقه أو
يخالف أحكامهم. و (الأحزاب) جمع حزب، وهم الجماعة التي تقوم بالنائبة،
يقال تحزب القوم تحزبا وحزبهم الامر يخرجهم إذا نالهم بمكروهه.
260

وقوله " قل أنما أمرت ان ا عبد الله ولا اشراك به " في عبادته أحدا، أدعو
إلى الله، والاقرار بتوحيده وصفاته وتوجيه العبادة إليه وحده، " واليه مآب "
اي مرجعي ومصيري، من قولهم: آب يؤب أوبا ومآبا، والمعنى يرجع إلى
حيث لا يملك الضرر والنفع إلا الله تعالى.
قوله تعالى:
(وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد
ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق) (39) آية
قيل في وجه التشبيه في قوله " وكذلك " قولان:
أحدهما - انه شبه انزاله حكما عربيا بما أنزل إلى من تقدم من الأنبياء.
الثاني - انه شبه انزاله حكما عربيا بإنزاله كتابا، تبيانا في أنه منعم بجميع
ذلك على العباد. و (الحكم) فصل الامر على الحق، وإذا قيل: حكم بالباطل، فهو
مثل قولهم: حجة داحضة. و (العربي) هو الجاري على مذاهب العرب في كلامها
فالقرآن عربي (على هذا المعنى، لان المعاني فيه على ما تدعو إليه الحكمة) (1)
والألفاظ على مذاهب العرب في الكلام. (وقيل: إنما سماه حكما عربيا لأنه أتى
به نبي عربي) (2).
وقوله " ولئن اتبعت أهواءهم " خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد به الأمة، يقول له
لئن وافقت وطلبت أهواء الذين كفروا بعد ان جاء العلم، لان ما اتيناك من
الدلالات والمعجزات للعلم. والاتباع طلب اللحاق بالأول كيف تصرف. اتبعه
اتباعا وتبعه يتبعه، فهو تابع وذلك متبوع. والهوى - مقصور - هوى النفس.
والهواء - ممدود - هواء الجوف، والهوى ميل الطباع إلى الشئ بالشهوة.
و (العلم) ما اقتضى سكون النفس.

(1) ما بين القوسين من المخطوطة وهو ساقط من المطبوعة.
(2) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة أيضا.
261

وقوله " ما لك من الله من ولي ولا واق " معناه متى ما ابتعت أهواء هؤلاء
الكفار، لم يكن لك من الله ولي ولا ناصر يعينك عليه، ويمنعك من عذابه " ولا
واق " ولا من يقيك منه، يقال: وقاه وقاية واتقاه، وتوقاه توقيا، والواقي
الفاعل للحجر عن الأذى.
قوله تعالى:
(ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية
وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب)
(40) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى انه أرسل قبل إرسال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم رسلا إلى خلقه، وجعل
لهم أزواجا وذرية، يعني أولادا، لأنهم كانوا أنكروا تزويج النبي بالنساء، فبين
الله تعالى ان الأنبياء قبله كان لهم أزواج وذرية، وقد آمنوا بهم. ثم قال: وانه
لم يكن لرسوله يرسله الله ان يجئ بآية ودلالة، إلا بعد ان يأذن الله في ذلك
ويلطف له فيه.
وقوله " لكل أجل كتاب " معناه لكل أجل قدره، كتاب أثبت فيه، فلا
تكون آية الا بأجل قد قضاه الله تعالى في كتاب على ما توجبه صحة تدبير العباد.
وقيل: فيه تقديم وتأخير وتقديره لكل كتاب أجل، كما قال " وجاءت سكرة
الموت بالحق " (1)، والمعنى وجاءت سكرة الحق بالموت، وهي قراءة أهل البيت،
وبه قرأ أبو بكر من الصحابة. والذرية الجماعة المفترقة في الولادة عن أب واحد
في الجملة، ويحتمل أن يكون من الذر. وأن يكون من ذرأ الله الخلق اي
أظهرهم.

(1) سورة 50 (ق) آية 19.
262

قوله تعالى:
(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (41)
آية بلا خلاف.
وجه اتصال هذه الآية بما تقدم هو أنه لما قال " لكل اجل كتاب " اقتضى ان
يدخل فيه اعمال العباد، فبين ان الله يمحو ما يشاء، ويثبت، لئلا يتوهم ان
المعصية مثبتة بعد التوبة، كما هي قبل التوبة. وقيل: ان مما يمحا ويثبت الناسخ
والمنسوخ. وقيل يمحو ما يشاء، ويثبت، مما يثبته الملكان، لأنه لا يثبت الا
الطاعات والمعاصي دون المباحات. وقيل معناه يمحو ما يشاء من معاصي من
يريد التفضل عليه باسقاط عقابه، ويثبت معاصي من يزيد عقابه. والحسنة
يثبتها الله قبل فعلها، بمعنى أنهم سيعملونها، فإذا عملوها أثبتها بأنهم عملوها،
فلذلك أثبت في الحالين، والوجه في اثباته ما يكون فيه من المصلحة
والاعتبار لمن يفكر فيه بأن ما يحدث، على كثرته وعظمه، قد أحصاه الله
وكتبه، وذلك لا سبيل إليه الا من جهة علام الغيوب الذي يعلم ما يكون قبل
أن يكون، واعتبار المشاهدة له من الملائكة إذا قابل ما يكون بما هو مكتوب، مع
أنه أهول في الصدور، وأعظم في النفوس مما يتصور معه، حتى كان المفكر فيه
مشاهد له. و (المحو) إذهاب أثر الكتابة محاه يمحوه محوا وإمحاء أيضا،
وأمحا إمحاه وامتحا امتحاء. والاثبات الاخبار بوجود الشئ، ونقيضه النفي،
وهو الاخبار بعدم الشئ.
وقال ابن عباس ومجاهد: إنه تعالى لا يمحو الشقاء والسعادة، وهذا مطابق
لقول أصحاب الوعيد.
وقال عمر بن الخطاب، وابن مسعود: هما يمحيان مثل سائر الأشياء، وهذا
مطباق لقول المرجئة من وجه.
وقوله " وعنده أم الكتاب " معناه أصل الكتاب، لأنه يكتب أولا:
263

سيكون كذا وكذا، لكل ما يكون، فإذا وقع كتب أنه قد كان ما قيل أنه
سيكون. وقيل: أصل الكتاب، لان الكتب التي أنزلت على الانباء منه نسخت
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم و " يثبت " خفيفة. الباقون مشددة.
قال أبو علي: المعنى يمحو الله ما يشاء ويثبته، فاستغني بتعدية الأول من
الفعلين عن تعدية الثاني، كما قال " والحافظين فروجهم والحافظات (1) " وزعم
سيبويه أن من العرب من يعمل الأول من الفعلين، ولا يعمل الثاني في شئ،
كقولهم متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا، قال الشاعر:
بأي كتاب أم بأية سنة * ترى حبهم عارا علي وتحسب (2)
فلم يعمل الثاني. وقالوا " أم الكتاب " هو الذكر المذكور في قوله " ولقد
كتبنا في الزبور من بعد الذكر (3) " قال فحجة من شدد قوله " وأشد تثبيتا (4)
وقرأ " ويثبت "، لان تثبيت مطاوع ثبت وحجة من قال بالتخفيف ما روي
عن عائشة: أنه كان إذا صلى صلاة أثبتها، قال: وثابت مطاوع ثبت، كما أن
يثبت مطاوع ثبت.
قوله تعالى:
(وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما
عليك البلاغ وعلينا الحساب) (42) آية بلا خلاف.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى له إنا ان أريناك بعض الذي نعد الكفار
من العقوبة على كفرهم، ونصر المؤمنين حتى يظفروا بهم، فيقتلوهم ويستذلوا
باقيهم إن لم يؤمنوا، فنبقيك إلى أن ترى ذلك، أو نميتك قبل أن ترى ذلك.
وقيل: ان نفعله بهم، لأنه ليس ذلك مما لابد ان تراه لا محالة، فلا تنتظر كونه
على ذلك بأن يكون في أيامك. وإنما عليك أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم، وتقوم

(1) سورة 33 الأحزاب آية 35
(2) مر هذا البيت في 3 / 75
(3) سورة 21 الأنبياء آية 105
(4) سورة 4 النساء آية 66
264

في ذلك بما أمرك الله به، وعلينا نحن حسابهم، ومجازاتهم والانتقام منهم، إما
عاجلا أو آجلا، وذلك كائن لا محالة على ما قلناه.
وكسرت الألف من قوله " وإما نرينك " لأنه من التخيير، والتقدير، وإما
نرينك نقمتنا وأنت حي، وإما نتوفينك.
قوله تعالى:
(أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله
يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب) (43) آية
بلا خلاف.
يقول الله تعالى لهؤلاء الكفار على وجه التنبيه لهم على الاعتبار بأفعال الله،
أو ما يرون أنا ننقص الأرض من أطرافها؟ وقيل في معناه أربعة أقوال:
قال ابن عباس والحسن والضحاك: ما فتح على المسلمين من أرض المشركين.
وقال مجاهد، وقتادة: وننقصها بموت أهلها. وفي رواية أخرى عن ابن عباس.
ومجاهد: بموت العلماء. وفي رواية أخرى عنهما: بخرابها. ثم أخبر أن الله تعالى
يحكم ويفصل الامر ولا أحد يعقب حكمه، ولا يقدر على ذلك، وأنه سريع
المجازاة على افعال العباد، على الطاعات بالثواب، وعلى المعاصي بالعقاب.
والنقص أخذ الشئ من الجملة، وفي فلان نقص أي نقص منزلة عن منزلة عظيمة
في المقدور أو المعلوم، والثاني للأمور. والطرف منتهى الشئ، وهو موضع
من الشئ ليس وراءه ما هو منه. وأطراف الأرض نواحيها. والتعقيب رد
الشئ بعد فصله، ومنه عقب العقاب على صيده إذ أرد الكرور عليه بعد
فصله عنه قال لبيد:
حتى تهجر في الرواح وهاجه * طلب المعقب حقه المظلوم (1)

(1) اللسان (عقب) ومجمع البيان 3 / 279، وتفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13 / 72
265

والسرعة عمل الشئ في قلة المدة، على ما تقتضيه الحكمة، وضده الابطاء،
والسرعة محمودة والعجلة مذمومة.
قوله تعالى:
(وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم
ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) (44)
آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع " الكافر " على لفظ الواحد. الباقون
" الكفار " على لفظ الجمع. قال أبو علي الفارسي في قوله " وسيعلم الكفار "
هو المتعدي إلى مفعولين، بدلالة تعليق وقوع الاستفهام بعده، تقول: علمت لمن
الغلام، فتعلقه مع الجار كما تعلقه مع غير الجار في قوله " فسوف يعلمون من
تكون له عاقبة الدار " (1)
وموضع الجار مع المجرور نصب من حيث سد الكلام - الذي هو الاستفهام -
مسد المفعولين، لان من حيث حكمت في نحو مررت بزيد، فان موضعه
نصب، ولكن الباء الجارة كانت متعلقة في الأصل بفعل فصار مثل علمت بمن
تمر في أن الجارة تتعلق بالمرور، والجملة التي هي، منها في موضع نصب، وقد
علق الفعل عنها.
ومن قرأ على لفظ الفاعل، وأنه جعل الكافر اسما شائعا كإنسان في قوله
" ان الانسان لفي خسر " (2) وزعموا أنه لا أ الف فيه وهذا الحذف إنما يقع في
(فاعل) نحو خالد، وصالح ولا يكاد يحذف في (فعال) فهذا حجتهم.
وزعموا أن في بعض الحروف " وسيعلم الذين كفروا "، وقرأ ابن مسعود
" وسيعلم الكافرون " فهذا يقوي الجمع.

(1) سورة 6 الانعام آية 136
(2) سورة 103 العصر آية 2
266

ومن قرأ على لفظ الجمع، فلان التهديد متوجه إلى جميع الكفار، ولا
إشكال فيه.
اخبر الله تعالى أن الكفار الذين كانوا قبل هؤلاء الكفار، مكروا
بالمؤمنين واحتالوا في كفرهم. والمكر هو الفتل عن البغية بطريق الحيلة، تقول
مكر يمكر فهو ماكر مكرا، وقال أبو علي: المكر ضرر ينزل بصاحبه من
حيث لا يشعر به.
ثم اخبر تعالى ان له المكر جميعا، ومعناه لله جزاء مكرهم، لأنهم لما
مكروا بالمؤمنين بين الله أن وبال مكرهم عليهم بمجازاة الله لهم.
وقوله تعالى: " يعلم ما تكسب كل نفس " معناه أنه لا يخفى عليه ما يكسبه
الانسان من خير وشر وغير ذلك، لأنه عالم بجميع المعلومات " وسيعلم الكفار
لمن عقبى الدار " تهديد للكفار بأنهم سوف يعلمون لمن تكون عاقبة الجنة
للمطيعين أو الصالحين، فإن الله تعالى وعد بذلك المؤمنين دون الكفار والظالمين.
قوله تعالى:
(ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفي بالله شهيدا
بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) (45) آية بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن الكفار انهم يقولون لك يا محمد انك لست مرسلا عن
جهته تعالى، فقل لهم أنت حسبي الله " شهيدا بيني وبينكم، ومن عنده علم
الكتاب ". وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - روي عن ابن عباس أنه قال: هم أهل الكتاب الذين آمنوا من
اليهود والنصاري. وقال قتادة ومجاهد: منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري.
وقال الحسن: الذي عنده علم الكتاب هو الله تعالى، وبه قال الزجاج.
267

وقال أبو جعفر وأبو عبد الله (ع): هم أئمة آل محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم الذين عندهم
علم الكتاب بجملته لا يشذ عنهم شئ من ذلك دون من ذكروه.
والكفاية وجود الشئ على قدر الحاجة، فكأنه قيل: قد وجد من الشهادة
مقدار ما بنا إليه الحاجة في فصل ما بيننا وبين هؤلاء الكفار. والباء في قوله
" بالله " زائدة والتقدير كفى الله. وقال الرماني: دخلت لتحقيق الإضافة من
وجهين: جهة الفاعل، وجهة حرف الإضافة، لان الفعل لما جاز ان يضاف إلى
غير فاعله، بمعنى انه أمر به أزيل هذا الاحتمال بهذا التأكيد، ومثله قوله " لما
خلقت بيدي " (1).
والشهادة البينة على صحة المعنى من طرق المشاهدة. والشهيد والشاهد
واحد، إلا أن في شهيد مبالغة. ووجه الاحتجاج ب‍ " كفى بالله شهيدا " لان المعنى
كفى الله شهيدا بما اظهر من الآية، وأبان من الدلالة، لأنه تعالى لا يشهد بصحة
النبوة إلا على هذه الصفة إذ قد لزمهم ان يعترفوا لها بالصحة.
وروي عن ابن عباس ومجاهد انهما قراءا " ومن عنده علم " بكسر الميم، وعلم
الكتاب على ما لم يسم فاعله، وبه قرأ سعيد بن جبير، ولما قيل له: هو عبد
الله بن سلامه، قال: كيف يجوز ذلك والسورة مكية وهو أسلم بعد الهجرة بمدة.

(1) سورة 38 ص آية 75
268

(14) سورة إبراهيم
قال قتادة: هي مكية إلا آيتين: قوله " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله "
إلى قوله " وبئس القرار ". وقال مجاهد هي مكية وليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
وهي اثنان وخمسون آية في الكوفي،
وأربع في المدنيين، وآية في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلي
النور * بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (1) الله الذي له ما
في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب الشديد)
(2) ثلاث آيات في المدنيين آخر الأولى. قوله " إلى النور "
وآيتان عند الباقين.
قرأ ابن عامر ونافع " الله الذي " بالرفع. الباقون بالخفض. قال أبو علي:
من قرأ بالجر جعله بدلا من الحميد، ولم يكن صفة، لان الاسم وإن كان في الأصل
مصدرا، والمصادر يوصف بها كما يوصف بأسماء الفاعلين، وكذلك كان هذا
269

الاسم في الأصل (الالاه) ومعناه ذو العبادة اي تجب العبادة اي تجب العبادة له، قال أبو زيد:
يقال تأله الرجل إذا نسك وأنشد لرؤبة:
سبحن واسترجعن من تألهي (1).
فهذا في أنه في الأصل مصدر قد وصف به مثل السلام والعدل، الا ان هذا
الاسم غلب حتى صار في الغلبة وكثرة الاستعمال كالعلم، وقد يغلب ما في أصله
الصفة فيصير بمنزلة العلم (2) مثل قول الشاعر:
والتيم ألام من يمشي وألامهم * ذهل بن تيم بنو السود المدانيس (3)
يجوز أن يكون جعل التيم جمع تيمي كيهودي ويهود وعلى هذا قال تعالى
وقالت اليهود، ألا ترى أن (يهود) قد جرى في كلامهم اسما للقبيلة، كما أن
(مجوس) كذلك، فلولا أن المراد بهما الجمع، لم يدخلهما الألف واللام، كما لا يدخل المعارف في نحو زيد وعمرو، إلا أنه جمع بحذف اليائين اللتين للنسب،
كما جمع شعير وشعيرة بحذف التاء، ومثله (رومي) وروم و (زنجي) وزنج.
ومن رفع قطع عن الأول، ورفعه بالابتداء، وجعل (الذي) الخبر، أو جعله
صفة وأضمر الخبر. وقد بينا معاني الحروف المقطعة في أوائل السور في أول

(1) مر هذا الرجز في 1: 28
(2) كان في المطبوعة على الهامش هذه الحاشية (نابغة الجعدي في الرمل بيته عليه صفيح من
تراب وجندل والأصل النابغة ولما غلب نزع منه الألف واللام كما ينزع من أسماء الاعلام
نحو زيد وعمرو وربما استعمل في هذا النحو الوجهان واما قول الشاعر) انتهى.
وهو كما ترى بعيد عن المتن من حيث اللهجة والتركيب وظاهر انه ليس من كلام الشيخ
الطوسي - رحمه الله - ولكن آخره يشبه المتصل بالمتن لذلك نقلناه فلعل المطلع عليه
يستفيد منه.
(3) قائله جرير. ديوانه (دار بيروت) 252 واللسان (تيم) ورواية الديوان:
والتيم ألام من يمشي وألا مهم * أولاد ذهل بنو السود المدانيس
ورواية اللسان:
والتيم ألام من يمشي وألامه * تيم بن ذهل بنو السود المدانيس
270

البقرة (1)، وذكرنا اختلاف المفسرين فيه، فلا فائدة في اعادته.
وقوله " كتاب أنزلناه إليك " رفع على أنه خبر الابتداء، ومعناه هذا كتاب
يعني القرآن أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " ليخرج الناس من الظلمات إلى النور " أي
ليخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الايمان والهداية.
والظلمة في الأصل سواد الجو المانع من الرؤية تقول أظلم إظلاما وظلاما،
وظلمة. الظلمة اذهاب الضياء بما يستره، والنور بياض شعاعي تصح معه
الرؤية، ويمنع معه الظلام ومنه النار لما فيها من النور. والنور والضياء واحد.
وقال قتادة " من الظلمات إلى النور " من الضلالة إلى الهدى " بإذن ربهم "
اي باطلاق الله ذلك، وأمره به نبيه صلى الله عليه وسلم " إلى صراط العزيز الحميد " أي يخرجهم
من ظلمات الكفر إلى طريق الله المؤدي إلى معرفة الله " العزيز " يعني القادر على
الأشياء الممتنع بقدرته من أن يضام، المحمود في أفعاله التي أنعم بها على عباده،
الذي له التصرف في جميع ما في السماوات والأرض، على وجه ليس لأحد
الاعتراض عليه.
ثم اخبر تعالى أن الويل للكافرين الذين يجحدون نعم الله ولا يعترفون بوحدانيته.
والاقرار بنبيه صلى الله عليه وسلم " من عذاب شديد " وهو ما تتضاعف " آلامه، والشدة
تجمع يصعب معه التفكك، شده يشده شدا وشدة.
وفي الآية دلالة على أن الله يريد الايمان من جميع المكلفين، لأنه ذكر أنه أنزل
كتابه ليخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الايمان، لان اللام لام الغرض،
ولا يجوز أن يكون لام العاقبة، لأنها لو كانت كذلك، لكان الناس كلهم مؤمنين
والمعلوم خلافه.

(1) في 1: 47 - 51
271

قوله تعالى:
(الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن
سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد) (3) آية
بلا خلاف.
" الذين " في موضع جر، لأنه نعت للكافرين، وتقديره وويل للكافرين الذين
يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. والاستحباب طلب محبة الشئ بالتعرض
لها، والمحبة إرادة منافع المحبوب. وقد تكون المحبة ميل الطباع. والحياة
الدنيا هو المقام في هذه الدنيا العاجلة على الكون في الآخرة. ذمهم الله بذلك،
لان الدنيا دار انتقال، والآخرة دار مقام.
" ويصدون عن سبيل الله " اي يعرضون بنفوسهم عن اتباع الطريق المؤدي
إلى معرفة الله، ويجوز ان يريد انهم يمنعون غيرهم من اتباع سبيل الله تعالى،
يقال: صد عنه يصد صدا، غير متعد، وصده يصده صدا متعد. والسبيل
الطريق وكلاهما يؤنث ويذكر، وهو على السبل أغلب و " يبغونها عوجا " أي
ويطلبون الطريق عوجا اي عدولا عن استقامته. و (العوج) خلاف الميل إلى
الاستقامة، والعوج بكسر العين - في الدين، وبفتح العين - في العود
والبغية طلب المقاصد لموضع الحاجة، يقال: بغاه يبغيه بغية، وابتغى ابتغاء،
ودخلت (على) في قوله " يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة " لان المعنى يؤثرونها
عليها. ولو قيل من الآخرة، لجاز أن يكون بمعنى يستبدلونها من الآخرة.
وقيل: إنه يجري مجرى قولهم: نزلت على بني فلان، ونزلت في بني فلان، وببني
فلان، كله بمعنى واحد.
وقوله " أولئك في ضلال بعيد " إخبار منه تعالى ان هؤلاء الذين يؤثرون
الحياة الدنيا على الآخرة، ويصدون عن سبيل الله، في عدول عن الحق، بعيدون
عن الاستقامة.
272

قوله تعالى:
(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل
الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم) (4)
آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى انه لم يرسل فيما مضى من الأزمان رسولا إلى قوم إلا بلغة قومه
حتى إذا بين لهم، فهموا عنه، ولا يحتاجون إلى من يترجم عنه.
وقوله " فيضل الله من يشاء " يحتمل أمرين:
أحدهما - انه يحكم بضلال من يشاء إذا ضلوا هم عن طريق الحق.
الثاني - يضلهم عن طريق الجنة إذا كانوا مستحقين للعقاب و " يهدي من
يشاء " إلى طريق الجنة " وهو العزيز " يعني القادر الذي لا يقدر أحد على منعه
" الحكيم " في جميع افعاله، ليس فيها ما له صفة السفه. ويحتمل ان يريد انه محكم
لأفعاله التي تدل على علمه.
ورفع قوله " فيضل الله " لان التقدير على الاستئناف، لا العطف على ما
مضى، ومثله قوله " لنبين لكم ونقر في الأرحام " (1) ومثله " قاتلوهم يعذبهم
الله بأيديكم " (2) ثم قال بعد ذلك " ويتوب الله على من يشاء " (3) لأنه إذا لم يجز
أن يكون عطفا على ما مضى فينتصب لفساد المعنى فلابد من استئنافه ورفعه.
وقال الحسن: امتن الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم انه لم يبعث رسولا إلا إلى قومه، وبعثه
خاصة إلى جميع الخلق. وقال مجاهد: بعث الله نبيه إلى الأسود والأحمر ولم يبعث
نبيا قبله إلا إلى قومه وأهل لغته.

(1) سورة الحج آية 5
(2) سورة التوبة آية 15 - 16
(3) سورة التوبة آية 15 - 16
273

قوله تعالى:
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات
إلى النور * وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار
شكور) (5) آية في الكوفي والبصري. وآيتان في المدنيين.
آخر الأولى " إلى النور ".
أخبر الله تعالى انه ارسل موسى نبيه (ع) إلى خلقه بآياته ودلالاته " أن
أخرج قومك من الظلمات إلى النور " اي أرسلناه بأن أخرج قومك من ظلمات
الكفر والضلالة إلى نور الايمان والهداية بالدعاء لهم إلى فعل الايمان، والنهي عن
الكفر والتنبيه على أدلته. " وذكرهم بأيام الله " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: ذكرهم بنعم الله
الثاني - ذكرهم بنعم الله لعاد وثمود وغيرهم من الأمم الضالة، قال عمر بن
كلثوم:
وأيام لنا غر طوال * عصينا الملك فيها ان ندينا (1)
وقيل: النعم والنقم من أعدائنا. وقال قوم: أراد خوفهم بهذا، كما يقال:
خذه بالشدة واللين. ثم أخبر ان في ذلك دلالات لكل من صبر على بلاء الله
وشكره على نعمه. والتذكير التعريض للذكر الذي هو خلاف السهو، يقال:
ذكره تذكيرا، وذكره يذكره ذكرا، وتذكر تذكرا، وذاكره مذاكرة.
والصبار الكثير الصبر، والصبر حبس النفس عما تنازع إليه مما لا ينبغي.

(1) هذا البيت من معلقته الشهيرة. المعلقات السبع (دار بيروت) 123 وتفسير الطبري
(الطبعة الأولى) 13: 107 ومجمع البيان 3: 304 وقد مر في 1: 36 من هذا
الكتاب.
274

والشكور الكثير الشكر. والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من
التعظيم، وضده الكفر. (وان) في قوله " أن اخراج " يحتمل أن تكون بمعنى
(أي) على وجه التفسير، ويجوز أن تكون التي تتعلق بالافعال والمعنى قلنا له:
اخرج قومك. وقال سيبويه يقول العرب: كتبت إليه أن قم، وأمرته أن قم،
وان شئت كانت (أن) التي وصلت بالامر. والتأويل على الخبر. والمعنى كتبت
إليه ان يقوم وأمرته أن يقوم إلا انها وصلت بلفظ الامر المخاطب، والمعنى
معنى الخبر، كما تقول أنت الذي فعلت. والمعنى أنت الذي فعل.
قوله تعالى:
(وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم
من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم
ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) (6)
آية بلا خلاف.
التقدير واذكر يا محمد " إذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم " في
الوقت الذي أنجاكم " من آل فرعون. يسومونكم سوء العذاب " جملة في موضع
الحال. و " يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم "
وقد فسرناه أجمع في سورة البقرة (1) فلا نطول بإعادته. ودخلت الواو - ههنا -
في قوله " ويذبحون أبناءكم " وفي البقرة بلا واو. وقال الفراء: معنى الواو أنه
كان يمسهم من العذاب غير التذبيح، كأنه قال يعذبونكم بغير الذبح. والذبح إذا
أطلق كان تفسيرا لصفات العذاب.

(1) انظر 1: 217 - 224 في تفسير آية 49 من سورة البقرة.
275

وقوله " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " اي في ذلكم نعم من ربكم عظيمة
إذ أنجاكم منهم. والبلاء قد يكون نعما، وعذابا، يقال: فلان حسن البلاء
عندك اي حسن الانعام عليك ويحتمل أن يكون بمعنى العذاب، وفي الصبر على
ذلك العذاب امتحان من ربكم عظيم.
قوله تعالى:
(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم من لئن كفرتم
إن عذابي لشديد (7) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في
الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) (8) آيتان بلا خلاف
وهذه الآية عطف على الأولى، والتقدير واذكروا " إذ تأذن ربكم " اي أعلمكم
وقد يستعمل (تفعل) بمعنى (أفعل) كقولهم أوعدته وتوعدته، وهو قول الحسن
والفراء، قال الحرث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء * رب ثاو يمل منه الثواء (1)
والمعنى أعلم ربكم. وقوله " لئن شكرتم لأزيدنكم " التقدير أعلمكم أنكم
متى شكرتموني على نعمي، واعترفتم بها زدتكم نعمة إلى نعمة " ولئن كفرتم " أي
جحدتم نعمتي وكفرتموها " ان عذابي لشديد " لمن كفر نعمتي.
ثم أخبر ان موسى قال لقومه " ان تكفروا " نعم الله وتجحدونها " أنتم "
وجميع " من في الأرض " من الخلق فإنه لا يضر الله. وإنما يضركم ذلك، بح أن
تستحقوا منه العذاب والعقاب " فان الله لغني حميد " اي غني عن شكركم حميد في أفعاله.
والغني هو الحي الذي ليس بمحتاج، والحميد الكبير لاستحقاق الحمد بعظم

(1) من معلقته الشهيرة. المعلقات السبع (دار بيروت) 155 وقد مر في 1: 380 من
هذا الكتاب.
276

إنعامه، وهي صفة مبالغة في الحمد، وقد يكون كفر النعمة بأن يشبه الله بخلقه
أو يجور في حكمه، أو يرد على نبي من أنبيائه، أو كان بمنزلة واحد منها في عظم
الفاحشة، لان الله تعالى منعم بجميع ذلك من حيث أقام الأدلة الواضحة على
صحة جميع ذلك وغرضه بالنظر في جميعها الثواب الجزيل، فلذلك كان منعما بها
إن شاء.
قوله تعالى:
(ألم يأتكم نبو الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود *
والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات
فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي
شك مما تدعوننا إليه مريب (9) قالت رسلهم أفي الله شك فاطر
السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم
إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن
تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين) (10) آيتان
في الكوفي وثلاثا آيات في المدنيين والبصري تمام الأولى قوله
" وثمود ".
قيل فيمن يتوجه الخطاب إليه في قوله " ألم يأتكم نبؤ " قولان:
أحدهما - قال الجبائي: إنه متوجه إلى أمة النبي صلى الله على وسلم ذكروا بأخبار من
تقدم وما جرى من قصصهم.
والثاني - قال قوم: إنه من قول موسى (ع) لأنه متصل به في الآية المتقدمة
يقول الله لهم " ألم يأتكم " اي اما جاءكم اخبار من تقدمكم. والنبأ الخبر عما يعظم
277

شأنه يقال: لهذا الامر نبؤ اي عظم شأن يقال أنبأ ينبئ، ونبأت أنبئ، ونبأ
الله محمدا اي جعله نبيا، وتنبأ مسيلمة اي ادعى النبوة، وليس هو كذلك. و " قوم
نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم " كل ذلك مجرور بأنه بدل من الكاف والميم في
قوله " قلبكم " وهو مجرور بالإضافة.
وقوله " لا يعلمهم إلا الله " اي لا يعلم تفاصيل أحوالهم وما فعلوه، وفعل بهم
من العقوبات، ولا عددهم " إلا الله " ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (كذب النسابون)
وقوله " جاءتهم رسلهم بالبينات " اي اتتهم رسلهم بالدلالات الواضحات
" فردوا أيديهم في أفواههم " وقيل في معناه خمسة أقوال:
أحدها - قال عبد الله بن مسعود، وابن زيد: انهم عضوا على أناملهم تغيظا
عليهم في دعائهم إلى الله، كما قال " عضو عليكم الأنامل من الغيظ " (1)
وثانيها - قال الحسن: جعلوا أيديهم في أفواه الأنبياء تكذيبا لهم وردا لما
جاؤوا به.
الثالث - قال مجاهد ردوا نعمتهم بأفواههم.
الرابع - قال قوم: يحتمل ان يكونوا ردوا أيدي أنفسهم في أفواه نفوسهم
مومئن لهم اي اسكتوا عما تدعونا إليه، كما يفعل الواحد منا مع غيره إذا أراد
تسكيته. روي ذلك عن ابن عباس ذكره والفراء.
وخامسها - قال قوم: ردوا ما لو قبلوه، لكانت نعمة عليهم في أفواههم
اي بأفواههم وألسنتهم، كما يقولون أدخلك الله بالجنة يريدون في الجنة وهي
لغة طي، قال الفراء: أنشدني بعضهم:
وارغب فيها عن لقيط ورهطه * ولكنني عن سنبس لست ارغب (2)

(1) سورة آل عمران آية 119
(2) مجمع البيان 3: 306 وأمالي الشريف المرتضى 1: 366 وتفسير الطبري (الطبعة
الأولى) 13: 111 ولم يعرف قائله.
278

فقال (ارغب فيها) يريد بها يعنى بنتا له، يريد: ارغب بها عن لقيط،
ولا ارغب بها عن قبيلته، وقوله " انا كفرنا بما أرسلتم به " حكاية أيضا عما قالوا
للرسل فإنهم قالوا: إنا قد كفرنا بما أرسلتم به من الدعاء إلى الله وحده وتوجيه
العبادة إليه، والعمل بشرائعه " وانا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب " والريب
أخبث الشك المتهم، وهو الذي يأتي بما فيه التهمة، ولذلك وصفوا به الشك اي
انه يوجب تهمة ما اتيتم به يقال: أراب يريب إرابة إذا أتى بما يوجب الريبة،
فقالت لهم حينئذ رسلهم " أفي الله شك " مع قيام الأدلة على وحدانيته وصفاته،
لأنه الذي خلق السماوات والأرض يدعوكم إلى عبادته ليغفر لكم من ذنوبكم إذا
أطعتموه.
ودخلت (من) ههنا - في قول أبي عبيدة - زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها
في الواجب، وقال أبو علي: دخلت للتبعيض ووضع البعض موضع الجميع توسعا.
وقال قوم: دخلت (من) لتكون المغفرة بدلا من الذنوب، فدخلت (من) لتضمن
المغفرة معنى البدل من السيئة " ويؤخركم إلى اجل مسمى " يعنى لا يؤاخذكم
بعاجل العذاب، بل يؤخر إلى الوقت الذي ضربه الله لكم ان يمسكم فيه، فقال لهم
قومهم " ان أنتم الا بشر مثلنا " اي ليس أنتم الا خلق مثلنا تريدون ان تمنعونا
عما كان يعبد آباؤنا من الأصنام والأوثان، فأتونا بحجة واضحة على ما تدعونه
وبطلان ما نحن عليه.
وفي الآية دلالة واضحة على أنه تعالى أراد بخلقه الخير والايمان، لا الشر والكفر،
وأنه إنما بعث الرسل إلى الكفار رحمة وتفضلا، ليؤمنوا، لا ليكفروا، لان
الرسل قالت: ندعوكم إلى الله ليغفر لكم، فمن قال إن الله أرسل الرسل إلى
الكفار ليكفروا بهم ويكونوا سوءا عليهم ووبالا، وإنما دعوهم ليزدادوا كفرا
فقد رد ظاهر القرآن.
قوله تعالى:
(قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن
279

على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا
بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) وما لنا ألا نتوكل
على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله
فليتوكل المتوكلون) (12) آيتان بلا خلاف.
حكى الله تعالى في هذه الآية ما أجابت به الرسل الكفار، فإنهم قالوا لهم
ما " نحن إلا بشر مثلكم " ولسنا ملائكة، كما زعمتم " ولكن الله " من علينا
فاصطفانا وبعثنا أنبياء وهو " يمن على من يشاء من عباده " ولم يكن لنا ان نجيئكم
" بسلطان " اي بحجة على صحة دعوانا إلا بأمر الله واطلاقه لنا في ذلك " وعلى
الله " يجب ان يتوكل " المتوكلون " المؤمنون المصدقون به وبأنبيائه.
ثم اخبر انهم قالوا أيضا " وما لنا ان لا نتوكل على الله " اي ولم لا نتوكل
على الله " وقد هدانا " إلى سبل الايمان ودلنا على معرفته ووفقنا لتوجيه العبادة
إليه، ولا نشرك به شيئا، وضمن لنا على ذلك جزيل الثواب، " ولنصبرن على
ما آذيتمونا " من تكذيبنا وشتمنا في جنب طاعته وابتغاء مرضاته وطلب ثوابه
" وعلى الله " يجب ان يتوكل المتوكلون الواثقون بالله دون من كان كافرا، فان
وليه الشيطان.
و " المن " أصله القطع يقال: حبل منين اي منقطع عن بلوغ المنية، والمنية لأنها تقطع
عن امر الدنيا. " ولهم اجر غير ممنوع " (1) اي غير مقطوع، والأذى ضرر يجده
صاحبه في حاله يقال: آذاه يؤذيه أذى وتأذى به تأذيا، وأكثر ما يقال في
الضرر القليل، ويقال أيضا آذاه أذى عظيما، والمثل ما سد مسد صاحبه فيما
يرجع إلى ذاته. والهدى الدلالة على طريق الحق من الباطل، والرشد من الغي،

(1) سورة 41 حم السجد (فصلت) آية 8 وسورة 84 الانشقاق آية 25 وسورة 95 التين آية 6
280

هداه يهديه إلى الدين هدى. والسلطان الحجة التي يتسلط بها على الطالب مذهب
المخالف للحق. وقيل في قوله " وما كان لنا ان ان نأتيكم بسلطان الا بإذن الله،
قولان:
أحدهما - قال أبو علي الجبائي: انهم سألوا آية مخصوصة غير ما اتتهم
به الرسل، كما سأله قريش، فقالوا " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا.. " (1)
والثاني - ان ما اتيناكم به بإذن الله، لأنه مما لا يقدر عليه البشر،
ونحن بشر.
قوله تعالى:
(وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن
في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13) ولنسكننكم
الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)
(14) آيتان بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن الكفار انهم قالوا لرسلهم " انا لنخرجنكم من ارضنا "
وبلادنا إلا أن تدخلوا في أدياننا، ومذاهبنا، فحينئذ أوحى الله تعالى إلى رسله
إنا نهلك هؤلاء الظالمين الكافرين، ونسكنكم الأرض بعدهم ذلك جزاء " لمن
خاف مقامي " اي حيث يقيمه الله بين يديه، وأضافه إلى نفسه، كما قال " وتجعلون
رزقكم انكم تكذبون " (2) اي رزقي إياكم قال الفراء: والعرب تضيف افعالها إلى
أنفسها والى ما وقعت عليه، يقولون سررت برؤيتك، وسررت برؤيتي إياك،

(1) سورة الاسرى 71 آية 90
(2) سورة 56 الواقعة آية 82
281

وندمت على ضربك وضربي إياك، وخاف وعيدي وعقابي، وإنما قالوا " أو
لتعودن في ملتنا " وهم لم يكونوا على ملتهم قط لامرين:
أحدهما - انهم توهموا - ذلك على غير حقيقة - انهم كانوا على ملتهم.
الثاني - انهم ظنوا بالنشوء انهم كانوا عليها دون الحقيقة.
واللام في قوله " ولنخرجنكم " لام القسم والتي في قوله " أو لتعودن أيضا
مثل ذلك إلا أن فيه معنى الجزاء، لان التقدير لنخرجنكم من ارضنا إلا أن
تعودوا أو حتى أن تعودوا، وهو مثل قول القائل: والله لا أكلمك أو تدعوني.
والمعنى إلا أن، أو حتى تدعوني.
قوله تعالى:
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15) من ورائه جهنم
ويسقى من ماء صديد) (16) آيتان بلا خلاف.
قوله " واستفتحوا " معناه استنصروا وهو طلب الفتح بالنصر، ومنه قوله
" وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " (1) اي يستنصرون وقال ابن
عباس: هو استفتاح الرسل بالنصر على قومهم، وبه قال مجاهد وقتادة. وقال
الجبائي: هو سؤالهم ان يحكم الله بينهم وبين أممهم، لان الفتح الحكم، ومنه
قولهم: الفتاح الحاكم. وقال ابن زيد: هو استفتاح الكفار بالبلاء والخيبة
خلاف ما قدروه من المنفعة، يقال: خاب يخيب خيبة وخيب تخيبا، وضده
النجاح، وهو ادراك الطلبة. والجبرية طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في
الوصف، فإذا وصف العبد بأنه جبار كان ذما، وإذا وصف الله به كان مدحا،
لان له علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة. والعنيد: هو المعاند إلا أن فيه
مبالغة، والعناد الامتناع من الحق مع العلم به، كبرا وبغيا، يقال: عند يعند

(1) سورة البقرة آية 89
282

عنودا، وعانده معاندة وعنادا قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلاني وسطا * اني كبير لا أطيق العندا (1)
والوراء والخلف واحد، وهو جهة مقابلة لجهة القدام، وقد يكون وراء
بمعنى أمام، وقيل: إنه يحتمل ذلك - ههنا - وذكروا أنه يجوز في الزمان على
تقدير انه كان خلفهم، لأنه يأتي فيلحقهم قال الشاعر:
أتوعدني وراء بني رياح * كذبت لتقصرن يداك دوني (2)
وقال آخر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه * يكون وراءه فرج قريب (3)
وقوله " ويسقى من ماء صديد " يعني يسقى الجبار العنيد صديدا، وهو
قيح يسيل من الجرح اخذ من أنه يصد عنه تكرها له. والقيح دم
مختلط بمدة.
وقوله " صديد " بيان للماء الذي يسقونه، فلذلك اعرب بإعرابه، قال
الزجاج: والوراء ما توارى عنك، وليس من الأضداد، قال الشاعر:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وليس وراء الله للمرء مذهب (4)
أي ليس بعد مذاهب الله للمرء مذهب.
قوله تعالى:
(يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان

(1) قد مر تخريجه في 6: 14 من هذا الكتاب.
(2) قائله جرير، ديوانه (دار بيروت) 475، و (نشر الصاوي) 577 وتفسير
الطبري (الطبعة الأولى) 13: 76، 114 ومجاز القرآن 1: 326، 337
وقد مر في 6: 233.
(3) لم أجده.
(4) قائله النابغة، ديوانه (دار بيروت) 17 من قصيدة يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر
ويمدحه. وهو في امالي الشريف المرتضى 2: 17
283

وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ (17) مثل الذين كفروا
بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا
يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد) (18)
آيتان بلا خلاف.
قوله " يتجرعه " معناه يشرب ذلك الصديد جرعة جرعة، يقال: تجرع
تجرعا، وجرعه يجرعه جرعا، والتجرع تناول المشروب جرعة جرعة على
الاستمرار.
وقوله " ولا يكاد يسيغه " أي لا يقاربه، وإنما يضطر إليه. قال الفراء:
(لا يكاد) يستعمل فيما يقع وفيما لا يقع، فيما يقع هو هذا، وما لم يقع مثل قوله " لم
يكد يراها " (1) لان المعنى لم يرها. والإساغة إجراء الشراب في الحلق على تقبل
النفس، وهذا يضطر إليه، فلذلك قال " ولا يكاد يسغيه " والمعنى فلا يقارب ان
يشربه تكرها، وهو يشربه، تقول: ساغ يسوغ الشئ وأسغته أنا. وروي عن
النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (ما يتجرعه يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدني منه شوي
وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره) كما قال
" وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " (2) وقال " وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل
يشوي الوجوه بئس الشراب " (3)
وقوله " ويأتيه الموت من كل مكان " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس والجبائي: من كل جهة، من عن يمينه وشماله
ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه. وقال إبراهيم التيمي وابن جريج: معناه
" من كل مكان " من جسده حتى من أطراف شعره " وما هو بميت " اي انه مع

(1) سورة النور آية 40
(2) سورة محمد: 47 آية 15
(3) سورة الكهف: 18 آية 29
284

إتيان أسباب الموت والشدائد التي يكون معها الموت " من كل جهة " من شدة الأهوال،
وأنواع العذاب، وليس هو بميت " ومن ورائه عذاب غليظ " وقيل في معناه قولان:
أحدهما - من أمامه.
والثاني - ومن بعد عذابه هذا " عذاب غليظ ".
وقوله " مثل الذين كفروا بربهم " اي فيما يتلى عليكم " مثل الذين كفروا بربهم "،
فيكون رفعا بالابتداء ويجوز أن يكون (مثل) مقحما ويبتدئ الذين كفروا.
وقوله " اعمالهم " رفع على البدل وهو بدل الاشتمال عليه في المعنى، لان المثل
للأعمال، وقد أضيف إلى الذين كفروا، ومثله " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا
على الله وجوههم مسودة " (1) والمعنى ترى وجوههم مسودة. قال الفراء: لأنهم
يجدون المعنى في آخر الكلمة، فلا يبالون ما وقع على الاسم المبتدأ، ومثله قوله
" لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم " (2) فأعيدت اللام في البيوت، لأنها التي يراد
بالسقف. وقال المبرد: (اعمالهم) رفع بالابتداء وخبره (كرماد)، والرماد الجسم
المنسحق بالاحراق سحق الغبار. ويمكن ان يجعل (مثل) صفة بغير نار في
مقدور الله.
وقوله " اشتدت به الريح في يوم عاصف " فالاشتداد الاسراع بالحركة على
عظم القوة، يقال: اشتد به الوجع من هذا، لأنه أسرع إليه على قوة ألم
والعصف شدة الريح، " يوم عاصف " أي شديد الريح، وجعل العصف صفة اليوم،
لأنه يقع فيه، كما يقال: ليل نائم، ويوم ماطر، أي يقع فيه النوم والمطر،
ويجوز أن يكون لمراد عاصف ريحه، وحذف الريح للدلالة عليه، ومثله حجر
ضب خرب اي خرب حجره، ويقال: عصفت الرياح إذا اشتدت وعصفت
تعصف عصوفا.
شبه الله تعالى أعمال الكفار في أنه لا محصول لها، ولا انتفاع بها يوم القيامة،
بالرماد الذي يشتد فيه الريح العاصف، فإنه لابقاء لذلك الرماد، ولا لبث

(1) سورة الزمر: (39) آية 60
(2) سورة الزخرف: 43 اية 33
285

فكذلك أعمال الكافر لا يقدر منها على شئ، كما قال في موضع آخر " وقدمنا
إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " (1) وقوله " ذلك هو الضلال البعيد "
اي من وصفناه فهو الذي ضل عن الحق والخير ضلالا بعيدا.
قوله تعالى:
(ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ
يذهبكم ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز) (20)
آيتان في الكوفي والمدني تمام الأولى " خلق جديد " وآية عند
الباقين.
قرأ حمزة والكسائي " خالق السماوات " على اسم الفاعل. الباقون " خلق "
على (فعل) ماض. قال أبو علي: من قرأ " خلق " فلان ذلك ماض فأخبر عنه بلفظ
الماضي، من قرأ " خالق " جعله مثل " فاطر السماوات والأرض " (2) بمعنى خالق.
ومثله قوله " فالق الاصباح وجعل الليل سكنا " (3) لأنهما فعلا.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ويعني به الأمة بدلالة قوله " ان يشأ يذهبكم ويأت
بخلق جديد " ألم تعلم، لان الرؤية تكون بمعنى العلم، كما تكون بمعنى الادراك بالبصر
وههنا لا يمكن أن تكون بمعنى الرؤية بالبصر، لان ذلك لا يتعلق بأن الله خلق
السماوات والأرض، وإنما يعلم ذلك بدليل وقوله " بالحق " والحق هو وضع الشئ
في موضعه على ما تقتضيه الحكمة وإذا جرى المعنى على ما هو له من الأشياء
فهو حق، وإذا أجري على ما ليس هو له من الشئ فذلك باطل. والخلق فعل
الشئ على تقديره وترتيب، والخالق الفاعل على مقدار ما تدعو الحكم إليه
لا يجوز عليه غير ذلك.

) (1) سورة الفرقان: 25 آية 23
(2) سورة فاطر: 35 آية 1
(3) سورة الأنعام: 6 آية 96
286

وقوله " ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " خطاب للخلق واعلام لهم أنه
قادر ان شاء ان يميت الخلق ويهلكهم ويجئ بدلهم خلقا آخر جديدا. والاذهاب
ابعاد الشئ عن الجهة التي كان عليها، ولهذا قيل للاهلاك إذهاب، لأنه ابعاد له
عن حال الايجاد. والجديد المقطوع عنه العمل في ابتداء أمره قبل حال خلو فيه،
واصله القطع يقال: جده يجده جدا إذا قطعه، والجد أب الأب، لانقطاعه
عن الولادة بالأب، والجد ضد الهزل، والجد الحظ.
" وما ذلك على الله بعزيز " اخبار منه تعالى ان إذهابكم وإهلاككم والاتيان
بخلق جديد ليس بممتنع على الله على وجه من الوجوه. والممتنع بقدرته: عزيز،
والممتنع بسعة مقدوره عزيز، والممتنع بكبر نفسه عزيز.
وفي الآية دلالة على أن من قدر على الانشاء قدر على الأفناء إذ كان مما لا يتغير
حكم القادر، ولا شئ مما يحتاج إليه في الفعل، لان من قدر على البناء، فهو
على الهدم أقدر، فمن كان قادرا على اختراع السماء والأرض وما بينهما فهو قادر
على إذهاب الخلق وإهلاكهم.
قوله تعالى:
(وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم
تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو
هدنا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)
(21) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى ان الخلق يبرزون يوم القيامة لله اي يظهرون من قبورهم
والبروز خروج الشئ عما كان ملتبسا به إلى حيث يقع عليه الحشر في نفسه،
يقال: برز للقتال إذا ظهر له.
وفقال الضعفاء " اي يقول الناقص القوة، لان الضعفاء جمع ضعيف،
287

والضعف نقصان القوة، يقال: ضعف يضعف ضعفا، وأضعفه الله إضعافا،
والضعف ذهاب مضاعفة القوة " للذين استكبروا " اي للذين طلبوا التكبر.
والاستكبار والتكبر والتجبر واحد، وهو رفع النفس فوق مقدارها في الوصف.
والمعنى يقول التابعون للمتبوعين من ساداتهم وكبرائهم " انا كنا لكم تبعا " اي
طلبنا اللحاق بكم، واعتمدنا عليكم، وهو جمع تابع، كقولهم: غائب وغيب.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون مصدرا وصف به " فهل أنتم مغنون عنا من
عذاب الله من شئ " اي هل تقدرون على أن تدفعوا عنا ما لا نقدر على دفعه عن
أنفسنا، يقال: أغنى عني إذا دفع عني، وأغناني بمعنى نفى الحاجة عني بما فيه
كفاية. فأجابهم المستكبرون بأنه " لو هدانا الله " إلى طريق الخلاص من العقاب
والوصول إلى النعيم والجنة " لهديناكم " إليه " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا " أي
الجزع والصبر سيان مثلان، ليس لنا من محيص أي مهرب من عذاب الله تعالى
يقال: حاص يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا، وحاد يحيد حيدا ومحيدا،
والحيد الزوال عن المكروه. والجزع انزعاج النفس بورود ما يغم، ونقيضه
البر قال الشاعر:
فان تصبرا فالصبر خير مغبة * وان تجزعا فالامر ما تريان (1)
قوله تعالى:
(وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد
الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما
أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم
عذاب أليم) (22) آية بلا خلاف.

(1) مر هذا البيت في 1: 202، 4، 546
288

قرأ حمزة وحده " بمصرخي " بكسر الياء. الباقون بفتحها.
قال أبو علي: قال الفراء - في كتابه في التصريف: قرأ به الأعمش، ويحيى
ابن وثاب، قال وزعم القاسم بن معن أنه صواب، وكان ثقة بصيرا، وزعم
قطرب أنه لغة في بني يربوع، يزيدون على ياء الإضافة ياء وانشد:
ماض إذا ما هم بالمضي * قال لها هل لك يامامي
وانشد ذلك الفراء، وقال الزجاج: هذا الشعر لا يلتفت إليه، ولا هو مما
يعرف قائله، قال الرماني: الكسر لا يجوز عند أكثر النحويين، واجازه الفراء
على ضعف، قال أبو علي: وجه جوازه من القياس أن الياء ليست تخلو: أن
تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء في (هما) وكالكاف
في أكرمتك وهذا لك، فكما ان (الهاء) قد لحقتها الزيادة في هداكه وضربه،
ولحق الكاف الزيادة في قولهم أعطيتكه أو أعطيتكاه فيما حكاه سيبويه، وهما
أختا الياء كذلك ألحقوا الياء الزيادة، فقالوا: في، ثم حذفت الياء الزيادة على
الياء، كما حذفت الياء من (الهاء) في قول من قال: له أرقان. قال أبو الحسن
هي لغة، فكما حذفت الزيادة من الكاف، فقال في (أعطيتكيه، أعطيتكه)
كذلك حذفت الياء اللاحقة الياء، كما حذفت من أختيها، وأقرت لكسرة التي
كانت تلي الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرة، وكما لحقت
الكاف والهاء الزيادة، كذلك لحقت الياء الزيادة، فلحاق الياء الزيادة نحو ما
أنشد من قول الشاعر:
رميتيه فأصميت وما أخطأت الرمية
فإذا كانت هذه الكسرة في الياء على هذه اللغة. وإن كان غيرها أفشى منها.
وعضده من القياس ما ذكرنا لم يجز لقائل ان يقول: إن قراءة القراء بذلك لحن
يجوز، لاستقامة ذلك سماعا وقياسا.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان الشيطان يوم القيامة يقول لأوليائه الذين اتبعوه:
تفسير التبيان ج 6 - م 19
289

" ان الله وعدكم وعد الحق " من الثواب والعقاب " ووعدتكم " انا بالخلاص من
العقاب بارتكاب المعاصي، وقد خالفت وعدي " وما كان لي عليكم من سلطان "
اي لم يكن لي عليكم حجة، ولا برهان أكثر من أن دعوتكم إلى الضلال
وأغويتكم، فأجبتموني واتبعتموني " فلا تلوموني " في ذلك " ولوموا أنفسكم " بارتكاب
المعاصي وخلافكم الله وترككم ما أمركم به " ما انا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي "
يقال: استصرخني فأصرخته، اي استغاثني فأغثته، فالاصراخ الإغاثة. والمعنى
ما انا بمغيثكم وما أنتم بمغيثي " إني كفرت بما أشركتموني من قبل " حكاية عن
قول الشيطان لأوليائه انه يقول لهم " اني كفرت " بشرككم بالله ومتابعتكم لي
قبل هذا اليوم. ثم اخبر تعالى " إن الظالمين " الكافرين " لهم عذاب اليم " مؤلم
شديد الألم، ويصح ان يلوم الانسان نفسه على الإساءة، كما يصح حمدها على
الاحسان قال الشاعر:
صحبتك إذ عيني عليها غشارة * فلما انجلت قطعت نفسي ألومها (1)
قال الجبائي: وفي الآية دلالة على أن الشيطان لا يقدر على الاضرار بالانسان
أكثر من إغوائه ودعائه إلى المعاصي، فأما بغير ذلك فلا يقدر عليه، لأنه اخبر
بذلك، ويجب أن يكون صادقا، لان الآخرة لا يقع فيها من أحد قبيح لكونهم
ملجئين إلى تركه.
قوله تعالى:
(وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام (23) ألم تر
كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها
في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال

(1) قائله الحارث بن خالد المخزومي. اللسان (غشا)
290

للناس لعلهم يتذكرون) (25) ثلاث آيات في الكوفي والبصري
تمام الثانية " في السماء " وآيتان في الباقي
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان الذين يؤمنون به، ويصدقون بوحدانيته، ويعترفون
بنبوة أنبيائه ويعملون بما دعاهم إليه من الطاعات والاعمال الصالحات يدخلهم
الله يوم القيامة جنات من صفتها انها تجري من تحتها الأنهار، لان الجنة البستان
الذي يجنه الشجر، فالأنهار تجري من تحت الأشجار، وقيل انهار الجنة في
أخاديد في الأرض " خالدين فيها " اي مؤبدين فيها دائمين " ونصبه على الحال من
حيث إنها تدوم لهم " بإذن ربهم " اي بأمر ربهم واطلاقه، يخلدون فيها ويكون
تحية بعضهم لبعض في الجنة " سلام ". والتحية التلقي بالكرامة في المخاطبة، كقولك
أحياك الله حياة طيبة، سلام عليك، وما أشبه ذلك تبشيرا لهم بدوام
السلامة.
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ألم تعلم كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة
أصلها ثابت وفرعها في السماء " إنما ضرب المثل بالكلمة الطيبة للدعاء إليها في كل باب
يحتاج إلى العمل عليه، وفي كل باب من أبواب العلم. ومعنى " فرعها في السماء "
مبالغة له في الرفعة، فالأصل سافل، والفرع عال، إلا أنه من الأصل يوصل إلى
الفرع. والأصل في باب العلم مشبه بأصل الشجرة التي تؤدي إلى الثمرة التي هي
فرع ذلك الأصل، ويشبه بأصل الدرجة التي يترقى منها إلى أعلى مرتبة.
وروي انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الشجرة الطيبة هي النخلة.
وقال ابن عباس: هي شجرة في الجنة.
وقوله " تؤتي أكلها " اي تخرج هذه الشجرة الطيبة - وهي النخلة - ما يؤكل
منها في كل حين. وقال ابن عباس - في رواية - يعني ستة اشهر إلى صرام النخل،
وهو المروي عن أبي جعفر وأبى عبد الله (ع)، وبه قال سعيد بن جبير، والحسن.
وقال مجاهد وابن زيد: كل سنة. وقال سعيد بن المسيب: الحين شهران. وفي
رواية أخرى عن ابن عباس: غدوة وعشية، وقال قوم: من اكل النخلة: الطلع
291

والرطب والبسر والتمر، فهو دائم لا ينقطع على هذه الصفة، وأهل اللغة
يذهبون إلى أن الحين هو الوقت، قال النابغة:
يبادرها الراقون من سوء سمها * تطلقه حينا وحينا تراجع (1)
كذا رواه الأصمعي و (مثلا) منصوب ب‍ (ضرب) والتقدير ضرب الله كلمة طيبة
مثلا " بإذن ربها " اي يخرج هذا الاكل في كل حين بأمر الله وخلقه إياه " ويضرب
الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون " اخبار منه تعالى انه يضرب المثل للكلمة.
الطيبة بالشجرة الطيبة في البادية والعاقبة، لكي يتذكروا ويتفكروا فيه
ويعتبروا به، فيؤديهم ذلك إلى دخول الجنة وحصول الثواب.
وفائدة الآية ان الله ضرب للايمان مثلا وللكفر مثلا، فجعل مثل المؤمن
الشجرة الطيبة التي لا ينقطع نفعها وثمرها، وهي النخلة ينتفع بها في كل وقت،
لا ينقطع نفعها البتة، لأنه ينتفع بطلعها، وبسرها، ورطبها، وتمرها، وسعفها،
وليفها، وخوصها، وجذعها. ومثل الكافر بالشجرة الخبيثة وهي الحنظلة.
وقيل الاكشوث لا انتفاع به، ولا قرار له ولا أصل، فكذلك الكفر لا نفع
فيه ولا ثبات.
قوله تعالى:
(ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها
من قرار (26) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة
الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)
آيتان بلا خلاف.
لما ضرب الله المثل للكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة التي ذكرها وأكلها، ضرب.

(1) ديوانه (دار بيروت) 80 وروايته:
تناذرها الراقون من سوء سمها * تطلقه طورا وطورا تراجع
292

المثل للكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة التي تجتث اي تقلع، يقال: اجتثه اجتثاثا
وجثه جثا، ومنه الجثة، والاجتثاث الاستئصال للشئ واقتلاعه من أصله،
وقال انس بن مالك ومجاهد: الشجرة المثل بها هي شجرة الحنظل، قال أنس:
وهي السرمان. وقال ابن عباس: هي شجرة لم تخلق بعد. والمثل قول سائر
يشبه فيه حال الثاني بالأول، والتشبيه في الأمثال، لما يحتاج إليه من البيان وهو
على وجهين: أحدهما - ما يظهر فيه أداة التشبيه. والآخر - ما لا يظهر فيه.
الكلمة الواحدة من الكلام، ولذلك يقال للقصيدة كلمة، لأنها قصيدة
واحدة من الكلام. والكلمة إنما تكون خبيثة إذا خبث معناها. وهي كلمة
الكفر، والطيبة كلمة الايمان، والخبث فساد يؤدي إلى فساد.
وقوله " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا " يعنى كلمة
الايمان " وفي الآخرة " قال ابن عباس والبراء بن عازب: هي المسألة في القبر إذا
أتاه الملك، فقال له من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني
الاسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم. وقال قوم: معنى " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت
في الحياة الدنيا " يعني الايمان يثبتهم الله بثوابه في الجنة ويمدحهم فيها.
وقوله " ويضل الله الظالمين " يحتمل أمرين:
أحدهما - يحكم بضلال الظالمين.
الثاني - يضلهم عن طريق الجنة إلى طريق النار " ويفعل الله ما يشاء " من
ذلك لا اعتراض عليه في ذلك ولا في غيره مما يريد فعله.
قوله تعالى:
(ألم تر إلي الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم
دار البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا لله
أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)
(30) ثلاث آيات بلا خلاف.
293

قيل في من منزل فيه قوله " الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قولان:
أحدهما - قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وابن عباس، وسعيد
ابن جبير، ومجاهد، والضحاك: انهم كفار قريش، فقال (ع): (أما بنو المغيرة
فأبادهم الله يوم بدر، وأما بنو أمية فقد أمهلوا إلى يوم ما) وقال قتادة: هم القادة
من كفار قريش. وروي عن عمر أنه قال: هما الأفجران من قريش بنو المغيرة
وبنو أمية. فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، واما بنو المغيرة فقتلوهم يوم بدر
أنعم الله تعالى عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكفروا به ودعوا قومهم إلى الكفر به، فقال
الله تعالى لنبيه: أما تنظر إلى هؤلاء الذين كفروا بنعم الله وبدلوا مكان الشكر
عليها كفرا " وأحلوا قومهم دار البوار " أي أنزلوا قومهم دار الهلاك بدعائهم
إياهم إلى الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإغوائهم إياهم وصدهم عن الايمان به.
والتبديل جعل الشئ مكان غيره، فهؤلاء القوم لما جعلوا الكفر بالنعمة
مكان شكرها، كانوا قد بدلوا أقبح تبديل. والاحلال وضع الشئ في محل،
اما مجاوره إن كان من قبيل الأجسام، أو مداخله إن كان من قبيل الاعراض.
والبوار الهلاك، بار الشئ يبور بورا إذا هلك وبطل. قال ابن الزبعري.
يا رسول المليك ان لساني * راتق ما فتقت إذ أنابور 1)
وقوله " جهنم يصلونها " في موضع نصب بدلا من قوله " دار البوار " لأنه تفسير
لهذه الدار " يصلونها " اي يصلون فيها ويشتوون فيها.
ثم أخبر انها بئس القرار اي بئس المستقر والمأوى.
ثم قال: ان هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار
" جعلوا لله أندادا " زيادة على كفرهم وجحدهم نعم الله. والأنداد جمع ند.
وهم الأمثال المناؤون، قال الشاعر:

(1) قائله عبد الله بن الزبعري السهمي. تفسير الطبري 13: 130، ومجاز القرآن
1: 340 واللسان (بور)، وروايته (يا رسول الاله)
294

نهدى رؤس المترفين الأنداد * إلى أمير المؤمنين الممتاد (1)
" ليضلوا عن سبيله " اي لتكون عاقبة أمرهم إلى الضلال الذي هو الهلاك،
واللام لام العاقبة، وليست بلام الغرض، لأنهم ما عبدوا الأوثان من دون الله،
وغرضهم ان يهلكوا، بل لما كان لأجل عبادتهم لها استحقوا الهلاك والعذاب
عبر عن ذلك بهذه اللام، كما قال " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وخزنا " (2)
وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، ولكن لما كان عاقبة ذلك أنه كان عدوهم
فعبر عنه بهذه اللام.
وقرأ بضم الياء وكسر الضاد، والمعنى انهم فعلوا ذلك ليضلوا غيرهم عن
سبيل الحق الذي هو الطريق إلى ثواب الله والنعيم في جنته، فقال الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء الكفار الذين وصفناهم " تمتعوا " وانتفعوا بما تهوون من
عاجل هذه الدنيا، فصورته صورة الامر والمراد به التهديد بدلالة قوله " فإن
مصيركم إلى النار " والمعنى مرجعكم ومآلكم إلى النار والكون فيها عما قليل.
قوله تعالى:
(قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما
رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا
خلال (31) آية بلا خلاف.
أمر الله تعالى نبيه ان يقول لعباده المؤمنين المعترفين بتوحيد الله وعدله
يداومون على فعل الصلاة ويقيمونها بشرائطها وينفقون مما رزقهم الله سرا
وعلانية أي ظاهرا وباطنا، وموضع " يقيموا " جزم من ثلاثة أوجه:

(1) قائله العجاج ديوانه 40 ومجاز القرآن 1: 300 وتفسير الطبري 12: 79 ومجمع
البيان 3: 200 وقد مر في 4: 63، 6: 82
(2) سورة القصص آية 8.
295

أحدها - انه جواب الامر وهو " قل "
الثاني - هو جواب أمر محذوف، وتقديره قل لهم أقيموا يقيموا.
الثالث - بحذف لام الامر لان في " قل " دلالة عليه، والمعنى ليقيموا، وعلى
هذا يجوز ان تقول: قل له يضرب، ولا يجوز يضرب زيدا، لأنه عوض من
المحذوف ذكره الزجاج.
" من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال " المعنى بادروا بافعال الخير من
إقامة الصلاة وايتاء الزكاة وأفعال الخير " قبل ان " يأتيكم يوم القيامة الذي لا بيع
فيه ولا شراء، والمراد - ههنا - ولا فداء تفدون بها نفوسكم من عذاب الله
" ولا خلال " اي ولا مخالة، تقول: خاللت فلانا مخالة وخلالا، قال امرؤ القيس:
صرفت الهوى عنهن من خيفة الردى * ولست بمقلي الخلال ولا قالي (1)
والمخالة اصفاء المودة، وقد يكون الخلال جمع خلة مثل قلة، وقلال.
وظلة وظلال.
قوله تعالى:
(الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء
ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري
في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس
والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33) وآتكم من كل
ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الانسان
لظلوم كفار) (34) ثلاث آيات في الكوفي والمدنيين وآيتان فيما
عداها، آخر الأولى " الأنهار ".
أخبر الله تعالى انه (عز وجل) اخترع السماوات والأرض وأنشأهما بلا معين.

(1) ديوانه: 113 وتفسير الطبري 13: 133
296

ولا مشير " وأنزل من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا فأخرج بذلك الماء الثمرات
رزقا لعباده، وسخر لهم المراكب في البحر لتجري بأمر الله، لأنها تسير بالرياح
والله تعالى المنشئ للرياح " وسخر لكم الأنهار " التي تجري بالمياه التي ينزلها من
السماء، ويجريها في الأودية، وينصب منها في الأنهار " وسخر لكم الشمس والقمر
دائبين " معناه ذلل لكم الشمس والقمر ومهدهما لمنافعكم، وتدبير الله لما سخره
للعباد ظاهر لكل عاقل متأمل لا يمكنه الانصراف عنه إلا على وجه المعاندة
والمكابرة، ولدؤوب مرور الشئ في العمل على عادة جارية فيه دأب يدأب دأبا
ودؤوبا فهو دائب، والمعنى دائبين، لا يفتران، في صلاح الخلق والنبات، ومنافعهم
" وسخر لكم الليل والنهار " أي ذللهما لكم، ومهدهما لمنافعكم، لتسكنوا في
الليل، وتبتغوا في النهار من فضله " وأتاكم من كل ما سألتموه " معناه ان الانسان
قد يسأل الله العافية فيعطي، ويسأله النجاة فيعطي، ويسأله الغنى فيعطي،
ويسأله الملك فيعطي، ويسأله الولد فيعطي، ويسأله العز وتيسير الأمور وشرح الصدر
فيعطي، فهذا في الجملة حاصل في الدعاء لله تعالى ما لم يكن فيه مفسدة في الدين
عليه وعلى غيره، فأين يذهب به مع هذه النعم التي لا تحصى كثرة، عن الله الذي
هو في كل حال يحتاج إليه، وهو مظاهر بالنعم عليه.
ودخلت (من) للتبعيض، لأنه لو كان وآتاكم كل ما سألتموه لاقتضى ان
جميع ما يسأله العبد يعطيه الله، والامر بخلافه، لان (من) تنبئ عنه.
وقال قوم: ليس من شئ الا وقد سأله بعض الناس، والتقدير كل ما سألتموه
قد أتى بعضكم.
وقوله " وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها " معناه وان تروموا عدها بقصدكم
إليه لا تحصونها لكثرتها، ويروى عن طلق بن حبيب، أنه قال: ان حق الله
اثقل من أن تقوم به العباد، وان نعم الله أكثر من أن تحصيها العباد، ولكن،
أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين.
وقوله " ان الانسان لظلوم كفار " اخبار منه تعالى أن الانسان يعني من تقدم.
وصفه بالكفر كثير الظلم لنفسه ولغيره، وكفور لنعم الله غير مؤد لشكرها.
297

وقرئ " من كل ما سألتموه " بالتنوين، قال الفراء: كأنهم ذهبوا إلى أنا لم نسأله
تعالى شمسا ولا قمرا ولا كثيرا من نعمه فكأنه قال: وآتاكم من كل ما لم سألتموه،
والأول أعجب إلي، لان المعنى آتاكم من كل ما سألتموه لو سألتموه، كأنه قال
وآتاكم من كل سؤلكم، كما تقول: والله لأعطينك سؤلك ما بلغته مسألتك وان
لم تسأل. قال المبرد: يريد ما يخطر ببالك، ومن أضاف جعل (ما) في موضع نصب،
وهي بمعني الذي. ومن نون جعلها نافية. قوله تعالى:
(وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد امنا واجنبني
وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (36)
آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم اذكر " إذ قال إبراهيم " يا " رب اجعل هذا البلد "
يعني مكة وما حولها من الحرم " آمنا " يعني يأمن الناس فيه على نفوسهم
وأموالهم. (والامن) سكون النفس إلى زوال الضرر، وهو نقيض الخوف،
ومثله الطمأنينة إلى الامر.
وقوله " واجنبني " اي اصرفني عنه، جنبته أوجنبه، جنبا وجنبته الشر
تجنيبا، وأجنبته اجتنابا، قال الشاعر:
وتنقض عهده شفقا عليه * وتجنبه قلايصنا الصعابا (1)
" واجنبني " اي واصرفني " وبني ان نعبد الأصنام " اي جنبنا عبادة
الأصنام بلطف من ألطافك الذي نختار عنده الامتناع من عبادتها. ودعاء الأنبياء

(1) تفسير الطبري 13: 113 ومجاز القرآن 1: 342
298

لا يكون الا مستجابا، فعلى هذا يكون سؤاله ان يجنب نبيه عبادة الأصنام
مخصوصا بمن علم الله من حاله أن يكون مؤمنا، لا يعبد الا الله، ويكون الله
تعالى اذن له في الدعاء لهم، فيجيب الله تعالى ذلك لهم.
وقوله " رب انهن أضللن كثيرا من الناس " اخبار من إبراهيم ان هذه
الأصنام ضل كثير من الناس بها حتى عبدوها فكأنها أضلتهم، كما يقول القائل:
فتنتني فلانة اي فتنت بها، قال الشاعر:
هبوني امرءا منكم أضل بغيره
يعني ضل بعيره عنه، لان أحدا لا يضل بغيره قاصدا إلى اضلاله.
وقوله " فمن تبعني " حكاية ما قال إبراهيم من أن من يتبعه في عبادة الله
وحده وترك عبادة الأصنام، فإنه منه وعلى دينه. " ومن عصاني " في ذلك وعبد
مع الله غيره، وعصاه في أوامره " فإنك " يا الله " غفور رحيم " اي ستار على
عبادك معاصيهم رحيم بهم اي منعم عليهم في جميع الا حوال. وقيل المعنى " انك
غفور رحيم " بهم ان تابوا واقلعوا عما هم عليه من الكفر.
قوله تعالى:
(ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند
بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس
تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) ربنا
إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في
الأرض ولا في السماء) (38) آيتان بلا خلاف.
هذا حكاية ما دعا به إبراهيم (ع)، فإنه قال يا رب " اني أسكنت من ذريتي "
اي جعلت مأواهم ومقرهم الذي يقرون فيه ويسكنون إليه. والسكنى اتخاذ
299

مأوى لصاحبه يسكن إليه في ليله، ومتى يشاء من أوقاته، أسكن البلدة والدار
إذا جعله مأوى له، (والذرية) جماعة الولد على تنسئته من حين يظهر إلى أن
يكبر، والمراد بالذرية ههنا: إسماعيل وأمه هاجر حين اسكنه وادي مكة،
وهو الأبطح، ولم يذكر مفعول أسكنت، لان (من) تفيد بعض القوم، كما
يقال: قتلنا من بني فلان، اكلنا من الطعام، وشربنا من الماء، قال تعالى
" أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " (1) فموضع (من) نصب والوادي سفح
الجبل العظيم ومن ذلك قيل للأنهار العظام أودية، لان حافاتها كالجبال لها،
ومنه الدية، لأنها مال عظيم يتحمل في امر عظيم من قتل النفس المحرمة.
" غير ذي ذرع " أي لأزرع في هذا الوادي أي لا نبات فيه، والزرع كل
نبات ينغرس من غير ساق، وجمعه زروع " عند بيتك المحرم " معناه حرم فيه
ما أحل في غيره من البيوت، من الجماع، والملابسة بشئ من الدم، والنجاسة،
وإنما أضاف البيت إلى الله، لأنه مالكه من غير أن يملكه أحد سواه، لان ما
عداه قد ملك غيره من العباد. وسماه بيتا قبل ان يبنيه إبراهيم لامرين:
أحدهما - انه لما كان المعلوم انه يبنيه فسماه ما يكون بيتا.
والثاني - قيل أنه كان البيت قبل ذلك، وإنما خربته طسم واندوس. وقيل إنه
رفع عند الطوفان إلى السماء.
وقوله " ربنا ليقيموا الصلاة " اي أسكنتهم هذا الوادي ليدوموا على
الصلاة ويقيموها بشرائطها.
" فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم " سؤال من إبراهيم (ع) ان يجعل الله
تعالى قلوب الخلق تحن إلى ذلك الموضع، ليكون في ذلك انس ذريته بمن يرد من
الوفود ويدر ارزاقهم على مرور الأوقات. " وارزقهم من الثمرات " مسألة منه
ان يرزق ذريته من أنواع الثمار لكي يشكروه على نعمه وفنون احسانه.

(1) سورة الأعراف - 7 - آية 50.
300

" ربنا انك تعلم ما نخفي وما نعلن " اعتراف من إبراهيم لله تعالى بأنه
" عز وجل " يعلم ما يخفي الخلق وما يظهرونه، وانه لا يخفى عليه شئ من
ذلك مما يكون في الأرض، ومما يكون في السماء مع عظمها وبعد ما بينهما، لأنه
عالم لنفسه بجميع المعلومات. وقال قوم: ان قوله " وما يخفى على الله من شئ
في الأرض ولا في السماء " اخبار منه تعالى بذلك دون الحكاية.
قوله تعالى:
(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق إن
ربي لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا
وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم
الحساب) (41) ثلاث آيات بلا خلاف.
هذا حكاية من الله تعالى باعتراف إبراهيم (ع) بنعم الله تعالى، وحمده إياه
على إحسانه بما وهب له على كبر سنه ولدين: إسماعيل واسحق. وانه اخبر بأن
ربه الذي خلقه يجيب الدعاء لمن يدعوه وذلك يدل على أنه كان تقدم منه مسألة
لله تعالى أن يهب له ولدا، فلذلك كان مجيبا له. والحمد هو الوصف الجميل على
وجه التعظيم لصاحبه والاجلال له وفرق الرماني بين الحمد والمدح بان المدح: هو
الوصف للشئ بالخير من جهته على وجه التعظيم له، فعله أو لم يفعله، ولكن كان
سببا يؤدي إليه، وليس كذلك الحمد. والذم: نقيض لهما، لأنه الوصف بالقبيح
على جهة التحقير. والهبة عطية التمليك من غير عقد مثامنة يقال: وهب له كذا
يهبه هبة، فهو واهب. والدعاء طلب الفعل بدلالة القول وما دعا الله (عز وجل)
إليه فقد أمر به ورغب فيه، وما دعا العبد به ربه فالعبد راغب فيه، ولذلك لا
يجوز ان يدعو الانسان بلعنه ولا عقابه، ويحوز ان يدعو على غيره به. والتقبل
أخذ العمل على طريقة ايجاب الحق به مقابلة عليه.
وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بالولد بعد مئة وسبعة عشرة سنة.
301

وقوله " رب اجعلني مقيم الصلاة " سؤال من إبراهيم (ع) لله تعالى ان يجعله
ممن يقيم شرائط الصلاة ويدوم عليها بلطف يفعله به يختار ذلك عنده، وسأله
ان يفعل مثل ذلك بذريته، وأن يجعل منهم جماعة يقيمون الصلاة، وهم الذين
اعلمه الله ان يقوموا بها دون الكفار الذين لا يقيمون الصلاة " ربنا وتقبل دعاء "
رغبة منه إليه تعالى ان يجيب دعاءه فيما سأله
وقوله " ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب " نداء من
إبراهيم لله تعالى ان يغفر له ولوالديه ولجميع المؤمنين، وهو ان يستر عليهم ما وقع
منهم من المعاصي عند من أجاز الصغائر عليهم، ومن لم يجز ذلك حمل ذلك على
أنه انقطاع منه إليه تعالى فيما يتعلق به، وسؤال على الحقيقة في غيره. وقد بينا
ان أبوي إبراهيم لم يكونا كافرين (1) وفي الآية دلالة على ذلك، لأنه سأل المغفرة لهما
يوم القيامة، فلو كانا كافرين لما قال ذلك، لأنه قال تعالى " فلما تبين له أنه عدو لله
تبرأ منه " (2) فدل ذلك على أن أباه الذي كان كافرا جده لامه أو عمه على
الخلاف. قال البلخي: ان أمه كانت مؤمنة، لأنه سأل ان يغفر لأبيه وحكى
أنه " كان من الضالين " (3) وقال " إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك " (4)
ولم يقل لأبويه " ويوم يقوم الحساب " أي يقوم فيه الحساب. والعامل في يوم
قوله (اغفر).
قوله تعالى:
(ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم
ليوم تشخص فيه الابصار (42) مهطعين مقنعي رؤسهم
لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء) (43) آيتان بلا خلاف.

(1) انظر 4: 189 من هذا الكتاب
(2) سورة التوبة آية 115
(3) سورة الشعراء آية 86
(4) سورة الممتحنة آية 4
302

قرأ الجماعة " إنما يؤخرهم " بالياء. وروي عن أبي عمرو بالنون
قال أبو علي: وجه القراءة بالياء ان الغيبة للمفرد قد تقدم، فتكون بالياء على
" فلا تحسبن الله مخلف وعده.. إنما يؤخرهم " ووجه القراءة بالنون أنه مثل الياء
في المعنى، وقد تقدم مثله كثيرا.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله تعالى، والمراد به، الأمة ان يظن أن الله غافل
عن أعمال الظالمين، ومهمل لأمورهم. والغفلة والسهو واحد. ثم بين الله تعالى
أنه إنما لم يعاجلهم بالعقوبة ويؤخر عقابهم ليعذبهم في اليوم الذي تشخص فيه
الابصار، وهو يوم القيامة. وشخوص البصر ان تبقى العين مفتوحة لا تنطبق
لعظم ذلك اليوم " مهطعين " قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة: مسرعين،
يقال: أهطع إهطاعا إذا أسرع قال الشاعر:
بمهطع سرح كان زمامه * في رأس جذع من أراك مشذب (1)
وقال الآخر:
بمستهطع رسل كان جديله * بقيدوم رعن من صوام ممنع (2)
وقال ابن عباس: المهطع الدائم النظر لا تطرف عينه، وقال ابن دريد: المهطع:
المطرق الذي لا يرفع رأسه.. وقوله " مقنعي رؤسهم " قال ابن عباس ومجاهد
والضحاك وقتادة وابن زيد: معناه رافعي رؤسهم واقناع الرأس رفعه، قال
الشماخ:
يباكرن العضاه بمقنعات * نواجذهن كالحدأ الرقيع (3)
يعنى يباكرن العضاة بمقنعات اي برؤوس مرفوعات إليها ليتناول منها، يصف

(1) مجاز القران 1: 342 وتفسير الطبري 13: 141
(2) اللسان، والتاج (قدم) والأساس (هطع) ومجاز القران 1: 343 وتفسير الطبري
13: 142،
(3) ديوانه 56 ومجاز القرآن 1: 343 والطبري 13: 142 واللسان والتاج (حدأ)
ومجمع البيان 3: 32.
303

ابلاله له ترعي الشجر، وأن أسنانها مرتفعة كالفؤس، وقال الراجز:
انقض نحوي رأسه واقنعا * كأنما أبصر شيئا اطمعا (1)
وقوله " لا يرتد إليهم طرفهم " اي لا ترجع إليهم أعينهم ولا يطبقونها.
وقوله " وأفئدتهم هواء " معناه منخرقة لا تعي شيئا للخوف والفزع الذي
دخلها، فهي كهواء الجو، في الانخراق وبطلان الامساك.
وقوله " يوم يأتيهم " نصب على أنه مفعول به والعامل فيه أنذرهم، كأنه
قال خوفهم عقاب الله، ولا يكون على الظرف، لأنه لم يؤمر بالانذار في ذلك
اليوم. وقيل في قوله " وأفئدتهم هواء " ثلاثة أقوال.
أولها - قال ابن عباس ومرة والحسن: منخرقة لا تعي شيئا، وفارغة من كل شئ
إلا من ذكر إجابة الداعي.
الثاني - قال سعيد بن جبير: يردد في أجوافهم لا يستقر في مكان.
الثالث - قال قتادة: خرجت إلى الحناجر لا تنفصل، ولا تعود، وكل ذلك
تشبيه بهواء الجو، والأول أعرف في كلام العرب. وقال حسان بن ثابت:
ألا أبلغ أبا سفيان عنى * فأنت مجوف نخب هواء (2)
وقال زهير:،
كأن الرحل منها فوق صعل * من الظلمان جؤجؤه هواء (3)
وقيل إن الظليم لا فؤاد له وقال آخر:
ولأنك من اخدان كل يراعة * هواء كسقب البان خوفا يكاسره (4)

(1) تفسير الشوكاني 3: 110 وتفسير الطبري 13: 142 ومجاز القرآن 1: 344
(2) ديوانه 8، واللسان والتاج (هوء، جوف) والطبري 13: 144 ومجمع البيان 3: 320
وقد مر في 1: 41 من هذا الكتاب.
(3) ديوانه (دار بيروت) 9، ومجمع البيان 3: 320
(4) هذا البيت منسوب إلى صخر الغي. ونسب أيضا إلى كعب. التاج (هوا) والطبري
13: 144 ومجاز القران 1: 344
304

قوله تعالى:
(وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا
ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل
أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) (44) آية
بلا خلاف.
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقول للناس على وجه التخويف لهم من عقابه،
ويحذرهم يوم يجيئهم العذاب من الله على معاصيهم في دار الدنيا، وهو يوم القيامة،
ويقول " الذين ظلموا " نفوسهم بارتكاب المعاصي وترك الواجبات يا " ربنا أخرنا
إلى أجل قريب " أي ردنا إلى الدنيا واجعل ذلك مدة قريبة نجب دعوتك فيها
ونتبع رسلك فيما يدعوننا إليه، فيقول الله تعالى " أو لم تكونوا أقسمتم " وحلفتم
في دار الدنيا " ما لكم من زوال ". قال مجاهد: معناه إنهم اقسموا في الدنيا
أنه ليس لهم انتقال من الدنيا إلى الآخرة. وقال الحسن: معناه " من زوال "
إلى العذاب.
والأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد، والأمد مدة من المدد، فإنما طلبوا
أجلا يستدركون فيه ما فات من الفساد بالصلاح، وفي المعلوم أنهم يبعدون من
الفلاح.
وفي الآية دلالة على أن أهل الآخرة غير مكلفين بخلاف ما يقول النجار
وجماعة من المجبرة، لأنهم لو كانوا مكلفين لما كان لقوله " آخرنا إلى اجل قريب "
معنى، لأنهم مكلفون، وكانوا يؤمنون ويتخلصون من العقاب.
وقوله " فيقول " رفع عطفا على قوله " يوم يأتيهم العذاب " وليس بجواب
الامر لأنه لو كان جوابا له لجاز فيه النصب والرفع، فالنصب مثل قول الشاعر:
تفسير التبيان ج 6 - م 20
305

يا ناق سيري عنقا فسيحا * إلى سليمان فنستريحا (1)
والرفع على الاستئناف وذكر الفراء ان العلاء بن سبابة كان لا ينصب في
جواب الامر بالفاء قال: والعلاء هو الذي علم معاذا ولهوا وأصحابه.
قوله تعالى:
(وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف
فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله
مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) (46) آيتان
بلا خلاف.
قرأ الكسائي وحده " لتزول " بفتح اللام الأولى، وضم الثانية. وروي
ذلك عن علي (ع). الباقون بكسر اللام الأولى وفتح الثانية.
قال أبو علي: من كسر اللام الأولى وفتح الثانية جعل (إن) بمعنى (ما)
والتقدير وما كان مكرهم لتزول، ومثل ذلك قوله " إن الكافرون إلا في
غرور (2) ". ومعناه ما الكافرون، ومعنى الآية " وقد مكروا مكرهم وعند
الله مكرهم " اي جزاء مكرهم، فحذف المضاف كما حذف من قوله " ترى
الظالمين مشفقين مما كسبوا، وهو واقع بهم (3) " اي جزاؤه، والمعنى قد عرف
الله مكرهم، فهو يجازيهم عليه وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. و (الجبال)
كأنه أراد بها القرآن وأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه ودلالاته أي ما كان ليزول منه
ما هو مثل الجبال في امتناعه ممن أراد إزالته.

(1) تفسير الطبري 13: 144 ومجمع البيان 3: 320 وأكثر كتب النحو يشتهدون به
على اضمار (أن) بعد الفاء المسوقة بطلب.
(2) سورة الملك (تبارك) 67 آية 20
(3) سورة الشورى 42 آية 22
306

ومن قرأ بفتح اللام الأولى وضم الثانية جعل (ان) هي المخففة من الثقيلة
على تعظيم أمر مكرهم، وهو في تعظيم مكرهم، كما قال في موضع آخر " ومكروا
مكرا كبارا (1) " أي قد كان مكرهم من الكبر والعظم بحيث يكاد يزيل
ما هو مثل الجبال في الامتناع، على من أراد إزالته ومثله في تعظيم الامر
قول الشاعر:
ألم تر صدعا في السماء مبينا * على ابن لبينى الحارث بن هشام (2)
وقال آخر:
بكى حارث الجولان من موت ربه * وحوران منه خاشع متضائل (3)
وقال أوس:
ألم تكسف الشمس شمس النهار * مع النجم والقمر الواجب (4)
فهذا كله على تعظيم الامر وتفخيمه ويدل على أن الجبال يعني بها أمر النبي صلى الله عليه وسلم
قوله بعد ذلك " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " اي بعد وعدك الظهور عليهم
والغلبة لهم في قوله " ليظهره على الدين كله " (5) وفي قوله " قل للذين كفروا
ستغلبون وتحشرون " (6) وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا في تعظيم الشئ
وتفخيمه قال ابن مقبل:
إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى * لها شاعرا مثلي اطب واشعرا
وأكثر بيتا شاعرا ضربت به * بطون جبال الشعر حتى تيسرا (6)

(1) سورة نوح 71 آية 22
(2) مجمع البيان 3: 322
(3) قائله النابغة الذبياني. ديوانه (دار بيروت) 91 واللسان (حرث) وروايته الديوان
(موحش) بدل (خاشع) وروايتهما معا (فقد) بدل (موت).
(4) ديوانه (دار بيروت) 10 وروايته:
ألم تكسف الشمس والبدر * والكواكب للجبل الواجب
(5) سورة التوبة آية 34 وسورة الفتح آية 28 وسورة الصف اية 9
(6) سورة آل عمران آية 12
(7) مجمع البيان 3: 322
307

يقول الله تعالى للكفار " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم زوال " مما أنتم
عليه من النعيم وأنتم " سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم " بارتكاب المعاصي
وكفران نعم الله، فأهلكهم الله " وضربنا لكم الأمثال " والمعنى ان مثلكم
كمثلهم في الاهلاك إذا أقمتم على ما أقاموا عليه، من الفساد والتتابع في المعاصي
" ومكروا مكرهم " يعني الكفار الذين ظلموا أنفسهم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتالوا
له، ومكروا بالمؤمنين وخدعوهم " وعند الله " جزاء مكرهم، ولم يكن مكرهم
ليبطل حجج القرآن وما معك من دلائل النبوة، فلا يبطل شئ منه، لأنه
ثابت بالدليل والبرهان.
وعلى القراءة الأولى ولو كان مكرهم يزيل الجبال من عظمه وشدته، لما
أزال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أثبت من الجبال.
وروي عن علي (ع) وجماعة انهم قرؤوا " وان كاد مكرهم " من المقاربة. قال
سعيد بن جبير وغيره: ان قوله " ومكروا مكرهم " نزلت في صاحب النسرين
الذي أراد صعود السماء. وقال قوم: مكرهم كفرهم بالله وشركهم في عبادته.
قوله تعالى:
(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام
(47) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله
الواحد القهار) (48) آيتان بلا خلاف.
قرئ في الشواذ " مخلف وعده رسله " وهي شاذة رديئة، لأنه لا يجوز ان
يفصل بين المضاف والمضاف إليه، وانشد الفراء:
فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزاده (1)

(1) انظر 4: 309 من هذا الكتاب.
308

والمعنى زج أبي مزادة القلوص، والصحيح ما عليه القراء، وتقديره مخلف
وعده رسله، كما تقول هذا معطي زيد درهما، والمعنى مخلف رسله وعده
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " لا تحسبن الله " اي لا تظنه مخلف ما وعدك به
من الظفر بهم والظهور عليهم، فإنه لا يخلف ما وعد رسله به. ثم أخبر ان الله
تعالى قادر لا يغالب ينتقم ممن يكفر بنعمه ويكذب أنبيائه. والانتقام هو
العقاب.
" يوم تبدل الأرض غير الأرض " العامل في " يوم " الانتقام، وتقديره ذو انتقام
يوم تبدل. والتبديل التغيير برفع الشئ إلى بدل. وقيل إن تبديل الأرض
بغيرها برفع الصورة التي كانت عليها إلى صورة غيرها. وقال ابن عباس ومجاهد
وأنس بن مالك وابن مسعود: يبدل الله هذه الأرض بأرض بيضاء كالفضة، لم
يعمل عليها خطيئة. والأول قول الحسن.
وقوله " والسماوات " تقديره تبدل السماوات غير السماوات وحذف لدلالة
الكلام عليه. وقيل تبديل الأرض بتسيير الجبال وتفجير بحارها وكونها مستوية
" لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " (1) وتبديل السماوات انتشار كواكبها، وانفطارها،
وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
وقوله " وبرزوا لله الواحد القهار " معناه يظهرون من قبورهم. والبروز
الظهور وبرز يبرز بروزا، فهو بارز، وبارز قرنه مبارزة " لله الواحد القهار "
والمعنى الواحد لا شبه له ولا نظير. والقهار المالك الذي لا يضام.
قوله تعالى:
(وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم
من قطران وتغشى وجوههم النار) (50) آيتان بلا خلاف.

(1) سورة طه آية 107
309

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم انك يا محمد ترى الذين أجرموا وفعلوا المعاصي، من
الكفر وجحد النعم، يوم القيامة " مقرنين في الأصفاد " اي قرنت أيديهم بالغل
إلى أعناقهم. وقال الجبائي: قرن بعضهم إلى بعض، والصفد الغل الذي يقرن
به اليد إلى العنق، ويجوز أن يكون السلسلة التي يقع بها التقرين، وأصل الصفد
القيد، وهو الصغاد، وجمعه صفد، قال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا * وأبناء الملوك مصفدينا (1)
اي مقيدين، ومنه أصفدته اصفادا، إذا أعطيته مالا، قال الأعشى:
تضيفته يوما فأكرم مجلسي * وأصفدني عند الزمانة قائا (2)
وقال الذبياني:
هذا الثناء فان تسمع لقائله * فما عرضت أبيت اللعن بالصفد (3)
اي ما تعطيه: وإنما قيل لها: صفد، لأنها تقيد المودة وترتبطها. وقال
قتادة: الأصفاد القيود والاغلال، والسرابيل القميص - في قول ابن زيد -
واحدها سربال، قال امرؤ القيس:
لعوب تنسيني إذا قمت سربالي (4)
و (القطران) هو الذي تهنأ به الإبل - في قول الحسن - وفيه لغات، قطران
بفتح القاف وكسر الطاء، وبتسكين الطاء وكسر القاف. ويجوز فتحها، قال
أبو النجم:

(1) تفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 113 ومجمع البيان 3: 223
(2) ديوانه (دار بيروت) 44 وروايته (فقرب مقعدي) بدل (فأكرم مجلسي). وهو في
مجمع البيان 3: 323 ومجاز القرآن 1: 345 وتفسير الطبري 13: 152
(3) ديوانه (دار بيروت) 37 وروايته:
هذا الثناء فان تسمع به حسنا * فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
(4) ديوانه (الطبعة الرابعة سنة 1959) 160 وصدره: ومثلك بيضاء العوارض طفلة
310

جون كأن العرق المنتوحا * ألبسه القطران والمسوحا (1)
فكسر القاف وقال أيضا:
كان قطرانا إذا تلاها * ترمي به الريح إلى مجراها (2)
وإنما جعلت سرابيلهم من قطران، لان النار تسرع إليها، وقرئ " قطرآن "
وروي ذلك عن ابن عباس، والقطر النحاس ومنه قوله " اتوني أفرغ عليه
قطرا " (3) والمعنى من قطر بالغ حره، انتهي. والقراء على أنه اسم واحد على
وزن الظربان، والظربان دابة منتنة فساءة، وهي من السباع " وتغشى وجوههم "
معناه تجللها.
قوله تعالى:
(ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب
(51) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد
وليذكر أولوا الألباب) (52) آيتان بلا خلاف.
أخبر الله تعالى بأنه إنما فعل ما تقدم ذكره " ليجزي الله كل نفس " الذي كسبت
إن كسبت خيرا أتاها الله بالنعيم الأبدي في الجنة، وإن كفرت وجحدت وكسبت
شرا عاقبها بنار جهنم مخلدة فيها " إن الله سريع الحساب " اي سريع المجازاة.
وقيل معنى " سريع الحساب " لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة آخرين.
والكسب فعل ما يجلب به النفع للنفس أو يدفع به الضرر عنها. والكسب
ليس بجنس الفعل، والله تعالى يقدر على مثله في الجنس.
وقوله " هذا بلاغ " قال ابن زيد وغيره من المفسرين: هو إشارة إلى القرآن،

(1) مجمع البيان 3: 323 وتفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13: 153
(2) مجمع البيان 3: 323 وتفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13: 153
(3) سورة الكهف اية 97
311

ففيه بلاغ للناس، لان فيه البيان عن الانذار والتخويف، وفيه البيان عما يوجب
الاخلاص بما ذكر من الانعام الذي لا يقدر عليه الا الله.
وفي الآية حجة على ثلاث فرق:
على المجبرة في الإرادة، لأنها تدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين ان
يعلموا " إنما هو إله واحد " وهم يزعمون أن أراد من النصارى ان يثلثوا، ومن
الزنادقة ان يقولوا بالتثنية.
الثاني - حجة عليهم في أن المعصية لم يردها، لأنه إذا أراد منهم ان يعلموا
أنه إله واحد، لم يرد خلافه من التثليث والتثنية الذي هو الكفر.
الثالث - حجة على أصحاب المعارف، لأنه بين أنه أراد من الخلق ان
يتذكروا ويفكروا في دلائل القرآن التي تدلهم على أنه إله واحد. ثم أخبر تعالى
انه إنما يتذكر " أولو الألباب " اي ذوو العقول، لان من لا عقل له لا يمكنه
الذكر والاعتبار.
312

(15) سورة الحجر
مكية في قول قتادة ومجاهد. وهي تسع وتسعون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1) ربما يود الذين
كفروا لو كانوا مسلمين) (2) آيتان بلا خلاف.
قرأ أهل المدينة وعاصم " ربما " بالتخفيف. الباقون بالتشديد. وروي عن
أبي عمرو: الوجهان. قال أبو علي أنشد أبو زيد:
ماوي يا ربتما غارة * شعواء كاللذعة بالميسم (1)
قال الأزهري: الماوي الرحمة، وأنشد أيضا أبو زيد:
يا صاحبا ربه إنسان حسن * يسأل عنك اليوم ارتسأل عن (2)

(1) مجمع البيان 3: 326 واللسان (ربب)، (ما).
(2) مجمع البيان 3: 227
313

وقال قطرب، والسكري: ربما، وربما، وربتما، ورب، رب: ست لغات،
قال سيبويه (رب) حرف وتلحقها (ما) على وجهين:
أحدهما - أن تكون نكرة بمعنى شئ كقوله:
ربما تجزع النفوس من الامر * له فرجة كحل العقال (1)
ف‍ (ما) في هذا البيت اسم، لما يقدر من عود الذكر إليه من الصفة. والمعنى:
رب شئ، تكرهه النفوس، وإذا عاد إليه الهاء كان اسما، ولم يجز أن يكون
حرفا. والضرب الاخر ان تدخل (ما) كافة نحو الآية، ونحو قول الشاعر:
ربما أوفيت في علم * يرفعن ثوبي شمالات (2)
والنحويون يسمون (ما) هذه كافة يريدون: أنها بدخولها كفت الحرف عن
العمل الذي كان هيأها لدخولها على ما لم تكن تدخل عليه، ألا ترى ان (رب)
إنما تدخل على الاسم المفرد، نحو رب رجل يقول ذلك، وربه رجل يقول،
ولا تدخل على الفعل، فلما دخلت (ما) عليها هيأتها للدخول على الفعل، كما قال
" ربما يود الذين كفروا " فوقع الفعل بعدها - في الآية - وهو على لفظ المضارع،
ووقع في قوله (ربما أوفيت في علم) على لفظ الماضي، وهكذا ينبغي في القياس
لأنها تدل على أمر قد وقع ومضى، وإنما وقع - في الآية - على لفظ المضارع،
لأنه حكاية لحال آتية كما أن قوله " وإن ربك ليحكم بينهم " (3) حكاية الحال آتية
أيضا، ومن حكاية الحال قول القائل:
جارية في رمضان الماضي * تقطع الحديث بالايماض (4)
ومن زعم أن الآية على اضمار (كان) وتقديره ربما كان يود، فقد خرج عن
قول سيبويه، لأنهم لا يضمرون على مذهبه (كان) في قول القائل: عبد الله المقتول
اي كن عبد الله المقتول. واما اضمار (كان) بعد إن خيرا فخيرا، فإنما جاز ذلك،

(1) قائله أمية بن أبي الصلت. اللسان " فرج " وروايته " تكره " بدل " تجزع ".
(2) قائله جذيمة الأبرش. اللسان " شمل ". وشمالات: جمع شمال، ويقصد هنا ريح الشمال
(3) سورة النحل 16 اية 124
(4) اللسان " رمض " " خصص " ومجمع البيان 3: 327
314

لاقتضاء الحرف له، فصار اقتضاء الحرف له كذكره، فاما ما أنشده ابن حبيب،
فيهان ابن مسكين:
لقد رزيت كعب بن عوف وربما * فتى لم يكن يرضى بشئ يضيمها (1)
فان قوله (فتى) يحتمل ضروبا:
أحدها - أن يكون لما جرى ذكر (رزيت) استغنى بجري ذكره عن اعادته،
فكأنه قال: ربما رزيت فتى، فانتصب فتى برزيت المضمرة، كقوله " الآن وقد
عصيت " (2) فاستغنى بذكر آمنت المعلوم عن اظهاره بعد، ويجوز أن يكون
انتصب ب‍ (رزيت) هذه المذكورة، كأنه قال: لقد رزيت كعب بن عوف
فتى وربما لم يكن يرضي اي رزيت فتى لم يكن يضام، ويكون هذا الفصل وهو
أجنبي بمنزله قوله:
أبو أمه حي أبوه يقاربه (3)
ويجوز أن يكون رفعا بفعل مضمر كأنه قال ربما لم يرضى فتى كقوله:
وقلما وصال على طول الصدود يدوم (4)
ويجوز أن تكون (ما) نكرة بمنزلة شئ ويكون فتى وصفا لها، كأنه قال:
رب شئ فتى لم يكن كذا، فهذه الأوجه فيها ممكنة، ويجوز في الآية أن تكون
(ما) بمنزلة شئ و (ود) صفة له، لان (ما) لعمومها تقع على كل شئ فيجوز ان
يعنى بها الود كأنه رب ود يوده الذين كفروا، ويكون يود في هذا الوجه
حكاية حال لأنه لم يكن كقوله " ارجعنا نعمل صالحا " (5) وقوله " يا ليتنا نرد
ولا نكذب " (6)

(1) مجمع البيان 3: 327 (2) سورة يونس اية 91
(3) البيت مشهور يستشهدون به على التعقيد المعنوي في كتب المعاني والبيان وتمامه:
وما مثله في الناس إلا مملكا * أبو أمه حي أبوه يقاربه
(4) اللسان " طول " وتمام البيت:
صددت فأطولت الصدود وقلما * وصال على طول الصدود يدوم
(5) ألم السجدة 32 اية 12
(6) سورة الأنعام 6 آية 27
315

واما من خفف، فلانه حرف مضاعف والحروف المضاعفة قد
تحذف، وان لم يحذف غير المضاعف، فمن المضاعف الذي حذف (ان، وان،
ولكن) قد حذف كل واحد من الحروف، وليس كل المضاعف يحذف، لأني لا
أعلم الحذف في (ثم)، قال الهذلي:
ازهير إن يشب القذال فإنني * رب هيضل لجب لففت بهيضل (1)
واما دخول التاء في (ربتما) فان من الحروف ما يدخل عليه حرف التأنيث
نحو (ثم، وثمت، ولا، ولات) قال الشاعر:
ثمت لا يحزونني غير ذالكم * ولكن سيحزنني المليك فيعقبا 2)
فلذلك الحق التاء في قوله " ربتما " وقال المبرد: قال الكسائي: العرب
لا تكاد توقع (رب) على أمر مستقبل، وهذا قليل في كلامهم، وإنما المعنى
عندهم ان يوقعوها على الماضي، كقولهم: ربما فعلت ذلك، وربما جاءني فلان.
وإنما جاء هذا في القرآن، على ما جاء في التفسير، ان ذلك يكون يوم القيامة.
وإنما جاز هذا، لان كل شئ ء من أمر الله خاصة فإنه وإن لم يكن وقع بعد،
فهو كالماضي الذي قد كان، لان وعده آت لا محالة، وعلى هذا عامة القرآن،
نحو قوله " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض " (3) وقوله
" وسيق الذين اتقوا " (4) " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " (5) ومع هذا
يحسن ان يقال - في الكلام - إذا رأيت الرجل يفعل ما يشاء، تخاف عليه،
ربما يندم، وربما يتمنى ان لا تكون فعلت، قال: وهذا كلام عربي حسن،
ومثله قال الفراء والمبرد وغيرهم.
فان قيل لم قال " ربما يود الذين كفروا " ورب للتقليل؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - انه شغلهم العذاب عن تمني ذلك الا في القليل

(1) مجمع البيان 3: 328 واللسان (هضل) نسبه إلى أبي كبير.
(2) مجمع البيان 3: 328
(3) سورة الزمر - 39 - آية 68
(4) سورة الزمر آية 73
(5) سورة ق 50 آية 21
316

والثاني - انه أبلغ في التهديد كما تقول: ربما ندمت على هذا، وأنت تعلم
أنه يندم ندما طويلا، أي يكفيك قليل الندم، فكيف كثيره.
فان قيل: لم قال " تلك آيات الكتاب وقران " والكتاب هو القرآن؟
ولم أضاف الآيات إلى الكتاب، وهي القرآن؟ وهل هذا إلا إضافة الشئ إلى
نفسه؟!
قلنا: إنما وصفه بالكتاب والقرآن، لاختلاف اللفظين، وما فيهما من
الفائدتين وإن كانا لموصوف واحد، لان وصفه بالكتاب يفيد انه مما يكتب
ويدون، والقرآن يفيد أنه مما يؤلف ويجمع بعض حروفه إلى بعض قال
الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم (1)
وقال مجاهد وقتادة: المراد بالكتاب: ما كان قبل القرآن من التوراة
والإنجيل، فعلى هذا سقط السؤال: فأما إضافة الشئ إلى نفسه، فقد بينا
الوجه فيما مضى فيه، وانه يجري مجرى قولهم مسجد الجامع وصلاة الظهر ويوم
الجمعة. وقوله تعالى " لحق اليقين " (2) وهو مستعمل مشهور وبينا الوجه فيه،
ووصف القرآن بأنه مبين لأنه يظهر المعنى للنفس، والبيان ظهور المعنى للنفس
بما يميزه من غيره، لان معنى إبانته منه فصل منه، فإذا ظهر النقيضان في
معنى الصفة فقد بانت وفهمت.
و (الود) التمني يقال: وددته إذا تمنيته، ووددته إذا أحببته أود فهيما
جميعا ودا. وقال الحسن: إذا رأى المشركون المؤمنين دخلوا الجنة تمنوا أنهم
كانوا مسلمين، وقال مجاهد: إذا رأى المشركون المسلمين يغفر لهم ويخرجون من
النار يودون لو كانوا مسلمين.

(1) مر هذا البيت في 2: 98
(2) سورة الحاقة 69 آية 51.
317

قوله تعالى:
(ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون (3)
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (4) ما تسبق من
أمة أجلها وما يستأخرون (5) وقالوا يا أيها الذي نزل عليه
الذكر إنك لمجنون (6) لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من
الصادقين (7) ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا
منظرين (8) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (9)
سبع آيات.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه التهديد للكفار: اترك هؤلاء يأكلوا ما
يشتهون، ويستمتعوا في هذه الدنيا بما يريدون ويشغلهم الامل " فسوف يعلمون "
وبال ذلك فيما بعد يعني يوم القيامة ووقت الجزاء على الاعمال.
ثم اخبر تعالى انه لم يهلك أهل قرية فيما مضى على وجه العقوبة الا وكان لها
كتاب معلوم يعنى أجل مكتوب قد علمه الله تعالى لابد ان يبلغونه لما سبق في
علمه، ويجوز إلا ولها بالواو وبغير الواو، لأنه جاء بعد التمام، ولو جاء بعد
النقصان لم يجز، نحو رجلا هو قائم، ولا يجوز وهو قائم، وكذلك في الظرف في
خبر كان، وقال لم تكن أمة فيما مضى تسبق اجلها فتهلك قبل ذلك ولا تتأخر
عن اجلها الذي قدر لها بل إذا استوفت أجلها اهلكها الله.
ثم قال له: ان هؤلاء الكفار يقولون لك " يا أيها الذي نزل عليه الذكر "
يعنون القرآن نزل عليك على قولك، لأنهم لم يكونوا من المعترفين بذلك " انك
لمجنون " في ادعائك أنه أنزل عليك الذكر بوحي الله إليك، ولم تكن
ممن يقرأ.
318

وقوله " لو ما تأتينا بالملائكة " معناه هلا تأتينا، وهو دعاء إلى الفعل وتحضيض
عليه، ومثله قوله " لولا انزل عليه ملك " قال الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضوطري لولا الكمي المقنعا (1)
وقد جاء (لوما) في معنى (لولا) التي لها جواب قال ابن مقيل:
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما * ببعض ما فيكما اذعبتما عوري (2)
اي لولا الحياء. والمعنى في الآية هلا تأتينا بالملائكة إن كنت صادقا في انك نبي،
وقال أبو عبيد عن ابن جريج: فيه تقديم وتأخير يعنى قوله " ولو فتحنا " هو
جواب " لو ما تأتينا " والمعنى: فلو فعلنا ذلك بهم أيضا لما آمنوا، وما بينهما
كلام مقدم والمراد به التأخير، قال المبرد: هذا الذي ذكره جائز لكن فيه بعد
لأنه يلبس بأن يكون فتح عليهم من أنفسهم فعرج بهم. والله أعلم. وكلا الامرين
غير ممتنع الا ان العرب تمنع مما فيه لبس.
وقوله " ما ننزل الملائكة الا بالحق " قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم
بالنون ونصب الملائكة. الباقون بالتاء ورفع الملائكة إلا أباب كر عن عاصم فإنه
ضم التاء على ما لم يسم فاعله. فحجة من قرأ بالنون قوله " ولو اننا نزلنا إليهم
الملائكة " (3) وحجة من قرأ " تنزل الملائكة " بفتح التاء قوله " تنزل الملائكة
والروح فيها " (4). وحجة من قرأ على ما لم يسم فاعله قوله " ما تنزل الملائكة
الا بالحق " وقوله تعالى " ونزل الملائكة تنزيلا " (5).
ومعنى قوله " ما ننزل الملائكة الا بالحق " يعنى بالحق الذي لا يلبس معه
الباطل طرفه عين. وقال الحسن ومجاهد: معناه إلا بعذاب الاستئصال اي لم

(1) مر تخريجه في 1: 309، 435.
(2) شواهد الكشاف 126 ومجاز القرآن 1: 346 وتفسير القرطبي 10: 4 ومجمع
البيان 3: 330
(3) سورة الأنعام اية 111
(4) سورة القدر اية 4
(5) سورة الفرقان اية 25
319

يؤمنوا بالآيات، كما كانت حال من قبلهم حين جاءتهم الآيات التي طلبوا، فلم
يؤمنوا. ومعنى " وما كانوا إذا منظرين " أنه إن نزل عليهم الملائكة ولم يؤمنوا لم
ينظرهم الله، بل كان يعاجلهم العقوبة. وقوله " انا نحن نزلنا الذكر " يعنى
القرآن في - قول الحسن والضحاك، وغيرهم - " وانا له لحافظون " قال قتادة:
لحافظون من الزيادة والنقصان. ومثله قوله " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه " (1) وقال الحسن: لحافظون حتى نجزي به يوم القيامة اي لقيام الحجة
به على الجماعة من كل من لزمته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الفراء: الهاء في قوله " وانا له لحافظون " يجوز أن تكون كناية عن
النبي، فكأنه قال: انا نحن نزلنا القرآن وانا لمحمد لحافظون، وقال الجبائي:
معناه وانا له لحافظون من أن تناله أيدي المشركين، فيسرعون إلى ابطاله، ومنع
المؤمنين من الصلاة به.
وفي هذه الآية دلالة على حدوث القرآن، لان ما يكون منزلا ومحفوظا
لا يكون الا محدثا، لان القديم لا يجوز عليه ذلك ولا يحتاج إلى حفظه
قوله تعالى:
(ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10 وما
يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن (11) كذلك نسلكه
في قلوب المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين)
(13) أربع آيات بلا خلاف.
يقول الله (عز وجل) لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم تسلية له عن كفر قومه " لقد أرسلنا
من قبلك في شيع الأولين " قال ابن عباس وقتادة: شيع الأمم واحدهم شيعة
لمتابعة بعضهم بعضا في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة

(1) سورة حم السجد 41 (فصلت) آية 42
320

أو عمارة أو بادية أو نحو ذلك من الأمور الجارية في العادة، والمرسل محذوف
لدلالة (أرسلنا) عليه.
وقوله " وما يأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزؤن " اخبار منه تعالى أنه
لم يبعث رسولا فيما مضى الا وكانت أممهم تستهزئ بهم، واستهزاؤهم بهم حملهم
عليهم واستبعادهم ما دعوا إليه واستيحاشهم منه، واستكبارهم له، حتى توهموا
أنه مما لا يكون، ولا يصح مع مخالفته لما وجدوا عليه آباؤهم وأجدادهم واسلافهم،
فكان عندهم كأنه دعا إلى خلاف المشاهدة والى ما فيه جحد الضرورة والمكابرة.
والهزؤ إظهار ما يقصد به العيب على ايهام المدح، وهو بمعنى اللعب
والسخرية.
وقوله " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة
الأولين " قيل في معناه قولان:
أحدهما - كذلك نسلك القرآن الذي هو الذكر باخطاره على البال ليؤمنوا
به، فهم لا يؤمون به، ماضين على سنة من تقدمهم، من تكذيب الرسل، كما
سلكنا دعوة الرسل في قلوب من سلف من الأمم. ذهب إليه البلخي والجبائي.
وقال الحسن وقتادة: يسلك الاستهزاء بإخطاره على البال ليجتنبوه، ولو كان
المراد أنه يسلك الشرك في قلوبهم، لكان يقول: انهم لا يؤمنون بالشرك ولو
كانوا كذلك، كانوا محمودين غير مذمومين، يقال: سلكه فيه يسلكه سلكا
وسلوكا، واسلكه أسلاكا، قال عدي بن زيد:
وكنت لزاز خصمك لم اعرد * وقد سلكوك في يوم عصيب (1)
وقال الآخر:

(1) انظر 6: 38 تعليقة 1
321

حتى إذا سلكوهم في قتائدة * شلاكما تطرد الجمالة الشردا (1)
ومعنى قوله: " وقد خلت سنة الأولين " اي في اهلاك من أقام على الكفر
بالمعجزات بعد مجئ ما طلب من الآيات، ويحتمل أن يكون المراد وقد خلت
سنة الأولين في تكذيب رسلهم والكفر بما جاؤوا به.
قوله تعالى:
(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون
(14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون
(15) آيتان.
قرأ ابن كثير وحده " سكرت " بالتخفيف. الباقون بالتشديد. قال أبو
عبيدة: (سكرت) معناه غشيت. والمعنى في الآية سكرت الابصار، فلا ينفذ
نورها، ولا تدرك الأشياء على حقيقتها، وكأن المعنى انقطاع الشئ عن سننه
الجاري، فمن ذلك (سكره سكرا) إنما هو رده عن سننه، وقال: السكير في الرأي
قبل ان يعزم على شئ، فإذا عزم على امر ذهب السكير وهو ان ينقطع عما عليه
من المضاء في حال الصحو، فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في صحوه، ووجه
التثقيل ان الفعل مسند إلى جماعة مثل قوله " مفتحة لهم الأبواب " (2) ووجه
التخفيف ان هذا النحو من الفعل المسند إلى الجماعة قد يخفف، قال الشاعر:
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها (3)

(1) قائله عبد مناف بن ربع الهذلي ديوانه 2 / 42 وتفسير الطبري 14 / 7، 18 وتفسير القرطبي
12 / 119 ومجاز القرآن 1 / 37، 331 ومجمع البيان 3 / 330 ومعجم البلدان (قتائدة)
واللسان والتاج (قتد) وقد مر في 1 / 128، 149 من هذا الكتاب.
(2) سورة ص 38 اية 50
(3) اللسان (غلق) نسبه إلى الفرزدق ولم أجده في ديوانه وروايته
ما زلت افتح أبوابا وأغلقها * حتى اتيت أبا عمرو بن عمار
322

اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان هؤلاء الكفار لشدة عنادهم وغلظة كفرهم
وتمردهم وعتوهم " لو فتحنا عليهم بابا من السماء " فصاروا " فيه يعرجون " والعروج
الصعود في الهواء تعلقا به نحو السماء، عرج الملك يعرج عروجا، فلو عرج هؤلاء
عروج الملك، لقالوا هذا القول. والتسكير إدخال اللطيف في المسام، ومنه
السكر بالشراب، والسكر السد بالتراب " لقالوا إنما سكرت أبصارنا " بما ادخل
فيها من اللطيف في مسامها، حتى منعنا من رؤية الأشياء على حقيقتها. وأصل
السكر السد بما ادخل في المسام. وقال مجاهد والضحاك وابن كثير: معنى
" سكرت " سدت قال المثنى بن جندل الطهوري:
جاء الشتاء واجثأل القنبر * واستخفت الأفعى وكانت تظهر
وطلعت شمس عليها مغفر * وجعلت عين الحرور تسكر (1)
اي تسد بشدة البرد، وقنبر وقنبر - بضم الباء وفتحها - لغتان، مثل جندب
وجندب قال رؤبة:
قبل انصداع الفجر والتهجر * وخوضهن الليل حتى تسكر (2)
اي يسد بظلمته، وحكى الفراء: ان من العرب من يقول: سكرت الريح
إذا سكنت.
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: المعنى " لو فتحنا عليهم بابا من السماء "
فظلت الملائكة تعرج إلى السماء، وهم يرونها على ما اقترحوه، " لقالوا: إنما
سكرت أبصارنا " وقال الحسن: يظل هؤلاء المشركون يعرجون فيه.

(1) مجاز القران 1 / 348 وتفسير الطبري 14 / 9 واللسان والتاج (سكر، قبر) وتفسير
الطبري 14 / 8 ومجمع البيان 3 / 330 والشوكاني (الفتح القدير) 3 / 8، 11 (اجتأل)
اجتمع، وتقبض، وانقبض. و (القنبر) و (القنبار) جمعه قنابر، وتقول: العامة:
قنبرة. وهم جماعة يجتمعون لجر ما في الشباك من الصيد، وهي لغة عمانية. ومعنى
(استخفت الأفعى) اي تخبأت الحية الكبيرة. بعد ان كانت تظهر. وطلعت الشمس
عليها غيوم. و (الحرور) الريح الحارة.
(2) تفسير الطبري 14 / 9
323

" بل نحن قوم مسحورون " أي يقولون: سحرنا، فنحن مسحورون والسحر حيلة
خفية، توهم معنى المعجزة من غير حقيقة، ولهذا من عمل بالسحر كان كافرا،
لأنه يدعي المعجزة للكذابين، فلا يعرف نبوة الصادقين.
وقال أبو عبيدة: سكرت أبصار القوم إذا أدير بهم، وغشيهم كالساتر فلم
يبصروا.
وروي ابن خالويه عن الزهري أنه قرأ " سكرت " بفتح السين وكسر
الكاف، والتخفيف أي اختلطت وتغيرت عقولهم.
قوله تعالى:
(ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16)
وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من استرق السمع
فأتبعه شهاب مبين) (18) ثلاث آيات بلا خلاف.
أخبر الله تعالى أنه جعل في السماء بروجا. والجعل قد يكون تصيير الشئ
عن صفة لم يكن عليها. وقد يكون بالايجاد له. والله تعالى قادر ان يجعل في
السماء بروجا من الوجهين، والبرج: ظهور منزل ممتنع بارتفاعه، فمن ذلك برج
الحصن، وبرج من بروج السماء الاثني عشر، وهي منازل الشمس والقمر.
وأصله الظهور، يقال: تبرجت المرأة إذا أظهرت زينتها. وقال الحسن ومجاهد
وقتادة: المراد بالبروج النجوم. وقوله " وحفظناها من كل شيطان رجيم "
يحتمل أن تكون الكناية راجعة إلى السماء، والى البروج. وحفظ الشئ
جعله على ما ينفي عنه الضياع، فمن ذلك حفظ القرآن بدرسه ومراعاته،
حتى لا ينسى، ومنه حفظ المال بإحرازه بحيث لا يضيع بتخطف الأيدي له،
وحفظ السماء من كل شيطان بالمنع بما أعد له من الشهاب. والرجم بمعنى
المرجوم، والرجم الرمي بالشئ بالاعتماد من غير آلة مهيأة للإصابة، فان النفوس
يرمى عنها ولا ترجم.
324

وقوله " الامن استرق السمع " معنى (الا) (لكن) فكأنه قال: لكن
من استرق السمع من الشيطان يتبعه شهاب مبين قال الفراء: أي لا يخطئ،
وقال المفسرون: قوله " إلا من استرق السمع " مثل قوله " إلا من خطف
الخطفة " (1) ومعناه معناه، والاستراق أخذ الشئ خفيا، وليس طلبهم استراق
السمع مع علمهم بالشهب خروج عن العادة في صفة العقلاء، لأنهم قد يطمعون في
في السلامة من بعض الجهات، والشهاب عمود من نور يمد لشدة ضيائه كالنار
وجمعه شهب. وقال ابن عباس: بالشهاب يخبل ويحرق، ولا يقتل. وقال الحسن:
يقتل قال ذو الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية * مسوم في سواد الليل منقضب (2)
والاتباع إلحاق الثاني بالأول، أتبعه اتباعا، وتبعه يتبعه إذا طلب اللحاق
به، وكذلك اتبعه اتباعا بالتشديد " مبين " اي ظاهر مبين.
وقال الفراء: قوله " إلا من استرق السمع " استثناء صحيح، لان الله تعالى
لم يحفظ السماء ممن يصعد إليها ليسترق السمع، ولكن إذا سمعه وألقاه إلى الكهنة
اتبعه شهاب مبين، فأما استراقهم السمع، فقال المفسرون: إن فيهم من كان
يصعد السماء فيسمع الوحي من الملائكة، فإذا نزل إلى الأرض اغوى به شياطينه
أو ألقاه إلى الكهان، فيغوون به الخلق، فلما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم منعهم من
ذلك، وكان قبل البعثة لم يمنعهم من ذلك تغليظا في التكليف. قال الزجاج:
والدليل على أنه لم يكن ذلك قبل النبي ان أحدا من الشعراء لم يذكره قبل بعثة
لنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة ذكرهم الشهب بعد ذلك.
قوله تعالى:
(والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من

(1) سورة 37 الصافات آية 10
(2) مجمع البيان 3 / 330 واللسان قضب)
325

كل شئ موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له
برازقين (20) وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا
بقدر معلوم) (21) ثلاث آيات بلا خلاف.
قوله " والأرض مددناها " عطفا على قوله " ولقد جعلنا في السماء بروجا..
والأرض " ويجوز أن يكون ومددنا الأرض مددناها، كما قال " والقمر
قدرناه " (1) ومعنى " مددناها " بسطناها، وجعلنا لها طولا وعرضا " وألقينا فيها "
يعني طرحنا فيها " رواسي " يعني جبالا ثابتة. واصله الثبوت، ويقال: رست
السفينة إذا ثبتت، والمراسي ما تثبت به. وقيل جعلت الجبال أوتادا للأرض
وقيل جعلت أعلاما يهتدي بها أهل الأرض.
وقوله " أنبتنا فيها " يعني أخرجنا النبات في الأرض، والنبات ظهور النامي
عن غيره، حالا بعد حال والأغلب عليه ظهوره من الأرض، وقد يكون من
غيره، كنبات الشعر على البدن والرأس.
" من كل شئ موزون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والجبائي: من كل شئ
مقدر معلوم.
والثاني - قال الحسن وابن زيد: من الأشياء التي توزن من الذهب والفضة
والنحاس والحديد وغير ذلك. والوزن وضع أحد الشيئين بإزاء الآخر على ما
يظهر به مساواته في المقدار وزيادته، يقال وزنه يزنه وزنا فهو موزون،
" وجعلنا لكم فيها معايش " جمع معيشة، وهي طلب أسباب الرزق
مدة الحياة، فقد يطلبها الانسان لنفسه بالتصرف والتكسب، وقد يطلب له
فإن أتاه أسباب الرزق من غير طلب فذلك العيش الهني.
وقوله " ومن لستم له برازقين " (من) في موضع نصب عطفا على (معايش)،

(1) سورة يس آية 39
326

وقال مجاهد: المراد به العبيد والإماء والدواب، والانعام، قال الفراء: العرب
لا تكاد تجعل (من) الا في الناس خاصة، قال، فإن كان من الدواب والمماليك
حسن حينئذ، قال وقد يجوز ان يجعل (من) في موضع خفض نسقا على الكاف
والميم في (لكم) قال المبرد: الظاهر المخفوض لا يعطف على المضمر المخفوض نحو
مررت بك وزيد إلا أن يضطر شاعر، على ما مضى ذكره في سورة النساء، وانشد
الفراء في ذلك:
نعلق في مثل السواري سيوفنا * وما بينها والكعب غوط نفانف (1)
فرد الكعب على (بينها) وقال آخر:
هلا سألت بذي الجماجم عنهم * وأبا نعيم ذي اللواء المحرق (2)
فرد أبا نعيم على الهاء في عنهم. قال ويجوز أن يكون في موضع رفع، لان
الكلام قد تم، ويكون التقدير على قوله " لكم فيها ".. " ومن لستم له برازقين ".
وقوله " وان من شئ الا عندنا خزائنه " فخزائن الله مقدوراته، لأنه تعالى يقدر
ان يوجد ما شاء من جميع الأجناس، فكأنه قال: وليس من شئ إلا والله تعالى
قادر على ما كان من جنسه إلى م الا نهاية له.
وقوله " وما ننزله الا بقدر معلوم " اي لست انزل من ذلك الشئ " إلا بقدر
معلوم " اي ما يصلحهم وينفعهم دون ما يفسدهم ويضرهم، حسب ما سبق
في علمي.
قوله تعالى:
(وأرسلنا الرياح لواقع فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه
وما أنتم له بخازنين (22) وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن

(1) مر هذا البيت في 3: 98
(2) تفسير الطبري 14: 12 (الطبعة الأولى) ومجمع البيان 3: 333
327

الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين
(24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم) (25) أربع آيات.
قرأ حمزة وحده " الريح لواقح " الباقون " الرياح " على الجمع، قال أبو عبيدة
لا اعرف لذلك وجها، إلا أن يريد أن الريح تأتي مختلفة من كل وجه، فكانت
بمنزلة رياح وحكى الكسائي أرض اغفال، وأرض سباسب. قال المبرد: يجوز
ذلك على بعد، ان يجعل الريح جنسا، وليس بجيد، لان الرياح ينفصل بعضها
عن بعض، بمعرفة كل واحدة، وليست كذلك الأرض، لأنها بساط واحد.
وقال الفراء: هو مثل ثوب اخلاق وانشد:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق * شراذم يضحك منه التواق (1)
ومن قراء " الرياح لواقح " احتمل ذلك شيئين.
أحدهما - ان يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء، فيكون
فيها اللقاح، فيقال فيها ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح.
والثاني - ان يصفها باللقح وان كانت تلقح، كما قيل ليل نائم وسركاتم.
يقول الله تعالى انه بعث " الرياح الواقع " للسحاب والأشجار تعدادا لنعمه
على عباده وامتنانا عليهم، واحدها ريح، وتجمع أيضا أرواحا، لأنها من
الواو، قال الشاعر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم (2)
فاللواقح التي تلقح السحاب، حتى يحمل الماء أي تلقي إليه ما يحمل به الماء
يقال: لقحت الناقة إذا حملت، وألقحها الفحل إذا ألقى إليها الماء فحملته،
فكذلك الرياح هي كالفحل للسحاب، (ولواقح) في موضع ملاقح. وقيل في

(1) تفسير الطبري 14: 13 واللسان " خلق "، " توق ".
(2) مر هذا البيت في 2: 372 من هذا الكتاب.
328

علة ذلك قولان: أحدهما، لأنه في معنى ذات لقاح كقولهم: هم ناصب أي ذو
نصب قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1)
اي منصب، وقال نهشل بن حري النهشلي:
ليبك يزيد ضارع لخصومه * ومختبط مما تطيح الطوائح (2)
اي المطاوح، وقال قتادة وإبراهيم والضحاك: معنى هذا القول: ان الرياح
تلقح السحاب الماء. وقال ابن مسعود: إنها لاقحة يحملها الماء، ملقحة بإلقائها
إياه إلى السحاب.
وقوله " فأنزلنا من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فأسقيناكموه " اي جعلته
سقيا، لأرضكم تشربه، يقال: سقيته، فيما يشربه، تسقيه وأسقيته فيما تشربه
ارضه، وقد تجئ أسقيته بمعنى سقيته، كقوله تعالى " نسقيكم مما في بطونه من
بين فرت ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين " (3)، وقال ذو الرمة:
وقفت على ربع لمية ناقتي * فمازلت أبكى عنده وأخاطبه
واسقيه حتى كاد مما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه (4)
اي ادعو له بالسقيا. " وما أنتم له برازقين " اي لستم تقدرون ان ترزقوا
أحدا ذلك الماء، لولا تفضل الله عليكم. ثم اخبر تعالى انه هو الذي يحيي الخلق
إذا شاء وكان ذلك صلاحا لهم، ويميتهم إذا أراد وكان صلاحهم، وانه هو الذي
يرث الخلق، لأنه إذا افنى الخلق ولم يبق أحد كانت الأشياء كلها راجعة إليه
ينفرد بالتصرف فيها وكان هو الوارث لجميع الاملاك.

(1) ديوانه " دار بيروت " 9 وقد مر في 5: 368، 6: 95.
(2) مر هذا البيت في 4: 310.
(3) سورة النحل آية 66
(4) ديوانه 213 وتفسير الشوكاني " الفتح القدير " 3: 48 وتفسير الطبري 14: 14
والمحاسن والأضداد للجاحظ 335 ومجمع البيان 3: 333، 359 واللسان والتاج
(سقى) وقد مر الثاني في 4: 129
329

وقوله " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " قيل في معناه
ثلاثة أقوال:
أحدهما - قال مجاهد وقتادة من مضى ومن بقي.
وثانيها - قال الشعبي: أول الخلق وآخره.
وثالثها - قال الحسن: المتقدمين في الخير والمبطئين.
وقال الفرا: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن اله يصلي على الصف الأول، أراد بعض
المسلمين ان يبيع داره النائية ليدنو إلى المسجد، فيدرك الصف الأول. فأنزل
الله الآية، وأنه يجازي فقراء الناس على نياتهم.
ثم اخبر تعالى ان الذي خلقك يا محمد هو الذي يحشرهم بعد إماتتهم، ويبعثهم
يوم القيامة، لأنه حكيم في افعاله عالم بما يستحقونه من الثواب والعقاب.
(والحشر) جمع الحيوان إلى مكان، يقال: هؤلاء الحشار، لأنهم يجمعون
الناس إلى ديوان الخراج. و (الحكيم) العالم بما لا يجوز فعله، لقبحه، أو سقوط
الحمد عليه، مع أنه لا يفعله، فعلى هذا يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه حكيم.
والحكيم المحكم لأفعاله بمنع الخلل ان يدخل في شئ منها، فعلى هذا لا يوصف
تعالى فيما لم يزل بأنه حكيم.
قوله تعالى:
(ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حما مسنون (26)
والجان خلقناه من قبل من نار السموم) (27) آيتان بلا خلاف.
اخبر الله تعالى أنه خلق الانسان، والمراد به آدم بلا خلاف.
وقيل في معنى الصلصال قولان:
أحدهما - إنه الطين اليابس الذي يسمع له عند النقر صلصلة. ذهب إليه ابن
عباس والحسن وقتادة.
والثاني - قال مجاهد: هو مثل الخزف الذي يصلصل. وقال مجاهد:
330

الصلصال المنتن - في رواية عنه - مشتق من صل اللحم وأصل إذا أنتن،
والأول أقوى، لقوله تعالى " خلق الانسان من صلصال كالفخار (1) " وما يبس
كالفخار فليس بمنتن، وقال الفراء: الصلصال طين الحرار إذا خلط بالرمل إذا
جف كان صلصالا، وإذا طبخ كان فخارا، والصلصلة القعقعة، وهي صوت
شديد متردد في الهواء كصوت الرعد، يقال لصوت الرعد صلصلة، وللثوب
الجديد قعقعة، واصل الصلصلة الصوت يقال: صل يصل وهو صليل إذا صوت،
قال الشاعر:
رجعت إلى صدر كجرة حنتم * إذا فرغت صفرا من الماء صلت (2)
وقيل: خلق آدم على صورة الانسان من طين، ثم ترك حتى جف، فكانت
الريح إذا مرت به سمع له صلصلة.
وقوله " من حمأ مسنون " فالحمأ جمع حمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد،
يقال: حمئت البئر وأحمأتها أنا إذا بلغت الحمأة. وقيل في معنى (المسنون)
قولان:
أحدهما - المصبوب من قولهم: سننت الماء على الوجه وغيره إذا صببته، وعن
ابن عباس: انه الرطب، فعلى هذا يكون رطبا مصبوبا ثم يبس فيصير
كالفخار.
الثاني - انه المتغير، من قولهم: سننت الحديدة على المسن إذا غيرتها
بالتحديد، والأصل الاستمرار في جهة، من قولهم هو على سنن واحد.
ومعنى قوله " والجان خلقناه من قبل " المراد به إبليس، خلقه الله قبل آدم
- في قول الحسن وقتادة - " من نار السموم " اي من النار الحارة. وقال عبد الله:
هذه السموم جزء من سبعين جزء من السموم التي خرج منها الجان، وهو مأخوذ
من دخولها بلطفها في مسام البدن ومنه السم القاتل، يقال: سم يومنا يسم
سموما إذا هبت له ريح السموم.

(1) سورة الرحمن آية 14 - 15
(2) قائله عمرو بن شأس. اللسان " حنتم " ومجمع البيان 3: 335
331

قوله تعالى:
(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من
حما مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين (29) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس
أبى أن يكون مع الساجدين (31) أربع آيات بلا خلاف.
لفظة (إذ) تدل على ما مضى من الزمان، ولابد لها من فعل متعلق به،
والتقدير واذكر يا محمد " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا " اي اخلقه فيما
بعد، قبل ان يخلقه، والمراد بالبشر آدم، وسمي بشرا لأنه ظاهر الجلد، لا يرى
فيه شعر، ولا صوف كسائر الحيوان. ثم قال " من صلصال من حما مسنون "
وقد فسرناه.
وقوله " فإذا سويته " معناه سويت صورته الانسانية، والتسوية جعل واحد
من الشيئين على مقدار الآخر وقد يسوى بين الشيئين في الحكم.
وقوله: " ونفخت فيه من روحي " فالنفخ الاجراء لريح في الشئ باعتماد،
نفخ ينفخ إذا اجرى الريح باعتماد، فلما أجرى الله الروح على هذه الصفة
في البدن، كان قد نفخ الروح فيه، وأضاف روح آدم إلى نفسه تكرمة له، وهي
إضافة الملك، لما شرفه وكرمه، والروح جسم رقيق روحاني فيها الحياة التي بها
يجئ الحي، فإذا خرجت الروح من البدن، كان ميتا في الحكم، فإذا انتفت
الحياة من الروح، فهو ميت في الحقيقة.
وقوله " فقعوا له ساجدين " أمر من الله تعالى، إلى الملائكة ان يسجدوا
لآدم. وقيل في وجه سجودهم له قولان:
أحدهما - انه سجود تحية وتكرمة لآدم، عبادة لله تعالى. وقيل: أنه على
معنى السجود إلى القبلة. والأول عليه أكثر المفسرين. ثم استثنى من جملتهم
332

إبليس انه لم يسجد، " وأبى أن يكون مع الساجدين " لآدم. وإبليس مشتق
من الابلاس، وهو اليأس من روح الله إلا أنه شبه بالأعجمي من جهة انه لم
يستعمل إلا على جهة العلم، فلم يصرف. وقال قوم: إنه ليس بمشتق، لأنه
أعجمي بدلالة انه لا ينصرف. والاباء: الامتناع، والسجود خفض الجبهة
بالوضع على بسط من الأرض أو غيره، واصله الانخفاض قال الشاعر:
ترى الاكم فيها سجدا للحوافر (1)
واختلفوا في هذا الاستثناء، فقال قوم: ان إبليس كان من الملائكة، فلذلك
استثناه، وقال آخرون: إنما كان من جملة المأمورين بالسجود لآدم، فلذلك استثناه
من جملتهم، وقال آخرون: هو استثناء منقطع ومعناه (لكن) وقد بينا
الصحيح من ذلك في سورة البقرة (2)
ومن قال: لم يكن من الملائكة قال: الملائكة خلقوا من نور، وإبليس خلق
من نار، والملائكة لا يعصون، وإبليس عصى بكفره بالله. والملائكة لا تأكل
ولا تشرب ولا تنكح، وإبليس بخلاف ذلك، قال الحسن: إبليس أب الجن،
كما أن آدم أب الانس
قوله تعالى:
(قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين (32) قال
لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حما مسنون (33)
آيتان بلا خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى لإبليس يقول له: لم لا تكون مع الساجدين،
تسجد كما سجدوا. واختلفوا في كيفية هذا الخطاب، فقال الجبائي: قال الله له

(1) مر هذا الشعر في: 148، 263، 311، 4: 233، 383، 6:..
(2) انظر 1: 147 في تفسير آية 34 من سورة البقرة.
333

ذلك على لسان بعض رسله وهو الأليق، لأنه لا يصح ان يكلمه الله بلا واسطة
في زمان التكليف. وقال آخرون: كلمه، بالانكار عليه والإهانة له، كما قال
" اخسؤوا فيها ولا تكلمون " (1). هذا ينبغي أن يكون حكاية عما يقوله له في
الآخرة، فقال إبليس مجيبا لهذا الكلام: ما كنت بالذي اسجد لبشر " خلقته
من صلصال من حما مسنون " وقد فسرناه. ولم يعلم وجه الحكمة في ذلك، لان
في ذلك قلبا للشئ عن الحالة الحقيرة في الضعة إلى هذه الحالة الجليلة، وأي ذلك
كان، فإنه لا يقدر عليه غير الله، وانه لا ينتفع للعظم في الصفة مع إمكان قلبه
إلى النقص في الصفة، وكذلك لا يضر النقص في الصفة، مع إمكان قلبه إلى
الأعظم، فلو نظر في ذلك لزالت شبهته في خلقه من نار وخلق آدم من طين،
قال المبرد: قوله " مالك ألا تكون " (لا) زائدة مؤكدة، والتقدير ما منعك
ان تسجد، ف‍ (أن) في قول الخليل وأصحابه في موضع نصب، لأنه إذا حذف
حرف الجر ونصب ما بعده، وقال غيره: في موضع خفض، لان المعنى ما منعك
من أن تكون، فحذف (من)
قوله تعالى:
(قال فاخرج منها فإنك رجيم (34) وإن عليك اللعنة إلى
يوم الدين (35) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال
فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم) (38)
خمس آيات بلا خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى لإبليس لما احتج لامتناعه من السجود لآدم بما ليس
بحجة، بل هو حجة عليه، فاخرج منها.
قال الجبائي: أمره بالخروج من الجنة. وقال غيره أمره بالخروج من السماء.

(1) سورة المؤمنون آية 109
334

" فإنك رجيم " أي مرجوم بالذم والشتم (فعيل) بمعنى مفعول. وقد يكون
(فعيل) بمعنى فاعل مثل رحيم بمعنى راحم.
" وان عليك اللعنة " اي عليك مع ذلك اللعنة، وهي الابعاد من رحمة الله،
ولذلك لا يجوز ان تلعن بهيمة، فأما لعن إبليس إلى يوم الدين، فإن الله قد لعنه،
والمؤمنون لعنوه لعنة لازمة إلى يوم الدين، وهو يوم القيامة. ثم يحصل بعد ذلك
على الجزاء بعذاب النار. وقيل الدين - ههنا - الجزاء، ومثله " مالك يوم الدين "
اي يوم الجزاء. ويقال لفلان دين اي طاعة يستحق بها الجزاء، وفلان يدين
للملوك أي يدخل في عادتهم في الجزاء، فقال حينئذ إبليس: يا رب " انظرني إلى
يوم يبعثون " اي أخر في وقتي إلى يوم يحشرون، يعني القيامة، يحشرهم الله
للجزاء. والانظار والامهال واحد، فقال الله تعالى له: اني أنظرتك وأخرتك
وجعلتك من جملة " المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " فقال قوم: هو يوم القيامة،
أنظره الله في رفع العذاب عنه إلى يوم القيامة، وفي التبقية إلى آخر أحوال
التكليف " ويوم يبعثون " يوم القيامة. وقد قيل: إن يوم الوقت المعلوم هو آخر
أيام التكليف، وأنه سأل الانظار إلى يوم القيامة، لان لا يموت، إذ يوم القيامة
لا يموت فيه أحد، فلم يجبه الله إلى ذلك. وقيل له " إلى يوم الوقت المعلوم "
الذي هو آخر أيام التكليف. وقال البلخي: أراد بذلك إلى يوم الوقت المعلوم،
الذي قدر الله أجله فيه، وهو معلوم، لأنه لا يجوز ان يقول تعالى لمكلف اني
أبقيك إلى يوم معين لان في ذلك اغراء له بالقبيح.
واختلفوا في تجويز، إجابة دعاء الكافر، فقال الجبائي: لا يجوز، لان إجابة
الدعاء ثواب، لما فيه من اجلال الداعي بإجابته إلى ما سأل وقال ابن الاخشاد:
يجوز ذلك، لان الإجابة كالنعمة في احتمالها أن تكون ثوابا وغير ثواب، لأنه قد
يحسن منا ان نجيب الكافر إلى ما سأل استصلاحا له ولغيره، فأما قولهم:
فلان مجاب الدعوة، فهذه صفة مبالغة لا تصح لمن كانت إجابته نادرة من
الكفار.
335

قوله تعالى:
(قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولا غوينهم
أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين) (40) آيتان بلا خلاف.
لما أجاب الله تعالى إبليس إلى الانظار إلى يوم الوقت المعلوم، قال عند ذلك
يا رب " بما أغويتني " اي فيما خيبتني من رحمتك، لان الغي الخيبة قال الشاعر.
فمن يلق خيرا يحمد الناس امره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (1)
وقال قوم: معناه بما نسبتني إلى الغي ذما لي، وحكمت علي بالغي. وقال
البلخي: معناه فيما كلفتني السجود لآدم الذي غويت عنده، فسمي ذلك غواية،
كما قال " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " (2) لما ازدادوا عندها، على أن هذا حكاية
قول إبليس، ويجوز أن يكون اعتقد ان الله خلق فيه الغواية، فكفر بذلك،
كما كفر بالامتناع من السجود.
والباء في قوله " فبما أغويتني " قيل في معناها قولان:
أحدهما - ان معناها القسم، كقولك بالله لأفعلن.
والآخر - بخيبتي " لأغوينهم " كأنها سبب لاغوائهم، كقولك بمعصيته
ليدخلن النار، وبطاعته ليدخلن الجنة.
والاغواء الدعاء إلى الغي، والاغواء خلاف الارشاد، فهذا أصله، وقد يكون
الاغواء بمعنى الحكم بالغي، على وجه الذم والتزيين جعل الشئ منقلبا في النفس
من جهة الطبع والعقل، بحق أم بباطل. واغواء الشيطان تزيينه الباطل حتى
يدخل صاحبه فيه، ويرى ان الحظ بالدخول فيه. و " لأغوينهم " اي أدعوهم إلى
ضد الرشاد، ثم استثنى من جملتهم عباد الله المخلصين الذين أخلصوا عبادتهم لله
وامتنعوا من إجابة الشيطان، في ارتكاب المعاصي، لأنه ليس للشيطان عليهم

(1) مر هذا البيت في 2: 312، 4: 391، 5: 548
(2) سورة التوبة آية 126
336

سبيل، كما قال تعالى " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان " يعنى عباد الله الذين
فعلوا ما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه.
ومن كسر اللام فلقوله " وأخلصوا دينهم لله " (1)
ومن فتحها أراد ان الله أخلصهم بأن وفقهم لذلك، ولطف لهم فيه.
قوله تعالى:
(قال هذا صراط علي مستقيم (41) إن عبادي ليس لك
عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42) وإن جهنم
لموعدهم أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء
مقسوم) (44) أربع آيات بلا خلاف.
قرأ يعقوب " صراط علي " بتنوين علي، ورفعه على أنه صفة ل‍ (صراط)
بمعنى رفيع، وبه قرأ ابن سير بن وقتادة. الباقون بفتح الياء على الإضافة إلى
الياء. وقيل في معناه قولان.
أحدهما - إن ذلك على وجه التهديد، كقولك لمن تتهدده وتتوعده: على
طريقك، والى مصيرك، كما قال " إن ربك لبالمرصاد " (2) وهو قول مجاهد
وقتادة.
الثاني - إنه يراد به الدين المستقيم، وأن الله يبينه وينفي الشبهة عنه بهداية
المستدل على طريق الدليل.
وقوله " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان " اخبار منه تعالى ان عباده الذين

(1) سورة النساء آية 146
(2) سورة الفجر آية 14
337

يطيعونه وينتهون إلى أمره ويجتنبون معاصيه ليس للشيطان عليهم سلطان ولا
قدرة أكثر من أن يغويهم، فإذا لم يقبلوا منه ولا يتبعونه، فلا يقدر لهم على ضر
ولا نفع. وقال الجبائي: ذلك يدل على أن الجن لا يقدرون على الاضرار ببني
آدم، لأنه على عمومه. وقال غيره: الآية تدل على نفي السلطان بالاغواء،
لأنهم إذا لم يقبلوا منه ولا يتبعونه، فكأنه لا سلطان له عليهم، ولا يمتنع ان
يقدروا على غير ذلك من الاضرار.
ثم استثنى تعالى من جملة العباد من يتبع إبليس على إغوائه وينقاد له ويقبل
منه، لأنه إذا قبل منه، صار له عليه سلطان، بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه
إليه من اتباع الهوى، فيظفر به إبليس.
ثم اخبر تعالى ان جهنم موعد جميع العصاة والخارجين عن طاعته، ومن
يتبع إبليس على إغوائه. و (جهنم) لا تنصرف لأنها معرفة مؤنثة، وقد يقال
للنار إذا عظمت واشتدت: هذه جهنم، تشبيها بجهنم المعروفة، وهذا لم ينكر،
ثم اخبر عن صفة جهنم بأن " لها سبعة أبواب " وقال علي (ع) والحسن وقتادة
وابن جريج: أبوابها أطباق بعضها فوق بعض " لكل باب جزء " من المستحقين
للعقوبة على قدر استحقاقهم من العقاب، في القلة والكثرة بحسب كثرة معاصيهم
وقلتها.
قوله تعالى:
(إن المتقين في جنات وعيون (45) أدخلوها بسلام آمنين
(46) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين
(47) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين) (48) أربع
آيات بلا خلاف.
لما اخبر الله تعالى عن الكفار ان مستقرهم جهنم، ووصف جهنم، اخبر - ههنا -
338

ما للمتقين، فقال " ان للمتقين " الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه وفعل
طاعته " جنات " وهي البساتين التي تنبع فيها المياه، كما تفور من الفوارة، ثم
يجري في مجاريه، وإنما يشوقهم إلى الثواب بالجنان، لأنها من أسباب لذات الدنيا
المؤدية إليها، كما أن النار من أسباب الآلام لمن حصل فيها.
والفرق بين الجنة والروضة: ان الجنة لابد أن يكون فيها شجر، لان أصلها
من أن الشجر يجنها، والروضة قد تكون بغير شجر، يقال: روضة خضرة
ورباض مونقات.
وقوله " ادخلوها " اي يقال للمتقين " ادخلوها بسلام آمنين " بسلامة وهي
البراءة من كل آفة ومضرة، كما قال " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " (1)
اي براءة منكم، ومعنى " آمنين " اي ساكني النفس إلى انتفاء الضرر. والأمانة
الثقة بالسلامة من الخيانة.
وقوله " ونزعنا ما في صدورهم من غل " فالغل الحقد الذي ينعقد في القلب،
ومنه الغل الذي يجعل في العنق، والغلول الخيانة التي تطوق عارها صاحبها،
فبين تعالى ان الأحقاد التي في صدور أهل الدنيا تزول بين أهل الجنة ويصبحون
" اخوانا " متحابين " على سرر " وهي جمع سرير، وهو المجلس الرفيع موطأ
للسرور، ويقال في جمعه: أسرة أيضا، وهو مأخوذ من السرور، لأنه مجلس
سرور " متقابلين " اي كل واحد منهم مقابل لصاحبه ومحاذ لأخيه، فإنه بذلك
يعظم سرورهم. والتقابل وضع كل واحد بإزاء الآخر على التشاكل وقال قوم:
ان نزع الغل يكون قبل دخول الجنة. وقال آخرون: يكون ذلك بعد
دخولهم فيها.
وقوله " لا يمسهم فيها نصب " اخبار منه تعالى: ان هؤلاء المؤمنين الذين
حصلوا في الجنة " اخوانا على سرر متقابلين " لا يمسهم في الجنة نصب وهو
التعب والوهن الذي من العمل، للوهن الذي يلحق. ثم اخبر انهم مع ذلك

(1) سورة 25 الفرقان آية 63
339

لا يخرجون من الجنة بل يبقون فيها مؤبدين. و (اخوانا) نصب على الحال. وقال
قوم هو نصب على التمييز.
قوله تعالى:
(نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو
العذاب الأليم) (50) آيتان بلا خلاف.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يخبر عباد الله الذين خلقهم لعبادته على وجه
الترغيب لهم في طاعته والتخويف عن معصيته، باني انا الذي أعفو واستر على
عبادي معاصيهم، ولا أفضحهم بها يوم القيامة إذا تابوا منها، لرحمتي وانعامي
عليهم، وان مع ذلك عذابي وعقوبتي " هو العذاب الأليم " المؤلم الموجع، فلا تعولوا
على محض غفراني، وخافوا عقابي، وكونوا على حذر باجتناب معاصي والعمل
بطاعتي.
قوله تعالى:
(ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا
سلاما قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لا توجل إنا نبشرك
بغلام عليم (53) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم
تبشرون) (54) أربع آيات بلا خلاف.
قرأ نافع " تبشرون " بكسر النون مع التخفيف بمعنى تبشرونني وحذف
النون استثقالا، لاجتماع المثلين، وبقيت الكسرة الدالة على الياء المفعولة،
والنون الثانية محذوفة، لان التكرير بها وقع، ولم تحذف الأولى لأنها علامة
الرفع ومثله قول الشاعر:
340

تراه كالثغام يعل مسكا * بسوء الغاليات إذا قليني (1)
أراد قلينني، فحذف إحدى النونين. وقال أهل الكوفة: ادغم ثم حذف،
وحجتهم " وكادوا يقتلونني " (2) وقوله " أتعدانني " (3) فأظهر النونات، وأما
حرف المشدد نحو " تأمروني " (4) و " أتحاجوني " (5) وما أشبه ذلك. وشدد النون
وكسرها ابن كثير. الباقون بفتح النون.
قال أبو علي: من شدد النون أدغم النون الأولى التي هي علامة الرفع في
الثانية المتصلة بالياء التي للمضمر المنصوب للمتكلم، وفتحها، لأنه لم يعد الفعل إلى
مفعول به، كما عداه غيره. وحذف المفعول كثير. ولو لم يدغم، وبين، كان
حسنا في القياس مثل (يقتلونني) في جواز البيان والادغام. ومن فتح النون
جعلها علامة الرفع، ولم يعد الفعل فيجتمع نونان.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يخبر من تقدم ذكره " عن ضيف إبراهيم " والضيف
هو المنضوي إلى غيره لطلب القرى، وجمعه ضيوف وأضياف وضيفان " إذ دخلوا
عليه " يتعلق ب‍ (ضيف) وضيف يقع على الواحد والاثنين والجمع،
فلذلك قال " إذ دخلوا عليه " فكنى بكناية الجمع. وسماهم ضيفا، وهم ملائكة،
لأنهم دخلوا بصورة البشر " فقالوا سلاما " نصبه على المصدر، والمعنى سلمت
سلاما على وجه الدعاء، والنحية. ومثله قوله " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا
سلاما " (6) والمعنى سلمنا منكم سلاما، والسلامة نقيض البلاء والآفة المخوفة، والنجاة
نقيض الهلاك.
وقوله " قال إنا منكم وجلون " اخبار عما أجاب به إبراهيم ضيفانه بأنه خائف
منهم، والوجل الخوف، فأجابه الضيفان، وقالوا " لا توجل " أي لا تخف انا

(1) قائله عمر بن معد يكرب. الكتاب لسيبويه 2: 67 وشرح المفضليات 78 والانصاف
377 ومجاز القرآن 1: 352 ومجمع البيان 3: 339
(2) سورة 7 الأعراف آية 149
(3) سورة 46 الأحقاف اية 17
(4) سورة 39 الزمر اية 64
(5) سورة الأنعام اية 80،
(6) سورة 25 الفرقان اية 63
341

جئناك " نبشرك بغلام عليم ". والتبشير الاخبار بما يسر، بما يظهر في بشرة
الوجه سرورا به يقال: بشرته أبشره بشارة وأبشر إبشارا بمعنى استبشر،
وبشرته تبشيرا، وإنما وصفه بأنه " عليم " قبل كونه، لدلالة البشارة به على أنه
سيكون بهذه الصفة، لأنه إنما بشر بولد يرزقه الله إياه ويكون عليما، فقال لهم
إبراهيم " أبشرتموني على أن مسني الكبر " اي كيف يكون لي ولد وقد صرت
كبيرا، لان معنى " مسني الكبر " أي غيرني الكبر عن حال الشباب التي يطمع
معها في الولد، إلى حال الهرم. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - انه عجب من ذلك لكبره، فقاله على هذا الوجه.
والآخر - انه استفهم فقال: أأمر الله ان تبشرونني، في قول الجبائي.
ومعنى (على أن مسني) أي بأن مسني، كما قال " حقيق على أن لا أقول " (1) بمعنى
بأن لا أقول.
قوله تعالى:
(قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين (55) قال
ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) (56) آيتان بلا خلاف.
قرأ أبو عمرو والكسائي " يقنط " بكسر النون، حيث وقع، الباقون
بفتحها، وكلهم قرأ " من بعد ما قنطوا " (2) بفتح النون، قال أبو علي: قنط
يقنط ويقنظ لغتان بدلالة إجماعهم على قوله " من بعد ما قنطوا " بفتح النون
وقد حكي: يقنط بضم النون، وهي شاذة، وهذا يدل على أن ماضيه على (فعل)
لأنه ليس في الكلام (فعل يفعل). وقد حكي عن الأعمش أنه قرأ " من بعدما
قنطوا " بكسر النون، وهي شاذة لا يقرأ بها.
وفي هذه الآية حكاية ما قالت الملائكة لإبراهيم، حين عجب أن يكون له

(1) سورة 7 الأعراف آية 104
(2) سورة 42 الشورى آية 28
342

ولد لكبر سنه وعلو عمره، إنا بشرناك بذلك على وجه الحق والصحيح، وأخبرناك
به على وجه الصدق، فلا تكن بعد ذلك من جملة القانطين، يعني الآيسين فأجابهم
إبراهيم عند ذلك بأن قال: و " من " الذي " يقنط " أي ييأس " من رحمة " الله وحسن
إنعامه، إلا من كان عادلا عن الحق ضالا عن سبيل الهدى، وهذا يقوي قول من
قال: إنه راجعهم في ذلك على وجه الاستفهام دون الشك في أقوالهم.
قوله تعالى:
(قال فما فخطبكم أيها المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إلى
قوم مجرمين (58) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59) إلا
امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) (60) أربع آيات بلا خلاف.
فقال إبراهيم (ع) بعد ذلك للملائكة " ما خطبكم " اي ما الامر الجليل الذي
بعثتم له، والخطب الامر الجليل، ومثله ما شأنك، وما أمرك، ومنه الخطبة،
لأنها في الامر الجليل، فأجابته الملائكة بأنا " أرسلنا إلى قوم مجرمين " وقوم
الرجل: هم الذين يقيمون بنصرته، والنفر الذين ينفرون في مهام الأمور. وقوم
لوط هم الذين كان يجب عليهم القيام بنصرته ومعونته على أمره. وقال قوم:
إنه يقع على الرجال دون النساء. والمجرم المنقطع عن الحق إلى الباطل، وهو
القاطع لنفسه عن المحاسن إلى المقابح، والمعنى " انا أرسلنا إلى " من وصفنا
لنهلكهم، وننزل بهم العقوبة. ثم استثنى من ذلك (آل لوط) وأخبر انهم
ينجونهم كلهم، يقال: نجيت فلانا وأنجيته، فمن قرأ بالتشديد أراد التكثير.
ثم استثنى من جملة آل لوط امرأته، وبين انها هالكة مع الهالكين، (وقدرنا) اي
كتبنا " انها لمن الغابرين " والغابر الباقي في من يهلك. والغابر الباقي في مثل
الغيرة، مما يوجب الهلكة. قال الشاعر:
343

فما ونى محمد مذ أن غفر * له الاله ما مضى وما غبر (1)
وآل الرجل أهله الذين يرجعون إلى ولايته، ولهذا يقال أهل البلد، ولا
يقال آل البلد، ولكن آل الرجل اتباعه الذين يرجع أمرهم إليه بولايته ونصرته
وقيل: إن امرأة لوط كانت في جملة الباقين. ثم أهلكت فيما بعد " وقدرنا " بالتخفيف
مثل (قدرنا) بالتشديد، وكلهم قرأ - هاهنا - مشددا إلا أبا بكر عن عاصم، فإنه
خففها، ويكون ذلك من التقدير، كما قال " ومن قدر عليه رزقه " (2). وقال أبو عبيدة:
في الآية معنى فقر، وكان أبو يوسف يتأوله فيها، لان الله تعالى استثنى آل لوط
من المجرمين، ثم استثنى استثناء رده على استثناء كان قبله، وكذلك كل استثناء في
الكلام إذا جاء بعد آخر عاد المعنى إلى أول الكلام، كقول الرجل: لفلان
علي عشرة إلا أربعة إلا درهم، فإنه يكون اقرار بسبعة، وكذلك لو قال: علي
خمسة إلا درهما إلا ثلثا، كان إقرار بأربعة وثلث، وكذلك لو قال لامرأته أنت
طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة كانت طالقا اثنتين، قال: وأكثر ما يستثنى ما
هو أقل من النصف، ولم يسمع أكثر من النصف الا بيت أنشده الكسائي:
أدوا التي نقصت سبعين من مئة * ثم ابعثوا حكما بالعدل حكاما
فجعلها مئة إلا سبعين، وهو يريد ثلاثين، وضعف المبرد الاحتجاج بهذا
البيت، ولم يجز استثناء الأكثر من الجملة ولا نصفها، وإنما جاز استثناء ما دون
النصف من الجملة حتى قال: لا يجوز ان يقال: له عندي عشرة إلا نصف ولا
عشرة إلا واحد، قال: لان تسعة ونصف أولى بذلك، وكذلك لا يجوز: له
الف إلا مئة، لان تسعة مئة أولى بذلك، وإنما يجوز الف إلا خمسين وإلا سبعين
والا تسعين، قال: وعلى هذا النحو بني هذا الباب. والصحيح الأول، عند أكثر
العلماء من المتكلمين والفقهاء وأكثر النحويين.

(1) قائله العجاج ديوانه 15 واللسان (ثبت)، وقد مر قسم من هذا الرجز في 4: 588:
589 تعليقة 4
(2) سورة الطلاق آية 7
344

قوله تعالى:
(فلما جاء آل لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم منكرون
(62) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون (63) وأتيناك بالحق
وإنا لصادقون) (64) أربع آيات بلا خلاف.
أخبر الله تعالى ان الملائكة الذين بعثهم الله لاهلاك قوم لوط، لما جاؤوا لوطا
وقومه، وكانوا في صورة لا يعرفهم بها لوط، أنكرهم، وقال لهم " انكم هم
منكرون " اي لا تعرفون مع الاستيحاش منكم، لأنه لم يثبتهم في ابتداء مجيئهم
فلما أخبروه بأنهم رسل الله جاؤوا بعذاب قومه وسؤاله الامر، عرفهم حينئذ،
وقالوا " بل جئناك بما كانوا فيه يمترون " اي بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه
ويكذبون به، وقد يوصف الجاهل بالشك من جهة ما يعرض له فيه من حيث لا
يرجع إلى ثقة فيما هو عليه. وقالوا له أيضا انا جئناك بالحق فيما أخبرناك به من
عذاب قومك، ونحن صادقون فيه.
قوله تعالى:
(فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت
منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون (65) وفضينا إليه ذلك
الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66) آيتان بلا خلاف.
هذا حكاية ما قالت الملائكة للوط وأمرهم إياه بأن يسري بأهله. والاسراء
سير الليل: سرى يسري سرى واسري إسراء لغتان قال الشاعر:
سريت بهم حتى تكل مطيهم * وحتى الجياد ما يقدن بارسان (1)

(1) مر هذا البيت في 6: 43 من هذا الكتاب
345

وقوله " بقطع من الليل " معناه بقطعة تمضي منه، كأنه جمع قطعة. مثل
تمرة وتمر وبسرة وبسر، وقيل: بقطع من الليل ببعض الليل. وقيل: بقية من
الليل. وقيل: إذا بقي من الليل قطعة ومضى أكثره.
وقوله " واتبع ادبارهم " اي اقتف آثارهم يعني آثار الأهل. والاتباع اقتفاء
الأثر. والاتباع في المذهب، والاقتداء مثله، وخلافه الابتداع. والادبار جمع
دبر، وهو جهة الخلف. والقبل جهة القدام، ويكنى بهما عن الفرج. وجمع
القبل أقبال
ومعنى قوله " ولا يلتفت منكم أحد " اي لا يلتفت إلى ما خلف، كما يقول
القائل: امض لشأنك، ولا تعرج على شئ. وقيل: لئلا يرى هو ما ينزل بهم
مما لا تطيقه نفسه " وامضوا حيث تؤمرون " اي حيث تؤمرون بالمصير إليه.
وقوله " وقضينا إليه " اي أخبرناه وأعلمناه " ذلك الامر " اي ما ينزل بهم
من العذاب.
وقوله " ان دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " والدابر الأصل وقيل دابرهم
آخرهم، وعقب الرجل دابره " مصبحين " نصب على الحال اي في حال ما دخلوا
في وقت الصبح، ومثله قوله " فأخذتهم الصيحة مشرقين " (1) نصب على الحال.
قوله تعالى:
(وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي
فلا تفضحون (68) واتقوا الله ولا تخزون (69) قالوا أولم ننهك
عن العالمين (70) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين) (71) خمس
آيات بلا خلاف.
هذا إخبار من الله تعالى أنه حين بلغ أهل المدينة نزول من هو في صورة

(1) سورة الحجر آية 73
346

الأضياف بلوط، جاؤوا إليه مستبشرين فرحين، يقال استبشر استبشارا وأبشر
إبشارا، بمعنى واحد وضده اكتأب اكتابأ. وإنما فرحوا طمعا في أن ينالوا الفجور
منهم، فقال لهم لوط " إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون " فيهم، والفضيحة ظهور
السيئة التي يلزم العار بها عند من عملها، يقال: فضحه يفضحه فضيحة، وأفتضح
افتضاحا وتفاضحوا تفاضحا. ثم قال لهم " اتقوا الله " باجتناب معاصيه، وفعل
طاعته، " ولا تحزون " والخري الانقماع بالعيب الذي يستحيا يقال منه: خزي
خزيا، وأخزاه الله إخزاء. والاخزاء والاذلال والإهانة نظائر. وللضيف ذمام
كانت العرب تراعيه، وتحافظ عليه، وتعيب من عنده ضيف ولم يقم بحقه،
فلذلك قال لهم " ان هؤلاء ضيفي "، فقالوا له في الجواب عن ذلك أوليس نهيناك
أن تستضيف أحدا من جملة الخلائق أو تنزله عندك، فقال لهم عند ذلك " هؤلاء "
وأشار إلى بناته. وقيل أنهن كن بناته لصلبه، وقيل انهن كن بنات قومه عرضهن
عليهم بالترويج والاستغناء بهن عن الذكران. وقال الحسن، وقتادة: أراد
" هؤلاء بناتي " فتزوجوهن " إن كنتم فاعلين " كناية عن طلب الجماع. وقال
الجبائي: ذلك للرؤساء الذين يكفون الاتباع، وقد كان يجوز في تلك الشريعة
تزويج المؤمنة بالكافر، وقد كان في صدر شريعتنا جائزا أيضا، ثم حرم. وهو
قول الحسن. وقال الزجاج: أراد نساء أمته، فهم بناته في الحكم، قال الجبائي:
وهذا القول كان من لوط لقومه قبل ان يعلم أنهم ملائكة لا يحتاج إلى هذا القول
لقومه.
قوله تعالى:
(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72) فأخذتهم الصيحة
مشرقين (73) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من
سجيل (74) إن في ذلك لآيات للمتوسمين (75) وإنها لبسبيل
مقيم (76) إن في ذلك لآية للمؤمنين (77) وإن كان أصحاب
347

الأيكة لظالمين) (78) سبع آيات بلا خلاف.
قال ابن عباس معنى (لعمرك) وحياتك. وقال غيره: هو مدة حياته
وبقائه حيا بمعنى لعمرك ومدة بقاءك حيا. والعمر والعمر واحد، غير أنه لا
يجوز في القسم إلا بالفتح، قال أبو عبيدة: ارتفع لعمرك وهي يمين، والايمان
تكون خفضا إذا كانت الواو في أوائلها، ولو كانت وعمرك لكانت خفضا،
ولذلك قولهم: لحق لقد فعلت ذلك، وإنما صارت هذه الايمان رفعا بدخول
اللام في أولها، لأنها أشبهت لام التأكيد، فأما قولهم: عمرك الله أفعل كذا،
فإنهم ينصبون (عمرك) وكذلك ينصبون (الله لأفعلن). قال المبرد: لا أفتحها
يمينا، بل هي دعاء ومعناه اسأل الله لعمرك. قال المبرد: والتقدير: لعمرك ما
اقسم به، ومثله: علي عهد الله لأفعلن، فعهد الله رفع بالابتداء، وفيه معنى القسم،
وكذلك (لاها الله ذا). قال الخليل: (ذا) معناه ما أقسم عليه. وحكي عن
الأخفش أنه قال: (ذا) ما اقسم به، لأنه قد ذكر الله، وكلاهما حسن
جميل.
وقوله " انهم لفي سكرتهم يعمهون " فالسكرة غمور السهو للنفس وهؤلاء
في سكرة الجهل " يعمهون " اي يتحيرون، ولا يبصرون طريق الرشد.
وقوله " فأخذتهم الصيحة مشرقين " فالاخذ فعل يصير به الشئ في جهة
الفاعل، فالصيحة كأنها أخذتهم بما صاروا في قبضتها حتى هلكوا عن آخرهم.
والصيحة صوت يخرج من الفم بشدة ويقال: إن الملك صاح بهم صيحة أهلكتهم.
ويجوز أن يكون جاء صوت عظيم من فعل الله كالصيحة. والاشراق ضياء
الشمس بالنهار شرقت الشمس تشرق شروقا إذا طلعت، وأشرقت إشراقا إذا
أضاءت وصفت. ومعنى (مشرقين) داخلين في الاشراق.
وقوله " فجعلنا عاليها سافلها " والجعل حصول الشئ على وجه لم يكن بقادر
عليه لولا الجعل، ومثله التصيير، والمعنى: انه قلب القرية فجعل أسفلها أعلاها
348

وأعلاها أسفلها " وأمطرنا عليهم حجارة " اي أرسلنا الحجارة، كما يرسل المطر
" من سجيل " وقيل في معناه قولان:
أحدهما - انها من طين وهو معرب. وقيل هو من السجل، لأنه كان عليها
أمثال الخواتيم بدلالة قوله " حجارة من طين مسومة عند ربك " (1)
والثاني - انها حجارة معدة عند الله تعالى للمجرمين، وأصله (سجين)
فأبدلت النون لاما.
فان قيل ما معنى أمطار الحجارة عليهم مع انقلاب مدينتهم؟
قلنا فيه قولان:
أحدهما - أنه أمطرت الحجارة أولا ثم انقلبت بهم المدينة.
الثاني - ان الحجارة أخذت قوما منهم خرجوا من المدينة بحوائجهم قبل
الفجر - في قول الحسن - ثم اخبر تعالى ان فيما حكاه آيات ودلالات للمتوسمين.
قال مجاهد يعنى المتفرسين. وقال قتادة: يعنى المعتبرين. وقال ابن زيد:
المتفكرين. وقال الضحاك: الناظرين. وقال أبو عبيدة: المتبصرين. والمتوسم
الناظر في السمة الدالة.
وقوله " انها لبسبيل مقيم " معناه إن الاعتبار بها ممكن لان الآيات التي
يستدل بها مقيمة ثابتة بها وهي مدينة سدوم، والهاء كناية عن المدينة التي أهلكها
الله، وهي مؤنثة. ثم قال إن ان فيما قص من حكاية هذا المدينة " لآية للمؤمنين "
ودلالة لهم. وقيل في وجه إضافة الآية إلى المؤمنين قولان:
أحدهما - انه يصلح ان يستدل بها.
والآخر - انه يفعل الاستدلال بها. وتضاف الآية إلى الكافر بشرط واحد،
وهو أنه يمكنه الاستدلال بها.
وقوله " وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين " فالأيكة الشجرة في قول الحسن
والجمع الأيك كشجرة وشجر. وقيل: الأيكة الشجر الملتف قال أمية:

(1) سورة الذاريات آية 33 - 34
349

كبكاء الحمام على فروع * الأيك في الطير الجرائح
وقيل الأيكة الغيضة وأصحاب الأيكة هم أهل الشجر الذين أرسل إليهم
شعيب (ع) وأرسل إلى أهل مدين، فأهلكوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة
فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها. وفي قول قتادة، فأخبر الله تعالى انه أهلك
أصحاب الأيكة بظلمهم وعتوهم وكفرهم بآيات الله وجحدهم نبوة نبيه وقال ابن
خالويه: الأيكة اسم القرية، والأيكة اسم البلد، كما أن مكة اسم البلد، ومكة
اسم البيت. ولم يصرفوا الأيكة للتعريف والتأنيث، ويجوز ان يكونوا تركوا
صرفه، لأنه معدول عن الألف واللام، كما أن شجر معدول عن الشجر، فلذلك
لم يصرفوه.
قوله تعالى:
(فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين (79) ولقد كذب
أصحاب الحجر المرسلين (80) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها
معرضين (81) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين (82)
فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون
(84) ست آيات بلا خلاف.
لما اخبر الله تعالى عن أصحاب الأيكة أنهم كذبوا رسل الله، اخبر بأنه انتقم
منهم بأن أهلكهم ودمر عليهم. وفرق الرماني بين الانتقام والعقاب، فقال:
الانتقام نقيض الانعام، والعقاب نقيض الثواب، فالعقاب مضمن بأنه على
المعصية، والانتقام مطلق، وهو - ههنا - على المعاصي، لان الاطلاق يصلح
فيه التقييد: بحذف الإضافة.
وقوله " وإنهما " يعني قريتي قوم لوط، وأصحاب الأيكة، لبطريق يؤم
ويتبع ويهتدى به - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن - وقال أبو علي
350

الجبائي " لبإمام " وهو الكتاب السابق الذي هو اللوح المحفوظ، ثابت ذلك
فيه ظاهر. والامام - في اللغة - هو المقدم الذي يتبعه من بعده وإنما كانا بإمام
مبين، لأنهما على معنى يجب ان يتبع، فيما يقتضيه ويدل عليه، والمبين
الظاهر.
وقوله " ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين " اخبار منه تعالى ان أصحاب
الحجر، وهي مدينة - في قول ابن شهاب، وسموا أصحاب الحجر، لأنهم كانوا
سكانه، كما تقول: أصحاب الصحراء. " كذبوا " أيضا الرسل الذين بعثهم الله
إليهم، وجحدوا نبوتهم: وقال قتادة: هم أصحاب الوادي، وهو من الحجر
الذي هو الحظر.
وأخبر تعالى انه اتاهم الله الدلالات والمعجزات الدالة على توحيده وصدق
أنبيائه، فكانوا يعرضون عنها ولا يستدلون بها، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا
ينقرون نقرا يأمنون فيها من الخراب. وقيل آمنين من سقوطها عليهم. وقيل
كانوا آمنين من عذاب الله وقيل: من الموت. ونصبه على الحال.
فأخبر تعالى ان هؤلاء " اخذتهم الصيحة مصبحين " اي جاءتهم الصيحة
وقت دخولهم في الصباح، ولم يغنهم " ما كانوا يكسبون " من الملاذ القبيحة.
والغنى وجود ما ينتفي به الضرر عنهم
قوله تعالى:
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن
الساعة لآتية فأفصح الصفح الجميل (85) إن ربك هو الخلاق
العليم) (86) آيتان بلا خلاف.
وجه اتصال هذه بما تقدم ذكره هو ان الأمم لما خالفوا الحق أهلكوا،
لان الله ما خلق " السماوات والأرض إلا بالحق " وعلى " ان الساعة آتية " للجزاء
351

وأن جمع ما خلق يرجع إلى عالم به وبتدبيره. وقيل: ما أهلكناهم إلا بالحق كما
خلقنا السماوات والأرض بالحق، فأخبر تعالى انه لم يخلق السماوات والأرض إلا
بالحق، ولوجه من وجوه الحكمة، وان الساعة، وهي يوم القيامة لآتية جائية
بلا شك، ثم امر نبيه صلى الله عليه وسلم ان يصفح بمعنى يعفو عنهم عفوا جميلا. واختلفوا في
كونه منسوخا:
فقال قتادة، ومجاهد، والضحاك: إنه منسوخ بوجوب الجهاد والقتال،
وكان الصفح قبل ذلك.
وقال الحسن: هذا فيما بينه وبينهم، لا في ما امر به من جهة جهادهم.
وقال الجبائي: أمره بأن يحلم عنهم فيما كانوا يسفهون عليه من شتمه،
وسفاهتهم عليه، فلا يقابلهم بمثله.
ثم اخبر تعالى انه الخلاق لما ذكر من السماوات والأرض، عليهم بما فيه من
المصلحة لعباده ووجه الحكمة فيه.
قوله تعالى:
(ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (87) لا
تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم
واخفض جناحك للمؤمنين (88) وقل إني أنا النذير المبين (89)
كما أنزلنا على المقتسمين (90) الذين جعلوا القرآن عضين) (91)
خمس آيات.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه آتاه أي أعطاه سبعا من المثاني، فقال
ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: هي السبع الطوال سبع سور
من أول القرآن.
قال قوم: المثاني التي بعد المئتين قبل المفصل.
352

وفي رواية أخرى عن ابن عباس وابن مسعود: أنها فاتحة الكتاب، وهو
قول الحسن وعطاء.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السبع المثاني أم القرآن) وهي سبع آيات
بلا خلاف في جملتها، وإنما سميت مثاني، في قول الحسن، لأنها تثنى في كل صلاة
وقراءة.
وقيل: المثاني السبع الطوال لما يثنى فيها من الحكم المصرفة قال الراجز:
نشدتكم بمنزل الفرقان * أم الكتاب السبع من مثاني
ثنتين من آي من القرآن * والسبع سبع الطول الدواني (1)
وقد وصف الله تعالى القرآن. كله بذلك في قوله " الله نزل أحسن الحديث
كتابا متشابها مثاني " (2) فعلى هذا تكون (من) للتبعيض. ومن قال: انها الحمد قال:
(من) بمعنى تبيين الصفة، كقوله " اجتنبوا الرجس من الأوثان " (3)
وقوله " والقرآن العظيم " تقديره وآتيناك القرآن العظيم سوى الحمد.
وقوله " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
والمراد به الأمة، نهاهم الله تعالى ان يمدوا أعينهم إلى ما متع هؤلاء الكفار به من
نعيم الدنيا. ومعنى أزواجا منهم أمثالا من النعم " ولا تحزن عليهم " قال الجبائي:
معناه لا تحزن لما أنعمت عليهم دونك. وقال الحسن " لا تحزن عليهم " على ما
يصيرون إليه من النار بكفرهم.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ان يخفض جناحه للمؤمنين وهو ان يلين لهم جانبه
ويتواضع لهم ويحسن خلقه معهم، وأن يقول لهم " إني أنا النذير المبين " يعني
المخوف من عقاب الله من ارتكب ما يستحق به العقوبة، ومبين لهم ما يجب عليهم
العمل به.

(1) مجاز القرآن 1: 7 وتفسير القرطبي 10: 54 وتفسير الطبري 1: 36 ومجمع البيان
3: 345
(2) سورة الزمر آية 23
(3) سورة الحج آية 30
353

وقوله " كما أنزلنا على المقتسمين " قال ابن عباس وسعيد بن جبير، والحسن:
هؤلاء هم أهل الكتاب اقتسموا القرآن، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وقال
قتادة: هم قوم من قريش عضوا كتاب الله. وقال ابن زيد: هم قوم صالح
" تقاسموا لنبيتنه وأهله " وقال الحسن: أنزلنا عليك الكتاب، كما أنزلنا على
المقتسمين من قبل، قوم اقتسموا طرق مكة ينفرون عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون:
إنه ساحر، وبعضهم يقول هو كاهن، وبعضهم يقول إنه مجنون، فأنزل الله بهم
عذابا أهلكهم به، وتقديره أنذركم بما أنزل بالمقتسمين. ذكره الفراء
وقوله " الذين جعلوا القرآن عضين " أي جعلوه متفرقا بالايمان ببعضه والكفر
ببعض، فعضوه على هذا السبيل الذي ذمهم الله بها. وقيل جعلوه عضين، بأن
قالوا سحر وكهانة - في قول قتادة - واصل عضين عضه منقوصة الواو، مثل
عزة وعزين، قال الشاعر:
ذاك ديار يأزم المآزما * وعضوات تقطع اللهازما (1)
وقال آخر:
للماء من عضاتهن زمزمه
وقال رؤبة:
وليس دين الله بالمعضي (2)
فالمعنى انهم عضوه أي فرقوه، كما تعضا الشاة والجزور، واصل عضه عضوه
فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين بلا واو كما قالوا عزين جمع عزة والأصل عزوة
ومثله ثبه وثبون، واصله ثبوة والعضيهة الكذب، فلما نسبوا القرآن إلى الكذب
وانه ليس من قبل الله فقد عضهوا بذلك.
قوله تعالى:
(فوربك لنسئلنهم أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93)

(1) مجمع البيان 3: 344 واللسان " عضه " وروايته:
هذا طريق يأزم المآزما * وعضوات تقطع اللهازما
(2) اللسان " عضا "
354

فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك
المستهزئين (95) الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون
(96) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح
بحمد ربك وكن من الساجدين (98) واعبد ربك حتى يأتيك
اليقين (99) ثمان آيات بلا خلاف.
أقسم الله تعالى بقوله " فوربك " يا محمد، وفي ذلك تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم
وتنبيه على عظم منزلته عند الله " لنسألنهم " يعني هؤلاء الكفار " أجمعين "
وإنما يسألهم سؤال توبيخ وتقريع، فيقول لهم لم عضيتم القرآن، وما حجتكم فيه
وما دليلكم عليه، فيظهر عند ذلك خزيهم وفضيحتهم عند تعذر جواب بصح
منهم.
وقوله " فاصدع بما تؤمر " أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ان يفرق بما أمر به، والمعنى
أفرق بين الحق والباطل بما تؤمر به، قال أبو ذؤيب:
وكأنهن ربابة وكأنه * يسر يفيض على القداح ويصدع (1)
وقال مجاهد: معناه فاجهر بما تؤمر، وإنما قال بما تؤمر، ولم يقل بما تؤمر به،
لامرين: أحدهما - انه حذف (به) كما يقال آمرك وآمر بك، وأكفرك وأكفر بك
قال الشاعر:
إذا قالت حذام فصدقوها * فإن القول ما قالت حذام (2)
وكما قال الآخر:
أمرتك حازما فعصيتني * وأصبحت مسلوب الامارة نادما

(1) ديوانه 81 ومجاز القران 1: 355 وتفسير الطبري 14: 41 واللسان " صدع " ومجمع
البيان 3: 346
(2) قطر الندى (باب المعرب والمبنى) واللسان (حذم)
355

وقوله " أعرض عن المشركين " أمر بأن يعرض عن المشركين، ولا يخاصمهم
إلى أن يأمره بقتالهم.
وقوله " انا كفيناك المستهزئين " المعنى كفيناك شرهم واستهزاءهم بأن أهلكناهم
وكانوا خمسة نفر من قريش: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة
والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن عيطلة - في قول سعيد بن جبر - وقيل الأسود بن
المطلب، أهلكهم الله.
وقوله " الذين يجعلون مع الله إلها آخر " الذين في موضع جر، لأنه بدل من
المستهزئين، وصفهم بأنهم اتخذوا مع الله إلها آخر عبدوه، ثم قال " فسوف
يعلمون " وبال ذلك يوم القيامة، وهذا غاية التهديد، ثم قال " ولقد نعلم أنك "
يا محمد " يضيق صدرك " ويشق عليك ما يقولون من التكذيب والاستهزاء. ثم
أمره ان يحمد ربه على نعمه وأن يكون من الساجدين الذين يسجدون لله.
ويوجهون عبادتهم إليه، وان يعبد ربه إلى الوقت الذي يأتيه اليقين، ومعناه
حتى يأتيه الموت في قول الحسن ومجاهد وقتادة - وسمي يقينا، لأنه موقن به
توسعا وتجوزا، لأنه مما يوقن به جميع العقلاء. ويحتمل أن يكون أراد. حتى
يأتيه العلم الضروري بالموت والخروج من الدنيا الذي يزول معه التكليف
356

(16) سورة النحل
هي مكية إلا آية هي قوله " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا " الآية.
وقال الشعبي: نزلت النحل كلها بمكة إلا قوله " وان عاقبتم " إلى آخرها. وقال
قتادة: من أول السورة إلى قوله " كن فيكون " مكي، والباقي مدني. وقال
مجاهد: أولها مكي وآخرها مدني، وهي مئة وثمان وعشرون آية ليس فيها خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون)
(1) آية بلا خلاف.
قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو " يشركون " بالياء. وقرأ ابن عامر وابن كثير
مثل ذلك. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.
من قرأ بالتاء، فلقوله " فلا تستعجلوه " فرد الخطاب الثاني إلى الأول
ومن قرأ بالياء قال لان الله أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فقال محمد تنزيها لله
" سبحانه وتعالى عما يشركون "
357

وقرأ سعيد بن جبير " أتى أمر الله، فلا تستعجله " وروي عن عباس أنه قال:
المشركون قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين، فقال الله
تعالى " أتى امر الله فلا تستعجلوه " وإنما قال " أتى امر الله " ولم يقل يأتي، لان
الله تعالى قرب الساعة، فجعلها كلمح البصر، فقال " وما أمر الساعة إلا كلمح
البصر أو هو أقرب " (1) وقال " اقتربت الساعة " (2) وكل ما هو آت قريب،
فعبر بلفظ الماضي ليكون أبلغ في الموعظة، وإن كان قوله " فلا تستعجلوه "
يدل على أنه في معني يأتي، وأمر الله يراد به العذاب - في قول الحسن وابن جريح
وغيرهما - وقال الضحاك: معناه فرائضه واحكامه. وقال الجبائي: امره القيامة
والأول أصح، لأنهم استعجلوا عذابه دون غيره.
والتسبيح في اللغة ينقسم أربعة أقسام:
أحدها - التنزيه مثل قوله " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا " (3) وقال الشاعر:
أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (4)
والثاني - معنى الاستثناء كقوله " لولا تسبحون " (5) أي هلا تستثنون.
والثالث - الصلاة كقوله " فلولا انه كان من المسبحين " (6).
والرابع - النور، جاء في الحديث (فلولا سبحان وجهه) أي نوره ومعنى
" تعالى ": تعاظم بأعلى صفات المدح عن أن يكون له شريك في العبادة،
وجميع صفات النقص منتفية عنه.
قوله تعالى:
(ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.

(1) سورة النحل آية 77
(2) سورة القمر آية 1.
(3) سورة الاسرى آية 1
(4) مر هذا الشعر في 1: 134، 3: 81، 5: 241، 395
(5) سورة القلم اية 28
(6) سورة الصافات آية 143
358

أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) (2) آية بلا خلاف.
قرأ روح والكسائي عن أبي بكر " تنزل الملائكة " بالتاء وفتحها، وفتح
النون والزاي ورفع الملائكة. الباقون بالياء وضمها وفتح النون وتشديد الزاي
وكسرها، ونصب الملائكة، إلا أن ابن كثير وأبا عمرو، وورشا يسكنون النون
ويخففون الزاي.
من قرأ بالياء ففاعل (ينزل) هو الضمير العائد إلى اسم الله في قوله " اتى
امر الله " وإسكان النون وتخفيف الزاي وتشديدها، فكلاهما جائز، قال تعالى:
" إنا نحن نزلنا الذكر " (1) وقال " وأنزلنا إليك الذكر " (2) فأما ما روي عن
عاصم من القراءة بالتاء، فلانه انث الفعل باسناده إلى الملائكة كقوله " إذ قالت
الملائكة " (3) وبنى الفعل للمفعول به وأسنده إليهم والأول أبين.
اخبر الله تعالى أنه ينزل الملائكة بالروح من امره، واختلفوا في معنى الروح - ههنا -
فقال ابن عباس: أراد به الوحي، وقال الربيع بن انس: أراد به كلام الله، وقال
قوم: أراد حياة النفوس، والارشاد لهم إلى الدين، وقد فسر ذلك بقوله " ان
أنذروا " وهو بدل من الروح، وموضعه الجر وتقديره ب‍ (أن أنذروا) لان
الموعظة والانذار للكافر حياة، لأنه تعالى شبه الكافر بالميت، فقال " أو من
كان ميتا فأحييناه " (4) بالاسلام. والروح تنقسم عشرة اقسام: فالروح الارشاد
والحياة، والروح الرحمة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " فروح وريحان " (5) والروح النبوة
لقوله " يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده " (6) والروح عيسى روح الله
أي خلق من غير بشر، وقال آخرون: من غير فحل. وقيل إنه سمي بذلك
لكونه رحمة على عباد الله بما يدعوهم إلى الله، والروح جبرائيل. والروح النفخ،
يقال: أحييت النار بروحي أي بنفخي، قال ذو الرمة يصف الموقد والزندة: \

(1) سورة الحجر آية 9
(2) سورة النحل آية 44
(3) سورة آل عمران اية 42، 45
(4) سورة الأنعام اية 122
(5) سورة الواقعة اية 89
(6) سورة المؤمن (غافر) اية 15
359

فلما بدت كفنتها وهي طفلة * بطلساء لم تكمل ذراعا ولا شبرا
فقلت له ارفعها إليك وأحيها * بروحك واقتته لها قيتة قدرا (1)
والروح الوحي قال الله تعالى " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " (2)
قيل إنه جبرائيل، وقيل الوحي. والروح ملك في السماء من أعظم خلقه، فإذا
كان يوم القيامة وقف صفا، والملك كلهم صفا، والروح روح الانسان. وقال
ابن عباس في الانسان روح ونفس، فالنفس هي التي تكون فيها التمييز والكلام،
والروح هو الذي يكون به الغطيط والنفس، فإذا نام العبد خرجت نفسه وبقيت
روحه، وإذا مات خرجت نفسه وروحه معا. وقوله " على من يشاء من عباده "
يعني الأنبياء يأمرهم أن يخبروا عباده أنه لا إله يستحق العبادة غير الله تعالى،
ويأمرهم بأن يتقوا معاصيه ويفعلوا طاعاته.
قوله تعالى:
(خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (3)
خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) (4) آيتان
بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي " تشركون " بالتاء في الموضعين لقوله " فلا تستعجلوه "
فرد الخطاب إلى الأول. ومن قرأ بالياء فلما تقدم ذكره. احتج الله تعالى بالآية وما
قبلها وما بعدها على خلقه وأعلمهم عظيم نعمه، ودلهم على قدرته، إذ " خلق
السماوات والأرض " بما فيهما من العجائب والمنافع، و " الخلق الانسان من نطفة "
مهينة ضعيفة سيالة فرباها ودبرها حتى صار إنسانا يخاصم ويبين. ولو وضعنا

(1) اللسان (حيا) ذكر البيت الثاني فقط (طلس) ذكر الشطر الثاني من البيت الأول.
(2) سورة الشورى آية 52
360

النطفة بين أيدي الخلائق فاجتهدوا، وفكروا ما قدروا على قلبها، ولا عرفوا
كيف يتمكن ويتأتى أن تقلب حالا بعد حال حتى تصير فيها روح، وعقل،
وسمع، وبصر، وحتى تنطق وتعرب عن نفسها، وتحتج فتدفع عنها وقيل
في معنى " خصيم مبين " قولان:
أحدهما - انه أخرج من النطفة ما هذه صفته، ففي ذلك أعظم العبرة.
والثاني - لما خلقه ومكنه خاصم عن نفسه خصومة أبان فيها عن نفسه. وقيل إنه
يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها - تعريف قدرة الله في اخراجه من النطفة ما هذه سبيله.
الثاني - تعريف نعم الله في تبليغ هذه المنزلة من خلق من نطفة.
الثالث - تعريف فاحش ما ارتكب الانسان من تضييع حق الله بالخصومة.
قوله تعالى:
(والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون (5)
ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل
أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم
لرؤوف رحيم) (7) ثلاث آيات بلا خلاف.
الانعام جمع نعم، وهي الإبل، والبقر، والغنم، سميت بذلك لنعومة
مشيها بخلاف ذات الحافر الذي يصلب مشيها. ونصب بفعل مقدر يفسره ما بعده،
والتقدير وخلق الانعام خلقها، وإنما نصب لمكان الواو، العاطفة على منصوب
قبله. وقوله " خلقها لكم " تمام، لان المعنى خلق الانعام لكم أي لمنافعكم. ثم
أخبر، فقال " فيها دف ء " والدف ء ما استدفأت به. وقال الحسن يريد ما
استدفئ به من أوبارها، وأصوافها، وأشعارها. وقال ابن عباس: هو اللباس
361

من الأكيسة وغيرها، كأنه سمي بالمصدر ومنه دفوء يومنا دفأ، ونظيره (الكن)
قال الفراء: كتبت (دف ء) بغير همز، لان الهمزة إذا سكن ما قبلها حذفت من
الكتاب، ولو كتبت في الرفع بالواو، وفي النصب بالألف وفي الخفض بالياء
كان صوابا. وقال قتادة " فيها دف ء ومنافع " معناه منفعة هي بلغة، من الألبان
وركوب ظهرها " ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون " وذاك أعجب
ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسمنتها " وحين تسرحون " إذا
سرحت لرعيها. فالسروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة. والإراحة رجوعها
من المرعى عشيا: سرحت الماشية سرحا وسروحا وسرحها أهلها قال الشاعر:
كأن بقايا الأثر فوق متونه * مدب الدبا فوق النقا وهو سارح (1)
وقوله " وتحمل أثقالكم " يعني هذه الانعام تحمل أثقالكم، وهو جمع ثقل،
وهو المتاع الذي يثقل حمله، وجمعه أثقال " لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس "
والبلوغ المصير إلى حد من الحدود، بلغ يبلغ بلوغا وأبلغه إبلاغا، وبلغه تبلغا
وتبلغ تبلغا وتبالغ تبالغا، والشق المشقة، وفيه لغتان، فتح الشين وكسرها،
فالكسر عليه القراء السبعة. وبالفتح قرأ أبو جعفر المدني.
والشق أيضا أحد قسمي الشئ الذي في احدى جهتيه،، وقال قتادة: معناه
بجهد الأنفس، وكسرت الشين من شق الأنفس مع أن المصدر بفتح الشين لامرين:
أحدهما - قال قوم: هما لغتان في المصدر، قال الشاعر:
وذي إبل يسعى ويحسبها له * أخي نصب من شقها ودؤوب (2)
بالكسر والفتح، وقال العجاج:
أصبح مسحول يوازي شقا (3)
لكسر والفتح بمعنى يقاسي مشقة، وقال قوم: ان المعنى إلا بذهاب شق قوى النفس

(1) تفسير الطبري 4 1 / 1؟ (الطبعة الأولى) وروايته:
كأن بقايا الاتن فوق متونه * مدب الذي فوق النقا وهو سارح
(2) قائله النمر بن تولب. اللسان (شقق)
(3) اللسان (شقق)
362

ذكره الفراء والزجاج، واختاره الطبري. وقوله " ان ربكم لرؤوف رحيم "
أي رؤوف بكم رحيم، ومن رحمته أنه خلق لكم الانعام لتنتفعوا بها، على ما ذكره
قوله تعالى:
(والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا
تعلمون (8) وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم
أجمعين (9) آيتان بلا خلاف.
هذه الآية عطف على التي قبلها، فلذلك نصب " والخيل " وتقديرها، وخلق
الخيل، وهي الدواب التي تركب " والبغال " واحدها بغل " والحمير " واحدها
حمار " لتركبوها " وتتزينوا بها، ونصب (وزينة) بتقدير، وجعلها زينة
" ويخلق ما لا تعلمون " من أنواع الحيوان والجماد والنبات لمنافعكم، ويخلق من
أنواع الثواب للمطيعين، وأنواع العقاب للعصاة ما لا تعلمون.
وحكي عن ابن عباس: أن الآية دالة على تحريم لحم الخيل، لأنها للركوب والزينة
والانعام لما ذكر قبل، وهو قول الحكم والأسود. وقالوا: لأنه تعالى ذكر في آية
الانعام " ومنها تأكلون " (1) ولم يذكر ذلك في آية الخيل بل ذكرها للركوب
والزينة. وإبراهيم لم يربه بأسا، وهو قول جميع الفقهاء. وقال جابر: كنا نأكل
لحم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله " وعلى الله قصد السبيل " قال ابن عباس: معناه بيان قصد السبيل
أي بيان الهدى من الضلال " ومنها جائر " أي عادل عن الحق فمن الطريق ما
يهدي إلى الحق، ومنها ما يضل عن الحق، ثم قال " ولو شاء لهداكم أجمعين "
وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن والبلخي: لو شاء لهداكم بالالجاء، لأنه قادر على ذلك.
الثاني - قال الجبائي: لو شاء لهداكم إلى الجنة.

(1) سورة المؤمن (غافر) آية 79
363

قوله تعالى:
(هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر
فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل
والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)
(11) آيتان بلا خلاف.
قرأ أبو بكر عن عاصم إلا الأعشى والبرجمي " ننبت " بالنون. الباقون بالياء
من قرأ بالياء فلما تقدم من قوله " هو الذي أنزل من السماء ماء.. ينبت لكم " وهو
أشكل بما تقدم، والنون لا يمتنع أيضا، يقال نبت البقل وأنبته الله، وقد روي انبت
البقل، وأنكر ذلك الأصمعي، وقال قصيدة زهير التي فيها (حتى إذا أنبت
البقل) مبهمة قال أبو علي فأما قوله " تنبت بالدهن " (1) فيجوز أن تكون الباء
زائدة، كقوله " ولا تلقوا بأيديكم " (2) قال " وألقى في الأرض رواسي أن
تميد " (3) فعدى (ألقى) مرة بالباء وأخرى بغير باء، وإذا ثبت أن (انبت) في معنى
(نبت) جاز أن تكون الباء للتعدي، كما لو كانت مع (نبت) كان كذلك، ويجوز أن تكون
الهمزة في (انبت) للتعدي، والمفعول محذوف، والباء للحال، كأنه قال
تنبت ثمرة بالدهن، فحذف المفعول و (بالدهن) في موضع حال، كأنه قال
تنبت، وفيه دهن، ويجوز في (تنبت بالدهن) ان تنبت ما فيه دهن.
اخبر الله تعالى انه الذي ينزل من السماء ماء يعني غيثا ومطرا لمنافع خلقه،
من ذلك الماء شراب تشربونه، ومن ذلك نبات الشجر، والشجر ما ينبت من
الأرض وقام على ساق وله ورق وجمعه أشجار، ومنه المشاجرة لتداخل بعض
الكلام في بعض كتداخل ورق الشجر وقال الأزهري: ما نبت من الأرض شجر،

(1) سورة المؤمنون آية 20 (2) سورة البقرة آية 195
(3) سورة النحل آية 15 وسورة لقمان آية 10.
364

قام على ساق أو لم يقم ترعاه الإبل والانعام كلها.
وقوله " فيه تسيمون " اي ترعون، يقال: اسمت الإبل إذا
رعيتها، وقد سامت تسوم، فهي سائمة إذا رعت. واصل السوم الابعاد في
المرعي، والسوم في البيع الارتفاع في الثمن، والانبات اخراج الزرع، والانسان
يزرع، والله تعالى ينبت.
وقوله " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات "
اي ينبت بذلك المطر هذه الأشياء التي عددها لينتفعوا بها. ثم اخبر ان في ذلك
لدلالة وحجة واضحة لمن يفكر فيه، فيعرف الله به، وإنما أضاف الدلالة إليهم،
لأنهم الذين انتفعوا بها، ولان من لم يفكر فيها فكأنها لم تنصب له.
قوله تعالى:
(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم
مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12) وما
ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون)
(13) آيتان بلا خلاف.
قرأ ابن عامر " والشمس والقمر والنجوم مسخرات " بالرفع فيهن كلهن،
وافقه حفص في رفع " والنجوم مسخرات " الباقون بالنصب فيهن كلهن، اما
ابن عامر فإنما رفع ذلك، لأنه جعل الواو، واو حال، وابتدأ، (والشمس)
رفع بالابتداء و (النجوم) نسق عليها، (والقمر) نسق عليها (والمسخرات)
رفع خبرها، ومن نصبها كلها جعلها منسوقة على قوله " وسخر لكم الليل والنهار "
واما حفص فإنما رفع (النجوم مسخرات) فقطعها مما قبلها، فعلى هذا حجة من
نصب ان يقدر فعلا آخر ينصبه به، وتقديره وجعل النجوم مسخرات.
365

ووجه تسخير الشمس والقمر والليل والنهار، ان الليل والنهار إنما يكون
بطلوع الشمس وغروبها، فما بين غروب الشم إلى طلوع الفجر، وهو غياب ضوء
الشمس، فهو ليل. وما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهو نهار، فالله تعالى
سخر الشمس على هذا التقدير لا تختلف، لمنافع خلقه ومصالحهم وليستدلوا بذلك
على أن المسخر لذلك والمقدر له حكيم ثم بين ان في ذلك التسخير لدلالات لقوم
يعقلون عن الله ويتبينون مواضع الاستدلال بادلته.
وقوله " وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه " معنى (ما) الذي وموضعه
النصب والتقدير وخلق لكم (ما).
أخبر الله تعالى ان الذي خلقه وأظهره من الأجسام المختلفة الألوان ان في
ذلك دلالة لقوم يذكرون وأصله يتذكرون، فادغت التاء في الذال. والذرء
إظهار الشئ بإيجاده ذرأه يذرؤه ذرءا. وذرأه، وفطره، وانشاءه نظائر. وملح
ذرءاني ظاهر البياض والاختلاف هو الامتناع من أن يسد أحد الشيئين مسد
الآخر ونقيضه الاتفاق. قال قتادة: قوله " وما ذرأ لكم في الأرض " معناه خلق
لكم " مختلفا ألوانه " من الدواب والشجر والثمار، نعما ظاهرة فاشكروها لله، قال
المؤرج: ذرأ بمعنى خلق بلغة قريش.
قوله تعالى:
(وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا
منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله
ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم
وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون)
(16) ثلاث آيات بلا خلاف.
وهذا تعداد لنوع آخر من نعمه، فقال " وهو الذي سخر البحر " أي ذلله لكم
366

وسهل لكم الطريق إلى ركوبه واستخراج ما فيه من أنواع المنافع فتصطادون منه
أنواع السمك، فتأكلون لحمه طريا، ولا يجوز ان تهمز طريا، لأنه من الطراوة لا
من الطراءة، و " تستخرجوا " من البحر حلية يعني اللؤلؤ والمرجان الذي يخرج
من البحار " تلبسونها " وتتزينون بها " وترى الفلك " يعني السفن " مواخر فيه " قال
الحسن معناه مقبلة ومدبرة بريح واحدة، وقال قوم: معناه منقلة، والمواخر جمع
ماخرة، والمخرشق الماء من عن يمين وشمال، يقال: مخرت السفينة الماء تمخره
مخرا، فهي ماخرة، والمخر أيضا صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها.
وقوله " ولتبتغوا من فضله " اي ولتكتسبوا من فضل الله ونعمه بركوب
البحر، ولكي تشكروه على أياديه، والواو دخلت ليعلم ان الله خلق ذلك. وأراد
جميع ذلك وقصده. ثم أخبر انه القى في الأرض رواسي، وهو جمع راسية
وهي الجبل العالي الثابت " ان تميد بكم " اي لئلا تميد بكم الأرض. وقال الزجاج:
معناه كراهة ان تمتد، ولم يجز حذف (لا) والميد الميل يمينا وشمالا، وهو
الاضطراب: ماد يميد ميدا، وهو مائد.
وقوله " وأنهارا وسبلا " تقديره وجعل لكم انهارا، لدلالة (القى) عليه، لأنه
لا يجوز أن يكون عطفا على (القى) ومثله قول الشاعر:
تسمع في أجوافهن صردا * وفي اليدين جسأة وبددا (1)
اي وترى في اليدين يبسا وتفرقا، ومثله قولهم: (علفتها تبنا وماء باردا)
والمعنى وسقيتها ماء، ومثله كثير، و (سبلا) عطف على (أنهارا) لكي تهتدوا
بها في سلوككم، وانتقالكم في أغراضكم.
وقوله " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " اي جعل لكم علامات. وقيل إنها
الجبال ونحوها. قال ابن عباس: يعني الجبال يهتدى بها نهارا، والنجم يهتدى به
ليلا، وهو اختيار الطبري. و (العلامة) صورة يعلم بها المعنى، من خط أو
لفظ أو إشارة أو هيئة، وقد تكون وضعية، وقد تكون برهانية.

(1) مر هذا الشعر في 5 / 107، وروايته هناك (لغطا) بدل (صردا).
367

وقوله و " بالنجم هم يهتدون " فالنجم هو الكوكب، ويقال: نجم النبت
إذا طلع تشبيها بطلوع النجم، وإنما قال - ههنا - و " بالنجم " فوحد، وقال
فيما تقدم " والنجوم مسخرات " لان النجوم على ثلاثة أضرب: ضرب يهتدى بها
مثل الفرقدين، والجدي، لأنها لا تزول، وضرب هي الشهب، وضرب هي
زينة السماء، كما قال " زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " (1) فقوله " وبالنجم "
يجوز ان يريد به النجوم، فأخبر بالواحد عن الجميع، كما قال " أو الطفل الذين
لم يظهروا على عورات النساء " (2) والنجم في قوله " النجم الثاقب " (3) يريد
الثريا فقط " والنجم إذا هوى " (4) يعني نزول القرآن إذا نزل به جبرائيل (ع)
وقوله " والنجم والشجر يسجدان " (5) يريد كلما نجم من الأرض اي نبت، مما
لا يقوم على ساق كالبطيخ والقرع والضغابيس وهو الفتاء الصغار، ويشبه الخسيس
بالضغبوس أنشد ابن عرفة:
قد جربت عركي في كل معترك * غلب الأسود فما بال الضغابيس (6)
قوله تعالى:
(أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) (18) آيتان
بلا خلاف.
في هذه الآية رد على عباد الأصنام والأوثان بأن يقال: أفمن يخلق ما تقدم
ذكره من السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من أنواع

(1) سورة الصفات آية 6
(2) سورة النور آية 31
(3) سورة الطارق آية 3
(4) سورة النجم 53 آية 1
(5) سورة الرحمن آية 6
(6) البيت لجرير ديوانه (دار بيروت) 251 واللسان (ضغبس) وقد روي (الرجال) بدل
(الأسود).
368

العجائب، كمن لا يخلق ذلك من الصنام التي هي جمادات، فكيف توجه العبادة
إليها، ويسوى بينها، وبين خالق جميع ذلك، " أفلا يتفكرون " في ذلك
ويعتبرون به، فان ذلك من الخطأ الفاحش. وجعل (من) فيما لا يعقل، لما اتصلت
بذكر الخالق.
ويتعلق بهذه الآية المجبرة، فقالوا: أعلمنا الله تعالى ان أحدا لا يخلق، لأنه
خلاف الخالق، وانه لو كان خالق غيره لوجب أن يكون مثله، ونظيره.
وهذا باطل، لان الخلق في حقيقة اللغة هو التقدير والاتقان في الصنعة وفعل
الشئ لا على وجه السهو والمجازفة بدلالة قوله " وتخلقون إفكا " (1) وقوله " وإذ
تخلق من الطين كهيئة الطير " (2) وقوله " أحسن الخالقين " (3) كما لا يجوز أنه أعظم
الآلهة لما لم يستحق الآلهية غيره، وقال زهير:
ولانت تفري ما خلقت وبعض * القوم يخلق ثم لا يفري (4)
وقال الججاج: لا أعد إلا وفيت ولا أخلق إلا فريت (5)
وقال الشاعر:
ولا يئط بأيدي الخالقين ولا * أيدي الخوالق الاجبد الادم
فعلمنا بذلك جواز تسمية غيره بأنه خالق إلا انا لا نطلق هذه الصفة إلا لله
تعالى، لان ذلك توهم، فإذا ثبت ذلك فالوجه في الآية ما قدمنا ذكره من الرد
على عباد الأصنام والجمادات التي لا تقدر على ضرر ولا نفع ولا خلق شئ ولا

(1) سورة العنكبوت اية 17
(2) سورة المائدة اية 113
(3) سورة المؤمنون آية 14 وسورة الصافات آية 125
(4) ديوانه 29 (دار بيروت) واللسان (فرا)، (خلق).
(5) وقد رواها ابن منظور في لسان العرب (خلق) قال: قال الحجاج: (ما خلقت إلا
فريت ولا وعدت إلا وفيت).
369

استطاعة لها على فعل، وان من سوى بينها وبين من خلق ما تقدم ذكره من
أنواع النعم وأشرك بينهما في العبادة، كان جاهلا بعيدا عن الصواب عادلا عن
طريق الهدى. ويقوي ذلك أنه قال عقيب هذه الآية، " والذين يدعون من دون
الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير احياء " فعلمنا انه أراد بذلك ما
ما قدمنا من اسقاط رأيهم وتسويتهم بين الجماد والحي والفاعل ومن ليس بفاعل،
وهذا واضح.
وقوله " وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها " قال الحسن: لا تحصوها بأداء حقها
وتعظيمها. وقال الجبائي: لا تحصوها مفصلة لكثرتها وإن صح منكم احصاؤها
على وجه الجملة.
قوله تعالى:
(والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19) والذين يدعون
من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير
أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) (21) ثلاث آيات بلا خلاف.
قرأ يعقوب وحفص ويحيي والعليمي " والذين يدعون " بالياء. الباقون بالتاء،
قال أبو علي: هذا كله على الخطاب، لان ما بعده خطاب كقوله بعد " أفلا
تذكرون " وقوله " وألقى في الأرض رواسي ان تميد بكم "، " وإلهكم إله
واحد " فكل هذا خطاب.
فان قلت: ان فيه " والذين يدعون من دون الله " فإنه لا يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم
ولا للمسلمين، قيل: التقدير في ذلك قل لهم: والذين تدعون من دون الله، فلا يمتنع
الخطاب على هذا الوجه، ولهذا قرأ عاصم بالياء لما كان عنده ذلك اخبارا عن
المشركين، ولم يجز أن يكون في الظاهر خطابا للمسلمين.
يقول الله لعباده ان الله الذي يستحق العبادة هو الذي يعلم ما يظهرونه وما
370

يستسرون به ويخفونه، وان الذين يدعون من دون الله من الأصنام لا يخلقون
شيئا، فضلا عن أن يخلقوا ما يستحق به العبادة، وهم مع ذلك مخلوقون مربوبون،
وهم مع ذلك أموات غير احياء، وإنما قال أموات غير احياء، لأنها في حكم
الأموات في أنها لا تعقل شيئا. وقيل غير أحياء على وجه التأكيد بما صارت به،
كالأموات، لأنه قد يقال للحي هو كالميت إذا كان بعيدا من أن يعلم. و (أموات)
رفع بأنه خبر ابتداء، والتقدير هن أموات غير احياء، ويجوز أن يكون خبرا
عن (الذين) والتقدير والذين يدعون أموات.
وقوله " وما يشعرون أيان يبعثون " اي هم لا يعلمون اي وقت يحشرهم الله
للجزاء والحساب، بل ذلك لا يعلمه الا الله تعالى، ومعنى (أيان) متى و (متى)
أوضح، لأنه أغلب في الاستعمال فلذلك فسر به (أيان) وهو سؤال عن الزمان كما أن
(أين) سؤال عن المكان وقال الفراء: معناه هي أموات فكيف يشعرون
متى تبعث يعني الأصنام. قال ويقال للكفار أيضا وما يشعرون أيان يبعثون،
و (إيان) بكسر الهمزة لغة سليم قرأها أبو عبد الرحمن السلمي.
قوله: تعالى
(إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم
منكرة وهم مستكبرون (22) لا جرم أن الله يعلم ما يسرون
وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) (23) آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى لعباده ان " إلهكم " الذي يستحق العبادة " إله واحد "
لأنه لا يقدر على ما يستحق به العبادة من أصول النعم سواه ثم قال إن الذين
لا يصدقون بالآخرة وبالبعث والنشور والثواب والعقاب، تجحد قلوبهم وتنكر
ما ذكرناه وهم مع ذلك " يستكبرون " اي يمتنعون من قبول الحق ألفة من أهله.
و (الاستكبار) طلب الترفع بترك الاذعان للحق ثم قال تعالى " لاجرم " اي
371

حق ووجب انه يعلم ما يبطنونه ويخفونه في نفوسهم، وما يظهرونه، لا يخفى
عليه منه شئ، و " انه لا يحب المستكبرين " يعني لا يريد ثوابهم ولا منافعهم،
ولا يفعل ذلك بهم لكونهم مستحقين للعقاب.
قوله تعالى:
(وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24)
ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم
بغير علم الا ساء ما يزرون) (25) آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى إذا قيل لهؤلاء الكفار على وجه الاستفهام: ما الذي أنزل ربكم
على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ أجابوا بأن " قالوا: أساطير الأولين " يعني أحاديث الأولين
الكاذبة، في قول ابن عباس وغيره، وأحدها أسطورة سمي ذلك، لأنهم كانوا
يسطرونها في الكتب.
وقوله " ليحملوا أوزارهم " أي أثقالهم من المعاصي، والوزر الاثم، والوزر
الثقل، ومنه الوزير، لأنه يحمل الأثقال عن الملك، يقال وازره على امره أي
عاونه بحمل الثقل معه، واللام لام العاقبة، لأنهم لم يقصدوا بما فعلوه ليتحملوا
أوزارهم.
وقوله " كاملة " معناه حمل المعاصي تامة على أقبح وجوهها من غير اخلال
بشئ منها " ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " معناه إنهم يتحملون مع أوزارهم
من أوزار من أضلوه عن دين الله وأغووه عن اتباع الحق، بغير علم منهم بذلك بل
كانوا جاهلين. والمعنى إن هؤلاء كانوا يصدون من أراد الايمان بالنبي (صلى الله عليه وسلم)
فعليهم آثامهم وآثام أبنائهم لاقتدائهم بهم.
وعلى هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع،
372

فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شئ، وأيما داع دعا إلى الضلالة
فان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شئ).
والوجه في تحملهم أوزار غيرهم أحد شيئين:
أحدهما - انه أراد بذلك إغواء هم واضلالهم، وهي أوزارهم فأضاف الوزر إلى
المفعول به، كما قال " اني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " (1)
والثاني - أن يكون أراد اقتداء غيرهم بهم فيستحقون على معصيتهم زيادة
عقاب، فجاز لذلك أن يضاف إليهم. ثم أخبر تعالى فقال " ألا ساء ما يزرون "
أي بئس الشئ الذي يتحملونه، لأنهم يحملون ما يؤدي إلى العقاب، ومعنى يزرون
يحملون ثقل الآثام.
قوله تعالى:
(قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد
فخر عليهم السقف من فوقهم وأتهم العذاب من حيث لا
يشعرون (26) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي
الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم
والسوء على الكافرين) (27) آيتان بلا خلاف.
قرأ نافع وحده " تشاقون " بكسر النون أراد تشاقونني، فحذف النون تخفيفا
وحذف الياء اجتزاء بالكسرة، وقد ذكر فيما مضى علة ذلك في قوله " فبم تبشرون " (2)
وقرأ الباقون بفتح النون، لا يجعلونه مضافا إلى الياء. والنون في هذه القراءة
علامة الرفع، والنون مع الياء المحذوفة في موضع النصب.

(1) سورة المائدة اية 30
(2) سورة الحجر آية 54
373

ومعنى " تشاقون " أي يعادون الله فيهم فيجعلونها شركاء له، والشقاق
الخلاف في المعنى، ومعنى " تشاقون " تكونون في جانب، والمسلمون في جانب،
لا يكونون معهم يدا واحدة، ومن ثم قيل لمن خرج عن طاعة الامام وعن جماعة
المسلمين: شق العصا أي صار في جانب عنهم، فلم يكن مجتمعا في كلمتهم.
يقول الله ان الذين من قبل هؤلاء الكفار " قد مكروا " واحتالوا على رسلهم
والمكر الفتل والحيلة إلى جهة منكرة، يقال مكر به يمكر مكرا، فهو ماكر
ومكار، ثم قال: فان الله تعالى أتى أمره وعقابه " بنيانهم " التي بنوها فهدمها
" فخر عليهم السقف من فوقهم " وقيل في معنى " من فوقهم " قولان:
أحدهما - أنه قال ذلك تأكيدا، كقولك قلت أنت.
الثاني - انهم كانوا تحته، وقد يقول القائل: تهدمت علي المنازل، وان لم يكن
تحتها، وأيضا فليعلم انهم لم يكونوا فوق السقوف.
وقال ابن عباس وزيد بن أسلم: الذين خر عليهم السقف من فوقهم نمرود ابن
كنعان. وقال غيرهم: بخت نصر، وقال الزجاج وأبو بكر بن الأنباري: المعنى
فأتى الله مكرهم من أصله اي عاد ضرر المكر عليهم وبهم. وذكر الأساس مثلا
كما ذكر السقف، مع أنه لا سقف ثم ولا أساس، وهذا الذي ذكره يليق بكلام
العرب ويشبهه، والمعنى إن الله أتى بنيانهم من القواعد اي قلعه من أصله كقولهم:
أتي فلان من مأمنه اي أتاه الهلاك من جهة مأمنه وأتاهم العذاب من جهة الله
" وهم لا يشعرن " أي لا يعلمون انه من جهة الله نزل بهم العذاب. ثم قال إنه
تعالى مع ذلك يخزيهم يوم القيامة أي يذلهم بأنواع العذاب ويقول لهم أين شركائي
الذين اتخذتموهم آلهة، فعبدتموهم يعني الذين كنتم تشاقون فيهم الله تعالى وتخرجون
عن طاعة الله.
ثم أخبر ان الذين أعطوا العلم والمعرفة بالله تعالى وأوتوه يقولون لهم: ان الخزي
يعني الذل والهوان " اليوم " والسوء الذي هو العذاب، " على الكافرين " الجاحدين
لنعمه المنكرين لتوحيده وصدق أنبيائه.
374

قوله تعالى:
(الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما
كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (28)
فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين 29)
وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في
هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين (30)
ثلاث آيات بلا خلاف.
قرأ حمزة " الذين يتوفاهم " بالياء. الباقون بالتاء، من قرأ بالتاء فلتأنيث لفظة
الملائكة، ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث غير حقيقي وقد مضى نظيره كثيرا.
يقول الله تعالى ان الخزي اليوم والسوء على الكافرين، الذين يتوفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم و " الذين " في موضع الجر بأنه بدل من الكافرين وإنما قال ذلك ليعلم
به ان الوعيد يتناول من كان مات على كفره، لأنه ان تاب لم يتوجه الوعيد
إليه، ومعنى " تتوفاهم الملائكة " أي تقبض أرواحهم بالموت، ظالمي أنفسهم بما
فعلوه من ارتكاب المعاصي التي استحقوا بها العقاب. والظالم من فعل الظلم،
ويصح ان يظلم الانسان نفسه كما يظلم غيره.
وقوله " فألقوا السلم " اي استسلموا للحق حين لا ينفعهم السلم، يعني الانقياد
والاذعان.
وقوله " ما كنا نعمل من سوء " اي قالوا ما عملنا من سوء، فكذبهم الله،
وقال " بلى " قد فعلتم والله عالم بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي وغيرها.
وقيل في معنى ذلك قولان:
375

أحدهما - ما كنا نعمل من سوء عند أنفسنا، لأنهم في الآخرة ملجؤون إلى
ترك القبيح والكذب، ذكره الجبائي. وقال الحسن وابن الاخشاذ: في الآخرة
مواطن يلجئون في بعضها دون بعض، ثم بين انه تعالى يقول لهم " ادخلوا أبواب
جهنم خالدين فيها " اي مؤبدين فيها " فلبئس مثوى المتكبرين " قسم من الله تعالى
انها بئس المأوى لمن تكبر على الله، ولم يعمل بطاعته، " وقيل للذين اتقوا ماذا
أنزل ربكم " اي اي شئ " انزل ربكم قالوا خيرا " على معنى ماذا، والمعنى انزل
الله خيرا، وإنما نصب (خيرا) ههنا بعد قوله " قالوا " ورفع " أساطير " فيما
تقدم لامرين.
أحدهما - انهم جحدوا التنزيل، فقالوا إنما هي أساطير الأولين وأقر المؤمنون
بالتنزيل، فقالوا أنزل ربنا خيرا.
والثاني - قال سيبويه أن يكون الرفع على تقدير ما الذي انزل ربكم فيكون
ذا بمعنى الذي، وفي النصب يكون (ذا، وما) بمنزلة اسم واحد
وقوله " الذين أحسنوا الحسنى " يحتمل أن يكون من كلام من قال خيرا،
ويحتمل أن يكون اخبارا من الله تعالى، وهو الأقوى، لأنه أبلغ في باب الدعاء
إلى الاحسان، فأجاز الحسن والزجاج كلا الوجهين، والمعنى ان للذين أحسنوا
في هذه الدنيا حسنة مكافأة لهم في الدنيا قبل الآخرة خيرا " ولنعم دار المتقين "
يعني الجنة التي يدخلها الذين اتقوا معاصي الله وفعلوا طاعاته
قوله تعالى:
(جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها
ما يشاؤن كذلك يجزي الله المتقين (31) الذين تتوفاهم الملائكة
طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) (32)
آيتان بلا خلاف.
376

يحتمل رفع جنات وجهين:
أحدهما - أن تكون خبر ابتداء محذوف وتقديره هي جنات يدخلونها، كأن
قائلا لما قال الله " ولنعم دار المتقين " قال: ما هذه الدار؟ فقيل: هي جنات عدن.
والثاني - أن يكون رفعا بالابتداء وخبره " نعم دار المتقين " وقد قدم الخبر
والتقدير جنات عدن " نعم دار المتقين ". ثم وصف هذه الجنات بما فيها، فقال
" تجرى من تحتها الأنهار " لان الجنة هي البستان الذي فيه الأشجار، والأنهار
تجري تحت الأشجار، وقيل لان انهار الجنة في أخاديد. ثم اخبر ان لهؤلاء الذين
دخلوا الجنة لهم فيها ما يشاؤنه ويشتهونه. ثم قال مثل ذلك يجازي الله تعالى
الذين يتقون معاصيه، ويعملون بطاعاته. ثم قال " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين
أي صالحين بأعمالهم الجميلة خلاف من تتوفاهم خبيثين بأعمالهم القبيحة. وأصل
الطيبة حال المستلذ من الأطعمة، يقول الملائكة لهم سلا عليكم ادخلوا الجنة
جزاء على أعمالكم في الدنيا من الطاعات.
قوله تعالى:
(هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك
كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون (33) فأصابهم سيأت ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به
يستهزؤن) (34) آيتان بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما " إلا أن يأتيهم " بالياء. الباقون بالتاء وقد
بينا وجهه، ومعنى قوله " هل ينظرون " ينتظرون، يعني هؤلاء الكفار إلا أن
تأتيهم الملائكة، يعني بالموت أو الهلاك، أو يأتي أمر ربك يعني يوم القيامة،
ذكره مجاهد وقتادة.
ثم أخبر تعالى ان الذين مضوا - فيما سلف من الكفار - فعلوا مثل فعل هؤلاء من
377

تكذيب الرسل، وجحد توحيده، وانكار رسله، فأهلكهم الله فما الذي يؤمن
هؤلاء أن يهلكهم.
ثم اخبر تعالى انه باهلاكه إياهم لم يظلمهم، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم فيما
مضى بالمعاصي التي استحقوا بها الهلاك.
ثم اخبر تعالى انه أصابهم يعني الكفار جزاء سيئات اعمالهم، وهي القبائح،
" وحاق بهم " اي حل بهم وبال " ما كانوا به يستهزئون " أي يسخرون برسل
الله وبأنبيائه.
قوله تعالى:
(وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من
شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل
الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) (35) آية
بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن المشركين مع الله إلها آخر ومعبودا سواه أنهم قالوا " لو
شاء الله " اي لو أراد الله لم نكن نعبد شيئا من دونه، من الأصنام والأوثان،
لا " نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا " من قبل نفوسنا شيئا، بل أراد الله ذلك منا،
فلذلك فعلنا، كما يقول المجبرة الضلال، فكذبهم الله وانكر عليهم، وقال مثل
ذلك فعل الذين من قبلهم، من الكفار الضلال كذبوا رسل الله، وجحدوا أنبياءه
ثم عذر أنبيائه، فقال " هل على الرسل إلا البلاغ " الظاهر اي ليس عليهم إلا
ذلك. وفي ذلك ابطال مذهب المجبرة، لان الله انكر عليهم قولهم إنه " لو شاء
الله ما عبدنا من دونه من شئ " ومثل هذه الآية التي في الانعام (1) وقد بيناها
مستوفاة.

(1) اية 148 من سورة الأنعام في 4: 333 - 335
378

قوله تعالى:
(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا
الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة
فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (36)
آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد ارسل في كل أمة من الأمم السالفة رسولا
بأن " اعبدوا الله " اي أمرهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وان يجتنبوا
عبادة الطاغوت، وهو كل ما يعبد من دون الله. وقيل: الطاغوت اسم الشيطان
ويكون المعنى " اجتنبوا " اغواء الشيطان، وكل داع يدعو إلى الفساد. ثم اخبر
عن المبعوث إليهم بأن منهم من لطف الله لهم بما علم أنه يؤمن عنده، فآمن
عنده، فسمى ذلك اللطف هداية، ولم يرد نصب الأدلة على الحق لأنه تعالى
سوى في ذلك بين المؤمن والكافر، كما قال " فاما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى
على الهدى " (1) ويحتمل أن يكون المراد فمنهم من هداه الله إلى الجنة بايمانه.
وقوله " ومنهم من حقت عليه الضلالة " قيل فيه قولان:
أحدهما - لأنهم ضلوا عن طريق الحق وكفروا بالله، وهو قول الحسن.
الثاني - حقت عليهم الضلالة عن طريق الجنة بما ارتكبوه من الكفر. والضلالة
- ههنا - المراد به العدول عن الجنة، وقد سمى الله العقاب ضلالا، فقال
" ان المجرمين في ظلال (3) " اي عذاب. ثم قال قل لهم " سيروا في الأرض " وتعرفوا
اخبار من مضى وتبينوا كيف كان عاقبة الذين كذبوا بآيات الله، ولم يصدقوا

(1) سورة حم السجدة آية 17
(2) سورة القمر آية 47
379

رسله، فان الله أهلكهم ودمر عليهم، كقوم هود، ولوط، وثمود، وغيرهم،
فان ديارهم عليها آثار الهلاك والدمار ظاهرة.
قوله تعالى:
(إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما
لهم من ناصرين) (37) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة " يهدي " بفتح الياء وكسر الدال. الباقون بضم الياء وفتح
الدال، ولم يختلفوا في ضم ياء يضل وكسر الضاد.
فمن فتح الياء وكسر الدال احتمل ذلك أمرين:
أحدهما - انه أراد ان الله لا يهدي من يضله.
والثاني - أن من أضله الله لا يهتدي.
ومن ضم الياء أراد من أضله الله لا يقدر أحد ان يهديه، وقووا ذلك بقراءة
أبي " لا هادي لمن أضل الله " واسم الله تعالى اسم (إن) و (يضل) الخبر.
ومعنى اضلال الله - ههنا - يحتمل أمرين:
أحدهما - ان من حكم الله بضلاله وسماه ضالا، لا يقدر أحد ان يجعله هاديا ويحكم
بذلك.
والثاني - إن من أضله الله (عز وجل) عن طريق الجنة لا أحد يقدر على
هدايته إليها، ولا يقدر هو أيضا على أن يهتدي إليها.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " ان تحرص " يا محمد على أن يؤمنوا ويهتدوا إلى
الجنة، فهم بسوء اختيارهم لا يرجعون عن كفرهم، والله تعالى قد حكم بكفرهم
وضلالهم واستحقاقهم للعقاب، فلا أحد يقدر على خلاف ذلك.
و (من) في الوجهين في موضع رفع، فمن ضم الياء رفعها لأنها لم يسم فاعلها،
380

ومن فتح الياء، فلأنها الفاعل. والمراد بالآية التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لمن لا
يفلح بالإجابة، لانهماكه في الكفر، وان ذلك ليس تقصيرا من جهتك بل إنه ليس
إلى فلاح مثل هذا سبيل.
وقوله " وما لهم من ناصرين " معناه ليس لهم ناصر ينصرهم ويخلصهم من
العقاب، وذلك يبين انه ليس المراد بالآية الضلال عن الدين، وإنما المراد ما قلناه
من عدولهم عن الثواب إلى العقاب.
والحرص طلب الشئ بجد واجتهاد، تقول: حرص يحرص حرصا، وحرص
يحرص بكسر الراء في الماضي، وفتحها في المستقبل، والأول لغة أهل الحجاز.
قوله تعالى:
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى
وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38) ليبين لهم
الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين)
(39) آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى ثم إن هؤلاء الكفار حلفوا بالله على قدر طاقتهم وجهدهم انه لا
يحشر الله أحدا يوم القيامة، ولا يحييه بعد موته. ثم كذبهم تعالى في ذلك، فقال:
" بلى " يحشرهم الله ويبعثهم " وعدا " وعدهم به، ولا يخلف وعده.
ونصب " وعدا " على المصدر والتقدير وعد وعدا. وقال الفراء: تقديره
بلى ليبعثهم وعدا حقا، ولو رفع على معنى ان ذلك وعد عليه حق كان صوابا
والمعنى وعد وعدا عليه حقا ذلك الوعد ليس له خلف " ولكن أكثر الناس لا
يعلمون " صحة ذلك لكفرهم بالله وجحدهم أنبياءه.
وقوله " ليبين لهم الذي يختلفون فيه " في دار الدنيا، لأنه يخلق فيهم العلم
381

الضروي يوم القيامة، الذي يزول معه التكليف ويزول خلافهم فيه، ويعلم أيضا
كل كافر انه كان كاذبا في الدنيا في قوله: إن الله لا يبعث أحدا بعد موته، هذا
إن جعلنا قوله " ليبين " متعلقا ب‍ (بلى) يبعثهم الله. ويحتمل أن يكون متعلقا
بقوله " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا... ليبين الذي يختلفون فيه " ويهديهم إلى
طريق الحق ويثيبهم عليه
قوله تعالى:
(إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)
(40) آية بلا خلاف.
قرأ الكسائي وابن عباس " فيكون " نصبا. الباقون رفعا. فمن نصب
جعله عطفا على " ان نقول.. فيكون " ولا يجوز أن يكون نصبا على جواب الامر
لان ما ينتصب لأجل جواب الامر هو ما يكون فعلان، ويجب الثاني من اجل
الأول، كقولك ائتني فأكرمك فالاكرام يجب من اجل الاتيان، وليس كذلك
في لآية، لأنه إنما هو فعل واحد أمر، وأخبر أنه يكون، ولذلك اجمع القراء
على رفع الذي في آل عمران في قوله " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب ثم قال له كن فيكون " (1) وقد أجار الزجاج النصب على أن يكون
جوابا، وهو غلط. من رفع أراد أن يقول له كن، فإنه يكون.
وقيل في معنى الآية قولان:
أحدهما - انه بمنزلة قوله (كن) في أنه يكون منا من غير كلفة ولا معاناة
والثاني - ان قول " كن " علامة للملائكة تدلهم على أنه سيحدث كذا وكذا
عند سماعه.

(1) سورة آل عمران اية 59
382

قوله تعالى:
(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في
الدنيا حسنة ولاجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (41) الذين
صبروا وعلى ربهم يتوكلون) (42) آيتان بلا خلاف.
موضع " الذين " رفع بالابتداء، والخبر " لنبوئنهم " يقول الله تعالى ان
الذين هاجروا من ديارهم فرارا بدينهم، واتباعا لنبيهم، من بعد ان ظلمهم قومهم
وآذوهم وبخسوهم حقوقهم، فان الله تعالى يبوئهم في الدنيا حسنة.
والتبوء الاحلال بالمكان للمقام، يقال تبوأ منزلا يتبوأ إذا اتخذه، وبوأه
غيره تبويئا إذا أحله غيره، ومنه " بوأنا بني إسرائيل مبوء صدق " (1) وقال
ابن عباس وقتادة والشعبي: تبوأهم الله المدينة، وأحل لهم فيها غنيمة حسنة يأخذونها
من أموال الكفار.
ثم اخبر ان ما أعده لهم من الاجر في الآخرة ونعيم الجنة أكثر من ذلك
بكثير لو كانوا يعلمون. ثم وصف الذين هاجروا، فقال الذين صبروا على جهاد
أعدائه واحتملوا الأذى في جنب الله وأسندوا أمرهم إليه تعالى وتوكلوا عليه،
فمن كان بهذه الصفة يستحق ما ذكرناه، ومن كان بخلاف لم يستحق منه شيئا.
وقيل: إن الآية نزلت في عمار وصهيب وأمثالهم الذين كانوا يعذبون بمكة.
قوله تعالى:
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون (43) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك

(1) سورة 10 يونس اية 93
383

الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (44) آيتان
بلا خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول له إنا لم نرسل من قبلك إلا رجالا
أمثالك من البشر " نوحي إليهم " أي يوحي الله إليهم. ومن قرأ بالنون، وهو
حفص، أراد نوحي نحن، إخبار منه تعالى. ثم قال الله لهم " فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون " صحة ما أخبرناكم به من أنا أرسلنا رجالا قبلك
وأوحينا إليهم. وقال ابن عباس ومجاهد: المعني بأهل الذكر أهل الكتاب ومنهم
من قال: المراد من آمن من أهل الكتاب، ومنهم من قال: امر مشركي العرب
ان يسألوا أهل الكتاب عن ذلك فإنهم لا يتهمونهم. وقال ابن زيد: يريد أهل القرآن
لان الذكر هو القرآن. وقال الرماني والأزهري والزجاج: المعني بذلك أهل العلم
بأخبار من مضى من الأمم، سواء كانوا مؤمنين أو كفارا، وما آتاهم من الرسل
قال: وفي ذلك دلالة على أنه يحسن ان يرد الخصم - إذا التبس عليه امر - إلى أهل العلم
بذلك الشئ إن كان من أهل العقول السليمة من آفة الشبه.
والذكر ضد السهو وسمي العلم بذلك، لأنه منعقد بالعلم، وهو بمنزلة السبب
المؤدي إليه في ذكر الدليل، وإذا تعلق هذا التعلق حسن ان يقع موقعه وينبئ
عن معناه.
وروى جابر عن أبي جعفر (ع) أنه قال: (نحن أهل الذكر).
وقوله " بالبينات والزبر " العامل بالباء أحد أمرين:
أحدهما - قوله " أرسلنا " والتقدير ما أرسلنا قبلك إلا رجالا بالبينات
نوحي إليهم.
الثاني - أن يكون على حذف (أرسلنا بالبينات) كما قال الأعشى:
وليس مجيرا إن أتى الحي خائف * ولا قائل إلا هو المتعيبا (1)

(1) ديوان دار بيروت) 8 وتفسير الطبري 14: 69
384

أي أعني المتعيبا، ومثل الأول، قول الشاعر:
نبئتهم عذبوا بالنار جارتهم * وهل يعذب إلا الله بالنار (1)
وقوله " بالبينات والزبر " اي بالدلالات الواضحات والكتب المنزلة. والزبر
الكتب، واحدها زبور، يقال: زبرت الكتاب أزبره زبرا إذا كتبته. ثم قال
" وأنزلنا إليك " يا محمد " الذكر " يعني القرآن " لتبين للناس ما نزل إليهم " فيه
من الاحكام والدلالة على توحيد الله، لكي يتفكروا في ذلك ويعتبروا، وإنما
قال " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا " مع أنه أرسل قبله الملائكة، لان المعنى
وما أرسلنا من قبلك إلى الأمم الماضية إلا رجالا بدلالة الآية، لأنهما حجة عليهم
في انكار رسول الله إلى الناس من الرجال.
قوله تعالى:
(أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض
أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (45) أو يأخذهم في
تقلبهم فما هم بمعجزين (46) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم
لرؤف رحيم) (47) ثلاث آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " أفأمن الذين مكروا " بالنبي والمؤمنين، وفعلوا
السيئات واحتالوا الفعل القبيح، على وجه الانكار عليهم، فاللفظ لفظ الاستفهام،
والمراد به الانكار " أن يخسف الله بهم الأرض " من تحتهم عقوبة لهم على كفرهم
أو يجيئهم العذاب من جهة، لا يشعرون بها، على وجه الغفلة " أو يأخذهم في
تقلبهم " وتصرفهم، بأن يهلكهم على سائر حالاتهم، حتى لا ينفلت منهم أحد،

(1) تفسير الطبري 14: 69 ومجمع البيان 3: 362
385

فما هم بفائتين. والمعنى إن ما يريد الله بهم من الهلاك لا يمتنع عليه ما يريده منهم
" أو يأخذهم على تخوف " وقيل في معنى " تخوف " قولان:
أحدهما - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: على تنقص
بمعنى انه يؤخذ الأول فالأول حتى لا يبقى منهم أحد، لان تلك حال يخاف معها
الفناء ويتخوف معها الهلاك، وقال الشاعر:
تخوف السير منها تامكا قردا * كما تخوف عود النبعة السفن (1)
اي ينقص السير منامها بعدتموكه، كما ينحت العود فيدق بعد غلظه.
وقال الآخر:
تخوف عدوهم ما لي وأهلي * سلاسل في الحلوق لها صليل (2)
والثاني - روي عن ابن عباس - في رواية أخرى - ان معناه على تفزيع.
وقال الحسن: تهلك القرية فتخوف القرية الأخرى، وقال الفراء: تخوفته،
وتحوفته - بالخاء والحاء - إذا انتقصته من حافاته. ومثله " ان لك في النهار
سبحا طويلا " (3) بالخاء والحاء، سمعت العرب تقول سبحي صوفك، وهو شبيه
بالندف، والسبخ مثل ذلك، قال المبرد: لا يقال تحوفته، وإنما هو تحيفته.
قول تعالى:
(أو لم يروا إلي ما خلق الله من شئ يتفيئوا ظلاله عن
اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون (48) ولله يسجد ما
في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا

(1) قائله ابن مقبل، اللسان (خوف) وتفسير الطبري 14: 70 ومجمع البيان 3: 363
(2) تفسير الطبري 14: 71 ومجمع البيان 3: 363
(3) سورة المزمل آية 7
386

يستكبرون (49) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)
(50) ثلاث آيات بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي وخلف " أولم تروا " بالتاء، الباقون بالياء.
من قرأ بالتاء حمله على الجمع. ومن قرأ بالياء، فعلى ما قبله، من قوله " ان
يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم.. أو يأخذهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رأوا
ذلك وتيقنوه، فلذلك عدل عن الخطاب.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب " تتفيئوا ظلاله " بالتاء. الباقون بالياء، فمن أنث
فلتأنيث الظلال، لأنه جمع ظل، فكل جميع مخالف الآدميين، فهو مؤنث
تقول: هذه الأقطار وهذه المساجد. ومن ذكر، فلان الظلال وإن كان جمعا،
فهو على لفظ الواحد مثل (جدار)، لان جمع التكسير يوافق الواحد.
يقول الله تعالى لهؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانيته، وكذبوا نبيه، على
وجه التنبيه لهم على توحيده " أولم يروا " هؤلاء الكفار " إلى ما خلق الله " من
جسم قائم، شجر أو جبل أو غيره، فصير ظلاله فيئا اي تدور عليه الشمس
ثم يرجع إلى ما كان قبل زوال الشمس عنه. وقال ابن عباس (يتفيئو) يرجع من
موضع إلى موضع ويتميل، يقال منه: فاء الظل يفئ فيئا إذا رجع، وتفيأ
يتفيؤ تفيؤا بمعنى واحد.
وقوله " عن اليمين والشمائل " معناه في أول النهار وآخره - في قول قتادة
والضحاك وابن جريج - يتقلص الفئ عن الجبل من جهة اليمين وينقص بالعشي
من جهة الشمال. وإنما قال عن اليمين - على التوحيد - والشمائل - على الجمع -
لاحد أمرين:
أحدهما - انه أراد باليمين الايمان، فهو متقابل في المعنى، ويتصرف في
اللفظ على الايجاز، كما قال الشاعر:
387

بفي الشامتين الصخر إن كان هدني * زرية شبلي مخدر في الضراغم (1)
والمعنى بأفواه، وقال آخر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ * قد عض أعناقهم جلد الجواميس (2)
وقوله " سجدا لله وهم داخرون " معناه إنها خاضعة لله ذليلة، بما فيها من
الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها، بما لولاه لبطلت، ولم يكن لها قوام
طرفة عين، فهي في ذلك كالساجد، من العباد بفعله، الخاضع بذاته، كأنه من
بسط الشمس عليه في أول النهار. ثم قبضها عنه إلى الجهة الأخرى. ثم قبضها
أيضا عنه، فتغيرت حاله. والتغيير يقتضي مغيرا غيره ومدبرا دبره. قال
الحسن: اما ذلك فيسجد لله، واما أنت فلا تسجد لله؟! بئس والله ما صنعت.
و (الداخر) الخاضع الصاغر، دخر يدخر دخرا ودخورا، إذا ذل وخضع قال
ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس * ومنجحر في غير أرضك في جحر (3)
ثم أخبر تعالى انه يسجد له جميع " ما في السماوات وما في الأرض " والسجود
هو الخضوع بالعبادة أو الدعاء إلى العبادة، فكل شئ من مقدوراته تعالى
يسجد بالدعاء إلى العبادة بما فيه من الآية، الذي يقتضي الحاجة إليه تعالى، وكل
محق من العباد فهو يسجد بالعبادة.
وقوله " من دابة " معنى (من) ههنا هي التي تبين، تبيين الصفة، كأنه
قال وما في الأرض الذي هو دابة تدب على الأرض. وقوله " والملائكة " اي
وتسجد له الملائكة، وتخضع له بالعبادة، و " هم " يعني الملائكة، غير مستكبرين،

(1) مجمع البيان 3: 363 وتفسير الطبري 14: 73. وروايته:
بفي الشامتين إن كان هدني ودية شبلي محدد في الضراغم
(2) قائله جرير: ديوانه (دار بيروت) 252، وتفسير الطبري 14: 73 ومجمع البيان
3: 363 وروايته الديوان:
تدعوك تيم وتيم في قرى سبأ * قد عض أعناقهم جلد الجواميس
(3) اللسان (خيس) نسبه إلى الفرزق خطأ
388

ولا طالبين بذلك التكبر بل مذعنين بالحق متذللين، غير آنفين، من
الاذعان به.
" يخافون ربهم من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - يخافون عقاب ربهم من فوقهم، لأنه يأتي من فوق.
الثاني - انه لما وصف بأنه عال ومتعال، على معنى قادر، لا قادر أقدر منه،
فقيل صفته في أعلى مراتب صفات القادرين، حسن ان يقال " من فوقهم " ليدل
على أن هذا المعنى من الاقتدار الذي لا يساويه قادر، وقوله " ويفعلون ما
يؤمرون " يعني الملائكة يفعلون ما يأمرهم الله به، ولا يعصونه، كما قال " لا
يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " (1)
قوله تعالى:
(وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي
فارهبون (51) وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا
أفغير الله تتقون) (52) آيتان بلا خلاف
يقول الله تعالى ناهيا لعباده " لا تتخذوا إلهين اثنين " اي لا تعبدوا مع الله
غيره، فتشركوا بينهما في العبادة.
ثم اخبر انه إله واحد لا أكثر منه، لان لفظة (إنما) تفيد ثبوت الاله
الواحد، ونفي ما زاد عليه على ما بيناه فيما مضى.
وقوله " فإياي فارهبون " معناه ارهبوا عقابي وسخطي فلا تتخذوا معي
إلها آخر ومعبودا سواي.
وفي قوله " اثنين " بعد قوله " إلهين " قولان:

(1) سورة التحريم آية 6
389

أحدهما - أنه قال ذلك تأكيدا، كما قال " إله واحد " تأكيد ا.
والثاني - أن يكون المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين، فقدم وأخر وكلاهما
جائزان.
وقوله " وله ما في السماوات والأرض " معناه انه يجب علينا ان نتقي عقاب
من يملك جميع ما في السماوات والأرض، لأنه مالك الضر والنفع.
ومعنى قوله " وله الدين واصبا " قال ابن عباس: يعني دائما اي طاعته واجبة
على الدوام، وبه قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة ابن زيد، ومنه قوله
" ولهم عذاب واصب " (1) يقال منه: وصب الدين يصب وصوبا، ووصبا، قال
أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه * يوما بذم الدهر أجمع واصبا (2)
وقال حسان:
غيرته الريح تسفي به * وهزيم رعده واصب (3)
والوصب الألم الذي يكون عن الاعياء بدوام العمل مدة، يقال: وصب
الرجل يوصب وصبا، فهو وصب قال الشاعر:
لا يغمز الساق من أين ولا وصب * ولا يعض على شر سوفه الصفر (4)
وقيل: المعنى وله الطاعة، وإن كان فيها الوصب، وهو الشدة والتعب
قوله تعالى:
(وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه
تجئرون 53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم

(1) سورة الصافات آية 9
(2) تفسير الطبري: 14: 74 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 160 ومجمع البيان 3: 365
(3) ديوانه (دار بيروت) 21 وتفسير الطبري 14: 74
(4) تفسير الطبري 14: 74
390

يشركون (54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون)
(55) ثلاث آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى لخلقه إن جميع النعم التي تكون بكم ولكم، من صحة في جسم
وسعة في رزق أو ولد، فكل ذلك من عند الله، ومن جهته وبخلقه لها
وبتمكينكم من الانتفاع بها. والفاء في قوله " فمن الله " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أن تكون (ما) بمعنى الذي، وفيه شبه الجزاء، كما قال تعالى
" قل ان الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم " (1) ويقول القائل: مالك هو لي
ولا يجوز ان يقول مالك فهو لي، لأنه خبر ليس على طريق الجزاء.
والقول الثاني على حذف الجزاء، وتقديره ما يكن بكم من نعمة فمن الله.
وقوله " ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " معناه متى ما لحقكم ضر وبلاء،
وألم، وسوء حال، تضرعون إليه تعالى بالدعاء، وهو قول مجاهد. وأصل ذلك
من جؤار الثور، يقال: جأر الثور يجأر جؤارا إذا رفع صوته، من جوع أو غيره
قال الأعشى:
وما أيبلي على هيكل * بناه وصلب فيه وصارا
يراوح من صلوات المليك * طورا سجودا وطورا جؤارا (2)
وقال عدي بن زيد:
انني والله فاقبل حلفتي * بابيل كلما صلى جأر (3)
وقوله " ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون " اخبار منه
تعالى انه إذا كشف ضر من يجأر إليه ويخضع له، ويرفع البلاء عنه، يصير
- طائفة من الناس - يشركون بربهم في العبادة جهلا منهم بربهم، ومقابلة للنعمة التي

(1) سورة الجمعة آية 8
(2) ديوانه (دار بيروت) 84 واللسان (أبل) ذكر البيت الأول فقط
(3) اللسان (إبل) وروايته (فاسمع حلفي).
391

هي كشف الضر بمعصية الشرك. وهذا غاية الجهل. وقوله " ليكفروا بما آتيناهم "
اي ليكفروا بآيات أنعمنا عليهم، ورزقنا إياهم، فمعنى اللام في " ليكفروا "
هو البيان عما هو بمنزلة العلة التي يقع لأجلها الفعل، لأنهم بمنزلة من أشركوا في العبادة
ليكفروا بما أوتوا من النعمة، كأنه لا غرض لهم في شركهم إلا هذا، مع أن
شركهم في العبادة يوجب كفر النعمة بتضييع حقها، فالواجب في هذا ترك الكفر
إلى الشكر لله تعالى.
وقوله " فتمتعوا فسوف تعلمون " تهديد منه تعالى، لان المعنى تمتعوا بما فيه
معصية له تعالى، فسوف تعلمون عاقبة امر كم من العقاب الذي ينزل بكم، وحذف
لدلالة الكلام عليه، وهو أبلغ.
قوله تعالى:
(ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما
كنتم تفترون (56) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون)
(57) آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى إن هؤلاء الكفار " يجعلون لما لا يعلمون نصيبا " معناه
إنهم يجعلون لما لا يعلمون انه يضر، ولا ينفع " نصيبا مما رزقناهم " يتقربون " إليه، كما يجب ان يتقربوا إلى الله تعالى، وهو ما حكى الله عنهم في سورة الأنعام
" من الحرث والانعام " وغير ذلك " فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا "
فجعلوا نصيبا لله ونصيبا للأصنام، وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد. ثم أقسم
تعالى فقال " تالله لتسئلن " سؤال التوبيخ، لا سؤال الاستفهام " عما كنتم تعملون "
في دار الدنيا لتلزموا به الحجة وتعاقبوا بعد اعترافكم على أنفسكم. وإنما كان
سؤال التوبيخ، لأنه لا جواب لصاحبه الا ما يظهر به فضيحته.

(1) سورة الأنعام اية 136
392

ثم اخبر تعالى عنهم بأنهم يجعلون لله البنات، لأنهم كانوا يقولون الملائكة
بنات الله، كما قال تعال " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " (1) فقال
تعالى تنزيها لنفسه عما قالوه " سبحانه " اي تنزيها له عن اتخاذ البنات.
وقوله " ولهم ما يشتهون " (ما) في قوله " ولهم ما " يحتمل وجهين من
الاعراب:
أحدهما - أن يكون في موضع نصب، والمعنى ويجعلون لهم البنين الذين
يشتهون.
والثاني - أن يكون في موضع رفع والتقدير ولهم البنون، على الاستئناف.
قوله تعالى:
(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم
(58) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون
أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (59) للذين لا يؤمنون
بالآخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم)
(60) ثلاث آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى مخبرا عن هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله البنات ولأنفسهم
البنين. انهم متى بشر واحد منهم بأنه ولد له بنت " ظل وجهه مسودا " أي
يتغير لذلك وجهه و (ظل) يقال لما يعمل صدر النهار، يقال: ظل يفعل كذا
ومثله أضحى، غير أنه كثر، فصار بمنزلة قولهم: أخذ يفعل، تقول: ظللت
أظل ظلولا، ذكره الفراء.
وقوله " وهو كظيم " قال ابن عباس: معناه وهو حزين. وقال الضحاك:

(1) سورة الزخرف آية 19
393

كئيب، وهو المغموم الذي يطبق فاه، ولا يتكلم للغم الذي به، مأخوذ به
الكظامة وهو سد فم القربة.
وقوله " يتوارى من القوم " أي يختبئ ويختفي من القوم " من سوء ما يشربه "
من الأنثى، تميل نفسه بين أن " يمسكه على هون " أي على هوان ومشقة، ومنه
قوله " عذاب الهون " (1) وهي لغة قريش، قال الشاعر:
فلست بوقاف على هون (2)
وقال الحطيئة:
فلما خشيت الهون والعير ممسك * على رغمه ما أثبت الخيل حافره (3)
وبعض تميم يجعلون الهون من الشئ اللين، قال سمعت من بعضهم إن كان لقليل
فهو هون المؤنة، فإذا قالوا أقبل يمشي على هون، لم يقولوا إلا بفتح الهاء، ومنه
قوله " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " (4) قال المبرد: الهون بضم الهاء
لا أعرفه في الرفق، وإنما هو بفتح الهاء، كما يقال: سر عليه هونا أي رفقا " أم
يدسه في التراب " أي هو يميل بين إمساكه على مذلة أو دفنه حيا في التراب.
ثم أخبر تعالى فقال " ألا ساء ما يحكمون " اي بئس الحكم الذي يحكمون، يجعلون
لنفوسهم ما يشتهون، ويجعلون لله ما يكرهونه!!.
ثم قال تعالى " للذين لا يؤمنون " اي لا يصدقون بالبعث والنشور والدار
الآخرة " مثل السوء. ولله المثل الاعلى " اي لهم بذلك وصف سوء، ولله الوصف
الاعلى، من اخلاص التوحيد، ولا ينافي هذا قوله " فلا تضربوا لله الأمثال " (5)
لأنه بمعنى الأمثال التي توجب الأشباه، فأما الأمثال التي يضربها الله للناس لما
فيها من الحكمة من غير تشبيه له تعالى بخلقه، فحق وصواب، كما قال تعالى " وتلك
الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " (6) قال الرماني: وفي الآيات دلالة

(1) سورة الأنعام آية 93 وسورة الاحقاق اية 20
(2) لم أجده فيما رجعت إليه
(3) مجمع البيان 3 / 366
(4) سورة الفرقان اية 63
(5) سورة النحل اية 74
(6) سورة العنكبوت اية 43
394

على أنه لا يجوز ان يضاف إليه تعالى الأدون بدلا من الأصلح، لان اختيار
الأدون على الأصلح صفة نقص، وقد عابهم الله بإضافة ما لا يرضونه لنفوسهم إلى
ربهم، وهو قولهم: الملائكة بنات الله، فكما لا يرضى الانسان لنفسه النقص
الذي فيه، فهو ينفيه عنه، وعظماء الناس واجلاؤهم يرفعون نفوسهم عن صفات
الأدنى، دون العليا، فينبغي ان ينزه تعالى عن مثل ذلك.
وقوله " وهو العليم الحكيم " معناه عالم بوضع الأشياء في مواضعها، حكيم
في أنه لا يضعها الا في ما هو حكمة وصواب.
قوله تعالى:
(ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة
ولكن يؤخره إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون
ساعة ولا يستقدمون (61) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف
ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم
مفرطون (62) تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم.
الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) (63)
ثلاث آيات بلا خلاف.
قرأ نافع " مفرطون " بكسر الراء والتخفيف، من الافراط في الشئ اي
الاسراف، بمعنى انهم مسرفون. وقرأ أبو جعفر مثل ذلك بالكسر غير أنه
شدد الراء من التفريط في الواجب. وقرأ الباقون بفتح الراء والتخفيف، ومعناه
انهم متروكون في النار منسيون فيها - في قول قتادة ومجاهد وسعيد بن جبير
والضحاك - وقال الحسن وقتادة - في رواية أخرى - ان المعنى انهم مقدمون
بالاعجال إلى النار، وهو من قول العرب: أفرطنا فلان في طلب الماء، فهو
395

مفرط إذا قدم لطلبه، وفرط فهو فارط إذا تقدم لطلبه، وجمعه فراط، قال
القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا * كما تعجل فراط لوراد (1)
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (انا فرطكم على الحوض) اي متقدمكم وسابقكم حتى
تردوه. ومنه يقال في الصلاة على الصبي الميت: اللهم اجعله لنا ولأبويه فرطا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انا والنبيون فراط العاصين) اي المذنبين،
والتأويل الأول من قول العرب: ما أفرطت ورائي أحدا اي ما خلفت ولا
تركت. والمعنى يرجع إلى التقدم اي ما تقدمت أحدا ورائي.
اخبر الله تعالى انه لو كان ممن يؤاخذ الكفار والعصاة بذنوبهم، ويعاجلهم
بعقوباتهم واستحقاق جناياتهم وظلمهم " لما ترك " على وجه الأرض أحدا، ممن
يستحق ذلك من الظالمين. وإنما يؤخرهم تفضلا منه ليراجعوا التوبة، أو لما في
ذلك من المصلحة لباقي المكلفين والاعتبار بهم، فلا تغتروا بالامهال، انكم مثلهم
في استحقاق العقاب على ظلمكم. وقيل في وجه تعميمهم بالهلاك مع أن فيهم
مؤمنين قولان:
أحدهما - ان الاهلاك وان عمهم فهو عذاب الظالم دون المؤمن، لان المؤمن
يعوض عليه.
الثاني - أن يكون ذلك خاصة. والتقدير ما ترك عليها من دابة من أهل
الظلم. وقيل إن المعنى أنه لو هلك الآباء بكفرهم لم يوجد الأبناء.
وقوله " ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى " يعني الأجل الذي قدره لموتهم
وهلاكهم، فإذا جاء ذلك الأجل، لا يتقدمون عليه لحظة ولا يتأخرون.
وقوله " عليها " يعني على الأرض لدلالة قوله " ما ترك عليها من دابة " اي
دابة عليها لأنها تدب على الأرض.
وقوله " يجعلون لله ما يكرهون " يعني يضيفون إلى الله البنات مع كراهية

(1) تفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3 / 165 وتفسير الطبري 14 / 79 واللسان (عجل)
396

ذلك لنفوسهم " وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى " فقول (ان) بدل من
الكذب، وموضعه النصب. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن: فيما حكاه الزجاج: ان لهم الجزاء الحسنى /.
الثاني - قال مجاهد: ان لهم البنين مع جعلهم لله البنات اللاتي يكرهونهن.
ثم قال تعالى " لا جرم أن لهم النار " ومعناه حقا أن لهم النار، في أقوال
المفسرين. وقيل: معناه لابد ان لهم النار، فجرم على هذا اسم، كأنه قال:
قطع ان لهم النار وقال بعضهم " جرم " فعل ماض و (لا) رد لكلام متقدم،
فكأنه قيل: قطع الحق أن لهم النار. وقيل: وجب قطعا ان لهم النار. وقيل:
كسب فعلهم أن لهم النار، وانهم مفرطون مقدمون ومعجلون إلى النار. وقال
الخليل: " لا جرم " لا يكون الا جوابا، تقول: فعلوا كذا وكذا، فيقال:
لا جرم انهم سيندمون قال الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * جرمت فزارة بعدها ان يغضبوا (1)
اي بعثتهم على ذلك ومثله " لا يجر منكم شقاقي " (2) اي لا يبعثكم عداوتي " على أن
يصيبكم " ومثله " لا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " (3)
ثم اقسم تعالى، فقال " لقد أرسلنا " يعني رسلا إلى أمم من قبلك يا محمد
" فزين لهم الشيطان اعمالهم " يعني كفرهم وضلالهم وتكذيب رسل الله زينه
الشيطان لهم.
وقوله " فهو وليهم اليوم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - انه ناصرهم في الدنيا، لأنه يتولى اغواءهم وسبب هلاكهم " ولهم
عذاب اليم " يوم القيامة.
الثاني - انه يوم القيامة وليهم، لأنه لا يمكنه ان يتولى صرف المكروه عن

(1) مر هذا البيت في 3 / 423، 5 / 473، 534
(2) سورة هود آية 89 (3) سورة المائدة آية 9
397

نفسه، فكيف يتولى صرفه عنهم.
ثم اخبر تعالى ان لهم عنده عذابا أليما موجعا مؤلما جزاء على كفرهم ومعاصيهم.
قوله تعالى:
(وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا
فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (64) والله أنزل من السماء ماء
فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون)
(65) ايتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إنا " ما أنزلنا عليك الكتاب " يعني القرآن
" إلا " وأردنا منك ان تبين " لهم " وتكشف لهم " الذي اختلفوا فيه " من
دلالة التوحيد والعدل وصدق الرسل وما أوجبت فيه من الحلال والحرام " وهدى
ورحمة " اي أنزلته هدى ودلالة على الحق لقوم يؤمنون. " هدى ورحمة "
نصب على أنه مفعول له، ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء، وإنما اضافه إلى
المؤمنين خاصة لانتفاعهم بذلك، وإن كان دليلا وحجة للجميع، كما قال في
موضع آخر " هدى للمتقين " (1) وقال " إنما أنت منذر من يخشاها " (2) وان
انذر من لم يخشاها.
ثم اخبر تعالى على وجه، من نعمه على خلقه، فقال " والله " المستحق للعبادة
هو الذي " انزل من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فأحيا به " يعني بذلك؟؟
" الأرض بعد موتها " اي أحياها بالنبات بعد جدوبها وقحطها، ففي ذلك أعظم
دلالة واجل آية " لقوم يسمعون " ذلك ويفكرون فيه ويعتبرون به.

(1) سورة البقرة اية 2
(2) سورة النازعات آية 45
398

قوله تعالى:
(وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين
فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (66) ومن ثمرات النخيل
والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية
لقوم يعقلون) (67) آيتان بلا خلاف.
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم " نسقيكم " بفتح النون الباقون
بضمها. والفرق بين اسقينا وسقينا أن معنى أسقيناه جعلنا له شرابا دائما من
نهر أو لبن أو غيرهما، وسقيناه شربة واحدة، ذكره الكسائي قال لبيد:
سقي قومي بني مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال (1)
فعلى هذا هما لغتان، والأظهر ما قال الكسائي. عند أهل اللغة. وقال
قوم: سقيته ماء كقوله " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " (2) وأسقيته سألت الله
ان يسقيه وانشد لذي الرمة:
وقفت على ربع لمية ناقتي * فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه (3)
وقيل إن ما كان من الأنهار وبطون الأودية، فبالضم. وقال أبو عبيدة: إذا
سقاه مرة يقال سقيته، وإذا سقاه دائما يقال أسقيته
يقول الله تعالى لخلقه المكلفين " إن لكم في الانعام " يعني الإبل والبقر والغنم
" لعبرة " ودلالة لأنا " نسقيكم مما في بطونه " وقيل في تذكيره ثلاثة أقوال:

(1) ديوانه 1: 128 ونوادر أبي زيد 213 ومجاز القران 1: 350 واللسان والتاج
" سقى " ومجمع البيان 3: 370
(2) سورة الدهر اية 21.
(3) ديوانه 213 ونوادر أبي زيد 213 والمحاسن والأضداد للجاحظ 335 ومجمع البيان
3: 333، 359 وتفسير الطبري 14: 14 والتاج واللسان " سقى ".
399

أحدها - انه رد إلى واحد. لان النعم والانعام بمعنى، قال سيبويه: والاسم
الواحد يجئ على (افعال) يقال هو الانعام. قال تعالى " في بطونه " ذهب إلى
أنه اسم واحد بلفظ الجمع، كما أن الخيل اسم مؤنث، لا واحد له، والنعم اسم
مذكر للجماعة، لا واحد له، وقال الراجز:
وطاب ألبان اللقاح فبرد (1)
رده إلى اللبن.
الثاني - انه حمل على المعنى، والتقدير بطون ما ذكرنا، كما قال الصلتان
العبدي:
إن السماحة والمرؤة ضمنا * قبرا بمرو في الطريق الواضح (2)
كأنه قال شيئان ضمنا.
الثالث - لأنه في موضع (اي) كأنه قال " نسقيكم مما في بطونه " اي من
اي الانعام وكان في بطونه اللبن، لأنه ليس كلها مما فيه لبنا.
وقوله وقوله " من بين فرث ودم لبنا خالصا " فالفرث الثفل الذي ينزل إلى الكرش
فبين انه تعالى يخرج ذلك اللبن الصافي، اللذيذ، المشهى من بين ذلك، وبين الدم
الذي في العرق النجس " سائغا للشاربين " أي مريئا لهم لا ينفرون منه، ولا
يشرقون بشربه، وذلك من عجيب آيات الله ولطف تدبيره وبديع حكمته،
الذي لا يقدر عليه غيره، ولا يتأتى من أحد سواه.
ثم قال " ومن ثمرات " وهو جمع ثمرة، وهو ما يطعمه الشجر، ما فيه اللذة
والثمرة خاصة طعم الشجر مما فيه اللذة يقال: أثمرت الشجرة إثمارا إذا حملت
كالنخلة والكرمة وغيرهما من أصناف الشجر.
وقوله " يتخذون منه سكرا " قيل في معنى السكر قولان:

(1) تفسير الطبري 14: 81 واللسان (جبه)، (خرت) وقبله:
إذا رأيت انجما من الأسد * جبهته أو الخرات والكتد
بال سهيل في الفضيخ ففسد * وطاب ألبان اللقاح فبرد
(2) تفسير الطبري 14: 81 ومجمع البيان 3: 370
400

أحدهما - تتخذون منه ما حل طعمه من شراب أو غيره، ذكره الشعبي
وغيره.
وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وأبي رزين والحسن ومجاهد وقتادة: ان
السكر ما حرم من الشراب، والرزق الحسن ما أحل منه. والسكر في اللغة
على أربعة أقسام: أحدها ما اسكر، والثاني ما طعم من الطعام كما قال الشاعر:
جعلت عيب الأكرمين سكرا (1)
اي طعما، الثالث السكون قال الشاعر:
وجعلت عين الحرور تسكر (2)
والرابع، المصدر من قولك سكر سكرا، واصله انسداد المجاري بما يلقى
فيها ومنها السكر. وقوله " منه " الكناية راجعة إلى محذوف، قال قوم:
تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه، فالهاء كناية عن (ما) المحذوفة
وقال آخرون: تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب شئ تتخذون منه.
وقد استدل قوم بهذه الآية على تحليل النبيذ بأن قالوا: امتن الله علينا به وعده
من جملة نعمه علينا أن خولنا الثمار نتخذ منها السكر، والرزق الحسن. وهو
لا يمتن بما هو محرم. وهذا لا دلالة فيه لأمور:
أحدها - انه خلاف ما عليه المفسرون، لان أحدا منهم لم يقل ذلك، بل كل
التابعين من المفسرين، قالوا: أراد ما حرم من الشراب، وقال الشعبي منهم: انه أراد
ما حل طعمه من شراب وغيره.
والثاني إنه لو أراد بذلك تحليل السكر، لما كان لقوله " ورزقا حسنا "
معنى، لان ما أحله واباحه، فهو أيضا رزق حسن، فلم فرق بينه وبين الرزق
الحسن والكل شئ واحد؟ وإنما الوجه فيه انه خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها

(1) تفسير الشوكاني 3: 168 وتفسير الطبري 14: 84 (واللسان سكر)
(2) تفسير الشوكاني 3: 168 وتفسير الطبري 14: 84 (واللسان سكر)
401

فاتخذتم أنتم منها ما هو محرم عليكم، وتركتم ما هو رزق حسن. واما وجه المنة
فبالا مرين معا ثابتة، لان ما اباحه واحله فالمنة به ظاهرة لتعجل الانتفاع به وما
حرمه الله فوجه المنة أيضا ظاهر به، لأنه إذا حرم علينا، وأوجب الامتناع منه
ضمن في مقابلته الثواب الذي هو أعظم النعم، فهو نعمة على كل حال.
والثالث - إذا كان مشتركا بين المسكر وبين الطعم، وجب أن يتوقف فيه
ولا يحمل على أحدهما إلا بدليل، وما ذكرناه مجمع على أنه مراد، وما ذكروه
ليس عليه دليل، على أنه كان يقتضي أن يكون ما اسكر منه يكون حلالا،
وذلك خلاف الاجماع، لأنهم يقولون: القدر الذي لا يسكر هو المباح، وكان
يلزم على ذلك أن يكون الخمر مباحا، وذلك لا يقوله واحد، وكذلك كان يلزم أن يكون
النقيع حلالا، وذلك خلاف الاجماع.
وقوله " إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " معناه إن فيما ذكره دلالة ظاهرة
للذين يعقلون عن الله ويتفهمون ويفكرون فيه.
قوله تعالى:
(وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن
الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل
ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء
للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) (69) آيتان بلا
خلاف.
قرئ " يعرشون " بضم الراء وكسرها، وهما لغتان ومعناه: وما يبنونه من
السقوف وقال ابن زيد: يعني الكروم، قال ابن عباس ومجاهد: يعني " وأوحى
ربك إلى النحل " ألهما الهاما، وقال الحسن: جعل ذلك في غرائزها اي ما
402

يخفى مثله عن غيرها، وذلك ايحاء في اللغة. وقال أبو عبيد: (الوحي) على
وجوه في كلام العرب: منها وحي النبوة، ومنها الالهام، ومنها الإشارة،
ومنها الكتاب، ومنها الاسرار:
فالوحي في النبوة ما يوحي الله إلى الأنبياء، كقوله " إلا وحيا أو من وراء
حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه " (1)
والوحي بمعنى الالهام، قوله " وأوحى ربك إلى النحل وقوله " وأوحينا
إلى أم موسى " (2) وفي الأرض " بأن ربك أوحى لها " (3)
ووحي الإشارة كقوله " فأوحى إليهم أن سبحوا " (4) قال مجاهد: أشار
إليهم، وقال الضحاك: كتب لهم.
واصل الوحي عند العرب هو إلقاء الانسان إلى صاحبه ثيابا للاستتار
والاخفاء.
ووحي الاسرار مثل قوله " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا (5) "
فاما ما روي عن ابن عباس أنه قال: لا وحي إلا القرآن أراد ان القرآن هو
الوحي الذي نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون انكر ما قلناه.
ويقال: أوحى له وأوحى إليه قال العجاج:
أوحى لها القرار فاستقرت (6)
قال المبرد: ما روي عن ابن عباس إنما قاله لما سئل عما كان وضعه المختار
وسماه الوحي، فقال ابن عباس: لا وحي إلا القرآن جوابا عما أحدثه المختار
وادعى تنزيله إليه.
وواحد " النحل " نحلة، والمعنى ان الله تعالى ألهم النحل اتخاذ المنازل
والادكار، والبيوت في الجبال، وفي الشجر وغير ذلك " ومما يعرشون " يعني

(1) سورة الشورى آية 51
(2) سورة القصص آية 7
(3) سورة الزلزال آية 5
(4) سورة مريم آية 11
(5) سورة الأنعام آية 112
(6) مر هذا الرجز في 2: 459، 3: 84، 4: 61
403

سقوف البيوت " ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا " معناه انه
تعالى ألهمها أيضا أن تأكل من الثمرات وسائر الأشجار التي تحويها، والذلل جمع
ذلول، وهي الطرق الموطأة للسلوك. وقيل: طرق لا يتوعر عليها سلوكها
عن مجاهد. وقال قتادة: معنى " ذللا " اي مطيعة، ويكون من صفة النحل.
وقال غيره: هو من صفات الطريق ومعنى " ذللا " إنه قد ذللها لك وسهل
عليك سلوكها وفي ذلك أعظم العبر واظهر الدلالة على توحيده تعالى وأنه لا يقدر
عليه سواه.
ثم قال " يخرج من بطونها " يعني بطون النحل " شراب مختلف ألوانه " من
أصفر وأبيض وأحمر، مع أنها تأكل الحامض والمر فيحيله الله عسلا حلوا لذيذا
" فيه شفاء للناس " لما شفائها فيه، وأكثر المفسرين على أن (الهاء) راجعة إلى
العسل، وهو الشراب الذي ذكره، وأن فيه شفاء من كثير من الأمراض، وفيه
منافع جمة. وقال مجاهد (الهاء) راجعة إلي القرآن " وفيه شفاء للناس "، لما
فيه من بيان الحلال، والحرام، والفتيا، والاحكام، والأول أوثق.
ثم اخبر تعالى ان فيما ذكره آيات واضحات، ودلالات بينات، لمن يتفكر
فيه ويهتدي بهديه، وإنما قال " من بطونها " وهو خارج من فيها، لان العسل
يخلقه الله في بطون النحل ويخرجه إلى فيه. ثم يخرجه من فيه، ولو قال: من
فيها لظن أنها تلقيه من فيها، وليس بخارج من البطن.
قوله تعالى:
(والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر
لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير) (70) آية بلا
خلاف.
هذه الآية فيها تعديد لنعم الله تعالى على عباده، شيئا بعد شئ، ليشكروه
عليها، وبحسبها يقول الله: إني أنا الذي خلقتكم وأخرجتكم من العدم إلى الوجود
404

وأنعمت عليكم بضروب النعم، دينية ودنياوية، ثم الذي خلقكم يتوفاكم ويقبضكم
أي يميتكم " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " وهو أرداه وأوضعه، يقال منه:
رذل الشئ يرذل رذالة، وأرذلته ان ارذالا يريد به حال الذم. وقيل إنه يصير
كذلك في خمس وسبعين سنة - في قول علي (ع)
وقوله " لكي لا يعلم بعد علم شيئا " اخبار منه تعالى انه إنما يرده إلى أرذل العمر، ليرجع
إلى حال الطفولية بنسيان ما كان علم للكبر، فكأنه لا يعلم شيئا، مما كان علم.
وفي ذلك أعظم دلالة وأبين اعتبار على قادر مصرف للخلق من حال إلى حال.
ثم أخبر " ان الله عليم " بمصالح عباده، قادر على ما يشاء من تدبيرهم وتغيير
أحوالهم.
قوله تعالى:
(والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا
برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله
يجحدون) (71) آية بلا خلاف.
قرأ أبو بكر عن عاصم " تجحدون " بالتاء على معنى: قل لهم يا محمد أمن
أجل ما أنعم الله عليكم، أشرتم وبطرتم وجحدتم. وقرأ الباقون بالياء.
وبخهم الله تعالى على جحودهم نعمه، فيقول الله تعالى لخلقه، بأنه فضل
بعضهم على بعض في الرزق، لأنه خلق فيهم غنيا وفقيرا وقادرا وعاجزا،
وفضل بني آدم على سائر الحيوان في لذيذ المأكل، والمشرب، وجعل بعضهم
مالكا لبعض، وبعضهم رقا مملوكا.
وقوله " فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت ايمانهم " قيل في معناه
قولان:
أحدهما - انهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم وأزواجهم حتى يكونوا فيه
405

سواء، لأنهم لا يرضون بذلك لا نفسهم، وهم يشركون عبيدي في ملكي وسلطاني
ويوجهون العبادة والقربات إليهم، مثل قربهم إلى الله تعالى. ذكره ابن عباس
وقتادة ومجاهد.
الثاني - انهم سواء في أني رزقت الجميع، وأنه لا يمكن أحد أن يرزق
عبيده إلا برزقي إياه، أفبهذه النعم التي عددتها وذكرتها " يجحدون "
هؤلاء الكفار.
قوله تعالى:
(والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم
بنين وجفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله
هم يكفرون) (72) آية بلا خلاف.
يقول الله تعالى: إني أنا الذي جعلت لكم أزواجا " من أنفسكم " يعني من
البشر، والذين يلدونهم ليكون ذلك آنس لهم وأليق بقلبهم، وخلقت من هؤلاء
الأزواج بنين تسرون بهم وتتزينون بهم و " حفدة " اي وخلق لكم حفدة.
وقيل في معناه أقوال:
قال مجاهد وطاووس: هم الخدم، وقال ابن عباس: هم الخدم والأعوان،
وانشد قول جميل:
حفد الولائد حولها واستمسكت * بأكفهن أزمة الاجمال (1)
وفي رواية أخرى عن ابن عباس: إنهم البنون وبنو البنين. وفي رواية أخرى
أنهم بنو امرأة الرجل من غيره. وقال الحسن: من أعانك، فقد حفدك من

(1) تفسير الطبري 14 / 88، 89 رواه مرتين مع اختلاف يسير، ومجمع البيان 3 / 383.
ولم أجده في ديوان جميل بثينة، (دار بيروت) وهو في اللسان (حفد) غير منسوب وروايته
(حولهن وأسلمت) بدل (وحولها واستمسكت).
406

البنين وبني البنات والأعوان والأهل. وقال ابن مسعود، وأبو الضحى، وإبراهيم
وسعيد بن جبير: هم الأختان، وهم أزواج البنات.
وأصل الحفد الاسراع في العمل، ومنه يسعى ويحفد، ومر البعير يحفد
حفدانا إذا مر يسرع في سيره، وحفد يحفد حفدا وحفدانا، قال الراعي:
كلفت مجهولها نوقا يمانية * إذا الحداة على أكسائها حفدوا (1)
والحفدة جمع حافد، مثل كامل وكملة. وقوله " ورزقكم من الطيبات "
اي جعل لكم أشياء تستطيبونها وأباحها لكم.
وإنما دخلت (من) لأنه ليس كل ما يستطعمه الانسان رزقا له، وإنما رزقه.
ماله التصرف فيه، وليس لغيره منعه منه.
ثم قال " أفبالباطل " يعني عبادة الأوثان والأصنام، وما حرم عليهم الشيطان
من البحائر والسائبة والوصيلة يصدقون، وبنعمة الله التي عددها لهم " يكفرون "
اي يجحدون ما أحله الله، وما حرم عليهم.
قوله تعالى:
ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات
والأرض شيئا ولا يستطيعون (73) فلا تضربوا لله الأمثال إن
الله يعلم وأنتم لا تعلمون) (74) آيتان بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأنهم يجحدون نعم الله، بأنهم
يوجهون عبادتهم من دون الله إلى " ما لا يملك لهم رزقا " أي لا يقدر عليه، يعني
بها الأصنام التي لا تقدر لهم على نعمة، ولا على ما يستحق به العبادة، ولا على

(1) تفسير الطبري 14 / 90 ومجمع البيان 3 / 373 واللسان (كسأ) وروايته (الحداد) بدل
(الحداة)،
407

رزق يرزقونهم من السماوات والأرض، ولا يستطيعون شيئا مما ذكرنا. ويتركون
عبادة من يقدر على جميع ذلك ويفعله بهم، ورزق السماء الغيث الذي يأتي من
جهتها، ورزق الأرض النبات والثمار التي تخرج منها.
وقوله " فلا تضربوا لله الأمثال " معناه لا تجعلوا لله الأشباه والأمثال في العبادة
فإنه لا شبه له ولا مثيل، ولا أحد يستحق معه العبادة، وذلك في اتخاذهم
الأصنام آلهة، ذكره ابن عباس وقتادة.
وقوله " شيئا " نصب على أحد وجهين:
أحدهما - أن يكون بدلا من (رزقا) والمعنى ما لا يملك لهم رزقا قليلا،
ولا كثيرا.
والثاني - أن يكون منصوبا ب‍ " رزقا " كما قال " أو إطعام في يوم ذي مسغبة
يتيما " (1) كأنه قال لا يملك لهم رزق شئ.
وقوله " ان الله يعلم " أي يعلم أنه لا تحق العبادة إلا له " وأنتم لا تعلمون "
ذلك بل تجهلونه، ولكن يجب عليكم أن تنظروا لتعلموا صحة ما قلناه.
قوله تعالى:
(ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه
منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون الحمد لله
بل أكثرهم لا يعلمون) (75) آية بلا خلاف.
قيل في معنى هذه الآية قولان:
أحدهما - أنه مثل ضرب للكافر الذي لا خير عنده، والمؤمن الذي يكتسب
الخير، للدعاء إلى حال المؤمن، والصرف عن حال الكافر، وهو قول ابن عباس
وقتادة.

(1) سورة البلد آية 14 - 15
408

الثاني - قال مجاهد: إنه مثل ضربه لعبادتهم الأوثان التي لا تملك، شيئا،
والعدول عن عبادة الله الذي يملك كل شئ، والمعنى أن الاثنين المتساويين في
الخلق إذا كان أحدهما قادرا على الانفاق مالكا، والآخر عاجزا لا يقدر على
الانفاق لا يستويان، فكيف يسوى بين الحجارة التي لا تتحرك، ولا تعقل،
وبين الله تعالى القادر على كل شئ، الرازق لجميع خلقه، فبين بذلك لهم أمر
ضلالتهم وبعدهم عن الحق في عبادة الأوثان. ثم قال " الحمد لله " أي الشكر له
تعالى، على نعمه، لا يستحقه من لا نعمة له، " ولكن أكثرهم لا يعلمون " ذلك.
وفي هذه الآية دلالة على أن المملوك لا يملك شيئا، لان قوله " مملوكا لا يقدر
على شئ " ليس المراد به نفي القدرة، لأنه قادر على التصرف، وإنما المراد أنه
لا يملك التصرف في الأموال، وذلك عام في جميع ما يملك ويتصرف فيه.
قوله تعالى:
(وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ
وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن
يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) (76) آية بلا خلاف.
قيل في معنى ضرب هذا المقل قولان:
أحدهما انه مثل ضربه الله في من يؤمل الخير من جهته، وفي من لا يؤمل،
فيؤمل الخير كله من الله تعالى، لامن جهة الأوثان والعباد، فلا ينبغي أن
يسوى بينهما في العبادة.
الثاني - انه مثل للكافر والمؤمن، ووجه التقابل في ضرب المثل بهذين
الرجلين أنه على تقدير: ومن هو بخلاف صفته " يأمر بالعدل وهو على صراط
مستقيم " في تدبير الأمور بالحق، وهذا زيادة في ضرب المثل من الله تعالى، فإنه
يقول: ان الرجلين إذا كان أحدهما أبكم لا يقدر على شئ، وهو الذي لا يسمع
409

شيئا ولا يبصر، ولا يعقل، وهو مع ذلك " كل على مولاه " أي وليه " أينما
يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل " مع كونه " على صراط
مستقيم " والمراد أنهما لا يستويان قط. والا بكم الذي يولد أخرس لا يفهم ولا
يفهم. وقيل: أنه ضرب المثل للوثن مع إنهما كهم على عبادته، وهو بهذه الصفة.
وقيل " الأبكم هو الذي لا يمكنه أن يتكلم. والكل الثقل: كل عن الامر يكل كلا إذا
ثقل عليه، فلم ينبعث فيه، وكلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها، وكل لسانه
إذا لم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حده، فالأصل الغلظ الذي يمنع من النفوذ
في الامر.
وقوله " وهو على صراط مستقيم " أي هو مع أمره بالعدل، على طريق من
الحق في دعائه إلى العدل فأمره به مستقيم لا يعوج ولا يزول عنه.
قوله تعالى:
(ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح
البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير (77) والله
أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع
والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون) (78) آيتان بلا خلاف.
أخبر الله تعالى أن له غيب السماوات والأرض ومعناه أنه المختص بعلم ذلك،
وهو ما غاب عن جميع العالمين، مما يصح أن يكون معلوما، فإنه تعالى يختص
بالعلم به وقال الجبائي: ويحتمل أن يكون المعنى، ولله ملك ما غاب مما في
السماوات والأرض. ثم قال " وما أمر الساعة " أي مجيئها وهي يو القيامة، في السرعة
وقرب المجئ " إلا كلمح البصر أو هو أقرب " من ذلك مبالغة في ضرب المثل به
في السرعة، وأنه قادر عليه. ودخول " أو " في قوله " أو هو أقرب " لاحد أمرين.
410

أحدهما - الإبانة عن أنه، على إحدى منزلتين إما كلمح بالبصر أو أقرب
من ذلك.
والثاني - أنه قال ذلك لشك المخاطب، وإنما قرب أمرها، لأنه بمنزلة " كن
فيكون " فمن ههنا صح انها كلمح البصر أو أقرب، ثم ذكر نعمه التي أنعم بها على
خلقه، فقال " هو " تعالى " الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم " وانعم عليكم
بذلك وأنتم في تلك الحال " لا تعلمون شيئا " ولا تعرفونه، فتفضل عليكم بالحواس
الصحيحة التي هي طريق العلم بالمدركات، وجعل لكم قلوبا تفقهون بها الأشياء،
لأنها محل المعارف، لكي تشكروه على ذلك وتحمدوه على نعمه.
قوله تعالى:
(ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن
إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (79) والله جعل لكم
من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها
يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها
أثاثا ومتاعا إلي حين (80) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل
لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته
عليكم لعلكم تسلمون) (81) ثلاث آيات بلا خلاف.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر " ويوم ظعنكم " بتحريك العين. الباقون بتسكينها
وهما لغتان، مثل نهر ونهر، وسمع وسمع. وقرأ ابن عامر وحمزة وخلف
ويعقوب " ألم تروا " بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على وجه التذكير لما تقدم
ذكره، والتنبيه لهم.
411

يقول الله تعالى منبها لخلقه على وجه الاستدلال على وحدانيته " ألم يروا " يعني
هؤلاء الكفار الجاحدين لربوبيته " إلى الطير " قد سخرها الله " في جو السماء "
وسط الهواء، حتى مكنها ان تتصرف في جو السماء على حسب إرادتها، ويعلمون
أن لها مسخرا ومدبرا، لا يشبه الأشياء، لان من المعلوم ان أحدا، من البشر لا
يقدر على مثل ذلك، ولا يتأتى منه ذلك، وأن من مكن الطير من تلك الحال
قد كان يجوز ان يمكنها منه ابتداء واختراعا، من غير أسباب أدت إلى أن
صارت على تلك الأوصاف، لأنه قادر لا يعجزه شئ، ولا يتعذر عليه شئ،
وأنه إنما خلق ذلك ليعتبروا به وينظروا فيه، فيصلوا به إلى الثواب الذي عرضهم
له، ولو كان فعل ذلك لمجرد الانعام به على العبد كان حسنا، لكن ضم إلى ذلك
التعريض للثواب على ما قلناه.
وإنما قال " ما يمسكهن الا الله " وهي تستمسك بالقدرة التي أعطاها الله
مبالغة في الصفة بأن الله يمكنها بالهواء الذي تتصرف فيه، لأنه ظاهر انها بالهواء
تستمسك عن السقوط، وأن الغرض من ذلك تسخير ما سخر لها. ثم قال " ان
في " خلق " ذلك "، على ما وصفه، لدلالات لقوم يصدقون بتوحيد الله،
ويصدقون أنبياءه وخص المؤمنون بذلك لامرين:
أحدهما - من حيث هم المنتفعون بها دون غيرهم.
الثاني - لأنهم يدللون بها على مخالفي التوحيد، وهي دلالة من الله للجميع، والجو
- بالفتح - ما بين السماء والأرض، قال الأنصاري:
ويل أمها في هواء الجو طالبة * ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب (1)
ثم عدد في الآية الأخرى نعمه، فقال: " والله جعل لكم من بيوتكم
سكنا " أي مواضع تسكنون فيها " وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا
تستخفونها " اي يخف عليكم حملها " يؤمن ظعنكم " أي ارتحالكم من مكان

(1) مجاز القرآن 1 / 365 وخزانة الأدب 2 / 212 نسبة إلى امرئ القيس بن حجر الكندي
وهو موجود في ديوانه 69 وروايته (لا كالتي) والطبري 14 / 93 نسبة إلى إبراهيم بن
عمران الأنصاري.
412

إلى مكان " ويوم إقامتكم " يعني اليوم الذي تنزلون موضعا تقيمون فيه، ثم
قال " وجعل لكم من أصوافها " من أصواف الضأن وأوبار الإبل واشعار المعز
" أثاثا " يعني متاع الكثير، من قولهم شعر أثيث اي كثير، وأث النبت
يئث أثا إذ كثر والتف، وكذلك الشعر، ولا واحد للأثاث، كما لا واحد للمتاع،
قال الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا * بذي الرئي الجميل من الأثاث (1)
وقوله " إلى حين " معناه. إلى وقت يهلك فيه، ثم قال " والله جعل لكم
مما خلق ظلالا " يعني من الشجر وغيره، ما تسكنون فيه من أذى الحر والبرد
" وجعل لكم سرابيل " يعني قمصا من القطن والكنان - في قول قتادة -
واحدها سربال، ويقال للدروع سرابيل، وهي التي تقي البأس، وقال الزجاج
كل ما لبسته فهو سربال.
وقوله " تقيكم الحر " اي تمنعكم من الحر، وخص الحر بذلك مع أن
وقايتها للبرد أكثر لامرين:
أحدهما - إن الذين خوطبوا بذلك أهل حر في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقي
الحر أشد في قول عطاء.
الثاني - انه ترك ذلك لأنه معلوم، كما قال الشاعر:
وما أدري إذا يمت وجها * أريد الخبر أيهما يليني (2)
فكنى عن الشر، ولم يذكره، لأنه مدلول عليه ذكره الفراء.
وقوله " كذلك يتم نعمته عليكم " اي كما أنعم عليكم بهذه النعم ينعم عليكم
بجميع ما تحتاجون إليه، وهو إتمام نعمه في الدنيا، وبين انه فعل ذلك لتسلموا

(1) قائله محمد بن نمير الثقفي. تفسير القرطي 10 / 153 ومجاز القرآن 1 / 365 والكامل
للمبرد 376 واللسان والتاح (رأى) وروايته (اشاقتك).
(2) قائلة المثقب العبدي. اللسان (أمم) وتفسير القرطبي 10 / 160 وقد مر في 2 / 113،
5 / 529 من هذا الكتاب.
413

وتؤمنوا. وقرأ ابن عامر بفتح التاء، والمعنى لتسلموا بتلك الدروع من
الجراحات.
قوله تعالى:
(فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82) يعرفون نعمت
الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) (83) آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية له عما كان يلحقه عند تولي
الكفار عن الحق الذي يلزمهم، واعراضهم عن القبول منه " فأن تولى " هؤلاء
الكفار، وأعرضوا عنك فإنه لا يلزمك تقصير من اجل ذلك، لان الذي يلزمك
" البلاغ المبين " يعني الظاهر الذي يتمكنون معه من معرفته، وقد فعلته، وقد
حذف جميع ذلك لدلالة الكلام عليه، ثم اخبر عنهم بأن قال هؤلاء الكفار
" يعرفون نعمة الله " عليهم، مما يجدون من خلق نفوسهم، واقدارهم، واكمال
عقولهم وما خلق الله من أنواع المنافع، التي ينتفعون بها، ثم إنهم مع ذلك
ينكرون تلك النعم أن تكون من جهة الله ومنسوبة إليه، وينسبونها إلى الأصنام
ثم قال: " وأكثرهم الكافرون " وإنما قال أكثرهم مع أن جميعهم كفار
لامرين:
أحدهما - لان فيهم من لقنوه الكفر، ممن لم يبلغ حد التكليف لصغره،
ولم تقم الحجة عليه، أو من هو ناقص العقل مأووف (1) فلا يحكم عليهم
بالكفر.
الثاني - إن منهم من ينكر النعمة، في حال لم يقم عليه حجة للشواغل في
قلبه التي تلهيه عن تأمل امره، والفكر في حاله، فيكون في حال حكم الساهي
والصبي، وإن كان مكلفا بغير ذلك من الأمور، فلا يكون كافرا بالانكار في

(1) معنى مأووف فيه آفة اي مرض في عقله.
414

تلك الحال. وقال الجبائي: هو وإن كان لفظا خاصا، فهو عام في المعنى. وقال
الحسن: المعنى ان جميعهم الكافرون، وإنما عزل البعض احتقارا له أن
يذكره.
وفي الآية الثانية - دلالة على فساد مذهب المجبرة: من أنه ليس لله على الكافر
نعمة، وقولهم: إن جميع ما فعله بهم نقمة وخذلان، حتى ارتكبوا المعصية، لان
الله تعالى قد بين خلاف ذلك نصا في هذه الآية.
قوله تعالى:
(ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا
ولا هم يستعتبون (84) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف
عنهم ولا هم ينظرون) (85) آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى إن اليوم الذي يبعث فيه " من كل أمة شهيدا " يشهد عليهم
بكفرهم وضلالهم وجميع معاصيهم هو يوم القيامة، والشهيد في كل أمة رسوله،
ويجوز أن يكون قوم من المؤمنين المرضيين عند الله، وإنما يقيم الشهادة عليهم مع
أنه عالم بأحوالهم من حيث إن ذلك أهول في النفس وأعظم في تصور الحال،
وأشد في الفضيحة إذا قامت به الشهادة بحضرة الملا التي يكون من الله التصديق
لها مع جلالة الشهود عند الله بالحق.
وقوله " ثم لا يؤذن للذين كفروا، ولا هم يستعتبون " قيل في معناه
قولان:
أحدهما - انه لا يؤذن لهم في الاعتذار، على أن الآخرة مواطن: فيها ما يمنعون
وفيها ما لا يمنعون.
الثاني - انهم لم يؤذن لهم في الاعتذار بما ينتفعون، ولا يعرضون للعتبى الذي
هو الرضا. وقال الجبائي: المعنى ان الله يخلق فيهم العلم الضروري بأنهم ان
415

اعتذروا لم تقبل معذرتهم، وإن استعتبوا لم يعتبوا ولم يرد أنهم لا يؤمرون
بالاعتذار، ولا يمكنون منه، لان الامر والتكليف قد زالا عنهم.
ثم اخبر تعالى أن الظالمين إذا رأوا العذاب يوم القيامة وشاهدوه، فلا يخفف
عنهم ذلك العذاب إذا حصلوا فيه " ولا ينظرون " اي لا يؤخرون إلى وقت
آخر، بل عذابهم دائم في جميع الأوقات، ووقت التوبة والندم قد فات.
قوله تعالى:
(وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء
شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم
لكاذبون (86) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا
يفترون (87) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا
فوق العذاب بما كانوا يفسدون) (88) ثلاث آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى مخبرا عن حال المشركين والكفار في الآخرة وأنهم إذا رأوا
شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله. وقيل إنما سمعوا " شركاءهم "
لامرين:
أحدهما - لأنهم جعلوا لهم نصيبا في أموالهم.
الثاني - لأنهم جعلوهم شركاء في العبادة.
ومعنى قوله " هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك " اعتراف منهم على
أنفسهم بأنهم كانوا يشركون مع الله غيره في العبادة.
وقوله " فالقوا إليهم القول إنكم لكاذبون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ألقى المعبودون القول " انكم لكاذبون " في أنا نستحق
العبادة.
416

والثاني - " انكم لكاذبون " في قولكم إنا دعوناكم إلى العبادة.
وقيل: انكم لكاذبون بقولكم إنا آلهة.
وإلقاء المعنى إلى النفس إظهاره لها، حتى تدركه متميزا من غيره، فهؤلاء
ألقوا القول حتى فهموا عنهم انهم كاذبون.
وقوله " وألقوا إلى الله يومئذ السلم " معناه استسلموا بالذل لحكم الله - في
قول قتادة - " وضل عنهم ما كانوا يفترون " اي يضل ما كانوا يأملونه ويقدرون
من أن آلهتهم تشفع لهم. ثم أخبر تعالى ان الذين يكفرون بالله ويجحدون وحدانيته،
ويكذبون رسله، ويصدون غيرهم عن اتباع الحق الذي هو سبيل الله " زدناهم عذابا
فوق العذاب ". قال ابن مسعود: أفاعي وعقارب النار لها أنياب كالنخل
الطوال جزاءا " بما كانوا يفسدون " في الأرض.
قوله تعالى:
(ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك
شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى
ورحمة وبشرى للمسلمين) (89) آية بلا خلاف.
يقول الله تعالى إن اليوم الذي " نبعث في كل أمة شهيدا " اي من يشهد
" عليهم من أنفسهم " اي من أمثالهم من البشر. ويجوز أن يكون ذلك نبيهم
الذي بعث إليهم، ويجوز ان يكونوا مؤمنين عارفين بالله ونبيه، ويشهدون
عليهم بما فعلوه من المعاصي.
وفي ذلك دلالة على أن كل عصر لا يخلو ممن يكون قوله حجة على أهل عصره،
عدل عند الله، وهو قول الجبائي، وأكثر أهل العدل، وهو قولنا وإن خالفناهم
في من هو ذلك العدل والحجة.
تفسير التبيان ج 6 م 27
417

" وجئنا بك " يا محمد " شهيدا " على هؤلاء يعني كفار قريش وغيرهم، من الذين
كفروا بنبوته. ثم قال " ونزلنا عليك الكتاب " يعنى القرآن " تبيانا لكل
شئ " اي بيانا لكل أمر مشكل. والتبيان والبيان واحد. ومعنى العموم في
قوله " لكل شئ " المراد به من أمور الدين: إما بالنص عليه أو الإحالة على ما
يوجب العلم من بيان النبي صلى الله عليه وسلم والحجج القائمين مقامه، أو اجماع الأمة أو
الاستدلال، لأن هذه الوجوه أصول الدين وطريق موصلة إلى معرفته.
وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال: الكلام لا يدل على شئ، لان كلام
الحكيم يدل من وجهين:
أحدهما - أنه دليل على نفس المعنى الذي يحتاج إليه.
والآخر - أنه دليل على صحة المعنى الذي يحتاج إلى البرهان عليه. ولو لم يكن
كذلك لخرج عن الحكمة وجرى مجرى اللغو الذي لا فائدة فيه.
وقوله " وهدى ورحمة وبشرى " يعنى القرآن دلالة ورحمة وبشارة
للمسلمين بالجنة.
قوله تعالى:
(إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى
عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (90)
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها
وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) (91) آيتان
يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه " ان الله بأمر بالعدل " يعنى الانصاف بين
الخلق، وفعل ما يجب على المكلف و " الاحسان " إلى الغير، ومعناه يأمركم
بالاحسان، فالأمر بالأول على وجه الايجاب، وبالاحسان على وجه الندب. وفي
418

ذلك دلالة على أن الامر يكون أمرا بالندوب إليه دون الواجب، " وإيتاء ذي
القربى " اي وأمرك باعطاء ذي القربى، ويحتمل أمرين:
أحدهما - صلة الأرحام، فيكون ذلك عاما في جميع الخلق.
والثاني - أن يكون أمرا بصلة قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين أرادهم الله بقوله
" فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " (1) على ما بيناه فيما قبل
وقوله " وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي " إنما جمع بين الأوصاف الثلاثة
في النهي عنها مع أن الكل منكر فاحش، ليبين بذلك تفصيل ما نهى عنه، لان
الفحشاء قد يكون ما يفعله الانسان في نفسه مما لا يظهر أمره ويعظم قبحه.
والمنكر ما يضر للناس مما يجب عليهم إنكاره، والبغي ما يتطاول به من الظلم.
لغيره، ولا يكون البغي من الفاعل لغيره، والظلم قد يكون ظلم الفاعل لنفسه.
وروي عن أبي عيينة، أنه قال: العدل هو استواء السريرة والعلانية، والاحسان
أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر أن يكون علانيته
أحسن من سريرته.
ثم بين تعالى أنه يعظ بما ذكره خلقه، لكي يذكروا ويتفكروا، ويرجعوا
إلى الحق.
ثم أمر تعالى خلقه بأن يفوا بعهده إذا عاهدوا عليه، والعهد الذي يجب
الوفاء به: هو كل فعل حسن إذا عقد عليه، وعاهد الله ليفعلنه بالعزم عليه، فإنه
يصير واجبا عليه، ولا يجوز له خلافه، ثم يكون عظم النقض بحسب الضرر
به، فأما إذا رأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر، عند الفقهاء.
وقال أصحابنا: إذا وجد خيرا منه فعل الخير، ولا كفارة عليه، وهذا يجوز
فيما كان ينبغي ان يشرط، فأما إذا أطلقه وهو لا يأمن أن يكون غيره خير منه
فقد أساء باطلاق العقد عليه.

(1) سورة الأنفال آية 41 وقد بين معناها في 5: 143
419

ثم قال " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " نهي منه تعالى عن حنث الايمان
بعد عقدها وتأكيدها، يقال أكدته تأكيدا ووكدته توكيدا، والأصل الواو،
وإنما أبدلت الهمزة منها كما قالوا: وقيت في أوقيت.
وفي الآية دلالة على أن اليمين على المعصية غير منعقدة، لأنها لو كانت
منعقدة لما جاز نقضها، وأجمعوا على أنه يجب نقضها، ولا يجوز الوفاء بها، فعلم
بذلك ان اليمين على المعصية غير منعقدة.
والنقض في المعاني يمكن في مالا يجوز ان يصح مع خلافه، بل إن كان حقا
فخلافه باطل، وإن كان باطلا فخلافه حق، نحو إرادة الشئ وكراهته،
والامر بالشئ والنهي عنه والتوبة من الشئ والعود فيه وما أشبه ذلك.
وقوله " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " اي حسيبا فيما عاهدتموه عليه " إن الله
يعلم ما تفعلون " من نقض العهد والوفاء به، وذلك تهديد ووعيد بأن يجازي على
ما يكون منكم على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب.
وقيل: إن الآية نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله على وسلم على الاسلام. وقال بعضهم
نزلت في الحلف الذي كان عليه أهل الشرك، فأمروا في الاسلام بالوفاء به
ذكره ابن زيد.
قوله تعالى:
(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا
تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة
إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيمة ما كنتم فيه تختلفون
(92) ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء
ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون) (93) آيتان بلا خلاف.
420

هذا نهي من الله تعالى للمكلفين ان يكونوا " كالتي نقضت غزلها من بعد قوة
أنكاثا " فواحد الأنكاث نكث، وكل شئ نقض بعد الفتل فهو أنكاث: حبلا
كان أو غزلا، يقال منه: نكث فلان الحبل ينكثه نكثا، والحبل منتكث إذا
انتقضت قواه. و (الدخل) ما أدخل في الشئ على فساد، والمعنى تدخلون
الايمان على فساد للغرور، وفي نيتكم الغدر بمن حلفتم له، لأنكم أكثر عددا منهم أو، لان
غيركم أكثر عددا منكم وقيل والدخل الدغل والخديعة، وإنما قيل الدخل، لأنه
داخل القلب على ترك الوفاء والظاهر على الوفاء. وقيل (دخلا) غلا وغشا،
ويقال: انا اعلم دخل فلان ودخله ودخلته ودخيلته، والمعنى لا تنقضوا الايمان
لكثرتكم، وقلة من حلفتم له أو لقلتكم وكثرتهم، فإذا وجدتم أكثر منهم نقضتم
بل احفظوا عهدكم. و " دخلا " منصوب بأنه مفعول له.
وقوله " أن تكون أمة هي أربا من أمة " اي أكثر عددا لطلب العز بهم
مع الغدر بالأقل، وهو (أفعل) من الربا، قال الشاعر:
واسمر خطي كأن كعوبه نوى * العسيب قد اربا ذراعا على عشر (1)
ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمه في رأس ما له (واربى) في
موضع رفع. وأجاز الفراء أن تكون في موضع نصب، وتكون هي عمادا.
وقال الزجاج: لا يجوز ذلك، لان العماد لا يكون بين نكرتين، لان " أمة "
نكرة، ويفارق قوله " تجدوه عند الله هو خيرا " (2) لان الهاء في تجدوه معرفة.
وقوله " إنما يبلوكم الله به " معناه إنما يختبركم الله بالامر بالوفاء، فالهاء في (به)
عائدة على الامر، وتحقيقه يعاملكم معاملة المختبر ليقع الجزاء بالعمل " وليبين لكم "
أي ويفصل لكم ويظهر لكم " ما كنتم تختلفون " في صحته يوم القيامة.
والتي نقضت غزلها من بعد إبرام قيل: إنها ريطة بنت عمرو بن كعب ابن
سعيد بن تميم بن مرة، وكانت حمقاء، فضربه الله مثلا، فقال " أوفوا بعهد الله إذا

(1) تفسير الطبري 14: 102 ومجمع البيان 3: 381
(2) سورة المزمل آية 20.
421

عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " فتكونوا إن فعلتم ذلك كامرأة غزلت
غزلا، وقوت قوته وأبرمت، فلما استحكم نقضته، فجعلته أنكاثا أي أنقاضا،
وهو ما ينقض من اخلاق بيوت الشعر والوبر ليعزل ثانية، ويعاد مع الجديد،
ومنه قيل: لم بايع طائعا ثم خرج عليك ناكثا؟ لأنه نقض ما وكده على نفسه
بالايمان والعهود كفعل الناكثة غزلها.
ومعنى " أن تكون " لان تكون " أمة " أعز من أمة، وقوم أعلى من قوم،
يريد لا تقطعوا بأيمانكم حقوقا لهؤلاء، فتجعلوها لهؤلاء. وقال مجاهد: كانوا
يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا أكثر منهم نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا أولئك
الذين هم أعز، فنهاهم الله عن ذلك.
وقوله " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " اخبار منه تعالى عن أن العباد إذا
خالفوا أمره لم يعاجزوه، ولم يغالبوه تعالى عن ذلك، لأنه لو يشاء لأكرههم على أن
يكونوا أمة واحدة، لكنه يشاء أن يجتمعوا على الايمان، على وجه يستحقون به
الثواب. ومثله قوله " ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ")
كذلك قال سبحانه - ههنا - ولكن ليمتحنكم ويختبركم لتستحقوا النعيم الذي
أراده لكم، فيضل قوم، ويستحقوا الاضلال عن طريق الجنة، والحكم عليهم
بأنهم ضالون. ويهتدي آخرون، فيستحقوا الهدى يعني الحكم لهم بالهداية،
وإرشادهم إلى طريق الجنة. ثم قال " ولتسألن " يا معشر المكلفين " عما كنتم
تعملون " في الدنيا من الطاعات والمعاصي، فتجازون عليه بقدره.
قوله تعالى:
و (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها
وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم (94)

(1) سورة 47 محمد آية 4
422

ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم
إن كنتم تعلمون (95) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين
الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (96) ثلاث آيات
بلا خلاف.
قرأ ابن كثير، وعاصم " وليجزين الذين صبروا " بالنون. الباقون بالياء.
من قرأ بالنون فحجته إجماعهم على قوله " ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا
يعملون " أنه بالنون. ومن قرأ بالياء، فلقوله " وما عند الله باق " وليجزين الله
الذين صبروا.
نهى الله عباده المكلفين ان يتخذوا ايمانهم دخلا بينهم، وقد فسرنا معنى
دخلا، وبين تعالى انه متى خالفوا ذلك زلت اقدامهم بعد ثبوتها، وهو مثل
ضربه الله، والمعنى أنهم يضل بعد إن كان على الهدى. وقال قوم: الآية نزلت في
الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاسلام والنصرة، نهوا عن نقض عهده، وترك
نصرته.
وقوله " وتذوقوا السوء " يعني العذاب، جزاء على معاصيكم وما صددتم
عن اتباع سبيل الله، ولكم مع ذلك عذاب عظيم تعذبون به. ثم نهاهم، فقال:
" ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا " أي لا تخالفوا عهد الله بسبب شئ يسير
تنالونه من حطام الدنيا، فيكون قد بعتم ما عند الله بالشئ الحقير، وبين ان
الذي عند الله هو خير، وأشرف لكم إن كنتم تعلمون حقيقة ذلك وتحققونه، ثم
قال: إن الذي عند الله لا ينفد، هو باق، والذي عندكم من نعيم الدنيا وينفد
ويفنى، ثم أخبر بأنه يجزي الصابرين على بلائه وجهاد أعدائه أجرهم وثوابهم
" بأحسن ما كانوا يعملون " وإنما قال بأحسن ما كانوا، لان أحسن أعمالهم هو
الطاعة لله تعالى، وما عداه من الحسن مباح ليس بطاعة، ولا يستحق عليه أجر
423

ولا حمد، وذلك يدل على فساد قول من قال: لا يكون حسن أحسن
من حسن.
قوله تعالى:
(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه
حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (97)
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98) إنه
ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما
سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) (100) أربع
آيات.
هذا وعد من الله تعالى بأن من عمل صالحا من الطاعات سواء كان فاعله ذكرا
أو أنثى، وهو مع ذلك مؤمن بتوحيد الله، مقر بصدق أنبيائه، فأن الله يحييه
حياة طيبة. وقال ابن عباس: الحياة الطيبة هو الرزق الحلال. وقال الحسن:
هي القناعة. وقال قتادة: حياة طيبة في الجنة. وقال قوم: الأولى أن يكون
المراد بها القناعة في الدنيا، لأنه عقيب ما توعد غيرهم به من العقوبة فيها مع أن
أكثر المؤمنين ليسوا بمتسعي الرزق في الدنيا.
ثم أخبر انه يجزيهم زيادة على الحياة الطيبة " أجرهم " وثوابهم " بأحسن ما
كانوا يعملون " وقد فسرناه، وإنما قال " ولنجزينهم " بلفظ الجمع، لان (من)
يقع على الواحد والجميع، فرد الكناية على المعنى، ثم خاطب نبيه، فقال: يا محمد
" إذا قرأت بالقرآن " والمراد به جميع المكلفين " فاستعذ بالله " والمعنى إذا أردت قراءة
القرآن " فاستعذ بالله " كما قال: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " (1) والمعنى إذا أردتم القيام

(1) سورة المائدة اية 6
424

إليها، لان بعد القراءة لا يجب الاستعاذة إلا عند من لا يعتد بخلافه. وقال قوم:
هو على التقديم والتأخير، وهذا لا يجوز لأنه ضعيف، لأنه لا يجوز التقديم، والتأخير
في كل شئ، ولذلك حدود في العربية لا تتجاوز. وإنما يجوز ذلك مع ارتفاع
اللبس والشبهة، والاستعاذة عند التلاوة مستحبة غير واجبة - بلا خلاف - " من
الشيطان الرجيم " أي استعذ بالله من المبعد من رحمة الله المرجوم، من سخطه.
ثم أخبر أنه " ليس " للشيطان سلطان ولا حجة " على الذين آمنوا " بالله
وحده ولم يشركوا به سواه. وفوضوا أمرهم إليه وتوكلوا عليه. وإنما سلطانه
وقدرته على الذين يتولونه ويقبلون منه، وعلى الذين يشركون في عبادة
الله سواه.
وقال الجبائي: في الآية دلالة على أن الصرع ليس من قبل الشيطان، قال:
لأنه لو أمكنه أن يصرعه، لكان له عليهم سلطان. وأجازه أبو الهذيل وابن
الاخشاد، وقالا: إنه يجري مجرى قوله " كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " (1)
ولان الله تعالى قال: " إنما سلطانه على الذين يتولونه " وإنما أراد سلطان الاغواء
والاضلال عن الحق.
ومعنى قوله " والذين هم به مشركون " فيه قولان:
أحدهما - قال الربيع: من أن الذين يطيعونه فيما يدعو إليه من عبادة غير
الله مشركون، فلما كان من اطاعه فيما يدعو إليه من عبادة غير الله مشركا، كان به مشركا، وهو من الايجاز الحسن.
والثاني - قال الضحاك: الذين هم بالله مشركون.
قوله تعالى:
(وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما

(1) سورة البقرة آية 275
425

أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101) قل نزله روح القدس
من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين)
(102) آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى: مخبرا عن أحوال الكفار بأنا متى " بدلنا آية مكان آية
بأن رفعنا آية ونسخناها، وأتينا بأخرى بدلها، نعلم في ذلك من مصلحة الخلق،
وقد يكون تبديلها برفع حكمها مع ثبوت تلاوتها (وقد يكون برفع تلاوتها
دون حكمها) (1) وقد يكون برفعهما. والتبديل - في اللغة - رفع الشئ مع وضع
غيره مكانه، تقول: بدله تبديلا وأبدله إبدالا، واستبدل به استبدالا. ثم قال:
" والله أعلم بما ينزل " مما فيه صلاح الخلق من غيره. وقوله: " قالوا إنما أنت مفتر "
معناه يقول هؤلاء الذين جحدوا نبوتك وكفروا بآيات الله: إنما أنت يا محمد مفتر
كذاب في ادعائك الرسالة من الله. ثم أخبر عنهم، فقال: " بل أكثرهم لا
يعلمون " انك نبي، لتركهم النظر في معجزاتك، ولشبه داخلة عليهم، وان علمه
بعضهم وكابر، وجحد ما يعلمه، ثم امره بأن يقول لهم " نزله روح القدس " يعني
القرآن نزله جبريل (ع) " ليثبت الذين آمنوا " وتثبيته لهم هو استدعاؤه لهم به
وبألطافه ومعونته إلى الثبات على الاسلام وعلى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم. ثم بين أن القرآن
هدى ودلالة وبشارة للمسلمين.
قوله تعالى:
(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي
يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (103) آية بلا
خلاف.
(1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.
426

قرأ حمزة والكسائي " يلحدون " بفتح الياء والحاء. والباقون بضم الياء
وكسر الحاء، وهما لغتان، يقال: ألحد يلحد إلحادا، فهو ملحد، ولحد يلحد
فهو ملحود، وقيل لحد في القبر وألحد في الدين، والالحاد الميل عن الصواب
ويقال للذي يميل عن الحق ملحد، ومند اللحد في جانب القبر.
ويقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إنا " نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه " يعني الرسول " بشر
مثله. وقال ابن عباس الذي ما لوا إليه بأنه يعلم محمدا صلى الله عليه وسلم وكان أعجميا هو
(بلعام) وكان قينا بمكة روميا نصرانيا. وقال الضحاك: أرادوا به (سلمان
الفارسي). وقال قوم: أرادوا به إنسانا يقال له: عايش أو يعيش، كان مولى
لحويطب بن عبد العزى، أسلم وحسن إسلامه، فقال الله تعالى ردا عليهم " لسان
الذي " يميلون إليه أعجمي " وهذا " القرآن " لسان عربي مبين " كما تقول العرب
للقصيدة هذا لسان فلان، قال الشاعر:
لسان السوء تهديها الينا * وجنت وما حسبتك ان تحينا (2)
والأعجمي الذي لا يفصح، والعجمي منسوب إلى العجم، والأعرابي البدوي
والعربي منسوب إلى العرب " ومبين " معناه ظاهر بين لا يشكل.
قوله تعالى:
(إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم
عذاب أليم (104) إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات
الله وأولئك هم الكاذبون) (105) آيتان بلا خلاف.
يقول الله تعالى " إن الذين " لا يصدقون " بآيات الله " التي أظهرها،
والمعجزات التي يصدق بها قولك يا محمد " لا يهديهم الله " إلى طريق الجنة " ولهم "

(1) تفسير الشوكاني 3: 188 ومجمع البيان 3: 385 وتفسير الطبري 14: 111
427

مع ذلك " عذاب أليم " في النار. ويحتمل أن يكون المراد: لا يحكم الله تعالى
بهدايتهم، لأنهم كفار.
ثم اخبر إن الذي يتخرص الكذب، ويفتري على الله، هو الذي لا يؤمن
بآيات الله، ويجحدها، وهم الكاذبون، وإنما خص الذين لا يؤمنون بالله بالافتراء.
لأنه لا يردعهم عن الكذب ايمان بالجزاء، " وأولئك هم الكاذبون " على رسوله فيما
ادعوا عليه. وقيل: المعنى في ذلك تعظيم كذبهم، كما يقول القائل: هؤلاء هم
الرجال.
قوله تعالى:
(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله
ولهم عذاب عظيم) (106)
آية بلا خلاف.
نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر (رحمه الله) أكرهه المشركون بمكة بأنواع
العذاب، وقيل: إنهم غطوه في بئر ماء على أن يلفظ بالكفر وكان قلبه مطمئنا
بالايمان، فجاز من ذلك، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم جزعا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف
كان قلبك؟ قال كان مطمئنا بالايمان، فأنزل الله فيه الآية. وأخبر ان الذين
يكفرون بالله بعد ان كانوا مصدقين به بأن يرتدوا عن الاسلام " فعليهم غضب
من الله " ثم استثنى من ذلك من كفر بلسانه، وكان مطمئن القلب بالايمان في
باطنه، فإنه بخلافه. و " من كفر " رفع بما دل عليه خبر الثاني الذي هو قوله
" ولكن من شرح بالكفر صدرا " كأنه قيل فعليه غضب من الله، كما تقول من
يأتنا فمن يحسن نكرمه، فجواب الأول محذوف كفى فيه الثاني، وقال الزجاج
" من كفر " رفع بأنه بدل من قوله " وأولئك هم الكافرون " وقال أبو علي: هذه
معاريض يحسن من الله مثلها، ولا يحسن من الخلق إلا عند التقية، قال: إلا أن
على أهل العقول أن يعلموا ان الله لم يفعل ذلك الا على ما يصح ويجوز، وليس
428

ذلك للانسان الا في حال التقية، لأنه لا دليل يؤمن من الخطأ عليه، فعلى هذا
يلزمه في النبي ان يحسن منه من غير تقية، لكونه معصوما لا يكذب في اخباره
ولا خلاف بين أهل العدل أنه لا يجوز اظهار كلمة الكفر إلا مع التعريض بأن
ينوي بقلبه ما يخرجه عن كونه كاذبا، فأما على وجه الاخبار، فلا يجوز أصلا
لأنه قادر على التعريض الذي يخرج به عن كونه كاذبا.
قوله تعالى:
(ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله
لا يهدي القوم الكافرين (107) أولئك الذين طبع الله على
قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون (108) لا جرم
أنهم في الآخرة هم الخاسرون) (109) ثلاث آيات بلا خلاف.
قوله " ذلك " إشارة إلى ما تقدم ذكره من العذاب العظيم. أخبر الله تعالى
ان ذلك العذاب العظيم إنما أعده لهم، لأنهم آثروا الحياة الدنيا، والتلذذ فيها،
والركون إليها على الآخرة، والمعنى انهم فعلوا ما فعلوه للدنيا طلبا لها دون طلب
الآخرة. والعمل يجب أن يكون طلبا للآخرة، أو للدنيا والآخرة. فأما أن
يكون لمجرد الدنيا دون الآخرة فلا يجوز، لأنه إذا طلب الدنيا ترك الواجب من
الطاعات لا محالة، وكذلك لا ينبغي أن يختار المباح على النافلة لان النافلة طاعة
لله. والمباح ليس بطاعة له. ثم أخبر تعالى " أن الله لا يهدي القوم الكافرين "
ومعناه أحد شيئين:
أحدهما - إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب، لكفرهم.
الثاني - إنه لا يحكم بهدايتهم لكونهم كفارا. وأما نصب الدلالة، فقد
هدى الله جميع المكلفين، كما قال " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على
الهدى " (1) وقيل: إنهم لم يهتدوا بتلك الأدلة، فكأنها لم تكن نصبت لهم، ونصبت

(1) سورة حم السجدة (فصلت) آية 17
429

للمؤمنين الذين اهتدوا بها، فلذلك نفاها عنهم فكأنها لم تكن لهم، ويجوز أن يكون
المراد انه لا يهديهم بهدى المؤمنين من فعل الألطاف والمدح بالاهتداء،
لكونهم كفارا. ثم اخبر ان أولئك الكفار هم " الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم
وابصارهم وأولئك هم الغافلون " وبينا معنى الطبع على القلوب والسمع والابصار
في سورة البقرة (2) وان ذلك سمة من الله جعلها للملائكة ليفرقوا بين الكافر
والمؤمن، جزاء وعقوبة على كفرهم، وان ذلك غير محيل بينهم وبين اختيار
الايمان لو أرادوه، وإنما وصفهم بعوم الغفلة مع الخواطر التي تزعجهم لامرين:
أحدهما - انهم بمنزلة الغافلين ذما لهم.
الثاني - لجهلهم عما يؤدي إليه حالهم، وان كانت الخواطر إلى النظر تزعجهم.
وقوله " لا جرم انهم " معناه حق لهم " انهم في الآخرة هم الخاسرون " الذين خسروا
صفقتهم لفوات الثواب وحصول العقاب وموضع (انهم) يحتمل أمرين من
الاعراب:
أحدهما - النصب على معنى: لابد انهم اي لابد من ذا، ويجوز على جرم
فعلهم أن لهم النار اي قطع بذا وتكون (لا) صلة.
والثاني - الرفع والمعنى وجب قطعا أن لهم النار و (لا) صلة أو رد
لكلام من قال: ماذا لهم؟ فقيل وجب لهم النار.
قوله تعالى:
(ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا
وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110) يوم يأتي

(1) في 1: 63 - 67. وفي 1: 90 من هذا الكتاب.
430

كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا
يظلمون) (111) آيتان بلا خلاف.
قرأ ابن عامر وحده " فتنوا " جعل الفعل لهم. الباقون " فتنوا " على ما لم
يسم فاعله، يقال: فتنت زيدا، وهي اللغة الجيدة، وحكي افتنت. وحجة
من قرأ على ما لم يسم فاعله أن الآية نزلت في المستضعفين المفتنين بمكة: عمار
وبلال، وصهيب، فإنهم حملوا على الارتداد عن دينهم، فمنهم من اعطى ذلك
تقية منهم: عمار، فإنه اظهر ذلك تقية، ثم هاجر. ومعنى قراءة بن عامر:
انه فتن نفسه، والمعنى من بعد ما فتن بعضهم نفسه باظهار ما أظهره بالتقية
قال الرماني: في الآية دلالة على أنهم فتنوا في دينهم بمعصية كانت منهم، لقوله
" ان ربك من بعدها لغفور رحيم " لان المغفرة الصفح عن الخطيئة، ولو كانوا
أعطوا التقية على حقها لم تكن هناك خطيئة. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح،
ولا في الكلام دلالة عليه، وذلك أن الله تعالى إنما قال " ان ربك من بعدها "
يعني بعد الفتنة التي فتنوا بها " لغفور رحيم " أي ساتر عليهم، لان ظاهر ما
أظهروه يحتمل القبيح والحسن، فلما كشف الله عن باطن أمورهم، وأخبر انهم
كانوا مطمئنين بالايمان كان في ذلك ستر عليهم، وإزالة الظاهر المحتمل إلى الآمر
الجلي، وذلك من نعم الله عليهم.
يقول الله تعالى: إن هؤلاء الذين هاجروا بعد ما فتنوا عن دينهم، وجاهدوا
في سبيله وصبروا على الأذى في جنب الله، فان الله اقسم انه ضمن لهم أن يفعل بهم
الثواب، وساتر عليهم، ورحيم بهم منعم عليهم.
وقوله " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " (يوم) منصوب بأحد شيئين:
أحدهما - على معنى إن ربك من بعدها لغفور رحيم (يوم).
الثاني - على معنى واذكر يوم، لان القرآن عظة وتذكير، ومعنى تجادل
عن نفسها تخاصم كل نفس عن نفسها، وتحتج بما ليس فيه حجة عند الحساب.
431

كما قال حكاية عنهم: " والله ربنا ما كنا مشركين " (1) وقال الاتباع " ربنا
هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار " (2) فهم يجادلون الملك السائل لهم بين
يدي الله، وقيل: تحتج عن نفسها بما تقدر به إزالة العقاب عنها.
ثم اخبر الله ان كل نفس توفى جزاء ما عملته على الطاعة الثواب وعلى المعصية
العقاب، ولا يظلم أحد في ذلك اليوم أحدا.
قوله تعالى:
(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها
وغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس
الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (112) آية بلا خلاف.
التقدير ضرب الله مثلا مثل قرية، وقيل في القرية التي ضرب الله بها هذا المثل
قولان:
أحدهما - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إنها مكة، لأنها كانت بهذه
الصفات التي ذكرها الله. وقال آخرون: اي قرية كانت على هذه الصفة، فهذه
صورتها.
وقوله " كانت آمنة مطمئنة " أي يأمن الناس فيها على نفوسهم وأموالهم لا
يخافون الغارة والنهب، كما يخاف سائر العرب، ويطمئنون فيها، لا يحتاجون فيها
ان ينتجعوا إلى غيرها، كما يحتاج غيرهم إليه، وكان مع ذلك يجيؤها رزقها، اي
رزق أهلها من كل موضع، لأنه كان يجلب إليها تفضلا منه تعالى " فكفرت بأنعم
الله " والمراد كفر أهلها، " بأنعم الله ". وإنما أضاف الكفر إلى القرية مجازا،
ولذلك أنث الفعل. وقيل في واحد أنعم الله ثلاثة أقوال:

(1) سورة الأنعام آية 23
(2) سورة الأعراف آية 37
432

أحدها - يقال نعمة وانعم كشدة وأشد.
الثاني - في جمع النعم كما قالوا أيام طعم ونعم ومثله ود وأود.
الثالث - نعماء كما جمعوا بأساء وابؤس وضراء واضر، وقالوا أشد جمع شد
قال الشاعر.
وعندي قروض الخير والشر كله فبؤس لدى بوسى ونعمى بأنعم
وقوله " فأذاقها الله لباس الجوع " إنما سماه لباس الجوع، لأنه يظهر عليهم
من الهزال وشحوب اللون وسوء الحال ما هو كاللباس. وقيل إنهم شملهم الجوع
والخوف كما شمل اللباس البدن. وقيل إن القحط دام بهم سنين وبلغ بهم إلى أن
اكلوا القد والطهن، وهو الوبر يخلط بالدم والقراد، ثم يؤكل، وإنما يقال
لصاحب الشدة: دق، لأنه يجده وجدان الذائق في تفقده له، ولأنه يتجدد
عليه إدراكه كما يتجدد على الذائق، وهم مع ذلك خائفون وجلون من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأصحابه يغيرون على قوافلهم وتجاراتهم " جزاء بما كانوا يصنعون " من الكفر
والشرك وتكذيب الرسل، واجري الخطاب من أول الآية إلى ههنا
على التأنيث إضافة إلى القرية، ثم قال - ههنا - " بما كانوا يصنعون " على المعنى
أي بما كان أهلها يصنعون. وروي عن أبي عمرو انه قرأ " لباس الجوع والخوف "
بالنصب، كأنه ضمن فعل إرزاقهم الله لباس الجوع، قاذفا في قلوبهم الخوف، لان
الله تعالى لم يبعث النبي بالقحط والجوع والخوف، فقد قذف في قلوبهم الرعب
من النبي وسراياه.
قوله تعالى:
(ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم
تفسير التبيان ج 6 م 28
433

ظالمون (113) فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا
نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون) (114) آيتان بلا خلاف.
قوله " ولقد جاءهم رسول منهم " يعني أهل مكة بعث الله منهم رسولا من
صميمهم، لا من غيرهم " فكذبوه " وجحدوا نبوته " فأخذهم العذاب وهم ظالمون "
أي في حال كفرهم ظالمين اخذهم العذاب، وعذابهم هو ما سلط الله تعالى النبي
والمؤمنين حتى قتلوهم يوم بدر وغيره من الأيام، وما حل بهم من أنواع العذاب
من جهته من الخوف والجوع الذي تقدم ذكره. ومن قال: المراد بالقرية غير مكة
قال: هو صفة تلك القرية التي بعث الله رسولا منهم، ثم خاطب المؤمنين، فقال
" كلوا " فصيغته وإن كان صيغة الامر، فالمراد به الإباحة، لان الاكل غير
واجب إلا عند الخوف من تلف النفس، ولا مندوب إليه إلا في بعض الأحوال
" مما رزقكم الله " أي ملككم التصرف فيه على وجه ليس لأحد منعكم منه " حلالا "
أي جعله لكم " حلالا طيبا واشكروا نعمة الله " واعترفوا بها " ان كنتم إياه
تعبدون " اي ان كنتم تعبدون الله دون غيره وليس المعنى ان كنتم تعبدون غيره، فلا
تشكروه، بل المعنى انه لا يصح لاحد أن يشكره إلا بأن يوجه العبادة إليه
تعالى وحده.
قوله تعالى:
(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل
لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم)
(115) آية بلا خلاف
قد بينا تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة (1) وهو ان الله حرم الميتة،

(1) انظر 2: 83 - 86
434

وهو ما لم يذك مما فيه نفس سائلة. " ولحم الخنزير " وبينا أن الخنزير جميعه حرام،
وإنما خص اللحم تغليظا، " وما أهل لغير الله به " والمعنى ما ذكر غير الله على
تذكيته، لأنهم كانوا يذبحونها للأصنام، ثم استثنى المضطر إلى تناول ذلك خوف
التلف، فأباح جميع ذلك له، واستثنى من المضطرين البغاة، فلم يبحها لهم،
وقد بينا الخلاف فيه، وان قول مجاهد وما ذهب إليه أصحابنا هو من خرج على
امام عادل. وقال قوم: معناه غير باغ بذلك الشبع والتقوي به على معصية
" ولاعاد " اي يتعدى فيه ما يجوز له. وفي تفسيرنا: أن معنى ولا عاد ما ذهب
إليه الحسن، وغيره ان الذي يخرج للاعتداء على الناس من قطاع الطريق،
فإنهم لا يرخصون ان يأكلوا، ذلك على وجه. ثم اخبر " ان الله غفور رحيم "
اي ستار على عباده معاصيهم " رحيم " بهم بأن يغفرها لهم، بالتوبة تارة وتفضلا منه
ابتداء تارة أخرى، والمعنى إنه لا يعاقب من تناول ما حرم عليه في حال
الضرورة.
والاهلال رفع الصوت بالكلام، ومنه الهلال لرفع الصوت بالتكبير عند رؤيته
وشبه به صوت الصبي عند الولادة وكل ما ذكر عليه اسم معمود غير الله لا يحل أكله.
قوله تعالى:
(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا
حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله
الكذب لا يفلحون (116) متاع قليل ولهم عذاب أليم (117) وعلى
الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن
كانوا أنفسهم يظلمون) (118) ثلاث آيات.
(ما) في قوله " لما تصف " مصدرية، والتقدير: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب
435

" هذا حلال وهذا حرام " وقال الزجاج: قرئ " الكذب " على إنه نعت
الألسنة، يقال لسان كذوب وألسنة كذب، وحكي أيضا بكسر الباء ردا على
(ما) وتقديره للذي تصفه ألسنتكم الكذب، وهذا إنما قيل لهم لما كانوا حرموه
وأحلوه، فقالوا " ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا " (1)
وقد بيناه فيما تقدم. ثم أخبر عن هؤلاء الذين يقولون على الله الكذب بأنهم " لا
يفلحون " أي لا ينجون ولا يفوزون بثواب الله.
وقوله تعالى " متاع قليل " معناه متاعهم هذا الذي فعلوه وتمتعوا به " متاع
قليل " ويجوز في العربية (متاعا) أي يتمتعون بذلك متاعا قليلا " ولهم عذاب
أليم " أي في مقابلة ذلك يوم القيامة. وقوله " وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا
عليك من قبل " يعني ما ذكره في سورة الأنعام في قوله " وعلى الذين هادوا
حرمنا.. " (2) الآية، في قول قتادة والحسن وعكرمة. ثم أخبر تعالى أنه لم يظلمهم
بذلك ولا يبخسهم حظهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بكفرهم بنعمة الله
وجحودهم لأنبيائه، فاستحقوا بذلك تحريم هذه الأشياء عليهم لتغيير المصلحة
عند كفرهم وعصيانهم.
قوله تعالى:
(ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد
ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) (119)
آية بلا خلاف.
يقول الله تعالى إن الذي خلقك يا محمد " للذين عملوا السوء " يعني المعصية
" بجهالة " أي بداعي الجهل، لأنه يدعو إلي القبيح، كما أن داعي العلم يدعو إلي

(1) سورة الأنعام آية 139، انظر 4: 6 312 - 316
(2) سورة الأنعام آية 146، انظر 4: 329 - 332
436

الخير، فقد يكون ذلك للجاهل، بالشئ وقد يكون للغافل الذي يعمل عمل
الجاهل بتغليب هواه على عقله.
وقوله " ثم تابوا " يعني رجعوا عن تلك المعصية، وندموا عليها، وعزموا
على أن لا يعودوا إلى مثلها في القبح " وأصلحوا " نياتهم وافعالهم، فإن الذي
خلقك من بعد فعلهم ما ذكرناه من التوبة " غفور " لهم ستار عليهم " رحيم "
بهم، منعم عليهم. وإنما شرط مع التوبة فعل الصلاح استدعاء إلى فعل الصلاح
ولئلا يغتروا بما سلف من التوبة حتى يقع الاهمال لما يكون من الاستقبال.
قوله تعالى:
(إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين
(120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121)
وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122)
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين (123) إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك
ليحكم بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون) (124) خمس
آيات بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن إبراهيم (ع) انه " كان أمة " واختلفوا في معناه، فقال
ابن مسعود: معناه إنه معلم الخير قدوة " قانتا لله " مطيعا. قال بعضهم: كان
ذا أمة " قانتا لله ". وقال قتادة: معناه إنه امام هدى. والقانت
الذي يدوم على العبادة لله، وقيل: جعل " أمة " لقيام الأمة به. والحنيف
المستقيم على طريق الحق. وقوله " ولم يك " يعني إبراهيم " من المشركين "
الذين يعبدون مع الله غيره، بل كان موحدا " شاكرا لأنعمه " اي بل كان شاكرا لنعمه
437

معترفا بها " اجتباه " يعني اختاره الله واصطفاه " وهداه إلى صراط مستقيم "
اي حكم بأنه على صراط مستقيم اي لطف له حتى اهتدى إلى طريق الحق.
وقوله " وآتيناه في الدنيا حسنة " اي أعطيناه جزاء على هدايته في هذه
الدنيا حسنة، وهي: تنويه الله بذكره في الدنيا بطاعته لربه، ومسارعته إلى
مرضاته، وإخلاصه لعبادته، حتى صار إماما يقتدى به، وعلما يهتدى بسنته.
قال قتادة: حتى ليس من أهل دين إلا وهو يتولاه ويرضاه. وقال الحسن:
معنى " حسنة " يعني نبوته. وقوله " وإنه في الآخرة لمن الصالحين " اخبار منه
تعالى انه مع إيتائه الحسنة في الدنيا هو في الآخرة من جملة الصالحين. وإنما لم يقل:
لفي أعلى منازل الصالحين، مع اقتضاء حاله ذلك، لمدح من هو منهم، والترغيب
في الصلاح ليكون صاحبه في جنب إبراهيم، وناهيك هذا الترغيب في الصلاح،
وهذا المدح لإبراهيم أن يشرف جملة هو منها، حتى يصير لاستدعاء إليها بأنه فيها.
وقوله " أوحينا إليك ان اتبع ملة ابن إبراهيم حنيفا " أي أمرناك ان اتبع ملة
إبراهيم حنيفا مستقيم الطريق، في الدعاء إلى توحيد الله، وخلع الأنداد، والعمل
بسنته، " وما كان " يعني إبراهيم " من المشركين " بعبادة الله غيره.
وقوله " إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه " اختلفوا في معناه، قال
الحسن: معناه انه جعله عليهم بأن لعنهم بالمسخ لاعتدائهم فيه. واختلافهم فيه
كان بأن قال بعضهم: هو أعظم الأيام حرمة، لأنه تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء
كلها. وقال آخرون: بل الاحد أفضل، لأنه ابتدأ أخلق الأشياء فيه. وقال
مجاهد، وابن زيد: عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة.
ووجه اتصال هذه الآية بما تقدم أنه لما أمر باتباع الحق، حذر من الاختلاف
فيه، بما ذكره من حال المختلفين في السبت، بما ليس لهم ان يختلفوا فيه، فشدد
عليهم فرضه، وضيق عليهم أمره وقال قوم: معنى " اختلفوا فيه " اي خالفوا فيه،
لأنهم نهوا عن الصيد فيه فنصبوا الشباك يوم الجمعة، ودخل فيها السمك يوم
السبت، فأخذوه يوم الأحد. ثم قال " وان ربك " يا محمد " ليحكم بينهم " أي
يفصل بينهم يوم القيامة في الذي كانوا مختلفين فيه، ويبين لهم الصحيح من الفاسد
438

قوله تعالى:
(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم
بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو
أعلم بالمهتدين (125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به
ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا
بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن
الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (128) أربع آيات
بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وإسماعيل عن نافع " ضيق " بكسر الضاد. الباقون بفتحها،
فمن فتح أراد " ضيق " فخفف مثل سيد وسيد، وميت وميت وهين وهين.
ويجوز أن يكون أراد جمع ضيقة كما قال الشاعر:
كشف الضيقة عنا وفسح.
ومن كسر يجوز أن يجعله لغتين، ويجوز أن يكون الضيق اسما والضيق مصدرا
والاختيار ان يقال: الضيق في المكان والمنزل، والضيق في غير ذلك، فإن كان
كذلك " فالاختيار ولا تك في ضيق " لأنه تعالى لم يرد ضيق المعيشة، ولا ضيق
المنزلة. وأصل " ولا تك " ولا تكن، فاستثقلوا الضمة على الواو فنقلوها إلى
الكاف، فالتقى ساكنان: الواو، والنون، فحذفوا الواو، لالتقاء الساكنين، ومن
حذف النون أيضا، فلان النون ضارعت حروف المد واللين، وكثر استعمال
(كان يكون) فحذفوها كذلك ألا ترى أنك تقول: لم يكونا. والأصل يكونان
فأسقطوا النون بالجزم وشبهوا لم يك في حذف النون بلم يكونا.
أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو عباده المكلفين بالحكمة، وهو أن
439

يدعوهم إلى أفعالهم الحسنة التي لها مدخل في استحقاق المدح والثواب عليها،
لان القبائح يزجر عنها، ولا يدعو إليها، والمباح لا يدعو إلى فعله، لأنه عبث،
وإنما يدعو إلى ما هو واجب أو ندب، لأنه يستحق بفعله المدح والثواب،
والحكمة هي المعرفة بمراتب الافعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد. وقيل
لها: حكمة، لأنها بمنزلة المانع من الفساد، وما لا ينبغي أن يختار، والأصل
المنع كما قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم أن أغضبا (1)
أي امنعوهم من السفه، والفرق بين الحكمة والعقل: أن العاقل هو العاقد
على ما يمنع من الفساد، والحكيم هو العارف بما يمنع من الفساد، الحكمة مشتركة
بين المعرفة وبين العقل المستقيم، لان كل واحد منهما ممتنع من الفساد عار منه
والقدير تعالى لم يزل حكيما بمعني لم يزل عالما، ولا يجوز لم يزل حكيما فيما يستحق
لأجل الفعل المستقيم، وكل حكمة يكون بتركها مضيعا لحق النعمة يجب على
المكلف طلبها. معرفة كانت أو فعلا. والموعظة الحسنة. معناه الوعظ الحسن
وهو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه والتزهيد في فعله. وفي ذلك
تليين القلوب بما يوجب الخشوع. وقيل: ان الحكمة النبوة. والموعظة القرآن
" وجادلهم بالتي هي أحسن " فالجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج
" بالتي هي أحسن " وفيه الرفق والوقار والسكينة مع نصرة الحق بالحجة. ثم
أخبر " ان ربك " يا محمد " اعلم بمن ضل عن سبيله " بأن عدل عنها و " أعلم من
غيره بمن اهتدى إليها وليس عليك غير الدعاء.
وقوله " وان عاقبتم فعاقبوا " قيل: في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - ان المشركين لما مثلوا بقتلى أحد. قال المسلمون: متى أظهرنا الله
عليهم لنمثلن بهم أعظم مما مثلوا بنا. ذكره الشعبي وقتادة وعطاء.

(1) مر هذا البيت في 1: 142، 2: 188، 4: 496، 5: 512
440

الثاني - قال مجاهد وابن سيرين وإبراهيم: انه في كل ظالم بغصب أو نحوه.
فإنما يجازي بمثل ما عمل
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية القتال، لان هذا قبل ان يؤمروا بالجهاد ثم
قال " ولئن صبرتم " اي إن تركتم المجازاة والقصاص وتجرعتم مرارته " لهو خير
للصابرين " في العاقبة. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته معه " واصبر " يا محمد
وليس صبرك " إلا بالله " اي إلا بتوفيق الله وإقداره وترغيبه فيه " ولا تحزن عليهم "
يعني على المشركين، لاعراضهم عنك. وقيل المراد لا تحزن على قتلى أحد لما
أعطاهم الله من الخير " ولا تك في ضيق مما يمكرون " اي لا يكن صدرك ضيقا
مما يمكر به المشرك من الخديعة وغيرها، وما فعلوا بقتلى أحد من المثلى " إن الله
مع الذين اتقوا " معاصيه خوفا من عقابه، بالنصر لهم
والتأييد، ومع " الذين هم محسنون " في
افعالهم، غير فاعلين للقبائح
يقذف في قلوب أعدائهم
الرعب، خوفا من
رسول الله
وسراياه
441

(17) سورة الإسراء
هي مكية في قول مجاهد وقتادة، وهي مئة واحدى عشرة آية في الكوفي
ومئة وعشر آيات في البصري والمدني.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو
السميع البصير (1) وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني
إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا (3) ذرية من حملنا مع
نوح إنه كان عبدا شكورا) (3) ثلاث آيات بلا خلاف.
قرأ أبو عمرو وحده " ألا يتخذوا " بالياء. الباقون بالتاء، والمعنى فيهما
قريب، والتقدير، وجعلناه هدى لنبي إسرائيل ألا تتخذوا " وقلنا لهم: لا
تتخذوا، كما تقول: قلت لزيد قم، وقلت له ان يقوم. وقال تعالى " قل للذين
443

كفروا ستغلبون (1) " بالتاء والياء. ومعنى " من دوني وكيلا " أي كافيا وربا،
ونصب " ذرية " على النداء، وهو خطاب لجميع الخلق، لان الخلق كله من نسل نوح
من بنيه الثلاثة: حام: وهو أبو السودان، ويافث: وهو أبو البيضان: الروم
والترك والصقالبة وغيرهم، وسام: وهو أبو العرب والفرس. وتقديره يا ذرية
من حملنا، ووزن " ذرية " فعلية، من الذر، ويجوز أن يكون (فعولة) من الذر
واصله (ذروية) فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، قال أبو علي النحوي:
ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول الاتخاذ لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين
كقوله " واتخذ الله إبراهيم خليلا " (2) وقال " اتخذوا أيمانهم جنة " (3) وعلى هذا
يكون مفعولا ثانيا على القراءتين، ومتى نصبته على النداء، فإنما يتأتى ذلك في
قراءة من قرأ بالتاء، والأسهل أن يكون على قراءة من قرأ بالياء، لان الياء
للغيبة، والنداء للخطاب، و (أن) في قوله " ألا تتخذوا " يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها أن تكون (أن) الناصبة للفعل، والمعنى جعلناه هدى، كراهة أن
تتخذوا، أو لان لا تتخذوا.
والثاني - أن تكون (أن) بمعني أي، لأنه بعد كلام تام والتقدير أي لا
تتخذوا.
والثالث - أن تكون (أن) زائدة، ويضمر القول.
والوكيل لفظه واحد، والمراد به الجمع، لان معناه حينئذ (فعيلا) فيكون
مفرد اللفظ والمراد به الجمع، نحو قوله " وحسن أولئك رفيقا " (4). قال أبو
عبيد: أهل المدينة يقولون في نصب (سبحان) أنه اسم في موضع مصدر سبحت
الله تسبيحا، والتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم منه، كقولك كفرت اليمين
تكفيرا، أو كفرانا، والتكفير المصدر، الكفران الاسم، قال أمية ابن
أبي الصلت:

(1) سورة آل عمران اية 12
(2) سورة 4 النساء آية 125
(3) سورة 58 المجادلة آية 16
(4) سورة النساء آية 69
444

سبحانه ثم سبحانا يعود له * وقبلنا سبح الجودي والجمد (1)
وقال بعضهم انه يجوز أن يكون نصبا على النداء، يريد: يا سبحان ومعناه:
التنزيه لله والتبعيد له من كل ما لا يليق به، والتسبيح يكون بمعنى الصلاة،
كقوله " فلولا انه كان من المسبحين (2) أي من المصلين - ذكره أكثر المفسرين -
ومنه السبحة وهي النافلة. وروي أنه كان ابن عمر يصلي سبحته في موضعه الذي
يصلي فيه المكتوبة ويكون بمعنى الاستثناء، كقوله " فلولا تسبحون " أي
فلولا لا تستثنون، وهي لغة لبعض أهل اليمن، ولا وجه للكلام غيره، لأنه قال
" إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة " إلى قوله " ولا يستثنون " ثم " قال: أوسطهم
ألم أقل لكم لولا تسبحون " (3) فذكرهم تركهم الاستثناء فأما سبحة النور التي
دون الله، قال المبرد: لا يعرف إلا من الخبر الذي روي (لولا ذلك لأحرقت
سبحات وجهه) بمعنى نور وجهه أي الذي إذا رأى الرائي قال سبحان الله.
وقال سيبويه (سبحان) براءة الله من السوء وهذا اسم لهذا المعنى معرفة
وقال الأعشى:
أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (4)
اي براءة منه ولا ينزه بلفظ سبحان غير الله، وإنما ذكره الشاعر نادرا على
الأصل واجراه كالمثل في قوله " وان من شئ الا يسبح بحمده " (5) معناه ليس
شئ إلا وفيه دلالة على تنزيه الله مما لا يليق به، وقولهم: سبح تسبيحا أي قال
سبحان الله، والسبح في التعظيم الجري فيه. والاسراء سير الليل، اسرى اسراء
وسرى يسرى سرى لغتان، قال الشاعر:
وليلة ذات جى سريت * ولم يلتني عن سراها ليت (6)

(1) مر هذا البيت في 3: 82، 5: 563
(2) سورة 37 الصافات آية 143
(3) سورة 27 القلم اية 17 - 29
(4) ديوانه (دار بيروت) 94 وقد مر في 1: 124، 81، 5:، 241، 395
(5) سورة 17 الاسرى آية 44
(6) تفسير القرطبي 10: 205 ورايته (ندى) بدل (دجى) وتفسير الطبري
(الطبعة الأولى) 15: 3، واللسان (ليت) ولم يعرف قائله. والمعنى: سرت
في ليلة دجى، ولم يؤخرني، ولا منعني عن السير مانع.
445

وقوله " ليلا " معناه بعض الليل، على تقليل وقت الاسراء، ويقوي ذلك
قراءة حذيفة، وعبد الله " من الليل " وروت أم هاني بنت أبي طالب: أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان في منزلها ليلة أسري به. وقال الحسن وقتادة: كان في نفس
المسجد الحرام. وروي عن أم هاني أن الحرم كله مسجد. والمسجد الأقصى هو
بيت المقدس، وهو مسجد سليمان بن داود - في قول الحسن وغيره من المفسرين -
وإنما قيل له: الأقصى، لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام. وقال الحسن:
صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب في المسجد الحرام. ثم أسري به إلى بيت المقدس في ليلة
ثم رجع، فصلى الصبح في المسجد الحرام، فلما اخبر به المشركين كذبوا ذلك،
وقالوا: يسير مسيرة شهر في ليلة واحدة؟! وجعلوا يسألون عن بيت المقدس
وما رأى في طريقه، فوصفه لهم شيئا شيئا بما يعرفونه ثم اخبرهم انه رأى في
طريقه قعبا مغطا مملوءا ماء فشرب الماء كله ثم غلطاه كما كان، ووصف لهم صفة
إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل المتاع، فقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس
يقدمها جمل أورق، فقعدوا في ذلك اليوم يستقبلونها، فقال قائل منهم: هذه
والله الشمس قد أشرقت، ولم تأت وقال آخر هذا والله العير يقدمها جمل اورق،
كما ذكر محمد، فكان ذلك معجزة له باهرة، ودلالة واضحة لولا العناد، وكان
نفس الاسراء حجة له صلى الله عليه وسلم لا انه يحتاج إلى دلالة كغيره، ولذلك قال تعالى
" لنريه من آياتنا " فكان الاسراء من جملة الآيات التي تأكد بها يقينه وازدادت به
بصيرته، لأنه كان قد علم نبوته بما تقدم له من الآيات، فكان هذا على وجه
التأكيد لذلك.
وعند أصحابنا وأكثر أصحاب التأويل، وذكره الجبائي أيضا: انه عرج
به في تلك الليلة إلى السماء وأت حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة، واراه
الله من آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة ويقينا، وكان ذلك في يقظته
دون منامه، والذي يشهد به القرآن الاسراء من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى، والباقي يعلم بالخبر.
وقوله " الذي باركنا حوله " يعني بالثمار ومجاري الأنهار، وقيل " باركنا "
446

حوله بمن جعلنا حوله من الأنبياء والصالحين، ولذلك جعله مقدسا. " لنريه من آياتنا "
من العجائب التي فيها اعتبار.
وروي أنه كان رأى الأنبياء حتى وصفهم واحدا واحدا.
وقوله " إنه هو السميع البصير " اخبار منه تعالى أنه يجب أن يدرك
المبصرات والمسموعات إذا وجدت، لأنه حي ولا يجوز عليه الآفات.
وقوله " وآتينا موسى الكتاب " يعني التوراة " وجعلناه " يعني التوراة التي
أنزلها " هدى " ودلالة لبني إسرائيل، وقلنا لهم " لا تتخذوا من دوني وكيلا "
أي ربا تتوكلون عليه وكافيا تسندون أموركم إليه وقال مجاهد: معنى " وكيلا "
شريكا، قال المبرد: هذا لا شاهد له في اللغة. وقلنا يا " ذرية من حملنا مع نوح "
في سفينته وقت الطوفان " انه كان عبدا شكورا " يعني نوحا كان عبدا، كان لله
شاكرا له على نعمه.
وروي انه إذا كان أراد أكل طعام أو شراب قال: بسم الله، إذا شبع
قال الحمد لله، ومن قال: هو نصب على أنه مفعول، فإنه قال تقديره لا تتخذوا
ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني.
قوله تعالى:
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض
مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم
عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا
مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال
وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) (6) ثلاث آيات بلا خلاف.
القضاء على أربعة أقسام: بمعنى الخلق والاحداث، كما قال " فقضاهن سبع
447

سماوات " (1) وبمعنى فصل الحكم كقوله " والله يقضي بالحق (2) وبمعنى الامر كقوله
" وقضى ربك أن تعبدوا إلا إياه " (3) وبمعنى الاخبار كقوله " وقضينا إلى
بني إسرائيل " اي أخبرناهم وأعلمناهم بما يكون من الامر المذكور، من أنهم
سيفسدون في الأرض مرتين، ويعلون علوا كبيرا، اي عظيما اي يتجبرون على
عباد الله.
قال ابن عباس وقتادة: المبعوث عليهم في المرة الأولى جالوت إلى أن قتله
داود، وكان ملكهم طالوت.
وقال سعيد ابن المسيب: هو بخت نصر، وقال سعيد بن جبير: هو سنحاريب
وقال الحسن: هم العمالقة، وكانوا كفارا.
والفساد الذي ذكره: هو قتلهم الناس ظلما وتغلبهم على أموالهم قهرا
واخراب ديارهم بغيا.
والآية تدل على أن قضاء الله بالمعاصي هو اخباره انها تكون.
وقوله " فلما جاء وعد أولاهما " يعني وقت فناء آجالهم ووقت عقوباتهم.
والوعد هو الموعود به - ههنا - ووضع المصدر موضع المفعول به.
وقوله " بعثنا عليكم عبادا لنا اولي بأس شديد " قيل في معنى (بعثنا)
قولان:
أحدهما - قال الحسن: انا خلينا بينهم وبينكم، خاذلين لكم، جزاء على
كفركم، ومعاصيكم، كما قال: " ان أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " (4)
الثاني - قال أبو علي: أمرناهم بقتالكم. وقوله " فجاسوا خلال الديار "
اي ترددوا وتخللوا بين الدور، يقال: جست أجوس جوسا وجوسانا، قال حسان:

(1) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 12
(2) سورة 40 المؤمن (غافر) آية 20
(3) سورة 17 الاسرى آية 23
(4) سورة 19 مريم آية 84
448

ومنا الذي لاقى بسيف محمد * فجاس به الاعداء عرض العساكر (1)
معناه تخللهم قتلا بسيفه، وقيل: الجوس طلب الشئ باستقصاء. وقوله " وكان
وعدا مفعولا " أي كائنا لا محالة على ما أخبرنا به، ثم قال لهم " رددنا لكم الكرة
عليهم " يعني الرجعة والنصرة عليهم " وأمددناكم بأموال وبنين " أي أعناكم
وكثرناكم " وجعلناكم أكثر نفيرا " اي أكثر أنصارا، ونصبه على التمييز، قال
الزجاج: يجوز أن يكون (نفيرا) جمع نفير كعبيد وضنين ومعين قال الفراء:
زعموا أن رجلا من همدان بعثه الله على بخت نصر، فقتله وعاد الملك إلى بني
إسرائيل فعاشوا.
قوله تعالى:
(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد
الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة
وليتبروا ما علوا تتبيرا) (7) آية بلا خلاف.
قرأ الكسائي " لنسو وجوهكم " بالنون وفتح الواو، كما يقال: لن ندعو،
فعلامة النصب فتحة الواو وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم بالياء
على واحد " ليسوي " الباقون بالياء والمد، وعلامة النصب - ههنا - حذف
النون، وإنما مدوا، لتمكين الهمزة، لان كل واو سكنت وانضم ما قبلها وثبتت
بعدها همزة، فلابد من مد، في كلمة كانت أو كلمتين، نحو " قالوا آمنا " (2) وفي

(1) تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 15: 21 وتفسير الشوكاني 3: 202 ولم أجده
في ديوان حسان المطبوع في بيروت (دار صادر، دار بيروت). وهو أيضا في تفسير
القرطبي 10: 216.
(2) سورة 2 البقرة اية 14
449

كلمة واحدة نحو " تبوء بإثمي " (1) " وتبوء بحمله " وفي قراءة أبي " ليسؤن
وجوهكم " بنون خفيفة للتأكيد، كقوله " لنسفعا بالناصية " (2)
قال أبو علي الفارسي: لما قال " لتفسدن في الأرض مرتين " وبين المرة الأولى
قال " فإذا جاء وعد الآخرة " أي المرة الآخرة بعثناهم " ليسوءوا وجوهكم "
فحذف (بعثناهم) لأنه تقدم ذكره، لأنه جواب (إذا)، وشرطها يقتضيه،
فحذف للدلالة عليه فأما معنى " ليسؤوا " فقال أبو زيد: يقال: سؤته سأة وساءة
ومساءة ومسائية وسوأية، وقال " وجوهكم " على أن الوجوه مفعولا ل‍ " يسؤوا "
وعدي إلى الوجوه، لان الوجوه قد يراد بها ذوو الوجوه كقوله " وكل شئ
هالك إلا وجهه " (3) وقال " وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة " (4) وقال
" ووجوه يومئذ ناضرة " (5) وقال النابغة:
أقارع عوفا لا أحاول غيرها * وجوه قرود تبتغي من تجادع (6)
فكأن الوجوه إنما خصت بذلك، لأنها تدل على ما كان من تغير الوجوه من
الناس، من حزن أو مسرة، وبشارة وكآبة.
وحجة من قرأ بالياء والجمع انه أشبه بما قبله وما بعده، لان الذي جاء قبله
" بعثا عليكم رجالا " وبعده " وليدخلوا المسجد " وهو بيت المقدس، والمبعوثون في
الحقيقة هم الذين يسؤونهم لقتلهم إياهم وأسرهم لهم، فهو وفق المعنى.
ومن قرأ بالياء والتوحيد، ففاعل " ليسوءوا " أحد شيئين.
أحدهما - أن يكون اسم الله، لان الذي تقدم " بعثنا " " ورددنا لكم "
و " أمددناكم ".
والآخر - أن يكون البعث والوعد، ودل عليه " بعثنا " المتقدم كقوله " لا
تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم " (7) اي البخل.

(1) سورة 5 المائدة اية 3
(2) سورة 96 العلق اية 15
(3) سورة 28 القصص اية 88
(4) سورة 80 عبس اية 40
(5) سورة 75 القيامة اية 23
(6) ديوانه (دار بيروت) 80 واللسان (جدع)
(7) سورة 3 آل عمران اية 180
450

ومن قرأ بالنون كان المعنى كقول من قدر أن الفعل ما تقدم من اسم الله وجاز
ان تنسب المساءة إلى الله، وإن كانت من الذين جاسوا خلال الديار في الحقيقة،
لأنهم فعلوها بقدرة لاله وتمكينه، فجاز ان تنسب إليه، كما قال " وما رميت إذ
رميت ولكن الله رمى " (1) ويجوز أن يكون اللام في قوله " ليسؤوا " وليدخلوا "
" وليتبروا " لام العاقبة، لان الله لا يريد منهم ذلك من حيث كان ذلك ظلما وفسادا.
يقول الله تعالى لخلقه من المكلفين " إن أحسنتم " اي فعلتم الأفعال الحسنة من
الانعام إلى الغير، والافعال الجميلة التي هي طاعة " أحسنتم لأنفسكم "، لان
ثواب ذلك، واصل إليكم " وإن أسأتم " إلى الغير وظلمتموه " أسأتم " لأنفسكم
لان وبال ذلك وعقابه واصل إليكم، وإنما قال " فلها " ليقابل قوله " أحسنتم
لأنفسكم " والمعنى ان أسأتم فإليها، كما يقال: أحسن إلى نفسه ليقابل أساء إلى
نفسه، على أن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض إذا تقاربت معانيها، قال
تعالى " بأن ربك أوحى لها " (2) والمعنى أوحى إليها. ومعنى أنت في منتهى
لإساءة، وأنت المختص بالإساءة، متقارب.
" فإذا جاء وعد الآخرة " يعني وعد المرة الآخرة " ليسؤوا وجوهكم
وليدخلوا المسجد " يعني المبعوثين عليكم " كما دخلوه " في المرة الأولى يعنى
غيرهم، لان هؤلاء بأعيانهم لم يدخلوها في الدفعة الأولى " وليتبتروا ما علوا
تتبيرا " فالتبار والهلاك، والدمار واحد، وكل ما انكسر من الزجاج والحديد
والذهب تبر. ومعنى " ما علوا تتبيرا " ما غلبوا عليه، وجواب (إذا) محذوف
وتقديره: فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم. وقيل: بعثناهم ليسؤوا
قوله تعالى:
(عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم

(1) سورة 8 الأنفال اية 17
(2) سورة 99 الزلزال اية 5
451

للكافرين حصيرا (8) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9)
وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما) (10)
ثلاث آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم: بأن قل لبني إسرائيل " عسى ربكم أن
يرحمكم " إن أقمتم على طاعته وترك معاصيه (وعسى) من الله واجبة، ويجوز
أن يكون بمعنى الابهام على المخاطب. وقوله " وإن عدتم " يعني في معاصي الله،
والكفر به وجحد أنبيائه " عدنا " في عذابكم، والتسليط عليكم، كما فعلناه
أول مرة، وقال ابن عباس وقتادة: عادوا فبعث الله عليهم المسلمين يذلونهم
بالجزية والمحاربة إلى يوم القيامة. قوله " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " قال
ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة: محبسا، والحصير الحبس، ويقال للملك
حصير، لأنه محجوب، قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم * جن لدى باب الحصير قيام (1)
وقال الحسن: يعني مهادا، كما قال " لهم من جهنم مهاد " (2) والحصير البساط
المرمول، يحصر بعضه على بعض بذلك الضرب من النسج، ويقال للجنبين:
الحصيران، لحصرهما ما أحاطا به من الجوف وما فيه. وفيه لان بعض أضلاعه
حصر مع بعض، يسمى البساط الصغير حصيرا، وحصير بمعنى محصور، كرضي
بمعنى مرضي.
ثم أخبر تعالى أن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم " يهدي " اي يدل

(1) ديوانه 2 / 39 وتفسير القرطبي 10 / 224 ومجاز القرآن 1 / 371 وتفسير الطبري 15 /: 3
وسمط اللآلي 955 وروح المعاني 15 / 21 والصحاح، والتاج، واللسان (حصر)
(2) سورة 7 الأعراف آية 41
452

" للتي هي أقوم " قال الفراء: لشهادة أن لا إله إلا الله. ويحتمل أن يكون المراد
يهدي لجميع سبل الدين، التي هي أصوب من غيرها: من توحيد الله، وعدله،
وصدق أنبيائه، والعمل بشريعته، وفعل طاعاته، وتجنب معاصيه " ويبسر؟
المؤمنين " يعني القرآن يبشرهم " بأن لهم أجرا كبيرا " وثوابا عظيما، على
طاعاتهم، يبشرهم أيضا ب‍ " أن الذين لا يؤمنون بالآخرة " ويجحدون البعث
والنشور أعد الله لهم " عذابا أليما " يعني مؤلما موجعا، " واعتدنا " أصله أعددنا
فقلبت إحدى الدالين تاء، فرارا من التضعيف إلى حرف من مخرج الدال،
وتكون البشارة قد أوقعت على أن لهم الجنة، وأن لعدوهم النار، فلذلك نصب
(أن) في الموضعين. ويحتمل أن يكون نصب (أن) الثانية على حذف اللام،
والتقدير، لان الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما، ولو كسرت على
الاستئناف جاز غير أنه لا يقرأ به أحد.
قوله تعالى:
(ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا
(11) وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية
النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين
والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا) (12) آيتان بلا خلاف.
قيل في معنى قوله " ويدع الانسان " قولان:
أحدهما - ما ذكره ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد انه يدعو علي
نفسه وولده عند غضبه، فيقول: اللهم العنة واغضب عليه وما أشبهه، فيمنعه
الله، ولو أعطاه لشق عليه.
والثاني - قال قوم: انه يطلب ما هو شر له لتعجيل لانتفاع به مثل دعائه بما
هو خير له، ويقوي ذلك قوله " وكان الانسان عجولا " ومعنى قوله " وكان
453

الانسان عجولا " قال مجاهد: لأنه يجعل بالدعاء بما لا يجوز. وقال ابن عباس:
على طبع آدم لما نفخ فيه الروح فبلغت إلى رجليه، قبل ان تجري فيهما،
رام النهوض.
العجلة طلب الشئ قبل وقته الذي لا يجوز تقديمه عليه أوليس بأولى فيه
والسرعة عمل الشئ في أول وقته الذي هو أولى به.
ثم أخبر أنه تعالى جعل " الليل والنهار آيتين " يريد الشمس والقمر في هذا
الموضع - عند قوم - وقال الجبائي: هما الليل والنهار، وهو الظاهر، وهما دليلان
على توحيد الله، لان أحدا لا يقدر على الاتيان بالنهار، ولا على اذهابه والاتيان
بالليل، وإنما يقدر عليه القادر لنفسه الذي لا يتعذر عليه شئ.
ثم اخبر انه جعل احدى الآيتين ممحوة وهي الليل اي لا تبصر فيها المرئيات
كما لا يبصر ما يمحى من الكتاب، وهو من البلاغة العظيمة.
وقال ابن عباس: محو آية الليل السواد الذي في القمر، وروي عن علي (ع)
أنه اللطخة التي في القمر.
وقوله " وجعلنا آية النهار مبصرة " قيل في معناه قولان:
أحدهما - مضيئه للابصار.
الثاني - جعلنا أهله بصرا، فيه كما يقال: رجل مخبث أي أهله خبثاء ورجل
مضعف أي أهله ضعفاء، فكذلك النهار مبصرا أي أصحابه بصراء. ثم بين
الغرض بذلك، وإنما جعله كذلك " لتبتغوا فضلا " أي تطلبوا فضلا من ربكم
" ولتعلموا عدد السنين والحساب " في مواقيتكم ومعاملاتكم ومعرفة سنينكم وغير
ذلك، فيكثر بذلك انتفاعكم " وكل شئ فصلناه تفصيلا " أي ميزنا كل شئ،
تمييزا ظاهرا بينا لا يلتبس، وبيناه بيانا لا يخفى.
قوله تعالى:
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيمة
454

كتابا يلقاه منشورا (13) إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك
حسيبا (14) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما
يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى
نبعث رسولا) (15) ثلاث آيات بلا خلاف.
قرأ أبو جعفر " ويخرج " بضم الياء، وفتح الراء، وقرأ يعقوب بالياء وفتحها
وضم الراء. الباقون بالنون، وضمها، وكسر الراء. واتفقوا على نصب " كتابا "
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر " يلقاه " بضم الياء، وفتح اللام وتشديد القاف.
الباقون بفتح الياء وسكون اللام وفتح القاف وتخفيفها، ونصب كل انسان بفعل يفسره
ألزمناه " وتقديره ألزمنا كل انسان ألزمناه، كما قال " والقمر قدرناه " (1)
فيمن نصب. ومعنى طائره قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة: عمله من خير أو شر
كالطائر الذي يجئ من ذات اليمين، فيتبرك به، والطائر الذي يجئ من ذات
الشمال فيتشاءم به، وطائره عمله. والزام الله طائره في عنقه: الحكم عليه بما
يستحقه من ثواب أو عقاب. وقيل: معناه ان يحكم بأن عمله كالطوق في عنقه.
ثم اخبر تعالى أنه يخرج للانسان المكلف يوم القيامة كتابا فيه جميع أفعاله مثبتة
ما يستحق عليه ثواب أو عقاب.
وقوله " يلقاه " قرأ ابن عامر يضم الياء وفتح اللام، وتشديد القاف، بمعنى
ان الملائكة يستقبلونهم. الباقون بفتح الياء والقاف، بمعنى أنهم يلقونه
ويرونه.
فمن قرأ بالتخفيف، فمن لقيت الكتاب، فإذ ضاعفت قلت لقانيه، وقد
يتعدى بتضعيف العين إلى مفعولين بعد إن كان متعديا إلى مفعول واحد، فإذا
بني للمفعول به نقص مفعول واحد من المفعولين، لان أحدهما يقول مقام الفاعل،

(1) سورة يس آية 39
455

لاسناد الفعل إليه، فيبقى متعديا إلى مفعول واحد، وعلى هذا قوله " ويلقون
فيها تحية وسلاما " (1) وفي البناء للفاعل " ولقاهم نضرة وسرورا " (2) وحكي عن
الحسن ومجاهد أنهما قرءا " ويخرج " بفتح الياء وضم الراء، والمعنى يخرج طائره
له " كتابا " نصب على التمييز، وقيل في (طائره) أنه عمله. وقيل: أنه حظه،
وما قدمه من خير أو شر قال المؤرج: الطائر العمل، بلغة الأنصار، ويكون
المعنى على هذا ويخرج عمله له كتابا أي ذا كتاب، ومعناه أنه مثبت في الكتاب
الذي قال فيه " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها " (3) وقال " هاؤم اقرؤا
كتابيه " (4) وإنما قيل لعمله طائره - وطيره في بعض القراءات - على تعارف العرب،
يقولون: جرى طائره بكذا، ومثله قوله " قالوا طائركم معكم " (5) وقوله " إنما
طائرهم عند الله " (6) وقال أبو زيد: ما مر من طائر أو ظبي أو غيره، كل ذلك عندهم
طائر، قال أبو زيد: قولهم: سألت الطير، وقلت للطير، إنما هو زجر، وقولهم
زجرني الظباء والطير معناه وقع زجري عليهما، على كذا وكذا، من خير أو
شر، ومنه قول الكميت:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه * أصاح عزاب أو تعرض ثعلب (7)
وقال حسان:
ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي * فما طائري فيها عليك بأخيلا (8)
اي ليس رأيي بمشوم، وقال كثير:
أقول إذا ما الطير مرت مخيلة * لعلك يوما فانتظر ان تنالها (9)
معنى مخيلة مكروهة من الاخيل، ومعنى " في عنقه " لزوم ذلك له وتعلقه

(1) سورة الفرقان آية 75
(2) سورة الدهر آية 11
(3) سورة الكهف آية 50
(4) سورة الحاقة اية 19
(5) سورة 36 يس اية 19
(6) سورة الأعراف 131
(7) امالي الشريف المرتضى 1: 67 ومجمع البيان 3: 403
(8) ديوانه 206 واللسان (خيل) ومجمع البيان 3: 403
(9) مجمع البيان 3: 403
456

به، ومثله قولهم: طوقتك كذا، وقلدتك كذا اي ألزمته إياك ومثله، قلده
السلطان كذا، اي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة، وإنما خص
إلزام الطائر بالعنق، لأنه إضافة ما يزين من طوق، أو ما يشين من عمل يضاف
إلى الأعناق، ولان في عرف الناس ان يقولوا: هذا في رقبتك. وقد يضاف العمل
إلى اليد أيضا كما قال " ذلك بما قدمت أيديكم " (1) وإن كان كسبه بفرجه
ولسانه، وغير ذلك، وإنما يذم بذلك على وجه التقريع والتبكيت بما فعله من
المعاصي، ويكون في العلم بذلك لطف في دار الدنيا، وإن كان الله عالما بتفصيل
ما فعلوه.
وقوله " كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " اي حسبك نفسك اليوم حاكما
عليك في عملك وما تستحقه من ثواب على الطاعة ومن عقاب على المعصية، لأنه
أنصفك من جعلك حسيبا على نفسك بعملك. وقيل معنى " حسيبا " شاهدا
وشهيدا.
وقوله " من اهتدى " يعني فعل الخيرات والطاعات وانتفع بهداية الله إياه
" فإنما يهتدي لنفسه " وأن ثواب ذلك واصل إليه " ومن ضل " اي جار عن
الحق وعدل عن الصواب وارتكب المعاصي " فإنما يضل عليها " اي يجوز عليها
لان عقاب ذلك ووباله واصل إليه، لان الله تعالى قال " لا تزر وازرة وزر
أخرى " اي لا يأخذ أحدا بذنب غيره، والوزر الائم، وقيل معناه لا يجوز لاحد
أن يعمل الاثم، لان غيره عمله، والأول أقوى.
وقوله " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " اخبار من الله أنه لا يعاقب
أحدا على معاصيه، حتى يستظهر عليه بالحجج وانفاذ الرسل ينبهونه على الحق،
ويهدونه إليه ويرشدونه إلى سلوكه، استظهارا في الحجة، لأنه إذا اجتمع داعي
العقل وداعي السمع إلى الحق، تأكد الامر وزال الريب فيما يلزم العبد، وليس
في ذلك دلالة على أنه لو لم يبعث رسولا لم يحسن منه ان يعاقب إذا ارتكب العبد

(1) سورة آل عمران اية 182
457

القبائح العقلية، اللهم إلا أن يفرض أن في بعثه الرسول لطفا، فإنه لا يحسن من
الله تعالى مع ذلك أن يعاقب أحدا إلا بعد أن يعرفه ما هو لطف له ومصلحة
لتزاح علته. وقيل: معناه " وما كنا معذبين " بعذاب الاستئصال والاهلاك في
الدنيا " حتى نبعث رسولا ".
وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: من أن الله يعذب أطفال الكفار
بكفر آبائهم، لأنه بين أنه لا يأخذ أحدا بجرم غيره.
قوله تعالى:
(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق
عليها القول فدمرناها تدميرا) (16) آية بلا خلاف.
قرأ يعقوب " آمرنا " بمد الهمزة. وعن الحسن " أمرنا " بالتشديد، وروي
عنه " أمرنا " بكسر الميم خفيفة وهي ردية.
ذكر في هذه الآية وجوه أربعة:
أحدها - ان مجرد الاهلاك لا يدل على أنه حسن أو قبيح، بل يمكن وقوعه
على كل واحد من الامرين، فإذا كان واقعا على وجه الظلم، كما قبيحا، وإذا
كان واقعا على وجه الاستحقاق أو على وجه الامتحان، كان حسنا، فتعلق
الإرادة به لا يقتضى تعلقها على الوجه القبيح. وإذا علمنا أن القديم لا يفعل
القبيح، علمنا أن إرادته الاهلاك على الوجه الحسن.
وقوله " أمرنا مترفيها المأمور به محذوف، وليس يجب أن يكون المأمور
به هو الفسق وان وقع بعده الفسق، بل لا يمتنع أن يكون التقدير: وإذا أردنا
أن نهلك قرية أمرناهم بالطاعة، ففسقوا فيها فحق عليها القول، وجرى ذلك
مجرى قولهم: أمرته فعصى ودعوته فأبى، والمراد أمرته بالطاعة ودعوته إلى
الإجابة والقبول، فعصى.
458

فإن قيل: أي معنى لتقدم الإرادة؟ فإن كانت متعلقة بإهلاك يستحق بغير
الفسق المذكور في الآية، فلا معنى لقوله " إذا أردنا.. أمرنا "، لان أمره بما
يأمر به لا يحسن إرادته للعقاب المستحق بما تقدم من الافعال، وإن كانت الإرادة
متعلقة بالاهلاك المستحق بمخالفة الامر المذكور في الآية، فهو الذي تأبونه، لأنه
يقتضي أنه تعالى مريد لاهلاك من لم يستحق العقاب!!.
قلنا: لم تتعلق الإرادة إلا بالاهلاك المستحق بما تقدم من الذنوب، وإنما حسن
قوله " إذا أردنا.. أمرنا " أن في تكرار الامر بالطاعة بالايمان إعذارا للعصاة
وإنذارا لهم وإيجابا للحجة عليهم، ويقوي ذلك قوله قبل هذه الآية " وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا " منبها بذلك أنه أراد إثبات الحجة وتكررها عليهم
الثاني - أن يكون قوله " أمرنا مترفيها " من صفة القرية وصلتها، ولا يكون
جوابا لقوله " وإذا أردنا " ويكون تقدير الكلام: وإذا أردنا أن نهلك قرية
من صفتها أنا " أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " ولا يكون ل‍ (إذا) جواب ظاهر
في اللفظ، للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه، ومثله قوله " حتى إذا
جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم " إلى قوله " فنعم أجر
العاملين " (1) ولم يأت ل‍ (إذا) جواب في طول الكلام للاستغناء عنه، وقال
الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة * شلا كما يطرد الجمالة الشردا (2)
فحذف جواب (إذا) ولم يأت به، لان هذا البيت آخر القصيدة.
الثالث - أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، وتقديره إذا أمرنا مترفي
قرية بالطاعة، فعصوا، واستحقوا العقاب، أردنا إهلاكهم، ويشهد بهذا التأويل
قوله " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " (3) فالطهارة إنما

(1) سورة 39 الزمر اية 73 - 74
(2) تفسير روح المعاني 15: 3 وقد مر في 1: 128، 149
(3) سورة 5 المائدة اية 6
459

تجب قبل القيام إلى الصلاة. ومثله قوله " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة
فلتقم طائفة منهم معك " (1) وقيام الطائفة معه يجب أن يكون قبل إقامة الصلاة
لان إقامتها هو الاتيان بجميعها على الكمال. ومثله قوله " ما إن مفاتحه لتنوء
بالعصبة أولي القوة " (2) والتقدير ما إن مفاتحه لتنوء بها العصبة أي يثقلون بها،
ومثله قول الشاعر:
ذعرت القطا ونفيت عنه * مقام الذئب كالرجل اللعين (3)
أراد مقام الذئب اللعين، وقد فصلوا بين المضاف والمضاف إليه قال الشاعر:
بين ذراعي وجبهة الأسد (4)
أراد بين ذراعي الأسد وجبهته.
والرابع - أن يكون ذكر الإرادة في الآية مجازا واتساعا وتنبيها على المعلوم
من حال القوم وعاقبة أمرهم، وأنهم متى أمروا فسقوا وخالفوا، وجرى ذلك
مجرى قولهم: إذا أراد التاجر أن يفتقر أتته النوائب من كل وجه، وجاء
الخسران من كل طريق، وإذا أراد العليل ان يموت خلط في مأكله، ومعلوم ان
أحدا ممن ذكرناه لم يرد ذلك، لكن لما كان المعلوم من حال هذا الخسران، ومن
حال ذاك الهلاك، حسن هذا الكلام، وكان أفصح وأبلغ، لما فيه من الاستعارة
والمجاز الذي لا يكون الكلام بليغا من دونهما. ويكون تلخيص الكلام: إذا
أردنا اهلاك قرية كقوله " جدارا يريد ان ينقض " (5) أمرناهم بالطاعة، ففسقوا
فيها، فحق عليها القول.
وإنما خص المترفون بذكر الامر، لأنهم الرؤوساء الذين من عداهم تبع لهم،
كما أمر فرعون ومن عداه تبع له من القبط. ومن حمله على أن المراد به أكثرنا
قال: لان الامر بالطاعة ليس بمقصور على المترفين، بل هو عام لجميعهم، فلذلك
شدد الميم أو مد الهمزة.

(1) سورة 4 النساء اية 102
(2) سورة 28 القصص آية 76
(3) مر هذا البيت في 1: 343، 2: 47
(4) تفسير الطبري 15: 34 (الطبعة الأولى)
(5) سورة 18 الكهف آية 77
460

وإنما قال " ففسقوا فيها " ولم يقل: فكفروا، لان المراد فتمردوا في كفرهم
لان الفسوق في الكفر الخروج إلى افحشه، فكأنه قال ففسقوا بالخروج عن
الامر إلى الكفر.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: المعنى أمرناهم بالطاعة، ففسقوا، ومثله
أمرتك فعصيتني.
ومن قرأ " أمرنا مترفيها " بتشديد الميم من التأمير بمعنى التسليط، وقد
يكون بمعنى أكثرنا. ويجوز أن يكون المعنى أكثرنا عددهم أو ما لهم، وقرئ
(آمرنا) ممدودا، والمعنى أكثرنا مترفيها، وإنما قيل في الكثرة آمر القوم، لأنهم
يحتاجون إلى أمير يأمرهم وينهاهم، فقد آمروا لذلك، قال لبيد:
ان يغبطوا يهبطوا وان آمروا * يوما يصيروا للهلاك والفند (1)
وروى والكند وقال بعضهم أمرنا بمعنى أكثرنا، وقال أبو عمرو: ولا
يكون من هذا المعنى (أمرنا) قال أبو عبيد: يدل على هذه اللغة قولهم: سكة
مأبورة ومهرة مأمورة، أي كثيرة الولد. ومن قال بالأول قال هذا لمكان
الازدواج، كما قالوا الغدايا والعشايا، والغداء لا يجمع على غدايا، ولكن قيل
ذلك ليزدوج الكلام مع قولهم: العشايا، وقال قوم: يقال أمر الشئ وأمرته
اي كثر وكثرته لغتان، مثل رجع ورجعته. والمشهور الأول. وإنما تعدى
اما بالتضعيف أو الهمزة، وإذا كان مخففا فهو من الامر الذي هو خلاف النهي،
على ما بيناه. وقال المبرد: " أمرنا " خفيفة بمعنى أكثرنا، وروى الجرمي:
فعلت وأفعلت (2) - عن أبي زيد بمعنى واحد، قال وقرأته على الأصمعي.
و " دمرنا " معناه أهلكنا، والدمار الهلاك.

(1) تفسير الطبري 15: 61 والشوكاني (الفتح القدير) 3: 207 ولكن الكذب والفند.
الهلاك.
(2) هذا ما في المخطوطة، وكان في المطبوعة (ثقلت واثقلت).
461

قوله تعالى:
(وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك
بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17) من كان يريد العاجلة عجلنا
له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما
مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن
فأولئك كان سعيهم مشكورا) (19) ثلاث آيات بلا خلاف.
اخبر الله تعالى بأنه أهلك من القرون من بعد نوح، أمما كثيرة، لان
" كم " يفيد التكثير ضد (رب) الذي يفيد التقليل، (والقرن) قيل: مئة
وعشرون سنة - في قول عبد الله ابن أبي أو في وقال محمد بن القاسم المازني: هو
مئة سنة، وقال قوم: هو أربعون سنة. وأدخلت الباء في قوله " كفى بربك "
للمدح: كما تقول: ناهيك به رجلا، وجاد بثوبك ثوبا، وطاب بطعامك طعاما
وأكرم به رجلا، وكل ذلك في موضع رفع، كما قال الشاعر:
ويخبرني عن غائب المرء هديه * كفى الهدى عما غيب المرؤ مخبرا (1)
فرفع لما اسقط الباء. والمعنى: كفى ربك عالما وحسيبا بذنوب عباده بصيرا
بها، ثم قال " من كان يريد " المنافع " العاجلة " في الدنيا عجلنا له فيها "
يعني في الدنيا القدر الذي نريده لمن نريد، لا على قدر ما يريدون، لان ما
يريدونه ربما كانت فيه مفسدة، لا يجوز إعطاؤهم إياه، ثم بين انه إذا أعطاهم ما
طلبوه عاجلا جعل لهم جهنم جزاء، على معاصيهم وكفرهم يصلونها مذمومين
مدحورين، اي في حال ذمنا إياهم، يقال: ذأمته، وذمته، وذممته بمعنى واحد

(1) مجمع البيان 3: 407 وتفسير الطبري 15: 42
462

فهو مذؤم ومذيم ومذموم، يكون ذأمته اي طردته، فهو مذؤم. و " مدحورا "
اي متباعدا من رحمة الله دحرته أدحره دحرا اي باعدته.
ثم قال " ومن أراد الآخرة " اي خير الآخرة، ثواب الجنة " وسعى لها
سعيها " بأن فعل الطاعات وتجنب المعاصي، وهو مع ذلك مؤمن مصدق بتوحيد
الله ومقر بأنبيائه، فإن أولئك يكون " سعيهم مشكورا " اي تكون طاعاتهم
مقبولة. وقال قتادة: شكر الله حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم. والمعنى أحلهم
محلا يشكر عليه في حسن الجزاء كما قال: " من ذا الذي يقرض الله قرضا
حسنا " (1).
قوله تعالى:
(كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء
ربك محظورا (20) أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة
أكبر درجات وأكبر تفضيلا (21) لا تجعل مع الله إلها آخر
فتقعد مذموما مخذولا (22) ثلاث آيات بلا خلاف.
قوله " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء " نصب (كلا) ب‍ " نمد و (وهؤلاء) بدل منه
والمعنى إنا نعطي البر والفاجر، والمؤمن والكافر في الدنيا. واما الآخرة فللمتقين
خاصة " وما كان عطاء ربك محظورا " اي لم يكن عطاء الله ممنوعا، ثم قال
لنبيه والمراد به أمته معه " انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض " بأن جعلنا
بعضهم أغنياء، وبعضهم فقراء، وبعضهم موالي، وبعضهم عبيدا، وبعضهم
أصحاء وبعضهم مرضى، بحسب ما علمنا من مصالحهم. ثم قال " وللآخرة أكبر
درجات وأكبر تعضيلا " لأنهم معطون على مقدار طاعتهم، فمن كان كثير الطاعة.

(1) سورة البقرة اية 245
463

حصلت له الدرجات العالية من الثواب. وإنما أراد يبين أن التفاضل في الدنيا
إذا كان يتنافس عليه، فالتفاضل في الجنة أولى بن يرغب فيه.
ثم قال لنبيه والمراد به أمته " لا تجعل مع الله إلها آخر " توجه إليه عبادتك
وتستدعي الحوائج من قبله فإنك إن فعلت ذلك قعدت مذموما مخذولا، وإذا
كان الخطاب عاما كان التقدير، فلا تجعل أيها الانسان مع الله إلها آخر. ونصب
" فتقعد " لأنه جواب النهي.
قوله تعالى:
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما
يبلغن عندك الكبير أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا
تنهر هما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل
من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) (24) آيتان بلا
خلاف.
قرا حمزة والكسائي وخلف " يبلغان " بألف وكسر النون على التثنية.
الباقون يبلغن على الوحدة. وقرأ ابن كثير، وابن عباس، ويعقوب " أف " بفتح
الفاء من غير تنوين. وقرأ أهل المدينة وحفص بكسر الفاء مع التنوين. الباقون
بكسر الفاء من غير تنوين، ومثله في الأحقاف.
قال أبو علي الفارسي قوله " أحدهما " مرتفع بالفعل، وقوله " أو كلاهما "
معطوف عليه، والذكر الذي عاد من قوله " أحدهما " يغني عن إثبات علامة
الضمير في يبلغن)، فلا وجه لمن قال: إ الوجه إثبات الألف، لتقدم ذكر الوالدين.
ويجوز أن يكون رفع (أحدهما) على البدل من الضمير في (يبلغان) ويجوزان
يرفعه بفعل مجدد على تقدير إما يبلغان عندك الكبر. يبلغ أحدهما أو كلاهما،
464

ويكون رفعا على السؤال والتفسير كقوله " وأسروا النجوى الذين ظلموا " (1)
ومن أثبت الألف، فعلى وجه التأكيد، ولو لم يذكر لم يخل بالكلام نحو قوله
" أموات غير أحياء " (2) فقوله " غير أحياء " توكيد، لان قوله " أموات " دل
عليه " قال: وقول ابن كثير (أف) يبني الفاء على الفتح، لأنه وإن كان في
الأصل مصدرا من قولهم (أفه وتفه) يراد به نتنا وذفرا، لقد سمي الفعل به فبني،
وهذا في البناء على الفتح كقولهم (سرعان ذا إهالة) لما سار اسما ل‍ (سرع)،
فكذلك (أف) لما كان اسما (كره)، ومثله ريدا، في أنه سمي به الفعل، فبني
ولم يلحق التنوين إلا أن هذا للامر والنهي، واف في الخبر. وقول نافع في البناء
على الكسر مع التنوين، مثل (أف) في البناء على الفتح: إلا أنه بدخول التنوين دل
على التنكير مثل إيه ومه وصه، ومثله قولهم صه، فبنوه على الكسر، وإن
كان في الأصل مصدرا، كما كان (أف) في الأصل كذلك، ومن كسر ولم ينون
جعله معرفة، فلم ينون، كما أن من قال: صه وضاف، فلم ينون أراد به المعرفة.
وموضع (أف) على اختلاف القراءات موضع الجمل، مثل (رويد) في أن موضعه
موضع الجمل وكذلك لو قلت: هذا فدا (3) قال أبو الحسن. وقول من قال (أف)
أكثر وأجود ولو جاء (أفا لك) أحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون الذي
صار اسما للفعل لحقه التنوين لعلامة التنكير. والآخر أن يكون نصبا معربا،
وكذلك الضمير، فإن لم يكن معه لك كان ضعيفا، كما انك لا تقول ويل حتى
تقرن به لك، فيكون في موضع الخبر و (أف) كلمة يكنى بها عن الكلام.
القبيح وما يتأفف به، لان التف وسخ الظفر و (آلاف) وسخ الاذن. وقيل
التف كل ما رفعت بيدك من حقير من الأرض، وقيل معنى آلاف الثوم، وقيل

(1) سورة 21 الأنبياء اية 3
(2) سورة 16 النحل اية 21
(3) في المخطوطة (هذا قفا) ونسخة أخرى (هذا فداء لك) وقد تركنا ما في المطبوع على
حاله فلم نغير فيه شئ.
465

الشر، وقد جرى مجرى الأصوات، فزال عنه الاعراب مثل (صه) ومعناه
اسكت، ومه ومعناه كف وهيهات هيهات اي بعيد بعيد، فإذا نونت أردت
النكرة أي سكونا وقبحا، وإذا لم تنون أردت المعرفة. وإنما جاز تحريك الفاء بالضم
والفتح والكسر، لان حركتها ليست حركة إعراب، وإنما هي حركة التقاء الساكنين
فتفتح لخفة الفتحة، وتضم اتباعا للضم قبله، وقيل تضم تشبيها بقبل وبعد
وتكسر على أصل حركة التقاء الساكنين.
وفي (أف) سبع لغات: أف واف واف وافاوا في مما له، وزاد ابن الأنباري
بسكون الفاء. وروي عن الرضا عن أبية عن جعفر بن محمد (ع) أنه قال (لو علم
الله لفظ أوجز في ترك عقوق الوالدين من (أف) لاتى به). فان قيل هل أباح الله
أن يقال لهما أف قبل أن يبلغا الكبر؟ قلنا: لا، لان الله أوجب على الولد إطاعة
الوالدين على كل حال. وحظر عليه أذاهما وإنما خص الكبر، لان وقت كبر
الوالدين مما يضطر فيه الوالدان إلى الخدمة إذا كانا محتاجين عند الكبر، وفي المثل
يقال فلان أبر من النسر، لان النسر إذا كبر ولم ينهض للطيران جاء الفرخ فزقه،
كما كان أبواه يزقانه، ومثله قوله " ويكلم الناس في المهد وكهلا " (1) والوجه في
قوله " وكهلا " مع أن الناس يكلمون كلهم حال الكهولة ان الله اخبر أن عيسى
يكلم في المهد أعجوبة وأخبر أنه يعيش حتى يكتهل ويتكلم بعد الكهولة، ونحوه
قوله " والامر يومئذ لله " (2) وإنما خص ذلك اليوم بأن الامر لله، لان في الدنيا مع
أنه يملك، قد ملك أقواما جعلهم ملوكا وخلفاء، وذلك اليوم لا يملك سواه.
معنى قوله " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " أمر، في قول ابن عباس والحسن
وقتادة وابن زيد. فإن قيل: الامر لا يكون أمرا بألا يكون الشئ، لأنه يقتضي
إرادة المأمور به، والإرادة لا تتعلق بألا يكون الشئ، وإنما تتعلق بحدوث
الشئ.
قلنا: المعنى انه كره ربكم عبادة غيره وأراد منكم عبادته على وجه الاخلاص

(1) سورة 3 آل عمران اية 46
(2) سورة 82 الانفطار اية 19
466

وسمى ذلك أمرا ب‍ " أن لا تعبدوا إلا إياه " لان معناهما واحد. وقوله
" وبالوالدين احسانا " العامل في الباء يحتمل شيئين: أحدهما - وقضى بالوالدين
إحسانا. والثاني - وأوصى، وحذف لدلالة الكلام عليه، والمعنى متقارب،
والعرب تقول: أمر به خيرا وأوصى به خيرا، وقال الشاعر:
عجبت من دهماء إذ تشكونا * ومن أبي دهماء إذ يوصينا
خيرا بها كأننا جافونا (1)
فأعمل " يوصينا " في الخير، كما أعمل في الاحسان. وقوله " إما يبلغن عندك
الكبر أحدهما أو كلاهما " معناه متى بلغ واحد منهما أوهما الكبر " فلا تقل لهما
أف " أي لا تؤذهما بقليل ولا كثير " ولا تنهرهما " أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح
يقال: نهره ينهره نهرا، وانتهره انتهارا إذا أغلظ له " وقل لهما قولا كريما " أي
شريفا تكرمهما به. وتوقرهما " واخفض لهما جناح الذل " أي تواضع لهما
واخضع لهما.
وقرأ سعيد بن جبير " الذل " بكسر الذال والذل والذلة مصدر الذليل،
والذل مصدر الذلول، مثل الدابة والأرض تقول: جمل ذلول، ودابة ذلول
" وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " أي ادع لهما بالمغفرة والرحمة كما ربياك في
حال صغرك. وقال قوم الاستغفار لهما منسوخ إذا كانا مشركين بقوله " ما كان
للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " (2). وقال البلخي: الآية تختص
بالمسلمين.
قوله تعالى:
(ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان

(1) تفسير الطبري 15: 44 (الطبعة الأولى)
(2) سورة 9 التوبة آية 114
467

للأوابين غفورا (25) وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل
ولا تبذر تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان
الشيطان لربه كفورا) (27) ثلاث آيات.
يقول الله تعالى مخاطبا للمكلفين من عباده إنه أعلم بهم، ومعناه إن معلوماته
أكثر من معلوماتكم، وقد يقال: أعلم بمعنى أثبت فيما به يعلم، فيجئ من هذا إن
الله تعالى أعلم بأن الجسم حادث من الانسان العالم به. وكذلك كل شئ يمكن
ان يعلم على وجوه متغايرة، فالله تعالى عالم به على تلك الوجوه وإن خفي على
الواحد منا بعضها.
ومعنى " بما في نفوسكم " اي بما تضمرونه وتخفونه عن غيركم، فالله أعلم به
منكم، وفي ذلك غاية التهديد. ثم قال " ان تكونوا صالحين " اي تفعلون الافعال
الصالحة الحسنة الجميلة، فان الله " كان للأوابين غفورا " معنى " الأوابين " التوابين
وهم الذين يتوبون مرة بعد مرة - في قول سعيد بن المسيب - كلما أذنب ذنبا
بادر بالتوبة. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: الأواب هو الراجع عن ذنبه
بالتوبة. وأصله الرجوع يقال: آب يؤوب أوبا إذا رجع من سفره، قال عبيد
بن الأبرص.
وكل ذي غيبة يؤب * وغائب الموت لا يؤب (1)
ثم قال " وآت ذا القربى حقه " وهو أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ان يعطي ذوي
القربى حقوقهم النبي جعلها الله لهم، فروي عن ابن عباس والحسن: انهم قرابة
الانسان. وقال علي بن الحسين (ع): هم قرابة الرسول، وهو الذي رواه أيضا
أصحابنا. وروي انه لما نزلت هذه الآية استدعى النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة (ع) وأعطاها
فدكا وسلمه إليها، وكان وكلاؤها فيها طول حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مضى النبي صلى الله عليه وسلم.

(1) ديوانه (دار بيروت) 16 وتفسير الطبري 15: 48
468

أخذها أبو بكر، ودفعها عن النحلة. والقصة في ذلك مشهورة، فلما لم يقبل
بينتها، ولا قبل دعواها طالبت بالميراث، لان من له الحق إذا منع منه من وجه
جاز له ان يتوصل إليه بوجه آخر، فقال لها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (نحن
معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) فمنعها الميراث أيضا وكلامهما في ذلك
مشهور، لا نطول بذكره الكتاب.
وقوله " والمسكين وابن السبيل " أي وأعطوا هؤلاء أيضا حقوقهم التي
جعلها الله لهم من الزكوات وغير ذلك. ثم نهاهم عن التبذير بقوله " ولا تبذر
تبذيرا " والتبذير التفريق بالاسراف. وقال عبد الله: التبذير إنفاق المال في
غير حقه، وهو قول ابن عباس وقتادة. وقال مجاهد لو انفق مدا في باطل
كان تبذيرا.
ثم قال " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " وقيل في معناه
قولان.
أحدهما - إن الشيطان أخوهم باتباعهم آثاره وجريهم على سنته.
والثاني - انهم يقرنون بالشيطان في النار. ثم أخبر عن حال الشيطان بأنه
كفور لنعم الله تعالى وجاحد لآلائه.
قوله تعالى:
(وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل
لهم قولا ميسورا (28) ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك. ولا
تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (29) إن ربك يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) (30)
ثلاث آيات بلا خلاف.
469

يقول الله تعالى " وإما تعرضن " وتقديره، وإن تعرض و (ما) زايدة.
والمعنى: ومتى ما صرفت وجهك عنهم، يعني عن الذين أمروا بإعطائهم حقوقهم
ممن تقدم ذكره، لأنه قد تعرض عند عوز ما طلبوه، ليبتغي الفضل من الله،
والسعة التي يمكنه معها البذل، والتقدير وإذا أتتك قرابتك أو سواهم من
المحتاجين يسألونك فأعرضت عنهم لأنه لا شئ عندك، فقل لهم قولا حسنا،
اي عدهم عدة جميلة. والاعراض صرف الوجه عن الشئ، وقد يكون عن
قلى وقد يكون للاشتغال بما هو الأولى، وقد يكون لاذلال الجاهل مع صرف
الوجه عنه، كما قال " واعرض عن الجاهلين " 1) وقوله " ابتغاء رحمة من ربك
ترجوها " والابتغاء الطلب. وقوله " ترجوها معناه تأملها، والرجاء تعلق
النفس بطلب الخير ممن يجوز منه، ومن يقدر على كل خير وصرف كل شر، فهو
أحق بأن يرجا، ولذلك قال أمير المؤمنين (ع) (ألا لا يرجون أحدكم إلا ربه،
ولا يخافن إلا ذنبه).
وقوله: " وقل لهم قولا ميسورا " المعنى إذا أعرضت ابتغاء رزق من ربك،
فقل لهم قولا لينا سهلا، مثل: زقنا الله تعالى، وهو قول الحسن ومجاهد وإبراهيم
وغيرهم. وقال ابن زيد: تعرض عنهم إذا خشيت أن ينفقوا بالعطية على معاصي
الله، فيكون تبتغي رحمة من الله لهم بالتوبة، وأصل التيسير التسهيل، واليسر
خلاف العسر، وقد يكون التيسير بالتقليل، فيسهل عليه لقلته، ويكون
بمنزلة المعونة على عمله.
ثم قال تعالى " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " أي لا تكن ممن لا يعطي
شيئا ولا يهب، فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه، لا يقدر على الاعطاء
وذلك مبالغة في النهي عن الشح والامساك " ولا تبسطها كل البسط " أي ولا
تعط أيضا جميع ما عندك، فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا يستقر فيها شئ
وذلك كناية عن الاسراف. وقوله " فتقعد ملوما محسورا " معناه إن أمسكت

(1) سورة 7 الأعراف اية 199
470

قعدت ملوما عند العقلاء مذموما، وإن أسرفت بقيت محسورا، أي مغموما
متحسرا، وأصل الحسر الكشف من قولهم، حسر عن ذراعيه يحسر حسرا،
إذا كشف عنهما. والحسرة الغم لانحسار ما فات، ودابة حسير إذا كلت لشدة
السير، لانحسار قوتها بالكلال. وكذلك قوله " ينقلب إليك البصر خاسئا وهو
حسير " (1) والمحسور المنقطع به لذهاب ما في يده، وانحساره انقطاعه عنه، قال
الهذلي:
إن العسير بها داء مخامرها * فشطرها نظر العينين محسور (2)
ثم قال " إن ربك " يا محمد " يبسط الرزق لمن يشاء " فيوسعه عليه على
حسب ما يعلم له من المصلحة فيه " ويقدر " أي يضيق عليه لعلمه بما فيه من
الصلاح، كما قال " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض (3) " وقوله " انه
كان بعباده خبيرا بصيرا " أي وهو عالم بأحوالهم، لا يخفى عليه ما يصلحهم،
وما يفسدهم، فيفعل معهم بحسب ذلك.
قوله تعالى:
(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن
قتلهم كان خطئا كبيرا (31) ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة
وساء سبيلا (32) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل
إنه كان منصورا) (33) ثلاث آيات.

(1) سورة 67 الملك (تبارك) اية 4
(2) الشاعر هو قيس بن خويلد الهذلي، الكامل 109، 410 واللسان والتاج (حسن)
(شطر) ومجاز القرآن 1: 375
(3) سورة 42 الشورى اية 27
471

قرأ ابن كثير " خطأ " بكسر الخاء وبألف بعد الطاء ممدودا. وقرأ أبو
جعفر وابن ذكوان - بفتح الخاء والطاء - من غير ألف بعدها وبغير مد.
الباقون بكسر الخاء من غير مد، إلا أن الداجوني عن هشام روى وجهين:
أحدهما - مثل أبي عمرو، والآخر - مثل أبي جعفر. وقرأ أهل الكوفة إلا
عاصما " فلا تسرف " بالتاء. الباقون بالياء. قال أبو علي الفارسي: قول ابن
كثير (خطأ) يجوز أن يكون مصدر خاطأ، ان لم يسمع (خاطأ) ولكن قد
جاء ما يدل عليه، لان أبا عبيدة انشد:
تخاطأت النبل أحشأه (1)
وانشدنا محمد بن السدي في وصف كمأة:
وأشعث قد ناولته أحرس القرى * أدرت عليه المدجنات الهواضب
تخاطاءه القناص حتى وجدته * وخرطومه من منقع الماء راسب (2)
فتخاطأت مما يدل على خاطأ، لان (تفاعل) مطاوع (فاعل) كما أن (تفعل) مطاوع
فعل، وقول ابن عامر (خطأ)، فان أخطأ ما لم يتعمد، وما كان المأثم فيه موضوعا
عن فاعله، وقد قالوا: أخطأ في معنى خطئ، كما أن خطئ في معنى أخطأ،
قال الشاعر:
عبادك يخطئون وأنت رب * كريم لا تليق بك الذموم (3)
ففحوى الكلام أنهم خاطئون، وفي التنزيل " لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا "
فالمؤاخذة من المخطئ موضوعة، فهذا يدل على أن أخطأ في قوله:
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا (4)

(1) تفسير القرطبي 10: 253 واللسان " خطئ " وعجزه:
واخر يوم فلم اعجل
(2) تفسير القرطبي 10: 253 وتفسير روح المعاني 15: 67
(3) اللسان " خطا "
(4) قائله امرؤ القيس: ديوانه " الطبعة الرابعة " 175 واللسان " خطأ ". وهو مطلع
رجز قاله عندما أغار على بني أسد لما نزلوا على بني كنانة وبعده:
تالله لا يذهب شيخي باطلا * حتى ابير مالك وكاهلا
القاتلين الملك الحلا حلا
472

وفي قول آخر:
والناس يلحون الأمير إذا هم * خطئوا الصواب ولايلام المرشد (1)
اي اخطؤه، وكذلك قول ابن عامر (خطأ) في معنى أخطأ، وجاء الخطأ في
معنى الخطاء، كما جاء خطئ في معنى أخطأ. وقال أبو الحسن: هذا خطأ من
رأيك، فيمكن أن يكون خطأ لغة فيه أيضا. ومن قرأ " خطأ " فلانه يقال خطئ
يخطأ خطأ إذا تعمد الشئ حكاه الأصمعي، والفاعل منه خاطئ، وقد جاء
الوعيد فيه في قوله " لا يأكله إلا الخاطئون " (2) ويجوز أن يكون الخطأ لغة في
الخطأ مثل المثل والمثل، والشبه والشبهة، والبدل والبدل، قال الفراء: لغتان
مثل قتب وتقب، بدل وبدل، وحكى ابن دريد عن أبي حاتم، قال تقول:
مكان مخطؤ فيه من خطئت ومكان مخطأ فيه من أخطأ يخطئ، ومكان مخطو
بغير همزة من تخطى الناس فيخطى، ومن همزه تخطيت الناس، ففقد غلط
وقال المبرد: خطأه وخطاه بمعنى، عند أبي عبيدة والفراء والكسائي، إلا أن
(الخطأ) بكسر الخاء أكثر في القرآن (والخطأ) بالفتح افشى في كلام الناس ولم
يسمع الكثير في شئ من اشعارهم الا في بيت قاله الشاعر:
الخطأ فاحشة والبر فاضلة * كعجوة غرست في الأرض توبير (3)
قال أبو عبيد: وفيه لغتان، خطئت وأخطأت، فمن قال: خطئت قال خطأ
الرجل يخطأ خطأ، وخطاء، يكون الخطأ بفتح الخاء هو المصدر، وبكسرها
الاسم. ومن قال أخطأت كان الخطأ بالفتح والكسر، جميعا اسمين والمصدر
الأخطاء.
وقال أبو علي: قوله " فلا يسرف في القتل " فاعل يسرف يجوز أن يكون
أحد شيئين:
أحدهما - أن يكون القاتل الأول، فيكون التقدير فلا يسرف القاتل في القتل

(1) قائله عبيد ابن الأبرص. ديوانه " دار بيروت " 58 وروايته (إذا غوى خطب)
وقد مر في 2: 387.
(2) سورة 69 الحاقة آية 37
(3) تفسير الطيري 15: 54
473

وجاز أن يضمر، وإن لم يجر له ذكر، لان الحال تدل عليه، ويكون تقديره
بالاسراف جاريا مجرى قوله في أكل مال اليتيم " ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن
يكبروا " (1) وإن لم يجز أن تأكل منه لا على الاقتصاد ولا على غيره، لقوله " إن
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " (2) فحظر أكل
مال اليتيم حظرا عاما وعلى كل حال، فكذلك لا يمتنع أن يقال للقاتل الأول
لا تسرف في القتل، لأنه يكون بقتله مسرفا، ويؤكد ذلك قوله " يا عبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم " (3) فالقاتل داخل في هذا الخطاب - بلا خلاف - مع جميع
مرتكبي الكبائر، ويكون الضمير على هذا في قوله " انه كان منصورا " على قوله
" ومن قتل مظلوما " (وتقديره، فلا يسرف القاتل الأول بقتله في القتل، لان من
قتل مظلوما كان منصورا) (4) بأن يقتص له وليه أو السلطان إن لم يكن له ولي
غيره، فيكون هذا ردعا للقاتل عن القتل، كما أن قوله " ولكم في القصاص
حياة " (5) كذلك، فالولي إذا اقتص، فإنما يقتص للمقتول، ومنه انتقل إلى
الولي بدلالة أن المقتول يبرئ من السبب المؤدي إلى القتل، ولم يكن للولي أن
يقتص، ولو صالح الولي من العمد - على مال كان - للمقتول أن يؤديه منه دينا عليه
أن يقتص منه دون المقتول، ولا يمتنع أن يقال في المقتول منصور، لأنه قد جاء قوله
" ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ".
والآخر - أن يكون في يسرف ضمير الولي، وتقديره فلا يسرف الولي في
القتل، وإسرافه فيه أن يقتل غير من قتل أو يقتل أكثر من قاتل وليه، لان
مشركي العرب كانوا يفعلون ذلك، والتقدير فلا يسرف في القتل ان الولي كان
منصورا بقتل قاتل وليه. والاقتصاص منه.
ومن قرا بالتاء احتمل أيضا وجهين:

(1) سورة 4 النساء اية 5
(2) سورة النساء 9
(3) سورة 39 الزمر آية 53
(4) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة
(5) سورة البقرة اية 179
474

أحدهما - أن يكون المستثنى القاتل ظلما، فقيل له لا تسرف أيها الانسان
فقتل ظلما من ليس لك قتله، إذ من قتل مظلوما كان منصورا بأخذ القصاص له.
والآخر - أن يكون الخطاب للولي، والتقدير لا تسرف في القتل أيها الولي
فتتعدى قاتل وليك إلى من لم يقتله، لان المقتول ظلما كما منصورا، وكل واحد
من المقتول ظلما ومن ولي المقتول قد تقدم في قوله " ومن قتل مظلوما " الآية.
وقوله " ولا تقتلوا " يحتمل موضعه شيئين من الاعراب:
أحدهما - أن يكون نصبا ب‍ " قضى ربك ان لا تعبدوا إلا إياه.. ولا تقتلوا "
ويحتمل أن يكون جزما على النهي، فيكون الله تعالى نهى الخلق عن قتل
أولادهم خشية الاملاق.
و (الاملاق) الفقر، وهو قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وإنما نهاهم
عن ذلك لأنهم كانوا يئدون البنات بدفنهم احياء فنهاهم الله عن ذلك.
وقوله " نحن نرزقهم وإياكم " إخبار منه تعالى انه الذي يرزق الأولاد والآباء
فلا ينبغي قتلهم خوف الفقر، وأخبر ان قتلهم في الجاهلية " كان خطأ كبيرا "
وهو الان خطأ وإثم كبير، ثم قال " ولا تقربوا الزنى " ومعناه لا تزنوا، والزنا
هو وطؤ المرأة حراما بلا عقد ولا شبهة عقد مختارا، ثم اخبر ان الزنا فاحشة
اي معصية كبيرة " وساء سبيلا " اي بئس الطريق ذلك. وفي الناس من قال:
الزنا قبيح بالعقل لما في ذلك من ابطال حق الولد على الوالد، وفساد الأنساب.
وقوله " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله " نهي من الله تعالى عن قتل النفوس المحرم
قتلها، واستثنى من ذلك من يجب عليه القتل إما لكفره، أوردته، أو قتله قصاصا،
فان قتله كذلك حق، وليس بظلم، وقد فسرنا تمام الآية.
والسلطان الذي جعله الله للولي، قال ابن عباس، والضحاك: هو القود أو الدية
أو العفو. وقال قتادة الهاء في قوله " انه كان منصورا " عائدة على الولي. وقال
مجاهد عائدة على المقتول. ونصرة الله له بذلك حكمه له بذلك. وقيل نصرة
النبي والمؤمنين، ان يعينوه وقيل الولي هم الوراث من الرجال من الأولاد الذكور
ومن الأقارب من كان من قبل الأب.
475

قوله تعالى:
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ
أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا (34) وأوفوا الكيل
إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا
(35) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد
كل أولئك كان عنه مسؤولا) (36) ثلاث آيات
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر عن عاصم " بالقسطاس " بكسر القاف. الباقون
بالضم، وهما لغتان. وقال الزجاج: القسطاس هو الميزان صغر أو كبر. وقال
الحسن: هو القبان. وقال مجاهد: هو العدل بالرومية وهو القرصطون. وقال
قوم: هو الشاهين. وقرأ أبو بكر عن عاصم " بالقصطاس " بالصاد قلبت السين
صادا مثل (صراط، وسراط) لقرب مخرجهما.
في الآية الأولى نهي من الله تعالى لجميع المكلفين ان يقربوا مال اليتيم إلا بالتي
هي أحسن، وهو ان يحفظوا عليه ويثمروه أو ينفقوا عليه بالمعروف على ما لا
يشك انه أصلح له، فأما لغير ذلك، فلا يجوز لاحد التصرف فيه. وإنما خص
اليتيم بذلك وإن كان التصرف في مال البالغ بغير اذنه لا يجوز أيضا، لان اليتيم
إلى ذلك أحوج والطمع في مثله أكثر.
وقوله " حتى يبلغ أشده قال قوم: حتى يبلغ ثمانية عشرة سنة. وقال آخرون:
حتى يبلغ الحلم. وقال آخرون - وهو الصحيح - حتى يبلغ كما العقل ويؤنس
منه الرشد.
وقوله " وأوفوا بالعهد " امر من الله تعالى بالوفاء بالعهود، وهو العقد الذي
يقدم للتوثق من الامر، ومتى عقد عاقد على ما لا يجوز، فعليه نقض ذلك العقد
476

الفاسد والتبرؤ منه. وإنما يجب الوفاء بالعقد الذي يحسن. وقيل المعنى في الآية
أوفوا بالعهد في الوصية بمال اليتيم وغيرها. وقيل كل ما امر الله به ونهى عنه، فهو
من العهد، وقد يجب الشئ للنذر، وللعهد، والوعد به، وان لم يجب ابتداء،
وإنما يجب عند العقد.
وقوله " ان العهد كان مسؤولا " قيل في معناه قولان:
أحدهما - انه كان مسؤولا عنه للجزاء عليه، فحذف (عنه) لأنه مفهوم
والثاني - كأن العهد يسأل فيقال له: لم نقضت؟ كما تسأل الموؤودة بأي ذنب
قتلت ثم أمرهم ان يوفوهم الكيل إذا كالوهم، ولا يبخسوهم ولا ينقصوهم، وان
يوفوا، بالميزان المستقيم الذي لا غبن فيه، فإن ذلك خير وأحسن تأويلا، اي
أحسن عاقبة، وهو ما يرجع إليه امره. ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقفو ما ليس له به
علم، وهو متوجه إلى جميع المكلفين، ومعناه لا تقل: سمعت، ولم تسمع، ولا رأيت
ولا علمت، ولم تر، ولم تعلم - في قول قتادة - واصل القفو اتباع الأثر، ومنه القيافة، وكأنه
يتبع قفا الأثر المتقدم قال الشاعر:
ومثل الدمى سم العرانين ساكن * بهن الحيا لا يشعن التقافيا (1)
أي التقاذف. وقال أبو عبيد والمبرد: القفو العضيهة، " ولا تقف " بضم
القاف وسكون الفاء - من قاف يقوف، ويكون من المقلوب مثل جذب وجبذ.
" ومسؤولا " نصب على أنه خبر كان.
واستدل بهذه الآية، على أنه لا يجوز العمل بالقياس ولا بخبر الواحد، لأنهما
لا يوجبان العلم، وقد نهى الله تعالى أن يتبع الانسان ما لا يعلمه. وقوله " ان السمع
والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " أي يسأل عما يفعل بهذه الجوارح
من الاستماع لما لا يحل، والابصار لما لا يجوز. والإرادة لما يقبح. وإنما قال " كل
أولئك " ولم يقل كل ذلك، لان أولئك وهؤلاء للجمع القليل من المذكر والمؤنث
فإذا أراد الكثير جاء بالتأنيث. فقال: هذه وتلك، قال الشاعر:

(1) قائله النابغة الجعدي. شواهد الكشاف 327 وتفسير الطبري 15 / 58 ومجاز القرآن 1 / 379
477

ذم المنازل بعد منزلة اللوى * والعيش بعد أولئك الأيام (1)
قوله تعالى:
(ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن
تبلغ الجبال طولا (37) كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها
(38) ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله
إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) (39) ثلاث آيات.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع " سئ " منونا غير مضاف. الباقون على الإضافة
فمن قرأ على الإضافة قال: لأنه قد تقدم ذكر حسن وسئ في قوله " وقضى
ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " فخص من ذلك السئ بأنه مكروه
عند الله، لأنه تعالى لا يكره الحسن، وقووا ذلك بقراءة أبي " كان سيئاته " بالجمع
مضافا. وقال آخرون إنما أراد بذلك المنهي عنه فقط، وقالوا: ليس فيما نهى
الله تعالى عنه حسن بل جميعه مكروه، " وكل " وإن كان لفظه لفظ الواحد فمعناه
معنى الجميع، فلذلك قال كان بلفظ الواحد. ومثله قوله " وكل أتوه داخرين " (2)
وقال " ان كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " (3) و (مكروها)
على هذه القراءة نصب على الحال من الضمير في " عند ربك " أو يكون بدلا من
قوله " سيئه ".
وفي ذلك دلالة على بطلان مذهب المجبرة من أن الله تعالى يريد المعاصي، لأن هذه
الآية صريحة بأن السئ من الافعال مكروه عند الله.

(1) تفسير القرطبي 10 / 260 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3 / 219 وروح المعاني
15: 74
(2) سورة 27 النمل آية 87
(3) سورة 19 مريم آية 94
478

وقوله " ولا تمش في الأرض مرحا " نهي للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة أن يمشوا
في الأرض مرحين.
وقيل في معنى المرح أربعة أقوال: أولها - انه البطر والأشر. والثاني -
التبختر في المشي والتكبر. الثالث - تجاوز الانسان قدره مستخفا بالواجب عليه
والرابع - شدة الفرح بالباطل.
وقول " انك لن تخرق الأرض " مثل ضربه الله بأنك يا إنسان لن تخرق
الأرض من تحت قدمك بكبرك " ولن تبلغ الجبال " بتطاولك. والمعنى انك لن
تبلغ بما تريد كثير مبلغ، كما لا يمكنك ان تبلغ هذا، فما وجه المكابرة على ما هذه
سبيله مع زجر الحكمة عنه. وأصل الخرق القطع، خرق الثوب تخريقا أي
قطعة ورجل خرق أي يقطع الأمور التي لا ينبغي ان يقطعها. والخرق الفلاة،
لانقطاع أطرافها بتباعدها قال رؤبة:
وقائم الاعماق خاو المخترق * مشتبه الاعلام لماع الخفق (1)
أي خاو المنقطع، والمرح شدة الفرح، مرح يمرح مرحا، فهو مرح. وقال
قتادة: مرحا خيلاء وكبرا. وقوله " ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة "
أي ذلك الذي ذكرناه وقصصناه من جملة ما أوحى إليك يا محمد ربك من الحكمة
أي الدلائل التي تؤدي إلي المعرفة بالحسن والقبيح، والفرق بينهما، والواجب
مما لا يجب، وذلك كله مبين في القرآن، فهو الحكمة البالغة. ثم نهاه ان يتخذ مع
الله معبودا آخر يشركه في العبادة مع الله، فإنك متى فعلت ذلك ألقيت في
" جهنم ملوما " أي مذموما " مدحورا " مطرودا - في قول ابن عباس.
قوله تعالى:
(أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون

(1) ديوانه 108 وقد مر قسم من هذا الرجز في 1: 296 وفي 4: 297
479

قولا عظيما (40) ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما
يزيدهم إلا نفورا (41) قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا
لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) (42) ثلاث آيات بلا خلاف.
الألف في " أفأصفاكم " ألف استفهام، والمراد بها الانكار لأنه لا جواب لمن
سئل إلا بما فيه أعظم الفضيحة، وفي ذلك تعليم سؤال المخالفين للحق، وهذا
خطاب لمن جعل لله بنات، وقال الملائكة بنات الله، فقال الله تعالى لهم:
أأخلص لكم البنين واختار لكم صفوة الشئ دونه؟ وجعل البنات مشتركة بينكم
وبينه، فاختصكم بالأرفع وجعل لنفسه الأدون؟!! ثم أخبر أنهم يقولون في ذلك
" قولا عظيما " أي عظيم الوبال والوزر.
وقوله " لقد صرفنا في هذا القرآن ليتذكروا " وقرأ حمزة والكسائي في
جميع القرآن خفيفا، من ذكر يذكر. والباقون بالتشديد في جميع القرآن بمعنى
ليتذكروا، فادعموا التاء في الذال. وفي ذلك دلالة على بطلان مذهب المجبرة لأنه
أراد التصريف في القرآن، ليذكر المشركون ما يردهم إلى الحق، وهذا مما علقت
الإرادة الفعل فيه بالمعنى من التذكر. ولولاها لم يتعلق. ثم اخبر انه وان أراد
منهم الايمان والهداية بتصريف القرآن لا يزدادون هم إلا نفورا عنه
فان قيل كيف يجوز أن يفعل تعالى ما يزدادون عنده الكفر؟ وهل ذلك
الا استفساد ومنع اللطف؟!
قلنا: ليس في ذلك منع اللطف، بل فيه إظهار الدلائل، مما لا يصح التكليف إلا معه
ولو لم تظهر الدلائل، لازدادوا فسادا بأعظم من هذا الفساد، وفي إظهار الدلائل
صلاح حاصل لمن نظر فيها وأحسن التدبر لها. وإنما جاز أن يزدادوا بما يؤنس
من الدلائل نفورا، باعتقادهم أنها حيل وشبه، فنفروا منها أشد النفور لهذا
الاعتقاد الفاسد، ومنعهم ذلك من التدبر لها وادراك منزلتها في عظم الفائدة،
وجلالة المنزلة.
480

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل " يا محمد لهؤلاء المشركين " لو كان مع الله آلهة " أخرى
كما يزعمون " لابتغوا " ما يقربهم إليه لعلوه عليهم ولعظمته عندهم
- في قول قتادة والزجاج - وقال الحسن والجبائي: لا تبغوا سبيلا إلى مغالبته
ومضادته، كما قال " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " (1)
قوله تعالى:
(سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (43) تسبح له
السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح
بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة
حجابا مستورا) (45) ثلاث آيات بلا خلاف.
قرأ أهل العراق إلا أبا بكر " تسبح " بالتاء. وقرأ ابن كثير وحفص " عما
يقولون " بالياء. وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " عما تقولون " بالتاء.
قال أبو علي: فمن قرأ " عما يقولون " بالياء فالمعنى على ما يقول المشركون. ومن
قرأ بالتاء يحتمل شيئين:
أحدهما - أن يعطف على قوله " كما تقولون " كما عطف قوله " يحشرون " على
" ستغلبون ".
والثاني - أن يكون نزه نفسه عن دعواهم، فقال " سبحانه عما يقولون ". وقرأ
عاصم ونافع وابن عامر وابن عباس: بالياء عطف على ما تقدم. وقوله " عما يقولون "

(1) سورة 21 الأنبياء اية 22
481

على أنه نزه نفسه عن قولهم أو على معنى قل لهم سبحانه عما يقولون فأما قوله " يسبح "
بالياء والتاء، فحسنان. وقد بينا في غير موضع معناه، ويقوي التأنيث قراءة عبد الله
فسبحت له السماوات.
لما اخبر الله تعالى أنه " لو كان معه آلهة " سواه على ما يدعيه المشركون
" ليبتغوا إلى ذي العرش سبيلا " ونزه نفسه عن ذلك، فقال " سبحانه " ويحتمل
أن يكون أمر نبيه أن يقول " سبحانه " أي تنزيها له تعالى " عما يقولون " أي
عن قولهم، ويجوز أن يكون المراد عن الذي يقولونه من الأقوال الشنيعة فيه
بأن معه آلهة " علوا كبيرا " وإنما لم يقل تعاليا، لأنه وضع مصدرا مكان مصدر
نحو " وتبتل إليه تبتيلا " (1) ومعنى " تعالى " اي صفاته في أعلى المراتب، فإنه لا
مساوي له فيها، لأنه قادر، ولا أحد أقدر منه، وعالم لا أحد أعلم منه، ولا
مساوي له في ذلك.
ثم أخبر أنه " يسبح له " اي ينزهه عن ذلك " السماوات السبع والأرض ومن
فيهن " يعني في السماوات والأرض من العقلاء، وتنزيه السماوات والأرض هو ما
فيهما من الدلالة على توحيده وعدله، وأنه لا يشركه في الإلهية سواه. وجرى
ذلك مجرى التسبيح باللفظ، وتسبيح العقلاء يحتمل ذلك: تسبيحهم باللفظ، غير
أن ذلك يختص بالموحدين منهم دون المشركين.
وقوله " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " اي ليس شئ من الموجودات إلا
يسبح بحمد الله، يعني كل شئ يسبح بحمده، من جهة خلقته، أو معنى صفته
إذ كل موجود سوى القديم تعالى حادث، يدعو إلى تعظيمه لحاجته إلى صانع غير
مصنوع، صنعه أو صنع من صنعه، فهو يدعو إلى تثبيت قديم غني بنفسه عن كل
شئ سواه، لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات، وما عداه الحادث يدل على
تعظيمه بمعنى حدثه من معدوم لا يصح الا به، لدخوله في مقدوره أو مقدور

(1) سورة 73 المزمل آية 8
482

مقدوره ومما سبحه من يسبح بحمده من جهته، معنى صفة في قوله، فهو على
العموم في كل شئ.
وقال بعضهم: سل الأرض من شق أنهارك؟ وغرس أشجارك؟ وجنى
ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبار.
وقال الحسن: المعنى وإن من شئ من الاحياء إلا يسبح بحمده. وقال علي
ابن إبراهيم وغيره من أهل العلم: كل شئ على العموم يسبح بحمده حتى صرير
الباب.
وقوله " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " اي لستم تفقهون تسبيح هذه الأشياء،
من حيث لم تنظروا فيها، فتعلموا كيفية دلالتها على توحيده.
وقوله " إنه " كان حليما غفورا " اي كن حليما حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على
كفركم، وأمهلكم إلى يوم القيامة، وستره عليكم، لأنه ستار على عباده، غفور
لهم إذ تابوا وأنابوا إليه.
وقوله " وإذا قرأت القرآن " خطاب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم انه متى قرأ القرآن
" جعلنا بينك " يا محمد " وبين " المشركين " حجابا مستورا " اي كأن بينك وبينهم
حجابا من أن يدركوا ما فيه من الحكمة وينتفعوا به. وقيل: " مستورا "
عن أبصار الناس. وقيل " مستورا " - ههنا - بمعنى ساترا عن إدراكه، كما
يقال: مشؤم عليهم أو ميمون في موضع شائم ويامن، لأنه من شؤمهم ويمنهم.
والأول أظهر وقيل قوله " وجعلنا بينك " وبينهم " حجابا مستورا " نزل
في قوم كانوا يأذونه باللسان إذا تلا القرآن، فحال الله بينهم وبينه حتى لا يؤذوه.
والأول - قول قتادة: والثاني - قول أبو علي، والزجاج. وقال الحسن: معناه
إن منزلتهم فيما أعرضوا عنه منزلة من بينك وبينه حجاب.
قوله تعالى:
(وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا
483

ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا (46)
نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ
يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " (47) أنظر كيف
ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) (48) ثلاث آيات.
معنى قوله " وجعلنا على قلوبهم أكنة " أي حكمنا بأنهم بهذه المنزلة ذما
لهم على الامتناع من تفهم الحق، والاستماع إليه، لتأمل معانيه، مع الاعراض عنه
عداوة له ونفورا منه. وقال الجبائي: إنه تعالى منعهم من ذلك وحال بينهم
وبينه في وقت مخصوص، لئلا يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال " وجعلنا " ولم يقل
وجعلناهم " على قلوبهم أكنة " لأنه أبلغ في الذم مع قيام الدليل من جهة التكليف
أنه ليس على جهة المنع، وإنما لم يجز المنع والحيلولة بينهم وبين ان يفقهوه، لان
ذلك تكليف ما لا يطاق، وذلك قبيح لا يجوز ان يفعله الله تعالى، على أنه لا
يصح ان يريد تعالى ما يستحيل حدوثه، وإنما يصح ان يراد ما يصح ان يحدث
أو يتوهم ذلك منه، لان استحالته صارفة عن أن يراد، ولاداع يصح أن يدعو
إلى ارادته، وتجري استحالة ذلك مجرى استحالة ان يريد كون الشئ موجودا
معدوما في حال واحده.
(والأكنة) جمع كنان، وهو ما ستر. وقوله " وفي آذانهم وقرا " أي
وجعلنا في آذانهم وقرا. (والوقر) - بفتح الواو - الثقل في الاذن، وبالكسر
الحمل. والأصل فيه الثقل إلا أنه خولف بين البنائين للفرق.
وقوله " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " يعني إذا ذكرته بالتوحيد
وانه لا شريك له في الإلهية " ولوا " عنك ولم يسمعوه " على ادبارهم نفورا "
نافرين عنك. وقال بعضهم: إذا سمعوا بسم الله الرحمن الرحيم ولوا.
ثم اخبر تعالى عن نفسه انه " اعلم " من غيره " بما يستمعون إليك " في حال
ما " يستمعون إليك " اي يصغون إلى سماع قراءتك ويعلم أي شئ غرضهم فيه
484

وقوله: " وإذ هم نجوى " معناه إذ يتناجون بأن يرفع كل واحد سره إلى الآخر،
ووصفوا بالمصدر، لان نجوى مصدر، ونجواهم زعمهم انه مجنون، وانه ساحر
وانه اتى بأساطير الأولين - في قول قتادة - وكان من جملتهم الوليد بن المغيرة
وقوله " إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " قيل في معناه
قولان:
أحدهما - إنكم ليس تتبعون إلا رجلا قد سحر، فاختلط عليه أمره، يقولون
ذلك للتنفير عنه، كما يقال: سحر فلان، فهو مسحور إذ اختلط عقله. وقيل
" مسحورا " أي مصروفا عن الحق، يقال: ما سحرك عن كذا؟ أي ما صرفك.
الثاني - ان له سحرا أي رئة، لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو مثلكم.
والعرب تقول للجبان: انتفخ سحره قال لبيد:
فان تسلينا فيم نحن فإننا * عصافير من هذا الأنام المسحر (1)
وقال آخر:
ونسحر بالطعام وبالشراب (2)
وقيل: إن " نفورا " جمع نافر، كقاعد وقعود، وشاهد وشهود، وجالس
وجلوس. وقيل: مسحور معناه مخدوع. ومعنى الآية البيان عما يوجبه حال
الجاحد للحق المعادي لأهله وذمه بأن قلبه كأنه في أكنة عن تفهمه، وكأن في
أذنيه وقرا عن استماعه فهو مول على دبره، نافر عنه بجهله يناجي بالانحراف عنه
جهالا مثله، قد تعبوا بالحجة حتى نسبوا صاحبها إلى أنه مسحور، لما لم يكن إلى
مقاومة ما أتى به سبيل، ولا على كسره دليل.

(1) ديوانه 1 / 80 وتفسير القرطبي 10 / 272 ومجاز القرآن 1 / 381 وتفسير الطبري 15 / 63
واللسان (سحر) وروح المعاني 15: 90 وقد مر في 1: 372
(2) قائله امرؤ القيس. ديوانه (الطبعة الرابعة) 63 القصيدة 3 وهو مطلعها. وتفسير
القرطبي 10: 273 ومجاز القرآن 1: 382 واللسان (سحر) وتفسير الشوكاني 3: 223
وتفسير روح المعاني 15: 90 وغيرها، وقد مر في 1: 372، 5: 268 من هذا
الكتاب، وصده:
أرانا موضعين لامر غيب
485

وقوله " انظر " أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينظر " كيف ضربوا لك الأمثال " أي
كيف ضرب هؤلاء المشركون له المثل بالمسحور وغير ذلك، فجاروا بذلك عن
طريق الحق، فلا يسهل عليهم ولا يخف الرجوع إليه ولا اتباع سبيل الدين،
ويحتمل أن يكون المعنى إنهم لا يقدرون على تكذيبك، وإن ما ذكروه فيك
من قولهم مسحور وكذاب صرفهم ولا يستطيعون على ذلك.
قوله تعالى:
(وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا
جديدا (49) قل كونوا حجارة أو حديدا (50) أو خلقا مما
يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول
مرة فسينغضون إليك رؤسهم ويقولون متى هو قل عسى أن
يكون قريبا) (51) ثلاث آيات بلا خلاف.
حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين أنكروا البعث، والنشور، والثواب
والعقاب: أنهم يقولون " أإذا كنا عظاما " أي إذا متنا وانتثرت لحومنا وبقينا
" عظاما ورفاتا " قال مجاهد: الرفات التراب. وبه قال الفراء وقال: لا واحد
له من لفظه، وهو بمنزلة الدقاق، والحطام، قال المبرد: كل شئ مدقوق مبالغ
في دقه حتى انسحق، فهو رفات، يقال: رفت رفتا، فهو مرفوت إذا
صير كالحطام.
و (إذا) في موضع نصب بفعل يدل عليه " لمبعوثون " وتقديره أنبعث " إذا
كنا عظاما. ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا " وصورته صورة الاستفهام
وإنما هم منكرون لذلك متعجبون منه وكل ما تحطم وترضض يجئ أكثره على
(فعال) مثل (حطام، ورضاض ودقاق وغبار وتراب)) والخلق الجديد: هو المجدد
أي يبعثهم الله أحياء بعد أن كانوا أمواتا، أنكروا ذلك وتعجبوا منه، فقال
الله لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل " لهم " كونوا حجارة أو حديدا " أي لم كنتم حجارة أو حديدا
486

بعد موتكم لأحياكم وحشركم ولم تفوتوا الله، إلا أنه خرج مخرج الامر، لأنه أبلغ
في الالزام، كأن أكثر ما يكون منهم مطلوب حتى يروا أنه هين حقير " أو
خلقا مما يكبر في صدوركم " فقيل في معناه ثلاثة أقوال:
قال مجاهد: السماوات والأرض والجبال. وقال قتادة: أي شئ استعظموه
من الخلق. وقال ابن عباس. وسعيد بن جبير والفراء: انه الموت. قال الفراء
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت لو كنا الموت من كان يميتنا؟! فأنزل الله " أو خلقا مما يكبر
في صدوركم " يعني الموت نفسه اي ليبعث الله عليكم من يميتكم ثم يحييكم.
" فسيقولون من يعيدنا " اخبار منه حكاية عن هؤلاء الكفار انهم يقولون من
يعيدنا احياء؟ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل الذي فطركم أول مرة " اي الذي خلقكم
ابتداء يقدر على إعادتكم، لان ابتداء الشئ أصعب من إعادته، كما قال " وهو
الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " (1) وقال لما قالوا " من يحيي العظام
وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " (2) وإنما قال
لهم ذلك، لأنهم كانوا يقرون بالنشأة الأولى.
وقوله " فسينغضون إليك رؤوسهم " معناه انهم إذا سمعوا لهذا حركوا
رؤوسهم مستبعدين لذلك. وقال ابن عباس يحركون رؤوسهم مستهزئين، يقال:
أنغضت رأسي أنغضه إنغاضا، ونغض برأسه ينغض نغضا إذا حركه والنغض
تحريك الرأس بارتفاع وانخفاض. ومنه قيل للظليم نغض، لأنه يحرك رأسه في
مشيه بارتفاع وانخفاض قال العجاج:
اصك نغضا لا يني مستهدجا (3)
ونغضت سنه إذا تحركت من أصلها قال الراجز:
ونغضت من هرم أسنانها (4)

(1) سورة 30 الروم آية 27
(2) سورة 36 يس آية 79
(3) تفسير الطبري 15: 65 وتفسير الشوكاني 3: 226
(4) تفسير الطبري 15 / 65 وتفسير الشوكاني 3: 226 وتفسير القرطبي 10: 274 ومجاز
القرآن 1: 382
487

وقال آخر:
لما رأتني أنغضت لي الرأسا (1)
" ويقولون " هؤلاء الكفار " متى هو " يعنون بعثهم وإعادتهم أحياء فقال
الله تعالى " قل " لهم يا محمد " عسى أن يكون قريبا " وعسى من الله واجبة،
وكل ما هو آت قريب، ومن كلام الحسن أنه قال: كأنك بالدنيا لم تكن وكأنك
بالآخرة لم تزل.
قوله تعالى:
(يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا
قليلا (52) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان
ينزغ بينهم إن الشيطان كان للانسان عدوا مبينا (53) ربكم
أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم
وكيلا) (54) ثلاث آيات بلا خلاف.
" يوم " يتعلق بقوله " قل عسى أن يكون " بعثكم أيها المشركون " قريبا يوم
يدعوكم " وقيل في معني قوله " يوم يدعوكم " قولان:
أحدهما - انهم ينادون بالخروج إلى ارض المحشر بكلام تسمعه جميع العباد،
وذلك يكون بعد ان يحييهم الله، لأنه لا يحسن ان ينادى المعدوم ولا الجماد.
الثاني - انهم يسمعون صيحة عظيمة، فتكون تلك داعية لهم إلى الاجتماع إلى
ارض القيامة، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن البعث ويكون اجرى صرخة ثانية

(1) مجاز القرآن 1: 382 وتفسير الطبري 1: 655 والشوكاني 3: 226
488

بسرعة فأجرى مجرى، دعي فأجاب في الحال " فيستجيبون بحمده " قيل في
معناه قولان:
أحدهما - تستجيبون حامدين، كما يقول القائل: جاء فلان بغضبه اي جاء
غضبان.
الثاني - تستجيبون على ما يقتضيه الحمد لله (عز وجل)، وقيل: معناه
يستجيبون معترفين بأن الحمد لله على نعمه، لا ينكرونه، لان معارفهم هناك
ضرورة قال الشاعر:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست ولا من غدرة اتقنع (1)
والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه بفعله من اجل دعائه، وهي والإجابة
واحدة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة بالإرادة بأوكد من الإجابة.
وقوله " وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " قيل في معناه قولان:
أحدهما - انهم لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة اللبث.
الثاني - انه يراد بذلك تقريب الوقت، كما حكي عن الحسن أنه قال: كأنك
بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل. وقال قتادة: المعنى احتقارا من الدنيا حين
عاينوا يوم القيامة. وقال الحسن ان " لبثتم إلا قليلا " في الدنيا لطول لبثكم
في الآخرة.
وقوله " وقل لعبادي يقول التي هي أحسن " قال الحسن: معناه " قل " يا محمد
" لعبادي " يأمروا بما امر الله به، وينهوا عما نهى عنه. وقال الحسن: معناه قل
لعبادي يقل بعضهم لبعض أحسن ما يقال، مثل رحمك الله ويغفر الله لك. ثم أخبر
تعالى فقال " إن الشيطان ينزع بينهم " اي يفسد بينهم ويلقي بينهم العداوة والبغضاء.
وقال " إن الشيطان كان " في جميع الأوقات عدوا مباينا " للانسان " آدم
وذريته.
وقوله " وربكم أعلم بكم " معناه التحذير لعباده من إضمار القبيح، والترغيب

(1) تفسير القرطبي 10: 266 وتفسير الشوكاني 3: 226 وتفسير روح المعاني 15: 93
489

في الجميل، لأنه عالم به يقدر أن يجازي على كل واحد منه بما هو حقه " إن يشأ
يرحمكم " بالتوبة " وإن يشأ يعذبكم " بالإقامة على المعصية.
وقوله " وما أرسلناك عليهم وكيلا " معناه إنا ما وكلناك بمنعهم من الكفر
بل أرسلناك داعيا لهم إلى الايمان وزاجرا عن الكفر، فإن أجابوك، وإلا، فلا
شئ عليك واللائمة والعقوبة يحلان بهم.
قوله تعالى:
(وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا
بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا (55) قل ادعوا
الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا
تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان
محذورا) (57) ثلاث آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى لنبيه " إن ربك " يا محمد " أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد
فضلنا بعض التبيين على بعض " وإنما قال ذلك ليدل على أن تفضيل الأنبياء
بعضهم على بعض وقع موقع الحكمة، لأنه من عالم بباطن الأمور، وإذا ذكر ما
هو معلوم فإنما يذكره ليدل به على غيره. والأنبياء وان كانوا في أعلى مراتب
الفضل، لهم طبقات بعضهم أعلى من بعض، وإن كانت المرتبة الوسطى لا تلحق
العليا ولا يلحق مرتبة النبي من ليس بني أبدا. وقوله " وآتينا داود زبورا " اي
خصصناه بالذكر، وفيه لغتان فتح الزاي، وضمها. والفتح أفصح. ثم قال لنبيه
" قل " لهم " ادعوا الذين زعمتم من دونه " يعني الذين زعمتم انهم أرباب وآلهة
من دون الله ادعوهم إذا نزل بكم ضرر، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك أم لا.
490

وقال ابن عباس والحسن " الذين من دونه " الملائكة والمسيح وعزير. وقال ابن
مسعود: أراد به ما كانوا يعبدون من الجن: وقد أسلم أولئك النفر من الجن
لان جماعة من العرب كانوا يعبدون الجن، فأسلم الجن وبقي الكفار على عبادتهم.
وقال أبو علي: رجع إلى ذكر الأنبياء في الآية الأولى. والتقدير إن الأنبياء يدعون
إلى الله يطلبون بذلك الزلفة لديه ويتوسلون به إليه والى رضوانه وثوابه، أيهم كان
أفضل عند الله، وأشد تقربا إليه بالاعمال. ثم قال " فلا يملكون " يعني الذين
تدعون من دون الله " كشف الضر " والبلاء " عنكم " ولا تحويله إلى سواكم.
ثم قال " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب.. " الآية
قوله " أولئك " رفع بالابتداء و " الذين " صفة لهم و " يبتغون إلى ربهم "
خبر الابتداء. والمعنى الجماعة الذين يدعون يبتغون إلى ربهم " أيهم " رفع بالابتداء
و " أقرب " خبره. والمعنى يطلبون الوسيلة ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به،
ذكره الزجاج. وقال قوم: الوسيلة هي القرية والزلفة. وقال الزجاج: الوسيلة
والسؤال والسؤل والطلبة واحد، والمعنى إن هؤلاء المشركين يدعون هؤلاء
الذين اعتقدوا فيهم انهم أرباب ويبتغي المدعوون أربابا إلى ربهم القربة والزلفة
لأنهم أهل إيمان به. والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله، أيهم أقرب عند الله
بصالح اعماله واجتهاده في عبادته، فهم يرجون بأفعالهم رحمته ويخافون عذابه
بخلافهم إياه " إن عذاب ربك كان محذورا " اي متقى.
قوله تعالى:
(وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو
معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا (58) وما
منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود
الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)
491

وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا
التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم
فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60) ثلاث آيات.
اخبر الله تعالى انه ليس " من قرية إلا " والله تعالى مهلكها " قبل يوم القيامة ".
بكفر من فيها من معاصيهم جزاء على افعالهم القبيحة " أو معذبوها عذابا شديدا "
والمعنى أن يكون إما الاهلاك والاستئصال أو العذاب، والمراد بذلك قرى
لكفر والضلال دون قرى الايمان. وقيل إن ذلك يكون في آخر الزمان،
فيهلك الله كل قرية بعقوبة بعض من فيها، ويكون امتحانا للمؤمنين الذين فيها.
وقيل: ان المعنى ما من قرية إلا والله مهلكها إما بالموت لأهلها أو عذاب يستأصلهم
ثم اخبر أن ذلك كائن لا محالة، ولا يكون خلافه، لان ذلك مسطور في الكتاب
يعني في اللوح المحفوظ، والمسطور هو المكتوب يقال: سطر سطرا، قال العجاج:
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر * في الصحف الأولى التي كان سطر (1)
ثم قال " وما منعنا ان نرسل بالآيات " يعني الآيات التي اقترحتها قريش من
قولهم: حول لنا الصفا ذهبا وفجر لنا من الأرض ينبوعا، وغير ذلك، فأنزل
الله الآية إني إن حولته، فلم يؤمنوا لم أمهلهم كسنتي فيمن قبلهم، وهو قول قتادة
وابن جريج. والمنع وجود ما لا يصح معه وقوع الفعل من القادر عليه فكأنه
قد منع منه، ولا يجوز إطلاق هذه الصفة في صفات الله، والحقيقة إنا لم نرسل
بالآيات لئلا يكذب بها هؤلاء كما كذب من قبلهم، فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة.
وقال قوم: يجوز أن يكون قوله تعالى " إلا أن كذب بها الأولون " تكون
(إلا) زايدة، وتقديره ما منعنا ان نرسل بالآيات " ان كذب بها الأولون " أي لم
يمنعنا ذلك من إرسالها بل أرسلناها مع تكذيب الأولين. ومعنى " ان كذب

(1) ديوان 19 ومجاز القرآن 1: 383 وتفسير الطبري 15: 99 واللسان والتاج (نتر)
492

هو التكذيب، كما تقول: أريد ان تقوم بمعنى أريد قيامك. ويحتمل أن يكون
" إلا " بمعنى (الواو) كما قال " لئلا يكون للناس عليكم حجة، إلا الذين ظلموا " (1)
معناه والذين ظلموا منهم، فلا حجة لهم عليهم. ويكون المعنى وما منعنا أن
نرسل بالآيات وإن كذب بها الأولون أي لسنا نمتنع من إرسالها، وإن كذبوا بها
و (أن) الأولى في موضع نصب بوقوع " منعنا " عليها. و (أن) الثانية رفع
والمعنى، وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين من الأمم، والفعل ل‍ (أن)
الثانية.
وقوله " وآتينا ثمود الناقة مبصرة " معناه مبصرة تبصر الناس بما فيها من
العبر، والهدى من الضلالة والشقاء من السعادة، ويجوز أن يكون المراد انها
ذات إبصار، حكى الزجاج: مبصرة بمعنى مبينة، وبالكسر معناه تبين لهم،
قال الفراء: مبصرة مثل مجبنة ومنحلة، وكل (مفعلة) وضعته موضع (فاعل) أغنت
عن الجمع والتأنيث، تقول العرب: هذا عشب ملبنة، مسمنة. والولد مجبنة
منحلة. وإن كان من الياء والواو، فاظهرهما، تقول سراب مبولة، وكلام مهينة
للرجال قال عنترة:
والكفر مخبثة لنفس المنعم (2)
ومعنى مبصرة مضيئة، قال الله تعالى " والنهار مبصرا " (3) اي مضيئا.
وقوله " فظلموا بها " يعني بالناقة (لأنهم نحروها وعصوا الله في ذلك، لأنه
نهاهم عن ذلك، فخالفوا ونحروها. وقيل: ظلموا بها) (4) معناه ظلموا بتكذيبهم إياها
بأنها معجزة باهرة.
وقوله " وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " اي لم نبعث الآيات ونظهرها إلا

(1) سورة البقرة آية 150
(2) من معلقته المشهورة ديوانه (دار بيروت) 28 وصدره:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي
(3) سورة 10 يونس آية 67 وسورة 27 النمل اية 86 وسورة 40 المؤمن (غافر) اية 61
(4) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.
493

لتخويف العباد من عقوبة الله ومعاصيه.
وقوله " وإذا قلنا لك " اي اذكر الوقت الذي قلنا لك يا محمد " ان ربك
أحاط بالناس " اي أحاط علما بأحوالهم، وما يفعلونه من طاعة أو معصية،
وما يستحقونه على ذلك من الثواب والعقاب، وقادر على فعل ذلك بهم، فهم
في قبضته، لا يقدرون على الخروج من مشيئته.
وقوله " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الا فتنة للناس " قيل في معنى ذلك
قولان:
أحدهما - انه أراد رؤية عين، ليلة الاسراء إلى البيت المقدس، فلما اخبر
المشركين بما رأى كذبوا به، ذكره ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن،
وقتادة، وإبراهيم، وابن جريج، وابن زيد، والضحاك، ومجاهد.
الثاني - في رواية أخرى عن ابن عباس: انه رؤيا نوم، وهي رؤيا انه سيدخل
مكة، فلما صده المشركون في الحديبية شك قوم ودخلت عليهم الشبهة، فقالوا
يا رسول الله: أوليس قد أخبرتنا انا ندخل المسجد؟ فقال: قلت لكم انكم تدلونها
السنة؟!. فقالوا: لا، فقال سندخلنها إن شاء الله، فكان ذلك فتنة وامتحانا
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) ان ذلك رؤيا رآها في منامه أن قرودا
تصعد منبره وتنزل، فساءه ذلك، وروى مثل ذلك سهل بن سعد الساعدي
عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك، ومثله عن سعد بن بشار، (1) فأنزل الله
عليه جبرائيل واخبره ما يكون من تغلب أمر بني أمية على مقامه وصعودهم منبره.
وقوله " والشجرة الملعونة في القرآن " قال ابن عباس والحسن وأبو مالك
وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: إنها شجرة
الزقوم التي ذكرها الله في قوله " ان شجرة الزقوم طعام الأثيم " (2) والمعنى ملعون
آكلها، وكانت فتنتهم بها قول أبي جهل وذويه النار تأكل الشجرة وتحرقها،
فكيف ينبت فيها الشجر، وعن أبي جعفر ان الشجرة الملعونة هم بنو أمية،

(1) في المخطوطة (سعيد بن يسار)
(2) سورة 44 الدخان آية 43
494

وقال البلخي: يجوز أن يكون المراد به الكفار. وقوله " ونخوفهم " أي نرهبهم
بما نقص عليهم من هلاك من مضى بها، فما يزدادون عند ذلك " إلا طغيانا كبيرا "
أي عتوا عظيما وتماديا وغيا. قوله تعالى:
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس
قال أأسجد لمن خلقت طينا (61) قال أرأيتك هذا الذي
كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيمة لاحتنكن ذريته إلا
قليلا (62) قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم
جزاء موفورا) (63) ثلاث آيات.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم واذكر " إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا
الا إبليس " وقد بينا أن امر الله تعالى بأن اسجدوا لآدم تعظيم لآدم وتفضيله عليهم
وإن كانت القربى (1) بذلك السجود إلى الله تعالى، وفي الناس من قال: انه
كان بمنزلة القبلة لهم وإن كان فيه تشريف له.
ثم اخبر تعالى ان الملائكة امتثلت امر الله فسجدت له " إلا إبليس " فقد قلنا إن
اخبارنا تدل على أن إبليس كان من جملة الملائكة، وإنما كفر بامتناعه من
السجود، ومن قال إن الملائكة معصومون فان إبليس لم يكن من جملة الملائكة
والاستثناء في الآية استثناء منقطع و (إلا) بمعنى (لكن) وإنما ضمه إلى الملائكة
من حيث جمعهم في الامر، والتكليف بالسجود، فلذلك استثناه من جملتهم.
ثم اخبر تعالى عن إبليس أنه قال " أأسجد لمن خلقت طينا " على وجه الانكار

(1) في المخطوطة (وإن كان الغرض)
495

لذلك، وأن من خلق من نار أشرف وأعظم، من الذي خلق من طين، وآدم إذا
كان مخلوقا من طين كيف يسجد له من هو مخلوق من نار، وهو إبليس، وذلك
يدل على أن إبليس فهم من ذلك الامر تفضيله عليه، ولو كان بمنزلة القبلة لما كان
لامتناعه عليه وجه، ولا لدخول الشبهة بذلك مجال.
و " طينا " نصب على التمييز، ويجوز أن يكون نصبا على الحال. والمعنى
إنك أنشأته في حال كونه من طين.
ووجه الشبهة الداخلة على إبليس ان الفروع ترجع إلى الأصول فتكون على
قدرها في التكبر أو التصغر، فلما اعتقد أن النار أكرم أصلا من الطين جاء منه
انه أكرم ممن خلق من طين، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها متماثلة، وان
الله تعالى يصرفها بالاعراض كيف شاء مع كرم جوهر الطين وكثرة ما فيه من
المنافع التي تقارب منافع النار أو توفى عليها.
وإنما جاز ان يأمره بالسجود له، ولم يجز ان يأمره بالعبادة له، لان السجود
يترتب في التعظيم بحسب ما يراد به، وليس كذلك العبادة التي هي خضوع
بالقلب ليس فوقه خضوع، لأنه يترتب في التعظيم بحسب نيته، يبين ذلك أنه لو
سجد ساهيا لم يكن له منزلة في التعظيم على قياس غيره من افعال الجوارح.
قال الرماني: الفرق بين السجود لآدم والسجود إلى الكعبة، ان السجود لآدم
تعظيم له باحسانه، وهذا يقارب قولنا في أنه قصد بذلك تفضيله بأن امره
بالسجود له.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعنى ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا محققين
ظن إبليس فيهم مخالفين موجب نعمة ربهم على أمتهم وعليهم ثم حكى تعالى عن
إبليس أنه قال " أرأيتك هذا الذي كرمت علي " ومعناه اخبرني عن هذا الذي
كرمته علي لم كرمته علي؟ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين! فحذف لدلالة
الكلام عليه.
وإنما قال " أأسجد " بلا حرف عطف، لأنه على قوله " أأسجد " لمن خلقت
طينا " والكاف في قوله " أرأيتك " لا موضع لها من الاعراب، لأنها ذكرت في
496

المخاطبة توكيدا، و (هذا نصب ب‍ (أرأيتك)، والجواب محذوف. والمعنى ما
قدمناه.
وقوله " لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا "، ومعنى
لأحتنكن لأقطعنهم إلى المعاصي، يقال منه: احتنك فلان ما عند فلان من مال
أو علم أو غير ذلك، قال الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت * جهدا إلى جهدبنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا وجلفت (1)
وقال ابن عباس: معنى " لأحتنكن " لأستولين، وقال مجاهد: لأحتوين،
وقال ابن زيد: لأضلنهم، وقال قوم: لأستأصلن ذريته بالاغواء، وقال آخرون:
لأقودنهم إلى المعاصي، كما تقاد. الدابة بحنكها إذا شد فيها حبل تجر به.
وقوله " الا قليلا " استثناء من إبليس القليل من ذرية آدم الذين لا يتبعونه
ولا يقبلون منه. فقال الله تعالى عند ذلك " اذهب " يا إبليس " فمن تبعك "
من ذرية آدم واقتفى أثرك وقبل منك " فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " أي
كاملا، يقال منه: وفرته أفره وفرا، فهو موفور، وقال زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه * يفره ومن لا يتق الشتم يشتم (2)
ووفرته توفيرا، ويقال: موفورا بمعنى وافر، في قول مجاهد، كأنه ذو
وفر، كقولهم: لابن أي ذو لبن، وقد دل على أنهم لا ينقصون من عقابهم
الذين يستحقونه شيئا، وفي ذلك استخفاف به وهوان له. وإنما ظن إبليس
هذا الظن الصادق، بأنه يغوي أكثر الخلق، لان الله تعالى كان قد أخبر الملائكة
أن سيجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فكان قد علم بذلك. وقيل:

(1) تفسير الطبري 15: 75
(2) ديوانه (دار بيروت) 87 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3 / 233 وتفسير روح
المعاني 15 / 110
497

إنما قال ذلك، لأنه وسوس إلى آدم فلم يجدله عزما، فقال: بنو هذا مثله في ضعف
العزيمة، ذكره الحسن. وهذا الوجه لا يصح على أصلنا، لان عندنا ان آدم لم
يفعل قبيحا، ولا ترك واجبا، فلو ظن إبليس ان أولاده مثله، لانتقض غرضه،
ولم يخبر بما قال.
و (لئن) حرف شرط، ولا يليه الا الماضي، والشرط لا يكون الا بالمستقبل
والعلة في ذلك ان اللام في (لئن) تأكيد يرتفع الفعل بعده و (ان) حرف شرط
ينجزم الفعل بعده، فلما جمعوا بينهما، لم يجز ان يجزم فعل واحد ويرفع، فغير
المستقبل إلى الماضي، لان الماضي لا يبين فيه الاعراب، ذكر هذه العلة
ابن خالويه.
قوله تعالى:
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم
بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما
يعدهم الشيطان إلا غرورا (64) إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان وكفى بربك وكيلا (65) ربكم الذي يزجي لكم الفلك
في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما) (66) ثلاث
آيات بلا خلاف.
قرأ حفص وحده " ورجلك " بكسر الجيم. الباقون بتسكينها.
من سكن أراد جمع (راجل) مثل صاحب وصحب، وراكب وركب. ومن
كسر أراد قولهم: رجل يرجل، فهو راجل.
قوله: " واستفزز.. واجلب " صورته صورة الامر والمراد به التهديد، وجرى
498

مجرى قوله " اعملوا ما شئتم " (1) وكما يقال للانسان: اجهد جهدك، فسترى ما
ينزل بك، وإنما جاء التهديد بصيغة الامر، لأنه بمنزلة من امر بإهانة نفسه، لان
هذا الذي يعمله هوان له وهو مأمور به. ومعنى (استفزز) استزل، يقال:
استفزه واستزله بمعنى واحد، وتفزز الثوب إذ تمزق، وفززه تفززا، وأصله
القطع، فمعنى استفزه استزله بقطعه عن الصواب " من استطعت منهم "
فالاستطاعة قوة تنطاع بها الجوارح للفعل، ومنه الطوع والطاعة، وهو
الانقياد للفعل.
وقيل في الصوت الذي يستفزهم به قولان:
أحدهما - قال مجاهد: صوت الغناء واللهو.
الثاني - قال ابن عباس: هو كل صوت يدعا به إلى معصية الله. وقيل: كل
صوت دعي به إلى الفساد، فهو من صوت الشيطان.
وقال: " واجلب عليك بخيلك " فالاجتلاب السوق بجلبة من السائق. وفي
المثل (إذا لم تغلب فاجلب) يقال: جلب يجلب جلبا واجلب إجلابا، واجتلب
اجتلابا، واستجلب استجلابا، وجلب تجليبا مثل صوت، واصل الجلبة شدة
الصوت، وبه يقع السوق.
وقوله: " بخيلك ورجلك " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: كل راكب أو
ماش في معصية الله من الإنس والجن، فهو من خيل إبليس ورجله، والرجل
جمع راجل مثل تجر وتاجر، وركب وراكب.
وقوله: " وشاركهم في الأموال والأولاد " فمشاركته إياهم في الأموال كسبها
من وجوه محظورة أو إنفاقها في وجوه محظورة، كما فعلوا في السائبة والبحيرة
والحام، والاهلال به لغير الله، وغير ذلك. ومشاركته في الأولاد، قال مجاهد
والضحاك: فهم أولاد الزنا. وقال ابن عباس: الموؤودة. وقيل: من هودوا
ونصروا، في قول الحسن وقتادة. وقال ابن عباس في رواية: هو تسميتهم عبد

(1) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 40
499

الحارث، وعبد شمس، وما أشبه ذلك. وقيل: ذلك واحد من هذه الوجوه،
وهو أعم.
وقوله " وعدهم " اي منهم البقاء وطول الامل. ثم قال تعالى " وما يعدهم
الشيطان " أي ليس يعدهم الشيطان " الا غرورا " ونصب على أنه مفعول له (اي
ليس يعدهم الشيطان الا لأجل الغرور) (1). ثم قال تعالى " ان عبادي " يعني
الذين يطيعوني ويقرون بتوحيدي ويصدقون أنبيائي، ويعملون بما أوجبه عليهم،
وينتهون عن معاصي " ليس لك " يا إبليس " عليهم " حجة ولا سلطان. قال
الجبائي: معناه ان عبادي ليس لك عليهم قدرة، على ضر ونفع أكثر من
الوسوسة، والدعاء إلى الفساد، فأما على كفر أو ضرر، فلا، لأنه خلق ضعيف
متخلخل، لا يقدر على الاضرار بغيره.
ثم قال " وكفى بربك " اي حسب ربك " وكيلا " اي حافظا، ومن يسند
الامر إليه ويستعان به في الأمور.
ثم خاطب تعالى خلقه فقال: ربكم الذي خلقكم " هو الذي " يزجي لكم
الفلك في البحر " قال ابن عباس: معناه يجريها، وبه قال قتادة، وابن زيد
يقال: أزجى يزجي ازجاء إذا ساق الشئ حالا بعد حال " لتبتغوا من فضله "
اي لتطلبوا فضل الله في ركوب البحر من الأرياح وغيرها " انه كان بكم رحيما "
اي منعما عليكم راحم لكم، يسهل لكم طرق ما تنتفعون بسلوكه دينا ودنيا.
قوله تعالى:
(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما
نجكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا (67) أفأمنتم أن
يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم

(1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.
500

وكيلا (68) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم
قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به
تبيعا) (69) ثلاث آيات.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " أن نخسف.. أو نرسل.. أن نعيدكم.. فنرسل "
بالنون فيهن الباقون بالياء. الا أبا جعفر، وورش، فإنهما قرءا " فتغرقكم " بالتاء
يردانه إلى الريح. ومن قرأ بالنون أراد الاخبار من الله عن نفسه. ومن قرأ
بالياء أراد أن محمدا اخبر عن الله، والمعنيان متقاربان. وقال أبو علي: من قرأ بالياء
فلانه تقدم " ضل من تدعون الا إياه، فلما نجاكم إلى البر.. أفأمنتم ان يخسف بكم "
ومن قرأ بالنون، فلان مثله قد ينقطع بعضه عن بعض. والمعنى واحد، يقول
الله تعالى لخلقه: انه إذا نالكم الضر، وأنتم ركاب البحر بان أشرفتم على الهلاك
وخب بكم البحر وماجت الأمواج " ضل من تدعون " اي يكون بمنزلة من يضل
عنكم، ولا ينجيكم من أهواله الا الله تعالى. وإنما خص البحر بذكر النجاة، لان
له اهوالا هيجانية وخبة، لا يطمع عاقل في أن ينجيه أحد منه الا الذي خلق
النفس وانعم بما وهب من العقل والسمع والبصر. وقال: إذا دعوتموه في ذلك
الحال، ونجاكم، وخلصكم، وأخرجكم منه إلى البر أعرضتم عن ذكر الله،
والاعتراف بنعمه.
ثم قال تعالى: " وكان الانسان كفورا " لنعم الله تعالى، ثم قال مهددا لهم:
" أفأمنتم " اي هل أمنتم إذا ضربتم في البر " أن يخسف بكم " جانبه ويقلب أسفله
أعلاه فتهلكون عند ذلك، كما خسفنا بمن كان قبلكم من الكفار نحو قوم لوط
وقوم فرعون " أو يرسل عليكم حاصبا " بمعنى حجارة تحصبون بها أو ترمون بها
والحصباء الحصى الصغار، ويقال: حصب الحصى يحصبه حصبا إذ رماه رميا
متتابعا، والحاصب ذو الحصب. والحاصب فاعل الحصب " ثم لا تجدوا لكم
وكيلا " أي من يدفع ذلك عنكم.
501

ثم قال: " أم " اي هل " أمنتم أن يعيدكم " في البحر دفعة أخرى بان يجعل
لكم إلى ركوبه حاجة " فيرسل عليكم قاصفا من الريح " فالقاصف الكاسر بشدة
قصفه يقصفه قصفا، فهو قاصف، وتقصف شعره تقصفا، وانقصف الرجل
انقصافا وقصف الشئ تقصيفا، " فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا
به تبيعا " اي من يتبع إهلاككم للمطالبة بدمائكم أو يأخذ بثأركم، وقيل إن
القاصف الريح الشديدة تقصف الشجر بشدتها. وإنما قيل: حاصب على وزن فاعل
لامرين:
أحدهما - ريح حاصب أي تحصب الحجارة من السماء، قال الشاعر:
مستقبلين شمال الشام يضربنا * بحاصب كنديف القطن منثور (1)
وقال الآخر:
ولقد علمت إذا العشار تروحت * حتى تبيت على العصاة حفالا (2)
الثاني - حاصب ذو حصب.
قوله تعالى:
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم
من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70) يوم
ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرون
كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71) ومن كان في هذه أعمى فهو في
الآخرة أعمى وأضل سبيلا) (72) ثلاث آيات بلا خلاف.

(1) قائله الفرزدق ديوانه (دار بيروت) 1: 213 وتفسير الطبري 15 / 79 وتفسير القرطبي
10 / 292 والشوكاني 3 / 235 وروح المعاني 15 / 116
(2) تفسير الطبري 15 / 97
502

اخبر الله تعالى: انه كرم " بني آدم " وإنما عنى بني آدم بالتكرمة مع أن
فيهم كفارا، لان المعنى كرمناهم بالنعمة على وجه المبالغة في الصفة. وقال
قوم: جرى ذلك مجرى قوله " كنتم خير أمة أخرجت للناس (1) " فاجرى
الصفة على جماعتهم من اجل من فيهم على هذه الصفة. ثم بين تعالى الوجوه التي
كرم بها بني آدم بأنه حملهم في البر والبحر على ما يحملهم من الإبل وغيرها، كما
قال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " (2) والبحر، والسفن التي خلقها
لهم وأجراها بالرياح فوق الماء ليبلغوا بذلك حوائجهم " ورزقناهم من الطيبات "
يعني من الثمار والفواكه وطيبات الأشياء، وملاذها التي خص بها بني آدم ولم
يشرك شيئا من الحيوان فيها من فنون الملاذ. وقيل: من تفضيل بني آدم ان
يتناول الطعام بيديه دون غيره، لان غيره يتناوله بفيه، وانه ينتصب، وما
عداه على اربع أو على وجهه.
وقوله: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " وليس المراد بذلك تفضيلهم
بالثواب، لان الثواب لا يتفضل به ابتداء، وإنما فضلهم ابتداء بان خلق لهم من
فنون النعم وضروب الملاذ ما لم يجعله لشئ من الحيوان، وإنما فعل ذلك تفضلا
منه تعالى، ولما في ذلك من اللطف للعاقل، والصلاح الذي ينتظم ويتم بهذا
التأويل، واستدل جماعته بقوله " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا " على تفضيل
الملائكة على الأنبياء، قال لان قوله " على كثير ممن خلقنا " يدل على أن ههنا
من لم يفضلهم عليهم، وليس الا الملائكة، لان ابن آدم أفضل من كل حيوان سوى
الملائكة بلا خلاف. وهذا باطل بما قلناه من أن المراد بذلك تفضيلهم بالنعم
الدنياوية، والالطاف، وليس المراد بذلك الثواب بدلالة ابتدائهم بهذا التفضيل.
والثواب لا يجوز الابتداء به.
وقوله " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " قال الزجاج: يتعلق بقوله " يعيدكم..
يوم ندعو " وقيل: تقديره اذكر يوم. وقيل إنه يتعلق بقوله " وفضلناهم على

(1) سورة آل عمران اية 110
(2) سورة 16 النحل آية 8
503

كثير ممن خلقنا تفضيلا.. يوم ندعو "، لان ما فعله بهم من الألطاف في الدنيا،
لان يطيعوا ويفعلوا من الافعال ما يدعون به يوم القيامة.
واختلفوا في الامام الذي يدعون به يوم القيامة، فقال مجاهد وقتادة: إمامه
نبيه. وقال ابن عباس: إمامه كتاب علمه. وروي عنه أيضا أن إمامهم كتابهم
الذي انزل الله إليهم فيه الحلال والحرام والفرائض والاحكام. وقال البلخي:
بما كانوا يعبدونه، ويجعلونه إماما لهم. وقال أبو عبيد: بما كانوا يأتمون به في
الدنيا. وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).
وقوله " فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم.. " الآية، جعل الله تعالى
إعطاء الكتاب باليمين من علامة الرضا والخلاص، وأن من أعطي كتابه باليمين
تمكن من قراءته وسهل له ذلك، وكان فحواه أن من أعطي كتابه بشماله أو وراء
ظهره، فإنه لا يقدر على قراءة كتابه، ولا يتأتي له، بل يتلجلج فيه، لما يراه
من المعاصي الموبقات.
وقوله " ولا يظلمون فتيلا " معناه لا يبخص أحد حقه، ولا يظلم شيئا،
سواء كان مستحقا للثواب أو العقاب، فإن المستحق للثواب لا يبخس منه شيئا
والمستحق للعقاب لا يفعل به أكثر من استحقاقه، فيكون ظلما له. (والفتيل)
هو المفتول الذي في شق النواة - في قول قتادة - وقيل الفتيل في بطن النواة،
والنقير في ظهرها، والقطمير قشر النواة، ذكره الحسن.
وقوله " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " قرأ أهل
العراق إلا حفصا والأعشى " ومن كان في هذه أعمى " بالإمالة. الباقون بالتفخيم
وقرأ حمزة والكسائي إلا نصيرا، وخلفا، وأبا بكر إلا الأعشى والبرجمي " فهو
في الآخرة أعمى " بالإمالة: الباقون بالتفخيم.
وقيل في معنى الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة، وابن زيد: من كان في أمر هذه
504

الدنيا، وهي شاهدة له من تدبيرها وتوثقها وتقلب النعم فيها أعمى عن اعتماد (1)
الصواب الذي هو مقتضاها، فهو في الآخرة التي هي غائبة (2) عنه " أعمى وأضل
سبيلا " وقال قوم: من كان في هذه الدنيا أعمى عن طريق الحق، فهو في الآخرة
أعمى عن الرشد المؤدي إلى طريق الجنة. وقال أبو علي: فهو في الآخرة أعمى
عن طريق الجنة. ومن فخم في الموضعين، فلان الياء فيهما قد صارت ألفا لانفتاح
ما قبلها. والأصل فمن كان في هذه أعمى، فهو في الآخرة أعمى، ومن كان فيما
وضعناه من نعيم الدنيا أعمى، فهو في نعيم الآخرة أعمى. واما تفريق أبي عمرو بين
اللفظين فلاختلاف المعنى، فقال ومن كان في هذه أعمى ممالا، فهو في الآخرة
أعمى بالفتح اي أشد عما، فجعل الأول صفة بمنزلة أحمر وأصفر، والثاني بمنزلة
أفعل منك، كقوله " وأضل سبيلا " اي أعمى قلبا. والعمى في العين لا يتعجب
منه بلفظة (أفعل)، ولا يقال ما أعماه، بل يقال ما أشد عماه، وفي القلب ما أعماه
بغير أشد، لان عما القلب حمق، كما قال الشاعر لمرور ما أحمره وأبيضه، فقال:
أما الملوك فأنت اليوم الامهم * لؤما وأبيضهم سربال طباخ (3)
وقال بعضهم: لا وجه لتفريق أبي عمرو، لان الثاني، وإن كان بمعنى (أفعل
منك " فلا يمنع من الإمالة، كما لم يمنع بالذي هو أدنى، قال ابن خالويه أبو عبد الله
إنما أراد أبو عمرو ان يفرق بينهما لما اختلف معناهما، واجتمعا في آية واحده،
كما قرأ " ويوم القيامة يردون " يعني الكفار، ثم قال في آخر؟ " عما تعملون " (4)
اي أنتم وهم، ولو وقع مفردا، لأجاز الإمالة والتفخيم فيهما، قال أبو علي: ومن
أمال الجميع كان حسنا، لأنه ينحو نحو الياء بالألف ليعلم انها منقلبة إلى الياء
وان كانت فاصلة أو مشبهة للفاصلة، فالإمالة حسنة فيها، لان الفاصلة موضع

(1) في المخطوطة (اعتقاد)
(2) أثبتنا ما في المخطوطة، وكان في المطبوعة (غايته)
(3) تفسير القرطبي 10 / 299 وتفسير الشوكاني 3 / 238
(4) سورة البقرة آية 85
505

وقف، والألف تخفى في الوقف، فأما إذا أمالها، نحا بها نحو الكسرة وليكون
أظهر لها وأبين.
قوله تعالى:
(وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا
غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت
تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف
الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا) (75) ثلاث آيات.
قال الزجاج: معنى الكلام كادوا يفتنونك، ودخلت (ان واللام) للتوكيد
ومعنى (كاد) المقاربة. وقوله " وإن كادوا " قال الحسن: معناه قارب بأن
هم من غير عزم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله وضع عن أمتي ما حدثت به نفسها
إلا من عمل شيئا أو تكلم به) وقيل إنهم قالوا: لا ندعك تستلم الحجر حتى تلم
بآلهتنا. وقال مجاهد، وقتادة: الفتنة التي كاد المشركون ان يفتنوا النبي صلى الله عليه وسلم.
بها الالمام بآلهتهم ان يمسها في طوافه، لما سألوه في ذلك، ولاطفوه.
وقال ابن عباس: هم بإنظار ثقيف بالاسلام حتى يقبضوا ما يهدي لآلهتهم ثم
يسلموا فيها.
امتن الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لولا أنه ثبته بلطفه، وكثرة زواجره
وتواتر نهيه، لقد كاد يركن اي يسكن، ويميل إلى المشركين قليل، على ما يريدون
يقال: ركن يركن، وركن يركن، ثم قال " إذا لأذقناك ضعف الحياة، وضعف
المماة " اي لو فعلت ذلك، لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب المماة
لعظم ذلك منه لو فعله، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. وإنما كان
يعظم عذابه بالركون إليهم لكثرة زواجره وفساد العباد به.
506

وقيل لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين)
روى ذلك قتادة. ومعنى الفتنة - ههنا - الضلال، والتقدير وإن كادوا
ليفتنونك ليضلوك عن الذي أوحينا إليك، في قول الحسن وأصل الفتنة المحنة التي
يطلب بها خلاص الشئ مما لابسه، فطلبوا إخراجه إلى الضلالة.
وقوله " لتفتري علينا غيره " اي لتكذب علينا غير ما أوحينا إليك وإن
فعلت ذلك لاتخذوك خليلا وديدا.
وقوله " ثم لا تجد لك علينا نصيرا " اي لو فعلت الركون إليهم لأذقناك
ما قلناه من العذاب، ثم لا تجد لك علينا ناصرا يدفع عنك ما نريد فعله بك.
قوله تعالى:
(وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها
وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا (76) سنة من قد أرسلنا قبلك
من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77) أقم الصلاة لدلوك الشمس
إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) (78)
ثلاث آيات.
قرأ ابن عامر وأهل الكونة الا أبا بكر " خلافك ". الباقون " خلفك "
فمن قرأ " خلفك " فلقوله " فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها " (1) وقوله " بمقعدهم
خلاف رسول الله " (2) اي لمخالفتهم إياه، ومن قرأ " خلافك " قال بعدك وخلفك
وخلافك بمعنى واحد، يقول الله تعالى " وإن كادوا " يعني المشركين " ليستفزونك
من الأرض " قال الحسن: معناه ليقتلونك، وقال غيره: الاستخفاف بالانزعاج.

(1) سورة البقرة آية 66
(2) سورة 9 التوبة آية 82
507

وقال أبو علي: هموا بأن يخرجوه من ارض العرب لا من مكة فقط، إذ قد
أخرجوه من مكة، وقال المعتمد ابن أبي سليمان عن أبيه: الأرض التي أرادوا
استزلاله منها: هي ارض المدينة، لان اليهود قالت له: هذه الأرض ليست ارض
الأنبياء وإنما أرض الأنبياء الشام. وقال قتادة ومجاهد: هي مكة، لان قريشا همت
بإخراجه منها. ثم قال تعالى: انهم لو أخرجوك من هذه الأرض لما لبثوا، لما أقاموا
بعدك فيها إلا قليلا. وقال ابن عباس والضحاك: المدة التي لبثوا بعده هو ما بين خروج
النبي من مكة، وقتلهم يوم بدر. ومن قرأ خلافك أراد بعدك، كما قال الشاعر:
عقب الرذاذ خلافها فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصيرا (1)
الرذاذ المطر الخفيف، يصف روضة وأرضا غب مطرها، وكانت حضراء وقال
الحسن الاستفزاز - ههنا - الفتل.
وقوله " وإذا لا يلبثون " بالرفع، لان (إذا) وقعت بعد الواو، فجاز فيها
الالغاء، لأنها متوسطة في الكلام، كما أنه لابد من أن تلغى في آخر الكلام.
وقوله " سنة من قد أرسلنا " انتصب (سنة) بمعنى لا يلبثون. وتقديره: لا
يلبثون لعذابنا إياهم كسنة من قبلك، إذ فعلت أممهم مثل ذلك. ثم قال " لا تجد
لسنتنا تحويلا " اي تغييرا وانتقالا من حالة إلى حالة أخرى. بل هي على وتيرة
واحدة. ثم امر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال " أقم الصلاة " والمراد به أمته معه " لدلوك الشمس "
اختلفوا في الدلوك، فقال ابن عباس، وابن مسعود، وابن زيد: هو الغروب
والصلاة المأمور بها - ههنا - هي المغرب، وقال ابن عباس في رواية أخرى
والحسن، ومجاهد، وقتادة: دلوكها زوالها، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي
عبد الله (ع). وذلك أن الناظر إليها يدلك عينيه، لشدة شعاعها. واما عند
غروبها فيدلك عينيه لقلة تبينها، والصلاة المأمور بها عند هؤلاء الظهر، وقال
الراجز:

(1) مجاز القرآن 1 / 387 وتفسير الطبري 10 / 127، 15 / 84 واللسان والتاج (خلف)
وتفسير الشوكاني 3: 239 وقد روي (عقب الربيع) وفي راوية أخرى (عفت الديار).
508

هذا مقام قدمي رباح * للشمس حتى دلكت براح (1)
ورباح اسم ساقي الإبل. من روى بكسر الباء أراد براحته، قال الفراء:
يقال: بالراحة على العين، فينظر هل غابت الشمس بعد، قال الفراء هكذا فسروه
لنا، ومن رواه بفتح الباء جعله اسما للشمس مبنيا على (فعال) مثل قطام وحذام
وقال العجاج:
والشمس قد كادت تكون دنفا * ادفعها بالراح كي تزحلفا (2)
وغسق الليل ظهور ظلامه، ويقال غسقت القرحة إذا انفجرت، فظهر ما
فيها. وقال ابن عباس وقتادة: هو بدؤ الليل، قال الشاعر:
إن هذا الليل إذ عسقا (3)
وقال الجبائي غسق الليل ظلمته، وهو وقت عشاء الآخرة. وقوله " وقرآن
الفجر " قال قوم يعني القرآن الفجر في الصلاة، وذلك يدل على أن الصلاة، لا تتم
إلا بالقراءة، لأنه أمر بالقراءة وأراد بها الصلاة، لأنها لا تتم إلا بها.
وقوله: " إن قرآن الفجر كان مشهودا " معناه يشهده ملائكة الليل،
وملائكة النهار، ذهب إليه ابن عباس، وقتادة ومجاهد وإبراهيم. وروي عن أمير
المؤمنين (ع) وأبي بن كعب أنها الصلاة الوسطى، وقال الحسن: " لدلوك الشمس "
لزوالها: صلاة الظهر، وصلاة العصر إلى " غسق الليل " صلاة المغرب والعشاء

(1) البيت من نوادر أبي زيد. تفسير القرطبي 10: 303 ومجاز القرآن 1: 387 وتهذيب
الألفاظ 393 والمجالس للثعالبي 373 وتفسير الشوكاني 3: 241 وتفسير الطبري
15: 85 وغيرها. وقد روى (عدوة) بدل للشمس) وروي أيضا (ذبيب) في رواية
أخرى.
(2) ديوانه 82 وتفسير القرطبي 10: 303 وتفسير الطبري 15: 86 وتفسير القرطين 1: 261
(3) قائله عبد الله بن قيس الرقيات. ديوانه (دار بيروت) 188 وتفسير روح المعاني
15: 132 وتفسير القرطبي 10: 304 وتفسير الطبري 15: 87 ومجاز القرآن
1: 388 واللسان والتاج (غسق) وتفسير الشوكاني 3: 241 وعجزه:
واستكن الهم والارقا.
509

الآخرة، كأنه يقول من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على ما يبين لك من حال الصلوات
الأربع، ثم صلاة الفجر، فأفردت بالذكر. وقال الزجاج: سمى صلاة الفجر " قرآن الفجر "،
لتأكد أمر القراءة في الصلاة، ومعنى " لدلوك الشمس " أي عند دلوبها. واستدل
قوم بهذه الآية على أن وقت الأولى موسع إلى آخر النهار، لأنه أوجب إقامة
الصلاة من وقت دلوك الشمس إلى وقت غسق الليل، وذلك يقتضي ان ما بينهما
وقت. وهذا ليس بشئ، لان من قال: إن الدلوك هو الغروب لا دلالة فيها
عليه عنده، لان من قال ذلك يقول: انه يجب إقامة المغرب من عند المغرب إلى
وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق، وما بين ذلك وقت المغرب.
ومن قال: الدلوك هو الزوال يمكنه أن يقول: المراد بالآية البيان لوجوب
الصلوات الخمس على ما ذكره الحسن، لا بيان وقت صلاة واحدة، فلا دلالة له
في الآية.
و (مشهودا) قيل في معناه قولان:
أحدهما - تشهده ملائكة الليل، والنهار.
والثاني - قال الجبائي: فيه حث للمسلمين على أن يحضروا هذه الصلاة
ويشهدوها للجماعة.
قوله تعالى:
(ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك
مقاما محمودا (79) وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني
مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (80) وقل
جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (81) ثلاث
آيات.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى له: " ومن الليل فتهجد والتهجد
510

التيقظ بما ينفي النوم، والهجود النوم، وهو الأصل، هجد يهجد هجودا، فهو
هاجد إذا نام، قال لبيد:
قلت هجدنا فقد طال السرى (1)
وقال الشاعر:
ألا طرقتنا والرفاق هجود * فباتت بعلات النوال تجود (2)
وقال الحطيئة:
ألا طرقت هند الهنود وصحبتي * بحوران حوران الجنود هجود (3)
وقال علقمة، والأسود: التهجد يكون بعد نومة. وقال المبرد: - التهجد
عند أهل اللغة - السهر للصلاة، أو لذكر الله، فإذا سهر للصلاة قيل تهجد،
وإذا أراد النوم قال هجدت. والنافلة فعل ما فيه الفضيلة مما رغب الله فيه،
ولم يوجبه. والنافلة. الغنيمة، قال الشاعر:
إن تقوى ربنا خير نفل * وباذن الله ريثي والعجل (4)
اي خير غنيمة. والحسن من افعال العباد على ثلاثة أقسام: واجب، وندب،
ومباح. وقال الرماني: يجوز أن يكون نافلة أكثر ثوابا من فريضة إذا كان ترك
الفريضة صغير، لان نافلة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من هذه الفريضة، من فرائض غيره.
وقد تكون نعمة واجبة أعظم من نعمة واجبة، كنعم الله تعالى، لأنه يستحق
بها العباد من نعمة الانسان التي يستحق بها الشكر فقط.
وقوله: " نافلة لك " وجه هذا الاختصاص هو أنه أتم، للترغيب لما في ذلك
من صلاح أمته في الابتداء به والدعاء إلى الاستنان بسنته. وروي أنها فرضت
عليه، ولم تفرض على غيره، فكانت فضيلة له، ذكره ابن عباس، فيجوز ذلك

(1) ديوانه 2 / 13 ومجاز القرآن 1 / 389 والاقتضاب 408 وروح المعاني 15 / 138 واللسان (هجد)
(2) تفسير القرطبي 10: 308 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 242 وتفسير الطبري 15: 89
(3) تفسير الطبري 15: 89
(4) قائله لبيد بن ربيعة وقد مر هذا الرجز في 5: 86 من هذا الكتاب
511

بترغيب يخصه في شدته وقال مجاهد: لأنها فضيلة له ولغيره كفارة، لان الله
تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا أيضا من اختصاصه بما
ليس لغيره.
وقوله: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " معناه متى فعلت ما ندبناك
إليه من التهجد يبعثك الله مقاما محمودا، وهي الشفاعة، في قول ابن عباس،
والحسن، ومجاهد، وقتادة. وقال قوم:، المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد.
و (عسى) من الله واجبه. وقد أنشد لابن مقبل في وجوبها:
ظني بهم كعسى وهم بتنوفة * يتنازعون جوائز الأمثال (1)
يريد كيقين، ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: " أدخلني مدخل صدق
وأخرجني مخرج صدق " قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: إدخاله المدينة حين
أخرج من مكة. وقيل أدخلني فيما أمرتني وأخرجني عما نهيتني بلطف من
ألطافك. وقال الفراء: قال ذلك حين رجع من معسكره الذي أراد أن يخرج
إلى الشام، حين قالوا له: ليست المدينة أرض الأنبياء، و " أخرجني مخرج صدق "
يعني إلى مكة.
وقال أيضا: يا محمد قل " واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا " قال الحسن
وقتادة: معناه اجعل لي عزا امتنع به ممن يحاول صدي عن إقامة فرائض الله في
نفسه وغيره. وقال مجاهد: حجة بينة. ثم قال: " وقل جاء الحق " يعني
التوحيد وخلع الأنداد والعبادة لله وحده لا شريك له " وزهق الباطل " قال
ابن عباس: معناه ذهب الباطل، وزهقت نفسه زهوقا إذا خرجت، فكأنه
خرج إلى الهلاك، وقيل امر بهذا الدعاء إذا دخل في أمر أو خرج من امر. ثم قال
تعالى وأخبر " ان الباطل كان زهوقا " باطلا هالكا لاثبات له، وانه يضمحل
ويتلاشى. وروي عن ابن مسعود أنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مكة،
وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود، ويقول: " جاء الحق

(1) اللسان (ظنن)
512

وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " وجاء الحق وما يبدي الباطل
وما يعيد.
قوله تعالى:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد
الظالمين إلا خسارا (82) وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونئا
بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا (83) قل كل يعمل على شاكلته
فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) (84) ثلاث آيات بلا خلاف.
أخبر الله تعالى: أنه أنزل القرآن وفيه شفاء، ووجه الشفاء فيه من
وجوه:
أحدها - ما فيه من البيان الذي يزيل عمى الجهل وحيرة الشك.
وثانيها - أنه من جهة نظمه وتأليفه يدل على أنه معجز دال على صدق من
ظهر على يده.
وثالثها - انه يتبرك به فيدفع به كثيرا من المكاره والمضار، على ما يصح
ويجوز في مقتضى الحكمة.
ورابعها - ما في العبادة بتلاوته من الصلاح الذي يدعو إلى أمثاله بالمشاكلة
التي بينه وبينه إلى غير ذلك. ثم قال: " ولا يزيد الظالمين " يعني القرآن لا يزيد الظالمين
بمعنى انهم لا يزدادون عنده " الا خسارا " يعني يخسرون ثوابهم ويستحقون العقاب
لكفرهم به وحرمان أنفسهم تلك المنافع التي فيه، صار كأنه يزيد هؤلاء خسرانا
بدل زيادة المؤمنين تقى وايمانا. ثم قال: " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض "
تفسير التبيان ج 6 م 33
513

أي ولى عرضه، كأنه لم يقبل علينا بالدعاء والابتهال، وباعد عن انعامنا عليه
بضروب النعم، فلا يشكرها، كما اعرض عن النعمة بالقرآن.
وقوله: " ونأى بجانبه " أي بعد بنفسه عن القيام بحقوق نعم الله. وقال
مجاهد: معناه تباعد منا " وإذا مسه الشر كان يئوسا " يعني إذا لحق الانسان شر
وبلاء " كان يئوسا " اي قنوطا من رحمة الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: " كل
يعمل على شاكلته " أي على طريقته التي تشاكل أخلاقه. وقال مجاهد: على طبيعته
وقيل على عادته التي ألفها. والمعنى انه ينبغي للانسان ان يحذر إلف الفساد
فلا يستمر عليه، بل يرجع عنه. ثم قال: " وربكم اعلم بمن هو أهدى سبيلا "
يعني انه عالم بمن يهتدي إلى الحق ممن يسلك طريق الضلال، لا يخفى عليه شئ
من أحوالهم.
وأمال حمزة والكسائي " ونأى بجانبه " بكسر النون والهمزة، وأمالوا
الياء، وأمالوا النون لمجاورة الهمزة، لأنها من حروف الحلق، كما يقولون: رغيف
وشعير وبعير بكسر أولهن. وقرأ ابن عامر " وناء بجانبه " من ناء ينوء،
فانقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها، ومدت الألف تمكينا للهمزة.
وقرأ أبو عامر عن عاصم وأبو عمرو - في رواية عياش - " ونئي " بفتح النون
وكسر الهمزة ممالا ومثل ذلك رأى ورئي، وراء ورأه في القلب، فإذا قالوا
فعلت، قالوا رأيت بلا خلاف. وانشد المبرد حاكيا عن أبي عبيد:
أغلام معلل راء رؤيا * فهو يهذي بما رأى في المنام (1)
قوله تعالى:
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أو تيتم
من العلم إلا قليلا (85) ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك
ثم لا تجد لك به علينا وكيلا (86) إلا رحمة من ربك إن فضله

(1) تفسير الطبري 15: 96
514

كان عليك كبيرا) (87) ثلاث آيات.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " يسألونك عن الروح " يا محمد. واختلفوا في
الروح الذي سألوا عنه. فقال ابن عباس: هو جبرائيل. وروي عن علي (ع)
أن الروح ملك من الملائكة له سبعون الف وجه في كل وجه سبعون الف لسان
يسبح الله بجميع ذلك. وقيل: هو روح الحيوان، وهو الأظهر في الكلام.
وقال قتادة: الذي سأله عن ذلك قوم من اليهود. وقيل: الروح هو القرآن،
ذكره الحسن، لقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " (1) واختاره
البلخي، وقوى ذلك بقوله بعدها: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك "
يعني القرآن، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم " الروح من أمر ربي " فعلى قول من
قال: انهم سألوا عن القرآن أو عن جبرائيل أو الملك أو روح الحيوان، فقد
أجاب عنه لأنه قال: " من أمر ربي " أي من خلق ربي وفعله. وعلى قول:
من قال إنهم سألوه عن ماهية الانسان، لم يجب، وإنما عدل عن جوابهم،
لأنهم وجدوا في كتابهم انه إن أجاب عن الروح، فليس بنبي، فأراد صلى الله عليه وسلم ان
يصدق نبوته بموافقة امتناعه من الجواب، لما في كتابهم. ويقوي ذلك قوله:
" وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " اي لم أعط من العلم الا شيئا يسيرا، والأكثر لا
اعلمه، لان معلومات الله تعالى لا نهاية لها. والروح من الأمور المتروكة التي لا
يصلح النص عليها، لأنه ينافي الحكمة، لما فيه من الاستفساد. وإنما اعلم ما نص
لي عليه مما يقتضي المصلحة، وهو قليل من كثير.
وقيل أيضا انهم لم يجابوا عن الروح، لان المصلحة اقتضت ان يحالوا على ما
في عقولهم من الدلالة عليه، لما في ذلك من الرياضة على استخراج الفائدة، وان
ما طريقه السمع، فقد اتى به، وما طريقه العقل، فإنما يأتي به مؤكدا لما في
العقل لضرب من التأكيد، ولما فيه من المصلحة. والروح جسم رقيق هوائي
على بنية حيوانية في كل جزء منه حياة، ذكره الرماني. وقال: كل حيوان،

(1) سورة الشورى آية 52
515

فهو روح وبدن الا أن فيهم من الأغلب عليه الروح، وفيهم من الأغلب عليه
البدن. ثم قال: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " ومعناه اني أقدر
ان آخذ ما أعطيك، كما منعته من غيرك، لكني ي دبرتك بالرحمة لك، فأعطيتك
ما تحتاج إليه ومنعتك ما لا تحتاج إليه والى النص عليه. وان توهم. قوم أنه مما يحتاج
إليه، فتدبر أنت بتدبير ربك وارض بما اختاره لك، ولو فعلنا ذلك لم تجد لك
علينا وكيلا يستوفي ذلك منا، وقال قوم: معنى " وان شئنا لنذهبن " اي
لنمحون - هنا - القرآن من صدرك وصدر أمتك. وقوله: " الا رحمة من ربك "
أعطاك ما أعطاك من العلوم ومنعك ما منعك منها " إن فضل الله كان " فيما مضى
وفيما يستقبل " عليك كبيرا " عظيما، فقابله بالشكر.
قوله تعالى:
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا
القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88) ولقد
صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبي أكثر الناس إلا
كفورا (89) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا) (90) ثلاث آيات.
قرأ أهل الكوفة " تفجر " بالتخفيف. الباقون بالتشديد، يقال: فجر يفجر
بالتخفيف إذا شق الأنهار، ومن شدد، فلقوله " وفجرنا خلالها نهرا " (1) اي
مرة بعد مرة، ولقوله " فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " فالتفجير لا يكون إلا
من فجر.
في الآية الأولى، تحدي للخلق ان يأتوا بمثل هذا القرآن وأنهم يعجزون عن

(1) سورة 18 الكهف آية 34
516

ذلك ولا يقدرون على معارضته، لأنه تعالى قال " قل " يا محمد لهؤلاء الكفار " لئن
اجتمعت الإنس والجن " متعاونين متعاضدين " على أن يأتوا بمثل هذا القرآن " في فصاحته
وبلاغته ونظمه، على الوجه الذي هو عليه، من كونه في الطبقة العليا من البلاغة
وعلى حد يشكل على السامعين ما بينهما من التفاوت، لما أتوا بمثله، ولعجزوا
عنه " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " اي معينا، والمثلية التي تحدوا بالمعارضة
بها معتادة بينهم، كمعارضة علقمة لامرئ القيس، ومعارضة الحرث
ابن حلزة عمرو بن كلثوم، ومعارضة جرير الفرزدق. وما كان ذلك خافيا
عليهم.
ثم قال " ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل " وتصريفه إياه هو توجيهه
إياه في معان مختلفة. وقال الرماني: هو تصيير المعنى دائرا فيما كان من المعاني
المختلفة. وذلك أنه لو أدير في المعاني المتفقة لم يعد ذلك تصريفا، فالتصريف
تصيير المعنى دائرا في الجهات المختلفة.
وقوله " لا يأتون بمثله " إنما رفعه لأنه غلب جواب القسم على جواب (إن)
لوقوعه في صدر الكلام، وقد يجوز أن يجزم على جواب (إن) إلا أن الرفع
الوجه، وقال الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة * لاتلقنا من دماء القوم ننتقل (1)
وقوله " فأبي أكثر الناس إلا كفورا " معناه إنما " صرفنا في هذا القرآن
من كل مثل " ليستدلوا به على كونه من قبل الله تعالى ومع ذلك يأبى أكثر الناس
إلا الجحد به، وإنكاره، فالكفور - ههنا - هو الجحود للحق بالاستكبار
ويقولون مع ذلك " لن نؤمن لك " يا محمد " حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا " ومعناه حتى تشقق من الأرض عينا ينبع بالماء أي يفور، فهو على وزن

(1) ديوانه (دار بيروت) 149 وروايته (تلفنا) بدل (تلقنا) والمعنى واحد. وهو
في تفسير روح المعاني 15: 136 وتفسير الطبري 15: 100
517

(مفعول) من (نبع)، يقال نبع الماء ينبع، فهو نابع، وجمعه ينابيع، وإنما
طلبوا عيونا ببلدهم - في قول قتادة - والتفجير التشقيق عما يجري من ماء أو
ضياء، ومنه سمى الفجر، لأنه ينشق عن عمود الصبح، ومنه الفجور، لأنه
خروج إلى الفساد لشق عمود الحق.
قوله تعالى:
(أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها
تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي
بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو
ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه
قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) (93) ثلاث آيات بلا
خلاف.
قرأ ابن عامر " قال سبحان ربي " الباقون " قل سبحان ربي " وقرأ أهل المدينة
وابن عامر وعاصم " كسفا " بفتح السين. الباقون باسكانها من قرأ " قال
سبحان " معناه إن الرسول قال ذلك عند اقتراحهم ما تقدم ذكره، مما لا يدخل
تحت مقدور البشر. ومن قرأ " قل " فعلى أنه أمر بأن يقول لهم ذلك ويقويه
قوله " قل إنما انا بشر مثلكم " (1)
قال أبو زيد: يقال: كسفت الثوب أكسفه كسفا إذا قطعة قطعا، والكسف
القطع واحده كسفة مثل قطعة. قال أبو عبيد: كسفا قطعا. ومن فتح السين
جعله جمع كسفة، قال كسفا مثل قطعة وقطع. ومن سكنه جاز ان يريد

(1) سورة 18 الكهف آية 110
518

الجمع، مثل وسدر ويجوز ان يريد به المصدر. والمعنى أطبق علينا السماء
كسفا اي طبقا.
نزلت هذه الآية في أقوام اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات، قالوا " لن
نؤمن لك " اي لن نصدقك في أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تأتي بها، وهم كانوا
جماعة من قريش، منهم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان، والأسود
ابن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل ابن
هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وابل، ونبيه
ومنبه ابنا الحجاج السهميان. على ما ذكر ابن عباس.
فمن الآيات التي اقترحوها ما ذكره في الآية المتقدمة بأن قالوا " لن نؤمن
لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " اي تشقق لنا من الأرض عيون ماء في
بلادنا " أو تكون لك جنة " يعني بستانا من نخيل وعنب، وتشقق الأنهار خلالها
اي في خلالها، ووسطها تشقيقا " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا " وقرئ
بسكون السين، وفتحها، والكسف القطع، في قول ابن عباس ومجاهد
وقتادة. ويحتمل وجهين:
أحدهما - أن يكون جمع كسفة وكسف بسكون السين كسدرة وسدر
بسكون الدال، وهو للجنس يصلح، للكثير والقليل، ويقول العرب: اعطني
كسفة من هذا الثوب أي قطعة منه، حكى ذلك الفراء، انه سمعه من بعض
العرب، ومن ذلك الكسوف، لانقطاع نوره.
والثاني - يجوز أن يكون الكسف مصدرا من كسفت الشئ إذا غطيته
الغطاء عمن يراه فكأنهم قالوا: تسقطها طبقا علينا.
وقوله " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " فيه دلالة على أنهم كانوا مشبهة، لان
العارف بالله على الحقيقة لا يقول هذا، لأنه لا يجوز عليه تعالى المقابلة، ولا لهم
استعمال هذا على معنى دلائل وآيات الله إذ لا دلائل تدل على ذلك، فلا يشرط
في الظاهر ما ليس فيه، لأنه لم يثبت معرفتهم وحكمتهم، فيصرف ذلك عن
519

ظاهره. ومعنى " قبيلا " قال الفراء: معناه كفيلا بذلك، يقال قبلت وكفلت،
وزعمت وحملت قبله. وقال غيره: يعني مقابلة وقال قتادة وابن جريج والزجاج:
معناه نعاينهم معاينة، قال الشاعر:
نصالحكم حتى تبؤوا بمثلها * كصرخة حبلى بشرتها قبيلها (1)
اي قابلتها، وهي مقابلة لها، والعرب تجرية في هذا المعنى مجرى المصدر
فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث.
وقوله " أو يكون لك بيت من زخرف " قال ابن عباس، ومجاهد، وقتاة،
والفراء: يعني بيتا من ذهب " أو ترقي في السماء " اي تصعد إليها أمامنا بحذائنا
بسلم، قال الفراء إنما قال في السماء، ولم يقل إلى، لان المراد أو ترقى في سلم إلى
السماء، فأتى ب‍ (في) ليدل على ما قلناه يقال: رقيت في السلم أرقي رقيا، ورقيت
من الرقيا أرقوه رقيا ورقية " ولن نؤمن لرقيك " اي لصعودك حتى تنزل علينا
كتابا مكتوبا نقرأه كما أنزل على موسى الألواح، فقال الله تعالى له " قل "
يا محمد " سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا " وإنما أجابهم بذلك، لان
المعنى انكم تقترحون علي الآيات وليس أمرها إلي وإنما أمرها إلى الذي أرسلني
والذي هو أعلم بالتدبير مني وما ينص عليه من الدليل، فلا وجه لطلبكم هذا مني
مع أن هذه صفتي، لأني رسول أؤدي إليكم ما أوحي إلي وأمرت بان أؤديه
إليكم. ومن قرأ " قال سبحان " حمله على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ابتداء من قبل
نفسه، قبل ان يؤمر به، لعلمه بأن الآيات لا تتبع الشهوات، والاقتراحات،

(1) قائله الأعشى ديوانه (دار بيروت) 135 وقد مر تخريجه في 1: 350 ورواية
الديوان
أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها * كصرخة حبلى يسرتها قبولها
وكان على هامش المطبوعة حاشية هي (كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها، ويروى قبولها اي يئست منها
والقبيل والقبول كلاهما بمعنى القابلة - هنا - سميت بذلك لقبولها الولد، وتلقيها إياه عند الولادة)
انتهى. وعلى هذه الحاشية المذكورة علامة تدل على أنها وجدت في بعض المخطوطات.
520

وإنما تتبع المصالح، ولو تبعت الشهوات لكان كل واحد يقترح غير ما يقترحه
الآخر فيؤدي إلى الفساد.
قوله تعالى:
(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا
أبعث الله بشرا رسولا (94) قل لو كان في الأرض ملائكة
يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95) قل
كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) (96)
ثلاث آيات بلا خلاف.
يقول الله تعالى وما صرف الناس، يعنى المشركين الذين لم يؤمنوا، وإنما أخبر
عنه بالمنع مبالغة له في الصرف، لان المنع يستحيل معه الفعل، والصرف يمكن
معه الفعل، لكنه لشدة صرفه شبه بالمنع. وقوله " أن يؤمنوا " اي ما صرفهم
عن التصديق بالله ورسوله حين جاءهم الهدى، يعنى الحجج والبينات، وطريق الحق
إلا قولهم " أبعث الله بشرا رسولا " فدخلت عليهم الشبهة في أنه لا يجوز من
الله أن يبعث رسولا إلا من الملائكة، كما دخلت عليهم الشبهة في أن عبادتهم
لا تصلح لله، فوجهوها إلى الأصنام، فعظموا الله تعالى بجهلهم، بما ليس فيه تعظيم.
وهذا فاسد، لان تعظيم الله إنما يكون بأن يشكر على نعمته بغاية الشكر
ويحمد غاية الحمد، ويضاف إليه الحق دون الباطل، وهم عكسوا فأضافوا
الباطل إليه وما يتعالى عن فعله أو إرادته. وإنما عدلوا عن الهدى إلى الضلال
تقليدا لرؤسائهم. واعتقادا للجهل بالشبهة.
فان قيل لم جاز ان يرسل الله إلى النبي - وهو من البشر - ملكا ليس من
جنسه؟ ولم يجز أن يرسل إلى غير النبي مثل ذلك؟!
521

قلنا: لأنه صاحب معجزة، وقد اختير للهداية والمصلحة، فصارت حاله
بذلك مقاربة لحال الملك، وليس كذلك غيره من الأمة، مع أن الجماعة الكثيرة
ينبغي ان يتخير لها ما تجتمع عليه هممها بما لا يحتاج إليه في الواحد منا إذا أريد
صلاح الجميع. وقيل: لأنهم لا يجوز ان يروا الملك، وهم على هذه الهيئة التي هم بها.
على أنه يلزمهم على الامتناع من اتباع النبي - لأنه بشر مثلهم - الامتناع من اتباع
الملك، لأنه عبد ومحدث مثلهم في العبودية والحدوث، فان جاز ذلك، لان
الله تعالى عظمه وشرفه واختاره، جاز أيضا في البشر لمثل هذه العلة.
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل " لهم " لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين "
قال الحسن معنى " مطمئنين " قاطنين فيها. وقال الجبائي: " مطمئنين " عن
امر الله تعالى الذي يلزم بالاعراض عنه الذم، كما قال تعالى " ولكنه أخلد إلى
الأرض واتبع هواه " (1). ثم قال له " قل " لهم كفى بالله، أي حسبي الله شهيدا وعالما
بيني وبينكم " انه كان بعباده خبيرا بصيرا " أي عالما بكم وبي، مدرك لنا. ونصب
" شهيدا " على التمييز، وتقديره حسبي الله من الشهداء، ويجوز أن يكون نصبا
على الحال، وتقديره كفى الله في حال شهادته. وإنما قال هذا جوابا لهم حين
قالوا: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فقال الله له " قل كفى بالله شهيدا ".
قوله تعالى:
(ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء
من دونه ونحشرهم يوم القيمة على وجوههم عميا وبكما وصما
مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97) ذلك جزاؤهم بأنهم
كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا
جديدا (98) أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض

(1) سورة الأعراف اية 175
522

قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى
الظالمون إلا كفورا) (99) ثلاث آيات.
قيل في معنى قوله " من يهد الله فهو المهتد " قولان:
أحدهما - من يحكم الله بهدايته وتسميته بها بإخلاصه الطاعة، فهو المهتدي في
الحقيقة، وفيه دعاء إلى الاهتداء، وترغيب فيه وحث عليه. وفيه معنى الامر به.
الثاني - من يهديه الله إلى طريق الجنة، فهو المهتدي إليها.
وقوله " ومن يضلل " يحتمل أيضا أمرين:
أحدهما - من يحكم الله بضلاله وتسميته ضالا بسوء اختياره للضلالة فإنه لا
ينفعه ولاية ولي له، فلو تولاه لم يعتد بتوليه، لأنه من اللغو الذي لا منزلة له،
ولذلك حسن أن ينفى، بمنزلة ما لم يكن.
والثاني - من يضله الله عن طريق الجنة، وأراد عقابه على معاصيه لم يوجد
له ناصر يمنعه من عقابه.
ثم أخبر عن صفة حشرهم إلى أرض القيامة، يعنى الكفار، إنه يحشرهم " يوم
القيامة " مجرورين " على وجوههم عميا " كما عموا عن الحق في الدنيا " بكما "
جزاء على سكوتهم عن كلمة الاخلاص " وصما " لتركهم سماع الحق واصغائهم
إلى الباطل " كلما خبت " النار، والخبوة هدوء النار عن الالتهاب خبت النار
تخبو خبوا إذا سكنت، والمعنى: كلما سكنت التهبت واستعرت، وذلك من غير
نقصان آلام أهلها، قال عدي بن زيد:
وسطه كالسراج أو سرح المجدل * حينا يخبو وحينا يغير (2)
فان قيل: كيف يحشرهم الله يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما، مع
قوله " ورأي المجرمون النار، فظنوا أنهم مواقعوها " (3) وقوله " سمعوا لها تغيظا

(1) سورة 7 الأعراف آية 176
(2) تفسير الطبري 15: 105
(3) سورة الكهف آية 54
523

وزفيرا (1) " وقوله " دعوا هنالك ثبورا " (2)
قلنا عنه جوابان:
أحدهما - انهم يحشرون كذلك، ثم يجعلون يبصرون ويشهدون وينطقون.
الثاني - قال ابن عباس والحسن: إنهم عمي عما يسرهم، بكم عن التكلم بما ينفعهم
صم عما يمتعهم " مأواهم جهنم " أي مستقرهم.
فإن قيل: لم جاز أن يكونوا عميا عن العذاب يوم القيامة، ولم يجز أن
يكونوا جهالا به؟.
قلنا: لان الجاهل به لا يجد من ألمه ما يجده العالم، ولان الحكمة تقتضي
إعلامه أن عقابه من أجل جرمه، لأنه واقع موقع التوبيخ له، وموقع الزجر
في الخبر به.
وقوله " ذلك " يعني ما قدم ذكره من العقاب جزاؤهم " استحقوه بكفرهم
بآيات الله.
وقوله " إذا كنا عظاما ورفاتا مثل التراب متحطمين مترضضين " أئنا
لمبعوثون خلقا جديدا " وإنما قالوا ذلك، لانكارهم الحشر والبعث يوم القيامة
والثواب والعقاب. ثم قال " أو لم يروا " يعني هؤلاء الكفار " ان الله الذي
خلق السماوات والأرض " لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقهما، " قادر على أن
يخلق مثلهم " لان القادر على الشئ قادر على أمثاله إذا كان له مثل وأمثال في
الجنس " وجعل لهم أجلا " يعيشون إليه ويحشرون عنده، لاشك فيه. وقال
الجبائي: جعل الله لهم أجلا لمعادهم وحشرهم لاشك فيه.
ثم أخبر تعالى فقال " فأبي الظالمون " لنفوسهم الباخسون حقها بفعل
المعاصي " إلا كفورا " أي كفروا وجحدوا بآيات الله ونعمه.
وفي الآية دلالة على أن القادر على الشئ قادر على جنس مثله إذا كان له مثل.
وفيه دلالة على أن يجب أن يكون قادرا على ضده، لان منزلته في المقدور منزلة

(1) سورة 25 الفرقان آية 12 - 13
(2) سورة 25 الفرقان آية 12 - 13
524

مثله. وفيه دلالة على أنه يقدر على إعادته إذا كان مما يبقى وتصح عليه الإعادة.
قوله تعالى:
(قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لا مسكتم
خشية الانفاق وكان الانسان قتورا) (100) آية بلا خلاف.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل " لهؤلاء الكفار: لو أنكم ملكتم " خزائن رحمة ربي "
أي ما يقدر عليه من النعم قدرتم على مثله لما أنفقتموه في طاعة الله، وأمسكتموه
خوفا من الفقر. ثم اخبر بأن الانسان كان قتورا، يعني مضيقا سئ الظن بالله
وبالخلف عن الانفاق، وهو جواب لقولهم " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من
الأرض ينبوعا " (1) فأعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الله، لامسكوا بخلا بها
وشحا خشية نفادها، يقال: نفقت نفقات القوم إذا نفدت، وانفقها صاحبها
أي انفدها حتى افتقر، وقال قتادة: خشية الانفاق أي خشية الفقر. والمراد
بالانسان في الآية. - قول ابن عباس والحسن: هو الكافر. والقتور المضيق
للنفقة، يقال قتر يقتر وأقتر إذا قدر النفقة. و (أنتم) مرفوع بفعل مضمر،
والمعنى قل لو تملكون أنتم، لان (لو) يقع بعدها الشئ، لوقوع غيره، فلا
يليها إلا الفعل، وإذا وليها اسم يعمل فيه الفعل المضمر قال الشاعر:
لو غيركم علق الزبير بحبله * أدى الجوار إلى بني العوام (2)
والقتور البخيل - في قول ابن عباس - قال أبو داود:
لا أعد الاقتار عدما ولكن * فقد من قد رزئته الاعدام (3)
وظاهر قوله " وكان الانسان قتورا " العموم، وقد علمنا أن في الناس الجواد،
والوجه فيه أحد أمرين:

(1) سورة 17 الاسرى آية 91
(2) مر هذا البيت في 4: 351
(3) تفسير الطبري 15: 16
525

أحدهما - ان الأغلب عليهم من ليس بجواد، ومن مقتصد أو بخيل، فجاز
تغليب الأكثر.
والثاني - أنه لا أحد إلا وهو يجر إلى نفسه نفعا بما فيه ضرر على الغير،
فهو بخيل بالإضافة إلى جود الله تعالى.
قوله تعالى:
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل
إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا (101)
قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض
بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا) (102) آيتان بلا خلاف.
قرأ الكسائي وحده " لقد علمت " بضم التاء. الباقون بفتحها.
حجة من فتح أنه قال: إن فرعون وملأه ممن تبعه قد علموا صحة أمر موسى
وأن ما أتى به ليس بسحر بدلالة قوله " لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك (1) "
وقوله " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم ظلما وعلوا " (2) وقولهم " يا أيها الساحر ادع لنا ربك " (3)
ومن قرأ بضم التاء فمن علم موسى.
فان قيل له كيف يصح الاحتجاج عليهم بعلمه، وعلمه لا يكون حجة على
فرعون وملائه، وإنما يكون علم فرعون ما علمه من صحة أمر موسى حجة عليه؟.
نقول: إنه لما قيل له " إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون " (4) كان ذلك
قدحا في علمه، لان المجنون لا يعلم، فكأنه نفى ذلك، فقال لقد علمت صحة

(1) سورة الأعراف آية 133
(2) سورة 27 النمل اية 13 - 14
(3) سورة 43 الزخرف اية 49
(4) سورة 26 الشعراء اية 27
526

ما أتيت به، وأنه ليس بسحر، علما صحيحا كعلم العقلاء، فصارت الحجة عليه
من هذا الوجه. ورويت هذه القراءة عن أمير المؤمنين (ع)
يقول الله تعالى مخبرا عما أعطى موسى من الآيات وذكر أنها تسع آيات
معجزات بينات ظاهرات دالات على صحة نبوته. واختلفوا في هذه التسع:
فقال ابن عباس والضحاك: هي يد موسى، وعصاه، ولسانه، والبحر،
والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم " آيات مفصلات ". وقال محمد
ابن كعب القرطي: الجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والبحر، وعصاه
والطمسة، والحجر. والطمسة دعاء موسى وتأمين هارون، فقال الله تعالى " قد
أجيبت دعوتكما (1) " وفي رواية عكرمة عن ابن عباس، ومطر الوراق: الطوفان
والجراد، والقمل، والضفادع والدم، والعصا، واليد، والسنون، ونقص من
الثمرات. وبه قال الشعبي ومجاهد. وقال الحسن مثل ذلك، غير أنه جعل
الاخذ بالسنين ونقص الثمرات آية واحدة. وجعل التاسعة تلقف العصا ما
يأفكون.
وقال صفوان ابن عسال: سأل يهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسع آيات، فقال:
(هن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرمها
الله الا بالحق، ولا تمشوا ببرئ إلى السلطان يقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا
الربو، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة يا يهود
أن لا تعتدوا في السبت) (2) فقبل يده، وقال أشهد أنك نبي الله. وقوله " فاسأل
بني إسرائيل " أمر النبي أن يسأل بني إسرائيل " إذ جاءهم موسى ". وقال الحسن
عن ابن عباس، قال: معناه سؤالك إياهم، نظرك في القرآن. وروي عن ابن

(1) سورة 10 يونس اية 89
(2) في بعض المخطوطات (لا تسخروا في السبت) وفي بعضها (لا تصيدوا في السبت)
وقد أثبتنا ما في المطبوعة لموافقته لقوله تعالى " لا تعدوا في السبت " في سورة النساء
آية 154، وفي سورة البقرة آية 65 " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت "
وفي سورة الأعراف اية 162 " إذ يعدون في السبت "
527

عباس أنه كان يقرأ " فسأل بني إسرائيل " يعني فسأل موسى فرعون بني إسرائيل
أن يرسلهم معه.
وقوله " فقال له فرعون " حكاية عما قال فرعون لموسى " إني لأضنك يا
موسى مسحورا " أي معطا علم السحر بهذه العجائب التي تفعلها من سحرك،
وقد يجوز أن يكون المراد " إني لأظنك يا موسى " ساحرا، فوضع (مفعول)
موضع (فاعل)، مثل مشؤم وميمون موضع شائم ويامن. وقيل معناه: إنك
سحرت، فأنت تحمل نفسك على ما يقوله السحر الذي بك وقيل مسحور بمعنى
مخدوع.
وقوله " قال لقد علمت " حكاية عما أجاب به موسى فرعون فإنه قال " لقد
علمت " يا فرعون أن ما جئت به ليس بسحر وإني صادق. ومن قرأ بضم التاء
معناه إنه لما قال له فرعون " إني لأظنك يا موسى مسحورا " قال له موسى " لقد
علمت " اني لست كذلك وأنه ما أنزل هذه الآيات " إلا رب السماوات والأرض "
الذي خلقهن وجعلهن " بصائر " أي حججا واضحة واحدها بصيرة " واني
لأظنك يا فرعون مثبورا " اي ملعونا ممنوعا من الخير، تقول العرب ما ثبرك
عن هذا الامر أي ما منعك منه، وما صرفك عنه، وثبره الله، فهو يثبره ويثبره
لغتان. ورجل مثبور محبوس عن الخيرات. قال الشاعر:
إذا جارى الشيطان في سنن الغي فمن مال ميله مثبور (1)
وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير، وقال قوم: معناه مغلوبا، روي ذلك عن
ابن عباس في رواية أخرى، وبه قال الضحاك. وقال مجاهد: هالكا، وبه قال
قتادة. وقال عطية العوفي: مغيرا مبدلا. وقال ابن زيد: معناه مخبولا لا عقل له.
قوله تعالى:
(فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا (103)

(1) تفسير الطبري 15: 109
528

وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء
وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) (104) آيتان بلا خلاف.
قوله " فأراد " يعني فرعون " أن يستفزهم " يعني موسى وبني إسرائيل " من الأرض "
أي يخرجهم منها بالنفي والقتل والازعاج كرها، من أرض مصر. وأصله القطع
بشدة، فزز الثوب إذا قطعه بشدة تخريق.
فأخبر الله تعالى إنا أغرقناه عند ذلك في البحر، " ومن معه " من جنده وأتباعه
ونجينا بني إسرائيل مع موسى (ع) وقلنا لهم من بعد هلاك فرعون " اسكنوا
الأرض " يعني أرض الشام، " فإذا جاء وعد الآخرة " يعني يوم القيامة وهي الكرة
الآخرة " جئنا بكم لفيفا " أي حشرناكم إلى أرض القيامة، مختلطين من كل قوم ومن كل
قبيلة، قد التف بعضكم على بعض لا تتعارفون، ولا ينحاز منكم أحد إلى قبيلة، ومن ذلك
قولهم: لففت الجيوش إذا ضربت بعضها ببعض فاختلط الجميع، وكل شئ
اختلط بشئ فقد لف به، وقال مجاهد: معناه جئنا بكم من كل قوم. وقال قتادة:
جئنا بكم أجمع أولكم وآخركم، وهو قول ابن عباس ومجاهد - في رواية -
والضحاك. و (لفيف) مصدر تقول لففته لفا ولفيفا، فلذلك أخبر به عن الجميع
ولفيفا نصب على الحال.
قوله تعالى:
(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا
(105) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)
(106) آيتان بلا خلاف.
تفسير التبيان ج 6 م 34
529

قوله " وبالحق أنزلناه " يعني القرآن أنزله الله يأمر فيه بالعدل وبالانصاف،
والأخلاق والجميلة والأمور الحسنة الحميدة، وينهي فيه من الظلم وأنواع القبائح
والأخلاق الذميمة. " وبالحق نزل " معناه بما ذكرناه من فنون الحق نزل القرآن
من عند الله على نبيه صلى الله عليه وسلم. قال البلخي: يجوز أن يكون أراد موسى، ويكون
ذلك كقوله " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " (1) ويجوز أن يكون أراد الآيات
فكنى عنها بالهاء وحدها، دون الهاء والألف، ويريد أنزلنا ذلك، كما قال أبو
عبيدة قال أنشدني رؤبة:
فيه خطوط من سواد وبلق * كأنه في العين توليع البهق (2)
فقلت له: إن أردت الخطوط فقل كأنها، وإن أردت السواد والبياض فقل
كأنهما، قال: فقال لي: كأن ذلك وتلك.
ثم قال " وما أرسلناك " يا محمد " إلا مبشرا " للمطيعين بالجنة " ونذيرا "
أي مخوفا للعصاة من النار.
وقوله " وقرآنا فرقنا " قرأه أهل الابصار بالتخفيف. وحكي عن ابن عباس
بتشديد الراء، بمعنى نزلناه شيئا بعد شئ، آية بعد آية، وقصة بعد قصة. ومعنى
" فرقناه " فصلنا فيه الحلال والحرام، وميزنا بينهما، وهو قول ابن عباس. وقال
أبي بن كعب معناه بيناه. وقال الحسن وقتادة: فرق الله فيه بين الحق والباطل.
ومن قرأ بالتشديد، قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: إن معناه أنزل متفرقا لم
ينزل جميعا، وكان بين أوله وآخره نحو من عشرين سنة. ونصب " قرآنا " على معنى
وأحكمنا قرآنا " فرقناه " أو آتيناك قرآنا. وقال بعضهم: نصب بمعنى ورحمة
كأنه قال " وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " ورحمة، قال لان القرآن رحمة.
وقوله " لتقرأه على الناس على مكث " معناه على توئدة، فترتله وتبينه ولا تعجل

(1) سورة 57 الحديد آية 25
(2) مر هذا الرجز في 1 / 296
530

في تلاوته، فلا يفهم عنك، وهو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد، ويقال في
المكث لغات: مكث بضم الميم وعليه القراء، وبفتح الميم وسكون الكاف،
وبفتح الميم وكسر الكاف، وحكي مكثي مقصور ومكاثاء ممدود.
وقوله " ونزلناه تنزيلا " أي أنزلناه شيئا بعد شئ، وهو قول الحسن وقتادة
وقوله " ونزلناه تنزيلا " يدل على أن القرآن محدث، لان القديم لا يجوز
وصفه بالمنزل والتنزيل، لان ذلك من صفات المحدثين.
وقيل في معنى " على مكث " أنه كان ينزل منه شئ ثم يمكثون ما شاء الله وينزل
شئ آخر.
قوله تعالى:
(قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله.
إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان
ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون للأذقان يبكون
ويزيدهم خشوعا) (109) ثلاث آيات في الكوفي خاصة، تمام
الأولى سجدا، وآيتان فيما سوى ذلك.
يقول الله تعالى لنبيه " قل " لهؤلاء الذين اقترحوا عليك الآيات، وقالوا " لن
نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " (1) على وجه التبكيت لهم في عدولهم
عن نبيه وكفرهم به، وأنه لا يستضر بترك إيمانهم، لان عيبه راجع عليهم " آمنوا "
بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، وتعاونوا عليه لما

(1) سورة 17 الاسرى آية 90
531

قدروا عليه " أو لا تؤمنوا " وتجحدوه، فإن إيمانكم لن يزيد في خزائن الله شيئا،
ولا ترككم الايمان به ينقص ذلك، وإن تكفروا به، فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته
من قبل نزوله من مؤمني أهل الكتاب، وهم الذين أسلموا " إذا يتلى عليهم " من
القرآن " يخرون " تعظيما له وتكريما، لعلمهم بأنه من عند الله، لأذقانهم سجدا بالأرض
واختلفوا في المعني بقوله " يخرون للأذقان " فقال بعضهم: أراد به الوجوه
روى ذلك عن ابن عباس وقتادة. وقال قوم يعني بذلك اللحى، حكي ذلك عن
الحسن. وقوله " ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " حكاية من الله
عن هؤلاء الذين أوتوا العلم من قبل نزول هذا القرآن خروا للأذقان سجودا عند
استماعهم القرآن يتلى عليهم تنزيها لله تعالى وتبرئة له مما يضيف إليه المشركون،
ويقولون لم يكن وعد ربنا من ثواب وعقاب إلا مفعولا حقا يقينا إيمانا بالقرآن
وتصديقا له. والأذقان جمع ذقن، وهو مجمع اللحيين. وقال مجاهد ابن زيد:
" الذين أوتوا العلم من قبله " إلى قوله " خشوعا " ناس من أهل الكتاب حيث
سمعوا ما أنزل الله على محمد " قالوا سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " وقال
ابن جريج: إذا يتلى عليهم كتابهم وقال قوم " الذين أوتوا العلم " يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم
والمؤمنين. ويراد بقوله " إذا يتلى عليهم " يعني القرآن، لأنه من سياق ذكر
القرآن، ولم يكن يجري لغيره من الكتب ذكر، وهو الأقوى، لان الآية فيها
مدح لمن وصف بما فيها، وذلك لا يليق بالكفار إلا أن يراد بذلك من آمن منهم
وكان عالما قبل ذلك بصحة القرآن إذ علموا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة
والإنجيل ويحتمل ذلك إذا على ما بيناه.
وقوله " ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " يقول الله يخر هؤلاء
الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين من قبل نزول الفرقان إذا يتلى عليهم
القرآن " لأذقانهم يبكون ويزيدهم " ما في القرآن من المواعظ والعبر " خشوعا " يعني
خضوعا لامر الله وطاعته واستكانة له.
532

قوله تعالى:
(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء
الحسني ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا
(110) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك
في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) (111)
آيتان بلا خلاف.
هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن " قل " يا محمد لمشركي قومك المنكرين
لنبوتك الجاحدين لدعائك وتسميتك الله تعالى بالرحمن " ادعوا الله أو ادعوا الرحمن "
أيها القوم " أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى " معناه بأي أسمائه تعالى تدعون
ربكم به، وإنما تدعون واحد، فله الأسماء الحسنى، وإنما أمره بذلك، لان مشركي
قومه لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله تارة بأنه الله وتارة بأنه الرحمن، فظنوا أنه يدعو
إلهين حتى قال بعضهم: الرحمن رجل باليمامة، فأنزل الله هذه الآية احتجاجا
لنبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، وانه شئ واحد، وإن اختلفت أسماؤه وصفاته، وبه قال
ابن عباس ومكحول ومجاهد وغيرهم.
(وما) في قوله " أياما " يحتمل أن يكون صلة، كقوله " عما قليل ليصبحن
نادمين " (1)، ويحتمل أن يكون بمعنى أي كررت لاختلاف لفظها، كما قالوا:
ما رأينا كالليلة ليلة.
وقوله " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " نهي من الله
تعالى عن الجهر العظيم في حال الصلاة، وعن المخافتة الشديدة وأمر بأن يتخذ بين

(1) سورة 23 المؤمنون آية 40
533

ذلك سبيلا. وحد أصحابه الجهر فيما يجب الجهر فيه بأن يسمع غيره، والمخافتة بأن
يسمع نفسه.
واختلفوا في الصلاة التي عنى بها بالآية في قوله " ولا تجهر بصلاتك " فقال
الحسن لا تجهر بإشاعتها عند من يؤذيك، ولا تخافت بها عند من يلتمسها منك.
وقال قوم: لا تجهر بدعائك ولا تخافت، ولكن بين ذلك، قالوا: والمراد بالصلاة
الدعاء، ذهبت إليه عائشة، وابن عباس، وأبو عياض، وعطاء، ومجاهد،
وسعيد بن جبير، وعبد الله بن شداد، والزبير، ومكحول. وروي عن ابن
عباس - في رواية أخرى - أن النبي كان إذا صلى يجهر في صلاته، فسمعه المشركون
فشتموه وآذوه وآذوا أصحابه، فأمر الله بترك الجهر، وكان ذلك بمكة في أول الأمر
، وبه قال سعيد بن جبير. وقال قوم: أراد لا تجهر بتشهدك في الصلاة
ولا تخافت به، روي ذلك عن عائشة - في رواية أخرى - وبه قال ابن سيرين.
وقال قوم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة جهرا فأمر بإخفاتها، ذهب إليه
عكرمة والحسن البصري، وقال قوم: معناه لا تجهر بصلاتك تحسنها مراءاة،
في العلانية، ولا تخافت بها، تثني في القيام بها في السريرة، روي ذلك عن الحسن
وقتادة وابن عباس في رواية. وبه قال ابن زيد وابن وهب. وقال الطبري:
يحتمل أن يكون المراد لا تجهر بصلاتك صلاة النهاز العجماء، ولا تخافت بها،
يعني صلاة الليل التي تجهر فيها بالقراءة، قال: وهذا محتمل غير أنه لم يقل به أحد
من أهل التأويل.
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم قل يا محمد " الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " فيكون
مربوبا لا ربا، لان رب الأرباب لا يجوز أن يكون له ولد " ولم يكن له شريك "
في ملكه فيكون عاجزا محتاجا إلى غيره ليعينه فيكون ضعيفا، ولا يجوز أن
يكون الاله بهذه الصفة " ولم يكن له ولي من الذل " معناه لم يكن له حليف
حالفه لينصره على من يناوئه، لان ذلك صفة ضعيف عاجز، ولا يجوز أن
يكون الاله بهذه الصفة، ثم أمره بأن يعظمه تعظيما لا يساويه تعظيم، ولا يقاربه
لعلو منزلته.
534

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أهله هذه الآية. وما قلناه هو قول
مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس. وقال محمد بن كعب القرطي: في هذه
الآية رد على اليهود والنصارى حين قالوا اتخذ الله الولد - وعلى مشركي العرب
حيث قالوا: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك. وعلى الصابئين
والمجوس حين قالوا:، لولا أولياء الله لذل الله. فأنزل الله ردا لقولهم أجمعين.
وليس لاحد أن يقول: كيف يحمد الله على أن لم يتخذ ولدا، ولم يكن له
شريك في الملك، والحمد إنما يستحق على فعل ما له صفة التفضل، وذلك أن الحمد
في الآية ليس هو على أن لم يفعل ذلك. وإنما هو حمد على أفعاله المحمودة، ووجه
إلى من هذه صفته، لا من أجل أن ذلك صفته، كما تقول: أنا أشكر فلانا الطويل
الجميل، ليس انك تشكره على جماله وطوله، بل على غير ذلك من فعله
ومعنى " وكبره تكبيرا " صفه بصفاته التي لا يشركه فيها أحد.
وقيل: كبره عن كل ما لا يليق وصفه به.
تم المجلد السادس من تفسير التبيان
ويليه المجلد السابع وأوله:
أول سورة الكهف
في ربيع الأول سنة 1381 ه‍. آب سنة 1961 م
535