الكتاب: الإنصاف فيما تضمنه الكشاف
المؤلف: ابن المنير الإسكندري
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٨٣
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٥ - ١٩٦٦ م
المطبعة:
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ، عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاهم - خلفاء
ردمك:
ملاحظات:

الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال
تأليف
الامام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي
-
الجزء الثاني
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاهم - خلفاء
1

الطبعة الأخيرة
1385 ه‍ = 1966 م
حقوق الطبع محفوظة للناشر
2

القول في سورة الأنعام
وهي مكية
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا
3

بربهم يعدلون) قال (الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير الخ) قال أحمد: وقد وردت جعل وخلق
موردا واحدا فورد - وخلق منها زوجها - وورد: وجعل منها زوجها، وذلك ظاهر في الترادف، إلا أن للخاطر
ميلا إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري، ويؤيده أن جعل لم يصحب السماوات والأرض وإنما لزمتهما خلق، وفي
إضافة الخلق في هذه الآية إلى السماوات والأرض والجعل إلى الظلمات والنور مصداق للمميز بينهما والله أعلم. عاد
كلامه. قال (فإن قلت: لم أفرد النور. قلت: للقصد الخ) قال أحمد: وقد سبق للزمخشري الاستدلال بجمع الجنس على
التكثير واعتقاد أنه أدل على الكثرة من الافراد، وقد قدمنا ما في ذلك من النظر وأسلفنا الاستدلال بقول حبر الأمة كتابه
أكثر من كتبه على خلاف ذلك وهو رأي الامام أبي المعالي، ولو قال الزمخشري إن جمع الظلمات لاختلافها
بحسب اختلاف ما ينشأ عنه من أجناس الأجرام وإفراد النور لاتحاد الجنس الذي ينشأ عنه وهو النار لكان أولى، والله
أعلم. عاد كلامه، قال (فإن قلت: علام عطف ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الخ) قال أحمد: وفي هذا الوجه
الثاني نظر من حيث إن عطفه على الصلة يوجب دخوله في حكمها، ولو قال الحمد لله الذي الذين كفروا بربهم
يعدلون لم يسند لخلو الجملة من العائد. ويمكن أن يقال وضع الظاهر الذي هو ربهم موضع المضمر تفخيما وتعظيما،
وأصل الكلام الذي يعدل به الذين كفروا، أو الذي الذين كفروا يعدلون به باتساع وقوعها صلة رعاية لهذا
الأصل فهذا نظر من حيث الإعراب، ونظيره قوله تعالى - وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة
ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم - فيمن جعل ما موصولة لا شرطية، فإن دخول جاءكم وما بعده في حكم الصلة
يستدعي ضميرا عائدا إلى الموصول، وهو مفقود لفظا لأن الظاهر وضع فيه موضع المضمر، والأصل ثم جاءكم
رسول مصدق له، فاستقام عطفه ودخوله في حكم الصلة بهذه الطريقة، لكن بقي في آية الأنعام هذه نظر في المعنى
على الإعراب المذكور، وهو أنه يصير التقدير: الحمد لله الذي الذين كفروا يعدلون، ووقوع هذا عقيب الحمد
غير مناسب كما ترى، فالوجه والله أعلم عطفه على أول الكلام لا على الصلة، والله الموفق.
(قوله تعالى: هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال (إن قلت المبتدأ النكرة إذا
كان خبره ظرفا وجب الخ) قال أحمد: وليس في إرادة هذا المعنى موجب للتقديم، وقد ورد - وعنده علم الساعة -
في سياق التعظيم لها وهو مع ذلك مؤخر عن الخبر في قوله - وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما
وعنده علم الساعة واليه ترجعون - والظاهر والله أعلم أن التقديم إنما كان لأن الكلام منقول من كلام آخر، وكان
4

الأصل والله أعلم ثم قضى أجلا وأجلا مسمى عنده، إذ كلاهما مقضي، فلما عدل بالكلام عن العطف الافرادي
تمييزا بين الأجلين رفع الثاني بالابتداء وأقر بمكانه من التقديم، والله أعلم.
(قوله: وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) قال (في السماوات متعلق
بمعنى اسم الله الخ) قال أحمد: وما الآيتان الكريمتان إلا توأمتان، فإن التمدح في آية الزخرف وقع بما وقع التمدح
به ههنا من القدرة على الإعادة والاستئثار بعلم الساعة والتوحد في الألوهية وفي كونه تعالى المعبود في السماوات
والأرض. عاد كلامه، قال (أو وهو المعروف بالألوهية أو هو الذي يقال له الله فيهما الخ) قال أحمد: وهذه
الوجوه كلها كان التعبير وقع فيها بالملزوم عن لوازمه المشهورة به كما وقع ذلك في قوله * أنا أبو النجم وشعري شعري
5

أي المعروف المشهور لأنه بنى على أنه متى ذكر شعره فهم السامع عند ذكره خواصه من الجودة والبلاغة وسلامة
النسج لاشتهاره بذلك، فاقتصر على قوله شعري اتكالا على فهم السامع.
(قوله تعالى: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)
قال (ولم يقتصر بهم على الرؤية لئلا الخ) قال أحمد: والظاهر أن فائدة زيادة لمسوه له بأيديهم تحقيق القراءة على
قرب: أي فقرأوه وهو في أيديهم لا بعيد عنهم لما آمنوا، وإلا فالخط لا يدرك باللمس حتى يجعل فائدة زيادة
إدراكه بوجهين كما يفهم من كلام الزمخشري.
(قوله تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينظرون) قال (يعني لا ينظرون
بعد نزوله طرفة عين الخ) قال أحمد: لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك،
فإنه ربما يفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الايمان بها دون نزول الملك في الوضوح وليس الامر كذلك.
فالوجه والله أعلم أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما لا يتوقف
وجوب الايمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزا لا المعجز الخاص، فإذا
أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة، والله
6

أعلم. عاد كلامه، قال: وإما لأنه يزول الاختيار الذي قاعدة التكليف مبنية عليه عند نزول الملك فيجب
إهلاكهم، وإما لأنهم إذا شاهدوا الملك في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. قال أحمد: ويقوى
هذا الوجه قوله ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا. قال ابن عباس ليتمكنوا من رؤيته ولا يهلكوا من مشاهدة
صورته. عاد كلامه قال (ومعنى ثم بعد ما بين الامرين قضاء الامر الخ) قال أحمد: وهذه النكتة من محاسن تنبيهاته.
(قوله تعالى: قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) قال (إن قلت: أي فرق بين قوله: فانظروا
وبين قوله: ثم انظروا الخ) قال أحمد: وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الامر بالسير في المكانين واحدا ليكون
7

ذلك سببا في النظر، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية، وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من
السير، وأن السير وسيلة إليه لا غير، وشتان بين المقصود والوسيلة، والله أعلم.
8

(قوله تعالى: قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز
المبين: قال (المراد الرحمة العظمى وهي النجاة من النار الخ) قال أحمد: وإنما يلجئ إلى تخصيص الرحمة إما بكونها
العظمى وإما برحمة الثواب أنه لو بقيت على إطلاقها لما زاد الجزاء على الشرط، إذ من المعلوم ضرورة أن صرف
العذاب رحمة ما، والعجب أن الزمخشري يصحح تخصيصها برحمة الثواب بأن صرف العذاب يستلزم الثواب، ولا بد
وغيره يصحح هذا التخصيص بأنه لا يلزم من صرف العذاب حصول الثواب لجواز أن يصرف عنه العذاب ولا
يثاب، فأفاد الجزاء إذا فائدة لم يفهم من الشرط، هكذا صححه القونوي، ولعمري إن قاعدة المعتزلة تلجئ إلى
ما ذهب إليه الزمخشري لانقسام المكلفين عندهم إلى مستوجب للجنة فالعذاب قطعا، ويسندون ذلك إلى العقل
لا إلى السمع.
(قوله تعالى: قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) قال (الشئ أعم العام لوقوعه على كل
ما يصح الخ) قال أحمد: وتفسيره الشئ يخالف الفريقين الأشعرية، فإنهم فسروه بالموجود ليس إلا، والمعتزلة
فإنهم قالوا: والمعلوم الذي يصح وجوده فاتفقوا على خروج المستحيل وعلى الجملة فهذه المسألة معدودة من علم
9

الكلام باعتبار ما، وأما هذا البحث فلغوي والتحاكم فيه لأهل اللغة، وظاهر قولهم غضبت من لا شئ وإذا رأى
غير شئ ظنه رجلا أن الشئ لا ينطلق إلا على الموجود، إذ لو كان الشئ كل ما يصح أن يعلم عدما كان أو
وجودا أو ممكنا أو مستحيلا لما صدق على أمر ما أنه ليس بشئ، والامر في ذلك قريب.
10

(قوله تعالى: ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين. انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل
عنهم ما كانوا يفترون) قال (فتنتهم كفرهم، والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم الخ) قال أحمد: وفي الآية دليل
بين على أن الاخبار بالشئ على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره، ألا تراه جعل إخبارهم
وتبريهم كذبا مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون: أي سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع
ذلك إطلاق الكذب عليهم.
(قوله تعالى: ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) قال (الأكنة
على القلوب والوقر في الآذان مثل في نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبوله الخ) قال أحمد: رحمه الله، وهذه الآية
11

حسبنا في رد معتقد القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى أراد من هؤلاء المستمعين أن يعوا القرآن ويفقهوه وأنه لم
يمنعهم من ذلك، ومحال على زعمهم أن يمنعهم من ذلك ويريدوا أن لا يفقهوه لأن ذلك عندهم قبيح، فانظر كيف
تكافحهم هذه الآية بالرد وتنادي عليهم بالخطأ، إذ قوله أن يفقهوه معناه كراهة أن يفقهوه، وبين الإرادة على
زعمهم والكراهة على ما أنبأت عنه الآية بون بعيد، والله الموفق.
(قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين
12

بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) قال (وقرئ ولا نكذب ونكون
بالنصب بإضمار أن على جواب التمني الخ) قال أحمد: وكثيرا ما تتناوب صيغة التمني والخبر، ألا ترى إلى
قوله تعالى - وبما كانوا يكذبون - في قوله - ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين -
إلى قوله - وبما كانوا يكذبون - وهذه المعاهدة إنما كانت تمنيا بصيغة الخبر والله أعلم. وأبين من ذلك قوله تعالى
13

في آية أخرى - وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل - فهذا هو التمني بعينه ولكن
بصيغة الوعد والخبر الصريحة والله الموفق.
(قوله تعالى: قد نعلم إنه ليحزنك الذين يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد
كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله الآية) قال (قد
في قد بمعنى ربما الذي يجئ لزيادة الفعل وكثرته كقوله * ولكنه قد يهلك المال نائله *) قال أحمد: ومثلها في قوله:
- وقد تعلمون أني رسول الله إليكم - فإنه يكثر علمهم برسالته ويؤكده بظهور آياته حتى يقيم عليهم الحجة في جمعهم
بين متناقضين أذيته ورسوخ علمهم برسالته، والله أعلم. ومنه أيضا قوله * قد أترك القرن مصفرا أنامله * والغرض
التعبير عن المعنى بما يشعر بعكسه تنبيها على أنه بلغ الآية التي ما بعدها إلا الرجوع إلى الضد، وذلك من لطائف
لغة العرب وغرائبها. عاد كلامه قال (وقرئ يكذبونك بالتشديد والتخفيف من كذبه إلى قوله ولكن الظالمين الخ)
14

قال أحمد: وفي هذا النوع من إقامة الظاهر مقام المضمر فنان من نكت البيان: إحداهما الاسهاب في ذمهم
وهذه النكتة يستقل بها الظاهر من حيث كونه ظاهرا حتى لو كان لقبا جامدا، والاخرى زيادة منه تؤكد ذمهم
تفهم من اشتقاق الظاهر. عاد كلامه، قال (وقوله: ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية الخ) قال أحمد رحمه الله:
ولا دلالة فيه لأنه مؤتلف مع نفي التكذيب أيضا وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين: أي هؤلاء لم يكذبوك فحقك أن
تصبر عليهم ولا يحزنك أمرهم، وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم فصبروا عليهم فأنت إذ لم
يكذبوك أجدر بالصبر، فقد ائتلف كما ترى بالتفسيرين جميعا، ولكنه من غير الوجه الذي استدل به فيه تقريب
لما اختاره، وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحا بها في نحو قوله - وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من
قبلك - فسلاه عن تكذيبهم له بتكذيب غيرهم من الأم لأنبيائهم، وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع مؤيد
بالنظائر والله أعلم.
15

قوله تعالى (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى الآية) قال (بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة
فلا تكونن من الجاهلين من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه) قال أحمد: وهذه الآية أيضا كافلة بالرد
على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن، ألا ترى أن الجملة مصدرة بلو
ومقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها، فامتناع اجتماعهم على الهدى إذا إنما كان لامتناع المشيئة، فمن
ثم ترى الزمخشري يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة لا يكون الايمان معها اختيارا حتى يتم له أن هذا
الوجه من المشيئة لم يقع، وأن مشيئة اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم ثابتة غير ممتنعة ولكن لم يقع متعلقها،
وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها والله الموفق.
16

قوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ) قال
(إن قلت هلا قيل وما من دابة ولا طائر الخ) قال أحمد: ولم يبين وجه زيادتها للتعميم. ولقائل أن يقول: يلزم
من العموم في أجناس الطير دخول كل طائر في الجو في العموم وإن لم يذكر في الجو، وكذلك يلزم من عموم
الثواب في سائر أصنافها أن يندرج في ذلك كل دابة في الأرضين وإن لم يذكر في الأرض، فلا بد من بيان وجه
الزيادة، فنقول: موقع قوله في الأرض ويطير بجناحيه موقع الوصف العام، وصفة العام عامة ضرورة المطابقة،
فكأنه مع زيادة الصفة تظافرت صفتان عامتان، والله أعلم.
قوله تعالى (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) قال (معنى يضلله يخذله ولم يلطف به الخ)
قال أحمد: وهذا من تحريفاته للهداية والضلالة اتباعا لمعتقده الفاسد في أن الله تعالى لا يخلق الهدى ولا الضلال
17

وأنهما من جملة مخلوقات العباد، وكم تخرق عليه هذه العقيدة فيروم أن يرفعها وقد اتسع الخرق على الراقع والله
الموفق.
قوله تعالى (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين. بل إياه
تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) قال متعلق لاستخبار محذوف تقديره الخ قال أحمد:
هو لا يدع أن يحجر واسعا فيوجب على الله رعاية المصالح بناء على القاعدة الفاسدة من مراعاة الصلاح والأصلح.
عاد كلامه، قال (وتنسون ما تشركون: أي وتتركون آلهتكم الخ) قال أحمد: وإنما يلقى الاختصاص حيث
يقول معناه أتخصون آلهتكم، ثم قال بل تخصون الله بالدعاء من حيث تقدم المفعول على الفعل في قوله " أغير الله
تدعون " وقوله " بل إياه تدعون " وتقديم المفعول عنده يفيد الاختصاص والحصر، وقوله تعالى - إياك نعبد -
في قوة قولك لا نعبد إلا إياك وقد مضى الكلام عليه. عاد كلامه، قال: (ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أغير
الله تدعون الخ) قال أحمد: ولقد سدد النظر لولا أنه نغص ذلك بما يفهم وجوب مراعاة المصالح وأن مشيئة الله
تعالى تابعة للمصلحة وقد تقدم آنفا، فاحذره وعليك بما سواه فإنه من بديع النظر، والله الموفق.
18

قوله تعالى (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم
مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) قال (الحمد ههنا إيذان بوجوب الحمد عند
هلاك الخ) قال أحمد: ونظيرها قوله تعالى - وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين. قل الحمد لله وسلام على
عباده الذين اصطفى - فيمن وقف ههنا وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين، ومنهم من وقف
على المنذرين وجعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية الله تعالى، وأنه جل جلاله خير مما
يشركون، فعلى الأول يمون الحمد حتما، وعلى الثاني فاتحة وهو مستعمل فيهما شرعا، ولكنه في آية النمل أظهر
في كونه مفتتحا لما بعده، وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه ختما إذ لا يقتضي السياق غير ذلك، والله أعلم.
19

قوله تعالى (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي
قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون الآية) قال (أي لا أدعي ما يستبعد في العقول الخ) قال
أحمد رحمه الله: هو ينبني على القاعدة المتقدمة له في تفضيل الملائكة على الأنبياء، ولعمري إن ظاهر هذه الآية
يؤيده فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها. ولمخالفه أن يقول: إنما وردت الآية ردا على الكفار في قولهم - ما لهذا الرسول
يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا. أو يلقى إليه كنز - الآية فرد قولهم
ما لهذا الرسول يأكل الطعام بأنه بشر وذلك شأن البشر، ولم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله الطعام، وحينئذ
لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء لأنه لا خلاف أن الأنبياء يأكلون الطعام وأن الملائكة ليسوا كذلك،
فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وكذلك رد قولهم أو
يلقى إليه كنز بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم ولا قال لهم ذلك حتى يقام
عليه الحجة به، وهذه الآية جاء الترتيب فيها مخالفا لترتيب قوله - لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة
المقربون - قال الزمخشري: لأنهم أعلى من الأنبياء، وقد أخر ههنا دعوى الملكية عن دعوى الإلهية، إذ الإلهية
أجل وأعلى والملكية أدنى، ولا محل لذلك إلا التمهيد الذي أسلفته، وقد جعلت الامر في التقديم والتأخير تبعا
للسياق، فقد تقتضي البلاغة في بعضه عكس ما تقتضيه في الآخر، ولم يحسن الزمخشري في قوله ليس بعد الإلهية
منزلة أرفع من منزلة الملائكة، فإنه جعل الإلهية من جملة المنازل كالملكية، ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ، والمنزلة
عبارة عن المحل الذي ينزل الله فيه العبد من علو وغيره، فإطلاقها على الإلهية تحريف والله الموفق للصواب. عاد
كلامه، قال (والأعمى والبصير مثل للضال والمهتدي الخ) قال أحمد: قوله أو ادعى المحال يعني المستحيل،
20

ولذلك قابله بالمستقيم يريد الممكن، وذلك مسبب عن دعوى الإلهية، إذا ادعاؤها لا يجوز عقلا، وأما مدعى
الملكية فلا يقاس بمدعي الإلهية في الاستحالة العقلية، ويجوز في القدرة أن يجعل البشر ملكا والملك بشرا، كما
يجوز أن يجعل البشر أنبياء، ويدل على هذا الجواب قوله - ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا - هذا مع أن العقل
يجيزه في قدرة الله تعالى، لأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها، فالمعاني التي
بها كان الملك ملكا يجوز أن يخلقها الله تعالى للبشر وبالعكس وعدم وقوعه لا يأبى استقامته وإمكانه، والله الموفق.
قوله تعالى (وأنذر به الذي يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) قال
(الذين يخافون إما قوم آمنوا إلا أنهم مفرطون الخ) قال أحمد: وإنما كانت هذه الحال لازمة لو قيل وأنذر به
الذين يحشرون، لأنه لولا الحال لعم الامر بالإنذار كل أحد والمقصود تخصيصه بالبعض، وأما وقد قيل - وأنذر
به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم - فهذا الكلام مستقل برأسه، ومضمونه تخصيص الإنذار المأمور به بالقوم
الخائفين من البعث، إما لأنهم مقرون به، وإما لأنهم يحتاطون لأنفسهم فيحملهم الخوف على النظر المفضي إلى
القين دون العتاة المصممين على الجحد، وليس كل خائف من البعث لا شفيع له، فإن الموحدين أجمعين خائفون
21

وهم مشفوع لهم، وإن عنى باللازمة التي لا ينفك ذو الحال عنها كالتي في قوله - وهو الحق مصدقا - فإنما هو
حينئذ يبنى على قاعدته في إنكار الشفاعة، فكل خائف عنده لا شفيع له، إذ لا يخاف إلا أصحاب الكبائر غير
التائبين أو الكفار، والكل عنده سواء لا شفيع لهم، وحيث أثبتت الشفاعة جعلها خاصة بزيادة الثواب فلا ينالها
إلا من يستوجب على زعمه الثواب بعمله الصالح، وتكون الشفاعة مفيدة للمزيد على ما يرضيه، فهذا عنده
لا يخاف من البعث لأنه يستوجب الجنة، فمن ثم جعل الحال لازمة، إذ الناس قسمان: غير خائف فلا تتناوله الآية
وخائف فذاك إنما خاف لأنه استوجب العقاب فلا شفاعة تناله، وهذه دفائنه الخفية ومكامنه المزوية، فتفطن
لها، والله الموفق برحمته.
22

قوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا
حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) قال (المفاتح استعارة لأن المفاتح يتوصل بها إلى
ما في المخازن الخ) قال أحمد: إطلاق التوصل على الله تعالى ليس سديدا، فإنه يوهم تجدد وصول بعد تباعد، إذ قول
القائل يوصل زيد إلى كذا يفهم أنه وصل بعد تكلف وبعد والله تعالى مقدس عن ذلك، والغائب كالحاضر في
علمه، والعلم بالكائن هو العلم بما سيكون لا يتغاير ولا يختلف، وليس لنا أن نطلق مثل هذا الاطلاق إلا عن
ثبت، والله الموفق. عاد كلامه، قال (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة
وداخل في حكمها الخ) قال أحمد: وفائدة هذا التكرير التطرية لما بعد عهده، لأنه لما عطف على ورقة بعد أن
سلف الإيجاب المقصود للعلم في قوله إلا يعلمها وكانت هذه المعطوفات داخلة في إيجاب العلم وهو المقصود
24

وطالت وبعد ارتباط آخرها بالإيجاب السالف كان ذلك جديرا بتجديد العهد بالمقصود، ثم كان اللائق بالبلاغة
المألوفة في القرآن التجديد بعبارة أخرى ليتلقاها السامع غضة جديدة غير مملولة بالتكرير، وهذا السر إنما ينقب
عنه المسيطر في علم البيان ونكت اللبان، والله الموفق.
25

قوله تعالى (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) قال (معناه وإن شغلك بوسوسته
حتى تنسى النهي الخ) قال أحمد: وهذا التأويل الثاني يروم تنزيله على قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل، وأنه.
26

كاف وإن لم يرد شرع في التحريم وغيره من الاحكام إذا كانت واضحة للعقل كمجالسته المستهزئين فإن قبحها
بين بالعقل فهو مستقل بتحريمها، وحيث ورد الشرع بذلك فهو كاشف لحكمها ومبنية عليه لا منشئ فيها حكما
وقد علمت فساد هذه القاعدة ومخالفتها للعقائد السنية، على أن الآية تنبو عنه، فإنه لو كان النسيان المراد ههنا
نسيان الحكم الذي يدل عليه العقل قبل ورود هذا النهي لما عبر بالمستقبل في قوله: وإما ينسينك، فأما وقد ورد
بصيغة الاستقبال فلا وجه لحمله على الماضي، والله الموفق.
قوله تعالى (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) قال (معناه وإن تفد كل فداء والعدل الفدية الخ) قال أحمد:
27

وهذا أيضا من عيون إعرابه ونكت إغرابه التي طالما ذهل عنها غيره، وهو من جنس تدقيقه في منع عود الضمير
من قوله - فتنفخ فيها - إلى الهيئة من قوله - كهيئة الطير - مع أنه السابق إلى الذهن، وإنما حمله على القول بأن العدل
ههنا مصدر أن الفعل تعدى إليه بغير واسطة، ولو كان المراد المفدى به لكان مفعولا به فلم يتعد إليه الفعل إلا
بالباء، وكان وجه الكلام: وإن تعدل بكل عدل فلما عدل عنه أعلم أنه مصدر، والله أعلم.
قوله تعالى (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا وما لا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته
الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين
وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون) قال (نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين دعاه ابنه
عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان الخ) قال أحمد: ومن أنكر الجن واستيلاءها على بعض الأناسي بقدرة الله تعالى حتى
يحدث من ذلك الخبطة والصرع ونحوهما، فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال الفلسفي حيران له أصحاب
من الموحدين يدعونه إلى الهدى الشرعي ائتنا وهو راكب في ضلالة التعاسيف لا يلوي عليهم ولا يلتفت إليهم،
فمرة يقول: إن الوارد في الشرع من ذلك تخييل كما تقدم في سورة البقرة، ومرة يعده من زعمات العرب وزخارفها
وقد أسلفنا ذلك في البقرة وآل عمران قولا شافيا بليغا فجدد به عهدا، والله الموفق. عاد كلامه، قال (فإن قلت
28

إذا كان هذا واردا في أبي بكر فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام: قل أندعوا من دون الله الخ) قال أحمد:
هو مبني على أن الامر هو الإرادة أو من لوازمه إرادة المأمور به وهذا الاعراب منزل على معتقده هذا. وأما أهل
السنة فكما علمت أن الامر عندهم غير الإرادة ولا يستلزمها، وقولهم في هذه اللام كقولهم في - وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون - من نفي كونها تعليلا، والوجه في ذلك أنهم لما أوضحت لهم الآيات البينات وأزيحت عنهم
العلل وتمكنوا من الاسلام والعبادة امتثالا للأمر، جعلوا بمثابة من أريد منهم ذلك تمكينا لحضهم على الامتثال
ولقطع أعذارهم إذا فعل بهم فعل المراد منهم ذلك، ومن شأن المريد للشئ إذا كان قادرا على حصوله أن يزيح
العلل ويرفع الموانع، وكذلك فعل مع المكلفين وإن لم تكن الطاعة مرادة من جميعهم، وأما إذا كانت اللام هي
29

التي تصحب المصدر كما يقول الزجاج تقديره الامر للإسلام، وكذلك يقول في قوله تعالى - يريد الله ليبين لكم -
الإرادة للبيان وهي اللام التي تصحب المفعول عند تقدمه في قولك لزيد ضربت فهي على هذا الوجه غير محتاجة
للتأويل، وقد قيل إنها بمعنى أن كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم، قال هذا القائل: وكي ولام كي في أمرت وأردت
خاصة بمعنى أن لا على بابها من التعليل، والغرض من دخولها إفادة الاستقبال على وجه أوثق وأبلغ، إذ لا يتعلق
هذان المعنيان: أعني الامر والإرادة إلا بمستقبل، وقد جمع بين الثلاثة اللام وكي وأن في قوله: أردت لكيما أن
يطير البيت، وهذا الوجه أيضا سالم المعنى من الخلل الذي يعتقده الزمخشري والمحافظة على العقيدة، وقد وجدنا
السبيل إلى ذلك بحمد الله متعينة، والله الموفق. عاد كلامه، قال (فإن قلت: علام عطف قوله وأن أقيموا الخ)
قال أحمد: وهذا مصداق للقول بأن لنسلم معناه أن نسلم، وأن اللام فيه رديفة أن لا يراد عطفها عليها فذلك هو
الوجه الصحيح إن شاء الله، وفي ورود أقيموا الصلاة محكيا بصيغته وورود نسلم محكيا بمعناه، إذ الأصل المطابق
لأقيموا أسلموا مصداق لما قدمته عند قوله تعالى - ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم - وبينت
ثم أن ذلك جائز على أن يكون عيسى عليه السلام حكى قول الله تعالى: اعبدوا الله ربكم ورب عيسى بمعناه فقال
- اعبدوا الله ربي وربكم - فهذا مثله في حكاية المعنى دون اللفظ، والله أعلم.
قوله تعالى (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل
رأى كوكبا) الآية، قال (قوله فلما جن عليه الليل عطف على قال إبراهيم لأبيه الخ) قال أحمد: وفي الاعتراض
بهذه الجملة تنويه بما سيأتي من استدلال إبراهيم عليه السلام وأنه تبصير له من الله تعالى وتسديد. عاد كلامه، قال
(وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب الخ) قال أحمد: والتعريض بضلالهم ثانيا
30

أصرح وأقوى من قوله أولا لا أحب الآفلين، وإنما ترقى إلى ذلك لأن الخصوم قد أقامت عليه بالاستدلال الأول
حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما
عرض صلوات الله عليه بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم إلى آخره، والدليل
على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتقريع بأنهم على شرك حين قيام الحجة عليهم
وتبلج الحق وبلغ من الظهور غاية المقصود، والله أعلم. عاد كلامه، قال (وقوله هذا أكبر من باب استعمال
النصفة أيضا مع خصومه الخ) قال أحمد: وصدق الزمخشري بل ذلك متعين، وقد ورد الحديث الوارد في الشفاعة
" أنهم يأتون إبراهيم عليه السلام فيلتمسون منه الشفاعة، فيقول نفسي نفسي لا أسأل أحدا غيري ويذكر كذباته
الثلاث ويقول: لست لها " يريد قوله لسارة هي أختي، وإنما عنى في الاسلام، وقوله إني سقيم وإنما عنى همه
بقومه وبشركهم والمؤمن يسقمه ذلك، وقوله بل فعله كبيرهم، وقد ذكرت فيه وجوها من التعريض، فإذا عد
صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها دل على ذلك أنها أعظم ما صدر منه،
فلو كان الامر على ما يقال من أن هذا الكلام محكي عنه على أنه نظر لنفسه لكان أولى أن يعده أعظم مما ذكرناه،
لأنه حينئذ لا يكون شكا بل جزما. على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك. عاد كلامه، قال
31

(فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال الخ) قال أحمد: وهذه أيضا من عيون نكته
ووجوه حسناته.
قوله تعالى (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع
ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون. وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم
سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون) قال (إلا أن يشاء معناه إلا وقت مشيئة ربي شيئا فحذف
الوقت الخ) قال أحمد: هو بمعنى يجعلها قادرة على المضرة بأن يخلق بها قدرة تخلق بها المضرة لمن يريد بناء على قاعدته
وقد علمت أن عقيدة أهل السنة أن لا يجوز عقلا أن يخلق غير الله، ولا يقدر قدرة مؤثرة في المقدور إلا هو، وإن
كان الزمخشري لم يصرح ههنا من عقيدته فإنما يعني حيث يصرح أو يكني ما يلائمها ويتنزل عليها، وغاية
خوف إبراهيم منها المعلق على مشيئة الله لذلك خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى لا بها، وكأنه في الحقيقة لم يخف
إلا من الله لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته وهو كلا خوف منها، والله أعلم.
عاد كلامه، قال (ومعنى كيف أخاف ما أشركتم الخ ما لكم تنكرون علي الأمن الخ) قال أحمد: ويحتمل أن
32

يكون العدول إلى ذلك ليعم بالأمن كل موحد وبالخوف كل مشرك، ويندرج هو في حكم الموحدين وقومه
في حكم المشركين. وأحسن الجواب ما أفاد وزاد. قال (والمراد بقوله ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: أي لم يخلطوا
إيمانهم بمعصية تفسقهم، وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس) قال أحمد: وقد ورد " أن الآية لما نزلت عظمت
على الصحابة وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما هو الظلم في قول لقمان - إن الشرك لظلم
33

عظيم - " وإنما هو يروم بذلك تنزيله على معتقده في وجوب وعيد العصاة وأنهم لاحظ لهم في الأمن كالكفار،
ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين الامرين الايمان والبراءة من المعاصي ونحن نسلم ذلك، ولا
يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب
المؤقت وهم آمنون من الخلود، وأما الكفار فغير آمنين بوجه ما، والله الموفق.
قوله تعالى (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون
كثيرا) قال (وأدرج بحث الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم الخ) قال أحمد: وهذا أيضا من دقة نظره في الكتاب
العزيز والتعمق في آثار معادنه وإبراز محاسنه.
34

قوله تعالى (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون
عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) قال (أصل الغمرة ما يغمر من الماء
فاستعيرت للشدة الغالبة الخ) قال أحمد: هو يجعله من مجاز التمثيل ولا حاجة إلى ذلك، والظاهر أنهم يفعلون معهم
هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية، وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها. عاد كلامه (وقيل معناه
باسطوا أيديهم عليهم بالعذاب الخ) قال أحمد: ومثله - ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء -
36

قوله تعالى (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون.
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (قال معناه: فالق الحب والنوى
بالنبات والشجر الخ) قال أحمد رحمه الله: وقد وردا جميعا بصيغة الفعل كثيرا في قوله - يخرج الحي من الميت
ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون - وقوله - أمن يملك السمع والأبصار ومن
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي - فعطف أحد القسمين على الآخر كثيرا دليل على أنهما توأمان مقترنان
وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه ورده إلى - فالق الحب والنوى - فالوجه والله أعلم أن يقال: كان الأصل
وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله فالق الحب - وفالق الإصباح
وجاعل الليل - ومخرج الحي من الميت - إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده
وهو قوله - يخرج الحي من الميت - إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع، وهذا
التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائهما الفعل المضارع دون اسم الفاعل والماضي، وقد مضى تمثيل ذلك
بقوله تعالى - ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة - فعدل عن الماضي المطابق لقوله أنزل لهذا
المعنى ومنه ما في قوله:
وإني قد لقيت الغول تسعى * بسهب كالصحيفة صحصحان
فآخذها فأضربها فخرت * صريعا لليدين وللجران
فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذهن السامع، ومنه - إنا سخرنا الجبال معه يسبحن
بالعشي والإشراق والطير محشورة - فعدل عن مسبحات وإن كان مطابقا لمحشورة بهذا السبب، والله أعلم. ثم
هذا المقصد إنما يجئ فيما تكون العناية به أقوى، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه،
وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه، ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي ناشئ عنه، فكان
37

الأول جديرا بالتصدير والتأكيد في النفس ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر على حسب ترتيبهما
في الواقع، وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع، فكل واحد منهما يقدر
بالآخر فلا جناح في عطفه عليه، والله أعلم. عاد كلامه. قال (فإن قلت: فما معنى فلق الصبح والظلمة هي
التي تنفلق الخ) قال أحمد: وقيل الخالق والفالق بمعنى، فيكون المراد خالق الإصباح، والأظهر ما فسره عليه
المصنف، والله أعلم.
قوله تعالى (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم
38

يعلمون. وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) قال (إن قلت: لم قيل مع
ذكر النجوم يعلمون الخ) قال أحمد: لا يتحقق هذا التفاوت ولا سبيل إلى الحقيقة، وما هذا الجواب إلا صناعي،
والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة كره فصلهما
بفاصلتين متساويتين في اللفظ لما في ذلك من التكرار فعدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم واتساقا في البلاغة،
ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر
آيات الله ولا يعبر بمخلوقاته، وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم
والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس
واحدة وتقلباتهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة، فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها، فإذا تمهد
ذلك فجهل الانسان بنفسه وبأحواله وعدم النظر فيها والتفكر أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم
والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم، نفى من أبشع القبيلين
جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا
39

ويفقهون ههنا مضارع فقه الشئ بكسر القاف: إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بضم القاف لأن تلك
درجة عالية ومعناه صار فقيها، قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن فقه أنزل من علم. وفي حديث سلمان
أنه قال:: وقد سألته امرأة جاءته فقهت: أي فهمت كالمتعجب من فهم المرأة عنه، وإذا قيل فلان لا يفقه شيئا
كان أذم في العرف من قولك فلان لا يعلم شيئا، وكأن معنى قولك: يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما
قولك لا يعلم شيئا فغايته نفي حصول العلم له، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم. والذي يدل على أن التارك
للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غير قوله تعالى - وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم
أفلا تبصرون - فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات، وأنكر على من لا يتبصر في
نفسه إنكارا مستأنفا، وقولنا في أدراج الكلام إنه نفى العلم عن أحد الفريقين ونفى الفقه عن الآخر: يعني بطريق
التعريض حيث خص العلم بالآيات المفصلة والتفقه فيها بقوم، فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم ولا فقه، والله
الموفق. فتأمل هذا الفصل وإن طال بعض الطول فالنظر في الحسن غير مملول.
40

قوله تعالى (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير) قال (البصر هو الجوهر اللطيف
41

الذي ركبه الله تعالى في حاسة النظر به تدرك الخ) قال أحمد: وقد سلف الكلام
على هذه الآية في غير موضعها، لأن المصنف تعجل الكلام عليها
قبل، والذي يريده الآن أن الإدراك عبارة عن الإحاطة، ومنه - فلما أدركه
الغرق - أي أحاط به - وإنا لمدركون - أي محاط بنا،
فالمنفي إذا عن الأبصار إحاطتها به عز وعلا، لا مجرد الرؤية،
ثم إما أن نقتصر على أن الآية لا تدل على مخالفتنا أو نزيد فنقول:
يدل لنا أن تخصيص الإحاطة بالنفي يشعر
بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك وأقله مجرد الرؤية، كما أنا نقول: لا تحيط به الأفهام وإن كانت المعرفة
بمجردها حاصلة لكل مؤمن، فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للحس، وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل
والرؤية للحس ثابت غير منفي، ولم يذكر الزمخشري على إحالة الرؤية عقلا دليلا ولا شبهة فيحتاج إلى القدح فيه
ثم معارضته بأدلة الجواز، ولكنه اقتصر على استبعاد أن يكون المرئي لا في جهة فيقتصر معه على إلزامه استبعاد أن
42

يكون الموجود لا في جهة، إذا اتباع الوهم يبعدهما جميعا، والانقياد إلى العقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معا، وهذا
القدر كاف بحسب ما أورده في هذا الموضع، والله الموفق.
قوله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا
جاءت لا يؤمنون) قال (يعني أن الله تعالى قادر على أن ينزل الآيات ولكنه لا ينزلها إلا على موجب الحكمة الخ)
قال أحمد: ومحز النظر في الآية يتضح بمثال فنقول: إذا قال لك القائل: أكرم فلانا فإنه يكافئك، وكنت أنت
تعلم منه عدم المكافأة، فإذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت: وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني؟ فأنكرت عليه
43

إثباته المكافأة وأنت تعلم نفيها، فإن انعكس الامر فقال لك: لا تكرمه فإنه لا يكافئك، وكنت تعلم منه المكافأة
فأنكرت على المشير بحرمانه. قلت: وما يدريك أنه لا يكافئني؟ تريد وأنا أعلم منه المكافأة، فكان مقتضى الإنكار
على المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمعاندين فاعتقدوا أنهم يؤمنون عند نزول الآية المقترحة أن يقال: وما يدريكم
أنها إذا جاءت يؤمنون، كما تقول في المثال منكرا على من أثبت المكافأة وأنت تعلم خلافها: وما يدريك أنه
يكافئني بإسقاط لا، وإن أثبتها انعكس المعنى إلى أن المعلوم لك الثبوت وأنت تنكر على من نفى، فلما جاءت
الآية تفهم ببادئ الرأي أن الله تعالى علم الإيمان منهم وأنكر على المؤمنين نفيهم له، والواقع على خلاف ذلك.
اختلف العلماء فحمل بعضهم " لا " على الزيادة، وبعضهم أول أن بلعل، وبعضهم جعل الكلام جواب قسم محذوف،
وقد تفتح أن بعد القسم فقال التقدير: والله إنها إذا جاءت لا يؤمنون. وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على
ظاهرها وقرارها في نصابها من غير حذف ولا تأويل فقالوا قوله السالف. ونحن نوضح اضطراده في المثال
المذكور ليتضح بوجهيه في الآية فنقول: إذا حرمت زيدا لعلمك بعدم مكافأته فأشير عليك بالإكرام بناء على
أن المشير يظن المكافأة فلك معه حالتان: حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم
بما أحطت به علما، فإن أنكرت عليه قلت: وما يدريك أنه يكافئ، وإن عذرته في عدم علمه بأنه لا يكافئ
قلت: وما يدريك أنه لا يكافئ؟ يعني ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته وأنت لم تخبر أمره خبري،
فكذلك الآية إنما ورد فيها الكلام إقامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى وهو عدم إيمان
44

هؤلاء، فاستقام دخول لا وتعين، وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار بإقامة الأعذار، والله الموفق
للصواب.
قوله تعالى (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن
يشاء اله) قال: (معناه إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار) قال أحمد: بل المراد إلا أن يشاء الله منهم اختيار
الإيمان، فإنه تعالى لو شاء منهم اختيارهم للإيمان لاختاروه وآمنوا حتما، ما شاء الله كان. والزمخشري بنى على
القاعدة الفاسدة في اعتقاده أن الله تعالى شاء منهم الإيمان اختيارا فلم يؤمنوا، إذ لا يجب على زعم طائفته نفوذ
المشيئة ولا يطلقون القول كما أطلقه سلف هذه الأمة وحملة شريعتها، من قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،
45

بل يقولون: إن أكثر ما شاءه لم يقع، إذ شاء الإيمان والصلاح من جميع الخلق فلم يؤمن ويعمل الصالح إلا القليل
وقليل ما هم، وهذا كله مما يتعالى الله عنه علوا كبيرا، فإذا صدمتهم مثل هذه الآية بالرد تحيلوا في المدافعة بحمل
المشيئة المنفية على مشيئة القسر والاضطرار، وإنما يتم لهم ذلك أن لو كان القرآن يتبع الآراء، أما وهو القدوة
والمتبوع فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه فإلى النار وما بعد الحق إلا الضلال، والله الموفق للصواب.
46

قوله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) قال (إن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى
جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد الخ) قال أحمد: مذهب مالك وأبي حنيفة سواء في أن متروك
التسمية عمدا لا يؤكل سواء كان تهاونا أو غير تهاون، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك تسميته،
والآية تساعد مذهب الإمامين مساعدة بينة، فإنه ذكر عقيب غير المسمى عليه قوله - وإنه لفسق - وذلك إن كان
عبارة عن فعل المكلف وهو إهمال التسمية أو تسمية غير الله فلا يدخل النسيان، لأن الناسي غير مكلف فلا
يكون فعله فسقا ولا هو فاسق، وإن كان نفس الفسق الذبيحة التي لم يسم عليها ولم يكن مصدرا فإنما تسمى
الذبيحة فسقا نقلا لهذا الاسم من المصدر إلى الذات، فالذبيحة التي تركت التسمية عليها نسيانا لا يصح أن تسمى
فسقا، إذ الفعل الذي ينقل منه هذا الاسم ليس بفسق، فإذا تمهد ذلك فإما أن يقول لا دليل في الآية على تحريم
منسي التسمية فبقي على أصل الإباحة، أو يقول فيها دليل على إباحته من حيث مفهوم تخصيص النهي بما هو فسق،
فما ليس بفسق ليس بحرام، وهذا النظر يستند إذا لم تكن الميتة متناولة في هذه الآية، وأما إذا ثبت أنها مرادة تعين
صرف الفسق إلى الأكل والمأكول وكان الضمير من قوله " وإنه " عائدا إلى المصدر المنهي عنه أو إلى الموصول
وحينئذ يندرج المنسي في النهي ولا يستقيم على أن الميتة مندرجة كاندراج المنسي، لأن الوجه الذي به تندرج
الميتة هو الوجه الذي به يندرج المنسي، إذ يكون الفسق إما للأكل وإما للمأكول نقلا من الأكل، ولا ينصرف
إلى غير ذلك لأن الميتة لم يفعل المكلف فيها فعلا يسمى فسقا سوى الأكل، والمنسي تسميتها لا يستقيم أن يسمى الذبح
فيها فسقا لأجل النسيان فيتعين صرفه إلى الأكل، ومن ثم قوى عند الزمخشري تعميم التحريم حتى في المنسي لأنه
يرى أن الميتة مرادة من الآية ولا بد، إذ هي سبب نزول الآية. والتحقيق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص
كان نصا في السبب ظاهرا باقيا على ظهوره فيما عداه، وإذا ثبت اندراج الميتة لزم اندراج المنسي كما تقدم،
وحينئذ يضطر مبيح المنسي إلى مخصص فيتمسك بقوله عليه الصلاة والسلام " ذكر الله على قلب كل مؤمن من
47

سمي أو لم يسم " وكأن الناسي ذاكرا حكما وإن لم يكن ذاكرا وجودا، وهذا عند التحقيق ليس بتخصيص ولكن
منع لاندراج الناسي في العموم وسنده الحديث المذكور، ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوى
تناوله للسبب حتى ينهض الظاهر فيه نصا، إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط عن أمالي الظواهر فيه
ويكتفى من معارضته بما لا يكتفى به منه لولا السبب، وهذا البحث متطلع بفنون شتى على نكت بديعة، والله
الموفق للصواب.
48

قوله تعالى (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم) قال (معنى هذا الاستثناء أنهم
يخلدون في عذاب النار الأبد كله الخ) قال أحمد: قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتا قطعيا، فمن ثم اعتنى
العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية وفي أختها في سورة هود، فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين
وللكفار، والمستثنى العصاة لأنهم لا يخلدون، وهذا تأويل أهل السنة، وقد غلط الزمخشري في إنكاره في آية
هود وتناهى إلى ما نعوذ بالله منه، فقدح في عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه راوي الحديث الشاهد لهذا
التأويل، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القدح في مثل عبد الله وهو من جملة الصحابة رضوان الله عليهم وفقهائهم
وزهادهم. وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب: أي مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء،
وفائدته إظهار القدرة والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن
لا يعذبهم ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل،
وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة،
وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك. وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال: المراد والله
أعلم إلا ما شاء من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في
الحكم، ونحن نبينه فنقول: العذاب والعياذ بالله على درجات متفاوتة، فكأن المراد أنهم مخلدون في حبس العذاب
50

إلا ما شاء ربك زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب
في الشدة تعد ليست من جنس العذاب وخارجة عنه، والشئ إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما تقدم
في التعبير عن كثرة الفعل برب وقد وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب، وقد
حام أبو الطيب حوله فقال:
لقد جدت حتى كاد يبخل حاتم * إلى المنتهى (1) ومن السرور يكاد
فكأن هؤلاء إذا بلغوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب
المطلق حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير، وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا
البسط، وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه ما يؤيده، والله الموفق.

(1) قوله (إلى المنتهى الخ) كذا في الأصل، وحرر العبارة فهي غير مستقيمة اه‍ مصححه.
51

قوله تعالى (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية). قال المعنى: إن شركاءهم من
الشياطين أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم الخ) قال أحمد رحمه الله: لقد ركب المصنف في هذا الفصل
متن عمياء وتاه في تيهاء، وأنا أبرأ إلى الله وأبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه مما رماهم به، فإنه تخيل أن القراء أئمة
الوجوه السبعة، اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا وسماعا، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ
يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في شركائهم، فاستدل بذلك على أنه مجرور وتعين عنده نصب أولادهم
بالقياس، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معا فقرأه منصوبا. قال المصنف: وكانت له مندوحة عن نصبه إلى جره
بالإضافة وإبدال الشركاء منه، وكان ذلك أولى مما ارتكبه: يعني ابن عامر من الفصل بين المضاف والمضاف إليه
الذي يسمج في الشعر فضلا عن النثر فضلا عن المعجز، فهذا كله كما ترى ظن من الزمخشري أن ابن عامر قرأ
قراءته هذه رأيا منه، وكان الصواب خلافه والفصيح سواه، ولم يعلم الزمخشري أن هذه القراءة بنصب الأولاد
والفصل بين المضاف والمضاف إليه بها يعلم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل كما أنزلها عليه
كذلك، ثم تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها ويقرأون بها
خلفا عن سلف إلى أن انتهت إلى ابن عامر فقرأها أيضا كما سمعها، فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة
أنها متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم فإذا علمت العقيدة الصحيحة فلا مبالاة
بعدها بقول الزمخشري ولا بقول أمثاله ممن لحن ابن عامر، فإن المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعا
وضرورة، ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين أعني علم القراءة وعلم الأصول ولا يعد من ذوي الفنين
المذكورين لخيف عليه الخروج من ربقة الدين، وأنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة وزلة منكرة تزيد على زلة
من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة فيها ما ليس متواترا، فإن هذا القائل لم يثبتها بغير النقل، وغايته أنه ادعى أن
نقلها لا يشترط فيه التواتر. وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأي غير موقوفة على النقل، وهذا لم يقل به أحد من
المسلمين، وما حمله على هذا الخيال إلا التعالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية فظنها قطعية حتى يرد ما خالفها،
ثم إذا تنزل معه على اطراد القياس الذي ادعاه مطردا فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه، وذلك أن الفصل بين المضاف
والمضاف إليه وإن كان عسرا إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله فهو مقدر بالفعل وبهذا التقدير عمل، وهو
وإن لم تكن إضافته غير محضة إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة حتى قال بعض النحاة، إن إضافته ليست محضة
53

لذلك. فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره وقد جاء الفصل بن المضاف غير المصدر وبين
المضاف إليه بالظرف، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره لما بيناه من انفكاكه في التقدير وعدم توغله في
الاتصال بأن يفصل بينه وبين المضاف إليه بما ليس أجنبيا عنه وكأنه بالتقدير فكه بالفعل، ثم قدم المفعول على
الفاعل وأضافه إلى الفاعل وبقي المفعول مكانه حين الفك، ويسهل ذلك أيضا تغاير حال المصدر، إذ تارة يضاف
إلى الفاعل وتارة يضاف إلى المفعول، وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل
لوقوعه في غير مرتبته، إذ ينوى به التأخير، فكأنه لم يفصل، كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حل في غير
رتبته لأن النية به التأخير، وأنشد أبو عبيدة * فداسهم دوس الحصاد الدائس *
وأنشد أيضا: يفركن حب السنبل الكنافج * بالقاع فرك القطن المحالج
ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول، ومما يقوى عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع
مخفوضه رفعا ونصبا، فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد منظرة بشواهد من أقيسة العربية يجمع شمل القوانين النحوية
لهذه القراءة، وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربية بل تصحيح قواعد العربية بالقراءة، وهذا القدر كاف
إن شاء الله في الجمع بينهما والله الموفق. وما أجريناه في إدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة
إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي تدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته ولا مستبعد من القياس
54

ولا نفرده في الدلالة المذكورة، إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل فلا يمكن استقلال الوجه المذكور
بالدلالة، والله الموفق.
قوله تعالى (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) قال فيه (وأنث خالصة
للحمل على المعنى لأن " ما " في معنى الأجنة الخ) قال أحمد: ليسا سواء لأنه في الآية الأولى رجوع إلى اللفظ بعد
المعنى وفيه إجمال وبينهما بون اقتضى أن أنكر جماعة من متأخري الفن وقوعه في الكتاب العزيز. ادعوا أن
جميع ما ورد يعود على المعنى بعد اللفظ وقد التزم غيرهم إجازة ذلك وعدوا في الكتاب العزيز منه موضعين
55

يمكن صرف الكلام فيهما إلى غير الموصول وعلى الجملة فالحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد
إليه سبيل وقد ذكر المصنف وجهين آخرين سوى ذلك فقال ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر
وأن يكون مصدرا وقع موقع الخالص كالعافية أي ذو خالصة ويدل عليه قراءة من قرأ خالصة بالنصب على أن
قوله لذكورنا هو الخبر وخالصة مصدر مؤكد ولا يجوز أن يكون حالا متقدمة لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله
ولقد أحسن في الاحتراز بمنع الحال من المجرور حتى يتعين المصدر.
56

قوله تعالى (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون. فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن
القوم المجرمين) قال (معناه ذلك الجزاء جزيناهم ببغيهم بسبب ظلمهم الخ) قال أحمد: هذه الآية وردت فيمن كفر
وافترى على الله، ووعيد الكافر باتفاق واقع به غير مردود عنه، وأهل السنة وإن قالوا يجوز العفو عن العاصي
الموحد فلا يقولون إن ذلك حتم ولا يلزمهم ذلك، لأن الله تعالى حيث توعد المؤمنين العصاة علق حلول الوعيد
بهم بالمشيئة وأخبر أنه يغفر لمن يشاء منهم، فمن ثم اعتقدنا أن كل موحد عاص في المشيئة، وحيث أطلق وعيدهم في
بعض الظواهر فهو محمول على المقيد فلا يلزمهم حينئذ اعتقاد الخلف في الخبر، والزمخشري إنما يدندن حول
إلزامهم ذلك وأنى له؟
قوله تعالى (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ
58

كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا
تخرصون) قال (في هذا إخبار بما سوف يقولونه الخ) قال أحمد: وفائدته توطين النفس على الجواب ومكافحتهم بالرد
وإعداد الحجة قبل أوانها كما قال - سيقول السفهاء من الناس - عاد كلامه قال (فلما وقع ذلك منهم قال وقال الذين
أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ يعنون بكفرهم الخ) قال أحمد رحمه الله قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية
وأوضحنا أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم
على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك، فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم
الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك
كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له
لا لهم بقوله - قل فلله الحجة البالغة - ثم أوضح تعالى أن كل واقع بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه
لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله - فلو شاء لهداكم أجمعين - والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد
59

عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار
لأنفسهم والى إقامتهم الحجة بذلك. خاصة وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن
العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها، وهم الفرقة المعروفون بالمجبرة، والمصنف
يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها
مقارنة لأفعاله الاختيارية مميزة بينها وبين أفعاله القسرية، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة ويجعله لقبا عاما
لأهل السنة، وجماع الرد على المجبرة الذين ميزناهم عن أهل السنة في قوله تعالى - سيقول الذين أشركوا - إلى قوله
قل فلله الحجة البالغة - وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين،
فلم تقع من أكثرهم، ووجه الرد أن لو إذا دخلت على فعل مثبت نفته، فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال - فلو
شاء - لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم ولو شاءها لوقعت، فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم، فإذا ثبت
اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها، فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة
منطبقة عليها، فإن أولها كما بينا يثبت للعبد اختيارا أو قدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان،
وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية خيرا أو غيره وذلك عين عقيدتهم،
فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة يسلبون تأثيرها، ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ملزم له بالطاعة على وفق
اختياره، ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز، يثبتون
ما أثبت وينفون ما نفى، مؤيدون بالعقل والنقل، والله الموفق. عاد كلامه، قال (فإن قلت: هلا قيل قل هلم
شهداء يشهدون أن الله حرم هذا، وأي فرق بينه وبين المنزل الخ) قال أحمد رحمه الله: ووجه مناقضته له أنه لو قيل
على خلاف المنزل وهو قوله هلم بشهداء يشهدون يفهم أن الطالب للشهداء ليس على تحقيق من أن ثم شهداء
60

كما يقول الحاكم للمدعي: هات بينة تشهد بذلك، فهو لا يتحقق أن للمدعي بينة، ثم يكون قوله: فإن شهدوا
تحقيقا لأن ثم شهداء، فالجمع بينهما متناقض كما ترى، والله الموفق.
61

قوله تعالى (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا)
قال (فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت الخ) قال أحمد رحمه الله: هو يروم الاستدلال على صحة
عقيدته في أن الكافر والعاصي سواء في الخلود بهذه الآية، إذ سوى بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد
ظهور الآيات ولا يتم له ذلك، فإن هذا الكلام اشتمل على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف وأصل
الكلام: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد، ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا
قبل ما تكسبه من الخير بعد، إلا أنه لف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا بلاغة واختصارا وإعجازا، أراد أن
يثبت أن ذلك هو الأصل، فهو غير مخالف لقواعد السنة، فإنا نقول: ا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير
وإن نفع الايمان المتقدم في السلامة من الخلود، فهذا بأن يدل على رد الاعتزال أجدر من أن يدل له، والله الموفق.
63

القول في سورة الأعراف
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه الآية) قال (الحرج: الشك الخ) قال أحمد:
65

ويشهد له قوله تعالى - فلا تكونن من الممترين - ولهذه النكتة ميز إمام الحرمين بين العلم والاعتقاد الصحيح بأن
العقد ربط الفكر بمعتقد والاعتقاد افتعال منه، والعلم يشعر بانحلال العقود وهو الانشراح والتبلج والثقة، وما
أحسن تنبيهه بقوله والاعتقاد افتعال منه، يريد إذا كان العقد مباينا للعلم فما ظنك بالاعتقاد، لأن صيغة الافتعال
أبلغ معنى، ومنه الاعتماد والاحتمال، ومن ثم ورد في الخير كسب وفي نقيضه اكتسب، لأن النفوس في
الشهوات والمخالفات واتباع الأهواء أجدر منها في الطاعات وقمع الأغراض، وعلى ذلك جاء - لها ما كسبت
وعليها ما اكتسبت - وإن كان العلم من الأعلم المأخوذ من العلمة بالتحريك وهي انشراح الشفة وانشقاقها، فالذي
ذكره الإمام حينئذ نهاية في نوعه، والله الموفق. عاد كلامه، قال (ولا تحرج من تبليغه لأنه كان يخاف قومه
وتكذيبهم له الخ) قال أحمد: ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى - فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك
أن يقولوا لولا أنزل إليه كنز أو جاء معه ملك - الآية. عاد كلامه، قال (فإن قلت: النهي في قوله فلا يكن
متوجه إلى الحرج فما وجهه؟ قلت: هو من قولهم لا أرينك ههنا) قال أحمد: يريد أن الحرج منهي في الآية ظاهرا
66

والمراد النهي عنه، والله أعلم. عاد كلامه، قال (وقوله هم قائلون حال معطوفة على بياتا كأنه قيل فجاءهم الخ)
قال أحمد: الاكتفاء بالضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالا ضعيف، والأفصح دخول الواو كما اختاره
الزمخشري، وأما الزجاج وغيره فيجعلون أحد الأمرين كافيا في الاسمية إما الواو وإما الضمير. وأما قول
الزمخشري: إن الجملة المعطوفة إنما حذفت منها واو الحال كراهية لاجتماعها وهي واو عطف أيضا مع مثلها، ففيه
67

نظر، وذلك أن واو الحال لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية، ألا تراها تصحب الجملة الاسمية عقيب
الفعلية في قولك: جاءني زيد وهو راكب، ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين،
وإن لم يكن قبيحا فالأفصح خلافه، فلما رأيتها تتوسط بينهما والكلام حينئذ هو الأفصح أو المتعين علمت أنها
ممتازة بمعنى وخاصية عن واو العطف، وإذا ثبت امتيازها عن العاطفة فلا غرو في اجتماعها معها وإن كان فيها
معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية، فإما أن تسلبه حينئذ لإغناء العاطف عنها أو تستمر عليه، كما تجتمع الواو
68

ولكن لما فيها من زيادة معنى الاستدراك في مثله قوله - ولكن لا يشعرون - فعلى هذا كان من الممكن أن تجتمع
واو الحال مع العاطف بلا كراهية، والذي يدل على ذلك أنك لو قلت سبح الله وأنت راكع أو وأنت ساجد لكان
فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة، فالتحقيق والله أعلم في الجملة المعطوفة على الحال أن المصحح لوقوعها حالا من
غير واو هو العاطف، إذ يقتضي مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحال فيستغنى عن واو الحال، كما
أنك تعطف على القسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو موقعة في مثل - والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى -
وفي مثل - فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس - ولو قلت في غير التلاوة وبالليل إذا عسعس لجاز،
ولكن يستغنى عن تكرار حرف القسم لنيابة العاطف منابه، فهذا والله أعلم سبب استغناء الجملة المعطوفة على الحال
عن الواو المصححة للحالية. فالحاصل من هذا أنك إن أتيت بواو الحال مصاحبا للعاطف لم تخرج عن حد الفصاحة
إلى الاستثقال بل أفدت تأكيدا، وإن لم تأت بها فكذلك في الفصاحة مع إفادة الاختصار، والله الموفق للصواب.
قوله تعالى (قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين) قال (فإن قلت: لم أجيب إلى استنظاره وإنما
استنظر ليفسد عباده الخ) قال أحمد: وهذا السؤال إنما يورده ويلتزم الجواب عنه القدرية الذين يوجبون على الله
تعالى رعاية المصالح في أفعاله. وأما أهل السنة فقد أصغوا حق الإصغاء إلى قوله تعالى - لا يسئل عما يفعل وهم
يسئلون - فلا يورد أحد منهم السؤال ولا يجيب عنه من يورده، والله الموفق.
قوله تعالى (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم). قال (والمعنى فبسبب وقوعي في الغي لأجتهدن
في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي الخ) قال أحمد: تحت كلام الزمخشري هذا نزغتان من الاعتزال خفيتان: إحداهما
69

تحريفه الإغواء إلى التكليف لأنه يعتقد أن اله تعالى لم يغوه: أي لم يخلق له الغي بناء على قاعدة التحسين والتقبيح
والصلاح والأصلح، فيضطره اعتقاده إلى حمل الإغواء على تكليفه بالسجود لأنه كان سببا في غيه، وكثيرا
ما يؤول أفعال الله تعالى إذا أسندها إلى ذاته حقيقة إلى التسبب ويجعل ذلك من مجاز السببية لأن الفعل له ملابسات
بالفاعل والمفعول والزمان والمكان والسبب، فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وإسناده إلى بقيتها مجاز، ويجعل الفعل
مسندا إلى الله تعالى لأنه مسببه لا أنه فاعله، وقد استدل على ذلك فيما سلف بقول مالك بن دينار لرجل رآه مقيدا
محبوسا في مال عليه: هذه وضعت القيود في رجليك، وأشار إلى سلة فيها أخبصة وألوان مختلفة رآها عند المسجون:
أي اعتناؤك بهذه الأطعمة كان سببا في تبذير المال الذي آل بك إلى وضع القيود في رجليك، فعلى هذا يروم حمل
هذه الآية: يعني بما كلفتني من التكليف الذي كان سببا في خلقي الغي النفسي لأقعدن فيجعل إبليس هو الفاعل
في الحقيقة، وأما إسناد الفعل إلى الله تعالى فمجاز هذه إحدى النزغتين. والأخرى جعله التكليف من جملة الأفعال،
لأنه يزعم أن كلام الله تعالى محدث من جملة أفعاله لا صفة من صفاته والتكليف من الكلام. فهاتان زلتان جمع
القدرية بينهما وإبليس لعنه الله لم يرض واحدة منهما لأنه نسب الإغواء إلى الله تعالى، إذ هو خالق كل شئ
فما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفي الشرك ما لم يسبق به إبليس نعوذ بالله من التعرض لسخط الله. عاد كلامه،
قال (ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه عن طاوس أنه كان في المسجد الحرام، فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى
بالقدر فجلس إليه، فقال له طاوس: تقوم أو تقام؟ فقام الرجل، فقيل له، أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال:
إبليس أفقه منه - قال رب بما أغويتني؟ - وهذا يقول أنا أغوي نفسي انتهى كلام طاوس على زعمهم. وما ظنك
بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه وتعالى أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة
والتابعين) انتهى كلامه. قال أحمد: وإنما أوردت مثل هذا من كلامه وإن كان غير محتاج إلى التنبيه على فساده
وحيده عن العقائد الصحيحة لتبتلج الحجة في وجوب الرد عليه وتعينه على من هداه الله إليه، ولقد صدق
70

طاوس رضي الله عنه. أما قول الزمخشري في أهل السنة الذين سماهم مجبرة: إنهم يتهالكون في نسبة القبائح إلى الله
سبحانه وتعالى، فحاصله أنهم يخلصون التوحيد حتى لا يؤمنوا بخالق غير الله، ولكي يصدقوا قوله تعالى متمدحا
- الله خالق كل شئ - كالقدرية الذين لا يتهالكون حتى هم يشركون ويحرفون الكلم عن مواضعه فيؤولون الفاعل
بالمسبب، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. والله الموفق للصواب.
71

قوله تعالى (فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه
الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) الآية، قال (فيه دليل على أن
كشف العورة من عظائم الأمور الخ) قال أحمد: وفي هذه الكلمات أيضا جنوح إلى قاعدة الاعتزال في أمرين:
أحدهما قوله أن كشف العورة لم يزل مستقبحا في العقول فإنه ينشأ عن اعتقاده أن التقبيح والتحسين بالعقل وإن
جاز أن يصدر هذا الكلام من المعتقد لعقيدة السنة إلا أنه لا يريد به ظاهره، إذا التحسين والتقبيح إنما يدركان
بالشرع والسمع لا بالعقل، ومعنى هذا الاطلاق لو صدر من سني أن العقل يدرك المعنى الذي لأجله حسن الشرع
الستر وقبح الكشف. الأمر الثاني استدلاله على تفضيل الملائكة على الأنبياء، وقد مضى أن ذلك معتقد المعتزلة
وإن كان بعض أهل السنة قد مال إليه. والجواب ممن يعتقد تفضيل الأنبياء أنه لا يلزم من اعتقاد إبليس لذلك
ووسوسته بأن الملائكة أفضل أن يكون الامر كذلك في علم الله تعالى، ألا ترى إبليس لعنه الله قد أخبر أن الله
تعالى منعهما من الشجرة حتى يخلدا أو لا يكونا ملكين وهو في ذلك كاذب مبطل، فلا دليل فيه إذ إبليس في الآية
ما يوجب تقرير الله تعالى لإبليس على ذلك ولا تصديقه فيه، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما
إذا قال الله تعالى عنه - فدلاهما بغرور - فلعل تفضيله الملائكة على النبوة من جملة غروره، والله أعلم. عاد كلامه،
قال (فإن قلت: المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك الخ) قال أحمد: ويكون في الكلام حينئذ لف لأن آدم وحواء
عليهما السلام لا يقسمان له بلفظ المتكلم ولكن بالخطاب، فجعل القسم من الجانبين كلاما واحدا مضافا لإبليس
72

عاد كلامه، قال (أو أقسم لهما على النصيحة وأقسما له على قبولها) قال أحمد: وهذا التأويل يتم لوجود
المقاسمة عن ذكر المقسم عليه، وأما حيث جعل المقسم عليه هو النصيحة لا غير فيبعد التأويل المذكور، إلا أن
يحمل الامر على أنه سمى قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة كما قيل في قوله تعالى - وواعدنا موسى - أنه سمى
التزام موسى للوفاء والحضور للميعاد ميعادا فأسند التعبير بالمفاعلة، والله أعلم.
قوله تعالى (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) قال (سميا ذنبهما ظلما وإن
كان صغيرا مغفورا الخ) قال أحمد: وهذا أيضا اعتزال خفي لأنهم يزعمون أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير
73

الصغائر وإن لم يتب العبد منها، فهذا معنى قول الزمخشري: وإن كان صغيرا مغفورا، وإنما وسمت هذا الاعتزال
بالخفاء لأن هذا الكلام يستقيم وروده عن أهل السنة، لكنهم يعنون بكونه مغفورا أن الله تعالى تفضل بغفرانه ولو
شاء لأخذ به وإن كان الأنبياء معصومين من الكبائر، لا كما يزعمه المعتزلة من وجوب مغفرته، والله الموفق.
قوله تعالى (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) قال (وفيه دليل بين أنهم لا يرون الخ) قال أحمد:
74

أين يذهب به عما ورد في الحديث الصحيح من اعتراض إبليس رأسهم ومقدمهم للنبي صلى الله عليه وسلم يروم
أن يشغله عن صلاته حتى أمكنه الله منه، فأخذه عليه الصلاة والسلام فدعه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري
المسجد يلعب به الصبيان حتى سمع دعوة سليمان عليه السلام فتركه. وإذا جاز ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام
كان جائزا لأولياء الله والمتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كرامة، لكن الزمخشري يصده عن ذلك جحده
لكرامة الأولياء لأنه عقيدة إخوانه، إذا الكرامة إنما يؤتاها الولي الصادق، فكيف ينالها من يكلف في إسلامه؟
فإنهم لفي عذر من جحدها والتكذيب بها. رزقنا الله الإيمان بالكرامات إن لم نكن لها أهلا، والله الموفق.
قوله تعالى (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على
الله ما لا تعلمون) قال (وكلاهما باطل من العذر لأن أحدهما الخ) قال أحمد: وهذا أيضا من الاعتزال الخفي،
وغرضه أن يمهد قاعدة التحسين والتقبيح ومراعاة الصلاح والأصلح واستحالة مخالفة ذلك على الله تعالى، ولا يتم
75

من ذلك غرض لأن المنكر عليهم دعواهم أن الله تعالى أمرهم بالفحشاء وهم كاذبون في هذه الدعوى، ولا يلزم
من سلب الأمر الإرادة لأن الله تعالى يأمر بما لا يريد ويريد ما لا يأمر به.
76

قوله تعالى (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم
ينزل به سلطانا) الآية. قال) في هذا تهكم لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره) قال أحمد: وإنما يعني
التهكم منه لأن الكلام جرى مجرى ما له سلطان، إلا أنه لم ينزل لأنه إنما نفى تنزيل السلطان به ولم ينف أن يكون له
سلطان، وكان أصل الكلام: وأن تشركوا بالله ما لا سلطان به فينزل فيكون على طريقة:
* على لا حب يهتدى بمناره
77

قوله تعالى (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق
ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) قال (اللام لتوكيد النفي يعنون وما كان يستقيم الخ) قال أحمد:
وهذه تكفح وجوه القدرية بالرد، فإنها شاهدة شهادة تامة مؤكدة باللام على أن المهتدي من خلق الله له الهدى وأن
غير ذلك محال أن يكون، فلا يهتدي إلا من هدى الله ولو لم يهده لم يهتد. وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد
خلق لنفسه الهدى فهو إذا مهتد وإن لم يهده الله، إذ هدى الله للعبد خلق الهدى له، وفي زعمهم أن الله تعالى لم
يخلق لأحد من المهتدين الهدى ولا يتوقف ذلك على خلقه، تعالى الله عما يقولون. ولما فطن الزمخشري ذلك جرى
على عادته في تحريف الهدى من الله تعالى إلى اللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، فأنصف من نفسك
واعرض قول القائل المهتدي من اهتدى بنفسه من غير أن يهديه الله: أي يخلق له الهدى على قوله تعالى حكاية عن
79

قول الموحدين في دار الحق - وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله - وانظر تباين هذين القولين: أعني قول المعتزلي
في الدنيا وقول الموحد في الآخرة - في مقعد صدق - واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به وما أراك، والخطاب لكل
عاقل تعدل بهذا القول المحكي عن أولياء الله في دار السلام منوها به في الكتاب العزيز قول قدري ضال تذبذب
مع هواه وتعصبه في دار الغرور والزوال، نسأل الله حسن المآب والمآل. عاد كلامه، قال (وقوله تعالى:
ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) المراد (بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة) قال أحمد:
يعني بالمبطلة قوما سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل الله وبرحمته، قيل
ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة " فقالوا: صدق رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل السنة، قيل لهم فما معنى قوله تعالى - وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم يعملون -
قالوا: الله تفضل بأن جعل الجنة جزاء العمل فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب للعبادة وجوب
الديون التي لا اختيار في أدائها جمعا بين الدليلين على وجه يطابق دليل العقل الدال على أن الله تعالى يستحيل أن يجب
عليه شئ، فانظر أيها المنصف هل تجد في هذا الكلام من الباطل ما يوجب أن يلقب أصحابه بالمبطلة وحاكم نفسك
إليها، ثم إذا وضح لك أنهم برآء في هذا البر فاعرضه على قوم زعموا أنهم يستحقون على الله تعالى حقا بأعمالهم التي
لا ينتفع بوجودها ولا يتضرر بتركها، تعالى وتقدس عن ذلك، ويطلقون القول بلسان الجراءة أن الجنة ونعيمها
إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى لا تفضل له عليهم فيه، بل هو بمثابة دين تقاضاه بعض الناس من مديانه،
وانظر أي الفريقين المذكورين أحق بقلب المبطلة والسلام. عاد كلامه، قال (فإن قلت: هلا قيل ما وعدكم
ربكم كما قيل ما وعدنا الخ) قال أحمد: ولقائل أن يقول: ولو ذكر المفعول حسب ذكره في الأول فقيل فهل
وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ لكان الفعل مطلقا أيضا باعتبار الموعود به لأنه لم يذكر، فكان يتناول كل
موعود من البعث والحساب والعقاب الذي هو أنواع من جملتها التحسر على نعيم أهل الجنة، فليس ذلك خاصا
بحذف المفعول الواقع على الموعودين، فالوجه أن حذفه إيجاز وتخفيف واستغناء عنه بالأول، والله أعلم.
80

قوله تعالى (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) قال (التضرع تفعل من الضراعة وهي الذل) قال
أحمد: وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية، فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله
في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه، وترى
كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستد
المسامع وتستك ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وفي المسجد، وربما
حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت ورعاية سمت الوقار وسلوك السنة الثابتة بالآثار، وما هي
إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل لكانت
83

عند اتباع السنة في الدعاء، وفي خفض الصوت أوفر وأوفى وأزكى، فما أكثر التباس الباطل بالحق على عقول
كثيرة من الخلق. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
84

قوله تعالى (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب
العالمين) قال (إن قلت: لم قال ليس بي ضلالة ولم يقل ضلال الخ)؟ قال أحمد: تعليله كون نفيها أبلغ من نفي
الضلال بأنها أخص منه غير مستقيم والله أعلم، فإن نفي الأخص أعم من نفي الأعم، فلا يستلزمه ضرورة أن الأعم
لا يستلزم الأخص بخلاف العكس، ألا تراك إذا قلت: هذا ليس بإنسان، لم يستلزم ذلك أن لا يكون حيوانا،
ولو قلت: هذا ليس بحيوان لاستلزم أن لا يكون إنسانا، فنفي الأعم كما ترى أبلغ من نفي الأخص. والتحقيق
في الجواب أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال وأقل، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة منه، وأما الضلال
فينطلق على القليل والكثير من جنسه، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى، لا من حيث كونه أخص وهو من باب
التنبيه بالأدنى على الأعلى، والله أعلم.
قوله تعالى (ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي) الآية، قال (إن قلت: كيف موقع قوله
أبلغكم؟ قلت: فيه وجهان الخ) قال أحمد: وقد استدرك ابن جني قول أبي الطيب * أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *
عدولا عن لفظ الغيبة لو كان إلى أدبه، وهذه الآية والرجز العلوي كفيلان بتحسين ما ارتكبه أبو الطيب
85

(قوله قال: فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله تعالى في قصة هود هذه قال يا قوم ولم يقل فقال؟ قلت لأنه أخرج
الكلام جوابا عن سؤال سائل، كأنه قيل فما قال هود حينئذ؟ قيل قال يا قوم، وكذلك قال الملأ) قال أحمد: وحذف
العاطف من المقاولة ألا ترى قوله في سورة الشعراء حكاية عن تقاول موسى عليه السلام وفرعون كيف أسقط
ذكر العاطف منه على كثرة الأقوال المعددة فيها، والسر في ذلك والله أعلم أن العاطف ينتظم الجمل حتى يصيرها
كالجملة الواحدة فأجتنب لإرادة استقلال كل واحدة منها في معناها، والله أعلم.
86

قوله تعالى (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم) قال (إن قلت الضمير في
منهم راجع إلى ماذا؟ قلت: إلى قومه الخ) قال أحمد: فقوله لمن على الأول بدل الشئ من الشئ وهما لعين.
90

واحدة، وعلى الثاني بدل بعض من كل، عاد كلامه، قال (فإن قلت: كيف وقع قولهم إنا بما أرسل به
مؤمنون جوابا الخ) قال أحمد: وقولهم إنا به مؤمنون ليس إخبارا عن وجوب الإيمان به بل عن امتثال الواجب
والعمل به ونحن قد امتثلنا. عاد كلامه، قال (ولذلك كان جواب الكفرة إنا بالذي الخ) قال أحمد: ولو طابقوا
بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، ولكن أبوا ذلك حذرا مما في ظاهره من
إثباتهم لرسالته وهم يجحدونها، وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم كما قال فرعون (إن رسولكم الذي أرسل
إليكم لمجنون) فأثبت إرساله تهكما وليس هذا موضع التهكم، فإن الغرض إخبار كل واحد من الفريقين المؤمنين
والمكذبين عن حاله، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة احتياطا للكفر وغلوا في الإصرار
91

قوله تعالى (وأمطرنا عليهم مطرا) قال (يقال مطرتهم السماء وواد ممطور الخ) قال أحمد: مقصود المصنف
الرد على من يقول: مطرت المساء في الخير وأمطرت في الشر، ويتوهم أنها تفرقة وضعية، فبين أن أمطرت معناه
أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن ماء، حتى لو أرسل الله من السماء أنواعا من الخيرات والأرزاق مثلا كالمن
والسلوى لجاز أن يقال فيه أمطرت السماء خيرات: أي أرسلتها إرسال المطر، فليس للشر خصوصية في هذه
الصيغة الرباعية، ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا فظن الواقع اتفاقا مقصودا
في الوضع، فنبه على تحقيق الأمر فيه وأحسن وأجمل.
93

قوله تعالى (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن
في ملتنا) الآية قال (إن قلت: كيف خاطبوا شعيبا بصيغة العود الخ) قال أحمد: والزمخشري بنى هذا الكلام على
أن صيغة العود تستدعي رجوع العائد إلى حال كان عليها قبل. والتحقيق في الجواب عن السؤال المذكور مع
اقتضاء العود لذلك أن هذا الفعل وإن استعمل كذلك إلا أنه كثيرا ما يرد بمعنى صار، وحينئذ يجوز أن يكون أخا
لكان ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك وهو الانتقال من حال سابقة إلى حالة مؤتنفة مثل
صار وكأنهم قالوا والله أعلم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن كفارا مثلنا،
وحينئذ يندفع السؤال أو يسلم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى سابق. ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله
تعالى - الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور
إلى الظلمات - والإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الايمان لم
يدخل قط في ظلمة الكفر ولا كان فيها، وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الإيمان ولا كان فيه، ولكن
لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده،
فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله عنه إلى الإيمان إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله له
ولطفا به وبالعكس في حق الكافر، وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى - أولئك الذين اشتروا الضلالة
بالهدى - وهو المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب، وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة
حجة الله على عباده، والله أعلم.
95

عاد كلامه، قوله تعالى (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا) قال (إن قلت: الله تعالى مقدس
عن أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم إلى الكفر الخ) قال أحمد: وهذا السؤال كما ترى مفرع على القاعدة الفاسدة
في اعتقاد وجوب رعاية الصلاح والأصلح وهو غير موجه على قاعدة السنة، فظاهر الآية هو المعول عليه لا يجوز
تأويله ولا تبديله. وأما استدلال الزمخشري على صحة تأويله بقوله - وسع ربنا كل شئ علما - فمن احتيالاته في
التأويلات الباطلة يعضدها ويتبع الشبه ويلفقها، وموقع قوله " وسع ربنا كل شئ علما " الاعتراف بالقصور عن
علم العاقبة والإطلاع على الأمور الغائبة، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد، ولو وقع
فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه، فالحذر قائم والخوف لازم ولكن لمن وفقه الله تعالى للعقيدة الصحيحة والإيمان
السالم، والله الموفق. ونظير قول إبراهيم عليه السلام: ولا أخاف ما تشركون به إلا يشاء ربي شيئا وسع ربي
كل شئ علما، لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات والله أعلم. عاد كلامه،
قال (ويجوز أن يكون المراد حسما لطمعهم الخ) قال أحمد: وهذا من الطراز الأول فألحقه به وسحقا سحقا.
96

قوله تعالى (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم) قال
(إن قلت: بم يتعلق قوله ونطبع على قلوبهم الخ؟) قال أحمد: بل يجوز والله عطفه عليه، ولا يلزم أن يكون
المخاطبون موصوفين بالطبع ولا يضرهم أن كانوا كفارا أو مقترفين للذنوب، فليس الطبع من لوازم اقتراف
الذنب ولا بد، إذ الطبع هو التمادي على الكفر والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوسا من
قبوله للحق، ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة، بل إن الكافر يهدد من تماديه على كفره بأن يطبع الله على
قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على أصنامهم، فتكون الآية قد هددتهم بأمرين: قال أحدهما الإصابة ببعض
ذنوبهم والآخر الطبع على قلوبهم. وهذا الثاني أشد من الأول، وهو أيضا نوع من الإصابة بالذنوب أو العقوبة
عليها، ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب، وكثيرا ما يعاقب الله على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر
منه، وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه كما قال تعالى - فزادتهم رجسا إلى رجسهم كما زادت المؤمنين
إيمانا إلى إيمانهم - وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه، فثواب الإيمان إيمان
وثواب الكفر كفر، وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال
لأنه قبيح والله عنده متعال. وأنى يتم الفرار من الحق، وكم من آية صرحت بوقوع الطبع من الله فضلا عن تعلق
المشيئة به.
99

قوله تعالى (إني رسول من رب العالمين. حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) قال (فيه أربع قراءات
المشهورة: وحقيق علي أن لا أقول الخ) قال أحمد: القلب يستعمل في اللغة على وجهين: أحدهما قلب الحقيقة إلى
المجاز لوجه المبالغة كقوله: * وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر * وكقوله:
100

قد صرح السير عن كتمان وابتذلت * وقع المحاسن بالمهرية الذقن
فالحقيقة أن الضياطرة تشقى بالرماح والمهرية تبتذل بالمحاجن، فعدل عن ذلك تنبيها على أن الرماح قد تنقصد وتتقصف
في أجوافهم، فعبر عن ذلك بالشقاء، وأن المحاجن كثيرا ما ترفع وتوضع وتستعمل في ضرب المهرية وربما
تمزقت عن ذلك، فجعل ذلك ابتذالا لها، وقد حام أبو الطيب حول هذا النوع كثيرا في أمثال قوله:
والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به * وللسيوف كما للناس آجال
والمراد بشقاء السيف انقطاعه في أضلاع المضروب كما صرح بذلك في قوله:
طوال الردينيات يقصفها دمى * وبيض السريجيات يقطعها لحمي
الوجه الثاني قلب معرى عن هذا المعنى البليغ، ولذلك لا يستفصح كقولهم: خرق الثوب المسمار وأشباهه، وعلى
الوجه الأول الأفصح جاءت الآية على هذه القراءة وهو الوجه الرابع من وجوه الزمخشري، وفي طيه من المبالغة
ما نبهت عليه. وأما الوجه الثاني وهو أن ما لزمك فقد لزمته ففيه نظر من حيث إن اللزوم قد يكون من أحد الطرفين
دون الآخر، ولزوم موسى عليه السلام لقول الحق من هذا النمط. وأما الوجه الثالث فلا يلائم بين القراءتين،
وقد ذكر لها وجه خامس وهو أن يكون على بمعنى الباء: ونقل رميت على القوس بمعنى رميت بالقوس، وهو
وجه حسن يلائم، والله أعلم. ويشهد له قراءة أبي: حقيق بأن لا أقول.
101

قوله تعالى (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) قال (معناه أروها بالحيل والشعوذة الخ)
قال أحمد: معتقد المعتزلة إنكار وجود السحر والشياطين والجن في خبط طويل لهم، ومعتقد أهل السنة إقرارها
الظواهر على ما هي عليه لأن العقل لا يحيل وجود ذلك، وقد ورد السمع بوقوعه فوجب الإقرار بوجوده، ولا
يمنع عند أهل السنة أن يرقى الساحر في الهواء ويستدق فيتولج في الكوة الضيقة، ولا يمنع أن يفعل الله عند إرشاد
الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه، وذلك واقع بقدرة الله تعالى عند إرشاد الساحر، هذا هو الحق المعتقد الصدق،
وإنما أجريت هذا الفصل لأن كلام الزمخشري لا يخلو من رمز إلى إنكاره، إلا أن هذا النص القاطع بوقوعه يلجمه
عن التصريح بالدفاع وكشف القناع، ولا يدعه التصميم على اعتقاد المعتزلة من التنفيس عما في نفسه فيسميه
شعوذة وحيلة، وبالقطع يعلم أن الشعوذة لا تعلم في يد ابن عمر رضي الله عنه حتى يكويها، ولا تؤثر في سيد
البشر حتى يخيل إليه أنه يأتي نساءه وهو لا يأتيهن، وقد ورد ذلك وأمثاله مستفيضا واقعا، فالعمدة أن كل
واقع فبقدرة الله تعالى، فلا يمتنع أن يوقع تعالى بقدرته عند إرشاد الساحر أعاجيب يضل بها من يشاء ويهدي من
يشاء، والله الموفق.
103

قوله تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون - إلى قوله - يعلمون)
105

(قال فيه معنى لعلهم يذكرون يتنبهون لأن ذلك كان لإصرارهم الخ) قال أحمد: دلت اللام على دعواهم استحقاق الحسنة
وأما دعوى اختصاصها بهم حتى لا يشركهم فيها أحد فدل عليه تقديم الخبر الذي هو لنا، وقد علمت طريقة
المصنف في إسناده الحصر من تقديم ما حقه أن يؤخر كالمفعول والخبر ونحوه. عاد كلامه، قال (فإن قلت:
كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنة الخ؟) قال أحمد: وقد ورد - وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن
تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك - فلم يراع فرق ما بينهما، ولعل بين سياق الآيتين اختلافا أوجب في كل واحد
منهما ما ذكر فيه.
قوله تعالى (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) قال (مهما هي ما المضمنة معنى
الجزاء ضمت إليها ما المزيدة المؤكدة الجزاء الخ) قال أحمد: والذي عده أولا من كلام سيبويه وسنذكره
106

قال سيبويه: وسألت الخليل عن مهما فقال: هي ما أدخلت معها ما بلغوا بمنزلتها مع متى إذا قلت متى ما تأتني حدثتك
اه‍ كلام سيبويه. وكأن هذا القائل والله أعلم اغتر بتشبيه الخليل لها بمتى ما فظنها في معناها، وإنما شبه الخليل الثانية
من مهما في لحاقها زائدة مؤكدة للأولى بما اللاحقة لمتى. عاد كلام سيبويه قال: ولكنهم استقبحوا تكرير لفظ
واحد، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى اه‍ نقله عن الخليل. قال سيبويه: ويجوز أن تكون كإذ ضمت
إليها ما اه‍ كلامه. قال أحمد: ومعنى تشبيه سيبويه لها بإذ ما أن الجزاء بجملة الكلمة لا بالجزاء الأول منها خاصة،
107

وإلا لكان عين مذهب الخليل، والذي يحقق ذلك أن سيبويه قال أول هذا الباب: وأما حيث وإذا فلا يجازى بهما
حتى يضم إليهما ما فتصير إذ مع بمنزلة إنما وكأنما، وليست ما فيهما بلغو ولكن كل واحدة منهما مع ما بمنزلة
حرف واحد، فانظر قوله: وليست ما فيهما بلغو: يعني ليست زائدة مؤكدة ولكن لها حظ في اقتضاء الجزاء
حتى لا يفيده إلا اجتماع جزأي الكلمة ويبقى وراء ذلك نظر في أن سيبويه هل أراد أن ما ضمت إليه مه التي هي
الصوت أو إلى ما الجزائية؟ والظاهر من مراده أن انضمامها إلى الصوت لأنها لو كانت منضمة إلى ما الجزائية
لكانت مستقلة بإفادة الجزاء قبل انضمام ما إليها ولا تكون مثل إذا وحيث، ولا يكون تنظير سيبويه مطابقا، وهذا
الذي فهمه ابن طاهر وتبعه فيه تلميذه ابن خروف، وعزا ابن خروف هذا المذهب إلى سيبويه، ورد قول ابن
بابشاذ أن هذا المذهب للخليل خاصة، وقد تواطأ ابن بابشاذ والزمخشري على نفي هذا المذهب عن سيبويه واعتزائه.
108

إلى غيره. وأظهر ما قوى به مذهب الخليل والله أعلم أن هذه الكلمة استعملت في الاستفهام حسب استعمالها
في الجزاء، وأنشدوا:
مهما لي الليلة مهماليه * أودى بنعلي وسرباليه
أراد مالي الليلة. ولا إشكال ههنا أنها ما الاستفهامية كررت تأكيدا كما يقولون لا لا ونعم نعم، ثم استكره
تكرار اللفظ بعينه فقلبت ألف الأولى هاء، وقد جاء قلب الاستفهامية وإن لم يكن تكرارا فهو معه أجدر، وإذا
وضح أن مهما الواقعة في الاستفهام أصلها ما مكررة كان ذلك أوضح دليل على أن الواقعة في الجزاء كذلك،
والاستشهاد بالنظائر أميز حجج العربية والله أعلم. وأما رد الزمخشري على من زعم أنها بمعنى متى فرد صحيح،
والآية أصدق شاهد على رده، فإن الضمير المجرور فيها عائد إلى مهما حتما، وقد اتصل به مفسرا له قوله: من آية
دل على أن الضمير واقع على الآية، فلزم وقوع مهما عليها ضرورة اتحاد المرجع في الضمير ومظهره، فذهاب
هذا القائل إلى إيقاع مهما على الوقت زاعما أنها بمعنى متى ما ذهاب عن الصواب، وعذر الزمخشري واضح في
الرد على تسجيله وإغلاظ النكير عليه وتفويق سهام التشنيع إليه، فتأمل هذا الفصل ففيه إنارة للسبيل وشفاء للغليل،
والله الموفق.
109

قوله تعالى (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) الآية، قال (معناه كلمه بغير واسطة الخ) قال أحمد:
وهذا تصريح منه بخلق الكلام كما هو معتقد المعتزلة. والذي يخص به هذه الآية من وجوه الرد عليه أنها سيقت
مساق الامتنان على موسى باصطفاء الله له وتخصيصه إياه بتكليمه، وكذلك قال تعالى بعد آيات منها - إني اصطفيتك
على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين - فلو كان تكليم الله له بمعنى خلق الحروف
والأصوات في بعض الأجرام واستماع موسى لذلك لكان كل أحد يساوى موسى عليه السلام في ذلك، بل كان
آحاد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام آثر بهذه المزية وأحق بالخصوصية من موسى عليه السلام، لأنهم سمعوا
الكلام على الوجه المذكور من أفضل الأجرام وأزكاها خلقا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مزيتهم أظهر
وخصوصيتهم أوفر، ونحن نعلم ضرورة من سياق هذه الآية تمييز موسى عليه الصلاة والسلام بهذه المزية، فلا
111

يجمل لذلك إلا اعتقاد أنه سمع الكلام القديم القائم بذات الله سبحانه وتعالى بلا واسطة دليل عليه من حروف ولا
غيرها، وكما أجزنا من العقول أن ترى ذات الباري سبحانه وتعالى وإن لم يكن جسما، فكذلك نجيز أن يسمع
كلامه وإن لم يكن حرفا ولا صوتا، والكلام في هذه العقيدة طويل والشوط بطين، وهذه النكتة هي الخاصة
بهذه الآية، والله الموفق. عاد كلامه، قال (وقوله أرني أنظر إليك محذوف المفعول الأول مذكور الثاني،
والتقدير: أرني نفسك أنظر إليك الخ) قال أحمد: ما أشد ما اضطرب كلامه في هذه الآية، لأن غرضه أن
يدحض الحق بالضلالة ويشين بكفه وجه الغزالة، هيهات قد تبين الصبح لذي عينين، فالحق أبلج لا يمازجه ريب
إلا عند ذي رين. أما حظ المعقول من إجازة رؤية الله تعالى فوظيفة علم الكلام، وأخصر وجه في إجادة ذلك أن
الوجود مصحح الرؤية، بدليل أن جواز الرؤية حكم يستدعي مصححا، وقد شمل الجواز الجوهر والعرض،
ولا جامع بينهما يمكن جعله مصححا سوى الوجود، وإذا كان الوجود هو المصحح فقد صحت رؤيته تعالى لوجوده
وأما استبعاد أن يرى ما ليس في جهة فأمر وهمي مثله عرض للمعطلة فعميت بصائرهم حتى أنكروا موجودا لا في
جهة، ومن اتبع الأوهام اغتسق مهامه الضلال وهام ولو كانت الرؤية تتوقف على جهة المرئي لكانت المعرفة
تتوقف على جهة المعروف، ولا خلاف أنه سبحانه يعرف لا في جهة فكذلك يرى لا في جهة. فالحق أن موسى
عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه لعلمه بجواز ذلك على الله تعالى، والقدرية يجبرهم الطمع ويجرؤهم حتى يروموا
أن يجعلوا موسى عليه السلام كان على معتقدهم وما هم حينئذ إلا ممن آذوا موسى، فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله
وجيها. وأما قوله عليه السلام - أتهلكنا بما فعل السفهاء منا - تبريا من أفاعيلهم وتسفيها لهم وتضليلا لرأيهم فلا راحة
للقدرية في الاستشهاد به على إنكار موسى عليه السلام لجواز الرؤية، فإن الذي كان الإهلاك بسببه إنما هو عبادة
العجل في قول أكثر المفسرين ثم وإن كان السبب طلبهم للرؤية فليس لأنه غير جائزة على الله، ولكن لأن الله
تعالى أخبر أنها لا تقع في دار الدنيا، والخبر صدق وذلك بعد سؤال موسى للرؤية، فلما سألوه وقد سمعوا الخبر
بعد وقوعها كان طلبهم خلاف المعلوم تكذيبا للخبر، فمن ثم سفههم موسى عليه السلام. وتبرأ من طلب ما أخبر
112

الله أنه لا يقع ثم، ولو كان سؤالهم الرؤية قبل إخبار الله تعالى بعدم وقوعها فإنما سفههم موسى عليه السلام
لاقتراحهم على الله هذه الآية الخاصة وتوقيفهم الإيمان عليها حيث قالوا - لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة - ألا
ترى أن قولهم - لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا - إنما سألوا فيه جائزا ومع ذلك قرعوا به لاقتراحهم
على الله ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه، فهذه المباحث الثلاثة توضح لك سوء نظر الزمخشري بعين الهوى وعمايته
عن سبيل الهدى، والله الموفق. عاد كلامه، قال (فإن قلت: هلا قال أرهم ينظروا إليك الخ). قال أحمد:
وهذا الكلام الآخر من الطراز الأول، وأقرب شاهد على رده أنه لو كان طلب الرؤية لهم حتى إذا سمعوا منع الله
تعالى لها أيقنوا أنها ممتنعة لكان طلبها عبثا. غير مفيد لهذا الغرض، لأن هؤلاء لا يخلو أمرهم إما أن يكونوا مؤمنين
بموسى أو كفارا به، فإن كانوا مؤمنين به فإخباره إياهم بأن الله تعالى لا يرى ولا يجوز عليه ذلك كاف في حصول
المقصود من غير حاجة إلى أن يسأل موسى عليه السلام من الله أن يريه ذاته على علم بأن ذلك محال، وإن كانوا
كفارا بموسى عليه السلام فلا يحصل الغرض من ذلك أيضا لأن الله تعالى إذا منعه مسؤوله من الرؤية فإنما يثبت
ذلك لهم بقول موسى عن الله تعالى إنه منعه ذلك وهم كفار بموسى عليه السلام، فكيف يفيدهم غيره من الله بامتناع
ذلك، فهذا أوضح مصداق لأن موسى عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه اعتقادا لجوازها على الله تعالى، فأخبره
الله أن ذلك لا يقع في الدنيا وإن كان جائزا. عاد كلامه، قال (وقوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة الخ).
113

قال أحمد: ودعواه أن النطر يستلزم الجسمية قد سلف ردها. وأما تنزيهه موسى عليه السلام بنسبة اعتقاد استحالة
الرؤية إليه فهو غني عنه. وأما إقناعه في تفصيله برجحانه عليه السلام في العلم بالله وبصفاته على واصل بن عطاء
وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين فهو نقص عن منصبه العلى، وأقل العوام المقلدين لأهل السنة
راجح عند الله على أصحاب البدع والأهواء وإن ملئوا الأرض نفاقا وشحنوا مصنفاتهم عنادا لأهل السنة وشقاقا،
فكيف بكليم الله عليه أفضل الصلاة والسلام؟ عاد كلامه، قال (فإن قلت: ما معنى لن؟ قلت: تأكيد النفي
الذي تعطيه لا الخ) قال أحمد: لن كما قال تشارك لا في النفي وتمتاز بمزيد تأكيده. وأما استنباط الزمخشري من
ذلك منافاة الرؤية لحال الباري عز وجل ثم إطلاق الحال على الله تعالى ما يستحرز عنه واستشهاده على أن لن تشعر
باستحالة المنفي بها عقلا مردودا كثيرا بكثير من الآي كقوله تعالى - قل لن تخرجوا معي أبدا - فلذلك لا يحيل
خروجهم عقلا، و - لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن - لن تتبعونا - فهذه كلها جائزات عقلا لولا أن الخبر منع
من وقوعها، فالرؤية كذلك. عاد كلامه، قال (ثم حقق تعالى عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد الخ)
قال أحمد: نسبة جواز الرؤية إلى الله تعالى عند الزمخشري كنسبة الولد إليه وهذا مفرع على المعتقد السالف بطلانه،
وليس له في هذا الفصل وظيفة إلا تتبع الشبه لامتناع الرؤية تلقفها من كل فج. والحق أن دك الجبل إنما كان لأن
الله عز وجل أظهر له آية من ملكوت السماء، ولا تستقر الدنيا لإظهار شئ من ملكوت السماء وهذا هو المأثور
عن السلف في هذه الآية، ومعناه عند أبي الحسن رحمه الله فعل فعلا سماه تجليا، وكأن الغضب إما لأنهم طلبوا
رؤية جسمانية في جهة، وإما لأنهم كتموا الخبر بأنه لا يرى في الدنيا، وإما لأنهم كفروا بالاقتراح أو بالمجموع.
عاد كلامه، قال (ومعنى فإن استقر مكانه: فإن ثبت: كما كان ذاهبا الخ) قال أحمد: وهذا من حيل القدرية
في إحالة الرؤية يقولون قد علقها الله على شرط محال وهو استقرار الجبل حال دكه، والمعلق على المحال محال،
وهذه حيلة باطلة، فإن المعلق عليه استقرار الجبل من حيث هو استقرار وذلك ممكن جائز، وتعلق العلم بأنه لا يستقر
114

له لا يرفع إمكان استقراره، وتعلق العلم لا يغير المعلوم ولا ينقل حكمه من إمكان إلى امتناع ولا العكس، وحينئذ
يتوجه دليلا لأهل السنة فنقول: استقرار الجبل ممكن، وقد علق عليه وقوع الرؤية، والمعلق على الممكن ممكن،
والمعتزلة يعتقدون أن خلاف المعلوم لا يجوز أن يكون مقدورا، ونحن نقول مقدور ولكن ما تعلقت المشيئة
بإيجاده وقولنا أقعد بالآداب وأسعد بالإجلال في الخطاب. عاد كلامه، قال (ومعنى وخر موسى صعقا وخر
مغشيا عليه غشية كالموت. وروى أن الملائكة مرت عليه الخ) قال أحمد: وهذه حكاية إنما يوردها من يتعسف
لامتناع الرؤية فيتخذها عونا وظهرا على المعتقد الفاسد. والوجه التورك بالغلط على ناقلها وتنزيه الملائكة عليهم
السلام من إهانة موسى كليم الله بالوكز بالرجل والغمص في الخطاب. عاد كلامه، قال (فإن قلت: إن كان
طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب الخ؟) قال أحمد: أما دك الجبل فقد سلف الكلام على سره. وأما تسبيح
موسى عليه السلام فلما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع
خلاف معلومه وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم سبح الله
وقدس علمه وخبره عن الخلف. وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل
ينبغي أن يكون منزها مبرأ من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل، وقد
ورد: سيئات المقربين حسنات الأبرار. عاد كلامه، قال (ثم تعجب من المتسمين بالاسلام المتسمين بأهل السنة
والجماعة الخ) قال أحمد رحمه الله: وقد انتقل الزمخشري في هذا الفصل إلى ما تسمعه من هجاء أهل السنة، ولولا
الاستناد بحسان بن ثابت الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره والمنافح عنه وروح القدس
معه لقلنا لهؤلاء المتقلبين بالعدلية وبالناجين سلاما، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعداءه فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم فنقول:
115

وجماعة كفروا برؤية ربهم * حقا ووعد الله ما لن يخلفه
تلقبوا عدلية قلنا أجل * عدلوا بربهمو فحسبهمو سفه
وتلقبوا الناجين كلا إنهم * إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه.
116

(هامش) * قوله تعالى (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها) الآية قال (عظم جناية متخذي العجل أولا ثم أردفها
بحكم عام الخ) قال: يعرض بوجوب وعيد الفساق، وأن مغفرة الذنب بدون التوبة منه من المحال الممتنع،
وقد تقدم عد ذلك من الأهواء والبدع، بل الحق أن المغفرة لما عدا الشرك موكولة إلى المشيئة غير ممتنعة عقلا ثم
واقعة نقلا، والله الموفق.
قوله تعالى (ولما سكت عن موسى الغضب) الآية. قال (هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل
ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك الخ) قال أحمد: وهو من النمط الذي قدمته من
قلب الحقيقة إلى المجاز، وكان الأصل: ولما سكت موسى عن الغضب، ولذلك عده بعض أهل العربية من
المقلوب وسلكه في نمط: خرق الثوب المسمار، والتحقيق أنه ليس منه، وأن هذا القلب أشرف وأفصح لأنه بماله
على معنى بليغ، وهو أن الغضب كان متمكنا من موسى حتى كان كأنه يصرفه في أوامره، وكل ما وقع منه
حينئذ فعن الغضب صادر حتى كأنه هو الذي أمره به، ومثل هذه النكتة الحسناء لا تلفى في: خرق الثوب، بل هي
موجودة في قوله تعالى - حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق - على خلاف قراءة نافع، وقد تقدم ذلك آنفا
والله الموفق. (*).
120

قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) الآية، قال (هذا من باب
التمثيل والتخييل الخ) قال أحمد: إطلاق التمثيل أحسن وقد ورد الشرع به، وأما إطلاقه التخييل على كلام الله
تعالى فمردود ولم يرد به سامع وقد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة، ثم إن القاعدة مستقرة على أن الظاهر ما لم يخالف
المعقول يجب إقراره على ما هو عليه، ولذلك أقره الأكثرون على ظاهره وحقيقته ولم يجعلوه مثالا. وأما كيفية
129

الإخراج والمخاطبة فالله أعلم بذلك. عاد كلامه، قال (فإن قلت: بنو آدم وذرياتهم من هم الخ) قال
أحمد: والأظهر إنها شاملة لجملة بني آدم فتدخل اليهود في عمومها، لأن كل واحد من بني آدم يصدق عليه الأمران
جميعا أنه ابن آدم وأنه ذريته، ولا يخرج من هذا إلا آدم عليه السلام، وإنما لم يذكر لظهوره ولا يخلو الكلام عن
النوع المسمى في فن البلاغة باللف اختصارا وإيجازا.
130

قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) قال
(معنى الحسنى التي هي أحسن الأسماء الخ) قال أحمد: أي مما يجوز عليه وإن لم يرد إطلاقه شرعا كالشريف والعارف
ونحو ذلك. عاد كلامه، قال (كما سمعنا البدو يقولون بجهلهم الخ) قال أحمد: وفي هذا التأويل بعد، لأن ترك
الدعاء ببعض الأسماء لا يطلق عليه إلحاد في العرف، وإنما يطلق على فعل لا على ترك، ولكن يتميز عن الوجه
السالف بأنه أضاف الأسماء الملحد فيها إلى ذاته، وهذا أدل على الرحمن منه على مثل أبيض الوجه ونحوه، فإن هذا
ليس من أسمائه إلا أن يقال أضافه إليه تنزيلا على زعمهم. عاد كلامه، قال (ويجوز أن يراد ولله الأوصاف
الحسنى وهي الوصف بالعدل والخير الخ) قال أحمد: لا يدع حشو العقائد الفاسدة في غير موضع يسعها، فإن
لم يكن المراد الأوصاف فالحسنى منها وصف الله بعموم القدرة والانفراد بالمخلوقات حتى لا يشرك معه عباده في خلق
أفعالهم، ويعظم الله تعالى بأنه لا يسئل عما يفعل وإن كل قضائه عدل، وأنه لا يجب عليه رعاية ما يتوهمه الخلق
مصلحة بعقولهم وأن وعده الصدق وقوله الحق، وقد وعد رؤيته فوجب وقوعها إلى غير ذلك من أوصافه
الجليلة وذروا الذين يلحدون في أوصافه فيجحدونها، ثم يزعمون أنه لا يشمل قدرته المخلوقات بل هي مقسومة
بينه وبين عباده، ويوجبون عليه رعاية ما يتوهمونه مصلحة ويحجرون واسعا من مغفرته وعفوه وكرمه على الخاطئين
من موحديه إلى غير ذلك من الإلحاد المعروف بالطائفة المتلقبين عدلية المزكين لأنفسهم - وهو أعلم بمن اتقى - عاد
كلامه، قال (وقيل إلحادهم في أسمائه تسميتهم الخ) قال أحمد: وهذا تفسير حسن ملائم، والله أعلم.
132

قوله تعالى (يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) قال (معناه:
كأنك بليغ في السؤال عنها الخ) قال أحمد: وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز، وهو
أجل من أن يشارك فيها، وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بنى على مقصد واعترض في أثنائه
عارض فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول، وقد بعد عهده طري بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته،
وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال وسيأتي وهذا منها، فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله - يسئلونك عن الساعة أيان
134

مرساها - ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله - قل إنما علمها عند ربي - إلى قوله " بغتة " أريد تتميم سؤالهم
عنها بوجه من الإنكار عليهم وهو المضمن في قوله - كأنك حفي عنها - وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده
فطرى ذكره تطرية عامة، ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال كالتذكرة للأول مستغنى عن تفصيله بما
تقدم فمن ثم قيل يسألونك، ولم يذكر المسؤول عنه وهو الساعة اكتفاء بما تقدم، فلما كرر السؤال لهذه الفائدة
كرر الجواب أيضا مجملا فقال - قل إنما علمها عند الله - ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه، ومن
أدق ما وقفت عليه للعرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد تطرية للذكر قوله:
عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال‍ * شحم إنا قد مللناه بجل
أي فقط، فذكر الألف واللام خاتمة للأول منا لرجزين، ثم لما استفتح الرجز الثاني استبعد العهد بالأولى
فطرى ذكرها وأبقى الأولى في مكانها، ومن ثم استدل ابن جني على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء فهو
بيت كامل وليس بنصف كما ذهب إليه أبو الحسن، قال: ولو كان بيتا واحدا لم يكن عهد الأولى متباعدا فلم
يكن محتاجا إلى تكريرها، ألا ترى أن عبيدا لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات وجعل آخر المصراع الأول أل لم يعدها
أول المصراع الثاني لأنها بيت واحد فلم ير عهدها بعيدا وذلك قوله:
يا خليلي أربعا واستخبرا ال‍ * منزل الدارس عن أهل حلال
مثل سحق البرد عفى بعدك ال‍ * قطر مغناه وتأويب الشمال
135

ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتا، فانظر هذه النكتة كيف بالغت العرب في رعايتها حتى عدت
القريب بعيدا والمتقاصر مديدا، فتأملها فإنها تحفة، إنما تنفق عند الحذاق الأعيان في صناعتي العربية والبيان
والله المستعان.
قوله تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها، إلى قوله تعالى: فتعالى الله عما يشركون) قال
(الضمير في آتيتنا ولنكونن لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما الخ) قال أحمد: وأسلم من هذين التفسيرين وأقرب
والله أعلم أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلا معين، وكان المعنى: والله خلقكم جنسا واحدا
وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الآخر الذي هو الأنثى،
جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون لأن المشركين
منهم - أئذا ما مت لسوف أخرج حيا - و - قتل الإنسان ما أكفره - إن الإنسان لفي خسر - كما أنه كذلك على
136

التفسير الأول أضاف الشرك إلى أولاد آدم وحواء وهو واقع من بعضهم، وعلى التفسير الثاني أضافه إلى قصي
وعقبه والمراد البعض، فهذا السؤال وارد على التأويلات الثلاثة وجوابه واحد، ويسلم هذا الثالث من حذف
المضاف المضطر إليه في التأويل الأول، ومما ينصرف إلى التأويل الثاني من استبعاد تخصيص فصى بهذا الأمر
المشترك في الجنس وهو جعل زوجته منه، وكون المراد بذلك أن يسكن إليها لأن ذلك عام في الجنس، والله أعلم.
137

القول في سورة الأنفال
(بسم الله الرحمن الرحيم
140

قوله تعالى (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) قال (في كما وجهان أحدهما
أن يرتفع محل الكاف الخ) قال أحمد: وكان جدي أبو العباس أحمد الفقيه الوزير رحمه الله يذكر في معنى
142

الآية وجها أوجه من هذين، وهو أن المراد تشبيه اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالأنفال وتفويض أمرها إلى
حكمه من حيث الإثابة والجزاء بإخراجه من بيته مطيعا لله تعالى سامعا لأمره راضيا بحكمه على كراهة المؤمنين
الطاعة، فشبه الله تعالى ثوابه بهذه المزية بطاعته المرضية، فكما بلغت طاعته الغاية في نوع الطاعات فكذلك بلغت
إثابة الله له الغاية في جنس المثوبات، وجماع هذا المعنى هو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام " الأجر على قدر
النصب " ولك على هذا المعنى أن تجعل الكاف مرفوعة ومنصوبة على حسب التقدير، والله الموفق.
143

قوله تعالى (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره
المجرمون) قال (يعنى إنكم تريدون العاجلة وسفاسف الأمور الخ) قال أحمد: والتحقيق في التمييز بين الكلامين
أن الأول ذكرت الإرادة فيه مطلقا غير مقيدة بالواقعة الخاصة كأنه قيل: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون
لكم، ومن شأن الله تعالى إرادة تحقيق الحق وتمحيق الكفر على الإطلاق، ولإرادته أن يحق الحق ويبطل الباطل
خصكم بذات الشوكة، فبين الكلامين عموم وخصوص وإطلاق وتقييد، وفى ذلك مالا يخفى من المبالغة في تأكيد
المعنى بذكره على وجهين إطلاق وتقييد، والله أعلم.
144

قوله تعالى (إذ يغشاكم النعاس أمنة منه) قال (وقرئ إذ يغشيكم بالتخفيف والتشديد الخ) قال أحمد: ومثل
هذا النظر يجرى عند قوله تعالى - هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا - لأن فاعل الإراءة هو الله عز وجل،
وفاعل الخوف والطمع هم وقد انتصبا مفعولا لهما. فالجواب أنه لما كان الله تعالى إذا أراهم البرق رأوه كانوا
فاعلين في المعنى وكأن المعنى: وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا، فهذا مثل آية الأنفال، فإن المفعول
في المعنى فاعل، وسيأتي مزيد بحث في هذه النكتة، وقد جرى القلم بتعجيلها ههنا، وذلك أن لقائل أن يقول:
فاعل يغشى النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضا وخالقها، وحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع
السؤال ويزول الإشكال على قواعد السنة التي تقضى نسبة أفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها.
146

ولمورد السؤال أن يقول: المعتبر أن يكون فاعل الفعل متصفا بالعلة كما هو متصف بالفعل، والباري عز وجل
وإن كان خالق الأمنة للعبد وكان بها آمنا، فالعبد هو الفاعل اللغوي وإن كان الله تعالى هو الفاعل حقيقة وعقيدة
وحينئذ يفتقر السؤال إلى الجواب السالف، والله الموفق. عاد كلامه، قال (فإن قلت: فعلى غير هذه القراءة؟
قلت: كذلك الخ) قال أحمد: وجه حسن بشرط الأدب في إسقاط لفظة التخييل وقد تقدمت له أمثالها.
147

قوله تعالى (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) قال (ولما جاءت قريش قال
عليه الصلاة والسلام هذه قريش جاءت الخ) قال أحمد: أوضح مصداق في التمييز بين الحقيقة والمجاز، ألا تراك
تقول للبليد ليس بحما، ويصدق عليه مع صدق قولك فيه على سبيل التجوز إنه حمار، فإذا ثبت لك أن من
مميزات المجاز صدق سلبه بخلاف الحقيقة، فافهم أن هذه الآية تكفح وجوه القدرية بالرد، وذلك أن الله تعالى
أثبت الفعل للخلق ونفاه عنهم، ولا محمل لذلك إلا أن ثبوته لهم مجاز، والفاعل والخالق حقيقة هو الله تعالى،
149

فأثبته لهم مجازا ونفاه عنهم حقيقة، وإياك أن تعرج على تعكيس الزمخشري في تأويل الآية، فإنه نظر أعوج وباطل
مخلج والحق أبلج، والله الموفق بكرمه.
150

قوله تعالى (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) قال (يعنى ولو علم الله أن
اللطف ينفع في هؤلاء) قال أحمد رحمه الله: إطلاق القول بأن الله تعالى يلطف بالعبد فلا ينفع لطفه مردود، فإن
اللطف هو إسداء الجميل الخ. والإلطاف به واسمه اللطيف من ذلك، فإذا أسدى الجميل إلى العبد بأن أسمعه
إسماع لطيف به فتلك الغاية المرجوة، ومعنى اللطف به على هذا أن يخلق في قلبه قبول الحق وحسن الإصغاء إليه
والاهتداء به، ولكن لا يتم ذلك على عقيدة الاعتزال والرأي الفاسد في خلق الأفعال، لأن مقتضاها أن العبد هو
الذي يخلق لنفسه قبول الحق والهداية وحسن الاستماع والإصغاء، وأن الله تعالى لا يشارك العبد في خلق ذلك، بل
الذي ينسب إلى الله تعالى إرادة الهداية من جميع الخلق، ولا يلزم حصول مراده على العموم، تعالى الله عما يقولون
ثم، ولو تنزل متنزل على هذه القاعدة لما استقام تأويل الزمخشري أيضا، فإن - ولو علم الله فيهم خيرا - حاصله
اللطف بهم، ولو لطف بهم لما انتفعوا باللطف، فيلزم عدم انتفاعهم باللطف على تقدير علم الله الخير فيهم،
وهذا غير مستقيم لما يلزم عليه من وقوع خلاف المعلوم لله تعالى وذلك محال عقلا، فلا يرتفع الإشكال إلا بتقدير
151

الإسماع الواقع جوابا أولا خلاف الإسماع الواقع شرطا ثانيا كيلا يتكرر الوسط فيلزم المحال المذكور، وأقرب
وجه في اختلاف الإسماعين أن يراد بالأول: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم إسماعا يخلق لهم به الهداية والقبول،
ولو أسمعهم لا على أنه يخلق لهم الاهتداء بل إسماعا مجردا من ذلك لتولوا وهم معرضون، فهذا هو الوجه في تأويل
الآية، والله الموفق.
قوله تعالى (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) قال (معناه: أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها الخ)
قال أحمد رحمه الله: نعم هذا عقد أهل السنة الذي استعار لهم لقب المجبرة، وهو العقد الحق المؤسس على التقوى
وتفويض المخلوقات كلها إلى الواحد الحق، خالق الخلق فإن كان ذلك ظلما فأنا برئ من الطائفة المتسمية
بالعدلية إصرارا على هذا الرأي الباطل والمعتقد الماحل، والله الموفق.
152

قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الآية، قال (إن قلت:
ما معنى ذكرا لله وعطف الرسول وغيره عليه الخ؟) قال أحمد: لأن مالكا رضي الله عنه لا يرى ذكر الوجوه
المذكورة لبيان أنه لا يصرف فيما سواها، وليس لأن يتملكاها، ولا على التحديد حتى لا يجوز الاقتصار على
بعض الوجوه دون بعض، بل الأمر عنده موكول إلى نظر الإمام، فيصرف الخمس في مصالح المسلمين، ومن
جملتها قرابته عليه الصلاة والسلام، ولا تحديد عنده في ذلك البتة، وهذا التأويل الثالث ينطبق على مذهبه وبيان
ذلك أن المراد حينئذ بذكر الله تعالى بيان أن الخمس يصرف في وجوه التقربات لله تعالى غير مقيدة ثم تخصيص
الوجوه المذكورة بعد ليس تحديدا ولكن تنبيها على فضلها والتخصيص لقصد التفصيل بعد التعميم لا يرفع حكم
العموم الأول بل هو قار على حاله، كما أن العموم ثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكال بعده والله تعالى أعلم.
158

قوله تعالى (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)
159

قال (إن قلت: ما فائدة ذكر مركز الفريقين وأن العير كانت أسفل منهم الخ) قال أحمد: وهذا الفصل من
خواص حسنات الزمخشري وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.
160

قوله تعالى (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) ويقللكم في أعينهم (قال) إن قلت: بأي طريق يبصرون
الكثير قيلا الخ) قال أحمد: وفي هذا دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف
على سبب من مقابلة أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما
أمكن أن يستر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك، فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك
مع اجتماعها، فلا ربط إذا بين الرؤية ونفيها في مقدرة الله تعالى. وهى رادة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى
بناء على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا وأنها تستلزم الجسمية، إذ المقابلة والقرب وارتفاع
161

الحجب إنما تتأتى في جسم، فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم، ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، والله
الموفق.
162

قوله تعالى (وأن الله ليس بظلام للعبيد) قال (وقيل ظلام للتكثير لأجل العبيد الخ) قال أحمد: وبهذه النكتة
163

يجاب عن قول القائل نفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى فلم عدل عن الأبلغ، والمراد تنزيه الله تعالى وهو جدير
بالمبالغة، فهذان الجوابان عتيدان في هذا السؤال.
164

قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) قال (القوة الرمي روى. عقبة بن عامر أنها
165

الرمي الخ) قال أحمد: والمطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه صدرا، والله أعلم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
166

القول في سورة براءة
(براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) الآية، قال (معناه: إن الله ورسوله قد برئا من
171

العهد الذي عاهدتم به المشركين الخ) قال أحمد: ووراء ما ذكره سر آخر هو المرعى والله أعلم، وذلك أن نسبة
العهد إلى الله ورسوله في مقام نسب إليه النبذ من المشركين لاتحسن شرعا، ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم: وإذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله فأنزلهم على حكمك،
فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أولا، وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم ذمتك، فأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر
ذمة الله. فانظر إلى أمره عليه الصلاة والسلام بتوقير ذمة الله مخافة أن تخفر، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر
المتوقع، فتوقير عهد الله وقد تحقق من المشركين النكث وقد تبرأ من الله ورسوله بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى
الله أحرى وأجدر، فلذلك نسب المسلمين دون البراءة منه، والله أعلم.
172

قوله تعالى (إلا الذين عاهدتم) قال (إن قلت: مم هذا الاستثناء؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى الخ) قال
أحمد: ويجوز أن يكون قوله فسيحوا خطابا من الله تعالى للمشركين غير مضمر قبله القول، ويكون الاستثناء على
هذا من قوله إلى الذين عاهدتم، كأنه قيل براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين لا الباقين على العهد، فأتموا إليهم
أيها المسلمون عهدهم، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في قوله " إلى الذين عاهدتم " إلى خطاب المشركين
في قوله فسيحوا، ثم التفات من التكلم إلى الغيبة بقوله - واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله - وأصله واعلموا
أنكم غير معجزى وأنى، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم
للأمر، ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى خطاب المسلمين بقوله - إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم فأتموا - وكل هذا
من حسنات الفصاحة، وإنما بعث الزمخشري على تقدير القول قبل فسيحوا مراعاة أن يطابق قوله فأتموا، إذ
المخاطب على هذا التقدير المسلمون أولا وثانيا، ولا يكون فيه شئ من الالتفاتات المبنية على التأويل الذي ذكرناه،
وكلا الوجهين ممتاز بنوع من البلاغة وطرف من الفصاحة، والله أعلم.
174

قوله تعالى (واقعدوا لهم كل مرصد) قال (فيه المرصد المجاز والممر الخ) قال أحمد: ويكون انتصابه دون
جره من الاتساع لأن المرصد ظرف مختص، والأصل قصور الفعل عن نصبه ويكون مثل قوله في الاتساع:
* كما عسل الطريق الثعلب * ويحتمل والله أعلم أن يكون مرصد مصدرا لأن صيغة اسم الزمان والمكان والمصدر
من فعله واحدة، فعلى هذا يكون منصوبا نصبا أصليا، لأن اقعدوا في معنى ارصدوا كأنه قيل: وارصدوهم كل
مرصد، إلا أن الظرفية يقويها قوله - حيث وجدتموهم - فيقتضيها قصد المطابقة بين ظرفي المكان والله أعلم.
قوله تعالى (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما
175

استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين. كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) الآية. قال
(كيف تكرار لاستبعاد ثبات الخ) قال أحمد: السر في تكرار كيف والله أعلم أنه لما ذكره أولا الاستبعاد ثبات
عهدهم عند الله ولم يذكر إذ ذاك سبب البعد للغاية باستثناء الباقين على العهد وطال الكلام أعيدت كيف تطرية
176

للذكر وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض، فلم يقصد مجرد التكرار، بل هذا السر الذي انطوى عليه وقد تقدمت
له أمثال، والله الموفق.
177

قوله تعالى (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم)
178

الآية، قال (إذ هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الخ) قال أحمد: كلام صحيح إلا قوله إن الكبيرة تهدم الأعمال فإنه
تفريع على قاعدة المعتزلة والحق خلافها.
قوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر - إلى قوله - فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين)
قال (في هذه الآية تبعيد للمشركين الخ) قال أحمد: وأكثرهم يقول: إن عسى من الله واجبة بناء منهم على أن
استعمالها غير مصروفة للمخاطبين، والحق فيما قال الزمخشري، ولكن الخطاب مصروف إليهم: أي فحال
هؤلاء المؤمنين حال مرجوة والعاقبة عند الله معلومة ولله عاقبة الأمور.
179

قوله تعالى (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) قال (مواطن
الحرب مقاماتها ومواقفها الخ) قال أحمد: لا مانع والله أعلم من عطف الظرفين المكاني والزماني أحدهما على الآخر،
وناصبهما واحد كعطف أحد المفعولين على الآخر والفعل واحد، إذ يجوز أن تقول: ضرب زيد عمرا في المسجد
181

ويوم الجمعة كما تقول: ضربت زيدا وعمرا، ولا يحتاج إلى إضمار فعل جديد غير الأول، هذا مع أنه لابد من
تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين في الحقيقة، فإنك إذا قلت: أضرب زيدا اليوم وعمرا غدا لم يشك في أن الضربين
متغايران بتغاير الظرفين، ومع ذلك الفعل واحد في الصناعة، فعلى هذا يجوز في الآية والله أعلم بقاء كل واحد من
الظرفين على حاله غير مؤول إلى الآخر، على أن الزمخشري أوجب تعدد الفعل وتقدير ناصب لظرف الزمان غير
الفعل الأول وإن كان عنده جميعا زمانين لعلة أن كثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن، يريد: ولو ذهبت إلى
اتحاد الناصب للزم ذلك وهذا غير لازم، ألا تراك لو قلت: أضرب زيدا حين يقوم وحين يقعد لكان الناصب
للظرفين واحدا وهما متغايران، وإنما يمتنع عمل الفعل الواحد في ظرفي زمان مختلفين عند عدم العطف المتوسط
بينهما، والله أعلم.
182

قوله تعالى (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) قال (هذا النهى راجع إلى نهى
المسلمين من تمكينهم منه) قال أحمد: وقد يستدل به من يقول إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وخصوصا
بالمناهى، فإن ظاهر الآية توجه النهى إلى المشركين إلا أنه بعيد، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا
النهى، والمقصود تطهير المسجد الحرام بإبعادهم عنه، فال يحصل هذا المقصود إلا بنهى المسلمين عن تمكينهم من
قربانه، ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمون تصدير الكلام بخطابهم في قوله - يا أيها الذين آمنوا - وتضمينه
نصا بخطابهم بقوله - وإن خفتم عيلة - وكثيرا ما يتوجه النهى على من المراد خلافه وعلى ما المراد خلافه إذا كانت
ثم ملازمة كقوله: لا أرينك ههنا - ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون - والله أعلم.
183

قوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد) قال (إما أن يراد به المعطى أو الآخذ الخ) قال أحمد: فيكون كاليد
في قوله عليه الصلاة والسلام " لا تبيعوا الذهب: إلى قوله: إلا يدا بيد ". عاد كلامه قال (وإن أريد به الآخذ
فمعناه حتى يعطوها الخ) قال أحمد: وهذا الوجه أملأ بالفائدة، والله أعلم.
184

قوله تعالى (وبأبي الله إلا أن يتم نوره) قال (إن قلت: كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت الخ)
قال أحمد: ولا يقال على هذا إن الإباء عدم الإرادة، فكما صح الإيجاب بعد نفى الإرادة فينبغي أن يصح بعد
ما هو في معناها مطلقا، لأنا نقول لوجود حرف النفي أثر في تصحيح مجئ حرف الإيجاب بعد فلا يلزم ذلك،
والله أعلم.
186

قوله تعالى (يوم يحمى عليها في نار جهنم) قال (إن قلت: هلا قيل تحمى كما يقال حمى الميسم وأحميته الخ)
قال أحمد: وفي هذا الفصل دقائق إعراب يشوب حسنها إغراب، والله الموفق.
187

قوله تعالى (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير)
قال (في هذه الآية سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم عذابا أليما الخ) قال أحمد: ويقرب إعادة الضمير إلى
الرسول أن الضمير في قوله - إلا تنصروه - عقيب ذلك عائد إليه اتفاقا، والله أعلم.
190

قوله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم) قال (هذا كناية عن الجناية لأن العفو رادف لها الخ) قال أحمد رحمه
الله: ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير وهو بين أحد أمرين: إما أن لا يكون هو المراد، وإما أن يكون هو
المراد ولكن قد أجل الله نبيه الكريم عن مخاطبته بصريح العتب وخصوصا في حق المصطفى عليه الصلاة والسلام،
فالزمخشري على كلا التقديرين ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام، ولقد أحسن من قال في هذه الآية:
إن من لطف الله تعالى بينه أن بدأه بالعفو قبل العتب، ولو قال له ابتداء لم أذنت لهم لتفطر قلبه عليه الصلاة
والسلام، فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام. عاد كلامه، قال (قوله
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله - إلى قوله - إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله الآية قال معناه: ليس من عادة
المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا الخ) قال أحمد: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا فلا يليق بالمرء أن يستأذن
أخاه في أن يسدى إليه معروفا، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما، فإن الاستئذان في أمثال
هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان
لا يتعاطى شيئا من أسباب الهيؤ للضيافة بمرأى منهم، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسول الله صلى عليه وسلم
بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة فقال تعالى - فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين - أي ذهب على خفاء منهم كيلا
يشعروا به، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك
بها ذوو المرؤة وأولو الفتوة، وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين التثاقل عن المبادرة إليه بعد
الحض عليه والمناداة وأسوأ أحوال المتثاقل، وقد دعى الناس إلى الغزاة أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق، ونعوذ
بالله من التعرض لسخطه.
192

قوله تعالى (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين)
قال (إن قلت: كيف جاز أن يوقع الله في نفوسهم كراهة الخروج للغزو الخ) قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه
مبنى على قاعدتين فاسدتين: إيجاب مراعاة المصالح على الله تعالى. والتحسين والتقبيح، وقد تكرر بطلان ذلك
فاحذره. واعلم أن معتقد أهل السنة أن الله تعالى ألقى كراهة الخروج في قلوبهم لأنه أراد شقاوتهم، وانضاف إلى
ذلك إرادة راحة المخلصين من مرافقتهم، إذ الأمر ليس شرطا في نفوذ المشيئة، والله الموفق عاد كلامه قال
(فإن قلت: فما معنى قوله مع القاعدين الخ) قال أحمد: وهذا من تنبيهاته الحسنة ونزيده بسطا فنقول: لو قيل
اقعدوا مقتصرا عليه لم يفد سوى أمرهم بالقعود وكذلك كونوا مع القاعدين، ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم
بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد الموسومين بهذه السمة إلا من عبارة الآية، ولعن الله
فرعون لقد بالغ في توعد موسى عليه السلام بقوله - لأجعلنك من المسجونين - ولم يقل لأجعلنك مسجونا لمثل هذه
النكتة من المبالغة.
193

قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء) الآية إلى آخرها، قال (هذا قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة
وأنها مختهة بها الخ) قال أحمد: وهو مذهب مالك رضي الله عنه، والقول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف
حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذا من إشعار اللام بالتمليك كما ذهب إليه الشافعي لا يسعده السياق، فإن
الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على أن غيرهم لا يستحق فيها نصيبا، فهذا هو الغرض الذي سيقت له فلا اقتضاء
197

فيها لما سواه والله أعلم. عاد كلامه، قال (فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة الخ؟) قال
أحمد: وثم سر آخر هو أظهر وأقرب، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم وأن
ما يأخذونه ملكا، فكان دخول اللام لائقا بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا
يصرف إليهم، ولكن في مصالح تتعلق بهم فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون
فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال
لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك العاملون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم. وأما
سبيل الله فواضح فيه ذلك. وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، وأنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته
مع أنه مجرد من الحرفين جميعا وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكنه على القريب منه أقرب، والله أعلم. وكان
جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لمالك
على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك لام الملك، فيقول متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف
فيتعين تقديره، فإما أن يكون التقدير: إنما الصدقات مصروفة للفقراء كقول مالك، أو مملوكة للفقراء كقول
الشافعي، لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعا يصح تعلق اللام به وفي معا، فيصح أن تقول:
هذا الشئ مصروف في كذا ولكذا، بخلاف تقديره مملوكة فإنه إنما يلتئم مع اللام، وعند الانتهاء إلى " في " يحتاج
إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها، فتقديره من اللام عام التعلق شامل الصحة متعين، والله الموفق.
قوله تعالى (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) قال
(الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع سمى الرجل بالجارحة التي هي آلة السماع الخ) قال أحمد: لا شئ أبلغ
من الرد عليهم بهذا الوجه، لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة، ثم كر على طمعهم بالحسم وأعقبهم في تنقصه
باليأس منه، ويضاهى هذا من مستعملات الفقهاء القول بالموجب، لأن في أوله إطماعا للخصم بالتسليم ثم بتا
للطمع على قرب، ولا شئ أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه، والله الموفق.
198

قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم) قال (معناه: جاهد الكفار بالسيف والمنافقين
بالحجة الخ) قال أحمد: والحمد لله الذي أنطقه بالحجة لنا في إغلاظ عليه أحيانا، والله الموفق.
202

قوله تعالى (استغفر لهم أولا تستغفر لهم الخ) قال (قد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر الخ) قال أحمد: وما
يدعيه الزمخشري في هذا وأمثاله من محذوف هو المقصود بالأمر، وهذا واقع موقعه كقول كثير عزة:
* أسيئي بنا أو احسني لا ملومة * كأنه يقول لها امتحني محلك عندي وقوة محبتي لك وعامليني بالإساءة والإحسان
وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة أو محسنة، وكذلك معنى الآية - استغفر لهم أو لا تستغفر لهم - وانظر هل
204

يغفر لهم في حالتي الاستغفار وتركه، وهل يتفاوت الحالان أولا؟ قال أحمد: وقد ورد بصيغة الخبر في الآية
الأخرى في قوله تعالى - سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم - عاد كلامه، قال (فإن قلت:
كيف خفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح من نطق بالضاد الخ) قال أحمد: وقد أنكر القاضي
رضي الله عنه حديث الاستغفار ولم يصححه، وتغالى قوم في قبوله حتى أنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة،
وبنوه على أنه عليه الصلاة والسلام فهم من تحديد نفى الغفران بالسبعين ثبوت الغفران بالزائد عليه وذلك سبب
إنكار القاضي عليهم.
205

قوله تعالى (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء) قال (دوائر
الزمان دوله وعقبه لتذهب غلبتكم عليه الخ) قال أحمد: وفي آية براءة مزيد على مناسبة الدعاء لحال المدعو عليهم
ولقولهم وذلك أن الذي نسب إليهم تربص الدوائر مطلقا والذي دعى عليهم به دائرة السوء على التقييد بأسوأ الدوائر
لا على الإطلاق، والله الموفق.
209

قوله تعالى (وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته) الآية. قال (ما أدل هذا الكلام على أن
الصدقة من الله بمكان الخ) قال أحمد: وللقدرية كما علمت مذهب في أن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر، وأنه
مخلد في النار وإن كان موحدا. وغرض الزمخشري أن يجعل الفسق الذي وسم به المنافق هو الذي يوسم به الموحد
حتى يكون استحقاقهما للخلود واحدا فاحذره، والله أعلم.
210

قوله تعالى (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم)
قال (معناه: أنه مع شهامتك وفطنتك وصدق فراستك يخفون حالهم عليك الخ) قال أحمد: وكان قوله تعالى
- مردوا على النفاق - توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه عليه الصلاة السلام لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به،
والله أعلم.
قوله تعالى (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم) قال (إن
211

قلت: قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فما المخلوط به الخ؟) قال أحمد: والتحقيق في هذا أنك إذا قلت خلطت
الماء باللبن فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء المخلوط واللبن مخلوط به، والمدلول عليه لزوما لا تصريحا كون
الماء مخلوطا به اللبن مخلوطا، وإذا قلت: خلطت الماء واللبن فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطا، وأما
ما خلط به كل واحد منهما فغير مصرح به، بل من اللازم أن كل واحد منهما مخلوط به يحتمل أن يكون قرينة أو
غيره، فقول الزمخشري إن قولك خلطت الماء واللبن يفيد ما يفيد مع الباء وزيادة ليس كذلك، فالظاهر في
الآية والله أعلم أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل كأنه قيل: عملوا عملا صالحا وآخر سيئا،
ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط فعبر عنهما معا به، والله أعلم.
212

(قوله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال (فأما ما يدرك خطره بالعقل
الخ) قال أحمد: هذا تفريع على قاعدة التحسين والتقبيح وأن العقل حاكم والشرع كاشف لما غمض عليه تابع
لمقتضاه، وهذه القاعدة قد سبق بطلانها في غير ما موضع، والله الموفق.
217

قوله تعالى (ما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) قال (معناه: ان نفير الكافة لطلب العلم غير ممكن الخ) قال احمد: قوله
- وما كان المؤمنون لينفروا كافة - على التفسير الأول أمر لا نهى، وعلى الثاني خبر والمراد به النهى، لأنه في الأول
راجع إلى تنفير أهل البوادي إلى المدينة للتفقه، وهذا لو أمكن الجميع فعله لكان جائزا أو واجبا، وان لم يمكن وجب
على بعضهم القيام عن باقيهم على طريق وجوب الكفاية. واما في الثاني فلان المؤمنين نفروا من المدينة للجهاد
أجمعين، وكان ذلك ممكنا بل واقعا فنهوا عن اطراح التفقه بالكلية وأمروا به أمر كفاية، والله أعلم. قال أحمد:
ولا أجد في تأخري عن حضور الغزاة عذرا إلا صرف الهمة لتحرير هذا المصنف. فإني تفقهت في أصل الدين وقواعد
العقائد مؤيدا بآيات الكتاب العزيز، مع ما اشتمل عليه من صيانة حوزتها من مكايد أهل البدع والأهواء، وأنا مع
ذلك أرجو من الله حسن التوجه، بلغنا الله الخير ووفقنا لما يرضيه، وجعل أعمالنا خالصة لوجهة الكريم.
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) قال (القتال واجب مع
221

كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم الخ) قال أحمد: يتعين القتال على أحد فريقين إما من نزل بهم عدو وفيهم قوة عليه
ثم على من قرب منهم حتى يكتفوا، وإما من عينهم الإمام لذلك وإن بعدت بهم الدار، وإذا أوجب الله على هذه
الأمة القتال وإزعاج العدو من دياره وإخراجه من قراره فوجوبه وقد نزل العدو بدار الإسلام أجدر.
قوله تعالى (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم)
قال (معناه تغامزوا بالعيون إنكارا للوحى الخ) قال أحمد: يحتمل الدعاء كما فسره، ويحتمل الإخبار بأن الله صرف
222

قلوبهم: أي منعها من تلقى الحق بالقبول، ولكن الزمخشري يفر من جعله خبرا، لأن صرف القلوب عن الحق
لا يجوز على الله تعالى عنده بناء على قاعدة الصلاح والإصلاح، ولا يزال يؤول الظاهر إذا اقتضى ذلك كما مر له في
قوله - ختم الله على قلوبهم - فلما احتملت هذه الآية الدعاء والخبر على حد سواء تعين عنده جعلها دعاء، ثم في
هذا الدعاء مناسبة للفعل الصادر منهم وهو الانصراف كقوله - وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم - وكقوله
ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء -.
القول في سورة يونس
(بسم الله الرحمن الرحيم)
223

قوله تعالى (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) قال (أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة الخ) قال
أحمد: ولم يرد في سابقة السوء تسميتها قدما، إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطردا، ولكن غلب العرف
على قصرها كما يغلب في الحقيقة، والله أعلم.
224

قوله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الأنهار في جنات النعيم)
قال (معناه يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة الخ) قال أحمد، هو يقرر بذلك زعمة في أن شرط دخول الجنة العمل
الصالح، وأن من لم يعمل مخلد في النار كالكافر، وأنى له ذلك وقد جعل الله سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان
فقال: يهديهم ربهم بإيمانهم، وقول الزمخشري: إن المراد إضافة العمل لا ينتهض عن حيز الدعوى، فإن الله لم يعلل
بغير الإيمان وإن جرى لغير ذكر أولا فلا يلزم إجراؤه ثانيا ولا محوج إليه، وشبهته أن الإيمان المجعول سببا مضاف
إلى ضمير الصالحين فلزم أخذ الصلاح قيدا في التسبب وهو ممنوع، فإن الضمير إنما يعود على الذوات لا باعتبار
الصفات، وقد تقدمت لهذه المباحثة أمثال وأشكال، والله الموفق.
226

قوله تعالى (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) الآية. قال محمود (فوضع استعجالهم بالخير موضع
تعجيله لهم الخير الخ) قال أحمد: وهذا أيضا من تنبيهات الزمخشري الحسنة التي تقوم على دقة نظره شاهدة وبينة، ولا يكاد
وضع المصدر مؤكدا أو مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز يخلو من مثل هذه الفائدة الجليلة، والنجاة غايتهم أن
يقولوا في قوله تعالى - والله أنبتكم من الأرض نباتا - أنه أجرى المصدر على الفعل مقدرا عدم الزيادة أو هذا
المصدر لفعل دل عليه المذكور تقديره نبتم نباتا ولا يزيدون على ذلك، وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فكرته هل
قرن المصدر في كتاب الله بغير فعله لفائدة أو لا تسور بلطف النظر على مثل هذه الفوائد العلية مراتبها، فالفائدة
والله أعلم في اقتران قوله نباتا بقوله أنبتكم التنبيه على تحتم نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء حكمها حتى كان
إنبات الله لهم نفس نباتهم: أي إذا وجد من الله الإنبات وجدلهم النبات حتما، فكان أحد الأمرين عين الآخر
فقرن به، والله أعلم.
227

قوله تعالى (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) قال (فيه إن قلت كيف جاز
النظر على الله تعالى الخ) قال أحمد: وكنت أحسب أن الزمخشري يقتصر على إنكار رؤية العبد لله تعالى فضم إلى
ذلك إنكار رؤية الله. والجمع بين هذين النزغتين عقيدة طائفة من القدرية يقولون إن الله لا يرى ولا يرى، تعالى الله
عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقد تقدم إبطال دعواهم أن النظر يستلزم المقابلة والجسمية فلا نعيده، والله الموفق
228

قوله تعالى (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها
جاءتها ريح عاصف) الآية. قال (إن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية الخ) قال أحمد: وهذه أيضا من
231

نكته التي لا يكتنه حسنها، وقد مر لي قبل الوقوف عليها مثل هذا النظر بعينة في توأمتها وذلك عند قوله تعالى
- وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم - وقد استدل الزمخشري بها
لأبى حنيفة في أن الصغير يبتلى قبل البلوغ بأن يسلم إليه قدر من المال يمتحن فيه، خلافا لمالك فإنه لا يرى
الابتلاء قبل البلوغ. قال الزمخشري: ووجه الاستدلال أن الله تعالى جعل البلوغ غاية الابتلاء فيلزم وقوع
الابتلاء قبله ضرورة كونه مغيا به. واعترضت هذا الاستدلال فيما سلف بأن المجعول غاية هو حمله ما في حيز
حتى من البلوغ مقرونا بإيناس الرشد، وهذا المجموع هو الذي هو الذي يلزم وقوعه بعد الابتلاء، ولا يلزم من ذلك
أن يقع كل واحد من مفردية بعد الابتلاء، بل من الممكن أن يقع أحدهما قبل والآخر بعد، فلا يحصل المجموع
إلا بعد الابتلاء، ويوضح ذلك هذه الآية فإنه تعالى جعل غاية تسييرهم في الفلك كونهم فيها مضافا إلى ما ذكر
معه، ونحن نعلم أن كونهم في الفلك وذلك أحد ما جعل غاية متقدم على التسيير، وإن كان المجموع واقعا
كوقوع الحادثة بجملتها بعد الكون في الفلك والله أعلم، وإنما بسطت القول ههنا لفواته ثم فجدد بما مضى عهدا.
232

قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ذكر في الزيادة تفاسير كثيرة ثم قال (وزعمت المشبهة والمجبرة
أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى الخ) قال أحمد نسبة تفسير الزيادة برؤية الله تعالى إلى زعم أهل السنة الملقبين
عنده بالشبهة والمجبرة مرور على ديدنه المعروف في التكذيب بما لم يحط به علما هذا التفسير مستفيض منقول]
233

عن جملة الصحابة، والحديث المروى فيه مدون في الصحاح متفق على صحته وقد جعل أهل السنة جاءوا به
من عند أنفسهم، ومن قبل قال المصرون على الكفر لسيد البشر وصاحب السنة - ائت بقرآن غير هذا أو بدله - حملا له
على أنه جاء به من عنده، فلأهل السنة إذا أسوة بصاحبها، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة،
فابتلاء الحق بالباطل قديم والله الموفق. وإن في قوله تعالى على أثر ذلك - ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة مصداقا
لصحة هذا التفسير فإن فيه تنبيها على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى، فجدير بهم أن لا يرهق وجوههم
قتر البعد ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين فإن وجوههم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد. نسأل الله
الكفاية، فأولئك يغشى وجوههم أنوار المشاهدة وهؤلاء يغشى وجوههم كقطع الليل المظلم منهم شقى وسعيد
234

قوله تعالى (قل من يرزقكم من السماء والأرض) قال (معناه أن من يرزقكم منها جميعا الخ) قال أحمد:
235

وهذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسمة، فمنها ما رزقه الله للعبد وهو الحلال، ومنها
ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام، وهذه الآية ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا - أفأنت تسمع الصم ولو
كانوا لا يعقلون -.
236

قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) قال (معناه: أنهم كذبوا به على البديهة قبل
التدبر ومعرفة التأويل الخ) قال أحمد: وكان التكذيب قبل الإحاطة بعلمه ربما يوهم عذرا ما للمكذب، فجاءت
كلمة لما مشعرة بأنهم قد أحاطوا بعلمه حتى تنحسم أعذارهم ويتحقق شقاؤهم، والله أعلم.
238

قوله تعالى (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) قال (إن قلت: هلا قيل
ماذا تستعجلون منه الخ) قال أحمد: وفى هذا النوع البليغ نكتتان: إحداهما وضع الظاهر مكان المضمر،
والأخرى ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر، وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة، والله أعلم.
240

قوله تعالى (قالوا إن هذا لسحر مبين. قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون)
قال (إن قلت: هم قطعوا بقولهم إن هذا لسحر مبين على أنه سحر الخ) قال أحمد: وفى الفرق بين الوجهين
غموض. وإيضاحه أن القول على الوجه الأول وقع كناية عن العيب فال يتقاضى مفعولا، وفى الثاني على أنه
يطلب مفعولا، والله أعلم.
قوله تعالى (قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله) قال (ما موصولة مبتدأ والسحر خبر: أي
الذي جئتم به الخ) قال أحمد: وليس المراد في القراءة الأولى الإخبار بأن ما جاءوا به سحر خاصة، ولكن مع
247

قوله تعالى (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن
سبيلك) قال (قلت: هو دعاء بلفظ الأمر الخ) قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي الذي هو أدق من دبيب
النمل يكاد الاطلاع عليه أن يكون كشفا، ووجه ذلك أنه علم أن الظاهر بل والباطن أن اللام للتعليل وأن
الفعل منصوب بها، ومعنى ذلك إخبار موسى عليه السلام بأن الله إنما أمدهم بالزينة والأموال وما يتبعهما من
النعم استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة، كما أخبر تعالى عن أمثالهم بقوله - إنما نملى لهم ليزدادوا إثما - وهذا المعنى
منتظم على جعل اللام للتعليل، والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في استحالة ذلك على الله تعالى لاعتقاده أن من
الجور أن يملى لهم في الضلالة ويعاقبهم عليها، فهو متبتل لما يرد من الآيات بعمل الحيلة في تأويلها وردها إلى معتقده
وجعلها تبعا له كما تقدم له تأويل قوله - ليزدادوا إثما - وكأين من آية غراء رام أن يستر غرتها ويطفئ نورها بأمثال
هذه التأويلات الرديئة لفظا وعقدا - ويأبى الله إلا أن يتم نوره - ثم لا يسعه إلا أن يحمل موسى عليه السلام على أمثال
هذه المعتقدات، ولقد برأه الله وكان عند الله وجيها.]
250

قوله تعالى (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) قال (معناه: أتؤمن الساعة في وقت اضطرارك
حين أدركك الغرق الخ) قال أحمد: ولقد أنكر منكرا وغضب لله ولملائكته كما يجب لهم، والله الموفق.
251

قوله تعالى (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) قال (إن قلت: كيف
252

قال له عليه الصلاة والسلام، فإن كنت في شك مع قوله في الكفرة - وإنهم لفى شك منه مريب - الخ) قال أحمد:
ولو قال هذا المفسر إن نفى الشك عنه عليه الصلاة والسلام توطئة لأمره بالسؤال لتقوم حجته على المسؤولين لا ليستفيد
بسؤالهم علما لمزيد تعين الإبراء بقوله له - قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله - فأمر بالسؤال والجواب جميعا
لكان أقوم وأسلم، والله أعلم.
253

قوله تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا). قال (المراد مشيئة القسر والإلجاء) قال أحمد:
وهذا من دسه الاعتزال مخلسا وخلط الباطل بالحق مدلسا، ولما علم أن الآية تقتضى عدم مشيئة الله تعالى لإيمان
الخلق بصيغة الكلية وأنه إنما شاء ذلك
ممن آمن لا ممن كفر، إذ مقتضى لو الامتناع وكان ذلك راد المعتقدة الفاسد
إذ يزعمون أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع أهل الأرض فلم يؤمن إلا بعضهم، أخذ يحرف مشيئة الإيمان إلى مشيئة
القسر والإلجاء ليتم له أن المشيئة المرادة في الآية لم تقع، إلا أنا نوافقه على أن الله تعالى ما قسر الخلو لا سلب
اختيارهم، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا له وقصدا، وهذا كما ترى لا يعد في التأويل بل هو أجدر بالتعطيل
فوجب رده وإقرار الظاهر على حاله، نعوذ بالله من زيغ الشيطان وإضلاله، والله الموفق.
254

القول في سورة هود عليه السلام
(بسم الله الرحمن الرحيم)
257

قوله تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) قال (إن قلت: كيف قال على الله رزقها بلفظ
الوجوب إلخ) قال أحمد: كل ما يسديه الله تعالى من رزق لبهيمة أو مكلف في الدنيا أو ثواب في الآخرة فلذلك
كله فضل ولا واجب على الله تعالى، وإن ورد مثل هذه الصيغة فمحمول على إن الله عز وجل لما وعدهم فضله
ووعده خبر وخبره صدق وجب وقوع الموعود: أي يستحيل في العقل ان لا يقع للزوم الخلف في خبر الصادق،
فعبر عن ذلك بما يعبر به عن وجوب التكليف وبينهما هذا الفرق المذكور، هذه قاعدة أهل الحق وقد مر الكلام
عليها عند قوله تعالى - وإنما التوبة على الله - والله الموفق
259

قوله تعالى (يضاعف لهم العذاب ما كان يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) قال (أراد أنهم لفرط
تصامهم عن استماع الحق وكراهتهم له كأنهم الخ) قال أحمد: أهل الحق وإن نفوا تأثير استطاعة العبد وخلصوا
الخلق لقدرة الخالق عز وجل فلا ينفون استطاعة العبد نفسها ولا ما يجده من نفسه من الفرق حالة الحركات القسرية
والاختيارية، وإنما الذي ينفى
الاستطاعة جملة هم المجبرة حقيقة لا أهل السنة والحق مع الزمخشري في هذا الموضع
إلا في غفلته حيث يقول: فيوعوع بها على أهل العدل يعنى الآية المذكورة، وهذه سقطة عظيمة، وهب
أن المجبر غلط في الاستدلال بالآية على معتقدة فكيف يستجيز أن يطلق على إيراده الآية وعوعة وإنما تلا كتاب
الله تعالى غير أن خطأه في تصحيح معتقده الباطل به، وما الزمخشري إلا يتسامح كثيرا فيما يجب من الآداب للكتاب
العزيز، وإنما يليق التسامح إذا كان يفسر شعر امرئ القيس أو الحرث بن حلزة، وأما أدب القرآن فيضيق عن
أسهل من ذلك، والله الموفق.
263

قوله تعالى (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا؟ أفلا تذكرون) قال (شبه
فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع، إلى قوله: على أن تكون الواو الخ) قال
أحمد: بخلافهما على الوجه الأول فإنها لعطف الموصوف على الموصوف، وأما تنظيره الآية بتشبيه امرئ القيس
في كونه شبه تشبيهين اثنين ففيه نظر، فإن امرأ القيس شبه كل واحد من الرطب واليابس تشبيها واحدا، والآية
264

على التفسير الأول شبهت كل واحد من الكافر والمؤمن تشبيهين، وإنما ينظر ببيت امرئ القيس على الوجه الثاني
فإن مقتضاه أن كل واحد منهما شبه تشبيها واحدا ولكن في صفتين متعددتين والأمر في ذلك قريب، والله أعلم.
قوله تعالى (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي
الرأي) قال (هو تعريض بأنهم كانوا أحق منه بالنبوة الخ) قال أحمد: ويحتمل في الوجهين أن يكون المراد أول
265

الرأي، ولكنه ترك الهمز استثقالا إلا أن يكون القارئ بها ياء ليس من مذهبه تسهيل الهمز والمعنيان متقاربان. وقد
زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا بمن اتبعه من وجهين: أحدهما أن المتبعين أراذل ليسوا قدوة ولا أسوة. والثاني أنهم
مع ذلك لم يترووا في اتباعه ولا أمعنوه الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ورية،
وغرض هؤلاء أن لا يقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به، والله أعلم.
266

قوله تعالى (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم). قال (إن
قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين الخ) قال أحمد: ونظير هذه الآية من مسائل الفقهاء قول القائل: أنت طالق
إن شربت إن أكلت، وهى المترجمة بمسألة اعتراض الشرط على الشرط، والمنقول عن الشافعية أنها إن شربت ثم
أكلت لم يحنث، وإن أكلت ثم شربت حنث، وهذا الفرق مبناه على جعل الجزاء للشرط الآخر، أي للذي يليه
ثم جعلها معا جزاء للشرط المتوسط ولذلك سر في العربية لا نطول بذكره، وعليه أعرب الزمخشري هذه الآية
كما رأيت، والله أعلم.
267

قوله تعالى (بسم الله مجراها ومرساها) قال (ويجوز أن يقحم الاسم الخ) قال أحمد: نفور من اعتقاد أن الاسم
هو المسمى، ولو اعتقد ذلك لما جعله مقحما، والله أعلم.
قوله تعالى (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) قال (المراد: إلا الراحم وهو الله تعالى أو لا عاصم اليوم
الخ) قال أحمد: والاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم،
270

ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس والآخران من غير الجنس، وزاد الزمخشري خامسا وهو
لا عاصم إلا مرحوم على أنه من الجنس بتأويل حذف المضاف تقديره:: لامكان عاصم إلا مكان مرحوم، والمراد
بالمنفى التعريض بعدم عصمة الجبل، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة، والكل جائز وبعضها أقرب من بعض،
والله أعلم.
قوله تعالى (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي وقيل
بعدا للقوم الظالمين) قال (نداء الأرض والسماء بما ينادى به العاقل الخ) قال أحمد: ومن هذا النمط في السكوت عن
ذكر الموصوف اكتفاء بصفاته لانفراده بها السكوت عن ذكر الأوصاف أحيانا اكتفاء بذكر الموصوف لتبينه بها
وتوحده فيها، وأنه متى ذكر فكأنها قد ذكرت بذكره في مثل قوله - وهو الله في السماوات وفى الأرض - الآية،
والمراد وهو الله الموصوف بصفات الكمال المشهود بها في العالمين، ومنه * أنا أبو النجم وشعري * ولقد
تحيل الشعراء على التعلق بأذيال هذه المعاني اللطيفة فقال أبو الطيب يمدح عضد الدولة:
لا تحمدنها واحمدن هماما إذ لم يسم حامد سواكا
يعنى لا تمدح نفسك فإنك المنفرد بالممادح، وحتى إذا ذكرت ولم يسم المعنى بها لم يسبق إلى ذهن أحد غيرك لتفردك بها.
271

قوله تعالى (قال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) قال (أي إعلم الحكام
وأعدلهم لأنه لافضل لحاكم على غيره إلا بالعلم الخ) قال أحمد: ثم حدث بعد الزمخشري ترفع عن اقضى القضاة إلى
قاضى القضاة، والذي تلاحظوا به في ارتفاع هذه الثانية على الأولى أن الأولى تقتضى مشاركة القضاة لأقضاهم
في الوصف، وأن يزاد عليهم فترفعوا أن يشركهم أحد في وصفهم ممن دونهم في المنصب، فعدلوا عما يشاركون
فيه إلى ما ليس كذلك، فأفردوا رئيسهم بتلقيبه بقاضي القضاة، أي هو الذي يقضى بين القضاة ولا يشاركه منهم
أحد في وصفه، وجعلوا الذي يليه في الرتبة أقضى القضاة إلا أنهم إنما يعنون قاضى قضاة زمانه أو إقليمه، وإذا
جاز أن يطلق على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أقضى قضاة الصحابة في زمانه كما أطلقه عليه
النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال (أقضاكم على) فدخل في المخاطبين القضاة: وغيرهم، فلا حرج إن شاء الله
إن يطلق على أعدل قضاة الزمان أو الإقليم وأعلمهم قاضى القضاة وأقضى القضاة: أي قضاة زمانه وبلده، وكل
قرن ناجم في زمن فهو شبيه زمن فيه بدا هذا اللقب.
272

قوله تعالى (إنه عمل غير صالح) قال (فهلا قيل إنه عمل فاسد؟ قلت: لما نفاه عن أهله نفى عنه الخ) قال
أحمد: ولهذا المعنى والله أعلم قيل له عليه الصلاة السلام - وأنذر عشيرتك الأقربين - وإن كان مأمورا بالانذار
على العموم، ولكن لما كانت أهلية النبي عليه الصلاة والسلام مظنة الاتكال والفتور عن العمل خص أهله
بالإنذار إيذانا بذلك، والله أعلم، ولهذا لما أنزلت أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال - إني لا أملك لكم من الله
شيئا - أو قال ذلك لكل واحد منهم بخصوصه.
قوله تعالى (فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) قال (فإن قلت: قدو عده الله
أن ينجى أهله وما كان عنده الخ) قال أحمد: وفى كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام
صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك، وليس الأمر كما تخيله الزمخشري. ونحن نوضح الحق
في الآية منزلا على نصها مع تنزيه نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد نوح أولا تنحية
273

أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه المذكور ولا مطلعا على باطن أمره، بل معتقدا بظاهر
الحال أنه مؤمن بقى على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل
ويدخل في المستثنين، فسأل الله فيه بناء على ذلك، فتبين له أنه في علمه من المستثنين، وأنه هو لاعلم له بذلك
فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إبانة عذر أولى منه إن يكون عتبا، فإن نوح عليه السلام لا يكلفه الله علما استأثر
به غيبا. وأما قوله - إني أعظك أن تكون من الجاهلين - فالمراد منه النهى عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن
أعلمه الله باطن أمره، وأنه وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه
عليه السلام على سمة العصمة، والموعظة لا تستدعى وقوع ذنب، بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال،
ولذلك امتثل عليه الصلاة والسلام ذلك واستعاذ بالله أن يقع منه ما نهى عنه، والله أعلم.
274

قوله تعالى (قال إني أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) قال
(فإن قلت: هلا قيل أشهد الله وأشهدكم الخ) قال أحمد: وتلخيص ما قاله أن صيغة الخبر لا تحتمل سوى الإخبار بوقوع
الإشهاد منه، فلما كان إشهاده لله واقعا محققا عبر عنه بصيغة الخبر لأنه إشهاد صحيح ثابت، عبر في جانبهم
بصيغة الأمر التي تتضمن الاستهانة بدينهم وقلة المبالاة بهم وهو مراده في هذا المقام معهم، ويحتمل أن يكون
إشهاده لهم حقيقة والغرض إقامة الحجة عليهم، وإنما عدل إلى صيغة الأمر عن صيغة الخبر للتمييز بين خطابه لله
تعالى وخطابة لهم بأن يعبر عن خطاب لله تعالى بصيغة الخبر التي هي أجل وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر
والله الموفق للصواب.
276

قوله تعالى (ألا بعد لعاد قوم هود) قال (إن قلت: ما الفائدة في هذا البيان وجعل قوم هود عطف بيان على
عاد الخ) قال أحمد: فيه أيضا فائدتان جليتان أحداهما النسبة بذكر هود الذي أنما استحقوا الهلاك بسببه على
موجب الدعاء عليهم وكانه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه. والأخرى تناسب الآي بذلك فإن قبلها - واتبعوا -
278

أمر كل جبار عنيد - وقيل ذلك حفيظ وغليظ وغير ذلك مما هو على وزن فعيل المناسب لفعول في القوافي، والله أعلم.
279

قوله تعالى (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى
أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) الآية. قال قيل إنه كان
ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروها الخ) قال أحمد: وقد وردت قصة إبراهيم هذه في ثلاثة
مواضع: هذا أحدها، وهو دال على أنه إنما أوجس منهم خيفة لعلمه أنهم ملائكة وعدم علمه فيم جاءوا. الثاني
في الحجر قوله - ونبئهم من ضيف إبراهيم - إلى قوله - لا توجل إنا نبشرك - فلم يطمئنوا باعلامه أنهم ملائكة ولكن
بأنهم مبشرون له، فدل على استشعارهم أنه علم كونهم ملائكة ووجل مما جاءوا فيه. الثالث في الذاريات
- فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه - فهو أيضا كذلك، وأما لوط فلم يشعر إنهم ملائكة حتى أعلموه
بذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى - قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك - فأول ما أعلموا به أنهم رسل،
فالفرق بين هذه الآية وبين آي إبراهيم مصداق لأن إبراهيم علم كونهم ملائكة ولوطا لم يعلم ذلك، ولا يبعد من
فضل إبراهيم على لوط أن يبعد على فراسته أن يعلم أنهم ملائكة دون لوط عليها السلام. عاد كلامه، قال (ومعنى
أوجس أضمر وإنما قالوا لا تخف لأنهم رأوا أثر الخوف الخ) قال أحمد: وهذا التأويل وهم فيه الزمخشري والله أعلم
280

لأنهم إنما علموا خوفه ووجله بإخباره إياهم بذلك، ويدل عليه قوله تعالى في آية أخرى قال - إنا منكم
وجلون قالوا لا توجل - القصة واحدة، والله الموفق للصواب. عاد كلامه، قال (وضحك زوجته لأنها سرت
بذهاب الخيفة الخ) قال أحمد: ويبعد هذا التأويل أنها قالت يا ويلتاه بعد ألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا إن هذا
لشئ عجيب - فلو كان حيضها قبل بشارتها لما تعجبت، إذ لا عجب في حمل من تحيض والحيض في العادة مهماز
على إمكان الحمل، والله الموفق.
281

قوله تعالى (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم) قال (إن قلت: النهى عن
النقصان أمر بالإيفاء الخ) قال أحمد: ولمن قال إن الأمر بالشئ ليس نهيا عن ضده أن يستدل بهذه الآية، فإن
الأمر لو كان عين النهى عن الضد لكان وروده عقيبه تكرارا، وفى كلام الزمخشري ما يدل على أنه وهم، فاعتقد
أن النهى في الآية قبل الأمر وذلك سهو وغفلة، وكل مأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم، وأما قوله إن الإيفاء
حسن في العقول فتفريغ على قاعدة التحسين والتقبيح، وقد سبق بطلانها وبينا أن التحسين والتقبيح موظفان من
الشرع ولا مجال للعقل في حكم سمعي.
قوله تعالى (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) قال (بقية الله ما يبقى لكم من الحلال الخ) قال أحمد: المنقول
عن المعتزلة أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة لأنها ولا أمرا، وقد جوز بعضهم خطابهم بالنهى. وهذه الآية
285

تدل على أنهم مخاطبون في حال الكفر بشرط الإيمان، وقد قررها الزمخشري على ذلك. عاد كلامه، قال (فإن
قلت: بقية الله خير للكفرة لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس الخ) قال أحمد: وهذا أيضا من اقرار الزمخشري للآية
على ظاهرها * ومعنى السؤال أن الكفار إذا قدرنا خطابهم بالفروع انتفعوا باجتناب المنهيات في الدار الآخرة لأن
ثمرة الخلاف في مسألة خطاب الكفار إنما تظهر في الدار الآخرة، وإذا كانوا ينتفعون بذلك فلا معنى لاشتراط
الإيمان، والحال مع وجوده وعدمه في الانتفاع بالامتثال سواء. ومعنى الجواب أن ظهور الانتفاع بالامتثال إنما
يتحقق مع الإيمان وأما مع الكفر فهم مخلدون في العذاب، فإنما تظهر الفائدة على خفاء في تحقيق مامن العذاب،
والله الموفق. عاد كلامه قال (ويجوز أن يراد ما يبقى لكم من الطاعات عند الله الخ) قال أحمد: قد تقدم أن عقيدة
أهل السنة أن لا خالق ولا رازق إلا الله إيمانا بقوله - هل من خالق غير الله يرزقكم - وإذا كان الرزق عبارة عن
كل ما يقيم به الخلق بنيتهم لزم اندراج الحرام في هذا الإطلاق عقدا وحقيقة، وأما إطلاق القول بإضافته على
الخصوص إلى الله تعالى فأمر خارج عن الاعتقاد راجع إلى الاتباع، والله الموفق.
قوله تعالى (قالوا يا شعيب أصواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) قال (معناه:
286

تأمرك بتكليف أن نترك ما يعبد آباؤنا إلى قوله بتاء الخطاب فيهما) قال أحمد: فعلى هذه القراءة يكون أن نفعل
معطوفا على أن نترك، وعلى المشهور لا يجوز ذلك والله أعلم لاستحالة المعنى، فيتعين العطف فيها على ما يعبد
كأنهم قالوا: صلواتك تأمرك أن نترك عبادة آبائنا أو معبود آبائنا، على أنها مصدرية أو موصولة، ثم قالوا:
أو أن نفعل: أي أو أن نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء، هذه الطيفة فتنبه لها، ولا حاجة إلى إضمار الزمخشري لمضاف
تقديره: تأمرك بتكليف أن تترك، واحتجاجه لذلك بأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره إذا والمسألة فرع من فروع
خلق الأفعال، ومع ذلك كله فتقدير المضاف في الآية متوجه ليس بناء على القراءة المذكورة ولكن لأن عرف
التخاطب في مثله يقتضى ذلك، والله أعلم.
قوله تعالى (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) قال (ما استطعت ظرف أي مدة استطاعتي للإصلاح وما
دمت متمكنا منه)، ويجوز أن يكون على حذف مضاف تقديره: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو يكون
مفعولا للمصدر كقوله: * ضعيف النكاية أعداءه * قال أحمد: والظاهر أنه ظرف كهو في قوله - فاتقوا
287

الله ما استطعتم - وأما جعله مفعولا للمصدر وقد عرف بالألف واللام فبعيد، لأن إعمال المصدر المعرف في المفعول
الصريح ليس بذاك: قالوا: ولم يوجد في القرآن عاملا في مفعول صريح ولا في غيره إلا في قوله - لا يحب الله
الجهر بالسوء - فأعمله في الجار والعدول عن إقفاء الأعراب إلى وجوهه، وهى ممكنة عتيدة متعين خصوصا في
أفصح الكلام، والله أعلم.
288

قوله تعالى (إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك) قال (فيه معنى قولهم ضعيفا: أي لا قوة لك ولا عز
فيما بيننا الخ) قال أحمد: وهذا من محاسن نكته الدالة على أنه كان مليا بالحذقة في علم البيان، والله المستعان.
قوله تعالى (إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كذاب وارتقبوا إني معكم رقيب) قال
289

(إن قلت: قد ذكر عملهم على مكانتهم الخ) قال أحمد: والضاهر والله أعلم أن الكلامين جميعا لهم، فالأول وهو
قوله - من يأتيه عذاب يخزيه - مضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب ويكون من باب عطف الصفة
على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وإنما يعنى المخاطب في الكلامين
فإذا ثبت صرف الكلامين إليهم لم يخل ذلك من دلالة على ذكر عاقبته هو، لأن أحد الفريقين إذا كان مبطلا فالآخر
هو المحق قطعا، فذكره لإحدى العاقبتين صريحا يفهم ذكر الأخرى تعريضا، والتعريض كما علمت في لكثير من
مواضعه أبلغ وأوقع من التصريح وهذا منه. والذي يدل على أن الكلامين لهما، وأن عاقبة أمر شعيب لم تذكر
استغناء عنها بذكر عاقبتهم كما بيناه في الآية التي في أول هذه السورة وهى قوله تعالى - قال إن تسخروا منا فانا
نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم - ألا تراه كيف اكتفى
بذلك عن أن يقول ومن هو على خلاف ذلك، وكذلك قوله في سورة الأنعام - قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني
عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار - فذكر هناك أيضا إحدى العاقبتين، لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة -
الخير، ومتى أطلقت فلا يعنى إلا ذلك كقوله - والعاقبة للمتقين - واستغنى عن ذكر مقابلتها والله أعلم، فتأمل
هذا الفصل فإنه تحفة لمن همه نظم درر الكتاب العزيز وضم بعضها إلى بعض، والله الموفق للصواب.
290

قوله تعالى (ذلك يوم مجموع له الناس) قال: (فيه إن قلت: لم عدل عن الفعل إلى اسم المفعول الخ) قال
أحمد: ولهذا السر ورد قوله تعالى - إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق والطير محشورة - فاستعمل
الفعل حيث يليق به، واسم المفعول حيث يحسن استعماله أيضا الخ.
قوله تعالى (وذلك يوم مشهود) قال (المراد مشهود فيه فاتسع في الظروف الخ) قال أحمد: يكون المشهود
الذي هو المفعول به مسكوتا عنه مبهما، ومن الإبهام ما يكون تفخيما وهذا مكانه.
292

قوله تعالى (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) قال (أي حظهم من العذاب، وإنما نصب غير منقوص حالا
من النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل، إلا تراك تقول وفيته شطر حقه وحقه كاملا)
قال أحمد: وهم والله أعلم فإن التوفية تستلزم عدم نقصان الموفى كاملا كان أو ناقصا، فقولك وفيته نصف حقه
يستلزم عدم نقصانه، فما وجه انتصابه حالا عنه. والأوجه أن يقال: استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل
التوفي بمعنى بمنى الأخذ، ومن قال: أعطيت فلانا حقه كان جديرا أن يؤكده بقوله غير منقوص، والله أعلم.
295

القول في سورة يوسف عليه السلام
(بسم الله الرحمن الرحيم)
300

قوله تعالى (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) قال (إن قلت: ما معنى تكرار
رأيت الخ؟) قال أحمد: وأحسن من ذلك أن الكلام طال بين الفعل والحال، فطرى ذكر الفعل لمناسبة الحال،
وهى المقصودة، إذ الآية السجود كانت، والله أعلم.
301

قوله تعالى (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة) قال (اللام للتوكيد دخلت للإشعار
بأن زيادة محبة أبيهم لهما أمر ثابت الخ) قال أحمد: وهذه تؤيد قراءة ابن مروان - وأن هؤلاء بناتي هن أطهر
لكم - بالنصب، وقد قال سيبويه فيها: اجتبى ابن مروان في لحنه: أي تمكن، وحيث تأيدت بقراءة أمير
المؤمنين كرم الله وجهه فلا بد من التماس المحمل الصحيح لها، وليس ذلك ببعيد إن شاء الله فنقول: لو قالوا
ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن نحن على طريقة: أنا أبو النجم وشعري شعري، ونحو أنا أنا وأنت أنت،
لم يكن في فصاحته مقال، قد علمت أن معنى أنا أنا: أي أنا الموصوف بالأوصاف الشهيرة التي استغنى عن
ذكرها، فلا يعد والحالة هذه في حذف الخبر لمساواته المبتدأ وعدم زيادة عليه لفظا وراحة من تكرار اللفظ بعينه،
والسياق يرشد إلى المحذوف، وإذا كان كذلك فقول القائلين ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا ونحن معناه: ونحن
نحن، ولكن استغنوا عن الخبر للسر الذي ذكرناه، فقولهم ونحن كلام تام بالتقدير المذكور، فال غرو في وقوع
الحال بعده، وهذا بعينه يجرى في قوله - هؤلاء بناتي هن أطهر لكم - فقوله هن في حكم الكلام التام والمراد:
هؤلاء بناتي هن المشهورات بالأوصاف الحميدة الظاهرة، وأصل الكلام هن هن فوقع الحال بعد التمام، والله أعلم.
304

قول تعالى (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا لئن أكله الذئب
ونحن عصبة أنا إذا لخاسرون) قال (اعتذر لهم بأمرين: أحدهما حزنه لمفارقته، والثاني خوفه عليه من الذئب إذا
غفلوا عنه الخ) قال أحمد: وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه لأنه مظنة هلاكه، وأما حزنه لمفارقته
ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل فامر سهل، فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين
عليه، والله أعلم.
306

قوله تعالى (وجاءوا أباهم عشاء يبكون) قال (روى أنه لما سمع أصواتهم قال يا بني هل أصابكم في غنمكم
شئ؟ قالوا لا الخ) قال أحمد: وقواه على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب عليه السلام
هلاكه بسببه أولا وهو أكل الذئب إياه فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم - وأخاف أن يأكله الذئب -
وكثيرا ما تتلقف الأعذار الباطلة من قلق المخاطب المعتذر إليه حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق
الإنكار.
307

قوله تعالى (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) قال (المعدودة كناية عن القليلة الخ) قال أحمد: ومن
التعبير عن القلة بالعدد الدعوة المأثورة على الكفرة: اللهم أحصهم عددا واستأصلهم بددا ولا تبق منهم أحدا،
فالمدعوا به وإن كان إحصاءهم عددا في الظاهر، إلا أن هذا ليس مرادا لأن الله تعالى أحصى كل شئ عددا
وأحاط به علما، فلا بد من مقصود وراء ذلك وهو لازم العدد ذلك القلة، فما كان كل قليل معدودا وكل كثير
غير معدود دعا عليهم بالقلة وعبر عنها بلازمها وهو الإحصاء، والله أعلم.
309

قوله تعالى (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم) قال (إن قلت: لم قالت ما قالت
غير مصرحة بذكر يوسف الخ؟) قال أحمد: أو أظهرت بهذا الإجمال الحياء والحشمة أن تقول لبعلها هذا أراد بي
سوءا، ولذلك أيضا كنت بالسوء عما أضمرته من الهناة مبالغة في المكر والكيد وإبعاد التهمة عنها ما يتوقى ما يشعر
منها بالتبرج والقحة، وعلى الضد من مقصودها، وإن وافق ملاحظتها بحشمة الإجمال قول ابنة شعيب تمدح
موسى عليه السلام فيما حكى الله عنها - قالت أحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين - ولم تقل
إنه قوى أمين حياء من التعيين وحشمة وخفرا، ولكن هذه إنما بعثها على هذا الأدب شيمة الحياء، وامرأة العزيز
إنما بعثها عليه التكلف والاستعمال لذلك الغرض الفاسد من المكر، والله أعلم.
قوله تعالى (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه
313

قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) قال (إن قلت: لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة الخ) قال أحمد:
مهما قدره من ذلك في اتباعه لها يحتمل مثله في اتباعها له، فإنها إنما تقد من قميصه من قبل بتقدير أن يكون
اجتذبها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة أن تكون اجتذبته حتى
صارا متقابلين ثم جذبت قميصه إليها من قبل، بل ههنا أظهر لأن الموجب لقد القميص غالبا الجذب لا الدفع.
عاد كلامه، قال (والثاني أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فينقد) قال أحمد: وهذا بعينه محتمل
لو كانت هي التابعة وهو فار منها فانقد قميصه في إسراعه للفرار والله إعلم، فليس كلام الزمخشري في هذا الفصل
بذاك. والحق والله ولى التوفيق أن الشاهد المذكور إن كان صبيا في المهد كما ورد في بعض الحديث فالآية في
مجرد كلامه قبل أوانه، حتى لو قال صدق يوسف وكذبت لكفى برهانا على صدقه عليه السلام، كما كان مجرد
إخبار عيسى عليه لسلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تبقى المناسبة بين الإمارة المنصوبة وما رتب عليها،
لأن العمدة في الدلالة نصبها لا مناسبتها، وإن كان الشاهد بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر
فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له وإقامة الحق كما ذكر الزمخشري، فهذا والله أعلم كان من حقه أن يصرح بما
رأى فيصدق يوسف ويكذبها، ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من
دبر، فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل على علم بأنه لم ينقد من قبل حتى
ينفى عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفصيحة وينصفهما جميعا فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه كما ذكر
314

أمارة على صدقه المعلوم وجوده، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقا بأن
الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها وهذه اللطيفة بعينها والله أعلم، هي التي رعاها مؤمن آل فرعون في
قوله - وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض لذي يعدكم - فقدم قسم الكذب على قسم الصدق
إزاحة للتهمة التي خشى أن تتطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه هو الواقع
فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة، ومن ثم قال - بعض الذي يعدكم - ولم يقل كل ما يعدكم، تعريضا بأنه
معهم عليه وأنه حريص على أن يبخسه حقه، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه،
لأنه لو بدا به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه والله أعلم. فقصد هذا الشاهد الأمارة فقط والمناسبة فيها
محققة، وأما الإمارة الأولى فليست مقصودة، وإنما ذكرها توطئة كما تقدم فلم يلتمس لها مناسبة جليلة صحيحة على
اليقين، وإنما هي كالفرض والتقدير والله أعلم. وكأنه قال: إن كان قميصه قد من قبل فهي صادقة، لكنه
يعلم انتفاء الأمارة المذكورة فعلق صدقها على محال وهو وجود قده من قبل حالة عدمه، فهذا التقرير هو الصواب
والحق اللباب، والله الموفق. وأما إن كان الشاهد الحكيم الذي كان الملك يرجع إليه ويستشيره كما ورد في بعض
التفاسير فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عهدة الحكيم، وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر
دليل على إدباره عنها، وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، والله أعلم.
قوله تعالى (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) قال (الضمير راجع إلى قولها - ما جزاء من أراد بأهلك سوء -
الخ) قال أحمد: وفيما قاله هذا العالم نظر، لأن الآية التي ذكر فيها كيد الشيطان من قول الله تعالى غير محكى،
وأما هذه الآية فكيد النساء فيها من قول العزيز، ولكن حكاه الله تعالى عنه فيحتمل حكايته عنه أن يكون تصحيحا
له، ويحتمل أن لا يكون المراد تصويبه، وأيضا فإن كيد الشيطان مذكور في الآية مقابلا لكيد الله تعالى فكان
ضعيفا بالنسبة إليه، ألا ترى أول الآية - الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل
الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا - وأيضا فإن الكيد الذي يتعاطاه النساء وغيرهن
مستفاد من الشيطان بوسوسته وتسويله، وشواهد الشرع قائمة على ذلك، فلا يتصور حينئذ أن يكون كيدهن
أعظم من كيده، والله أعلم.
315

قوله تعالى (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) قال (نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه الخ) قال
317

أحمد: تقدم القول في مسألة التفضيل شافيا، والزمخشري لا يدعه التعصب للمعتقد الافسد أن يحمله على مثل هذه
المشافهات يرمى بها أهل الحق فينسب إليهم الإجبار والخسار والمكابرة في الضروريات وجحد الحقائق تعكيسا،
وهذا كله برآء منه وحسبه من المقابلة بذلك خطؤه في اعتقاد أن تفضيل الملك عند قائله ليس ضروريا ولا عقليا
نظريا ولكن سمعيا، وقد قنع في الاستدلال على هذه العقيدة بالضرورة التي ادعى أنها مركوزة في الطباع، ثم
حكم بأن كل مركوز في الطباع حق وخصوصا والكلام في طباع النساء القائلات ما هذا بشرا، وإذا كان كل
مركوز في الطباع حقا فما ركز فيها حب الشهوات وإيثار العاجلة وجميع أمهات الذنوب مركوز في الطباع، أفيكون
ذلك حقا إلا عند ناظر بعين الهوى أعشى في سبيل الهدى، والله ولى التوفيق.
قوله تعالى (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه) قال (لم لم تقل فهذا وهو حاضر الخ) قال أحمد: وبهذا أجبت عما
أورده من السؤال في قوله تعالى أول البقرة - ألم ذلك الكتاب - لما جعل الإشارة إلى الحروف المذكورة فقال:
إن قلت: كيف أشار إليها وهى قريبة كما يشار إلى البعيد؟ وأجاب هو بأن كل متقض بعيد، وأجب أنا بأن الإشارة
بذلك إلى بعد منزلة هذا الكتاب بالنسبة إلى كتاب الله تعالى.
318

قوله تعالى (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) قال (يحتمل أن يكون مرادهم بالأحلام
المنامات الخ) قال أحمد: وهذا هو الظاهر. وحمل الكلام على الأول يصيره من وادى:
* على لأحب لا يهتدى بمناره * كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين، وقول الملك لهم
أولا: إن كنتم للرؤيا تعبرون، دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأنه أتى بكلمة الشك، وجاء
اعترافهم القصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامه عن كونهم عالمين بالرؤيا أولا، وقول الفتى
أنا أنبئكم بتأويله - إلى قوله - لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون - دليل أيضا على ذلك، والله أعلم.
324

قوله تعالى (فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن
عليم) قال (إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك لتظهر براءة ساحته عما قرف به الخ) قال أحمد: لقد مدحه النبي صلى
الله عليه وسلم على هذه الأناة بقوله (ولو لبثت في السجن بعض ما لبث يوسف لأجبت الداعي) وكان في طي هذه
المدحة بالإناءة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم من أنه هم بزليخا هما يؤاخذ به، لأنه إذا صبر
وتثبت فيما له أن لا يصبر فيه وهو الخروج من السجن مع أن الدواعي متوفرة على الخروج منه، فلأن يصبر فيما
عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر، والله أعلم. عاد كلامه، قال (وإنما قال فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن
أيديهن) ولم يكشف له عن القصة ولا أوضحها له لأن السؤال مجملا مما يهيج الملك على الكشف والبحث والاستعلام
ويحصل البراءة له عليه السلام من ذلك، والله الموفق.
قوله تعالى (قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه
وإنه لمن الصادقين) قال (لا مزيد على شهادتهن له بالبراءة واعترافهن على أنفسهن الخ) قال أحمد: الصحيح من
مذاهب أهل السنة تنزيه الأنبياء عن الكبائر والصغائر جميعا، وتتبع الآي المشعرة بوقوع الصغائر بالتأويل،
وذهب منهم طائفة مع القدرية إلى تجويز الصغائر عليهم بشرط أن لا تكون منفرة، والصحيح عندنا في قصة
يوسف عليه السلام أنه مبرأ عن الوقوع فيما يؤاخذ به، وأن الوقف عند قوله همت به ثم يبتدأ وهم بها لولا أن
رأى برهان ربه كما تقول: قتلت زيدا لولا أنني أخاف الله، فلا يكون الهم واقعا لوجود المنافع منه وهو رؤية
326

البرهان، فإن كان الزمخشري يعرض بأهل السنة فقد بينا معتقدهم، وإن كان يعرض بالمجبرة والحشوية حقيقة
فشأنه وإياهم. عاد كلامه، قال (وقوله - ذلك ليعلم إني لم أخنه بالغيب الخ - من كلام يوسف عليه السلام،
والمعنى: أن ذلك الجد في ظهور البراء ليعلم الخ) قال أحمد: وإرادته لعموم الأحوال أدخل في تنزيهه وأدل على
أن الغرض بهذا الكلام التواضع منه والتبري من تزكية النفس، فهو أدل على هذا المعنى من حمله على الحادثة
الخاصة والله أعلم. عاد كلامه، قال (وقيل ذلك كله كلام امرأة العزيز أي ذلك الذي قلت الخ) قال أحمد:
وإنما يجرى الكلام على هذا الوجه إذا ألجأ إليه محوج كقوله - فماذا تأمرون - إذ لا يمكن جعله من قول الملأ بوجه،
فتعين أن يصرف الضمير عنه إلى فرعون، وأما هذه الآية فهي تتلو قوله - وإنه لمن الصادقين - إلى ما قبل ذلك من
الضمائر العائدة إلى يوسف عليه السلام قطعا، ولا ضرورة تدعو إلى حمل الضمير في ليعلم على العزيز وجعله من
كلام يوسف، وقد تضمنته الآية المصدرة يقول زليخا وذلك قوله: قالت امرأة العزيز، وفى سياق الآية ما يرشد
327

إلى أن هذا القول جرى منها ويوسف عليه السلام بعد في السجن لم يحضر إلى الملك، وأنه لما تحتمت براءته بقولها
بعث يخرجه من السجن فذلك قوله - وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي -. عاد كلامه، قال (ولقد لفقت
المبطلة روايات مصنوعة الخ) قال أحمد: ولقد صدق في التوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن
المبطلة من كل طائفة، كما لفقت القدرية على قصة موسى حين طلب الرؤية وخر صعقا أن الملائكة جعلت تلكزه
بأرجلها وتقول: يا ابن النساء الحيض طمعت في رؤية رب العزة، كل ذلك ليتم لهم غرضهم في أنه طلب لهم محالا
في العقول على الله تعالى - ويحق الله الحق بكلماته - ويبطل الباطل - والله الموفق.
328

قوله تعالى (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون) قال (إنما أنكروه لبعد العهد وتغيير
الصورة الخ) قال أحمد: وتوارد القادمين في دخولهم عليه ومعرفته لهم عند ذلك تدل على أن مجرد دخولهم عليه
استعقبته المعرفة بلا مهلة، والله أعلم.
330

قوله تعالى (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله) قال (معناه: إن إرساله معكم مناف الخ) قال
أحمد: لن للنفي المؤكد. وأما قول الزمخشري في المنافاة له فله وراء ذلك غرض، إنما يطلع عليه من قتل كلامه
علما، وذلك أنه اعتمد في إحالة الرؤيا على الله أن قوله تعالى - لن تراني - معناه: أن الرؤية منافية لحالي، وجعل
هذه المنافاة من مقتضى لن، ثم التزام ذلك في هذه اللفظة حيثما وقعت كل ذلك لتمرن الأذهان على أن هذا مقتضى
لن وقد سبق وجه الرد عليه في ذلك. عاد كلامه، قال (وقوله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم - معناه: إلا أن تغلبوا
فلا تطيقوا الإتيان الخ) قال أحمد: وإنما اختص هذا النوع من الاستثناء بالنفي لأن المستثنى منه مسكوت عنه والنفي
عام، إذ يلزم من نفى الإتيان مثلا نفى جميع العوارض اللاحقة به ضرورة، فكأنه لعمومه مقرون بذكر المستثنى
منه، ولا كذلك الإتيان فإنه لا إشعار له بعموم الأحوال لأنه لا يتوقف إلا على أحدها، والله أعلم، ولقد صدقت
هذه القصة المثل السائر وهو قولهم: البلاء موكل بالمنطق، فإن يعقوب عليه السلام قال أولا في حق يوسف
- وأخاف أن يأكله الذئب - فابتلى من ناحية هذا القول، وقال ههنا ثانيا - إلا أن يحاط بكم - أي تغلبوا عليه،
فابتلى أيضا بذلك وأحيط بهم وغلبوا عليه.
332

قوله تعالى (وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) قال (معناه: وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما
علمناه من سرقته الخ) قال أحمد: إما أن يكون مقتضى شرعهم حينئذ أن مجرد وجود الشئ بيد المدعى عليه بعد
إنكاره يوجب له أحكام السارق فيكون العلم على ظاهره إذا، وإما أن لا يكون كذلك، فهذا القدر من مجرد
وجوده في رحله لا يوجب علم كونه سارقا، وغايته أن يفيد طنا بيتا، فيكون المراد بالعلم ههنا الظن، وقد ورد
مثله ويكون قولهم - وما كنا للغيب حافظين - تنبيها على أن مستندهم فيما قالوه ظن بمقتضى ظاهر الحال. وأما
كشف باطن الأمر الموجب للعلم فليسوا يدعونه عليه. عاد كلامه، قال (وقولهم - وما كنا للغيب حافظين -
معناه: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق الخ) قال أحمد: وإنما تلتئم القراءتان على التأويل الذي ذكرته،
وهو أنهم إنما أضافوا إليه السرقة ظنا بمقتضى ظاهر الحال، واحترزوا أن يعتقد أنهم علموا ذلك حقيقة فقالوا
- وما كنا للغيب حافظين - فالقراءتان على التأويل المذكور يقتضيان تبرئتهم من دعوى العلم الجازم عليه، وإما
على غيره من التأويلات المذكورة فلا تنتظم القراءتان، لأن مقتضى الأولى الجزم عليه بالسرقة علما، ومقتضى
الثانية التبري من الجزم، والله أعلم
337

قوله تعالى (بل سولت لكم أنفسكم أمرا) قال: معناه أن هذا شئ أرتموه الخ. قال أحمد وهذا من
الزمخشري إسلاف جواب عن السؤال كأن قائلا يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمرا بلا مراء، وأما
في هذه الوقعة الثانية فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته، وما تركوه بمصر
إلا مغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانيا - بل سولت لكم أنفسكم أمرا - كما قال لهم أولا. وإذا ورد السؤال
على هذا التقرير فلا بد من زيد بسط في الجواب فنقول: كانوا عند يعقوب التهمة وتقويها وهى أخذ الملك له في
السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده لا من دين غيره من الناس ولا من عادتهم، وإلى ذلك وقعت
الإشارة بقوله تعالى - ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك - تنبيها من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن
الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بد ظهور السرقة تعمدا ليتخلف أخوهم، وكان الواقع
أنهم استفتوا من قبل أن يدعى عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا واتهام
من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لاحرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد، ويحتمل والله أعلم أن
يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة
من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه،
فإن كان شرعهم مثل شرعنا في ذلك ففتواهم إذا غير محررة، وهو إشعار بأنهم كانوا حراصا على ثبوت السرقة
338

عليه، ويؤكد ذلك قولهم - إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل - يؤكدون بذلك ثبوت السرقة عليه والله أعلم.
وقوله لهم - بل سولت لكم أنفسكم أمرا - واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضى ذلك مخالفا لشرعنا،
فالعمدة على الجواب الأول، والله المستعان.
339

قوله تعالى (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) قال (أتاهم من جهة الدين وكان حليما
340

موفقا فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الخ) قال أحمد: ومن تلطفه بهم قوله - إذ أنتم جاهلون - كالاعتذار
عنهم، لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه أسهل من فعله على علم، وهم لو ضربوا في طريق الاعتذار لم يلفوا
عذرا كهذا، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال - فعلتها إذا وأنا من الضالين -
وروى أنهم لما قالوا مسنا وأهلنا الضر وتضرعوا إليه ارفضت عيناه ثم قال هذا القول. وقيل أدوا إليه كتابا:
من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر، أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا
البلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمى إلى النار ليحرق فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبى فوضعت
المدية في قفاه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلى فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني
بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت
أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا فقالوا إنه سرق وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته
على وإلا دعوت عليك دعوة تبلغ السابع من ولدك والسلام) فلما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: اصبر كما
341

صبروا تظفر كما ظفروا. قال (فإن قلت: بم تعلق اليوم في قوله - لا تثريب عليكم اليوم - الخ) قال أحمد:
وهذا المعنى إنما يتوجه على الأعراب الأول وهو الأوجه، ألا ترى إلى قولهم بعد ذلك - يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا
كنا خاطئين - وقوله - - سوف استغفر لكم ربى - دل على أنهم كانوا بعد في عهدة الذنب، ولو كان متعلقا بيغفر
للزم أن يقطعوا بغفران ذنبهم حينئذ بإخبار النبي الصديق، ويحتمل أن يقال إنما أراد مغفرة ما يرجع إلى حقه دون
حق أبيه، إذ الإثم كان مشتركا بينهم، والله أعلم.
342

قوله تعالى (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) قال (معناه: يئسوا من النصر وظنوا
أن أنفسهم كذبتهم الخ) قال أحمد: ولا يلزم أن يكون الله قد وعدهم بالنصر في الدنيا، بل كانوا يظنون ذلك
ويرجونه لا عن أخبار ووحى. عاد كلامه، قال (ونقل عن ابن عباس أنه قال فظنوا حين ضعفوا وغلبوا الخ)
قال أحمد: وهذا أيضا تأويل حسن ينظم بين القراءتين، لأن ظن الأمم كذب رسلهم تكذيب لهم فيؤدى مؤدى
قراءة التشديد.
347

القول في سورة الرعد
(بسم الله الرحمن الرحيم)
348

قوله تعالى (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) قال (ومحل على ظلمهم الحال بمعنى ظالمين لأنفسهم
الخ) قال أحمد: والوجه الحق بقاء الوعد على إطلاقه إلا حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد، فإن ظلمه:
أعني شركه لا يغفر، وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة، والزمخشري يبنى على عقيدته التي وضح فسادها في
استحالة الغفران لصاحب الكبائر وإن كان موحدا إلا بالتوبة فيقيد مطلقا ويحجر واسعا، والله الموفق.
350

قوله تعالى (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب النهار) قال فيه (إن
قلت: كان من حق الكلام أن يقال: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار الخ) قال أحمد: فمقتضى
السؤال الذي أورده الزمخشري أن تكون الواو عاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى، ومقتضى ما أجاب به أن
يعطف أحد الموصوفين على الآخرى، وتحتمل الآية وجها آخر وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية:
والمعنى: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار، وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع،
وخصوصا وقد تكرر الموصول في الآية ثلاثا، ومنه قوله تعالى - وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم - والأصل ولا
ما يفعل بكم، وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه، لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول
بواسطة العاطف لم يكن للنهي موقع، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة،
351

ومنه:
فمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء
أي ومن يمدحه وينصره، والله أعلم. عاد كلامه. قال (في معنى قوله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه
من أمر الله: هما صفتان جميعا وليس من أمر الله بصلة للحفظ كأنه قيل له الخ) قال أحمد: وحقيقة هذا الوجه أنهم
يحفظونه من الأمر الذي علم الله أنه يدفعه عنه بسبب دعائهم ولولا هذا السبب لكان في علم الله أن النقمة تحل
عليه، لأن الله عز وجل يعلم مالا يكون لو كان كيف كان يكون - وسع ربنا كل شئ علما -.
قوله تعالى (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال) الآية، قال (خوفا وطمعا لا يصح
352

أن يكونا مفعولا لهما لأنهما ليس بفعل الخ) قال أحمد: أو مفعولا لهما على أن المفعول لهما في مثل هذا الفعل فاعل
في المعنى، لأنه إذا أراهم فقد رأوا، والأصل هو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا: أي ترقبونه وتتراءونه
تارة لأجل الخوف وتارة لأجل الطمع، والله أعلم.
353

قوله تعالى (له دعوة الحق) قال (فيه وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الخ) قال أحمد: دس
تحت تأويل الأول نبذة من الاعتزال على وجه الاحتزال فحجر واسعا من لطف الله واستجابته أدعية عباده وحتم
رعاية المصالح، وجعل معنى إضافة الدعوى إلى الحق التباسها بالمصلحة، وقد انكشف الغطاء وتبين أن الله تعالى
لاتعلل أفعاله، ولا تقف استجابته على الشرط المذكور، وغرضنا إيقاظ المطالع لهذه المواضع من غفلة يتحيز بها
إلى بدعة وضلالة، والله الموفق.
354

قوله تعالى (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ) قال (أم مقدرة
قبل والهمزة ومعناها ههنا الإنكار الخ) قال أحمد: وفى قوله تعالى - خلقوا كخلقه - في سياق الإنكار تهكم بهم،
لأن غير الله لا يخلق خلقا ألبتة، لا بطريق المشابهة والمساواة لله تقدس عن التشبيه، ولا بطريق الانحطاط والقصور،
فقد كان يكفي في الإنكار عليهم أن الشركاء التي اتخذوها لاتخلق مطلقا، ولكن جاء في قوله تعالى - كخلقه -
تهكم يزيد الإنكار تأكيدا، والزمخشري لا يطيق التنبيه على هذه النكتة مع كونه أفطن من أن تستتر عنه، لأن
معتقده أن غير الله يخلق وهم العبيد يخلقون أفعالهم على زعمه، ولكن لا يخلقون كخلق الله، لأن الله تعالى يخلق
الجواهر والأعراض والعبيد لا يخلقون سوى أفعالهم لاغير. وفى قوله عز من قائل - الله خالق كل شئ - إلقام
لأفواه المشركين الأولين، ثم لأفواه التابعة لهم في هذه الضلالة كالقدرية، فإن الله تعالى بت هذه البتة أن كل
شئ يصدق عليه أنه مخلوق جوهرا كان أو عرضا، فعلا لعبيده أو غيره، فالله خالقه فلا يبقى بقية يحتمل معها
الاشتراك إلا عند كل أثيم أفاك يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره
بعذاب أليم، فلأمر ما تقاصر لسان الزمخشري عند هذه الآية وقرن شقاشقه، والله الموفق.
355

* قوله تعالى (وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) الآية، قال (المراد مما رزقناهم من الحلال لأن الحرام لا يكون
رزقا ولا يسند إلى الله تعالى الخ) قال أحمد: الحق أن لا رازق إلا الله - إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين - كما أنه
لا خالق إلا الله - هل من خالق غير الله - فإذا اقتضى العقل والسمع جميعا أن لا رازق إلا الله فأي مقال بعد ذلك يبقى
357

للقدري الزاعم أن أكثر العبيد يرزقون أنفسهم لأن الغالب الحرام، وهو مع ذلك مصمم على معتقده الفاسد لا يدعه
ولا تكفه القوارع السمعية والعقلية ولا تردعه - فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون -.
قوله تعالى (أولئك لهم عقبى الدار) قال (المراد عاقبة الدنيا ومرجع أهلها الخ) قال أحمد: قد تكرر مجئ
العاقبة المطلقة مثل - وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار - من تكون له عاقبة الدار - والعاقبة للمتقين - والمراد في جميع
ذلك عقبى الخير والسعادة، والزمخشري يستنبط من تكرار مجئ العاقبة المطلقة، والمراد عاقبة الخير أنها هي التي
أرادها الله فهي الأصل، والعاقبة الأخرى لما لم تكن مرادة بل عارضة على خلاف المراد، والأصل لم يكن من
حقها أن يعبر عنها إلا بتقييد يفهمها كقوله - وعقبى الكافرين النار - كل ذلك من الزمخشري تهالك على أن ينسب
إلى الله إرادة عالم يقع ومشيئة مالم يكن، مصادمة لما أنطق الله به ألسنة حملة الشريعة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم
يكن، وليس في مجئ ذلك على الإطلاق ما يعين أنه الأصل باعتبار الإرادة، ففعله الأصل باعتبار الأمر، ونحن
نقول: إن المؤدى إلى حمد العاقبة مأمور به، والمؤدى إلى سوئها منهى عنه، فمن ثم كانت عاقبة الخير هي الأصل،
والله الموفق.
358

قوله تعالى (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) الآية، قال (ومعناه: بل أتنبئونه بشركاء إلخ) قال
أحمد: وحقيقته هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء، وأن الله لا يعلمهم كذلك لأنهم ليسوا كذلك، وإن كانت لهم
ذوات ثابتة يعلمها الله إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة، ولكن مجئ النفي على هذا السنن المتلو بديع لا تكنه
بلاغته وبراعته، ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم
361

بشركاء، فلم يكن بهذا الموقع التي اقتضته التلاوة. عاد كلامه، قال (وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي
ورد عليها إلخ) قال أحمد: هذه الخاتمة كلمة حق أراد بها باطلا لأنه يعرض فيها بخلق القرآن فتنبه لها، وما أسرع
المطالع لهذا الفصل أن يمر على لسانه وقلبه ويستحسنه وهو فاعل عما تحته لولا هذا التنبيه والإيقاظ، والله أعلم.
362

قوله تعالى (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) قال (والمراد والذي عنده علم القرآن إلخ)
قال أحمد: فيكون المراد حينئذ جنس المؤمنين. قال (وقيل هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم
يشهدون بنعته في كتبهم) قال أحمد: فالكتاب على التأويل الأول مراد به القرآن خاصة، وعلى الثاني جنس الكتب
المتقدمة عليه، قال (وقيل هو الله عز وجل، والكتاب اللوح المحفوظ. وعن الحسن لا والله ما يعني إلا الله،
والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو شهيد بيني وبينكم، وتعضده
قراءة من قرأ - ومن عنده علم الكتاب - على من الجارة) قال أحمد: وإنما قدر الزمخشري في المعطوف عليه اسم الله
بالذي يستحق العبادة حذرا من عطف الصفة على الموصوف، وعدولا إلى أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى
تقديرا، وإنما أخذ الحصر حيث يقول: ومن لا يعلم علم الكتاب إلا هو من أنه قدم الخبر الذي هو عنده على
مبتدئه، وشأن الزمخشري أخذ الحصر من التقديم، والله الموفق للصواب.
364

القول في سورة إبراهيم عليه السلام
(بسم الله الرحمن الرحيم)
365

قوله تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) قال (أي ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون
لهم حجة إلخ) قال أحمد: جميع الفصل مرضى لكن في هذه الخاتمة نظر لأن فيها إشعارا بأن إعجاز القرآن من حيث
اللغة العربية خاصة يتقاصر عن إعجازه لو قدر منزلا بكل لسان، حتى إنه لو نزل بجميع اللغات لبلغ من الوضوح
إلى حد يكاد أن يكون إلجاء إلى الإيمان به، وهذا فيه نظر والقول به غير متعين، لأن المعجز يفيد العلم بصدق
من ظهر على يده، ومتى حصل العلم لم يكن بين علم وعلم تفاوت ولا ترجيح، فلو نزل القرآن بجميع اللغات
لكان العلم الحاصل منه وقد نزل بلغة واحدة هو العلم الحاصل منه لو نزل بالجميع، لا تفاوت ولا ترجح بين
العلمين، هذا هو التحقيق والله أعلم. والزمخشري يبني في كثير من كلامه على أن العلوم تتفاوت وتنقسم إلى جلي
وأجلى وهو من الحق بمعزل، وإنما ظن ذلك طائفة ظاهرية، والله الموفق.
366

قوله تعالى (جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم) قال (معناه: عضوها غيظا وضجرا مما
جاءت به الرسل إلخ) قال أحمد: وأقوى هذه الوجوه هذا الوجه الذي نبه المصنف على اختصاصه بالقوة، وإنما
كان كذلك لأن إقناطهم الرسل من الإيمان قولا وفعلا بوضع اليد في الفم هو المناسب لحدهم في الكفر وتصدير
العبارة بالحرف المؤكد ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد، وليس السياق بمناسب
368

للضحك ولا الغيظ ولا لتصميت الرسل كمناسبته لإقناطهم من القبول، ألا ترى أنهم لما أعادوا للرسل القول ولم
ينكروا عليهم عودهم إلى المجادلة دل على أنهم لم يسكتوهم أولا ولا كان غرضهم ذلك، والله أعلم. عاد كلامه،
قال (وقولهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا، معناه: فلم تخصون بالنبوة دوننا ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من
369

جنس أفضل منهم وهم الملائكة) قال أحمد: ومن تهالكه على الانتصار لاعتقاده تفضيل الملائكة على الرسل من
البشر يستعين حتى يحمل الكفار على أنهم كانوا يعتقدون كمعتقد القدرية في تفضيل الملك على الرسول، لأنه يدعي
ذلك أمرا مركوزا في الطباع معلوما ضرورة، والله الموفق.
قوله تعالى (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) إلخ قال: (إن قلت: كيف كرر ذلك بعد قوله - وعلى الله فليتوكل
المؤمنون - إلخ) قال أحمد: وبهذا يخرج عن وادي " من قتل قتيلا فله سلبه " والله أعلم
370

قوله تعالى (ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله
بعزيز) قال (معناه: خلقها بالحكمة والغرض الصحيح إلخ) قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي وقد تقدمت أمثاله.
عاد كلامه، قال (معناه - وما ذلك على الله بعزيز - أي هين عليه لأنه قادر بالذات إلخ) قال أحمد: وهذا اعتزال
صراح لم يتقنع في إبرازه، وما أبشع قوله عن الله جل جلاله: خلص له الداعي وأمضى الصارف، وما أنباه عن
سمع المحققين العارفين بآداب الله تعالى وبما يجب في حق جلاله، وقد تقدم ما فيه كفاية.
372

قوله تعالى (فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا
لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) قال (الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم إلخ)
قال أحمد: لما استشعر دلالة الآية لعقيدة السنة المشتملة على أن الله تعالى مهما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن
هداية المشركين مما لم يشأ ولو شاء لاهتدوا، وإنما تنشأ هذه الدلالة من إيراد هذا الكلام عن الكفار في دار الحق
حين حقت لهم الحقائق وانكشف الغطاء، والمقصود من اقتصاصه إنذار أمثالهم في الدنيا وتحذيرهم من الحسرة
373

والندم في الآخرة، إذ حق عليهم العذاب واعترفوا بالحق وقالوا القول المذكور. وهذا يرشد إلى أنه كلام صحيح
المعنى، فلما فطن الزمخشري لذلك شرع في تقرير تخطئتهم في هذا القول في الآخرة كما خطأهم في الدنيا ليتم له
اعتقاد أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، ومن ذلك هداية الكفار، فإن الله تعالى يشاؤها في الدنيا لكنها
لم تكن، وأنى له ذلك وسياق الآية يصوب الكلام المذكور وينذر الغافلين عنه في الدنيا ويحذرهم من التورط فيما
يؤدي إلى هذا الندم حيث لا ينفع ويجر إلى هذه الحسرة إذ لا ينجع، كما أورد كلام الشيطان عقيب ذلك حين
يعترف بالحق في دار الحق وحيث لا ينفعه إيمانه فيقول - إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم - إلخ. وإنما
سيق تحذيرا وإنذارا اتفاقا، والله الموفق.
قوله تعالى (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم) إلخ. قال (روي
أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيبا إلخ) قال أحمد: قد حمل قول الكفار في الآية الأولى على إبطال الانتحال لأنه
374

لا يلائم معتقده، واستشهد على أن الكذب حينئذ غير ممتنع ولا متعذر بقوله تعالى - فيحلفون له كما يحلفون لكم -
ثم لما ظن أن قول الشيطان هذا يلائم معتقده اجتهد في الاستدلال على تصويبه وتصحيحه وإن كان قائله
الشيطان، كل ذلك منه اتباع للهوى حيثما توجه وأية سلك، ونحن معاشر أهل السنة الملقبين عنده بالمجبرة نقول:
إن الله تعالى إنما أورد هذا الكلام غير راد له ولا مخطئ فيه للشيطان كما اقتص كلام الكفار في الآية الأولى
كذلك، ونحن نعتقد أن الملامة إنما تتوجه على المكلف، وأما الله تعالى فمقدس عن ذلك وحجته البالغة وقضاؤه
الحق، وذلك أنا نعترف بما خلقه الله تعالى للعبد من الاختيار الذي يجده من نفسه عند تجاذب طرفي الأفعال الإرادية
ضرورة، وبذلك قامت الحجة له على خلقه، وإن سلبنا على قدرة الخلق تأثيرها في الفعل فلا تناقض إذا بين عقيدة
السنة وبين صرف الملامة إلى المكلف، والله الموفق.
قوله تعالى (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم
فيها سلام) قال (وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد - وأدخل الذين آمنوا - على فعل المتكلم إلخ) قال أحمد: فإن قلت:
ما الذي صرف الزمخشري عن حمله على الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وألجأه إلى تعليقه بما بعده وقد كانت له في
ذلك مندوحة والالتفات على هذا الوجه كثير مستفيض، ألا ترى إلى قوله تعالى - طه ما أنزلنا عليك القرآن
لتشقى - ثم قال - تنزيلا ممن خلق الأرض - ولم يقل تنزيلا منا؟ قلت لأمر ما صرف الكلام على هذا الوجه، وهو
375

أن ظاهر أدخل بلفظ المتكلم يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة بل من الله تعالى مباشرة، وظاهر الإذن يشعر
بإضافة الدخول إلى الواسطة فبينهما تنافر، ولكن يحسن عندي أن يطلق بخالدين والخلود غير الدخول فلا تنافر،
والله أعلم.
376

قوله تعالى (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) الآية، قال (فيه المقول محذوف إلخ) قال أحمد: وفي
هذا الإعراب نظر، لأن الجواب حينئذ يكون خبرا من الله تعالى بأنه إن قال لهم هذا القول امتثلوا مقتضاه فأقاموا
الصلاة وأنفقوا، لكنهم قد قيل لهم فلم يمتثل كثير منهم، وخبر الله تعالى يجل عن الخلف، وهذه النكتة هي
الباعثة لكثير من المعربين على العدول عن هذا الوجه من الإعراب مع تبادره فيما ذكر بادي الرأي، ويمكن تصحيحه
بحمل العام على الغالب لا على الاستغراق. ويقوى بوجهين لطيفين: أحدهما أن هذا النظم لم يرد إلا لموصوف
بالإيمان بالحق المنوه بإيمانه عند الأمر كهذه الآية، وكقوله - وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن - و - قل للمؤمنين
يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم - وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن - الثاني تكرر مجيئه للموصوفين
بأنهم عباد الله المشرفون بإضافتهم إلى اسم الله، وقد قالوا إن لفظ العباد لم يرد في الكتاب العزيز إلا مدحة للمؤمنين
وخصوصا إذا انضاف إليه تعالى إضافة التشريف. فالحاصل من ذلك أن المأمور في هذه الآي من هو بصدد
الامتثال وفي حيز المسارعة للطاعة، فالخبر في أمثالهم حق وصدق، إما على العموم إن أريد، أو على الغالب،
والله أعلم. عاد كلامه، قال (وجوزوا أن يقيموا بمعنى ليقيموا ويكون هذا هو المقول إلخ).
378

قوله تعالى (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) قال (إن قلت: لم قدم المفعول الثاني على الأول إلخ) قال
أحمد: وفيما قاله نظر، لأن الفعل متى تقيد بمفعول انقطع إطلاقه، فليس تقديم الوعد في الآية دليلا على إطلاق
الفعل باعتبار الموعود حتى يكون ذكر الرسل بائنا كالأجنبي من الإطلاق الأول، ولا فرق في المعنى الذي ذكره
بين تقديم ذكر الرسل وتأخيره ولا يفيد تقديم المفعول الثاني إلا الإيذان بالعناية في مقصود المتكلم والأمر بهذه
المثابة في الآية، لأنها وردت في سياق الإنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله تعالى به على ألسنة الرسل فالمهم في
التهديد ذكر الوعيد. وأما كونه على ألسنة الرسل فذلك أمر لا يقف التخويف عليه، ولا بد حتى لو فرض التوعد
من الله تعالى على غير لسان رسول لكان الخوف منه حسيبا كافيا، والله أعلم.
384

القول في سورة الحجر
(بسم الله الرحمن الرحيم)
385

قوله تعالى (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) قال (فإن قلت: ما معنى تقليل ودادتهم إلخ؟) قال
أحمد: لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده كثيرا، ومنه قوله:
* قد أترك القرن مصفرا أنامله * وإنما يمتدح بالإكثار من ذلك، وقد عبر بقد المفيدة للتقليل ومنه والله أعلم
- وقد تعلمون أني رسول الله - والمقصود توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته
لهم. وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك، فمنهم من وجهه بما ذكره الزمخشري آنفا من التنبيه بالأدنى على الأعلى،
ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الصد، وذلك شأن
كل ما انتهى لنهايته أن يعود إلى عكسه، وقد أفصح أبو الطيب ذلك بقوله:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا * للمنتهى ومن السرور بكاء
وكلا هذين الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها، والعمدة في ذلك على سياق الكلام، لأنه
إذا اقتضى مثلا تكثيرا فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع بأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين
المذكورتين، والله أعلم.
386

قوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لحافظون) قال (هذا رد لإنكارهم واستهزائهم إلخ) قال أحمد:
ويحتمل أن يراد حفظه مما يشينه من تناقض واختلاف لا يخلو عنه الكلام المفترى، وذلك أيضا من الدليل على أنه
من عند الله كما قال تعالى في آية أخرى - ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا -.
قوله تعالى (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) قال (معناه: يلقيه في قلوبهم مكذبا به إلخ) قال أحمد:
والمراد والله أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك ذلك
في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء، كل على علم وفهم - ليهلك من هلك عن بينة ويحيا
من حي عن بينة - ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن، فأعلمهم
الله تعالى من الآن وهم في مهلة وإمكان أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين والله أعلم، ولذلك
عقبه الله تعالى بقوله - ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم
مسحورون - أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه، وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم
العناد وشيمتهم اللدد حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة، وذلك بأن يفتح لهم
بابا في السماء ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منه نهارا، وإلى ذلك الإشارة بقوله فظلوا، لأن الظلول إنما يكون
نهارا، لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف: إنما سكرت أبصارنا وسحرنا محمد، وما هذه إلا خيالات
لا حقائق تحتها، فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم
كما فهم غيرهم من المصدقين، لأن ذلك كله حاصل لهم، وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غير، والله أعلم.
388

قوله تعالى (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) قال
(إن قلت: هل الاستثناء الأول متصل إلخ) قال أحمد: وجعله الأول منقطعا أولى وأمكن، وذلك أن في
استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعدا من حيث إن موقع الاستثناء إخراج لما لولاه لدخل المستثنى في
حكم الأول، وهذا الدخول متعذر من التنكير، ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ
أعم، فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، ومن ثم لم يحسن رأيت قوما إلا زيدا، وحسن ما رأيت أحدا إلا زيدا،
393

والله أعلم. عاد كلامه قال (فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله - قدرنا إنها لمن الغابرين؟ إلخ) قال أحمد:
وهذه أيضا من دفائنه الاعتزالية في جحد القضاء والقدر واعتقاد أن الأمر أنف، لأنهم يعتقدون أن الله تعالى
مريد لأكثر أفعال عبيده من معصية ومباح ونحوهما، ولا مقدر لها على العبيد، بمعنى أنه مريد ولكنه عالم بما
سيفعلونه على خلاف مشيئته وإرادته، فالتقدير عندهم هو العلم لا الإرادة، ثم استدل على أن التقدير هو العلم
بتعليق فعله عن العمل، وذلك من خواص فعل العلم وأخواته، فانظر إلى بعد غوره ودقة فطنته في ابتغاء ألسنة
يلفقها ويعاند بها البراهين الواضح فلقها، وفي كلامه شاهد على رده، فإن التقدير عنده مضمن معنى العلم، ومن
شأن الفعل المضمن معنى آخر أن يبقى على معناه الأصلي مضافا إليه المعني الطارئ فيفيدهما جميعا، فالتقدير إذا كما
أفاد العلم الطارئ يفيد الإرادة أصلا ووضعا والله أعلم، على أن من الناس من جعل قوله تعالى - قدرنا إنها لمن
الغابرين - من كلامه تعالى غير محكي عن الملائكة وهو الظاهر، فإن الذي يجعله من قول الملائكة يحتاج في نسبتهم
التقدير إلى أنفسهم إلى تأويل، ويجعله من باب قول خواص الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا وإنما يعنون دبر الملك
وأمر، وبذلك أوله الزمخشري وإن كان أصله لا يحتاج معه إلى التأويل، لأنه إذا جعل قدرنا علمنا أنها لمن الغابرين
فلا غرو في علم الملائكة ذلك بإخبار الله تعالى إياهم به، وإنما يحتاج إلى التأويل من جعل قدرنا بمعنى أردنا وقضينا
وجعله من قول الملائكة، والله أعلم
394

قوله تعالى (واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد) قال (فإن قلت: ما معنى أمره باتباع أدبارهم؟ إلخ) قال
أحمد: ولبعض هذه المقاصد عاتب الله نبيه موسى عليه السلام حيث تقدم قومه فقال - وما أعجلك عن قومك
يا موسى - والله أعلم. عاد كلامه، قال (وإنما نهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب إلخ) قال
أحمد: ولقد شملت هذه الآية على وجازتها آداب المسافرين لمهم ديني أو دنيوي من الآمر والمأمور والتابع والمتبوع
- ما فرطنا في الكتاب من شئ -.
395

قوله تعالى (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) قال (إن
قلت: كيف وصل هذا بما قبله إلخ) قال أحمد: وهذا هو الصواب في معنى الحديث، وقد حمله كثير من
العلماء على الغناء، وادعى هؤلاء أن تغنى إنما يبنى من الغناء الممدود لا من الغنى المقصود، وأن فعله استغنى
397

خاصة، وقد وجدت بناء تغنى من الغنى المقصور في الحديث الصحيح في الخيل " وأما التي هي ستر فرجل ربطها
تغنيا وتعففا " وإنما هذا من الغنى المقصور قطعا واتفاقا وهو مصدر تغنى، فدل ذلك على أنه مستعمل من البناءين
جميعا على خلاف دعوى المخالف، والله الموفق.
398

القول في سورة النحل
(بسم الله الرحمن الرحيم)
400

قوله تعالى (والأنعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون) قال (إن قلت: لم قدم المجرور. وأجاب
بأن الأكل منها هو الأصل إلخ) قال أحمد: ومدار هذا التقرير على أن تقديم معمول الفعل يوجب حصره فيه،
فكأنه قال: وإنما تأكلون منها.
قوله تعالى (وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) قال (فإن قلت: كيف طابق قوله
401

لم تكونوا بالغيه - قوله - وتحمل أثقالكم إلخ -) قال أحمد: ويحتمل أن يكون المراد تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا
بالغيه بها إلا بشق الأنفس، واستغنى بذكر البلوغ عن ذكر حملها لأن العادة أن المسافر لا يستغني عن أثقال
يستصحبها، والمعنى الأول أعلى والله أعلم.
قوله تعالى (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) قال (إن قلت: هلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على
سنن واحد إلخ) قال أحمد: يعني فجاز أن ينتصب مجردا من لام التعليل لأنه فعل فاعل الفعل الأول، ويعينه
اقتران الركوب باللام لأنه فعل المخاطبين، ومتى لم يتحد الفاعل تعين إلحاق اللام، وفي هذا الجواب نظر فإن
لقائل أن يقول: كان من الممكن مجيئها معا باللام فيأتيان على سنن واحد، ولا غرو في ذلك فالسؤال قائم
والجواب العتيد عنه أن المقصود المعتبر الأصلي في هذه الأصناف هو الركوب، وأما التزيين بها فأمر تابع غير
مقصود قصد الركوب، فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين،
وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب، والله أعلم
402

قوله تعالى (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) قال (ومعناه: أن هداية الطريق
الموصل إلى الحق واجبة إلخ) قال أحمد: أين يذهب به عن تتمة الآية وذلك قوله تعالى - ولو شاء لهداكم أجمعين -
ولو كان الأمر كما تزعم القدرية لكان الكلام وقد هداكم أجمعين، وما كأنهم إلا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون
ببعض، فإن ذهبوا إلى تأويل الهداية بالقسر والإلجاء فما كأنهم إلا يحرفون الكلم من بعد مواضعه، وأما المخالفة
بين الأسلوبين فلأن سياق الكلام لإقامة حجة الله تعالى على الخلق بأنه السبيل القاصد والجائر، وهدى قوما
اختاروا الهدى وأضل قوما اختاروا الضلالة لأنفسهم، وقد تقدم في غير ما موضع أن كل فعل صدر على يد
العبد فله اعتباران: هو من حيث كونه موجودا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه بهذا الاعتبار، وهو من حيث كونه
مقترنا باختيار العبد له وبتأتيه له وتيسره عليه يضاف إلى العبد، وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل،
فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها، وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار
اختياره له. والحاصل أنه إذا ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ليناسب ذلك إقامة
403

الحجة، ألا لله الحجة البالغة، والله الموفق للصواب. عاد كلامه إلى قوله (لتأكلوا منه لحما طريا) قال (هو
السمك ووصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه إلخ) قال أحمد: فكان ذلك تعليم لأكله، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي
أن يتناول إلا طريا، والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شئ يكون، والله أعلم. عاد كلامه
إلى قوله تعالى (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) قال (الحلية هي اللؤلؤ والمرجان إلخ) قال أحمد: ولله در مالك
رضي الله عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه
بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية
له، فعبر عن حظه في لبسها بلبسه كما يعبر عن حظها سواء مؤيدا بالحديث المروي في الباب، والله أعلم.
404

قوله تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق) الآية، قال (إن قلت: من لا يخلق أريد به الأصنام إلخ) قال أحمد:
هو تحوم على أن العباد يخلقون أفعالهم، وأن المراد إظهار التفاوت بين من يخلق منهم ومن لا يخلق كالعاجزين
والزمني، حتى يثبت التفاوت بين من يخلق منهم وبين الأصنام بطريق أولى، ولقد تمكن منه الطمع حتى
اعتقد أنه يثبت خلق العبد لأفعاله بتنزيله الآية على هذا التأويل، ويتمنى لو تم له ذلك:
* وما كل ما يتمنى المرء يدركه *
عاد كلامه، قال (فإن قلت: هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيها بالله تعالى وكان من حق
الإلزام إلخ) قال أحمد: وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى - وليس الذكر كالأنثى - فجدد بها عهدا،
405

قوله تعالى (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا) إلى قوله (ولقد بعثنا
في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليهم الضلالة) قال (يعني
أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل الله إلخ) قال أحمد: قد تكرر منه مثل هذا الفصل في أخت الآية المتقدمة في
سورة الأنعام، وقد قدمنا حينئذ ما فيه مقنع إن شاء الله، والذي زاده هنا يثبت معتقده على ما زعمه بقوله تعالى
- ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت - ووجه تمسكه به أن الله تعالى قسم العبادة إلى
قسمين: مأمور به، ومنهي عنه، والأمر والنهي عند المصنف راجعان إلى المشيئة بناء على زعم القدرية في إنكار
كلام النفس وحمل الاقتضاء على الإرادة. فالحاصل حينئذ من هذه التتمة أن الله شاء عبادة الخلق له وشاء اجتنابهم
عبادة الطاغوت ولم يشأ منهم أن يشركوا به، وأخبر بهذه المشيئة على لسان كل رسول بعثه إلى أمة من الأمم، فجاءت
التتمة مترجمة عن معنى صدر الآية مؤكدة بمقتضاها، هذا هو الذي زاده المصنف ههنا، وقد بينا أن مبناه على
إنكار كلام النفس الثابت قطعا فهو باطل جزما. والعجب أن الله تعالى أوضح في الآيتين جميعا أن الذي أنكره من
408

القائلين لو شاء الله ما أشركنا، إنما هو احتجاجهم على الله تعالى بمشيئته التي لا حجة لهم فيها مع ما خلق لهم من الاختيار
بقوله ههنا - فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة - وبقوله في آخر آية الأنعام - فلله الحجة البالغة فلو
شاء الله لهداكم أجمعين - فتبين فيهما أنه هو الذي شاء منهم الإشراك والضلالة، ولو شاء هدايتهم أجمعين لاهتدوا عن
آخرهم، وحصل من هذا البيان صرف الإنكار عليهم إلى غير نسبة المشيئة لله تعالى، وذلك هو الذي قدمناه في
إقامتهم الحجة على الله بمشيئته مع أن حجتهم في ذلك داحضة ولله عليهم الحجة البالغة الواضحة، والله الموفق.
409

قوله تعالى: (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة) الآية. قال (إن قلت: سجود المكلفين
مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد إلخ) قال أحمد: وهذا ما يتمسك به
لمن اختار تناول اللفظ الواحد لحقيقته ومجازه شمولا ولم ير ذلك متناقضا، فإن السجود يتناول فعل المكلف حقيقة
ويتناول حال غير المكلف بطريق مجاز التشبيه، وقد أريدا جميعا من الآية، والزمخشري ينكر ذلك في مواضع
مررت عليها من كتابه هذا، وظاهر مراده ههنا أن السجود عبارة عن قدر مشترك بين فعل المكلف وحال غير
المكلف وهو عدم الامتناع عند القدرية، وغرضه من ذلك أن يكون اللفظ متواطئا فيهما جميعا ليسلم من الجمع
بين الحقيقة والمجاز لأنه يأبى ذلك، ولا يتم له هذا المقصد في الآية والله أعلم لأن كونها آية سجدة يدل على أن المراد
من السجود المذكور فيها منسوبا للمكلفين هو الفعل الخاص المتعارف شرعا الذي يكون ذكره سببا لفعله سببية
معتادة في عزائم السجود لا القدر الأعم المشترك، والله أعلم.
قوله تعالى: (وهم لا يستكبرون يخافون) قال (فيه يجوز أن يكون حالا من الضمير إلخ) قال أحمد: هذا
412

الثاني هو الوجه ليس إلا، وأما الحال فيعطي انتقالا ويوهم تقييدا لعدم استكبارهم، مع أن الواقع أن عدم استكبارهم
مطلق غير مقيد بحال، والله الموفق.
قوله تعالى (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) قال (إن قلت: ما فائدة قوله اثنين مع إغناء
التثنية عن ذلك إلخ؟) قال أحمد: وهذا الفصل من حسناته التي لا يدافع عنها، والله الموفق.
413

قوله تعالى (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) إلخ، قال (فيه ظل بمعنى صار) قال
أحمد وجاز أن يراد الظلول نهارا لقصد المبالغة في وصفهم بالعناد (1) والإصرار، وأنهم لو عرجوا نهارا في الوقت
الذي لا ليتغابى على البصر فيه شئ إلى السماء لتمادوا على كفرهم وتكذيبهم، والله أعلم.

(1) (قول المحشي وجاز أن يراد الظلول نهارا لقصد المبالغة في وصفهم بالعناد إلخ)
لعله انتقال نظر إذ لا يخفى أنه مما يناسب الكلام
في تفسير قوله تعالى - ولو فتحنا عليهم بابا من السماء لظلوا فيه يعرجون - الآية، فالمناسب حينئذ إسقاطه من هنا وليحرر اه‍ مصححه.
414

قوله تعالى (ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) قال (المراد بما يكرهونه البنات،
وشركاء في رياستهم واستخفاف برسلهم إلخ) قال أحمد: ونقيض هؤلاء من إذا أعجبه شئ من ماله جعله لله
بل إذا أحب أمة له أعتقها، وإذا اشتهى طعاما قدم إليه تصدق به على حبه، وإنما ينقل مثل هذا عن السلف
الصالح من الصحابة كابن عمر ونظرائه ومن تابعهم فيها ويجعلون لله ما يشتهون، اللهم إن لم ننل رتبة أوليائك فأنلنا
محبتهم، فمن أحب قوما حشر معهم.
415

قوله تعالى (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) قال (قلت:
أريد معنى البعضية وأن لا تبنى بيوتها إلخ) قال أحمد: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه الزمخشري في تبعيض من
المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه وإن حجر
417

عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض لأن مصلحة الأكل حاصلة على الإطلاق باستمراء
مشتهاها منه، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع، ولهذا المعنى دخلت ثم لتفاوت الأمر بين الحجر
عليها في اتخاذ البيوت والإطلاق لها في تناول الثمرات، كما تقول: راع الحلال فيما تأكله ثم كل أي شئ شئت،
تتوسط ثم لتفاوت الحجر والإطلاق، فسبحان الله اللطيف الخبير.
418

قوله تعالى (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) قال (تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به إلخ)
قال أحمد: فعلى تفسيره الأول يكون قوله لله متعلقا بالأمثال كأنه قيل: فلا تمثلوا لله ولا تشبهوه، وعلى الثاني
يكون متعلقا بالفعل الذي هو تضربوا كأنه قيل: فلا تمثلوا لله الأمثال، فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير
العالم ليبين له ما خفي عنه، والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون، فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة، والله أعلم. عاد
كلامه، قال (فإن قلت: لم قال مملوكا لا يقدر على شئ إلخ) قال أحمد: والقول بصحة ملكه هو مذهب الإمام
مالك رضي الله عنه، وفي هذه الآية له معتصم لأن الله تعالى مثل بالمملوك لأنه مظنة العجز وعدم الملك والتصرف
غالبا، ثم أفصح عن المعنى المقصود وهو أن هذا المملوك ليس بمن اتفق أن ملكه سيده فملك وقدر، بل هو على
الأصل المعهود في المماليك عاجز غير قادر، ولو لم يكن ملك العبد متصورا ومعهودا شرعا وعرفا لكان قوله تعالى
- لا يقدر على شئ - كالتكرار لما فهم من قوله - عبدا مملوكا - وقول القائل يقول إنه احتراز من المكاتب بعيد من
فصاحة القرآن، فإنه لو كان العبد لا يصح منه ملك البتة إلا في حال الكتابة لكانت إرادته حينئذ من إطلاق اللفظ
كالإلغاز الذي لا يعهد مثله في بيان القرآن واستيلائه على صنوف البلاغة، ومثل هذا أنكره الإمام أبو المعالي على
من حمل قوله عليه الصلاة والسلام " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها " على المكاتبة لبعد القصد إليها على شذوذها،]
420

وأما الاحتراز به عن المأذون له فينبني على القول بأن المراد بعدم القدرة عدم المكنة من التصرف وإن لم يكن المأذون
له مالكا عند هذا القائل، وهذا بعيد عن مطابقة قوله - ومن رزقناه منا رزقا حسنا - فإنها توجب أن يكون المراد
قوله - لا يقدر على شئ - لا يملك شيئا من الرزق كما تقول في الحر المفلس فلان لا يقدر على شئ: أي لا يملك
شيئا يقدر على التصرف فيه. فتلخص من هذا البحث أن في الآية مجالا لنصرة مذهب مالك وإن كان لقائل أن
يقول هذه الصفة لازمة كالإيضاح لفائدة ضرب المثل بالمملوك كأنه قيل: وإنما ضربنا المثل بالمملوك لأن صفته
اللازمة له وسمته المعروفة به أنه لا يقدر على شئ: أي لا يصح منه ملك، وكثيرا ما يجئ الحال والصفة لا يقصد
بواحد منهما تقييد ولا تخصيص ولكن إيضاح وتفسير، ومن ذلك قوله تعالى - ومن يدع مع الله إلها غير آخر لا برهان
له به - فقوله - لا برهان له به - لا يقصد به تمييز إله سوى الله من إله، لأن كل مدعو إلها غير الله تعالى لا برهان به
وإنما أريد أن عدم البرهان من لوازم دعاء إله غير الله تعالى، فهذا أقصى ما يمكن أن ينتصر به للقائل بعدم صحة
ملك العبد. ولنا أن نقول في دفعه إن الأصل في الصفة والحال وشبههما التخصيص والتقييد، وأما الوارد من ذلك
لازما فنادر على خلاف الأصل، والله الموفق.
421

قوله تعالى (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم) قال (المراد خف عليكم
حملها ونقلها إلخ) قال أحمد: والتفسير الأول أولى لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر، وأما
المستوطن فغير منقل، وما أحسن قول الزمخشري في يوم إقامتكم أن المراد خفة ضربها وسهولة ذلك عليهم، والله
أعلم.
422

قوله تعالى (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) قال (هي القمصان والثياب من الصوف
والكتان وغيرها إلخ) قال أحمد: يعني عند العرب وخصوصا قطان الحجاز وهم الأصل في هذا الخطاب. عاد
كلامه، قال (وقيل إن ما يقي الحر والبرد فدل ذكره عليه إلخ) قال أحمد: والأول أظهر، ألا ترى إلى تقديم
المنة بالظلال التي تقي من الضحا في قوله تعالى - جعل لكم مما خلق ظلالا - فدل على أن الأهم عند المخاطبين وقاية
الحر، فامتن الله عليهم بأعظم نعمه موقعا عندهم، وقول القائل إن ما يقي الحر يقي البرد مشهود عليه بالعرف، فإن
الذي يتقى به الحر من القمصان رقيقها ورفيعها، وليس ذلك من لبوس البرد، بل لو لبس الإنسان في كل واحد
من الفصلين القيظ والبرد لباس الآخر يعد من الثقلاء.
423

قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية، قال (العدل الواجب والإحسان الندب) قال أحمد:
424

وفي جمعهما تحت الأمر ما يدل لمن قال إن صيغة الأمر: أعني هذه المبنية من الهمزة والميم والراء لا صيغة أفعل تتناول
القبيلين بطريق التواطؤ وموضوعها القدر المشترك بينهما من الطلب، والله أعلم. عاد كلامه، قال (وإنما كان
الواجب عدلا لأن الله تعالى عدل فيه على عباده إلخ) قال أحمد: وهذه وليجة من الاعتزال ومعتقد المعتزلة
استحالة تكليف ما لا يطاق لأنه ظلم وجور، وذلك على الله محال. والحق والسنة أن كل قضاء الله عدل، وأن
تكليف ما لا يطاق جائز عليه وعدل منه - لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون - بل التكاليف كلها على خلاف الاستطاعة
على مقتضى توحيد أهل السنة المعتقدين أن كل موجود بقدرة الله تعالى حدث ووجد لا شريك له في ملكه،
وكيف يكون شريكه عبدا مسخرا في قبضة ملكه هذا هو التوحيد المحض، وإذا كان العبد مكلفا بما هو من فعل
الله فهذا عين التكليف بما لا يطاق، ولكن ذلك عدل من الله تعالى، وحجته البالغة قائمة على المكلف بما خلقه
من التأتي والتيسير في الأفعال الاختيارية التي هي محال التكاليف والله الموفق. عاد كلامه، قال (وإنما قرنهما في
الأمر لأن الفرض لا يخلو من خلل وتفريط يجبره الندب إلخ) قال أحمد: وهذه نكتة حسنة يجاب بها عن قول
القائل لم حكم عليه الصلاة والسلام بفلاح المصر على ترك السنن، فيقال المحكوم بفلاحه لأجله إنما هو الصدق في
سلامة الفرائض من خلل النقص والزيادة والله أعلم. عاد كلامه، قال (والفواحش ما جاوز حدود الله والمنكر
ما تنكره العقول) قال أحمد: وهذه أيضا لفتة إلى الاعتزال، ولو قال والمنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق، ولكنه
لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، والله الموفق. عاد كلامه، قال (والبغي طلب التطاول بالظلم)
قال أحمد: وأصل موضوعه الطلب ومنه - ابتغاء وجه الله - ابتغاء مرضاة الله - ولكن صار مطلقه خاصا بطلب
الظلم عرفا. عاد كلامه، قال (وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم
425

الله وجهه إلخ) قال أحمد: ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهناة لاحظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها
وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعلي باغ حيث يقول عليه الصلاة والسلام لعمار وكان من حزب علي
" تقتلك الفئة الباغية " والله أعلم، فقتل مع علي في صفين.
قوله تعالى (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) قال (معناه على طريقة الإلجاء والقسر) فال أحمد: وهذا
تفسير اعتزالي قد قدم أمثاله في أخوات هذه الآية، وغرضه الفرار من الحق المستفاد من تعليق المشيئة بلو الدالة على
أن مشيئة الله تعالى لإيمان الخلق كلهم ما وقعت، وأنه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف، فإيمان وكفر وتصديق
وتكذيب كما وقع منهم، ولو شاء شمولهم بالإيمان لوقع، فيصادم الزمخشري هذا النص ويقول: قد شاء جعلهم
أمة واحدة حنيفة مسلمة ولكن لم يقع مراده، فإذا قيل له فعلام تحمل المشيئة في الآية قال: على مشيئة إيمانهم
قسرا لا اختيارا وهذه المشيئة لم تقع اتفاقا. عاد كلامه، قال (ومما يدل على أن الله لم يبن الأمر على الإجبار وإنما
بناه على الاختيار قوله تعالى - ولتسئلن عما كنتم تعملون - ولو كان هو المضطر للهداية والضلال لما أثبت لهم عملا
يسئلون عنه) قال أحمد: أما أهل السنة الذين يسميهم المصنف مجبرة فهم من الإجبار بمعزل، لأنهم يثبتون للعبد
426

قدرة واختيارا وأفعالا، وهم مع ذلك يوحدون الله حق توحيده، فيجعلون قدرته تعالى هي الموجدة والمؤثرة
وقدرة العبد مقارنة فحسب تمييزا بين الاختياري والقسري وتقوم بها حجة الله على عبده، والله الموفق.
قوله تعالى (فتزل قدم بعد ثبوتها) قال (إن قلت: لم وحدت القدم ونكرت إلخ) قال أحمد: ومن جنس
إفادة التنكير ههنا للتقليل إفادته له في قوله تعالى - وتعيها أذن واعية - وفي قوله عز وجل - اتقوا الله ولتنظر نفس
ما قدمت لغد - فنكر الأذن والنفس تقليلا للواعي من الناس لما يقضي بسداده، وللناظر من الخلق في أمر معاده،
والله الموفق.
427

قوله عز وجل (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) قال (إن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحة
إيقاع الإذاقة على اللباس إلخ) قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه يستحق على علماء البيان أن يكتبوه بذوب
التبر لا بالحبر، وقد نظر إليهما جميعا في قوله تعالى - أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما
كانوا مهتدين - فاستعير الشراء لاختيارهم الضلالة على الهدى وقد كانوا متمكنين من اختياره عليها، ثم جاء
ملاحظا للشراء المستعار قوله - فما ربحت تجارتهم - فاستعمل التجارة والربح ليناسب ذلك لاستعارة الشراء، ثم جاء
ملاحظا للحقيقة الأصلية المستعار لها قوله - وما كانوا مهتدين - فإنه مجرد عن الاستعارة، إذ لو قيل - أولئك
431

الذين ضلوا وما كانوا مهتدين - لكان الكلام حقيقة معرى عن ثوب الاستعارة والنظر إلى المستعار في بابه
كترشيح المجاز في بابه، ومنه:
إذا الشيطان قصع في قفاها * تنفقناه بالحبل التؤام
فجعل الشيطان في قفاها قاصعا ثم نافقا ثم جعله مستخرجا بالحبل المحكم المثنى كما يستخرج الحيوان من جحره،
والشوط في هذا الفن البديع بطين، والله الموفق.
432

قوله عز وجل (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا) إلى قوله (ثم أوحينا إليك) قال (في قوله أمة وجهان:
أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم إلخ) قال أحمد: ويقوي هذا الثاني قوله تعالى - ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة
إبراهيم حنيفا - أي كان أمة تؤمه الناس ليقتبسوا منه الخيرات ويقتفوا بآثاره المباركات حتى أنت على جلالة قدرك
433

قد أوحينا إليك أن اتبع ملته ووافق سيرته، والله أعلم. عاد كلامه، قال (وفي ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة
محمد صلى الله عليه وسلم إلخ) قال أحمد: وإنما تفيد ذلك ثم لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عليه في الزمان،
ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة بحيث يكون المعطوف أعلى رتبة وأشمخ محلا مما عطف عليه، فكأنه بعد أن
عدد مناقب الخليل عليه السلام قال تعالى وههنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرا وأرفع رتبة وأبعد رفعة، وهو أن
النبي الأمي الذي هو سيد البشر متبع لملة إبراهيم مأمور باتباعه بالوحي متلو أمره بذلك في القرآن العظيم ففي ذلك
تعظيم لهما جميعا، لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر على ما مهدناه، والله الموفق
للصواب.
434

القول في سورة الإسراء
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) قال (إن قلت: الإسراء
لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل إلخ) قال أحمد: وقد قرن الإسراء بالليل في موضع لا يليق الجواب عنه بهذا
كقوله - فأسر بأهلك بقطع من الليل - وكقوله تعال - فأسر بعبادي ليلا - فالظاهر والله أعلم أن الغرض من ذكر
الليل وإن كان الإسراء يفيده تصوير السير بصورته في ذهن السامع، وكأن الإسراء لما دل على أمرين أحدهما
436

السير والآخر كونه ليلا أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب وتنبيها على أنه مقصود بالذكر، ونظيره
في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضموما لغيره قوله تعالى - وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد -
فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية وكذلك المفرد، فأريد التنبيه لأن أحد المعنيين وهو التثنية مراد
مقصود، وكذلك أريد الإيقاظ لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله - إنما هو إله واحد - ولو اقتصر على قوله
إنما هو إله لأوهم أن المهم إثبات الإلهية، والغرض من الكلام ليس إلا الإثبات للوحدانية، والله أعلم.
437

قوله تعالى (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار) قال (إن قلت: كيف جاز أن
يبعث الله الكفرة إلخ؟) قال أحمد: هذا السؤال إنما يتوجه على قدري يوجب على الله تعالى بزعمه رعاية ما يتوهمه
بعقله مصلحة، وأما السني إذا سئل هذا السؤال أجاب عنه بقوله - لا يسئل عما يفعل - والله الموفق.
439

قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) قال فيه: معناه (وما صح منا صحة تدعو إليها الحكمة أن
نعذب قوما حتى نلزمهم الحجة ببعث الرسول إلخ) قال أحمد: وهذا السؤال أيضا إنما يتوجه على قدري يزعم أن
العقل يرشد إلى وجوب النظر وإلى كثير من أحكام الله تعالى، وإن لم يبعث رسول فيكلف بعقله ويرتب على ترك
امتثال التكليف استيجاب العذاب، إذ العقل كاف عندهم في إيجاب المعرفة بل في جميع الأحكام بناء على قاعدة
التحسين والتقبيح العقليين. وأما السني فلا يتوجه عليه هذا السؤال، فإن العقل عنده شرط في وجوب عموم
الأحكام، ولا تكليف عنده قبل ورود الشرائع وبعث الأنبياء، وحينئذ يثبت الحكم وتقوم الحجة كما أنبأت عنه
هذه الآية التي يروم الزمخشري تحريفها فتعتاص عليه وتسد طرق الحيل بين يديه لأنه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نعم العقل عمدة في حصول المعرفة لا في وجوبها وبين الحصول والوجوب بون
بعيد، والله الموفق.
441

قوله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناه تدميرا) قال (حقيقة
أمرهم أن يقول لهم افسقوا ولا يكون هذا فبقي أن يكون مجازا إلخ) قال أحمد: نص حسن إلا قوله إنهم خولوا
النعم ليشكروا فإنه فرعه على قاعدة وجوب إرادة الله تعالى للطاعة. والحق أنهم خولوها وأمروا بالشكر ففسقوا
وكفروا على خلاف الأمر، والأمر غير الإرادة على قاعدة أهل الحق، والله الموفق.
442

قوله عز وجل (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) إلى قوله عز وجل (ومن أراد الآخرة
وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) قال (أي من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة
وأكثر الفسقة إلخ) قال أحمد: ومثل ذلك التقييد ورد في الآية الأخرى، وهي قوله تعالى - من كان يريد حرث
الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب - فأدخل من المبعضة على
حرث الدنيا ونحل الطالب حرث الآخرة مراده وزاد عليه.
443

قوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) قال (أي يطلب من المعاهد أن يفي به ولا ينكثه إلخ) قال
أحمد: كلام حسن إلا لفظة التخييل فقد تقدم إنكارها عليه، وينبغي أن يعوض بالتمثيل، والظاهر التأويل الأول
ويكون المجرور الذي هو عنه حذف تخفيفا، وقد ذكر في بقية الآي - كل أولئك كان عنه مسؤولا - والله أعلم.
448

ويعضد تأويل سؤال العهد نفسه على وجه التمثيل وقوف الرحم بين يدي الله وسؤالها فيمن وصلها وقطعها، وقد
ورد ذلك في الحديث الصحيح، والله الموفق.
قوله عز وجل (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) قال (معناه: لن
تجعل فيها خرقا إلخ) قال أحمد: وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية كفاية في الانزجار عنها، ولقد حفظ
الله عوام زماننا عن هذه المشية وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا، بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه
449

طالبين أو شدا طرفا من رياسة الدنيا إذا هو يتبختر في مشيه ويترجع ولا يرى أنه يطاول الجبال ولكن يحك
بيافوخه عنان السماء كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، وما ذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه وقلبه عن تدبره
على مراحل، والله ولي التوفيق.
450

قوله تعالى (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون
تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) قال (المراد تسبيحها بلسان الحال من حيث تدل على الصانع إلخ) قال أحمد:
ولقائل أن يقول: فما يصنع بقوله كان حليما غفورا وهو لا يغفر للمشركين ولا يتجاوز عن جهلهم وكفرهم
وإشراكهم، وإنما يخاطب بهاتين الصفتين المؤمنون والظاهر أن المخاطب المؤمنون. وأما عدم فقهنا للتسبيح الصادر
من الجمادات فكأنه والله أعلم من عدم العمل بمقتضى ذلك، فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة
وكل ذرة من ذرات الكون تسبيح الله وتنزهه وتشهد بجلاله وكبريائه وقهره وعمر خاطره بهذا الفهم لكاد ذلك
يشغله عن القوت فضلا عن فضول الكلام والأفعال، والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا هذا لو
استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة وجوهر من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه مشغولة مملوءة
بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإرهاب جبروته وتيقظ لذلك حق التيقظ لكاد أن لا يتكلم بقية عمره،
فالظاهر والله أعلم أن الآية إنما وردت خطابا على الغالب في أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين، والله الموفق.
فالحمد لله الذي كان حليما غفورا. عاد كلامه، قال (إن قلت: من فيهن يسبحون حقيقة وهم الملائكة إلخ) قال
451

أحمد: وقد تقدم نقلي عنه أنه يأبى حمل اللفظ على حقيقته ومجازه دفعة واحدة عند آية السجدة في النحل، ولكن
ظهر من كلامه ثم جعل السجود عبارة عن الانقياد وعدم الامتناع على القدرة ليكون متناولا للمكلفين وغير
المكلفين بطريق التواطؤ، وقد يكون أراد ثم المجاز، والله الموفق.
452

قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القران) الآية، قال (افتتانهم
بالشجرة أنهم حين سمعوا بقوله - إن شجرة الزقوم - إلخ) قال أحمد: والعمدة في ذلك أن النار لا تؤثر إحراقا في
شئ، ولكن الله تعالى أجرى العادة أنه خلق الحرق عند ملاقاة جسم النار لبعض الأجسام، فإذا كان ذلك من
فعل الله لا من فعل النار فلله تعالى أن لا يفعل الحرق في الشجرة التي في أصل الجحيم. عاد كلامه، قال (وأما
الرؤيا فقيل الإسراء وتعلق من جعله مناما بهذه الآية، وقيل إنما سماها رؤيا على زعم المكذبين إلخ) قال أحمد:
ويبعد ذلك قوله تعالى - طلعها كأنه رؤوس الشياطين - وقوله - فإنهم لآكلون منها - والله أعلم.
455

قوله تعالى (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) الآية، قال (المراد وعدهم المواعيد الكاذبة إلخ) قال
أحمد: وهذا من تجري المصنف على السنة ومتبعيها، فإنه جعل المفغرة المقرونة بالمشيئة وإن لم تكن توبة للمؤمنين من
مواعيد الشيطان مع العلم بأنها ثابتة بقواطع القرآن وعدا من الرحمن، وكذلك الشفاعة المتفق عليها بين أهل السنة
والجماعة التي وعد بها الصادق المصدوق، وميزه الله تعالى بها على كل مخلوق من مواعيد الشيطان الباطلة وأمانيه
الماحلة. اللهم ارزقنا الشفاعة واحشرنا في زمرة السنة والجماعة.
457

قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم، إلى قوله: ممن خلقنا تفضيلا) قال (المراد فضلناهم على ما سوى الملائكة
إلخ) قال أحمد: وقد بلغ إلى حد من السفه يوجب الحد، ولسنا لمساجلته إلا من حيث العلم لا من حيث السفه.
والقدر الذي تختص به هذه الآية أن حمل كثير على الجميع غير مستبعد ولا مستنكر، ألا ترى أنه ورد حمل القليل
على العدم والزمخشري يختار ذلك في قوله تعالى - فقليلا ما يؤمنون - وأشباهه كثير، وقد لمح الشاعر بذلك في قوله
* قليل بها الأصوات إلا بغامها * أي لا أصوات بها، ولنا أن نبقيه على ما هو عليه ونقول: إن المخلوق
قسمان: بنو آدم أحدهما، وغيرهم من جميع المخلوقين القسم الآخر. ولا شك أن غيرهم أكثر منهم وإن لم يكونوا
أكثر منهم كثيرا، فمعنى قوله - وفضلناهم على كثير ممن خلقنا - أي على غيرهم من جميع المخلوقين، وتلك الأغيار
كثير بلا مراء، وذلك مرادف لقولك: وفضلناهم على جميع من عداهم ممن خلقنا، فظاهر الآية إذا مع الأشعرية
الذين سماهم مجبرة وتمشدق في سبهم وشقشق العبارات في سلبهم - و - ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد -
والله ولي التوفيق والتسديد.
458

قوله تعالى (يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم) الآية، قال
(بإمامهم معناه بمن ائتموا به من نبي أو كتاب أو دين إلخ) قال أحمد: ولقد استبدع بدعا لفظا ومعنى، فإن
جمع الأم المعروف الأمهات، وأما رعاية عيسى عليه السلام بذكر أمهات الخلائق ليذكر بأمه فيستدعي أن خلق
عيسى من غير أب غميزة في منصبه وذلك عكس الحقيقة، فإن خلقه من غير أب كان آية له وشرفا في حقه، والله
459

أعلم. عاد كلامه، قال (وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل إلخ) قال أحمد: أي لأنه من عمى القلب
لا عمى البصر، فجاز أن ينبني منه أفعل. عاد كلامه، قال (ومن ثم أمال أبو عمرو الأولى وفخم الثانية إلخ)
قال أحمد: ويحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى: أي فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه، ومن
كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة كذلك غير مبصر في كتابه بل أعمى عنه
أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين، والله أعلم.
قوله تعالى (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات)
قال: المراد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات إلخ. قال أحمد: أما تقليل الكيدودة فالذي ينبعي أن
460

يحمل عليه كونه الواقع في علم الله تعالى، لأن الله عز وجل يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون فعلم تعالى أن
الركون الذي كاد يحصل منه عليه الصلاة والسلام وإن كان ما حصل أمر قليل وخطب يسير فذلك إخبار من الله تعالى
عن الواقع في علمه تقديرا، فلا يليق أن يحمل على المبالغة والتشبيه، فإن ذلك لا يكون في الإخبار، ألا ترى أنه لو
كان الواقع كيدودة ركون كثير لكان تقليله خلفا في الخبر، ولا ينكر أن الذنب يعظم بحسب فاعله على ما ورد:
حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأما نقل الزمخشري عن مشايخه استعظام نسبة الفواحش والقبائح إلى الله عز وجل
فلقد استعظموا عظيما حق على كل مسلم أن يستفظعه، ولكنهم جهلوا باعتقاد القبح وصفا ذاتيا للقبيح فلزمهم على
ذلك أن كل فعل استقبح من العبد استقبح من الله تعالى وهم غالطون في ذلك، فمعنى كون الفعل قبيحا أن الله
تعالى نهى عنه عبده وإن كان لله تعالى أن يفعله وهو حسن بالنسبة إليه - لا يسئل عما يفعل وهم يسألون - ألا ترى
أن الملك يصح منه أن يستقبح من عبده أن يجلس على كرسي الملك ونهاه عن ذلك، ولا يستقبح ذلك من نفسه بل
هو منه حسن جميل، ولقد كان لمشايخه شغل باستعظام ما لزمهم من الإشراك عن استعظام غيره مما هو توحيد محض
وإيمان صرف، ولكنهم زين لهم سوء اعتقادهم فرأوه حسنا، والله الموفق.
461

قوله تعالى (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم
لبعض ظهيرا) قال (العجب من النوابت ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز إلخ) قال أحمد:
ومما يدلك على حيد المصنف عن سنن المنصف أنه تدلس على الضعفة ومثل هذه المسألة التي طبقت طبق الأرض
ظهورا وشيوعا، ومع ذلك يرضى لنفسه أن يتجاهل فيها عن معتقد القوم، وذلك أن عقيدة أهل السنة أن مدلول
العبارات صفة قديمة قائمة بذات الباري تعالى يطلق عليها قرآن، ويطلق أيضا على أدلتها، وهي هذه الكلمات
465

الفصيحة والآي الكريمة قرآن، وأن المعجز عندهم الدليل لا المدلول لكنهم يتحرزون من إطلاق القول بأنه
مخلوق لوجهين: أحدهما أنه إطلاق موهم. والثاني أن السلف الصالح كفوا عنه فاقتفوا آثارهم واقتبسوا أنوارهم
وكم من معتقد لا يطلق القول به خشية إبهام غيره مما لا يجوز اعتقاده، فلا ربط بين الاعتقاد ولا كرامة لمعتقد ذلك
والمتعنت بإلزامه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قوله تعالى (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) قال
(معناه: لو كانوا يمشون مشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء إلخ) قال أحمد: وقد اشتمل كلامه هذا
466

على جواب حسن عن سؤال مقدر وهو قول القائل: إن مجرد وجود الملائكة في الأرض يناسب إرسال الملك
إليهم، فما فائدة هذه الزيادة؟ فيكون جوابه ما تقدم، والله الموفق.
467

قوله تعالى (وقل الحمد الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل) قال:
470

إن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك؟) قال أحمد: وقد لاحظ الزمخشري ههنا ما أغفله عند قوله
تعالى - الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون - وقد
رددت هذا الوجه فيما تقدم بأن هذه الجملة لا يليق اقترانها بكلمة التحميد ولا تناسبها. فإنك لو قلت ابتداء الحمد لله
الذي الذين كفروا به يعدلون لم يكن مناسبا، والله أعلم.
القول في سورة الكهف
(بسم الله الرحمن الرحيم)
471

قوله تعالى (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم) قال فيه (إن قلت: اتخاذ الله
ولدا في نفسه محال فكيف قيل لهم الخ) قال أحمد: قد مضى له في قوله تعالى - وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به
سلطانا - أن ذلك وارد على سبيل التهكم وإلا فلا سلطان على الشرك حتى ينزل ونظيره:
* ولا ترى الضب بها ينجحر * وقد قدمت حينئذ أن الكلام وارد على سبيل الحقيقة والأصل، وأن نفى إنزال
السلطان تارة لا يكون لاستحالة إنزاله ووجوده، وتارة يكون لأنه لم يقع وإن كان ممكنا، والله أعلم.
472

قوله عز وجل (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) قال (أعرب أحصى فعلا ماضيا أي لنعلم أيهم ضبط
أمدا الخ) قال أحمد: وقد جعل بعض النحاة بناء أفعل من المزيد فيه الهمز قياسا وادعى ذلك مذهبا لسيبويه،
وعلله بأن بناءه منه لا يغير نظم الكلمة، وإنما هو تعويض همزة بهمزة. عاد كلامه، قال (وأيضا فلو كان للتفضيل
لم يخل انتصاب أمدا إما بأفعل الخ) قال أحمد: ولقائل أن ينصبه على التمييز كانتصاب العدد تمييزا في قوله تعالى - وأحصى
كل شئ عددا - ويعضد حمله على أفعل التفضيل وروده في نظير الواقعة واختلاف الأحزاب في مقدار اللبث
وذلك في قوله تعالى - إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما - فأمثلهم طريقة هو أحصاهم لما لبثوا عددا، وكلا
الوجهين جائز، والله أعلم.
474

قوله تعالى (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم
كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إليا قليل) قال (إن قلت لم دخلت الواو في الجملة الأخيرة الخ) قال أحمد:
وهو الصواب، لاكن يقول إنها واو الثمانية، فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم، ويعدون من هذه الواو في قوله
478

في الجنة - وفتحت أبوابها - بخلاف أبواب النار فإنه قال فيها فتحت أبوابها، قالوا: لأن أبواب الجنة ثمانية
وأبواب النار سبعة، وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى
ينتهى إلى الثامن فتصحبه الواو؟ وربما عدوا من ذلك - والناهون عن المنكر - وهو الثامن من قوله - التائبون -
وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي - الآمرون بالمعروف - لما
بينهما من التناسب والربط، ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما كقوله - يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر - وكقوله - وأمر بالمعروف وانه عن المنكر - وربما عد بعضهم من ذلك الواو في قوله - ثيبات وأبكارا -
لأنه وجدها مع الثامن، وهذا غلط فاحش فإن هذه واو التقسيم، ولو ذهبت تحذفها فتقول ثيبات أبكارا لم يستند
الكلام، فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة واردة لغير ما زعمه هؤلاء، والله الموفق.
قوله تعالى (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) قال (كأن معناه: إلا أن تعترض مشيئة
الله دون فعله الخ) قال أحمد: ولابد من حمل الكلام على أحد الوجهين المذكورين، ولولا ذلك لكان المعنى على
479

الظاهر ببادئ الرأي: ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء أن تقول هذا القول، وليس الغرض
ذلك وإنما الغرض النهى عن هذا القول إلا مقرونا بقول المشيئة، وليت شعري ما معنى قول الزمخشري في تفسير
الآية: كان المعنى إلا أن تعترض المشيئة دونه معتقدا أن مشيئة الله تعالى لا تعترض على فعل أحد، فكم شاء من
الأفعال فتركت، وكم شاء من التروك ففعلت على زعم القدرية، فلا معنى على أصلهم الفاسد لتعليق الفعل بالمشيئة
قولا وهو غير متعلق بها وقوعا، حتى إن قول القائل: لا أفعل كذا إلا أن يشاء الله أن أفعله: كذب وخلف
بتقدير فعله إذا كان من قبيل المباح، لأن الله تعالى لا يشاؤه على زعمهم الفاسد، فما أبعد عقدهم من قواعد الشرع
فسحقا سحقا. عاد كلامه، قال (وقوله - واذكر ربك إذا نسيت - أي كلمة الاستثناء، ثم تنبهت لها فتداركها
بالذكر. وعن ابن عباس: ولو بعد سنة مالم تحنث، إلى قوله: وعند عامة الفقهاء الخ) قال أحمد: أما ظاهر
الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة متى ذكرت ولو بعد الطول، وأما حلها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها والله
أعلم. قال (ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح الخ) قال أحمد: ويؤيد هذا التأويل بقوله تعالى أول
القصة " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " فافتتح ذكر القصة بتقليل شأنها وإنكار عده من
عجائب آيات الله، ثم ختمها بأمره عليه الصلاة والسلام بطلب ما هو أرشد وأدخل في الآية، والله أعلم
480

قوله تعالى (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) قال (معناه: جعلنا قلبه غافلا عن
الذكر الخ) قال أحمد: هو يشمر للهرب من الحق، وهو أن المراد خلقنا له، وجدير به أن يشمر في اتباع هواه،
فإن حمل أغفل على بابه صرفه إلى الخذلان، وإلا أخرجه بالكلية عن بابه إلى باب أفعل للمصادفة (7)، ولا يتجرأ
على تفسيره فعل أسنده الله إلى ذاته بالمصادفة إلى تفهيم وجدان الشئ بغتة عن جهل سابق وعدم علم. عاد كلامه
قال (ويجوز أن يكون المعنى من أغفل إبله إذا الخ) قال أحمد: وهذا التأويل فيه رقة حاشية ولطافة معنى،
وغرضه منه الخلاص مما قدمناه، لأنه وإن أبى خلق الله للغفلة في القلب فلا يأبى عدم كتب الإيمان، وإنما غرضنا
التنبيه على أن مقصد الزمخشري الحيد عن القاعدة المتقدمة، والتأويل إنما يصار إليه إذا اعتاص الظاهر، وهو
عندنا ممكن فوجب الاعتصام به والله الموفق. عاد كلامه، قال (وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله - واتبع هواه -)
قال أحمد: قد تقدم في غير ما موضع أن أهل السنة يضيفون فعل العبد إلى الله تعالى من حيث كونه مخلوقا له،
وإلى العبد من حيث كونه مقرونا بقدرته واختياره، ولا تنافى بين الإضافتين، فبراهين السنة تتبعه أينما سلك وأية
توجه فلا محيص له عنها بوجه.
482

قوله تعالى (هنالك الولاية لله الحق) قال (قرئ بالرفع والجر صفة للولاية ولله تعالى الخ) قال أحمد: وقد
تقدم الإنكار عليه في مثل هذا القول، فإنه يوهم أن القراءات موكولة إلى رأى الفصحاء واجتهاد البلغاء فتتفاوت
في الفصاحة لتفاوتهم فيها، وهذا منكر شنيع. والحق أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ إلا بما سمعه فوعاه متصلا بفلق فيه
صلى الله عليه وسلم منزلا كذلك من السماء، فلا وقع لفصاحة الفصيح وإنما هو ناقل كغيره، ولكن الزمخشري
لا يفوته الثناء على رأس البدعة ومعدن الفتنة، فإن عمرو بن عبيد أول مصمم على إنكار القدر وهلم جرا إلى سائر
البدع الاعتزالية، فمن ثم أثنى عليه.
486

قوله تعالى (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) قال (قوله
487

تعالى - كان من الجن - مستأنف تعليل لفسوقه الخ) قال أحمد: والحق معه في هذا الفصل، غير أن قوله تعمده
الله تعالى لفظة لا تروق ولا تليق، فإن التعمد إنما يوصف به عرفا من يفعل في بعض الأحيان خطأ وفى بعضها
تعمدا، فاجتنابها في حق الله تعالى واجب، والله الموفق.
488

قوله تعالى (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت) قال (إن قلت: كيف نسى يوشع ذلك
ومثله لا ينسى الخ) قال أحمد: وقد ورد في الحديث " أن موسى عليه السلام لم ينصب ولم يقل لقد لقينا من سفرنا
هذا نصبا إلا منذ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له " فلعل الحكمة في إنساء الله تعالى ليوشع أن يتيقظ موسى
عليه السلام لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه، وتلك سنة الله الجارية
في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات، وأن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها ويتكفل به ما دام على تلك الحالة،
وموقع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته بونا بينا والله أعلم، وإن كان موسى عليه السلام
متيقظا لذلك فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام إذ قص عليهم القصة، فما
أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلا
وآجلا، والله أعلم.
491

قوله تعالى (قال إنك لن تستطيع معي صبرا) قال (نفى الاستطاعة على وجه التأكيد الخ) قال أحمد: ومما
يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار الالتهاب والحمية للحق أنه قال حين خرق السفينة
أخرقتها لتغرق أهلها ولم يقل لتغرقنا، فنسى نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي كل أحد فيها يقول نفسي نفسي
لا يلوى على مال ولا ولد وتلك حالة الغرق: فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم
والرأفة بهم: صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
492

قوله تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل
سفينة غصبا) قال (إن قلت: قوله أردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها الخ) قال أحمد: وكأنه جعل
السبب في إعابتها كونها لمساكين، ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب بذكر عادة الملك في غصب السفن، وهذا
هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب ثم يوضح المناسبة فيما بعد فلا يحتاج إلى جعله مقدما والنية
495

تأخيره والله أعلم. ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا، ألا تراه في الأولى أسند
الفعل إلى ضميره خاصة بقوله - فأردت أن أعيبها - وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله
- فأردنا أن يبدلهما ربهما - وخشينا أن يرهقهما، ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى
لأن المراد ثم عيب فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب
قول خواص الملك أمرنا بكذا أو دبرنا كذا، وإنما يعنون أمر الملك ودبر، ويدل على ذلك قوله في الثالثة - فأراد
ربك أن يبلغا أشدهما - فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها،
ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة، فسبحان اللطيف الخبير.
496

القول في سورة مريم
(بسم الله الرحمن الرحيم)
501

قوله تعالى (فهب لي من لدنك وليا، إلى قوله: وقد بلغت من الكبر عتيا) قال (إن قلت: لم طلب أولا
وهو وامرأته على صفة العتى الخ) قال أحمد: وفيما أجاب به نظر لأنه التزم أن زكريا استبعد ما وعده الله عز وجل
502

بوقوعه، ولا يجوز للنبي النطق بما لا يسوغ لمثل هذه الفائدة التي عينها الزمخشري ويمكن حصولها بدونه، فالظاهر
في الجواب والله أعلم أن طلبة زكريا إنما كانت ولدا من حيث الجملة وبحسب ذلك أجيب، وليس في الإجابة
ما يدل على أنه يولد له وهو هرم، ولا أنه من زوجته وهى عاقر فاحتمل عنده أن يكون الموعود وهما بهذه الحالة،
واحتمل أن تعادلهما قوتهما وشبابهما كما فعل الله ذلك لغيرهما، أو أن يكون الولد من غير زوجته العاقر، فاستبعد
الولد منهما وهما بحالهما فاستخبر أن يكون وهما كذلك فقيل كذلك: أي يكون الولد وأنتما كذلك، فقد انصرف
الإبعا إلى عين الموعود فزال الإشكال، والله أعلم.
503

قوله تعالى (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) قال (إنما قيل ذلك لأن المعدوم ليس بشئ أو شيئا يعتد به
الخ) قال أحمد: فسر أولا على ظاهر النفي الصرف وهو الحق لأن المعدوم ليس شيئا قطعا، خلافا للمعتزلة في قولهم
إن المعدوم الممكن شئ، ومن ثم كافح الزمخشري عن البقاء على التفسير الأول إلى الثاني بوجه من التأويل يلائم
معتقد المعتزلة فجعل المنفى الشيئية المعتد بها وإن كانت الشيئية المطلقة ثابتة عنده للمعدوم، والحق بقاء الظاهر
في نصابه.
504

قوله تعالى (سأستغفر لك ربى إنه كان بي حفيا) قال (إن قلت: لم استغفر لأبيه وهو كافر الخ) قال أحمد:
وهذه لمظ من الاعتزال مستطيرة من شرر شر قاعدة التحسين والتقبيح. والحق أن العقل لا مدخل له في أن يحكم
بحكم الله تعالى قبل ورود الشرع به، ثم لم يوف الزمخشري بها، فإنه جعل العقل يسوغ الاستغفار وجعل الشرع
مانعا منه، ولا يتصور هذا على قاعدتهم المهدمة، كما لا يتصور ورود الشرع بما يخالف العقل في الإلهيات، نعم
قد يحكم الشرع بما لا يظهر العقل عندهم خلافه، وأما ما يظهر العقل خلافه فلا.
512

قوله تعالى (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) قال (يجوز أن يكون من قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
وأن يكون استثناء منقطعا) قال أحمد: والفرق بين الوجهين أنه جعل الفلول عيبا على سبيل التجوز بتا لنفى العيب
بالكلية كأنه يقول: إن كان فلول السيوف من القراع عيبا فإنهم ذوو عيب، معناه: وإن لم يكن عيبا فليس فيهم
عيب البتة لأنه لا شئ سوى هذا، فهو بعد هذا التجوز والفرض استثناء متصل. عاد كلامه، قال (ويجوز أن
يكون متصلا على أن يكون السلام هو الدعاء بالسلامة الخ) قال أحمد: وهذا يجعله من المتصل على أصل الحقيقة
لا كالأول الناشئ عن المجاز، وفى هذا الباب بعد لأنه يقتضى البت بأن الجنة يسمع فيها لغو وفضول، وحاش لله
فلا غول فيها ولا لغو.
515

قوله تعالى (ويقول الإنسان أئذا مت لسوف أخرج حيا) قال (إن قلت: كيف اجتمعت اللام وهى للحال
مع حرف الاستقبال الخ) قال أحمد: ولاعتقاد تناقض الحرفين منع الكوفيون اجتماعهما، وإنما جردت اللام من
معناها لتلائم سوف دون أن تجرد سوف لتلائم اللام، لأنه لو عكس هذا اللغت سوف، إذ لا معنى لها سوى الاستقبال.
وأما اللام إذا جردت من الحال بقى لها التوكيد فلم تلغ فتعين، والله أعلم
517

قوله تعالى (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) قال (ذكر الله الإنسان النشأة الأولى ليعترف
بالأخرى الخ) قال أحمد: مذهب أهل السنة أن إعادة المعدوم جائزة عقلا ثم واقعة نقلا، والمعتزلة وإن وافقت
على ذلك إلا أنها تزعم أن المعدوم له ذات ثابتة في العدم يقضى عليها بأنها شئ، فليس عندهم عدم صرف ونفى
محض قبل الوجود ولا بعده، فكأنهم لولا ذلك لقالوا بقول الفلاسفة الذين هم مختصرهم، ولأنكروا إعادة المعدوم
كما أنكره القدماء، وعقيدة أهل السنة هي المطابقة للآية، لأنه النشأة الأولى لم يتقدمها وجود، ولأن المنشأ ابتداء
لم يكن شيئا قبل ذلك، وأما النشأة الثانية فقد تقدمها وجود، وكان منشأ قبلها شيئا في زمان وجوده ثم عدم
وبطلت شيئيته فظهر فرق ما بين النشأتين كما نطق به القرآن. وأما المعتزلة فإن قالوا: إن الأجسام يعدمها الله ثم
يوجدها فقد قالوا الحق، لكن لا يتم على أصلهم فرق بين النشأتين لأن المعدوم فيهما كان شيئا قبل النشأة، فإن
قالوا: لا تنعدم بالأجسام وإنما تتفرق ثم تجمع كما صرح به الزمخشري (1) لأنه تفطن لأن القول بأن الأجسام تنعدم
ثم يوجدها الله تعالى مع القول بأن المعدوم شئ يبطل الفرق بين النشأتين ولم يطلق ذلك، وقد نطق به القرآن،
فالتزم أن الأجسام لا تنعدم ليتم له الفرق بين النشأة الثانية، وإنما هي على هذا التقرير جمع وتأليف لموجود، وبين
النشأة الأولى التي هي إيجاد معدوم، فتنبه لبعد غوره، ولكن هرب من القطر فوقع تحت الميزاب، فهو والحالة

(1) (قوله كما صرح الزمخشري الخ). كذا بالأصل وليس فيه جواب الشرط في قوله فإن قالوا لا تنعدم الخ، وليحرر فهما وكشفا
اه‍ مصححه.
518

هذه * كالمستغيث من الرمضاء بالنار * والله ولى التوفيق. ومعنى تفريق الله تعالى بين النشأتين أن الجاحد
متهافت، لأنه اعترف بالأولى وهى أصعب بالنسبة إلى قياس العقل، وأنكر الثانية وهى أسهل وأهون لأن ذلك
راجع إلى قدرته تعالى، فإن الكل لدى قدرة الله تعالى هين على سواء. عاد كلامه، قال (والإنسان يحتمل أن
يراد به العموم الخ) قال أحمد: التبست عليه إرادة العموم بتناول العموم وبينهما بون، ومن ثم خلت عبارته هذه
عن التحرز والصون، فصرح بأن الله تعالى أراد بالإنسان العموم، ومعنى إرادة العموم أن يريد الله تعالى نسبة
كلمة الشك والكفر إلى كل فرد من أفراد الإنسان ومعاذ الله، وقد صرح الزمخشري بأن الناطق بكلمة الشك بعض
الجنس، ففي العبارة خلل كما ترى، والعبارة الصحيحة أن يقال: يحتمل أن يكون التعريف جنسيا فيكون عهديا
فيكون اللفظ من أول وهلة خاصا، والله أعلم.
519

قوله تعالى (وإن منكم إلا واردها) قال (يحتمل أن يكون استئناف خطاب للناس ويحتمل أن يكون التفاتا)
قال أحمد: احتمال الالتفات مفرع على إرادة العموم من الأول، فيكون المخاطبون أولاهم المخاطبين ثانيا، إلا أن
الخطاب الأول بلفظ الغيبة والثاني بلفظ الحضور، وأما إذا بنينا على أن الأول إنما أريد منه خصوص على التقديرين
جميعا، فالثاني ليس التفاتا وإنما هو عدول إلى خطاب العامة عن خطاب خاص لقوم معينين، والله أعلم.
520

قوله تعالى (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) يحتمل أن تكون الواو في لا يملكون ضميرا الخ
524

قال أحمد: وفى هذا الوجه تعسف من حيث إنه إذا جعله علامة لمن فقد كشف معناها وأفصح بأنها متناولة
جمعا، ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير اتخذ، ففيه الإعادة على لفظها بعد الإعادة على معناها بما يخالف ذلك،
وهو مستنكر عندهم لأنه إجمال بعد إيضاح، وذلك تعكيس في طريق البلاغة، وإنما محجتها الواضحة الإيضاح
بعد الإجمال، والواو على إعرابه وإن لم تكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد له، فتنبه
لهذا العقد فإنه أروج من النقد. * وفى عنق الحسناء يستحسن العقد *
قوله تعالى (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) قال (معناه: كدت أهد
السماوات وأفطر الأرض الخ) قال أحمد: ويظهر لي وراءها معنى آخر والله أعلم، وذلك أن الله تعالى قد استعار
لدلالتها على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له أن جعلها تسبح بحمده، قال تعالى - تسبح له
السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده - ومما دلت عليه السماوات والأرض والجبال
525

بل وكل ذرة من ذراتها أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه:
وفى كل شئ له آية * تدل على أنه واحد
فالمعتقد نسبة الولد إلى الله تعالى عقد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله وتقديسه، فاستعير لإبطال
ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق، فسبحان من قسم عباده
فجعل العباد تستلذ فتسبح بتسبيح داود، يكاد ينهد لمقاله من هو عن باب التوفيق مطرود مردود..
526

القول في سورة طه
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) قال (ويحتمل أن يكون المعنى إنا أنزلنا
عليك القرآن لتحتمل الخ) قال أحمد: وفى هذا الوجه الثاني بعد، فإن فيه إثبات كون الشقاء سببا في نزوله عكس
الأول، وإن لم تكن اللام سببية فكانت للصيرورة مثلا ولم يكن فيه ما جرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلى الله عليه وسلم
528

من نهيه عن الشقاء والحزن عليهم وضيق الصدر بهم وكان مضمون هذه الآية متباينا عن قوله تعالى - فلا يكن
في صدرك حرج - فلعلك باخع نفسك على آثارهم - ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر - وأمثاله كثيرة، فالظاهر
والله أعلم هو التأويل الأول.
529

قوله عز وجل (فإنه يعلم السر وأخفى) قال (هو أفعل التفضيل ومنهم من قال إن أخفى فعل ماض الخ) قال أحمد:
لا يخفى أن جعله فعلا قاصرا لفظا ومعنى أما لفظا فإنه يلزم منه عطف الجملة الفعلية على الاسمية إن كان المعطوف
عليه الجملة الكبرى، أو عطف الماضي على المضارع إن كان المعطوف عليه الصغرى، وكلاهما دون الأحسن،
وأما معنى فإن المقصود الحض على ترك الجهر بإسقاط فائدته من حيث إن الله تعالى يعلم السر وما هو أخفى منه،
فكيف يبقى للجهر فائدة، وكلاهما على هذا التأويل مناسب لترك الجهر، وأما إذا جعل فعلا فيخرج عن مقصود
السياق وإن اشتمل على فائدة أخرى وليس هذا كقوله تعالى - يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما -
لأن بين السياقين اختلافا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
530

قوله تعالى (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) قال (معناه: قاربت أن أقول هي آتية الخ) قال أحمد: ولا يقنع
في رد هذا التأويل بالهوينا فإنه بين الفساد، وذلك أن إخفاءها عن الله تعالى محال عقلا، فكيف يوصف المحال
العقلي بقرب الوقوع، وأحسن ما في محامل الآية ما ذكره الأستاذ أبو علي حيث قال: المراد أكاد أزيل خفاءها:
أي أظهرها، إذ الخفاء الغطاء، وهو أيضا ما تجعله المرأة فوق ثيابها يسترها، ثم تقول العرب أخفيته: إذا أزلت
خفاءه، كما تقول أشكيته وأعتبته: إذا أزلت شكايته وعتبه، وحينئذ يلتئم القراءتان: أعني فتح الهمزة وضمها،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
532

قوله تعالى (قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري) قال (إن قلت: ما فائدة لي والكلام مستتب بدونها
الخ) قال أحمد: ويحتمل عندي والله أعلم أن تكون فائدتها الاعتراف بأن منفعة شرح الصدر راجعة إليه وعائدة
عليه، فإن الله عز وجل لا ينتفع بإرساله ولا يستعين بشرح صدره، تعالى وتقدس على خلاف رسول الملك إذا
طلب منه أن يريح عليه فإنما يطلب ما يعود نفعه على مرسله ويحصل له غرضه من رسالته، والله أعلم.
535

قوله تعالى (وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عيني إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله).
536

قال (العامل في إذ إما ألقيت وإما لو تصنع الخ) قال أحمد: والمعنى يوجب عمل ولتصنع فيه، لأن معنى صنيعه على
عين الله عز وجل تربيته مكلوءا بكلاءته مصونا بحفظه، وزمان تربيته على هذه الحالة هو زمان رده إلى أمه
المشفقة الحنانة، وأما إلقاء المحبة عليه فقيل ذلك أول ما أخذه فرعون وأحبه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
537

قوله تعالى (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) الآية. قال (معنى يفرط علينا يعجل بعقوبتنا الخ) قال
أحمد: وإذا روعي في الأدب إطلاق هذه اللفظة عن مجرور بها فلا يبعد أن يراعى في الأدب بالاعتراف بتقلد منة
الله عز وجل المجرور في قوله - اشرح لي صدري - كما قدمته آنفا، والله أعلم.
538

قوله تعالى (قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم
فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) قال (هذا من باب الالتفات الخ) قال أحمد:
الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد يصرف كلامه على وجوه شتى وما نحن فيه ليس من ذلك، فإن الله تعالى
حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون - علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى - ثم قوله - الذي جعل
539

لكم الأرض مهدا - إلى قوله - فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى - فإما أن يجعل من قول موسى فيكون من باب
قول خواص الملك أمرنا وعمرنا، وإنما يريدون الملك وليس هذا بالتفات، وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى
عند قوله: ولا ينسى. ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه فليس التفاتا أيضا وإنما هو انتقال
من حكاية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وقيفة عند قوله - ولا ينسى - ليستقر بانتهاء
الحكاية. ويحتمل وجها آخر وهو أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة فقال - الذي جعل لكم
الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى - فلما حكاه الله تعالى عنه
أسند الضمير إلى ذاته، لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى، فمرجع الضميرين واحد، وهذا الوجه وجه
حين دقيق الحاشية، وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات لكن الزمخشري لم يعنه، والله أعلم.
540

قوله تعالى (فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر.
541

الناس ضحى) قال (إن جعلت وعدا الأول اسم مكان ليطابق قوله مكانا سوى لزمك الخ) قال أحمد: وفى
إعماله وقد وصف بقوله لا نخلفه بعد إلا أن تجعل الجملة معترضة فهو مع ذلك لا يخلو من بعد من حيث إن وقوع
الجملة عقيب النكرة بحيزها الشأن أن تكون صفة والله أعلم. ويحتمل عندي وجه آخر أخصر وأسلم، وهو أن
يجعل موعدا اسم مكان فيطابق مكانا ويكون بدلا منه، ويطابق الجواب بالزمان بالتقرير الذي ذكره ويبقى عود
الضمير فنقول هو والحالة هذه عائد على المصدر المفهوم من اسم المكان لأن حروفه فيه، والموعد إذا كان اسم
مكان فحاصله مكان وعد، كما إذا كان اسم زمان فحاصله زمان وعد، وإذا جاز رجوع الضمير إلى ما دلت قوة
الكلام عليه وإن لم يكن منطوقا به بوجه فرجوعه إلى ما هو كالمنطوق به أولى، ومما يحقق ذلك أنهم قالوا: من
صدق كان خيرا له: يعنون كان الصدق خيرا له، فأعادوا الضمير على المصدر وقدروه منطوقا به للنطق بالفعل
الذي هو مشتق منه، وإذا أوضح ذلك فاسم المكان مشتق من المصدر اشتقاق الفعل منه، فالنطق به كاف في
إعادة الضمير على مصدره، والله أعلم. وعلى هذين التأويلين يكون جواب موسى عليه السلام من جوامع كلم
الأنبياء، لأنه سئل أن يواعدهم مكانا فعلم أنهم لا بد أن يسألوه مواعدة على زمان أيضا، فأسلف الجواب عنه
وضمنها جوابا مفردا. ولقائل أن يقول: إن كان المسؤول منه المواعدة على المكان فلم أجاب بالزمان الذي لم يسئل
عنه صريحا وجعل جواب ما سئل عنه مضمنه وجوابه والله أعلم أن يقول: اكتفى بقرينة السؤال عن صريح
الجواب، وأما مالم يسئل عنه فلو ضمنه لم يفهم قصده إليه إذا لا قرينة تدل عليه، والله أعلم.]
542

قوله تعالى (قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى) قال (لقد ألهمهم الله حسن الأدب مع
موسى عليه السلام في تخييره وإعطاء النصفة من أنفسهم الخ) قال أحمد: وقيل ذلك تأدبوا معه بقولهم - فاجعل
بيننا وبينك موعدا لا نخلفه - ففوضوا ضرب الموعد إليه وكما ألهمهم الله عز وجل موسى ههنا أن يجعلهم مبتدئين بما
معهم ليكون إلقاؤه العصا بعد قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول أن يجعل
موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد فيكون أفصح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم،
والله أعلم.
قوله تعالى (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) قال (وقال ما في يمينك ولم يقل عصاك الخ) قال أحمد: وإنما
المقصود بتحقيرها في جنب القدرة تحقير كيد السحرة بطريق الأولى، لأنها إذا كانت أعظم منة وهى حقيرة في
جانب قدرة الله تعالى فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح
بتعظيم جيش عدو الممدوح ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه فصغر الله أمر العصا
ليلزم منه تصغير كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين. عاد كلامه، قال (ويجوز أن يكون تعظيما لأمرها إذ فيه
تثبيت لقلب موسى على النصر الخ) قال أحمد: وههنا لطيفة وهو أنه تلقى من هذا النظم أو لا قصد التحقير،
وثانيا قصد التعظيم فلا بد من نكتة تناسب الأمرين، وتلك والله أعلم هي إرادة المذكور منهما لأن ما في يمينك أبهم
544

من عصاك. وللعرب مذهب في التنكير والإبهام والإجمال تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته ولأنه عند الناطق به
أهون من أن يخصه ويوضحه، ومرة لتعظيم شأنه وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان: يعنى فيه الرمز
والإشارة، فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا. وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير والله أعلم،
وهو أن موسى عليه السلام أول من علم أن العصا آية من الله تعالى عندما سأله عنها بقوله تعالى - وما تلك بيمينك
يا موسى - ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها قال تعالى - وألق ما في يمينك -
ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له - وما تلك بيمينك - وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيها له
وتأنيسا حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت، ألا ترى إلى
قوله تعالى - فأوجس في نفسه خيفة موسى - والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله تعالى (فألقى السحرة سجدا) الآية. قال (سبحان من فرق بين الإلقاءين إلقائهم حبالهم وعصيهم الخ) قال
أحمد: وفى تكرير لفظ الإلقاء والعدول عن مثل فسجد السحرة إيقاظ السامع لألطاف الله تعالى في نقله عباده من
غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد، وهذا الإيقاظ لا يحصل على الوجه إلى هذا القصد إلا بتكرير لفظ
واحد على معنيين متناقضين، وهو يناسب ما قدمته آنفا في إيجاز الخطاب في قوله - وألق ما في يمينك - وما تلك
بيمينك - فتأمله فإن الحق حسن متناسب، والله الموفق.
545

قوله تعالى (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) قال (قرئ بسكون الباء وبفتحها الخ) قال أحمد: ووجه آخر
وهو أن قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا، وقد كانت بهذه المثابة لأنها كانت اثنى عشر طريقا لكل سبط
طريق، والله أعلم.
546

قوله تعالى (وأضل فرعون قومه وما هدى) قال (إنما قيل وما هدى تهكما به الخ) قال أحمد: فإن قلت:
التهكم أن يأتي بعبارة والمقصود عكس مقتضاها كقولهم - إنك لأنت الحليم الرشيد - وغرضهم وصفة بضد هذين
التهكم أن يأتي بعبارة والمقصود عكس مقتضاها كقولهم - إنك لأنت الحليم الرشيد - وغرضهم وصفه بضد هذين
الوصفين، وأما قوله تعالى - وما هدى - فمضمونه هو الواقع، فهو حينئذ مجرد إخبار عن عدم هدايته لقومه.
قلت: هو كذلك، ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية مهتديا في نفسه
ولكنه لم يهد عمرا، وفرعون أضل الضالين في نفسه فكيف يتوهم أنه يهدى غيره، وتحقيق ذلك أن قوله تعالى
- وأضل فرعون قومه - كاف في الإخبار بعدم هدايته لهم مع مزيد إضلاله إياهم، فإن من لا يهدى قد لا يضل
فيكون كفافا، وإذا تحقق غناء الأول في الإخبار تعين كون الثاني لمعنى سواء وهو التهكم، والله أعلم.
547

قوله تعالى - ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى) قال (الغضب عقوبة الله تعالى لهم الخ) قال أحمد: لا يسعه
أن يحمل الغضب إلا على العقوبة لأنه ينفى صفة الإرادة في جملة ما ينفونه من صفات الكمال، وأما على قاعدة السنة
فيجوز أن يكون المراد من الغضب إرادة العقوبة فيكون من أوصاف الذات، ويحتمل أن يراد به معاملتهم بما يعامل
به من غضب عليه شاهدا فيكون من صفات الأفعال، وأما وصفه بالحلول فلا يتأتى جمله على الإرادة ويكون
بمنزلة قوله عليه الصلاة والسلام " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا " على التأويل المعروف، أو عبر عن حلول أثر الإرادة
بحلولها تعييرا عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله: يعنى أثر
القدرة لا نفسها، والله أعلم.
قوله تعالى (وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم هؤلاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى) قال فيه
548

(إن قلت: سئل عن سبب العجلة الخ) قال أحمد: وإنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة وهو أعلم أن يعلم
موسى أدب السفر، وهو أن ينبغي تأخير رئيس القوم عنهم في المسير ليكون نظره محيطا بطائفته ونافذا فيهم
ومهيمنا عليهم، وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطا؟ فقال
- واتبع أدبارهم - فأمره أن يكون أخيرهم، على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله
عز وجل ومسارعة إلى الميعاد، وذلك شأن الموعود بما يسره يود لو ركب إليه أجنحة الطير، ولا أسر من مواعدة
الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) قال (إن قلت لم خلق الله العجل فتنة لهم الخ) قال أحمد: هذا
السؤال وجوابه تقدما له في أول سورة الأعراف، وقد أوضحنا أن الله تعالى إنما تعبدنا بالبحث عن علل أحكامه
لا علل أفعاله، وجواب هذا السؤال في قوله تعالى - لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون - فهذا الأمر جائز وقد أخبر الله
تعالى بوقوعه فلا نبتغي وراء ذلك سبيلا، لكن الزمخشري تقتضى قاعدته في وجوب رعاية المصالح على الله تعالى
وتحتم هداية الخلق عليه أن يؤول ذلك ويحرفه، فذرهم وما يفترون.
549

قوله تعالى (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) قال (معناه:
وكما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة للوعيد الخ) قال أحمد: الصواب في تفسيرها ليكونوا على رجاء التقوى
والتذكر، وإلا فلو أراد الله من جميعهم التقوى لوقعت وقد تقدمت أمثالها، والعجب أنه نقل عن سيبويه في
تفسيره لعل أول هذه السورة عند قوله تعالى - لعله يتذكر أو يخشى - أن معناه: كونا على رجائكم، ثم رجع عن
ذلك ههنا لأن المعتقد الفاسد يحدوه إلى هذا التأويل الباطل، والله الموفق.
554

قوله تعالى (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) قال (ذكر تعالى الأصناف التي
بها قوام الإنسان الخ) قال أحمد: تنبيه حسن: وفى الآية سر بديع مع البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير،
وذلك أن قطع الظمأ من الجوع والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه
النعم وتصنيفها، ولو قرن كلا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة، وقد رمق أهل البلاغة سماه هذا المعنى قديما
وحديثا فقال الكندي الأول:
كأني لم أركب جوادا للذة * ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أرشف الزق الروى ولم أقل * لخيلي كرى كرة بعد إجفال
فقطع ركوب الجواد عن قوله لخيلي كرى كرة، وقطع تباطن الكاعب عن ترشف الكاس مع التناسب،
وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها، وتبعه الكندي الآخر فقال:
وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة * ووجهك وضاح وثغرك باسم
فاعترضه سيف الدولة بأنه ليس فيه قطع الشئ عن نظيره، ولكنه على فطنته قصر فهمه عما طالت إليه يد
556

أبى الطيب من هذا المعنى الطائل البديع، على أن في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر، وهو أن قصد
تناسب الفواصل ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك ألا تجوع فيها ولا تظمأ. لانتثر سلك رؤوس الآي وأحسن
به منتظما، والله أعلما.
557

قوله تعالى (ورزق ربك خير وأبقى) قال (معناه: إن رزق هؤلاء المتمتعين في الدنيا أكثره مكتسب من
الحرام الخ) قال أحمد: لولا أن غرض القدرية من هذا إثبات رازق غير الله تعالى كما أثبتوا خالقا سوى الله تعالى
لكان البحث لفظيا. فالحق والسنة أن كل ما تقوم به البنية رزق من الله تعالى سواء كان حلالا أو غيره، ولا
يلزم من كون الله تعالى رزقه أن يكون حلالا، فكما يخلق الله تعالى على يدي العبد ما نهاه عنه كذلك يرزقه ما أباح
له تناوله ومالا - لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون - والله الموفق للصواب.
560

القول في سورة الأنبياء
(بسم الله الرحمن الرحيم)
561

قوله تعالى (قال ربى يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم) قال (إن قلت: لم عدل عن قوله يعلم
السر مع أن المتقدم وأسروا النجوى الخ) قال أحمد: وهذا من اتباع القرآن للرأي نعوذ بالله من ذلك، لا سيما رأى
ينفى صفات الكمال عن الله تعالى، وما الذي (1) دل عليه السميع العليم من نفى صفتي السمع والعلم في تفسيرهما
بذلك مع أنه لا يفهم في اللغة سميع إلا بسمع، ولا عليما إلا بعلم، فإنها صفات مشتقات من مصادر لا بد من فهمها
وثبوتها أولا، ثم ثبوت ما اشتقت منه، ومن أنكر السمع والعلم فقد سارع إلى إنكار السميع العليم وهو لا يشعر،
وليس غرضنا في هذا المصنف سوى الإيقاظ لما انطوى عليه الكشاف من غوائل البدع ليتجنبها الناظر، وأما
الأدلة الكلامية فمن فنها تتلقى وحاله فيما يورده من أمثال هذه النزعات مختلف، فمرة يوردها عند كلام يتخيل في
ظاهره إشعار بغرضه، فوظيفتنا معه حينئذ أن ننازع في الظهور، ثم قد نترقى إلى بيان ظهوره في عكس مراده أو
نصوصيته حتى لا يحتمل ما يدعيه بوجه ما، وقد يلجئنا الإنصاف إلى تسليم الظهور له فنذكر وجه التأويل الذي
يرشد إليه دليل العقل ومرة يورد نبذا من هذا الرأي عند كلام لا يحتمله ولا يشعر به بوجه وغرضه التعسف حتى
لا يخلى شيئا من كلامه من تعصب وإصرار على باطل فننبه على ذلك أيضا، وما ذكره عند هذه الآية من قبيل
ما يدل النص على عكس مراده فيه وقد أوضحناه.

(1) قوله وما الذي الخ كذا بالأصل وليحرر فهما وكشفا اه‍ مصححه.
563

قوله تعالى (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) قال (معناه: سبحاننا أن نتخذ لهوا ولعبا الخ) قال
أحمد: وله تحت قوله واستغنائنا عن القبيح دفين من البدعة والضلالة، ولكنه من الكنوز التي يمحى عليها في نار
جهنم، وذلك أن القدرية يوجبون على الله تعالى رعاية المصالح وفعل ما يتوهمونه حسنا بعقولهم ويظنون أن الحكمة
565

تقتضى ذلك، فلا يستغنى الحكيم على زعمهم عن خلق الحسن على وفق الحكمة، بخلاف القبيح فإن الحكمة تقتضى
الاستغناء عنه، فإلى ذلك يلوح الزمخشري، وما هي إلا نزغة سبق إليها صلال الفلاسفة، ومن ثم يقولون ليس
في الإمكان أكمل من هذا العالم: لأنه لو كان في القدرة أكمل منه وأحسن ثم لم يخلقه الله تعالى لكان بخلا ينافي
الجود أو عجزا ينافي القدرة حتى اتبعهم في ذلك من لا نسميه من أهل الملة، عفا الله عنه إن كان هذا مما يدخل تحت
ذيل العفو، فالحق أن الله تعالى مستغن عن جميع الأفعال حسنة كانت أو غيرها مصلحة كانت أو مفسدة، وأن له
أن لا يخلق ما يتوهمه القدرية حسنا، وله أن يفعل ما يتوهمونه في الشاهد قبيحا، وأن كل موجود من فاعل وفعل
على الإطلاق فبقدرته وجد، فليس في الوجود إلا الله وصفاته وأفعاله، وهو مستغن عن العالم بأسره وحسنه وقبحه
" فلو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم على أتقى قلب رجل منكم لم يزد ذلك في ملكه شيئا، ولو أن أولكم وآخركم
وإنسكم وجنكم على أفجر قلب رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكه شيئا ". اللهم ألهمنا الحق واستعملنا به. عاد
كلامه، قال (وفى قوله تعالى - بل نقذف بالحق على الباطل - استعارة حسنة استعار القذف الخ) قال أحمد:
ومثل هذا التنبيه من حسناته، ولولا أن السيئة التي قبلها تتعلق بالعقيدة لتلوت - إن الحسنات يذهبن السيئات -
والله أعلم.
قوله تعالى (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) قال (فيه إن قلت: لم استعمل الاستحسار ههنا في
النفي الخ) قال أحمد: وبمثله أجيب عن قوله تعالى - وما ربك بظلام للعبيد - فانظره.
قوله تعالى (أم اتخذوه آلهة من الأرض هم ينشرون) قال (إن قلت كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة الخ؟).
566

قال أحمد: فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها وهو أبلغ في الإنكار، والله سبحانه وتعالى أعلم. عاد
كلامه، قال (إن قلت: لا بد لقوله هم من فائدة وإلا فالكلام مستقل بدونها الخ) قال أحمد: وفى هذه النكتة
نظر لأن آلات الحصر مفقودة، وليس ذلك من قبيل صديقي زيد، فإن المبتدأ في الآية أخص شئ لأنه ضمير،
وأيضا فلا ينبنى على ذلك إلزامهم حصر الألوهية فيهم وتخصيص الإنشار بهم ونفيه عن الله تعالى، إذ هذا لا يناسب
السياق، فإنه قال عقبها: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، ومعناه: لو كان فيهما إله غير الله شريكا لله لفسدتا
وكان مقتضى ما قال الزمخشري أن يقال: لو لم يكن فيهما آلهة إلا الأصنام لفسدتا، وأما والمتلو على خلاف ذلك
فلا وجه لما قال الزمخشري. وعندي أن يحتمل والله أعلم أن تكون فائدة قوله هم الإيذان بأنهم لم يدعوا لها الإنشار،
وأن قوله هم ينشرون استئناف إلزام لهم وكأنه قال: اتخذوا آلهة مع الله عز وجل فهم إذن يحيون الموتى ضرورة
كونهم آلهة، ثم لما انتظم من دعواهم الألوهية للأصنام وإلزامهم على ذلك أن يصفوهم بالقدرة الكاملة على إحياء
الموتى نظم في إبطال هذه الدعوى وما ألزمهم عليها دليل قوله تعالى - لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا -. وأزيد
هذا التقرير وضوحا. فأقول: إن دليل التمانع المغترف من بحر هذه الآية المقتبس من نورها يورده المتكلمون على
صورة التقسيم فيقولون: لو وجد مع الله إله آخر، وربما قالوا: لو فرضنا وجود إلهين فإما أن يكونا جميعا
موصوفين بصفات الكمال اللاتي يندرج فيها القدرة على إحياء الموتى وإنشارهم وغير ذلك من الممكنات، أو
لا يتصف بها واحد منهما أو أحدهما دون الآخر، ثم يحيلون جميع الأقسام وهو المسمى برهان الخلف وأدق الأجسام
567

إبطالا قسم اتصافهما جميعا بصفات الكمال وما عداه فببادي الرأي يبطل فانظر كيف اختار له تعالى إبطال هذا
القسم الخفي البطلان، فأوضح فساده في أخصر أسلوب وأوجزه وأبلغ بديع الكلام ومعجزه، وإنما ينتظم هذا على
أن يكون المقصد من قوله ينشرون إلزامهم ادعاء صفات الألوهية لآلهتهم حتى يتحرى أنهم اختاروا القسم الذي
أبطله الله تعالى ووكل إبطال ما عداه من الأقسام إلى ما ركبه في عباده من العقول، وكل خطب بعد بطلان هذا
القسم جلل والله الموفق. فتأمل هذا الفصل بعين الإنصاف تجده أنفس الإنصاف والله المستعان.
قوله تعالى (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) قال (لما بين تعالى أنه رب الأرباب وخالقهم ومالكهم ناسب
هذا التنبيه على ما يجب له تعالى على خلقه من الإجلال والإعظام، فإن آحاد الملوك تمنع مهابته أن يسئل عن فعل
فعله، فما ظنك بخالق الملوك وربهم؟ ثم إن آحاد الملوك يجوز عليهم الخطأ والزلل، وقد استقر في العقول أن أفعال
الله تعالى كلها مفعولة بدواعي الحكمة ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح) قال أحمد: سحقا لها من لفظة ما أسوأ
أدبها مع الله تعالى: أعني قوله دواعي الحكمة، فإن الدواعي والصوارف إنما تستعمل في حق المحدثين كقولك
هو مما توفر دواعي الناس إليه أو صوارفهم عنه، وقوله لا يجوز عليه فعل القبائح. قلت: وهذا من الطراز
الأول ولو أنه في الذيل * فقد نسيت وما بالعهد من قدم * وبعد ما انقضى دليل التوحيد وإبطال الشرك من
سمعك أيها الزمخشري وقلمك رطب لتقريره فلم نكصت وانتكست؟ أتقول: إن أحدا شريك الله في ملكه يفعل
ما يشاء من الأفعال التي تسميها قبائح فتنفيها عن قدرة الله تعالى وإرادته، وما الفرق بين من يشرك بالله ملكا من
الملائكة وبين من يشرك نفسه بربه حتى يقول إنه يفعل ويخلق لنفسه شاء الله أو لم يشأ، تعالى الله عما يقول
الظالمون علوا كبيرا. والقدرية ارتضوا لأنفسهم شر شرك، لأن غيرهم أشرك بالملائكة وهم أشركوا بنفوسهم
وبالشياطين والجن وجميع الحيوانات، أعوذ بمالك الملك من مسالك الهلك.
568

قوله تعالى (سبحانه بل عباد مكرمون) قال (معناه: مكرمون مفضلون على سائر عباد الله الخ) قال أحمد:
وهذا التفسير من جعل القرآن تبعا للرأي، فإنه لما كان يعتقد تفضيل الملائكة على الرسل نزل الآية على معتقده،
وليس غرضنا إلا بيان أنه حمل الآية ما لا تحتمله وتناول منها مالا تعطيه، لأنه ادعى أنهم مكرمون على سائر الخلق
لا على بعضهم، فدعواه شاملة ودليله مطلق، والله الموفق.
569

قوله تعالى - وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم) قال (معناه: كراهية أن تميد بهم أو تكون لا محذوفة
لأمن الإلباس) قال أحمد: وأولى من هذين الوجهين أن يكون من قولهم أعددت هذه الخشية أن تميل الحائط
فأدعمه. قال سيبويه: ومعناه أن أدعم الحائط إذا مال، وإنما قدم ذكر الميل اهتماما بشأنه، ولأنه أيضا هو
السبب في الإدعام، والإدعام سبب في إعداد الخشية، فعامل سبب السبب معاملة السبب وعليه حمل قوله تعالى
570

- أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى - كذلك ما نحن فيه يكون الأصل وجعلنا في الأرض رواسي لأجل
أن تثبتها إذا مادت بهم فجعل الميد هو السبب عما جعل الميل في المثل المذكور سببا وصار الكلام - وجعلنا في
الأرض رواسي أن تميد - فنثبتها ثم حذف قوله فنثبتها لأمن الإلباس إيجازا واختصارا، وهذا التقرير أقرب إلى
الواقع مما أول الزمخشري الآية عليه، فإن مقتضى تأويله أن لا تميد الأرض بأهلها لأن الله كره ذلك، ومكروه الله
تعالى محال أن يقع، كما أن مراده واجب أن يقع، والمشاهد خلاف ذلك، فكم من زلزلة مادت لها الأرض
وكادت تقلب عاليها سافلها. وأما على تقريرنا فالمراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وهذا لا يأبى
وقوع الميد. كما أن قوله - أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى - لا يأبى وقوع الضلال والنسيان من إحداهما
لكنه ميد يستعقبه التثبيت، وكذلك الواقع من الزلازل إنما هو كاللمحة ثم ثبتها الله تعالى.
571

قوله تعالى (أهذا الذي يذكر آلهتكم) قال (فيه الذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما
أطلق ولم يقيد، فإن كان الذاكر صديقا فهم منه الخير وإن كان عدوا فهم منه الذم الخ) قال أحمد: وكذلك القول
ومنه قول موسى عليه السلام - أتقولون للحق ما جاءكم - معناه: أتعيبون الحق لما جاءكم، ثم ابتدأ فقال: أسحر
هذا، وإنما لم يجعله معمولا للقول ومحكيا به لأنهم قفوا القول بأنه سحر فقالوا - إن هذا لسحر مبين - ولم يشككوا
أنفسهم ولا استفهموا، وقد مضى فيه غير هذا، وإنما أطلقوا في قولهم " أهذا الذي يذكر آلهتكم " ولم يقولوا أهذا
الذي يذكر آلهتكم بكل سوء لأنهم استفظعوا حكاية ما يقوله النبي من القدح في آلهتهم رميا بأنها لا تسمع ولا
تبصر ولا تنفع ولا تضر، وحاشوها من نقل ذمها مفصلا، فأوموا إليه بالإشارة المذكورة كما يتحاشى المؤمن
من حكاية كلمة الكفر فيومى إليها بلفظ يفهم المقصود بطريق التعريض، فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع
الأوثان وأساءوا الأدب على الرحمن.
572

قوله تعالى (ولسليمان الريح عاصفة) قال (إن قلت: قد وصفت هذه الريح بأنها رخاء، وبأنها
عاصف فما وجه ذلك؟ قلت: ما هي إلا جمعتهما وكانت في نفسها رخاء طيبة وفى سرعة حركتها كالعاصف الخ)
قال أحمد: وهذا كما ورد وصف عصا موسى تارة بأنها جان وتارة بأنها ثعبان، والجان الرقيق من الحيات،
والثعبان العظيم الجافي منها، ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين فكانت في خفتها وفى سرعة حركتها كالجان وكانت
في عظم خلقها كالثعبان، ففي كل واحد من الريح والعصا على هذا التقرير معجزتان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
580

قوله تعالى (فنفخنا فيها من روحنا) قال (إن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه، وحينئذ يكون
معناه فأحيينا مريم ويشكل إذ ذاك. قلت: معناه فنفخنا الروح في عيسى في مريم أي أحييناه في جوفها انتهى
كلامه) قال أحمد: وقد اختار الزمخشري في قوله عز وجل - إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت
فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل - أن تكون الضمائر كلها راجعة إلى موسى، أما الأول فلا إشكال فيه، وأما
التابوت إذا قذف في اليم وموسى فيه فقد قذف موسى في اليم، وكذلك الثالث، واختار غيره عود الضميرين.
582

الأخيرين إلى التابوت لأنه فهم من قوله - فأقذفيه في اليم - أن المراد التابوت، وأما موسى فلم يقذف في اليم،
والزمخشري نزل قذف التابوت في اليم وموسى فيه منزلة قذفه في اليم. وفى هذه الآية مصداق لما اختاره فإن الله
تعالى نزل نفخ الروح في عيسى لكونه في جوف مريم منزلة نفخ الروح في مريم فعبر بما يفهم ظاهر هذا.
583

قوله تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) قال (فيه إن قلت: ما أول الخلق حتى
يعيده كما بدأه؟ قلت: أول الخلق إيجاده عن العدم فكما أو جده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم) قلت: هذا
الذي ذكره ههنا في المعاد قد عاد به إلى الحق ورجع عما قاله في سورة مريم حيث فسر الإعادة بجمع المتفرق خاصة
إلا أنه كدر صفو اعترافه بالحق بتفسيره قوله - إنا كنا فاعلين - بالقدرة على الفعل، ولا يلزم على هذا من القدرة
على الفعل حصوله تحويما على أن الموعود به ليس إعادة الأجسام عن عدم وإن كانت القدرة صالحة لذلك، ولكن
إعادة الأجزاء على صورها مجتمعة مؤتلفة على ما تقدم له في سورة مريم، إلا أن يكون الباعث له على تفسير الفعل
بالقدرة أن الله ذكر ماضيا والإعادة وقوعها مستقبل، فتعين عنده من ثم حمل الفعل على القدرة فقد قارب، ومع
ذلك فالحق بقاء الفعل على ظاهره لأن الأفعال المستقبلة التي علم الله وقوعها كالماضية في التحقق، فمن ثم عبر عن
المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز، والغرض الإيذان بتحقيق وقوعه والله أعلم.
585

انتهى الجزء الثاني من كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف، ويليه الجزء الثالث وأوله:
سورة الحج
587