الكتاب: التبيان
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ١
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
ردمك:
ملاحظات: دار إحياء التراث العربي

اسم الكتاب: التبيان في تفسير القرآن - المجلد الأول
المؤلف: شيخ الطائفة أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي
الناشر: مكتب الاعلام الاسلامي
طبع على مطابع: مكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: الأولى
تاريخ النشر: رمضان المبارك 1209 ه‍. ق
التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 ه‍
تحقيق وتصحيح
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد الأول
دار
احياء التراث العربي
حياة الشيخ الطوسي
طلبنا من المؤرخ الشهير والبحاثة الكبير الامام آية الله الشيخ
آغا بزرگ الطهراني دام ظله ان يستل لنا ترجمة الشيخ الطوسي
من كتابه (إزاحة الحلك الدامس بالشموس المضيئة في القرن
الخامس) الذي هو من أجزاء موسوعته (طبقات أعلام الشيعة)
فتفضل بذلك وأضاف إليها فوائد مهمة وأمورا لا يستغني عنها
الباحثون، وسماها (حياة الشيخ الطوسي) فله منا الشكر
ومن الله الاجر. الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد
ارتسمت على كل أفق من آفاق العالم الاسلامي أسماء رجال معدودين إمتازوا
بمواهب وعبقريات رفعتهم إلى الأوج الأعلى من آفاق هذا العالم، وسجلت أسماءهم
في قائمة عظماء التاريخ، وجهابذة العلم، وأصبحوا نجوما لامعة، ومصابيح ساطعة
تتلألأ في كبد السماء كتلألأ الجوزاء، وتضئ لأهل هذه الدنيا فتستفيد من
نورها المجموعة البشرية كل حسب مكانته وعلى مقداره، وبذلك بنوا لأنفسهم
مجدا لا يطرأ عليه التلاشي والنسيان، وخلد ذكرهم على مر الزمان وتعاقب الملوان.
وثمة رجال ارتسمت أسماؤهم في كل أفق من تلك الآفاق، وهم قليلون للعناية
شذت بهم طبيعة هذا الكون فكان لهم من نبوغهم وعظمتهم ما جعلهم أفذاذا في
دنيا الاسلام، وشواذا لا يمكن أن يجعلوا مقياسا لغيرهم، أو ميزانا توزن به
مقادير الرجال، إذ لا يمكنها أن تنال مراتبهم وان اشرأبت إليها أعناقهم وحدثتهم
بها نفوسهم.
المقدمة 1

[ومن تلك القلة شيخنا وشيخ الكل في الكل علامة الآفاق شيخ الطائفة
الطوسي أعلى الله درجاته وأجزل أجره، فقد شاءت إرادة الله العليا أن تبارك في علمه
وقلمه فتخرج منهما للناس نتاجا من أفضل النتاج، فيه كل ما يدل على غزارة العلم
وسعة الاطلاع، وقد مازه الله تعالى بصفات بارزة، وخصه بعناية فائقة، وفضله
على كثير ممن خلق تفضيلا.
وقد كرس - قدس الله نفسه - حياته طوال عمره لخدمة الدين والمذهب،
وبهذا استحق مكانته السامية من العالم الاسلامي عامة والشيعي خاصة، وبانتاجه
الغزير أصبح - وأمسى - علما من أعظم أعلامه، ودعامة من أكبر دعائمه، يذكر
اسمه من كل تعظيم وإجلال وإكبار وإعجاب، ولقد أجاد من قال فيه:
شيخ الهدى والطائفة * أثر القرون السالفة
وصل الآله فخصه * بنهى الأمور العارفة
ظهرت سريرة علمه * بالفضل عنه كاشفه
لله أوقف نفسه * شكر الآله موافقه
سحب الرضا هتفت على * قبر يضمك، واكفه
كم قد حباه فضيلة * متبوعة مترادفه؟ (1)]
نسبه:
هو الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي. نسبة إلى
طوس من مدن خراسان التي هي من أقدم بلاد فارس وأشهرها، وكانت - ولا تزال -
من مراكز العلم ومعاهد الثقافة، لأن فيها قبر الامام على الرضا عليه السلام، ثامن
أئمة الشيعة الاثني عشرية، وهي لذلك مهوى أفئدتهم يقصدونها من الأماكن الشاسعة
والبلدان النائية، ويتقاطرون إليها من كل صوب وحدب، للثم تلك العتبة المقدسة
والتمرغ في ذلك الثرى الطيب.

كتبت هذه الأبيات على ثريا أهديت لمرقد شيخ الطائفة ولم يذكر ناظمها.
المقدمة 2

[ومن أجل هذا وذاك أصبحت كغيرها من مراقد آل محمد عليهم السلام هدفا
لأعدائهم، فقد انتابتها النكبات، وخرجت ثلاث مرات، هدمها للمرة الأولى
الأمير سبكتكين، وقوضها للمرة الثانية الغزنويون، وأتلفتها للمرة الثالثة عاصفة
الفتنة المغولية عام 716 ه‍ على عهد الطاغية جنگيزخان، وقد تجددت أبنيتها وأعيدت
آثارها بعد كل مرة، وهي اليوم - مع ما حل فيها من تخريب ودمار - من أجل معاهد
العلم عند الشيعة بالرغم من أعدائهم وفيها خزانة كتب للامام الرضا عليه السلام
بحق للعالم الشيعي أن بعدها من مفاخرة، والله غالب على أمره.]
ولادته ونشأته:
ولد شيخ الطائفة في طوس في شهر رمضان سنة 385 هجرية - أعني عام وفاة
هارون بن موسى التلعكبري، وبعد أربع سنين من وفاة الشيخ الصدوق - وهاجر
إلى العراق فهبط بغداد في سنة 408 ه‍ (1) وهو ابن ثلاثة وعشرين عاما، وكانت
زعامة المذهب الجعفري فيها يومذاك لشيخ الأمة وعلم الشيعة محمد بن محمد بن النعمان
الشهير بالشيخ المفيد عطر الله مثواه، فلازمه ملازمة الظل، وعكف على الاستفادة
منه، وأدرك شيخه الحسين بن عبيد الله ابن الغضائري المتوفى سنة 411 ه‍، وشارك
النجاشي في جملة من مشايخه، وبقى على اتصاله بشيخه حتى اختار الله للأستاذ دار
لقائه في سنة 413 ه‍، فانتقلت زعامة الدين ورياسة المذهب إلى علامة تلاميذه علم
الهدى السيد المرتضى طاب رمسه، فانحاز شيخ الطائفة اليه، ولازم الحضور تحت
منبره، وعني بها المرتضى، وبالغ في توجيه وتلقينه، واهتم له أكثر من سائر
تلاميذه، وعين له في كل شهر إثنى عشر دينارا (2) وبقى ملازما له طيلة ثلاث

(1) فما ذكره في " الروضات " من روايته عن الشريف الرضي كما في ترجمة الشريف ص 573
من الطبعة الأولى من سبق القلم، حيث كانت وفاة الشريف سنة 406 ه‍ بالاجماع، و دخول الشيخ
بغداد كان في 408 كما صرح به هو أيضا في ص 581، والغريب نقل بعض لذلك عن " مستدرك
الوسائل " لشيخنا الحجة النوري وهو خال من ذلك بل هو الذي نبه على هذا الاشتباه.
(2) ان هذا وأمثاله مما يكذب ما ينسبونه إلى السيد المرتضى من البخل، وانه دخل على الوزير
المهلبي فقدم له عريضة يطلب فيها رفع ضريبة قدرها عشرون دينارا فرضت على أرض له فلم يحفل الوزير به واعرض عنه فلامه بعض الحضور على اهانته واحترام أخيه الرضي مع انه دونه في
العلم والفضل فعلل بما مر. هذا كله مما خلقه المغرضون وأنت ترى ان انتقال الرياسة الدينية
اليه في بغداد بذلك العصر يستلزم الكرم والجود الفائقين، كما ان مما لا شك فيه انه كان بعول
بجماعة من تلامذته - غير الشيخ الطوسي - أن لم يعل بالجميع، ويبذل لهم ما كان يبذل له وقد ذكر
الشيخ البهائي في " الكشكول " ما كان يجريه المرتضى للشيخ الطوسي وقال بعده: ولأبي البراج كل شهر ثمانية
دنانير الخ. وقد تصدى لرد مثل هذه المختلقات ولدنا الدكتور عبد الرزاق محي الدين في كتابه " أدب السيد المرتضى " الذي نال به شهادة الدكتوراه في الأدب من القاهرة، والذي عرضه
علينا بعد عودته إلى العراق فراقنا كثيرا وكتبنا عليه تقريظا.
المقدمة 3

[وعشرين سنة، وحتى توفي السيد المعظم لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة 436 ه‍
فاستقل شيخ الطائفة بالإمامة، وظهر على منصة الزعامة، وأصبح علما للشيعة ومنارا
للشريعة، وكانت داره في الكرخ مأوى الأمة، ومقصد الوفاد، يأتونها لحل المشاكل
وايضاح المسائل، وقد تقاطر اليه العلماء والفضلاء للتلمذة عليه والحضور تحت منبره
وقصدوه من كل بلد ومكان، وبلغت عدة تلاميذه ثلاثمائة من مجتهدي الشيعة،
ومن العامة ما لا يحصى كثرة.
وقد اعترف كل فرد من هؤلاء بعظمته ونبوغه، وكبر شخصيته وتقدمه
على من سواه، وبلغ الأمر من الاعتناء به والاكبار له أن جعل له خليفة الوقت
القائم بأمر الله - عبد الله - ابن القادر بالله - أحمد - كرسي الكلام والإفادة، وقد
كان لهذا الكرسي يومذاك عظمة وقدرا فوق الوصف، إذ لم يسمحوا به إلا لمن برز
في علومه، وتفوق على أقرانه، ولم يكن في بغداد يومذاك من يفوقه قدرا أو يفضل عليه علما فكان هو المتعين لذلك الشرف.
هجرته إلى النجف الأشرف:] لم يفتأ شيخ الطائفة إمام عصره وعزيز مصره، حتى ثارت القلاقل وحدثت
الفتن بين الشيعة والسنة، ولم تزل تنجم وتخبو بين الفينة والأخرى، حتى اتسع
نطاقها بأمر طغرل بيك أول ملوك السلجوقية فإنه ورد بغداد في سنة 447 ه‍ وشن
على الشيعة حملة شعواء، وأمر باحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور
المقدمة 4

ابن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي وكانت من دور العلم المهمة في بغداد، بناها
هذا الوزير الجليل والأديب الفاضل في محلة بين السورين في الكرخ سنة 381 ه‍
على مثال (بيت الحكمة) الذي بناه هارون الرشيد، وكانت مهمة للغاية فقد جمع
فيها هذا الوزير ما تفرق من كتب فارس والعراق، واستكتب تآليف أهل الهند
والصين والروم كما قاله محمد كرد علي (1) ونافت كتبها في عشرة آلاف من جلائل الآثار
ومهام الاسفار، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلفين، قال ياقوت الحموي (2):
وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء
الدولة بن عضد الدولة ولم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها كانت كلها بخطوط الأئمة
المعتبرة وأصولهم المحررة إلخ وكان من جملتها مائة مصحف بخط ابن مقلة على ما ذكره
ابن الأثير (3) وحيث كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب (4) أخذ العلماء
يهدون اليه مؤلفاتهم فأصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد، وقد احترقت
هذه المكتبة العظيمة فيما احترق من محال الكرخ عند مجيء طغرل بيك، وتوسعت الفتنة
حتى اتجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام
قال ابن الجوزي (5) في حوادث سنة 448 ه‍: وهرب أبو جعفر

(1) خطط الشام ج 6 ص 185
(2) معجم البلدان ج 2 ص 342.
(3) التاريخ الكامل
ج 10 ص 3
(4) سابور معرب شاپور " شاه پور " كان من وزراء الشيعة للملك الشيعي بهاء
الدولة، وكان من أهل العلم والفضل والأدب، وكانت دار علمه محط الشعراء والأدباء، ذكره الثعالبي
في " يتيمة الدهر " وعقد فصلا خاصا للشعراء الذين مدحوه، منهم أبو العلاء المعري فقد مدحه
بقصيدة مشهورة وذكر فيها دار كتبه هذه بقوله:
وغنت لنا في دار سابور قينة * من الورق مطراب الاصائل مهباب
ترجم له ابن خلكان في " وفيات الأعيان " ج 1 ص 199 - 200 فقال: كان من أكابر
الوزراء وأماثل الرؤساء، جمعت فيه الكفاية والدراية، وكان بابه محط الشعراء الخ وهذه المكانة
المادية - مضافا إلى ما للرجل في نفسه من الفضائل العلمية والكمالات الروحية - من الأسباب القوية
لتحريضه على جمع الكتب العلمية ووقفها لأهل مذهبه، ولا سيما النفيسة القليلة الوجود المصححة المعتبرة
كما هي صفة جماعتي الكتب حتى اليوم.
ولد بشيراز في سنة 336 ه‍ وتوفي في 416 ه‍ وتوفي مخدومه بهاء الدولة في 403 ه‍ عن 42
سنة - ودفن في النجف عند والده فنا خسرو الملقب بعضد الدولة كما ذكره القاضي نور الله المرعشي
في " مجالس المؤمنين " ص 379 رحمهم الله جميعا. (5) المنتظم ج 8 ص 173 و 179.
المقدمة 5

الطوسي ونهبت داره. ثم قال في حوادث سنة 449 ه‍: وفي صفر في هذه السنة
كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسي
كان يجلس عليه للكلام، وأخرج إلى الكرخ وأضيف اليه ثلاث سناجيق بيض كان
الزوار من أهل الكرخ قديما يحلمونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة فأحرق الجميع إلخ.
ولما رأى الشيخ الخطر محدقا به هاجر بنفسه إلى النجف الأشرف لائذا
بجوار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وصيرها مركزا للعلم وجامعة كبرى للشيعة
الامامية، وعاصمة للدين الاسلامي والمذهب الجعفري، وأخذت تشد إليها الرحال
وتعلق بها الآمال، وأصبحت مهبط رجال العلم ومهوى أفئدتهم وقام فيها بناء صرح
الاسلام، وكان الفضل في ذلك لشيخ الطائفة نفسه فقد بث في أعلام حوزته الروح
العلمية، وغرس في قلوبهم بذور المعارف الآلهية، فحسروا للعلم عن سواعدهم
ووصلوا فيه ليلهم بنهارهم عاكفين على دروسهم خائضين عباب العلم خائضين على أسراره
موغلين في استبطان دخائله واستخراج مخبآته، وكيف لا يكونون كذلك وقد
شرح الله للعلم والعمل صدورهم وصقل أذهانهم وارهف طباعهم فحموا وطيس العلم،
وبان فضل النجف على ما سواها من المعاهد العملية، وخلفوا الذكر الجميل على مر الدهور
والأعصار أعلى الله في الفردوس درجاتهم، ولقد أحسن وأجاد صديقنا العلامة
الحجة السيد علي نقي النقوي دام ظله حيث قال:
ذا شيخنا الطوسي شيد بها * لربوع شرع المصطفى شرف
فهو الذي اتخذ (الغري) له * مأوى به العلياء تعتكف
فتهافتوا لسراج حكمته * مثل الفراش اليه تزدلف
وقفتهم الأبناء ضامنة * تجديد ما قد شاءه السلف الخ
تلك هي جامعة النجف العظمى التي شيد شيخ الطائفة ركنها الأساسي ووضع
حجرها الأول، وقد تخرج منها خلال هذه القرون المتطاولة آلاف مؤلفة من
أساطين الدين وأعاظم الفقهاء وكبار الفلاسفة ونوابغ المتكلمين، وأفاضل المفسرين
واجلاء اللغويين، وغيرهم ممن خبروا العلوم الاسلامية بأنواعها وبرعوا فيها أيما
المقدمة 6

براعة، وليس أدل على ذلك من آثارهم المهمة التي هي في طليعة التراث الاسلامي
ولم تزل زاهية حتى هذا اليوم، يرتحل إليها رواد العلوم والمعارف من سائر الأقطار
والقارات فيرتوون من مناهلها العذبة وعيونها الصافية (والمنهل العذب كثير الزحام).
وقد استدل بعض الكتاب المحدثين على وجود الجامعة العلمية في النجف قبل
هجرة شيخ الطائفة إليها، وذلك اعتمادا على استجازة الشيخ أبي العباس النجاشي من
الشيخ أبي عبد الله الخمري فقد قال في كتاب رجاله المطبوع ص 50 عن كتاب " عمل
السلطان " للبوشنجي ما لفظه: أجازنا بروايته أبو عبد الله الخمري الشيخ الصالح في
مشهد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام سنة أربعمائة.
وهذا لا يكفي للتدليل فالنجف مشهد يقصد للزيارة فربما تلاقيا في النجف
زائرين فحصلت الاستجازة كما هو الحال في المحقق الحلي صاحب " الشرايع " فقد
أجاز البعض في النجف أيام ازدهار العلم في الحلة وفتوره في النجف، فهل يمكن
عد المحقق من سكنة النجف؟ وقد استجزت انا بعض المشايخ في كربلا ومشهد
الكاظمين ومكة والمدينة والقاهرة وغيرها، وأجزت جمعا من العلماء في الري ومشهد
الرضا عليه السلام بخراسان وغير ذلك من البلاد، ودون بعض ذلك في بعض المؤلفات
فهل ينبغي عدي أوعد المجازين في علماء فارس أو الحجاز أو مصر؟
ثم انني اذهب إلى القول بأن النجف كانت مأوى للعلماء وناديا للمعارف قبل
هجرة الشيخ إليها، وان هذا الموضع المقدس أصبح ملجىء للشيعة منذ أنشأت فيه
العمارة الأولى على مرقد الامام أمير المؤمنين عليه السلام، لكن حيث لم تأمن الشيعة
على نفوسها من تحكمات الأمويين والعباسيين، ولم يستطيعوا بث علومهم ورواياتهم
كان الفقهاء والمحدثون لا يتجاهرون بشيء مما عندهم، وكانوا متبددين حتى عصر
الشيخ الطوسي والى أيامه، وبعد هجرته انتظم الوضع الدراسي وتشكلت الحلقات كما
لا يخفى على من راجع (آمالي الشيخ الطوسي) الذي كان يمليه على تلامذته.
مكانته العلمية:
من البديهيات أن مكانة شيخ الطائفة المعظم وثروته العلمية الغزيرة في غنى
المقدمة 7

عن البيان والأطراء، وليس في وسع الكاتب - مهما تكلف - استكناه ما له من
الأشواط البعيدة في العلم والعمل، والمكانة الراسية عند الطائفة، والمنزلة الكبرى في
رياسة الشيعة، ودون مقام الشيخ المعظم كلما ذكره الاعلام في تراجمهم له من عبارات
الثناء والاكبار، فمن سبر تاريخ الامامية ومعاجمهم، وأمعن النظر في مؤلفات الشيخ
العلمية المتنوعة علم أنه أكبر علماء الدين، وشيخ كافة مجتهدي المسلمين، والقدوة
لجميع المؤسسين، وفي الطليعة من فقهاء الاثني عشرية. فقد أسس طريقة الاجتهاد
المطلق في الفقه وأصوله، وانتهى اليه امر الاستنباط على طريقة الجعفرية المثلى،
وقد اشتهر بالشيخ فهو المراد به إذا اطلق في كلمات الأصحاب، من عصره إلى عصر
زعيم الشيعة بوقته مالك أزمة لتحقيق والتدقيق الحجة الكبرى أبي ذر زمانه الشيخ مرتضى
الأنصاري المتوفى سنة 1281 ه‍ فقد يطلق الشيخ في عصرنا هذا وقبيله ويكون
المراد به الشيخ الأنصاري، أما في كتب القدماء والسلف فالمراد هو شيخ الطائفة
قدس الله نفسه (1).
مضت على علماء الشيعة سنون متطاولة وأجيال متعاقبة ولم يكن من الهين على
أحد منهم ان يعدو نظريات شيخ الطائفة في الفتاوى، وكانوا يعدون أحاديثه أصلا
مسلما، ويكتفون بها، و يعدون التأليف في قبالها، واصدار الفتوى مع وجودها
تجاسرا على الشيخ وإهانة له، واستمرت الحال على ذلك حتى عصر الشيخ ابن إدريس
فكان - أعلى الله مقامه - يسميهم بالمقلده، وهو أول من خالف بعض آراء الشيخ
وفتاواه وفتح باب الرد على نظرياته، ومع ذلك فقد بقوا على تلك الحال حتى ان
المحقق وابن أخته العلامة الحلي ومن عاصرهما بقوا لا يعدون رأي شيخ الطائفة، قال

(1) وقد يقال: الشيخان. ويراد به الشيخ المفيد والشيخ الطوسي، والشيخان في اصطلاح
المتكلمين هما الجبائيان أبو علي محمد بن عبد الوهاب المتوفي سنة 303 ه‍، وابنه أبو هاشم عبد
السلام بن محمد المتوفي سنة 321 ه‍ وكلاهما من رؤساء المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال
والكتب الكلامية مشحونة بمقالاتهما.
ويطلق الشيخ في كتب الحكمة والمنطق على أبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري
المتوفى سنة 428 ه‍ ويطلق الشيخ في كتب البلاغة على الشيخ أبي بكر عبد القاهر الجرجاني
المتوفى سنة 471، ه‍ وغير ذلك.
المقدمة 8

الحجة الفقيه الشيخ أسد الله الدزفولي التستري في " المقابس " ما لفظه: حتى ان
كثيرا ما يذكر مثل المحقق والعلامة أو غيرهما فتاويه من دون نسبتها اليه، ثم
يذكرون ما يقتضي التردد أو المخالفة فيها فيتوهم التنافي بين الكلامين مع ان الوجه
فيهما ما قلناه.
نعم لما ألف المحقق الحلي " شرايع الاسلام " استعاضوا به عن مؤلفات شيخ
الطائفة، وأصبح من كتبهم الدراسية، بعد ان كان كتاب " النهاية " هو المحور
وكان بحثهم وتدريسهم وشروحهم غالبا فيه وعليه.
وليس معنى ذلك إن مؤلفات شيخ الطائفة فقدت أهميتها أو أصبحت لغوا لا
يحتفل بها، كلا بل لم تزل أهميتها تزداد على مرور الزمن شيئا فشيئا ولن تجد في
تاريخ الشيعة ومعاجمهم ذكر عظيم طار اسمه في البلدان واعترف له خصومه بالجلالة،
الا ووجدته يتضاءل أمام عظمة الشيخ الطوسي، ويعترف بأعلميته وأفضليته
وسبقه وتقدمه.
هذا النابغة الفذ الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف الحلي المتوفى
سنة 726 ه‍ الشهير بالعلامة، الذي طبقت العالم الاسلامي شهرته، والذي تضلع في
سائر العلوم ونبغ في كافة الفنون. وانتهت اليه رياسة علماء عصره في المعقول والمنقول
وألف في كل علم عدة كتب، ولم يشك أحد في انه من عظماء العالم ونوادر الدهر،
هذا الرجل الذي مر عليك بعض وصفه ذكر شيخ الطائفة في كتابه " خلاصة
الأقوال في معرفة أحوال الرجال " (1) ص 73 ووصفه بقوله:
شيخ الامامية ووجهم، ورئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة،

(1) طبع هذا الكتاب في طهران عام 1311 ه‍ طبعة سقيمة مملوءة بالأغلاط. وقد رأيت
منه نسخا صحيحة متقنة إحداها في (الخزانة الغروية) تاريخ كتابتها (766 ه‍) وهي مقرره
على المشايخ وعليها بلاغاتهم، وفيها فوائد كثيرة، والثانية في (مكتبة الحجة السيد حسن الصدر)
وهي نفيسة أيضا قرئت على مصنفها العلامة فكتب على ظهر القسم الأول منها إجازة، وفي آخر
القسم الثاني إجازة أخرى أيضا كلتاهما في سنة 715 ه‍ وهما لواحد، والثالثة كتبت عن نسخة
بخط حفيد المؤلف أي أبي المظفر يحيى بن محمد بن الحسن إلى غير ذلك ولمعرفة خصوصيات هذا الكتاب
وزيادة الاطلاع عليه راجع كتابنا " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " ج 7 ص 214 - 215.
المقدمة 9

عين، صدوق، عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام والأدب، وجميع
الفضائل تنسب اليه، صنف في كل فنون الاسلام، وهو المهذب للعقائد في الأصول
والفروع، الجامع لكمالات النفس في العلم والعمل الخ.
وكذا الحجة الكبير والعالم العظيم محيي علوم أهل البيت الشيخ محمد باقر المجلسي
صاحب دائرة المعارف الكبرى " بحار الأنوار " والمتوفى سنة 1111 ه‍ فقد ذكر
شيخ الطائفة في كتابه " الوجيزة " ص 163 فقال ما بعضه:
فضله وجلالته اشهر من ان يحتاج إلى البيان إلخ.
وكذا العلامة الشهير الحجة السيد مهدي الطباطبائي الملقب ببحر العلوم والمتوفى
سنة 1212 ه‍ فقد ترجم لشيخ الطائفة في كتابه " الفوائد الرجالية " فقال
ما ملخصه:
شيخ الطائفة المحقة، ورافع أعلام الشريعة الحقة، إمام الفرقة بعد الأئمة
المعصومين - عليهم السلام -، وعماد الشيعة الامامية في كل ما يتعلق بالمذهب والدين،
محقق الأصول والفروع، ومهذب فنون المعقول والمسموع، شيخ الطائفة على
الاطلاق، ورئيسها الذي تلوى اليه الأعناق، صنف في جميع علوم الاسلام، وكان
القدوة في ذلك والامام.
ومثلهم شيخنا وأستاذنا حجة العلماء وشيخ المجتهدين الشيخ ميرزا حسين
النوري المتوفى سنه 1320 ه‍ فقد ذكره في كتابه " مستدرك وسائل الشيعة "
فأطراه وبالغ في الثناء عليه، إلى غير ذلك من عشرات الرجال من الشيعة والسنة،
وسنذكر قسما منهم في هذه الترجمة.
ومن هذه الأقوال البليغة وغيرها التي صدرت من عظماء الشيعة وكبرائهم
نعرف مكانة الشيخ ونستغني عن سرد فضائله ومناقبه الكثيرة.
آثاره ومآثره:
لم تزل مؤلفات شيخ الطائفة تحتل المكانة السامية بين آلاف الأسفار الجلية
التي أنتجتها عقول علماء الشيعة الجبارة، ودبجتها يراعة أولئك الفطاحل الذين عز
المقدمة 10

على الدهر أن يأتي لهم بمثيل، ولم تزل أيضا غرة ناصعة في جبين الدهر وناصية الزمن
وكيف لا وقد جمعت معظم العلوم الاسلامية أصلية وفرعية، وتضمنت حل معضلات
المباحث الفلسفية والكلامية التي لم تزل آراء العباقرة والنياقدة حائمة حولها، كما
احتضنت كل ما يحتاج اليه علماء المسلمين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وحسب
الشيخ عظمة ان كتابيه (التهذيب) و (الاستبصار) من الأصول المسلمة في
مدارك الفقه، ومن الكتب الأربعة التي عليها المدار - على مرور الاعصار - في
استنباط أحكام الدين بعد كتاب الله المبين.
لم يكن خلود الشيخ في التاريخ وحصوله على هذه المرتبة الجليلة إلا نتيجة
لإخلاصه وتبتله الواقعي، حيث لم يؤلف طلبا للشهرة أو حبا للرياسة أو استمالة
لقلوب الناس وجلبا لهم، أو مباهاة لعالم من معاصريه، أو رغبة في التفوق أو غير
ذلك من المقاصد الدنيئة والمآرب الدنيوية التي ابتلي بها الكثير من معاصرينا
- للأسف - حاشا وكلا بل لم تخطر له على بال، وانما كان في ذلك كله قاصدا وجه
الله تعالى شأنه، راغبا في حسن جزائه طالبا لجزيل ثوابه، حريصا على حماية الدين
واحياء شريعة سيد المرسلين ومحو آثار المفسدين، ولذلك كان مؤيدا في أعماله
مسددا في أقواله وافعاله، وقضية واحدة تدلنا على شدة اخلاص الشيخ نثبتها بنصها
عبرة للمعتبرين.
قال شيخنا ومولانا الحجة خاتمة المحدثين الميرزا حسين النوري أعلى الله مقامه
في " مستدرك الوسائل " ج 3 ص 506 ما لفظه:
وعثرت على نسخة قديمة من كتاب " النهاية " وفى ظهره بخط الكتاب، وفى
موضع آخر بخط بعض العلماء ما لفظه: قال الشيخ الفقيه نجيب الدين أبو طالب
الأسترآبادي رحمه الله: وجدت على كتاب " النهاية " ب‍ (خزانة مدرسة الري)
قال: حدثنا جماعة من أصحابنا الثقات ان المشايخ الفقهاء الحسين بن المظفر الحمداني
القزويني، وعبد الجبار بن علي المقرئ الرازي، والحسن بن الحسين بن بابويه
المدعو ب‍ (حسكا) المتوطن بالري رحمهم الله كانوا يتحاثون ببغداد ويتذاكرون
المقدمة 11

كتاب " النهاية " وترتيب أبوابه وفصوله، فكان كل واحد منهم يعارض الشيخ
الفقيه أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي رحمة الله عليه في مسائل، ويذكر انه لا يخلو
من خلل، ثم اتفق انهم خرجوا لزيارة المشهد المقدس بالغري على صاحبه السلام،
وكان ذلك على عهد الشيخ الفقيه أبي جعفر الطوسي رحمه الله وقدس روحه، وكان
يتخالج في صدورهم من ذلك ما يتخالج قبل ذلك، فأجمع رأيهم على ان يصوموا
ثلاثا ويغتسلوا ليلة الجمعة، ويصلوا ويدعوا بحضرة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام
على جوابه فلعله يتضح لهم ما اختلفوا فيه، فسنح لهم أمير المؤمنين عليه السلام
في النوم، وقال:
لم يصنف مصنف في فقه آل محمد عليهم السلام كتابا أولى بأن يعتمد عليه
ويتخذ قدوة ويرجع اليه، أولى من كتاب النهاية التي - كذا - تنازعتم فيه، وانما
كان ذلك لان مصنفه اعتمد فيه على خلوص النية لله، والتقرب والزلفى لديه فلا ترتابوا
في صحة ما ضمنه مصنفه، واعملوا به وأقيموا مسائله، فقد تعنى في تهذيبه وترتيبه
والتحري بالمسائل الصحيحة بجميع أطرافها.
فلما قاموا من مضاجعهم أقبل كل واحد منهم على صاحبه، فقال: رأيت
الليلة رؤيا تدل على صحة " النهاية " والاعتماد على مصنفها فاجمعوا على ان يكتب كل
واحد منهم رؤياه على بياض قبل التلفظ، فتعارضت - كذا - الرؤيا لفظا ومعنى، وقاموا
متفرقين مغتبطين بذلك فدخلوا على شيخهم أبي جعفر الطوسي قدس الله روحه،
فحين وقعت عينه عليهم قال لهم: لم تسكنوا إلى ما كنت أوقفتكم عليه في كتاب
(النهاية) حتى سمعتم من لفظ مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، فتعجبوا من قوله
وسألوه عما استقبلهم به من ذلك، فقال: سنح لي أمير المؤمنين عليه السلام كما سنح
لكم فأورد علي ما قاله لكم وحكى رؤياه على وجهها وبهذا الكتاب يفتي الشيعة
فقهاء آل محمد عليهم السلام والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله الطاهرين انتهى.
انتهى ما في مستدرك شيخنا النوري.
وهذه القضية وحدها كافية للتدليل على إخلاص شيخ الطائفة وصدق
المقدمة 12

خدمته - وان كان في غنى عن ذلك - وحسبه ذخرا يوم العرض شهادة أمير المؤمنين
عليه السلام: بأنه لم يقصد بتأليف الكتاب غير وجه الله. ولمثل هذا فليعمل
العاملون ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
ومما يجدر بالذكر إننا نستفيد من هذه الواقعة أمرين لم يصرح بهما شيخنا النوري
- عطر الله مثواه -.
الأول: إن معارضي الشيخ لم يكن لهم معه غرض شخصي في تخطئته ونقده
وانما اختلفوا معه في بعض الآراء الفقهية فظنوا انه مخطأ، وان فتاويه غير مرضية
عند آل محمد عليه وعليهم السلام. ولم يكن ذلك إلا غيرة على الدين، وتحمسا له،
وتحفظا من وقوع الخطأ فيه، ولذلك لجئوا إلى الامام عليه السلام مستفسرين منه
عن وقع ذلك في نفسه، فأجابهم عليه السلام بالرضا والقبول فسروا واطمأنوا وغبطوا
شيخ الطائفة على توفيقه، كما تدل عليه عبارة: وقاموا متفرقين مغتبطين الخ.
الثاني - وهو أهم من سابقه - إنهم كانوا على بصيرة من أمرهم، واطمئنان
من أنفسهم، وكانوا يشعرون برضى أئمتهم عليهم السلام عنهم، ويرون أنفسهم عبيدا
وخدما لمواليهم، وليس على العبد إذا أراد المثول بين يدي مولاه إلا أن يكون
على نحو يرضيه وشكل يبتغيه، وأن يكون ممتثلا لأوامره مبتعدا عن نواهيه،
وإذا فأي مانع من وصوله إلى حضرة مولاه، وتشرفه بخدمته؟.
وأنت ترى ان هؤلاء المشايخ رضوان الله عليهم، لما عسر عليهم فهم هذا الامر
وانغلقت في وجوهم أبواب الرجاء والأمل، لجئوا إلى مواجهة الامام عليه السلام
ولم تكن مقدماتهم لذلك سوى بعض الآداب الشرعية المرعية من الصوم والوضوء
والدعاء والرجاء فلو علم هؤلاء بتقصير لهم، أو شعروا بتخلفهم عن بعض أوامره،
لما جسروا على طلب مواجهته ومقابلته، وبهذا وغيره أعلمنا قدماؤنا رضوان الله
عليهم أنهم كانوا في غاية الالتزام بالتكاليف الشرعية كبيرة وصغيرة، وفي غاية
البعد عن كل دنية حتى المكروه والمباح، وقد وعظونا بأعمالهم أكثر مما وعظونا
بأقوالهم فيجب علينا اتباعهم والسير على الخطى التي رسموها لنا والطرق التي سنوها
المقدمة 13

من أجلنا، وان لا نزل عن النهج القويم والصراط المستقيم عسى ان يشملنا عطف
أئمة الهدى عليهم السلام فيكونوا شفعاءنا (يوم لا تغني نفس عن نفس شيئا ولا
تنفعها شفاعة).
لقد طال بنا الكلام وخرجنا عما نحن بصدده فنعود الآن إلى ذكر مؤلفات
الشيخ فنقول: إن في مؤلفات شيخ الطائفة ميزة خاصة لا توجد فيما عداها من
مؤلفات السلف، وذلك لأنها المنبع الأول والمصدر الوحيد لمعظم مؤلفي القرون
الوسطى، حيث استقوا منها مادتهم وكونوا كتبهم، ولأنها حوت خلاصة الكتب
المذهبية القديمة، وأصول (1) الأصحاب فقد مر عليك عند ذكر هجرة الشيخ إلى
النجف الأشرف ان مكتبة سابور في الكرخ كانت تحتضن الكتب القديمة الصحيحة
التي هي بخطوط مؤلفيها أو بلاغاتهم، وقد صارت كافة تلك الكتب طعمة للنار كما
ذكرناه، ولم نفقد بذلك - والحمد لله - سوى أعيانها الشخصية وهيآتها التركيبية
الموجودة في الخارج، وأما محتوياتها وموادها الأصلية فهي باقية على حالها دون
زيادة حرف ولا نقيصة حرف، لوجودها في المجاميع القديمة التي جمعت فيها مواد
تلك الأصول قبل تاريخ إحراق المكتبة بسنين كثيرة، حيث ألف جمع من أعاظم
العلماء كتبا متنوعة، واستخرجوا جميع ما في كتبهم من تلك الأصول وغيرها
مما كان في المكتبات الأخرى، وتلك الكتب التي ألفت عن تلك الأصول موجودة
بعينها حتى هذا اليوم، وأكثر أولئك استفادة من تلك المكتبة وغيرها شيخ الطائفة
الطوسي - رحمة الله عليه - لأنها كانت تحت يده وفي تصرفه، وهو زعيم الشيعة
ومقدمهم يومذاك، فلم يدع كتابا فيها إلا وعمد إلى مراجعته واستخراج ما يخص
مواضيعه منه.
وهناك مكتبة أخرى كانت في متناول يده، وهي مكتبة أستاذه السيد
المرتضى الذي صحبه ثمان وعشرين سنة، وكانت تشتمل على ثمانين ألف كتاب

(1) الأصل: عنوان يصدق على بعض كتب الحديث خاصة، والأصول الأربعمائة هي:
أربعمائة كتاب ألفت من جوابات الامام الصادق عليه السلام، وقد تكلمنا عنها في غاية الوضوح
والدقة في كتابنا (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) ج 1 ص 125 - 135 فليراجعه طالب التفصيل.
المقدمة 14

سوى ما أهدي منها إلى الرؤساء كما صرح به كل من ترجم له، وذلك أحد وجوه
تلقيبه بالثمانيني.
نعم كان شيخ الطائفة متمكنا من هاتين الخزانتين العظيمتين، وكأن الله ألهمه
الأخذ بحظه منهما قبل فوات الفرصة، فقد اغتنمها أجزل الله أجره، وغربل كوم
الكتب فأخذ منها حاجة وظفر فيها بضالته المنشودة، وألف كتابيه الجليلين
(التهذيب) و (الاستبصار) اللذين هما من الكتب الأربعة، والمجاميع الحديثية
التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعية عند الفقهاء الاثني عشرية منذ عصر مؤلفه
حتى اليوم، وألف أيضا غيرهما من مهام الأسفار قبل ان يحدث شيء مما ذكرنا، وكذا
غيره من الحج فقد أجهدوا نفوسهم وتفننوا في حفظ تراث آل محمد عليه وعليهم
السلام، فكان لهم بحمد الله ما أرادوا.
وهكذا استقى شيخ الطائفة مادة مؤلفاته من تصانيف القدماء، وكتب
في كافة العلوم من الفقه وأصوله، والكلام والتفسير، والحديث والرجال، والأدعية
والعبادات، وغيرها، وكانت ولم تزل مؤلفاته في كل علم من العلوم مآخذ علوم الدين
بأنوارها يستضيئون ومنها يقتبسون وعليها يعتمدون.
ولهذه الناحية فان لشيخ الطائفة على الشيعة حقا لا ينكر وفضلا لا يستر، على أن جمعا من علماء الشيعة القدماء عملوا ما عمله، فان الشيخين الكليني والصدوق
ألفا (الكافي) و (من لا يحضره الفقيه) اللذين هما من الكتب الأربعة أيضا، وكذا
غيرهما من الأقطاب، وإنا لا ننكر فضلهم بل نشكرهم على حسن صنيعهم ونقدر مجهودهم
ونسأل الله لهم الأجر والثواب الجزيل، إلا انه لا بد لنا من الاعتراف بان شيخ
الطائفة بمفرده قام بما لا تقوم به الجماعة ونهض بأعباء ثقيلة لم يكن من السهل على
غيره النهوض بها لولا العناية الربانية التي شدت عضده، فان الغير ممن أجهد نفسه
الكريمة فكتب وألف قد خص موضوعا واحدا كالفقه أو الحديث أو الدعاء أو غير
ذلك بينما لم يدع شيخ الطائفة بابا إلا طرقه، ولا طريقا إلا سلكها، وقد ترك لنا
نتاجا طيبا متنوعا غذى عقول فطاحل عدة قرون وأجيال.
المقدمة 15

ومع ما ذكرناه مما حل بكتب الشيعة من حريق وتلف وتدمير، فقد شذت
مجموعة نادرة منها، وبقيت عدة من تلك الكتب بهيآتها إلى أوائل القرن الثامن،
ومنها عدد كثير من كتب الأدعية، فقد حصلت جملة وافية للسيد جمال السالكين
رضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن محمد الطاووسي الحسيني الحلي المتوفى
سنة 664 ه‍، كما يظهر ذلك من النقل عنها في أثناء تصانيفه، فقد ذكر في الفصل
الثاني والأربعين بعد المائة من كتابه (كشف المحجة) الذي الفه سنة 649 ه‍ بعد
ترغيب ولده إلى تعلم العلوم ما لفظه: (هي الله جل جلاله لك علي يدي كتبا كثيرة
- إلى قوله بعد ذكر كتب التفسير -: وهيء الله جل جلاله عندي عدة مجلدات في
الدعوات أكثر من ستين مجلدا).
وبعد هذه السنة حصلت عنده عدة كتب أخرى، فقال في آخر كتابه (مهج
الدعوات) الذي فرغ منه يوم الجمعة 7 جمادى الأولى سنة 662 ه‍ يعني قبل وفاته بسنتين
تقريبا: (فان في خزانة كتبنا هذه الأوقات أكثر من سبعين مجلدا في الدعوات).
أقول: وأما سائر كتبه فقد جاء في (مجموعة الشهيد)، أنه جرى ملكه في
سنة تأليفه (الاقبال) - وهي سنة 650 ه‍ - على ألف وخمس مائة كتاب. والله أعلم
بما زيد عليها من هذا التاريخ إلى وفاته في سنة 664 ه‍ وهذه النيف والسبعون مجلدا
من كتب الدعوات التي عنده كلها كانت من كتب المتقدمين على الشيخ الطوسي
- الذي توفى سنة 460 - لان الشيخ منتجب الدين بن بابويه القمي جمع تراجم
المتأخرين عن الشيخ الطوسي إلى ما يقرب من مائة وخمسين سنة وذكر تصانيفهم،
ولا نجد في تصانيفهم من كتب الدعاء إلا قليلا، وذلك لما ذكرناه من أن علماء الشيعة
بعده إلى مائة سنة أو أكثر كانوا مكتفين بمؤلفاته ومتحاشين عن التأليف في قبالها،
والحديث في هذا الباب طويل تكاد تضيق عن الإحاطة به هذه الصحائف، فلتمسك
عنان القلم محيلين طالب التفصيل إلى مقالتين مبسوطتين كتبناهما في (الذريعة الأولى
في ج 1 ص 125 - 135 والثانية في ج 8 ص 172 - 181 واليك الآن فهرس ما
وصل الينا من مؤلفات شيخ الطائفة مرتبا على حروف الهجاء:
المقدمة 16

1 - الأبواب: سمي بذلك لأنه مرتب على أبواب بعدد رجال أصحاب
النبي (ص) وأصحاب كل واحد من الأئمة (ع) ويسمي ب‍ (رجال شيخ الطائفة)
وقد ذكرناه بالعنوانين في (الذريعة) في ج 1 ص 73 و ج 10 ص 120 وهو
أحد الأصول الرجالية المعتمدة عند علمائنا، وقد انتخبه شيخنا العلامة الحجة السيد محمد
على الشاه عبد العظيمي النجفي المتوفى سنة 1334 ه‍ كما انتخب فهرست الشيخ ورجال كل
من الكشي والنجاشي وخلاصة العلامة الحلي وسمى الجميع (منتخب الرجال) وقد طبع أيضا
2 - إختيار الرجال: هو كتاب رجال الكشي الموسوم ب‍ (معرفة الناقلين)
لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي معاصر ابن قولويه المتوفي سنة 369 ه‍
والراوي كل منهما عن الآخرة، وكان كتاب رجاله كثير الأغلاط كما ذكره النجاشي
لذلك عمد شيخ الطائفة إلى تهذيبه وتجريده من الأغلاط وسماه بذلك، وأملاه على
تلاميذه في المشهد الغروي وكان بدء إملائه يوم الثلاثاء 26 صفر سنة 456 كما حكاه السيد رضي الدين بن طاووس في (فرج المهموم) راجع تفصيله في (الذريعة)
ج 1 ص 365 - 366، والنسخة المطردة المعروفة برجال الكشي هي عين اختيار
شيخ الطائفة، وأما الأصل فلم نجد له اثرا.
3 - الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، هو أحد الكتب الأربعة والمجاميع
الحديثية التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعية عند الفقهاء الاثني عشرية منذ
عصر المؤلف حتى اليوم، جزآن منه في العبادات والثالث في بقية أبواب الفقه من
العقود والايقاعات والاحكام إلى الحدود والديات، وهو مشتمل على عدة كتب
التهذيب غير أنه مقصور على ذكر ما اختلف فيه من الأخبار وطريق الجمع بينهما،
والتهذيب جامع للخلاف والوفاق، وقد حصر الشيخ نفسه أحاديث الاستبصار في
آخره في 511 حديثا، وقال: حصرتها لئلا تقع فيها زيادة أو نقصان الخ. وقد
طبع في المطبعة الجعفرية في لكنهو (الهند) سنة 1307 ه‍ وطبع ثانيا في طهران
سنة 1317 ه‍ وطبع ثالثا في النجف الأشرف سنة 1375 على نفقة الفاضل الشيخ
علي الآخوندي، وقد قوبل بثلاث نسخ مخطوطة، وفاتهم مقابلة النسخه المقابلة
المقدمة 17

بخط شيخ الطائفة نفسه الموجودة في (مكتبة العلامة الشيخ هادي آل كاشف
الغطاء) في النجف الأشرف، كما ذكرتها تفصيلا عند ذكر الكتاب في (الذريعة)
ج 2 ص 14 - 16، وعلى (الاستبصار) شروح وتعليقات ذكرنا منها ثمانية عشر
وقد أشار إليها العلامة السيد محمد صادق آل بحر العلوم في مقدمة (الفهرست) الذي
طبع باشرافه، ونقلها عنا برمتها العلامة الشيخ محمد علي الأوردبادي في مقدمته
للاستبصار طبع النجف.
وكتب لنا بعد ذلك السيد شهاب الدين التبريزي انه حصل على نسخة من
حواشي الاستبصار للعلامة المحقق الملقب بمجذوب كتبها (بخطه السيد محمد هاشم
الحسيني ابن مير خواجة بيك الكججي وذكر الكاتب ان المحشى كان أستاذه وكان
حيا في سنة 1038 ه‍ ويعبر المحشى عن المولى عبد الله التستري المتوفى سنة 1021 ه‍
بشيخنا ومولانا الأستاذ، فرغ الكاتب من النسخة في سنة 1083 ه‍.
4 - أصول العقائد: قال في فهرسه عند ترجمته لنفسه وتعديد تصانيفه
ما لفظه: (وكتاب في الأصول كبير خرج منه الكلام في التوحيد وبعض الكلام
في العدل).
5 - الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد: وهو فيما يجب على العباد من أصول
العقائد والعبادات الشرعية على وجه الاختصار، راجع تفصيله ومحل وجود نسخه
المخطوطة في (الذريعة) ج 2 ص 269 - 270.
6 - الأمالي: في الحديث، ويقال له (المجالس) لأنه املاه مرتبا في عدة
مجالس، وقد طبع في طهران عام (1313 ه‍ منضما إلى كتاب آخر اسمه (الأمالي)
أيضا شاعت نسبته إلى الشيخ أبي علي الحسن بن الشيخ الطوسي، وليس كما اشتهر بل
هو جزء من آمالي والده شيخ الطائفة أيضا، إلا انه ليس مثل جزئا الآخر مرتبا
على المجالس، ولهذه الشايعة أسباب ذكرناها بغاية الدقة والتفصيل في (الذريعة)
ج 2 ص 309 - 311 وص 313 - 314 فليرجع إليها.
7 - أنس الوحيد: كذا ذكره في ترجمته عند عد تصانيفه في كتابه
المقدمة 18

(الفهرست) وقال: انه مجموع.
8 - الايجاز: في الفرائض، وقد سماه بذلك لأن غرضه فيه الايجاز، وأحال
فيه التفصيل إلى كتابه (النهاية). وهو من مآخذ (بحار الأنوار) وقد ذكرناه
في (الذريعة) ج 2 ص 486، وشرحه قطب الدين الراوندي فسماه ب‍ (الانجاز)
كما ذكرناه في ج 2 أيضا ص 364.
9 - التبيان في تفسير القرآن: وهو هذا الكتاب العظيم، والأثر الثمين الذي
يمثله الطبع اليوم إلى الملأ العلمي، ويقدمه ناشره إلى أنظار القراء الكرام، وهو أول
تفسير جميع فيه مؤلفه أنواع علوم القرآن، وقد أشار إلى فهرس مطوياته في ديباجته
ووصفه بقوله: (لم يعمل مثله). واعترف بذلك امام المفسرين أمين الاسلام الطبرسي
في مقدمة كتابه الجليل (مجمع البيان في تفسير القرآن) (1) فقال: انه الكتاب
الذي يقتبس منه ضياء الحق، ويلوح عليه رواء الصدق، وقد تضمن من المعاني
الأسرار البديعة، واحتض من الألفاظ اللغة الوسيعة، ولم يقنع بتدوينها دون
تبيينها ولا بتنسيقها دون تحقيقها. وهو القدوة أستضيء بأنواره، وأطأ مواقع
آثاره.
وقال العلامة السيد مهدي بحر العلوم في (الفوائد الرجالية) ما لفظه:
أما التفسير فله فيه كتاب التبيان الجامع لعلوم القرآن، وهو كتاب جليل
كبير عديم النظير في التفاسير، وشيخنا الطبرسي إمام التفسير في كتبه، اليه يزدلف
ومن بحره يغترف، وفي صدر كتابه الكبير بذلك يعترف.
وكان الشيخ المحقق محمد بن إدريس العجلي المتوفى سنة 598 ه‍ كثير الوقائع

(1) اشتبه الأمر على البحاثة المرحوم الحاج كاتب الحلبي في (كشف الظنون) ج 1 ص 312
و ج 2 ص 385 فنسب (مجمع البيان) للشيخ الطوسي وقال: انه توفي سنة 561 ه‍. ثم قال:
واختصر (الكشاف) وسماه (جوامع الجامع) وابتدأ بتأليفه في سنة 562 ه‍ وكأنه لم يميز بين
الشيخ الطوسي المتوفي (سنة 406 ه‍ والشيخ الطبرسي المتوفي سنة 548 ه‍ و (جوامع الجامع)
هو للأخير ألفه بعد (مجمع البيان) وفرغ منه سنة 543 ه‍ كما فصلناه في (الذريعة) ج 5 ص
248 - 249.
المقدمة 19

مع شيخ الطائفة، دائم الرد على معظم مؤلفاته، وهو أول من خالف أقواله كما أسلفناه
إلا انه يقف عند كتابه التبيان ويعترف له بعظم الشأن، واستحكام البنيان، كما
لا يخفي ذلك على من راجع (خاتمة المستدرك) لشيخنا النوري، وقد بلغ من إعجابه
به أن لخصه وسماه (مختصر التبيان) وهو موجود كما ذكرناه في محله.
واختصره أيضا الفقيه المفسر أبو عبد الله محمد بن هارون المعروف والده
بالكال - الكيال خ ل - شيخ محمد بن المشهدي صاحب المزار، وقد سماه ب‍ (مختصر
التبيان) كذلك كما ذكره المحدث الحر في (أمل الآمل)، وعده ابن نما من
تصانيفه أيضا كما في إجازة صاحب (المعالم).
وقد ذكرنا هذا الكتاب في (الذريعة) ج 3 ص 328 - 321 بغاية الوضوح
كما أشرنا إلى تفاصيل أجزائه وذكرنا ندرته وانه كان عند العلامة المجلسي بأجمعه
كما ذكره في مآخذ (البحار) في أوله، وذكرنا محال وجود أجزائه المتفرقة،
كمكتبة الجامع الأزهر بمصر، ومكتبة السلطان محمد الفاتح، ومكتبة السلطان عبد
الحميد خان بإسلامبول، ومكتبة الحاج حسين الملك بطهران، ومكتبة الشيخ جعفر
في القطيف، ومكتبة شيخ الاسلام في زنجان، والخزانة الغروية في النجف الأشرف
ومكتبة مجد الدين النصيري في طهران، إلى غير ذلك من النسخ.
واستدركنا البحث في الجزء الرابع ص 266 - 267 عند ذكر تفاسير الشيعة
وذكرنا ما عثرنا عليه بعد ذلك من النسخ في مكتبة المرحوم الشيخ محمد السماوي في
النجف، ومكتبة صديقنا المعظم زعيم الشيعة الأكبر والمرجع الأعلى للتقليد اليوم
السيد أغا حسين البروجردي دام ظله، ومكتبة المرحوم السيد نصر الله التقوي رئيس
المجلس الإيراني في طهران وغير ذلك.
وكانت في كتب المرحوم الشيخ موسى الأردبيلي نسخة فيها الجزء الأول
والرابع والسادس من هذا التفسير، ولما توفي طلب مني الفاضل السيد شفيع الأردبيلي
الوقوف على كتبه، فحضرت هناك ورأيت هذه النسخة وكان تاريخ كتابتها 1087 ه‍
وهي من موقوفات خاصة للنجف سنة 1140 ه‍ فرغب إلى السيد شفيع أن احتفظ
المقدمة 20

بها عندي خوفا عليها من التلف ففعلت، ولم لم أكن أعهد الجزء الأول في مكان
آخر أمرت ولدي الفاضل الميرزا علي نقي المنزوي - صاحب عدة مؤلفات مطبوعة
ومخطوطة - أن يستنسخها تكثيرا للنسخ، ثم بعثت النسخة الأصلية الموقوفة إلى
(مكتبة الحسينية التسترية) ليستفاد منها، وبقيت عندي نسخة خط ولدي، وبعد
ذلك بسنين رغب الفقيه الكبير الحجة السيد محمد الكوه كمري التبريزي رحمه الله في طبع
الكتاب، وسمى فجمع بعض أجزائه المتفرقة في البلدان وضم بعضها إلى بعض، ولم
يكن فيها الجزء الأول، فكتب إلى جماعة يستفسر منهم، منهم العلامة المجاهد الشيخ
عبد الحسين الأميني حفظه الله صاحب (الغدير) فراجعني الشيخ الأميني فأخبرته
بوجوه لدي وأعطيته نسختي فبعثها إلى قم للسيد الكوه كمري فصححت وتمم بها
الكتاب والحمد الله، وطبع في مجلدين كبيرين يقرب كل واحد منهما من 900 صفحة
وذلك من سنة 1360 - 1365 ه‍ وكان الباذل لنفقته المحسن الصالح السيد عبد الرسول
الروغني الشهير من تجلو أصفهان، وهو من المثرين وأهل الخير وكانت له بعض المبرات
يجريها على يدنا في النجف الأشرف.
والحق أن السيد الحجة قد أسدى إلى الأمة جمعاء يدا لا تنكر، وقام
بخدمة كبيرة، إذ طالما حنت نفوس المآت من أكابر العلماء إلى مشاهدة هذا التفسير
الجليل مجموعا في مكان واحد بعد تفرق أجزائه وتشتتها في مختلف البلدان،
وقد وفق لتحقيق هذه الأمنية السيد الكوه كمري فبذل جهودا لا يستهان بها حتى
استطاع جمعه وترتيبه فله منا الشكر، ونسأل الله ان يتغمده برحمته ويجزل أجره.
وقد نقل على ظهر الكتاب من (الذريعة) بعض أوصاف التفسير وما قيل
فيه، ورغم ما بذله الناشر والمصححون من الخدمات المشكورة فقد جاء حافلا بالأغلاط
المطبعية والاملائية، ولذلك عمد (صاحب مكتبة الأمين) في النجف الأشرف
فاجهد نفسه في تصحيحه وحسن إخراجه فجاء - والحق يقال - أحسن بكثير من
الطبعة الأولى، والمأمول من أهل العلم والفضل المبادرة إلى الاشتراك بهذا الكتاب
واقتنائه وتشجيع أمثال هذه الخدمات الدينية التي لا تقابل بثمن، لتنتشر أسفار
المقدمة 21

قدمائنا، وتظهر للعيان مكانة سلفنا ومالهم من خدمات وما بذلوه من جهود والله
الملهم للصواب.
وقد ذكرنا في (الذريعة) ج 3 ص 173 (البيان في التفسير القرآن) كبير في ستة
مجلدات رأيناه في " مكتبة الشيخ عبد الحسين الطهراني الشهير بشيخ العراقين " وقلنا؟؟
وليس هذا التفسير هو تبيان الشيخ الطوسي ظاهرا لأنه عشرون مجلدا كما يقال
أو أكثر، نعم آخر الجزء الثاني وأول الثالث منه مطابق مع التبيان الخ.
ثم طابقنا الكتاب مع بعض النسخ فاتضح لنا انه من أجزاء التبيان فاستدركنا
ذلك وصرحنا باتحادهما في " الذريعة " أيضا ج 4 ص 266 عند ذكر التفاسير.
10 - تلخيص الشافي: في الإمامة، أصله لعلم الهدى السيد المرتضى رحمة الله
عليه، وقد لخصه تلميذه شيخ الطائفة، وطبع التلخيص في آخر الشافي بطهران،
سنة 1301 ه‍ كما ذكرناه في " الذريعة " ج 4 ص 423.
11 - تمهيد الأصول: شرح الكتاب " جمل العلم والعمل " لأستاذه المرتضى
لم يخرج منه إلا شرح ما يتعلق بالأصول كما صرح به في الفهرست، ولذا عبر
عنه النجاشي بتمهيد الأصول، توجد منه نسخة في " خزانة الرضا عليه السلام "
بخراسان كما في فهرسها، وقد ذكرناه في " الذريعة " ج 4 ص 433.
12 - تهذيب الاحكام: أحد الكتب الأربعة والمجاميع القديمة المعول عليها
عند الأصحاب من لدن تأليفها حتى اليوم، استخرجه شيخ الطائفة من الأصول
المعتمدة للقدماء، والتي هيأها الله له وكانت تحت يده من وروده إلى بغداد سنة 408 ه‍
إلى هجرته إلى النجف الأشرف سنة 448 ه‍، وقد خرج من قلمه الشريف تمام كتاب
الطهارة إلى كتاب الصلاة بعنوان الشرح على " المقنعة " تأليف أستاذه الشيخ المفيد
الذي توفى عام 413 ه‍، وذلك في حياة أستاذه، وكان عمره يومذاك خمسا - أو
ستا - وعشرين سنة، ثم تممه بعد وفاته، وقد أنهيت أبوابه إلى ثلاثمائة وثلاثة
وتسعين بابا، وأحصيت أحاديثه في 1359، وقد طبع في مجلدين كبير سنة 1317 ه‍
ويوجد في تبريز الجزء الأول منه بخط مؤلفه شيخ الطائفة، وعليه خط الشيخ البهائي
المقدمة 22

وهو في مكتبة السيد الميرزا محمد حسين بن علي أصغر شيخ الاسلام الطباطبائي
المتوفى سنة 1293 ه‍، كما ذكرناه في " الذريعة " مفصلا ج 4 ص 504 - 507،
وأحصينا هناك من شروح الكتاب ستة عشر، ومن حواشيه عشرين، كما أشرنا
إلى عدة كتب تتعلق به، ك‍ " انتخاب الجيد من تهذيبات السيد " و " ترتيب
التهذيب " و " تصحيح الأسانيد " و " تنبيه الأريب في إيضاح رجال التهذيب "
إلى غير ذلك مما لا غنى للباحثين عن مراجعته.
13 - الجمل والعقود: في العبادات، وقد رأيت منه عدة نسخ في النجف
الأشرف، وفي طهران، ألفه بطلب من خليفته في البلاد الشامية، وهو القاضي
عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج قاضي طرابلس المتوفى سنة 481 ه‍،
كما صرح أوله بقوله: " فاني مجيب إلى ما سأل الشيخ الفاضل أطال الله بقاءه ".
وقد صرح في هامش بعض النسخ القديمة بأن القاضي المذكور هو المراد بالشيخ كما
ذكرناه في " الذريعة " ج 5 ص 145.
14 - الخلاف في الأحكام: ويقال له " مسائل الخلاف " أيضا، وهو مرتب على
ترتيب كتب الفقه وقد صرح فيه بأنه ألفه قبل كتابيه " التهذيب " و " الاستبصار "
وناظر فيه المخالفين جميعا، وذكر مسائل الخلاف بيننا وبين من خالفنا من جميع الفقهاء
وذكر مذهب كل من خالف على التعيين، وبيان الصحيح منه و ما ينبغي أن يعتقد
إلى غير ذلك مما شرحه في أول الكتاب، وهو في مجلدين كبيرين، يوجدان تماما
في " مكتبة الحجة السيد ميرزا باقر القاضي " في تبريز، وهناك نسخ في النجف
الأشراف في " مكتبة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء " و " مكتبة الشيخ محمد
السماوي " و " مكتبة الشيخ مشكور الحولاوي " و " مكتبة الحسينية التسترية "
ونسخة في الكاظمية في " مكتبة السيد حسن الصدر " وهي أقدم نسخة رأيتها
حيث أن على ظهر الصفحة الأخيرة منها إجازة تاريخها سنة 668 ه‍ ونظرا لنفاسة
هذه الإجازة فقد نشرتها حرفيا في هامش الجزء السابع من " الذريعة " ص 236
عند ذكر الخلاف، ونسخة أخرى في " الخزانة الرضوية " بخراسان، تجد تفصيل
المقدمة 23

ذلك في " الذريعة " وقد طبع الكتاب بحمد الله في طهران سنة 1370 ه‍ بأمر من
زعيم الشيعة الحجة السيد أغا حسين البروجردي دام ظله مع تعليقة له عليه، وذلك بنفقة
الوجيه الصالح الحاج محمد حسين كوشان پور جزاهما الله خير الجزاء ان شاء الله، والأسف
ان السيد البروجردي لم يرجع إلى " الذريعة " ولو رجع إليها لدلته على النسخة التامة
التي ذكرناها ولاستغنى عن استكتاب القطع وضم بعضها إلى بعض كما شرح ذلك
بقلمه على ظهر الكتاب.
15 - رياضة العقول: شرح فيه كتابه الآخر الذي سماه " مقدمة في المدخل
إلى علم الكلام " ذكرها النجاشي في رجاله والمترجم له في فهرس كتبه وابن شهرآشوب
في " معالم العلماء " كما ذكرناه في حرف الراء من " الذريعة " المخطوط.
16 - شرح الشرح: في الأصول، قال تلميذه الحسن بن مهدي السليقي:
إن من مصنفاته التي لم يذكرها في الفهرست كتاب شرح الشرح في الأصول، وهو
كتاب مبسوط أملى علينا منه شيئا صالحا، ومات رحمه الله ولم يتمه ولم يصنف مثله.
17 - العدة: في الأصول، ألفه في حياة أستاذه السيد المرتضى، وقسمه
قسمين الأول في أصول الدين والثاني في أصول الفقه، وهو أبسط ما ألف في
هذا الفن عند القدماء أفاض فيه القول في تنقيح مباني الفقه بما لا مزيد عليه في ذلك
العصر، طبع ببمبي في سنة 1312 ه‍، وطبع في إيران ثانيا سنة 1314 ه‍ مع
حاشية المولى خليل القزويني المتوفى سنة 1089 وليست شرحا كما قاله الشيخ الحر في
(أمل الآمل) بل هي حاشية مبسوطة في مجلدين كما فضله المولى عبد الله الأفندي
في (رياض العلماء) وللموقوف على تفصيل ذلك راجع (الذريعة) ج 6 ص 148.
18 - الغيبة: في غيبة الامام الحجة المهدي المنتظر عليه السلام، طبع في تبريز
على الحجر طبعا صحيحا متقنا في سنة 1324 ه‍ مع حاشية كل من العلامة الشيخ
فضل على الإيرواني المتوفى سنة 1331 ه‍ والعلامة الشهيد الميرزا علي أغا التبريزي
الملقب بثقة الاسلام، وكان طبعه بنفقة الفاضل التقي الشيخ محمد صادق التبريزي
المعروف بالقاضي ابن الحاج محمد علي بن الحاج علي محمد بن الحاج الله وردي، وهو
المقدمة 24

من الكتب التي حصل عليها من إرث أبي زوجته السيد الميرزا مهدي خان الطباطبائي
التبريزي، وقد ظن بعضهم أنه ألفه في حياة أستاذه الشيخ المفيد، وانه هو المراد
بقوله: ما رسمه الشيخ الجليل أطال الله بقاءه إلخ. وليس كذلك فقد قال في جواب
الاعتراض على طول عمر الحجة كما في ص 85 من الكتاب ما نصه: إلى هذا الوقت
الذي هو سنة سبع وأربعين واربعماءة الخ فأين هذا الشيخ من الشيخ المفيد الذي
توفى سنة 413 ه‍؟
19 - الفهرست: (1) ذكر فيه أصحاب الكتب والأصول، وأنهى إليهم
واليها أسانيده عن مشايخه، وهو من الآثار الثمنية الخالدة، وقد اعتمد عليه علماء
الامامية على بكرة أبيهم في علم الرجال، وقد شرحه العلامة المحقق الشيخ سليمان
الماحوزي المتوفى 1121 ه‍ وسماه (معراج الكمال إلى معرفة الرجال) ورتبه على طريقة
كتب الرجال كل من العلامة الشيخ علي المقشاعي الاصبعي البحراني المتوفى سنة
1127 ه‍ والعلامة المولى عناية الله القهپائي النجفي المتوفى بعد سنة 1126 وغيرهما مما
ذكرنا كلا في محله من (الذريعة).
طبع الفهرست في ليدن قبل سنين متطاولة ولا أذكر الآن عام طبعه، على إنني
وقفت عليه في طهران، وكانت نسخة عزيزة جدا ولذلك كتبت عليه نسخة لنفسي
قبل إحدى وستين سنة، ولا تزال موجودة عندي بورقها وخطها القديم مع غيرها
مما استنسخته يومذاك من الكتب لندرته، وتاريخ فراغي من كتابتها في طهران
أيام عودتي إليها من النجف الأشرف صبيحة يوم الأحد غرة شهر ربيع الأول سنة
1315 ه‍.
وهذه الطبعة كانت جيدة متقنة صحيحة ثمينة جدا، حتى ان مكتبات طهران
وعلمائها يومذاك لم تكن تضم غير هذه النسخة، لأن جلبها من الخارج كان
يكلف ثمنا لا بأس به، وقد كانت هذه النسخة في مكتبة الزعيم الحجة المعروف

(1) ذكره البحاثة المفضال يوصف أسعد داغر في مصادر كتابه (مصادر الدراسة الأديبة)
ج 1 ص 9 وذكر ان وفاة الشيخ في 465 ه‍ والصحيح 460 كما سيأتي وقال: انه في 283 ص
والصحيح 383.
المقدمة 25

والأديب الكبير الميرزا أبي الفضل الطهراني الشهير ب‍ (الكلانتري) والمتوفي سنة
1319 ه‍ استعرتها من تلميذه أستاذي الشيخ علي النوري الايلكائي رحمه الله فرأيت
في آخرها عدة صفحات باللغة اللاتينية، ففتشت في طهران كثيرا حتى عثرت بمن
يحسنها فترجمها لي بالفارسية ونقلتها أنا إلى العربية وصدرت بها نسختي، وهي كلمة
الناشر وخلاصتها: أنه أجهد نفسه في مقابلة النسخ والتدقيق في التصحيح إلى غير ذلك
وطبع ثانيا في كلكته من بلاد الهند عام 1271 ه‍ فجاء في 373 صفحة وقد
تولى نشره وتصحيحه (ا. سبر نجر) والمولى عبد الحق، وقد طبع في ذيل صفحاته
(نضد الايضاح) - يعني ايضاح الاشتباه للعلامة الحلي - تأليف علم الهدى محمد
ابن الفيض الكاشاني المتوفى بعد سنة 1112 ه‍ ولم أقف على هذه النسخة وانما ذكرها
ناشر الطبعة الثالثة.
وفي سنة 1356 ه‍ طبعه في النجف الأشرف صديقنا العلامة المحقق السيد
محمد صادق آل بحر العلوم حفظه الله قاضي البصرة اليوم، مع مقدمة ضافية عن حياة
الشيخ وتعاليق مفيدة، تدارك فيها ما فات في طبعتيه الأولى والثانية، مع التصحيح
الدقيق، والمراجعة إلى الأصول المعتبرة، وكتب الرجال وتطبيق المنقول فيها عن
الفهرست، إلى غير ذلك مما تظهر به ميزة هذه الطبعة، وقد راعى فيها الأمانة على
حلاف عادة بعض المعاصرين، فما نقل عنا شيئا إلا وأشار إلى مصدره أيده الله.
وللفهرست ذيول وتتمات هي من أنفس الكتب الرجالية، ومنها " فهرست
الشيخ منتجب الدين " المتوفى بعد سنة 585 ه‍ ذكر فيه المصنفين بعد عصر الشيخ إلى
عصره، وقد طبع مع الجزء الأخير من " بحار الأنوار " وعندي منه نسخة بخطي
فرغت من كتابتها في النجف الأشرف سنة 1320 ه‍ كتبتها قبل أن اطلع على
طبعه في آخر " البحار ". ومنها " معالم العلماء " للشيخ رشيد الدين محمد بن علي
ابن شهرآشوب السروي صاحب " المناقب " المطبوع والمتوفى سنة 588 ه‍ وقد
زاد هذا الأخير على ما ذكره شيخ الطائفة من أسماء المصنفين ثلاثة مائة مصنف.
وقد لخص (الفهرست) الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى
المقدمة 26

ابن سعيد الهذلي الشهير بالمحقق الحلي صاحب (الشرايع) والمتوفى سنة 676 ه‍ لخصه
بتجريده عن ذكر الكتب والأسانيد إليها، والاقتصار على ذكر نفس المصنفين
وسائر خصوصياتهم مرتبا على الحروف في الأسماء والألقاب والكنى، رأيته في
(مكتبة السيد حسن الصدر) في الكاظمية كما ذكرته في " الذريعة " ج 4
ص 452.
20 - ما لا يسع المكلف الاخلال به: في علم الكلام، ذكره النجاشي في
" رجاله " والشيخ في " الفهرست "، ورأيت عند العلامة المرحوم الشيخ هادي
آل كاشف الغطاء مجموعة بخط جده الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء، وفى أولها
كتاب في أصول الدين وفروعه ليس بخط الشيخ الأكبر، أوله: " الحمد لله كما هو
أهله ومستحقه، وصلى الله على سيد الأنبياء محمد وعترته الأبرار الأخيار صلاة لا
انقطاع لمددها، ولا انتهاء لعددها، وسلم وكرم، أما بعد فقد أجبت إلى ما سأله
الأستاذ أدام الله تأييده من إملاء مختصر محيط مما يجب اعتقاده في جميع أصول
الدين، ثم ما يجب عمله من التبرعات، لا يكاد المكلف من وجوبها عليه - كذا -
لعموم البلوى، ولم أخل شيئا مما يجب اعتقاده من إشارة إلى دليله وجهة علمه على
صغر الحجم وشدة الاختصار، ولمن يستغني عن هذا الكتاب مبتدئ تعليما، وتبصرة
ومنته تنبيها وتذكرة، ومن الله أستمد المعونة والتوفيق الخ ".
وعنوان شروعه في المطلب هكذا بلفظه: " ما يجب اعتقاده في أبواب
التوحيد، الأجسام محدثة لأنها لم تسبق الحوادث فلها حكمها في الحدوث إلى آخر
كلامه ". والمظنون قويا كون هذا الكتاب هو " ما لا يسع المكلف الاخلال به "
والله العالم.
21 - ما يعلل وما لا يعلل: في علم الكلام أيضا ذكره النجاشي في " رجاله "
وشيخ الطائفة نفسه في " الفهرست " أيضا.
22 - المبسوط: في الفقه من أجل كتب هذا الفن، يشتمل على جميع أبوابه
في نحو سبعين كتابا طبع في إيران سنة 1270 ه‍، وقد وقفت على بعض نسخه
المقدمة 27

المخطوط النفيسة في مختلف الأماكن، وفصلت ذكرها وذكرت خصوصياتها في حرف
الميم من " الذريعة " ولا حاجة إلى ذكرها بعد ان طبع الكتاب، ومن أراد الوقوف
عليها فعليه بمراجعة الكتاب المذكور.
23 - مختصر أخبار المختار بن أبي عبيد الثقفي: ويعبر عنه ب‍ (أخبار المختار)
أيضا كما ذكرناه بهذا العنوان في (الذريعة) ج 1 ص 348.
24 - مختصر المصباح: في الأدعية والعبادات، اختصر فيه كتابه الكبير
(مصباح المتهجد) ويقال له (المصباح الصغير) أيضا في قبال أصله (المصباح الكبير)
نسخة منه في " مكتبة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء "، ونسختان في " مكتبة
مدرسة فاضل خان " في مشهد الرضا عليه السلام بخراسان كما ذكرناه في الميم من " الذريعة "
25 - مختصر في عمل يوم وليلة: في العبادات، وقد سماه بعضهم " يوم
وليلة " لكن الشيخ نفسه ذكره في " الفهرست " بهذا النون، وقد اقتصر فيه
على الفرائض والنوافل الأحدى والخمسين ركعة في اليوم والليلة وبعض التعقيبات
في غاية الاختصار، رأيت منه عدة نسخ، إحداها بخط العلامة السيد أحمد زوين
النجفي فرغ من كتابتها في سنة 1234 ه‍، والثانية بخط مولانا الحجة الميرزا محمد
الطهراني العسكري وهي الآن بمكتبته في سامراء، وغيرهما مما ذكرته في الميم من
" الذريعة ".
26 - مسألة في الأحوال: ذكرها شيخ الطائفة نفسه في عداد تصانيفه
في كتابه " الفهرست " ووصفها بقوله: مليحة.
27 - مسألة في العمل بخبر الواحد وبيان حجيته: ذكرناها في " الذريعة "
ج 6 ص 270 بعنوان " حجية الأخبار ".
28 - مسألة في تحريم الفقاع: ذكرها الشيخ نفسه في الفهرست، نسخة
منها بخط الحجة المرحوم الميرزا محمد الطهراني العسكري رأيتها عنده بمكتبته في
سامراء، ونسخة أخرى في " مكتبة الحسينية التسترية " في النجف الأشرف،
وثالثة في (مكتبة راجه فيض آباد) في الهند كما فصلناه في (الذريعة).
المقدمة 28

29 - مسألة في وجوب الجزية على اليهود والمنتمين إلى الجبابرة: لا ذكر لها
في (فهرست الشيخ) المطبوع المتداول، بل ذكرها المولى عناية الله القهبائي
في كتابه (مجمع الرجال) الموجود عندنا بخطه نقلا عن فهرست الشيخ، وهذا يدل
على وجودها في النسخة التي وقف عليها، ويظهر من ذلك وجود بعض النقصان
في المتداول.
30 - مسائل ابن البراج: ذكره شيخ الطائفة نفسه في كتابه (الفهرست)
31 - الفرق بين النبي والامام: في علم الكلام، ذكرها في (الفهرست) أيضا
32 - المسائل الالياسية: هي مائة مسألة في فنون مختلفة، ذكرها هو في
" الفهرست " وذكرناها بعنوان " جوابات المسائل الالياسية " في " الذريعة "
ج 5 ص 214.
33 - المسائل الجنبلائية: في الفقه، وهي أربع وعشرون مسألة كما ذكره
الشيخ في " الفهرست "، وذكرناها في " الذريعة " ج 5 ص 219 بعنوان جوابات.
وفي بعض المواضع: الجيلانية وهو غير صحيح.
34 - المسائل الحائرية: في الفقه، وهي نحو من ثلاثمائة مسألة، كما في
" الفهرست " وهي من مآخذ " بحار الأنوار " كما ذكره المجلسي في أوله، وينقل
عنه ابن إدريس في " السرائر " بعنوان " الحائريات " كما ذكرناه في " الذريعة "
ج 5 ص 218.
35 - المسائل الحلبية، في الفقه أيضا، ذكره الشيخ نفسه في [الفهرست]
ونقلناه في [الذريعة] ج 5 ص 219.
36 - المسائل الدمشقية: في تفسير القرآن، وهي اثنتي عشرة مسألة، في
تفسير القرآن، ذكرها الشيخ نفسه في [الفهرست] وقال: لم يعمل مثلها. وذكرناها
بعنوان الجوابات في [الذريعة] ج 5 ص 220.
37 - المسائل الرازية: في الوعيد، وهي خمس عشرة مسألة وردت من الري
إلى أستاذه السيد المرتضى فأجاب عنها، وأجاب عنها الشيخ الطوسي أيضا، ذكرها
المقدمة 29

في [الفهرست]، وذكرناها في [الذريعة] ج 5 ص 221 بعنوان [جوابات
المسائل الرازية]. كما ذكرنا هناك جوابات أستاذه المرتضى.
38 - المسائل الرجبية: في تفسير آي من القرآن، ذكرها الشيخ نفسه في
[الفهرست] ووصفها بقوله: لم يصنف مثلها. ذكرناها في حرف الميم من [الذريعة]
القسم المخطوط.
39 - المسائل القمية: ذكرها المولى عناية الله القهپائي نقلا عن [الفهرست]
للشيخ لكن لم نجده في النسخة المطبوعة، وقد ذكرناه في [الذريعة] ج 5 ص
330 بعنوان [جوابات المسائل القمية].
40 - مصباح المتهجد: في أعمال السنة كبير، وهو من أجل الكتب في
الأعمال والأدعية، وهو قدوتها، وأصلها ودوحتها، ومنه اقتبس كثير من
كتب الباب ك‍ (اختيار المصباح) لابن باقي و (ايضاح المصباح) للنيلي و (تتمات
المصباح) في عشرة مجلدات كلها كتاب مستقل، وله عنوان خاص، وهي للسيد ابن
طاووس، و (قبس المصباح) للصهرشتي، و (منهاج الصلاح) للعلامة الحلي،
ولكل من المولى حيدر علي الشيرواني المعروف بالمجلسي والسيد عبد الله شبر، ونظام
الدين علي بن محمد (1) (مختصر المصباح) و (منهاج الصلاح) لابن عبد ربه الحلي
وغير ذلك طبع في طهران على نفقة المرحوم الحاج سهم الملك بيات العراقي بترغيب
العالم التقي السيد علم الهدى الكابلي نزيل ملاير أخيرا، وذلك في سنة 1338 وبهامشه
ترجمة فارسية للعلامة الشيخ عباس القمي.
41 - المفصح: في الإمامة، وهو من الآثار الهامة، توجد نسخة منه في
(مكتبة راجة فيض آباد) في الهند، وحصلت نسخة منه لشيخنا الحجة الميرزا
حسين النوري، وجدها مع (النهاية) وهي بخط أبي المحاسن بن إبراهيم بن الحسين
ابن بابويه كان تاريخ كتابته للنهاية الثلاثاء 15 ربيع الآخر سنة 517 ه‍ فاستنسخها

(1) كنا نظن انه نظام الدين الساوجي، لكن المولى عبد الله الأفندي صاحب (الرياض) قال: واحتمال كون نظام الدين هذا هو الساوجي تلميذ البهائي بعيد.
المقدمة 30

جماعة منهم: الحجة المرحوم الميرزا محمد الطهراني العسكري، وهي بخطه في مكتبته بسامرا.
42 - مقتل الحسين عليه السلام: ذكره الشيخ في (الفهرست)، وعنه نقلناه
في حرف الميم من (الذريعة) المخطوط.
43 - مقدمة في المدخل إلى علم الكلام: ذكره النجاشي في رجاله، والشيخ
نفسه في (الفهرست) ووصفها فيه بقوله: لم يعمل مثلها.
أقول: رأيت في كتب الزعيم الفقيه المرحوم السيد محمد الكوه كمري الشهير
بالحجة نسخة من كتاب (المستجاد من الارشاد) تاريخ كتابتها سنة 982 ه‍، وفي
حاشيتها كتاب في أصول الدين منسوب إلى شيخ الطائفة الطوسي، أوله: (إذا
سألك سائل وقال: ما الايمان؟ فقيل: هو التصديق بالله وبالرسول وبما جاء به
وبالأئمة عليهم السلام، كل ذلك بالدليل لا بالتقليد، وهو مركب مبوب على خمسة
أركان من عرفها كان مؤمنا، ومن جحدها كان كافرا، وهي التوحيد والعدل والنبوة
والإمامة والمعاد، وحد التوحيد... - إلى قوله: - والدليل على ان الله موجود
ان العالم أثره وعناوينه إلى آخره هكذا والدليل على كذا فهو كذا إلخ، ولعل هذا
الكتاب هو المقدمة، ونسخة أخرى منه بعينه في مجموعة كانت في (مكتبة المولى
محمد على الخوانساري) في النجف الأشرف من دون نسبتها إلى الشيخ، وتاريخ
كتابتها 982 ه‍ أيضا، ومعها في المجموعة (النكت الاعتقادية) للشيخ المفيد،
و (مختصر التحفة الكلامية)، ونسخة ثالثة عليها خط شيخ الطائفة في (مكتبة
السيد محمد المشكاة، في طهران (1) كتب على ظهرها ما لفظه:

(1) هذه المكتبة تحتوي على أكثر من ألف مجلد كلها مخطوطة قديمة نادرة من مؤلفات
أعلام القرون الأولى والوسطى، ولها بين أهل العلم والأدب في إيران شهرة واسعة، وقد رأيناها
وضبطنا خصوصيات نوادرها، وصاحبها الجليل من العلماء الأفذاذ، وهو اليوم من أساتذة جامعة
طهران على بزته الروحية وعمته الشريفة، وهو من أصدقائنا ومن الآحاد الذين أجزناهم في الاجتهاد
المطلق ورواية الحديث، وقد أهدى هذه المكتبة العظيمة - التي خسر في سبيل جمعها ما ورثه من الاملاك
إلى جامعة طهران، فكان لذلك صدى ارتياح واستحسان وقد اختارت الجامعة لتأليف فهرس
لها فاضلين من أهل الفن والخبرة أحدهما ولدي الأرشد الأديب البحاثة الميرزا على تقي المنزوي والثاني
الفاضل البحاثة محمد تقي دانش پژوه وهما من خيرة تلامذة صاحب المكتبة السيد محمد المشكاة في
كلية المعقول والمنقول وقد أخرج ولدي المحروس حتى الآن جزئين الأول خاص بالكتب المؤلفة
في القرآن والدعاء طبع في سنة 1370 ه‍ فجاء في 275 صفحة، والثاني خاص بكتب الأدب
طبع عام 1372 ه‍ فجاء في 889 صحفة وقد صدره بتقريض جليل من أخينا في الله الحجة فقيد
الاسلام ومفخرة الشيعة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء رحمه الله كتبه على الجزء الأول عند ما
بعث نسخة منه إلى مكتبته الموقوفة في النجف الأشرف وقد أخرج الفاضل الآخر بعد الجزء
الثاني سلسلة وصلنا منها حتى كتابة هذه السطور 2072 صفحة ولها تتمة على ما يقال، وهي في
مختلف العلوم وفي فصول مختلفة.
المقدمة 31

(مقدمة الكلام. تصنيف الشيخ الامام الورع قصوة العارفين، وحجة الله
على العالمين، لسان الحكماء والمتكلمين، أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي متعنا
الله بطول بقائه ونفعنا بعلومه). وكتب على الصفحة الثانية منه ما لفظه: (قرأ
علي هذا الكتاب وبحث على معانيه صاحبه في عدة مجالس آخرها السادس والعشرين
من المحرم لسنة خمس وأربعين وأربعمائة بحدود دار السلام، وكتبه محمد بن الحسن
ابن علي ولله الحمد والمنة صلى الله عليه وآله الطيبين). وآخرها ما نصه:
(... مفيض الحياة وبارئ النسمة وهو المستحق له دائما سرمدا وحسبي الله ونعم
الوكيل رب أتمم بالخير. وقع الفراغ من استنساخه بتوفيق الله وبحسن معونته سادس
عشرين - كذا - من رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة في مدينة السلام على يد
العبد الضعيف نظام الدين محمود بن علي الخوارزمي حامدا لله تعالى مصليا على نبيه...)
44 - مناسك الحج في مجرد العمل: ذكره في (الفهرست) أيضا. 45 - النقض على ابن شاذان في مسألة الغار: ذكره كذلك في (الفهرست)
وذكره العلامة السيد مهدي بحر العلوم في (الفوائد الرجالية): وقال انه نقض في
مسألة الغار ومسألة العمل بالخبر الواحد، فظاهر كلامه انه رآه.
46 - النهاية في مجرد الفقه والفتوى: من أعظم آثاره وأجل كتب الفقه،
ومتون الأخبار، أحصي في فهرسه المخطوط عند العلامة الشيخ هادي آل كاشف
الغطاء في 22 كتابا و 214 بابا، وقد كان هذا الكتاب بين الفقهاء من لدن
عصر مصنفه إلى زمان المحقق الحلي كالشرايع بعد مؤلفها، فكان بحثهم وتدريسهم
المقدمة 32

فيه، وشروحهم عليه، وكانوا يخصونه بالرواية والإجازة، وله شروح متعددة
ذكرناها في محالها من (الذريعة)، وقد رأيت منه عدة نسخ أقدمها بخط الشيخ أبي
الحسن على بن إبراهيم بن الحسن بن موسى الفراهاني فرغ من كتابتها غرة رجب
سنة 591 ه‍ رأيتها في (مكتبة العلامة الحجة الشيخ عبد الحسين الطهراني) الشهير
بشيخ العراقين، إلى غير ذلك من النسخ التي ذكرت خصوصياتها مفصلا في حرف
النون من (الذريعة) عند ذكر الكتاب، وقد طبع كتاب النهاية في سنة 1276 ه‍
مع (نكت النهاية) للمحقق و (الجواهر) للقاضي وغيرهما في مجلد كبير، وله ترجمة
فارسية لبعض الأصحاب المقاربين لعصر الشيخ الطوسي وهي نسخة عتيقة رأيتها في
(مكتبة السيد نصر الله الأخوي) في طهران كما ذكرته في (الذريعة) ج 4
ص 143 - 144.
47 - هداية المسترشد وبصيرة المتعبد: في الأدعية والعبادات ذكره الشيخ
في (الفهرست) وعنه نقلناه في حرف الهاء المخطوط من (الذريعة).
هذا ما وصل الينا من أسماء مؤلفات شيخ الطائفة أعلى الله مقامه ومنه ما هو
موجود وما هو مفقود، ولعل هناك ما لم نوفق للعثور عليه (وفوق كل ذي علم
عليم).
مشايخه وأساتذته:
إن مشايخ شيخ الطائفة في الرواية وأساتذته في القراءة كثيرون، فقد أحصى
شيخنا الحجة الميرزا حسين النوري في " مستدرك وسائل الشيعة " ج 3 ص 509 سبعا
وثلاثين شخصا استخرج أسماءهم من مؤلفات الشيخ، ومن (الإجازة الكبيرة) التي كتبها
العلامة الحلي - أعلى الله مقامه - لأولاد السيد ابن زهرة الحلبي وغير ذلك.
إلا أن مشايخه الذين تدور روايته عليهم في الغالب، والذين أكثر الرواية
عنهم وتكرر ذكرهم في (الفهرست) وفي مشيخة كل من كتابه (التهذيب)
و (الاستبصار) خمسة، واليك أسماءهم حسب حروف الهجاء لا تفاوت الدرجات:
المقدمة 33

1 - الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد بن أحمد البزاز المعروف بابن
الحاشر مرة، وباين عبدون أخرى، والمتوفى سنة 423 ه‍.
2 - الشيخ أحمد بن محمد بن موسى. المعروف بابن الصلت الأهوازي المتوفى
بعد سنة 408 ه‍ (1).
3 - الشيخ أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله بن الغضائري المتوفى سنة 411 ه‍
4 - الشيخ أبو الحسين علي بن احمد بن محمد بن أبي جيد المتوفى بعد سنة 408 ه‍
5 - شيخ الأمة ومعلمها أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الشهير بالشيخ
المفيد والمتوفى سنة 413 ه‍.
هؤلاء الخمسة هم الذين أكثر في الرواية عنهم في كتبه المهمة، وقد روى عن
باقي مشايخه في كتبه المذكورة وغيرها لكن لا بهذه الكثرة،، والى القارئ أسماءهم
مرتبة على حروف الهجاء:
1 - أبو الحسين الصفار (ابن الصفار خ ل).
2 - أبو الحسين بن سوار المغربي. عده العلامة الحلي في (الإجازة الكبرة)
من مشايخه من العامة.
3 - الشيخ أبو طالب بن غرور.
4 - القاضي أبو الطيب الطبري الحويري المتوفى بعد سنة 408 ه‍.
5 - أبو عبد الله أخو سروة.
6 - أبو عبد الله بن الفارسي.
7 - أبو علي بن شاذان المتكلم. وقد عده العلامة الحلي في (الإجازة الكبيرة)
من مشايخه من العامة أيضا.
8 - أبو منصور السكري. قال صاحب (الرياض): يحتمل أن يكون من

(1) ان تواريخ وفيات أكثر مشايخ شيخ الطائفة مجهولة، فمن لم نقف على تاريخ وفاته من
أهل العراق نذكر له هذا التاريخ لأنه كان حيا فيه، وذلك لأن ورود شيخ الطائفة إلى العراق
كان في سنة 408 ه‍، ولا شك انه استجازهم بعد ورود في تاريخ لا نعرفه، ولذا فانا نثبت ما
تيقنا راجين أن يوفق غيرنا لاكتشاف ما لم نوفق له.
المقدمة 34

العامة أو الزيدية. أقول: استعبد شيخنا النوري كونه من العامة مستدلا بما وجده
من رواياته التي لا يرويها أبناء العامة، الا انه لم ينف كونه زيديا.
9 - أحمد بن إبراهيم القزويني المتوفى بعد سنة 408 ه‍.
10 - أبو الحسين وأبو العباس أحمد بن علي النجاشي صاحب (كتاب الرجال)
المعروف والمتوفى سنة 450 ه‍.
11 - جعفر بن الحسين بن حسكة القمي المتوفى بعد 408 ه‍.
12 - الشريف أبو محمد الحسن بن القاسم المحمدي المتوفي بعد سنة 408 ه‍.
13 - أبو علي الحسن بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن أشناس المعروف بابن
الحمامي البزاز. عبر عنه كذلك السيد ابن طاووس في (الاقبال) في عمل يوم الغدير
والشيخ محمد الحر العاملي في (اثبات الهداة)، وذكر شيخنا النوري في عداد مشايخ
شيخ الطائفة الحسن بن إسماعيل المعروف بابن الحمامي. وهما واحد حتما، وقد عبر
عنه في بعض المواضع بأبي الحسن محمد بن إسماعيل، كما في صدر اسناد بعض نسخ
الصحيفة السجادية، فان هذا الرجل هو الراوي للصحيفة الكاملة بنسخة مخالفة للصحيفة
المشهورة في بعض العبارات، وفي الترتيب، وفي عدد الأدعية، ونحو ذلك كما قاله
صاحب (الرياض) وذكر وجود عدة نسخ منها إحداها عنده، وقد يعبر عنه أيضا
بالحسن بن إسماعيل وقد ترجم له بهذا العنوان في (أمل الآمل) ص 467 من طبعة
طهران سنة 1307 ه‍ التي هي مع (الرجال الكبير) مسلسلة الأرقام، ولذلك توهم
فيه شيخنا النوري رحمه الله فذكره بهذا العنوان كما أسلفناه محتملا التعدد، ونقل
السيد ابن طاووس في أواخر (الاقبال) عن أصل كتاب الحسن بن إسماعيل بن
العباس ومراده هذا الشيخ أيضا، ويعبر عنه بابن اشناس وبابن الاشناس وغير
ذلك، والصحيح في اسمه ونسبه ما ذكرناه.
وقد ترجم له بهذا العنوان الصحيح معاصره أبو بكر الخطيب في (تاريخ
بغداد) ج 7 ص 425 - 426 فقال:
... كتبت عنه شيئا يسيرا، وكان سماعه صحيحا، إلا انه كان رافضيا
المقدمة 35

خبيث المذهب، وكان له مجلس في داره بالكرخ يحضره الشيعة ويقرأ عليهم مثالب
الصحابة واللعن على السلف... سألته عن مولده فقال في شوال من سنة 359 ه‍
ومات في ليلة الأربعاء الثالث من ذي القعدة سنة 439 ه‍ ودفن صبيحة تلك الليلة
في مقبرة باب الكناس.
أقول: أشناس (1) بفتح الألف وسكون الشين المعجمة وفتح النون ثم
الألف الساكنة، وبعدها السين المهملة: اسم غلام لجعفر المتوكل.
14 - أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن داود الفحام المعروف بابن الفحام
السر من رائي - السامرائي - المتوفى بعد سنة 408 ه‍.
15 - أبو الحسين حسنبش المقرئ المتوفى بعد سنة 408 ه‍.
16 - أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم القزويني المتوفى بعد سنة 408 ه‍.
17 - أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم بن علي القمي المعروف بابن الخياط.
18 - الحسين بن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري المتوفى بعد سنة 408 ه‍
19 - أبو محمد عبد الحميد بن محمد المقرئ النيسابوري.
20 - أبو عمرو عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مهدي المتوفى
بعد سنة 410 ه‍.
21 - أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ المعروف بابن الحمامي
المقرئ المتوفي بعد سنة 408 ه‍، وهو غير ابن اشناس المعروف بابن الحمامي المار
ذكره فلا تتوهم.
22 - السيد المرتضى علم الهدي أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد
ابن إبراهيم بن الامام موسى الكاظم عليه السلام، المتوفى سنة 436 ه‍.
23 - أبو القاسم علي بن شبل بن أسد الوكيل المتوفى بعد سنة 410 ه‍.
24 - القاضي أبو القاسم علي التنوخي ابن القاضي أبي علي المحسن ابن القاضي

(1) قال صاحب (الرياض): المشهور ان أشناس بضم الهمزة... لكن قد وجدت بخط
بعض الأفاضل في الصحيفة المذكورة - الصحيفة السجادية التي يرويها هذا الشيخ - لفظ أشناس
مضبوطا بفتح الهمزة.
المقدمة 36

أبي القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم داود بن إبراهيم بن تميم القحطاني من تلامذته
السيد المرتضى وأصحابه، وقد عده العلامة الحلي في (الإجازة الكبيرة) من مشايخه
من العامة أيضا. لكن صاحب (الرياض) قال في ترجمته: الأكثر أنه من الامامية.
(أقول): له ترجمة في (معجم الأدباء) أيضا ج 14 ص 110 - 124
أثبت نسبه فيها إلى قضاعة، وذكر انه كان مقبول الشفاعة في شبابه وان الخطيب
البغدادي سمع منه: انه ولد سنة 370 ه‍. وقال أنه توفي في 447 ه‍.
25 - أبو الحسين على بن محمد بن عبد الله بن بشران المعروف بابن بشران
المعدل والمتوفى بعد سنة 411 ه‍.
26 - محمد بن أحمد بن أبي الفوارس الحافظ المتوفى بعد سنة 411 ه‍.
27 - أبو زكريا محمد بن سليمان الحراني (الحمداني خ ل) من أهل طوس
والمظنون أنه من مشايخه قبل هجرته إلى العراق.
28 - محمد بن سنان. عده العلامة الحلي في (الإجازة الكبيرة) من مشايخه
من العامة أيضا.
29 - أبو عبد الله محمد بن علي بن حموي البصري المتوفى بعد سنة 413 ه‍.
30 - محمد بن علي بن خشيش بن نضر بن جعفر بن إبراهيم التميمي المتوفى
بعد سنة 408 ه‍.
31 - أبو الحسن محمد بن محمد بن محمد بن مخلد المتوفى بعد سنة 417 ه‍.
32 - السيد أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر الحفار المولود سنة 322 ه‍
والمتوفى 414 ه‍.
هؤلاء هم الذين عرفناهم من مشايخ شيخ الطائفة الطوسي، وهم اثنان وثلاثون
وذكرنا قبلهم خاصة مشايخة وهم خمسة فيكون المجموع سبعة وثلاثون، الا ان
شيخنا النوري لما أوردهم في (المستدرك) تمت عدتهم ثمانية وثلاثين، وذلك لما
ذكرناه من تكريره اسم الحسن بن محمد بن إسماعيل بن الاشناس بعنوان الحسن
المقدمة 37

ابن إسماعيل، وقد نقلناهم عن شيخنا النوري بعد ترتيب أسمائهم على حروف الهجاء،
وإضافة بعض الفوائد والزيادات التي توضح أحوالهم.
تلامذته:
سبق وأن ذكرنا فيما تقدم من حديثنا عن شيخ الطائفة أن تلامذته من
الخاصة بلغوا أكثر من ثلاثمائة مجتهد ومن العامة مالا يحصى كثرة، وقد صرح بذلك
المجلسي في (البحار) والتستري في (المقابس) والخوانساري في (الروضات)
والمدرس في (الريحانة) وغيرهم في غيرها.
والأسف ان هذا العدد الكبير غير معروف لدى كافة الباحثين حتى بعد عصر
الشيخ بقليل، فان الشيخ منتجب الدين بن بابويه المتوفى بعد سنة 585 ه‍ على قرب
عهده من الشيخ لم يستطع الوقوف على أسمائهم، فإنه لم يذكر منهم في كتابه (الفهرست)
المطبوع في آخر (البحار) إلا ستة وعشرين عالما، وزاد عليهم العلامة السيد مهدي
بحر العلوم في (الفوائد الرجالية) أربعة فتمت عدتهم ثلاثين، وهؤلاء معروفون ذكرت
أسماؤهم في مقدمات كتب الشيخ المطبوعة في النجف الأشرف لكن شيخنا النوري لم يذكرهم،
ونظرا لما حدث في أسماء بعضهم من التصحيف، ولما وقفنا عليه من أسماء جماعة
أخرى من تلاميذه الذين ذكرهم الحجة الشيخ أسد الله الدزفولي التستري في كتابه
(المقابس) ولم يتعرض لذكرهم مترجموه المتأخرون، فانا نسرد أسماء الجميع على ترتيب
حروف الهجاء مقتصرين على ذكر الأوصاف التي وصفهم بها علماء الرجال والمفهرسون
القدماء واليك الأسماء:
1 - الشيخ الفقيه الثقة العدل آدم بن يونس بن أبي المهاجر النسيفي.
2 - الشيخ الثقة المؤلف الجليل النبيل أبو بكر أحمد بن الحسين بن أحمد الخزاعي النيسابوري.
3 - الشيخ الثقة أبو طالب إسحاق بن محمد بن الحسن بن الحسين بن محمد ابن علي بن الحسين بن بابويه القمي.
المقدمة 38

4 - الشيخ الثقة أبو إبراهيم إسماعيل شقيق إسحاق المذكور.
5 - الشيخ الثقة أبو الخير بركة بن محمد بن بركة الأسدي.
6 - الشيخ الثقة العين المصنف أبو الصلاح تقي بن نجم الدين الحلبي.
7 - السيد المحدث الثقة أبو إبراهيم جعفر بن علي بن جعفر الحسيني.
8 - الشيخ الامام المصنف شمس الاسلام الحسن بن الحسين بن بابويه القمي
المعروف بحسكا.
9 - الشيخ الفقيه الثقة أبو محمد الحسن بن عبد العزيز بن الحسن الجبهاني (الجهباني خ ل).
10 - الشيخ الجليل الثقة العين أبو علي الحسن ابن شيخ الطائفة محمد بن
الحسن الطوسي.
11 - الشيخ الامام موفق الدين الفقيه الثقة الحسين بن الفتح الواعظ الجرجاني.
12 - الشيخ الامام الثقة الوجه الكبير محي الدين أبو عبد الله الحسين بن
المظفر بن علي بن الحسين الحمداني نزيل قزوين.
13 - السيد عماد الدين أبو الصمصام وأبو الوضاح ذو الفقار بن محمد بن معبد الحسيني المروزي.
14 - السيد الفقيه أبو محمد زيد بن علي بن الحسين الحسيني (الحسني).
15 - السيد العالم الفاضل زين بن الداعي الحسيني.
16 - الشيخ الفقيه المشهور سعد الدين بن البراج.
17 - الشيخ الفقيه الثقة أبو الحسن سليمان بن الحسن بن سلمان الصهرشتي.
18 - الشيخ الفاضل المحدث شهرآشوب السروي المازندراني جد الشيخ
محمد بن علي مؤلف (معالم العلماء) و (المناقب).
19 - الشيخ الفقيه الثقة صاعد بن ربيعة بن أبي غانم.
20 - الشيخ عبد الجبار بن عبد الله بن علي المقرئ الرازي المعروف بالمفيد.
المقدمة 39

21 - الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن أحمد الحسيني الخزاعي النيسابوري
المعروف بالمفيد أيضا.
22 - الشيخ الفقيه الثقة موفق الدين أبو القاسم عبيد الله بن الحسن بن
الحسين بن بابويه.
23 - الشيخ الفقيه الثقة علي بن عبد الصمد الميمي السبزواري.
24 - الأمير الفاضل الزاهد الورع الفقيه غازي بن أحمد بن أبي منصور
السلماني.
25 - الشيخ الفقيه الثقة الصالح كردي بن عكبر بن كردي الفارسي نزيل
حلب.
26 - الشيخ الامام جمال الدين محمد بن أبي القاسم الطبري الآملي.
27 - الشيخ الأمين الصالح الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شهريار.
الخازن الغروي.
28 - الشيخ الشهير السعيد الفاضل السديد محمد بن الحسن بن علي الفتال.
صاحب " روضة الواعظين ".
29 - الشيخ الفقيه الصالح أبو الصلت محمد بن عبد القادر بن محمد.
30 - الشيخ الثقة العالم المؤلف فقيه الأصحاب أبو الفتح محمد بن علي
الكراچكي.
31 - الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن الحلبي.
32 - الشيخ الفقيه الثقة أبو عبد الله محمد بن هبة الله الطرابلسي.
33 - السيد صدر الأشراف المنتهي اليه منصب النقابة والرئاسة في عصره،
السيد المرتضى أبو الحسن المطهر بن أبي القاسم علي بن أبي الفضل محمد الحسيني
الديباجي.
34 - السيد العالم الفقيه المنتهى بن أبي زيد بن كيابكي الحسيني الجرجاني.
المقدمة 40

35 - العالم الفاضل الفقيه الوزير السعيد ذو المعالي زين الكفاة أبو سعيد
منصور بن الحسين الآبي.
36 - السيد الثقة الفقيه المحدث أبو إبراهيم ناصر بن الرضا بن محمد بن
عبد الله العلوي الحسيني.
هؤلاء ستة وثلاثون عالما من تلاميذ الشيخ الطوسي المعروفين، ولعل في
كتابينا (إزاحة الحلك الدامس بالشموس المضيئة في القرن الخامس) و (الثقات
والعيون في سادس القرون) من ترجمنا له ولم يأت اسمه هنا، غير ان ضيق الوقت
وضعف الحال يمنعان من الرجوع اليه.
ولا يخفى إن فيما أضافه العلامتان السيد مهدي بحر العلوم والشيخ أسد الله
الدزفولي ما يحتاج إلى التأمل، ففي تلمذ الشيخ عبيد الله بن الحسن على الشيخ الطوسي
تأمل، فان ولده الشيخ منتجب الدين كان أولى بذكره مع تلامذة الشيخ في (الفهرست)
مع انه لم يذكره وكذا الكراچكي المتوفى سنة 449 ه‍ و كذا جمال الدين محمد
الطبري إن كان المراد به عماد الدين محمد بن أبي القاسم على الطبري الآملي فإنه من
تلاميذ الشيخ أبي علي ان الشيخ الطوسي كما ذكره الشيخ منتجب الدين، وجل
رواياته عن مشايخه بعد الخمسمائة والله العالم.
وفاته وقبره:
لم يبرح شيخ الطائفة في النجف الأشرف مشغولا بالتدريس والتأليف،
والهداية والارشاد، وسائر وظائف الشرع الشريف وتكاليفه، مدة اثنتي عشرة
سنة، حتى توفي ليلة الاثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة 460 ه‍ عن خمس وسبعين
الحسن بن عبد الواحد العين زربي، والشيخ أبو الحسن اللؤلؤي، ودفن في داره
بوصية منه وأرخ وفاته بعض المتأخرين بقوله مخاطبا مرقده الزاكي كما هو مسطور
المقدمة 41

على جدار المسجد، وقد ذكره العلامة المرحوم الشيخ جعفر نقدي في كتابه
" ضبط التاريخ بالأحرف " أيضا ص 13:
بأمر قد الطوسي فيك قد انطوى * محيي العلوم فكنت أطيب مرقد
إلى أن قال:
أودى بشهر محرم فأضافه * حزنا بفاجع رزئه المتجدد
إلى أن قال:
بك شيخ طائفة الدعاة إلى الهدى * ومجتمع الاحكام بعد تبدد
إلى أن قال:
وبكى له الشرع الشريف مؤرخا * (أبكى الهدى والدين فقد محمد)
وتحولت الدار بعده مسجدا في موضع اليوم حسب وصيته أيضا، وهو مزار
يتبرك به الناس من العوام والخواص، ومن أشهر مساجد النجف، عقدت فيه
- منذ تأسيسه حتى اليوم - عشرات حلقات التدريس من قبل كبار المجتهدين وأعاظم
المدرسين فقد كان العلماء يستمدون من بركات قبر الشيخ لكشف غوامض المسائل
ومشكلات العلوم، ولذلك كان مدرس العلماء ومعهد تخريج المجتهدين إلى عصر شيخ
الفقهاء الشيخ محمد حسن صاحب (الجواهر) الذي كان يدرس فيه أيضا، حتى بعد
أن بنوا له مسجده الكبير المشهور باسمه، فقد كثر الحاحهم عليه وطلبهم منه الانتقال
اليه لم يقبل ولم يرفع اليد عنه اعتزازا بقدسية شيخ الطائفة وحبا للقرب منه، وهكذا
إلى أن توفي.
واستمرت العادة كذلك إلى عصر شيخنا المحقق الأكبر الشيخ محمد كاظم
الخراساني صاحب " الكفاية " فقد كان تدريسه فيه ليلا إلى أن توفي، وقد أحصيت
عدة تلامذته في الأواخر بعض الليالي فتجاوزت الألف والمأتين، وكذلك شيخنا
الحجة المجاهد شيخ الشريعة الأصفهاني، فقد كان يدرس فيه عصرا إلى ان توفي
وكما ان تلميذ شيخنا الخراساني الأرشد الحجة المعروف الشيخ ضياء الدين العراقي
كان يدرس فيه صبحا إلى ان توفي. واقام فيه الجماعة جمع من أجلاء العلماء وأفاضل
المقدمة 42

الفقهاء، منهم فقيه أهل البيت الشيخ محمد حسن صاحب " الجواهر " النجفي وغيره
وقد لاحظته منذ نصف قرن أو أكثر فكان الذين يؤمون الناس فيه من أهل الصلاح
والتقى المعروفين، منهم الحجة الأخلاقي جمال السالكين الشيخ أغا رضا التبريزي فقد
كان يقيم فيه الجماعة ليلا مع كثير من خواص أهل العلم والفضلاء، وكنا نحظى
بذلك التوفيق إلى ان هاجر إلى سامراء وكان آخرهم العلامة التقي السيد محمد
الخلخالي، وبعد وفاته بقليل رغب إلي ولده الفاضل الجليل السيد علي أن أؤم الناس
هناك بعد أن كنت أقيم الجماعة في الرواق المطهر، فأجبت طلبه وكنت أصلي فيه
إلى هذه الأواخر، وقد وفق لفرشه التاجر الوجيه ابن عمنا الحاج محمد المحسني نزيل
طهران فقدم له خمس قطع من الفرش المتعارف في الصحن الشريف والمساجد الشريفة
وقد جعل ولايتها بيدنا ما دمنا في قيد الحياة كما كتب ذلك عليها، وتبعه الوجيه
الحاج محمد تقي القناد الطهراني من أرحامنا أيضا بخمس قطع وتبعهما جمع آخر من كرمانشاه
حتى كمل فرش المسجد بتوفيق الله، وكانت صلاتنا فيه وقت المغرب فقط، وأما صلاة
الصبح فنقيمها في (مسجد الهندي) خوفا من مضايقة الزوار، وفي الصيف الماضي
تغلب علينا الضعف فانقطعنا عن الرواح لعدم تمكننا من الصعود إلى السطح فتبرع
الوجيه الحاج ناجي گعويل بشراء عدة مراوح سقيفة لتلطيف الجو وعدم الاحتياج
للصعود إلى السطح، فعاودناه ثانيا، وكان عامرا بالمؤمنين والصلحاء من أهل العلم
والمهن، حتى اتفقت حادثتنا في ليلة عاشورا هذه السنة - 1376 - وقد اثرت على
العمود الفقري وبقينا على فراش المرض عدة شهور، ثم لما تحسنت صحتنا لم تعد كما
كانت عليه سابقا كما هو مقتضى السن والمزاج، ولما رغب في صلاتنا بعض المؤمنين
من خواصنا صرنا نقيمها في (المسجد الطريحي) لقربه من دارنا، ولم نزل هناك
حتى يقضي الله بقضائه الذي لا مرد له، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وموقع مسجد الشيخ في محلة المشراق من الجهة الشمالية للصحن المرتضوي
الشريف وسمي باب الصحن المنتهي إلى مرقده ب‍ (باب الطوسي)، وقد طرأت عليه
بعد عمارته الأولى عمارتان، حسبما نعلم إحداهما في حدود سنة 1198 ه‍ وذلك
المقدمة 43

بترغيب من العلامة الحجة السيد مهدي بحر العلوم كما ذكره في (الفوائد الرجالية)
فقد قال: وقد جدد مسجده في حدود سنة 1198 ه‍ فصار من أعظم المساجد في
الغري، وكان ذلك بترغيبنا بعض الصلحاء من أهل السعادة.
وبنى لنفسه مقبرة في جواره دفن فيها مع أولاده وجملة من أحفاده.
والثانية في سنة 1305 ه‍ كما ذكره صديقنا العلامة السيد جعفر آل بحر العلوم
في كتابه (تحفة العالم) ج 1 ص 204 وكانت بعناية العلامة السيد حسين آل بحر العلوم
المتوفى سنة 1306، كما قاله، فإنه لما رأى تضعضع أركانه وانها آلت إلى الخراب
رغب بعض أهل الخير في قلعه من أساسه، فجدد وهي العمارة الموجودة اليوم.
وفي سنة 1369 ه‍. هدمت الحكومة ما يقرب من ربع مساحته فاضافتها إلى
الشارع الذي فتحته بجنبه في نفس العام، وسمته بشارع الطوسي أيضا، فصار للمسجد
بابان، أحدهما - وهو الأكبر والأوجه - على الشارع الجديد العام من جهة الشرق،
والثاني وهو - الباب الأول - من جهة الغرب على الطريق القديم مقابل (المدرسة المهدية)
وقد انخفضت ارض المسجد عن الشارع كثيرا، وتضعضعت عمارته، فنسأله تعالى
ان يهدي بعض أهل السعادة والعاملين للآخرة لتعميره (انما يعمر مساجد الله من
آمن بالله واليوم الآخر).
أولاده وأحفاده:
خلف شيخ الطائفة ولده الشيخ أبا علي الحسين بن أبي جعفر محمد الطوسي
رحمة الله عليه، وقد خلف أباه على العلم والعمل، وتقدم على العلماء في
النجف، وكانت الرحلة اليه والمعول عليه في التدريس والفتيا والقاء الحديث وغير ذلك
وكان من مشاهير رجال العلم، وكبار رواة الحديث: وثقلتهم تلمذ على والده حتى
اجازه في سنة 455 ه‍ اي قبل وفاته بخمس سنين.
ذكره الشيخ منتجب الدين بن بابويه في (الفهرست) المطبوع في آخر البحار
ص 4 بدأ به حرف الحاء فقال:
الشيخ الجليل أبو على الحسن ابن الشيخ الجليل الموفق أبي جعفر محمد بن
المقدمة 44

الحسن الطوسي، فقيه ثقة عين، قرأ على والده جميع تصانيفه أخبرنا الوالد عنه.
وذكره ابن حجر العسقلاني في (لسان الميزان) ج 2 ص 250 فقال
الحسن بن محمد بن الحسن بن علي الطوسي أبو علي بن (1) جعفر، سمع من
والده، وأبي الطيب الطبري، والخلال، والتنوخي، ثم صار فقيه الشيعة وامامهم
بمشهد علي رضي الله عنه، وسمع منه أبو الفضل بن عطاف، وهبة الله السقطي ومحمد
ابن محمد النسفي، وهو في نفسه صدوق، مات في حدود الخمس مائة (2)، وكان متدينا
كافا عن السب.
وذكره الشيخ رشيد الدين أبو جعفر محمد بن علي بن شهرآشوب السروي
في (معالم العلماء) ص 32 باختصار. ولا يخفى ان العلامة الميرزا محمد الأسترآبادي
لم يتعرض لذكره في كتابيه (الرجال الكبير) و (الرجال الصغير)، وكذا الأستاذ
الوحيد البهبهاني الذي استدرك على الأسترآبادي - في تعليقته على كتابه - ما فاته فإنه
لم يذكره أيضا.
ولعل ذلك لم يكن عن غفلة منهما حيث أن بناء المؤلفين في الرجال هو ذكر
خصوص من ذكر في الأصول الأربعة الرجالية، ولما لم يكن الشيخ أبو علي مذكورا
في أي واحد منها لم يتعرضوا لذكره. ومثلهما أيضا المولى محمد الأردبيلي صاحب
(جامع الرواة) فإنه أضاف فهرس الشيخ منتجب الدين إلى الأصول الأربعة فجمعها
في كتابه ومع ذلك فقد سقط من قلمه ذكر هذا الشيخ الجليل.
وذكره أيضا المحدث العلامة الشيخ محمد الحر العاملي في " أمل الآمل "
المطبوع بطهران سنة 1307 ه‍ في ص 469 ه‍ فقال:
الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن بن علي الطوسي. كان عالما فاضلا
فقيها محدثا جليلا ثقة له كتب إلخ.
وذكره العلامة البحاثة المولى عبد الله الأفندي في كتابه " رياض العلماء

(1) الصحيح: أبي جعفر. كما مر عليك في أكثر من موضع.
(2) التاريخ خطأ كما سنبينه.
المقدمة 45

وحياض الفضلاء " المخطوط الموجود في مكتبتنا ص 93 فوصفه بقوله: الفقيه
المحدث الجليل العالم العامل النبيل مثل والده، ثم قال:
... كان شريكا في الدرس مع الشيخ أبي الوفاء عبد الجبار بن عبد الله بن
علي الرازي، والشيخ أبي محمد الحسن بن الحسين بن بابويه القمي، والشيخ أبي
عبد الله محمد بن هبة الله الوراق الطرابلسي، عند قراءة كتاب " التبيان " على والده
الشيخ الطوسي كما رايته في إجازة الشيخ الطوسي المذكور بخطه الشريف لهم على
ظهر كتاب التبيان المذكور... إلى ان قال:
وروى عن والده وطائفة من معاصريه رضي الله عنهم بل عن المفيد أيضا.
وقال في آخر الترجمة: أقول: وفي روايته عن الشيخ المفيد بلا واسطة محل تأمل
فلا حظ (1).
وذكره الشيخ أسد الله الدزفولي في " مقابس الأنوار " ص 11 فقال:
الشيخ المحدث الفقيه الفاضل الوجيه النبيه المعتمد المؤتمن مفيد الدين أبو علي
الحسن قدس الله تربته وأعلى في الجنان رتبته... وكان من أعاظم تلامذة والده،
والديلمي، وغيرهما من المشايخ، وتلمذ عليه جماعة كثيرة من أعيان الأفاضل،
واليه ينتهي كثير من طرق الإجازات إلى المؤلفات القديمة والروايات إلخ.
وذكره شيخنا العلامة الميرزا حسين النوري في " مستدرك الوسائل " ج 3
ص 497 فقال:
... الفقيه الجليل الذي ينتهي أكثر إجازات الأصحاب اليه أبو علي الحسن
ابن شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي العالم الكامل المحدث النبيل...

(1) قال شيخنا النوري في (المستدرك) في التعليق على هذا التأمل ما لفظه: وهو في محله
فان وفاة المفيد سنة 413 ه‍ ولم أعثر على تاريخ وفاة أبي علي الا أنه يظهر من مواضع من
(بشارة المصطفى) انه كان حيا في سنة 515 ه‍ فلو روى عنه بعد من المعمر بن الذين من رأيهم
- اي المترجمين - الإشارة اليه.
أقول: هذا هو القول الفصل، حيث يلزم من تصحيح روايته عن المفيد كونه يوم وفاة
أستاذه ابن عشرين سنة على الأقل، وعليه فيكون عمره في تاريخ سنة 515 ه‍ مائة واثنتان
وعشرون سنة، ولو كان كذلك لما فاتت مترجميه الإشارة إلى ذلك.
المقدمة 46

ويعبر عنه تارة بأبي علي، أو أبي علي الطوسي، وأخرى بالمفيد أو المفيد الثاني إلخ.
وله تراجم أخرى في كثير من الكتب المخطوطة والمطبوعة لا سبيل لنا إلى
استقصائها في هذه العجالة، وقد أجمع كافة المترجمين له على عظمته وعلو شأنه في العلم
والعمل، وأنه أحد كبار فقهاء الشيعة، وأجلاء علماء الطائفة، وأفاضل حملة الحديث
وأعلام الرواة وثقاتهم. ومنتهى الإجازات والمعنعنات، وقد بلغ من علو الشأن
وسمو المكانة أن لقب بالمفيد الثاني، وقد ترجم له بهذا العنوان العلامة المرحوم الشيخ
عباس القمي في كتابه (الكنى والألقاب) ج 3 ص 165.
وقد تخرج عليه كثير من حملة العلم والحديث من الفريقين، وحاز المرجعية
عند الطائفتين لذلك الراويات عنه، وانتهت الطرق اليه، وقد ذكر مترجموه
كثيرا من تلامذته، فقد ذكر الشيخ منتجب الدين بن بابويه في (الفهرست) أربعة
عشر رجلا كلا في موضعه ونحن نتبرك بايراد ذكرهم وهم الاعلام:
1 - الشيخ الفقيه الثقة أردشير بن أبي الماجد بن أبي المفاخر الكابلي.
2 - الشيخ الفقيه الأديب إسماعيل بن محمود بن إسماعيل الحلي.
3 - الشيخ الفقيه الصالح بدر بن سيف بن بدر العربي. من مشايخ منتجب الدين
4 - الشيخ الفقيه الصالح أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن علي بن
طحال المقدادي.
5 - الشيخ الامام الفقيه الصالح الثقة موفق الدين الحسين بن فتح الله الواعظ
البكر آبادي الجرجاني.
6 - الشيخ الفقيه الصالح جمال الدين الحسيني بن هبة الله بن رطبة السوراوي.
7 - الشيخ الفقيه الورع أبو سليمان داود بن محمد بن داود الحاسي.
8 - السيد الفقيه الصالح أبو النجم الضياء بن إبراهيم بن الرضا العلوي الحسني
الشجري.
9 - السيد العالم الفقيه الثقة طاهر بن زيد بن أحمد.
10 - الشيخ الفقيه الصالح الشاعر أبو سليمان ظفر بن الداعي بن ظفر الحمداني
المقدمة 47

القزويني.
11 - الشيخ الفقيه الحافظ الصالح الثقة أبو الحسن علي بن الحسين بن أحمد
ابن علي الحاسي.
12 - الشيخ الفقيه ركن الدين علي بن علي.
13 - السيد الفاضل المتبحر الشاعر لطف الله بن عطاء الله أحمد الحسني
الشجري النيسابوري.
14 - الشيخ الفقيه الثقة الامام المؤلف المكثر عماد الدين محمد بن أبي القاسم
ابن علي الطبري الآملي الكحي.
وهناك جماعة من تلاميذه أيضا ذكر بعضهم بعض المترجمين له، ووقفنا على
أسماء بعضهم في مختلف الروايات وسلاسل الحديث واليك أسماءهم مرتبة على حروف
الهجاء وهم:
15 - أبو الفتوح أحمد بن علي الرازي. قال صاحب (الرياض) وليعلم أنه
ليس المراد بالشيخ أبي الفتوح المذكور هو صاحب التفسير المشهور، وان اتحد
عصرهما، لان اسم أبي الفتوح هذا هو الحسين بن علي بن محمد بن احمد الخزاعي
الرازي فلاحظ، وحمله على أخيه ممكن لكن يبعده إتحاد كنيتيهما.
16 - الشيخ العالم الياس بن هشام الحائري.
17 - الشيخ بواب البصري.
18 - الشيخ الفاضل أبو طالب حمزة بن محمد بن أحمد بن شهريار الخازن.
19 - أبو الفضل الداعي من علي الحسيني السروي.
20 - عبد الجليل بن عيسى بن عبد الوهاب الرازي.
21 - الشيخ موفق الدين عبيد الله بن الحسن بن بابويه، والد الشيخ منتجب الدين
22 - علي بن شهرآشوب المازندراني السروي، والد صاحب (المناقب)
و (المعالم).
23 - علي بن على بن عبد الصمد.
المقدمة 48

24 - أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي صاحب (مجمع البيان).
25 - أبو الرضا فضل الله بن علي بن عبيد الله الحسيني الراوندي.
26 - محمد بن الحسن الشوهاني.
27 - أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن الحلبي.
28 - محمد بن علي بن عبد الصمد النيسابوري.
29 - أبو علي محمد بن الفضل الطبرسي.
30 - الشيخ محمد بن منصور الحلي الشهير بابن إدريس قال في (الرياض):
على المشهور من أن ابن إدريس يروى عن أبي علي هذا تارة بلا واسطة
وتارة مع الواسطة.
31 - مسعود بن علي الصواني وفي (الرياض): الصوابي وفي (المقابس):
السواني.
وهناك ثلاثة من العامة رووا عنه كما ذكره العسقلاني في (لسان الميزان) وقد
سبقت الإشارة اليه وهم:
32 - أبو الفضل بن عطاف.
33 - محمد بن محمد النسفي.
34 - هبة الله السقطي.
إلى غير ذلك مما لا يمكن احصاؤه والوقوف عند حده، ومع ذلك فلا نظن أن
أحدا من مترجميه استوفى ما استوفيناه، ووقفت على كل ما أحصيناه والله الموفق.
آثاره:
ترك الشيخ أبو علي آثارا قيمة وأسفارا مهمة، عرفنا منها: (شرح النهاية)
وهو شرح لكتاب والده النهاية في الفقه ذكره في ترجمته صاحب (أمل الآمل)،
واسمه (المرشد إلى سبيل التعبد) وذكره في ترجمته صاحب (معالم العلماء). أيضا
أقول: توهم الحجة الشيخ يوسف البحراني صاحب (الحدائق) عند ذكر
الشيخ أبي علي في كتابه (لؤلؤة البحرين) ص 245 حيث قال: وذكره ابن
المقدمة 49

شهرآشوب وقال المرشد إلى سبيل الله والمتعبد إلخ فكأنه ظن بأن ذلك وصف للشيخ
أبي علي مع أنه اسم كتاب من كتبه.
وقد ذكر له معظم مترجميه (كتاب الأمالي) الذي ذكرناه في عداد مؤلفات
والده منهم العلامة المجلسي وصاحب (الرياض) وصاحب (أمل الآمل) وصاحب
(الروضات) وصاحب (قصص العلماء) وصاحب " الكنى والألقاب " وصاحب
" مستدرك الوسائل " وغيرهم، وأصر شيخنا العلامة المجلسي على أنه من آثاره فقد
قال في الجزء الأول من " بحار الأنوار " بعد ذكر مآخذ الكتاب في الفصل الثاني
الذي عقده لبيان الوثوق بالمصادر واختلافها، فقد قال:
... وآمالي ولده العلامة في زماننا أشهر من آماليه، وأكثر الناس يزعمون
انه آمالي الشيخ، وليس كذلك كما ظهر لي من القرائن الجلية، ولكن آمالي ولده
لا يقصر عن آماليه في الاعتبار والاشتهار، وان كان آمالي الشيخ عندي أصح
وأوثق إلخ.
وقد ذكرنا هذا الأمالي في (الذريعة) ج 2 ص 309 - 311 و ص 313 - 114
وأثبتنا كونه من تآليف شيخ الطائفة وذكرنا الأسباب التي دعت إلى هذه الشهرة
الشايعة فعلى طالب التفصيل والوقوف على الحقيقة مراجعة الكتاب المذكور، والتدقيق
والتأمل فيما ذكرناه من الأدلة والوجوه.
أقول: وللشيخ أبي علي من المشايخ غير من مر ذكره في تراجمه المنقولة عن
الكتب: أبو الحسن محمد بن الحسين المعروف بابن الصقال كما في (بشارة المصطفى
لشيعة المرتضى) ص 167 ويروي عن أبي يعلي حمزة المعروف بسلار بن عبد العزيز
الديلمي - المتوفى 448 ه‍ كما في (البغية) للسيوطي أو سنة 463 كما في (نظام الأقوال
للساوجي - كما في (أمل الآمل) في ترجمة سلار.
وفاته:
توفي الشيخ أبو علي بعد سنة 515 ه‍ فقد كان حيا في هذا التاريخ كما يظهر
في مواضع من أسانيد (بشارة المصطفى) المذكور، والله العالم بما عاش بعد ذلك.
المقدمة 50

ولا نعرف موضع قبره لكننا لا نشك في أنه في النجف الأشرف ولعله قبر مع والده
فما ذكره في (لسان الميزان) ج 2 ص 250: من انه توفي في حدود سنة 500 ه‍
غير صحيح كما سبقت الإشارة اليه.
ومن آراء الشيخ أبي على المشهورة: القول بوجوب الاستعاذة في القراءة،
قال صاحب (رياض العلماء) في ترجمته له ما لفظه:
ثم اعلم ان الشيخ أبا علي هذا هو صاحب القول بوجوب الاستعاذة في قراءة
الصلاة بل في مطلق القراءة نظرا إلى ورود الأمر به، مع ان الاجماع وقع على ان
الأمر فيها للاستحباب، حتى ان والده (قده) أيضا نقل في الخلاف الاجماع منا
على الأمر فيها للندب قطعا.
وخلف الشيخ أبو على ولدا هو الشيخ أبو نصر محمد بن أبي علي الحسين بن
أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي النجفي رحمة الله عليهم، وهو
بقية رجال العلم في هذا البيت في النجف الأشرف، والغريب أنه لم يذكر في كتب
أصحابنا الامامية، ولم يترجم لها الرجاليون وأهل السير والتاريخ والأخبار، حتى
ان شيخنا الحجة الميرزا حسين النوري على عظمته وجلالة قدره وشهرته في التضلع
والتتبع لم يعرف عنه شيئا فقد قال في (المستدرك) ج 3 ص 497: ولم نعثر على
حال الحسن وجده محمد أنهما من أهل الدراية والرواية أو لا.
أقول: كان الشيخ أبو نصر محمد من أعاظم العلماء، وأكابر الفقهاء، وأفاضل
الحجج واثبات الرواة وثقاتهم، فقد قام مقام والده في النجف وانتقلت اليه الرياسة
والمرجعية، وتقاطر عليه طلاب العلم من شتى النواحي، ترجم له ابن العماد الحنبلي
في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) ج 4 ص 126 - 127 في حوادث سنة
أربعين وخمسمائة فقال:
وفيها أبو الحسن محمد بن الحسن أبي علي بن أبي جعفر الطوسي، شيخ الشيعة
وعالمهم، وابن شيخهم وعالمهم، رحلت اليه طوائف الشيعة من كل جانب إلى العراق،
وحملوا اليه، وكان ورعا عالما كثير الزهد، واثني عليه السمعاني وقال العماد الطبري
المقدمة 51

لو جازت على غير الأنبياء صلاة صليت عليه.
أقول: توفي سنة 540 كما ذكره في (الشذرات) وخلف ولدا واحدا سماه
باسم جده الحسن، وهو من جارية كانت له اسمها رياض النوبية أدركها السيد علي
ابن غرام (عزام خ ل) الحسيني المولود سنة 557 ه‍ والمتوفى سنة 670 أو 671 كما
حكاه السيد غياث الدين عبد الكريم بن طاووس ونقله عنه وعن خطه في كتابه
(فرحة الغري) ص 58 طبعة إيران سنة 1311 ه‍.
وخلف شيخ الطائفة - أعلى الله درجاته - غير ولده الشيخ أبي علي على ما
ذكره المتقدمون ابنتين كانتا من حملة العلم وربات الإجازة، ومن أهل الدراية والرواية
قال في (رياض العلماء): كانتا عالمتين فاضلتين، إحداهما أم ابن إدريس العلامة
الشهير صاحب (السرائر) الحلي كما ذكر في ترجمته، وأمها بنت المسعود ابن ورام.
وقال صاحب (اللؤلؤة) ص 212 في ترجمة السيد رضي الدين أبي القاسم
علي والسيد جمال الدين أبي الفضائل احمد ابني السيد سعيد الدين أبي إبراهيم موسى
ابن جعفر آل طاووس ما لفظه:
... وهما أخوان من أم وأب وأمهما على ما ذكره بعض علمائنا بنت الشيخ
مسعود ورام بن أبي الفراس بن فراس بن حمدان، وأم أمهما بنت الشيخ وأجاز لها
ولأختها أم الشيخ محمد بن إدريس جميع مصنفاته ومصنفات الأصحاب.
ونقل ذلك عنه في (الروضات) ص 392 من الطبعة الأولى وزاد عليه ما لفظه:
ووقع النص على جديتهما له أيضا من جهة الأم في مواقع كثيرة من مصنفات نفسه
فليلا حظ.
وقال العلامة البحاثة الشيخ على آل كاشف الغطاء في (الحصون المنيعة) في
طبقات الشيعة المخطوط ج 1 ص 328 ما لفظه:
بنتا الشيخ الطوسي كانتا عالمتين فاضلتين، وكانت إحداهما أم ابن إدريس،
وأما أختها فهي التي أجازها بعض العلماء، ولعل المجيز أخوها الشيخ أبو علي أو والدها.
إلى غير هؤلاء ممن ذكر هذا المعني من المتقدمين وهم كثيرون، وجاء بعدهم
المقدمة 52

المتأخرون فاخذوها عنهم إرسال المسلمات ومروا بها كراما.
أقول: هذه النسبة غير صحيحة فليس الشيخ الطوسي الجد الأمي بغير واسطة
لابن طاووس، ولا لابن إدريس، فقد صرح السيد رضي الدين علي بن طاووس
في كثير من تصانيفه ومنها (الاقبال) في دعاء أول يوم من شهر رمضان في
ص 334 من طبعة تبريز بأن الشيخ الطوسي جده والده - السيد الشريف أبي إبراهيم
موسى بن جعفر - من قبل أمه، والشيخ أبا علي خاله كذلك لكن ليس مراده الجد
والخال أيضا بلا واسطة بأن تكون والدة أبيه الشريف موسى ابنة الشيخ الطوسي
كما استظهره شيخنا الحجة الميرزا حسين النوري في " مستدرك الوسائل " ج 3 ص
471، لأن السيد ابن طاووس ولد في سنة 589 ه‍ وكان والده حيا إلى ان بلغ
السيد من العمر حدا كان قابلا فيه لقراءة كتاب " المقنعة " للشيخ المفيد و (الأمالي)
للشيخ الطوسي وغير ذلك من الكتب عليه كما صرح به في تصانيفه، فتكون
حياة والده تقريبا إلى حدود سنة 610 ه‍، وأما ولادته فلم تعلم تحقيقا لكن الظاهر
أنه لم يكن من المعمرين المناهزين للثمانين أو التسعين وإلا لكان قابلا للذكر وكان
يصرح به ولده ولو بالمناسبة في موضع من تصانيفه الكثيرة، ولو فرض بلوغه الثمانين
لكانت ولادته في حدود سنة 530 ه‍ وكانت وفاة الشيخ الطوسي سنة 460 ه‍
فلو فرضت له بنت صغيرة في التاريخ لم تكن تلد بعد الخمسين من عمرها ولهذا فلا
تكون بنت الشيخ أم السيد موسى لبعد ذلك ولامتناعه عادة وان كان ممكنا عقلا
بان كانت البنت آخر ولد الشيخ وكان السيد موسى آخر ما ولدت البنت وقد عمر نيفا
ومائة سنة، لكن ذلك ليس على مجاري القاعدة فلعل بنت الشيخ كانت والدة أم
السيد موسى، وكان الشيخ جد أم السيد موسى، ويصح أن يطلق الجد والخال
على جد الأم وخالها، ولو كانت والدة أم السيد موسى بنت ابن الشيخ وهو الشيخ
أبو علي فيكون هو جده لأمه لا خاله كما صرح به السيد ابن طاووس نفسه، هذا
ما نعتقده في الموضوع والظاهر أنه حقيقة المطلب.
وكذا الحال في الشيخ المحقق محمد بن إدريس الحلي الذي قيل: أن أمه بنت
المقدمة 53

الشيخ. لأن ابن إدريس ولد في سنة 543 ه‍ فكيف تكون أمه بنت الشيخ، ولو
فرضنا إمكان ما مر من المحالات والمستبعدات من أنها آخر ما ولد للشيخ، وانه
آخر ما ولد لها فما نصنع لقول عدة من القدماء ان الشيخ أجاز ابنتيه. وهو قول
ثابت لا يمكن انكاره أو تضعيفه.
ثم ان هناك خلط آخر وهو التعبير عن الشيخ ورام بالمسعود الورام أو مسعود
ابن ورام، حيث ان المسعود الورام، وابن ورام غير الشيخ ورام الزاهد صاحب
(تنبيه الخاطر) كما نبه عليه شيخنا النوري.
ومن طوائف هذا الباب ما نقله صاحب " الرياض " عن رسالة فارسية لبعض
الفضلاء كما عبر عنه من أن ابن عيسى الرماني المفسر سبط شيخ الطائفة الطوسي وانه
قرأ على خاله الشيخ أبي علي، وان له آثارا منها " كشف الغمة " في فضائل الأئمة " ع "
وهو غير " كشف الغمة " للأربلي وله غيره وانه كان ذا اطلاع تام على كلمات جده
الشيخ الطوسي. إلى غير ذلك.
أقول: الرماني هو الامام العالم الشيعي الكبير المفسر النحوي والفقيه المتكلم
أبو الحسن علي بن عيسى بن علي بن عبد الله السر من رائي البغدادي الواسطي
المعروف بابن الرماني أو بابي الحسن الوراق، والملقب بالاخشيدي صاحب التفسير
الكبير الذي ذكرناه في " الذريعة " ج 4 ص 275 وقد لقب بالاخشيدي لتلميذه
علي ابن اخشيد، وبالرماني نسبة إلى قصر الرمان بواسط وقد ترجم له ابن النديم
في " الفهرست " ص 94 - 95 والحموي في " معجم الأدباء " ج 14 ص 73 - 78
وذكره في " معجم البلدان " ج 14 ص 283 وترجمة الخطيب في " تاريخ بغداد "
ج 12 ص 16 - 17 والعسقلاني في " لسان الميزان " ج 4 ص 248 وذكرناه في
كتابنا " نوابغ الرواة في رابعة المآت " ص 143 وذكره القمي في " الكنى
والألقاب " ج 2 ص 251 إلى غير ذلك مما لا يمكن استقصاؤه في هذه العجالة،
وقد صرح الجميع بأنه ولد في سنة 296 ه‍ وتوفي سنة 348 ه‍ وعليه فوفاته قبل
ولادة الشيخ الطوسي بسنة واحدة فكيف يكون سبطا للشيخ؟ والأظرف أن الشيخ
المقدمة 54

نفسه قد استحسن تفسير الرماني هذا فقال في مقدمة كتابه " التبيان هذا " ما لفظه:
وأصلح من سلك في ذلك مسلكا جميلا مقتصدا محمد بن بحر أبو مسلم الأصفهاني
وعلى بن عيسى الرماني فان كتابهما أصلح ما صنف في هذا المعنى إلخ.
والخلاصة انه حصل لنا القطع بأن للشيخ ابنتين عالمتين فاضلتين من أهل الرواية
والدراية لكن ما هو اسمها، ومن تزوج بهما، ومتى توفيا فهذا أمر لم نوفق لمعرفته
حتى الآن ورغم مرور هذه الأزمان.
كما حصل لنا اليقين بأن صهر الشيخ الطوسي على احدى بناته هو الشيخ السعيد
أبو عبد الله محمد بن احمد بن شهريار الخازن لمشهد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام،
الذي كان فقيها صالحا، وهو الذي يروي عنه " الصحيفة السجادية " السيد بهاء الشرف
أبو الحسن محمد بن الحسن بن احمد العلوي الحسيني في ربيع الأول سنة 516 ه‍
كما وقع في أول الصحيفة، وهو من تلاميذ شيخ الطائفة الذين عاشوا إلى هذا
التاريخ، وهو يروي عن أبي منصور العكبري المعدل الذي يروي عن أبي المفضل
الشهباني المتوفي سنة 387 ه‍، وترجم له الشيخ منتجب الدين في " الفهرست " فقال:
فقيه صالح. كما نقله عنه الشيخ الحر أيضا في " أمل الآمل "، وذكره أيضا السيد
ابن طاووس في " مهج الدعوات " فقال: "... وحدث الشيخ السعيد الأمين
أبو عبد الله محمد بن احمد بن شهريار الخازن بالمشهد المقدس الغروي في شهر رمضان
من سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ".
ويروي عنه عماد الدين الطبري في " بشارة المصطفى " وهو يروي عن الشيخ
الطوسي، والشريف زيد بن ناصر العلوي، والشريف محمد بن علي بن عبد الرحمن
صاحب " التعازي "، وأبو يعلي حمزة بن محمد الدهان، وجعفر بن محمد الدرويستي،
ومحمد بن احمد بن علان المعدل وغيرهم كما ذكره في " رياض العلماء ".
وقد رزق الشيخ أبو عبد الله محمد من زوجته كريمة شيخ الطائفة ولده الشيخ
أبا طالب حمزة، وكان فقيها صالحا أيضا يروي عن خاله الشيخ أبي علي بن الشيخ
الطوسي، وحدث عنه ابن أخيه الشيخ الموفق أبو عبد الله احمد بن شهريار بن أبي
المقدمة 55

عبد الله محمد بن احمد بن شهريار الخازن في مشهد أمير المؤمنين عليه السلام في رجب
سنة 554 ه‍ كما في الباب الثامن والثلاثين والمائة من كتاب " اليقين " لابن طاووس
ويروي عن الشيخ الموفق هذا الشيخ حسن بن علي الدربي الذي هو أستاذ المحقق
الحلي، والسيد علي بن طاووس كما في إجازة العلامة الحلى لبني زهرة الحلبي.
ترجم لحمزة صاحب " الرياض " ص 196 وصرح بأنه سبط شيخ الطائفة وانه
يروي عن خاله أبي على، وترجم له في " أمل الآمل " في القسم الثاني ولم يذكر جده
الأخير، ولحمزة ولد عالم كامل هو الشيخ علي كتب بخطه في الحلة " اختيار الرجال "
تأليف جده شيخ الطائفة في سنة 562 ه‍ وهي نسخة نفيسة جيدة كما أشرنا إليها في
" الذريعة " ج 1 ص 366 ه‍ وكتب الشهيد الأول نسخته عن خطه، وكتب الشيخ
نجيب الدين علي بن محمد تلميذ صاحب " المعالم " نسخته عن خط الشهيد رأيت نسخة
نجيب الدين في " مكتبة العلامة السيد حسن الصدر " في الكاظمية.
والذي يستفاد من بعض الامارات ويغلب على الظن أن أول من لقب بالخازن
هو الجد الأعلى لهؤلاء أعني شهريار القمي الذي يوصف بالخازن غالبا وجرت الخازنية
في عقبه إلى بطون، وهو قمي الأصل معروف بالديانة والتقوى، وله ولدان أحدهما
أبو نصر أحمد المذكور، والثاني الحسن بن شهريار والد جعفر الذي ذكره العسقلاني
في " لسان الميزان " ج 1 ص 305 ناقلا لترجمته عن " تاريخ الري " لابن بابويه
- ويعني به كتاب " الفهرست " للشيخ منتجب الدين - وكان شهريار جد هذه
الأسرة معاصرا للسلطان عضد الدولة الديلمي الذي عمر المشهدين الشريفين الغري
والحائر في سنة 369 ه‍ كما صرح به جمع من المؤرخين فقد روى ابن طاووس في
" فرحة الغري " ص 58 من الطبعة الأولى عن يحيى بن عليان الخازن بمشهد مولانا
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه وجد بخط الشيخ أبي عبد الله محمد
ابن السري المعروف بابن البرسي رحمه الله المجاور بمشهد الغري سلام الله على صاحبه،
على ظهر كتاب بخطه قال: كانت زيارة عضد الدولة للمشهدين الشريفين الطاهرين
الغروي والحائري في شهر جمادى الأولى في سنة احدى وسبعين وثلاثمائة، وورد
المقدمة 56

مشهد الحائر لمولانا الحسين صلوات الله عليه لبضع بقين من جمادي فزاره صلوات الله
عليه وتصديق وأعطى الناس على اختلاف طبقاتهم، وجعل في الصندوق دراهم ففرقت
على العلويين فأصاب كل واحد منهم اثنان وثلاثون درهما وكان عددهم ألفين ومأتي
اسم، ووهب العوام والمجاورين عشرة آلاف درهم، وفرق على أهل المشهدين من
الدقيق والتمر مائة ألف رطل ومن الثياب خمس مائة قطعة، وأعطى الناظر عليهم ألف
درهم، وخرج وتوجه إلى الكوفة لخمس بقين من جمادى المؤرخ ودخلها وتوجه إلى
المشهد الغروي يوم الاثنين ثاني يوم وروده، وزار الحرم الشريف وطرح في الصندوق
دراهم فأصاب كل واحد منهم أحد وعشرين درهما، وكان عدد العلويين ألف وسبعمائة
اسما وفرق على المجاورين وغيرهم خمسائة الف درهم، وعلى المترددين خمسمائة الف درهم
وعلى الناحة الف درهم، وعلى الفقراء والفقهاء ثلاثة آلاف درهم، وعلى المرتبين من
الخازن والنواب على يد أبي الحسن العلوي، وأبي القاسم بن أبي عابد، وأبي بكر بن
سيار رحمه الله خمسمائة درهم وصلى الله على محمد النبي وآله الطاهرين.
وتجد ذكر ذلك أيضا في " الكامل " لابن الأثير ج 8 ص 334 وقد كانت
هذه الزيارة بعد سنة التعمير المذكورة فقد قال ابن عنبة في " عمدة الطالب "
ص 44 من طبعة لكهنو ما لفظه: "... إلى ان كان زمن عضد الدولة فناخسرو
ابن بويه الديلمي فعمره عمارة عظيمة، واخرج على ذلك أموالا جزيلة وعين له
أو قافا إلخ ".
افترى ان مثل هذا السلطان العظيم والسياسي المحنك، والداهية الدهماء
والمفكر الكبير، يوقف الأملاك الكثيرة، ويحبس المنافع الواسعة، ويصرف في سبيل
التعمير والتشييد المبالغ الطائلة، ويعين للفقهاء والعلماء الرواتب ويطلق الصلات
للمحتاجين من مجاوري هذا المشهد، كل ذلك بدون تعيين متول أو وكيل أو خازن
أو خادم للمشهد يقوم بلوازمه؟ كلا لا شك ان ذلك كله قد كان باشراف رجل
مسؤول عن كل شيء والغالب على الظن انه شهريار القمي جد هذه الأسرة الجليلة
العريقة في العلم والتقى وخدمة المشهد وخزانته، ويؤكد لنا ذلك تشرف عضد
المقدمة 57

الدولة للزيارة بعد عامين من تشييد المرقد وبناء القبة، وكان ذلك من دون شك
لمشاهدة ما قام به من الأعمال وهل هو على وفق رغبته وكما ينبغي أم لا؟ هذا ما
نذهب اليه والله العالم.
لقد طال بنا الكلام عن خلف الشيخ الطوسي، وبعدنا عما كنا بصدده فلا
يخفى ان عقب شيخ الطائفة لم ينقرض بل تحول بعضهم عن النجف إلى أصفهان وبقى
محافظا على نسبه ومكانته العلمية، فمن أحفاده المولى المفسر المحدث الشيخ محمد
رضا بن عبد الحسين بن محمد زمان النصيري الطوسي ساكن أصفهان صاحب التفسير
الكبير المسمى ب‍ " تفسير الأئمة لهداية الأمة " و " كشف الآيات " الذي فرغ
منه في سنة 1067 ه‍، فان هذا الشيخ ينقل في أثناء تفسيره عن شيخ الطائفة بعض
الأحاديث بما لفظه: " قال جدنا الأمجد العالم المتعلم بعلوم الصادقين الشيخ أبو جعفر
محمد بن الحسن الطوسي " والظاهر انه جده من طرف الأب والا لقيده بالأمي
كما انه يقيد انتسابه لابن طاووس وابن إدريس بطرف الأم.
وأما نسبة الشيخ إلى النصير فلم يظهر لنا وجهها لأن المعروفين بنصير الدين في
علمائنا كثيرون، منهم: (1) الخواجة نصير الطوسي (2) نصير الدين أبو طالب عبد الله
ابن حمزة بن الحسن الطوسي الشارحي المعروف بنصير الدين الطوسي والمذكور في
(الفهرست) للشيخ منتجب الدين (3) الشيخ نصير الدين علي بن حمزة بن الحسن المذكور
في (أمل الآمل) (4) الشيخ نصير الدين علي بن محمد بن علي الكاشاني الحلي من المائة
الثامنة (5) الشيخ نصير الدين بن محمد الطبري المدفون بسبزوار من المائة التاسعة إلى
غيرهم مما لا يخطر ببالنا.
وهذا التفسير كبير يقال أنه في ثلاثين مجلدا رأيت مجلدين منها. أحدهما
المجلد الأول وهو كبير ضخم وعلى ظهره تملك ابن مؤلفه كتب: انه ملكه بالإرث.
لكن لم يذكر تاريخه، وتوقيعه: (عبد الله بن محمد رضا النصيري الطوسي). وقد
ملك هذا المجلد السيد شبر بن محمد بن ثنوان الحويزي النجفي في سنة 1160 - 1182 ه‍ -
كما يظهر من بعض خطوطه عليه عليه في التاريخين، وانتقل بعد ذلك إلى العلامة الشيخ
المقدمة 58

أسد الله الدزفولي الكاظمي صاحب (المقابس) فوقفه وكتب صورة الوقف بخطه
وقد رأيته في مكتبة المرحوم الشيخ محمد أمين آل الشيخ أسد الله المذكور.
وثاني المجلدين اللذين رأيتهما - وهو ضخم كبير أيضا - رأيته في النجف في
مكتبة المرحوم الشيخ محمد جواد آل محي الدين ولا علم لي ببقية مجلداته، غير ان
صديقنا الجليل الحجة المرحوم الشيخ أبو المجد آغا رضا الأصفهاني صاحب (نقد
فلسفة داروين) قد كتب لنا من أنه: كان خمسة عشر مجلدا من هذا الكتاب في
(المكتبة القزوينية) بأصفهان وقد أخذ اقبال الدولة ثلاث مجلدات منها أيام حكومته
بأصفهان ولم يردها، والبقية موجودة فيها انتهى وقد ذكرنا هذا التفسير مفصلا في
(الذريعة) ج 4 ص 236 - 238.
ولصاحب هذا التفسير أخ جليل هو المولى محمد تقي بن عبد الحسين النصيري
الطوسي الأصفهاني مؤلف (العقال في مكارم الخصال) فرغ من بعض مجلداته في
أصفهان يوم الأحد 26 ربيع الثاني سنة 1080 ه‍، ووالدهما المولى عبد الحسين بن
محمد زمان النصيري الطوسي كان من العلماء أيضا كما يظهر من خطبه بتملك (نهج
الحق) في الكلام للعلامة الحلي على نسخة كتبها محمد كاظم بن شكر الله الدزماني
في سنة 1025 ه‍، وتوقيعه: (عبد الحسين بن محمد زمان النصيري الطوسي).
ومن رجال هذا البيت المصنفين الشيخ المولى حسن بن محمد صالح النصيري
الطوسي مؤلف (هداية المسترشدين) في الاستخارات في سنة 1132 ه‍ ومنهم
المولى محمد إبراهيم بن زين العابدين النصيري الطوسي الذي كان حيا سنة 1097 ه‍
وفيها استكتب لنفسه (تلخيص الشافي)، ومنهم ولده المولى محمد بن إبراهيم بن
زين العابدين النصيري الطوسي الموجود بعض تملكاته، وبالجملة: كل واحد من
هؤلاء وصف نفسه بالنصيري الطوسي فقط من دون تعرض لوصف السيادة حسنية
أو حسنية أو غيرهما، أو أي لقب آخر، ومن ذلك كله يظهر جليا كون هذا المؤلف
المفسر غير الأمير الكبير السيد محمد رضا الحسيني منشي الممالك الساكن بأصفهان في
زمن تأليف الشيخ الحر كما ترجمه كذلك في (أمل الآمل) وذكر له كتاب (كشف
المقدمة 59

الآيات) و (التفسير الكبير) العربي والفارسي في أكثر من ثلاثين مجلدا، فلا وجه
لما كتبه السيد شبر الحويزي بخطه على ظهر المجلد الأول من هذا التفسير في سنة
1160 ه‍ من استظهاره أن المؤلف له هو المترجم له في (الأمل) مع أن هذا المؤلف
صرح في أول المجلد الأول منه بأنه يروي جميع تلك الأخبار التي أوردها في تفسيره
عن شيخه السيد السند... إلى قوله بعد الاطراء: الأمير شرف الدين علي بن حجة
الله الحسني الشولستاني النجفي. الذي كان حيا إلى سنة 1063 ه‍ وكان من مشايخ
العلامة المولى محمد تقي المجلسي المتوفي سنة 1070 ه‍ قبل تأليف (الأمل) بسنين،
فالمؤلف معاصر له ولعله أيضا لم يبق إلى زمن تأليف (الأمل) وهو سنة 1097 ه‍
والحال ان منشيء الممالك كان حيا سنة تأليفه وكان ساكنا بأصفهان.
وظهر مما ذكرناه أيضا تقدم هذا المفسر على السيد الأمير محمد رضا بن محمد
مؤمن المدرس الامامي الخواتون آبادي مؤلف (جنات الخلود) باسم الشاه سلطان
حسين الصفوي في سنة 1127 ه‍ وان كان له تفسير أيضا.
هذا كل ما نعرفه عن أحفاد شيخ الطائفة، والأسف ان سلسلة نسبهم اليه
لم تكن محفوظة ولعل في مؤلفاتهم ومكتباتهم في أصفهان ما يتضمن ذلك والله العالم.
ومن المستغرب ما ذكره بعض المعاصرين من أن للشيخ الطوسي أخا اسمه
حمزة، وقد نقل ذلك عن (تكملة أمل الآمل) للحجة السيد حسن الصدر رحمه الله
وقال أنه تأسف على حاله لكونه من المنسيين الذين لا ذكر لهم في الأصول الرجالية
وذكر انه وقف عليه في إجازة ابن نما واستظهر منها ان له روايات ومصنفات.
أقول: ان إجازة الشيخ نجم الدين جعفر بن محمد بن جعفر بن هبة الله بن
نما الحلي لم تصل الينا صورتها التامة وانما وصلتنا منها بعض النبذ، فقد ذكر الشيخ
حسن صاحب (المعالم) في اجازته الكبيرة المطبوعة في آخر (البحار) ص 100
إنه كان يحتفظ بثلاث إجازات بخط الشيخ الشهيد محمد بن مكي قدس سره، وهذه
الإجازات كتبها أصحابها للشيخ كمال الدين حماد الواسطي، وهي:
" 1 " إجازة السيد غياث الدين بن طاووس الحلي " 2 " إجازة نجيب الدين
المقدمة 60

يحيى ابن سعيد الحلي " 3 " إجازة نجم الدين جعفر الحلي الشهير بابن نما. ثم انه
ذكر: انه ينقل المهم من مطالب الإجازات في اجازته المذكورة، وليس فيما نقله
من فوائد إجازة ابن نما ذكر ولا أثر لحمزة أخ الشيخ الطوسي كما قيل.
والمظنون ان الأمر اشتبه على الناقل فظن ان الشيخ الجليل الشهير بابن حمزة
الطوسي المشهدي صاحب " الوسيلة إلى نيل الفضيلة " - الشهير بأبي جعفر الثاني
أو أبي جعفر المتأخر - فظن ان جده حمزة كان أخا للشيخ الطوسي، ولم يكن كذلك
إذ لو كان لصرح به الشيخ منتجب الدين في ترجمته له حيث ذكره هكذا: الامام
عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي إلخ ولم يشر إلى شئ
من ذلك على خلاف عادته فيمن يعرف له قرابة من المترجمين.
ولا يخفى خطأ ذلك من ناحية ثانية فسيرة شيخ الطائفة معروفة لدى المؤرخين
والباحثين منذ يوم خروجه من طوس حتى يوم وفاته في النجف، ولم يغمض من ذلك
شيء أبدا، ولم نعرف طوال هذا العمر أخا للشيخ الطوسي ولم نسمع باسمه، وليت
شعري أهاجر هذا الأخ مع أخيه الشيخ من طوس؟ أم لحقه بعد ذلك إلى بغداد؟
وهل كان أكبر من أخيه وأصغر أو غير ذلك مما لا وجه لاحتمال صحته بكل وجه؟
ومع ذلك فالعالم هو الله.
تنبيهات
(1) - قال العلامة الحلي في " الخلاصة " عند ذكر شيخ الطائفة ما لفظه:
... وكان يقول أولا بالوعيد ثم رجع. وقال ذلك غيره من المترجمين للشيخ
الطوسي رحمة الله عليه.
أقول: القول بالوعيد هو اختيار عدم جواز عفو الله عن الكبائر عقلا من
غير توبة كما عليه جماعة الوعيدية كأبي القاسم البلخي وغيره، وهو مخالف لاجماع
الامامية فقد اتفقوا على القول بدخول المؤمن الصالح إلى الجنة وخلوده فيها، وأما
الذي خلط العمل الصالح بغيره فقد أجمع الامامية على أنه لا يجب تعذيبه بل قد
يعفو الله عنه أو يشفع النبي " ص " فيه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
المقدمة 61

" ادخر شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ". وقد يعاقبه الله لكن عقابا غير دائم
لأنه يستحق الثواب.
قال الشيخ الصدوق في كتابه " الاعتقادات " ما لفظه:
" ان اعتقادنا في الوعد والوعيد ان من واعده الله على عمل ثوابا فهو
منجزه، ومن واعده على عمل عقابا فهو بالخيار إن عذبه فبعدله وان عفا عنه فبفضله
وما ربك بظلام للعبيد. وقال الله تعالى: ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء. والله أعلم ".
وروى الكليني في " الكافي " عن الامام محمد الباقر عليه السلام
في تفسير قوله تعالى: (عسى الله أن يتوب عليهم). انه عليه السلام قال: أولئك
قوم مؤمنون يحدثون في ايمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها.
وفي (تفسير العياشي) عن الباقر عليه السلام أيضا قال: عسى من الله واجب وانما
نزلت في شيعتنا المذنبين. ونقله عنهما أيضا الصافي في تفسيره ص 198 من طبعة
طهران سنة 1311 ه‍.
إلى غير ذلك مما ورد في هذا الباب في الكتاب والسنة أفترى ان شيخ
الطائفة مع عظيم مكانته في العلوم الاسلامية يغفل عن هذا أو يضرب به عرض الجدار
ويقول بالوعيد أولا ثم يرجع، حاشا وكلا وانما نسب ذلك اليه أعداؤه وأدخله في
ترجمته أبناء العامة الذين ذهب معظمهم إلى تلك الأقوال والآراء، ولم يكن للشيخ
في ذلك رأي ولا قول.
ويدل على عدم صحة ذلك قول السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) في
ترجمته للشيخ كما سيأتي أنه شافعي، فهل يحتمل ذلك في حق هذا الحبر الكبير
الذي هو امام الفرقة الاثني عشرية بعد أئمتهم المعصومين عليهم السلام؟ وهذه
كتبه الجليلة الدالة على بلوغه أقصى درجات الاجتهاد، ومن هذا يظهر لنا أن العلامة
الحلي نقل ذلك فيه عن مثل هذا المؤلف.
(2) - الاجماع في نظر شيخ الطائفة ليس على المعنى الحقيقي المصطلح عند
المقدمة 62

المتأخرين عنه، بل الغالب أنه يتمسك بالاجماع في قبال آراء العامة للرد عليهم بما
هو حجة عندهم حتى في الأصول مثل مسألة الإمامة والخلافة، ولذا تراه - قدس الله
نفسه - يستدل بالاجماع في جملة من الفروع ثم يفتي هو في كتابه الآخر بما يخالف
ذلك الاجماع، وقد أحصى الشيخ السعيد زين الدين الشهيد تلك الاجماعات في رسالة
مستقلة طبعت في آخر (الألفية) للشهيد الأول في سنة 1308 ه‍ وقد ذكر في أولها:
أن شيخ الطائفة ادعى الاجماع في جملة في جملة من المسائل مع أنه بعينه خالف حكم ما ادعى
الاجماع فيه، أفردناه للتنبيه على أن لا يعتبر الفقيه بدعوى الاجماع الخ. بدأ في بيان
تلك المسائل بكتاب النكاح ثم الطلاق إلى آخر كتاب الديات، ومن هذا يظهر أنه لم
يظفر بمخالفته للاجماعات في كتب العبادات.
(3) - إن لشيخ الطائفة فتاوى نادرة لم يرتضيا المتأخرون عنه لقوة أدلة
خلافها، منها: مسألة مالا يدركه الطرف من الدم. فقد قال:: بأنه غير منجس.
وقال الشيخ صاحب (الجواهر) فيه: الأحوط بل الأقوى تنجيسه وفاقا للمشهور
بين الأصحاب، ولم يحك عدم التنجيس الا عن الشيخ في (الاستبصار)
و (المبسوط) إلى قوله: ويظهر من صاحب (الذخيرة) موافقته ولا ريب خطئه الخ.
ومنها: مسألة تصوير ذوات الأرواح وصنع المجسمات فإنه وان لم ينقل عنه
القول بالجواز في كتبه الفقهية لكنه صرح به في (تفسير التبيان) ولعله عدل بعد
ذلك عنه كما يأتي النقل عن كتابه (النهاية) قال في (التبيان) الطبعة الأولى ج 1
ص 85 س 12 في تفسير قوله تعالى: (اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون).
ما لفظه: اي اتخذتموه الها لأن بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين لأن
فعل ذلك ليس بمحظور وانما هو مكروه، وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنه لعن المصورين معناه من شبه الله بخلقه أو اعتقد فيه أنه صورة فلذلك قدر
الحذف في الآية كأنه قال اتخذتموه الها وذلك انهم عبدوا العجل بعد موسى لما قال
لهم السامري هذا الهكم إلخ.
المقدمة 63

ثم ان أمين الاسلام الطبرسي صاحب (مجمع البيان) الذي حذا فيه حذو شيخ
الطائفة في (التبيان) كما أسلفناه أورد كلام شيخ الطائفة في تفسير هذه الآية بعينه
من دون نظر فيه أو تأمل، ولكن المتأخرين عن هذين الامامين لم يرتضوا ذلك
وانما أفتوا بحرمة التصوير ولا سيما تصوير ذوات الأرواح، وتشددوا في خصوص.
المجسمات، قال الشيخ الكبير أستاذ كافة المتأخرين العلامة الشيخ المرتضى الأنصاري
في (المكاسب المحرمة) ص 203 من طبعة طهران ما لفظه: المسألة الرابعة تصوير صور
ذوات الأرواح حرام إذا كانت الصورة مجسمة بلا خلاف فتوى، ونصا، وكذا
عدم التجسيم وفاقا لظاهر (النهاية) وصريح (السرائر) إلخ ومن هذا القول احتملنا
عدول الشيخ عن رأيه السابق في تفسيره، وأما الشيخ الطبرسي فلم يصلنا كتابه في
الفقه حتى نعرف فتواه بالجواز جزما (1).
(4) - حكي عن صاحب (الرياض): ان المؤرخ المسعودي صاحب
(مروج الذهب) جد الشيخ الطوسي من طرف أمه. وهذا مستبعد أيضا وعلى
فرض وجود علاقة فليست بهذا القرب يعنى ليس جده بلا واسطة فلعل أمه من
بناته فقد طاف المسعودي فارس وكرمان سنة 309 ه‍ فلعله تزوج في إيران وأعقب
بها، إما وفاته فهي بمصر عام 346 ه‍ ولزيادة الاطلاع على أحواله راجع (فوات
الوفيات) لابن شاكر ج 2 ص 57 طبع عام 1283 ه‍ و (الفهرست) لابن النديم
ص 219 طبع مصر و (تاريخ آداب اللغة العربية) لجرجي زيدان ج 2 ص 313
وغير ذلك.
مصادر ترجمته:
لقد بلغ شيخ الطائفة رحمة الله عليه في عالم الشهرة درجة قصوى، ومكانة
لم يحظ بها إلا آحاد من العظماء والمؤسسين، ولذا فلا يكاد يخلو من ذكره كتاب في
الرجال أو مشيخة في الحديث أو إجازة في الرواية أو سلسلة من السلاسل المنتهية إلى

(1) كتب لنا قبل مدة الدكتور بشر فارس عضو المجمع العلمي اللغوي في القاهرة يسألنا
عن رأي علماء الشيعة في تصوير ذوات الأرواح فلم نزد على ما ذكرناه.
المقدمة 64

أهل بيت العصمة عليهم السلام، ولذلك فان مصادر ترجمته في غاية الكثرة، وليس
بإمكاننا استقصاءها بأجمعها في هذه العجالة، وانما نذكر من ذلك ما هو في متناول
يدنا حال كتابة هذه الترجمة، واننا لنعتقد بأن هناك أضعافه وان مالا يخطر ببالنا ولا
يحضرنا أكثر وأكثر، لكن لا يسقط الميسور بالمعسور، ومالا يدرك كله لا يترك
كله، واليك الموجود:
(1) - إتقان المقال في أحوال الرجال: للشيخ محمد ط، نجف، ص 121 طبع
النجف سنة 1340 ه‍.
(2) - إجازة الشيخ عبد الله السماهيجي، من مخطوطات مكتبتنا الورقة 20 أ.
وهي بخطنا في كتابنا الكبير (إجازات الرواية والوراثة في القرون الأخيرة الثلاثة).
وعن هذه الإجازة نقل صاحب (اللؤلؤة) معبرا عنها بإجازة بعض مشايخنا
المعاصرين.
(3) - إزاحة الحلك الدامس بالشموس المضيئة في القرن الخامس. للعبد
الفاني أغا بزرگ الطهراني غفر الله له ولوالديه مخطوط ص 72 وهو الجزء العاشر من
موسوعتنا الثانية (طبقات أعلام الشيعة)، وهو الذي استللنا منه هذه الترجمة وزدنا
عليها جملة من الفوائد. (4) - الأعلام: لخير الدين الزركلي. ج 3 ص 484 طبع مصر سنة
1347 ه‍ وقدسها فيه بقوله: وتوفي بالكوفة. وبقوله: المبسوط في الفقه 81 جزءا ولعل
مراده ما يحويه من الكتب الفقهية ومع ذلك فلا يصح إذ هي نحو سبعين كتابا.
(5) - أعيان الشيعة: للسيد محسن الأمين ج 1 ص 1 و 12 و 282 و 3030 -
304 وغيرها طبع دمشق سنة 1353 ه‍.
(6) - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. للشيخ محمد باقر
المجلسي ذكر فيه شيخ الطائفة في مواضع عديدة، ولا سيما في مجلد الإجازات الذي
هو آخر أجزائه.
(7) - البداية والنهاية. لابن كثير ج 12 ص 97 طبع مصر سنة 1351 ه‍
المقدمة 65

(8) - تاريخ آداب اللغة العربية. لجرجي زيدان ج 3 ص 102 طبع مصر
سنة 1911 م. وقد سها بقوله: المتوفى سنة 459.
(9) - تاريخ مصر. لبعض الأشعرية. ينقل عنه صاحب (الروضات) في
ترجمته للشيخ.
(10) - تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام. للسيد حسن الصدر ص 313 و 339
طبع بغداد سنة 1370 ه‍.
(11) - تحفة الأحباب في نوادر آثار الأصحاب. للشيخ عباس القمي
ص 323 - 325 طبع طهران سنة 1369 ه‍.
(12) - تحية الزائر وبلغة المجاور. للشيخ الميرزا حسين النوري ص 78 طبع
طهران سنة 1327 ه‍.
(13) - تلخيص الأقوال في تحقيق أحوال الرجال السيد الميرزا محمد
ابن علي الحسيني الأسترآبادي، مؤلف ثلاثة كتب في الرجال (1) الكبير
(2) الوسيط وهو هذا (3) الصغير. وهذا الكتاب من مخطوطات مكتبتنا
والترجمة في الورقة 141 أ.
(14) - تنقيح المقال في علم الرجال (1). للشيخ عبد الله المامقاني ج 3
ص 104 طبع النجف سنة 1352 ه‍.
(15) - توضيح المقال في علم الرجال. للمولي على الكنى، ص 62 طبع
طهران سنة 1302 ه‍.
(16) - جامع الرواة: للمولى محمد بن علي الأردبيلي ج 2 ص 95 طبع طهران
سنة 1374 ه‍.

(1) ذكره الأستاذ البحاثة يوسف أسعد داغر في مآخذ كتابه (مصادر الدراسة الأدبية)
ج 1 ص 12 وسماه (منتهى المقال). ولخص رأي مؤلفه بأن الثقات ممن ذكره (1328)
والحسان (1445) والموثقون (641) والباقي أي 13268 ما بين ضعيف ومجهول ومهمل.
أقول: راجع ما ذكرناه في (الذريعة) ج 4 ص 466 - 467 لتعرف رأي الشيخ
المامقاني ومراده بالمجهول.
المقدمة 66

(17) - الخلاصة المنظومة. للشيخ عبد الرحيم الأصفهاني ص 84 طبع
طهران سنة 1343 ه‍.
(18) - خلاصة الأقوال في معرفة الرجال. للعلامة الحلى ج 1 ص 72
طبع طهران سنة 1310 ه‍.
(19) - الذريعة إلى تصانيف الشيعة. للفاني آغا بزرك الطهراني عفا الله عنه
ج 1 ص 73 و 365 - 366 و ج 2 ص 14 - 16 و 269 - 270 و 309 -
311 و 313 - 314 و 486 و ج 3 ص 328 - 331 و ج 4 ص 266 - 267
و 423 و 433 و 504 - 507 و ج 5 ص 145 و ج 7 ص 236 و ج 10 ص 120
طبع النجف وطهران.
(20) - راهنماي دانشمندان. للسيد علي أكبر البرقعي ج 2 ص 118 -
120 طبع طهران بدون تاريخ لكن الجزء الأول طبع سنة 1368 ه‍.
(21) - الرجال. لأبي العباس احمد بن علي النجاشي ص 287 - 288
طبع بمبي سنة 1317 ه‍. وهو معاصر للشيخ وأول من ترجم له بعد ترجمته لنفسه في
كتابه (الفهرست).
(22) - الرجال. لابن داود من مخطوطات مكتبتنا تاريخ كتابه سنة
992 ص 51.
(23) - الرواشح السماوية في شرح الأحاديث الامامية. للمير السيد محمد باقر
الداماد ص 88 طبع طهران سنة 1311 ه‍.
(24) - روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات للسيد محمد باقر
الخوانساري ص 580 - 591 طبع طهران سنة 1306 ه‍.
(25) - الروضات البهية في الطرق الشفيعية. للسيد شفيع الجابلاقي ص 182 -
190 طبع طهران سنة 1280 ه‍.
(26) - ريحانة الأدب في المشهورين بالكنية واللقب. للشيخ الميرزا محمد
علي المدرس التبريزي ج 2 ص 399 - 401 طبع طهران سنة 1367 ه‍.
المقدمة 67

(27) - رياض العلماء وحياض الفضلاء للمولى عبد الله الأفندي، من
مخطوطات مكتبتنا، ولكن ليس في نسختنا شيء من حرف الميم.
(28) - سفينة بحار الأنوار ومدينة الحكم والآثار. للشيخ عباس القمي،
ج 2 ص 97 طبع النجف سنة 1355 ه‍.
(29) - سماء المقال في تحقيق علم الرجال. للشيخ الميرزا أبي الهدى الكلباسي
ج 1 ص 32 - 55 طبع قم سنة 1372 ه‍.
(30) - سير العلم في النجف للسيد محمد حسن آل الطالقاني مخطوط عقد
فيه فصلا لترجمة شيخ الطائفة وولده الشيخ أبي علي الحسن، وحفيده الشيخ أبى نصر
محمد بن الحسن بن محمد واستقصى تلامذتهم وبعض أحوالهم ص 1 - 14.
(31) - شعب المقال في أحوال الرجال. للميرزا أبي القاسم النراقي ص 94
طبع يزد سنة 1367 ه‍.
(32) الشيعة وفنون الاسلام. للسيد حسن الصدر ص 33 و 57 طبع صيدا
سنة 1331 ه‍.
(33) - طبقات الشافعية الكبرى. للسبكي ج 3 ص 51 طبع المطبعة
الحسينية سنة 1324 ه‍. وقد اشتبه هناك فنمى شيخ الطائفة إلى مذهب الشافعي
وتبعه كذلك في (كشف الظنون) ج 1 ص 311، وهذه كتبه الاستدلالية
وآراؤه المستنبطة تدل على انه من أكبر من أكبر مجتهدي المسلمين فكيف يظن أنه مقلد.
(34) - عنوان الشرف في وشي النجف. للشيخ محمد السماوي ص 88 طبع
النجف سنة 1360 ه‍. وفيه تاريخ لوفاة الشيخ فاتنا ذكره في محله ونذكره هنا. وفيه
فائدة وهي ان قبر ولده الشيخ أبي علي معه كما احتملناه قال:
كشيخنا الطوسي من أصاتا * نعيه أرخه حي ماتا
مرقده بداره مع نجله * وداره معروفة كفضله
(35) - عيون الرجال. للسيد حسن الصدر، ص 74 طبع لكهنو
سنة 1331 ه‍.
المقدمة 68

(36) - الفوائد الرجالية. للسيد مهدي بحر العلوم، مخطوط في مكتبة
حسينية التسترية في النجف ومكتبة السيد جعفر آل بحر العلوم وغيرها. ولا نتخطر
صفحة الترجمة.
(37) - الفوائد الرضوية في أحوال علماء المذاهب الجعفرية. للشيخ عباس
القمي ج 2 ص 47 - 473 طبع طهران سنة 1367 ه‍.
(38) - الفهرست. لشيخ الطائفة نفسه ترجم لنفسه في حرف الميم ص
159 - 161 طبع النجف سنة 1356 ه‍.
(39) - فهرست كتابخانه آستان قدس رضوي في مواضع كثيرة عند
ذكر أكثر تصانيفه منها: ج 4 ص 19 و 55 و 253 ولولا ضعف الحال لاستقصيناها
طبع خراسان سنة 1369 ه‍.
(40) - فهرست كتابخانه عالي مدرسة سپهسالار. لابن يوسف الشيرازي
ص 66 - 68 طبع طهران سنة 1365 ه‍.
(41) - فهرست كتابخانه مجلس لابن يوسف الشيرازي أيضا ج 3 ص 69
طبع طهران سنة 1308 ه‍.
(42) - فهرست كتابخانه اهدائي آقاي سيد محمد مكشاة. لنجلنا الأكبر
الميرزا علي نقي المنزوي ج 1 ص 201 - 204 و ج 2 ص 637 - 640 طبع
طهران سنة 1371 ه‍.
(43) - قصص العلماء. للميرزا محمد التنكابني ص 312 طبع طهران
سنة 1304 ه‍.
(44) - الكامل في التاريخ. لابن الأثير ج 10 ص 24 طبع مصر سنة
1301 ه‍.
(45) - كشف الحجب والاستار عن أسماء الكتب والأسفار. للسيد اعجاز
حسين الكنتوري طبع بكلكته سنة 1320 ه‍ و قد ذكر فيه مؤلفات شيخ
الطائفة كلا في محله، ولا تحضرنا النسخة لتعيين الصفحات.
المقدمة 69

(46) - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. لكاتب چلبي ج 1
ص 311 - 312 طبع إسلامبول سنة 1310 ه‍. وقد خلط في حديثه بين الشيخ
الطوسي والشيخ الطبرسي كما أشرنا اليه في ص ق من هذه المقدمة.
(47) - الكنى والألقاب. للشيخ عباس القمي ج 2 ص 357 طبع صيدا
سنة 1358.
(48) - لسان الميزان. لابن حجر العسقلاني ج 5 ص 135. طبع حيدرآباد
الدكن سنة 1331 ه‍.
(49) - لؤلؤة البحرين في الإجازة لقربى العين. للشيخ يوسف الدرازي
البحراني، ص 245 - 252 طبع بمبي بدون تاريخ.
(50) - مجالس المؤمنين. للقاضي الشهيد نور الله المرعشي ص 200 -
201 طبع تبريز.
(51) مجمع الرجال. للمولى عناية الله القهپائي مخطوط الورقة 230 أ نسخة
الأصل بخطه المؤلف سنة 1016 ه‍. في مكتبتنا.
(52) - مختلف الرجال. للسيد حسن الصدر مخطوط في مكتبته في الكاظمية
ترجم للشيخ الطوسي في التنبيه العاشر من المقدمة.
(53) - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. للشيخ الميرزا حسين النوري،
ج 3 ص 505 - 509 طبع طهران سنة 1321 ه‍.
(54) المستطرفات في الألقاب والكنى والنسب. للسيد حسين البروجردي
ص 204 و 210 طبع طهران سنة 1313 ه‍.
(55) المشيخة أو الاسناد المصفى إلى آل بيت المصطفى. تأليف الفاني
أغا بزرگ الطهراني ص 71 - 73 طبع النجف سنة 1356 ه‍.
(56) - مصادر الدراسة الأدبية. ليوسف أسعد داغر ج 1 ص 12 طبع
صيدا سنة 950 1 م.
المقدمة 70

(57) - مصفى المقال في مصنفي علم الرجال. للفاني أغا بزرگ الطهراني غفر له
ولأبويه مخطوط الورقة 65 ب.
(58) - معالم العلماء لابن شهرآشوب ص 102 - 103 طبع طهران سنة
1353 ه‍.
(59) - معجم المطبوعات العربية والمعربة. ليوسف اليان سركيس عمود
1248 طبع مصر سنة 1346 ه‍ 1928 م.
(60) - مقابس الأنوار ونفايس الأسرار في أحكام النبي المختار وآله
الأطهار. للشيخ أسد الله الدزفولي. ص 4 - 6 طبع طهران سنة 1322 ه‍.
(61) - مقدمة الاستبصار. بقلم الشيخ محمد علي الأوردبادي طبع النجف
سنة 1375 ه‍.
(62) - مقدمة التبيان. بقلم بعض الفضلاء، طبع سنة 1360 ه‍.
(63) - مقدمة الخلاف. بقلم السيد أغا حسين البروجردي، والشيخ ريحان
الله النخعي الگلبايگاني، والشيخ عبد الحسين الفقيهي، والشيخ مهدي التبريزي
طبع طهران سنة 1370 ه‍.
(64) - مقدمة الفهرست. بقلم السيد محمد صادق آل بحر العلوم طبع
النجف سنة 1356 ه‍.
(65) مقدمة ترجمة النهاية. بقلم السيد محمد باقر السبزواري طبع طهران
سنة 1373 ه‍.
ذكرنا في (الذريعة) ج 4 ص 143 - 144 اننا وقفنا على ترجمة فارسية
للنهاية في مكتبة السيد نصر الله الأخوي، وقلنا: أنها نسخة عتيقة لبعض الأصحاب
المقاربين لعصر الشيخ وأشرنا إلى ذلك أيضا في ص 35 من هذه المقدمة عند ذكر النهاية
وقد طبعت هذه الترجمة منذ ثلاث سنوات، وأهدت الينا جامعة طهران نسخة منها لكن
غفلنا عن ذكرها في محلها، وقد نشرت عن غير نسخة التقوي بل عن نسخة (مكتبة
المقدمة 71

الحاج حسين ملك التجار) وقدم لها في ترجمة حياة الشيخ مقدمة ضافية.
(66) - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. لابن الجوزي ج 8 ص 173
و 179 طبع حيدر آباد 1357 ه‍.
(67) - منتهى المقال في أحوال الرجال للشيخ أبي علي الحائري ص 270
طبع طهران سنة 1302 ه‍.
(68) - منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال. للسيد الميرزا محمد
الأسترآبادي ص 292 - 293 طبع طهران سنة 1304 ه‍.
(69) - موجز المقال في مقاصد علم الدراية والرجال. للشيخ عبد الرحيم
الأصفهاني حفيد صاحب (الفصول) ص 2 طبع طهران سنة 1343 ه‍.
(70) - نخبة المقال في علم الرجال للسيد حسين البروجردي ص 88 طبع
طهران سنة 1313 ه‍.
(71) نقد الرجال للسيد مصطفى التفريشي لا تحضرنا نسخته لنعين
الصفحة منه، وقد طبع في طهران عام 1318 ه‍.
(72) نقض الفضائح. للشيخ عبد الجليل القزويني الرازي ص 180 طبع
طهران سنة 1371 ه‍.
(73) - نهاية الدراية. للسيد حسن الصدر ص 238 - 249 طبع لكنهو
سنة 1323 ه‍.
(74) هدية الأحباب في ذكر المعروفين بالكنى والألقاب. ص 168 طبع
النجف 1349 ه‍.
(75) - الوجيزة. للشيخ محمد باقر المجلسي صاحب (البحار) ص 163 طبع
طهران سنة 1312 ه‍. (76) - الوجيزة للشيخ بهاء الدين محمد العاملي ص 184 طبع طهران سنة 1310 ه‍.
(77) - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. للشيخ محمد الحر
العاملي ج 3
المقدمة 72

(78) وصول الأخيار إلى أصول الأخبار. للشيخ حسين العاملي والد
الشيخ البهائي ص 71 طبع طهران سنة 1306 ه‍.
هذا ما أمكننا القيام به خدمة لشيخ الطائفة أجزل الله أجره، وكان ذلك من
أحلي أمانينا وأعذبها حيث كما نفكر في ذلك منذ زمن بعيد فقد كنا عقدنا النية
على اصدار كتابين ندرس في الأول حياة كل من المحمدين الثلاثة المتقدمة (1) محمد
ابن يعقوب الكليني صاحب (الكافي) (2) الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي صاحب
(من لا يحضره الفقيه) (3) شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي رحمهم الله. وفي
الثاني المحمدين الثلاثة المتأخرين: (1) محمد بن مرتضى الشهير بالفيض صاحب (الوافي)
(2) محمد بن الحسن الحر العاملي صاحب (الوسائل) (3) محمد باقر بن محمد تقى
المجلسي صاحب (البحار) (*). أداء لحقهم واعترافا بفضلهم، غير أن تراكم
الأشغال وكثرة العوارض حالا بيننا وبين هذه الأمنية.
على أننا كتبنا في أواخر ذي القعدة سنة 1374 ه‍. رسالة صغيرة قوامها
إحدى عشرة صفحة في حال كتاب (الكافي) وهل يوجد فيه خبر ضعيف أولا؟
ولم لم يعرضه على السفراء الأربعة؟ إلى غير ذلك، وكان تأليفها جوابا عن سؤال
وجهه الينا الخطيب الشهير الشيخ عباس قلي التبريزي المعروف بالواعظ الچرندابي، الا
أنها كانت خاصة بالكتاب لا بحياة مؤلفه، ولذلك بقينا بصدد انتهاز الفرصة للعودة
إلى ذلك وغيره مما ذكرناه لولا أن خاب رجاؤنا بعد النازلة التي حلت بنا في المحرم
هذه السنة، فقد حطمت الآمال، وأوهنت العزائم، وأماتت الهمم، وذهبت ببقايا
القوى، ولم نزل رغم التحسن الظاهري في حالة لا تدع راحة ولا تعرف الاستقامة
وقد عاقتنا عن كثير من الأعمال، وأخرتنا عن مهام الأشغال العلمية وغيرها.

هؤلاء الستة من أقطاب هذه الطائفة وعمدها وأركانها وحفظة آثارها ومآثرها، ولهم
على الشيعة الامامية فضل لا ينكر ومنة عظيمة، وعلى كتبهم حتى يوم الناس هذا مدار العمل،
وتسمى مؤلفات المتقدمين بالكتب الأربعة، ومؤلفات المتأخرين، بالجوامع المتأخرة.
المقدمة 73

فمن ذلك عدم حضور المؤتمر الذي عقد في هذه الأيام في كراتشي للاحتفال
بمرور أربعة عشر قرنا على ميلاد سيد الكونين وبطل الاسلام الامام أمير المؤمنين علي
عليه السلام، فقد زارنا رئيس المؤتمر صديقنا القديم المهاراج محمد أمير أحمد
المحمدي فدعانا للحضور هناك فاعتذرنا للضعف الشديد المستولي علينا فسجل الرئيس
عذرنا وحمله إلى الباكستان لإذاعته بين الأعضاء، وطلب منا كلمة حول المؤتمر فكتبنا
ما وسعه الوقت وساعدت عليه الحال، وحمل الكلمة إلى هناك أيضا.
وهكذا قعد بنا المرض وعاقنا عن الكتابة وغيرها، ولذا فأنا أرى الفضل كل
الفضل لناشر التبيان الذي صار سببا لكتابة هذه الترجمة، ولولا طلبه لما خطر ذلك
بالبال في هذه الحال، فالحمد لله على اختياره ونسأله الصبر على بلائه ونصلي على محمد
وآله الطاهرين.
وكتبه بأنامله المرتعشة في داره في النجف الأشرف ليلة الجمعة الحادي
والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف.
الفاني
أغا بزرگ الطهراني
عفا الله عنه
المقدمة 74

التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 ه‍.
تحقيق وتصحيح
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد الأول
دار
إحياء التراث العربي
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الحمد لله اعترافا بتوحيده، واخلاصا لربوبيته، واقرارا بجزيل نعمته، وإذعانا
لعظيم منته، وشكرا على جميع مواهبه، وكريم فواضله، وصلى الله على خيرته من
خلقه محمد صلى الله عليه وآله، والطاهرين من عترته، والطيبين من أرومته، وسلم تسليما.
أما بعد، فان الذي حملني على الشروع في عمل هذا الكتاب اني لم أجد أحدا من
أصحابنا - قديما وحديثا - من عمل كتابا يحتوي على تفسير جميع القران، ويشتمل
على فنون معانيه وإنما سلك جماعة منهم في جميع ما رواه ونقله وانتهى إليه في
الكتب المروية في الحديث، ولم يتعرض أحد منهم لاستيفاء ذلك، وتفسير ما يحتاج
إليه. فوجدت من شرع في تفسير القرآن من علماء الأمة، بين مطيل في جميع
معانيه، واستيعاب ما قيل فيه من فنونه - كالطبري وغيره - وبين مقصر اقتصر
على ذكر غريبه، ومعاني ألفاظه. وسلك الباقون المتوسطون في ذلك مسلك ما قويت
فيه منتهم (1) وتركوا مالا معرفة لهم به فان الزجاج والفراء ومن أشبههما من
والنحويين، أفرغوا وسعهم فيما يتعلق بالاعراب والتصريف. ومفضل بن سلمة
وغيره - استكثروا من علم اللغة، واشتقاق الألفاظ. والمتكلمين - كأبي علي الجبائي
وغيره - صرفوا همتهم إلى ما يتعلق بالمعاني الكلامية. ومنهم من أضاف إلى ذلك،
الكلام في فنون علمه، فادخل فيه ما لا يليق به، من بسط فروع الفقه، واختلاف
الفقهاء - كالبلخي وغيره - وأصلح من سلك في ذلك مسلكا جميلا مقتصدا، محمد
ابن بحر، أبو مسلم الاصفهاني، وعلي بن عيسى الرماني، فان كتابيهما أصلح

(1) المنة: القوة والكلمة من الأضداد
1

ما صنف في هذا المعنى، غير أنهما أطالا الخطب فيه، وأوردا فيه كثيرا مما لا يحتاج
وسمعت جماعة من أصحابنا قديما وحديثا، يرغبون في كتاب مقتصد يجتمع على
جميع فنون علم القرآن، من القراءة، والمعاني والاعراب، والكلام على المتشابه، والجواب عن مطاعن الملحدين فيه، وأنواع المبطلين، كالمجبرة، والمشبهة والمجسمة
وغيرهم، وذكر ما يختص أصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة
مذاهبهم في أصول الديانات وفروعها
وأنا إن شاء الله تعالى، أشرع في ذلك على وجه الايجاز والاختصار لكل فن
من فنونه، ولا أطيل فيمله الناظر فيه، ولا اختصر اختصارا يقصر فهمه عن معانيه
وأقدم امام ذلك، فصلا يشتمل على ذكر جمل لابد من معرفتها دون استيفائها،
فان لاستيفاء الكلام فيها مواضع هي أليق به ومن الله استمد المعونة، وأستهديه
إلى طريق الرشاد، بمنه وقدرته إن شاء الله تعالى
2

فصل
في ذكر جمل لابد من معرفتها قبل الشروع في تفسير القرآن
إعلم ان القرآن معجزة عظيمة على صدق النبي عليه السلام، بل هو من أكبر
المعجزات وأشهرها. غير أن الكلام في إعجازه، وجهة إعجازه، واختلاف الناس
فيه، لا يليق بهذا الكتاب، لأنه يتعلق بالكلام في الأصول. وقد ذكره علماء
أهل التوحيد، وأطنبوا فيه، واستوفوه غاية الاستيفاء. وقد ذكرنا منه طرفا
صالحا في شرح الجمل، لا يليق بهذا الموضع، لان استيفاءه يخرج به عن الغرض
واختصاره لا يأتي على المطلوب، فالإحالة عليه أولى
والمقصود من هذا الكتاب علم معانيه، وفنون أغراضه وأما الكلام في
زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضا، لان الزيادة فيه مجمع على بطلانها والنقصان
منه، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا
وهو الذي نصره المرتضى (ره)، وهو الظاهر في الروايات غير أنه رويت
روايات كثيره، من جهة الخاصة والعامة، بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل
شئ منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا،
والأولى الاعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها ولو صحت لما كان
ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين، فان ذلك معلوم صحته، لا يعترضه
أحد من الأمة ولا يدفعه
ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته والتمسك بما فيه، ورد ما يرد من
اختلاف الاخبار في الفروع إليه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله رواية لا يدفعها
أحد، أنه قال: (اني مخلف فيكم الثقلين، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب
الله، وعترتي أهل بيتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وهذا يدل على
3

انه موجود في كل عصر، لأنه لا يجوز ان يأمر بالتمسك بما لا نقدر على
التمسك به. كما أن أهل البيت، ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت. وإذا
كان الموجود بيننا مجمعا على صحته، فينبغي ان نتشاغل بتفسيره، وبيان معانيه
ونترك ما سواه
واعلم أن الرواية ظاهرة في اخبار أصحابنا بأن تفسير القرآن لا يجوز إلا
بالأثر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن الأئمة عليهم السلام، الذين
قولهم حجة كقول النبي صلى الله عليه وآله، وان القول فيه بالرأي لا يجوز. وروى العامة
ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (من فسر القرآن برأيه وأصاب الحق، وفقد أخطأ)
وكره جماعة من التابعين وفقهاء المدينة القول في القرآن بالرأي: كسعيد بن المسيب
وعبيدة السلماني، ونافع، ومحمد بن القاسم، وسالم بن عبد الله، وغيرهم وروي
عن عائشة أنها قالت: لم يكن النبي " ص " يفسر القرآن إلا بعد أن يأتي
به جبرائيل (ع)
والذي نقول في ذلك: إنه لا يجوزان يكون في كلام الله تعالى وكلام نبيه
تناقض وتضاد وقد قال الله تعالى: " انا جعلناه قرآنا عربيا " (1) وقال:
" بلسان عربي مبين " (2) وقال " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " (3)
وقال: " فيه تبيان كل شئ " وقال: " ما فرطنا في الكتاب من شئ " (4)
فكيف يجوز ان يصفه بأنه عربي مبين، وانه بلسان قومه، وانه بيان للناس ولا
يفهم بظاهره شئ؟ وهل ذلك إلا وصف له باللغز والمعمى الذي لا يفهم المراد به
إلا بعد تفسيره وبيانه؟ وذلك منزه عن القرآن وقد مدح الله أقواما على استخراج
معاني القرآن فقال: " لعلمه الذين يستنبطونه منهم " (5)، وقال في قوم

(1) سورة الزخرف: آية 43
(2) سورة الشعراء: آية 195
(3) سورة إبراهيم: آية 4
(4) سورة الأنعام: آية 38
(5) سورة النساء: آية 82
4

يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن، ولم يتفكروا في معانيه: " أفلا يتدبرون القرآن
أم على قلوب أقفالها (1) وقال النبي صلى الله عليه وآله. (اني مخلف فيكم الثقلين: كتاب
الله، وعترتي أهل بيتي) فبين ان الكتاب حجة، كما أن العترة حجة. وكيف
يكون حجة ما لا يفهم به شئ؟ وروى عنه عليه السلام أنه قال: (إذا جاءكم
عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه
فاضربوا به عرض الحائط) وروي مثل ذلك عن أئمتنا عليهم السلام، وكيف
يمكن العرض على كتاب الله، وهو لا يفهم به شئ؟ وكل ذلك يدل على أن
ظاهر هذه الأخبار متروك. والذي نقول به: إن معاني القرآن على أربعة أقسام:
أحدها - ما اختص الله تعالى بالعلم به، فلا يجوز لاحد تكلف القول فيه،
ولا تعاطي معرفته، وذلك مثل قوله تعالى: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها
قل: إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو " (2) ومثل قوله تعالى: " ان
الله عنده علم الساعة.. " (3) إلى آخرها فتعاطي معرفة ما اختص الله تعالى
به خطأ
وثانيها - ما كان ظاهره مطابقا لمعناه، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها،
عرف معناها، مثل قوله تعالى: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " (4)
ومثل قوله تعالى: (قل هو الله أحد) (5) وغير ذلك.
وثالثها - ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا. مثل قوله تعالى:
(أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة) (6) ومثل قوله: (ولله على الناس حج البيت

(1) سورة محمد: آية 24
(2) سورة الأعراف: آية 186
(3) سورة لقمان: آية 34
(4) سورة الأنعام: آية 151
(5) سورة التوحيد: آية 1
(6) سورة البقرة: آية 43 و 83 و 110 النساء آية 76. الحج آية 78 النور آية
56 المجادلة آية 13 الزمل آية 2.
5

من استطاع إليه سبيلا) (1) وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) (2) وقوله:
(وفي أموالهم حق معلوم) (3) وما أشبه ذلك. فان تفصيل اعداد الصلاة
وعدد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحج وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لا
يمكن استخراجه إلا ببيان النبي صلى الله عليه وآله ووحي من جهة الله تعالى. فتكلف القول
في ذلك خطأ ممنوع منه، يمكن أن تكون الاخبار متناولة له
ورابعها - ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد عنهما، ويمكن أن يكون
كل واحد منهما مرادا. فإنه لا ينبغي أن يقدم أحد به فيقول: ان مراد الله
فيه بعض ما يحتمل - إلا بقول نبي أو امام معصوم - بل ينبغي ان يقول: ان
الظاهر يحتمل لأمور، وكل واحد يجوز أن يكون مرادا على التفصيل. والله
أعلم بما أراد
ومتى كان اللفظ مشتركا بين شيئين، أو ما زاد عليهما، ودل الدليل على أنه
لا يجوزان يريد إلا وجها واحدا، جاز ان يقال: إنه هو المراد
ومتى قسمنا هذه الاقسام، نكون قبلنا هذه الأخبار، ولم نردها على وجه
يوحش نقلتها والمتمسكين بها، ولا منعنا بذلك من الكلام في تأويل الآي جملة
ولا ينبغي لاحد ان ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد تفصيلا،
أو يقلد أحدا من المفسرين، إلا أن يكون التأويل مجمعا عليه، فيجب اتباعه لمكان
الاجماع، لان من المفسرين من حمدت طرائقه، ومدحت مذاهبه، كابن عباس،
والحسن، وقتادة، ومجاهد وغيرهم. ومنهم من ذمت مذاهبه، كأبي صالح، والسدي
والكلبي وغيرهم. هذا في الطبقة الأولى. وأما المتأخرون فكل واحد منهم نصر
مذهبه، وتأول على ما يطابق أصله، ولا يجوز لاحد أن يقلد أحدا منهم، بل
ينبغي ان يرجع إلى الأدلة الصحيحة: إما العقلية، أو الشرعية، من اجماع عليه،
أو نقل متواتر به، عمن يجب اتباع قوله، ولا يقبل في ذلك خبر واحد، خاصة

(1) سورة آل عمران: آية 91
(2) سورة الأنعام: آية 141
(3) سورة المعارج: آية 23
6

إذا كان مما طريقه العلم، ومتى كان التأويل يحتاج إلى شاهد من اللغة، فلا يقبل
من الشاهد إلا ما كان معلوما بين أهل اللغة، شائعا بينهم. وأما طريقة الآحاد
من الروايات الشاردة، والألفاظ النادرة فإنه لا يقطع بذلك، ولا يجعل شاهدا
على كتاب الله وينبغي أن يتوقف فيه ويذكر ما يحتمله، ولا يقطع على المراد منه
بعينه، فإنه متى قطع بالمراد كان مخطئا، وان أصاب الحق، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله
لأنه قال تخمينا وحدسا ولم يصدر ذلك عن حجة قاطعة وذلك باطل بالاتفاق.
واعلموا ان العرف من مذهب أصحابنا والشائع من اخبارهم ورواياتهم ان
القرآن نزل بحرف واحد، على نبي واحد، غير أنهم اجمعوا على جواز القراءة بما
يتداوله الفراء وأن الانسان مخير باي قراءة شاء قرا، وكرهوا تجويد قراءة بعينها
بل أجازوا القراءة بالمجاز الذي يجوز بين القراء ولم يبلغوا بذلك حد التحريم
والحظر وروى المخالفون لنا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (نزل القرآن على سبعة
أحرف كلها شاف كاف) وفي بعضها: (على سبعة أبواب) وكثرت في ذلك
رواياتهم. لا معنى للتشاغل بايرادها واختلفوا في تأويل الخبر، فاختار قوم ان
معناه على سبعة معان: أمر، ونهى، ووعد، ووعيد، وجدل، وقصص، وأمثال
وروى ابن مسعود عن النبي " ص " أنه قال: " نزل القرآن على سبعة أحرف:
زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. "
وروى أبو قلامة عن النبي [ص] أنه قال: [نزل القرآن على سبعة أحرف:
أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، وقصص، وأمثال.]
وقال آخرون:
[نزل القرآن على سبعة أحرف] أي سبع لغات مختلفة، مما لا يغير حكما في
تحليل وتحريم، ومثل. هلم. ويقال من لغات مختلفة، ومعانيها مؤتلفة. وكانوا
مخيرين في أول الاسلام في أن يقرأوا بما شاءوا منها. ثم اجمعوا على حدها،
فصار ما اجمعوا عليه مانعا مما اعرضوا عنه. وقال آخرون: [نزل على سبع لغات
من اللغات الفصيحة، لان القبائل بعضها أفصح من بعض] وهو الذي اختاره
الطبري. وقال بعضهم: [هي على سبعة أوجه من اللغات، متفرقة في القرآن، لأنه
7

لا يوجد حرف قرئ على سبعة أوجه.] وقال بعضهم: [وجه الاختلاف في
القراءات سبعة:
أولها - اختلاف اعراب الكلمة أو حركة بنائها فلا يزيلها عن صورتها في
الكتاب ولا يغير معناها نحو قوله: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم (1) بالرفع والنصب
وهل نجازي إلا الكفور؟ (2 بالنصب والنون وهل يجازى إلا الكفور؟ بالياء
والرفع وبالبخل [3] والبخل والبخل برفع الباء ونصبها. وميسرة [4] وميسرة
بنصب السين ورفعها.
والثاني - الاختلاف في اعراب الكلمة وحركات بنائها مما يغير معناها ولا
يزيلها عن صورتها في الكتابة مثل قوله: ربنا باعد بين أسفارنا (5) على الخبر
ربنا باعد على الدعاء. وإذ تلقونه بألسنتكم (6) بالتشديد وتلقونه بكسر اللام والتخفيف
والوجه الثالث - الاختلاف في حروف الكلمة دون اعرابها، ومما يغير معناها
ولا يزيل صورتها نحو قوله تعالى: كيف ننشزها (7) بالزاء المعجمة وبالراء الغير معجمة
والرابع - الاختلاف في الكلمة مما يغير صورتها ولا يغير معناها نحو قوله:
ان كانت إلا صيحة واحدة (8) والازقية. وكالصوف المنفوش وكالعهن المنفوش (9)
والخامس - الاختلاف في الكلمة مما يزيل صورتها ومعناها نحو: وطلح
منضود (10 وطلع.
السادس - الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو قوله: وجاءت سكرة الموت

(1) سورة هود آية 78
(2) سورة سبأ آية 17
(3) سورة النساء آية 36 الحديد آية 24 والبخل بالرفع مصدر بخل والبخل بالفتح مصدر بخل
(4) سورة البقرة آية 28
(5) سورة سبأ آية آية 19
(6) سورة النور آية 15
(7) سورة البقرة آية 259
(8) سورة يس آية 29 - 49 - 53 - سورة ص آية 15
(9) سورة القارعة. آية 50
(10) سورة ق آية - 19
8

بالحق (1) وجاءت سكرة الحق بالموت.
السابع - الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو قوله: وما عملت أيديهم وما
عملته (2) باسقاط الهاء واثباتها. ونحو قوله: فان الله هو الغني الحميد وان الله
الغني الحميد. في سورة الحديد (3).
وهذا الخبر عندنا وإن كان خبرا واحدا لا يجب العمل به فالوجه الأخير
أصلح الوجوه على ما روي عنهم عليه السلام من جواز القراءة بما اختلف القراء فيه.
واما القول الأول فهو على ما تضمنته لان تأويل القرآن لا يخرج عن أحد الاقسام
السبعة: إما أمر. أو نهي. أو وعد. أو وعيد. أو خبر أو قصص أو مثل وهو
الذي ذكره أصحابنا في اقسام تفسير القرآن
فاما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: [ما نزل من القرآن من آية إلا ولها
ظهر وبطن] وقد رواه أيضا أصحابنا عن الأئمة عليهم السلام فإنه يحتمل
ذلك وجوها:
أحدها - ما روي في أخبارنا عن الصادقين عليهما السلام وحكي ذلك عن
أبي عبيدة أن المراد بذلك القصص باخبار هلاك الأولين وباطنها عظة للآخرين
والثاني - ما حكي عن ابن مسعود أنه قال: [ما من آية إلا وقد عمل بها
قوم ولها قوم يعملون بها]
والثالث - معناها أن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها ذكره الطبري واختاره البلخي
والرابع - ما قال الحسن البصري: [انك إذا فتشت عن باطنها وقسته على
ظاهرها وقفت على معناها] وجميع اقسام القرآن لا يخلو من ستة: محكم ومتشابه
وناسخ ومنسوخ وخاص وعام
فالمحكم ما أنبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار امر ينضم إليه سواء كان اللفظ
لغويا أو عرفيا ولا يحتاج إلى ضروب من التأويل وذلك نحو قوله: [لا يكلف

(1) سورة يس آية 35
(2) سورة الواقعة آية 25
(3) آية 24
9

الله نفسا إلا وسعها] [1] وقوله: [ولا تقتلوا النفس التي حرم الله] [1] وقوله:
[قل هو الله أحد] [3] وقوله: [لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوءا أحد] [4]
وقوله: [وما ربك بظلام للعبيد] [5] وقوله: [ما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون] [6] ونظائر ذلك
والمتشابه ما كان المراد به لا يعرف بظاهره بل يحتاج إلى دليل وذلك ما كان
محتملا لأمور كثيرة أو أمرين ولا يجوزان يكون الجميع مرادا فإنه من باب
المتشابه. وإنما سمي متشابها لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد وذلك نحو قوله:
[يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله] [7] وقوله: [والسماوات مطويات
بيمينه] [8] وقوله: (تجري بأعيننا) (9) وقوله (يضل من يشاء) (10) وقوله:
(فأصمهم وأعمى أبصارهم وطبع على قلوبهم) (11) ونظائر ذلك من الآي التي
المراد منها غير ظاهرها. فان قيل: هلا كان القرآن كله محكما يستغنى بظاهره
عن تكلف ما يدل على المراد منه حتى دخل على كثير من المخالفين للحق شبهة فيه
وتمسكوا بظاهره على ما يعتقدونه من الباطل؟ أتقولون إن ذلك لم يكن مقدورا
له تعالى؟ فهذا هو القول بتعجيزه! أو تقولون هو مقدور له ولم يفعل ذلك فلم لم
يفعله؟ قيل الجواب على ذلك من وجهين: أحدهما - ان خطاب الله تعالى - مع ما
فيه من الفوائد - المصلحة معتبرة في ألفاظه فلا يمتنع أن تكون المصلحة الدينية

(1) سورة البقرة آية 286
(2) سورة الأنعام آية 151
(3) سورة التوحيد آية 1
(4) سورة التوحيد آية 3 و 4
(5) سورة حم السجدة آية 46
(6) سورة الذاريات آية 56
(7) سورة الزمر آية 56
(8) سورة الزمر آية - 67
(9) سورة القمر آية 14
(10) سورة الرعد آية 29. إبراهيم آية - 4 فاطر آية - 8
(11) سورة محمد آية 23
10

تعلقت بان يستعمل الألفاظ المحتملة ويجعل الطريق إلى معرفة المراد به ضربا من
الاستدلال ولهذه العلة أطال في موضع وأسهب واختصر في آخر وأوجز واقتصر
وذكر قصة في موضع وأعادها في موضع آخر
واختلفت أيضا مقادير الفصاحة فيه وتفاضلت مواضع منه بعضه على بعض
والجواب الثاني: ان الله تعالى إنما خلق عباده تعريضا لثوابه وكلفهم لينالوا
أعلى المراتب وأشرفها ولو كان القرآن كله محكما لا يحتمل التأويل ولا يمكن فيه
الاختلاف لسقطت المحنة وبطل التفاضل وتساوت المنازل ولم تبن منزله العلماء
من غيرهم وانزل الله القرآن بعضه متشابها ليعمل أهل العقل أفكارهم ويتوصلوا
بتكلف المشاق والنظر والاستدلال إلى فهم المراد فيستحقوا به عظيم المنزلة وعالي الرتبة
فان قيل: كيف تقولون، ان القرآن فيه محكم ومتشابه، وقد وصفه الله
تعالى بأنه اجمع محكم؟ ووصفه في مواضع أخر بأنه متشابه وذكر في موضع آخر
ان بعضه محكم، وبعضه متشابه - كما زعمتم - وذلك نحو قوله: " الر. كتاب
أحكمت آياته " (1) وقال في موضع آخر: " الله نزل أحسن الحديث كتابا
متشابها " (2) وقال في موضع آخر: " وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات
محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " (3) وهل هذا إلا ظاهر التناقض؟
قلنا: لا تناقض في ذلك، لان وصفه محكم كله، المراد به انه بحيث لا يتطرق
عليه الفساد والتناقض والاختلاف والتباين والتعارض، بل لا شئ منه إلا وهو
في غاية الاحكام - إما بظاهره أو بدليله، على وجه لا مجال للطاعنين عليه. ووصفه
بأنه متشابه أنه يشبه بعضه بعضا في باب الاحكام الذي أشرنا إليه، وأنه لا خلل
فيه ولا تباين ولا تضاد ولا تناقض. ووصفه بان بعضه محكم، وبعضه متشابه
ما أشرنا إليه، من أن بعضه ما يفهم المراد بظاهره فيسمى محكما ومنه ما يشتبه المراد
منه بغيره وإن كان على المراد والحق منه دليل فلا تناقض في ذلك بحال.

(1) سورة هود آية 1
(2) سورة الزمر آية 23
(3) سورة آل عمران آية 7
11

واما الناسخ فهو كل دليل شرعي يدل على زوال مثل الحكم الثابت بالنص
الأول في المستقبل على وجه لو لاه لكان ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه. اعتبرنا
دليل الشرع لان دليل العقل إذا دل على زوال مثل الحكم الثابت بالنص الأول
لا يسمى نسخا. ألا ترى أن المكلف للعبادات، إذا عجز أو زال عقله، زالت عنه
العبادة بحكم العقل، ولا يسمى ذلك الدليل ناسخا؟ واعتبرنا زوال مثل الحكم،
ولم نعتبر الحكم نفسه لأنه لا يجوز أن ينسخ نفس ما أمر به، لان ذلك يؤدي
إلى البداء. وإنما اعتبرنا أن يكون الحكم ثابتا بنص شرعي، لان ما ثبت بالعقل
إذا أزاله الشرع لا يسمى بأنه نسخ حكم العقل. ألا ترى أن الصلاة والطواف
لولا الشرع لكان قبيحا فعله في العقل وإذ أورد الشرع بهما لا يقال نسخ حكم
العقل؟ واعتبرنا مع تراخيه عنه لان ما يقترن به لا يسمى نسخا وربما يكون
تخصيصا إن كان اللفظ عاما أو مقيدا إن كان اللفظ خاصا ألا ترى أنه لو قال:
اقتلوا المشركين الا اليهود لم يكن قوله إلا اليهود نسخا لقوله اقتلوا المشركين؟
وكذا لو قال: فسيحوا في الأرض أربعة اشهر فقيد بهذه الغاية لا يقال لما بعدها
نسخ. وكذا لما قال قي آية الزنا: فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة (1) لا يقال
لما زاد عليه منسوخ لأنه مقيد في اللفظ
والنسخ يصح دخوله في الأمر والنهي بلا خلاف. والخبر ان تناول ما يصح
تغييره عن صفة جاز دخول النسخ فيه لأنه في معنى الامر. ألا ترى أن قوله:
(ولله على الناس حج البيت) (2) خبر؟ وقوله (والمطلقات يتربصن
بأنفسهن) (3) أيضا خبر؟ وكذلك قوله: (ومن دخله كان آمنا) (4)
خبر ومع ذلك يصح دخول النسخ فيه فاما ما لا يصح تغييره عن صفة فلا يصح
دخول النسخ فيه، نحو الاخبار عن صفات الله تعالى، وصفات الأجناس

(1) سورة النور آية 2
(2) سورة آل عمران آية 97
(3) سورة البقرة آية 228
(4) سورة آل عمران آية 97
12

- لما يصح عليه التغيير، لم يصح فيه النسخ حيث أن العبارة بالاخبار عنه بأنه
قادر، عالم، سميع بصير، لا يصح النسخ فيه، لأنه يمتنع دخول النسخ في الاخبار -
إن كان الخبر لا يصح تغييره في نفسه
ولا يخلو النسخ في القرآن من أقسام ثلاثة: أحدها - نسخ حكمه دون
لفظه - كآية العدة في المتوفى عنها زوجها المتضمنة للسنة (1) فان الحكم منسوخ
والتلاوة باقية وكآية النجوى (2) وآية وجوب ثبات الواحد للعشرة (3) فان
الحكم مرتفع، والتلاوة باقية وهذا يبطل قول من منع جواز النسخ في القرآن
لان الموجود بخلافه
والثاني - ما نسخ لفظه دون حكمة، كآية الرجم فان وجوب الرجم على
المحصنة لا خلاف فيه، والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف وهي
قوله: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فإنهما قضيا الشهوة جزاء بما
كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم)
الثالث - ما نسخ لفظه وحكمه، وذلك نحو ما رواه المخالفون من عائشة:
أنه كان فيما أنزل الله ان عشر رضعات تحرمن، ونسخ ذلك بخمس عشرة فنسخت
التلاوة والحكم
وأما الكلام في شرائط النسخ، فما يصح منها وما لا يصح وما يصح أن
ينسخ به القرآن، وما لا يصح أن ينسخ به وقد ذكرنا في كتاب العدة - في
أصول الفقه - ولا يليق ذلك بهذا المكان
وحكى البلخي في كتاب التفسير فقال: (قال قوم - ليسوا ممن يعتبرون
ولكنهم من الأمة على حال - ان الأئمة المنصوص عليهم - بزعمهم - مفوض إليهم
نسخ القرآن وتدبيره، وتجاوز بعضهم حتى خرج من الدين بقوله: ان النسخ قد

(1) سورة البقرة آية 240
(2) سورة المجادلة آية 12
(3) سورة الأنفال آية 65
13

يجوز على وجه البداء وهو أن يأمر الله عز وجل عندهم بالشئ ولا يبدو له، ثم
يبدو له فيغيره، ولا يريد في وقت أمره به أن يغيره هو ويبدله وينسخه، لأنه
عندهم لا يعلم الشئ حتى يكون، إلا ما يقدره فيعلمه علم تقدير، وتعجرفوا
فزعموا أن ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة)
وأظن أنه عنى بهذا أصحابنا الإمامية، لأنه ليس في الأمة من يقول بالنص
على الأئمة عليهم السلام سواهم فإن كان عناهم فجميع ما حكاه عنهم باطل وكذب
عليهم، لأنهم لا يجيزون النسخ على أحد من الأئمة (ع) ولا أحد منهم يقول
بحدوث العلم وإنما يحكى عن بعض من تقدم من شيوخ المعتزلة - كالنظام
والجاحظ وغيرهما - وذلك باطل وكذلك لا يقولون: ان المتأخر ينسخ المتقدم
إلا بالشرط الذي يقوله جميع من أجاز النسخ، وهو أن يكون بينهما تضاد وتناف
لا يمكن الجمع بينهما، واما على خلاف ذلك فلا يقوله محصل منهم.
والوجه في تكرير القصة بعد القصة في القرآن، أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان
يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم تكن الانباء والقصص مكررة،
لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم آخرين،
فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويلقيها في كل
سمع، ويثبتها في كل قلب، ويزيد الحاضرين في الافهام
وتكرار الكلام من جنس واحد، وبعضه يجري على بعض، كتكراره في:
قل يا أيها الكافرون، وسورة المرسلات، والرحمن فالوجه فيه، ان القرآن نزل
بلسان القوم، ومذهبهم في التكرار - إرادة للتوكيد وزيادة في الافهام - معروف
كما أن من مذهبهم الايجاز والاختصار إرادة للتخفيف وذلك أن افتنان المتكلم
والخطيب في الفنون، وخروجه من شئ إلى شئ، أحسن من اقتصاره من المقام
على فن واحد. وقد يقول القائل: والله لأفعله ثم والله لأفعله، إذا أراد التوكيد
كما يقول: افعله بحذف اللام إذا أراد الايجاز قال الله تعالى: " كلا سوف تعلمون
14

ثم كلا سوف تعلمون " (1) وقال: " فان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا " (2)
وقال الله تعالى: " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " (3) وقال: " ما أدراك ما
يوم الدين، ثم ما ادراك ما يوم الدين " (4) كل هذا يراد به التوكيد وقد
يقول القائل لغيره: اعجل اعجل وللرامي ارم ارم قال الشاعر:
كم نعمة كانت لكم * كم كم وكم
وقال آخر:
هلا سألت جموع كندة * يوم ولوا أين أينا
وقال عوف بن الخزرج:
وكادت فزارة تصلى بنا * فأولى فزار فأولى فزار
فاما تكرار معنى واحد بلفظين مختلفين، كقوله: " الرحمن الرحيم "
وقوله: " يسمع سرهم ونجواهم " والنجوى هو السر، فالوجه فيه ما ذكرنا من أن
عادة القوم، تكرير المعنى بلفظين مختلفين، اتساعا في اللغة، كقول الشاعر.
كذبا ومينا وهما بمعنى واحد وقول الآخر:
لمياء في شفتيها حوة لعس * وفي اللثات وفي أنيابها شنب
واللمى: سواد في الشفتين والحوة واللعس كلاهما سواد الشفتين وكرر
لاختلاف اللفظ والشنب: تحزز في الأنياب كالمنشار، وهو نعت لها ورحمن
ورحيم، سنبين القول فيهما فيما بعد وقوله: " وغشاها ما غشى " (5) وقوله:
فغشيهم من اليم ما غشيهم " (6) وقوله: " ولا طائر يطير بجناحيه " (7) على

(1) سورة التكاثر آية 3 و 4
(2) سورة الانشراح آية 5 و 6
(3) سورة القيامة آية 34 و 35
(4) سورة الانفطار آية 17 و 18
(5) سورة النجم آية 54
(6) سورة طه آية 78
(7) سورة الأنعام آية 38
15

ما قلناه من التوكيد، كما يقول القائل: كلمته بلساني، ونظرت إليه بعيني، ويقال
بين زيد وبين عمرو، وإنما البين واحد. والمراد بين زيد وعمرو وقال الشاعر أوس
بن الحجر:
ألم تكسف الشمس شمس النهار * مع النجم والقمر الواجب (1)
والشمس لا تكون إلا بالنهار، فأكد
ذكرنا هذه الجملة تنبيها عن الجواب عما لم نذكره، ولعلنا نستوفيه فيما بعد
إذا جرى ما يقتضي ذكره ولولا عناد الملحدين، وتعجرفهم، لما احتيج إلى
الاحتجاج بالشعر وغيره للشئ المشتبه في القرآن، لان غاية ذلك أن يستشهد
عليه ببيت شعر جاهلي، أو لفظ منقول عن بعض الاعراب، أو مثل سائر عن
بعض أهل البادية. ولا تكون منزلة النبي صلى الله عليه وآله - وحاشاه من ذلك - أقل من
منزلة واحد من هؤلاء. ولا ينقص عن رتبة النابغة الجعدي، وزهير بن الكعب
وغيرهم ومن طرائف الأمور ان المخالف إذا أورد عليه شعر من ذكرناه، ومن
هو دونهم سكنت نفسه، واطمأن قلبه وهو لا يرضى بقول محمد بن عبد الله
بن عبد المطلب ومهما شك الناس في نبوته، فلا مربة في نسبه، وفصاحته، فإنه
نشأ بين قومه الذين هم الغاية القصوى في الفصاحة، ويرجع إليهم في معرفة اللغة. ولو كان
المشركون من قريش وغيرهم وجدوا متعلقا عليه في اللحن والغلط والمناقضة،
لتعلقوا به، وجعلوه حجة وذريعة إلى اطفاء نوره وابطال امره، واستغنوا بذلك
عن تكلف ما تكلفوه من المشاق في بذل النفوس والأموال. ولو فعلوا ذلك لظهر
واشتهر، ولكن حب الالحاد والاستثقال لتحمل العبادات، والميل إلى الفواحش
أعماهم وأصمهم، فلا يدفع أحد من الملحدين - وان جحدوا نبوته صلى الله عليه وآله - انه اتى
بهذا القرآن، وجعله حجة لنفسه، وقرأه على العرب وقد علمنا أنه ليس بأدون
الجماعة في الفصاحة وكيف يجوزان يحتج بشعر الشعراء عليه، ولا يجوز أن
يحتج بقوله عليهم وهل هذا إلا عناد محض، وعصبية صرف؟ وإنما يحتج علماء

(1) الواجب: الغائب
16

الموحدين بشعر الشعراء وكلام البلغاء، اتساعا في العلم، وقطعا للشغب، وإزاحة
للعلة، وإلا فكان يجب ألا يلتفت إلى جميع ما يطعن عليه، لأنهم ليسوا بان يجعلوا
عيارا عليه بأولى من أن يجعل هو عليه السلام عيارا عليهم.
وروي عن ابن مسعود، أنه قال: " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم
يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن " وروي انه استعمل علي (ع)
عبد الله بن العباس على الحج فخطب خطبة لو سمعها الترك والروم لا سلموا ثم قرأ
عليهم سورة النور - وروي سورة البقرة - ففسرها فقال رجل: " لو سمعت
هذا الديلم لا سلمت " ويروى عن سعيد بن جبير، انه من قرأ القرآن ثم لم
يفسره كان كالأعجمي أو الاعرابي
فصل
في ذكر أسامي القرآن، وتسمية السور والآيات
سمى الله تعالى القرآن بأربعة أسماء: سماه قرآنا في قوله تعالى: " انا جعلناه
قرآنا عربيا " (1) وفي قوله: " شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن " (2) وغير
ذلك من الآي
وسماه فرقانا في قوله تعالى: تبارك الذي انزل الفرقان على عبده ليكون
للعالمين نذيرا. " (3)
وسماه الكتاب في قوله: " الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل
له عوجا قيما " (4)

(1) سورة الزخرف آية 3
(2) سورة البقرة آية 185
(3) سورة الفرقان آية 1
(4) سورة الكهف آية 1
17

وسماه الذكر في قوله: " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون " (1)
وتسميته بالقرآن تحتمل أمرين: أحدهما - ما روي عن ابن عباس، أنه قال
: (هو مصدر قرأت قرآنا) أي تلوته، مثل: غفرت غفرانا، وكفرت كفرانا
والثاني - ما حكي عن قتادة، أنه قال " هو مصدر قرأت الشئ إذا جمعت
بعضه إلى بعض " قال عمرو بن كلثوم
ذراعي عيطل (2) ادماء (3) بكر * هجان (4) اللون لم تقرأ جنينا
اي لم تضم جنينها في رحمها. وقال قطرب في معناه قولان أحدهما هذا
وعليه أكثر المفسرين وقال قولا آخر معناه لفظت به مجموعا وقال معنى البيت
أيضا أي لم تلقه مجموعا وتفسير ابن عباس أولى، لان قوله تعالى (ان علينا
جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (5)
والوجه المختار أن يكون المراد وإذ تلوناه عليك، وبيناه لك، فاتبع تلاوته
ولو حملناه على الجمع - على ما قال قتادة - لكان يجب ألا يلزم اتباع آية آية من القرآن
النازلة في كل وقت، وكان يقف وجوب الاتباع على حين الجمع، لأنه علقه بذلك
على هذا القول، لأنه قال: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " يعني جمعناه على ما قالوه
فاتبع قرآنه، وكان يقف وجوب الاتباع على تكامل الجميع، وذلك خلاف الاجماع
فالأول أولى
فان قيل: (كيف يسمي القراءة قرآنا، وإنما هو مقروء؟) قلنا: (سمي
بذلك كما يسمى المكتوب كتابا، بمعنى: كتاب الكاتب) قال الشاعر في صفة طلاق
كتبه لامرأته:
تؤمل رجعة مني وفيها * كتاب مثل ما لصق الغراء
يعني طلاقا مكتوبا

(1) سورة يوسف آية 12 و 63 وسورة الحجر آية 10
(2) عطيل: طويلة العنق
(3) ناقة ادماء: بيضاء
(3) بيضاء اللون
(5) سورة القيامة آية 17 - 18
18

وتسميته بأنه فرقان، لأنه يفرق بين الحق والباطل. والفرقان هو الفرق
بين الشيئين. وإنما يقع الفرق بين الحق والباطل بادلته الدالة على صحة الحق،
وبطلان الباطل.
وتسميته بالكتاب لأنه مصدر من قولك، كتبت كتابا، كما تقول قمت
قياما. وسمي كتابا وإنما هو مكتوب، كما قال الشاعر في البيت المتقدم. والكتابة
مأخوذة من الجمع في قولهم: كتبت السقاء إذا جمعته بالخرز قال الشاعر:
لا تأمنن فزاريا خلوت به * على قلوصك فاكتبها باسيار (1)
والكتبة، الخرزة. وكلما ضممت بعضه إلى بعض على وجه التقارب فقد
كتبته والكتيب (2) من الجيش، من هذا لانضمام بعضها إلى بعض
وتسميته بالذكر، ويحتمل أمرين: أحدهما - انه ذكر من الله تعالى ذكر به
عباده، فعرفهم فيه فرائضه، وحدوده. والآخر - انه ذكر وشرف لمن آمن به
وصدق بما فيه. كقوله (وانه لذكر لك ولقومك) (3).
وأما السورة - بغير همز - فهي منزلته من منازل الارتفاع، ومن ذلك
سور المدينة سمي بذلك - الحائط الذي يحويها لارتفاعه عما يحويه غيران سور
المدينة لم يجمع سورا، وسورة القرآن تجمع سورا. وهذه أليق بتسميته سور
القرآن سورة. قال النابغة
ألم تر ان الله أعطاك سورة * يرى كل ملك دونها يتذبذب
يعني منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها الملوك.
واما من همز السورة من القرآن، فإنه أراد به القطعة التي انفصلت من
القرآن وأبقيت وسؤر كل شئ بقيته. يقال اسأرت في الاناء أي أبقيت فيه
قال الأعشى بن ثعلبة، يصف امرأة
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد * صدعا على نأيها مستطارا

(1) اسيارج سير: الجلد
(2) والكتيبة
(3) سورة الزخرف آية 44
19

وتسمية الآية بأنها آية، يحتمل وجهين أحدهما - لأنها علامة يعرف بها
تمام ما قبلها، ومنه قوله تعالى [أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا
وآخرنا وآية منك] (1) يعني علامة لإجابتك دعاءنا. والآخر أن الآية القصة
والرسالة. قال كعب بن زهير
ألا أبلغا هذا المعرض آية * أيقظان قال القول إذا قال أم حلم
يعني رسالة فيكون معنى الآيات القصص، قصة تتلو قصة روى واثلة بن الأصقع
أن النبي صلى الله عليه وآله قال (أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور
المئين، وأعطيت مكان الإنجيل، المثاني، وفضلت بالمفصل) فالسبع الطول
1 - البقرة 2 - آل عمران 3 - النساء 4 - المائدة 5 - الانعام 6 - الأعراف
7 - ويونس. في قول سعيد بن جبير وروي مثل ذلك عن ابن عباس قال وسميت
السبع الطوال، لطولها على سائر القرآن. وأما المئون، فهو كل سورة تكون
مائة آية أو يزيد عليها شيئا يسيرا، أو ينقص عنها شيئا يسيرا. وأما المثاني فهي
ما ثنت المئين، فتلاها. فكان المئون لها أوائل، وكان المثاني لها ثوان وقيل إنها
سميت بذلك، لتثنية الله قيها الأمثال، والحدود، والقرآن، والفرائض وهو
قول ابن عباس. وقال قوم (المثاني سورة الحمد، لأنها تثنى قراءتها في كل صلاة)
وبه قال الحسن البصري، وهو المروي في أخبارنا قال الشاعر
حلفت بالسبع اللواتي طولت * وبمئين بعدد قد أميت
وبثمان ثنيت وكررت * وبالطواسين التي قد تليت
وبالحواميم التي قد سبعت * وبالمفصل اللواتي فصلت
وسميت المفصل مفصلا، لكثرة الفصول بين سورها ببسم الله الرحمن الرحيم
وسمي المفصل محكما، لما قيل إنها لم تنسخ. وقال أكثر أهل العلم (أول المفصل
من سورة محمد صلى الله عليه وآله إلى سورة الناس) وقال آخرون (من ق، إلى الناس)
وقالت فرقة ثالثة - وهو المحكي عن ابن عباس - أنه من سورة الضحى إلى الناس

(1) سورة المائدة آية 117
20

وكان يفصل من الضحى بين كل سورتين بالتكبير، وهو قراءة ابن كثير. وإن
قيل: ما وجه الحكمة في تفصيل القرآن على السور؟ قيل: فيه وجوه من الجواب
أحدها - أن القارئ، إذا خرج من فن إلى فن كان أحلى في نفسه وأشهى
لقراءته ومنها - ان جعل الشئ مع شكله، وما هو أولى به هو الترتيب الذي يعمل
عليه ومنها - أن الانسان قد يضعف عن حفظ الجميع، فيحفظ سورة تامة ويقتصر
عليها، وقد يكون ذلك سببا يدعوه إلى غيرها ومنها - ان التفصيل أبين، إذ كان
الاشكال مع الاختلاط والالتباس أكثر. ومنها - ان كلما ترقى إليه درجة درجة
ومنزلة منزلة كانت القوة عليه أشد، والوصول إليه أسهل وإنما السورة منزلة يرتفع
منها إلى منزلة
21

(سورة الفاتحة)
أسماؤها - وسبب تسميتها بها:
روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه سماها أم القرآن، وفاتحة الكتاب
والسبع المثاني فسميت فاتحة الكتاب لأنه يفتتح بكتابتها المصاحف وبقراءتها
في الصلاة، فهي فاتحة لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة وسميت أم
القرآن لتقدمها على سائر القرآن وتسمي العرب كل جامع أمرا، أو متقدم لامر
إذا كانت له توابع تتبعه أما فيقولون للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس، وتسمي
لواء الجيش، ورايتهم التي يجتمعون تحتها أما ومن ذلك قول ذي الرمة:
واسمر قوام إذا نام صحبتي * خفيف الثياب لا تواري له إزرا
على رأسه أم لنا نقتدي بها * جماع أمور لا نعاصي له امرا
يصف راية معقودة على قناة يجتمع تحتها هو وصحبه وقيل: مكة أم القرى
لتقدمها امام جميعها، وجميعها ما سواها وقيل: إنما سميت بذلك، لان الأرض
دحيت منها فصارت لجميعها أما ومن ذلك قول حميد بن ثور الهلالي:
إذا كانت الخمسون أمك لم يكن * لدائك إلا أن تموت طبيب
لان الخمسين جامعة ما دونها من العدد، فسماها أم الذي بلغها
وسميت السبع لأنها سبع آيات - بلا خلاف في جملتها - وسميت مثاني
لأنها تثنى بها في كل صلاة فرض ونفل وقيل في كل ركعة وليس إذا سميت
بأنها مثاني منع ذلك تسمية غيرها بالمثاني من سور المئين على ما مضى القول فيه
واتفق القراء على التلفظ بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم قبل التسمية
المعنى:
ومعنى ذلك استجير بالله دون غيره لان الاستعاذة هي الاستجارة
22

وقوله: من الشيطان فالشيطان في اللغة كل متمرد من الجن والإنس والدواب،
ولذلك قال الله تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن " (1)
فجعل من الانس شياطين كما جعل من الجن وإنما سمي المتمرد شيطانا، لمفارقة
أخلاقه وأفعاله أخلاق جميع جنسه وبعده من الخير وقيل: هو مشتق من
قولهم شطنت داري أي بعدت، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
نأت سعاد (2) عنك نوى شطون * فبانت والفؤاد بها رهين
والشطون البعيد فيكون شيطانا على هذا: فيعالا من شطن على وزن بيطار
وغيداق (3)
قال أمية بن أبي الصلت:
أيما شاطن (4) عصاه عكاه (5) * ثم يلقى السجن والأكباد (6)
ولو كان مشتقا من شاط لقال: شائط ولما قال: شاطن علم أنه مشتق
من شطن والشطن الحبل
وأما الرجيم فهو فعيل بمعنى مفعول كقولهم كف خضيب ولحية دهين ورجل
لعين يراد مخضوبة ومدهونة وملعون ومعنى المرجوم المشتوم فكل مشتوم
بقول ردي فهو مرجوم وأصل الرجم الرمي بقول كان أو بفعل ومنه قوله تعالى
" لئن لم تنته لأرجمنك " (7) ويجوز أن يكون الشيطان رجيما لان الله طرده من
سمائه ورجمه بالشهب الثاقبة
وسورة الحمد مكية في قول قتادة ومدنبة في قول مجاهد وليس فيها ناسخ
ولا منسوخ

(1) سورة الأنعام آية: 112
(2) بسعاد
(3) شاب غيداق: ناعم والغيداق: الكريم
(4) الشاطن الخبيث والشيطان كل عات متمرد من انس أو جن أو دابة
(5) عكاه: عقده
(6) الكبد الشدة الجمع أكباد
(7) سورة مريم آية 46
23

بسم الله الرحمن الرحيم
الحجة - عندنا آية من الحمد ومن كل سورة بدلالة إثباتهم لها في المصاحف
بالخط الذي كتب به المصحف مع تجنبهم إثبات الأعشار والأخماس كذلك وفي
ذلك خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء ولا خلاف أنها بعض سورة النمل. فاما
القراء فترك الفصل بين السور بالتسمية حمزة وخلف ويعقوب واليزيدي إلا القرطي
عن سجادة بن اللبان عن مدين والمعدل إلا السوسي من طريق ابن حبش والباقون
يفصلون بالتسمية إلا بين الأنفال والتوبة وعندنا أن من تركها في الصلاة بطلت
صلاته لان الصلاة عندنا لا تصح إلا بفاتحة الكتاب وهي من تمامها سواء كانت
الصلاة فرضا أو نافلة، وفيه خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء ومن قال إنها ليست
من القرآن قال إن الله أدب نبيه وعلمه تقديم ذكر اسم الله أمام جميع أفعاله وأقواله
ليقتدي به جميع الخلق في صدور رسالاتهم وأمام حوائجهم قالوا والدليل على أنها
ليست من القرآن أنها لو كانت من نفس الحمد لوجب أن يكون قبلها مثلها
لتكون إحداهما افتتاحا للسورة حسب الواجب في سائر السور والأخرى أول آية
منها وهذا عندنا ليس بصحيح لا ناقد بينا أنها آية من كل سورة ومع
هذا لم يتقدمها غيرها، على أنها لا يمتنع أن تكون من نفس التلاوة وإن تعبدنا
باستعمالها في استفتاح جميع أموره، ومن قال إن قوله " الرحمن الرحيم " بعد
قوله " الحمد لله رب العالمين " يدل على أن التي افتتح بها ليست من الحمد وإلا
كان يكون ذلك تكرارا بلا فصل شئ من الآيات قبل ذلك وليس بموجود في شئ
من القرآن فقوله باطل لأنه قد حصل الفصل بقوله " الحمد لله رب العالمين " (1)
وقد ورد في مثله في: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون
ما اعبد، ولا انا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين " (2)

(1) سورة الحمد آية 1
(2) سورة الكافرون بتمامها
24

وكرر آيتين بلفظ واحد فصل بينهما بآية واحد وقد ذكرنا الأدلة على صحة ما
ذهبنا إليه في خلاف الفقهاء ومن جعلها آية جعل من قوله " صراط الذين أنعمت
عليهم إلى آخرها آية ومن لم يجعلها كذلك جعل: صراط الذين أنعمت عليهم آية
وعندنا انه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة ويستحب الجهر بها فيما
لا يجهر فيه
الاعراب:
وقوله تعالى " بسم الله " يقتضي فعلا تتعلق به الباء، ويجوز أن يكون
ذلك الفعل قوله أبدأ أو أقرأ بسم الله أو شبهه أو قولوا بسم الله، ولم يذكر
لدلالة الكلام عليه وحذفت الألف في اللفظ لأنه ألف الوصل تسقط في الدرج
وحذفت ههنا وحدها في الخط لكثرة الاستعمال ولا تحذف في قوله تعالى " إقرأ
باسم ربك " (1) وقوله " فسبح باسم ربك " وما أشبه ذلك لقلة استعمالها هناك
وذكر أبو عبيدة ان " اسم " صلة والمراد هو الله الرحمن الرحيم واعتقد قوم
لأجل ذلك ان الاسم هو المسمى واستدلوا بقول لبيد
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
قال ومعناه السلام عليكما فاسم السلام هو السلام وهذا خطأ عظيم ذكرناه
في شرح الجمل في الأصول ومعنى قول الشاعر ثم اسم السلام انه أراد به اسم الله
تعالى لان السلام من أسماء في قوله " السلام المؤمن المهيمن " وهذا كما قال
عليه السلام " لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر " اي ان الله هو الفاعل لما تضيفونه
إلى الدهر وتسبونه لأجله ونظير ذلك أيضا قول القائل إذا سمع غيره يشتم زيدا
وهو يريد عمروا (2) (زيد في هذا المكان هو عمرو) اي هو المراد بالشتم دون
زيد ويحتمل أن يكون أراد اسم الله عليكما اي ألزماه وإنما رفع لأنه اخر
(عليكما كما قال الشاعر:

(1) سورة العلق آية 1
(2) عمرو لا تقبل الواو في حالة التنوين بالفتح
25

يا أيها المانح (1) دلوي دونكا * اني رأيت الناس يحمدونكا
والمراد دونك دلوي فكيف يكون الاسم هو المسمى وقد يعرف الاسم
من لا يعرف المسمى والاسم يكون مدركا وان لم يدرك المسمى والاسم يكتب
في مواضع كثيرة والمسمى لا يكون إلا في موضوع واحد ولو كان الاسم هو
المسمى لكان إذا قال القائل " نار " احترق لسانه وإذا قال " عسل " وجد
الحلاوة في فمه، وذلك تجاهل، ومن قال: " إن ذلك تسمية وليس ذلك باسم "
قوله باطل، لان القائل لو قال: اكلت اسم العسل، لكان جاهلا. وقال يقوم:
إن (اسم) ليس بصلة، والمراد ابتدئ بتسمية الله، فوضع الاسم موضع المصدر
ويكون موضع (بسم) نصبا. قالوا لان العرب تجري المصادر المبهمة على أسماء
مختلفة، كقولهم: أكرمت فلانا كرامة، وأهنت فلانا هوانا، وكلمته كلاما
وكان يجب أن يكون: أكرمته إكراما وأهنته إهانة وكلمته تكليما ومنه قول الشاعر:
أكفرا بعد رد الموت عني * وبعد عطائك المئة الرتاعا (2)
وقال آخر:
فإن كان هذا البخل منك سجية * لقد كنت في طول رجائك اشعبا (3)
أراد في إطالتي رجاك فيكون على هذا تقدير الكلام: أقرأ مبتدئا بتسمية
الله، وابتدئ قراءتي بسم الله. فجعل الاسم مكان التسمية، وهذا أولى، لان
المأموران يفتتح العباد أمورهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كما
أمروا بالتسمية على الذبائح والصيد، والاكل، والشرب. وكذلك أمروا بالتسمية
عند افتتاح تلاوة تنزيل الله تعالى، ولا خلاف أن القائل لو قال عند الذباحة: بالله
ولم يقل: باسم الله لكان مخالفا للمأمور.
اللغة:
والاسم مشتق من السمو وهو الرفعة والأصل فيه سمو بالواو، وجمعه أسماء

(1) اسم فاعل من متح. متح الماء كمنع نزعه
(2) صفة الإبل
(3) اسم رجل يضرب المثل بشدة حرصه وطمعه
26

مثل قنو واقناء، وحنو واحناء. وإذا صغرته قلت سمي، قال الراجز:
باسم الذي في كل سورة سمه
والسمة أيضا - ذكره أبو زيد وغيره وقيل إنه مشتق من وسمت وذلك غلط
لان ما حذفت واو الفعل منه لا يدخله الف الوصل: نحو عدة ووعد، وزنه
ووزن. لما حذفت الفاء لم تدخل عليه الألف وأيضا كان يجب إذا صغران
يرد الواو فيقال: وسيم، كما يقال وعيدة ووزينة ووصيلة في تصغير عدة وزنه
وصلة. والامر بخلافه وحكي عن ابن كيسان أنه قال: انه لقب فلذلك ابتدئ به
واتبع بالرحمن لأنه يختصه ثم بالرحيم لأنه يشاركه فيه غيره والصحيح انه
ليس بلقب لان اللقب إنما يجوز على من تجوز عليه الغيبة والحضور وهما لا يجوزان
عليه ولأنه يمكن وصفه بصفة لا يشاركه فيها غيره ولا معنى للقب لأنه عيب
والصحيح انه اسم مقيد لكنه لا يطلق إلا عليه تعالى وقيل في معناها قولان:
أحدهما - ان أصله لاه كما قال الشاعر:
كحلقة من أبي رياح * يسمعها لاهه الكبار
فادخل عليه الألف واللام
والثاني:
ان أصله إله فأدخلت عليه الألف واللام ثم خففت الهمزة وأدغمت احدى
اللامين في الأخرى فقيل: الله وإله معناه يحق العبادة وإنما يحق له العبادة
لأنه قادر على خلق الأجسام واحيائها والانعام عليها بما يستحق به العبادة
ولذلك يوصف فيما لم يزل بأنه إله ولا يجوز أن يكون إلها للاعراض ولا للجوهر
لاستحالة ان ينعم عليها بما يستحق به العبادة وهو إله الأجسام: حيوانها
وجمادها لأنه قادر على أن ينعم على كل جسم بما معه العبادة وليس الاله من
يستحق العبادة، لأنه لو كان كذلك لما وصف فيما لم يزل بأنه إله لأنه لم يفعل
الانعام الذي يستحق به العبادة ومن قال: انه إله للجماد فقد أخطأ لما قلناه من أنه
عبارة عمن يستحق العبادة وهو انه قادر على أصول النعم التي يستحق بها
27

العبادة دون أن يكون عبارة عمن يستحق العبادة ولا يجوز ان يوصف بهذه الصفة
غير الله وفى الناس من قال إنه مشتق من الاله، لان الخلق يألهون إليه: أي
يفزعون إليه في أمورهم فقيل للمألوه: إله كما قيل للمؤتم: إمام وقال بعضهم
انه مشتق من الولهان وهذا غلط، لان الولهان: الهيمان وذلك لا يجوز في
صفات الله تعالى على أن التصريف بلزوم الهمزة يشهد بفساد هذا على ما قاله
آخرون وقال قوم هو مشتق من الألوهية التي هي العبادة يقال فلان متأله
أي متعبد قال رؤبة
لله در الغانيات المدة (1) * لما رأين حليي المموه
سبحن واسترجعن من تألهي
أي من تعبدي قرأ ابن عباس (ويذرك وآلهتك (2) يعني عبادتك
ويقال أله الله فلان إلهه كما يقال عبده عبادة وقيل إنه مشتق من الارتفاع يقول
العرب للشئ المرتفع لاه يقولون طلعت لاهة أي الشمس وغربت أيضا وقيل
وصف به تعالى لأنه لا تدركه الابصار ومعنى لاه: أي احتجب عنا
قال الشاعر:
لاه ربي عن الخلائق طرا * خالق الخلق لا يرى ويرانا
وقيل سمي الله لأنه يوله القلوب بحبه
(الرحمن الرحيم)
اللغة - هما اسمان مشتقان من الرحمة وهي النعمة التي يستحق بها العبادة وهما موضوعان
للمبالغة وفي رحمان خاصة مبالغة يختص الله بها وقيل إن تلك المزية من حيث
فعل النعمة التي يستحق بها العبادة لا يشاركه في هذا المعنى سواه
والأصل في باب فعل يفعل وفعل يفعل أن يكون اسم الفاعل فاعلا فان
أرادوا المبالغة حملوا على فعلان وفعيل كما قالوا غضب فهو غضبان وسكر فهو

(1) المدة ج مادة وهو المادح
(2) سورة الأعراف آية 126
28

سكران إذا امتلأ غضبا وسكرا وكذلك قالوا: رحم فهو رحمان وخصوه به
تعالى لما قلناه وكذلك قالوا علم فهو عليم ورحم فهو رحيم وعلى هذا الوجه
لا يكونان للتكرار كقولهم ندمان ونديم بل التزايد فيه حاصل والاختصاص
فيه بين وقيل في معنى الرحيم: لا يكلف عباده جميع ما يطيقونه فان الملك لا يوصف
بأنه رحيم إذا كلف عبيده جميع ما يطيقونه ذكره أبو الليث وإنما قدم الرحمن
على الرحيم لان وصفه بالرحمن بمنزلة الاسم العلم من حيث لا يوصف به إلا
الله تعالى فصار بذلك كاسم العلم في أنه يجب تقديمه على صفته. وورد الأثر بذلك
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله ان عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا
والرحيم رحيم الآخرة وروي عن بعض التابعين أنه قال: الرحمن بجميع الخلق
والرحيم بالمؤمنين خاصة ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق هو انشاؤه إياهم وجعلهم
احياء قادرين وخلقه فيهم الشهوات وتمكينهم من المشتهيات وتعريضهم بالتكليف
لعظيم الثواب ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين، ما فعل الله تعالى بهم في الدنيا
من الألطاف التي لم يفعلها بالكفار وما يفعله بهم في الآخرة من عظيم الثواب
فهذا وجه الاختصاص وحكي عن عطاء أنه قال: الرحمن كان يختص الله تعالى به
فلما تسمى مسيلمة بذلك صار الرحمن الرحيم مختصين به تعالى ولا يجتمعان لاحد
وهذا الذي ذكره ليس بصحيح لان تسمى (1) مسيلمة بذلك لا يخرج الاسم
من أن يكون مختصا به تعالى لان المراد بذلك استحقاق هذه الصفة وذلك لا
يثبت لاحد كما أنهم سموا أصنامهم آلهة ولم يخرج بذلك من أن يكون الاله صفة
يختص بالوصف به
وقال بعضهم إن لفظة الرحمن ليست عربية، وإنما هي ببعض اللغات كقوله
تعالى " قسطاس " فإنها بالرومية واستدل على ذلك بقوله تعالى: " قالوا وما الرحمن
أنسجد لما تأمرنا " (2) إنكارا منهم لهذا الاسم حكي ذلك عن تغلب والصحيح

(1) وفي نسخة تسمية
(2) سورة الفرقان آية 6
29

انه معروف واشتقاقه من الرحمة على ما بينا
قال الشنفري:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها * ألا ضرب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندل الطهوري:
عجلتم عليه قد عجلنا عليكم * وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وحكي عن أبي عبيدة أنه قال: " رحمن: ذو رحمة ورحيم معناه انه راحم
وكرر لضرب من التأكيد كما قالوا ندمان ونديم " وإنما قدم اسم الله لأنه الاسم
الذي يختص به من يحق له العبادة وذكر بعده الصفة ولاجل ذلك أعرب باعرابه
وبدأ بالرحمن لما بينا ان فيه المبالغة. وما روي عن ابن عباس من أنهما اسمان رقيقان
أحدهما ارق من الآخر. فالرحمن الرقيق والرحيم العطاف على عباده بالرزق محمول
على أنه يعود عليهم بالفضل بعد الفضل وبالنعمة بعد النعمة لأنه تعالى لا يوصف
برقة القلب. ودلت هذه الآية على التوحيد لان وصفه بالرحمن يقتضي مبالغة
في الوصف بالرحمة على وجه يعم جميع الخلق وذلك لا يقدر عليها غير الله القادر
لنفسه وذلك لا يكون إلا واحدا ولان وصفه بالإلهية يفيد انه تحق له العبادة
وذلك لا يكون إلا للقادر للنفس وهي تدل على العدل لان وصفه بالرحمة التي
وسعت كل شئ، يعم كل محتاج إلى الرحمة من مؤمن وكافر وطفل وبالغ من كل
حي، وذلك يبطل قول المجبرة الذين قالوا ليس لله على الكافر نعمة ولأنها صفة
مدح تنافي وصفه بأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه لان هذا صفة ذم.
الحمد لله رب العالمين
الاعراب - اجمع القراء على ضم الدال من الحمد وكسر اللام الأولى من لله
وكان يجوز أن يفتح الدال مع كسر اللام ويكسر الدال واللام (1) نكن لم يقرأ به
إلا أهل البوادي ومن نصب فعلى المصدر ومن كسرهما اتبع كسرة الدال كسرة

(1) وبضمهما
30

اللام ومن ضمهما اتبع ضم الدال بضمة اللام (1).
ونصب الدال لغة في قريش والحارث بن اسامة بن لؤي وكسرها لغة في
تميم وغطفان وضمها لغة في ربيعة توهموا انه حرف واحد مثل الحلم وقوله:
لله مخفوض بالإضافة ورب العالمين (2) مخفوض لأنه نعت ويجوز نصبه على الحال
والنداء وما قرئ به والعالمين مخفوض بالإضافة ونونها مفتوحة لأنها نون الجمع
فرقا بينها وبين نون التثنية وبعض قيس يحذف الألف التي قبل الهاء ويخلس
الهاء ويشددها ويقصرها انشد بعضهم:
ألا لا بارك الله في سهيل * إذا ما بارك الله في الرجال
اختلس الأولى وأشبع الثانية ويقرأ بهذا
ومعنى الحمد لله الشكر لله خالصا دون سائر ما يعبد بما أنعم على عباده من
ضروب النعم الدينية والدنياوية (3) وقال بعضهم: الحمد لله ثناء عليه بأسمائه وصفاته
وقوله الشكر لله ثناء على نعمه وأياديه، والأول أصح في اللغة، لان الحمد والشكر
يوضع كل واحد منهما موضع صاحبه. ويقال أيضا: الحمد الله شكرا فنصب
شكرا على المصدر، ولو لم يكن في معناه لما نصبه ودخول الألف واللام فيه
لفائدة الاستيعاب، فكأنه قال جميع الحمد لله، لان التالي مخبر بذلك، ولو نصبه
فقال حمدا لله أفاد أن القائل هو الحامد فحسب وليس ذلك المراد، ولذلك اجتمعت
القراء على ضم الدال على ما بيناه، والتقدير: قوله الحمد لله. وإذا كان الحمد هو
الشكر، والشكر هو الاعتراف بالنعمة على ضرب من التعظيم فالمدح ليس من الشكر
في شئ وإنما هو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه.
وأما الرب فله معان في اللغة: فيسمى السيد المطاع ربا، قال لبيد بن ربيعة:
فأهلكن يوما رب كندة وابنه * ورب معد بين خبت (4) وعرعر (5)

(1) واتبع ضم اللام بضم الدال - لعله الأصح
(2) العالمين زائدة
(3) دنيوية والألف زائدة. لان الواو قلبت عنها
(4) خبت وعرعر موضعان
(5) خبت وعرعر موضعان
31

يعني سيد كندة. ومنه قوله تعالى: " أما أحد كما فيسقي ربه خمرا " يعني
سيده ويسمى الرجل المصلح ربا قال الفرزدق بن غالب:
كانوا كسالئة (1) حمفاء إذ حقنت * سلائها في أديم غير مربوب
يعني غير مصلح ومنه قيل فلان رب ضيعة إذا كان يحاول اتمامها والربانيون
من هذا من حيث كانوا مدبرين لهم واشتق رب من التربية يقال ربيته وربيته
بمعنى واحد والربى الشاة ولدت حديثا لأنها تربى. وقوله (رب العالمين) أي المالك
لتدبيرهم والمالك للشئ يسمى ربه ولا يطلق هذا الاسم إلا على الله وأما في
غيره فبقيد فيقال: رب الدار ورب الضيعة وقيل إنه مشتق من التربية ومنه قوله
تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم) ومتى قيل في الله انه رب بمعنى انه سيد
فهو من صفات ذاته. وإذا قيل بمعنى انه مدبر مصلح فهو من صفات الافعال
والعالمين جمع عالم وعالم لا واحد له من لفظه كالرهط والجيش وغير ذلك
والعالم في عرف اللغة عبارة عن الجماعة من العقلاء لأنهم يقولون جاءني عالم من
الناس ولا يقولون جاءني عالم من البقر وفي عرف الناس عبارة عن جميع المخلوقات
وقيل إنه أيضا اسم لكل صنف من الأصناف وأهل كل زمن من كل صنف يسمى
عاما ولذلك جمع وقيل عالمون لعالم كل زمان قال العجاج:
فخندف (2) هامة هذا العالم
وهذا قول أكثر المفسرين كابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم
واشتقاقه من العلامة لأنه علامة ودلالة على الصانع تعالى وقيل إنه من العلم - على
ما روى ابن عباس - قال هم صنف من الملائكة والانس والجن لأنه يصح أن يكون
كل صنف منهم عالما فان قيل كيف يجوزان يقول الحمد لله والقائل هو الله تعالى
وان (3) كان يجب ان يقول الحمد لنا. قيل العالي الرتبة إذا خاطب من دونه لا يقول
كما يقول للنظير ألا ترى ان السيد يقول لعبده الواجب ان تطيع سيدك ولا

(1) سلا السمن: عالجه
(2) لقب أولاد الياس بن مضر
(3) وكان يجب
32

تعصيه، وكذلك يقول الأب لابنه يلزمك أن تبر أباك والمنة لأبيك والخلفاء
يكتبون عن أنفسهم إن أمير المؤمنين رأى كيت وكيت ليقع ذلك موقع اجلال
واكرام واعظام على انا قد بينا ان المراد بذلك: قولوا الحمد لله وحذف لدلالة
الكلام عليه
الرحمن الرحيم
آية مخفوضان لأنهما نعت لله وقد مضى معناهما (1)
قوله
مالك يوم الدين - آية
القراءة -
قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب: ومالك بالألف. الباقون ملك بغير
الف، ولم يمل أحد الف مالك وكسر جميعهم الكاف وروي عن الأعمش انه
فتحها على النداء وربيعة بن نزار يخففون مالك ويسقطون الألف فيقولون:
ملك بتسكين اللام وفتح الميم كما قال أبو النجم
تمشي الملك عليه حلله
والألف ساقط في الخط في القراءتين والمعول على الأولتين دون النصب
وإسكان اللام ومعنى ملك يوم الدين باسقاط الألف أنه الملك يومئذ لا ملك غيره
وأنه لا يؤتى في ذلك الوقت أحدا الملك كما اتاه في الدنيا، وقوى ذلك بقوله تعالى:
" لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار (2) وبأنه يطابق ما تقدم من قوله: " رب العالمين
الرحمن الرحيم "
ومن قرأ مالك بألف معناه انه مالك يوم الدين والحساب لا يملكه غيره
ولا يليه سواه

(1) في تفسير البسملة
(2) سورة إبراهيم: آية 48
33

اللغة
والمالك هو القادر على التصرف في ماله وأن يتصرف فيه على وجه ليس لأحد
منعه منه ويوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم والملك هو القادر
الواسع القدرة الذي له السياسة والتدبير ويقال ملك بين الملك مضمومة الميم ومانك
بين الملك والملك بفتح الميم وكسرها وضم الميم فيه لغة شاذة ذكرها أبو علي الفارسي.
ويقال طالت مملكة الأمير ومملكته بكسر اللام وفتحها وطال ملكه وملكه إذا طال
رقه، وأعطاني من ملكه وملكه ولي في هذا الوادي ملك وملك وملك ويقال نحن عبيد
مملكة وليس بعبيد قن اي سبيا لم يملك في الأصل ويقال: شهدنا املاك فلان
وملكه ولا يقال ملاكه فأصل الملك الشد من قول الشاعر:
ملكت بها كفي وانهرت (1) فقعها (2)
اي شددت وملكت العجين اي شددت عجنه ويقال: هذا ملك فلان
إذا كان له التصرف فيه على ما بيناه فأما من رجح قراءة ملك من حيث إنه وصف
نفسه بأنه ملك كل شئ بقوله " رب العالمين " فلا فائدة في تكرير ما قد مضى
فقد أبعد لان في القرآن له نظائر تقدمها العام وذكر بعد العام الخاص: " اقرأ باسم
ربك الذي خلق خلق الانسان من علق (3) " فعم في الأول ثم خص ذكر
لانسان تنبيها على تأمل ما فيه من اتقان الصنعة ووجوه الحكمة كما قال: " وفي
نفسكم أفلا تبصرون؟ (4) " ولذلك نظائر كثيرة
وفي الناس من قال إن ملك أبلغ في المدح من مالك لان ملك مالك
وليس كل مالك ملكا وقال تغلب: إن مالك أبلغ من ملك لأنه قد يكون الملك
على من لا يملك كما يقال ملك الروم وإن كان لا يملكهم ولا يكون مالكا إلا

(1) انهن وسع والصحيح فأنهرت
(2) الصحيح فتقها قاله قيس بن الخطيم
(3) سورة العلق آية 1 و 2
(4) سورة الذاريات آية 21
34

على ما يملك وقال بعضهم: ان مالك أبلغ في المدح للخالق من ملك وملك أبلغ
في مدح المخلوقين من مالك لان مالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا
كان الله تعالى مالكا كان ملكا والأقوى أن يكون مالك أبلغ في المدح فيه تعالى
لأنه ينفرد بالملك ويملك جميع الأشياء فكان أبلغ
وقوله تعالى: " يوم الدين "
الاعراب - مجرور بالإضافة قي القراءتين معا، وهو من باب يا سارق الليلة
أهل الدار اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به ثم أضيف على هذا الحد
وليس ذلك مثل قوله: (وعنده علم الساعة) مفعول بها (1) على الحقيقة ولا
أن جعل الظرف مفعولا على السعة لان الظرف إذا جعل مفعولا على السعة فمعناه
معنى الظرف ولو جعل ظرفا لكان المعنى: يعلم في الساعة وذلك لا يجوز لأنه
تعالى يعلم في كل وقت والمعنى: انه يعلم الساعة أي يعرفها ومن نصب إنما هرب
ان يخرج من خطاب الغائب إلى المواجه في قوله " إياك نعبد وإياك نستعين "
وليس ذلك ببديع لأنه مستعمل في القرآن وفى الشعر
قال الله تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " (2) فعدل عن خطاب
المواجه إلى الكنانة عن الغائب وقال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها * بني شاب قرناها تصر (3) وتحلب
وقال أبو كثير الهلالي:
يا لهف نفسي كان جدة خالد * وبياض وجهك للتراب الاعفر
وقال لبيد بن ربيعة:
قامت (4) تشكي إلي النفس مجهشة (5) * وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فرجع إلى مخاطبة نفسه وقد تقدم الاخبار عنها

(1) به
(2) سورة يونس: آية 22
(3) صر الناقة يصرها - بالضم - صر أشد ضرعها - القاموس القرن: الضفيرة
(4) باتت
(5) موهنة - العقد الفريد مجهشة - لسان العرب
35

وقال الكسائي التقدير: قولوا إياك نعبد. فيكون على حكاية ما أمروا به
اللغة:
والدين الحساب والدين الجزاء أيضا قال كعب بن جعيل:
إذا ما رمونا رميناهم * ودناهم فوق ما يقرضونا
وقال آخر:
واعلم وأيقن ان ملكك زائل * واعلم بأنك ما تدين تدان
يعني: ما تجزي تجزى ومنه قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين) يعني
بالجزاء وقوله: (فلو لا ان كنتم غير مدينين) أي غير مجزيين وبهذا قال جماعة
من التابعين كسعيد بن جبير وقتادة وروي عن ابن عباس ومجاهد وأبي جعفر:
انه الحساب والدين أيضا الطاعة وقال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال * عصينا الملك فيها ان ندينا
والدين الملك قال زهير:
لئن حللت بجو في بني أسد * في دين عمرو وحالت بيننا فدك
والدين القهر والاستعلاء قال الأعشى:
هو دان الرباب إذ كرهوا الدين دراكا بغزوة وصقال (1)
يعني ذللهم للطاعة والدين العادة قال المثقب العبدي:
تقول وقد درأت لها وضينى * أهذا دينه ابدا وديني
التفسير
(ويوم الدين) عبارة عن زمان الجزاء كله وليس المراد به ما بين المشرق
والمغرب وطلوع الشمس إلى غروبها

(1) وارتحال وفي مجمع البيان: وصيال
36

إياك نعبد وإياك نستعين - آية
الاعراب
إياك نصب بوقوع الفعل عليه وموضع الكاف في إياك خفض بإضافة إيا
إليها وإيا اسم للضمير المنصوب إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات نحو قوله:
إياك ضربت وإياه ضربت وإياي ضربت ولو قلت: إيا زيد حدثت كان قبيحا
لأنه خص به المضمر وقد روى الخليل جوازه وهو قولهم: إذا بلغ الرجل الستين
فإياه وإيا الشواب (1)
وقال الأخفش لا موضع للكاف من الاعراب لأنها حرف الخطاب وهو
قول ابن السراج واختاره الرماني لان المضمر معرفة تمتنع من الإضافة كما تمتنع
من الصفة وحملوا ما رواه الخليل على الشذوذ
ولو قلت نعبد إياك لم يجز لأنك تقدر على ضمير متصل بان تقول نعبدك
فلا يجوز ان تأتي بضمير منفصل ولأنه لو أخر لكان قد قدم ذكر العابد على
المعبود وليس بجيد ومن قال إن إياك بكماله اسم فقد أخطأ لأنه لو كان كذلك
لما أضيف كما حكيناه في قولهم إياه وإيا الشواب لأنهم اجروا الهاء فيه مجرى
الهاء في عصاه
والنون مفتوحة من نعبده وقد روي يحيى بن وثاب، انه كان يكسرها
وهي لغة هذيل يقولون نعلم وتعلم واعلم وتخاف وتقام وتنام فيكسرون أوائل
هذه الحروف كلها ولا يكسرون الياء ولا في يستفعل ويفتعل فلا يقولون يبيض
ويطمس - بكسر الياء - بل يفتحونها والدال والنون مرفوعان لان في أوله أحد
الزوايد الأربع فاعربا
المعنى واللغة:
والعبادة ضرب من الشكر مع ضرب من الخضوع ولا تستحق إلا بأصول

(1) امرأة شابة ونسوة شواب
37

النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة وما يقدر من النعم لا يوازيه نعمة منعم
فلذلك اختص الله بأن يعبد وان استحق بعضنا على بعض الشكر
والعبادة في اللغة الذلة يقال هذا طريق معبد إذا كان مذللا بكثرة الوطئ
وبعير معبد اي مذلل بالركوب وقيل أصله إذا طلي بالقطران وسمي العبد عبدا
لذلته لمولاه ومن العرب من يقول: هياك فيبدل الألف هاء كما يقولون: هيه وايه
ونستعين اي نطلب منك المعونة على طاعتك وعبادتك واصله نستعون
لأنه من المعونة فقلبت الواو ياء لثقل الكسرة عليها ونقلت كسرتها إلى العين قبلها
وبقيت الياء ساكنة والتقدير في أول السورة إلى ههنا اي قل يا محمد هذا الحمد
وهذا كما قال: " ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا (1)
اي: يقولون ربنا وكما قال: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم "
اي: يقولون سلام عليكم وحمزة والكسائي إذا وقفا اشما الدال الرفع وكذلك
في سائر القرآن فاما إذا وقفا على النصب تخير الكسائي الاشمام وتركه أجود
ومن استدل بهذه الآية على أن القدرة مع الفعل من حيث إن القدرة لو كانت
متقدمة لما كان لطلب المعونة وجه إذا كان الله قد فعلها فيه فقد أخطأ لان الرغبة
في ذلك تحتمل أمرين:
أحدهما - ان يسأل الله تعالى من الطافه وما يقوي دواعيه ويسهل الفعل
عليه ما ليس بحاصل ومتى لطف له بأن يعلمه أن له في عاقبة الثواب العظيم والمنازل
الجليلة زاد ذلك في نشاطه ورغبته
والثاني - ان يطلب بقاء كونه قادرا على طاعاته المستقبلة بأن يجدد له
القدرة حالا بعد حال عند من لا يقول ببقائها أولا يفعل ما يضادها وينفيها عند
من قال ببقائها فان قيل هلا قدم طلب المعونة على فعل العبادة لان العبادة لا تتم
إلا بتقدم المعونة أولا؟ قيل: في الناس من قال المراد به التقديم والتأخير فكأنه
قال: إياك نستعين وإياك نعبد ومنهم من قال: ليس يتغير بذلك المعنى كما إن

(1) سورة ألم السجدة آية 12
38

القائل إذا قال أحسنت إلي فقضيت حاجتي أو قضيت حاجتي فأحسنت إلي فان في
الحالين المعنى واحد قال قوم انهم سألوا لمعونة على عبادة مستأنفة لاعلى عبادة واقعة منهم
وإنما حسن طلب المعونة وإن كان لابد منها مع التكليف على وجه الانقطاع إليه كما
قال: " رب احكم بالحق " ولأنه قد لا يكون في إدامته التكليف اللطف ولا في فعل
المعونة به الا بعد تقدم الدعاء من العبد وإنما كرر إياك لان الكاف التي فيها هي كاف
الضمير التي كانت تكون بعد الفعل في قوله نعبدك فلما قدمت زيد عليها أبا
لان الاسم إذا انفرد لا يمكن أن يكون على حرف واحد فقيل إياك ولما كانت
الكاف يلزم تكرارها لو كرر الفعل وجب مثل ذلك في إياك الا ترى انه لو قال
نعبدك ونستعينك ونستهديك لم يكن بد من تكرير الكاف وكذلك لو قدم فقيل
إياك نعبد وإياك نستعين وفيه تعليم لنا ان نجدد ذكره عند كل حاجة ومن قال إنه
يجري مجرى قول عدي بن زيد العبادي:
وجاعل الشمس مصرا (1) لا خفاء به * بين النهار وبين الليل قد فصلا
وكقول أعشى همدان:
بين الأشج وبين قيس باذخ * بخ بخ لوالده وللمولود
فكرر لفظ بين فقد أخطأ لان في البيتين لو لم تكرر بين لكان الفعل مستحيلا
الا ترى انه لو قال الشمس قد فصلت بين النهار لم يكن كلاما صحيحا وكذلك البيت
الآخر وليس كذلك الآية لأنه لو قال إياك نعبد وسكت لكان مستقلا بنفسه
ولهذا طعن به بعض المفسرين وعندي ان هذا ليس بطعن، لأنه مغالطة لأنه لو قال
بين النهار والليل لكان كلاما صحيحا وإنما كرر بين وكذلك لو قال إياك نعبد ونستعين
كان كلاما صحيحا وإنما كرر إياك تأكيدا والعلة ما ذكرناه أولا

(1) المصر: الحاجز
39

قوله: إهدنا الصراط المستقيم
آية - القراءة:
قرأ ابن كثير في رواية ابن مجاهد عن قنبل والكسائي من طريق ابن حمدون
ويعقوب من طريق رويس (1) بالسين وكذلك في سراط في جميع القرآن الباقون
بالصاد واشم الصاد زايا حمزة في الموضوعين خاصة في رواية علي بن سالم وفي رواية
الدوري وخلاد اشمامها الزاي ما كان فيه الف ولام واما الصاد إذا سكنت وكان
بعدها دال نحو: يصدر وفاصدع ويصدفون فاشم الصاد الزاي حيث وقع حمزة
والكسائي وخلف ورويس
الاعراب
(اهدنا): مبني على الوقف لأنه امر والهمزة مكسورة لان ثالث المضارع
منه مكسور في نحو يهدي وموضع النون والألف من اهدنا نصب لأنه مفعول
به الصراط منصوب لأنه مفعول ثان فمن قرأ بالسين فلانه الأصل من غير
سبب يمنع منه ومن قرأ باشمام الزاي فللمؤاخاة بين السين والطاء بحرف مجهور من
مخرج السين وهو الزاء من غير ابطال للأصل ومن قرأ بالصاد بين الصاد والطاء بالاستعلاء
والاطباق والقراءة بالصاد أحسن لان فيها جمعا بين المتشاكلين في المسموع
اللغة والتفسير
ومعنى اهدنا يحتمل أمرين:
أحدهما - أرشدنا كما قال طرفة
للفتى عقل يعيش به * حيث يهدي ساقه قدمه
والثاني - وفقنا كما قال الشاعر:
فلا تعجلن هداك المليك * فان لكل مقام مقالا
أي وفقك
والآية تدل على بطلان قول من يقول: لا يجوز الدعاء بأن يفعل الله ما يعلم
أنه يفعله لأنه عبث لان النبي صلى الله عليه وآله كان عالما بأن الله يهديه الصراط

(1) الصحيح: أويس
40

المستقيم وانه قد فعل ومع ذلك كان يدعو به وقد تكون الهداية بمعنى
أن يفعل بهم اللطف الذي يدعوهم إلى فعل الطاعة والهدى يكون أيضا بمعنى العلم
لصاحبه لأنه مهتد على وجه المدح والهدى يكون ان يهديه إلى طريق الجنة
كما قال الله تعالى:
" وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا " وأصل الهداية في اللغة الدلالة على طريق
الرشد فان قيل: ما معنى المسألة في ذلك وقد هداهم الله الصراط المستقيم ومعلوم
أن الله تعالى يفعل بهم ما هو أصلح لهم في دينهم؟ قيل: يجوز أن يكون ذلك عبادة
وانقطاعا إليه تعالى كما قال: " رب احكم بالحق " وإن علمنا أنه لا يحكم إلا بالحق
ويكون لنا في ذلك مصلحة كسائر العبادات وكما تعبدنا بأن نكرر تسبيحه وتحميده
والاقرار بتوحيده ولرسوله بالصدق وإن كنا معتقدين لجميع ذلك ويجوز أن
يكون المراد بذلك الزيادة في الألطاف كما قال تعالى: " والذين اهتدوا زدناهم
هدى " (1) وقال: " يهدي به الله من اتبع رضوانه (2) ويجوز أن يكون
الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا وأنفع لنا إذا سألناه وإذا لم
نسأله لا يكون ذلك مصلحة وكان ذلك وجها في حسن المصلحة ويجوز أن
يكون المراد استمرار التكليف والتعريض للثواب لان إدامته ليست بواجبة بل
هو تفضل محض جاز أن يرغب فيه بالدعاء ويلزم المخالف أن يقال له: إذا كان الله
تعالى قد علم أنه يفعل ذلك لا محالة فما معنى سؤاله ما علم أنه يفعله فما أجابوا به
فهو جوابنا
والصراط المستقيم هو الدين الحق الذي أمر الله به من توحيده وعد له وولاية
من أوجب طاعته قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط * إذا أعوج الموارد مستقيم
أي على طريق واضح وقال الشاعر:

(1) سورة الكهف آية 13
(2) سورة المائدة آية 18
41

فصد عن نهج السراط الواضح
وقيل: إنه مشتق من " مسترط " الطعام وهو ممره في الحلق الصاد لغة
قريش وهي اللغة الجيدة " وعامة العرب يجعلونها سينا والزاي لغة لعذرة وكعب
وبني ألقين يقولون: أزدق فيجعلونها زايا إذا سكنت وأهل الحجاز يؤنثون الصراط
كالطريق والسبيل والزقاق والسوق. وبنو تميم يذكرون هذا كله وأصل الاستقامة
التقويم والاستواء في جهة الانتصار وهو ضد الاعوجاج فمنه القيام والتقويم
والتقوم ومنه المقاومة لأنه بمنزلة المماثلة بما هو كالاستواء وتقاوموا في الامر
إذا تماثلوا والاستقامة المرور في جهة واحدة وقيل في معنى قوله: " الصراط
المستقيم " وجوه:
أحدها - إنه كتاب الله وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي عليه السلام
وابن مسعود
والثاني - انه الاسلام حكي ذلك عن جابر وابن عباس
والثالث - انه دين الله عز وجل الذي لا يقبل من العباد غيره
والرابع - انه النبي صلى الله عليه وآله والأئمة (ع) القائمون مقامه صلوات الله
عليهم وهو المروي في أخبارنا
التفسير
والأولى حمل الآية على عمومها لأنا إذا حملناها على العموم دخل جميع ذلك
فيه فالتخصيص لا معنى له
قوله تعالى:
صراط الذين أنعمت عليهم
آية - المعنى:
معناه بيان الصراط المستقيم إذا كان كل طريق من طرق الحق صراطا
مستقيما والمعنى صراط من أنعمت عليهم بطاعتك
42

القراءة
وقرأ حمزة بضم الهاء من ذلك: وفي أيديهم " وإليهم " حيث وقع وروى
الدوري عنه بضم الهاء في قوله: " فعليهم غضب من الله (1) وقرأ يعقوب بضم
كل هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية وجمع المذكر والمؤنث نحو: " عليهما " وفيهما
" عليهن " و " فيهن " وضم ميم الجمع ووصلها بواو في اللفظ ابن كثير وأبو
جعفر وعن نافع فيه خلاف كثير وعن غيره لا نطول بذكره وهو مذكور
في كتب القراءات فمن قرأ بكسر الهاء وإسكان الميم قال: إنه أمن من اللبس إذا كانت الألف
في التثنية قد دلت على الاثنين ولاميم في الواحد فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو
وأسكنوا الميم طلبا للتخفيف وحجة من قرأ " عليهم " انهم قالوا ضم الهاء هو الأصل
لان الهاء إذا انفردت من حرف متصل بها قيل: " هم فعلوا " ومن ضم الميم إذا لقيها
ساكن بعد الهاء مكسورة قال: لما احتجت إلى الحركة رددت الحرف إلى أصله
فضممت وتركت الهاء على كسرتها لأنه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردها إلى الأصل
ومن كسر الميم فالساكن الذي لفيها والهاء مكسورة ثم اتبع الكسرة الكسرة
الاعراب
(والذين) في موضع جر بالإضافة ولا يقال في الرفع (اللذون) لأنه اسم
ليس يتمكن وقد حكي اللذون شاذا كما قيل الشياطون وذلك في حال الرفع
ولا يقرأ به وقرأ صراط من أنعمت عليهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن زبير
وروي ذلك عن أهل البيت عليهم السلام والمشهور الأول والنعمة التي أنعم بها
على المذكورين وإن لم تذكر في اللفظ فالكلام بدل عليها لا لما قال: إهدنا
الصراط المستقيم وبينا المراد بذلك ثم بين أن هذا صراط من أنعمت عليهم بها
فلم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة الذبياني:
كأنك من جمال بني أقيش * يقعقع خلف رجليه بشن (1)

(6) سورة النحل آية 106
(4) الشن والشنة: القرية
43

لما قال جمال بني أقيش قال يقعقع ومعناه جمل يقعقع خلف رجليه ونظير
ذلك كثيرا جدا
قوله تعالى:
غير المغضوب عليهم ولا الضالين
الاعراب:
أجمع المفسرون والقراء على جر (غير) لأنها نعت للذين وإنما جاز أن
تكون نعتا للذين والذين معرفة وغير نكرة لان الذين بصلتها ليست بالمعرفة
كالأسماء المعية التي هي أعلام كزيد وعمرو وإنما هي كالنكرات إذا عرفت كالرجل والبعير
فلما كانت الذين كذلك كانت صفتها كذلك أيضا وجاز أن تكون نعتا للذين
كما يقال لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل ولو كانت بمنزلة الاعلام لما جاز كما
لم يجز في قولهم: مررت بزيد غير الظريف فلا يجرها على أنها نعت وان نصبتها
في مثل هذا جاز على الحال ويحتمل أيضا أن تكون مجرورة لتكرير العامل الذي
خفض الذين فكأنك قلت: صراط الذين أنعمت عليهم صراط غير المغضوب عليهم
ويتقارب معناهما لان الذين أنعمت عليهم هم الذين لم يغضب عليهم وقرئ في الشواذ
غير المغضوب عليهم بالنصب ووجهها أن تكون صفة للهاء والميم اللتين في عليهم العائدة
على الذين لأنها وان خفضت بعلى فهي موضع نصب بوقوع الانعام عليها ويجوز
أن يكون نصبا على الحال وقال الأخفش والزجاج: انها نصب على وجه الاستثناء
من معاني صفة الذين أنعمت عليهم وتقديره: إهدنا الصراط المستقيم صراط
الذين أنعمت عليهم إلا المغضوب عليهم الذين لم تنعم عليهم في أديانهم فلا تجعلنا
منهم ويكون استثناء من غير جنس كما قال النابغة للذبياني:
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها (1) * أعيت جوابا وما بالربع من أحد

(1) الصحيح كي أسائلها وفي نسخة: اصيلانا أسائلها
44

إلا الاواري (1) لايا ما أبينها * والنؤي (2) كالحوض بالمظلومة (3) الجلد
وقال الفراء: وتغلب هذا خطأ لأنه لو كان كذلك لما قال: ولا الضالين
لان لا نفي وجحد ولا يعطف على جحد إلا بجحد ولا يعطف بالجحد على الاستثناء
وإنما يعطف بالاستثناء على استثناء وبالجحد على الجحد يقولون قام القوم إلا أخاك وإلا
أباك ولا قام أخوك ولا أبوك ولا يقولون ما قام القوم إلا أخاك ولا أباك فعلى هذا
تكون (غير) بمعنى: لا فكأنه قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين قال الرماني: من
نصب على الاستثناء جعل لا صلة كما انشد أبو عبيدة
في بئر لا حور سرى وما شعر (4)
أي في بئر هلكة
(والمغضوب عليهم) هم اليهود عند جميع المفسرين الخاص والعام لأنه
تعالى قد أخبر انه غضب عليهم وجعل فيهم القردة والخنازير (ولا الضالين) هم
النصارى لأنه قال: (وضلوا عن سواء السبيل) (5) وقال (لعن الذين كفروا)
يعني النصارى وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وقال بعضهم لا: زائدة تقديره: غير
المغضوب عليهم والضالين كما قال: (ما منعك ان لا تسجد) (6) أي معناه أن
تسجد قال أبو النجم:
فما ألوم البيض ألا تسخرا * لما رأين الشمط القفندرا (7)
يعني أن تسخر وتكون غير بمعنى سوى وقد بينا ضعف هذا عند
الكوفيين لما مضى، ولأنه إنما يجوز ذلك إذا تقدمه نفي كقول الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم * والطيبان أبو بكر ولا عمر

(1) ج آري محابس الخيل
(2) حفرة حول الخيمة تمنع من تسرب الماء إليها
(3) الأرض التي لم تحفر قط وحفرت
(4) أي بئر هلكة
(5) سورة المائدة آية: 80
(6) سورة الأعراف آية 11
(7) الشمط: الشيب والقفندر: الصغير الرأس القبيح المنظر
45

واما الغضب من الله فهو إرادة العقاب المستحق بهم ولعنهم وبراءته منهم
واصل الغضب الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل المخالفة له
ورجل غضوب شديد الغضب والغضوب الحية الخبيثة لشدتها والغضوب الناقة العبوس
واصل الضلال الهلاك ومنه قوله (إذا ضللنا في الأرض) أي هلكنا ومنه قوله تعالى
(وأضل اعمالهم) أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق والاضلال الدعاء إلى
الضلال والحمل عليه ومنه قوله تعالى: " وأضلهم السامري " (1) والاضلال الاخذ
بالعاصين إلى النار والاضلال الحكم بالضلال والاضلال التحيير بالضلال بالتشكيك
لتعدل عنه واليهود - وان كانوا ضلالا - والنصارى - وان كانوا مغضوبا عليهم
فإنما خص الله تعالى كل فريق منهم بسمة يعرف بها ويميز بينه وبين غيره بها وان
كانوا مشتركين في صفات كثيرة وقيل إنه أراد (بالمغضوب عليهم ولا الضالين)
جميع الكفار وإنما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين
وروى جابر ابن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله قال الله تعالى: (قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي فله ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال حمدني
عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال اثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال
مجدني عبدي ثم قال هذا لي وله ما بقي)
ولا يجوز عندنا ان يقول القارئ عند خاتمة الحمد: آمين فان قال ذلك في
الصلاة متعمدا بطلت صلاته لأنه كلام لا يتعلق بالصلاة ولأنه كلام لا يستقل
بنفسه وإنما يفيد إذا كان تأمينا على ما نقدم ومتى قصد بما تقدم الدعاء لم يكن
تاليا للقرآن فتبطل صلاته وان قصد التلاوة لا يكون داعيا فلا يصح التأمين
وان قصدهما فعند كثير من الأصوليين ان المعنيين المختلفين لا يصح ان يردا بلفظ
واحد ومن أجاز ذلك - وهو الصحيح - منع منه لقيام الدلالة على المنع من ذلك
فلأجل ذلك لم يجز

(1) سورة طه آية: 85
46

(سورة البقرة)
وهي مائتان وست وثمانون آية في الكوفي وسبع بصري وخمس مدني
وروي أن قوله: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله - نزلت في حجة الوداع
آلم
آية عند الكوفيين
المعنى: - واختلف العلماء في معنى أوائل هذه السور مثل (آلم) و (المص)
و (كهيعص) و (طه) و (صاد) و (قاف) و (حم) وغير ذلك على وجوه فقال بعضهم
انها اسم من أسماء القرآن ذهب إليه قتادة ومجاهد وابن جريح وقال بعضهم هي
فواتح يفتح بها القرآن روي ذلك عن مجاهد أيضا واختاره البلخي وفائدتها أن
يعلم ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها وذلك معروف في كلام العرب وأنشد بعضهم
بل وبلدة ما الانس من أهلها (1)
ويقول آخر بل ما هيج أحزانا وشجوا قد شجا
وقوله (بل) ليس من الشعر وإنما أراد أن يعلم أنه قطع كلامه وأخذ في غيره
وأنه مبتدأ الذي أخذ فيه غير ناسق له على قبله وقال بعضهم هي اسم للسورة
روي ذلك عن زيد بن أسلم والحسن وقال بعضهم هي اسم الله الأعظم وروي ذلك
عن السدي إسماعيل وعن الشعبي وقال بعضهم هي قسم اقسم الله به وهي من أسمائه
وروي ذلك عن ابن عباس وعكرمة وقال قوم هي حروف مقطعة من أسماء واقعا
كل حرف من ذلك بمعنى غير معنى الحرف الاخر يعرفه النبي صلى الله عليه وآله
نحو قال الشاعر
نادوهم أن ألجموا ألاتا * قالوا جميعا كلهم ألافا

(1) في اللسان وفي تفسير الطبري (اهالها)
47

يريد ألا تركبون قالوا ألا فاركبوا وقال آخر:
قلنا لها قفي فقالت قاف
بمعنى قالت انا واقفه روى ذلك أبو الضحى عن ابن عباس وعن ابن مسعود
وجماعة من الصحابة وقال بعضهم هي حروف هجاء موضوعة روي ذلك عن مجاهد
وقال بعضهم هي حروف هجاء يشتمل كل حرف على معان مختلفة روي ذلك عن
أنس واختاره الطبري وقال بعضهم هي حروف من حساب الجمل وقال بعضهم لكل
كتاب سر وسر القرآن في فواتحه هذه أقوال المفسرين فاما أهل اللغة فإنهم اختلفوا
فقال بعضهم هي حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن
ذكر بواقيها التي هي تمام ثمانية وعشرين حرفا كما يستغنى بذكر أب ت ث عن
ذكر الباقي وبذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة قالوا ولذلك رفع ذلك الكتاب
لان معناه عن الألف واللام والميم من الحروف المقطعة وقوله ذلك الكتاب الذي
أنزلته إليك مجموعا لا ريب فيه كما قالوا في أبي جاد أب ت ث ولم يذكروا باقي
الحروف وقال راجز بني أسد:
لما رأيت أمرها في حطي * أخذت منها بقرون شمط
فأراد الخبر عن المرأة بأنها من أبي جاد فأقام قوله في حطي مقامه لدلالة الكلام
عليه وقال آخرون بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين إذ
تواصوا بالاعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم آلم وقال بعضهم
الحروف التي هي أوائل السور حروف يفتتح الله بها كلامه وقال أبو مسلم: المراد
بذلك ان هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته ولم تقدروا على الاتيان بمثله
هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في كلامكم وخطابكم فحيث لم
تقدروا عليه فاعلموا انه من فعل الله وإنما كررت في مواضع استظهارا في الحجة
وحكي ذلك عن قطرب وروي في اخبارنا ان ذلك من المتشابه الذي لا يعلم
تأويله إلا الله واختاره الحسين بن علي المغربي وأحسن الوجوه التي قبلت قول
من قال: انها أسماء للسور خص الله تعالى بها بعض السور بتلك كما قيل للمعوذتين:
48

المقشقشتان أي تبرءان من النفاق وكما سميت الحمد أم القرآن وفاتحة الكتاب
ولا يلزم أن لا تشترك سورتان أو ثلاث في اسم واحد وذلك أنه كما يشترك
جماعة من الناس في اسم واحد فإذا أريد التمييز زيد في صفته وكذلك إذا
أرادوا تمييز السورة قالوا: ألم ذلك ألم الله ألم وغير ذلك وليس لاحد أن
يقول: كيف تكون أسماء للسور والاسم غير المسمى فكان يجب ألا تكون هذه
الحروف من السورة وذلك خلاف الاجماع قيل: لا يمتنع أن يسمى الشئ
ببعض ما فيه ألا ترى انهم قالوا: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ولا
خلاف انها أسماء للسور وان كانت بعضا للسور ومن فرق بين الأشخاص وغيرها
في هذا المعنى: فأوجب في الأشخاص أن يكون الاسم غير المسمى ولم يوجب في
غيرها فقد أبعد لأنه لا فرق بين الموضعين على ما مضى القول فيه ولا يلزم
أن تسمى كل سورة بمثل ذلك لان المصلحة في ذلك معتبرة وقد سمى الله كل
سورة بتسمية تخصها وإن لم تكن من هذا الجنس كما أنه لما سمى الحمد بأسمائها لم
يلزم ذلك في كل سورة
وقيل إنها أوائل أسماء يعلم النبي صلى الله عليه وآله تمامها والغرض بها نحو ما رويناه
عن ابن عباس كما قال الشاعر:
سألتها الوصل فقالت: قاف
يعني: وقفت وقال آخر:
بالخير خيرات وإن شرافا
يريد: فشرا وقال آخر:
ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني: إلا أن تشاء وقال آخر:
ما للظليم (1) عال (2) كيف لا يا * ينقد عنه جلده إذا يا

(1) الظليم: ذكر النعام
(2) عال: دعاء عليه من قولهم: عال عوله أي ثكلته أمه فاختصر
في الطبعة الإيرانية " غال " بدل " عال " و " ينقل " بدل " ينقد " و " جلد " بدل " جلده "
والصحيح ما ذكرناه
49

أي: إذا يفزع فعلى هذا يحتمل أن يكون الألف: انا واللام: الله
والميم: اعلم وكذلك القول في لحروف وعلى هذا لا موضع (لألف لام ميم)
من الاعراب وعلى قول من قال إنها أسماء السور موضعها الرفع كأنه قال
هذه ألم أو يكون ابتداءه ويكون خبره ذلك الكتاب واجمع النحويون على أن
هذه الحروف وجميع حروف الهجاء مبنية على الوقف لا تعرب كما بني العدد
على الوقف ولاجل ذلك جاز ان يجمع بين ساكنين كما جاز ذلك في العدد تقول
واحد اثنان ثلاثة أربعة فتقطع الف اثنين وهي الف وصل وتذكر الهاء
في ثلاثة وأربعة فلو لم تنو الوقف لقلت ثلاث بالثاء وحكي عن عاصم في الشواذ
وغيره آلم الله بقطع الهمزة الباقون بفتح الميم وقالوا فتح الميم لالتقاء الساكنين
وقال قوم: لأنه نقل حركة الهمزة إليه واختار أبو علي الأول لان همزة الوصل
تسقط في الوصل فلا يبقى هناك حركة تنقل وأنشد في نقل حركة همزة الوصل
قول الشاعر
أقبلت من (1) عند زياد كالخرف * تخط رجلاي بخط مختلف
فيكتبان في الطريق لام الف
ومتى أجريتها مجرى الأسماء لا الحكاية وأخبرت عنها قلت: هذه كاف
حسنة وهذا كاف حسن وكذلك باقي الحروف فتذكر وتؤنث فمن أنث قصد
الكلمة ومن ذكر قصد الحرف فأما إعراب: أبي جاد هواز وحطي وكلمن
فزعم سيبويه انها مصر وفات تقول: علمت أبا جاد ونفعني أبو جاد وانتفعت
بأبي جاد وكذلك هواز وهواز وهوازا وحطيا وحطي وحطي
وأما كلمن وسعفص وقرشيات فأعجميات تقول: هذه كلمن وتعلمت كلمن وانتفعت
بكلمن وكذلك سعفص وقرشيات اسم للجمع مصروفة لأجل الألف والتاء وأما
معنى أبي جاد فقال الضحاك: انها أسماء الأيام الستة التي خلق الله تعالى فيها الدنيا
وقال الشعبي: انها أسماء ملوك مدين وأنشد:

(1) في الطبعة الإيرانية " عن " والصحيح ما ذكرنا
50

ألا يا شعيب قد نطقت مقالة * سببت بها عمروا وأوحى بني عمرو
ملوك بي حطي وهواز منهم * وسعفص أهل للمكارم والفخر
هم صبحوا أهل الحجاز بغارة * لميل شعاع الشمس أو مطلع الفجر
وروي عن ابن عباس ان لأبي جاد حديثا عجيبا أبي: آدم جد في اكل
الشجرة " وهواز: فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض واما حطي فحطت عنه
خطيئته واما كلمن فأكل من الشجرة ومن عليه بالتوبة وسعفص: وعصى آدم
فاخرج من النعيم إلى الكبد (1) وقرشيات: أقر بالذنب فسلم من العقوبة وهذا
خبر ضعيف يتضمن وصف آدم وهو نبي بما لا يليق به
وقال قوم: انها حروف من أسماء الله وروي ذلك عن معاوية بن قرة عن
النبي صلى الله عليه وآله
ذلك الكتاب
هذه لفظة يشاربها إلى ما قرب وذلك إلى ما بعد وذاك إلى ما بينهما ويحتمل
أن يكون معنى ذلك ههنا هذا على قول عكرمة وجماعة من أهل العربية كالأخفش
وأبي عبيدة وغيرهما قال:
أقول له والرمح يأطر (2) متنه * تأمل خفافا انني أنا ذلكا
أي انني انا هذا وقال تعالى ذلك عالم الغيب والشهادة وهو موجود
في الحال وإنما جاز أن يستعمل هذا وهي إشارة إلى حاضر بمعنى
ذلك وهي إشارة إلى غايب لأنه كالحاضر عند الغايب ألا ترى ان الرجل يحدث
حديثا فيقول السامع هذا كما قلت وربما قال إن ذلك كما قلت وإنما جاز ذلك
لقرب جوابه من كلام المخبر وكذلك لما قال تعالى (آلم) وذكرنا معنى ذلك
قال لنبيه: يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته ذلك الكتاب فلذلك حسن وضع
ذلك في مكان هذا إلا أنه إشارة إلى ما مضى وقال قوم: ان معناه ذلك
الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى كما قال الذين اتيناهم الكتاب

(1) الكبد: الشدة
(2) في الطبعة الإيرانية (ناظر) والصحيح ما ذكرناه كما في الأغاني
51

يعرفونه كما يعرفون أبناءهم يعني: هذا ذلك الكتاب وقال قوم: إنما أشار إلى ما
كان نزل من القرآن بمكة من السور فقال ذلك والأول أقوى لأنه أشبه بأقوال
المفسرين واما من حمل على أنه أشار به إلى التوراة والإنجيل فقد أبطل لأنه
وصفه بأنه لا ريب فيه وانه هدى للمتقين وصف ما في أيديهم بأنه مغير محرف
في قوله: " يحرفون الكلم عن مواضعه " (1)
قوله تعالى:
لا ريب فيه:
القراءة - قرأ ابن كثير بوصل الهاء بياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية
قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في قوله:
فيه مهانا ووافقه المنسى في قوله: وأشركه في أمري ووافقه قتيبة في قوله:
فملاقيه وسأصليه فمن كسر الهاء مع أن الأصل الضمة فلأجل الياء والكسرة اللتين
قبلها والهاء تشبه الألف لأنها من حروف الحلق ولما فيها من الخفاء: فكما نحوا
بالألف نحو الياء بالإمالة لأجل الكسرة والياء كذلك كسروا الهاء للكسرة والياء
لتتجانس الصورتان وذلك حسن وتركوا الاشباع كراهية اجتماع المقاربة كما كرهوا
اجتماع الأمثال ومن أشبع وأتبعها الياء فان الهاء وإن كانت خفية فليس يخرجها
ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها نحو الراء والصاد
وان الهاء والنون عند الجميع في وزن الشعر بمنزلة الراء والصاد وإن كان في الراء
تكرير وفي الصاد استطالة فإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز
غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها
المعنى:
ومعنى لا ريب فيه أي لا شك فيه والريب الشك وهو قول ابن عباس
ومجاهد وعطاء والسدي وغيرهم وقيل: هو أشد الشك وهو مصدر رابني الشئ

(1) سورة النساء آية 45
52

يريبني قال ساعدة بن جويه الهذلي:
وقالوا تركن الحي قد حصروا به * فلا ريب ان قد كان ثم لحيم
أي أطافوا به واللحيم القتيل يقال لحم إذا قتل والهاء فيه عائدة على الكتاب
ويحتمل أن يكون لا ريب فيه خبرا والمعنى انه حق في نفسه ولا يكون المراد به
انه لا يقع فيه ريب لان من المعلوم أن الريب واقع فيه من الكفار وفي صحته
ويجري ذلك مجرى الخبر إذا كان مخبره على ما هو به في أنه يكون صدقا وان
كذبه قوم ولم يصدقوه ويحتمل أن يكون معناه الامر أي تيقنوه ولا ترتابوا فيه
قوله تعالى:
هدى للمتقين
المعنى:
معناه نور وضياء ودلالة للمتقين من الضلالة وإنما خص المتقين بذلك وإن كان
هدى لغيرهم من حيث إنهم هم الذين اهتدوا به وانتفعوا به كما قال:
" إنما تنذر من اتبع الذكر " (1) وإن كان انذر من لم يتبع الذكر ويقول
القائل: في هذا الامر موعظة لي أو لك وإن كان فيه موعظة لغيرهما ويقال هديت
فلانا الطريق إذا أرشدته ودللته عليه أهديه هداية
الاعراب:
ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال من الكتاب وتقديره ذلك الكتاب
هاديا للمتقين وذلك يكون مرفوعا بالم والكتاب نعت لذلك ويحتمل أن يكون
حالا من الهاء في (فيه) كأنه قال: لا ريب فيه هاديا ويحتمل أن يكون
رفعا من وجوه:
أولها - أن يكون خبرا بعد خبر كأنه قال: هذا كتاب هدى أي قد جمع
انه الكتاب الذي وعدوا به وانه هدى كما يقولون: هذا حلو حامض يريدون انه

(1) سورة يس آية 11
53

قد جمع الطعمين ويحتمل أن يكون رفعا بأنه خبر ابتداء محذوف وتقديره
هو هدى لان الكلام الأول قد تم ويحتمل أن يكون رفعه على قولك ذلك
الكتاب لا ريب كأنك قلت: هذا الكتاب حق لان لا شك بمعنى حق ثم قال
بعد ذلك فيه هدى للمتقين وهدى يذكر في جميع اللغات وحكي عن بعض بني أسد
هذه هدى حسنة تدغم النون في اللام عند الأكثر (والمتقين) مجرور باللام
والمتقي هو الذي يتقي بصالح اعماله عذاب الله مأخوذ من اتقاء المكروه بما يجعله
حاجزا بينه وبينه كما قال أبو حية النميري:
وألقت قناعا دونه الشمس واتقت * بأحسن موصولين كف ومعصم
وقيل إن المتقين هم الذين اتقوا ما حرم عليهم وفعلوا ما وجب عليهم وقيل إن
المتقين هم الذين يرجون رحمة الله ويحذرون عقابه وقيل إن المتقين هم الذين
اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق وهذا الوجه ضعيف لأنه يلزم عليه وصف الفاسق
المتهتك بأنه متق إذا كان بريا من الشرك والنفاق وأصل الاتقاء الحجز بين الشيئين
ومنه اتقاه بالترس لأنه جعله حاجزا بينه وبينه واتقاه بحق كذلك ومنه الوقاية لأنها
تحجز بين الرأس والأذى
ومن التقية في اظهار خلاف الابطان والفرق بينه وبين النفاق: ان المنافق يظهر الخير
ويبطن الشر والمتقي يظهر القبيح ويبطن الحسن ويقال وقاه يقيه وقاية وتوقاه توقيا
قوله تعالى
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
آية بلا خلاف
الذين في موضع خفض لأنه نعت للمتقين ويجوز أن يكون رفعا على
الابتداء (ويؤمنون) رفع لأنه فعل مستقبل والواو والنون في موضع رفع لأنه
كناية عن الفاعل والنون الأخيرة مفتوحة لأنها نون الجمع والصلاة نصب لأنها
مفعول به والايمان في اللغة هو التصديق منه قوله: وما أنت بمؤمن لنا أي
بمصدق لنا وقال: (يؤمنون بالجبت والطاغوت) (1) وكذلك هو في الشرع

(1) سورة النساء آية 50
54

عند أكثر المرجئة والمراد بذلك التصديق بجميع ما أوجب الله أو ندبه أو إباحة
وهو المحكي عن ابن عباس في هذه الآية لأنه قال: الذين يصدقون بالغيب
وحكى الربيع بن انس أنه قال: الذين يخشون بالغيب وقال: معناه يطيعون
الله في السر والعلانية وقيل: إن الايمان مشتق من الأمان والمؤمن من يؤمن
نفسه من عذاب الله والله المؤمن لأوليائه من عذابه وذلك مروي في اخبارنا وقالت
المعتزلة بأجمعها: الايمان هو فعل الطاعة ومنهم من اعتبر فرائضها ونوافها ومنهم
من اعتبر الواجب منها لا غير واعتبروا اجتناب الكبائر من جملتها
وروي عن الرضا عليه السلام: ان الايمان هو التصديق بالقلب والعمل
بالأركان والقول باللسان وقد بينا الأقوى من ذلك في كتاب الأصول
واما (الغيب) فحكي عن ابن عباس أنه قال: ما جاء من عند الله وقال
جماعة من الصحابة كابن مسعود وغيره: ان الغيب ما غاب عن العباد علمه من امر
الجنة والنار والأرزاق والاعمال وغير ذلك وهو الأولى لأنه عام ويدخل فيه
ما رواه أصحابنا من زمان الغية ووقت خروج المهدي عليه السلام وقال قوم
الغيب هو القرآن حكي ذلك عن زر بن جيش وذكر البلخي ان الغيب كل ما
أدرك بالدلائل والآيات مما تلزم معرفته وقال الرماني: الغيب خفاء الشئ عن الحس
قرب أو بعد إلا أنه قد كثرت صفة الغائب على البعيد الذي لا يظهر للحس
واصل الغيب من غاب يقولون: غاب فلان يغيب وليس الغيب ما غاب
عن الادراك لان ما هو معلوم وان لم يكن مشاهدا لا يسمى غيبا والأولى
ان تحمل الآية على عمومها في جميع من يؤمن بالغيب وقال قوم: انها متناولة
لمؤمني العرب خاصة دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب قالوا بدلالة قوله فيما بعد
(والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك) قالوا ولم يكن للعرب كتاب
قبل الكتاب الذي أنزله الله على نبيه تدين بتصديقه وإنما الكتاب لأهل الكتابين
وهذا غير صحيح لأنه لا يمنع أن تكون الآية الأولى عامة في جميع المؤمنين
المصدقين بالغيب وإن كانت الآية الثانية خاصة في قوم لان تخصيص الثانية لا يقتضي
55

تخصيص الأولى
وقال قوم: انهما مع الآيتين اللتين بعدهما أربع آيات نزلت في مؤمني أهل
الكتاب لأنه ذكرهم في بعضها وقال قوم: ان الأربع آيات من أول السورة
نزلت في جميع المؤمنين واثنتان نزلتا في نعت الكافرين وثلاثة عشر في المنافقين
وهذا أقوى الوجوه لأنه حمل على عمومه وحكي ذلك عن مجاهد وقوله:
" يقيمون الصلاة " فاقامتها أداؤها بحدودها وفرائضها وواجباتها كما فرضت عليهم
يقال: أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع والشراء قال الشاعر:
أقمنا لأهل العراقين سوق الضراب فخاموا وولوا جميعا
وقال أبو مسلم محمد بن بحر: معنى (يقيمون الصلاة) يديمون أداء فرضها
يقال للشئ الراتب قائم ولفاعله مقيم ومن ذلك: فلان يقيم أرزاق الجند وقيل إنه
مشتق من تقويم الشئ من قولهم: قام بالامر إذا أحكمه وحافظ عليه
قيل إنه مشتق مما فيه من القيام ولذلك قيل قد قامت الصلاة
وأما الصلاة فهي الدعاء في اللغة، قال الشاعر:
وقابلها الريح في دنها (1) * وصلى على دنها وارتسم
أي دعا لها وقال الأعشى:
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها * فان ذبحت صلى عليها وزمزما (2)
يعني دعا لها: وأصل الاشتقاق في الصلاة من اللزوم من قوله تصلى نارا
حامية والمصدر الصلا ومنه اصطلى بالنار إذا لزمها والمصلى الذي يحبئ في
اثر السابق للزوم أثره ويقال للعظم الذي في العجز صلوا وهما صلوان
فأما في الشرع ففي الناس من قال إنها تخصصت بالدعاء والذكر في موضع
مخصوص ومنهم من قال وهو الصحيح انها في الشرع عبارة عن الركوع
والسجود على وجه مخصوص وأركان وإذ كار مخصوصة قيل إنها سميت صلاة

(1) وفي رواية: ظلها
(2) الزمزمة: صوت بعيد له دوي
56

لان المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله ونعمه مع ما يسأل ربه فيها
من حاجاته
وأما الرزق فهو ماللحي الانتفاع به على وجه لا يكون لاحد منعه
منه وهذا لا يطلق إلا فيما هو حلال فأما الحرام فلا يكون رزقا لأنه ممنوع
منه بالنهي ولصاحبه أيضا منعه منه ولأنه أيضا مدحهم بالانفاق مما رزقهم
والمغصوب والحرام يستحق الذم على إنفاقه فلا يجوز أن يكون رزقا
وقوله (ومما رزقناهم ينفقون) حكي عن ابن عباس انها الزكاة المفروضة
يؤتيها احتسابا وحكي عن ابن مسعود أنها نفقة الرجل على أهله لان الآية
نزلت قبل وجوب الزكاة وقال الضحاك: هو التطوع بالنفقة فيما قرب من الله
والأولى حمل الآية على عمومها فيمن أخرج الزكاة الواجبة والنفقات الواجبة
وتطوع بالخيرات
وأصل الرزق الحظ لقوله: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " (1): أي
حظكم وما جعله حظا لهم فهو رزقهم
والانفاق أصله الاخراج ومنه قيل: نفقت الدابة إذا خرجت روحها
والنافقاء جحر اليربوع من ذلك لأنه يخرج منها ومنه النفاق لأنه يخرج إلى
المؤمن بالايمان والى الكافر بالكفر
قوله تعالى:
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة
هم يوقنون - آية
القراءة
لا يمد القراء الألف من ما إلا حمزة فإنه مدها وقد لحن في ذلك وكان

(1) سورة الواقعة آية 82
57

يقف قبل الهمزة فيقرأ: وبالآخرة تسكينا على اللام شيئا ثم يبتدئ بالهمزة وكذلك
الأرض وشئ يقطع عند الياء من شئ كأنه يقف ثم يهمز وموضع (ما) خفض بالباء
ويكره الوقف على (ما) لان الألف حرف منقوص
التفسير
وقال قتادة: " ما أنزل إليك " القرآن " وما أنزل من قبلك " الكتب
الماضية وقد بينا أن الأولى حمل الآية على عمومها في المؤمنين وذكرنا الخلاف
فيه والآخرة صفة الدار فحذف الموصوف قال الله تعالى: " وإن الدار الآخرة
لهي الحيوان " (1) ووصفت بذلك لمصيرها آخرة لا ولى قبلها كما يقال: جئت مرة
بعد أخرى ويجوز أن يكون سميت بذلك لتأخيرها عن الخلق كما سميت الدنيا
دنيا لدنوها من الخلق وإيقانهم ما جحده المشركون من البعث والنشور والحساب
والعقاب وروي ذلك عن ابن عباس والايقان بالشئ هو العلم به وسمي يقينا
لحصول القطع عليه وسكون النفس إليه
قوله تعالى:
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
القراءة
أولئك بهمزتين وفيهم من يخففهما وحمزة يمد أولئك وأولئك اسم مبهم
يصلح لكل حاضر تعرفه الإشارة كقولك ذاك في الواحد وأولاء جمع ذاك في المعنى
ومن قصر قال أولا وأولالك وإذا أمددته لم يجز زيادة اللام لئلا يجتمع ثقل الهمزة
وثقل الزيادة وتقول: أولاء للقريب وها أولئك للبعيد وأولئك للمتوسط
وأضيف الهدى إلى الله لاحد الامرين:
أحدهما: لما فعل بهم من الدلالة على الهدى والايضاح له والدعاء إليه
الثاني: لأنه يثيب عليه فعلى هذا يضاف الايمان بأنه هداية من الله

(1) سورة العنكبوت آية 64
58

(وهدى) في موضع خفض بعلى ومعنى (على هدى): أي على حق وخير
بهداية الله إياهم ودعائه إلى ما قالوا به ومن قال: هم على نور واستقامة أو بيان
ورشد فهو داخل تحت ما قلنا والأولى أن يكون ذلك عاما فيمن تقدم ذكره
في الآيتين ومن خص ذلك فقد ترك الظاهر لان فيهم من خصها بالمعنيين في الآية
الأولى وفيهم من خصها بالمذكورين في الآية الثانية وقد بينا أن الجمع محمول
على العموم وحملها على العموم في الفريقين محكي عن ابن عباس وابن مسعود
(والمفلحون) هم المنجحون الذين أدركوا ما طلبوا من عند الله بأعمالهم
وإيمانهم والفلاح: النجاح قال الشاعر:
اعقلي إن كنت لما تعقلي * ولقد أفلح من كان عقل
يعتي من ظفر بحاجته وأصاب خيرا وتقول أفلح يفلح إفلاحا وتقول
فلح يفلح فلاحا وفلاحا والفلاح البقاء أيضا قال لبيد
نحل بلادا كلها حل قبلنا * ونرجو فلاحا (1) بعد عاد وحمير
يعني البقاء وأصل الفلح القطع فكأنه قطع لهم بالخير ومنه قيل للاكار
فلاحا لأنه يشق الأرض والفلاح المكاري لأنه يقطع الأرض قال الشاعر:
إن الحديد بالحديد يفلح
وفى أولئك لغات: فلغة أهل الحجاز: أوليك بالياء وأهل نجد وقيس
وربيعة وأسد يقولون: أولئك بهمز وبعض بني سعيد من بني تميم يقولون: الاك
مشددة وبعضهم يقول: الالك قال الشاعر:
ألا لك قوم لم يكونوا أشابة (2) * وهل يعظ الضليل إلا ألالكا
وهم دخلت للفصل قوله تعالى
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون: آية
النزول - نزلت في أبي جهل وفي خمسة من قومه من قادة الأحزاب قتلوا يوم بدر في
قول الربيع بن أنس واختاره البلخي والمغربي وقال ابن عباس: نزلت في قوم

(1) وفي نسخة (الفلاح)
(2) الاشابة من الناس الاخلاط
59

بأعيانهم من أحبار اليهود ذكرهم بأعيانهم من اليهود الذين حول المدينة وقال
قوم: نزلت في مشركي العرب واختار الطبري قول ابن عباس والذي نقوله
إنه لابد أن تكون الآية مخصوصة لان حملها على العموم غير ممكن لأنا علمنا
أن في الكفار من يؤمن فلا يمكن العموم وأما القطع على واحد مما قالوه فلا دليل
عليه ويجب تجويز كل واحد من هذه الأقوال ومن مات منهم على كفره يقطع
على أنه مراد بالآية فعلى هذه قادة الأحزاب مرادون على ما قال ربيع بن انس
ومن قتل يوم بدر كذلك ومن قال إن الآية مخصوصة بكفار أهل الكتاب قال:
لان ما تقدمها مختص بمؤمنيهم فيجب أن يكون ما يعقبها مختصا بكفارهم وقد
قلنا إن الآية الأولى حملها على عمومها أولى ولو كانت خاصة بهم لم يجب حمل هذه
الآية على الخصوص لما تقدم فيما مضى والذين نصب بأن. والكفر هو الجحود
والستر ولذلك سمي الليل كافرا لظلمته قال الشاعر:
فتذكرا نقلا رشيدا بعد ما * القت ذكاء (1) يمينها في كافر
وقال لبيد:
في ليلة كفر النجوم غمامها
يعني غطاها
والكافور اكمام الكرم الذي يكون فيه والكفري وعاء الطلعة لأنه يستر
اللب ومنه قوله تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) (2) وسمي الزارع كافرا
لتغطيته البذر ويقال فلان متكفر بالسلاح إذا تغطي به. وفي الشرع عبارة عمن جحد
ما أوجب الله عليه معرفته من توحيده وعدله ومعرفة نبيه والاقرار بما جاء به من
أركان الشرع فمن جحد شيئا من ذلك كان كافرا وربما تعلقت به احكام مخصوصة
من منع الموارثة والمناكحة والمدافنة والصلاة عليه وربما لم يتعلق بحسب الدليل عليه
قوله تعالى: (سواء عليهم أأنذرتهم) جمع بين الهمزتين أهل الكوفة وابن عامر

(1) وتصحيح البيت: ثقلا بدل نقلا ورثيدا بدل رشيدا ورثد المتاع وغيره فهو مرثود: وضع
بعضه فوق بعض والثقل بيض النعام ذكاء: الشمس
(2) سورة الحديد آية: 20
60

إلا الحلواني وكذلك في كل همزتين في كلمة واحدة إذا كانت الأولى للاستفهام
إلا في مواضع مخصوصة نذكرها فيما بعد الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية
وفصل بينهما بالألف أهل المدينة إلا ورشا وأبا عمرو والحلواني عن هشام
ومعنى قوله (سواء) أي معتدل مأخوذ من التساوي كقولك متساو وتقول:
هذان الأمران عندي سواء أي معتدلان ومنه قوله: (فانبذ إليهم على سواء) (1)
يعني بذلك اعلمهم وآذنهم للحرب ليستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منكم
للاخر ومعناه: أي الامرين كان منك إليهم الانذار أم ترك الانذار فإنهم لا
يؤمنون وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
تعدت بي الشهباء نحو ابن جعفر * سواء عليها ليلها ونهارها
يعني بدلك عندها معتدل في السير الليل والنهار لأنها لا فتور فيه ومنه
قول الاخر:
وليل يقول المرء من ظلماته * سواء صحيحات العيون وعورها
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته وهذا لفظه لفظ
الاستفهام ومعناه الخبر وله نظائر في القرآن كما تقول ما أبالي أقمت أم قعدت
وأنت مخبر لا مستفهم لأنه وقع موقع أي كأنك قلت لا أبالي أي الامرين
كان منك وكذلك معنى الآية: سواء عليهم أي هذين منك إليهم حسن في
موضعه سواء فعلت أم لم تفعل وقال بعض النحويين ان حرف الاستفهام إنما
دخل مع سواء وليس باستفهام لان المستفهم إذا استفهم غيره قال: أزيد عندك أم
عمرو ويستفهم صاحبه أيهما عنده وليس أحدهما أحق بالاستفهام من الاخر فلما
كان قوله: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بمعنى التسوية أشبه ذلك الاستفهام
إذ شبهه بالتسوية وقال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح
فهذا في صورة الاستفهام وهو خبر لأنه لو أراد الاستفهام لما كان مدحا
وقال آخر:

(1) سورة الأنفال آية 59
61

سواء عليه أي حين أتيته * أساعة نحس تتقى أم بأسعد
ولا يجوز أن تقع أو في مثل هذا مكان أم لان أم هي التي تعادل بها
الهمزة لا أو
والفرق بينهما ان أو يستفهم بها عند أحد الامرين هل حصل أم لا وهو لا
يعلمها معا كقول القائل: أذن أو أقام؟ إذ المراد تعلمهما فإذا علم واحدا منهما
ولم يعلمه بعينه قال إذن أم أقام؟ يستفهم عن تعيين أحدهما هذا في الاستفهام
وفي الخبر تقول: لا أبالي أقمت أم قعدت أي هما عندي سواء ولا يجوز ان تقول
لا أبالي أقمت أو قعدت لأنك ليت بمستفهم من شئ
وحكي عن عاصم الجحدري انه قرأ سواو بواو مضمومة لا بهمزة وهذا
غلط لان العرب كلها تهمز ما بعده مده يقولون: كساء ورداء وهواء وجزاء وغير
ذلك وأما الانذار فهو اعلام وتخويف وكل منذر معلم وليس كل معلم منذرا
وقد سمى الله نفسه بذلك فقال: (انا أنذرناكم عذابا قريبا) (1) لان الاعلام
يجوز وصفه به والتخويف أيضا كذلك في قوله: (ذلك يخوف الله به عباده) فإذا
جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بلفظ يشتمل عليهما وأنذرت فعل متعد إلى مفعولين
كقوله تعالى: (أنذرتكم صاعقة) (وانا أنذرناكم عذابا قريبا) وقد ورد معدا بالباء
في قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي) (2) وقيل الانذار هو التحذير من
مخوف يتسع زمانه الاحتراز فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان اشعارا ولم يكن
انذارا قال الشاعر:
أنذرت عمرا وهو في مهل * قبل الصباح فقد عصى عمرو
فان قيل الذين علم الله منهم انهم لا يؤمنون هل كانوا قادرين على الايمان
أم لا؟ فان قلتم ما كانوا قادرين وقد كلفهم الله تعالى الايمان فقد كلفهم ما لا
يقدرون عليه وهذا لا يجوز - وان كانوا قادرين - فقد قلتم: انهم كانوا قادرين
على تجهيل الله قلنا: هذا يلزم المخالف مثله فإنه لا خلاف أنهم مأمورون

(1) سورة النساء: آية 40
(2) سورة أنبياء: آية 45
62

بالايمان فيقال لهم: انه لا يجب ذلك كما لا يجب إذا كانوا مأمورين بالايمان
ان يكونوا مأمورين (بابطال ما علم الله) (1) أليس الله قد علم أنه لا يقيم القيامة
اليوم؟ أيقولون: انه قادر على اقامتها أم لا؟ فان قلتم: انه لا يقدر فقد
عجزتم الله وان قلتم: انه يقدر فقد قلتم: انه يقدر على أن يجهل نفسه
والجواب الصحيح عن ذلك: أن العلم يتناول الشئ على ما هو به ولا يجعله
على ما هو به فليس يمتنع ان يعلم حصول شئ بعينه وإن كان غيره مقدورا
ألا ترى أن من خير بين الصدق والكذب وقد علم أن كل واحد منهما يقوم مقام
صاحبه في باب الغرض وقد علم قد علم قبح الكذب وحسن الصدق لا يجوز أن يختار
الكذب على الصدق - وإن كان قادرا على الكذب - فبان بذلك صحة ما قلناه
قوله تعالى
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم
عذاب عظيم - آية
القراءة - أجمع القراء السبعة على كسر الغين وضم التاء وروي عن بعض
القراء فتح الغين وعن الحسن ضم الغين وحكي عن عاصم في الشواذ: غشاوة
بنصب التاء ولا يقرأ بجميع ذلك
التفسير
(ختم الله على قلوبهم) أي شهد عليها بأنها لا تقبل الحق يقول القائل:
أراك تختم على كل ما يقولون فلان أي تشهد به وتصدقه وقد ختمت عليك
بأنك لا تعلم أي شهدت وذلك استعارة وقيل إن ختم بمعنى طبع فيها أثرا
للذنوب كالسمة والعلامة لتعرفها الملائكة فيتبرءوا منهم ولا يوالوهم ولا يستغفروا
لهم مع استغفارهم للمؤمنين وقيل: المعنى في ذلك أنه ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنها
لا يدخلها الايمان ولا يخرج عنها الكفر قال الشاعر:

(1) ما بين القوسين وضعه المصحح في الطبعة الإيرانية
63

لقد أسمعت لو ناديت حيا * ولكن لا حياة لمن تنادي
أي كأنه لا حياة فيه والختم آخر الشئ ومنه قوله تعالى: (ختامه مسك) (1)
ومنه: خاتم النبيين أي آخرهم ومنه: ختم الكتاب لأنه آخر حال الفراغ منه
والختم الطبع والخاتم الطابع
وما يختم الله على القلوب من السمة والعلامة التي ذكرناها ليست بمانعة من
الايمان كما أن ختم الكتاب والظرف والوعاء لا يمنع من أخذ ما فيه
وحكي عن مجاهد أنه قال: الرين أيسر من الطبع والطبع أيسر من الختم
ومن الاقفال والقفل أشد من ذلك
وقيل: إن قوله تعالى: (ختم الله) إخبار عن تكبرهم وإعراضهم عن
الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال: فلان أصم عن هذا الكلام إذا امتنع
عن سماعه ورفع نفسه عن تفهمه
والغشاوة: الغطاء وفيها ثلاث لغات: فتح الغين وضمها وكسرها وكذلك
غشوة فيها ثلاث لغات ويقال: تغشاني السهم إذا تجلله وكل ما اشتمل على شئ
مبني على فعالة كالعمامة والقلادة والعصابة وكذلك في الصناعة كالخياطة والقصارة
والصباغة والنساجة غير ذلك وكذلك من استولى على شئ كالخلافة والامارة
والإجارة وغير ذلك
قال أبو عبيدة: (وعلى سمعهم) معناه على اسماعهم ووضع الواحد موضع
الجمع لأنه اسم جنس كما قال: (يخرجكم طفلا) (2) يعني أطفالا ويجوزان
يكون أراد موضع سمعهم فحذف لدلالة الكلام عليه ويجوز أن يكون أراد المصدر
لأنه يدل على القليل والكثير فمن رفع التاء قال: الكلام الأول قد تم عند قوله:
(وعلى سمعهم) واستأنف: (وعلى أبصارهم غشاوة) وتقديره: وغشاوة على
أبصارهم ومن نصب قدره يعني: جعل على أبصارهم غشاوة كما قال الشاعر:

(1) سورة المطففين: آية 26
(2) سورة الحج آية 5
64

علفتها تبنا وماء باردا
وقال الآخر:
متقلدا سيفا ورمحا
لما دل الكلام الأول عليه فإذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه
لا يجوز إضماره ويجوز أن ينصب بالفعل الأول الذي هو الختم ولان الختم
لا يطلق على البصر كما ذكر في قوله تعالى: (وختم على سمعه وقلبه) ثم قال:
(وجعل على بصره غشاوة) (1) فلم يدخل المنصوب في معنى الختم وقال قوم:
إن ذلك على وجه الدعاء عليهم لا للاخبار عنهم وهذا يمكن في قوله تعالى:
(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وفي قوله (وعلى أبصارهم غشاوة) فيمن نصب
غشاوة فاما من رفع ذلك فلا يكون دعاء والأقوى أن ذلك خبر لأنه خرج
مخرج الذم لهم والازراء عليهم فكيف يحمل على الدعاء؟
ويحتمل أن يكون المراد (بختم) أنه سيختم ويكون الماضي بمعنى المستقبل
كما قال: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) (2) وعلى هذا يسقط سؤال المخالف
والقلب جعل الشئ على خلاف ما كان يقال: قلبه يقلبه قلبا والقليب
البئر لأن الماء ينقلب إليها وما به قلبة: أي انقلاب عن صحة وفلان حول
قلب: إذا كان يقلب الأمور برأيه ويحتال عليها والقلوب الذئب لتقلبه في الحيلة
على الصيد بخبثه وسمي القلب قلبا لتقلبه بالخواطر قال الشاعر:
ما سمي القلب إلا من تقلبه * والرأي يعزب والانسان أطوار
والبصر: مصدر بصر به يبصر بصرا بمعنى أبصره ابصارا والبصيرة:
والابصار للحق بالقلب والبصائر قطع الدم لأنها ترى كثيرة للعسل
(ولهم عذاب عظيم) باظهار التنوين لان النون تبين عند حروف الحلق
وهي ستة أحرف: العين والغين والحاء والخاء والهمزة والهاء ومن هذه
الأحرف ما لا يجوز فيه الاخفاء وهي العين كقوله: " من عندلله " و " من

(1) سسورة الجاثية آية 22
(2) سورة الأعراف آية 43
65

عليها " والهمزة نحو قوله: " غثاء أحوى " (1) والخاء والغين يجوز إخفاؤهما
عندهم على ضعف فيه من قوله: " والمنخنقة " و (نارا خالدا) (فان خفتم)
(من خلفهم) و (ميثاقا غليظا) (2) (ماء غدقا) (3) (قولا غير الذي) (4)
قال الفراء: أهل العراق يبينون وأهل الحجاز يخفون وكل صواب
فان قيل: إذا قلتم: ان الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم
فكيف يكونون قادرين على الايمان؟ قيل: يكونون عليه لان الختم والغشاوة
ليسا بشئ يفعلهما الله تعالى في القلب والعين يصد بهما عن الايمان ولكن الختم
شهادة على ما فسرناه من الله عليهم بأنهم لا يؤمنون وعلى قلوبهم بأنها لا تعي
الذكر ولا تعي الحق وعلى اسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق وهذا إخبار عمن
يعلم منه أنه لا يؤمن والغشاوة هي " إلفهم الكفر بحبهم له " (5) ولم يقل تعالى:
إنه جعل على قلوبهم بل أخبر انه كذلك ومن قرأ بالنصب - وإن كان شاذا - يحتمل
أن يكون أراد معنى قوله: ان السورة زادتهم رجسا إلى رجسهم والسورة لم
تزدهم ولكنهم ازدادوا عندها وسنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
(ولهم عذاب عظيم) تقديره: ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب
عظيم وحكي ذلك عن ابن عباس وأصل العذاب الاستمرار بالشئ يقال: عذبه
تعذيبا: إذا استمر به الألم وعذب الماء عذوبة: إذا استمر في الحلق وحمار عاذب
وعذوب: إذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش وفرس عذوب مثل ذلك
والعذوب الذي ليس بينه وبين السماء ستر وأعذبته عن الشئ بمعنى فطمته وعذبة
السوط طرفه والعذاب استمرار الألم
وأصل العظم عظم الشخص ومنه عظيم الشأن الغني بالشئ عن غيره

(1) سورة الاعلى آية 5
(2) سورة النساء آية 20 و 153
(3) سورة الجن: آية 16
(4) سورة البقرة: آية 59
(5) في الأصل بياض وفي النسخة الإيرانية احتمالات استنتجنا منها العبارة الموجودة
66

وعظمة الله تعالى كبرياؤه والعظام من العظم لأنه من أكبر ما يركب منه البدن
قوله تعالى:
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين آية
التفسير:
(من) لفظ يخبر به عن الواحد من العقلاء واثنين وجماعة فلما قال: (وما هم
بمؤمنين) دل على أنه أراد الجمع وإنما قال: (يقول) بلفظ الواحد حملا له على
اللفظ قال الشاعر:
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وقيل في معنى الناس وجهان:
أحدهما - أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه واحدهم إنسان والأنثى انسانة
والثاني - أن أصله: أناس فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخلها
الألف واللام للتعريف ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل: (لكنا هو
الله) واصله: لكن انا
وقال بعضهم: ان الناس لغة غير أناس وإلا لقيل في التصغير: أنيس ردا
إلى أصله
واشتقاقه من النوس: وهو الحركة ناس ينوس نوسا: إذا تحرك والنوس:
تذبذب الشئ في الهواء ومنه نوس القرط في الاذن لكثرة حركته
ولا خلاف بين المفسرين ان هذه الآية وما بعدها نزلت في قوم من المنافقين
من الأوس والخزرج وغيرهم وروي ذلك عن ابن عباس وذكر أسماءهم ولا فائدة
في ذكرها وكذلك ما بعدها إلى قوله: وما كانوا مهتدين) كلها في صفه هؤلاء
المنافقين والمنافق هو الذي يظهر الاسلام بلسانه وينكره بقلبه
واليوم الآخر هو يوم القيامة وإنما سمي يوم القيامة اليوم الآخر لأنه يوم
لا يوم بعده سواه وقيل: لأنه بعد أيام الدنيا وأول أيام الآخرة فان قيل:
67

كيف لا يكون بعده يوم ولا انقطاع للآخرة ولا فناء؟ قيل: اليوم في الآخرة
سمي يوما بليلته التي قبله فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوما فيوم القيامة يوم
لا ليل بعده فلذلك سماه اليوم الآخر
وإنما قال: (وما هم بمؤمنين) مع قوله: (.. من يقول آمنا بالله) تكذيبا
لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الايمان والاقرار بالبعث والنبوة فبين ان ما
قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم وذلك يدل على أن الايمان لا يكون مجرد
القول على ما قالته الكرامية
(يقول) من القول ومنه: تقول إذا تخرص القول واقتال فهو مقيال:
إذا أخذ نفعا إلى نفسه بالقول أو دفع به ضررا عنها والمقول اللسان يقوله تقويلا
إذا طالبه باظهار القول
قوله تعالى:
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما
يشعرون آية
القراءة:
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وبضم الياء وبألف الباقون بفتح الياء بلا
الف في قوله (وما يخدعون)
اللغة:
قال أبو زيد: خدعت الرجل أخدعه خدعا بكسر الخاء وخديعة ويقال في
المثل: إنك لا خدع من ضب حرشته وقال ابن الاعرابي: الخادع: الفاسد
من الطعام ومن كل شئ وأنشد:
ابيض اللون لذيذا طعمه * طيب الريق إذا الريق خدع
اي تغير وفسد وقال أبو عبيدة: يخادعون بمعنى يخدعون قال الشاعر:
وخادعت المنية عنك سرا * فلا جزع الاوان ولا رواعا
68

التفسير:
وخداع المنافق إظهاره بلسانه من القول أو التصديق خلاف ما في قلبه
من الشك والتكذيب وليس لاحد ان يقول: كيف يكون المنافق لله ولرسوله
وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ وذلك أن
العرب تسمي من اظهر بلسانه غير ما في قلبه لينجو مما يخافه مخادعا لمن تخلص
منه بما اظهر له من التقية فلذلك سمي المنافق مخادعا من حيث إنه نجا من اجراء
حكم الكفر عليه بما أظهره بلسانه فهو وإن كان مخادعا للمؤمنين فهو لنفسه مخادع
لأنه يظهر لها بذلك أنه يعطيها أمنيتها وهو يوردها بذلك أليم العذاب وشديد
الوبال فلذلك قال: " وما يخدعون إلا أنفسهم "
وقوله: " وما يشعرون " يدل على بطلان قول من قال: إن الله لا يعذب
إلا من كفر عنادا بعد علمه بوحدانيته ضرورة " لأنه أخبر عنهم بالنفاق وبأنهم
لا يعلمون ذلك والمفاعلة وإن كانت تكون من اثنين من كل واحد منهما
لصاحبه مثل ضاربت وقاتلت وغير ذلك فقد ورد من هذا الوزن " فاعل "
بمعنى (فعل) مثل: قاتله الله وطابقت النعل وعافاه الله وغير ذلك وقد
حكينا أن معناه: يخدعون كما قال في البيت المقدم وقيل: إنه لم يخرج بذلك
عن الباب ومعناه: ان المنافق يخادع الله بكذبه بلسانه على ما تقدم والله يخادعه
بخلافه بما فيه نجاة نفسه كما قال: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) (1)
وحكي عن الحسن ان معنى يخادعون الله انهم يخدعون نبيه لان طاعته طاعة الله
ومعصيته معصية الله كما قال: (وان يريدوا ان يخدعوك) (2) وقيل معناه: انهم
يعملون عمل المخادع كما يقال فلان يسخر من نفسه ومن قرأ (وما يخادعون)
بألف طلب المشاكلة والازدواج كما قال: (وان عاقبتم فعاقبوا) (3) وكما قال:

(1) سورة آل عمران: آية 178
(2) سورة الأنفال: آية 63
(3) سورة النحل: آية 12
69

(وجزاء سيئة سيئة مثلها) (1) وكما قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال تعالى: (فيسخرون منهم سخر الله منهم) (2) ومثله كثير وقيل في
حجة من قرأ يخادعون بألف هو ان ينزل ما يخطر بباله ويهجس في نفسه من
الخداع بمنزلة آخر يجازيه ذلك ويفاوضه فكأن الفعل من اثنين كما قال الشاعر وذكر
حمارا أراد الورود:
تذكر من أنى ومن أين شربه * يؤامر نفسية كذي الهجمة الإبل (3)
فجعل ما يكون منه من وروده الماء والتمثل بينهما بمنزلة نفسين وقال الآخر:
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وعلى هذا قول من قرأ: (قال إعلم ان الله على كل شئ قدير) فوصل
فخاطب نفسه ونظائر ذلك كثيرة وإنما دعاهم إلى المخادعة أمور
أحدها - التقية وخوف القتل
والثاني - ليكرموهم إكرام المؤمنين
الثالث - ليأنسوا إليهم في اسرارهم فينقلوها إلى أعدائهم والخداع مشتق
من الخدع وهو اخفاء الشئ مع ايهام غيره ومنه المخدع: البيت الذي يخفى فيه
الشئ فان قيل: أليس الكفار قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم حتى حقنوا
بذلك دماءهم وأموالهم - وان كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم - قيل: لا نقول
خدعوا المؤمنين لأن اطلاق ذلك يوجب حقيقة الخديعة لكن نقول: خادعوهم
وما خدعوهم بل خدعوا أنفسهم كما قال في الآية ولو أن انسانا قاتل غيره
فقتل نفسه جاز أن يقال: انه قاتل فلانا فلم يقتل إلا نفسه فيوجب مقاتلة
صاحبه وينفي عنه قتله
والنفس مأخوذة من النفاسة لأنها أجل ما في الانسان تقول: نفس

(1) سورة الشورى: آية 40
(2) سورة التوبة: آية 80
(3) في الطبعة الإيرانية نفسه بدل نفسية
70

ينفس نفاسة: إذا ضن به وتنافسوا في الامر: إذا تشاحوا والنفس: والروح
ونفس عنه تنفيسا: إذا روح عن نفسه والنفس: والدم ومنه النفساء ونفست
المرأة والنفس: خاصة الشئ قوله: " وما يشعرون " يعني وما يعلمون يقال
ما شعر فلان بهذا الامر وهو لا يشعر به إذ لم يدر شعرا وشعورا ومشعورا
قال الشاعر:
عقوا بسهم فلم يشعر به أحد * ثم استفاءوا وقالوا حبذا الوضح (1)
يعني: لم يعلم به أحد واصل الشعر: الدقة شعر به يشعر: إذا اعلمه بأمر
يدق ومنه الشعيرة والشعير لان في رأسهما كالشعر في الدقة والمشاعر: العلامات
في مناسك الحج كالموقف والطواف وغيرهما وأشعرت البدنة إذا أعلمتها على أنها
هدي والشعار ما يلي الجسد لأنه يلي شعر البدن
الاعراب:
(إلا أنفسهم) نصب على الاستثناء
قوله تعالى:
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا
يكذبون - آية
القراءة:
امال الزاي ابن عامر والحلواني وحمزة وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء
يكذبون مخففا
اللغة والتفسير:
يقال زاد يزيد زيادة (2) وقال الشاعر
كذلك زيد المرء بعد انتقاصه

(1) في الطبعة الإيرانية بدل (عقوا) عفوا وبدل (استفاءوا) استقادوا وبدل (وقالوا) فقالوا
(2) وزيدا وزيدا وزيدا ومزيدا وزيدانا
71

و (زدت) فعل يتعدى إلى مفعولين قال تعالى (وزدناهم هدى وزدناهم
عذابا فوق العذاب) وزاده بسطة في العلم والجسم وقوله (فزادهم ايمانا) والمعنى:
زادهم فوق الناس لهم ايمانا اضمر المصدر في الفعل واسند الفعل إليه كما قال
(ما زادهم إلا نفورا) (1) أي ما زادهم مجئ النذير والمعنى ازدادوا عنده
وقال أبو عبيدة المرض الشك والنفاق وقيل في قوله فيطمع الذي في قلبه
مرض) أي فجور وقال سيبويه: مرضته قمت عليه ووليته وأمرضته:
جعلته مريضا
وقيل إن المرض الغم والوجع من الحسد والعداوة لكم (فزادهم الله مرضا)
دعاء عليهم كما قال تعالى: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم) (2) واصل
المرض: السقم في البدن فشبه ما في قلوبهم من النفاق والشك بمرض الأجساد
والأليم بمعنى المؤلم الموجع: فعيل بمعنى مفعل: مثل بديع بمعنى مبدع ومكان حريز بمعنى محرز فال ذو الرمة:
يصك وجوهها وهج اليم
فان قيل إذا كان معنى قوله: (في قلوبهم مرض) أي شك ونفاق ثم قال:
(فزادهم الله مرضا) ثبت ان الله يفعل الكفر بخلاف ما تذهبون إليه قيل:
ليس الامر على ما ذكرتم بل معناه: إن المنافقين كانوا كلما أنزل الله آية أو سورة
كفروا بها فازدادوا بذلك كفرا إلى كفرهم وشكا إلى شكهم فجاز لذلك أن
يقال: فزادهم الله مرضا لما ازدادوا هم مرضا عند نزول الآيات: ومثل ذلك
قوله حكاية عن نوح: (رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي
إلا فرارا) (3) وهم الذين ازدادوا فرارا عند دعائه: ومثل قوله: (فزادهم
رجسا إلى رجسهم) (4) وإنما أراد انهم ازدادوا عند نزول الآية وكقوله:

(1) سورة فاطر آية 42
(2) سورة التوبة آية 128
(3) سورة نوح آية 6
(4) سورة التوبة آية 126
72

(فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري) (1) والمؤمنون ما أنسوهم ذكر الله
بل كانوا يدعونهم إليه تعالى لكن لما نسوا ذكر الله عند ضحكهم من المؤمنين
اتخاذهم إياهم سخريا جاز أن يقال: إن المؤمنين أنسوهم ويقول القائل
لغيره إذا وعظه فلم يقبل نصيحته: قد كنت شريرا فزادتك نصيحتي شرا وإنما
يريد أنه ازداد عنده فلما كان المنافقون فقد مرضت قلوبهم بما فيها من الشك
ثم ازدادوا شكا وكفرا عندما كان تجدد من امر الله ونهيه وما ينزل من آياته
جاز أن يقال: (فزادهم الله مرضا) فان قيل: فعلى هذا ينبغي أن يكون انزال
الآيات مفسدة لأنهم يزدادون عند ذلك الكفر قلنا: ليس حد المفسدة ما وقع
عنده الفساد وإنما المفسدة ما وقع عندها الفساد ولولاها لم يقع ولم يكن
تمكينا وهذا تمكين لهم من النظر في معجزاته ودلائله فلم يكن استفسادا ولو
كان الامر على ما قالته المجبرة: إن الله يخلق فيهم الكفر لقالت الكفار ما ذنبنا
والله تعالى يخلق فينا الكفر ويمنعنا من الايمان فلم تلوموننا على ما فعله الله؟
فتكون الحجة لهم لا عليهم وذلك باطل والتقدير في الآية في اعتقاد قلوبهم الذي
يعتقدونه في الدين والتصديق بنبيه مرض وحذف المضاف واقام المضاف إليه مقامه
قال الشاعر
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك * ان كنت جاهلة بما (2) لم تعلمي
يعني أصحاب الخيل كما قال: (يا خيل الله اركبي) يعني يا أصحاب خيل الله
وكما قال تعالى: (واسأل القرية) (3) وإنما أراد أهلها وروي عن ابن عباس أن
المرض المراد به الشك والنفاق وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد
والكذب ضد الصدق وهو الاخبار عن الشئ لا على هو به يقال
كذب يكذب كذبا وكذابا - خفيف وثقيل - مصدران والكذب كالضحك
والكذاب كالكتاب والاكذاب: جعل الفاعل على صفة الكذب والتكذب: التحلي

(1) سورة الأحزاب: آية 111
(2) في الطبعة الإيرانية (لما)
(3) سورة يوسف: آية 82
73

بالكذب وجهة من ضم الياء شدد الذال أنه ذهب إلى أنهم استحقوا العذاب
بتكذيبهم النبي - صلى الله عليه وآله - وبما جاء به ومن فتح الياء وخفف الذال
قدر المضاف كأنه قال: بكذبهم وهو أشبه بما تقدم وهو قولهم: (آمنا بالله
وباليوم الآخر) (1) فأخبر الله عنهم فقال: (وما هم بمؤمنين) ولذلك يحمد
تكذيبهم وادخل كان ليعلم ان ذلك كان فيما مضى كقول القائل: ما أحسن
ما كان زيدا وقال بعض الكوفيين: لا يجوز ذلك لان حذف كان إنما أجازوه
في التعجب لان الفعل قد تقدمها فكأنه قال حسنا كان زيد ولا يجوز ذلك
ههنا لان كان تقدمت الفعل
قوله تعالى:
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون آية
القراءة:
رام ضم القاف فيها وفي أخواتها الكسائي وهشام ورويش (2) ووافقهم ابن
ذكوان في السين والحاء مثل: حيل وسيق وسيئت ووافقهم أهل المدينة في
سيق وسيئت فمن ضم ذهب إلى ما حكي عن بعض العرب: قد قول وقد بوع
المتاع بدل قيل وبيع ومن كسرها قال: لان ياء الساكنة لا تكون بعد حرف
مضموم ومن أشم قال: أصله قول فاستثقلت الضمة فقلبت كسرة واشمت
ليعلم ان الأصل كانت ضمة
المعنى:
وروي عن سلمان - رحمه الله - أنه قال: لم يجئ هؤلاء وقال أكثر
المفسرين: إنها نزلت في المنافقين الذين فيهم الآيات المتقدمة وهو الأقوى ويجوز
أن يراد بها من صورتهم صورتهم فيحمل قول سلمان - رحمه الله - على أنه

(1) سورة البقرة: آية 8
(2) لم نعثر على هذا الاسم في كتب الرجال ولعله ورش
74

أراد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية
ومعنى قولهم له: (إنما نحن مصلحون) يحتمل أمرين:
أحدهما - ان يقول: إن هذا الذي عندكم فساد هو صلاح عندنا لأنا
إذا قابلناهم استدعيناهم إلى الحق في الدين
والثاني - أن يجحدوا ذلك البلاغ
والافساد مأخوذ من الفساد: وهو كلما يغير عن استقامة الحال تقول:
فسد يفسد فسادا والافساد: إحداث الفساد والمفاسدة: المعاملة بالفساد والتفاسد:
تعاطي الفساد بين اثنين والاستفساد المطاوعة على الفساد لا تفسدوا في الأرض
فيقولون إنما نحن مصلحون ويقال لهم: آمنوا كما آمن الناس فيقولون أنؤمن
كما آمن السفهاء؟ فليس هؤلاء منافقين بل مظهرون لكفرهم والآية في المنافقين
قيل: المنافقون وإن كانوا يظهرون الايمان للنبي - صلى الله عليه وآله - فإنهم كانوا
لا يألون المسلمين خبالا وكانوا يثبطون عن النبي صلى الله عليه وآله ويدعون إلى ترك نصرته
من يثقون باستماعهم منهم ومن يظنون ذلك به فربما صادفوا من المؤمنين التقي
فيجيبهم بما ذكر الله فإذا أخبر أولئك النبي - صلى الله عليه وآله - ثم
ذكروا له (1) ما قالوا وعاتبهم النبي صلى الله عليه وآله عادوا إلى إظهار الايمان والندم عليه
أو كذبوا قائله والحاكي عنهم وكان لا يجوز في الدين إلا قبول ذلك منهم بما
يظهرون وخاصة في صدر الاسلام والحاجة إلى تألف قلوبهم ماسة (2) ومن
قرأ الاخبار تبين صحة ما قلناه
والافساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله عنه وتضييع ما أمر الله
بحفظه كما قال تعالى حاكيا عن الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها)؟ (3) يعنون
من يعصيك ويخالف امرك وهذه صفة المنافقين
والأرض: هي المستقر للحيوان ويقال لقوائم البعير: أرض وكذلك

(1) في الطبعة الإيرانية: ثم ذكروه ولعل الصحيح ما ذكرنا
(2) في الطبعة الإيرانية (ماسة) ضرب عليها ولعل وجودها أصح
(3) سورة البقرة: آية 30
75

الفرس ان قوي والأرض: الرعدة وقال ابن عباس: ما أدري إذا زلزلت
الأرض لم بي أرض؟ أي رعدة والأرضة: دويبة تأكل الخشب
والصلاح: استقامة الحال فالاصلاح: جعل الحال على الاستقامة والاصطلاح
الاجتماع والتصالح: التمالي على الصلاح ومنه المصالحة والاستصلاح والصالح:
والمستقيم الحال والمصلح: المقوم للشئ على الاستقامة
قوله تعالى:
ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون آية
التفسير:
ألا: فيها تنبيه ومعناها لاستفتاح الكلام ومثله: ألا ترى؟ أما تسمع؟
وأصلها (لا) دخل عليها ألف الاستفهام والألف إذا دخل على الجحد أخرجه
إلى الايجاب نحو قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)؟ لأنه لا يجوز
للمجيب إلا الاقرار ببلى
والهاء والميم في موضع النصب بأن وهم فصل عند البصريين ويسميه
الكوفيون عمادا وقوله (لا يشعرون) قد فسرناه (1) وفيها دلالة على من
قال: بان الكفار معاندون عالمون بخطاياهم وان المعرفة مزورة ووصفهم بأنهم
(هم المفسدون) لا يمنع من وصف غيرهم بأنه مفسد لان ذلك دليل الخطاب
وحكي عن ابن عباس: أن معنى قوله (إنما نحن مصلحون) إنما يريد الاصلاح
بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب وحكي عن مجاهد انهم إذا ركبوا معصية
الله قيل لهم: لا تفعلوا هذا قالوا: إنما نحن مصلحون أي: إنما نحن على الهدى
وكلا الامرين محتمل لأنهما جميعا عندهم أنه إصلاح في الدين وإن كان ذلك إفسادا
عند الله ومن حيث أنه خلاف لما أمرهم به وإنما جاز تكليف ما لا يشعر أنه
على ظلال لان له طريقا إلى العلم

(1) في قوله: " يخادعون الله. " تتمة الآية
76

قوله تعالى
وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء
ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون آية
قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بتحقيق الهمزتين وكذلك كل همزتين مختلفتين
من كلمتين الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية
المعنى:
المعني بهذه الآية هم الذين وصفهم تعالى بأنهم يقولون: " آمنا بالله وباليوم
الآخر وما هم بمؤمنين "
والمعنى إذا قيل لهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وبما جاء من عند الله كما آمن به
الناس يعني المؤمنين حقا لان الألف واللام ليسا فيه للاستغراق بل دخلا
للعهد فكأنه قيل: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم باليقين والتصديق بالله
ونبيه - صلى عليه وآله - وبما جاء به من عند الله
والألف في قوله: (أنؤمن) ألف إنكار وأصلها الاستفهام ومثله
(أتطعم من لو يشاء الله أطعمه) (1) وكقول القائل: أأضيع ديني وأثلم مروءتي؟
وكل هذا جواب لكن قد وضع السؤال فيه وضعا فاسدا لوصفهم ان الذين
دعوا إليهم سفهاء
وموضع (إذا) نصب وتقديره: قالوا إذا قيل لهم ذلك أنؤمن فالعامل
فيه قالوا
والسفهاء جميع سفيه مثل: علماء وعليم وحكماء وحكيم والسفيه: الضعيف
الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار ولذلك سمى الله الصبيان سفهاء
بقوله: (لا تؤتوا السفهاء أموالكم) (2) فقال عامه أهل التأويل هم النساء والصبيان
لضعف آرائهم وأصل السفه: خفة الحلم وكثرة الجهل يقال: ثوب سفيه إذا

(1) سورة يس: آية 47
(2) سورة النساء: آية 4
77

كان رقيقا باليا وسفهته الريح: إذا طيرته كل مطير وفي اخبارنا أن شارب الخمر
سفيه فأمر الله تعالى أن يؤمنوا كما آمن المؤمنين المستبصرون فقالوا: أنؤمن
كما آمن الجهال ومن لا رأي له ومن لا عقل له كالصبيان والنساء فحكم الله عليهم
حينئذ بأنهم السفهاء باخباره عنهم بذلك وهو من تقدم ذكره من المنافقين
والسفيه إنما سمي مفسدا من حيث إنه يفسد من حيث يظن أنه يصلح
ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ وكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن أنه
يطيع ويكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به والألف واللام في السفهاء للعهد
كما قلناه في الناس
وهذه الآية أيضا فيها دلالة على من قال: إن الكافر لا يكون إلا معاندا
لأنه قال: (ولكن لا يعلمون)
قوله تعالى:
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا
إنا معكم إنما نحن مستهزئون - آية
القراءة
قرئ في الشواذ وإذا لا قوا الذين قرأها اليماني وفى القراء من همز
" مستهزئون " ومنهم من ترك الهمزة
المعنى:
حكي عن ابن عباس أنه قال: هذه في صفة المنافقين فكان الواحد منهم إذا
لقي أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله - قال إنا معكم - أي على دينكم - وإذا خلوا
إلى شياطينهم - يعني أصحابهم - قالوا إنما نحن مستهزئون - يعني نسخر منهم
يقال خلوت إليه وخلوت معه ويقال خلوت به على ضربين: أحدهما - بمعنى
خلوت معه والآخر - بمعنى سخرت منه وخلوت إليه في قضاء الحاجة لا غير
وخلوت به له معنيان: أحدهما - هذا والآخر - سخرت منه قال الأخفش:
78

رقد تكون " إلى " في موضع الباء " وعلى " في موضع عن وأنشد:
إذا رضيت علي بنو قشير * لعمر الله أعجبني رضاها
فعلى هذا يحتمل أن تكون الآية: (خلوا مع..) وقال الرماني: الفرق
بين اللقاء والاجتماع أن اللقاء لا يكون إلا على وجه المجاورة والاجتماع قد
يكون كاجتماع العزمين في محل وقد بينا معنى الشيطان فيما مضى (1) معكم
(ومعكم) - بفتح العين وسكونها - لغتان
وترك الهمزة في (مستهزئون) لغة قريش وعامة غطفان وكنانة بعضها
يجعلها بمنزلة (يستقصون ويستعدون) بحذفها وبعض بني تميم وقيس يشيرون
إلى الزاء بالرفع بين الرفع والكسر وهذيل وكثير من تميم يخففون الهمزة
وقال بعض الكوفيين: إن معنى (إذا خلوا): إذا انصرفوا خالين فلأجل
ذلك قال: إلى شياطينهم على المعنى وهو مليح وقيل: إن شياطينهم: رؤساؤهم
وقيل: أريد بهم أصحابهم من الكفار وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أنهم
كهانهم
والاستهزاء: طلب الهزء بايهام أمر ليس له حقيقة في من يظن فيه الغفلة
والهزء: ضد الجد يقال هزئ به هزء والتهزي: طلب الهزء: بالشئ وغرضهم كان
بالاستهزاء مع علمهم بقبحه حقن دمائهم باظهار الايمان وإذا خلوا إلى شياطينهم
كشفوا ما في نفوسهم
قوله تعالى:
الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون - آية
الاعراب:
الله: رفع بالابتداء وخبره: يستهزئ بهم

(1) مر في الاستعاذة
79

المعنى:
والله تعالى لا يجوز عليه حقيقة الاستهزاء لأنها السخرية على ما بيناه ومعناها
من الله هو الجزاء عليها وقد يسمى الشئ باسم جزائه كما يسمى الجزاء باسم ما
يستحق به كما قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (1) وقال: (ومكروا
ومكر الله) (2) وقال: (وان عاقبتم فعاقبوا) (3) والأول ليس بعقوبة والعرب
تقول: الجزاء بالجزاء والأول ليس بجزاء (والبيت الأول شاهد بذلك) (؟) وقيل
إن استهزاءهم لما رجع عليهم جاز أن يقول عقيب ذلك: (الله يستهزئ بهم)
يراد به ان استهزاءهم لم يضر سواهم وانه (دبر) (4) عليهم وأهلكهم يقول
القائل: أراد فلان أن يخدعني فخدعته: أي دبر علي امرا فرجع ضرره عليه
وحكي عن بعض من تقدم أنه قال إذا تخادع لك انسان ليخدعك فقد خدعته
وقيل أيضا: إن الاستهزاء من الله: الاملاء الذي يظنونه إغفالا وقيل: إنه
لما كان ما أظهره من اجراء حكم الاسلام عليهم في الدنيا بخلاف ما أجراه عليهم في
الآخرة من العقاب وكانوا فيه على اغترار به كان كالاستهزاء وروي في الاخبار
أنه يفتح لهم باب جهنم فيظنون أنهم يخرجون منها فيزدحمون للخروج فإذا
انتهوا إلى الباب ردتهم الملائكة حتى يرجعوا فهذا نوع من العقاب وكان
الاستهزاء كما قال الله تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا فيها من غم أعيدوا فيها) (5)
وقوله (يمدهم) حكي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: معناه يملي لهم بأن
يطول أعمارهم وقال مجاهد: يزيدهم وقال بعض النحويين يمدهم كما يقولون نلعب
الكعاب: أي بالكعاب وحكي أن مد وأمد لغتان وقيل مددت له وأمددت له
يقال مد البحر فهو ماد وأمد الجرح فهو ممد قال الجرمي: ما كان من الشر فهو

(1) سورة الشورى: آية: 40
(2) سورة آل عمران: آية 54
(3) سورة النحل: آية 126 "؟ "
(4) في الطبعة الإيرانية (دمر) بدل " دبر " وما ذكر في المتن هو الصحيح بقرينة
ما يأتي من قوله: ".. دبر علي أمرا "
(5) سورة الحج: آية 22
80

مددت وما كان من الخير فهو أمددت فعلى هذا إن أراد تركهم فهو من
مددت وإذا أراد اعطاءهم يقال أمدهم وقرئ في الشواذ: ويمدهم - بضم الياء
وقال بعض الكوفيين كل زيادة حدثت في الشئ من نفسه فهو مددت - بغير
ألف - كما يقولون مد النهر ومده نهر آخر فصار منه إذا اتصل به وكل
زيادة حدثت في الشئ من غيره فهو أمددت - بألف - كما يقال أمد الجرح
لان المدة (1) من غير الجرح وأمددت الجيش
وأقوى الأقوال أن يكون المراد به نمدهم على وجه الاملاء والترك لهم في
خيرهم كما قال: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) (2) وكما قال: (ويمدهم في
طغيانهم يعمهون) يعني يتركهم فيه والطغيان: الفعلان من قولك طغى فلان
يطغى طغيانا إذا تجاوز حده ومنه قوله: (كلا إن الانسان ليطغى) (3)
أي يتجاوز حده والطاغية: الجبار العنيد وقال أمية بن أبي الصلت:
ودعا الله دعوة لات هنا * بعد طغيانه فظل (4) مشيرا
يعني لا هنا ومعناه في الآية: في كفرهم يترددون والعمه: التحير
يقال: عمه يعمه عمها فهو عمه وعامه: أي حائر عن الحق قال رؤبة:
ومهمة أطرافه في مهمه * أعمى الهدى بالحائرين (5) العمة
جمع عامه فان قيل: كيف يخبر الله أنه يمدهم في طغيانهم يعمهون وأنتم
تقولون: إنما أبقاهم ليؤمنوا لا ليكفروا وانه أراد منهم الايمان دون الكفر؟
قيل معناه: أنه يتركهم وما هم فيه لا يحول بينهم وبين ما يفعلونه ولا يفعل بهم

(1) المدة: ما يجتمع في الجرح من القيح
(2) سورة آل عمران: آية 178
(3) سورة العلق: آية 6
(4) في الطبعة الإيرانية " فصار " بدل فضل والبيت في ديوان أمية و " لات هنا "
كلمة ثدور في كلامهم يريدون بها: " ليس هذا حين ذلك " و " هنا " مفتوحة الهاء مشددة
النون مثل " هنا مضمومة الهاء مخففة النون
(5) الصحيح ما ذكرنا وفي الطبعة الإيرانية " فالحائرين " وفي تفسير الطبري نقلا عن
ديوان رؤبة بالجاهلين
81

من الألطاف التي يؤتيها المؤمنين فيكون ذلك عقوبة لهم واستصلاحا ونظير
ذلك قول القائل لأخيه إذا هجره أخوه متجنيا عليه إذا استعتبه فلم يراجعه:
سأمد لك في الهجران مدا يريد سأتركك وما صرت إليه تركا ينبهك على قبح فعلك
لا أنه يريد بذلك أن يهجره أخوه ولكن على وجه الغضب والاستصلاح والتنبيه
قوله تعالى
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما
كانوا مهتدين آية
القراءة:
ضم جميع القراء الواو من (اشتروا الضلالة) وروى السوخردي عن زيد
ابن إسماعيل بتخفيف ضمة الواو وكذلك نظائره نحو: (لنبلون) (فتمنوا
الموت) وروى عن يحيى بن يعمر في الشواذ أنه كسرها شبهها بواو: (لو)
في قوله: (لو استطعنا لخرجنا) (1) وضم يحيى بن وثاب واو (لووا) وفيما
ذكرناه شبهها بواو الجمع والصحيح ما عليه القراء لان الواو في الآية ونظائرها
واو الجمع فحركت بالحركة التي من جنسها لالتقاء الساكنين
المعنى:
وهذه الآية الإشارة بها إلى من تقدم ذكره من المنافقين وقال ابن عباس
اشتروا الكفر بالايمان وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى وقال ابن مسعود:
اخذوا الضلالة وتركوا الهدى وقال مجاهد آمنوا ثم كفروا وهذه الأقوال
متقاربة المعاني فان قيل كيف اشتروا هؤلاء القوم الضلالة بالهدى وإنما كانوا
منافقين لم يتقدم نفاقهم ايمان؟ فيقال فيهم باعوا ما كانوا عليه بضلالتهم التي
استبدلوها منه والمفهوم من الشراء اعتياض شئ يبذل شئ مكانه عوضا منه
وهؤلاء ما كانوا قط على الهدى

(1) سورة التوبة: آية 43
82

قلنا: من قال: بان الآية مخصوصة بمن كفر بعد إيمانه فقد تخلص من هذا
السؤال غير أن هذا لا يصح عندنا من أن من آمن بالله لا يجوز أن يكفر
وان حملنا على اظهار الايمان لم يكن في الآية توبيخ ولا ذم والآية تتضمن
التوبيخ على ما هم عليه لأنها إشارة إلى ما تقدم وتلك صفات المنافقين والجواب
عن ذلك ان نقول: إن من ارتكب الضلالة وترك الهدى جاز ان يقال ذلك فيه
ويكون معناه: كان الهدى الذي تركه هو الثمن الذي جعله عوضا عن الضلالة التي
أخذها فيكون المشتري أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به كما قال الشاعر:
أخذت بالجمة رأسا أزعرا * وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا جيدرا * كما اشترى المسلم إذ تنصرا (1)
ومنهم من قال: استحبوا الضلالة على الهدى إنما قال ذلك لقوله تعالى (واما
ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (2) فحمل هذه الآية عليه ومن
حملها على أنهم اختاروا الضلالة على الهدى فان ذلك مستعمل في اللغة يقولون اشتريت
كذا على كذا واشتريته يعنون اخترته قال أعشى بني ثعلبة
فقد اخرج الكاعب المسترا (3) * ة من خدرها وأشيع القمارا
يعني: المختارة قال ذو الرمة في معنى الاختيار:
يذب القصايا عن شراة كأنها * جماهير تحت المدجنات الهواضب (4)
وقال آخر:

(1) زعر الشعر فهو زعر وازعر: قل وتفرق
الدردر: مغارز أسنان الصبي أو هي قبل نباتها وبعد سقوطها الجيدر: القصير والمراد قصير العمر
(2) سورة حم السجدة: آية 17
(3) في الطبعة الإيرانية " المشتراة " وكذلك في مخطوطة تفسير الطبري اما في ديوانه 35
وطبقات فحول الشعراء 36 واللسان " سرا " فكما ذكرنا
(4) ديوانه يذب: يدفع ويطرد والقصايا: وهي من الإبل ورذالتها ضعفت فتخلفت
وجماهير ج جمهور: وهو رملة مشرفة على ما حولها والهواضب: التي دام مطرها والمدجنات من
سحابة داجنة: أي كثيفة
83

إن الشراة روفة الأموال * وحزرة القلب خيار المال (1)
والأول أقوى لقوله: (فما ربحت تجارتهم) فبين ان ذلك بمعنى الشراء
والبيع الذي بتعارفه الناس والربح - وان اضافه إلى التجارة - فالمراد به التاجر
لأنهم يقولون ربح: بيعك وخسر بيعك وذلك يحسن في البيع والتجارة لان الربح
والخسران يكون فيهما ومتى التبس فلا يجوز إطلاقه لا يقال: ربح عبدك إذا أراد
ربح في عبده لان العبد نفسه قد يربح ويخسر فلما أوهم لم يطلق دلك فيه
وقيل: إن المراد فما ربحوا في تجارتهم كما يقال: خاب سعيك: أي خبت
في سعيك وإنما قال ذلك لان المنافقين بشرائهم الضلالة خسروا ولم يربحوا لان
الرابح من استبدل سلعة بما هو أرفع منها فاما إذا استبدلها بما هو أدون منها فإنما
يقال خسر فلما كان المنافق استبدل بالهدى الضلالة وبالرشاد الخيبة عاجلا وفي
الآخرة الثواب بالعقاب كان خاسرا غير رابح وإنما قال: " وما كانوا مهتدين "
لأنه يخسر التاجر ولا يربح ويكون على هدى فأراد الله تعالى أن ينفي عنهم
الربح والهداية فقال: " فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين " باستبدالهم الكفر
بالايمان واشترائهم النفاق بالتصديق والاقرار بها فان قيل: لم قال: فما ربحت
تجارتهم في موضع ذهبت رؤوس أموالهم؟ قيل: لأنه قد ذكر الضلالة بالهدى
فكأنه قال: طلبوا الربح فما ربحوا لما هلكوا وفيه معنى ذهبت رؤوس أموالهم
ويحتمل أن يكون ذلك على التقابل: وهو ان الذين اشتروا الضلالة بالهدى
لم يربحوا كما أن الذين اشتروا الهدى بالضلالة ربحوا قوله تعالى:
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله
بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون آية
اللغة:
إن قيل: كيف قال: (مثلهم) أضاف المثل إلى الجمع ثم شبهه بالواحد في

(1) في الطبعة الإيرانية: " الشراء " يدل " الشراة " وحوزة بدل " حزرة " والصحيح
ما ذكرنا كما عن اللسان في مادة " حزر " وروقة الناس: خيارهم وحزرة نفسي: خير ما عندي
84

قوله: كمثل الذي استوقد نارا " هلا قال كمثل الذين استوقدوا نارا
يكني به عن جماعة من الرجال والنساء والصبيان والذي لا يعبر به إلا عن واحد
مذكر ولو جاز ذلك لجاز أن يقول القائل: كأن أجسام هؤلاء - ويشير إلى جماعة
عظيمي القامة - نخلة وقد علمنا أن ذلك لا يجوز؟ قلنا: في الموضع الذي
جعله مثلا لأفعالهم جائز حسن وله نظائر كقوله: " تدور أعينهم كالذي يغشى
عليه من الموت " (1) والمعنى: كدور أعين الذي يغشى عليه من الموت وكقوله
" ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " (2) ومعناه إلا كبعث نفس واحدة
لان التمثيل وقع للفعل بالفعل وأما في تمثيل الأجسام لجماعة من الرجال في تمام
الخلق والطول بالواحد من النخيل فغير جائز ولا في نظائره
التفسير:
والفرق بينهما أن معنى الآية أن مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا من
الاقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله وبما جاء به قولا - وهم به مكذبون
اعتقادا - كمثل استضاءة الموقد ثم اسقط ذكر الاستضاءة وأضاف المثل إليهم
كما قال الشاعر وهو نابغة جعدة:
وكيف تواصل من أصبحت * خلالته كأبي مرحب (3)
أي كخلالة أبي مرحب واسقط لدلالة الكلام عليه وأما إذا أراد تشبيه
الجماعة من بني آدم وأعيان ذوي الصور والأجسام بشئ فالصواب أن يشبه
الجماعة بالجماعة والواحد بالواحد لان عين كل واحد منهم غير أعيان الاخر كما قال
تعالى: " كأنهم خشب مسندة " (4) وقال: " كأنهم اعجاز نخل خاوية " (5)

(1) سورة الأحزاب آية 19
(2) سورة لقمان آية 28
(3) الخلة والخلالة الصداقة التي ليس فيها خلل وأبو مرحب كناية عن الظل يريد أنها تزول
كما يزول الظل لا تبقى له مودة
(4) سورة المنافقون: آية 4
(5) سورة القمر آية 20
85

وأراد جنس النخل ومثل قوله: ما افعالكم إلا كفعل الكلب ثم يحذف الفعل فيقال:
ما افعالكم إلا كالكلب
وقيل إن " الذي " بمعنى الذين كقوله: " والذي جاء بالصدق وصدق به
أولئك هم المتقون " (1) وقال الشاعر:
وان الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد
وإنما جاز ذلك لان الذين منهم يحتمل الوجوه المختلفة وضعف هذا الوجه
من حيث إن في الآية الثانية وفي البيت دلالة على أنه أريد به الجمع وليس ذلك
في الآية التي نحن فيها وقيل فيه وجه ثالث وهو ان التقدير: مثلهم كمثل اتباع
الذي استوقد نارا وكما قال: (واسأل القرية) (2) وإنما أراد أهلها وفى الآية
حذف (طفئت عليهم النار)
وقوله: (استوقد نارا) معناه: أوقد نارا كما يقال استجاب بمعنى أجاب
قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب
يريد: فلم يجبه
الوقود: الحطب والوقود: مصدر وقدت النار وقودا والاستيقاد:
طلب الوقود: والايقاد: ايقاد النار والتوقد: التوهج والايقاد: التهاب النار
وزند ميقاد: سريع الوري وقلب وقاد: سريع الذكاء والنشاط وكل شئ
يتلألأ فهو يتقد وفي الحجر نار لا تقد لأنها لا تقبل الاحتراق والوقود:
ظهور النار فيما يقبل الاحتراق
وأصل النار النور نار الشئ إذا ظهر نوره وأنار: اظهر نوره واستنار:
طلب اظهار نوره والمنار: العلامات والنار: السمت وضاءت النار: ظهر ضوؤها
وكل ما وضح فقد أضاء وأضاء القمر الدار: كقوله أضاءت ما حوله قال الشاعر:

(1) سورة الزمر آية 33
(2) سورة يوسف: آية 82
86

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم * دجى الليل حتى نظم الدر ثاقبه (1)
وقوله: (حوله) مأخوذ من الحول وهو الانقلاب يقال حال الحول: إذا
انقلب إلى أول السنة وأحال في كلامه إذا صرفه عن وجهه وحوله عن المكان:
أي نقله إلى مكان آخر: وتحول: تنقل واحتال عليه وحاوله طالبه بالانقلاب إلى
مراده والحول بالعين - بالفتح - والحول - بالكسر - الانقلاب عن الامر
ومنه قوله " لا يبغون عنها حولا " (2) والحوالة انقلاب الحق عن شخص إلى
غيره والمحالة: البكرة والحيلة: إيهام الامر للخديعة وحال بينه وبينه: مانع
والحائل: الناقة التي انقطع حملها والحائل: العير وحوله الصبا: أي دايرته
ذهب به واذهبه: أي أهلكه لا ذهابه إلى مكان يعرف ومنه (ذهب
الله بنورهم) والمذهب: الطريقة في الامر والذهبه: المطرة الجود وقوله:
(وتركهم في ظلمات): أي أذهب النور بالظلمات وتاركه متاركه وتتاركوا:
تقابلوا في الترك واترك اتراكا: اعتمد الترك والتركة والتريكة: بيضة النعام
المنفردة لتركها وحدها
والظلمات: جمع الظلمة واصلها انتقاص الحق من قوله: ولم تظلم منه شيئا
أي لم تنقص واظلم الجواد الحتمل انتقاص الحق لكرمه ومن أشبه أباه فما ظلم
أي ما انتقص حق الشبه وظلمت الناقة: إذا نحرت من غير علة
والظلم: ماء الأسنان من اللون لا من الريق والظلم الثلج وقوله:
(في ظلمات لا يبصرون) قال ابن عباس: إنهم يبصرون الحق ويقولون به حتى
إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفأوه بكفرهم به فتركهم في ظلمات الكفر فهم
لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق وروي عنه أيضا أنه قال: هذا
مثل ضربه الله تعالى للمنافقين أنهم كانوا يعتزون الاسلام فيناكحهم (3) المسلمون

(1) وفي رواية " الجزع " بدل " الدر "
(2) سورة الكهف: آية 109
(3) في الطبعة الإيرانية بصيغة الماضي والظاهر من السياق ان الصيغة ما ذكرنا
87

ويولدونهم ويقاسمونهم الفئ فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب
النار ضوءه وتركهم في عذاب وهو أحسن الوجوه وقال أبو مسلم: معناه
أنه لا نور لهم في الآخرة وإن ما أظهروه في الدنيا يضمحل سريعا كاضمحلال
هذه اللمعة وحال من يقع في الظلمة بعد الضياء اشقى في الحيرة فكذلك حال
المنافقين في حيرتهم بعد اهتدائهم ويزيد استضرارهم على استضرار من طفئت
ناره بسوء العاقبة وروي عن ابن مسعود وغيره أن ذلك في قوم كانوا أظهروا
الاسلام ثم أظهروا النفاق فكان النور الايمان والظلمة نفاقهم وقيل فيها
وجوه تقارب ما قلناه
وتقدر بعد قوله: (فلما أضاءت ما حوله) (انطفأت) لدلالة الكلام عليها
كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
دعاني إليها القلب إني لامره * مطيع فما أدري ارشد طلابها؟ (2)
وتقديره ارشد طلابها أم غي؟
وقال الفراء يقال ضاء القمر يضوء وأضاء يضئ لغتان وهو الضوء
والضوء - بفتح الضاد وضمها - وقد أظلم الليل وظلم - بفتح الظاء وكسر اللام -
وظلمات على وزن غرفات وحجرات وخطوات فأهل الحجاز وبنو أسد يثقلون
وتميم وبعض قيس يخففون والكسائي يثم الهاء الرفع بعد نصب اللام في قوله
(حوله) و (نجمع عظامه) في حال الوقف الباقون لا يشمون وهو أحسن
قوله تعالى
صم بكم عمي فهم لا يرجعون آية بلا خلاف
التفسير واللغة:
قال قتادة " صم " لا يسمعون الحق " بكم لا ينطقون به " عمي "

(1) وفي ديوان الهذليين: 71 " عصاني إليها القلب " والروايتان صحيحتان
88

لا يرجعون عن ضلالتهم صم رفع على أنه خبر ابتداء محذوف وتقديره هؤلاء الذين
ذكرناهم في القصة: صم بكم عمي والأصم هو الذي ولد كذلك وكذلك الأبكم هو الذي
ولد أخرس ويقال الأبكم: المسلوب الفؤاد ويجوز أن يجمع أصم: صمان:
مثل اسود وسودان واصل الصم: السد فمنه الصم: سد الاذن بما لا يقع معه
سمع وقناة صماء: كبيرة الجوف صلبة لسد جوفها بامتلائها وفلان أصم لسد
خروق مسامعه عن ادراك الصوت وحجر أصم أي صلب وفتنة صماء: أي
شديدة والتصميم: المضي في الامر والصمام: ما يشد به رأس القارورة لسده
رأسها والفعل: أصمها والصميم: العظم الذي هو قوام العضو لسد الخلل به
وأصل إليكم: الخرس وقيل هو الذي يولد أخرس وبكم عن الكلام: إذا امتنع
منه جهلا أو تعمدا كالخرس والأبكم: الذي لا يفصح لأنه كالخرس
واصل العمى: ذهاب الادراك بالعين والعمى في القلب كالعمى في العين بآفة
تمنع من الفهم واعماه: إذا أوجد في عينيه عمى وعمى الكتاب تعمية وتعامى عن
الامر تعاميا وتعمى الامر: تطمس كأن به عمى وما أعماه: من عمى القلب ولا
يقال ذلك من الجارحة والعماية: الغواية والعماء: السحاب الكثيف المطبق
والرجوع: مصدر رجع يرجع رجوعا ورجعه رجعا والارتجاع: اجتلاب
الرجوع والاسترجاع: طلب الرجوع وتراجع: تحامل وترجع: تعمد للرجوع
ورجع: كثر في الرجوع ورجع الجواب: رده والمرجوعة: جواب الرسالة
والرجع: المطر ومنه قوله: (والسماء ذات الرجع) (1) والرجع: نبت الربيع
والرجوع عن الشئ بخلاف الرجوع إليه
والمعنى: إنهم صم عن الحق لا يعرفونه لأنهم كانوا يسمعون بآذانهم
وبكم عن الحق لا ينطقون مع أن ألسنتهم صحيحة عمي لا يعرفون الحق وأعينهم
صحيحة كما قال: (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) (فهم لا يرجعون)
ويحتمل أمرين:

(1) سورة الطارق آية 11
89

أحدهما - ما روي عن ابن عباس أنه على الذم والاستبطاء
والثاني - ما روي عن ابن مسعود انهم لا يرجعون إلى الاسلام وقال
قوم: إنهم لا يرجعون عن شراء الضلالة بالهدى وهو أليق بما تقدم وهذا يدل
على أن قوله: " ختم الله على قلوبهم " وطبع الله عليها ليس هو على وجه الحيلولة
بينهم وبين الايمان لأنه وصفهم بالصم والبكم والعمى مع صحة حواسهم
وإنما أخبر بذلك عن إلفهم الكفر واستثقالهم للحق والايمان كأنهم ما سمعوه ولا
رأوه فلذلك قال: " طبع الله على قلوبهم " " وأضلهم " " وأصمهم " " وأعمى
أبصارهم " " وجعل على قلوبهم أكنة " " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " وكان
ذلك إخبارا عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم وأمره لهم بالطاعة والايمان لأنه
ما فعل بهم ما منعهم من الايمان وقد يقول الرجل: حب المال قد أعمى فلانا
واصمه ولا يريد بذلك نفي حاسته لكنه إذا شغله عن الحقوق والقيام بما يجب عليه
قيل: أصمه وأعماه وكما قيل في المثل: حبك للشئ يعمي ويصم - يريدون به
ما قلناه - وقال مسكين الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما * سمعي وما بي غيره وقر (1)
وقال آخر: أصم عما ساءه سميع فجمع الوصفين وإنما جاز (صم وبكم)
بعد وصف حالهم في الآخرة كما في قوله: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) لامرين:
أحدهما - ان المعتمد من الكلام على ضرب المثل لهم في الدنيا في الانتفاع
باظهار الايمان
الثاني إنه اعتراض بين مثلين بما يحقق حالهم فيهما على سائر أمرهما وقيل
إن معناه: التقديم والتأخير

(1) في الطبعة الإيرانية بدل " يصم " " تصم " وبدل: " سمعي " " أذني " وبدل
" بي " " في " وبدل " غيره " " سمعها " والبيتان في " معجم الأدباء 11: 132
90

قوله تعالى: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون
أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط
بالكافرين
اللغة والتفسير:
الصيب على فيعل من صاب يصوب وأصله صيوب لكن استقبلتها يا
ساكنة فقلبت الواو ياء وأدغمتا كما قيل: سيد من ساد يسود وجيد من جاد
يجود قياسا مطردا والصيب المطر وكل نازل من علو إلى أسفل يقال فيه
صاب يصوب قال الشاعر:
كأنهم صابت عليهم سحابه * صواعقها لطيرهن دبيب (1)
وقال عبيد بن الأبرص:
حي عفاها صيب رعده * داني النواحي مغدق وابل
وهذا مثل ضربه الله للمنافقين كان المعنى: أو كأصحاب صيب فجعل كفر
الاسلام لهم مثلا فيما ينالهم فيه من الشدائد والخوف وما يستضيئون به من
البرق مثلا لما يستضيئون به من الاسلام وما ينالهم من الخوف في البرق بمنزلة
ما يخافونه من القتل بدلالة قوله: (يحسبون كل صيحة عليهم) (2) وقال ابن
عباس: الصيب القطر وقال عطا: هو المطر وبه قال ابن مسعود وجماعة من
الصحابة وبه قال قتادة وقال مجاهد: الصيب: الربيع
وتأويل الآية: مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالاسلام مع استسرارهم
الكفر كمثل موقد نار يستضئ بضوء ناره أو كمثل مطر مظلم ودقه يجري
من السماء تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة فان قيل: فإن كان المثلان للمنافقين

(1) في الطبعة الإيرانية (يطرهن) بدل (لطيرهن) والبيت لعلقمة بن عبده والبيت في
ديوانه وفي شرح المفضليات
(2) سورة المنافقون: آية 4
91

فلم قال: (أو كصيب) وأو لا تكون إلا للشك وإن كان مثلهم واحدا منهما فما
وجه ذكر الآخر بأو وهي موضوعه للشك من المخبر عما أخبر به؟ قيل: إن (أو)
قد تستعمل بمعنى الواو كما تستعمل للشك بحسب ما يدل عليه سياق الكلام قال
توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى باني فاجر * لنفسي تقاها أو عليها فجورها
ومعلوم أن توبة لم يقل ذلك على وجه الشك وإنما وضعها موضع الواو
وقال جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدرا * كما أتى ربه موسى على قدر
ومثله كثير قال الزجاج: معنى (أو) في الآية التخيير كأنه قال: إنكم
مخيرون بان تمثلوا المنافقين تارة بموقد النار وتارة بمن حصل في المطر يقال:
جالس الحسن أو ابن سيرين أي: أنت مخير في مجالسة من شئت منهما
والرعد: قال قوم: هو ملك موكل بالسحاب يسبح روي ذلك عن مجاهد
وابن عباس وأبي صالح وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) وقال قوم:
هو ريح يختنق تحت السماء رواه أبو خالد عن ابن عباس وقال قوم: هو
اصطكاك اجرام السحاب فمن قال إنه ملك قدر فيه صوته كأنه قال: فيه
ظلمات وصوت رعد لأنه روي أنه يزعق به كما يزعق الراعي بغنمه والصيب
إذا كان مطرا والرعد إذا كان صوت ملك كان يجب أن يكون الصوت في
المطر لأنه قال (فيه) والهاء راجعة إليه والمعلوم خلافه لان الصوت في السحاب
والمطر في الجو إلى أن ينزل ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: لا يمتنع أن
يحل الصوت المطر حين انفصاله من السحاب ولا مانع يمنع منه ويحتمل أن
يكون المراد بفي (مع) كأنه قال: معه ظلمات ورعد وقد بينا جوازه فيما مضى
واما البرق فمروي عن علي (عليه السلام) أنه قال: مخاريق الملائكة من
حديد تضرب بها السحاب فتنقدح منها النار وروي عن ابن عباس: انه
سوط من نور يزجر به الملك السحاب وقال قوم: إنه ما رواه أبو خالد عن ابن
92

عباس وقال مجاهد: هو مصع ملك والمصاع: المجالدة بالسيوف وبغيرها قال
أعشى بني ثعلبة يصف جواري لعبن بحليهن:
إذا هن نازلن أقرانهن * وكان المصاع بما في الجون (1)
يقال منه: ما صعه مصاعا والمعاني متقاربة لان قول علي عليه السلام:
إنه مخاريق وقول ابن عباس: إنه سياط يتقاربان وما قال مجاهد: إنه مصاع
قريب لأنه لا يمتنع انه أراد مصاع الملك بذلك وإزجاره به
والصواعق جمع صاعقة: وهو الشديد من صوت الرعد فتقع منه قطعة نار
تحرق ما وقعت فيه والصاعقة: صيحة العذاب والصاعاق: الصوت الشديد للثور
والحمار صعق صعاقا والصعق: الموت من صوت الصاعقة والصعق الغشي من
صوت الصاعقة صعق فهو صعق ومنه قوله (وخر موسى صعقا) (2)
وروي شهر ابن حوشب: ان الملك إذا اشتد غضبه طارت النار من فيه فهي
الصواعق وقيل: إن الصواعق نار تنقدح من اصطكاك الاجرام وقريش وغيرهم
من الفصحاء يقولون: صاعقة وصواعق والقوم يصعقون وتميم وبعض ربيعة
يقولون: صواقع والقوم يصقعون
وفي تأويل الآية وتشبيه المثل أقاويل:
روي عن ابن عباس: أنه مثل للقرآن شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن
وما فيه الظلمات بما في القرآن من الابتلاء وما فيه من الرعد بما في القرآن من
الزجر وما فيه من البرق بما فيه من البيان وما فيه من الصواعق بما في القرآن
من الوعيد آجلا والدعاء إلى الجهاد عاجلا
والثاني - وقيل: إنه مثل للدنيا وما فيها من الشدة والرخاء والبلاء كالصيب
الذي يجمع نفعا وضرا فان المنافق يدفع عاجل الضر ويطلب آجل النفع
والثالث - انه مثل القيمة لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم

(1) في الطبعة الإيرانية (كان) بدل وكان ما ذكرنا عن ديوانه 15
(2) سورة الأعراف: آية 142
93

وما فيه من البرق بما فيه من إظهار الاسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم
ومواريثهم وما فيه من الصواعق بما في الاسلام من الزواجر بالعقاب في
العاجل والآجل
والرابع - أنه ضرب الصيب مثلا بضرب إيمان المنافق ومثل ما في الظلمات
بضلالته وما فيه من البرق بنور إيمانه وما فيه من الصواعق بهلاك نفاقه
والوجه الأخير أشبه بالظاهر وأليق بما تقدم
وروي عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة: أن رجلين من المنافقين
من أهل المدينة هربا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأصابهما المطر الذي ذكره
الله (فيه رعد شديد وصواعق وبرق) فجعلا كلما اصابتهما الصواعق جعلا
أصابعهما في آذانهما من الفرق (1) أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما وإذا لمع
البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما في مكانهما لا يمشيان فجعلا
يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأني محمدا فنضع أيدينا في يده فأصبحا فاتياه
وأسلما وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين المنافقين مثلا لمنافقي المدينة وأنهم
إذا حضروا النبي صلى الله عليه وآله جعلوا أصابعهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وآله أن ينزل
فيهم شئ كما قام ذانك المنافقان يجعلان أصابعهما في آذانهما
(وإذا أضاء لهم مشوا فيه): يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة
وفتحا مشوا فيه وقالوا دين محمد (صلى الله عليه وآله) صحيح
(وإذا أظلم عليهم قاموا): يعني إذا أهلكت أموالهم وولد البنات
وأصابهم البلاء قالوا: هدا من أجل دين محمد صلى الله عليه وآله وارتدوا كما قام ذانك
المنافقان إذا أظلم البرق عليهما ويقوي عندي أن هذا مثل آخر ضربه الله
بالرعد والبرق ولما هم فيه من الحيرة والالتباس يقول لا يرجعون إلى الحق إلا
خلسا كما يلمع البرق ثم يعودون إلى ضلالهم واصلهم الذي هم عليه ثابتون واليه
يرجعون والكفر كظلمة الليل والمطر الذي يعرض في خلالهما البرق لمعا وهم في

(1) الفرق: الخوف
94

أثناء ذلك يحذرون الوعيد والعذاب العاجل إن أظهروا الكفر كما يحذرون الصواعق
من الرعد فيضعون أصابعهم في آذانهم ارتياعا وانزعاجا في الحال ثم يعودون إلى
الحيرة والضلال
(حذر الموت): نصب على التمييز وتقديره (من حذر الموت) ويجوز
أن يكون نصبا لأنه مفعول له فكأنه قال: يفعلون هذا الأجل حذر الموت
ويحتمل أن يكون نصبا على الحال
والموت: ضد الحياة والإماتة: فعل بعده الموت والميتة: ما لم تدرك
ذكاته والميتة: الموت في حال مخصوص من ذلك ميتة سوء والموتان: وقوع
الموت في المواشي وموتت المواشي: إذا كثر فيها الموت وموتان الأرض:
التي لم تزرع
والحذر: طلب السلامة من المضرة وحذره تحذيرا وحاذره محاذرة
والحذيرة: المكان الغليظ لأنه يتحذر منه
قوله: (محيط بالكافرين) يحتمل أمرين:
أحدهما - إنه عالم بهم - وإن كان عالما بغيرهم - إنما خصهم لما فيه من
التهديد
والثاني - إنه المقتدر عليهم - وإن كان مقتدرا على غيرهم - لأنه تقدم
ذكرهم ولما فيه من الوعيد والمحيط: القادر قال الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا * بما قدروا مالوا جميعا إلى السلم
أي قدرنا عليهم فاما الإحاطة بمعنى كون الشئ حول الشئ مما يحيط به
فلا يجوز على الله تعالى لأنه من صفات الأجسام والذي يجوز الإحاطة بمعنى
الاقدار والملك كما يقال: أحاط ملكك بمال عظيم: يعنون أنه يملك مالا عظيما ويقال
حاطه يحوطه حوطا: إذا حفظه من سوء يلحقه ومنه الحائط لأنه يحيط بما
فيه وأحاط به: جعل عليه كالحائط الدائر والاحتياط: الاجتهاد في
حفظ الشئ
95

قوله تعالى: يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم
عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل
شئ قدير آية
المعنى:
معنى (يكاد): يقارب وفيه مبالغة في القرب وحذفت منه أن لأنها
للاستقبال قال الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
(يخطف) فيه لغتان يقال: خطف يخطف وخطف يخطف والأول
أفصح وعليه القراء وروي عن الحسن (يخطف) - بكسر الخاء وكسر الطاء
ويروى (يخطف) بكسر الياء والخاء والطاء والخطف: السلب ومنه الحديث
أنه نهى عن الخطفة: يعني النهبة ومنه قيل الخطاف: والذي يخرج به الدلو من
البئر (خطاف) لاختطافه واستلابه قال نابغة بني ذبيان:
خطاطيف حجن في حبال متينة * تمد بها أيد إليك نوازع (1)
جعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله
وبما جاء من عند الله واليوم الآخر ثم قال: (كلما أضاء لهم مشوا فيه): يعني
كلما أضاء البرق لهم وجعل البرق مثلا لايمانهم وإضاءة الايمان أن يروا فيه
ما يعجبهم في عاجل دنياهم من إصابة الغنائم والنصرة على الاعداء فلذلك أضاء
لهم لأنهم إنما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الاقرار ابتغاء ذلك ومدافعة
عن أنفسهم وأموالهم كما قال: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه
خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه " (2) (وإذا أظلم عليهم): يعني

(1) خطاطيف: ج خطاف وحجن ج أحجن: وهو المعوج ونوازع ج نازع ونازعة من
قولهم نزع الدلو من البئر ينزعها جذبها أخرجها
(2) سورة الحج آية 11
96

ضوء البرق على السائرين في الصيب الذي ضربه مثلا للمنافقين وظلام المنافقين:
أن يروا في الاسلام ما لا يعجبهم في دنياهم من ابتلاء الله المؤمنين بالضراء وتمحيصه
إياهم بالشدائد والبلاء من إخفاقهم في مغزاهم أو إدالة عدوهم أو إدبار دنياهم
عنهم أقاموا على نفاقهم وثبتوا على ضلالهم كما ثبت السائر في الصيب الذي
ضربه مثلا (إذا أظلم) وخفت ضوء البرق فحار في طريقه فلم يعرف منهجه
وقوله: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) إنما خص الله تعالى ذكر السمع
والبصر انه لو شاء لذهب بهما دون سائر أعضائهم لما جرى من ذكرهما في الآيتين
من قوله: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) وفي قوله
(يخطف أبصارهم) فلما جرى ذكرهما على وجه المثل عقب بذكر ذلك بأنه لو
شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم كما توعد في قوله:
(محيط بالكافرين) وقوله: " بسمعهم " قد بينا فيما تقدم أنه مصدر يدل على
الجمع وقيل: إنه واحد موضوع للجمع فكأنه أراد " بأسماعهم " قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعفوا * فان زمانكم زمن خميص (1)
أراد البطون ويقال: ذهبت به وأذهبته وحكي أذهب به وهو ضعيف
ذكره الزجاج والمعنى: ولو شاء الله لا ظهر على كفرهم فدمر عليهم وأهلكهم
لأنه) على كل شئ قدير): أي قادر وفيه مبالغة
قوله تعالى:
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم
تتقون آية
القراءة:
أفصح اللغات فتح الهاء ب‍ " أيها " وبعض بني مالك من بني أسد رهط
شقيق بن سلمة يقولون: يا أيه الناس ويا أيته المرأة ويا أيه الرجل ولا يقرأ بها ومن

(1) من ابيات سيبويه التي لا يعلم قائلها سيبويه الخزانة
97

رفعها توهمها آخر الحروف وقد حذفت الألف في الكتابة من ثلاثة مواضع:
أيه المؤمنون ويا أيه الساحر وأيه الثقلان وسنذكر خلاف القراء في التلفظ بها
النزول:
وروي عن علقمة والحسن: أن كلما في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " نزل
بالمدينة وما فيه " يا أيها الناس " نزل بمكة
واعلم أن " أيا " اسم مبهم ناقص جعل صلة إلى نداء ما فيه الألف واللام
ويلزمه ها التي للتنبيه لابهامه ونقصه وأجاز المازني " يا اي الظريف " قباسا على
" يا زيد الظريف " ولم يجزه غيره لان " ايا " ناقص والنصب عطفا على الموضع
بالحمل على المعنى ولا يحمل على التأويل إلا بعد التمام وهذا هو الصحيح عندهم
المعنى:
وهذه الآية متوجهة إلى جميع الناس: مؤمنهم وكافرهم لحصول العموم
فيها إلا من ليس بشرائط التكليف من المجانين والأطفال وروي عن ابن عباس
أنه قال: قوله " اعبدوا ربكم " أي وحدوه وقال غيره: ينبغي أن يحمل على
عمومه في كل ما هو عبادة لله: من معرفته ومعرفة أنبيائه والعمل بما أوجبه
عليهم وندبهم إليه وهو الأقوى وقوله: " لعلكم تتقون ": أي تتقون عذابه
بفعل ما أوجبه عليكم كما قال: " واتقوا النار التي أعدت للكافرين "
الاعراب:
وقوله: " والذين " في موضع نصب لأنه عطف على الكاف والميم في قوله:
(خلقكم) وهو مفعول به
(من قبلكم): اي من تقدم زمانكم من الخلائق والبشر وقال مجاهد:
(تتقون): مطيعون والأول أقوى والخلق: هو الفعل على تقدير وخلق الله
السماوات: فعلها على تقدير ما تدعو إليه الحكمة من غير زيارة ولا نقصان ومثله
الرزق والخلق: الطبع والخليقة: الطبيعة وخليق به: شبيه به والخلاق: النصيب
والاختلاق: افتعال الكذب والخلق: البالي والأخلق: والأملس
98

ومعنى " لعلكم تتقون " قال الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا * نكف ووثقتم لناكل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم * كلمح سراب في الملا متألق (1)
يعني قلتم لنا: كفوا لنكف لأنه لو كان شاكا لما كانوا وثقوا كل موثق
ويقول القائل: اقبل قولي لعلك ترشد وادخاله " لعل " ترقيق للموعظة وتقريب
لها من قلب الموعوظ يقول القائل لأجيره: اعمل لعلك تأخذ الأجرة وليس يربد
بذلك الشك وإنما يريد لتأخذ اجرتك وقال سيبويه: إنما ورد ذلك على شك
المخاطبين كما قال تعالى: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) وأراد بذلك
الابهام على موسى وهارون وفائدة ايراد لفظة " لعل " هو ان لا يحل العبد ابدا
محل الامن المدل لكي يزداد حرصا على العمل وحذرا من تركه وأكثر ما جاءت
لعل وغيرها من معاني التشكيك فيما يتعلق بالآخرة في دار الدنيا فإذا ذكرت
الآخرة مفردة جاء اليقين وهذه الآية يمكن الاستدلال بها على أن الكفار مخاطبون
بالعبادات لدخولهم تحت الاسم وقال بعضهم: معنى قوله (لعلكم تتقون) لكي
تتقوا النار في ظنكم ورجائكم لأنهم لا يعلمون انهم يوقون النار في الآخرة لان
ذلك من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله قال: لعلكم تتقون ذلك في ظنكم ورجائكم
واجري (لعل) على العباد دون نفسه تعالى الله عن ذلك وهذا قريب مما حكيناه
عن سيبويه و (لعل) في الآية يجوز أن تكون متعلقة بالتقوى ويجوز أن
تكون متعلقة بالعبادة في قوله: (اعبدوا) وهو الأقوى قوله تعالى:
الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء
فاخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
آية واحدة
(الذي): في موضع نصب لأنه نعت لقوله: (ربكم) في قوله: (اعبدوا

(1) قائلها غير معروف رواهما ابن الشجري في أماليه 1 - 15 وهناك رواية أخرى كلمح سراب في الفلا.. " والمعنى واحد فالملا: الصحراء والمتسع من الأرض والفلا جمع
فلاة: وهي الأرض المستوية ليس فيها شئ
99

ربكم) وهي مثل الذي قبلها فإنهما جميعا نعتان ل‍ - (ربكم)
فراشا: يعني مهادا أو وطاء لا حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها
وتقديره: اعبدوا ربكم الخالق لكم والخالق للذين من قبلكم الجاعل لكم الأرض
فراشا فذكر بذلك عباده نعمه عليهم وآلاءه لديهم ليذكروا أياديه عندهم
فيثبتوا على طاعته تعطفا منه بذلك عليهم ورأفة منه بهم ورحمة لهم من غير ما
حاجة منه إلى عبادتهم ليتم نعمته لعلهم يهتدون
وسمي السماء سماء لعلوها على الأرض وعلو مكانها من خلقه وكل شئ كان
فوق شئ فهو لما تحته سماء لذلك وقيل لسقف البيت سماء لأنه فوقه
وسمى السحاب سماء ويقال: سمى فلان لفلان إذا أشرف له وقصد نحوه
عاليا عليه قال الفرزدق:
سمونا لنجران اليماني وأهله * ونجران أرض لم تديث مقاوله (1)
وقال النابغة الذبياني:
سمت لي نظرة فرأيت منها * تحيت الخدر واضعة القرام (2)
يريد بذلك أشرفت لي نظرة وبدت وقال الزجاج: كل ما على الأرض فهو
فهو بناء لامساك بعضه بعضا فيأمنوا بذلك سقوطها فخلق السماء بلا عمد
وخلق الأرض بلا سند يدل على توحيده و قدمه لان المحدث لا يقدر على
مثل ذلك وإنما قابل بين السماء وبين الفراش لامرين:
أحدهما - ما حكاه أبو زيد: أن بنيان البيت سماؤه: وهو أعلاه وكذلك
بناؤه وانشد:
بنى السماء فسواها ببنيتها * ولم تمد باطناب ولا عمد

(1) ديوانه: 735 ونجران: ارض في مخاليف اليمن من مكة وديث البعير: ذلله بعض
الذل حتى تذهب صعوبته والمقاول: جمع مقول والمقول والقيل: الملك من ملوك حمير
(2) ديوانه: 86 وروايته: " صفحت بنظرة " والقرام: ستر رقيق فيه رقم ونقوش
والخدر هنا: الهودج وفي الطبعة الإيرانية بدل " تحيت " " بحيث "
100

يريد (ببنيتها): علوها
والثاني - أن سماء البيت لما كان قد يكون بناء وغير بناء: إذا كان من شعر
أو وبر أو غيره قيل جعلها بناء ليدل على العبرة برفعها وكانت المقابلة في الأرض
والسماء باحكام هذه بالفرش وتلك بالبناء
وقوله: (من السماء) أي من ناحية السماء قال الشاعر:
أمنك البرق أرقبه فهاجا
أي من ناحيتك فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة وهي سقف على الأرض
وإنما ذكر السماء والأرض فيما عد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم لان فيها
أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم وبها قوام دنياهم وأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق
جميع ما فيهما من أنواع النعم هو الذي يستحق العبادة والطاعة والشكر دون
الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع وقوله: (وأنزل من السماء ماء): يعني
مطرا فاخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغروسهم ثمرات
رزقا لهم وغذاء وقوتا تنبيها على أنه هو الذي خلقهم وأنه الذي يرزقهم ويكلفهم
دون من جعلوه ندا وعدلا من الأوثان والآلهة ثم زجرهم أن يجعلوا له ندا
مع علمهم بان ذلك كما أخبرهم وانه لا ند له ولا عدل ولا لهم نافع ولا ضار
ولا خالق ولا رازق سواه بقوله: " فلا تجعلوا لله أندادا "
والند: العدل والمثل قال حسان بن ثابت:
أتهجوه ولست له بند * فشر كما لخير كما الفداء (1)
أي لست له بمثل ولا عدل وقال جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا * وما تيم لذي حسب نديد
وقال مفضل بن سلمة الند: الضد والندود: الشرود كما يند البعير ويوم
التناد: يوم التنافر والتنديد: التقليل والفراش: البساط والفرش: البسط
فرش يفرش فرشا وافترش افتراشا وفراش الرأس: طرائق رقاق من القحف

(1) ديوانه 28 روايته " بكف "
101

والفراش: فراش القاع والطين بعد ما يبس على وجه الأرض والفراش: الذي يطير
ويتهافت في السراج وجارية فريش: قد افترشها الرجل والفرش: صغار النعم
ورجل فراشة: خفيف والفرش من الشجر: دقه واصل الماء: موه لأنه يجمع
امواها ويصغر مويه وماهت الركية تموه موها واماهها صاحبها: - إذا
أكثر ماءها - إماهة
وروى عن ابن مسعود وغيره من الصحابة أن معنى الآية: لا تجعلوا لله
أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله قال ابن عباس: إنه خاطب بقوله:
(ولا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) جميع الكفار من عباد الأصنام وأهل
الكتابين لان معنى قوله: " وأنتم تعلمون " أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وإن
ما تعبدون لا يضر ولا ينفع وروي عن مجاهد: أنه عنى بذلك أهل الكتابين
لأنهم الذين كانوا يعلمون أنه لا خالق لهم غيره ولا منعم عليهم سواه والعرب
ما كانت تعتقد وحدانيته تعالى والأول أقوى لان الله تعالى قد أخبر أن
العرب قد كانت تعتقد وحدانيته تعالى فقال تعالى حكاية عنهم: (ولئن سألتهم من
خلق السماوات والأرض ليقولن الله ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) وقال
تعالى: " قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والابصار ومن
يخرج الحي من الميت ويدبر الامر سيقولون الله فقل ألا تتقون " (1)؟ فحمل الآية
على عمومها أولى ويطابق أول الآية وقد بينا أن خطابه لجميع الخلق واستدل
أبو علي الجبائي بهذه الآية على أن الأرض بسيطة ليست كرة كما يقول المنجمون
والبلخي بأن قال: جعلها فراشا والفراش البساط بسط الله تعالى إياها والكرة
لا تكون مبسوطة قال: والعقل يدل أيضا على بطلان قولهم لان الأرض لا
يجوز أن تكون كروية مع كون البحار فيها لأن الماء لا يستقر إلا فيما له جنبان
يتساويان لأن الماء لا يستقر فيه كاستقراره في الأواني فلو كانت له ناحية في
البحر مستعلية على الناحية الأخرى لصار الماء من الناحية المرتفعة إلى الناحية

(1) سورة يونس: آية 31
102

المنخفضة كما يصير كذلك إذا امتلأ الاناء الذي فيه الماء وهذا لا يدل على
ما قاله لان قول من قال الأرض كروية معناه إن لجميعها شكل الكرة
وقوله: " وأنتم تعلمون " يتحمل أمرين:
أحدهما - إنكم تعلمون أنه لا خالق لكم ولا منعم بما عدده من أنواع النعيم
سوى الله وإن من أشركتم به لا يضر ولا ينفع
والثاني - إنه أراد وأنتم علماء بأمور معايشكم وتدبير حروبكم ومضاركم
ومنافعكم لستم باغفال ولا جهال
قوله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين آية بلا خلاف
الحجة:
هذه الآية فيها احتجاج لله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله) على مشركي
قوم من العرب والمنافقين وجميع الكفار من أهل الكتابين وغيرهم لأنه خاطب
أقواما عقلاء ألباء (1) في الذروة العليا من الفصاحة والغاية القصوى من البلاغة
واليهم المفزع في ذلك فجاءهم بكلام من جنس كلامهم وجعل عجزهم من مثله حجة
عليهم ودلالة على بطلان قولهم ووبخهم وقرعهم وأمهلهم المدة الطويلة وقال
لهم: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (2) ثم قال: (فاتوا بسورة مثله) (3)
وقال في موضع آخر: (بسورة من مثله) وخبرهم أن عجزهم إنما هو عن النظير
والجنس مع أنه ولد بين أظهرهم ونشأ معهم ولم يفارقهم في سفر ولا حضر وهو
من لا يخفى عليهم حاله لشهرته وموضعه وهم أهل الحمية والانفة يأتي الرجل منهم
بسبب كلمة على القبيلة فبذلوا أموالهم ونفوسهم في إطفاء امره ولم يتكلفوا معارضته

(1) الباء: ج لبيب
(2) سورة هود: آية 13
(3) سورة يونس: آية 38
103

بسورة ولا خطبة فدل ذلك على صدقه وذكرنا ذلك في الأصول
المعنى:
وقوله: (بسورة من مثله) قال قوم: إنها بمعنى التبعيض: وتقديره: فاتوا
ببعض ما هو مثل له وهو سورة وقال آخرون: هي بمعنى تبيين الصفة كقوله:
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) (1) وقال قوم: إن " من " زائدة كما قال في
موضع آخر: " بسورة مثله " يعني مثل هذا القرآن وقال آخرون: أراد ذلك
من مثله في كونه بشرا أميا طريقته مثل طريقته والأول أقوى لأنه تعالى قال في
سورة أخرى: " بسورة مثله " ومعلوم أن السورة ليست محمدا " ص " ولا له بنظير
ولان في هذا الوجه تضعيفا لكون القرآن معجزة ودلالة على النبوة
وقوله: " وادعوا شهداءكم من دون الله " قال ابن عباس: أراد أعوانكم
على ما أنتم عليه إن كنتم صادقين وقال الفراء: أراد ادعوا آلهتكم وقال مجاهد
وابن جريح أراد قوما يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم وقول ابن عباس أقوى
وقوله: " مثله " أراد به ما يقاربه في الفصاحة ونظمه وحسن ترصيفه
وتأليفه ليعلم أنه إذا عجزوا عنه ولم يتمكنوا منه أنه من فعل الله تعالى جعله
تصديقا لنبيه وليس المراد أن القرآن له مثل عند الله ولو لاه لم يصح التحدي
لان ما قالوه: لا دليل عليه والاعجاز يصح وإن لم يكن له مثل أصلا بل
ذلك أبلغ في الاعجاز لان ذلك جار مجرى قوله: (هاتوا برهانكم) (2) وإنما
أراد نفي البرهان أصلا والدعاء أراد به الاستعانة قال الشاعر:
وقبلك رب خصم قد تمالوا * علي فما جزعت ولا دعوت
وقال آخر:
فلما التقت فرسانيا ورجالهم * دعوا يالكعب واعتزينا لعامر (3)

(1) سورة الحج آية 30
(2) سورة البقرة آية 111
(3) في الطبعة الإيرانية و " رجالنا " بدل " رجالهم " والبيت للراعي النميري: اللسان
" عزا " واعتزى
104

يعني انتصروا بكعب واستغاثوا بهم
وشهداء جمع شهيد: مثل شريك وشركاء وخطيب وخطباء والشهيد: يسمى
به الشاهد على الشئ لغيره بما يحقق دعواه وقد يسمى به المشاهد للشئ كما
يقال: جليس فلان يريد به مجالسه ومنادمه فعلى هذا تفسير ابن عباس أقوى
وهو أن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله وشهداءكم الذين يشاهدونكم
ويعاونونكم على تكذيب الله ورسوله ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم إن كنتم
محقين وما قاله مجاهد وابن جريح في تأويل ذلك لا وجه له لان القوم على ثلاثة
أصناف: فبعضهم أهل ايمان صحيح وبعضهم أهل كفر صحيح وبعضهم أهل
نفاق فأهل الايمان إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله فلا يجوز ان يكونوا شهداء
للكفار على ما يدعونه واما أهل النفاق والكفر فلا شك انهم إذا دعوا إلى تحقيق
الباطل وابطال الحق سارعوا إليه مع كفرهم وضلالتهم فمن أي الفريقين كانت
تكون شهداء لكن يجري ذلك مجرى قوله: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على
أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (1) وقد
أجاز قوم هذا الوجه أيضا قالوا: لان العقلاء لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على
الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن ولا يكون مثله كما لا يجوز ان
يحملوا نفوسهم على أن يعارضوا ما ليس بمعارض في الحقيقة
ومعنى الآية: إن كنتم في شك من صدق محمد صلى الله عليه وآله فيما جاءكم
به من عندي فاتوا بسورة من مثله " فاستنصروا بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم
صادقين في زعمكم حتى إذا عجزتم وعلمتم انه لا يقدر على أن يأتي به محمد " ص "
ولا أحد من البشر يتضح عندكم انه من عند الله تعالى قوله تعالى:
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة
أعدت للكافرين آية المعنى:
معنى " فإن لم تفعلوا " لم تأتوا بسورة من مثله - قد تظاهرتم أنتم

(1) سورة أسرى: آية 88
105

وشركاؤكم عليه وأعوانكم - وقد تبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز
جميع الخلق عنه وعلمتم انه من عندي ثم أقمتم على التكذيب به
وقوله: (ولن تفعلوا) لا موضع له من الاعراب وإنما هو اعتراض بين
المبتدأ والخبر كقولك: زيد - فافهم ما أقول - رجل صدق وإنما لم يكن له
موضع اعراب لأنه لم يقع موضع المفرد ومعنى (ولن تفعلوا): اي لن تأتوا
بسورة من مثله ابدا لان (لن) تنفي على التأبيد في المستقبل وفي قوله: (ولن
تفعلوا) دلالة على صحة نبوته لأنه يتضمن الاخبار عن حالهم في المستقبل بأنهم
لا يفعلون ولا يجوز لعاقل ان يقدم على جماعة من العقلاء يريد تهجينهم فيقول:
أنتم لا تفعلون إلا وهو واثق بذلك ويعلم ان ذلك متعذر عندهم وينبغي أن يكون
الخطاب خاصا لمن علم الله انه لا يؤمن ولا يدخل فيه من آمن فيما بعد
وإلا كان كذبا
وقوله: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) الوقود - بفتح الواو
اسم لما يوقد والوقود - بضمها -: المصدر وقيل إنهما بمعنى واحد في المصدر
واسم الحطب حكاه الزجاج والبلخي والأول أظهر
(اتقوا الله) - مشددة - لغة أهل الحجاز وبنو أسد وتميم يقولون:
(تقوا الله) خفيف بحذف الألف
(الحجارة) قيل: إنها حجارة الكبريت لأنها أحر شئ إذا حميت وروي
ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والظاهر إن الناس والحجارة: وقود النار
وحطبها كما قال: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) (1) تهيبا وتعظيما
بأنها تحرق الحجارة والناس
وقيل: إن أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة التي توقدها النار بالقدح
وقال قوم معناه: أنهم يعذبون بالحجارة المحماة مع النار والأول أقوى وأليق
بالظاهر وإنما جاز أن يكون قوم: (فاتقوا النار) جواب الشرط مع لزوم الاتقاء

(1) سورة الأنبياء: آية 98
106

من النار كيف تصرفت الحال لأنه لا يلزمهم الاتقاء على التصديق بالنبوة إلا
بعد قيام المعجزة فكأنه قال: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فقد قامت الحجة
ووجب اتقاء النار بالمخالفة
وقوله: (أعدت للكافرين) لا يمنع من اعدادها لغير الكافرين من الفساق
كما قال: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (1) ولم يمنع ذلك من إحاطتها بالفساق
والزناة والزبانية وقال قوم: هذه نار مخصوصة للكافرين لا يدخلها غيرهم
والفساق لهم نار أخرى وقد استدل بهذه على بطلان قول من حرم النظر والحجاج
العقلي بان قيل: كما احتج الله تعالى على الكافرين بما ذكره في هذه الآية وألزمهم
به تصديق النبي صلى الله عليه وآله والمعرفة بان القرآن كلامه لأنه قال: إن كان هذا القرآن
كلام محمد فاتوا بسورة من مثله ودلهم بعقولهم أنه لو كان كلام محمد لتهيأ لهم
مثل ذلك لأنهم الذين يؤخذ عنهم اللغة وإذا كان لم يتهيأ لهم ذلك علموا
بعقولهم أنه من كلام الله وهذا هو معنى الاحتجاج بالعقول فيجب أن يكون
ذلك صحيحا من كل واحد
قوله تعالى:
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من
تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من
قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون آية
اللغة:
البشارة: هو الاخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه لان
الثاني لا يسمى بشارة وقد قيل: إن الاخبار بما يغم أيضا يسمى بشارة كما قال
تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) (2) والأولى أن يكون ذلك مجازا وهي مأخوذة

(1) سورة التوبة: آية 50
(2) سورة آل عمران: آية 21
107

من البشرة: وهي ظاهر الجلد لتغييرها بأول الخبر ومنه تباشير الصبح: أوله
وكذلك تباشير كل شئ المبشرات: الرياح التي تحبئ لسحاب والبشر: الانسان
والبشرة: أعلى جلدة الجسد والوجه من الانسان
والمباشرة: ملاصقة البشرة والبشر: قشر الجلد
والجنان: جمع جنة والجنة: البستان والمراد بذكر الجنة ما في الجنة من
أشجارها وأثمارها وغروسها دون أرضها فلذلك قال: (تجري من تحتها الأنهار)
لأنه معلوم انه أراد الخبر عن ماء أنهارها انه جار تحت الأشجار والغروس والثمار
لا انه جار تحت ارضها لأن الماء كان تحت الأرض جاريا فلا حظ فيه
للعيون إلا بكشف الساتر بينه وبينها على أن الذي يوصف به انهار الجنة انها
جارية في غير أخاديد روي ذلك عن مسروق رواه عنه أبو عبيدة وغيره
الاعراب:
(وجنات): منصوب بان وكسرت التاء لأنها تاء التأنيث في جمع السلامة
وهي مكسورة في حال النصب بالخفض وموضع " ان " نصب بقوله: " وبشر
الذين " وقال الخليل والكسائي: موضعة الجر بالباء كأنه قال: وبشرهم بأن لهم
المعنى:
وقال الفضل: الجنة: كل بستان فيه نخل وإن لم يكن شجر غيره وإن كان
فيه كرم: فهو فردوس كان فيه شجر غير الكرم أم لم يكن
(من ثمرة): من زائدة والمعنى: كلما رزقوا ثمرة (ومنها): يعني من الجنات
والمعنى: أشجارها وتقديرها: كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله
للمؤمنين وقال الرماني: هي بمعنى التبعيض لأنهم يرزقون بعض الثمرات في كل
وقت ويجوز أن تكون بمعنى تبيين الصفة وهو ان يبين الرزق من اي جنس هو
وقوله: " هذا الذي رزقنا من قبل " روي عن ابن عباس وابن مسعود
108

وجماعة من الصحابة انه الذي رزقنا في الدنيا وقال مجاهد: معناه أشبهه به وقال
بعضهم: أن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها فإذا رأوا ما عاد بعد
الذي جني اشتبه عليهم فقالوا: هذا الذي رزقنا من قبل وهذا قول أبي عبيدة
ويحيى بن أبي كثير وقال قوم: هذا الذي رزقنا وعدنا به في الدنيا وقد بينا
فيما تقدم أن الرزق عبارة عما يصح الانتفاع به على وجه لا يكون لاحد المنع
منه وقال المفضل ذلك يخص الأقوات وقال قوم: هذا الذي رزقنا من قبل
لمشابهته في اللون وإن خالفه في الطعم وأقوى الأقوال قول ابن عباس وأن معناه
هذا الذي رزقنا في الدنيا لأنه قال: (كلما رزقوا منها من ثمرة وزقا قالوا هذا
الذي رزقنا من قبل) فعم ولم يخص فأول ما اتوا به لا يتقدر هذا القول فيه إلا
بأن يكون إشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا لأنا فرضناه أولا وليس في الآية
تخصيص ويكون التقدير هذا الذي رزقنا في الدنيا لان ما رزقوه أولا قد عدم
واقام المضاف إليه مقام المضاف كما أن القائل إذا قال لغيره: أعددت لك طعاما ووصفه
له يحسن أن يقول: هذا طعام كل وقت يريد مثله ومن جنسه ونوعه وقوله:
" واتوا به متشابها " قال الضحاك: إذا رأوه قالوا: هو الأول في النظر واللون وإذا
طعموا وجدوا له طعما غير طعم الأول وقوله:
(واتوابه) معناه جيئوا به وليس معناه أعطوه وقال قوم: (وأتو به متشابها)
أي يشبه بعضه بعضا إلا في المنظر والطعم أي كل واحد منه له من الفضل في نحوه
مثل الذي للاخر في نحوه ذكره الأخفش وهذا كقول القائل: وقد جيئ
بأثواب أو أشياء رآها فاضلة فاشتبهت عليه في الفضل فقال: ما أدري ما أختار منها
كلها عندي فاضل قال الشاعر
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم * مثل النجوم التي يسري بها الساري
يعني أنهم تساووا في الفضل والسؤدد وروي هذا عن الحسن وابن جريح
وقال قتادة معناه يشبه ثمار الدنيا غير أنها أطيب وقال ابن زيد والأشجعي: إن
التشابه في الأسماء دون الألوان والطعوم فلا يشبه ثمار الجنة شئ من ثمار الدنيا
109

في لون ولا طعم وأولى هذه الأقوال أن يكون المراد به متشابها في اللون والمنظر
على أن الطعم مختلف لما قدمناه من أن هذا يقولونه في أول الحال أيضا وما تقدر
عليه غرة وبعد هذا قول من قال: معناه أن كلها جياد لا رذال فيه وقال بعض
المتأخرين في قوله (هذا الذي رزقنا من قبل) معناه هذا الذي أعطينا بعبادتنا من
قبل وقال أبو علي معناه ذلك ما يؤتون به في كل وقت من الثواب مثل الذي
يؤتى في الوقت الذي قبله من غير زيادة ولا نقصان لأنه لابد أن تتساوى مقادير
الاستحقاق في ذلك وقال أيضا يجب أن يسوي بينهم في الأوقات في مقدار ما
يتفضل به عليهم في وقت ويزدادون في وقت آخر قال: لان ذلك يؤدي إلى أن
التفضل أعظم من الثواب وهذا الذي ذكره غير صحيح لان العقل لا يدل على
مقادير الثواب في الأوقات ولا يعلم ذلك غير الله بل عندنا لا يدل العقل على دوام
الثواب وإنما علم ذلك بالسمع والاجماع واما التفضل فلا شك أنه يجوز أن يزيد في وقت
على ما يفضله في وقت آخر ولا يؤدي ذلك إلى مساواته للثواب لان الثواب
يتميز من التفضل لمقارنة التعظيم له والتبجيل ولاجل ذلك يتميز كل جزء من الثواب
من كل جزء من التفضل ولا زيادة هناك
وقوله (ولهم فيها أزواج مطهرة) قيل في الأبدان والأخلاق والافعال
ولا يحضن ولا يلدن ولا يذهبن إلى غائط وهو قول جماعة المفسرين
وقوله (وهم فيها خالدون) أي دائمون يبقون ببقاء الله لا انقطاع لذلك ولا نفاد
قوله تعالى:
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين
آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون
ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل
به إلا الفاسقين آية واحدة سبب النزول:
اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية فروي عن ابن مسعود وابن
110

عباس أن الله تعالى لما ضرب هذين المثلين للمنافقين وهو قوله (كمثل الذي
استوقد نارا) وقوله (أو كصيب من السماء) قال المنافقون الله أجل من (أن
يضرب مثلا) إلى آخر الآية وقال الربيع بن أنس هذا مثل ضربه الله للدنيا
لان البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت فشبه الله تعالى هؤلاء بأنهم إذا
امتلؤوا أخذهم الله كما قال تعالى (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب
كل شئ إلى آخر الآية) (1) - إلى أن قال - (حتى إذا فرحوا بما أوتوا
أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) (2) وقال قتادة معناه أن الله لا يستحيي أن
يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها أي لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا ما قل
أو كثر إن الله تعالى حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة
ماذا أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله تعالى (ان يضرب مثلا ما بعوضة فما
فوقها: الآية) وكل هذه الوجوه حسنة وأحسنها قول ابن عباس لأنه يليق
بما تقدم وبعده ما قال قتادة وليس لاحد ان يقول: هذا المثل لا يليق بما
تقدم من حيث لم يتقدم للبعوضة ذكر وقد جرى ذكر الذباب والعنكبوت في
موضع آخر في تشبيه آلهتهم بها وأن يكون المراد بذلك أولى وذلك أن قوله:
" ان الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " إنما هو خبر منه تعالى
انه لا يستحيي تعالى أن يضرب مثلا في الحق من الأمثال: صغيرها وكبيرها
لان صغير الأشياء عنده وكبيرها بمنزلة واحدة من حيث لا يتسهل الصغير ولا
يصعب الكبير وإن في الصغير من الاحكام والاتقان ما في الكبير فلما تساوى
الكل في قدرته جاز أن يضرب المثل بما شاء من ذلك فيقر بذلك المؤمنون
ويسلمون - وان ضل به الفاسقون بسوء اختيارهم - وهذا المعنى مروي عن
مجاهد وروي عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: إنما ضرب
الله بالبعوضة لان البعوضة على صغر خلق فيها جميع ما في الفيل على كبره وزيادة
عضوين آخرين فأراد الله ان ينبه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب عظم صنعه

(1) سورة الأنعام: آية 44
(2) سورة الأنعام: آية 44
111

المعنى:
و (يستحيي) لغة أهل الحجاز وعامة العرب بيائين وبنو تميم يقولون:
بياء واحدة اخصر كما قالوا: ألم يك ولا أدر ومعنى (يستحيي): قال بعضهم:
إنه لا يخشى ان يضرب مثلا كما قال: (وتخشى الناس والله أحق تخشاه) (1)
معناه: تستحيي الناس والله أحق ان تستحييه فيكون الاستحياء بمعنى الخشية
بمعنى الاستحياء وقال الفضل بن سلمة: معناه لا يمتنع وقال قوم: لا يترك وهو
قريب من الثاني
واصل الاستحياء: الانقباض عن الشئ والامتناع منه خوفا من مواقعة
القبيح والاستحياء والانخزال والانقماع والارتداع متقاربة المعنى وضد الحياء
القحة ومعنى (الاستحياء) في الآية: انه ليس في ضرب المثل بالحقير عيب يستحيى وكأنه
قال: لا يحل ضرب المثل بالبعوضة محل ما يستحيى منه فوضع قوله: - (إن الله لا
(يستحيى) الآية - اختاره الرماني وقوله: - (ان يضرب مثلا) فهو ان يصف ويمثل
ويبين كما قال تعالى (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) (2) معناه وصف لكم كما قال الكميت:
وذلك ضرب أخماس أريدت * لا سداس عسى أن لا تكونا
والمعنى وصف أخماس وضرب المثل بمثله يقال: أي ضرب هذا؟ أي من
أي جنس ولون والضروب: الأمثال والمثل: الشبه ويقال: مثل ومثل
كما قالوا شبه وشبه كقول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا * وما مواعيده إلا الأباطيل
يعني شبها فمعنى الآية: إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به
الاعراب:
وإما إعراب (بعوضة): فنصب من وجهين - على قول الزجاج
أحدهما - أن تكون " ما " زائدة كأنه قال: إن الله لا يستحيي أن

(1) سورة الأحزاب آية 37
(2) سورة الروم: آية 28
112

يضرب بعوضة مثلا أو مثلا بعوضة وتكون " ما " زائدة نحو قوله: (فبما
رحمة من الله) (1) والثاني - أن تكون " ما " نكرة ويكون المعنى: أن الله لا يستحيي أن
يضرب مثلا شئ بعوضة فكان بعوضة في موضع نصب شئ لأنه قال: يستحيي
ان ضرب مثلا شئ من الأشياء بعوضة فما فوقها قال الفراء يجوز أن يكون معنى
" ما " بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقول القائل: مطرنا ما (2) زبالة فالثعلبية
وله عشرون ما ناقة وجملا وهي أحسن الناس ما قرنا فقد ما يعنون ما بين في
جميع ذلك وقال بعضهم: " ما " بمعنى الذي ويكون التقدير الذي هو بعوضة
لأنها من صلة الذي فأعربها باعرابه كما قال حسان بن ثابت:
فكفى بنا فخرا على من غيرنا * حب النبي محمد إيانا
فأعرب (غيرنا) باعراب (من) ويجوز ذلك في من وما لأنهما يكونان
تارة معرفة وتارة نكرة
والبعوضة: من صغار البق وقوله: " فما فوقها " في الصغر والقلة كما
يقول القائل: إن هذا الامر لصغير فيقول المجيب: وفوق ذلك أي هو أصغر
مما قلت وكلاهما جائز فمن قال بالأول قال: لان البعوضة غاية في الصغر ومن
قال بالثاني قال: يجوز أن يكون ما هو أصغر منها وحكي عن رؤبة ابن العجاج:
انه رفع بعوضة وانشد بيت النابغة:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا * إلى حمامتنا أو نصفه فقد (3)
بالرفع فأعمل ما ولم يعمل ليت قال: وهي لغة تميم يعملون آخر الأداتين
وقال الزجاج: الرفع كان يجوز وما قرئ به إذا كانت " ما " بمعنى الذي ويقدر
بعدها هو ويكون تقديره مثلا الذي هو بعوضة كمن قرأ تماما على الذي هو أحسن
وقد قرئ به وهو ضعيف عند سيبويه وفي الذي أقوى لأنه أطول ولأنها

(1) سورة آل عمران: آية 159
(2) في المطبوعة " بين " بعد ما زائدة
(3) قد: اسم فعل بمعنى يكفي
113

لا تستعمل ألا في الأسماء
وقوله: (فأما الذين) لغة العرب جميعا بالتشديد وكثير من بني عامر
وتميم يقولون أيما فلان ففعل الله به وانشد بعضهم:
مبتلة هيفاء أيما وشاحها * فيجري وأيما الحجل منها فلا يجري
(آمنوا فيعلمون أنه الحق) الفاء جواب (أما) وفيها معنى الشرط والجزاء
والمعنى: ان المؤمنين بالله على الحقيقة يعلمون أن هذا المثل حق من عند الله
وأنه من كلامه (واما الذين كفروا) يعني الجاحدين، (فيقولون ماذا أراد
الله بهذا مثلا) على ما بيناه
وانتصب (مثلا) عند تغلب بأنه قطع وعند غيره انه تفسير وقال قوم:
إنه نصب على الحال وذا مع ما بمعنى أي شئ الذي أراد الله بهذا مثلا فعلى
هذا يكون الجواب رفعا، كقولك: البيان لحال الذي ضرب له المثل ويحتمل
أن يكون وقعا ذا وما بمنزلة اسم واحد فيكون الجواب نصبا كقولك: البيان لحال
الممثل به ورد القرآن بهما جميعا قال تعالى: (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) وفي
موضع آخر: (ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) ذكرهما سيبويه، والأخفش
هذا إشارة إلى المثل ومثلا ما، نون التنوين تدغم في الميم عند جميع القراء
ويكره الوقف فيها على قوله: " لا يستحيي " ثم يقول: (أن يضرب مثلا) وكذلك
على قوله: " والله لا يستحيي " ثم يقول: " من الحق "
وقوله: " يضل به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " إن قيل: أليس
تقولون: إن الله لا يضل أحدا، ولا يهدي خلقا، وإن العباد هم يضلون أنفسهم
ويهدونها، وهم يضلون من شاءوا ويهدون من شاءوا وقد قال الله تعالى: في غير
موضع من كتابه نحو قوله: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء)، ولا يمكنكم
ان تقولوا: إن المراد بالاضلال العقوبة والتسمية، لأنه لو قال: يضل كثيرا ويهدي
كثيرا، كان ذلك ممكنا، لكنه قال، (يضل به) و (يهدي به) والهاء راجعة
إلى القرآن، والمثل الذي ضربه فيه ولا يجوز أن يعاقب بالمثل، ولا أن يسمى
114

بالمثل فعلم بذلك أنه أراد أنه ليس عليهم وجعله حيرة لهم
قلنا أول ما في ذلك انا لا نطلق أن الله لا يضل أحدا ولا يهدي أحدا ومن
أطلق ذلك، فقد أخطأ ولا نقول أيضا إن العباد يضلون أنفسهم ويهدونها مطلقا
أو يضلون غيرهم ويهدونه فان إطلاق جميع ذلك خطأ، بل نقول: إن الله يضل
من يشاء ويهدي من يشاء ونقول: إن من أضله الله فهو الضال ومن هداه فهو
المهتدي، ولكن لا نريد بذلك ما يريده المخالف مما يؤدي إلي التظليم والتجويز
لله في حكمه والمخالف يقول: إن الله يضل كثيرا من خلقه بمعنى انه يصدهم عن
طاعته، ويحول بينهم وبين معرفته، ويلبس عليهم الأمور ويحيرهم ويغالطهم،
يشككهم ويوقفهم في الضلالة، ويجبرهم عليها ومنهم من يقول: يخلقها فيهم،
ويخلق فيهم قدرة موجبة له، ويمنعهم الامر الذي به يخرجون منها، فيصفون
الله تعالى بأقبح الصفات وأخسها وقالوا فيه بشر الأقوال وقلنا نحن: إن الله
قد هدى قوما وأضل آخرين، وأنه يضل من يشاء غير أن لفضله وكرمه، وعدله
ورحمته لا يشاء أن يضل إلا من ضل وكفر وترك طريق الهدى وإنه لا يشاء ان
يضل المهتدين والمتمسكين بطاعته، بل شاء أن يهديهم ويزيدهم هدى، فإنه يهدي
المؤمنين بان يخرجهم من الظلمات إلى النور كما قال تعالى: (والذين اهتدوا زادهم
هدى واتاهم تقواهم) (1) وقال: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) (2) وقال:
(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) (3) وقال (يضل به كثيرا
ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) (4)
وقال: (ويضل الله الظالمين) (5) والاضلال على وجوه كثيرة منها:
ما نسبه الله تعالى إلى الشيطان: وهو الصد عن الخير والرشد والدعاء إلى

(1) سورة محمد: آية 17
(2) سورة التغابن: آية 11
(3) سورة البقرة: آية 257
(4) سورة البقرة: آية 27
(5) سورة إبراهيم: آية 27
115

الفساد والضلال، وتزيين ذلك، والحث عليه وهذا ينزه الله تعالى عنه
ومنها التشديد الامتحان والاختبار اللذين يكون عندهما الضلال ويعقبهما
ونظير ذلك في اللغة أن يسأل الرجل غيره شيئا نفيسا خطيرا يثقل على طباعه بذله
فإذا بخل به، قيل له نشهد لقد بخل به فلان وليس يريدون بذلك عيب السائل
وإنما يريدون عيب الباخل المسؤول، لكن لما كان بخل المسؤول ظهر عند مسألة السائل
جاز أن يقال في اللغة: انه بخلك ويقولون للرجل إذا أدخل الفضة النار ليعلم
فسادها من صلاحها، وظهر فسادها: أفسدت فضتك، ولا يرون أنه فعل فيها
فسادا، وإنما يريدون ان فسادها ظهر عند محنته ويقرب من ذلك قولهم: فلان
أضل ناقته، ولا يريدون انه أراد أن يضل، بل يكون قد بالغ في الاستتار منها
وإنما يريدون ضلت منه لا من غيره ويقولون أفسدت فلانة فلانا، وأذهبت
عقله وهي لا تعرفه، لكنه لما فسد وذهب عقله من أجلها، وعند رؤيته إياها
قيل: قد أفسدت، وأذهبت عقله
ومنها التخلية على جهة العقوبة وترك المنع بالقهر والاجبار، ومنع الألطاف
التي يؤتيها المؤمنين جزاء على ايمانهم كما يقول القائل لغيره أفسدت سيفك، إذا
ترك أن يصلحه لا يريد أنه أراد أن يفسد أو أراد سبب فساده، أو لم يحب
صلاحه، لكنه تركه فلم يحدث فيه الاصلاح - في وقت - بالصقل والاحداد
وكذلك قولهم: جعلت أظافيرك سلاحا وإنما يريدون تركت تقليمها
ومنها التسمية بالاضلال والحكم به كافرا يقال: أضله إذا سماه ضالا
كما يقولون: أكفره إذا سماه كافرا، ونسبه إليه قال الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا: مسئ ومذنب
ومنها الاهلاك والتدمير قال الله تعالى: " أإذا ضللنا في الأرض "
أي هلكنا فيجوز أن يكون أراد بالآية: حكم الله على الكافرين، وبراءته منهم
ولعنه إياهم إهلا كالهم، ويكون اضلاله إضلالا كما كان الضلال هلاكا وإذا
كان الضلال ينصرف على هذه الوجوه، فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى أقبحها
وهو ما أضافه إلى الشيطان، بل ينبغي أن ينسب إليه أحسنها وأجلها وإذا ثبتت
116

هذه الجملة، رجعنا إلى تأويل الآية، وهو قوله: " يضل به كثيرا " معناه أن
الكافرين لما ضرب الله لهم الأمثال قالوا: ما الحاجة إليها؟ قال الله تعالى: فيها
أعظم الفائدة: لأنها محنة واختبار وبهما يستحق الثواب، ويوصل إلى النعيم
فسمى المحنة اضلالا وهداية، لان المحنة إذا اشتدت على الممتحن وثقلت فضل
عندها، جاز أن تسمى اضلالا، فإذا سهلت فاهتدى عندها، سميت هداية، كما
أن الرجل يقول لصاحبه: ما يفعل فلان؟ فيقول هو ذا يسخي قوما
ويبخل قوما آخرين أي يسأل قوما فيشتد عليهم للعطاء فيبخلون، ويسأل
آخرين، فيسهل عليهم فيعطون ويجودون، فسمي سؤاله باسم ما يقع عنده
ويعقبه
فمعنى قوله: " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " أي يمتحن به عباده،
فيضل به قوم كثير، ويهتدي به قوم كثير ولا يجب على ذلك أن يكون أراد
إضلالهم كما لا يجب ذلك في السائل الذي لا يريد بخل المسؤول، بل يريد إعطاءه
فان قيل: أليس الله تعالى امتحن بهذه الأمثال المؤمنين كما امتحن بها الكافرين،
فيجب أن يكون مضلا لهم؟ قلنا: إنما سمى المحنة الشديدة إضلالا إذا وقع عندها
الضلال كما أن السؤال يسمى تبخيلا إذا وقع عنده البخل
وقال قوم: معنى قوله: " يضل به كثيرا " يعني يضل بالتكذيب بهذه
الأمثال كثيرا ويهدي بالايمان كثيرا، لأنه لو كان سببا للضلال لما وصفه الله بأنه
هدى وبيان وشفاء لما في الصدور وحذف التكذيب والاقرار اختصارا، لان
في الكلام ما يدل عليه كما يقول القائل: نزل السلطان فسعد به قوم وشقي به
آخرون وإنما يراد به سعد باحسانه قوم وشقي بإساءته آخرون لا بنزول جيشه،
لأنه نفسه لا يقع به سعادة ولا شقاء وكما قال: " وأشربوا في قلوبهم العجل "
وإنما أراد حب العجل وذلك كثير وقد بينا أن الاضلال والهداية يعبر بهما عن
العذاب والثواب، فعلى هذا يكون تقدير الآية: يضل أي يعذب بتكذيب
القرآن، والأمثال كثيرا، ويهدي أي يثيب بالاقرار به كثيرا والدليل على
117

ما قلناه قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " فلا يخلو أن يكون أراد ما قلناه من
العقوبة على التكذيب، أو أراد به الحيرة والتشكيك، وقد ذكرنا انه لا يفعل
الحيرة المتقدمة التي بها صاروا ضلالا فساقا، لم يفعلها الله إلا بحيرة قبلها، وهذا
يوجب مالا نهاية له من حيرة قبل حيرة، لا إلى أول، أو اثبات إضلال لا إضلال
قبله، فإن كان الله قد فعل هذا الضلال الذي لم يقع قبله ضلال فقد أضل من لم
يكن فاسقا، وهذا خلاف قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " فثبت أنه أراد أنه
لا يعاقب إلا الفاسقين، كما قال: " ويضل الله الظالمين ويفعل ما يشاء (1)
وحكى الفراء وجها آخوا مليحا، قال: قوله " ماذا أراد الله بهذا مثلا، يضل
به كثيرا ويهدي به كثيرا " حكاية عمن قال ذلك، كأنهم قالوا: ماذا أراد بهذا
مثلا يضل به كثيرا، أي يضل به قوم ويهدي به قوم، ثم قال الله: " وما يضل
به إلا الفاسقين " فبين عز وجل الاضلال، وأنه لا يضل إلا ضالا فاسقا، واقتصر
على الاخبار عنهم وبيان ما بين الاضلال دون ما أراد بالمثل، وهذا وجه حسن
تزول معه الشبهة
وأصل الفسق في اللغة الخروج عن الشئ، يقال منه: فسقت الرطبة إذا
أخرجت من قشرها، ومن ذلك سميت الفارة فويسقة، لخروجها من حجرها،
ولذلك سمي المنافق والكافر فاسقين لخروجهما عن طاعة الله، ولذلك قال الله تعالى
في صفة إبليس: " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " (2) يعني خرج
من طاعته واتباع أمره
قوله تعالى:
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر

(1) سورة إبراهيم: آية 27
(2) سورة الكهف آية 51
118

الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون
آية واحدة
العهد: العقد، والإصر مثله، والعهد: الموثق والعهد: الالنقاء، يقال:
ما لفلان عهد بكذا، وهو قريب العهد بكذا، والعهد له معان كثيرة وسمي
المعاهد - وهو الذمي - بذلك لأنه بايع على ما هو عليه من إعطاء الجزية،
والكف عنه والعهدة كتاب الشراء، وجمعه عهد وإذا أقسم بالعهد تعلق به
عندنا كفارة الظهار، وقال قوم: كفارة يمين، وقال آخرون: لا كفارة عليه
و " عهد الله " قال قوم: هو ما عهد إلى جميع خلقه في توحيده وعدله،
وتصديق رسوله بما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهد إليهم في أمره ونهيه،
وما احتج به لرسله بالمعجزات التي لا يقدر على الاتيان بمثلها الشاهدة لهم على
صدقه ونقضهم ذلك: تركهم الاقرار بما قد ثبت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم
الرسل والكتب
وقال قوم وصية الله إلى خلقه، وأمره على لسان رسله إياهم فيما أمرهم
به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه ونقضهم: تركهم العمل به
وقال قوم: هذه الآية نزلت في كفار أهل الكتاب، والمنافقين منهم،
وإياهم عنى الله عز وجل بقوله " إن الذين كفروا سواء عليهم.. " الآية وقوله:
" ومن الناس من يقول آمنا بالله " وكل ما في هذه الآية من اللوم والتوبيخ
متوجه إليهم وعهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه هو ما أخذه عليهم في التوراة
من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وآله إذا بعث، والتصديق بما جاء به من عند
ربهم، ونقضهم ذلك جحودهم به بعد معرفتهم بحقيته (1) وانكارهم ذلك،

(1) نسخة بدل (بحقيته)
119

وكتمانهم ذلك عند الناس بعد إعطائهم إياه تعالى من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس
ولا يكتمونه، وإيمانهم أنهم متى جاءهم نذير آمنوا به، فلما جاءهم النذير ازدادوا
نفورا، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا وهذا الوجه اختاره
الطبري ويقوي هذا قوله: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من كتاب وحكمة، ثم
جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أأقررتم على ذلك أمري
قالوا: أقررنا قال: فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين " (1) والامر العهد أيضا
وقال: في موضع آخر: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها " (2)
وقال: " وأقسموا بالله جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من احدى
الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم الا نفورا " (3) وقال قوم: إنما عنى بذلك العهد
الذي أخذه الله حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصفه في قوله: " وإذ أخذ
ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على أنفسهم الست بربكم.. إلى
آخر الآية " (4) وهذا الوجه عندي ضعيف لان الله تعالى لا يجوز ان يحتج
على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه وما ذكروه غير معلوم أصلا والآية
سنبين القول فيها إذا انتهينا إليها إن شاء الله
والقطع هو الفصل بين الشيئين أحدهما من الآخر والأصل أن يكون في
الأجسام ويستعمل في الاعراض تشبيها به يقال قطع الحبل والكلام والامر هو
قول القائل لمن دونه: افعل وهو ضد النهي والوصل هو الجمع بين الشيئين من غير
حاجز وقال قوم الميثاق هو التوثيق كما قال: " أنبتكم من الأرض نباتا " كقولهم
أعطيتهم عطاء يريد اعطاء الاعراب: وقوله: " ان يوصل " بدل من الهاء التي في به
تقديره: ما أمر الله بأن يوصل، وهو في موضع خفض (والذين) موضعه نصب،
لأنه صفة للفاسقين (أولئك) رفع بالابتداء (والخاسرون) خبره (وهم) فصل عند

(1) سورة آل عمران اية 81
(2) سورة الأنعام اية 109
(3) سورة فاطمة اية 43
(4) سورة الأعراف اية 171
120

البصريين وعماد عند الكوفيين ويجوز أن يكون هم ابتداء ثانيا والخاسرون
خبره والجملة في موضع خبر أولئك والنقض ضد الابرام والميثاق والميعاد والميقات
متقاربة المعنى يقال وثق يثق ثقة وأوثق ايثاقا وتوثق توثقا ويقال فلان ثقة
للذكر والأنثى، والواحد والجمع بلفظ واحد فإذا جمع قيل ثقات في الرجال
والنساء ومن لابتدء الغاية في الآية وقيل: إنها زائدة والهاء في قوله ميثاقه
يحتمل أن تكون راجعة إلى اسم الله تعالى وقال قتادة قوله: " يقطعون
ما أمر الله به ان يوصل " وقطيعة الرحم والقرابة وقال غيره معناه الامر بأن
يوصل كل من أمر الله بصلة من أوليائه والقطع: البراءة من أعدائه وهذا
أقوى، لأنه أعم من الأول ويدخل فيه الأول وقال قوم: أراد صلة رسوله
وتصديقه، فقطعوه بالتكذيب وهو قول الحسن وقال قوم أراد أن يوصل
القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا وما قلناه أولا أولى لأنا إذا حملناه
على عمومه دخل ذلك فيه
وقوله: " يفسدون في الأرض " قال قوم: استدعاؤهم إلى الكفر وقال
قوم: إخافتهم السبيل وقطعهم الطريق وقال قوم أراد كل معصية تعدى ضررها
إلى غير فاعلها والخسران هو النقصان قال جرير:
إن سليطا في الخسار إنه * أولاد قوم خلقوا أقنه
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم وقال قوم: الخسار هاهنا:
الهلاك يعني هم الهالكون وقال قوم: كلما نسبه الله من الخسار إلى غير المسلمين فإنما
عنى به الكفر وما نسب به إلى المسلمين إنما عنى به الدنيا، روي ذلك عن
ابن عباس
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم
ثم إليه ترجعون آية
" كيف " موضوعة للاستفهام عن الحال والمعنى ههنا التوبيخ وقال الزجاج:
هو التعجب للخلق وللمؤمنين أي اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون وقد
121

ثبتت حجة الله عليهم
ومعنى " وكنتم " أي وقد كنتم الواو واو الحال واضمار قد جائز إذا
كان في الكلام ما يدل عليها كما قال: (حصرت صدورهم) أي قد حصرت صدورهم
وكما قال: (إن كان قميصه قد من دبر) أي قد قد من دبر ومن قال هو توبيخ
قال هو مثل قوله: " فأين تذهبون " وقال قتادة: وكنتم أمواتا فأحياكم
كما كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم يعني نطفا، فأحياهم الله بأن أخرجهم ثم أماتهم
الله الموتة التي لابد منها، ثم أحياهم بعد الموت وهما حياتان وموتان وعن ابن
عباس وابن مسعود أن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم
القيامة وروى أبو الأحوص عن عبد الله في قوله: " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين "
قال: هي كالتي في (البقرة): " كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وهو
قول مجاهد وجماعة من المفسرين وروي عن أبي صالح أنه قال: كنتم أمواتا في
القبور فأحياكم فيها،، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة وقال قوم: كنتم أمواتا يعني
خاملي الذكر، دارسي الأثر، فأحياكم بالطهور والذكر ثم يميتكم عند تقضي آجالكم
ثم يحييكم للبعث قال أبو نخيلة السعدي:
فأحييت من ذكري وما كان خاملا * ولكن بعض الذكر انبه من بعض
وهذا وجه مليح غير أن الأليق بما تقدم قول ابن عباس وقتادة وقال
قوم: معناه أن الله تعالى أحياهم حين أخذ الميثاق منهم وهم في صلب آدم وكساهم
العقل ثم أماتهم ثم أحياهم وأخرجهم من بطون أمهاتهم وقد بينا أن هذا الوجه
ضعيف في نظائره، لان الخبر الوارد بذلك ضعيف والأقوى في معنى الآية أن
يكون المراد بذلك تعنيف الكفار وإقامة الحجة عليهم بكفره وجحودهم ما أنعم
الله تعالى عليهم وانهم كانوا أمواتا قبل ان يخلقوا في بطون أمهاتهم وأصلاب
آبائهم يعني نطفا والنطفة موات، ثم أحياهم فأخرجهم إلى دار الدنيا احياء، ثم يحييهم
في القبر للمسألة، ثم يبعثهم يوم القيامة للحشر والحساب وهو قوله تعالى: " ثم إليه
ترجعون " معناه ترجعون للمجازاة على الاعمال كقول القائل: طريقك علي
122

ومرجعك إلي يريد اني مجازيك ومقتدر عليك وسمى الحشر رجوعا إلى الله
لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم فيه غير الله فيجازيكم على اعمالكم كما يقول
القائل: امر القوم إلى الأمير أو القاضي ولا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان
وإنما يراد به ان النظر صار له خاصة دون غيره فان قال قائل: لم يذكر الله احياء
في القبر فكيف تثبتون عذاب القبر قلنا: قد بينا أن قوله: " ثم يحييكم " المراد به
احياؤهم في القبر للمسألة وقوله: " ثم إليه ترجعون " معناه احياؤهم يوم القيامة
وحذف ثم يميتكم بعد ذلك لدلالة الكلام عليه على أن قوله: " ثم يحييكم " لو كان
المراد به يوم القيامة، لم يمنع ذلك من احياء في القبر، وإماتة بعده كما قال تعالى:
" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " (1)
ولم يذكر حياة الذين أحيوا في الدنيا بعد ان ماتوا وقال في قوم موسى " فأخذتكم
الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثنا من بعد موتكم لعلكم تشكرون " (2) ولم يذكر
حياتهم في الدنيا ولم يدل ذلك على أنهم لم يحييوا في الدنيا بعد الموت وكذلك أيضا
لا تدل هذه الآية على أن المكلفين لا يحيون في قبورهم للثواب والعقاب على ما أخبر
به الرسول (عليه السلام) وقول من قال: لم يكونوا شيئا ذهب إلى قول العرب
للشئ الدارس الخامل: إنه ميت يربد خموله ودرسه وفي ضد ذلك يقال: هذا أمر
حي يراد به، كأنه متعالم في الناس ومن أراد الإماتة التي هي خروج الروح من
الجسد، فإنه أراد بقوله: " وكنتم أمواتا " انه خطاب لأهل القبور بعد احيائهم
فيها وهذا بعيد لان التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف، وفرط من
اجرامهم لا استعتاب واسترداع وقوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا "
توبيخ مستعتب، وتأنيب مسترجع من خلقه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة
إلى الإنابة ولا إنابة في القبر ولا توبة فيها بعد الوفاة وأحسن الوجوه مما قدمنا
ما ذكر ابن عباس وبعده قول قتادة

(1) سورة البقرة: آية 243
(2) سورة البقرة: آية 54 - 55
123

قوله تعالى:
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء
فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم آية بلا خلاف
المعنى
" هو " كناية عن الله عز وجل في قوله: " تكفرون بالله " وأراد به تأكيد
الحجة فقال: " كيف تكفرون بالله " الذي أحياكم بعد موتكم " ثم يميتكم ثم
يحييكم ثم إليه ترجعون الذي خلق لكم ما في الأرض " يعني الذي في الأرض
و " ما " في موضع نصب، لان الأرض وجميع ما فيها نعمة من الله لخلقه:
اما دينية فيستدلون بها على معرفته، وإما دنيوية فينتفعون بها لضروب النفع عاجلا
وقوله: " ثم استوى إلى السماء فيه وجوه:
أحدها - ما قاله الفراء: من أن معناه اقبل عليها كما يقول القائل: كان
فلان مقبلا على فلان يشتمه، ثم استوى إلي يشتمني، واستوى علي يشاتمني قال الشاعر:
:
أقول وقد قطعن بنا شروري * ثواني واستوين من الضجوع (1)
أي أقبلن وخرجن من الضجوع وقال قوم: ليس معنى البيت ما قاله وإنما
معناه استوين على الطريق من الضجوع خارجات (2) بمعنى استقمن عليه وقال
قوم: معنى استوى: قصدها لتسويتها كقول القائل: قام الخليفة يدبر أمر بني
تميم، ثم استوى وتحول إلى بني ربيعة، فأعطاهم وقسم لهم اي قصد إليه ويقال
مر فلان مستويا إلى موضع كذا ولم يعدل أي قصد إليها وقال قوم:
معنى استوى أي استولى على السماء بالقهر كما قال: " لتستووا على ظهوره " (3)
أي تقهروه ومنه قوله تعالى: " ولما بلغ أشده واستوى " (4) أي تمكن من أمره

(1) قائله تميم بن أبي عن معجم ما استعجم في المطبوعة " سوامد " بدل " ثواني "
شروري: جبل بين بني أسد وبني عامر في طريق الكوفة الضجوع - بفتح الضاد - مكان
(2) في المطبوعة " فارجات " والصحيح ما ذكرنا
(3) سورة الزخرف: آية 13
(4) سورة القصص: آية 14
124

وقهر هواه بعقله فقال: (ثم استوى إلى السماء) في تفرده بملكها، ولم يجعلها كالأرض
ملكا لخلقه ومنه قول الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم * تركناهم صرعى لنسر وكاسر
وقال آخر:
ثم استوى بشر على العراق * من سيف ودم مهراق
وقال الحسن: ثم استوى امره وصنعه إلى السماء، لان أو امره وقضاياه
تنزل من السماء إلى الأرض وقال بعضهم استوى بمعنى استوت به السماء كما قال الشاعر:
أقول له لما استوى في تراثه * على أي دين قتل الناس مصعب (1)
وأحسن هذه الوجوه أن يحمل على أنه علا عليها فقهرها، وارتفع فدبرها
بقدرته، وخلقهن سبع سماوات، فكان علوه عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال
وزوال، وبعد ذلك قول من قال: قصد إليها فخلقها، ولا يقدح في الأول علوه
تعالى على الأشياء فيما لم يزل، لأنه وإن كان كذلك لم يكن قاهرا لها بحلقها، لان
ذلك متجدد، وإنما قال: إلى السماء ولا سماء هناك كما يقول القائل: اعمل هذا الثوب
وإنما معه غزل، وقال قوم: إنما سواهن سبع سماوات بعد ان كانت دخانا والأول
أملح، وقال الرماني السماوات غير الأفلاك لان الأفلاك تتحرك وتدور واما
السماوات لا تتحرك ولا تدور لقوله تعالى: (ان الله يمسك السماوات والأرض
ان تزولا) (2) وهذا ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع أن تكون السماوات هي
الأفلاك وان كانت متحركة، لان قوله تعالى: (يمسك السماوات والأرض أن
تزولا) معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها ولولا امساكه لهوت
بما فيها من الاعمالات سفلا ومعنى (سواهن) أي هيأمن وخلقهن وقومهن ودبرهن
والتسوية التقويم والاصلاح يقال سوى فلان لفلان هذا الامر أي قومه
واصلحه وقال الفراء: السماء واحدة تدل على الجمع فلذلك قال: (ثم استوى إلى
السماء) فذكرها بلفظ الواحد ثم اخبر عنها بلفظ الجمع في قوله: (فسواهن) وقال

(1) لم يعرف قائل هذا البيت في مطبوعة " الطبري " " ترابه " بدل تراثه
(2) سورة فاطر: آية 41
125

الأخفش: السماء اسم جنس يدل على القليل والكثير كقولهم أهلك الناس الدينار
والدرهم وقال بعضهم: السماء جمع واحده سماوة: مثل بقزة وبقر، ونخلة ونخل،
وثمرة وثمر (1) ولذلك أنثت فقيل هذه سماء، وذكرت أخرى فقيل: (السماء
منفطر به) (2) كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول
الهاء وخروجها فيقال: هذا نخل، وهذه نخل وهذا بقر وهذه بقر ومن قال بالأول
قال: إذا ذكرت فإنما هو على مذهب من يذكر المؤنث كقول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض ابقل ابقالها (3)
وقال أعشى بني ثعلبة:
فلما ترى لمتي بدلت * فان الحوادث أزرى بها (4)
وقال قوم: إن السماوات، وان كانت سماء فوق سماء وارضا فوق أرض
فهي في التأويل واحدة، وتكون الواحدة جماعا كما يقال: ثوب أخلاق وأسمال،
ورمة أعشار، للمتكسرة، وبرمه اكسار واجبار واخلاق، أي نواحية أخلاق (5)
ويقال ارض اعقال وارض اخصاب والمعنى أن كل ناحية منها كذلك، فجمع على
هذا ولا ينافي ذلك قول من قال: إن السماء كانت دخانا قبل أن يسويها
سبع سماوات، ثم سبعا بغير استوائه عليها وذلك أنه يقول: كن سبعا غير
مستويات، فسواها الله تعالى فان قيل: قوله (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا
ثم استوى إلى السماء) ظاهره يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء، لان (ثم)
للتعقيب، وللتراخي وقال في موضع آخر: (أنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع
سمكها فسواها) ثم قال: (والأرض بعد ذلك دحاها) هذا ظاهر التناقض قلنا: المعنى

(1) تمرة وتمر (نسخة)
(2) سورة المزمل: آية 18
(3) صاحب البيت عامر بن جوين، المزنه: قطعة السحاب الودق: المطر ابقلت الأرض:
أخرجت بقلها
(4) ازرى بها: حقرها وانزل بها الهوان
(5) الخلق: البالي وبرمة اجبار ج برمة جبر وان لم يقولوه مفردا. واصله من جبر
العظم وهو لامة
126

في ذلك خلق الأرض قبل السماء غير أنه لم يدحها فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك
ودحوها: بسطها، ومدها ومنه ادحية لنعام، سميت بذلك، لأنها تبسطها لتبيض
فيها ويجوز أن لا يكون معنى (ثم) و (بعد) في هذه الآيات الترتب في الأوقات
والتقدم والتأخر فيها، إنما هو على جهة تعداد النعم والأذكار لها كما يقول القائل
لصاحبه: أليس قد أعطيتك، ثم حملتك، ثم رفعت في منزلتك، ثم بعد ذلك كله
خلطتك بنفسي وفعلت بك وفعلت وربما يكون بعض الذي ذكره في اللفظ
متقدما، كان متأخرا، لان المراد لم يكن الاخبار عن أوقات الفعل، وإنما المراد
الذكر والتنبيه عليها فان قيل أي نسبة بين قوله: (ثم استوى إلى السماء) وبين
قوله: (وهو بكل شئ عليم) وكان يجب ان يقول: (وهو على كل شئ قدير)
قيل إنما جاز ذلك، لان الله لما وصف نفسه بما يدل على القدرة والاستيلاء وصل
ذلك بما يدل على العلم، إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الاحكام، والاتقان
وأيضا أراد أن يبين انه عالم بما يؤول إليه حاله، وحال المنعم به عليه، فيستحق
بذلك النعمة
وتلخيص معنى الآية ان الله تعالى هو الذي خلق لكم الأرض وما فيها من
الجبال والمياه والأشجار، وما قدر فيها من الأقوات، ثم قضى خلق السماء بعد
خلقه الأرض ومعنى استوى أي عمد لها وقصد إلى خلقها، وسواها سبع سماوات
فبناهن وركبهن كذلك ونظير ذلك قوله: (أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض
في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك
فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) (1) يعني يومين بعد اليومين الأولين حتى
صار بذلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء فمعنى قوله: (خلق لكم ما في الأرض
جميعا) هو الذي بينه بقوله: (وجعل فيها رواسي من فوقها. الآية) وجعل
ذكره لذلك في الآية الأولى تأكيد الحجة على عباده لئلا يكفروا به، ولان
يؤمنوا به ويشكروه وقوله: (كيف تكفرون) يدل انه تعالى ما أراد الكفر

(1) سورة حم السجدة: آية 9 و 10
127

منهم، لأنه لو اراده وخلقه فيهم لما قال ذلك كما لا يحسن أن يقول: لم
كنتم سوادا وبيضا وطوالا وقصارا وقوله: وهي دخان فالذي روي في الاخبار
أن الله تعالى لما خلق الأرض، خلقها بعد الماء فصعد منه بخار وهو الدخان، فخلق
الله منه السماوات وذلك جائز لا يمنع منه مانع وقوله: (وهو بكل شئ عليم)
معناه عالم وفيه مبالغة وإنما أراد اعلامهم أنه لا يخفى عليه شئ من افعالهم الظاهرة
والباطنة، والسر والعلانية
قوله تعالى:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا
أنجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك
ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون آية
المعنى:
قال أبو عبيدة: (إذا) زائدة والتقدير (قال ربك للملائكة) وهي
تحذف في مواضع قال الأسود بن يعمر:
وإذا وذلك لا مهاه لذكره * والدهر يعقب صالحا بفساد (1)
معناه وذلك لا مهاه لذكره قال عبد مناة بن مربع وقيل: ابن ربع الهذلي
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة * شلا كما تطرد الجمالة الشردا (2)
ومعناه حتى اسلكوهم والقتائد: الموضع الذي فيه قتاد (3) كثير والشل
الطرد والجمالة: الجمالون والشرد الإبل التي تشرد عن مواضعها، وتقصد غيرها
وتطرد عنها وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لان إذا: حرف يأتي بمعنى الجزاء
ويدل على مجهول من الوقت ولا يجوز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام

(1) في المطبوعة (لا مهاة) والصحيح ما ذكرنا كما عن (المفضليات) يقال ليس لعيشنا
مهه ومهاه أي ليس له حسن أو نضارة
(2) في المطبوعة (يطرد) والبيت في ديوان الهذليين والخزانة اسلك الرجل غيره الطريق وسلكه فيه اضطره إليه والقتائدة: جبل في طريق مكة والمدينة وجواب (إذا) في البيت فعل محذوف دل عليه المصدر
(3) القتاد نبات ذو شوك
128

إلا لضرورة وليس المعنى في البيتين على ما ظن، بل لو حمل (إذا) في البيتين
على البطلان بطل معنى الكلام الذي أراد الشاعر، لان الأسود أراد بقوله: (وإذا)
الذي نحن فيه وما مضى من عيشنا وأراد بقوله (ذلك) الإشارة إلى ما تقدم وصفه
من عيشه الذي كان فيه لا مهاه لذكره يعني لا طعم له، ولا فضل لا عقاب الدهر
ذلك بفساد ومعنى قول عبد مناة بن مربع: حتى إذا اسلكوهم في قتائدة إن
قوله: اسلكوهم مثلا يدل على معنى محذوف، واستغنى عن ذكره بدلالة (إذا)
عليه فحذف كما قال نمر بن تولب:
فان المنية من يخشها * فسوف تصادفه أينما
يريد أينما ذهب وكما يقول القائل: من قبل، ومن بعد يريد من قبل
ذلك، ومن بعد ذلك، ويقول القائل: إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا (1)
فلا يريد وإذا لم يكرمك فلا تكرمه ومن ذلك قول الشاعر:
فإذا وذلك لا يضرك ضرة * في يوم اسأل نائلا أو انكد (2)
وكذلك لو حذف (إذا) في الآية لاستحالت عن معناها الذي تقيده (إذ)،
لان تقديره: ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة قال الزجاج والرماني أخطأ أبو
عبيدة، لان كلام الله لا يجوز أن يحمل على اللغو مع امكان حمله على زيادة فائدة
قال: ومعنى إذ: الوقت وهي اسم كيف يكون لغوا؟ قال والتقدير الوقت والحجة
في (إذ) أن الله عز وجل ذكر خلق الناس وغيرهم، فكأنه قال: ابتدأ خلقك
إذ قال ربك للملائكة وقال الفضل: لما امتن الله بخلق السماوات والأرض، ثم
قال: وإذ قلنا للملائكة ما قلناه فهو نعمة عليكم وتعظيم لأبيكم واختار ذلك
الحسن (3) بن علي المغربي وقال الرماني والزهري: اذكر إذ قال ربك والملائكة
جمع غير أن واحدهم بغير همز أكثر فيحذفون الهمزة ويحركون اللام التي كانت
ساكنة لو همز الاسم إلى اللام فإذا اجمعوا، ردوه إلى الأصل وهمزوا كما

(1) في المطبوعة " لا " ساقطة ولا يستقيم المعنى بدونها
(2) في المطبوعة " نكرا " بدل انكد ونكده ما سأله: قلل له العطاء أو لم يعطه البتة
(3) نسخة بدل " الحسين "
129

يقولون: رأى، ثم يقولون يرى بلا همز وذلك كثير وقد جاء مهموزا في واحده
قال الشاعر:
فلست بأنسي ولكن ملاكا * تنزل من جو السماء يصوب (1)
وقد يقال في واحدهم مألك: مثل قولهم: جبذ وجذب فيقلبونه، وشأمل
وشمأل ومن قال: مألك يجمعه ملائك بلا هاء مثل أشعث واشاعث قال أمية
ابن أبي الصلت:
وفيها من عباد الله قوم * ملائك ذللوا وهم صعاب (2)
واصل الملاك (3) الرسالة قال عدي بن زيد العبادي:
أبلغ النعمان عني ملاكا * أنه قد طال حبسي وانتظاري (4)
وقد ينشد ملاكا ومألكا على اللغة الأخرى. فمن قال: ملاكا فهو مفعل
من لاك إليه يليك إذا أرسل إليه رسالة: ومن قال مألكا فهو مفعل من ألكت إليه
إلاكة إذا أرسلت إليه مألكة والوكا وكما قال لبيد بن ربيعة:
وغلام أرسلته أمه * بالوك فبذلنا ما سأل
وهذا من الكت ويقال: لاك يلاك والك يألك إذا أرسل قال عبد بني
الحسحاس (5):
ألكني إليها عمرك الله يا فتى * بآية ما جاءت الينا تهاديا (6)
يعني أبلغها رسالتي فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لأنها رسل الله بينه
وبين أنبيائه، ومن أرسل من عباده هذا عند من يقول: إن جميع الملائكة رسل
فاما ما يذهب إليه أصحابنا أن فيهم رسلا وفيهم من ليس برسل، فلا يكون الاسم

(1) البيت منسوب لعلقمة بن عبدة وليس في ديوانه وهو من ابيات سيبويه وفى اللسان
" ألك "
(2) ديوانه ذللوا: من الذل
(3) في المطبوعة " ملك " وصححت؟ ب‍ " مألك "
(4) الأغاني والعقد الفريد بعد البيت وهو متمم له:
لو بغير الماء حلقي شرق * كنت كالغصان بالماء اعتصاري
(5) في المطبوعة عبيد بن الحسحاس
(6) الكني إليها: ابلغها رسالة مني ديوان سحيم عبد بني الحسحاس
130

مشتقا، بل يكون علما أو اسم جنس وإنما قالوا: إن جميعهم ليسوا رسل الله لقوله
تعالى: (يصطفي من الملائكة رسلا) (1) فلو كانوا جميعا رسلا، لكانوا جميعا
مصطفين، لان الرسول لا يكون إلا مختارا مصطفى وكما قال: (ولقد اخترناهم
على علم على العالمين) (2)
وقوله: (اني جاعل) أي فاعل وخالق وهما يتقاربان قال الرماني: حقيقة
الجعل: تصيير الشئ على صفة والاحداث حقيقة: إيجاد الشئ بعد أن لم يكن
موجودا والخليقة: الفعيلة من قولهم: خلف فلان فلانا في هذا الامر: إذا قام
مقامه فيه بعده، لقوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر
كيف تعلمون) (3) يعني بذلك: أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفا في الأرض
من بعدهم وسمي الخليفة خليفة من ذلك، لأنه خلف من كان قيله، فقام مقامه
الخلف - بتحريك اللام - يقال: فيمن كان صالحا - وبتسكين اللام - إذا كان
طالحا قال الله تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة) وروي عن
النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ينقل هذا العلم من كل خلف عدوله
وقال قوم: سمى الله تعالى آدم خليفة، لأنه جعل آدم وذريته خلفاء الملائكة،
لان الملائكة كانوا سكان الأرض وقال ابن عباس: انه كان في الأرض الجن،
فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، فاهلكوا، فجعل الله آدم وذريته بدلهم وقال
الحسن البصري: إنما أراد بذلك قوما يخلف بعضهم بعضا من ولد آدم الذين
يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض وقال ابن مسعود: أراد أني
جاعل في الأرض خليفة يخلفني في الحكم بين الخلق، وهو آدم، ومن قام مقامه
من ولده وقيل إنه يخلفني في انبات الزرع واخراج الثمار، وشق الأنهار وقيل إن
الأرض أراد بها مكة، روي ذلك عن ابن سارط، أن النبي صلى الله عليه وآله قال: دحيت
الأرض من مكة ولذلك سميت أم القرى قال: دفن نوح وهود وصالح وشعيب

(1) سورة الحج: آية 75
(2) سورة الدخان: آية 32
(3) سورة يونس: آية 14
131

بين زمزم والمقام وقال قوم: انها الأرض المعروفة وهو الظاهر
وقوله: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وروي ان خلقا يقال
لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله تعالى ملائكة
أجلتهم من الأرض وقيل: ان هؤلاء الملائكة كانوا سكان الأرض بعد الجان
فقالوا: يا ربنا أتجعل في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء على وجه الاستخبار
منهم والاستعلام عن وجه المصلحة، والحكمة لا على وجه الانكار كأنهم قالوا
إن كان هذا كما ظننا فعرفنا وجه الحكمة فيه وقال قوم: المعنى فيه ان الله اعلم
الملائكة انه جاعل في الأرض خليفة وان الخليفة فرقة تسفك الدماء وهي فرقة من
بني آدم فأذن الله للملائكة ان يسألوه عن ذلك وكان اعلامه إياهم هذا زيادة على
التثبيت في نفوسهم انه يعلم الغيب فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوما يسفك الدماء،
ويعصونك وإنما ينبغي انهم إذا عرفوا انك خلقتهم ان يسبحوا بحمدك كما نسبح
ويقدسوا كما نقدس؟ ولم يقولوا: هذا إلا وقد اذن لهم، لأنهم لا يجوز ان
يسألوا ما لا يؤذن لهم ما فيه، ويؤمرون به، لقوله: (ويفعلون ما يؤمرون) (1)
فان قيل من أين لكم أنهم كانوا علموا ذلك؟ قيل ذلك محذوف لدلالة الكلام
عليه، لأنا علمنا أنهم لا يعلمون الغيب وليس إذا فسد الجن في الأرض، وجب
أن يفسد الانس وقوة السؤال تدل على أنهم كانوا عالمين وجرى ذلك مجرى قول
الشاعر:
فلا تدفنوني إن دفني محرم * عليكم ولكن خامري أم عامر (2)
فحذف قوله: دعوني للتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أم عامر فكأنه
وقال: إني جاعل في الأرض خليفة يكون من ولده افساد في الأرض وسفك الدماء
وقال أبو عبيدة والزجاج: أنهم قالوا ذلك على وجه الايجاب وإن خرج مخرج
الاستفهام كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح؟

(1) سورة النحل آية 50
(2) الشر للشنفرى الحماسة الأغاني ويروى (فلا تقبروني
ان قبري) (ولكن أبشري) خامرى: استتري أم عامر: كنية الضبع
132

فعلى هذا الوجه قال قوم: إنما أخبروا بذلك عن ظنهم وتوهمهم، لان؟
رأوا الجن من قبلهم قد أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فتصوروا أنه؟؟
استخلف غيرهم، كانوا مثلهم، فقال تعالى منكرا لذلك: (إني اعلم مالا تعلمون)
وهذا قول قتادة وابن عباس وابن مسعود وقال آخرون: إنهم قالوه يقينا لان
الله كان أخبرهم انه يستخلف في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء فأجابوه
بعد علمهم بذلك بأن قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وإنما
قالوه استعظاما لفعلهم أي كيف يفسدون فيها ويسفكون الدماء، وقد أنعمت
عليهم واستخلفتهم فيها فقال: " إني اعلم ما لا تعلمون " وقال قوم: إنهم قالوا
ذلك متعجبين من استخلافه لهم أي كيف يستخلفهم وقد علم أنهم " يفسدون
فيها ويسفكون الدماء "؟ فقال: " إني اعلم ما لا تعلمون "
والسفك: صب الدماء خاصة دون غيره من الماء، وجميع المايعات والسفح
مثله لأنه مستعمل في جميع المايعات على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنا انه
سفاح لتضييع مائه فيه
والملائكة المذكورون في الآية قال قوم: هم جميع الملائكة وقال آخرون
وهو المروي عن ابن عباس والضحاك - إنه خطاب لمن اسكنه من الملائكة الأرض
بعد الجان، وقبل خلق آدم، وهم الذين أجلوا الجان عن الأرض وقال قتادة في
قوله: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " وقد علمت الملائكة من علم الله
أنه لا شئ عند الله أكبر من سفك الدماء والافساد في الأرض قال الله تعالى:
" إني اعلم ما لا تعلمون " من أنه سيكون من الخليفة رسل وأنبياء، وقوم صالحون
وساكنون الجنة وأقوى هذه الوجوه قول من قال: إن الملائكة إنما قالت:
" أتجعل فيها من يفسد فيها " على وجه التعجب من هذا التدبير، لا إنكارا له
ولكن على وجه التألم والتوجع والاغتمام والاستعلام لوجه التدبير فيه، فقال:
" إني اعلم ما لا تعلمون " من الوجه المصلحة في خلقهم، وما يكون منهم من الخير
والرشد والعلم، وحسن التدبير والحفظ، والطاعة ما لا تعلمون فان قيل: الملائكة
133

بم عرفت ذلك، إذ لم يمكنها أن تستدرك ذلك بالنظر والفكر قلنا: قد يجوز
أن لا يكون خطر ببالها ذلك إلا عندما أعلمهم الله، فلما علموا ذلك، فزعوا
إلى المسألة عنه، لان المسألة لمن يتوقع سرعة جوابه أو يوثق بعلمه وخبره
يقوم مقام النظر والفكر وقوله: " أتجعل فيها من يفسد فيها " يريدون من ولد
آدم الذين ليسوا أنبياء، ولا أئمة معصومين فكأنه قال تعالى: أني جاعل في
الأرض خليفة يكون له ولد ونسل يفعلون كيت وكيت فقالوا: " أتجعل فيها
من يفسد فيها " يريدون الولد وقد بينا أن الخليفة من يخلف من تقدمه، جماعة
كانوا أو واحدا فلما أخبر الله تعالى الملائكة أنه يخلق في الأرض عباداهم آدم وولده
ويكون خليفة لمن تقدمهم من الجن أو غيرهم، قالوا ما قالوا ويحتمل أن يكون
قوله: " من يفسد فيها " يريدون البعض لا الكل كما يقال: بنو شيبان يقطعون
الطريق ويراد بعضهم دون جميعهم
وقوله: (ونحن نسح بحمدك ونقدس لك) والتسبيح هو التنزيه من السوء
على وجه التعظيم وكل من عمل خيرا قصد به الله فقد سبح يقال: فرغت من
سبحتي أي من صلاتي وقال سيبويه: معنى سبحان الله: براءة الله وتنزيه الله
من السوء قال أعشى بني تغلب:
أقول - لما جاءني فخره -: * سبحان من علقمة الفاخر (1)
أي براءة من علقمة الفاخر وهو مشتق من السبح الذي هو الذهاب قال
الله تعالى: " إن لك في النهار سبحا طويلا " (2) ولا يجوز أن يسبح غير الله
وإن كان منزها، لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها
سواه كما أن العبادة غاية في الشكر لا يستحقها سواه وقال ابن عباس وابن
مسعود: " نحن نسبح بحمدك " بمعنى نصلي لك كما قال: " فلو لا انه كان من
المسبحين " (3) أي من المصلين وقال مجاهد: معناه نعظمك بالحمد والشكر على

(1) ديوانه الأغاني علقمة في البيت هو علقمة بن علاثة هجاه الشاعر
(2) سورة المزمل: آية 7
(3) سورة الصافات: آية 143
134

نعمك وقال قتادة: هو التسبيح المعروف وقال المفضل: هو رفع الصوت بذكر
الله قال جرير:
قبح الاله وجوه تغلب كلما * سبح الحجيج وهللوا إهلالا
واصل التقديس: التطهير ومنه قوله: الأرض المقدسة أي المطهرة قال
الشاعر:
فادركنه يأخذن بالساق والنسا * كما شبرق الولدان ثوب المقدس (1)
أي المطهر وقال قوم: معنى نقدس لك: نصلي لك وقال آخرون: نقدس
أنفسنا من الخطايا والمعاصي وقال قوم: نطهرك من الأدناس أي لا نضيف إليك
القبائح والقدس: السطل الذي يتطهر منه أي يقدس ويوصف تعالى بأنه قدوس
سبوح أي سبحانه أن يكون شريكا لغيره طاهر من كل عيب وقوله:
" إني اعلم ما لا تعملون " قال قوم: أراد ما أظهره إبليس من الكبر والعجب
والمعصية لما أمر الله تعالى لآدم ذهب إليه ابن مسعود، وابن عباس وقال قتادة:
أراد من في ذرية آدم من الأنبياء والصالحين وقال قوم: أراد به ما اختص بعلمه
من تدبير المصالح فان قيل: لو كان آدم قادرا على أن لا يأكل من الشجرة،
لكان قادرا على نقض ما دبره الله فيه، لأنه لو لم يأكل منها للبث في الجنة
والله تعالى إنما خلقه ليجعله خليفة في الأرض فهذا يدل على أنه لم يكن بد من
المخالفة قلنا عن هذا جوابان:
أحدهما - ان الجنة التي خلق الله تعالى فيها آدم، لم تكن جنة الخلد، وإنما
كانت في الأرض حيث شاء الله، وانه حيث كان في الأرض، كان خليفة في الأرض
وفي هذا سقط السؤال
والثاني - ان الله تعالى علم أن آدم سيخالف، وانه يهبط إلى الأرض
فيستخلفه فيها فأخبر الله تعالى بما علم وقولهم: إنه لو كان قادرا على أن لا
يخالف، لكان قادرا على نقض تدبيره - جهل، لان الله تعالى قد أمره بأن لا

(1) شبرق: مزق
135

يقرب الشجرة فهل يجب بأن يكون أمره بأن ينقض تدبيره؟ فإذا قالوا: لا. قيل:
وكذلك الله قد اقدره على ألا يخالف فيلبث في الجنة ولا يجب بذلك أن يكون
أقدره على نقض تدبيره وقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن الملائكة
سألت الله أن يجعل الخليفة منهم وقالوا: نحن نقدسك ونطيعك ولا نعصيك
كغيرنا فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فلما أجيبوا بما ذكر الله في القرآن،
علموا أنهم قد تجاوزوا ما ليس لهم فلاذوا بالعرش استغفارا، فأمر الله آدم بعد
هبوطه أن يبني لهم في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة
المقربون فقال الله تعالى: إني اعرف بالمصلحة منكم وهو معنى قوله: " إني اعلم
ما لا تعلمون "
قوله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني
بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين آية واحدة بلا خلاف
روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: خلق الله آدم من قبضة قبضها من جميع
الأرض، - وقيل قبضها ملك الموت - فجاء بنو آدم على قدر ذلك: منهم الأسود
والأحمر، والأبيض، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب
اللغة:
وقال أبو العباس: في اشتقاق آدم قولان:
أحدهما - انه مأخوذ من أديم الأرض قال: فإذا سميت به في هذا الوجه
ثم نكرته، صرفته
والثاني - انه مأخوذ من الأدمة على معنى اللون والصفة، فإذا سميت به
في هذا الوجه، ثم نكرته، لم تصرفه
والأدمة والسمرة، والدكنة والورقة متقاربة المعنى في اللغة وقال صاحب
العين الأدمة في الناس: شربة من سواد وفي الإبل والظباء: بياض وادمة
136

الأرض: وجهها والمؤدم (1) من الجلد خلاف المبشر وأدما أنثى وآدم ذكر
وهي الادم في الجماعة وآدم أبو البشر والادم: ما يؤتدم به وهو الادام
الادم: جماعة الأديم وأديم كل شئ: وجهه و (كل) لفظة عموم على وجه
الاستيعاب وقال الرماني: حده الإحاطة بالابعاض، يقال: أبعض القوم جاءك
أم كلهم؟ وتكون تأكيدا مثل أجمعين غير أنه يبتدأ في الكلام بكل، كقوله
تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " (2) لان كلا قد يلي العوامل ويبتدأ
واجمعون لا تكون إلا تابعة
ويقال عرض عرضا قال صاحب العين: عرض علينا فلان المتاع يعرض عرضا
للشراء أو الهبة وقال الزجاج: العرض أصله في اللغة: الناحية من نواحي الشئ
فمن ذلك العرض خلاف الطول وعرض الرجل. قال بعضهم: ما يمدح به أو يذم
وقيل عرضه: خليقته المحمودة وقيل عرضه: حسبه وقال الرماني: هي ناحيته
التي يصونها عن المكروه وحقيقة العرض: الاظهار للشئ ليتصفح
والانباء والاعلام والاخبار واحد قال صاحب العين: النبأ - مهموز -
هو الخبر المنبئ والمخبر ولفلان نبأ أي خبر ويقال: نبأته وأنبأته واستنبأته والجمع
الانباء والنبوة إذا أخذت من الانباء فهي مهموزة لكن روي عن النبي (صلى الله
عليه وآله) أنه (3) قال: لا تنبز باسمي، لرجل قال له: يا نبئ الله والنبئ
- بالهمز -: الطريق الواضح، يأخذ بك إلى حيث تريد والنبأة: صوت الكلاب
تنبأ به نبأ وحقيقة الانباء: الاظهار للخبر قال الشاعر:
أدان وأنبأه الأولون * بأن المدان ملي وفي
والفرق بين الاخبار والاعلام أن الاعلام قد يكون بخلق العلم الضروري
في القلب كما خلق الله من كمال العقل والعلم بالمشاهدات وقد يكون بنصب الأدلة
للشئ والاخبار هو إظهار الخبر، علم به أو لم يعلم ولا يكون مخبرا بما يحدثه

(1) المؤدم: الحاذق المجرب جمع لين الأدمة وخشو؟ البشرة
(2) سورة الحجر: آية 30
(3) أنه - ساقطة من المطبوعة
137

من العلم في القلب كما يكون معلما بذلك
وقوله: " ثم عرضهم على الملائكة " إنما لم يقل: ثم عرضها، إذ كانت
الأسماء لا تعقل، لأنه أراد أصحاب الأسماء وفيهم ما لا يعقل كما تغلب المذكر
إذا اجتمع مع المؤنث، لأنهم يقولون: إن أصحابك وإماءك جاءوني وروي
عن ابن عباس أنه قال: عرض الخلق وقال مجاهد: عرض أصحاب الأسماء
وقوله: " وعلم آدم الأسماء كلها " معناه أنه علمه معاني الأسماء، من قبل أن
الأسماء بلا معان لا فائدة فيها، ولا وجه لايثاره الفضيلة بها وقد نبه الله الملائكة
على ما فيه من لطيف الحكمة، فاقروا عندما سئلوا عن ذكرها والاخبار عنها
أنهم لا علم لهم بها فقال: " يا آدم أنبئهم بأسمائهم " وقول قتادة، وظاهر
العموم يقتضى أنه علمه الأسماء وبه قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير
وقتادة وأكثر المتأخرين: كالبلخي والجبائي وابن الاخشيد والرماني وقال الطبري
بما يحكي عن الربيع وابن زيد: انهما قالا: علمه الله أسماء ذريته وأسماء الملائكة
وقال هو الاختيار دون قول ابن عباس وقال: إن قولهم: " عرضهم " إنما يكون
لمن يعقل في الأظهر من كلام العرب وهذا غلط لما بيناه من التغليب وحسنه كما
قال تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي
على رجلين ومنهم من يمشي على أربع " (1) وهذا يبطل ما قاله، ويبقى اللفظ على عموم
وظاهر الآية وعمومها يدل على أنه علمه جميع اللغات وبه قال الجبائي والرماني
فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا، تكلم كل قوم منهم بلسان ألفوه واعتادوه
وتطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه ويجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك
اللغات إلى زمن نوح فلما أهلك جميع الخلائق إلا نوحا ومن معه، كانوا هم العارفين
بتلك اللغات فلما كثروا وتفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها، وتركوا
ما سواها، وانقرض ونسوه والخبر الذي يروي أن الناس أمسوا ولغتهم واحدة
ثم أصبحوا وقد تغيرت ألسنتهم وكان لا يعرف كل فريق منهم إلا كلام من كان

(1) سورة النور آية 45
138

على لغتهم - خبر ضعيف وأيضا فلا يجوز أن ينسى العاقل ما كان في امسه من
جلائل الأمور مع سلامة عقله قالوا: واللغات جميعا إنما سمعت من آدم، وعنه
أخذت وقال ابن الاخشيد: إن الله فتق لسان إسماعيل بالعربية ولذلك صار أصلا
للعرب من ولده، لأنه تكلم بها على خلاف النشوء والعادة، بل على أنه ابتدأه
بها وألهمه إياها فان قيل: ما معنى قوله: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين "
ما الذي ادعي حتى قيل هذا؟ قيل عن ذلك أجوبة كثيرة للعلماء
أحدها - ان الملائكة لما أخبرهم الله عز وجل أنه جاعل في الأرض خليفة
هجس في نفوسها أنه لو كان الخليفة منهم بدلا من آدم وذريته، لم يكن فساد ولا
سفك دماء كما يكون من ولد آدم، وان ذلك أصلح لهم وإن كان الله عز وجل
لا يفعل إلا ما هو أصلح في التدبير، والأصوب في الحكمة فقال الله تعالى:
" أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " فيما ظننتم في هذا المعنى ليدلهم على
أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا كانوا من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد
والثاني - أنه وقع في نفوسهم أنه لم يخلق الله خلقا إلا كانوا أفضل منهم
في سائر أبواب العلم فقيل: إن كنتم صادقين في هذا الظن فأخبروا بهذه الأسماء
والثالث - قال ابن عباس: إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة
ف‍ " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " لان كل واحد من الامرين من
علم الغيب فكما لا تعلمون ذا لا تعلمون الآخر
والرابع - ما ذكره الأخفش والجبائي وابن الاخشيد: إن كنتم صادقين
فيما تخبرون به من أسمائهم كقول القائل للرجل: أخبرني بما في يدي إن كنت
صادقا أي إن كنت تعلم فأخبر به، لأنه لا يمكن أن يصدق في مثل ذلك إلا
إذا أخبر عن علم منه، ولا يصح أن يكلف ذلك إلا مع العلم به، ولا بد إذا استدعوا
إلى الاخبار عما لا يعلمون من أن يشرط بهذا الشرط، ووجه ذلك التنبيه كما
يقول العالم للمتعلم: ما تقول في كذا، ويعلم أنه لا يحسن الجواب لينبهه عليه،
وبحثه على طلبه، والبحث عنه، فلو قال له: اخبر بذلك إن كنت تعلم، أو قال له:
139

ان كنت صادقا، لكان حسنا فإذا نبهه على أنه لا يمكنه الجواب أجابه، حينئذ
فيكون جوابه بهذا التدريج أثبت في قلبه، وأوقع في نفسه وقوله: " أنبئوني "
قال قوم: هو امر مشروط كأنه قيل: إن أمكنكم أن تخبروا بالصدق فيه،
فافعلوا وقيل: إن لفظه لفظ الامر ومعناه التنبيه على ما بيناه في سؤال العالم
للمتعلم ولا يجوز أن يكون ذلك تكليفا، لأنه لو كان تكليفا، لم يكن تنبيها
لهم على أن آدم يعرف من أسماء هذه الأشياء بتعريف الله إياه ذلك ما لا يعرفون
فلما أراد تعريفهم ما خص به آدم، من ذلك علمنا أنه ليس بتكليف ومعنى قوله:
" إن كنتم صادقين " شرط كأنه قيل: إن كنتم صادقين في الاخبار بذلك
وليس " إن " بمعنى " إذ " على ما حكاه الكسائي عن بعض المفسرين، لأنها لو
كانت كذلك، لكانت " ان " - بفتح الهمزة - وتقديره: ان كنتم محققين
ايمانكم، فافعلوا كذا وكذا، لان (إذ) إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة
للفعل وسببا له كقولك: إذ قمت أي من أجل ان قمت فلو كانت إن في الآية
بمعنى إذ، كان التقدير: أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل انكم صادقين وإذا وضعت
إن مكان ذلك، وجب أن تفتح الألف وذلك خلاف ما عليه القراء والانباء
قال قوم: أصله الاعلام كقولهم: انبأت عمرا زيدا أخاك بمعنى أعلمت ولا
يصلح هاهنا أخبرت إلا أنه يتناول أنبئوني هاهنا بمعنى أخبروني على وجه المجاز
والتوسع لتقارب المعنى في الاخبار والانباء، لان الله تعالى عالم بالأشياء فيما لم
يزل فلا يجوز أن يقول: علموني لما هو عالم به ومن قال: أصله الاخبار، تعلق
بظاهر القرآن وفي كيفية عرضهم قولان:
أحدهما - انه عرضهم بعد أن خلقهم
والثاني - أنه عرضهم بأن صورهم لقلوب الملائكة وفي هذه الآية دليل
على شرف العلم من حيث أن الله تعالى لما أراد تشريف آدم اختصه بعلم أبانه به
من غيره، وجعل له الفضيلة فيه، وفي كيفية تعليم الله آدم الأسماء، قال البلخي:
ويجوز أن يكون اخبره بذلك فوعاه في وقت قصير بما أعطاه الله من الفهم والحفظ
140

أو بأن دله ومكنه، ورسم به رسما فابتدع هو لكل شئ اسما يشاكله ولا بد
أن يكون اعلامه له بلغة قد تقدمت المواضعة عليها حتى يفهم بالخطاب المراد به
وقال المواضعة لابد ان تستند إلى سمع عند قوم وعند أبي هاشم وأصحابه لا
يصح ذلك فأما الذي عرض على الملائكة قال قوم عرضت الأسماء دون المسميات
وقال قوم آخرون: عرضت المسميات بها وهو الأقوى لقوله: " ثم عرضهم "
وفي قراءة ابن مسعود: ثم عرضهن وفي قراءة أبي: عرضها وقال قوم: إنه
عرضهم بعد أن خلق المسميات واحضرها لقوله: أسماء هؤلاء وذلك إشارة إلى
الحاضر وقال آخرون: إنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم قبل خلقهم وقيل:
إن قوله إشارة إلى الأسماء التي علمها آدم " وانبئوني " أكثر القراء بهمز: وروي
عن الأعمش ترك الهمز فيه، وهي لغة قريش
" هؤلاء " لغة قريش ومن جاورهم باثبات الف بين الهاء والواو، ومد
الألف والأخيرة وتميم وبكر وعامة بني أسد يقصرون الألف الأخيرة وبعض
العرب يسقط الألف الأولى التي بين الهاء والواو ويمد الأخيرة وانشد:
تجلد لا يقل هؤلاء هذا * بكى لما بكى اسفا وعيبا
وحقق الهمزة ابن عامر وأهل الكوفة إذا اتفقا من كلمتين وقرأ أبو عمرو
وأحمد بن صالح عن قالون بتحقيق الأولى فحذف الثانية وقرأ ورش وقنبل
وأبو جعفر وأويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية، وقرا ابن كثير إلا قنبلا ونافع إلا
ورشا وأحمد بن صالح بسكون الأولى، وتحقيق الثانية في المكسورتين والمضمومتين
وفي المفتوحتين بتحقيق الأولى وحذف الثانية
قوله تعالى:
قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم آية
المعنى:
هذه الآية فيها اخبار من الله تعالى عن ملائكته بالرجوع إليه، والاوبة،
141

والتسليم انهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله
وقوله: " سبحانك " نصب على المصدر ومعناه نسبحك وسبحانك مصدر
لا ينصرف وقدمنا في ما مضى أن معنى التسبيح التنزيه ومعناه هاهنا تبريا منهم
أن يعلموا الغيب واقرارا أنه المختص به تعالى دون غيره
وقوله: " العليم الحكيم " معنى عليم أنه عالم وفيه مبالغة ومن صفات ذاته
وإذا كانت كذلك، أفادت انه عالم بجميع المعلومات ويوصف به في ما لم يزل،
لان ذلك واجب في العالم نفسه وقوله: " الحكيم " يحتمل أمرين:
أحدهما - انه عالم، لان العالم بالشئ يسمى بأنه حكيم فعلى هذا يكون
من صفات الذات مثل العالم وقد بيناه
والثاني - أن يكون من صفات الافعال ومعنى ذلك أن افعاله محكمة متقنة
صواب ليس فيها وجه من وجوه القبح ولا التفاوت ولا يوصف بذلك في ما لم
يزل وروي عن ابن عباس أنه قال: العليم الذي كمل علمه والحكيم: الذي
كمل في حكمته وقد قيل في معنى حكيم: انه المانع من الفساد ومنه سميت حكمة
اللجام لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم ان اغضبا
أي امنعوهم والاحكام والاتفاق والاتساق والانتظام متقاربة والحكمة
نقض السفه يقال: حكم حكما واحكم إحكاما ويقال: أحكم فلان عمله إذا بالغ
فيه فأصاب حقيقته والحكمة هي التي تقف بك على مر الحق الذي لا يخلطه باطل،
والصدق الذي لا يشوبه كذب ومنه قوله: " حكمة بالغة " (1) والحكم بين
الناس هو الذي يرضى به ليقف الأشياء مواضعها ومنه قوله: " فابعثوا حكما
من أهله وحكما من أهلها " (2) والحاكم القاضي بين الناس، وليقفهم على الحق
ويقال: رجل حكيم إذا كان ذلك شانه وكانت معه أصول من العلم والمعرفة،

(1) سورة القمر: آية 5
(2) سورة النساء: آية 34
142

وإذا حكم بين الرجلين يقال: حكم يحكم وإذا صار حكيما قيل: حكم يحكم
وامر مستحكم إذا لم يكن فيه مطعن وفي الحديث في رأس كل عبد حكمة إذا هم
بسيئة وشاء الله ان يقدعه بها قدعة يعني منعه والحكم في الانسان هي العلم الذي
يمنع صاحبه من الجهل ومعنى قول الملائكة " سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا "
يحتمل أمرين:
أحدهما - ما قدمنا وهو قول ابن عباس قال: " سبحانك " تنزيها لله
من أن يكون أحد يعلم الغيب سواه
والثاني - انهم أرادوا أن يخرجوا مخرج التعظيم لله فكأنهم قالوا: تنزيها
لك عن القبائح فعلى هذا الوجه يحسن - وإن لم يعلقه بعلم الغيب كما علق في
الأول - وفي الناس من استدل بهذه الآية على بطلان الاحكام في النجوم
وهذا يمكن أن يكون دلالة على من يقول: إنها موجبات لا دلالات فأما من
يقول: إنها دلالات على الاحكام نصبها الله فإنه يقول: نحن ما علمنا إلا ما علمنا
الله، إنه الذي جعل النجوم أدلة لنا كما أن ما علمناه استدلال غير ضرورة مضاف
إليه أيضا من حيث نصب الدلالة عليه واستدل جماعة من المفسرين بهذه الآية،
والآيتين قبلها على صدق النبي صلى الله عليه وآله وجعلوها من جملة معجزاته إذ كان إخبارا
بما لا تعلمه العرب ولا يوصل إليه إلا بقراءة الكتب والنبي (عليه السلام) لم يعرف
بشئ من ذلك مع العلم بمنشئه ومبتدء أمره ومنتهاه وهذا يمكن أن يذكر على
وجه التأكيد والتقوية، لآياته ومعجزاته من غير أن يكون لو انفرد لكفى في باب
الدلالة لان لقائل أن يقول: إنه قرأ الكتب سرا، واخذ عمن قرأها خفيا فلا
طريق للقطع على ذلك وإنما تغلب في الظن فان قيل: ما الفائدة في الجواب
بقولهم: " لا علم لنا إلا ما علمتنا "؟ قلنا: لو اقتصروا على قولهم: " لا علم "،
لكان كافيا، لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم والاعتراف بأن جميع
ما يعلمونه من تعليمه، وان هذا ليس من جملة ذلك، واختصار ذلك أدل على
الشكر لنعمه وقيل في معنى " عليم " أمران:
143

أحدهما - انه عليم بغير تعليم بدلالة انهم أثبتوا لله ما نفوه عن أنفسهم
بقولهم: " لا علم لنا إلا ما علمتنا " أي نحن معلمون وأنت العليم غير المعلم
والثاني - انه العليم الحكيم وكلاهما حسن والأول أحسن، لأنه أكثر
فائدة، وأولى في تقابل البلاغة وقد تضمنت الآية الدلالة عليه انه لا علم له الا ما
علمه الله اما بالضرورة وإما بالدلالة
قوله تعالى:
قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل
لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما
كنتم تكتمون آية بلا خلاف
اللغة:
روى الداحوني عن هشام: انبيهم ونبيهم، في الحج والقمر، فقلبت الهمزة
وكسرت الهاء وروى الزينبي من طريق المالكي والعطاء - كسر الهاء، وتحقيق
الهمزة الباقون بضم الهاء وتحقيق الهمزة قال أبو علي: من ضم الهاء حملها على
الأصل، لان الأصل أن تكون هاء الضمير مضمومة: مثل قولهم: ضربهم
وأنبأهم وإنما تكسر الهاء إذا وليها كسرة أو ياء نحو بهم وعليهم ومع هذا
يضمه قوم حملا على الأصل ومن كسر الهاء التي قبلها همزة محففة، فإنه اتبع كسرة
الهاء الكسرة التي قبلها وإذا كان بينهما حاجز كما قالوا: هذا المرء ومررت
بالمرء فاتبعوا مع هذا الفصل وحكي عن أبي زيد أنه قال: قال رجل من بكر بن وائل
أخذت هذا منه ومنهما وكسر الهاء في الادراج والوقف وحكي عنه: لم أعرفه
ولم أضربه - فكسر -، وقال لم اضربهما فكسر الهاء مع الباء ويحتمل أن يكون
ما اعتد بالحاجزين بين الكسرة والهاء لسكونها فكان الكسرة وليت الهاء
144

ومعنى " أنبئهم ": خطاب لآدم، يعني اخبر الملائكة، لان الهاء كناية عنهم
وموضعهم النصب
" بأسمائهم " يعني بأسماء الذين عرضهم على الملائكة والهاء والميم في أسمائهم
كناية عن المرادين بقوله: " بأسماء هؤلاء " وقد مضى بيانه
وقوله: (واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فالابداء والاعلان والاظهار
بمعنى واحد يقال: بدا وعلن وظهر وضد الابداء الكتمان، وضد الاظهار
الابطان وضد الاعلان الاسرار يقال: بدا يبدو من الظهور وبدأ يبدأ بداء
بالهمز - بمعنى استأنف قال صاحب العين: بدا الشئ يبدو بدوا: إذا ظهر
وبدا له في الامر: بدء وبداء - بالهمز - بمعنى استأنف والبادية اسم الأرض التي
لا حضر فيها وإذا خرج الناس من الحضر إلى الصحراء والمرعى، يقال: بدوا بدا
واسمه البدو ويقال أهل البدو، وأهل الحضر واصل الباب الظهور والخفاء نقيض الظهور
وقال الرماني حد الظهور: الحصول على حقيقة يمكن أن تعلم بسهولة والله ظاهر بادلته
باطن عن احساس خلقه وكل استدلال فإنما هو ليظهر شئ بظهور غيره والكتمان:
نقيض إعلان السر ونحوه وناقة كتوم وهي التي لا ترعوا إذا ركبها صاحبها أي
لا تصيح والكاتم من القسي: التي لا ترن إذا انتضيت
الألف في قوله: " ألم أقل لكم " ألف تنبيه كقول القائل: أما ترى
اليوم ما أطيبه لمن يعلم ذلك إلا أنك تريد أن تحضر ذهنه، وان ليس مثله ما
يخفى عليه كقوله: " ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير " وحكي عن سيبويه: أما
ترى أي برق ها هنا، وهي الف تنبيه أصلها الاستفهام ومن الناس من قال إن معناه
التوبيخ، ومن لم يجز على الملائكة المعصية، منع من ذلك فان قيل ما الفائدة في انباء
آدم (ع) الملائكة بذلك دون إعلامه إياهم بذلك؟ قلنا: أراد الله بذلك تكرمة آدم (ع)
وتشريفه، وإجلال المنة عليه، وتعظيم النعمة لديه وجميع قصة آدم تؤذن بذلك
فان قيل: ما معنى " غيب السماوات والأرض " والله لا يغيب عنه شئ؟ قيل في
معناه: إنه يعلم ما غاب عنهم فلم يشاهدوه كما يعلم ما حضرهم فشاهدوه
145

وقوله: " واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قيل في معناه أقوال:
أحدها - انه يعلم سرهم وعلانيتهم وذكر ذلك تنبيها لهم على ما يجبلهم
عليه من الاستدلال، لان الأصول الأول لم يستدل بها إنما تذكر على وجه التنبيه
يستخرج بها غيرها، فيستدل بعلم الغيب انه خلق عباده - على ما خلقهم عليه
للاستصلاح وما توجبه الحكمة
والثاني - ما يسرون بمعنى ما أضمره إبليس من المعصية والمخالفة وما
يعلنون: قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال الرماني: وهذا
الوجه غلط، لان إبليس ليس من الملائكة، ولان القول على العموم لا يجوز
أن يصرف إلى الخصوص بغير دلالة وهذا الوجه اختاره الطبري وقال: هو
بمنزلة قولهم: قتل الجيش وهزموا وإنما قتل البعض قال الرماني: إنما يقال ذلك
إذا حل قتل الواحد محل قتل الجميع: مثل قتل الرئيس أو من يقوم مقامه ولا
يقال أيضا إلا والدلالة عليه ظاهرة وليس كذلك في الآية وقد روى روايات في
هذا المعنى والوجه في هذا أن إبليس لما دخل معهم في الامر بالسجود، جاز أن
يستثني من جملتهم
والثالث - قيل: ان الله تعالى لما خلق آدم، مرت به الملائكة قبل أن
ينفخ فيه الروح، ولم تكن رأت مثله قبل، فقالت: لن يخلق الله خلقا إلا كنا
أكرم منه وأفضل عنده فزعم أن هذا الذي أخفوه في نفوسهم وان الذي أبدوه
قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها " روي ذلك عن الحسن والوجه الأول أقوى،
لأنه أعم، ويدخل فيه هذا الوجه ولا دلالة يقطع بها على تخصيص الآية فان
قيل: ما وجه ذكره تعالى لهم الاسرار من علم الغيب قلنا على وجه الجواب فيما
سألوا عنه من خلق من يفسد ويسفك الدماء وذلك على وجه التعريض بالجواب
دون التصريح، لأنه لو صرح به، لقال: خلقت من يفسد ويسفك الدماء لما اعلم
في ذلك من المصلحة لجملة عبادي فيما كلفتهم إياه وأمرتهم به فدل في الإحالة في
الجواب على العلم بباطن الأمور وظاهرها أنه خلقهم لأجل علمه بالمصلحة في ذلك
146

ودلهم بذلك على أن عليهم الرضا والتسليم لقضاء الله، لان الله يعلم من الغيب
ما لا يعلمونه، ويعلم من مصالحهم ما لا يعلمونه في دينهم ودنياهم فان قيل وأي
شئ في تعلم آدم الأسماء كلها مما يدل على علم الغيب قلنا: لأنه علمه الأسماء كلها
بما فيها من المعاني التي تدل عليها على جهة فتق لسانه بذلك والهامه إياه وهي معجزة
أقامها الله تعالى للملائكة تدل على جلالته وارتفاع قدره بما اختصه به من العلم
العظيم الذي لا يصل إليه إلا بتعليم الله إياه، فبان بذلك الاعجاز بالاطلاع على ما
لا سبيل إلى علمه إلا من علام الغيوب ففيه من المعجزة أنه فتق لسانه بها على
خلاف مجرى العادة، وأنه علمه من لطائف الحكمة فيه ما لا تعلمه الملائكة مع
كثرة علومها، وانها اعرف الخلق بربها فعرفوا ما دلهم على علم الغيب بالمعجزة
مؤكدا لما يعلمونه من ذلك بالأدلة العقلية، ولذلك نبههم فقال: " ألم أقل لكم
اني اعلم غيب السماوات والأرض اي قد دللتكم على ذلك من قبل وهذه دلالة بعد
وقيل: افتتح الله الدلالة على الاعجاز بالكلام في آدم، ثم ختم به في محمد صلى الله عليه وآله
قوله تعالى:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر
وكان من الكافرين آية واحدة
القراءة:
ضم التاء من الملائكة أبو جعفر وحده وحيث وقع اتبع التاء ضمة الجيم
وقيل: انه نقل ضمة الهمزة وابتدا بها والأول أقوى، لان الهمزة الف وصل تسقط
في الدرج فلا يبقى فيها حركة تنقل فالوجه الأول هو المعتمد عليه والصحيح ما
عليه القراء من كسر التاء بلام الجر
و " إبليس " نصب بالاستثناء من الاثبات
ويكره الوقف على قوله: " فسجدوا " وعلى " إلا " حتى يقول: " إلا
إبليس " وكذلك كل استثناء
147

وظاهر الآية يقتضي ان الامر كان لجميع الملائكة بالسجود، لعمومها
وقال قوم: إن الامر كان خاصا بطائفة من الملائكة كانوا مع إبليس طهر الله بهم
الأرض من الجن والأول أقوى
اللغة:
والسجود والخضوع والتذلل بمعنى واحد في اللغة ونقيض التذلل التكبر
يقال سجد يسجد سجودا، واسجد اسجادا: إذا خفض رأسه من غير وضع
لجبهته قال الشاعر:
وكلتاهما خرت واسجد رأسها * كما سجدت نصرانة لم تحنف
والسجود في الشرع: عبارة عن عمل مخصوص في الصلاة - والركوع والقنوت
كذلك - وهو وضع الجبهة على الأرض ويقال سجدنا لله سجودا وقوم سجد
ونساء سجد والسجد من النساء: الفاترات الأعين قال الشاعر:
أغرك مني ان ذلك عندنا * واسجاد عينيك الصيودين رابح (1)
وعزائم السجود من ذلك وقوله: " وإن المساجد لله " قيل: إنه السجود
وقيل: إنه المواضع من الجسد التي يسجد عليها واحدها مسجد والمسجد اسم
جامع لجميع المسجد وحيث لا يسجد بعد أن يكون أخذ لذلك فاما المسجد من
الأرض فهو موضع السجود بعينه وقال قوم: معنى السجود في أصل اللغة: الخضوع
والانحناء، وقيل التذلل قال الشاعر:
بجمع يقل البلق في حجراته * ترى الاكم فيه سجدا للحوافر
كأنه قال مذللة للحوافر والسجود على أربعة أقسام: سجدة الصلاة وسجدة
التلاوة، وسجدة الشكر وسجدة السهو
وقوله: " أبى " معناه ترك وامتنع والاباء والامتناع والترك بمعنى
(واحد) (2) ونقيض أبى أجاب يقال أبى يأبى إباء وتأبى تأبيا قال صاحب

(1) البيت لكثير اللسان " سجد " في المطبوعة " رابح " مشوشة غير مقروءة
(2) " واحد " غير موجود في المطبوعة
148

العين: أبى يأبى إباه إذا ترك الطاعة ومال إلى المعصية كقوله: " فكذب وأبى "
وكل من ترك أمرا ورده فقد أباه ورجل أبي وقوم أبيون وأباة (1)
قال الشاعر:
اباة الضيم من قوم اباة
وليس الاباء بمعنى الكراهة، لان العرب تتمدح بأنها تأبى الضيم ولا تتمدح
في كراهة الضيم، وإنما المدح في المنع منه كقوله: " ويأبى الله إلا أن يتم نوره "
أي يمنع الكافرين من اطفاء نوره
والاستكبار والتكبر، والتعظم والتجبر نظائر وضدها التواضع يقال
كبر كبرا وأكبر اكبارا، واستكبر استكبارا، وتكبر تكبرا، وتكابر تكابرا
وكابره مكابرة، وكبره تكبرا قال صاحب العين: الكبر: العظمة والكبر والكبر:
الاثم الكبير جعل اسما من الكبيرة كالخطيئة والخطئ وكبر كل شئ معظمه
والكبر مصدر الكبير في السن من جميع الحيوان فإذا أردت الامر العظيم قلت
كبر: كبر هذا الامر كبارة والكبار في معنى الكبير ويقال اكبرت الشئ: إذا
أعظمته ومنه قوله: " فلما رأيته أكبرنه " والتكبير في الصلاة تفعيل من قولهم:
الله أكبر واصل الباب الكبر وهو العظم ويقال على وجهين: كبر الجثة وهو الأصل
وذلك لا يجوز عليه تعالى وكبر الشأن والله تعالى الكبير من كبر الشأن وذلك
يرجع إلى سعة مقدوره ومعلومه وتحقيقه انه قادر على ما لا يتناهى من جميع
الأجناس المقدورات وعالم بكل معلوم والاستكبار: الأنفة مما لا ينبغي أن
يوقف منه وموضع " إذ " من قوله: " إذ قلنا " نصب، لأنه عطف على
" إذ " الأولى كأنه قال: وإذ أراد وقال أبو عبيدة لا موضع لها من الاعراب
لأنها زائدة وانشد:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة * شلا كما تطرد الجمالة الشردا (2)
وقال: المراد واستشهد به على وجهين كل واحد منهما نقيض الآخر فأحد

(1) في المطبوعة " خفيف " بعد اباة وفي الهامش ذكروها " عفيف " على وجه الاستعمال
(2) مر القول في هذا البيت
149

الوجهين قوله: " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " فلم يأت " إذ " جواب والوجه
الآخر فيه على زيادة " إذ " في هذا الموضع وكلا الوجهين خطأ عنده، لان
الجواب في قوله: قتائدة هو قوله: شلا بوقوعه موقع: شلوهم شلا كما يقول
القائل: إذا أتيت الحرب، فضربا وطعنا وأما الزيادة فقد بينا وجه الخطأ فيها
فيما تقدم
واختلفوا في امر الملائكة والسجود لآدم على وجهين:
قال قوم: انه أمرهم بالسجود له تكرمة وتعظيما لشأنه - وهو المروي في
تفسيرنا واخبارنا - وهو قول قتادة وجماعة من أهل العلم واختاره ابن الاخشيد
والرماني وجرى ذلك مجرى قوله: (وخروا له سجدا) (1) في أولاد يعقوب،
ولا جل ذلك جعل أصحابنا هذه الآية دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة
من حيث أمرهم بالسجود له والتعظيم على وجه لم يثبت ذلك لهم بدلالة امتناع
إبليس من السجود له وأنفته من ذلك وقوله: (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي
لان أخرتني إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا) (2) لو كان ذلك على
وجه كونه قبلة لما كان لذلك وجه، ولا فيه أنفة ولا يحسن أن يؤمر الفاضل
بتعظيم المفضول على نفسه، لان ذلك سفه به وسنبين قول من خالف فيه وشبههم
وقال الجبائي والبلخي وجماعة أنه جعله قبلة لهم فامرهم بالسجود إلى قبلتهم وفيه
ضرب من التعظيم له وهذا ضعيف، لأنه لو كان على وجه القبلة لما امتنع إبليس
من السجود، ولما استعظمته الملائكة، ولكن لما أراد ذلك تعظيما له على وجه
ليس بثابت لهم، امتنع إبليس وتكبر واختلفوا في إبليس هل كان من الملائكة
أم لا؟ فقال ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وقتادة وابن جريح والطبري:
إنه كان منهم بدلالة استثنائه من جملتهم هاهنا في قوله: " إلا إبليس أبى واستكبر
وكان من الكافرين " وقال: (ما منعك ان تسجد لما أمرتك) مع قوله: (وإذ
قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) والظاهر

(1) سورة يوسف: آية 100
(2) سورة اسرى: آية 62
150

في تفاسيرنا، ثم اختلف من قال: إنه كان منهم: فمنهم من قال: إنه كان خازنا
على الجنان، ومنهم من قال: كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، ومنهم
من قال: إنه كان يسوس ما بين السماء إلى الأرض وقال الحسن البصري وقتادة
في رواية ابن زبد والبلخي والرماني وغيره من المتأخرين: انه لم يكن من الملائكة
وان الاستثناء في الآية استثناء منقطع كقوله تعالى: (ما لهم به من علم الا اتباع
الظن) (1) وقوله: (فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون الا رحمة منا) (2) وكقوله:
(لا عاصم اليوم من الامر الله الا من رحم) (3) وكقول الشاعر - وهو النابغة
وقفت فيها أصيلا كي أسائلها * أعيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الاواري لايا ما أبينها * والئوي كالحوض بالمظلومة الجلد (4)
انشد سيبويه:
والحرب لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح (5)
وقال آخر:
وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس (6)
واستدل الرماني على أنه لم يكن من الملائكة بأشياء:
منها - قوله: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " فنفى عنهم
المعصية نفيا عاما
والثاني - أنه قال: " إلا إبليس كان من الجن " ومتى أطلق لفظ الجن لم

(1) سورة النساء: آية 156
(2) سورة يس: آية 43 و 44
(3) سورة هود: آية 43
(4) مر القول في هذا البيت وأيضا في المطبوعة " لا أسائلها "
(5) جحم - من الحرب - معظمها وشدة القتل في معركتها - القاموس - الوقاح: الحافر
الصلب - القاموس
(6) اليعافير: ج يعفور وهو الظبي العيس: الإبل البيض يخالط بياضها شقرة وهو اعيس
وهي عيساء
151

يجز أن يعنى به إلا الجنس المعروف المباين لجنس الانس والملائكة
والثالث - ان إبليس له نسل وذرية قال الحسن: إبليس أبو الجن كما
أن آدم أبو الانس وإبليس مخلوق من النار والملائكة روحانيون خلقوا من الريح
في قول أبي علي - وقال الحسن: خلقوا من النار لا يتناسلون ولا يطعمون
ولا يشربون وقال الله في إبليس وولده " أتتخذونه وذريته أولياء من دوني
وهم لكم عدو "
والرابع - وهو أقوى ما عنده - قوله تعالى: " جاعل الملائكة رسلا أولي
أجنحة مثنى وثلاث ورباع " فعمها بالوصف بالرسالة ولا يجوز على رسل الله أن
يكفروا أو يفسقوا كالرسل من البشر
والجواب عما ذكره أولا: إن قوله: " لا يعصون الله ما أمرهم " صفة لخزنة
النيران، لا جميع الملائكة يدل على ذلك قوله: " يا آيها الذين آمنوا قوا أنفسكم
وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون " (1) وليس إذا كان هؤلاء معصومين وجب ذلك في جميعهم
والجواب عما ذكره ثانيا: ان قوله: كان من الجن معناه صار ذكر ذلك
الأخفش وجماعة من أهل اللغة وقيل أيضا: إن إبليس كان من طائفة من
الملائكة يسمون جنا من حيث كانوا خزنة الجنة وقيل سموا بذلك لاختفائهم عن
العيون كما قال أعشى قيس بني ثعلبة:
ولو كان شئ خالدا أو معمرا * لكان سليمان البرئ من الدهر
براه إلهي واصطفاه عباده * وملكه ما بين ثريا إلى مصر
وسخر من جن الملائك تسعة * قياما لديه يعملون بلا أجر (2)
وقد قال الله تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " (3)، لان قريشا

(1) سورة التحريم: آية 6
(2) ملحق ديوان الأعشى الدهر هنا نكباته وفي المطبوعة " تربا " بدل
" ثريا "
(3) سورة الصافات: آية 58
152

قالت: الملائكة بنات الله
والجواب عما ذكره ثالثا من أن إبليس له نسل، (1) طريقه الآحاد، ولو كان
صحيحا، لم يمنع أن يكون الله ركب فيه شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف
وإن لم يكن ذلك في باقي الملائكة، فلا وجه لاستبعاده
والجواب عما ذكره رابعا قوله " جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة " (2)
فمعارض بقوله: " الله يصطفي من الملائكة رسلا " (3) فإن كان ظاهر تلك يقتضي
العموم فظاهر هذه يقتضي التخصيص، لان (من) للتبعيض، ولو لم يكن كذلك،
لجاز لنا أن نخص هذا العموم بقوله: (إلا إبليس) لان حمل الاستثناء على أنه
منقطع حمل له على المجاز كما أن تخصيص العموم مجاز، وإذا تعارضا، سقطا فأما
ما روي عن ابن عباس أن الملائكة كانت تقاتل الجن، فسبي إبليس، وكان صغيرا
مع الملائكة، فتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم، سجدوا إلا إبليس أبى،
فلذلك قال الله تعالى: " إلا إبليس كان من الجن " فإنه خبر واحد لا يصح
والمعروف عن ابن عباس ما قلناه أنه كان من الملائكة فأبى واستكبر وكان من
الكافرين ومن قال إن إبليس خلق من نار ومن مارج والملائكة لم يخلقها من ذلك
فقوله ضعيف، لأنه لا يمنع أن يكون الله تعالى خلق الملائكة أصنافا: صنفا من
نار، وصنفا من نور، وصنفا من غير ذلك، وصنفا آخر لا من شئ، فاستبعاد
ذلك ضعف معرفة (وإبليس) قال الزجاج والرماني وغيرهما من النحويين انه ليس
بمأخوذ من الابلاس كقوله " مبلسون " أي: آيسون من الخير قالوا: لأنه أعجمي
معرب بدلالة أنه لا ينصرف للعجمة والتعريف وقال الطبري: هو مشتق من
الابلاس ووزنه افعيل وأنشد العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا * قال نعم أعرفه وأبلسا
وقال رؤبة:

(1) زاد المصحح في المطبوعة في هذا الموضع " ان ذلك " وبدونه يصح المعنى
(2) سورة فاصل آية 1
(3) سورة الحج آية 75
153

وحضرت يوم الخميس الأخماس * وفي الوجوه صفرة وابلاس
يعني اكتئابا وكسوفا وقال: إنما لم يجر استثقالا، من حيث كان اسما لا نظير
له من أسماء العرب فشبه بأسماء العجم التي لا تنصرف وزعم أن إسحاق لا ينصرف
وهو من أسحقه الله إسحاقا، وأن أيوب من أب يئوب على زنة فعول كقيوم من
قام يقوم قال الرماني: غلط في جميع ذلك، لأنها ألفاظ أعربت من العجميه ووافقت
ألفاظ العربية وكان ابن السراج يمثل ذلك - على جهة التبعيد - بمن زعم أن
الطير ولد الحوت وغلط أيضا في قوله إنه لا نظير له في أسماء العرب، لأنهم يقولون:
إزميل للشفرة، قال الشاعر:
هم منعوا الشيخ المناجي بعد ما * رأي حمة الازميل فوق البراجم
والاعريض: الطلع، واحريض: صبغ أحمر، وقالوا: هو العصفر، وسيف
أصليت: ماض كثير الماء، وثوب اضريج: مشبع الصبغ، وقالوا: هو من الصفرة
خاصة وسبيل إبليس سبيل (إنجيل) في أنه معرب غير مشتق
وحد الاستكبار الرفع للنفس إلى منزلة لا تستحق قوله: " وكان من
الكافرين " قال قوم: يدل على أنه كان قبله قوم كفار من الجن وقال آخرون
لا يدل، ويجري ذلك مجرى قول القائل: كان آدم من الانس، ولم يكن قبله انسي
وكان إبليس من الجن ولم يكن قبله جني، ومعناه: صار من الكافرين ومن قال إن
إبليس كان من جملة الملائكة، قال: كان من جملة المأمورين بالسجود لآدم بدلالة
قوله: " ما منعك الا تسجد إذ أمرتك؟ " ولأنه استثناه من جملتهم ولم يكن
منهم، علمنا أنه كان من جملة المأمورين كقول القائل: أمر أهل البصرة بدخول
الجامع فدخلوا إلا رجلا من أهل الكوفة، فإنه يعلم بهذا ان غير أهل البصرة كان
مأمورا بدخول الجامع غيران أهل البصرة كانوا أكثر فلذلك خصوا بالذكر،
وكذلك القول في الآية ومن استدل بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من
من الايمان من حيث لو لم يكن كذلك، لوجب أن يكون إبليس مؤمنا بما معه
من المعرفة بالله وان فسق بابائه، فقد أبعد، لان المخالف يقول: إذا علمت كفره
154

بالاجماع علمت أنه لم يكن معه إيمان أصلا، كما إذا رأيت أنه يصلي للشمس علمت أن
معه كفرا، وان كانت، صلاته للشمس ليست كفرا فان قيل: إذا كانت " إذ "
لما مضى، فما معنى قوله: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني
وأمي إلهين من دون الله "؟ وكيف قال: " وإذ يتحاجون في النار "؟ قيل:
معنى ذلك كله على تقدير الاستقبال لان ما تحقق بمنزلة ما قد كان، كما قال:
" ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة "
قوله تعالى:
وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا
حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين آية
بلا خلاف
السكون والثبوت والهدوء نظائر، ومثله الاستقرار والاطمئنان والثبات
والمسكن والمأوى والمثوى بمعنى (واحد)، تقول: سكن يسكن سكونا إذ لبث في المكان
وسكن إذا سكت سكن الريح، وسكن المطر، وسكن الغضب والسكن هم العيال
وهم أهل البيت قال سلامة بن المجندل:
ليس بأسفى ولا أقنى ولا سغل * يسقي دواء قفي السكن مربوب
والمسكن المنزل، والسكن السكان، والسكن ان يسكن إنسان منزلا بلا كراء
والسكينة: الموادعة والوقار والسكن: الرحمة والبركة، كقوله: (إن صلاتك
سكن لهم) والمسكين: الذي لا شئ له - عند أبي عبيدة -، والفقير: الذي له شئ
وإن كان قليلا قال الشاعر:
أما الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سيد
وقوله تعالى: (اما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) قال أبو حاتم:
أحسنه - أنهم كانوا شركاء في سفينة لا يملكون سواها، فهذا يخالف أبا عبيدة
وسكان السفينة معروف عربي اشتقاقه من أنها تسكن به عن الحركة والاضطراب
155

ومعنى (أسكن أنت وزوجك الجنة): اجعله مأوى تأوي فيه وتسكن إليه، وقد
أعظم الله النعمة على آدم بما اختصه من علمه، وأسجد له ملائكته وأسكنه
جنته، وتلك نعمة على ولده، فالزمهم الشكر عليها، والقيام بحقها
والجنة التي أسكن فيها آدم، قال قوم: هي بستان من بساتين الدنيا، لان
جنة الخلد لا يصل إليها إبليس ووسوسته، واستدل البلخي على أنها لم تكن جنة
الخلد بقوله تعالى حكاية عن إبليس لما أغوى آدم، قال له: (هل أدلك على شجرة
الخلد؟) فلو كانت جنة الخلد لكان عالما بها، فلم يحتج إلى دلالة وقال الحسن البصري
وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وأكثر المعتزلة كأبي على والرماني وأبي بكر بن
الاخشيد وعليه أكثر المفسرين: انها كانت جنة الخلد، لان الألف واللام
للتعريف وصار كالعلم عليها قالوا: ويجوز أن يكون وسوسة إبليس من خارج
الجنة، فيسمعان خطابه ويفهمان كلامه، قالوا: وقول من يقول: ان جنة الخلد
من يدخلها لا يخرج منها لا يصح، لان معنى ذلك إذا استقر أهل الجنة في الجنة
للثواب، وأهل النار فيها للعقاب لا يخرجون منها، واما قبل ذلك فإنها تغنى
لقوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه)
(وزوجك الجنة) الزوج: بطرح الهاء قال الأصمعي: هو أكثر كلام
العرب، وقال الكسائي: أكثر كلام العرب بالهاء، وطرح الهاء لغة لأزد شنوءة،
ولفظ القرآن لم يجئ إلا بطرح الهاء وقال المبرد: الوجه طرح الهاء من الزوجة
وأنشد:
وأراكم لدى المحاماة عندي * مثل صوت الرجال للأزواج
جمع زوج، ولا يجوز أن يكون جمع زوجة وقال الرماني: قول الأصمعي
أجود، لان لفظ القرآن عليه، والعلة في ذلك أنه لما كانت الإضافة تلزم الاسم
في أكثر الكلام كانت مشبهة له، وكانت بطرح الهاء افصح وأخف مع الاستغناء
بدلالة الإضافة عن دلالة هاء التأنيث
وقوله تعالى: (وكلا) فالاكل والمضغ واللقم متقاربة، وضد الاكل
156

الازم وسأل عمر بن الخطاب الحارث بن كلدة طبيب العرب، فقال له: يا حار
ما الدواء؟ فقال: الازم، أي ترك الأكل والأكلة مرة، والأكلة اسم كاللقمة
والأكولة الشاة، والغنم التي ترعى للاكل لا للنسل، الاكال: أن يتأكل
عود أو شئ وأكيل الرجل: مآكله واكيل الذئب: الشاة وغيرها إذا أردت المأكولة
وإذا أردت به اسما قلت: اكيلة ذئب والمأكلة: ما جعل للانسان لا يحاسب
عليه ورجل وامرأة أكول: كثير الاكل والمأكل كالمطعم والمشرب والمأكل:
المطعم وأصل الباب الاكل وهو المضغ لذي الطعم ويقال الذي يشترك فيه
الحيوان كله فيه سوى الملائكة المأكل والمنكح والمشرب
و " الرغد " النفع الواسع الكثير الذي ليس فيه عناء وقال صاحب العين:
عيش رغد ورغيد: رفيه وقوم رغد ونساء رغد قال امرؤ القيس بن حجر:
بينما المرء تراه ناعما * يأمن الاحداث في عيش رغد
والرغيدة: الزبدة في بعض اللغات وأرغد الرجل ما شيته: إذا تركها وسومها
والمشيئة والإرادة بمعنى واحد وكذلك المحبة والاختيار وإن كان لها شروط
ذكرناها في أصول
" ولا تقربا " القرب والدنو والمجاورة متقاربة المعنى وضد البعد يقال:
قرب يقرب قربا واقترب اقترابا قال صاحب العين: القرب طلب الماء يقال: قرب
الماء يقرب وقد قربه قربا إذا طلبه ليلا ولا يقال لطالب الماء نهارا قارب والقراب
للسيف والسكين والفعل منه: قربت قرابا وقيل قربت اقرابا والقربان: ما تقربت به
إلى الله تعالى وقربان الملك وقرا بينه: وزراؤه والقربى: حق ذي القرابة وقرب
فلان أهله: إذا غشيها قربانا وما قربت هذا الامر ولا فلانا قربانا وقربى
والشجرة: كل ما قام على ساق من النبات وهو اسم يعم النخلة والكرمة
وغيرهما وما لم يقم على ساق لا يسمى شجرا كالبقل والحشيش واما اليقطين
كالقرع والبطيخ فقد سمي شجرا قال الله تعالى: " وأنبتنا عليه شجرة من يقطين "
قال صاحب العين: الشجرة واحدة تجمع على الشجر والشجرات والأشجار واختلفوا
157

في الشجرة التي نهى الله آدم عنها فقال ابن عباس: هي السنبلة وقال ابن مسعود
والسدي وجعفر بن زهير: هي الكرمة وقال ابن جريج هي التينة وروي عن
علي (عليه السلام) أنه قال: شجرة الكافور وقال الكلبي: شجرة العلم على الخير
والشر وقال ابن جذعان: هي شجرة الخلد التي كان يأكل منها الملائكة
والأقاويل الثلاثة الأولة أقرب
" فتكونا من الظالمين " الظلم والجور والعدوان متقاربة وضد الظلم الانصاف
وضد الجور العدل واصل الظلم انتقاص الحق لقوله تعالى: " كلتا الجنتين أتت
اكلها ولم تظلم منه شيئا " أي لم تنقص وقيل: أصله وضع الشئ في غير موضعه
من قولهم: من يشبه أباه فما ظلم أي فما وضع الشبه في غير موضعه وكلاهما مطرد
وعلى الوجهين فالظلم اسم ذم ولا يجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله:
" ألا لعنة الله على الظالمين " ولا يجوز اطلاقه على أنبياء الله تعالى ولا الأئمة
المعصومين وظالم ومسئ وجائر: أسماء ذم وهو فاعل لما يستحق به الذم من الضرر
وضدها عادل ومنصف ومحسن وهي من صفات المدح ويقول المعتزلة لصاحب
الصغيرة: ظالم لنفسه ومن نفى الصغيرة عن الأنبياء من الامامية قال: يجوز أن
يقال: ظالم لنفسه إذا بخسها الثواب كقوله " ظلمت نفسي " وقوله: " إني كنت
من الظالمين " حكاية عن يونس من حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه
والظلم هو الضرر المحض الذي لا نفع فيه أو عليه آجلا، ولا فيه دفع ضرر أعظم منه
ولا هو واقع على وجه المدافعة، ولا هو مستحق فما هذه صفته يستحق به الذم
إذا وقع من مختار عالم أو متمكن من العلم به وروي ان الله تعالى ألقى على آدم
النوم، وأخذ منه ضلعا فخلق منه حواء وليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة
جسد آدم بعد أن لا يكون جزء، أو مما لا يتم كون الحي حيا إلا معه، لان ما
هذه صفته لا يجوز أن ينقل إلى غيره، أو يخلق منه حي آخر من حيث يؤدي
إلى أن لا يصل الثواب إلى مستحقه، لان المستحق لتلك الجملة بأجمعها وهذا قول
الرماني وغيره من المفسرين، ولذلك قيل للمرأة: ضلع أعوج وقيل سميت امرأة
158

لأنها خلقت من المرء فأما تسميتها حواء: لما أدخل آدم الجنة واخرج منها إبليس
ولعن وطرد فاستوحش: فخلقت ليسكن إليها فقالت له الملائكة تجربة لعلمه:
ما اسمها؟ قال حواء قالوا لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شئ حي
وقال ابن إسحاق: خلقت من ضلعه قبل دخوله الجنة، ثم دخلا جميعا الجنة
لقوله تعالى: " يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة " التي كان فيها آدم في السماء،
لأنه أهبطهما منها وقال أبو مسلم محمد بن يحيى: هي في الأرض، لأنه امتحنهما
فيها بالنهي عن الشجرة التي نهاهما عنها دون غيرها من الثمار
و " حيث " مبنية على الضم كما تبنى الغاية: نحو من قبل ومن بعد، لأنه
منع من الإضافة (إلى المفرد) كما منعت الغاية من الإضافة إلى مفرد
وقوله: " ولا تقربا هذه الشجرة " صيغته صيغة النهي والمراد به الندب
عندنا لأنه دل الدليل على أن النهي لا يكون نهيا إلى بكراهته للمنهي عنه والله
تعالى لا يكره إلا القبيح والأنبياء لا يجوز عليهم القبائح: صغيرها ولا كبيرها
وقالت المعتزلة: إن تلك كانت صغيرة من آدم - على اختلافهم في أنه كان منه
عمدا أو سهوا أو تأويلا - وإنما قلنا لا يجوز عليهم القبائح، لأنها لو جازت عليهم
لوجب أن يستحفوا بها ذما، وعقابا وبراءة ولعنة، لان المعاصي كلها كبائر عندنا
والاحباط باطل ولو جاز ذلك لنفر عن قبول قولهم وذلك لا يجوز عليهم كما لا
يجوز كل منفر عنهم من الكبائر والخلق المشوهة والأخلاق المنفرة ولا خلاف
أن النهي يتناول الا كل دون القرب كأنه قال: لا تقربا بالاكل لأنه لا خلاف
أن المخالفة وقعت بالاكل لا بالدنو منها ولذلك قال: " فاكلا منها فبدت لهما سوأتهما "
وقوله: " فتكونا " يحتمل أن يكون جوابا للنهي فيكون موضعه نصبا
وهو الأقوى ويحتمل أن يكون عطفا على النهي فيكون موضعه جزما وكلاهما
جيد محتمل ومتى كان جوابا كان تقديره: إن قربتما كنتما من الظالمين، لأنه يتضمن
معنى الجواب وإذا كان عطفا على النهي فكأنه قال: لا تكونا من الظالمين وأجاز
البصريون من أهل العدل أن يبتدئ الله الخلق في الجنة فينعمهم فيها تفضلا منه
159

لا على وجه الثواب، لان ذلك نعمة منه تعالى كما أن خلقهم وتكليفهم وتعريضهم
للثواب نعمة منه، وله أن يفعل ما يشاء من ذلك وقال أبو القاسم البلخي: لا يجوز
خلقهم في الجنة ابتداء، لأنه لو جاز ذلك، لما خلقهم في دار المحنة، ولما ابتلى من
يعلم أنه يكفر ويصير إلى عذابه وإنما لم يجز أن يخلقهم ابتداء في الجنة، لأنه لو
خلقهم فيها، لم يخل: إما أن يكونوا متعبدين بالمعرفة لله والشكر، أو لا يكونوا
كذلك فلو كانوا غير متبعبدين، كانوا مهملين ولذلك لا يجوز ولو كانوا متعبدين
لم يكن بد من ترغيب وترهيب ووعد، ووعيد ولو كانوا كذلك كانوا على ما هم
عليه في دار الدنيا وكان لا بد من دار أخرى يجازون فيها ويخلدون وأجاب عن
ذلك الأولون بان قالوا: لو ابتدأ خلقهم في الجنة لاضطرهم إلى معرفته، وألجأهم
إلى فعل الحسن وترك القبيح ومتى راموا القبيح، منعوا منه فلا يؤدي ذلك إلى
ما قاله: كالحور العين والأطفال والبهائم إذا حشرهم يوم القيامة
فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم
لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين آية
بلا خلاف
القراءة:
قرأ حمزة وحده " وأزالهما " بألف وتخفيف اللام الباقون بتشديد اللام
وحذف الألف
اللغة:
الزلة والمعصية والخطيئة والسيئة بمعنى واحد وضد الخطيئة الإصابة ويقال:
زل زلة، وأزله إزلالا، واستزله استزلالا وقال صاحب العين: زل السهم عن النزع زليلا
وزل فلان عن الصخر زليلا فإذا زلت قدمه، قلت: زل زلا فإذا زل في مقالة أو
خطبة قلت: زل زلة قال الشاعر:
هلا على غيري جعلت الزلة
160

وأزله الشيطان عن الحق: إذ أزاله والمزلة: المكان الدحض (1) والمزلة:
الزلل في الدحض والزلل: مثل الزلة في الخطأ والازلال: الانعام وفي الحديث:
(من أزلت إليه فليشكرها) بمعنى أسديت قال كثير:
وإني - وإن صدت - لمثن وصادق * عليها بما كانت إلينا أزلت (2)
ويقال: أزللت إلى فلان نعمة، فأنا أزلها إزلالا فالأصل في ذلك الزوال
والزلة: زوال عن الحق
ومعنى " أزالهما " (3): نحاهما من قولك: زلت عن المكان: إذا تنحيت
منه والوجه ما عليه القراء (4) لان هذا يؤدي إلى التكرار، لأنه قال بعد ذلك
" فأخرجهما " فيصير تقدير الكلام: فأخرجهما الشيطان عنها فأخرجهما وذلك
لا يجوز ويحسن أن يقول: استزلهما فأخرجهما ومن قرأ: " أزالهما "، أراد
المقابلة بين قوله: " أزالهما " وبين قوله: " أسكن "، لان معناه: أسكن وأثبت
أنت وزوجك وتقديره: أثبتا، فأراد أن يقابل ذلك فقال: " فأزالهما " فقابل
الزوال بالثبات وإنما نسب الازلال والاخراج إلى الشيطان لما وقع ذلك
بدعائه ووسوسته وإغوائه ولم يكن إخراجهما (5) من الجنة على وجه العقوبة،
لأنا قد بينا أن الأنبياء لا يجوز عليهم القبائح على حال ومن أجاز عليهم العقاب، فقد
أعظم الفرية وقبح (6) الذكر على الأنبياء وإنما أخرجهم من الجنة، لأنه
تغيرت المصلحة لما تناول من الشجرة، واقتضى التدبير والحكمة تكليفه في الأرض
وسلبه ما ألبسه الله (تعالى) من لباس الجنة وقال قوم: إن إلباس الله له ثياب
الجنة كان تفضلا وللمتفضل أن يمنع ذلك تشديدا للمحنة كما يفقر بعد الغنى،
ويميت بعد الاحياء، ويسقم بعد الصحة
فان قيل: كيف وصل إبليس إلى آدم حتى أغواه ووسوس إليه وآدم كان

(1) الدحض بفتح الحاء وسكونها، من الأمكنة: الزلق ج: دحاض
(2) في المطبوعة والمخطوطة (عليا) بدل (عليها) الديوان
(3) على قراءة حمزة
(4) أي بتشديد اللام
(5) في المخطوطة (باخراجهما)
(6) وفتح خ ل
161

في الجنة، وإبليس قد أخرج منها حين تأبي من السجود؟ قيل: عن ذلك أجوبة:
إحداها - ان آدم كان يخرج إلى باب الجنة، وإبليس لم يكن ممنوعا من الدنو منه،
وكان يكلمه ويغويه
(الثاني) - وقال آخرون: انه كلمهما من الأرض بكلام فهماه (1) منه وعرفاه
(والثالث) - قال قوم: إنه دخل في فقم الحية، وخاطبها من فقمها
والفقم: جانب الشدق
(والرابع) - قال قوم: راسلهما بالخطاب وظاهر الكلام يدل على أنه شافههما
بالخطاب
(والخامس) - وقال قوم: يجوز أن يكون قرب من السماء فكلمهما
فأما ما روي عن سعيد بن المسيب: - أنه كان يخلف ولا يستثني، أن آدم
ما أكل من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر، قادته
إليها فأكل - فإنه خبر ضعيف وعند أصحابنا، أن الخمرة كانت محرمة في سائر الشرائع
ومن لم يقل ذلك، يقول: لو كان كذلك، لما توجه العتب على آدم، ولا كان
عاصيا بذلك والامر بخلاف ذلك وإنما قلنا ذلك: لان النائم غير مكلف في حال
نومه، لزوال عقله، وكذلك المغمى عليه، وكذلك السكران وإنما يؤاخذ
السكران بما يفعله في شرعنا، لما ثبت تحريم ما يتناوله اسم المسكر والا فحكمه
حكم النائم عقلا وقد قلنا: إن أكلهما من الشجرة كان على وجه الندب، دون أن
يكون ذلك محظورا عليهما، لكن لما خالفا في ترك المندوب إليه تغيرت المصلحة،
واقتضت إخراجهما من الجنة وقد دللنا على ذلك في ما مضى
(والسادس) - وقال قوم: تعمد ذلك
(والسابع) - وقال قوم آخرون: نهي عن جنس الشجرة، واخطأ
(والثامن) - وقال قوم: إنه تأول (2) النهي الحقيقي، فحمله على الندب

(1) في المخطوطة (وتكلما منه وعرفاه)
(2) في المخطوطة والمطبوعة (ناول)
162

وأخطأ وقد قدمنا ما عندنا فيه فان قيل: كيف يكون ذلك ترك الندب مع
قوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه "؟ قلنا التوبة: - قيل - الرجوع
ويجوز ان يرجع تارك الندب عن ذلك،... (1) يكون تائبا ومن قال:
وقعت معصيته محبطة... (2) بها يخرج عن الاصرار كما لحد (3)..
(4) الأولى أسقطت العقاب... (5) وإبليس يقول لهما: " مانها كما ربكما
عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما: اني
لكما لمن الناصحين " قيل: ما قبلا ذلك من إبليس، ولو قبلاه لكانت المعصية
أعظم فلما لم يعاتبهما الله على ترك ذلك، دل على أنهما لم يقبلا وهذا جواب من
يقول: انه كان صغيرا، (6) أو كان ناسيا وعلى ما قلناه - أن ذلك كان ندبا
لا يحتاج إلى ذلك، بل دليل العقل أمننا من وقوع قبيح من آدم، والأنبياء فلو
كان صريحا، لتركنا ظاهره لقيام الدليل على خلافه على أنه لا يمنع أن يقاسمهما:
إنه لمن الناصحين في ترك الندب وإنما ظاهر النهي تركه يوجب أن يصيرا من
الخالدين
وقوله " مما كانا فيه " يحتمل أن يكون أراد: من لباسهما حتى بدت لهما
سوآتهما ويحتمل أن يكون من الجنة، حتى أهبطا ويحتمل أن يكون أراد: من
الطاعة إلى المعصية
اللغة:
وقوله: " اهبطوا " فالهبوط والنزول والوقوع نظائر ونقيض الهبوط
والنزول الصعود يقال: هبط يهبط: إذا انحدر في هبوط من صعود والهبوط
اسم كالحدور، وهو الموضع الذي يهبط من أعلى إلى أسفل والهبوط: المصدر
قال ابن دريد: هبطته واهبطته
والعداوة، والبراءة، والمباعدة، نظائر وضد العدو، الولي والعدو:

(1) في الأصل بياض
(2) بياض
(3) (لحد) هكذا في الأصل
(4) بياض
(5) بياض
(6) في المخطوطة (صغيرا وكان) وفي المطبوعة (صغيرا ولو كان)
163

الحضر (1) - خفيف - والعدو: - ثقيل - يقال في التعدي وقرئ: " فيسبوا
الله عدوا - وعددوا - بغير علم " (2) والعدوان: الظلم والعدوي: طلبك إلى
وال ليعديك على من ظلمك - أي ينتقم لك - والعدو اسم جامع للواحد والاثنين
والجمع والمذكر والمؤنث فإذا جعلته نعتا، قلت: الرجلان عدواك، والرجال
أعداؤك، والمرأتان عدوتاك، والنسوة عدواتك وأصل الباب: المجاوزة يقال:
لا يعدونك هذا الامر - أي يتجاوزنك
المعنى:
وقوله: " اهبطوا " إنما قال بالجمع، لأنه يحتمل أشياء:
أحدها - أنه خاطب آدم وحواء وإبليس، فيصلح ذلك، وإن كان إبليس
أهبط من قبلهما يقال: أخرج جمع من الجيش - وان خرجوا متفرقين - اختار
هذا الزجاج
والثاني - أنه أراد آدم وحواء والحية
والثالث - آدم وحواء وذريتهما
والرابع - قال الحسن: إنه أراد آدم وحواء والوسوسة وظاهر القول وإن كان
أمرا فالمراد به التهديد كما قال: " اعملوا ما شئتم "
وقوله: " مستقر " قرار، لقوله: " جعل لكم الأرض قرارا " وقيل:
مستقر في القبور والأول أقوى وأحسن
اللغة:
والقرار: الثبات، والبقاء مثله وضد القرار الانزعاج وضد الثبات الزوال
وضد البقاء الفناء ويقال: قر قرارا والاستقرار: الكون من وقت واحد
على حال " والمستقر " يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار، ويحتمل أن يكون بمعنى
المكان الذي يستقر فيه

(1) الحضر، بضم الحاء وتسكين الضاد: الاسم من أحضر الفرس أي عدا
(2) سورة الأنعام آية: 108
164

وقوله: " ومتاع إلى حين " والمتاع والتمتع والتلذذ والمتعة متقاربة المعنى
وضدها التألم يقال: أمتعه به إمتاعا، وتمتع تمتعا، واستمتع استمتاعا، ومتعه
تمتيعا، ومتع النهار متوعا - وذلك قبل الزوال - والمتاع من أمتعة البيت:
ما يتمتع به الانسان من حوائجه وكل شئ تمتعت به فهو متاع ومنه متعة
النكاح، ومتعة المطلقة، ومتعة الحج
وقوله: " إلى حين " فالحين، والمدة والزمان، متقاربة والحين الهلاك
حان يحين وكل شئ لم يوفق للرشاد، فقد حان حينا والحين: الوقت من الزمان
وجمعه أحيان وجمع الجمع، أحايين ويقال: حان يحين حينونة وحينت الشئ:
جعلت له حينا وحينئذ يبعد قولك: الآن فإذا باعدوا بين الوقتين، باعدوا ب‍ (إذ)
فقالوا: حينئذ والحين: يوم القيامة وأصل الباب، الوقت والحين: وقت
الهلاك ثم كثر، فسمي الهلاك به والحين: الوقت الطويل
المعنى:
وقيل: ال‍ " حين " في الآية يعني الموت وقيل إلى يوم القيامة وقيل:
إلى أجل وقال ابن سراج: إذا قيل: " ولكم في الأرض مستقر ومتاع "
لظن أنه غير منقطع فقال: " إلى حين " انقطاعه والفرق بين قول القائل: هذا
لك حينا، وبين قوله: إلى حين أن إلى تدل على الانتهاء، ولا بد أن يكون له
ابتداء وليس كذلك الوجه الآخر
معنى قوله: " بعضكم لبعض عدو " قال الحسن: يعني بني آدم، وبني
إبليس وليس ذلك بأمر على الحقيقة، بل هو تحذير، لان الله لا يأمر بالعداوة
وفي الآية دلالة على أن الله تعالى لا يريد المعصية ولا يصد أحدا عن طاعته،
ولا يخرجه عنها ولا تنسب المعصية إليه، لأنه نسب ذلك إلى الشيطان، وهو
يتعالى عما عاب به الأبالسة والشياطين
165

فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب
الرحيم - آية (37)
قرأ ابن كثير (آدم) بنصب الميم (كلمات) برفع التاء
اللغة:
يقال: لقي زيد خيرا فيتعدى الفعل إلى مفعول واحد ومنه قوله فإذا
لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " (1) وقوله: " إذا لقيتم فئة فاثبتوا " (2)
و " لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " (3) فإذا ضعفت العين تعدى إلى مفعولين
تقول: لقيت زيدا خيرا قال الله تعالى: " ولقاهم نضرة وسرورا " (4)
وتقول: لقيت بعض متاعك على بعض، فتعديه إلى مفعول واحد لأنه بناء مفرد
لا لأنه منقول ليتعدى إلى مفعولين وتقول: لقيته لقية واحدة في التلاقي
واللقيان (5) ولقيته لقاء ولقيانا ولقاة وقوله: " تحيتهم يوم يلقونه سلام " (6)
معناه يلقون ثوابه بخلاف قوله: " يلقون غيا " (7)
المعنى:
ومعنى " تلقى آدم من ربه كلمات " تعلمها يقال: تلقيت هذا من فلان
أي قبله فهمي من لفظه قال أبو عبيدة: قال أبو مهدية: - وتلا عليه آيات (8)
من القرآن قال: تلقيتها من عمي تلقاها من أبي هريرة، تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وآله
وأصل الملاقاة الملاصقة، لكنه كثر حتى قيل: لاقى فلان فلانا: إذا قاربه، وإن
لم يلاصقه وكذلك تلاقى الجيشان، وتلاقي الفرسان ويقال: تلاقى الخطان
أي تماسا وتقول: تلقيت الرجل بمعنى استقبلته وتلقاني: استقبلني فعلى هذا
يجوز في العربية رفع ادم، ونصبه، مع رفع الكلمات والاختيار قراءة الأكثر،
لان معنى التلقي ههنا القبول فكأنه قال: قبل (9) آدم من ربه كلمات وإنما

(1) سورة محمد: آية 4
(2) سور الأنفال آية 46
(3) سورة الكهف: آية 63
(4) سورة الدهر: آية 11
(5) في المخطوطة (والقتال)
(6) سورة الأحزاب: 44
(7) سورة مريم: 59
(8) في المخطوطة (الآية)
(9) في المخطوطة (لقي)
166

جاز نصب آدم، لان الافعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة أقسام: أحدها
يجوز أن يكون الفاعل له مفعولا به والمفعول به فاعلا نحو أكرم بشر بشرا وشتم
زيد عمرا
(ثانيها) ومنها لا يكون المفعول به فاعلا، نحو: أكلت الخبز، وسرقت
درهما، وأعطيت دينارا، وأمكنني الغرض
(وثالثها) ما يكون اسناده إلى الفاعل في المعنى كاسناد إلى المفعول، نحو:
أصبت ونلت، وتلقيت تقول: نالني خير، ونلت خيرا، وأصابني خير، وأصبت
خيرا ولقيني زيد، ولقيت زيدا وتلقاني، وتلقيته وقال تعالى: " وقد بلغني
الكبر " (1) وقال: " وقد بلغت من الكبر عتيا " (2) فعلى هذا الرفع والنصب
في المعنى واحد في الآية وإنما أجيز رفع آدم، لان عليه الأكثر وشواهده
أكثر كقوله " تلقونه بألسنتكم " (3) واسند الفعل إلى المخاطبين والمفعول به كلام
متلقى كما أن الذي تلقى آدم كلام متلقى وكما اسند الفعل إلى المخاطبين فجعل التلقي
لهم كذلك يلزم ان يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التلقي له دون الكلمات واما على ما
قال أبو عبيدة معناه قبل الكلمات، فالكلمات مقبولة، فلا يجوز غير الرفع في آدم
ومثل هذا في جواز اضافته تارة إلى الفاعل، وأخرى إلى المفعول كقوله:
" لا ينال عهدي الظالمين " (4) وفي قراءة ابن مسعود: " لا ينال عهدي الظالمون "
والكلمات جمع كلمة والكلمة: اسم جنس لوقوعه على الكثير والقليل يقولون: قال
امرؤ القيس في كلمته يعني في قصيدته وقال قس (5) في كلمته يعنون في
خطبته فوقوعها على الكثير نحو ما قلناه ووقوعها (6) على القليل قال سيبويه:
قال قد أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد فأما الكلام فان
سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلفا من هذه الكلم فقال: لو قلت: إن تضرب ناسا
لم يكن كلاما وقال أيضا: إنما، فقلت، ونحوه، ما كان كلاما (بل) (7) قولا

(1) سورة آل عمران: آية 4
(2) سورة مريم: آية 7
(3) سورة النور: آية 15
(4) سورة البقرة: آية 124
(5) في المخطوطة (قيس)
(6) في المطبوعة (وقوعها)
(7) في المخطوطة والمطبوعة بدون (بل) ولا يستقيم السياق بدونها
167

وأوقع الكلام على المتألف والذي حرره المتكلمون ان حد الكلام ما انتظم
من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المنقولة، إذا وقع ممن يصح منه أو من قبله
الإفادة ثم ينقسم قسمين: مفيد، ومهمل فالذي أراد سيبويه أنه لا يكون
كلاما، أنه لا يكون مفيدا وذلك صحيح فأما تسميته بأنه كلام، صحيح
وكيف ولا يكون صحيحا، وقد قسموه إلى قسمين: مهمل، ومفيد، فأدخلوا المهمل
الذي لا يفيد في جملة الكلام
والكلمة والعبارة، والإبانة، نظائر وبينها فروق والفرق بين الكلمة
والعبارة، أن الأظهر في الكلمة هي الواحدة من جملة الكلام - وان قالوا في القصيدة
أنها الكلمة - والعبارة تصلح للقليل والكثير وأما الإبانة فقد تكون بالكلام،
والحال، وغيرهما من الأدلة: كالإشارة والعلامة، وغير ذلك وأما النطق فيدل
على إدارة اللسان بالصوت، وليس كذلك الكلام ولهذا يقولون: ضربته فما تكلم، ولا
يقولون: فما نطق، إذا كان صاح وكذلك لا يجوز أن يقال في الله: إنه ناطق
وأما اللفظ فهو من قولك: لفظت الشئ: إذا أخرجته من فمك وليس في الكلام
مثل ذلك ويقال: كلمته تكليما وكلاما (1) وتكلم تكلما ولذلك لا يجوز أن يقال
فيه تعالى لفظ، ولا أنه لافظ والكلم: الجرح والجمع: الكلوم يقال: كلمته
أكلمه كلمما، فأنا كالم، وهو مكلوم وكليمك: الذي يكلمك ويقال: كلمة
وكلمة (2) لغة تميمية، وقيل إنها حجازية وتميم حكي عنها كلمة بكسر الكاف
وتسكين اللام، وحكي تسكين اللام مع فتح الكاف وأصل الباب أنه أثر دال
والكلم أثر دال على الجارح والكلام أثر دال على المعنى الذي تحته والمتكلم:
من رفع ما سميناه كلاما بحسب دواعيه وأحواله وربما (3) عبر عنه بأنه الفاعل
للكلام وليس المتكلم من حله (4) الكلام، لان الكلام يحل اللسان والصدر
ولا يوصفان بذلك وقد بينا فساد الكلام النفسي (5) في كتاب العدة، في أصول

(1) في المخطوطة (تكلما وتكلما)
(2) في المخطوطة " وكلم "
(3) في المخطوطة " قديما "
(4) في المخطوطة " من جملة "
(5) في المخطوطة " النفسي " ساقطة
168

الفقه وقلنا: إن اختصر ذلك، هل هو إلا الخبر، أو ما معناه معنى الخبر، وإن
كان لكل قسم معنى يخصه؟
المعنى:
والكلمات التي تلقاها آدم قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: " ربنا
ظلمنا أنفسنا وإن تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " (1) فان في ذلك اعترافا
بالخطيئة، ولذلك وقعت موقع الندم وحقيقته الإنابة وحكي عن مجاهد أنه قال:
هو قول آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي
فاغفر لي إنك خير الغافرين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني
ظلمت نفسي فارحمني، إنك أنت خير (2) الراحمين اللهم (3) لا إله إلا أنت
سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم
وروى مثل ذلك عن أبي جعفر عليه السلام وحكي عن ابن عباس: أن آدم قال
لربه إذ عصاه: أرأيت أن تبت وأصلحت؟ فقال له تعالى: إني راجعك إلى الجنة
وكانت هذه الكلمات وروي في أخبارنا: أن الكلمات هي توسله بالنبي عليه السلام
وأهل بيته وكل ذلك جائز
قوله " فتاب عليه "
اللغة:
فالتوبة، والإنابة، والاقلاع، نظائر في اللغة وضد التوبة: الاصرار
يقال: تاب يتوب توبة، وتوابا واستنابة والله تعالى يوصف بالتواب ومعناه
أنه يقبل التوبة عن عباده وأصل التوبة: الرجوع عما سلف، والندم على ما فرط
والله تعالى تائب على العبد بقبول توبته والعبد تائب إلى الله بمعنى نادم على معصيته
والتائب: صفة مدح لقوله (4): " التائبون العابدون " (5) والتوبة شرطها

(1) سورة الأعراف: آية 22 و 148
(2) في المخطوطة " أرحم "
(3) في المخطوطة " اللهم " ساقطه
(4) في المخطوطة " كقوله "
(5) سورة التوبة: آية 113
169

الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله من القبيح، لأن هذه
التوبة هي المجمع على سقوط العقاب عندها، وما عداها فمختلف فيه وقد
يقول القائل: قد تبت من هذا الامر أي (1) عزمت على ألا أفعله، وصرت بمنزلة
التائب، وذلك مجاز وكل معصية لله تعالى فإنه يجب التوبة منها، والتوبة يجب
قبولها، لأنها طاعة فأما إسقاط العقاب عنده فتفضل منه تعالى وقالت المعتزلة
ومن وافقها: وذلك واجب وقد بينا الصحيح من ذلك في شرح الجمل والتوبة
إذا كانت من ترك ندب عندنا تصح وتكون على وجه الرجوع إلى فعله وعلى
هذا تحمل توبة الأنبياء كلهم في جميع ما نطق به القرآن، لأنه قد بينا أنه لا يجوز
عليهم فعل القبيح والمطبوع على قلبه له توبة وبه قال أهل العدل وقالت البكرية
لا توبة له وهو خطأ، من قبل انه لا يصح تكليفه إلا وهو متمكن من أن
يتخلص من ضرر عقابه وذلك لا يتم إلا بأن يكون له طريق إلى إسقاط عقابه
وقد وعد الله بذلك - وإن كان تفضلا - إذا حصلت التوبة واختلفوا في التوبة
من الغصب، هل تصح مع الإقامة على منع المغصوب؟ فقال قوم: لا تصح: وقال
آخرون: تصح - وهو الأقوى - إلا أن يكون فاسقا بالمنع، فيعاقب (2)
عقاب المانع، وإن سقط عنه عقاب الغصب والصحيح أن القاتل عمدا تصح توبته
وقال قوم: لا تصح والتوبة من القتل الذي يوجب القود، قال قوم: لا تصح
إلا بالاستسلام لولي المقتول، وحصول الندم، والعزم على أن لا يعود وقال قوم
آخرون: تصح التوبة من نفس القتل، ويكون فاسقا بترك الاستسلام وهذا هو
الأقوى، واختاره الرماني فاما التوبة من قبيح بفعل آخر، فلا تصح على أصلنا
كالتائب من الالحاد بعبادة المسيح وقال قوم: تصح وأجراه مجرى معصيتين يترك
بإحداهما الأخرى، فإنه لا يؤاخذ بالمتروكة وقال قوم: التوبة من اعتقاد جهالة
إذا كان صاحبها لا يعلم أنها معصية بأنه يعتقد انه لا محجوج إلا عارف، فإنه يتخلص
من ضرر تلك المعصية إذا رجع عنها إلى المعرفة، وإن لم يوقع معها توبة وقال

(1) في المخطوطة " يعين " بدل أي
(2) في المطبوعة والمخطوطة " يعاقب " بدون الفاء
170

آخرون: لا يتخلص إلا بالتوبة، لأنه محجوج فيه، مأخوذ بالنزوع عن الإقامة
عليه، وهو الأقوى فأما ما نسي من الذنوب، فإنه يجري مجرى التوبة منه على
وجه الجملة وقال قوم: لا يجري وهو خطأ، لأنه ليس عليه في تلك الحال
أكثر مما عمل فأما ما نسي من الذنوب مما لو ذكر، لم يكن عنده معصية وهل
يدخل في الجملة إذا أوقع التوبة من كل خطيئة؟ قال قوم: يدخل فيها وقال آخرون
لا يدخل فيها، لكنه يتخلص من ضرر (1) المعصية، لأنه ليس عليه أكثر مما
علم في تلك الساعة والأول أقوى، لان العبد إذا لم يذكر صرف توبته إلى كل
معصية هي في معلوم الله معصية فأما المشرك إذا كان يعرف قبل توبته بفسق
- إذا تاب من الشرك - هل يدخل فيه التوبة من الفسق في الحكم، وإن لم
يظهر التوبة منه؟ قال قوم: لا يزول عنه حكم الفسق، وهو قول أكثر المعتزلة
وقال قوم: يزول عنه حكم الفسق وقال الاخشيد: القول في هذا باجتهاد والذي
يقوى في نفسي انه يزول، لان الاسلام الأصل فيه العدالة إلى أن يتجدد منه
بعد الاسلام ما يوجب تفسيقه فأما التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر،
يعلم ويعتقد قبحه، فعند أكثر من تقدم صحيحة وقال أبو هاشم، وأصحابه:
لا تصح وقد قلنا ما عندنا في ذلك، في شرح الجمل واعتمد الأولون على أن قالوا:
كما يجوز ان يمتنع من قبيح لقبحه، ويفعل قبيحا آخرا، وإن علم قبحه كذلك
جاز ان يندم من القبيح، مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه وهذا إلزام صحيح
معتمد واختلفوا في التوبة عند ظهور اشراط الساعة، هل تصح أم لا؟ فقال الحسن:
يحجب عنها عند الآيات الست. ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: بادروا الاعمال
قبل ست: طلوع الشمس من مغربها: والدجال، والدخان ودابة الأرض،
وخويصة أحدكم يعني الموت، وأمر العامة يعني القيامة. وقال قوم: لا شك
أن بعض الآيات يحجب، وباقيها محجوز. وهو الأقوى.
وقوله: " فتاب عليه " يعني قبل توبته، لأنه لما عرضه للتوبة، بما ألقاه

(1) في المخطوطة " ضرب "
171

من الكلمات فعل التوبة، وقبلها الله تعالى منه (وقيل تاب عليه أي وفق للتوبة
وهداه إليها) (1) فقال اللهم تب علي أي وفقني للتوبة. (فلقنه الكلمات حتى
قالها فلما قالها قبل توبته). (2)
وقوله: " إنه هو التواب الرحيم " إنما ذكر الرحيم، ليدل بذلك على أنه
متفضل بقبول التوبة، ومنعم به، وأن ذلك ليس هو على وجه الوجوب، على ما
يقوله المخالف. ومن خالف في ذلك يقول: لما ذكر التواب بمعنى الغفار باسقاط
العقوبة، وصل ذلك بذكر النعمة، ليدل على أنه مع إسقاط العقوبة، لا يخلي العبد
من النعمة الحاصلة ترغيبا له، وفي الإنابة والرجوع إليه بالتوبة. " وتواب " بمعنى
أنه قابل التوبة. لا يطلق إلا عليه تعالى، ولا يطلق في الواحد منا. وإنما قال:
" فتاب عليه ". ولم يقل فتاب عليهما، لأنه اختصر، كما قال: " والله ورسوله
أحق أن يرضوه " (3) ومعناه أن يرضوهما. كذلك معنى الآية فتاب عليهما
ومثل ذلك قوله: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " (4) وقال الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا، ومن جول الطوي رماني (5)
وقال آخر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف (6)
وحكي عن الحسن، أنه قال: لم يخلق الله آدم إلا للأرض، ولو لم يعص
لخرج على غير تلك الحال. وقال غيره: يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى
ولغيرها ان لم يعص وهو الأقوى لان ما قاله لا دليل عليه وروي عن قتادة: ان
اليوم الذي قبل الله توبة آدم فيه يوم عاشوراء ورواه أيضا أصحابنا

(1) ز نا ما بين القوسين وهو موجود في مجمع البيان ص 89 م 1 تفسير نفس الآية
والسياق هنا يقتضي ذلك
(2) ز نا ما بين القوسين وهو موجود في مجمع البيان ص 89 م 1 تفسير نفس الآية
والسياق هنا يقتضي ذلك
(3) سورة التوبة: آية 64
(4) سورة الجمعة آية 11
(5) قال ابن بري:
البيت لابن أحمر قال: وقيل هو للأزرق بن طرفة بن العمرد " بفتح العين وفتح الميم وتشديده "
الفراصي الجول: جانب البئر. الطوي: البئر، لأنها تطوى بالحجارة. ومعنى البيت: رماني بأمر
عاد عليه قبحه، لان الذي يرمي من جول البئر يعود ما رمى به عليه ويروى: ومن اجل الطوي قال
وهو الصحيح - لسان العرب -
(6) البيت لقيس بن الخطبم، شاعر جاهلي، قتل أبوه وهو صغير فلما بلغ قتل قاتل أبيه ونشأت بسبب ذلك حروب بين قومه وبين الخزرج وله ولد اسمه ثابت
وهو من الصحابة، شهد مع علي - ع - صفين والجمل والنهروان (1) في آية " 36 " البقرة
172

قوله تعالى:
(قلنا اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (38)
آية بلا خلاف
المعنى:
قد بينا معنى الهبوط فيما مضى (1) بما فيه كفاية وقال الجبائي: الهبوط
الأول: هو الهبوط من الجنة إلى السماء، وهذا الهبوط من السماء إلى الأرض
وقد يستعمل في غير النزول من مكان عال إلى أسفل. يقال هبط فلان إلى أرض
كذا، إذا أتاها، وإن لم يرد به النزول الذي فيه. إلا أن فيه إيماء إلى هبوط المنزل
قال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم * قل وإن أكثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن * أمروا يوما فهم للفناء والفند
الفند: الهرب. والاتيان، والمجئ، والاقبال، نظائر ونقيضه: الذهاب
والانصراف ويقال: أتى، اتيانا، وأتى أتيا، وتأتى، تأتيا وأتى تأتية وآتيت فلانا
على أمره مؤاتاة ولا يقال أتية الا في لغة قبيحة لتيم
ودخلت (ما) في قوله مع " ان " التي للجزاء، ليصح دخول النون التي
للتوكيد في الفعل ولو أسقطت (ما) لم يجز دخول النون، لأنها لا تدخل في الخبر
الواجب الا في القسم، أو ما أشبه القسم كقولك: زبد ليأتينك ولو قلت بغير
اللام، لم يجز وكذلك تقول: بعين ما أرينك ولو قلت: بعين أرينك، بغير ما
لم يجز فدخول (ما) ههنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام وتؤكد النون
173

آخره. والامر، والنهي، والاستفهام، تدخل النون فيه وان لم يكن معه (ما)
إذا كان الأمر والنهي، مما تشتد الحاجة إلى التوكيد فيه والاستفهام مشبه به إذا
كان معناه اخبرني والنون إنما تلحق للتوكيد، فلذلك كان من مواضعها
قال الله تعالى: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا " (1) فان قيل:
أين جواب اما؟ وأين جواب من؟ قيل: الجزاء وجوابه بمنزلة المبتدأ والخبر، لان
الشرط لا يتم الا بجوابه، كما لا يتم المبتدأ الا بخبره ألا ترى، انك لو قلت:
إن تقم، وسكتت، لم يجز كما لو قلت: زيد، لم يكن كلاما، حتى نأتي بالخبر.
ولك أن تجعل خبر المبتدأ جملة، وهي أيضا مبتدأ وخبر، كقولك: زيد أبوه
منطلق. وكذلك (إن) التي للجزاء، إذا كان الجواب بالفاء، ووقع بعد الفاء
الكلام مستأنفا، صلح أن يكون جزاء، وغير جزاء تقول: إن تأتي فأنت
محمود ولك أن تقول: إن تأتني. فمن يكرمك أكرمه. وإن تأتني فمن يبغضك
فلا وضيعة عليه
وقوله: " إما يأتينكم " شرط، وجوابه الفاء. وما بعد قوله: " فمن "،
شرط آخر، وجوابه الذي بعده من قوله: " فلا خوف عليهم ". وهو نظير المبتدأ
والخبر الذي يكون خبره مبتدأ وخبرا. وهذا في مقدمات القياسات، يسمى
الشرطية المركبة وذلك أن المقدم فيها إذا وجب، وجب التالي المرتب عليه.
و " الهدى " المذكور في الآية يحتمل أمرين: أحدهما - البيان والدلالة.
والآخر - الأنبياء والرسل وعلى القول الأخير يكون قوله: " قلنا اهبطوا "
لآدم وحواء وذريتهما. كما قال: " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا
أتينا طائعين " (2) أي أتينا فينا من الخلق طائعين.
وقوله: " فمن تبع هداي ".

(1) سورة الكهف آية 24
(2) حم السجدة آية 12.
174

اللغة:
فالاتباع، والاقتداء، والاحتذاء، نظائر ونقيض الاتباع: الابتداع
تقول: تبعه تباعا وأتبعه اتباعا وتابعه متابعة وتتبع تتبعا واستتبع استتباعا
والتابع: التالي ومنه التتبع والتبيع: ما تبع أثر شئ فهو يتبعه والتتبع فعلك
شيئا بعد شئ تقول: تتبعت عليه آثاره وفي الحديث: القادة والاتباع
والقادة: السادة والاتباع القوم الذين يتبعونهم. والفوائم، يقال لها تبع.
والتبيع من ولد البقر: العجل، لأنه تبع أمه يعدو. وثلاثة أتبعة - الجمع - وبقرة
متبع: خلفها تبيع وخادم متبع: معها ولدها يتبعها حيثما أقبلت وأدبرت. وأتبع
فلان فلانا وأتبعه الشيطان: إذا تتبعه يريد به شرا كما تبع فرعون موسى.
قال الله تعالى: " فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " (1). وفلان يتبع فلانا:
إذا تتبع مساوئه في مهلة والتتابع من الأشياء: إذا فعل هذا في أثر هذا بلا مهلة
ومنه تتابعت الأمطار، وتتابعت الأشياء والتبع الظل وأصل الباب كله الاتباع
وهو أن يتلو شئ شيئا
قوله " فلا خوف عليهم "
اللغة:
فالخوف والجزع، والفزع نظائر ونقيض الخوف: الا من تقول:
خافه، يخافه خوفا وأخافه إخافة وتخوف تخوفا وخوفه تخويفا وطريق مخوف:
يخافه الناس وطريق مخيف: تخيف الناس والتخوف: التنقص يقال: تخوفناهم:
تنقصناهم ومنه قوله: " أو يأخذهم على تخوف "، أي على تنقص وأصل
الباب: الخوف الذي هو الفزع والخوف كله من الضرر يقال: فلان يخاف
الأسد، أي يخاف ضرره ويخاف الله، أي يخاف عقابه والحزن، والهم، والغم
نظائر ونقيضه السرور يقال: حزن حزنا وحزنه حزنا وتحزن تحزنا وحزن

(1) سورة الأعراف آية 174
175

تحزينا والحزن، والحزن، لغتان وحزنني، وأحزنني، لغتان وأنا محزون
ومحزن وإذا أفردوا الصوت أو الامر، قالوا: محزن لا غير والحزن من الأرض
والدواب: ما فيه خشونة والأنثى: حزنة والفعل: حزن، حزونة وقولهم:
كيف حشمك وحزانتك؟ أي كيف من تتحزن بأمره وأصل الباب:
غلظ الهم
وقوله: " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
المعنى:
عمومه يقضي أنه لا يلحقهم خوف أهوال القيامة وهو قول الجبائي وقال
ابن أخشيذ: لا يدل على ذلك، لان الله تعالى وصف القيامة بعظم الخوف قال
الله تعالى: " إن زلزلة الساعة شئ عظيم "... إلى قوله " شديد " (1) ولأنه
روي أنه يلجم الناس العرق، وغير ذلك من الشدائد وهذا ليس بمعتمد لأنه
لا يمتنع أن يكون هؤلاء خارجين من ذلك الغم وأما الحزن، فلا خلاف أنه
لا يلحقهم ومن أجاز الخوف، فرق بينه وبين الحزن، لان الحزن إنما يقع على
ما يغلظ ويعظم من الغم والهم، فلذلك لم يوصفوا بذلك ولذلك قال تعالى:
" لا يحزنهم الفزع الأكبر " (2) لان ما يلحقهم لا يثبت، ويزول وشيكا
قالوا: ويدلك على أن الحزن ما ذكرنا، أنه مأخوذ من الحزن، وهو ما غلط من
الأرض فكان ما غلظ من الهم فأما لحوق الحزن والخوف في دار الدنيا، فلا
خلاف أنه يجوز أن يلحقهم، لان من المعلوم، أن المؤمنين لا ينفكون منه.
و " هداي " بتحريك الياء. وروي عن الأعرج " هداي " بسكون
الياء وهي غلط، إلا أن ينوى الوقف
وإنما كرر " اهبطوا " لان أحدهما كان من الجنة إلى السماء والثاني من
السماء إلى الأرض عند أبي علي وقيل: المعنى واحد، وكرر تأكيدا وقيل:
هو على تقدير اختلاف حال المعنى، لا اختلاف الأحوال كما يقول: اذهب

(1) سورة الحج آية 1
(2) سورة الأنبياء آية 13
176

مصاحبا، اذهب سالما معافى وكأنه على تقدير ذهاب يجامع ذهابا - وإن كانت
حقيقة واحدة
وإنما كرر " اما " في قوله: إما شاكرا وإما كفورا " (1) ولم يكرر
ههنا، لأنها هناك للعطف، وههنا للجزاء. وإنما هي (إن) ضم إليها (ما)
كقوله: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " (2) وهداي:
مثل هواي. وهي لغة قريش، وعامة العرب وبعض بني سليم يقولون: هوي:
مثل: علي، ولدي قال أبو ذؤيب: (3)
سبقوا هوي واعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع (4)
وروي هدي (5) في الآية عن الجحدي، وابن أبي إسحاق، وعيسى
والصواب ما عليه القراء والفرق بين هوي ولدي وعلي، وهو أن إلي وعلي ولدي
مما يلزمها الإضافة، وليست بمتمكنة ففصلوا بينها وبين الأسماء المتمكنة، كما فصلوا
بين ضمير الفاعل وضمير المفعول، حين قالوا: ضربت فسكنوا لأجل التاء، ولم
يسكنوا في ضربك، وإذا الفاعل يلزم الفعل
قوله تعالى:
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون " 39 - آية
قد بينا فيما مضى معنى الكفر والتكذيب، فلا وجه لا عادته
والاستدلال بهذه الآية - على أن من مات مصرا على الكفر، غير تائب
منه، فكذب بآيات ربه، فهو مخلد في نار جهنم - صحيح، لأن الظاهر يفيد
ذلك، والاستدلال بها، على أن عمل الجوارح من الكفر، من حيث قال: " وكذبوا

(1) سورة الدهر: آية 3
(2) سورة الأنفال آية 59
(3) الهذلي اسمه خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم ينتهي نسبه لنزار، وهو أحد
المخضرمين ممن أدرك الجاهلية والاسلام
(4) لسان العرب. العنق: ضرب من السير السريع تخرموا استأصلوا والبيت من
قصيدة يرثي بها أبناءه الخمسة الذين هلكوا في عام واحد
(5) في المطبوعة والمخطوطة (هوي)
177

بآياتنا " فبعيد، لان التكذيب نفسه - وإن لم يكن كفرا، وهو لا يقع الا
من كافر - فهو دلالة عليه كالسجود للشمس وغيره
وقوله: " أصحاب " فالاصطحاب، والاجتماع، والاقتران، نظائر
وكذلك الصاحب والقرين ونقيضه: والافتراق يقال صحبه صحبة وأصحبه
إصحابا واصطحبوا اصطحابا وتصاحبوا تصاحبا واستصحبوا استصحابا
وصاحبه مصاحبة والصحب: جماعة والصحب، والأصحاب جماعة الصاحب (1)
ويقال أيضا: الصحبان والصحبة، والصحاب والصحابة: مصدر قولك: صحبك
الله يعني بالسلامة وأحسن صحابتك ويقال للرجل عند التوديع: معانا مصاحبا
ومصحوب، ومصاحب ومن قال: مصاحب معان، فإنما معناه: أنت المصاحب
المعان والصحبة: مصدر صحب يصحب وقد أصحب الرجل: إذا صار صاحبا
ويقال: قد أصحب الرجل، وقد أشطأ: إذ بلغ ابنه مبلغ الرجال، الذي صار ابنه
مثله وأشطأ الزرع: إذا لحقته فراخه ويقال له: الشطأ قال أبو عبيدة، وابن
دريد: قوله: " ولاهم منا يصحبون " (2) أي لا يحفظون وأديم مصحب:
إذا دبغته وتركت عليه بعض الصوف والشعر وأصل الصحبة: المقارنة والصاحب (3)
هو الحاصل مع آخر مدة، لأنه إذا اجتمع معه وقتا واحدا، لا يقال: صاحب،
ولكن يقال: صحبه وقتا من الزمان ثم فارقه والفريق بين المصاحبة، والمقارنة،
أن في المصاحبة دلالة على المبالاة، وليس ذلك حاصلا في المقارنة واتباع
الرئيس: أصحابه
و " آيات الله " دلائله، وكتبه التي أنزلها على أنبيائه والآية: الحجة
والدلالة، والبيان، والبرهان واحد في أكثر المواضع، - وإن كان بينها فرق في
الأصل - لأنك تقول دلالة هذا الكلام كذا ولا تقول: آيته، ولا علامته
وكذلك تقول: دلالة هذا الاسم، ولا تقول: برهانه

(1) في المطبوعة والمخطوطة (الصحب)
(2) سورة الأنبياء آية 43
(3) في المخطوطة والمطبوعة (السحاب)
178

و " أصحاب النار " هم الملازمون لها كما تقول: أصحاب الصحراء يعني
القاطنين فيها، الملازمين لها
والخلود معرب من العرف، يدل على الدوام لأنهم يقولون: ليست الدنيا دار
خلود، وأهل الجنة مخلدون يريدون الدوام فأما في أصل الوضع، فإنه موضوع
لطول الحبس فان قيل: لم دخلت الفاء في قوله: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
فأولئك لهم عذاب مهين " في سورة الحج ولم يقل ههنا في قوله: " أولئك
أصحاب النار "؟ قيل: لان ما دخلت فيه الفاء من خبر (الذي وأخواته) مشبه
بالجزاء وما لم يكن فيه فاء، فهو على أصل الخبر وإذا قلت: مالي، فهو لك، جاز
على وجه، ولم يجز على وجه فان أردت أن معنى (ما) الذي، فهو جائز وإن
أردت أن مالي تريد به المال، ثم تضيفه إليك، كقولك: غلامي لك، لم يجز، كما
لم يجز، غلامي، فهو لك
الاعراب:
وموضع (1) أولئك: يحتمل ثلاثة أشياء:
أحدها - أن يكون بدلا من الذين، أو يكون عطف بيان، وأصحاب النار:
بيان عن أولئك، مجراه (2) مجرى الوصف والخبر، هم فيها خالدون
والثاني - أن يكون ابتداء وخبرا في موضع الخبر الأول
والثالث - أن يكون على خبرين بمنزلة خبر واحد، كقولهم: حلو (3)،
حامض
قوله تعالى:
" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي

(1) في المخطوطة (ووضع)
(2) في المخطوطة (فأجراه)
(3) في المخطوطة (كقولهم: حلو وحامض) وفي المطبوعة (كقوله حلو وحامض)
179

أوف بعهدكم وإياي فارهبون " - آية بلا خلاف
" يا " حرف نداء " بني ": جمع ابن والابن، والولد، والنسل، والذرية
متقاربة المعاني إلا أن الابن يقع على (1) الذكر، والولد يقع على الذكر والأنثى
والنسل والذرية تقع على جميع ذلك وأصله، من البناء وهو وضع الشئ على
الشئ والابن مبني على الأب تشبيها للبناء على الأصل، لان الأب أصل والابن
فرع ويقال: تبنى تبنيا، وبنى بناء، وابتنى ابتناء، وباناه مباناة والبنوة:
مصدر الابن - وإن كان من البناء (2) كما قالوا: الفتوة: مصدر الفتى وثنوا الفتى:
فتيان ويقال: فلان ابن فلان، على التبني ولا يطلق ذلك الا على ما كان من
جنسه وشكله تشبيها بالابن الحقيقي ولهذا لا يقولون: تبنى زيد حمارا، لما لم
يكن من جنسه ولا تبنى شاب شيخا لما لم يكن ذلك فيه والفرق بين اتخاذ الابن
وبين (3) اتخاذ الخليل، أن اتخاذ الخليل، يكون به خليلا على الحقيقة، لان
بالمحبة والاطلاع على الاسرار المهمة يكون خليلا على الحقيقة وليس كذلك الابن
لان البنوة في الحقيقة، إنما هي الولادة للابن
و " بني " في موضع نصب، لأنه منادى مضاف
و " إسرائيل " في موضع جر، لأنه مضاف إليه وفتح، لأنه أعجمي
لا ينصرف، لان (إسرا) معناه: عبد و (ئيل) هو الله بالعبرانية فصار مثل
عبد الله وكذلك جبرائيل، وميكائيل ومن حذف الألف من جبرائيل، حذفه
للتعريب (4) كما يلحق (5) الأسماء التغيير إذا أعربت، فيلخصون حروفها
على العربية
وفي " إسرائيل " خمس لغات: حكى الأخفش: إسرال، بكسر الهمزة من
غير ياء وحكي: أسرال، بفتح الهمزة ويقول بعضهم: إسريل، فيميلون وحكى

(1) في المخطوطة (يقع على) ساقطه
(2) في المطبوعة (من الياء)
(3) في المطبوعة (وبين) ساقطة
(4) في المخطوطة (للتعريف)
(5) في المخطوطة (كما لا يلحق)
180

قطرب اسرال، من غير همز ولا ياء، واسراين، بالنون والخامس - إسرايل، قراءة
إلياس وحمزة وحده مد بغير ألف
المعنى:
وقال أكثر المفسرين: إن المعنى، يا بني إسرائيل، أحبار اليهود الذين
كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله " ص " وهو المحكي عن ابن عباس وقال
الجبائي: المعني به بنو إسرائيل من اليهود والنصارى ونسبهم إلى الأب الاعلى،
كما قال: " يا بني آدم خذو زينتكم عند كل مسجد " (1)
اللغة:
قوله، " اذكروا " فالذكر، والتنبيه، والتيقظ نظائر ونقيضه: التغافل
يقال: ذكره يذكره ذكرا وأذكره إذكارا واستذكره استذكارا وتذكره
تذكرا وذكره تذكارا واذكر اذكارا وقال صاحب العين: الذكر: الحفظ
للشئ تذكره تقول: هو مني على ذكر والذكر: جري الشئ على لسانك
تقول: جرى منه ذكر والذكر: الشرف، والصيت لقوله: " وإنه لذكر لك
ولقومك " (2) والذكر: الكتاب الذي فيه تفصيل الدين وكل كتاب من
كتب الأنبياء ذكر والذكر: الصلاة، والدعاء وقيل: كانت الأنبياء إذا حزنهم
أمر فزعوا إلى الذكر أي الصلاة، يقومون فيصلون وذكر الحق: هو الصك
والذكرى: هو اسم للتذكير والذكر: ذكر الرجل معروف والجمع: الذكرة
ولهذا سمي ما ينسب إليه، المذاكير ولا يفرد وإن أفرد فمذكر، مثل مقدم
ومقاديم والذكر: خلاف الأنثى وجمعه: ذكور، وذكران ومن الدواب،
ذكورة لا غير والذكر من الحديد: أيبسه وأشده ولذلك يسمى السيف، مذكر
وامرأة مذكرة، وناقة مذكرة: إذا كانت خلقتها تشبه خلقة الذكر، وأشبهته في
شمائلها وامرأة مذكار: إذا أكثرت ولادة الذكور وعكسه: مئناث ويقال

(1) سورة الأعراف آية 3
(2) الزخرف آية 44
181

للحبلى: أيسرت، وأكثرت أي يسر عليها، وولدت ذكورا والذكر: ضد
النسيان ورجل ذكر: شهم من الرجال، ماهر في أموره واصل الباب:
الذكر الذي هو التنبيه على الشئ والذكر: الوصف بالمدح والثناء أو
بالمدح والهجاء
وقوله: " نعمتي " المراد بها الجماعة كما قال تعالى: " وإن تعدوا نعمة
الله لا تحصوها " (1) والنعمة وإن كانت على أسلافهم جاز أن تضاف إليهم
كما يقول القائل إذا فاخره غيره: هزمناكم يوم ذي قار، وقتلناكم يوم الفجار،
وبددنا جمعكم يوم النار والمراد بذلك، جميع النعم الواصلة إليهم، مما اختصوا به،
دون آبائهم، أو اشتركوا فيه معهم، وكان نعمة على الجميع فمن ذلك تبقية آبائهم
حتى تناسلوا، فصاروا من أولادهم ومن ذلك، خلقه إياهم على وجه يمكنهم
الاستدلال على توحيده، والوصول إلى معرفته، فيشكروا نعمه، ويستحقوا ثوابه
ومن ذلك ما لا يحلون في كل وقت من منفعة ودفع مضرة فالقول الأول
هو التذكير بالنعمة عليهم في أسلافهم والقول الثاني: تذكير جميع النعم عليهم والنعم
التي على أسلافهم، ما ذكر في قوله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة
الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وأتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " (2)
وقوله: " أوف بعهدكم " قي موضع جزم، لأنه جواب الامر
اللغة:
قال صاحب العين: تقول وفيت بعهدك وفاء ولغة أهل تهامة: أوفيت
بعهدك وهي القرآن قال الشاعر في الجمع بين اللغتين:
أما ابن عوف فقد أوفى بذمته * كما وفى بقلاص النجم حاديها
يعني به الدبران وهو التالي وتقول: وفى، يفي وفاء وأوفى، يوفي ايفاء
واستوفى، استيفاء وتوفى، توفيا ووفى، توفية وتوافى، توافيا ووافاه
موافاة وكل شئ بلغ تمام الكلام فقد وفى وتم وكذلك درهم واف، لأنه

(1) سورة إبراهيم آية 34. وسورة النحل: آية 18.
(2) سورة المائدة: آية 22
182

درهم وفى مثقالا وكيل واف ورجل وفا: ذو وفاء وأوفى فلان على شرف من
الأرض إذا أشرف فوقها وتقول: أوفيته حقه ووفيته اجره والوفاة: المنية
توفى فلان، وتوفاه الله: إذا قبض نفسه واصل الباب: الوفاء وهذا هو الاتمام
ومن أكرم أخلاق النفس الوفاء ومن أدونها وأرذلها الغدر
المعنى:
ومعنى قوله: " أوفوا بعهدي أوف بعهدكم " قال ابن عباس: أوفوا بما
أمرتكم من طاعتي، ونهيتكم عن معصيتي في النبي صلى الله عليه وآله وغيره: " أوف
بعهدكم " اي ارضى عنكم، وأدخلكم الجنة وسمي ذلك عهدا، لأنه تقدم بذلك
إليهم في الكتب السابقة كما قال: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وان فريقا منهم
ليكتمون الحق وهم يعلمون " (1) والعهد: هو العقد عليهم في الكتاب السابق
بما أمروا به، ونهوا عنه قال بعضهم: إنما جعله عهدا، لتأكيده بمنزلة العهد
الذي هو اليمين قال الله تعالى: " وإذ اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه
للناس ولا تكتمونه " (2) وقال الحسن: العهد الذي عاهدهم عليه حيث قال:
" خذوا ما آتيناكم بقوة " اي بجد " واذكروا ما فيه " اي ما في الكتاب في
قوله: " ولقد اخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله
إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي... إلى آخر الآية " (3)
وقال الجبائي: جعل تعريفه إياهم نعمه عهدا عليهم وميثاقا لأنه يلزمهم القيام بما
يأمرهم به من شكر هذه النعمة، كما يلزمهم الوفاء بالعهد، والميثاق الذي يأخذ عليهم
والقول الأول أقوى، لان عليه أكثر المفسرين، وبه يشهد القرآن
قوله: " وإياي "
الاعراب:
" وإياي " ضمير منصوب ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله:
" فارهبون "، لأنه مشغول كما لا يجوز في قولك: زيدا فاضربه أن يكون

(1) سورة البقرة: آية 146
(2) سورة آل عمران: آية 187
(3) سورة المائدة 13
183

منصوبا بقوله: فاضربه لكنه يكون منصوبا بفعل دل عليه ما هو مذكور في
اللفظ تقديره: وإياي ارهبوا ولا يظهر ذلك، للاستغناء عنه بما يفسره، وإن
صح تقديره: ولا يجوز في مثل ذلك الرفع على أن يكون الخبر " فارهبون " إلا
على تقدير محذوف كما أنشد سيبويه:
وقائلة: خولان فانكح فتاتهم * وأكرومة الحيين خلو كما هيا
تقديره: وقائلة: هذه خولان وعلى هذا، حمل قوله: " والسارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما " (1) وقوله: " والزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما " (2)
تقديره مما يتلى عليكم، السارق والسارقة وفيما فرض عليكم، الزانية والزاني
وقوله: " فارهبون "
اللغة:
فالرهبة، والخشية، والمخافة، نظائر وضدها: الرغبة تقول: رهب رهبة:
وأرهبه: إرهابا، ورهبه، ترهيبا واسترهب، استرهابا ويقال: رهب فلان
يرهب رهبا، ورهابا، ورهبة: إذا خاف من شئ ومنه اشتقاق الراهب
والاسم: الرهبة ومن أمثالهم: رهبوت خير من رحموت أي ترهب خير من
أن ترحم والترهب: التعبد في صومعة الجمع: الرهبان والرهبانية: خطباء
والفرق بين الخوف والرهبة: أن الخوف هو الشك في أن الضرر يقع أم لا والرهبة:
معها العلم بأن الضرر واقع عند شرط، فإن لم يحصل ذلك الشرط، لم يقع
واختير تحريك الياء في قوله: " نعمتي التي أنعمت " لأنه لقيها ألف ولام
فلم يكن بد من اسقاطها أو تحريكها، وكان التحريك أولى، لأنه أدل على الأصل
وأشكل بما يلزم اللام في الاستئناف، من فتح ألف الوصل، واسكان الياء في
قوله: " يا عبادي الذين أسرفوا " أجود، لان من حق الإضافة، ألا تثبت في
النداء وإذا لم تثبت فلا سبيل إلى تحريكها وقوله: " فبشر عبادي الذين
يستمعون " الاختيار حذف الياء، لأنه رأس آية ورؤوس الآي لا يثبت فيها

(1) سورة المائدة: آية 41
(2) سورة النور: آية 20
184

الياء، لأنها فيه أصل ينوى فيها الوقف كما يفعل ذلك في القوافي ومثل قوله:
" نعمتي التي " قوله: " أخي اشدد " في أن الاختيار تحريك الياء، وإن كان
مع الألف واللام أقوى، لما تقدم ذكره مع المشاكلة والراد إلى الأصل وفي " أخي
اشدد ": سبب واحد، وهو انه أدل على الأصل واجمعوا على اسقاط الياء من قوله
" فارهبون " الا ابن كثير، فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف والوجه حذفها
لكراهية الوقف على الياء وفي كسر النون دلالة على ذهاب الياء
قوله تعالى:
" وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون " (41) آية واحدة بلا خلاف
المعنى:
" آمنوا " معناه صدقوا، لأنا قد بينا ان الايمان هو التصديق
" بما أنزلت " يعني بما أنزلت على محمد " ص " من القرآن
وقوله: " مصدقا " يعني ان القرآن مصدق لما مع اليهود من بني إسرائيل
من التوراة وأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم ان فيه تصديقهم بالتوراة، لان
الذي في القرآن من الامر بالاقرار بنبوة محمد " ص "، وتصديقه نظير الذي في
التوراة والإنجيل وموافق لا تقدم من الاخبار به، فهو مصداق ذلك الخبر
وقال قوم: معناه انه مصدق بالتوراة والإنجيل الذي فيه الدلالة على أنه حق
والأول الوجه، لان على ذلك الوجه حجة عليهم، دون هذا الوجه
الاعراب:
ونصب " مصدقا " على الحال من الهاء المحذوفة، كأنه قال: أنزلته مصدقا
ويصلح ان ينصب ب‍ " آمنوا " كأنه قيل: آمنوا بالقرآن مصدقا
والمعني بقوله: " آمنوا " أهل الكتاب من بني إسرائيل، لأنه في ذكرهم
وفيه احتجاج عليهم، إذ جاء بالصفة التي تقدمت بها بشارة موسى وعيسى عليهما
185

السلام وهو امر بالاقرار بالنبوة، وما جاءت به من الشريعة
اللغة:
وإنما وحد " كافرا " في قوله: " ولا تكونوا أول كافر "، وقبله جمع،
لما ذكره الفراء والأخفش: وهو أنه ذهب مذهب الفعل، كأنه قال: أول من كفر
به ولو أراد الاسم لما جاز إلا الجمع ومثل ذلك قول القائل للجماعة: لا تكونوا
أول رجل يفعل ذلك قال المبرد: هذا الذي ذكره الفراء خارج عن المعنى المفهوم،
لان الفعل ههنا والاسم سواء إذا قال القائل: زيد أول رجل جاء فمعناه أول الرجال
الذين جاؤوا رجلا رجلا، ولذلك قال: أول كافر، وأول مؤمن ومعناه: أول
الكافرين وأول المؤمنين لا فصل بينهما في لغة ولا قياس إلا ترى أنك تقول: رأيت
مؤمنا، ورأيت كافرا كما تقول: رأيت رجلا لا يكون إلا ذلك، لأنك إنما رأيت
واحدا، كما تقول: رأيت زيدا أفضل مؤمن، وزيد أفضل حر، وزيد أفضل
رجل، وانبل غلام، وليس بين ذلك اختلاف ولكن جاز ولا تكونوا أول قبيل كافر
به، وأول حزب كافر به، وهو مما يسوغ فيه النعت، ويبين به الاسم، لأنك
تقول: جاءني قبيل صالح، وجاءني حي كريم، فينعت به الجمع، إذا كان الجمع
اسما واحدا لجميعه كقولك: نفر، وقبيل، وحزب، وجمع ولا تقول: جاءني رجل
كريم، وأنت تريد برجل نفرا كما تقول: نفر كريم، لان النعت جار على المنعوت
والاسم منفرد بنفسه ونظير قوله: " أول كافر " قول الشاعر:
فإذا هم طعموا فألام طاعم * وإذا هم جاعوا فشر جياع (1)
المعنى:
ومعنى قوله: " ولا تكونوا أول كافر به " قال قوم: يعني بالقرآن من أهل
الكتاب: لان قريشا كفرت به قبلهم بمكة وقيل: معناه: لا تكونوا أول كافر به
أي لا تكونوا أول السابقين بالكفر فيه فيتبعكم الناس أي لا تكونوا أئمة في الكفر
به وقيل: لا تكونوا أول كافر به اي أول جاحد به إن صفته في كتابكم

(1) لرجل جاهلي معاني القرآن للفراء طعموا: شبعوا
186

اللغة:
والأول والسابق والمتقدم نظائر ويقال أول وآخر وأول وثان والأول:
هو الموجود قبل الآخر والأول قبل كل شئ يناقض الوصف بأنه محدث ويعلم
ذلك ضرورة
والهاء في قوله: " به " قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - انه يعود إلى
" ما " في قوله: " بما أنزلت " وهو الأجود
والثاني - لا تكونوا أول كافر به اي بمحمد " ص "
والثالث - أول كافر بما معكم، من كتابكم، لأنهم إذا جحدوا ما فيه من
صفة النبي صلى الله عليه وآله فقد كفروا به والأول قول ابن جريج وإنما كان هو الأجود
لأنه أشكل بما تقدم والثاني قول أبي الغالية والثالث حكاه الزجاج وقواه بأنهم
كفروا بالقرآن وإنما قيل: ولا تكونوا أول كافر بكتابكم اي صفة محمد صلى الله عليه وآله
فيه وقال الرماني: وإنما عظم أول الكفر لأنهم إذا كانوا أئمة فيه وقدوة في الضلالة
كان كفرهم أعظم كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله: من سن سنة حسنة فله اجرها واجر
من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل
بها إلى يوم القيامة وليس في نهيه عن أن يكونوا أول كافر دلالة على أنه يجوز
ان يكونوا آخر كافر، لان المقصود من الكلام النهي عن الكفر على كل حال وخص
الأول بالذكر لما قدمنا من عظم موقعه كما قال الشاعر:
من أناس ليس في أخلاقهم * عاجل الفحش ولا سوء الجزع
وليس يريد ان فيهم فحشا آجلا
وقوله: " ثمنا قليلا " فالثمن والعوض والبدل نظائر وبينها فرق فالثمن:
هو البدل في البيع من العين أو الورق وإذا استعمل في غيرهما كان مشبها بهما
ومجازا والعوض: هو البدل الذي ينتفع به كائنا ما كان واما البدل: فهو
الجعل للشئ مكان غيره ويقال: ثمنه تثمينا وثامنه مثامنة ويجمع الثمن أثمانا
واثمنا ويروى بيت زهير:
187

وعزت أثمن البدن
جمع ثمن ومن روى أثمن البدن: أراد الثمينة منها أي أكثرها ثمنا والثمن
جزء من الثمانية اجزاء، من اي مال كان وثوب ثمين: إذا كان كثير الثمن والفرق
بين الثمن والقيمة، أن الثمن قد يكون وفقا، وقد يكون بخسا، وقد يكون زائدا
والقيمة لا تكون الا مساوية المقدار للمثمن من غير نقصان ولا زيادة وكل ماله
ثمن فهو مال وليس كل ملك له ثمن
والقليل، والحقير، واليسير، نظائر وضده: الكثير تقول: قل، يقل،
قلة وأقل منه، اقلالا واستقل استقلالا وتقلل، تقللا وقلله، تقليلا
وقليل، وقلان، بمعنى (واحد) ورجل قليل أي قصير وقل الشئ: أقله والقلة، والقل
لغتان والقلة: رأس كل شئ والرجل يقل شيئا: يحمله وكذلك يستقله
واستقل الطائر: إذا ارتفع وقلة الجبل: أعلاه وهي قطعة تستدير في أعلاه
وهي القلة والقلة التي جاءت في الحديث مثل: قلال هجر قيل إنها جرار عظام
والقلة: النقصان من العدد وقيل في الصغر
وقوله: " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " فأدخل (الباء) في الآيات دون
الثمن وفي سورة يوسف، في الثمن في قوله: " وشروه بثمن بخس " (1)
قال الفراء: إنما كان كذلك، لان العوض كلها، أنت مخير فيها في إدخال الباء إن
شئت قلت: اشتريت الثوب بكساء وأن شئت قلت: اشتريت بالثوب كساء
أيهما جعلته ثمنا لصاحبه، جاز فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير، وضعت الباء في الثمن
كقوله: " بثمن بخس "، لان الدراهم ثمن أبدا
وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا "
قال عليه السلام: كان ليحيى بن أخطب وكعب بن اشرف، وآخرين منهم
مأكلة على يهود في كل سنة وكرهوا بطلانها بأمر النبي " ص " فحرفوا لذلك آيات
من التوراة فيها صفته وذكره، فذلك الثمن القليل الذي أريد به في الآية

(1) سورة يوسف: آية 20
188

وتقييده ب‍ " لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " لا يدل على أنه إذا كان كثيرا يجوز
مشترى به، لان المقصود من الكلام، أن أي شئ باعوا به آيات الله كان قليلا،
وانه لا يجوز أن يكون له ثمن يساويه كقوله: " ومن يدع مع الله إلها آخر
لا برهان له به " (1) إنما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال، وأنه لا يجوز
أن يكون عليه برهان ومثله قوله: " يقتلون النبيين بغير حق " (2) وإنما أراد
ان قتلهم لا يكون إلا بغير الحق نظائر ذلك كثيرة ومثله قول الشاعر:
على لا حب لا يهتدى بمناره
وإنما أراد: لا منار هناك فيهتدى به ولذلك نظائر نذكرها إذا انتهينا
إليه إن شاء الله
قوله تعالى:
" ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " (42)
آية واحدة بلا خلاف
اللغة:
اللبس، والستر، والتغطية، والتعمية، نظائر والفرق بين التعمية، والتغطية
ان التعمية قد تكون بالنقصان والزيادة، والتغطية تكون بالزيادة وضد الستر:
الكشف وضد اللبس: الايضاح يقال: لبس، لبسا وألبسه، إلباسا
والتبس، التباسا وتلبس، تلبسا ولبسه، تلبيسا ولابسه، ملابسة واللباس
ما واريت به جسدك ولباس التقوى: الحياء والفعل: لبس، يلبس واللبس:
خلط الأمور بعضها ببعض إذا التبست واللبوس: الدروع وكل شئ تحصنت
به فهو لبوس قال الله تعالى: " وعلمناه صنعة لبوس لكم " (3) قال الشاعر:
إلبس لكل حالة لبوسها * إما نعيمها وإما بؤسها
وثوب لبيس وجمعه: ألبس واللبسة: ضرب من اللباس والفعل: لبس

(1) سورة المؤمنون: آية 18
(2) سورة آل عمران: آية 21
(3) سورة الأنبياء آية 80
189

يلبس، لبسا، ولبسة واحدة ويقال: لبست الامر ألبسه: إذا عميته ومنه
قوله: " وللبسنا عليهم ما يلبسون " (1) ولا بست الرجل ملابسة: إذا عرفت
دخلته وفي فلان ملبس: إذا كان فيه مستمع وفي أمره لبسة: أي ليس بواضح
وأصل اللبس الستر: قال الأخطل:
وقد لبست لهذا الدهر أعصره * حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا (2)
والفرق بين اللبس، والاخفاء، والريب، والاشكال أن الاخفاء يمكن أن
يدرك معه المعنى ولا يمكن إدراك المعنى مع اللبس والريب معه تهمة المشكوك
فيه والاشكال قد يدرك معه المعنى، إلا أنه بصعوبة، لأجل التعقيد وأسباب
الالباس كثيرة: منها - الاشتراك ومنها - الاختلاف ومنها - الاختزال
وهو: حذف مقدمه وشرطه، أو ركنه ومنها - الاختلاط، والبسط وهو:
المنع من إدراك الشئ، تشبيها بما يمنع من إدراكه بالستر والتغطية ومنه قول
النبي " ص " للحارث بن خوط: يا حار، إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف
بالرجال اعرف الحق تعرف أهله
والبطلان، والفساد، والكذب، والزور، والبهتان، نظائر وضد الحق:
الباطل يقال: بطل، بطولا وبطلا، وبطلانا: إذا تلف وأبطلته، إبطالا:
إذا أتلفته والبطل، والباطل، واحد وبطل الرجل، بطولة إذا صار بطلا ويقال:
رجل بطل ولا يقال: امرأة بطلة وبطل، بطالة: إذا هزل، وكان بطالا
والأباطل: جمع إبطالة وأبطولة والباطل: ضد الحق وأبطلته: جعلته باطلا
وأبطل فلان: إذا جاء بباطل والبطل: الشجاع الذي يبطل جراحاته، لا يكترث لها،
ولا تكفه عن نجدته وأصل الباطل، الخبر الكذب ثم كثر حتى قيل لكل فاسد
ويقال: فعل باطل أي قبيح وبناء باطل أي منتقض وزرع باطل أي
محترق تالف

(1) سورة الأنعام: آية 9
(2) ديوانه واعصر ج عصر ولبس له اعصره: عاش وقلبي خيره وشره وتجلل الشيب
الرأس علاه والمطبوعة والمخطوطة (تخلل)
190

المعنى:
ومعنى لبسهم الحق بالباطل: أنهم آمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعض،
فخلطوا الحق بالباطل، لأنهم جحدوا صفة محمد " ص " فذلك الباطل، وأقروا بغيره
مما في الكتاب على ما هو به، وذلك حق وقال ابن عباس: لا تخلطوا الصدق
بالكذب وقال الحسن: كتموا صفة محمد " ص " ودينه، وهو الحق وأظهروا دين
اليهودية والنصرانية وقال ابن زيد: الحق: التوراة التي أنزلها الله على موسى
والباطل: ما لبسوه بأيديهم واللبس في الآية: قيل معناه: التعمية وقيل: خلط
الحق بالباطل، عن ابن عباس ومنه قوله: " وللبسنا عليهم ما يلبسون " أي لخلطنا
عليهم ما يخلطون قال العجاج:
لما لبسن الحق بالتجني * عيين واستبدلن زيدا مني (1)
وقال بعضهم: الحق: إقرارهم بأن محمدا " ص " مبعوث إلى غيرهم والباطل
إنكارهم أن يكون بعث إليهم وهذا ضعيف، لأنه إن جاز ذلك على نفر يسير،
لم يجز على الخلق الكثير، مع إظهار النبي " ص " وتكذيبهم فيه، وإقامة
الحجة عليهم
الاعراب:
وقوله: " وتكتموا الحق " يحتمل أمرين من الاعراب أحدها - الجزم
على النفي، كأنه قال: لا تلبسوا الحق، ولا تكتموه والآخر - النصب على
الظرف، كأنه قال: لا تجمعوا اللبس والكتمان كما قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم (2)
ومثله: لا يسعني شئ، ويعجز عنك وعند الخليل وسيبويه، والأخفش،
ينصب مثل ذلك، باضمار أن ويكون تقدير الكلام: لا يكن منكم لبس الحق

(1) ديوانه
(2) هذا البيت روي في عدة قصائد لعدة شعراء نسب للأخطل ونسب للمتوكل الليثي
ونسب لسابق البربري ونسب للطرماح ونسب لأبي الأسود الدؤلي
191

وكتمانه ودل " تلبسوا " على اللبس و " تكتموا " على الكتمان كما تقول: من
كذب كان شرا له فكذب دليل على الكذب فكأنه قال: من كذب كان
الكذب شرا له
قوله: " وأنتم تعلمون "
المعنى:
قال قوم: هو متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب، ولذلك وصفهم بأنهم يحرفون
الكلم عن مواضعه للتلبيس على أتباعهم - قالوا - وهذا تقبيح لما يفعلونه وكذلك
قوله: " وتكتمون الحق " أي تتركون الاعتراف به، وأنتم تعرفونه أي تجحدون
ما تعلمون وجحد المعاند أعظم من جحد الجاهل ومن قال هذا، لا يلزمه
ما يتعلق به أهل التعارف، من هذه الآية، من قولهم: إن الله أخبر أنهم يكتمون
الحق وهم يعلمون، لأنه إذا خص الخطاب بالرؤساء - وهم نفر قليل - فقد جوز على
مثلهم العناد والاجتماع على الكتمان وإنما يمنع مع ذلك في الجماعة الكثيرة،
لما يرجع إلى العادات، واختلاف الدواعي كما قيل في الفرق بين التواطي والاتفاق
في العدد الكثير وقال بعضهم: وأنتم تعلمون البعث والجزاء فان قيل: كيف
يصح ذلك على أصلكم الذي تقولون: إن من عرف الله لا يجوز أن يكفر؟
وهؤلاء إذا كانوا كفارا، وماتوا على كفرهم كيف يجوز أن يكونوا عارفين
بصفة محمد، وأنه حق، بما معهم من التوراة وذلك مبني على معرفة الله، وعندكم
ما عرفوا الله؟ قيل: إن الله الذي يمنع أن يكفر من عرف الله، إذا كان معرفته
على وجه يستحق بها الثواب، فلا يجوز أن يكفر، لأنه يؤدي إلى اجتماع الثواب
الدائم على إيمانه، والعقاب الدائم على كفره والاحباط باطل وذلك خلاف
الاجماع ولا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب لان الثواب
إنما يستحق، بأن يكونوا نظروا من الوجه الذي وجب عليهم فأما إذا نظروا بغير
ذلك، فلا يستحقون الثواب، فيكونوا على هذا عارفين بالله وبالكتاب الذي أنزله
على موسى، وعارفين بصفات النبي " ص " لكن لا يؤمنون مستحقين الثواب
192

وعلى هذا يجوز أن يكفروا وفي الناس من قال: استحقاقهم الثواب على إيمانهم،
مشروط بالموافاة فإذا لم يوافوا به، لم يستحقوا الثواب فعلى هذا أيضا، يجوز
أن يكونوا عارفين، وإن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر والمعتمد
الأول وقال قوم: الآية متوجهة إلى المنافقين منهم وكان خلطهم الحق بالباطل
ما أظهروا بلسانهم من الاقرار بالنبي " ص " بما يستبطنونه من الكفر وهذا
يمكننا الاعتماد عليه، ويكون قوله: " وأنتم تعلمون " معناه أنكم تعلمون أنكم
تظهرون خلاف ما تبطنونه وهذا أسلم من كل وجه على أصلنا ويمكن أن
يقال: معنى قوله: " وأنتم تعلمون " أي عند أنفسكم، لأنهم إذا كانوا يعتقدون
أنهم عالمون بالتوراة، وبأنه من عند الله، وفيها ذكر النبي، فهم عالمون عند أنفسهم
بنبوته، لكن يكابرون
قوله تعالى:
" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين "
(43) - آية بلا خلاف
اللغة:
الصلاة في أصل اللغة: الدعاء قال الأعشى:
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي * نوما فان لجنب المرء مضطجعا
أي دعوت وقال آخر:
وقابلها الريح في دنها * وصلى على دنها وارتسم (1)
أي ودعا وقيل: أصلها: اللزوم من قول الشاعر:
لم أكن من جناتها علم الله، واني لحرها اليوم صال
أي ملازم لحرها وكان معنى الصلاة، ملازمة العبادة على الحد الذي أمر

(1) مر الكلام في هذا البيت 1: 56
193

الله عز وجل وقيل: أصلها: الصلا وهو عظم العجز لرفعه في الركوع والسجود من
قول الشاعر:
فآب مصلوه بغير جلية * وغودر بالجولان حزم ونائل (1)
اي الذين جاؤوا في صلا السابق والقول الأول أقرب إلى معنى الصلاة في
الشرع وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى، فلا وجه لا عادته
وقوله: " وآتوا الزكاة " فالزكاة والنماء، والزيادة، نظائر في اللغة
ونقيض الزيادة: النقصان ويقال: زكا، يزكو زكاء وتزكى، تزكية قال
صاحب العين: الزكاة، زكاة المال، وهو تطهيره ومنه زكى، يزكي، تزكية
والزكاة: زكاة الصلاح تقول: رجل تقي زكي ورجال أتقياء أزكياء والزرع
زكا زكاء - ممدود - وكل شئ يزداد وينمو، فهو يزكو زكاء وتقول: هذا لا يزكو
بفلان أي لا يليق به قال الشاعر:
المال يزكو بك مستكثرا * يختال قد أشرق للناظر
ومصدر الزكاة: ممدود ويقال: إن فلانا لزكا النقد أي حاضره وعتيده
والزكا: الشفع قال الشاعر:
كانوا خسا أو زكا من دون أربعة * لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج (2)
والخسا، الوتر وأصل الباب: النمو، والزكاة تنمي المال بالبركة التي يجعل
الله فيه وسمي بالزكاة في الشريعة، ما يجب إخراجه من المال، لأنه نماء ما ينقى
ويثمر وقيل: بل مدح لما ينقى، لأنه زكي أي مطهر كما قال: " أقتلت نفسا
زكية بغير نفس " (3) أي طاهرة
وقوله: " واركعوا " فالركوع، والانحناء والانخفاض نظائر في اللغة
يقال: ركع، ورفع قال الشاعر:

(1) في التفسير الكبير (وآب مضلوه) من أضل القوم ميتهم: إذا واروه في قبره،
وفيه بدل (يغير جلية) بعين جلية: والشعر للنابغة
(2) اللسان مادة (خسا) وقد نقله القراء عن الدبيرية زكا: تقوله العرب للزوج
وخسا للفرد: تعتلج تضطرع
(3) سورة الكهف آية: 74
194

لا تهين الفقير علك أن * تركع يوما والدهر قد رفعه (1)
قال أبو زيد: الراكع: الذي يكبو على وجهه ومنه الركوع في الصلاة
قال الشاعر:
وأفلت حاجب فوق العوالي * على شقاء تركع في الظراب (2)
والركعة: الهوة في الأرض - لغة يمانية - قال صاحب العين: كل شئ
ينكب لوجهه، فتمس ركبته الأرض أولا تمس، بعد أن يطأطئ رأسه، فهو
راكع قال الشاعر:
ولكني أنص العيس تدمى * أياطلها وتركع بالحزون (3)
وقال لبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت * أدب كأني كلما قمت راكع
وقيل: إنه مأخوذ من الخضوع ذهب إليه المفضل بن سلمة والأصمعي
قال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن * تركع يوما والدهر قد رفعه
والأول أقوى، لان هذا مجاز مشبه به
وقوله: " واركعوا مع الراكعين " إنما خص الركوع بالذكر من أفعال
الصلاة لما قال بعض المفسرين: إن المأمورين هم أهل الكتاب، ولا ركوع في
صلاتهم وكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك، لأنه أبعد عن اللبس وقيل:
لأنه يعبر بالركوع عن الصلاة يقول القائل: فرغت من ركوعي أي من صلاتي
وإنما فعل ذلك، لأنه أول ما يشاهد مما يدل على أن الانسان في الصلاة، لأنا بينا
أن أصل الركوع الانحناء فان قيل: كيف أمروا بالصلاة والزكاة وهم لا يعرفون
حقيقة ما في الشريعة؟ قيل: إنما أمروا بذلك، لأنهم أحيلوا فيه على بيان الرسول

(1) قائل هذا البيت الأضبط بن قريع الأسدي
(2) شقاء: مؤنث الأشق وفرس أشق: يشتق في عدوه يمينا وشمالا الظراب ج
ظرف - بفتح الظاء وكسر الراء وهي الرابية
(3) انص العيس: استحثها اياطل: ج ايطل وهي الخاصرة ارض حزون: غليظة
195

إذ قال: " ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (1) ولذلك جاز
أن يأمرهم بالصلاة على طريق الجملة، ويحيلهم في التفصيل إلى بيان الرسول " ص "
وقد بينا ما ورد الشرع به، من الصلاة والزكاة، وفرائضها وسننها في
كتاب النهاية والمبسوط وغيرهما من كتبنا في الفقه، فلا نطول بذكره في هذا
الكتاب وقد ورد في القرآن على طريق الجملة آي كثير: نحو قوله: " أقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة " وقوله " وأقيموا الصلاة ان الصلاة كانت على المؤمنين
كتابا موقوتا " (2) وقوله: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " (3)
وقوله: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " (4) ويمكن الاستدلال
بهذه الآيات على وجوب الصلوات، وعلى صلاة الجنائز، وصلاة العيدين، وعلى وجوب
الصلاة على النبي وآلة في التشهد، لأنه عام في جميع ذلك فان قيل: قوله:
" وأقيموا الصلاة " قد ثبت أن هذا خطاب لأهل الكتاب، وليس في صلاتهم ركوع،
فكأنه أمرهم بالصلاة على ما يرون هم، وأمرهم بضم الركوع إليها وعلى معنى قوله:
" اركعوا " - أي صلوا نقول: إن ذلك تأكيد ويمكن أن يقال: فيه فائدة
وهو أن يقال: إن قوله: " أقيموا الصلاة " إنما يفيد وجوب إقامتها ويحتمل أن
يكون إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها ويمكن أن يكون إشارة إلى الصلاة
الشرعية فلما قال: " واركعوا مع الراكعين " يعني مع هؤلاء المسلمين الراكعين،
تخصصت بالصلاة في الشرع، ولا يكون تكرارا، بل يكون بيانا وقيل:
قوله: " واركعوا مع الراكعين " حث على صلاة الجماعة، لتقدم ذكر الصلاة
المنفردة في أول الآية

(1) سورة الحشر: آية 7
(2) سورة النساء: آية 102
(3) سورة البقرة: آية 238
(4) سورة المؤمنون: آية 1
196

قوله تعالى:
" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب
أفلا تعقلون " (44) - آية
المعنى:
كل طاعة لله تعالى، فلا خلاف أنها تسمى برا واختلفوا في المراد بهذه
الآية فقال ابن عباس: المراد به التمسك بكتابهم، فكانوا يأمرون أتباعهم،
ويتركون هم التمسك به، لان جحدهم النبي " ص " هو تركهم التمسك به وقال
قتادة: كانوا يأمرون الناس بطاعة النبي " ص " ويخالفون ذلك وقال قوم: إن
معناه: أنهم كانوا يأمرون ببذل الصدقة، ويضنون بها وقال بعضهم: البر: الصدق
من قولهم: صدق، وبر ومعناه: أنهم يأمرون بالصدق ولا يصدقون
اللغة:
والبر - في أصول اللغة - والصلة، والاحسان، نظائر يقال هو بار وصول
محسن وضد البر: العقوق وقال ابن دريد: البر ضد العقوق ورجل بار وبر
بمعنى واحد وبرت يمينه: إذا لم يحنث وبرحجه وبر - لغتان - والبر: خلاف
البحر والبر: - معروف - أفصح من الحنطة والقمح واحدة برة قال الهذلي:
لادر دري إن أطعمت نازلهم * قرف الحني وعندي البر مكنوز
الحني: ردي المقل خاصة ومن أمثالهم: لا يعرف الهر من البر واختلفوا في
هذا المثل فقال الرماني: الهر: السنور. والبر: الفارة في بعض اللغات أو دويبة
تشبهها وقال الأخفش: معناه: لا يعرف من يبره ممن يهر عليه وقوم بررة أبرار
والمصدر البر ويقال: صدق وبر وبرت يمينه أي صدقت وكانت العرب تقول:
فلان يبرر به أي يطيعه قال الراجز:
197

لا هم إن بكرا دونكا * يبرك الناس ويفجرونكا
والأبرار: الغلبة يقال أبر عليهم فلان قال طرفة:
ويبرون على الآي البر
البربرة: كثرة الكلام، والجلبة باللسان وأصل الباب كله: البر وهو:
اتساع الخير والفرق بين البر والخير، أن البر يدل على القصد، والخير قد يقع على
وجه السهولة
قوله: " وتنسون أنفسكم "
اللغة:
فالنسيان، والغفلة، والسهو، نظائر وضد النسيان: الذكر تقول: نسي
نسيانا وأنساه، إنساء وتناساه، تناسيا وفلان نسي، كثير النسيان
والنسي، والمنسي، الذي ذكره الله تعالى: " وكنت نسيا منسيا " (1) وسمي الانسان
إنسانا، اشتقاقا من النسيان وهو في الأصل: إنسيان وكذلك إنسان
العين والجمع: أناسي والنسا: عرق سيق بين الفخذين، فيستمر في الرجل
وهما نسيان والجمع: أنساء وهو في الفخذ يسمى في الساق: الطفل وفي
البطن: الحالبين (2) وفي الظهر: الأبهر وفى الحلق: الوريد وفي القلب:
الوتين وفي اليد: الأكحل وفي العين: الناظر يقال: هو بهر الجسد، لأنه يمد
جميع العروق وأصل الباب: النسيان ضد الذكر وقوله: " نسوا الله فنسيهم " (3)
أي تركوا طاعته: فترك ثوابهم ويقال: آفة العلم النسيان والمذاكرة تحيي العلم
وحد النسيان: غروب الشئ عن النفس بعد حضوره لها والفرق بين النسيان
والسهو، أن السهو يكون ابتداء وبعد الذكر والنسيان لا يكون إلا بعد
الذكر والنسيان، والذكر معا، من فعل الله تعالى، لان الانسان يجتهد أن
يذكر شيئا فلا يذكره

(1) سورة مريم آية: 32
(2) عرقان يكتنفان بالسرة
(3) سورة التوبة: آية 68
198

المعنى:
ومعنى قوله: " وتنسون أنفسكم " أي تتركونها وليس المراد بذلك ما يضاد
الذكر، لان ذلك من فعل الله لا ينهاهم عنه فان قيل: إذا كان الواجب عليهم مع
ترك الطاعة والإقامة على المعصية، الامر بالطاعة، والنهي عن المعصية، فكيف قيل
لهم هذا القول؟ قلنا: في أمرهم بالطاعة، ونهيهم عن المعصية تعظيم لما يرتكبونه
من معصية الله تعالى، لان الزواجر كلها، كلما كانت أكثر، كانت المعصية أعظم
ففي نهيهم لغيرهم، زواجر فهو توبيخ على عظيم ما ارتكبوا من ذلك
وقوله: " وأنتم تتلون الكتاب "
اللغة:
فالتلاوة، والقراءة، والدراسة، نظائر يقال: فلان يتلو تلاوة، فهو
تال أي تابع والمتالي: الأمهات إذا تلاهن الأولاد والواحد: متل وناقة
متلية: وهي التي تنتج في آخر النتاج وأصل الباب: الاتباع فتسمى التلاوة
بذلك، لا تباع بعض الحروف فيها بعضا والفرق بين التلاوة والقراءة، أن أصل
القراءة جمع الحروف، وأصل التلاوة، اتباع الحروف وكل قراءة تلاوة، وكل
تلاوة قراءة وحد الرماني: التلاوة: ما به صوت يتبع فيه بعض الحروف بعضا
المعنى:
والكتاب الذي كانوا يتلونه التوراة - على قول ابن عباس وغيره وقال أبو مسلم
كانوا يأمرون العرب باتباع الكتاب الذي في أيديهم، فلما جاءهم كتاب مثله،
لم يتبعوه
وقوله: " أفلا تعقلون "
اللغة:
فالعقل، والفهم، واللب، والمعرفة، نظائر يقال فلان عاقل فهيم أديب
ذو معرفة، وضد العقل: الحمق يقال: عقل الشئ عقلا، وأعقله غيره إعقالا
199

ويقال: اعتقله، اعتقالا وانعقل، انعقالا وقيل لابن عباس: أنى لك هذا العلم؟
قال: قلب عقول، ولسان سؤول ويقال: عقلت بعد الصبا أي عرفت الخطأ
الذي كنت فيه وقال صاحب العين: العقل: ضد الجهل يقال: عقل الجاهل: إذا علم
وعقل المريض بعد ما هجر وعقل المعتوه ونحوه والعقال: الرباط ويقال: عقلت
البعير أعقله، عقلا: إذا شددت يده بالعقال وإذا أخذ صدقة الإبل تامة لسنة
يقال: أخذ عقالا وعقالين لسنتين، وعقلا لجماعة وقال الشاعر:
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا * فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
لا صبح الناس أوبادا وما وجدوا * يوم التحمل في الهيجا جمالين (1)
قال المبرد: يقال للمصدق إذا أخذ من الصدقة ما فيها ولم يأخذ ثمنه: أخذ
عقالا وإذا أخذ قيمته: قيل: أخذ نقدا والعقيلة من النساء: التي قد عقلت
في بيتها أي حبست في بيتها وخدرت والجمع: عقائل والدرة عقيلة البحر وعقيلة
كل شئ: أكرمه وعقل القتيل: إذا أوديت ديته من القرابة، لا من القبائل
والعقل في الرجل: اصطكاك الركبتين والعقل: ثوب أحمر تتخذه نساء العرب
والمعقول: هذا العقل عند قوم قال الراعي:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه * لحما ولا لفؤاده معقولا
والعقل، والمعقل: وهو الحصن وجمعه: عقول والعاقول من النهر والوادي
ومن الأمور أيضا: الملتبس، وما أعوج منه وعقل الدواء بطنه أي حبسه وقولهم
لا يعقل حاضر لباد قال ابن دريد: معناه أن القتيل إذان بالبادية، فان أهلها
يتعاقلون بينهم الدية، ولا يلزمون أهل الحضر من بني أعمامهم شيئا وفي الحديث
انا لا نتعاقل المضيع يعني ما سهل من الشجاج (2)، بل يلزم الجاني وعاقلة الرجل:
بنو عمه الأدنون، لأنهم كالمعقل له وأصل الباب العقل الذي هو العقد والعقل
مجموع علوم لأجلها يمتنع من كثير من القبائح يعقل كثيرا من الواجبات وقال
الرماني: العقل هو العلم الأول الذي يزجر عن قبيح الفعل وكل من كان زاجره

(1) الشعر لعمرو بن العداء الكلبي لسان العرب وروايته "؟ " بدل " الناس "
السبد: بقايا النبت اوباد: ج وبد وهو الفقر والبؤس وجمالين يريد؟ الشجاج واحدها
الشجة وهي الجرح في الرأس والوجه
200

أقوى، كان عقله أقوى وقيل: العقل: معرفة يفصل بها بين القبيح والحسن في
الجملة وقيل: العقل: قوة يمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب وهذه
العبارات قريبة المعاني مما ذكرناه والفرق بين العقل والعلم، أن العقل قد يكمل
لمن فقد بعض العلوم، كفقد من كمل عقله العلم بأن هذه الرمانة حلوة أو حامضة
ولا يكمل العلم لمن فقد بعض عقله فان قيل: إذا كان العقل مختلفا فيه، فكيف
يجوز أن يستشهد به؟ قيل الاختلاف في ماهية العقل، لا يوجب الاختلاف في
قضاياه ألا ترى أن الاختلاف في ماهية العقل - حتى قال بعضهم معرفة، وقال
بعضهم قوة - لا يوجب الاختلاف في أن الألف أكثر من الواحد، وأن
الموجود غير المعدوم، وغير ذلك من قضايا العقل
قوله تعالى:
" واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " (45)
آية واحدة
قال الجبائي: هذا خطاب للمؤمنين دون أهل الكتاب وقال الطبري،
والرماني: هو خطاب لأهل الكتاب، ويتناول المؤمنين على وجه التأديب والأقوى
أن يكون خطابا لجميع من هو بشرائط التكليف، لفقد الدلالة على التخصيص،
واقتضاء العموم ذلك فمن قال: إنه خطاب لأهل الكتاب، قال: لأنه قال: واستعينوا
على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه: من طاعتي، واتباع أمري
واتباع رسولي، وترك ما نهيتكم عنه، والتسليم لامري ولمحمد " ص " بالصبر والصلاة
اللغة:
وأصل الصبر: هو منع النفس محابها، وكفها عن هواها ومنه الصبر على
المصيبة، لكفه نفسه عن الجزع وقيل لشهر رمضان: الصبر، لصبر صائمه عن
الطعام والشراب نهارا وصبرت إياهم صبرة: حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما يصبر
الرجل القتيل، فيحبسه عليه، حتى يقتله صبرا يعني حبسه عليه، حتى قتله
201

والمقتول: مصبور والقاتل: صابر والصبر والبث، والحبس، نظائر والصبر:
ضد الجزع وأنشد أبو العباس:
فان تصبرا، فالصبر، خير معيشة * وإن تجزعا، فالامر ما تريان
ويقال: صبر صبرا وتصبر تصبرا واصطبر، اصطبارا وتصابر
تصابرا وصابره مصابرة قال صاحب العين: الصبر: نصب الانسان للقتل فهو
مصبور يقال: صبروه أي نصبوه للقتل ويقال: صبرته أي حلفته بالله جهد
نفسه وكل من حبسته لقتل أو يمين، فهو قتل صبر ويمين صبر والصبر: عصارة
شجر معروف والصبار: تمر الهند وصبر الاناء ونحوه: نواحية وأصبار القبر:
نواحيه والصبرة من الحجارة: ما اشتد وغلظ والجمع: الصبار وأم صبار:
هي الداهية الشديدة وصبر كل شئ: أعلاه وصبير القوم: الذي يصبر معهم
في أمرهم وصبر الخوان: رقاقة غليظة تبسط تحت ما يؤكل من الطعام وتقول:
اشتريت الشئ بلا صبر أي بلا كيل والصبير: الكفيل واصل الباب: الصبر الذي
هو الحبس
المعنى:
والصبر خلق محمود، أمر الله تعالى به ودل عليه، فقال: " واصبر وما صبرك
إلا بالله " (1) وقال: " واصبروا وصابروا " (2) وقال: " وبشر الصابرين " (3)
وقال: " واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " (4) وفى الحديث: اقتلوا
القاتل، واصبروا الصابر وذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر فأمر بقتل القاتل، وحبس
الممسك والصبر المأمور به في الآية، قيل: فيه قولان: أحدهما - الصبر على طاعته
واجتناب معصيته والثاني - أنه الصوم وفي الصلاة ههنا قولان: أحدهما
- الدعاء والثاني - أنها الصلاة الشرعية ذات الركوع والسجود وكان النبي صلى الله عليه وآله
إذا أحزنه أمر، استعان بالصلاة والصوم. ووجه الاستعانة بالصلاة، لمكان ما

(1) سورة النحل: آية 127
(2) سورة آل عمران: آية 200
(3) سورة البقرة: آية 155
(4) سورة لقمان آية 17
202

فيها من تلاوة القرآن والدعاء والخضوع لله تعالى، والاخبات فان في ذلك معونة
على ما تنازع إليه النفس من حب الرياسة والأنفة من الانقياد إلى الطاعة
والضمير في قوله: " وإنها لكبيرة " عائد على الصلاة عند أكثر المفسرين
وقال قوم: عائد إلى الإجابة للنبي (عليه السلام وهذا ضعيف، لأنه لم يجر للإجابة
ذكر ولا هي معلومة، إلا بدليل غامض وليس ذلك كقوله " أنا أنزلناه " لان
ذلك معلوم ورد الضمير على واحد، وقد تقدم ذكر شيئيين فيه قولان: أحدهما:
- انها راجعة إلى الصلاة دون غيرها على ظاهر الكلام، لقربها فيه ولأنها الا هم
والأفضل ولتأكيد حالها وتفخيم شأنها وعموم فرضها والآخر - أن يكون المراد
الاثنين وإن كان اللفظ واحدا كقوله: " والله رسوله أحق ان يرضوه " (1)
قال الشاعر:
اما الوسامة أو حسن النساء فقد * أوتيت منه أو ان العقل محتنك (2)
وقال البرجمي:
فمن يك امسى بالمدينة رحله * فاني وقيار بها لغريب (3)
وقال ابن احمد:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريا ومن طول الطوي رماني (4)
وقال آخر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف (5)
وقوله " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " قال قوم: اللفظ واحد
والمراد به اثنان وقال الفراء: راجع إلى التجارة لان تجارة جاءت فضربوا بالطبل
فانصرف الناس إليها
والاستعانة في الآية المأمور بها على ما تنازع إليه نفوسهم من حب الرياسة
وغلبة الشهوة للذة العاجلة والاستعانة بالصبر على المشقة بطاعة الله ومعنى (الكبيرة)
ههنا أي ثقيلة - عند الحسن والضحاك وأصل ذلك ما يكبر ويثقل على الانسان

(1) سورة التوبة: آية 63
(2) احتنك الشئ: استولى عليه
(3) وروى (وقيارا)
(4) مر القول في هذا البيت
(5) في هذين البيتين 1: 172
203

حمله، كالأحمال الجافية التي يشق حملها، فقيل لما يصعب على النفس، وان لم يكن
من جهة الحمل - يكبر عليها تشبيها بذلك
وقوله: " الا على الخاشعين "
اللغة:
فالخشوع، والخضوع، والتذلل، والاخبات، نظائر وضد الخضوع:
الاستكبار يقال: خشع خشوعا وتخشع تخشعا قال صاحب العين: خشع
الرجل يخشع خشوعا: إذا رمى ببصره الأرض واختشع: إذا طأطأ رأسه
كالمتواضع والخشوع قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن،
والاقرار بالاستخدام (1) والخشوع في الصوت والبصر قال الله تعالى:
" خاشعة أبصارهم " و " خشعت الأصوات للرحمن " (2) أي سكنت وأصل
الباب: من اللين والسهولة من قولهم: نقا خاشعا: للأرض التي غلبت عليها السهولة
والخاشع: الأرض التي لا يهتدى إليها بسهولة، لمحو الرياح آثارها والخاشع،
والمتواضع، والمتذلل، والمسكين، بمعنى واحد قال الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع (3)
وخاشع: صفة مدح، لقوله: " والخاشعين والخاشعات " وإنما خص الخاشع
بأنها لا تكبر عليه، لان الخاشع قد تواطأ ذلك له: بالاعتياد له، والمعرفة بماله
فيه، فقد صار بذلك، بمنزلة ما لا يشق عليه فعله، ولا يثقل تناوله وقال الربيع بن
أنس: " الخاشعين " في الآية: الخائفون

(1) وفي نسخة: " الاستحياء "
(2) سورة طه آية: 108
(3) البيت لجرير، الديوان ص: 345 استشهد به سيبويه على أن تاء التأنيث جاءت
للفعل لما أضاف " سور " إلى المدينة وهي مؤنث، وهو بعض منها
204

قولة تعالى:
" الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون "
(46) - آية بلا خلاف
ان قيل كيف اخبر الله عمن وصفه بالخشوع بالطاعة، ومدحهم بذلك
بأنهم يظنون بأنهم ملاقوا ربهم وذلك مناف لصفة المدح؟ قلنا: الظن المذكور
في الآية المراد به العلم واليقين قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد
وقال عمير بن طارق:
بان تغتزوا قومي واقعد فيكم * واجعل مني الظن غيبا مرجما (1)
وقال أبو داود (2):
رب هم فرجته بعزيم * وغيوب كشفتها بظنون
وقال المبرد: ليس من كلام العرب: أظن عند زيد مالا، يريد: أعلم لان
العلم المشاهد لا يناسب باب الظن وقد أفصح في ذلك أوس بن حجر في قوله:
الا لمعي الذي يظن بك الظن * كأن قد رأي وقد سمعا
وقال آخر:
فالا يأتكم خبر يقين * فان الظن ينقص أو يزبد
وقال بعض الشيوخ: أصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب
على القلب، كأنه حديث النفس بالشئ، وتأول جميع ما في القرآن من معنى العلم
على هذا وقال الحسن وأبو الغالية ومجاهد وابن جريح: يظنون، أي يوقنون
ومثله: " ظننت اني ملاق حسابيه " (3) أي علمت ومثله: " وظنوا ان لا ملجأ
من الله إلا إليه " (4)، ومعناه استيقنوا وقوله: " ورأي المجرمون النار

(1) في الإيرانية بدل: " بأن تغتزوا " " فان تغتروا " وبدل " غيبا " " عينا "، البيت في نقائض
جرير والفرزدق وروايته " وأجلس فيكم " و " وأجعل علمي ظن غيب مرجما "
(2) في الإيرانية: " الذواد "
(3) سورة الحاقة: آية 20
(4) سورة التوبة آية: 119
205

فظنوا أنهم مواقعوها " (1)، يعني: علموا وقد جاء في القرآن الظن بمعنى الشك
كقوله: " ان هم إلا يظنون " (2) وقوله: " ان الظن لا يغني من الحق شيئا " (3)
وقال قوم: يحتمل قوله " يظنون " وجها آخرا، وهو انهم يظنون أنهم ملاقوا
ربهم بذنوبهم لشدة اشفاقهم من الإقامة على معصية الله، وهذا وجه مليح، وقد
استعبده الرماني وقال: لان فيه حذوفا كثيرة، وليس بمنكر إذا كان الكلام محتملا
له وقيل أيضا: الذين يظنون انقضاء اجلهم وسرعة موتهم فيكونون ابدا على
حذر ووجل، كما يقال لمن مات: لقي الله والظن والشك والتجويز نظائر، إلا أن
الظن فيه قوة على أحد الامرين دون الآخر، وحده ما قوي عند الظان كون
المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون خلافه فبالتجويز ينفصل من العلم، وبالقوة
ينفصل من الشك والتقليد وغير ذلك وضد الظن اليقين ويقال ظن ظنا وتظنن
تظننا وقال: " وظنوا انهم الينا لا يرجعون " (4) وقوله: " ظننتم ظن
السوء " (5) والظنين المتهم، ومصدره الظنة والظنون الرجل السئ الظن بكل
أحد، والظنون القليل الخير، والتظني والتظنن بمعنى واحد والظنون البئر التي يظن أن
بها ماء ولا يكون فيها شئ، ومظنة الرجل ومظانه حيث يألفه فيكون فيه
ومعنى قوله " انهم ملاقوا ربهم " اي ملاقوا جزاء ربهم، فجعل ملاقاة
الجزاء ملاقاة له تفخيما وتعظيما لشأن الجزاء وأصل الملاقاة الملاصقة، من قولك
التقى الحدان اي تلاصقا، ثم كثر حتى قالوا التقى الفارسان إذا تحاذيا ولم يتلاصقا
ومثل ما قلنا في قوله " ملاقوا ربهم " قوله تعالى: " فأعقبهم نفاقا نفي قلوبهم إلى
يوم يلقونه " (6) معناه يوم يلقون جزاءه، لان المنافقين لا يرون الله عند أحد
من أهل الصلاة، وكذلك قوله " ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق

(1) سورة الكهف آية 54
(2) سورة الجاثية آية: 23
(3) سورة يونس آية: 36
(4) سورة القصص آية: 39
(5) سورة الفتح آية: 12
(6) سورة التوبة آية: 78
206

قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " (1) معناه إذ وقفوا على
جزاء ربهم، لان الكفار لا يرون الله عند أحد من الأمة
فان قيل: ما معنى الرجوع ههنا وهم ما كانوا قط في الآخرة فيعودوا إليها؟
قيل: راجعون بالإعادة في الآخرة - في قول أبي الغالية - وقيل: يرجعون
بالموت كما كانوا في الحال المتقدمة، لأنهم كانوا أمواتا، ثم أحيوا، ثم يموتون،
فيرجعون أمواتا كما كانوا: والأول أظهر وأقوى، وقيل: ان معناه: انهم راجعون
إلى أن لا يملك أحدهم ضرا ولا نفعا غيره تعالى كما كانوا في بد والخلق، لأنهم في أيام
حياتهم قد يملك الحكم عليهم غيرهم، والتدبير لنفعهم وضرهم بين ذلك قوله: " مالك
يوم الدين " ومعنى ذلك انهم يقرون بالنشأة الآخرة فجعل رجوعهم بعد الموت إلى
المحشر رجوعا إليه
اللغة:
وأصل الرجوع العود إلى الحال الأول يقال رجع الرجل ورجعته وهو
أحد ما جاء على فعل وفعلة ويحتمل أن يكون المراد أنهم إليه صائرون كما يقول
القائل: رجع الامر إلى فلان وإن كان قط لم يكن له ومعناه صار إليه: وحذفت
النون من " ملاقوا ربهم " عند البصريين تخفيفا والمعنى على اثباتها، ومثله قوله: " انا
مرسلوا الناقة " (2) " وكل نفس ذائقة الموت " (3) قال الشاعر:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا * أو عبد رب اخاعون بن مخراق (4)
ولو أردت معنى الماضي لتعرف الاسم بالإضافة، لم يجز فيه اظهار النون
البتة وإذا كان الفعل غير واقع كان اثبات النون هو الوجه دون الإضافة فلو قيل

(1) سورة آل عمران آية: 106 وسورة الانعام آية: 30 والأعراف: آية 48
والأنفال آية: 35 والأحقاف آية 34
(2) سورة القمر آية 37
(3) سورة آل عمران آية 185 وسورة الأنبياء آية: 35 وسورة العنكبوت آية 57
(4) سيبويه قال صاحب الخزانة: البيت من ابيات سيبويه التي لم يعرف قائلها وقيل
هو لبر بن رألان السنبسي وقيل هو لجرير وقيل لتأبط شرا دينار وعبد رب: رجلان
207

ملاقون كان صوابا قال الأخفش: وجرى حذف النون ههنا للاستثقال كما قال
الشاعر في قوله:
فان الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد (1)
فاسقط النون من الذين استثقالا وقال الأخطل:
ابني كليب ان عمي اللذا * قتلا الملوك وفككا الاغلالا
فاسقط النون وقال الكوفيون: إذا حذف النون فاللفظ الاسم وإذا أثبت
وظهر النصب فالمعنى الفعل قال الزجاج: ويجوز كسر الهمزة من قولهم: انهم إليه
راجعون، لكن لم يقرأ به أحد على معنى الابتداء ولا يجوز كسر الأولى لان
الظن وقع عليها
قوله تعالى:
" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني
فضلتكم على العالمين " (47) - آية
المعنى:
قد مضى تفسير مثل هذا في ما تقدم فلا وجه لا عادته وأما قوله: " وإني
فضلتكم على العالمين " ذكرهم الله تعالى من الآية ونعمه عندهم بقوله: " وإني
فضلتكم على العالمين " فضلت اسلافكم، فنسب النعمة إلى آبائهم واسلافهم، لأنها
نعمة عليهم منه، لان مآثر الآباء مآثر الأبناء، والنعم عند الاباء نعم عند الأبناء
لكون الأبناء من الآباء وقوله " فضلتكم "
اللغة:
فالتفضيل، والترجيح، التزييد، نظائر والتفضيل نقيضه: التسوية يقال:
فضله وتنقصه على وجهة النقص ونقيض التزييد: التنقيص يقال: فضل فضلا

(1) البيت للأشهب بن رميلة سيبويه 1: 96 والبيان 4: 55 وفلج واد بين البصرة
وحمى ضربة ومر هذا البيت أيضا في 1: 86
208

وأفضل افضالا وتفضل تفضلا واستفضل استفضالا وتفاضلوا تفاضلا وفاضله مفاضلة
وفضله تفضيلا والمفضال: اسم المفاضلة والفضيلة: الدرجة الرفيعة في الفضل والتفضل:
التوشح ورجل فضل: متفضل وامرأة متفضلة، وعليها ثوب فضل: إذا خالفت
بين طرفيه على عاتقها فتتوشح به قال الشاعر:
" إذا تعود فيه الفسه الفضل " وأفضل فلان على فلان: إذا أناله من خيره
وفضله وأحسن إليه وأفضل فلان من الطعام والأرض والخبز: إذا ترك منه شيئا
لغة أهل الحجاز: فضل يفضل ورجل مفضال: كثير المعروف والخير والفضائل:
واحدها فضيلة وهي المحاسن والفواضل: الايادي الجميلة وثوب المفضل: ثوب
تخفف به المرأة في بيتها والجمع مفاضل وامرأة مفضل: إذا كان عليها مفضل واصل
الباب: الزيادة والافضال، والاحسان، والانعام نظائر ويقال فضله: إذا
أعطاه الزيادة وفضله إذا حكم له بالزيادة
فان قيل لم كرر قوله: " يا بني إسرائيل "؟ قلنا: لأنه لما كانت نعم الله
هي الأصل فيما يجب فيه شكره وعبادته، احتيج إلى تأكيدها كما يقول القائل:
اذهب اذهب: اعجل اعجل وغير ذلك في الامر المهم، وأيضا فان التذكير الأول
ورد مجملا، وجاء الثاني مفصلا، كأنه قال اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم فيما
أنتم عليه من المنافع التي تتصرفون فيها وتتمتعون بها، وإني فضلتكم على العالمين
ودل هذا على قوله: " وإني فضلتكم على العالمين " لأنها احدى الخصال التي ذكروا
بها وجاءت عاطفة فدلت على خصلة قبلها: اما مذكورة أو مقدرة وإنما فضلوا
بما ارسل الله فيهم من كثرة الرسل وانزل عليهم من الكتب: وقيل: تكثرة
من جعل فيهم من الأنبياء وما انزل الله عليهم من المن والسلوى إلى غير ذلك من
النعمة العظيمة من تغريق فرعون عدوهم، ونجاتهم من عذابه، وتكثير الآيات
التي يخف معها الاستدلال، ويسهل بها كثرة المشاق وهو قول أكثر أهل العلم
كأبي الغالية، وغيره ونظير هذه الآية قوله " وإذ نجيناكم من آل فرعون "
" وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون "
209

وقوله " على العالمين "
المعنى:
قال أكثر المفسرين: انه أراد الخصوص ومعناه عالمي زمانهم ذهب إليه قتادة
والحسن وأبو الغالية ومجاهد وغيرهم وقال بعضهم: إذا قلت فضل زيد على عمرو في
الشجاعة لم يدل على أنه أفضل منه على الاطلاق، ولا في جميع الخصال فعلى هذا
يكون التخصيص في التفضيل لا في العالمين وأمة نبينا محمد " ص " أفضل من أولئك بقوله:
" كنتم خير أمة أخرجت للناس " (1) وعليه اجماع الأمة، لأنهم اجمعوا على أن
أمة محمد " ص " أفضل من سائر الأمم كما أن محمدا " ص " أفضل الأنبياء من ولد
آدم " ع "
قوله تعالى:
" واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها
شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون " (48) آية واحدة
بلا خلاف
قرأ ابن كثير وأهل البصرة " لا يقبل منها بالياء " الباقون بالتاء
الاعراب:
موضع " لا تجزي " نصب لأنه صفة يوم والعائد عند الكسائي لا يكون
إلا هاء محذوفة من تجزيه وقال بعضهم: لا يجوز إلا فيه: وقال سيبويه والأخفش
والزجاج: يجوز الأمران
المعنى:
قال أبو علي المعنى في قوله " لا يقبل منها شفاعة " فمن ذهب إلى أن (فيه)
محذوفة من قوله " واتقوا يوما لا تجزي "، جعل (فيه) بعد قوله " ولا يقبل " ومن

(1) سورة آل عمران آية 110
210

ذهب إلى أنه حذف الجار، وأوصل الفعل إلى المفعول، ثم حذف الراجع من الصفة
كما يحذف من الصلة، كان مذهبه في قوله: لا يقبل أيضا مثله وحذف الهاء من الصفة
يحسن كما يحسن حذفها من الصلة ألا ترى ان الفعل لا يتسلط بحذف المفعول منه علو
الموصوف كما لا يتسلط بذلك على الموصول؟ ومما حذف منه الراجع إلى الصفة قوله:
وما شئ حميت بمستباح
ومن الحذف قوله:
ترو حي اجدران تقيلي * غدا بجنبي بارد ظليل
المعنى: تأتي مكانا اجدران تقيلي فيه فحذف الجار ووصل الفعل ثم حذف
الضمير: ونظير الآية قول الراجز:
قد صبحت صبيحها السلام * بكبد خالطها السنام
في ساعة يحبها الطعام (1)
أي تحب الطعام فيها
اللغة:
والمجازاة والمكافأة والمقابلة نظائر يقال: جزى يجزي جزاء، وجازاه مجازاة،
وتجازوا تجازيا: قال صاحب العين: المجازاة: المكافأة بالاحسان احسانا وبالإساءة إساءة
وفلان: ذو جزاء وذو غناء وتقول هذا الشئ يجزئ عن هذا بهمز وتليين وفي لغة
يجزي أي يكفي واصل الباب مقابلة الشئ بالشئ
المعنى:
ومعنى قوله " لا تجزي نفس عن نفس شيئا " (2) أي لا تقابل مكروهها بشئ يدرأه
عنها قال الله تعالى: " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " (3) وقال: " اليوم تجزى
كل نفس ما كسبت " (4) والفرق بين المقابلة والمجازاة ان المقابلة قد تكون للمساواة
فقط كمقابلة الكتاب بالكتاب والمجازاة تكون في الشر بالشر والخير بالخير ومعنى

(1) صبح القوم سقاهم الصبوح وهو ما يشرب صباحا من خمر أو لبن
(2) سورة البقرة آية 48 - و 123
(3) سورة النمل آية 90
(4) سورة المؤمن آية 17
211

قوله " لا تجزي " أي لا تغني وهو قول السدي كما تقول: البقرة تجزي عن سبعة وهي
لغة أهل الحجاز وبنو تميم تجزئ بالهمزة من أجزأه: والأول من جزت وقال الأخفش
لا تجزي منها أي لا يكون مكانها بدلا منها وأنكر عليهم ذلك لقوله: " شيئا "
وجعل الأخفش لا تجزي منها " شيئا " في موضع المصدر كأنه يقول لا تجزي
جزاء ولا تغني غناء قال الرماني والأقرب أن تكون " شيئا " في موضع حقا كأنه
قيل لا يؤدي عنها حقا وجب عليها وقال بعضهم " لا تجزي " بمعنى لا تقضي
وقبول الشئ تلقيه والاخذ به وضده الاعراض عنه ومن ثم قيل لتجاه القبلة
قبالة وقالوا: أقبلت المكواة الداء أي جعلتها قبالته ويجوز أن يكون المخاطبون
بذلك اليهود، لأنهم زعموا ان آباءهم الأنبياء وتشفع لهم وأويسوا بقوله " قل فلم يعذبكم
بذنوبكم " وبقوله: " لا يقبل منها شفاعة " والقبول والانقياد والطاعة والإجابة نظائر
ونقيضها الامتناع يقال قبل قبولا، وأقبل اقبالا، وقابله مقابلة وتقابلوا تقابلا،
واستقبله استقبالا، وتقبل تقبالا، وقبله تقبيلا وقبل نقيض بعد والقبل خلاف
الدبر والقبل اقبالك على الشئ كأنك لا تريد غيره والقبل الطاقة تقول لا قبل لي
أي لا طاقة لي ومنه قوله: " فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها (1) " والقبل التلقاء
تقول لقيته قبلا أي مواجهة وأصبت هذا من قبله أي من تلقائه أي من لدنه ومن
عنده وقوله: " وحشرنا عليهم كل شئ قبلا (2) " أي قبلا وفسر بعضهم عيانا،
وكل جيل من الناس والجن والقبيلة من قبائل العرب معروفة والكرة يقال لها
قبائل وكل قطعة من الجلد قبيلة وقبيلة الرأس كل فلقة قد قوبلت بالأخرى
وكذلك قبائل العرب والقبال: زمام البغل يقال: بغل مقبولة ومقبلة والقبل
رأس كل شئ مثل الجبل والأكمة وكثب الرمل وقبالة كل شئ ما كان مستقبله
ومن الجيران مقابل ومدابر وشاة مقابلة: إذا قطعت من اذنها قطعة وتركت
معلقة من مقدم، وان كانت من خلف فهي مدابرة وإذا ضممت شيئا إلى شئ قلت
قابلته والقابلة هي الليلة: المقبلة وكذلك العام القابل والمقبل والقابلة: التي تقبل الولد

(1) سورة النمل آية 37
(2) سورة الأنعام آية 111
212

والقبول من الريح: الصبا لأنها تستقبل الدبور، وهي تستقبل القبلة من المشرق
والقبول: ان تقبل العفو وغير ذلك وهو اسم المصدر وأميت الفعل منه والقبول
الاسم تقول: أفعل هذا من ذي قبل أي من ذي استقيال والقبلة معروفة والفعل
منه التقبيل والقبلة قبلة الصلاة والتقبل تقبل الشئ تقول: تقبل الله منك وعنك
عملك وتقول: تقبلت فلانا من فلان بقبول حسن ورجل مقابل في كرم وفي
شرف من قبل أعمامه وأخواله ورجل مقبل الشاب لم ير فيه اثر من الكبر والقبيل
والدبير: في الجبل فالقبيل الفتل الأول الذي عليه العمامة، والدبير الفتل الاخر وبعضهم
يقول القبيل في قوى الحبل كل قوة على وجهها الداخل قبيل والوجه الخارج: دبير
وقد قرئ قبلا وقبلا فمن قرأ قبلا أراد جمع قبيل ومن قرأ قبلا أراد مقابلة
والقبيل والكفيل واحد وقبيل القوم عريفهم والباب المقابلة خلاف المدابرة
وأما الشفاعة فهي مأخوذة من الشفع الذي هو خلاف الوتر فكأنه سؤال
من الشفيع شفع: سؤال المشفوع له والشفاعة، والوسيلة والقربة والوصلة نظائر
ويقال شفع شفاعة وتشفع تشفعا، واستشفع استشفاعا، وشفعه تشفيعا والشفع من
العدد: ما كان أزواجا تقول كان وترا فشفعته باخر حتى صار شفعا ومنه قوله:
" والشفع والوتر (1) " قال الشفع: يوم النحر والوتر: يوم عرفه وقال بعض المفسرين:
الشفع: الحفاء يعني كثرة الخلق والوتر الله والشافع: الطالب لغيره والاسم الشفاعة
والطالب: الشفيع والشافع والشفعة في الدار معروفة وتقول فلان يشفع إلي بالعداوة
أي يعين علي ويعاديني وتقول شفعت الرجل: إذا صرت ثانيه وشفعت له: إذا كنت
له شافعا وإنما سميت شفعة الدار، لان صاحبها يشفع ما له بها، ويضمها إلى ملكه
واصل الباب: الزوج من العدد: وقوله " ولا يقبل منها شفاعة " مخصوص عندنا
بالكفار، لان حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في اسقاط المضار دون زيادة المنافع
والمؤمنون عندنا يشفع لهم النبي صلى الله عليه وآله فيشفعه الله تعالى، ويسقط بها العقاب عن
المستحقين من أهل الصلاة لما روي من قوله " ع ": ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر

(1) سورة الفجر آية 3
213

من أمتي: وإنما قلنا لا تكون في زيادة المنافع، لأنها لو استعملت في ذلك، لكان
أحدنا شافعا في النبي " ص " إذا سأل الله ان يزيده في كراماته وذلك خلاف
الاجماع فعلم بذلك ان الشفاعة مختصة بما قلناه وعلم بثبوت الشفاعة ان النفي في الآية يختص
بالكفار دون أهل القبلة والآيات الباقيات (1) نتكلم عليها إذا انتهينا إليها إن شاء الله
والشفاعة ثبت عندنا للنبي " ص " وكثير من أصحابه ولجميع الأئمة المعصومين وكثير
من المؤمنين الصالحين وقيل إن نفي الشفاعة في هذه الآية يختص باليهود من بني إسرائيل
، لأنهم ادعوا انهم أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وان اباءهم يشفعون إليه
فأيسهم الله من ذلك، فاخرج الكلام مخرج العموم والمراد به الخصوص ولابد
من تخصيص الآية لكل أحد، لان المعتزلة والقائلين بالوعيد يثبتون شفاعة مقبولة
- وان قالوا إنها في زيادة المنافع - واصل الشفاعة ان يشفع الواحد للواحد فيصير
شفعا ومنه الشفيع لأنه يصل جناح الطالب ويصير ثانيا له والذي يدل على أن
الشفاعة في اسقاط الضرر قول شاعر غطفان انشده المبرد:
وقالوا أتعلم ان مالك ان تصب * يفدك وان يحبس يديل ويشفع (2)
واستعملت في زيادة المنافع أيضا - وإن كان مجازا لما مضى - قال الحطيئة في
طلب الخير:
وذاك امرؤ ان تاته في صنيعة * إلى ما له لم تأته بشفيع
وقد استعملت الشفاعة بمعنى المعاونة انشد بعضهم للنابغة:
اتاك امرؤ مستعلن لي بغصة * له من عدو مثل مالك شافع
أي معين وقال الأحوص:
كأن من لا مني لا صرمها * كانوا لليلى بلومهم شفعوا
أي تعاونوا
قوله: " لا يؤخذ منها عدل "

(1) في المخطوطة " الباقية "
(2) يديل: يزول
214

اللغة:
والعدل، والحق، والانصاف نظائر والعدل: نقيض الجور يقال: عدلا عدل واعتدل
اعتدالا وتعادل تعادلا تعدلا وعادله معادلة وعدله تعديلا والعدل المرضي من
الناس يقع على الواحد والجماعة والذكر والأنثى: فإذا قلت هم عدل قلت هما عدلان
والعدل: الحكم بالحق يقال هو حكم عدل ذو معدلة في حكمه وعدل الشئ نظيره
ومثله تقول عدلت بفلان فلانا أعدله والعادل المشرك الذي يعدل بربه والعدل
ان يعدل الشئ عن وجهه فيميله تقول: عدلته عن كذا وعدلت انا عن الطريق
والعديل الذي يعادلك في المحمل أو نحوه ما كان وسمعت العرب تقول: اللهم لا
عدل لك أي لا مثل لك وفي الكفارة (عدل ذلك) أي مثله في العدل، لا بالنظير
بعينه والعدل الفداء، لقوله: " لا يقبل منها عدل " وقيل أيضا: ان العدل: الفريضة
والصرف: النافلة وقوله " بربهم يعدلون (1) " أي يشركون وقيل لما يؤكل:
معتدل إذا لم يكن فيه ضرر من حر أو برد وتقول عدلته أي أقمته حتى اعتدل
واستقام وعدلت فلانا عن طريقه والدابة عن طريقها: إذا عطفتها فانعدلت وانعدل (2)
الطريق ويقولون الطريق يعدل إلى مكان كذا وكذا فإذا أراد الاعوجاج نفسه
قال: ينعدل في مكان كذا وكذا أي ينعوج، والاعتدال: الاستواء فلان عدل
حسن العدالة، واصل الباب العدل الذي هو الاستقامة والعدل المذكور في الآية
الفدية روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وهو قول ابن عباس وأبي الغالية وقال قوم
هو بدل والفرق بين العدل والعدل ان العدل بالكسر المثل تقول عندي عدل جاريتك
أي جارية مثلها فإذا قلت عندي عدل جاريتك يجوز أن يكون قيمتها من الثمن
ومن قرأ بالتاء فلان الشفاعة مؤنثة ومن ذكر قال: لان التأنيث ليس بحقيقي ولان
الفعل تقدم على المؤنث فأشبه علامة التثنية والجمع إذا تقدم الفعل سقط كذلك ههنا
ومثله قوله: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وكقول الشاعر:

(1) سورة الأنعام: آية 1. وسورة الانعام: آية 150
(2) في المطبوعة " العدل "
215

فلا مزنة ودقت ودقها * ولا ارض ابقل ابقالها (1)
والتاء أجود، لأنه أصل والياء حسن
قوله " ولا هم ينصرون "
اللغة:
والنصر والمعونة والتقوية نظائر وضد النصر الخذلان يقال: نصرته نصرا
وانتصر انتصارا واستنصر استنصارا وتناصر تناصرا قال صاحب العين:
النصر عون المظلوم وفي الحديث: انصر أخاك ظالما ومظلوما معناه إن كان مظلوما
فامنع منه الظلم وإن كان ظالما فامنعه من الظلم وانهه والأنصار: كالنصار وأنصار
النبي " ص " أعوانه وانتصر فلان: إذا انتقم من ظالمه والنصير الناصر والتنصر
الدخول في النصرانية والنصارى منسوبون إلى ناصرة، وهي موضع ونصرت
السماء إذا أمطرت قال الشاعر:
إذا خرج الشهر الحرام فودعي * بلاد تميم وانصري ارض عامر
ونصرت الرجل: إذا أعطيته وانشد:
أبوك الذي اجدى علي بنصرة * فاسكت عني بعده كل قائل
وأصل الباب والمعونة والنصرة قد تكون بالحجة وقد تكون بالغلبة فالله (عز
وجل) ينصر جميع المؤمنين بالحجة التي تؤيدهم واما النصر بالغلبة فبحسب المصلحة
ولا يدل وقع الغلبة لبعض المؤمنين على أنه مسخوط عليه كما أنه ليس في تخلية الله
بين الكفار وبين الأنبياء دلالة على حال منكرة وقد قتل الكفار كثيرا من الأنبياء
ونالوا منهم بضروب من الأذى قال الله تعالى " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات
الله ويقتلون النبيين بغير حق " (2) وقوله: ثم بغي عليه لينصره الله معناه بالغلبة
واما ما يأخذ له بالحق من الباغي عليه، لينصر به من الله للمبغي عليه واقعة لا محالة
والخذلان لا يكون الا للظالمين، لان الله تعالى لا يخذل أولياءه وأهل طاعته

(1) مر هذا البيت: 1: 126
(2) سورة الحج: آية 60
216

وقوله: " ان ينصركم الله فلا غالب لكم " (1) أي بالمعونة التي توجب الغلبة،
لان الله تعالى يقدر على اعطائهم ما يغلبون به كل من نازعهم، ويستعلون على كل
من ناوأهم وحد النصرة: المعونة على كل من ظهرت منه عداوة، وقد تكون المعونة
بالطاعة فلا تكون نصرة والفرق بين النصرة والتقوية ان التقوية قد تكون على
صناعة والنصرة لا تكون الا مع منازعة فاما قولهم: لا قبل الله منهم صرفا ولا
عدلا فقال الحسن البصري: الصرف: العمل والعدل: الفدية وقال الكلبي:
الصرف: الفدية والعدل: الفريضة وقال أبو عبيدة: الصرف: الحيلة والعدل:
الفدية وقال أبو مسلم: الصرف: التوبة والعدل: الفداء قوله تعالى:
" وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون
أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم آية بلا
خلاف (49)
هذه الآية عطف على ما تقدم من قوله " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم "
ف‍ " إذا " ههنا متعلقة بذلك كأنه قال اذكروا نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون
ونظيره " والى ثمود أخاهم صالحا " (2) لما تقدم ما يدل على " أرسلنا " وهو قوله:
" لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " (3) فكأنه قال: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا
والخطاب وإن كان متوجها إلى الحاضرين في الحال، فالمراد به من سلف لهم من
الآباء كما يقول القائل: هزمناكم يوم ذي قار، وقتلناكم يوم الفجار (4) وإنما يعني
الأسلاف قال الأخطل يهجو جريرا:
ولقد سما لكم الهذيل قتالكم * باراب حيث يقسم الانفالا (5)
وجرير لم يلحق هذيلا

(1) آل عمران: آية 160
(2) سورة الأعراف: آية 72
(3) سورة الأعراف آية 58
(4) في المطبوعة والمخطوطة " الجفار "
(5) ديوانه، ونقائض جرير والأخطل، والهذيل هذا هو ابن بهرة التغلبي غزا بنى يربوع باراب " وهو ماء لبني رياح بن يربوع " وبني تيم تفزع أولادها باسمه والأنفال: الغنائم وفي المطبوعة والمخطوطة " نفيتم " بدل يقسم
217

ولا أدرك اراب وقد بينا ان النعمة على الآباء نعمة على الأولاد، فلا وجه لإعادته
اللغة:
ومعنى " نجيناكم " فالنجاة، والسلامة، والاسعاد، والتخلص نظائر وضد
النجاة الهلاك تقول: نجا ينجو نجاة وأنجاه الله: إنجاء ونجاه تنجية وأنتجوا انتجاء
واستنجى استنجاء، وتناجوا تناجيا قال صاحب العين: نجا ينجو نجاة في السرعة
فهو ناج: اي سريع وناقة ناجية اي سريعة وتقول نجوت فلانا اي استنكهته
قال الشاعر:
نجوت مجالدا فوجدت منه * كريح الكلب مات حديث عهد
ونجا بنو فلان إذا أحدثوا ذنبا أو غيره، والاستنجاء: التنظيف بمدرأ
وماء والنجاة هي النجوة من الأرض وهي التي لا يعلوها السيل قال الشاعر:
فمن بنجوته كمن بعقوته * والمستكن من يمشي بقرواح
والنجو: السحاب أول ما ينشأ وجمعه نجاء: والنجوة: ما خرج من البطن
من ريح وغيرها والنجو: استطلاق البطن يقال: نجا فلان نجوا والنجو: كلام
بين اثنين كالسر والسار تقول ناجيتهم فتناجوا بينهم، وكذلك انتجوا وهم جميعا
نجوى وكلامهم نجوى، وفلان نجي فلان اي يناجيه دون غيره قال الشاعر:
إني إذا ما القوم كانوا انجيه * واضطرب القوم اضطراب الارشيه
والنجا: ما ألقيته عن نفسك من ثياب أو سلخته عن الشاة تقول:
نجوت الجلد انجوه نجا إذا كشطته ونجوت العود اي اقتضبته وقال بعض المفسرين
في قوله: " فاليوم ننجيك ببدنك " (1) أي نلقيك على نجوة وأصل الباب:
النجوة وهي الارتفاع والفرق بين النجاة وبين التخلص ان التخلص قد يكون
من تعقيد ليس بأذى وليس كذلك النجاة، لأنها لا تكون الا من مكروه وكل
نجاة: نعمة ولا يقال: لمن لا خوف عليه نجا، لأنه لا يكون ناجيا الا مما
يخاف مثله

(1) سورة يونس آية: 92
218

قوله " من آل فرعون " فالآل، والأهل، والقرابة، نظائر، وقيل أصل الآل
الأهل، لأنه يصغر أهيل: وحكى الكسائي: اويل فزعموا أنها أبدلت كما قالوا:
ايهات وهيهات وكما قالوا ماء واصلها ماه بدليل قولهم مويه في التصغير وفي الجمع:
امواه ومياه وقيل: لابل أصل على حياله: والفرق بين الآل والأهل ان الأهل أعم
منه يقال أهل الكوفة ولا يقال آل الكوفة ويقال أهل البلد ولا يقال آل البلد
وآل فرعون: قومه واتباعه وقال صاحب العين: الآل كل شئ يؤول إلى شئ:
إذا رجع إليه تقول: طبخت العصير حتى آل إلى كذا وأولى كلمة وعيد على وزن
فعلى والآل: السراب وآل الرجل: قرابته وأهل بيته وآل البعير: الواحة،
وما اقترب من أو طار جسمه وآل الخيمة عمدها والآلة: شدة من شدائد الدهر
قالت الخنساء:
سأحمل نفسي على آلة * اما عليها وامالها
وآل الجبل: أطرافه ونواحيه، وقال ابن دريد آل كل شئ: شخصه
وآل الرجل: أهله وقراباته قال الشاعر:
ولا تبك ميتا بعد ميت اجنه * علي وعباس وآل أبي بكر
والآلة: الحربة وأصل الباب: الأول وهو الرجوع قال أبو عبيدة:
سمعت أعرابيا فصيحا يقول أهل مكة آل الله: فقلنا: ما تعني بذلك؟ قال: أليسوا
مسلمين، والمسلمون آل الله؟ قال وقال: ليس يجوز ان ينصب رجلا من المسلمين
فيقول آل فلان وإنما يجوز ذلك للرئيس المتبع وفي شبه مكة لأنها أم القرى
ومثل فرعون في الضلال واتباع قومه له فان جاوزت هذا فان آل الرجل أهل بيته
خاصة فقلنا له: أفيقول لقبيلته (1) آل فلان قال: لا إلا أهل بيته خاصة
وفرعون اسم لملوك العمالقة كما قيل: قيصر لملك الروم وكسرى: لملك
الفرس وخاقان: لملك الترك والاخشاذ: الملك الفراعنة وتبع: لملك التبابعة فهو على
هذا بمعنى للصفة، لأنه يفيد فيه انه ملك العمالقة بنفس الصفة الجارية عليه وعلى غيره

(1) في المطبوعة والمخطوطة: (فقلت له فتقول للقبيلة)
219

وقيل: ان اسم فرعون مصعب بن الريان، وقال محمد ابن إسحاق: هو الوليد بن
مصعب
ومعنى قوله: " يسومونكم سوء العذاب " اي يولونكم سوء العذاب
اللغة:
يقال سامه خطة خسفا: إذا أولاه ذلك قال الشاعر:
ان سيم خسفا وجهه تربدا (1)
وقيل يجشمونكم سوء العذاب والسوم، والتجشم، والتجمل، نظائر
يقال: سامه الشقة وجسمه إياها وحمله إياها بمعنى (واحد) يقال: سام، يسوم،
سوما وساومه، واستامه، استياما وتساوموا تساوما وسوم تسويما والسوم
سومك سامة ومنه المساومة والاستيام والسوم من سير الإبل وهبوب الرياح
إذا كان مستمرا في سكون يقال: سامت الرياح وسامت الإبل وهي تسوم
سوما والسوام هي الغنم السائمة وأكثر ما يقال ذلك في الإبل خاصة، والسائمة
تسوم الكلأ سوما: إذا داومت رعيه والراعي يسيمها والمسيم الراعي والسويم:
العلامة على الجبل يقال: سوم فلان فرسه: إذا اعلم عليه بحريرة أو شئ يعرف به
والسما: في الأصل ياء وهاء وواو وهي العلامة التي يعرف بها الخير والشر في الانسان
ومنه قوله: " سيماهم في وجوهم " (2) " وتعرفهم بسيماهم " (3) وقوله: " يعرف
المجرمون بسيماهم " (4) ويقال سيماء الخير وسمت فلانا سوء العذاب من المشقة
وقال ابن دريد سام الرجل ما شيته يسومها سوما إذا وعاها فالماشية سائمة والرجل مسيم ولم
يقولوا سام خرج من القياس وأصل الباب: السوم (5) الذي هو ارسال الإبل في المرعى
وقوله: " سوء العذاب " " واليم العذاب " " وشديد العذاب " نظائر يقال:
ساءه يسوءه سوء وأساء إساءة قال صاحب العين: السوء اسم العذاب الجامع للآفات

(1) الخسف: الظلم والهوان تربد وجهه: تلون من الغضب كأنما تسود منه مواضع
(2) سورة الفتح آية: 29
(3) سورة البقرة آية: 273
(4) سورة الرحمن آية: 41
(5) السوم ساقطة من المخطوطة المطبوعة هامش
220

والداء تقول سؤت فلانا اسوءه مساءة ومسائية: وتقول أردت مساءتك ومسائتيك
وأسأت إليه في الصنع واستاء فلان من السوء كقوله: اهتم من الهم وسؤت فلانا
وسوءت له وجهه وتقول لساء ما صنع والسئ والسيئة اسم الخطيئة والسوأى فعلى
اسم للفعلة السيئة بمنزلة الحسنى وامرأة سوء قبيحة والسوءة السوأى للفعلة القبيحة
يقال للرجل السوء والسوأة الفرج لقوله: " فبدت لهما سوأتهما " (1) والسوأة كل عمل
يشين، تقول سوأة لفلان، تعيبه لأنه ليس بخير والسوأة السؤى: المرأة المخالفة،
وتقول في النكرة رجل سوء فإذا عرفته قلت: الرجل السوء لا تضيفه وتقول
عمل سوء وعمل السوء ورجل صدق ولا تقول الرجل الصدق لان الرجل ليس من
الصدق وكلما ذكر بسئ فهو السوء ويكنى عن البرص بالسوء كقوله:
" بيضاء من غير سوء " (2) أي من غير برص وتقول: الأخير في قول السوء
ولا في قول السوء فإذا فتحت السين فعلى ما وصفناه وإذا ضممته فمعناه لا تقل
سوء وأصل الباب: السوء من قولك: ساء يسوء سوء، ثم كثر حتى صار علما على
الضر القبيح، فقالوا أساء يسئ إساءة نقيض أحسن يحسن احسانا
وقوله: " يذبحون أبناءكم "
اللغة:
فالذبح، والنحر، والشنق: نظائر والذبح: فري الأوداج: يقال ذبح ذبحا
واستذبح استذباحا: وتذابحوا تذابحا وذبح تذبيحا وأصل الذبح الشق وذبحت المسك إذا
فتقت عنه، فهو ذبيح ومذبوح والذبح: الشئ المذبوح لقوله: " وفديناه بذبح
عظيم " (3) والذباح والذابحة بفتح الباء وتسكينها، داء يصيب الانسان في حلقه
وتقول العرب: حي الله هذه الذبحة اي هذه الطلعة والذباح: الشقوق في الرجل
أصله: ذباح في رجله والذبح نور أحمر وسعد الذابح: كوكب معروف من

(1) سورة الأعراف آية: 21، وسورة طه آية: 121
(2) سورة طه آية: 22، وسورة النمل آية: 12، وسورة القصص آية: 32
(3) سورة الصافات آية: 107
221

منازل القمر قال صاحب العين: الذبح: قطع الحلقوم من باطن وموضعه المذبح والمذبح
السكين الذي يذبح به الذباح والذباح نبات من الشجر قال الأعشى: " إنما قولك صاب
وذبح " وقال آخر: " كان عيني فيها الصاب مذبوح " (1) وأصل الباب الشق
قوله: " يستحيون نساءكم " إنما قال نساءكم وهم كانوا لا يستبقون الأطفال
من البنات تغليبا، لأنهم كانوا يستبقون الصغار والكبار كما يقال: أقبل الرجال
وإن كان معهم صبيان، وقيل إن اسم النساء يقع على الكبار والصغار، وقيل: انهم
سمعوا بذلك على تقدير انهن يبقين حتى يصرن نساء والمرأة والنساء والزوجات،
نظائر ولا واحد للنساء من لفظه ويقال: الرجال والنساء على وجه النقيض قال
صاحب العين: النسوة، والنسوان، والنسين، كل ذلك مثل النساء
قوله: " وفي ذلكم بلاء من بكم عظيم " البلاء، والاحسان، والنعمة،
نظائر في اللغة وبلى، بلى بلى فهو بال والبلاء لغة قال الشاعر:
والمرء يبليه بلاء السربال * تناكر الليالي واختلاف الأحوال
والبلية الدابة التي كانت تشد في الجاهلية عند قبرصا حبها رأسها في الركبة
حتى تموت ومنها ما يعقر عند القبر حتى يموت وناقة بلو مثل نضو قد أبلاها
السفر والفعل من البلية ابتليت وتقول: بلى الانسان وابتلى والبلاء على وجهين
في الخير والشر والله تعالى يبلي العبد بلاء حسنا وبلاء سيئا وأبليت فلانا عذرا
أي بليت فيما بينه وبيني بما لا لوم علي بعده والبلوى: هي البلية، والبلوى التجربة
تقول بلوته بلوى وأصل الباب التجربة والبلاء: الامتحان الذي فيه انعام
والبلاء، الامتحان الذي فيه انتقام، فإذا أردت الانعام، قلت: أبليته بلاء حسنا
وفي الاختيار: تقول بلوته بلاء قال الله تعالى: " ونبلوكم بالخير والشر فتنة " (2)

(1) قاله أبو ذؤيب الهذلي وصدر البيت " انى أرقت فبت الليل مشتجرا " وفي المحكم
(مرتفقا) بدل " مشتجرا " ولعلهما روايتان والشتجر: الذي يضع يده تحت حنكه مذكر
الشدة همه: - لسان العرب -
(2) سورة الأنبياء آية 35
222

وقال في الانعام: " وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا " قال زهير:
جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم * وابلاهما خير البلاء الذي يبلو (1)
فجمع المعنين لأنه أراد: وانعم عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده، وقال
الأحنف: البلاء ثم الثناء، يعني الانعام، ثم الشكر،
المعنى:
وإنما كان في استحياء النساء محنة عليهم وبلوى لهم، لأنهم كثيرا
يستعبدون، وينكحن على الاسترقاق فهو على رجالهن أعظم من قتلهن وقيل:
إنهن كن يستبقين للاذلال، والاستبقاء، محنة، كما أن من أحيي: للتعذيب فحياته
نقمة ومن أحيي للتلذيذ فحياته نعمة
والأبناء جمع ابن والمحذوف من الابن عند الأخفش الواو، لأنها أثقل
وهي بالحذف أولى وقال الزجاج: يجوز أن يكون المحذوف ياء وواو أو هما سيان
ولا حجة في النبوة كما لا حجة في الفتوة لقولهم فتيان قال: وقد جاء حذف الياء
كما في يد كقولهم يديت إليه يدا وفي دم قال الشاعر:
فلو انا على حجر ذبحنا * جرى الدميان بالخبر اليقين
والقتل الذي هو فري الأوداج، أو نقض بنية الحياة يقدر الواحد منا عليه
وأما الموت بتسكين الحركة الحيوانية، أو فعل ضد الحياة عند من قال: لها ضد،
فلا يقدر عليه غير الله
الاعراب:
وموضع " يسومونكم سوء العذاب " يحتمل أمرين من الاعراب:
أحدهما الاستئناف: فيكون موضعه رفعا، كأنه قال: يسومونكم من
قبل ذلك سوء العذاب

(1) سورة الأنفال آية 17
(2) ديوانه وروايته " رأى الله.. فأبلاهما "
223

والثاني: - أن يكون موضعه نصبا على الحال من آل فرعون والعامل
فيه نجيناكم
" يسومونكم سوء العذاب " كان بذبح الأبناء واستحياء النساء وقيل:
باستعمالهم في الاعمال الشاقة واستحياء النساء كان بان يستبقين وقيل إنه كان
يفتش احياء النساء عما يلدن، وقيل: انهم كانوا يستحيون ان يلجوا على النساء في
بيوتهن إذا انفردن عن الرجال صيانة لهم فعلى هذا يكون انعاما عليهن وهذا
بعيد من من أقوال المفسرين والسبب في أن فرعون كان يذبح الأبناء ويستحيي
النساء ما ذكره السدي وغيره، أن فرعون رأى في منامه نارا أقبلت من بيت المقدس
حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخرجت مصر
فدعى السحرة والكهنة والقافة فسألهم عن رؤياه فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي
جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت المقدس - رجل يكون على يده هلاك مصر
فامر بني إسرائيل الا يولد لهم غلام إلا ذبحوه ولا جاريه الا تركت وليس في
الآية دلالة على سقوط القود عمن قتل غيره مكرها ولا القود على المكره ولا إن كان
مختارا غير مكره فالقود عليه لأنه لم يجر لذلك ذكر: فان قيل إذا كانوا نجوهم
والله أنجاهم ما المنكر أن يكون العاصي هو الذي عصى الله والله خلق معصيته؟
قيل: لا يجب ذلك الا ترى انه يقال قد ينجيني زيد فانجو وان لم يكن فعل
بلا خلاف وكذلك إذا استنقذنا النبي " ص " من الضلالة فخلصنا لا يجب أن يكون
من فعل فعلنا واخبار الله اليهود بهذه القصة على لسان رسوله من دلائل
نبوته، لان منشأه معروف وبعده عن مخالطة الكتابيين معلوم
قوله تعالى:
وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم
تنظرون (50) - آية
موضع إذا نصب كما تقدم وهو عطف على ما مضى فكأنه قال: وإذ كروا
إذ فرقنا بكم البحر: وذلك من جملة نعم الله تعالى التي عددها عليهم مما فعله
224

مع اسلافهم
ومعنى فرقنا بكم البحر أي فرقنا بين الماءين حتى مررتم فيه وكنتم فرقا بينهما
اللغة:
والفرق والفصل والقطع نظائر: والفرق يقتضي الجمع يقال فرق فرقا وافرق
المريض افراقا وافترق الشئ افتراقا واستفرق استفراقا وفرقه تفريقا وتفارقوا
تفارقا وتفرق تفرقا وفارقه مفارقة وانفرق انفراقا والفرق موضع المفرق من الرأس والفرق
تفريق ما بين الشيئين والفرق فرجك ما بين شيئين تفرق بينهما فرقا، حتى يتفرقا ويفترقا،
وتقول تفارق هؤلاء الصبحة أي فارق بعضهم بعضا، وافترقوا وتقول: مشطت
الماشطة كذا وكذا فرقا أي كذا وكذا ضربا والفرق طائفة من الناس قال
أعرابي لصبيان رآهم هؤلاء فرق سوء والفرق: الطائفة من كل شئ، ومن الماء،
إذا انفرق بعضه عن بعض وكل طائفة من ذلك فرق وقوله: " فكان كل فرق
كالطود العظيم " (1) يعني الفرق من الماء، والفريق الطائفة من الناس والفرقة:
مصدر الافتراق وهو أحد ما خالف فيه مصادر افعل والفرقان: اسم للقرآن
وكل كتاب انزل الله وفرق به بين الحق والباطل فهو فرقان وسمى الله تعالى
التوراة فرقانا وقوله: " يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " (2) كان يوم بدر ويوم
أحد فرق الله بين الحق والباطل والفرق هو الفلق والمفرق هو مكيال لأهل العراق
والفرق: الخوف تقول: رجل فروقة وامرأة فروقة والفعل فرق يفرق من كذا
فرقا وقوله: " وقرآنا فرقناه " (3) مخفف - معناه أحكمناه كقوله: " فيها يفرق كل
أمر حكيم " (4) وتقول: مفرق ما بين الطرفين وافرق فلان من مرضه افراقا إذا
برئ ولا يكون الافراق إلا من مرض لا يصيب الانسان إلا دفعة واحدة: نحو
الجدري، والحصبة، وديك أفرق: إذا انفرق عرفه وتيس أفرق: إذا تباعد
طرفا قرنيه ورجل فروقة وكذلك المرأة: مثل، نسابة وعلامة وجاء مصدر فرقته

(1) سورة الشعراء: آية 64
(2) سورة الأنفال: آية 41
(3) سورة الإسراء آية 106
(4) سورة الدخان: آية 4 وسورة الرحمن آية 19
225

تفرقة والفرق الذي جاء في الحديث: ما اسكر الفرق فالجرعة منه حرام، مكيال
يعرف بالمدينة وفرقة من الناس ومعه فرق واصل الفرق الفصل بين الشيئين
والفريقة حلبة تطبخ بتمر للنفساء وغيرها
والبحر يسمى بحرا وهو انبساطه وسعته ويقال استبحر فلان في العلم وتبحر
لاستبحاره إذا اتسع فيه وتمكن منه (1) ويقال تبحر الراعي في رعي كثير قال
أمية الصغير:
انفق نصابك في نفل تبحره * من الأباطح واحبسها بخلدان
وتبحر فلان في الماء ومن ذلك بحيرة طبرية وهي عشرة أميال في ستة أميال
وقيل: هي علامة خروج الدجال إذا يبست، فلا يبقى منها قطرة ماء وبحرت اذن
الناقة بحرا إذا شققتها وهي البحير وكانت العرب تفعل ذلك إذا أنتجت عشرة
ابطن فلا تركب ولا ينتفع بظهرها فنهى الله عن ذلك والسائبة التي تسيب فلا
ينتفع منها بظهر ولا لبن والوصيلة في الغنم كانت إذا وضعت أنثى تركت وان
وضعت ذكرا أكله الرجال، دون النساء وان ماتت الأنثى الموضوعة اشتركوا
في أكلها، وان ولد مع الميتة ذكر حي اتصلت به، كانت للرجال دون النساء
ويسمونها وصيلة وقد قيل غير ذلك سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى والباحر
الأحمق الذي لبس في حديثه إذا كلم بقي كالمبهوت وبحراني منسوب إلى البحرين
ودم بحراني وباحر: إذا كان خالص الحمرة من دم الجوف والعرب تسمي المالح
والعذب بحرا إذا كثر ومنه قوله: " مرجع البحرين يلتقيان " (2) يعني المالح والعذب
وأصل الباب الاتساع والبحر: هو المجرى الواسع الكثير الماء واما المالح: فهو
الذي لا يرى حافتيه من في وسطه، لعظمه وكثرة مائه فدجلة بحر بالإضافة إلى
الساقية وليست بحرا بالإضافة إلى جدة، وما جرى مجراها
المعنى:
ومعنى قوله " فرقنا بكم البحر " أي جعلناكم بين فرقيه تمرون في طريق يبس

(1) في المخطوطة والمطبوعة " فيه "
(2) سورة طه: آية 77
226

كما قال تعالى: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا " (1) وقال: " وأوحينا إلى موسى
ان اضرب بعصاك البحر فكان كل فرق كالطود العظيم " (2) وقال بعضهم في معنى
فرقنا يعني بين الماء وبينكم أي فصلنا بينكم وبينه حجزنا حيث مررتم فيه وهذا
خلاف الظاهر، وخلاف ما بينه في الآيات الأخر التي وردت مفسرة لذلك، ومبنية
لما ليس فيه اختلاف
وقوله:
" وأغرقنا آل فرعون "
اللغة:
قال صاحب العين: الغرق: الرسوب في الماء ويشبه به الدين والبلوى والتغريق
والتغويص والتغييب نظائر والنجاة ضد الغرق كما انها ضد الهلاك يقال غرق غرقا
وأغرق في الامر اغراقا وغرقه تغريقا وتغرق تغرقا ورجل غرق وغريق
وغرقت السيل وأغرقته إذا بلغت به غاية المد في النفوس والفرس إذا خالط، ثم سبقها:
يقال اغترقها والغرق من اللبن القليل قال ابن دريد: غرق يغرق غرقا في الماء
وغرق في الطيب، والمال واصله في الماء وكثر فاستعمل في غيره وكذلك
غرق في الذنوب وأغرق في الامر يغرق إغراقا: إذا جاوز الحد فيه واصله من
نزع السهم حتى يخرجه من كبد القوس واغرورقت عيناه: شرقت بدمعها وجمع
غريق: غرقى واصل الباب الغرق: الرسوب في الماء
وقوله:
" وأنتم تنظرون " قال المفسرون: وأنتم ترون ذلك وتعاينونه
اللغة:
والنظر والبصر والرؤية نظائر في اللغة يقال نظر ينظر نظرا وانظر ينظر
انظارا وانتظر انتظارا واستنظر استنظارا وتناظر تناظرا وناظره مناظرة

(1) سورة الشعراء: آية 64
227

قال صاحب العين: نظر ينظر نظرا - بتخفيف - المصدر وتقول: نظرت إلى كذا
- من غير ذكر العين - ونظرت في الكتاب ونظرت في الامر وقول القائل انظر
إلى الله تعالى، ثم إليك معناه اني أتوقع فضل الله ثم فضلك ويقال: نظرت بعلمي
ويقال انظر الدهر إليهم أي أهلكهم قال الشاعر:
نظر الدهر إليهم فابتهل
والنظر: الاسم من نظر. وقوله: (لا ينظر إليهم) أي لا يرحمهم والمنظور
من الناس هو المرجو فضله. ينعت به السيد. والنظور: الذي لا يغفل عن النظر
إلى ما أهمه. والمناظرة ان تناظر أخاك في امر تنظر أنت في ذلك وينظر هو فيه
كيف تأتيانه. والمنظرة موضع في رأس جبل يكون فيه رقيب ينظر فيه إلى العدو
ويحرس أصحابه والمنظرة منظرة الرجل إذا نظرت إليه أعجبك أو اساءك. تقول:
انه لذو منظرة بلا مخبرة والمنظر مصدر كالنظر. والمنظر: الشئ الذي يعجب بالنظر
إليه ويسر به تقول: ان فلانا لفي منظر ومسمع وفي ري ومشبع أي فيما أحب
النظر إليه. ونظار بمعنى انتظر في الامر. وناظر العين. النقطة السوداء الخالصة الصافية
التي في جوف سوداء العين مما يرى انسان العين والنظير: نظيرك الذي هو مثلك.
والأنثى نظيرة. وجمعه نظائر في الكلام والانشاء. ونظرته وانتظرته بمعنى واحد
ويقول انظرني يا فلان أي استمع إلي لقوله: " لا تقولوا راعنا وقولوا انظرا " (1)
وتقول: بعت فلانا فأنظرته. أي انسأته والاسم النظرة. ومنه قوله: " فنظرة إلى
ميسرة " (2) أي فانتظار. واستنظر فلان - من النظرة -: إذا هو سأل
والنظر توقع أمر تنتظره وبفلان نظرة أي سوء هيئة وقوله: " انظرونا نقتبس
من نوركم (3) أي انتظرونا. واصل الباب كله الاقبال نحو الشئ بوجه من
الوجوه. وقال قوم: إن النظر إذا كان معه إلى، لا يحتمل الا الرؤية. وحملوا قوله
" إلى ربها ناظرة " (4) على ذلك وقالوا لا يحتمل التأمل. وذلك غلط، لأنهم

(1) سورة البقرة: آية 104.
(2) سورة البقرة آية 280.
(3) سورة الحديد: آية 13.
(4) سورة القيامة: آية 23.
228

يقولون: إنما انظر إلى الله ثم إليك بمعنى أتوقع فضل الله ثم فضلك. وقال الطريح
ابن إسماعيل:
وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك جرتني نعماء (1)
وقال جميل بن معمر:
اني إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر (2)
وقال آخر:
وجوه يوم بدر ناظرات * إلى الرحمان تأتي بالفلاح
واتوا ب‍ (إلى) على معنى نظر الانتظار والصحيح ان النظر لا يفيد الرؤية
وإنما حقيقته تحديق الجارحة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته ولو أفاد الرؤية، لما
جعل غاية لنفسه، الا تراهم يقولون: ما زلت انظر إليه ولا يقولون ما زلت أراه
حتى رأيته، ولأنهم يثبتون النظر وينفون الرؤية يقولون: نظرت إليه فلم أره ولا
يقولون رأيته فلم أره
المعنى:
فإذا ثبت هذا، فالأولى ان نقول: إن تأويل الآية " وأغرقنا آل فرعون "
وأنتم مقبلون عليهم متوقعون له وقال الفراء قد كانوا في شغل من أن ينظروا
مستورين بما اكتنفهم من البحر من أن يروا فرعون وغرقه ولكنه كقولك: قد
ضربت وأهلك ينظرون. فما أتوك، ولا أعانوك. ومعناه وهم قريب بمرأى ومسمع
ومثله قوله: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " (3) وليس ههنا رؤية، وإنما هو
علم، لان الرؤية تستعمل في مثل ذلك يقول القائل رأيت فرعون أعتى الخلق وأخبثه
وهذا الذي ذكره الفراء محتمل مليح، غير أنه مخالف لقول المفسرين كلهم فإنهم
لا يختلفون أن أصحاب موسى رأوا انفراق البحر والتطام أمواجه بآل فرعون،
حتى غرقوا فلا وجه للعدول عن الظاهر مع احتماله ولأنهم إذا عاينوا ذلك، كانوا

(1) طريح بن إسماعيل الثقفي شاعر الوليد بن يزيد الأموي وخليله والبيت لم نعثر عليه وهو
كما ترى
(2) لم نحده في ديوانه ولا في بعض مراجعنا الأخرى
(3) سورة الفرقان: آية 45.
229

أشد في قيام الحجة، وأعظم في ظهور الآية وذكر الزجاج وجها آخرا قال: معناه
وأنتم بإزائهم كما يقول القائل: دور آل فلان إلى دور آل فلان أي هي بإزائها،
لأنها لا تبصر.
قصة موسى (ع):
وقصه فرعون مع بني إسرائيل في البحر. ولا نعلم جملة ما قال ابن عباس:
ان الله أوحى إلى موسى " ان أسر بعبادي إنكم متبعون " (1) فسرى موسى ببني
إسرائيل ليلا " فاتبعه فرعون " (2) في الف الف حصان سوى الأثاث. وكان
موسى في ستمائة الف. فلما عاينهم قال: " ان هؤلاء لشرذمة قليلون وانهم لنا
لغائظون وانا لجميع حاذرون " (3) فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على
البحر، فالتفتوا فإذا هو برهج دواب فرعون " فقالوا يا موسى أوذينا من قبل ان
تأتينا ومن بعد ما جئتنا " (4) هذا البحر امامنا وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه
" قال عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " (5)
قال فأوحى الله إلى موسى " ان اضرب بعصاك البحر " وأوحى إلى البحر ان اسمع
لموسى واطع إذا ضربك. قال فبات البحر له أفكل أي له رعدة له يدري من أي
جوانبه يضربه. قال فقال يوشع لموسى (ع) بماذا أمرت قال: أمرت ان اضرب
البحر. قال فاضربه. فضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق، فكان اثنا عشر طريقا
كالطود العظيم فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه فلما اخذوا في الطريق،
قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا قالوا لموسى: أصحابنا لا نراهم. فقال
لهم: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. فقالوا لا نرضى حتى نراهم. فيقال ان
موسى قال لله تعالى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. فأوحى الله إليه انقل (6)
بعصاك هكذا يمينا وشمالا. فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض. قال ابن
عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر. فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون هو
وأصحابه وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب (7) حصان. فلما هجم على البحر هاب

(1) سورة الشعراء: آية 3
(2) سورة الشعراء: آية 3
(3) الشعراء آية 55 و 56.
(4) سورة الأعراف آية 128.
(5) سورة الأعراف آية 128.
(6) والمطبوعة " أن قل "
(7) طويل الذنب في المطبوعة والمخطوطة " دبوب "
230

الحصان ان يتقحم على البحر، فتمثل له جبرائيل على فرس أنثى وديق (1) فلما رآها
الحصان تقحم خلفها: وقيل لموسى ترك البحر رهوا أي طرقا على حاله. ودخل
فرعون وقومه البحر فلما دخل آخر قوم آل فرعون وجاز آخر قوم موسى، انطبق
البحر على فرعون وقومه فأغرقوا. ويقال نادى فرعون حين رأى من سلطان الله
وقدرته ما رأى، وعرف ذلة وخذلة نفسه: لا إله إلا الذي امنت به بنو إسرائيل
وانا من المسلمين فان قيل: كيف لم يسو الله بين الخلق في هذه الآيات الباهرات التي
أعطاها بني إسرائيل لتكون الحجة أظهر والشبهة أبعد؟ قيل الآيات يظهرها الله
على حسب ما يعلم من المصلحة في ذلك، وعلى حد لا ينتهي إلى الالجاء والاضطرار
وخولف بين الآيات لهم على قدر حدة أذهان غيره، وكلالة أذهانهم يدل على ذلك
ان بعد مشاهدة هذه الآيات قالوا يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة. ولما كانت
الغرب من أحد الناس أذهانا وأجودهم أوهاما جاءت الآيات مشاكلة لطباعهم ومجانسة
لدقة أذهانهم. وفي الجميع الحجة الباهرة، والآية القاهرة: وليس يمكن ان يقال إنه
لو ظهر لهم مثل تلك الآيات، لامنوا لا محالة. على وجه لا يكونون ملجئين إليه
لان ذلك لو كان معلوما، لاظهره الله تعالى. فلما لم يظهرها الله علنا انه لم يكن ذلك
معلوما وموسى " ع " لم يكن مجتلبا إلى المعارف، لمشاهدته هذه الآيات، لأنه كان
يقدم له الايمان بالله ومعرفته.
وقوله:
" وأغرقنا آل فرعون " وان لم يكن في ظاهره انه أغرق فرعون فهو دال
عليه. وكأنه قال: وأغرقنا آل فرعون معهم، - وأنتم تنظرون - فاختصر لدلالة الكلام
عليه، لان الغرض مبني على اهلاك فرعون وقومه ونظيره قول القائل: دخل جيش
الأمير الباذية. فان الظاهر من ذلك ان الأمير معهم.
قوله تعالى:

(1) وديق: تشتهي الفحل
231

" وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده
وأنتم ظالمون " (51)
القراءات:
قرأ " واعدنا " بغير الف أهل البصرة، وأبو جعفر هنا وفي الأعراف، وطه.
وقرأ الباقون بألف قبل العين، وقرأ ابن كثير وحفص والبرجمي ورويس (اتخذتم)
(وأخذتم) وما جاء منه باظهار الذال. ووافقهم الأعشى فيما كان على وزن افتعلت
وافتعلتم. الباقون بالادغام. حجة من قرأ باثبات الألف دلالة الله على وعده وقبول
موسى لأنه إذا حسن في مثل قوله: " أخلفوا الله ما وعدوه " (1) الاخبار كان
هنا في الاختيار واعدنا. ومن قرأ بالألف، قال: هو أشد مطابقة للمعنى إذا القبول
ليس بوعد في الحقيقة إنما هو اخبار الموعود بما يفعل به من خير. وعلى هذا
قوله: " أخلفوا الله لما وعدوه " مجاز حقيقة بما أخبروه انهم فاعلوه وقال جماعة
من أهل العلم: ان المواعدة في الحقيقة لا تكون إلا من البشر والله تعالى هو المتفرد
بالوعد والوعيد. كما قال تعالى " وإذ يعدكم الله احدى الطائفتين " (2) وقال:
" وعد الله الذين امنوا وعملوا الصالحات " (3) والقراءتان جميعا صحيحتان قويتان
اللغة:
" وإذ " معطوفة على الآيات المتقدمة: كأنه قال: واذكروا إذ وعدنا
وبينا وجه الحسن فيه فالوعد، والعدة، والموعد والميعاد، نظائر. والوعد في الخير
والوعيد في الشر يقال وحده: وعدا. وأوعده: ايعادا. وواعده: مواعدة.
تواعدوا: تواعدا. واتعدوا: اتعادا. وتوعدوا - في الشر خاصة - قال صاحب
العين: الوعد والعدة مصدران ويكونان اسمين. فاما العدة فيجمع على العدات
والوعد لا يجمع. والموعد: موضع التواعد. وهو الميعاد. و يكون الوعد مصدر
وعدته. ويكون الموعد وقتا للحين. والموعدة اسم العدة. والميعاد: لا يكون

(1) سورة التوبة آية 78
(2) الأنفال آية 9
(3) سورة المائدة آية 10 والفتح 39 والنور 55
232

إلا وقتا أو موضوعا. والوعيد من التهدد، أوعدته المكاره ويقال أيضا: وعدته
من الشر كقوله: " النار وعدها الله الذين كفروا " (1) ووعد الفحل: إذا هم ان
يصول واصل الباب: الوعد الذي هو الخبر بأنه سيفعل بالمخبر به خيرا أو شرا وقال احمد
ابن يحيى: تقول أو عدته، وتسكت أو تجئ بالباء تقول: أوعدته بالشر ولا تقول
أوعدته الشر.
وموسى اسم مركب من اسمين بالقبطية (فمو) هو الماء و (سى) شجر.
وسمي به، لان التابوت الذي كان فيه موسى وجد عند الماء، والشجر وجدنه
جواري آسية امرأة فرعون وقد خرجن ليغتسلن، فسمي بالمكان الذي وجد فيه
وهو موسى بن عمران بن يصمر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله.
المعنى:
وقال: " أربعين ليلة " ولم يقل يوما على عادة العرب في التاريخ بالليالي، لان
الأهلة تطلع فيها. واعتمادهم على الأهلة. وقال الأخفش. وعد باتمام أربعين ليلة،
أو انقضاء أربعين ليلة كقولك: اليوم أربعون يوما مذ خرج فلان. واليوم يومان:
أي تمام يومين. وقال غيره: الأربعون كلها داخلة في الميعاد. قال أبو العالية: واعدنا
موسى أربعين ليلة يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة وقال غيره: ذا الحجة
وعشرا من المحرم. وذلك حين خلف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون فمكث
على الطور أربعين ليلة وأنزلت عليه التوراة في الألواح. وعن الربيع نحوه. وقال
الطبري: لا يجوز ما قاله الأخفش، لأنه خلاف ظاهر التلاوة وما جاءت به الرواية
قال الرماني: في هذا غلط ظاهر. ان الوعد لا يتصل وقوعه في الأربعين كلها إذا
كان الوعد هو الاخبار الموعود بما فيه النفع، فلم يكن ذلك الخبر في طول تلك المدة
فلابد على ذلك أن يكون التقدير على ما قاله الأخفش أو على وعدناه إقامة أربعين
ليلة للمناجاة أو غيبته أربعين ليلة عن قومه للمناجاة، وما أشبه ذلك من التقدير.
قال أبو علي: لا يخلو أن تكون " أربعين " ظرفا مفعولا ثانيا ولا يجوز ان

(1) سورة الحج: آية 72
233

تكون ظرفا، لان الوعد ليس فيها كلها فيكون جواب كم ولا في بعضها فيكون
جوابا لمتى. فإذا لم تكن ظرفا كانت منتصبة بوقوعها موقع المفعول الثاني. فيكون
تقديره: وعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة أو تتمة أربعين ليلة فحذف المضاف كما
يقول اليوم خمسة عشر من الشهر أي تمامه.
اللغة:
والأربعة عدد يزيد على الثلاثة، وينقص عن الخمسة يقال: ربع يربع ربعا.
وربع تربيعا وتربع تربعا. وارتبع ارتباعا تقول ربعت القوم فانا رابعهم والرابع
من الورد وهو ان تحبس الإبل عن الماء أربعة أيام ثم ترد يوم الخامس وربعت الحجر
بيدي ربعا إذا رفعته عن الأرض بيدك. وارتبعت الحجر كذلك. وربعت الوتر
إذا جعلته اربع طاقات، وتقول: أربع على ضلعك، وأربع على نفسك، وأربع
عليك كل ذلك واحد بمعنى انتظر. والربع المنزل والموطن. والربع الفصيل الذي نتج
في الربيع وما ينتج بالصيف يقال له: هبع وفي المثل ما له هبع ولا ربع. ورجل
ربعة ومربوع: ليس بطويل ولا قصير. والربعة: الجونة. والمرباع كانت العرب
إذا غزت اخذ رئيس القوم ربع الغنيمة، والباقي بينهم. وأول الأسنان الثنايا، ثم
الرباعيات وهي أربعة ثنيتان من تحت وثنيتان من فوق والواحد رباعية وأربع الفرس
إذا القى رباعية من السنة الأخرى. والجمع الربع. والربيعة: هي البيضة من السلاح
يقال: ربعت الأرض فهي مربوعة من الربيع. وارتبع القوم: إذا أصابوا ربيعا وحمر
ربع ما لي يوم الرابع والمربعة خشبة تشال بها الأحمال، وتوضع على الإبل والربع:
الباهر. ورجل مربوع ومربع: إذا اخذته حمى الربع والربيع حظ من الماء للأرض
ربع يوم أو ربع ليلة يقال لفلان في الماء ربيع وربع المال جزء من أربعة ويقال له:
ربيع ولم يتجاوز العرب في هذا المعنى الثمين وقال بعضهم: التسيع والعشير والأول أظهر
واصل الباب الأربعة من العدد والأربعة تجري تارة على نفس العدد، وأخرى
على المعدود فإذا أجريته على العدد، قلت أربعة أثواب وإذا أجريته على المعدود
قلت. أثواب أربعة.
234

وليلة وعشية ومساء نظائر ويقال يوم وليلة. على طريق النقيض. قال صاحب
العين: الليل ضد النهار. والليل ظلام الليل. والنهار الضياء. فإذا أفردت أحدهما من
الآخر قلت: ليلة ويوم تصغيرها لييلة اخرجوا الياء الأخيرة من مخرجها في الليالي
يقول بعضهم: إنما كان بناؤها ليلاء فقصر يقولون: هذه ليلة ليلاء: إذا اشتدت
ظلمتها. قال الكميت:
وليلهم الا ليل
هذا لضرورة الشعر. في الكلام ليلاء. والليلة: الوقت من غروب الشمس إلى
طلوع الفجر الثاني. واليوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
قال أبو زيد اتخذنا ما لا فنحن نتخذه اتخاذا وتخذت تخذا. قال أبو علي
اتخذ افتعل ومنه تخذت. قال الله تعالى: " لو شئت لا تخذت عليه اجرا " (1)
وتخذت: لا يتعدى، إلا إلى مفعول واحد واتخذت تارة يتعدى إلى مفعول واحد
وتارة إلى مفعولين فتعديه إلى مفعول واحد مثل قوله: " يا ليتني اتخذت مع
الرسول سبيلا " (2) ومثل قوله: " واتخذوا من دون الله آلهة " (3) وتعديه إلى
مفعولين مثل قوله تعالى " اتخذوا ايمانهم جنة " (4) وقوله: لا تتخذوا عدوي
وعدوكم أولياء " (5) وقوله: " واتخذتموهم سخريا " (6) ومن ادغم فلقرب مخرج
الذال من مخرج التاء ومن لم يدغم فلان مخرجهما متغاير.
والعجل والثور والبقرة نظائر. الا أن العجل هو البقرة الصغيرة ويقال عجل
وعجول. واشتقاقه من عجل يعجل عجلة واعجله اعجالا. واستعجل استعجالا. وتعجل
تعجلا. وعجل تعجيلا. وعاجلته معاجلة. وتعاجلوا تعاجلا. ورجل عجل وعجل
لغتان. وتقول: استعجلت فلانا أي حثثته واعجلت فلانا أعجله اعجالا وتعجلت
خراجه أي كلفته ان يعجله ورجل عجلان وامرأة عجلى وقوم عجال ونسوة عجال.
والعجال الإبل. والعجل عجل الثيران والواحدة عجلة ويجمع على الاعجال والعجالة ما

(1) سورة الكهف: آية 78.
(2) سورة الفرقان: آية 27.
(3) سورة مريم: آية 82.
(4) سورة المجادلة: آية 16.
(5) سورة الممتحنة: آية 1.
(6) المؤمن آية 111.
235

تعجلت من شئ. والعجالة طعام الراكب الذي لا يحسن طبخه ويقال: هو تمر ولبن
والعجلة الادواة الصغيرة وهي المطهرة. والجمع العجال. والعاجلة: نقيض الآجلة يعني
الدنيا والآخرة. والعاجل: نقيض الآجل عام في كل شئ تقول عاجل وآجل.
والعجل: ولد البقرة. وجمعه عجاجيل ويقال عجول. والأنثى: عجولة وقوله:
" خلق الانسان من عجل " (1) يقال إن آدم " ع " حين بلغ الروح منه إلى الركبتين
هم بالنهوض قبل ان تبلغ القدمين فقال الله تعالى: " خلق الانسان من عجل "
وأورثنا آدم العجلة. والعجل الظنين: من غير الخليل والعجل خشب يؤلف شبه المحفة
تجعل عليه الأثقال. وجمعه الاعجال. وصاحب عجال واصل الباب العجل الذي هو
الاسراع. والعجلة والسرعة والخفة نظاير ونقيض العجلة التأني ونقيض السرعة: الابطاء
وبعد نقيض قبل تقول: كان هذا بعد هذا. وتقول: بعد بعدا. أو ابعده
الله إبعادا وتباعد تباعدا وباعده مباعدة. واستبعده استبعادا. وبعده تبعيدا.
وتبعد تبعدا. قال صاحب العين بعد لما يكون على اثر الشئ إذا كان قد مضى فإذا
افردوا قالوا: هو من بعد: كقوله تعالى: " لله الامر من قبل ومن بعد " (2)
وتقول: بعدا وسحقا. ويقرأ: " باعد بين أسفارنا " (3) وبعد بمعنى واحد.
والأبعد نقيض الأقرب. والجمع: أباعد وأقارب ويقرأ " بعدت ثمود " و " بعدت
ثمود " (4) ومعناهما واحد إلا انهم يقولون: بعد الرجل وابعده الله والبعد من
اللعن يقول: أبعده الله أي لا يرثي له مما نزل به وقال ابن دريد: البعد: ضد القرب
وبعد ضد قبل. وسمع أبو زيد العرب تقول: فلان غير بعيد وغير بعد واصل الباب
البعد نقيض القرب.
المعنى:
ومعنى قوله: " ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون " أي اتخذتموه
إلها لان بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين، لان فعل ذلك ليس بمحظور

(1) سورة الأنبياء: آية 37
(2) سورة الروم آية 4
(3) سورة سبأ آية 19.
(4) سورة هود آية 96
236

وإنما هو مكروه وما روي عن النبي " ص " انه لعن المصورين معناه: من شبه الله
بخلقه أو اعتقد فيه انه صورة فلذلك قدر الحذف في الآية. كأنه قال: اتخذتموه
إلها وذلك انهم عبدوا العجل بعد موسى لما قال لهم السامري: هذا الهكم واله
موسى. فنسي اي ترك آلهم ومضى ناسيا. وقيل: بل معنى فنسي اي فترك ما يجب
عليه من عبادة الله.
قصة السامري:
وكان سبب عبادتهم العجل ما ذكره ابن عباس. ان السامري كان رجلا من
أهل (با كرم) (1). وكان من قوم يعبدون البقر. وكان حب عبادة البقر في نفسه.
وكان قد اظهر الاسلام في بني إسرائيل، فلما قصد موسى إلى ربه خلف هارون في
بني إسرائيل: قال لهم هارون: انكم تحملتم أوزارا من زينة آل فرعون، وأمتعة
وحلي، فتطهروا منها، فإنها بخس، واو قد لهم نارا. وقال لهم: اقذفوا ما كان معكم
فيها. فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة وذلك الحلي، فيقذفون به فيها.
حتى إذا انكسر الحلي ورأي السامري اثر فرس جبرئيل، فأخذ ترابا من اثر حافره،
ثم اقبل إلى النار. فقال لهارون يا نبي الله القي ما في يدي؟ قال نعم ولم يظن هارون الا
انه كبعض ما جاء به غيره من الحلي والأمتعة فقذف فيها وقال كن عجلا جسدا له
خوار وكان البلاء والفتنة وقال: هذا الهكم واله موسى، فعكفوا عليه وأحبوه حبا
لم ير مثله قطا.
اللغة:
وسمي العجل عجلا مأخوذ من التعجيل لان قصر المدة كالعجل في الشئ.
وقال أبو العالية: إنما سمي العجل عجلا، لأنهم عجلوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى.
وقال الحسن صار العجل لحما ودما. وقال غيره لا يجوز لان ذلك من معجزات
الأنبياء. ومن وافق الحسن قال: ان القبضة من اثر الملك كان الله قد اجرى العادة
بأنها إذا طرحت على اي صورة كانت حية، فليس ذلك بمعجزة إذ سبيل السامري

(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة وفي مجمع البيان " يا جرمي ".
237

فيه وسبيل غيره سواء. ومن لم يجز انقلابه حيا، فأول الخوار على أن السامري جعل
فيه خروقا، فدخلها الريح فحدث فيه صوت كالخوار.
وإنما قال: " وأنتم ظالمون " يعني ظالمي أنفسهم إذا دخلوا عليها الضرر بما
يستحقون على عبادته من العقوبة والظلم. وقد يكون للنفس وقد يكون للغير.
وإنما وصفوا بأنهم اتخذوا العجل إلها وهي صفة ذم لهم بما لم يفعلوا لرضاهم بما كان عليه
اسلافهم، وسلوكهم طرائقهم في المخالفة لامر الله، والذم على الحقيقة على افعالهم
فإن كان اللفظ على افعال اسلافهم فاخرج اللفظ مخرج من كأنهم فعلوا ذلك لسلوكهم
تلك الطرق وعدولهم إلى المخالفة. فالذم متعلق بما كان منهم في الحقيقة، فان قيل:
هل هذا الميقات في قوله: واعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشر. قيل: قال
أبو علي وأبو بكر بن اخشاذ واسمه أحمد بن علي ان هذا ذاك وفي الناس من قال:
هو غيره والأول أظهر، وإنما ذكر الثلاثين وأتمها بعشر والأربعين قد تكمل بعشرين
وعشرين، لان الثلاثين أراد بها ذا القعدة وذا الحجة فذكر هذا العدد لمكان الشهر
ثم ذكر ما يتم به العدد أربعين ليلة.
وإنما قال " أربعين ليلة " ولم يقل أربعين يوما، لتضمن الليالي الأيام على قول
المبرد، ومعنى ذلك: انه إذا ذكرت الليالي دخلت فيها الأيام وليس إذا ذكرت
الأيام دخلت الليالي فيها. هكذا هو الاستعمال، والصحيح ان العرب كانت تراعي في
حسابها الشهور والأيام والأهلة. فأول الشهر الليالي ولذلك أرخت بالليالي وغلبتها
على الأيام ولذلك صارت الأيام تابعة لليالي. واكتفى بذكر الليالي من الأيام، فقيل
لعشر خلون. ولم يقولوا لعشرة لأنه جرى على ما جرى على الليالي.
" واتخذ " قال الرماني: وزنه افتعل واصله يتخذ فقلبت الياء تاء وأدغمت في التاء
التي بعدها وقال أبو علي يتخذت وليس من اخذت، لان الهمزة لا تبدل من الياء
ولا تبدل الياء منها واتخذت لا تكون افتعلت من اخذت وتكون أبدلت الهمزة ياء ثم
أدغمت في التاء كما قالوا يسر الجزور وهو من اليسر لأنه لا يجوز على قول أصحابنا
لاختلاف الحرفين وفائدة الآية التعجب من قولهم إذ كانوا في مقدار هذه المدة
238

اليسيرة لغيبة موسى عنهم اتخذوا العجل إلها وادغام الذال عند التاء جائز وتركه أيضا
كذلك جائز.
قوله تعالى:
" ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون " (52) - آية بلا خلاف.
قيل في معنى ما وقع العفو عنهم بقوله: (ثم عفونا عنكم) قولان:
أحدهما - انا تركنا معاجلتكم بالعقوبة من بعد اتخاذكم العجل إلها.
والآخر - عفونا عنكم بقبول التوبة من عبادة العجل.
اللغة:
والعفو، والصفح، والمغفرة، والتجاوز، نظائر. فالمغفرة نقيض العقوبة. ويقال
عفا عفوا واعفاه واعفاء واستعفى استعفاء، وعفى تعفية وعافاه معافاة وتعفى تعفيا.
وتعافى تعافيا، واعتفاه اعتفاء. والعفو أحل المال وأطيبه. والعفو: المعروف.
والعفاة: طلاب المعروف. وهم المعتفون. تقول: اعتفيت فلانا إذا طلبت معروفه
وفضله. والعافية من الطير والدواب الرزق. اسم جامع لها. ومنه قوله (ع)
من غرس شجرة مثمرة فما اكلت العافية منها كتب له صدقة. والعافية دفاع الله عن
العبد يقول عافاه الله من مكروه وهو يعافيه معافاة. والاستعفاء: ان تطلب إلى من
كلفك امرا ان يعفيك منه، وعفى الشئ: إذا كثروا عفيته: إذا أكثرته: قال
تعالى " حتى عفوا ". ومنه اعفاء اللحية: اكثارها. وعفى: درس يقال اخذ من
فلان ما عفا، وصفا. والعفا: التراب نقول: يعفيه العفا. وعليه العفا. والعفا الدروس
قال زهير:
على اثار ما ذهب العفاء
ومنه عفت الديار. والريح تعفو الديار عفاء، وعفوا. وتعفت الدار والأثر تعفيا
والعفوة والعفوة والعفوة. والجمع العفو: وهي الحمر الافتأ والفتيات. والعفاء. ما كثر من
239

الوبر والريش وناقة ذات عفاء كثيرة الوبر طويلة والعفو: ولد الأتان الوحشية.
وأصل الباب: الترك. ومنه قوله: " فمن عفي له من أخيه شئ " من ترك له. وعفو
الشئ صفوه ومعنى " لعلكم " في الآية لكي تشكروا وقيل: معناه التعريض كأنه
قال: عرضناكم للشكر.
وقوله: " من بعد ذلك " - وإن كان إشارة إلى الواحد - فمعناه الجمع.
وإنما كان ذلك كذلك، لان ذا اسم مبهم فمرة يأتي على الأصل، ومرة يأتي على
مشاكلة اللفظ. إذا كان لفظ المبهم على الواحد وإن كان معناه الجمع على أنه قد
يخاطب بلفظ الواحد ويراد به الجمع كقوله: " يا أيها النبي " ثم قال: " إذا
طلقتم النساء ".
وقوله: " من بعد ذلك " إشارة إلى اتخاذهم العجل إلها.
وقوله: " لعلكم تشكرون ".
اللغة:
فالشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم. قال الرماني: الشكر
هو الاظهار للنعمة. والصحيح هو الأول لأنه قد يظهر النعمة من لا يكون شاكرا
لها. والفرق بين الشكر والمكافأة ان المكافأة من التكافؤ وهو التساوي، وليس
كذلك الشكر ففي مكافأة النعمة دلالة على أنه قد استوفى حقها. وقد يكون الشكر
مقصرا عنها وإن كان ليس على المنعم عليه أكثر منه الا انه كلما ازداد من الشكر،
حسن له الازدياد وان لم يكن واجبا لان الواجب لا يكون إلا متناهيا وذلك
كالشكر لنعمة الله لو استكثرته غاية الاستكثار لم يكن لينتهي إلي حد لا يجوز له
الازدياد لعظم نعم الله عز وجل وصغر شكر العبد. ويقال: شكر شكرا، وشكورا،
وتشكر تشكرا. والشكور، من الدواب ما يكفيه قليل العلف لسمنه. والشكر
من الحيوانات: التي تصيب حظا من بقل أو مرعى فتغزر ليتها بعد قلة. يقال اشكر
القوم: إذا أنزلوا منزلا فأصابت نعمهم شيئا من بقل، فدرت عليه، وانهم ليحلبون
شكرة بجزم الكاف وقد شكرت الحلوبة شكرا: والشكير شعر ضعيف ينبت خلال
240

الشيب. وكذلك ما ينبت من ساق الشجر قضبان تخرج غفه بين قضبان عاسية يقال
له الشكر واشكر ضرع الناقة إذا امتلأ لبنا والشكر بضع المرأة. وأصل الباب:
الظهور ولا يستحق الكافر الشكر على وجه الاجلال والانعام، والكافر لا يستحق
كذلك وإنما يجب له مكافاة نعمته كما يجب قضاء دينه على وجه الخروج إليه من غير
تعظيم له ويسمى ذلك شكرا والشكر لا يستحق الا على نعمة ومعنى قولنا في الله انه
غفور شكور انه يجازي العبد على طاعاته من غير أن ينقصه شيئا مين حقه فجعل
المجازاة على الطاعة شكرا في مجاز اللغة ولا يستحق الانسان الشكر على نفسه لأنه
لا يكون منعما على نفسه كما لا يكون مقرضا لنفسه والنعمة تقتضي منعما غير المنعم
عليه. كما أن القرض يقتضي مقترضا، غير المقرض وقد يصح ان يحسن إلى نفسه كما
يصح أن يسئ إليها، لان الاحسان من المحسن. فإذا فعل بها فعلا حسنا ينتفع به،
كان محسنا إليها بذلك الفعل، وإذا فعل بها قبيحا كان مسيئا إليها.
والشكر متعلق في الآية بعفو الله عنهم، ونعمه عليهم: كأنه قال: لتشكروا
الله على عفوه عنكم وسائر نعمه عليكم.
قوله تعالى:
" وإذ اتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ".
آية (53).
اللغة:
قوله: " وإذ " عطف على ما مضى من التذكير بنعمه فكأنه قال: وإذ كروا
إذ آتينا موسى الكتاب، لان (إذ) اسم للوقت الماضي و (إذا) للوقت المستقبل.
وكذلك تستعمل في الجزاء، لان الجزاء لا يكون إلا بالمستقبل. كقولهم: ان
تاتنى آتك ولو تشبه الجزاء من حيث إنه لابد لها من الجواب. كما لا بد لحرف
الجزاء من الجواب.
241

المعنى:
وقوله: " واتينا موسى الكتاب " معناه أعطيناه. والكتاب يريد به
التوراة. وأما الفرقان فقال الفراء وقطرب وتغلب: يحتمل أن يكون اتى موسى
كتاب التوراة ومحمد الفرقان: كما قال الشاعر:
متقلدا سيفا ورمحا (1)
وضعف قوم هذا الوجه، لان فيه حمل القران على المجاز من غير ضرورة مع أنه
تعالى اخبر انه اتى موسى الفرقان في قوله: " ولقد اتينا موسى وهارون الفرقان
وضياء " (2) وقال الفراء: هو كلام مثنى يراد به: التوراة. وكرر لاختلاف اللفظين:
كقولهم: بعدا وسحقا، وهما بمعنى واحد. قال الرماني: هذا المثال لا يشبه الآية،
لأنه جمع الصفتين لموصوف واحد على معنيين متفقين. والأولى ان يمثل بقولهم: هو
العالم الكريم فجمعت الصفتان لموصوف واحد على معنيين مختلفين وقال عدي
ابن زيد:
وقددت الأديم لراهشيه * والفي قولها كذبا ومينا (3)
وقال قوم: الكتاب: التوراة والفرقان: انفراق البحر لبني إسرائيل. والفرج
الذي اتاهم كما قال. " يجعل لكم فرقانا " اي مخرجا. وقال بعضهم: الفرقان: الحلال
والحرام الذي ذكره في التوراة. وروي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد: ان
الفرقان الذي ذكره هو الكتاب الذي اتاه يفرق فيه بين الحق والباطل. وقال ابن
زيد: الفرقان: النصر الذي فرق الله به بين موسى وفرعون: كما فرق بين محمد " ص "
وبين المشركين. كما قال: " يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " (4). وقال
أبو مسلم: هو ما أوتي موسى من الآيات والحجج التي فيها التفرقة بين الحق
والباطل.

(1) مر في 1: 65 وهو عجز بيت شطره: ورأيت زوجك في الوغى.
(2) سورة الأنبياء: آية 48.
(3) في المخطوطة والمطبوعة (وقدمت).
(4) سورة الأنفال: آية 41.
242

وقوله: " لعلكم تهتدون ".
المعنى:
اي لكي تهتدوا. وقد بيناه فيما مضى وفيه دلالة على أنه (تعالى) أراد ان
يهتدوا لأن هذه اللام لام الغرض وذلك يفسد قول المجبرة إنه أراد منهم الكفر. فأن
قيل: كيف يهتدون بما أوتي موسى من البيان، وما أوتي في التوراة من البرهان
مع انقطاع النقل الذي تقوم به الحجة. قيل: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما - ان الخطاب لاسلافهم: كما قال: " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم
وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ".
والثاني - ان اخبار الرسول لهم ما تقوم به الحجة عليهم، فيمكنهم ان
يستدلوا بذلك على ما أنعم الله به على اسلافهم، ولأنهم مقرون بان موسى (ع)
أوتي التوراة بما فيها من الهدى والبينات، فتقوم الحجة عليهم باقرارهم.
قوله تعالى:
" وإذ قال موسى لقومه يا قوم انكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم
العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم
فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم " - (54) آية بلا خلاف.
القراءة:
" بارئكم " أسكن الهمزة فيها أبو عمرو. إلا المعدل وسحارة من طريق
الجرمي، وابن مجاهد فكلهم خففوا الهمزة فيها. الا أبا طاهر عن ابن مجاهد عن
إسماعيل فإنه قلبها ياء.
التقدير وإذ كروا أيضا إذ قال موسى لقومه: " يا قوم انكم ظلمتم أنفسكم
باتخاذكم العجل ". وظلمهم إياها كان فعلهم بها ما لم يكن لهم ان يفعلوه بما يستحق
243

به العقاب. وكذلك كل من فعل فعلا يستحق به العقاب فهو ظالم لنفسه. وقد بينا
معنى التوبة فيما مضى. (1)
واما قوله: " إلى بارئكم ".
اللغة:
فالبارئ هو الخالق الصانع. يقال: برأه. واستبرأ استبراء، وتبرأ تبريا،
وباراه مباراة، وبرأه براءة، وتبرئة. قال صاحب العين: البراء مهموز وهو الخلق
تقول برأ الله الخلق وهو يبرؤهم وهو البارئ وقال أمية:
الخالق البارئ المصور في * الأرحام ماء حتى يصير دما
والبرء السلامة من السقم. تقول برأ برؤه وبرئت وبرأت وبرؤت براءة.
وتبرأ تبريا لغة في هذا والبراءة من العيب والمكروه لا يقال منه: الا برئ براء
وفاعله برئ وفلان برئ وبراء كقوله: إني براء. وامرأة براء. ونسوة براء وبراء
على وزن وفعلاء. ومنه قوله: " انا برآء منكم " جمع برئ. ومن ترك الهمزة.
قال: براء على وزن فعال. وتقول بارأت الرجل اي برئت إليه. وبرئ
إلى مثل ذلك. وبارات المرأة اي صالحتها على المفارقة وابرات الرجل من الضمان
والدين وبرأه تبرئة. ويقال: أبرأ الله فلانا من المرض إبراء حسنا، والاستبراء:
استبراء الجارية والمرأة بان لا يطأها حتى تحيض. والاستبراء نقاء الفرج من
القذر. وأصل الباب تبري الشئ من الشئ: وهو انفصاله منه. وبرأ الله الخلق
اي فطرهم، فإنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود. والبرية الخلق، فعيلة بمعنى مفعول،
لا يهمز كما لا يهمز ملك وإن كان أصله من الالوكة. وقيل البرية مشتقة من البراوة،
وهو التراب، فلذلك لم تهمز. وقيل إنه مأخوذ من بريت العود، فلذلك لم يهمز.
والبراءة من الشئ: المفارقة والمباعدة عنه: وبرئ الله من الكافر: باعده عن رحمته
وأنواع الفعل كثيرة: منها الخلق، والانشاء، والارتجاع. والبرء: الفطر. فأما

(1) انظر ص 619 - 170
244

الاحداث، والايجاد والتكوين فكالفعل والجعل: أعم من الفعل، لأنه لما وجد
بعد ان لم يكن كقولك: جعلت الطين خزفا. فلم يحدث الخزف في الحقيقة، وإنما
احدث ما صار خزفا.
وقوله: " فاقتلوا "
اللغة:
فالقتل والذبح والموت نظائر. وبينها فرق: فالقتل نقض بنية الحياة. والذبح
فري الأوداج. والموت عند من أثبته معنى عرض يضاد الحياة. يقال: قتل يقتل
قتلا. واقتتلوا اقتتالا. وتقاتلوا تقاتلا. واستقتل استقتالا. وقتل تقتيلا. وقاتله
مقاتلة. وقوله تعالى: " قاتلهم الله " (1) معناه لعنهم الله. وقوم اقتال: اي هم
أهل الوتر، والترة: اي هم أعداء وتراة. وتقول: تقتلت الجارية للفتى يصف به
العشق. وقال الشاعر:
تقتلت لي حتى إذا ما قتلني * تنسكت ما هذا بفعل النواسك (2)
واقتل فلان فلانا: إذا عرضه للقتل. والمقتل من الدواب الذي قد ذل ومرن
على العمل. وقلب مقتل: اي قتل عشفا. * ومنه قول امرئ القيس:
في أعشار قلب مقتل (3)
قال ابن دريد: قتلت الخمر بالماء إذا مزجتها. قال الشاعر:
ان التي ناولتني فرددتها * قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
وتقتل الرجل لحاجة اي يأتي لها. ويقتل الرجل للمرأة: إذا خضع لها في
كلامه وقتل الرجل: عدوه. والجمع اقتال. وفلان قتل فلان: أي نظيره، وابن عمه

(1) سورة التوبة: آية 31 وسورة منافقون آية 4.
(2) تقتلت المرأة: تثنت في مشيتها.
(3) معلقته. والبيت: وما ذرفت عيناك الا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مفتل
والسهمان: الرقيب والمعلى من سهام الميسر ومعناه استوليت على القلب كله.
245

وقتله قتله سوء واقتتلوا بمعنى تقاتلوا ومثله قتلوا قال أبو النجم:
ندافع الشيب ولم يقتل
وناقة ذات قتال وذات كيال، إذا كانت غليظة وثيقة الخلق. في المثل:
قتلت ارض جاهلها، وقتل أرضا عالمها. ومقاتل الانسان: هي التي إذا أصيبت قتلت.
وأصل الباب: القتل وهو نقض البنية التي تصح معها الحياة. وقال المبرد: واصله
إماتة الحركة. وقوله: " قاتلهم الله انى يؤفكون " اي قد حلوا محل من يقال له
هذا القول. اي انزل الله بهم القتل. ويقول قتله علما إذا أيقنه وتحققه.
وقوله: " فاقتلوا أنفسكم ".
المعنى:
قيل في معناه قولان:
أحدهما - يقتل بعضكم بعضا. ذهب إليه ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد
والحسن وغيرهم من أهل العلم، كما يقول القائل: قتل آل فلان إذا قتل
بعضهم بعضا.
والثاني - ذكره ابن عباس وإسحاق واختاره أبو علي. وهو ان يستسلموا
للقتل فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لا نفسهم على وجه التوسع. وقيل: ان
السبعين الذين اختارهم موسى للميقات أمروا بالقتل لمن سأل الرؤية من بني إسرائيل
وقيل: إنهم قتلوا أنفسهم كما أمروا. عمدوا إلى الخناجر وجعل بعضهم يطعن بعضا.
قال ابن عباس وغيره من أهل العلم: ويقال غشتهم ظلمة شديدة فجعل بعضهم يقتل
بعضا، ثم انجلت الظلمة، فاجلوا عن سبعين الف قتيل. والسبب الذي لأجله أمروا
بقتل أنفسهم ذكره ابن جريج: ان الله علم أن ناسا منهم علموا ان العجل باطلا فلم
يمنعهم ان ينكروا الا خوف القتل، فلذلك بلاهم الله ان يقتل بعضهم بعضا. وقال
الرماني: ولابد أن يكون في الامر بالقتل لطف لهم ولغيرهم، كما يكون في
استسلام القاتل لطف له ولغيره. فان قيل كيف يكون في قتلهم نفوسهم لطف
لهم، وبعد القتل لا تكليف عليهم. واللطف لا يكون لطفا فيما مضى ولا فيما يقاربه
246

قلنا: إذا كان القوم كلفوا ان يقتل بعضهم بعضا وكل واحد منهم يقصد قتل
غيره، ويجوز ان يبقى بعده فيكون القتل لطفا له فيما بعد، ولو كان بمقدار زمان
يفعل فيه واجبا واحدا: ويمتنع فيه من قبيح. وذلك كما نقول في عبادتنا في قتال
المشركين. فان الله تعالى تعبدنا ان نقاتل حتى نقتل ونقتل ومدح على ذلك، فلذلك
روى أهل السير ان الذين عبدوا العجل تعبدوا ان يقاتلوا من لم يعبد ويصبروا على
ذلك حتى يقتل بعضهم بعضا. وكان القتل شهادة لمن قتل، وتوبة لمن بقي. وإنما
كانت تكون شبهة، لو أمروا بان يقتلوا نفوسهم بأيديهم. ولو صح ذلك لكان
لا يمتنع بان يكونوا أمروا بان يفعلوا بنفوسهم الجراح التي تفضي إلى الموت - وان
لم يزل معها العقل فينا في التكليف -.
وأما على القول الآخر وهو انهم أمروا بالاستسلام والقتل والصبر عليه
فلا مسألة لأنهم أمروا بقتل نفوسهم. وعلى هذا يكون قتلهم حسنا، لأنه لو كان
قبيحا لما جاز ان يؤمروا بالاستسلام. وكذلك نقول: لا يجوز ان يتعبد نبي أو
امام بان يستسلم للقتل مع قدرته على الدفع عن نفسه، فلا يدفعه لان في ذلك
استسلاما للقبيح مع القدرة على الدفع منه، وذلك لا يجوز وإنما يقع قتل الأنبياء
والأئمة على وجه الظلم، وارتفاع التمكن من الدفع مع الحرص على الدفع. غير أنه
لا يمتنع ان يتعبد بالصبر على الدفاع. وتحمل المشقة في ذلك - وان قتله غيره ظلما
والقتل - وإن كان قبيحا بحكم العقل -، فهو ما يجوز تغيره بان يصير حسنا، لأنه
جار مجرى سائر الآلام. وليس يجري ذلك مجرى الجهل والكذب الذي ليس يصير
قط حسنا ووجه الحسن في القتل انه لطف على ما قلناه، وكما يجوز من الله ان
يميت الحي، كذلك يجوز ان يأمرنا بإماتته ويعوضه على ما يدخل عليه من الآلام
ويكون فيه لطف على ما قدمناه.
وقوله: " ذلكم " إشارة إلى التوبة مع القتل لأنفسهم على ما أمرهم الله تعالى
به بدلالة قوله. " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم " فقوله: " توبوا " دال على
التوبة، فكأنها مذكورة.
247

وقوله: " خير "
اللغة:
فالخير، والنفع، والفضل، والحظ نظائر وضد الخير: الشر. وضد النفع:
الضرر. تقول: خار الله له الخير خيرة. واختار اختيارا واستخار فلان استخارة
وتخير تخيرا وتخايرا وخيره تخييرا. وخايره مخايرة ورجل خير وامرأة خيرة:
أي فاضلة. وقوم أخيار، وخيار. وامرأة خيرة. حقيقة في جمالها، وميسمها.
ومنه قوله: " فيهن خيرات حسان " (1). وناقه خيار. ورجل خيار. وتقول:
والجمع خيار. وتقول: هذه وهذا وهؤلاء خيرتي. وما تختاره. وتقول: أنت
بالخيار وأنت بالخيار سواء. والرجل يستخير الضبع واليربوع: إذا جعل حبسه في
موضع النافقاء، فخرج من القاصعاء (2). والخيرة مصدر خار خيرة ساكنة الياء
مثل راب ريبة. واصل الباب الخير نقيض الشر. والخير: الهيأه المختارة. وحذفت
الياء من قوله: " يا قوم " وأثبتت في قوله: " يا ليت قومي " لان ياء الإضافة تحذف
في النداء، لأنه موضع حذف، يحذف فيه التنوين، ويحذف الأمم للترخيم، فلما
كانت بالإضافة تحذف في غير النداء، لزم حذفها في النداء. وأما قوله: " يا ليت
قومي يعلمون " (3)، فإنها تثبت لأنها ياء الإضافة. لا يلحقها ما يوجب حذفها،
كما لحق الياء في النداء ويجوز في " يا قوم " كسر الميم وحذف الياء هو اجماع القراء
ويجوز بياء ساكنة، ويجوز بفتح الياء وما قرئ بها. فاما إسكان الهمزة. فالذي
رواه سيبويه عن أبي عمرو اختلاس الحركة. وهو أضبط من غيره والاسكان في
مثل هذا يجوز في ضرورة الشعر كقول الشاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
وكان ينبغي ان يقال صاحب لأنه منادى. وقال امرؤ القيس:
فاليوم فاشرب غير مستحقب * اثما من الله ولا واغل

(1) سورة الرحمان: آية 70
(2) النافقاء: حجر اليربوع. القاصعاء مثل النافقاء
(3) سورة يس: آية 26
248

وقد روى بعضهم صاح قوم. وروي فاليوم فاشرب وروى بعضهم: فاليوم فاسقي
ولا يقال في الله تعالى تائب مطلقا. وإنما يقال: تائب على العبد.
قوله: " فتاب عليكم " فالفاء متعلق بمحذوف كأنه قال ففعلتم أو قتلتم أنفسكم
فتاب عليكم. وكان فيما بقي دلالة عليه.
قوله تعالى:
" وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم
الصاعقة وأنتم تنظرون " (55) آية بلا خلاف.
وهذه الآية أيضا عطف على ما تقدم كأنه قال واذكروا إذ قلتم يا موسى لن
نصدق حتى نرى لله جهرة.
اللغة:
فالرؤيا والنظر والابصار نظائر في اللغة يقال: رأى رؤية ورأي من الرأي
رأيا. وأراه لله إراءة وتراءى القوم ترائيا. وارتأى ارتياء وراءاه مراءاة قال صاحب
العين: الرأي رأي القلب والجمع الآراء. وتقول: ما أضل آراءهم على التعجب ورأيهم
أيضا ورأيت رؤية وتقول رأيته رأي العين. أي حيث يقع البصر عليه. وتقول
من رأي القلب: ارتأيت. وتقول: رأيت رؤيا حسنة. وتقول: رأيت فلانا ذا
مسحة في اللون، وزية حسنة في اللباس، والمتاع. والذي يتعرض بزيه كهانة أو
طبا. وفي بعض اللغات ريت بمعنى رأيته. وعلى ذلك قراءة من قرأ أريت قال الشاعر:
قد ريت منه عجبا من الكبر
وتراءى القوم: إذا رأى بعضهم بعضا وتراءى لي فلان: إذا تصدى لي فأراه
والرواء: المنظر في البهاء والجمال. تقول: امرأة لها رواء وبهاء وسناء أي حسنة.
والمرآة مثل المنظرة والمنظر والمرآة التي ينظر فيها وجمعها مراءى. ومن حول الهمزة
قال: مرايا. تقول مرأت المرأة: إذا نظرت وجهها. وفي الحديث لا يتراءى أحدكم
في الماء أي لا ينظر فيه.
249

ويحذفون الهمزة في كل كلمة تشتق من رأيت إذا كانت الراء ساكنة
تقول أريت فلانا فانا مري وهو مري. أي بحذف الهمزة وأثبتوها في
موضعين في قولهم رأيته فهو مرئي أرأت الناقة والشاة إذا يرى ضرعها انها قد
اقربت وأنزلت. وهي مرئى. والحذف فيه أيضا صواب وتقول: من الظن رأيت أن
فلانا أخوك. ومنهم من يحذف الهمزة يقول ريت انه ومن قلب الهمزة من رأى
قال رأي مثل ما تقولون: آرتيت واستريت بالمرآة والمرئية: مكسورة الراء مهموزة
ممدودة ما ترى المرأة من الحيض صفرة أي بياضا قبلا أو بعد أو أما البصير بالعين فهو
الرؤية. إلا أن تقول نظرت إليه رأي العين فيه وتقول: ما رأيته إلا رؤية واحدة
وتقول للذي يريك الشئ مري والمرأة مرية بلا همزة وتقول رأيت فلانا برؤية والمرآة
التي تنظر فيها والرأي ما رأيت القوم في حسن البشارة والهيئة قال جرير:
وكل قوم لهم رأي ومختبر * وليس في تغلب رأي ولا خبر
واصل الباب: الرؤية بالعين وشبه الرؤية بالقلب به بمعنى العلم. والرأي يرى
حال صلاح ويظن خلافها. والمرية لأنها بمنزلة الآلة للقلب يرى بها.
والجهرة، والعلانية، والمعاينة نظائر تقول: جهر جهرا أو جاهر مجاهرة،
وجهارا. وتجاهروا تجاهرا. ورجل جهير الصوت. قال صاحب العين: جهر فلان
بكلامه، وهو يجهر بقراءته جهارا، واجهر بقراءته اجهارا. وجاهرتم بالامر
جهارا أي عالنتم به اعلانا واجتهر القوم فلانا جهارا: إذا نظروا إليه وكل شئ
يبدو فقد جهر ورجل جهير: إذا كان في المنظر والجسم في الناس مجهرا. وكلام
جهير، وصوت جهير أي عال. والفعل منه جهر جهارة. والجهير هو الجرئ المتقدم
والجهوري: هو الصوت العالي. والجوهر: كل حجارة يستخرج منها شئ ينتفع به
وجوهر كل شئ ما خلقت عليه حلية. والشاة الجهر التي لا تبصر في الشمس والكبش
اجهر وقال بعضهم: جهرت البئر: إذا أخرجت ما فيها من الحمأة، والماء. وبئر
مجهورة. والجهر: ضد السر وجهرني الرجل إذا راعك جماله وهيئته. ورجل جهير
ذو رواء واصل الباب الظهور.
250

والجهر يقتضي ظاهرا بعد أن يكون خافيا، ليدرك ما لم يكن قبل مدركا
ويستدل بالجهر على أنهم أرادوا الرؤية بالعين دون رؤية القلب. وحقيقة الجهر ظهور
الشئ معاينة والفرق بين الجهر والمعاينة أن المعاينة ترجع إلى حال المدرك والجهرة
ترجع إلى حال المدرك.
المعنى:
ومعنى قوله: " حتى نرى الله جهرة " قال ابن عباس: علانية. وقال قتادة
عيانا. وقد تكون الرؤية غير جهره كالرؤية في النوم والرؤية بالقلب فإذا قال جهرة
لم يكن إلا رؤية العين على التحقيق، دون التخيل وسؤالهم الرؤية. قال قوم:
هو كفر لان إجازة الرؤية كفر. وقال آخرون: ليس بكفر وإنما إجازة الرؤية
التي تقتضي التشبيه كفر. فاما هذا القول منهم فكفر اجماعا، لأنه رد على الرسول
وكل من يلقى قول الرسول بالرد من المكلفين، كان كافرا.
واما الصاعقة فإنها تكون على ثلاثة أوجه:
أولها - الموت: كقوله: " فصعق من في السماوات ومن في الأرض " (1)
" فاخذتكم الصاعقة " (2)
الثاني - العذاب. كقوله: " فان اعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة
عاد وثمود " (3)
والثالث - نار تسقط من السماء كقوله: " ويرسل الصواعق " (4) وأكثرهم على أن
موسى لم يمت بالصاعقة كما مات من سأل الرؤية وقال شاذ منهم: انه مات بالصاعقة
وقوله: " وخر موسى صعقا " أي مغشيا عليه عند أكثر المفسرين بدلالة
قوله: " فلما أفاق " والا فاقة لا تكون إلا من الغشية دون الموت، وإلا لكان قد قال
فلما حيي.
وقوله: " جهرة " مشتق من جهرت الركية اجهرها جهرا وجهرة: إذا كان

(1) سورة الزمر: آية 68
(2) سورة البقرة: آية 55
(3) سورة حم - السجدة: آية 13
(4) سورة الرعد آية 14
251

ماؤها قد غطاه الطين، فنقيت حتى ظهر الماء وقيل: اخذ من قولهم: فلان تجاهر
بالمعاصي: إذا كان لا يسرها وإنما فزعوا بسؤال اسلافهم الرؤية من حيث إنهم سلكوا
طريقهم في المخالفة للنبي الذي لزمهم اتباعه والتصديق بجميع ما اتى به فجروا على
عادة اسلافهم في ذلك الذين كانوا يسألون تارة ان يجعل لهم إلها غير الله ومرة
يعبدون العجل من دون الله ومرة يقولون: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة "
ومرة يقولون: " اذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون " وقال الزجاج في
هذه الآية دلالة على مشركي العرب الذين كانوا ينكرون البعث، لأهل الكتاب
مع مخالفتهم الرسول يقرون بإذن الله أمات قوما في الدنيا، ثم أحياهم وعندنا ان
نقل أهل الكتاب لمثل هذا ليس بحجة وإنما الحجة في اخبار الله على لسان نبيه
وحده إذ كان كلما يخبر به فهو حق وصدق. واستدل البلخي بهذه الآية على أن
الرؤية لا تجوز على الله تعالى. قال لأنها انكارهم أمرين ردهم على نبيهم، وتجويزهم
الرؤية على ربهم وبين ذلك قوله تعالى: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا
الله جهرة فدل ذلك على أن المراد إنكار الامرين وهذه الآية تدل على قوله:
" رب أرني انظر إليك " كان سؤالا لقومه، لأنه لا خلاف بين أهل التوراة ان
موسى ما سأل الرؤية الا دفعة واحدة. وهي التي سألها لقومه وقوله:
" لن نؤمن لك " تعلق بما يخبرهم به من صفات الله عز وجل، لأنهم قالوا
لن نؤمن لك بما تخبرنا به من صفاته وما يجوز عليه حتى نراه. وقيل: انه لما جاءهم
بالألواح وفيها التوراة قالوا لن نؤمن بان هذا من عند الله حتى نراه جهرة ونرى
على وزن نفعل واصله: نرأى قال الشاعر:
أرى عيني ما لم ترأياه كلانا * عالم بالترهات
فجاء به على الأصل
وقال آخر:
ألم تر ما لاقيت والدهر اعصر * ومن يتمل العيش يراى ويسمع
وإنما دعاهم إلى أن قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله شكهم، وحيرتم فيما دعاهم
252

إليه موسى (ع) من توحيد الله عز وجل، ولو كانوا عارفين، لكان دعاهم إليه
العناد لموسى ومعلوم انهم لم يكونوا معاندين له (ع). وفي الناس من قال: إن
قولهم: جهرة من صفه السؤال على التقديم والتأخير كأنه قال: وإذا قلتم جهرة لن
نؤمن لك حتى نرى الله. وقال الا كثر إنها من صفة الرؤية. وهو الأقوى، لان
ما قالوه ترك الظاهر، وتقدير التقديم والتأخير ليس هنا إلى ذلك حاجة.
وقوله: " وأنتم تنظرون " يعني ما نزل بكم من الصاعقة والموت.
قوله تعالى:
" ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " - (56)
آية بلا خلاف.
قوله: " بعثناكم " أحييناكم. عند أكثر المفسرين: كالحسن، وقتادة، وغيرهما.
وقال السدي: بعثناكم أنبياء. والأول أصح لأنه ظاهر الكلام. فلا يجوز العدول
عنه وأصل البعث: إثارة الشئ من محله، ومنه قيل: بعث فلان راحلته: إذا اثارها
من مبركها للسير. ومنه قولهم بعثت فلانا لحاجتي: إذا أقمته من مكانه الذي هو
فيه للتوجه فيها. ومن ذلك قيل: ليوم القيامة يوم البعث لأنه يوم تثار فيه الناس
من قبورهم لموقف الحساب.
اللغة:
والبعث والارسال وكل الاطلاق نظائر. يقال: بعثت بعثا. وانبعثت انبعاثا.
وتبعثت تبعثة. وبعثته من نومه فانبعث. اي نبهته فانتبه. وتقول: ضرب البعث
على الجند. إذا بعثوا إلى العدو. وكل قوم يبعثون إلى وجه أو في امر فهم بعث.
وأصل الباب: البعث وهو الارسال. وكل باعث فاعل. واما المبعوث فقد يكون
فاعلا، وقد لا يكون. يقال: بعث الله عليهم ريحا فاقتلعتهم والريح مبعوثة. ويقال:
الشهوة للشئ تبعث على الطلب له. فان قيل: هل يجوز ان يرد الله أحدا إلى التكليف
بعد ان مات، وعاين ما يضطره إلى معرفته بالله؟ قيل: في ذلك خلاف قال أبو علي:
لا يجوز ذلك إلا على من لم يضطره الله إلى معرفته وقال بعضهم: يجوز التكليف في
253

الحكمة. وان اضطر إلى المعرفة. وقول أبي علي أقوى. واعل الرماني قول أبي
علي، فان قيل: لما كانت المعرفة لأجل الطاعات التي كلفها العبد كانت هي الغرض الذي
يتبعه سائر الطاعات فلو ارتفع الغرض ارتفع التابع له. كما أن الغرض في الشرائع
الاستصلاح في الأصول التي تجب بالعقل فلو ارتفع ذلك الغرض، ارتفع وجوب العمل
بالشرع. وكما أنه لا يجوز تكليف الطاعة مع رفع التمكن مع المعرفة من غير ضرورة
إليها قال: ووجه القول الثاني أنه لما كان الشكر على النعمة يجب في المشاهد مع الضرورة
إلى معرفة النعم، كان الشكر للنعمة التي هي اجل من نعمة كل منعم في الشاهد أولى
ان تجب مع الاضطرار إلى المعرفة. ولأبي علي ان يقول لا نمنع من الوجوب،
لكن لا يجوز التكليف، لان الغرض المعرفة. اي هي أصل ما وقع التكليف به
للعباد. والذي أقوله: إن الذي يحيى بعد الإماتة، إن كان لم يخلق له المعرفة الضرورية
لم يضطر إليها، فإنه يمتنع تكليفه، لان العلم بان الاحياء بعد الإماتة، لا يقدر عليه
غير الله طريقه الدليل وغوامض الاستدلال، فليس احياؤه بعد الإماتة ما يوجب أن يكون
مضطرا إلى معرفته، فلذلك يصح تكليفه، وليس الاحياء بعد الإماتة
الا كالانتباه من النوم والإفاقة بعد الغشية فان ذلك لا يوجب علم الاضطرار. وان
فرضنا انه خلق فيه المعارضة ضرورة، فلا يحسن تكليفه لان حسن التكليف موقوف
على إزاحة علة المكلف من فعل اللطف، والاقدار وغير ذلك. ومن جملة الألطاف
تكليفه للمعرفة. والضرورية لا تقوم مقامها على ما بيناه في الأصول: وإذا لا يحسن
تكليفه، لأنه يصير مكلفا ولم يفعل به ما هو لطف له، وذلك لا يجوز.
وقوله: " لعلكم تشكرون " معناه لكي تشكروا. وهذه لام الغرض.
وفيه دليل على فساد قول المجبرة إن الله تعالى ما أراد من الكفار الشكر، لأنه لو
أراد كفرهم، لقال: لتكفروا وذلك خلاف القرآن. ومن استدل بها على جوازها
كان صحيحا، لان من منع منه واحاله، فالقرآن يكذبه، وان استدل به على
وجوب الرجعة وحصولها فلا يصح لان احياء قوم في وقت، ليس بدلالة على احياء
آخرين في وقت اخر، ذلك يحتاج إلى دلالة أخرى. وقول من قال: لا تجوز
254

الرجعة، لان ذلك معجزة ودلالة على نبوة نبي. وذلك لا يجوز إلا في زمن نبي
غير صحيح، لان عندنا يجوز اظهار المعجزات على يد الأئمة والصالحين. وقد بيناه
في الأصول. ومن ادعى قيام الحجة بان الخلق لا يردون إلى الدنيا: كما علمنا أن
لا نبي بعد نبينا مقترح مبتدع، لما لا دليل على صحته، فانا لا نخالف في ذلك وقال
البلخي: لا تجوز الرجعة مع الاعلام بها، لان فيها اغراء بالمعاصي من جهة الاتكال
على التوبة في الكرة الثانية. قال الرماني: هذا ليس بصحيح من قبل انه لو كان
فيها اغراء بالمعصية، لكان في إعلام التبقية إلى مدة إغراء بالمعصية. وقد أعلم الله
تعالى نبيه وغيره إبليس: انه يبقيه إلى يوم يبعثون ولم يكن في ذلك إغراء بالمعصية
وعندي ان الذي قاله البلخي ليس بصحيح، لان من يقول بالرجعة، لا يقطع على أن
الناس كلهم يرجعون، فيكون، في ذلك اتكال على التوبة في الرجعة، فيصير
اغراء. فلا أحد من المكلفين الا ويجوز ان لا يرجع. وان قطع على الرجعة في الجملة
ويجوز ان لا يرجع، فكفى في باب الزجر. وأما قول الرماني: إن الله تعالى اعلم
أقواما مدة مقامهم، فان ذلك لا يجوز الا فيمن هو معصوم يؤمن من جهة الخطأ
كالأنبياء ومن يجري مجراهم في كونهم معصومين. فاما من ليس بمعصوم، فلا يجوز
ذلك، لأنه يصير مغرى بالقبح واما تبقية إبليس مع اعلامه ان يستبقيه إلى يوم
القيامة ففيه جوابان.
أحدهما - انه إنما وعده قطعا بالتبقية بشرط الا يفعل القبيح ومن فعل القبيح
حق اخترته عقبه. ولا يكون مغرى:
والثاني - ان الله قد علم أنه لا يريد بهذا الاعلام فعلا قبيحا، وإلا لما كان
يفعله، وفي ذلك اخراجه من باب الاغراء. وقد قيل: إن إبليس قد زال عنه
التكليف. وإنما أمكنه الله من وسوسة الخلق تغليظا للتكليف، وزيادة في مشاقهم
ويجري ذلك مجرى زيادة الشهوات انه يحسن فعلها إذا كان في خلقها تعريض للثواب
الكثير الزائد.
255

قوله تعالى:
" وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى، كلوا
من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " (57) آية بلا خلاف -.
قوله: " وظللنا " عطف على قوله " ثم بعثناكم من بعد موتكم " وكأن
التقدير ثم بعثناكم من بعد موتكم وظللنا عليكم الغمام.
والظلمة والغمامة والسترة نظائر في اللغة. تقول: ظل يظل ظلولا. واظل
اظلالا. واستظل واستظلالا. وتظلل تظللا. وظلله تظليلا. قال صاحب العين: تقول
ظل نهاره فلان صائما. ولا تقول العرب: ظل إلا لكل عمل بالنهار. كما لا تقول:
بات إلا بالليل. وربما جاءت ظل في اشعارهم نادرا. ومن العرب من يحذف لام ظللت،
ونحوها فاما أهل الحجاز فيكسرون الظاء على كسر اللام التي ألقيت فيقولون: ظللنا
وظللتم. كما قال تعالى " فظللتم تفكهون " (1) والمصدر: الظلول. فالامر فيه أظلل
والظل ضد القبح ونقيضه. ويقال لسواد الليل، فيسمى ظلا. وجمعه ظلال. قال
الله تعالى: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا " (2) يعني
الليل. والظل في كلام العرب هو الليل. وتقول أظلتني هذه الشجرة اظلالا.
والمكان الظليل: الدائم الظل. وقد دامت ظلاله. والظلة كهيئة الصفة، وقوله:
" عذاب يوم الظلة " (3) يقال هو عذاب يوم الصفة. والظلة البرطلة. والاظلال:
الدنو يقول قد أظلك فلان اي كأنه القى عليك ظله من قربه. وتقول لا تجاوز
ظل ظلك وملاعب ظله: طائر يسمى بذلك. والاظل: باطن منسم البعير وجمعه اظلال
قال الشاعر:
يشكو الوجى من أظلل واظلل

(1) سورة الواقعة آية: 65.
(2) سورة الفرقان آية: 45.
(3) سورة الشعراء آية: 189.
256

يعني من أظل واظل. فاظهر التضعيف بضرورة الشعر قال لبيد:
بنكيب معر دامي الاظل (1)
أراد بخف نكيب: منكوب نكبته الحجارة معر: ساقط الشعر أملس. والظل
كون النهار تغلب عليه الشمس قال رؤبة: كل موضع تكون فنزول عنه ظل وفى.
يقالان جميعا. وما سوى ذلك يقال له ظل ولا يقال: فيه الفئ. والظل الظليل:
الجنة قال الله تعالى: " وندخلهم ظلا ظليلا " (2) والظل: الخيال الذي يرى من
الجن وغيره. والمظلة أيضا تتخذ من خشب وغيره يستظل بها والظل: المنعة والعز.
كذا ذكر ابن دريد يقال: فلان في ظل فلان اي في عزه وأصل الباب: التظليل.
وهو الستر والاظلال الدنو: كدنو الساتر وحد التظليل الستر من علة.
والغمام: السحاب والقطعة منها غمامة تقول: يوم غم، وليلة غمة وامر غام.
ورجل مغموم، ومغتم، ذو غم. وفلان في غمة من امره: إذا لم يهتدله. والغماء:
الشديدة من شدائد الدهر، ورجل أغم، وجبهة غماء: كثيرة الشعر تقول منه: غم
يغم. وكذلك في القفا. قال الشاعر:
فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا * أغم الققا والوجه ليس بانزعا
والغميم: الغمس وهو ان يسحق حتى يغلط. والغم: ضد الفرح. والغمة:
الغطاء على القلب من الغم. والغمة: الضيقة تقول: اللهم احسر عنا هذه الغمة أي
الضيقة. وغم الهلال إذا غطاه الغيم. وكل شئ غطيته فقد غميته ولذلك سمي الرطب
الغموم وهو الذي يوضع في جرة وهو بسر ثم يغطى حتى يرطب. والغمام اشتق من
هذا، لأنه يغطى السماء، ورجل أغم. وامرأة غماء إذا دنا قصاص الشعر من حاجبه
حتى يغطى جبهته، وكذلك هو في القفا. وأصل الباب الغطاء.
المعنى:
يوم الغمام الذي ظلل على بني إسرائيل. قال ابن عباس ومجاهد: لم يكن
بالسحاب، ولكنه الذي عنى في قوله: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من

(1) اللسان (معر) وصدره: وتصك المرو لما هجرن
(2) سورة النساء آية: 56.
257

الغمام ". (1) وهو الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر، ولم يكن لغيرهم. قال
ابن عباس كان معهم في التيه وقيل هو ما ابيض من السحاب.
واما المن قال ابن عباس: هو المن الذي يعرفه الناس يسقط على الشجر وقال
قتادة: كان المن ينزل عليهم مثل الثلج. وقيل هو عسل وقيل خبز مرقق وقيل هو
الزنجبيل. وقيل هو شئ كالصمغ كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد والعسل عن مجاهد
وقال الزجاج: جملة المن ما من الله تعالى على عباده مما لا تعب فيه ولا نصب. وروي
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين. قال بعض أهل العلم
يعني بمائها الوسمي الذي يكون منها الكمأ وهو أول مطر يجئ في الخريف. وقيل
هو الذي يسقط على الثمام.
والمن حلو كالعسل. وإياه عنى الأعشى في قوله:
لو أطعموا المن والسلوى مكانهم * ما أبصر الناس طعما فيهم نجعا (2)
وجعله أمية بن أبي الصلت في شعره عسلا فقال:
ورأي الله انهم بمضيع * لا بذي مزرع ولا معمورا (3)
فنساها عليهم غاديات * ومرى مزنهم خلايا وخورا (4)
عسلا ناطفا وماء فراتا * وحليبا ذا بهجة مثمورا (5)
الناطف: القاطر والصافي من اللبن والمن قطع الخير قال الله تعالى لهم " اجر غير
ممنون " أي غير مقطوع. والمن: هو الاحسان إلى من لا يستثنيه والاسم هو المنة والله تعالى

(1) سورة البقرة: آية 210
(2) ديوانه. ومن قصيدة طويلة يمدح بها ذا التاج هوذة ابن علي الحنفي صاحب اليمامة. الطعم: مآكل من الطعام. ونجع الطعام في الانسان: استمرأه آكله وصلح عليه.
(3) ديوانه يقال: هو بدار مضيعة: كأنه فيها ضائع. مزرع مصدر ميمي
من زرع يعني ليس بذي زرع. معمورا آهل ونصب معمورا عطفا على بذي مزرع في المطبوعة
والمخطوطة " ورأي " بدل " فرأى " " مثمورا " بدل " معمورا "
(4) فنساها من نسأها. ونسأ الدابة زجرها وساقها. غاديات جمع غادية وهي السحابة التي
تنشأ غدوة. ومرى الناقة مربا مسح ضرعها لتدر. والمزن جمع مزية وهي السحابة ذات الماء.
وخلايا جمع خلية وهي الناقة التي خليت للحلب لغزارة لبنها. الخور: إبل حمر تميل إلى الغبرة. في
المخطوطة والمطبوعة بدل " فنساها " " فسناها " وبدل " مري " " قرى ". وبدل " مزنهم "
" منهم " وبدل " وخورا " " وعورا ".
(5) ناطف قطر والفرات. أشد الماء عذوبة.
258

المنان علينا الرحيم والمنة: قوة القلب. يقال ضعيف المنة ويقال ليست لقلبه منة
والمنون: الموت. وهو اسم مؤنث. قال ابن دريد: من يمن منا: إذا اعتقد منه
ومن عليه بيد أسداها إليه إذا قرعه بها. واصل الباب: الاحسان. فالمن الذي كان
يسقط على بني إسرائيل مما من الله عليهم أي أحسن به إليهم.
واما السلوى فقال ابن عباس: هو السماني وقيل: هو طائر كالسماني وواحده
سلوى قال الأخفش: لم اسمع له بواحد. قال: ويجوز أن يكون واحده سلوى مثل
جماعته كما قالوا دفلى للواحد والجماعة. وقال الخليل واحده سلواة قال الشاعر:
كما انتفض السلواة بلله القطر
ويقال سلا فلان يسلو عن فلان: إذا تسلى عنه. وفلان في سلوة من العيش
إذا كان في رغد يسليه الهم. والسلوان: ماء من شربه ذهب غمه على ما يقال ويقال
هذا مثل يضرب لمن سلا عن شئ يقال سقي سلوة وسلوانا. وقال ابن دريد: سلا
يسلو سلوا، وسلوا وسلوة والسلوانة: خرزة زعموا انهم إذا صبوا عليها الماء، فسقي
منها الرجل، سلا واصل الباب السلو، وهو زوال الهم.
سبب نزول المن والسلوى:
وكان سبب انزال المن والسلوى عليهم انه لما ابتلاهم الله تعالى بالتيه، حين
قالوا لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون " (1) فامرهم بالمسير إلى
بيت المقدس، فلما ساروا تاهوا في قدر خمس فراسخ أو الستة. فلما أصبحوا ساروا عادين
فأمسوا، فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه فلم يزالوا كذلك، حتى تمت أربعين
سنة، تفضل عليهم في تلك الحال، وأحسن إليهم، وانزل عليهم المن والسلوى.
وكانت ريح الجنوب تحشره عليهم قال ابن جريج: كان الرجل إذا اخذ من المن
والسلوى زيادة على طعام يوم واحد، فسد إلا يوم الجمعة فإنهم إذا اخذوا طعام يومين
لم يفسد.

(1) سورة المائدة آية: 27.
259

الاعراب:
وموضع " كلوا نصب على وقلنا كلوا كذا قال الرماني:
وقيل في معنى " الطيبات " قولان:
أحدهما - انه المشتهى اللذيذ
والثاني - انه المباح الحلال الذي يستلذا كله.
وقوله: " وما ظلمونا "
المعنى:
إنما يتصل بما قبله بتقدير محذوف فكأنه قال فخالفوا ما امر الله به أو كفروا
هذه النعمة. " وما ظلمونا " قال ابن عباس وما نقصونا، ولكن كانوا أنفسهم
ينقصون. وقال غيره: معناه وما ضرونا، ولكن كانوا أنفسهم يضرون. قال
أبو علي الظلم الذي لا يستحقه المضرور ممن قصده وليس للمضرور فيه نفع. وقال
الرماني حقيقة الضرر القبيح. والصحيح في حقيقة الظلم ما ذكرناه فيما مضى هو
الضرر الذي لا نفع فيه يوفي عليه، ولا دفع ضرر أعظم منه عاجلا وآجلا ولا
يكون واقعا على وجه المدافعة فاما ما قاله الرماني فهو حد الشئ نفسه، لان السؤال
باق ولقائل ان يقول: وما الضرر إلا القبيح، لان كونه قبيحا حكم من احكامه
فلابد من بيان ذلك حينئذ. وما ذكره أبو علي ينتقض بالألم الواقع على وجه المدافعة
وبالألم الذي فيه وجه ضرر أعظم منه عن الضرورة، وبالضرر الذي فيه نفع يوازيه
وروي عن عن الصادق (ع) أنه قال: المن كان ينزل على بني إسرائيل من
بعد طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس فمن نام في ذلك الوقت، لم ينزل عليه نصيبه
فلذلك يكره النوم في هذا الوقت إلى بعد طلوع الشمس.
قوله تعالى:
" وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم رغدا
260

وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم وسنزيد
المحسنين " (58) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ نافع وأهل المدينة يغفر بضم الياء وفتح الفاء. الباقون بفتح النون،
وكسر الفاء. وادغم الراء في اللام وما جاء منه. والآية معطوفة على ما تقدم. فكأنه
قال واذكروا إذ قلنا. ادخلوا والدخول والولوج والاقتحام نظائر والفرق بين الدخول
والاقتحام ان الاقتحام دخول على صعوبة.
اللغة:
ونقيض الدخول: الخروج تقول: دخل يدخل دخولا. وادخله ادخالا.
وتداخل تداخلا، واستدخل استدخالا، وداخله مداخلة. ويقال: في امره دخل
أي فساد. دخل امره يدخل دخلا: أي فسد. ودخلت الدار وغيرها دخولا
وأوردت إبلي دخالا إذا أوردتها فأدخلت بين كل بعيرين بعيرا ضعيفا بعد ما ابتعر أو
تشرب دون ريها. وفلان دخيل بني فلان: إذا كان من غيرهم. واطلعت فلانا على
دخلة أمري: إذا بثتته مكتومك. والدخل طائر صغير. وفلان حسن المدخل، أو
قبيح المدخل: أي المذهب في الأمور. وكل لحمة على عصب فهي دخلة. قال صاحب
العين: فلان مدخول إذا كان في عقله دخل، أو في حسبه. والمدخول: المهزول
الداخل في جوفه الهزال. والدخلة: بطانة الأمير. يقال: فلان خبث الداخلة. وادخل
في عار ويدخل فيه ونحو ذلك يصف شدة الدخول. ودخيل الرجل: الذي يداخله
في أموره كلها فهو له دخيل. دخال والدخال: مداخلة المفاصل بعضها في بعض.
والدخولة معروفة والدخل: صغار الطير أمثال العصافير مأواها الغيران، وبطون
الأودية تحت الشجر الملتف وجمعه دخاخيل. والأنثى دخلة. واصل الباب: الدخول
قال الرماني في حد الدخول: الانتقال إلى محيط. وقد يقال: دخل في الامر: كما
يقال دخل في الدار تشبيها ومجازا.
261

وقوله: " هذه القرية " إشارة إلى بيت المقدس - على قول قتادة، والربيع
ابن أنس وقال السدي: هي قرية بيت المقدس: وقال ابن زيد: إنها أريحا قريب
من بيت المقدس
اللغة:
والقرية والبلدة والمدينة نظائر. قال أبو العباس: أصله الجمع: ومنه المقراة:
الحوض الذي تسقى فيه الإبل. سمي مقراة، لجمع الماء فيه. والمقراة: الجفنة التي
يعد فيها الطعام للأضياف قال الشاعر:
عظام المقاري جارهم لا يفزع
ومنه قريت الضيف. ومنه قريت الماء في الحوض. ومنه قريت الشاة تقري
وشاة قارية: إذا كانت تجمع الجرة في شدقها. وهو عيب عندهم شديد وكل ما قري
فهو مقري: مثل المرقد كل ما رقدت فيه. والقري: المسيل الذي يحمل الماء إلى
الروضة. وجمعه: قريان: كقضيب وقضبان قال الشاعر:
ماء قري حده قري
قال ابن دريد: قريت الضيف أفريه قرى. وقريت الماء في الحوض أقريه قريا.
وقرى البعير: جرته في شدقه قريا. والقرية: اشتقاقها من قرى البعير جرته: أي
جمعها. والجمع قرى - على غير قياس -. وقال قوم من أهل اليمن: قرية: وقال
صاحب العين: القرية والقيرية - لغتان - تقول: ما زلت استقري هذه الأرض قربة
قرية. والكسر لغة عانية. ومن هناك اجتمعوا على جمعها على القرى، حيث اختلفوا
فحملوها على لغة من قال: كسوة وكسوة. والنسبة إليها قروي. وأم القرى: مكة
وقوله: " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا " (1) يعني بها: الكور والأمصار والمدائن
والقرى: الظهر من كل شئ، حتى الآكام وغيرها. والجمع الأقراء. والقرى:
الاحسان إلى الضيف. تقول: اقرى يقري الضيف قرى: إذا اضافه ضيافة وانزله
نزالة. والقرى جئ الماء في الحوض. والمدة تقرى في الجرح: أي تجتمع.

(1) سورة الكهف: آية 60
262

وقوله: " وادخلوا الباب "
المعنى:
أي الباب الذي أمروا بدخولها. وقال مجاهد والسدي: هو باب حطة من
بيت المقدس. وهو الباب الثامن. وقيل: باب القبة التي كان يصلي إليها موسى. وقال
قوم: باب القرية التي أمروا بدخولها. قال أبو علي: قول من قال: إنه باب القرية،
لأنه لم يدخلوا القرية في حياة موسى، لأنه قال: " فبدل الذين ظلما قولا غير
الذي قيل لهم ". والعطف بالفاء يدل على أن هذا التبديل منهم كان في أثر الامر
فدل ذلك على أنه كان في حياة موسى.
ومعنى قوله: " سجدا "
قال ابن عباس: ركعا. وهو شدة الانحناء. ومنه السجد من النساء: الفاترات
الأعين. وقال الأعشى:
ولهوي إلى حور المدامع سجد
وقال الآخر:
ترى الاكم منه سجدا للحوافر (1)
وقال غيره: ادخلوا خاضعين متواضعين. قال أعشى قيس:
تراوح من صلوات المليك * طورا سجودا وطورا جؤارا
وقوله: " حطة "
المعنى:
قال الحسن، وقتادة وأكثر أهل العلم: معناه حط عنا خطايانا. وروي عن
ابن عباس أنه قال: أمروا أن يستغفروا. وروي عنه أيضا أنه قال: أمروا أن
يقولوا: هذا الامر حق: كما قيل لكم. وقال عكرمة: أمروا أن يقولوا لا إله إلا
الله. وكل هذه الأقوال محط الذنوب فيترحم لحطة عنها.

(1) الكامل 1: 258 في المطبوعة فيها. وهو غلط. والاكم: ج. 1 كأم ج. أكمة وهي التل.
(2) ديوانه. راوح. عمل عملين في عمل. والجؤار رفع الصوت بالدعاء.
263

اللغة:
وحطة مصدر مثل ردة وجدة من رددت وجددت. قال صاحب العين:
الحط: وضع الأحمال عن الدواب تقول: حططت عنها أحط حطا. وانحط انحطاطا.
والحط والوضع والخفض نظائر. والحط: الحدر من العلو: كقول امرئ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من عل (1)
يقال للنجيبة السريعة: حطت في سيرها وانحطت. وتقول حط الله وزرك
الذي انقض ظهرك. وقال الشاعر:
واحطط إلهي - بفضل منك - أوزاري
والحطاطة: بثرة تخرج في الوجه تقبح اللون ولا تقرح. وجارية محطوطة
التنين: ممدودة حسنة والحط: حط الأديم بالمحط. وهي خشبة يصقل بها الأديم أو
ينقش. وأصل الباب: الحط: وهو الحدر من علو. وارتفعت " حطة " في الآية
على قول الزجاج - على تقدير مساءلتنا حطة، وقال غيره: دخولنا الباب سجدا:
حطة لذنوبنا كقوله: " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو
معذبهم عذابا شديدا قالوا: معذرة " يعني موعظتنا بعذرة إلى ربكم.
ويجوز النصب في العربية على معنى حط عنا ذنوبنا حطة، كقولك: سمعا وطاعة
يعني اسمع سمعا وأطيع طاعة، كقولك: معاذ الله. يعني نعوذ بالله وهو أقوى
لأنه دعاء.
وقوله: " نغفر لكم "
اللغة:
والغفران والعفو، والصفح نظائر. يقال: غفر الله غفرانا. واستغفر استغفارا
واغتفر اغتفارا. قال أبو العباس: غفر الله لزيد بمعنى: ستر غطى له على ذنوبه.
والغفران إنما هو التغطية. يقال للسحابة فوق السحاب: الغفارة. وثوب ذو غفر:

(1) معلقته، وصدر البيت: مكر مفر مقبل مدبر معا - يصف فرسه -
264

إذا كان له زئير يستر قبحه. ويقال: المغفر، لتغطية العنق. ويقال غفرت الشئ:
إذ واريته. والمغفرة والغفيرة بمعنى (واحد). والمغفرة: منزل (1) من منازل
القمر. يسمى (بذلك) لخفائه. وقال الزجاج: الغفر: التغطية. وكل ما وتفرع
من هذا الباب فهذا معناه. وقولهم: اللهم اغفر لنا. تأويله اللهم غط علينا ذنوبنا
والله الغفور والغفار. والمغفر ما يغطى به الرأس من الحديد وغيره. وكذلك الغفارة
وهي خرقة تلف على سية القوس: أي طرفها. وغفارة: اسم رأس جبل. والمغفورة
والمغفارة. صمغ العرفط وقد اغفر الشجر: إذا ظهر ذلك فيه. وفي الحديث: أن
النبي " ص " دخل على عائشة. فقالت: يا رسول الله. أكلت مغافير؟ تعني هذا
الصمغ. ومنهم من يقول: مغاثير: كما قيل جدث، وجدف. والغفر: شعر صغار
دون الكبار. وريش دون الريش الكبار، لأنه هو الذي يغطي الجلد. والغفر:
النكس من المريض. يقال: صلح فلان من مرضه ثم غفر أي نكس. ومنه قول
ضرار. - وقيل إنه لحميل -:
خليلي إن الدار غفر لذي الهوى * كما يغفر المحموم أو صاحب الكلم
ومعناه: أن المحب إذا سلا عن حبيبه، ثم رأى داره جدد عليه حبه. فكأنه
مريض نكس. وإنما قيل النكس، لأنه يغطي على العافية. والغفر: شعر يكون
في اللحيين. وقد غفر فلان، وقد غفرت المرأة: إذا انبت لها ذلك الشعر. ومتاع
البيت يقال له: الغفر، لأنه يغطي على الخلل. والغفر: الحوالق. ويقال جاء والجماء
الغفير. وجاءوا جما غفيرا. وجاءوا جماء الغفير: اي مجتمعين جمعا يغطي الأرض.
والغفر: ولد الاروى: وهي أنثى الوعل، لأنها تأوي الجبال، فتستر عن الناس.
يقال لأنثى الوعل، إذا كان معها ولدها: مغفر. كما يقال: لكل ذات طفل: مطفل.
ويقال: غفرت الامر تغفرة: إذا أصلحته بما ينبغي ان يصلح به. والمعنى: أصلحته
بما غطى على جميع فساده. والغفر: زئير الثوب. وثوب ذو غفر. وغفرت المتاع
إذا جعلته في وعاء. وكل شئ غطيته، فقد سترته. ويقال إصبغ ثوبك فإنه أغفر

(1) ثلاثة أنجم صغار.
265

للوسخ: أي استر له. وأصل الباب: التغطية وحد المغفرة: ستر الخطيئة برفع العقوبة
والخطيئة، والزلة، والمعصية نظائر. يقال: خطأ خطأ. واخطأ إخطاء.
واستخطأه استخطاء. وخطأه تخطئة. وتخاطى تخاطيا قال ابن دريد: الخطأ مقصور
مهموز. يقال خطأ الشئ خطأ: إذا لم يرده واصابه. واخطأ يخطئ أخطاء: إذا
اراده فلم يصبه. والأول خاطئ والثاني مخطئ به. والخطيئة تهمز. قال صاحب
العين: الخطأ: ما لم يتعمد، ولكن يخطئ أخطاء وخطاءة وتخطئة. واصل الباب: الخطأ
ومثله الزلل. والخاطئ الذي قد زل عن الشئ في قصده - وان اتفق له ان يصيبه
من غير أن يقصده، ولذلك لا يكون الخاطئ في الدين إلا عاصيا، لأنه لم يقصد الحق
وأما المخطئ فإنما زل عن قصده. ولذلك يكون المخطئ من طريق الاجتهاد مصيبا
لأنه قصد الحق واجتهد في اصابته فصار إلى غيره. وحد الخطيئة: العدول عن
الغرض المجرد. وخطايا وزنها: فعائل. وتقديره خطائي، فقلبت الهمزة الأخيرة ياء
على حركة ما قبلها، فصارت خطايي، ثم فعل بها ما فعل بمداري، حتى قيل مدارى
فصارت: خطاءى. فاستثقل همز بين ألفين، لأنه بمنزلة ثلاث ألفات، فقلبت الهمزة
ياء. وإنما أعلت هذا الاعلال، لان الهمزة التي بعد الألف عرضت في جميع
فعل القياس. تقول: في جمع مرآة مراءى، فلا تعل. والخليل يقول: وزنه فعالى
على قلب الهمزة.
القراءة:
من اختار النون من القراء، قال: لأنه مطابق لما تقدم من قوله: " وظللنا "
و " قلنا ". وإنما اتفق القراء على خطاياكم هاهنا، واختلفوا في الأعراف وسورة
نوح، لان اللتين في الأعراف ونوح كتبتا في المصحف بالياء بعد ألف، والتي في
البقرة بألف.
وقوله: " وسنزيد المحسنين ".
فالزيادة التي وعدها الله المحسنين، هي تفضل يعطيه الله المحسنين، يستحقونها
بوعده إياهم وهي زيادة على الثواب الذي يستحقونه بطاعته (تعالى).
266

اللغة:
والفرق بين أحسن إليه وأحسن في فعله: ان أحسن إليه لا يكون إلا بالنفع
له. وأحسن في فعله ليس كذلك. ألا ترى انه لا يقال: أحسن الله إليه إلى أهل النار
بتعذيبهم. ويقال: أحسن في تعذيبهم بالنار: يعني أحسن في فعله وفي تدبيره.
والاحسان، والانعام، والافضال نظائر. وضد الاحسان: الإساءة: يقال
حسن حسنا: وأحسن إحسانا. واستحسن استحسانا. وتحاسنوا تحاسنا. وحسنه
تحسينا. وحاسنه محاسنة. والمحسن والجمع محاسن: - المواضع الحسنة في البدن.
ويقال: رجل كثير المحاسن. وامرأة كثيرة المحاسن وامرأة حسناء. ولا تقول:
رجل أحسن، وتقول: رجل حسان وامرأة حسانة. وهو المحسن جيدا. والمحاسن
في الاعمال: ضد المساوئ. تقول: أحسن فإنك الحسان. والحسنى: الجنة، لقوله:
" للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ". والحسنى: ضد السوء والحسن. ضد القبيح
والحسان: جمع حسن الحقوها بضدها، فقالوا: قباح وحسان. كما قالوا: عجاف
وسمان. واصل الباب: الحسن. وهو على ضربين: حسن في النظر، وحسن في
الفعل وكذلك القبح. وحد الحسن من طريق الحكمة: هو الفعل الذي يدعو إليه
العقل. وحد القبح: الذي يزجر عنه العقل. وحد الاحسان: هو النفع الحسن.
وحد الإساءة: هو الضرر القبيح هذا لا يصح الا على قول من يقول: إن الانسان
يكون محسنا إلى نفسه ومسيئا إليها. ومن لا يقول فذلك يريد فيه الواصل إلى الغير
مع قصده إلى ذلك والأقوى في حد الحسن أن تقول: هو الفعل الذي إذا فعله العالم
به على وجه، لم يستحق الذم فإنه لا ينتقض بشئ.
وقوله: " وكلوا منها حيث شئتم رغدا " يعني من هذه القرية، حيث شئتم رغدا
أي واسعا بغير حساب. قد بينا معناه فيما مضى واختلاف الناس فيه.
قوله تعالى:
" فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على
267

الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ". (59) آية
بلا خلاف.
معنى قوله: فبدل الذين ظلموا: غيروا.
وقوله: " الذين ظلموا " معناه: الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله.
وقوله: " غير الذي قيل لهم " يعني بذلك بدلوا قولا غير الذي أمروا أن
يقولوه. فقالوا بخلافه. فذلك هو التبديل والتغيير. وكان تبديلهم بالقول: انهم
أمروا ان يقولوا: حطة، وان يدخلوا الباب سجدا. وطؤطئ لهم الباب ليدخلوه
كذلك فدخلوه يزحفون على اسائهم فقالوا: حطة في شعيره مشتهرين.
وقوله: " فأنزلنا على الذين ظلموا " يعني: الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله
في تبديلهم بالقول والفعل
" رجزا ":
اللغة:
والرجز في لغة أهل الحجاز: العذاب. وفي لغة غيرهم: الرجس، لان الرجس
الشر. ومنه قوله (ع) في الطاعون: إنه رجس عذب به بعض الأمم وهو قول ابن
عباس، وقتادة. وقال أبو عبيدة: الرجز. والرجس لغتان مثل الردع، والسدع والبزاق
والبساق. وقال أبو العالية: هو الغضب. وقال أبو زيد: هو الطاعون، فقيل إنه مات
منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم وشيوخهم وبقي الأبناء وانتقل
العلم والعبادة إليهم.
وقوله: " من السماء " قال قوم: يعني ما قضاه الله عليهم من السماء وقال آخرون:
أراد بذلك المبالغة في علوه بالقهر.
وقوله " يفسقون " مضمومة السين عليه جميع القراه وهو اشهر اللغات. وقد
حكي في بعض اللغات بكسر السين
268

قوله تعالى:
" وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق
الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين " (60) آية واحدة بلا خلاف.
قوله: " وإذا " متعلق بكلام محذوف. ويجوز أن يكون ذلك ما تقدم ذكره
في الآيات المتقدمة من ضروب نعم الله على بني إسرائيل فكأنه قال: واذكروا إذ
استسقى موسى لقومه: أي سأله إن يسقي قومه ماء
تقول: سقيته من سقى السقة، وأسقيته: دللته على الماء فنزل منزلة سؤال ذلك.
والمعنى الذي سال موسى إذا كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى
فما نزل. وكذلك قوله " فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا "
من ماء فاستغنى بدلالة الظاهر على المنزول منه، لان معنى الكلام: قلنا اضرب
بعصاك الحجر فضربه فانفجرت منه. فترك ذكر الخبر غير ضرب موسى الحجر إذا
كان فيما ذكره دلالة على المراد. وكذلك قوله:
" قد علم كل أناس مشربهم " فترك
ذكر منهم لدلالة الكلام عليه.
والانفجار، والانشقاق. والانبجاس أضيق منه فيكون أولا انبجاسا، ثم
يصير انفجارا والعين من الأسماء المشتركة العين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان
بخروج الماء منها، كخروج الدمع من عين الحيوان وقد بينا ان أناسا لا واحد له
من لفظه فيما مضى وإن الانسان لو جمع على لفظه لقيل اناسين واناسيه وقوم موسى
هم بنو إسرائيل الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات. وإنما استسقى لهم
ربهم الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه شكرا إليه الظمأ فامروا بحجر طوراني من
الطور. فضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين معلومة
ماؤها لهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: ظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن
والسلوى وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وروي
269

انه كان مثل شكل الرأس. وامر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا
عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاثة عيون، ولا يرتحلون مرحلة إلا وجدوا ذلك
الحجر بينهم في ذلك المكان الذي كان بينهم في المنزل الأول. وقيل إنهم كانوا ينقلونه
معهم في الجوالق إذا احتاجوا إلى الماء. ضربه موسى بالعصى فيه ففجر منه الماء
وقال قوم بأنه امر بان يضرب أي حجر شاء لا حجرا بعينه. والأول أظهر لان
فيه لام التعريف.
والشين ساكنة في اثنتا عشرة عند جميع القراء. وكان يجوز كسرها في اللغة
ولم يقرأ به أحد. والكسر لغة ربيعة، وتميم والاسكان: لغة أهل الحجاز واسد
فإذا صغرت اثنتا عشرة قلت ثني عشرة وإذا صغرت ثنى قلت ثنتي عشرة. وروى
فتحها محمد عن الأعمش. وهو غلط إلا إذا قيل عشرة مفرد فإنه بفتح الشين. فاما
ما زاد على ذلك فالشين ساكنة، أو مكسورة إلا قولهم أحد عشر إذا بنيا معا.
ونصب عينا على التمييز. وعند الكوفيين على التفسير ولا ينبغي الوقف على أحد الاسمين
المجعولين اسما واحدا، دون الآخر: كقولك أحد عشر، واثنا عشر، وما أشبه
ذلك ولذلك يكره الوقف على العدد الأخير قبل ان يميزه، ويفسره وكذلك قوله:
" خير ثوابا وخير مردا " (1) " وملء الأرض ذهبا " (2) " وعدل ذلك صياما " (3)
" وخير حافظا " (4) " وأحسن ثوابا " وأشباه ذلك ومن آيات الله العجيبة
انفجار العيون من الحجر الصلد بعدد قبائل إسرائيل على وجه يعرف كل فرقة
منهم شرب نفسه، فلا ينازعه فيه غيره. وذلك من الأمور الظاهرة. على أن
فاعل ذلك هو الله تعالى وان ذلك لا يتم فيه حيلة محتال ولا كيد كائد. ومن استبعد
ذلك من الملحدين فالوجه ان يتشاغل معه في الكلام في اثبات الصانع، وحدوث
الصنعة، واثبات صفاته وما يجوز عليه، وما لا يجوز فإذا ثبت ذلك سهل الكلام
في ذلك. ومتى شك في ذلك، أو في شئ منه، كان الكلام معه في هذا الفرع ضربا

(1) سورة مريم: آية 77
(2) سورة آل عمران: آية 91
(3) سورة المائدة: آية 98
(4) سورة يوسف آية 64
270

من العناء لا وجه للتشاغل به. وقوله هاهنا: " فانفجرت " لا ينافي قوله في
الأعراف: " فانبجست " لان الانبجاس: هو الانفجار إلا أنه قليل وقيل: إنه
لا يمتنع أن يكون أوله ما ينبجس، كان قليلا، ثم صار كثيرا، حتى صار انفجارا
وقوله: " كلوا واشربوا من رزق الله "
يعني من النعم التي عددها عليهم من المن والسلوى وغير ذلك
وقوله: " ولا تعثوا في الأرض مفسدين "
أي لا تطغوا ولا تسعوا في الأرض فسادا. واصل العثا: شدة الفساد. يقال
منه: عثا فلان في الأرض إلى عاثية يعثأ. والجماعة يعثون. وفيه لغتان أخريتان:
أحدهما - يعثو عثوا. ومن قرأ بهذه اللغة ينبغي أن يضم الثاء، ولم يقرأ
به أحد، واللغة الأولى: لغة أهل الحجاز. وقال بنو تميم: عاث يعيث عيثا وعيوثا
وعيثانا. بمعنى واحد قال رؤبة بن العجاج:
وعاث فينا مستحل عائث * مصدق أو تاجر مقاعث (1)
يعني بقوله: عاث فينا: افسد فينا. وقيل: يعثو أصله العيث. فقدموا
بعض الحروف، وأخروا بعضها. يقال: عثا يعثو. وعاث يعيث وهو الفساد. قال
ابن اذينة الثقفي:
وإنما قال: " لا تعثوا في الأرض مفسدين " وإن كان العيث لا يكون إلا
فسادا، لأنه يجوز أن يكون فعلا ظاهره الفساد، وباطنه المصلحة: كخرق موسى
السفينة، فبين ذلك العيث الذي هو الفساد ظاهرا وباطنا.
قوله تعالى:
" وإذ قلتم: يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك
يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها

(1) ديوانه. مستحل: استباح الأموال. مصدق: هو العامل الذي يجبي الحقوق من
المسلمين. قعث الشئ: استأصله في المخطوطة: " سحل " بدل مستحل " قاجر " بدل " تاجر "
و " مباعث " بدل " مقاعث ".
271

قال: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فان
لكم ما سألتم. وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب
من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين
بغير الحق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " (61) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ أهل المدينة: النبيئين - بالهمز - الباقون بغير همزة. وترك الهمزة
هو الاختيار.
اللغة:
واختلفوا في اشتقاقه. فقال بعضهم: من انبائك الامر: كأنه أنبأ عن الله
وأخبر عنه. فترك الهمز ذلك لكثرة ما يجزي. وقال الكسائي: النبي: الطريق يراد
به أنه علم وطريق إلى الحق. واصله من النبوة والنجوة: المكان المرتفع. ومن قال:
هو مشتق من الانباء، قال: جاء فعيل بمعنى مفعل: كما قال: سميع بمعنى مسمع.
كذلك قالوا: نبئ بمعنى منبأ، وبصير بمعنى مبصر. وأبدل مكان الهمزة من النبئ
الياء، فقالوا: نبي (1) هذا ويجمع النبي أنبياء. وإنما جمعوه كذلك، لأنهم ألحقوا
النبي بابدال الهمزة منه ياء. فالنعوت التي تأتي على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو
وذلك كقولهم: ولي وأولياء. ووصي وأوصياء. ودعي وأدعياء. لو جمعوه على
أصله، والواحد بني ليعتل إليها، لان فعيلا تجمع فعلاء: كقولهم: سفيه وسفهاء
وفقيه وفقهاء. وشريك وشركاء. وقد سمع من العرب: النبآء. وذلك في لغة من
همز النبي. ومن قول العباس بن مرداس السلمي في وصف النبي صلى الله عليه وآله ومدحه:
يا خاتم النبآء انك مرسل * بالخير كل هدى السبيل هداكا (2)

(1) في المطبوعة " ما " زائدة في هذا الموضع.
(2) سيرة ابن هشام 4: 103 فاعل
" هداك " هو الله سبحانه وتعالى في المخطوطة " الأنبياء " بدل " النبآء وهو غلط وفي مجمع
البيان " النباء " بتشديد الياء. وعجزه في المخطوطة والمطبوعة هكذا: بالحق خير هدى الاله
هداكا. ومثله في مجمع البيان.
272

فجمع على أن واحدهم نبئ - مهموز - وقد بعضهم: النبي والنبوة غير
مهموزين، لأنهما مأخوذان من النبوة. وهي مثل النجاة. وهما مأخوذان من
المكان المرتفع. وكل يقول: إن أصل النبي: الطريق قال القطامي:
لما وردن نبيا واستتب بها * مسحنفر كخطوط السيح منسحل (1)
قالوا: وسمي الطريق نبيا، لأنه ظاهر مبين من النبوة قال أبو علي الفارسي:
قال أبو زيد: نبأت من ارض إلى أرض، وانا أنبأ نباء ونبوء: إذا خرجت منها
إلى أخرى. وليس اشتقاق النبي من هذا - وإن كان من لفظه - ولكنه من
النبأ الذي هو الخبر. كأنه المخبر عن الله. فان قلت: لم لا يكون من النباوة ومما
انشده أبو عثمان. قال: أنشدني ابن كيسان:
محض الضريبة في البيت الذي وضعت * فيه النباوة حلوا غير ممذوق
أو يجوز فيه الامرين؟ فتقول: إنه يجوز أن يكون من النباوة ومن النبأ
كما أجيز في عضة أن يكون من الواو: كقوله وعضوات. ومن الهاء كقوله:
لها بعضاه الأرض تهرير
قال: ولبس ذلك كالعضة، لان سيبويه زعم أنهم يقولون في تحقير النبوة:
كان مسيلمة بنبؤته نبيئة سوء. وكلهم يقولون: تنبأ مسيلمة. ولو كان يحتمل
الامرين جميعا، لما اجتمعوا على أنبياء ولا على النبيئه. فان قيل: فلم لا
لا يستدل بقولهم: أنبياء؟ قيل ما ذكرته لا يدل على تجويز الامرين، لان
(أنبياء) إنما جاز، لان البدل لما الزم في نبئ، صار في لزوم البدل له: كقولهم
عيد وأعياد. فكما أن عيد لا يدل على أنه من الياء لكونه من عود الشئ. كذلك
لا يدل أنبياء على أنه من النباوة، ولكن لما لزم البدل، جعل بمنزلة تقي وأتقياء،

(1) الديوان: 4 والضمير في " وردن " للإبل. وروايته " واستتب
بنا " ونبي: كثيب رمل في ديار بني تغلب. واستتب الامر: استوى. مسحنفر: صفة للطريق
وهو الواسع. السيح: لباس مخطط. وسحلت الريح الأرض: كشطت ما عليها. والبيت في المخطوطة
والمطبوعة هكذا:
لما وردت نبأ واسد لما * مستحقر كخطوط النسج منسجل
273

وصفي وأصفياء. فلما لزم، صار كالبرية، والخلية، ونحو ذلك، مما لزم الهمزة فيه حرف
اللين بدلا من الهمزة، لما دل على أنه من الهمزة، وأنه لا يعترض عليه شئ وصار
قول من حقق الهمزة في الشئ، كرد الشئ إلى الأصل المرفوع استعماله: نحو
وذر وودع. فمن ثم كان التخفيف فيه الأكثر.
فاما ما روي في الحديث: من أن بعضهم قال: يا نبئ الله، فقال: لست بنبئ الله
ولكني نبي الله قال: أبو علي: أظن أن من أهل البقل من ضعف اسناده. ومما
يقوي تضعيفه أن من مدح النبي " ص " فقال: يا خاتم النبآء لم يؤثر فيه انكار
عليه. ولو كان في واحدة نكير، لكان في الجميع مثله، ثم بينا فيما مضى: أن الصبر
كف النفس، وحبسها عن الشئ (1).
المعنى:
فإذا ثبت ذلك. فكأنه قال: واذكروا إذ قلتم: يا معشر بني إسرائيل،
لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد. وذلك الطعام هو ما اخبر الله عز وجل إذ
أطعمهم في تيههم وهو السلوى في قول أهل التفسير وفي قول ابن منبه: الخبز النقي
مع اللحم قيل: ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض: من البقل، والقثأ، وما سماه الله
مع ذلك وذكر انه سألوه لموسى وكان سبب مسألتهم ذلك ما رواه قتادة. قال:
كان القوم في البرية. وقد ظلل عليهم الغمام، وانزل عليهم المن والسلوى. فملوا ذلك
وذكروا عينا كانت لهم بمصر فسألوا ذلك موسى. فقال الله تعالى: اهبطوا مصرا
فان لكم ما سئلتم.
وإنما قال مما تنبت الأرض، لان (من) تدخل للتبعيض. ولو لم تدخل هاهنا
لكانت المسألة تدخل على جميع ما تنبته الأرض. فاتوا ب‍ (من) التي نابت مناب البعض
حيث قامت مقامه، وفي الناس من قال: إن من هاهنا زائدة وانها تجري مجرى
قولهم: ما جاءني من أحد والصحيح: الأول، لان من لا تزاد في الايجاب. وإنما تزاد في النفي، ولان من المعلوم انهم ما أرادوا جميع ما تنبته الأرض وجرى ذلك

(1) في تفسير سورة البقرة: آية 45. انظر 1: 201، 202.
274

مجرى قول القائل: أصبت اليوم من الطعام عند فلان. يريد أصبت شيئا منه.
وقوله " يخرج " جزم جواب الامر.
اللغة:
والبقل، والقثاء معروفان. وفي القثاء لغتان: ضم القاف، وكسرها.
والكسر أجود. وهي لغة القرآن. وإنما ذكر الله تعالى هذه الألفاظ وان لم تكن
لائقة بفصاحة القرآن على وجه الحكاية عنهم. واما القوم فقال ابن عباس وأبو
جعفر الباقر (ع) وقتادة والسدي: انه الحنطة. وانشد ابن عباس: قول احيحه
ابن الحلاج:
قد كنت اغنى الناس شخصا وافدا * ورد المدينة عن زراعة قوم (1)
وقال الفراء: والجبائي والأزهري: هو الحنطة والخبز: تقول العرب: فوموا
بالتشديد اي اخبزوا لنا. وقال قوم: في الحبوب التي تخبز وهو مأثور. وقال ابن
مجاهد وعطا وابن زيد: انه الخبز في قراءة ابن مسعود. وهو قول الربيع بن انس
والكسائي انه الثوم. وأبدل الثاء فاء كما قالوا: جدث وجدف وأثافي وأثاثي. قال:
الفراء: وهذا أشبه بما بعده من ذكر البصل. قال أمية بن أبي الصلت:
فوق شرى مثل الجوابي عليها * قطع كالوذيل في نفي فوم
وقال أيضا:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة * فيها الفراديس والفومان والبصل (2)
قال الزجاج وهذا بعيد، لأنه لا يعرف الثوم بمعنى الفوم، لان
القوم لا يجوز ان يطلبوا الثوم ولا يطلبون الخبز الذي هو الأصل. وأيضا.

(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة ومجمع البيان. وفي لسان العرب: لأبي محجن الثقفي
وروايته:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد * نزل المدينة عن زراعة فوم
(2) اللسان: (فوم) وروايته
كانت لهم جنة إذ ذاك ظاهرة * فيها الفراديس والفومان والبصل
فراديس ج فردوس
275

فلا خلاف أن الفوم: هو الطعام، وإن كان كل حب يخبز منه يقال: له فوم.
وقوله: " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير "
المعنى:
قيل فيه قولان:
أحدهما - الذي هو أدنى الطعامين بدلا من أجودهما.
والثاني - الذي تتبدلون في زراعته وصناعته بما أعطاكم الله عفوا من المن
والسلوى.
وقرا بعضهم: أدنى مهموزا. وقال بعض المفسرين: لولا الرواية لكان
هو الوجه لأنه من قولك: رجل دنئ من الدناءة. وما كنت دنيئا ولكنك دنئت
اي خسست وإذا قرئ بلا همز فمعناه: القرب. وليس هذا موضعه، ولكنه موضع
الخساسة. ولو كان ما سألوه أقرب إليهم، لما سألوه، ولا التمسوه. ويجوز أن يجعل
أدنى وأقرب بمعنى: أدون: كما تقول هذا شئ مقارب أي دون. وحكى الأزهري
عن أبي زيد (الداني) بلا همز: الخسيس. والدنئ بالهمز: - الماجن (1).
وقوله: " اهبطوا مصرا " تقديره: فدعى موسى فاستجنا له، فقلنا لهم:
اهبطوا مصرا. وقد تم الكلام، لان الله أجابهم بقوله: " فان لكم ما سألتم.
وضربت.. " ثم استأنف حكم الذين اعتدوا في السبت، ومن قتل الأنبياء فقال:
" ضربت عليهم الذلة والمسكنة. "
القراءة:
ونون جميع القراء " مصرا ". وقرأ بعضهم بغير تنوين. وهي قراءة ابن
مسعود. بغير الف. وقال قتادة، والسدي، ومجاهد، وابن زيد: لأنه أراد مصرا
من غير تعيين لان ما سألوه من البقل والقثاء لا يكون إلا في الأمصار، وقال الحسن
وأبو العالية، والربيع: إنه أراد مصر فرعون الذي خرجوا منه، وقال أبو معلم

(1) في المطبوعة (الماجر). والماجن: خبيث البطن والفرج.
276

محمد بن بحر: أراد بيت المقدس لقوله " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله
لكم ".
اللغة:
وروي ذلك عن ابن زيد. واما اشتقاق مصر فقال بعضهم هو من القطع
لانقطاعه بالعمارة. ومنهم من قال هو مشتق من الفصل بينه وبين غيره. قال عدي
ابن زيد:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به * بين النهار وبين الليل قد فصلا (1)
ومن نون أراد مصرا من الأمصار غير معين. ويجوز أيضا أن يريد مصرا
بعينه الذي خرجوا منه. وإنما نون اتباعا للمصحف، لان في المصحف بألف:
كما قرأ: " قواريرا قواريرا " (2) منونا اتباعا لخط المصحف. ومن لم ينون
أراد مصر بعينها لا غير. وكل ذلك محتمل.
وقوله: " ضربت عليهم الذلة والمسكنة " استئناف كلام. بما فعل الله بهم
يعني بالذين اعتدوا في السبت، وقتلوا الأنبياء.
ومعنى " ضربت ": أي فرضت ووضعت عليهم الذلة، والزموها من قول
القائل: ضرب الامام الجزية على أهل الذمة. وضرب فلان على عبده الخراج.
وضرب الأمير على الجيش البعث. يريد بجميع ذلك ألزم ذلك. وبه قال الحسن،
وقتادة. وقيل: معنى " ضربت عليهم ": أي حلوا بمنزلة الذل والمسكنة. مأخوذ
من (ضرب القباب). قال الفرزدق في جرير:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها * وقضى عليك به الكتاب المنزل
وأما " الذلة ": فقال الحسن وقتادة، وغيره: (يعطون الجزية عن يد وهم

(1) اللسان: مادة (مصر). وروايته (جعل) بدل (جاعل)
(2) سورة الانسان: آية 15. 16.
277

صاغرون) (1) (والذلة) مشتق من قولهم: ذل فلان يذل ذلا وذلة.
واما المسكنة: فهي مصدر التسكين. يقال: ما فيهم أسكن من فلان. وما
كان سكينا، ولكن تمسكن تمسكنا. ومنهم من يقول: تسكن تسكنا. والمسكنة
هاهنا مسكنة الفاقة والحاجة: وهي خشوعها وذلها. تقول: ما في بني فلان أسكن
من فلان: أي افقر منه. وهو قول أبي العالية والسدي. وقال ابن زيد: المعني
يهود بني إسرائيل. أبدلهم الله (تعالى بالعز ذلا، وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم
غضبا، جزاء منه بما كفروا بآياته، وقتلهم (2) أنبياءه ورسله اعتداء وظلما.
وقوله: " وباعوا بغضب من الله ": أي انصرفوا ورجعوا. ولا يقال: باء
إلا موصولا: إما بخير واما بشر. وأكثر ما يستعمل في الشر. كذا قال
الكسائي. ويقال: باء بدينه يبوء به بوء ومنه قوله تعالى: " أريد أن تبوء بإثمي
وإثمك " يعني ترجع. بما قد صار عليك دوني فمعنى الكلام: ارجعوا منصرفين
متحملين غضب الله.
وروي أن رجلا جاء برجل إلى النبي " ص "، فقال: هذا قاتل أخي،
وهو بواء به: أي مقتوله به ومنه قول ليلى الأخيلية:
فان تكن القتلى بواء فإنكم * فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر
وقال الزجاج: أصل ذلك التسوية. ومعنى ذلك أنهم تساووا بغضب من الله
ومنه ما روي عن عبادة بن الصامت. قال: جعل الله تعالى الأنفال إلى نبيه،
فقسمها بينهم على بواء أي: على سواء بينهم في القسم. ومنه قول الشاعر:
فيقتل خيرا بامرئ لم يكن به * بواء ولكن لا نكايل بالدم
والأصل: الرجوع. على ما ذكرناه. وقال قوم: هو الاعتراف، ومعناه:

(1) ما بين القوسين زدناهم عن تفسير الطبري. ومنه: الذلة الصغار انظر سورة التوبة
29 في المطبوعة والمخطوطة حصل سقط في هذا المكان وهذا ما فيهما (أي يجزيه الصغاد
مشتق من..)
(2) في المطبوعة (وقتله)
278

انهم اعترفوا بما يوجب عليهم غضب الله. ومنه قول الشاعر:
إني أبو بعثرتي وخطيئتي * ربي وهل إلا إليك المهرب
وأما الغضب. قال قوم: ما حل بهم من البلاء والنقمة في دار الدنيا بدلا
من الرخاء والنعمة. وقال آخرون: هو ما بينا لهم في الآخرة من ألقاب على
معاصيهم.
وقوله: " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله " إشارة إلى ما تقدم
ذكره من ضرب الذلة والمسكنة، وإحلال غضبه بهم، لأنه يشتمل على جميع ذلك
ومعنى " بأنهم " أي لأجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، فعلنا (1)
بهم ما فعلنا من أنواع العذاب.
وقوله: " يقتلون النبيين بغير الحق " لا يدل على أنه قد يصح أن يقتلوهم
بحق، لان هذا خرج مخرج الصفة لقتلهم. وانه لا يكون إلا ظلما بغير حق:
كما قال: " ومن يدع مع الله إله آخر لا برهان له به " (2) وكما قال: " رب
احكم (3) بالحق ". وكما قال الشاعر:
على لا حب لا يهتدي بمناره
ومعناه ليس هناك منار يهتدى به. ومثله كثير.
وقوله: " ذلك بما عصوا " إشارة إلى ما انزل الله من الذلة والمسكنة بما
عصوا من قتلهم الأنبياء وعدوهم في السبت وغير ذلك. وقيل معناه: نقض العهد.
وكانوا يعتقدون في قتل الأنبياء. انه روي أنهم كانوا إذا قتلوا النبي في أول النهار
قامت سوق بقتلهم في آخره. وإنما خلى الله بين الكافرين، وقتل الأنبياء، لينالوا
من رفيع المنازل ما لم ينالوه بغيره وليس ذلك بخذلان لهم كما فعل بالمؤمن من أهل
طاعته. وقال الحسن: ان الله تعالى ما امر نبيا بالحرب الا نصره. فلم يقتل: وإنما
خلى بينه وبين قتل من لم يؤمر (4) بالقتال من الأنبياء. والذي نقوله: إن النبي

(1) في المطبوعة (فعلناه)
(2) سورة المؤمنون آية 118
(3) سورة الأنبياء آية 112
(4) في المخطوطة والمطبوعة " يؤمن "
279

إن كان لم يؤد الشرع، لا يجوز أن يمكن الله من قتله، لأنه لو مكن (1) فقتل
لأدى إلى أن تزاح علل المكلفين فيما لهم من الألطاف، والمصالح فإذا أدوا الشرع،
جاز حينئذ أن يخلي بينهم، وبين من قتلهم، لأنه لا يجب المنع منه وروى أبو هريرة
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: اختلف بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة، حتى كثر
منهم أولاد السبايا واختلفوا بعد موسى بمأتي سنة
والاعتداء تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شئ
إلى غيره فقد تعداه إلى ما تجاوز إليه فمعنى الكلام فعلت بهم ما فعلت من ذلك بما عصوا
أمري وتجاوزوا حده إلى ما نهيتهم عنه
قوله تعالى:
" ان الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله
واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم
ولا هم يحزنون " (62) آية واحدة.
القراءة:
قرأ نافع بترك الهمز من الصابئين، وجميع القراء الباقون يهمزون
اما " الذين آمنوا " وهم المصدقون برسول الله صلى الله عليه وآله بما اتاهم من الحق من
عند الله. واما الذين هادوا فهم اليهود.
اللغة:
ومعنى هادوا: تابوا. يقال: هاد القوم يهودون هودا، وهيادة وقال ابن
جريج: إنما سميت اليهود يهودا، لقولهم: انا هدنا إليك. قال أعرابي يؤخذ بقوله:
على ما قال أبو عبيدة: فاني من مدحه هائد أي تائب. وقيل: إنما سموا يهودا،
لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب فعربت الذال دالا. وقال زهير: في
معنى الرجوع:

(1) في المخطوطة والمطبوعة " مكنه ".
280

سوى مرجع لم يأت فيه مخافة * ولا رهقا من عابد متهود (1)
أي تائب فسميت اليهود يهودا، لتوبتهم من عبادة العجل. واصل الهود: (2)
الطمأنينة. ويخبر به عن لين السير. ومنه الهوادة: وهي السكون. قال الحسين بن علي
المغربي أنشدني أبو رعاية السلمي، وهو من افصح بدوي أطاف بنا، وأغزرهم رواية:
صباغتها من مهنة الحي بالضحى * جياد المداري حالك اللون اسودا
إذا نفضتة مال طورا بجيدها * وتمثاله طورا باغيدا فودا
كما مال قنوا مطعم هجرية * إذا حركت ريح ذرى النخل هودا
المطعم: النخلة. شبه شعرها باقناء البسر. هود تحرك تحريكة لينة قال زهير:
ولا رهقا من عايد متهود
وليس اسم يهود مشتقا من هذا.
والنصارى جمع نصران كقولهم سكران وسكارى. ونشوان ونشاوى. هذا
قول سيبويه: قال الشاعر:
تراه إذا كان العثي محنفا * يضحي لديه وهو نصران شامس (3)
وقد سمع في الأنثى نصرانة قال الشاعر:
وكلتاهما خرت واسجد رأسها * كما سجدت نصرانة لم تحنف (4)
وقد سمع في جمعهم أنصار بمعنى النصارى قال الشاعر:
لما رأيت نبطا أنصارا * شمرت عن ركبتي الازارا
كنت لهم من النصارى جارا
والمشهور أن واحد النصارى نصري: مثل بعير مهري ومهارى. وإنما سموا
نصارى، لنصرة بعضهم بعضا. دليله الآيات التي ذكرناها. وقيل إنما سموا بذلك

(1) اللسان: هود. وروايته: سوى ربع لم يأت فيها مخافته. الخ وفي مجمع البيان " مربع "
بدل مرجع
(2) في المطبوعة " اليهود "
(3) لم نعرف قائله. " محنفا " صار إلى الحنيفية. شامس: مستقبل الشمس
(4) اللسان: نصر وروايته " فكلتاهما " و " لسجدت " وفي تفسير الطبري
دار المعارف - تعليقة الأستاذ محمود محمد شاكر ذكر البيت في مادة صنف من اللسان وهو غلط
والصحيح ما ذكرنا. في المطبوعة والمخطوطة " جرت " بدل " خزت " وهو تحريف. البيت الأول
اللسان: نصر والكل في امالي الشجري: 79 و 371.
281

لأنهم نزلوا أرضا يقال لها: ناصرة. وكان يتزلها عيسى فنسب إليها، فقيل عيسى
الناصري، ثم نسب أصحابه إليه فقيل النصارى، وهذا قول ابن عباس، وقتادة،
وابن جريج. وقيل: إنهم سموا بذلك، لقوله: " من أنصاري إلى الله " (1)
والصابئون جمع صابئ: وهو من انتقل من دينه إلى دين آخر كالمرتد من
أهل الاسلام. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر يسمى صابئا قال أبو زيد:
صبا فلان في دينه يصبا صبوا إذ كان صابئا وصبأ تاب الصبي يصبوا صبوا: إذا
كان طلع. وقال الزجاج: صبأت النجوم: إذا ظهرت. وقال أبو زيد: صبوت إليهم
تصبأ صبأ وصبوء: إذا طلعت عليهم، وكان معنى الصابئ التارك دينه الذي شرع له
إلى دين غيره: كما قال: ان الصابئ على القوم تارك لأرضه ومنتقل إلى سواها.
فالدين الذي فارقوه هو تركهم التوحيد إلى عبادة لنجوم، أو تغطيتها. وقال نافع هو
مأخوذ من قولهم: صبا يصبوا إذا مال إلى الشئ، وأحبه ولذلك لم يهمز قال الشاعر:
صبوت اياديب وأنت كبير
قال أبو علي الفارسي: هذا ليس بجيد، لأنه قد يصبو الانسان إلى دين فلا
يكون منه مدين به مع صبوه إليه فإذا كان هذا هكذا، وكان الصابئون منتقلين
من دينهم الذي اخذ عليهم إلى سواه، وجب أن يكون مأخوذا من صبأت الذي هو
الانتقال. ويكون الصابئون على قلب الهمزة، وقلب الهمزة على هذا الحد، لا يجيزه
سيبويه إلا في الشعر ويجيزه غيره فهو على قول من أجاز ذلك. وممن أجاز ذلك
أبو زيد. وحكي عنه أنه قال لسيبويه: سمعت قربت وأخطيت قال فكيف تقول
في المضارع قلت: اقرأ فقال حسبك أو نحو هذا. قال أبو علي يريد سيبويه ان
قريت مع اقرأ لا ينبغي، لان قريت اقرأ على الهمز وقريت على القلب، فلا يجوز
ان تغير بعض الأمثلة دون بعض. فدل على أن القائل لذلك غير فصيح، فإنه غلط
في لغته. وقال قتادة والبلخي: الصابئون قوم معرفون لهم مذهب ينفردون به،

(1) سورة؟؟؟ آية 14.
282

من عبادة النجوم. وهم مقرون بالصانع وبالمعاد وببعض الأنبياء. وقال مجاهد
والحسن وابن أبي نجيح: الصابئون بين اليهود والمجوس لا دين لهم. وقال السدي:
هم طائفة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور وقال الخليل: هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى
إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب. خيال منصف النهار، ويزعمون انهم على دين
نوح. وقال ابن زيد: الصابئون هو أهل دين من الأديان كانوا بالجزيرة: جزيرة
الموصل، يقولون لا إله إلا الله ولم يؤمنوا برسول الله " ص "، فمن اجل ذلك كان
المشركون يقولون للنبي " ص " وأصحابه: هؤلاء الصابئون: يشبهونهم بهم.
وقال آخرون: هم طائفة من أهل الكتاب. والفقهاء بأجمعهم يجيزون اخذ الجزية
منهم. وعندنا لا يجوز ذلك، لأنهم ليسوا أهل الكتاب.
وقوله: " من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ".
المعنى:
تقول: من صدق بالله وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحا وأطاع
الله فلهم اجرهم عند ربهم: يعني ثواب عملهم الصالح فان قيل: فأين تمام قوله: ان
الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين - قيل تمامه جملة قوله تعالى: من
آمن بالله واليوم الآخر: لان معناه: من أمن منهم بالله واليوم الآخر، وترك ذكر منهم
لدلالة الكلام عليه.
ومعنى الكلام: ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن
منهم بالله واليوم الآخر فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم.
وقوله: " من آمن بالله واليوم الآخر ".
الاعراب:
في الناس من قال: هو خبر عن الذين هادوا والنصارى والصابئين: لان الذين
آمنوا كانوا مؤمنين فلا معنى حينئذ ان يقول من آمن وهو نفسهم.
ومنهم من قال: هو راجع إلى الكل ويكون رجوعه على الذين آمنوا على
283

وجه الثبات على الايمان والاستدامة، وترك التبديل والاستبدال به.
وفى الدين هادوا والنصارى والصابئين: استئناف ايمان بالنبي " ص "
وما جاء به.
وقوله: " من آمن بالله " فوحد الفعل ثم قال فلهم اجرهم، لان لفظة (من)
وان كانت واحدة، فمعناها يكون للواحد والجمع والأنثى والذكر. فان ذهب إلى
اللفظ وحد. وان ذهب إلى المعنى جمع كما قال: " ومنهم من ينظر إليك أفأنت
تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون " (1) فجمع مرة مع الفعل لمعناه ووحد أخرى
على اللفظ. قال الشاعر:
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما * وقولا لها: عوجي على من تخلفوا (2)
فجمع الفعل لأنه جعل من بمنزلة الذين وربما كان لاثنين وهو أبعد وما جاء
فيه قال الفرزدق:
تعال فان عاهدتني لا تحونني * نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (3)
قوله: " من آمن بالله واليوم الآخر "
النزول:
قال السدي: نزلت في سلمان الفارسي وأصحابه النصارى الذين كان قد
تنصر على أيديهم قبل مبعث رسول الله " ص ". وكانوا قد أخبروه بأنه سيبعث، وانهم
يؤمنون به إن أدركوه.
وروي عن ابن عباس: أنها منسوخة بقوله تعالى: " ومن يبتغ غير الاسلام
دينا، فلن يقبل منه " (4). وهذا بعيد، لان النسخ لا يجوز أن يدخل في الخبر
الذي يتضمن الوعيد. وإنما يجوز دخوله فيما طريقه الأحكام الشرعية التي يجوز تغييرها

(1) سورة يونس آية: 43.
(2) ديوان امرئ القيس. ومنهم من نسبه لرجل من كندة.
في المخطوطة والمطبوعة (عظيما) بدل (عرضتما).
(3) ديوانه. الكامل 1. 216 من قصيدة قالها عندما استضافه الذئب فأقراه في
المخطوطة والمطبوعة " تعيش " بدل " تعال " وفي بعض المصادر الأخرى " تعشى ".
(4) سورة آل عمران آية: 85
284

وقال قوم: إن حكمها ثابت. والمراد بها: ان الذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن
قلوبهم من المنافقين هم واليهود، والنصارى، والصابئين إذا آمنوا بعد النفاق،
واسلموا عند العناد، كان لهم أجرهم عند ربهم: كمن آمن في أول الاسلام من
غير نفاق، ولا عناد، لان قوما من المسلمين قالوا: إن من أسلم بعد نفاقه، وعناده
كان أجره أقل وثوابه انقص. وأخبر الله بهذه الآية أنهم سواء في الأجر والثواب.
وأولى الأقاويل ما قدمنا ذكره. وهو المحكي عن مجاهد والسدي: ان الذين آمنوا
من هذه الأمة، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين من آمن من اليهود،
والنصارى، والصابئين بالله واليوم الآخر، فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم
ولا هم يحزنون، لان هذا أشبه بعموم اللفظ. والتخصيص ليس عليه دليل.
وقد استدلت المرجئة بهذه الآية على أن العمل الصالح، ليس من الايمان،
لان الله تعالى أخبرهم عنهم بأنهم آمنوا، ثم عطف على كونهم مؤمنين. أنهم إذا
عملوا الصالحات ما حكمها. قالوا: ومن حمل ذلك على التأكيد أو الفضل، فقد ترك
الظاهر. وكل شئ يذكرونه مما ذكر بعد دخوله في الأول مما ورد به القرآن:
نحو قوله: " فيهما فاكهة ونخل ورمان " (1). ونحو قوله: " وإذ أخذنا من
النبيين ميثاقهم، منك ومن نوح " (2). ونحو قوله: " والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا ". وقوله: " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " (3). قالوا:
جميع ذلك مجاز. ولو خلينا والظاهر، لقلنا: إنه ليس بداخل في الأول. فان قالوا:
أليس الاقرار، والتصديق من العمل الصالح؟ فلابد لكم من مثل ما قلناه، قلنا
عنه جوابان:
أحدهما - ان العمل لا يطلق الا على افعال الجوارح، لأنهم لا يقولون:
عملت بقلبي، وإنما يقولون: عملت بيدي أو برجلي.
والثاني - ان ذلك مجاز، وتحمل عليه الضرورة. وكلامنا مع الاطلاق.

(1) سورة الرحمان آية 8
(2) سورة الأحزاب آية 7
(3) سورة محمد آية 1
285

وقوله: " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ": يعني لا خوف عليهم مما
قدموا عليه من أهوال القيامة. ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا عند
معاينتهم ما أعد لهم من الثواب، والنعيم المقيم عنده وقبل: انه لا يحزنون من الموت.
قوله تعالى:
" وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما اتيناكم بقوة
واذكروا ما فيه لعلكم تتقون " (63) آية بلا خلاف.
تقديره: واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم.
اللغة:
الميثاق: المفعال من الوثيقة، واما بيمين، واما بعهد وغير ذلك من الوثائق.
والميثاق الذي اخذه الله هو الذي ذكره في قوله: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل
لا تعبدون إلا الله وبالوالدين احسانا " (1) في الآيات التي ذكر بعدها. ويحتمل
أن يكون أراد الميثاق الذي اخذ الله على الرسل في قوله: " وإذ أخذنا من النبيين
ميثاقهم " (2) وقوله: " وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما اتيتكم من كتاب وحكمة
ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم واخذتم على ذلكم
إصري " (3) وقد بينا ان اخذ العهد هو ما نصب لهم من الحجج الواضحة،
والبراهين الصحيحة الدالة على توحيده، وعدله، وصدق أنبيائه ورسله. وأفسدنا
ما يقوله أهل الحشو: من استخراج الذرية من ظهر آدم، واخذ العهد عليهم بما لا
يحتاج إلى اعادته.
وقوله: " ورفعنا فوقكم الطور ". قال مجاهد: الطور هو الجبل. وكذلك
هو في اللغة. وقال العجاج:
دانى جناحيه من الطور فمر * تقضي البازي إذا البازي كسر (4)

(1) سورة البقرة آية 83.
(2) سورة الأحزاب: آية 7.
(3) سورة آل عمران: آية 187
(4) ديوانه دانى جناحيه: ضم جناحيه. تقضى: أصلها تقضض، وتقضض الطائر: هوى
في طيرانه. والبازي: ضرب من الصقور: كسر الطائر جناحيه ضمهما قليلا يريد النزول.
286

وقيل: إنه اسم جبل بعينه. ناجى الله عليه موسى بن عمران. ذهب إليه ابن
عباس وابن جريج. وقيل: انه من الجبال التي تنبت دون ما لا تنبت (1). رواه
الضحاك عن ابن عباس وقال قتادة " ورفعنا فوقكم الطور " قال: الطور الجبل
اقتلعه فرفعه فوقهم. فقال: " خذوا ما اتيناكم بقوة " وقال مجاهد: الطور اسم
جبل بالسريانية وقال قتادة: بالعربية.
وقال قوم من النحويين: معنى خذوا تقديره ورفعنا فوقكم الطور وقلنا لكم
خذوا ما اتيناكم يعني التوراة بقوة. اي بجد ويقين، لا شك فيه والا قذفناه (2)
عليكم كما تقول: أوجبت عليه قم (3) اي أوجبت عليه فقلت (4) قم. وقال الفراء:
اخذ الميثاق: قول بلا حاجة بالكلام إلى اضمار قول. فيكون من كلامين. غير أنه
ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام الذي هو بمعنى القول، أن تكون معه أن كما
قال تعالى: " انا أرسلنا نوحا إلى قومه ان انذر قومك " (5) قال ويجوز حذف أن
ومعنى " ما اتيناكم " أي أعطيناكم لان الايتاء هو الاعطاء. يعني ما
أمرناكم به في التوراة. " بقوة ": أي بجد ويقين على ما بيناه. وهو قول ابن عباس
وقتادة، والسدي. وقال أبو العالية والربيع بن انس: بطاعة الله وقال مجاهد: إنه
العمل بما فيه وحكي عن ابن الجران معناه: القبول: وقال: أبو علي: " بقوة "
معناه: بالقدرة التي جعلنا فيكم. وذلك دلالة على أن القدرة قبل الفعل. ومعنى
اذكروا ما فيه. قال قوم: احفظوه، لا تنسوه. وقال آخرون: اعملوا بما فيه
ولا تتركوه. والمعنى في ذلك ان ما اتيناكم فيه من وعد ووعيد، وترغيب وترهيب
اعتبروا به، واقبلوه وتدبروه، كي إذا فعلتم ذلك تتقوني وتخافوا عذابي بالاصرار
على ضلالتكم فتنتهوا إلى طاعتي فتنزعوا عما أنتم عليه من المعصية.

(1) وهذا معنى اصطلاحي منقول عن ابن عباس كما ترى لا كما توهمه الأستاذ محمود محمد
شاكر في حاشيته على تفسير الطبري 2، 157. هذا نص حاشيته " هذا قول لم أجده في كتب
اللغة في مادته.
(2) في المخطوطة والمطبوعة " قدمناه " وهو تصحيف
(3) في المطبوعة " قمر "
(4) في المطبوعة " قمر "
(5) سورة نوح آية 1.
287

قوله تعالى: " ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته
لكنتم من الخاسرين " (64) آية.
قوله توليتم: أعرضتم ووزنه: تفعلتم من قولهم ولاني فلان دبره: إذا
استدبر عنه وجعله خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة آمر ومعرض
بوجهه. يقال: فلان تولى عن طاعة فلان، ويتولى عن مواصلته وصداقته، ومنه
قوله: " فلما اتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهو معرضون " (1) يعني خالفوا ما
وعد الله من قوله: " لئن اتانا الله امن فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " (2)
ونبذوا ذلك وراء ظهورهم فصار معنى الآية انكم نبذتم العهد الذي اخذناه عليكم
بعد اعطائكم المواثيق. وكنى بذلك عن جميع ما تقدم ذكره في الآية، ثم قال: " فلولا
فضل الله عليكم " يعني فلولا ان فضل الله عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي
واثقتموه إذ رفع فوقكم الطور فاجتهدتم في طاعته، وأداء فرائضه، وانعم عليكم
بالاسلام، وبرحمته التي رحمكم بها، فتجاوز عن خطيئتكم بمراجعتكم (3) طاعة
ربكم لكنتم من الخاسرين. وهذا وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر
رسول الله " ص " فإنما هو خبر عن اسلافهم. فاخرج الخبر مخرج الخبر عنهم. على
نحو ما مضى ذكره. وقال قوم: الخطاب في هذه الآية إنما اخرج بإضافة الفعل إلى
المخاطبين والفعل لغيرهم لان المخاطبين إنما كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل
بني إسرائيل، فصيرهم الله منهم، من اجل ولايتهم لهم. وقال بعضهم: إنما قال لهم
ذلك، لان سامعيه كانوا عالمين. وان الخطاب خرج مخرج الخطاب للاحياء من
بني إسرائيل، وأهل الكتاب - وإن كان المعنى في ذلك إنما هو خبر عما مضى
من اسلافهم - ومثل ذلك قول الشاعر:

(1) سورة التوبة: آية 77
(2) سورة التوبة آية 76
(3) في المطبوعة " ثم احفتكم " والمخطوطة " احفتكم " وهو تحريف فاحش.
288

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة * ولم تجدي من أن تقري به بدا (1)
فقال: إذا ما انتسبنا. وإذا تقتضي من الفعل مستقبلا. ثم قال: لم تلدني فأخبر
عن ماض، لان الولادة قد مضت لان السامع فهم معناه - والأول أقوى
وقال أبو العالية: فضل الله الاسلام ورحمته القرآن.
وقوله: " فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ".
لا يدل على أن الذين خسروا، لم يكن عليهم فضل الله لان فضل الله شامل
لجميع الخلائق، لان ذلك دليل خطاب. وليس ذلك بصحيح عند الأكثر، والذي
يكشف عن ذلك، ان الواحد منا قد يعطي أولاده وعبيده يتفضل على جميعهم ثم
يبذره بعضهم ويبقى فقيرا. ويحفظه آخر فيصير غنيا، ويحسن ان يقول للغني منهم
لولا فضلي عليك لكنت فقيرا. ولا يدل على أنه لا يتفضل على الذي هو فقير. وإذا
كان كذلك كان تأويل الآية انه لولا اقداري لكم على الايمان وإزاحة علتكم فيه حتى فعلتم
ايمانكم، لكنتم من الخاسرين. وإنما جعل الايمان فضلا فيؤتيه الذين به ينجون
ولم يكونوا خاسرين من حيث كان هو الداعي إليه والمقدر عليه، والمرغب إليه.
ويحتمل أن يكون المعنى: ولولا فضل الله عليكم بامهاله إياكم بعد توليكم عن
طاعته حتى تاب عليكم برجوع بعضكم عن ذلك وتوبته لكنتم من الخاسرين.
ويحتمل أن يكون أراد بهذا الفضل في وقت رفع الجبل فوقهم باللطف والتوفيق
الذي تابوا عنده حتى زال عنهم العذاب وسقوط الجبل، ولولا فضل الله: لسقط الجبل
قوله تعالى:
" ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا
قردة خاسئين (65) آية.
المعنى:
علمتم أي عرفتم هاهنا. فقوله: علمت أخاك ولم أكن اعلمه: أي عرفته ولم

(1) معاني الفراء. قائله زائدة بن صعصعة الفقعسي.
289

أكن اعرفه كقوله تعالى: " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " (1)
يعني لا تعرفونهم الله يعرفهم. والذين نصب، لأنه مفعول به. اعتدوا: أي
ظلموا وجاز واما حدلهم، وكانوا أمروا ألا يعدوا في السبت، وكانت الحيتان تجتمع،
لا منها في السبت فحبسوها في السبت واخذوها في الاحد. واعتدوا في السبت، لان
صيدها هو حبسها وقال قوم: بل اعتدوا فصادوا يوم السبت وسمي السبت سبتا لان
السبت هو القطعة من الدهر فسمي بذلك اليوم، هذا قول الزجاج وقال أبو عبيدة:
سمي بذلك: لأنه سبت خلق فيه كل شئ: اي قطع وقوع. وقال قوم سمي
بذلك لان اليهود يسبتون فيه: اي يقطعون الاعمال. وقال آخرون: سمي
بذلك، لما لهم فيه من الراحة، لان أصل السبت هو السكون والراحة. ومن ذلك
قوله: " وجعلنا نومكم سباتا " (2)، وقيل للنائم مسبوت لاستراحته وسكون
جسده فسمي به اليوم، لاستراحة اليهود فيه.
وقوله: " فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ". اخبار عن سرعة فعله ومسخه
إياهم. لا أن هناك امرا كما قال للسموات والأرض " اتيا طوعا أو كرها قالتا اتينا
طائعين " (3). ولم يكن هناك قول، وإنما اخبر عن تسهل الفعل عليه وتكوينه
له بلا مشقة، بلفظ الامر.
ومعنى الآية على ما قاله أكثر المفسرين: انه مسخهم قردة في صورة
القردة سواء.
وحكي عن ابن عباس: أنه قال: لم يعش مسخ قط أكثر من ثلاثة أيام. ولم
يأكل ولم يشرب.
وقال مجاهد: إن ذلك مثل ضربه الله، كما قال: " كمثل الحمار يحمل
أسفارا " (4). ولم يمسخهم قردة. وحكي عنه أيضا: أنه قال مسخت قلوبهم
فجعلت كقلوب القردة لا تقبل وعظا ولا تقي زجرا. وهذان القولان منافيان لظاهر

(1) سورة الأنفال آية: 61.
(2) سورة عم آية: 9.
(3) سورة حم - السجدة آية: 11
(4) سورة الجمعة آية: 5
290

التأويل: لما عليه أكثر المفسرين من غير ضرورة داعية إليه. وقوله:
" خاسئين ": اي مبعدون، لان الخاسئ هو المبعد المطرود كما يخسأ الكلب.
تقول: منه خسأه اخسؤه خس ء وخسيا هو يخسو خسوا. يقال: خسأته فخسأ
وانخسأ. قال الراجز:
كالكلب ان قلت له اخسا انخسا (1)
اي إن طردته، انطرد. وقال مجاهد معناه، أذلاء صاغرين. والمعنى قريب.
وفي هذه الآيات احتجاج من الله تعالى بنعمه المترادفة واخبارا للرسول عن عناد
اسلافهم وكفرهم مرة بعد أخرى مع ظهور الآيات والعلامات، تعزية له " ص "
وتسلية له عندما رأى من جحودهم، وكفرهم وليكون وقوفه على ما وقف عليه من
اخبارهم حجة عليهم وتنبيها لهم وتحذيرا ان يحل بهم مما حل بمن تقدمهم من
آبائهم واسلافهم.
قوله تعالى:
" فجعلنا نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ".
(66) آية بلا خلاف
المعنى:
الضمير في قوله: " فجعلناها " يحتمل أن يكون راجعا إلى العقوبة أو
القردة فكأنه قال: جعلنا القردة، اي ما حل بها من التشويه وتغيير الخلفة، دلالة
على أن من تقدمهم أو تأخر عنهم. فمن فعل مثل فعلهم يستحق من العقاب مثل الذي
نزل بهم نكالا لهم جميعا وموعظة للمتقين: اي تحذيرا وتنبيها، لكيلا يواقعوا من
المعاصي ما واقع أولئك فيستحقوا ما استحقوا - نعوذ بالله من سخطه - ويحتمل
أن تكون (الهاء) راجعة إلى الحيتان. ويحتمل أن تكون راجعة إلى القرية التي
اعتدوا أهلها فيها. ويحتمل أن تكون (الهاء) راجعة إلى الأمة الذين اعتدوا وهم

(1) لسان العرب: خسأ. وروايته. ان قيل له.
291

أهل أيلة: قرية على شاطئ البحر. وروي ذلك عن أبي جعفر " ع ".
وقوله: " نكالا " قال ابن عباس: عقوبة. وقال غيره: ينكل بها من
يراها. وقيل: انها شهرة، لان النكال: الاشتهار بالفضيحة، ذكر ذلك الجبائي.
وليس بمعروف.
والنكال الارهاب للغير واصله المنع، لأنه مأخوذ من النكل وهو القيد،
وهو أيضا اللجام وكلاهما مانع.
وقوله: " لما بين يديها وما خلفها ". روي عن عكرمة عن ابن عباس: انه
أراد ما بين يديها وما خلفها من القرى. وروي عن الضحاك عن ابن عباس انه: أراد
ما بين يديها يعني: من بعدهم من الأمم. وما خلفها الذين كانوا معهم باقين. وقال
السدي (ما بين يديها): من ذنوبها (وما خلفها) يعني: عبرة لمن يأتي بعدهم من
الأمم. وقال قتادة (لما بين يديها) ذنوبها (وما خلفها): عبرة لمن يأتي خلفهم:
بعدهم من الأمم وقال قتادة لما بين يديها ذنوب القوم وما خلفها الحيتان التي أصابوها
وقال مجاهد: ما بين يديها ما مضى من خطاياهم. وما خلفها من خطاياهم: التي
أهلكوا بها (وموعظة للمتقين). خص المتقين بها - وان كانت موعظة لغيرهم -، لانتفاع
المتقين بها دون الكافرين. كما قلناه في غيره. كقوله: " هدى للمتقين ". واصل
النكال العقوبة تقول: نكل فلان ينكل تنكلا ونكالا قال عدي بن زيد:
لا يسخط المليك ما يصنع * العبد ولا في نكاله تنكير (1)
وأقوى التأويلات ما رواه الضحاك عن ابن عباس: من أنها كناية عن العقوبة
والمسخة التي مسخها القوم، لان في ذلك إشارة إلى العقوبة التي حلت بالقوم - وان
كانت باقي الأقوال أيضا جائزة.

(1) يقول: لا يغضب الملك ما يسع عبده من العفو والصفح، وان عاقب فما في عقوبته ما
يستنكر.
292

قوله تعالى:
" وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا
أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ". (67) آية
بلا خلاف.
القراءة:
قرأ أبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر: هزوا مثقلا، وكذلك كفوا
مثقلة. وقرأ آخر مخففا. وعاصم يثقلهن ويخففهن. وحمزة يخففهن ثلاثهن (1).
الاعراب واللغة:
قوله: " وإذ " معطوفة على قوله واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم:
واذكروا إذ قال موسى لقومه. وأهل الحجاز يثقلون هذه الكلمات. وبنو أسد
وتميم وعامة قيس يخففونهن ومن لا يحصى ممن تجاوزهم يقولون عن مكان أن إذا
كانت الهمزة مفتوحة: يجعلونها عينا ويقولون اشهد عن رسول الله فإذا كسروها
رجعوا إلى لغة أهل الحجاز إلى الهمزة.
المعنى:
وهذه الآية فيها توبيخ للمخاطبين من بني إسرائيل في نقض أوائلهم الميثاق
والذي اخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه. فقال: واذكروا أيضا من نكثهم ميثاقي
إذ قال موسى لقومه: إن الله يأمركم ان تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا.
والهزء والسخرية واللعب نظائر. قال الراجز:
قد هزئت مني أم طيلسة * قالت أراه معدما لا شئ له (2)
اي سخرت ولعبت ولا يجوز أن يقع من أنبياء الله عز وجل فيما يؤدونه هزوا

(1) لا يوجد في المتن الا مثلان.
(2) قائله: صخير بن عمير التميمي. ومنهم من كسب
القصيدة كلها للأصمعي. امالي القالي 2: 284. وروايته: تهزأ مني أخت آل طيسلة.
293

ولا لعب. وظنوا في امره إياهم عن الله: بذبح - البقرة - عند نذرائهم في القتيل - انه
هازئ لاعب ولم يكن لهم ذلك.
وحذفت الفاء من قوله: أتتخذنا هزوا - وهو جواب - للاستغناء ما قبله من
الكلام عنه وحسن السكوت على قوله إن الله يأمركم ان تذبحوا بقرة فجاز لذلك
اسقاط الفاء من قوله. فقالوا كما حسن اسقاطها في قوله: " فما خطبكم أيها المرسلون
قالوا انا أرسلنا " (1) ولم يقل فقالوا. ولو قيل بالفاء لكان حسنا. ولو كان ذلك على
كلمة واحدة لم تسقط منه الفاء ألا ترى انك إذا قلت: قمت ففعلت، لم يجز اسقاط
الفاء لأنها عطف لا استفهام يوقف عليه.
فقال موسى حينئذ: أعوذ بالله ان أكون من الجاهلين. يعني السفهاء الذين
يردون على الله الكذب والباطل. وكان السبب في امر موسى لقومه بذبح البقرة
ما ذكره المفسرون أن رجلا من بني إسرائيل كان غنيا ولم يكن له ولد وكان له
قريب يرثه قيل إنه اخوه وقيل إنه ابن أخيه وقيل ابن عمه واستبطأ موته فقتله سرا
والفاه في موضع بعض الأسباط وادعى قتله على أحدهم فاحتكموا إلى موسى فسأل
من عنده من ذلك علم فقال أنت نبي الله وأنت اعلم منا فقال إن الله يأمركم ان تذبحوا
بقرة فلما سمعوا ذلك منه وليس في ظاهره جواب عما سألوا عنه قالوا أتتخذنا هزوا
قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لان الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى
الهزء جهل. وقال بعضهم وإنما أمروا بذبح البقرة دون غيرها لأنها من جنس
ما عبدوه من العجل ليهون عليهم ما كانوا يرونه من تعظيمهم وليعلم بإجابتهم زوال
ما كان في نفوسهم من عبادته والبقرة اسم الأنثى. والثور للذكر: مثل ناقة وجمل،
وامرأة ورجل، فيكون تأنيثه بغير لفظه.
والبقرة: مشتق من الشق: يقولون: بقر بطنه: إذا شقه، لأنها تشق
الأرض في الحرث.

(1) سورة الذاريات آية 31، 32.
294

قوله تعالى: قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي. قال: إنه يقول:
إنها بقرة لا فارض، ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون "
(68) - آية.
الفارض: الكبيرة المسنة. وبه قال الجمهور. يقال منه: فرضت البقرة تفرض
فروضا. وفرضت تفرض فراضة: إذا أسنت. قال الشاعر:
لعمري لقد أعطيت جازك فارضا * تساق إليه ما تقوم على رجل (1)
وقيل: إن الفارض: التي قد ولدت يطونا كثيرة. فيتسع لذلك جوفها، لان
معنى الفارض، في اللغة الواسع. وهو قول بعض المتأخرين. واستشهد بقول الراجز:
يا رب ذي ضغن علي فارض * له قروء كقروء الحائض (1)
ومنه قول الراجز:
هدلاء كالوطب تجاه الماخض * له زجاج ولهاة فارض (2)
ويقال لحية فارض: إذا كانت عظيمة. قال الشاعر:
شيب اصداغي فرأسي ابيض * محامل فيها رجال فرض (3)
أي ذو أسنان: وقال الجبائي: الفارض: التي لم تلد بطونا كثيرة، فيتسع
لذلك بطنها. قال الرماني وهذا غلط لا يعرف. والبكر: الصغيرة التي لم تحمل.
والبكر من إناث البهائم وبني آدم: ما لم يفتحله الفحل. - مكسورة الباء - والبكر:
- بفتح الباء - الفتي من الإبل.

(1) قائله علقمة بن عوف. اللسان (فرض) وروايته. (ضيفك) بدل (جارك) و (تجر)
بدل (تساق).
(2) اللسان: " فرض " وروايته: يا رب مولى حاسد مباغض وبين البيتين اللذين أثبتهما الشيخ
" قده " هذا البيت: علي ذي ضغن وضب فارض
(3) الثاني في اللسان: " زجج " والزجاج. وهو الحديدة التي تركب في أسفل الرمح.
اللهاة: لحمة حمراء.
(4) لرجل من فقيم اللسان. " فرض " واحدهم فارض.
295

والعوان: النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين قال الفراء: يقال من العوان:
عونت المرأة تعوينا - بالفتح والتشديد - وعونت: إذا بلغت ثلاثين سنة. وقال
أبو عبيدة: إنما قال: " عوان بين ذلك " ولم يقل بينهما، لأنه أخرجه على لفظة
واحدة، على معنى هذا الكلام الذي ذكرناه. قال رؤبة في صفة العير:
فيه خطوط من سواد وبلق * كأنها في الجلد توليع البهق (1)
قال أبو عبيدة: إن أردت الخطوط، فقل: كأنها، وان أردت السواد
والبلق، فقل: كأنهما. فقال: كان ذلك وذاك. قال الفراء: إنما يصح ان يكنى
عن الاثنين بقولهم ذاك في الفعلين خاصة. ولا يجوز في الاسمين. ألا ترى، انهم
يقولون: اقبالك وادبارك يشق علي، لأنهما مشتقان من فعل. ولم يقولوا: أخوك
وأبوك يزورني حتى تقول: يزوراني. وقال الزجاج تقول: ظننت زيدا قائما فيقول
القائل ظننت ذلك وذاك. قال الشاعر في صفة العوان:
خرجن عليه بين بكر عويرة * وبين عوان بالعمامة ناصف (2)
بين ذلك يعني بين الكبيرة والصغيرة. هو أقوى ما يكون من البقر وأحسنه
قال الأخطل:
وما بمكة من شمط محفلة * وما بيثرب من عون وابكار (3)
ويقال بقرة عوان، وبقر عون. قال الأخفش: لا فارض، ولا بكر.
ارتفع ولم ينتصب كما ينتصب النفي لأن هذه صفة في معنى البقرة والنفي المنصوب،
لا يكون صفة من صفتها. إنما هو اسم مبتدأ وخبره مضمر. وهذا مثل قولك:
عبد الله لا قائم ولا قاعد. أدخلت لا للنفي وتركت الاعراب على حاله، لو لم يكن
فيه لا، ثم قال: " عوان " فوقع على الابتداء. كأنه قال: هي عوان. ويقال
أيضا: عوانة. قال الأعشى:
بكميت عرفاء محمرة مخف * عربها عوانة أو فاق

(1) اللسان: (بهق) وروايته (الجسم) بدل (الجلد).
(2) لم نجده في مراجعنا.
(3) ديوانه 19. وروايته وما بزمزم من شمط محلقة.. يقصد حالقين رؤوسهم وقد
تخللوا من احرامهم: أي قضوا حجهم، الشمط ج اشمط: وهو الذي خالط سواد شعره بياض
الشيب " وشمط محفله " يقال منه: رجل ذو حفيل، وذو حفلة: ذو جد واجتهاد. فعلى ما أثبته
الشيخ قدس سره، المعنى: انهم جادون في العبادة.
296

قوله تعالى:
" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها
بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " (69) آية بلا خلاف.
الاعراب:
لونها: رفع لان ما ليست زائدة، بل هي بمعنى أي: كأنهم قالوا: أي شئ
لونها؟ وقوله: " يبين ": جزم لأنه جواب الامر بغير ياء.
ومعنى الآية: أن قوم موسى قالوا: يا موسى أدع لنا ربك يبين لنا ما لون
البقرة التي أمرنا بذبحها.
واما قوله: " صفراء " قال الحسن المراد به: سوداء شديدة السواد. تقول العرب:
ناقة صفراء أي سوداء. قال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي * هن صفر ألوانها كالزبيب (1)
يعني ركابي هن سود. غير أن هذا - وان وصفت به الإبل، فليس مما
توصف به البقر. مع أن العرب لا تصف السواد بالفقوع. وإنما تصفه بالشدة
وبالحلوكة ونحوها. تقول: اسود حالك وحائك وحنكوك وغربيب ودجوجي، ولا
تقول: فاقع. وقال أكثر المفسرين: إنها صفراء اللون من الصفرة المعروفة وهذا
الصحيح، لأنه الظاهر، ولأنه قال: " فاقع لونها " وهو الصافي ولا يوصف
السواد بذلك - على ما بيناه - فاما ما ابيض فيؤكدونه بأنه ناصع، واخضر ناضر
واصفر فاقع. وقال سعيد بن جبير: المعنى في الآية: بقرة صفراء القرن والظلف.
وقال مجاهد: صفراء اللون كله: وهو الظاهر لأنه قال: فاقع لونها. فوصف جميع
اللون بذلك. وقال ابن عباس: أراد بذلك صفراء شديدة الصفرة. وقال غيره:

(1) للأعشى الكبير. اللسان: " صفر "
وروايته " أولادها " بدل " ألوانها ". الركاب: الإبل التي يسار عليها. والزبيب من العنب معروف.
297

خالص وقال أبو العالية وقتادة: الصافي. وقوله: " تسر الناظرين " فالسرور: ما
يسر به القلب. والفرح ما فرحت به العين وقيل معناه: تعجب الناظرين. ومن القراء
من اختار الوقف على قوله: " صفراء " والصحيح ان الوقف إنما يجوز عند تمام
النعت كله وقال قوم: النمام عند قوله: " فاقع " ويقال فقع لونها يفقع - بالتشديد
وضم الياء - ويفقع - بالتخفيف وفتح الياء - فقوعا إذا خلصت صفرته.
قوله تعالى:
" قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا
وانا إن شاء الله لمهتدون ". (70) آية واحدة.
القراءة:
القراء كلهم على تخفيف الشين مفتوحة الهاء. وقرأ الحسن: بتشديد الشين،
وضم الهاء، وقرأ الأعمش إن البقر متشابه. وكذا هو في مصحف ابن مسعود
والمعمول على ما عليه القراء وما هو في المصحف المعروف. تقدير الكلام، قال قوم
موسى لما أمروا بذبح البقرة لموسى. وترك ذكر موسى، لدلالة الكلام عليه.
اللغة:
وأهل الحجاز يؤنثون البقر. فيقولون: هذه بقر وكذلك النخل. وكل
جمع كان واحده بالهاء، وجمعه بطرح الهاء، فإنهم يؤنثون ذلك وربما ذكروا ذلك
قال الله تعالى " كأنهم اعجاز نخل خاوية " (1) - بالتأنيث - وفي موضع آخر:
" كأنهم اعجاز نخل منقعر " (2) والأغلب عليهم التأنيث. وأهل نجد يذكرون وربما
انثوا. والتذكير الغالب. فمن ذكر نصب الهاء من " تشابه " يعني التبس واشتبه.
ومن أنث رفع الهاء لأنه يريد يتشابه علينا.
والبقر، والباقر، والجامل، والجمال بمعنى واحد. وقرأ بعضهم إن الباقر تشابه
علينا. وهو شاذ. قال الشاعر:

(1) سورة الحاقة آية 7
(2) سورة القمر آية 20.
298

وما ذنبه ان عافت الماء باقر * وما ان تعاف الماء الا لتضربا (1)
وقال آخر:
مالي رأيتك بعد أهلك موحشا * خلقا كحوض الباقر المتهدم
وقال آخر:
لهم جامل لا يهدأ الليل سامره (2)
يريد الجمال. والذي ذهب إليه ابن جريج، وقتادة ورووه عن ابن عباس
عن النبي صلى الله عليه وآله انهم أمروا بأدنى بقرة، لكنهم لما شددوا على أنفسهم، شدد الله
عليهم: وأيم الله، لو أنهم لم يستثنوا ما تبينت لهم إلى آخر الدهر يعني انهم لو لم
يقولوا وانا إن شاء الله لمهتدون بتعريف الله إيانا، وبما شاء له الله من اللطف والزيادة
في البيان. وكل من اختار تأخير بيان المجمل عن حال الخطاب استدل بهذه الآية
على جواز ذلك. وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله.
قوله تعالى:
" قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي
الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما
كادوا يفعلون " (71) آية بلا خلاف.
المعنى ان البقرة التي أمرتكم بذبحها، لا ذلول أي لم يذللها العمل بإثارة الأرض
بأظلافها. ولا تسقي الحرث. معناه: ولا يستقى عليها الماء، فيسقى الزرع. كما يقال
للدابة التي قد ذللها الركوب والعمل. تقول دابة ذلول بين الذل - بكسر الذال -
وفي مثله من بني آدم رجل ذليل بين الذل والمذلة. قال الزجاج: يحتمل أن يكون
أراد ليست بذلول وهي تثير الأرض. ويحتمل: انها ليست ذلولة، ولا مثيرة الأرض
قيل: إنها كانت وحشية في قول الحسن مسلمة. معناه: من السلامة. يقال منها
سلمت تسلم، فهي مسلمة من الشية.

(1) ميمون بن قيس - الأعشى الكبير - اللسان: " ثور ".
(2) اللسان: (جمل) قائله الحطيئة. وصدر البيت: فان تك ذا مال كثير فإنهم.
299

لاشية فيها لا بياض فيها، ولا سواد. وقال قتادة مسلمة من العيوب: وبه
قال الربيع. وقال ابن جريج: لا عوان فيها. قال المؤرخ: لاشية فيها: أي لا
وضح فيها بلغة اردشنوه والذي قال أهل اللغة " لاشية فيها ": اي لا لون يخالف
لون جلدها واصله: وشى الثوب واصله تحسين عيوب الشئ، يكون فيه بضروب
مختلفة من ألوان سداه، ولحمته يقال منه: وشيت الثوب: اشيه شية ووشيا. ومنه
قيل للساعي بالرجل إلى السلطان، أو غيره واش لكذبه عليه عنده. وتحسينه كذبه
عنده بالأباطيل يقال: وشيت به وشاية. قال كعب بن زهير:
يسعى الوشاة بجنبيها وقولهم * انك يا بن سلمى لمقتول (1)
يعني: انهم يتقولون الأباطيل، ويخبرونه انه إن الحق بالنبي صلى الله عليه وآله قتله وقال بعض
أهل اللغة ان الوشي: العلامة واصله: شية من وشيت، لكن لما أسقطت منها الواو
وأبدلت مكانها الهاء في اخرها: كما قالوا: وزنته زنة ووعدته عدة. وكذلك
وشيته شية.
وقالوا: " الآن جئت بالحق " موصولة الهمزة وإذا ابتدأت، قطعت الألف
الأولى، لان الف الوصل إذا ابتدئ بها قطعت. قال الفراء: والأصل الاوان.
فحذفت الواو. والألف واللام دخلتا في آن لأنهما ينوبان عن الإشارة. المعنى أنت
إلى هذا الوقت تفعل هذا. فلم تعرب الآن كما لم تعرب هذا. ومن العرب من يقول
" قالوا الآن جئت بالحق " ويذهب الوصل ويفتح اللام، ويحذف الهمزة التي بعد
اللام. ويثبت الواو في (قالوا) ساكنا، لأنه إنما كان يذهبه لسكون اللام. واللام
قد تحركت، لأنه حول عليها حركة الهمزة قال الشاعر:
وقد كنت تخفي حب سمراء حقبة * فبح لان منها بالذي أنت بايح
المعنى:
ومعنى قوله: " الآن جئت بالحق " يحتمل أمرين:
أحدهما - الان بينت الحق. وهو قول قتادة. وهذا يدل على أنه كان فيهم

(1) ديوانه. الجناب: الناحية. في المطبوعة " بحسنها " بدل " بحنها ".
300

من يشك في أن موسى (ع) ما بين الحق. وقال عبد الرحمان: يريد انه حين
بينها لهم، قالوا هذه بقرة فلان. الآن جئت بالحق وهو قول من حوزانه قبل ذلك
لم يجئ بالحق على التفصيل - وإن تى به على وجه الجملة - وقوله: (فذبحوها وما
كادوا يفعلون) يحتمل أمرين:
أحدهما - كادوا لا يفعلون أصلا، لغلاء ثمنها، لأنه حكي عن ابن عباس
ومحمد ابن كعب انهم اشتروها بملء ء جلدها ذهبا من مال المقتول. وقيل بوزنها
عشر مرات.
والثاني - ما قال عكرمة ووهب كادوا ألا يفعلوا خوفا من الفضيحة على
أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قال عكرمة ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.
اللغة:
ومعنى كاد: هم ولم يفعل. ولا يقال كاد أن يفعل. وإنما يقال كاد يفعل،
قال الله ما كادوا يفعلون قال الشاعر:
قد كاد من طول البلى ان يمصحا (1)
يقال مصح الشئ إذا فني وذهب. يمصح مصوحا. وانشد الأصمعي:
كادت النفس ان تفيض عليه * إذ ثوى حشو ريطة وبرود (2)
ولا يجئ منه إلا فعل يفعل وتثنيتها. وقال بعضهم: قد جاءت بمعنى إيقاع
الفعل لا بمعنى الهم والقرب من ايقاعه، وانشد قول الأعشى:
قد كاد يسمو إلى الجرباء وارتفعا
الجرباء: السماء: أي سما وارتفع وقال ذو الرمة:
لو أن لقمان الحكيم تعرضت * لعينيه مي سافرا كاد يبرق (3)
أي لو تعرضت لعينيه أي دهش وتحير. وروي عن أبي عبد الله السلمي انه
قرأ لا ذلول بفتح اللام غير منون وذلك لا يجوز لأنه ليس المراد النفي وإنما المراد

(1) اللسان: " مصح ". مصح الشئ مصوحا: ذهب وانقطع.
(2) اللسان: " نفس ". النفس: الروح. الريطة: الملاءة لا برودج يرد وهو الثوب المخطط
(3) اللسان: " برق " برق يبرق بروقا: تحير.
301

بها بقرة غير ذلول وعندنا انه يجوز في البقرة غير الذبح. فان نحر مختارا لم يجز
اكله وفيه خلاف، ذكرناه في خلاف الفقهاء.
قد استدل أصحابنا بهذه الآيات على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب
إلى وقت الحاجة. فان قالوا إن الله أمرهم بذبح بقرة هذه الصفات كلها لها، ولم يبين
ذلك في أول الخطاب حتى سألوا عنه وراجعوا فيه، فبين حينئذ المراد لهم شيئا بعد
شئ. وهذا يدل على جواز تأخير البيان. فان قيل ولم زعمتم ان الصفات المذكورة
في البقرة الأولى التي أمروا بذبحها، وما الذي تنكرون انهم أمروا بذبح البقرة أي بقرة
كانت فلما راجعوا تغيرت المصلحة فأمروا بذبح بقرة أخرى هي لا فارض ولا بكر
فلما راجعوا تغيرت المصلحة، فأمروا بذبح بقرة صفراء فاقع لونها فلما راجعوا تغيرت
المصلحة فأمروا بذبح بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها.
وإنما يصح لكم لو كانت الصفات المذكورة كلها مرادة في البقرة الأولى.
قلنا هذا باطل، لان الكناية في قوله: " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي "
لا يجوز أن تكون كناية إلا عن البقرة التي تقدم ذكرها وأمروا بذبحها، لأنه لم
يجر في الكلام ما يجوز أن تكون هذه الكناية عنه إلا البقرة، ويجري ذلك مجرى
ان يقول واحد لغلامه: اعطني تفاحة فيقول الغلام ما هي؟ بينها فلا يصرف واحد
من العقلاء هذه الكناية إلا إلى التفاحة المأمور باعطائه إياها. ثم يقال بعد ذلك انها
بقرة لا فارض ولا بكر وقد علمنا أن الهاء في قوله: انه يقول كناية عنه تعالى،
لأنه لم يتقدم ما يجوز أن يكون كناية عنه إلا اسمه تعالى. وكذا يجب أن يكون
قوله إنها كناية عن البقرة المتقدم ذكرها وإلا فما الفرق بين الامرين؟ وكذلك
الكلام في الكناية الثانية والثالثة سواء. ولا خلاف بين المفسرين ان الكناية في
الآية من أولها إلى آخرها: كناية عن البقرة المأمور بها في الأول.
وقالت المعتزلة: انها كناية عن البقرة التي تعلق التكليف المستقبل بها.
ولا خلاف بين المفسرين ان جميع الصفات المذكورات للبقرة أعوز اجتماعها للقوم
حتى توصلوا إلى اجتماع بقرة لها هذه الصفات كلها بملء ء جلدها ذهبا. وروي أكثر
302

من ذلك. ولو كان الامر على ما قاله المخالف لوجب ان لا يعتبروا فيما يبتاعونه إلا
الصفات الأخيرة دون ما تقدمها، وتلغي الصفات المتقدمة اجماعهم على أن الصفات
كلها معتبرة. دليل على أن الله تعالى أخر البيان. فان قيل لم عنفوا على تأخيرهم امتثال
الأمر الأول مع أن المراد بالامر الأول تأخر؟ ولم قال فذبحوها وما كادوا يفعلون؟
قلنا ما عنفوا بتأخير امتثال الأمر الأول: وليس في الظاهر ما يدل عليه بل كان
البيان يأتي شيئا بعد شئ كما طلبوه من غير تعنيف فلا قول يدل على أنهم بذلك
عصاة. فاما قوله: في اخر القصة: " فذبحوها وما كادوا يفعلون ".
فإنما يدل على أنهم كادوا يفرطون في اخر القصة، وعند تكامل البيان. ولا يدل
على أنهم فرطوا في أول القصة.
ويقوي ذلك قوله تعالى بعد جمع الأوصاف: " الان جئت بالحق " اي
جئت به على جهة التفصيل. وإن كان جاءهم بالحق مجملا. وهذا واضح بحمد الله، وقد
استوفينا الكلام في هذه الآية وغيرها في العدة في أصول الفقه ما لا مزيد عليه.
قوله تعالى:
" وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون " (72). آية
تقدير الآية: واذكروا إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. وهو عطف على قوله: " واذكروا
نعمتي التي أنعمت عليكم ". وهو متقدم على قوله: " وإذ قال موسى لقومه ان الله
يأمركم ان تذبحوا بقرة " لأنهم إنما أمروا بذبح البقرة بعد تدارئهم في
امر المقتول.
ومعنى ادارأتم: اختلفتم واصله تدارأتم. فأدغمت التاء في الدال بعد ان
سكنت، وجعلوا قبلها ألفا لتمكن النطق بها. قال أبو عبيدة: اداراتم: بمعنى اختلفتم
فيها. من التدارؤ، ومن الدرء وقيل الدراء: العوج: اي اعوججتم عن الاستقامة،
ومنه قول الشاعر:
303

فنكب عنهم درء الأعادي * وداووا بالجنون من الجنون
اي اعوجاج الأعادي وقال قوم: الدرء المدافعة. ومعناه تدافعتم في القتل.
ومنه قوله: " ويدرأ عنها العذاب ". وقال رؤبة ابن العجاج:
أدركتها قدام كل مدره * بالدفع عني درء كل عنجه (1)
ويقال: فلان لا يداري ولا يماري اي: لا يخالف. ومنه قوله: " والله مخرج
ما كنتم تكتمون " اي: مظهر ما كنتم تسرون من القتل.
قوله تعالى
: " فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموت ويريكم آياته
لعلكم تعقلون ". (73) آية بلا خلاف.
روي ابن سيرين عن أبي عبيدة السلماني قال: كان رجل من بني إسرائيل
عقيما، وله مال كثير. فقتله وارثه وجره، فقدمه على باب أناس آخرين، ثم أصبح
يدعيه عليهم حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء، وأرادوا ان يقتتلوا (2) فقال ذووا النهى:
أتقتتلون (3) وفيكم نبي الله؟ فامسكوا حتى اتوه، فامرهم أن يذبحوا
بقرة، فيضربوه ببعضها. فقالوا: أتتخذنا هزوا. قال: أعوذ بالله ان أكون
من الجاهلين. قال: فوجدوها عند رجل. فقال: لا أبيعها إلا بملء ء جلدها (4)
ذهبها. وكان بارا بأبيه. فعوضه الله عن ذلك وجازاه عن بره بأبيه، إذ باع البقرة
بملء ء جلدها ذهبا فضربوه ببعضها. فتكلم. فقال: قتلني فلان، ثم عاد ميتا فلم
يورث قاتل بعده. واختلفوا (في البعض من البقرة المضروب به القتيل) (5).
فقال الفراء: ضرب بذنبها. وقال البعض أقل من النصف. وقال ابن زيد: ضرب
ببعض ارابها. وقال أبو العالية: ضرب بعظم من عظامها. وقال السدي: ضرب

(1) ديوانه. المدره: هو المدافع العتجة ذو الكبر والعظم. ومنه العنجهية.
(2) في المطبوعة (تقتلون)
(3) في المطبوعة (تقتلون)
(4) في المطبوعة (الا بملء ء ذهبا).
(5) ما بين القوسين زدناهم عن " مجمع البيان " ليتم المعنى. وهذه عبارة التبيان مخطوطته
ومطبوعته " في أي موضع ضرب من القتيل. "
304

بالبضعة التي بين الكتفين. وقال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: ضرب بفخذ البقرة.
والهاء في قوله فاضربوه كناية عن القتيل والهاء في قوله: ببعضها كناية عن البقرة.
وهذه الأقاويل كلها محتملة الظاهر. والمعلوم ان الله تعالى امر ان يضرب القتيل ببعض
البقرة. ولا يضر الجهل بذلك البعض بعينه، وإنما أمرهم بذلك لأنهم إذا فعلوه
أحيي الميت. فيقول فلان قتلني: فيزول الخلف، والتداري بين القوم. والقديم
تعالى، وإن كان قادرا على الاخبار بذلك فان هذا اظهر. والاخبار به أعجب لأنه
معجز خارق للعادة.
والتقدير في الآية فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه فحيي كما قال: " اضرب بعصاك
الحجر فانفلق " تقديره فضرب، فانفلق. وكذلك قوله: " يحيي الموتى " فيه اضمار
كأنه قال: فقلنا اضربوه ببعضها فحيي كذلك يحيي الله الموتى. اي اعلموا ان
ما عاينتموه ان الله قادر على أن يحيي الموتى للجزاء، والحساب الذي أوعدكم به.
ولما ضربوه ببعض البقرة، أحياه الله تعالى، فقال: قتلني ابن أخي ثم قبض. وكان
اسمه عاميل. فقال بنو أخيه والله ما قتلناه وكذبوا الحق بعد معاينته. وإنما جعل
سبب احيائه الضرب بموات لا حياة فيه، لئلا يلتبس على ذي شبهة ان الحياة انتقلت
إليه مما ضرب به لتزول الشبهة، وتتأكد الحجة.
وقوله: " كذلك يحيي الله الموتى " يحتمل أن يكون حكاية عن قول
موسى لقومه. ويحتمل أن يكون خطابا من الله تعالى لمشركي قريش.
وقوله: " لعلكم تعقلون " اي لتعقلوا. وقد كانوا عقالا قبل ذلك، لان
من لا عقل له، لا تلزمه الحجة، لكنه أراد تنبيههم، وان يقبلوا ما يدعون إليه،
ويطيعوه ويعرفوه حق معرفته.
قوله تعالى:
" ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وان من
الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء وان منها
305

لما يهبط من خشية الله وما لله بغافل عما تعملون " (74). آية
واحدة بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وحده هاهنا عما يعملون بالياء الباقون بالتاء.
الخطاب بقوله: " قلوبكم " قيل فيمن يتوجه إليه قولان:
أحدهما - انه أريد بنو أخي المفتول حين أنكروا قتله بعد ان سمعوه منه
عند احياء الله تعالى له، انه قتله فلان. هذا قول ابن عباس.
والثاني - قول غيره: أنه متوجه إلى بني إسرائيل كلهم. قال: وقوله:
" من بعد ذلك " اي من بعد آيات الله كلها التي أظهرها على يد موسى. وعلى الوجه
الأول يكون ذلك إشارة إلى الاحياء.
ومعنى " قست قلوبكم " اي: غلظت ويبست وعتت.
اللغة:
القسوة: ذهاب اللين، والرحمة والخشوع، والخضوع. ومنه يقال: قسا قلبه يقسو
قسوا وقسوة وقساوة. وقوله من بعد ذلك اي من بعد احياء الميت لكم ببعض من أعضاء
البقرة بعد ان تدارأوا فيه وأخبرهم بقاتله، والسبب الذي من اجله قتله. وهذه آية عظيمة
كان يجب على من شاهد هذا ان يخضع ويلين قلبه. ويحتمل أن يكون من بعد
احياء الميت. والآيات الأخرى التي تقدمت كمسخ القردة والخنازير ورفع الجبل
فوقهم وانبجاس الماء من الحجر وانفراق البحر وغير ذلك. وإنما جاز ذلك وان كانوا
جماعة. ولم يقل ذلكم، لان الجماعة: في معنى الجمع والفريق. فالخطاب في لفظ
الواحد ومعناه جماعة.
قوله: " فهي كالحجارة " يعني قلوبهم، فشبهها بالحجارة في الصلابة واليبس
والغلظ والشدة: اي أشد صلابة، لامتناعهم بالافرار اللازم من حقه الواجب من
طاعته بعد مشاهدة الآيات. ومعنى " أو " في الآية: يحتمل أمور:
أحدها ذكره الزجاج: فقال هي بمعنى التخيير كقولك جالس الحسن أو ابن
306

سيرين أيهما جالست جائز، فكأنه قال: ان شبهت قلوبهم بالحجارة جاز، وان شبهتها
بما هو أصلب كان جائزا.
والثاني أن تكون " أو " بمعنى الواو. وتقديره: فهي كالحجارة وأشد
قسوة، كما قال: " وأرسلناه إلى مأة الف أو يزيدون " (1) ومثله قول جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدرا * كما اتى ربه موسى على قدر (2)
وقال توبة ابن الحمر:
وقد زعمت ليلى باني فاجر * لنفسي تقاها أو عليها فجورها
اي وعليها. ومثله قوله تعالى: " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آباء
بعولتهن "... الآية (3).
والثالث أن يكون المراد الابهام على المخاطبين كما قال أبو الأسود الدؤلي:
أحب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة والوصيا
فان يك حبهم رشدا اصبه * ولست بمخطئ إن كان غيا (4)
وأبو الأسود لم يكن شاكا في حبهم ولكن ابهم على من خاطبه. وقيل
لأبي الأسود حين قال ذلك: شككت قال كلا ثم استشهد بقوله تعالى: " قل الله
وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ظلال مبين " (5) افتراه كان شاكا حين اخبر بذلك.
والرابع - أن يكون أراد بل أشد قسوة، ومثله " وأرسلناه إلى مأة الف أو
يزيدون " اي بل يزيدون، ولا تكون بل للاضراب عن الأول بل
مجرد العطف.
والخامس - انها كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
والسادس: أن يكون أراد مثل قول القائل أطعمتك حلوا وحامضا وقد

(1) سورة الصافات آية: 147.
(2) ديوانه: والممدوح هو عمر ابن عبد العزيز. وروايته (إذ كانت). وقد مر في
1: 92.
(3) سورة النور آية: 31.
(4) ديوانه: والأغاني " 1130 ورواية الديوان " وفيهم أسوة إن كان غيا ".
(5) سورة سبأ آية: 25
307

أطعمه النوعين جميعا. وهو انه لم يشك انه أطعمه الطعمين معا فكأنه قال: فهي
كالحجارة أو أشد قسوة. ومعناه ان قلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين. اما أن تكون
مثلا للحجارة القسوة. واما أن تكون أشد منها. ويكون معناه على هذا
بعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة. وكل هذه الا وجه محتملة
وأحسنها الابهام على المخاطبين. ولا يجوز أن يكون المعنى الشك، لان الله تعالى عالم
لنفسه لا يخفى عليه خافية. وكذلك في أمثال ذلك نحو قوله: " فكان قاب قوسين
أو أدنى " وغير ذلك وأنشدوا في معنى أو يراد به بل قول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * فصورتها أو أنت في العين أملح
الاعراب:
يريد بل أنت. والرفع في قوله: " أو أشد قسوة " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون عطفا على معنى الكاف التي في قوله: كالحجارة،
لان معناها، فهي مثل الحجارة.
والآخر: أن يكون عطفا على تكرير هي، فيكون التقدير فهي كالحجارة
أو هي أشد قسوة من الحجارة.
وقرئ بنصب الدال شاذا فيكون نصبه على أن موضعه الجر بالكاف وإنما
نصب على أنه وزن افعل لا ينصرف.
وقوله: " وان من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ".
المعنى:
معناه ان من الحجارة ما هو انفع من قلوبهم الفاسية، يتفجر منها انهار، وان
منها لما يهبط من خشية الله، والتقدير ان من الحجارة حجارة يتفجر منها انهار الماء
فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. وكرر قوله منه للفظ ما.
اللغة:
والتفجر: التفعل من فجر الماء: وذلك إذا نزل خارجا من منبعه وكل سائل
308

شخص خارجا من موضعه، ومكانه فقد انفجر. ماء كان أو دماء أو حديد أو غير ذلك.
قال عمر بن لحاء:
ولما أن قربت إلى جوير * أبى ذو بطنه إلا انفجار (1)
يعني خروجا وسيلانا.
وقوله: " وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء " تشقق الحجارة انصداعها
واصله يتشقق، لكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة. وقوله: " فيخرج
منه الماء ".
المعنى:
يعني فيخرج منه الماء فيكون عينا نابعة لا انها جارية حتى يكون مخالفا
للأول. وقال الحسين بن علي المغربي: الحجارة الأولى حجارة الجبال تخرج منها
الأنهار. والثانية حجر موسى الذي ضربه فانفجر منه عيون، فلا يكون تكرارا.
وقوله: " وان منها لما يهبط من خشية الله ". قال أبو علي والمغربي: معناه
بخشية الله، كما قال: يحفظونه من امر الله اي بأمر الله. قال وهي حجارة الصواعق
والبرد. والكناية في قوله منها قيل فيها قولان:
أحدهما: انها ترجع إلى الحجارة، لأنها أقرب مذكور. وقال قوم: انها
ترجع إلى القلوب لا إلى الحجارة. فيلون معنى الكلام. وان من القلوب لما يخضع
من خشية الله، ذكره ابن بحر وهو أحسن من الأول. ومن قال بالأول اختلفوا
فيه. فمنهم من قال: إن المراد بالحجارة الهابطة البرد النازل من السحاب. وهذا شاذ،
لم يذكره غير أبي علي الجبائي. وقال الأكثر إن المراد بذلك الحجارة الصلبة،
لأنها أشد صلابة. وقالوا في هبوطها وجوها:
أحدها - ان هبوط ما يهبط من خشية الله تفيئ ظلاله.
وثانيها انه الجبل الذي صار دكا تجلى له ربه.

(1) طبقات فحول الشعراء 369. والأغاني 8. 72 وروايته الا " انحدارا "
" وذو بطنه " كناية عما يشمأز من ذكره.
309

وثالثها - قاله مجاهد: إن كل حجر تردى من رأس جبل فهو من خشية الله
ورابعها - ان الله تعالى اعطى بعض الجبال المعرفة، فعقل طاعة الله تعالى،
فاطاعه كالذي روي في حنين الجذع. وما روي عن النبي " ص " أنه قال: إن حجرا
كان يسلم علي في الجاهلية إني لا اعرفه الآن.
وهذا الوجه فيه ضعف، لان الجبل إن كان جمادا، فمحال أن يكون فيه
معرفة الله. وإن كان عارفا بالله وبنيته بنية الحي فإنه لا يكون جبلا. وأما الخبر عن
النبي (ع) فهو خبر واحد. ولو صح، لكان معناه ان الله تعالى أحيا الحجر فسلم
على النبي " ص " ويكون ذلك معجزا له " ع ". واما حنين الجذع فان الله تعالى خلق
فيه الحنين، فكان بذلك خارقا للعادة، لأنه إذا استند إليه النبي " ص " سكن وإذا
تنحى عنه، حن. وقال قوم: يجوز أن يكون الله تعالى بنى داخله بنية حي، فصح
منه الحنين وقال قوم: معنى " يهبط من خشية الله " إنه يوجب الخشية لغيره
بدلالته على صانعه. كما قيل ناقة تاجرة. إذا كانت من نجابتها وفراهتها، تدعو
الناس إلى الرغبة فيها: كما قال جرير بن عطية:
واعور من نبهان اما نهاره * فأعمى، واما ليله فبصير (1)
فجعل الصفة لليل والنهار. وهو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من
اجل انه كان فيهما على ما وصفه به. والذي يقوى في نفسي ان معنى الآية الإبانة
عن قساوة قلوب الكفار، وان الحجارة ألين منها، لو كانت تلين لشئ، للانت
وتفجرت منها الأنهار، وتشققت منها المياه، وهبطت من خشية الله. وهذه القلوب
لا تلين مع مشاهدتها الآيات التي شاهدتها بنو إسرائيل: وجرى ذلك مجرى ما يقوله
تعالى: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " (2)
ومعناه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، وكانت الجبال ما تخشع لشئ ما، لرأيته
خاشعا متصدعا وكقوله تعالى: " ولو أن قرأنا سيرت به الجبال أو قطعت به
الأرض " (3) إلى آخرها سواء. وأدخلت هذه اللامات فيها تأكيدا للخبر.

(1) ديوانه: 206
(2) سورة الحشر آية: 21.
(3) سورة الرعد آية: 33.
310

ويجوز في قوله " فهي كالحجارة " اسكان الهاء وقد قرئ به، لان الفاء
مع الهاء قد جعلت الكلمة بمنزلة تخذ فتحذف الكسرة استثقالا.
المعنى:
والمعنى في الآية: انه تعالى لما اخبر عن بني إسرائيل وما أنعم عليهم به، واراهم
من الآيات، وغير ذلك، فقال مخبرا عن عصيانهم، وطغيانهم " ثم قست قلوبكم
من بعد ذلك فهي كالحجارة، أو أشد قسوة " ثم اخبر تعالى انه لا امتناع عند
الحجارة مما يحدث فيها من امره، وان كانت قاسية، بل هي متصرفة على مراده
لا يعدم شئ مما قدر فيها. وبنو إسرائيل مع كثرة نعمه عليهم وكثرة ما أراهم
من الآيات، يمتنعون من طاعته، ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه، بل تقسو وتمتنع
من ذلك. وقوله: " وإن منها لما يهبط من خشية الله " أي عندما يحدث فيها من
الآية الهائلة: كالزلازل وغيرها، وأضاف الخشية إلى الحجارة. وان كانت جمادا
على مجاز اللغة والتشبيه. والمعنى في خشوع الحجارة انه يظهر فيها ما لو ظهر في حي
مختار قادر، لكان بذلك خاشعا. وهو ما يرى من حالها. وانها منصرفة لامتناع
عندها مما يراد بها. وهو كقوله: " جدارا يريد ان ينقض " (1) لان ما ظهر
فيه من الميلان، لو ظهر من حي لدل على أنه يريد أن ينقض، ليس ان الجدار يريد
شيئا في الحقيقة، ومثله " وإن من شئ الا يسبح بحمده " (2) وقوله: " ولله
يسجد من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر
والدواب وكثير من الناس " (3) وقوله: " والنجم والشجر يسجدان " (4) وقال
زيد الخيل:
بجمع تظل البلق في حجراته * ترى الا كم فيه سجدا للحوافر (5)
فجعل ما ظهر في الاكم من آثار الحوافر، وقلة امتناعها عليها، مدافعتها لها
كما يدافع الحجر الصلب الحديد الصلب سجودا لها، ولو أن الاكم كانت في صلابة

(1) سورة الكهف آية 78
(2) سورة الاسرى آية 44
(3) سورة الحج آية 18
(4) سورة الرحمان آية 6
(5) زيد الخيل بن مهلهل الطائي الفارس المشهور.
والبلق جمع أبلق وبلقاء: الفرس المحجلة. والحجرات جمع حجرة: الناحية والباء " بجمع "
متعلقة ببيت سابق، هو:
بني عامر تعرفون إذا غدا * أبو مكنف قد شد عقد الدوابر
311

الحديد حتى يمتنع من الحوافر، ولا تؤثر فيها، ولا تذهب يمينا ولا شمالا، ولا
تظاهر بكثرة تزداد الحوافر عليها، ما جاز ان يقال: انها تسجد للحوافر. وقال
ابن حمزة:
وعرفت من شرفات مسجدها * حجرين طال عليهما القصر
ركب الخلاء فقلت إذ بكيا * ما بعد مثل بكاهما صبر
وقال جرير:
لما اتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع
فصيرها متواضعة. والعرب يفهم بعضها مراد بعض بهذه الأشياء. فمن تعلق
بشئ من هذا ليطعن به، فإنما يطعن على لغة العرب بل على لغة نفسه من أهل أي
لغة كان. فان هذا موجود متعارف في كل لغة، وعند كل جيل.
وقوله: " وما الله بغافل عما تعملون " من قرأ بالتاء، قال: الخطاب متوجه
إلى بني إسرائيل فكأنه قال: وما الله بغافل يا معشر المكذبين بآياته والجاحدين بنبوة
محمد " ص " عما تعملون. ومن قرأ بالتاء فكان الخطاب لغيرهم والكناية عنهم.
والغفلة عن الشئ تركه على وجه السهو والنسيان فأخبرهم الله تعالى انه غير غافل عن
اعمالهم السيئة ولاساه عنها.
قوله تعالى:
" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون
كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون " (75) آية
بلا خلاف.
المعنى:
الألف في قوله أفتطمعون ألف استفهام والمراد به الانكار، كقوله:
312

" ألم يأتكم نذير قالوا بلى " (1) فإذا كان في الأول نفيا، كان الجواب بلى وإذا
لم يكن نفيا كان الجواب لا. وهذا خطاب لامة النبي " ص " فكأنه قال: أفتطمعون
أيها المؤمنون أن يؤمنوا لكم من طريق النظر والاعتبار، ونفي التشبيه، والانقياد للحق
وقد كان فريق منهم: أي ممن هو في مثل حالهم من اسلافهم يسمعون كلام الله ثم
يعلمون انه الحق، ويعاندون فيحرفونه ويتأولونه، على غير تأويله.
وقوله: " وقد كان فريق منهم " والفريق جمع كالطائفة لا واحد له من لفظه
وهو فعيل من الفرق سمي به الجمع كما سميت الجماعة بالحزب من التحزب قال أعشى بن تغلبة:
اخذوا فلما خفت ان يتفرقوا * فريقين منهم مصعد ومصوب (2)
وقوله: " منهم " يعني من بني إسرائيل، وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى
ومن بعد: من بني إسرائيل من اليهود الذين قال الله تعالى لأصحاب محمد " ص "
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، لأنهم كانوا آباؤهم واسلافهم، فجعلهم منهم إذ كانوا
عشائرهم وفرقهم واسلافهم.
وقوله: " يسمعون كلام الله " قال قوم منهم مجاهد والسدي: إنهم علماء
اليهود يحرفون التوراة، فيجعلون الحلال حراما والحرام حلالا ابتغاء لأهوائهم
وإعانة لمن يرشوهم. وقال ابن عباس والربيع وابن إسحاق والبلخي: انهم الذين
اختارهم موسى من قومه، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا امره، وحرفوا القول في اخبارهم
لقومهم حتى رجعوا إليهم وهم يعلمون انهم قد حرفوا. وهذا أقوى التأويلين، لأنه
تعالى اخبر عنهم بأنهم يسمعون كلام الله والذين سمعوا كلام الله. بلا واسطة هم الذين
كانوا مع موسى. فاما هؤلاء فإنما سمعوا ما يضاف إلى كلامه بضرب من العرف
دون حقيقة الوضع. ومن قال بهذا. قال: هم الذين سمعوا كلام الله الذي أوحى الله
إلى موسى. وقال قوم هو التوراة التي علمها علماء اليهود.
وقوله: " ومن بعد ما عقلوه وهم يعلمون ". قيل فيه وجهان:
أحدهما - وهم يعلمون انهم يحرفونه.

(1) سورة الملك: آية 8 و 9
(2) ديوانه. أجد السير: انكمش فيه واسرع. مصعد: مبتدئ
في الصعود إلى نجف والحجاز. ومصوب: منحدر في رجوعه إلى العراق.
313

والثاني - من بعد ما تحققوه وهم يعلمون ما في تحريفه من العقاب. والذي
يليق بمذهبنا في الموافاة أن نقول: ان معناه وهم يعلمون انهم يحرفونه. فان قيل
فلماذا اخبر الله عن قوم بأنهم حرفوا وفعلوا ما فعلوا من المعاندة ما يجب أن يؤيس
من ايمان من هو في هذا الوقت، وأي علقة بين الموضوعين والحالين؟ قيل: ليس
كلما يطمع فيه يؤيس منه على وجه الاستيقان بأنه لا يكون، لان الواحد من افناء
العامة (1) لا يطمع ان يصير ملكا. ومع ذلك لا يمكن القطع على كل حال ان ذلك لا يكون
ابدا. ولكن لا يطمع فيه لبعده، والله تعالى نفى عنهم الطمع ولم يؤيسهم على القطع
والثبات وإنما لم يطمع فيهم لبعد ذلك من الوهم منهم مع أحوالهم التي كانوا عليها.
وشبههم بأسلافهم المعاندين، وقد كانوا قادرين على أن يؤمنوا وكان ذلك منه
جائزا. وهؤلاء الذين عاندوا - وهم يعلمون - كان قليلا عددهم، يجوز على مثلهم
التواطؤ والاتفاق وكتمان الحق، وإنما يمتنع ذلك في الجمع العظيم والخلق الكثير،
لامر يرجع إلى اختلاف الدواعي. فأما على وجه التواطؤ والعمد فلا يمتنع فيهم
أيضا، فيبطل بذلك قول من نسب فريقا إلى المعاندة دون جميعهم وان كانوا
بأجمعهم كفارا.
قوله تعالى:
" وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى
بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم
أفلا تعقلون ". (76) آية.
هذه الآية فيها اخبار عمن رفع الله الطمع في ايمانهم من يهود بني إسرائيل
الذين كانوا بين أظهرهم فقال: أفتطمعون أيها المؤمنون ان يؤمنوا لكم، وهم القوم
الذين كان فريق منهم يسمعون كلام، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون،
وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا: أي صدقنا بمحمد صلى الله عليه وآله وبما صدقتم به
وأقررنا بذلك. فأخبر الله بأنهم تخلقوا باخلاق المنافقين وسلكوا منهاجهم. " وإذا

(1) اي لا يعلم ممن هو
314

خلا بعضهم إلى بعض ": أي إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم،
إلى بعض منهم فصاروا في خلاء الناس، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم، قالوا
- يعني بعضهم لبعض -: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم. وقال ابن عباس بما فتح الله عليكم
أي بما ألزمكم الله به. فيقول له آخرون إنما نستهزئ بهم ونضحك. وروى سعيد
ابن جبير عن ابن عباس ان معناه قالوا لا تحدثوا العرب بهذا. فإنكم قد كنتم
تستفتحون به عليهم. فأنزل الله هذه الآية: أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم انه قد
اخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبركم بأنه النبي الذي كنا ننتظره ونجده في
كتابنا. اجحدوه ولا تقروا به لهم. فقال الله تعالى: " أو لا يعلمون ان الله يعلم
ما يسرون وما يعلنون " (1)
وقال أبو العالية: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم: اي بما أنزله في كتابكم من
بعث محمد صلى الله عليه وآله وبه قال قتادة وقال مجاهد: ذلك قول يهود بني قريظة حين
سبهم النبي صلى الله عليه وآله بأنهم اخوة القردة والخنازير. قالوا من حدثك بهذا - حين ارسل
إليهم عليا (ع) فأذوا محمدا صلى الله عليه وآله - فقال: يا اخوة القردة والخنازير قال بعضهم
لبعض: ما اخبره بهذا إلا منكم أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، ليكون لهم حجة
عليكم؟ وقال السدي: هؤلاء ناس آمنوا من اليهود ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين
من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب
ليحاجوكم به، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم عليه منكم؟ ومثله روي عن
أبي جعفر " ع " واصل الباب الفتح في لغة العرب: القضاء والنصرة والحكم.
يقال اللهم افتح بيني وبين فلان: أي احكم بيني وبينه، ومنه قوله تعالى:
" ويقولون متى هذا الفتح " (2) يعني هذا القضاء فقال تعالى: " قل يوم الفتح (3)
يعني يوم القضاء. وقال الشاعر:
ألا أبلغ بني عصم رسولا * فاني عن فتاحتكم غني (4)

(1) سورة البقرة آية 77
(2) سورة آلم السجدة آية 28.
(3) سورة آلم السجدة آية 29
(4) ينسب للأشعري الجعفي ومحمد بن حمران بن أبي حمران. أمالي القالي: 281. اللسان:
" فتح " وبنو عصم هم رهط عمرو بن معديكرب الزبيدي.
315

ويقال للقاضي الفتاح قال الله تعالى: " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق
وأنت خير الفاتحين " (1) يعني احكم به. ويقال فتح بمعنى علم، فقال افتح على هذا
أي اعلمني بما عندك فيه. وإذا كان معنى الفتح ما وصف فقد بان ان معنى الآية.
أتحدثونهم بما حكم الله عليكم وقضاه فيكم، ومن حكمه ما أخذ به ميثاقهم من الايمان
بمحمد " ص " بما بينه في التوراة ومن قضائه انه جعل منهم القردة والخنازير. فإذا
ثبت ذلك، فان أقوى التأويلات: قول من قال: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من
بعث محمد " ص " وصفته في التوراة، وانه رسول الله " ص " إلى خلقه.
وروي عن أبي جعفر " ع " أنه قال: كان قوم من اليهود ليسوا بالمعاندين
المتواطئين، إذا لقوا المسلمين، حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد " ص " فنهاهم
كبراؤهم عن ذلك، وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد " ص " فيحاجوكم
به عند ربكم، فنزلت الآية.
ومعنى قوله: " أفلا تعقلون " أفلا تفهمون أيها القوم أن اخباركم محمد " ص "
وأصحابه، بما تحدثونهم به واقراركم لهم بما تقرون لهم من وجودكم بعث محمد
في كتبكم وانه نبي مبعوث حجة عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم. وقال أبو عبيدة
" بما فتح الله عليكم " أي بما من عليكم وأعطاكم ليحاجوكم به. وقال الحسن:
في قوله " ليحاجوكم به عند ربكم " أي في ربكم فيكونوا أولى منكم إذا كانت
حجتهم عليكم. قال الحسن: ثم رجع إلى المؤمنين فقال: " أفلا تعقلون " أيها المؤمنون
فلا تطمعوا في ذلك. قوله تعالى:
" أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون "
(77) آية بلا خلاف.
المعنى:
معناه: أولا يعلمون ان الله يعلم سرهم وعلانيتهم، فكيف يستخيرون أن

(1) سورة الأعراف آية: 89.
316

يسروا إلى اخوانهم النهي عن التحدث بما هو الحق وليسوا كسائر المنافقين، وان
كانوا يسرون الكفر فإنهم غير عالمين بان الله يعلم سرهم وجهرهم، لأنهم جاحدون له.
وهؤلاء مقرون. فهم من هذه الجهة ألوم واعجب شأنا وأشد جزاء. وقال قتادة في
" أولا يعلمون ان الله يعلم ما يسرون " من كفرهم وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وآله إذا خلا
بعضهم إلى بعض. " وما يعلنون " إذا لقوا أصحاب محمد " ص " قالوا آمنا يغرونهم
بذلك. ومثله روي عن أبي العالية.
قوله تعالى: "
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " (78) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ أبو جعفر المدني: أماني مخففا والباقون بالتشديد.
المعنى:
قوله: " ومنهم " يعني هؤلاء اليهود الذين قص الله قصتهم في هذه الآيات
وقطع الطمع في ايمانهم. وقال أكثر المفسرين: سموا أميين، لأنهم لا يحسنون
الكتابة، ولا القراءة. يقال منه: رجل أمي بين الأمية. ومنه قوله " ع " أما أمة
أميون لا يكتب ولا يحسب وإنما سمي من لا يحسن الكتابة أميا لاحد أمور. قال
قوم: هو مأخوذ من الأمة أي هو على أصل ما عليه الأمة من أنه لا يكتب. لا
يستفيد الكتابة بعد إذ لم يكن يكتب
الثاني - ان الأمة: الخلقة. فسمي أميا لأنه باق على خلقته. ومنه قول الأعشى:
وان معاوية الأكرمين * حسان الوجوه طوال الأمم (1)
والثالث - انه مأخوذ من الام. وإنما اخذ منه، لاحد أمرين:
أحدهما - لأنه على ما ولدته أمه من أنه لا يكتب.

(1) اللسان " أمم " الأمم جمع أمة يريد طوال القامات. في المخطوطة والمطبوعة " معونة "
بدل " معاوية ".
317

والثاني - نسب إلى أمه، لان الكتابة كانت في الرجال دون النساء فنسب من لا يكتب من الرجال إلى أمه، لجهلها دون أبيه. وقال أبو عبيدة الأميون هم
الأمم الذين لم ينزل عليهم كتاب. والنبي الأمي: الذي لا يكتب، وانشد لتبع:
له أمة سميت بالزبور * أمية هي خير الأمم
وروي عن ابن عباس: ان الأميين قوم لم يصدقوا رسولا ارسله الله عز وجل
ولا كتابا أنزله، وكتبوا كتابا بأيديهم، وقالوا: لقوم جهال هذا من عند الله.
وقال: قد اخبر انهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميون لجحودهم كتاب الله عز وجل
ورسله. والوجه الأول أوضح في اللغة. وهذا الوجه مليح لقوله في الآية الثانية
" فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " فأثبت انهم يكتبون ومن قال بالأول
يحتاج، ان يجعل هذا مستأنفا لغير من تقدم ذكره، أو لبعضهم.
وقوله: " لا يعلمون الكتاب " أي لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله
عز وجل، ولا يدرون ما أودعه من حدوده وأحكامه وفرائضه، كهيئة البهائم.
وإنما هم مقلدة لا يعرفون ما يقولون. والكتاب المعني به التوراة. وإنما ادخل
عليه لام التعريف، لأنه قصد به قصد كتاب معروف بعينه. ومعنى الآية فريق
لا يكتبون ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه، والذي هو عندكم، وهم
ينتحلونه، ويدعون الاقرار به من احكام الله عز وجل وفرائضه وما فيه من حدوده
التي بينها فيه إلا أماني.
قال ابن عباس ومجاهد إلا قولا يقولون بأفواههم كذبا. وقال قتادة الأماني
انهم يتمنون على الله ما ليس لهم. وقال آخرون: الأماني أحاديث. وقال الكسائي
والفراء وغيرهما: معناه إلا تلاوة، وهو المحكي عن أبي عبيدة على ما رواه عنه
عبد الملك بن هشام، وكان ثقة. وضعف هذا الوجه الحسين بن علي المغربي، وقال
هذا لا يعرف في اللغة. ومن صححه استدل بقوله تعالى: " إذا القى تمنى الشيطان في
أمنيته " (1). قال كعب بن مالك:

(1) سورة الحج آية 52
318

تمنى كتاب الله أول ليلة * واخره لا في حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله بالليل خاليا * تمني داود الزبور على رسل
وقال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني: الأماني التقدير. قال الشاعر:
ولا تقولن لشئ سوف افعله * حتى يبين ما يمني لك ألماني
أي ما يقدر لك المقدر " وإلا " هاهنا استثناء منقطع. ومعناه لكن أماني
وكل موضوع يعلم أن ما بعد إلا خارج عن الأول فهو بمعنى لكن، كقوله " ما لهم
به من علم إلا اتباع الظن " وكقولهم ما في الدار واحد إلا حمارا، والا وتدا
قال الشاعر:
ليس بيني وبين قيس عتاب * غير طعن الكلى وضرب الرقاب (1)
وقال آخر:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية * ولا علم إلا حسن ظن بصاحب (2)
معناه لكن حسن ظني بصاحبي. ومثله (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا
خطأ) (3). ومثله (لا عاصم اليوم من امر الله إلا من رحم) (4). ولولا ولوما
وهلا وإلا الثقيلة بمعنى واحد قال الشاعر:
تعدون عقر النيب افخر مجدكم * بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا (5)
يعني هلا. وقال آخر:
اتيت بعبد الله في القيد موثقا * فهلا سعيدا ذا الجناية والعذر

(1) قائله: عمر وبن الأيهم التغلبي، وقيل اسمه: عمر وقيل هو أعشى تغلب.
(2) قائله: نابغة بني ذبيان. ديوانه. مثنوية: استثناء
(3) سورة النساء اية 91.
(4) سوره هود آية 43.
(5) قائله: جرير، من قصيدة يهجو بها الفرزدق. عقر الناقة: ضرب قوائمها. النيب ج
ناب: الناقة المسنة. ضوطرى: الرجل الضخم اللئيم. والضوطرى: الامرأة الحمقاء. الكمي: الشجاع
319

ثم قال آخر:
وما شيخوني غير اني ابن غالب * واني من الاثرين عند الزغايف
واحدهم زغيف: وهو التابع. وكل موضوع حسن ان يوضع فيه مكان إلا
(لكن) فاعلم أنه مكان استثناء منقطع. ولو قيل هاهنا ومنهم أميون لا يعلمون
الكتاب لكن يتمنون لكان صحيحا.
والأماني واحدها أمنية مثقل ومن خفف الياء قال، لان الجمع يكون على غير
واحده بنقصان أو زيادة. والأماني كلهم يخففونها لكثرة الاستعمال، وكذلك
الأضاحي. وأولى التأويلات قول ابن عباس ومجاهد: من أن الأميين الذين وصفهم
الله بما وصفهم به في هذه الآية، وانهم لا يفقهون من الكتاب الذي انزل إليه على
موسى شيئا لكنهم متخرصون الكذب. ويقولون: الباطل. والتمني في الموضوع
تخلق الكذب وتخرصه. يقال منه تمنيت إذا افتعلته وتخلقته. ومنه ما روي عن
بعض الصحابة أنه قال: ما تعنيت ولا تمنيت أي ما تخرصت الباطل، ولا تخلقت
الكذب والافك، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية: (وان هم إلا يظنون) فبين
أنهم يتمنون ما يتمنون من الكذب ظنا لا يقينا، ولو كان المعنى انهم يتلونه لما
كانوا ظانين وكذلك لو كانوا يتمنونه، لان الذي يتلوه إذا تدبر علمه، ولا يقال
فيمن يقرأ كتابا لم يتدبره، وتركه انه ظان لما يتلوه إلا أن يكون شاكا فيما يتلوه
ولا يدري أحق هو أم باطل، ولم يكن القوم الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وآله من اليهود
شاكين في التوراة انها من عند الله، وكذلك التمني. لا يجوز ان يقال: هو
ظان بتمنيه، لان التمني من المتمني إذا وجد لا يقال فيه شاك فيما هو عالم به،
لأنه ينافي العلم. والمتمني في حال وجود تمنيه لا يجوز ان يقال هو يظن تمنيه.
وقوله: (وان هم إلا يظنون) قال جميع المفسرين معناه يشكون. والذي أقوله
ان المراد بذلك نفي العلم عنهم، وقد ينتفي العلم تارة بالشك وتارة بالظن. واما في
الحقيقة فالظن غير الشك، غير أن المعنى متفق عليه هاهنا.
320

قوله تعالى:
" فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون
هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت
أيديهم وويل لهم مما يكسبون " (79) آية بلا خلاف.
اللغة والاعراب:
قال الزجاج: الويل كلمة يستعملها كل واقع في هلكة. واصله في اللغة العذاب
والهلاك وارتفع بالابتداء، وخبره الذين. ولو كان في غير القرآن، لجاز بالنصب
على معنى جعل الله ويلا للذين. والرفع على معنى ثبوت الويل للذين، ومثله الويح والويس
إذا كان بعدهن لام رفعتهن. واما التعس والبعد وما أشبههما فهو نصب ابدا. فان
أضفت ويل وويح وويس نصب من غير تنوين. تقول ويل زيد وويس زيد. ولا
يحسن في التعس والبعد الإضافة بغير لام فلذلك لم ترفع. وقد نصب قوم مع اللام
فيقولون ويلا لزيد، ويحا لخالد. قال الشاعر:
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها * فويلا لتيم من سرابيلها الخضر (1)
المعنى:
قال ابن عباس: " الويل " في الآية العذاب. وقال الأصمعي هو التقبيح.
ومنه قوله: " ولكم الويل مما تصفون ". وقال المفضل: معناه الحزن. وقال قوم:
هو الهوان والخزي، ومنه قول الشاعر:
يا زبرقان أخا بني خلف * ما أنت ويل أبيك والفخر (2)
وقال أبو سعيد الخدري: الويل واد في جهنم. وقال عثمان بن عفان: هو
جبل في النار.

(1) قائله جرير. اللسان: (ويل)
(2) البيت للمخبل اللسان: (ويل) وروايته
(ويب) بدل (وبل). ومعنى ويب: التصغير والتحقير.
321

وقوله: " يكتبون الكتاب بأيديهم " معناه انهم يقولون كتبته، ثم يضيفونه
إلى الله، كقوله " خلقت بيدي " (1) " وعملت أيدينا " (2) أي نحن تولينا ذلك
ولم نكله إلى أحد من عبادنا. ومثله رأيته بعيني وسمعته باذني ولفيته بنفسي. والمعنى
في جميع ذلك التأكيد، ولأنه قد يأمر غيره بالكتابة، فتضاف إليه مجازا. فلذلك
يقول الأمي كتبت إلى آل فلان بكذا، وهذا كتابي إليك، وكما تقول: حملت إلى
بلد كذا. وإنما أمرت بحمله. فاعلمنا الله تعالى انهم يكتبونه بأيديهم، ويقولون
هو من عند الله، وقد علموا يقينا إذا كتبوه بأيديهم انه ليس من عند الله. وفي
الآية دلالة على ابطال قول المجبرة، لأنه تعالى عابهم بهذا القول، إذ نسبوا ما كتبوه
من التحريف إلى أنه من عند الله، وجعل عليهم الويل. وإذا كان تحريفه من الكتاب
- ليس من عند الله، من جهة القول والحكم - فليس ذلك منه من جهة القضاء والحكم
ولا التقدير والمشيئة.
وقال ابن السراج: معنى " بأيديهم " أي من تلقاء أنفسهم.
وقوله " ليشتروا به ثمنا قليلا ". قال قوم: أي انه عرض الدنيا لأنه قليل
المدة، كما قال تعالى: " قل متاع الدنيا قليل " (3) ذهب إليه أبو العالية. وقال
آخرون: إنه قليل لأنه حرام.
وروي عن أبي جعفر (ع)، وذكره أيضا جماعة من أهل التأويل أن أحبار
اليهود كانت غيرت صفة النبي صلى الله عليه وآله ليوقعوا الشك للمستضعفين من اليهود.
وقوله: " ويل لهم مما كانوا يكسبون " يقولون مما يأكلون به الناس السفلة
وغيرهم. واصل الكسب العمل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر، وكل عامل
عملا بمباشرة منه لما عمل. ومعناه هاهنا الاحتراف فهو كاسب لما عمل. قال لبيد
ابن ربيعة:
لمغفر قهد تنازع شلوه * غبس كواسب لا يمن طعامها (4)

(1) سورة ص: آية 75.
(2) سورة يس: آية 71.
(3) سورة النساء: آية 76.
(4) معلقته. اللسان: (عفر) في المخطوطة والمطبوعة (بمعفر فهد) بدل (لمعفر قهد)
وفي المطبوعة (غبش) بدل (غبس). والمعفر: الذي القي في العفر، وهو التراب. والقهد
: ولد البقر. والشلو: العضو من اللحم. وغبس: غبر ولا يمن طعامها: تكسب طعامها
بنفسها.
322

وقيل الكسب عبارة عن كل عمل بجارحة يجتلب به نفع، أو يدفع به مضرة
ومنه قيل للجوارح من الطير: كواسب.
قوله تعالى:
" وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند
الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا
تعلمون " (80) آية بلا خلاف.
المعنى:
قوله: " وقالوا " يعني اليهود الذين قالوا لن تمسنا النار، ولن ندخلها إلا
أياما معدودة. وإنما لم يبين عددها في التنزيل، لأنه تعالى اخبر عنهم بذلك، وهم
عارفون بعدد الأيام التي يوقتونها في النار، فلذلك نزل تسمية عدد الأيام، وسماها
معدودة، لما وصفنا.
وقال أبو العالية وعكرمة والسدي وقتادة: هي أربعون يوما. ورواه الضحاك
عن ابن عباس. ومنهم قال: انها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل.
وقال ابن عباس: إن اليهود تزعم أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا ان ما بين
طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، وهم يقطعون مسيرة كل سنة في يوم واحد، فإذا
انقطع المسير، انقطع العذاب وهلكت النار. وقال مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن
عباس: إنها سبعة أيام، لان عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وانهم يعذبون بعدد كل
ألف سنة يوما واحدا من أيام الآخرة، وهو كألف سنة من أيام الدنيا. ولما قالت
اليهود ما قالت من قولها: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة على ما بيناه، قال الله
تعالى لنبيه: " قل اتخذتم عند الله عهدا " بما تقولون من ذلك أو ميثاقا، فالله
323

لا ينقض عهده " أم تقولون على الله ما لا تعلمون " من الباطل جهلا وجراءة عليه
القراءة:
وفي القراء من قرأ " أوتخذتم " بادغام الذال في التاء. ومنهم من لم يدغم.
واصل أتخذتم أأتخذتم. دخلت ألف الاستفهام على ألف القطع من نفس الكلمة، فكره
اجتماعهما فحذفت الأصلية، وبقيت التي للاستفهام، لأنها لمعنى - وهي وان كانت
للاستفهام في الأصل - فالمراد بها هاهنا النكير، والتوبيخ، والاعلام لهم ولغيرهم
أن الامر بخلاف ما قالوه، وانهم يقولون بغير علم. والدليل على أنها ألف استفهام
كونها مفتوحة. ولو كانت أصلية لكانت مكسورة في اتخذتم، ولذلك يدخل
بينهما المد كما قالوا في " آلله اذن لكم " (1)، لان قوله: " اذن الله " لو اخبر بها
لكانت مفتوحة. ولو لم تدخل المدة لاشتبهت ألف الاستفهام بهمزة الخبر، وليس
كذلك هاهنا، لان الفتحة تختص للاستفهام وفي الخبر تكون مكسورة. وفي
المفتوحتين لابد من الجمع بين الهمزتين. ومنهم من يفصل بينهما بمدة. ومنهم من
لا يفصل، نحو قوله " أأمنتم من في السماء " (2)
قوله تعالى:
" بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون " (81) آية بلا خلاف.
الاعراب والقراءة:
قرأ أهل المدينة خطيئاته على الجمع. الباقون على التوحيد.
قوله " بلى " جواب لقوله: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " فرد الله
عليهم بأن قال: " بلى من أحاطت به خطيئته " ابدا. وبلى تكون جوابا للاستفهام
الذي أوله جحود. وتكون جوابا للجحد وان لم تكن استفهاما، كقوله: " تقول

(1) سورة يونس: آية 59.
(2) سورة الملك: آية 16.
324

حين ترى العذاب " إلى قوله " بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها " (1). ويقول
القائل لم افعل كذا وكذا فيقول له غيره: بلى قد فعلت. بلى ونعم جوابان:
أحدهما - يدخل فيما لا يدخل فيه الآخر، لان بلى تدخل في باب الجحود.
وقال الفراء: إنما امتنعوا من استعمال نعم في جواب الجحد، لأنه إذا قال لغيره مالك
علي شئ فقال له نعم، فكأنه قد صدقه، وكأنه قال نعم ليس لي عليك شئ، فلهذا
اختلف نعم وبلى.
وقوله: " سيئة " فمن همز اتى بيائين بعدهما همزة. ومن ترك الهمزة على لغة
أهل الحجاز يقول " سية " مثل عية. ومن لين قال " سيئة " كأنه يشير إلى
الهمزة ويسكنها.
المعنى:
قال مجاهد، وابن عباس وأبو وايل، وقتادة وابن جريج: " السيئة " هاهنا
الشرك. وقال السدي: الذنوب التي وعد الله عليها النار. والذي يليق بمذهبنا هاهنا
قول مجاهد، لان ما عدا الشرك لا يستحق عندنا عليه الخلود في النار.
" وأحاطت به خطيئته ". قال ابن عباس ومجاهد انها الشرك. وقال الربيع
ابن خيثم: من مات عليها. وقال ابن السراج: هي التي سدت عليه مسالك النجاة.
وقال جميع المعتزلة: انه إذا كان ثوابه أكثر من عقابه. والذي نقوله: الذي يليق
بمذهبنا ان المراد بذلك الشرك والكفر. لأنه الذي يستحق به الدخول مؤبدا. ولا
يجوز أن يكون مرادا بالآية.
وقوله: " وأحاطت به خطيئته " يقوي ذلك، لان المعنى فيه أن تكون
خطاياه كلها اشتملت عليه ولا يكون معه طاعة يستحق بها الثواب، تشبيها بما أحاط
بالشئ من كل وجه. ولو كان معه شئ من الطاعات، لكان مستحقا للثواب فلا
تكون السيئة محيطة به، لان الاحباط عندنا باطل فلا يحتاج إلى تراعي كثرة

(1) سورة الزمر آية 58، 59.
325

العقاب، وقلة الثواب، لان قليل الثواب عندنا يثبت مع كثرة العقاب، لما ثبت من
بطلان التحايط بأدلة العقل. وليس هذا موضع ذكرها، لان الآية التي بعدها فيها
وعد لأهل الايمان بالثواب الدائم. فكيف يجتمع الثواب الدائم والعقاب الدائم،
وذلك خلاف الاجماع؟ ومتى قالوا أحدهما يبطل صاحبه، قلنا الاحباط باطل ليس
بصحيح على ما مضى.
قوله تعالى:
" والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة
هم فيها خالدون (82) آية.
هذه الآية متناولة (1) لمن آمن بالله وصدق به، وصدق النبي صلى الله عليه وآله وعمل
الصالحات التي أوجبها الله تعالى عليه، فإنه يستحق بها الجنة خالدا ابدا. وظاهرها
يمنع من أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لأنه إذا كان مؤمنا مستحقا للثواب
الدائم، فلا يجوز ان يستحق مع ذلك عقابا دائما، لان ذلك خلاف ما اجمع
المسلمون عليه ومتى عادوا إلى الاحباط، كلموا فيه بينهم وبين بطلان قولهم.
قوله تعالى:
" وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين
إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)
آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: " لا يعبدون " بالياء. الباقون بالتاء.

(1) في المخطوطة والمطبوعة (متأولة) بدل (متناولة).
326

وقرأ " حسنا " بنصب (1) الحاء والسين (2) حمزة والكسائي الباقون " حسنا " بضم
الحاء وإسكان السين وتقدير الآية: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل إذ أخذنا ميثاقكم
لا تعبدون إلا الله، فلما أسقطت ان، رفع. كما قال الشاعر:
ألا ايهذا اللائمي اشهد الوغى * وان اشهد اللذات هل أنت مخلدي (3)
ومثله قوله: " أفغير الله تأمروني اعبد ". ومن قرأ بالياء، تقديره انه اخبر
انه تعالى أخذ ميثاقهم، لا يعبدون إلا الله، وبالوالدين احسانا، ثم عدل إلى خطابهم
فقال: " وقولوا للناس حسنا ". والعرب تفعل ذلك كثيرا. وإنما استخاروا ان
يصيروا إلى المخاطبة بعد الخير، لان الخبر إنما كان عمن خاطبوه بعينه، لا عن غيره.
وقد يخاطبون، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الخبر عن المخاطب. مثال الأول قول الشاعر:
شطت مزار العاشقين فأصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخزم (4)
مزار نصب. والتاء من أصبحت كناية عن المرأة فأخبر عنها ثم خاطبها. ومثال
الثاني قول الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدنيا ولا مقلية ان تقلت (5)
وقال زهير:
فاني لو ألاقيك اجتهدنا * وكان لكل منكره كفاء
وابري موضحات الرأس منه * وقد يبرى من الجرب الهناء
ومن قرأ بالتاء فان الكلام من أوله خطاب.
وتقديره: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، قلنا لا تعبدوا الا الله. قال بعض
النحويين: المعنى وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون الا الله، وبالوالدين

(1) في المخطوطة والمطبوعة هكذا والصحيح بفتح
(2) في المطبوعة " الصواب وبفتح الحاء والسين " زائدة.
(3) قائله طرفه بن العبد البكري ديوانه: 317. من معلقته المشهورة.
وروايته: " الزاجر " بدل " اللائم ". واحضر - في الموضعين - بدل (اشهد).
(4) قائله عنترة بن شداد. اللسان (شطط) وروايته (طلابها) بدل (طلابك) وفي معلقته هكذا: حلت بأرض الزائرين فأصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخرم
(5) قائله كثير عزة، ديوانه 1: 53. قلاه يقليه قلى فهو مقلي: كرهه. وتقلى أي استعمل
من القول أو الفعل ما يدعو إلى بغضه.
327

احسانا، حكاية، كأنه قال استحلفناهم لا يعبدون إلا الله، إذ قلنا لهم: والله لو
قالوا والله لا تعبدون. والأول أجود.
وقوله تعالى: " وبالوالدين احسانا " عطف على موضع أن المحذوفة في
" تعبدون إلا الله وبالوالدين احسانا " فرفع لا تعبدون، لما حذفت أن، ثم عطف
بالوالدين على موضعها: كما قال الشاعر:
معاوي اننا بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا (1)
فعطف (2) ولا الحديد على موضع الجبال. واما الاحسان فمنصوب بفعل
مضمر يؤدى عن معناه، قوله (3) " وبالوالدين " إذ كان مفهوما معناه.
وتقدير الكلام وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وان
تحسنوا إلى الوالدين احسانا. فاكتفى بقوله: " بالوالدين " عن أن يقول بان
تحسنوا إلى الوالدين احسانا، إذ (4) كان مفهوما بما ظهر من الكلام. وقال بعض أهل
العربية: تقديره وبالوالدين فأحسنوا، فجعل الياء التي في الوالدين من صلة الاحسان
مقدمة عليه. وقال آخرون: الا تعبدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين احسانا، فزعموا أن
الباء في وبالوالدين من صلة المحذوف. أعني من أحسنوا. فجعلوا ذلك من كلامين
والاحسان الذي اخذ عليهم الميثاق بان يفعلوه إلى الوالدين ما فرض على امتثالهما
من فعل المعروف، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما،
والرأفة بهما، والدعاء لهما بالخير، وما أشبهه مما ندب الله تعالى إلى الفعل بهما.
وقوله: " ذي القربى " أي وبذي القربى ان تصلوا قرابة منهم، ورحمة.
اللغة:
والقربى مصدر على وزن فعلى من قولك: قرب مني رحم فلان قرابة، وقربى
وقربا بمعنى واحد.

(1) قائله عقيبة بن هبيرة الأسدي، جاهلي اسلامي. الخزانة: 343.
(2) في المطبوعة " فعطت "
(3) في المطبوعة والمخطوطة " وقوله " على ما يظهر ان الناسخ زاد الواو لأنه لم
يفهم معنى الكلام.
(4) في المطبوعة والمخطوطة " إذا " الألف أيضا زيادة من الناسخ.
328

واليتامى جمع يتيم: مثل أسير وأسارى. ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث
المعنى:
ومعنى ذلك: أخذنا ميثاق بني إسرائيل بان لا تعبدوا إلا الله وحده، دون
ما سواه من الأنداد، وبالوالدين احسانا وبذي القربى ان يصلوا رحمه، ويعرفوا
حقه. وباليتامى ان يتعطفوا عليهم بالرأفة، والرحمة، وبالمساكين أن يوفوهم حقوقهم
التي ألزمها الله في أموالهم.
والمسكين هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة وهو مفعيل من المسكنة وهي
ذل الحاجة والفاقة.
وقوله: " وقولوا للناس حسنا " فيه عدول إلى الخطاب بعد الخبر على ما مضى
القول فيه. وقد ذكرنا اختلاف القراء في حسنا وحسنا. واختلف أهل اللغة في
الفرق بينهما فقال بعض البصريين هو (1) على أحد وجهين:
أحدهما - أن يكون أراد بالحسن الحسن. ويكون لمعنيين مثل البخل والبخل
واما أن يكون جعل الحسن هو الحسن في التشبيه، لان الحسن مصدر والحسن
هو الشئ الحسن، فيكون ذلك: كقول القائل: إنما أنت أكل وشرب قال الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل * تحية بينهم ضرب وجيع (2)
فجعل التحية ضربا وقال آخر: بل الحسن هو الاسم العام الجامع جميع معاني
الحسن، والحسن هو البعض من معاني الحسن، ولذلك قال تعالى إذ (3) وصى بالوالدين
" ووصينا الانسان بوالديه حسنا " (4) يعني بذلك انه وصاه بجميع معاني الحسن:
وقرئ في الشواذ: حسنى. لا يقرء بها لشذوذها حكاها الأخفش. وذلك لا يجوز
لان فعلى، وافعل لا يستعمل إلا بالألف واللام. نحو الأحسن والحسنى والأفضل

(1) في المطبوعة والمخطوطة (المصريين) وهو خطأ.
(2) قاله عمرو بن معد يكرب.
الخزانة 4: 54. يقال دلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب: أي تقدمت.
(3) في المطبوعة والمخطوطة (إذا) بزيادة الألف وهو خطأ.
(4) سورة العنكبوت: آية 9
329

والفضلي قال الله تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى " (1) وروي عن أبي جعفر محمد
ابن علي الباقر " ع " وعن عطا انهما قالا: وقولوا للناس حسنا للناس كلهم. وعن
الربيع بن انس قولوا للناس حسنا: أي معروفا. وعن ابن الحنفية أنه قال: " هل جزاء
الاحسان إلا الاحسان " هي مسجلة للبر والفاجر. يريد بمسجلها انها مرسلة. ومنهم
من قال: أمروا بان يقولوا لبنى إسرائيل حسنا. قال ابن عباس يأمرون بألا اله الا
الله، من لم يقبلها ويرغب عنها حتى يقولها: كما قالوها. فان ذلك قربة لهم من
الله قال: والحسن أيضا من لين القول - من الأدب الحسن الجميل - والخلق الكريم
وهو مما ارتضاه (2) الله تعالى وأحبه. وقال ابن جريج: قولوا للناس حسنا: أي
صدقا في شأن محمد " ص " وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر
وقوله: " وأقيموا الصلاة " أدوا بحدودها الواجبة عليكم.
" وآتوا الزكاة " معناه وأعطوها أهلها كما أوجبها عليكم. والزكاة: التي
فرضها الله على بني إسرائيل. قال ابن عباس: كان فرض في أموالهم قربانا تهبط
إليه نار فتحملها. وكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك، كان غير متقبل.
وروي عنه أيضا ان المعني به طاعة الله والاخلاص.
وقوله: " ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون " خبر من الله تعالى عن
يهود بني إسرائيل انهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه بعد ما اخذ ميثاقهم على الوفاء
له، بان لا يعبدوا غيره، وبان يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام،
ويتعطفوا على الأيتام، ويردوا حقوق المساكين، ويأمروا عباد الله بما أمرهم به،
ويقيموا الصلاة بحدودها، ويؤتوا زكاة أموالهم، فخالفوا امره في ذلك كله،
وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده، وميثاقه. ووصف
هؤلاء بأنهم قليل بالإضافة إلى من لم يؤمن. وقال بعضهم: أراد " ثم توليتم إلا قليلا
منكم، وأنتم معرضون ": اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله. وعنى

(1) سورة يونس: آية 26
(2) في المطبوعة " ارتضا " بدون الهاء.
330

بسائر الآية اسلافهم، كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: ثم توليتم إلا قليلا منكم
ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ثم قال: وأنتم معاشر بقاياهم معرضون أيضا عن
الميثاق الذي اخذ عليكم. وقال قوم: يلي قوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم
معرضون) خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجري رسول الله " ص " من يهود بني إسرائيل
، وذم لهم بنقضهم الميثاق، الذي اخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم امر الله
وركوبهم معاصيه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: قوله " وقولوا للناس حسنا " نسخ بقوله:
قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية. وقال آخرون: ليست منسوخة
لكن أمروا بأن يقولوا حسنا في الاحتجاج عليهم، إذا دعوا إلى الايمان، وبين
ذلك لهم. وقال قتادة نسختها آية السيف. الصحيح انها ليست منسوخة، وإنما
امر، الله تعال بالقول الحسن في الدعاء إليه والاحتجاج عليه، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله
" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (1) وبين
في آية أخرى، فقال: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا
بغير علم (2) وليس الامر بالقتال ناسخا لذلك، لان كل واحد منهما ثابت في موضعه
قوله تعالى:
" وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون
أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون " (84) آية بلا خلاف
المعنى:
قد بينا فيما مضى أن الميثاق هو العهد. والمعنى في الآية: واذكروا إذ أخذنا
ميثاق اسلافكم الذين كانوا في زمن موسى، والأنبياء الماضين (ع)، وإنما أضاف
إليهم لما كانوا أخلافا (3) لهم على ما مضى القول فيه. وتقدير الاعراب في هذه

(1) سورة النحل آية: 125
(2) سوره الانعام آية: 108.
(3) هذه عبارة المخطوطة وفي المطبوعة: " كانوا خلافا على ".
331

الآية مثل الآية الأولى سواء.
واما سفك الدم، فإنه صبه واراقته. ومعنى " لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون
أنفسكم من دياركم " النهي عن أن يقتل بعضهم بعضا، وكان في قتل الرجل منهم
قتل نفسه إذا كانت ملتهما واحدة، ودينهما واحد وكان أهل الدين الواحد في ولاية بعضهم
بعضا بمنزلة رجل واحد. كما قال النبي صلى الله عليه وآله: إنما المؤمنون في تعاطفهم وتراحمهم بينهم
بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر. فهذا
قول قتادة وأبي العالية. ويحتمل أن يكون المراد لا يقتل الرجل منكم غيره فيقاد به
قصاصا. فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كالسبب فيه وأضيف قتل الولي إياه
قصاصا إليه بذلك. كما يقال لرجل يعاقب لجناية جناها على نفسه: أنت جنيت على
نفسك. وفيه قول ثالث: وهو ان قوله: " أنفسكم " أراد به اخوانكم، لأنهم
كنفس واحدة.
وقوله: " ثم أقررتم وأنتم تشهدون " اي أقررتم بذلك أيضا، وبذلتموه
من أنفسكم، وأنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق، وما بذلوه من أنفسهم.
فذكر تعالى اقرارهم وشهادتهم، لان اخذ الميثاق كان على اسلافهم - وإن كان لازما
للجميع، لتوكيد الحجة عليهم. - وقال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في بني
قريظة والنضير.
يقول: حرم الله في الكتاب ان تسفكوا دماءكم، اي لا تقتتلوا فيقتل بعضكم
بعضا (1)، ولا تتركوا أسيرا في يد الآسرين ليقتلوه " ولا تخرجوا أنفسكم من
دياركم " معناه لا تغلبوا أحدا على داره، فتخرجوه، فقبلتم ذلك وأقررتم به. وهو
اخذ الميثاق " وأنتم تشهدون " بذلك.
واما النفس فمأخوذة من النفاسة، وهي الجلالة فنفس الانسان أنفس ما فيه. والدار
هي المنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف (2) منزل الارتحال. وقال الخليل: كل

(1) في المخطوطة " لا تقلوا ". وعبارة المطبوعة هكذا: " لا يقتلوا فيقتل بعضكم ولا
تتركوا... ".
(2) في المطبوعة " بجلال ".
332

موضع حل فيه قوم فهو دار لهم - وان لم يكن فيه أبنية. وقيل أيضا: إن معنى
قوله: " ثم أقررتم وأنتم تشهدون " ان اقرارهم هو الرضاء به، والصبر عليه: كما
قال الشاعر:
الست كليبيا إذ سيم خطة * أقر كاقرار الحليلة للبعل
وقوله: " وأنتم تشهدون " يحتمل أمرين:
أحدهما - وأنتم تشهدون على أنفسكم بالاقرار.
والثاني - وأنتم تحضرون دماءكم. ويخرجون أنفسكم من دياركم.
وحكي عن ابن عباس أنه قال: ذلك خطاب من الله تعالى لليهود الذين كانوا
بين ظهراني مهاجري رسول الله صلى الله عليه وآله أيام هجرته إليهم موبخا لهم على تضييعهم احكام
ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها. فقال الله تعالى لهم: " ثم أقررتم "
يعني بذلك أقر أو لكم وسلفكم وأنتم تشهدون على اقرارهم، باخذ الميثاق عليهم بان
لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ويصدقوا بان ذلك حق من ميثاقي
عليكم. وقال أبو العالية: ذلك خبر من الله عن أوائلهم. ولكنه اخرج الخبر
مخرج المخاطبة عنهم على النحو الذي وصفناه في سائر الآيات. " وأنتم تشهدون "
اي وأنتم شهود.
قوله تعالى:
" ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا
منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم
أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض
الكتاب، وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم
إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب
وما الله بغافل عما تعملون " (85) آية بلا خلاف.
333

القراءة:
قرأ أهل الكوفة تظاهرون هاهنا، وفي التحريم بتخفيف الظاء. الباقون
بالتشديد فيهما. وقرأ حمزة " أسرى " بفتح الهمزة، وسكون السين بغير الف بعدها. وقرأ
أهل المدينة، وعاصم، والكسائي ويعقوب (تفادوهم) بضم التاء وبألف.
وقوله " ثم أنتم هؤلاء " يحتمل وجهين:
أحدهما - أن يكون أريد به ثم أنتم يا هؤلاء فترك يا استغناء، لدلالة الكلام
عليه: كما قال " يوسف: اعراض عن هذا " (1) ومعنى الكلام ثم أنتم يا معشر
يهود بني إسرائيل بعد اقراركم بالميثاق الذي اخذته عليكم: ألا تسفكوا دماءكم،
ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم، وبعد شهادتكم على أنفسكم بذلك انه حق لازم لكم
الوفاء به تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم متعاونين عليهم في اخراجكم
إياهم بالاثم، والعدوان.
والتعاون هو التظاهر، وإنما قيل للتعاون: التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض.
فهو تفاعل من الظهر. هو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض. قال الشاعر:
تظاهرتم أشباه نيب تجمعت * على واحد لا زلتم قرن واحد
ومنه قوله تعالى: " وان تظاهروا عليه فان الله هو مولاه " وقوله " والملائكة
بعد ذلك ظهير " (2) وقوله: " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (3) وقوله:
" سحران تظاهرا " (4) وقوله: " وكان الكافر على ربه ظيرا " (5) ويقال: اتخذ
معك نفرا ونفرين ظهيرين يعني عدة، والوجه الآخر أن يكون معناه: ثم أنتم
القوم تقتلون أنفسكم فيرجع إلى الخبر عن (أنتم) وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم
(هؤلاء) كما تقول العرب: انا ذا أقوم، وانا ذا أجلس. ولو قيل أنا هذا يجلس
لكان صحيحا. وكذلك أنت ذاك تقوم، وقال بعض النحويين: ان هؤلاء (في) (6)
قوله: " ثم أنتم هؤلاء " تنبيه، وتوكيد لأنتم. وزعم أن أنتم: وإن كان كناية عن

(1) سورة يوسف: آية 30.
(2) سورة التحريم: آية 4.
(3) سورة الاسرى: آية 88
(4) سورة القصص: آية 48.
(5) سورة الفرقان: آية 55
(6) زودنا (في) ليتم المعنى
334

أسماء جميع المخاطبين فإنما جاز ان يؤكد بهؤلاء. وأولاء يكنى بها عن المخاطبين كما قال
خفاف بن ندبة
أقول له والرمح يأطر متنه * تبين خفافا انني انا ذلكا (1)
يريد انا هو، وكما قال " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ". (2)
والاثم قيل معناه: هو ما تنفر منه النفس ولم يطمئن إليه القلب. ومنه قول
النبي صلى الله عليه وآله لنواس بن سمعان، حين سأله عن البر والاثم، فقال صلى الله عليه وآله: البر
ما اطمأنت إليه نفسك والاثم ما حك في صدرك. وقال قوم: معنى الاثم (3) ما يستحق
عليه الذم، وهو الأصح.
والعدوان مجاوزة الحق. وقال قوم: هو الافراط في الظلم. واسري جمع
أسير وأسارى جمع اسرى. كما قالوا: مريض ومرضى وجريح وجرحى وكسير
وكسرى. هذا قول المفضل بن سلمة قال أبو عمرو بن العلاء: الأسارى هم الذين
في الوثاق والأسرى الذين في اليد. ان لم يكونوا في الوثاق.
ومعنى تفادوهم أو تفدوهم: طلب الفدية من الأسير الذي في أيديهم من أعدائهم
قال الشاعر:
قفي فادي أسيرك إن قومي * وقومك ما أرى لهم اجتماعا
وكان هذا محرما عليهم - وإن كان مباحا لنا - فذكر الله تعالى توبيخا لهم في
فعل ما حرم عليهم. وقال آخرون: انه افتداء الأسير منهم إذا اسره أعداؤهم. وهذا
مدح لهم ذكره من بعد ذمهم انهم خالفوه في سفك الدماء، وتابعوه في افتداء

(1) الأغاني 2: 329، 13: 134، 135، 16: 134 وقد مر في 1: 51 من
هذا الكتاب. قال هذا في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو: أخي الخنساء. أقول له: أي لمالك
ابن حمار الذي مر ذكره في البيت السابق وهو:
فان تك خيلي قد أصيب صميمها * فعمدا على عين تيممت مالكا
واطر الشئ: ان تقبض على أحد طرفي الشئ ثم تعوجه، وتعطفه وتثنيه. وأراد ان حر
الطعنة جعله منثني من المها ثم ينثني ليهوي صريعا إذ أصاب الرمح مقتله.
في المطبوعة " ناظر فنه " بدل " يأطر متنه " وهو تحريف.
(2) سورة يونس آية 22.
(3) في المخطوطة والمطبوعة " الاسم "
335

الاسرى استشهادا على هذا الباطل بقوله: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون
ببعض " وقال قوم: الفرق بين تفدوهم وتفادوهم، ان تفدوهم هو افتكاك بمال
وتفادوهم هو افتكاك الاسرى بالأسرى. اختلفوا فيمن عنى بهذه الآية فروى
عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم " إلى قوله: والعدوان
أي أهل الشرك، حتى يسفكوا دماءهم معهم، ويخرجوهم من ديارهم معهم قال:
أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض
عليهم فيها فداء أسراهم. وكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع (1) وانهم حلفاء
الخزرج. وحلفاء النضير وقريظة، وانهم حلفاء الأوس. وكانوا إذا كانت بين الأوس
والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع (2) مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع
الأوس، يظاهر كل فريق حلفاءه على اخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم
التوراة، يعرفون منها ما عليهم ولهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون
الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا، ولا قيامة ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما،
فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة، واخذا به
يفتدي بنو قينقاع من كان (من) (3) أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي بنو
النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج. ويطلبون ما أصابوا من الدماء، وما
قتلوا من قتلوا منهم، فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى حين
أنبأهم بذلك: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ " أي تفادونهم بحكم
التوراة وفي حكم التوراة ان لا يقتل ويخرج من داره ويظاهر (4) عليه من يشرك
بالله ويعبدوا الأوثان من دونه - ابتغاء عرض الدنيا - ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج
نزلت هذه القصة. وذكر فيه أقوال أخر تزيد وتنقص لا فائدة في ذكرها، معناها
متقارب لما أوردناه.
وقوله " يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض

(1) في المخطوطة والمطبوعة " قيقاع " وهو خطأ.
(2) في المخطوطة والمطبوعة " قيقاع " وهو خطأ.
(3) زدنا " من " لأنه لا يتم المعنى بدونها.
(4) في المخطوطة والمطبوعة " ان لا يقتل ويخرجونه من وتظاهر.. ".
336

الكتاب وتكفرون ببعض " القصد بذلك توبيخهم وتعنيفهم على سوء افعالهم. فقال:
ثم أنتم بعد اقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: " لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا
أنفسكم من دياركم " تقتلون أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا. وأنتم مع قتلكم من
تقتلون منكم. إذا وجدتم أسيرا منكم في أيدي غيركم من أعدائكم تفدونهم. ويخرج
بعضكم بعضا من ديارهم، وقتلكم إياهم واخراجكم إياهم من ديارهم حرام عليكم كما
حرام عليكم تركهم اسرى في أيدي عدوكم. فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون
ترك فدائهم. وتستجيزون قتلهم وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم سواء،
لان الذي حرمت عليكم من قتلهم واخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم
من تركهم اسرى في أيدي عدوهم. " أفتؤمنون ببعض الكتاب " الذي فرضت
عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي، واخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي،
فتصدقون به فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم، وتكفرون ببعضه فتجحدونه
فتقتلون من حرمت عليكم قتله، من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم
وقد علمتم ان في الكفر منكم ببعضه نقضا منكم في عهدي وميثاقي.
وقوله: " فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا " فالخزي:
الذل، والصغار يقال خزي الرجل يخزى خزيا. " في الحياة الدنيا " يعني في عاجل
الدنيا قبل الآخرة. ثم اختلفوا في الخزي الذي خزاهم الله بما سلف منهم من المعصية
فقال بعضهم: ذلك حكم الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وآله من اخذ القاتل بما قتل،
والقود به قصاصا، والانتقام من الظالم لمظلوم.
وقال آخر: بل ذلك هو الجزية منهم - ما أقاموا على دينهم - ذلة لهم وصغارا
وقال آخرون: الخزي الذي خزوا به في الدنيا إخراج رسول الله صلى الله عليه وآله
بني النضير من ديارهم لأول الحشر. وقيل: مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم.
وكان ذلك خزيا في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم ومعنى قوله: " يوم القيامة
يردون إلى أشد العذاب " أي أسوء العذاب، يعني بعد الخزي الذي يحل بهم في
الدنيا يردهم الله إلى أشد العذاب - الذي أعده الله لأعدائه.
337

وقال بعضهم: يردهم يوم القيامة إلى أشد العذاب، يعني أشد من عذاب الدنيا
- والأول أقوى: انه من أشد العذاب يعني أشد جنس العذاب. وذلك يقتضي العموم
ولا يخص إلا بدليل.
وقوله: " وما الله بغافل عما تعملون ". منهم من قرأ بالياء، رده إلى من
أخبر عنهم.
ومن قرأ بالتاء، رده إلى المواجهين بالخطاب. والياء أقوى، لقوله: " فما جزاء
من يفعل ذلك ".
وقوله: " ويوم القيامة يردون " فالرد إلى هذا أقرب من قوله: " أفتؤمنون
ببعض الكتاب " فاتباع الأقرب أولى من إلحاقه بالأول. والكل حسن. والمعنى
وما الله بساه عن اعمالهم الخبيثة بل هو محص لها وحافظ لها حتى يجازي عليها.
فان قيل: ظاهر الآية يقتضي ان يصح الايمان ببعض الأشياء، وان كفروا بالبعض
الآخر، وذلك مناف لمذهبكم في الارجاء والموافاة. لان المعنى في ذلك إظهار
التصديق بالبعض، والمنع بالتصديق بالبعض الآخر. ويحتمل أن يكون المراد ان
ذلك على ما يعتقدونه، لأنكم إذا اعتقدتم جميع ذلك ثم عملتم ببعضه دون بعض،
فكأنكم آمنتم ببعضه دون بعض.
قوله تعالى:
" أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم
العذاب ولا هم ينصرون " (86) آية بلا خلاف.
المعنى:
قوله: " أولئك " إشارة إلى الذين اخبر عنهم يؤمنون ببعض الكتاب،
فيفادون أساراهم من اليهود، ويكفرون ببعض فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من
أهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله اخراجه. وهم الذين اشتروا رياسة
الحياة الدنيا. ومعناه ابتاعوها على الضعفاء وأهل الجهل والغباء منهم. وإنما وصفهم
338

بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم الله عز وجل فيها
عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين. فجعل تركهم حظوظهم من نعيم
الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه من خسيس الدنيا بما اخبر الله انه لاحظ لهم في
نعيم الآخرة، وان لهم في الآخرة عذابا غير مخفف عنهم فيها العقاب. وقوله:
" ولا هم ينصرون " أي لا ينصرهم أحد في الآخرة فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى
قوله تعالى:
" ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا
عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول
بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم، فريقا تقتلون " (87)
آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ أهل الكوفة الرسل مثقل في جميع القرآن. وقرأ ابن كثير القدس بسكون
الدال حيث وقع. الباقون بتثقيلها،
المعنى:
ومعنى قوله " اتينا موسى الكتاب " أنزلناه إليه وأعطيناه. والكتاب
بالمراد به التوراة. وقوله " وقفينا " معناه وأردفنا، واتبعنا بعضه خلف بعض، كما
بقفو الرجل الرجل: إذا سار في اثره من ورائه واصله من القفا. يقال فيه قفوت
فلانا إذا صرت خلف قفاه. كما يقال دبرته إذا صرت في دبره قال امرؤ القيس:
وقفى على آثارهن بحاصب * فمر العشى البارد المتحصب (1)
ومعنى قوله: " بالرسل " من بعد موسى. والمراد بالرسل الأنبياء، وهم جمع رسول
يقال: رسول ورسل، كما يقال: رجل صبور وقوم صبر. ورجل شكور، وقوم

(1) ديوانه 38. وروايته " فقفي " بدل وقفا وعجزه
وغيبة شؤبوب من الشد ملهب
والعجز الموجود أعلاه غير موجود في ديوان امرئ القيس.
339

شكر. والمعنى في " قفينا " اتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد، وشريعة
واحدة، لان كان من بعثه الله نبيا بعد موسى إلى زمن عيسى بن مريم (ع) فإنما
بعثه بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها، فلذلك، قال: " وقفينا من
بعده بالرسل " يعني على منهاجه وشريعته.
وقوله: " واتينا عيسى بن مريم البينات " أعطينا عيسى بن مريم الحجج
والدلالات على نبوته من احياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك من الآيات
التي دلت على صدقه وصحة نبوته.
وقوله: " وأيدناه بروح القدس " أي قويناه واعناه. يقال منه أيدك الله،
أي قواك الله. وهو رجل ذو أيد وذو اياد أي ذو قوة ومنه قول العجاج:
من أن تبدلت بآدي آدا (1)
يعني بقوة شبابي قوة الشيب قال الشاعر:
ان القداح إذا اجتمعن فرامها * بالكسر ذو جلد وبطش أيد (2)
يعنى بالأيد القوي قال قتادة والسدي والضحاك والربيع: روح القدس هو
جبرائيل " ع ". قال: ابن زيد أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا
كلاهما روح الله كما قال: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ". وروى الضحاك عن
ابن عباس ان الروح: الاسم الذي كما يحيى به الموتى. وأقوى الأقوال قول من قال:
هو جبرائيل (ع) لان الله تعالى أيد عيسى به كما قال تعالى " يا عيسى بن مريم اذكر
نعمتي التي أنعمت عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد
وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " (3) فأخبر انه أيده به
ناو كان المراد به الإنجيل لكان ذلك تكرارا. وإنما سمي الله تعالى جبرائيل روحا
واضافه إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله روحا من عنده من غير ولادة والد
ولده. وقال قوم سمي روحا لأنه كان بمنزلة الأرواح للأبدان تحيى بما يأتي به من

(1) اللسان " أيد " والبيت الذي بعده: لم يك ينآد فأمسى انآدا. وفي المطبوعة باد آذا
(2) مروج الذهب 3: 104. قائله عبد الله بن عبد الأعلى.
(3) سورة المائدة آية 113.
340

البينات وقال آخرون: سمي بذلك، لان الغالب على جسمه الروحانية لرقته وكذلك
سائر الملائكة وإنما خص به تشريفا والتقديس والتطهير والقدس: الطهر وقال السدي:
القدس هاهنا البركة يقال: قدس عليه: برك عليه. ويكون اضافته إلى نفسه كقوله
" حق اليقين " وقال الربيع: القدس الرب. وقال ابن زيد القدس هو الله، وأيده
بروحه، واحتج بقوله " الملك القدوس ". وقال القدوس والقدس واحد. وروي عن
ابن عباس ان القدس الطاهر وقال الراجز:
الحمد لله العلى القادس
وقال رؤبة:
دعوت رب القوة القدوسا
وقوله: " أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم
وفريقا تقتلون " فالخطاب بذلك متوجه إلى يهود بني إسرائيل وكأنه قال: يا معشر
يهود بني إسرائيل لقد اتينا موسى التوراة وتابعنا من بعده الرسل إليكم واتينا عيسى
ابن مريم الحجج والبينات إذ بعثناه إليكم وأيدناه بروح القدس وأنتم
كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه أنفسكم استكبرتم عليهم تجبرا وبغيا
وكذبتم منهم بعضا وقتلتم بعضا، وظاهر الخطاب وإن كان خرج مخرج التقدير فهو
بمعنى الخبر.
قوله تعالى:
" وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون "
(88) آية واحدة.
القراءة:
القراء المعرفون على تسكين اللام من قوله غلف. وقال ابن محيص غلف بضم اللام
المعنى:
وروي عن ابن عباس ذلك فمن قرأ بالتسكين قال: معني غلف الواحد منها
341

اغلف وغلف مثل احمر وحمر فكأنهم قالوا: قلوبنا أوعية فلم لا تعي ما تأتينا به قالوا
كما " قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي اذانا وقر ومن بيننا وبينك حجاب "
أي لا تفقه لأنها في حجاب. ومنه يقال للرجل الذي لم يختن أغلف والمرأة غلفاء
ويقال للسيف إذا كان في غلاف أغلف وقوس غلفاء: وجمعها غلف وكذلك كل
لغة على وزن افعل للذكر والأنثى فعلاء يجمع على فعل مضمومة الأول ساكنة الثاني
نحو احمر وحمر واصفر وصفر فيكون ذلك جمعا للتذكير والتأنيث ولا يجوز ثقيل
عين الفعل إلا في ضرورة الشعر. قال طرفه:
أيها الفتيان في مجلسنا * جردوا منها ورادا وشقر (1)
فحرك لضرورة الشعر. ومن قرأ " غلف " مثقلا قال: هو جمع غلاف مثل
مثال ومثل وحمار وحمر. فيكون معناه إن قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم، وهي
أوعية للعلم. ويجوز أن يكون التسكين عين التثقيل (2) مثل رسل ورسل. وقال
عكرمة غلف: أي عليها طابع. والمعنى عندنا ان الله اخبر ان هؤلاء الكفار ادعوا
ان قلوبهم ممنوعة من القبول وذهبوا إلى أن الله منعهم من ذلك، فقال الله ردا عليهم
" بل لعنهم الله بكفرهم " أي انهم لما كفروا فألفوا كفرهم واشتد اعجابهم به ومحبتهم
إياه، منعهم الله، من الألطاف والفوائد - ما يؤتيه المؤمنين ثوابا على ايمانهم وترغيبا
لهم في طاعتهم، وزجر الكافرين عن كفرهم، لان من سوى بين المطيع والعاصي له،
فقد أساء إليها. وفي الآية رد على المجبرة أيضا، لأنهم قالوا: مثل ما يقول اليهود
من أن على قلوبهم ما يمنع من الايمان ويحول بينهم وبينه، وكذبهم الله تعالى في
ذلك بأن لعنهم وذمهم. فدل على أنهم كانوا مخطئين، كما هم مخطئون. وقال أبو علي
الفارسي: ما يدرك به المعلومات من الحواس وغيرها، إذ اذكر بأنه لا يعلم وصف
بان عليه مانعا كقوله تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها " (3).
فان الفعل لما كان مانعا من الدخول إلى المقفل عليه شبه القلوب به. ومثله قوله:

(1) ديوانه اشعار الستة الجاهليين. جردوا قدموا للفارة. وتجرد الفرس تقدم الحلبة
فخرج منها. وراد جمع ورد " فتح فسكون " وهو من الخيل بين الكميت والاشفر.
(2) هذه عبارة المخطوطة وفي المطبوعة سقط.
(3) سورة محمد آية 24.
342

" سكرت ابصارنا " (1) وقوله: " الذين كنت أعينهم في غطاء عن ذكري " (2)
ومثله " بل هم منها عمون " (3) وقوله: " صم بكم " (4). لأن العين إذا كانت في
غطاء لم ينفذ شعاعها فلا يقع بها ادراك، فكأن شدة عنادهم بحملهم على رفع المعلومات.
واللعن هو الاقصاء والابعاد. يقال: لعن الله فلانا يلعنه لعنا. فهو ملعون، ثم
يصرف مفعول إلى فعيل، فيقال: هو لعين. كما قال الشماخ بن ضرار:
ذعرت به القطا ونفيت عنه * مقام الذئب كالرجل اللعين (5)
أي المبعد: فصار معنى الآية قالت اليهود: " قلوبنا في أكنة مما يدعونا إليه "
محمد صلى الله عليه وآله. فقال الله: ليس ذلك كما زعموا ولكنه تعالى أقصاهم وأبعدهم عن رحمته
وطردهم عنها، لجحودهم به وبرسله.
وقوله تعالى: " قليلا ما يؤمنون " قال قتادة: قيل منهم من يؤمن. وقال
قوم: " قيلا ما يؤمنون " أي لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم. والذي نقوله
ان معنى الآية ان هؤلاء الذين وصفهم الله تعالى قليلوا الايمان بما أنزله الله تعالى
على نبيه محمد " ص " ولذلك نصب قوله " قليلا " لأنه نصب على نعت المصدر
المتروك. وتقديره لعنهم الله بكفرهم، فأيمانا قليلا يؤمنون. ولو كان الامر على
ما قال قتادة، لكان القليل مرفوعا، وكان تقديره فقليل ايمانهم. وقال قوم من
أهل العربية: ان ما زائدة لا معنى لها. كقوله: " فبما رحمة من الله لنت لهم " (6)
وتقديره الكلام: قليلا يؤمنون، وانشد بيت مهلهل
لو بأبانين جاء يخطبها * ضرج ما انف خاطب بدم (7)
يعني ضرج انف خاطب. وما زائدة. وقال قوم: ذلك خطأ في الآية وفي
البيت وان ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء إذا كانت

(1) سورة الحجر: آية 15
(2) سورة الكهف: آية 102
(3) سورة النحل آية: 66
(4) سورة البقرة آية 17.
(5) ديوانه: 92. في المطبوعة والمخطوطة " دعوت " بدل ذعرت.
(6) سورة آل عمران آية 159.
(7) الكامل 2: 68. وروايته " خضب " بدل " ضرج " وفي المطبوعة والمخطوطة " بانين " ومع ذلك غير منقطة. ابانان: ابان الأسود وابان الأبيض.
343

" ما " كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخص بعض ما عمته، فإنها تذكر بعدها. وفي
الناس من قال: " فقليلا ما يؤمنون "، لأنه كان معهم بعض الايمان من التصديق
بالله وبصفاته، وغير ذلك مما كان فرضا عليهم، وذلك هو القليل بالإضافة إلى ما
جحدوا به من التصديق بالنبي " ص " وما جاء به. والذي يليق بمذهبنا ان نقول:
إنه لم يكن معهم ايمان أصلا، وإنما قال: " فقليلا ما يؤمنوا " كما يقول القائل:
قل ما رأيت هذا قط. وروي عنهم سماعا: - أعني العرب - مررت ببلد قل ما ينبت
إلا الكراث والبصل. يريدون ما ينبت إلا الكراث والبصل.
قوله تعالى:
" ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا
من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا
كفورا به فلعنة الله على الكافرين ". (89) آية بلا خلاف.
المعنى:
التقدير: ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصفهم الله، كتاب من عند
الله يعني به القرآن الذي أنزله على محمد " ص " واشتقاق الكتاب من الكتب، وهو
جمع كتبة وهي الخرزة. وكلما ضممت بعضه إلى بعض، فقد كتبته. والكتيبة
من الجيش من هذا الانضمام بعضها إلى بعض.
وقوله: " مصدق لما معهم " من الكتب التي أنزلها الله قبل القرآن من التوراة
والإنجيل وغيرهما. " ومعنى مصدق لما معهم " لما في التوراة والإنجيل، والاخبار
التي فيها. ويحتمل أن يكون المراد: مصدق بان التوراة والإنجيل من عند الله.
ومصدق رفع، لأنه نعت الكتاب. ولو نصب على الحال، لكان جائزا، لكن لم
يقرأ به.
وقوله: " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ". قال أبو عبيدة
معناه يستنصرون. قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستنصرون على الأوس الخزرج
344

برسول الله " ص " قبل مبعثه فلما بعثه الله في العرب، فقال لهم معاذ بن جبل وبشير
ابن معرور: يا معشر اليهود اتقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد
صلى الله عليه وآله ونحن أهل الشرك، وتخبرونا بأنه مبعوث. فقال لهم سلام بن
مثكم: ما جاء بشئ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم. فأنزل الله ذلك. وقال قوم:
معنى " يستفتحون " يستحكمون ربهم على كفار العرب. كما قال الشاعر:
ألا أبلغ بني عصم رسولا * فاني عن فتاحتكم غني (1)
اي محاكمتكم. قال قوم: معناه يستعلمون من علمائهم صفة نبي يبعث من
العرب، وكانوا يصفونه. فلما بعث أنكروه.
واما جواب قوله: " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم " فقال
قوم: ترك جوابه استغناء بمعرفة المخاطبين. معناه كما قال: " ولو أن قرآنا سيرت به
الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى " (2) فترك الجواب، وكان تقديره
ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به
الموتى لسيرت بهذا. ترك ذلك لدلالة الكلام عليه وكذلك الآية الجواب فيها محذوف
لدلالة قوله: " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " وقال آخرون: قوله: " كفروا "
جواب لقوله: " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ". ولقوله: " ولما جاءهم
ما عرفوا ". ونظيره قوله: " فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف
عليهم ولا هم يحزنون " (3) فصار قوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جوابا
لقوله: " فاما يأتينكم "، ولقوله: " فمن تبع هداي "، ومثله في الكلام قولك
ما هو إلا أن جاءني فلان، فلما ان قعد وسعت له، فصار قولك: وسعت له
جوابا لقولك: ما هو إلا أن جاءني، ولقولك: فلما ان قعد. وجاء الأول للكتاب
وجاء الثاني - قيل: إنه - للرسول، فلذلك كرر. وقوله: فلعنة الله على الكافرين "

(1) قائله الأشعر الجعفي. اللسان (فتح) وروايته:
ألا من مبلغ عمرا رسولا * فانى عن فتاحتكم غني
(2) سورة الرعد آية: 33 (3) سورة البقرة آية: 38.
345

فقد بينا فيما مضى، معنى اللعنة، ومعنى الكفر فلا وجه لإعادته. وقد مضى الجواب
عمن يستدل بمثل ذلك على أن الكافر قد يكون عالما ببعض الأشياء التي أوجبها الله
تعالى بخلاف ما يذهب إليه أصحاب الموافاة، وان من عرف الله فلا يجوز ان يكفر
وان المعتمد على ذلك: ان نقول: لا يمتنع ان يكونوا قد عرفوا الله وكثيرا مما وجب
عليهم، لكن لم يكن وقع نظرهم على وجه يستحقون به الثواب، لان ذلك هو
الممنوع منه، وقد بينا أيضا صفة من يتعلق بذلك من أصحاب الضرورات، لان
غاية ما في ذلك ان القوم كانوا عارفين فجحدوا ما عرفوا، وليس يمتنع ان يكونوا
عارفين استدلالا ثم جحدوا: فالضرورة لم يجر لها ذكر.
قوله تعالى:
" بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله
بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا
بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90) آية.
اللغة والاعراب:
أصل بئس: بئس من البؤس فأسكنت الهمزة ونقلت حركتها إلى الباء.
كما قالوا في ظللت ظلت، وكما قيل للكبد كبد، فنقلت حركة الباء إلى الكاف،
لما سكنت الباء. ويحتمل أن تكون بئس. وإن كان أصلها بئس من لغة من ينقل
حركة العين من فعل إلى الفاء إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة. كما قالوا
في لعب: لعب. وفي سئم سيم، وهي لغة تميم. ثم جعلت دلالة على الذم والتوبيخ
ووصلت ب‍ (ما). واختلفوا في (ما) فقال قوم من البصريين: هي وحدها اسم،
" وان يكفروا " تفسير له. نحو نعم رجلا زيد " وان ينزل الله " بدل من انزل.
وقال الفراء: بئس الشئ اشتروا به أنفسهم ان يكفروا. ف‍ (ما) اسم بئس، (وأن
يكفروا) الاسم الثاني. وقوله " ان ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده "، إن
346

شئت جعلت (أن) في موضع رفع، وان شئت في موضع خفض: فالرفع بئس
الشئ هذا ان يكفروا، والخفض بئس الشئ اشتروا به أنفسهم ان يكفروا بما انزل
الله بغيا. وفي قوله: " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم " (1).
مثل ذلك. قال أبو عبيدة: والعرب تجعل (ما) وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم
التام. وقوله: " فنعما هي " " وبئس ما أنت " قال الراجز:
لا تعجلا بالسير وادلواها * لبئسما بطء ولا نرعاها (2)
قال: ويقولون لبئس ما تزويج، ولا مهر: فيجعلون (ما) وحدها اسما بغير صلة.
وروي عن النبي " ص " أنه قال: نعم ما المال للرجل الصالح، فجعلت (ما)
اسما. وقال قوم: هذا الوجه ضعيف، لان هذا القول، يكون التقدير بئس الشئ
اشتروا به أنفسهم، فقد صارت ما بصلتها اسما موقتا، لان اشتروا فعل ماضي، وإذا
وصلت بفعل ماضي كانت معرفة موقتة. تقديره بئس شراؤهم كفرهم. وذلك غير جائز
عنده: فبان بذلك فساد هذا القول. وبئس ونعم لا يلقاهما اسم علم كزيد وعمر،
وأخيك وأبيك: فإنما يلقاها المعرف بالألف واللام. كقولك: الرجل والمرأة،
وما أشبه ذلك. فان نزعتهما، نصبت. كقوله: " بئس للظالمين بدلا " (3)
" وساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا " (4) فان كانت نكرة مضافة إلى نكرة
جاز الرفع والنصب. كقولك نعم غلام سفر غلامك، بالرفع والنصب - حكاه
الفراء.
وقال بعضهم: إن (ان) في موضع خفض ان شئت، وان شئت في موضع
رفع: فالخفض ان ترده على الهاء في به على التكرير على كلامين، لأنك قلت:
اشتروا أنفسهم بالكفر: والرفع أن يكون تكرارا على موضع (ما) التي تلي

(1) سورة المائدة آية: 83.
(2) اللسان (دلا) دلوت الناقة دلوا: سقتها رويدا ورعى الماشية وارعاها: أطلقها
في المرعى.
(3) سورة الكهف آية: 51.
(4) سورة الأعراف آية: 176.
347

بئس، ولا يجوزان يكون رفعا على قولك بئس الرجل عبد الله.
وقال بعضهم: أولى هذه الأقوال أن تجعل بئسما مرفوعا بالراجع من الهاء في
قوله: اشتروا به. كما رفعوا ذلك بعبد الله، في قولهم: بئسما عبد الله، وجعل أن
يكفروا مترجما عن بئس. فيكون التقدير بئس الشئ باع اليهود به أنفسهم بكفرهم،
بما انزل الله بغيا وحسدا ان ينزل الله من فضله. وتكون ان التي في قوله: " ان
ينزل الله " في موضع نصب، لأنه يعني به ان يكفروا بما انزل الله من اجل ان
ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وموضع (ان) جر. والكسائي جعل
ان في موضع خفض بنية الباء وإنما كان النصب أقوم، لتمام الخبر قبلها ولا خافض
معها. وحرف الخفض إذا كان مضمرا لا تخفض به.
المعنى:
ومعنى قوله: " اشتروا به أنفسهم " اي باعوا به أنفسهم على وزن افتعلوا -
من الشراء وسمي البائع الشاري بهذا، لأنه باع نفسه ودنياه عنده. وأكثر الكلام
شريت بمعنى بعت. واشتريت بمعنى ابتعت. قال الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري:
وشريت بردا ليتني * من قبل برد كنت هامة (3)
ومعنى قوله: " وشروه بثمن بخس " باعوه وربما استعملت اشتريت بمعنى
بعت. وشريت بمعنى ابتعت. والأكثر ما قلناه.
وقوله: " بغيا " اي حسدا وتعديا. فان قيل: كيف باعت اليهود أنفسها
بالكفر وهل يشترى بالكفر شئ؟ قيل معنى الشراء والبيع - عند العرب - هو
إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثم يستعمل ذلك في كل معتاض من
عمله عوضا - خيرا كان أو شرا - يقال نعم ما باع فلان نفسه به، وبئس ما باع
به نفسه. بمعنى نعم الكسب كسبها، وبئس الكسب كسبها. وكذلك قوله: " بئس
ما اشتروا به أنفسهم "، لما أبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد " ص " وأهلكوها.

(3) طبقات فحول الشعراء: 555 من قصيدة له في هجاء عباد بن زياد - وكان قد باع غلاما
لابن مفرغ: اسمه (برد) قوله: كنت هامة: اي كنت هالكا.
348

خاطبهم الله بالعرف الذي يعرفونه: فقال بئس ما اعتاضوا من كفرهم بالله،
وتكذيبهم محمدا " ص " إذا كانوا رضوا به عوضا من ثواب الله، وما أعد لهم
- لو كانوا امنوا بالله وما انزل على أنبيائه - بالنار، وما أعد لهم بكفرهم بذلك
ونظير هذه الآية قوله: في سورة النساء: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من
الكتاب " إلى قوله: " وآتيناهم ملكا عظيما " (1).
وكان ذلك حسدا منهم لكون النبوة في غيرهم.
وقوله: " بغيا " نصب لأنه مفعول له. والمعنى فسادا. قال الأصمعي:
مأخوذ من قولهم: بغى الجرح إذا فسد. ويجوز أن يكون مأخوذا من شدة
الطلب للمطاول. وسميت الزانية بغيا لأنها تطلب. واصل البغي الطلب. و " بغيا ان
ينزل الله " اي لان ينزل الله. وكذلك كل ما في القرآن. ومثله قول
الشاعر:
أتجزع أن بان الخليط المودع * وحبل الصفا من عزة المتقطع
وقوله: " فباءوا بغضب على غضب " اي رجعوا. والمراد رجعت اليهود من
بني إسرائيل بعد ما كانوا عليه من الاستنصار لمحمد " ص " في الاستفتاح به، وبعد
ما كانوا يخبرون الناس من قبل مبعثه انه نبي مبعوث - مرتدين علي أعقابهم حين
بعثه الله نبيا - بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم به وجحدهم بنبوته، وانكارهم
إياه. وقال السدي: الغضب الأول حين عبدوا العجل، والثاني - حين كفروا
بمحمد " ص ". وقال عطا وغيره: الغضب الأول - حين غيروا التوراة قبل مبعث
محمد " ص ": والغضب الثاني - حين كفروا بمحمد " ص ". وقال عكرمة والحسن:
الأول - حين كفروا بعيسى " ع ": والثاني - حين كفروا بمحمد " ص ". وقد
بينا ان الغضب من الله هو إرادة العقاب بهم.
وقوله: " وللكافرين بعذاب مهين " معناه للجاحدين بنبوة محمد " ص "
عذاب مهين من الله: إما في الدنيا، وإما في الآخرة. و " مهين " هو المذل لصاحبه

(1) سورة النساء آية: 43 - 53.
349

المخزي لملبسه هوانا وذلة. وقيل " المهين " هو الذي لا ينتقل منه إلى اعتزاز
وإكرام. وقد يكون غير مهين إذا كان تمحيصا وتكفيرا ينتقل بعده إلى اعتزاز
وتعظيم: فعلى هذا من ينتقل من عذاب النار إلى الجنة، لا يكون عذابه مهينا.
قال المؤرخ: " فباءوا " استوجبوا اللعنة بلغة جرهم -. ولا يقال باء مفردة حتى
يقول بكذا وكذا: اما بخير واما بشر. قال أبو عبيدة: " فباءوا بغضب " احتملواه
وأقروا به. واصل البواء التقرير والاستقرار. قال الشاعر:
أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها * كصرخة حبلى يسرتها قبولها (1)
قوله تعالى:
" وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا أنؤمن بما أنزل علينا
ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تفتلون
أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91) آية بلا خلاف.
المعنى:
قوله: " بما انزل الله " يعني القرآن. " قالوا نؤمن بما أنزل علينا "؟؟
التوراة. " ويكفرون بما وراءه " يعني بما بعده قال الشاعر:
تمني الأماني ليس شئ وراءها * كموعد عرقوب أخاه بيثرب (1)
وقال الفراء: معنى " وراءه " هاهنا سواه. كما يقال للرجل يتكلم بالحسن:
ما وراء هذا الكلام شئ يراد به، ليس عند المتكلم شئ سوى ذلك الكلام.

(1) قائله الأعشى الكبير اللسان (قبل) وروايته (أسلمتها قبيلها) أي يئست منها قابلتها
التي تستقبل المولود. وديوانه 177، رقم القصيدة 23. وروايته (يسرتها قبولها) أي سهلت
ولادتها قابلتها. وفي المخطوطة والمطبوعة (بشرتها قبيلها) وفي المخطوطة (نصالحكم) بدل (أصالحكم)
وفي المطبوعة (نصاحبكم). تبوءوا تعودوا.
(2) لم نجد هذا البيت في مصادرنا. وفي اللسان
(عرقب) بيت للأسجعي عجزه كعجز هذا الا أن (مواعيد) جاءت به بدل (كموعد). ويقول
(بيثرب) - بالتاء - مكان في المن (وبيثرب) - بالثاء - المدينة نفسها
350

ومعنى قوله: " ويكفرون بما وراءه وهو الحق " وبما سوى التوراة وبما بعده
من كتب الله عز وجل التي أنزلها الله إلى رسله.
قوله: " هو الحق مصدقا " يعني القرآن مصدقا لما معهم - ونصب على الحال -
ويسميه الكوفيون علي القطع.
وقوله: " من قبل " ضم على الغاية، وكذلك أخواتها نحو بعد وتحت وفوق
إذا جعلت غاية ضمت. وفي ذلك خبر من الله تعالى ذكره انهم من التكذيب في
التوراة على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والقرآن عنادا وخلافا لامره،
وبغيا على رسله.
وقوله: " فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين " يعني قل يا محمد ليهود
بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا - قالوا لك نؤمن بما انزل علينا: لم تقتلون ان
كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم - أنبياءه - وقد حرم عليكم في الكتاب الذي انزل
عليكم قتلهم، بل امركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم. وفي ذلك تكذيب لهم
في قولهم نؤمن بما انزل علينا، وتغيير عليهم.
وقوله: " فلم تقتلون " وإن كان بلفظ الاستقبال المراد به الماضي، بدلالة
قوله: من قبل. وذلك لما مضى، كما قال: " واتبعوا ما تتلوا الشياطين " (1) اي
ما تلت. قال الشاعر:
ولقد امر على اللئيم يسبني * فمضيت عنه وقلت لا يعنيني (2)
وفي رواية أخرى ثمت. قلت يريد بقوله ولقد امر بدلالة قوله: فمضيت ولم
يقل فأمضى وقال آخر:
واني لاتيكم تشكر ما مضى * من الامر واستيجاب ما كان في غد (3)

(1) سورة البقرة آية: 102
(2) قائله رجل من بني سلول. سيبويه 416.
وشرح شواهد المغنى وغيرها كثير. وروايتهم جميعا " ثمت " بدل عنه.
(3) قائله الطرماح بن حكيم الطائي. ديوانه 146. واللسان (كون) وروايته
(الاستنجاز) بدل (استيجاب) وكذلك المطبوعة.
351

يعنى بذلك ما يكون في غد. قال الحطيئة:
شهد الحطيئة حين يلقى ربه * ان الوليد أحق بالعذر (1)
يعني يشهد وقال آخر:
فما أضحى ولا أمسيت إلا * أراني منكم في كوفان (2)
فقال: أضحى، ثم قال: ولا أمسيت. ومثله " يحسب أن ماله أخلده " (3) اي
يستخلده. وقال بعض الكوفيين إنما قال: " فلم تقتلون أنبياء الله من قبل " وأراد
به الماضي كما يقول القائل - موبخا لغيره، ومكذبا له: لم تكذب، ولم تبغض
نفسك إلى الناس. قال الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة * ولم تجدي من أن تقري به بدا (4)
فالجزاء المستقبل، والولادة كلها قد مضت، وجاز ذلك لأنه معروف. وقال
قوم: معناه فلم ترضون بقتل أنبياء الله إن كنتم مؤمنين. وقالت فرقة ثانية: فلم
تقاتلون أنبياء الله فعبر عن القتال بالقتل، لأنه يؤول إليه.
قوله تعالى:
" ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده
وأنتم ظالمون (92) آية بلا خوف.
المعنى:
" ولقد جاءكم موسى " يعني جاء اليهود موسى " بالبينات " الدالة على صدقه
وصحة نبوته. كقلب العصا حية، وانبجاس الماء من الحجر، واليد البيضاء، وفلق
البحر، والجراد، والقمل، والضفادع، وغيرها من الآيات. وسماها بينات، لظهورها
وتبينها للناظرين إليها انها معجزة لا يقدر على أن يأتي بمثلها بشر. وإنما هي جمع بينة

(1) ديوانه 85 وأنساب الأشراف 5: 32. من قصيدة قالها في الوليد بن عقبة بن أبي معيط
- وكان قد جده عثمان بن عثمان على شرب الخمر.
(2) اللسان (كوف) والكوفان (بتشديد الواو): الاختلاط والشدة والعناء
(3) سورة الهمزة آية: 3
(4) قائله زائدة بن صعصعة وقد مر في 1: 289.
352

مثل طيبة وطيبات وقوله: " ثم اتخذتم العجل من بعده " يعني بعد " موسى " لما
فارقهم ومضى إلى ميقات ربه.
ويجوز أن تكون الهاء كناية عن المجيئ. فيكون التقدير: ثم اتخذتم العجل
من بعد مجيئ موسى بالبينات " وأنتم ظالمون " كما يقول القائل: جئتني فكرهتك:
اي كرهت مجيئك. وليس المراد بثم هاهنا النسق، وإنما المراد بها التوبيخ، والتعجب
والاستعظام لكفرهم مع ما رأوا من الآيات. وقوله: " وأنتم ظالمون " يعني انكم
فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل. وليس ذلك لكم، وعبدتم غير الله، وكان ينبغي
لكم ان تعبدوا الله، لان العبادة لا تكون لغير الله، فأنتم بفعل ذلك ظالمون
أنفسكم.
قوله تعالى:
" وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم
بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل
بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93)
آية بلا خلاف.
المعنى:
تقديره واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم وعهودكم بان تأخذوا ما آتيناكم من
التوراة التي أنزلها الله على موسى بجد واجتهاد، ومعناه اقبلوا ما سمعتم، كما قيل سمع
الله لمن حمده: اي قبل الله حمده قال الراجز:
بالحمد والطاعة والتسليم * خير واعفى لفتى تميم (1)
فصار تقدير الآية: " وإذ أخذنا ميثاقكم " بأن " خذوا ما آتيناكم بقوة "
واعملوا بما سمعتم وأطيعوا الله " ورفعا فوقكم الطور " من اجل ذلك.

(1) قائله رجل من ضبة من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك. تاريخ الطبري 4: 223.
في ذكر سنة 55 وروايته (السمع) بدل (بالحمد).
353

وقوله: " قالوا سمعنا وعصينا " كأن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب
بعد أن كان الابتداء بالخطاب، لما تقدم ذكره من ابتداء الكلام، إذ كان حكاية.
والعرب تخاطب، ثم تعود بعد ذلك إلى الخبر عن الغائب، ثم تخاطب، لان قوله:
" وإذ أخذنا ميثاقكم " بمعنى قلنا لكم، فأجبتمونا، وقوله: " سمعنا " إخبار
من الله تعالى عن اليهود الذين أخذنا ميثاقهم ان يعملوا بما في التوراة، وان يطيعوا
الله بما يسمعون منها انهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك ويحتمل
أن يكون ما قالوه لكن فعلوا ما يدل على ذلك، فقام الفعل مقام القول. كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني (1)
وقوله: " واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " فيه وجوه:
أحدهما - ما قال قتادة وأبو العالية: واشربوا في قلوبهم حب العجل. يقال
أشرب قلبه حب كذا وكذا قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل * والحب يثربه فؤادك داء (2)
وقالت اعرابية:
باهلي من عادى ونفسي فداؤه * به هام قلبي منذ حين ولا يدري
هوى أشربته النفس أيام جهلها * ولح عليه القلب في سالف الدهر
وقال السدي: لما رجع موسى إلى قومه اخذ العجل الذي وجدهم عاكفين
عليه، فذبحه ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه
شئ منه، ثم قال اشربوا فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب. والأول
عليه أكثر محصلي المفسرين وهو الصحيح، لأن الماء لا يقال فيه: أشرب منه
فلان في قلبه، وإنما يقال ذلك: في حب الشئ على ما بيناه، ولكن يترك ذكر
الحب اكتفاء بفهم السامع، لمعنى الكلام، إذ كان معلوما ان العجل لا يشربه القلب

(1) اللسان (قطط) وروايته (سلا) بدل (مهلا).
(2) ديوانه: 339. وروايته (تشربه) بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء.
354

وان الذي اشرب منه حبه. كما قال " واسأل القرية " وإنما أراد أهلها. كما
قال الشاعر:
حسبت بغام راحلتي عناقا * وما هي ويب غيرك بالعناق (1)
يريد بذلك حسبت بغام راحلتي بغام عناق. وقال طرفه بن العبد:
ألا إنني سقيت اسود حالكا * ألا بجلي من الشراب ألا بجل (2)
يريد بذلك سقيت سما اسود، فاكتفى بذكر (اسود) عن ذكر (السم)
لمعرفة السامع بمعنى ما أراد بقوله سقيت اسود. وقال آخر:
وكيف تواصل من أصبحت * خلالته كأبي مرحب؟ (3)
اي كخلالة أبي مرحب وقال آخر:
وشر المنايا ميتة وسط أهله (4)
اي ميتة ميت. وقد يقول العرب: إذا سرك ان تنظر إلى السخاء، فانظر إلى
هرم (5)، أو إلى حاتم. فيجتزئون بذكر الاسم عن ذكر فعله، للعلم به.
وقوله: " بئسما يأمركم به ايمانكم إن كنتم مؤمنين " معناه قل يا محمد ليهود
بني إسرائيل: بئس الشئ يأمركم به ايمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله
والتكذيب بكتبه، وجحد ما جاء من عنده. وقال الأزهري: معنى ان كنتم:

(1) اللسان (عنق) انشده ابن الاعرابي. لقريظ يصف الذئب وفي اللسان (بغم)
نسبه إلى ذي الخرق. البغام: الصوت من الحيوان الصامت. العناق: الأنثى من المعز، ويب
كلمة تقولها العرب للتحقير. بمعنى ويل.
(2) ديوانه: 343 (اشعار الستة الجاهلين)، واللسان (سود) وروايته (شربت) بدل
(سقيت) بضم السين وتشديد القاف وضم التاء. ويروى (سالخا) بدل (حالكا) واختلف
فيما أراد بقوله (اسود) قيل الماء، وقيل المنية، وقيل اسم. وبجلي حسبي.
(3) قائله النابغة الجعدي: اللسان (خلل). أبي مرحب: كنية الظل، ويقال هو كنية
عرقوب الذي قيل عنه: مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
انظر 1: 85 فثمت ايضاح كاف.
(4) وعجز البيت: كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره
(5) في المطبوعة " هرمرا " وهو تحريف وهرم: هو ابن سنان صاحب زهير بن أبي سلمي
وحاتم: الطائي المشهور.
355

اي ما كنتم مؤمنين - نفيا - والأول أجود. ومعنى ايمانهم: تصديقهم الذي
زعموا انهم مصدقون، من كتاب الله إذا قيل لهم آمنوا بما انزل الله قالوا: نؤمن
بما أنزل علينا.
وقوله: " ان كنتم مؤمنين " أي ان كنتم مصدقين كما زعمتم، فأخبر ان
تصديقهم بالتوراة، انه كان يأمرهم بذلك، فبئس الامر يأمرهم به. وإنما ذلك نفي
عن التوراة أن يكون يأمر بشئ بما يكرهه الله من افعالهم، واعلاما منه ان الذي
تأمرهم به أهواؤهم، وتحمل عليه عداوتهم. وهذا كما يقول الرجل: بئس الرجل انا
إن رضيت بفعلك، أو ساعدتك عليه.
والمعنى وأشربوا في قلوبهم حب العجل بكفرهم، اي لألفهم الكفر وثبوتهم
فيه، والكفر يدعو بعضه إلى بعض، ويحسن بعضه بعضا. وليس المعنى في
قوله: " واشربوا " ان غيرهم فعل ذلك بهم، بل هم الفاعلون له، كما يقول القائل:
أنسيت ذلك من النسيان (3) ليس يريد إلا انك فعلت. وقولهم: لقد أوتى فلان
علما جما - وإن كان هو المكتسب له، وإن الجنس الذين قالوا: سمعنا وعصينا غير
الذين رفع عليهم الطور بأعيانهم، لكنهم كانوا على منهاجهم، وسبيلهم. فأما أولئك
بأعيانهم، فإنهم آمنوا: إما طوعا، واما كرها. والمعنى في (الباء) المتصلة بالكفر:
أنهم كفروا بالله بما اشربوا من محبة العجل. وليس المعنى انهم في ذلك اشربوا حب
العجل جزاء على كفرهم، لان محبة العجل كفر قبيح. والله لا يفعل الكفر في العبد،
لا ابتداء، ولا مجازاة.

(1) في المطبوعة والمخطوطة " الست من الشنئان " وهو غلط.
356

قوله تعالى:
" قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من
دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " (94) آية
واحدة بلا خلاف.
هذه الآية مما احتج الله بتأويلها لنبيه صلى الله عليه وآله على اليهود الذين كانوا بين
ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم، لأنه دعاهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم،
كما كان من الخلف الواقع بينهم. فقال لفريق من اليهود: ان كنتم صادقين ان الجنة
خالصة لكم دون الناس كلهم، أو دون محمد وأصحابه الذين آمنوا به فتمنوا الموت،
لان من اعتقد انه من أهل الجنة قطعا، كان الموت أحب إليه من حياة الدنيا التي
فيها النغص، وأنواع الآلام، والمشاق، ومفارقتها إلى نعيم خالص يتخلص به من
اذى الدنيا.
وقوله: " فتمنوا الموت " - وإن كان صورته صورة الامر - المراد به
التوبيخ، والزام الحجة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا
مقاعدهم من النار فقال الله تعالى لهم " ولن يتمنونه ابدا بما قدمت أيديهم " تحقيقا
لكذبهم، فقطع على أنهم لا يظهرون التمني وفي ذلك أعظم الدلالة على صدقه، لأنه
اخبر بشئ قبل كونه، فكان كما اخبر، لأنه لا خلاف انهم لم يتمنوا. وقيل إنهم
ما تمنوا، لأنهم علموا انهم لو تمنوا الموت، لماتوا - كما قاله - فلذلك لم يتمنوه. وهذا
قول ابن عباس. وقال غيره: إن الله صرفهم عن اظهار التمني، ليجعل ذلك آية
لنبيه صلى الله عليه وآله.
أما التمني فهو قول لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن ليته كان. وقال قوم: هو معنى في
القلب. غير أنه لا خلاف انه ليس من قبل الشهوة. فمن قال من المفسرين: انه أراد
فتشهوا، فقد أخطأ. قد روي عن ابن عباس أنه قال: فاسألوا الموت. وهذا بعيد،
357

لان التمني بمعنى السؤال لا يعرف في اللغة. فان قيل: من أين انهم ما تمنوه بقلوبهم
عند من قال: انه معنى في القلب؟ قلنا: لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم حرصا
منهم على تكذيبه في إخباره، وجهدا في اطفاء امره. وهذه القصة شبيهة بقصة
المباهلة، وان النبي صلى الله عليه وآله لما دعا النصارى إلى المباهلة امتنعوا لقلة ثقتهم بما هم عليه،
وخوفهم من صدق النبي صلى الله عليه وآله.
ومعنى " خالصة ": صافية. يقال خلص لي هذا الامر: اي صار لي وحدي،
وصفا لي يخلص خلوصا وخالصة. والخالصة: مصدر كالعاقبة يقال للرجل هذا
خلصاني: اي خالصتي - من دون أصحابي.
قوله تعالى:
" ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين "
(95) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء الذين قيل لهم: " تمنوا الموت ان كنتم صادقين "
بأنهم لا يتمنون ذلك ابدا. قد بينا ان في ذلك دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله من
حيث تضمنت انهم لا يتمنون ذلك في المستقبل. وكان كما قال.
وقوله: " ابدا " نصب على الظرف: اي لم يتمنوه ابدا طول عمرهم. كقول
القائل: لا أكلمك ابدا،. وإنما يريد ما عشت.
وقوله: " بما قدمت أيديهم " معناه بالذي قدمت أيديهم ويحتمل أن يكون
المراد بتقدمة أيديهم: فتكون (ما) مع ما بعدها بمنزلة المصدر.
وقوله: " والله عليم بالظالمين " إنما خص الظالمين بذلك - وإن كان عالما
بغيرهم لان الغرض بذلك الزجر، كأنه قال: عليم بمجازاة الظالمين. كما يقول القائل
لغيره، مهددا له: انا عالم بك بصير بما تعمله. وقيل: انه عليم بأنهم لا يتمنونه
ابدا حرصا على الحياة، لان كثيرا منهم يعلم أنه مبطل: وهم المعاندون منهم الذين
يكتمون الحق وهم يعلمون.
358

قوله تعالى:
" ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا
يود بأحدهم يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن
يعمر والله بصير بما يعملون " (96) آية بلا خلاف.
المعنى:
قال ابن عباس، وأبو العالية: ومجاهد، والربيع: ان المعنى بقوله احرص
الناس على حياة اليهود واحرص من الذين أشركوا وهم المجوس وهم الذين يود أحدهم
لو يعمر الف سنة وما هو بمزحزحه لأنه إذا دعا بعضهم لبعض يقول له: هزار سال
بده: اي عشرة آلاف سنة واليهود احرص على الحياة منهم " وما هو بمزحزحه " اي
بمباعده من العذاب ان يعمر لأنه لو عمر ما تمنى لما دفعه طول العمر من عذاب الله
تعالى على معاصيه وإنما وصف الله اليهود بأنهم احرص الناس على حياة لعلمهم بما قد
أعد الله لهم في الآخرة على كفرهم، مما لا يقر به أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث
ويعلمون ما هناك من العذاب. وان المشركين لا يصدقون ببعث ولا عقاب. واليهود
احرص منهم على الحياة واكره للموت.
وقوله: " وما هو بمزحزحه من العذاب ان يعمر " يعنى وما التعمير وطول
البقاء بمزحزحه من عذاب الله، وهو عماد لطلب (ما) الاسم أكثر من طلبها الفعل
كما قال الشاعر:
وهل هو مرفوع بما هاهنا رأس (1)
وان في قوله: " يعمر " رفع بمزحزحه وحسنت الباء في قوله " بمزحزحه "

(1) معاني القرآن للفراء 1: 52 صدر البيت:
بثوب ودينار وشاة ودرهم
وقوله: " بثوب " متعلق بقوله " باع " من البيت المتقدم. وهو
بأن السلامي الذي بضرية * أمير الحمى قد باع حقي بني عبس
ومعنى " فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس " فهل نجد ناصرا ينصرنا ويأخذ لنا حقنا، فترفع
رؤوسنا وهذه كلمة يقولونها في مثل ذلك.
359

كما تقول: ما عبد الله بملازمة زيد وهي التي مع (ما) ذكره عماد للفعل، لاستفتاح
العرب النكرة قبل المعرفة. وقال قوم: ان هو التي مع (ما) كناية عن ذكر العمر
وجعل ان يعمر مترجما عن هو يريد ما هو بمزحزحه من العذاب ان يعمر: اي وان
عمر قال الزجاج: وما هو كناية عن أحدهم كأنه قال: وما أحدهم بمزحزحه من
العذاب كأنه قال: يود أحدهم ان يعمر الف سنة وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب
وقوله: " بمزحزحه " اي بمبعده قال الحطيئة:
فقالوا تزحزح لا بنا فضل حاجة * إليك ولامنا لو هيك رافع (1)
يعنى تباعد يقال منه: زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا. فتأويل الآية:
وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا منجيه منه، لأنه لابد للعمر من الفناء
فيصير إلى الله تعالى، وقال الفراء: " احرص الناس على حياة، ومن الذين أشركوا "
أيضا والله أعلم كقولك هو أسخى الناس. من حاتم ومن هرم (2) لان تأويل قولك:
أسخى الناس إنما هو أسخى من الناس.
وقوله: " والله بصير بما يعملون " قرئ بالتاء والياء معا: اي لا يخفى عليه
شئ من اعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ حتى يذيقهم بها العذاب ومعنى
بصير مبصر عند أهل اللغة وسميع بمعنى مسمع، لكنه صرف إلى فعيل في بصير
وسميع، ومثله " عذاب أليم " بمعنى مؤلم " وبديع السماوات " بمعنى مبدع. وعند
المتكلمين المبصر: هو المدرك للمبصرات، والبصير هو الحي الذي لا آفة به، لأنه
يجب ان يبصر المبصرات إذا وجدت. وليس أحدهما هو الآخر وكذلك
سميع ومسمع.
وقوله: " يود " تقول وددت الرجل أود ودا وودا وودادا وودادة ومودة
واود: لا يكون ماضيه، الا وددت وقال بعض المفسرين: ان تأويل قوله " لتجدنهم
احرص الناس على حياة " اي من الناس اجمع، ثم قال واحرص من الذين أشركوا

(1) الأغاني 13: 6 وقد نسب البيت لقيس بن الحدادية من قصيدة طويلة، نفيسة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة " هرية " انظر 1: 355.
360

على وجه التخصيص، لان من لا يؤمن بالبعث، والنشور، يكون حرصه على البقاء
في الدنيا أكثر ممن يعتقد الثواب، والعقاب. فان قيل: أليس نجد كثيرا من
المسلمين يحرصون على الحياة، ويكرهون الموت؟ فكيف تدل هذه الآية على أن
اليهود لم يكونوا على ثقة مما كانوا يدعونه من أنهم أولى به من المسلمين - مع أن
المسلمين يشاركونهم في الحرص على الحياة - وهم على يقين من الآخرة، وما فيها من
الثواب، والعقاب؟ قيل: ان المسلمين لا يدعون أن الدار الآخرة لهم خالصة، ولا
انهم أحباء الله، ولا انهم من أهل الجنة قطعا، كما كانت اليهود تدعي ذلك، بل هم
مشفقون من ذنوبهم، يخافون أن يعذبوا عليها في النار، فلهذا يشفقون من الموت،
ويحبون الحياة، ليتوبوا من ذنوبهم التي يخافون ان يعذبوا عليها في النار، فلهذا
يشفقون من الموت ويحبون الحياة ليتوبوا من ذنوبهم، ويصلحوا اعمالهم. ومن كان
على يقين مما يصير إليه، لم يؤثر الحياة على الموت. كما روي عن علي (ع) أنه قال:
لا أبالي سقط الموت علي أو سقطت على الموت، وقال: اللهم سئمتهم، وسئموني:
فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني. وقوله: اللهم عجل إلي الراحة، وعجل
لهم الشقوة. وكما روي عن عمار (ره) أنه قال يوم صفين: القى الا حبة: محمدا
وصحبه. وكما قال حذيفة عند الموت: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم.
قوله تعالى:
" قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين " (97) آية
واحدة بلا خلاف
القراءة:
قرأ ابن كثير: (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء وبعدها ياء ساكنة من غير
همزة مكسورة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر إلا يحيى: بفتح الجيم والراء
بعدها همزة مكسورة بعدها ياء ساكنة على وزن (جبرعيل).
361

وروى يحيى كذلك إلا أنه حذف بعده الهمزة فيصير (جبريل). الباقون
بكسر الجيم والراء، وبعدها ياء ساكنة من غير همز. وقرأ أهل البصرة (ميكال)
بغير همز، ولا ياء. وقرأ أهل المدينة بهمزة مكسورة بعد الألف. مثل (ميكاعل)
الباقون باثبات ياء ساكنة بعد الهمزة على وزن (ميكاعيل).
اللغة:
قال أبو الحسن الأخفش: في (جبريل) ست لغات: جبرائيل، وجبرئيل،
وجبرال، وجبريل، وجبرال، وجبريل. وحكى الزجاج بالنون أيضا بدل اللام،
وهي لغة بني أسد. وبتشديد اللام.
النزول:
اجمع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود - حين زعموا أن
جبريل عدو لهم، وان ميكال ولي لهم - لما أخبروا ان جبريل هو الذي نزل على
محمد صلى الله عليه وآله - قالوا: جبريل عدو لنا، يأتي بالحرب والجدب. وميكائيل يأتي بالسلام
والخصب: فقال الله تعالى: " قل من كان عدوا لجبريل " إذ كان هو المنزل
الكتاب عليه، فإنه إنما أنزله على قلبه بإذن الله، لا من تلقاء نفسه، وإنما انزل
لما هو مصدق بين يديه من الكتب التي في أيديهم، لا مكذبا لها، وانه وإن كان فيما
أنزل الامر في الحرب، والشدة على الكافرين. فإنه هدى وبشرى للمؤمنين.
المعنى:
وقوله: " على قلبك " ولم يقل على قلبي. كقولك للذي تخاطبه: لا تقل
للقوم إن الخبر عندك، ويجوز ان تقول: لا تقل: ان الخبر عندي. وكما تقول:
قال القوم: جبرائيل عدونا، ويجوز ان تقول: قالوا: جبرائيل عدوهم. ولا ينبغي
أن يستنكر أحد أن اليهود يقولون: إن جبرائيل عدونا، لان الجهل في هؤلاء
أكثر من أن يحصى. وهم الذين اخبر الله عنهم بعد مشاهدة فلق البحر، والمعجزات
362

الباهرة " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " (1) وقالوا: " أرنا الله جهرة: (2)
ومثل ذلك طائفة من النصارى تعادي سليمان فلا تذكره ولا تعظمه، ولا نفر نبوته.
والاعراب:
وجبرائيل، وميكائيل: اسمان أعجميان أعربا. وقيل: ان جبر عبد وايل الله
مثل عبد الله (3). وضعف ذلك أبو علي الفارسي من وجهين:
أحدهما - ان إيل لا يعرف في أسماء الله في لغة العرب.
والثاني - انه لو كان كذلك لاعراب آخر الكلمة. كما فعل ذلك في سائر
الأسماء المضافة: والامر بخلافه.
سبب النزول:
وكان سبب نزول هذه الآية ما روي أن صوريا، وجماعة من يهود أهل
فدك، لما قدم النبي صلى الله عليه وآله المدينة سألوه، فقالوا: يا محمد كيف نومك، فقد أخبرنا
عن نوم النبي الذي يأتي في اخر الزمان؟ فقال: تنام عيناي وقلبي يقظان، فقالوا:
صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو من المرأة؟ فقال: اما العظام
والعصب والعروق، فمن الرجل، واما اللحم والدم والظفر والشعر: فمن المرأة. قالوا:
صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه أعمامه، ليس فيه من شبه أخواله شئ، أو يشبه
أخواله ليس فيه من شبه أعمامه شئ؟ فقال: أيهما علا ماؤه كان الشبه له، قالوا:
صدقت يا محمد، فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله تعالى: " قل هو الله أحد الله
الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " (4). فقال ابن صوريا: خصلة
واحدة إن قلتها آمنت بك، واتبعتك، اي ملك يأتيك بما ينزل الله لك، قال:
جبريل. قالوا: ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر
والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك: آمنا بك. فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

(1) سورة الأعراف آية: 137.
(2) سورة النساء آية: 102.
(3) في المخطوطة والمطبوعة واو زائدة قبل " مثل ".
(4) سورة الاخلاص بأجمعها.
363

المعنى:
وقوله: " مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين " يعني القرآن.
ونصب مصدقا على الحال. والهاء في قوله: " نزله على قلبك " يا محمد " مصدقا
لما بين يديه " يعني القرآن، ويعني مصدقا لما سلف من كتب الله امامه التي أنزلها
على رسله، وتصديقا لها: موافقة لمعانيها في الامر باتباع النبي صلى الله عليه وآله، وما جاء به
من عند الله. وإنما اضافه " هدى وبشرى للمؤمنين " من حيث كانوا المهتدين به،
والعالمين العاملين به - على ما بيناه فيما مضى. -
قوله تعالى:
" من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال
فان الله عدو للكافرين (98) آية.
وقد بينا اختلاف القراء في جبريل وميكائيل - وان كانا من جملة الملائكة -
فإنما افراد بالذكر، لأجل أمرين:
أحدهما - ذكرا لفضلهما ومنزلتهما. كما قال: " فيهما فاكهة ونخل ورمان) (1)
ولما تقدم من فضلهما، وان الآية نزلت فيهما، وفيما جرى من ذكرهما.
والثاني - ان اليهود لما قالت: جبريل عدونا، وميكال ولينا، خصا بالذكر،
لئلا يزعم اليهود ان جبريل وميكال مخصوصان من جملة الملائكة، وغير داخلين في
جملتهم، فنص الله تعالى عليهما، لا بطال ما يتأولونه من التخصيص. ثم قال: " فان
الله عدو للكافرين " ولم يقل فإنه، فكرر اسم الله لئلا يظن أن الكناية راجعة إلى
جبرائيل، أو ميكائيل. ولم يقل (لهم) لأنه يجوز ان ينتقلوا عن العداوة بالايمان. وفي
هذه الآية دلالة على خطأ من قال من المجبرة: ان الامر ليس بمحدث احتجاجا
بقوله: " ألا له الخلق والامر " (2) قالوا: فلما افرد الامر بالذكر بعد ذكره الخلق
؟ على أن الامر ليس بمخلوق. ولو كان الامر على ما قالوه، لوجب ان لا يكون جبريل

(1) سورة الرحمان آية: 68.
(2) سورة الأعراف آية: 53.
364

وميكائيل من الملائكة. ونظير ذلك أيضا قوله: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم
ومنك ومن نوح " (1).
قوله تعالى:
" ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا
الفاسقون " (99) آية بلا خلاف.
المعنى:
معنى الآيات يحتمل أمرين:
أحدهما - ذكره البلخي وجماعة من أهل العلم يعني سائر الآيات المعجزات
التي أعطاها الله النبي صلى الله عليه وآله من الآيات: القرآن، وما فيه، وغير ذلك من الدلالات
وقال بعضهم: هو الاخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة من التوراة، والإنجيل،
وغيرهما. وقال ابن عباس: ان ابن صوريا القطراني قال لرسول الله صلى الله عليه وآله: يا محمد
ما جئتنا بشئ نعرفه، وما انزل عليك من اية بينة فنتبعك لها. فأنزل الله في ذلك
" ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون " فان قال بعض اليهود:
أنتم مقرون بآياتنا ونحن نجحد بآياتكم، فحجتنا لازمة لكم لأنها مردودة إلى
ما تعرفونه (2)؟ قيل لهم فيجب على هذا ألا يكون لكم حجة على الدهرية والبراهمة
والثنوية، لأنهم لا يعترفون بآياتكم. وإنما قال: " وما يكفر بها الا الفاسقون " ولم
يقل الكافرون وإن كان الكفر أعظم من الفسق، لاحد أمرين:
(الأول) انه عنى الخارجين عن أديانهم، وان أظهروا انهم يتمسكون بها،
لان اليهود قد خرجت بالكفر بالنبي صلى الله عليه وآله من شريعة موسى. الفسق هو الخروج
عن امر الله إلى ما يعظم من معصيته.
والثاني - انه أراد الفاسقين المتمردين في كفرهم، لان الفسق لا يكون الا
أعظم الكبائر فإن كان في الكفر، فهو أعظم الكفر، وإن كان فيما دون الكفر، فهو

(1) سورة الأعراف: 33.
(2) في المطبوعة (تعرفون).
365

أعظم المعاصي. هذا يجيئ على مذهب الحسن، لأنه ذكر ان الفاسقين: عني به جميع
من كفر بها، وقد يدخل في هذا الكلام أحد أمرين: أحدهما - لقوم يتوقعون الخبر أو
لقرب (5) الماضي من الحال. تقول: قد ركب الأمير، وجاء زيد، وقد عزم على
الخروج، إي عازما عليه، وهي هاهنا مع لام القسم على هذا تقديره قوم يتوقعون
الخبر، لان الكلام إذا أخرج ذلك المخرج كان أوكد وأبلغ، والآية هي العلامة
التي فيها عبرة. وقيل العلامة هي الحجة. والبينة الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة
والكاذبة مأخوذة من ابانه أحد الشيئين عن الاخر فيزول التباسه به.
قوله تعالى:
" أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم
لا يؤمنون " (100) آية واحدة.
الاعراب:
الواو في قوله " أو كلما " عند سيبويه وأكثر النحويين واو العطف. الا ان الف
الاستفهام دخلت عليها، لان لها صدر الكلام، وهي أو الاستفهام بدلالة ان
الواو يدخل على هل، لان الألف أقوى منها. قال الزجاج وغيره تقول: وهل زيد
عاقل، ولا يجوز وأزيد عاقل. وقال بعضهم يحتمل أن تكون زائدة. كزيادة الفاء
في قولك: أفالله لتصنعن. والأول - أصح لأنه لا يحكم بالزيادة مع وجود معنى
من غير ضرورة، والعطف على قوله: " خذوا ما اتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا
وعصينا " (6) أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم " وإنما اتصل ذكر العهد بما قبله
لاحد أمرين:
أحدهما - بقوله: " وإذ أخذنا ميثاقكم ".
والثاني - انهم كفروا ينقض العهد كما كفروا بالآيات.

(1) في المطبوعة " الخبر وليقرب "
(2) سورة البقرة آية: 93.
366

المعنى:
والمراد بالعهد هاهنا: الميثاق الذي اخذه الله ليؤمنن بالنبي الأمي - على قول
ابن عباس - وقال أبو علي: المعني به العهود التي كانت اليهود أعطوها من أنفسهم -
في أيام أنبيائهم، وفي أيام نبينا محمد صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا عاهدوه انهم لا يعينوا عليه
أحدا فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشا يوم الخندق.
اللغة:
وقوله: " نبذه " النبذ والطرح والالقاء نظائر. قال صاحب العين: والنبذ
طرحك الشئ عن يدك امامك، أو خلفك. والمنابذة: انتباذ الفريقين للحرب.
تقول نبذنا إليهم على سواء: اي نابذناهم الحرب. والمنبوذون هم الأولاد الذين
يطرحون - والنبيذ معروف - والفعل نبذت لي، ولغيري، وانبذت: خاصة لنفسي.
والمنابذة في البيع منهي عنها وهي كالرمي، كأنه إذا رمى إليه. وجب له، وسمي
النبيذ: نبيذا، لان التمر كان يلقى في الجرة وغيرها (1). وهي فعيل بمعنى مفعول.
وأصاب الأرض نبذة من المطر: اي قليل.
المعنى:
قال قتادة: معنى نبذه في الآية: نقضه، وقيل: تركه وقيل ألقاه،
والمعنى متقارب - قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذته * كنبذك نعلا اخلقت من نعالكا (2)
وقوله: " بل أكثرهم " الهاء، والميم عائدتان على المعاهدين، ولا يصلح
على الفريق إذ كانوا كلهم غير مؤمنين. واما المعاهدون: فمنهم من آمن كعبد الله

(1) في المطبوعة والمخطوطة " في الجر وغيره ".
(2) ديوانه: 11. من ابيات كتب بها إلى صديقه الحصين بن الحر، وهو وال على
ميسان. وكان كتب إليه في امر يهمه فشغل عنه -. وقيل البيت.
وخبرني من كنت أرسلت إنما * اخذت كتابي معرضا بشمالكا
367

ابن سلام، وكعب الأحبار وغيرهما. وإنما دخلت بل على قوله: " أكثرهم
لا يؤمنون "، لامرين:
أحدهما - انه لما قال: " نبذه فريق منهم " دل على أنه كفر ذلك الفريق
بالنقض، وحسن هذا التفصيل، لان منهم من نقض عنادا. ومنهم من نقض جهلا.
والوجه الثاني - كفر فريق منهم بالنقض، وكفر أكثرهم بالجحد للحق،
وهو امر النبي " ص " وما يلزم من اتباعه، والتصديق به. وقيل بل يعني ان الفريق
وان كانوا هم المعاندون، والجميع كافرون. كما تقول: زيد كريم بل قومه
جميع كرام.
وقوله: " أو كلما " نصب على الظرف، والعامل فيه نبذ، ولا يجوز ان يعمل
فيه عاهدوا، لأنه متمم (لما): اما صلة، واما صفة.
قوله تعالى:
" ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ
فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم
كأنهم لا يعلمون " (101) آية.
المعنى:
قال السدي وأكثر المفسرين: المعني بالرسول محمد " ص ". وقال بعضهم
يجوز أن يعنى به هاهنا الرسالة. كما قال كثير:
فقد كذب الواشون ما بحت عندهم * بليلى ولا أرسلتهم برسول (1)
وهذا ضعيف، لأنه خلاف الظاهر، قليل الاستعمال. والكتاب يحتمل ان
يراد به التوراة. ويحتمل ان يراد به القرآن. قال السدي: نبذوا التوراة، واخذوا
بكتاب أصف، وسحر هاروت وماروت: يعني انهم تركوا ما تدل عليه التوراة
من صفة النبي " ص ". وقال قتادة وجماعة من أهل العلم: إن ذلك الفريق كانوا

(1) اللسان " رسل " وقد جاء على وجهين أحدهما - " برسيل " بدل " برسول "
والثاني - " بسر " بدل " بليلى " وفي كليهما " لقد " بدل " فقد ".
368

معاندين. وقال أبو علي: لا يجوز على جماعتهم ان يكتموا ما علموا مع كثرة عدوهم،
واختلاف هممهم، لأنه خلاف العادة، ولكن يجوز على الجمع الكثير ان يتواطوا
على الكتمان، ولذلك قال: " فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ".
وقوله: " مصدق لما معهم " يحتمل أمرين: أحدهما - مصدق لما معهم، لأنه
جاء على الصفة التي تقدمت بها البشارة. والثاني - انه مصدق بالتوراة انها حق من
عند الله - والأول أحسن، - لان فيه حجة عليهم، وعبرة لهم. وقال الحسن:
" مصدق لما معهم " من التوراة، والإنجيل. وقال غيره: يصدق بالتوراة، لان
الاخبار هاهنا عن اليهود دون النصارى. وإنما قال: " نبذ فريق منهم من الذين
أوتو الكتاب " ولم يقل منهم، إذ تقدم ذكرهم، لاحد أمرين:
أحدهما - انه لما أريد علماء أهل الكتاب، أعيد ذكرهم لاختلاف المعنى - على
قول البلخي.
والثاني - انه للبيان. وكان يجوز النصب في مصدق، لان كتابا قد وصف،
لأنه من عند الله - على ما قاله الزجاج وقوله: " كأنهم لا يعلمون " فمعناه انهم يعلمون
وكأنهم لكفرهم وكتمانهم لا يعلمون.
قوله تعالى:
" واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان
ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على
الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا
إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء
وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم
ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق
369

ولبئس ما اشتروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون " (102) آية بلا
خلاف.
القراءة:
قرأ ابن عامر، وحمزة،، والكسائي، وخلف: " ولكن الشياطين " " ولكن
الله قتلهم " (1) " ولكن الله رمى " (2) بتخفيف النون من (لكن)
وكسرها في الوصل، ورفع الاسم بعدها. الباقون بالتشديد. وروي تثنية (الملكين)
بكسر اللام، هاهنا حسب.
المعنى:
واختلفوا في المعني بقوله " واتبعوا " على ثلاثة أقوال: فقال ابن جريج،
وأبو إسحاق: المراد به اليهود الذين كانوا في زمن النبي " ص " وقال الجبائي:
المراد به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان. وقال قوم: المراد به الجميع وهو قول
المتأخرين، قال:، لان مبتغي السحر من اليهود لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث
محمد " ص ". وروي عن الربيع: أن اليهود سألوا محمدا " ص " زمانا عن أمور
من التوراة - لا يسألونه عن شئ من ذلك إلا انزل الله عليه ما سألوا عنه - فيخبرهم،
فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما انزل علينا منا وانهم سألوه عن السحر، وخاصموه
به، فأنزل الله عز وجل " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان " ومعنى " تتلوا "
قال ابن عباس: تتبع، لان التالي تابع. وقال بعضهم: يدعى - وليس بمعروف -
وقال قتادة، وعطا: معناه تقرأ من تلوت كتاب الله: اي قرأته. وقال تعالى:
" هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت " (3) اي تتبع وقال حسان بن ثابت:
بني يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد (4)

(1) سورة الأنفال آية 17.
(2) سورة الأنفال آية 17.
(3) سورة يونس: آية 30.
(4) قائله حسان بن ثابت. ديوانه: 88. من ابيات قالها في خبر أم معبد حن خرج
رسول الله " ص " مهاجرا إلى المدينة وروايته " مسجد " بدل " مشهد ".
370

والذي تتلوه هو السحر - على قول ابن إسحاق، وغيره من أهل العلم: -
وقال بعضهم: الكذب. ومعنى قوله: " على ملك سليمان " على عهد سليمان. قال
ابن إسحاق وابن جريج: في ملك سليمان حين كان حيا. وهو قول المبرد وقال قوم:
إنما قال تتلو " على ملك " لأنهم كذبوا عليه بعد وفاته كما قال: " ويقولون على
الله الكذب " (1) وقال: " أتقولون على الله ما لا تعلمون " (2) وقال الشاعر:
عرضت نصيحة من ليحيى * فقال غششتني والنصح مر
وما بي ان أكون أعيب يحيى * ويحيى طاهر الأخلاق بر
ولكن قد اتاني ان يحيى * يقال عليه في نفعاء شر
فإذا صدق، قيل: تلا عنه. وإذا كذب، قيل تلا عليه، وإذا أبهم، جاز فيه
الأمران. قوله: " الشياطين " قال قوم: هم شياطين الجن، لان ذلك هو المستفاد
من اطلاق هذه اللفظة. وقال بعضهم: المراد به الشياطين الانس المتمردة في الضلالة.
كما قال جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزلي * وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
وقوله: " وما كفر سليمان " وإن لم يجر لذلك ذكر، يكون هذا تكذيبا له.
فمعناه ان اليهود أضافوا إلى سليمان السحر، وزعموا أن ملكه كان به، فبرأه الله مما
قالوا. وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة. وقال ابن إسحاق: قال
بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد " ص " يزعم أن سليمان كان نبيا، والله
ما كان إلا ساحرا فأنزل الله تعالى: " وما كفر سليمان " وقيل: تقدير الكلام
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، فتضيفه إلى سليمان. وما كفر
سليمان. لان السحر لما كان كفرا، نفى الله تعالى عنه ذلك على المعنى - وان كانوا
لم يضيفوا إليه كفرا - والسبب الذي لأجله أضافت اليهود إلى سليمان السحر، ان
سليمان جمع كتب السحر تحت كرسيه. وقيل في خزائنه، لئلا يعمل به فلما مات

(1) سورة آل عمران: آية 75، 78.
(2) سورة الأعراف آية: 27، سورة يونس آية: 68.
371

وظهر عليه قالت الشياطين: بهذا كان يتم ملكه، وشاع في اليهود وقبلوه، لعداوتهم
لسليمان. وقيل إنهم وضعوا كتاب السحر بعد سليمان وأضافوه إليه وقالوا: بهذا
كان يتم له مكان فيه، فكذبهم الله تعالى في ذلك، ونفى عنه ذلك.
اللغة:
والسحر والكهانة والحيلة نظائر. يقال سحره يسحره سحرا، واسحرنا اسحارا،
وسحره تسحيرا. قال صاحب العين: السحر عمل يقرب إلى الشيطان. كل ذلك
يكتبونه السحر. ومن السحر الآخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الامر كما ترى
- وليس الامر كما ترى - والجمع الاخذ. والسحر البيان من اللفظ كما قال النبي " ص ":
ان من البيان لسحرا، والسحر فعل السحر في شئ يلعب به الصبيان إذا مد خرج على
لون، فإذا مد من جانب آخر خرج على لون آخر يسمى السحارة والسحر العدو قال لبيد:
أرانا موضعين لامر غيب * ونسحر بالطعام وبالشراب (1)
وقال آخر:
فان تسلينا مم نحن فإننا * عصافير من هذا الأنام المسحر (2)
وقوله: " إنما أنت من المسحرين " (3) يعنى من المخلوقين. وفي تمييز
العربية هو المخلوق الذي يطعم، ويسقى، والسحر اخر الليل. بالتنوين.
قال الطرماح:
بان الخليط بسحرة فتبددوا * والدار تشعب بالخليط وتبعد (4)

(1) اللسان (سحر) وقد نسبه لامرئ القيس. والبيت الذي يليه:
عصافير وذبان ودود * واجرأ من مجلحة الذئاب
والسحر: الغذاء. وموضعين: مسرعين لامر غيب: يريد الموت.
(2) اللسان (سحر) قائله لبيد. وروايته (تسألينا فيما) بدل (تسلينا مم). والسحر
هنا: يحتمل أحد أمرين: الخديعة، والغذاء.
(3) سورة الشعراء: آية 153، 185.
(4) اللسان " خلط " ذكر الصدر فقط. الخليط: القوم الذين أمرهم واحد والجمع
خلطاء، وخلط.
372

وتسحرنا اكلنا سحورا، وأسحرنا كقولك أصبحنا. والسحر الرئة مخفف،
وما يتعلق بالحلقوم. ويقال للجبان إذا جبن انتفخ مسحره واستحر الطائر إذا غلبه
بسحر. واصل الباب الخفاء، والسحر قيل: الخفاء سببه توهم قلب الشئ عن حقيقته
كفعل السحرة في وقت موسى - لما أوهموا ان العصا والحبال صارت حيوانا - فقال:
" يخيل إليه من سحرهم انها تسعى " (1).
وقوله: " لكن الشياطين كفروا " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - انهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر.
والثاني - انهم كفروا بما استخرجوه من السحر.
والثالث - معناه ولكن الشياطين سحروا فعبر عن السحر بالكفر.
وقوله: " يعلمون الناس السحر " قيل فيه قولان:
أحدهما - انهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه.
(والثاني - انهم دلوه على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه) (2)
وقوله: " وما انزل على الملكين " قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والسدي:
ان (ما) بمعنى الذي. وقال الربيع في احدى الروايتين عن ابن عباس: انها بمعنى
الجحد. وروي عن القاسم بن محمد: انها تحتمل الامرين. وموضع (ما) نصب
لفظها على السحر، وقيل إنها عطف على (ما) في قوله: " ما تتلو الشياطين " وقال
بعضهم: موضعها جر عطف على ملك سليمان، وعلى ما انزل. ومن قرأ بكسر اللام
في الملكين قال: هما من ملوك بابل، وعلوجها. (3) وهو قول أبي الأسود الدؤلي،
والربيع، والضحاك، وبه قرأ الحسن البصري، ورواها عن ابن عباس، واختلف

(1) سورة (طه) آية: 66.
(2) ما بين القوسين من مجمع البيان، لان الشيخ ذكر قولين، ولا يوجد في المخطوطة وفي
المطبوعة الا قول واحد.
(3) العلوج، جمع علج، ويجمع أيضا على أعلاج ومعلوجي، ومعلوجاء وهو الرجل الشديد
من كفار العجم. ومنهم من يطلقه على عموم الكافر.
373

من قال بهذا فقال قوم: كانا مؤمنين، ولذلك نهيا عن الكفر. وقال قوم: انهما
كانا نبيين من أنبياء الله. ومن قرأ بالفتح. قال قوم منهم: كانا ملكين وقال
آخرون: كانا شيطانين. وقال قوم: هما جبريل وميكائيل خاصة. واختلفوا في بابل
فقال قوم: هي بابل العراق، لأنها تبلبل بها الألسن: وروي ذلك عن عائشة وابن
مسعود. وقيل: بابل دماوند. ذكره السدي. وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس
العين: وقال الحسن ان الملكين ببابل الكوفة إلى يوم القيامة، وان من اتاهما سمع
كلامهما. ولا يراهما وبابل بلد لا ينصرف.
وقيل في معنى السحر أربعة أقوال:
أحدها - انه خدع ومخاريق، وتمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أن
لها حقيقة.
والثاني - انه اخذ بالعين على وجه الحيلة.
والثالث - انه قلب الحيوان من صورة إلى صورة، وانشاء الأجسام على
وجه الاختراع فيمكن الساحر ان يقلب الانسان حمارا وينشئ أجساما.
والرابع - انه ضرب من خدمة الجن كالذي يمسك له التجدل فيصرع، وأقرب
الأقوال الأول، لان كل شئ خرج عن العادة الخارقة، فإنه لا يجوز أن يتأتى
من الساحر. ومن جوز للساحر شيئا من هذا، فقد كفر لأنه لا يمكنه مع ذلك
العلم بصحة المعجزات الدالة على النبوات، لأنه أجاز مثله من جهة الحيلة والسحر.
وقوله: " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " يتصل
قوله: " فلا تكفر " بأحد ثلاثة أشياء: أحدها - فلا تكفر بالعمل بالسحر والثاني -
فلا تكفر بتعلم السحر ويكون مما امتحن الله عز وجل به كما امتحن بالنهر في قوله:
" فمن شرب منه فليس منى " وثالثها (1) - فلا تكفر بواحد منهما للتعلم للسحر والعمل به
فان قيل كيف يجوز ان يعلم الملكان السحر؟ قيل يعلمان ما السحر وكيف الاحتيال
به، ليجتنب، ولئلا يتموه على الناس انه من جنس المعجزات التي تظهر على يد

(1) سورة البقرة آية: 249.
374

الأنبياء فيبطل الاستدلال بها. وقال جماعة من المفسرين منهم: أبو علي وغيره
أنزلهما الله من السماء وجعلهما بهيئة الانس، حتى بينا للناس بطلان السحر. وقال الحسن
وقتادة: اخذ عليهما ألا يعلماه " حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر ".
وقوله: " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " على
قول من جعل ما جحدا.
وقوله: " وما انزل على الملكين " يحتمل أن يكون ذلك من قول هاروت
وماروت وليسا ملكين. كما يقول الغاوي الخليع لنا انك في ضلال فلا ترد ما انا
فيه، فيقر بالذنب وهو يأتيه. والتقدير على هذا: " ولكن الشياطين كفروا "
هاروت وماروت. فمن قرأ الملكين بفتح اللام - وهو قراءة الجمهور، اختلفوا فمنهم
من قال: ان سحرة اليهود زعموا ان الله انزل السحر على لسان جبريل، وميكايل
إلى سليمان، فأكذبهم الله بذلك وفي الكلام تقديم وتأخير، فتقديره وما كفر
سليمان وما انزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا. يعلمان الناس السحر. ببابل
هاروت وماروت - وهما رجلان ببابل غير الملكين اسم أحدهما - هاروت والآخر
ماروت، ويكون هاروت وماروت بيانا عن الناس. وقال قوم: ان هاروت وماروت
ملكان من الملائكة. واختلفوا في سبب هبوطهما - على قولين.
فقال قوم: ان الله أهبطهما ليأمرا بالدين، وينهيا عن السحر، لان السحر كان
كثيرا في ذلك الوقت، ثم اختلفوا فقال قوم: كانا يعلمان الناس كيفية السحر
وينهيانهم عن فعله، ليكون النهي بعد العلم به، لان من لا يعرف الشئ فلا يمكنه
اجتنابه. وقال قوم آخرون: لم يكن للملكين تعليم السحر، ولا اظهاره، لما في
تعليمه من الاغراء بفعله. والثالث هبطا لمجرد النهي - إذ كان السحر فاشيا -.
وقال قوم: كان سبب هبوطهما ان الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع
كثرة نعم الله عليهم، فقال لهم: اما لو كنتم مكانهم لعملتم مثل اعمالهم، فقالوا
سبحانك ما كان ينبغي لنا، فامرهم ان يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض فاختاروا
هاروت و ماروت، فاهبطا إلى الأرض، وركب فيهما شهوة الطعام والشراب والنكاح،
375

وأحل لهما كل شئ بشرط الا يشركا بالله ولا يشربا الخمر ولا يزنيا، ولا يقتلا
النفس التي حرم الله فعرضت لهما امرأة للحكومة فمالا إليها، فقالت لهما لا أجيبكما
حتى تعبدا صنما وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، فعبدا الصنم وواقعاها، وقتلا سائلا
مر بهما خوفا ان يشهر أمرهما في حديث طويل، لا فائدة في ذكره. قال كعب
فوالله ما أمسيا من يومهما الذي اهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه فتعجبت
الملائكة من ذلك ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء وكانا يعلمان
الناس السحر ومن قال: بعصمة الملائكة، لم يجز هذا الوجه. وقال قوم من أهل
التأويل: ان ذلك على عهد إدريس. وإنما قوله: " إنما نحن فتنة ".
اللغة:
فالامتحان والفتنة والاختبار نظائر. يقال فتنه فتنة وافتتن افتتانا. وقال أبو
العباس، فتن الرجل وأفتن (1) بمعنى اختبر. وتقول: فتنت الرجل، وأفتنته.
ولغة قريش: فتنته قال الله تعالى: " وفتناك فتونا " (2) وقال " ولقد فتنا
سليمان " (3)، وقال أعشى همدان:
لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت * سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم (4)
فجاء باللغتين. وقوله تعالى: " فظن داود أنما فتناه " (5) اي اختبرناه.
ويقال فتنت الذهب في النار: إذا اختبرته فيها، لتعلم أخالص هو أم مشوب. فقيل -
لكل ما أحميته في النار: - فتنته. وتقول فتنت الخبزة في النار: إذا أنضجتها.
ومثله يقال في اللحم. قوله: " والفتنة أشد من القتل " (6) اي الكفر أشد

(1) في المطبوعة والمخطوطة (فتن) باسقاط الألف.
(2) سورة طه آية: 40.
(3) سورة ص آية: 34.
(4) اللسان (فتن) وروايته (لهي) بد (فهي) قال ابن بري: قال بن جني ويقال
هذا البيت لابن قيس. والبيت الذي يليه:
والقى مصابيح القراءة واشترى * وصال الغواني بالكتاب المتمم
فقال سعيد: كذبتن كذبتن. وفي مجمع البيان (لقد) بدل (لئن) (وهي) بدل (فهي).
(5) سورة: ص آية 24.
(6) سورة البقرة: آية 191.
376

من القتل. والفتن في الدين والحروب وقولهم: فتنة السوط أشد من فتنة السيف، ومعناه
اختبار السوط أشد لان فيه تعذيبا متطاولا. وقوله: " يوم هم على النار يفتنون " (1) اي
يشوون. ومن قولك فتنت الخبز والمعنى الصحيح انهم يعذبون بكفرهم. يقال فتن الكافر،
العذاب وأفتنته اي جزاه بفتنته. كقولك: كذب وأكذبته. كل من صبأ فقد فتن.
وقوله: " بأيكم المفتون " (2) قال الأخفش: معناه الفتنة: فهو مصدر، كقولك: رجل ليس
له معقول، وخذ ميسوره ودع معسوره. وأبى ذلك سيبويه. وقال: خذ ميسوره اي
ما تيسر له. وليس له مرفوع: اي ما يرفع. قال صاحب العين: فتن فلان فتونا
فهو فاتن: اي مفتن. وقوله: " وما أنتم عليه بفاتنين " (3) اي مضلين - عن
الحسن ومجاهد. - وأصل الباب الاختبار. ومعناه في الآية: إنما نحن اختبار وبلوى
وامتحان، فلا تكفر. وقال قتادة: " إنما نحن فتنة " اي بلاء. ويحتمل أن يكون
معناه انهما كانا كافرين، فيكون معنى قولهما: " إنما نحن فتنة " اي شئ عجيب
مستطرف كما يقال للمرأة الحسناء انها فتنة من الفتن. ويكون قوله: " فلا تكفر "
على هذا الوجه يعني بما جئناك به، بل صدق به واعمل عليه. وقوله: " حتى
يقولا " يحتمل أمرين:
أحدهما - ان حتى، بمعنى إلا وتقديره وما يعلمان من أحد إلا أن يقولا:
إنما نحن فتنة، فلا تكفر ويكون ذلك زيادة في الابتلاء من الله في التكليف.
والثاني - انه نفي لتعليمهما الناس السحر، وتقديره ولا يعلمان أحدا السحر،
فيقولان: " إنما نحن فتنة فلا تكفر " فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين،
والنهي عنه من الملكين.
وقوله: " فيتعلمون " قال قوم: معنى تعلم واعلم واحد. كما جاء علمت،

(1) سورة الذاريات: آية 13.
(2) سورة القلم: آية 6.
(3) سورة الصافات: آية 164.
377

وأعلمت، وفهمت، وأفهمت كما قال كعب بن زهير:
تعلم رسول الله إنك مدركي * وان وعيدا منك كالاخذ باليد (1)
وقال القطامي:
تعلم أن بعد الغي رشدا * وان لهذه الغير انقشاعا
ومنهم من قال: تعلم بمنزلة تسبب إلى ما به تعلم من النظر في الأدلة. وليس في
اعلم ذلك، لأنه قد ينبئهم على ما يعلمه بالتأمل له: كقوله: اعلم أن الفعل يدل على الفاعل.
وما لم يسبق المحدث فهو محدث. والأول كقوله: تعلم النحو والفقه. فان قيل
كيف يفرق بين المرء وزوجه؟ قلنا فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - انه إذا تعلم السحر كفر فحرمت عليه امرأته.
والثاني - ان يمشي بينهما بالنميمة حتى يفسد بينهما، فيفضي إلى الطلاق
والبينونة.
والثالث - قال قتادة وغيره: يوجد كل واحد منهما على صاحبه ويبغضه إليه.
وقيل: انه كان من شرع سليمان أن من تعلم السحر، بانت منه زوجته. وقوله:
" منهما " الضمير - قيل: - انه راجع إلى الملكين. وقيل بل إلى الكفر والسحر. لأنه
تقدم الدليل عليهما في قوله: " ولكن الشياطين كفروا " كما جاء " سيذكر من يخشى
ويتجنبها الأشقى " (2) اي يتجنب الذكرى. ومن قال الملائكة معصومون،
يقول الكناية ترجع إلى الكفر والسحر لا غير دون الملكين. فكأنه قيل:
" فيتعلمون " مكان ما علماهم " ما يفرقون به بين المرء وزوجه "، كقول القائل:
ليت لنا من كذا، وكذا كذا: اي بدله. قال الشاعر:
جمعت من الخيرات وطبا وعلبة * وصرا لأخلاف المزممة البزل

(1) شذور الذهب: 362. وهذا بيت من قصيدة طويلة نسبها لانس بن زنيم الديلي
يقولها بعد فتح مكة معتذرا لرسول الله " ص " مما كان عمرو بن سالم الخزاعي يقوله فيه وفي
أصحابه ومطلعها:
أنت الذي تهدى معد بأمره * بل الله يهديهم وقال: لك اشهد
(2) سورة الاعلى: آية 10.
378

ومن كل اخلاق الكرام نمية * وسعيا على الجار المجاور بالنجل (1)
يريد جمعت مكان خيرات الدنيا هذه الخيرات الرديئة، والافعال الدنيئة.
اللغة:
وقوله: " يفرقون بين المرء وزوجه " فالمرء تأنيثه المرأة. قال صاحب العين:
امرأة تأنيث المرء ويقال مرأة بلا ألف. والمرأة مصدر الشئ المرئ الذي يستمرأ
يقال ما كان مريئا، ولقد مرؤ واستمرأته، وهو المرئ، للطعام وأصل الباب
المرئ، فقولهم مرأة كقولهم جارية اي جرت في النور والشباب. فأما امراء الطعام
فإنه يجري وينفذ في مجاريه، ولا يقف. وكذلك المرأة تجري في السن إلى حد.
وفرق في الشواذ ما بين المرء - بضم الميم - وهي لغة هذيل. قوله: " وما هم
بضارين به من أحد " فالضرر والألم والأذى نظائر. والضر نقيض النفع. يقال ضره
يضره ضرا، وأضر به اضرارا، واستضر استضرارا، واضطر اضطرارا. وضاره
مضارة وضرارا. قال صاحب العين: الضر والضر لغتان، فإذا جمعت الضر والنفع.
فتحت الضاد. والضرر نقصان يدخل في الشئ. يقال دخل عليه ضرر في ماله.
والضرورة اسم لمصدر الاضطرار. والضرير: الذاهب البصر من الناس. تقول:
رجل ضرير بين الضرارة. والضراء من الضر. وقوم اضراء.
والضرر مصدر اضره مضارة وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) وإذا ضر
به المرض قيل: ضرير، وامرأة ضريرة. والضرير: اسم للمضارة، وأكثر
ما يستعمل في الغيرة تقول: ما أشد ضريره عليها. قال الشاعر يصف حمارا
وحشيا: -

(1) أمالي المرتضى 1: 421. الوطب صفاء اللبن خاصة. والعلبة: جلدة تؤخذ من جنب
البعير فتسوى مستديرة كالقصعة المدورة يشرب بها الرعيان. والصر: شد ضرع النوق الحلوبات
والفاعل صرار. والاخلاف: جمع خلف - بكسر فسكون - ضرع الناقة. والبزل: جمع بازل:
الناقة أو البعير إذا استكمل الثامنة، وطعن في التاسعة، وبزل نابه اي انشق عن اللحم.
والمزممة: هي التي علق عليها الزمام. والنجل تمزيق العرض بالغيبة وفي الحديث " من نجل
الناس نجلوه " في المطبوعة والمخطوطة (رطبا) - بدل (وطبا). و (غلبة) بدل (علبة)
و (لمحلى) بدل " بالنجل ".
379

حتى إذا مالان من ضريره (1)
والضرتان: امرأتان للرجل، والجمع الضرائر. والضرتان: الالية من جانبي
عظمها، وهما الشحمتان اللتان تهدلان من جانبيها. وضرة الابهام: لحمة تحتها.
وضرة الضرع: لحمة تحتها. والضر: الهزال. وضرير الوادي: جانباه وكل شئ دنا
منك حتى يزحمك: فقد أضر بك. وأصل الباب: الانتقاص.
وقوله: " من أحد الا بإذن الله " يحتمل أمرين:
أحدهما - بتخلية الله.
والثاني - الا بعلم الله من قوله: " فاذنوا بحرب من الله " معناه اعلموا. بلا
خلاف ويقال: أنت آذن اذنا. قال الحطيئة:
الا يا هند إن جددت وصلا * والا فأذنيني بانصرامي (2)
وقال الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء (3)
معناه أعلمتنا. والاذن في اللغة على ثلاثة أقسام:
أحدها - بمعنى العلم وذكرنا شاهده.
والثاني - الإباحة والاطلاق كقوله " فانكحوهن باذن أهلهن " (4). وقوله:
" يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت ايمانكم " (5).
والثالث - بمعنى الامر: كقوله: " أنزله على قلبك بإذن الله " (6) وقد أجمعت
الأمة على أنه لم يأمر بالكفر، ولم يتجه نفي القسم الثالث. ولا يجوز أن يكون المراد

(1) اللسان " ضرر "
(2) في المطبوعة والمخطوطة " ألا " ساقطة. وفي المطبوعة " ماهند " وعجزه فيهما:
والا فأذنيني عاجلا بانصرامي
(3) معلقته الشهيرة وهذا مطلعها. وعجزه:
رب ثاويمل منه الثواء
(4) سورة النساء: آية 24.
(5) سورة النور: آية 58.
(6) سورة البقرة: آية 97.
380

" إلا باذنه " الا بإرادته، ومشيئته، لان الإرادة لا تسمى إذنا. الا ترى أن من
أراد الشئ من غيره أن يفعله، لا يقال أذن له فيه؟ فبطل ما قالوه. وقد روي عن
سفيان إلا بقضاء الله. وقال بعض من لا معرفة له: الاذن بمعنى العلم بفتح الهمزة
والذال دون الاذن بكسر الهمزة وسكون الذال - وهذا خطأ، لان الاذن مصدر
يقال فيه اذن واذن مثل حذر وحذر. وقال تعالى: " خذوا حذركم " (1) ويجوز فيه
لغتان مثل: شبه وشبه ومثل ومثل. وقال هذا القائل: من شاء الله يمنعه، فلم
يضره السحر. من شاء خلى بينه، وبينه، يضره. وقوله: " لا ينفعهم ".
اللغة:
فالنفع نقيض الضر. والنفع والمنفعة واللذة نظائر. يقال نفع ينفع نفعا، فهو
نافع. وانتفع فلان بكذا وكذا. ورجل نفاع ينفع الناس. وأصل النفع: ضد
الضر. وحد النفع هو كل فعل يكون الحيوان به ملتذا: اما لأنه لذة، أو يؤدي إلى
اللذة. والمضرة كل معنى يكون الحيوان به ألما: اما لأنه ألم، أو يؤدي إلى الألم.
والهاء في قوله " لمن اشتراه " عائدة إلى السحر.
المعنى:
والمعنى لقد علمت اليهود أن من استبدل السحر بدين الله، ماله في الآخرة
من خلاق. وهو قول ابن زيد، وقتادة. وقال قوم من المفسرين، كأبي علي،
وغيره. كانوا يعطون عليه الأجرة، فلذلك اشتراؤهم له. والخلاق: النصيب من
الخير، وهو قول مجاهد، وسفيان. وقال قوم: ماله من جهة. وقال الحسن: ماله
من دين. قال أمية بن أبي الصلت:
يدعون بالويل فيها لاخلاق لهم * إلا سرابيل من قطر واغلال (2)
يعني لا نصيب لهم في الآخرة من الخير. ومعنى " شروا به أنفسهم " باعوا به

(1) سور النساء: آية 70، 101.
(2) ديوانه: 47. والقطر: النحاس الذائب. في المطبوعة (لا سرائيل) بدل (الا
سرابيل).
381

أنفسهم في قول السدي، وغيره - فان قيل: كيف قال: " لو كان يعلمون "
وقد قال قبله " ولقد علموا لمن اشتراه "؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها - إنهم فريقان: فريق علموا. وعاندوا وفريق علموا وضيعوا.
والثاني - انهم فريق واحد إلا انهم ذموا في أحد الكلامين بنفي العلم، لأنه
بمنزلة المنتفي. وأخبر عن حالهم في الآخرة وتقديره أنهم علموا قدر السحر، ولم
يعلموا ان هلاكهم بتصديقه، واستعماله، أو لم يعلموا كنه ما أعد الله من العذاب
على ذلك وان علموه على وجه الجملة.
(والثالث) وقال قوم: هو مقدم ومؤخر. وتقديره وما هم بضارين به من
أحد الا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا
يعلمون. ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق وقال بعضهم: هما جميعا
خبر عن فريق واحد، وأراد بقوله: " ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "
اي لو كانوا يعلمون بما علموه فعبر عن المعلوم بالعلم، كما قال كعب بن زهير المزني
يصف ذئبا وغرابا تبعاه، لينالا من طعامه، وزاده:
إذا حضراني قلت لو تعلمانه * ألم تعلما اني من الزاد مرمل (1)
فأخبر أنه قال لهما: لو تعلمانه فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما، فقال: ألم تعلما،
وكذلك الآية. وقال قوم: إن الذين علموا الشياطين والذين لم يعلموا الناس دون
الشياطين، فان قيل: ما معنى لمن اشتراه، وأين جوابها ان كانت شرطا؟ قلنا عنه
جوابان أحدهما - انها بمعنى الجزاء. والآخر بمعنى الذي في قول الزجاج، وجوابها
مكتفى منه جواب القسم. كما قال: " لئن اخرجوا لا يخرجون معهم " (1) ولذلك وقع
قالوا: ولا يجوز الجزم إلا في ضرورة الشعر، كما قال الشاعر:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقا * أصم في نهار القيظ للشمس باديا
والوجه، لأصومن. ولا يجوز لا صوم إلا في ضرورة الشعر كما قال:

(1) ديوانه 51 وآمالي الشريف المرتضى 1: 224 المرمل الذي نفذ زاده،
ومنه الارمل.
(2) سورة الحشر: آية 12.
382

لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم * ليعلم ربي ان بيتي واسع (1)
قالوا وان جزمت الأول، جاز جزم الثاني، كقولك: لئن تقم لا نقم إليك.
وقوله: " فيتعلمون " يجوز أن يكون عطفا على فيأتون فيتعلمون، وقد دل
أول الكلام على يأتون. وقيل: فيعلمون الناس السحر فيتعلمون - وكلاهما ذكره
الكسائي والفراء - وانكر الزجاج القول الأخير، لأجل قوله: " منهما اي من
الملكين، وأجاز القول الأول، واختار قولا ثالثا: وهو يعلمان، فيتعلمون،
والذي أنكره يجوز إذا كان " منهما " راجعا إلى السحر والكفر، ولا يجوز أن يكون
" فيتعلمون " جوابا لقوله: " فلا تكفر " فينصب، لان تقديره لا يكن
كفر فتعلم، كما تقول: لا تدن من الأسد فيأكلك: اي لا يكن دنو فأكل. فهذا
نهي عن دنو يقع بعده اكل. وإنما النهي في الأول عن الكفر بتعلم السحر، للعمل
وليس يصلح للجواب على هذا المعنى. ولا يجوز أن يكون جوابا للنفي في قوله:
" وما يعلمان "، لان لفظه على النفي، ومعناه الايجاب كأنه قيل: يعلمان إذا قالا
نحن فتنة فلا تكفر. فان قيل: ما اللام الأولى في قوله: " ولقد علموا " وما الثانية
في قوله: " لمن اشتراه " ومثله قوله: " ولئن جئتهم بآية ليقولن " (2) قيل:
الثانية لام القسم بالاجماع. قال الزجاج: لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك
- في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنك - فأما الأولى فزعم بعض النحويين أنها لما
دخلت في أول الكلام اشبهت لام القسم، فاجيبت بجوابه - قال الزجاج: هذا
خطأ، لان جواب القسم لا يشبه القسم، ولكن اللام الأولى دخلت إعلاما ان
الجملة بكاملها معقودة بالقسم، لان الجزاء - وإن كان القسم عليه -، فقد صار
للشرط فيه حظ، ولذلك دخلت اللام. قال الرماني: هذا الذي ذكره، لا يبطل شبهها
بالقسم، لأنها للتوكيد، كما أنه للتوكيد، فكأنه قال: والله إن اتيتني لأكرمنك

(1) الخزانة 4: 220 نسبه لكميت بن معروف. في المخطوطة (ري) بدل (ربي)
وفي المطبوعة (رئ).
(2) سورة الروم: آية 58.
383

والظاهر في ورايات أصحابنا ان الساحر يجب قتله وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.
وقال أبو علي من قال: انه بقلب الأجسام، وينشئها، يجب قتله ان لم يتب، لأنه
مرتد كافر بالأنبياء، لأنه لا يجد بين ما ادعى وبين آياتهم فضلا (1) واما من
قال: إنه يموه ويمخرق (2)، فإنه يؤدب، فلا يقتل. واما الروايات التي في أن
الملكين أخطئا، وركبا الفواحش، فإنها اخبار آحاد. من اعتقد عصمة الملائكة،
يقطع على كذبها ومن لم يقطع على ذلك، جوز أن تكون صحيحة، ولا يقطع
على بطلانها. والذي نقوله إن كان الملكان رسولين فلا يجوز عليهما ذلك، وان لم
يكونا رسولين، جاز ذلك - وان لم نقطع به - وقد بينا الكلام عليه فيما مضى. فأما
ما روي من أن النبي " ص " سحر - وكان يرى أنه يفعل ما لم يفعله - وانه لم يفعله
فأخبار آحاد، لا يلتفت إليها. وحاشى النبي " ص " من كل صفة نقص، إذ تنفر
من قبول قوله، لأنه حجة الله على خلقه، وصفيه من عباده، واختاره الله على علم
منه. فكيف يجوز ذلك مع ما جنبه الله من الغظاظة والغلظة، وغير ذلك من الأخلاق
في الدنيئة، والخلق المشينة، ولا يجوز ذلك على الأنبياء الا من لم يعرف مقدارهم
ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم. وقد قال الله تعالى: " والله يعصمك من الناس " (3)
وقد اكذب الله من قال: ان يتبعوا إلا رجلا مسحورا. فقال: " وقال الظالمون
ان يتبعون إلا رجلا مسحورا " (4) فنعوذ بالله من الخذلان، ونحمده على
التوفيق لما يرضاه.
و " لكن " مشددة، ومخففة معناهما واحد. قال الكسائي: والذي
اختارته العرب إذا كانت (ولكن) بالواو مشددة، وإذا كانت بلا واو اختاروا
التخفيف - وكل صواب - وقرئ بغير ما اختاروه اتباعا للاخبار في القراءة.

(1) في المطبوعة " بين ابائهم فصلا "
(2) الممخرق، والمموه يطلقان على معنى واحد. والمخرقة مأخوذة من مخاريق الصبيان:
وهي خرق مفتولة يلعبون بها.
(3) سورة المائدة: آية 70.
(4) سورة الاسرى: آية 47 والفرقان: آية 8.
384

" ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو
كانوا يعلمون " (103) - آية بلا خلاف -
الاعراب:
الضمير في قوله: " ولو أنهم آمنوا " عائد على الذين يتعلمون السحر. قال
الحسن: تعلموا ان ثواب الله خير لهم من السحر. وأما جواب لو فللنحويين فيه
قولان. فالبصريون يذهبون إلى أن جوابه محذوف، وتقديره. ولا ثيبوا. وأوقع
لمثوبة من عند الله موقعه. لدلالته عليه. وقال بعضهم: التقدير ولو أنهم آمنوا
واتقوا لأثيبوا، ثم قال: " ولمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون " أي لو كانوا
يستعملون ما يعلمون. وليس انهم كانوا يجهلون ذلك، كما يقول الانسان لصاحبه
- وهو يعظه: - ما أدعوك إليه خير لك لو كنت تعقل أو تنظر في العواقب والفكر
فيها. وقال الفراء: الجواب في " لمثوبة ".، لان " لو " اشبهت لئن، (1) من حيث
كان كل واحد منهما جزاء، فلما أشبهتها أجيبت بجوابها، فالمعنى لئن آمنوا لمثوبة.
فعلى القول الأول، لا يجوز، لو أتاني زيد لعمرو خير منه. وعلى الثاني يجوز.
ولو قلت لو اتاني زيد، لاكرامي خير له، جاز على الوجهين. واللام التي في
(لمثوبة) لام الابتداء، لأنها دخلت على الاسم، كما دخلت في (علمت لزيد خير
منك). ولو جاز هاهنا، لام القسم، لنصبت الاسم في علمت.
المعنى:
فان قيل ما معنى قول الله تعالى " لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون "
وهو خير علموا أولم يعلموا؟ قيل: لو كانوا يعلمون، لظهر لهم بالعلم ذلك، أي
لعلموا أن ثواب الله خير من السحر. وقال أبو علي: المعني في ذلك الدلالة على جهلهم،
والترغيب لهم في أن يعلموا ذلك، وان يطلبوا ما هو خير لهم من السحر - وهو ثواب

(1) في المطبوعة والمخطوطة (يكن) وهو تحريف فظيع.
385

الله الذي ينال بطاعته، واتباع مرضاته. وفيه دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف،
لأنهم لو كانوا عارفين - على ما يقولونه، لما قال: " لو كانوا يعلمون ".
والمثوبة: الثواب - في قول قتادة والسدي والربيع - والثواب: هو الجزاء
على العمل بالاحسان وهو منافع مستحقة يقاربها تعظيم وتبجيل.
اللغة:
والمثوبة والثواب والاجر نظائر. ونقيض المثوبة العقوبة، يقال ثاب يثوب
ثوبا وإثابة، وأثابه إثابة، وثوابا، ومثوبة، واستثابة. وثوب تثويبا. والثواب
في الأصل معناه: ما رجع إليك من شئ. تقول اعترت الرجل غشية، ثم ثابت
إليه نفسه، ولذلك صار حق الثواب الجزاء، لأنه العائد على صاحبه مكافأة ما فعل.
ومنه التثويب في الاذان وغيره: وهو ترجيع الصوت، ولا يقال، ذلك للصوت
مرة واحدة. ويقال ثوب الداعي إذا كرر دعاءه إلى الحرب، أو غيرها. ويقال
انهزم القوم ثم ثابوا، أي رجعوا. والثوب مشتق من هذا، لأنه ثاب لباسا بعد
أن كان قطنا، أو غزلا. والثيب: التي قد تزوجت بوجه ما كان، ولا يوصف به
الرجل إلا أن تقول ولد الثيبين وولد البكرين. والمثابة: الموضع الذي يثوب إليه
الناس. قال الله تعالى: " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " أي مجتمعا بعد
التفرق. ان لم يكن تفرقوا من هناك، فقد كانوا متفرقين ثابوا إليه. ويقال
ثاب الحوض ثئوبا إذا امتلأ أو كاد يمتلئ. وأصل الباب الثوب: الرجوع
القراءة:
قرأ قتادة (لمثوبة) بسكون الثاء وفتح الواو - وهي لغة جازت على
الأصل - كما قالوا: مشورة ومشورة - بفتح الواو وسكون الشين، وضم الشين
وسكون الواو - والقراء على خلافه. والعرب مجمعون على إلقاء الألف من قولهم:
هذا خير منك، وشر منك، إلا بعض بني عامر يقولون: ما أريد خيرا أخير من
ذا. وقال بعضهم أيضا: هذا أشر من ذا - والوجه طرح الألف -
386

قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا
واسمعوا وللكافرين عذاب اليم " (104) آية بلا خلاف
اللغة:
المراعاة: التفقد للشئ في نفسه، أو أحواله. والمراعاة، والتحفظ، والمحافظة،
والمراقبة: نظائر. ونقيض المراعاة الاغفال: يقال رعى يرعى رعيا، والرعي: ما تأكله
الماشية من نبات الأرض. ورعى الله فلانا إذا حفظه. ورعيت له عهده وحقه بعده،
أو في من خلف. وأرعيته سمعي إذا أصغيت إليه. وراعيته نفسي: إذا لاحظته.
وجمع الراعي: رعاء ورعاة ورعيان. والرعاية: فعل الراعي، ويرعاها رعاية: إذا
ساقها، وسرحها، وأراحها، فقد رعاها، وكل من ولي قوما فهو راعيهم - وهم
رعيته - والمرعي من الناس: المسوس. والراعي: السائس ويقال: فلان يراعي كذا:
معناه ينظر إلى ما يصير إليه أمره. ورعيت النجوم: أي رقبتها، واسترعاه الله
خلقه، أي ولاه أمرهم ليرعاهم. والارعاء: الابقاء على أخيك. وتقول اراعيني
سمعك أي اسمع يا فلان. وكان المسلمون يقولون: يا رسول الله راعنا: أي
استمع منا، فحرفت اليهود، فقالوا: يا محمد راعنا - وهم يلحدون إلى الرعونة -
يريدون به النقيصة، والوقيعة، فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول المسلمون،
فنهى الله عن ذلك فقال: " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا "
ورجل ترعية: الذي لم تزل صنعته وصنعة آبائه الرعاية (1). قال الشاعر:
يسوقها ترعية جاف فضل * إن رتعت صلى وإلا لم يصل (2)
واصل الباب: الرعي: الحفاظ.

(1) في المطبوعة لم يزل صنعة وصنيعه امامة الرعاية.
(2) اللسان (فضل) وبه رواية
أخرى أيضا: يتبعها بدل يسوقها. وفي المخطوطة والمطبوعة هكذا:
يسوسها ترعية حاف فصل * فان رعت صلا والا لم يصل
رجل فضل وامرأة فضل: متفضل في ثوب واحد.
387

المعنى:
وأما الآية فللمفسرين فيها ثلاثة أقوال:
- قال ابن عباس ومجاهد: " لا تقولوا راعنا "، أي لا تقولوا: اسمع
منا ونسمع منك.
وقال عطاء: " لا تقولوا راعنا "، أي لا تقولوا خلافا. وروي ذلك أيضا
عن مجاهد. وهذا الا وجه له - إلا أن يراد (راعنا) بالتنوين. -
وقيل: معناه ارقبنا. قال الأعشى:
يرعي إلى قول سادات الرجال إذا * أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا (1)
يعني يصغي. وقال الأعشى أيضا:
فظلت أرعاها وظل يحوطها * حتى دنوت إذا الظلام دنا لها (2)
والسبب الذي لأجله وقع النهي عن هذه الكلمة، قيل فيه خمسة أقوال:
أحدها - ما قاله قتادة وعطية: انها كلمه كانت تقولها اليهود على وجه
الاستهزاء.
(الثاني) - وقال عطاء هي كلمة كانت الأنصار تقولها في الجاهلية، فنهوا
عنها في الاسلام.
(الثالث) - وقال أبو العالية: ان مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم
بعضا، يقول أحدهم لصاحبه أرعنا سمعا فنهوا عن ذلك.
(الرابع) - وقال السدي: كان ذلك كلام يهودي بعينه، يقال له: رفاعة
ابن زيد. يريد بذلك الرعونة فنهي المسلمون عن ذلك.

(1) ديوانه: 86. ابتدع: احدث ما شاء.
(2) ديوانه: 27. في المخطوطة والمطبوعة (وضللت) بدل (فظللت) و (نحو دنوت)
بدل (حتى دنوت)
388

(الخامس) - وقال أبو علي قد بين الله عز وجل، انها كلمة كانت اليهود تلوي
بها ألسنتهم - في قوله: - " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ". (1)
" ويقولون سمعنا وعصينا " (2) " اسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في
الدين " (3) وهو قول ابن عباس، وقتادة وقيل: " لا تقولوا راعنا " من المراعاة
والمكافأة. فامروا أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وآله بالتوقير والتعظيم، اي لا تقولوا: راعنا
سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا. وقال أبو جعفر (ع) هذه الكلمة: سب (4) بالعبرانية - إليه
كانوا يذهبون - قال الحسين بن علي المغربي فبحثتهم عن ذلك فوجدتهم يقولون راع
رن (5) قال: على معنى الفساد والبلاء، ويقولون: (انا) بتفخيم النون، واشمامها
بمعنى، لان مجموع اللفظين واللفظتين فاسد، لان فلما عوتبوا على ذلك قالوا إنا نقول:
كما يقول المسلمون. فنهي المسلمون عن ذلك. ولما كان معنى (راعنا) يراد به النظر
قال: قولوا عوضها انظرنا، اي انظرنا الينا " واسمعوا ": ما يقوله لكم الرسول.
القراءة:
وروي عن الحسن انه كان يقرأ " راعنا " بالتنوين بمعنى لا تقولوا: قولا
راعنا يعني من الرعونة، وهي الحمق، والجهل، وهذا شاذ لا يؤخذ به، وفي قراءة
ابن مسعود " راعنا " خطاب من جماعة لجماعة بمراعاتهم وهذا أيضا شاذ.
المعنى:
ومعنى انظرنا يحتمل أمرين: أحدهما - انتظرنا نفهم ونتبين ما تعلمنا.
والثاني - قال مجاهد: معناه ففهمنا، بين لنا يا محمد يقال منه: نظرت الرجل انظره

(1) سورة النساء: آية 45. والمائدة: 14.
(2) سورة البقرة: آية 93.
(3) سورة النساء: آية 45.
(4) في المخطوطة والمطبوعة (سبت).
هكذا في المخطوطة والمطبوعة. ولم نجدها في باقي التفاسير.
389

نظرة، بمعنى انتظرته وارتقبته. ومنه قوله: " انظرونا نقتبس " (1) اي
انتظرونا وقيل معناه: اقبل علينا.
وقوله: " واسمعوا " يحتمل أمرين:
أحدهما - قال الحسن والسدي: إن معناه اسمعوا ما يأتيكم به الرسول.
والثاني - ما قال أبو علي: معناه اقبلوا ما يأمركم به الرسول من قوله: سمع
الله لمن حمده، وسمع الله دعاك، وقبله. وقال علقمة والحسن والضحاك: كل شئ
من القرآن: " يا أيها الذين امنوا " فإنه نزل بالمدينة.
قوله تعالى:
" ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين
ان ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء
والله ذو الفضل العظيم " (105) آية واحدة بلا خلاف.
معنى ما يود: ليس يحب. يقال منه: وده يوده ودا، وودادا. والمودة المحبة.
" ولا المشركين " في موضع جر بالعطف على أهل الكتاب. وتقديره، ولا
من المشركين.
وقوله: " ان ينزل " في موضع نصب بقوله: " يود ".
وإنما ذموا على ذلك - وإن كان ذلك ميل الطباع، - لان ذلك في دلالة على أنهم
فعلوا كراهية لذلك، وتعرضوا بذلك لعداوة المؤمنين. وكان الذم عليهم لذلك،
ولو رفع " المشركين " عطفا على " الذين كفروا " كان جائزا ولكن لم يقرا به
أحد. ومثله في احتماله الامرين قوله: " يا آيها الذين امنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا
دينكم لهوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " (2).
- بخفض الراء وفتحها - وقرئ بهما.

(1) سورة الحديد: آية 13.
(2) سورة المائدة: آية 60
390

و " من " في قوله: " من خير " زائدة مؤكدة، كقولك: ما جاءني من
أحد. وموضعها رفع قال أبو ذؤيب:
جزيتك ضعف الود لما استبنته * وما ان جزاك الضعف من أحد قبلي (1)
واما " من " في قوله: " من ربكم " فلابتداء الغاية. والتي في قوله:
" من أهل الكتاب " فللتنويع، مثل التي في قوله: " فاجتنبوا الرجس من
الأوثان " (2).
قوله: " يختص برحمته من يشاء ".
المعنى:
روي عن علي (ع) وأبي جعفر الباقر (ع) انه أراد النبوة. وبه قال الحسن،
وأبو علي والرماني، والبلخي وغيرهم من المفسرين. وقال " يختص بها من يشاء "
من عباده. وروي عن ابن عباس انه أراد دين اسلام. وهذا بعيد، لأنه تعالى
وصف ذلك بالانزال، وذلك لا يليق الا بالنبوة.
اللغة:
والاختصاص بالشئ هو الانفراد به. والاخلاص له مثله. وضد الاختصاص
الاشتراك. ويقال خص خصوصا، وتخصص: تخصصا. وخصصه: تخصيصا،
وكلمه خاصة من ذلك، وكلمة عامة ووسائط من ذلك. ويقال: خصه بالشئ، يخصه
خصا: إذا وصله به. وخصان الرجل. من يختصه من اخوانه. والخصائص:
الفرج والخصاصة: الحاجة. والخص شبه كوة تكون في قبة أو نحوها، إذا كان
واسعا قدر الوجه. وقال الراجز:
وان خصاص ليلهن استدا * ركبن في ظلمائه ما اشتدا (3)

(1) اللسان (ضعف) قال الأصمعي: معناه أضعفت لك الود، وكان ينبغي أن يقول:
ضعفي الود.
(2) سورة الحج: آية 30.
(3) اللسان (خصص) استد أي استتر بالغما.
391

شبه القمر بالخصاص. وكل خلل أو خروق تكون في السحاب أو النخل،
تسمى الخصاصة: والخصائص فرج بين الأثافي (1) وأصل الباب: الانفراد
بالشئ. فمنه الخصائص: الفرج انفراد كل واحد عن الآخر من غير جمع بينهما.
ويقال: اختصصته بالفائدة واختصصت بها انا، كقولك: أفردته بها،
وانفردت بها.
وتقدير الآية ما يحب الكافرون من أهل الكتاب، ولا المشركين بالله من
عبدة الأوثان، ان ينزل عليكم شيئا من الخير الذي عنده، والخير الذي تمنوه الا
ينزله الله عليهم ما أوحى إلى نبيه، وانزله عليه من الشرائع، والقرآن بغيا منهم،
وحسدا.
" والله ذو الفضل العظيم " خير منه (تعالى) ان كل خيرنا له عباده في
دينهم، ودنيا هم، فإنه من عنده ابتداء، وتفضلا منه عليهم من غير استحقاق منهم
ذلك عليه.
قوله تعالى:
" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن
الله على كل شئ قدير " (106) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن عامر، الا الداحوني عن هشام " ما ننسخ " بضم النون وكسر السين.
الباقون يفتحها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " ننساها " بفتح النون، والسين،
واثبات الهمزة الساكنة بعد السين. الباقون - بضم النون، وخفض السين بلا همزة.
اللغة:
النسخ والبدل والخلف نظائر. يقال: نسخ نسخا، وانتسخ انتساخا،
واستنسخ استنساخا، وتناسخوا تناسخا، وناسخ مناسخة. قال ابن دريد: كل

(6) بين الأثافي أي بين الأصابع.
392

شئ خلف شيئا، فقد انتسخه، ونسخت الشمس الظل، وانتسخ الشيب الشباب.
وقال صاحب العين: النسخ ان تزيل امرا كان من قبل يعمل به، ثم تنسخه بحادث
غيره. كالآية نزل فيها امر، ثم يخفف الله عن العباد بنسخها بآية أخرى، فالآية
الأولى منسوخة، والثانية ناسخة. وتناسخ الورثة أن تموت ورثة بعد ورثة واصل
الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخ الأزمنة من القرون الماضية. واصل الباب:
الابدال من الشئ غيره. وقال الرماني: النسخ الرفع، لشئ قد كان يلزمه العمل
به إلى بدل، وذلك كنسخ الشمس بالظل لأنه يصير بدلا منها - في مكانها -
وهذا ليس بصحيح، لأنه ينتقض بمن تلزمه الصلاة قائما ثم يعجز عن القيام، فإنه
يسقط عنه القيام لعجزه. ولا يسمى العجز ناسخا، ولا القيام منسوخا، وينتقض
بمن يستبيح بحكم العقل عند من قال بالإباحة، فإذا ورد الشرع يحظره، لا يقال
الشرع نسخ حكم العقل، ولا حكم العقل يوصف بأنه منسوخ، فإذا الأولى
في ذلك ما ذكرناه في أول الكتاب: وهو ان حقيقة كل دليل شرعي دل على أن
مثل الحكم الثابت بالنص الأول غير ثابت فيما بعد على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص
الأول مع تراخيه عنه، فإذا ثبت ذلك، فالنسخ في الشرع: على ثلاثة أقسام.
نسخ الحكم دون اللفظ، ونسخ اللفظ دون الحكم، ونسخهما معا.
فالأول - كقوله: " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم
عشرون صابرون يغلبون مأتين " إلى قوله: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم
ضعفا فان يكن منكم مأة صابرة يغلبون مأتين " (1)، فكان الفرض الأول وجوب
ثبات الواحد للعشرة، فنسخ بثبوت الواحد للاثنين، وغير ذلك من الآي المنسوخ،
حكمها، وتلاوتها ثابتة، كآية العدة، وآية حبس من يأتي بالفاحشة، وغير ذلك
والثاني - كآية الرجم. قيل إنها كانت منزلة فرفع لفظها وبقي حكمها.
والثالث - هو مجوز وان لم يقطع بأنه كان. وقد روي عن أبي بكر انه
كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر (2)

(1) سورة الأنفال: آية 65، 66.
(2) في المطبوعة زيادة (بكم)
393

المعنى:
واختلفوا في كيفية النسخ على أربعة أوجه:
- قال قوم: يجوز نسخ الحكم والتلاوة من غير افراد واحد منهما عن الآخر.
- وقال آخرون: يجوز نسخ الحكم دون التلاوة.
- وقال آخرون: يجوز نسخ القرآن من اللوح المحفوظ، كما ينسخ الكتاب
من كتاب قبله.
- وقالت فرقة رابعة: يجوز نسخ التلاوة وحدها، والحكم وحده، ونسخهما
معا - وهو الصحيح -
وقد دللنا على ذلك، وأفسدنا سائر الاقسام في العدة في أصول الفقه.
وذلك أن سبيل النسخ سبيل سائر ما تعبد الله تعالى به، وشرعه على حسب ما يعلم
من المصلحة فيه فإذا زال الوقت الذي تكون المصلحة مقرونة به، زال بزواله.
وذلك مشروط بما في المعلوم من المصلحة به، وهذا القدر كاف في ابطال قول من
أبى النسخ - جملة - واستيفاؤه في الموضع الذي ذكرناه.
وقد انكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وقد
جاءت اخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها، فمنها ما روي عن
أبي موسى: انهم كانوا يقرؤون لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى اليهما ثالث،
لا يملا جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب. ثم رفع. وروي عن
قتادة قال: حدثنا انس بن مالك أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة:
- قرأنا فيهم كتابا - بلغوا عنا قومنا انا لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا، ثم إن
ذلك رفع. ومنها الشيخ والشيخة - وهي مشهورة -. ومنها ما روي عن أبي بكر
أنه قال: كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر. ومنها ما حكي: ان سورة
الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة - في الطول - وغير ذلك من الاخبار المشهورة
بين أهل النقل. والخبر على ضربين:
أحدهما - يتضمن معنى الامر بالمعروف - فما هذا حكمه - يجوز دخول
394

النسخ فيه.
والآخر يتضمن الاخبار عن صفة الامر. (1) لا يجوز تغييره في نفسه، ولا يجوز
ان يتغير من حسن إلى قبح أو قبح إلى حسن، فان ذلك لا يجوز دخول النسخ
فيه. وقد بينا شرح ذلك في العدة. والافعال على ثلاثة أقسام - أحدها - لا يكون
إلا حسنا. وثانيها - لا يكون إلا قبيحا. وثالثها - يحتمل الحسن والقبح بحسب
ما يقع عليه من الوجوه:
فالأول - كإرادة الأفعال الواجبة، أو المندوبة التي لا يجوز تغيرها، كشكر
المنعم، ورد الوديعة، والاحسان الخالص وغير ذلك.
والثاني - كإرادة القبيح، وفعل الجهل.
والثالث - كسائر الافعال التي تقع على وجه، فتكون حسنة، وعلى آخر
فتصير قبيحة.
فالأول، والثاني لا يجوز فيه النسخ. والثالث يجوز فيه النسخ.
ومن قرأ ننسخ - بفتح النون - فمن نسخت الكتاب. فانا ناسخ، والكتاب
منسوخ. ومن قراء - بضم النون، وكسر السين - فإنه يحتمل فيه أمرين:
أحدهما - قال أبو عبيدة: ما ننسخك يا محمد. يقال نسخت الكتاب، وانسخه
غيري.
والاخر - نسخته جعلته ذا نسخ. كما قال قوم للحجاج - وقد قتل رجلا -:
أقبرنا فلانا أي جعله ذا قبر يقال قبرت زيدا: إذا دفنته وأقبره الله: جعله ذا قبر كما
قال: " ثم أماته فأقبره " (2)
وقوله " أو ننسأها " فالنسء التأخير ونقيضه التقديم، يقال انسأت الإبل عن
الحوض أنسأها نسأ: إذا اخرتها عنه، وانتسأت عن الشئ -: إذا تباعدت عنه - انتساء
ونسأت الإبل في ظمئها فانا أنسؤها نسأ: إذا زدتها في ظمئها يوما أو يومين، أو

(1) في المطبوعة (صنعة الامر)
(2) سورة عبس: آية 21.
395

أكثر من ذلك. وظمؤها: منعها الماء. ونسأت الماشية تنسأ نسأ: إذا سمنت. وكل سمين
ناسئ، تأويلها ان جلودها نسأت اي تأخرت عن عظامها، قاله الزجاج، قال غيره:
إنما قيل ذلك لأنها تأخرت في المرعى حتى سمنت، ونسأت المرأة تنسئ نسأ إذا تأخر
حيضها عن وقته، ورجي حملها، ويقال: أنسأت فلانا البيع (1) ونسأ الله في اجل
فلان، وأنسأ الله اجله إذا أخر اجله. والنسئ تأخر الشئ، ودفعه عن وقته، ومنه
قوله تعالى: " إنما النسئ زيادة في الكفر " (2) وهو ما كانت العرب تؤخر من
الشهر الحرام في الجاهلية. ونسأت اللبن أنسؤه نسأ إذا اخذت حليبا وصببت عليه الماء،
واسم ذلك: النسئ، والنسئ هذا سمي بذلك، لأنه إذا خالطه الماء أخر بعض اجزاء
اللبن عن بعض قال الشاعر:
سقوني النس ء ثم تكنفوني * عداة الله من كذب وزور (3)
ويقال للعصاة المنسأة، لأنها ينسأ بها، أي يؤخر بها ما يساق عن مكانه،
ويدفع بها الانسان عن نفسه ونسأت ناقتي إذا رفعتها في السير واصل الباب التأخير.
المعنى:
وقال الحسن في قوله: " ما ننسخ من آية أو ننسها " ان نبيكم صلى الله عليه وآله أقرئ
قرآنا ثم نسيه، فلم يكن شيئا. ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرأونه. وقال ابن
عباس " ما ننسخ من آية " أي ما نبدل من آية، ومن قرأ ننسأها بالهمز فان معناه
نؤخرها (4) من قولك هذا الامر أنسؤه نساء إذا أخرته وبعته بنسأ أي
بتأخير، وهو قول عطا وابن أبي نجيح، ومجاهد، وعطية وعبيد بن عمير. وعلى
هذا يحتمل نؤخرها أمرين. أحدهما فلا ننزلها وننزل بدلا منها ما يقوم مقامها في
المصلحة، أو ما يكون أصلح للعباد منها. وهذا ضعيف لأنه لا فائدة في تأخير

(1) في المخطوطة والمطبوعة (المنع)
(2) سورة التوبة: آية 38.
(3) قائلة عروة بن الورد العبسي. اللسان (نسأ) في المخطوطة والمطبوعة (النسئ)
بدل (النسء) وهما لغتان.
(4) في المطبوعة (لو أخرها) وهو تحريف من الناسخ.
396

ما لا يعرفه العباد، ولا علموه ولا سمعوه.
والثاني - نؤخرها إلى وقت ثان، فنأتي بدلا منها في الوقت المقدم، بما يقوم
مقامها. فاما من حمل ذلك، على معنى يرجع إلى النسخ، فليس يحسن لأنه يصير تقديرها،
ما ننسخ من اية أو ننسخها. وهذا لا يجوز. ومعنى قوله:
" نأت بخير منها أو مثلها ".
المعنى:
قيل فيه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس نأت بخير منها لكم في التسهيل والتيسير، كالأمر
بالقتال الذي سهل على المسلمين بدلالة قوله " الان خفف الله عنكم " (1) أو مثلها
كالعبادة بالتوجه إلى الكعبة بعد ما كان إلى بيت المقدس.
والوجه الثاني بخير منها في الوقت الثاني، اي هي لكم خير من الأولى في باب
المصلحة، أو مثلها في ذلك. وهو قول الحسن وهذا الوجه أقوى، وتقديره كأن الآية
الأولى في الوقت الثاني في الدعاء إلى الطاعة، والزجر عن المعصية، مثل الآية الأولى
في وقتها. فيكون اللطف بالثانية، كاللطف بالأولى الا انه في الوقت الثاني يسهل بها
دون الأولى. وقال أبو عبيدة معنى " ننساها " (2) اي نمضيها فلا ننسخها
قال طرفة:
امون كألواح الاران نسأتها * على لاحب كأنه ظهر برجد (3)
يعني أمضيتها ومن قرأ " ننسها " بضم النون، وكسر السين يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون مأخوذا من النسيان إلا أنه لا يجوز أن يكون ذلك

(1) سورة الأنفال: آية 66.
(2) في المخطوطة (يستقيم).
(3) معلقته المشهورة، واللسان (أرن). في المخطوطة (وعنس) بدل (أمون) وفي المطبوعة
(كالراح) بدل (كألواح). ومعنى الامون التي أمنت أن تكون ضعيفة، والاران: التابوت
الذي تحمل فيه الموتى، واللاحب: الطريق الواضح، والبرجد: كساء من أكسية العرب.
397

من النبي صلى الله عليه وآله لأنه لا يجوز ذلك من حيث ينفر عنه، ويجوز ذلك على الأمة بان
يؤمروا بترك قراءتها، وينسونها على طول الأيام. ويجوز ان ينسيهم الله (تعالى)
ذلك وان كانوا جمعا كثيرا، ويكون ذلك معجزا بمعنى الترك من قوله: " نسوا الله
فنسيهم " (1) والأول عن قتادة، والثاني عن ابن عباس وقال معناه: نتركها
لا نبدلها. وقال الزجاج: ننسها بمعنى نتركها خطأ، إنما يقال: نسيت بمعنى تركت،
ولا يقال أنسيت بمعنى تركت وإنما معنى ننساها نتركها، اي ان نأمركم بتركها.
قال الرماني: إنما فسر المفسرون على ما يؤول إليه المعنى لأنه إذا امر بتركها، فقد
تركها. فان قيل: إذا كان نسخ الآية رفعها، وتركها فما معنى ذلك إلا أن يترك، ولم
جمع بينهما؟ قيل: ليس معنى تركها الا ان يترك، وقد غلط الزجاج في توهمه ذلك،
وإنما معناه اقرارها، فلا ترفع، كما قال ابن عباس: يتركها، ولا نبدلها وإنما قال:
" ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير " تنبيها على أنه يقدر على آيات وسور مثل
القرآن ينسخ بها امره لنا فيه بما أمرنا، فيقوم في النفع مقام المنسوخ. أو أكثر.
وقال بعضهم: معنى " أو " في الآية الواو، كان قال: ما ننسخ من ايه وننساها
نأت بخير منها، فعلى هذا زالت الشبهة. فان قيل: اي تعلق بين هذه الآية وبين
التي قبلها؟ قلنا: لما قال في الآية الأولى " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب
ولا المشركين ان ينزل عليكم من خير من ربكم " دل في هذه الآية على أنه
جل وعز، لا يخليهم من إنزال خير إليهم، خلاف ما يود أعداؤه لهم: فان قيل: هل
يجوز نسخ القرآن بالسنة أم لا؟ قلنا فيه خلاف بين الفقهاء، ذكرناه في أصول
الفقه، وبين أصحابنا أيضا فيه خلاف، إلا أن يقوى في النفس جواز ذلك. وقد
ذكرنا أدلة الفريقين، الشبه فيها في أصول الفقه - لا يحتمل ذكرها هذا المكان.
وإنما اخرنا ذلك، لان تلاوة القرآن، والعمل بما فيه تابع للمصلحة، ولا يمتنع ان
تتغير المصلحة، تارة في التلاوة فتنسخ، وتارة في الحكم فينسخ، وتارة فيهما
فينسخان. وكذلك لا يمتنع أن تكون المصلحة في أن تنسخ، تارة بقرآن، وتارة

(1) سورة التوبة: آية 68.
398

بالسنة المقطوع بها. فذلك موقوف على الأدلة.
وقوله: " نأت بخير منها " لا يدل على أن السنة خير من القرآن، لان المراد
بذلك نأت بخير منها من باب المصلحة. على أن قوله: " نأت بخير منها " فمن أين ان
ذلك الخبر يكون ناسخا. فلا متعلق في الآية يمنع من ذلك. والأولى جوازه.
على أن هذا وإن كان جائزا، فعندنا انه لم يقع، لأنه لا شئ من ظواهر القرآن
يمكن ان يدعى انه منسوخ بالسنة اجماعا، ولا بدليل يوجب العلم. وأعيان المسائل
فيها خلاف، نذكر ما عندنا فيه - إذا مررنا بتأويل ذلك. واما ما روي عن ابن سعيد
ابن المسيب من أنه كان يقرأ (أو تنسها) بالتاء المعجمة من فوق، وفتح السين -
فشاذ، لا نلتفت إليه، لأنا قد بينا ان النبي " ص " لا يجوز عليه ان ينسى شيئا من
وحي الله. وكذلك ما روي عن أبي رحا العطاردي " ننسها " بضم النون الأولى،
وفتح الأخرى، وتشديد السين - ذكرها شاذة.
وفي الآية دليل على أن القرآن غير الله، وان الله هو المحدث له، والقادر
عليه، لان ما كان بعضه خيرا من بعض، أو شرا من بعض، فهو غير الله لا محالة.
وفيها دليل ان الله قادر عليه، وما كان داخلا تحت القدرة، فهو فعل، والفعل
لا يكون إلا محدثا، ولأنه لو كان قديما لما صح وجود النسخ فيه، لأنه إذا كان
الجميع حاصلا فيما لم يزل، فليس بعضه بان يكون ناسخا، والاخر منسوخا بأولى من
العكس. فان قيل: لم قال: " ألم تعلم أن الله " أو ما كان النبي " ص " عالما بان
الله على كل شئ قدير؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - ان معنى قوله: " ألم تعلم " اما علمت؟
والثاني - انه خرج ذلك مخرج التقرير، كما قال: " أأنت قلت للناس " (1).
وفيه جواب ثالث - انه خطاب للنبي " ص " والمراد أمته، بدلالة قوله بعد
ذلك: " وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ".

(1) سورة المائدة آية 116
399

قوله تعالى:
" ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم
من دون الله من ولي ولا نصير " (107) آية.
المعنى:
" الولي " في الآية: هو القيم بالامر. من وليه الشئ. ومنه ولي عهد
المسلمين.
ومعنى قوله: " من دون الله " سوى الله. قال أمية بن أبي الصلت:
يا نفس مالك دون الله من واقي * وما على حدثان الدهر من باقي (2)
وفي قوله: " مالكم من دون الله من ولي ولا نصير " ثلاثة أوجه:
أحدها - التحذير من سخط الله وعقابه إذ لا أحد يمنع منه.
والثاني - التسكين لنفوسهم: ان الله ناصرهم دون غيره، إذ لا يعتد بنصر
أحد مع نصره.
والثالث - التفريق بين حالهم، وحال عباد الأوثان. مدحا وذما لأولئك.
وبهذا قال أبو علي الجبائي، وإنما للنبي " ص " " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات
والأرض " وإن كان النبي " ص " عالما بان له ملك كله، لامرين: أحدهما - التقرير
والتنبيه الذي يؤول إلى معنى الايجاب كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح؟
وانكر الطبري ان يدخل حرف الاستفهام على حرف الجحد بمعنى الاثبات
والبيت الذي أنشدناه، يفسد ما قاله، وأيضا قوله: " أليس ذلك بقادر على أن
يحيي الموتى " (2) وقوله: " أليس الله بكاف عبده " (3) وغير ذلك
يفسد ما قاله.

(1) ديوانه: 43 في المطبوعة (راق) بدل (واق).
(2) سورة الانسان: آية 40.
(3) سورة الزمر: آية 36.
400

والوجه الثاني - انه خطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به أمته كما قال: " يا أيها النبي
إذا طلقتم النساء " (1) وقال جميل بن معمر:
ألا ان جيراني العشية رائح * دعتهم دواع من هوى ومنادح (2)
وإنما يحسن ذلك، لان غرضه الخبر عن واحد فلذلك قال: رائح وقال أيضا:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما * قتيلا بكى من حب قاتله قبلي (3)
يريد قاتلته، فكنى بالمذكر بالمذكر عن المؤنث. قال الكميت:
إلى السراج المنير احمد لا * يعدلني رغبة ولا رهب (4)
عنه إلى غيره ولو رفع الناس * إلي العيون وارتقبوا (5)
وقيل أفرطت بل قصدت ولو * عنفني القائلون أو ثلبوا (6)
لج بتفضيلك اللسان ولو * أكثر فيك الضجاج واللجب
(7) أنت المصفى المحض المهذب في * النسبة إن نص قومك النسب (8)
قالوا: إنما خرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله، وأراد به أهل بيته
بدلالة قوله: ولو أكثر فيك الضجاج واللجب، لأنه لا أحد يوصف من المسلمين
بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وآله ولا باكثار الضجاج واللجب في إطناب القول فيه،
وإنما قال: " له ملك السماوات " ولم يقل ملك، لأنه أراد ملك السلطان والملكة

(1) سورة الطلاق: آية 2.
(2) لم نجده في ديوانه، منادح: البلاد الواسعة البعيدة.
(3) الأمالي 2: 74 والأغاني 1: 117 و 7: 140. في المخطوطة والمطبوعة
" أو " بدل " هل ".
(4) الهاشميات 34 والحيوان للجاحظ 170 - 171.
(5) " عنه إلى غيره " متعلق بقوله: " لا يعدلني.. " في البيت قبله.
(6) أفرطت: جاوزت الحد. قصدت: عدلت بين الافراط والتقصير. الثلب: العيب
والذم. في المخطوطة والمطبوعة " العالمون " بدل " القائلون ".
(7) فيك - هنا -: بسببك ومن اجلك. الضجاج: مصدر ضاجه - بتشديد الجيم -
يضاجه مضاجة وضجاجا: المشاغبة مع الصياح. واللجب ارتفاع الأصوات واختلاطها طلبا للغلبة.
(8) هذب الشئ: نقاه من كل ما يعيب. نص الشئ: رفعه وأبانه. يعني أبان فضلهم
على غيرهم.
401

دون الملك. يقال من ذلك: ملك فلان على هذا الشئ يملكه ملكا وملكا
وملكا. والنصير فعيل من قولك: نصرتك أنصرك فأنا ناصر ونصير، وهو
المؤيد والمقوي.
قوله تعالى:
" أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل
ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل " (108)
آية بلا خلاف.
سبب النزول:
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فروي عن ابن عباس أنه قال:
قال رافع بن خزيمة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وآله إئتنا بكتاب تنزله علينا
من السماء نقرأه، وفجر لنا انهارا، نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك من قولهما
" أم تريدون ان تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل " وقال الحسن عنى بذلك
المشركين من العرب لما سألوه فقالوا " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " (1) وقالوا:
" أو نرى ربنا " (2) وقال السدي: سالت العرب محمدا صلى الله عليه وآله أن يأتيهم بالله فيروه
جهرة. وقال مجاهد: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا. فقال نعم هو
لكم كالمائدة لبني إسرائيل. فأبوا ورجعوا. وقال أبو علي: روي أن النبي صلى الله عليه وآله
سأله قومه ان يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا
يعبدونها، ويعقلون عليها التمر، وغيره من المأكولات. كما سألوا موسى " اجعل
لنا إلها كما لهم آلهة " (3) ومعنى " أم " في قوله: " أم تريدون " التوبيخ وإن
كان لفظها لفظ الاستفهام كقوله تعالى " كيف تكفرون بالله " (4).

(1) سورة الإسراء: آية 92.
(2) سورة الفرقان: آية 21.
(3) سورة الأعراف: آية 137.
(4) سورة سورة البقرة: آية 38.
402

اللغة:
وأم على ضربين: متصلة، ومنفصلة: فالمتصلة عديلة الألف وهي مفرقة
لما جمعته اي. كما أن أو مفرقة لما جمعته أحد تقول: اضرب أيهم شئت أزيدا أم عمرا
أم بكرا. والمنفصلة غير المعادلة لألف الاستفهام قبلها لا يكون الا بعد كلام،
لأنها بمعنى بل والألف كقول العرب: إنها لابل أم شاة كأنه قال: بل شاة هي.
ومنه قوله: " ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه " (1)
كأنه قال: بل يقولون: افتراه. وكذلك " أم تريدون " كأنه قيل: بل تريدون
وقال الأخطل.
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا (2)
وقال الفراء: إن شئت قلت قبله استفهام فترده عليه. وهو قوله: " ألم تعلم أن
الله على كل شئ قدير " وقال الرماني في هذا بعد أن تكون على المعادلة ولابد
ان يقدر له أم تعلمون خلاف ذلك " فتسألون رسولكم كما سئل موسى من قبل "
والمعنى (3) أنهم يتخيرون الآيات ويسألون المحالات. كما سئل موسى، فقالوا:
" اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " وقالوا " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " (4)
وهذا الوجه اختاره البلخي والمغربي وحكي عن بعضهم أن ذلك عطف على قوله:
" أفتؤمنون ببعض الكتاب " (5) وقيل أيضا لما قيل لهم قولوا: " انظرنا
واسمعوا " (6) كان تقدير الكلام فهل تعقلون هذا أم تريدون ان
تسألوا رسولكم.

(1) سورة ألم - السجدة آية 3.
(2) ديوانه 41. واسط قرية غربي الفرات وهي من منازل بنى تغلب. الفلس ظلمة
اخر الليل إذا اخطلطت بتباشير الصباح. في المطبوعة والمخطوطة " عكس " بدل " غلس "
(3) في المخطوطة والمطبوعة " والمعنى عنهم بأنهم ".
(4) سورة البقرة: آية 55.
(5) سورة البقرة: آية 85.
(6) سورة البقرة: آية 104.
403

وقوله: " سواء السبيل " معناه قصد الطريق - على قول الحسن - وسواء
بالمد تكون على ثلاثة أوجه بمعنى قصد وعدل، وبمعنى وسط. كقوله: " خذوه فاعتلوه
إلى سواء الجحيم " (1) وقوله: " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " (2) اي
وسطها قال حسان:
يا ويح أنصار النبي ونسله * بعد المغيب في سواء الملحد (3)
وتكون بمعنى غير كقولك للرجل اتيت سواك أي غيرك. ومعنى ضل هاهنا
الذهاب عن الاستقامة قال الأخطل:
كنت القذى في موج اكدر مزبد * قذف الآتي به فضل ضلالا (4)
أي ذهبت يمينا وشمالا والسبيل والطريق والمذهب نظائر ويقال: اسبل اسبالا
وسبله تسبيلا. والسبيل يذكر ويؤنث، والجمع السبل. والسابلة: المختلفة في
الطرقات في حوائجهم، والجمع السوابل. وسبل سابل كقولهم شعر شاعر. والسبلة
ما على الشفة العليا من الشعر بجمع الشاربين وما بينهما والسبل المطر المسبل والمسبولة
هي سنبلة الذرة والأرز ونحوه إذا مالت ويقال للزرع إذا سنبله: سنبلة ويقال
أسبلت اسبالا: إذا أرخيته. وأسبل الرجل ازاره: إذا أرخاه من الخيلاء
قال الشاعر:
وأسبل اليوم من برديك اسبالا
وأصل الباب الاسبال: وهو الحد. والسؤال: هو الطلب ممن يعلم معنى الطلب
أمرا من الأمور. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها والتعلق بينهما انه لما دل الله
بما تقدم من الآيات على تدبير الله لهم فيما يأتي به من الآيات وما ينسخه فكأنه قال:

(1) سورة الدخان: آية 47.
(2) سورة الصافات: آية 55.
(3) ديوانه: 98. وروايته " رهطه " بدل نسله وفى المخطوطة كما أثبتنا وفي المطبوعة
" قبله ". والقصيدة يرثي بها رسول الله " ص " المغيب من غيب: وارى. اللحد: القبر.
(4) ديوانه: 50 القذى: ما يكون فوق الماء من أوساخ. وقوله: (اكدر):
بحر كدر بعد صفاء مزيد: بحر هائج يقذف بالزيد. الآتي السيل. ورواية الديوان:
(في لج اكدر).
404

أم لا ترضون بذلك فتخيروا الآيات وتسألوا المحالات " كما سئل موسى " لان
الله تعالى إنما يأتي بالآيات على ما يعلم فيها من المصلحة، فإذا اتى بآية تقوم بها الحجة فليس لأحد
الاعتراض عليها، ولا له اقتراح غيرها. لأنه تعنت إذ قد صح البرهان بها.
وقوله: " ومن يتبدل الكفر بالايمان " معناه من يستبدل الكفر يعني
الجحود بالله وبآياته بالتصديق بالله وبآياته وبالاقرار به. وقال بعضهم عبر بالكفر
هاهنا عن الشدة وبالايمان عن الرخاء وهذا غير معروف في اللغة ولا العرف الا ان يراد
بذلك الثواب والعقاب اللذان يستحقان عليهما فيكون له وجه في التنزيل.
قوله تعالى:
" ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا
حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا
حتى يأتي الله بأمره ان الله على كل شئ قدير " (109) آية واحدة.
المعنى بقوله: " ود كثير من أهل الكتاب " عن الحسن - النصارى واليهود.
وقال الزهري، وقتادة: كعب بن الاشراف، وعن ابن عباس حي بن اخطب،
وأبو ياسر بن اخطب.
وحسدا نصب على أحد أمرين:
أحدهما - على الجملة التي قبله بدلا من الفعل. كأنه قال: حسدوكم حسدا كأنه
قال: نحسدك حسدا.
والآخر: أن يكون مفعولا. كأنه قال: يردونكم لأجل الحسد كما تقول:
جئته خوفا منه. تقول حسدت احسد حسدا، وحسدتك على الشئ، وحسدتك
الشئ بمعنى واحد. قال الشاعر:
فقلت إلى الطعام فقال منهم * فريق نحسد الانس الطعاما (1)

(1) اللسان: " حسد ". وروايته " زعيم " بدل " فريق ". قال ابن بري: الشعر
لشمر بن ذي الحرث الضبي وربما روي لتأبط شرا. وانكر أبو القاسم الزجاجي رواية من روى
" عموا صباحا " واستدل على ذلك بأن هذا البيت من قطعة كلها من روي الميم. قال ابن برى
قد وهم أبو القاسم في هذا أو لم تبلغه هذه الرواية لان الذمي يرويه عموا صباحا يذكره مع ابيات
كلها على روي الحاء وهي للخرع بن سنان الغساني. ومن جملة الأبيات:
نزلت بشعب واد الجن لما * رأيت الليل قد نشر الجناحا
405

ورجل حاسد وحسود، وحساد. والحسد هو الأسف بالخير على من له خير.
وأشد الحسد التعرض للاغتمام بكون الخير لاحد. وقد يكون الحاسد متمنيا لزوال
النعمة عن المحسود وان لم يكن يطمع في تحول تلك النعمة. والصفح هو التجاوز عن
الذنب. والصفح، والعفو، والتجاوز بمعنى واحد. يقال صفح صفحا وتصفح
تصفحة، وتصافحوا تصافحا والصفحة ما كان من ظاهر الشئ. يقال لظاهر جلد
الانسان: صفحة، وكذلك هو من كل شئ. ومن هذا صافحته: اي لقيت صفحة
كفه صفحة كفي. وفي الحديث النشيج للرجال والتصفح للنساء: اي التصفيق.
فإنما هو لأنها تضرب بصفحة كف على صفحة الأخرى. وانشد الأصمعي:
كأن مصفحات في ذراه * وانواحا عليهن المآلى (2)
المآلي جمع مئلاة وهي خرقة تمسكها النايحة تقلص بها دمعتها. والصفاح من
السيوف العراض واحدها صفحة وصفحة. وقال:
ضربناهم حتى إذا ارفض جمعهم * علوناهم بالمرهفات الصفائح
وصفحت عنه قيل فيه قولان:
أحدهما - اني آخذه بذنبه. وأبديت له مني صفحة جميلة.
(الثاني) وقيل بل لم ير مني ما يقبض صفحته.
وتقول صفحت الورقة: اي تجاوزتها إلى غيرها. ومنه تصفحت الكتاب،
وقد تصفح الكتاب، وقد يتصفح الكتاب من لا يحسن ان يقرأ. ويسمى الصفح

(1) اللسان " صفح " وقد نسب البيت إلى لبيد. وفي المطبوعة والمخطوطة " بأيديها " بدل
" عليهن " المصفحات - بكسر الفاء وتشديدها - نساء يصفقن بأيديهن في مأتم. وروي
" مصفحات " - بفتح الفاء وتشديدها - أريد بها السيوف العريضة.
406

من المصحف وغيره من الدفاتر من الصفحة. ومنه " فاصفح الصفح الجميل " (1).
وقوله: " فاعفوا واصفحوا " قال الحارث بن هشام:
وصفحت عنهم والأحبة فيهم * طمعا لهم بعقاب يوم سرمد
اي لم أحاربهم لافبض صفاحهم، أو أريهم ذلك في نفسي. ويقال نظر إليهم
صفحا بقدر ما أبدي صفحته لم يتجاوز. والصفاح موضع سمي بذلك، لأنه صخور
مستوية تبدو صفائحها. وأصل الباب صفحة الشئ وهي ظاهره.
وقوله: " من عند أنفسهم " قال الزجاج: متعلق ب‍ " ود كثير " لا بقوله:
" حسدا "، لان حسد الانسان، لا يكون من غير نفسه. وقد يجوز ان يتصل
بقوله: " حسدا " على التوكيد. كما قال تعالى: " ولا طائر يطير بجناحيه " (2)
ويحتمل وجها آخرا وهو ان اليهود كما يضيفون الكفر والمعاصي إلى الله تعالى،
فقال الله: " من عند أنفسهم " تكذيبا لهم انها من عند الله.
وقوله: " من بعد ما تبين لهم الحق " قال قتادة: من بعد ما تبين لهم ان
محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله والاسلام دين الله. وهو قول الربيع والسدي وابن زيد،
وروى عن ابن عباس مثله.
وقال بن عباس: ان قوله: " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " منسوخة
بقوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (3). وقال قتادة نسخت بقوله:
" قاتلوا المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الآية. وبه قال
الربيع والسدي.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي: أنه قال: لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وآله
بقتل، ولا اذن له فيه حتى نزل جبرائيل (ع) بهذه الآية " اذن للذين يقاتلون
بأنهم ظلموا " (4) وقلده سيفا.

(1) سورة الحجر: آية 85
(2) سورة الأنعام: آية 38
(3) سورة التوبة: آية 6.
(4) سورة الحج: آية 39.
407

وقوله: " حتى يأتي الله بأمره " قال أبو علي: " بأمره " لكم يعاقبهم أو
يعافيهم هو على ذلك، ثم اتى بأمره فقال: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " (1)
وقوله: " ان الله على كل شئ قدير " قيل فيه ثلاثة أقوال:
قال أبو علي: انه قدير على عقابهم إذ هو " على كل شئ قدير ".
وقال الزجاج: قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو الأليق بانجائكم
اي فيأمر بالصفح تارة وبالعقاب أخرى على حسب المصلحة.
والثالث - انه لما امر بالامهال، والتأخير في قوله: " فاعفوا واصفحوا " كأن
فيه تعلق النفس بالعافية في ذلك، فقال امهلوهم فإنهم لا يعجزون الله، ولا يفوتونه،
إذ هو " على كل شئ قدير ".
وإنما أمرهم بالصفح، والعفو وان كانوا مضطهدين مقهورين مقموعين، من
حيث إن كثيرا من المسلمين كانوا عزيزين في عشائرهم، وأقوامهم يقدرون على
الانتصار والانتقام من الكفار، فامرهم الله تعالى بان يعفوا وإن قدروا حتى
يأتي الله بأمره.
قوله تعالى:
" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم
من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير " (110) آية
واحدة بلا خلاف.
ان قيل ما المقتضي لذكر الصلاة والزكاة هاهنا، قلنا: انه تعالى لما اخبرهم
بشدة عداوة اليهود لهم وأمرهم بالصفح عنهم قال: " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "
فان في ذلك معونة على الصبر مع ما تجزون بهما من الثواب والاجر، كما قال في موضع
آخر: " واستعينوا بالصبر والصلاة ".
وقوله: " وما تقدموا " معنى (ما) الجزاء وجوابه " تجدوه ". ومثله " ما

(1) سورة التوبة: آية 30.
408

يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " والخير المذكور في الآية هو العمل الصالح
الذي يرضاه الله. ومعنى " تجدوه " أي تجدوا ثوابه. وكذا قال الربيع كما قال
ابن نجا:
وسبحت المدينة لا تلمها (1)
اي سبحت أهل المدينة. وقوله: " ان الله بما تعملون بصير " معناه انه
لا يخفى عليه شئ من اعمالكم. جازاكم على الاحسان بما تستحقونه من الثواب،
وعلى الإساءة بما تستحقونه من العقاب، فاعملوا عمل من يدري انه يجازيه من
لا يخفى عليه شئ من عمله، ففي ذلك دلالة على الوعد، والوعيد، والامر والزجر،
وإن كان خبرا عن غير ذلك في اللفظ.
قوله تعالى:
" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك
أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين " (111) آية
بلا خلاف.
المعنى:
قوله: " هودا " يريد يهودا فحذف الياء المزادة ووحد كان، لان لفظة
(من) قد تكون للواحد وتكون للجماعة والعرب تقول: من كان صاحباك. ولا
يجوز الوقف على قوله: " وقالوا " بل يجب صلته بقوله: " لن يدخل الجنة "
الآية. فان قيل كيف جمع بين اليهود والنصارى في الحكاية مع افتراق مقالتهما في
المعنى، وكيف يحكي عنهما ما ليس يقول لهما؟ قلنا: فعل ذلك للايجاز والاختصار
وتقديره: قالت اليهود: لن يدخل الجنة الا من كان يهوديا، وقالت النصارى، لن
يدخل الجنة الا من كان نصرانيا، فادرج الخبر عنهما للايجاز من غير اخلال، إذ شهرة

(1) وعجز البيت:
رأت قمرا بسوقهم نهارا
409

حالهما تغني عن البيان. ومثله في الادراج، والجمع من غير تفصيل قوله: " قلنا
اهبطوا " (1) وإنما كانت الصورة اهبط لا بليس، ثم قيل اهبطا لادم وحواء فحكاه
على المعنى وتقدير الكلام. وقال بعض أهل الكتاب: لن يدخل الجنة الا من كان
هودا. وقال بعضهم: لن يدخل الجنة الا من كان نصارى: والبعض الثاني غير
الأول الا انه لما كان اللفظ واحدا أجمع مع الأول. قال حسان بن ثابت:
فمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء (2)
تقديره ومن يمدحه وينصره. غير أنه لما كان اللفظ واحدا أجمع مع الأول،
وصار كأنه اخبار به عن جملة واحدة. وإنما كان (3) حقيقة عن بعضين متفرقين.
ومثله " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " (4) يعني آدم، ثم قال " وجعل منها
زوجها " (5) اي من النفس بمعنى الجنس فهو في اللفظ على مخرج الراجع إلى النفس
الأولى. وفي تحقيق المعنى لغيرها وهذا قول أكثر المفسرين السدي وغيره وفي معنى (6)
هود ثلاثة أقوال.
أحدها - انه جمع هائد وهود كحائل وحول وعائد وعود وعائط وعوط وهو
جمع المذكر والمؤنث على لفظ الواحد. والهائد: التائب الراجع إلى الحق.
والوجه الثاني - أن يكون مصدرا يصلح للواحد والجمع. كما يقال: رجل
فطر، وقوم فطر ونسوة فطر ورجل صوم وقوم صوم.
والثالث - أن يكون معناه إلا من كان يهوديا الا ان الياء الزائدة حذفت.
ورجع إلى معنى الأصل من اليهود.
ومعنى " أمانيهم " قال المؤرخ: أباطيلهم - بلغة قريش - وقال قتادة: أماني

(1) سورة البقرة: آية 36.
(2) ديوانه من قصيدة يذم بها أبا سفيان حين علم أن أبا سفيان هجا رسول الله " ص "
ومطلعها:
ألا أبلغ أبا سفيان عني * فأنت مجوف بخب هواء
(3) في المطبوعة " كان " ساقطة.
(4) سورة الأعراف: آية 188.
(5) سورة الأعراف: آية 188.
(6) في المطبوعة " معنى " ساقطة.
410

يتمنونها على الله كاذبة وبه قال الربيع. وقيل أيضا معناه تلك أقاويلهم وتلاوتهم كما
قال " لا يعلمون الكتاب الا أماني " (1) اي تلاوة.
ومعنى " هاتوا " احضروا. وهو وإن كان على لفظ الامر المراد به الانكار
والتعبير. وتقديره ان آتيتم ببرهان صحت مقالتكم. ولن يأتوا به، لان كل
مذهب باطل فلا برهان عليه.
اللغة:
والبرهان والحجة والدلالة والبيان بمعنى واحد، وهو ما أمكن الاستدلال
به على ما هو دلالة عليه مع قصد فاعله إلى ذلك. وفرق الرماني بين الدلالة والبرهان
بأن قال: الدلالة قد تنبئ عن معنى فقط، لا تشهد بمعنى اخر، وقد تنبئ عن معنى
يشهد بمعنى اخر، والبرهان ليس كذلك، لأنه بيان عن معنى ينبئ عن معنى
اخر، وهذا الذي ذكره لا يسلم له لأنه محض الدعوى وبه قال الحسن، ومجاهد
والربيع والسدي.
المعنى:
" هاتوا برهانكم " اي حجتكم. وفي الآية دلالة على فساد التقليد لأنه
لو جاز التقليد، لما ألزم القوم ان يأتوا فيما قالوه ببرهان. وقد يجوز في العربية أمانيهم
بالتخفيف على ما ذكره الزجاج. والثقيل أجود.
قوله تعالى:
" بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (112) - آية بلا خلاف. -
فان قيل: أليس بلى إنما تكون في جواب الاستفهام مثل قوله " الست بربكم
قالوا بلى " فكيف دخلت هاهنا؟ قلنا إنما جاز ذلك لأنه يصلح أن يكون تقديره أما

(1) سورة البقرة: آية 78.
411

يدخل الجنة أحد فقيل " بلى من أسلم وجهه الله " لان ما تقدم يقتضي هذا السؤال،
ويصلح أن يكون جوابا للجحد على التكذيب - كقولك: ما قام زيد فيقول:
بلى قد قام، ويكون التقدير هاهنا ليس الامر كما قال الزاعمون " لن يدخل الجنة
الا من كان هودا أو نصارى " ولكن " من أسلم وجهه لله وهو محسن " فهو الذي
يدخلها وينعم فيها، أو بلى من اخلص نفسه لطاعة الله.
ومعنى أسلم يحتمل أمرين: أحدهما - أسلم إلى كذا بمعنى صرفه إليه كقولك
أسلمت الثوب إليه، والثاني - أسلم له بمعنى اخلص له من قولك: قد سلم الشئ
لفلان إذ اخلص له. ومنه قوله: " ورجلا سلما لرجل " (1) اي خالصا وقال زيد
ابن عمرو بن نفيل:
وأسلمت نفسي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا (2)
وإنما جاز أسلم وجهه لله على معنى أسلم نفسه لله على مجرى كلام العرب في
استعمال وجه الشئ، وهم يريدون نفس الشئ، إلا انهم ذكروه باللفظ الأشرف الأنبه
ودلوا عليه به. كما قال عز وجل: " كل شئ هالك إلا وجهه " (3) أي إلا هو.
وقال: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك " (4) وقال الأعشى:
أؤول الحكم على وجهه * ليس قضائي بالهوى الجائر (5)
يعني على ما هو من صحته، وصوابه. وقال ذو الرمة:
فطاوعت همي وانجلى وجه بازل * من الامر لم يترك خلاجا بزولها (6)

(1) سورة الزمر آية 29.
(2) سيرة ابن هشام 1: 246 المزن واحدته مزنة: وهو السحاب عامة. وقيل:
المزن: السحاب البيضاء.
(3) سورة القصص آية: 88.
(4) سورة الرحمان: آية 27.
(5) ديوانه: 143. رقم القصيدة 18. أول الحكم إلى أهله: رده إليهم.
الجائر: المنحرف عن الصواب. في المطبوعة والمخطوطة " وأول " بدل " أؤول ".
" ب‍ " ديوانه: 56 من قصيدة يمدح بها عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي
طاوعت همي: طاوعت ما همت به نفسي. وقوله: بازل من الامر هذا مثل. يقال:
بزل ناب البعير يزولا اي انشق وظهر. وخطة بزلاء: تفصل بين الحق والباطل. والخلاج:
الشك والتردد. والبيت في المطبوعة هكذا:
فطاعت هي وانجل أوجه نازل * من الامر لم يترك خلاجا تزولها
وفي المخطوطة قريب من هذا
412

يريد انجلى البازل من الامر. وقال ابن عباس: أسلم وجهه لله: اخلص عمله
لله. وقال الربيع: اخلص لله. وقال الحسن: يعني بوجهه: وجهه في الدين. وقيل معناه استسلم لامر الله. ومن الوجه يقال: توجه توجها، وواجه مواجهة،
وتواجهوا تواجها. والجهة: النحو. تقول: كذا على وجه كذا، والوجهة القبلة
شبهها في كل وجهة: اي كل وجه استقبلته، واخذت فيه. وتقول توجهوا إليك،
ووجهوا إليك. كل يقال: غير أن قولك: توجهوا إليك على معنى ولو إليك
وجوههم. والتوجه الفعل اللازم. والوجاه والتجاه لغتان: وهو ما استقبل شئ شيئا
تقول دار فلان تجاه دار فلان. والمواجهة: استقبالك بكلام أو بوجه. وأصل
الباب الوجه مستقبل كل شئ ووجه الانسان: محياه. ونقيض الوجه القفاء. ويقال:
وجه الكلام، تشبيها بوجه الانسان، لأنه أول ما يبدو منه، ويعرف به. وقد
يقال في الجواب: هذا وجه وذلك خلف، تشبيها أيضا من جهة الحسن، لان
الغالب في الوجه انه أحسن. ويقال: هذا وجه الرأي الذي يبدوا منه، ويعرف به.
والوجه من كل شئ: أول ما يبدو، فيظهر بظهور ما بعده.
وقوله: " وهو محسن " في موضع نصب، لأنه في موضع الحال. وإنما قال:
" فله اجره " على التوحيد، ثم قال: " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " على الجمع
لان (من) لفظها لفظ الواحد، ومعناها الجمع، فمرة تحمل على اللفظ: وأخرى على
المعنى كما قال: " ومنهم من يستمع إليك " (1) وفي موضع اخر " ومنهم من
يستمعون إليك " (2). وقال الفرزدق:
تعال فان عاهدتني لا تخونني * نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (3)

(1) سورة انعام: آية 25 وسورة محمد: آية 16.
(2) سورة يونس: آية 42.
(3) انظر 1: 248
413

فثنى واللفظ واحد لأجل المعنى. فان قيل إذا كان قد ذكر " فلهم اجرهم
عند ربهم " فلم قال: " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " قيل عن ذلك جوابان:
أحدهما - الدلالة على أنهم على يقين لا على رجاء يخاف معه ألا يكون
الموعود به.
والثاني - الفرق بين حالهم، وبين حال أهل العقاب الذي يخافون ويحزنون.
قوله تعالى:
" وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى
ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين
لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا
فيه يختلفون " (113) - آية بلا خلاف. -
النزول:
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فقال ابن عباس: انه لما قدم أهل نجران من
النصارى على رسول الله " ص " أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال رافع بن خويلد: ما أنتم على شئ، وكفر بعيسى وبالإنجيل، فقال رجل من
من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شئ وجحد بنبوة موسى، وكفر بالتوراة
فأنزل الله في ذلك الآية إلى قوله: " فيما كانوا فيه يختلفون ".
وقال الربيع: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله.
المعنى:
ومعنى الآية أحد شيئين:
أحدهما - حل الشبهة بأنه ليس في تلاوة الكتاب معتبر في الانكار، لما لم يؤت
على انكاره، ببرهان فلا ينبغي ان تدخل الشبهة بانكار أهل الكتاب لملة أهل الاسلام
414

إذ كل فريق من أهل الكتاب قد انكر ما عليه الآخر، ثم بين أن سبيلهم كسبيل من
لا يعلم الكتب في الانكار لدين الاسلام من مشركي العرب، وغيرهم ممن الكتاب
له فيهم، وجحدهم لذلك سواء إذ لا حجة معهم يلزم بها تصديقهم، لا من جهة سمع
ولا عقل.
والوجه الآخر - الذم لمن انكر ذلك من أهل الكتاب على جهة العناد،
إذ قد ساوى المعاند منهم للحق الجاهل به في الدفع له، فلم ينفعه علمه، بل حصل
على مضرة الجهل كما حصل عليه من لا علم له به. فان قيل: إذا كانت اليهود إنما
قالت: ليست النصارى على شئ في تدينها في التوراة فكيف قال: " كذلك قال
الذين لا يعلمون مثل قولهم " وأهل الحق أيضا يقولون مثل قولهم؟ قيل: إن
المعنى " كذلك قال الذين لا يعلمون الكتاب ". اي فقد ساووا في ذلك من لا كتاب
له. وكما لا حجة في جحد هؤلاء كذلك لا حجة في جحدهم، ولم يساووا أهل
الحق فيه، لأنهم قالوه عن علم. والمعني بقوله: " كذلك قال الذين لا يعلمون مثل
قولهم " - في قول السدي - هم العرب الذين قالوا: ليس محمد صلى الله عليه وآله على شئ.
وقال الربيع: قالت النصارى: مثل قول اليهود قبلهم، ووجه هذا القول، اي فقد
ساووكم يا معشر اليهود في الانكار " وهم لا يعلمون ". وقال عطاء: هؤلاء الذين
لا يعلمون أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والإنجيل.
اللغة
" والقيامة " مصدر إلا أنه صار كالعلم على وقت بعينه، وهو الوقت الذي
بعث الله عز وجل فيه الخلق، فيقومون من قبورهم إلى محشرهم. تقول: قام يقوم
قياما وقيامة: مثل عاد يعود عيادا وعيادة، وصانه صيانة، وعاده عيادة.
المعنى:
وقوله: " فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " يحتمل أمرين: (1)

(1) أثبت ثلاثة أمور.
415

أحدهما - قال الحسن حكمه فيهم ان يكذبهم جميعا ويدخلهم النار. وقال أبو علي:
حكمه الانصاف من الظالم المكذب بغير حجة ولا برهان للمظلوم المكذب. وقال
الزجاج: حكمه ان يريهم من يدخل الجنة عيانا. وهذا هو حكم الفصل في الآخرة
فاما حكم العقل في الدنيا فالحجة التي دل الله بها على الحق من الباطل في الديانة.
قوله تعالى:
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى
في خرابها أولئك ما كان لهم أو يدخلوها إلا خائفين (114) - آية
واحدة. -
المعنى:
اختلف المفسرون في المعنى بهذه الآية، فقال ابن عباس، ومجاهد، واختاره
الفراء انهم الروم، لأنهم كانوا غزوا بيت المقدس، وسعوا في خرابه حتى كانت أيام
عمر، فاظهر الله عليهم المسلمين، وصاروا لا يدخلونه إلا خائفين: وقال الحسن وقتادة
والسدي: هو بخت نصر خرب بيت المقدس. قال قتادة: واعانه عليه النصارى. وقال
قوم: عنى به سائر المشركين، لأنهم يريدون صد المسلمين عن المساجد، ويحبونه.
وقال ابن زيد، والبلخي، والجبائي والرماني: المراد به مشركي العرب. وضعف هذا
الوجه الطبري من بين المفسرين بان قال: إن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب
المسجد الحرام. وهذا ليس بشئ، لان عمارة المساجد بالصلاة فيها وخرابها بالمنع
من الصلاة فيها. وقد روي أنهم هدموا مساجد كان أصحاب النبي يصلون فيها
بمكة، لما هاجر النبي وأصحابه. وقال: وهو أيضا لا يتعلق بما قبله من ذم أهل
الكتاب كما يتعلق إذا عنى به النصارى، وبيت المقدس. فيصير الكلام منقطعا،
فيقال له: قد جرى ذكر لغير أهل الكتاب من المشركين في قوله: " كذلك قال
الذين لا يعلمون " وهذا أقرب من اليهود والنصارى، ولان ذلك كله ذم: فمرة
416

يوجه إلى اليهود، ومرة إلى النصارى، ومرة إلى عباد الأوثان وغيرهم من أهل
الشرك. فان قيل: كيف قال: " مساجد الله " بالجمع وهو أراد المسجد الحرام،
أو بيت المقدس؟ قيل عنه جوابان:
أحدهما - ان كل موضع منه مسجد، كما يقال لكل موضع من المجلس العظيم
مجلس. فيكون اسما يصلح ان يقع على جملته، وعلى كل موضع سجود فيه.
(والثاني) - قال الجبائي لأنه يدخل فيه المساجد التي بناها المسلمون للصلاة
بالمدينة.
وقوله: " ممن منع "
اللغة:
والمنع، والصد والحيلولة نظائر. وضد المنع الاطلاق. يقال: منع منعا.
وامتنع امتناعا. وتمنع تمنعا. وتمانع تمانعا. ومانعة ممانعة. وقال صاحب العين:
المنع: ان يحول بين الرجل وبين الشئ يريده. وتقول: منعته فامتنع. ورجل منيع
لا يخلص إليه وهو في عز ومنعة يخفف ويثقل. وامرأة منيعة ممتنعة لا تؤاتي على
فاحشة وقد تمنعت مناعة. وكذلك الحصن وغيره تقول: منع مناعا: إذا لم يرم
ومناع، أي امنع قال الشاعر:
مناعها من إبل مناعها * ألا ترى الموت لدى اوباعها (1)
المعنى:
ومساجد الله قد بينا ان منهم من (قال) أراد المسجد الأقصى، ومنهم من
(قال) أراد المسجد الحرام، ومنهم من قال: أراد جميع المساجد.
وروي عن زيد بن علي عن أبيه عليهما السلام انه أراد جميع الأرض، لقوله

(1) لم نجد هذا البيت في مصادرنا ووجدنا بيتا يشبهه في شواهد سيبويه 1: 123 ولم
ينسبه وهو!
تراكها من إبل تراكها * أما ترى الموت لدى أوراكها
وهذا أيضا موجود في الكامل للمبرد: 413.
417

عليه السلام: جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا.
وقوله: " وسعى في خرابها "
اللغة:
والسعي والعدو والركض نظائر. وضد السعي الوقف. تقول: سعى (1)
سعيا، واستسعى استسعاء وتساعوا تساعيا. قال صاحب العين: السعي عدو دون
الشديد. وكل عمل من خير أو شر، فهو السعي يقال: فلان يسعى على عياله أي
يكسب لهم يقولون: ان السعي الكسب والعمل. قال الشاعر:
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا * فكيف لو قد سعى عمرو عقالين (2)
عقال صدقة عام. والساعية ان تسعى بصاحبك إلى وال من فوقه. والسعاية
ما يستسعى به العبد من ثمن رقبته إذا أعتق بعضه، وهو ان يكلف من العمل ما يؤدي
عن نفسه ما بقي ويقال سعى للسلطان إذا ولي الصدقة وساعي الرجل الأمة: إذا
فجربها. ولا تكون المساعاة إلا في الإماء. واصل الباب: السعي: العدو.
وقوله: " في خرابها " فالخرب، والهدم، والنقض نظائر ونقيض الخراب
العمارة. يقال: خرب خرابا واخربه إخرابا. وتخرب تخربا وخربه تخريبا. والخرب
الذكر من الحبارى والجمع الخربان. قال الشاعر:
ما رأينا خربا ينفر عنه البيض صقر لا يكون المهر جحشا لا يكون الجحش مهر
والخربة: سعة خرق الاذن. قال ذو الرمة:
كأنه حبشي يبتغي أثرا * أو من معاشر في آذانها الخرب (3)

(1) في المطبوعة سعى ساقطة.
(2) انظرا: 300 فثمت ايضاح واف.
(3) اللسان (خرب) يصف نعاما شبهه برجل حبشي، لسوادة. وقوله (يبتغي اثرا)
لأنه مدلى الرأس وفي آذانها الخرب: يعني السند. وقيل الخربة سعة خرق الاذن في المطبوعة
(أشرا) بدل (أثرا) و (جشي) بدل (حبشي).
418

والخربة: عروة المزادة وكذلك كل بيت مستدير. والخارب: اللص. وما رأينا
من فلان خربة أي فسادا في دينه أو شينا. والخارب من شدائد الدهر. قال
الشاعر:
ان بها اكتل أو رزاما * خوير بين ينقفان الها ما (1)
والرزام: الهزال. والخروبة شجرة الينبوت. والخرابة: سرقة الإبل قال
الأصمعي لا يكادون يسمون الخارب إلا سارق الإبل وأصل الباب: الخراب ضد
العمران.
وقوله: " ومن أظلم " رفع لأنه خبر الابتداء وتقديره أي أحد أظلم.
وقوله: " ان يذكر " يحتمل وجوها من النصب قال الأخفش: يجوز أن يكون
على حذف (من)، وتقديره من أن يذكر، ويجوز أن يكون على البدل من
" مساجد الله "، وقال الزجاج: يجوز على معنى كراهية أن يذكر. وعلى الوجوه
كلها العامل فيه (منع)
المعنى:
ومعنى قوله: " أولئك ما كان لهم ان يدخلوها إلا خائفين " فيها خلاف.
قال قتادة: هم اليوم كذلك لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك (2) ضربا،
وأبلغ إليه في العقوبة. وبه قال السدي. وقال ابن زيد: نادى رسول الله صلى الله عليه وآله
ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وقال الجبائي بين الله انه ليس
لهؤلاء المشركين دخول المسجد الحرام، ولا دخول المساجد فان دخل منهم داخل
إلى بعض المساجد، كان على المسلمين اخراجه منه إلا أن يدخل إلى بعض الحكام

(1) اللسان (خرب) الاكتل والكتال: هما شدة العيش. والرزام الهزال. قال أبو
منصور: اكتل ورزام - بكسر الراء - رجلان خاربان أي لصان. وقوله: خوربان أي هما خاربان
وصغرهما وهما اكتل ورزام، ونصب خوربين على الذم. والجمع خراب. في المطبوعة والمخطوطة
(خربيان) بدل (خويربين) و (نفقان) بدل (ينقفان)
(2) في المطبوعة " الا ازهك " بدل " الا أنهك "
419

بخصومة بينه وبين غيره إلى بعض القضاة، فيكون دخوله خائفا من الاخراج على
وجة الطرد بعد انفصال خصومته، ولا يقعد مطمئنا كما كان يقعد المسلم. وهو الذي
يليق بمذهبنا، ويمكن الاستدلال به على أن الكفار لا يجوز أن يمكنوا من دخول
المساجد على كل حال. فأما المسجد الحرام خاصة، فان المشركين يمنعون من دخوله،
ولا يتركون ليدخلوه لحكومة، ولا غيرها، لان الله تعالى قد امر بمنعهم من دخوله
بقوله: " ما كان للمشركين ان يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر "
(1) يعني المسجد الحرام. وقال الزجاج: أعلم الله ان أمر المسلمين يظهر على جميع
من خالفهم حتى لا يمكن دخول مخالف إلى مساجدهم إلا خائفا. وهو كقوله:
" ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " (2) كأنه قيل: أولئك ما كان لهم
ان يدخلوها إلا خائفين، لاعزاز الله الدين واظهاره المسلمين.
قوله تعالى:
لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (115)
- آية. -
المعنى:
قال قتادة: معناه انهم " يعطون الجزية عن يد وهم وهم صاغرون ". وقال السدي:
خزيهم في الدنيا انهم إذا قام المهدي، وفتحت قسطنطينية قتلهم، فلذلك خزيهم في
الدنيا ان يقتلوا ان كانوا حربا، ويؤدون الجزية ان كانوا ذمة. وقال الجبائي:
الخزي لهؤلاء الكفار الذين امر بمنعهم من دخول المساجد على سبيل ما يدخلها
المؤمنون. وقوله: " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " قال الفراء: يقول فيما وعد الله
المسلمين من فتح الروم وان لم يكن بعد - والناس على خلافه، في أن معنى الآخرة

(1) سورة التوبة: آية 19.
(2) سورة التوبة: آية 34.
420

يوم القيامة. كأنه قيل: لهم في الآخرة عذاب جهنم.
قوله تعالى:
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله
واسع عليم (116) آية بلا خلاف.
اللغة:
المشرق والشرق: اسمان لمطلع الشمس، والمغرب، والغرب: اسمان لغربها.
يقال: شرق شروقا، وأشرق إشراقا، وتشرق تشريقا. والمشرقان والمغربان:
مشرقا الشتاء والصيف، ومغرباهما. والمشارق مطالع الشمس في كل يوم حتى تعود
إلى المشرق الأول في الحول. وشرقت الشمس: إذا طلت، وأشرقت: إذا أضاءت.
وتقول: لا افعل ذلك ما ذر شارق: أي ما طلع قرن الشمس. وشرق يشرق شرقا:
إذا اغتص. وقال عدي بن زيد:
لو بغير الماء حلقي شرق * كنت كالغصان بالماء اعتصاري (1)
والمشرقة (2) حيث يقعد المشرق في وجه الشمس. قال الشاعر:
تحبين الطلاق وأنت عندي * بعيش مثل مشرقة الشتاء (3)
وشرق الثوب بالصبغ: إذا احمر واشتدت حمرته، ولطمه فشرق الدم في عينه:
إذا احمرت. وتقول: اشرورقت عينه، واغرورقت. وناقة شرقاء: إذا شقت أذنها
(4) بنصفين طولا، وكذلك الشاة. وأيام التشريق أيام مشرق اللحم في الظل.

(1) اللسان شرق و (عصر) الشرق بالماء والريق: كالغصص بالطعام. الاعتصار:
ان يغص الانسان بالطعام فيعتصر بالماء: وهو أن يشربه قليلا قليلا.
(2) المشرقة فيها اربع لغات - بضم الراء، وفتحها - وشرقة - بتسكين الراء - ومشراق.
(3) لم نجد هذا البيت في مصادرنا ولم نعرف قائله. وفي اللسان (شرق) بيت يشبهه
وهو:
تريد بن الفراق وأنت مني * بعيش مثل مشرقة الشمال
(4) في المطبوعة (وفاقه شرقا إذا شقتانها)
421

وقال صاحب العين: كانوا يشرقون اللحم تلك الأيام في الشمس. وقوله: " فاخذتهم
الصيحة مشرقين " (1) أي حيث طلعت عليهم الشمس. والشرق طائر من الطيور
الصوائد. مثل الصقر، والشاهين وقال الشاعر:
قد اغتدى والصبح ذو بريق * بملحم احمر سو ذنيق
أجدل أو شرق من الشروق (2)
وكل شئ طلع من الشمس يقال: شرق يشرق. وفي الحديث: لا تشريق
إلا في مصر، ومسجد جامع، أي لا صلاة عيد، لأنها وقت طلوع الشمس. واصل
الباب الطلوع. والمغرب والمغيب نظائر. تقول: غرب يغرب غروبا، واغترب اغترابا
واستغرب استغرابا، وغرب تغريبا. وسمي الغراب غرابا لبعده ونفوره (3) وانه
أشد الطيور خوفا وأصل الباب الحد والتباعد حتى بلغ النهاية. ومن هذا مغرب
الشمس. والرجل الغريب المتباعد. وشطت غربة النوى أي بعد المتنائي: وهو أبعد
البعد. وغرب السيف والسهم: حده سمي بذلك، لأنه يمضي فلا يرد، فهو مأخوذ
من الابعاد. ويقال لموضع الرداء: غارب. وقولهم للدابة: مغرب: إذا ابيضت
حدقته، وأهدابه. شبيه بابيضاض الشمس عند الغروب. وقولك للرجل: أغرب
معناه أبعد. وثوبي غربي: إذا لم تستحكم حمرته. مأخوذ من الدابة الغرب. وتقول:
اصابه حجر غرب: إذا أتاه من حيث لا يدري. وأتاه حجر غرب: إذا رمى غيره
فأصابه. ويقال: اقطع غرب لسان فلان عني: أي اقطع حدة لسانه. وناقة ذات
غرب، أي حدة الغرب. والغرب: الدمع الحار الفاسد. وقال الكميت:
أبى غرب عينيك إلا انهمالا

(1) سورة الحجر آية 73.
(2) اللسان " شرق " ولم ينسبها الملحم - بفتح الحاء - من يطعم اللحم - بفتح العين -
السوذق، والسوذنيق والسوذانق، وربما قالوا: ذيذونق: الشاهين، وهو طائر كالصقر
وجميع مادة " سوذق " فارسية معربة. وفي المخطوطة والمطبوعة هكذا:
قد اعتدى والصبح ذو نبيق * لمسلحم اكلب شوذنيق
(3) في المطبوعة " عن أبا لبعده ونقول "
422

وجمعه غروب. والغرب دلو ضخم يتخذ من جلد تام. والغرب: ما قطر من الماء
من الدلاء من الحوض، والبئر ويقال: اغرب الحوض: إذا سال من جوانبه وفاض
والغرب: جنس من الشجر خارج عن حد ما يحمل بحمل، أو طيب ريح، أو
صلابة. وغاية مغربة: أي بعيدة. والغرب: الفضة. وقيل: انه جام من فضة.
وقيل: انه الذهب. قال الشاعر:
كما دعدع سافي الأعاجم الغربا (1)
والغارب: أعلى الموج. والغارب: ما بين يدي السنام. وعنقاء مغرب: موضوع
على طائر لا يعرف حده والغربيب: الأسود الشديد السواد. وأصل الباب: الغرب:
الحد. واللام في قوله: " ولله المشرق " لام الملك وأصلها لام الإضافة وهي على
ثمانية أوجه: الملك، والفعل، والعلة، والولادة، والاختصاص، والاستغاثة، ولام
كي. وهي لام الغرض (2) ولام العاقبة. (3) فلام الملك كقولك: له مال، والفعل:
له كلام، والعلة: (4) هو اسود لما فيه السواد، ولام الولادة: (5) أب له ولد
له أخ، والاختصاص: له علم، وله إرادة (6) والاستغاثة يالبكر، ولام كي:
" وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون "، (7) ولام العاقبة: " فالتقطة آل فرعون
ليكون لهم عدوا وحزنا " فهذه وجوه لام الإضافة. وإنما قيل: " ولله المشرق
والمغرب " بالتوحيد وله جميع المشارق والمغارب لاحد أمرين:

(1) اللسان (غرب). قائله الأعشى. و (كما) زائدة من الصدر والبيت:
قد عد عاسرة الركاء كما * دعدع ساقي الأعاجم الغربا
والغرب: جام الفضة. قال ابن بري هذا البيت للبيد وليس للأعشى كما زعم الجوهري
(2) في المطبوعة (كلام الفرض).
(3) في المطبوعة " الغايية "
(4) في المطبوعة (يعله).
(5) في المطبوعة " له " ساقطة
(6) في المطبوعة " وله إرادة في إرادة "
(7) سورة الأنعام: آية 123.
423

أحدهما - انه اخرج ذلك مخرج الجنس، فدل على الجمع، كما قيل أهلك الناس
الدينار والدرهم.
والآخر - انه على الحذف. كأنه قيل المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم،
والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. وإنما خص الله تعالى ذكر ذلك هاهنا لاحد
أمور:
أحدها - قال ابن عباس: واختاره الجبائي انه رد على اليهود لما أنكروا تحويل
القبلة إلى الكعبة، وقال: ليس هو في جهة دون جهة، كما تقول المشبهة.
والثاني: قال ابن زيد وقتادة، كان للمسلمين التوجه بوجوههم إلى الصلاة
حيث شاؤوا ثم نسخ ذلك بقوله: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " (1) وإنما
كان النبي صلى الله عليه وآله أولا اختار التوجه إلى بيت المقدس، وقد كان له التوجه إلى
حيث شاء.
وقال آخرون: كان ابن عمر يصلي حيث توجهت به راحلته في السفر تطوعا،
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يفعل ذلك ويتأول عليه الآية.
وقيل: نزلت في قوم صلوا في ظلمة وقد خفيت عليهم جهة القبلة، فلما
أصبحوا إذا هم صلوا إلى غير القبلة، فأنزل الله هذه الآية. وهذا قول عبد الله بن
عامر عن أبيه. والنخعي والأول أقوى الوجوه.
وقوله: " فثم وجه الله " المراد بالوجه، فيه اختلاف. قال الحسن، ومجاهد:
المراد به، فثم جهة القبلة، وهي الكعبة، لأنه يمكن التوجه إليها من كل مكان.
قال ابن بيض:
أي الوجوه انتجعت قلت لها * لأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل صاحبا يرادفه * هذا ابن بيض بالباب يبتسم
وقيل: معناه فثم وجه الله، فادعوه كيف توجهتم. وقال آخرون، واختاره

(1) سورة البقرة: آية 150.
424

الرماني والجبائي: فثم رضوان الله. كما يقال: هذا وجه العمل، وهذا وجه الصواب
وكأنه قال: الوجه الذي يؤدي إلى رضوان الله. وتقدير الآية واتصالها بما قبلها،
كأنه قال: لا يمنعكم تخريب من خرب المساجد ان تذكروه حيث كنتم من أي وجه،
وله المشرق والمغرب، والجهات كلها.
المعنى:
وقوله: " والله واسع عليم " قال قوم: معناه غني، فكأنه قيل: واسع
المقدور. وقال الزجاج: يدل على التوسعة للناس فيما رخص لهم في الشريعة، وكأنه
قيل: واسع الرحمة، وكذلك رخص في الشريعة. ومعنى القول الأول انه غني عن
طاعتكم، وإنما يريدها لمنفعتكم. وقال الجبائي: معناه واسع الرحمة.
اللغة:
والسعة والفسحة والمباعدة نظائر. وضد السعة الضيق يقال: وسع يسع سعة،
وأوسع إيساعا، وتوسع توسعا، واتسع اتساعا، ووسع توسعة، والواسع: جدة
الرجل وقدرة ذات يده، فرحمة الله وسعت كل شئ وانه ليسعني ما وسعك. وتقول:
وسعت الوعاء فاتسع فعل لازم. وكذلك أتوسع. وسع الفرس سعة ووساعة، فهو
وساع. وأوسع الرجل: إذا كان ذا سعة في المال، فهو موسع، وموسع عليه.
وتقول سير وسيع ووساع. وفي القرآن " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (1)
أي طاقتها واصل الباب: السعة نقيض الضيق.
المعنى:
ومعنى عليم انه عالم يوجه الحكمة، فبادروا إلى ما أمركم به من الطاعة. وقيل
واسع الرحمة عليم ابن يضعها على وجوه الحكمة. ومعنى (ثم) هناك تقول لما قرب
من المكان: هنا، وما تراخى: ثم وهناك.

(1) سورة البقرة: آية 286.
425

الاعراب:
وإنما بني، لان فيه معنى الإشارة إلى المكان لابهامها، وبني على الحركة
لالتقاء الساكنين، وفتح لخفة الفتحة في المضاعف.
وقوله: " فأينما تولوا " جزم باينما. والجواب فثم وجه الله. " وثم " موضعه
النصب لكنه بني على الفتح. وقوله: " أينما " تكتب موصولة في أربعة مواضع ليس
في القرآن غيرها. هذه واحدة، وفي النحل " أينما يوجهه " (1) وفي الأحزاب
" ملعونين أينما ثقفوا " (2) وفى الشعراء " أينما كنتم تعبدون " (3) ومن
الناس من يجعل معها التي في النساء " أينما تكونوا يدرككم الموت " (4) وكلها
على القياس إلا التي في الشعراء، فان قياسها ان تكتب مفصولة، لان (ما) اسم
موصول بما بعده بمعنى الذي.
قوله تعالى:
" وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض
كل له قانتون " (117) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن عامر وحده: " قالوا " بلا واو.
المعنى:
والمعنى بهذه الآية النصارى وقال قوم: النصارى، ومشركوا العرب معا،
من حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت النصارى: المسيح بن الله - هذا قول
الزجاج. - وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز الولد على وجه من الوجوه،

(1) آية 76.
(2) آية 61.
(3) آية 92.
(4) آية 77.
426

لأنه إذا كان جميع ما في السماوات والأرض ملكا له، فالمسيح عبد مربوب، وكذلك
الملائكة المقربون، لان الولد لا يكون إلا من جنس الوالد، ولا يكون المفعول إلا
من جنس الفاعل، وكل جسم فعل لله فلا مثل له ولا نظير على وجه من الوجوه
(تعالى الله) عن صفات (1) المخلوقين.
وقوله: " كل له قانتون ". الأصل في القنوت الدوام. وينقسم أربعة أقسام:
الطاعة، كقوله: " كل له قانتون " أي مطيعون والقنوت الصلاة كقوله:
" يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي " (2). والقنوت: طول القيام. وروي
عن جابر بن عبد الله قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله أي الصلاة أفضل فقال: طول القنوات.
ويكون القنوت السكوت، كما قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت
" وقوموا لله قانتين " (3) فأمسكنا عن الكلام. وقيل في " قانتون " هاهنا
ثلاثة أقوال:
(الأول) قال مجاهد: معناه مطيعون، وطاعة الكافر في سجود ظله. وقال
ابن عباس: مطيعون.
الثاني - قال السدي: كل له مطيعون يوم القيامة. وقال الربيع: كل له
قائم يوم القيامة.
الثالث - قال الحسن: كل قائم له بالشهادة عبدة. وقالت فرقة رابعة - وهو
الأقوى -: كل دائم على حالة واحدة بالشهادة بما فيه من آثار الصنيعة، والدلالة
على الربوبية. وزعم الفراء: انها خاصة لأهل الطاعة، بدلالة انا نجد كثيرا من الخلق
غير طائعين. وعلى ما اخترناه لا يحتاج إلى التخصيص.

(1) في المطبوعة " طبقات. "
(2) سورة آل عمران: آية 43.
(3) سورة البقرة: آية 238.
427

اللغة:
وأما القنوت في اللغة فقد يكون بمعنى الطاعة. تقول: قنت يقنت قنوتا،
فهو قانت: إذا أطاع وقال صاحب العين: القنوت في الصلاة دعاء (1) بعد
القراءة في آخر الوتر، يدعو قائما. ومنه قوله: " امن هو قانت إناء الليل ساجدا
أو قائما " (2). والقنوت، والدعاء: قيام في هذا الموضع. وقيل في قوله:
" وقوموا لله قانتين " (3) أي خاشعين. وقال ابن دريد: القنوت: الطاعة.
وقال أبو عبيدة: القانتات: الطائعات، والقنوت في الصلاة: طول القيام - على
ما قاله المفسرون - في قوله: " وقوموا لله قانتين ". واصل الباب: المداومة
على الشئ.
قوله تعالى:
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له
كن فيكون (118) - آية بلا خلاف. -
القراءة:
قرأ ابن عامر " فيكون " نصبا. الباقون بالرفع.
اللغة:
بديع بمعنى مبدع. مثل أليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع. وبينهما فرق
لان في بديع مبالغة ليس في مبدع، ويستحق الوصف في غير حال الفعل على
الحقيقة. بمعنى ان من شأنه الانشاء، لأنه قادر عليه، ففيه معنى مبدع. وقال

(1) في المطبوعة " دعة ".
(2) سورة الزمر: آية 9.
(3) سورة البقرة: آية 238.
428

السدي: تقول ابتدعها، فخلقها ولم يخلق قبلها شيئا (1) تتمثل به. والابداع، والاختراع، والانشاء نظائر. وضد الابتداع الاحتذاء على مثال. يقال: أبدع
إبداعا وابتدع ابتداعا، وبدع تبديعا. وقال ابن دريد: بدعت الشئ: إذا
أنشأته: والله " بديع السماوات والأرض " أي منشئهما. وبدعت الركي، (2)
إذا استنبطتها، وركي بديع: أي جديد الحضر. ولست ببدع في كذا. أي لست
بأول من أصابه هذا. ومنه قوله: " ما كنت بدعا من الرسل " (3). وكل من
احدث شيئا، فقد أبدعه. والاسم: البدعة وأبدع بالرجل: إذا كلت راحلته،
وانقطع به. وقوله: " ما كنت بدعا من الرسل " أي ما كنت بأول مرسل.
والبدعة: ما ابتدع من الدين، وغيره، وجمعها بدع. وفي الحديث: كل بدعة
ضلالة. وتقول جئت بأمر بديع، أي مبتدع عجيب وأبدعت الإبل: إذا تركت
في الطريق من الهزل. وأصل الباب: الانشاء.
المعنى:
وقوله: " إذا قضى امرا " يحتمل أمرين:
أحدهما - إذا خلق امرا. كما قال " فقضاهن سبع سماوات في يومين " (4)
أي خلقهن - وهو اختيار البلخي، والرماني، والجبائي.
والثاني: حتم بان يفعل أمرا وحكم. وقيل احكم امرا، كما قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع (5)

(1) في تفسير الطبري - دار المعارف المصرية - 2: 541 " ابتدعها فخلقها ولم يخلق
شئ فيتمثل به " ومثله في الدار الثمين 1: 11 وفي مطبوعة بولاق من التفسير المذكور كما أثبتنا.
(2) الركي، جمع ركية: البئر تحفر
(3) سورة الأحقاف: آية 9.
(4) - سورة حم - السجدة: آية 12.
(5) ديوانه: 19. واللسان " صنع " من قصيدة يرثي بها أولاده حين ماتوا بالطاعون
ومسرودتان: درعان من السرد وهو الخرز والنسج. تبع: اسم لكل ملك من ملوك حمير
الصنع: الحاذق والامرأة: صناع.
429

اللغة:
قضاهما: احكمهما، والقضاء والحكم نظائر. يقال: قضى يقضي قضاء، واقتضى
اقتضاء، وتقاضيا تقاضيا، واستقضى استقضاء، وتقض تقضيا وقض تقضية،
وقاضاه مقاضاة، وانقضى انقضاء. قال صاحب العين: قضى يقضي قضاء، وقضية:
يعني حكم. وتقول: قضى إليه عهدا معناه أوصى إليه. ومنه قوله: " وقضينا إلى
بني إسرائيل " (1). " وقضى عليها الموت " (2) أي اتى عليه. والانقضاء فناء
الشئ، وذهابه. وكذلك التقضي. وأصل الباب: القضاء. والفصل والقضاء ينصرف
على وجوه:
منها الامر كقوله تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " (3) أي أمر. ومنه
الخلق كقوله: " قضاهن سبع سماوات " (4) أي خلقهن. ومنه الاخبار،
والاعلام، كقوله: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب " (5) أي أخبرناهم ومنه
الفصل: قضى القاضي بين الخصمين أي فصل الامر بينهما.
المعنى:
ومعنى قوله: " فإنما يقول له كن فيكون " قيل فيه قولان:
أحدهما - انه بمنزلة المثل ومعناه ان منزلة الفعل له في السهولة، وانتفاء التعذر
كمنزلة ما يقال له كن فيكون كما يقال قال فلان برأسه كذا وقال بيده: إذا حرك
رأسه وأومى بيده، ولم يقل شيئا في الحقيقة وقال أبو النجم:

(1) سورة اسرى: آية 4.
(2) سورة الزمر: آية 42.
(3) سورة الاسرى: آية 23.
(4) سورة - حم - السجدة: آية 12.
(5) سورة الإسراء: آية 4.
430

إذ قالت الأنساع للبطن الحقي * قدما فآضت كالفنيق المحنق (1)
وقال عمرو بن حممة الدوسي (2):
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه * إذا رام تطيارا يقال له: قع (3)
وقال آخر:
امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني (4)
وقال آخر:
فقالت له العينان سمعا وطاعة * وحدرتا كالدر لما يثقب (5)
و قال العجاج: (6) يصف ثورا:
وفيه كالاعواض للعكور * فكر ثم قال في التفكير
ان الحياة اليوم في الكرور
والوجه الآخر أنه علامة جعلها الله للملائكة إذا سمعوها، علموا انه احدث
امرا. وكلاهما حسن والأول أحسن وأشبه في كلام العرب في عادة الفصحاء. ونظيره
قوله تعالى: " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين " (7) وهو الذي
اختاره البلخي، والرماني، وأكثر المفسرين. وقد قيل في ذلك أقوال فاسدة،
لا يجوز التعويل عليها:

(1) اللسان (حنق) ذكر البيتين. وفي (قول) البيت الأول فقط. وروايته " قد
قالت " بدل " إذ قالت ". يصف الشاعر ناقة انضاها السير. الأنساع: جمع نسع - بكسر
النون وسكون السين - وهو السير: خيط من الجلد. ولحق البطن: ضمر. وآض: صار ورجع
الفنيق: الجمل الفحل. والمحنق: الضامر القليل اللحم.
(2) في المطبوعة " عمر بن حمد السدوسي " والصحيح ما أثبتناه. وهو أحد المعمرين
زعموا أنه عاش ثلاثمئة وتسعين سنة وهو أيضا أحد حكام العرب.
(3) الحماسة للبحتري: 205
(4) اللسان " قطط " البيتان. و " قول " البيت الأول فقط.
(5) اللسان " قول " وروايته " قالت " بدل " فقالت " وبالفاء أتم للوزن. وفي
مجمع البيان " وقالت " بالواو.
(6) في المطبوعة " ضعيف " زائدة في هذا الموضع
(7) سورة - حم - السجدة: آية 11.
431

ان الامر خاص في الموجودين الذين قيل لهم " كونوا قردة خاسئين " (1)
ومن جرى مجراهم، لأنه لا يؤمر المعدوم عندهم.
ومنها انه أمر للمعدوم من حيث هو لله معلوم، فصح أن يؤمر فيكون.
ومنها - ان الآية خاصة في الموجودات من إماتة الاحياء واحياء (2) الموتى
وما جرى مجرى ذلك من الأمور. وإنما قلنا بافساد هذه الأقوال، لأنه لا يحسن
ان يؤمر إلا من كان عاقلا مميزا يقدر على ما أمر به، ويتمكن من فعله. وجميع
ما ذكروه بخلافه. لان المعدوم ليس بحي، ولا عاقل. ولا يصح امره. ومن كان
موجودا لا يجوز ان يؤمر أن يكون قردة، لان المعاني التي تكون بها كذلك،
ليس في مقدوره. كذلك القول في الإماتة والاحياء وتأويل قوله: " كونوا قردة
خاسئين " قد بيناه فيما مضى. فقال بعضهم: إنه أمر للموجود في حال كونه لا قبله
ولا بعده، وانه مثل قوله: " ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون "
(3) وان دعاء الله إياهم لا يتقدم خروج القوم من قبورهم، ولا يتأخر عنه. وهذا
فاسد لان من شرط حسن الامر أن يتقدم المأمور به. وكذلك القول في الدعاء،
فلا يسلم ما قالوه. وتأويل ما استشهدوا به على ما بيناه في الآية سواء في أنه اخبار
عن تسهيل الفعل وسرعة وقوعه، وارادته، لا أن يكون هناك دعاء على الحقيقة،
ثم يلزم على جميع ما ذكروه أن تكون الأشياء مطيعة لله تعالى لان الطاعة هي مانعة
الامر من الأشياء التي قالها: كوني بأن فعلت نفسها، ويلزم أن يكون لها عقل
وتمييز وكل ذلك فاسد. فاما من استدل بهذه الآية ونظائرها على أن كلام الله قديم
من حيث إنه لو كان محدثا لاقتضى ألا يحصل إلا (بكن). والكلام في (كن)
كالكلام فيه إلى أن ينتهي إلى (كن) قديمة. وهو كلام الله القديم. فهذا باطل لأنا
قد بينا معنى الآية، فلا يصح ما قالوه. على أن الآية تقتضي حدوث كلامه من

(1) سورة البقرة: آية 65.
(2) واحياء ساقطة من المطبوعة.
(3) سورة الروم: آية 25.
432

حيث أخبر ان المكونات تكون عقيب (كن) لان الفاء توجب التعقيب، فإذا
كانت الأشياء محدثة، فما يتقدمها بوقت واحد لا يكون إلا محدثا فبطل ما قالوه.
وأيضا فإنه قال: " إذا قضى امرا " ومعناه خلق فبين انه يخلق الامر وقوله: " كن "
أمر يوجب أن يكون محدثا. ودلت الآية على نفي الولد عن الله من وجهين.
أحدهما - ان الذي ابتدع السماوات والأرض من غير مثال هو الذي ابتدع
المسيح من غير والد.
والآخر - ان من هذه صفته، لا يجوز عليه اتخاذ الولد، كما لا يجوز صفات
النقص عليه (تعالى) عن ذلك. وإذا حملنا الآية على وجود المثال، فوجود الخلق
هو كقوله: " كن " إلا أنه خرج على تقدير فعلين، كما يقال: إذا تكلم فلان
بشئ، فإنما كلامه مباح، وإذا أمر بشئ فإنما هو حتم، وكما قال: تاب فاهتدى
فتوبته هي اهتداؤه، فلا يتعذر أن يقال: كن قبله، أو معه. ومتى حملنا ذلك
على أنه علامة للملائكة فإنه يحتمل أن يكون معه، ويحتمل أن يكون قبله. كما
تقول: إذا قدم زيد، قدم عمرو. فإنه يحتمل أن يكون وقتا للامرين معا إلا أنه
أشبه الشرط، كقولك: ان جئتني أعطيتك. ولذلك دخلت الفاء في الجواب، كما تجئ
في الشرط، كقوله: " ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل " (1) وكذلك تحتمل
الآية الامرين:
الاعراب:
ورفع قوله: " فيكون " يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون عطفا على يقول.
والآخر - على الاستئناف أي فهو يكون. ونصبه على جواب الامر، فلا يجوز،
لأنه إنما يجب الجواب بوجود الشرط. فما كان على فعلين في الحقيقة، كقولك إأتني
فأكرمك، فالاتيان غير الاكرام، فأما " كن فيكون " فالكون الحاصل هو الكون
المأمور به، ومثله إنما أقول له إأتني، فيأتيني. وقال أبو علي الفارسي: يجوز ذلك

(1) سورة يوسف: آية 77.
433

على وجه: وهو على أن لفظه لما كن لفظ الامر، نصب كما نصب في جواب الامر،
فإن كان الامر بخلافه - كما قال أبو الحسن في نحو قوله تعالى " قل لعبادي الذين
آمنوا يقيموا الصلاة " (1) ويجوز ذلك في الآي على أنه أجري مجرى جواب الامر
- وان لم يكن جوابا له في الحقيقة - وقد يكون اللفظ على شئ، والمعنى على غيره
نحو قولهم: ما أنت وزيد، والمعنى لم تؤذيه. وليس ذلك في اللفظ، ومثله
" فلا تكفر فيتعلمون " (2) ليس فيتعلمون جوابا لقوله: " فلا تكفر " ولكن
معناه يعلمون أو يعلمان، فيتعلمون منهما غير أن قوله " فلا تكفر " نهي على
الحقيقة. وليس قوله " كن " امرا على الحقيقة، فمن هاهنا ضعفت هذه القراءة.
قوله تعالى:
" وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية
كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد
بينا الآيات لقوم يوقنون " (119) آية بلا خلاف.
المعنى:
المعني بهذه الآية في قول مجاهد: النصارى. وقول ابن عباس: اليهود.
وفي قول الحسن وقتادة: مشركوا العرب. وكل ذلك يحتمل. غير أنه لمشركي العرب
أليق، لأنه يشاكل ما طلبوا حين قالوا: " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض
ينبوعا " إلى قوله: " هل كنت إلا بشرا رسولا " (3) ويقوي ذلك قوله:
" وقال الذين لا يعلمون ": الكتاب. فبين أنهم ليسوا أهل كتاب. من اختار
ان المراد بها النصارى قال: لأنه قال قبلها " وقالوا اتخذ الله ولدا " (4) وهذا

(1) سورة إبراهيم: آية 31.
(2) سورة البقرة: آية 102.
(3) سورة البقرة: آية 119.
(4) سورة البقرة: آية 116.
434

لا دلالة فيه، ولا يمتنع ان يذكر قوما، ويخبر عنهم، ثم يستأنف قوما آخرين، فيخبر
عنهم على أن مشركي العرب قد أضافوا إلى الله البنات فدخلوا في جملة من قال: " اتخذ
الله ولدا ".
ومعنى قوله: " لولا " هلا، كما قال الأشهب بن رميلة:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بنى ضوطري لولا الكمي المقنعا (1)
أي هلا تعقرون الكمي المقنعا. وإنما قال: " أو تأتينا آية " وقد جاءتهم
الآيات، لأنهم طلبوا آية، كما أن آية الرسل توافق دعوتهم، ويكلمهم الله كما
كلمهم الله.
والمعني بقوله " كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم " اليهود على قول
مجاهد. وعلى قول قتادة والسدي والربيع: اليهود والنصارى. والضمير في قوله:
" تشابهت قلوبهم " يعني كناية عن قلوب اليهود والنصارى - على قول مجاهد -
وعلى قول الربيع وقتادة: عن العرب واليهود والنصارى وغيرهم، فقوله " تشابهت
قلوبهم " يعني في الكفر، بالاعتراض على أنبياء الله بالجهل، لان اليهود قالت لموسى:
" أرنا الله جهرة " وقالت النصارى للمسيح: " أنزل علينا مائدة من السماء ".
وقالت العرب لمحمد صلى الله عليه وآله: حول لنا الصفا ذهبا، وغير ذلك. وكذلك
قال الله تعالى: " أتوا صوابه " (2) وروي عن ابن إسحاق انه قرأ " تشابهت "
- بتشديد الشين - خطأ، لان ذلك إنما يجوز في المضارع. بمعنى تتشابه - فتدغم
احدى التاءين في الشين - هكذا قال الفراء، وغيره من أهل العلم.
وقوله: " قد بينا الآيات لقوم يوقنون " معناه أيقن بها قوم من حيث
دلتهم على الحق، فالواجب على كل هؤلاء ان يستدلوا بها، ليصلوا إلى اليقين كما
وصل غيرهم إليه بها.

(1) وقيل إنه لجرير وهو مذكور في ديوانه: 338. وروايته أفضل سعيكم. وقد مر
في 1: 319. والبيت من قصيدة طويلة في مناقضة جرير والفرزدق. والكمي: الشجاع.
(2) سورة الذاريات: آية 51.
435

اللغة:
واليقين والعلم والمعرفة نظائر في اللغة. ونقيضه الشك، والجهل. تقول أيقن
ايقانا، وتيقن تيقنا، واستيقن استيقانا. وقال صاحب العين: اليقين النفس. قال
الشاعر:
وما بالذي أبصرته العيون * من قطع يأس ولا من يقن (1)
واليقين: علم يثلج به الصدر، ولذا يقولون: أجد برد اليقين، ولا يقولون:
وجد برد العلم. فان قيل: لم لم يؤتوا الآيات التي طلبوها، لتكون الحجة أأكد
قلنا: اظهار الآيات يعتبر فيه المصالح، وليس بموقوف على اقتراح العباد. ولو علم
الله ان ما اقترحوا من الآيات فيه مصلحة، لأظهرها، فلما لم يظهرها، علمنا أنه
لم يكن فيها مصلحة لنا أصلا.
قوله تعالى:
" إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب
الجحيم " (120) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ نافع " لا تسأل ". بفتح التاء وجزم اللام. على النهي، وروي ذلك
عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع)، وابن عباس. ذكر ذلك الفراء، والبلخي
الباقون على لفظ الخبر على ما لم يسم فاعله.
المعنى:
معنى قوله: " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " تسلية للنبي صلى الله عليه وآله فقيل له

(1) اللسان " يقن " اليقن - بفتح الياء والقاف -: اليقن. في المطبوعة " يقين "
بدل " يقن " وفي المخطوطة " تيقين ".
436

" إنما أنت بشير ونذير " ولست " تسأل عن أصحاب الجحيم " ومثله قوله: " فلا
تذهب نفسك عليهم حسرات " وقوله " ليس عليك هداهم " (1) وقوله
" عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " (2)
الاعراب:
وموضع " تسأل " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون استئنافا ولا موضع له.
والآخر - أن يكون حالا، فيكون موضعه نصبا. ذكر ذلك الزجاج، لأنه
قال: " أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا " غير مسؤول عن أصحاب الجحيم. ومن فتح
التاء على الخبر. تقديره: غير سائل. وانكر قوم الحال. واعتلوا ان في قراءة أبي:
" وما تسأل " وفي قراءة عبد الله: " ولن تسأل " وهذا غير صحيح، لان ليس
قياس (لا) قياس لن (3) وما، لأنه يجوز أرسلناك لا سائلا، ولا يجوز ما سائلا.
ولذلك احتمل مع لا الحال، ولن يحتمل مع ما ولن، لان للا (4 () تصرفا ليس لهما
فيجوز ان يعمل ما قبلها في ما بعدها، ولا يجوز ذلك فيهما. تقول: جئت بلا خبر،
ولا يجوز بما خبر. والجحيم النار بعينها إذا شبت وقودها. قال أمية بن أبي الصلت:
إذا شبت جهنم ثم زادت * واعرض عن قوابسها الجحيم (5)
فصار كالعلم على جهنم. وقال صاحب العين: الجحيم: النار الشديدة التأجج،
والالتهاب كما أججوا نار إبراهيم. وهي تجحم جحوما (6) يعني توقدت جمرتها
وجاحم الحرب: شدة القتل في معركتها. وقال سعيد بن مالك بن ضبيعة.

(1) سورة البقرة: آية 272.
(2) سورة النور: آية 54.
(3) (لن) ساقطة من المطبوعة.
(4) في المطبوعة (لأنه لا).
(5) ديوانه 53. وروايته (فارت) بدل (زادت).
(6) في المطبوعة " حجواما ".
437

والحرب لا يبقى لجا * حمها التخيل والمراح (1)
إلا الفتى الصبار في * النجدات والفرس الوقاح
والجحمة: العين بلغة حمير قال الشاعر:
أيا جحمتا بكي على أم مالك * اكيلة قلوب بأعلى المذانب (2)
وجحمتا الأسد: عيناه. وتقول: جحمت النار جحما: إذا اضطرمت.
وجمر جاحم: إذا اشتد اشتعاله. ومنه اشتقاق الجحيم. واصل الباب الالتهاب.
ومنه الاجحم: الشديد حمرة العين شبه بالنهار في حمرتها. الحرب تشبه بالتهاب النار.
المعنى:
وفي الآية دلالة على أنه لا يؤخذ أحد بذنب غيره قريبا كان منه أو بعيدا.
كما بين الله انه لا يطالب أحد بذلك غيره. وإن كان قد فرض على النبي " ص " ان
يدعوا إلى الحق، ويزجر عن الباطل. وليس عليه ان يقبل المدعو. ومن قرأ بلفظ
النهي. قال الزجاج: يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون امره بترك المسألة. والآخر - ما قاله الأخفش: أن يكون
المعنى علي تفخيم ما أعد لهم من العقاب. كما يقال لا تسال عن فلان أي قد
صار إلى امر عظيم. وقال قوم: لو كان على النهي: لقال فلا " بالفاء "، لأنه يصير
بمنزلة الجواب كأنه يدل على لأنا أرسلناك إلا بالحق ولا تسأل عن أصحاب الجحيم.
ولا يحتاج بالرفع إلى الفاء، وإذا كان على الرفع فظاهر الكلام الأول يقتضيه اقتضاء
الأحوال، أو اقتضاء البيان الذي يجري مجرى الحجاج على من اعترض بان فعل

(1) اللسان " حجم " في المخطوطة والمطبوعة " الخيل " بدل " التخيل ".
(2) اللسان " جحم قال ابن بري صواب انشاده بما قبله وما بعده:
أتيح لها القلوب من ارض فرقرى * وقد يجلب الشر البعيد الجوالب
أيا جحمتي بكي على أم مالك * اكيلة قليب ببعض المذانب
فلم يبق منها غير نصف عجانها * وشنطرة منها واحدي الذوائب
القلوب: الذئب.
438

الداعي إلى الايمان لا يحل موقعه الا بان يقبل المدعو إليه. واما ايصاله ما تقدم على
الجزم، فإنما هو على معنى التغليظ لشان الجحيم، ليزحر (1) بذلك عن ترك
اتباعه صلى الله عليه وآله والتصديق بما اتى به من البشارة. قال أبو علي الفارسي إنما تلزم الفاء
إذا كان الكلام الأول علة فيما بعد ذلك، كقولك أعطيك فرسا فلا تسأل شيئا اخرا
والآية بخلاف ذلك. وفي الناس من قال: القراءة بالجزم مردودة، لأنه لم يتوجه
له اتصال الكلام، ولا كيف جاء بالواو دون الفاء. وقد بينا الاتصال. فاما المجئ
بالواو فلانه لم يرد الدلالة على معنى الجواب، ولكن عطف جملة على جملة تتعلق
بها وتقتضي على ما انطوى عليه معناها. ومعنى الحق في قوله: " انا أرسلناك
بالحق " الاسلام، بشيرا من اتبعك عليه بالثوب نذيرا من خالفك فيه بالعقاب.
وقيل: " إنا أرسلناك بالحق " يعني على الحق. كما قال: " خلق الله السماوات
والأرض بالحق " (2) كأنه قال: على أنهما حق لا باطل.
قوله تعالى:
" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم
قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك
من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير " (121)
قيل في معنى هذه الآية قولان:
أحدهما - ان النبي " ص " كان مجتهدا في طلب ما يرضيهم، ليقبلوا إلى
الاسلام ويتركوا القتال، فقيل له: دع ما يرضيهم إلى ما امر الله به من
مجاهدتهم.
والآخر - قال الزجاج: كانوا يسألونه " ع " الهدنة والمسالمة ويرونه انه ان
أمهلهم اسلموا. فاعلمه الله انهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم. وهذه الآية تدل
انه لا يصح ارضاء اليهود ولا النصارى على حال، لأنه تعالى علقه بان اليهود

(1) في المطبوعة (ليرجم)
(2) سورة إبراهيم آية: 19.
439

لا يرضون عنه حتى يكون " ص " يهوديا، والنصارى لا يرضون عنه
حتى يكون نصرانيا، فاستحال أن يكون يهوديا نصرانيا في حال واستحال إرضاؤهم
بذلك.
اللغة:
والرضا والمحبة، والمودة نظائر وضد الرضا الغضب. ويقال رضي يرضى
رضاء. وأرضاه إرضاء، وارتضاه ارتضاء، واسترضاه وترضاه ترضيا، وتراضوا
تراضيا، والرضي والمرضي بمعنى واحد. والرضا مقصور من بنات الواو بدلالة
الرضوان تقول: رجل رضى ورجال رضى وامرأة ونساء رضى. وأصل الباب الرضى
نقيض الغضب. وقوله: " حتى تتبع ملتهم " فالملة، والنحلة، والديانة نظائر.
وتقول وجد فلان ملة وملاله. وهو عدوى الحمى. ومللت الشئ أمله ملالة ومللا:
إذا سئمته ومللت الخبزة املها ملا: إذا دفنتها في الجمر والجمر بعينه الملة. وقال
صاحب العين: الملة الرماد والجمر وكل شئ تمله في الجمر فهو مملول. قال الشاعر في
وصف الحرباء:
كأن ضاحيه بالنار مملول (1)
والمملول (2) الممتل من الملة. وطريق ممل مليل: قد سلك حتى صار معلما
وملة رسول الله " ص " الامر الذي أوضحه. وامتل الرجل إذا اخذ في ملة الاسلام:
اي قصدها ما أمل منه. والأمل املال الكتاب، ليكتب. والمليلة من الحمى.
المعنى:
وقوله: " قل إن هدى الله هو الهدى " معناه هو الذي يهدي إلى الجنة.
لا اليهودية، ولا النصرانية. وقيل إن معناه الدعاء إلى هدى الله الذي يكذب قولهم

(1) البيت من قصيدة لكعب بن زهير. اللسان (ملل). يقول كأن ما ظهر منه
للشمس مشوي بالملة من شدة حره. يقال: أطعمنا خبز ملة، وأطعمنا خبزة مليلا، ولا يقال أطعمنا
ملة. في المطبوعة. كإن صاحبه في النار مملوك. هو تحريف فاحش. وفي المخطوطة. كان صاحبه في
النار مملول. والصحيح ما ذكرناه.
(2) في المطبوعة " والمملوك "
440

" لن يدخل الجنة إلا من أن هودا أو نصارى " (1) وهي الأدلة الواضحة على أن
المطيع لله هو الذي يفوز بثوابه في الجنة، لامن ذكروه من العصاة له. وهذه
الآية تدل على أن من علم الله منه انه لا يعصي، يتناوله الوعيد والزجر، لأنه تعالى
علم أن النبي " ص " لا يعصي ولا يتبع أهواءهم، وفيها دلالة على أن كل من اتبع
الكفار على كفرهم ماله من الله من ولي ولا نصير، لأنه إذا وجب ذلك
في متبع واحد، وجب ذلك في الجميع.
الاعراب:
" حتى تتبع " نصب بحتى وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه، وجميع
البصريين أن الناصب للفعل (أن) بعد حتى، لان حتى تخفض الاسم في قوله: " حتى
مطلع الفجر " (2) ولا يعرف في العربية حرف يعمل في اسم وفعل، ولا ما يكون
خافضا لاسم، يكون ناصبا لفعل. فصار ذلك مثل قولك جاء زيد ليضربك، فإنها تنصب
الفعل باضمار (ان) لكونها جارة للاسم.
قوله تعالى:
" الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك
يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون " (121)
آية بلا خلاف.
المعنى:
المعني بهذه الآية - في قول قتادة واختيار الجبائي - أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
الذين آمنوا بالقرآن وصدقوا به. وقال ابن زيد: هو من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله من
بني إسرائيل. والكتاب على قوله: التوراة.
ومعنى قوله: " يتلونه حق تلاوته " قال ابن عباس: يتبعونه حق اتباعه،

(1) سورة البقرة: آية 111.
(2) سورة الفجر: آية 7.
441

ولا يحرفونه، ثم يعملون بحلاله ويقفون عند حرامه. ومثله قوله: " والقمر إذا
تلاها " (1) اي تبعها. به قال ابن مسعود، ومجاهد وقتادة، وعطاء. وروي
عن أبي عبد الله (ع) حق التلاوة الوقوف عند ذكر الجنة والنار يسأل في الأولى،
ويستجير من الأخرى. وقال قوم " يتلونه حق تلاوته " يقرؤونه حق قراءته.
اللغة
والتلاوة في اللغة على وجهين:
أحدهما - القراءة.
والثاني - الاتباع.
والأول أقوى، وعليه أكثر المفسرين ولا يجوز ان يقال: يتلونه حق
التلاوة على مذهب الكوفيين، كما لا يجوز يتلونه: اي التلاوة، لان أيا إذا كانت
مدحا وقع على النكرة، ولم يقع على المعرفة. فلا يجوز مررت بالرجل حق الرجل
كما لا يجوز مررت بالرجل اي الرجل. وكما لا يجوز مررت بابي عبد الله أبي زيد.
وإنما جاز تلاوته. كما يجوز رب رجل وأخيه. وقال بعض البصريين يجوز مررت
بالرجل حق الرجل. ولا يجوز مع اي لان ايا تدل على اليعيض. ليس كذلك
حق. فاما مررت بالرجل كل الرجل فجائز عند الجميع، لان أصله التوكيد،
فترك على حاله.
المعنى:
والمعني بقوله " ومن يكفر به " اليهود - على قول ابن زيد - والأولى أن يكون
ذلك محمول على عمومه في جميع الكفار. وبه قال الجبائي وأكثر المفسرين.
قوله تعالى:
" يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني

(1) سورة الشمس: آية 2.
442

فضلتكم على العالمين " (122) آية واحدة.
هذا خطاب من الله لبني إسرائيل الذين كانوا في عهد رسول الله " ص "
أمرهم الله ان يذكروا نعمته التي أنعم بها عليهم.
اللغة:
والنعمة: النفع يستحق به الشكر. والانعام والاحسان والافضال نظائر.
ونقيض النعمة: النقمة: وهو الضرر المستحق.
المعنى:
ومعنى قوله: " واني فضلتكم على العالمين " يعني عالمي زمانهم. وتفضيله
إياهم بان جعل فيهم النبوة والحكم وهذه الآية قد تقدم ذكر مثلها في رأس نيف
وأربعين. وقيل في سبب تكريرها ثلاثة أقوال:
أحدها - ان نعم الله لما كانت الأصل الذي به يجب شكره، وعبادته ذكر
بها، ليقبلوا إلى طاعته واتباع امره، وليكون مبالغة في استدعائهم إلى ما يلزمهم
لربهم التظاهر بالنعم عليهم.
والثاني - انه لما ذكر الكتاب وعنى به التوراة، وكان فيه الدلالة على شأن
عيسى ومحمد " ص " في النبوة والبشارة المتقدمة، ذكرهم عز وجل بما أنعم عليهم
من ذلك، وفضلهم كما جاء " فبأي آلاء ربكما تكذبان " (1) بعد نعم ذكرهم بها،
ثم عدد نعما اخر، وقال فيها " فبأي آلاء ربكما تكذبان (2) أي فبأي هذه
تكذبان وكل تقريع جاء، فإنما هو موصول بتذكير نعمه غير الأول. والثالث غير
الثاني. وهكذا إلى آخر السورة. وكذلك الوعيد - في سورة المرسلات -
بقوله: " ويل يومئذ للمكذبين " (3) إنما هو بعد الدلالة على اعمال يعظم
التكذيب بما تدعو إليه الأدلة.

(1) سورة الرحمان من آية 13 إلى 77.
(2) سورة الرحمان من آية 13 إلى 77.
(3) سورة الطور اية 11، وسورة المرسلات من اية 15 إلى 49، وسورة المطففين
اية 10.
443

الثالث - انه مقدمة لما بعده، لأنه تعالى أراد وعظهم ذكرهم قبل ذلك بالنعم
عليهم، لأنه استدعاء إلى قبول الوعظ لهم (1). وقيل: فيه وجه رابع.
وهو انه لما تباعد بين الكلامين حسن التنبيه والتذكير.
وموضع " التي " نصب بالعطف على نعمتي.
قوله تعالى:
" واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها
عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون " (124) آية بلا خلاف.
ومثل هذه الآية أيضا تقدم. وبينا ما فيها، فلا معنى للتكرار. وبينا ان
العدل هو الفدية. وقيل هو المثل. ويقال هذا عدله، اي مثله والعدل، هو الحمل
وبينا قول من يقول: إن الشفاء لا تكون إلا لمرتكبي الكبائر: إذا ماتوا
مصرين. فان قلنا ظاهر الآية متروك بالاجماع، لأنه لا خلاف ان هاهنا شفاعة نافعة
والآية تقتضي نفيها، وان خصوا بأنها لا تنفع المصرين، وإنما ينفع التائبين؟ قلنا:
لنا ان نخصها بالكافرين دون فساق (2) المسلمين. واما قوله: " لا يشفعون "
الا لمن ارتضى فنتكلم عليه إذا انتهينا إليه. ومن قال: إنه ليس يعني ان يشفع لها
شافع فلا تنفع شفاعته، لكنه يريد لا تأتي بمن يشفع لها. كما قال الشاعر:
على لا حب لا يهتدى بمناره
وإنما أراد به لا منار هناك فيهتدى به لا يضرنا، لأنا لا نقول: إن هناك شفاعة
تحصل ولا تنفع بل نقول: إن الشفاعة إذا حصلت من النبي، وغيره فإنها تنفع
لا محالة. وكذلك عند المخالف، وان قلنا: انها تنفع في اسقاط المضار وقالوا: هم
في زيادة المنافع. غير أن اتفقنا (3) على أنها تحصل لا محالة ولسنا ممن ينفي حصول
الشفاعة أصلا.

(1) في المخطوطة " لهم فيه "
(2) في المطبوعة " فلق " وهو تحريف.
(3) في المطبوعة " انقضا ".
444

قوله تعالى:
" وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك
للناس اماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين "
(125) آية بلا خلاف.
القراءة:
أسكن الياء من عهدي حمزة وحفص إلا ابن ساهي. وكتب في بعض
المصاحف " ابراهم " بغير ياء وفي أكثرها بالياء. قال بعض الجرهميين: نحن ورثنا
على أحد (ابراهم) (1). وقرأ ابن عامر ابراهام في خمسة وثلاثين موضعا في القرآن
كله: في البقرة خمسة عشرة موضعا. وهو جميع ما فيها. تقدير الآية واذكروا إذ
ابتلى إبراهيم ربه بكلمات.
المعنى:
والابتلاء هو الاختبار - وهو مجاز هاهنا لان حقيقته الامر من الله تعالى
بخصال الايمان فسمي ذلك اختبارا، لان ما يستعمل بالامر منا في مثل ذلك على
جهة الاختبار والامتحان، فجرى تشبيها بما يستعمله أهل اللغة عليه. وقال بن الاخشاذ:
إنما ذلك على أنه جل ثناؤه يعامل العبد معاملة المختبر الذي لا يعلم لأنه لو جازاهم
بعمله فيهم، كان ظالما لهم. والكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بها فيها خلاف فيروى في
بعض الروايات عن ابن عباس، و؟ قال قتادة، وأبو الخلد: انه أمره (2) إياه
بعشرة سنن (3) خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فاما التي في الرأس فالمضمضة
والاستنشاق والفرق وقص الشارب، والسواك. واما التي في الجسد: فالختان وحلق

(1) استدل بهذا على " ابراهم " - بدون ياء - وفي المطبوعة والمخطوطة بالياء.
وهو غلط.
(2) في المخطوطة والمطبوعة " أمن ".
(3) في المطبوعة " سنين ".
445

العانة، وتقليم الأظفار، ونتف الإبطين والاستنجاء. وفي احدى الروايتين عن
ابن عباس أنه ابتلاه من شرائع الاسلام بثلاثين شيئا عشرة منها في براءة " التائبون
العابدون الحامدون. إلى اخرها " وعشرة في الأحزاب: " ان المسلمين والمسلمات
إلى اخرها " وعشرة في سورة المؤمنين: إلى قوله " والذين هم على صلاتهم يحافظون "
وعشرة في سأل سائل إلى قوله: " والذين هم على صلاتهم يحافظون " فجعلها أربعين سهما
وفي رواية ثالثة عن ابن عباس انه امره بمناسك الحج: الوقوف بعرفة والطواف
والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار (1) والإفاضة. قال الحسن: ابتلاه الله
بالكوكب وبالقمر وبالشمس، وبالختان وبذبح ابنه، وبالنار، وبالهجرة وكلهن
وفى لله فيهن. وقال مجاهد: ابتلاه الله بالآيات التي بعدها وهي " اني جاعلك للناس
اماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " وقال الجبائي: أراد بذلك كلما
كلفه (2) من طاعاته العقيلة والشرعية.
وقوله: (فأتمهن) معناه وفى بهن على قول الحسن وقال قتادة والربيع:
عمل بهن، فأتمهن. وقال البلخي: الضمير في أتمهن راجع إلى الله. وهو اختيار
الحسين بن علي المغربي. قال البلخي: الكلمات هي الإمامة على ما قال مجاهد. قال:
لان الكلام متصل، ولم يفصل بين قوله: " اني جاعلك للناس اماما " وبين ما تقدمه
بواو، فأتمهن الله بان أوجب بها الإمامة له بطاعته، واضطلاعه، ومنع ان ينال
العهد الظالمين من ذريته، واخبره بان منهم ظالما فرضي به وأطاعه وكل ذلك
ابتلاء واختبار.
اللغة:
والتمام والكمال والوفاء نظائر. وضد التمام النقصان. يقال: تم تماما، وأتم إتماما.
واستتم استتماما. وتمم تتميما وتتمة. وتتمة كل شئ: ما يكون تمامه بغايته كقولك:
هذه الدراهم تمام هذه المأة. وتتمة هذه المأة. التم: الشئ التمام. تقول جعلته لك تماما

(1) ورمي الجمار ساقطة من المطبوعة
(2) كلفه ساقطة من المطبوعة.
446

أي بتمامه، والتميمة: قلادة، من سيور. وربما جعلت فيه العوذ، تعلق على الصبيان.
والليلة التمام أطول ليلة في السنة. ويقال: بل ليل التمام لثلاث عشرة، لأنه يستبان فيها
نقصانها من زيادتها (1). ويقال: بل ليلة اربع عشرة، لأنه يتم فيها القمر، فيصير
بدرا. ويقال حملته لتمام - بفتح التاء وكسرها - والتمام في لغة تميم هو التمام. وقال
ابن دريد: امرأة حبلى متم (2) وولد الغلام أتم، وتمام. وبدر تمام، وليل تمام
- بالكسر فيهن - وما بعد هذا فهو تمام - بالفتح -. وأصل الباب التمام،
وهو الكمال.
المعنى:
وقوله: " من ذريتي " معناه واجعل من ذريتي من يؤتم به، ويقتدى به
- على قول الربيع وأكثر المفسرين. وقال بعضهم معناه انه سأل لعقبه ان يكونوا
على عهده، وورثته. كما قال: " واجنبني وبني ان نعبد الأصنام " (3) فأخبره
الله ان في عقبه الظالم المخالف له، وذريته بقوله: " لا ينال عهدي الظالمين " والأول أظهر
. وقال الجبائي قوله: " ومن ذريتي " سؤال منه لله أن يعرفه هل في ذريته
من يبعثه نبيا، كما بعثه هو، وجعله إماما. وهذا الذي قاله ليس في الكلام ما يدل
عليه، بل الظاهر خلافه. ولو احتمل ذلك لم يمتنع ان يضيف إلى مسألة منه لله ان
يفعل ذلك بذريته مع سؤاله تعريفه ذلك.
اللغة:
والذرية، والنسل والولد نظائر. وأراد إبراهيم (ع) هذا. وقال بعضهم:
عبر بالذرية عن الآباء. وقال تعالى: " وآية لهم انا حملنا ذريتهم في الفلك
المشحون " (4) اي آباءهم. وهذا ليس بواضح. وبعض العرب ذرية - بكسر

(1) هكذا عبارة المخطوطة والمطبوعة. وفي لسان العرب " تمم " هي ثلاث ليال
لا يستبان زيادتها من نقصانها.
(2) في المخطوطة والمطبوعة " ميتم "
(3) سورة إبراهيم: آية 35.
(4) سورة يس: آية 41.
447

الذال - وبها قرأ زيد بن ثابت. قال صاحب العين الذر: صغار النمل. واحده
ذرة، والذر اخذك الشئ بأطراف أصابعك. تقول: ذررت الدواء أذره ذرا.
وكذلك الملح وغيره. واسم الدواء - الذي يتخذ للعين - ذرور. والذريرة: ذات
قصب الطيب، وهو قصب يجاء به من الهند كأنه قصب النشاب (1). والذرارة
ما تناثر (2) من الشئ الذي تذره. والذرية: فعلية من ذررت، لان الله تعالى
ذرهم في الأرض، فنثرهم فيها. كما أن السريرة من سررت. والجمع الذراري،
والسراري وما أشبهه وإن خففت، جاز. والذرور ذروة الشمس، فهو يذر ذرورا
وذلك أول طلوعها، وسقوطها إلى الأرض، أو الشجر. وتقول ذر قرن الشمس اي
طلع. وأصل الباب الذر وهو التفرقة.
وقوله: " لا ينال عهدي " والنيل واللحاق والادراك نظائر. والنيل والنوال:
ما نلته من معروف انسان. واناله معروفه، ونوله: أعطاه نوالا. قال طرفة:
إن تنوله فقد تمنعه * وتريه النجم يجري بالظهر (3)
وقولهم: نولك ان تفعل ذلك، ومعناه حقك ان تفعل. والنول خشبة
الحائك الذي ينسج الوسائد عليه ونحوها. واذانه المنصوبة أيضا تسمى النوال.
وأصل الباب النيل، وهو اللحوق.
المعنى:
والمراد بالعهد هاهنا فيه خلاف. قال السدي واختاره الجبائي: إنه أراد
النبوة. وقال مجاهد: هو الإمامة وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع)
قالوا: لا يكون الظالم إماما. وقال أبو حذيفة: لا اتخذ إماما ضالا في الدنيا.
وقيل: معناه الامر بالوفاء له فيما عقده من ظلمه. وقال ابن عباس: فإذا عقد عليك
في ظلم، فانقضه. وقال الحسن: ليس لهم عند الله عهد يعطيهم عليه خيرا في الآخرة،
فأما في الدنيا، فقد يعاهدون فيوفى لهم. وكأنه على هذا التأويل طاعة يحتسب
بها في الآخرة.

(1) في المطبوعة " النشاء "
(2) في المطبوعة " ما تناش "
(3) اللسان " نول ".
448

وقوله: " لا ينال عهدي الظالمين " يدل على أنه يجوز ان يعطي ذلك بعض
ولده إذا لم يكن ظالما، لأنه لو لم يرد ان يجعل أحدا منهم إماما للناس، كان يجب
أن يقول في الجواب لا ولا ينال عهدي ذريتك. وكان يجوز ان يقول في العربية:
لا ينال عهدي الظالمون، لان ما نالك فقد نلته. وروي ذلك في قراءة ابن مسعود
إلا أنه في المصحف (بالياء). تقول نالني خيرك، ونلت خيرك. واستدل أصحابنا
بهذه الآية على أن الامام لا يكون إلا معصوما من القبائح، لان الله تعالى نفى ان
ينال عهده - الذي هو الإمامة - ظالم، ومن ليس بمعصوم فهو ظالم: إما لنفسه،
أو لغيره. فان قيل: إنما نفى ان يناله ظالم - في حال كونه كذلك -: فاما إذا تاب
وأناب، فلا يسمى ظالما، فلا يمتنع أن ينال. قلنا: إذا تاب لا يخرج من أن
تكون الآية تناولته - في حال كونه ظالما - فإذا نفي ان يناله، فقد حكم عليه بأنه
لا ينالها، ولم يفد انه لا ينالها في هذه الحال دون غيرها، فيجب ان تحمل الآية
على عموم الأوقات في ذلك، ولا ينالها وإن تاب فيما بعد. واستدلوا بها أيضا على
أن منزلة الإمامة منفصلة من النبوة، لان الله خاطب إبراهيم (ع) وهو نبي، فقال
له: انه سيجعله إماما جزاء له على اتمامه ما ابتلاه الله به من الكلمات، ولو كان
إماما في الحال، لما كان للكلام معنى، فدل ذلك على أن منزلة الإمامة منفصلة من
النبوة. وإنما أراد الله أن يجعلها لإبراهيم (ع) وقد أملينا رسالة مقررة في الفرق
بين النبي، والامام، وان النبي قد لا يكون إماما على بعض الوجوه، فاما الامام
فلا شك أنه يكون غير نبي. وأوضحنا القول في ذلك، من أراده وقف عليه من
هناك وإبراهيم، وابراهم لغتان، واصله ابراهام فحذفت الألف استخفافا. قال الشاعر:
عذت بما عاذبه إبراهم (1)
وقال أمية: مع ابراهم التقي وموسى
وقوله تعالى:
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام

(1) قائله عبد المطلب. اللسان (برهم) وتتمة الرجز:
مستقبل القبلة وهو قائم * اني لك اللهم عان راغم
449

إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين
والعاكفين والركع السجود (126) آية واحدة.
القراءة:
قرأ نافع وابن عامر " واتخذوا " على لفظ الخبر. الباقون بلفظ الامر.
المعنى:
قوله: " وإذ جعلنا " عطف على قوله " وإذ ابتلى إبراهيم ربه " وذلك معطوف
على قوله: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " " واذكروا إذ ابتلى
إبراهيم ربه " " وإذا جعلنا البيت مثابة " والبيت الذي جعله مثابة هو البيت الحرام.
اللغة:
والبيت في اللغة، والمنزل، والمأوى نظائر. يقال: بات يبيت بيتوتة، وبيته
مبايتة. وتبيت تبيتا. وتبايتوا تبايتا. والبيت من أبيات الشعر ومن بيوت
الناس. والبيت من بيوتات العرب: احياؤها (1). وبيت فلان أبياتا تبيتا
إذا بناها. البيتوتة: الدخول في الليل. تقول: بت افعل كذا، وبالنهار ظللت
(2) وباتوا بيتوتة حسنة. وأباتهم الله إباتة. وأباتهم الامر بياتا كل ذلك دخول
الليل. وليس من النوم في شئ وما عنده بيت ليلة. ولا بيتة ليلة بكسر الباء يعني
القوت. والله يكتب ما يبيتون عمل الليل وبيت الفوم إذا أوقعت فيهم ليلا. والمصدر
البيت. والاسم: البيات. ومنه قوله: " بأسنا بياتا " ويسمى البيت من الشعر
بيتا لضمه الحروف والكلام كما يضم البيت أهله وامرأة الرجل: بيته. قال الراجز:

(1) في المطبوعة والمخطوطة (أخيارها).
(2) في المطبوعة (وتاليها وظللت).
450

مالي إذا اخذتها صأيت (1) * أكبر غيرني أم بيت
وماء بيوت إذا بات ليلة في إنائه واصل الباب البيت: المنزل
وقوله: " مثابة " في معناه خلاف. قال الحسن يثيبون إليه كل عام، أي
ليس هو مرة في الزمان فقط. وقال ابن عباس: معناه أنه لا ينصرف عنه أحد،
وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا، فهم يعودون إليه. وقال أبو جعفر (ع):
يرجعون إليه لا يقضون منه وطرا وبه قال مجاهد. وحكي الخازئي (2) ان معناه
يحجون (3) إليه فيثابون عليه. وقال الجبائي يثوبون إليه: يصيرون إليه
اللغة:
والفرق بين مثابة ومثاب، ان الأخفش قال: مثابة للمبالغة لما كثر من يثوب
إليه. كما قيل علامة ونسابة وسيارة وقال الفراء والزجاج: معناهما واحد. كالمقامة
والمقام بمعنى واحد. ووزن مثابة مفعلة واصلها مثوبة. من ثاب يثوب مثابة،
ومثابا. وثوابا: إذا رجع فنقلت حركة الواو إلى الياء ثم قلبت على ما قبلها. قال ورقة بن نوفل في صفة الحرم:
مثاب لا فناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الطلائح (4)

(1) اللسان (بيت) وآمالي الشريف المرتضى 1: 378. ولم ينسبهما. في المخطوطة
والمطبوعة:
البر قد عالني أم بيت
صأي يصئي ويصأى صئيا - بكسر الصاد وضمها وفتحها - الفرخ: صاح. وكذا العقرب
ومنه المثل " يلذع ويصئي " يضرب لمن يظلم ويشكو.
(2) في المخطوطة الحارثي.
(3) في المطبوعة (الحجون)
(4) اللسان (ثوب) وروايته (الذوامل) بدل " الطلائح " وقد نسبه لأبي طالب
" رض " وفي تفسير الطبري 3: 26 وفي تفسير أبي حيان 1: 380 أيضا برواية التبيان الا
أن أبي حيان نصب (مثابا)
وافناء القبائل: اخلاطهم. والخبب: ضرب سريع من العدو. واليعملات: ج. يعملة وهي
الناقة السريعة المطبوعة على العمل. اشتق اسمها من العمل. وطلائح ج. طليح: الناقة التي
أجهدها السير
451

ومنه ثاب إليه عقله، أي رجع إليه بعد عزوبه. وقوله " وأمنا " فالأمن
مصدر قولك أمن يأمن أمنا. وإنما جعله أمنا بان حكم ان من عاذبه والتجأ لا يخاف
على نفسه ما دام فيه بما جعله في نفوس العرب من تعظيمه فكان من فيه آمنا على
ماله ودمه ويتخطف الناس من حوله كما قال: " أولم يروا انا جعلنا حرما آمنا
ويتخطف الناس من حولهم " (1) ولعظم حرمته ان من جنى جناية والتجأ إليه
لا يقام عليه الحد حتى يخرج لكن يضيق عليه في المطعم والمشرب، والبيع
والشراء، حتى يخرج منه، فيقام عليه الحد. فان احدث فيه ما يوجب الحد أقيم
عليه فيه، لأنه هتك حرمة الحرم. ولان الله تعالى جعل الأشهر الحرم لا يحل فيها
القتال، والقتل وكل ذلك بسبب البيت الحرام، فهو آمن بهذه الوجوه.
القراءة والاعراب:
وقوله: " واتخذوا من مقام إبراهيم " أكثر القراء على لفظ الامر. إلا
ابن عامر ونافع فإنهما قرأ أعلى لفظ الخبر من فعل ماض ويحتمل أن يكون اللفظ
معطوفا على قوله: " واذكروا " كأنه قال يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي، واتخذوا
من مقام إبراهيم مصلى.
المعنى:
وقال الربيع بن انس: من الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه قوله: " واتخذوا
من مقام إبراهيم مصلى " وكأنه قال: " اني جاعلك للناس إماما " وقال: " اتخذوا
من مقام إبراهيم مصلى " وقيل: انه معطوف على " وإذ جعلنا البيت " لان معناه
واذكروا إذا جعلنا البيت واتخذوا وقيل: انه معطوف على معنى " جعلنا البيت
مثابة للناس " لان فيه معنى ثوبوا إليه واتخذوا. وظاهر قوله: واتخذوا انه عام
لجميع المكلفين إلا من خصه الدليل وعليه أكثر المفسرين. وقال أبو علي

(1) سورة العنكبوت: آية 67.
452

الفارسي: وجه قراءة من قرأ، على الخبر انه عطف على ما أضيف إليه إذ كأنه قال
وإذ اتخذوا قال. وتقوية قوله إن ما بعده خبر، وهو قوله " وعهدنا إلى إبراهيم
وإسماعيل ".
المعنى:
المعنى بقوله: " من مقام " قيل فيه أربعة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم.
(ثانيها) - وقال عطا مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار.
(ثالثها) - وقال مجاهد: الحرم كله مقام إبراهيم.
(رابعها) - وقال السدي: مقام إبراهيم هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل
وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه. فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب
فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر فوضعته تحت الشق الآخر
فغسلته فغابت أيضا رجله فيه فجعلها الله من شعائره، فقال " واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى " وبه قال الحسن، وقتادة، والربيع، واختاره الجبائي، والرماني،
وهو الظاهر في اخبارنا، وهو الأقوى، لان مقام إبراهيم إذا أطلق (1) لا يفهم
منه إلا المقام المعروف الذي هو في المسجد الحرام. وفي المقام دلالة على نبوة إبراهيم
(ع)، لان الله تعالى جعل الصخرة تحت قدمه كالطين حتى دخلت قدمه فيها
- وكان ذلك معجزة له -. وقيل في معنى قوله " مصلى " ثلاثة أقوال:
قال مجاهد: مدعى مأخوذ من صليت بمعنى دعوت.
وقال الحسن والجبائي: قبلة.
وقال قتادة والسدي: أمروا أن يصلوا عنده. وهو المروي في أخبارنا.
وبذلك استدلوا على أن صلاة الطواف فريضة مثله، لان الله تعالى أمر بذلك والامر
يقتضي الوجوب، وليس هاهنا صلاة يجب أداؤها عنده غير هذه بلا خلاف.

(1) في المطبوعة (انطلق وفى المخطوطة (انطلق)
453

وقوله: " عهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل " أي أمرنا ان طهرا. قال الجبائي:
أمرا أن يطهراه من فرث ودم كان يطرحه عنده المشركون قبل ان يصير في يد
إبراهيم ويجوز أن يريد طهراه من الأصنام، والأوثان التي كانت عليه للمشركين
قبل أن يصير في يد إبراهيم. وبه قال قتادة، ومجاهد. وقال السدي طهراه ببنائكما
له على الطهارة، كما قال: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير " (1)
اللغة:
والطائف والدائر والجائل نظائر. طاف يطوف طوافا إذا دار حول الشئ.
وأطاف به إطافة: إذا ألم به. وطوف تطويفا. والطوف: خشب أو قصب يجمع
بعضه إلى بعض، يركب عليه في البحر. والطوفان مصدر طاف يطوف طوفا. فاما
طاف بالبيت فهو طواف. وأطاف به إذا أحاط به. والطائف: العاس. والطوافون
المهاليك كقوله: (طوافون عليكم) (2) والطائف: طائف الجن والشيطان. وكل
شئ يغشى القلب من وسواسه فهو طيفه. والطائفة من كل شئ قطعة. تقول:
طائفة من الناس، وطائفة من الليل. قال الله تعالى (طائفة من الذين معك) (3)
واصل الباب الطوف: الدور.
المعنى:
ومعنى " الطائفين " هاهنا قيل فيه قولان:
أحدهما - ما قال سعيد بن جبير: " الطائفين " من أتاه من غربة.
والثاني - قال عطا واختاره الجبائي، وغيرهم: الطائفون بالبيت. - وهو
الأصح -
وقوله: " والعاكفين " هاهنا قيل فيه أربعة أقوال:

(1) سورة التوبة: آية 110.
(2) سورة النور: آية 58.
(3) سورة المزمل: آية 20.
454

الأول - قال عطا واختاره الجبائي: انهم المقيمون بحضرته.
والثاني - قال مجاهد وعكرمة: انهم المجاورون.
والثالث - قال سعيد بن جبير، وقتادة: انهم أهل البلد الحرام.
والرابع - قال ابن عباس: هم المصلون. والأول أقوى، لأنه المفهوم من
اطلاق هذه اللفظة. قال النابغة (1)
عكوف على أبياتهم يثمدونها * رمى الله في تلك الأكف الكوانع (2)
اللغة:
والعكف واللزوم والدوام على الشئ نظائر. تقول عكف يعكف، عكفا
وعكوفا، إذا الزم الشئ وأقام عليه فهو عاكف، وعكف الطير بالقتيل. والعاكف
المعتكف في المسجد، قلما يقولون عكف، وان قيل كان صوابا، وإنما يقولون:
اعتكف. ويقال للنظم إذا نظم فيه الجوهر: عكف تعكيفا. والمعكوف: المحبوس
واصل الباب العكف وهو اللزوم.
المعنى:
والمعني بقوله: " والركع السجود " قال قتادة وعطا: هم الذين يصلون عند
الكعبة، يركعون عندها، ويسجدون. وقال الحسن: " الركع السجود " جميع

(1) هو نابغة بنى ذبيان.
(2) ديوانه، اللسان (رمي) روايتهما (قعودا) بدل (عكوف) (والأنوف) بدل
(الأكف) وفي بعض المصادر الأخرى (عكوفا) بدل (عكوف) وفي بعض الروايات (يثمدونهم)
بدل " يثمدونها ". وهذا البيت من أبيات قالها لزرعة بن عامر. حين بعثت بنو عامر إلى حصن
ابن حذيفة، وابنه عيينة بن حصن: أن اقطعوا حلف ما بينكم وبين بني أسد، وألحقوهم ببني
كنانة، ونحالفكم ونحن بنو أبيكم. وكان عيينة هم بذلك، فقالت بنو ذبيان: اخرجوا من فيكم
من الحلفاء، ونخرج من فينا! فأبوا، فقال النابغة: هذه الأبيات، فمدح بني أسد، وذم بني
عبس، ونقص بني سهم ومالك من غطفان وعبد بن سعيد بن ذبيان. وهاجم بهذا البيت الجميع
و " يثمدنها " الضمير عائد إلى الأبيات. أي يلازمون بيوتهم، يسترزقونها، لان معنى الثمد
الاسترزاق. وهو هزء بهم. " الكوانع " جمع كانع: وهو الخاضع الذمي تدانى وتصاغر.
455

المؤمنين، وبه قال الفراء. وهو الأقوى، لأنه العموم. فان قيل: كيف امر الله
تعالى ان يطهر بيته ولم يكن هناك بيت بعد؟ قيل: معناه ابنيا لي بيتا مطهرا - في قول
السدي - وقال عطا: معناه طهرا مكان البيت الذي تبنياه فيما بعد. وفي الآية دلالة
على أن الصلاة جوف البيت جائزة.
قوله تعالى:
" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله
من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر
فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (127)
- آية. -
المعنى:
التقدير واذكروا إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا. فان قيل: هل
كان الحرم آمنا قبل دعوة إبراهيم (ع)؟ قيل فيه خلاف:
قال مجاهد عن ابن عباس، وأبو شريح الخزاعي: كان آمنا لقول النبي صلى الله عليه وآله
حين فتح مكة هذه حرم حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو الظاهر في
رواياتنا.
وقال قوم: كانت قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد، وإنما صارت حرما بعد
دعوته (ع) كما صارت المدينة. لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ان إبراهيم (ع)
حرم مكة، واني حرمت المدينة.
وقال بعضهم: كانت حراما والدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما
بعد الدعوة والأول يمنع الله إياها من الاضطلام، والانتقام، كما لحق غيرها من
456

البلاد، وبما جعل في النفوس من تعظيمها، والهيبة لها. والوجه الثاني - بالامر على
ألسنة الرسل. فأجابه الله إلى ما سأل. وإنما سأل أن يجعلها آمنا من الجدب، والقحط
لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع، ولا ضرع. ولم يسأله أمنه من انتقال،
وخسف، لأنه كان آمنا من ذلك. وقال قوم: سأله الامرين على أن يديمهما له.
وإن كان أحدهما مستأنفا، والآخر كان قبل.
ومعنى قوله: " بلدا آمنا " أي يأمنون فيه. كما يقال: ليل نائم أي النوم فيه.
اللغة:
والبلد والمصر والمدينة نظائر. ورجل بليد إذا كان بعيد الفطنة. وكذلك يقال
للدابة التي تقصر عن نظائرها. وأصل البلادة التأثير. ومن ذلك قولهم لكركرة
البعير: بلدة لأنه إذا برك تأثرت (1). والبلد: الأثر في الجلد، وغيره. وجمعه أبلاد.
وإنما سميت البلاد من قولك. بلد أو بلدة، لأنها مواضع مواطن الناس وتأثيرهم والبلد:
المقبرة ويقال: هو نفس القبر قال حفاف:
كل امرئ نازل أحبته * ومسلم وجهه إلى البلد
" ولا اقسم بهذا البلد " يعني بمكة والتبلد نقيض التجلد. وهو استكانة
وخضوع. وتبلد الرجل: إذا نكس وضعف في العمر، وغيره حتى في السجود.
والبلدة: منزل من منازل القمر. وأصل الباب البلد، وهو الأثر في الجلد، وغيره.
المعنى:
" وقوله " فأمتعه قليلا " يعني بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته. وقيل فأمتعه
بالبقاء في الدنيا. قال الحسن: فأمتعه بالأمن والرزق إلى خروج محمد صلى الله عليه وآله فيقتله
إن أقام على كفره. أو يجليه (2) عنها. وقد قرئ في الشواذ فأمتعه على وجه الدعاء

(1) في المطبوعة (إذا ترك أخرت).
(2) في المطبوعة (الجلية) بدل (يجليه).
457

بصورة الامر، ثم اضطره بمثل ذلك على أن يكون ذلك سؤالا من إبراهيم ان
يمتع الكافر قليلا ثم يضطره بعد ذلك إلى عذاب النار والأول أجود لأنه قراءة
الجماعة، هذا مروي عن ابن عباس.
القراءة:
والراء مفتوحة في هذه القراءة وكان يجب ان تكسر كما يقال مد ومد ولم
يقرأ به أحد وقرأ: ابن عباس وحده " فأمتعه قليلا " من المتعة على الخبر الباقون
بالتشديد بدلالة قوله: " متعناهم إلى حين ".
اللغة:
والفرق بين متعت وأمتعت ان التشديد يدل على تكثير الفعل، وليس كذلك
التخفيف. وفعلت وأفعلت يجئ على خمسة أقسام:
أحدها - ان يكونا بمعنى واحد كقولهم: سميت وأسميت ويجئ على التكثير
والتقليل ويجئ على النقص كقولك: فرطت: قصرت. (1) وأفرطت: جاوزت.
والرابع - توليت الفعل وتركته حتى يقع: كقوله " يخربون بيوتهم " اي
يهدمون. فاما أخربت فمعناه (2) تركت المنزل وهربت منه حتى خرب.
والخامس - ان ينفرد أحدهما عن الآخر. كقولك: كلمت لا يقال فيه أفعلت
وأجسلت ولا يقال: منه فعلت.
المعنى:
ومعنى " ثم أضطره " ادفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها. والاضطرار هو
الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الانفكاك منه، إذا كان من جنس مقدوره، ولهذا
لا يقال فلان مضطر إلى كونه - وإن كان لا يمكنه دفعه عن نفسه - لما لم يكن
الكون من جنس مقدوره. ويقال هو مضطر إلى حركة الفالج وحركة العروق،
لما كانت الحركة من جنس مقدورة.

(1) في المطبوعة (فبصرت). (2 المطبوعة فمتعناه).
458

وقوله: " وبئس المصير " هو الحال التي يؤدي إليها أولها.
اللغة:
وصار وحال وآل نظائر. يقال صار يصير مصيرا، قياسه رجع يرجع مرجعا (1)
وصيرة تصييرا قال صاحب العين: صير، كل امر مصيرة والصيرورة مصدر صار يصير
صيرورة. وقال بعضهم: صيور الامر اخره. قال الكميت يمدح هشام ابن عبد الملك:
ملك لم يصنع الله منه * بدء أمر ولم يضع صيورا
وصارة الجبل: رأسه. والصير: الشق. وفي الحديث من نظر في صير باب
ففقئت عينه فهي هدر. وصير البقر: موضع يتخذه للحظيرة. وإذا كان للغنم فهو
زريبة واصل الباب: المصير، وهو المآل.
المعنى:
ومعنى الآية سأل سؤال عارف بالله مطيع له، وهو ان يرزق من الثمرات
من آمن بالله، واليوم الآخر، فأجاب الله ذلك، ثم أعلمه انه يمنع من كفر به،
لأجل الدنيا، ولا يمنعه من ذلك كما يتفضل به على المؤمن، ثم يضطره في الآخرة،
إلى عذاب النار، وبئس المصير. وهي كما قال: نعوذ بالله منها.
وقوله في الآية " قليلا " يحتمل أن يكون صفة للمصدر كما قال متاعا
حسنا فوصف به المصدر، وليس لاحد ان يقول كيف يوصف به المصدر، وهو
فعل يدل على التكثير، وكيف يستقيم وصف الكثير بالقليل في قوله " فأمتعه "
وهلا كانت قراءة ابن عامر ان حج على هذا وذلك أيضا إنما وصفه بأنه قليل من
كان آخره إلى نفاد، ونقص، وفناء. كما قال " متاع الدنيا قليل " ويجوز أيضا أن يكون
صفة للزمان. كما قال: " عما قليل ليصبحن نادمين " يعني بعد زمان قليل
وعن أبي جعفر " ع " في قوله: " وارزقهم من الثمرات " اي تحمل إليهم
من الآفاق.

(1) في المطبوعة (رجعا).
459

قوله تعالى:
" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل
منا انك أنت السميع العليم " (128) آية.
تقديره وإذ يرفع إبراهيم القواعد.
اللغة:
والرفع والاعلاء، والاصعاد نظائر. ونقيض الرفع الوضع. ونقيض العلو:
السفل. ونقيض الاصعاد الانزال تقول: رفع يرفع رفعا. وارتفع الشئ بنفسه.
وبرق رافع: ساطع. والمرفوع: من سير الفرس. والبرذون دون الحضر، وفوق
الموضوع. ويقال: إنه لحسن الموضوع. ويقال ارفع من دابتك. وقد رفع الرجل
يرفع رفاعة، فهو رفيع والمرأة رفيعة. والحمار يرفع في عدوه ترفيعا: إذا كان
عدو بعضه ارفع من بعض. وكذلك لو احدث شيئا فرفعته: الأول فالأول، قلت
رفعة ترفيعا. فالرفع نقيض الخفض في كل شئ. والرفعة نقفض الذلة، ورفعته إلى
السلطان رفعا اي قربته إليه. وفي التنزيل " وفرش مرفوعة (1) اي مقربة.
والمرفع كل شئ رفعت به شيئا، فجعلته عليه. واصل الباب الرفع: نقيض الخفض.
تقول رفع رفعا وارتفع ارتفاعا، ورفع ترفيعا، وترافعوا ترافعا، وترفع ترفعا،
ورافعه مرافعة.
والقواعد: واحدها قاعدة. قال الزجاج: أصله في اللغة الثبوت والاستقرار،
فمن ذلك القاعدة من الجبل، وهي أصله. وقواعد البناء أساسه الذي بني عليه. واحدتها
قاعدة. وامرأة قاعدة إذا أتت عليها سنون لا تزوج. ومنه قوله: " والقواعد من النساء
اللاتي لا يرجون نكاحا " (2) وإذا لم تحمل المرأة، ولا النخلة. يقال: قد قعدت
وهي قاعدة، وجمعها قواعد أيضا. وتأويلها انها قد ثبتت على ترك الحمل. وإذا

(1) سورة الواقعة: آية 24.
(2) سورة سبأ: آية 60.
460

قعدت المرأة عن الحيض، فهي قاعد أيضا بغير هاء - لأنه لا فعل لها في قعودها عن الحيض
وقد قعدت المرأة إذا كانت بأولاد لئام فهي قاعدة. والاقعاد ان يقعد الرجل عن
الشئ البتة يقال: اقعد فهو مقعد اي اقعدته الزمانة. وللجارية ثدي مقعد إذا
كان متمكنا لا ينكس. وشهر ذي العقدة كانت العرب تقعد فيه عن القتال. والقعود
ما يقتعد الراعي ويحمل عليه متاعه، وجمعه قعدان. وقعيد الانسان جليسه. ومنه
قوله: " عن اليمين وعن الشمالي قعيد " (1) يعني الملكين. والقعيد كلما اتي من
طائر أو ظبي. ويقال للئيم: قعد، والجبان: قاعد، لأنه قعد عن الحرب. وقعد
اللئيم عن الكرم قال الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (2)
والقعدة في النسب أقرب القرابة إلى الأب أو الجد. والمقاعد مواضع العقود
في الحرب، وغيرها. ومنه قوله: " مقاعد للقتال " (3) وقعيدة الرجل امرأته
القاعدة في بيته. وأصل الباب القعود. نقيض القيام. والقواعد والأساس والأركان
نظائر. وقيل: إنما قيل في واحدة القواعد من النساء قاعد لشيئين:
أحدهما - أن ذلك كالطالق والحائض وما أشبه ذلك من الصفافات التي تختص
بالمؤنث دون المذكر فلم يحتج إلى علامة التأنيث. وإن أردت الجلوس قلت: قاعدة
لا غير لأنها تشارك في ذلك الرجال.
الوجه الاخر - إن ذلك على وجه التشبيه اي ذات قعود كما يقال نابل
ودارع أي ذو نبل ودرع. لا تريد به تثبيت الفعل.
الاعراب:
وموضع الجملة من قوله: " ربنا تقبل منا " نصب بقول محذوف، فكأنه
قال: يقولان ربنا تقبل منا. واتصل بما قبله، لأنه من تمام الحال لان (يقولان)
في موضع الحال.

(1) سورة ق: آية 17.
(2) اللسان (طعم)، وكسا. طاعم: حسن المطعم.
(3) سورة آل عمران: آية 121.
461

المعنى:
قال ابن عباس معناه يقولان (1): ربنا، ومثله " والملائكة يدخلون
عليهم من كل باب سلام عليكم " (2) أي يقولون (3) ومثله " والملائكة
باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم " (4) أي يقولون. وقال بعضهم: هو شاذ تقديره
يقول: ربنا. يرده إلى إسماعيل وحده. ولا يعمل على ذلك لشذوذه.
وقال أكثر المفسرين كالسدي وعبد بن عمير الليثي، واختاره الجبائي،
وغيرهم: إن إبراهيم وإسماعيل معا رفعا القواعد. وقال ابن عباس: كان إبراهيم
يبني وإسماعيل يناوله. وقال بعض الشذاذ (5) أن إبراهيم وحده رفعها وكان
إسماعيل صغيرا - وهو ضعيف لأنه خلاف ظاهر اللفظ وخلاف أقوال المفسرين.
وقال أكثر أهل العلم أنهما رفعا البيت للعبادة لا للسكنى، وبدلالة قوله: " ربنا تقبل
منا ". وهل كانت للبيت قواعد قبل إبراهيم؟ فيه خلاف.
فقال ابن عباس وعطا: قد كان آدم عليه السلام بناه ثم عفي أثره، فجدده
إبراهيم. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).
وقال مجاهد، وعمرو بن دينار: بل أنشأه إبراهيم بأمر الله عز وجل إياه.
وكان الحسن يقول: أول من حج البيت إبراهيم (ع). وقد روي في اخبارنا ان
أول من حج البيت آدم وذلك يدل على أنه قد كان قبل إبراهيم. وإنما قال:
" انك أنت السميع العليم " لأنه لما ذكر الدعاء، اقتضى حينئذ ذكر ذلك، كأنه
قال: انك أنت السميع العليم بنا، وبما يصلحنا.
ومعنى قوله " تقبل منا " اي أثبنا على عمله، وهو مشبه بتقبل الهدية في
أصل اللغة. وروي عن محمد بن علي الباقر (ع) أنه قال: ان الله تعالى وضع تحت

(1) في مجمع البيان: (وفي حرف عبد الله بن مسعود ويقولان ربنا تقبل منا ". وفي
- حاشية - وفي حرف عبد الله يقولان ربنا.
(2) سورة الرعد: آية 25.
(3) يقولان سلام عليكم.
(4) سورة الأنعام: آية 93.
(5) في المطبوعة والمخطوطة (السداد).
462

العرش اربع أساطين وسماه الصراح وهو البيت المعمور وقال للملائكة طوفوا به
ثم بعث ملائكة، فقال ابنوا في الأرض بيتا بمثاله، وقدره وامر من في الأرض
ان يطوفوا بالبيت.
وقال أبو جعفر: إسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، وكان أبوه يقول:
وهما يبنيا البيت: - يا إسماعيل هابي ابن (1). اي اعطني حجرا، فيقول له إسماعيل
بالعربية: يا أبي هاك حجرا - وإبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. وروى فلا
عن عبد الله بن عمر قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: اني منزل معك أو مهبط
معك بيتا تطوف حوله كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي،
ولما كان زمن الطوفان رفع وكانت الأنبياء يحجونه ولا يعملون مكانه حتى بوأه الله
لإبراهيم فاعلمه (2) مكانه فبناه من خمسة اجبل: من حرا، وثبير، ولبنان،
وجبل الطور، وجبل الخمر (3). قال الطبري وهو جبل بدمشق.
قوله تعالى:
" ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك
وأرنا مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم " (129)
آية بلا خلاف.
روي في الشواذ عن عوف بن الاعرابي انه قرأ (مسلمين) على الجمع. وإنما
سألا الله تعالى أن يجعلهما مسلمين بمعنى: ان يفعل لهما من الألطاف ما يتمسكان معه
بالاسلام في مستقبل عمرهما لان الاسلام كان حاصلا في وقت دعائهما ويجري ذلك
مجرى أحدنا، إذا أدب ولده وعرضه لذلك حتى صار أديبا جاز أن يقال: جعل
ولده أديبا وعكس ذلك إذا عرضه للبلاء، والفساد، وجاز ان يقال: جعله ظالما
محتالا فاسدا ويجوز ان يكونا قالا ذلك تعبدا كما قال تعالى: " رب احكم بالحق ".

(1) وفي العبرانية معنى اعطني حجرا: هاتلي ابن.
(2) في المطبوعة (كإبراهيم اعلمه) وهو تحريف.
(3) الخمر جبل بيت المقدس سمي بذلك لكثرة كرومه (ياقوت).
463

اللغة:
والاسلام: هو الانقياد لامر الله تعالى بالخضوع، والاقرار بجميع ما أوجب
عليه. وهو والايمان واحد عندنا، وعند أكثر المرجئة والمعتزلة. وفي الناس من قال:
بينهما فرق، وليس ذلك بصحيح، لقوله " ان الدين عند الله الاسلام ". وقوله:
" ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه " (1) وإنما خصا
بالدعوة بعض الذرية في قوله: " ومن ذريتنا "، لان (من) للتبعيض من حيث أن
الله تعالى: كان أعلمه أن في ذريتهما من لا ينال العهد، لكونه ظالما. وقال السدي:
إنما عنيا (2) بذلك العرب. والأول هو الصحيح. وهو قول أكثر المفسرين.
وقوله: " وأرنا مناسكنا " فالمناسك هاهنا المتعبدات قال الزجاج: كل
متعبد منسك (3). وقال الجبائي: المناسك هي ما يتقرب به إلى الله من الهدى،
والذبح، وغير ذلك من اعمال الحج والعمرة. وقال قتادة: أراهما الله مناسكهما
الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة عن عرفات والإفاضة من جمع
ورمي الجمار حتى أكمل الله الدين. فهذا القول أقوى لأنه العرف في معنى المناسك
وقال عطا: مناسكنا مذابحنا.
اللغة:
والنسك في اللغة: العبادة. ورجل ناسك عابد، وقد نسك نسكا. والنسك: الذبيحة
يقال: من فعل كذا فعلية نسك، اي دم يهريقه، ومنه قوله: " أو نسك " اي
دم واسم تلك الذبيحة: النسيكة والموضع الذي يذبح فيه المناسك والمنسك هو النسك
نفسه. قال الله (تعالى: " ولكل أمة جعلنا منسكا " ويقال: نسك ثوبه اي غسله وقال
ابن دريد: النسك أصله ذبائح كانت تذبح في الجاهلية. والنسيكة: شاة كانوا

(1) سورة آل عمران: آية 85.
(2) في المطبوعة (صينا).
(3) في المطبوعة والمخطوطة (منك).
464

يذبحونها في الحرم في الاسلام، ثم نسخ ذلك بالأضاحي قال الشاعر (1):
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا (2)
واصل الباب العبادة وقيل إن النسك الغسل. قال الشاعر:
فلا ينبت المرعى سباخ عراعر * ولو نسكت بالماء ستة اشهر (3)
اي غسلت ذكره الحسين بن علي المغربي. قال: وليس بمعروف.
وقوله: " وارنا " (4) يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون من رؤية البصر.
والآخر - أن يكون من رؤية القلب بمعنى اعلمنا. قال حطائط بن جعفر (5)
أريني جوادا مات هزلا لعلني * أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا (6)
اي عرفني ومعنى قوله: " وتب علينا " اي ارجع علينا بالرحمة والمغفرة وليس فيه دلالة
على جواز الصغيرة، أو فعل القبيح عليهم. ومن ادعى ذلك، فقد أبطل. وقال
قوم: معناه تب على ظلمة ذريتنا. وقيل: بل قالا: ذلك انقطاعا إليه " تعالى " تعبدا
ليقتدى بهما فيه. وهو الذي نعتمده.
" والتواب " القابل للتوبة هاهنا وإذا وصف به العبد، فمعناه أنه فاعل التوبة
دفعة بعد أخرى، فيفيد المبالغة. فعلى مذهبنا إذا قلنا: قبل الله توبته اي تاب
عليه معناه انه يستحق الثواب. وإذا قلنا: تاب العبد من كبيرة مع الإقامة على

(1) قائله الأعشى الكبير ميمون بن قيس من قصيدة يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وآله.
(2) ديوانه 137 رقم القصيدة 17. وروايته (الأوثان) بدل (الشيطان).
واللسان (نصب) ورواية العجز: لعافية والله ربك فاعبدا.
وفي اللسان - حاشية - قوله: " العافية " كذا بنسخة من الصحاح الخط وفي نسخ الطبع
كنسخ شارح القاموس " العاقبة ". وفي اللسان أيضا. ويروي عجز بيت الأعشى: ولا
تعبد.. اي كما أثبتنا.
ذا النصب يعني إياك وذا النصب. اي لا تذبح القرابين للأصنام. فاعبدا أراد فاعبدن.
(3) اللسان - (نسك). ولم ينسبه.
(4) في المطبوعة (وانها)
(5) هو رجل من بني نهشل بن دارم.
(6) اللسان " أنن " و " علل ". قال ابن بري فيه: قال حطائط بن جعفر، ويقال
هو لدريد. وروايته " لأنني " بدل " لعلني " وهما بمعنى واحد. والشاعر يخاطب أمه عندما لامته
على انفاقه ماله.
465

كبيرة أخرى معناه عند من أجاز ذلك أنه رفع العقاب بها على تلك الكبيرة التي
تاب منها. وعندنا أنه يستحق بها الثواب أيضا. وفي الآية دلالة على أنه يحسن
الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة، لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يفارقان
الاسلام. ولا يأتيان الكبيرة.
القراءة:
والاختيار في " أرنا " كسر الراء وهي قراءة الجمهور، لأنها كسرة الهمزة
حولت إلى الراء، لان أصله كان ارئنا، فنقلت الكسرة إلى الراء وسقطت الهمزة،
فلا ينبغي أن تسكن، لئلا تجحف بالكلمة وتبطل الدلالة على الهمزة. وقد سكنه
ابن كثير. وفي بعض الروايات عن أبي عمر وعلى وجه التشبيه بما يسكن في مثل
كبد وفخذ وقال الشاعر:
لو عصر منه المسك والبان انعصر
وقال آخر:
قالت سليمى اشتر لنا دقيقا * واشتر وعجل خادما لبيقا
قوله تعالى:
" ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك
ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز
الحكيم " (130) آية واحدة بلا خلاف.
الضمير في قوله فيهم راجع إلى الأمة المسلمة التي سأل الله إبراهيم من ذريته.
والمعنى بقوله " رسولا منهم " هو النبي صلى الله عليه وآله لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
انا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى (ع) يعني قوله " ومبشرا برسول يأتي من
بعده اسمه أحمد " (1) وهول قول الحسن وقتادة والسدي وغيرهم من أهل العلم.

(1) سورة الصف: آية 6.
466

ويدل على ذلك أيضا، وان المراد به نبينا صلى الله عليه وآله دون الأنبياء الذين بعثهم الله من
بني إسرائيل انه دعى بذلك لذريته الذين يكونون بمكة وما حولها على
ما تضمنته الآية.
وفي قوله: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " ولم يبعث الله من هذه صورته
إلا محمدا " ص ". والمراد بالكتاب القرآن - على قول ابن زيد وأكثر المفسرين -
ومعنى " الحكمة " هاهنا السنة. وقيل المعرفة بالدين والفقه في التأويل. وقيل العلم
بالأحكام التي لا يدرك علمها إلا من قبل الرسل " ع " فالأول قول قتادة، والثاني
قول انس بن مالك والثالث قول ابن زيد. وقال قوم هو كلام مثنى كأنه وصف التنزيل
بأنه كتاب، وبأنه حكمة، وبأنه آيات. وقال بعضهم: الحكمة شئ يجعله الله في
القلب ينوره به كما ينور البصر فيدرك المبصر، وكل حسن.
ومعنى قوله: " ويزكيهم " قال ابن عباس: هو طاعة الله والاخلاص له.
وقال ابن جريج يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه. وقال الجبائي: " ويزكيهم " معناه
يستدعيهم إلى فعل ما يزكون به، من الايمان والصلاح. ويحتمل ان يراد به انه
يشهد لهم بالزكاء آمنوا وأصلحوا.
اللغة:
و " العزيز " القادر الذي لا يعجزه شئ. وقيل: القادر الذي لا يمتنع عليه
شئ أراد فعله. وقيل: القدير وهو مبالغة الوصف بالقدرة. ونقيض العز الذل.
ويقال: عزه يعز عزة وعزازا. واعتز به اعتزازا. وتعزز تعززا. وعازه معازة.
تقول: عز يعز عزة وعزا: إذا صار عزيزا. وعز يعز عزا: إذا قهر. ومنه قولهم:
من عزيز اي من غلب سلب. وكل شئ صلب، فقد اعتز. وسمي العزاز من
الأرض: وهو الطين الصلب الذي لا يبلغ أن يكون حجارة. وعن الشئ إذا قل
لا يكاد يوجد. وفلان اعتز بفلان إذا تشرف إذا تشرف به " وعزني في الخطاب " (1) اي

(1) سورة ص: آية 23.
467

غلبني في محاورات الكلام. والعزاء: السنة الشديدة، والمطر يعزز الأرض تعزيزا إذا
لبدها. واصل الباب: القوة.
المعنى:
وقوله: " الحكيم " يحتمل أمرين:
أحدهما - المدبر الذي يحكم الصنع، يحسن التدبير.
والثاني بمعنى عليم، والأول بمعنى حكيم في فعله بمعنى محكم، فعدل إلى
حكيم، للمبالغة. وإنما ذكر الحكيم هاهنا، لأنه يتصل بالدعاء، كأنه قال:
فزعنا إليك، لأنك القادر على إجابتنا العالم بما في ضمائرنا وبما هو أصلح لنا مما
لا يبلغه علمنا.
قوله تعالى:
" ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه
ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين "
(131) - آية بلا خلاف -
اللغة:
قوله: " ومن يرغب " فالرغبة: المحبة لما فيه للنفس منفعة. ورغب فيه ضد
رغب عنه. والرغبة: المحبة (1). والرغبة والمحبة والإرادة نظائر. وبينهما فرق.
نقيض الرغبة الرهبة ونقيض المحبة: البغضة. ونقيض الإرادة الكراهية. تقول:
رغب رغبة وأرغبه إرغابا. ورغبة ترغيبا. وتقول: رغب رغبة، ورغبا، ورغبى
ورغبا إذا ملت لمحبك (2)، ورغبت عنه إذا صددت عنه، وأنا راغب به فيهما
جميعا، والشئ مرغوب فيه، ومرغوب عنه. ولي عن فلان مرغب. وهو رجل

(1) - " والرغبة: المحبة " ساقطة من المطبوعة.
(2) في المطبوعة " إذا أملت لمحبتك ".
468

رغيب: نهم شديد الاكل (1) وفرس رغيب الشحوة (2) كثير الاخذ بقوائمه
من الأرض. وموضع رغيب واسع والرغبة العطاء الكثير الذي يرغب في مثله. وقال
صاحب العين: اللهم إليك الرغباء ومن لدنك النعماء، ورغبت عن الشئ إذا تركته.
الاعراب:
ومعنى " ومن يرغب عن ملة إبراهيم " لفظه الاستفهام، ومعناه الجحد (3)،
كأنه قال: ما يرغب عن ملة إبراهيم ولا يزهد فيها إلا من سفه نفسه وكأنه قال:
واي الناس يزهد فيها " إلا من سفه نفسه " والأولى على الاستفهام،
ومعناه الجحد (4). والثانية - بمعنى الذي كأنه قال: إلا الذي سفه نفسه. وفي
نصب (نفسه) خلاف. قال الأخفش: معناه سفه نفسه. وقال يونس: أراها لغة.
قال الزجاج: أراد أن فعل (5) لغة في المبالغة. كما أن فعل كذلك. فعلى هذا
يجوز سفهت زيدا: بمعنى سفهت. وقال أبو عبيدة: معناه أهلك نفسه، وأوبق
نفسه. وقال ابن زيد: إلا من أخطأ حظه. وقال ابن تغلب والمبرد: سفه - بكسر
الفاء - يتعدى، وسفه - بضم الفاء - لا يعتدى. فهذا كله وجه واحد.
والثاني - أن يكون على التفسير، كقوله " فان طبن لكم عن شئ منه نفسا " (6)
وهو قول الفراء: قال: العرب توقع سفه على نفسه. وهي معرفة، وكذلك " بطرت
معيشتها " (7). وانكر الزجاج هذا الوجه. وقال: معنى التمييز لا يحتمل
التعريف، لان التمييز إنما هو واحد يدل على جنس (8)، فإذا عرفته صار مقصودا
بعينه.
والوجه الثالث - أن يكون على التمييز، والمضاف على الانفصال، كما تقول:

(1) في المخطوطة " بهم بتسديد الأصل " وفى المطبوعة " بهم شديد الاكل ".
(2) في المطبوعة " الشجرة وفي المخطوطة غير منقطة.
(3) في المطبوعة " الحجة " وهو تحريف.
(4) في المطبوعة " الحجة " وهو تحريف.
(5) في المخطوطة والمطبوعة " ان سفه " وهو غلط لان الجملة الثانية تدل على ما أثبتناه
(6) سورة النساء: آية 4
(7) سورة القصص: آية 58.
(8) في المطبوعة (حسن).
469

مررت برجل مثله أي مثل له.
والوجه الرابع - على حذف الجار، كما قال: " أن تسترضعوا أولادكم فلا
جناح عليكم " (1) اي لأولادكم. ومثله " ولا تعزموا عقدة النكاح " (2)
اي على عقدة النكاح. قال الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نيئا * ونرخصه إذا نضج القدير (3)
والمعنى نغالي (4) باللحم. وقال الزجاج: وهذا مذهب صحيح. واختار
هو أن سفه بمعنى جهل. وهو موافق لمعنى ما قال ابن السراج في " بطرت معيشتها "
لان البطر مستقل النعمة غير راض بها. وقال أبو مسلم: معناه جهل نفسه، وما فيها
من الآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شئ فيعلم به توحيد الله وصفاته.
اللغة:
ومعنى قوله: " ولقد اصطفيناه في الدنيا " اخترناه للرسالة والصفو: التميز
من سائر الكدر. واصطفيناه على وزن افتعلناه من الصفوة. وإنما قلبت التاء طاء،
لأنها أشبه بالصاد بالاستعلاء والاطباق، وهي من مخرج التاء فاتى بحرف وسط بين
الحرفين. والاصطفاء والاختيار والاجتباء نظائر. والصفاء والنقاء والخالص (5) نظائر
والصفاء نقيض الكدر. وصفوة كل شئ خالصه من صفوة الدنيا، وصفوة الماء
وصفوة الإخاء تقول: صفا صفاء، واصفاه اصفاء، واصطفاه، اصطفاء. وتصفى
تصفيا وتصافوا تصافيا. وصفاه تصفية وصافاه مصافاة. وأستصفاه استصفاء.
والصفا مصافاة المودة والإخاء. والصفاء مصدر الشئ الصافي وإذا اخذت صفوة ماء

(1) سورة البقرة: آية 233.
(2) سورة البقرة: آية 235.
(3) اللسان (غلا) قال أبو مالك: نغالي اللحم نشتريه غاليا ثم نذله ونطعمه إذا نضج
في قدورنا وفي المطبوعة (تعالى) بدل نغالي. وفي المطبوعة والمخطوطة (نبذله) بدل (نرخصه)
و " القدور " بدل " القدير ".
(4) في المطبوعة " تعالى يستعمونها " بدل " نغالي باللحم ".
(5) في المطبوعة " الخاص ".
470

من غدير، قلت استصفيت صفوة. وصفي الانسان: الذي يصافيه المودة. وناقة
صفي كثيرة اللبن. ونخلة صفية: كثيرة الحمل. والجمع الصفايا والصفا: الحجر الضخم الأملس
الصلب. فإذا انثوا (1) الصخرة قالوا صفاة صفواء. وإذا ذكروا قالوا صفا صفوان والصفوان
واحدته صفوانة. ومن الحجارة: الملس لا تنبت شيئا. قال تعالى: " كمثل صفوان
عليه تراب " (2). واصل الباب: الصفا: الخلوص.
قوله: " وانه في الآخرة لمن الصالحين " إنما خص الآخرة بالذكر وإن كان
في الدنيا كذلك لان المعنى من الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب،
فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا، وصفه بما ينبئ عن ذلك. ففي
قوله: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم الا من سفه نفسه " دلالة على أن ملة إبراهيم
هي ملة نبينا محمد " ص "، لان ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد " ص " مع زيادات
في ملة محمد " ص " فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد التي هي ملة
إبراهيم، قد سفهوا أنفسهم وهو معنى قول قتادة والربيع.
قوله تعالى:
" إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (132)
آية بلا خلاف.
قوله: " إذ قال له ربه " متعلق بقوله: " ولقد اصطفيناه " وموضعه نصب
وتقديره: ولقد اصطفيناه حين قال له ربه أسلم. وقال الحسن: إنما قال ذلك، حين
أفلت الشمس، " فقال يا قوم إني برئ مما تشركون. اني وجهت وجهي " (3)
وانه أسلم حينئذ. وهذا يدل على أنه كان ذلك قبل النبوة. وأنه قال له ذلك: إلها ما
استدعاه به إلى الاسلام، فاسلم حينئذ. لما وضح له طريق الاستدلال بما رأى من
الآيات، والعبر الدالة على توحيده. ولا يصح أن يوحي الله تعالى إليه قبل اسلامه
بأنه نبي الله، لان النبوة حال اعظام واجلال. ولا يكون ذلك قبل الاسلام. وإنما

(1) في المخطوطة (نعتوا)
(2) سورة البقرة: آية 264.
(3) سورة الأنعام: آية 78.
471

قال: " اصطفيناه " على لفظ المتكلم مع قوله: " إذ قال له ربه " على لفظ الغائب
للتصرف في الكلام كما قال الشاعر:
باتت تشكي إلي النفس مجهشة * وقد حملتك سبعا بعد سبعينا (1)
والاسلام واجب على كل مكلف، وان اختلفت شرائع الأنبياء فيما يتعبدون:
من الحلال، والحرام. لقوله " تعالى ": ان " ان الدين عند الله الاسلام " (2)
وان الاسلام إنما هو الاخلاص لله بالعمل بطاعته، واجتناب معصيته وذلك واجب
على كل متعبد. وكله اسلام.
وقوله تعالى:
" ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى
لكم الدين فلا تموتن الا وأنتم مسلمون " (133) آية
بلا خلاف.
القراءة:
قرأ أهل المدينة، وابن عامر " وأوصى " بهمزة مفتوحة بين الواوين، وتخفيف
الصاد. الباقون ووصى مشددة الصاد. ومن قرأ وصى ذهب إلى قوله: " فلا
يستطيعون توصية " 3) ومصدر وصى مثل قطع تقطعة ولم يجيئوا به على تفعيل
كراهية اجتماع الياءات مع الكسرة. ومن قرأ أوصى فلقوله: " من بعد وصية
يوصي بها " (4) وكلاهما جيدان.
اللغة:
والوصية مأخوذة من قولهم: أوصى النبت: إذا اتصل بعضه ببعض فلما

(1) اللسان (جهش) قائله لبيد. أجهش إذا تهيأ للبكاء.
(2) سورة آل عمران: 19.
(3) سورة يس آية: 50.
(4) سورة النساء: آية 10.
472

أوصل الموصي جل أمره إلى الموصى إليه، قيل: وصية. ووصى وأوصى وأمر
وعهد نظائر في اللغة. وضد أوصى أهمل. والوصاة كالوصية، والوصاية مصدر التوصي.
والفعل أوصيت إيصاء ووصيت توصية، في المبالغة، والكثرة وتقول: قد قبل
الوصاية. وإذا انطاع المرعى للسائمة فاصابته رواعد، قبل وصى لها الرعي يصي
وصيا. ووصيا. وأصل الباب: الوصية وهي الدعاء إلى الطاعة.
المعنى:
والهاء في قوله: " ووصى بها " يحتمل ان تعود إلى أحد شيئين:
أحدهما إلى الملة. وقد تقدم ذكرها في قوله: " ومن يرغب عن ملة
إبراهيم ".
والثاني - ان يعود إلى الكلمة في قوله: " أسلمت لرب العالمين ". والأول
أقوى، لأنه مذكور في اللفظ. وهو قول الزجاج. وأكثر المفسرين. والثاني حكاه
البلخي وبعض أهل اللغة. وارتفع يعقوب، لأنه معطوف على إبراهيم. والمعنى
ووصى بها يعقوب. وبه قال ابن عباس وقتادة. وقال بعضهم: إنه على الاستئناف
كأنه قال: ووصى يعقوب أن " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين " والأول أظهر
لان عليه أكثر المفسرين. " والألف واللام ". في الدين للعهد دون الاستغراق،
لأنه إنما أراد بذلك دين الاسلام دون غيره من الأديان. وإنما أسقطت (أن) في
" وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " أن " يا بني " وأثبت في " إنا أرسلنا نوحا إلى
قومه أن انذر " (1)، لان أوصى في الآية بمعنى القول، فجعل بمنزلة قولك الا
تقديره تقدير القول، فيجوز حينئذ إلحاق أن. كما قال: " إنا أرسلنا نوحا إلى
قومه أن أنذر " ومثله " وآخر دعواهم أن الحمد لله " (2) وقوله: " فأذن
مؤذن بينهم أن لعنة الله " (3) وكل هذا الباب يجوز فيه الوجهان: بان تقدره
تقدير القول، ليكمل به تقدير الفعل الذي ليس بقول. واما قوله: " إن كان ذا

(1) سورة نوح: آية 1.
(2) سورة يونس: آية 10.
(3) سورة الأعراف: آية 43.
473

مال وبنين " (1) فلا يجوز إسقاطها في مثله من الكلام، لأنه ليس فيه معنى
الحكاية، والقول كما في الدعوى، والارسال. واما قوله: " والملائكة باسطوا
أيديهم اخرجوا أنفسكم (2) فلا يجوز في مثله إثبات، لأنه يضمر معه القول، ولا
يجوز معه التصريح بالقول، ولا مع اضمار أن لأنه حكاية كما تقول: قلت له: زيد
في الدار، ولا يجوز قلت له: أن زيدا في الدار وانشد الكسائي:
إني سأبدي لك فيما أبدي * لي شجنان: شجن بنجد
وشجن لي بباد الهند (3)
لان الابداء قول. ومنه قوله: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
لهم مغفرة " (4)، لأن العدة قول. فان قيل: كيف قال: " لا تموتن " على
وجه النهي لهم عن الموت، والموت ليس في مقدورهم، فيصح أن ينهوا عنه؟ قلنا:
اللفظ وإن كان على لفظ النهي. فما نهوا عن الموت، وإنما نهوا في الحقيقة عن
ترك الاسلام: لئلا يصاد فهم الموت عليه، وتقديره لا تتعرضوا للموت على ترك
الاسلام بفعل الكفر، ومثله من كلام العرب لا رأيتك (5) هاهنا، فالنهي في اللفظ للمتكلم،
وإنما هو في الحقيقة للمخاطب، فكأنه قال: لا تتعرض لان أراك بكونك هاهنا.
ومثله لا يصادفنك الامام على ما يكره، وتقديره: لا تتعرض لان يصادفك على
ما يكره. ومثله لا يكونن زيد إلا عندك تقديره: لا تتعرض لان يكون زيد
ليس عندك: بالتفريط في ذلك، والاهمال له والأصل في هذا أن التعريض لوقوع
الشئ بمنزلة ايقاع الشئ.
وقوله: " وأنتم مسلمون " جملة في موضع الحال. وتقديره: لا تموتن
إلا مسلمين.

(1) سورة القلم: آية 14.
(2) سورة الأعراف: آية 93.
(3) اللسان (شجن). الشجن: هوى النفس وهو مجاز من الحزن والهم. وكنوا به
المرأة المحبوبة التي تشغل القلب.
(4) سورة المائدة: آية 10.
(5) في المخطوطة والمطبوعة (لأريتك).
474

قوله تعالى: " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال
لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله
آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون " (134) - آية واحدة بلا خلاف -
(أم) هاهنا منقطعة وليست بمتصلة كقوله " ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه
من رب العالمين أم يقولون افتراه " (1) ومثله قول الشاعر (2):
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا (3) ولا تجئ منقطعة الألف وقد تقدمها كلام، لأنها بمعنى بل، وألف
الاستفهام. كأنه قيل: بل كنتم شهداء، ومعناها - هنا - الجحد: اي ما كنتم
شهداء. واللفظ لفظ الاستفهام. والمعنى على خلافه، لان إخراجه مخرج الاستفهام
أبلغ في الكلام، وأشد مظاهرة في الحجاج: أن يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق
فتلزم الحجة، والانكار له فتظهر الفضيحة، فلذلك اخرج الجحد (4) في الاخبار
مخرج الاستفهام.
والمخاطب ب‍ " أم كنتم شهداء " أهل الكتاب في قول الربيع. والمعنى:
انكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل بنحلكم إياهم خلاف
الاسلام من اليهودية والنصرانية، فايى ما بعثهم إلا بالحنفية. والشهداء جمع شهيد.
و (إذ) هاهنا بدل من (إذ) الأولى، والعامل فيها معنى الشهادة. وقيل بل العامل
فيها حضر، وكلاهما حسن.
اللغة:
والحاضر والشاهد من النظائر. ونقيض الحاضر الغائب. ويقال: حضر

(1) سورة السجدة: آية 1 و 2 و 3.
(2) هو الأخطل.
(3) انظرا: 3. 4 تجد التفصيل
(4) في المطبوعة (الحجة).
475

حضورا، واحضره إحضارا، واستحضره استحضارا، واحتضره احتضارا،
وحاضره محاضرة. والحضر خلاف البدو. وحضرت القوم أحضرهم حضورا: إذا
شهدتم. والحاضر خلاف الغائب. واحضر الفرس إحضارا: إذا عدا عدوا شديدا
واستحضرته استحضارا. والحضرة الجماعة من الناس ما بين الخمسة إلى العشرة.
وحاضرت الرجل محاضرة وحضارا: إذا عدوت معه. وحاضرته: إذا جانيته عند
السلطان، أو في خصومة، ومحضر القوم مرجعهم إلى المياه بعد النجعة، وفرس
محضر. ولا يقال: محضارا. وألقت الشاة حضيرتها يعني المشيمة وغيرها والإبل
الحضار البيض. لا واحد لها من لفظها مثل الهجان سواء. وحضرة الرجل فناؤه
وأصل الباب الحضور: خلاف الغيبة.
الاعراب:
وقوله " إلها واحدا " يحتمل انتصابه أحد أمرين:
أحدهما - أن يكون حالا من قوله: " إلهك ":
والآخر - أن يكون بدلا من إلهك. وتكون الفائدة فيه التوحيد، وإنما
قدم إسماعيل على إسحاق، لأنه كان أكبرهم. وبه قال ابن زيد.
وقوله: " ونحن له مسلمون " الجملة في موضع نصب على الحال. وقيل
لا موضع لها، لأنها على الاستئناف و " إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " في موضع خفض.
والعامل فيها ما عمل في ابائك، لأنه مبين له. كما تقول: مررت بالقوم: أخيك،
وغلامك وصاحبك. وإنما قال: " آبائك " وإسماعيل عم يعقوب، لما قاله الفراء
وأبو عبيدة: من أن العرب تسمي العم أبا فالآية دالة على أن العمومة يسمون آباء.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ردوا علي أبي يعني العباس عمه فسمي
العم أبا كما سمي الجد أبا من حيث يجب له التعظيم، نحو ما يجب للأب، وقد
قرئ في الشواذ واله أبيك، فعلى هذا ينجر إسماعيل وإسحاق على العطف، وهو
غير المعنى الأول، لأنه مترجم عن الآباء وفي الثاني عطف غير ترجمة كما تقول رأيت
غلام زيد وعمر، أي غلامهما فكأنه قال: لهم ولم يذكر بالأبوة إلا إبراهيم وحده
476

والقراءة الأولى هي المشهورة وعليها القراء.
قوله تعالى:
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون
عما كانوا يعملون (135) آية بلا خلاف.
اللغة:
قوله: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم " فالأمة المراد بها
هنا الجماعة والأمة على ستة أقسام الجماعة والأمة: الحين لقوله: " واذكر بعد أمة " (1)
أي بعد حين، والأمة القدوة والامام. لقوله: " ان إبراهيم كان أمة قانتا " (2)
والأمة العامة وجمعها أمم. قال الأعشى:
وان معاوية الأكرمين * حسان الوجوه طوال الأمم (3)
والأمة: الاستقامة في الدين والدنيا. قال النابغة:
وهل يأثمن ذوامة وهو طائع (4)
والأمة: أهل الملة الواحدة. كقولهم: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد
صلى الله عليه وآله واصل الباب: القصد من أمه يؤمه. وإذا قصده. ومعنى خلت. مضت كما
تقول: لثلاث خلون من الشهر، أي مضين. وأصله: الانفراد ومنه خلا الرجل
بنفسه: إذا انفرد. وخلا المكان من أهله أي انفرد منهم. وحد الخلو: حصول الشئ وحده. والفرق بين الخلو والفراغ، أن الخلو إذا لم يكن مع الشئ غيره، وقد
يفرغ منه وهو معه. فإذا قلت خلا منه فليس معه. والكسب: العمل الذي يجلب

(1) سورة يوسف: آية 45.
(2) سورة النحل: آية 120.
(3) ديوانه. رقم القصيدة 4. وروايته (عظام القباب) بدل (حسان الوجوه). وفي
اللسان (أمم) (بيض الوجوه).
(4) اللسان (أمم). وصدر البيت:
حلفت فلم اترك لنفسك ريبة
في المخطوطة والمطبوعة (وهو طالع).
477

به نفع، أو يدفع به ضرر عن النفس. وكسب لأهله: إذا اجتلب، ذلك لهم بعلاج
ومراس. ولذلك لا يجوز في صفة الله.
وقوله " ولا تسألون عما كانوا يعملون " معناه انه لا يقال لكم اعملوا كذا
وكذا. وعلى جهة المطالبة بما يلزمهم من أجل عملهم. كما لا يقال لهم لم عملتم أنتم
كذا وكذا. وإنما يطالب كل انسان بعمله دون عمل غيره كما قال: " ولا تزر
وازرة وزر أخرى " (1) وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: إن الأبناء
يؤخذون بذنوب الآباء. ويؤخذ الطفل بذنب أبيه، لان الله تعالى نفى ذلك ومثله
قوله: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " وقوله: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت
لا ظلم اليوم " (2). والإشارة بقوله: " تلك أمة " إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب ولدهم. يقول الله تعالى لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى دعوا
ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله، ولا
تنسبوا إليهم الكفر، واليهودية والنصرانية، ولا تضيفوها إليهم وإنها أمة قد
خلت ولا تسألون أنتم عما كانوا يعملون.
الاعراب:
وقوله " لها ما كسبت " يحتمل أن يكون موضعه نصب بأنه حال كأنه قال:
قد يلزمها ما تستحقه بعملها. ويجوز أن لا يكون لها موضع لأنها مستأنفة. ولا
يكون جزء من الجزء الأول، لكن تكون متصلة به في المعنى وان لم تكن جزء
منه، لأنهما خبران في المعنى عن شئ واحد. كأنه قيل للجماعة. قد خلت.
والجماعة لها ما كسبت.
قوله تعالى:
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم

(1) سورة الأنعام: آية 164.
(2) سورة المؤمن: آية 17.
478

حنيفا وما كان من المشركين (136) آية بلا خلاف.
الضمير في قوله: " وقالوا كونوا " يرجع إلى اليهود، والنصارى، لان كل
فريق منهم دعي إلى ما هو عليه ومعنى " تهتدوا " أي تصيبوا طريق الحق. كأنهم
قالوا: تهتدوا إلى الحق.
وروي عن عبد الله بن عباس، أنه قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول
الله صلى الله عليه وآله: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى: مثل
ذلك فأنزل الله (تعالى) " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا الآية " وفى قوله:
" بل ملة إبراهيم حنيفا " حجة على وجوب اتباع ملة إبراهيم إذ كانت سليمة
من التناقض. وكان في اليهودية والنصرانية تناقض، وذلك لا يكون من عند الله
فصارت ملة إبراهيم أحق بالاتباع من غيرها. والتناقض في اليهودية مثل منعهم
من جواز النسخ مما في التوراة مما يدل على جواز ذلك وامتناعهم من العمل بما
تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الأمي مع اظهارهم التمسك بها، وامتناعهم
من الاذعان لما (1) دلت عليه المعجزة: من نبوة عيسى، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله مع
اقرارهم بنبوة موسى من أجل المعجزة إلى غير ذلك من أنواع التناقض. وأما
النصارى أب وابن وروح قدوس إله واحد مع زعمهم ان الأب ليس هو الابن وان
الأب إله والابن إله وروح القدوس إله. فإذا قيل لهم قولوا ثلاثة آلهة امتنعوا من
ذلك. إلى ما يصفون به الباري تعالى مما (2) يوجب الحاجة والحدث. ويقولون:
مع ذلك أنه قديم لم يزل إلى غير ذلك من مناقضاتهم التي لا تحصى كثيرة، وهي
موجودة في الكتب عليهم نبهنا على جملها. وأما الحنيفية فهي الاستقامة. وإنما
قيل للذي يقبل بإحدى قدميه على الأخرى أحنف تفاؤلا بالسلامة كما قيل للهلكة:
مفازة تفاؤلا بالفوز، والنجاة، وهو قول الرياشي وابن قتيبة، وأهل اللغة. وقال
الزجاج: أصله الميل، وإبراهيم حنيف إلى دين الاسلام، وقال: العادل إلى دين

(1) في المطبوعة " ما.
(2) في المطبوعة " متا ".
479

ربه عن اليهودية، والنصرانية. وقال أبو حاتم: قلت للأصمعي: من أين عرف
في الجاهلية الحنيف؟ فقال: لأنه من عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف
عندهم، ولان كل من حج البيت كانوا يسمونه حنيفا وكانوا إذا أرادوا الحج قالوا:
هلم نتحنف. وقال صاحب العين: الحنف ميل في صدر القدم. يقال رجل حنف،
وسمي الأحنف لحنف كان به. وقالت حاضنته وهي ترقصه:
والله لولا حنف برجله * ما كان في صبيانكم كمثله (1)
والحنيف: المسلم الذي يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة إبراهيم " وكان
حنيفا مسلما " وقال بعضهم: الحنيف كل من أسلم في أمر الله، ولم يلتو في شئ
والجمع الحنفاء. قال بعضهم: قيل حنيف، لأنه تحنف عن الأديان كلها: أي
مال إلى الحق. وفي الحديث أحب الأديان إلى الله الحنفية السمحة، وهي ملة إبراهيم
لا حرج فيها، ولا ضيق. وأصل الباب الحنف، وهو الميل.
ونصب " ملة إبراهيم " يحتمل أربعة أوجه،
أحدها - ان كونوا هودا أو نصارى. قد تضمن معنى اتبعوا اليهودية
والنصرانية، فعطف به على المعنى.
والثاني - على الحال كأنه (2) قال بل نتبع ملة إبراهيم. فالأول عطف
والثاني (حذف).
والثالث - على معنى بل أهل ملة إبراهيم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه كقوله تعالى " واسأل القرية ". والرابع - على الاغراء.
قوله تعالى:
" قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي

(1) اللسان (حنف) وروايته (في فتيانكم من مثله).
(2) في المخطوطة بياض. وفى المطبوعة هكذا: (الحال قال.)
480

النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " (137) - آية واحدة بلا خلاف. -
قوله تعالى: " قولوا آمنا بالله " يحتمل أن يكون جوابا - على ما روي عن
ابن عباس: أن نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه عمن يؤمن به من
الرسل، فقال أؤمن بالله وما أنزل الينا وما انزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط.. إلى آخرها -، فلما ذكر عيسى جحدوا بنبوته، وقالوا:
لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله فيهم " قل يا أهل الكتاب هل
تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما انزل الينا وما انزل من قبل وان أكثركم
فاسقون " (1).
والثاني - قال الحسن وقتادة: أمر الله المؤمنين أن يقولوا: " آمنا بالله وما
أنزل الينا " الآية، وجعل ذلك محنة فيما بينهم وبين اليهود والنصارى.
اللغة:
والأسباط جمع سبط. قال تغلب: يقال: سبط عليه العطاء والضرب: إذا
تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض وانشد الثوري في قطيع بقر:
كأنه سبط من الأسباط (2)
شبهه بالجماعة من الناس يتتابعون في أمر. والسبط: جماعة. ومن ثم قيل
لولد يعقوب أسباط. وشعر سبط: سلس منبسط. ومنه سمي الساباط لانبساطه بين
الدارين حتى يجمعهما. والسباطة: الكناسة بعضها إلى بعض. وقال ابن دريد:
السبط واحد الأسباط، وهو أولاد إسرائيل. وقالوا: الحسن والحسين سبطا رسول
الله صلى الله عليه وآله أي ولداه. والسباطة ما سقط الشعر إذا سرحته. واخذت

(1) سورة المائدة: آية 62.
(2) اللسان " سبط ".
481

فلانا سباط: إذا اخذته الحمى. والسبط من اليهود بمنزلة القبيلة من قبائل العرب.
ويقال هو سبط الكفين: إذا كان طويل الأصابع. والسبط: قناة جوفاء مضروبة
بالقصب يرمى فيها سهام صغار ينفخ نفخا لا يكاد يخطئ وأصل الباب: السبط
وهو التتابع. وقال الزجاج: السبط الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد. والسبط:
الشجر. والسبط: الذين من شجرة واحدة. وقال قتادة: الأسباط يوسف واخوته
ولد يعقوب اثني عشر رجلا فولد كل واحد منهم أمة من الناس. فسموا الأسباط
وبه قال السدي والربيع وابن إسحاق. وأسماء الاثني عشر ذكروهم: يوسف
ويامين، وروبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وقهاب، (1) ويشجر،
وتفنالى، وجاذ، واشر. ولا خلاف بين المفسرين انهم ولد يعقوب. وقال كثير
من المفسرين: انهم كانوا أنبياء. والذي يقتضيه مذهبنا انهم لم يكونوا أنبياء
بأجمعهم، لأنه وقع منهم من المعصية ما فعلوه مع يوسف (ع) مالا خفاء به، والنبي
عندنا، لا يجوز عليه فعل القبائح: لا صغيرها، ولا كبيرها، فلا يصح مع ذلك
القول بنبوتهم. وليس في ظاهر القرآن أنهم كانوا أنبياء وقوله تعالى: " وما انزل
إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " لا يدل على أنهم كانوا أنبياء
لان الانزال يجوز أن يكون على بعضهم ممن كان نبيا، ولم يقع منه ما ذكرناه
من الافعال القبيحة. ويحتمل أن يكون المراد انهم أمروا باتباعه. كما يقال: انزل
الله إلى أمة النبي صلى الله عليه وآله القرآن. كما قال: " وما أنزل الينا " وإن كان المنزل على
النبي صلى الله عليه وآله، لكن لما كانوا مأمورين بما فيه أضيف بأنه انزل إليهم.
ومعنى قوله: " لا نفرق بين أحد منهم " انا لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر
ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى، فكفرت اليهود بعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وكفرت
النصارى بسليمان ونبينا محمد صلى الله عليهما.
وقوله تعالى: " ونحن له مسلمون " خاضعون بالطاعة. وقيل: مذعنون له

(1) في المخطوطة والمطبوعة كما هو مثبت وكذلك في مجمع البيان. وفي تفسير الطبري 3:
112 - دار المعارف المصرية قهاث -
482

بالعبودية وقيل مستسلمون لامره، ونهيه اعتقادا وفعلا قيل داخلون في حكم
الاسلام الذي هو دينه، كما قال: " إن الدين عند الله الاسلام " والفرق بين
التفريق والفرق ان التفريق جعل الشئ مفارقا لغيره، والفرق نقيض الجمع، والجمع
جعل الشئ مع غيره، والفرق جعل الشئ لا مع غيره والفرق بالحجة هو البيان
الذي يشهد ان الحكم لاحد الشيئين دون الآخر، وفائدة الآية الامر بالايمان بالله
والاقرار بالنبيين، وما انزل إليهم من الكتب ليتعبدوا به من الاحكام، والرد على
من فرق بينهم فيما جمعهم الله عليه من النبوة.
قوله تعالى:
فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في
شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (138) آية بلا خلاف.
المعنى:
اخبر الله تعالى ان هؤلاء الكفار متى آمنوا على حد ما آمن المؤمنون به،
فقد اهتدوا إلى طريق الجنة. والباء في قوله " بمثل ما امنتم " يحتمل ثلاثة أشياء:
أولها - أن تكون زائدة والتقدير، فان آمنوا مثل الذي امنتم أي مثل ايمانكم
كما قال: " كفى بالله " والمعنى كفى الله. قال الشاعر:
كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا (1)
والثاني أن يكون المعنى بمثل هذا ولا تكون زائدة. كأنه قال: فان آمنوا
على مثل ايمانكم، كما تقول: كتبت على مثل ما كتبت، وبمثل ما كتبت كأنك
تجعل المثال آلة يتوصل به إلى العمل، وهذا أجود من الأول.
والثالث - أن تلغى مثل، كما ألغيت الكاف في قوله: " فجعلهم كعصف

(1) اللسان (نهي) وصدره:
سمية ودع ان تجهزت غاديا
483

مأكول " (1) وهذا أضعف الوجوه لأنه إذا أمكن حمل كلام الله على فائدة،
فلا يجوز حمله على الزيادة، وزيادة الاسم أضعف من زيادة الحرف، كزيادة ما ولا
وما أشبه ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لا تقولوا " فان آمنوا بمثل ما امنتم به " فإنه
ليس الله مثل ولكن قولوا " فان آمنوا بالذي آمنتم به " وهذه رواية شاذة مخالفة
لما أجمع عليه القراء، ومتى صحت فالوجه فيها أن يكون أراد أن يفسر المعنى فكأنه
قال: لا تتأولوه على الجعل لله عز وجل مثلا فإنه شرك، لكن تأولوه على ما يصح
تأويله من غير تمثيل للمعبود تعالى. وقال ابن عباس: ان الايمان هو العروة الوثقى
وانه لا يقبل عملا إلا به، ولا تحرم الجنة إلا على تركه.
وقوله تعالى: " وان تولوا " معناه ان اعرضوا عن الايمان وجحدوه ولم
يعترفوا به " فإنما هم في شقاق " معناه انهم في مفارقة. في قول قتادة والربيع،
وقال ابن زيد الشقاق هو المنازعة والمجادلة. قال الحسن: معناه التعادي وأصل
الشقاق يحتمل أن يكون مأخوذا من الشق، لأنه صار في شق غير شق صاحبه،
للعداوة المباينة، ويحتمل أن يكون مأخوذا من المشقة لأنه يحرص على ما يشق
على صاحبه، ويؤذيه. وفي الآية دلالة على نبوة النبي صلى الله عليه وآله، لان الله تعالى
وعده ان يكفيه من يعاديه من اليهود والنصارى الذين شاقوه بقوله: " فسيكفيكهم
الله " فكان الامر على ما وعد به.
اللغة:
والكفاية والوقاية والسلامة نظائر تقول كفى يكفي كفاية: إذا قام بالامر
واكتفى اكتفاء، واستكفى استكفاء، وتكفى تكفيا، وكفاك هذا الامر أي حسبك
ورأيت رجلا كافيك من رجل أي كفاك به رجلا. وأصل الباب الكفاية، وهو
بلوغ الغاية يقال يكفي ويجزي ويغني بمعنى واحد.

(1) سورة الفيل: آية 5.
484

قوله تعالى:
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون
(139) آية بلا خلاف.
قوله تعالى: " صبغة الله " معناه فطرة الله. في قول الحسن وقتادة وأبي
العالية، ومجاهد وعطية وابن زيد والسدي. وقال الفراء والبلخي: انه شريعة
الله في الختان الذي هو التطهير وقوله: " صبغة الله " مأخوذ من الصبغ، لان
بعض النصارى كانوا إذا ولد لهم مولود جعلوه في ماء طهور يجعلون ذلك تطهيرا له،
ويسمونه العمودية: فقيل: صبغة الله أي تطهير الله، لا تطهيركم بتلك الصبغة.
وهو قول الفراء: وقال قتادة: اليهود تصبغ أبناءها يهودا والنصارى تصبغ
أبناءها نصارى، فهذا غير المعنى الأول، وإنما معناه: انهم يلقنون أولادهم اليهودية
والنصرانية، فيصبغونهم بذلك لما يشربون قلوبهم منه، فقيل صبغة الله التي امر بها
ورضيها يعني الشريعة، لا صبغتكم. وقال الجبائي سمى الدين صبغة لأنه هيئة تظهر
بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة وغير ذلك من الآثار الجميلة التي هي كالصبغة
وقال أمية:
في صبغة الله كان إذ نسي ال‍ * - عهد وخلى الصواب إذ عزما
اللغة:
قال صاحب العين: الصبغ ما يلون به الثياب، والصبغ مصدر صبغت
والصباغة حرفة الصباغ، والصبغ، والصباغ: ما يصطبغ به في الأطعمة. والأصبغ
من الطير ما ابيض ذنبه أو بعضه. وأصل الباب الصبغ: وهو المزج للتلوين.
الاعراب:
ونصب " صبغة الله " في الآية يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون مردودا على " بل ملة إبراهيم " بدلا منه وتفسيرا له.
485

والثاني - اتبعوا صبغة الله. والأجود الأول. وكان يجوز الرفع بتقدير هي
صبغة الله.
المعنى:
ومعنى قوله: " ومن أحسن من الله صبغة " واللفظ لفظ الاستفهام. وبه
قال الحسن وغيره.
وقوله " ونحن له عابدون " يجب أن نتبع صبغته لا ما صبغنا عليه الآباء
والأجداد. وقيل معناه " ونحن له عابدون " في اتباعنا ملة إبراهيم صبغة الله
للاعتراف بالوجه الذي اتبعوه.
قوله تعالى:
" قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا
ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (140) آية.
المعنى:
أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يقول لهؤلاء الكفار " أتحاجوننا في
الله " ومعناه: تخاصموننا وتجادلوننا فيه وهو تعالى الذي خلقنا وانعم علينا،
وخلقكم وانعم عليكم. وكانت محاجتهم له صلى الله عليه وآله انهم زعموا انهم أولى بالحق، لأنهم
راسخون في العلم، وفي الدين، لتقدم النبوة فيهم، والكتاب، فهم أولى بأن
يكون الرسول منهم. وقال قوم: بل قالوا: نحن أحق بالايمان، لأنا لسنا من
العرب الذين عبدوا الأوثان، فبين الله تعالى وجه الحجة عليهم انه ربنا وربهم، فهو
أعلم بتدبيرنا وتدبيرهم، ومصلحتنا ومصلحتهم، وانه لا حجة علينا في اجرام (1)
غيرنا ومعاصيهم. وقال الحسن: كانت محاجتهم أن قالوا: نحن أولى بالله منكم،

(1) في المطبوعة (من) زائدة في هذا الموضع.
486

وقالوا: " نحن أبناء الله وأحباؤه " (1) وقالوا: " لن يدخل الجنة إلا من كان
هودا أو نصارى " وقالوا " كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " وغرضهم بذلك
الاحتجاج بان الدين ينبغي ان يلتمس من جهتهم، وأن النبوة أولى أن تكون فيهم
وليس الامر على ما ظنوا، لان " الله اعلم حيث يجعل رسالته " (2) ومن الذي
يقوم بأعبائها، ويتحملها على وجه يكون أصلح للخلق وأولى بتدبيرهم.
وقوله: " لنا اعمالنا " معناه الانكار لاحتجاجهم باعمالهم، لأنهم مشركون،
ونحن له مخلصون. وقيل معناه الانكار للاحتجاج بعبادة العرب للأوثان، فقيل:
لا حجة في ذلك إذ لكل أحد عمله، لا يؤخذ بجرم غيره.
اللغة:
والاعمال والافعال والاحداث نظائر. والاخلاص والافراد والاختصاص
نظائر وضد الخالص المشوب.
وقوله: " ونحن له مخلصون " فيه احتجاج بأن المخلص لله أولى بالحق من
المشرك به. وقيل معناه: الرد عليهم بما احتجوا به من عبادة العرب للأوثان، بأنه
لا عيب علينا في ذلك إذا كنا مخلصين، كما لا عيب عليكم بفعل من عبد العجل من
الأسلاف إذا اعتقدتم الانكار عليهم، بأنهم على الاشراك بالله بالتشبيه له، والكفر
بآياته. وقال ابن عباس: معنى " أتحاجوننا " أتجادلوننا. وقال مجاهد: معناه
أتخاصموننا. وبه قال ابن زيد.
ومعنى " في الله " في دين الله، والألف صورتها الاستفهام. ومعناه الانكار
ويجوز في " أتحاجوننا " ثلاثة أوجه من العربية: الاظهار، والادغام، والحذف.
فالادغام تشديد النون، والحذف تخفيف النون الواحدة.
قوله تعالى:

(1) سورة المائدة: آية 20
(2) سورة الأنعام: آية 124.
487

" أم تقولون ان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب
والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن
أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون "
(141) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " أم تقولون " بالتاء. ووافقهم ابن عامر
ورويس. الباقون بالياء.
المعنى:
من قرأ بالياء جعله متصلا بما قبله من الاستفهام كأنه قال: أتحاجوننا في الله
أم تقولون ان الأنبياء كانوا على دينكم. والتقدير بأي الحجتين متعلقون في أمرنا:
أبا لتوحيد، فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء، فنحن لذلك متبعون. ومن
قرأ بالياء، فالوجه فيه انه عدل إلى حجاج آخر عن الحجاج الأول. كأنه قال:
بل أتقولون ان الأنبياء من قبل ان تنزل التوراة والإنجيل كانوا هودا أو نصارى.
ويكون قد اعرض عن خطابهم استجهالا لهم بما كان منهم، كما يقبل العالم على من
بحضرته بعد ارتكاب مخاطبه جهالة شنعة: فيقول: قد قامت عليه الحجة أم يقول
بابطال النظر المؤدي إلى المعرفة. وقد انكر الطبري القراءة بالياء، وقال هي شاذة
لا تجوز القراءة بها وليس الامر على ما ظن بل وجهها ما بيناه. ومعنى الآية:
الاحتجاج عليهم في قولهم: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " فقيل
لهم: كيف ذلك، والامر بخلافه من وجهين:
أحدهما - ما اخبر به نبينا عليه السلام مع ظهور المعجز الدال على صدقه.
والآخر ما في التوراة والإنجيل من أنهم كانوا على الحنيفية، لان عندهم اسم
اليهودية يقع على من تمسك بشريعة التوراة والنصرانية اسم لمن تمسك بشريعة
488

الإنجيل. وقد قال الله تعالى: وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده " (1)
وقبل أيضا ان معناه التوبيخ لأهل الكتاب بادعائهم عليهم خلاف الاسلام بغير
حجة ولا برهان.
وقوله: " أأنتم اعلم أم الله " صورته صورة الاستفهام والمراد به التوبيخ
ومثله قوله: " أأنتم أشد خلقا أم السماء " (2).
اللغة:
والأعلم والأعرف والأدرى بمعنى واحد. والأظلم والأجور والأعتى نظائر،
فان قيل لم قال: " أأنتم أعلم أم الله " وقد كانوا يعلمونه وكتموه، وإنما ظاهر هذا
الخطاب لمن لا يعلم، قلنا من قال: انهم كانوا على ظن وتوهم: فوجه الكلام على قوله
واضح. ومن قال: كانوا يعلمون ذلك وإنما كانوا يجحدونه يقول: معناه ان
منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم أن الله اخبر به فما ينفعه ذلك مع إقراره بان الله
اعلم منه، وانه لا يخفى عليه شئ، لان ما دل على أنه اعلم هو الدال على أنه لا يخفى
عليه شئ، وهو انه عالم لنفسه ويعلم جميع المعلومات.
وقوله تعالى: " ومن أظلم ممن كتم " قيل في (من) في قوله: " من الله "
ثلاثة أقوال:
أحدها - انها بمعنى ابتداء الغاية، لان الله تعالى ابتدأ الشهادة في التوراة
والإنجيل بصحة النبوة لمحمد صلى الله عليه وآله، ويكون ابتداء الشهادة بأن
الأنبياء كانوا على الحنيفية، فهذه شهادة من الله عندهم.
والثاني - كتمها من عباد الله.
والثالث - ما حكاه البلخي: انه بمنزلة من أظلم ممن يجور على الفقير الضعيف
من السلطان الغني القوي: أي فلا أحد أظلم منه. والمعنى انه يلزمكم ان لا أحد
أظلم من الله، تعالى عن ذلك إذ ما يكتم ما فيه الغرور للعباد، ليوقعهم في الضلال وهو

(1) سورة آل عمران: آية 65.
(2) سورة النازعات: آية 27.
489

الغني بنفسه الذي لا يجوز أن يلحقه المنافع والمضار جل ثناؤه وتقدست أسماؤه،
وهذا الذي ذكره يلزم اليهود والجهال. كما حكى الله تعالى عنهم " وقالت اليهود يد
الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " (1). والشهادة التي كتموها قيل فيها
قولان:
أحدهما - قال مجاهد والربيع وابن أبي نجيح: انهم كتموا الشهادة بأنهم كانوا
على الاسلام.
والثاني - قال الحسن وقتادة وابن زيد واختاره الجبائي: انهم كتموا
الشهادة بالبشارة التي عندهم بالنبي صلى الله عليه وآله. فان قيل إذا كان الذي كتموه امر محمد
صلى الله عليه وآله فكيف يتصل بما قبله: قيل قال الحسن: كتموا محمدا صلى الله
عليه وآله ودينه لان في دينه ان إبراهيم كان مسلما ولم يك من المشركين. والاحتجاج
عليهم: " أأنتم أعلم أم الله " على وجه الالزام لهم بالجهالة كأنه قيل: إذا زعمتم أن
هؤلاء كانوا يهودا أو نصارى، وقد اخبر الله بخلاف ذلك عنهم فقد لزمكم أن
تكونوا أعلم من الله تعالى، وهذا غاية الخزي لمن بلغه.
وقوله تعالى: " وما الله بغافل عما تعملون " فالغفلة والسهو والسنة نظائر
ومعنى الآية يحتمل أمرين:
أحدهما - ليس الله بساه عن كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها لله تعالى.
الثاني - أن يكون على عمومه والمعنى: أنه لا يخفى عليه شئ من المعلومات
لا صغيرها، ولا كبيرها فكونوا على حذر من الجزاء على السيئات بما تستحقونه من
العقاب، وكتم وأخفى واسر معناها واحد والبينة والحجة واحد.
قوله تعالى:
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون
عما كانوا يعملون (141) آية بلا خلاف.

(1) سورة المائدة: آية 67.
490

المعنى:
قيل في تكرار قوله تلك أمة قد خلت قولان:
أحدهما - انه عند بالأول: إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء
والثاني - عنى به اسلافهم من آبائهم الذين هم على ملتهم.
والقول الثاني ان الجواب إذا اختلفت أوقاته فكان الثاني في غير موطن
الأول، وكان بعد مدة من وقوع الأول بحسب ما اقتضاه الحال لم يكن ذلك معيبا
عند أهل اللغة ولا عند العقلاء، والاعتراض عليهم بقوله " تلك أمة قد خلت " انه
إذا لم تشكوا أن يكون فرضهم غير فرض الأمة التي قد خلت قبلكم، ولا تحتجوا
بأنه لا يجوز أن يخالفوا عليه، ولو سلم لكم أنهم كانوا على ما تذكرونه ما جاز لكم
أن تتركوا ما نقل لكم الله عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وآله إذ لله
تعالى ان ينسخ من الشريعة ما شاء على ما يعلم في ذلك من وجوه الحكمة، وعموم
المصلحة. وقيل: ان ذلك ورد مورد الوعظ لهم بأنه: إذا كان لا يؤخذ الانسان
إلا بعمله فينبغي ان تحذروا على أنفسكم، وتبادروا بما يلزمكم، ولا تتكلوا على فضائل
الاباء والأجداد فان ذلك لا ينفعكم إذا خالفتم امر الله فيما أوجب عليكم.
والمعنى بقوله تلك أمة قد خلت على قول قتادة والربيع إبراهيم عليه السلام
ومن ذكر معه. وعلى قول الجبائي، وغيره: من سلف من آبائهم الذين كانوا على
ملتهم اليهودية والنصرانية. وقد بينا فيما مضى أن الأمة الجماعة التي تؤم جهة واحدة
كأمة محمد صلى الله عليه وآله التي تؤم العمل على ما دعا إليه. وكذلك أمم سائر الأنبياء صلى الله عليه وآله
والخلاء الفراغ يقال: فرغ من عمله، وفرغ من مكانه. وإنما قيل لما مضى خلا،
لأنه خلا منه مكانه. والكسب الفعل الذي يجر لفاعله نفعا أو يدفع به ضررا. وإنما
قيل كسب السيئة، لأنه اجلب النفع عاجلا.
وقوله: " ولا تسألون " معناه لا تطالبون. والسؤال الطلب. وهو أيضا
الاخبار الذي اقتضاه ما تقدم من الكلام أي لا يقال لكم لم عصي آباءكم. وإنما
يقال لكم لم عصيتم ولم ظلمتم.
491

تم المجلد الأول من التبيان
ويليه المجلد الثاني
وأوله " سيقول السفهاء من الناس ".. (142) (1)
اعتمدنا - أكثر ما اعتمدنا - في تصحيح هذا المجلد على تفسير
ملاحظة: مجمع البيان لان الطبرسي (رحمه الله) كثير النقل عن التبيان
والله الملهم للصواب - المصححان -.

(1) كررنا هذا الرقم لان الشيخ رقم آية آيتين حسب قراءة البصريين
وراجعنا التفاسير كلها فوجدناها مرتبة حسب القراءة الثانية فرجعنا بالترقيم
492