الكتاب: التبيان
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٣
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
ردمك:
ملاحظات:

التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 ه‍
تحقيق وتصحيح
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد الثالث
1

قوله تعالى:
(وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) (141) آية.
المعنى، واللغة:
قيل: في معنى قوله: " وليمحص الله " أربعة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: ليبتلي، " ويمحق الكافرين "
بنقصهم في قول ابن عباس، وقال غيره يهلكهم، وقال الفراء: " معنى " وليمحص الله "
يعني ذنوب المؤمنين، وقال الزجاج: يخلصهم من الذنوب وهذا قريب من قول
الفراء: وقال الرماني معناه " وليمحص الله الذين آمنوا " ينجيهم من الذنوب بالابتلاء
ويهلك الكافرين بالذنوب عند الابتلاء، وأصل التمحيص التخليص في قول أبي العباس
تقول محصت الشئ أمحصه محصا: إذا خصلته. وقال الخليل: المحص الخلوص من
العيب. محصته محصا أي خلصته من كل عيب، ومحص الجمل: إذا ذهب وبره
يمحص. وجبل محص أي ملص، ومحص الظبي، يمحص إذا عدا عدوا شديدا محصا،
ويستحب أن تمحص قوائم الفرس أي تخلص من الرهل. وتقول: اللهم محص عنا ذنوبنا
أي اذهبها عنا، لأنه تخليص الحسنات بتكفير السيئات. ويقال تمحص الفرس:
إذا ذهب شحمه الردئ، وبقي لحمه، وقوته بالضمور. وأصل المحق فناء الشئ حالا
بعد حال، ولهذا دخله معنى النقصان، وأمحق الشئ امحاقا، والمحاق: آخر الشهر
إذا أمحق الهلال، فلم ير، لذهاب ضوئه حالا بعد حال. وامتحق الشئ وتمحق:
إذا ذهبت بركته بنقصانها حالا بعد حال. ومحقه تمحيقا. وإنما قابل بين التمحيص،
والمحق، لان محص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم، وهذه
مقابلة في المعنى. وقيل في تمحيص المؤمنين بالمداولة قولان:
أحدهما - لما في تخليتهم مع تمكين الكافرين منهم من التعريض للصبر الذي
يستحقون به عظيم الاجر، ويحط كثيرا من الذنوب.
الثاني - لما في ذلك من اللطف الذي يعصم من اقتراف المعصية.
3

قوله تعالى:
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا
منكم ويعلم الصابرين) (142) آية بلا خلاف.
القراءة والمعنى واللغة:
قرأ الحسن " ويعلم الصابرين " بكسر الميم. الباقون بفتحها. ووجه قراءة
الحسن أنه عطف على، ولما يعلم الله كأنه قال، ولما يعلم الله ويعلم الصابرين. وقوله:
" أم حسبتم " معناه: أحسبتم " ان تدخلوا الجنة " وقيل معنى (أم) معنى بل
على جهة الانكار، لان يحسبوا ذلك الحسبان، كما يقال: قد صممت على الخلاف
أم تتوهم الاهمال، والفرق بين لم ولما أن لما جواب، لقول القائل: قد فعل فلان
يريد به الحال، فجوابه (لما فعل) وإذا قال: فعل فجوابه (لم يفعل)، فلما كانت
(لما) مؤكدة بحرف كانت جوابا لما هو مؤكد بحرف وأيضا، فإنه يجوز
الوقف على (لما) في مثل أن يقول القائل: قد جاء فلان، فيجيبه آخر فيقول:
لما أي لما يجئ، ولا يجوز ذلك في (لم). ومعنى " ولما يعلم الله الذين جاهدوا
منكم " أي لما يعلم الله جهادكم يعني أنهم لا يدخلون الجنة إلا بفعل الجهاد، لأنه
من أعظم أركان الشرع. وقوله: " ويعلم الصابرين " نصب على الصرف عن
العطف إذ ليس المعنى على نفي الثاني، والأول، وإنما هو على نفي اجتماع الثاني
والأول، نحو قولهم: لا يسعني شئ ويعجز عنك. وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم (1)
وإنما جاز " ولا يعلم الله الذين جاهدوا منكم) على معنى نفي الجهاد دون

(1) قائله أبو الأسود الدؤلي، ونسب للمتوكل الكناني معجم البلدان 7: 384،
والأغاني 11: 39 طبعة بولاق، والبيت من الأبيات الحكمية المشهورة وقبله
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها * فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
4

العلم، لما فيه من الايجاز في انتفاء الجهاد، لأنه لو كان لعلمه، وتقديره ولما يكن
المعلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم، لان المعنى مفهوم لا يشتبه.
قوله تعالى:
(ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد
رأيتموه وأنتم تنظرون) (143) آية.
المعنى:
قال الحسن، ومجاهد، والربيع: وقتادة، والسدي: كانوا يتمنون الموت
بالشهادة بعد بدر قبل أحد، فلما رأوه يوم أحد أعرض كثير منهم عنه، فانهزموا
فعاتبهم الله على ذلك. وقوله: " فقد رأيتموه " فيه حذف ومعناه رأيتم أسباب
الموت، لان الموت لا يرى كما قال الشاعر:
ومحلما يمشون تحت لوائه * والموت تحت لواء آل محلم
أي أسباب الموت. وقال البلخي: معنى " رأيتموه " أي علمتم، وأنتم
تنظرون أسباب الموت من غير أن يكون في الأول حذف. فان قيل هل يجوز أن
يتمنى قتل المشركين لهم ليناوا منزلة الشهادة؟ قلنا: لا، لان قتل المشركين لهم
معصية، ولا يجوز تمني المعاصي، كما لا يجوز إدارتها، ولا الامر بها. فإذا ثبت
ذلك، فتمنيهم الشهادة بالصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا، وقال الجبائي: إنما تمنوا
الموت دون القتل إذا كانوا مجاهدين قال الأزهري قوله: " رأيتموه وأنتم
تنظرون " معناه وأعينكم صحيحة، كما يقول القائل رأيت كذا، وليس في عينك
سوء. والفرق بين التمني والإرادة أن الإرادة من أفعال القلوب، والتمني هو قول
القائل: ليت كان كذا وليت لم يكن كذا. وقوله: " وأنتم تنظرون " بعد، قوله
" فقد رأيتموه " يحتمل أمرين ".
أحدهما - أن يكون تأكيدا للرؤية، كما تقول: رأيته عيانا ورأيته بعيني.
5

وسمعته باذني، لئلا يتوهم رؤية القلب، وسمع العلم.
والثاني - أن يكون معناه وأنتم تتأملون الحال في ذلك كيف هي، لان النظر
هو تقليب الحدفة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته، وليس معناه الرؤية على وجه
الحقيقة.
قوله تعالى:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات
أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله
شيئا وسيجزي الله الشاكرين) (144) آية بلا خلاف.
القصة، والنزول:
قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، ومجاهد: إن سبب نزول هذه الآية
انه لما أرجف بان النبي صلى الله عليه وآله قتل يوم أحد وأشيع ذلك، قال ناس لو كان نبيا
ما قتل. وقال آخرون نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به، وكان سبب انهزامهم
وتضعضعهم اخلال الرماة بمكانهم من فم الشعب، وكان النبي صلى الله عليه وآله نهاهم عن
الاخلال به، وحذرهم من الانصراف عن الشعب مخافة أن يخرج منه كمين عليهم.
فلما انهزم المشركون في الجولة الأولى، فتبعوهم المسلمون وتواقعوا في غنائمهم
فقال الموكلون بالشعب: يغنمون ولا نغنم. فقال لهم رئيسهم: الله الله لا تفعلوا
فان النبي صلى الله عليه وآله أمرنا ألا نبرح، فلم يقبلوا منه وانصرفوا، وثبت رئيسهم مع
اثني عشر رجلا، فقتلوا، خرج عليهم خالد بن الوليد في مأتي فارس من الشعب،
وكان كامنا فيه، وكان ذلك سبب هزيمة المسلمين، وإصابة رباعية النبي صلى الله عليه وآله
وجرحه، وكان الذي جرحه وكسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص، وقيل إن عبد الله
ابن قمية ضربه على حبل عاتقه، ومضى إلى المشركين، وقال قتلت محمدا وشاع ذلك
فأنزل الله هذه الآية
6

فان قيل: كيف دخل الاستفهام على الشرط، وإنما هو كغيره من الانقلاب
والتقدير أتنقلبون إن مات أو قتل؟ قيل: لأنه لما انعقد الشرط به صار جملة واحدة
وخبرا واحدا بمنزلة تقدير الاسم قبل الفعل في الذكر إذا قيل أزيد قام،
وكذلك تقديمه في القسم، والاكتفاء بجواب الشرط من جواب القسم، كما قال
الشاعر: (1).
حلفت له إن تدلج الليل لا يزل * أمامك بيت من بيوتي سائر (2)
أي حلفت له لا يزال امامك بيت وأجاز الفراء في مثله أفإن مات أو قتل "
تنقلبون بالرفع، والجزم ومعنى " انقلبتم على أعقابكم " أي ارتددتم كفارا بعد
إيمانكم، لان الرجوع عن الحق إلى الباطل بمنزلة رجوع القهقرى في القبح،
والتنكيل (3) بالنفس فجرى كالمثل في هذا المعنى، والألف في قوله " أفإن "
ألف انكار بصورة ألف استفهام، لان التقرير به يظهر ما فيه من المنكر، فلذلك
أخرج مخرج الاستفهام مع أن معناه الانكار. ومثله أتختار الفساد على الصلاح
والخطأ على الصواب. وقوله: (أفإن مات أو قتل) يدل على أن الموت غير القتل
لأنه لو كان هو إياه لما عطف به عليه، لان الشئ لا يعطف على نفسه. والقتل
هو نقض بنيه الحياة، والموت في الناس من قال: هو معنى يضاد الحياة وفيهم
من قال: هو افساد البنية التي تحتاج الحياة إليها بفعل معان فيه تضاد المعاني التي
تحتاج إليها الحياة. وقوله: " ومن ينقلب على عقبيه " أي من يرتد ويرجع عن
الاسلام " فلن يضر الله شيئا " لأنه لا يجوز عليه المضار بل مضرته عائدة عليه،
لأنه يستحق العقاب الدائم. وقوله: " وسيجزي الله الشاكرين " معناه يثيب

(1) هو الراعي
(2) معاني القرآن للفراء 1: 69 - 236 والمعاني الكبير: " 805. وخزانة الأدب
4. 450 ورواية المعاني الكبير (عائر) بدل (سائر) وقال: أي بيت هجاء عائر. من
قولهم: عار الفرس: إذا ذهب وجاء مترددا ويقال: قصيدة عائرة أي سائرة في كل وجه.
أدلج: سار في أول الليل.
(3) في المخطوطة (والسيل) والصحيح ما في المطبوعة
7

الله الشاكرين على شكرهم لنعم الله واعترافهم بها. ووجه اتصال هذا بما قبله اتصال
الوعد بالوعيد، لان قوله: " فلن يضر الله شيئا " دليل على معنى الوعيد، لان
معناه إنما يضر نفسه باستحقاقه العقاب " وسيجزي الله الشاكرين " بما يستحقونه
من الثواب.
قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن
يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها
وسنجزي الشاكرين) (145) آية بلا خلاف.
المعنى، والاعراب، واللغة:
قيل في السبب الذي اقتضى قوله: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله "
قولان:
أحدهما - التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلى الله عليه وآله من جهة أنه بإذن الله
عز وجل.
الثاني - للحض على الجهاد من حيث لا يموت أحد إلا بإذن الله تعالى.
وقوله: " إلا بإذن الله " يحتمل أمرين "
أحدهما - إلا بعلمه. والثاني إلا بأمره. وقال أبو علي: الآية تدل على أنه
لا يقدر على الموت غير الله، كما لا يقدر على ضده من الحياة إلا الله، ولو كان من
مقدور غيره لم يكن باذنه، لأنه عاص لله في فعله.
وقوله: " كتابا مؤجلا " نصب على المصدر بفعل محذوف دل عليه أول
الكلام مع العلم بأن كلما يكون فقد كتبه الله، فتقديره كتب الله ذلك " كتابا
مؤجلا ". ويجوز أن يدل على الفعل المحذوف مصدره المنتصب به. وقوله: " ومن
8

يرد ثواب الدنيا نؤته منها " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة
- في قول ابن إسحاق - أي فلا يغتر بحاله في الدنيا.
[الثاني] - (1) من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي النصيب من الغنيمة في قول
أبي علي الجبائي.
الثالث - من يرد ثواب الدنيا بالتعرض له بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر
جوزي بها في الدنيا من غير حظ في الآخرة لاحباط عمله بفسقه على مذهب من
يقول بالاحباط، ومن يرد بعمله ثواب الآخرة نؤته إياها. و (من) في قوله:
" منها " تكون زائدة. ويحتمل أن تكون للتبعيض، لأنه يستحق الثواب على قدر
عمله. وإنما كرر قوله: " وسنجزي الشاكرين " ها هنا، وفي الآية الأولى،
لامرين:
أحدهما - للتأكد ليتمكن المعنى في النفس.
الثاني - " وسنجزي الشاكرين " من الرزق في الدنيا، عن ابن إسحاق لئلا
يتوهم ان الشاكر يحرم ما يعطاه الكافر مما قسم له في الدنيا. وقال الجبائي في الآية
دلالة على أن اجل الانسان إنما هو أجل واحد. وهو الوقت الذي يموت فيه، لأنه
لا يقتطع بالقتل عن الأجل الذي أخبر الله أنه اجل لموته، وقال ابن الاخشاذ:
لا دليل فيه على ذلك لان للانسان أجلين أجل يموت فيه لا محالة، وأجل هو
موهبة من الله تعالى له، ومع ذلك فلن يموت إلا عند الأجل الذي جعله الله أجلا
لموته والأقوى الأول، لان الأجل عبارة عن الوقت الذي يحدث فيه الموت أو
القتل، وبالتقدير لا يكون الشئ أجلا كما لا يكون بالتقدير ملكا، وقد بينا في
شرح الجمل ذلك مستوفى.

(1) في المطبوعة (الثاني) ساقطة.
9

قوله تعالى:
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما
أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)
(146) آية بلا خلاف.
القراءة واللغة:
قرأ ابن كثير " كاين " على وزن كاعن. الباقون " كأين " مشددة على
وزن كعين، ومعناهما واحد، وهو بمعنى كما قال جرير:
وكائن بالأباطح من صديق * يراني لو أصبت هو المصابا (1)
وقال آخر:
وكائن رددنا عنكم من مدحج * يجئ أمام الألف يردي مقنعا (2)
ومثل المشدد قول الشاعر:
كاين في المعاشر من أناس * أخوهم فوقهم وهم كرام
وأصل كاين (أي) دخلت عليها كاف التشبيه، كما أن أصل (كذا) (ذا)
دخلت عليها كاف التشبيه. وإنما غيرت في اللفظ لتغيرها في المعنى، لأنها نقلت إلى
معنى (كم) في التكثير. ومن خفف فلكراهية التضعيف، كما خفف لا سيما. وقرأ
أهل الكوفة، وابن عامر (قاتل) الباقون (قتل) فمن قرأ (قتل) نفى الوهن عمن
بقي. ومن قرأ (قاتل) نفاه عمن ذكر.
المعنى، واللغة:
وقوله: (ربيون) قيل في معناه أقوال.
أحدها - قال ابن عباس، والحسن: علماء فقهاء، وقال مجاهد، وقتادة:

(1) ديوانه 1: 9.
(2) الكامل للمبرد: 1072.
10

جموع كثيرة. وقال الأخفش: هم منسوبون إلى الرب. ومعناه المتمسكون بعبادة
الله. وقال غيره: منسوبون إلى علم الرب. وقال الزجاج: الربو عشرة آلاف، وهو
المروي عن أبي جعفر (ع)، وارتفاعه يحتمل أمرين:
أحدهما - على مذهب الحسن في أنه لم يقتل نبي قط في معركة فيرتفع بأنه لم
يسم فاعله في (قتل) وعلى مذهب ابن إسحاق، وقتادة، والربيع، والسدي: رفع
بالابتداء، فقدم عليه الخبر بمعنى قتل، ومعه ربيون كثير، فعلى هذا يكون النبي
المقتول، والذين معه لا يهنون، وذلك أن يوم أحد كان أرجف بأن النبي صلى الله عليه وآله
قتل، فبين الله تعالى أنه لو قتل لما أوجب ذلك أن تهنوا وتضعفوا، كما لم يهن من
كان مع الأنبياء بقتلهم، وهو المروي عن أبي جعفر (ع).
والوهن هو الضعف وإنما قال: فما وهنوا، وما ضعفوا من حيث أن الوهن
انكسار الجد بالخوف، ونحوه والضعف: نقصان القوة وقوله: " وما استكانوا "
معناه ما ظهروا الضعف، وقيل معناه ما خضعوا، لأنه يسكن لصاحبه ليفعل
به ما يريد، فلم يهنوا بالخوف، ولا ضعفوا بنقصان العدة، ولا استكانوا بالخضوع.
وقال ابن إسحاق: فما وهنوا بقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم. ولا استكانوا
لما أصابهم في الجهاد عن دينهم. وقال الزجاج معنى ما وهنوا ما فتروا، وما ضعفوا
وما جبنوا عن قتال عدوهم، وما استكانوا ما خضعوا. وقال الأزهري: الاستكانة
أصلها من الكنية، وهي الحالة السيئة يقال بات بكنية يعني بيتة سوء، ومجيئة سوء
أي بحال سوء وقوله: " والله يحب الصابرين " معناه يريد ثواب من صبر في جنبه
في امتثال أمره، والقيام بواجباته التي من جملتها الجهاد في سبيل الله.
قوله تعالى:
(وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا
في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) (147) آية
11

المعنى واللغة:
هذا إخبار عن الربيين الذين ذكرهم في الآية الأولى بأنهم كانوا يقولون في
أكثر أحوالهم " ربنا اغفر لنا ذنوبنا " لان من المعلوم أنهم قد كانوا يقولون
أقوالا غير هذا، لكن لما كان هذا هو الأكثر لم يعتد بذلك. وقيل: معناه وما
كان قولهم حين قتل نبيهم إلا هذا القول انقطاعا إلى الله وطلبا لمغفرته. وقوله:
" اغفر لنا ذنوبنا " أي استرها علينا بترك عقابنا، ومجازاتنا عليها " واسرافنا في
أمرنا " فالاسراف هو مجاوزة المقدار الذي تقتضيه الحكمة. والاسراف مذموم،
كما أن الاقتار مذموم، كما قال تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا
تبسطها كل البسط " (1) وكما قال " والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا
وكان بين ذلك قواما " (2) والاسراف، والافراط بمعنى، وضدهما التقصير والتقتير. وقيل
الاسراف مجاوزة الحق إلى الباطل بزيادة أو نقصان والأول أظهر. وأصل
الاسراف مجاوزة الحد يقال: سرفت القوم إذا جاوزتهم، وأنت لا تعرف مكانهم
وسرفت الشئ إذا نسيته لأنك جاوزته إلى غيره بالسهو عنه. ويقال: أصنع من
سرفة، وهي دويبة صغيرة تنقب الشجر، وتبني فيه بيتا.
إن قيل: كيف قوبل الذنوب والاسراف في الامر؟ قلنا: قال الضحاك: هو
بمنزلة اغفر لنا الصغير والكبير من خطايانا.
الاعراب، والمعنى:
و " قولهم " نصب بأنه خبر (كل) والاسم (أن قالوا)، وإنما اختير ذلك، لان
ما بعد الايجاب معرفة، فهو أحق بأن يكون الاسم، كقول الشاعر:
وقد علم الأقوام ما كان داءها * بثهلان إلا الخزي ممن يقودها (3)

(1) سورة الاسرى آية: 29
(2) سورة الفرقان آية: 67.
(3) سيبويه 1: 24 ولم ينسبه. يصف كتيبة منهزمة يقول: لم يكن سبب انهزامها
الا جبن من يقودها، فجعل الخزي كناية عن الجبن.
12

ويجوز الرفع على أنه اسم (كان) وقد قرئ به في الشواذ. ومثله قوله:
" ما كان حجتهم إلا أن قالوا " (1) " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا " (2)
وقوله: " وثبت أقدامنا " أي أعنا وألطف لنا بما تثبت معه أقدامنا وإن كان
ثبوت القدم من فعل العباد لكن لما كان بلطفه ومعونته جاز نسبته إليه مجازا.
قوله تعالى:
(فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله
يحب المحسنين) (148) آية.
المعنى، واللغة:
قوله: " فآتاهم الله " يعني من تقدم ذكره من الربيين الذين وصفهم. وقال
الجبائي: يعني به المسلمين الذين صفتهم ما تقدم ذكره أي أعطاهم الله ثواب الدنيا
قال قتادة، والربيع: هو نصرهم على عدوهم حتى ظفروا بهم، وقهروهم. " وثواب
الآخرة ": الجنة. وزاد ابن جريج الغنيمة، ويجوز أن يكون ما آتاهم الله في الدنيا
من الظفر والنصر وأخذ الغنيمة ثوابا مستحقا لهم على طاعاتهم، لان في ذلك تعظيما
لهم وتبجيلا، ولذلك تقول: إن المدح على أفعال الطاعة والتسمية بالأسماء الشريفة
بعض الثواب، ويجوز أن يكون الله تعالى أعطاهم ذلك تفضلا منه تعالى، أو لما
لهم فيه من اللطف، فتكون تسميته بأنه ثواب مجازا، وحد الثواب هو النفع
الخالص المستحق الذي يقارنه تعظيم وتبجيل، والعوض هو النفع المستحق الخالي من
التعظيم والتبجيل، والتفضل هو النفع الذي ليس بمستحق ولا معه تعظيم وتبجيل.
وإنما جاز تأخير الثواب المستحق مع ثبوت الاستحقاق له عقيب الطاعة الامرين:
أحدهما - قال أبو علي: لأنه يوفر عليه ما يفوته في زمان التكليف إلى
خير الثواب: وقال الرماني: لأنه إذا أخر عظم ما يستحقه بالتأخر على ما كان

(1) سورة الجاثية آية: 24
(2) سورة الأعراف آية: 81
13

لو قدم، لأنه إذا استحق مثلا مائة جزء عاجلا، فإذا أخر استحق مائة وعشرة
أو مائة وجزء، وقيل في وجه حسن تأخيره أنه لو كان عقيب الطاعة لأدى إلى
أن يكون المكلف ملجأ إلى فعل الطاعة، لان المنافع الكثيرة تلجئ إلى الفعل
كما أن دفع المضار العظيمة تلجئ إلى مثله، وذلك ينافي التكليف، وقوله: " والله
يحب المحسنين " أي يريد ثوابهم وتعظيمهم وتبجيلهم والفرق بين الاحسان
والانعام أن الاحسان قد يكون إنعاما بأن يكون نفعا للمنتفعين به، وقد يكون
احسانا بأن يكون فعلا حسا، ومن القسم الأخير يقال هو تعالى محسن بفعل
العقاب، ولا يقال محسن من القسم الأول، ويقال هو محسن بفعل الثواب على
الوجهين معا (1).
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على
أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير
الناصرين) (150) آيتان بلا خلاف.
المعنى:
هذا خطاب للمؤمنين حذرهم الله من أن يطيعوا الكفار، وبين أنهم إن
أطاعوهم ردوهم كافرين. والمعني ب‍ " الذين كفروا " قيل فيهم قولان:
أحدهما - قال الحسن، وابن جريج إنهم اليهود، والنصارى أي إن تستنصحوهم
وتقبلوا رأيهم يردوكم خاسرين، وقال السدي: أراد إن تطيعوا أبا سفيان وأصحابه
يرجعوكم كافرين. والطاعة موافقة الإرادة المرغبة في الفعل، وبالترغيب ينفصل من
الإجابة، وإن كان موافقة الإرادة حاصلة، وفي الناس من قال: الطاعة في موافقة
الامر، والأول أصح، لان من فعل ما يقتضي العقل وجوبه أو حسنه يقال: إنه

(1) في المخطوطة باسقاط (معا).
14

مطيع لله، وان لم يكن هناك أمر على أن من امتثل الامر إنما سمي مطيعا لموافقة
الإرادة المرغبة من حيث أن الامر لا يكون أمرا إلا بإرادة المأمور به، والطاعة
تكون بمتابعة الواجب والندب معا، لان الإرادة تتناولها
الاعراب، والحجة، واللغة، والمعنى:
وقوله: (إن تطيعوا) جزم بأنه شرط. وقوله: " يردوكم " جزم بأنه
جواب الشرط. وقوله: " فتنقلبوا " جزم بالعطف عليه. وقوله: " خاسرين "
نصب على الحال. وقوله: " بل الله " فحقيقة (بل) الاضراب عن الأول إلى الثاني
سواء كانا موجبين أو نفيين أو إحداهما موجبا والآخر نفيا قول: جاء زيد بل
عمرو، وما جاء زيد بل عمرو لم يجئ، وما أتى زيد بل خالد.
فان قيل: كيف عطف ببل وهي لا تشرك الثاني مع الأول في المعنى؟ قلنا:
لان الاضراب عن الأول كالبدل، ولذلك وجب العطف بالاشراك في الاعراب كما
يجب في البدل غير أن البدل لم يحتج إلى حرف، لان الثاني هو الأول أو في تقدير
ما هو كالأول، و (لكن) للاستدراك أيضا، وهو يقتضي نفيا إما متقدما أو
متأخرا كقولك ما جاءني زيد، لكن عمرو، وجاء زيد لكن عمرو لم يأت،
وبهذا فارقت بل. وقوله: " بل الله " كان يجوز النصب في (الله) قال الفراء:
على معنى أطيعوا الله مولاكم، لان قبله " إن تطيعوا " ثم أضرب عن الأول وأوجب
الثاني بل أطيعوا الله (مولاكم). والرفع يحتمل أن يكون على الابتداء ومولاكم خبره،
ويحتمل أن يكون مولاكم مبتدأ، و (الله) خبره، وقد قدم عليه. ومعنى مولاكم
أي هو أولى بطاعتكم ونصرتكم. وقيل معناه وليكم بالنصرة بدلالة قوله: " هو
خير الناصرين " والأصل فيه، ولي الشئ الشئ من غير فصل بينه وبينه، فالولاية
إيلاء النصرة، ويجوز لأنه يتولى فعل النصرة، وان لم يكله إلى غيره، لان من
فعل شيئا فقد تولى فعله. فان قيل: كيف قال " وهو خير الناصرين " مع أنه
لا يعتد بنصر غير الله مع نصرته؟ قيل: معناه إنه إن اعتد بنصرة غير الله فنصرة
15

الله خير منها، لأنه لا يجوز أن يغلب، وغيره يجوز أن يغلب، وان نصر فالثقة
بنصرة الله تحصل، ولا تحصل بنصرة غيره.
قوله تعالى:
(سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله
ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) (151)
- آية بلا خلاف -:
ذكر ابن إسحاق أنه لما نال المسلمين ما نالهم يوم أحد بمخالفة الرماة أمر
نبيهم صلى الله عليه وآله وكان من ظهور المشركين عليهم ما كان عرفهم الله عز وجل الحال
في ذلك ثم وعدهم بالنصر لهم، والخذلان، لأعدائهم بالرعب، وذكر السدي: أن
أبا سفيان وأصحابه هموا بالرجوع بعد أحد لاستئصال المسلمين عند أنفسهم، فالقى
الله الرعب في قلوبهم حتى انقلبوا خائبين عقوبة على شركهم " بالله ما لم ينزل به
سلطانا " يعني برهانا.
اللغة، والحجة:
فالسلطان معناه هاهنا الحجة، والبرهان، وأصله القوة، فسلطان الملك
قوته. والسلطان: البرهان لقوته على دفع الباطل. والسلطان: التوكيل على المطالبة
بالحق، لأنه تقوية عليه، والتسليط على الشئ: التقوية عليه مع الاغراء به.
والسلاطة: حدة اللسان مع شدة الصخب للقوة على ذلك مع إثبات (1) فعله:
والسليط: الزيت لقوة اشتعاله بحدته. والالقاء حقيقته في الأعيان، كقوله:
" وألقى الألواح " (2) واستعمل في الرعب مجازا، ومثل قوله: " وألقيت عليك
محبة مني " (3) وقوله: " ومأواهم النار " أي مستقرهم وفي الآية دلالة على

(1) في المخطوطة (ايثار)
(2) سورة الأعراف آية: 149.
(3) سورة طه آية: 39.
16

فساد التقليد، لأنه لا برهان مع صاحبه على صحة مذهبه، فكل من قال بمذهب
لا برهان عليه، فمبطل بدلالة الآية، وقوله: " وبئس مثوى الظالمين " فالمثوى:
المنزل، وأصله الثواء، وهو طول الإقامة ثوى يثوي ثواء: إذا طال مقامه وأثواني
فلان مثوي أي أنزلني منزلا وربة البيت: أم مثواه. والثوي: الضيف لأنه مقيم
مع القوم. وإنما قيل لجهنم " بئس مثوى الظالمين " وبئس للذم، كما أن نعم للحمد
لامرين:
أحدهما - إن الضرر تنفر منه النفس كما ينفر العقل من القبح فجرى التشبيه
على وجه المجاز - هذا قول أبي علي - وقال البلخي: لان الذم يجري علي النقص كما
يجري على القبح حقيقة فيهما، نحو قولهم: الأخلاق المحمودة والأخلاق المذمومة
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وقد رعبته رعبا أي
أفزعته، والاسم الرعب ورعبت الاناء إذا ملأته فهو مرعوب.
قوله تعالى:
(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه حتى إذا فشلتم
وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من
يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد
عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) (152) آية.
المعنى، والقصة:
ذكر ابن عباس، والبراء بن عازب، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع،
وابن إسحاق: أن الوعد المذكور كان يوم أحد، لان المسلمين كانوا يقتلون
المشركين قتلا ذريعا حتى أخل الرماة بمكانهم الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وآله بملازمته،
فحينئذ حمل خالد بن الوليد من وراء المسلمين، وتراجع المشركون، وقتل من المسلمين
17

سبعون رجلا ثم هزموا، وقد نادى مناد قتل محمد ثم من الله على المسلمين، فرجعوا
وقويت نفوسهم، ونزل الخذلان بعدوهم، حتى ولوا عنهم، ومعنى " تحسونهم "
تقتلونهم.
اللغة:
والحس هو القتل على وجه الاستئصال قال جرير:
تحسهم السيوف كما تسامى * حريق النار في أجم الحصيد (1)
وأصله الاحساس ومنه قوله: " هل تحس منهم من أحد " (2) وقوله:
" فلما أحس عيسى منهم الكفر " (3) أي وجده من جهة الحاسة، وحسه يحسه:
إذا قتله، لأنه أبطل حسه بالقتل، والتحسس طلب الاخبار، وفي التنزيل: " يا بني
اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه " (4) وذلك لأنه طلب لهما بحاسة السمع.
والمحسة التي ينفض بها التراب عن الدابة، لأنه يحس بها من جهة حكها
لجلدها.
وقوله: " باذنه " معناه بعلمه، ويجوز أن يكون المراد بلطفه، لان أصل
الاذن الاطلاق في الفعل، فاللطف تيسر (5) له، كما أن الاذن كذلك إلا أن
اللطف تدبير يقع معه الفعل لا محالة اختيارا كما يقع في أصل الاذن اختيارا.
المعنى:
قال أبو علي قوله: " إذ تحسونهم " يعني يوم بدر " حتى إذا فشلتم " يوم
أحد " من بعد ما أراكم ما تحبون " يوم بدر. والأولى أن يكون هذا حكاية عن يوم
أحد على ما بيناه. وقوله: " حتى إذا فشلتم " معناه جبنتم عن عدوكم وكعتم

(1) ديوانه 1: 47 من قصيدة يمدح بها الحجاج.
(2) سورة الكهف آية: 99
(3) سورة آل عمران آية: 52.
(4) سورة يوسف آية: 87.
(5) في المخطوطة (تفسير).
18

" وتنازعتم " في الامر يعني اختلفتم " من بعد ما أراكم ما تحبون " معناه أنهم
أعطوا النصر، فخالفوا في ما قيل لهم من لزوم فم الشعب. واختلفوا، فعوقبوا
بأن ديل عليهم في قول الحسن، وقوله: " منكم من يريد الدنيا " أي منكم من
قصده الغنيمة في حربكم " ومنكم من يريد الآخرة " أي بثبوته في موضعه بقصده
بجهاده إلى ما عند الله في قول ابن مسعود، وابن عباس، والربيع.
الاعراب. والمعنى:
فان قيل أين جواب " حتى إذا "؟ قلنا: فيه قولان:
أحدهما - إنه محذوف، وتقديره امتحنتم.
والآخر - على زيادة الواو والتقديم والتأخير، وتقديره حتى إذا تنازعتم في
الامر، فشلتم - في قول الفراء -، كما قال (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن
يا إبراهيم) (1) ومعناه ناديناه، والواو زائدة. ومثله (حتى إذا فتحت يأجوج
وما جوج... واقترب) (2) ومعناه اقترب. ومثله قوله: (حتى إذا جاؤها
وفتحت) (3) وأنشد:
حتى إذا قملت بطونكم * ورأيتم أبناءكم شبوا
قلبتم ظهر المجن لنا * ان اللئيم العاجز الخب (4)
والبصريون لا يجيزون زيادة الواو ويتأولون جميع ما استشهد به على الحذف
لأنه أبلغ في الكلام، وأحسن من جهة الايجاز. وقوله: (ثم صرفكم عنهم) قيل
في إضافة انصرافهم إلى الله مع أنه معصية قولان:

(1) سورة الصافات: آية 103 - 105.
(2) سورة الأنبياء: آية 76 - 77.
(3) سورة الزمر: آية 73.
(4) قائلهما الأسود بن يعفر النهشلي وهو في أكثر الكتب غير منسوب معاني القران:
للفراء 1: 107، 238 واللسان: (قمل) وتأويل مشكل القرآن 2 381. المعاني الكبير:
533 واللسان: (وقب) قملت بطونكم: كثرت قبائلكم المجن: الترس. الخب: المخادع.
19

أحدهما - إنهم كانوا فريقين منهم من عصى بانصرافه، ومنهم من لم يعص،
لأنهم قلوا بعد انهزام تلك الفرقة، فانصرفوا بإذن الله بأن التجأوا إلى أحد، لان
الله إنما أوجب ثبات المائة للمئتين فإذا نقصوا، لا يجب عليهم ذلك. وجاز أن
يذكر الفريقين في الجملة بأنه صرفهم، وبأنهم عفا عنهم، ويكون على ما بيناه في
التفصيل هذا قول أبي علي. وقال البلخي (ثم صرفكم عنهم) معناه لم يأمركم
بمعاودتهم من فورهم (ليبتليكم) بالمظاهرة في الانعام عليكم،
والتخفيف عنكم. وقوله (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين. إذ
تصعدون) فإذ تصعدون متعلق بقوله: (ولقد عفا) في قول الزجاج. وقال
الجبائي قوله: (ولقد عفا عنكم) خاص لمن لم يعص بانصرافه، والأولى أن
يكون عاما في جميعهم، لأنه لا يمتنع أن يكون الله عفا لهم عن هذه المعصية.
وقال البلخي: معناه (ولقد عفا عنكم) بتتبعهم بعد أن كان أمرهم بالتتبع لهم،
فلما بلغوا حمراء الأسد أعفاهم من ذلك، ولا يجوز أن يكون، صرفهم فعل الله،
لأنه قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح.
قوله تعالى:
(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في
اخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولاما أصابكم
والله خبير بما تعملون) (153) آية.
القراءة، والحجة، واللغة، والمعنى:
التقدير اذكروا (إذ تصعدون) ويجوز أن يكون متعلقا بقوله: (ولقد
عفا عنكم.. إذ تصعدون)، والقراء كلهم على ضم التاء من الاصعاد. وقرأ الحسن
بفتح التاء والعين من الصعود، وقيل: الاصعاد في مستوى الأرض، والصعود في
20

ارتفاع يقال أصعدنا من مكة إذا ابتدأنا السفر منها وكذلك أصعدنا من الكوفة
إلى خراسان على قول الفراء، والمبرد، والزجاج. ووجه ذلك أن الاصعاد إبعاد
في الأرض كالابعاد في الارتفاع، وعلى ذلك تأويل (تصعدون) أي أصعدوا في
الوادي يوم أحد عن قتادة، والربيع. وقال ابن عباس والحسن انهم صعدوا في
أحد في الجبل فرارا، فيجوز أن يكون ذلك بعد أن أصعدوا في الوادي. وقوله
(ولا تلوون على أحد) معناه لا تعرجون على أحد. وقوله: (والرسول يدعوكم
في أخراكم) قال ابن عباس والسدي، والربيع: إن النبي صلى الله عليه وآله كان يدعوهم،
فيقول: ارجعوا أي عباد الله ارجعوا أنا رسول الله. وقوله: (فأثابكم غما بغم)
في معناه قولان:
أحدهما - إنه إنما قيل في الغم ثواب، لان أصله ما يرجع من الجزاء على
الفعل طاعة كان أو معصية ثم كثر في جزاء الطاعة كما قال الشاعر:
واراني طربا في إثرهم * طرب الواله أو كالمختبل
فعلى هذا يكون الغم عقوبة لهم على فعلهم، وهزيمتهم. والثاني - أن
يكون وضع الشئ مكان غيره كما قال (فبشرهم بعذاب أليم) (1) أي ضعه موضع
البشارة، كما قال الشاعر:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه * اداهم سودا أو محدرجة سمرا (2)
أراد بقوله سودا قيودا. وقيل في معنى قوله: (غما بغم) قولان:
أحدهما - غما على غم، كما يقال: نزلت ببني فلان وعلى بني فلان. وقال
قتادة، والربيع: الغم الأول: القتل والجراح. والثاني: الارجاف بقتل محمد صلى الله عليه وآله.
والقول الثاني - غما بغم أي مع غم كما يقال: ما زلت بزيد حتى فعل أي

(1) سورة الأنبياء: 3، والتوبة آية: 35، والانشقاق آية: 24.
(2) قائله الفرزدق. ديوانه: 227، والنقائض: 618 وطبقات فحول الشعراء:
256، وتاريخ الطبري 6: 139، ومعاني القرآن للفراء 1: 239. وروايته مختلفة. وفي
أغلب المصادر وهكذا:
ولما خشيت أن يكون عطاؤه
21

مع زيد. وقال الحسن غما يوم أحد بعد غم يعني يوم بدر. أي كله للاستصلاح
وان اختلف الحال. وقال الحسين بن علي المغربي: معنى (غما بغم) يعني غم
المشركين بما ظهر من قوة المسلمين على طلبهم على حمراء الأسد، فجعل هذا الغم عوض
غم المسلمين بما نيل منهم. وقوله: (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) معناه ما فاتكم من
الغنيمة (ولاما أصابكم) من الهزيمة في قول ابن زيد. واللام في قوله: (لكيلا
تحزنوا على ما فاتكم) يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: (عفا عنكم) (لكيلا تحزنوا
على ما فاتكم) ويحتمل أن يتعلق ب‍ (أثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم)
من الغنيمة ولا ما أصابكم من الشدة في طاعة الله، لان ذلك يؤديكم إلى مضاعفة
الغم عليكم.
وقوله: (والله خبير بما تعملون) فيه تجديد تحذير بأنه لا يخفى عليه شئ
من أعمال العباد.
قوله تعالى:
(ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة
منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية
يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون
في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا
ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى
مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله
عليم بذات الصدور) (154) آية بلا خلاف.
القراءة والمعنى والحجة والاعراب والقصة:
قرأ حمزة، والكسائي: تغشى بالتاء الباقون بالياء. فمن قرأ بالتذكير أراد
22

النعاس، ومن أنث أراد الامنة، ومثله (ألم يك نطفة من مني يمنى) (1) (وان
شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي) (2) بالتاء، والياء. وقرأ أبو عمرو، وحده
(إن الامر كله) بالرفع. الباقون بالنصب، ووجه الرفع أنه على الابتداء، كما
قال: (وكل اتوه داخرين) (3) ويكون (لله) خبره، لأنه لما وقع الامر في
الجواب أديت صورته في الاسم ثم جاءت الفائدة في الخبر، ولأنه نقيض بعض،
فكما يجوز الرفع في (بعض) يجوز في (كل) نحو إن الامر بعضه لزيد. والنصب
على أنه تأكيد للامر (وامنة) منصوب، لأنه مفعول به، ونعاسا بدلا منه،
والنعاس هو الامنة.
وهذه الامنة التي ذكرها الله في هذه الآية نزلت يوم أحد في قول عبد الرحمن
ابن عوف وأبي طلحة، والزبير بن العوام، وقتادة، والربيع، وكان السبب في
ذلك توعد المشركين لهم بالرجوع، فكانوا تحت الجحف متهيئين للقتال فأنزل الله
تعالى الامنة على المؤمنين، فناموا دون المنافقين الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع
الكفار عليهم أو يغيروا على المدينة لسوء الظن، فطير عنهم النوم على ما ذكره ابن
إسحاق وابن زيد، وقتادة، والربيع. وقوله: (يغشى طائفة منكم) يعني النعاس
يغشى المؤمنين (وطائفة قد أهمتهم) القراء على الرفع. والواو واو الحال كأنه
قال: يغشى النعاس طائفة في حال ما أهمت طائفة منهم أنفسهم. ورفعه بالابتداء،
والخبر يظنون، ويصلح أن يكون الخبر (قد أهمتهم أنفسهم) والجملة في موضع
الحال. ولا يجوز النصب على أن يجعل واو العطف كما تقول ضربت زيدا وعمرا
كلمته. والتقدير وأهمت طائفة أهمتهم أنفسهم.
المعنى:
وقوله: (يقولون هل لنا من الامر من شئ) قيل في معناه قولان:

(1) سورة القيامة آية: 27.
(2) سورة الدخان: 43 - 45.
(3) سورة النمل آية: 87.
23

أحدهما - قال الحسن أخرجنا كرها، ولو كان الامر إلينا ما خرجنا.
وذلك من قبل عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير على قول الزبير بن العوام،
وابن جريج.
والآخر - أي ليس لنا من الظفر شئ كما وعدنا على وجه التكذيب بذلك
(يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) أي من الشك، والنفاق، وتكذيب الوعد
بالاستعلاء على أهل الشرك ذكره الجبائي. وقوله: (وليبتلي الله ما في صدوركم)
يحتمل أمرين:
أحدهما - ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر لكم مظاهرة في العدل عليكم
وإخراج مخرج كلام المختبر لهذه العلة، لأنه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها، فلا
يبتلي ليستفيد علما.
والثاني - ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم إلا أنه أضيف الابتلاء إلى الله
عز وجل تفخيما لشأنه. وقوله: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم
القتل إلى مضاجعهم) يحتمل أمرين: أجدهما - لو تخلفتم لخرج منكم الذين كتب
عليهم القتل ولم يكن لينجيه قعودكم - عن أبي علي -.
الثاني - لو تخلفتم لخرج المؤمنون، ولم يتخلفوا بتخلفكم ذكره البلخي،
ولا يوجب ذلك أن يكون المشركون غير قادرين على ترك القتال من حيث علم
الله منهم ذلك، وكتبه، لأنه كما علم أنهم لا يختارون ذلك بسوء اختيارهم علم أنهم
قادرون. ولو وجب ذلك لوجب أن لا يكون تعالى قادرا على ما علم أنه لا يفعله وذلك
كفر بالله.
قوله تعالى:
(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم
الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور
رحيم) (155) آية.
24

المعنى، واللغة:
روي عن عمر بن الخطاب، وقتادة، والربيع: ان المعني بالمتولي في هذه
الآية هم الذين ولوا الدبر عن المشركين بأحد. وقال السدي: هم الذين هربوا إلى
المدينة في وقت الهزيمة. وقوله: (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) قيل في
الكسب الذي أداهم إلى الفرار الذي اقترفوه قولان:
أحدهما - محبتهم للغنيمة مع حرصهم على تبقية الحياة، وفي ذلك الوجه عما
يؤدي إلى الفتور فيما يلزم من الأمور على قول الجبائي.
والثاني - ذكره الزجاج، استزلهم بذكر خطايا سلفت لهم، فكرهوا القتل
قبل اخلاص التوبة منها، والخروج من المظلمة فيها. وقوله: (ولقد عفا الله عنهم)
يحتمل أمرين:
أحدهما - قال ابن جريج، وابن زيد: حلم عنهم إذ لم يعاجلهم بالعقوبة به،
ليدل على عظم تلك المعصية.
والآخر - عفا لهم تلك الحطيئة ليدل على أنهم قد أخلصوا التوبة. وقوله:
(إن الله غفور رحيم) فحلمه تعالى عنهم هو امهاله بطول المدة بترك الانتقام مع
ما فعل بهم من ضروب الانعام.
وأصل الحلم الأناة، وهي ترك العجلة، فالامهال بفعل النعمة بدلا من النقمة
كالأناة بترك العجلة. ومنه الحلم في النوم، لان حال السكون والدعة كحال
الأناة. ومنه الحلمة: رأس الثدي، لخروج اللبن الذي يحلم الصبي.
وذكر البلخي أن الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وآله يوم أحد فلم ينهزموا ثلاثة
عشر رجلا: خمسة من المهاجرين: علي (ع) وأبو بكر، وطلحة، وعبد الرحمن
ابن أبي عوف، وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار. فعلي وطلحة
لا خلاف فيهما. والباقون فيهم خلاف. وأما عمر، فروي عنه أنه قال: رأيتني
25

أصعد في الجبل كأني أروى (1). وعثمان انهزم، فلم يرجع إلا بعد ثلاثة [أيام] (2)
فقال له النبي صلى الله عليه وآله: لقد ذهبت فيها عريضة. وفي الآية دليل على فساد قول
المجبرة: من أن المعاصي من الله، لأنه تعالى نسب ذلك في الآية إلى استزلال
الشيطان.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم
إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما
قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما
تعملون بصير) (156) آية.
المعنى، واللغة، والاعراب:
هذا خطاب متوجه إلى المؤمنين الذين نهاهم الله أن يكونوا مثل الذين
كفروا، وقالوا لاخوانهم، وهم عبد الله بن أبي بن سلول، وأصحابه - في قول
السدي ومجاهد -: (إذا ضربوا في الأرض) أي سافروا فيها لتجارة أو طلب
معيشة - في قول ابن إسحاق، والسدي -، فأصله الضرب باليد. وقيل الأصل في
الضرب في الأرض الايغال في السير (أو كانوا غرى) أي جمع غاز كما قالوا: شاهد
وشهد، وقائل وقول، قال رؤبة:
فاليوم قد نهنهني تنهنهي * وأول حلم ليس بالمسفه
وقول: الاده فلاده (3)

(1) اروى: ضأن الجبل. ج أروية - بضم الهمزة وكسرها -.
(2) (أيام) ساقطة من المطبوعة
(3) ديوانه: 166 ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 106 واللسان: (قول)، (ده)
وخزانة الأدب 3: 90 وغيرها وهو من قصيدة يذكر فيها شبابه. نهنهت فلانا عن الشئ
فتنهنه زجرته فانزجر. والأول: الرجوع وقد اختلف في تفسير (الاده فلاده). قال
أبو عبيدة: ان لم يكن هذا، فلا ذا وقال ابن قتيبة: ان لم يكن هذا الامر لم يكن غيره.
ويروي أهل العربية ان الدال مبدلة من ذال. قال بعضهم: هذا مثل يضرب للرجل يطلب شيئا
فإذا منعه، طلب غيره. وقال الأصمعي: لا أدري ما أصله. قال بعضهم: (ده) كلمة فارسية.
26

ويجوز فيه غزاة كقاض، وقضاة. وغزاء ممدود كمخارب وخراب، وكاتب
وكتاب. ويجوز (قالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الأرض،) ولا يجوز أكرمتك إذا
زرتني على أن توقع إذا موضع إذ، لامرين:
أحدهما لأنه متصل ب‍ (لا تكونوا) كهؤلاء إذا ضرب اخوانكم في
الأرض.
الثاني - لان (الذي) إذا كان مبهما غير موقت يجري مجرى ما في الجزاء، فيقع
الماضي فيه. وقع المستقبل، نحو (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) (1)
معناه يكفرون، ويصدون. ومثله (إلا من تاب وآمن) (2) معناه إلا من
يتوب. ومثله كثير. ويجوز لأكرمن الذي أكرمك إذا زرته، لابهام الذي،
ولا يجوز لأكرمن هذا الذي أكرمك إذا زرته، لتوقيت الذي من أجل الإشارة
إليه بهذا ولأنه دخله معنى كلما ضربوا في الأرض، فلا يصح على هذا المعنى إلا
بإذا دون إذ قال الشاعر:
واني لاتيكم تشكر ما مضى * من الامر واستيجاب ما كان في غد (3)
أي ما يكون في غد، وهذا قول الفراء واللام في قوله: (ليجعل الله ذلك
حسرة في قلوبهم) متعلقة ب‍ (لا تكونوا) كهؤلاء الكفار في هذا القول منهم،
(ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) دونكم.
والثاني - قالوا ذلك ليجعله حسرة على لام العاقبة - وهذا قول أبي علي -
والحسرة عليهم في ذلك من وجهين:
أحدهما - الخيبة فيما أملوا من الموافقة لهم من المؤمنين، فلما لم يقبلوا منهم،

(1) سورة الحج: آية 25.
(2) سورة مريم: آية 60.
(3) انظر 1: 351.
27

كان ذلك حسرة في قلوبهم.
والآخر - ما فاتهم من عز الظفر والغنيمة. وقوله: (والله يحيي ويميت)
معناه ههنا الاحتجاج على من خالف أمر الله في الجهاد طلبا للحياة، وهربا من
الموت، لان الله تعالى إذا كان هو الذي يحيي ويميت لم ينفع (1) الهرب من أمره
بذلك خوف الموت، وطلب الحياة (والله بما يعملون بصير) أي مبصر. ويحتمل
أن يكون بمعنى عليم. وفيه تهديد، لان معناه أن الله يجازي كلا منهم بعمله ان
خيرا فخيرا وان شرا فشرا.
قوله تعالى:
(ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة
خير مما يجمعون) (157) آية.
المعنى، والاعراب:
إن قيل كيف قال: (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) مع تفاوت
ما بينهما ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول الانسان للدرة (2) خير من البعرة؟!
قيل: إنما جاز ذلك لان الناس يؤثرون حال الدنيا على الآخرة حتى أنهم يتركون
الجهاد في سبيل الله محبة للدنيا، والاستكثار منها، وما جمعوا فيها.
فان قيل أين جواب الجزاء ب‍ (إن)؟ قيل: استغني عنه بجواب القسم في
قوله: (لمغفرة من الله ورحمة خير) وقد اجتمع شيئان كل واحد منهما يحتاج إلى
جواب، فكان جواب القسم أولى بالذكر - لان له صدر الكلام - مما يذكر في
حشوه.
فان قيل: لم شرط (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) وهو خير كيف

(1) في المخطوطة (لم يمنع).
(2) في المخطوطة (الذرة).
28

تصرفت الحال؟ قلنا: لأنه لا يكون (لمغفرة) بالتعرض للقتل في سبيل الله خيرا
من غير أن يقع التعرض لذلك لاستحالة استحقاقها بما لم يكن منه، لأنه لم يفعل.
فان قيل: لم جاز جواب القسم مع الماضي في الجزاء دون المستقبل في نحو
قولهم لئن قتلتم لمغفرة خير؟ قلنا: لان حرف الجزاء إذا لم يعمل في الجواب لم
يحسن أن يعمل في الشرط، لان إلغاءه من أحدهما يوجب إلغاءه من الآخر كما أن
اعماله في أحدهما يوجب اعماله في الآخر لئلا يتنافر الكلام بالتفاوت.
فان قيل: لم أعملت (ان) ولم تعمل (لو) وكل واحدة منهما تعقد الفعل
بالجواب؟ قلنا: لان (ان) تنقل الفعل نقلين إلى (1) الاستقبال، والجزاء،
وليس كذلك (لو) لأنها لما مضى.
ان قيل: كيف وجب بالتعرض للقتل المغفرة وإنما تجب بالتوبة؟ قلنا: لأنه
يجب به تكفير الصغيرة مع أنه لطف في التوبة من الكبيرة. ومعنى الآية أن
المنافقين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد، على ما تقدم شرحه في هذه السورة
فبين الله تعالى لو أنكم إن قتلتم أو متم من غير أن تقتلوا (لمغفرة من الله ورحمة)
تنالونهما (خير مما يجمعون) من حطام الدنيا، والبقاء فيها، وانتفاعكم في هذه
الدنيا، لان جميع ذلك إلى زوال.
قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) (158) آية.
اللغة، والاعراب،، والمعنى:
اللام في قوله: (ولئن متم أو قتلتم) يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون خلفا من القسم، ويكون اللام في قوله: (لإلى الله)
جوابا كقولك: والله ان متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله.

(1) في المطبوعة (في) بدل (إلى)
29

والثاني - أن تكون مؤكدة لما بعدها، كما تؤكد (ان) ما بعدها، وتكون
الثانية جوابا لقسم محذوف، والنون مع لام القسم في فعل المضارع لابد منها، لان
القسم أحق بالتأكيد من كلما تدخله النون من جهة أن ذكر القسم دليل أنه من
مواضع التأكيد فإذا جازت في غيره من الامر، والنهي، والاستفهام، والعرض،
والجزاء مع ما إذ كان ذكر القسم قد أنبأ أنه من مواضع التأكيد، لزمت فيه،
لأنه أحق بها من غيره (1). والفرق بين لام القسم ولام الابتداء: أن لام
الابتداء تصرف الاسم إليه، فلا يعمل فيه ما قبلها نحو (قد علمت لزيد خير منك)
(وقد علمت بأن زيدا ليقدم). وليس كذلك لام القسم، لأنها لا تدخل على
الاسم، ولا تكسر لها لام (إن) نحو قد علمت أن زيدا ليقومن، ويلزمها النون
في المستقبل. والفرق بين (أو) و (أم) أن (أم) استفهام، وفيها معادلة الألف
نحو (أزيد في الدار أم عمرو) وليس ذلك في (أو) ولهذا اختلف الجواب فيهما،
فكل في (أم) بالتعيين وفي (أو) ب‍ (نعم) أو (لا)
ومعنى الآية الحث على الجهاد وترك التقاعد. ويقال أن الله يحشر العباد
ليجزي كل واحد على ما يستحقه: المحسن على احسانه والمسئ على إساءته سواء
قتل أو مات كيف تصرفت به الحال.
قوله تعالى:
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب
لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر
فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (159) آية.

(1) في المخطوطة (لم لان الاخر من تفسير) بدل (فيه لأنه أحق بها من غير) وقد
أثبتنا ما في المطبوعة لأنه أوضح.
30

الاعراب والمعنى: قوله: (فبما رحمة من الله) معناه فبرحمة، وما زائدة باجماع المفسرين ذهب
إليه قتادة، والزجاج، والفراء وجميع أهل التأويل. ومثله قوله: (عما قليل
ليصبحن نادمين) فجاءت (ما) مؤكدة للكلام وسبيل دخولها لحسن النظم،
كدخولها لاتزان الشعر، وكل ذلك تأكيد ليتمكن المعنى في النفس، فجرى مجرى
التكرير. قال الحسن بن علي المغربي عندي أن معنى (ما) أي وتقديره فبأي رحمة
من الله، وهذا ضعيف. ورحمة مجرورة بالباء، ولو رفعت كان جائزا على تقدير
فيما هو رحمة. والمعنى ان لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين، لأنك تأتيهم
بالحجج والبراهين مع لين خلق.
اللغة، والمعنى:
وقوله: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) فالفظ الجافي،
والغليظ القلب القاسي، يقال فيه فظظت تفظ فظاظة، فأنت فظ، وهو على وزن
فعل إلا أنه ادغم كضب. وأصل الفظاظة الجفوة. ومنه الفظاظة. ومنه الفظاظ:
خشونة الكلام. والافتظاظ: شرب ماء الكرش لجفائه على الطباع.
وقوله: (فظا غليظ القلب) إنما جمع بين الصفتين مع اتفاقهما في المعنى،
لإزالة التوهم أن الفظاظة في الكلام دون ما ينطوي عليه القلب من الحال، وهو
وجه من وجوه التأكيد إذ يكون لإزالة الغلط في التأويل، ولتمكين المعنى في
النفس بالتكرير، وما يقوم مقامه.
وقوله: (وشاورهم في الامر) أمر من الله تعالى لنبيه أن يشاور أصحابه
يقال شاورت الرجل مشاورة وشوارا وما يكون عن ذلك اسمه المشورة. وبعضهم
يقول المشورة. وفلان حسن الشورة، والصورة أي حسن الهيئة واللباس وإنه
لشير صير، وحسن الشارة، والشوار: متاع البيت. ومعنى شاورت فلانا أي
31

أظهرت ما عندي في الرأي، وما عنده (1). وشرت الدابة أشورها: إذا امتحنتها
فعرفت هيئتها في سيرها. وقيل في وجه مشاورة النبي صلى الله عليه وآله إياهم مع استغنائه
بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد ثلاثة أقوال:
أحدها - قال قتادة، والربيع، وابن إسحاق أن ذلك على وجه التطييب
لنفوسهم، والتأليف لهم، والرفع من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله: (ويرجع
إلى رأيه).
والثاني - قال سفيان بن عيينة: وجه ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة ولا
يرونها منزلة نقيصة كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم.
الثالث قال الحسن، والضحاك: انه للامرين، لاجلال الصحابة واقتداء
الأمة به في ذلك. وأجاز أبو علي الجبائي: أن يستعين برأيهم في بعض أمور الدنيا.
وقال قوم: وجه ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح في مشورته من الغاش النية.
وقوله: (فإذا عزمت فتوكل على الله) فالتوكل على الله هو تعويض الامر
إليه للثقة بحسن تدبيره، وأصله الاتكال، وهو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه
بمن يسند إليه. ومنه الوكالة، لأنها عقد على الكفاية بالنيابة والوكيل هو المتكل
عليه بتفويض الامر إليه. وقوله: (إن الله يحب المتوكلين) معناه يريد ثوابهم
على توكلهم واسنادهم أمورهم إلى الله تعالى.
قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا
الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (160)
- آية بلا خلاف -.
المعنى: معنى هذه الآية الترغيب في طاعة الله التي يستحق بها النصرة، والتحذير

(1) في المخطوطة ساقطة جملة (في الرأي وما عنده).
32

من معصيته التي يستحق بها خذلانه مع ايجاب التوكل عليه الذي يؤمن معه أن
يكلهم إلى أنقسهم فيهلكوا، ولأنه إذا نصرهم الله فلا أحد يقدر على مغالبته،
وإذا خذلهم فلا أحد يقدر على نصرتهم بعده. و (من) في قوله: (فمن ذا الذي
ينصركم من بعده) معناها التقرير بالنفي في صورة الاستفهام أي لا ينصركم أحد
من بعده، كما تقول من يعد لك إن فسقك الامام. وإنما تضمن حرف الاستفهام
معنى النفي، لان جوابه يجب أن يكون بالنفي، فصار ذكره يغني عن ذكر جوابه.
وكان أبلغ لتقرير المخاطب فيه. قال أبو علي الجبائي: وفي الآية دليل على أن من
غلبه أعداء الله من الباغين لم ينصره الله، لأنه لو نصره لما غلبوه، وذلك بحسب
ما في المعلوم من مصالح العباد من تعريض المؤمنين لمنازل الأبرار بالصبر على الجهاد
مع خوف القتل من حيث لم يجعل على أمان من غلبة الفجار، وهذا إنما هو في
النصر بالغلبة، فاما النصر بالحجة، فان الله تعالى نصر المؤمنين من حيث هداهم إلى
طريق الحق بما نصب لهم من الأدلة الواضحة والبراهين النيرة، ولولا ذلك لما حسن
التكليف. قال البلخي: المؤمنون منصورون أبدا إن غلبوا، فهم المنصورون
بالغلبة، وان غلبوا، فهم المنصورون بالحجة. قال الجبائي: والنصر بالغلبة ثواب،
لأنه لا يجوز أن ينصر الله الظالمين من حيث لا يريد استعلاءهم بالظلم على غيرهم.
وقال ابن الاخشاد: ليس بثواب كيف تصرفت الحال، لان الله قد أمرنا أن ننصر
الفئة المبغي عليها.
وقال البلخي لا يجوز أن ينصر الله الكافر على وجه. فأما
الخذلان فعقاب بلا خلاف. والخذلان هو الامتناع من المعونة على العدو في وقت
الحاجة إليها، لأنه لو امتنع إنسان من معونة بعض الملوك على عدوه مع استغنائه
عنها لم يكن خاذلا، وكذلك سبيل المؤمن المغلوب في بعض الحروب ليس يحتاج إلى
المعونة مع الاستفساد بها بدلا من الاستصلاح، فلذلك لم يكن ما وقع به على جهة
الخذلان.
33

قوله تعالى:
(وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة
ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (161) - آية -.
القراءة، والمعنى، والحجة، والنزول، واللغة:
قرأ ابن كثير وابن عمرو، وعاصم (يغل) بفتح الياء وضم الغين. الباقون
بضم الياء وفتح الغين. فمن قرأ بفتح الياء وضم الغين، فمعناه ما كان لنبي أن يخون
يقال من الغنيمة غل يغل: إذا خان فيها. ومن الخيانة أغل يغل قال النمر بن تولب:
جزى الله عنا حمزة ابنة نوفل * جزاء مغل بالأمانة كاذب
بما سألت عني الوشاة ليكذبوا * علي وقد أوليتها في النوائب (1)
[ويقال من] (2) الخيانة غل يغل، ومن قرأ بضم الياء وفتح الغين أراد،
وما كان لنبي أن يخون أي ينسب إليه الخيانة. ويحتمل أن يكون أراد ما كان
لنبي أن يخان بمعنى يسرق منه. ويكون تخصيص النبي بذلك تعظيما للذنب. قال
أبو علي الفارسي: لا يكاد يقال: ما كان لزيد أن يضرب، فهذه حجة من قرأ
بفتح الياء. وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير: سبب نزول هذه الآية أن قطيفة
حمراء فقدت يوم بدر من المغنم، فقال بعضهم لعل النبي صلى الله عليه وآله أخذها. وقال
الضحاك إنما لم يقسم للطلائع من المغنم، فعرفه الله الحكم. وروي عن الحسن أنه
قال: معنى يغل يخان. وقال بعضهم: هذا غلط، لأنه لا يجوز أن يخان أحد نبيا
كان أو غيره، فلا معنى للاختصاص. وهذا الطعن ليس بشئ لان وجه اختصاصه
بالذكر لعظم خيانته على خيانة غيره، كما قال: (اجتنبوا الرجس من الأوثان) (3)
وإن وجب اجتناب جميع الأرجاس، وقد يجوز أن يخص النبي بالذكر، لأنه القائم

(1) الصحاح للجوهر (غلل).
(2) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.
(3) سورة الحج: آية 30
34

بأمر الغنائم، فيكون بمنزلة ما كان لاحد أن يغل. وأصل الغلول هو الغلل، وهو
دخول الماء في خلل الشجر تقول: الغل الماء في أصول الشجر ينغل الغلالا، فالغلول
الخيانة، لأنها تجري في الملك على خفى من غير الوجه الذي يحل كالغلل، وإنما خصت
الخيانة بالصفة دون السرقة، لأنه يجري إليها بسهولة، لأنها مع عقد الأمانة. ومنه
الغل الحقد، لان العداوة تجري به في النفس كالغلل. ومنه الغل. ومنه الغليل،
حرارة العطش. والغلة، لأنها تجري في الملك من جهات مختلفة، والغلالة، لأنها
شعار تحت. البدن والغلالة مسمار الدرع. وقوله: (ومن يغلل يأت بما غل يوم
القيامة) قيل في معناه قولان:
أحدهما - يأتي به حاملا له على ظهره، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كان إذا
غنم مغنما بعث مناديا ألا لا يغلن أحد مخيطا فما دونه، ألا لا يغلن أحد بعيرا
فيأتي به على ظهره له رغاء، ألا لا يغلن أحد فرسا فيأتي به يوم القيامة على ظهره
له حمحمة - في قول ابن عباس، وأبي هريرة وأبي حميد الساعدي، عبد الله بن أنيس
وابن عمر، وقتادة - وذلك ليفضح به على رؤوس الاشهاد. قال البلخي: يجوز أن
يكون ما تضمنه الخبر على وجه المثل كأن الله تعالى إذا فضحه يوم القيامة جرى
ذلك مجرى أن يكون حاملا له وله صوت.
الثاني - يأتي به يوم القيامة، لأنه لم يكفر عنه، كما تكفر الصغائر، فهو
يعاقب عليه.
وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة: إن الله تعالى لو عذب الأنبياء
والمؤمنين لم يكن ظلما لهم، لأنه قد بين أنه لو لم يوفها ما كسبت، لكان ظلما لها.
قوله تعالى:
(أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه
جهنم وبئس المصير) (162) - آية بلا خلاف -.
35

المعنى، والنزول:
قيل. في معنى الآية ثلاثة أقوال:
أحدها قال الحسن، والضحاك معناها، أفمن اتبع رضوان الله في ترك
الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول، وهو اختيار الطبري قال: لأنه أشبه
بما تقدم.
الثاني - قال ابن إسحاق (أفمن اتبع رضوان الله) في العمل بطاعته على
ماكره الناس (كمن باء بسخط من الله) في العمل بمعصيته على ما أحبوا.
الثالث - قال الزجاج، وأبو علي: (أفمن اتبع رضوان الله) بالجهاد في سبيله
(كمن باء بسخط من الله) بالفرار منه رغبة عنه.
وسبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وآله لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من
المنافقين، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
اللغة:
(ورضوان الله) - بكسر الراء وضمها - لغتان، وقرأ بالضم حفص عن
عاصم على ما حكيناه عنه، فالضم على وزن الكفران. والكسر على وزن حسبان.
وباء معناه رجع تقول: باء بذنبه يبوء بوءا إذا رجع به. وبوأته منزلا أي هيأته،
لأنه يرجع إليه، لأنه مأواه. والبواء قتل الجائي بمن قتله. والسخط من الله من
هو إرادة العقاب بمستحقه، ولعنه وهو مخالف للغيظ، لان الغيظ هو هيجان
الطبع وانزعاج النفس، ولا يجوز اطلاقه على الله تعالى. والمصير: هو المرجع.
والفرق بينهما أن المرجع هو انقلاب الشئ إلى حال قد كان عليها. والمصير: انقلاب
الشئ إلى خلاف الحال التي هو عليها نحو مصير الطين خزفا، ولم يرجع خزفا،
لأنه لم يكن قبل ذلك حزفا، فأما مرجع الفضة خاتما فصحيح، لأنه قد كان قبل
خاتما وأما مرجع العباد إلى الله، فلأنهم ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم
شيئا، كما كانوا قبل ما ملكوا.
36

قوله تعالى: (هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) (163) - آية -
المعنى:
قيل معنى قوله: (هم درجات عند الله) أن تقديره المؤمنون ذووا درجة
رفيعة عند الله. والكفار ذووا درجة خسيسة. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - اختلاف مراتب كل فريق من أهل الثواب، والعقاب، لان
النار أدراك لقوله: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) (1) والجنة
طبقات بعضها أعلى من بعض، كما روي أن أهل الجنة ليرون أهل عليين (2)، كما
يرى النجم في أفق السماء.
والثاني - اختلاف مرتبتي أهل الثواب، والعقاب بما لهؤلاء من النعيم،
والكرامة ولأولئك من العذاب والمهانة. وعبر عن ذلك بدرجات مجازا. فان قيل
كيف قال: (هم درجات) وإنما لهم درجات) وإنما لهم درجات قيل، لان اختلاف أعمالهم قد ميزهم
بمنزلة المختلفي الذوات كاختلاف مراتب الدرجات لتبعيدهم من استواء الأحوال، فجاء
هذا على وجه التجوز، كما قال ابن هرمة انشده سيبويه -:
أنصب للمنية تعتريهم * رجالي أم هم درج السيول (3)
وقوله: (والله بصير بما يعملون) معناه عليم. وفيه تحذير من أن يتكل
على الاسرار في الاعمال ظنا بأن ذلك يخفى على الله، لان أسرار العباد عند الله
علانية. وفيه توثيق بأنه لا يضيع للعامل لربه شئ لأنه لا يخفى عليه جميعه.

(1) سورة النساء: آية 144.
(2) في المخطوطة (أ) كما روي أن أهل الجنة ليرون أهل النار يطلعون عليهم فيرونهم
كما يرى النجم في أفق السماء. والأصح ما في المطبوعة.
(3) سيبويه 1: 206، واللسان (درج) ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 107
والخزانة 1: 203 وقد رواه بعضهم:
أرجما للمنون يكون قومي * لريب الدهر أم درج السيول
37

اللغة، والحجة:
وأصل الدرجة الرتبة، فمنه الدرج، لأنه يطوى رتبة بعد رتبة يقال:
أدرجه إدراجا. والدرجان مشي الصبي لتقارب الرتب، درج يدرج درجا ودرجانا.
والدرج معروف. والترقي في العلم درجة بعد درجة أي منزلة بعد منزلة كالدرجة
المعروفة. فان قيل هلا كان القرآن كله حقيقة، ولم يكن فيه شئ من المجاز، فان
الحقيقة أحسن من المجاز؟ قلنا: ليس الامر على ذلك فان المجاز في موضعه أولى،
وأحسن من الحقيقة لما فيه من الايجاز من غير اخلال بمعنى، وهي المبالغة بالاستعارة
التي لا تنوب منابها الحقيقة، لان قولهم إذ هو الشمس ضياء أبلغ في النفوس من قولهم هو كالشمس ضياء، كذلك الجزاء بالجزاء أحسن من الجزاء بالابتداء، لأنه
أدل على تقابل المعنى بتقابل اللفظ، فكذلك (هم درجات) أولى وأبلغ من هم
أهل درجات، للايجاز من غير اخلال.
قوله تعالى:
(لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم
يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا
من قبل لفي ضلال مبين) (164) - آية -.
اللغة، والمعنى:
قوله: (لقد من الله) معناه أنعم الله. وأصل المن القطع. منه يمنه منا:
إذا قطعه. (ولهم أجر غير ممنون) (1) أي غير مقطوع. والمن النعمة، لأنه
يقطع بها عن البلية. ويقول القائل: من علي بكذا أي استنقذني به مما أنا فيه.
والمن تكدير النعمة، لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها. والمنة القوة، لأنه

(1) سورة حم السجدة: آية 8 وسورة الانشقاق: آية 25.
38

يقطع بها الاعمال. وفي تخصيص المؤمن بذكر هذه النعمة وإن كانت نعمة على
جميع المكلفين قيل فيه من حيث أنها على المؤمنين أعظم منها على الكافرين، لأنها
نعمة عليهم من حيث هي نفع في نفسها. وفيما يؤدي إليه من الايمان بها، والعمل
بما توجبه أحكامها، فالمؤمن يستحق اضافتها إليه من وجهتين، لما بيناه من حالها،
ونظائر ذلك قد بيناه مثل قوله: (هدى للمتقين)) وغير ذلك وإنما أضافه إلى
المتقين من حيث أنهم المنتفعون بها دون غيرهم. وقوله: (إذ بعث فيهم رسولا
من أنفسهم) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها من أنفسهم ليكون ذلك شرفا لهم، فيكون ذلك داعيا لهم إلى
الايمان.
الثاني - من أنفسهم، لسهولة تعلم الحكمة عليهم، لأنه بلسانه.
الثالث - من أنفسهم، ليتيسر عليهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفة
والطهارة. وقال الزجاج: من عليهم إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم من الأميين،
لا يتلو كتابا ولا يخط بيمينه، فنشأ بين قوم يخبرونه ويعرفونه بالصدق والأمانة
وأنه لم يقرأ كتابا ولا لقنه، فتلا عليهم أقاصيص الأمم السالفة، فكان ذلك من أدل
دليل على صدقة فيما أتى به. وقوله: (يتلو عليهم آياته) معناه يقرأ عليهم ما أنزله
عليه من آيات القرآن (ويزكيهم) يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها - يشهد لهم بأنهم أزكياء في الدين، فيصيروا بهذه المنزلة الرفيعة
في الخلق.
الثاني - يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين سالكين سبيل المهتدين.
الثالث - قال الفراء يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها. وقوله: (ويعلمهم
الكتاب والحكمة) يعني القرآن، وهو الحكمة. وإنما كرره بواو العطف لامرين:
أحدهما - قال قتادة: الكتاب القرآن، والحكمة السنة.
والثاني - لاختلاف فائدة الصفتين، وذلك أن الكتاب ذكر للبيان أنه مما
يكتب ويخلد ليبقى على الدهر، والحكمة البيان عما يحتاج إليه من طريق المعرفة.
39

وقوله: (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) يعني أنهم كانوا كفارا. وكفرهم
هو ضلالهم فأنقذهم الله بالنبي صلى الله عليه وآله.
قوله تعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل
هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير) (165) - آية واحده -
المعنى: إنما دخلت الواو في (أو لما أصابتكم) لعطف جملة على جملة إنه تقدمها
ألف الاستفهام، لان له صدر الكلام. وإنما اتصل الواو الثاني بالأول ليدل على
تعلقه به في المعنى، وذلك أنه وصل التقريع على الخطيئة بالتذكير بالنعمة لفرقة
واحدة. والمصيبة التي أصابت المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد، فإنه قتل منهم
سبعون رجلا وكانوا هم أصابوا من المشركين يوم بدر مثليها، فإنهم كانوا قتلوا
من المشركين سبعين وأسروا منهم سبعين في - قول قتادة، والربيع، وعكرمة،
والسدي - فقال الزجاج: لأنهم أصابوا يوم أحد منهم مثلهم، ويوم بدر مثلهم،
فقد أصابوا مثليهم. وهذا ضعيف، لأنه خلاف لأهل السير، لأنه لا خلاف أنه
لم يقتل من المشركين مثل من قتل من المسلمين بل قتل منهم نفر يسير، فحمله على
ما قاله ترك الظاهر. وقوله: حكاية عن المسلمين (أنى هذا) أي من أين هذا.
وقوله: (قل هو من عند أنفسكم) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال قتادة، والربيع: لأنهم اختلفوا في الخروج من المدينة للقتال
يوم أحد وكان دعاهم النبي صلى الله عليه وآله إلى أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن
يقصدوهم فيها، فقالوا كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية، ونحن في الاسلام، وأنت
يا رسول الله نبينا أحق بالامتناع وأعز.
والثاني - روي عن علي (ع) وعبيدة السلماني أن الحكم كان في أسرى بدر
40

القتل، فاختاروا هم الفداء، وشرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل
بعدتهم، فقالوا رضينا بذلك، فانا نأخذ الفداء وننتفع به. وإذا قتل منا فيما بعد
كنا شهداء. وهو المروي عن أبي جعفر (ع).
الثالث - لخلاف الرماة يوم أحد لما أمرهم به النبي صلى الله عليه وآله من ملازمة موضعهم.
وقوله: (إن الله على كل شئ قدير) معناه ههنا أنه على كل شئ قدير يدبركم
بأحسن التدبير من النصر مع طاعتكم وتركه مع المخالفة إلى ما وقع به النهي، وهذا
جواب لقوله: (أنى هذا) وقد تقدم الوعد بالنصرة، وفي الآية دلالة على فساد
مذهب المجبرة: بان المعاصي كلها من فعل الله، لأنه تعالى قال (قل هو من عند
أنفسكم) ولو لم يكن فعلوه، لما كان من عند أنفسهم كما أنه لو فعله الله، لكان
من عنده.
قوله تعالى:
(وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله وليعلم المؤمنين) (166) - آية -.
المعنى:
قوله: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان) يعني يوم أحد وما دخل عليهم من
المصيبة بقتل من قتل من المؤمنين. وقوله: (فباذن الله) قيل في معناه قولان:
أحدهما - بعلم الله. ومنه قوله: (فاذنوا بحرب من الله) (1) معناه اعلموا
ومنه قوله: (وآذان من الله) (2) أي إعلام. ومنه (أذناك ما منا من
شهيد) (3) يعني أعلمناك.
الثاني - أنه بتخلية الله التي تقوم مقام الاطلاق في الفعل برفع الموانع،

(1) سورة البقرة: آية 279.
(2) سورة التوبة: آية 3.
(3) حم السجدة: آية 47.
41

والتمكين من الفعل الذي يصح معه التكليف. ولا يجوز أن يكون المراد به بأمر
الله، لأنه خلاف الاجماع، لان أحدا لا يقول: إن الله يأمر المشركين بقتل
المؤمنين، ولا انه يأمر بشئ من القبائح، ولان الامر بالقبيح قبيح، لا يجوز
أن يفعله الله تعالى. ويمكن أن يحمل مع تسليم أنه بأمر الله بأن يكون ذلك
مصروفا إلى المنهزمين المعذورين بعد اخلال من أخل بالشعب، وضعفهم عن
مقاومة عدوهم، وان حمل على الجميع أمكن أن يكون ذلك بعد تفرقهم وتبدد
شملهم وانفساد نظامهم، لان عند ذلك أذن الله في الرجوع وألا يخاطروا بنفوسهم
وقوله: (وليعلم المؤمنين) ليس معناه أن الله يعلم عند ذلك ما لم يكن عالما به،
لأنه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها وإنما معناه، وليتميز المؤمنون من المنافقين إلا
أنه أجرى على المعلوم لفظ العلم مجازا على المظاهرة في المجازاة بالقول على ما يظهر
من الفعل من جهة أنه ليس يعاملهم بما في معلومه أنه يكون منهم إن بقوا، بل
يعاملهم معاملة من كأنه لا يعلم ما يكون منهم حتى يظهر. ليكونوا على غاية الثقة
بأن الله إنما يجازي بحسب ما وقع من الاحسان أو الإساءة.
فان قيل: هل يجوز أن يقول القائل: المعاصي تقع بإذن الله، كما قال:
(ما أصابكم) من ايقاع المشركين بكم (بإذن الله)؟ قلنا: لا يجوز ذلك لان الله
تعالى إنما خاطبهم بذلك على وجه التسلية للمؤمنين، فدل ذلك على أن الاذن المراد
به التمكين ليتميزوا بظهور الطاعة منهم. وليس كذلك قولهم: المعاصي بإذن الله،
لأنه لما عري من تلك القرينة صار بمعنى إباحة الله، والله تعالى لا يبيح المعاصي،
لأنها قبيحة، ولان إباحتها تخرجها من معنى المعصية. والفاء إنما دخلت في قوله:
(فبإذن الله) لان خبر (ما) التي بمعنى الذي يشبه جواب الجزاء، لأنه معلق
بالفعل في الصلة كتعليقه بالفعل في الشرط، كقولك الذي قام فمن أجل أنه كريم
أي، لأجل قيامه صح أنه كريم. ومن أجل كرمه قام. وقد قيل أن (ما) هي بمعنى
الجزاء، ولا يصح ههنا لان الفعل بمعنى المضي.
42

قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله
أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم
للايمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون)
(167) - آية بلا خلاف -.
المعنى: قوله: (وليعلم الذين نافقوا) عطف على قوله: (وليعلم المؤمنين) وقيل
في خبر ليعلم قولان:
أحدهما - أنه مكتف بالاسم، لأنه بمعنى ليعرف المنافقين.
والثاني - أنه محذوف، وتقديره: وليعلم المنافقين متميزين من المؤمنين.
وقوله: (وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله) روي أن القائل لهم ذلك كان
عبد الله بن عمرو بن خزام يذكرهم الله ويحذرهم أن يخذلوا نبيه عند حضور عدوه
- في قول ابن إسحاق والسدي - وقوله: (أو ادفعوا) قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال السدي، وابن جريج: ادفعوا بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا.
الثاني - قال ابن عون الأنصاري: معناه رابطوا بالقيام على الخيل إن لم
تقاتلوا معنا. وقوله: (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم) قال ابن إسحاق، والسدي
ان القائل لذلك عبد الله بن أبي بن سلول، انخزل يوم أحد بثلاثمائة نفس، قال لهم
علام نقتل أنفسنا ارجعوا بنا، وقالوا للمؤمنين لا يكون بينكم قتال، ولو علمنا
أنه يكون قتال لخرجنا معكم وأضمروا في باطنهم عداوة النبي صلى الله عليه وآله، والمؤمنين،
فقال الله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان) لأنهم بهذا الاظهار إلى
الكفر أقرب منهم للايمان إذ كانوا قبل ذلك في ظاهر أحوالهم إلى الايمان أقرب
43

حتى هتكوا أنفسهم عند من كانت تخفى عليه حالهم من المؤمنين الذين كانوا
يحسنون الظن بهم، وليس المراد أن بينهم وبين المؤمنين قربا يوجب دخول لفظة
أفعل بينهم. وإنما هو مثل قول القائل: - وهو صادق - لمن هو كاذب: أنا أصدق
منك، وإن لم يكن بينهما مقاربة في الصدق. وقوله: (يقولون بأفواههم ما ليس
في قلوبهم) إنما ذكر الأفواه، وإن كان القول لا يكون إلا بالأفواه لامرين:
أحدهما - للتأكيد من حيث يضاف القول إلى الانسان على جهة المجاز،
فيقال: قد قال كذا: إذا قاله غيره ورضي به، وكذلك (يكتبون الكتاب
بأيديهم) (1) أي يتولونه على غير جهة الامر به.
والثاني - لأنه فرق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب.
وقوله: (والله أعلم بما يكتمون) يعني أعلم من الكافرين الذين قالوا:
لا يكون قتال، وما كتموه في نفوسهم من النفاق.
قوله تعالى: (الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل
فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) (168) - آية -.
الاعراب:
موضع الذين يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب:
أحدها - أن يكون نصبا على البدل من الذين نافقوا.
الثاني - الرفع على البدل من الضمير في يكتمون.
الثالث - الرفع على خبر الابتداء، وتقديره: هم (الذين قالوا لاخوانهم)

(1) سورة البقرة: آية 79.
44

المعنى:
والمعني بهذا الكلام والقائلون لهذا القول عبد الله بن أبي وأصحابه من
المنافقين قالوه في قتلى يوم أحد من إخوانهم على قول جابر بن عبد الله، وقتادة،
والسدي، والربيع - وقوله: (قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) معناه
ادفعوا قال الشاعر:
تقول إذا درأت لها وضيني * أهذا دينه أبدا وديني (1)
فان قيل كيف يلزمهم دفع الموت عن أنفسهم بقولهم أنهم لو لم يخرجوا لم
يقتلوا؟ قيل لان من علم الغيب في السلامة من القتل يجب أن يمكنه أن يدفع عن
نفسه الموت فليدفعه، فهو، أجدى عليه.
فان قيل: كيف كان هذا القول منهم كذبا مع أنه اخبار على ما جرت به
العادة؟ قلنا: لأنهم لا يدرون لعلهم لو لم يخرجوا لدخل المشركون عليهم في ديارهم،
فقتلوهم هذا قول أبي علي وقال غيره معنى (إن كنتم صادقين) أي محقين في
تثبيطكم من الجهاد فرارا من القتل.
قوله تعالى:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون) (169) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
ذكر ابن عباس، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال
لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد انهار الجنة،
وتأكل من ثمارها. قال البلخي: وهذا ضعيف، لان الأرواح جماد لا حياة فيها،

(1) انظر 2: 148.
45

ولو كانت حية لاحتاجت إلى أرواح أخر وأدى إلى ما لا يتناهى فضعف الخبر من
هذا الوجه. وفي الناس من قال: إن تأويل الآية اخبار عن صفة حال الشهداء
في الجنة من حيث فسد القول بالرجعة، وهذا ليس بشئ لأنه خلاف الظاهر،
ولان أحدا من المؤمنين لا يحسب أن الشهداء في الجنة أموات، وأيضا، فقد
وصفهم الله بأنهم أحياء فرحون في الحال، لان نصب فرحين هو على الحال.
وقوله: (لم يلحقوا بهم من خلفهم) يؤكد ذلك، لأنهم في الآخرة قد لحقوا
بهم، ومعنى الآية النهي عن أن يظن أحد أن المقتولين في سبيل الله أموات.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله، والمراد به جميع المكلفين، كما قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء) وأنه ينبغي أن يعتقد أنهم (أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم
الله) وبهذا قال الحسن، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء واختاره الجبائي،
والرماني، وأكثر المفسرين. وقال بعضهم وذكره الزجاج: المعنى ولا تحسبنهم
أمواتا في دينهم بل هو أحياء في دينهم، كما قال: (أو من كان ميتا فأحييناه)
الآية (1) وقال البلخي معناه: لا تحسبنهم كما يقول الكفار أنهم لا يبعثون بل
يبعثون، وهم (أحياء عند ربهم يرزقون فرحين). وقال قوم: إن أرواحهم تسرح
في الجنة وتلتذ بنعيمها، فهم (أحياء عند ربهم) وقوله: (عند ربهم) قيل في
معناه قولان: أحدهما - أنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا ربهم وليس المراد
بذلك قرب المسافة لان ذلك من صفة الأجسام وذلك مستحيل عليه تعالى.
والوجه الآخر عند ربهم أحياء من حيث يعلمهم كذلك دون الناس - ذكره
أبو علي -.
الاعراب:
وقوله: (بل أحياء) رفع على أنه خبر الابتداء، وتقديره بل هم أحياء،
ولا يجوز فيه النصب بحال، لأنه كان يصير المعنى بل أحسبنهم أحياء، والمراد بل

(1) سورة الأنعام: آية 122.
46

اعلمهم احياء.
المعنى والحجة:
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المعنى بل أحياء على معنى أنهم بمنزلة الاحياء
كما يقال لمن خلف خلفا صالحا أو ثناء جميلا: ما مات فلان بل هو حي؟ قلنا:
لا يجوز ذلك لأنه إنما جاز هذا بقرينة دلت عليه من حصول العلم بأنه ميت فانصرف
الكلام إلى أنه بمنزلة الحي، وليس كذلك الآية لان إحياء الله لهم في البرزخ
جائز مقدور والحكمة تجيزه.
فان قيل أليس في الناس من أنكر الحديث من حيث أن الروح عرض
لا يجوز أن يتنعم؟ قيل: هذا ليس بصحيح، لان الروح جسم رقيق هوائي
مأخوذ من الريح. والدليل على ذلك أن الروح تخرج من البدن وترد إليه وهي
الحساسة الفعالة دون البدن، وليست من الحياة في شئ، لان ضد الحياة الموت
وليس كذلك الروح - هذا قول الرماني سؤاله وجوابه -. وفي الآية دليل على أن
الرجعة إلى دار الدنيا جائزة لأقوام مخصوصين، لأنه تعالى أخبر أن قوما ممن
قتلوا في سبيل الله ردهم الله أحياء كما كانوا، فأما الرجعة التي يذهب إليها أهل
التناسخ، ففاسدة، والقول بها باطل لما بيناه في غير موضع، وذكرنا جملة منه في
شرح جمل العلم فمن أراده وقف عليه من هناك إن شاء الله. وقال أكثر المفسرين
الآية مختصة بقتلى أحد. وقال أبو جعفر (ع)، وكثير من المفسرين: انها تتناول
قتلى بدر وأحد معا.
قوله تعالى:
(فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم
يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
(170) - آية -.
47

الاعراب:
قوله: (فرحين) نصب على الحال من (يرزقون) وهو أولى من رفعه على
بل أحياء لان النصب ينبئ عن اجتماع الرزق والفرح في حال واحدة، ولو رفع
على الاستئناف لكان جائزا. وقال الفراء: يجوز نصبه على القطع عن الأول.
المعنى، واللغة:
وقوله: (بما آتاهم الله من فضله) معناه بما أعطاهم الله من ضروب نعمه،
ومعنى يستبشرون أي يسرون بالبشارة وأصل الاستفعال طلب الفعل فالمستبشر
بمنزلة من طلب السرور في البشارة، فوجده.
وأصل البشارة من البشرة وذلك
لظهور السرور بها في بشرة الوجه. ومنه البشر لظهور بشرته. ومعنى قوله:
(ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم) أي هم بمنزلة من قد بشر في صاحبه بما يسر
به. ولأهل التأويل فيه قولان:
أحدهما - قال ابن جريج، وقتادة: يقولون: اخواننا يقتلون كما قتلنا
فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا.
والآخر - أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من اخوانه
يبشر ذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا - ذكره السدي -
وقال الزجاج: معناه أنهم لم يلحقوا بهم في الفعل إلا أن لهم فضلا عظيما
بتصديقهم وإيمانهم.
ولحقت ذلك والحقت غيري، مثل علمت وأعلمت، وقيل لحقت وألحقت
لغتان بمعنى واحد مثل بان وأبان، وعلى ذلك: إن عذابك بالكفار ملحق أي لاحق
على هذا أكثر نقاد الحديث. وروى بعض الثقات ملحق بنصب الحاء ذكره البلخي.
وقوله: (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قيل في موضع أن قولان:
أحدهما - انه خفض بالباء وتقديره بان لا خوف، هذا قول الخليل،
48

والكسائي والزجاج.
الثاني أن يكون موضعه نصبا على أنه لما حذف حرف الجر نصب بالفعل
كما قال الشاعر:
أمرتك الخير (1)
أي بالخير في قول غيرهم.
قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وإن الله لا يضيع أجر
المؤمنين) (171) - آية -.
القراءة:
قرأ الكسائي (وإن الله) - بكسر الألف - الباقون بفتحها على معنى وبأن
الله، ورجح هذه القراءة أبو علي الفارسي. والكسر على الاستئناف. وفي قراءة
عبد الله (والله لا يضيع أجر المؤمنين). وهو يقوي قراءة من قرأ بالكسر.
قوله: (يستبشرون).
المعنى:
يعني هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله الذين وصفهم بأنهم يرزقون فرحين بما
أتاهم الله من فضله، وانهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فوصفهم ههنا
بأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل. وفضل الله وإن كان هو النعمة قيل في
تكراره ههنا قولان:
أحدهما - لأنها ليست نعمة مضيقة على قدر الكفاية من غير مضاعفة السرور
واللذة.

(1) انظر 2: 348 فقد مر البيت هناك كاملا.
49

والآخر - للتأكيد لتمكين المعنى في النفس، والمبالغة. والنعمة هي المنفعة
التي يستحق بها الشكر إذا كانت خالية من وجوه القبح، لان المنفعة على ضربين:
أحدهما - منفعة اغترار، وحيلة، و [الثاني] - منفعة خالصة من شائب
الإساءة. والنعمة: تعظيم بفعل غير المنعم، كنعمة الرسول على من دعاه إلى
الاسلام فاستجاب له، لان دعاءه له نفع من وجهين:
أحدهما - حسن النية في دعائه إلى الحق ليستجيب له.
والآخر - قصده الدعاء إلى حق من يعلم أنه يستجيب له المدعو وإنما يستدل
بفعل غير المنعم على موضع النعمة في الجلالة وعظم المنزلة.
وقوله: (وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين) وان كانوا هم علموا ذلك فإنما
ذكر الله انهم يستبشرون بذلك، لان ما يعلمونه في دار التكليف يعلمونه بدليل.
وما يعلمونه بعد الموت يعلمونه ضرورة. وبينهما فرق واضح، لان مع العلم الضروري
يتضاعف سرورهم، ويشتد اغتباطهم.
قوله تعالى:
(الذين استجابوا الله والرسول من بعد ما أصابهم القرح
للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) (172) - آية واحدة -.
سبب النزول والقصة:
ذكر ابن عباس والسدي، وابن إسحاق، وابن جريج، وقتادة: ان سبب
نزول هذه الآية ان أبا سفيان: صخر بن حرب، وأصحابه لما انصرفوا عن أحد،
ندموا. وقال بعضهم لبعض: لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم فارجعوا فاغيروا
على المدينة، واسبوا ذراريهم. وقيل: إن بعضهم قال لبعض: إنكم قتلتم عدوكم
حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم. ارجعوا فاستأصلوهم. فرجعوا إلى حمراء
الأسد وسمع بهم النبي صلى الله عليه وآله فدعا أصحابه إلى الخروج، وقال: لا يخرج معنا
50

إلا من حضرنا أمس للقتال، ومن تأخر عنا، فلا يخرج معنا. وروي أنه صلى الله عليه وآله
أذن لجابر وحده في الخروج -. وكان خلفه أبوه على بناته يقوم بهن - فاعتل بعضهم
بأن قال: بنا جراح، وآلام فأنزل الله تعالى (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم
قرح مثله) وقيل نزلت فيهم أيضا (ولا تهنوا في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون
فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) (1) ثم استجابوا على
ما بهم إلى اتباعهم وألقي الله الرعب في قلوب المشركين، فانهزموا من غير حرب.
وخرج المسلمون إلى حمراء الأسد. وهي على ثمانية أميال من المدينة.
الاعراب، واللغة:
وموضع (الذين) يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب: الجر - على أن يكون
لغتا للمؤمنين - والرفع - على الابتداء - وخبر الذين الجملة - والنصب - على المدح -
وقوله: (من بعد ما أصابهم القرح) معناه من بعد ما نالهم الجراح وأصله
الخلوص من الكدر. ومنه ماء قراح أي خالص. والقراح من الأرض: ما خلص
طينه من السبخ، وغيره. والقريحة خالص الطبيعة. واقترحت عليه كذا أي
اشتهيته عليه لخلوصه على ما تتوق نفسه إليه، كأنه قال: استخلصته. وفرس قارح
أي طلع نابه لخلوصه ببلوغ تلك الحال عن نقص الصغار، وكذلك ناقة قارح أي
حامل. فالقرح الجراح، لخلوص ألمه إلى النفس.
وأجاب، واستجاب بمعنى واحد. وقال قوم: استجاب: طلب الإجابة.
وأجاب: فعل الإجابة. وقوله: (للذين أحسنوا) فالاحسان هو النفع الحسن.
والافضال النفع الزائد على أقل المقدار. وقوله: (واتقوا) معناه اتقوا معاصي
الله (أجر عظيم) معناه ههنا الذين فعلوا الحسن الجميل من طاعة النبي صلى الله عليه وآله، والانتهاء
إلى قوله. وقوله (منهم) معناه تبيين الصفة لا التبعيض.

(1) سورة النساء: آية 103.
51

قوله تعالى:
(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم
فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (173) - آية بلا خلاف -
المعنى:
وقيل في المعني بقوله: (الناس) الأول ثلاثة أقوال:
أولها - قال ابن عباس، وابن إسحاق: انهم ركب دسهم أبو سفيان إلى
المسلمين ليجبنوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم وقال السدي:
هو اعرابي ضمن له جعل على ذلك. وقال الواقدي هو نعيم بن مسعود الأشجعي
وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقوله: (إن الناس قد جمعوا لكم)
المعني به أبو سفيان وأصحابه - في قول أكثر المفسرين - وقال مجاهد: إنما كان ذلك
في بدر الصغرى وهي سنة أربع وكانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة. وإنما
عبر بلفظ الجميع عن الواحد في قوله: (قال لهم الناس) لامرين:
أحدهما - ان تقديره جاء القول من قبل الناس، فوضع كلام موضع كلام
- ذكره الرماني -.
والثاني - إن الواحد يقوم مقام الناس، لان (الانسان) إذا انتظر قوما
فجاء واحد منهم، قد يقال: جاء الناس إما لتفخيم الشأن، وأما لابتداء الاتيان.
وقوله: (فاخشوهم) حكاية عن قول نعيم بن مسعود للمسلمين. يعني أخشوا
أبا سفيان، وأصحابه فبين الله تعالى ان ذلك القول زادهم ايمانا وثباتا على دينهم،
وإقامة على نصرة نبيهم. وقالوا عند ذلك (حسبنا الله ونعم الوكيل) ومعناه
كافينا الله.
اللغة، والقصة:
وأصله من الحساب، لان الكفاية بحسب الحاجة، وبحساب الحاجة. ومنه
52

الحسبان وهو الظن. والوكيل: الحفيظ. وقيل: هو الولي. وأصله القيام بالتدبير.
المتولي للشئ قائم بتدبيره، والحافظ له يرجع إلى هذا المعنى. ومعنى الوكيل في
صفات الله المتولي للقيام بتدبير خلقه، لأنه مالكهم رحيم بهم. والوكيل في صفة
غيره: إنما يعقد بالتوكيل. وقال قوم من المفسرين: إن هذا التخويف من
المشركين كان في السنة المقبلة، لان أبا سفيان، لما انصرف يوم أحد، قال موعدكم
البدر في العام المقبل. فقال النبي صلى الله عليه وآله لمن حضره: قولوا نعم. فلما كان العام
المقبل خرج النبي صلى الله عليه وآله بأصحابه، وكان أبو سفيان كره الخروج، فدس من
يخوف النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه لم يسمعوا منهم، وخرجوا إلى بدر فلما لم يحضر أحد
من المشركين، رجعوا، وكانوا صادفوا هناك تجارة اشتروها فربحوا فيها، وكان
ذلك نعمة من الله. وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر (ع).
قوله تعالى:
(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا
رضوان الله والله ذو فضل عظيم) (174) - آية بلا خلاف -.
المعنى، واللغة، والاعراب:
الانقلاب، والرجوع، والمصير واحد. وقد فرق بينهما بأن الانقلاب هو
المصير إلى ضد ما كان قبل ذلك كانقلاب الطين خزفا. ولم يكن قبل ذلك خزفا
والرجوع هو المصير إلى ما كان قبل ذلك وقوله: (بنعمة من الله وفضل)) قيل في
معناه قولان:
أحدهما - ان النعمة العافية. والفضل: التجارة. والسوء: القتل - في قول
السدي، ومجاهد - وقال الزجاج: النعمة ههنا الثبوت على الايمان في طاعة الله
وفضل الربح في تجارتهم، لأنه روي أنهم أقاموا في الموضع ثلاثة أيام فاشتروا أدما
وزبيبا ربحوا فيه: وقال قوم: إن أقل ما يفعله الله بالخلق فهو نعمة، وما زاد عليه
53

فهو الموصوف بأنه فضل. والفرق بين النعمة والمنفعة أن النعمة لا تكون نعمة إلا
إذا كانت حسنة، لأنه يستحق بها الشكر ولا يستحق الشكر بالقبيح. والمنفعة قد
تكون حسنة وقد تكون قبيحة مثل ان يغصب ما لا ينتفع به - وإن كان قبيحا -
وقوله: (لم يمسسهم سوء) موضعه نصب على الحال. وتقديره: فانقلبوا بنعمة
من الله وفضل سالمين. والعامل فيه (فانقلبوا) والمعني بالآية الذين أمرهم الله تعالى
بتتبع المشركين إلى حمراء الأسد، فلما بلغوا إليها وكان المشركون أسرعوا في
المضي إلى مكة رجع المسلمون من هناك من غير أن يمسهم قتل ولا جراح غانمين
سالمين، وقد امتثلوا ما أمرهم الله تعالى به. واتبعوا رضوانه (والله ذو فضل عظيم)
أي ذو إحسان عظيم على عباده ديني ودنيوي.
قوله تعالى:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون
إن كنتم مؤمنين) (175) - آية -.
معنى الآية إنما ذلك التخويف الذي كان من نعيم بن مسعود من فعل
الشيطان، وباغوائه، وتسويله. يخوف أولياءه المؤمنين. قال ابن عباس، ومجاهد،
وقتادة: يخوف المؤمنين بالكافرين. وقال الزجاج، وأبو علي الفارسي، وغيرهما من
أهل العربية: إن تقديره يخوفكم أولياءه. أي من أوليائه بدلالة قوله: (فلا
تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) أي إن كنتم مصدقين بالله فقد أعلمتكم أني
أنصركم عليهم، فقد سقط عنكم الخوف. ومثله قوله: (لينذر باسا شديدا من
لدنه) (1) ومعناه لينذركم بأسا والتقدير لينذركم ببأس شديد، فلما حذف
الجار نصبه. وقيل: إن (يخوف) يتعدى إلى مفعولين، لأنك تقول: خفت
زيدا وخوفت زيدا عمرا. ويكون في الآية حذف أحد المفعولين، كما قلناه في

(1) سورة الكهف: آية 2.
54

قولهم: فلان يعطي الدراهم ويكسو الثياب. وقال بعضهم: هذا لا يشبه الآية،
لأنه إنما أجازوا حذف المفعول الثاني في أعطى الدراهم، لأنه لا يشتبه أن الدراهم هي
التي أعطيت. وفي الآية تشتبه الحال في من المخوف ومن المخوف وقال قوم: (يخوف
أولياءه) أي إنما خاف المنافقون ومن لا حقيقة لايمانه. وقال الحسن، والسدي:
يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين ويخوف يتعدى إلى مفعولين
كما يتعدى، يعطي لان أصله خاف زيد القتال وخوفته القتال. كما تقول عرف
زيد أخاك وعرفته أخاك. فان قيل: كيف يكون الأولياء على المفعول الثاني وإنما
التخويف من الأولياء لغيرهم؟ قيل: ليس التقدير هكذا. وإنما هو على (خاف
المؤمنون أولياء الشيطان). وهو خوفهم أولياءه. قال الرماني: وغلط من قدر
التقدير الأول. وقوله: (فلا تخافوهم) يعني لا تخافوا المشركين. وإنما قال:
(ذلك) وهي إنما يشاربها إلى ما هو بعيد لأنه أراد ذلك القول تقدم من المخوف لهم
من قوله: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم).
قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا
الله شيئا يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب
عظيم) (176) - آية بلا خلاف -.
القراءة:
قرأ نافع في جميع القرآن (يحزنك) - بضم الياء - إلا قوله: (لا يحزنهم
الفزع الأكبر) (1). الباقون بفتح الياء في جميع القرآن. وقرأ أبو جعفر عكس
ما قرأ نافع. فإنه فتح في جميع القرآن إلا قوله (لا يحزنهم) فإنه ضم الياء

(1) سورة الأنبياء: آية 103.
55

وحكى البلخي عن ابن أبي محيص الضم في الجميع.
اللغة:
قال سيبويه: تقول: فتن الرجل، وفتنته. وحزن، وحزنته. وزعم الخليل
أنك حيث قلت فتنته، وحزنته، لم ترد أن تقول: جعلته حزينا وجعلته فاتنا.
كما انك حين قلت: أدخلته جعلته داخلا، ولكن أردت أن تقول: جعلت فيه
حزنا، وفتنة. فقلت فتنته كما قلت كحلته أي جعلت فيه كحلا. ودهنته جعلت
فيه دهنا. فجئت بفعلته - على حده - ولم ترد بفعلته ههنا نفس قولك حزن وفتن
ولو أردت ذلك لقلت أحزنته وأفتنته. وفتن من فتنته مثل حزن من حزنته قال:
وقال بعض العرب: أفتنت الرجل وأحزنته إذا جعلته حزينا، وفاتنا، فغيره إلى
أفعل - هذا حكاه أبو علي الفارسي حجة لنافع - وقال قوله: (لا يحزنهم) إنما
ضم على خلاف أصله لعله اتبع أثرا أو أحب الاخذ بالوجهين:
المعنى:
والمعني بقوله: (الذين يسارعون في الكفر) - على قول مجاهد - وابن
إسحاق - المنافقون. وفي قول أبي علي الجبائي: قوم من العرب ارتدوا عن الاسلام.
فان قيل: كيف قال: (يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة) والإرادة
لا تتعلق بألا يكون الشئ وإنما تتعلق بما يصح حدوثه؟ قلنا: عنه جوابان:
أحدهما - قال ابن إسحاق: (يريد الله) أن يحبط أعمالهم بما استحقوه
من المعاصي والكبائر.
والثاني - ان الله يريد أن يحكم بحرمان ثوابهم الذي عرضوا له بتكليفهم،
وهو الذي يليق بمذهبنا، لان الاحباط عندنا ليس بصحيح فان قيل كيف
قال: (يريد الله) وهذا إخبار عن كونه مريدا في حال الاخبار، وإرادة الله
تعالى لعقابهم تكون يوم القيامة، وتقديمها على وجه يكون عزما وتوطينا للنفس
56

لا (1) يجوز عليه تعالى؟ قلنا: عنه جوابان:
أحدهما - قال أبو علي: معناه أنه سيريد في الآخرة حرمانهم الثواب،
لكفرهم الذي ارتكبوه.
والثاني - أن الإرادة متعلقة بالحكم بذلك، وذلك حاصل في حال الخطاب.
وقال الحسن: يريد بذلك فيما حكم من عدله. وقوله: (يسارعون في الكفر)
أي يبادرون إليه. والسرعة وإن كانت محمودة في كثير من المواضع، فإنها مذمومة
في الكفر. والعجلة مذمومة على كل حال إلا في المبادرة إلى الطاعات. وقيل:
إن العجلة هي تقديم الشئ قبل وقته، وهي مذمومة على كل حال، والسرعة فعل
لم يتأخر فيه شئ عن وقته، ولا يقدم قبله، ثم بين تعالى أنهم لمسارعتهم إلى الكفر
لا يضرون الله شيئا، لان الضرر يستحيل عليه تعالى. وإنما يضرون أنفسهم بأن
يفوتوا نفوسهم الثواب، ويستحقوا العظيم من العقاب، ففي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله
عما يناله من الغم باسراع قوم إلى الكفر بأن وبال ذلك عائد عليهم، ولا يضرون
الله شيئا.
قوله تعالى:
(إن الذين اشتروا الكفر بالايمان لن يضروا الله شيئا
ولهم عذاب اليم) (177) - آية -.
المعنى: استأنف الله تعالى بهذه الآية الاخبار بأن من اشترى الكفر بالايمان بمعنى
استبدل الكفر بالايمان. وقد بينا فيما مضى أن تسمية ذلك شراء مجاز لكن لما
فعلوا الكفر بدلا من الايمان شبه ذلك بشراء السلعة بالثمن وبين أن من فعل ذلك
لا يضر الله شيئا، لان مضرته عائدة عليه على ما بيناه. وإنما كرر (لن يضروا

(1) في المطبوعة (ولا).
57

الله) في هذه الآية، لأنه ذكر في الآية الا ولى - على طريقة العلة - لما يجب من
التسلية عن المسارعة إلى الضلالة، وذكر في هذه الآية على وجه العلة لاختصاص
المضرة للعاصي دون المعصى.
اللغة:
والفرق بين المضرة والإساءة أن الإساءة لا تكون إلا قبيحة، والمضرة قد
تكون حسنة إذا كانت لطفا، أو مستحقة أو فيها نفع يوفي عليها أو دفع ضرر
أعظم منها كفعل العقاب، وضرب الصبي للتأديب، وغير ذلك.
الاعراب:
وقوله: (شيئا) نصب على أنه وقع موقع المصدر، وتقديره (لن يضروا
الله شيئا) من الضرر. ويحتمل أن يكون نصبا بحذف الباء كأنه قال بشئ مما
يضربه، كما يقول القائل: ما ضررت زيدا شيئا من نقص مال، ولاغيره.
قوله تعالى:
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما
نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) (178) - آية واحدة
بلا خلاف -.
القراءة، والاعراب:
قرأ حمزه (ولا تحسبن) بالتاء وفتح السين. الباقون بالياء، وهو الأقوى،
لان حسبت يتعدى إلى مفعولين (وأن) على تقدير مفعولين، لان قوله: (أنما
نملي لهم خير لأنفسهم) سد مسد المفعولين لأنه لا يعمل في (أنما) إلا ما يتعدى إلى
مفعولين: نحو حسبت وظننت وأخواتهما. وحسبت يتعدى إلى مفعولين أو مفعول
58

يسد مسد المفعولين نحو حسبت أن زيدا منطلق وحسبت أن يقوم عمرو. فقوله:
(أنما نملي لهم خير لأنفسهم، سد مسد المفعولين اللذين يقتضيهما (يحسبن)
وكسر (إن) مع القراءة بالياء ضعيف وقرئ به. ووجه ذلك قال أبو علي الفارسي
(إن) يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء، ويدخل كل واحد منهما على الابتداء
والخبر فكسر (إن) بعد (يحسبن) وعلق عنها الحسبان، كما يعلق باللام، فكأنه
قال: لا يحسبن الذين كفروا للآخرة خير لهم. ومن قرأ بالتاء فعلى البدل،
كقوله: (هل ينظرون إلا الساعة ان تأتيهم بغتة) (1) وكما قال الشاعر:
فما كان قيس هلكه هلك واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما (2)
وقال الفراء: يجوز أن يكون عمل فيه (يحسبن) مقدرة تدل عليها الأولى.
وتقديره: ولا تحسبن الذين كفروا يحسبون إنما نملي لهم وهكذا في قوله:
(هل ينظرون) ويجوز كسر (إنما) مع التاء في (يحسبن) وهو وجه الكلام،
لتكون الجملة في موضع الخبر: نحو حسبت زيدا انه كريم. غير أنه لم يقرأ به أحد
من السبعة. وقوله: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) معنى اللام ههنا للعاقبة وليست
بلام الغرض. كأنه قال: إن عاقبة أمرهم ازدياد الاثم كما قال: (فالتقطه آل فرعون

(1) سورة الزخرف: آية 66.
(2) قائله عبدة بن الطبيب أمالي السيد المرتضى 1: 114، والأغاني 12: 148
والحماسة شرح التبريزي 2: 285، 286 وغيرها وهو من أبيات قالها في قيس بن عاصم
ومطلعها:
عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته ما شاء أن بترحما
وقيس بن عاصم رجل حليم شريف في قومه، وكان الأحنف بن قيس يقول: إنما تعلمت
الحلم من قيس بن عاصم. وقال ابن الاعرابي: قيل ليس بماذا؟ دت؟ فقال: بثلاث: بذل
الندى وكف الأذى، ونصر المولى. قال التبريزي في شرحه لهذا الميت: يروى (هلك) بالنصب
وبالرفع، فإذا نصبته كان (هلكه) في موضع البدل من (قيس) و (هلك) ينتصب على أنه
خبر (كان) كأنه قال: فما كل هلك قيس هلك واحد من الناس بل مات لموته خق كثير. وإذ
رفعته كان (هلكه) في موضع المبتدأ (وهلك واحد) في موضع الخبر. والجملة في موضع النصب
على أنها خبر كان.
59

ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) وكما قال: (وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) (
وكقوله: (لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الأرض..)
إلى قوله: (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) (3) وما قالوا ذلك ليكون حسرة
وإنما كان عاقبته كذلك وقال الشاعر:
وأم سماك فلا تجزعي * فللموت ما تلد الوالدة (4)
وقال آخر:
أموالنا لذوي الميراث تجمعها * ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال:
وللمنايا تربي كل مرضعة * وللخراب يجد الناس بنيانا
وقال آخر:
لدوا للموت وابنوا للخراب * [فكلكم يصير إلى ذهاب]
ويقول القائل: ما تزيدك موعظتي الا شرا، وما أراها عليك إلا وبالا. ولا
يجوز أن يحمل ذلك على لام الغرض والإرادة، لوجهين:
أحدهما - ان إرادة القبيح قبيحة ولا تجوز ذلك عليه تعالى.
والثاني - لو كانت اللام لام الإرادة لكان الكفار مطيعين لله من حيث فعلوا
ما أراده الله وذلك خلاف الاجماع. وقد قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون) (ه وقال: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (6)
وقال أبو الحسن الأخفش والإسكافي: في الآية تقديم وتأخير. وتقديره ولا تحسبن
الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما أنما نملي لهم خير لأنفسهم. وهذا ضعيف،

(1) سورة القصص: آية 8.
(2) سورة الزمر: آية 8.
(3) سورة آل عمران: آية 156.
(4) العجز في الذيل من سمط الآلي: 92 وهو مثل سائر ينسب لشتيم بن خويلد الفزاري
ولسماك بن عمرو الباهلي.
(5) سورة الذاريات: آية 56.
(6) سورة النساء: آية 63.
60

لأنه كان يجب لو كان على التقديم، والتأخير أن تكون إنما الأخيرة مفتوحة الهمزة
لأنها معمول تحسبن - على هذا القول - وأن تكون الأولى مكسورة، لأنها مبتدأة
في اللفظ والتقديم والتأخير لا يغير الاعراب عن استحقاقه وذلك خلاف ما عليه
جميع القراء، فإنهم أجمعوا على كسر الثانية. والأكثر على فتح الأولى. ويمكن أن
يقال: - نصرة لأبي الحسن - أن يكون التقدير ولا تحسبن الذين كفروا قائلين:
إنما نملي لهم ليزدادوا إثما، بل فليعلموا أنما نملي لهم خير لأنفسهم. فيكون الحسبان
قد علق، ولم يعمل. وتكون إنما الثانية كسرت، لأنها بعد القول. وتكون في
موضع نصب بالقول المقدر وتكون أنما الأولى منصوبة بالعلم المقدر الذي بيناه.
وعلى هذا يجوز أن يكون الوعد عاما، ويكون الوعيد المذكور مشروطا بالمقام على
الكفر. وعلى الوجه الأول الذي حملنا اللام على العاقبة لابد من تخصيصها بمن علم
منه انه لا يؤمن، لأنه لو كان فيهم من يؤمن لما توجه إليهم هذا الوعيد المخصوص
وقال البلخي: معناه لا تحسبن الذين كفروا ان املاءنا لهم رضاء بافعالهم، وقبول
لها بل هو شر لهم، لأنا نملي لهم وهم يزدادون إثما يستحقون به عذابا أليما.
ومثله: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) (1) أي ذرأنا كثيرا من
الخلق سيصيرون إلى جهنم بسوء فعالهم و (ما) في قوله: (إنما) تحتمل
أمرين:
أحدهما - أن تكون بمعنى الذي والتقدير: إن الذي نمليه خير لأنفسهم.
والآخر - أن يكون ما نملي بمنزلة الاملاء فتكون مصدرا. وإذا كانت
كذلك فلا تحتاج إلى عائد يعود إليها. والاملاء: طول المدة. (فنملي لهم))
معناه نطول أعمارهم. ومنه قوله: (واهجرني مليا) (2) أي حينا طويلا. ومنه
قوله: عشت طويلا، وتمليت حينا. والملا: الدهر والملوان: الليل والنهار،
لطول تعاقبهما. واملاء الكتاب وإنما أنكر تعالى أن يكون الاملاء خير لهم - وان

(1) سورة الأعراف: آية 178.
(2) سورة مريم: آية 46.
61

كانت نعمة دنيوية - من وجهين:
أحدهما - قال الجبائي: أراد خير من القتل في سبيل الله، كشهداء أحد
الثاني - قال البلخي: لا تحسبن ان ذلك خير استحقوه بفعلهم، أي لا تغتروا
بذلك فتظنوا انه لمنزلة لهم، لأنهم كانوا يقولون: إنه تعالى لو لم يرد ما هم عليه،
لم يمهلهم.
قوله تعالى:
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث
من الطيب وما كان انه ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من
رسله من يشاء فأمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر
عظيم) (179) - آية بلا خلاف -.
قرأ حمزة والكسائي (يميز) - بالتشديد - الباقون بالتخفيف. يقال: مازه
يميزه، وميزه يميزه - لغتان -.
ومعنى الآية لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه، فلا يميز المؤمن
من المنافق، والكافر (حتى يميز الخبيث من الطيب). وقيل في معنى الخبيث ههنا:
قولان:
أحدهما قال مجاهد، وابن إسحاق، وابن جريج: هو المنافق. قالوا: كما
ميز المؤمن من المنافق يوم أحد. بالامتحان على ما مضى شرحه.
الثاني - قال قتادة، والسدي: حتى يميز المؤمن من الكافر.
وسبب نزول الآية ما قاله السدي: إن المشركين قالوا: إن كان محمد صادقا
فليخبرنا من يؤمن منا، ومن يكفر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال قوم: إن
كان يعلم المنافقين، فما حاجته إلى اختبارهم؟ فأنزل الله تعالى انه يميزهم. وذلك
يكون: تارة باختبارهم، وتارة بتعيينهم.
والتمييز بين الكافر وبين المؤمن أو المنافق والمؤمن بالامتحان والاختبار في
62

تكليف الجهاد، ونحوه: مما يظهر به حالهم، وتنكشف ضمائرهم وقيل: بالدلالات،
والعلامات التي يستدل بها عليهم من غير نص اعلام لهم فان قيل: هل اطلع
نبيه صلى الله عليه وآله على الغيب؟ قلنا: عن ذلك جوابان:
أحدهما - قال السدي: لا، ولكنه اجتباه، فجعله رسولا وقال ابن إسحاق:
ولكن الله اجتبى رسوله باعلامه كثيرا من الغايبات. وهذا هو الأليق بالآية.
وقال الزجاج قوله: (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء)
سببه أن قوما قالوا:
هلا جعلنا الله أنبياء؟ فأخبر الله تعالى أنه (يجتبي من رسله من يشاء) و (من)
في الآية لتبيين الصفة لا للتبعيض، لان الأنبياء كلهم مجتبون.
قوله تعالى:
(ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو
خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله
ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير) (180).
قرأ حمزة (ولا تحسبن) بالتاء المعجمة من فوق الباقون بالياء، وهو
الأقوى، لان عليه أكثر القراء، فمن قرأ بالتاء، فالتقدير على قراءته ولا تحسبن
بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير لهم. وجاز حذف البخل مع
الفصل لدلالة يبخلون عليه، كما يقال من كذب كان شرا له. والمعنى كان الكذب
شرا له. قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه * وخالف والسفيه إلى خلاف (1)
ومعناه خالف إلى السفه. قال الزجاج: إنما تكون هو، وهما، وهم، وأنا
وأنت، ونحن فصولا مع الافعال التي تحتاج إلى اسم وخبر، ولم يذكر سيبويه
الفصل مع الابتداء، والخبر. قال: ولو تأول متأول قوله الفصل هاهنا أنه يدل

(1) معاني القرآن للقراء 1: 104 - 249. آمالي ابن الشجري 1: 68 - 113 -
305 و 2: 132 - 209 والانصاف: 63 والخزانة: 383.
63

على أنه جائز في المبتدأ والخبر كان جائزا. قال: والقراءة بالياء عندي هو الأجود
ويكون الاسم محذوفا، قال: والقراءة بالتاء لا تمتنع مثل قوله: (واسأل القرية) (1)
وتقديره ولا تحسبن بخل الباخلين خيرا.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها ما قاله السدي: إن المعنى بخلوا أن ينفقوا
في سبيل الله كما بخلوا بمنع الزكاة. وقيل إنها نزلت في أهل الكتاب بخلوا أن
يبينوه للناس - على قول ابن عباس - والوجه الأول أظهر لان أكثر المفسرين على
أنها نزلت في مانعي الزكاة، وهو قول أبي جعفر (ع) وقوله: (هو خيرا لهم)
فلفظة (هو) فصل، بين الاسم، والخبر على تقدير ولا تحسبن الذين يبخلون بما
آتاهم الله من فضله البخل هو خيرا لهم فيمن قرأ بالياء وقوله: (سيطوقون ما بخلوا
به يوم القيامة) قيل في معناه قولان:
أحدهما - رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه شجاع أقرع يطوقونه،
وهو المروي عن أبي جعفر (ع). وقال إبراهيم النخعي: انهم يطوقون طوقا من
نار. وقال أبو علي: هو كقوله: (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها
جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم) (2) وقال البلخي معناه
سيجازون كأنهم طوقوا. وقوله: (ولله ميراث السماوات والأرض) معناه أنه
يبطل ملك كل شئ إلا ملك الله، فيصير كالميراث لصحة الملك الثاني بعد زوال
الأول وإن لم يكن في صفات الله على جهة الانتقال، لأنه لم يزل مالكا (عز وجل)
والبخل هو منع الواجب لأنه تعالى ذم به وتوعد عليه، وأصله في اللغة مشقة
الاعطاء، وإنما يمنع الواجب لمشقة الاعطاء.
قوله تعالى:
(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء

(1) سورة يوسف: آية 82.
(2) سورة التوبة: آية 36.
64

سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب
الحريق) (181) - آية بلا خلاف -.
قرأ حمزة وحده (سيكتب) بضم الياء. الباقون بالنون. ذكر الحسن
وقتادة: أن الذين نسبوا الله تعالى إلى الفقر وأنفسهم إلى الغناء هم قوم من اليهود
لما نزل قوله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) (1) قالوا إنما يستقرض الفقير
من الأغنياء، فهو فقير ونحن أغنياء، والقائل لذلك حي بن أخطب وفنحاص اليهودي.
وقال أبو علي الجبائي: هم قوم من اليهود، وإنما قالوا ذلك من جهة ضيق الرزق.
وقيل: انهم قالوا ذلك تمويها على ضعفائهم لا أنهم اعتقدوا أن الله فقير على
الحقيقة. وقيل: انهم عنوا بذلك إله محمد الذي يدعي أنه رسوله دون من
يعتقدون هم أنه على الحقيقة.
فان قيل: كيف الحكاية عنهم بأنهم قالوا ذلك، وإنما قالوه على جهة الالزام
دون الاعتقاد؟ قلنا: لأنه إلزام باطل من حيث لا يوجبه الأصل الذي الزموا عليه،
لأنه إنما قال تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) على وجه التلطف في
الاستدعاء إلى الطاعة، وحقيقته أن منزلة ما ينفقون في وجوه البر كمنزلة القرض
الذي يرجع إليكم ويضاعف به الاجر لكم مع أنهم أخرجوا ذلك مخرج الاخبار
عن الاعتقاد.
وفي الآية دلالة على أن الرضا بقبيح الفعل يجري مجراه في عظم الجرم، لان
اليهود الذين وصفوا بقتل الأنبياء لم يتولوا ذلك في الحقيقة، وإنما ذموا به،
لأنهم بمنزلة من تولاه في عظم الاثم. وقوله: (سنكتب ما قالوا) قيل في معناه
قولان:
أحدهما - انه يكتب في صحائف أعمالهم، لأنه أظهر في الحجة عليهم
وأجرى ان يستحيوا من قراءة ما أثبت من فضائحهم - على قول الجبائي -.

(1) سورة البقرة: آية 254 وسورة الحديد: آية 11.
65

الثاني - قال البلخي سيحفظ ما قالوا حتى يجازوا به أي هو بمنزلة ما قد
كتب في أنه لا يضيع منه شئ. والأول أظهر. وقوله: (وذوقوا عذاب الحريق)
يعني المحرق، والفائدة فيه ان يعلم أنه عذاب بالنار التي تحرق، وهي الملتهبة، لان
ما لم يلتهب لا يسمى حريقا، وقد يكون العذاب بغير النار. وقوله: (ذوقوا)
يفيد أنكم لا تتخلصون من ذلك كما يقول القائل: ذق هذا البلاء يعني انك لست
بناج منه.
قوله تعالى:
(ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) (182) - آية -.
المعنى:
قوله: (ذلك) إشارة إلى ما تقدم ذكره من قوله: (ونقول ذوقوا عذاب
الحريق. ذلك بما قدمت أيديكم) ومعناه بما جنيتموه على أنفسكم، فان الله لا يظلم
أحدا من عبيده، ولا يبخسهم حقهم.
وفيها دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لأنها تدل على أنه لو وقع العقاب من
غير جرم سلف من العبد، لكان ظلما وذلك بخلاف ما يذهبون إليه من أن الله
تعالى يعذب الأطفال من غير جرم. فان قيل: لم نفى كثرة الظلم على وجه لا يدخل
فيه القليل، وهلا نفى على وجه العموم كقوله: (لا يظلم مثقال ذرة) (1)
وكقوله: (لا يظلم الناس شيئا) (2) وقوله: (ولا يظلمون فتيلا) (3)
و (نفيرا)؟ قيل: لأنه خرج مخرج الجواب لمن توهم مذهب المجبرة فدل على أنه لو
كان على ما يذهبون إليه، لكان ظلاما للعبيد، وما هو بظلام لهم. فان قيل: لم

(1) سورة النساء: آية 39.
(2) سورة يونس: آية 44.
(3) سورة النساء: آية 48 وسورة الاسرى: آية 71.
66

أضيف التقديم إلى أيديهم وإنما هولهم في الحقيقة؟ قيل: لأنه إذا أضيف على
هذه الطريقة كان أبعد من توهم الفساد في معنى الإضافة إذ قد يضاف الفعل إلى
الانسان على معنى أنه أمر به ودعا إليه. كما قال: (يذبح أبناءهم) (1) وإذا
ذكرت اليد دل على تولي الفعل نحو قوله (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت
أيدينا انعاما) (2). الاعراب:
(وان الله) إنما فتح ان لأنه معطوف على ما عملت فيه الباء، وتقديره
وبأن الله ليس بظلام للعبيد أي ذلك العذاب بما سلف من الاجرام وبامتناع ظلم
الله للعباد، فموضع أن جر وموضع الباء في قوله: (مما) رفع، لأنها في موضع
خبر ذلك وهي متصلة بالاستقرار كأنه قيل ذلك مستقر بما قدمت أيديكم، كما يقول
القائل: عقابك مما كسبت يداك.
قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا
بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي
قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) (183) - آية -.
المعني بقوله: ((الذين قالوا) هم الذين وصفهم الله بقوله: (لقد سمع الله
قول الذين قالوا إن الله فقير. الذين قالوا إن الله عهد إلينا).
الاعراب والمعنى:
والذين في موضع خفض ردا على قوله: (الذين قالوا إن الله فقير) ومعنى
قولهم (إن الله عهد إلينا) أي أوصانا في كتبه، وعلى ألسن أنبيائه ألا نصدق

(1) سورة القصص: آية 4.
(2) سورة يس: آية 71.
67

لرسول فيما يقوله: من أنه جاء به من عند الله من أمر ونهي، وغير ذلك، فالعهد:
العقد الذي يتقدم به للتوثق، وهو كالوصية. وقوله: (حتى يأتينا بقربان تأكله
النار) معناه حتى يجيئنا بما يقرب به العبد إلى الله من صدقة وبر. وقربان مصدر
على وزن عدوان، وخسران تقول قربت قربانا. وأما قوله: (تأكله النار)
فلان أكل النار ما قربه أحدهم لله في ذلك الزمان كان دليلا على قبول الله له،
ودلالة على صدق المقرب فيما أدعى أنه حق فيما نوزع فيه - في قول ابن عباس،
والضحاك -، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله قل لهم يا معشر من يزعم أن الله عهد إليه
ألا يؤمن لرسول حتى يأتيه بقربان تأكله النار، قل: قد جاء كم رسل من الله من
قبل. المعنى جاء أسلافكم بالبينات يعني بالحجج الدالة على صدق نبوتهم، وحقيقة
قولهم: وقد ادعيتم أنه يدل على تصديق من أتى به والاقرار بنبوته من أكل
النار قربانه، فلم قتلتموه إن كنتم صادقين؟ يعني قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذين
جاءوكم به من ذلك حجة لهم عليكم إن كنتم صادقين فيما عهد إليكم مما ادعيتموه
وأضاف القتل إليهم وإن كان أسلافهم تولوه لأنهم رضوا بأفعالهم فنسب ذلك
إليهم كما بيناه فيما تقدم في قوله تعالى: (ويقتلون النبيين بغير الحق) (1) فأراد
الله أن يعلم المؤمنين ان هؤلاء معاندون متعنتون، وإلا فهم عالمون بصفات النبي صلى الله عليه وآله
وما ذكره الله تعالى في التوراة وانه صادق فيما يدعيه، وإنما لم ينزل الله ما طلبوه
لان المعجزات تابعة للمصالح وليست على الاقتراحات والتعنت. فان قيل هلا قطع
الله عذرهم بالذي سألوا من القربان الذي تأكله النار؟ قيل: له لا يجب ذلك لان
ذلك اقتراح في الأدلة على الله والذي يلزم من ذلك أن يزيح علتهم بنصب الأدلة
على ما دعاهم إلى معرفته.
قوله تعالى:
(فان كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات

(1) سورة البقرة: آية 61.
68

والزبر والكتاب المنير) (184) - آية واحدة -.
القراءة، والحجة:
قرأ ابن عامر وحده وبالزبر وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. الباقون
بحذف الباء، فمن حذف فلان واو العطف أغنت عن تكرار العامل ومن أثبتها
فإنما كرر العامل تأكيدا، وكلاهما جيدان.
اللغة، والمعنى:
وهذه الآية فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وآله عما كان يصيبه من الأذى من اليهود
وأهل الشرك بتكذيبهم إياه بأن قال فقد كذب أسلافهم من رسل الله من جاءهم
بالبينات والحجج القاطعة، والأدلة الواضحة. والزبر جمع زبور وهو البينات
وكل كتاب فيه حكمة زبور. ومنه قول امرئ القيس:
لمن طلل أبصرته فشجاني * كخط زبور في عسيب يمان (1)
ويقال زبرت الكتاب إذا كتبته، فهو مزبور وزبرت الرجل أزبره: إذا
زجرته والزبرة: القطعة العظيمة من الحديد، ومنه قوله: (آتوني زبر الحديد) (2)
والزبير: الحماة. والزبرة مجتمع الشعر على كتف الأسد. وزبرت البئر إذا أحكمت
طيها بالحجارة، فهو مزبور وما لفلان زبر أي عقل، والكتاب المراد به التوراة
والإنجيل، لان اليهود كذبت عيسى، وما جاء به من الإنجيل وحرفت ما جاء به
موسى من صفة النبي صلى الله عليه وآله، وبدلت عهده إليهم فيه. والنصارى أيضا جحدت
ما في الإنجيل من نعته وغيرت ما أمرهم فيه به. وقوله: (المنير) معناه الذي
ينير، فينير الحق لمن اشتبه عليه، وهو حجة له. وإنما هو من النور، والإضاءة
يقال: قد أنار لك هذا الامر بمعنى أضاء لك وينير إنارة فهو منير، وهذا قول

(1) ديوانه: 210 وروايته (الزبور في العسيب اليماني). الزبور الكتاب المزبور
أي المكتوب بالمزبر وهو القلم. العسيب اليماني: سعف النخل.
(2) سورة الكهف: آية 97.
69

الحسن وابن جريج والضحاك، وأكثر المفسرين. فان قيل: لم جمع بين الزبر
والكتاب ومعناهما واحد؟ قلنا: لان أصلهما مختلف، فهو زبور لما فيه من الزجر
عن خلاف الحق، وهو كتاب، لأنه ضم الحروف بعضها إلى بعض، وسمي زبور
داود لكثرة ما فيه من المواعظ والزواجر. فان قيل: كيف قال (فان كذبوك،
فقد كذب رسل من قبلك) وهم وان لم يكذبوه أيضا، فقد كذب رسل من قبله؟
قلنا: لان المعنى فقد جروا على عادة من قبلهم في تكذيب أنبيائهم إلا أنه ورد على
وجه الايجاز كما تقول: إن أحسنت إلي فقد طالما أحسنت.
قوله تعالى:
(كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم
القيامة فمن زحزح عن النار ودخل الجنة فقد فاز وما الحياة
الدنيا إلا متاع الغرور) (185) - آية بلا خلاف -.
لا يجوز أن يجعل (ما) في (إنما) بمعنى الذي وترفع أجوركم، لان
يوم القيامة يصير من صلة توفون وتوفون من صلة الذين فلا يأتي ما في الصلة بعد
أجوركم. وأجوركم خبر، ومعنى الآية إن مصير هؤلاء المفترين على الله من اليهود
المكذبين برسوله الذين وصفهم، ومصير غيرهم من جميع الخلق إليه تعالى من حيث
حتم الموت على جميعهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وآله لا يحزنك قولهم وتكذيبهم وافتراء من
افترى منهم على الله وعليك، وتكذيب من تقدمك من الرسل. فان مرجعهم إلي
وأوفي كل نفس منهم جزاء عمله، فقال: توفون أجوركم يعني أجور أعمالكم
إن خيرا فخيرا وثوابا. وإن شرا فشرا وعقابا، وهو نصب على أنه مفعول به.
وقوله: (فمن زحزح عن النار) معناه نحي عن النار، وأبعد منها (وادخل الجنة
فقد فاز) أي نجا وظفر بعظيم الكرامة. وكل من لقي ما يغتبط به فقد فاز، ومعنى
(فاز) تباعد من المكروه، ولقي ما يحب. والمفازة: مهلكة. وإنما سموها مفازة
70

أي منجاة كما سموا اللديغ سليما، والأعمى بصيرا. وظاهر الآية يدل على أن كل
نفس تذوق الموت، وإن كانت مقتولة - على قول الرماني - ونحن وإن قلنا: إن
الموت غير القتل، فلابد أن نقول: إن المقتول يختار الله أن يفعل فيه الموت إذا
كان في فعله مصلحة. وقوله: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) معناه وما
لذات الدنيا، وشهواتها، وما فيها من زينتها إلا متعة متعكموها الغرور، والخداع:
المضمحل الذي لا حقيقة له عند الاختبار والامتحان، لأنكم تلتذون بما يمتعكم
الغرور من دنياكم، ثم هو عائد عليكم بالفجائع والمصائب، فلا تركنوا إليه، ولا
تسكنوا، فإنما هي غرور وإنما أنتم منها في غرور. وقال عكرمة: متاع الغرور،
القوارير، وهي في الأصل كل متاع لابقاء له، وإنما وصفت الحياة الدنيا بأنها متاع الغرور مع كشفها عن حالها، لأنها بمنزلة من يغتر بالمحبوب ويبذل ما فيه
الفرح والسرور، ليوقع في بلية تؤدي إلى هلكة، مبالغة في التحذير منها - على
منا بيناه - وفي الآية دلالة على أن أقل نعيم من الآخرة خير من نعيم الدنيا بأسره
ولذلك قال صلى الله عليه وآله: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا، وما فيها) واستدل بهذه
الآية على أن القتل هو الموت على الحقيقة. ومنهم من قال في المقتول: موت، وقتل
وللمخالف أن يقول: يمكن أن تكون الآية مخصوصة بمن يموت، ولا يقتل
كما قال: (كل نفس بما كسبت رهينة) (1) وهي مختصة بالعقلاء البالغين، ويمكن
أن يكون المراد كل نفس تعدم الحياة، فيكون ذلك على وجه الاستعارة. ذكره
البلخي. وقوله: (ذائقة الموت) مجاز، لان الموت لا يذاق في الحقيقة، لان
ذلك مشهور في كلامهم يقولون: ذاق الموت، وشرب بكأس المنون،
لأنه بمنزلة ما يذاق بذوق شدائده. والفرق بين الذوق وإدراك الطعم أن
الذوق تقريب جسم المذوق إلى حاسة الذوق، والادراك للطعم هو وجدانه (2)
وإن لم يكن هناك احساس، ولذلك يوصف تعالى بأنه مدرك للطعم ولا يوصف

(1) سورة المدثر: آية 38.
(2) في المخطوطة: (هو وجدك به..)
71

بأنه ذائق له. ويقولون: ذقته فلم أجد له طعما أي لابس فمي فلم أحس له طعما.
قوله تعالى:
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا
وتتقوا فان ذلك من عزم الأمور) (186) - آية -.
قوله: (لتبلون) معناه لتختبرن أي توقع عليكم المحن، وتلحقكم الشدائد
في أنفسكم، وأموالكم من قبل الكفار نحو ما نالهم من الشدائد في أنفسهم يوم أحد،
ونحو ما كان الله يفعل بهم من الفقر وشدة العسر، وإنما فعله ليصبروا وسماه بلوى
مجازا، لان حقيقته لا تجوز عليه تعالى، لأنها التجربة في اللغة. ويتعالى الله عن
ذلك، لأنه عالم بالأشياء قبل كونها. وإنما فعله ليتميز المحق منكم من غيره - هذا
قول أبي علي الجبائي - وقال البلخي: معناه لتبلون بالعبادات في أنفسكم كالصلاة
والصيام وغيرهما. وفي أموالكم من الانفاق في سبيل الله والزكوات، ليتميز المطيع
من العاصي. واللام لام القسم. والنون دخلت مؤكدة، وضمت الواو لسكونها،
وسكون النون. ولم تنصب لأنها واو الجمع فرقا بينها وبين واو الاعراب. ويقال
للواحد، لتبلين يا رجل وللاثنين لتبليان. ويفتح الياء في لتبلين في الواحد عند
سيبويه لسكونها وسكون النون. وفي قول غيره تبنى على الفتح لضم النون إليها.
كما يبنى ما قبل هاء التأنيث. وللمرأة لتبلين وللمرأتين لتبليان وللنساء لتبتلينان.
زيدت الألف لاجتماع النونات وقوله: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) يعني ما سمعوه من اليهود ومن كفار مكة
وغيرهم من تكذيب النبي صلى الله عليه وآله ومن الكلام الذي يغمهم ويكرثهم ثم بين تعالى بقوله:
(وإن تصبروا وتتقوا) إنكم ان صبرتم على ذلك وتمسكتم بالطاعة ولم تجزعوا عنده
جزعا يبلغ الاثم، (فان ذلك من عزم الأمور) ومعناه من جزم الأمور، أي
72

ما بان رشده وصوابه. ووجب على العاقل العزم عليه. وأذى مقصور. ويكتب
بالياء يقال أذى يأذى أذى: إذا سمع ما يسوءه وقد آذاني فلان يؤذيني إيذاءا
وتأذيت به تأذيا. وقال عكرمة وغيره: إن هذه الآيات كلها نزلت في فنحاص اليهودي
سيد بني قينقاع حين كتب النبي صلى الله عليه وآله إليه يستمده، فقال فنحاس: قد احتاج
ربكم أن نمده. وهو القائل: (إن الله فقير ونحن أغنياء) (1) ونزلت فيه أيضا
(لا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم) (2)
وقال الزهري: الآية نزلت في كعب بن الاشراف، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وآله،
والمؤمنين ويحرض المشركين عليهم حتى قتله محمد بن مسلمة غيلة. والبلوى التي
ابتلوا بها، قال الحسن: هي فرائض الدين من الجهاد في سبيل الله، والنفقة في طاعة
الله، والتمسك بما يجب لله في كلما أمر به ودعا إليه.
قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس
ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس
ما يشترون) (187) - آية بلا خلاف -.
القراءة والحجة:
قرأ ابن كثيرو أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ((ليبيننه للناس ولا يكتمونه)
بالياء فيهما. الباقون بالتاء فيهما، فمن قرأ بالياء، فلأنهم غيب. ومن قرأ بالتاء حكى
المخاطبة التي كانت في وقت أخذ الميثاق (ولتبيننه) لجماعة الرجال وللواحد تفتح
النون.

(1) سورة آل عمران: آية 181.
(2) سورة آل عمران: آية 180.
73

المعنى:
والمعني به اذكروا (إذا أخذ الله) منهم الميثاق ليبينن أمر نبوة النبي صلى الله عليه وآله
ولا يكتمونه (فنبذوه وراء ظهورهم) أي رموا به في قول ابن عباس، ولم يعملوا
به وإن كانوا مقرين به. ويقال لمن يطرح الشئ ولا يعبأ به رميته بظهر، قال
الفرزدق:
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي * بظهر ولا يعيا علي جوابها (1)
أي لا تتركنها، لا تعبأ بها، فأخبر الله تعالى عما حمل اليهود الذين كانوا
رؤساء على كتمان أمر النبي صلى الله عليه وآله، فقال: (واشتروا به ثمنا قليلا) أي قبلوا على
ذلك الرشا، وقامت لهم بذلك رئاسة اكتسبوها فذلك حملهم على الكفر بما يخفونه،
ثم ذم تعالى أفعالهم بقوله: (فبئس ما يشترون) لان ما يكون عاقبته الهلاك
والعقاب الدائم، وإن كان نفعا عاجلا، فهو بئس الشئ. وقال ابن عباس وسعيد
ابن جبير وعكرمة والسدي وابن جريج ان المعني بهذه الآية فنحاص اليهودي،
وأصحابه الذين كتموا أمر النبي صلى الله عليه وآله وما بينه الله في التوراة. وقال قتادة
وكعب وعبد الله بن مسعود هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم كافة، فمن علم شيئا
فليعلمه وإياكم وكتمان العلم، فان كتمانه هلاك. وقال الجبائي: المعني بالآية اليهود
والنصارى. وقال الحسن (لتبيننه ولا تكتمونه) معناه لتكلمن بالحق ولتصدقنه
بالعمل. والميثاق الذي ذكره الله في الآية هو الايمان التي أخذها عليهم أنبياؤهم
ليبينن ما في كتبهم من الاخبار والآيات الدالة على نبوة النبي صلى الله عليه وآله ولا يكتمونه.
والهاء في (ليبيننه) عائدة على محمد صلى الله عليه وآله في قول سعيد بن جبير والسدي، فيعود

(1) ديوانه 1: 95 وروايته:
عم بن زيد لا تهونن حاجتي * لديك ولا يعيا علي جوابها
وفي اللسان وفى الأغاني الصدر كما في الديوان والعجز هكذا: (بظهر فلا يخفى علي جوابها)
ومعناه أي لا تجبني بجواب لا أدري ما هو.
74

على معلوم غير مذكور. وقال الحسن وقتادة: قي عائدة على الكتاب فيدخل فيه
بيان أمر النبي صلى الله عليه وآله لأنه في الكتاب.
قوله تعالى:
(لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم
يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) (188)
آية - بلا خلاف -.
القراءة والحجة والاعراب:
قرأ أهل الكوفة ويعقوب (لا تحسبن) بالتاء وفتح الباء، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو بالياء، وضم الباء.
الباقون بالياء وفتح الباء.
(وتحسبنهم) الأخير بالتاء بلا خلاف. قال أبو علي من قرأ بالياء، لم
يوقع يحسبن على شئ، (والذين) رفع بأنه فاعل (لا تحسبن) قال: ووجه قراءة
ابن كثير وأبي عمرو في أن لم يعديا (حسبت) إلى مفعوليه ان (يحسب) في قوله:
(فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) لما جعل بدلا من الأول وعدي إلى مفعوليه
استغنى بها في تعدية الأول إليهما كما استغنى في قوله الشاعر:
بأي كتاب أم بأية سنة * ترى حبهم عارا علي وتحسب
فاكتفى بتعدية أحد الفعلين إلى المفعولين عن تعدية الآخر إليها. فان قال
قائل: كيف يستقيم تقدير البدل، وقد دخل الفاء بينهما، ولا يدخل بين البدل
والمبدل منه الفاء؟ والجواب أن الفاء زائدة، يدلك على ذلك أنها لا يجوز أن
تكون التي تدخل على الخبر، لان ما قبل الفاء ليس بمبتدأ، فتكون الفاء خبره،
ولا تكون العاطفة، لان المعنى (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) ويحبون
أنفسهم " بمفازة من العذاب " فإذا كان ذلك لم يجز تقدير العطف، لان الكلام
75

لم يستقل بعد فيستقيم فيه تقدير العطف. وأما قوله: " فلا تحسبنهم " فان فعل
الفاعل الذي هو يحسبون تعدى إلى ضميره، وحذفت واو الضمير لدخول النون
الثقيلة. وقوله: (بمفازة من العذاب) في موضع المفعول الثاني، وفيه ذكر
المفعول الأول. وفعل الفاعل في هذا الباب يتعدى إلى ضمير نفسه نحو ظننتني أخاه،
لأن هذه الأفعال لما كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت (إن) وأخواتها في
دخولهن على الابتداء والخبر كدخول هذه الأفعال عليهما، وذلك نحو قولك:
ظننتني ذاهبا، كما تقول: إني ذاهب، ولو قلت أظن نفسي تفعل، لم يجز كما يجوز
أظننتني فاعلا. وقال أبو سعيد الخدري، وأبو وهب، والزجاج: المعني بهذه
الآية قوم من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه وآله وخرجوا من عنده، فذكروا
لمن كان رآهم في ذلك الوقت أن النبي صلى الله عليه وآله قد أتاهم بأشياء قد عرفوها، فحمدهم
من شاهدهم من المسلمين على ذلك، وأظهروا خلاف ما أبطنوا، وأقاموا فيما بعد
على الكفر، فأعلم الله تعالى نبيه أنهم ليسوا بمفازة أي ليسوا ببعد من العذاب.
وقيل معناه ليسوا بمنجاة من العذاب، ووقعت، " فلا تحسبنهم " مكررة لطول
القصة كما يقولون: لا تظنن زيدا إذا جاءك كلمك بكذا وكذا، فلا تظننه صادقا،
فيعيد فلا تظننه توكيدا، واعلاما ان ذلك يتعلق بالأول، ولو لم يكرر كان جائزا،
لكن مع التأكيد أوضح. وقوله: " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " قال
البلخي: إنهم قالوا: " نحن أبناء الله وأحباؤه " (1) وأهل الصوم والصلاة
وليسوا بأولياء الله، ولا أحباؤه، ولا أهل الصلاة والصيام، ولكنهم أهل شرك
ونفاق. وهو المروي عن أبي جعفر (ع). وقال قوم: " يحبون أن يحمدوا "
على أنهم أبطلوا أمر محمد صلى الله عليه وآله، وكذبوا ما أبطلوه، ولا لهم قدرة على ذلك.
النزول، والمعنى:
وروي عن ابن عباس، وسعيد أن الآية نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون

(1) سورة المائدة: آية 20.
76

باجلال الناس لهم ونسبهم إياهم إلى العلم. وقال الضحاك، والسدي: نزلت في اليهود
حيث فرحوا بما أثبتوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وآله. وقال سعيد بن جبير: فرحوا
بما أتى الله آل إبراهيم. وقال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وآله سألهم عن شئ،
فكتموه ففرحوا بكتمانهم، وأقوى هذه الأقوال أن يكون قوله: " لا تحسبن
الذين يفرحون " يعني بها من أخبر الله عنهم أنه أخذ ميثاقهم ليبينن للناس أمر
محمد صلى الله عليه وآله، ولا يكتمونه، لان قوله: " لا تحسبن الذين يفرحون " في سياق
الخبر عنهم وشبيه بقصتهم مع أن أكثر أهل التأويل عليه. وقال الجبائي: الآية
في المنافقين، لأنهم كانوا يعطون المؤمنين شيئا يستعينون به على الجهاد لا على وجه
القربة إلى الله بل على وجه الرياء ويفرحون بذلك، ويريدون مع ذلك أن يحمدوا
على ذلك ويعتقد أنهم فعلوه لوجه القربة، فقال: " لا تحسبن الذين يفرحون بما
أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " بمنزلة المؤمنين الذين يفعلون الافعال لله
على وجه القربة إليه. وقال: " فلا تحسبنهم " مع ذلك بمنجاة " من العذاب "
بل " لهم عذاب أليم " يعني مؤلم فحسبان الثاني متعلق بغير ما تعلق به الأول،
فلذلك كرر. فان قيل: أين خبر " لا تحسبن " الأولى؟ قلنا: عنه جوابان:
أحدهما - " بمفازة من العذاب "، لأنها مكررة لطول الكلام. وقيل: الفاء
زائدة على هذا، وهو قول الزجاج.
والثاني - ان الخبر محذوف، كأنه قال ناجين، ودل الخبر الأخير عليه. فان
قيل: كيف يجوز أن يذم بالفرح وليس من فعل الانسان؟ قلنا ذم بالتعرض له
على جهة الأشر والبطر كما قال: " لا يحب الفرحين ".
قوله تعالى:
(ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شئ قدير)
(189) - آية بلا خلاف -.
77

معنى الآية الاخبار من الله تعالى بأنه مالك ما في السماوات، وما في الأرض
بمعنى أنه يملك تدبيرهما، وتصريفهما على ما شاء من جميع الوجوه ليس لغيره
الاعتراض عليه في ذلك وانه المقتدر على جميع ذلك " وهو على كل شئ قدير "،
وفى الآية تكذيب لمن قال: " إن الله فقير ونحن أغنياء " (1) لان من ملك
ما في السماوات والأرض لا يكون فقيرا. وفي قوله: (والله على كل شئ قدير)
تنبيه على أنه قادر على إهلاك من يقول هذا القول جهلا منه وعنادا، لكنه يحلم
عنه ويؤخر عذابه لضرب من المصلحة وقوله: " على كل شئ قدير " خرج مخرج
المبالغة، وهو أخص من قوله: " بكل شئ عليم " لان أفعال العباد لا توصف
بالقدرة عليها، وفرق الرماني بين أن يقال هو قادر على أفعال العباد، وبين قادر على
فعلهم، فقال قادر عليها يحتمل مالا يحتمل قادر على فعلهم، لأنه يفيد أنه قادر على
تصريفه كما يقولون فلان قادر على هذا الحجر أي قادر على رفعه، ووضعه، وفلان
قادر على نفسه أي قادر على ضبطها، ومنعها مما تنازع إليه، فعلي هذا جائز أن
يقال إنه قادر على أفعال العباد بمعنى أنه قادر على المنع منها، والتمكين منها دون
ما يستحيل من القدرة على ايجادها.
قوله تعالى:
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
لآيات لأولي الألباب) (190) - آية -.
في هذه الآية دلالة على وجوب النظر والفكر، والاعتبار بما يشاهد من
الخلق والاستدلال على الله تعالى، ومدح لمن كانت صفته هذه، ورد على من
أنكر وجوب ذلك، وزعم أن الايمان لا يكون إلا تقليدا وبالخبر، لأنه تعالى
أخبر عما في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار من الدلالات عليه

(1) سورة آل عمران: آية 181.
78

وعلى وحدانيته، لان من فكر في السماوات وعظمها وعجائب ما فيها من النجوم
والأفلاك، ومسير ذلك على التقدير الذي تسير عليه، وفكر في الأرض وما فيها
من ضروب المنافع، وفي اختلاف الليل والنهار ومجيئهما بالأوقات والأزمنة التي فيها
المصالح، واتساق ذلك وانتظام بعضها إلى بعض، وحاجة بعضها إلى بعض حتى لو
عدم شئ منه لم يقم ما سواه (مقامه) (1) علم أن ذلك لا يكون إلا من مدبر
قادر عليم حكيم واحد، لأنه لو كان قادرا، ولم يكن عالما بالعواقب لما أغنت القدرة
شيئا، ولو كان عالما غير حكيم في فعله لما أغنى العلم شيئا، ولو كانا اثنين ما انتظم
تدبير، ولاتم خلق، ولعلا بعضهم على بعض، كما قال تعالى: " لو كان فيهما آلهة
إلا الله لفسدتا " (2) فكيف ينسب إلى الفقر من كان جميع ما في السماوات والأرض
بيده، أم كيف يكون غنيا من كان رزقه بيد غيره إذا شاء رزقه وإذا شاء حرمه،
ويدل على أن خالق الجسم لا يشبهه، لأنه لو أشبهه لكان محدثا مثله، ويدل
على أنه قديم، لأنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث ولأدى ذلك إلى ما لا يتناهى
ويدل أيضا على أنه قادر على جميع الأجناس، لأنه من قدر على الجسم يقدر على
سائر الأجناس، ووجه الدلالة من خلق السماوات والأرض على الله هو ان الانسان
إذا فكر ورأي عظمها، وثقل الأرض ووقوفها على غير عمد يقلها، وحركة
السماوات حولها لاعلى شئ يدعمها، علم أن الممسك لذلك هو الذي لا يشبه
الأجسام ولا المحدثات، لأنه لو اجتمع جميع الخلق على أن يمسكوا جسما خفيف
المقدار، ويقلوه في الجو من غير أن يدعموه لما قدروا عليه، فعلم حينئذ ان الذي
يقدر عليه مخالف لجميع الأشياء وعلم أيضا أنها لو كانت السماوات والأرض معتمدة
على غيرها لكان ذلك الغير يحتاج إلى ما يعتمد عليه وفي ذلك اثبات ما لا يتناهى
من الأجسام، وذلك محال فهذا أحد وجوه دلالة السماوات والأرض، وهو أحد

(1) هكذا في المخطوطة (أ) وفي المطبوعة ما بين القوسين ساقط، والمخطوطة (ب)
ناقصة في هذا المكان أوراقا كثيرة.
(2) سورة الأنبياء: آية 22.
79

ما قال (إن في ذلك لآيات لأولي الألباب) ووجه الدلالة من اختلاف الليل والنهار
هو أن جميع الخلق لو اجتمعوا على أن يأتوا بالليل بدلا من النهار، أو النهار بدلا
من الليل أو ينقصوا، أو يزيدوا من أحدهما في الآخر لما قدروا عليه، كما قال:
(قل أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم
بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة
من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم
الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) الآية (1) وقوله: ((لأولي الألباب
) معناه لذوي (2) العقول. واللب: العقل سمي به لأنه خير ما في
الانسان واللب من كل شئ خيره، وخالصه. فان قيل: فما وجه الاحتجاج بخلق
السماوات [والأرض] (3) على الله ولم يثبت بعد انها مخلوقة قيل عند ثلاثة أجوبة:
أولها - على تقدير اثبات كونها مخلوقة قبل الاستدلال به لان الحجة به
قامت عليه من حيث أنها لم تنفك من المعاني المحدثة.
الثاني - أن الغرض ذكر ما يوجب صحة الذي تقدم ثم يترقى من ذلك إلى
تصحيح ما يقتضيه على مراتبه، كالسؤال عن الدلالة على النبوة فيقع الجواب بذكر
المعجزة دون ما قبلها من الرتبة.
الثالث - أن تعاقب الضياء والظلام يدل على حدوث الأجسام.
قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون
في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا
عذاب النار) (191) - آية بلا خلاف -

(1) سورة القصص: آية 71 - 72.
(2) في المخطوطة زيادة (والفكر) في هذا الموضع.
(3) في المطبوعة ما بين القوسين ساقط.
80

موضع (الذين) خفض، لأنه نعت (لأولي الألباب) أي فهؤلاء يستدلون
على توحيد الله بخلقه السماوات والأرض، وأنهم يذكرون الله في جميع أحوالهم
قياما وقعودا، وهو نصب على الحال. وقوله (وعلى جنوبهم) أي ومضطجعين،
وإنما عطف على قياما وقعودا، لان معناه يدل على الحال، لان الظرف يكون
حالا للمعرفة كما يكون نعتا للنكرة، لأنه من الاستقرار (كما تقول: مررت
برجل على الحائط أي مستقرا على الحائط، ومررت برجل في الدار مثله، كما نقول
أنا أصير إلى فلان ماشيا، وعلى الخيل، ومعناه وراكبا، كما (1) قال: (إذا
مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) (2) ومعناه مضطجعا أو قائما
أو قاعدا فبين تعالى أن هؤلاء المستدلين على حقيقة توحيد الله يذكرون الله في
سائر الأحوال. وقال قوم: (يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) أي
يصلون على قدر إمكانهم في صحتهم وسقمهم، وهو المروي في أخبارنا، ولا تنافي
بين التأويلين، لأنه لا يمتنع أن يصفهم بأنهم يفكرون في خلق السماوات والأرض
في هذه الأحوال ومع ذلك يصلون على هذه الأحوال في أوقات الصلوات، وهو قول
ابن جريج وقتادة. وقوله: (ربنا ما خلقت هذا باطلا) إنما قال هذا ولم يقل
هذه ولا هؤلاء، لأنه أراد به الخلق كأنه قال ما خلقت هذا الخلق باطلا (3) أي
يقولون (ربنا ما خلقت هذا باطلا) بل خلقته دليلا على وحدانيتك وعلى صدق
ما أتت به أنبياؤك، لأنهم يأتون بما يعجز عنه جميع الخلق. وقوله: (سبحانك)
معناه براءة لك من السوء وتنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا قال الشاعر:
أقول - لما جاءني فخره - * سبحان من علقمة الفاخر (4)

(1) ما بين القوسين ساقط من المخطوطة (أ).
(2) سورة يونس: آية 12.
(3) في المخطوطة نقص سطر في هذا الموضع.
(4) قائله أعشى بني تغلب. ديوان الأعشى الكبير: 143، القصيدة 18، واللسان (سبح).
81

وقال آخر:
سبحانه ثم سبحانا يعود له * وقبلنا سبح الجودي والجمد (1)
وقوله: (فقنا عذاب النار) أي فقد صدقنا رسلك بأن لك جنة ونارا
فقنا عذاب النار. ووجه اتصال قوله (فقنا عذاب النار) بما قبله قيل فيه قولان:
أحدهما - كأنه قال: (ما خلقت هذا باطلا) بل تعريضا للثواب بدلا من العقاب
(فقنا عذاب النار) بلطفك الذي نتمسك معه بطاعتك.
الثاني - اتصال الدعاء الذي هو طاعة لله بالاعتراف الذي هو طاعة له.
وفي الآية دلالة على أن الكفر والضلال وجميع القبائح ليست خلقا لله، لأن هذه
الأشياء كلها باطلة بلا خلاف. وقد نفى الله تعالى بحكايته عن أولي الألباب
الذين رضي أقوالهم بأنه لا باطل فيما خلقه، فيجب بذلك القطع على أن القبائح كلها
من فعل غيره، وأنه لا يجوز اضافتها إليه تعالى.
قوله تعالى:
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من
أنصار) (192) - آية -.
وهذه أيضا حكاية عن أولي الألباب الذين وصفهم بأنهم أيضا يقولون
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) أي من ناله عذاب النار وما فيها من
الذل والمهانة فهو المخزى. وقال ابن جريج، وقتادة، وأنس بن مالك،
وسعيد بن المسيب: الاخزاء يكون بالتأييد فيها. وقال جابر بن عبد الله:
إن الخزي يكون بالدخول فيها. وروى عنه عمرو بن دينار وعطا أنه قال: وما
أخزاه من أحرقه بالنار إن دون ذا لخزيا، وهذا هو الأقوى، لان الخزي إنما
هو هتك المخزى، وفضيحته، ومن عاقبه الله على ذنوبه،، فقد فضحه وذلك هو

(1) اللسان: (سبح) نسبه لامية.
82

الخزي، ولا ينافي ذلك ما نذهب إليه من جواز العفو عن المذنبين، لأنه تعالى
إذا عفا عن العاصي لا يكون أخزاه وان أدخله النار ثم أخرجه منها بعد استيفاء
العقاب، فعلى قول من قال: الخزي يكون بالدوام لا يكون أخزاه، ومن قال يكون
بنفس الدخول، له أن يقول: إن ذلك وإن كان خزيا، فليس مثل خزي الكفار،
وما يفعل بهم من دوام العقاب، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: (يوم لا يخزي الله
النبي والذين آمنوا معه) (1) وقوله: (وما للظالمين من أنصار) معناه ليس
للظالمين من يدفع عنهم على وجه المغالبة والقهر، لان الناصر هو الذي يدفع عن
المنصور على وجه المغالبة ولا ينافي ذلك الشفاعة في أهل الكبائر لان الشفاعة هي
مسألة وخضوع وضرع إلى الله تعالى، وليست من النصرة في شئ وقوله صلى الله عليه وآله
(يخرجون من النار بعد ما يصيرون حمما وفحما) صريح بوقوع العفو عن مرتكبي
الكبائر وتأول الرماني الخبر تأويلين:
أحدهما - أنه لولا الشفاعة، لواقعوا كبيرة يستوجبون بها الدخول فيها،
فيخرجون بالشفاعة على هذا الوجه، كما يقال أخرجتني من السلعة إذا كان لولا
مشورته، لدخل فيها بابتياعه إياها.
الثاني - لولا الشفاعة، لدخلوها بما معهم من الصغيرة ثم أخرجوا عنها إلى
الجنة. والأول فاسد، لأنه مجاز. والثاني - ليس بمذهب لاحد من القائلين
بالوعيد لان الصغيرة تقع مكفرة لا عقاب عليها فكيف يدخل بها النار.
قوله تعالى: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا
ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) (193)
- آية بلا خلاف -.

(1) سورة التحريم: آية 8.
83

في هذه الآية أيضا حكاية عمن تقدم وصفهم بأنهم أولوا الألباب وغير ذلك
من الأوصاف التي مضت بأنهم يقولون: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان)
واختلفوا فيمن المنادي ههنا، فقال محمد بن كعب القرظي وقتادة: هو القرآن.
وقال ابن جريج وابن زيد: هو رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو الذي اختاره الجبائي،
واختار الطبري الأول قال: لأنه ليس كل أحد سمع قول النبي صلى الله عليه وآله ولا رآه
ولا عاينه وسمع دعاءه إلى الله تعالى. والقرآن سمعه من رآه ومن لم يره كما قال تعالى
مخبرا عن الجن انهم قالوا: (سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) وهذا الذي ذكره
ليس بطعن، لأنه إذا بلغه دعوة النبي صلى الله عليه وآله جاز أن يقول (سمعنا مناديا) وإن
كان فيه ضرب من التجوز، وقال قتادة سمعوا دعوة من الله فأجابوها وأحسنوا
فيها وصبروا عليها. وقوله: (سمعنا مناديا) يعني نداء مناد لان المنادي لا يسمع
وقوله: (للايمان) معناه إلى الايمان، كما قال: (الحمد لله الذي هدانا لهذا) (1)
ومعناه إلى هذا قال الراجز:
أوحى لها القرار فاستقرت * وشدها بالراسيات الثبت (2)
يعني أوحى إليها. ومنه قوله: (بأن ربك أوحى لها) (3) أي إليها،
فمعنى الآية (ربنا اننا سمعنا) داعيا يدعو إلى الايمان والتصديق بك، والاقرار
بوحدانيتك، واتباع رسولك واتباع أمره ونهيه، فصدقنا بذلك يا (ربنا فاغفر
لنا ذنوبنا) ومعناه استرها علينا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رؤوس الاشهاد
بعقوبتك، لكن كفرها عنا (وكفر عنا سيئاتنا) معناه امحها بفضلك ورحمتك
إيانا (وتوفنا مع الأبرار) معناه واقبضنا إليك إذا قبضتنا في جملة الأبرار،
واحشرنا معهم.

(1) سورة الأعراف: آية 42.
(2) انظر 2: 459 تعليقة. 1
(3) سورة الزلزال: آية 5.
84

اللغة، والمعنى:
والأبرار جمع بر، وهم الذين بروا الله بطاعتهم إياه حتى أرضوه، فرضي
عنهم. وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر وأصل البر الاتساع، فالبر الواسع
من الأرض خلاف البحر والبر صلة الرحم والبر:
العمل الصالح. والبر: الحنطة والأبرار
على الخصم الزيادة عليه. وابتر من أصحابه إذا انفرد منهم.
فان قيل: إذا كان النداء إنما هو تنبيه المنادى ليقبل بوجهه على المكلم له،
فما معنى ربنا؟ قلنا: الأصل في النداء تنبيه المنادى ثم استعمل في استفتاح الدعاء
اقتضاء للإجابة واعترافا بالتفضل، ولا يجوز فتح (أن) بعد ربنا بايقاع النداء
عليه، لان بعده لا يكون إلا جملة ولا يقع فيه مفرد، لأنه لا يجوز ربنا ادخالك
النار من أخزيته، لأنه ابتداء لا خبر له. فان قيل: ما معنى قوله: " وكفر عنا "
وقد أغني عنه قوله: " فاغفر لنا " قلنا: جوابان:
أحدهما - اغفر لنا ذنوبنا ابتداء بلا توبة، وكفر عنا إن تبنا.
والثاني - اغفر لنا بالتوبة ذنوبنا، وكفر عنا باجتناب الكبائر السيئات،
لان الغفران قد يكون ابتداء ومن سبب والتكفير لا يكون إلا عند فعل من العبد
وقوله: " ان آمنوا " تحتمل ان أمرين:
أحدهما - أن تكون بمعنى أي على ما ذكره الرماني.
والثاني - أن تكون الناصبة للفعل، لأنه لا يقع في مثله دخول الباء نحو
بأن آمنوا.
قوله تعالى:
(ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة
إنك لا تخلف الميعاد) (194) - آية بلا خلاف -.
فهذه أيضا حكاية عمن تقدم وصفهم بأنهم يقولون أعطنا ما وعدتنا على
85

لسان رسلك من الثواب ولا تخزنا. والمخزي في اللغة المذل، المحقور بأمر قد لزمه
بحجة تقول أخزيته أي ألزمته حجة أذللته معها، والخزي والانقماع والارتداع
متقاربة المعنى، والخزاية شدة الاستحياء. وقوله (إنك لا تخلف الميعاد)
استئناف كلام ولذلك كسرت (إن) والمعنى انك وعدت الجنة لمن آمن بك، وإنك
لا تخلف الميعاد. فان قيل: ما وجه مسألتهم لله أن يؤتيهم ما وعدهم، والمعلوم أن
الله ينجز وعده، ولا يجوز عليه الخلف في الميعاد؟ قيل عن ذلك أجوبة:
أحدها - ما اختاره الجبائي، والرماني ان ذلك على وجه الانقطاع إليه
والتضرع له والتعبد له كما قال: (رب احكم بالحق) (1) وقوله: (لا تحملنا مالا
طاقة لنا به) (2) وأمثال ذلك كثيرة.
والثاني - قال قوم إن ذلك خرج مخرج المسألة ومعناه الخبر، وتقدير الكلام
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا
وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، لتوفينا ما وعدتنا به على رسلك ولا تحزنا
يوم القيامة لأنهم علموا ان ما وعد الله به فلا بد من أن ينجزه
والثالث - قال قوم: معناه المسألة والدعاء بأن يجعلهم ممن آتاهم ما وعدهم من
الكرامة على ألسن رسله، لا أنهم كانوا قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في
أنفسهم ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم، لأنه
لو كان كذا، لكانوا زكوا أنفسهم وشهدوا لها أنهم ممن قد استوجب كرامة
الله، وثوابه، ولا يليق ذلك بصفة أهل الفضل من المؤمنين.
والرابع - قال قوم إنما سألوا ذلك على وجه الرغبة منهم إليه تعالى أن
يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر وإعلاء كلمة الحق على
الباطل فيجعل ذلك لهم لأنه لا يجوز أن يكونوا مع ما وصفهم الله به غير واثقين
ولا على غير يقين ان الله لا يخلف الميعاد فرغبوا إليه في تعجيل ذلك، ولكنهم

(1) سورة الأنبياء: آية 112.
(2) سورة البقرة: آية 286.
86

كانوا وعدوا النصر ولم يوقت لهم في ذلك وقت فرغبوا إليه تعالى في تعجيل ذلك
لهم لما لهم فيه من السرور بالظفر وهو اختيار الطبري.
وقال الآية مختصة بمن
هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله من وطنه وأهله مفارقا لأهل الشرك بالله إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله وغيرهم من تباع رسول الله صلى الله عليه وآله الذين رغبوا إليه تعالى في تعجيل
نصرهم علي أعدائهم وعلموا انه لا يخلف الميعاد ذلك غير أنهم سألوا تعجيله وقالوا
لا صبر لنا على أناتك وحلمك وقوى ذلك بما بعد هذه الآية من قوله: " فاستجاب
لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين
هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا... " الآيات بعدها
وذلك لا يليق إلا بما ذكره، ولا يليق بالأقاويل الباقية وإلى هذا أومأ البلخي،
لأنه قال في الآية الأخرى: انها والتي بعدها في الذين هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وآله.
وفي الآية دلالة على أنه يجوز أن يدعو العبد بما يعلم أنه يفعله مثل أن يقول رب
احكم بالحق. وقوله: " فاغفر لنا ذنوبنا " خلاف ما يقوله المجبرة، ولا يلزم على
ذلك جواز التعبد بأن يدعو بما يعلم أنه لا يكون مثل أن يقول لا يظلم، لان في
ذلك تحكما على فاعله وتجبرا عليه في تدبيره، ولو سوى بينهما كان جائزا كما قلنا في
قوله: (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) (1) على أحد الوجهين وقوله: " انك لا تخلف
الميعاد " فيه اعتراف بأنه لا يخلف الميعاد بعد الدعاء بالايجاز لئلا ينوهم عليهم
تجويز الخلف على الله تعالى.
وقوله تعالى:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر
أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم
وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم

(1) سورة البقرة: آية 286.
87

جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن
الثواب) (195) - آية بلا خلاف -.
قرأ حمزة والكسائي وخلف " وقتلوا وقاتلوا " بتقديم المفعولين على الفاعلين
الباقون " قاتلوا وقتلوا " بتقديم الفاعلين على المفعولين، وشدد التاء من (قتلوا) ابن
كثير وابن عامر. وقرأ عمر بن عبد العزيز " وقتلوا " بلا الف " وقتلوا " وقال
الطبري القراءة بتقديم المفعولين لا تجوز، وهذا خطأ ظاهر، لان من اختار اسم
الفاعلين على المفعولين، وجه قراءته أن القتال قبل القتل. ومن قدم المفعولين على
الفاعلين وجه قراءته يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون المعطوف بالواو ويجوز أن يكون أولا في المعنى. وإن كان
مؤخرا في اللفظ، لان الواو، لا يوجب الترتيب وهي تخالف الفاء في هذا
المعنى، وهكذا خلافهم في سورة التوبة.
والثاني - أن يكون لما قتل منهم قاتلوا ولم يهنوا ولم يضعفوا لمكان من قتل
منهم كما قال تعالى (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا
والله يحب الصابرين) (1) وقوله: (فاستجاب لهم ربهم أني) أي بأني وحذف
الباء، ولو قرئ بكسر الهمزة كان جائزا على تقدير: قال لهم " إني لا أضيع عمل
عامل منكم " ومعنى قوله: " فاستجاب " أجابهم ربهم يعني الداعين بما تقدم وصف
الله إياهم وأجاب واستجاب بمعنى قال الشاعر:
وداع دعا يامن يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب (2)
أي لم يجبه. " بأني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " من زائدة
كما يقال كان من الحديث ومن الامر ومن القصة. ومن ههنا أحسن، لان حرف

(1) سورة آل عمران: آية 146.
(2) قائله كعب بن سعد الغنوي الأصمعيات: 98 والقصيدة مشهورة، يرثي بها أخاه أبا
المغوار مر منها أبيات متفرقة. وقد مر هذا البيت في 1: 84.
88

النفي قد دخل في قوله: " لا أضيع " من ههنا ليست زائدة، لأنها
دخلت لمعنى ولا يصلح الكلام إلا بها، لأنها للترجمة والتفسير عن قوله: " منكم "
بمعنى لا أضيع عمل عامل منكم من الذكور والإناث، قالوا ولا تكون من زائدة إلا
في موضع جحد. وقوله: (لا أضيع عمل عامل منكم) لم يدركه الجحد لأنك لا تقول
لا أضرب غلام رجل في الدار، ولا في البيت، فيدخل ولا، لأنه لم ينله الجحد
ولكن (من) مفسرة. وقوله: " لأكفرن عنهم سيئاتهم " معناه لاذهبنا واسقط
عقابها، وهذه الآية، والتي قبلها - في قول البلخي - نزلت في المتبعين للنبي صلى الله عليه وآله
والمهاجرين معه ثم هي في جميع من سلك سبيلهم واتبع آثارهم من المسلمين. وقوله:
" لأكفرن عنهم سيئاتهم " أي لأغطينها وأمحونها وأحطنها عنهم بما ينالهم من
ألم الهجرة والجهاد واحتمال تلك الشدائد في جنب الله. وحمل السيئات على الصغائر.
وقوله: " ثوابا من عند الله " نصب على المصدر ذكر على وجه التأكيد، لان
معنى " ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار " (1) لأثيبنهم، ومثله
" كتاب الله عليكم " لان قوله: " حرمت عليكم أمهاتكم وبنانكم " (2) معناه
كتب الله عليكم (وكتاب الله عليكم) مؤكد ومثل ذلك " صنع الله الذي " (3)
لان قوله: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " (4) قد علم منه
أن ذلك صنع الله. وقوله: " من ذكر أو أنثى " روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله:
ما بال الرجال يذكرون، ولا تذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله هذه الآية روي
ذلك عن مجاهد، وعمرو بن دينار، ويقال ان القائل لرسول الله صلى الله عليه وآله كانت أم سلمة
(رض). وقوله: " بعضكم من بعض " قال أبو علي: يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يريد بقوله: " بعضكم " العاملين " من بعض " يعني بعض
العمل الذي أمرتم به.

(1) سورة المائدة: آية 13.
(2) سورة النساء: آية 22.
(3) سورة النمل: 88.
(4) سورة النمل: 88.
89

والثاني - أن يكون عنى بقوله: " بعضكم من بعض " أن ذكور المؤمنين
وإناثهم مستوون في أن لا يضيع الله لاحد منهم عملا، وان يجازيهم على طاعاتهم،
فإناث المؤمنين بعض المؤمنين، وكذلك ذكورهم، فبعضهم كبعض في هذا الباب.
وقال الطبري " بعضكم " يعني الذين يذكرونني " قياما وقعودا وعلى جنوبهم "
من بعض في النصرة، والملة، والدين، وحكم جميعكم فيما أفعل بكم حكم أحدكم
في " أني لا أضيع عمل عامل " ذكر منكم ولا أنثى. والإضاعة: الاهلاك. ضاع
الشئ يضيع: إذا هلك. وأضاعه إضاعة وضيعه تضييعا، ومنه الضيعة: القرية.
وقوله: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم) يعني الذين هاجروا عن قومهم
من أهل الكفر في الله إلى اخوانهم المؤمنين " وأخرجوا من ديارهم " هم المهاجرون
الذين أخرجهم المشركون من مكة " وأوذوا في سبيلي " بمعنى أوذوا في طاعتي
وعبادتي، وديني. وذلك هو سبيل الله " وقاتلوا " يعني في سبيل الله " وقتلوا "
فيها " لأكفرن عنهم سيئاتهم " يعني لأمحونها عنهم، ولأتفضلن عليهم بعفوي
ورحمتي، ولأغفرنها لهم. وذلك يدل على أن إسقاط العقاب تفضل على كل حال.
" ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا " يعني جزاء لهم على أعمالهم
" والله عنده حسن الثواب " معناه أن عنده من حسن الجزاء على الاعمال ما لا
يبلغه وصف واصف مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع
قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) (197) - آيتان بلا خلاف.
المعنى:
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - ان ذلك على وجه التأديب والتحذير، لان النبي لا تجوز عليه
90

المعاصي لمكان التحذير من الله والتخويف، كما قال (لئن أشركت ليحبطن عملك) (1)
الثاني - ان الخطاب وان توجه إليه، فالمراد به جميع المؤمنين، وتقديره
لا يغرنكم أيها المؤمنون ما ترون ان قوما من الكفار كانوا يتجرون ويربحون في
الاسفار التي كانوا يسافرونها، ويسلمون فيها لكونهم في الحرم، فأعلم الله تعالى
أن ذلك مما لا ينبغي أن يغبطوا به، لان مأواهم ومصيرهم بكفرهم إلى النار، ولا
خير بخير بعده النار. وقوله: " متاع قليل " معناه ذلك الكسب، والربح الذي
يربحونه متاع قليل وسماه متاعا، لأنهم متعوا به في الدنيا، والمتاع النفع الذي
تتعجل به اللذة اما بوجود اللذة أو بما يكون به اللذة نحو المال الجليل، والملك،
وغير ذلك من الأولاد والاخوان. ووصفه بالقلة لسرعة زواله وانقطاعه، وذلك
قليل بالإضافة إلى نعيم الآخرة.
والمهاد الموضع الذي يسكن فيه الانسان ويفترشه.
ووصفه بأنه بئس المهاد على ضرب من المجاز، لما فيه من أنواع العذاب، لان الذم
إنما هو على الإساءة كقولك: بئس الرجل - هذا قول أبي علي الجبائي - وقال
البلخي: هو حقيقة لأنه على وجهين:
أحدهما - من جهة النقص.
والآخر - من جهة الإساءة، وهو معنى قول السدي، وقتادة، وأكثر
المفسرين. والغرور ايهام حال السرور فيما الامر بخلافه في المعلوم، وليس كل ايهام
غرورا، لأنه قد يتوهمه مخوفا فيحذر منه، فلا يقال غره. والفرق بين الغرر والخطر
ان الغرر قبيح، لأنه ترك الحزم فيما يمكن أن يتوثق منه، والخطر قد يحسن على
بعض الوجوه، لأنه من العظم من قولهم: رجل خطير أي عظيم، وبني المضارع
مع النون الشديدة، لأنه بمنزلة ضم اسم إلى اسم للتأكيد.
قوله تعالى:
(لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها

(1) سورة العنكبوت: آية 65.
91

الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار)
(198) - آية -.
قرأ أبو جعفر (لكن) بتشديد النون وفتحها - ههنا وفي (الزمر) -
وقرأ أبو عمرو والكسائي، وحمزة في أكثر الروايات (الأشرار، والأبرار،
والقرار) بالإمالة. الباقون - بالتفخيم - والإمالة في فتحة الراء حسنة، لان الراء
المكسورة تغلب المفتوحة كما غلبت المستعلي في قولهم: قارب وطارد، وقادر فيمن
أمالهن، فإذا غلبت المستعلي، فان تغلب الراء المفتوحة أولى، لأنه لا استعلاء في
الراء، وإنما هو حرف من مخرج اللام فيه تكرير. ومن لم يمل، فلان كثيرا من
الناس لا يميل شيئا من ذلك.
لما أخبر الله تعالى عما للكفار من سوء العاقبة وأنواع العذاب بشر المؤمنين
بما أعدلهم من الجزاء عند الله وجزيل الثواب، فقال: (لكن الذين اتقوا ربهم)
بفعل الطاعات، وترك المعاصي (لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا
من عند الله) يعني ثوابا من عند الله، وهو نصب على المصدر على وجه التأكيد،
لان خلودهم فيه انزالهم فيها، كأنه قال: نزلوها نزلا، وهو بمعنى أنزلوها انزالا.
ويحتمل أن يكون نصبا على التفسير، كقولك: هو لك هبة. وواحد الأبرار بار:
مثل صاحب، وأصحاب. و. يجوز أن يكون بر وأبرار - على فعل وأفعال - تقول:
بررت والدي، فانا بر. وأصله برر لكن أدغمت الراء للتضعيف. وقوله: " وما
عند الله خير " يعني من الحبا والكرامة، وحسن المآب خير للأبرار مما يتقلب فيه
الذين كفروا، لان ما يتقلبون فيه زائل فان قليل، وما عند الله دائم غير زائل.
وقد بينا معنى (لكن) فيما مضى، وانها للاستدراك بها خلاف المعنى المتقدم من
اثبات بعد نفي أو نفي بعد اثبات. فقوله: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في
البلاد) يتضمن معنى فما لهم كبير نفع، فجاء على ذلك، (لكن الذين اتقوا ربهم
لهم جنات) وقوله: (تجري من تحتها الأنهار) معناه تجري من تحت شجرها.
92

ويقال انها تجري معلقة من غير أخدود لها. روي ذلك عن عبد الله بن مسعود،
ثم قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها (1)، وقوله في الفاجرة:
إن الموت خير لها يعني إذا كانت تدوم على فجورها.
قوله تعالى:
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل
إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم
عند ربهم إن الله سريع الحساب) (199) - آية بلا خلاف -.
النزول:
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقال جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب،
وقتادة، وابن جريج إن النبي صلى الله عليه وآله لما بلغه موت النجاشي، دعا له واستغفر له،
وصلى عليه، وقال للمؤمنين: صلوا عليه، فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم؟ وقال
قوم منافقون: نصلي على علج بنجران؟ فنزلت هذه الآية، فالصفات التي فيها
صفات النجاشي. وقال ابن زيد وفي رواية عن ابن جريج وابن إسحاق إنها نزلت
في جماعة من اليهود وكانوا أسلموا، منهم: عبد الله بن سلام، ومن معه. وقال
مجاهد: إنها نزلت في كل من أسلم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وهو
أولى، لأنه عموم الآية، ولا دليل يقطع به على ما قالوه على أنها لو نزلت في
النجاشي أو من ذكر، لم يمنع ذلك من حملها على عمومها، في كل من أسلم من
أهل الكتاب، لان الآية قد تنزل على سبب وتكون عامة في كل من تتناوله.
المعنى: وإنما خصوا بالوعيد، ليبين ان جزاء أعمالهم موفر عليهم، لا يضرهم كفر

(1) في المطبوعة: (فيها).
93

من كفر منهم فتأويل الآية " وان من أهل الكتاب ": التوراة والإنجيل " لمن يؤمن
بالله " أي يصدق بالله ويقر بوحدانيته، " وما أنزل إليكم " أيها المؤمنون من كتابه
ووحيه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله، " وما أنزل إليهم " يعني إلى أهل الكتاب من
الكتب " خاشعين " يعني خاضعين بالطاعة مستكينين له بها متذللين قال ابن زيد:
الخاشع: المتذلل الخائف. " لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " معناه لا يحرفون
ما أنزل الله في كتبه من أوصاف محمد صلى الله عليه وآله فيبدلونه، ولا غير ذلك من أحكامه،
وحججه لغرض من الدنيا خسيس يعطونه على التبديل، وابتغاء الرئاسة على
الجهال، كما فعله غيرهم ممن: صفه بقوله تعالى: " أولئك الذين اشتروا الضلالة
بالهدى " (1) وقال: " أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة " (2) لكن
ينقادون للحق، ويعملون بما أمرهم الله به مما أنزل إليهم، وينتهون عما نهاهم عنه
ثم قال: " أولئك " يعني هؤلاء الذين يؤمنون " بالله. وما أنزل إليكم وما أنزل
إليهم... لهم أجرهم عند ربهم " يعني لهم عوض أعمالهم وثواب طاعاتهم فيما
يطيعونه فيها مذخور عند ربهم حتى يوفيهم يوم القيامة " إن الله سريع الحساب "
وصفه بالسرعة لأنه لا يؤخر الجزاء عمن يستحقه لطول الحساب، لأنه لا يخفى
عليه شئ من أعمالهم قبل أن يعملوها وبعد أن عملوها، فلا حاجة به إلى احصاء،
عدد فيقع في الاحصاء ابطاء وقال الجبائي: لأنه قادر على أن يكلمهم في حال واحدة
كل واحد بكلام يخصه. لأنه قادر لنفسه و " خاشعين " نصب على الحال، ويمكن
أن يكون حالا من الضمير في " يؤمن " وهو عائد إلى قوله: " لمن يؤمن بالله "
ويمكن أن يكون حالا من قوله: (إليهم) وقال الحسن: الخشوع: الخوف اللازم
للقلب من الله. وأصل الخشوع: السهولة: والخشعة، سهولة
الرمل كالربوة. والخاشع من الأرض: الذي لا يهتدى له، لان الرمل يعفي اثاره.

(1) سورة البقرة: آية 16.
(2) سورة البقرة: آية 86.
94

ومنه قوله: " خاشعة أبصارهم " (1) " وخشعت الأصوات للرحمن " (2)
والخاشع: الخاضع ببصره. والخشوع: التذلل خلاف التصعب.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله
لعلكم تفلحون) (200) - آية بلا خلاف -.
اختلفوا في تأويل هذه الآية، فقال قوم: معنى اصبروا أثبتوا على دينكم
وصابروا الكفار ورابطوهم يعني في سبيل الله ذهب إليه الحسن، وقتادة، وابن
جريج، والضحاك وقال آخرون: معناها " اصبروا " على دينكم " وصابروا "
الوعد الذي وعدتكم به " ورابطوا " عدوي وعدوكم ذهب إليه محمد بن كعب
القرظي. وقال آخرون " اصبروا " على الجهاد " وصابروا عدوكم ورابطوا " الخيل
عليه ذهب إليه زيد بن أسلم. وقال آخرون: رابطوا الصلوات أي انتظروها واحدة
بعد واحدة، لان المرابطة لم تكن حينئذ وهذا مروي عن علي (ع) ذهب (3)
إليه
أبو سلمة بن عبد الرحمن، وجابر بن عبد الله وأبو هريرة والأولى أن تحمل الآية
على عمومها في الصبر على كل ما هو من الدين، فعلا كان أو تركا.
وأصل الرباط ارتباط الخيل للعدو، والربط الشد، ومنه قولهم: ربط الله
على قلبه بالصبر، ثم استعمل في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراء من أرادهم بسوء
وينبغي (4) أن يحمل قوله رابطوا أيضا على المرابطة لما عند الله لأنه العرف في استعمال
الخبر، وعلى انتظار الصلاة واحدة بعد أخرى. وقوله: " واتقوا الله " معناه
اتقوا ان تخالفوه فيما يأمركم به لكي تفلحوا [وتفوزوا] (ه) بنعيم الأبد
وتنجحوا بطاعتكم من الثواب الدائم.

(1) سورة القلم: آية 43.
(2) سورة طه: آية 108.
(3) في المخطوطة (وذهب).
(4) في المطبوعة (ينبغي) باسقاط الواو.
(5) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة
95

وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال اصبروا على المصائب، وصابروا على
عدوكم، ورابطوا عدوكم. وإنما جمع بين " اصبروا وصابروا " من أن المصابرة
من الصبر، للبيان عن تفصيل (1) الصبر الذي يعني به في الذكر لان المصابرة صبر
على جهاد العدو يقابل صبره لان المفاعلة بين اثنين.
وإنما وصف (أي) بالموصول ولم يوصف بالمضاف، لان (الذي) يجري
مجرى الجنس، لان فيه الألف واللام بمنزلة قوله يا أيها المؤمنون، ولا يجوز يا أيها
أخو زيد، لأنه لا يصح فيه الجنس.

(1) في المطبوعة (تفضيل).
96

سورة النساء
مائة وسبعون آية كوفي. وخمس وسبعون بصري
وهي مدينة كلها
وقد روي عن بعضهم أنه قال: كلما في القرآن من قوله: (يا أيها الناس)
نزل بمكة، والأول قول قتادة، ومجاهد، وعبد الله بن عباس بن أبي ربيعه،
وقال بعضهم: ان جميعها نزلت بالمدينة إلا آية واحدة وهي قوله: (إن الله يأمركم
أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) (1) فإنها نزلت بمكة حين أراد النبي صلى الله عليه وآله أن
يأخذ مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة ويسلمها إلى عمه العباس
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة
وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي
تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (1) - آية
بلا خلاف -.
القراءة والحجة:
قرأ أهل الكوفة (تساءلون به) بتخفيف السين، الباقون بتشديدها، وقرأ
حمزة وحده " والأرحام " بجر الميم، الباقون بفتحها. فمن قرأ من أهل الكوفة

(1) سورة النساء: آية 57.
97

" تساءلون به " بالتخفيف فوجهه ان أصله تتساءلون، فحذف احدى التاءين وهي الأصلية:
لان الأخرى للمضارعة، وإنما حذفوها لاستثقالهم إياها في اللفظ فحذفت لان
الكلام غير ملتبس. ومن شدد أدغم احدى التاءين في السين، لقرب مكان هذه
من هذه.
المعنى:
ومعنى " تساءلون به " تطلبون حقوقكم به " والأرحام " القراءة المختارة عند
النحويين النصب في الأرحام على تقدير: واتقوا الأرحام. وتكون (1) معطوفة
على موضع " به " ذكره أبو علي الفارسي، فأما الخفض فلا يجوز عندهم إلا في ضرورة
الشعر كما قال الشاعر أنشده سيبويه:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا * فاذهب فما بك والأيام من عجب
فجروا الأيام عطفا على موضع الكاف في " بك " وقال آخر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا * وما بينها والكعب غوط نفانف (2)
فعطف الكعب على الهاء والألف في (بينها) وهو ظاهر على مكنى وقال آخر:
وان الله يعلمني ووهبا * وانا سوف نلقاه سوانا
فعطف وهبا على الياء في يعلمني، ومثل ذلك لا يجوز في القرآن والكلام.
قال المازني: لان الثاني في العطف شريك للأول، فإن كان الأول يصلح أن يكون
شريكا للثاني جاز وإن لم يصلح أن يكون الثاني شريكا له لم يجز، قال: فكما لا تقول:
مررت بزيد وذاك (3) لا تقول مررت بك وزيد. وقال أبو علي الفارسي: لان
المخفوض حرف متصل غير منفصل فكأنه كالتنوين في الاسم فقبح أن يعطف باسم

(1) في المطبوعة: (أو يكون).
(2) قائله مسكين الدارمي معاني القرآن للقراء 1: 253، والانصاف: 193 والخزانة
3382. السواري جمع سارية وهي الأسطوانة والغوط: المطمئن من الأرض. والنفانف جمع
نفنف وهو الهواء بين الشيئين * والبيت كناية عن طول قامتهم
(3) في النسخ المخطوطة والمطبوعة (كذلك) والظاهر ما ذكرنا.
98

يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه. ويفسد من جهة المعنى من حيث إن اليمين
بالرحم لا يجوز، لان النبي صلى الله عليه وآله قال: (لا تحلفوا بآبائكم) فكيف تساءلون به
وبالرحم على هذا وقال إسماعيل بن إسحاق: الحلف بغير الله أمر عظيم، وان ذلك
خاص لله تعالى، وهو المروي في أخبارنا. وقال إبراهيم النخعي وغيره: انه من
قولهم: نشدتك بالله وبالرحم. وقال ابن عباس، والسدي، وعكرمة، والحسن،
والربيع، والضحاك، وابن جريج، وابن زيد، وقتادة: المعنى والأرحام فصلوها.
وهذه الآية خطاب لجميع المكلفين من البشر.
وقوله: (واتقوا ربكم) فيه وعظ بان يتقى عصيانه بترك (1) ما أمر به
وارتكاب ما نهى عنه. وحذر من قطع الأرحام لما أراد من الوصية بالأولاد والنساء
والضعفاء، فأعلمهم انهم جميعا من نفس واحدة، فيكون ذلك داعيا لهم إلى لزوم
أمره وحدوده في ورثتهم ومن يخلفون بعدهم، وفي النساء والأيتام عطفا لهم
عليهم. ثم اخبر تعالى انه خلق الخلق من نفس واحدة فقال: " الذي خلقكم من
نفس واحدة " والمراد بالنفس ههنا آدم عند جميع المفسرين: السدي وقتادة ومجاهد
وغيرهم. وقوله: (وخلق منها زوجها) يعني حواء. روي أنها خلقت من ضلع
من أضلاع آدم، ذهب إليه أكثر المفسرين. وقال أبو جعفر (ع): خلقها من فضل
الطينة التي خلق منها آدم، ولفظ النفس مؤنث بالصيغة، ومعناه التذكير ههنا،
ولو قيل نفس واحد لجاز.
المعنى، واللغة:
وقوله: (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) معنى بث نشر، يقال: بث الله الخلق.
ومنه قوله: " كالفراش المبثوث " (2) وذلك يدل على بث. وبعض العرب يقول
أبث الله الخلق، ويقال بثثتك سري، وأبثثتك سري لغتان.
وقوله: (إن الله كان عليكم رقيبا) أي حافظا تقول رقب يرقب رقابا وإنما

(1) في المطبوعة: (بقول).
(2) سورة القارعة: آية 4.
99

قال: " كان عليكم " ولفظ كان يفيد الماضي لأنه أراد أنه كان حفيظا على من
تقدم زمانه من عهد آدم وولده إلى زمان المخاطبين، وانه كان عالما بما صدر منهم،
لم يخف عليه منه شئ. والرقيب الحافظ في قول مجاهد. وقال ابن زيد: الرقيب
العالم، والمعنى متقارب، يقال: رقب يرقب رقوبا ورقبا ورقبة. قال أبو داود:
كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد (1)
وقيل في معنى " الذي تسألون به " قولان:
أحدهما - قال الحسن ومجاهد وإبراهيم: هومن قولهم: أسألك بالله والرحم،
فعلى هذا يكون عطفا على موضع به كأنه قال: وتذكرون الأرحام في التساؤل.
الثاني - قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك والربيع وابن زيد وهو
المروي عن أبي جعفر (ع): واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فعلى هذا يكون معطوفا على
اسم الله تعالى، ووجه النعمة في الخلق من نفس واحدة انه أقرب إلى أن يتعطفوا
ويأمن بعضهم بعضا ويحامي بعضهم عن بعض، ولا يأنف بعضهم عن بعض، لما
بينهم من القرابة والرجوع إلى نفس واحدة، لان النفس الواحدة ههنا آدم (ع) باجماع
المفسرين: الحسن وقتادة والسدي ومجاهد. وجاز من نفس واحدة لان حواء من
آدم على ما بيناه، فرجع الجميع آدم وإنما أنث النفس والمراد بها آدم لان لفظ
النفس مؤنثة، وان عني بها مذكر كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى * وأنت خليفة ذاك الكمال (2)
فانث على اللفظ، وقد حكينا عن أكثر المفسرين: ابن عباس ومجاهد
والحسن وقتادة والسدي وابن إسحاق: ان حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (المرأة خلقت من ضلع، وانك ان أردت أن
تقيمها كسرتها وان تركتها وفيها عوج استمعت بها). وروي عن أبي جعفر (ع)

(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 113، واللسان (رقب) وهو من أبيات في
نعت النور الأبيض. الرقباء جمع رقيب وهو أمين أصحاب الميسر يحفظ ضربهم بالقداح.
والضرباء جمع ضريب وهو: الضارب بالقداح. وقيل أن الضمير في (أيديهم) يعود إلى الضرباء.
وقيل إنه يعود إلى الرقباء، وهو الأصح.
(2) انظر 2: 449 تعليقة. 3
100

أن حواء خلقت من فضل طينة آدم (ع).
قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا
تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) (2) - آية
بلا خلاف -.
المعنى:
هذا خطاب لأوصياء اليتامى، أمرهم الله بأن يعطوا اليتامى أموالهم إذا
بلغوا الحلم وأونس منه الرشد، وسماهم يتامى بعد البلوغ، وايناس الرشد مجازا،
لان النبي صلى الله عليه وآله قال: (لا يتم بعد احتلام) كما قالوا في النبي صلى الله عليه وآله إنه يتيم
أبي طالب بعد كبره يعنون انه رباه. وقوله: (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)
معناه: لا تستبدلوا ما حرمه الله عليكم من أموال اليتامى بما أحله الله لكم من
أموالكم، واختلفوا في صفة التبديل فقال بعضهم كان أوصياء اليتامى يأخذون
الجيد من مال اليتيم والرفيع منه ويجعلون مكانه الردئ الخسيس، ذهب إليه إبراهيم
النخعي، والسدي، وابن المسيب، والزهري، والضحاك، وقال قوم: معناه " ولا
تتبدلوا الخبيث بالطيب " بأن تتعجلوا الحرام قبل أن يأتيكم الرزق الحلال الذي
قدر لكم. ذهب إليه أبو صالح، ومجاهد. وقال ابن زيد: معناه ما كان أهل
الجاهلية يفعلونه، من أنهم لم يكونوا أيرزقون النساء ولا الصغار بل يأخذه الكبار.
وأقوى الوجوه الوجه الأول، لأنه ذكر عقيب مال اليتامى وإن حمل على عموم النهي
عن التبديل بكل مال حرام كان قويا. وقوله: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم)
يعني أموال اليتامى مع أموالكم والتقدير: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم
فتأكلوهما جميعا، فأما خلط مال اليتيم بمال نفسه إذا لم يظلمه فلا بأس به بلا خلاف
101

قال الحسن لما نزلت هذه الآية كرهوا مخالطة اليتامى، فشق ذلك عليهم، فشكوا
ذلك إلى رسول الله، فأنزل الله تعالى: (ويسئلونك عن اليتامى قل اصلاح لهم
خير وإن تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) (1) وهو المروي عن
أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقوله: (انه كان حوبا كبيرا) يعني إن أكلكم
أموال اليتامى مع أموالكم حوب كبير، أي اثم كبير في قول ابن عباس ومجاهد.
والهاء في قوله: " انه " دالة على اسم الفعل الذي هو الاكل. والحوب الاثم، يقال: حاب
يحوب حوبا وحباة والاسم الحوب. وقرأ الحسن حوبا: ذهب إلى المصدر. ويقال:
تحوب فلان من كذا إذا تحرج منه. ويقال نزلنا بحوبة من الأرض وبحيب من الأرض
يعني بموضع سوء. وحكى الفراء عن بني أسد ان الحائب القاتل. وقال الشاعر:
إيها تطيع ابن عبس انها رحم * حبتم بها فانا ختم بحعجاع (2)
أي أثمتم والحوبة الحزن، والتحوب التحزن، والتحوب التأثم، والتحوب
الهياج الشديد، والحوباء الروح والكبير العظيم
قوله تعالى:
(وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم
من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو
ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3) وآتوا النساء صدقاتهن
نحلة فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا)
(4) - آيتان -.

(1) سورة آل عمران: آية 220.
(2) اللسان (حوب) نسبه إلى النابغة وفي (جعع) نسبه إلى نهكية الفزاري ورواية
البيت فيهما:
صبرا بغيض بن ريث انها رحم...
102

النزول، والمعنى:
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية على ستة أقوال:
أولها - ما روي عن عائشة انها قالت: نزلت في اليتيمة التي تكون في حجر
وليها فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا أن
ينكحوهن إلا أن يقسطوا لها صداق مهر مثلها، وأمروا أن ينكحوا ما طاب مما
سواهن من النساء إلى الأربع " فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة " من سواهن
" أوما ملكت ايمانكم " ومثل هذا ذكر في تفسير أصحابنا. وقالوا: انها متصلة بقوله:
(ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى في الكتاب في
يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون ان تنكحوهن) (1) (فان خفتم
ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) الآية وبه قال الحسن
والجبائي والمبرد.
والثاني - قال ابن عباس وعكرمة: ان الرجل منهم كان يتزوج الأربع
والخمس والست والعشر ويقول ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فنى ماله
مال على مال اليتيم فانفقه، فنهاهم الله تعالى عن أن يتجاوزوا بالأربع إن خافوا على مال
اليتيم وإن خافوا من الأربع أيضا أن يقتصروا على واحدة.
والثالث - قال سعيد بن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك. وفي
احدى الروايات عن ابن عباس قالوا: كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون
في النساء، ينكح أحدهم النسوة فلا يعدل بينهن، فقال الله تعالى كما تخافون ألا
تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء، فانكحوا واحدة إلى الأربع، فان خفتم ألا
تعدلوا فواحدة.
والرابع - قال مجاهد: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى معناه: ان تحرجتم

(1) سورة النساء: آية 126.
103

من ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيمانا وتصديقا فكذلك تحرجوا من الزنا،
وانكحوا النكاح المباح من واحدة إلى أربع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة.
والخامس - قال الحسن: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجركم
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قراباتكم مثنى وثلاث ورباع،
فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت ايمانكم. وبه قال الجبائي وقال:
الخطاب متوجه إلى أولياء اليتيمة إذا أراد أن يتزوجها إذا كان هو وليها كان له
أن يزوجها قبل البلوغ وله أن يتزوجها.
والسادس - قال الفراء: المعنى ان كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى
فاحرجوا من جمعكم بين اليتامى، ثم لا تعدلون بينهن. وقوله: (فانكحوا ما طاب
لكم) جواب لقوله: (وان خفتم ألا تقسطوا) على قول من قال ما رويناه أولا
عن عائشة وأبي جعفر (ع). ومن قال: تقديره: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى
فكذلك خافوا في النساء الجواب قوله: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء "
والتقدير: فان خفتم ألا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها فكذلك فخافوا
ألا تقسطوا في حقوق النساء، فلا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور،
مثنى وثلاث ورباع، وان خفتم أيضا من ذلك فواحدة، فان خفتم من الواحدة
فما ملكت ايمانكم، فترك ذكر قوله فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء
لدلالة الكلام عليه وهو قوله: (فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت ايمانكم)
ومعنى " ألا تقسطوا " أي لا تعدلوا ولا تنصفوا، فالاقساط هو العدل والانصاف
والقسط هو الجور. ومنه قوله: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) (1) وقد
بيناه فيما مضى. واليتامى جمع لذكران اليتامى وإناثهم في هذا المعنى.
المعنى، واللغة، والاعراب
وقال الحسين بن علي المغربي: معنى ما طاب أي بلغ من النساء كما يقال:
طابت الثمرة إذا بلغت، قال: والمراد المنع من تزويج اليتيمة قبل البلوغ لئلا يجري

(1) سورة الجن: آية 15.
104

عليها الظلم، فان البالغة تختار لنفسها، وقيل: معنى " ما طاب لكم من النساء "
من أحل لكم منهن دون من حرم عليكم، وإنما قال: " ما طاب " ولم يقل: من
طاب وإن كان من لما يعقل وما لما لا يعقل لان المعنى: انكحوا الطيب أي الحلال
هذه العدة، لأنه ليس كل النساء حلالا، لان الله حرم كثيرا منهن بقوله:
" حرمت عليكم أمهاتكم " (1) الآية. هذا قول الفراء. وقال مجاهد: فانكحوا النساء
نكاحا طيبا. وقال المبرد: " ما " ههنا للجنس كقول القائل: ما عندك؟ فتقول: رجل
أو امرأة، فالمعني بقوله: ما طاب الفعل دون أعيان النساء وأشخاصهن، لان
الأعيان لا تحرم ولا تحلل، وإنما يتناول التحريم والتحليل التصرف فيها، وجرى
ذلك مجرى قول القائل: خذ من رقيقي ما أردت: إذا أراد خذ منهم إرادتك ولو
أراد خذ الذي تريد لم يجز إلا أن يقول خذ من رقيقي من أردت وكذلك قوله:
" أوما ملكت ايمانكم " معناه أو ملك ايمانكم، ومعنى " فانكحوا ما طاب لكم
من النساء مثنى وثلاث ورباع " فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع، كما
قال: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (2)
معناه: فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وقوله: (مثنى وثلاث ورباع)
بدل من (ما طاب) وموضعه النصب وتقديره: اثنين اثنين، وثلاثا وثلاثا، وأربعا
أربعا، إلا أنه لا ينصرف لعلتين، إحداهما: انه معدول عن اثنين اثنين وثلاث
ثلاث في قول الزجاج، وقال غيره: لأنه معدول ولأنه نكرة، والنكرة أصل
للأشياء، وقال غيرهم: هو معرفة، وهذا فاسد عند البصريين، لأنه صفة للنكرة في
قوله: " اولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " (3) والمعنى اولي أجنحة ثلاثة ثلاثة وأربعة
أربعة. وقال الفراء لأنه معدول، لأنه يقع على الذكر والأنثى، ولأنه مضاف إلى
ما يضاف إليه الثلاث، فكأن لامتناعه من الإضافة كان فيه الألف واللام. قال
الشاعر:

(1) سورة النساء: آية 220.
(2) سورة النور: آية 4.
(3) سورة فاطر: آية 12.
105

ولكنما أهلي بواد أنيسه * ذئاب تبغى الناس مثنى وموحدا (1)
ومن قال: انه اسم للعدد معرفة استدل بقول تميم بن أبي مقبل:
ترى النعرات الزرق تحت لبانه * آحاد ومثنى أصعقتها صواهله (2)
فرد آحاد ومثنى على النعرات وهي معرفة، وقد يجئ منكرا مصروفا كما قال
الشاعر:
قتلنا به من بين مثنى وموحد * بأربعة منكم وآخر خامس (3)
وترك الصرف أكثر قال صخر الغي:
منت لك أن تلاقيني المنايا *
آحاد آحاد في شهر حلال (4)
وقد تقع هذه الألفاظ على الذكر والأنثى، فوقوعها على الأنثى مثل الآية
التي نحن في تفسيرها، ووقوعها على الذكر قوله: " اولي أجنحة مثنى وثلاث
ورباع " لان المراد به الجناح وهو مذكر، ويقال: آحاد وموحد وثنى ومثنى،
وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، ولم يسمع في ما زاد عليه مثل خماس ولا المخمس
ولا السداس والسباع إلا بيت للكميت فإنه يروى في العشرة عشار، وهو قوله:

(1) قائله ساعدة بن جؤية الهذلي. اللسان (بغى) وروايته (سباع) بدل (ذئاب).
(2) معاني القرآن 1: 255، 345، واللسان (نعر)، (صعق)، (قرد)،
(ثنى) وروايته في (فرد) فراد، بدل، آحاد. وأضعفتها، بدل أصعقتها وفي (نعر)
و (صعق) الحضر، بدل، الزرق.
النعرات جمع نعرة وهي ذبابة تسقط على الدواب فتؤذيها وأصعقتها صواهله أي قتلتها صهيله
(3) معاني القرآن للفراء 1: 254 وروايته:
وان الغلام المستهام بذكره * قتلنا به من بين مثنى وموحد
بأربعة منكم وآخر خامس * وساد مع الاظلام في رمح معبد
ولم يعرف لهما قائل. والبيت في المتن كما ترى ملفق منهما. وساد - بالتنوين - بمعنى سادس
(4) نسبة محمود محمد شاكر في تفسير الطبري 7: 545 إلى عمرو ذي الكلب وخطأ
من نسبه إلى غيره، وهذا خطأ منه لا محالة لان رواية القدماء أكثرها إذا لم تكن جميعها
تنسبه إلى صخر الغي. وقد اعترف هو أن الطبري روايته كذلك. وفي بعض الروايات
(في شهر حلال) منت لك: أي قدرت لك نيتك أن تلقاني في شهر حلال، أو حرام على
اختلاف الرواية.
106

فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا (1)
يريد عشرا. وقال صخر السلمي في ثنا وموحد:
ولقد قتلتكم ثناء وموحدا * وتركت مرة مثل أمس الدابر (2)
ولم يرد أنه قتل الثلاثة، وإنما أراد انه قتل نفرا كثيرا منهم واحدا بعد
واحد واثنين بعد اثنين، وقوله: " فواحدة " نصب على أنه مفعول به، والتقدير:
فان خفتي ألا تعدلوا فيما زاد على الواحدة فانكحوا واحدة، ولو رفع كان جايزا،
وقد قرأبه أبو جعفر المدني، وتقديره: فواحدة كافية،
أو فواحدة مجزية، كما
قال: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) (3) ومن استدل بهذه الآية
على أن نكاح التسع، جائز فقد أخطأ، لان ذلك خلاف الاجماع، وأيضا فالمعنى:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ان امنتم الجور وإما ثلاث ان لم تخافوا ذلك
أو رباع ان امنتم ذلك فيهن، بدلالة قوله: " فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة " لان
معناه فان خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة، ثم قال: فان خفتم أيضا في الواحدة
فما ملكت ايمانكم. على أن مثنى لا يصح إلا لاثنين اثنين، أو اثنتين اثنتين على
التفريق في قول الزجاج، فتقدير الآية " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى
وثلاث " [فثلاث] (4) بدلا من مثنى ورباع بدلا من ثلاث، ولو قيل ب‍ (أو)
لظن أنه ليس لصاحب مثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع. ومن استدل
بقوله: " فانكحوا " على وجوب التزويج من حيث أن الامر يقتضي الايجاب،
فقد أخطأ، لان ظاهر الامر وإن اقتضى الايجاب، فقد ينصرف عنه بدليل،
وقد قام الدليل على أن التزويج ليس بواجب على أن الغرض بالآية النهي عن العقد

(1) مجاز القرآن 1: 116، والأغاني 3: 139 واللسان (عشر) استراثه:
استبطأه، وعشار أي عشرا عشرا.
(2) مجاز القرآن 1: 115، والأغاني 13: 139. وروايته فيهما (المدبر)
بدل (الدابر).
(3) سورة البقرة: آية 282.
(4) أثبتنا ما بين القوسين لعدم استقامة المعني بدونه.
107

على من يخاف ألا يعدل بينهن، والتقدير: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى،
فتحرجتم فيهم، فكذلك فتحرجوا في النساء، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم
الجور فيه (1) منهن، مما أحللته لكم منهن، من الواحدة إلى الأربع، وقد يراد.
بصورة الامر ما يراد بالنهي (2) أو التهديد كقوله: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر " (3) وقال: " ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون " (4)
والمراد بذلك كله التهديد والزجر، فكذلك معنى الآية النهي، وتقديرها: فلا
تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء على ما بيناه.
وقوله: (ذلك أدنى ألا تعولوا) إشارة إلى العقد على الواحدة مع الخوف
من الجور فيما زاد عليها، أو الاقتصار على ما ملكت أيمانكم، ومعنى " أدنى "
أقرب " ألا تعولوا " وقيل في معنى " ألا تعولوا " ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو الأقوى والأصح = أن معناه: ألا تجوروا، ولا تميلوا يقال
منه: عال الرجل يعول عولا وعيالة إذا مال وجار، ومنه عول الفرائض، لان
سهامها إذا زادت دخلها النقص، قال أبو طالب:
بميزان قسط وزنه غير عائل (5)
وقال أبو طالب أيضا:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل (6)
وروي: لا يضل شعيرة، وبهذا قال إبراهيم، وعكرمة، والحسن، ومجاهد،
وقتادة، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والسدي، وابن عباس، واختاره الطبري،
والجبائي. وقال قوم: معناه: ألا تفتقروا، وهذا خطأ، لان [العول] (7)
الحاجة، يقال منه: عال الرجل يعيل عيلة إذا احتاج، كما قال الشاعر:

(1) في المطبوعة: (الا ما أمنتم به الجور فيه.).
(2) في المطبوعة: (ما يراد النهي.) وفي المخطوطة: (ما يراد به النهي.).
(3) سورة الكهف: آية 29.
(4) سورة النحل: آية 55، وسورة الروم: آية 34.
(5) سيرة ابن هشام 1: 296. وفي البيت رواية أخرى هي (بميزان صدق).
(6) سيرة ابن هشام 1: 296. وفي البيت رواية أخرى هي (بميزان صدق).
(7) أثبتنا ما بين القوسين لعدم تمامية المعني الآية.
108

وما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل (1)
أي: متى يفتقر. وقال ابن زيد: معناه: ألا تكثر عيالكم، وهذا أيضا
خطأ، لان المراد لو كان ذلك لما أباح الواحدة، وما شاء من مالك الايمان، لان
إباحة كل ما ملكت اليمين أزيد في العيال من أربع حرائر، على أن من كثرة
العيال يقال: أعال يعيل فهو معيل، إذا كثر عياله وعال العيال: إذا مانهم، ومنه
قوله: ابدأ بمن تعول. وحكي الكسائي، قال: سمعت كثيرا من العرب يقول:
عال الرجل يعول إذا كثر عياله. وقوله: " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " فصدقاتهن:
جمع صدقة، يقال: هو صداق المرأة، وصدقة المرأة، وصدقة المرأة، وصداق المرأة، والفتح
أقلها. ومن قال: صدقة المرأة قال: صدقاتهن، كما تقول: غرفة وغرفات،
ويجوز صدقاتهن، بضم الصاد وفتح الدال، وصدقاتهن، ذكره الزجاج. ولا يقرأ
من هذه إلا بما قرئ به صدقاتهن، لان القراءة سنة متبعة. وقوله: " نحلة " نصب على
المصدر، ومعناه، قال بعضهم: فريضة، وقال بعضهم ديانة، كما يقال: فلان ينتحل كذا وكذا،
أي يدين به، ذكره الزجاج، وابن خالويه. قال بعضهم: هي نحلة من الله لهن،
أن جعل على الرجل الصداق ولم يجعل على المرأة شيئا من الغرم، وذلك نحلة من
الله تعالى للنساء. ويقال: نحلت الرجل: إذا وهبت له نحلة ونحلا، ونحل جسمه
ونحل: إذا دق، وسمي النحل نحلا لان الله نحل الناس منها العسل الذي يخرج من
بطونها، والنحلة عطية عليك على غير جهة المثامنة، والنحلة الديانة، والمنحول من
الشعر ما ليس له، واختلفوا في المعني بقوله " وآتوا النساء " فقال ابن عباس،
وقتادة، وابن جريج، وابن زيد، واختاره الطبري، والجبائي، والرماني،
والزجاج: المراد به الأزواج، أمرهم الله تعالى باعطاء المهر إذا دخل بها كملا، إذا
سمى لها، فأما غير المدخول بها إذا طلقت فان لها نصف المسمى، وإن لم يكن سمى،

(1) قائله أحيحة بن الجلاح الأوسي. معاني القرآن للفراء 1: 255، والكامل لابن
الأثير 1: 278، واللسان (عيل) من قصيدة قالها في حرب بين قومه وبين الخزرج، وفي
معاني القرآن بدل (وما) في الموضعين (ولا).
109

فلها المتعة على ما بيناه فيما مضى.
وقال أبو صالح: هذا خطاب للأولياء، لان الرجل منهم كان إذا زوج
أيمة أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، وأنزل هذه الآية.
وروى هذا أبو الجارود، عن أبي جعفر (ع)، وذكر المعمر بن سليمان،
عن أبيه، قال: زعم حضرمي ان أناسا كانوا يعطي هذا الرجل أخته، ويأخذ
أخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر، فنهى الله عن ذلك، وأمر باعطاء صداقهن،
وأول الأقوال أقوى، لان الله تعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين
للنساء، ونهاهم عن ظلمهن والجور عليهن، ولا ينبغي أن يترك الظاهر من غير
حجة ولا دلالة، وقوله: (فان طبن لكم عن شئ منه نفسا) اختلفوا فيمن
المخاطب به، فقال عكرمة، وإبراهيم، وعلقمة، وقتادة، وابن عباس، وابن جريج،
وابن زيد: الخطاب متوجه إلى الأزواج، لان أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع
أحدهم في شئ مما ساق إلى امرأته، فأنزل الله هذه الآية. وقال أبو صالح:، المعني
به الأولياء، لأنه حمل أول الآية أيضا عليهم، على ما حكيناه عنه، والأول هو
الأولى، لأنا بينا أن الخطاب متوجه إلى الأزواج الناكحين، فكذلك آخر
الآية. ومعنى " فان طبن لكم عن شئ منه نفسا " إن طابت لكم أنفسهن
بشئ، ونصبه على التمييز، كما يقولون: ضقت بهذا الامر ذرعا، وقررت به عينا،
والمعنى ضاق به ذرعي وقرت به عيني، كما قال الشاعر:
إذا التياز ذو العضلات قلنا * " إليك إليك " ضاق بها ذراعا (1)
وإنما هو على ذرعا وذراعا، لان المصدر والاسم يدلان على معني واحد،
فنقل صفة الذراع إلى رب الذراع، ثم أخرج الذراع مفسرة لموقع الفعل، ولذلك
وحد النفس لما كانت مفسرة لموقع الخبر، والنفس المراد به الجنس، يقع على الواحد

(1) قائله القطامي، ديوانه: 44. واللسان (تيز) ومعاني القرآن 1: 256.
والتياز: الكثير اللحم. وقوله (إليك إليك) أي: خذها.
110

والجمع، كما قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها * فبيض وأما جلدها فصليب (1)
ولم يقل: فجلودها، ولو قال: (فان طبن لكم عن شئ منه) أنفسا لمجاز،
وكذلك ضقت به أذرعا وذراعا. فأما قوله: (بالأخسرين أعمالا) (2) إنما جمع لئلا
يوهم أنه عمل يضاف إلى الجميع، كما يضاف القتل إلى جماعة إذا رضوا به، ومالأوا
عليه. ومثل الآية: أنت حسن وجها، فالفعل للوجه، فلما نقل إلى صاحب الوجه،
نصب الوجه على التمييز. وقوله: (فكلوه هنيئا مريئا) فهنيئا مأخوذ من هنأت
البعير بالقطران، وذلك إذا جرب فعولج به، كما قال الشاعر:
متبذلا تبدو محاسنه * يضع الهناء مواضع النقب (3)
فالهني شفاء من المرض، كما أن الهناء شفاء من الجرب. ومعنى (فكلوه
هنيئا مريئا) أي دواء شافيا، يقال منه: هنأني الطعام ومرأني: إذا صار لي دواء
وعلاجا شافيا، وهنيني ومريني بالكسر، وهي قليلة، ومن قال: هناني يقول في
المستقبل: يهناني، ويمراني، ومن يقول: هنأني، يقول يهنئني، ويمرئني، فإذا أفردوا قالوا:
قد أمراني هذا الطعام، ولا يقولون: أهنانى، والمصدر منه هنا، مرا، وقد
مرؤ هذا الطعام مرا، ويقال: هنأت القوم إذا علتهم، وهنأت فلانا المال إذا
وهبته له، أهنؤه هنا، ومنه قولهم: إنما سميت هانيا لتهنأ، أي: لتعطي،
ومعنى قوله: (فان طبن لكم عن شئ منه) يعني من المهر، و " من " ههنا ليست
للتبعيض وإنما معناه لتبيين الجنس، كما قال (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) (5)

(1) قائله علقمة بن عبدة (علقمة الفحل) ديوانه: 27، وشرح المفضليات: 777،
وسيبويه 1: 107 من قصيدة في الحارث بن جبلة بن أبي شمر الغساني حين أسر أخاه شأسا،
فرحل إليه علقمة يطلب فكه. وقوله: (بها حيف الحسرى) الضمير راجع إلى المطلوب في البيت
السابق، وهي آثار الطريق، والصليب الودك الذي يسيل من جلودها بعد موتها.
(2) سورة الكهف: آية 104.
(3) قائله دريد بن الصمة. اللسان (نقب) والأغاني 10: 22، والشعر والشعراء
302. والنقب - بضم النون وسكون القاف وفتحها - جمع نقبه، أول الجرب حين يبدو.
(4) سورة الحج: آية 30.
111

ولو وهبت له المهر كله لجاز، وكان حلالا بلا خلاف. واستدل أبو علي بهذه
الآية على أن لولي اليتيمة الذي هو غير الأب أن يزوج اليتيمة، أو يتزوجها
قبل أن تحيض، أو يكمل عقلها، بأن (1) قال الخطاب في قوله: (وإن خفتم ألا
تقسطوا في اليتامى) متوجه إلى الأولياء الذين كانوا يتحرجون من العقد على
اليتامى اللائي لهم عليهن ولاية، خوفا من الجور، فقال الله لهم: ان خفتك من
العقد على أربع فعلى ثلاث، أو اثنتين، أو واحدة، أوما ملكت أيمانكم من
سوهن، ثم أمرهم باعطائهن المهر، ثم قال: (فان طبن لكم) يعني الأزواج الذين
هم الأولياء، " عن شئ " من ذلك، " فكلوه هنيئا مريئا " وهذا الذي قاله
ليس بصحيح، لأنه لا يسلم له أولا أنه خطاب للأولياء، فما الدليل على ذلك
ثم إن عندنا وعند الشافعي ليس لأحد من الأولياء أن يزوج الصغيرة إلا الأب (2)
خاصة فكيف يسلم له ما قاله؟ ومن قال: يجوز ذلك، قال: يكون العقد موقوفا
على بلوغها ورضاها، فإن لم ترض كان لها الفسخ، فعلى كل حال لا يصح ما قاله.
قوله تعالى:
(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما
وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) (5) - آية -.
القراءة، والمعنى:
قرأ نافع، وابن عباس، قيما بغير الف. اختلف أهل التأويل فيمن المراد
بالسفهاء المذكورين في الآية، فقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن،
والسدي، والضحاك، ومجاهد، وقتادة، وأبو مالك: إنهم النساء والصبيان،
وهو الذي رواه أبو الجارود، عن أبي جعفر (ع) وقال سعيد بن جبير، والحسن

(1) في المطبوعة: فان، وقد صححنا على المخطوطة.
(2) في المطبوعة: إلى الأب، وهو تحريف.
112

وقتادة، في رواية أخرى عنهم: أنهم الصبيان الذين لم يبلغوا فحسب، وقال
أبو مالك، معناه: لا تعط ولدك السفيه مالك فيفسده الذي هو قيامك وقال
ابن عباس في رواية أخرى: إنها نزلت في السفهاء وليس لليتامى في ذلك شئ،
وبه قال ابن زيد، وقال أبو موسى الأشعري ثلاثة يدعون فلا يستجيب الله لهم:
رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، وقال: اللهم خلصني منها، ورجل
أعطى مالا سفيها، وقد قال الله: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم "، ورجل له على
غيره مال فلم يشهد عليه. وقد روي عن أبي عبد الله (ع) ان السفيه شارب الخمر،
ومن جرى مجراه، وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرمي أن
المراد به النساء خاصة، وروي ذلك عن مجاهد، والضحاك، وابن عمر، والأولى
حمل الآية على عمومها في المنع من اعطاء المال السفيه، سواء كان رجلا أو امرأة
بالغا أو غير بالغ.
والسفيه هو الذي يستحق الحجر عليه، لتضييعه ماله، ووضعه في غير
موضعه، لان الله تعالى قال عقيب هذه الأوصاف: " وابتلوا اليتامى حتى إذا
بلغوا النكاح، فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " فامر الأولياء بدفع
الأموال إلى اليتامى إذا بلغوا، وأونس منهم رشد، وقد يدخل في اليتامى
الذكور والإناث، فوجب حملها على عمومها.
اللغة:
فأما من حمل الآية على النساء خاصة، فقوله ليس بصحيح، لان فعيلة
لا يجمع فعلاء، وإنما يجمع فعايل وفعيلات، كغريبة وغرايب وغريبات، وقد
جاء: فقيرة وفقراء، ذكره الرماني. فأما الغرباء فجمع غريب
المعنى:
وقوله: " أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم "
113

اختلفوا في معناه. فقال ابن عباس، وأبو موسى الأشعري، والحسن، وقتادة،
ومجاهد، وحضرمي. معناه: لا تؤتوا يا أيها الرشد السفهاء من النساء والصبيان
- على ما ذكرنا من اختلافهم - " أموالكم التي جعل الله لكم " يعني أموالكم التي
تملكونها، فتسلطوهم عليها، فيفسدوها، ويضيعوها، ولكن " ارزقوهم فيها "
إن كانوا ممن يلزمكم نفقته، واكسوهم " وقولوا لهم قولا معروفا ". وقال السدي:
معناه: لا تعط امرأتك وولدك مالك، فيكونوا هم الذين ينفقون ويقومون عليك،
واطعمهم من مالك، واكسهم. وبه قال ابن عباس، وابن زيد. وقال سعيد ابن
جبير: يعني ب‍ " أموالكم " أموالهم، كما قال: " ولا تقتلوا أنفسكم " (1) قال:
واليتامى لا تؤتوهم أموالهم، " وارزقوهم فيها واكسوهم ". والأولى حمل الآية
على الامرين، لان عمومه يقتضي ذلك، فلا يجوز أن يعطى السفيه الذي يفسد
المال، ولا اليتيم الذي لم يبلغ، ولا الذي بلغ ولم يؤنس منه الرشد، ولا أن يوصى
إلى سفيه، ولا يختص ببعض دون بعض، وإنما يكون إضافة مال اليتيم إلى من له
القيام بأمرهم، على ضرب من المجاز، أو لأنه أراد: لا تعطوا الأولياء ما يخصهم
لمن هو سفيه (2) ويجري ذلك مجرى قول القائل لواحد: يا فلان أكلتم أموالكم
بالباطل، فيخاطب الواحد بخطاب الجميع، ويريد به أنك وأصحابك أو قومك
أكلتم، ويكون التقدير في الآية: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " التي بعضها
لكم، وبعضها لهم، فيضيعوها.
اللغة: وقوله: " التي جعل الله لكم قياما " معناه: ما جعله قوام معايشكم ومعايش
سفهائكم، التي بها تقومون قياما، وقيما، وقواما، بمعنى واحد. وأصل القيام:
القوام، فقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها، كما قالوا: صمت صياما، وحلت

(1) سورة النساء: آية 28.
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وهي كما ترى
114

حيالا، ومنه: فلان قوام أهله، وقيام أهله. ومنه: قوام الامر وملاكه، وهو
اسم. والقيام مصدر.
المعنى: وبهذا التأويل قال أبو مالك، والسدي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد،
وابن زيد. وقوله: (وارزقوهم فيها واكسوهم) اختلفوا في تأويله، فمن قال:
عنى بقوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) يعني أموال أولياء السفهاء، فإنهم
قالوا: معناه: وارزقوا أيها الناس سفهاءكم، من نسائكم وأولادكم من أموالكم،
طعامهم، وما لابد لهم منه. ذهب إليه مجاهد، والسدي، وغيرهما ممن تقدم
ذكره. ومن قال: إن الخطاب للأولياء، بأن لا يؤتوا السفهاء أموالهم، يعني
أموال السفهاء، حمل قوله: " وارزقوهم فيها واكسوهم " على أنه من أموال السفهاء،
يعني ما لابد منه من مؤنهم، وكسوتهم، وإذا حملنا الآية على عمومها،
على ما بيناه، فالتقدير: وارزقوا أيها الرشد من خاص أموالكم من
يلزمكم النفقة عليه، مما لابد منه من مؤنة وكسوة، ولا تسلموا إليه إذا كان
سفيها، فيفسد المال. ويا أيها الأولياء، أنفقوا على السفهاء من أموالهم، التي
لكم الولاية عليها، قدر ما يحتاجون إليه من النفقة والكسوة. وقوله:
(وقولوا لهم قولا معروفا) قال مجاهد، وابن جريج. قولوا لهم، يعني للنساء
والصبيان، وهم السفهاء، " قولا معروفا " في البر والصلة. وقال ابن زيد: إن كان
السفيه ليس من ولدك، ولا يجب عليك نفقته، فقل له قولا معروفا، مثل:
عافانا الله وإياك، بارك الله فيك. وقال ابن جريج: معناه: يا معاشر ولاة السفهاء،
قولوا قولا معروفا للسفهاء، وهو: إن صلحتم ورشدتم، سلمنا إليكم أموالكم،
وخلينا بينكم وبينها، فاتقوا الله في أنفسكم وأموالكم، وما أشبه ذلك، مما هو
واجب عليكم، ويحثكم على الطاعة،، وينهاكم عن المعصية. وقال الزجاج: معناه:
علموهم مع إطعامكم إياهم وكسوتكم إياهم، أمر دينهم.
115

وفي الآية دلالة على جواز الحجر على اليتيم إذا بلغ، ولم يؤنس منه الرشد،
لان الله تعالى منع من دفع المال إلى السفهاء، وقد بينا أن المراد به أموالهم على
بعض الأحوال.
وفي الآية دلالة على وجوب الوصية، إذا كان الورثة سفهاء، لان ترك
الوصية بمنزلة إعطاء المال في حال الحياة إلى من هو سفيه، وإنما سمي الناقص العقل
سفيها (1)، وان لم يكن عاصيا، لان السفه هو خفة الحلم، ولذلك سمي الفاسق
سفيها، لأنه لا وزن له عند أهل الدين (2)، والعلم فثقل الوزن وخفته،
ككبر القدر وصغره.
قوله تعالى
: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن
كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم
إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا) (6) - آية بلا
خلاف -.
المعنى:
هذا خطاب لأولياء اليتامى، أمر الله تعالى بأن يختبروا عقول اليتامى في
أفهامهم، وصلاحهم في أديانهم، وإصلاحهم أموالهم. وهو قول قتادة، والحسن،
والسدي، ومجاهد، وابن عباس، وابن زيد. وقد بينا أن الابتلاء معناه الاختبار
فيما مضى. وقوله: " حتى إذا بلغوا النكاح " معناه: حتى يبلغوا الحد الذي
يقدرون على مجامعة النساء وينزل، وليس المراد الاحتلام، لان في الناس من

(1) (سفيها) ساقطة من المطبوعة.
(2) عند (أهل الدين) ساقطة من المطبوعة.
116

لا يحتلم، أو يتأخر احتلامه، وهو قول أكثر المفسرين: مجاهد، والسدي،
وابن عباس، وابن زيد. ومنهم من قال: إذا كمل عقله، وأونس منه الرشد، سلم
إليه ماله، وهو الأقوى. ومنهم من قال: لا يسلم إليه حتى يكمل له خمس عشرة
سنة، وإن كان عاقلا، لان هذا حكم شرعي، وبكمال العقل تلزمه المعارف
لا غير، وقال أصحابنا: حد البلوغ إما بلوغ النكاح، أو الانبات في العانة،
أو كمال خمس عشرة سنة. وقوله: " فان آنستم منهم رشدا " معناه: فان وجدتم
منهم رشدا وعرفتموه، وهو قول ابن عباس.
اللغة: تقول: آنست من فلان خيرا إيناسا وأنست به أنسا: إذا ألفته. وفي
قراءة عبد الله: فان أحسيتم يعني أحسستم، أي وجدتم، والأصل فيه: أبصرتم.
ومنه قوله: " آنس من جانب الطور نارا " (1) أي أبصر، ومنه أخذ انسان العين،
وهو حدقتها التي يبصر بها.
المعنى:
واختلفوا في معنى الرشد (2)، فقال السدي، وقتادة: معناه عقلا ودينا
وصلاحا. وقال الحسن (3)، وابن عباس: معناه: صلاحا في الدين، وإصلاحا
للمال. وقال مجاهد، والشعبي: معناه العقل. قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله، وإن
أخذ بلحيته، وإن كان شيخا، حتى يؤنس منه رشده: العقل. وقال ابن جريج:
صلاحا، وعلما بما يصلحه.
والأقوى أن يحمل على أن المراد به العقل، وإصلاح المال، على ما قال ابن
عباس، والحسن، وهو المروي عن أبي جعفر (ع)، للاجماع على أن من يكون
كذلك لا يجوز الحجر في ماله، وإن كان فاجرا في دينه، فإذا كان ذلك اجماعا

(1) سورة القصص: آية 29.
(2) (واختلفوا في معنى الرشد) ساقطة من المطبوعة.
(3) (الحسن) ساقط من المطبوعة.
117

فكذلك إذا بلغ، وله مال في يد وصي أبيه أو في يد حاكم قد ولي ماله، وجب عليه
أن يسلم إليه ماله، إذا كان عاقلا، مصلحا لما له، وإن كان فاسقا في دينه. وفي
الآية دلالة على جواز الحجر على العاقل، إذا كان مفسدا في ماله، من حيث أنه
إذا كان عند البلوغ يجوز منعه المال إذا كان مفسدا له، فكذلك في حال كمال
العقل إذا صار بحيث يفسد المال، جاز الحجر عليه، وهو المشهور في أخبارنا.
ومن الناس من قال: لا يجوز الحجر على العاقل، ذكرناه في الخلاف.
وقوله: (فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا) فهو خطاب لأولياء
اليتيم، أمرهم الله تعالى إذا بلغ اليتيم، وأونس منه الرشد، على ما فسرناه، أن
يسلم إليه ماله، ولا يحبسه عنه. وقوله: (ولا تأكلوها اسرافا) معناه بغير
ما أباحه الله لكم. وقال الحسن، والسدي: الاسراف في الاكل. وأصل الاسراف
تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الافراط، وربما كان في
التقصير غير أنه إذا كان في الافراط يقال منه: أسرف يسرف إسرافا، وإذا كان
في التقصير يقال: سرف يسرف سرفا، يقال: مررت بكم فسرفتكم، يريد:
فسهوت عنكم، وأخطأتكم، كما قال الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية * ما في عطائهم من ولا سرف (1)
يعني لا خطأ فيه، يريد أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطونها. وقوله:
" وبدارا أن يكبروا " فالبدار والمبادرة مصدران، فنهى الله تعالى أولياء اليتامى
أن يأكلوا أموالهم اسرافا بغير ما أباح الله لهم أكله، ولا مبادرة منكم
بلوغهم، وإيناس الرشد منهم، حذرا أن يبلغوا، فيلزمكم تسليمه إليهم، وبه
قال ابن عباس، وقتادة، والحسن، والسدي، وابن زيد.

(1) قائله جرير ديوانه 2: 15 واللسان (هند) و (سرف) وهو من قصيدة يمدح
بها يزيد بن عبد الملك، ويهجو آل المهلب. قوله: (هنيدة) اسم لكل مئة من الإبل،
و (هنيد) لا يصرف ولا يدخل عليه الألف واللام ولا يجمع وليس له واحد من جنسه. و (ثمانية) أي ثمانية
من العبيد: وكان في المخطوطة والمطبوعة (عطاءكم) وهو مناسب في المعنى ولكن لم أجد أحد
يرويه الا (عطائهم).
118

وأصل البدار الامتلاء. ومنه البدر القمر، لامتلائه نورا، والبدرة:
لامتلائها بالمال، والبيدر: لامتلائه بالطعام، وموضع " أن " نصب بالمبادرة، والمعنى:
لا تأكلوها مبادرة كبرهم. وقوله: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا
فليأكل بالمعروف " يعني: من كان غنيا من ولاة أموال اليتامى فليستعفف بماله
عن أكلها، وبه قال ابن عباس، وإبراهيم. وقوله: (ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف) قال عبيدة: معناه القرض، وهو المروي عن أبي جعفر (ع)، ألا ترى
أنه قال: (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم)
" ومن كان فقيرا " فاختلفوا في الوجه الذي يجوز له أكل مال اليتيم به
إذا كان فقيرا، وهو المعروف، فقال سعيد بن جبير، وعبيدة السلماني، وأبو العالية،
وأبو وائل، والشعبي، ومجاهد، وعمر بن الخطاب: هو أن يأخذه قرضا على
نفسه فيما لابد له منه، ثم يقضيه، وبينا أنه المروي عن أبي جعفر (ع). وقال
الحسن، وإبراهيم، ومكحول، وعطاء بن أبي رباح: يأخذ ما سد الجوعة، ووارى
العورة، ولا قضاء عليه، ولم يوجبوا أجرة المثل، لان أجرة المثل ربما كانت
أكثر من قدر الحاجة. والظاهر في أخبارنا أن له أجرة المثل، سواء كان قدر
كفايته، أولم يكن. وسئل ابن عباس عن ولي يتيم له إبل هل له أن يصيب من
ألبانها؟ فقال: إن كنت تلوط حوضها، وتهنأ جرباها، فأصبت من رسلها، غير
مضر بغسل ولا ناهكه في الحلب.
معنى تلوط حوضها: تطينه، وتهنأ جرباها، معناه: تطليها بالهناء، وهو
الخضخاض، ذكره الأزهري، والرسل اللبن، والنهك: المبالغة في الحلب.
واختلفوا في هل للفقير من ولي اليتيم أن يأكل من ماله هو وعياله، فقال
عمرو بن عبيد: ليس له ذلك، لقوله: " فليأكل بالمعروف " فخصه بالاكل،
وقال الجبائي: له ذلك لان قوله: " بالمعروف " يقتضي أن يأكل هو وعياله،
على ما جرت به العادة في أمثاله، وقال إن كان المال واسعا كان له أن يأخذ قدر
كفايته، له ولمن يلزمه نفقته من غير اسراف، وإن كان قليلا كان له أجرة المثل
119

لا غير، وإنما لم يجعل له أجرة المثل إذا كان المال كثيرا، لأنه ربما كان أجرة المثل
أكثر من نفقته بالمعروف، وعلى ما قلناه من أن له أجرة المثل سقط هذا الاعتبار
وقوله: (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم) خطاب لأولياء اليتامى، إذا
دفعوا أموال اليتامى إليهم، أن يحتاطوا لأنفسهم بالاشهاد عليهم، لئلا يقع منهم
جحود، ويكونوا أبعد من التهمة، وسواء كان ذلك في أيديهم، أو استقرضوه
دينا على نفوسهم، فان الاشهاد يقتضيه الاحتياط، وليس بواجب. وقوله:
(كفى بالله حسيبا) معناه: كفى الله، والباء زائدة، وقال السدي: معناه: شهيدا
ههنا، وقيل: معناه: وكفى بالله كافيا من الشهود، ولان أحسبني معناه: كفائي،
والمعنى: وكفى بالله شهيدا في الثقة بايصال الحق إلى صاحبه والمحسب من
الرجال المرتفع النسب. والمحسب، المكفى. وولي اليتيم المأمور بابتلائه، وهو الذي
جعل إليه القيام به، من وصي، أو حاكم، أو أمين،، ينصبه الحاكم. وأجاز
أصحابنا الاستقراض من مال اليتيم إذا كان مليا، وفيه خلاف.
قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب
مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا)
(7) - آية بلا خلاف -.
النزول:
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال قتادة، وابن جريج، وابن زيد:
إن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فنزلت هذه الآية ردا
لقولهم. وقال الزجاج: كانت العرب لا تورث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن
الحريم والمال، فنزلت هذه الآية ردا عليهم، وبين أن للرجال نصيبا مما ترك الوالدان
والأقربون، " وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قل منه أو كثر
نصيبا مفروضا " يعني حظا مفروضا، قال الزجاج: مفروضا. نصب على الحال،
120

وقال غيره: هو اسم في موضع المصدر، كقولك قسما واجبا، وفرضا لازما، ولو
كان اسما ليس فيه معنى المصدر، لم يجز قولك: عندي حق درهما، ويجوز: لك
عندي درهم هبة مفترضة (1) وأصل الفرض الثبوت، والفرض: الحز في سية
القوس حيث يثبت الوتر، والفرض: ما أثبته على نفسك من هبة أو صلة،
والفرض: إيجاب الله عز وجل على العبد ما يلزمه فعله لاثباته عليه، والفرض:
جند يفترضون، والفرض: ما أعطيت من غير قرض، لثبوت تمليكه، والفرض:
ضرب من التمر. والفارض المسنة، والفرضة: حيث ترمي (2) السفن من النهر
وكل ضخم فارض، والفرق بين الفرض والوجوب أن الفرض هو الايجاب، غير أن
الفرض يقتضي فارضا فرضه، وليس كذلك الواجب لأنه قد يجب الشئ في نفسه
من غير إيجاب موجب، ولذلك صح وجوب الثواب والعوض على الله تعالى، ولم
يجز فرضه عليه. وأصل الوجوب الوقوع، يقال: وجب الحائط وجوبا فهو
واجب، إذا وقع، وسمعت وجبة أي وقعة كالهدة، ومنه " وجبت جنوبها " (3)
أي وقعت لجنوبها، ووجب الحق وجوبا، إذا وقع سببه، كوجوب رد الوديعة،
وقضاء الدين، ووجوب شكر المنعم، ووجوب الاجر، وإنجاز الوعد، ووجب
القلب وجيبا إذا خفق من فزع وقعة كالهدة.
وفي الآية دليل على بطلان القول بالعصبة، لان الله تعالى فرض الميراث
للرجال والنساء، فلو جاز أن يقال: النساء لا يرثن في موضع، لجاز لآخرين أن
يقولوا: والرجال لا يرثون، والخبر المدعى في العصبة خبر واحد، لا يترك له
عموم القرآن، لأنه معلوم، والخبر مظنون، وقد بينا ضعف الخبر في كتاب تهذيب الأحكام
، فمن أراده وقف عليه من هناك.
وفي الآية أيضا دلالة على أن الأنبياء يورثون، لأنه تعالى عم الميراث
للرجال والنساء، ولم يخص، نبيا من غيره، وكما لا يجوز أن يقال: النبي لا يرث،

(1) في المطبوعة: مقبوضة.
(2) في المطبوعة: ترقا.
(3) سورة الحج: آية 36.
121

لأنه خلاف الآية، فكذلك لا يجوز أن يقال: لا يورث، لأنه خلافها، والخبر
الذي يروون أنه قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة، خبر
واحد، وقد بينا ما فيه، في غير موضع، وتأولناه، بعد تسليمه.
قوله تعالى:
(وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين
فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) (8) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
هذه الآية عندنا محكمة، وليست منسوخة، وهو قول ابن عباس، وسعيد
ابن جبير، والحسن، وإبراهيم، ومجاهد، والشعبي، والزهري، ويحيى بن يعمر،
والسدي، والبلخي، والجبائي، والزجاج، وأكثر المفسرين والفقهاء. وقال سعيد
ابن المسيب، وأبو مالك، والضحاك، هي منسوخة، وإرزاق من حضر قسمة
الميراث من هذه الأصناف، ليس بواجب، بل هو مندوب إليه، وهو الذي اختاره
الجبائي، والبلخي، والرماني، وجعفر بن مبشر، وأكثر الفقهاء والمفسرين. وقال
مجاهد: هو واجب، وحق لازم ما طابت به أنفس الورثة. وكل من ذهب إلى
أنها منسوخة قال: إن الرزق ليس بواجب، وكذلك من قال إنها في الوصية.
واختلفوا فيمن المخاطب بقوله: " فارزقوهم " فقال أكثر المفسرين: إن
المخاطب بذلك الورثة، أمروا بأن يرزقوا المذكورين، إذا كانوا لا سهم لهم في
الميراث، وقال آخرون إنها تتوجه إلى من حضرته الوفاة، وأراد الوصية، فإنه
ينبغي له أن يوصي لمن لا يرثه من هؤلاء المذكورين، بشئ من ماله. وروي
هذا القول الأخير عن ابن عباس، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وسعيد
ابن المسيب، واختار الطبري هذا الوجه، والوجه الأول روي عن ابن عباس،
وعبد الله بن الزبير، وأبي موسى الأشعري، وابن سيرين، والحسن، وسعيد بن
جبير. قال سعيد بن جبير: إن كان الميت أوصى لهم بشئ أنفذت وصيته، وإن
122

كان الورثة كبارا ارضخوا لهم، وإن كانوا صغارا قال وليهم: إني لست أملك
هذا المال، وليس لي، إنما هو للصغار، فذلك قوله: (وقولوا لهم قولا معروفا)
وبه قال السدي، وابن عباس. واختلفوا فيمن المأمور [بقول] (1) المعروف،
فقال سعيد بن جبير: أمر الله يقول الولي الذي لا يرث، للمذكورين قولا
معروفا، ويقول: إن هذا لقوم غيب أو يتامى صغار، ولكم فيه حق، ولسنا
نملك أن نعطيكم منه. وقال قوم: المأمور بذلك الرجل الذي يوصي في ماله،
والقول المعروف: أن يدعو لهم بالرزق والغنى، وما أشبه ذلك. وروي عن
ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن زيد: أن الآية في الوصية، على أن يوصوا
للقرابة، ويقولوا لغيرهم قولا معروفا. ومن قال إنها على الوجوب، قال: لا يعطي
من مال اليتيم شيئا، ويقول قولا معروفا، ذهب إليه ابن عباس، وسعيد بن جبير،
والحسن، والسدي. وروى ابن علية، عن عبيدة، أنه ذبح شاة من مال اليتيم،
وقسمه بينهم، وقال: كنت أحب أن يكون من مالي لولا هذه الآية. وعمل ابن
سيرين في مال اليتيم ما عمل عبيدة، وأقوى الأقوال أن يكون الخطاب متوجها
إلى الوراث البالغين، لان فيه أمرا بالرزق لمن حضر، ولم يخاطب الله من لا يملك
أن يخرج من مال غيره شيئا، فكأن الله تعالى حث هؤلاء، ورغبهم في أن
يجعلوا للحاضرين شيئا مما يحقهم (2)، ويقولوا لهم قولا، معروفا، فيصير ردا
جميلا، من غير تأفف، ولا تضجر، وكذلك لو قلنا إنها متوجهة إلى الموصي،
لكان محمولا على أنه يستحب له أن يوصي لهؤلاء بشئ من ماله، ما لم يزد على الثلث،
فإن لم يختر ذلك قال لهم قولا جميلا، لا يتألمون منه، ولا يغتمون به.
وفي الآية حجة على المجبرة، لأنه تعالى قال: " فارزقوهم " وفيه دلالة على
أن الانسان يرزق غيره على معنى التمليك، وأن الله لا يرزق حراما، لأنه لو رزقه لخرج
برزقه إياه من أن يكون حراما، ومثله قوله: " وهو خير الرازقين ".

(1) في المطبوعة: لقوله المعروف، وفي المخطوطة: لقوله بالمعروف، وكلاهما تحريف.
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة والأولى: مما يلحقهم.
123

قوله تعالى:
(وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا
عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) (9) - آية بلا خلاف -.
المعنى: قيل في معنى الآية أربعة أقوال:
أحدها - النهي عن الوصية بما يجحف بالورثة، ويضر بهم، هذا قول
ابن عباس، في بعض الروايات، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي،
والضحاك، ومجاهد.
الثاني - قال الحسن: كان الرجل يكون عند الميت فيقول: أوص بأكثر من
الثلث من مالك، فنهاه الله عن ذلك.
الثالث - روي عن ابن عباس: أنه خطاب لولي مال اليتيم، يأمره بأداء
الأمانة فيه، والقيام بحفظه، كما لو خاف على مخلفيه، إذا كانوا ضعافا، وأحب أن
يفعل بهم.
الرابع - قال مقسم: هي في حرمان ذوي القربى أن يوصي لهم، بأن يقول
الحاضر للوصية: لا توص لأقاربك، ووفر على ورثتك.
اللغة:
والذرية: على وزن فعلية، منسوبة إلى الذر، ويجوز أن يكون أصلها
ذرورة، لكن الراء أبدلت ياء، وأدغمت الواو فيها، وهي بضم الذال، ويجوز
فيها كسرها، وقد قرئ به في الشواذ، ومن كسر الذال فلكسرة الراء، كما قالوا
في عنى عتي، وعصي، وضعاف: جمع ضعيف وضعيفة، كقولك: ظريف
وظريفة وظراف، وخبيث وخباث، ويجمع أيضا ضعفاء. وأصل الضعاف من
الضعف، وهو النقص في القوة، ومنه المضاعف، لأنه ينفي الضعف، ومنه الضعف.
وقوله: (فليتقوا الله) يعني: فليتقوا معاصيه، (وليقولوا قولا سديدا)
124

وهو السليم من خلل الفساد، وذلك الحق بالدعاء إلى العدل في القسم بما لا يجحف
بالورثة، ولا يحرم ذوي القربى، وأصل السديد من سد الخلل، تقول: سددته
أسده سدا، والسداد: الصواب، والسداد - بكسر السين - من قولهم: فيه
سداد من عوز، وسدد السهم: إذا قومه، والسد الردم، والسدة في الانف.
المعنى:
ومعنى الآية، أنه ينبغي للمؤمن الذي لو ترك ذرية ضعافا بعد موته، خاف
عليهم الفقر والضياع، أن يخشى على ورثة غيره من الفقر والضياع، ولا يقول لمن
يحضر وصيته أن يوصي بما يضر بورثته، وليتق الله في ذلك، وليتق الاضرار
بورثة المؤمن، وليقل قولا سديدا، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله أن يوصى بأكثر
من الثلث، وقال: " والثلث كثير " وقال لسعد " لان تدع ورثتك أغنياء أحب
إلي من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم ".
قوله تعالى:
(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في
بطونهم نارا وسيصلون سعيرا)
(10) - آية -.
القراءة والحجة:
قرأ ابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم: وسيصلون - بضم الياء - الباقون،
بفتحها، والفتح أقوى، لقوله: " لا يصلاها إلا الأشقى " (1) وقوله: " إلا من
هو صال الجحيم " (2) ومن ضم الياء ذهب إلى أصلاه الله إذا أحرقه بالنار.
المعنى:
وإنما علق الله تعالى الوعيد في الآية لمن يأكل أموال اليتامى ظلما، لأنه قد

(1) سورة الليل: آية 15.
(2) سورة الصافات: آية 163.
125

يأكله على وجه الاستحقاق، بأن يأخذ منه أجرة المثل، على ما قلناه. أو يأكل
منه بالمعروف على ما فسرناه، أو يأخذه قرضا على نفسه، فان قيل: إذا أخذه
قرضا على نفسه، أو أجرة المثل، فلا يكون أكل مال اليتيم، وإنما أكل مال
نفسه. قلنا: ليس الامر على ذلك، لأنه يكون أكل مال اليتيم، لكنه على وجه
التزم عوضه في ذمته، أو استحقه بالعمل في ماله، فلم يخرج بذلك من استحقاق
الاسم بأنه مال اليتيم، ولو سلم ذلك، لجاز أن يكون المراد بذلك ضربا من
التأكيد وبيانا، لأنه لا يكون أكل مال اليتيم إلا ظلما. ونصب ظلما على المصدر،
وتقديره: إن من أكل مال اليتيم فإنه يظلمه ظلما. وقوله: (إنما يأكلون في
بطونهم نارا) قيل في معناه وجهان:
أحدهما - ما قاله السدي من أن من أكل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة
ولهب النار يخرج من فيه، ومن مسامعه، ومن أذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه من
رآه. بأكل مال اليتيم.
الثاني - أنه على وجه المثل، من حيث أن فعل ذلك يصير إلى جهنم، فتمتلئ
بالنار أجوافهم، عقابا على ذلك الاكل منهم، كما قال الشاعر:
وان الذي أصبحتم تحلبونه * دم غير أن اللون ليس باحمرا
يصف أقواما أخذوا الإبل في الدية، يقول: فالذي تحلبون من ألبانها
ليس لبنا، إنما هو دم القتيل.
اللغة:
وقوله: (وسيصلون سعيرا) فالصلا لزوم النار، للاحراق، أو التسخن،
أو الانضاج، يقال: صلي بالنار يصلى صلا بالقصر، قال العجاج:
وصاليات للصلا صلي (1)
ويقال الصلا بالكسر والمد، قال الفرزدق:

(1) ديوانه: 67 من أرجوزته المشهورة.
126

وقاتل كلب الحي عن نار أهله * ليربض فيها والصلا متكنف (1)
واصطلى صلى بالنار اصطلاء، وأصليته النار اصلاء، إذا ألقيته فيها. وفي
التنزيل: " فسوف نصليه نارا " (2) والصالي بالشر الواقع فيه قال الشاعر:
لم أكن من جناتها علم الله * واني بحرها اليوم صالي (3)
ومنه شاة مصلية، أي مشوية. والسعير بمعنى مسعورة، مثل كف خضيب،
بمعنى مخضوبة، والسعر اشعال النار تقول سعرتها أسعرها سعرا. ومنه قوله:
" وإذا الجحيم سعرت " (4) واستعرت النار في الحطب استعارا، واستعرت
الحرب والشر استعارا، ومنه سعر السوق، لاستعارها به في النفاق.
المعنى:
وأكل مال اليتيم على وجه الظلم، وغصبه متساويان في توجه الوعيد إليه،
ولا يدل على مثل ذلك في غير مال اليتيم، لان الزواجر عن مال اليتيم أعظم.
وقال الجبائي: هما سواء، ومن غصب من مال اليتيم خمسة دراهم فان الوعيد يتوجه
إليه وقال الرماني: لا يتوجه إليه، لان أقل المال مئتا درهم. وقال الجبائي:
يلزمه كما يلزم مانع الزكاة. وقال الرماني: هذا ليس بصحيح، لأنه يجوز أن يكون منع الزكاة أعظم، وما قلناه أولا أولى بعموم الآية. وقوله: لا يسمى
المال إلا مئتا درهم دعوى محضة، لا برهان عليها.
قوله تعالى:
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فان

(1) ديوانه: 56 والنقائض 561 واللسان (صلا) والمعنى: ان الكلب يزاحم أهل
الحي على النار وهم متجمعون - متكنفون - عليها من شدة البرد.
(2) سورة النساء: آية 29.
(3) قائله الحارث بن عباد البكري الأصمعيات 67 القصيدة 17، وحماسة البحتري 33
والكامل لابن الأثير 1: 220 وخزانة الأدب 1: 225 وغيرها. وقد مر البيت في 1: 195
من هذا الكتاب.
(4) سورة التكوير: آية 12.
127

كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها
النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له
ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة
فلأمه السدس من بعد وصية يوصى بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم
لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما
حكيما) (11) - آية بلا خلاف -.
القراءة والحجة:
قرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم: يوصى - بفتح الصاد -
الباقون بكسرها، وهو الأقوى، لقوله: " مما ترك إن كان له ولد " فتقدم ذكر
الميت، وذكر المفروض مما ترك (1)، ومن فتحها فلانه ليس لميت معين، وإنما هو
شائع في الجميع.
سبب النزول والقصة:
وقيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - قال السدي، وابن عباس: إن سبب نزولها، أن القوم لم يكونوا
يورثون النساء والبنات والبنين الصغار، ولم يورثوا إلا من قاتل وطاعن، فأنزل
الله الآية، وأعلمهم كيفية الميراث. وقال عطاء، عن ابن عباس، وابن جريج،
عن مجاهد، عن ابن عباس، إنهم كانوا يورثون الولد، وللوالدين الوصية،
فنسخ الله ذلك. وقال محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: كنت عليلا مدنفا،
فعاده النبي صلى الله عليه وآله، ونضح الماء على وجهه فأفاق، وقال: يا رسول الله، كيف أعمل

(1) في المطبوعة (ما ترك)
128

في مالي: فأنزل الله الآية. وروي عن ابن عباس قال: كان المال للولد،
والوصية للوالدين والأقربين، فنسخ (1) ذلك بهذه الآية.
المعنى:
وهذه الآية عامة في كل ولد يتركه الميت، وان المال بينهم للذكر مثل حظ
الأنثيين، وكذلك حكم البنت والبنتين. والبنت (2) لها النصف، ولهما الثلثان على
كل حال، إلا من خصه الدليل من الرق، والكفر، والقتل، فإنه لا خلاف أن
الكافر، والمملوك، والقاتل عمدا، لا يرثون، وإن كان القائل خطأ، فقيه الخلاف
وعندنا يرث من المال دون الدية. فأما المسلم فإنه عندنا يرث الكافر، وفيه خلاف،
ذكرناه في مسائل الخلاف، والعبد لا يورث لأنه لا يملك شيئا، والمرتد لا يرث
وميراثه لورثته المسلمين، وهذا قول علي (ع). وقال سعيد بن المسيب: نرثهم
ولا يرثونا وبه قال معاوية، والحسن، وعبد الله بن معقل، ومسروق وقوله صلى الله عليه وآله
" لا يتوارث أهل ملتين " معناه: لا يرث كل واحد منهما صاحبه، فانا
نقول: المسلم يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم، فلم تثبت حقيقة التوارث بينهما.
ومعنى: " يوصيكم الله " فرض عليكم، لان الوصية من الله فرض، كما قال: " ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به " (3) يعني فرض، عليكم، ذكره
الزجاج، وإنما لم يعد قوله: " يوصيكم " إلى (مثل) فينصبه، لأنه كالقول في حكاية
الجملة بعده، والتقدير: قال الله: " في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ولان
الغرض بالآية الفرق بين الموصى به والموصى له، في نحو أوصيت زيدا بعمرو.
وقوله: (فان كن نساء فوق اثنتين) فالظاهر يقتضي أن الثنتين لا يستحقان
الثلثين، وإنما يستحق الثلثان إذا كن فوق اثنتين، لكن أجمعت الأمة أن حكم
البنتين حكم من زاد عليهما من البنات، فتركنا له الظاهر. وقال أبو العباس المبرد،

(1) في المطبوعة (فنسخ بهذه الآية) باسقاط ذلك.
(2) (والبنت) ساقطة من المطبوعة.
(3) سورة الأنعام: آية 151.
129

واختاره إسماعيل بن إسحاق القاضي: إن في الآية دليلا على أن للبنتين الثلثين،
لأنه إذا قال: (للذكر مثل حظ الأنثيين) وكان أول العدد ذكرا وأنثى، للذكر
الثلثان وللأنثى الثلث علم من ذلك أن للبنتين الثلثين، وأعلم الله أن ما فوق البنتين
لهن، الثلثان. وحكى الزجاج عمن قال: ذلك معلوم، بقوله تعالى: (يستفتونك قل
الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) (1)
فجعل للأخت النصف، كما جعل للبنت النصف، ثم قال: (فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان) (2)
فأعطيت البنتان الثلثين (3)، كما أعطيت الأختان الثلثين وأعطي جملة الأخوات
الثلثين، فكذلك جملة البنات. وذكر عن ابن عباس: أن البنتين بمنزلة البنت، وإنما
استحق الثلثين الثلاث بنات فصاعدا. وحكى النظام، في كتاب النكت، عن
ابن عباس: أن للبنتين نصفا وقيراطا، قال: لان للبنت الواحدة النصف، وللثلاث
بنات الثلثين، فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما، ثم يشتركان في النصف وقيراط
بالسوية. وقوله: (وإن كانت واحدة فلها النصف " يدل على أن فاطمة (ع)
كانت مستحقة للميراث، لأنه عام في كل بنت، والخبر المدعي في أن الأنبياء
لا يورثون خبر واحد، لا يترك له عموم الآية لأنه معلوم لا يترك بمظنون. وقوله:
(ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) ليس في ذلك خلاف،
وكذلك إن كان واحد من الأبوين مع الولد، كان له السدس بالتسمية، بلا خلاف،
ثم ينظر، فإن كان الولد ذكرا، كان الباقي للولد واحدا كان أو أكثر، بلا
خلاف، وكذلك إن كانوا ذكورا وإناثا فالمال بينهم، " للذكر مثل حظ الأنثيين "
وإن كانت بنتا كان لها النصف، ولاحد الأبوين السدس، والباقي عندنا يرد
على البنت وأحد الأبوين على قدر سهامهما، أيهما كان، لان قرابتهما سواء، ومن
خالفنا يقول: إن كان أحد الأبوين أبا كان الباقي له، لأنه عصبة وإن كانت
أما ففيهم من يقول بالرد على البنت وعلى الام ومنهم من يقول: الباقي لبيت المال،

(1) سورة النساء: آية 175.
(2) سورة النساء: آية 175.
(3) في المخطوطة والمطبوعة (أعطيت البنتين الثلثان) وهو؟.
130

وإنما رددنا عليهما لقوله: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض (1) وههنا
هما متساويان، لان البنت تتقرب بنفسها إلى الميت، فكذلك أحد الأبوين،
والخبر المدعى في أن ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر، خبر ضعيف، بينا
وجهه في تهذيب الأحكام، لا يخص به عموم القرآن. وقوله (فإن لم يكن له
ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) فمفهومه أن الباقي للأب وليس فيه خلاف، فإن كان
في الفريضة زوج كان له النصف، وللأم الثلث بالظاهر، وما بقي فللأب.
ومن قال: للام ثلث ما يبقي، فقد ترك الظاهر، وبمثل ما قلناه قال ابن عباس،
فإن كان بدل الزوج زوجة، كان الامر مثل ذلك، للزوجة الربع، وللأم الثلث،
والباقي للأب، وبه قال ابن عباس، وابن سيرين.
قوله: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) ففي أصحابنا من يقول: إنما
يكون لها السدس إذا كان هناك أب لان التقدير: فإن لم يكن له ولد وورثه
أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس، ومنهم من
قال: إن لها السدس مع وجود الاخوة، سواء كان هناك أب أو لم يكن، وبه
قال جميع الفقهاء، غير أنا نقول: إن كان هناك أب، كان الباقي للأب، وإن
لم يكن أب كان الباقي ردا على الام، ولا يرث - أحد من الاخوة والأخوات مع
الام شيئا، سواء كانوا من قبل أب وأم أو من قبل أب، أو من قبل أم - على حال،
لان الام أقرب منهم بدرجة، ولا يحجب عندنا من الاخوة إلا من كان من
قبل الأب والام، أو من قبل الأب، فأما من كان من قبل الام فحسب، فإنه
لا يحجب على حال، ولا يحجب أقل من أخوين، أو أخ وأختين، أو أربع أخوات،
فأما الأختان فلا يحجبان على حال، وخالفنا جميع الفقهاء في ذلك فأما الاخوان (2)
فلا خلاف أنه تحجب بهما الام عن الثلث إلى السدس، إلا ما قال ابن عباس: أنه
لا يحجب بأقل من ثلاثة، لقوله: " إخوة " والثلاثة أقل الجمع، وحكي عن

(1) سورة الأنفال: آية 75.
(2) في المطبوعة (الأخوات).
131

ابن عباس أيضا: أن ما يحجبه الاخوة من سهم الام من الثلث إلى السدس،
يأخذه الاخوة دون الأب، وذلك خلاف ما أجمعت الأمة عليه، لأنه لا خلاف
أن أحدا من الاخوة لا يستحق مع الأبوين شيئا، وإنما قلنا إن اخوة بمعنى
أخوين للاجماع من أهل العصر على ذلك، وأيضا فإنه يجوز وضع لفظ الجمع في
موضع التثنية إذا اقترنت به دلالة، كما قال: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (1)
ويقول القائل: ضربت الرجلين أرؤسهما، ومن أخويك ظهورهما.
فان قيل: لم حجب الاخوة الام من غير أن يرثوا مع الأب؟ قلنا: قال
قتادة: معونة للأب، لأنه يقوم بنفقتهم، ونكاحهم، دون الام، وهذا بعينه
رواه أصحابنا، وهو دال على أن الاخوة من الام لا يحجبون، لان الأب
لا يلزمه نفقتهم على حال، وقوله: (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم
نفعا) معناه: لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعا في الدين والدنيا، والله يعلمه،
فاقسموه على ما بينه من يعلم المصلحة فيه. وقال بعضهم: الأب يجب عليه نفقة الابن
إذا احتاج إليها، وكذلك الابن يجب عليه نفقة الأب مع الحاجة، فهما في النفع
في هذا الباب سواء، لا تدرون أيهم أقرب نفعا. وقيل: لا تدرون أيكم يموت
قبل صاحبه، فينتفع الآخر بماله.
فان قيل: كيف قدم الوصية على الدين في هذه الآية وفي التي بعدها، مع
أن الدين يتقدم عليها بلا خلاف؟ قلنا: لان (أو) لا توجب الترتيب، وإنما هي
لاحد الشيئين، فكأنه قال: من بعد أحد هذين، مفردا أو مضموما إلى الآخر
كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي جالس أحدهما مفردا أو مضموما إلى
الآخر ويجب البدأة بالدين، لأنه مثل رد الوديعة التي يجب ردها على صاحبها،
فكذلك حال الدين، وجب ره أولا، ثم يكون بعده (2) الوصية، ثم الميراث.
وما قلنا اختاره الجبائي، والطبري، وهو المعتمد عليه في تأويل الآية. وقوله:

(1) سورة التحريم: آية 4.
(2) في المطبوعة (هذه) بدل (بعده)
132

(فريضة من الله) نصب على الحال من قوله: (لأبويه) وتقديره: فلهؤلاء
الورثة ما ذكرناه مفروضا، ف‍ " فريضة " مؤكدة لقوله: " يوصيكم الله " هذا
قول الزجاج، وقال غيره: هو نصب على المصدر من قوله: (يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين) فرضا مفروضا. وقال غيره: يجوز أن يكون نصبا على
التمييز من قوله: (فلأمه السدس) فريضة، كما تقول: هو لك صدقة، أو هبة.
والثلث، والربع، والسدس، يجوز فيه التخفيف والتثقيل، فالتخفيف لثقل
الضمة، وقال قوم: الأصل فيها التخفيف، وإنما ثقل للاتباع، قال الزجاج: هذا
خطأ لان الكلام وضع على الايجاز بالتخفيف عن التثقيل.
وقوله: (إن الله كان عليما حكيما) قيل (1) في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال سيبويه: كان القوم شاهدوا علما: وحكمة، ومغفرة، وتفضلا،
فقيل لهم: (إن الله كان عليما حكيما) لم يزل على ما شاهدتم عليه (2).
والثاني - قال الحسن: كان الله عليما بالأشياء قبل حدوثها، حكيما فيما يقدره
ويدبره منها.
الثالث - قال بعضهم: الخبر عن هذه الأشياء بالمضي، كالخبر بالاستقبال
والحال، لان الأشياء عند الله على كل حال فيما مضى وما يستقبل.
وإنما قال في تثنية الأب والام: أبوان تغليبا للفظ الأب، ويقال أيضا
للام أبة، ولا يلزم على ذلك أن يقال: في ابن وابنة: إبنان، لأنه يوهم، فإن لم
يوهم جاز ذلك ذكره الزجاج.
قوله تعالى:
(ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان
لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو

(1) المطبوعة (فيدخل) بدل (قيل).
(2) هكذا في المخطوطة والمطبوعة والعبارة فيها ما ترى.
133

دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم
ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن
كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد
منهما السدس فان كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من
بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله
عليم حليم (12) - آية بلا خلاف -.
قوله: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد) لا خلاف أن
للزوج نصف ما تترك الزوجة إذا لم يكن لها ولد، فإن كان لها ولد فله الربع أيضا
بلا خلاف سواء كان الولد منه أو من غيره، وإن كان ولد لا يرث لكونه مملوكا،
أو كافرا، أو قاتلا، فلا يحجب الزوج من النصف إلى الربع، ووجوه كعدمه.
وكذلك حكم الزوجة، لها الربع إذا لم يكن المزوج ولد، على ما قلناه في الزوجة
سواء، فإن كان له ولد، كان لها الثمن، وما تستحقه الزوجة إن كانت واحدة فهو
لها، وإن كن اثنتين أو ثلاثا أو أربعا لم يكن لهن أكثر من ذلك بلا خلاف، ولا
يستحق الزوج أقل من الربع في حال من الأحوال، ولا الزوجة أقل من الثمن
على وجه من الوجوه، ولا يدخل عليهما النقصان، وكذلك الأبوان لا ينقصان في
حال من الأحوال من السدسين، لان العول عندنا باطل على ما بيناه في مسائل
الخلاف. وكل من ذكر الله له فرضا، فإنما يستحقه إذا أخرج من التركة الكفن،
والدين، والوصية، فان استغرق الدين المال لم تنفذ الوصية، ولا ميراث، وإن بقي
نفذت الوصية، ما لم تزد على ثلث ما يبقي بعد الدين، فان زادت ردت إلى الثلث.
وقوله: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت) يعني من
الام، بلا خلاف.
134

الاعراب:
" وكلالة " نصبه يحتمل أمرين:
أحدهما - على أنه مصدر وقع موقع الحال، وتكون كان تامة، وتقديره: يورث
متكلل النسب كلالة.
والثاني - بأن يكون خبر كان، ذكره الرماني، والبلخي، وتقديره " فإن كان
" (رجل) اسم كان ويورث: صفته. وكلالة خبره. والأول هو الوجه، لان
(يورث) هو الذي اقتضى ذكر الكلالة، كما تقول: يورث هذا الرجل كلالة، بخلاف
من يورث ميراث الصلب، ويورث كلالة عصبة وغير عصبة.
المعنى:
واختلفوا في معنى الكلالة، فقال أبو بكر وعمر، وابن عباس، وابن زيد،
وقتادة، والزهري، وابن إسحاق: هو ما عدا الوالد والولد (1). وروي عن
ابن عباس في رواية أخرى، أن الكلالة ما عدا الولد (2)، وورث الاخوة من
الام السدس مع الأبوين، وهذا خلاف إجماع أهل الاعصار. وقال ابن زيد:
الميت يسمى كلالة. وقال جابر، وابن زيد: من عدا الوالد والولد من الورثة يسمى
كلالة، فعلى هذا يسمى الزوج والزوجة كلالة، وقال قوم: الكلالة هو الميت الذي
لا ولد له، ولا والد.
وعندنا أن الكلالة هم الاخوة والأخوات، فمن ذكر في هذه الآية هو من
كان من قبل الام، ومن ذكر في آخر السورة فهو من قبل الأب والام، أو من
قبل الأب.
اللغة:
وأصل الكلالة: الإحاطة، فمنه الإكليل، لإحاطته بالرأس، ومنه الكل

(1) في المخطوطة (ما عدا الولد) في الموضعين.
(2) في المخطوطة (ما عدا الولد) في الموضعين.
135

لإحاطته بالعدد، والكلالة لإحاطتها بأصل النسب الذي هو الولد والوالد، ومنه
الكلال، لأنه تعب قد أحاط.
وقال أبو مسلم: أصلها من كل إذا أعيا، فكأنه تناول الميراث من بعد
على كلال وإعياء. وقال الحسين بن علي المغربي: أصله عندي ما تركه الانسان وراء
ظهره، مأخوذا من الكلالة، وهي مصدر الاكل، وهو الظهر، وقال: قرأت
على أبي أسامة في كتاب الجيم، لأبي عمرو الشيباني: تقول العرب: ولاني فلان
أكله على وزن أظله، أي: ولاني ظهره، قال وهذا الاسم تعرفه العرب، وتخبر
به عن جملة النسب والوراثة، قال عامر بن الطفيل:
وأني وان كنت ابن فارس عامر * وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن كلالة * أبى الله ان أسمو بأم ولا أب (1)
هكذا أنشده الرازي في كتابه، وينشد عن وراثة. وقال زياد بن زيد
العذري:
ولم أرث المجد التليد كلالة * ولم يأن مني فترة لعقيب
والكل الثقل، ويقولون لابن الأخ ومن يجري مجراه، ممن يعال على وجه
التبرع: هذا كلي، ومن قال: إن الأب لا يدخل في الكلالة استدل بقول
الشاعر:
فان أبا المرء أحمى له * ومولى الكلالة لا يغضب (2)
فأفرد الأب من الكلالة. ولا خلاف أن الاخوة والأخوات من الام يتساوون
في الميراث.
الاعراب:
وقوله: " وصية " نصب على المصدر بقوله: " يوصيكم الله " وصية وقال الفراء: نصب بقوله:
" فلكل واحد منها السدس " وصية كما نقول: لك درهمان نفقة إني أهلك، والأول

(1) اللسان (كال).
(2) اللسان (كل).
136

أعم فائدة، وأولى. وقوله: " والله عليم حليم " معناه ههنا: عليم بمصالح خلقه،
حليم بامهال من يعصيه، فلا يغتر مغتر بامهاله. وقوله: " وإن كان رجلا يورث
كلالة أو امرأة " ثم قال: " وله أخ أو أخت " ولم يقل: لهما، كما تقول: من كان
له أخ أو أخت فليصله، ويجوز: فليصلها، ويجوز: فليصلهما، فالأول يرد الكناية
إلى الأخ، والثاني على الأخت، والثالث عليهما، كل ذلك حسن. وقوله: " غير
مضار " نصب على الحال، يعني: يوصي بذلك غير مضار. وقال الزجاج: يجوز
أن يكون نصبا على أنه مفعول به. وحكى البلخي عن أبي عبيدة، وذكره الزجاج:
" يورث " بكسر الراء، قال: ومعناه من ليس بولد ولا والد، ومن نصب الراء
أراد المصدر.
المعنى:
ومسائل المواريث وفروعها بسطناها في النهاية والمبسوط، وأوجزناها في
الايجاز، في الفرائض، لا نطول بذكرها في الكتاب، غير أنا نعقد ههنا جملة
تدل على المذهب فنقول: الميراث يستحق بشيئين: نسب وسبب، فالسبب الزوجية،
والولاء، والولاء على ثلاثة أقسام: ولاء العتق، وولاء تضمن الجريرة، وولاء
الإمامة، ولا يستحق الميراث بالولاء إلا مع عدم ذوي الأنساب. والميراث بالزوجية
ثابت مع جميع الوراث، سواء ورثوا بالفرض أو بالقرابة، ولا ينقص الزوج عن
الربع في حال، ولا يزاد على النصف، والزوجة لا تزاد على الربع، ولا تنقص من
الثمن على وجه.
والميراث بالنسب يستحق على وجهين: بالفرض، والقرابة، فالميراث بالفرض
لا يجتمع فيه إلا من كانت قرباه واحدة إلى الميت، مثل البنت أو البنات مع الوالدين
أو أحدهما، فإنه متى انفرد واحد منهم أخذ المال كله، بعضه بالفرض، والباقي
بالرد، وإذا اجتمعا أخذ كل واحد منهم ما سمي له، والباقي يرد عليهم، إن
137

فضل. على قدر سهامهم، وان نقص، لمزاحمة الزوج أو الزوجة لهم، كان النقص
داخلا على البنت أو البنات، دون الأبوين، أو أحدهما، ودون الزوج والزوجة.
ولا يجتمع مع الأولاد، ولا مع الوالدين، ولا مع أحدهما أحد ممن يتقرب لهما،
كالكلالتين فإنهما لا تجتمعان مع الأولاد، ذكورا كانوا أو إناثا، ولامع الوالدين،
ولا مع أحدهما أبا كان أو أما، بل تجتمع كلالة الأب وكلالة الام، فكلالة الام
إن كان واحدا كان له السدس، وإن كانا اثنين فصاعدا كان لهم الثلث، لا ينقصون
منه، والباقي لكلالة الأب، فان زاحمهم الزوج أو الزوجة دخل النقص على كلالة
الأب دون كلالة الام، ولا تجتمع كلالة الأب والام مع كلاله الأب خاصة،
فان اجتمعا كان المال لكلالة الأب والام، دون كلالة الأب، ذكرا كان أو
أنثى، أو ذكورا، أو إناثا، أو ذكورا وإناثا (1) ومن يورث بالقرابة دون
الفرض لا يجتمع إلا [مع] (2) من كانت قرباه واحدة، وأسبابه ودرجته
متساوية، فعلى هذا لا يجتمع مع الولد للصلب ولد الولد، ذكرا كان ولد الصلب
أو أنثى، لأنه أقرب بدرجة، وكذلك لا يجتمع مع الأبوين ولا مع أحدهما من
يتقرب بهما من الاخوة والأخوات، والجد والجدة على حال، ولا يجتمع الجد
والجدة مع الولد للصلب، ولا مع ولد الولد وإن نزلوا، ويجتمع الأبوان مع ولد
الولد وإن نزلوا، لأنهم بمنزلة الولد للصلب، إذا لم يكن ولد الصلب، والجد
والجدة يجتمعان مع الاخوة والأخوات، لأنهم في درجة واحدة (3) والجد من
قبل الأب بمنزلة الأخ من قبله، والجدة من قبله بمنزلة الأخت من قبله، والجد
من قبل الام بمنزلة الأخ من قبلها، والجدة من قبلها بمنزلة الأخت من قبلها،
وأولاد الاخوة والأخوات يقاسمون الجد والجدة، لأنهم بمنزلة آبائهم، ولا يجتمع
مع الجد والجدة من يتقرب بهما من العم والعمة، والخال والخالة، ولا الجد الاعلى،

(1) (أو ذكورا وإناثا) ساقطة من المطبوعة.
(2) (مع) ساقطة من المطبوعة.
(3) في المطبوعة (دج والجد) باسقاط واحدة والتأنيث من درجة.
138

ولا الجدة العليا، وعلى هذا تجري جملة المواريث، فان فروعها لا تنحصر، وفيما
ذكرناه تنبيه على ما لم نذكره.
وأما المسائل التي اختلف قول الصحابة فيها، فقد ذكرناها في خلاف الفقهاء،
فلا وجه لذكرها ههنا، لأنه يطول به الكتاب.
قوله تعالى: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) ومن
يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله
عذاب مهين) (14) - آيتان بلا خلاف -.
القراءة، والحجة:
قرأ نافع، وابن عامر: ندخله بالنون في الموضعين، الباقون بالياء، فمن
قرأ بالياء فلان ما تقدم لفظ الغائب ومن قرأ بالنون عدل عن خطاب الغائب إلى
الاخبار عن الله بنون العظمة، كما قال: " بل الله مولاكم " (1) وقال بعده:
" سنلقي " فعدل عن الغائب.
المعنى، والاعراب:
قال الفراء، والزجاج: معنى " تلك " هذه، كأنه قال هذه حدود الله واختلفوا
في معنى الحدود، فقال السدي: تلك شروط الله، وقال ابن عباس: تلك طاعة الله،
وقال قوم: تلك فرائض الله وأمره، وقال قوم: تلك تفصيلات الله لفرائضه، وهو
الأقوى، لان أصل الحد هو الفصل، مأخوذا من حدود الدار التي تفصلها من غيرها،
فمعنى الآية: هذه القسمة التي قسمها الله لكم، والفرائض التي فرضها لاحيائكم من

(1) سورة آل عمران: آية 150.
139

أمواتكم حدود الله، يعني فصول بين طاعة الله ومعصيته على ما قال ابن عباس،
والمعنى تلك حدود طاعة الله، وإنما اختص لوضوح المعنى للمخاطبين.
فان قيل: إذا كان ما تقدم ذكره دل على أنها حدود الله، فما الفائدة في
هذا القول؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - للتأكيد، والثاني - أن الوجه في إعادته ما علق به من الوعد
والوعيد الصريح.
فان قيل: لم خصت الطاعة في قسمة الميراث بالوعد، مع أنه وأحب في كل
طاعة إذا فعلت لوجه الوجوب؟ قلنا: للبيان عن عظم موقع هذه الطاعة، مع
التذكير بما يستحق عليها ترغيبا فيها بوعد مقطوع. وقوله: (يدخله جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) نصب على الحال. قال الزجاج والتقدير:
يدخلهم مقدرين الخلود فيها، والحال يستقبل فيها، كما تقول: مررت برجل معه
باز، صائدا به غدا، أي يقدر الصيد به غدا. وقوله: (وذلك الفوز العظيم)
معناه الفلاح العظيم، فوصفه بأنه عظيم ولم يبين بالإضافة إلى ماذا، لان المراد به
أنه عظيم بالإضافة إلى منفعة الخيانة في التركة، من حيث كان أمر الدنيا حقيرا
بالإضافة إلى أمر الآخرة. وقوله: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده)
معناه يعصي الله فيما بينه من الفرائض، وأموال اليتامى، " ويتعد " معناه:
يتجاوز ما بين له، " يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " وخالدا نصب على
أحد وجهين:
أحدهما - أن يكون حالا من الهاء في يدخله.
والآخر - أن يكون صفة لنار في قول الزجاج، كقولك: زيد مررت بدار
ساكن فيها، على حذف الضمير، والتقدير: ساكن هو فيها، لان اسم الفاعل إذا
جرى على غير من هو له لم يتضمن الضمير كما يتضمنه الفعل لو قلت: يسكن فيها.
واستدلت المعتزلة بهذه الآية على أن فاسق أهل الصلاة مخلد في النار، ومعاقب
لا محالة، وهذا لا دلالة لهم فيه من وجوه، لان قوله: " ويتعد حدوده " إشارة
140

إلى من يتعدى جميع حدود الله، ومن كان كذلك فعندنا يكون كافرا، وأيضا
فلا خلاف أن الآية مخصوصة بصاحب الصغيرة، وإن كان فعل المعصية، وتعدى
حدا فإنه خارج منها، فان جاز لهم إخراج الصغيرة منها لدليل، جاز لنا أن.
نخرج من يتفضل الله عليه بالعفو، أو يشفع فيه النبي صلى الله عليه وآله. وأيضا فان التائب
لابد من إخراجه من هذه الآية لقيام الدلالة على وجوب قبول التوبة، فكذلك
يجب أن يشترط من يتفضل الله باسقاط عقابه، فان قالوا: قبول التوبة واجب،
والعفو ليس بواجب، قلنا: قبول التوبة واجب إذا حصلت، وكذلك سقوط
العقاب واجب إذا حصل العفو، فان قالوا: يجوز أن لا يختار الله العفو، قلنا:
وكذلك يجوز ألا يختار العاصي التوبة، فان جعلوا الآية دالة على أن الله لا يختار
العفو، جاز لغيرهم أن يجعل الآية دالة على أن العاصي لا يختار التوبة، على أن
هذه الآية معارضة بآيات كثيرة، في وقوع العفو، كقوله: " ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء " (1) على ما سنبينه فيما بعد. وقوله: " إن الله يغفر الذنوب
جميعا " (2) وقوله: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " (3) فان شرطوا
في آياتنا التوبة، شرطنا في آياتهم ارتفاع العفو، والكلام في ذلك مستقصى في
الوعيد، لا نطول بذكره هذا الكتاب. ويمكن - مع تسليم ذلك - أن تحمل الآية
على من يتعدى الحدود مستحلا لها، فإنه يكون كافرا، ويتناوله الوعيد، على أن
عند كثير من المرجئة العموم لا صيغة له، فمن أين ان " من " يفيد جميع العصاة؟
وما المنكر أن تكون الآية مختصة بالكفار.
قوله تعالى:
(واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن
أربعة منكم فان شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت

(1) سورة النساء: آية 47، 115.
(2) سورة الزمر: آية 53.
(3) سورة الرعد: آية 7.
141

أو يجعل الله لهن سبيلا) (15) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
قال أكثر المفسرين، كالضحاك، وابن زيد، والجبائي، والبلخي، والزجاج،
ومجاهد، وابن عباس، وقتادة، والسدي: إن هذه الآية منسوخة، لأنه كان
الفرض الأول أن المرأة إذا زنت وقامت عليها البينة بذلك، أربعة شهود، أن تحبس
في البيت أبدا حتى تموت، ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين، والجلد في البكرين.
واللاتي جمع التي، وكذلك اللواتي، قال الشاعر:
من اللواتي والتي واللاتي * زعمن أن كبرت لداتي (1)
ويجمع اللاتي باثبات الياء وبحذفها، قال الشاعر:
من اللات لم يحججن يبغين حسبة * ولكن ليقتلن البرئ المغفلا (2)
وقوله: (أو يجعل الله لهن سبيلا) قيل في معنى السبيل ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، وعبد الله بن كثير، أنه الجلد للبكر مائة، وللثيب
المحصن الرجم، وإذا جلد البكر فإنه ينفى سنة عندنا، وبه قال الحسن، وقتادة،
وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.
و [الثاني] - قال الجبائي: النفي يجوز من طريق اجتهاد الامام، وأما من
وجب عليه الرجم فإنه يجلد أولا ثم يرجم عند أكثر أصحابنا، وبه قال الحسن،
وقتادة، وعبادة بن الصامت، وجماعة ذكرناهم في الخلاف. وفي أصحابنا من
يقول: ذلك يختص الشيخ والشيخة، فإذا لم يكونا كذلك فليس عليهما غير الرجم،
وأكثر الفقهاء على أنهما لا يجتمعان، وثبوت الرجم معلوم من جهة التواتر على
وجه لا يختلج فيه شك، وعليه اجماع الطائفة، بل اجماع الأمة، ولم يخالف فيه
إلا الخوارج، وهم لا يعتد بخلافهم. وقوله: " يأتين الفاحشة " يعني بالفاحشة،

(1) اللسان (لتا) والصاح، والتاج. ومجاز القرآن 1: 119 وخزانة الأدب وغيرها
ولم يعرف قائله.
(2) نسبه أبو عبيدة إلى عمر بن أبي ربيعة ولم نجده في ديوانه، ونسب إلى الحارث بن
خلد في بعض النسخ. مجاز القرآن 1: 120.
142

وحذف الباء كما يقولون: أتيت أمرا عظيما، أي: بأمر عظيم، وتكلمت كلاما
قبيحا، أي بكلام قبيح. وقال أبو مسلم: " واللاتي يأتين الفاحشة " قال: هما
المرأة تخلوا بالمرأة في الفاحشة المذكورة عنهن: " أو يجعل الله لهن سبيلا " فالتزويج
والاستغناء بالحلال، وهذا قول مخالف للاجماع، ولما عليه المفسرون، فإنهم
لا يختلفون أن الفاحشة المذكورة في الآية الزنا، وأن هذا الحكم منسوخ، وهو
المروي عن أبي جعفر (ع) وأبي عبد الله (ع). ولما نزل قوله: " الزانية
والزاني " (1) قال النبي صلى الله عليه وآله: قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة
وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد ثم الرجم. قوله تعالى:
(واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا
عنهما إن الله كان توابا رحيما) (16) - آية بلا خلاف.
القراءة، واللغة:
قرأ ابن كثير: " واللذان " بتشديد النون، وكذلك: " هذان " " وفذانك "، ووافقه
أبو عمروا في: فذانك. الباقون بالتخفيف، قال أبو علي: من شدد النون
فوجهه أنه عوض من الحذف الذي لحق الكلمة، لان قولهم: (ذا) قد حذف لامها،
وقد حذف الياء من اللذان في التثنية، لان أصله اللذيان، فعوض عن ذلك
التشديد، وفي العرب من يقول: اللذ بلا ياء، وفي التثنية اللذا، وفي الجمع
اللذوا، وللمرأة اللت، واللتا، واللات، بلا ياء، وطي تقول مكان الذي: ذو،
ومكان التي: ذات.
المعنى:
والمعني بقوله: " اللذان " فيه ثلاثة أقوال:

(1) سورة النور: آية 2.
143

أولها - قال الحسن، وعطا: الرجل والمرأة، وقال السدي وابن زيد:
هما البكران من الرجل والنساء، وقال مجاهد: هما الرجلان الزانيان، قال الرماني:
قول مجاهد لا يصح، لأنه لو كان كذلك لم يكن للتثنية معنى، لأنه إنما يجئ الوعد
والوعيد بلفظ الجمع، لأنه لكل واحد منهم، أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس
الذي يعم جميعهم، وأما التثنية فلا فائدة فيها، قال: والأول أظهر. قال أبو مسلم:
هما الرجلان يخلوان بالفاحشة بينهما، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: السحاق زناء
النساء بينهن، ومباشرة الرجل للرجل زناء، ومباشرة المرأة للمرأة زناء، قال: ولا
يعرف في كلام العرب جمع بين الذكر والأنثى في لفظ التذكير إلا إذا تقدمه
ما يدل عليه، كقوله: " إن المسلمين والمسلمات "، ثم قال: " أعد الله لهم " (1)
وإلى هذا التأويل في معنى الرجلين ذهب أهل العراق، فلا يحدون للوطي، وهذا
قول بعيد، والذي عليه جمهور المفسرين أن الفاحشة الزنا، وأن الحكم المذكور في
الآية منسوخ بالحد المفروض في سورة النور، ذهب إليه الحسن، ومجاهد،
وقتادة، والسدي، وابن زيد، والضحاك، والبلخي، والجبائي، والطبري،
والزجاج، وغيرهم. وبعضهم قال: نسخها الحدود بالرجم أو الجلد.
وقوله: " فآذوهما " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس: هو التعيير باللسان، والضرب بالنعال. وقال قتادة،
والسدي، ومجاهد: هو التعيير والتوبيخ، فان قيل: كيف ذكر الأذى بعد
الحبس؟ قلنا: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - قال الحسن إن هذه الآية نزلت أولا، ثم أمر بأن توضع في
التلاوة بعد، فكان الأذى أولا، ثم الحبس، بعد ذلك، ثم (2) نسخ الحبس
بالجلد أو بالرجم
. الثاني - قال السدي: انه في البكرين خاصة، دون الثيبين، والأولى في

(1) سورة الأحزاب: آية 35.
(2) (ثم) ساقطة من المطبوعة.
144

الثيبين دون البكرين.
والثالث - قال الفراء: هذه الآية نسخت الأولى، قال أبو علي الجبائي:
في الآية دلالة على نسخ القرآن بالسنة، لأنها نسخت بالرجم أو الجلد، والرجم
ثبت بالسنة، ومن خالف في ذلك قول: هذه الآية نسخت بالجلد في الزنا،
وأضيف إليه الرجم زيادة لا نسخا، فلم يثبت نسخ القرآن بالسنة. فأما الأذى
المذكور في الآية، فليس بمنسوخ، فان الزاني يؤذى ويعنف، ويوبخ على فعله،
ويذم. وإنما لا يقتصر عليه، فزيد في الأذى إقامة الحد عليه، وإنما
نسخ
الاقتصار عليه.
قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون
من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17)
- آية واحدة -.
المعنى:
التوبة هي الندم على القبيح مع العزم على ألا يعود إلى مثله في القبح، وفي
الناس من قال: يكفي الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على ألا يعود إلى مثله،
والأول أقوى، لاجماع الأمة على أنها إذا حصلت على ذلك الوجه أسقطت العقاب،
وإذا حصلت على الوجه الثاني ففي سقوط العقاب عنها خلاف، وقد ذكر الله تعالى
في هذه الآية أن التوبة إنما يقبلها ممن يعمل السوء بجهالة، وقيل في معنى بجهالة
أربعة أقوال:
أحدها - قال مجاهد، وقتادة، وابن عباس، وعطا، وابن زيد: هو أن يفعلوها
على جهة المعصية لله تعالى، لان كل معصية لها جهالة، لأنه يدعو إليها الجهل، ويزينها
للعبد، وإن كانت عمدا.
الثاني - بجهالة، أي بحال كحال الجهالة، التي لا يعلم صاحبها ما عليه في
145

مثلها من المضرة.
الثالث - قال الفراء: معنى " بجهالة " أي لا يعلمون كنه ما فيه من العقوبة،
كما يعلم الشئ ضرورة.
الرابع - " بجهالة " أي وهم يجهلون أنها ذنوب ومعاصي، اختاره الجبائي، قال: يفعلونها
بجهالة إما بتأويل يخطئون فيه. أو بان يفرطوا في الاستدلال على قبحها، قال الرماني:
هذا ضعيف، لأنه تأويل بخلاف ما أجمع عليه المفسرون، قال أبو العالية: إن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فبجهالة، وقال قتادة:
أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله على ذلك، وأيضا فإنه يوجب أن من علم أنها ذنوب
أن لا يكون له توبة، لان قوله: " إنما التوبة " يفيد أنها لهؤلاء دون غيرهم،
وظاهر الآية يدل على أن الله يقبل التوبة من جميع المعاصي كفرا كان أو قتلا
أو غيرهما من المعاصي، ويقربه أيضا قوله: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا
يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق.. " إلى قوله: " إلا من تاب " (1)
فاستثنى من القتل، كما استثنى من الزنا والشرك، وحكي عن الحسن أنه قال: لا
يقبل الله توبة القاتل. وروي أنه إنما قال ذلك لرجل كان عزم على قتل رجل
على أن يتوب فيما بعد، فأراد صده عن ذلك. وقوله " فأولئك يتوب الله عليهم "
بعد قوله " ثم يتوبون من قريب " معناه إن الله يقبل توبتهم إذا تابوا وأنابوا،
وقوله: " من قريب " حث على أن التوبة يجب أن تكون عقيب المعصية، خوفا
من الاخترام، وليس المراد بذلك أنها لو تأخرت لما قبلت. وقال الزجاج: معناه ثم
يتوبون قبل الموت، لان ما بين الانسان وبين الموت قريب، والتوبة مقبولة قبل
اليقين بالموت. وقال الحسن، والضحاك، وابن عمر: القريب ما لم يعاين الموت.
وقال علي (ع)، وقد قيل له: فان عاد؟ يغفر الله له ويتوب، مرارا، قيل:
إلى متى؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور. وقال السدي، وابن عباس:
في حال الصحة قبل الموت. وقوله: " وكان الله عليما حكيما " معناه ههنا: وكان الله

(1) سورة الفرقان: آية 68 - 70.
146

عليما بتوبتهم إن تابوا، وإصرارهم إن أصروا، حكيما في مؤاخذتهم إن لم يتوبوا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لما هبط إبليس قال: وعزتك وعظمتك، لا أفارق
ابن آدم حتى تفارق روحه جسده، فقال الله: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن
عبدي حتى يغرغو.
قوله تعالى:
(وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر
أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار
أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما) (18) - آية واحدة -.
المعنى: أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يقبل التوبة من الذي يعمل المعاصي حتى
إذا حضره الموت قال: إني تبت الآن، وأجمع أهل التأويل على أن الآية تناولت
عصاة أهل الصلاة، إلا ما حكي عن الربيع أنه قال: إنها في المنافقين، وهذا غلط
لان المنافقين كفار، وقد بين الله الكفار بقوله: (ولا الذين يموتون وهم كفار)
وقال الربيع أيضا: إن الآية منسوخة بقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (1). وهذا خطأ لان النسخ لا يدخل في الخبر
الذي يجري هذا المجرى، ومن جوز العفو بلا توبة يمكنه أن يقول: إن التوبة
التي وعد الله باسقاط العقاب عندها قطعا متى حصلت في هذا الوقت لا يسقط
العقاب، ولا يمنع ذلك من أن يتفضل الله باسقاط العقاب ابتداء بلا توبة، كما لو
خرج من دار الدنيا من غير توبة أصلا، لم يمنع ذلك من جواز العفو عنه، فليس
في الآية ما ينافي القول بجواز العفو من غير توبة. وقال جميع المفسرين،
كابن عباس، وابن عمر، وإبراهيم، وابن زيد، وغيرهم: إن الذين يحتضرون
لا تقبل لهم توبة، غير إن الذين يحضرون الميت لا يعرفون تلك الحال معرفة يمكن

(1) سورة النساء: آية 47.
147

بها الإشارة إليها. فان قيل: فلم لم تقبل التوبة في الآخرة؟ قيل: لرفع التكليف،
وحصول الالجاء إلى فعل الحسن دون القبيح، والملجأ لا يستحق بفعله ثوابا ولا
عقابا، لأنه يجري مجرى الاضطرار. وحكي الرماني عن قوم أنهم قالوا بتكليف
أهل الآخرة، وان التوبة إنما لم يجب قبولها، لان صاحبها هناك في مثل حال
المتعوذ بها، لا المخلص فيها، وهذا خطأ، لان الله تعالى يعلم أسرارهم كما يعلم
إعلانهم. وقوله: (أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما) معناه أعددنا، وقال قوم:
التاء بدل من الدال، وقال آخرون هو أفعلنا من العتاد، ومعناه أعددنا، وعتاد
الرجل: عدته، وهو الأصل. والشئ العتيد هو المعد، والعتيدة: طبلة معدة
للطيب، ومعنى إعداد العذاب لهم، إنما هو بخلق النار التي هي مصيرهم. والأليم
بمعنى المؤلم. وليس في الآية ما يمنع من جواز العفو عن مرتكبي الكبائر بلا توبة،
لان قوله: (أولئك) يحتمل أن يكون راجعا إلى الكفار لأنه جرى ذكر الكفار
وهم أقرب إلى أولئك من ذكر الفساق، ويحتمل أن يكون التقدير: اعتدنا لهم
عذابا، إن لم نشأ العفو عنهم، وتكون الفائدة فيه إعلامهم ما يستحقونه من
العذاب، وألا يأمنوا أن يفعل بهم ذلك، وإن كان تعالى يعلم هل يعفو أو لا يعفو.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا
تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة
وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا
ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) (19) - آية بلا خلاف -.
القراءة واللغة:
قرأ (بفاحشة مبينة) بفتح الياء، ابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم.
الباقون بالكسر، وهو الأقوى، لأنه لا يقصد إلى إظهارها. وقرأ حمزة والكسائي
148

" كرها " بضم الكاف هنا وفي التوبة والأحقاف، وافقهما في الأحقاف عاصم،
وابن عامر، إلا الحلواني، ويعقوب.
الكره والكره لغتان، مثل الشهد والشهد، والضعف والضعف، والفقر
والفقر.
المعنى:
هذا الخطاب متوجه إلى المؤمنين، نهاهم الله أن يرثوا النساء كرها، واختلفوا
في معنى ذلك، فقال الزهري، والجبائي، وغيرهما، وروي ذلك عن أبي جعفر (ع):
هو أن يحبس الرجل المرأة عنده، لا حاجة له إليها، وينتظر موتها حتى يرثها،
فنهى الله (تعالى) عن ذلك. وقال الحسن، ومجاهد: معناه ما كان يعمله أهل
الجاهلية، من أن الرجل إذا مات، وترك امرأته قال وليه: ورثت امرأته، كما
ورثت ماله، فان شاء تزوجها بالصداق الأول، ولا يعطيها شيئا، وإن شاء زوجها
وأخذ صداقها، وروي ذلك أبو الجارود، عن أبي جعفر (ع). وقال مجاهد: إذا لم
يكن الولي ابنها قال أبو مجلز: وكان أولى بالميراث أولى بها من ولي نفسها. وقوله:
(ولا تعضلوهن) قيل فيمن عني بهذا النهي أربعة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، والضحاك: هو الزوج
أمره الله بتخلية السبيل إذا لم يكن له فيها حاجة، ولا يمسكها إضرارا بها، حتى
تفتدي ببعض مالها.
والثاني - قال الحسن: هو الوارث، نهي عن منع المرأة من التزويج، كما
يفعل أهل الجاهلية على ما بيناه.
والثالث قال مجاهد: المراد الولي.
الرابع - قال ابن زيد: المطلق يمنعها من التزويج، كما كانت تفعل قريش في
الجاهلية، ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة، فإذا لم توافقه فارقها، على أن لا تتزوج
إلا باذنه، فيشهد عليها بذلك، ويكتب كتابا، فإذا خطبها خاطب، فان أعطته
149

وأرضته، أذن لها وإن لم تعطه عضلها، فنهى الله عن ذلك. والأول أظهر
الأقاويل.
اللغة:
والعضل هو التضييق بالمنع من التزويج، وأصله الامتناع، يقال: عضلت
الدجاجة ببيضتها: إذا عسرت عليها، ومنه العضلة: لصلابتها، ومنه الداء العضال
إذا لم يبرء، وعضل الفضا بالجيش الكثير إذا لم يمكن سلوكه لضيقه.
المعنى:
وقوله: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) قيل فيه قولان:
أحدهما - قال الحسن، وأبو قلابة، والسدي: يعني الزنا، وقالوا إذا أطلع
منها على زنية فله أخذ الفدية.
والثاني - قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة: هو النشوز، والأولى حمل
الآية على كل معصية، لان العموم يقتضي ذلك، وهو المروي عن أبي جعفر (ع)
واختاره الطبري. وقوله: (وعاشروهن بالمعروف) قال السدي: معناه خالطوهن،
وخالقوهن، من العشرة التي هي المصاحبة بما أمركم الله به من المصاحبة، بأداء
حقوقهن التي أوجبها على الرجال، أو تسريح باحسان. وقوله: (فان كرهتموهن
فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) يعني في إمساكهن على كره
منكم " خيرا كثيرا " من ولد يرزقكم، أو عطفكم عليهن بعد الكراهية، وبه قال
ابن عباس، ومجاهد.
الاعراب:
والهاء في فيه، يحتمل أن ترجع إلى الشئ في قوله: (أن تكرهوا شيئا)
ويحتمل أن تكون راجعة إلى الذي يكرهونه. وقوله: (ولا تعضلوهن) يحتمل
أن يكون جزما بالنهي، ويحتمل أن يكون نصبا بالعطف على قوله: (لا يحل لكم
150

أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن) وفي قراءة عبد الله: (ولا أن تعضلوهن)
باثبات أن.
النزول:
وقيل في سبب نزول هذه الآية أن أبا قيس بن الأسلت لما مات عن زوجته
كبشة بنت معن بن عاصم، أراد ابنه أن يتزوجها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت:
يا نبي الله: لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح، فنزلت هذه الآية، ذكره
أبو جعفر عليه السلام، وغيره.
قوله تعالى:
(وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن
قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (20) - آية -.
المعنى:
أخذ مال المرأة، وإن كان محرما على كل حال من غير أمرها، فإنما خص الله
تعالى الاستبدال بالنهي، لان مع الاستبدال قد يتوهم جواز الاسترجاع، من
حيث أن الثانية تقوم مقام الأولى، فيكون لها ما أعطيته الأولى، فبين الله تعالى
أن ذلك لا يجوز. والمعنى: إن أردتم تخلية المرأة سواء استبدل مكانها أو لم
يستبدل. وقوله: (وآتيتم إحداهن قنطارا) معناه: ليس ما آتيتموهن
موقوفا على التمسك بهن، دون تخليتهن، فيكون إذا أردتم الاستبدال جاز لكم
أخذه، بل هو تمليك صحيح، لا يجوز الرجوع فيه. والمراد بذلك ما أعطى المرأة
مهرا لها، ويكون دخل بها، فأما إذا لم يدخل بها، وطلقها، جاز له أن يسترجع
نصف ما أعطاها، فأما ما أعطاها على وجه الهبة، فظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز
له الرجوع في شئ منه. لكن علمنا بالسنة أن ذلك سائغ له، وإن كان مكروها.
151

اللغة:
والقنطار المال الكثير، واختلفوا في مقداره، فقال بعضهم هو ملء جلد
ثور ذهبا، وقال آخرون: هو دية الانسان، وغير ذلك من الأقوال التي قدمنا
ذكرها فيما مضى. وأصل ذلك مأخوذ من القنطرة، ومنه القنطر الداهية، لأنها
كالقنطرة في عظم الصورة، وإحكام البنية. ويقال: قنطر في الامر يقنطر إذا
عظمه، بتكثير الكلام فيه، من غير حاجة إليه. وقوله: " أتأخذونه بهتانا " قيل
في معناه قولان:
أحدهما - يعني بهتانا ظلما كالظلم بالبهتان، وقيل بطلانا كبطلان البهتان.
الثاني - بهتانا أي بأن تبهتوا أنكم ملكتموه فتسترجعوه (1) وأصل
البهتان الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة، وأصله التحير، ومنه
قوله: " فبهت الذي كفر " (2) أي تحير عند انقطاع حجته، فالبهتان كذب
يحير صاحبه. ونصب بهتانا على أنه حال في موضع المصدر، والمعنى أتأخذونه
مباهتين وآثمين. وقوله " مبينا " أي ظاهرا لاشك فيه.
قوله تعالى:
(وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن
منكم ميثاقا غليظا) (21) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
قيل في نسخ هذه الآية، والتي قبلها، ثلاثة أقوال:
أحدها - أنها محكمة ليست منسوخة، لكن للزوج ان يأخذ الفدية من
المختلعة، لان النشوز منها، فالزوج في حكم المكره لا المختار للاستبدال، ولا

(1) في المطبوعة (لتستوجبوه).
(2) سورة البقرة: آية 258.
152

يتنافى حكم الآيتين، فلا يحتاج إلى نسخ إحداهما بالأخرى.
الثاني - قال بكر بن عبد الله المري: هي محكمة، وليس للزوج لأجل ظاهرها
أن يأخذ من المختلعة شيئا، ولا من غيرها.
الثالث - قال ابن زيد، والسدي: هي منسوخة بقوله: (إلا أن يخافا ألا
يقيما حدود الله فان خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) (1)
وقيل في معنى الافضاء قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: هو كناية عن الجماع.
الثاني - انه الخلوة، وإن لم يجامع، فليس له أن يسترجع نصف المهر، وإنما
يجوز ذلك فيمن لم يدخل بها بالخلوة معها. وكلاهما قد رواه أصحابنا، واختلفوا
فيه، والأول هو الأقوى.
اللغة والمعنى:
والافضاء إلى الشئ هو الوصول إليه بالملابسة له، قال الشاعر:
بلى وثاي أفضى إلى كل كئبة * بدا سيرها من ظاهر بعد باطن (2)
أي وصل البلى والفساد إلى الحزز، والفضاء السعة، فضا يفضو فضوا وفضاء
إذا تسع، ومنه: تمر فضا، مقصور أي مختلط، وقوله: (وأخذن منكم ميثاقا
غليظا) قيل في معناه أربعة أقوال:
أحدهما - قال الحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة، والسدي،
والفراء، وهو المروي عن أبي جعفر (ع) أنه قوله: (إمساك بمعروف أو تسريح
باحسان) (3) وقال مجاهد، وابن زيد، هو كلمة نكاح، التي يستحل بها الفرج.
الثالث - قول النبي صلى الله عليه وآله: (أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن

(1) سورة البقرة: آية 229.
(2) لم يعرف قائله. وقو في تفسير الطبري، 8 - 124 مشوه محرف ولم نجده في
مصادرنا.
(3) سورة البقرة: آية 229.
153

بكلمة الله).
الرابع - قال قتادة. كان يقال للناكح في الاسلام الله عليك لتمكن
بمعروف أو لتسرحن باحسان، وهذا الكلام وإن كان ظاهره للاستفهام، فالمراد
به التوبيخ، والتهديد، كما يقول القائل لغيره: كيف تفعل هذا وأنا غير راض
به، على وجه التهدد له.
قوله تعالى:
(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف
إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) (22) - آية -.
المعنى:
قيل في معنى الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، وقتادة، وعطاء، وعكرمة: إنه حرم عليهم
ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من نكاح امرأة الأب.
والثاني - أن يكون " ما نكح " بمنزلة المصدر، والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم،
أي مثل نكاح آبائكم، فعلى هذا يدخل فيه النهي عن حلائل الاباء، وكل نكاح كان لهم
فاسدا، وهو اختيار الطبري وقال: إن هذا الوجه أجود، لأنه لو أراد حلائل الآباء لقال:
لا تنكحوا من نكح آباؤكم، وهذا ليس بطعن، لأنه ذهب به مذهب الجنس، كما
يقول القائل: لا تأخذ ما أخذ أبوك من الإماء، فيذهب به مذهب الجنس ثم يفسره.
ب‍ (من). وقوله: (إلا ما قد سلف) معنى إلا لكن، وكذلك كل استثناء منقطع،
كقول القائل: لا تبع من متاعي إلا ما بعت، أي لكن ما بعت فلا جناح عليك
فيه، وقيل في معنى الآية قولان:
أحدهما - " إلا ما قد سلف " فإنكم لا تؤخذون به.
الثاني - حكاه بعضهم: " إلا ما قد سلف " فدعوه، فهو جائز لكم، قال
154

البلخي: وهذا لا يجوز بالاجماع. والهاء في قوله: " إنه كان فاحشة " يحتمل أن
تكون عائدة إلى النكاح بعد النهي، ويحتمل أن تكون عائدة على النكاح الذي
كان عليه أهل الجاهلية قبل، ولا يكون ذلك إلا وقد قامت عليهم الحجة بتحريمه،
من جهة الرسل، فالأول اختاره الجبائي، وهو الأقوى، وتكون " إلا ما قد
سلف " فالسلامة منه الاقلاع عنه بالتوبة والإنابة، قال البلخي: وليس كل نكاح
حرمه الله زنا، لان الزنا هو فعل مخصوص، لا يجري على طريقة لازمة، وسنة
جارية، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية: أولاد زنا، ولا لأولاد أهل الذمة
والمعاهدين: أولاد زنا، إذا كان ذلك عقدا بينهم يتعارفونه.
اللغة، والاعراب، والمعنى:
والمقت، هو بغض عن أمر قبيح ركبه صاحبه، وهو مقيت، وقد مقت
إلى الناس مقاتة، ومقته الناس مقتا، فهو ممقوت. وقيل إن ولد الرجل من امرأة
أبيه كان يسمي المقتي، قال المبرد: كان زائدة، والتقدير: إنه فاحشة. وقال
الزجاج: هذا ليس بصحيح، لأنها لو كانت زائدة مل تعمل، كما قال الشاعر:
فكيف إذا حللت ديار قوم * وجيران لنا كانوا كرام
لما كانت زائدة لم تعمل في الخبر. قال الرماني: هي كقوله " وكان الله
غفورا رحيما " فدخلت كان لتدل على أنه قبل تلك الحال كذا، وقال الجبائي:
معناه أنه كان فيما مضى أيضا فاحشة ومقتا، وكان قد قامت الحجة عليهم
بذلك. وكل من عقد عليها الأب من النساء تحرم على الابن، دخل بها الأب،
أو لم يدخل، بلا خلاف، فان دخل بها الأب على وجه السفاح فهل تحرم على الابن
ففيه خلاف، وعموم الآية يقضي بأنها تحرم عليه، لان النكاح يعبر به عن
الوطي، كما يعبر به عن العقد، فيجب أن يحمل عليهما، وامرأة الأب وإن علا
تحرم على الابن وإن نزل، بلا خلاف. وقوله: " وساء سبيلا " أي قبح ذلك
السبيل الذي سلكوه سبيلا، وهو نصب على التمييز.
155

قوله تعالى:
(حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم
وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم
وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في
حجوركم من نساءكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن
فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن
تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله غفورا رحيما)
(23) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
في الناس من اعتقد أن هذه الآية وما يجري مجراها، كقوله: " حرمت
عليكم الميتة " (1) مجملة لا يمكن التعلق بظاهرها في تحريم شئ، وإنما يحتاج
إلى بيان قالوا: لان الأعيان لا تحرم ولا تحل، وإنما يحرم التصرف فيها، والتصرف
يختلف، فيحتاج إلى بيان التصرف المحرم، دون التصرف المباح، والأقوى أنها
ليست مجملة، لان المجل هو ما لا يفهم المراد بعينه بظاهره، وليست هذه الآية
كذلك لان المفهوم من ظاهرها تحريم العقد عليهن، والوطي، دون غيرهما من
أنواع الفعل، فلا يحتاج إلى البيان مع ذلك، وكذلك قوله: " حرمت عليكم
الميتة " المفهوم الاكل، والبيع، دون النظر إليها، أو رميها، وما جرى مجراهما
كيف وقد تقدم هذه الآية ما يكشف عن أن المراد ما بيناه من قوله: " ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم " فلما قال. بعده: " حرمت عليكم أمهاتكم " كان المفهوم

(1) سورة المائدة: آية 4.
156

أيضا تحريم نكاحهن، وقد استوفينا ذلك في العدة في أصول الفقه، فلا نطول
بذكره ههنا.
قال ابن عباس: حرم الله في هذه الآية سبعا بالنسب، وسبعا بالسبب، فالمحرمات
من النسب الأمهات، ويدخل في ذلك أمهات الأمهات وإن علون، وأمهات الآباء
مثل ذلك، والبنات، ويدخل في ذلك بنات الأولاد وأولاد البنين وأولاد البنات
وإن نزلن، والأخوات، سواء كن لأب وأم أو لأب أو لام، وبنات الأخ،
وبنات الأخت وإن نزلن.
والمحرمات بالسبب الأمهات من الرضاعة، والأخوات أيضا من الرضاعة،
وكل من يحرم بالسبب يحرم مثله بالرضاع، لقوله صلى الله عليه وآله: " يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب " وأمهات النساء يحرمن بنفس العقد، وإن لم يدخل بالبنت،
على قول أكثر الفقهاء، وبه قال ابن عباس، والحسن، وعطاء، وقالوا: هي مبهمة،
وخصوا التقييد بقوله: " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم
بهن " ورووا عن علي (ع)، وزيد بن ثابت، أنه يجوز العقد على الام ما لم
يدخل بالبنت، وجعلوا قوله: " من نسائكم اللاتي دخلتم بهن " راجعا إلى جميع
من تقدم من أمهات النساء، والربائب.
اللغة:
والربائب: جمع ربيبة، وهي بنت الزوجة من غيره، ويدخل فيه أولادها
وإن نزلن، وسميت بذلك لتربيته إياها، ومعناها مربوبة، نحو قتيلة في موضع:
مقتولة، ويجوز أن تسمى ربيبة سواء تولى تربيتها وكانت في حجره، أو لم تكن،
لأنه إذا تزوج بأمها سمي هو رابها، وهي ربيبته، والعرب تسمي الفاعلين
والمفعولين بما يقع بهم، ويوقعونه، يقولون: هذا مقتول، وهذا ذبيح، وإن
لم يقتل بعد ولم يذبح، إذا كان يراد قتله أو ذبحه، وكذلك يقولون: هذه
157

أضحية لما أعد للتضحية، وكذلك: هذه قتوبة، وحلوبة، أي مما
يقتب، ويحلب فمن قال: إنه لا تحرم بنت الزوجة إلا إذا تربت في حجره
فقد أخطأ على ما قلناه ويقال لزوج المرأة: ربيب ابن امرأته، يعنى به، رابه،
نحو: شهيد، بمعنى شاهد، وخبير، بمعنى خابر، وعليم، بمعنى عالم.
الاعراب:
وقوله: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) قال المبرد: " اللاتي دخلتم بهن " نعت
للنساء اللواتي من أمهات الربائب لا غير قال: لاجماع الناس على أن الربيبة تحل إذا
لم يدخل بأمها، وإن من أجاز أن يكون قوله: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن)
هو لأمهات نسائكم فيكون معناه: أمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فيخرج
أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب، قال الزجاج: لان الخبرين إذا اختلفا
لم يكن نعتهما واحدا، لا يجيز النحويون: مررت بنسائك، وهربت من نساء زيد
الظريفات، على أن يكون (الظريفات) نعتا لهؤلاء النساء، وهؤلاء النساء. وقال:
من اعتبر الدخول بالنساء، لتحريم أمهاتهن يحتاج أن يقدر: أعني، فيكون
التقدير: وأمهات نسائكم أعني اللاتي خلتم بهن، وليس بنا إلى ذلك حاجة.
المعنى:
والدخول المذكور في الآية قيل فيه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس: هو الجماع، واختاره الطبري.
الثاني - قال عطاء: وما جرى مجراه من المسيس، وهو مذهبنا، وفيه خلاف
بين الفقهاء. وقوله: " وحلائل أبناءكم الذين من أصلابكم " يعني نساء البنين
للصلب، دخل بهن البنون أو لم يدخلوا، ويدخل في ذلك أولاد الأولاد من البنين
والبنات، وإنما قال " من أصلابكم " لئلا يظن أن امرأة من يتبنى به تحرم عليه.
وقال عطاء: نزلت الآية حين نكح النبي صلى الله عليه وآله امرأة زيد بن حارثة، فقال
158

المشركون في ذلك، فنزلت: " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " وقال: " وما
جعل أدعيائكم أبنائكم " (1) وقال: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " (2)
فأما حلائل الأبناء من الرضاعة فمحرمات بقوله صلى الله عليه وآله: " يحرم من الرضاع ما يحرم
من النسب ".
وإنما سميت المرأة حليلة لامرين:
أحدهما - لأنها تحل معه في فراش.
الثاني - لأنه يحل له وطؤها. وقوله: " وأن تجمعوا بين الأختين " فيه تحريم
الجمع بينهما في عقد واحد، وتحريم الجمع بينهما في الوطي بملك اليمين، فإذا وطأ
إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يخرج تلك من ملكه، وهو قول الحسن، وأكثر
المفسرين والفقهاء. وروي عن ابن عباس أنه أجاز الجمع بينهما بملك اليمين، وتوقف فيهما
علي وعثمان، وباقي الصحابة حرموا الجمع بينهما. وروي عن علي (ع) أنه قال:
حرمتهما آية، وأحلتهما أخرى، وأنا أنهى عنهما نفسي، وولدي، فغلب التحريم.
ومن أجاز الجمع بينهما في الوطي بملك اليمين - على ما يذهب إليه داود وقوم من
أهل الظاهر - فقد أخطأ في الأختين، وكذلك في الربيبة وأم الزوجة، لان قوله:
" وأمهات نسائكم " يدخل فيه المملوكة، والمعقود عليها، وكذلك قوله: " من
نسائكم اللاتي دخلتم بهن " يتناول الجميع، وكذلك قوله: " وأن تجمعوا بين
الأختين " عام في الجميع على كل حال، في العقد والوطي، وإنما أخرجنا جواز
ملكهما بدلالة الاجماع، ولا يعارض ذلك قوله: " أو ما ملكت أيمانكم "
لان الغرض بهذه الآية مدح من حفظ فرجه إلا عن الأزواج، أو ملك الايمان،
فاما كيفية ذلك فليس فيه، ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: " أو ما ملكت أيمانكم "
إلا على وجه الجمع بين الام والبنت، أو الأختين
والسابعة قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) وهي امرأة الأب، سواء

(1) سورة الأحزاب: آية 4.
(2) سورة الأحزاب: آية 40.
159

دخل بها أو لم يدخل، ويدخل في ذلك نساء الأجداد وإن علوا، من قبل الأب
والام بلا خلاف. وقوله: " إلا ما قد سلف " استثناء منقطع، وتقديره: لكن
ما سلف لا يؤاخذكم الله به، وليس المراد أن ما سلف حال النهي تجوز استدامته،
بلا خلاف. وقيل إن إلا بمعنى سوى. وقوله: " وأن تجمعوا " (أن) في موضع
الرفع، والتقدير: حرمت عليكم هذه الأشياء، والجمع بين الأختين، وكل من
حرمه الله في هذه الآية فإنما هو على وجه التأييد، مجتمعات ومنفردات، إلا
الأختين فإنهما تحرمان على وجه الجمع دون الانفراد.
ويمكن أن يستدل بهذه الآية على أنه لا يصح أن يملك واحدة من ذوات
الأنساب المحرمات، لان التحريم عام، وبقوله صلى الله عليه وآله " يحرم من الرضاع ما يحرم
من النسب " على أنه لا يصح ملكهن من جهة الرضاع، وإن كان فيه خلاف. وأما
المرأة التي وطؤها بلا تزويج، ولا ملك، فليس في الآية ما يدل على أنه يحرم وطي
أمها وبنتها، ولان قوله: " وأمهات نسائكم " وقوله: " من نسائكم اللاتي
دخلتم بهن " يتضمن إضافة الملك، إما بالعقد أو بملك اليمين، فلا يدخل فيه من
وطأ من لا يملك وطأها، غير أن قوما من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوءة بالعقد
والملك بالسنة والاخبار المروية في ذلك، وفيه خلاف بين الفقهاء.
وأما الرضاع فلا يحرم عندنا إلا ما كان خمس عشرة رضعة متواليات، لا يفصل
بينهن برضاع امرأة أخرى، أو رضاع يوم وليلة، أو ما أنبت اللحم وشد العظم.
وفي أصحابنا من حرم بعشر رضعات. ومتى دخل بين الرضاع رضاع امرأة أخرى،
بطل حكم ما تقدم. وحرم الشافعي بخمس رضعات، ولم يعتبر التوالي. وحرم
أبو حنيفة بقليله وكثيره، وهو اختيار البلخي. وفي أصحابنا من ذهب إليه.
واللبن عندنا للفحل، ومعناه إذا أرضعت امرأة بلبن فحل لها صبيانا كثيرين، من
أمهات شتى، فإنهم جميعهم يصيرون أولاد الفحل، ويحرمون على جميع أولاده الذين
ينتسبون إليه ولادة ورضاعا، ويحرمون على أولاد المرضعة الذين ولدتهم، فأما
160

من أرضعته بلبن غير هذا الفحل، فإنهم لا يحرمون عليهم، وكذلك إن كان
للرجل امرأتان، فأرضعتا صبيين لأجنبيين، حرم التناكح بين الصبيين، وخالف
في هذه ابن علية.
ولا يحرم من الرضاع عندنا إلا ما وصل إلى الجوف من الثدي من المجرى المعتاد
الذي هو الفم، فاما ما يوجر به، أو يسعط، أو ينشق، أو يحقن به، أو يحلب
في عينه، فلا يحرم بحال. ولبن الميتة لا حرمة له في التحريم، وفي جميع ذلك
خلاف. ولا يحرم من الرضاع إلا ما كان في مدة الحولين، فاما ما كان بعده فلا
يحرم بحال.
فاما الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها فحرم بالسنة، ويجوز عندنا نكاح العمة والخالة
على المرأة، ونكاح المرأة على العمة والخالة لا يجوز إلا برضاء العمة والخالة،
وخالف فيه جميع الفقهاء. والمحرمات بالنسب ومن يحرم بالسبب على وجه التأييد
يسمون مبهمات، لأنه يحرم من جميع الجهات، مأخوذ من البهيم الذي لا يخالط
معظم لونه لون آخر، يقال: فرس بهيم لاشية فيه، وبقرة بهيم، والجمع بهم.
وقوله: (إن الله كان غفورا رحيما) اخبار أنه كان غفورا حيث لم يؤاخذهم
بما فعلوه من نكاح المحرمات، وأنه عفى لهم عما سلف، ولا يدل على أنه ليس بغفور
فيما بعد، لان ذلك معلوم بدلالة أخرى، وفي الناس من قال: كان زائدة، وقد
بينا أن هذا ضعيف، لأنها تكون عبثا ولغوا، وذلك لا يجوز.
قوله تعالى:
(والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم
وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم
161

فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) (24)
- آية بلا خلاف -.
القراءة:
قرأ الكسائي: " المحصنات " (ومحصنات)، بكسر الصاد حيث وقع،
إلا قوله: " والمحصنات من النساء " ههنا فإنه فتح الصاد. وقرأ أهل الكوفة إلا
أبو بكر، وأبو جعفر: " وأحل لكم " - بضم الهمزة، وكسر الحاء - الباقون:
بفتحها. وقرأ أهل الكوفة إلا حفصا: " أحصن " بفتح الهمزة والصاد، الباقون
بضم الهمزة وكسر الصاد.
المعنى:
قيل في معنى قوله: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " ثلاثة
أقوال:
أحدها - وهو الأقوى - ما قاله علي (ع)، وابن مسعود، وابن عباس،
وأبو قلابة، وابن زيد، عن أبيه، ومكحول، والزهري، والجبائي: أن المراد
به ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم، من سبي من كان لها زوج. وقال بعضهم،
مستدلا على ذلك بخبر أبي سعيد الخدري، أن الآية نزلت في سبي أوطاس، ومن
خالفهم ضعف هذا الخبر بأن سبي أوطاس كانوا عبدة الأوثان، دخلوا في الاسلام.
الثاني - قال أبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وابن مسعود
- في رواية أخرى عنه - وسعيد بن المسيب، والحسن، وإبراهيم: إن المراد به
ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم ممن قد كان لها زوج، لان بيعها طلاقها.
وقال ابن عباس: طلاق الأمة ست: سبيها طلاقها، وبيعها، وعتقها، وهبتها،
وميراثها، وطلاقها. وحكي عن علي (ع)، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف: أن
السبي خاصة طلاقها، قالوا لان النبي صلى الله عليه وآله خير بريرة بعد أن أعتقتها عائشة،
162

ولو بانت بالعتق لما صح. وزعم هؤلاء أن طلاقها كطلاق الحرة.
الثالث - قال أبو العالية. وعبيدة، وسعيد بن جبير، وعطاء، واختاره
الطبري: ان المحصنات العفائف، إلا ما ملكت أيمانكم بالنكاح، أو بالثمن ملك
استمتاع بالمهر والبينة، أو ملك استخدام بثمن الأمة.
اللغة والاعراب:
وأصل الاحصان المنع. وسمي الحصن حصنا لمنعه من أراده من أعدائه،
والدرع الحصينة أي المنيعة، والحصان الفحل من الأفراس لمنعه صاحبه من
الهلاك، والحصان العفيفة من النساء، لمنعها فرجها من الفساد. ومنه قوله: " التي
أحصنت فرجها " (1) وكذلك أحصنها الزوج، وبناء حصين ممتنع، وحصنت
المرأة تحصن حصانة، والحاصن: العفيفة، قال العجاج:
وحاصن من حاصنات ملس * من الأذى ومن قراف الوقس (2)
وقال أبو علي الفارسي، قال سيبويه: حصنت المرأة حصنا وهي حصان،
مثل: جبنت جبنا فهي جبان، وقالوا حصنا، كما قالوا: علما قال الأزهري: يقال
للرجل إذا تزوج: أحصن فهو محصن، كقولهم: ألفج فهو ملفج إذا أعدم
وافتقر، وأسهب فهو مسهب، إذا أكثر الكلام. وكلام العرب كله على أفعل فهو
مفعل، بكسر العين، مثل أسمع فهو مسمع، وأعرب فهو معرب، وأفصح فهو
مفصح، إلا ما ذكرناه والاحصان على أربعة أقسام:
أحدها - يكون بالزوجة، كقوله: " والمحصنات من النساء ".
والثاني - بالاسلام، كقوله: " فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف
ما على المحصنات " (3).

(1) سورة التحريم: آية / 12
(2) ديوانه 78، واللسان (قنس)، (وقس)، (حصن) ومجاز القرآن 1: 122
ورواية اللسان (عن) بدل (من) في العجز في الموضعين.
(3) سورة النساء: آية 25.
163

والثالث - بالعفة كقوله: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء " (1). الرابع - يكون بالحرية، كقوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب
من قبلكم " (2) وقوله: " كتاب الله عليكم " يحتمل نصبه وجهين:
أحدهما - أن يكون مصدرا جرى على غير فعله وفيه معناه، كأنه قال:
حرم الله ذلك كتابا من الله، أو كتب كتابا، كما قال: " صنع الله الذي أتقن
كل شئ " (3) فنصبه بقوله: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر
السحاب " (4) فكان ذلك دلالة على أنه قد صنعها فنصب على أنه مصدر، وقال
الشاعر:
ورضت فذلت صعبة أي اذلال (ه)
لان معنى رضت أذللت، قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبا على جهة
الامر، ويكون " عليكم " مفسرا، والمعنى: الزموا كتاب الله.
الثاني - على الاغراء، والعامل محذوف، لان عليكم لا يعمل فيما قبله:
وأنشد:
يا أيها المائح دلوى دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا (6)
والمعنى هذا دلوي دونكا، وهو معنى قول الزجاج.
المعنى:
وقوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم) قيل في معناه
أربعة أقوال:

(1) سورة النور: آية 4.
(2) سورة المائدة: آية 6.
(3) سورة النمل: آية 88.
(4) سورة النمل: آية 88.
(5) قائله امرؤ القيس. ديوانه: 161. وصدره:
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
(6) البيت الجاهلي من بني أسيد بن عمر بن تميم. معاني القرآن 1: 260، وخزانة
الأدب 3: 17.
164

أحدها - قال عبيدة السلماني، والسدي: أحل لكم ما دون الخمس، أن
تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح.
الثاني - قال عطاء أحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم.
الثالث - قال قتادة: (ما وراء ذلكم) مما ملكت أيمانكم.
الرابع - ما وراء ذوات المحارم إلى الأربع، أن تبتغوا بأموالكم نكاحا،
أو بملك يمين، وهذا الوجه أولى، لأنه حمل الآية على عمومها في جميع ما ذكر الله،
ولا تنافي بين هذه الأقوال.
ومن فتح الهمزة حمله على أقرب المذكورين في قوله: (كتاب الله علكيم)
ومن ضم حمله على (حرمت) وموضع (أن تبتغوا) نصب، ويحتمل نصبه على
وجهين:
أحدهما - على البدل من ما.
والثاني - على حذف اللام من " لان تبتغوا "، ومن قرأ بالضم جاز عنده
الرفع والنصب، وقوله: " محصنين " أي عاقدين التزويج، غير مسافحين: عافين
للفروج، فال مجاهد، والسدي: معناه غير زانين وأصله: صب الماء، تقول:
سفح الدمع إذا صبه، وسفح الجبل أسفله، لأنه مصب الماء منه، وسافح إذا زنا
نصبه الماء باطلا. وقال الزجاج: المسافح والمسافحة الزانيان غير ممتنعين من أحد،
فإذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن، فحرم الله الزنا على كل حال، على السفاح
واتخاذ الصديق. وقوله: (فما استمتعتم به منهن) قال الحسن، ومجاهد، وابن زيد:
هو النكاح، وقال ابن عباس، والسدي: هو المتعة إلى أجل مسمى، وهو مذهبنا،
لان لفظ الاستمتاع إذا أطلق لا يستفاد به في الشرع إلا العقد المؤجل، ألا ترى
أنهم يقولون: فلان يقول بالمتعة، وفلان لا يقول بها، ولا يريدون إلا العقد
المخصوص، ولا ينافي ذلك قوله: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم
أو ما ملكت أيمانهم " (1) لأنا نقول: إن هذه زوجة، ولا يلزم أن يلحقها

(1) سورة المؤمنون: آية 5 - 6 وسورة المعارج آية 29 - 3.
165

جميع أحكام الزوجات، من الميراث، والطلاق، والايلاء، والظهار، واللعان، لان
احكام الزوجات تختلف، ألا ترى أن المرتدة تبين بغير طلاق، وكذلك المرتد
عندنا، والكتابية لا ترث، وأما العدة فإنها تلحقها عندنا، ويلحق بها أيضا الولد،
فلا شناعة بذلك، ولو لم تكن زوجة لجاز أن يضم ما ذكر في هذه السورة إلى ما في
تلك الآية، لأنه لا تنافي بينهما، ويكون التقدير: إلا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم أو ما استمتعتم به منهن وقد استقام الكلام. وروي عن ابن مسعود،
وابن عباس، وأبي بن كعب وسعيد بن جبير: أنهم قرأوا " فما استمتعتم به
منهن إلى أجل مسمى " وذلك صريح بما قلناه، على أنه لو كان المراد به عقد النكاح
الدائم لوجب لها جميع المهر بنفس العقد، لأنه قال: (فآتوهن أجورهن) يعني
مهورهن، عند أكثر المفسرين، وذلك غير واجب بلا خلاف، وإنما يجب الاجر
بكماله في عقد المتعة. وفي أصحابنا من قال: قوله: (أجورهن) يدل على أنه
أراد المتعة، لان المهر لا يسمى أجرا، بل سماه الله صدقة ونحلة، وهذا ضعيف،
لان الله سمى المهر أجرا في قوله (فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن) (1)
وقال: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن) (2)
ومن حمل ذلك كله على المتعة كان مرتكبا لما يعلم خلافه، ومن حمل لفظ الاستمتاع
على الانتفاع فقد أبعد، لأنه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم من لا ينتفع بها
شئ من المهر، وقد علمنا أنه لو طلقها قبل الدخول لزمه نصف المهر، وإن خلا بها
خلوة تامة لزمه جميع المهر عند كثير من الفقهاء، وإن لم يلتذ ولم ينتفع.
وأما الخبر الذي يروونه أن النبي صلى الله عليه وآله نهى عن المتعة، فهو خبر واحد
لا يترك له ظاهر القرآن، ومع ذلك يختلف لفظه وروايته فتارة يروون أنه نهى
عنها في عام خيبر، وتارة يروون أنه نهى عنها في عام الفتح، وقد طعن أيضا في
طريقه بما هو معروف، وأدل دليل على ضعفه قول عمر: (متعتان كانتا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) فأخبر أن هذه المتعة كانت على

(1) سورة النساء: آية 25.
(2) سورة المائدة: آية 6.
166

عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه الذي نهى عنهما، لضرب من الرأي. فان قالوا. إنما
نهى لان النبي صلى الله عليه وآله كان نهى عنهما، قلنا: لو كان كذلك لكان يقول: متعتان
كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فنهى عنهما، وأنا أنهى عنهما أيضا، فكان يكون
آكد في باب المنع، فلما لم يقل ذلك دل على أن التحريم لم يكن صدر عن
النبي صلى الله عليه وآله، وصح ما قلناه. وقال الحكم بن عتيبة، قال علي (ع) لولا أن
عمر نهى عن المتعة ما زنا إلا شقي. وذكر البلخي، عن وكيع، عن إسماعيل بن
أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عبد الله بن مسعود: قال كنا مع النبي صلى الله عليه وآله
ونحن شباب، فقلنا يا رسول الله ألا نستخصي، قال: لا، ثم رخص لنا أن ننكح
المرأة بالثوب، إلى أجل. وقوله: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد
الفريضة) قال الحسن، وابن زيد: أي تراضيتم به من حط بعض الصداق أو
تأخيره، أو هبة جميعه. وقال السدي وقوم من أصحابنا: معناه: لا جناح عليكم
فيما تراضيتم به من استئناف عقد آخر بعد انقضاء المدة التي تراضيتم عليها،
فتزيدها في الاجر وتزيدك في المدة. وفي الآية دلالة على جواز نكاح المرأة على
عمتها وخالتها، لان قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) عام في جميعهن، ومن
ادعى نسخه فعليه الدلالة، وما يروى من قوله صلى الله عليه وآله: (لا تنكح المرأة على عمتها
ولا خالتها) خبر واحد لا ينسخ به القرآن، ولو كان معلوما لما جاز أن ينسخ به
القرآن عند أكثر الفقهاء، لان نسخ القرآن لا يجوز عندهم بالسنة، وادعاؤهم
الاجماع على الخبر غير مسلم، لأنا نخالف فيه. وقوله: (إن الله كان عليما
حكيما) معناه عليما بما يصلح أمر الخلق، حكيما فيما فرض لهم من عقد النكاح
الذي به حفظت الأموال، والأنساب. قال البلخي: والآية دالة على أن نكاح
المشركين ليس بزنا. لان قوله: (والمحصنات من النساء) المراد به ذوات الأزواج
من أهل الحرب، بدلالة قوله: (إلا ما ملكت أيمانكم) بسبيهن ولا خلاف أنه
لا يجوز وطي المسبية إلا بعد استبرائها بحيضة.
167

قوله تعالى:
(ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بايمانكم بعضكم
من بعض فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف
محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فان
أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن
خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم) (25)
- آية بلا خلاف -.
القراءة، واللغة:
قرأ أهل الكوفة إلا حفصا (فإذا أحصن) - بضم الهمزة وكسر الصاد -
الباقون بفتحهما، وقرأ " المحصنات " - بكسر الصاد - الكسائي وحده، قوله: (ومن
لم يستطع منكم طولا) معناه: من لم يجد منكم طولا وقيل في معنى الطول
قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي،
وابن زيد: هو الغني، وهو المروي عن أبي جعفر (ع).
والثاني - قال ربيعة، وجابر، وعطاء، وإبراهيم: أنه الهوى، قال: إذا
هوي الأمة فله أن يتزوجها وإن كان ذا يسار. وقال الحسن، والشعبي: لا يجوز
ذلك، والقول الأول هو الصحيح، وعليه أكثر الفقهاء. والطول الغنى، وهو
مأخوذ من الطول خلاف القصر، فشبه الغنى به، لأنه ينال به معالي الأمور،
وقولهم ليس فيه طائل. أي: لا ينال به شئ من الفوائد، والتطول الافضال
168

بالمال، والتطاول على الناس الترفع عليهم، وكذلك الاستطالة، وتقول: طلا فلان
طولا، أي كأنه فضل عليه في القدرة، وقد طالت طولك وطيلك أي طالت مدتك،
قال الشاعر:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل * وإن بليت وإن طالت بك الطيل (1)
والطول الحبل.
المعنى:
وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، لأنه قيد جواز
العقد على الإماء إذا كن مؤمنات، وهو قول مالك بن أنس، ومجاهد، وسعيد بن
عبد العزيز، وأبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، والحسن، والطبري، وقال أبو
ميسرة، وأبو حنيفة، وأصحابه: يجوز ذلك، لان التقييد هو على جهة الندب
دون التحريم، والأول أقوى، لأنه الظاهر، وما قالوه عدول عنه. ومنهم من قال:
لان التأويل: من فتياتكم المؤمنات دون المشركات من عبدة الأوثان، بدلالة الآية
التي في المائدة، وهي قوله تعالى: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم " (2) وهذا ليس بشئ، لان الكتابية لا تسمى مؤمنة. ومن أجاز العقد
على الكتابية له أن يقول: آية المائدة مخصوصة بالحرائر منهن دون الإماء، وظاهر
الآية يقتضي أن من وجد الطول من مهر الحرة ونفقتها، ولا يخاف من العنت. وهو
مذهب الشافعي، غير أن أكثر أصحابنا قالوا: ذلك على وجه الأفضل، لا أنه
لو عقد عليها وهو غني كان العقد باطلا، وبه قال أبو حنيفة، وقووا ذلك بقوله:
" ولامة مؤمنة خير من مشركة " (3) إلا أن من شرط صحة العقد على الأمة
عند أكثر الفقهاء، أن لا تكون عنده حرة، وهكذا عندنا، إلا أن ترضى الحرة

(1) قائله القطامي ديوانه: 32 وجمهرة الاشعار: 313 والطيل جمع طيلة وهي الدهر.
(2) سورة المائدة: آية 6.
(3) سورة البقرة: آية 221.
169

بأن يتزوج عليها أمة، فان أذنت كان العقد صحيحا عندنا، ومتى عقد عليها بغير
إذن الحرة كان العقد على الأمة باطلا. وروى أصحابنا أن الحرة تكون
بالخيار بين أن تفسخ عقد الأمة، أو تفسخ عقد نفسها، والأول
أظهر، لأنه إذا كان العقد باطلا لا يحتاج إلى فسخه، فاما تزويج الحرة على الأمة،
فجائز، وبه قال الجبائي. وفي الفقهاء من منع منه، غير أن عندنا لا يجوز ذلك إلا
باذن الحرة، فإن لم تعلم الحرة بذلك كان لها أن تفسخ نكاحها، أو نكاح الأمة،
وفي الناس من قال: في عقده على الحرة طلاق الأمة. وقوله: " من فتياتكم
المؤمنات " فالفتى الشاب، والفتاة الشابة، والفتاة الأمة، وإن كانت عجوزا لأنها
كالصغيرة في أنها لا توقر توقير الكبيرة، والفتوة حال الحداثة، ومنه الفتيا،
تقول: أفتى الفقيه. يفتي لأنه يسأله مسألة في حادثة.
وقوله: " والله أعلم بايمانكم بعضكم من بعض " قيل في معناه قولان:
أحدهما - كلكم ولد آدم.
والثاني - كلكم على الايمان. ويجوز أن تكون الأمة أفضل من الحرة،
وأكثر ثوابا عند الله، وفي ذلك تسلية لمن يعقد على الأمة، إذا جوز أن تكون
أكثر ثوابا عند الله، مع اشتراكهم بأنهم ولد آدم، وفي ذلك صرف عن التغاير
بالأنساب. ومن كره نكاح الأمة قال: لان الولد عندنا يلحق بالحرية في كلا
الطرفين.
وقوله: " فانكحوهن باذن أهلهن " أي اعقدوا عليهن باذن أهلهن، وفيه
دلالة واضحة على أنه لا يجوز نكاح الأمة بغير اذن وليها الذي هو مالكها.
وقوله: " وآتوهن أجورهن " معناه: أعطوا مالكهن مهورهن، لان مهر
الأمة لسيدها، " بالمعروف " وهوما وقع عليه العقد وتراضي. وقوله:
" محصنات غير مسافحات " يعني بالعقد عليهن، دون السفاح معهن، " ولا متخذات
أخذان " وقد بينا الفرق بين الخدن والسفاح فيما مضى، والخدن هو الصديق
يكون للمرأة، بزني بها سرا، كذا كان في الجاهلية، والسفاح ما ظهر منه، وكان
170

فيهم من يحرم ما ظهر من الزنا، ولا يحرم ما خفي منه، ذكر ذلك ابن عباس، وغيره
من المفسرين. وخدن الرجل وخدينه صديقه.
وقوله: (فإذا أحصن) من قرأ بالضم، قال: معناه تزوجن، ذكر ذلك
ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. ومن فتح الهمزة قال: معناه
أسلمن، روي ذلك عن عمر، وابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم، والسدي. وقال
الحسن: يحصنها الزوج، ويحصنها الاسلام، وهو الأولى، لأنه لا خلاف أنه
يجب عليها نصف الحد إذا زنت، وإن لم تكن ذات زوج، كما أن عليها ذلك وإن كان
لها زوج، لأنه وإن كان لها زوج لا يجب عليها الرجم، لأنه لا يتبعض،
فكان عليها نصف الحد خمسين جلدة. على أن قوله: " فعليهن نصف ما على المحصنات "
يعني نصف ما على الحرائر، وليس المراد به ذوات الأزواج، فالاحصان المذكور
للأمة التزويج، والمذكور للمحصنات الحرية، وبينا أنه يعبر به عن الامرين.
وقال بعضهم: إذا زنت الأمة قبل أن تتزوج، فلا حد عليها، وإنما عليها نصف
الحد إذا تزوجت بظاهر الآية.
وقوله: (ذلك لمن خشي العنت منكم)، فالعنت معناه ههنا الزنا في قول
ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطية العوفي، والضحاك، وابن زيد. وقال قوم:
هو الضرر الشديد في الدين أو الدنيا، مأخوذ من قوله: " ودوا ما عنتم " (1) والأول
أقوى، وقوله: " وإن تصبروا خير لكم " يعني: عن نكاح الإماء، في قول
ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وعطية. وأكمة عنوت صعبة
المرتقى. ومتى اجتمع عند الرجل حرة وأمة كان للحرة يومان وللأمة يوم، وعندنا
أن بيع الأمة طلاقها، إلا أن يشاء المشتري إمضاء العقد، وكذلك الهبة، وكل
ما ينتقل به الملك من الميراث، والسبي، وغيره. فاما عتقها فإنه يثبت به لها الخيار،
كما ثبت لبريره، ومتى كانت تحت الزوج الحر أو عبد لغيره، لم يكن للمولى
التفرقة بينهما، فان كانا جميعا له كان التفرقة إلى المولى.

(1) سورة آل عمران: 118.
171

واستدلت الخوارج على بطلان الرجم بهذه الآية، قالوا: لما قال الله تعالى:
(فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)، وكان الرجم لا يمكن تبعيضه، دل
على أنه لا أصل له، وعلى ما بيناه من أن المراد فعليهن نصف ما على الحرائر، دون
ذوات الأزواج، يسقط هذا السؤال. ويدل على أن الاحصان يعبر به عن
الحرية زائدا على ما تقدم، قوله في أول الآية: (ومن لم يستطع منكم طولا أن
ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم) ولا شك أنه أراد الحرة أو العفائف،
لان التي لها زوج لا يمكن العقد عليها، وجد طولها أو لم يجد، وقوله:
(والذين يرمون المحصنات) يدل عليه أيضا، لان المراد به المسلمة الحرة، سواء
كانت ذات زوج أولم تكن، بلا خلاف. والرجم معلوم من دين المسلمين بالتواتر
فإنهم لا يختلفون أنه صلى الله عليه وآله رجم ماعز بن مالك الأسلمي، ورجم يهوديا ويهودية،
وعليه جميع الفقهاء من عهد الصحابة إلى يومنا هذا، فخلاف الخوارج لا يلتفت
إليه. وفي الناس من قال: إن قوله: " أن ينكح المحصنات " المراد به الحرائر دون
أن تكون مختصا بالعفائف، لأنه لو كان مختصا بالعفائف لما جاز العقد على من ليس
كذلك، لان قوله: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة " إلى قوله: " وحرم
ذلك على المؤمنين " (1) منسوخ بالاجماع، وبقوله: " فانكحوا ما طاب " (2)
وبقوله: " وانكحوا الأيامى " (3) ويمكن أن يخص بالعفائف على الأفضل دون
الوجوب، وقوله: " فعليهن " معناه لازم لهن نصف ما يلزم المحصنات، دون أن
يكون ذلك واجبا عليهن، وقوله: " وان تصبروا " في موضع رفع، والتقدير
والصبر عن نكاح الأمة خير لكم. وفي الآية تقديم وتأخير، لان التقدير: " ومن
لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم " أي فلينكح
مما ملكت أيمانكم (من فتياتكم المؤمنات بعضكم من بعض والله أعلم بايمانكم)
ذكره الطبري وهو جيد مليح.

(1) سورة النور: آية 3.
(2) سورة النساء: آية 3.
(3) سورة النور: آية 3.
172

قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم
ويتوب عليكم والله عليم حكيم) (26) - آية بلا خلاف.
الاعراب:
اللام في قوله: (ليبين لكم) للنحويين فيه ثلاثة أقوال:
أولها - قال الكسائي، والفراء، والكوفيون: إن معناها (أن)، وإنما
لا يجوز ذلك في أردت وأمرت لأنها تطلب الاستقبال، لا يجوز أردت أن قمت،
ولا أمرت أن قمت فلما كانت (أن) في سائر الأفعال تطلب الاستقبال، استوثقوا
له باللام، وربما جمعوا بين اللام وكي لتأكيد الاستقبال، قال الشاعر:
أردت لكيما لا ترى لي عثرة * ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل (1)
وقال الفراء: ربما جاء مع غير الإرادة والامر، أنشدني بن الجراح:
أحاول إعنا اتي بما قال أم رجا * ليضحك مني أو ليضحك صاحبه (2)
ومعناه: رجا أن يضحك، ومثله: (وأمرا لنسلم) (3) وفي موضع
آخر. (أمرت أن أكون أول من أسلم) (4) وربما جمعوا بين اللام وكي وأن،
قال الشاعر:
أردت لكيما أن تطير بقربتي * فتتركها شنا ببيداء بلقع (5)

(1) معاني القرآن 1: 262 أنشده أبوتروان. وفي شواهد الهمع 2: 5 روايته
(تراني عشيرتي) بدل (ترى لي عثرة).
(2) معاني القرآن 1: 262 قائله أبو الجراح الانفي من بني انف الناقة. وكان
في المخطوطة والمطبوعة هكذا
أحاول أعدائي بما قال أم رجا * فيضحك مني أو ليضحك صاحبه
(3) سورة الأنعام: آية 71
(4) سورة الأنعام: آية 14.
(5) لم يعرف قائله. معاني القرآن 1: 262 والانصاف: 242 والخزانة 3: 585.
والعيني (هامش الخزانة) 4: 405، وحاشية الصبان 3: 280. قوله (أن تطير) كناية
عن الهرب، والشن: الخلق البالي، والبيداء: المغازة المهلكة، والبلقع: الأرض القفراء.
173

ولا يجوز في الظن أن تقع اللام بمعنى أن، لان الظن يصلح معه الماضي
والمستقبل، نحو: ظننت أن قمت، وظننت أن تقوم، ولا يجوز: ظننت لتقوم
بمعنى: ظننت أن تقوم.
الثاني - قال الزجاج لا يجوز أن تقع اللام بمعنى أن، واستشهد بقول الشاعر:
أردت لكيما يعلم الناس إنها * سراويل سعد والوفود شهود
فلو كانت بمعنى أن لم تدخل على كي، كما لا تدخل أن على كي، قال: الرماني:
ولقائل أن يقول: إن هذه لام الإضافة مردودة إلى أصلها، فلا يجب وقوع أن
موقعها، ومذهب سيبويه وأصحابه أن اللام دخلت في هذا على تقدير المصدر،
أي: إرادة للبيان لكم، نحو قوله: (إن كنتم للرؤيا تعبرون) (1) (وردف
لكم بعض الذي تستعجلون) (2) ومعناه: إن كنتم تعبرون الرؤيا، قال كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل
أي: إرادتي لهذا.
الثالث - ضعف هذين الوجهين بعض النحويين، بأن جعل اللام بمعنى (أن)
لم تقم به حجة قاطعة، وحمله على المصدر يقتضي جواز ضربت لزيد بمعنى ضربت
زيدا، وهذا لا يجوز، ولكن يجوز في التقديم، نحو لزيد ضربت وللرؤيا
تعبرون، لان عمل الفعل في التقديم يضعف، كعمل المصدر في التأخير، ولذلك
لم يجز إلا في المتصرف، فاما " ردف لكم " فعلى تأويل: ردف ما ردف لكم،
وعلى ذلك يريد ما يريد لكم، وكذلك قوله: " وأمرنا لنسلم " (3) أي أمرنا
بما أمرنا لنسلم، فهي تجري بهذا على أصولها، وقياس بابها. وقال قوم معناه:
يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم، كما قال: " وأمرت لأعدل بينكم " (4)
معناه: وأمرت بهذا من أجل ذلك، وإنما لم يجز أن يراد الماضي لامرين:
أحدهما - أن الإرادة لاستدعاء الفعل، ومحال أن يستدعي ما قد فعل، كما

(1) سورة يوسف: آية 43.
(2) سورة النمل: آية 72.
(3) سورة الأنعام: آية 71.
(4) سورة الشورى: 15.
174

أنه محال أن يؤمر بما قد وقع، لأنه لا يحسن أن يقول: إفعل أمس، أو أريد
أمس.
والثاني - أن بالإرادة يقع الفعل على وجه دون وجه، من حسن أو قبح،
أو طاعة أو معصية، وذلك محال فيما مضى.
المعنى:
وقوله: " ويهديكم سنن الذين من قبلكم " قيل فيه قولان:
أحدهما - " يهديكم سنن الذين من قبلكم " من أهل الحق، لتكونوا على
الاقتداء بهم في اتباعه لما لكم فيه من المصلحة.
الثاني - (سنن الذين من قبلكم) من أهل الحق، لتكونوا على بصيرة فيما تفعلون أو تجتنبون من طرائقهم، وفي الآية دلالة على بطلان مذهب
المجبرة، لان الله تعالى بين أنه يريد أن يتوب على العباد، وهم يزعمون أنه يريد
منهم الاصرار على المعاصي. وقال أبو علي الجبائي: في الآية دلالة على أن ما ذكر
في الآيتين من تحريم النكاح أو تحليله، قد كان على من قبلنا من الأمم، لقوله
تعالى: " ويهديكم سنن الذين من قبلكم " أي في الحلال والحرام. قال الرماني:
لا يدل ذلك على اتفاق الشريعة، وإن كنا على طريقتهم في الحلال والحرام، كما
لا يدل عليه وإن كنا على طريقتهم في الاسلام، وهذا هو الأقوى.
قوله تعالى:
(والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون
الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) - آية -.
المعنى:
معنى الآية الاخبار من الله تعالى أنه يريد من المواجهين بها، أن يتوب
175

عليهم، بمعنى أن يقبل توبتهم، عما سلف من آثامهم، ويتجاوز عما كان منهم في
الجاهلية، من استحلالهم ما هو حرام عليهم من حلائل الآباء والأبناء، وغير ذلك
مما كانوا يستحلونه، وهو حرام عليهم. إن قيل: لم كرر قوله: " والله يريد أن
يتوب عليكم "؟ مع ما تقدم من قوله: " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من
قبلكم ويتوب عليكم " قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أنه لما في الأول، وتقديره: يريد الله ليتوب عليكم أنى في
الثاني ب‍ (أن) ليزول الايهام أنه يريد ليتوب، ولا يريد (3) أن يتوب علينا.
والآخر - أن يبين أن ارادته منا خلاف إرادة أصحاب الأهواء لنا،
لنكون على بصيرة من أمرنا، وجاء الثاني على التقابل، بان الله يريد شيئا ويريدون
خلافه.
والمعني: بقوله: " ويريد الذين يتبعون الشهوات " قيل فيه أربعة أقوال:
الأول - قال ابن زيد: كل مبطل، لأنه يتبع شهوة نفسه في باطله.
الثاني - قال مجاهد: يعني به: الزناة.
الثالث - قال السدي: هم اليهود والنصارى.
الرابع - اليهود خاصة، لأنهم يحلون نكاح الأخت من الأب، والأول أقوى،
لأنه أعم فائدة، وأوفق لظاهر اللفظ. وقوله: " أن تميلوا ميلا عظيما " معناه أن
تعدلوا عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية، وذلك أن الاستقامة هي المؤدية إلى
الثواب، والفوز بالسلامة من العقاب، وأما الميل عن الاستقامة فيؤدي إلى الهلاك
واستحقاق العقاب. فان قيل: ما معنى إرادتهم الميل بهم؟ قيل قد يكون ذلك
لعداوتهم، وقد يكون لتمام الانس بهم في المعصية، فبين الله أن إرادته لهم خلاف
ارادتهم منهم، وليس في الآية ما يدل على أنه لا يجوز اتباع داعي الشهوة في شئ
البتة، لأنه لا خلاف أن اتباع الشهوة فيما أباحه الله تعالى جائز، وإنما المحظور من

(1) في المخطوطة (ولأنه يريد) بدل (ولا يريد).
176

ذلك ما يدعو إلى ما حرمه، لكن لا يطلق [على] (1) صاحبه بأنه متبع للشهوة،
لان إطلاقه يفيد اتباع الشهوة فيما حرم عليه.
قوله تعالى:
(يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا) (28)
- آية بلا خلاف -.
المعنى واللغة:
معنى قوله: " يريد الله أن يخفف عنكم " ههنا أي في نكاح الإماء، لان
الانسان خلق ضعيفا في أمر النساء، هذا قول مجاهد، وطاووس، وزيد. وأصل
التخفيف خفة الوزن، والتخفيف على النفس بالتيسير، كخفة الحمل بخفة الوزن،
ومنه الخفافة النعامة السريعة، لأنها تسرع إسراع الخفيف الحركة، والخفوف
السرعة، ومنه الخف الملبوس لأنه يخف به التصرف، ومنه خف البعير. والمراد
بالتخفيف ههنا تسهل التكليف، بخلاف التصعب فيه، فتحليل نكاح الإماء تيسير
بدلا من تصعيب، وكذلك جميع ما يسره الله لنا إحسانا منه إلينا، ولطفا بنا.
فان قيل: هل يجوز التثقيل في التكليف، مع خلق الانسان ضعيفا عن القيام به
بدلا من التخفيف؟ قيل: نعم إذا أمكنه القيام به، وإن كان فيه مشقة، كما ثقل
التكليف على بني إسرائيل في قتل أنفسهم، غير أن الله لطف بنا فكلمنا ما يقع به
صلاحنا، بدلا من فسادنا. وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة: ان الله يكلف
عباده ما لا يطيقون، لان ذلك مناف لإرادة التخفيف عنهم في التكليف، من
حيث أنه غاية التثقيل. وقوله: " وخلق الانسان ضعيفا " أي يستميله هواه.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا

(1) في المخطوطة والمطبوعة (لصاحبه) يدل (على صاحبه).
177

أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله
كان بكم رحيما) (29) - آية واحدة بلا خلاف -.
القراءة، والاعراب:
قرأ أهل الكوفة: " تجارة " نصبا، الباقون: بالرفع، فمن رفع ذهب إلى
أن معناه: إلا أن تقع تجارة، ومن نصب فمعناه: إلا أن تكون الأموال تجارة،
أو أموال تجارة، وحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ويكون الاستثناء
منقطعا، ويجوز أن يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، كما قال الشاعر:
إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا (1)
وتقديره: إذا كان اليوم يوما ذا كواكب، ذكره أبو علي النحوي. وقال
الرماني التقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة، ولم يبين. والقول ما قال أبو علي،
لان الأموال ليست تجارة. ومن شأن خبر كان أن يكون هو اسمها في المعنى.
وقيل: الرفع أقوى، لأنه أدل في الاستثناء على الانقطاع، فان التحريم لاكل
المال بالباطل على الاطلاق. وفي الناس من زعم أن نصبه على قول الشاعر:
إذا كان طعنا بينهم وعناقا (2)
أي إذا كان الطعن طعنا. قال الرماني: وهذا ليس بقوي، لان الاضمار
قبل الذكر ليس يكثر في مثل هذا، وإن كان جائزا، فالرفع يغني عن الاضمار فيه.
المعنى:
وفي معنى قوله: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " قولان:
أحدهما - قال السدي: بالربا، والقمار، والبخس، والظلم، وهو المروي عن

(1) لم يعرف قائله معاني القرآن للفراء 1: 186 وسيبويه 1: 22 وصدره:
ولله قومي أي قوم لحرة
(2) لم يعرف قائله معاني القرآن 1: 186 وصدره: أعيني هلا تبكيان عفاقا.
وعفاق: اسم رجل.
178

أبي جعفر (ع).
الثاني - قال الحسن: بغير استحقاق من طريق الاعواض. وكان الرجل
يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، إلى أن نسخ ذلك
بقوله في سورة النور: " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم.. " إلى قوله: " جميعا
أو أشتاتا " (1) والأول أقوى، لان ما أكل على وجه مكارم الأخلاق فليس هو
أكل بالباطل. وقيل: معناه التخاون، ولذلك قال: " بينكم ".
وقوله: " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " فيه دلالة على بطلان قول
من حرم المكاسب، لأنه تعالى حرم أكل الأموال بالباطل، وأحله بالتجارة على
طريق المكاسب. ومثل قوله: " وأحل الله البيع وحرم الربا " (2) وقيل في معنى
التراضي بالتجارة قولان:
أحدهما - إمضاء البيع بالتفرق، أو بالتخاير بعد العقد في قول شريح،
وابن سيرين، والشعبي، لقوله صلى الله عليه وآله: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع
خيار. وربما قالوا: أو يقول أحدهما للآخر اختر، وهو مذهبنا.
الثاني - إمضاء البيع بالعقد - على قول مالك بن أنس، وأبي حنيفة،
وأبي يوسف، - ومحمد - بعلة رده إلى عقد النكاح، ولا خلاف أنه لا خيار فيه بعد
الافتراق، وقيل: معناه إذا تغابنوا فيه مع التراضي فإنه جائز.
وقوله: " ولا تقتلوا أنفسكم " قيل فيه: ثلاثة أقوال:
أحدها - قال عطاء، والسدي، وأبو علي الجبائي، والزجاج: لا يقتل
بعضهم بعضا من حيث كانوا أهل دين واحد، فهم كالنفس الواحدة، كما يقول
القائل: قتلنا ورب الكعبة، ومعناه قتل بعضنا، لأنه صار كالقتل لهم، ومثله
قوله: " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم " (3).
الثاني - قال البلخي: فيه نهي عن قتل نفسه في حال غضب، أو زجر،
(1) سورة النور: آية 61.
(2) سورة البقرة: آية 275.
(3) سورة النور: آية 61.
179

والأول أقوى، لأنه أكثر وأغلب، وأيضا فإنه إذا حرم عليه قتل غيره من أهل
دينه، لأنه بمنزلة قتل نفسه، فقد حرم عليه قتل نفسه.
الثالث - قال قوم: معناه: لا تقتلوا أنفسكم، بان تهلكوها بارتكاب الآثام،
والعدوان في أكل المال بالباطل، وغيره من ارتكاب المعاصي، التي تستحقون بها
العقاب. وروي عن أبي عبد الله (ع): أن معناه لا تخاطروا بنفوسكم في القتال،
فتقاتلون من لا تطيقونه.
وقوله: " إن الله كان بكم رحيما " قال ابن عباس: كان صلة، والمعنى إن
الله غفور رحيم، ويحتمل أن يكون المراد: " إن الله كان بكم رحيما " حيث
كلفكم الامتناع من أكل المال بالباطل الذي يؤدي إلى العقاب، وحرم عليكم قتل
نفوسكم التي حرمها عليكم، ويعلم انه رحيم فيما بعد بدليل آخر.
قوله تعالى:
(ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان
ذلك على الله يسيرا) (30) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
قيل في تعليق الوعيد والإشارة بقوله: " ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما... "
الآية، أربعة أقوال:
أولها - وهو أقواها - انه على أكل الأموال بالباطل، وقتل النفس بغير
حق، والوعيد بكل واحدة من الخصلتين، لان الوعيد ذكر عقيب ذكر النهي عن
الامرين، وهو اختيار الطبري.
الثاني - قال عطاء: هو على قتل النفس المحرمة خاصة.
الثالث - على فعل كلما نهى الله عنه، من أول السورة.
الرابع - أنه راجع إلى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا
180

النساء كرها " (1) لان ما قبله مقرون بالوعيد.
وقوله: (وكان ذلك على الله يسيرا) معناه: أنه قادر على إنجاز الوعيد،
لا يمكن صاحبه الامتناع منه، ولا الهرب منه، فيتعذر الايقاع به، فيجب أن
تنزلوا الوعيد منزلته، وتكونوا على بصيرة فيه، غير مغترين بأمر يصرف عنه،
وإنما قيد قوله: " ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما " لان من وقع منه قتل النفس
على وجه السهو والخطأ في خلاف المراد، لم يتناوله الوعيد، وكذلك إذا أكل من
أموال الناس على وجه مباح، لم يتوجه إليه الوعيد. والعدوان تجاوز ما أمر الله
به، والظلم أن يأخذه على غير وجه الاستحقاق، وأصله وضع الشئ في غير
موضعه، وفي المرجئة من قال: إنما قيد بذلك لان المراد من استحل أكل المال
بالباطل، واستحل أيضا قتل النفوس، وذلك لا يكون إلا كافرا، فلذلك هدده
بالوعيد المخصوص، فأما إذا فعل ذلك محرما له، فإنه يجوز أن يعفو الله عفو، فلا
يتناوله الوعيد قطعا على كال حال، ولو لم تحمل الآية على المستحلين، لأمكننا أن
نخص الآية بمن لا يعفو الله عنه، كما أنهم لابد لهم أن يخصوها بمن لم يتب من
ذلك ولا تكون معصية صغيرة، فليس في الآية ما يمنع من القول بجواز العفو.
وإنما قال: (وكان ذلك على الله يسيرا) وإن كان يسيرا عليه الآن وفي
مستقبل الأوقات، ليعلم أن الأوقات متساوية في ذلك على كل حال، ولا يجوز
أن يقال قياسا على ذلك وكان الله قديما، لان قولنا قديم أغنى عن كان، إذ
لم يختص بالحال بل أفاد الوجود في الأزل، فلا معنى لادخال كان فيه. واليسير
السهل، يقال: يسر الشئ إذا سهل فهو يسير، وعسر فهو عسير، إذا لم يتسهل.
قوله تعالى:
(إن تجتبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
وندخلكم مدخلا كريما) (31) - آية -.

(1) سورة النساء: آية 19.
181

القراءة، والحجة:
قرأ نافع، وأبو بكر، عن عاصم: مدخلا - بفتح الميم - الباقون بضمها،
وهو الأقوى، لأنه من ادخلوا والآخر جائز، لان فيه معنى: فيدخلون، وليس
كقول الشاعر:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا * بالخير صبحنا ربي ومسانا (1)
ويروى بفتح الميم فيهما، أنشده البلخي في البيت، لأنه ليس فيه فعل،
ولكن قد حكي بالفتح على التشبيه بالأول، ويحتمل أن يكون من قرأ بفتح الميم
أراد: مكانا كريما، كما قال: " ومقام كريم " (2) وقرأ المفضل، عن عاصم
" يكفر " " ويدخلكم " بالياء فيهما، الباقون بالنون، وهو الأجود، لأنه وعد
على وجه الاستئناف، فالأحسن ألا يعلق بالأول من جهة ضمير الغائب، واختاره
الأخفش، ومن قرأ بالياء رده إلى ذكر الله في قوله: " إن الله كان بكم رحيما ".
المعنى:
والمعاصي وإن كانت كلها عندنا كبائر، من حيث كانت معصية لله تعالى،
فانا نقول: إن بعضها أكبر من بعض، ففيها إذا كبير بالإضافة إلى ما هو أصغر
منه. وقال ابن عباس: كلما نهى الله عنه فهو كبير. وقال سعيد بن جبير: كلما
أوعد الله عليه النار فهو كبير، ومثله قال أبو العالية، ومجاهد، والضحاك. وعند
المعتزلة أن كل معصية توعد الله تعالى عليها بالعقاب، أو ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله
أو كان بمنزلة ذلك، أو أكبر منه، فهو كبير، وما ليس ذلك حكمه فإنه يجوز
أن يكون صغيرا، ويجوز أن يكون كبيرا، ولا يجوز أن يعين الله الصغائر، لان
في تعيينها الاغراء بفعلها، فمن المعاصي المقطوع على كونها كبائر: قذف المحصنات:

(1) قائله أمية بن أبي الصلت. ديوانه: 62 ومعاني القرآن للقراء 1: 264
والخزانة 1: 120، واللسان (إمسى).
(2) سورة الشعراء: آية 59. وسورة الدخان: آية 26
182

وقتل النفس التي حرم الله، والزنا، والربا، والفرار من الزحف في قول ابن عباس،
وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، ومثله عن أبي عبد الله (ع)، وزاد:
وعقوق الوالدين، والشرك، وإنكار الولاية. وقال ابن مسعود: كلما نهى الله عنه،
من أول السورة إلى رأس الثلاثين، فهو كبير. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
عقوق الوالدين، وشهادة الزور، كبير.
فعلى مذهب المعتزلة: من اجتنب الكبائر، وواقع الصغائر، فان الله يكفر
الصغائر عنه، ولا يحسن مع اجتناب الكبائر عندهم المؤاخذة بالصغائر، ومتى
آخذه بها كان ظالما. وعندنا أنه يحسن من الله تعالى ان يؤاخذ العاصي بأي معصية
فعلها، ولا يجب عليه إسقاط عقاب معصية لمكان اجتناب ما هو أكبر منها،
غير أنا نقول: إنه تعالى وعد تفضلا منه أن من اجتنب الكبائر فإنه يكفر عنه
ما سواها، بان يسقط عقابها عنه تفضلا، ولو أخذه بها لم يكن ظالما، ولم يعين
الكبائر التي إذا اجتنبها كفر ما عداها، لأنه لو فعل ذلك لكان فيه إغراء بما
عداها، وذلك لا يجوز في حكمته تعالى. وقوله: " إن تجتنبوا كبائر " معناه
من تركها جانبا والمدخل الكريم: هو الطيب الحسن المكرم بنفي الآفات والعاهات عنه.
وقوله تعالى:
(ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال
نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من
فضله إن الله كان بكل شئ عليما) (32) - آية بلا خلاف -.
القراءة: قرأ ابن كثير، والكسائي " وسلوا " بغير همزة، وكذلك كلما كان أمر
للمواجه في جميع القرآن، الباقون بالهمزة، ولم يختلفوا في: " وليسألوا ما انفقوا " (1)

(1) سورة الممتحنة: آية 10.
183

لأنه أمر لغائب. قال أبو علي الفارسي. كلاهما جيد، إن ترك الهمزة واثباتها.
النزول:
وقيل في سبب نزول هذه الآية أن أم سلمة قالت: (يا رسول الله لا نغزو
مع الرجال، ولنا نصف الميراث، يا ليت كنا رجالا، فكنا نقاتل معهم) فنزلت هذه
الآية، في قول مجاهد. وقال الزجاج: قال الرجال: ليتنا كنا فضلنا في الآخرة
على النساء، كما فضلنا عليهن في الدنيا، وبه قال السدي.
اللغة:
والتمني هو قول القائل: ليت كان كذا لما لم يكن، وليت لم يكن كذا لما
كان. وفي الناس من قال: هو معنى في القلب. وقال الرماني: هوما يجب على جهة
الاستمتاع به، ومن قال: هو معنى في القلب قال: ليس هو من قبيل الشهوة، ولا
من قبيل الإرادة، لان الإرادة لا تتعلق إلا بما يصح حدوثه، والتمني قد يتعلق
بما مضى، والشهوة أيضا كالإرادة في أنها لا تتعلق بما مضى.
المعنى:
وظاهر الخطاب يقتضي تحريم تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض وقال
الفراء: هو على جهة الندب والاستحباب، والأول هو حقيقة التمني، والذي قلناه
هو قول أكثر المفسرين، ووجه تحريم ذلك أنه يدعو إلى الحسد، وأيضا فهو من
دنايا الأخلاق، وأيضا فان تمني الانسان لحال غيره قد يؤدي إلى تسخط ما قسم الله
له، ولا يجوز لاحد أن يقول ليت مال فلان لي، وإنما يحسن أن يقول: ليت مثله لي.
وقال البلخي: لا يجوز للرجل أن يتمنى أن كان امرأة، ولا للمرأة أن تتمنى لو كانت
رجلا، بخلاف ما فعل الله، لان الله لا يفعل من الأشياء إلا ما هو أصلح، فيكون
قد تمنى ما ليس بأصلح، أوما يكون مفسدة. ويمكن أن يقال: إن ذلك يحسن
بشرط أن لا يكون مفسدة، كما يقول في حسن السؤال سواء.
184

وقوله: (وللرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) قيل
في معناه أقوال:
أحدها - أن لكل واحد حظا من الثواب على حسب ما كلفه الله من
الطاعات بحسن تدبيره، فمتى فعل ذلك استحق به علو المنزلة، فلا تتمنوا خلاف هذا
التدبير، لما فيه من حرمان الحظ الجزيل.
الثاني - أن كل أحد إنما له جزاء ما اكتسب، فلا يضيعه بتمني ما لغيره،
مما يؤدي إلى إبطال عمله، فكأنه قيل: لا تضيع ما هو لك، بتمني ما لغيرك.
والثالث - أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب من نعيم
الدنيا، بالتجارات والزراعات وغير ذلك من أنواع المكاسب، فينبغي أن يقنع
ويرضى بما قسم له. وروي عن ابن عباس أنه قال: ذلك في الميراث، للرجال نصيب
منه، وللنساء نصيب منه.
والأجوبة الأولى أقرب، لان الميراث ليس مما يكتسبه الرجال والنساء،
وإنما هو شئ يورثهم الله تعالى، والآية تضمنت أن لهم نصيبا مما اكتسبوا،
وذلك لا يليق إلا بما تقدم.
وقوله: (واسألوا الله من فضله) معناه: إن احتجتم إلى ما لغيركم،
فاسألوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله، بشرط أن لا يكون فيه مفسدة لكم ولا
لغيركم، لان المسألة لا تحسن إلا كذلك، وقال سعيد بن جبير: واسألوا الله العبادة،
وبه قال السدي،، ومجاهد.
وقوله: (إن الله كان بكل شئ عليما) معناه: إنه قسم الأرزاق على ما علمه
من الصلاح للعباد، بدلا من الفساد، فينبغي أن ترضوا بما قسمه، وتسألوه من
فضله، غير منافسين لغيركم في عطيته.
قوله تعالى:
(ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين
185

عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا)
(33) - آية بلا خلاف -.
القراءة، والاعراب، والحجة
قرأ أهل الكوفة " عقدت " بغير ألف، الباقون بألف، فمن قرأ باثبات
الألف، قال: لان المعاقدة تدل على عقد الحلف باليمين من الفريقين، وقال بعضهم
إنه يعني عن ذلك جميع الايمان، قال الرماني: هذا خطأ، لأنها قد تجمع لردها على
أحد الفريقين الحالف بها، قال أبو علي الفارسي: الذكر الذي يعود من الصلة إلى
الموصول ينبغي أن يكون منصوبا، فالتقدير: والذين عاقدتم أيمانكم، فجعل
الايمان في اللفظ هي المعاقدة، والمعنى على الحالفين الذين هم أصحاب الايمان،
فالمعنى: والذين عاقدت حلفهم أيمانكم، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه،
فعاقدت أشبه بهذا المعنى، لان لكل نفس من المعاقدين يمينا على المحالفة. ومن
قال: " عقدت أيمانكم " كل المعنى: عقدت حلفهم أيمانكم، فحذف الحلف،
وأقام المضاف إليه مقامه، والأولون حملوا الكلام على المعنى، حيث كان من كل
واحد من الفريقين يمين، ومن قال: " عقدت " حمل على اللفظ، لفظ الايمان،
لان الفعل لم يسند إلى أصحاب الايمان في اللفظ، وإنما أسند إلى الايمان.
المعنى واللغة:
ومعنى الآية جعلنا الميراث لكل من هو مولى الميت، والموالي المذكورون
في الآية، قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: هم العصبة، وقال
السدي: هم الورثة: وهو أقواها، والتقدير ولكلكم جعلنا ورثة مما ترك الوالدان
والأقربون، ثم استأنف: والذين.
وأصل الموالي من ولي الشئ يليه ولاية، وهو الاتصال للشئ بالشئ، من
غير فاصل، والمولى على وجوه: فالمولى المعتق، والمولى المعتق، والمولى العصبة،
186

والمولى ابن العم، والمولى الحليف، والمولى الولي، والمولى الأولى بالشئ والأحق.
فالمعتق مولي النعمة بالعتق، والمعتق لأنه مولى النعمة، والمولى الورثة، لأنهم
أولى بالميراث، والمولى الحليف، لأنه يلي المحالف أمره بعقد اليمين، والمولى ابن
العم، لأنه يلي النصرة لتلك القرابة، والمولى الولي، لأنه يلي بالنصرة. وفي
التنزيل: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم) (1) أي
لا ناصر لهم، وهو ناصر المؤمنين، والمولى السيد. لأنه أولى بمن يسوده. قال
الأخطل:
فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
والمولى الأولى والأحق، ومنه قوله (ع): (أيما امرأة نكحت بغير
إذن مولاها فنكاحها باطل) أي بغير إذن من هو أولى بها وأحق. وقال الفضل
ابن العباس في المولى بمعنى ابن العم:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا * لا تظهرون لنا ما كان مدفونا (2)
والمراد بقوله: (والذين عاقدت أيمانكم) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال سعيد بن جبير، وقتادة، وعامر، والضحاك: إنهم الحلفاء.
الثاني - قال الحسن، وسعيد بن المسيب: هم رجال كانوا يتبنون، على عادة
الجاهلية. ليجعل لهم نصيب من الوصية، ثم هلكوا، فذهب نصيبهم بهلاكهم.
الثالث - في رواية أخرى عن ابن عباس، وابن زيد انهم قوم آخى بينهم
رسول الله صلى الله عليه وآله. والأول أقوى وأظهر في أقوال المفسرين.
وقال أبو مسلم: أراد بذلك عقد المصاهرة والمناكحة. وقال أبو علي:
الحليف لم يؤمر له بشئ أصلا، لأنه عطف على قوله " ترك الوالدان والأقربون "
أي: وترك الذين عاقدت أيمانكم، فآتوا كلا نصيبه من الميراث. وهذا ضعيف لأنه

(1) سورة محمد: آية 11.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 125 والكامل للمبرد 2: 279 والحماسة للبحتري
1: 121 واللسان (ولي) وقد روي:
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
187

يفيد التكرار، لان قوله: " الوالدان والأقربون " عام في كل أحد. وعلى
ما قال المفسرون، يكون قوله: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان) إذا كانوا
مناسبين له، ثم استأنف حكم الحلفاء، فقال: " فآتوهم نصيبهم ". فان قيل: بم يتصل قوله:
" مما ترك الوالدان " وما العامل فيه؟ قيل فيه قولان:
أحدهما - يتصل ب‍ (موالي) على جهة الصفة، والعامل الاستقرار، كأنه قال:
موالي مما خلف الوالدان والأقربون، والذين عاقدت أيمانكم من الورثة.
الثاني - يتصل بمحذوف، والتقدير: موالي يعطون مما ترك الوالدان
والأقربون، والذين عاقدت أيمانكم من الميراث. وقال أبو علي الجبائي تقديره:
ولكل شئ مما ترك الوالدان والأقربون وارث من الميراث. قال الرماني: وهذا
لا يجوز، لأنه فصل بين الصفة والموصوف بما عمل في الموصوف، نحو: لكل
رجل - جعلت درهما - فقير.
والنصيب الذي أمر به للحليف قيل فيه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعامر،
والضحاك: انه نصيب على ما كانوا يتوارثون بالحلف في الجاهلية، ثم نسخ ذلك
بقوله: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ".
الثاني - في رواية أخرى عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والسدي: انه
النصيب من النصرة والنصيحة دون الموارثة، فعلى هذا الآية غير منسوخة.
وروي عنه أنه قال: لا حلف في الاسلام، فأما ما كان في الجاهلية فلم يزده الاسلام
إلا شدة. وقوله: (إن الله كان على كل شئ شهيدا) أي: شاهدا، وذلك دال
على أنه عالم به، لأنه لا يشهد إلا بما علم.
قوله تعالى:
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض
وبما انفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ
الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع
188

واضربوهن فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا
كبيرا) (34) - آية بلا خلاف -.
القراءة والنزول:
قرأ أبو جعفر المدني: " بما حفظ الله " - بالنصب - ومعناه: بالذي حفظ
الله، ويحتمل أن يكون معناه: بحفظ الله وهو ضعيف، لأنه يكون حذف الفاعل
وهو ضعيف.
وسبب نزول هذه الآية ما قاله الحسن، وقتادة، وابن جريج، والسدي:
أن رجلا لطم امرأته فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله تلتمس القصاص، فنزلت الآية:
" الرجال قوامون على النساء ".
المعنى واللغة:
والمعنى: (الرجال قوامون على النساء) بالتأديب والتدبير لما " فضل الله "
الرجال على النساء في العقل والرأي. وكان الزهري يقول: ليس بين الرجل
وامرأته قصاص فيما دون النفس. ويقال: رجل قيم، وقوام، وقيام. ومعناه:
إنهم يقومون بأمر المرأة بالطاعة لله ولهم. وقوله: (فالصالحات قانتات) قال
قتادة: وسفيان: معنى (قانتات) مطيعات لله ولأزواجهن. وأصل القنوت دوام
الطاعة، ومنه القنوت في الوتر لطول القيام. وقوله: " حافظات للغيب بما حفظ
الله " معناه، قال قتادة، وعطاء، وسفيان: حافظات لما غاب عنه أزواجهن من
ماله، وما يجب من رعايته وحاله، وما يلزم من صيانتها نفسها له، " وبما حفظ
الله " قال عطاء، والزجاج: أي بما حفظهن الله في مهورهن، وألزم الزوج النفقة
عليهن. وقال بعضهم: معناه، والله أعلم: بالشئ الذي يحفظ أمر الله، ودين الله.
وقوله: " واللاتي تخافون " قيل فيه قولان:
أحدهما - تعلمون، لان خوف النشز للعلم بموقعه، فلذلك جاز أن توضع
189

مكان تعلم، كما قال الشاعر:
ولا تدفنني بالفلاة فإنني * أخاف إذا ما مت ألا أذوقها (1)
وقال آخر:
أتاني كلام عن نصيب يقوله * وما خفت يا سلام انك عائبي (2)
وقال الفراء: معناه: ما ظنت، ومنه قوله صلى الله عليه وآله: أمرت بالسواك حتى
خفت أن أدرد.
الثاني - الخوف الذي هو خلاف الامن، كأنه قال: تخافون نشوزهن
لعلمكم بالأحوال المؤذنة به، ذكره محمد بن كعب. ومعنى النشوز ههنا: قال
ابن عباس، والسدي، وعطاء، وابن زيد: انه معصية الزوج، وأصله الترفع على
الزوج بخلافه، مأخوذا من قولهم: هو على نشز من الأرض، أي ارتفاع، يقال:
نشزت المرأة تنشز وتنشز، قرئ بهما: " وإذا قيل انشزوا فانشزوا " (3) فالنشوز
يكون من قبل المرأة خاصة، والشقاق منهما. وقوله: " فهظوهن " أي خوفوهن
بالله، فان رجعن وإلا فاهجروهن في المضاجع. وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، والسدي: هجر الكلام.
وقال سعيد بن جبير: هو هجر الجماع. وقال مجاهد، والشعبي، وإبراهيم: هو هجر المضاجعة، وهو قول أبي جعفر (ع). وقال: يحول ظهره إليها. وقال بعضهم:
" اهجروهن " اربطوهن بالهجار، من قولهم: هجر الرجل البعير إذا ربطه بالهجار،
وقال امرؤ القيس:
رأت هلكا بنجاف الغبيط * فكادت تجد لذاك الهجارا (4)

(1) انظر 2: تعليقة 2.
(2) انظر 2: 189، 244.
(3) سورة المجادلة: آية 11.
(4) ديوانه: 111 واللسان (هلك). الهلك الفراغ. نجاف الغبيط: مدرعة البرذعة.
الهجار: حبل يسوى له عروتان في طرفيه ثم تشد إحداهما في رسغ رجل الفرس وتزر وكذلك
الأخرى.
190

وهذا تعسف في التأويل، ويضعفه قوله: " في المضاجع " ولا يكون
الرباط في المضجع. وأما الضرب فإنه غير مبرح بلا خلاف قال أبو جعفر (ع):
هو بالسواك. والمضاجع جمع مضجع، وأصله الاستلقاء، يقال: ضجع ضجوعا
واضطجع اضطجاعا إذا استلقى للنوم، وأضجعته إذا وضعت جنبه بالأرض،
فكل شئ أملته فقد أضجعته. وقوله: (فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن) أي
لا تطلبوا، تقول: بغيت الضالة إذا طلبتها، قال الشاعر يصف الموت:
بغاك وما تبغيه حتى وجدته * كأنك قد واعدته أمس موعدا (1)
وأصل الهجر الترك عن قلى، تقول: هجرت فلانا أي تركت كلامه عن قلى،
والهجر القبيح من الكلام، لأنه مهجور، والهجار حبل يشد به البعير، لأنه
يهجر به التصرف، والهاجرة نصف النهار، لأنه وقت يهجر فيه العمل. وقوله:
" إن الله كان عليا كبيرا " أي متعاليا عن أن يكلف إلا بالحق، ومقدار الطاقة،
وقد قيل: معناه إنه قادر عليه، قاهر له، وليس المراد به علو المكان، لان ذلك
يستحيل عليه تعالى. والكبير السيد، يقال: لسيد القوم كبيرهم، والمعنى: فان
استقمن لكم فلا تطلبوا العلل في ضربهن، وسوء معاشرتهن، فان الله تعالى قادر
على الانتصاف لهن.
قوله تعالى:
(وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما
من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا)
(35) - آية بلا خلاف -.
المعنى واللغة
قوله: (وإن خفتم) في معناه قولان:

(1) قائله سحيم بن الحسحاس ديوانه: 41 وروايته (الا وجدته) بدل (حتى وجدته).
191

أحدهما - إن علمتم.
الثاني - الخوف الذي هو خلاف الامن، وهو الأصح، لأنه لو علم الشقاق
يقينا لم يحتج إلى الحكمين، فان أريد به الظن كان قريبا مما قلناه. والشقاق الخلاف،
والعداوة، واشتقاقه من الشق، وهو الجزء الباين، ومنه اسم المتشاقين، لان كل
واحد منهما في شق أي في ناحية، ومنه المشقة في الامر، لأنه يشق على النفس،
فأمر الله متى خيف ذلك بين الزوجين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها،
والحكم القيم بما يسند إليه.
والمأمور ببعث الحكمين قيل فيه قولان:
أحدهما - قال سعيد بن جبير، والضحاك، وأكثر الفقهاء، وهو الظاهر
في اخبارنا: انه السلطان الذي يترافعان إليه.
والثاني - قال السدي: انه الرجل والمرأة، وقيل: أيهما كان ناب عن الآخر،
وهو اختيار الطبري. واختلف الفقهاء في الحكمين هل هما وكيلان، أو هما حكمان،
فعندنا أنهما حكمان، وقال قوم: هما وكيلان، واختلفوا هل للحكمين أن يفرقا
بالطلاق إن رأياه أم لا؟ فعندنا ليس لهما ذلك إلا بعد أن يستأمراهما، أو كان اذن
لهما في الأصل في ذلك، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد، عن أبيه. ومن
قال: هما وكيلان، قال: لهما ذلك، ذهب إليه سعيد بن جبير، والشعبي، والسدي،
وإبراهيم، وشريح، ورووه عن علي (ع).
وقوله: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) معناه يوفق الله بينهما،
والضمير في بينهما عائد على الحكمين، والمعنى: إن أرادا إصلاحا في أمر الزوجين
يوفق الله بينهما. وبه قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي. وأصل التوفيق
الموافقة، وهي المساواة في أمر من الأمور. والتوفيق هو اللطف الذي يتفق عنده
فعل الطاعة، والتوفيق بين نفسين هو الاصلاح بينهما، والاتفاق في الجنس والمذهب
المساواة بينهما، والاتفاق في الوقوع كرمية من غير رام لمساواتهما نادرا.
وقوله: (إن الله كان عليما خبيرا) يعني بما يريد الحكمان من الاصلاح.
192

أو الافساد. وقيل معناه أنه عالم بما تعبدكم به، لعلمه بما فيه صلاحكم في دينكم
ودنياكم. " وشقاق بينهما " إنما أضافه إلى البين لان البين قد يكون اسما كما قال:
" لقد تقطع بينكم " (1) ممن قرأ بالرفع.
قوله تعالى:
(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا
وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب
والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب
من كان مختالا فخورا) (36) - آية -.
المعنى:
هذا خطاب لجميع المكلفين، أمرهم الله بأن يعبدوه وحده، ولا يشركوا
بعبادته شيئا سواه " وبالوالدين إحسانا " نصب على المصدر، وتقديره: وأحسنوا
إلى الوالدين إحسانا، ويحتمل أن يكون نصبا على تقدير: واستوصوا بالوالدين
إحسانا، لان قوله: " اعبدوا الله " بمنزلة استوصوا بعبادة الله، وأن تحسنوا
إلى ذي قرباكم، وإلى اليتامى الذين لا أب لهم، والمساكين وهم الفقراء، والجار
ذي القربى، يعني الجار القريب.
اللغة:
وأصل الجار العدول، جاوره مجاورة وجوارا، فهو مجاور له وجار له،
لعدوله إلى ناحيته في مسكنه، والجور الظلم، لأنه عدول عن الحق، ومنه جار
السهم إذا عدل عن قصده، وجار عن الطريق إذا عدل عنه، واستجار بالله، لأنه

(1) سورة الأنعام: آية 94.
193

يسأله العدول به عن النار، وجواز الذمة، لأنه عدول بها إلى ناحية صاحبها.
" والجار الجنب " أصل الجنب التنحية، جنبت فلانا عن كذا فتجنب أي نحيته،
ومنه قوله: " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " (1) والجانبان الناحيتان،
لتنحي كل واحدة عن الأخرى، ومنه جنب الانسان وكل حيوان، والاجتناب
الترك للشئ، والجار الجنب معناه الغريب الأجنبي، لتنحيه عن القرابة، قال
علقمة بن عبدة:
فلا تحرمني نائلا عن جنابة * فاني امرؤ وسط القباب غريب (2)
أي عن غربة. وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد:
الجار ذي القربى القريب في النسب، والجار الجنب: الغريب، أي عن غربة.
وروي عن النبي (ص) أنه قال: الجيران ثلاثة، جار له ثلاثة حقوق: حق الجوار،
وحق القرابة، وحق الاسلام. وجار له حقان: حق الجوار، وحق الاسلام.
وجار له حق الجوار، المشرك من أهل الكتاب.
المعنى واللغة:
" والصاحب بالجنب " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة،
والسدي، والضحاك: هو الرفيق.
الثاني - قال عبد الله بن مسعود، وعلي (ع) وإبراهيم، وابن أبي ليلى:
الزوجة.
الثالث - قال ابن زيد، وابن عباس،، في رواية أخرى عنه: إنه المنقطع
إليك رجاء رفدك. وقيل إنه جميع هؤلاء، وهو أعم فائدة.
وقال الزجاج. الجار ذي القربى الذي يقاربك ويعرفك وتعرفه، والجار

(1) سورة إبراهيم: آية 35.
(2) ديوانه: 107 والمفضليات 789 والكامل للمبرد 437، واللسان (جنب).
194

الجنب البعيد. وروي أن حد الجوار إلى أربعين دارا. وروي إلى أربعين ذراعا.
(وابن السبيل) معناه صاحب الطريق، وقيل في المراد به ههنا قولان:
أحدهما - قال مجاهد، والربيع: إنه المسافر.
الثاني - قال قتادة، والضحاك: انه الضيف، وقال أصحابنا: يدخل فيه
الفريقان. " وما ملكت أيمانكم " يعني المماليك من العبيد والإماء، أمر الله
بالاحسان إلى هؤلاء أجمع. وقوله: " إن الله لا يحب من كان مختالا " فالمختال
الصلف التياه، والاختيال هو التطاول، وإنما ذكره الله ههنا وذمه، لأنه أراد
بذلك من يختال فيأنف من قراباته وجيرانه إذا كانوا فقراء، لكبره وتطاوله،
فأما الاختيال في الحرب فممدوح، لان في ذلك تطاولا على العدو واستخفافا به.
وأصل المختال من التخيل، وهو التصور، فالمختال لأنه يتخيل بحاله مرح
البطر، ومنه الخيل، لأنها تختال في مشيها، إي تتبختر، والخيال، لأنه يتخيل به
صاحبه، والاخيل الشقراق، لأنه يتخيل في لونه الخضرة من غير خلوصها،
والخول الحشم، وخلته راكبا خيلانا أي تخيلته، والخال المختال، والخال أخ
الام، " والفخور " هو الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا، وأما الذي يعددها
اعترافا بالنعم فيها فهو شكور غير فخور. وروي عن المفضل عن عاصم أنه قرأ:
" والجار الجنب " - بفتح الجيم - قال أبو الحسن: هو لغة في الجنب، قال الراجز:
الناس جنب والأمير جنب
يعني ناحية: قال أبو علي الفارسي: يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يريد الناحية، والتقدير: ذي الجنب، فحذف المضاف، لان
المعنى مفهوم، لان الناحية لا تكون هي الجار.
والثاني - أن يكون وصفا، مثل: ضرب وندب وفسل، فهذا وصف جرى
على موصوف.
قوله تعالى:
(الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم
195

الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا) (37) - آية -.
القراءة:
قرأ حمزة، والكسائي ههنا وفي الحديد: " بالبخل " بفتح الباء والخاء.
الباقون بضم الباء وتسكين الخاء. فمن نصب قال: لأنه مصدر بخل يبخل بخلا، الباب
كله هكذا، ومن اختار الضم وتسكين الخاء فلانه نقيض الجود فحمل على وزنه،
فهما لغتان. وحكي لغة ثالثة " بالبخل " - بفتح الباء وسكون الخاء.
الاعراب:
وقوله: " الذين " يحتمل أن يكون موضعه نصبا من وجهين، ورفعا من
وجهين، فأحد وجهي النصب أن يكون بدلا من " من " في قوله: " لا يحب من
كان ". والثاني - على الذم. وأحد وجهي الرفع - على الاستئناف بالذم، ويكون
خبره " إن الله لا يظلم " (1) والآية الثانية عطفا عليها. والوجه الثاني على البدل
من الضمير في " فخور ". والبخل أصله مشقة الاعطاء.
المعنى واللغة:
وقالوا في معناه ههنا قولان:
أحدهما - أنه منع الواجب، لأنه اسم ذم لا يطلق إلا على مرتكب كبيرة.
والثاني - هو منع ما لا ينفع منعه، ولا يضر بذله، ومثله الشح، وضده
الجود، والأول أليق بالآية، لأنه تعالى نفى محبته عمن كان بهذه الصفة، وذلك
لا يليق إلا بمنع الواجب. قال الرماني: معناه منع الاحسان لمشقة الطباع، ونقيضه
الجود وهو بذل الاحسان لانتفاء مشقة الطباع، وقال ابن عباس، ومجاهد،
والسدي، وابن زيد: إن الآية نزلت في اليهود، إذ بخلوا باظهار ما علموه وكتموه
من صفة محمد (ص). وقال الجبائي، والبلخي: الآية في كل من كان بهذه الصفة،

(1) سورة النساء: آية 4.
196

وإنما ذكروا بالكفر لكتمانهم نعمة الله عليهم. والآمر بالبخل يتناوله الوعيد، كما
أن من فعل البخل يتناوله الوعيد. وقيل: معنى " يكتمون ما آتاهم الله من فضله "
يجحدون اليسار والثروة اعتذارا في البخل، وقوله: " وأعتدنا " قد فسرناه فيما
مضى وهو أن معناه أعددناه، وجعلناه ثابتا لهم " وللكافرين " يعني الجاحدين
ما أنعم الله عليهم " عذابا مهينا " أي يهينهم ويذلهم.
قوله تعالى:
(والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله
ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) (38)
- آية بلا خلاف -.
الاعراب:
قوله: " والذين " عطف على " الذين " في الآية الأولى. واعرابه يحتمل
ما قلناه في الآية الأولى سواء. وقال الزجاج وغيره: المعني بهذه الآية المنافقون.
وقال مجاهد: المعني بها اليهود، والأول أقوى وأظهر، لان الرياء ضرب من
النفاق وواو العطف يقوي ذلك، لأنه لو أراد الموصوفين في الآية الأولى لقال:
" الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس "، مع أنه قد ورد عطف الصفات بالواو
لموصوف واحد على ما بيناه فيما مضى، غير أن الأجود ما قلناه.
المعنى واللغة:
فذم الله تعالى بهذه الآية من ينفق ماله رئاء الناس دون أن ينفقه لوجهه
وطلب رضاه، ولا يؤمن بالله أي لا يصدق به، " ولا باليوم الآخر " الذي فيه
الثواب والعقاب. ثم قال: " ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا " معناه من
قبل من الشيطان، وأطاعه فيما يدعوه إليه فبئس القرين قرينه. والقرين أصله
197

الاقتران، ومنه قرن الثور لاقتران بعض ببعض، والقرن أهل العصر من الناس،
وقرنة الشئ حرفه، والقرن المقاوم في الحرب، " وما كنا له مقرنين " (1) أي
مطيقين، والقرين الصاحب المألوف. قال عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه * فان القرين بالمقارن يقتدي (2)
ويمكن الانسان الانفكاك من مقارنة الشيطان بالمخالفة له، فلا يعتد بالمقارنة.
وقال أبو علي: لا يمكن ذلك، لأنه يقرن به الشيطان في النار فلا يمكنه الانفكاك
منه، وقوله: " فساء قرينا " نصب على التفسير، كقوله: " ساء مثلا " وتقديره:
ساء مثلا مثل الذين، وتقول: نعم رجلا، وتقديره نعم الرجل رجلا.
قوله تعالى:
(وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وانفقوا مما
رزقهم الله وكان الله بهم عليما) (39) - آية واحدة بلا خلاف -.
المعنى والاعراب:
معنى قوله: " وماذا عليهم. " الآية الاحتجاج على المتخلفين عن الايمان
بالله واليوم الآخر بما عليهم فيه ولهم، وذلك أنه يجب على الانسان أن يحاسب نفسه
فيما عليه وله، فإذا ظهر له ما عليه في فعل المعصية من استحقاق العقاب اجتنبها،
وماله في تركها من استحقاق الثواب عمل في ذلك من الاختيار له، أو الانصراف
عنه. وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة في أن الكافر لا يقدر على الايمان،
لان الآية نزلت على أنه لا عذر للكفار في ترك الايمان، ولو كانوا غير قادرين
لكان فيه أوضح العذر لهم، ولما جاز أن يقال: " وماذا عليهم لو آمنوا بالله " لأنهم
لا يقدرون عليه، كما لا يجوز أن يقال لأهل النار: ماذا عليهم لو خرجوا منها

(1) سورة الزخرف: آية 13.
(2) ديوانه في شعراء الجاهلية: 466،
وقد شاعت روايته على ألسن الناس:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي
198

إلى الجنة، من حيث لا يقدرون عليه، ولا يجدون السبيل إليه، ولذلك لا يجوز
أن يقال للعاجز: ماذا عليه لو كان صحيحا، ولا للفقير: ماذا عليه لو كان غنيا.
وموضع " ذا " يحتمل من الاعراب وجهين:
أحدهما - أن يكون رفعا، لأنه في موضع الذي، وتقديره: ما الذي عليهم
لو آمنوا.
الثاني - لا موضع له، لأنه مع (ما) بمنزلة اسم واحد، وتقديره: وأي شئ
عليهم لو آمنوا بالله، ففي الآية تقريع على ترك الايمان بالله واليوم الآخر، وتوبيخ
على الانفاق مما رزقهم الله في غير أبواب البر وسبيل الخير على وجه الاخلاص، دون
الرياء. وقوله: (وكان الله بهم عليما) معناه ههنا ان الله بهم عليم، يجازيهم بما
يسرون من قليل أو كثير، فلا ينفعهم ما ينفقونه على جهة الرياء.
قوله تعالى:
(إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها
ويؤت من لدنه أجرا عظيما) (40) - آية بلا خلاف -.
القراءة، والحجة، والاعراب:
قرأ: (وإن تك حسنة) بالرفع ابن كثير، ونافع. الباقون بالنصب، فمن
نصب معناه: وإن تك زنة الذرة حسنة، أو: وإن فعلته حسنة، ومن رفع
ذهب إلى أن كان تامة، وتقديره: وإن تحدث حسنة. وأصل (تك) تكون، فحذفت
الضمة للجزم، والواو لسكونها وسكون النون، لكثرة الاستعمال، وقد ورد
القرآن باثباتها، قال الله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا) (1) فاجتمع في
النون أنها ساكنة وأنها تشبه حروف اللين، فحذفت لكثرة الاستعمال، كما قالوا
لا أدر، ولم إبل، والأجود: لم أبال، ولا أدري " ويؤت " بغير ياء، سقطت الياء

(1) سورة النساء: 134.
199

للجزم بالعطف على (يضاعفها). ولدن في موضع خفض. وفيها لغات، يقال:
لد ولدن ولدا ولدا، والمعنى واحد، ومعناه من قبله، ولدن لما يليك، وعند
يكون لما يليك ولما بعد منك، تقول: عندي مال وإن كان بينك وبينه بعد،
فإذا أضفته إلى نفسك فقلت: من لدني ومن لدنا زدت فيها نونا أخرى، وأدغموا
الأولى منهما ليسلم سكون النون ومثله قالوا في (من)، إذا أضافوه قالوا: مني
ومنا. وقرأ ابن كثير، وابن عامر: (يضعفها) مشددة، الباقون: (يضاعفها)
من المضاعفة. والظلم هو الألم الذي لا نفع فيه يوفي عليه، ولا دفع مضرة أعظم
منه عاجلا ولا آجلا، ولا هو مستحق، ولا هو واقع على وجه المدافعة.
اللغة: وأصله وضع الشئ في غير موضعه، وقيل: أصله الانتقاص، من قوله:
(ولم تظلم منه شيئا) (1) أي لم ينقص. والظلم انتقاص الحق، والظلمة انتقاص النور
بذهابه، والظلم الثلج، لانتقاصه بالجمود، وشبه به ماء الأسنان، وفي المثل (من
أشبه أباه فما ظلم)، وسقاء مظلوم إذا شرب منه قبل أن يدرك، والظليم ذكر
النعام، لأنه يضع الشئ في غير موضعه من حيث (2) يحضن غير بيضه. وأصل
المثقال الثقل، فالمثقال مقدار الشئ في الثقل، والثقل ما ثقل من متاع السفر،
والمثقل الذي أثقله المرض، والثقيل البطئ في عمله (فمثقال ذرة): مقدار ذرة
في الزنة. والذرة النملة الحمراء في قول ابن عباس، وابن زيد، وهي أصغر النمل،
وهي من ذررت الشئ أذره ذرا إذا بددته سحوقا.
المعني:
وفي الآية دلالة على أن منع الثواب ظلم لأنه لو لم يكن ذلك ظلما لما كان
لهذا الكلام معنى على هذا الترتيب. وفيه أيضا دلالة على أنه قادر على الظلم، لأنها

(1) سورة الكهف: آية 32.
(2) (من حيث) ساقطة من المطبوعة.
200

صفة تعظيم وتنزيه عن فعل ما يقدر عليه من الظلم، ولو لم يكن قادر عليه لما
كان فيه مدحة، غير أنه وإن كان قادرا عليه فإنه لا يفعله لعلمه بقبحه، وبأنه غني
عنه، ولأنه لو فعل لكان ظالما، لان الاشتقاق يوجب ذلك وذلك منزه عنه تعالى.
قوله تعالى:
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على
هؤلاء شهيدا) (41) - آية -.
الاعراب:
" كيف " لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها ههنا التوبيخ، والتقدير فكيف
يكون حال هؤلاء يوم القيامة، وحذف لدلالة الكلام عليه. والعامل في " كيف "
الابتداء المحذوف، لان التقدير: كيف حالهم، على ما بيناه. وإنما جاز خروج
كيف عن الاستفهام إلى التوبيخ لأنه يقتضي إقرار العبد على نفسه بما كان من
قبيح عمله، كما يقتضي الجواب في الاستفهام، ولا يجوز أن يكون العامل في
" كيف " " جئنا " لإضافة " إذا " إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله كما
لا تعمل الصلة فيما قبل الموصول، لأنه من تمام الاسم.
المعنى:
والشهادة تقع يوم القيامة من كل نبي بأنه بلغ قومه ما تقوم به عليهم الحجة،
وأنه أدى ما تقوم به الحجة عليها من مراد الله، هذا قول عبد الله، وابن جريج،
والسدي. وقال الجبائي: يشهد عليهم باعمالهم. وقال الزجاج، والطبري: يشهد لهم
وعليهم بما عملوه، ووجه حسن الشهادة ما في ذلك من إقامة الحجة عليهم،
فيستجيبون عند تصور تلك الحال من خزي ذلك المقام، وفي ذلك أكبر الاتعاظ.
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وآله سورة النساء فلما بلغ " فكيف
201

إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " فاضت عيناه وقوله:
" وجئنا بك " يعني محمدا صلى الله عليه وآله " على هؤلاء " يعني على أمته. وقال السدي:
إن أمة نبينا تشهد للأنبياء بالأداء والتبليغ، ويشهد النبي لامته بتصديقهم في
تلك الشهادة، كما قال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا) (1).
قوله تعالى:
(يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم
الأرض ولا يكتمون الله حديثا) (42) - آية بلا خلاف -.
القراءة، والحجة:
قرأ حمزة، والكسائي: " تسوى " مفتوحة التاء خفيفة السين. وقرأ نافع
وابن عامر - بفتح التاء وتشديد السين - الباقون بضم التاء وتخفيف السين. وقال
الطبري: الاختيار فتح التاء، لموافقته لقوله: " يا ليتني كنت ترابا " (2) ولم
يقل: كونت. وقال الرماني هذا ليس بشئ، لان التمني فيه معنى الفعل، وبضم
التاء أبين وليس كذلك الآخر، لأنه بمنزلة التمني لان يكون معدوما لم يوجد قط.
قال أبو علي: من قرأ بضم التاء أراد: لو جعل هو والأرض سواء، ومن فتح
التاء أراد: تتسوى، وإنما أدغم التاء في السين، قال: وفي هذا تجوز، لان الفعل
مسند إلى الأرض وليس ذلك المراد، لأنه لا فائدة لهم أن تصير الأرض مثلهم. وإنما
ودوا أن يتستو واهم بما لا يتسوى بهم، ومن فتح التاء وخفض السين أراد هذا،
غير أنه حذف إحدى التائين وهي الأصلية دون التي للمضارعة.
المعنى:
ومعنى الآية الاخبار من الله تعالى أن الكفار يوم القيامة يودون - لعلمهم

(1) سورة البقرة: آية 143.
(2) سورة النبأ: آية 40.
202

بما يصيرون إليه من العذاب والخلود في النار - أنهم لن يبعثوا أو أنهم كانوا
والأرض سواء. وروي في التفسير أن البهائم يوم القيامة تصير ترابا، فيتمنى عند
ذلك الكفار أنهم صاروا كذلك ترابا، وهذا لا يجيزه إلا من قال: إن العوض منقطع،
فأما من قال: هو دائم لم يصحح هذا الخبر. وقوله: " وعصوا الرسول " ضموا
الواو لأنها واو الجمع، وحركت لالتقاء الساكنين. وقوله: " لو استطعنا " كسرت
على أصل الحركة، لالتقاء الساكنين. وإنما وجب لواو الجمع الضم لأنها لما منعت
ما لها من ضم ما قبلها، جعلت الضمة عند الحاجة إلى حركتها فيها. والعامل في
" يومئذ " (يود الذين) وإنما عمل في (يومئذ) ما بعد (إذا) ولم يجز مثل
ذلك في (إذا جئنا من كل أمة) لأنه لما أضيف (يوم) إلى (إذ) بطلت
إضافته إلى الجملة، وجاء التنوين ليدل على تمام الاسم. يبين ذلك قوله: (من عذاب
يومئذ ببنيه) (1).
وقوله: (ولا يكتمون الله حديثا) لا ينافي قوله: (والله ربنا ما كنا
مشركين) (2) لأنه قيل في معنى الآية سبعة أقوال:
أحدها - قال الحسن إن الآخرة مواطن، فموطن (لا تسمع إلا همسا) (3)
أي صوتا خفيا، وموطن يكذبون فيقولون: (ما كنا نعمل من سوء) (4)
(والله ربنا ما كنا مشركين) وموطن يعترفون بالخطأ بأن يسألوا الله أن يردهم
إلى دار الدنيا.
الثاني - قال ابن عباس: إن قوله: (ولا يكتمون الله حديثا) داخل في
التمني بعد ما نطقت جوارحهم بفضيحتهم، فكأنهم لما رأوا المؤمنين دخلوا الجنة
كتموا فقالوا: (والله ربنا ما كنا مشركين) فختم الله أفواههم، وأنطق
جوارحهم بما فعلوه، فحينئذ تمنوا أن يكونوا (تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله
حديثا) فتمنوا الامرين وقال الفراء: تقديره: (يومئذ يود الذين كفروا

(1) سورة المعارج: آية 12.
(2) سورة الأنعام: آية 23.
(3) سورة طه: آية 108.
(4) سورة النمل: آية 28.
203

وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض) ويودون لا يكتمون حديثا.
الثالث - قال أبو علي: انه لا يعتد بكتمانهم، لأنه ظاهر عند الله لا يخفى
عليه شئ منه.
الرابع - لم يقصدوا الكتمان، لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا، ولا يخرجهم
من أن يكونوا كذبوا.
والخامس - قال بعضهم: إن قوله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) (1)
إنما معناه: أوجبوا العذاب بمثل حال الكاذب في الاقرار، كما يقال: كذب عليك
الحج، قال الشاعر:
كذب العتيق وماء شن بارد * إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
وقال الرماني: هذا التأويل ضعيف، لأنه يجري مجرى اللغز.
والسادس: قال الحسين بن علي المغربي: تمنوا أن يكونوا عدما، وتم الكلام
ثم استأنف فقال: (ولا يكتمون الله حديثا) أي لا تكتمه جوارحهم وإن
كتموه هم.
السابع - قال البلخي: (ولا يكتمون الله حديثا) على ظاهره لا يكتمون
الله شيئا، لأنهم ملجأون إلى ترك القبائح والكذب. وقوله: (ما كنا مشركين)
أي عند أنفسنا، لأنهم كانوا يظنون في الدنيا أن ذلك ليس بشرك من حيث
يقربهم إلى الله تعالى.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى
تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم
مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء

(1) سورة الأنعام: 24.
204

فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم
إن الله كان عفوا غفورا) (43) - آية بلا خلاف -.
القراءة والمعنى:
قرأ حمزة، والكسائي: " أو لمستم النساء " بغير ألف، الباقون " لامستم "
بألف، فمن قرأ " لامستم " بألف قال: معناه الجماع: وهو قول علي (ع)، وابن
عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو علي الجبائي، واختاره أبو حنيفة. ومن قرأ بلا
الف أراد اللمس باليد وغيرها بما دون الجماع، ذهب إليه ابن مسعود، وعبيدة،
وابن عمر، والشعبي، وإبراهيم، وعطاء، واختاره الشافعي. والصحيح عندنا
هو الأول، وهو اختيار الجبائي، والبلخي، والطبري، وغيرهم. والملامسة واللمس
معناهما واحد، لأنه لا يلمسها إلا وهي تلمسه، وقيل: ان الملامسة بمعنى اللمس،
كما قيل: عافاه الله، وعاقبت اللص.
النزول:
وقيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - قال إبراهيم: إنها نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح.
والثاني - قالت عائشة نزلت في قوم من الصحابة أعوزهم الماء.
المعنى واللغة:
وظاهر الخطاب متوجه إلى المؤمنين كلهم بأن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى،
يعني في حال سكرهم، يقال: قرب يقرب متعد، وقرب يقرب لازم، وقرب الماء
يقربه إذا ورده. وقيل في معنى السكر المذكور في الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم: إنه السكر من
الشراب، وقال مجاهد، والحسن، وقتادة نسخها تحريم الخمر.
205

الثاني - قال الضحاك هو سكر النوم خاصة. وأصل السكر من السكر،
وهو سد مجرى الماء يقال سكره يسكره، واسم الموضع السكر والسكر، لانسداد
طريق المعرفة به. سكر يسكر سكرا وأسكره إسكارا، وسكرة الموت غشيته.
فان قيل: كيف يجوز نهي السكران في حال سكره مع زوال عقله، وكونه بمنزلة
الصبي والمجنون؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - إنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من نقص العقل إلى مالا
يحتمل الأمر والنهي.
الثاني - إنما نهوا عن التعرض للسكر مع أن عليهم صلاة يجب أن يؤدوها
في حال الصحو. وقال أبو علي: فيه جواب ثالث وهو أن النهي إنما دل على أن
عليهم أن يعيدوها إن صلوها في حال السكر.
فان قيل: كيف يسوغ تأويل من ذهب إلى أن السكران مكلف أن ينتهي
عن الصلاة في حال سكره؟ مع أن عمل المسلمين على خلافه، لان من كان مكلفا
تلزمه الصلاة، قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أنه منسوخ.
والآخر - إنه نهي عن الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وآله في جماعة.
وقوله: (ولا جنبا إلا عابري سبيل) يقال: رجل جنب إذا أجنب،
ورجل جنب أي غريب، ولا يثنى ولا يجمع، ويجمع أجنابا أي غرباء، وإنما نصب
لأنه عطف على قوله: " وأنتم سكارى " وهي جملة في موضع الحال. وقيل في
معناه قولان.
أحدهما - قال علي (ع)، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحكم،
وابن كثير، وابن زيد: إلا مسافرين فلكم أن تتيمموا.
الثاني - قال ابن عباس في رواية أخرى، وجابر، والحسن، وسعيد بن جبير،
وإبراهيم، والزهري، وعطاء، والجبائي: ان معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من
المساجد إلا مجتازين، وهو قول أبي جعفر (ع)، وحذف لدلالة الكلام عليه،
206

وهو الأقوى، لأنه تعالى بين حكم الجنب في آخر هذه الآية إذا عدم الماء، فلو
حملناه على ذلك لكان تكرارا، وإنما أراد أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد
في أول الآية، وحكمه إذا أراد الصلاة مع عدم الماء في آخرها.
وقوله: (وإن كنتم مرضى أو على سفر) فالمرض الذي يجوز معه التيمم
مرض الجراح، والكسير، وصاحب القروح، إذا خاف من مس الماء في قول
ابن مسعود، والضحاك، والسدي، وإبراهيم، ومجاهد وقتادة. وقال الحسن،
وابن جبير: هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء، ولا يكون هناك من
يناوله. وكان الحسن لا يرخص للجريح التيمم، والمروي عن أبي جعفر وأبي
عبد الله (ع) جواز التيمم عند جميع ذلك. وقوله: " أو على سفر أو جاء أحد
منكم من الغائط " يعني الحدث المخصوص، وأصله المطمئن من الأرض، يقال:
غائط وغيطان، والتغوط كناية عن الحدث في الغائط، والغوطة موضع كثير الماء
والشجر بدمشق، وقوله: " أو لامستم النساء " قد فسرناه، وعندنا المراد به
الجماع. وقوله: " فتيمموا صعيدا طيبا " فالتيمم التعمد، ومثله التأمم قال
الأعشى:
تيممت قيسا وكم دونه * من الأرض من مهمه ذي شزن (1)
يعني تعمدت، وقال سفيان: معنى تيمموا تعمدوا وتحروا، والصعيد وجه
الأرض من غير نبات ولا شجر، في قول ابن زيد قال ذو الرمة:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به * دبابة في عظام الرأس خرطوم (2)
ومنه قوله: (فتصبح صعيدا زلقا) (3) فبين أن الصعيد قد يكون
زلقا. والصعدات الطرقات، قال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة بأن الصعيد
وجه الأرض، سواء كان عليه تراب أو لم يكن، وهذا يدل على ما نقوله من
أن التيمم يجوز بالحجارة سواء كان عليها تراب أو لم يكن (وطيبا) أي طاهرا،

(1) ديوانه: 19 القصيدة: 2.
(2) ديوانه: 571.
(3) سورة الكهف آية 41.
207

وقال سفيان: يعني حلالا. وأصل الصعيد من الصعود، وهو ما تصعد على وجه
الأرض من ترابها، والاصعاد في الماء بخلاف الانحدار، والصعود عقبة يشق
صعودها، ومنه قوله: " سأرهقه صعودا " (1) وقيل: انه جبل في النار يؤخذ
بصعوده، والصعدة هي القناة التي نبتت مستوية، لأنها تصعد في نباتها على استقامة،
والصعداء تنفس بتوجع.
وقوله: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) قيل في صفة التيمم ثلاثة أقوال:
أحدها - ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، ذهب إليه بن عمر،
والحسن، والشعبي، والجبائي، وأكثر الفقهاء، وبه قال قوم من أصحابنا.
الثاني - ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الزندين، ذهب إليه عمار بن ياسر،
ومكحول، واختاره الطبري، وهو مذهبنا إذا كان التيمم بدلا من الجنابة، وإن كان
بدلا من الوضوء فيكفيه ضربة واحدة يمسح بها الوجه إلى طرف أنفه
واليدين إلى الزندين.
الثالث - قال أبو اليقظان، والزهري: انه إلى الإبطين، وقال قوم انه جائز
أن يضرب بيديه على الرمل فيمسح بهما وجهه، وإن لم يعلق بهما شئ، وبه نقول.
ويجوز للجنب أن يتيمم عندنا، وعند أكثر الفقهاء وأهل العلم. وبه قال عمار بن ياسر
ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله. وروي عن عمر، وابن مسعود، وإبراهيم: أنه لا يجوز
للجنب أن يتيمم، لقوله: (ولا جنبا إلا عابري سبيل) وقد بينا نحن أن المراد
بذلك النهي عن دخول المساجد، فكأنه قال: ولا تقربوا المساجد للصلاة وأنتم سكارى
" ولا جنبا إلا عابري سبيل " لان من لم يكن له طريق غير المسجد، أو أصابه
الاحتلام في المسجد جاز له أن يجتاز فيه، ولا يلبث فيه.
والسكران الذي زال عقله لا تصح صلاته، ويجب عليه قضاؤها، ولا يصح
منه شئ من العقود ولا رفعها، كالنكاح، والطلاق، والعتق، والبيع، والشراء،
وغير ذلك. وقضاء الصلاة يلزمه إجماعا، وأما ما يلزم به الحدود والقصاص فعندنا أن

(1) سورة المدثر: آية 17.
208

جميع ذلك يلزمه، إن سرق قطع، وإن قذف جلد، وإن زنا حد، وغير ذلك،
لاجماع الفرقة المحقة على ذلك، ولعموم الآية المتناولة لذلك، ولا يلزم على ذلك
تكليف من قطع رجل نفسه الصلاة قائما، لان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإيجاب
قضاء الصلاة على السكران ليس كذلك، وكذلك إقامة الحدود، لان ذلك تابع
للشرع، وفيه خلاف.
ويجوز إن يصلي صلوات الليل والنهار عندنا بتيمم واحد، وهو كالوضوء في
هذا الباب، ما لم يحدث، أو يتمكن من استعمال الماء، وبه قال الحسن، وعطاء،
وأبو حنيفة وأصحابه، وقال ابن عمر، والشعبي، وقتادة، وإبراهيم، والشافعي
يجب التيمم لكل صلاة، ورووا ذلك عن علي (ع)، وذلك عندنا محمول على
الاستحباب.
ولا يجوز التيمم عندنا إلا عند تضيق الوقت، والخوف من فوته، واختار
ذلك البلخي. وقال الشافعي: لا يجوز إلا بعد دخول الوقت، وقال أبو حنيفة:
يتيمم أي وقت شاء، وإن كان قبل الوقت فهو كالوضوء. ومسائل التيمم استوفيناها
في المبسوط، والنهاية، ولا نطول بذكرها ههنا.
وقوله: (إن الله عفوا غفورا) أي يقبل منكم العفو، ويغفر لكم،
لان قبوله التيمم بدلا من الوضوء تسهيل علينا. وقيل: يعفو بمعني يصفح عنكم
الذنوب، ويغفرها أي يسترها عليكم.
قوله تعالى:
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون
الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم
وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) (45) - آيتان -.
209

القراءة والنزول:
في الكوفي جعلوا (السبيل) آخر الأولى، وآية واحدة في غير الكوفي.
ذكر ابن عباس، وقتادة، وعكرمة: أن الآية نزلت في قوم من اليهود،
وكانوا يستبدلون الضلالة بالهدى، لتكذيبهم بالنبي صلى الله عليه وآله بدلا من التصديق به،
مع قيام الحجة عليهم بما ثبت من صفته عندهم، فكأنهم اشتروا الضلالة بالهدى.
وقال أبو علي الجبائي، وغيره: كانت اليهود تعطي أحبارها كثيرا من أموالهم
على ما كانوا يصفونه لهم، فجعل ذلك اشتراء منهم. وقال الزجاج: كانوا
يأخذون الرشا.
المعنى:
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها التأكيد للاحكام التي يجب العمل بها،
بالتحذير ممن يدعو إلى خلافها، ويكذب بها. وقوله: (ألم تر) قال الزجاج،
معناه: ألم تخبر في جميع القرآن؟ وقال غيره: ألم تعلم؟ وقال الرماني، معناه: رؤية
البصر، والمرئي هو الدين، وإنما دخلت (إلى)، لان الكلام يتضمن معنى التعجب،
كقولك: ألم تر إلى زيد ما أكرمه؟ تقديره: ألم تر عجبا بانتهاء رؤيتك إلى زيد؟
ثم بين ذلك بقوله: ما أكرمه، ومثله قوله: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) (1).
كأنه قال: ألم تر عجبا بانتهاء رؤيتك إلى تدبير ربك كيف مد الظل؟ قال:
ومن فسره على: ألم تخبر، ألم تعلم، فإنما ذهب إلى ما يؤول المعنى إليه، لان الخبر
والعلم لا يصلح فيهما (إلى) كما يصلح مع الرؤية. وقوله: (ويريدون أن تضلوا السبيل)
معناه: يريد هؤلاء اليهود أن تضلوا، معشر المؤمنين، أي تزلوا عن قصد الطريق،
ومحجة الحق، فتكذبوا بمحمد فتكونون ضلالا، وفي ذلك تحذير للمؤمنين أن
يستنصحوا أحدا من أعداء الاسلام في شئ من أمورهم لدينهم ودنياهم، ثم

(1) سورة الفرقان: آية 45.
210

بين تعالى أنه أعلم منكم بعداوة اليهود لكم أيها المؤمنون، فانتهوا إلى طاعتي،
وامتثال أوامري فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم، فاني أعلم بباطنهم منكم،
وما هم عليه من الغش، والحسد، والعداوة. وقيل معناه: والله يجازيهم على عداوتهم،
كقولك: إني أعلم ما تفعل أي أجازيك عليه.
وقوله: (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) معناه: إن ولاية الله لكم،
ونصرته إياكم، تغنيكم عن غيره من هؤلاء اليهود ومن جرى مجراهم، ممن تطمعون
في نصرته. ودخلت الباء في قوله: " بالله " لاحد أمرين:
أحدهما - للتأكيد، لان الاسم في " كفى الله " كان يتصل اتصال الفاعل،
فلما دخلت الباء صار يتصل اتصال المضاف واتصال الفاعل، ليعلم أن الكفاية منه
ليست كالكفاية من غيره في المرتبة، وعظم المنزلة، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها.
الثاني - لأنه دخله معنى: اكتفوا بالله، ذكره الزجاج، وموضعه رفع
بلا خلاف.
اللغة:
والعداوة الابعاد من حال النصرة، وضدها الولاية، وهي التقرب من حال
النصرة، وأما البغض فهو إرادة الاستخفاف والإهانة، وضده المحبة وهي إرادة
الاعظام والكرامة. والكفاية بلوغ الغاية في مقدار الحاجة، كفى يكفي كفاية
فهو كاف، والاكتفاء الاجتزاء بشئ دون شئ، ومثله الاستغناء، والنصرة
الزيادة في القوة للغلبة، ومثلها المعونة، وضدها الخذلان، ولا يكون ذلك إلا
عقوبة، لان منع المعونة مع الحاجة عقوبة.
قوله تعالى:
(من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون
سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين
211

ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم
ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) (46) - آية.
بلا خلاف -.
المعنى والاعراب:
قيل في معنى قوله: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه)
قولان:
أحدهما - قال الفراء، والزجاج، والرماني: أن يكون تبيينا للذين " أوتوا
نصيبا من الكتاب " ويكون العامل فيه " أوتوا " وهو في صلة الذين، ويجوز
ألا يكون في الصلة، كما تقول: انظر إلى النفر من قومك ما صنعوا.
الثاني - أن يكون على الاستئناف، والتقدير: " من الذين هادوا " فريق
(يحرفون الكلم) كما قال ذو الرمة:
فضلوا ومنهم دمعه سابق له * وآخر يثني دمعة العين بالمهل (1)
وأنشد سيبويه:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقال آخر:
لو قلت ما في قومها لم تيثم * يفضلها في حسب وميسم (2)
أي أحد يفضلها وقال النابغة:
كأنك من جمال بني أقيش * يقعقع خلف رجليه بشن (3) يريد كأنك جمل من جمال بني أقيش.

(1) ديوانه: 485، وروايته (عبرة) بدل (دمعة). (بالهمل) بدل (بالمهل).
(2) قائله حكيم بن معية انظر الخزانة 2: 311.
(3) ديوانه: 58، وسيبويه 1: 375، ومجاز القرآن 1: 101. الشن: القرية
البالية.
212

قال الفراء: المحذوف (من) والتقدير: من الذين هادوا من يحرفون
الكلم كما يقولون: منا يقول ذاك ومنا لا يقوله، قال: والعرب تضمر (من) في
مبتدأ الكلام بمن، لان من بعض لما هي منه، كما قال: (وما منا إلا له مقام
معلوم) (1) وقال: (وان منكم إلا واردها) (2) وأنشد بيت ذي الرمة الذي
قدمناه، قال: ولا يجوز إضمار (من) في شئ من الصفات على هذا المعنى إلا في من
لما قلناه، وضعف البيت الذي أنشدناه: (لو قلت ما في قومها لم تيثم) وهي لغة
هوازن، وتأثم رواية أخرى. وقال إنما جاز في (في) لأنك تجد (في) تضارع
معنى (من) لأنه بعض ما أضيف، لأنك تقول: فينا الصالحون وفينا دون ذلك،
كأنك قلت: منا، ولا يجوز: في الدار يقول ذاك، وتريد: من يقول ذاك،
لأنه إنما يجوز إذا أضفت (في) إلى جنس المتروك. وقال أبو العباس، والزجاج
ما قاله الفراء لا يجوز، لان (من) تحتاج إلى صلة أو صفة تقوم مقام الصلة، فلا
يحسن حذف الموصول مع بقاء الصلة، كما لا يحسن حذف بعض الكلمة، وإنما قال:
(من الذين هادوا) لأنه ليس جميع اليهود حرفوا، وإنما حرف أحبارهم
وعلماؤهم.
وقوله: (يحرفون الكلم عن مواضعه) يعني يغيرونها عن تأويلها، والكلم
جمع كلمة. وقال مجاهد: يعني بالكلم التوراة.
وقوله: (سمعنا وعصينا) يعني اليهود يقولون: سمعنا قولك يا محمد،
ويقولون سرا عصينا.
وقوله: (واسمع غير مسمع) اخبار من الله تعالى عن اليهود الذين كانوا
حوالي المدينة في عصره، لأنهم كانوا يسبون رسول الله صلى الله عليه وآله ويؤذونه بالقبيح
من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كما يقول القائل لغيره إذا سبه بالقبيح:
اسمع لا أسمعك الله، ذكره ابن عباس، وابن زيد. وقال مجاهد، والحسن: ان
تأويل ذلك اسمع غير مقبول منك، أي غير مجاب.

(1) سورة الصافات: آية 164. (1) سورة مريم: آية: 71.
213

وقوله: (وراعنا ليا بألسنتهم) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - أن هذه اللفظة كانت سبا في لغتهم، فاعلم الله نبيه ذلك ونهاهم عنها.
الثاني - انها كانت تجري منهم على وجه الاستهزاء والسخرية.
الثالث - انها كانت تجري منهم على حد الكبر، كما يقول القائل: انصت
لكلامنا، وتفهم عنا. وإنما راعنا من المراعاة التي هي المراقبة. وقوله: " ليا
بألسنتهم " يعني تحريكا منهم ألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه.
اللغة:
وأصل اللي القتل، تقول: لويت العود ألويه ليا، ولويت الغريم إذا مطلته،
واللوى من الرمل - مقصور - مسترقه، ولواء الجيش ممدود، واللوية ما تتحف به المرأة
ضيفها لتلوي بقلبه إليها، وألوى بهم الدهر إذا أفناهم، ولوي البقل إذا اصفر ولم
يستحكم يبسه.
واللسان آلة الكلام، واللسان اللغة، ومنه قوله: " وما أرسلنا من رسول إلا
بلسان قومه " (1) ولسن فلان فلانا بلسنه إذا أخذه بلسانه، ورجل لسن:
بين اللسن. ولسان الميزان، ولسان القوم: متكلمهم، وشئ ملسن إذا كان طرفه
كطرف اللسان. وقوله: " وطعنا في الدين " فالأصل الطعن بالرمح ونحوه.
والطعن باللسان كالطعن بالرمح. ومنه تطاعنوا في الحرب. وأطعنوا مطاعنة وطعانا،
وطعن يطعن ويطعن طعنا. وقوله: " ولو أنهم قالوا " يعني هؤلاء اليهود " سمعنا "
يا محمد قولك " وأطعنا " أمرك، وقبلنا ما جئتنا به " واسمع " منا " وانظرنا "
بمعنى انتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا " لكان خيرا لهم وأقوم " يعني أعدل
وأصوب في القول، مأخوذا من الاستقامة، ومنه قوله: " وأقوم قيلا " (2)
بمعنى وأصوب. وقوله: " ولكن لعنهم الله بكفرهم " يعني أبعدهم الله من ثوابه.
ثم أخبر تعالى، فقال: " فلا يؤمنون " في المستقبل " إلا قليلا " منهم فإنهم آمنوا.

(1) سورة إبراهيم: آية 4.
(2) سورة المزمل: آية 6.
214

وقال البلخي: معناه لا يؤمنون إلا ايمانا قليلا كما قال الشاعر:
فألفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا (1)
يريد إلا ذكرا قليلا. وسقط التنوين من ذاكر لاجتماع الساكنين. وقال
أبو روق: إلا قليلا ايمانهم قولهم: الله خالقنا ورازقنا، وليس لعن الله لهم بمانع
لهم من الايمان، وقدرتهم عليه، لأنه إنما لعنهم الله لما كفروا فاستحقوا ذلك،
ولو تركوا الكفر وآمنوا، لزال عنهم استحقاق اللعن.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم
من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا
أصحاب السبت وكان امر الله مفعولا) (47) - آية -.
المعنى:
هذه الآية خطاب لأهل الكتاب: اليهود، والنصارى أمرهم الله بان يؤمنوا
بالنبي صلى الله عليه وآله وما أنزل عليه من القرآن، وغيره من الاحكام مصدقا لما معهم من
التوراة والإنجيل اللذين تضمنا صفة النبي صلى الله عليه وآله وصحة ما جاء به. وقوله:
(من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) قيل في معناه
أربعة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس وعطية العوفي وقتادة: معناه نمحو آثارها حتى
تصير كالقفا. ونجعل عيونها في قفاها، فتمشي القهقرى.
الثاني - قال الحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن أبي نجيح، والسدي،
ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر (ع): أن معناه نطمسها عن الهدى، فنردها
على أدبارها في ضلالتها ذما لها (2) بأنها لا تصلح أبدا، وهم وإن كانوا في

(1) انظر 2، 76 تعليقة 2، 3.
(2) في المخطوطة (ومآبها).
215

الضلالة في الحال فتوعدهم بأنهم متى لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله ازدادوا بذلك ضلالا
إلى ضلالتهم وإياسا لهم أن يؤمنوا فيما بعد.
الثالث - قال الفراء، واختاره البلخي، والحسين بن علي المغربي: إن معناه
نجعل في وجوههم الشعر كوجه القرود.
الرابع - قال قوم: معناه أن يردهم إلى الشام من الحجاز الذي هو مسكنهم،
وهو أضعف الوجوه، لأنه ترك للظاهر، وخلاف أقوال المفسرين: والادبار:
جمع دبر.
فان قيل: كيف يجوز تأويل من قال نجعلها كالاقفاء وهذا لم يجز على ما توعد
به؟ قيل عنه جوابان:
أحدهما - لأنه آمن جماعة من أولئك الكفار كعبد الله بن سلام وثعلبة بن
شعبة وأسد بن ربيعة، وأسد بن عبيد، ومخيرق (1)، وغيرهم. وأسلم كعب
في أيام عمر حين سمع هذه الآية، فاما من لم يؤمن منهم فإنه يفعل به ذلك في
الآخرة على أنه تعالى قال: أو نلعنهم، والمعنى أنه يفعل أحدهما، ولقد لعنهم الله
بذلك. وقوله: " كما لعنا أصحاب السبت " يعني المسخ الذي جرى عليهم، ذكره
البلخي.
والجواب الثاني - أن الوعيد يقع بهم في الآخرة، لان الله تعالى لم يذكر
أنه يفعل بهم ذلك في الدنيا تعجيلا للعقوبة ذكره البلخي أيضا، والجبائي.
اللغة:
والطمس هو الدثر، وهو عفو الأثر، والطامس، والداثر، والدارس بمعنى
واحد. وطمست أعلام الطريق تطمس طموسا: إذا دثرت، قال كعب بن زهير:
من كل نضاحة الذفرى إذا غرق عرضتها طامس الاعلام مجهول (2)

(1) في المطبوعة: (وثعلبة بن سعنه)، (وأحد بن عبيد)،
(ومخبريق).
(2) ديوانه: 9 نضح الرجل العرق سال منه. الذفرى: الموضع الذي يعرق من
البعير خلف الاذن، والاعلام: أعلام الطريق.
216

والعين التي هي الجارحة عبارة عن الشق بين الجفنين. والادبار جمع دبر،
وأصله من الدبر يقولون دبره يدبره دبرا فهو دابر: إذا صار خلفه. والدبر:
خلاف القبل. والدابر: التابع. ومنه قوله: " والليل إذا أدبر " (1) أي تبع
النهار. فاما أدبر فمعناه ولى. والدبور: الريح، لأنها تدبر الكعبة إلى جهة
المشرق. والدبار الهلاك. ودابرة الطائر: الإصبع التي من خلف. والدبر: النحل.
والدبر: المال الكثير، والتدبير، لأنه احكام ادبار الأمور، وهي عواقبها.
المعنى:
وقوله: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) قال السدي، وقتادة،
والحسن: معناه نمسخهم قردة وإنما كنى عنهم بقوله: " أو نلعنهم " بعد أن
خاطبهم بقوله: " يا أيها الذين " لامرين:
أحدهما - التصرف في الخطاب، والانتقال من مواجهة إلى كناية كما قال:
" حتى إذا كنتم في الفلك " فخاطب ثم قال:
" وجرين بهم " (2) فكنى.
والثاني - أن يعود الضمير على أصحاب الوجوه، لأنه بمنزلة المذكور.
وقوله: " وكان أمر الله مفعولا " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ان كل أمر من أمور الله من وعد أو وعيد أو مخبر خبر فإنه
يكون على ما أخبر به، ذكره الجبائي.
والثاني - ان معناه " وكان أمر الله مفعولا " أي الذين يأمر به بقوله:
" كن " وذلك يدل على أن كلامه محدث. وقال البلخي: معناه أنه إذا أراد شيئا
من طريق الاجبار. والاضطرار كان واقعا لا محالة. لا يدفعه دافع، كقبض
الأرواح، وقلب الأرض وارسال الحجارة، والمسخ وغير ذلك، فاما ما يأمر به
على وجه الاختيار، فقد يقع، وقد لا يقع. ولا يكون في ذلك مغالبة له لأنه
تعالى لو أراد إلجاءه إلى ما أمره به لقدر عليه.

(1) سورة المدثر: آية 33.
(2) سورة يونس: آية 22.
217

قوله تعالى:
(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) (48)
- آية واحدة
بلا خلاف -.
قال الفراء قوله: "
أن يشرك " في موضع النصب، وتقديره " إن الله
لا يغفر " الشرك قال: ويحتمل أن يكون موضعه الجر وتقديره لا يغفر الذنب مع
الشرك. وقال قوم: الفرق بين قوله: " إن الله لا يغفر أن يشرك به "، وبين
قوله: " إن الله لا يغفر " الشرك به من وجهين:
أحدهما - أن (أن) تدل على الاستقبال.
والآخر - ذكره الرماني أنها تدل على وجه الفعل في الإرادة، ونحوها. إذ
كان قد يريد الانسان الكفر مع ظنه أنه ايمان، كما يريد النصارى عبادة المسيح.
ولا يجوز ارادته أن يكفر مع التوهم انه ايمان وكذلك لا يريد الضر مع التوهم
أنه نفع، ولا يجوز ارادته أن يضر مع التوهم أنه نفع، وكذلك أمره بالخطأ مع
التوهم أنه صواب، ولا يجوز أمره أن يخطئ مع التوهم أنه صواب، وهذا
عندي ليس بصحيح، لان الشرك مذموم على كل حال سواء علمه فاعله كذلك،
أو لم يعلم. ألا ترى أن النصارى يستحقون اللعنة والبراءة على ما يعتقدونه من
التثليث وإن اعتقدوا هم صحته، فالفرق الأول هو الجيد وظاهر الآية يدل على أن
الله تعالى لا يغفر الشرك أصلا، لكن أجمعت الأمة على أنه لا يغفره مع عدم
التوبة، فاما إذا تاب منه فإنه يغفره، وإن كان عندنا غفران الشرك مع التوبة
تفضلا، وعند المعتزلة هو واجب، وهذه الآية من آكد ما دل على إن الله تعالى
يعفو عن المذنبين من غير توبة ووجه الدلالة منها أنه نفى أن يغفر الشرك إلا مع
التوبة وأثبت أنه يغفر ما دونه، فيجب أن يكون مع عدم التوبة، لأنه إن كان
ما دونه، لا يغفره إلا مع التوبة، فقد صار ما دون الشرك مثل الشرك، فلا معنى
218

للنفي، والاثبات. وكان ينبغي أن يقول: " إن الله لا يغفر " المعاصي إلا بالتوبة
ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول الحكيم أنا لا أعطي الكثير من مالي تفضلا، وأعطي
القليل إذا استحق علي، لأنه كان يجب أن يقول: أنا لا أعطي شيئا من مالي إلا
إذا استحق علي كيف وفي الآية ذكر العظيم الذي هو الشرك، وذكر ما هو دونه؟
والفرق بينهما بالنفي والاثبات، فلا يجوز ألا يكون بينهما فرق من جهة المعنى. فان
قيل: نحن نقول: إنه يغفر ما دون الشرك من الصغائر من غير توبة. قلنا: هذا
فاسد من وجهين.
أحدهما - انه تخصيص، لان ما دون الشرك يقع على الكبير والصغير. والله
تعالى أطلق أنه يغفر ما دونه، فلا يجوز تخصيصه من غير دليل.
الثاني - ان الصغائر تقع محبطة فلا يجوز المؤاخذة بها عند الخصم وما هذا
حكمه لا يجوز تعليقة بالمشيئة وقد علق الله تعالى غفران ما دون الشرك بالمشيئة،
لأنه قال: " لمن يشاء " فان قيل: تعليقة بالمشيئة يدل على أنه لا يغفر ما دون الشرك
قطعا. قلنا: المشيئة دخلت في المغفور له لا فيما يغفر، بل الظاهر يقتضي انه يغفر
ما دون الشرك قطعا، لكن لمن يشاء من عباده، وبذلك تسقط شبهة من قال القطع
على غفران ما دون الشرك من غير توبة، اغراء بالقبيح الذي هو دون الشرك،
لأنه إنما يكون اغراء لو قطع على أنه يغفر ذلك لكل أحد. فاما إذا علق
غفرانه لمن يشاء، فلا اغراء لأنه لا أحد إلا وهو يجوز أن يغفر له، كما يجوز أن
يؤاخذ به فالزجر حاصل على كل حال، ومتى عارضوا هذه الآية بآيات الوعيد كقوله:
" ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " (1) وقوله: " ومن يعص الله ورسوله
" ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها " (2) وقوله: " إن الفجار لفي جحيم " (3)
كان لنا أن نقول: العموم لا صيغة له، فمن أين لكم أن المراد به جميع العصاة ثم
نقول نحن نخص آياتكم بهذه الآية ونحملها على الكفار. فمتى قالوا لنا: بل نحن نحمل

(1) سورة الفرقان: آية 19.
(2) سورة النساء: آية 13.
(3) سورة الانفطار: آية 14.
219

آياتكم على أصحاب الصغائر. فقد تعارضت الآيات ووقفنا وجوزنا العفو بمجرد
العقل، وهو غرضنا وقد استوفينا ما في ذلك في الأصول في باب الوعيد من أراده
وقف عليه من هناك. وقوله: " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " معناه
من يشرك بالله، فقد كذب، لأنه يقول: إن عبادته يستحقها غير الله. وذلك
افتراء، وكذب. وقوله: " إثما عظيما " نصب على المصدر فكأنه قال: افترى،
وأثم " اثما عظيما " لان افترى بمعنى أثم، فلذلك نصب المصدر به. وقال ابن عمر:
لما نزل قوله: " إن الله يغفر الذنوب جميعا " ظن أنه تعالى يغفر الشرك أيضا،
فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عمر: ما كنا نشك معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
في قاتل المؤمن، وآكل مال اليتيم وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه
الآية فأمسكنا عن هذه الشهادة. وهذا يدل على أن الصحابة كانت تقول بما
نذهب إليه من جواز العفو عن فساق أهل الملة من غير توبة، بخلاف ما يذهب
إليه أصحاب الوعيد من المعتزلة، والخوارج، وغيرهم.
قوله تعالى:
(ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء
ولا يظلمون فتيلا) (49) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
قد فسرنا معنى " ألم تر إلى الذين " فيما مضى، وأن معناه ألم تعلم في قول
أكثر أهل العلم، واللغة وقال بعضهم: معناه ألم تخبر وفيه سؤال على وجه الاعلام.
وتأويله اعلم قصتهم ألم ينته علمك إلى هؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ وقيل في
معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، وهو المروي عن
أبي جعفر (ع): انهم اليهود، والنصارى في قوله: " نحن أبناء الله وأحباءه " (1)

(1) سورة المائدة: آية 20.
220

" وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم " (1) قال
الزجاج: اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله بأولادهم الأطفال، فقالوا يا محمد أعلى هؤلاء
ذنوب؟ فقال صلى الله عليه وآله: لا، فقالوا: كذلك نحن ما نعمل بالليل يغفر بالنهار، وما
نعمل بالنهار يغفر بالليل، فقال الله تعالى: " بل الله يزكي من يشاء " وقال:
مجاهد، وأبو مالك: كانوا يقدمونهم في الصلاة ويقولون: هؤلاء لا ذنب لهم.
وقال ابن عباس: كانوا يقولون: أطفالنا يشفعون لنا عند الله.
الثاني - روي عن عبد الله بن مسعود انه تزكية الناس بعضهم بعضا لينالوا
بذلك مالا من مال الدنيا، فأخبر الله تعالى أنه الذي يزكي من يشاء. وتزكيتهم
أنفسهم هو أن يقولوا: نحن أزكياء.
اللغة والاعراب والنظم:
والزكا النمو يقال زكا الزرع يزكو وزكا الشئ: إذا نما في الصلاح وقوله:
" ولا يظلمون فتيلا " قال الزجاج: لا يظلمون مقدار فتيل. فيكون نصبه على
أنه مفعول ثان: كقولك: ظلمته حقه أي انتقصته حقه. قال الرماني: ويحتمل
أن يكون نصبا على التمييز كقولك: تصببت عرقا. وقيل في معنى القتيل ههنا
قولان:
أحدهما - هو قول ابن عباس في رواية وقول عطاء ابن أبي رياح، ومجاهد،
وقتادة، والضحاك، وعطية: إنه الذي في شق النواة. وقال الحسن: الفتيل ما في
بطن النواة، والنقير: ما في ظهرها، والقمطير قشرها.
الثاني - ما فتلت بين إصبعيك من الوسخ. في رواية أخرى عن ابن عباس،
وأبي مالك، والسدي: والفتل: لي الشئ يقال. فتلت الحبل أفتله فتلا، وانفتل
فلان في صلاته. والفتيلة معروفة. واقة فتلاء. إذا كان في ذراعيها فتل عن الجنب.
والفتيل في معنى المفتول.

(1) سورة البقرة: آية 111.
221

ووجه اتصال قوله: " ولا يظلمون فتيلا " بما قبله أنه لما قال: " بل الله
يزكي من يشاء " نفى عن نفسه الظلم لئلا يظن أن الامر بخلافه.
قوله تعالى:
" أنظر كيف يفترون على الله الكذب وفى به إثما
مبينا " (50) - آية بلا خلاف.
اللغة:
النظر هو الاقبال على الشئ بالبصر ومن ذلك النظر بالقلب، لأنه إقبال على
الشئ بالقلب، فكذلك النظر بالرحمة، ونظر الدهر إلى الشئ: إذا أهلكه، والنظر
إلى الشئ تلمسه والنظر إليه بالتأميل له. والانتظار: الاقبال على الشئ بالتوقع
له. والانظار التأخير إلى وقت. والاستنظار سؤال الانظار. والمناظرة: اقبال
كل واحد على الآخر بالمحاجة. والنظير مثل الشئ لاقباله على نظيره بالمماثلة:
والفرق بين النظر بالعين، وبين الرؤية أن الرؤية هي إدراك المرئي، والنظر إنما هو
الاقبال بالبصر نحو المرئي، ولذلك قد تنظر ولا نراه، كما يقولون: نظرت إلى
الهلال فلم أره، ولذلك يجوز أن يقال في الله أنه رائي. ولا يجوز أن يقال ناظر.
وقوله: " كيف يفترون " فالافتراء والاختلاق متقاربان، والفرق بينهما أن
الافتراء هو القطع على كذب أخبر به، واختلق قدر كذبا أخبر به، لان الفري القطع، والخلق التقدير.
المعنى:
وافتراؤهم الكذب على الله ههنا المراد به تزكيتهم لأنفسهم بانا " أبناء الله
وأحباؤه " وأنه " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " ذكره ابن جريج
وقوله: " وكفى به إثما مبينا " معناه تعظيم اثمه وإنما يقال كفى به في العظم على
جهة المدح أو الذم، كقولك: كفى بحال المؤمن نبلا وكفى بحال الكافر إثما
222

كأنه قيل: ليس يحتاج إلى حال أعظم منه في المدح أو الذم. كما يقال ليس
يحتاج إلى أكثر مما به. ويحتمل أن يكون معناه كفى هذا إثما أي ليس يقصر
عن منزلة الاثم.
قوله تعالى:
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا
سبيلا) (51) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
قيل في المعني بهذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، وقتادة: هم جماعة من اليهود منهم: حي بن أخطب
وكعب بن الأشرف، وسلام بن أبي الحقيق، والربيع بن الربيع (1). قالوا لقريش:
أنتم أهدى سبيلا ممن آمن بمحمد.
الثاني - قال عكرمة إن المعني به كعب بن الأشرف، لأنه قال هذا القول،
وسجد لصنمين كانا لقريش. وقيل في معنى الجبت، والطاغوت خمسة أقوال:
أحدها - قال عكرمة: إنهما صنمان. وقال أبو علي: هؤلاء جماعة من اليهود
آمنوا بالأصنام التي كانت تعبدها قريش، والعرب مقاربة لهم ليعينوهم على
محمد صلى الله عليه وآله.
الثاني - قال ابن عباس: الجبت الأصنام. والطاغوت: تراجمة الأصنام الذين
يتكلمون بالتكذب عنها.
الثالث - إن الجبت الساحر. والطاغوت الشيطان، قاله ابن زيد. وقال
مجاهد: الجبت: السحر.

(1) في المخطوطة (الربيع) بالقاط (ابن الربيع) وفي مجمع البيان (أبو رافع).
223

الرابع - قال سعيد بن جبير، وأبو العالية: الجبت: الساحر. والطاغوت:
الكاهن.
والخامس - في رواية عن ابن عباس والضحاك: ان الجبت حي بن أخطب،
والطاغوت كعب بن الاشراف، لأنهما جاءا إلى مكة، فقال لهما أهل مكة: أنتم أهل
الكتاب وأهل العلم القديم، فاخبرونا عنا وعن محمد صلى الله عليه وآله، فقالا: ما أنتم وما
محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونصل الأرحام،
ونسقى الحجيج. ومحمد منبوز قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار
فقالا: أنتم خير منه، وأهدى سبيلا فأنزل الله هذه الآية. وقال الزجاج، والفراء،
والبلخي: هما كل معبود من دون الله تعالى.
اللغة:
ووزن طاغوت فعلوت على وزن رهبوت. قال الخليل: هو من طغا وقلبت
اللام إلى موضع العين كما قيل: لاث في لايث. وشاك في شايك. وهذا تغيير
لا يقاس عليه، لكنه يحمل على النظير. والجبت لا تصريف له في اللغة العربية.
وقيل: هو الساحر بلغة حبش عن سعيد بن جبير: والسبيل المذكور في الآية هو
الدين. وإنما سمي سبيلا، لأنه كالسبيل الذي هو الطريق في الاستمرار عليه
ليؤدي إلى الغرض المطلوب. ونصبه على التمييز كقولك هو أحسن منك وجها وأجود
منك ثوبا لأنك في قولك: هذا أجود منك قد أبهمت الشئ الذي فضلته به إلا
أن تريد ان جملته أجود من جملتك فتقول هذا أجود منك وتمسك.
قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا)
(52) - آية بلا خلاف.
224

النزول:
قوله: " أولئك " إشارة إلى الذين ذكرهم في الآية الأولى. وقال قتادة:
لما قال كعب بن الأشرف، وحي بن أخطب " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا
سبيلا " وهما يعلمان أنهما كاذبان. أنزل الله هذه الآية " أولئك الذين لعنهم الله ومن
يلعن الله فلن تجد له نصيرا) فالوعيد فيها على ما تقدم من القول على جهة العناد،
لأنها إشارة إلى ما تقدم من صفتهم الدالة على عنادهم.
اللغة والمعنى:
(أولئك) لفظ جمع، وواحده ذا في المعنى كما قالوا: نسوة في جماعة النساء.
وللواحدة امرأة. وغلب على أولاء (ها) التي للتنبيه. وليس ذلك في أولئك،
لان في حرف الخطاب تنبيها للمخاطب إذ كان الكاف إنما هو حرف لحق، لتنبيه
المخاطب، فصار معاقبا للهاء التي للتنبيه في أكثر الاستعمال. واللعنة: الابعاد من
رحمة الله عقابا على معصيته، فلذلك لا يجوز لعن البهائم، ولا من ليس بعاقل من
المجانين، والأطفال، لأنه سؤال العقوبة لمن لا يستحقها. فمن لعن حية أو عقربا
أو نحو ذلك مما لا معصية له فقد أخطأ، لأنه سأل الله عز وجل ما لا يجوز في حكمته.
فان قصد بذلك الابعاد لا على وجه العقوبة، كان ذلك جائزا. فان قيل: كيف
قال: " فلن تجد له نصيرا " مع تناصر أهل الباطل على باطلهم؟ قلنا: عنه جوابان:
أحدهما - " فلن تجد له نصيرا " ينصره من عقاب الله الذي يحله به مما قد
أعده له، لأنه الذي يحصل عليه وما سواه يضمحل عنه.
الثاني - " فلن تجد له نصيرا "، لأنه لا يعتد بنصرة ناصر له مع خذلان
الله إياه.
قوله تعالى:
(أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا)
(53) - آية -.
225

النظم والاعراب:
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها اتصال الصفة بالبخل، والصفة بالحسد والجهل،
لان قوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت،
ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) يدل على أنهم
حسدوا المؤمنين وأنهم يعملون أعمال الجاهلين، إلا أن الكلام خرج مخرج
الاستفهام، للتوبيخ، والتقريع بتلك الحال. وجاءت أم ههنا غير معادلة للألف
لتدل على اتصال الثاني بالأول. والمعنى بل ألهم نصيب من الملك؟ وتسمى أم هذه
المنقطعة عن الألف لأنها بخلاف المتصلة بها على المعادلة. ومثله " ألم تنزيل
الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه " (1) وقال بعضهم: إن الألف
محذوفة، لان أم لا تجئ مبتدأة على تقدير أهم أولى بالنبوة " أم لهم نصيب من
من الملك " فيلزم الناس طاعتهم. وهذا ضعيف، لان حذف الألف إنما يجوز في
ضرورة الشعر بالاجماع ولا ضرورة في القرآن. " وإذا " لم تعمل في يؤتون
لأنها إذا وقعت بين الفاء، والفعل، جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى (أرى) (2)
إذا توسطت أو تأخرت، لأن النية به التأخير. والتقدير أم لهم نصيب من الملك
فلا يؤتون الناس نقيرا إذا، وكذلك إذا كان معها واو، نحو " وإذا لا يلبثون
خلافك إلا قليلا " (3) ويجوز أن تقدر مستأنفة، فتعمل مع حرف العطف.
و (اذن) لا تعمل إلا بشروط أربعة: أن تكون جوابا لكلام، وأن تكون مبتدأة
في اللفظ، ولا يكون ما بعدها متعلقا بما قبلها، ويكون الفعل بعدها مستقبلا.
ومتى نقص واحد من هذه الشروط لم تعمل.
المعنى واللغة:
وقوله: (لا يؤتون الناس نقيرا) اخبار من الله تعالى عن لومهم، وبخلهم

(1) سورة ألم السجدة: آية 1، 2، 3،.
(2) أي (أرى) القلبية.
(3) سورة الاسرى: آية 76.
226

أي لا يؤتونهم نقيرا. وقيل في معنى النقير ههنا ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، وعطاء، والضحاك،
وابن زيد: إنه النقطة التي في ظهر النواة. وقال مجاهد: هو الحبة التي في بطن
النواة. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن النقير ما نقر الرجل بإصبعه، كما ينقر
الدرهم. والنقر: النكت ومنه المنقار، لأنه ينقر به. والناقور: الصور، لان
الملك ينقر فيه بالنفخ المصوت. والنقرة: حفرة في الأرض أو غيرها، والنقير:
خشبة تنقر وينبذ فيها. والمناقرة: مراجعة الكلام. وانتقر: اختص كما يختص
بالنقر واحدا واحدا. والمنقر: المقلع عن الشئ، لأنه كما يقلع في النقر، ثم
يعود إليه.
ومعنى (أم لهم نصيب من الملك) ما يدعيه اليهود أن الملك يعود إليهم.
وقوله: " فإذا لا يؤتون الناس " يعني العرب. وذكر الزجاج في معناه وجهين:
أحدهما - بل لهم نصيب، لأنهم كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا
في غاية البخل.
والثاني - أنهم لو أعطوا الملك، ما أعطوا الناس نقيرا من بخلهم اختاره البلخي
وبه قال السدي، وابن جريج.
قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا
آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) (54) - آية -
المعنى: المعني بقوله: (أم يحسدون الناس) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وعكرمة: إنه
النبي صلى الله عليه وآله، وهو قول أبي جعفر (ع)، وزاد فيه وآله.
227

الثاني - قال قتادة: هم العرب (1): محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه، لأنه قد
جرى ذكرهم في قوله: " يقولون للذين هؤلاء أهدى من الذين آمنوا
سبيلا " ذكره الجبائي.
والفضل المذكور في الآية قيل فيه قولان:
أحدهما - قال الحسن، وقتادة، وابن جريج: النبوة. وهو قول أبي جعفر (ع)
قال وفي آله الإمامة.
الثاني - قال ابن عباس: والضحاك والسدي ما أباحه الله للنبي من نكاح
تسعة. اللغة:
والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها لما يلحق من المشقة في نيله لها،
والغبطة: تمني مثل النعمة، لأجل السرور بها لصاحبها، ولهذا كان الحسد مذموما
والغبطة غير مذمومة. وقيل: إن الحسد من افراط البخل، لان البخل مع النعمة،
لمشقة بذلها. والحسد تمني زوالها لمشقة نيل صاحبها لها بالعمل فيها على المشقة
بنيل النعمة. ثم قال " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما "
فما حسدوهم على ذلك فكيف حسدوا محمدا وآله ما أعطاهم الله إياه.
المعنى:
والملك المذكور في الآية ههنا قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس: هو ملك سليمان، وبه قال عطية العوفي.
الثاني - قال السدي: هو ما أحل لداود من النساء تسع وتسعون امرأة،
ولسليمان مئة لان اليهود عابت النبي صلى الله عليه وآله بكثرة النساء فبين الله ان ذلك وأكثر
منه كان في آل إبراهيم.
الثالث - قال مجاهد، والحسن: إنه النبوة. وقال أبو جعفر (ع): انه
الخلافة، من أطاعهم، أطاع الله ومن عصاهم عصى الله.

(1) في المخطوطة (الذين هم محمد..).
228

قوله تعالى:
(فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم
سعيرا) (55) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
الضمير في قوله: (فمنهم من آمن) يحتمل أن يكون عائدا إلى أحد أمرين:
أحدهما - قال مجاهد، والزجاج، والجبائي: إن من أهل الكتاب من آمن
بمحمد صلى الله عليه وآله لتقدم الذكر في " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا
لما معكم " (1).
الثاني - فمن أمة إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من صد عنه. كما أنكم
في أمر محمد صلى الله عليه وآله كذلك. وليس في ذلك توهين لامره كما ليس فيه توهين
لامر إبراهيم. واتصال الكلام على هذا الوجه ظاهر وعلى الوجه الأول
تقديره وقع (2) هذا كله " فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه " وقال قوم:
" فمنهم من آمن " بداود وسليمان " ومنهم من صد عنه " وليس في الآية دلالة
على أن ما تقدم من الوعيد إنما صرف عنهم لايمان هذا الفريق، لأنه قال في
الآخرة " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " (3) وقال بعضهم: فيه دلالة على
ذلك، ولذلك قال: " وكفى بجهنم سعيرا " أي إن كان صرف بعض العقاب،
فكفى بجهنم استغرافا بالعذاب.
اللغة:
وسعير بمعنى مسعورة وترك - لأجل الصرف - التأنيث للمبالغة في الصفة
كما قالوا: كف خضيب ولحية دهين. وتركت علامة التأنيث، لأنها لما كان دخولها فيما

(1) سورة النساء: آية 46.
(2) في المخطوطة (ومع) بدل (وقع).
(3) سورة آل عمران: آية 106.
229

ليست له، للمبالغة نحو رجل علامة كان سقوطها فيما بقي له للمبالغة فحسن هذا التقابل
في الدلالة. والسعر: ايقاد النار ومنه قوله: " وإذا الجحيم سعرت " (1)
واستعرت النار والحرب والشر استعارا. وأسعرتها اسعارا. وسعرتها تسعيرا.
والسعر: سعر المتاع وسعروه تسعيرا وذلك لاستعار السوق بحماها في البيع.
الساعور كالتنور في الأرض. والمسعور: الذي قد ضربته السموم، والعطش.
وزيدت الباء في قوله: " وكفى بجهنم " لتأكيد الاختصاص، لأنه يتعلق به من
وجهين: وجه الفعل في كفى جهنم كقولك: كفى الله، ووجه الإضافة في الكفاية
بجهنم. وعلى ذلك قيل: كفى بالله للدلالة على أن الكفاية تضاف إليه من أوكد
الوجوه، وهو وجه الفعل، ووجه المصدر.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت
جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان
عزيزا حكيما) (56) - آية بلا خلاف -.
المعنى واللغة:
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من جحد معرفته وكذب أنبياءه، ودفع
الآيات التي تدل على توحيده، وصدق نبيه أنه سوف يصليه نارا لتدل على أن ذلك
يفعله به في المستقبل، ولم يكن دخولها لشك، لأنه تعالى عالم بالأشياء لا يخفى
عليه أمر من الأمور. ومعنى نصليه نارا: نلزمه إياها تقول: أصليته النار: إذا
ألقيته فيها، وصليته صليا: إذا شويته: وشاة مصلية أي مشوية. والصلا الشواء.
وصلي فلان بشر فلان. وصلي برجل سوء.
وقوله: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) قيل فيه ثلاثة أقوال:

(1) سورة التكوير: آية 12.
230

أحدها - قال الرماني: إن الله يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت وتعدم
المحترقة على ظاهر القرآن من أنها غيرها، لأنها ليست بعض الانسان. قال قوم
هذا لا يجوز، لأنه يكون عذب من لا يستحق العذاب. قال الرماني: لا يؤدي
إلى ذلك، لان ما يزاد لايألم، ولا هو بعض لما يألم، وإنما هو شئ يصل به الألم
إلى المستحق له. وقال الجبائي: لا يجوز أن يكون المراد ان يزاد جلدا على جلده،
كلما نضجت لأنه لو كان كذلك لوجب أن يملا جسد كل واحد من الكفار جهنم
إذا أدام الله العقاب، لأنه كلما نضجت تلك الجلود زاد الله جلدا آخر، فلا بد أن
ينتهي إلى ذلك.
والجواب الثاني - اختاره البلخي والجبائي، والزجاج: ان الله تعالى يجددها
بان يردها إلى الحالة التي كانت عليها غير محترقة، كما يقال جئتني بغير ذلك الوجه
وكذلك، إذا جعل قميصه قباء جاز إن يقال جاء بغير ذلك اللباس أو غير خاتمه
فصاغه خاتما آخر جاز أن يقال هذا غير ذلك الخاتم، وهذا هو المعتمد عليه.
والثالث - قال قوم: إن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها التي ذكرها الله في قوله:
" سرابيلهم من قطران " (1) فاما الجلود فلو عذبت ثم أوجدت، لكان فيه تفتير
عنهم، وهذا بعيد، لأنه ترك للظاهر وعدول بالجلود إلى السرابيل، ولا نقول
إن الله تعالى يعدم الجلود، بل على ما قلناه يجددها ويطريها بما يفعل فيها من المعاني
التي تعود إلى حالتها، فاما من قال: إن الانسان غير هذه الجملة، وأنه هو المعذب،
فقد تخلص من هذا السؤال. ويقوي ما قلناه ان أهل اللغة يقولون: أبدلت الشئ
بالشئ إذا أزلت عينا بعين، كما قال الراجز:
عزل الأمير بالأمير المبدل
وبدلت - بالتشديد - إذا غيرت هيئة، والعين واحدة. يقولون: بدلت
جتي قميصا: إذا جعلنها قميصا ذكره المغربي، وقال البلخي: ويحتمل وجها آخر
وهو أن يخلق الله لهم جلدا آخر فوق جلودهم، فإذا احترق التحتاني أعاده الله.

(1) سورة إبراهيم: آية 50.
231

وهكذا يتعقب الواحد الآخر قال: ويحتمل أن يخلق الله لهم جلدا لا يألم يعذبهم
فيه، كما يعذبهم في سرابيل القطران.
فان قيل: كيف قال: (ليذوقوا العذاب) مع أنه دائم لازم؟ قيل: لان
احساسهم في كل حال كاحساس الذائق في تجدد الوجدان من غير نقصان، لان
من استمر على الاكل، لا يجد الطعم، كما يجد الطعم من يذوقه. وقوله: " إن
الله كان عزيزا حكيما " معناه أنه قادر قاهر لا يمتنع عليه انجاز ما توعد به أو
وعد، وحكيم في فعله لا يخلف وعيده، ولا يفعل إلا قدر المستحق به فينبغي
للعاقل أن يتدبره، ويكون حذره منه على حسب علمه به ولا يغتر بطول الامهال،
والسلامة من تعجيل العقوبة.
قوله تعالى:
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم
ظلا ظليلا) (57) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى ما توعد به الكفار والجاحدين لآياته
تعالى، وعد في هذه الآية المصدقين به تعالى، والعاملين الاعمال الصالحات، وهي
الحسنات التي هي طاعات الله، وصالح يجري على وجهين:
أحدهما - على من يعمل الطاعة.
الثاني - على نفس العمل ويقال: رجل صالح، ومعناه ذو عمل صالح، ويقال:
عمل صالح، فيجري عليه الوصف بأنه صالح. وعدهم بأن سيدخلهم جنات وهي
جمع جنة وهي البستان التي يجنها الشجر " تجري من تحتها الأنهار " وفيه محذوف،
لان التقدير تجري من تحتها مياه الأنهار، لأن الماء هو الجاري دون الأنهار
232

غير أنه بعرف الاستعمال سقط عنه اسم مجاز، كما سقط في قولهم: هذا شعر
امرئ القيس وإن كان المراد انه حكاية عنه، فاما قوله: " واسأل القرية " مجار
لا محالة، لأنه لابد فيه من تقدير أهلها، وقوله: " خالدين فيها أبدا لهم فيها
أزواج مطهرة " يعني من النفاس والحيض ومن جميع الأقذار، والأدناس.
اللغة:
والطهارة نقيض النجاسة. والنجاسة في الأصل هي ما كان نتنا نحو الجيف،
وغيرها، وشبه بذلك نجاسة الحكم تبعا للشريعة كما يقال في الخمر: إنها نجسة.
وقوله: " ويدخلهم ظلا ظليلا " فالظل أصله الستر من الشمس قال رؤبة: كل
موضع يكون فيه الشمس، فتزول عنه، فهو ظل وفئ. وما سوى ذلك فظل،
لا يقال فيه فئ. والظل: الليل، لأنه كالستر من الشمس. والظلة: السترة، وظل
يفعل كذا: إذا فعله نهارا، لأنه في الوقت الذي يكون للشمس ظل. والاظلال
الدنو، لان الشئ بدنوه، كأنه قد ألقى عليك ظله. والاظل: باطن منسم البعير،
لان المنسم يستره. والظليل: هو الكنين، لأنه لا شمس فيه ولا سموم. قال الحسن:
ربما كان ظل ليس بظليل، لأنه يدخله الحر والسموم، فلذلك وصف ظل الجنة
بأنه ظليل. ومنه قوله: " وظل ممدود " (1) لأنه ليس كل ظل ممدودا. وروي
أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها وهي شجرة الخلد.
وقيل: إنما قال " ظلا ظليلا " فرقا بينه وبين " ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني
من اللهب " (2) وقيل يدخلهم ظلا ظليلا في الموقف حيث لا ظل إلا ظل عرشه.
قوله تعالى:
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم

(1) سورة الواقعة: آية 31.
(2) سورة المرسلات آية 31 - 32.
233

بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا
بصيرا) (58) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
قيل في المعني بهذه الآية ثلاثة أقوال:
أولها - ما قال ابن عباس، وأبي بن كعب، والحسن، وقتادة، وهو المروي
عن أبي جعفر (ع)، وأبي عبد الله (ع): إن كل مؤتمن على شئ يلزمه رده.
الثاني - قال زيد بن أسلم، ومكحول، وشهر بن حوشب: إن المراد به
ولاة الامر وهو اختيار الجبائي، وروي ذلك عن أبي جعفر أيضا وأبي عبد الله (ع)
وقالوا: أمر الله الأئمة كل واحد منهم أن يسلم الامر إلى من بعده، وعلى الوجه
الأول يدخل هذا فيه، لان ذلك من جملة ما ائتمنه الله عليه. ولذلك قال أبو جعفر (ع):
إن أداء الصلاة والزكاة والصوم والحج من الأمانة، ويكون الامر للآمر بأداء
الأمانة من الغنائم والصدقات، وغير ذلك مما يتعلق به حق الرعية.
الثالث - قال ابن جريج: نزلت في عثمان بن طلحة. أمر الله تعالى نبيه أن
يرد إليه مفاتيح الكعبة، والمعتمد هو الأول، وإن كان الأخير روي أنه سبب
نزول الآية، غير أنه لا يقصر عليه.
اللغة والمعنى:
تقول: أديت الشئ أؤديه تأدية، وهو المصدر الحقيقي، ولو قلت: أديت
أداء كان جائزا يقام الاسم المصدر. ويقال: أدوات للصيد آدو له أدوا:
إذا ختلته، لتصيده. وأدى اللبن يأدي: إذا حمض. وقوله: " وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل " أمر الله تعالى الحكام بين الناس أن يحكموا بالعدل
لا بالجور " ان الله نعما يعظكم به " معناه نعم الشئ شيئا يعظكم الله به من أداء الأمانة
وكتبت (ما) في (نعما) موصولة، لأنها بمنزلة الكافي في (إنما)، و (ربما)، غير أنها في نعما
234

اسم يعود إليه الضمير في (به) فتقديره نعم شيئا يعظكم به أو نعم وعظا يعظكم به،
ولا يجوز إسكان العين مع الميم في نعما لأنه جمع بين ساكنين، ولكن يجوز اختلاس
الحركة من غير اشباع الكسرة، كالاختلاس في " يأمركم " وبارئكم " وعلى هذا
تحمل قراءة أبي عمر. وقال الزجاج: اجتماع الساكنين فيه ينكره جميع البصريين.
والسميع: هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت
والبصير من كان على صفة يجب لأجلها أن يبصر المبصرات إذا وجدت. والسامع
هو المدرك للمسموعات. والمبصر هو المدرك للمبصرات. ولذلك يوصف تعالى فيما
لم يزل بأنه سميع بصير، ولا يوصف بأنه سامع مبصر إلا بعد وجود المبصرات
والمسموعات.
وقوله: (إن الله سميعا بصيرا) اخبار بأنه كان سميعا بصيرا فيما مضى.
وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به فإذا كان لا يجوز خروجه عن كونه حيا، فلا
يجوز خروجه عن كونه سميعا بصيرا.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) (59)
- آية بلا خلاف -.
المعنى:
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين يأمرهم أن يطيعوه ويطيعوا رسوله
ويطيعوا أولي الامر منهم، فالطاعة هي امتثال الامر. فطاعة الله هي امتثال أوامره
والانتهاء عن نواهيه. وطاعة الرسول كذلك امتثال أوامره وطاعة الرسول
أيضا هي طاعة الله، لأنه تعالى أمر بطاعة رسوله، فمن أطاع الرسول، فقد أطاع
235

الله كما قال " من يطع الرسول فقد أطاع الله " (1) فأما المعرفة بأنه رسول،
فمعرفة بالرسالة ولا يتم ذلك إلا بعد المعرفة بالله، وليست إحداهما هو الأخرى،
وطاعة الرسول واجبة في حياته وبعد وفاته، لان بعد وفاته يلزم اتباع سنته،
لأنه دعا إليها جميع المكلفين إلى يوم القيامة، كما أنه رسول إليهم أجمعين. فاما
أولو الامر، فللمفسرين فيه تأويلان:
أحدهما - قال أبو هريرة، وفي رواية عن ابن عباس، وميمون بن مهران،
والسدي، والجبائي، والبلخي، والطبري: إنهم الامراء.
الثاني - قال جابر بن عبد الله، وفي رواية أخرى عن ابن عباس، ومجاهد،
والحسن، وعطاء، وأبي العالية: انهم العلماء. وروى أصحابنا عن أبي جعفر
وأبي عبد الله (ع) أنهم الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله فلذلك أوجب الله تعالى طاعتهم
بالاطلاق، كما أوجب طاعة رسوله وطاعة نفسه كذلك. ولا يجوز ايجاب طاعة
أحد مطلقا إلا من كان معصوما مأمونا منه السهو والغلط، وليس ذلك بحاصل
في الامراء، ولا العلماء، وإنما هو واجب في الأئمة الذين دلت الأدلة على
عصمتهم وطهارتهم، فاما من قال المراد به العلماء، فقوله بعيد، لان قوله (وأولي الأمر
) معناه أطيعوا من له الامر، وليس ذلك للعلماء، فان قالوا: يجب علينا
طاعتهم إذا كانوا محقين، فإذا عدلوا عن الحق فلا طاعة لهم علينا. قلنا: هذا
تخصيص لعموم ايجاب الطاعة لم يدل عليه دليل. وحمل الآية على العموم، فيمن
يضح ذلك فيه أولى من تخصيص الطاعة بشئ دون شئ كما لا يجوز تخصيص وجوب
طاعة الرسول وطاعة الله في شئ دون شئ. وقوله: (فان تنازعتم في شئ فردوه
إلى الله والرسول) فمعنى الرد إلى الله هو إلى كتابه والرد إلى رسوله هو الرد إلى
سنته. وقول مجاهد، وقتادة، وميمون بن مهران، والسدي: والرد إلى الأئمة
يجري مجرى الرد إلى الله والرسول، ولذلك قال في آية أخرى " ولو ردوه إلى
الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " (2) ولأنه إذا كان

(1) سورة النساء: آية ث 79.
(2) سورة النساء: آية 82.
236

قولهم حجة من حيث كانوا معصومين حافظين للشرع جروا مجرى الرسول في هذا
الباب. وقوله: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) أي تصدقون بهما. (ذلك
خير وأحسن تأويلا) ذلك إشارة إلى الرد إلى الله وإلى الرسول (وأحسن تأويلا) قال
قتادة، والسدي، وابن زيد: أحمد عاقبة. وقال مجاهد: معناه أحسن جزاء.
وهو من آل يؤول إذا رجع والمال المرجع والعاقبة مآل، لأنها بمنزلة ما تفرقت
عنه الأشياء ثم رجعت إليه. وتقول: إلى هذا يؤول الامر أي يرجع. وقال الزجاج:
أحسن من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله وسنة نبيه، وهذا
هو الأقوى، لان الرد إلى الله والرسول والأئمة المعصومين أحسن من تأويل
بغير حجة.
واستدل جماعة بهذه الآية على أن الاجماع حجة بأن قالوا: إنما أوجب الله
الرد إلى الكتاب والسنة بشرط وجود التنازع، فدل على أنه إذا لم يوجد التنازع،
لا يجب الرد، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، وهذا إن استدل به مع فرض
أن في الأمة معصوما حافظا للشرع كان صحيحا، وإن فرضوا مع عدم المعصوم
كان باطلا، لان ذلك استدلال بدليل خطاب، لا تعليق الحكم بشرط أو صفة
لا يدل على أن ما عداء بخلافه عند أكثر المحصلين، فكيف يعتمد عليه ههنا،
على أنهم لا يجمعون على شئ إلا عن كتاب أو سنة، فكيف يقال: إذا أجمعوا
لا يجب عليهم الرد إلى الكتاب والسنة، وهم قد ردوا إليها على أن ذلك يلزم في
كل جماعة، وإن لم يكونوا جميع الأمة إذا اتفقوا على شئ ألا يجب عليهم الرد
إلى الكتاب والسنة، لان قوله: (فان تنازعتم) يتناول جماعة ولا يستغرق جميع
الأمة، فعلم بذلك فساد الاستدلال بما قالوه. وقد بينا الكلام على ذلك مستوفى
في العدة في أصول الفقه.
قوله تعالى:
(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما
237

أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا
أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) (60)
- آية بلا خلاف -.
المعنى واللغة:
عجب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله في هذه الآية ممن يزعم أنه آمن بما أنزل على
محمد صلى الله عليه وآله، وما أنزل من قبله بان قال ألم ينته علمك إلى هؤلاء الذين ذكرنا
وصفهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمرهم الله أن يكفروا به. وقال
الحسن، والجبائي: نزلت الآية في قوم منافقين احتكموا إلى الأوثان بضرب
القداح. وقد بينا معنى الطاغوت فيما تقدم. وقيل في معناه ههنا قولان:
أحدهما - أنه كاهن تحاكم إليه رجل من المنافقين، ورجل من اليهود هذا
قول الشعبي، وقتادة. وقال السدي اسمه أبو بردة.
الثاني - قال ابن عباس، ومجاهد، والربيع، والضحاك: إنه كعب ابن
الأشرف رجل من اليهود، فاختار المنافق التحاكم إلى الطاغوت، وهو رجل يهودي.
وقيل: كعب بن الاشراف، لأنه يقبل الرشوة، واختار اليهودي التحاكم إلى محمد
نبينا صلى الله عليه وآله لأنه لا يقبل الرشوة. ومعنى الطاغوت ذو الطغيان - على جهة المبالغة
في الصفة - فكل من يعبد من دون الله فهو طاغوت، وقد تسمى به الأوثان كما
تسمى بأنها رجس من عمل الشيطان، ويوصف به كل من طغى، بان حكم بخلاف
حكم الله تعالى غير راض بحكمه تعالى. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) أن
الآية في كل من يتحاكم إلى من يحكم بخلاف الحق، و (زعم)، يحتاج إلى اسم،
وخبر، " وانهم " في الآية نائب عن الاسم، والخبر، لأنها على معنى الجملة،
ومخرج المفرد، وليس بمنزلة ظننت ذلك، لأنه على معنى المفرد ومخرج المفرد،
لان قولك: زعمت أنه قائم يفيد ما يفيد هو قائم، وكذلك ظننت ذاك، لأنه
238

يدل دلالة الإشارة إلى ما تقدر علمه عند المخاطب.
وقوله: (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) يدل على بطلان قول
المجبرة: إن الله تعالى يفعل المعاصي ويريدها، لان الله تعالى نسب إضلالهم إلى
أنه بإرادة الشيطان على وجه الذم لهم، فلو أراد تعالى أن يضلهم بخلق الضلال فيهم،
لكان ذلك أوكد وجوه الذم في إضلالهم.
وأصل الضلال الهلاك بالعدول عن الطريق المؤدي إلى البغية، لأنه ضد
الهدى الذي هو الدلالة على الطريق المؤدي إلى البغية، وله تصرف كثير يرجع إلى
هذه النكتة ذكرناه فيما مضى. وأضله الله معناه: سماه الله ضالا أو حكم عليه به،
كما يقال أكفره بمعنى سماه بالكفر، ولا يجوز أن يقال أكفره الله بمعنى أنه دعاه
إلى الكفر، لأنه منزه عن ذلك، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى:
(وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت
المنافقين يصدون عنك صدودا) (61) - آية -.
قال ابن جريج: الداعي إلى حكم الرسول هو المسلم الذي يدعو المنافق إلى حكم
الرسول صلى الله عليه وآله وقال قتادة: هو يهودي دعا المنافق إلى حكم الرسول، لعلمه أنه لا يجوز في
الحكم " وتعالوا " أصله من العلو وهو تفاعلوا، منه كقولك: توافقوا، فإذا قلت لغيرك:
تعال، فمعناه ارتفع علي - وإن كان في انخفاض من الأرض - لأنه جعله كالرفيع بكونه
فيه، ويجوز أن يكون أصله للمكان العالي حتى صار لكل مكان. وقوله:
(يصدون عنك صدودا) قيل في سبب صد المنافقين عن النبي صلى الله عليه وآله قولان:
أحدهما - لعلهم بأنه لا يأخذ الرشا على الحكم وأنه يحكم بمر الحق.
والثاني - لعداوتهم للدين.
وصددت الأصل فيه ألا يتعدى، لأنك تقول: صددت عن فلان أصد
239

بمعنى أعرضت عنه، ويجوز صددت فلانا عن فلان - بالتعدي - لأنه دخله معنى
منعته عنه. ومثله رجعت أنا ورجعت غيري، لأنه دخله معنى رددته، فلذلك
جاز رجعته، " وصدودا " نصب على المصدر على وجه التأكيد للفعل، كقوله:
" وكلم الله موسى تكليما " (1) ومعنى ذلك أنه ليس ذلك على بيان كالكلام بل
كلمه في الحقيقة. وقيل في معنى " تكليما " أنه كلمه تكليما شريفا عظيما ويمكن مثله
في الآية. ولا يكون تقديره رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا عظيما.
قوله تعالى:
(فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك
يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) (62) - آية -.
الاعراب:
قيل في موضع كيف من الاعراب قولان:
أحدهما - انه رفع بتقدير: فكيف صنيعهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت
أيديهم، كأنه قال الإساءة صنيعهم بالجرأة في كذبهم أم الاحسان بالتوبة من
جرمهم.
والثاني - انه نصب وتقديره: كيف يكونون أمصرين أم تائبين يكونون؟
ويجوز الرفع على معنى كيف بك. كأنه قال أصلاح أم فساد؟
المعنى:
وقيل في معنى المصيبة في الآية قولان:
أحدهما - ذكره الزجاج: ان بعض المنافقين أظهر أنه لا يرضى بحكم
رسول الله صلى الله عليه وآله، فقتله عمر، ثم جاء إخوانه من المنافقين يطالبون بدمه " يحلفون
بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا " كذبا وزورا.

(1) سورة الانفطار: آية 14.
240

الثاني - ان أصابتهم نقمة من الله لم ينيبوا تائبين من المعصية بل يزدادون
جرأة بحلفهم كاذبين بالله عز وجل. وقال الحسين بن علي المغربي: الآية نزلت في
عبد الله بن أبي وما أصابه من الذل عند مرجعهم من غزوة بني المصطلق
هي غزوة المريسيع حين نزلت سورة المنافقين، فاضطر إلى
الخشوع والاعتذار، وذلك مذكور في تفسير سورة المنافقين أو مصيبة الموت
لما تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه، ليتقي به
النار يقولون: ما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أي بكلامه بين الفريقين المتنازعين في
غزوة بني المصطلق. وقوله: (فاعرض عنهم) يأسا منهم (وعظهم) ايجابا للحجة
عليهم " وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا " فيه دلالة على فضل البلاغة وحث على
اعتمادها. وقوله: " إن أردنا إلا احسانا أردنا وتوفيقا " معناه قيل فيه قولان:
أحدهما - أي ما أردنا بالمطالبة بدم صاحبنا إلا احسانا إلينا، وما وافق
الحق في أمرنا.
الثاني - ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة توفيقا بين الخصوم، واحسانا
بالتقريب في الحكم دون الحمل على مر الحق. كل ذلك كذب منهم وافك.
ان قيل كيف يقتضي الانتقام منهم الاعتذار لما سلف من جرمهم؟ قلنا:
عنه جوابان:
أحدهما - للتقريع بتعجيل العقاب على ما ارتكبوا من الآثام.
الثاني - ان الانتقام قد يكون اقصاء النبي صلى الله عليه وآله واذلاله إياهم، وتخويفه
بالنفي أو القتل ان لم ينتهوا عن قبائحهم - هذا قول الجبائي - والحلف: القسم.
ومنه الحلف، لتحالفهم فيه على الامر. وحليف الجود ونحوه، لأنه كالحلف في
اللزوم، أو حلف الغلام إذا قارب البلوغ.
قوله تعالى:
(أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فاعرض عنهم وعظهم
وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) (63) - آية -.
241

المعنى:
(أولئك) إشارة إلى المنافقين الذين تقدم وصفهم، وإنما قال: يعلم ما في
قلوبهم وإن كان معلوما ذلك بدلالة العقل لامرين:
أحدهما - تأكيدا لما علمناه.
والثاني - انه يفيد أنه لا يغنى عنهم كتمان ما يضمرونه شيئا من العقاب،
لان الله يعلم ما في قلوبهم من النفاق. وكذلك كل ما ذكره الله مما هو معلوم عند
المخاطب. إنما الفائدة في مقارنته بما ليس بمعلوم على جهة الاحتجاج به، أو غيره
من الوجوه. وقوله: (فاعرض عنهم وعظهم) جمع بين معنى الاعراض والاقبال.
وقيل في معناه ثلاثة أوجه:
أحدها - فاعرض عنهم بعداوتك لهم، وعظهم.
الثاني - فاعرض عن عقابهم وعظهم.
الثالث - قال الجبائي: أعرض عن قبول الاعتذار منهم. وقوله: " وقل
لهم في أنفسهم قوالا بليغا " قال الحسن: القول البليغ الذي أمر به في الآية أن
يقول إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم، فهذا يبلغ من نفوسهم كل مبلغ. وقال
الجبائي: خوفهم بمكاره تنزل بهم في أنفسهم إن عادوا لمثل ما فعلوه. ويجوز أن
يكون المراد ازجرهم عما هم عليه بأبلغ الزجر.
اللغة:
وأصل البلاغة البلوغ، تقول: بلغ الرجل بالقول بليغ بلاغة، فهو بليغ:
إذا كان بعبارته يبلغ كثير ما في قلبه. ويقال: أحمق بليغ، وبلغ ومعناه. أنه أحمق
يبلغ حيث يريد. وقيل: معناه قد بلغ في الحماقة. وفي الآية دلالة على فضل البلاغة،
وأنها أحد أقسام الحكمة، لما فيها من بلوغ المعنى الذي يحتاج إلى التفسير باللفظ
الوجيز مع حسن الترتيب.
242

قوله تعالى:
(وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ
ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما) (64) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
" ما " في قوله: " وما أرسلنا " نافية فلذلك قال: " من رسول "، لان (من) لا تزاد
في الايجاب، وزيادتها تؤذن باستغراق الكلام كقولك: ما جاءني من أحد.
والتقدير في الآية: وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع، فيمتثل ما نأمره به. والذي
اقتضى ذكر طاعة الرسول إعراض هؤلاء المنافقين - الذين تحاكموا إلى الطاغوت - عن
طاعته، وهم يزعمون أنهم يؤمنون به حتى كأنه قد قيل لهم: من الايمان أن
لا تطيعوه في كل ما يدعو إليه، فبين الله تعالى أنه كغيره من الرسل الذي
ما أرسل إلا ليطاع. وقوله: " بإذن الله " معناه بأمر الله الذي دل على وجوب
طاعتهم، والاذن على وجوه: يكون بمعنى اللطف، كقوله: " وما كان لنفس أن
تؤمن إلا بإذن الله " (1) ومنها الامر مثل هذه الآية. ومنها التخلية نحو " وما هم
بضارين به من أحد إلا بإذن الله " (2) وقوله: " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم "
معناه إذ بخسوها حقها بادخال الضرر عليها بفعل المعصية من استحقاق العقاب،
وتفويت الثواب بفعل الطاعة.
الاعراب والمعنى:
وموضع " أنهم " رفع. والمعنى لو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم
" لوجدوا الله توابا رحيما " و (لو) موضوعة للفعل، لما فيها من معنى الجزاء
تقول: لو كان كذا، لكان كذا. ولا يقع بعدها إلا (أن). وإنما أجيز في (أن)

(1) سورة يونس: آية 100.
(2) سورة البقرة: آية 102.
243

خاصة أن تقع بعدها، لأنها كالفعل في إفادة معنى الجملة. وفتحت (ان) لأنها مبنية
على (لو) بترتيبها على نحو ترتيبها بعد العامل فيها. وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة:
من أن الله تعالى يريد أن يعصي الأنبياء قوم ويطيعهم آخرون، لأنه تعالى بين أنه ما أرسلهم
إلا ليطاعوا، واللام لام الغرض ومعناه إلا وأراد من المبعوث إليهم أن يطيعوا.
وذلك خلاف مذهبهم. وفيها أيضا دلالة على أن من كان مرتكبا لكبيرة يجب أن
يستغفر الله فان الله سيتوب عليه ويقبل توبته، ولا ينبغي لاحد أن يستغفر مع
كونه مصرا على المعصية بل ينبغي أن يتوب ويندم على ما فعل ويعزم على أن
لا يعود إلى مثله ثم يستغفر باللسان ليتوب الله عليه. وقوله: " لوجدوا الله "
يحتمل أمرين:
أحدهما - لوجدوا مغفرة الله لذنوبهم ورحمته إياهم.
والثاني - لعلموا الله توابا رحيما. والوجدان قد يكون بمعنى الادراك، فلا
يجوز عليه تعالى أنه تعالى غير مدرك في نفسه. وذكر الحسن في هذه الآية: أن
اثني عشر رجلا من المنافقين اجتمعوا على أمر من النفاق وائتمروا به فيما بينهم،
فأخبره الله بذلك، وقد دخلوا على رسول الله، فقال رسول الله: إن اثني عشر رجلا
من المنافقين اجتمعوا على أمر من النفاق، وائتمروا به فيما بينهم، فليقم أولئك
فليستغفروا ربهم، وليعترفوا بذنوبهم حتى اشفع لهم. فلم يقم أحد. فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا تقومون؟ مرارا -. ثم قال: قم يا فلان وأنت يا فلان، فقالوا
يا رسول الله نحن نستغفر الله ونتوب إليه، فاشفع لنا. قال الآن أنا كنت في
أول أمركم أطيب نفسا بالشفاعة، وكان الله تعالى أسرع إلى الإجابة أخرجوا عني،
فاخرجوا عنه حتى لم يرهم.
قوله تعالى:
" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (65) - آية -.
244

قيل في معنى دخول (لا) في أول الكلام قولان:
أحدهما - أنها رد لكلام. كأنه قيل لا الامر كما يزعمون من الايمان وهم
على تلك الحال من الخلاف، ثم استؤنف قوله: " وربك لا يؤمنون حتى.. ".
الثاني - انها توطئة للنفي الذي يأتي فيما بعد، لأنه إذا ذكر في أول الكلام
وآخره كان أوكد وأحسن، لأن النفي له صدر الكلام. وقد اقتضى القسم أن
يذكر في الجواب.
النزول:
وقيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - أنها نزلت في الزبير ورجل من الأنصار تخاصما إلى النبي صلى الله عليه وآله
في سراح من الحرة كانا يسقيان منه نخلا لهما، فقال النبي صلى الله عليه وآله اسق يا زبير ثم
ارسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟!
فتلون وجه رسول الله حتى عرف ان قد ساءه، ثم قال يا زبير احبس الماء إلى الجدد (1)
أو إلى الكعبين، ثم خل سبيل الماء، فنزلت الآية. وقال أبو جعفر (ع) كانت
الخصومة بين الزبير، وحاطب بن أبي بلتعة روي ذلك عن الزبير وأم سلمة. وذهب
إليه عمر بن شبه، والواقدي. وقال قوم وهو اختيار الطبري: إنها نزلت في
المنافق واليهودي اللذين احتكما إلى الطاغوت. قال: لان سياق الكلام بهذا أشبه.
اللغة والمعنى:
وقوله: (فيما شجر بينهم) معناه فيما وقع بينهم من الاختلاف. تقول
شجر يشجر شجرا وشجورا وشاجره في الامر: إذا نازعه فيه مشاجرة، وشجارا
وتشاجروا فيه: تشاحوا. وكل ذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض كتداخل الشجر
بالتفافه. وفي الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة، لأنه إذا وجب الرضى بفعل
النبي صلى الله عليه وآله فالرضا بفعل الله تعالى أولى، ولو كان خلق الكفر والمعاصي لوجب
على الخلق الرضا به وذلك خلاف الاجماع. وقيل في معنى الحرج قولان:

(1) أراد ما رفع من اعضاد المزرعة لتمسك الماء كالجدار. وفي رواية، قال له: " احبس
الماء حتى يبلغ الجدي - بضم الميم وتشديد الدال - " وهي المسناة - عن لسان العرب: (جدد) -.
245

أحدهما - قال مجاهد هو الشك. وقال الضحاك: الاثم. وأصل الحرج الضيق
فكأنه قال ضيق شك أو اثم وكلاهما يضيق الصدر. ومعنى الآية أن هؤلاء المنافقين
لا يؤمنون حتى يحكموا النبي صلى الله عليه وآله فيما وقع بينهم من الاختلاف، ثم لا يجدوا
حرجا مما قضى به أي لا تضيق صدورهم به، ويسلموا لما يحكم به لا يعارضونه بشئ
فحينئذ يكونون مؤمنين. و " تسليما " مصدر مؤكد والمصادر المؤكدة بمنزلة ذكرك
للفعل ثانيا كأنك قلت: سلمت تسليما ومن حق التوكيد أن يكون محققا لما
تذكره في صدر كلامك، فإذا قلت: ضربت ضربا، فمعناه أحدثت ضربا احقه حقا
ولا أشك فيه. ومثله في الآية انهم يسلمون من غير شك يدخلهم فيه. وقال
أبو جعفر (ع): لما حكم النبي صلى الله عليه وآله للزبير على خصمه، لوى شدقه وقال لمن
سأله عمن حكم له، فقال: لمن يقضي؟ لابن عمته. فتعجب اليهودي وقال: إنا
آمنا بموسى فأذنبنا ذنبا فأمرنا الله تعالى بان نقتل أنفسنا، فقتلناها فأجلت عن
سبعين ألف قتيل. وهؤلاء يقرون بمحمد صلى الله عليه وآله ويطؤون عقبه ولا يرضون
بقضيته، فقال ثابت بن الشماس لو أمرني الله أن أقتل نفسي لقتلتها فأنزل الله " ولو
أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم.. " إلى قوله: " إلا قليل منهم " يعني ابن الشماس
ذكره السدي.
قوله تعالى:
(ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم
ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا
لهم وأشد تثبيتا) (66) - آية بلا خلاف -.
القراءة، والحجة:
قرأ ابن عامر وحده " إلا قليلا " بالنصب، وكذلك هو في مصاحف أهل
الشام. الباقون بالرفع. وقيل: إن النصب قراءة أبي، فمن رفع فعلى البدل من
246

المضر كأنه قال: ما فعله إلا قليل منهم. وهذا يجوز في النفي دون الاثبات، لأنه
لا يجوز أن يقول فعله إلا قليل منهم، لان الفعل ليس للقليل في الاثبات كما هو
لهم في النفي. وقال الكسائي: ارتفع بالتكرار. والمعنى ما فعلوه ما فعله إلا قليل.
ومن نصب فإنه قال: الاستثناء بعد تمام الكلام، لان قوله: " ما فعلوه " كلام
تام كما أن قولك فعل القوم كلام تام. فاستثنى بعده، ولم يجعل ما بعد إلا عليه
الاعتماد. والوجه الرفع، لان الفعل لهم. فهو أدل على المعنى. وقرأ ابن كثير ونافع
وابن عامر والكسائي " إن اقتلوا " بضم النون وبضم الواو في قوله: " أو اخرجوا "
وقرأ عاصم وحمزة بكسرهما وكسر النون. وضم الواو أبو عمرو. فمن ضمهما فلان
الثالث مضموم أنبع الضمة. ومن كسرهما فعلى أصل الحركة لالتقاء الساكنين.
وأبو عمرو ضم الواو تشبيها بواو " اشتروا الضلالة " (1). " ولا تنسوا الفضل
بينكم " (2).
المعنى:
ومعنى قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم) أي لو أنا ألزمناهم وأوجبنا عليهم " أن
اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم " أي لو كتبنا عليهم ذلك - كما أوجبنا على قوم
موسى وقتلوا أنفسهم وأخرجهم إلى التيه - ما فعله هؤلاء للمشقة التي فيه مع أنه
كان ينبغي أن يفعلوه، لما لهم فيه من الحظ، لأنا لم نكن لنأمرهم به إلا لما تقضيه
الحكمة، وما فيه من المصلحة مع تسهيلنا تكليفهم وتيسيرنا عليهم، فما يقعدهم عنه
مع تكامل أسباب الخير فيه وسهولة طريقة؟ ولو فعلوا ما يوعظون به أي ما يؤمرون
به، لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - ان البصيرة أثبت من اعتقاد الجهالة لما يعتري فيها من الحيرة
واضطراب النفس الذي يتميز من حال المعرفة بسكون النفس إليه.
الثاني - ان اتباع الحق أثبت منفعة لان الانتفاع بالباطل يضمحل بما يعقب

(1) سورة البقرة: آية 16، 175.
(2) سورة البقرة: آية 237.
247

من المضرة وعظيم الحسرة. فالأول لأجل البصيرة. والثاني لأجل دوام المنفعة.
وقال البلخي معنى الآية أنه لو فرض الله عليهم قتل أنفسهم كما فرض على قوم موسى
عندما التمسوا أن يتوب عليهم أو الخروج من ديارهم ما فعلوه. فإذا لم يفرض عليهم
ذلك، فليفعلوا ما أمروا به مما هو أسهل عليهم منه، فان ذلك خير لهم وأشد تثبيتا
لهم على الايمان. وفي الدعاء اللهم ثبتنا على ملة رسولك. ومعناه اللهم الطف لنا
ما نثبت معه على التمسك بطاعة رسولك والمقام على ملته.
قوله تعالى:
(وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم
صراطا مستقيما) (68) - آيتان بلا خلاف -.
قيل: ان " إذا " دخلت ههنا لتدل على معنى الجزاء، كأنه قال ولو أنهم
فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما جزاء على فعلهم [ومعنى] " إذا "
جواب وجزاء وهي تقع متقدمة ومتأخرة ومتوسطة وإنما تعمل متقدمة خاصة إلا
أن يكون الفعل بعدها للحال نحو إذا أظنك خارجا. وتلغى إذا عن العمل من بين
أخواتها لأنها تشبه أظن في الاستدراك بها تقول: زيد في الدار أظن فتستدرك
بها بعد ما مضى صدر الكلام على اليقين. وكذلك يقول القائل: أنا أجيئك فتقول:
وأنا أكرمك اذن. أردت أن تقول: وأنا أكرمك ثم استدركته باذن. ولدن
مبنية ولم تبن عند، لأنها أشد إبهاما إذا كانت تقع في الجواب نحو أين زيد،
فتقول: عند عمرو، فلا يقع لدن هذا الموقع، فجرت لشدة الابهام مجرى الحروف.
ومعنى (لدنا) ههنا من عندنا. وإنما ذكر " من لدنا " تأكيدا للاختصاص، بأنه
مالا يقدر عليه إلا الله، لأنه قد يؤتي بما يجريه على يد غيره. وقد يؤتي بما يختص
بفعله. وذلك أشرف له وأعظم في النعمة ولأنه متحف بما لا يقدر عليه غيره.
وقوله: " ولهديناهم " معناه ولفعلنا من اللطف بهم ما يثبتون معه على الطاعة،
ولزوم الاستقامة وإنما لم يفعل بهم هذا اللطف مع الحال التي هم عليها، لأنه يخرجهم
248

من معنى اللطف حتى يصيروا بمنزلة من لا لطف له على وجه. ومثله " اهدنا الصراط
المستقيم " أي ثبتنا بلطفك على الصراط المستقيم. وقال أبو علي: معناه الاخذ بهم
على طريق الجنة في الآخرة. قال: ولا يجوز أن يكون المراد بالهداية ههنا الارشاد
إلى الدين لأنه تعالى وعد بهذا من يكون مؤمنا مطيعا. ولا يكون كذلك إلا
وقد اهتدى، فان قيل: لم جاز أن يمنعوا اللطف لسوء فعلهم. ولم يجز أن يمنعوا
لسوء فعل غيرهم إذ قد صاروا بمنزلة من لا لطف لهم؟ قلنا: لأنهم يؤتون في
معاصيهم من قبل أنفسهم ولا يجوز أن يؤتوا فيها من قبل غيرهم ولو جاز ذلك لجاز
أن يقتطعوا عن التوبة بالقتل فيكونوا قد أوتوا في معاصيهم من قبل المتقطع لهم
وتكون التخلية فيه بمنزلة الإماتة. والواجب في هذا ان يمنع غير هذا المكلف من
سوء الفعل الذي فيه ارتفاع اللطف. فإن كان لطف هذا المكلف متعلقا بفعل غيره،
وقد علم أنه لا يفعله، لم يحسن تكليف هذا المكلف لأنه ان منع هذا من الايمان،
فسد، وان ترك وسوء الفعل فسد. واللام في قوله: " ولهديناهم صراطا مستقيما "
لام الجواب التي تقع في جواب (لو) كما تقع في جواب القسم. كما قال امرؤ القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجر * لناموا فما ان من حديث ولاصال (1)
والفرق بين لام الجواب ولام الابتداء ان لام الابتداء لا تدخل إلا على الاسم
المبتدأ إلا في باب (ان) خاصة فإنها تدخل على الفعل لمضارعته الاسم. يبين ذلك قولك:
قد علمت أن زيدا ليقوم. وقد علمت أن زيدا ليقومن فتكسر (ان) الأولى
وتفتح الثانية.
وقوله: (صراطا) نصب على أنه مفعول ثان، لأنه في معنى مفعول كسوته
ثوبا، أي فاكتسى ثوبا. فكذلك ولهديناهم فاهتدوا صراطا.
قوله تعالى:
(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله

(1) ديوانه: 161 حلفة فاجر: قسم فاسق. صال: مستدفئ بالنار. في المطبوعة
(حديث) بدل (حديث).
249

عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك
رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما) (70) - آيتان.
المعنى واللغة والنزول:
لما جرى ذكر الطاعة فيما تقدم والحض عليها اقتضى ذكر طاعة الله، وطاعة
الرسول، والوعد عليها. وقيل: إنه وعد بأمر مخصوص على الطاعة من مرافقة
النبيين ومن ذكر معهم وهو أعم فائدة. ومعنى قوله: (فأولئك مع الذين أنعم
الله عليهم من النبيين " انه يستمتع برؤية النبيين وزيارتهم، والحضور معهم. فلا
ينبغي أن يتوهم من أجل أنهم في أعلى عليين انه لا يراهم.
وقال الحسن، وسعيد بن جبير، ومسروق، وقتادة، والربيع، والسدي،
وعامر: إن سبب نزول هذه الآية ان بعض الناس توهم ذلك، فخزن له، وسأل
النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك، فأنزل الله الآية.
وقيل في معنى الصديق قولان:
أحدهما - المداوم على ما يوجبه التصديق بالحق.
الثاني - ان الصديق هو المتصدق بما يخلص له من عمل البر. والأول أظهر.
والشهداء جمع شهيد. وهو المقتول في سبيل الله. وفي تسميته شهيدا قولان:
أحدهما - لأنه قام بشهادة الحق حتى قتل في سبيل الله.
والآخر - انه من شهداء الآخرة بما ختم له من القتل في سبيل الله. وليست
الشهادة هي القتل، لأنها معصية، ولكنها حال المقتول في اخلاص القيام بالحق لله
مقرا به، وداعيا إليه. وقيل: الشهادة هي الصبر على ما أمره الله به من قتال عدوه
والانقياد له. فاما الصبر على الألم بترك الأنين فليس بممنوع، بل هو مباح إذا
لم يقل ما يكرهه الله. وقال الجبائي: الشهداء جمع شهيد. وهم الذين جعلهم الله
شهداء في الآخرة. فهم عدول الآخرة. وهذا على مذهبه بعيد، لان أهل الجنة
250

كلهم عدول عنده، لان من ليس بعدل لا يدخل الجنة. والله تعالى وعد من
يطيعه ويطيع رسوله بأنه يحشره مع هؤلاء. فينبغي أن يكونوا غير الموعود لهم.
وإلا يصير تقديره إنهم مع نفوسهم.
والصالح: من استقامت نفسه بحسن عمله. والمصلح المقوم لعمل يحسنه.
ويقال: الله يصلح في تدبير عباده. بمعنى أنه يحسن تدبير عباده. ولا يوصف
بأنه صالح.
الاعراب
وقوله: (وحسن أولئك رفيقا) نصب على التميز. ولذلك لا يجمع. وهو
في موضع رفقاء وقيل إنه لم يجمع، لان المعنى، حسن كل واحد منهم رفيقا
كما قال: " يخرجكم طفلا " (1) وقال الشاعر:
نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا * بأسهم أعداء وهن صديق (2)
ومن قال: " رفيقا " نصب على التمييز، قال: لأنه قد سمع حسن أولئك
من رفقاء، وكرم زيد من رجل. وقال قوم: هو نصب على الحال، فإنه قد تدخل (من)
في مثله. فإذا سقطت (من) فالحال هو الاختيار، لأنه من أسماء الصفات كأسماء
الأجناس. ويكون التوحيد لما دخله من معنى حسن كل واحد منهم مرافقا.
ونظيره: لله درهم فارسا، أي حال الفروسية.
اللغة:
والرفيق: مشتق من الرفق في العمل. وهو الارتفاق فيه. ومنه الترفق في

(1) سورة الحج: آية 5، وسورة المؤمن: آية 68.
(2) قائله جرير. ديوانه 2: 20 الطبعة الأولى. المطبعة العلمية بمصر وروايته (دعون)
بدل (نصبن) وفي المطبوعة (باعين) بدل (بأسهم) وأثبتناها كما في جميع المصادر
طبقات فحول الشعراء: 351، واللسان (صدق) والعقد الفريد 7: 48 ورواية (بعثن) بدل
(نصبن) وما بعده.
وما ذقت طعم العيش منذ نأيتم * وما ساغ لي بين الجوانح ريق
251

السير، ونحوه. ومنه المرافقة. والمرفق من اليد - بكسر الميم - لأنه يرتفق به.
ويقال أيضا في العمل نحو قوله: " ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " (1) أي رفقا
يصلح به أمركم. والمرفق: بفتح الميم - من مرافق الدار. والرفقة: الجماعة في السفر،
لارتفاق بعضهم ببعض. وقوله: " ذلك الفضل " إشارة إلى الثواب بالكون مع
النبيين، والصديقين. والتقدير ذلك هو الفضل من الله. وهو وإن كان مستحقا،
فلم يخرج من أن يكون تفضلا، لان سببه الذي هو التكليف، تفضل. والفضل:
هو الزائد على المقدار إلا أنه قد كثر على ما زاد من الانتفاع. وكل ما يفعله تعالى
فهو فضل، وتفضل، وافضال، لأنه زائد على مقدار الاستحقاق الذي يجري على
طريق المساواة. وقوله: " وكفى بالله عليما " إنما ذكر، ليعلم انه لا يضيع عنده
شئ من جزاء الاعمال. من حيث كان تعالى: عالما به، وبما يستحق عليه.
وتقديره، وكفى بالله عليما بكنه الجزاء على حقه، وتوفير الحظ فيه. ودخلت الباء
في اسم الله زائدة للتوكيد. والمعنى كفى الله ووجه التأكيد أن اتصال الاسم
بالفعل من جهة بنائه عليه وجه من وجوه الاتصال واتصاله بالباء وجه آخر من
وجوه الاتصال، فإذا اجتمعا كان أوكد. ووجه آخر هو أن معناه اكتفى العباد
بالله. ووجه ثالث وهو أنه توطئة لباب سير بزيد وأكرم بزيد من جهة أن موضعه
رفع، وفيه حرف من حروف الجر. والكفاية مقدار مقاوم للحاجة. ولا يخلو
المقدار من أن يكون فاضلا أو مقصرا أو كافيا، فهذه الأقسام الثلاثة متقابلة.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا
جميعا) (71) - آية -.
المعنى واللغة:
هذا خطاب للمؤمنين الذين صدقوا بالله، وبرسوله. ومعناه أيقنوا بالله،

(1) سورة الكهف: آية 16.
252

ورسوله. أمرهم الله أن يأخذوا حذرهم. وقيل في معناه: قولان:
أحدهما - قال أبو جعفر (ع) وغيره: خذوا سلاحكم، فسمي السلاح حذرا
لان به يقي الحذر.
الثاني - احذروا عدوكم باخذ السلاح، كما يقال للانسان خذ حذرك. بمعنى
احذر. والحذر والحذر لغتان. مثل الاذن والاذن. والمثل المثل. ثم أمرهم بان
ينفروا. والنفور: الفزع نفر ينفر نفورا: إذا فزع. ونفر إليه: إذا فزع من
أمر إليه. والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم. ومنه النفر: جماعة تفزع إلى مثلها.
والنفير إلى قتال العدو. ونفر الحاج يوم الثاني والثالث من التشريق، لأنهم يفزعون
إلى الاجتماع للرجوع إلى الأوطان. والمنافرة: المحاكمة للفزع إليها فيما يختلف فيه
وقيل: إنما كانت، لأنهم يسألون الحاكم أينا أعز نفرا. ونفره تنفيرا. ونافره
منافرة. وتنافروا تنافرا. واستنفره استنفارا. وقوله: " ثبات " قال ابن عباس،
ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي: إن معناه انفروا فرقة بعد فرقة، أو
فرقة في جهة وفرقة في جهة. أو انفروا جميعا من غير تفرق بالأوقات، والجهات.
والثبات جمع ثبة وهي جماعات في تفرقة أي يأتون متفرقين. وقال أبو جعفر: الثبات:
السرايا والجميع العسكر. قال أبو ذؤيب:
فلما اجتلاها بالأيام تحيرت * ثبات عليها ذلها واكتئابها (1)
يصف العاسل، وتدخينه على النحل. والأيام - بكسر الهمزة على وزن لجام -
الدخان ويجمع ثبة على ثبتين، أيضا. قال زهير:
وقد اغدوا على ثبة كرام نشاوى واجدين لما نشاء (2)
وإنما جاز أن يجع ثبة ثبون - وإن كان هذا الجمع يختص ما يعقل - للعوض
من النقص الذي لحقه، لان أصله ثبوة. ومثله عضين وسنين وعرين. فان صغرت

(1) - اللسان (جلا). البيت لأبي ذؤيب يصف النحل والعاسل. وفي رواية (اجتلاها)
بدن جلاها. يعني جلا العاسل النحل عن مواضعها بالأيام وهو الدخان.
(2) - ديوانه: 72. مجاز القرآن لأبي عبيدة: 132 واللسان: (ثبا)، (نشو).
253

قلت ثبيات (1) وسنيات، لان النقص قد زال. وقيل: ان الثبة عصبة منفردة
من (عصب). وتقول ثبيت على الرجل اثبي تثبية: إذا ثنيت عليه. وذكرت محاسنه
في حال حياته. وتصغير ثبة ثبية. فاما ثبة الحوض، فهي وسطه. الذي يثوب إليه
الماء. وهي من ثاب يثوب، لان تصغيرها ثويبة. [وقوله: " أو انفروا جميعا "
وقد مضى معناه] (2).
قوله تعالى:
(وإن منكم لمن ليبطئن فان أصابتكم مصيبة قال قد أنعم
الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا) (72) - آية.
قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد: نزلت هذه الآية
في المنافقين الذين كانوا يثبطون الناس عن الجهاد. فإذا أصابتهم مصيبة فيه، من
قتل أو هزيمة، قالوا قول الشامت بهم في تلك الحال: قد أنعم الله علينا إذ لم
نكن معهم شهداء أي حضورا. وقال أبو جعفر (ع): من يتمنى التأخر عن جماعة
المسلمين، لا يكون إلا كافرا. فقوله: " وان منكم لمن ليبطئن " خطاب للمؤمنين.
وإنما أضاف المنافقين إليهم لامرين:
أحدهما - ان من عدادكم ودخلائكم.
الثاني - أي منكم في الحال الظاهرة، أو حكم الشريعة من حقن الدم، ونحو
ذلك من الموارثة، والمناكحة. واللام الأولى لام الابتداء بدلالة دخولها على الاسم،
والثانية لام القسم بدلالة دخولها على الفعل مع نون التأكيد. وتقديره إن منكم
لمن حلف بالله ليبطئن. وإنما جاز صلة " من " بالقسم، ولم يجز بالأمر والنهي لان
القسم خبر يوضح الموصول، كما يوضح الموصوف في قولك: مررت برجل لتكرمنه،
لأنه خصصه بوقوع الاكرام به في المستقبل من كل رجل غيره. وليس كذلك

(1) - في المخطوطة زيادة: " على الأصل أنثى ثبية " - في هذا الموضع.
(2) - ما بين القوسين ساقط من المطبوعة وهو موجود في المخطوطة.
254

الامر في قولك: مررت برجل أضربه، لأنه لا يتخصص بالضرب في الامر كما،
تخصص في الخبر. قال: الفراء تدخل اللام في النكرات وفي من وما والذي. فإذا
جئت بالمعرفة الموقتة، لم يجز ادخال اللام فيها. لا تقول إن عبد الله ليقومن وان
زيدا ليذهبن، لان زيدا، وعبد الله، لا يحتاجان إلى صلة، والابطاء: إطالة مدة
العمل لقلة الانبعاث.. ضده الاسراع. وهو قصر مدة العمل، للتدبير فيه.
والأناة: إطالة الاحكام الذي لا سبيل إليه إلا بالتثبت فيه. وضدها العجلة وهي
قصر المدة من غير إحكام الصنعة تقول: بطؤ في مشيه يبطؤ بطاء: إذا ثقل وتباطأ
تباطيا وبطأ تبطيا واستبطأ استبطاء وأبطأ إبطاء: إذا تأخر.
قوله تعالى:
(ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم
وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) (73)
آية بلا خلاف -.
المعني بهذه الآية المنافقون الذين وصفهم الله بأنهم يفرحون بتأخرهم عن
المؤمنين إذا أصيبوا، وانهزموا. فأخبر عنهم انه إذا أصاب المؤمنين فضل من الله
بان يظفروا أو يقهروا العدو، بأنهم يتمنون الكون معهم، فيفوزوا فوزا عظيما.
وإنما ذمهم الله بهذا التمني لاحد أمرين:
أحدهما - لأنهم قالوه على وجه ايثار الغنيمة لاعلى حال المثوبة من جهة الله
لشكهم في الجزاء من الله.
الثاني - قال قتادة وابن جريج انهم قالوا: ذلك على جهة الحسد للمؤمنين.
والإصابة. ملامسة المرمي لما وقعت به الرمية. فإذا قيل: أصاب - مطلقا - فمعناه
أصاب الغرض. ويجوز أن ينفي فيقال: لم يصب، يعني الغرض، وان أصاب غيره.
وقوله: " كان لم تكن بينكم وبينه مودة " قيل فيه ثلاثة أقوال:
255

أحدها - انه اعتراض بين القول، والتمني، ولا يكون له موضع من الاعراب.
وتقديره ليقولن: يا ليتني كنت معهم، فأفوز فوزا عظيما. كأن لم يكن بينكم
وبينه مودة.
الثاني - أن يكون اعتراضا وموضعه التقديم. وتقديره فان أصابتكم
مصيبة، قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا كأن لم يكن بينكم، وبينه
مودة. واختار هذا الوجه أبو علي النحوي.
الثالث - أن يكون في موضعه على موضع الحال. كما تقول: مررت بزيد
كأن لم يكن بينك وبينه معرفة فضلا عن مودة. والزجاج أجاز الوجوه الثلاثة.
المعنى:
وفي معنى الآية قولان:
أحدهما - قال الجبائي: المعنى ليقولن لهؤلاء الذين أقعدهم عن الجهاد، كأن
لم يكن بينكم وبينه أي وبين محمد صلى الله عليه وآله مودة، فيخرجكم لتأخذوا من الغنيمة،
ليبغضوا إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله.
الثاني - انه يقول قول الممنوع بالعداوة. وإنما أنى من جهله بتلك الحال.
وهو الأظهر. والمعنى كأنه لم يعاقد كم على الايمان ولم يظهر لكم مودة على حال
يخاطبون بذلك من اقعدوه عن الخروج، ثم يقول من قبل نفسه: يا ليتني كنت
معهم. وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى ليس الكون معهم في الخبر،
والشر، كأهل المودات، وإنما يتمنون ذلك عند الغنيمة كالبعداء يذمهم بسوء العهد
مع سوء الدين.
وإنما نصب جواب التمني بالفاء، لأنه مصروف عن العطف محمول على تأويل
المصدر. وتقديره يا ليتني كان لي حضور، معهم ففوز. ولو كان على العطف، لكان
يا ليتني كنت معهم ففزت. وقرأ أبو جعفر المدني، وحفص، ورويس، والبرجمي:
" كان لم تكن " - بالتاء - لان لفظة المودة مؤنثة. ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث
256

ليس بحقيقي، ومع ذلك قد وقع فصل بين الفعل، والفاعل.
قوله تعالى: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة
ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا
عظيما) (74) - آية -.
لما أخبر الله تعالى في الآية الأولى ان قوما من المنافقين يثبطون المؤمنين عن
جهاد العدو والقتال في سبيل الله، حث في هذه الآية على الجهاد، بأن قال:
لا تلتفتوا إلى تثبيط المنافقين، وقاتلوا في سبيل الله بائعين للدنيا بالآخرة، إذ لكم
بذلك أعظم الاجر وأكبر الحظ. وقال الزجاج: فليكن من الذين يقاتلون في سبيل
الله أو عمن كان بينه وبينكم عقد مودة. ومعنى (يشرون الحياة الدنيا بالآخرة)
يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة. وبيعهم إياها بالآخرة هو استبدالهم إياها بالآخرة
ببذلهم أنفسهم، وأموالهم في سبيل الله، وبتوطين أنفسهم على الجهاد في طاعة الله.
يقال: شريت بمعنى بعت. واشتريت: ابتعت. ويشرون: يبيعون - في
قول الحسن، والسدي، وابن زيد، وجميع أهل اللغة -. قال يزيد بن مفرغ:
وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامة
وبرد اسم غلامه. وشريته بمعنى بعته. وفي الآية حذف. والتقدير يشرون
الحياة الدنيا بالحياة الآخرة. كأنه قال: يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية.
ويجوز يبيعون الحياة الدنيا بنعيم الآخرة، ثم قال: (ومن يقاتل في سبيل الله
فيقتل أو يغلب).
فالوعد على القتال، لاعلى القتل، والغلبة. وقوله: " فيقتل " عطف على
يقاتل. ولذلك جزمه والجواب قوله: " فسوف نؤتيه " وإنما قال: أو يغلب، لان
الوعد على القتال حتى ينتهي إلى تلك الحال، لأنه أعظم الجهاد. وعليه أعظم الاجر.
257

والاجر العظيم هو أعلى أثمان العمل. وذلك أن ثمن العمل على ثلاثة أوجه. ثمن
أعلى، وثمن أدنى، وثمن أوسط بينهما فالله تعالى يثامن عليه بالثمن الأعظم الاعلى، فلذلك
حسن وصف الاجر بالعظم من غير تقييد له، إذ كان لا ثمن أعظم مما يثامن الله
عليه في ذلك العمل.
قوله تعالى:
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال
والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم
أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) (75) - آية -.
المعنى والاعراب:
معنى قوله: " وما لكم " أي شئ لكم. و " لا تقاتلون " في موضع الحال
كأنه قال: أي شئ لكم تاركين، أي في حال القتال مع هذه الأمور التي
تقتضي الحرص على الجهاد، أي لا عذر لكم ألا تقاتلوا في سبيل الله، ومثله
قوله: " فما لهم عن التذكرة معرضين " (1) وقوله: " والمستضعفين " خفض
بالعطف على ما عملت فيه (في) وتقديره في المستضعفين. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - وعن المستضعفين، فوقع (في) موقع (عن) فإذا ذكرت (عن)
فلصرف الأذى عنهم إذ كانت لما عدا الشئ وإذا ذكرت (في) فلان القتال مضمن
بهم، لخلاصهم، إذا كانت في للوعاء.
الثاني - أن يكون على محذوف، وتقديره وفي اعزاز المستضعفين، وقد
قال المبرد: هو عطف على اسم الله بتقدير، وسبيل المستضعفين " من الرجاء والنساء
والوالدان ".

(1) سورة المدثر: آية 50
258

اللغة والمعنى:
والوالدان جمع ولد على مثال خرب وخربان، وبرق وبرقان، وورل وورلان، مثل
ولد وولدان، وهو من أبنية الكثير، والأغلب على بابه فعال نحو جبال وجمال.
وقوله: " الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " قال ابن عباس
والحسن وابن أبي نجيح، والسدي ومجاهد وابن زيد: إنها مكة، لان أهل مكة
كانوا قد اجتهدوا أن يفتنوا قوما من المؤمنين عن دينهم، والأذى لهم وكانوا
مستضعفين في أيديهم. وقال تعالى " ما لكم " لا تسعون في خلاصهم. وهم
يسمون كل مدينة قرية، وإنما جاز أن يجري صفة ظالم على الأول وهو في المعنى
للثاني، لأنها قوية في العمل لقربها من الفعل متمكنة من الوصف بأنها تصرف
تصرفه في التأنيث والتذكير والتثنية، والجمع، خلاف باب أفعل منك، فلذلك جاز
مررت برجل ظالم أبوه، ولم يجز مررت برجل خير منه أبوه. والولي القيم بالامر
حتى يستنقذهم من أمر أعدائهم، لأنه يتولى الامر بنفسه، ولا يكله إلى غيره.
وحكى أبو علي ان منهم سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة
وأبو جندل بن سهيل، وإنما قال: (يقولون.. الظالم أهلها) وإن كان فيهم الولدان
لا ينطقون تغليبا للأكثر، كقولك قال أهل البصرة، وإن كان قولا لبعضهم.
قوله تعالى:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا
يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان
كان ضعيفا) (76) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الذين صدقوا بالله، ورسوله يقاتلون في
سبيل الله، وفي معنى سبيل الله قولان:
259

أحدهما - طاعة الله، لأنها تؤدي إلى ثواب الله في جنته التي أعدها لأوليائه.
الثاني - قال أبو علي: إنه دين الله الذي شرعه الذي يؤدي إلى ثوابه ورحمته.
وتقديره في نصرة دين الله، ثم قال: " والذين كفروا " يعني الذين جحدوا آيات
الله الدالة على توحيده، ونبوة نبيه. وقوله: " يقاتلون في سبيل الطاغوت " قد فسرناه
فيما مضى. فقال قوم: هو الشيطان. وقال آخرون: هو ما عبد من دون الله. والأول
قول الحسن والشعبي. والثاني حكاه الزجاج.
وقال أبو العالية: هو الكاهن. وهو يؤنث ويذكر قال
الله تعالى: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به " (1)
فذكره وقال: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها " (2) فأنث قال أبو عبيدة
هو ههنا في موضع جماعة، كما قال: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " (3)
وكان المراد به الجنس. وقوله: " فقاتلوا أولياء الشيطان " يقوي قول من قال:
المراد بالطاغوت الشيطان. وقوله: " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " إنما دخلت
(كان) ههنا مؤكدة لتدل على أن الضعف لكيد الشيطان لازم في جميع الأوقات فيما مضى،
والحال، والمستقبل. وليس هو عارضا في حال دون حال.
والكيد السعي في فساد الحال على وجه الاحتيال تقول كاده يكيده كيدا،
فهو كائد له. إذا عمل في ايقاع الضرر به على وجه الحيلة عليه. وإنما وصف تعالى
كيد الشيطان، بالضعف لامرين:
أحدهما - لضعف نصرته، لأوليائه بالإضافة إلى نصرة الله المؤمنين - ذكره
الجبائي - وقال الحسن: أخبرهم أنهم سيظهرون عليهم، فلذلك كان ضعيفا.
الثاني - لضعف دواعي أوليائه إلى القتال بأنها من جهة الباطل إذ لا نصير
لهم. وإنما يقاتلون بما تدعو إليه الشبهة. والمؤمنون يقاتلون بما تدعو إليه الحجة.

(1) سورة النساء: آية 59.
(2) سورة الزمر: آية 17.
(3) سورة المائدة: آية 4.
260

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون
الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال
لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير
لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) (77) - آية بلا خلاف -.
القراءة، والحجة:
قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، والحلواني عن هشام ولا
يظلمون بالياء. الباقون بالتاء. فمن قرأ بالياء حمل الكلام على لفظ الغيبة ومن
قرأ بالتاء فعلى المواجهة.
النزول:
وقيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والسدي: انها
نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله قال ابن عباس: منهم عبد الرحمن
ابن عوف. وهم بمكة في قتال المشركين. فلم يأذن لهم: فلما كتب عليهم القتال.
وهم بالمدينة قال فريق منهم ما حكاه الله في الآية. فان قيل: كيف. وز ذلك،
والله تعالى يقول: " كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فامرهم بإقامة
الصلاة وايتاء الزكاة، ولم تكن الزكاة فرضت بمكة؟ قيل: قد قال البلخي في ذلك:
إنه يجوز أن يكون قوم من المنافقين عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك والأقوى
عندي أن يكون الله قال ذلك على وجه الندب، والاستحباب دون الزكاة المقدرة
على وجه مخصوص.
261

الثاني - قال مجاهد: نزلت في اليهود. نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا
مثل صنيعهم.
المعنى:
قوله: (ألم تر) معناه ألم ينته علمك إلى هؤلاء تعجيبا من ذلك. ولو قال:
ألم تر هؤلاء أو ألم تعلم هؤلاء لم يظهر فيه معنى التعجب منهم كما يظهر ب (إلى)،
لأنها تؤذن بحال بعيدة قد لا ينتهي إليها، لبعدها، لما فيها من العجب الذي يقع
بها. وقوله: (الذين قيل لهم كفوا أيديكم) يعني حين طلبوا القتال وقيل لهم:
اقتصروا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (فلما كتب عليهم القتال) يعني الجهاد
(إذا فريق منهم) يعني جماعة (يخشون الناس كخشية الله) قال الحسن: هو
من صفة المؤمنين لما طبعوا عليه من البشرية والخوف، لا على وجه كراهة المخالفة.
وقال أبو علي: هومن صفة المنافقين، لأنهم كانوا كذلك حرصا منهم على الدنيا
والبقاء فيها والاستكثار منها وقال يخشون القتل من قبل المشركين كما يخشون
الموت من قبل الله. وقوله: (أو أشد خشية) ليس معنى (أو) ههنا الشك،
لان ذلك لا يجوز عليه تعالى. وقيل في معناها قولان:
أحدهما - أنها دخلت للابهام على المخاطب. والمعنى أنهم على احدى الصفتين.
وهذا أصل (أو) وهو معنى واحد على الابهام.
الثاني - على طريق الإباحة نحو قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين.
ومعناه إن قلت يخشون الناس كخشية الله فأنت مصيب، وان قلت يخشونهم
أشد من ذلك فأنت مصيب لأنه قد حصل لهم مثل تلك الخشية وزيادة. وقولهم:
" لم كتبت علينا القتال " معناه ألزمتنا وأوجبت علينا.
وقوله: (لولا أخرتنا) معناه هلا أخرتنا " إلى أجل قريب وهو إلى
أن نموت بآجالنا فأعلمهم الله تعالى أنه متاع الدنيا قليل، وأن الآخرة خير لأهل
التقى وأعلمهم أن آجالهم لا تخطئهم " ولا يظلمون فتيلا " أي لا يبخسون هذا
262

القدر، وكيف ما زاد عليه. والفتيل: ما تقتله بيدك من الوسخ ثم تلقيه في قول
ابن عباس. وقيل: هو ما في شق، النواة، لأنه كالخيط المفتول في شق النواة.
قوله تعالى:
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة
وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة
يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم
لا يكادون يفقهون حديثا) (78) - آية بلا خلاف -.
اللغة والمعنى:
أعلمهم الله تعالى في هذه الآية أن الآجال لا تخطئهم، ولا تنفعهم الخشية
من القتل ولو كانوا في بروج مشيدة، وأينما كانوا من المواضع أدركهم الموت بمعنى
أصابهم. " وأينما " كتبت موصولة. وفي قوله: " ان ما توعدون " مفصولة،
لان الأولى زائدة.
والثاني - بمعنى الذي ففصلت هذه كما تفصل الأسماء، ووصلت تلك كما توصل
الحروف. وقيل في معنى البروج ثلاثة أقوال:
أحدها - قال مجاهد، وابن جريج: هي القصور.
الثاني - قال السدي، والربيع: هي قصور في السماء، بأعيانها. وقال الجبائي:
هي البيوت التي تكون فوق الحصون. وأصل البروج الظهور. يقال تبرجت المرأة:
إذا أظهرت محاسنها. والبرج - في العين - اتساعها لظهورها بالاتساع. والمشيدة:
المزينة بالجص. وهو الشيد. قال الجبائي: معناه المجصصة. وقال الزجاج، وغيره:
معناه المطولة في ارتفاع. وقال قوم: المشدد، والمخفف سواء إلا من جهة تكثير
الفعل. وقال آخرون: المشيدة بالتشديد - المطولة. والمشيدة بالتخفيف - المطلية
بالجص والنورة. والشيد رفع البناء. تقول شاد بناء يشيده شيدا: إذا رفعه.
263

والشيد: الجص، لأنه مما يرفع به البناء. ويجوز أشاد الرجل بناءه. فأما بالذكر
فتقول أشاد بذكره لا غير: إذا رفع منه.
وقوله: (وان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة
يقولوا هذه من عندك) حكاية عن المنافقين، وصفة لهم. في قول الحسن، وأبي علي
وأبي القاسم. وقال الزجاج: قيل: هو في صفة اليهود. وبه قال الفراء. وذلك أن
اليهود، لما قدم النبي صلى الله عليه وآله المدينة، فكانوا إذا زكت ثمارهم، واخصبوا، قالوا
هذا من عند الله، فإذا أجدبوا، وخاست ثمارهم، قالوا هذا لشؤم محمد صلى الله عليه وآله. وفي
معنى الحسنة، والسيئة ههنا قولان:
قال ابن عباس، وقتادة، وأبو العالية: هو السراء والضراء والبؤس.
والرخاء، والنعمة والمصيبة، والخصب، والجدب. وقال الحسن، وابن زيد:
هو النصر، والهزيمة. وقوله: (من عندك) قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن زيد: معناه بسوء تدبيرك.
والثاني - قال الجبائي، والبلخي، والزجاج. أي بشؤمك الذي لحقنا كما
حكي عن قوم موسى (وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) فامر الله تعالى
نبيه أن يقول: إن جميع ذلك من عند الله، ثم قال: " فما لهؤلاء القوم لا يكادون
يفقهون حديثا " قال الفراء: (مال) كثرت في الكلام حتى توهموا أن اللام متصلة بما،
وانها حرف واحد، ففصلوا اللام بما خفضت في بعض المواضع، ووصلوها في بعض
المواضع. والاتصال الوجه. والوقف عل اللام، لا يجوز، لأنها لام الخفض.
والمعنى أي شئ لهؤلاء القوم، لا يفقهون حديثا، أي لا يفهمون معناه. تقول: فقه
الرجل يفقه فقها والاسم الفقيه: وصار بعرف الاستعمال علما على علم الفقهاء من
علوم الدين. وفقه الرجل يفقه فقها: إذا صار فقيها. وأفقهته: أفهمته والتفقه:
تعلم الفقه وتفاقه: إذا تعاطى ليرى انه فقيه. وليس هو كذلك. ومثله تعالم وقيل:
معنى الحديث ههنا القرآن. وقوله: (لا يكادون) معناه لا يقاربون فيه معنى
الحديث الذي هو القرآن، لأنهم بعيدون منه باعراضهم عنه، وكفرهم به ولا
264

يفهمون ان ما ذكرناه من السراء، والضراء، والشدة والرخاء على ما وصفناه.
قوله تعالى:
(ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن
نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا) (79) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
قال الزجاج: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله. والمراد به الأمة. كما قال
(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) (1) فان المراد به الأمة. وقال قوم: المخاطب به
الانسان، كأنه قال: ما أصابك أيها الانسان - في قول قتادة، والجبائي -. وقيل في
معنى الحسنة والسيئة ههنا قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، والحسن: الحسنة ما أصابه يوم بدر من الظفر،
والغنيمة. والسيئة ما أصابه يوم أحد من كسر رباعيته صلى الله عليه وآله، والهزيمة. وقال
الجبائي: معناهما النعمة، والمصيبة. ويدخل في النعمة نعمة الدنيا، والدين. وفي
المصيبة مصائب الدنيا، والدين إلا أن أحدهما من عمل العبد للطاعة، وما جر إليه
ذلك العمل.
والآخر - من عمل العبد للمعصية وما جر إليه عمله لها. وهذا يوافق الأول
الذي حكيناه عمن تقدم.
والثاني - ان الحسنة، والسيئة: الطاعة، والمعصية - ذكره أبو العالية،
وأبو القاسم - ويكون المعنى ان الحسنة التي هي الطاعة بأقدار الله، وترغيبه فيها،
ولطفه لها. والسيئة بخذلانه على وجه العقوبة له على المعاصي المقدمة. وسماه سيئة
كما قال: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (2) والتقدير ما أصابك من ثواب حسنة

(1) سورة الطلاق: آية / 1
(2) سورة الشورى: آية 40.
265

فمن الله، لأنه الذي عرضك للثواب، وأعانك عليها. وما أصابك من عقاب سيئة
فمن نفسك، لأنه تعالى نهاك عنها، وزجرك عن فعلها. فلما ارتكبتها كنت الجاني
على نفسك. وإنما احتاج إلى التقدير، لان ما أصابك ليس هو ما أصبته. ويجوز
أن يكون المراد بالسيئة ما يصيبهم في دار الدنيا من المصائب، لأنه لا يجوز أن
يكون ذلك عقابا أو بعض ما يستحقونه. وقوله: " فمن نفسك " معناه فبذنبك
في قول الحسن، وقتادة، والسدي، وابن جريج، والضحاك. قال البلخي: مصيبة
هي كفارة ذنب صغير، أو عقوبة ذنب كبير. ويحتمل أن يكون المراد أو تأديب
وقع لأجل تفريط. فان قيل: كيف عاب قول المنافقين في الآية الأولى، لما قالوا
إذا أصابتهم حسنة انها من عند الله، وإذا إصابتهم سيئة، قالوا هذه من عندك.
وقد أثبت مثله في هذه الآية؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - ان ذلك على وجه الحكاية. والتقدير يقولون: ما أصابك من
حسنة، فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. ويكون (يقولون) محذوفا،
لدلالة سياق الكلام عليه.
الثاني - ان معناهما مختلف، فالأول عند أكثر أهل العلم ان المراد به النعمة،
والمصيبة من الله تعالى. وفي الآية الثانية المراد به الطاعة، والمعصية. فلما اختلف
معناهما، لم يتناقضا. ويكون وجه ذكر هذه الآية عقيب الأولى ألا يظن ظان ان
الطاعات والمعاصي من فعل الله، لما قال في الآية الأولى: (قل كل من عند الله)
وفي الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة، لأنه تعالى قال: " فمن نفسك " فأضاف
المعصية إلى العبد ونفاها عن نفسه تعالى. ولو كانت من خلقه، لكانت منه على
أوكد الوجوه. ولا ينافي ذلك قوله في الآية الأولى " كل من عند الله " لأنا
بينا وجه التأويل فيه. قال الرماني: وفي الآية دلالة على أنه تعالى، لا يفعل الألم
إلا على وجه اللطف، أو العقاب دون العوض فقط، لان المصائب إذا كانت كلها
من قبل ذنب العبد، فهي اما عقوبة، واما من قبل تأديب المصلحة.
وقوله: (وأرسلناك للناس رسولا) معناه من الحسنة ارسالك يا محمد (صلى
266

الله عليه وآله) ومن السيئة خلافك يا محمد صلى الله عليه وآله وكفى بالله شهيدا لك وعليك.
والمعنى وكفى الله. وقوله: (ما أصابك من حسنة) معنى " من " هنا للتبيين
ولو قال: إن أصابك من حسنة كانت زائدة لا معنى لها.
الاعراب والحجة:
(ورسولا) نصب بأرسلناك، وإنما ذكره تأكيدا لان أرسلناك دل على
أنه رسول، " وشهيدا " نصب على التمييز، لأنك إذا قلت كفى الله ولم تبين في
أي شئ الكفاية كنت مبهما. وقوله: " وما أصابك من سيئة فمن نفسك " دخلت
الفاء في الجواب لان معنى (ما) من وادخل من على السيئة، لان ما نفي و (من)
يحسن ان تزاد في النفي مثل ما جاءني من أحد.
قوله تعالى:
(من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك
عليهم حفيظا) (80) - آية -.
بين الله تعالى بهذه الآية أن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله طاعة
الله. وإنما كان كذلك، لان طاعة الرسول بأمر الله، فهي طاعة الله على الحقيقة،
وبإرادته وان كانت أيضا طاعة للنبي من حيث وافقت ارادته المستدعية للفعل. فاما
الامر الواحد، فلا يكون من آمرين كما لا يكون فعل واحد من فاعلين.
وقوله: (ومن تولى) أي اعرض ولم يطع " فما أرسلناك عليهم حفيظا "
وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن زيد: حافظا لهم من التولي حتى يسلموا.
والثاني - حافظا لاعمالهم التي يقع الجزاء عليها، لان الله تعالى هو المجازي
عليها.
الثالث - قال أبو علي: حافظا لهم من المعاصي حتى لا تقع. قال ابن زيد:
267

هذا أول ما بعث، كما قيل له: " ان عليك إلا البلاغ " (1) ثم أمر فيما بعد بالجهاد
ووجه جواب الجزاء في قوله: " فما أرسلناك عليهم حفيظا " من المعاصي حتى
لا تقع - في قول أبي علي - وعلى القول الآخر لأنك لم ترسل عليهم حفيظا لاعمالهم التي
يقع الجزاء عليها، فتخاف أن لا تقوم بها. وفي الآية دلالة على أن الرسول
لا يأمر بالخطأ، لان الله تعالى جعل طاعته طاعة نفسه. والله لا يأمر بالخطأ بلا
خلاف.
النظم:
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها انه لما ذكر الحسنة التي هي نعمة من الله،
بين أن منها ارسال نبي الله ثم بين أن منها طاعة الرسول التي هي طاعة الله. فهو في
ذكر نعم الله مجملة، ومفصلة. وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وآله في تولي الناس عنه وعن
الحق الذي جاء به، مع تضمنها تعظيم شأنه بكون طاعته طاعة الله.
قوله تعالى:
(ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم
غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فاعرض عنهم وتوكل على
الله وكفى بالله وكيلا) (81) - آية بلا خلاف -.
قرأ أبو عمر بادغام التاء في الطاء. وبه قرأ حمزة: والباقون بالاظهار والفتح.
وفرق الكسائي بين بيت طائفة فاظهر في الفعل وادغم في الاسم إذا قال بيتت
طائفة. قال المبرد، والزجاج: لا وجه لذلك، بل هما سواء. وإنما حسن ادغام التاء
في الطاء، لقرب مخرجهما. ولم يجز إدغام الطاء في التاء، لما فيها من الاطباق.
وكذلك يجوز إدغام الباء في الميم في " تكتب ما يبيتون " ولا يجوز ادغام الميم
في الباء نحو " لا اقسم بهذا البلد " لأنه يخل باذهاب الغنة في ذلك، ولا يخل

(1) سورة الشورى: آية 48.
268

بها في الأول. ويحتمل رفع طاعة وجهين:
أحدهما - أمرنا طاعة.
والثاني - منا طاعة. قال الزجاج: الأول أحسن، لأنه أجمع. ويجوز طاعة
" نصبا " على معنى نطيع طاعة. ولم يقرأ به. ومن القائلون لهذا القول؟ قيل فيه
قولان:
[أحدهما] - قال الحسن، والسدي، والضحاك: هم المنافقون.
الثاني - انهم الذين حكى عنهم انهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية
وقوله: (فإذا برزوا من عندك) يعني خرجوا من عندك بيت طائفة منهم يعني دبر
جماعة منهم ليلا. قال المبرد: التبييت كل شئ دبر ليلا. وقال الجبائي معناه دبروه
في بيوتهم وهذا بعيد لا وجه له في اللغة. قال الرماني: وفيه معنى الاخفاء في
النفس، وكذلك لا يوصف تعالى به. قال عبيدة بن همام: (1)
أتوني فلم أرض ما بيتوا * وكانوا أتوني بشئ نكر
لأنكح أيمهم منذرا * وهل ينكح العبد حر لحر؟! (2)
ومعنى " بيت طائفة منهم غير الذي تقول " [أي غير ما تقول بأن
أضمروا الخلاف فيما أمرتهم به أو نهيتهم عنه - هذا قول ابن عباس، وقتادة:
والسدي. وقال الحسن: قدرت طائفة منهم] (3) غير الذي تقول على جهة التكذيب.
وقوله: (والله يكتب ما يبيتون) فيه قولان:
الأول - نكتبه في اللوح المحفوظ ليجازوا به.
التأني - قال الزجاج: يكتب بان ينزله إليك في الكتاب. ثم أمر الله نبيه

(1) قيل هو أخو بني العدوية من بني مالك بن حنظلة من بني تيم وقيل: عبيد بن همام
التغلبي وقيل غير ذلك.
(2) مجاز القرآن 1: 133، الحيوان 4: 376 الكامل للمبرد 2: 35، 106،
الأزمنة والأمكنة للمرزوقي 1: 263، ديوان الأسود بن يعفر النهشلي: أعشى بني نهشل في
ديوان الاعشيين: 298، واللسان (تكر).
(3) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة. وهو في المخطوطة.
269

بالاعراض عنهم، وألا تسميهم بأعيانهم ابقاء عليم، وبستر أمورهم إلى أن يستقر
أمر الاسلام. وأمره بان يتوكل عليه " وكفى بالله وكيلا " يعني حفيظا، لما
يجب تفويضه إليه من التدبير. وأصل الوكيل القائم بما فوض إليه من التدبير.
ومعنى بيت اضمر. وأصله إحكام الامر ليلا من البيات.
قوله تعالى:
(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا
فيه اختلافا كثيرا) (82) - آية -.
المعنى:
هذا الآية تدل على أربعة أشياء:
أحدها - على بطلان التقليد، وصحة الاستدلال في أصول الدين، لأنه
حث ودعا إلى التدبر. وذلك لا يكون إلا بالفكر والنظر.
والثاني - يدل على فساد مذهب من زعم أن القرآن، لا يفهم معناه إلا
بتفسير الرسول له من الحشوية، والمجبرة، لأنه تعالى حث على تدبره، ليعلموا به.
الثالث - يدل على أنه لو كان من عند غير الله، لكان على قياس كلام العباد
من وجود الاختلاف فيه.
الرابع - تدل على أن المتناقض من الكلام ليس من فعل الله، لأنه لو كان
من فعله، لكان من عنده، لامن عند غيره.
اللغة:
والتدبر: هو النظر في عواقب الأمور. وأصله الدبر. والتدابر: التقاطع،
لان كل واحد يولي الآخر دبره، بعداوته له. ودبر القوم يدبرون دبارا: إذا
هلكوا، لأنهم يذهبون في جهة الادبار عن الغرض. وادبر القوم: إذا ولى أمرهم
270

عن الرشد. والدبر: النحل. والدبر: المال الكثير. والتدبير: اصلاح الامر لعاقبة.
وفي الحديث " لا تدابروا " أي لا تكونوا أعداء. والفرق بين التدبر والتفكر ان
التدبر تصرف القلب بالنظر في العواقب، والتفكر تصرف للقلب بالنظر في الدلائل.
والاختلاف: هو امتناع أحد الشيئين أن يسد مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته
كالسواد الذي لا يسد مسد البياض، وكذلك الذهاب في الجهات المختلفة جهة
الخلف، والقدام واليمين، والشمال. وقيل في معنى الاختلاف ههنا ثلاثة أقوال:
أحدها - قال أبو علي من جهة بليغ، ومرذول. وقال الزجاج: الاختلاف
في الاخبار بما يسرون.
الثالث - قال قتادة، وابن زيد: اختلاف تناقض من جهة حق، وباطل.
والاختلاف على ثلاثة اضرب: اختلاف تناقض، واختلاف تفاوت، واختلاف
تلاوة. وليس في القرآن اختلاف تناقض، ولا اختلاف تفاوت، لان اختلاف
التفاوت هو في الحسن والقبح، وأخطأ والصواب، ونحو ذلك مما تدعو إليه
الحكمة أو يصرف عنه. وأما اختلاف التلاوة، فهو ما تلاءم في الحسن، فكله
صواب، وكله حق. وهو اختلاف وجوه القراءات واختلاف مقادير الآيات والسور
واختلاف الاحكام في الناسخ والمنسوخ. ومن اختلاف التناقض ما يدعو فيه أحد
الشيئين إلى فساد الآخر. وكلاهما باطل. نحو مقدارين وصف أحدهما بأنه أكبر
من الآخر ووصف الآخر بأنه أصغر منه، فكلاهما باطل إذ هو مساو له. وفي
الناس من قال: انتفاء التناقض عن القرآن إنما يعلم أنه دلالة على أنه من فعل الله،
لما أخبرنا الله تعالى بذلك. ولولا أنه تعالى أخبر بذلك كان لقائل أن يقول (1): إنه
يمكن أن يتحفظ متحفظ في كلامه ويهذبه تهذيبا، لا يوجد فيه شئ من التناقض
وعلى هذا لا يمكن أن يجعل ذلك جهة اعجاز القرآن قبل أن يعلم صحة السمع،
وصدق النبي صلى الله عليه وآله.

(1) في المطبوعة (يكون) بدل (يقول).
271

قوله تعالى:
(وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو
ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)
(83) - آية -.
أخبر الله تعالى عن المنافقين، الذين تقدم وصفهم بأنهم إذا جاءهم " أمر من
الامن أو الخوف " وهو ما كان يرجف به من الاخبار في المدينة: اما من قبل
عدو يقصدهم أو يظهر المؤمنين على عدوهم، أو هلاك بعض أعدائهم وهو الامن.
والأول: الخوف أذاعوا به، وتحدثوا به من غير أن يعلموا صحته، فكره تعالى
ذلك، لان من فعل هذا لا يخلو كلامه من الكذب. ولما يدخل على المؤمنين به من الخوف
ومعنى أذاعوا به: أعلنوه، وأفشوه في قول ابن عباس، والحسن، وقتادة،
وابن حريج وأصله إشاعة الخبر في الجماعة.
اللغة:
يقال: أذاعه إذاعة وأذاعوا به قال الشاعر:
أذاع به في الناس حتى كأنه * بعلياء نار أوقدت بثقوب (1)
وأصل الإذاعة التفريق. قال تبع: لما ورد المدينة:
ولقد شربت على براجم شربة * كادت بباقية الحياة تذيع (2)
أي تفرق. وبراجم: ماء بالمدينة كان يشرب منه، فنشبت (3) بحلقه

(1) قائله أبو الأسود الدؤلي. اللسان (ذيع) ومجاز القرآن 1: 133 والأغاني
12: 305.
(2) لم نجده في مصادرنا.
(3) في المطبوعة (فشبت) وفي مجمع البيان (فتشبثت). وقد أثبتنا ما في المخطوطة.
272

علقة. وذاع الخبر ذيعا. ورجل مذياع: لا يستطيع كتمان خبر. وأذاع الناس بما
في الحوض: إذا شربوه. وكذلك أذاعوا بالمتاع: إذا ذهبوا به. وإذاعة السر:
اظهاره. والإذاعة، والإشاعة، والافشاء، والاعلان، والاظهار، نظائر وضده
الكتمان، والاسرار، والاخفاء.
المعنى:
ثم قال: (ولو ردوه إلى الرسول) بمعنى لو ردوه إلى سنته " وإلى أولي
الامر منهم ". قال أبو جعفر (ع): هم الأئمة المعصومون. وقال ابن زيد، والسدي،
وأبو علي: هم امراء السرايا، والولاة، وكانوا يسمعون باخبار السرايا ولا يتحققونه
فيشيعونه ولا يسألون أولي الامر. وقال الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن أبي
نجيح، والزجاج: هم أهل العلم، والفقه الملازمين للنبي صلى الله عليه وآله، لأنهم لو سألوهم
عن حقيقة ما أرجفوا به، لعلموا به. قال الجبائي: هذا لا يجوز، لان أولي الامر
من لهم الامر على الناس بولاية والأول أقوى، لأنه تعالى بين أنهم متى ردوه
إلى أولي العلم علموه. والرد إلى من ليس بمعصوم، لا يوجب العلم لجواز الخطأ
عليه بلا خلاف سواء كانوا امراء السرايا، أو العلماء. وقوله: " يستنبطونه "
قال ابن عباس، وأبو العالية: معناه يتحسسونه. وقال الزجاج: يستخرجونه.
اللغة والاعراب والمعنى:
والاستنباط، والاستخراج، والاستدلال، والاستعلام، نظائر، وأصل
الاستنباط الاستخراج. يقال لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العين، أو معرفة القلب: قد استنبط. والنبط الماء يخرج من البئر أول ما تحفر. وانبط
فلان أي استنبط الماء من طين حر. ومنه اشتقاق النبط، لاستنباطهم العيون.
والضمير في قوله: " منهم " يحتمل أن يعود إلى أحد أمرين:
أحدهما - وهو الأظهر انه عائد إلى أولي الامر.
273

والآخر - إلى الفرقة المذكورة من المنافقين، أو الضعفة.
وقوله: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) معناه لولا اتصال مواد الألطاف
من جهة الله، " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " وقيل فيما وقع الاستثناء منه: أربعة
أقوال:
أحدها - " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " منكم، فإنه لم يكن يتبع الشيطان.
ويكون الفضل ههنا بالنبي صلى الله عليه وآله، والقرآن - في قول الضحاك -، وهو اختيار الجبائي.
الثاني - لاتبعتم الشيطان إلا قليلا من الاتباع. ويكون الفضل على جملة
اللطف، لان ذلك لم يكن يزكو به أحد منهم.
الثالث - قال الحسن، وقتادة. وذكره الفراء، لعلمه الذين يستنبطونه منهم
إلا قليلا.
الرابع - قال ابن عباس، وابن زيد: أذاعوا به إلا قليلا هو اختيار
الكسائي والفراء والمبرد والبلخي والطبري. وتقديره يستنبطونه منهم إلا قليلا.
قال المبرد: لان العلم بالاستنباط في الناس أقل. وليس كذلك الإذاعة. وغلط
الزجاج النحويين في ذلك. وقال: كل هذه الأقوال جائزة. وقال قوم حكاه الطبري:
ان مخرجه الاستثناء. وهو دليل الجمع، والإحاطة. والمعنى انه لولا فضل الله لم ينج
أحد من الضلالة. فجعل قوله: " إلا قليلا " دليلا على الإحاطة كما قال الطرماح
يمدح بزيد بن المهلب:
قليل المثالب والقادحة (1)
والمعنى انه لا مثالب.

(1) ديوانه: 139 وصدره:
أشم كثير يدي النوال
يدي - بضم الياء وكسر الدال وتشديد الياء - أو - بفتح الياء وكسر الدال وتشديد الياء -
جمع (يد).
274

قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض
المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا
وأشد تنكيلا) (84) - آية بلا خلاف -.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله خاصة أمره الله أن يقاتل في سبيل الله وحده بنفسه.
وقوله: " لا تكلف إلا نفسك " ومعناه لا تكلف إلا فعل نفسك، لأنه لا ضرر
عليك في فعل غيرك فلا تهتم بتخلف المنافقين عن الجهاد فعليهم ضرر ذلك، وليس
المراد لا يأمر أحدا بالجهاد. وإنما أراد ما قلناه ألا ترى أنه قال " وحرض المؤمنين "
على القتال يعني حثهم على الجهاد. وفي ذلك دلالة على أنه لا يجوز أن يؤاخذ الله
الأطفال بكفر آبائهم ويؤيده قوله: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " لان مفهوم
هذا الكلام أنه لا يجوز أن تؤخذ بذنب غيرك. والفاء في قوله: " فقاتل في سبيل
الله " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أن يكون جوابا لقوله: (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو
يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) (1) هكذا ذكره الزجاج، لأنه محمول على المعنى
من حيث دل على معنى إن أردت الفوز، فقاتل.
الثاني - أن يكون متصلا بقوله: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) (2)
فقال في سبيل الله. كذا ذكره الزجاج ووجهه لاحظ لك في ترك القتال فتتركه،
ثم وضع فقاتل موضع فتتركه. وقوله: " وحرض المؤمنين " معناه حثهم " عسى
الله أن يكف " قال الحسن، والبلخي، والزجاج: إن (عسى) من الله واجب
ووجه ذلك ان أطماع الكريم انجاز وإنما الأطماع تقوية أحد الامرين على الآخر
دون قيام الدليل على التكافؤ في الجواز. وخرج (عسى) في هذا من معنى الشك

(1) سورة النساء آية: 74.
(2) سورة النساء آية: 75.
275

كخروجها في قول القائل: أطع ربك في كل ما أمرك به، ونهاك عنه عسى (1) ان
تفلح بطاعتك. ومعنى " أن يكف بأس الذين كفروا " ان يمنع شدة الكفار، ثم
قال: " والله أشد بأسا وأشد تنكيلا " فالبأس: الشدة (2) في كل شئ ومعنى التنكيل
قال الحسن، وقتادة: هو العقوبة. وقال أبو علي الجبائي: هو الشدة بالأمور
الفاضحة (3) ونكل به، وشوه به، وندد به نظائر. وأصله النكول: وهو
الامتناع للخوف. نكل عن اليمين، وغيرها ينكل نكولا. والنكال: ما يمتنع به من
الفساد خوفا من مثله من العذاب. والنكل القيد.
قوله تعالى:
(من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن
يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ مقيتا)
(85) - آية -.
المعنى واللغة:
قيل في معنى الشفاعة ههنا قولان:
أحدهما - قال أبو علي: الشفاعة الحسنة: الدعاء للمؤمنين. والشفاعة السيئة:
الدعاء عليهم، لان اليهود كانت تفعل ذلك فتوعدهم الله تعالى عليه. وقال الحسن،
ومجاهد، وابن زيد: الشفاعة هي مسألة الانسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته.
وقال الأزهري معنى " من يشفع شفاعة حسنة " من يزد عملا إلى عمل. والشفع:
الزيادة. سئل تغلب عن اشتقاق الشفعة، فقال: الزيادة وهو أن يشفعك في ما تطلبه
حتى تضمه إلى ما عندك، فتشفعه أي تزيده بها إن كان واحدا، فضمت إليه
ما زاد صار شفعا.

(1) (عسى) ساقط من المطبوعة.
(2) في المطبوعة (الشهرة) بدل (الشدة) وهو تحريف.
(3) في المخطوطة (بالامر الفاصم).
276

وعندنا ان حقيقة الشفاعة هي المسألة في اسقاط الضرر. وإنما تستعمل في
مسألة المنافع مجازا، لان أحدا لا يقول: إنا نشفع في النبي صلى الله عليه وآله إذا سألنا الله
أن نزيد في كراماته، ولو كان الامر على ما قاله الحسن، ومجاهد، لكنا شافعين
فيه. ووجه اتصال هذا الكلام بما تقدم، انه لما قيل " لا تكلف إلا نفسك " عقب
ذلك بان لك مع هذا في دعاء المؤمنين إلى الحق ما للانسان في شفاعة صاحبه بخير
يصل إليه، لئلا يتوهم ان العبد من أجل انه لا يؤخذ بعمل غيره، لا يتزيد فعله
بعمل غيره.
الثاني - ان الشفاعة تصير الانسان شفعا لصاحبه في جهاد عدوه من الكفار.
والكفل: قال الحسن، وقتادة: هو الوزر، وهو قول أبي جعفر (ع). وقال
السدي، والربيع، وابن زيد: هو النصيب. ومنه قوله: " يؤتكم كفلين من
رحمته " وأصل الكفل (1): المركب الذي يهيأ كالسرج للبعير من كسا، أخرق
أو نحوه حول السنام. وإنما قيل كفل، واكتفل البعير، لأنه لم يستعمل الظهر
كله. وإنما استعمل نصيب منه. وقال الأزهري: الكفل الذي لا يحسن ركوب
الفرس. وأصله الكفل: وهو ردف العجز. ومنه الكفاية بالنفس، وبالمال. والكفل
المثل. والمقيت: قيل في معناه خمسة أقوال:
قال السدي، وابن زيد، والكسائي: هو المقتدر.
والثاني - قال ابن عباس، واختاره الزجاج: إنه الحفيظ.
والثالث - قال مجاهد: هو الشهيد.
والرابع - المقيت: الحسيب عنه.
والخامس - قال الجبائي: هو المجازي كأنه قال: وكان الله على كل شئ من
الحسنات، والسيئات مجازيا. وأصل المقيت: القوت، قاته يقوته قوتا: إذا أعطاه
ما يمسك رمقه. والمقيت: المقتدر لاقتداره على ما يمسك رمقه. يقال منها قات
الرجل يقيت اقاتة حكاه الكسائي وينشد للزبير بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله:

(1) في المطبوعة (وأهله) بدل (وأصل).
277

وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا (1)
فهذه لغة قريش. وقال كثير:
وما ذاك عنها عن نوال أناله * ولا انني منها مقيت على ود
أي مقتدر فاما قول اليهودي:
ألي الفضل أم علي إذا حوسبت * اني على الحساب مقيت (2)
قيل: ومعناه موقوف. أي كما أن من يحتاج إلى القوت موقوف على سد
خلته. ويحتمل معنى مقيت أي مقتدر على الحساب بتوجيه إلى أنه لي أو علي
بحسب عملي. وقال ابن كثير: المقيت الواصب وهو القائم على كل شئ بالتدبير.
وأقوى الوجوه معنى المقتدر بدلالة البيت الذي للزبير بن عبد المطلب.
قوله تعالى:
" وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله
كان على كل شئ حسيبا " (86) - آية بلا خلاف -.
هذا خطاب من الله تعالى لجميع المكلفين، يأمرهم إذا دعى لهم انسان بطول
الحياة، والبقاء والسلامة، ان يحيوهم بأحسن من ذلك أو يردوا عليهم مثله. قال
النحويون: أحسن ههنا صفة لا ينصرف، لأنه على وزن افعل وهو صفة لا تنصرف
والمعنى حيوا بتحية أحسن منها. والتحية: مفعلة من حييت. ومعناها ههنا السلام
قال السدي: وابن جريج وعطا، وإبراهيم: إنه إذا سلم عليك واحد من المسلمين،
فسلم عليه بأحسن مما سلم عليك. أورد عليه مثل ما قال. وذلك إذا قال السلام
عليك، فقل أنت وعليك السلام ورحمة الله أو تقول كما قال لك. وقال قتادة،
وابن عباس، ووهب: فحيوا بأحسن منها أهل الاسلام، أو ردوها على أهل الكفر

(1) البيت مختلف في نسبته فقيل إنه لأبي قيس بن رفاعة. وقيل لاحيحة بن الجلات
الأنصاري. اللسان (قوت) وطبقات فحول الشعراء: 242 - 243 والدر المنثور 2: 188.
(2) ديوانه: 14 والأصمعيات: 85 ومجاز القرآن 1: 135 وطبقات فحول الشعراء
237. واللسان (قوت).
278

والأول أقوى، لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: إذا سلم عليك أهل الكتاب،
فقولوا وعليكم. وقال الحسن، وجماعة من متقدمي المفسرين: إن السلام تطوع.
والرد فرض، لقوله: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) وذلك
أمر يقتضي الايجاب.
وقوله: (إن الله كان على كل شئ حسيبا) قيل في معنى الحسيب قولان:
أحدهما - قال مجاهد:، وابن أبي نجيح: معنى حسيب حفيظ وقال قوم:
معناه ههنا من قولهم: احسبني الشئ يحسبني احسابا بمعنى كفاني. ومنه قولهم:
حسبي كذا وكذا أي كفاني. وقال بعضهم: الحسيب في هذا الموضع فعيل من
الحساب الذي هو بمعنى الاحصاء يقال منه: حاسبت فلانا على كذا وكذا وهو
حسيبه وذلك إذا كان صاحب حسابه. قال الزجاج: معناه يعطي كل شئ من
العلم والحفظ والجزاء مقدار ما يحسبه أي يكفيه. ومنه قوله: " عطاء حسابا " (1)
أي كافيا. وسمي الحساب حسابا، لأنه يعلم به ما فيه الكفاية وذكر الحسن:
انه دخل على النبي صلى الله عليه وآله رجل، فقال: السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: وعليك
السلام ورحمة الله، ثم دخل آخر فقال. السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي (ص):
وعليك السلام ورحمة الله، وبركاته، ثم دخل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله،
وبركاته، فقال النبي صلى الله عليه وآله: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. قال بعضهم
يا رسول الله كيف هذا فقال النبي صلى الله عليه وآله الأولان بقيا من التحية بقية فرددتها.
وهذا لم يبق منها شيئا فرددت عليه ما قال (2).
قوله تعالى:
(الله لا آله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه
ومن أصدق من الله حديثا) (87) - آية بلا خلاف -.

(1) سورة النبأ: آية 36.
(2) في المطبوعة سقط فظيع في هذا الحديث وقد أثبتنا ما في المخطوطة.
279

قد بينا فيما تقدم معنى الله. وهو الذي تحق له العبادة. وانه من كان قادرا
على خلق أصول النعم التي يستحق بها العبادة. وليس هو عبارة عمن يستحق
العبادة، لأنه لو كان كذلك، لما كان تعالى إلها فيما لم يزل. وإذا ثبت انه موصوف
به فيما لم يزل، دل على أن المراد ما قلناه. وإذا ثبت ذلك، فقد بين تعالى بهذه
الآية انه لا يستحق العبادة سواه. وقوله: " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " اللام
في ليجمعنكم لام القسم كقولك: والله ليجمعنكم. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - ليبعثنكم من بعد مماتكم، ويحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب
الذي يجازي فيه كلا بعمله، ويقضي فيه بين أهل طاعته، ومعصيته.
الثاني - قال الزجاج: معناه ليجمعنكم في الموت وفي قبوركم. وقوله:
" لا ريب فيه " معناه لا شك فيما أخبركم به. من قوله: اني جامعكم يوم القيامة.
وقيل في تسمية ذلك اليوم بالقيامة قولان:
أحدهما - لان الناس يقومون من قبورهم.
الثاني - انهم يقومون للحساب. قال الله تعالى " يوم يقوم الناس لرب
العالمين " (3) وقوله: " ومن أصدق من الله حديثا " تقرير في صورة الاستفهام
ومعناه لا أحد أصدق من الله في الخبر الذي يخبر به من حيث لا يجوز عليه الكذب
في شئ من الأشياء، لأنه لا يكذب إلا محتاج يجتلب به نفعا، أو يدفع به ضررا.
وهما يستحيلان عليه تعالى. فإذا يستحيل عليه الكذب. وإنما يجوز ذلك على من
سواه. فلذلك كان تعالى أصدق القائلين. ونصب حديثا على التمييز كما تقول: من
أحسن من زيد فهما أو خلقا؟
قوله تعالى:
(فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون

(1) سورة المطففين: آية 6.
280

أن تهدوا من أضل الله ومن يظلل الله فلن تجد له سبيلا) (88)
- آية بلا خلاف -.
المعنى والنزول:
خاطب الله تعالى بهذه الآية المؤمنين. فقال: ما شأنكم أيها المؤمنون في أهل
النفاق فرقتين مختلفتين " والله أركسهم بما كسبوا " يعني بذلك والله ردهم إلى أحكام
أهل الشرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم " بما كسبوا " يعني بما كذبوا الله
ورسوله، وكفروا بعد إسلامهم. والاركاس. الرد. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فأركسوا في حميم النار انهم * كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا (1)
قال الفراء: يقال منه أركسهم، وركسهم وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله
وأبي (والله ركسهم) بغير الف. وفيمن نزلت هذه الآية قيل فيه خمسة أقوال:
أحدها - قال قوم نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في الذين
تخلفوا عن رسول الله يوم أحد، وانصرفوا إلى المدينة. وقالوا لرسول الله وأصحابه
لو نعلم قتالا لاتبعناكم. ذكر ذلك زيد بن ثابت.
والثاني - قال مجاهد، وأبو جعفر (ع)، والفراء: إنها نزلت في اختلاف
كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، وأظهروا
للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة، لأنهم استوخموا المدينة، وأظهروا
لهم الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة. فأراد المسلمون أن يأخذوهم
وما معهم فاختلفوا. وقال قوم: لا نفعل ذلك (2) لأنهم مؤمنون. وقال آخرون:
هم مرتدون. فأنزل الله فيهم الآية:
الثالث - قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: بل كان اختلافهم في قوم

(1) ديوانه: 36، وهو هكذا:
اركسوا في جهنم أنهم كانوا * عتاة تقول افكا وزورا
وهو في الدر المنثور 2: 191 هكذا:
اركسوا في جهنم انهم كانوا عتاة * يقولوا مينا وكذبا وزورا
(2) في المطبوعة (ذلك) ساقطة.
281

من أهل الشرك كانوا أظهروا الاسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين،
فقال قوم: دماؤهم، وأموالهم حلال وقال آخرون: لا بل هو حرام.
الرابع - قال السدي نزلت في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنهم نفاقا.
وقالوا للمؤمنين أصابنا جدب وخصاصة نخرج إلى الظهر حتى نتماءل، ونرجع،
فقال قوم: هو منافقون. وقال آخرون: هم مؤمنون.
والخامس - قال ابن زيد: بل نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله في قصة
أهل الافك عبد الله بن أبي، وأصحابه، لما تكلموا في عائشة.
الاعراب:
وقوله: (فئتين) يحتمل نصبه أمرين:
أحدهما - قال بعض البصريين هو نصب على الحال كقولك: مالك قائما.
ومعناه مالك في حال القيام. وقال الفراء: هو نصب على فعل مالكم ولا ينافي (1)
كان المنصوب في مالك: معرفة، أو نكرة. ويجوز أن تقول مالك السائر معنا،
لأنه كالفعل الذي ينصب بكل، وأظن، وما أشبهما قال: وكل موضع صلحت
فيه فعل ويفعل من المنصوب، جاز نصب المعرفة، والنكرة. كما تنصب كان وأظن،
لأنهما نواقص في المعنى. وان ظننت انهن تامات. واختلفوا في معنى أركسهم،
فقال ابن عباس: معناه ردهم. وفي رواية أخرى عنه: أوقعهم. وقال قتادة:
أهلكهم [وقال السدي: معناه أضلهم بما كسبوا. ومعناه أيضا أهلكهم] (2)
وقوله: (أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يظلل الله فلن تجد له سبيلا)
معناه أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الاسلام من أضله الله. ويحتمل معنيين:
أحدهما - أن من وجده الله ضالا، وسماه بأنه ضال، وحكم به من حيث
ضل بسوء اختياره.

(1) في المطبوعة (تبالي) بدل (ينافي).
(2) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.
282

الثاني - أضله الله بمعنى خذله. ولم يوفقه كما وفق المؤمنين، لأنهم لما عصوا
وخالفوا استحقوا هذا الخذلان عقوبة لهم على معصيتهم، فيريدون الدفاع عن
قتالهم مع ما حكم الله بضلالهم وخذلانهم. وقال الجبائي: المعنى ومن يعاقبه الله
على معاصيه، فلا تجد له طريقا إلى الجنة. وطعن على الأول من قول البغداديين ان
المراد به التسمية، والحكم بأن قال: لو أراد ذلك، لقال: ومن ضلل الله وهذا
ليس بشئ، لأنهم يقولون: أكفرته وكفرته، وأكرمته وكرمته: إذا سميته
بالكفر أو الكرم قال الكميت:
فطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا مسيئ ومذنب (1)
ويحتمل أن يكون المراد وجدهم ضلالا، كما قال الشاعر:
هبوني امرأ منكم أضل بعيره
أي وجده ضالا، ثم قال لهم أليس الله قال: ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا
بعيدا " (2) أنرى أراد أن الشيطان يخلق فيهم الضلالة؟ بل إنما أراد يدعوهم إليها
ولا خلاف أن الله تعالى لا يدعو إلى الضلالة، ويقوي قول من قال: المراد به
التسمية. قوله: (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) وإنما أراد ان تسموهم مهتدين
لأنهم كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فحينئذ رد الله عليهم، فقال: لا تختلفوا في
هؤلاء، وقولوا بأجمعكم: إنهم منافقون. ولم يكونوا يدعونهم إلى الايمان، فخالفهم
أصحابهم، فعلم أن الصحيح ما قلناه، ثم أخبر الله تعالى فقال: " ومن يضلل الله
يعني من خذله " فلن تجد له سبيلا " يا محمد ولا طريقا. ومن قال من المجبرة: إن
قوله: " أركسهم بما كسبوا " يدل على أنه أوقعهم في النفاق. فقولهم باطل، لأنه
قال: بما كسبوا، فبين انه فعل بهم ذلك على وجه الاستحقاق. وذلك لا يليق
إلا بما قدمناه، لأنه لو أوقعهم في النفاق (3) لمعصية تقدمت، لكان يجب أن

(1) خزانة الأدب: 236.
(2) سورة النساء: آية 59.
(3) (في النفاق) ساقط من المطبوعة.
283

يكون أوقعهم فيها لمعصية أخرى. وذلك يؤدي إلى ما لا يتناهى أو ينتهي إلى
معصية ابتدأهم بها وذلك ينافي قوله: " بما كسبوا " والفئة الفرقة من الناس.
مأخوذ من فأيت رأسه إذا شققته. الفأو: الشعب من شعاب الجبل. والركس:
الرد إلى الحالة الأولى. ومنه قيل للعذرة، والروث: ركس،
قوله تعالى:
(ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا
منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فان تولوا فخذوهم واقتلوهم
حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) (89) - آية -.
أخبر الله تعالى في هذه الآية عن هؤلاء المنافقين أنهم يودون ويتمنون أن
تكفروا أي تجحدوا وحدانية الله تعالى وتصديق نبيكم كما جحدوا، هم " فتكونون
سواء " يعني مثلهم كفارا تستوون أنتم، وهم في الكفر بالله، ثم نهاهم أن يتخذوا
منهم أولياء، ويستنصحوهم، بل ينبغي أن يتهموهم، ولا ينتصحوهم، ولا
يستنصروهم، ولا يتخذوا منهم وليا ناصرا، ولا خليلا مصافيا " حتى يهاجروا في
سبيل الله " ومعناه حتى يخرجوا من دار الشرك. ويفارقوا أهلها المشركين " في
سبيل الله " يعني في ابتغاء دين الله. وهو سبيله، فيصيروا عند ذلك مثلكم، لهم
مالكم، وعليهم ما عليكم - وهو قول ابن عباس - ثم قال: " فان تولوا " يعني هؤلاء
المنافقين عن الاقرار بالله، ورسوله، وعن الهجرة من دار الشرك، ومفارقة أهله
" فخذوهم " أيها المؤمنون " واقتلوهم حيث وجدتموهم " أي أصبتموهم من
أرض الله.
(ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا) يعني ولا تتخذوا منهم خليلا ولا
ولا ناصرا ينصركم على أعدائكم - وهو قول ابن عباس والسدي -.
284

قوله تعالى:
(إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم
حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله
لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فان يقاتلوكم والقوا إليكم
السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) (90) - آية بلا خلاف.
لما أمر الله تعالى المؤمنين بقتال الذين لا يهاجرون عن بلاد الشرك حيث
وجدوهم، وألا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا استثنى من جملتهم من وصل منهم إلى
قوم بينكم وبينهم موادعة، وعهد وميثاق، فدخلوا فيهم وصاروا منهم. ورضوا
بحكمهم فان لمن وصل إليهم ودخل فيهم راضيا بحكمهم حكمهم في حقن دمائهم بدخوله
فيهم. والمعني بقوله: " إلا الذين يصلون " بنو مدلج، كان سراقة بن مالك بن
جعشم (1) المدلجي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله بعد أحد، فقال له: أنشدك الله والنعمة.
وأخذ منه ألا يغزوا قومه، فان أسلمت قريش أسلموا، لأنهم كانوا في عقد قريش،
فحكم الله فيهم ما حكم في قريش، وحرم منهم ما حرم منهم، ففيهم نزلت هذه
الآية - على ما ذكره بن شبة -. وقال أبو جعفر (ع) قوله تعالى: " إلى قوم
بينكم وبينهم ميثاق " قال: هو هلال بن عويمر السلمي. واثق عن قومه ألا تخفيف
يا محمد من أتاك ولا نخيف من أتانا. وبمثل هذا التأويل قال السدي، وابن زيد،
وعكرمة وقال أبو عبيدة " يصلون " بمعنى ينتسبون إليهم. والعرب تقول قد
اتصل الرجل: إذا انتمى إلى قوم وقال الأعشى يذكر امرأة انتسبت إلى قومها:
إذا اتصلت قالت: ابكر بن وائل * وبكر سبتها والأنوف رواغم (2)
وقد ضعف هذا الجواب، لان تعيين الانتساب لو أوجب إن يكون حكم

(1) في المخطوطة (ابن جعيثم) وفي مجمع البيان (ابن خثعم) وقد أثبتنا ما في المطبوعة
والطبري وأكثر التفاسير، وكتب الرجال.
(2) ديوانه: 81 رقم القصيدة 9. ومجاز القرآن 1: 136، واللسان (وصل).
285

المنتسب حكم من انتسب إليه ممن بينهم وبينهم ميثاق، لوجب ألا يقاتل النبي صلى الله عليه وآله
قريشا، لما بينهم وبين المؤمنين من الانتساب. وحرمة الايمان أعظم من حرمة
الموادعة. فان قيل: هذه الآية منسوخة قيل: لعمري إنها منسوخة لكن لا خلاف
أنها نسخت بقوله في سورة براءة " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وبراءة
نزلت بعد فتح مكة، فكان يجب ألا يقاتل قريشا على دخول مكة وقد علمنا خلافه
وقوله: " أو جاؤكم حصرت صدورهم " قال عمر بن شبة يعني به أشجع فإنهم
قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن دخيلة فاخرج إليهم النبي صلى الله عليه وآله احمال
التمر ضيافة. وقال: نعم الشئ الهدية أمام الحاجة. وقال لهم: ما جاءكم؟ قالوا:
قربت دارنا منك، وكرها جربك، وحرب قومنا، يعنون بني ضمرة الذين بينهم
وبينهم عهد لقلتنا فيهم، فنزلت الآية. وقوله: " جاؤكم حصرت صدورهم " معناه
قد حصرت، لأنه في موضع الحال والماضي إذا كان المراد به الحال قدر معه قد،
كما يقولون: جاء فلان، وذهب عقله. والمعنى قد ذهب عقله. وسمع الكسائي من
العرب من يقول: أصبحت نظرت إلى ذات التنانير بمعنى قد نظرت.
وإنما جاز ذلك، لان قد تدني الفعل من الحال. وقرأ الحسن، ويعقوب
" حصرة صدورهم " منصوبا على الحال. وأجاز يعقوب الوقف بالهاء. وهو
صحيح في المعنى وقراءة القراء بخلافه. ومعنى " حصرت صدورهم " ضاقت عن
أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم وكل من ضاقت نفسه عن شئ من فعل أو كلام
يقال: قد حصر. ومنه الحصر في القراءة وما قلناه معنى قول السدي وغيره.
وقوله: " ولو شاء الله لسلطهم عليكم " مثل قوله: " ولو شاء الله لأعنتكم " (1)
ومعناه الاخبار عن قدرته على ذلك لو شاء لكنه لا يشاء ذلك، بل يلقي في قلوبهم
الرعب حتى يفزعوا، ويطلبوا الموادعة، والمسالمة، ويدخل بعضهم في حلف من
بينكم وبينهم ميثاق وفي ذمتهم، ثم قال: " فان اعتزلوكم " يعني هؤلاء الذين أمرنا
بالكف عن قتالهم من المنافقين بدخولهم في أهل عهدكم أو بمصيرهم إليكم " حصرت

(1) سورة البقرة: آية 220.
286

صدورهم "، فلم يقاتلوكم " والقوا إليكم السلم " يعني صالحوكم، واستسلموا، كما
يقول القائل: أعطيتك قيادي وألقيت إليك خطامي إذا استسلم له وانقاد لامره،
فكذلك قوله: " والقوا إليكم السلم " يريد به الصلح وقال أكثر المفسرين: البلخي
والطبري والجبائي، وغيرهم: ان المراد به الاسلام. قال الطرماح:
وذاك ان تميما غادرت سلما * للأسد كل حصان وعثة اللبد (1)
يعني استسلاما. وقال: " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " يعني إذا
استسلموا لكم فلا طريق لكم على نفوسهم، وأموالهم. قال الربيع: السلم ها هنا
الصلح، ثم نسخ ذلك بقوله: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم " (2) الآية. وبه قال عكرمة والحسن قالا. نسخت هذه الآية إلى
قوله: " سلطانا مبينا " وقوله: في الممتحنة: " لا ينهاكم الله عن الذين لم
يقاتلوكم " إلى قوله: " الظالمون " (3) نسخت هذه الأربع آيات بقوله: في
براءة الآية التي تلوناها، وبه قال قتادة وابن زيد:
قوله تعالى: (ستبدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم
كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم
ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا
لكم عليهم سلطانا مبينا) (91) - آية بلا خلاف -.
النزول
قيل في الذين نزلت فيهم هذه الآية ثلاثة أقوال:

(1) ديوانه: 145 من قصيدته التي هجا بها الفرزدق الحصان: المرأة العفيفة. وعثة:
كثيرة اللحم لبدة - بكسر فسكون - كساء يفرش للجلوس عليه.
(2) سورة التوبة: آية 6.
(3): آية 8.
287

أحدها - قال ابن عباس، ومجاهد: نزلت في ناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله
فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش، ويرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن
يأمنوا ها هنا وها هنا، فأمر الله بقتالهم ان لم يعتزلوا، ويصلحوا.
الثاني - قال قتادة: نزلت في حي كانوا بتهامة قالوا: يا نبي الله لا نقاتلك،
ولا نقاتل قومنا. وأرادوا ان يأمنوا قومهم ويأمنوا نبي الله فأبى الله عليهم ذلك.
فقال: " كلما ردوا إلى الفتنة " يعني إلى الكفر " أركسوا فيها " يعني وقعوا فيها.
الثالث - قال السدي: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمن
في المسلمين بنقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وآله، والمشركين، فنزلت هذه الآية، وقال
مقاتل: نزلت في أسد وغطفان.
المعنى:
وقال أبو العالية معنى قوله: " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " يعني كلما
ابتلوا بها عموا فيها. وقال قتادة: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه. والفتنة في اللغة
هي الاختبار. والاركاس: الرجوع. فمعنى الكلام كلما ردوا إلى الاختبار،
ليرجعوا إلى الكفر والشرك رجعوا إليه. وقوله: " فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم
السلم ويكفوا أيديهم " معناه وان لم يعتزلوكم أيها المؤمنون هؤلاء الذين يريدون
أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهم كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه
(ويلقوا إليكم السلم) يعني ولم يستسلموا لكم فيعطوكم المقادة
ويصالحوكم ويكفوا أيديهم عن قتالكم (فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم) يعني
حيث أصبتموهم. ثم قال: " وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا " يعني حجة
ظاهرة. وقال السدي، وعكرمة: السلطان الحجة
وقال أبو علي: نزلت في قوم كانوا يظهرون الاسلام، فإذا اجتمعوا مع
قريش اظهروا لهم الكفر. وهو قوله: (كلما ردوا إلى الفتنة) يعني الكفر (أركسوا
فيها) بمعنى وقعوا فيها، فما داموا مظهرين للاسلام وكافين عن قتال المسلمين، فلا
288

يتعرض لهم. ومتى لم يظهروا الاسلام، وجب قتالهم على ما ذكره الله، ثم قال قوم:
الآية منسوخة وان من لم يحارب مع المؤمنين، وجب قتاله. واختار هو أنها
غير منسوخة. قال: لأنه لا دليل على ذلك.
قوله تعالى:
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا
خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان
من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير
رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله
وكان الله عليما حكيما (92) - آية بلا خلاف -.
المعنى والاعراب:
قوله: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) معناه لم يأذن الله، ولا
أباح لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيما عهده إليه، لأنه لو أباحه وأذن فيه ما كان خطأ.
والتقدير إلا أن يقتله خطأ، فان حكمه هكذا على ما ذكر. فذهب إلى هذا قتادة
وغيره.
وقوله: (إلا خطأ) استثناء منقطع - في قول أكثر المفسرين - وتقديره
إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، وليس ذلك مما جعل الله له، ومثله قول الشاعر:
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ * على الأرض إلا ريط برد مرجل (1)
والمعنى لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل البرد من الأرض.

(1) قائله جرير ديوانه: 458، والنقائض: 706، ومجاز القرآن 1: 137.
289

وقد ذكرنا لذلك نظائر فيما مضى، ولا نطول بإعادتها. وتقدير الآية: إلا أن
المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس ذلك مما جعل الله له. وقال قوم: الاستثناء متصل
والمعنى: لم يكن للمؤمن أن يقتل متعمدا مؤمنا. ومتى قتله متعمدا لم يكن مؤمنا
فان ذلك يخرجه من الايمان، ثم قال: " إلا خطأ " ومعناه إن قتله له خطأ لا يخرجه
من الايمان. ثم أخبر تعالى بحكم من قتل من المؤمنين مؤمنا خطأ، فقال: " ومن
قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ". ومعناه فعليه تحرير رقبة مؤمنة. يعني مظهرة
للايمان وظاهر ذلك يقتضي أن تكون بالغة ليحكم لها بالايمان وذلك في ماله خاصة.
" ودية مسلمة إلى أهله " تؤديها عنه عاقلته إلى أولياء المقتول إلا أن يصدق أولياء
المقتول حينئذ تسقط عنهم. وموضع (أن) من قوله: " إلا أن يصدقوا " نصب،
لان المعنى فعليه ذلك إلا أن يصدقوا
النزول:
وقيل: إن الآية نزلت في عياش ابن أبي ربيعة المخزومي: أخي أبي جهل،
لأنه كان أسلم، وكان قد قتل رجلا مسلما بعد اسلامه، وهو لا يعلم باسلامه. وهذا
قول مجاهد، وابن جريج، وعكرمة، والسدي. وقالوا: المقتول هو الحارث بن
يزيد بن أبي نبشية العامري. ولم يعلم أنه أسلم، وكان أحد من رده عن الهجرة،
وكان يعذب عياشا مع أبي جهل، قتله بالحرة بعد الهجرة. وقيل: قتله بعد الفتح
وقد خرج من مكة وهو لا يعلم باسلامه. ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر (ع).
وقال ابن زيد: نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، كان في سرية فعدل أبو الدرداء
إلى شعب يريد حاجة، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال:
لا إله إلا الله! فبدر فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى
رسول الله (ص) فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ألا شققت عن قلبه فقال:
ما عسيت أن أجد! هل هو إلا دم أو ماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله فقد أخبرك بلسانه
فلم تصدقه قال كيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله؟! قال فكيف بي
290

يا رسول الله؟ قال: وكيف بلا إله إلا الله؟! حتى تمنيت أن يكون ذلك اليوم
مبتدأ إيماني، ثم نزلت هذه الآية والذي ينبغي أن يعول عليه ان ما تضمنته
الآية حكم من قتل خطأ ويجوز في سبب نزول الآية كل واحد مما قبل.
المعنى:
وقال ابن عباس، والشعبي، وإبراهيم، والحسن، وقتادة: الرقبة المؤمنة
لا تكون إلا بالغة قد آمنت وصامت وصلت. فاما الطفل فإنه لا يجزي ولا الكافر.
وقال عطاء: كل رقبة ولدت في الاسلام فهي تجزي. والأول أقوى، لان
المؤمن على الحقيقة لا يطلق إلا على بالغ مظهر للايمان ملتزم لوجوب الصوم
والصلاة، إلا أنه لا خلاف أن المولود بين مؤمنين يحكم له بالايمان، فبهذا الاجماع
ينبغي أن يجزي في كفارة قتل الخطأ.
وأما الكافرة والمولود بين كافرين فإنه لا يجزي بحال.
والدية المسلمة إلى أهل القتيل هي المدفوعة إليهم موفرة غير منتقصة حقوق
أهلها منها " إلا أن يصدقوا " معناه يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجها
وفي قراءة أبي " إلا أن يتصدقوا ".
وقوله: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة)
يعني إن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم هم أعداء لكم مشركون
وهو مؤمن، فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة. واختلفوا في معناه، فقال قوم: إذا كان
القتيل في عداد قوم أعداء وهو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر، فمن قتله فلا دية له.
وعليه تحرير رقبة مؤمنة، لان الدية ميراث، وأهله كفار لا يرثونه. هذا قول
إبراهيم، وابن عباس، والسدي، وقتادة، وابن زيد، وابن عياض. وقال آخرون:
بل عنى به أهل الحرب من يقدم دار الاسلام فيسلم ثم يرجع إلى دار الحرب إذا
مر بهم جيش من أهل الاسلام فهرب قومه وأقام ذلك المسلم فيهم فقتله المسلمون،
291

وهم يحسبونه كافرا. ذكر ذلك عن ابن عباس في رواية أخرى.
وقوله: (فإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير
رقبة مؤمنة) ومعناه إن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم وبينهم
أيها المؤمنون ميثاق أي عهد وذمة وليسوا أهل حرب لكم " فدية مسلمة إلى أهله "
تلزم عاقلة قاتله. وتحرير رقبة على القاتل كفارة لقتله. واختلفوا في صفة هذا
القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن أم كافر؟ فقال قوم: هو
كافر إلا أنه يلزم قاتله دية، لان له ولقومه عهدا. ذهب إليه ابن عباس، والزهري،
والشعبي، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وابن زيد. وقال آخرون: بل هو مؤمن،
فعلى قاتله دية يؤديها إلى قومه من المشركين، لأنهم أهل ذمة.
روي ذلك أيضا عن إبراهيم والحسن. وهو المروي في أخبارنا. إلا أنهم
قالوا: يعطي ديته ورثته المسلمين دون الكفار. والميثاق هو العهد. وقد بيناه فيما
مضى. والمراد ههنا الذمة، وغيرها من العهود وبه قال السدي والزهري، وابن عباس
والخطأ هو ان تريد شيئا فتصيب غيره. وهو قول إبراهيم، وأكثر الفقهاء.
والدية الواجبة في قتل الخطأ مئة من الإبل ان كانت العاقلة من أهل الإبل - بلا
خلاف - وان اختلفوا في أسنانها فقائل يقول. هي أرباع: خمس وعشرون حقة،
وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون ابنة مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون.
روي ذلك عن علي (ع). وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون
جذعة، وعشرون بنت لبون، وعشرون بنو لبون، وعشرون بنت مخاض.
وينسب ذلك إلى ابن مسعود. وروى الامرين معا أصحابنا. وقال قوم: هي أرباع
غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون
بنو لبون. روي ذلك عن عثمان وزيد بن ثابت. قال الطبري: هذه الروايات
متكائة. والأولى التخيير. ولا يحمل على العاقلة صلح، ولا اقرار، ولا ما كان
دون الموضحة. وأما الدية من الذهب فألف دينار، ومن الورق عشرة آلاف درهم.
وقال بعضهم: اثني عشر ألفا والأول عندنا هو الأصح. ودية عمد الخطأ مئة من
292

الإبل مغلظة أثلاثا - وروي أرباعا - ثلث بنت لبون، وثلث حقة، وثلث جذعة.
وتستأدى في سنين. ودية الخطأ في ثلاث سنين. ودية العمد إذا تراضوا بها في
سنة. وأما دية أهل الذمة فقال قوم: هي دية المسلم سواء. ذهب إليه أبو بكر،
وعثمان، وابن مسعود، وإبراهيم، ومجاهد، والزهري، وعامر الشعبي، واختاره
الطبري، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال قوم: على النصف من دية المسلم. ذهب إليه
عمرو بن شعيب رواه عن عمر بن الخطاب وبه قال عمر بن عبد العزيز. وقال قوم:
هي على الثلث من دية المسلم ذهب إليه سعيد بن المسيب، والشافعي غير أنها أربعة
آلاف واختلاف الفقهاء قد ذكرناه في الخلاف. واما دية المجوسي فلا خلاف أنها
ثمانمئة وكذلك عندنا نادية اليهودي والنصراني. (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
توبة من الله وكان الله عليما حكيما) يعني فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة عن قتله
المؤمن لاعتباره فعليه صيام شهرين متتابعين. واختلفوا في معناه: فقال قوم:
مثل ما قلناه ذهب إليه مجاهد. وقال آخرون: " فمن لم يجد " الدية فعليه. صوم
الشهرين عن الدية والرقبة. وتأويل الآية فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولادية يسلمها إلى
أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين، ذهب إليه مسروق والأول هو الصحيح، لان
دية قتل الخطأ على العاقلة، والكفارة على القاتل باجماع الأمة على ذلك. وصفة التتابع
في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بافطار يوم. وقال أصحابنا: إذا صام
شهرا وزيادة ثم أفطر أخطأ وجاز له البناء.
وقوله: (توبة من الله) نصب على القطع. ومعناه رجعة من الله لكم إلى
التيسير عليكم بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة بايجاب
صوم الشهرين المتتابعين توبة " وكان الله عليما حكيما " معناه لم يزل الله عليما بما
يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه حكيما بما يقضي فيهم. ويدبره. وقال الجبائي:
إنما قال: (توبة من الله) تعالى بهذه الكفارة التي يلتزمها بدره عقاب القاتل.
وذمه لأنه يجوز أن يكون عاصيا في السبب، وان لم يكن عاصيا في القتل من حيث
أنه رمى في موضع هو منهي عنه بأن يكون رجمة، وان لم يقصد القتل وهذا
293

ليس بشئ لان الآية عامة في كل قاتل خطأ، وما ذكره ربما اتفق في الآحاد.
والزام دية قتل الخطأ العاقلة ليس هو مؤاخذة البرئ بالسقيم، لان ذلك ليس بعقوبة
بل هو حكم شرعي تابع للمصلحة. ولو خلينا والعقل ما أوجبناه. وقيل: ان ذلك
على وجه المواساة والمعاونة
قوله تعالى:
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب
الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) (93) - آية بلا خلاف -.
المعنى: أخبر الله تعالى في هذه الآية ان من يقتل مؤمنا متعمدا يعني قاصدا إلى
قتله ان جزاؤه جهنم خالدا فيها أي مؤيدا في جهنم وغضب الله عليه. وقد بينا ان
غضب الله هو إرادة عقابه، والاستخفاف به. " ولعنه " معناه أبعده من ثوابه
ورحمته " واعد له عذابا عظيما " يعني لا يعلمون قدر مبلغه لكثرته واختلفوا
في صفة قتل العمد، فعندنا أن من قصد قتل غيره بما يقتل مثله في غالب العادة
سواء كان بحديدة حادة كالسلاح أو مثقلة من حديد أو خنق أو سم أو إحراق أو
تفريق أو موالاة ضرب بالعصا حتى يموت أو بحجارة ثقيلة فان جميع ذلك عمد
يوجب القود، وبه قال إبراهيم، وعبيد بن عمير، والشافعي، وأصحابه، واختاره
الطبري. وقال قوم: لا يكون قتل العمد إلا ما كان بحديد. ذهب إليه سعيد
ابن المسيب، وإبراهيم، والشافعي في رواية أخرى، وطاووس وأبو حنيفة
وأصحابه غير أن عندنا أنه إذا قتله بغير حديدة فلا يستقاد منه إلا بحديدة. وقال
الشافعي يستقاد منه بمثل ما قتل به فأما القتل شبيه العمد فهو ان يضربه بعصا
أو غيرها مما لم تجر العادة بحصول الموت عنده، فإذا مات منه، كان شبيه العمد، وفيه
الدية مغلظة في مال القاتل خاصة لا يلزم العاقلة. وقد بينا اختلاف الفقهاء في مسائل
294

الخلاف في هذه المسألة. واستدلت المعتزلة بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة
مخلد في نار جهنم. وأنه إذا قتل مؤمنا، فإنه يستحق الخلود، ولا يعفى عنه بظاهر
اللفظ. ولنا أن نقول: ما أنكرتم أن يكون المراد بالآية للكفار ومن لا ثواب
له أصلا. فأما من هو مستحق للثواب، فلا يجوز أن يكون مرادا بالخلود أصلا،
لما بيناه فيما مضى من نظائره. وقد روى أصحابنا ان الآية متوجهة إلى من يقتل
المؤمن لايمانه، وذلك لا يكون إلا كافرا. وقال عكرمة، وابن جريج: ان الآية
نزلت في انسان بعينه ارتد ثم قتل مسلما، فأنزل الله تعالى فيه الآية، لأنه كان
مستحلا لقتله، على أنه قد قبل: إن قوله: " خالدا فيها " لا يفهم من الخلود في
اللغة الا طول اللبث، فأما البقاء ببقاء الله، فلا يعرف في اللغة، ثم لا خلاف أن
الآية مخصوصة بمن لا يتوب، لأنه ان تاب فلابد من العفو عنه اجماعا، وبه قال
مجاهد. وقال ابن عباس: لا توبة له ولا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب.
وبه قال ابن مسعود، وزيد بن ثابت والضحاك. ولا يعترض على ما قلناه قول من
يقول إن قاتل العمد لا يوفق للتوبة، لان هذا القول إن صح فإنما يدل على أنه
لا يختار التوبة. ولا ينافي ذلك القول بأنها لو حصلت، لا زالت العقاب. وإذا
كان لابد من تخصيص الآية واخراج التائبين عنها، جاز لنا ان نخرج منها من
يتفضل الله عليه بالعفو على أن ظاهر الآية يتضمن ان جزاءه جهنم فمن أين أن ذلك
لابد من حصوله، وان العفو لا يجوز حصوله؟ وهذا قول أبي مجلز وأبي صالح.
ولا يدفع ذلك قوله: " وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " لان ذلك
اخبار عن انه مستحق لذلك، فمن أين حصوله لا محالة؟ وقال الجبائي: الجزاء
عبارة عما يفعل، وما لا يفعل لا يسمى جزاء. ألا ترى ان الأجير إذا استحق الأجرة
على من استأجره، لا يقال في الدراهم التي مع المستأجر انها جزاء عمله؟!
وإنما يسمى بذلك إذا أعطاه إياها. وهذا ليس بشئ، لان الجزاء عبارة عن
المستحق سواء فعل، أولم يفعل الا ترى انا نقول: جزاء من فعل الجميل ان يقابل
عليه بمثله، وإن كان ما فعل بعد؟ وإنما يراد انه ينبغي ان يقابل بذلك. ونقول:
295

من استحق عليه القود، أو حد من الحدود إن جزاء هذا ان يقتل، أو يقام عليه
الحد. ولو كان الامر على ما قالوه، لوجب ألا يكون الخلود في النار جزاء للكفار،
لأنه لم يقع بعد، ولا يصح ان يقع، لان ما يوجد منه لا يكون إلا متناهيا وإنما
لم يقل في الدراهم، انها جزاء لعمله، لان ما يستحقه الأجير في الذمة لا يتعين في
دراهم معينة. وللمستأجر أن يعطيه منها، ومن غيرها. فلذلك لم توصف هذه
المعينة بأنها جزاء للعمل، ثم لنا أن نعارض بآيات الغفران، كقوله: " إن الله
لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " (1) وقوله: " ان الله يغفر
الذنوب جميعا " (2) وقوله: " ان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " (3).
وإذا تعارضا، وقفا وبقينا على جواز العفو عقلا. وقال الجبائي والبلخي: الآية
نزلت في أهل الصلاة. لأنه تعالى بين في الآية الأولى حكم قتل الخطأ من الدية،
والكفارة. وذلك يختص أهل الصلاة، ثم عقب ذلك بذكر قتل العمد منهم. وهذا
ليس بصحيح، لان لزوم الدية في الخطأ يتناول المسلم، والمعاهد. وأما الكفارات
فان عندنا تلزمهم أيضا لأنهم متعبدون بالشرائع. ولو سلمنا ان الآية الأولى تختص
المسلمين، لم يلزم ان تختص الثانية بهم، بل لا يمتنع ان يراد بها الكفار على وجه
الخصوص أو الكفار، والمسلمين على وجه العموم. غير انا قد علمنا أنه لا يجوز
ان يراد بها من هو مستحق الثواب، لان الثواب دائم. ولا يجوز مع ذلك أن
يستحق العقاب الدائم مع ثبوت بطلان الاحباط، لاجماع الآية على خلافه.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا
تقولوا لمن القى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا

(1) سورة النساء: آية 47 - 115.
(2) سورة الزمر: آية 53.
(3) سورة الرعد: آية 7 وسورة حم السجدة: آية 43.
296

فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا
ان الله كان بما تعملون خبيرا) (94) - آية -.
القراءة، والحجة:
قرأ أهل المدينة، وابن عباس، وخلف (السلم) بغير الف. الباقون بألف.
وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما فتثبتوا (بالثاء) من الثبوت في الموضعين ههنا وفي
الحجرات الباقون (فتبينوا) من التبين. وقرئ من طريق النهرواني لست مؤمنا - بفتح
الميم الثانية - الباقون بكسرها وبه قرأ أبو جعفر محمد بن علي (ع) على ما حكاه
البلخي. فمن قرأ بالثاء من الثبوت. فإنما أراد التثبت الذي هو خلاف العجلة.
ومن قرأ بالياء والنون، أراد من التبيين الذي هو النظر، والكشف عنه حتى يصح.
والمعنيان متقاربان، لان المثبت متبين، والمتبين مثبت. ومن قرأ (السلم) بلا الف
أراد الاستسلام. ومنه قوله: " والقوا إلى الله يومئذ السلم " (1) أي استسلموا.
وقوله: " ورجلا سلما " أي مستسلما. وروى أبان عن عاصم بكسر السين. والمعنى
خلاف الحرب. ومن قرأ بألف ذهب إلى التحية. ويحتمل أن يكون المراد لا تقولوا
لمن اعتزلكم وكف عن قتالكم: لست مؤمنا. قال أبو الحسن: يقولون: إنما فلان
سلام إذا كان لا يخالط أحدا.
المعنى:
خاطب الله تعالى بهذه الآية المؤمنين الذين إذا ضربوا في الأرض بمعنى ساروا
فيها للجهاد وأن يتأنوا في قتال من لا يعلمون كفره، ولا ايمانه، وعن قتل من يطهر
الايمان وان ظن به الكفر باطنا. ولا يعجلوا حتى يبين لهم أمرهم فإنهم ان بادروا
ربما أقدموا على قتل مؤمن. ولا يقتلوا من استسلم لهم، وكف عن قتالهم، واظهر
انه أسلم. والا يقولوا لمن هذه صورته: لست مؤمنا، فيقتلوه طلب عرض

(1) سورة النحل: آية 87.
297

" الحياة الدنيا " يعني متاع الحياة الدنيا الذي لا بقاء له. فان عند الله مغانم كثيرة
وفواضل جسيمة فهو خير لكم ان أطعتم الله فيما أمركم به، وانتهيتم عما نهاكم عنه.
النزول:
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال عمر بن شبة: نزلت في مرداس
رجل من غطفان، غشيتهم خيل المسلمين، فاستعصم قومه في الجبل، وأسهل هو
مسلما مستسلما، فاظهر لهم اسلامه، فقتلوه، وأخذوا ما معه. وقال أبو
عمر والواقدي، وابن إسحاق. نزلت في عامر بن الأضبط الأشجعي لقيته سرية لأبي
قتادة فسلم عليه فشد محلم بن جثامة فقتله لاحنة كانت بينهم، ثم جاء النبي صلى الله عليه وآله
وسأل ان يستغفر له فقال النبي صلى الله عليه وآله لا غفر الله لك. وانصرف باكيا فما مضت
عليه سبعة أيام حتى هلك فدفن، ثم لفظته الأرض فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وأخبروه
فقال (ع): إن الأرض تقبل من هو شر من محلم صاحبكم، لكن الله أراد أن
يعظم من حرمتكم، ثم طرحوه بين صد في جبل، وألقوا عليه الحجارة، فنزلت
الآية. وقال ابن عباس: لحق ناس رجلا في غنيمة له، فقال السلام عليكم، فقتلوه
وأخذوا غنمه. فنزلت الآية. قال ابن عباس: فكان الرجل يسلم في قومه، فإذا
غزاهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، وهرب أصحابه وقف، وأظهر تحية الاسلام (السلام
عليكم) فيكفون عنه، فلما خالف بعضهم، وقتل من أظهر ذلك نزلت فيه الآية
وبه قال السدي: وقال الرجل السلام عليكم، أشهد ان لا إله إلا الله، وان محمدا
رسول الله. فشد عليه أسامة بن زيد وكان أمير القوم، فقتله، فنزلت الآية. وقال
قوم: كان صاحب السرية المقداد. وقال آخرون: ابن مسعود. وكل واحد من
هذه الأسباب يجوز أن يكون صحيحا، ولا يقطع بواحد منها بعينه. والذي
يستفاد من ذلك أن من اظهر الشهادتين لا يجوز لمؤمن أن يقدم على قتله، ولا إذا
أظهر ما يقوم مقامها من تحية الاسلام.
298

المعنى:
وقوله. (كذلك كنتم من قبل) اختلفوا في معناه، فقال قوم: كما كان
هذا الذي قتلتموه بعدما القى إليكم السلام مستخفيا من قومه بدينه خوفا على نفسه
منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم فمن الله عليكم، ذهب
إليه سعيد بن جبير وقال ابن زيد معناه كما كان هذا المقتول كافرا فهداه الله،
كذلك كنتم كفارا، فهداكم الله. وبه قال الجبائي. وقال المغربي: معناه كذلك
كنتم أذلاء آحادا إذا صار الرجل منكم وحده، خاف أن يختطف.
وقوله: (فمن الله عليكم) قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال سعيد بن جبير: فمن الله عليكم باظهار دينه، واعزاز أهله
حتى أظهرتم الاسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك. وقال السدي: معناه
تاب الله عليكم " فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا " معناه انه كان عليما بما
تعملونه قبل أن تعملوه. قال البلخي في الآية دلالة على أن المجتهد لا يضل، لان
النبي صلى الله عليه وآله لم يضلل مقدادا ولا تبرأ منه. ومن قرأ " لست مؤمنا " بفتح الميم
الثانية، قال: معناه لا تقولوا لمن استسلم لكم لسنا نؤمنك. وهو وجه حسن.
قوله تعالى:
(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر
والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين
بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى
وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95) درجات منه
ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) (96) - آيتان -.
299

القراءة، والحجة: قرأ أهل المدينة وابن كثير غير أولي الضرر - نصبا - الباقون بالرفع. فمن
رفع جعله نعتا للقاعدين. ومن نصبه فعلى الاستثناء. وهو اختيار أبي الحسن
الأخفش.
المعنى:
بين الله بهذه الآية انه " لا يستوي " ومعناه لا يعتدل " القاعدون " يعني
المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الايمان بالله وبرسوله. المؤثرون الدعة
والرفاهية على مقاساة الحر والمشقة بلقاء العدو، والجهاد في سبيله إلا أهل الضرر
منهم بذهاب أبصارهم، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها إلى الجهاد للضرار
الذي بهم " والمجاهدون في سبيل الله " ومنهاج دينه لتكون كلمة الله هي العليا
والمستفرغون وسعهم في قتال أعداء الله، وأعداء دينهم " بأموالهم " انفاقا لها
فيما يوهن كيد أعداء أهل الايمان. وقال قوم: إن قوله: " غير أولي الضرر "
نزل بعد قوله: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله "
فجاء عمر بن أم مكتوم، وكان أعمى فقال: يا رسول الله كيف وأنا أعمى، فما برح
حتى نزل قوله: " غير أولي الضرر ". ذكر ذلك البراء بن عازب، وزيد بن أرقم
وزيد بن ثابت. وهو يقوي قراءة من قرأ بالنصب.
الاعراب والمعنى:
" والقاعدون " رفع بيستوي ويستوي ههنا يقتضي فاعلين، فصاعدا
وقوله: " والمجاهدون " معطوف عليه. والتقدير لا يستوي القاعدون إلا أولي
الضرر والمجاهدون. وقال الفراء: الرفع أجود لاتصال " غير " بقوله: " القاعدون "
والاستثناء كان يجب أن يكون بعد تمام الكلام بقوله: " لا يستوي القاعدون...
والمجاهدون غير أولي الضرر " قال ويجوز خفضه نعتا للمؤمنين وما قرئ به.
300

والأول أقوى. ويحتمل النصب على الحال كقولك: جاء زيد غير مريب. فان قيل:
أيجوز أن يساوي أهل الضرر المجاهدين على وجه، فان قلتم: لا، فقد صاروا مثل
من ليس من أولي الضرر؟ قلنا: يجوز أن يساووهم بأن يفعلوا طاعات أخر تقوم
مقام الجهاد، فيكون ثوابهم عليهم مثل ثواب الجهاد. وليس كذلك من ليس بأولي
الضرر، لأنه قعد عن الجهاد، بلا عذر. وظاهر الآية يمنع من مساواته على وجه.
وقال ابن عباس لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر، والخارجين إلى بدر ثم
قال: (وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) قال ابن جريج
وغيره معناه فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم درجة على القاعدين من أهل الضرر
ثم قال: (وكلا وعد الله الحسنى) يعني وعد الله الحسنى المجاهدين بأموالهم
وأنفسهم والقاعدين أولي الضرر. والمراد بالحسنى ههنا الجنة في قول قتادة وغيره
من المفسرين. وبه قال السدي. وقوله: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا
عظيما) معناه فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي
الضرر أجرا عظيما. وقوله: (درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما)
قال قتادة هو كما يقال: الاسلام درجة، والفقه درجة، والهجرة درجة،
والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة. وقال عبد الله بن زيد: معنى
الدرجات هي التسع درجات التي درجها في سورة براءة. وهي قوله: (ما كان لأهل
المدينة ومن حولهم من الاعراب أن ن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يرغبوا
بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا
يطئون موطئا يغيض الكفار ولا ينالون من عدو نيلا) إلى قوله: (ليجزيهم الله
أحسن ما كانوا يعملون) (1) قال: هذه التسع درجات. وقال قوم: المراد بالدرجات
ههنا الجنة. واختاره الطبري. (ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) معناه لم
يزل الله غفارا للذنوب صافحا لعبيده عن العقوبة. رحيما بهم متفضلا عليهم. فان

(1): آية 120، 121.
301

قيل: كيف قال في أول الآية (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين
درجة) ثم قال في آخرها (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات)
وهذا ظاهر التناقض؟! قلنا عنه جوابان:
أحدهما - ان في أول الآية فضل الله المجاهدين على القاعدين أولي الضرر
درجة وفي آخرها فضلهم على القاعدين غير أولي الضرر درجات ولا تناقض في ذلك،
لان قوله: (وكلا وعد الله الحسنى) يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين
مستخفين. وان كانوا تاركين للفضل.
والثاني - قال أبو علي الجبائي: أراد بالدرجة الأولى علو المنزلة وارتفاع القدر
على وجه المدح لهم كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان يريدون بذلك
أنه أعظم منزلة. وبالثانية أراد الدرجات في الجنة التي تتفاضل بها المؤمنون بعضهم
على بعض على قدر استحقاقهم، ولا تنافي بينهما. وقال الحسين بن علي المغربي إنما
كرر لفظ التفضيل، لان الأول أراد تفضيلهم في الدنيا على القاعدين والثاني أراد
تفضيلهم في الآخرة بدرجات النعيم.
قوله تعالى:
(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم
كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا
المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا
يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله
عفوا غفورا) (99) - ثلاث آيات -.
هذه الآية نزلت في قوم أظهروا للنبي صلى الله عليه وآله الاسلام بمكة، فلما هاجر
302

النبي صلى الله عليه وآله وهاجر أصحابه فتنوهم آباؤهم عن دينهم فافتتنوا وخرجوا مع المشركين
يوم بدر فقتلوا كلهم. وقيل: انهم كانوا خمسة نفر. قال عكرمة: هم قيس بن
الفاكة بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن
المغيرة، وأبو العاص بن ميتة بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف. وذكر
أبو الجارود عن أبي جعفر (ع) مثله، فأنزل الله فيهم الآيات. وقال (ع):
ان الذين توفاهم الملائكة يعني قبض أرواحهم " ظالمي أنفسهم " نصب على الحال
يعني في حال هم فيها ظالموا أنفسهم بمعنى بخسوها حقها من الثواب وادخلوا عليها
العقاب بفعل الكفر. وقالت لهم الملائكة " فيم كنتم " أي في أي شئ كنتم من
دينكم على وجه التقرير لهم والتوبيخ لفعلهم (قالوا كنا مستضعفين في الأرض)
يستضعفنا أهل الشرك بالله في ارضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، ويمنعونا من
الايمان بالله واتباع رسوله على جهة الاعتذار فقالت لهم الملائكة " ألم تكن أرض
الله واسعة فتهاجروا فيها " يعني فتخرجوا من أرضكم وداركم وتفارقوا من يمنعكم
من الايمان بالله وبرسوله إلى أرض يمنعكم أهلها من أهل الشرك، فتوحدوه
وتعبدوه وتتبعوا نبيه ثم قال تعالى " فأولئك مأواهم جهنم " يعني مسكنهم جهنم
" وساءت " يعني جهنم لأهلها الذين صاروا إليها " مصرا " وسكنا ثم استثنى من ذلك
المستضعفين الذين استضعفهم المشركون (من الرجال والنساء والولدان) وهم الذين
يعجزون عن الهجرة لاعسارهم وقلة حيلتهم " ولا يهتدون سبيلا " يعني في
الخلاص من مكة. وقيل معناه لا يهتدون لسوء معرفتهم بالطريق من أرضهم إلى
أرض الاسلام استثنوا من جملة من أخبر أن مأواهم جهنم للعذر الذي هم فيه.
ونصب المستضعفين بالاستثناء من الهاء والميم في قوله: " مأواهم جهنم "
فقال تعالى: " فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم " يعني لعل الله أن يعفو عنهم لما
هم عليه من الفقر ويتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة من حيث لم
يتركوها اختيارا " وكان الله عفوا غفورا " ومعناه لم يزل الله ذا صفح بفضله عن
ذنوب عباده بترك عقوبتهم على معاصيهم " غفورا " ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه
303

لهم عنها. قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين. قال عكرمة وكان العباس
منهم وكان النبي صلى الله عليه وآله يدعو في دبر صلاة الظهر اللهم خلص الوليد وسلمة بن
هشام وعياش بن ربيعه وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون
حيلة ولا يهتدون سبيلا. وبالجملة التي ذكرناها قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد،
والسدي، وقتادة، والضحاك، وابن وهب، وابن جبير.
وقوله: (توفاهم) يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ويكون موضعه الفتح لان
الماضي مبني على الفتح. والثاني أن يكون رفعا والمعنى تتوفاهم وقد حذف أحد التائين
وقد بينا فيما مضي أن (عسى) من الله معناه الوجوب قال المغربي: ذكر (عسى)
ههنا تضعيف لامر غيرهم كما يقول القائل ليت من أطاع الله سلم، فكيف من
عصاه. ومثله قول الشاعر:
ولم تر كافر نعمى نجا * من السوء ليت نجا الشاكر
والتوفي هو الاحصاء قال الشاعر:
إن بني أدرد ليسوا من أحد * ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد
ولا توفاهم قريش في العدد
بمعنى أحصاهم. والملائكة تتوفى. وملك الموت يتوفى. والله يتوفى. وما يفعله
ملك الموت والملائكة يجوز أن يضاف إلى الله إذا فعلوه بأمره وما تفعله الملائكة
جاز أن يضاف إلى ملك الموت، إذا فعلوه بأمره.
قوله تعالى:
(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا
وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه
الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) (100)
- آية -.
304

أخبر الله تعالى في هذه الآية ان من يفارق وطنه، ويخرج من ارض الشرك
وأهله هربا بدينه إلى أرض الاسلام وأهلها والمهاجر في سبيل الله يعني منهاج دين
الله وطريقه الذي شرعه لخلقه يجد في الأرض مراغما كثيرا (يجد) مجزوم، لأنه
جواب الشرط.
اللغة:
والمراغم المضطرب في البلاد والمذهب يقال منه: راغم فلان قومه مراغما
ومراغمة قال الفراء: هما مصدران ومنه قول النابغة الجعدي:
كطود يلاذ بأركانه * عزيز المراغم والمهرب (1)
وقال الشاعر: إلى بلد غير داني المحل * بعيد المراغم والمضطرب
والمراغم مأخوذ من الرغام وهو التراب ومعنى راغمت فلانا هجرته. ولم أبال
رغم أنفه أي وان لصق بالتراب أنفه.
المعنى:
واختلف أهل التأويل في معناه، فقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض
إلى أرض وبه قال الضحاك، والربيع، والحسن، وقتادة، ومجاهد. وقال السدي
يعني معيشة. وقال ابن زيد يعني مهاجرا. وقال ابن عباس يعني سعة في الرزق.
وبه قال الربيع بن أنس والضحاك. وقال قتادة: سعة من الضلالة إلى الهدى. وقال
يزيد بن أبي حبيب: ان أهل المدينة يقولون من خرج فاصلا من أهله يريد الغزو
وجب سهمه لقوله: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) وقوله:
" وسعة " يحتمل أمرين: أحدهما - السعة في الرزق. الثاني - السعة مما كان فيه
من تضيق المشركين عليهم في أمر دينهم بمكة. ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجرا

(1) ديوانه: 22 ومجاز القرآن 1: 138 واللسان (رغم).
305

من أرض الشرك فارا بدينه إلى الله ورسوله وأدركه الموت قبل بلوغه دار الهجرة
وأرض الاسلام " فقد وقع أجره على الله " يعني ثواب عمله وجزاء هجرته عليه تعالى
" وكان الله غفورا " يعني ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم " رحيما " بهم رفيقا.
النزول:
وقيل في سبب نزول الآية ان الله لما أنزل ان الذين " توفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم " كتب المسلمون بالآيات وبعثوها إلى إخوانهم من أهل مكة فخرج حينئذ منها
جماعة، فقالوا: لم يبق لنا عذر فهاجروا. وقال سعيد بن جبير وعكرمة والضحاك
والسدي وابن زيد وابن عباس ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر (ع) انها نزلت
في ضمرة بن العيص بن ضمرة بن زنباع أو العيص بن ضمرة وكان مريضا فأمر أهله ان يفرشوا
له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال ففعلوا فأتاه الموت بالتغيم،
فنزلت فيه الآية. وبه قال قتادة وقال: قال ضمرة وأنا أعرف الطريق ولي سعة في
المال أخرجوني فأخرج، فمات. وقال عمر بن شبة: هو أبو أمية ضمرة بن حندب
الخزاعي. وقال الزبير بن بكار: هو خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام خرج
مهاجرا فمات في الطريق. قال عكرمة وخرج جماعة من مكة مهاجرين فلحقهم
المشركون وفتنوهم عن دينهم فافتتنوا، فأنزل الله فيهم " ومن الناس من يقول
أمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله " (1) وكتب بها
المسلمون من المدينة إليهم ثم نزل فيهم " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا
ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم. "
قوله تعالى:
(وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم

(1) سورة العنكبوت: آية 10
306

عدوا مبينا) - (101) - آية بلا خلاف -.
معنى قوله:
(وإذا ضربتم في الأرض) إذا سرتم فيها فليس عليكم جناح
يعني حرج ولا اثم ان تقصروا من الصلاة يعني من عددها فتصلوا الرباعيات ركعتين.
وظاهر الآية يقتضي أن التقصير لا يجوز إلا إذا خاف المسافر، لأنه قال " ان
خفتم أن يفتنكم " ولا خلاف اليوم أن الخوف ليس بشرط، لان السفر المخصوص
بانفراده سبب للتقصير. والظاهر يقتضي ان التقصير جائز لا اثم فيه. ويقتضي ذلك أنه
يجوز الاتمام، وعندنا وعند كثير من الفقهاء ان فرض المسافر مخالف لفرض
المقيم، وليس ذلك قصرا، لاجماع أصحابنا على ذلك. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه قال: فرض المسافر ركعتان غير قصر. واما الخوف بانفراده فعندنا يوجب القصر.
وفيه خلاف وقد روي عن ابن عباس أن صلاة الخائف قصر من صلاة المسافر. وانها
ركعة ركعة. وقال قوم: معنى قوله: " ليس عليكم جناح أن تقصروا " يعني
من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. وهو الذي رواه أصحابنا في
صلاة شدة الخوف. وأنه يصلي إيماء والسجود اخفض من الركوع. فإن لم يقدر
فان التسبيح المخصوص يكفي عن كل ركعة. ثم أخبر تعالى أن الكافرين يعني
الجاحدين لتوحيد الله ونبوة نبيه فقد أبانوا عداوتهم لكم بما صبتهم لكم الحرب
على عبادتكم الله، وترككم عبادة الأوثان.
وفي قصر الصلاة ثلاث لغات تقول: قصرت الصلاة أقصرها وهي لغة
القرآن. وقصرتها تقصيرا، واقصرتها إقصارا.
واختلف أهل التأويل في قصر الصلاة فقال قوم: هي قصر من صلاة الحاضر
ما كان يصلي أربع ركعات أذن له في قصرها، فيصليها ركعتين. ذهب إليه يعلى
ابن أمية، وعمر بن الخطاب. وان يعلى قال لعمر كيف نقصر الصلاة وقد أمنا
فقال عمر: عجبت ما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك فقال: صدقة تصديق
الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. وبه قال ابن جريج وقتادة. وفي قراءة أبي " وإذا ضربتم
307

في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا "
ولا يقرأ " إن خفتم " ومعنى هذه القراءة الا يفتنكم الذين كفروا وحذف (لا)
كما حذف في قوله: " يبين الله لكم أن تضلوا " (1) ومعناه ألا تضلوا. وقال
قوم: القصر لا يجوز إلا مع الخوف روي ذلك عن عائشة، وسعد بن أبي وقاص.
وقال قوم: عنى بهذه الآية قصر صلاة الخوف في غير حال المسابقة، وفيها نزلت.
ذهب إليه مجاهد وغيره. وقال آخرون: عنى بها قصر الصلاة صلاة الخوف في حال
غير شدة الخوف. وعنى به قصر الصلاة من صلاة السفر لا من صلاة الإقامة، لان
صلاة السفر عندهم ركعتان تمام غير قصر، كما قلناه - ذهب إليه السدي، وابن عمر،
وسعيد بن جبير، وجابر بن عبد الله، وكعب - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
قطعت يده يوم اليمامة وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وثعلبة
ابن زهدم اليربوعي وكان من الصحابة - وأبو هريرة. وروي عن ابن عباس في
رواية أخرى إن القصر المراد به صلاة شدة الخوف تقصر من حدودها وتصليها
إيماء وهو مذهبنا. وأما حد السفر الذي يجب فيه التقصير فعندنا انه ثمانية فراسخ.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: مسيرة ثلاثة أيام. وقال الشافعي ستة عشر فرسخا
ثمانية وأربعين ميلا. وقال قوم: يجب في قليل السفر وكثيره. بينا الخلاف فيه في
كتاب الخلاف.
وإنما قال في الاخبار عن الكافرين انهم عدو، ولم يقل أعداء لان لفظة
فعول وفعيل تقع على الواحد والجماعة، وفتنت الرجل أفتنه فهو مفتون لغة أهل
الحجاز وتميم وربيعة. وأهل نجد كلهم وأسد يقولون: أفتنت الرجل فهو فاتن.
وقد فتن فتونا: إذا دخل في الفتنة.
قوله تعالى:
(وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك

(1) سورة النساء: آية 175.
308

وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة
أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود
الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة
واحدة ولا جناح علكيم إن كان بكم اذى من مطر أو كنتم مرضى
ان تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ان الله أعد للكافرين عذابا
مهينا) (102) - آية واحدة بلا خلاف -.
قوله (إذا كنت فيهم) معناه في الضاربين في الأرض من أصحابك يا محمد
الخائفين عدوهم أن يفتنوهم، فأقمت لهم الصلاة يعني أتممت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي يجب في صلاة شدة الخوف من
الاقتصار على الايماء. فلتقم طائفة من أصحابك الذين كنت فيهم معك في صلاتك
وليكن سائرهم في وجه العدو. ولم يذكر ما ينبغي ان تفعله الطائفة غير المصلية
لدلالة الكلام عليه " وليأخذوا أسلحتهم " قال قوم: الفرقة المأمورة بأخذ السلاح
هي المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وآله والسلاح مثل السيف يتقلد به والخنجر يشده إلى
درعه وكذلك السكين ونحو ذلك من سلاحه وهو الصحيح. وقال ابن عباس الطائفة
المأمورة بأخذ السلاح هي التي بإزاء العدو دون المصلية، فإذا سجدوا يعني الطائفة
التي قامت معك مصلية بصلاتك، وفرغت من سجودها فليكونوا من ورائكم يعني
فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم مصافين للعدو. وعندنا انهم يحتاجون أن
يتموا صلاتهم ركعتين، والامام قائم في الثانية ثم ينصرفون إلى موضع أصحابهم
ويجئ، الآخرون فيستفتحون الصلاة فيصلي بهم الامام الركعة الثانية، ويطيل
تشهده حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم ثم يسلم بهم الامام. ومن قال: إن صلاة
الخائف ركعة، قال: الأولون إذا صلوا ركعة فقد فرغوا. وكذلك الفرقة الثانية.
309

وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر (ع). ورواه مسلمة عن أبي عبد الله (ع)
وهذا عندنا إنما يجوز في صلاة شدة الخوف. وفي الناس من قال: ان النبي صلى الله عليه وآله
يسلم بهم ثم يقومون فيصلون تمام صلاتهم. وقد بينا اختلاف الفقهاء في مسائل
الخلاف في صلاة الخوف. وقوله: " وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم " يعني الطائفة
الثانية يأخذون السلاح والحذر في حال الصلاة. وذلك يبين ان المأمورة بأخذ
السلاح في الأول هم المصلون دون غيرهم. وقوله: " ود الذين كفروا لو تغفلون
عن أسلحتكم وأمتعتكم " معناه تمنى الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم
وتشتغلون عن أخذها تأهبا للقتال وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم
فتنهون عنها (فيميلون عليكم ميلة واحدة) معناه يحملون عليكم، وأنتم
متشاغلون بصلاتكم عن أسلحتكم، وأمتعتكم حملة واحدة فيصيبون منكم غرة
فيقتلونكم، ويستبيحون عسكركم، وما معكم. والمعنى لا تشاغلوا بأجمعكم بالصلاة
عند مواقفة العدو، فتمكنوا عدوكم من أنفسكم، وأسلحتكم، ولكن أقيموها
على ما بينت. وخذوا حذركم باخذ السلاح. ومن عادة العرب أن يقولوا: ملنا
عليهم بمعنى حملنا عليهم. قال العباس بن عبادة بن نصلة الأنصاري لرسول الله (ص)
ليلة العقبة الثانية: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لم نؤمر بذلك يعني في ذلك الوقت وقوله: " ولا جناح
عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا
حذركم " معناه لا جرم عليكم ولا اثم إن كان بكم أذى من مطر يعني إن نالكم
من مطر، وأنتم مواقفو عدوكم، أو كنتم مرضى يعني أعلاء، أو جرحى ان
تضعوا أسلحتكم إذا ضعفتم عن حملها، لكن إذا وضعتموها، فخذوا حذركم.
يعني احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم غافلون غارون، ثم قال: " إن الله
أعد للكافرين عذابا مهينا " يعني عذابا مذلا يبقون فيها أبدا. وقيل " وان كنتم
مرضى " نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا. ذكره ابن عباس.
واللام في قوله: " فلتقم " لام الامر وهي تجزم الفعل. ومن حقها أن
310

تكون مكسورة إذا ابتدئ بها. وبنو سليم يفتحونها. يقولون: ليقم زيد. كما
تميم لام كي يقولون جئت لآخذ حقي. فإذا اتصلت بما قبلها من الواو والفاء
جاز تسكينها وكسرها. ذكره الفراء.
وقال: " طائفة أخرى " ولم يقل: آخرون، ثم قال: " لم يصلوا فليصلوا
معك " ولم يقل: فلتصل معك حملا للكلام تارة على اللفظ وأخرى على المعنى كما
قال: " وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " (1) ولو قال: اقتتلنا لكان جائزا ومثله
" فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " (2) وفي قراءة أبي: حق عليه الضلالة
ومثله " نحن جميع منتصر " (3) ولم يقل منتصرون ومثله كثير. وفي الآية
دلالة على نبوة النبي صلى الله عليه وآله. وذلك أن الآية نزلت والنبي صلى الله عليه وآله بعسفان والمشركون
بضجنان، فتواقفوا فصلى النبي صلى الله عليه وآله بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع، والسجود
فهم بهم المشركون ان يغيروا عليهم، فقال بعضهم: لهم صلاة أخرى أحب إليهم
من هذه يعنون العصر، فأنزل الله عليه الآية فصلى بهم العصر صلاة الخوف،
ويقال: إنه كان ذلك سبب اسلام خالد بن الوليد، لأنه كان هم بذلك فعلم أنه ما أطلع
النبي صلى الله عليه وآله على ما هموا به غير الله تعالى فاسلم وفي الناس من قال: من حكم صلاة
الخوف اختص به النبي صلى الله عليه وآله وقال آخرون - وهو الصحيح - انه يجوز لغيره.
قوله تعالى:
(فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم
فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
موقوتا) (103) - آية -.
المعنى:
معنى الآية انكم أيها المؤمنون إذا فرغتم من صلاتكم - وأنتم مواقفو

(1) سورة الحجرات: آية 9.
(2) سورة الأعراف: آية 29.
(3) سورة القمر: آية 44.
311

عدوكم - التي بيناها لكم (فاذكروا الله قياما وقعودا) أي في حال قيامكم وفي
حال قعودكم، ومضطجعين على جنوبكم. والجنب: الجانب تقول نزلت جنبه أي
جانبه بالتعظيم له والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم لعل الله أن يظفركم بهم.
وينصركم عليهم. وذلك مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
واذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون) (1). وهو قول ابن عباس وأكثر
المفسرين. وقوله: (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " اختلفوا في تأويله، فقال قوم
معناه إذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في سفركم وضربكم في الأرض. ذهب إليه مجاهد،
وقتادة وقال آخرون معناه إذا استقررتم بزوال الخوف من عدوكم، وحدوث
الامن لكم، فأقيموا الصلاة أي فأتموا حدودها بركوعها، وسجودها. ذهب إليه
السدي، وابن زيد، ومجاهد في رواية أخرى. وهو اختيار الجبائي، والبلخي
الطبري. وأقوى التأويلين قول من قال: إذا زال خوفكم من عدوكم، وأمنتم
فأتموا الصلاة بحدودها غير قاصرين لها عن شئ من حدودها، لأنه تعالى عرف عباده
الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الآيتين في حالين:
إحداهما - حال شدة الخوف أذن لهم فيها بقصر الصلاة على ما بيناه من قصر
حدودها، والاقتصار على الايماء.
والثانية - حال غير شدة الخوف أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها على ما مضى
من معاقبة بعضهم بعضا في الصلاة خلف أئمتها، لأنه قال: " وإذا كنت فيهم فأقمت
لهم الصلاة " فلما قال: " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " كان معلوما انه يريد إذا
اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا فيها مقيمين صلاتكم فأقيموا الصلاة بجميع
حدودها غير قاصرين لها.
وقال ابن مسعود نزلت الآية في صلاة المرضى. والظاهر بغيره أشبه. وقوله:
(إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) اختلفوا في تأويله، فقال قوم:

(1) سورة الأنفال: آية 46.
312

معناه ان الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة، ذهب إليه عطية العوفي،
وابن عباس، وابن زيد، والسدي، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر (ع)
وأبي عبد الله (ع). وقال آخرون: كانت على المؤمنين فرضا واجبا. ذهب إليه
الحسن، ومجاهد، في رواية، وابن عباس في رواية وأبو جعفر في رواية أخرى
عنه، والمعنيان متقاربان بل هما واحد. وقال آخرون: معناه كانت على المؤمنين كتابا
موقوتا يعني منجما يؤدونها في انجمها ذهب إليه ابن مسعود وزيد بن أسلم
وقتادة. وهذه الأقوال متقاربة، لان ما كان مفروضا فهو واجب وما كان واجبا
أداؤه في وقت بعد وقت فمفروض منجم. واختار الجبائي والطبري القول الأخير
قال: لان موقوتا مشتق من الوقت فكأنه قال: هي عليهم فرض في وقت وجوب
أدائها.
قوله تعالى:
(ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون
كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما
(104) - آية بلا خلاف -.
المعنى:
معنى قوله: (ولا تهنوا) لا تضعفوا يقال وهن فلان في الامر يهن وهنا
ووهونا. وقوله في ابتغاء القوم يعني في طلب القوم. والقوم هم أعداء الله وأعداء
المؤمنين من أهل الشرك " إن تكونوا " أيها المؤمنون " تألمون " مما ينالكم من
الجراح منهم في الدنيا " فإنهم " يعني المشركين " يألمون " أيضا مما ينالهم منكم
من الجراح والأذى مثل ما تألمون أنتم من جراحهم وأذاهم " وترجون " أنتم
أيها المؤمنون " من الله " الظفر عاجلا والثواب آجلا على ما ينالكم منهم " مالا
يرجون " هم على ما ينالهم منكم يقول: فأنتم إن كنتم مؤمنين من ثواب الله لكم
313

على ما يصيبكم منهم بما هم مكذبون به فأولى وأحرى ان تصبروا على حربهم وقتالهم
منهم على قتالكم وحربكم. وهو قول قتادة، والسدي، ومجاهد، والربيع، وابن زيد،
وابن عباس، وابن جريج.
النزول: وقال ابن عباس، وعكرمة: الآية نزلت في أهل أحد لما أصاب المسلمين
ما أصابهم وصعد النبي صلى الله عليه وآله الجبل وجاء أبو سفيان وقال يا محمد صلى الله عليه وآله يوم لنا
ويوم لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله أجيبوه، فقال المسلمون لا سواء لا سواء قتلانا
في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان عزى لنا ولا عزى لكم، فقال
النبي صلى الله عليه وآله قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان أعل هبل، فقال
النبي صلى الله عليه وآله قولوا له: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان موعدنا وموعدكم بدر
الصغرى، ونام المسلمون وبهم الكلوم وفيهم نزلت " ان يمسسكم قرح فقد.. "
الآية. وفيهم نزلت " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " لان الله تعالى
أمرهم على ما بهم من الجراح ان يتبعوهم وأراد بذلك ارهاب المشركين فخرجوا إلى
بعض الطريق وبلغ المشركين ذلك فاسرعوا حتى دخلوا مكة.
المعنى واللغة:
وقال بعضهم معنى " وترجون من الله ما لا يرجون " أي تخافون من جهته
ما لا يخافون كما قال: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " (1)
بمعنى لا يخافون. وقال قوم لا يعرف في كلام العرب الرجاء بمعنى الخوف إلا إذا
كان في الكلام جحد سابق كما قال: " ما لكم لا ترجون لله وقارا " (2) بمعنى
لا تخافون لله عظيمة. وقال الشاعر:

(1) سورة الجاثية: آية 13.
(2) سورة نوح: آية 13.
314

لا ترتجى حين تلاقي الزائدا * أسبعة لاقت معا أو واحد (1)
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وحالفها في بيت نوب عوامل (2)
قال: الفراء: نوب ونوب، وهو النحل. ولا يجوز أن تقول رجوتك بمعنى
خفتك. وإنما استعمل الرجاء بمعنى الخوف لان الرجاء أمل قد يخاف ألا يتم. وهي
لغة حجازية. قال الكسائي: لم أسمعها إلا بتهامة ويذهبون معناها إلى قولهم:
ما أبالي وما أحفل قال الشاعر:
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما * على أي جنب كان لله مصرعي
أي ما أبالي. وقوله: " كان الله عليما " يعني بمصالح خلقه حكيما في تدبيره
إياهم وتقديره أحوالهم.
قوله تعالى:
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك
الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله كان غفورا
رحيما) (106) - آيتان -.
المعنى:
خاطب الله بهذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله، فقال: " إنا أنزلنا إليك " يا محمد صلى الله عليه وآله
" الكتاب " يعني القرآن " بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " يعني بما أعلمك
الله في كتابه " ولا تكن للخائنين خصيما " نهاه أن يكون لمن خان مسلما أو معاهدا
في نفسه أو ما له خصيما يخاصم عنه، ويدفع من طالبه عنه بحقه الذي خانه فيه.
ثم أمره بأن يستغفر الله في مخاصمته عن الخائن مال غيره " إن الله كان غفورا

(1) معاني القرآن 1: 286 واللسان (رجا).
(2) ديوانه 143، ومعاني القرآن 1: 286، والصحاح الجوهري (رجا) ويروى (عوامل).
315

رحيما " يصفح عن ذنوب عباده ويسترها عليهم، ويترك مؤاخذتهم بها. وعندنا
أن الخطاب وإن توجه إلى النبي صلى الله عليه وآله من حيث خاصم من رآه على ظاهر الايمان
والعدالة، وكان في الباطن بخلافه فلم يكن ذلك معصية، لأنه (ع) منزه عن القبائح
فإنما ذكر على وجه التأديب له في أن لا يبادر فيخاصم ويدفع عن خصم إلا
بعد أن يبين الحق منه. والمراد بذلك أمته عليه السلام. على أنا لا نعلم أن ما روي
في هذا الباب وقع من النبي صلى الله عليه وآله، لان طريقه الآحاد، وليس توجه النهي إليه
بدال على أنه وقع منه ذلك المنهي قال " لئن أشركت ليحبطن عملك " (1) ولا
يدل ذلك على وقوع الشرك منه. وقال قوم من المفسرين: انه لم يخاصم عن الخصم
وإنما هم به فعاتبه الله على ذلك.
القصة والنزول:
والآية نزلت في بني أبيرق كانوا ثلاثة أخوة بشر وبشير ومبشر وكان بشر
يكنى أبا طعمة فنقبوا على عم قتادة بن النعمان وأخذوا له طعاما وسيفا، ودرعا
فشكى ذلك إلى ابن أخيه قتادة وكان قتادة بدريا فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فذكر
له القصة، وكان معهم في الدار رجل يقال له لبيد بن سهل وكان فقيرا شجاعا مؤمنا،
فقال بنو أبيرق لقتادة هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ لبيدا ذلك، فاخذ سيفه
وخرج إليهم. وقال يا بني أبيرق أترموني بالسرق وأنتم أولى به مني، وأنتم
المنافقون تهجون رسول الله وتنسبون إلى قريش لتبنين ذلك أو لأضعن سيفي فيكم
فداروه. وقالوا: ارجع رحمك الله فأنت برئ من ذلك. وبلغهم ان قتادة مضى
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فمشوا إلى رجل من رهطهم يقال له أسير بن عروة، وكان
منطيقا لسنا فأخبروه، فمشى أسير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في جماعة،
فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن قتادة بن النعمان رمى جماعة من
أهل الحسب منا بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم وجاء قتادة إلى النبي صلى الله عليه وآله فاقبل

(1) سورة الزمر: آية 65.
316

عليه النبي صلى الله عليه وآله، وقال عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب رميتهم بالسرق وعاتبه
فاغتم قتادة ورجع إلى عمه، فقال: ليتني مت ولم أكن كلمت رسول الله صلى الله عليه وآله فقد
قال لي ما كرهت، فقال عمه الله المستعان، فنزلت هذه الآية (ومن يكسب خطيئة
أو اثما ثم يرمي به بريئا) (1) يعني لبيد بن سهل حين رماه بنو أبيرق بالسرق " فقد
احتمل بهتانا واثما مبينا " إلى قوله: (وكان فضل الله عليك عظيما) (2) فبلغ
ذلك بني أبيرق فخرجوا من المدينة، ولحقوا بمكة وارتدوا لهم يزالوا بمكة مع قريش
فلما فتح مكة هربوا إلى الشام فأنزل الله فيهم (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين
له الهدى) (3) إلى آخر الآيات. ولما مضى إلى مكة نزل على سلامة بنت سعد
ابن شهيد امرأة من الأنصار كانت ناكحا في بني عبد الدار بمكة فهجاها حسان،
فقال:
وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت * ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم * وفينا نبي عنده الوحي واضعه (4)
فحملت رحله على رأسها وألقته بالأبطح وقالت. ما كنت تأتيني بخير أهديت إلي
شعر حسان. ونزل فيه قوله: (ومن يشاقق الرسول) (5) هذا قول مجاهد،
وقتادة بن النعمان، وابن زيد، وعكرمة، إلا أن قتادة، وابن زيد، وعكرمة
قالوا: إن بني أبيرق طرحوا ذلك على يهودي يقال له زيد بن السمين، فجاء
اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وبمثله قال ابن عباس. وقال ابن جريج: هذه
الآيات كلها نزلت في أبي طعمة بن أبي أبيرق إلى قوله: (إن الله لا يغفر ان
يشرك به. ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (6) وقال: رمى بالدرع في دار أبي مليك
ابن عبد الله الخزرجي فلما نزل القرآن لحق بقريش، وقال الضحاك: نزلت في

(1) سورة النساء: آية 111.
(2) سورة النساء: آية 111.
(3) سورة النساء: آية 114.
(4) ديوانه: 271.
(5) سورة النساء: آية 114.
(6) سورة النساء: آية 47، 115.
317

رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها فخونه رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
فغضب له قوم فاتوا نبي الله، فقالوا: أخونوا صاحبا، وهو أمين مسلم؟ فعذره
النبي صلى الله عليه وآله وكذب عنه. وهو يرى أنه برئ مكذوب عليه، فأنزل الله فيه
الآيات. واختار الطبري هذا الوجه وقال: لان الخيانة إنما تكون في الوديعة فأما
السارق فلا يسمى خائنا فحمله عليه أولى وكل ذلك جائز.
قوله تعالى:
(ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من
كان خوانا أثيما) (107) - آية -.
نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يجادل عن الذين يختانون أنفسهم بمعنى
يخونون أنفسهم فيجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من الأموال. وهم الذين تقدم
ذكرهم من بني بيرق فقال: لا تخاصم عنهم فيما خانوا فيه ثم أخبر (إن الله لا يحب
من كان خوانا أثيما) يعني من كان صنعته خيانة الناس في أموالهم (أثيما) يعني
مأثوما وبمثله قال من تقدم من المفسرين قال قتادة: وفيهم نزلت الآيات إلى قوله:
(ومن يشاقق الرسول).
قوله تعالى:
(يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم
إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما تعملون محيطا)
(108) - آية -.
معنى يستخفون يكتمون فأخبر الله تعالى ان هؤلاء الخائنين يكتمون
خيانتهم من الناس الذين لا يقدرون لهم على شئ إلا الذكر لهم بقبيح ما أتوه من
فعلهم وتشنيع ما ركبوه إذا اطلعوا منهم على ذلك حياء منهم وحذرا من قبح
318

الأحدوثة ولا يستخفون من الله الذي هو معهم بمعنى أنه مطلع عليهم لا يخفى عليه
شئ من أمرهم وبيده العقاب. والنكال وتعجيل العذاب فهو أحق بأن يستحيا
منه وأولى بأن يعظم من أن يراهم حيث يكرهه إذ يبيتون ما لا يرضى من القول
معناه حين يسرون ليلا ما لا يرضى من القول فيغيرونه عن وجهه. ويكونون فيه.
والتبييت هو كل كلام أو امرأ صلح ليلا وأصله من فكرهم فيه ليلا. وقال
الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيتوا * وكانوا أتوني بشئ نكر (1)
وحكي عن بعض طئ ان التبييت في لغتهم التبديل. وأنشد الأسود بن
عامر بن جوين الطائي في معاتبة رجل:
وبيت قولي عبد المليك * قاتلك الله عبدا كنودا (2)
يعني بدلت قولي. وروي عن الأعمش عن أبي رزين: ان معنى " يبيتون
ما لا يرضى " يؤلفون ما لا يرضى يعني في رمي البرئ بجرم السقيم. والمعنى متقارب،
لان التأليف والتشويه والتغيير عما هو عليه وتحويله عن معناه إلى غيره واحد
والمعني بالآية الرهط الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مسألة المدافعة عن بني
أبيرق، والجدال عنه " وكان الله بما تعملون محيطا " يعني يعلم ما يعلمه هؤلاء
المستخفون من الناس وتبييتهم ما لا يرضى من القول وغيره من أفعالهم " محيطا "
بمعنى عالما محصيا لا يخفى عليه شئ منه حافظا لجميعه ليجازيهم عليه ما يستخفونه
قال الزجاج: الذي بيتوه قولهم إن اليهودي سارق الدرع وعزمهم على أن يحلفوا
انهم ما سرقوا وان يمينهم تقبل دون يمين اليهودي، لأنه مخالف الاسلام.
قوله تعالى:
(ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله

(1) مر تخريجه في 3: 9؟ 2.
(2) لم نجده في مصادرنا.
319

عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) (109) - آية بلا
خلاف -.
ها أنتم (ها) للتنبيه وأعيدت مع (أولاء) والمعنى ها أنتم الذين جادلتم،
لان (هؤلاء، وهذا) يكون في الإشارة للمخاطبين التي أنفسهم بمنزلة الذين.
وقد يكون لغير المخاطبين بمنزلة الذين، قال يزيد بن مفرغ:
نجوت وهذا تحملين طليق (1)
أي والذي تحملين طليق. قال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين، لان المخاطب
المواجه لا يحتاج إلى الإشارة إلى نفسه. وقال المغربي: هؤلاء كناية عن اللصوص
الذين يجادل عنهم. وهو غير أنتم ولذلك حسن التكرير. ومعنى الآية ها أنتم الذين
جادلتم. والجدال أشد الخصومة مأخوذ من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله. ورجل
مجدول شديد. والأجدل الصقر، لأنه أشد الطيور. والمعنى يا معاشر من جادل عن
بني أبيرق في الحياة الدنيا. والهاء والميم في عنهم كناية عن الخائنين، فمن يجادل
الله عنهم. معناه من ذا يخاصم الله عنهم يوم تقوم الساعة يوم يقوم الناس من
قبورهم إلى محشرهم فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم. والمعنى إنكم إن دافعتم في عاجل
الدنيا فإنهم سيصيرون في الآخرة إلى من لا يدافع عنده عنهم أحد فيما يفعل بهم
من العذاب وأليم النكال.
وقوله: (أم من يكون عليهم وكيلا) معناه ومن ذا الذي يكون وكيلا
على هؤلاء الخائنين يوم القيامة يتوكل عنهم في خصومة الله عنهم يوم القيامة.
وقد بينا أن الوكالة هي القيام بأمر من يوكل له.

(1) قائله يزيد بن مفرغ الحميري. حاشية الصبان 1: 160 قطر الندى 106،
وأكثر كتب النحو وصدره:
عدس ما لعباد عليك امارة
وهو من قصيدة هجا بها عباد بن زياد بن أبي سفيان فسجنه وأطال سجنه فكلم فيه معاوية
فوجه بريدا يقال له حمحام فأخرجه وقدمت له فرس (وقيل بغلة) فنفرت فقال: عدس.. الخ
وعدس صوت يزجر به البغل.
320

قوله تعالى:
(ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله
يجد الله غفورا رحيما) (110) - آية -.
المعنى:
المعنى من يعمل ذنبا، وهو السوء، أو يظلم نفسه باكتساب المعاصي التي
يستحق بها العقوبة " ثم يستغفر الله " يعني يتوب إليه مما عمل من المعاصي،
ويراجعه " يجد الله غفورا رحيما " ومعناه يعلمه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن
عقوبة جرمه " رحيما " به.
واختلفوا فيمن عنى بهذه الآية، فقال قوم: عنى بها الخائنين الذين وصفهم
في الآية الأولى.
وقال آخرون: عنى الذين كانوا يجادلون عن الخائنين. قال لهم: " ها أنتم
جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ". والأولى حمل الآية على عمومها في كل من عمل
سوا أو ظلم نفسه، وإن كان سبب نزولها فيمن تقدم ذكره من الخائنين أو المجادلين.
وبه قال أكثر المفسرين: الطبري، والبلخي، والجبائي، وابن عباس، وعبد الله
ابن معقل، وأبو وائل، وغيرهم.
قوله تعالى:
(ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله
عليما حكيما) (111).
[المعنى]:
المعنى من يأت ذنبا على عمد منه ومعرفة فإنما يجترح وبال ذلك الذنب،
321

وضره وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق الله.
والمعنى ولا تجادلوا أيها الناس الذين يجادلون عن هؤلاء الخونة - فإنكم وإن
كنتم لهم عشيرة وقرابة - فيما أتوه من الذنب، ومن التبعة التي يتبعون بها، فإنكم
متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم، فلا تدافعوا عنهم ولا تخاصموا
" وكان الله عليما حليما " يعني عالما بما تفعلون أيها المجادلون عن الخائنين أنفسهم،
وغير ذلك من أفعالهم وافعال غيرهم " حكيما " في أفعاله من سياستكم وتدبيركم،
وتدبير جميع خلقه.
وقيل: إنها نزلت في أبريق. وفي الآية دلالة على أنه لا يؤخذ أحد
بجرم غيره، ولا يعاقب الأولاد بذنوب الآباء على ما يذهب إليه قوم من أهل الحشو.
ومثله قوله: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " (1).
قوله تعالى:
(ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل
بهتانا وإثما مبينا) (112) - آية بلا خلاف -.
[اللغة، والمعنى]:
الخطيئة، والخطئ: الاثم العمد، تقول: خطئ يخطأ: إذا تعمد الذنب،
وأخطأ يخطأ: إذا لم يتعمد. قال الزجاج: لما سمى الله تعالى المعاصي بأنها خطيئة
ووصفها دفعة أخرى بأنها إثم، فصل بينهما ههنا حتى يدخل الجنسان فيه. وقال
غيره: المعنى من يعمل خطيئة، وهي الذنب، أو إثما، وهو ما لا يحل من المعصية،
وفرق بين الخطيئة والاثم، لان الخطيئة قد تكون عمدا وغير عمد، والاثم
لا يكون إلا عمدا. فبين تعالى أن من يفعل خطيئة على غير عمد منه لها مما يلزمه

(1) سورة الأنفال: آية 164.
322

فيه الغرامة، وان لم يكن إثم فيه، أو آثما فيه على عمد منه، وهو ما يستحق به
العقاب " ثم رمى به بريئا " يعني أضافه إلى من هو برئ منه " فقد احتمل بهتانا "
يعني فقد تحمل بفعله ذلك فرية وكذبا " وإثما مبينا " يعني وجرما عظيما.
والبهتان: الكذب الذي تتحير فيه من عظمه وبيانه. يقال: بهت فلان:
إذا كذب، وبهت يبهت: إذا تحير، قال الله تعالى: " فبهت الذي كفر " (1) وإنما
قال " به " وقد ذكر الخطيئة والاثم قال الفراء: لأنه يجوز أن يكنى عن الفعلين
أحدهما مؤنث والآخر مذكر بلفظ التذكير والتوحيد ولو كثر لجازت الكناية
بالتوحيد، لان (الأفاعيل) تقع على فعل واحد، فكذلك جاز، فان شئت جعلتها
لواحد، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا
انفضوا إليها " (2) فجعله للتجارة. وفي قراءة عبد الله " وإذا رأوا لهوا أو تجارة "
فجعله للتجارة في تقديمها وتأخيرها. ولو ذكر على نية اللهو لجاز وقد جاء مثنى،
قال تعالى: " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " (3) وفى قراءة أبي " إن يكن
غنيا أو فقيرا فالله أولى بهم ". وفي قراءة عبد الله بن مسعود مثله، لأنه في مذهب
الجمع كما يقول: أصبح الناس صائما ومفطرا، فأدى اثنان عن الجمع. وقال الزجاج:
المعنى ثم يرمي بذلك بريئا. قال رؤبة:
فيه خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق (4)
أي كأن ذلك. واختلفوا فيمن عنى به بقوله: " بريئا " بعد إجماعهم على
أن الرامي ابن أبيرق، فقال قوم: البرئ رجل مسلم يقال له: لبيد بن سهل. وقال
آخرون: بل هو رجل يهودي يقال له زيد بن السمين. وقد ذكرناه فيما مضى.
وبالأخير قال ابن سيرين، ورواء أبو الجارود عن أبي جعفر (ع).

(1) سورة البقرة، آية 257.
(2) سورة الجمعة، آية 11.
(3) سورة النساء، آية 134.
(4) انظر 1: 296.
323

قوله تعالى:
(ولولا فضل الله ورحمته لهمت عليك طائفة منهم
أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ
وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل
الله عليك عظيما) (113) - آية -.
معنى الآية لولا أنه تعالى تفضل عليك يا محمد فعصمك بتوفيقه وبيانه لك
أمر هذا الخائن حتى كففت عن الجدال عنه " لهمت طائفة " ومعناه لقد همت
فرقة منهم، بتقدير (قد) ذكره الفراء. ويعني بالفرقة التي همت من الخائنين
أنفسهم " أن يضلوك " بمعنى يزلوك عن الحق، ويخطئوك. وقيل: يهلكوك
بتلبيسهم أمر الخائن عليك وشهادتهم عندك بأنه برئ مما ادعي عليه، ثم قال
تعالى: " وما يضلون " هؤلاء الذين هموا باضلالك عن الواجب في أمر هذا
الخائن " إلا أنفسهم ". واضلالهم أنفسهم كان بأن الله لما كان قد بين لهم ما ينبغي
أن يعملوا عليه من المعاونة على البر والتقوى، والا يتعاونوا على الاثم والعدوان،
فلما عدلوا عن ذلك وتعاونوا على الاثم والعدوان، فكانوا بذلك مضلين أنفسهم
عن طريق الحق.
وقوله: " وما يضرونك من شئ " يعني هؤلاء الذين هموا بازلالك،
لا يضرونك، لان الله قد يثبتك ويسددك في أمورك، ويبين لك أمر المحق والمبطل.
" وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " معناه ومن فضل الله عليك يا محمد،
ما تفضل به عليك، انزاله عليك الكتاب الذي هو القرآن، وفيه تبيان كل شئ
وهدى وموعظة وانزل عليك الحكمة مضافة إلى الكتاب، وهي بيان ما ذكره في
الكتاب مجملا من أحكام الكتاب: من الحلال والحرام، والأمر والنهي " وعلمك
324

ما لم تكن تعلم " من خبر الأولين والآخرين وما كان وما هو كائن. وكل ذلك
من فضل الله.
وقوله: " وكان فضل الله عليك عظيما " يعني لم يزل فضل الله عليك يا محمد
عظيما، فاشكره على ما أولاك من نعمه واحسانه. قال الجبائي: وفي الآية دلالة
على أن التسمية بالضلال تسمى اضلالا، لأنه لو كان ذلك صحيحا، لكانوا
قد أضلوا النبي صلى الله عليه وآله حيث نسبوه إلى الضلال وقد نفى الله عنه ذلك. وهذا ليس
بصحيح لامرين:
أحدهما - انهم ما سموه بهذا الفعل ضالا، وإنما قصدوا التمويه،
والتلبيس عليه، فلما كشف الله تعالى ذلك بطل غرضهم.
والثاني - ان من قال: إن الضلال يكون بمعنى التسمية لم يقل: إنه لا يكون
الا كذلك، لان الاضلال على وجوه مختلفة: بمعنى التسمية، وغير ذلك مما بيناه
فيما تقدم. والاضلال يكون بمعنى الدفن قال النابغة:
وآب مضلوه بغير جلية * وغودر بالجولان جرم ونائل (1)
يعني دافنوه.
قوله تعالى:
(لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو
معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله
فسوف نؤتيه أجرا عظيما) (114) - آية بلا خلاف -.
(القراءة والحجة):
قرأ " فسوف يؤتيه " - بالياء - أبو عمر، وحمزة، وقتيبة، وخلف.

(1) انظر 1: 194.
325

الباقون بالنون من قرأ بالياء حمله على قوله: " ومن يفعل ". ومن قرأ بالنون حمله
على المعنى.
أخبر الله تعالى: أنه لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا. والنجوى هو
ما ينفرد به الاثنان أو الجماعة سرا كان أو جهرا. ويقال: نجوت الشئ: إذا
خلصته وألقيته. يقال: نجوت الجلد: إذا ألقيته عن البعير، وغيره قال الشاعر:
فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه * سيرضيكما منها سنام وغاربه (1)
ونجوت فلانا: إذا استنكهته قال الشاعر:
نجوت مجالدا فوجدت منه * كريح الكلب مات حديث عهد (2)
ونجوت الوتر واستنجيته إذا خلصته كما قال الشاعر:
فتبازت فتبازخت لها * جلسة الأعسر يستنجي الوتر (3)
وأصله كله من النجوة، وهوما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف سيلا:
فمن بنجوته كمن بعقوته * والمستكن كمن يمشي بقرواح (4)
ويقول: ما أنجا فلان شيئا وما نجا شيئا منذ أيام إذا لم يتغوط. والتقدير
في الآية " لا خير في كثير " مما يديرونه بينهم من الكلام " إلا " كلام " من أمر
بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ".
[الاعراب]:
قال الزجاج يحتمل موضع من نصبا وأن يكون خفضا، فالخفض على إلا في
نجوى من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح. والنصب على أن يكون استثناء
منقطعا بمعنى لكن كأنه قال: لكن من أمر بصدقة أو معروف ففي نجواه خير.
وطعن بعضهم على الوجه الأول بأن قال لا يجوز أن يعطف بالأعلى الهاء والميم في
مثل هذا الموضع من أجل أنه لم ينله الجحد. وقال الفراء: يحتمل الخفض على

(1) لسان العرب: (نجا)
(2) انظر: 218، اللسان (بحا)
(3) اللسان " نجا " ويروى. جلسة الجازر. قائله عبد الرحمن بن حسان.
(4) قائله عبيد بن الأبرص. مر في 1: 218. اللسان نجا
326

تقدير لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة فيكون النجوى على هذا
هم الرجال المتناجون كما قال: (ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم) (1) وكما
قال: " واذهم نجوى " (2) والنصب على أن يجعل النجوى فعلا فيكون نصبا،
لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعا، لان (من) خلاف النجوى ومثله قول الشاعر:
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها * أعيت جوابا وما بالدار من أحد (3)
إلا الاواري لاياما أبينها * والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ويحتمل وجها ثالثا أن يكون رفعا كما قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير والا العيس (4)
وأقوى الوجوه أن تجعل (من) في موضع خفض بالرد النجوى،
ويكون بمعنى المتناجين، خرج مخرج السكري والجرحى، ويكون التقدير لا خير
في كثير من نجواهم يعني من المتناجين يا محمد إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو
اصلاح بين الناس، فان أولئك فيهم الخير.
وقوله: " ومن يفعل ذلك " إشارة إلى ما تقدم من الامر بالصدقة والمعروف
والاصلاح بين الناس ابتغاء مرضاة الله يعني طلب مرضاة الله ونصب ابتغاء على
أنه مفعول له وتقديره لابتغاء مرضاة الله، وهو في معنى المصدر، لان التقدير
ومن يتبع ذلك ابتغاء مرضاة الله، وقوله: " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " يعني ثوابا
جزيلا في المستقبل.
قوله تعالى
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى
ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم

(1) سورة المجادلة، آية / 7
(2) سورة الاسرى، آية 47.
(3) أنظر 1: 44 (وأصيلالا) فيها روايتان أخريان: أصيلانا وأصيلا كي. والبيتان للنابغة من
معلقته المشهورة.
(4) أنظر 1: 151 ومعاني الفراء 1: 288.
327

وساءت مصيرا " (115) آية بلا خلاف.
المعنى:
معنى يشاقق الرسول يباين الرسول معاديا له، فيفارقه على العداوة، لان
المشاقة هي المباينة على وجه العداوة، من بعد ما تبين له الهدى " معناه من بعد
ما نبين له وظهر أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله حق، وهدى موصل
إلى الصراط المستقيم بما معه من الآيات والمعجزات مثل القرآن وغيره. وقوله:
" ويتبع غير سبيل المؤمنين " معناه ويتبع غير سبيل من صدقه وسلك منهاجا غير
منهاجهم " نوله ما تولى " معناه نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان
والأصنام وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئا " ونصله جهنم " أي ونجعله
صلى نار جهنم معناه نحرقه بها وقد بينا معنى الصلى فيما تقدم " وساءت مصيرا "
يعني موضعا يصير إليه من صار إليه.
[القراءة]:
وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر الا البرجمي، والداجوى عن هشام، وأبو جعفر من
طريق النهرواني قوله " ونصله، ونوده " " ولا يؤده " حيث وقع بسكون الهاء فيهن،
قال الزجاج يقول في ذلك كسر الهاء، واثبات الياء وضم الهاء، واشباعها بالواو وبكسر
الهاء بلا ياء. ولا يجوز اسكان الهاء بلا كسر، لان الهاء من حقها أن تكون معها ياء فحذف
الياء. واثبات الياء وضم الهاء ضعيف، ولا يجوز حذف الياء إلا إذا كان هناك كسرة
يدل عليها النزول والمعنى. ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله:
" ولا تكن للخائنين خصيما " لما أبى التوبة أبو طعمة بن الأبيرق ولحق بالمشركين
من عبدة الأوثان بمكة مرتدا مفارقا رسول الله صلى الله عليه وآله وهو قول مجاهد وقتادة،
وأكثر المفسرين. وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
وقد استدل خلق من المتكلمين، والفقهاء بهذه الآية على أن الاجماع حجة،
328

بأن قالوا: توعد الله على اتباع غير سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله
فلولا أن اتباعهم واجب لم يجز ذلك، وهذا ليس بصحيح من وجوه:
أحدها - أن الآية نزلت في من تقدم ذكره وكان قد ارتد ولحق بالمشركين
فيجب أن يتناوله ويتناول كل من يجري مجراه من المرتدين ومخالفي الاسلام.
والثاني - أن من أصحابنا من قال: لا نسلم أنه أزاد ب‍ (من) في هذه الآية
الاستغراق، ولا بلفظة (سبيل) جميع السبل، ولا ب‍ (المؤمنين) جميع المؤمنين،
فمن أين لهم وجوب الاستغراق. وإذا احتمل التخصيص، جاز لنا أن نحمل على
سبيل الايمان الذي من خالفه كان كافرا، أو المؤمنين أراد به الأئمة المعصومين، ولو
جاز حملها على العموم، لوجب حملها على أهل جميع الأعصار على وجه الجمع دون أهل
كل عصر، لان العموم يقتضي ذلك، فإذا خصوا بأهل كل عصر، خصصنا ببعض
أهل العصر على أنه إنما حرم اتباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين وجوب اتباع
سبيلهم، ولم لا يجوز أن يكون اتباع غير سبيلهم محصورا. واتباع سبيلهم موقوفا
على الدليل، ويجوز أن يكون أيضا محظورا مثله أو مباحا أو مندوبا، فمن أين
الوجوب مع احتمال جميع ذلك على أنه لو سلم جميع ذلك، لكان يجب علينا اتباع
إذا كانوا مؤمنين، لأنه هكذا أوجب، فمن أين انهم لا يخرجون عن كونهم
مؤمنين. ووجوب الاتباع تابع لكونهم مؤمنين، فيحتاجون إلى دليل آخر في
أنهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين غير الآية على أن ظاهر الآية يتضمن أن من
شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين يتناوله الوعيد، فمن أين أنه إذا انفرد أحدهما
عن الآخر يتناوله الوعيد. ونحن إنما نعلم تناول الوعيد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله
بانفرادها بدليل غير الآية، فعلى من خالف أن يقول: إن اتباع غير سبيل المؤمنين
يتناوله الوعيد بدليل غير الآية. وقد استوفينا ما في هذه الآية في أصول الفقه،
وغيره من كتبنا مشروحا لا نطول بذكره ها هنا.
329

قوله تعالى:
(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) (116) آية بلا خلاف
اخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغفر الشرك، وأنه يغفر ما دونه، وقد
بينا الاستدلال بذلك على ما نذهب إليه من جواز العفو عن مرتكبي الكبائر من أهل
الصلاة، وإن لم يتوبوا فما مضى، فلا وجه لإعادته وقيل أنه عنى بهذه الآية أبا طعمة
الخائن حين أشرك ومات على شركه بالله، غير أن الآية وإن نزلت بسببه، فعندنا
وعند جميع الأمة أن الله لا يغفر لمن أشرك به بلا توبة: لتناول العموم لهم، فان
قيل: فعلى هذا من لم يشرك بالله بان لا يعبد معه سواه، وإن كان كافرا بالنبي صلى الله عليه وآله
من اليهود النصارى ينبغي أن يكون داخلا تحت المشيئة، لأنه مما دون الشرك!
قلنا: ليس الامر على ذلك لان كل كافر مشرك، لأنه إذا جحد نبوة النبي اعتقد أن
ما ظهر على يده من المعجزات - ليست من فعل الله، ونسبها إلى غيره، وان الذي صدقه
بها ليس هو الله، ويكون ذلك اشراكا معه على أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم قالوا:
- يعني النصارى - " المسيح ابن الله، وقالت اليهود عزيز بن الله " (1) وذلك هو الشرك
بالله تعالى على أنه لو لم يكونوا داخلين في الشرك لخصصناهم من جملة من تناولتهم
المشيئة لاجماع الأمة على أن الله تعالى لا يغفر الكفر على وجه الا بتوبة.
وقوله: " ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " يعني من يجعل في عبادته
مع الله شريكا، فقد ذهب عن طريق الحق وزال عن قصد السبيل ذهابا بعيدا، لأنه
باشراكه مع الله في عبادته فقد أطاع الشيطان، وسلك طريقه وترك طاعة ربه.

(1) سورة التوبة، آية 31.
330

قوله تعالى:
(إن يدعون من دونه إلا إناثا وان يدعون الا شيطانا
مريدا) (117) آية - اختلفوا في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال:
فقال أبو مالك، والسدي، وابن زيد، والزجاج: ان المراد بذلك آلهتهم،
واللات، والعزى، ومنات، وساف، ونائله سماهن إناثا بتسمية المشركين إياها
بأسماء الإناث.
الثاني - قال ابن عباس، وقتادة، والحسن: معناه ان يدعون من دونه الا
إناثا يقول ميتا ليس فيه روح، قال الحسن: الإناث كل شئ ميت ليس فيه روح،
مثل خشبة يابسة أو حجر يابس. وقال الزجاج لان الموات يخبر عنها بلفظ التأنيث
كما يعبر عن المؤنث تقول: الأحجار تعجبني ولا تقول يعجبوني.
الثالث - قال الحسن في رواية أخرى: إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم
إناثا، وكان لكل حي صنم يسمونها أنثى.
الرابع - قال مجاهد: الإناث هي الأوثان. وروي عن عروة عن أبيه أن في
مصحف عائشة الا أوثانا وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأها إلا وثنا جمع وثن
كأنه جمع وثنا، وثنا، ثم قلب الواو همزة مضمومة مثل وجوه وأوجه وقتت واقتت،
وقرأ بعضهم أنثا جمع إناث مثل ثمار وثمر والقراءة المشهورة إناثا، وعليه القراء من
أهل الأمصار.
الخامس - قال الحسين بن علي المغربي: إلا إناثا معناه ضعافا عاجزين لا قدرة
لهم يقولون: سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث أي غير قاطع. قال صخر الغي:
فتخبره بأن العقل عندي * جراز لا أفل ولا أنيث
وأنث في أمره: إذا لان، وضعف والانيث المخنث، وقال الكميت:
وشذبت عنهم شوك كل قتادة * بفارس يخشاها الانيث المغمز
331

قال الأزهري: والإناث الموات. وقوله: (وان يدعون الا شيطانا مريدا)
المعنى إن هؤلاء الذين يعبدون غير الله ليس يعبدون الا الجمادات، والا الشيطان
المريد وهو المتمرد على الله في خلافه فيما أمر به ونهى عنه وهو إبليس، وبه قال قتادة
وأكثر المفسرين " ويدعون " معناه يعبدون، لأنهم، إذا دعوا الله مخلصين،
فقد عبدوه، ومثله قوله: " ادعوني استجب لكم " (1) اي اعبدوني بدلالة قوله:
" ان الذين يستكبرون عن عبادتي " (1) قال الزجاج: المريد هو الخارج عن
الطاعة يقال حائط ممرد أي مملس وشجرة مرداء إذا تناثر ورقها ومنه سمي أمرد
ومن لا لحية له أي أملس موضع اللحية، ويقال مرد الرجل يمرد مرودا ومرادة:
إذا عتا وخرج عن الطاعة.
قوله تعالى:
(لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا
مفروضا) (118) آية.
معنى لعنه الله أبعده الله من ثوابه، وأخزاه وأقصاه والهاه في (لعنه) الله
كناية عن الشيطان والتقدير، وان يدعون إلا شيطانا مريدا قد لعنه الله وابعده
من كل خير.
وقوله: " وقال لاتخذن " يعني بذلك ان الشيطان المريد قال لربه (عز وجل)
إذ لعنه: لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا يعني قسما معلوما وبه قال الضحاك. واتخاذ
الشيطان النصيب من عباد الله يكون باغوائه إياهم عن قصد السبيل، ودعائه إياهم
إلى طاعته، وتزيينه لهم الضلال والكفر، فمن أجاب دعاءه واتبعه، فهو من نصيبه
المعلوم، وحظه المقسوم، وإنما اخبر بذلك ليعلم الذين شاقوا الرسول من بعد ما تبين
له الهدى انهم من نصيب الشيطان الذي لعنه الله. والمفروض: الموقت. والمعنى ها هنا

(1) سورة المؤمن، آية 60.
332

ما افترضه عليهم من طاعتي والفرض: القطع والفريضة الثلمة تكون في النهر والفريضة:
كل ما أمر الله به وألزمه وقوله: " وقد فرضتم لهن فريضة " (1) أي قطعة من
المال وفرضت للرجل: إذا جعلت له قطعة من مال الفئ والفرض التمر قال الشاعر:
إذا اكلت سمكا وفرضا * ذهبت طولا وذهبت عرضا (2)
وإنما سمي التمر فرضا لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة يقال: سقاها بالفراض والفرض
والفرض الحز يكون في المسواك يشد فيه الخيط، والفرض في القوس: الحز يشد
فيه الوتر.
قوله تعالى:
(ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن اذان
الانعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان
وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (119) يعدهم ويمنيهم
وما يعدهم الشيطان الا غرورا (120) أولئك مأواهم جهنم ولا
يجدون عنها محيصا (121) ثلاث آيات.
[المعنى]:
قوله: " ولأضلنهم " إخبار عن الشيطان المريد الذي وصف صفته في الآية
الأولى أنه قال لربه: " لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. ولأضلنهم " ومعناه
ولأصدن النصيب المفروض الذي اتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال
ومن الاسلام إلى الكفر " ولأمنينهم " ومعناه أوهمهم انهم ينالون في الآخرة
حظا لأزيغنهم بما أجعل في أنفسهم من الأماني عن طاعتك وتوحيدك إلى طاعتي
والشرك بي " ولآمرنهم فليبتكن اذان الانعام " يعني لآمرن النصيب المفروض من

(1) سورة البقرة، آية 277.
(2) لسان العرب (فرض).
333

عبادك بعبادة غيرك من الأنداد والأوثان ينسكوا له ويحرموا يحللوا ويشرعوا غير
الذي شرعه الله لهم فيتبعوني ويخالفوك.
[اللغة]:
والتبتيك: القطع تقول بتكت الشئ ابتكه تبتيكا: إذا قطعته. وبتكه
وبتك مثل قطعه وقطع وسيف باتك: قاطع والمراد في هذا الموضع قطع اذن البحيرة،
ليعلم انها بحيرة. وأراد الشيطان بذلك دعاءهم إلى البحيرة فيستجيبون له، ويعملون
بها طاعة له. قال قتادة: البتك قطع اذان البحيرة والسائبة لطواغيتهم وقال السدي:
كانوا يشقونها. وبه قال عكرمة وقوله: " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " اختلفوا
في معناه فقال ابن عباس، والربيع بن انس عن انس: انه الاخصاء وكرهوا
الاخصاء في البهائم وبه قال سفيان، وشهر بن حوشب، وعكرمة وأبو صالح وفي
رواية أخرى عن ابن عباس فليغيرن دين الله وبه قال إبراهيم ومجاهد وروي ذلك
عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم السلام قال مجاهد: كذب العبد يعني عكرمة
في قوله: إنه الاخصاء وإنما هو تغيير دين الله الذي فطر الناس عليه في قوله:
" فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " (1) وهو قول
قتادة، والحسن والسدي، والضحاك، وابن زيد. وقال قوم: هو الوشم. روي
ذلك عن الحسن والضحاك وإبراهيم أيضا وعبد الله. وقال عبد الله: لعن الله
الواشمات والموتشمات والمتفلجات المغيرات خلق الله وقال الزجاج: خلق الله تعالى
الانعام ليأكلوها، فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة
للناس ينتفعون بها، فعبدها (2) المشركون وأقوى الأقوال من قال: فليغيرن خلق
الله بمعنى دين الله بدلالة قوله: " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك
الدين القيم " ويدخل في ذلك جميع ما قاله المفسرون، لأنه إذا كان ذلك خلاف الدين
فالآية تتناوله، ثم اخبر تعالى عن حال نصيب الشيطان المفروض الذين شاقوا

(1) سورة الروم: آية 3.
(2) في الأصل (فعبدوها)
334

" الله ورسوله من بعد ما تبين له الهدى " (1) فقال ومن يتبع الشيطان فيطيعه في
معصية الله وخلاف امره " فقد خسر خسرانا مبينا " معناه هلك هلاكا ظاهرا،
وبخس نفسه حظها خسرانا مبينا عن عطيه وهلاكه، لان الشيطان لا يملك له نصيرا
من الله إذا أراد عقابه، ثم اخبر تعالى الشيطان أنه يعد من يتبعه ويمنيهم
فيعدهم النصر ممن أرادهم، ويمنيهم الظفر على من أرادهم بمكروه، ثم قال تعالى:
" وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " يعني باطلا وسماه غرورا، لأنهم كانوا يظنون
أن ذلك حق، فلما بان لهم انه باطل، كان غرورا وقوله ": أولئك مأواهم جهنم "
إشارة إلى هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله مأواهم يعني مصيرهم
الذين يصيرهم إليه جهنم ولا يجدون عنها محيصا يعني لا يجدون عنها معدلا إذا
حصلوا فيها.
[اللغة]: يقول حاص فلان عن هذا الامر يحيص حيصا وحوصا: إذا عدل عنه ومنه
حديث ابن عمر (بعثا رسول الله صلى الله عليه وآله سرية، كنت فيهم فلقينا المشركون
فحصنا حيصة) وقال بعضهم: فجاضوا جيضة وهما بمعنى واحد، غير أنه لا يقرأ
إلا بالصاد والحاء وحصت احوص حوصا وحياصا إذا خطت يقال حص عين صقرك،
اي خط عينه والحوص في العين مؤخرها. والخوص غورها.
قوله تعالى:
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن
أصدق من الله قيلا) (122).

(1) سورة النساء آية: 114.
335

آية - لما ذكر الله تعالى حكم من يشاقق الرسول، ويتبع غير سبيل المؤمنين،
وذكر ان من يشرك به لا يغفر له وبين حكم من يتبع الشيطان ويكون من نصيبه،
ذكر في هذه الآية حكم من يؤمن به ويوحده، ويقر بنبيه ويصدقه ويضيف إلى
ذلك عمل الصالحات، وانه سيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا على
اعمالهم، وجزاء إيمانهم، ويخلدهم فيها " وخالدين " نصب على الحال والمعنى ان هذه
الحال ستدوم لهم، وتتأبد، وان ذلك وعد حق من الله لهم وقوله: " ومن أصدق
من الله قيلا " صورته صورة الاستفهام والمراد به التقرير والانكار والمعنى لا أحد
أصدق من الله قيلا أي قولا ووعدا، لأنه لا يجوز عليه خلف الميعاد ولا الاخلال
بما يجب عليه من الثواب. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء
يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) (123). آية
المعنى:
في (ليس) ضمير والتقدير ليس الثواب بأمانيكم، ولا أماني أهل الكتاب
والأماني يخفف ويثقل فيقال بأماني وأماني على وزن أفاعيل وفعالل كقراقير وقراقر.
واختلفوا في من عنى بهذه الآية فقال مسروق تفاخر المسلمون، وأهل الكتاب،
فقال المسلمون نحن اهدى منكم. وقال أهل الكتاب: نحن اهدى منكم. فأنزل الله
تعالى: " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به " فقال أهل
الكتاب نحن وأنتم سواء فأنزل الله تعالى " ومن يعمل من الصالحات من ذكر وأنثى
وهو مؤمن " (1) ففلح المسلمون. ذهب إلى ذلك قتادة والسدي، والضحاك وأبو

(1) في المطبوعة (ففنج).
336

صالح. وقال مجاهد معناه ليس بأمانيكم يعني أهل الشرك من قريش، لأنهم قالوا:
لا نبعث ولا نعذب، ولا أماني أهل الكتاب انهم خير من المسلمين، ولا يدخل
الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ذهب إليه ابن زيد وهذا الوجه أقوى لأنه لم
يجر لأماني المسلمين ذكر وقد جرى ذكر أماني الكفار في قوله: " ولأمنينهم "
يعني الذي يتخذهم الشيطان نصيبا مفروضا " ويقوي ذلك أن الله تعالى قد وعد
المؤمنين بقوله: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " بادخال الجنة والخلود فيها.
وتلك غاية أماني المسلمين، فكيف ينفي بعد ذلك أمانيهم؟.
وقوله: " ومن يعمل سوء يجز به " اختلفوا في تأويله فقال قوم: إنه يريد
بذلك جميع المعاصي صغائرها وكبائرها وإن من ارتكب شيئا منها، فان الله يجازيه
عليها. اما في الدنيا أو في الآخرة ذهب إليه قتادة وعائشة، ومجاهد. وقال
آخرون: من يعمل سوء من أهل الكتاب، نجزيه ذهب إليه، الحسن. قال:
كقوله: " وهل نجازي الا الكفور " (1) وبه قال ابن زيد والضحاك وهو الذي
يليق بمذهبنا، لأنا نقطع على أن الكفار لا يغفر لهم على حال والمسلمون يجوز أن
يغفر لهم ما يستحقونه من العقاب، فلا يمكننا القطع على أنه لابد أن يجازي بكل
سوء. وقال قوم: معنى السوء هاهنا الشرك فمعنى الآية من يعمل الشرك يجز به (2)
ذهب إليه ابن عباس وسعيد بن جبير. وروى أبو هريرة انه لما نزلت هذه الآية
شقت على المسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال صلى الله عليه وآله: فادفعوا وتشددوا،
ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها. وقيل
لبعض الصحابة: أليس بمرض، أليست تصيب اللاواء؟. قال: بلى فهو ما تجزون به.
وقوله: " ولا تجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " معناه ولا يجد الذي
يعمل سوء من معاصي الله، وخلاف امره وليا يلي أمره وينصره ويحامي عنه،
ويدفع عنه ما ينزل به من عقوبة الله، " ولا نصيرا " يعني ناصرا ينصره مما يحل به
من عقاب الله، واليم عذابه. واستدلت المعتزلة على المنع من غفران معاصي أهل

(1) سورة سبأ، آية 17
(2) في المطبوعة (ينجز به).
337

الصلاة بهذه الآية. قالوا: لأنه تعالى بين أنه يجازي على كل سيئة، وذلك يمنع من
جواز العفو قلنا: قد تكلمنا على نظير ذلك فيما مضى بما يمكن اعتماده هاهنا منها
انا لا نسلم انها تستغرق جميع من فعل السوء، بل في أهل التأويل من قال: المراد به
الشرك. وهو ابن عباس وقد قدمناه، ثم لا خلاف ان الآية مخصوصة، لان
التائب ومن كانت معصيته صغيرة، لا يتناوله العموم، فإذا جاز لهم تخصيص
الفريقين، جاز لنا أن نخص من يتفضل الله عليه بالعفو. وهذا واضح وقد بينا
الجواب عما يزاد على ذلك من الأسئلة بما فيه كفاية فيما مضى وفي كتاب شرح
الجمل، لا نطول بذكره هاهنا.
قوله تعالى:
(ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو
مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) (124) آية.
[القراءة]:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وأبو بكر، الا الكسائي وأبو جعفر وروم
" يدخلون " بضم الياء وفتح الخاء هاهنا وفي مريم والمؤمن. وافقهم رويس الا في
هذه السورة.
[المعنى]:
وعد الله تعالى بهذه الآية جميع المكلفين من الذكور والإناث إذا عملوا
الاعمال الصالحات، وهم مؤمنون مقرون بتوحيد الله وعدله، مصدقون بنبيه صلى الله عليه وآله،
عاملون لما اتى به بأنه يدخلهم الجنة وينيبهم فيها، ولا يبخسهم شيئا مما يستحقونه من
الثواب، وإن كان مقدار نقير في الصغر، وهي النقطة التي في ظهر النواة، وقيل
منها تنبت النخلة.
338

ومن ضم الياء وفتح الخاء، فلانه قال: " ولا يظلمون " فضم الياء، ليزدوج
الكلام، ولأنهم لا يدخلونها حتى يدخلوها. ومن فتح الياء، فلأنهم إذا ادخلوا
الجنة، فقد دخلوها. فان قيل ظاهر الآية يقتضي انه لا يثيب الا من آمن وعمل
الصالحات فمن انفرد بالايمان، لا يستحق الثواب، وكذلك من فعل بعض الصالحات
قلنا: ظاهر العموم مخصوص بلا خلاف لأنه لو آمن بالله واليوم الآخر واخترم عقيبه،
لا خلاف انه يدخل الجنة، فكذلك إذا أخل ببعض الصالحات أو ارتكب معصية،
فانا نعلم دخوله الجنة بدليل آخر على أن (من) في قوله: " من الصالحات "
يقتضي انه لو فعل بعض الصالحات لادخل الجنة، لأنها للتبعيض. وإنما تقتضي
الاستغراق إذا حملت على أن معناها بيان الصفة، فإذا احتمل الظاهر ما قلناه،
سقطت المعارضة فاما من قال: ان (من) زائدة فلا يعول على قوله، لأنه إذا أمكن
حمل الكلام على فائدة، لم يجز أن يحمل على الزيادة. وبما قلناه في معنى النقير، قال
مجاهد وعطية والسدي وغيرهم.
قوله تعالى:
(ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن
واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) (125) آية:
قضى الله تعالى في هذه الآية للاسلام بالفضل على سائر الملل بقوله: ومن
أحسن دينا أيها الناس وهو في صورة الاستفهام. والمراد به التقرير. والمعنى من أحسن دينا
وأصوب طريقا، واهدى سبيلا ممن أسلم وجهه الله يعني استسلم وجهه لله. والوجه
يراد به هاهنا نفسه وذاته كما قال: " كل شئ هالك الا وجهه " (1) فانقاد له
بالطاعة ولنبيه صلى الله عليه وآله بالتصديق " وهو محسن " بمعنى وهو فاعل للفعل الحسن مما
امره الله به " واتبع ملة إبراهيم حنيفا " يعني واتبع الذي كان عليه (إبراهيم)،

(1) سورة القصص، آية 88.
339

وامر به نبيه من بعده، وأوصاهم به من الاقرار بتوحيده، وعدله وتنزيهه عما لا يليق
به " حنيفا " يعني مستقيما على منهاجه وسبيله. وقد بينا فيما مضى معنى الحنيف،
فلا فائدة في إعادته، وبمثل ذلك قال الضحاك، وغيره من المفسرين.
وقوله: " واتخذ الله إبراهيم خليلا " ومعنى الخليل يحتمل أمرين:
أحدهما - المحبة، مشتقا من الخلة بضم الخاء والمعنى اتخذ الله إبراهيم محبا
وتكون خلة إبراهيم: موالاته لأولياء الله ومعاداته لأعدائه. وخلة الله له نصرته
على من اراده بسوء مثل ما أراد نمرود من احراقه بالنار، فأنقذه الله منها، وأعلى
حجته عليه. وكما فعل بملك مصر حين راوده عن أهله، وجعله اماما لمن بعده من
عباده، وقدوة لهم.
والثاني - أن يكون ذلك مشتقا من الخلة التي هي الفقر بفتح الخاء - كما قال
زهير يمدح هرم بن سنان:
وان أتاه خليل يوم مسألة * يقول لا غائب مالي ولا حرم (1)
ويروى يوم مسغبة وهو الأظهر وإنما انشد البلخي يوم مسألة، وهو بخلاف
الروايات. وقال آخر:
واني وان لم تسعفاني بحاجة * إلى آل ليلى مرة لخليلي (2)
أي لمحتاج. وقيل: انه أصاب أهل ناحية إبراهيم (ع) جدب، فارتحل إلى خليل
له من أهل مصر يلتمس طعاما لأهله من قبله، فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب من
أهله مر بمفازة ذات رمل لينة فملا غرائره (3) من ذلك الرمل لئلا يغم أهله برجوعه
بغير ميرة (4)، فيظنوا ان معه طعاما فحول الله تعالى غرائره دقيقا، فلما وصل
إلى أهله قام أهله، ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا، فعجنوا منه، فخبزوا فاستيقظ

(1) اللسان: (حرم) و (واخلل). رفع (يقول) مع أنه جواب الحزاء،، لي التقديم
كأنه قال: ان اتاه خليل. أجاز ذلك سيبويه.
(2) لم أجد البيت في مصادرنا.
(3) الغرائر جمع غرارة - بكسر الغين - وهي الجوالق التي يوضع فيها الدخن والقمح.
(4) الميرة الطعام أو جلبه.
340

إبراهيم فسألهم من أين خبزوا؟ فقالوا من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك (1)
المصري فقال: لابل من عند خليلي الله (عز وجل) فسماه الله خليلا. فهذا
ما روي وهو من آيات الأنبياء صلى الله عليه وآله فاما الاشتقاق فالخلة بضم الخاء: الصداقة.
والخلة بفتح الخاء: الحاجة، للاختلال الذي يلحق الفقير فيما
يحتاج إليه. والخلة بمعنى الصداقة، فلان كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في
المودة، والحاجة. وقيل: لأنه يطلعه على اسراره فكأنه في خلل قلبه والخلل: كل
فرجه تقع في شئ والخلال: هو ما يتخلل به لأنه يتبع به الخلل بين الأسنان.
قال الشاعر:
ونظرن من خلل الستور باعين * مرضى مخالطها السقام صحاح
يعني نظرن من الفرج التي في الستور وقولهم: لك خلة من خلال. تأويله
إني أخلي لك من رأيي، أو مما عندي عن خلة من خلال ومعنى أخلي أخلل. فأبدل
من إحدى اللامين ياء. ويجوز أن يكون أخلي من الخلوة، والخلوة والخلل يرجعان
إلى معنى واحد. والخل: الطريق في الرمل إذا انفرجت منه فرجة فصارت طريقا.
والخل ما يؤكل معروف. واختار الفراء والبلخي أن يكون من الخلة التي هي الفقر
قال: ويخالف المحبة، لان المحبة من الله لعبده هي الثناء عليه ومدحه له، ولأنه
يحب الانسان ما ليس من جنسه، ولا يخاف إلا ما هو من جنسه. وعلى ما بيناه،
لا يمنع ذلك وإن كان فيه بعض التجوز. وقال الأزهري: الخليل الذي خص بالمحبة
يقال: دعا فلان فخلل أي خص. واختار الجبائي هذا الوجه وقال: كل نبي فهو
خليل الله، لأنه خصه بما لم يخص به غيره والخلة: الخصلة، وجمعها خلال. وإنما
خص الله تعالى إبراهيم فإنه خليله من الفقر، وإن كان الخلق كلهم فقراء إلى رحمته
تشريفا له بالنسبة إليه واختصاصه به من حيث إنه فقير إليه لا يرجو لسد خلته سواه.
وخص إبراهيم من بين سائر الأنبياء بأنه خليل الله على المعنيين، كما خص موسى
بأنه كليم الله ومحمد صلى الله عليه وآله بأنه حبيب الله، وعيسى بأنه روح الله ولا يلزم على ذلك

(1) في المطبوعة (خليلك)
341

تسمية عيسى بأنه ابن الله، لأن هذه اللفظة لا تستعمل حقيقتها إلا في من خلق
من مائه أو ولد على فراشه، ومجازها في من يجوز ذلك فيه. ولذلك لا يجوز أن يتخذ
الشاب شيخا ابنا، وان جاز ان يتبنى بصبي، ولا يجوز ان يتخذ البهيمة ابنا، لما
لم يجز أن تكون مخلوقة من مائه على وجه.
والحنيفية التي امر الله نبيه بأن يتبع إبراهيم فيها عشرة أشياء: خمسة في
الرأس وخمسة في الجسد. فالتي في الرأس: المضمضة. والاستنشاق، والسواك،
وقص الشارب، والفرق لمن يكون طويل الشعر، والتي في الجسد: فالاستنجاء،
والختان، وحلق العانة، ونتف الإبط وقص الأظفار وجميع ذلك مستحب الا
الختان والاستنجاء، فإنهما واجبان. وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف. وقال الجبائي
كلما كان تعبد الله به إبراهيم، فإنه تعبد به النبي صلى الله عليه وآله وأمته وزاده أشياء لم يتعبد
بها إبراهيم (ع) وعموم الآية يقتضي ما قاله، وإن كان ذلك شرعا لنبينا من حيث
اعلمه الله ذلك، وتعبده به بوحي من جهته.
قوله تعالى:
(ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شئ
محيطا) (126). آية
لما ذكر الله تعالى انه اتخذ إبراهيم خليلا لطاعته ربه واخلاصه له العبادة،
ومسارعته إلى رضاه، بين ذلك بفضله لا من حاجة إلى خلته فقال: وكيف يحتاج
إلى خلته من له ما في السماوات والأرض من قليل وكثير ملكا، ومع ذلك مستغن
عن جميع خلقه. وجميع الخلق يحتاجون إليه فكيف يحتاج إلى خلة إبراهيم، لكنه اتخذه
خليلا لمسارعته إلى رضاه وامتثاله ما يأمره به.
" وكان الله بكل شئ محيطا " يعني لم يزل الله عالما بجميع ما فعل عباده
إن كان محسنا اثابه، وإن كان مسيئا عاقبه ان شاء.
342

قوله تعالى:
(ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى
عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب
لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان
وان تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فان الله كان
به عليما) (127) آية بلا خلاف.
[المعنى] يسألك يا محمد، أصحابك ان تفتيهم في امر النساء، والواجب لهن وعليهن.
واكتفى بذكر النساء من ذكر شأنهن لدلالة الكلام على المراد " قل الله يفتيكم فيهن "
يعني قل يا محمد، انه يفتيكم فيهن يعني في النساء وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى
النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن.
[الاعراب]:
واختلفوا في اعراب (ما يتلى). قال الزجاج والفراء معا: يحتمل أن يكون
موضع (ما) رفعا والتقدير في قول الزجاج، والذي يتلى عليكم في الكتاب أيضا
يفتيكم فيه. وقال الفراء تقديره الله يوصيكم فيهن وما يتلى عليكم. وقالا جميعا يجوز
أن يكون موضع (ما) خفضا بالعطف على فيهن إلا أن الزجاج ضعف هذا وقال:
هذا بعيد لان عطف المظهر على المضمر لا يجوز. وقال الفراء: يجوز على تقدير فيهن
وما يتلى عليكم.
واختلفوا في تأويل " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي
لا تؤتونهن ما كتب لهن " فقال قوم: الذي يتلى عليكم هو آيات الفرائض التي في
أول السورة. روى ذلك سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية
343

لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة، فأنزل الله آية الميراث أول
السورة، وهو معنى " اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ". وبه قال مجاهد: وروي
ذلك عن أبي جعفر (ع). وقال قوم: كان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها ذمامة،
ولها مال، فكان يرغب عنها ان يتزوجها ويحبسها لما لها طمعا أن تموت فيرثها،
فنزلت الآية. ذهب إليه عائشة، وقتادة والسدي وأبو مالك وإبراهيم قال السدي: كان
جابر بن عبد الله الأنصاري ثم السلمي له بنت عم عمياء ذميمة قد ورثت عن أبيها
مالا، فكان جابر يرغب عن نكاحها، ولا ينكحها مخافة ان يذهب الروح بما لها
فسأل النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك وقال: أترث إذا كانت عمياء؟ فقال صلى الله عليه وآله: نعم فأنزل
الله فيه هذه الآية. وقال قوم: معناه يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في آخر السورة
من قوله: " يستفتونك قل الله يفتيكم " في الكلالة ذهب إليه ابن جبير وقالت
عائشة: كان الرجل تكون في حجره اليتيمة تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها،
فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها، فنهى الله عن ذلك في
قوله: " وإن خفتم الا تقسطوا في اليتامى فانكحوا " من غيرهن " ما طاب لكم "
قالت: وقوله " وما يتلى عليكم " هو ما ذكره في أول السورة من قوله: " وان
خفتم الا تقسطوا ". فعلى هذه الأقوال (ما) في موضع خفض بالعطف على الهاء
والنون في قوله: " فيهن " والتقدير قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم، وعلى
ما قال الفراء: قل الله يفتيكم فيهن ما يتلى عليكم في الكتاب وقال آخرون: نزلت
الآية في قوم من أصحابه صلى الله عليه وآله سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن
أشياء أخر كانوا يفعلونها، فأفتاهم الله فيما سألوه عنه، وفيما تركوا المسألة عنه ذهب
إليه محمد بن أبي موسى. ويكون معنى قوله: وما يتلي عليكم في الآية التي بعدها
وقيل: هم اليتامى الصغار من الذكور والإناث. وما بعدها قوله: " وان امرأة
خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا " والذي سألوا عنه، فأجيبوا ما كتب الله
لهن من الميراث في آية الميراث. واختار الطبري أن يكون المراد به آيات الفرائض
قال: لان الصداق ليس مما كتب الله للنساء الا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق
344

لها عند أحد.
وقوله: " والمستضعفين من الولدان " في موضع جر وتقديره وفي المستضعفين
من الولدان. وقيل هم اليتامى الصغار من من الذكور والإناث، لأنهم كانوا
لا يورثون الصغار من الذكور حتى يبلغ.
" وان تقوموا لليتامى " والمعنى وفي ان تقوموا لليتامى بالقسط على ما قاله
في قوله: " وان خفتم ان لا تقسطوا في اليتامى ": فامرهم أن يؤتوا المستضعفين
من الولدان حقوقهم من الميراث، ويعدلوا فيهم، ويعطونهم ما فرضه الله لهم في
كتابه. وبه قال السدي، وابن زيد، ومجاهد، وابن عباس.
وقوله: " وترغبون ان تنكحوهن " معناه ترغبون عن أن تنكحوهن.
وقال الحسن في قوله: " والمستضعفين من الولدان " قال: يعني في يتامى النساء
اللاتي لا تؤتونهن أي الا يأكلوا أموالهم إلا بالقسط، يعني بالعدل. وقال عبيدة
السليماني فيما رواه ابن سيرين عنه ان معنى " وترغبون ان تنكحوهن " ترغبون
فيهن. وفي رواية ابن عون عن ابن شيرين يرغبون عنهن. وقال الحسن: يرغبون عنهن
وكان عيينة بن حضن يقول: يا محمد أتعطي الوالدان المال؟ وإنما يأخذ المال من يقاتل
ويجوز الغنيمة، فنزل قوله: " والمستضعفين من الولدان ".
وقوله: " وما تفعلوا من خير فان الله كان به عليما " المعنى مهما فعلتم، أيها
المؤمنون من عدل في أمر اليتامى التي أمركم الله أن تقوموا، فيهن بالقسط،
وأنتهيتم فيه إلى أمره وإلى طاعته، فان الله كان به عالما لم يزل وقيل معنا إن الله
سيجازيكم عليه كما يقول القائل أنا أعرف لك ما تفعله بمعنى أجازيك عليه.
قوله تعالى:
(وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح
عليهما ان يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس
345

الشح وان تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما تعملون خبيرا) (128) آية.
[القراءة والحجة]:
قرأ أهل الكوفة ان يصلحا بضم الياء وكسر اللام وبسكون الصاد. الباقون
يصالحا بتشديد الصاد فمن شدد الصاد، قال معناه يتصالحا ويكون قوله: (صلحا)
اسما لا مصدرا ومن قرأ بخلافه قال: هو مصدر.
[المعنى]:
يقول الله تعالى: " وان امرأة خافت " ومعناه علمت " من بعلها "، أي
زوجها " نشوزا " يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها. وارتفاعا بها عنها: إما
لبغضه، واما لكراهة منه شيئا منها إما ذمامتها، واما سنها وكبرها، أو غير ذلك
" أو اعراضا " يعني انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه " فلا جناح
عليهما " أي لا حرج عليهما ان يصالحا بينهما صلحا بان تترك المرأة له يومها،
أو تضع عنه بعض ما يجب لها. من نفقة أو كسوة، وغير ذلك تستعطفه بذلك،
وتستديم المقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينهما وبينه من النكاح، ثم قال:
" والصلح " بترك بعض الحق استدامة للخدمة، وتمسكا بعقد النكاح خير من طلب
الفرقة، وقال بعضهم: الصلح خير من النشوز، والاعراض والأول أشبه. هذا إذا
كان بطيبة من نفسها، فإن لم يكن كذلك، فلا يجوز له الا ما يسوغ في الشرع
من القيام بالكسوة والنفقة، والقسمة وإلا يطلق. وبهذه الجملة قال علي عليه السلام،
وعمر وابن عباس، وسعد بن جبير وعائشة وعبيدة السلماني، وإبراهيم والحكم وقتادة،
ومجاهد وعامر الشعبي والسدي، وابن زيد قال ابن عباس: خشيت سودة بنت
زمعة ان يطلقها رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت لا تطلقني وأجلسني مع نسائك ولا نقسم
لي، فنزلت " وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا " وقال سعيد بن المسيب
عن سليمان بن يسار. ان رافع بن خديج كانت تحته امرأة قد علا من سنها، قال
346

أبو جعفر (ع) هي بنت محمد بن مسلمة، فتزوج عليها شابة فآثر الشابة عليها، فأبت
الأولى أن تقر على ذلك، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسيرا قال: إن شئت
راجعتك وصبرت على الأثرة، وان شئت تركتك حتى يخلو أجلك، ثم طلقها الثانية،
وفعل فيها ما فعل أولا، قالت: بل راجعني واصبر على الأثرة، فراجعها. فذلك الصلح
الذي بلغنا ان الله أنزل فيه " وان امرأة خافت. الآية ".
وقوله: " وأحضرت الأنفس الشح وان تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما
تعملون خبيرا " واختلفوا في تأويله فقال بعضهم وأحضرت الأنفس النساء الشح
على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهم وأيامهن منهم. ذهب إليه ابن عباس وسعد بن
جبير وعطا، وابن جريج والسدي. ويزعم أنها في سورة بنت زمعة، ورسول
الله صلى الله عليه وآله لأنها كانت كبرت، فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله ان يطلقها، فاصطلحا على أن
يمسكها ويجعل يومها لعائشة، فشحت بمكانها من رسول الله صلى الله عليه وآله. وقال
آخرون: وأحضرت أنفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه.
وهو أعم فيكون شح المرأة بترك حقها من النفقة والقسمة وغير ذلك وشح الرجل
إنفاقه على التي لا يريدها، وبذلك قال ابن وهب، وابن زيد. والشح: افراط في
الحرص على الشئ ويكون بالمال وبغيره من الاعراض يقال: هو شحيح بمودتك اي
حريص على دوامها ولا يقال في ذلك بخيل والبخل يكون بالمال خاصة.
قال الشاعر:
لقد كنت في قوم عليك أشحة * بفقدك إلا أن من طاح طائح
يودون لو خاطوا عليك جلودهم * وهل يدفع الموت النفوس الشحائح (1)
فان قيل: قوله: " وإن امرأة خافت " ليس فيه ان الرجل نشز على امرأة
والخوف ليس معه يقين قلنا: عنه جوابان:
أحدهما - إن الخوف في الآية بمعنى العلم وتقديره، وإن امرأة علمت.

(1) مجمع البيان 2: 119 - طبع صيدا - العقد الفريد 3: 247 - 248.
347

والثاني - انها لا تخاف النشوز من الرجل إلا وقد بدأ منه ما يدل على النشوز
والاعراض من أمارات ذلك ودلائله. وقوله: " وإن امرأة خافت " ارتفعت المرأة
بفعل مضمر دل عليه ما بعد الاسم، وتقديره وإن خافت امرأة خافت والتفرقة بين ان التي
للجزاء (1) والفعل الماضي قال الزجاج هو جيد، ولا يجوز ذلك في الفعل المستقبل.
لا تقول: ان امرأة تخف، (ان) لا تفصل بينهما وبين ما يجزم ويجوز ذلك في
ضرورة الشعر قال الشاعر:
فمتى واغل بينهم يحيوه * ويعطف عليه كأس الساقي (2)
وإنما جاز في الماضي مع الاختيار، لان (ان) غير عاملة في لفظه وان لم تكن
من (3) حروف الجزاء، فجاز أن يفرق بينهما وبين الفعل، وغير ان يقبح فيه الفصل
مع الماضي والمستقبل لا تقول: متى زيد جاءني أكرمته، ويجوز ان تقول: إن الله
أمكنني فعلت.
وقوله: " وان تحسنوا " خطاب للرجال يعني ان تفعلوا الجميل بالصبر على من
تكرهون من النساء، وتتقوا من الجور عليهن في النفقة والعشرة بالمعروف، فان الله
عالم بذلك. وكان عالما بما تعملون فيما قبل فيجازيكم على ذلك.
قوله تعالى:
(ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا
تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وان تصلحوا وتتقوا فان الله
كان غفورا رحيما) (129) آية بلا خلاف.

(1) في المطبوعة (التي الجزاء).
(2) لسان العرب: (وغل) ومجمع البيان 2: 119
الواغل: الداخل على القوم في طعامهم - وقيل: في شرابهم - دون أن يدعوه أو نفق
معهم: وفي رواية أخرى: وتعطف على كف الساقي.
(3) في المطبوعة (وان أم حروف الجزاء).
348

المعنى:
نفى الله تعالى في هذه الآية ان يقدر أحد من عباده على التسوية بين النساء
والأزواج في حبهن والميل إليهن حتى لا يكون ميله إلى واحدة منهن الأمثل ما
يميل إلى الأخرى. لان ذلك تابع لما فيه من الشهوة، وميل الطبع. وذلك من فعل
الله تعالى، ولا صنع للخلق فيه، وان حرص على ذلك كل الحرص. وليس يريد
بذلك نفي القدرة على التسوية بينهن في النفقة، والكسوة والقسمة، لأنه لو كان
كذلك لما امر الله تعالى بالتسوية في جميع ذلك، لأنه تعالى لا يكلف العبد ما لا
يطيقه. كما قال: " لا يكلف الله نفسا الا وسعها " (1) وقال: " لا يكلف الله نفسا
الا ما اتاها " (2) ولا تجوز المناقضة في كلامه تعالى. ولو حملنا على أنه نفى الاستطاعة
في التسوية بينهن في النفقة، جاز أن يكون المراد به ان ذلك لا يخف عليكم بل يثقل
ويشق عليكم تسويتهن، لميلكم إلى بعضهن، فأباح الله تعالى حينئذ ورخص ان يفضل
بعضهن على بعض في ما زاد على الواجب من القسمة والنفقة، ولا يؤاخذه بذلك.
وقوله: " فلا تميلوا كل الميل " معناه فلا تعدلوا بأهوائكم عمن لم تملكوا
محبته منهن كل الميل حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء
الواجب لهن عليكم من حق القسمة، والنفقة والكسوة، والعشرة بالمعروف،
" فتذروها كالمعلقة "، يعني تذروا التي لا تميلون إليها كالمعلقة يعني كالتي هي لا ذات
زوج، ولا هي أيم. وبه قال مجاهد وعبيدة، والحسن وابن عباس، وقتادة وابن
زيد والضحاك وسفيان، والطبري والجبائي والبلخي وغيرهم. وهو المروي عن أبي
جعفر (عليه السلام) وأبى عبد الله (عليه السلام). وروى أبو ملكية أن الآية
نزلت في عائشة وروى أبو قلابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه كان يقسم بين نسائه
ويقول: اللهم هذه قسمتي في ما أملك فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك وقوله:
" وان تصلحوا " يعني في القسمة بين الأزواج والتسوية بينهن في النفقة،

(1) سورة البقرة، آية 286.
(2) سورة الطلاق، آية 7.
349

والكسوة والعشرة بالمعروف، وتتركوا الميل (1) الذي نهاكم الله عنه، من تفضيل
واحدة على الأخرى في ذلك، " فان الله كان غفورا رحيما " تستر عليكم ما مضى منكم
من الحيف في ذلك إذا تبتم، ورجعتم إلى الاستقامة والتسوية بينهن، ويرحمكم
بترك المؤاخذة على ذلك، وكذلك كان يفعل فيما مضى مع غيركم يعني في قبول
التوبة من (2) كل تائب مقلع نادم على ما فرط وروي عن علي (عليه السلام)
انه كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى.
وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن ابائه (عليهم السلام) ان النبي (صلى الله
عليه وآله) كان يقسم بين نسائه في مرضه، فيطاف [به] (3) بينهن، وكان
معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون أقرع بينهما أيهما تدفن قبل الأخرى؟.
قوله تعالى:
(وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا
حكيما) (130) آية.
[المعنى]:
إن الزوجين اللذين تقدم ذكرهما، متى أبى كل واحد منها مصالحة الآخر
فإن تطالب المرأة بنصيبها من القسمة والنفقة والكسوة ويمتنع الزوج من
اجابتها التي ذلك، لميله إلى الأخرى ومحبته لها، أو لصغر سنها أو جمالها ويتفرقا
حينئذ بالطلاق، فان الله يغني كل واحد منهما من سعته يعني من فضله ورزقه
" وكان الله واسعا حكيما " يعني كان لم يزل هكذا واسع الفضل على عباده، رحيما
بهم في ما يدبرهم به وفي الآية دليل على أن الأرزاق كلها بيد الله وهو الذي يتولاها

(1) المطبوعة (وكل)
(2) من ساقطة المطبوعة
(3). (به) ساقطة من المطبوعة والتصحيح عن مجمع البيان والسياق يقتضي ذلك أيضا.
350

لعباده وإن كان ربما أجراها على يدي من يشاء من عباده وقال ابن عباس: " كلا من
سعته " يعني من رزقة وهذه الجملة بها قال مجاهد وجميع المفسرين.
قوله تعالى:
(ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم ان اتقوا الله وإن تكفروا فان الله
ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله
ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (132) ان يشأ
يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا (133)
من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان
الله سميعا بصيرا) (134) اربع آيات.
لما ذكر الله قوله: وان يتفرقا يغن الله كلا من سعته بين في
هذه الآية بان له ملك ما في السماوات وما في الأرض، لا يتعذر عليه إغناء كل
واحد من الزوجين عند التفرق، وإيناسه من وحشته ثم رجع إلى توبيخ من سعى في
أمر بني أبيرق وتعنيفهم، ووعيد من فعل فعل المرتد منهم، فقال: ولقد وصينا أهل
التوراة والإنجيل وهم الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أي وأمرناكم أيضا أيها
الخلق " ان اتقوا الله " والتقدير بان اتقوا الله واحذروا أن تعصوه، وتخالفوا
أمره ونهيه " وإن تكفروا " يعني تجحدوا وصيته إياكم أيها المؤمنون، فتخالفوها،
" فان لله ما في السماوات وما في الأرض " يعني له ملك ما فيهما، فلا يستحضر
بخلافكم وصيته ولا ان تكونوا أمثال اليهود والنصارى، بل تضرون أنفسكم بما يحل
بكم من عقابه، وغضبه " وكان الله غنيا " لم يزل، غير محتاج إلى خلقه وإن الخلق
351

هم المحتاجون إليه " حميدا " يعني مستوجب الحمد عليكم بصنائعه الحميدة إليكم،
والائه الجميلة، فاستدعوا ذلك باتقاء معاصيه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به
وهذه الجملة مروية عن علي (عليه السلام) وهو قول جميع المفسرين، ثم قال:
" ولله ما في السماوات وما في الأرض " بمعنى له ملك ما فيهما، وهو القيم بجميعه
والحافظ له لا يغرب عنه علم شئ ولا يؤوده حفظه وتدبيره " وكفى بالله وكيلا "
يعني كفى الله حافظا. فان قيل لم كرر قوله: " ولله ما في السماوات وما في الأرض "
الآيتين، إحداهما عقيب الأخرى؟ قلنا: لاختلاف الخبرين: الأول في الآية
الأولى عن حاجة الخلق إلى بارئه، وغناه تعالى عن خلقه، وفي الثانية حفظ الله تعالى
إياهم وعلمه بهم، وتدبيره لهم فان قيل: هلا قال: وكان الله غنيا حميدا أو كفى به
وكيلا؟ قيل: ما ذكره في الآية الأولى يصلح ان يختم به وصف الله تعالى بالغناء وأنه
محمود، ولم يذكر فيها ما يقتضي وصفه بالحفظ والتدبير، فلذلك كرر قوله: " ولله
ما في السماوات ".
وقوله: " ان يشأ يذهبكم " معناه، ان يشأ الله أيها الناس ان يهلككم،
ويفنيكم ويأت بقوم آخرين غيركم ينصرون نبيه محمد صلى الله عليه وآله ويؤازرونه، كان الله تعالى
على ذلك قديرا، فوبخ تعالى بهذه الآيات الخائنين الذين خانوا الدرع (1) وساعدوهم
على ذلك، ودافعوا عنهم وحذر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله أن يكونوا مثلهم وان يفعلوا
فعل المرتد منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين وبين أن من فعل ذلك لا يضر إلا نفسه، لأنه المحتاج إليه (تعالى) وغناه عنه (عز وجل) وعن جميع الخلق وروي
عن النبي صلى الله عليه وآله انه لما نزلت هذه الآية ضرب بيده علي ظهر سلمان، فقال: هم قوم
هذا رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله، ثم أخبر (تعالى) من كان ممن أظهر الايمان
بمحمد صلى الله عليه وآله من أهل النفاق الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الايمان. يريد ثواب
الدنيا يعني عرض الدنيا باظهاره بلسانه في الايمان، " فعند الله ثواب الدنيا " يعني
جزاؤه في الدنيا منها، وثوابه فيها هو ما يأخذ من الفئ والغنيمة إذا شهد مع

(1) - انظر تفسير آية (105) من سورة النساء.
352

المسلمين الحرب، وأمنه على نفسه وماله وذريته. وأما ثوابه في الآخرة فنار جهنم.
" وكان الله سميعا بصيرا " يعني انه كان لم يزل على صفة يجب ان يسمع المسموعات
إذا وجدت، ويبصر المبصرات إذا وجدت. وهذه الصفة هي كونه حيا لا آفة فيه والصفة
حاصلة له في الأزل والآفات مستحيلة عليه، فوجب وصفه بأنه سميع بصير وإنما ذكر
هاهنا ذلك، ليبين ان ما يقوله المنافقون إذا لقوا المؤمنين فان الله يسمعه ويعلمه
وهو قولهم: إنا مؤمنون بصيرا بما يضمرونه وينطوون عليه من النفاق. وموضع كان
في قوله: " من كان " جزم، لأنه شرط والجواب الفاء. وارتفعت (يريد) لأنه
ليس فيها حرف عطف كما قال: " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم
اعمالهم فيها " (1) وقال: " من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها " (2) جزم،
لأنه جواب الشرط.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله
ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله
أولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلووا أو ترضوا فان
الله كان بما تعملون خبيرا) (135) آية.
[القراءة والحجة:
قرأ ابن عامر وحمزة (وإن تلوا) بضم اللام، بعدها واو واحدة ساكنة.
الباقون يسكنون اللام بواوين بعدها أولهما مضمومة. حجة من قرأ بواو واحدة أن
قال: إن ولاية الشئ اقبال عليه وخلاف الاعراض عنه. والمعنى ان تقبلوا أو
تعرضوا فإن الله بما تعملون خبيرا فيجازي المحسن المقبل باحسانه، والمسئ المعرض

(1) سورة هود، آية 10.
(2) سورة الشورى، آية 20.
353

باعراضه وتركه الاقبال على ما يلزمه ان يقبل عليه قال: ولو قرأت بالواوين، لكان
فيه تكرار، لان اللي كالاعراض ألا ترى ان قوله: " لووا رؤسهم ورايتهم
يصدون " (1) معناه أعراض منهم، وترك الانقياد للحق ومثله " ليا بألسنتهم "
(2) معناه انحراف وأخذ فيما لا ينبغي ان يأخذوا به. وحجة من قرأ بالواوين من
لووا ان تقول لا يمتنع ان تتكرر اللفظتان المختلفتان بمعنى واحد على وجه التأكيد،
كقوله: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " وكقول الشاعر:
وهند اتى من دونها * النأي والبعد (3)
وقول آخر:
والفي قولها كذبا ومينا
وقالوا: أيضا يجوز أن يكون تلوا كان أصله تلووا، وان الواو التي هي عين همزت
لانضمامها، كما همزت في قوله: (أدروا) وألقيت حركة الهمزة على اللام التي هي فاء،
فصار تلوا أجاز ذلك الزجاج والفراء وأبو علي الفارسي.
[المعني واللغة:
ومعنى الآية ان الله تعالى لما حكى عن الذين سعوا إلى رسول الله في امر بني
أبيرق وقيامهم لهم بالعذر، وذبهم عنهم من حيث كانوا أهل فقر وفاقة، أمر الله
المؤمنين ان يكونوا " قوامين بالقسط " يعني بالعدل والقسط، والأقساط: العدل
يقال: أقسط الرجل إقساطا إذا عدل وأتى بالقسط وقسط ويقسط قسوطا: إذا أجار
وقسط البعير يقسط قسطا إذا يبست يده ويد قسط، أي يابسة " شهد الله " وهو
جمع شهيد ونصب شهداء على الحال من الضمير في قوله: (قوامين) وهو ضمير
الذين آمنوا وقوله: " ولو على أنفسكم " يعني ولو كانت شهادتكم على أنفسكم أو على والديكم
أو على أقرب الناس إليكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها،
وقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغنى غني، ولا فقر فقير، فتجوروا، فان الله قد
سوى بين الغني والفقير فيما ألزمكم من أقامه الشهادة لكل واحد منهما بالعدل، وهو

(1) سورة المنافقون آية 5.
(2) سورة النساء، آية 45.
(3) قائله الحطيئة صدر البيت: الا حبذا هند وأرض بها هند
354

تعالى أولى بهما وأحق، لأنه مالكهما والههما دونكم وهو اعلم بما فيه مصلحة كل
واحد منهما في ذلك، وفي ذلك، وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلا تتبعوا الهوى في الميل في
شهادتكم إذا قمتم بها لغني وفقير إلى أحدهما، فتعدلوا عن الحق أي تجوزوا عنه
وتضلوا ولكن قوموا بالقسط، وأدوا الشهادة على ما امركم الله عز وجل بأدائها
بالعدل لمن شهدتم عليه وله، فان قيل كيف تكون شهادة الانسان على نفسه حتى
يأمر الله تعالى بذلك، قلنا: بان يكون عليه حق لغيره، فيقر له ولا يجحده، فأدب
الله تعالى المؤمنين ان يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا،
وخيانتهم ما خانوا وإضافتهم ذلك إلى غيرهم فهذا اختيار الطبري. وقال السدي: انها نزلت
في النبي صلى الله عليه وآله وقد اختصم إليه رجلان غني وفقير، فكان ضلعه (1) مع الفقير،
لظنه أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله تعالى إلا القيام بالقسط في أمر الغني والفقير
قال: " ان تكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " وهذا الوجه فيه بعد، لأنه لا يجوز
على النبي صلى الله عليه وآله في الحكم ان يميل إلى أحد الخصمين سواء كان غنيا أو فقيرا فان
ذلك ينافي عصمته وقال ابن عباس: أمر الله سبحانه المؤمنين أن يقولوا الحق ولو على
أنفسهم، أو أبنائهم، ولا يجابوا غنيا لغناه، ولا مسكينا لمسكنته وهذا هو الأولى،
لأنه أليق بالظاهر من غير عدول عنه.
وفي الآية دلالة على جواز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، وكل ذي قرابة
لمن يقرب منه، فقال ابن شهاب: كان سلف المسلمين على ذلك حتى دخل الناس فيما
بعدتهم، وظهرت فيهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتم إذا
كان من أقربائهم وجاز ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة وبمعنى قول ابن
عباس، قال قتادة، وابن زيد.
وقوله: " فالله أولى بهما " إنما ثنى، ولم يقل به لأنه أراد " فالله أولى بغناء الغني
وفقر الفقير) لان ذلك منه تعالى وقال قوم: لم يقصد غنيا بعينه، ولا فقيرا بعينه
355

وهو مجهول وما ذلك حكمه جاز الرد عليه التوحيد والتثنية والجميع. وفي قراءة أبي
" فالله أولى بهم " وقال قوم: (أو) بمعنى الواو في هذا الموضع، فلذلك ثنى وقال
آخرون: جاز تثنية قوله " بهما "، لأنهما قد ذكرا، كما قيل: وله أخ أو أخت فلكل
واحد منهما وقيل جاز ذلك، لأنه أضمر فيه (من) كأنه قال: وله أخ أو أخت إن
يكون من خاصم غنيا أو فقيرا، بمعنى غنيين أو فقيرين " فالله أولى بهما ".
وقوله: " فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا " يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها - لا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا عن الحق، فتجوروا بترك إقامة
الشهادة بالحق.
والثاني - أن يكون التقدير لا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا في
إقامة الشهادة.
والثالث - فلا تتبعوا الهوى، لتعدلوا، كما يقال: لا تتبع هواك لترضي ربك،
بمعنى أنهاك عنه كيما ترضى ربك بتركه. ذكره الفراء والزجاج.
وقوله: " وإن تلووا أو تعرضوا " اختلفوا في تأويله فقال قوم: معناه
وان تلووأ أيها الحكام في الحكم لاحد الخصمين على الاخر، أو تعرضوا فان الله كان
بما تعملون خبيرا وحملوا الآية على أنها نزلت في الحكام ذهب إليه السدي على ما قال:
إنها نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وروي عن ابن عباس أنه قال: هما الرجلان يجلسان بين
يدي القاضي، فيكون لي القاضي واعراضه لأحدهما على الاخر وقال آخرون:
معناه وان تلووا أيها الشهداء في شهادتكم، فتحرفوها، فلا تقيموها أو تعرضوا
عنها، فتتركوها ذهب إليه ابن عباس ومجاهد وقال مجاهد: معنى تلووا تبدلوا الشهادة
أو تعرضوا أي تكتموها وهو قول أبي جعفر (ع) وبه قال ابن زيد والضحاك وأولى
التأويلين قول من قال: إنه لي الشهادة لمن شهد له أو عليه بان يحرفها بلسانه أو يتركها،
فلا يقيمها، ليبطل بذلك شهادته وأعراضه عنها فلو ترك اقامتها فلا يشهد بها. وسياق
الآية يدل على ما قال ابن عباس وقوله: " فان الله كان بما تعملون خبيرا " معناه
انه كان عالما بها يكون منهم من إقامة الشهادة، وتحريفها والاعراض عنها، واللي
356

هو المطل لما يجب من الحق قال الأعشى:
يلوينني ديني النهار واقتضي * ديني إذا رقد النعاس الرقدا (1)
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا امنوا بالله ورسوله والكتاب الذي
انزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) (136) آية.
[القراءة والحجة]:
قرأ ابن كثير وأبو عمر وابن عامر والكسائي عن أبي بكر " الكتاب الذي
نزل والكتاب الذي أنزل " بضم النون، والهمزة وكسر الزاء الباقون بفتحهما، فمن
فتحهما حمله على قوله: " أنا نحن نزلنا الذكر " وقوله: " وأنزلنا إليك الذكر "
ومن ضمها حملهما على قوله: " ولنبين للناس ما نزل إليهم " وقوله: " يعلمون
انه منزل " وكل جيد سايغ.
قبل في تأويل أمر من آمن - آمن يؤمن - بالله ورسوله ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو المعتمد عليه عندنا واللايق بمذهبنا ان المعنى يا أيها الذين آمنوا
في الظاهر بالاقرار بالله ورسوله، وصدقوهما، آمنوا بالله ورسوله في الباطن،
ليطابق باطنكم ظاهركم ويكون الخطاب خاصا بالمنافقين الذين كانوا يظهرون خلاف
ما يبطنون. والكتاب الذي نزل على رسوله هو القران أمرهم بالتصديق به والكتاب
الذي انزل من قبل، يعنى التوراة والإنجيل أمرهم بالتصديق بهما، وانهما من
عند الله.
والثاني - ما اختاره الجبائي والزجاج والبلخي أن يكون ذلك خطابا لجميع المؤمنين

(1) ديوانه من قصيدة قالها لكسرى حين أراد منهم رهائن لما أغار الحارث بن وعلة
على بعض السواد ورقمها: 34. يلوينني: يمطلنني.
357

الذين هم مؤمنون على الحقيقة ظاهرا أو باطنا أمرهم الله تعالى أن يؤمنوا به في
المستقبل بان يستديموا الايمان، ولا ينتقلوا عنه، لان الايمان الذي هو التصديق
لا يبقى وإنما يستمر بان يجدده الانسان حالا بعد حال وهذا أيضا وجه جيد.
الثالث - ما اختاره الطبري من أن ذلك خطاب لأهل الكتاب اليهود والنصارى
أمرهم الله (تعالى) بان يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله، والكتاب الذي أنزل عليه كما آمنوا
بما معهم من الكتب: التوراة والإنجيل ويكون قوله: " والكتاب الذي نزل من
قبل " إشارة إلى ما معهم من الإنجيل والتوراة ويكون وجه أمرهم بالتصديق لهما
وان كانوا مصدقين بهما، لاحد أمرين:
أحدهما - ان التوراة والإنجيل إذا كان فيهما صفات النبي صلى الله عليه وآله، وما ينبئ عن
صدق قوله وصحة نبوته فمن لم يصدق النبي صلى الله عليه وآله، ولم يصدق الكتاب الذي أنزل
معه، لا يكون مصدقا بما معه، لان في تكذيبه، تكذيب ما معه من التوراة
والإنجيل، فيجب عليه أن يصدق النبي صلى الله عليه وآله ويقر بما انزل عليه، ليكون مصدقا
بما معه، ومعترفا به. والثاني - أن يكون متوجها إلى اليهود الذين آمنوا بالتوراة دون
الإنجيل والقران، فيكون الله أمرهم بالاقرار بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبما
انزل من قبل يعني الإنجيل. وذلك لا يصح الا بالاقرار بعيسى (عليه السلام) أيضا
وانه نبي من قبل الله وقوله: " ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
" معناه ان من كفر بمحمد صلى الله عليه وآله فيجحد نبوته ويجحد ما أنزله الله عليه،
فكأنه جحد جميع ذلك، لأنه لا يصح ايمان أحد من الخلق الا بالايمان بما امره الله
بالايمان به، والكفر بشئ منه كفر بجميعه خطابه لأهل الكتاب وأمره إياهم بالايمان
بمحمد صلى الله عليه وآله تهديدا لهم، وان كانوا مقرين بوحدانية الله تعالى والملائكة والكتب
والرسل، واليوم الآخر سوى محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به من القران فبين
لهم ان من جحد محمدا بنبوته لا ينفعه الايمان بشئ سواه، ويكون وجوده وعدمه
سواء وقوله: " فقد ضل ضلالا بعيدا " معناه فقد ذهب عن قصد السبيل وجاز
358

عن محجة الطريق إلى المهالك ضلالا ذهابا، وجورا بعيدا.
قوله تعالى:
(ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا ألم
يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) (137) آية واحدة.
[المعنى]: قيل في المعني بهذه الآية ثلاثة أقوال:
[الأول] قال قتادة عنى بذلك الذين امنوا بموسى، ثم كفروا بان عبدوا العجل،
ثم آمنوا يعني النصارى بعيسى، ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وقال
الزجاج والفراء: آمنوا بموسى، وكفروا بعزير، ثم امنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى،
ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وآله.
والثاني - قال مجاهد وابن زيد يعني بذلك أهل النفاق انهم آمنوا، ثم ارتدوا
ثم آمنوا، ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفرا بموتهم على كفرهم.
والثالث - قال أبو العالية: هم اليهود والنصارى أذنبوا ذنبا في شركهم، ثم تابوا
فلم تقبل توبتهم، ولو تابوا من الشرك لقبل منهم وأقوى الأقوال عندنا قول مجاهد،
لان المؤمن على الحقيقة عندنا لا يجوز ان يكفر، لان الايمان يستحق عليه الثواب
الدائم والكفر يستحق عليه العقاب الدائم بلا خلاف فيهما والاحتياط عندنا باطل،
فلو أجزنا الارتداد بعد الايمان الحقيقي لأدى إلى اجتماع استحقاق الثواب الدائم
والعقاب الدائم والاجماع بخلافه واختار الطبري الوجه الأول وقال الجبائي والبلخي
يجوزان تكون الآية نزلت في قوم كانوا آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم كفروا،
ثم ازدادوا كفرا وقوله:
" لم يكن الله ليغفر " معناه لم يكن الله ليغفر لهم الايمان الثاني الكفر
359

المتقدم، لأنه لما ارتد فيما بعد، دل على أن ما تقدم، لم يكن ايمانا فلا يستحق به
غفران عقاب الكفر المتقدم وهو الذي اختاره الزجاج وقال البلخي والزجاج: لم يكن
الله ليغفر لهم إذا لم يتوبوا منه وهذا الذي ذكروه لا يصح، لان الكفر على كل
حال ولو مرة واحدة، لا يغفر الله الا بالتوبة، فلا معنى لنفي الغفران عن كفر بعد
إيمان تقدمه كفر تقدمه ايمان.
وقوله: " ولا ليهديهم سبيلا " معناه لا يهديهم سبيل الجنة والثواب فيها،
لأنهم غير مستحقين له ويحتمل أن يكون المراد بذلك أنه لا يلطف لهم فيما بعد بل
يخذلهم عقوبة لهم على كفرهم المتقدم. ولا يجوز أن يكون المراد به أنه لا ينصب
لهم الدلالة، لان نصب الأدلة قد تقدم في التكليف الأول والمرتد عندنا على ضربين:
أحدهما - لا يستتاب ويقتل على كل حال وهو من ولد على فطرة الاسلام بين مسلمين
متى كفر فإنه يقتل على كل حال. والآخر وهو من كان كافرا فاسلم، ثم ارتد فإنه
يستتاب ثلاثا فان تاب والا قتل، ولا يستتاب أكثر من ذلك. وبه قال علي عليه
السلام وابن عمر. وقال قوم: يستتاب ابدا. ذهب إليه إبراهيم وغيره. واختاره
الطبري. والمرأة تستتاب على كل حال فان تابت، والا خلدت في السجن ولا تقتل بحال
وفي ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.
قوله تعالى:
(بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذين يتخذون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان
العزة لله جميعا) (139) ايتان بلا خلاف.
المعنى:
معنى قوله " بشر المنافقين " جعل موضع بشارتهم لهم العذاب والعرب تقول:
تحيتك الضرب وعقابك السيف، أي بدلا من ذلك. قال الشاعر:
360

وخيل قد دلفت لها بخيل * تحية بينهم ضرب وجميع
امر الله (تعالى نبيه) ان يبشر المنافقين بان لهم عذابا أليما وهو المؤلم الموجع.
على نفاقهم، ثم وصف هؤلاء المنافقين فقال: " الذين يتخذون " أهل الكفر بالله
ونبيه أولياء يعني أنصارا وأحلافا من دون المؤمنين يعني من غيرهم، ثم قال:
" يبتغون عندهم العزة " معناه يطلبون عندهم المنفعة والقوة باتخاذهم أولياء من
دون أهل الايمان به (تعالى)، ثم أخبر ان العزة بأجمعها له (تعالى) وان هؤلاء
الذين يطلبون من جهنم العزة. المنعة، لا منعة عندهم، بل النصر والمنعة من عند الله
الذي له العزة والمنعة الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء. واصل العزة الشدة ومنه
قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز ويقال: استعز المريض إذا اشتد مرضه
وتعزز اللحم: إذا اشتدوا منه قيل: عز علي أن يكون كذا، اي اشتد علي ومنه
قولهم: " من عزيز أي من غلب سلب. وقولهم: عز الشئ معناه صعب
وجوده واشتد حصوله.
قوله تعالى:
(وقد نزل عليكم في الكتاب ان إذا سمعتم آيات الله يكفر
بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره
انكم إذا مثلهم ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم
جميعا) (14) آية.
قرأ عاصم ويعقون " وقد نزل " بفتح النون والزاي وتشديده. الباقون بضم
النون وكسر الزاي والمنزل في الكتاب.
361

قوله تعالى:
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى
يخوضوا في حديث غيره إلى قوله.. الظالمين).
اعلم الله تعالى في هذه الآية المؤمنين ان المنافقين يهزءون بكتاب الله الذي
هو القرآن، وأمرهم ان لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا، يعني يأخذوا في حديث
غير القرآن، ثم قال: انكم ان جالستموهم على الخوض في كتاب الله والهزء به،
فأنتم مثلهم، وإنما حكم بأنهم مثلهم متى رضوا بما هم فيه، ولم ينكروا عليهم مع
القدرة على الانكار، ولم يظهروا كراهية، فإنهم متى كانوا راضين بالكفر، كانوا
كفارا، لان الرضاء بالكفر كفر. وفي الآية دلالة على وجوب انكار المنكر مع
القدرة على ذلك، وزوال العذر عنه. وإن من ترك ذلك مع القدرة عليه كان مخطئا
آثما. وكذلك فيها دلالة على أنه لا يجوز مجالسة الفساق، والمبتدعين من اي نوع
كان. وبه قال جماعة من المفسرين. ذهب إليه أبو وائل، وإبراهيم وعبد الله. وقال
إبراهيم: من ذلك إذا تكلم الرجل في مجلس بكذب، يضحك منه جلساؤه،
فسخط الله عليهم. وبه قال عمر بن عبد العزيز وقيل: إنه ضرب صائما كان قاعدا
مع قوم يشربون الخمر. وقال ابن عباس: امر الله بذلك الانفاق، ونهاهم عن الاختلاف
والفرقة، والمراء والخصومة وبه قال الطبري والجبائي والبلخي وجماعة من المفسرين.
قال أبو علي الجبائي: اما الكون بالقرب منهم بحيث يسمع صوتهم ولا يقدر على
انكاره، فليس بمحظور، وإنما المحظور مجالستهم من غير اظهار كراهية ما سمعه أو
يراه. وقوله: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " ومعناه ان الله
يجمع الفريقين من أهل الكفر، والنفاق في القيامة في النار. والعقوبة فيها كما اتفقوا
في الدنيا على عداوة المؤمنين، والمؤازرة عليهم. قال الجبائي: في الآية دلالة على
بطلان قول الأصم، ونفاة الاعراض وقولهم: انه ليس ها هنا غير الأجسام، لأنه
362

قال: " حتى يخوضوا في حديث غيره " فاثبت غيرا لما كانوا فيه. وذلك هو العرض.
قوله تعالى:
(الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا
ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم
ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) (141) آية بلا خلاف.
(الذين) في موضع خفض صفة للمنافقين والكافرين في قوله: " إن الله
جامع المنافقين والكافرين ".
أخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين اي ينتظرون بهم
فان فتح الله على المؤمنين فتحا من عدوهم، فأفاء عليهم فيئا من الغنائم، قالوا لهم ألم
نكن معكم نجاهد عدوكم ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبنا من الغنيمة، فانا شهدنا
القتال وإن كان للكافرين نصيب أي حظ بإصابتهم من الغنيمة، فانا شهدنا
القتال وإن كان للكافرين نصيب أي حظ بإصابتهم من المؤمنين، وليس المراد بذلك
ان لهم نصيبا من الله، لأنه (تعالى) لم يجعل لهم غلبة المسلمين، ولا أباح لهم شيئا
من أموالهم، بل حظر ذلك عليهم. وقوله: " قالوا " يعني قال المنافقين للكافرين:
ألم نستحوذ عليكم بمعنى ألم نغلب عليكم؟ في قول السدي. وقال ابن جريج: معناه
ألم نبين لكم انا على ما أنتم عليه والاستحواذ الغلبة ومنه قوله: " استحوذ عليهم
فأنساهم ذكر الله " ومعناه غلب عليهم. يقال منه: حاذ عليه يحوذ. واستحاذ
يستحيذ. وحاذ يحيذ. قال العجاج يصف ثورا وكلاما:
يحوذهن وله حوذي (1)
وانشده أبو عبيد والأصمعي بالزاي يحوزهن وله حوزي والمعنيان

(1) اللسان (حوذ). ديوانه: 71 ومجاز القرآن لأبي عبيده 1: 141 وبده:
خوف الخلاط فهو أجنبي كما يحوذ الفئة الكمي
363

متقاربان. وقال لبيد في صفة عيرواتن على احاذ.
إذا اجتمعت واحوذ جانبيها * وأوردها على عوج طوال (1)
العوج الطوال القوائم. وقيل: هي النخيل الطوال. فمعنى احوذ جانبيها لم
يشذ منها شئ. والأحوذ: الجاد المنكش الخفيف في أموره كلها. وكان القياس
يقتضي ان يقول: استحاذ، لان الواو إذا كانت عين الفعل وكانت محركة بالفتح،
وما قبلها ساكن تقلب حركتها إلى فاء الفعل، وقلبوها ألفا اتباعا لحركة ما قبلها.
كقولهم: استحاذ واستبان واستنار واستعاذ بالله وهاهنا تركت على الأصل وهي
لغة القرآن. وقوله: " ونمنعكم من المؤمنين " يعني يقول المنافقين الكافرون منعنا
المؤمنين منكم بتخذيلنا إياهم، واطلاعنا إياكم على اخبارهم، وكوننا عيونا لكم حتى
انصرفوا عنكم وغلبتموهم. وقوله: " فالله يحكم بينكم يوم القيامة " اخبار منه (تعالى)
انه الذي يحكم بين الخلائق يوم القيامة ويفصل بينهم بالحق، وينصر المؤمنين " ولا يجعل
للكافرين على المؤمنين سبيلا " اي بالغلبة والقهر. وان حملناه على دار الدنيا يمكن
حمله على أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا بالحجة، وان جاز ان يغلبوهم بالقوة، لكن
المؤمنين منصورون بالحجة والدلالة. وبالتأويل الأول قال علي (عليه السلام):
والسدي وأبو مالك وابن عباس. قال السدي: السبيل - هاهنا - الحجة. وبالثاني
قال: الزجاج والجبائي والبلخي. وقال الجبائي: ولو حملنا ذلك على الغلبة، كان أيضا
صحيحا، لان غلبة الكفار للمؤمنين ليس مما فعله الله، لان ذلك قبيح، والله لا يفعل
القبيح. وليس كذلك غلبة المؤمنين للكفار، لأنه حسن وطاعة، فكان ذلك منسوبا
إلى الله (تعالى).
قوله تعالى:
(إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى

(1) اللسان (حوذ). القصيدة: 17 وبعده:
رفعن سرادقا يوم ريح * يصفق بين ميل واعتدال
364

الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله قليلا (142)
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله
فلن تجد له سبيلا) (143) آيتان.
- قد بينا - في أول البقرة معنى الخداع من المنافقين، ومن الله (تعالى)
وجملته ان الخداع من المنافقين اظهارهم الايمان الذي حقنوا به دماءهم وأموالهم، كما
حقن المؤمنون على الحقيقة. وقال: الحسن والزجاج والأزهري ان معناه يخادعون
نبي الله فسماه خداعا لله للاختصاص، كما قال: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون
الله فسمى مبايعة النبي صلى الله عليه وآله مبايعة الله، للاختصاص، لأنه بأمره. ومعنى الخداع
من الله يحتمل أمرين:
أحدهما - ان يجازيهم على خداعهم فسمى الجزاء باسم الشئ، للازدواج،
كما قال: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " والجزاء ليس بسيئة. وقال: " ومكروا
ومكر الله " والله لا يمكر، غير أنه يجازي عليه.
والثاني - ما حكم الله فيهم من منع دمائهم بما أظهروه من الايمان بلسانهم مع
علمه بباطنهم، واعتقادهم الكفر استدراجا منه لهم في الدنيا حتى يلقوه يوم القيامة،
فيوردهم بما ابطنوا هم نار جهنم. وقال السدي: يعطيهم الله نورا يوم القيامة يمشون
به مع المسلمين، كما كانوا في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور، ويضرب بينهم بسور،
فذلك هو الخداع منه (تعالى). وبه قال ابن جريج، والحسن وغيرهم من المفسرين:
على ما بيناه فيما مضى. وقوله: " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون
الناس " يعني ان المنافقين لا يعملون شيئا من اعمال العبادات التي أوجبها على
المؤمنين على وجه القربة إلى الله، لأنهم غير موقنين بها، ولا ان لهم عليها ثوابا أو
عقابا وإنما يفعلون ذلك إبقاء على أنفسهم، وحذرا من المؤمنين ان يقتلوهم،
ويسلبوا أموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة، قاموا كسالى إليها رياء للمؤمنين،
365

ليحسبوهم المؤمنون منهم، وليسوا منهم، لأنهم لا يعتقدون فرضها. وبه قال قتادة
وابن زيد. وقوله: " ولا يذكر الله إلا قليلا " إنما وصف ما استثناه من ذكرهم
لله بالقلة من حيث إنهم لا يقصدون به وجه الله، ولا التقرب إليه، لا ان شيئا من
ذكر الله يوصف بأنه قليل، بل يوصف جميعه بأنه كثير، قال الحسن: وصفه بالقلة،
لأنه كان لغير الله. وقال قتادة: لأنه لم يقبله الله وكلما رده الله، فهو قليل،
وما قبله فهو كثير. وقال الجبائي: لأنهم. إذا قاموا إلى الصلاة، لم يذكروا غير
تكبيرة الاحرام.
وقوله: " مذبذبين " في موضع نصب على الحال. ومعناه انهم يقومون
إلى الصلاة يعني المنافقين مترددين، لا إلى هؤلاء يعني المؤمنين فيفعلونه،
فيستحقون به الثواب ولا إلى هؤلاء يعني الكفار فيجاهرون بالكفر، بل بين
ذلك يظهرون الايمان، فيجري عليهم حكم أهله، ويبطنون الكفر فيستحقون به
عقاب أهله. واصل التذبذب التحرك والاضطراب. قال النابغة:
ألم تر ان الله أعطاك سورة * يرى كل ملك دونها يتذبذب (1)
وقال الحسن بن علي المغربي: مذبذبين مطرودين من هؤلاء، ومن
هؤلاء، من الذب الذي هو الطرد. وصف الله تعالى هؤلاء المنافقين بالحيرة في
دينهم، وانهم لا يرجعون إلى صحة فيه، لا مع المؤمنين على بصيرة، ولامع الكفار
على جهالة. وقال ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ان مثلهم مثل الشاة العائرة بين
الغنمين تتحير، فتنظر إلى هذه والى هذه، لا تدري أيهما تتبع. وبهذه الجملة قال
السدي وقتادة ومجاهد وابن جريج وابن زيد وغيرهم من المفسرين. وقوله: " ومن
يضلل الله فلن تجد له سبيلا " يحتمل أمرين:
أحدهما - من يضله الله عن طريق الجنة، فلن تجد له سبيلا إلى طريق الجنة.
والثاني - من يجد له عقوبة على معاصيه عن طريق الرشاد والاسلام، ولم

(1) - مر في 1: 19
366

يوفقه، لحرمانه نفسه التوفيق بسوء اختياره، فلن تجد له سبيلا يعني طريقا إلى
الحق يفضيه إليه.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون
المؤمنين أتريدون ان تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) (144) آية.
هذا خطاب للمؤمنين نهاهم الله ان يتخذوا الكافرين أولياء وأنصارا من دون
المؤمنين، فيكونون مثلهم في ركوب ما نهاهم الله عنه من موالاة أعدائه " أتريدون
ان تجعلوا الله عليكم سلطانا مبينا " يعني حجة ظاهرة. قال عكرمة، كل ما في
القرآن من ذكر سلطان، فمعناه حجة. وبه قال مجاهد والزجاج. وهو يذكر ويؤنث
وقيل للأمير سلطان، لان معناه ذو الحجة ومعنى الآية النهي عن اتخاذ الكفار
أولياء من دون المؤمنين. فمن فعل ذلك، فقد جعل الله على نفسه الحجة، وتعرض
لغضبه وعقابه وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز أن يبتدئ، الله الخلق بالعذاب،
ولا يعاقب الأطفال بذنوب الآباء، لأنه لو كان ذلك شائعا، لما قال للمؤمنين:
" تجعلون لله عليكم سلطانا مبينا " يعني باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين،
لان ذلك دلالة على أنه لم يكن له ذلك، وانه لا كان له حجة على الخلق لولا
معاصيهم ومخالفتهم له تعالى.
قوله تعالى:
(ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد
لهم نصيرا (145) الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله
وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله
المؤمنين اجرا عظيما) (146) آيتان بلا خلاف.
367

[القراءة والحجة]:
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر، الا العلمي (الدرك) بسكون الراء الباقون
بفتحها وهما الغتان مثل نهر ونهر وشمع وشمع فمن فتح الراء قال في الجمع: إدراك في
القلة والكثرة ومن سكنها قال إدراك وفي الكثير الدرك والتسكين لغة وليس يسكن
من المفتوح، لان مثل ذلك لا يجوز تسكينه، فلا يسكن جمل وجبل وإنما هما لغتان
مثل شمع وشمع ونهر ونهر. قالوا بفتح الراء افصح، سمع من العرب من يقول:
أعطني دركا أصل به حبلي، يعني ما يصل به حبله الذي عجز عن بلوغ الركة.
[المعنى]:
ومعنى الآية الاخبار من الله أن المنافقين في الطبق الأسفل من النار. قال
عبد الله: المنافقون في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار وبه قال أبو هريرة،
وابن عباس. قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير وأبو عبيدة، سمعنا ان جهنم
إدراك منازل. وليس يمتنع ان يجعل الله قوما من الكفار في الدرك الأسفل،
كفرعون وهامان وأبى جهل، فان هؤلاء أعظم كفرا من المنافقين وليس في اخبار
الله ان المنافقين هناك ما يمنع أن يكون غيرهم فيه أيضا، وان تفاضلوا في العقاب
قال ابن جريج: هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه. قال البلخي يجوز أن يكون
الادراك منازل بعضها أسفل من بعض بالمسافة، ويجوز أن يكون ذلك
اخبارا عن بلوغ الغاية في العقاب والإهانة، كما يقال بلغ فلانا السلطان الحضيض،
وبلغ فلانا العرش. ويريدون بذلك علو المنزلة وانحطاطها لا المسافة.
وقوله: " ولن تجد له نصيرا " معناه لا تجد يا محمد، لهؤلاء المنافقين إذا
جعلهم الله في أسفل طبقة من النار ناصرا ينصرهم، فينقذهم من عذابه، ويدفع
عنهم أليم عقابه، ثم استثنى فقال: " الا الذين تابوا " فاستثنى منهم التائبين من
نفاقهم إذا اصلحوا نباتهم، وأخلصوا الدين لله، وتبرؤا من الآلهة والأنداد،
واعتصموا يعني تمسكوا بكتاب الله وصدقوا رسله، فإنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم
368

يكونون مع المؤمنين في الجنة، ومحل الكرامة، ويسكنهم مساكنهم وما وعدهم
من الجزاء على توبتهم، وسوف يؤتي الله المؤمنين اجرا عظيما. فكان تقدير الآية
إن الذين راجعوا الحق، وأقروا بوحدانية الله، وتصديق رسوله، وما جاء به
من عند الله، وأصلحوا اعمالهم فعملوا بما أمرهم الله به وأدوا فرضه وانتهوا عما
نهاهم، وانزجروا عن معاصيه، وتمسكوا بعهد الله وميثاقه، فقطع حينئذ انه تعالى
يؤتي المؤمنين، أي يعطيهم أجرا، يعني عظيما، ودرجات في الجنة كما اعطى
من مات على النفاق منازل في النار في أسفل طبقة منها. وهذه الجملة معنى قول
حذيفة بن اليمان، وجميع المفسرين.
" وسوف يؤت الله " كتبت في المصحف بلا ياء تخفيفا ومثله " يوم يأت لا
تكلم " وقوله: " ما كنا نبغ " وغير ذلك. وكان الكسائي يثبت الياء في الوصل
دون الوقف، ثم رجع عنه. وأبو عمرو يثبتها في الوصل وأهل المدينة يثبتونها
في الحالين
قوله تعالى:
(ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وامنتم وكان الله
شاكرا عليما) (147) آية.
خاطب الله (تعالى) بهذه الآية المنافقين الذين تابوا وآمنوا، وأصلحوا
اعمالهم، فقال: إن أنتم تبتم إلى الله وراجعتم الحق الواجب لله عليكم، وشكرتموه
على نعمه وأخلصتم عبادته، واعتصمتم به وتركتم رياء الناس، وآمنتم برسوله
محمد صلى الله عليه وآله وصدقتم به، وأقررتم بما جاء به من عند الله ما يصنع. بعذابكم، أي
لا حاجة بالله إلى عذابكم، وجعلكم في الدرك الأسفل من جهنم، لأنه لا يجتلب
بعذابكم نفعا، ولا يدفع عن نفسه ضررا، لأنهما مستحيلان عليه.
" وكان الله شاكرا " يعني لم يزل الله مجازيا للشاكر على شكره في جميع
369

عباده عليما بما يستحقونه على طاعاته من الثواب، ولا يضيع عنده شئ منه، ولا
يفوته شئ من معاصي من عصاه، فيجازي بذلك من يشاء منهم على سوء أفعالهم
جزاء بما كسبوه. وبه قال قتادة وغيره من المفسرين. والشكر هو الاعتراف
بالنعمة مع ضرب من تعظيم المنعم، وذلك لا يجوز الشكر منه بمعنى الجزاء عليه كما
قال: " ومكروا ومكر الله " " وجزاء سيئة سيئة مثلها " والجزاء ليست سيئة ولكن
أطلق ذلك لازدواج الكلام.
قوله تعالى:
(لا يجب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم وكان
الله سميعا عليما) (148) آية بلا خلاف.
[القراءة والحجة]:
الفراء ضم الظاء في قوله: " الا من ظلم " وكسر اللام. وقرأ زيد بن أسلم
والضحاك بن مزاحم (ظلم) بفتح الظاء واللام. فمن ضم الظاء، اختلفوا في تأويله
فقال قوم: معنى ذلك لا يحب الله ان يجهر أحد بالدعاء على أحد، وهو الجهر
بالسوء إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، لا يكره ذلك وذلك أنه رخص له فيه.
ذهب إليه ابن عباس وقتادة والحسن.
[الاعراب]:
و (من) على قول ابن عباس في موضع رفع، لأنه وجهه إلى أن الجهر
بالسوء في معنى الدعاء. واستثنى المظلوم منه وقال الزجاج: وجه الرفع أن يكون
بدلا من أحد وتقديره لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم وقال الفراء
تقديره لا يحب الله أن يجهر بالسوء الا المظلوم، فلا حرج عليه في الجهر اما بان
يدعو عليه، أو بان يخبر بما فعله به، ويذمه عليه. وبه قال الجبائي قال: ولا يجوز
370

لمن ليس بمظلوم ان يذكر أحدا بسوء لان الله (تعالى) امره بالستر عليه والكتمان،
وإنما يجب عليه ان ينكر عليه فيما بينه وبينه على وجه لا يفضحه، وإنما جاز ذلك
للمظلوم، لأنه خصم يجوز له ان يدعي على خصمه ما ظلمه فيه، فان أقام بذلك
بينة استوفى له حقه، والا أبطل دعواه. وقال بعض النحويين: هذا خطأ في
العربية، لان من لا يجوز أن يكون رفعا بالجحد لأنها في صلة ان، ولم ينله الجحد،
فلا يجوز العطف عليه. لا يجوز ان يقول: لا يعجبني ان يقوم الازيد. ويحتمل
أن يكون (من) نصبا في تأويل ابن عباس.
[المعنى]:
وقوله: " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " يكون كلاما، ثم قال:
" الا من ظلم فلا حرج عليه " فيكون (من) استثناء من الفعل، وان لم يكن
قبل الاستثناء شئ ظاهر يستثنى منه، كما قال: " لست عليهم بمسيطر الا من
تولى وكفر ". وكقولهم: إني لأكره الخصومة والمراء، اللهم إلا رجلا يريد الله
بذلك. ولم يذكر فيه شئ من الأشياء ذكره الفراء. وقال آخرون: معناه لا يحب
الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فيخبر بما ينل منه. ذهب إليه مجاهد قال
مجاهد: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه فقد رخص له أن يقول ذلك فيه وروي
عن أبي عبد الله أنه قال: هو الضيف ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته، جاز أن
يقول ذلك فيه. وقال آخرون: الا من ظلم فانتصر من ظلمه، فان ذلك قد أذن
له فيه، ذهب إليه السدي وهو المروي عن أبي جعفر (ع) و (من) على هذا
يكون في موضع نصب على انقطاعه من الأول. ومن شان العرب ان تنصب ما بعد
الا في الاستثناء المنقطع. فالمعنى على هذا القول سوى قول ابن عباس: لا يحب
الله الجهر بالسوء من القول، لكن من ظلم فلا حرج عليه ان يخبر بما ينل منه،
ينتصر ممن ظلمه. ومن فتح الظاء قال تأويله: لا يجب الله الجهر بالسوء من القول،
الا من ظلم، فلا بأس ان يجهر له بالسوء من القول. ذهب إليه ابن زيد قال:
371

يجهر له بالسوء حتى يفزع. (ومن) على هذا القول في موضع نصب والمعنى لا
يحب الله الجهر أن يجهر أحد لاحد من المنافقين بالسوء من القول إلا من ظلم منهم
فأقام على نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر بالسوء من القول. قال الزجاج: وفيه وجه
آخر لم يذكره النحويون وهو أن يكون الا من ظلم، لكن الظالم اجهروا له بالسوء
من القول، وهو استثناء ليس من الأول. وهذا الذي ذكره هو قول ابن زيد
بعينه. وقال الفراء: موضع (من) نصب في القراءتين معا. ويجوز الرفع على تقدير
لا يحب الله أن يجهر بالسوء الا المظلوم. وقال البلخي: كان الضحاك يقول: فيه
تقديم وتأخير والتقديم ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وامنتم إلا من ظلم بفتح
الظاء ثم قال: لا يحب الله الجهر بالسوء من القوم على كل حال. قال البلخي: ويجوز
أن يكون (إلا) بمعنى الواو، كأنه قال: لا يحب الله الجهر بالسوء، ولا من ظلم،
فإنه لا يحب الجهر بالسوء منه. وقال قطرب: يجوز أن يكون المراد به المكره في
قوله: " الا من ظلم " لأنه إذا اكره على الجهر بالسوء من القول، فلا شئ عليه.
والقراءة المعروفة أولى بالصواب، لأن هذه شاذة.
والتأويل فيه لا يحب الله ان يجهر أحد لاحد بالسوء من القول إلا من ظلم،
فلا حرج عليه أن يخبر بما أسئ إليه. وتكون (من) في موضع نصب لانقطاعها
عما قبلها، فإنه لا أسماء قبله يستثنى منها. وهو مثل قوله: " لست عليهم بمسيطر
الا من تولى وكفر " وقوله: " وكان الله سميعا عليما " يعني سميعا لما يجهرون
من سوء القول لمن يجهرون له، وغير ذلك من كلامكم وأصواتكم عليما بما تخفون
من سوء قولكم وكلامكم لمن يخفون له به فلا يجهرون يحصي ذلك كله عليكم
فيجازي على ذلك كل المسئ بإساءته. والمحسن باحسانه.
قوله تعالى:
(ان تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فان الله كان
عفوا قديرا) (149) آية.
372

[المعنى]:
هذا خطاب لجميع المكلفين. يقول الله لهم: " ان تبدوا " بمعنى ان تظهروا
(خيرا) اي حسنا جميلا من القول لمن أحسن إليكم شكرا على إنعامه عليكم،
أو تخفوه أي تتركوا اظهاره، فلا تبدوه، " أو تعفوا عن سوء " معناه أو
تصفحوا عمن أساء إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي أذنت
لكم أن تظهروه، وتجهروا به " فان الله كان عفوا " يعني لم يزل كان صفوحا عن
خلقه يصفح لهم عن معاصيه " قديرا " يعني قادرا على الانتقام منهم. وإنما أراد
بذلك انه مع صفحه قادرا على الانتقام، ليكون أعظم للمدح ليحث بذلك الخلق
على العفو عمن أساء إليهم. إذا قدروا على الانتقام منهم، والمكافئات لهم. ولا
يجهروا له بالسوء من القول مع القدرة عليه، ويتأدبوا في ذلك بأدب الله تعالى.
وروى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ان الله عفو
يحب العفو).
قوله تعالى:
(ان الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون ان يفرقوا بين
الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان
يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا
للكافرين عذابا مهينا) (151) آيتان.
[المعنى]:
معنى الآية الاخبار من الله تعالى " إن الذين يكفرون " ومعناه يجحدون
بالله ورسله من اليهود والنصارى " ويريدون ان يفرقوا بين الله ورسله " أي
373

يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه وأوحى إليهم ويزعمون انهم كاذبون على
الله. وذلك معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر
ببعض " ومعناه أنهم يقولون نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود صدقوا
موسى ومن تقدمه من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وكما فعلت النصارى
صدقت عيسى ومن تقدمه من الأنبياء، وكذبوا محمدا صلى الله عليه وآله " ويريدون ان
يتخذوا بين ذلك سبيلا " يعني يريد المفرقون بين الله ورسله الزاعمون انهم
يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ان يتخذوا بين قولهم: نؤمن ببعض، ونكفر
ببعض سبيلا يعني طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها يدعون
جهال الناس إليه، ثم اخبر عن حالهم فقال: " أولئك هم الكافرون حقا " أي هؤلاء
الذين أخبر عنهم بأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وتفريقهم بين الله ورسله
هم الكافرون حقا فاستيقنوا ذلك ولا ترتابوا بدعواهم انهم يقرون بما زعموا انهم
فيه مقرون من الكتب والرسل، فإنهم يكذبون في دعواهم هذه، لأنهم لو كانوا
صادقين في ذلك، لصدقوا جميع رسل الله، لأنه لا يصح ان يكونوا عارفين بالله
ورسوله مع جحودهم، لنبوة بعض الأنبياء على ما يذهب إليه في الموافاة. وعند
من قال بالاحباط لا يمتنع ان يكونوا عارفين بالله، وبعض رسله فإذا كفروا ببعضهم،
انحبط ما معهم من الثواب على ايمانهم وهذا لا يصح على مذهبنا في بطلان الاحباط
فالصحيح إذا ما قلناه.
وقوله: " واعتدنا " معناه أعددنا للكافرين يعني الجاحدين الذين ذكرهم
ولغيرهم من أصناف الكفار (عذابا) في الآخرة " مهينا " يهينهم ويذلهم مخلدون
في ذلك وقال قتادة والسدي ومجاهد نزلت في اليهود والنصارى وإنما قال: إن
هؤلاء هم الكافرون حقا، وإن كان غيرهم أيضا كافرا حقا على وجه التأكيد لئلا
يظن أنهم ليسوا كفارا لقولهم: نؤمن ببعض ونكفر ببعض وقيل إنه قال ذلك
استعظاما لكفرهم، كما قال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى
374

قوله: " أولئك هم المؤمنون حقا " وقد يكون مؤمنا حقا من لم يلحق هذه
الخصال بلا خلاف.
قوله تعالى:
(والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم
أولئك سوف نؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما) (152)
آية بلا خلاف.
[القراءة والحجة]:
قرأ يؤتيهم بالياء حفص الباقون بالنون حجة حفص قوله: " سوف يؤت الله
المؤمنين " ومن قرأ نؤتيهم - بالنون - فلقوله: " واتيناه اجره " وقوله: " أولئك
سنؤتيهم اجرا " وغير ذلك من الآي.
[المعنى]:
لما ذكر الله تعالى حكم من فرق بين الله ورسله، والايمان ببعض دون بعض،
وانهم الكافرون، وانه أعدلهم العذاب المهين، اخبر عقيبه عمن آمن بالله ورسله،
وصدقهم وأقر بنبوتهم، ولم يفرقوا بين أحد منهم، بل آمنوا بجميعهم، فان الله
(تعالى) سيؤتيهم أجورهم بمعنى سيعطيهم ثوابهم الذي استحقوا على ايمانهم بالله
ورسله، والاقرار بهم، وإنه يعطيهم جزاءهم على ذلك. " وكان الله غفورا رحيما "
ومعناه يغفر لمن هذه صفته ما سلف له من المعاصي والآثام، ويسيرها عليهم، ويترك
العقوبة عليها، فإنه لم يزل كان غفورا رحيما أي متفضلا عليهم بالهداية إلى سبيل
الحق موفقا لهم لما فيه خلاص رقابهم من عقاب النار.
375

قوله تعالى:
(يسلك أهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء فقد
سئلوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أرنا الله جهرة فاخذتهم
الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا
عن ذلك واتينا موسى سلطانا مبينا) (153) آية بلا خلاف.
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله يسألك يا محمد أهل الكتاب يعني اليهود
ان تنزل عليهم كتابا من السماء، واختلفوا في الكتاب الذي سأل اليهود محمد صلى الله عليه وآله
ان ينزل عليهم من السماء فقال قوم: سألوا ان ينزل كتابا من السماء مكتوبا، كما جاء
موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله في الألواح. ذهب إليه السدي
ومحمد بن كعب القرطي، فأنزل الله فيهم هذه الآية إلى قوله: " على مريم بهتانا
عظيما " وقال آخرون: بل سألوه ان ينزل عليهم كتابا خاصا لهم ذهب إليه قتادة.
وقال آخرون: بل يسألون أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا بالامر بتصديقه،
واتباعه ذكر ذلك ابن جريج، واختاره الطبري وقال الزجاج: ذلك حين سألوا
فقالوا: " لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " وقال الجبائي: كان
سؤالهم على وجه التعنت والا فكان فيما أنزله الله من القران دلالة واضحة على نبوته.
وقوله: " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " فإنه توبيخ من الله تعالى، سئل
انزال الكتاب عليهم، وتفريع منه لهم بقوله لنبيه صلى الله عليه وآله: يا محمد لا يعظن عليك
مسألتهم، إياك ذلك فإنهم من جهلهم بالله عز وجل وجرأتهم عليه، واغترارهم بحلمه،
لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوه لخالفوا امر الله، كما خالفوا بعد أحياء الله
أوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل، واتخذوه آلها فعبدوه من دون خالقهم وبارئهم
الذي أراهم قدرته، وعظمته وسلطانه بما أراهم، ثم قص من قصتهم وقصة موسى
376

ما قص، فقال: " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " يعني سأل اسلاف هؤلاء اليهود
موسى (ع) أعظم مما سألوك فقالوا أرنا الله جهرة أي عيانا نعاينه وننظر إليه.
وقد بينا معنى الجهرة فيما مضى. وحكي عن ابن عباس أنه قال: فيه تقديم وتأخير،
وتقديره إنما قالوا جهرة أرنا الله: وهو الذي اختاره أبو عبيدة. وقال غيره: أراد
رؤية بالبصر ظاهرة منكشفة، لان من علم الله فقد رآه. وهو اختيار الزجاج لقوله
تعالى: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " وقول ابن عباس يدل على أنه كان
يذهب إلى استحالة الرؤية عليه تعالى، لان على تأويله بنفس سؤال الرؤية، اخذتهم
الصاعقة دون رؤية مخصوصة على ما يذهب إليه من قال بالرؤية. وقوله: " فاخذتهم
الصاعقة بظلمهم " يعني فصعقوا بظلمهم أنفسهم عن سؤالهم موسى ان يريهم الله،
لان ذلك مما هو مستحيل عليه (تعالى) وفي ذلك دلالة واضحة على استحالة الرؤية
عليه (تعالى) واستعظام لتجويزها، لأنهم كانوا يكفرون به ويجحدونه ولم ينزل
عليهم الصاعقة، فلما سألوا الرؤية أنزلها عليهم. وفي ذلك دلالة على أن أصل كل
تشبيه تجويز الرؤية عليه تعالي على قوله أبي على. وقد بينا معنى الصاعقة فيما مضى،
فلا نطول بإعادته.
وقوله: " ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات " معناه، ثم اتخذ
هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا من رؤية الله بعد ما أحياهم وبعثهم من صعقتهم -
العجل الذي كان السامري أضلهم به. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من اجله
اتخذوا العجل، وكيف كان أمرهم. وقوله: " من بعد ما جاءتهم البينات " معناه
من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى البينات من الله، ومن الدلالات
الواضحات بان الرؤية مستحيلة عليه، ومنها اصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى
يريدون ان يريهم ربهم جهرة، ثم احياؤه إياهم بعد مماتهم مع غيره من الآيات التي
أراهم الله دلالة على ذلك، فقال الله مقبحا فعلهم، وموضحا عن جهلهم ونقص
عقولهم باقرارهم للعجل بأنه الههم، وهم يرونه عيانا، وينظرون إليه، فعكفوا على
377

عبادته مصدقين بإلاهيته ثم قال تعالى: " فعفونا عن ذلك " ومعناه عفونا للذين
عبدوا العجل عن عبادتهم بعد ان أراهم الله آية على أنهم لا يرون ربهم. وقوله:
" واتينا موسى سلطانا مبينا " معناه أعطينا موسى حجة ظاهرة تبين عن صدقه
وحقيقة نبوته، وتلك الحجة هي الآيات التي اتاه الله إياها.
قوله تعالى:
(ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب
سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت واخذنا منهم ميثاقا غليظا) (154)
- آية اجماعا -.
[القراءة والحجة]:
قرأ أهل المدينة (لا تعدوا) بتسكين العين وتشديد الدال والجمع بين ساكنين
بمعنى لا تعتدوا، ثم أدغم التاء في الدال فصارت دالا مشددة مضمومة، كما قرأ
من قرأ (يهتدي) بتسكين الهاء - وقووا ذلك بقوله: " ولقد علمتم الذين اعتدوا
منكم في السبت " فجاء في هذه القصة افتعلوا وقال: " لا تعتدوا فان الله لا يحب
المعتدين " وقرأ الباقون بتسكين العين - من عدوت في الامر: إذا تجاوزت الحق
فيه أعدو عدوانا وعداء وعدوا قال أبو زيد: عدا على اللص: أشد العدو.
والعدو والعداء والعدوان اي سرقك وظلمك. وعدت عينه عن ذلك أشد العدو
وتعدو وحجتهم قوله: إذ يعدون في السبت في هذه القصة وقوله: فأولئك
هم العادون.
[المعنى]:
معنى قوله: " ورفعنا فوقهم الطور " يعني الجبل لما امتنعوا من العمل بما
في التوراة وقبول ما جاءهم به موسى بميثاقهم يعني بما أعطوا الله من الميثاق والعقد،
378

ليعملن بما في التوراة. " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " يعني باب حطه حين
أمرهم الله ان يدخلوا فيه سجودا، فدخلوا على استاههم يزحفون. وقلنا لهم:
" لا تعدوا في السبت " اي لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما حرم
عليكم. قال قتادة: أمرهم الله ان لا يأكلوا الحيتان يوم السبت، ولا يعرضوا
لها. وأحل لهم ما عداه. وقوله: " واخذنا - منهم ميثاقا غليظا " يعني عهدا
مؤكدا بأنهم يعملون ما أمرهم الله به وينتهون عما نهاهم الله عز وجل عنه. وقد
بينا فيما مضى السبب الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجدا، وما كان من
أمرهم في ذلك. قال ابن عباس: رفع الله فوقهم الجبل، فقيل لهم: إما ان
تأخذوا التوراة بما فيها، أو يلقى عليكم الجبل. وقال أبو مسلم: رفع الله الجبل
فوقهم ظلالا لهم من الشمس بميثاقهم أي بعهدهم جزاء لهم على ذلك. والأول
قول أكثر المفسرين.
قوله تعالى:
(فيما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء
بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا
يؤمنون الا قليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا
عظيما) (156) - آيتان -.
[المعنى]:
المعني في قوله: " بما نقضهم " قولان:
أحدهما - قال الفراء والزجاج وغيرهما: " إن (ما) زائدة ". وتقديره فبنقضهم.
والثاني - انها بمعنى شئ. وتقديره فبشئ ونقضهم. بدل منه ومجرور به.
379

مثله قوله: " مثلا ما بعوضة " (1) وفيه القولان. والتقدير فبنقض هؤلاء الذين
وصفهم من أهل الكتاب وميثاقهم يعني عهودهم التي عاهدوا الله عليها أن يعملوا
بما في التوراة " وكفرهم بآيات الله " يعني جحودهم بآيات الله. وهي اعلامه،
وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه، ورسله " وقتلهم الأنبياء بغير حق "
يعني وقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بصدقهم بغير حق يعني بغير استحقاق
منهم، لكبيرة أتوها ولا خطيئة استوجبوا بها القتل. وقتل الأنبياء، وإن كان
لا يكون إلا بغير حق، فإنما أكده بقوله: " بغير حق " ومعناه ما قدمنا القول
فيه أنه لا يكون ذلك إلا بغير حق، كما قال: " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان
له به " والمعنى إن هذا لا يكون عليه برهان. ومثله قول الشاعر:
على لا حب لا يهتدى بمناره (2)
وإنما أراد لا منارها هناك يهتدى به. وقد استوفينا ما في ذلك فيما مضى
" وقولهم قلوبنا غلف " تقديره يقولون: قلوبنا عليها غشاوة وأغطية لا نفقه ما
تقول، ولا نعلق له، فأكذبهم الله في ذلك وقال الفراء والزجاج: معناه قلوبنا
أوعية للعلم لا نفقة ما تقول. وقد بينا معنى الغلف فيما مضى. قوله: " بل طبع
الله عليها بكفرهم " والمعنى كذبوا في قولهم قلوبنا غلف ما هي بغلف، ولا عليها
أغطية، بل طبع الله عليها بكفرهم. وقد بينا معنى الطبع فيما مضى. وهو أنه السمة
والعلامة وسم الله تعالى وعلم على قلوب قوم من الكفار الذين علم من حالهم أنهم
لا يؤمنون فيما بعد، وجعل ذلك عقوبة لهم على كفرهم الذي ارتكبوه في الحال
تعرفه الملائكة. وقوله: " فلا يؤمنون إلا قليلا " معناه فلا يصدقون الا تصديقا
قليلا. وإنما وصفه بالقلة لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به لكن صدقوا
ببعض الأنبياء، وبعض الكتب وكذبوا بالبعض، فكان تصديقهم بما صدقوا به
قليلا، لأنهم، وان صدقوا به من وجه، فهم يكذبون به من وجه آخر. ويجوز.

(1) سورة البقرة، آية 26.
(2) انظرا: 189 - 279 - 444
380

أن يكون الاستثناء من الذين نفى الله عنهم الايمان فكأنه علم أنه يؤمن منهم جماعة
قليلة فيما بعد، فاستثناهم من جملة من اخبر عنهم انهم لا يؤمنون. وبهذه الجملة قال
جماعة المفسرين: قتادة وغيره. واختلفوا في قوله: " فيما نقضهم " هل هو متصل
بما قبله من الكلام أو منفصل منه، فقال قتادة هو منفصل وقال لما ترك القوم أمر
الله، وقتلوا رسله وكذبوا بآياته ونقضوا ميثاقه طبع الله على قلوبهم بكفرهم، ولعنهم
وقال قوم: بل هو متصل بما قبله. قالوا: معناه فاخذتهم الصاعقة بظلمهم بنقضهم
ميثاقهم، وبكفرهم بآيات الله، وبقتلهم الأنبياء بغير حق، وبكذا وكذا أخذتهم
الصاعقة، فتبع الكلام بعضه بعضا. ومعناه مردود على أوله، وجوابه قوله " فبظلم "
من الذين قالوا الزجاج هو بدل من قوله: " فيما نقضهم " واختار الطبري الأول،
وأنه منفصل من معنى ما قبله والمعنى. فيما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله وبكذا
وكذا لعناهم، وغضبنا عليهم، فترك ذكر لعناهم لدلالة قوله: " بل طبع الله عليها
بكفرهم " على معنى ذلك من حيث كان من طبع على قلبه، فقد لعن وسخط عليه
قال: وإنما قلنا ذلك، لان الذين اخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، الذين قتلوا
الأنبياء، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا قتلنا عيسى، كانوا بعد موسى
بدهر طويل، ومعلوم أن الذين اخذتهم الصاعقة لم تأخذهم عقوبة على رميهم مريم
بالبهتان، ولا لقولهم: انا قتلنا المسيح فبان بذلك أن الذين قالوا هذه المقالة غير
الذين عوقبوا بالصاعقة.
وقوله: " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " معناه وبكفر هؤلاء
الذين وصفهم، وقولهم على مريم بهتانا يعني رميهم لها بالزنا، وهو البهتان وبفريتهم
عليها، لأنهم رموها وهي بريئة بغير بينه ولا برهان به بل هتوها بباطل القول.
وهو قول ابن عباس والسدي والضحاك.
381

قوله تعالى:
(وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما
قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي
شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه
الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) (157) آية.
[المعنى]:
هذه الآية عطف على ما قبلها وتقديره، فيما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات
الله وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم: قلوبنا غلف وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله، أنزلنا من العذاب، وأوجبنا لهم من العقاب، لان اخبارهم
انهم قتلوا المسيح يقينا، وما قتلوه، كفر من حيث هو جرأة على الله في قتل
أنبيائه، ومن دلت المعجزات على صدقه، ثم كذبهم الله في قولهم: إنا قتلناه
فقال: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ".
واختلفوا في كيفية التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى فقال وهب بن
منبه: أنى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا
عليهم صيرهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى أو
لنقتلنكم جميعا، فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة، فقال
رجل منهم: انا، فخرج إليهم فقال: انا عيسى، وقد صيره الله على صورة عيسى،
فأخذوه وقتلوه، وصلبوه. فمن ثم شبه لهم، وظنوا انهم قد قتلوا عيسى، وظنت
النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك. وبه قال قتادة
والسدي وابن إسحاق ومجاهد وابن جريج، وان اختلفوا في عدد الحواريين،
ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه ألقي على جميعهم، بل قالوا: ألقي شبهه على
382

واحد، ورفع عيسى من بينهم قال ابن إسحاق: وكان اسم الذي القي عليه شبهه
سرجس، وكان أحد الحواريين، ويقال: إن الذي دلهم عليه وقال هذا عيسى
أحد الحواريين أخذ على ذلك ثلاثين درهما، وكان منافقا، ثم إنه ندم على ذلك
فاختنق حتى قتل نفسه، وكان اسمه بودس زكريا بوطا، وهو ملعون في النصارى،
وبعض النصارى يقول: إن بودس زكريا بوطا هو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو
يقول: لست بصاحبكم الذي دللتكم عليه. قال الطبري: الأقوى قول ابن المنبه،
وهو ان سبعة عشر القي على جماعتهم شبه عيسى، لأنه لو كان ألقي على واحد منهم
مع قول عيسى أيكم يلقى عليه شبهي وله الجنة، ثم رأوا عيسى قد رفع من بين
أيديهم لما اشتبه عليهم، وما اختلفوا فيه، وان جاز ان يشتبه على أعدائهم من
اليهود الذين لم يكونوا يعرفونه، لكن لما ألقي شبهه على جميعهم، فكان يرى كل
واحد بصورة عيسى، فلما قتل واحد منهم اشتبه الحال عليهم. وهذا الذي ذكره
قريب. وقال الجبائي: وجه التشبيه ان رؤساء اليهود اخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه
على موضع عال، ولم يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته وتنكرت صورته.
وقالوا: قتلنا عيسى، ليوهموا بذلك على عوامهم، لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي
فيه عيسى فلما دخلوه كان رفع عيسى من بينهم، فخافوا أن يكون ذلك سبب إيمان
اليهود به، ففعلوا ذلك. والذين اختلفوا غير الذين صلبوا من صلبوه، وهم باقي
اليهود، فان قيل: هل يجوز ان يلقي الله شبه زيد على عمر حتى لا يفصل الناظر
اليهما بينهما، كما كان يفصل قبل القاء الشبه؟ قيل: ذلك مقدور لله بلا خلاف،
ويجوز ان يفعله عندنا تغليظا للمحنة، وتشديدا للتكليف، وإن كان ذلك خارقا
للعادة، يجوز أن يجعل ذلك معجزة أو كرامة، لبعض أوليائه الصالحين، أو
الأئمة المعصومين (ع). وعند المعتزلة لا يجوز ذلك الا على يدي الأنبياء أو في
وقتهم، لأنه لا يجوز خرق العادة عنهم إلا على يده. وقد قيل: إن أصحاب
عيسى (ع) تفرقوا عنه حتى لم يبق غير عيسى، وغير الذي القي شبهه عليه، فلذلك
383

اشتبه على النصارى، فان قيل: كيف يجوز من الخلق العظيم ان يخبروا بالشئ على
خلاف ما هو به، وقد علمنا كثرة اليهود والنصارى، ومع كثرتهم أخبروا ان عيسى
صلب وقتل، فكيف يجوز ان يكونوا مع كثرتهم كذابين؟ ولئن جاز هذا لم نثق
بشئ من الاخبار أصلا ويؤدي ذلك إلى قول السنمية! قلنا: هؤلاء القوم دخلت
عليهم الشبهة، لان اليهود لم يكونوا يعرفون عيسى، وإنما أخبروا انهم قتلوا واحدا،
وقيل لهم انه عيسى، فهم في ذلك صادقون، وان لم يكن المقتول عيسى. وأما
النصارى فاشتبه عليهم، لأنه كان ألقي شبهه على غيره، فلما رأوا من هو في صورته
مقتولا، ظنوا انه عيسى، فلم يخبر أحد من الفريقين بما ظن أن الامر على ما اخبر
به، فلا يؤدي ذلك إلى بطلان الاخبار بحال.
وقوله: " وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع
الظن وما قتلوه يقينا " يعني به الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حيث أرادوا قتله
لأنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت، فلما دخلوا عليهم فقدوا واحدا منهم،
فالتبس عليهم امر عيسى بفقدهم واحدا من العدة، وقتلوا من قتلوا على شك
منهم في امر عيسى. هذا على قول من قال: لم يتفرق أصحابه حتى دخل عليهم
اليهود واما من قال تفرقوا عنه، فإنه يقول: اختلافهم كان بأن عيسى هل كان
في من بقي في البيت أو كان في الذين خرجوا. فاشتبه الامر عليهم. قال
الزجاج: وجه اختلاف النصارى أن: منهم من ادعى انه له لا يقتل، ومنهم من قال
قتل، فكذب الله الجميع. وقوله: " إلا اتباع الظن " استثناء منقطع. وتقديره لم
يكن لهم بمن قتلوه علم لكنهم اتبعوه ظنا منهم انه عيسى، ولم يكن به.
وقوله: " وما قتلوه يقينا " معناه وما قتلوا ظنهم الذي اتبعوا المقتول الذي
قتلوه، وهم يحسبونه عيسى يقينا إنه عيسى، ولا انه غيره، لكنهم كانوا منه على
ظن وشبهة، كما يقول القائل: ما قتلت هذا الامر علما، وما قتلته يقينا: إذا تكلم
فيه بالظن على غير يقين. فالهاء في (قتلوه) عائدة على الظن. وقال ابن عباس وجويبر
384

وما قتلوا ظنهم يقينا. وحكى الزجاج عن قومهم: أن الهاء. راجعة إلى عيسى (ع).
نفى الله عنه القتل على وجه التحقيق واليقين. وقال السدي: وما قتلوا أمره يقينا
إن الرجل هو عيسى (ع) وقوله: " بل رفعه الله إليه " يعني بل رفع الله المسيح
إليه، ولم يقتلوه، ولم يصلبوه، لكن الله رفعه وطهره من الذين كفروا وقوله:
" كان الله عزيزا حكيما " معناه لم يزل الله عزيزا منتقما من أعدائه كانتقامه من الذين
اخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه من نقض ميثاقه وفعل ما قصه الله، حكيما في افعاله
وتدبيراته وتصريفه خلقه في قضائه، واحذروا أيها السائلون محمدا ان ينزل عليكم
كتابا من السماء - حلول عقوبته بكم، كما حل بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم في تكذيبهم
رسلي وافترائهم على أوليائي. وبه قال ابن عباس.
وقوله: " بل رفعه الله ".
[القراءة والحجة]:
في القراء من أدغم اللام في الراء وعليه الأكثر. وهو الأقوى لقرب مخرج اللام
من مخرج الراء. وهو أقوى من ادغام الراء في اللام، لان في الراء تكويرا فهو
يجري مجرى الحرفين. ومن لم يدغم قال: لأنه من كلمتين. وقال الفراء: لا يجوز
غير الادغام. وقال سيبويه: الادغام أجود وتركه جائز وهي لغة حجازية.
وقوله: " بل رفعه الله إليه " معناه انه رفعه إلى الموضع الذي يختص الله
(تعالي) بالملك، ولم يملك أحدا منه شيئا. وهو السماء، لأنه لا يجوز أن يكون
المراد انه رفعه إلى مكان هو (تعالى)، فيه لان ذلك من صفات الأجسام (تعالى
الله عن ذلك) وعلى هذا يحمل قوله حكاية عن إبراهيم " إني ذاهب إلى ربي " يعني
إلى الموضع الذي امرني به وربي ومثل قوله: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله
ورسوله " يعني مهاجرا إلى الموضع الذي أمره الله بالهجرة إليه.
385

قوله تعالى:
(وان من أهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته ويوم
القيامة يكون عليهم شهيدا) (158) آية.
معنى (ان) معنى (ما) النافية وموضعها الرفع وهي مثل قوله: " وإن
منكم إلا واردها " أي ما منكم أحد إلا واردها. ومعنى الآية الاخبار منه (تعالى)
بأنه إلا ليؤمنن به يعني بعيسى قبل موته واختلفوا في الهاء إلى من ترجع فقال
قوم: هي كناية عن عيسى، كأنه قال: لا يبقى أحد من اليهود الا يؤمن
بعيسى قبل موت عيسى بأن ينزله الله إلى الأرض إذا اخرج المهدي (عج) وانزله
الله لقتل الدجال، فتصير الملل كلها ملة واحدة وهي ملة الاسلام الحنيفية دين
إبراهيم (ع). ذهب إليه ابن عباس وأبو مالك والحسن وقتادة، وابن زيد وذلك
حين لا ينفعهم الايمان. واختاره الطبري. قال: والآية خاصة لمن يكون في ذلك
الزمان وهو الذي ذكره علي بن إبراهيم في تفسير أصحابنا. وروى شهر بن حوشب
عن محمد بن علي بن الحنفية ان الحجاج سأله عن هذه الآية وقال: نرى اليهود تضرب
رقبته، فلا يتكلم بشئ فقال: حدثني محمد بن علي أن الله يبعث إليه ملكا ينفضه
ويضرب رأسه ودبره، ويقول له: كذبت عيسى، فيؤمن حينئذ ويقول: كذبت
عيسى ويعترف به. فقال الحجاج: عمن؟ فقال: عن محمد بن علي فقال له، جئت بها
من عين صافية. فقيل لشهر ما أردت بذلك؟ قال: أردت ان أغيظه وذكره البلخي
مثل ذلك وضعف هذا الوجه الزجاج وقال: الذين يبقون إلى زمن نزول عيسى (ع)
من أهل الكتاب قليل. والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب أجمع قال: إلا أن
تحمل على أن جميعهم يقول: ان عيسى الذي ينزل لقتل الدجال نحن نؤمن به فعلى
هذا يجوز. واختار الوجه الثاني وقال قوم: الهاء كناية عن الكتابي، وتقديره
أنه لا يكون أحد من أهل الكتاب يخرج من دار الدنيا إلا ويؤمن بعيسى عند
386

موته إذا زال تكليفه، وتحقق الموت، ولكن لا ينفعه الايمان حينئذ ذهب إليه
ابن عباس في رواية أخرى، ومجاهد قال ابن عباس: لو ضربت رقبته لم تخرج
نفسه حتى يؤمن وبه قال عكرمة والضحاك. وفي رواية عن الحسن وقتادة وقال
قوم: الهاء كناية عن محمد صلى الله عليه وآله والتقدير وليس من أهل الكتاب إلا من يؤمن
بمحمد صلى الله عليه وآله قبل موت الكتابي ذهب إليه عكرمة وطعن الطبري على هذا الوجه
بل قال: لو كان ذلك صحيحا لما جاز اجزاء احكام الكفار عليهم إذا ماتوا من ترك
الصلاة عليهم. ومنع المدافنة والموارثة. وغير ذلك. ووجب اجراء حكم الاسلام
عليهم. وهذا الذي ذكره ليس بشئ لان ايمانهم بمحمد صلى الله عليه وآله إنما يكون في حال
زوال التكليف، فلا حكم لذلك الايمان. وذلك مثل إيمان فرعون حين غرق وقال:
" امنت انه لا اله إلا الذي امنت به بنو إسرائيل " فقال الله تعالى له: " الآن وقد
عصيت قبل وكنت من المفسدين " فكذلك إيمان هؤلاء لا يعتد به، وإنما يضعف
هذا الجواب من حيث إنه لم يجر لمحمد صلى الله عليه وآله ذكر فيما تقدم، ولا هاهنا ضرورة
موجبة لرد الكناية عليه. وما هذه صورته لا تجوز الكناية عنه. وإنما قلناه في
قوله: حتى توارت بالحجاب إنها كناية عن الشمس للضرورة، لأنه يتحمل سواها.
وقد جرى ذكر عيسى والكتابي فأمكن أن يكون كناية عن كل واحد منهما، فلا
يجوز العدل عنه وقوله " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال قتادة وابن
جريح: يكون عيسى عليهم شهيدا على أنه قد بلغ رسالة ربه، وأقر على نفسه
بالعبودية مكذبا من كذبه ومصدقا من صدقه.
قوله تعالى:
(فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات ما أحل لهم
وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (159) واخذهم الربا وقد نهوا عنه
وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذابا
387

أليما) (160) آيتان - هاتان الآيتان معطوفتان على ما تقدم.
قال الزجاج: قوله: " فبظلم " بدل من قوله: " فبما نقضهم ميثاقهم " والعامل
في الياء قوله: " حرمنا عليهم طيبات " لما طال الكلام أجمل (تعالى) ما ذكره هاهنا
في قوله: فبظلم وأخبر انه حرم على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذين واثقوا الله
عليه، وكفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه، وقالوا، البهتان على مريم وفعلوا ما فعلوا مما
وصفه الله في كتابه طيبات من المأكل وغيرها، وكانت لهم حلالا، عقوبة لهم
بظلمهم الذي أخبر الله عنه لأنهم لما فعلوا ما فعلوا، اقتضت المصلحة تحريم هذه
الأشياء عليهم. وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين. وقوله: " وبصدهم عن سبيل
الله كثيرا " يعنى بمنعهم عباد الله عن دينه وسبيله التي شرعها لعباده صدا كثيرا،
وكان صدهم عن سبيل الله بقولهم على الله الباطل، وادعائهم ان ذلك عن الله،
وتبديلهم كتاب الله وتحريفهم معانيه عن وجوهه. ومن أعظم ذلك جحدهم نبوة
محمد صلى الله عليه وآله وتركهم بيان ما قد عملوا من امره من جهل امره من الناس، وهو قول
مجاهد وغيره. وقوله: " وأخذهم الربا " يعني على رؤوس أموالهم بتأخيرهم له عن
محله إلي محل آخر وقد نهوا عنه يعني عن الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل
يعني بغير استحقاق، ولا استيجاب. وهو ما كانوا يأخذونه من الرشا على الاحكام،
كما قال تعالى: " واكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون " ومنه ما كانوا يأخذونه
من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله، وما
أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة، فعاقبهم الله تعالى على جميع ذلك بتحريم
ما حرم عليهم من الطيبات. وقوله: " واعتدنا للكافرين منهم عذابا " معناه وجعلنا
للظالمين أنفسهم بكفرهم بالله، وجحدهم رسوله محمد (صلى الله عليه وآله) من
هؤلاء اليهود العذاب الأليم. وهو المؤلم الموجع يصلونها في الآخرة عدة لهم. قال
أبو علي: حرم الله (تعالي) هذه الطيبات على الظالمين منهم عقوبة لهم على ظلمهم
ومن لم يكن ظالما منهم نسخه منهم اما على لسان عيسى أو علي لسان محمد صلى الله عليه وآله
388

نبينا وهو ما حرمه من كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وغير ذلك مما
ذكره في قوله: " وعلى الذين هاد واحرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا
عليهم شحومهما إلي قوله.. ذلك خزيناهم ببغيهم " فهذا البغي هو الظلم الذي
ذكره ها هنا.
قوله تعالى:
(لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون
بما انزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤمنون بالله
واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم اجرا عظيما) (161) آية.
استثنى الله تعالى من اليهود الذين وصف صفتهم فيما مضى من الآيات في
قوله: يسألك أهل الكتاب إلى هاهنا من هداه الله لدينه، ووفقه لرشده فقال:
" لكن الراسخون " وهم الذين رسخوا في العلم وثبتوا فيه. وقد مضى معنى
الرسوخ فيما مضى في العلم الذي جاء به الأنبياء، واحكام الله التي أدوها إلى عباده،
والمؤمنون بالله. ورسوله منهم يؤمنون بالقرآن الذي أنزله الله إليك يا محمد صلى الله عليه وآله
وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء، والرسل، ولا يسألونك ما يسأل
هؤلاء الجهال من انزال كتاب من السماء، ولأنهم قد علموا صدق قولك بما قرأوا
من الكتب التي أنزلها على الأنبياء، ووصفك فيها وأنه يجب عليهم اتباعك، فلا
حاجة بهم إلى أن يسألوك معجزة أخرى، ولا دلالة غير ما علموا من امرك بالعلم
الراسخ في قلوبهم وهو قول قتادة والمفسرين. وقوله: " والمقيمين الصلاة " اختلفوا
هل هم الراسخون في العلم أو غيرهم؟ فقال قوم: هم هم. واختلف هؤلاء في إعرابه
ومخالفته لاعراب الراسخين فقال قوم منهم: هو غلط من الكتب وإنما هو، لكن
الراسخون في العلم منهم والمؤمنون والمقيمون الصلاة ذكر ذلك حماد بن سلمة عن
الزبير. قال: قلت لأبان بن عثمان بن عفان. ما شانها كتبت لكن الراسخون في العلم
389

منهم والمؤمنون والمقيمين الصلاة فقال: قال: إن الكاتب لما كتب لكن الراسخون
في العلم منهم إلى قوله: من قبلك قال: ما اكتب؟ قيل له: اكتب والمقيمين الصلاة.
وروى عروة بن الزبير قال: سألت عائشة عن قوله: " والمقيمين الصلاة "، وعن
قوله: " والصابئون " وعن قوله: " ان هذان " فقالت: يا بن أخي هذا عمل
الكتاب أخطأوا في الكتابة وفي مصحف ابن مسعود (والمقيمون الصلاة) وقال
الفراء أو الزجاج وغيرهما من النحويين: هو من صفة الراسخين، لكن لما طال،
واعترض بينهما كلام نصب المقيمين على المدح وذلك سائغ في اللغة كما قال في الآيات
التي تلوناها، وفي قوله: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء
والضراء " وقال آخرون: هو من صفة الراسخين في العلم هاهنا، وإن كان
الراسخون في العلم من المقيمين. قالوا: وموضع (المقيمين) خفض عطفا على ما في
قوله: يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.
والمعنى يؤمنون بإقام الصلاة وقوله: والمؤتون الزكاة. قالوا: عطف على قوله:
" والمؤمنون " وقال آخرون المقيمون الصلاة هم الملائكة. وإقامتهم للصلاة تسبيحهم
ربهم، واستغفارهم لمن في الأرض. ومعنى الكلام والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك
وما أنزله من قبلك، وبالملائكة. واختاره الطبري. قال لأنه في قراءة أبي كذلك،
وكذلك هو في مصحفه. فلما وافق مصحفه لمصحفنا ذلك على أنه ليس بغلط. وقال
آخرون: المعنى المؤمنون يؤمنون بما انزل إليك، وما انزل من قبلك، ويؤمنون
بالمقيمين الصلاة، وهم الأئمة المعصومون، والمؤتون الزكاة، كما قال: يؤمن بالله،
ويؤمن للمؤمنين. وأنكروا النصب على المدح. قالوا: وإنما يجوز ذلك بعد تمام
خبره قالوا وخبر الراسخين قوله: " أولئك سنؤتيهم اجرا عظيما " فلا يجوز نصب
المؤمنين على المدح في وسط الكلام قبل تمام الخبر. واختار الزجاج ذلك. قال:
يجوز ان تقول مررت بزيد كريم. بالجر والنصب والرفع: النصب على المدح،
والخفض على الصفة، والرفع على تقدير هو الكريم. وانشد في النصب على المدح
390

بيت خرنق:
لا يبعدن قومي الذين * هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك * والطيبون معاقد الازر
على معنى اذكر النازلين وهم الطيبون. ولو نصب لكان جائزا. وقال قوم
المعنى لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة قالوا فموضعه خفض. وقال:
قوم: المعنى يؤمنون بما أنزل. إليك وإلى المقيمين الصلاة وهذان الوجهان الأخيران
ضعيفان عند النحويين، لأنه لا يكاد يعطف ظاهر على مكنى.
قوله: " أولئك سنؤتيهم اجرا عظيما " إشارة إلى هؤلاء الذين وصفهم الله
فأخبر أنه سيعطينهم أجرا أي ثوابا، وجزاء على ما كان منهم من طاعة الله واتباع
أمره من الخلود في الجنة. وقيل من جملة الراسخين: عبد الله بن سلام وابن يامين
وابن صوريا، واسد وثعلبة، وسلام وغيرهم من علماء اليهود الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله.
قوله تعالى:
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وعيسى
وأيوب ويونس وهارون وسليمان واتينا داود زبورا) (162) آية.
[القراءة والحجة:
قرأ حمزة وخلف (زبورا) بضم الزاي. الباقون بفتحها حيث وقعت من
ضم الزاي احتمل ذلك وجهين: أحدهما أن يكون جمع زبر، فأوقع على المزبور الزبر.
كما قيل: ضرب الأمير ونسج اليمن. كما يسمى المكتوب الكتاب، ثم جمع الزبر
على زبور لوقوعه موقع الأسماء التي ليست مصادر، كما يجمع الكتاب كتب، فلما
استعمل استعمال الأسماء، قالوا: زبور والوجه الآخر أن يكون جمع زبور يحذف
الزيادة على زبور، كما قالوا: ظريف وظروف، وكروان وكروان، وورشان
391

وورشان ونحو ذلك مما يجمع بحذف الزيادة يدل على قوة هذا ان التكسير مثل
التصغير. وقد اطرد هذا الحذف في ترخيم التصغير نحو أزهر وزهير، وحارث
وحريث وثابت وثبيت والجمع مثله في القياس، وإن كان أقل منه في الاستعمال،
ومن فتح الزاي أراد الكتاب المنزل على داود (ع) كما سمى المنزل على موسى
التوراة، والمنزل على عيسى الإنجيل، والمنزل على محمد صلى الله عليه وآله الفرقان.
[المعنى]:
قال الحسين بن علي المغربي: زبور جمع زبور ومثله تخوم وتخوم وعذوب وعذوب
قال: ولا يجمع فعول - بفتح الفاء - على فعول - بضم الفاء - إلا هذه الثلاثة فيما
عرفنا. والزبر احكام العمل في البئر خاصة يقال: بئر مزبورة: إذا كانت مطوية
بالحجارة. ويقال: ما لفلان زبر اي عقل. وزبر الحديد: قطعة واحدها زبرة.
ويقول زبرت الكتاب ازبره زبرا مثل اذبره ذبرا - بالذال المعجمة -.
[المعنى]:
هذا خطاب من الله للنبي صلى الله عليه وآله يقول الله: إنا أوحينا إليك يا محمد أي أرسلنا
إليك رسلنا بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح وسائر الأنبياء الذين سميناهم لك من بعد
والذين لم نسمهم لك. وقيل: إن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله لان بعض
اليهود لما فضحهم الله بالآيات - التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وآله من عند قوله:
" يسألك أهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء، وما بعده " فتلا ذلت عليهم
رسول الله، قالوا: ما انزل الله على بشر من شئ بعد موسى، فأنزل الله هذه
الآيات تكذيبا لهم، وأخبر نبيه والمؤمنين بها انه قد انزل على من بعد موسى من
الذين سماهم في هذه الآية وعلى من لم يسمهم وهو قول ابن عباس. وقال آخرون
بل قالوا لما انزل الله الآيات التي قبل هذه في ذكرهم: ما انزل الله على بشر من
392

شئ، ولا على عيسى. ذهب إليه محمد بن كعب القرطي وفيم نزل قوله: " وما قدروا
الله حق قدره إذ قالوا ما انزل الله على بشر من شئ " والأسباط في ولد إسحاق
كالقبائل في أولاد إسماعيل. وقد بعث منهم عدة رسل: كيوسف وداود وسليمان،
وموسى وعيسى، فيجوز أن يكون أراد بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم،
كما تقول: أرسلت إلى بني تميم، وإن أرسلت إلى وجوههم وليس يصح عندنا ان الأسباط الذين هم اخوة يوسف، كانوا أنبياء.
قوله تعالى:
(ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم
نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما) (164) آية بلا خلاف.
[الاعراب والمعنى]:
يحتمل نصب (ورسلا) أمرين:
أحدهما - على قول الفراء - انا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح، والى رسل
قد قصصناهم عليك، ورسل لم نقصصهم عليك. فلما حذف إلى نصب رسلا. وقال
الزجاج: تقديره انه لما قال: " إنا أوحينا " كان معناه أرسلناك رسولا عطف على
ذلك، فقال: ورسلا. وتقديره وأرسلنا رسلا، فعطف الرسل على معنى الأسماء
قبلها في الاعراب كما قال الشاعر:
أوحيت بالخبز له ميسرا * والبيض مطبوخا معا والسكرا
لم يرضه ذلك حتى يشكرا
والوجه الثاني - أن يكون نصبا بفعل يفسره ما بعده، ويتلوه، وهو اختيار
الزجاج. وتقديره وقصصنا عليك رسلا قد قصصناهم عليك، كما قال: " والظالمين
أعد لهم " والتقدير واعد للظالمين أعد لهم عذابا أليما.
وقرأ أبي ورسل - بالرفع - لما كان في الفعل عائد إليهم، وهو قوله:
393

" وقد قصصناهم عليك " وقوله:
" وكلم الله موسى تكليما " نصب تكليما على المصدر وفائدة وكلم الله موسى
بلا واسطة خصوصا من بين سائر الأنبياء كلمهم الله بواسطة الوحي وقيل: إنما قال
ذلك، ليعلم، ان كلام الله من جنس هذا المعقول الذي يشقق من التكلم على خلاف
ما يقول المبطلون. وقيل إنما اتى بالمصدر تأكيدا. وقيل: إنما أراد بذلك تعظيم
كلامه، كأنه قال: كلم الله موسى تكليما شريفا كما قال: " فغشيهم من اليم ما غشيهم "
يريد بذلك تعظيم ما غشيهم من الأهوال
فاما قول من قال: ان الله كلم موسى باللغات كلها التي لم يفهمها. فلما كان آخر
شئ كلمه بكلام فهمه، فان ذلك لا يجوز عليه تعالى، لان خطاب من لا يفهم
خطابه عبث يجري مجرى قبح خطاب العربي بالزنجية، والله (يتعالى عن ذلك) قال
البلخي: وفي الآية دلالة على أن كلام الله محدث من حيث إنه كلم موسى خاصة
دون غيره من الأنبياء، وكلمه في وقت دون وقت، ولو كان الكلام قديما ومن
صفات ذاته لم يكن في ذلك اختصاص ومن فصل بين الكليم والتكلم، فقد أبعد
لان المكلم لغيره لا يكون الا متكلما، وإن كان يجوز أن يكون متكلما وان لم يكن
مكلما فالمتكلم يجمع الامرين.
قوله تعالى:
(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة،
بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) (165) آية بلا خلاف.
نصب (رسلا) على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم (مبشرين)
نصب على الحال. والتقدير أرسلت هؤلاء الأنبياء رسلا إلى خلقي وعبادي مبشرين
بثوابي من أطاعني وصدق رسلي (ومنذرين) يعني مخوفين من عقابي من عصاني
وخالف أمري، وكذب رسلي " لئلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وقال
394

أبو علي: ذلك مخصوص بمن علم الله من حاله أن له في بعثه الأنبياء لطفا، لأنه إذا
كان كذلك متى لم يبعث إليهم نبيا يعرفهم ما فيه لطفهم، كان في ذلك أتم الحجة
عليه (تعالى) وذلك يفسد قول من قال: في مقدوره من اللطف ما لو فعله بالكافر
لآمن به، لأنه لو كان الامر على ما قالوه، لكانت لهم الحجة بذلك علي الله (تعالى)
قائمة. فاما من لم يعلم من حاله ان له في انفاذ الرسل إليه لطفا، فالحجة قائمة عليه
بالعقل، وأدلته على توحيده، وصفاته وعدله، ولو لم تقم الحجة بالعقل ولا قامت
إلا بانفاذ الرسل، لفسد ذلك من وجهين:
أحدهما - ان صدق الرسل لا يمكن العلم به الا بعد تقدم العلم بالتوحيد والعدل
فان كانت الحجة، لم تقم عليه بالعقل فكيف الطريق له إلى معرفة النبي صلى الله عليه وآله وصدقه.
والثاني - انه لو كانت الحجة لا تقوم الا بالرسول لاحتاج الرسول أيضا إلى
رسول آخر حتى تقوم عليه الحجة. والكلام في رسوله كالكلام في هذا الرسول
ويؤدي ذلك إلى ما لا يتناهى. وذلك فاسد فمن استدل بهذه الآية على أن التكليف،
لا يصح بحال الا بعد انفاذ الرسل، فقد أبعد على ما قلناه. وقوله: " وكان الله
عزيزا حكيما " معناه انه مقتدر على الانتقام ممن يعصيه ويكفر به لا يمنعه منه مانع
لعزته حكيم فيما امر به خلقه وفي جميع افعاله.
قوله تعالى:
(كن الله يشهد بما انزل إليك أنزله بعلمه والملائكة
يشهدون وكفى بالله شهيدا) (166) آية.
قال الزجاج: الرفع مع تخفيف (لكن) والنصب مع تشديده جائز، لكن لم
يقرأ بالتشديد أحد.
ومعنى " لكن الله يشهد " أي يبين ما تشهد به ويعلم مع ابانته انه حق.
395

" والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " دخلت الباء مؤكدة. والمعنى اكتفوا
بالله في شهادته والمعنى في الآية ان هؤلاء اليهود الذين سألوك ان ينزل عليهم كتابا
من السماء وقالوا لك ما أنزل الله على بشر من شئ، قد كذبوا ليس الامر كما قالوا،
لكن الله يشهد بتنزيل ما أنزله إليك من كتابه ووحيه انزل ذلك إليك، وهو عالم
بأنك خيرته من خلقه، وصفوته من عباده يشهد لك بذلك ملائكته، فلا يحزنك
تكذيب من كذبك، وخلاف من خالفك " وكفاك بالله شهيدا " أي حسبك بالله
شاهدا على صدقك، دون ما سواه. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في جماعة من
اليهود كان النبي صلى الله عليه وآله دعاهم إلي اتباعه، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوته
فجحدوا نبوته، وأنكروا معرفته، فأنزل الله فيهم هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله
وتعزية له عن تكذيب من كذبه. ومن استدل بهذه الآية على أنه تعالى عالم بعلم،
فقد أخطأ لان، قوله بعلمه معناه، وهو عالم به. ولو كان المراد بذلك ذاتا أخرى،
لوجب أن يكون العلم آلة في الانزال، كما يقولون كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين،
ونجرت بالفأس. ولا خلاف ان العلم ليس بآلة في الانزال. وقال الزجاج معناه إنزال
القرآن الذي علمه فيه. وهو اختيار الأزهري.
قوله تعالى:
(ان الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا
بعيدا) (167) آية
المعنى:
ان الذين جحدوا نبوتك بعد علمهم بها من أهل الكتاب الذين ذكر
قصتهم، وأنكروا ان الله تعالى أوحى إليك وانزل كتابه عليك، وصدوا عن سبيل
الله يعني عن الدين بعثك به إلي خلقه. وهو الاسلام بقولهم للذين يسألونهم
396

عن صحة نبوتك ما نجد صفة محمد صلى الله عليه وآله في كتبنا، وادعاؤهم عهد إليهم ان
النبوة لا تكون إلا في ولد هارون. ومن ذرية داود، وما أشبه ذلك فقد ضلوا
ضلالا بعيدا يعني جاروا عن قصد الطريق جورا شديدا، وزالوا عن المحجة التي
هي دين الله الذي ارتضاه لعباده وبعثك به إلي خلقه زوالا بعيدا، ابعدوا من الرشاد.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا
ليهديهم طريقا (168) الا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك
على الله يسيرا) (169) آيتان.
هذا خبر من الله تعالى بان الذين جحدوا رسالة محمد (صلى الله عليه وآله)
كفروا بالله، وجحدوه بجحودهم رسالة نبيه وظلموا نبيه بتكذيبهم إياه، ومقامهم
على الكفر على علم منهم بظلمهم عباد الله، وحسدا للعرب، وبغيا على رسوله " لم
يكن ليغفر لهم " يعني لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بترك عقابهم عليها، لكنه تعالى
يفضحهم بها (جل ثناؤه) بعقوبته إياهم عليه، ولا ليهديهم طريقا يعني لا يهديهم
لطريق الجنة، لان الهداية إلى طريق الايمان قد سبقت، وقد عم الله أيضا بها
جميع المكلفين. ويحتمل أن يكون المراد لم يكون الله يفعل بهم ما يؤمنون عنده في
المستقبل عقوبة لهم على كفرهم الماضي، واستحقاقهم حرمان ذلك، وانه يخذلهم
عن ذلك حتى يسلكوا طريق جهنم، ويكون المعنى لم يكن الله ليوفقهم للاسلام،
لكنه يخذلهم عنه إلى طريق جهنم جزاء لهم على ما فعلوه من الكفر خالدين فيها مقيمين
ابدا " وكان ذلك على الله يسيرا " المعنى وكان تخليد هؤلاء الذين وصفت لكم
صفتهم في جهنم على الله يسيرا، لأنه تعالى إذا أراد ذلك به لم يقدر على الامتناع
منه، ولا يصعب عليه عقاب من يعصيه، فذلك كان يسيرا عليه.
397

قوله تعالى:
(يا أيها الناس قد جاء كم الرسول بالحق من ربكم فأمنوا
خيرا لكم وان تكفروا فان لله ما في السماوات والأرض وكان الله
عليما حكيما) (170) آية بلا خلاف.
خاطب الله بهذه الآية جميع الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله من مشركي
العرب، وجميع أصناف الكفار، وبين انه قد جاءهم الرسول - يعني محمد (صلى الله
عليه وآله) - بالحق من ربكم - يعني بالاسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينا من
ربكم. يعني من عند ربكم " فامنوا خيرا لكم " معناه صدقوه وصدقوا ما جاءكم به
من عند ربكم من الدين فان الايمان بذلك خير لكم من الكفر " وان تكفروا " اي
تجحدوا نبوته وتكذبوا رسالته وبما جاء به من عند الله فان ضرر ذلك يعود عليكم
دون الله تعالى الذي له ملك السماوات، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من امره،
وعصيانكم فيما عصيتموه فيه من ملكه وسلطانه شيئا. " وكان الله عليما " بما أنتم
صائرون إليه من طاعته أو معصيته " حكيما " في امره إياكم ونهبه عما نهاكم عنه
وفي غير ذلك من تدبيره فيكم، وفي غيركم من خلقه.
[الاعراب]: واختلفوا في نصب " خيرا لكم " فقال الخليل، وجميع البصريين: إن ذلك
محمول على المعنى، لأنك إذا قلت: انته خيرا لك، فأنت تدفعه عن امر، وتدخله
في غيره، كأنك قلت: انته وات خيرا لك، وادخل فيما هو خير لك وانشد الخليل
وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة:
فواعديه سرحتي مالك * أو الربا بينهما اسهلا
وتقديره وأنني مكانا اسهلا وقال الكسائي: انتصب بخروجه من الكلام. قال:
398

وهذا تفعله العرب في الكلام التام، نحو قولك لتقومن خيرا لك، وانته خيرا
لك، فإذا كان الكلام ناقصا، لم يخبر غير الرفع تقول: ان تنته خير لك، وان تصبروا
خير لكم. وقال الفراء انتصب ذلك لأنه متصل بالامر وهو من صفته. الا ترى
انك، تقول: انته هو خير لك؟ فما أسقطت هو اتصل بما قبله، وهو معرفة فانتصب
وقال أبو عبيدة: انتصب ذلك على اضمار كان، كأنه قال: فامنوا يكن الايمان خيرا
لكم. قال: وكذلك كل امر ونهي قال الفراء: يلزم على ذلك ما يبطله. ألا ترى
انك تقول: اتق الله تكن محسنا، ولا يجوز ان تقول: اتق الله محسنا باضمار كان،
ولا يصلح ان تقول: انصرنا أخانا، وأنت تريد تكن أخانا. وقال قوم. انتصب
ذلك بفعل مضمر اكتفى في ذلك المضمر بقوله: لا تفعل ذلك وافعل صلاحا لك.
قوله تعالى:
(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا
الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى
مريم وروح منه فامنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا
لكم إنما الله اله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات
وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) (171) آية واحدة.
هذا خطاب من الله تعالى لأهل الكتاب الذي هو الإنجيل وهم النصارى نهاهم
الله (تعالى) ان يغلوا في دينهم بان يجاوزوا الحق فيه، ويفرطوا في دينهم، ولا
يقولوا في عيسى غير الحق، فان قولهم في عيسى انه ابن الله قول بغير الحق، لأنه
(تعالى) لم يتخذ ولدا فيكون عيسى أو غيره من خلقه ابنا له، ونهاهم ان يقولوا
على الله. الا الحق، وهو الاقرار بتوحيده، وانه لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد.
واصل الغلو في كل شئ تجاوز حده يقال: غلا فلان الدين يغلو غلوا. وغلا
399

بالجارية عظمها ولحمها: إذا انسرعت الشباب، وتجاوزت لذاتها. يغلو بها غلوا وغلاء
قال الحارث بن خالد المخزومي:
خمصانة فلق موشحها * رود الشباب غلابها عظم (1)
وقوله: إنما المسيح عيسى بن مريم، فأصل المسيح المموح - نقل من مفعول
إلى فعيل. سماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب، وقيل مسح من الذنوب والأدناس
التي تكون في الآدميين كما يمسح الشئ من الأذى الذي يكون فيه. وهو قول
مجاهد. وقال أبو عبيدة: هذه الكلمة عبرانية أو سريانية مشيحا، فعربت فقيل
المسيح، كما عرب سائر أسماء الأنبياء في القرآن، نحو إسماعيل وإسحاق وموسى
وعيسى. وقال قوم ليس هذا مثل ذلك، لان إسماعيل وإسحاق وما أشبههما أسماء،
لا صفات. والمسيح صفة ولا يجوز ان يخطب العرب وغيرها من أجناس الخلق في
صفة شئ إلا بما يفهم، فعلم بذلك انها كلمة عربية وقال إبراهيم: المسيح المسيح
الصديق واما المسيح الدجال فإنه أيضا بمعنى الممسوح العين صرف من مفعول إلى فعيل
فمعنى المسيح في عيسى (ع) الممسوح البدن من الأدناس والآثام. ومعنى المسيح في
الدجال الممسوح العين اليمنى أو اليسرى كما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله في ذلك، وقوله:
رسول الله اخباره منه (تعالى) ان المسيح أرسله الله وجعله نبيا. وقوله: (كلمته
ألقاها إلى مريم) فإنه يعني بالكلمة الرسالة التي امر الله ملائكته أن يأتي بها
بشارة من الله (تعالى) لها التي ذكرت في قوله: " قالت الملائكة يا مريم ان الله
يبشرك بكلمة منه " يعني برسالة منه وبشارة من عنده وقال قتادة والحسن: هو
قوله: " كن فكان " واختار الطبري الأول وقال الجبائي: ذلك مجاز، وإنما
أراد بالكلمة انهم يهتدون بعيسى، كما يهتدون بكلامه. وكذلك يحبون به في
دينهم كما يحيى الحي بالروح، فلذلك سماه روحا.

(1) اللسان (علا) - مجاز القرآن 1: 143 وفي الأغاني (علا) بدل (فلا).
خمصانة بفتح الحاء وضعها - ضامرة البطن. رؤد الشباب شابة حسنة.
400

وقوله: " ألقاها إلى مريم " فمعناه أعلمها بها وأخبرها كما يقال ألقيت إليك
كلمة حسنة بمعنى أخبرتك بها. وقال الجبائي: معنى ألقاها إلى مريم
خلقه في رحمها.
وقوله: " وروح منه " اختلفوا فيه على ستة أقوال:
فقال، قوم: معناه ونفحة منه وسماء روحا، لأنه حدث عن نفحة جبرائيل في
درع مريم بأمر الله له بذلك، ونسب إلى الله، لأنه كان بأمره. وإنما سمي النفخ
روحا، لأنها ريح تخرج من الروح. واستشهدوا على ذلك قول ذي الرمة
- واسمه غيلان - في صفة نار نفثها.
فلما بدت كفنتها وهي طفلة * بطلساء لم تكمل ذراعا ولا شبرا.
وقلت له: ارفعها إليك واحيها * بروحك واقتتها لها قيتة قدرا
وظاهر لها من يابس الشخت، واستعن * عليها الصبا واجعل يديك لها سترا (2).
معنى احيها بروحك اي بنفخك. وقال بعضهم: معناه انه كان انسانا باحياء الله إياه بتكوينه بلا واسطة من
جماع، ونطفة على مجرى العادة.
وقال قوم: قوله: " وروح منه " معناه ورحمة منه. كما قال في موضع:
" وأيدهم بروح منه " ومعناه ورحمة منه. قال: فجعل الله عيسى رحمة على من
اتبعه، وآمن به وصدقه، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد.
وقال آخرون: معنى ذلك وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى
مريم، فدخلت في فيها فصيرها الله تعالى روح عيسى ذهب إليه أبو العالية عن أبي
ابن كعب.

(1) ديوانه. واللسان (روح) يصف نارا طلساء خرقة اقتتها..: (نفخ بها
برفق) الشحت: الدقيق من كل شئ.
401

وقال بعضهم: ان معنى الروح - هاهنا - القوة التي كان بها يحيي الموتى قال الراجز:
إذ عرج الليل بروح الشمس
وقال قوم: معنى الروح هاهنا جبرائيل. قالوا: والروح معطوفة به على
ما في قوله من ذكر الله تعالى. والمعنى ان القاء الكلمة إلى مريم كان من الله تعالى.
ثم من جبرائيل. وقوله: " فامنوا بالله ورسله " امر من الله إياهم بتصديق الله
تعالى، والاقرار بوحدانيته، وتصديق رسله فيما جاؤوا به من عند الله، وفيما اخبرهم
به أن الله لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولدا.
وقوله: " ولا تقولوا ثلاثة انتهوا " نهي لهم عن أن يقولوا الأرباب ثلاثة،
وإنما رفع ثلاثة بمحذوف دل عليه ظاهر الكلام. وتقديره ولا تقولوا: هم ثلاثة.
وإنما جاز ذلك، لان القول حكاية ومثل ذلك قوله: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم "
(1) وكذلك كلما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه ففيه اضمار اسم رافع لذلك
الاسم، ثم قال متوعدا لهم على عظيم قولهم الذي قالوه في الله: انتهوا أيها القائلون
الله ثالث ثلاثة عما تقولون من الزوج والشرك بالله، والانتهاء عن ذلك خير لكم
من قولكم لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قولكم ذلك ان أقمتم عليه،
ولم ترجعوا إلى الحق.
ووجه النصب في " انتهوا خير لكم " ما قلناه في قوله آمنوا خيرا لكم،
فلا وجه لإعادته.
وقوله: " إنما الله اله واحد " معناه الاخبار من الله (تعالى) ان الذي
يحق له العبادة واحد، لان من كل له ولد، لا يكون آلها وكذلك من كان له
صاحبة لا يجوز أن يكون إلها معبودا، ولكن الله الذي له الألوهية والعبادة إله
واحد، ومعبود واحد لا ولد له، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك، ثم نزه
تعالى نفسه وعظمها ورفعها عما قاله المبطلون الكافرون فقال: " سبحانه أن يكون

(1) سورة الكهف، آية 23.
402

له ولد " ولفظة سبحان تفيد التنزيه عما لا يليق به من الولد والصاحبة، لان من
يملك ما في السماوات والأرض وما بينهما وله التصرف فيهما، وفيهم عيسى وأمه، وهم
عبيده، وهو رازقهم وخالقهم، وهم أهل الحاجة إليه والفاقة، فكيف يكون المسيح
ابنا له، وهو إما في الأرض أو في السماء. وهو تعالي يملك جميع ذلك، ويحتمل
أن يكون في موضع نصب لأنه يصلح ان يقال عن أن يكون أو من أن يكون،
فإذا حذف حرف الجر كانت في موضع نصب. وكان الكسائي يقول هو في موضع
خفض. والأول قول الفراء وغيره.
وقوله: " وكفى بالله وكيلا " معناه حسب ما في السماوات وما في الأرض
بالله قيما ومدبرا، ورازقا من الحاجة معه إلى غيره ومعنى كفى بالله اكتفوا بالله.
وقد شبهت النصارى قولها: انه ثلاثة أقانيم جوهر واحد بقولنا: سراج واحد،
ثم نقول. انه ثلاثة أشياء دهن وقطن ونار وللشمس انها شمس واحدة، ثم نقول إنها
جسم وضوء وشعاع. قال البلخي، وهذا غلط، لأنا وان قلنا إنه سراج
واحد، لا نقول هو شئ واحد، ولا الشمس انها شئ واحد بل نقول هو أشياء
على الحقيقة، كما نقول عشرة واحدة، وانسان واحد، ودار واحدة، وشهر واحد،
وهي أشياء متغايرة. فان قالوا: إن الله شئ واحد حقيقة كما أنه إله واحد، فقولهم
بعد ذلك أنه ثلاثة مناقضة لا يشبه ما قلناه. وان قالوا: هو أشياء، وليس بشئ
واحد دخلوا في قول المشبهة، وتركوا القول بالتوحيد. والعجب انهم يقولون:
إن الأب له ابن والابن لا أب له، ثم يزعمون أن الذي له ابن هو الذي لا أب له،
ويقولون إن من عبد الانسان، فقد أخطأ وضل، ثم يزعمون أن المسيح إله
انسان، وانهم يعبدون المسيح. وقد تكلمنا على ما نعقل من مذاهبهم في الأقانيم
والاتحاد والنبوة في كتاب شرح الجمل بما لا مزيد عليه لا نطول بذكره هاهنا.
403

قوله تعالى:
(لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله والملائكة المقربون
ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) (171) آية.
معنى " لن يستنكف المسيح " لم يأنف. وأصله في اللغة من نكفت الدمع:
إذا نحيته بإصبعك من خدك. قال الشاعر:
فباتوا فلولا ما تذكر منهم * من الخلف لم ينكف لعينيك مدمع
فتأويل " لن يستنكف " لن ينقبض ولن يمتنع. فمعنى الآية " لن يستكبر
المسيح أن يكون عبدا " بمعنى من أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون. ومعناه
ولا يستنكف الملائكة أيضا، ولا يأنفون، ولا يستكبرون من الاقرار لله بالعبودية،
والاذعان له بذلك " المقربون " الذين قربهم ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه.
وقال الضحاك: المقربون معناه انه قربهم إلى السماء الثانية. وقوله: " ومن يستنكف
عن عبادته ويستكبر " معناه من يأنف من عبادة الله، ويتعظم عن التذلل والخضوع
له، والطاعة له من جميع خلقه " فسيحشرهم ". ومعناه فسيبعثهم يوم القيام جميعا
يجمعهم لموعدهم عنده. ومعنى إليه إلى الموضع الذي لا يملك التصرف فيه سواه،
كما يقال صار أمر فلان إلي القاضي أي لا يملكه غير القاضي، ولا يراد بذلك المكان
الذي فيه القاضي. واستدل قوم بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من الأنبياء،
قالوا: لا يجوز ان يقول القائل: لا يأنف الأمير أن يركب إلي ولا غلامه. وإنما
يجوز أن يقال: لا يأنف الوزير أن يركب إلي ولا الأمير، فيعطف بعالي الرتبة
على الأدون، ولا يعطف بالأدون على الاعلى. وهذا الذي ذكروه لا دلالة فيه
من وجوه:
أحدها - أن يكون هذا القول متوجها إلى قوم اعتقدوا أن الملائكة أفضل من
الأنبياء، فاجرى الكلام على اعتقادهم، كما يقول القائل لغيره: لا يستنكف أبي من
404

من كذا، ولا أبوك. وإن كان القائل يعتقد ان أباه أفضل.
الثاني - انه لا تفاوت بين الأنبياء والملائكة التفاوت البعيد كتفاوت الأمير
والحارس، وما يجري مجرى ذلك. ويجوز أن يقدم الفاضل ويؤخر المفضول. ألا
ترى أنك تقول: لا يستكف الأمير فلان من كذا، ولا الأمير فلان؟ وإن كان
الأول أفضل.
والثالث - انه اخر ذكر الملائكة، لان جميع الملائكة أكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا
فمن أين ان كل واحد منهم أفضل من المسيح، أو غيره من الأنبياء؟
قوله تعالى:
(فاما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم
ويزيدهم من فضله واما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا
أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) (172) آية.
أخبر الله تعالى في هذه الآية ووعد ان الذين يقرون بوحدانيته تعالى،
ويعترفون بربوبيته، ويخضعون لعبادته، ويعملون الاعمال الصالحات التي أمر الله
بها، وبعث بها رسله انه يوفيهم أجورهم. ومعناه يؤتيهم جزاء أعمالهم الصالحة وافيا
تاما، ويزيدهم من فضله يعني يزيدهم ما كان وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الصالحة
والثواب عليها من الفضل، والزيادة هو ما لم يعرفهم مبلغه لأنه (تعالى) وعد على
الحسنة عشر أمثالها من الثواب، والزيادة على ذلك تفضل من الله عليهم، وإن كان
كل ذلك من فضله إلى عباده. وقد روي أن الزيادة إلى سبعين ضعفا وإلى سبعمائة
وإلى الفين وكل ذلك جائز على ما يختاره الله ويفعله.
وقوله " وأما الذين استنكفوا واستكبروا " معناه أن الذين يأنفون عن
الاقرار بتوحيد الله، ويتعظمون عن الاعتراف بعبوديته، والاذعان له بالطاعة،
405

واستكبروا عن التذلل له، وتسليم ربوبيته يعذبهم عذابا أليما أي مؤلما موجعا،
ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا. وإنما رفع ولا يجدون بالعطف على
ما بعد فيعذبهم ولو جزم على موضع ما بعد الفاء، كان جائزا يعني ولا يجد المستنكفون
والمستكبرون لأنفسهم وليا ينجيهم من عذابه، وناصرا ينقذهم من عقابه.
قوله تعالى:
(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا
مبينا) (173) آية بلا خلاف -.
هذا خطاب من الله (تعالى) لجميع الخلق من الناس المكلفين من سائر أصناف
الملل الذين قص قصصهم في هذه السورة من اليهود والنصارى والمشركين " قد جاءكم "
يعني أتاكم حجة من الله تبرهن لكم عن صحة ما أمركم به، وهو محمد (صلى الله عليه وآله
) جعله الله حجة عليكم، وقطع به عذركم، " وأنزلنا إليكم نورا مبينا "
يعني وأنزلنا إليكم معه نورا مبينا يعني بين لكم المحجة الواضحة، والسبل الهادية
إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله واليم عقابه، وذلك النور هو القرآن الذي
أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وهو قول مجاهد، وقتادة والسدي وابن جريج، وجميع
المفسرين. وإنما سماه نورا لنا فيه من الدلالة على ما امر الله به ونهى عنه والاهتداء
به تشبها بالنور الذي يهتدي به في الظلمات وفي الآية دلالة على أن كلام الله محدث،
لأنه وصفه بالانزال فلو كان قديما، لما جاز ذلك عليه.
قوله تعالى:
(فاما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة
منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) (174) آية.
406

هذا اخبار من الله ووعد منه لمن صدق الله وأقر بوحدانيته، واعترف بما
بعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وآله من أهل الملل، واعتصم به وتمسك بالنور الذي
أنزله إلى نبيه. قال ابن جريج الهاء في (به) كناية عن القرآن، فسيدخلهم في رحمة
منه معناه ستنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه، وجنته،
ويلحقهم ما لحق أهل الايمان به، والتصديق لرسله، " ويهديهم إليه صراطا مستقيما "
يعني يوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه ويسددهم لسلوك منهج من
أنعم عليه من أهل طاعته واقتفاء اثارهم واتباع دينهم. وذلك هو الصراط المستقيم.
وهو الاسلام الذي ارتضاه الله دينا لعباده.
ونصب " صراطا مستقيما " على القطع من الهاء في قوله (إليه) ويحتمل أن
يكون المراد بقوله: " ويهديهم إليه " يعني إلى ثوابه.
قوله تعالى:
(يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس
له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها
ولد فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وان كانوا اخوة رجالا ونساء
فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم ان تضلوا والله بكل شئ
عليم) (175) آية آخر السورة.
[النزول]:
روى البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة. وآخر آية نزلت
خاتمة سورة النساء " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " وقال جابر بن عبد الله:
نزلت في المدينة وقال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله
407

وأصحابه. واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال سعيد بن المسيب: سأل عمر
النبي صلى الله عليه وآله عن الكلالة، فقال: أليس قد بين الله ذلك؟ قال: فنزلت " يستفتونك
قل الله يفتيكم في الكلالة " وقال جابر بن عبد الله: اشتكيت وعندي تسع أخوات
لي أو سبع، فدخل علي النبي صلى الله عليه وآله فنفخ في وجهي، فأفقت. فقلت: يا رسول
الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: أحسن. قلت: الشطر. قال: أحسن، ثم
خرج وتركني، ورجع إلي فقال: يا جابر اني لا أراك ميتا من وجعك هذا، وان
الله عز وجل قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين. قال: وكان جابر يقول:
نزلت هذه الآية في. وقال قتادة: ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله همهم شأن
الكلالة، فأنزل الله (عز وجل)، فيها هذه الآية.
[المعنى]:
معنى يستفتونك يسألونك يا محمد ان تفتيهم في الكلالة. وحذف اقتصارا لما
دل الجواب عليه. والاستفتاء والاستقضاء واحد يقال: قاضيته وفاتيته.
قال الشاعر:
تعالوا نفاتيكم أأعيا وفقعس * إلى المجد أدنى أم عشيرة حاتم
هكذا انشده الحسين بن علي المغربي. وقد فسرنا معنى الكلالة وذكرنا اختلاف
العلماء في ذلك فأغنى عن الإعادة. وقوله: " أن امروء هلك ليس له ولد " قال
السدي: معناه مات ليس له ولد ذكر وأنثى، (وله أخت) يعني وللميت أخت لأبيه
وأمه، فلها نصف ما ترك، فإن لم يكن أخت لأب وأم،، وكانت أختا لأب قامت
مقامها، والباقي عندنا رد على الأخت سواء كان هناك عصبة، أولم يكن. وقال جميع
الفقهاء: إن الباقي للعصبة، وإن لم يكن هناك عصبة، وهم العم وبنو العم، وأولاد
الأخ. قال فمن قال: الرد على ذوي الأرحام، رد على الأخت الباقي وهو اختيار الجبائي،
وأكثر أهل العلم. وقال زيد بن ثابت، والشافعي وجماعة: إن الباقي لبيت المال يرثه
جميع المسلمين. وقوله: " وهو يرثها إن لم يكن لها ولد " يعني إن كانت الأخت هي
408

الميتة، ولها أخ من أب وأم، أو من أب فالمال كله له بلا خلاف إذا لم يكن هناك
ولد، سواء كان ولدها ذكرا، أو أنثى، فإن كان ولدها ذكرا، فالمال له بلا خلاف
ويسقط الأخ، وإن كانت بنتا كان لها النصف بالتسمية بلا خلاف والباقي رد عليها،
لأنها أقرب دون الأخ، ولان الله (تعالى) إنما قال: " وهو يرثها " يعني الأخ إذا
لم يكن لها ولد. والبنت [ولد] (1) بلا خلاف ومن خالف في تسمية البنت ولدا فقد
أخطأ. ذكر ذلك البلخي واستدل على ذلك بان قال: لو مات وخلف بنيا وأبوين
إن للأبوين الثلث، مع قوله: " ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد "
وإنما أراد الولد الذكر. وهذا الذي ذكره خطأ، لأنه خلاف لأهل اللغة. لأنه
لا خلاف في تسمية البنت بأنها ولد، ولأنه قال: " يوصيكم الله في أولادكم " ثم فسر
الأولاد فقال: " للذكر مثل حظ الأنثيين " فلو كان الولد لا يقع على الأنثى، لكان
المال بينهم بالسوية، وذلك خلاف القرآن. على انا نخالف في المسألة التي ذكرها،
فنقول للأبوين السدسان، وللبنت النصف والباقي رد عليهم على قدر سهامهم،
فنجعل الفريضة من خمسة ومن رد الباقي على الأب فإنما يرده بالتعصيب، لا لان
البنت لا تسمى ولدا، فبان بطلان ما قاله. ومن خالفنا من الفقهاء في مسألة الأخ
والبنت، يقول: الباقي للأخ، لقوله (ع): (ما أبقت الفرائض فلأولي عصبته)
ذكر هذا الخبر عندنا ضعيف، لأنه أولا خبر واحد. وقد طعن على صحته. ضعفه
أصحاب الحديث بما ذكرناه في مسائل الخلاف، وتهذيب الاحكام، وغير ذلك من
كتبنا. وما هذه صفته لا يترك له ظاهر القران. وقوله: " فان كانتا اثنتين " يعني
ان كانت الأختان اثنتين، فلهما الثلثان. وهذا لا خلاف فيه والباقي على ما بيناه من
الخلاف في الأخت الواحدة. عندنا، رد عليها دون عصبتها، ودون ذوي الأرحام،
وإذا كان هناك عصبة، رد الفقهاء الباقي عليهم، وإن لم يكن رد على ذوي الأرحام.
من قال بذلك فرد على الأختين، لأنهما أقرب، ومن لم يقل بذلك رد على بيت المال.
فان كانت احدى الأختين لأب وأم، والأخرى لأب، فللأخت للأب والام النصف،

(1) - ساقطة من المطبوعة.
409

بلا خلاف. والباقي رد عليها عندنا، لأنها تجمع السببين ولا شئ للأخت للأب،
لأنها انفردت بسبب واحد وعند الفقهاء لها السدس تكملة الثلثين والباقي على ما
بيناه من الخلاف، وإن كانوا أخوة رجالا ونساء يعني يكون الورثة أخوة رجالا
ونساء للأب، والام، أو للأب فللذكر مثل حظ الأنثيين. بلا خلاف فإن كان الذكور
منهم للأب والام والإناث للأب، انفرد الذكور بجميع المال بلا خلاف. وإن كان
الإناث للأب والام والذكور للأب كان للإناث الثلثان ما سمي بلا خلاف والباقي
عندنا، رد عليهن لما بيناه من اجتماع السببين لهن. وعند جميع الفقهاء ان الباقي
للاخوة من الأب، لأنهم عصبة. وقد قلنا ما عندنا في خبر العصبة ويمكن ان يحمل
خبر العصبة مع تسليمه على من مات، وخلف زوجا أو زوجة وأخا لأب وأم، وأخا
للأب أو ابن أخ لأب وأم، أو ابن أخ لأب أو ابن عم لأب وأم، وابن عم لأب
فان للزوج سهمه المسمى والباقي لمن يجمع كلالة الأب والام دون من يتفرد
بكلالة الأب.
وقوله: " يبين الله لكم أن تضلوا " قال الفراء: معناه لئلا تضلوا.
قال القطامي:
رأينا ما رأى البصراء فيها * فآلينا عليها ان تباعا (1)
والمعنى الاتباعا. وقال الزجاج والبصريون: لا يجوز إضمار لا. والمعنى يبين الله
لكم كراهة أن تضلوا. وحذف كراهة، لدلالة الكلام عليه. قالوا: وإنما جاز الحذف
في قوله: " وسل القرية " والمعنى وسل أهل القرية، لأنه بقي المضاف فدل على
المحذوف. فاما حذف (لا) وهي حرف جاء لمعنى النفي، فلا يجوز، لكن قد
تدخل في الكلام مؤكدة وهي لغو كقوله: " لئلا يعلم أهل الكتاب " والمراد لئن
يعلم. ومثله قول الشاعر:
وما الوم البيض الا تسخرا * إذا راين الشمط القفندرا (2)

(1) - ديوانه: 43 يصف ناقته.
(2) - أنظرا: 45
410

والمعنى وما ألوم البيض ان تسخر ومثله قوله: " لا اقسم بهذا البلد " (1)
" ولا اقسم بيوم القيامة " (2) والمعنى أقسم. ولا يجوز على القياس على ذلك أن
تقول: لا أخلف عليك وتريد أخلف عليك، لان (لا) إنما تلغى إذا مضى صدر
الكلام على غير النفي، فإذا بنيت الكلام على النفي، فقد نقضت الايجاب وإنما جاز
الغاء (لا) في أول السورة، لان القرآن كله كالسورة الواحدة ألا ترى أن جواب
الشئ فيه يقع وبينهما سور؟ كما قال تعالى جوابا لقوله: " وقالوا يا أيها الذين
نزل عليه الذكر انك لمجنون " (3) فقال: " نون والقلم وما يسطرون. ما أنت
بنعمة ربك بمجنون " (4) وبينهما سور كثيرة. ذكره الزجاج. وقوله: " إن
امرؤ هلك " قال الفراء (هلك) في موضع جزم. ومثله قوله: " وان أحد من
المشركين استجارك " (5) ولو كان موضعها يفعل كان جزما. وقال الزجاج: جاز
مع أن تقديم الاسم قبل الفعل، لان (ان) لا تعمل في الماضي، ولأنها (أم) في
الجزاء قال: والتقدير ان هلك امرؤ هلك. وانشد الفراء:
صعدة قد نبتت في حائر * أينما الريح تميلها تمل
فجزم تميلها. وقد حال بينها وبين أينما بالاسم وهو الريح. وقال عمر: سألت
رسول الله صلى الله عليه وآله عن الكلالة، فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف. وفي
خبر آخر - تكفيك آية الصيف.
وقوله: " امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " يمنع أن
يكون الأخت ترث مع البنت، لأنه شرط في ميراثها عدم الولد. والبنت ولد بلا
خلاف بين أهل اللغة. وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أن الأخوات مع البنات عصبة
خبر واحد، لا يلتفت إليه، لأنه يخالف نص القرآن. وبما قلناه قال ابن عباس،
لأنه لم يجعل الأخوات مع البنات عصبة.

(1) سورة البلد، آية 1.
(2) سورة القيامة، آية 1.
(3) سورة الحجر، آية 6.
(4) سورة القلم، آية 1 - 2.
(5) سورة التوبة، آية 7.
411

وموضع (ان) في قوله (ان تضلوا) نصب في قول الأكثر، لاتصالها
بالفعل وفي قول الكسائي: خفض، لان تقديره عنده لئلا تتولوا، فان قيل:
ما وجه قوله: " اثنتين " مع أن قوله: " فان كانتا " قد دل على الثنتين؟ قيل:
يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون ذلك تأكيدا للمضمر يقول القائل: فعلت أنا.
والثاني - ان يبين بذلك ان المطلوب في ذلك العدد، لا غيره من الصفات من
صغر أو كبر أو عقل أو عدمه، وغير ذلك من الصفات، بل متى جعل العدد ثبت
ما ذكره من الميراث.
وقوله:
والله بكل شي عليم " معناه عالم بكل شئ من مصالح عباده في
قسمته مواريثهم، وغيرها من جميع الأشياء، لا يخفى عليه شئ من جميعه.
412

سورة المائدة
هي مدنية
في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال جعفر بن مبشر: هي - مدينة إلا آية منهما نزلت في حجة
الوداع وهي قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " وهي كلها مدنية بمعنى انها
نزلت بعد الهجرة.
وقال الشعبي: نزل قوله: " اليوم أكملت " والنبي (صلى الله عليه وآله)
واقف على راحلته في حجة الوداع.
وقال عبد الله بن عمر آخر سورة نزلت المائدة. وهي مائة وعشرون
آية كوفي واثنتان وعشرون في المدينتين. وثلاثة وعشرون بصرى.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام
الا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ان الله يحكم ما يريد) (1)
آية بلا خلاف.
413

هذا خطاب من الله (تعالى) للمؤمنين المعترفين بوحدانيته تعالى المقرين له
بالعبودية المصدقين لرسوله صلى الله عليه وآله في نبوته، وفيما جاء به من عند الله من شريعة
الاسلام، أمرهم الله بإيفاء العقود وهي العهود التي عاهدوها مع الله وأوجبوا على
أنفسهم حقوقا، والزموا نفوسهم بها فروضا أمرهم الله تعالى بالاتمام بالوفاء والكمال
لما لزمهم يقال: أوفى بالعهد ووفى به وأوفى به لغة أهل الحجاز. وهي لغة القرآن،
واختلف أهل التأويل في العقود التي امر الله " تعالى " بالوفاء بها في هذه الآية
بعد اجماعهم على أن المراد بالعقود العهود، فقال قوم: هي العقود التي كان أهل الجاهلية
عاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة. والمظاهرة على من حاول ظلمهم
أو بغاهم سوء وذلك هو معنى الحلف. ذهب إليه ابن عباس ومجاهد، والربيع
ابن أنس والضحاك وقتادة والسدي وسفيان الثوري.
والعقود جمع عقد. وأصله عقد الشئ بغيره. وهو وصله به، كما يعقد الحبل
إذا وصل به شيئا. يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقدا فهو يعقده. قال
الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا (1)
وذلك إذا واثقه على امر عاهده علي عهد بالوفاء له بما عاقده عليه من أمان،
أو ذمة أو نصرة، أو نكاح أو غيره ذلك. قال قتادة: هي عقود الجاهلية الحلف.
ويقال: اعقدت العسل فهو عقيد ومعقد وروى بعضهم عقدت، العسل والكلام
وأعقدت. وقال آخرون: هي العهود التي أخذ الله على عباده بالابان به، وطاعته
فيما أحل لهم أو حرم عليهم. روي ذلك عن ابن عباس وقال: هو ما أحل وحرم
وما فرض، وما حد في القرآن كله، فلا تعدوا أو لا تنكثوا، ثم سدد فقال:

(1) ديوانه: 6 القرآن لأبي عبيدة 1: 145 اللسان (كرب) من قصيدته التي
قالها في الزبرقان بن بدر وبغيض بن عامر من بني أنف الناقة. العناج: خيط يشد في أسفل
الدلو. الكرب: الحبل.
414

" والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه إلى قوله: سوء الدار ". وبه قال
أيضا مجاهد: وقال قوم: بل العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على
نفسه كعقد الايمان، وعقد النكاح، وعقد العهد، وعقد البيع، وعقد الحلف.
ذهب إليه عبد الله بن عبيدة وابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه.
وقال آخرون: ذلك امر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل
بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به من عند الله.
ذكر ذلك ابن جريج وأبو صالح. وقال الجبائي: أراد به الوفاء بالايمان فيما يجوز
الوفاء به. فاما ما كان يمينا بالمعصية، فعليه حنثه وعليه الكفارة. وعندنا ان اليمين
في معصية لا تنعقد، ولا كفارة في خلافها. وأقوى هذه الأقوال ما حكيناه عن
ابن عباس أن معناه أوفوا بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها فيما أحل لكم
وحرم، وألزمكم فرضه. وبين لكم حدوده. ويدخل في جميع ذلك ما قالوه إلا ما
كان عقدا على المعاونة على أمر قبيح. فان ذلك محظور بلا خلاف.
وقوله: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " اختلفوا في تأويل بهيمة الأنعام في
هذه الآية فقال قوم: هي الانعام كلها: الإبل والبقر، والغنم. ذهب إليه الحسن
وقتادة والسدي والربيع والضحاك، وقال آخرون: أراد بذلك اجنة الانعام التي
توجد في بطون أمهاتها إذا ذكيت الأمهات. وهي ميتة. ذهب إليه ابن عمر وابن
عباس. وهو المروي عن أبي عبد الله. والأولى حمل الآية على عمومها في الجميع.
والانعام جمع نعم، وهو اسم للإبل، والبقر والغنم خاصة عند العرب كما
قال تعالى: "
والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون " ثم قال: " والخيل
والبغال والحمير لتركبوها وزينة " ففضل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان
وأما بهائمها فإنها أولادها. وقال الفراء بهيمة الأنعام: وحشها كالظباء، وبقر الوحش،
والحمر الوحشية. وإنما سميت بهيمة الأنعام، لان كل حي لا يميز، فهو بهيمة الأنعام،
لأنه أبهم عن أن يميز.
415

وقوله: " الا ما يتلى عليكم " اختلفوا في المراد بقوله " الا ما يتلى عليكم "
فقال بعضهم: أراد بذلك أحلت لكم أولاد الإبل، والبقر والغنم إلا ما بين الله
تعالى فيما يتلى عليكم بقوله: " حرمت عليكم الميتة والدم... الآية " ذهب إليه مجاهد وقتادة وقال: الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه. وبه قال السدي وابن
عباس. وقال آخرون: استثنى من ذلك الخنزير روي ذلك أيضا عن أن عباس،
والضحاك. والأول أقوى، لان قوله: " إلا ما يتلى عليكم " يجب حمله على عمومه
في جميع ما حرم الله (تعالى) في كتابه. والذي حرمه هو ما ذكره في قوله:
" حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به... إلى آخر
الآية " والخنزير وإن كان محرما، فليس من بهيمة الأنعام، فمتى حملناه عليه كان
الاستثناء منقطعا، ومتى خصصنا بالميتة والدم، كان الاستثناء متصلا. وإن حملناه
على الكل نكون غلينا حكم الميتة وما ذكر بعده، فيكون الاستثناء أيضا حقيقة
ومتصلا. واختار الطبري تخصيصه بالميتة والدم، وما أهل لغير الله به. قال الحسين
ابن علي المغربي إلا ما يتلى معناه من البحيرة والسائبة والوصيلة فلا تكون المحرم،
واستثنى هاهنا ما حرمه (تعالى) فلا يليق بذلك.
وقوله: " غير محلي الصيد وأنتم حرم " اختلفوا في تأويله فقال بعضهم:
معناه أوفوا بالعقود غير محلين الصيد وأنتم حرم أحلت لكم بهيمة الأنعام. ويكون
فيه التقديم والتأخير، فغير يكون منصوبا على هذا الحال مما في قوله: " أوفوا
بالعقود " من ذكر الذين آمنوا. وتقدير الكلام أوفوا أيها الذين آمنوا بعقود
الله التي عقدها عليكم في كتابه لا محلين الصيد، وأنتم حرم. وقال آخرون: معنى
ذلك أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء، والبقر والحمر غير محلي الصيد
غير مستحلين اصطيادهم، وأنتم حرم، وإلا ما يتلى عليكم (فغير) على هذا منصوب
على الحال من الكاف، والميم اللين في قوله: " أحلت لكم بهيمة الأنعام " والتقدير
أحلت لكم يا أيها الذين آمنوا بهيمة الأنعام، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم
وقال آخرون: معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم. بمعنى إلا
416

ما كان منها وحشيا، فإنه صيد، ولا يحل لكم وأنتم حرم. والتقدير على هذا أحلت
لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما بين لكم من وحشها غير مستحلي اصطيادها في حال
إحرامكم، فتكون (غير) منصوبة علي الحال في الكاف والميم في قوله: إلا ما يتلى
عليكم. ذهب إلى ذلك الربيع، والحرم جمع حرام. وهو المحرم قال الشاعر:
فقلت لها حثي إليك فإنني * حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي واني ملب.
وقوله: " إن الله يحكم ما يريد " معناه إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من
تحليل ما يريد تحليله، وتحريم ما يريد تحريمه، وايجاب ما يريد ايجابه. وغير ذلك
من احكامه وقضاياه، فافعلوا ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه.
[الاعراب]: (وما) في قوله: " إلا ما يتلى عليكم " في موضع نصب بالاستثناء. وقال
الفراء يجوز أن يكون موضعها الرفع. كما تقول جاءني القوم، إلا زيدا وإلا زيد
قال الزجاج: وهذا لا يجوز إلا أن تكون إلا بمعنى غير، فتكون صفة. فاما بمعنى
الاستثناء، فلا يجوز. وقوله عليه السلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه عندنا) معناه
انه إذا ذكيت الام وخرج الولد ميتا، قد أشعرا وأوبر، جاز أكله. وبه قال الشافعي
وأهل المدينة وقال أبو حنيفة: معناه انه يذكى كما تذكى أمه وهو اختيار البلخي.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا
الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من
ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم ان
صدوكم عن المسجد الحرام ان تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا
417

تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله ان الله شديد العقاب) (2)
آية.
[القراءة]:
قرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر وإسماعيل المسيبي (شنئان) بسكون النون
الأولى في الموضعين. الباقون بفتحها وقرأ ابن كثير وأبو عمر (وان صدوكم) بكسر
الهمزة الباقون بفتحها.
[المعنى]:
هذا خطاب من الله (تعالى) للمؤمنين ينهاهم ان يحلوا شعائر الله. واختلفوا
في معنى شعائر الله على سبعة أقوال:
فقال بعضهم: معناه لا تحلوا حرمات الله، ولا تعدوا حدوده، وحملوا الشعائر
على المعالم. وأرادوا بذلك معالم حدود الله وأمره ونهيه، وفرائضه ذهب إليه
عطا وغيره.
وقال قوم: معناه لا تحلوا حرم الله وحملوا شعائر الله على معالم حرم الله من
البلاد. ذهب إليه السدي.
وقال آخرون: معنى شعائر الله مناسك الحج. والمعنى لا تحلوا مناسك الحج،
فتضيعوها. ذهب إليه ابن جريج، ورواه عن ابن عباس.
وقال ابن عباس: كان المشركون يحجون البيت، ويهدون الهدايا، ويعظمون
حرمة المشاعر، ويتجرون في حججهم، فأراد المسلمون ان يغيروا عليهم، فنهاهم الله
عن ذلك.
وقال مجاهد: شعائر الله الصفا والمروة والهدي من البدن، وغيرها. كل هذا
من شعائر الله.
418

وقال الفراء كانت عامة العرب لا ترى الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون
بهما، فنهاهم الله عن ذلك وهو قول أبي جعفر (عليه السلام).
وقال قوم: معناه لا تحلوا ما حرم الله عليكم في إحرامكم. روي ذلك عن
ابن عباس في رواية أخرى.
وقال الجبائي الشعائر: العلامات المنصوبة للفرق بين الحل، والحرم نهاهم الله
أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام. وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لا تحلوا
الهدايا المشعرة. وهو قول الزجاج واختاره البلخي. وأقوى الأقوال قول عطا من
أن معناه، لا تحلوا حرمات الله، ولا تضيعوا فرائضه لان الشعائر جمع شعيرة وهي.
على وزن فعيلة، واشتقاقها من قولهم: شعر فلان بهذا الامر: إذا علم به، فالشعائر
المعالم من ذلك، وإذا كان كذلك، وجب حمل الآية على عمومها، فيدخل فيه مناسك
الحج، وتحريم ما حرم في الاحرام، وتضييع ما نهى عن تضييعه واستحلال حرمات
الله، وغير ذلك من حدوده وفرائضه وحلاله وحرامه، لان كل ذلك من معالمه،
فكان حمل الآية على العموم أولى.
وقوله: " ولا الشهر الحرام " معناه ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه
أعداءكم من المشركين، كما قال: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه
كبير " وهو قول ابن عباس وقتادة. والشهر الحرام الذي عناه الله هاهنا قال قوم:
هو رجب، وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال. وقال قوم: هو ذو العقدة. ذكره
عكرمة. وقال أبو علي الجبائي: هو اشهر الحرام كلها، نهاهم الله عن القتال فيها.
وهو أليق بالعموم. وبه قال البلخي.
وقوله: " ولا الهدي ولا القلائد " فالهدي جمع واحده هدية واصله هدية
وهو ما هداه الانسان من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك إلى بيت الله تقربا به إلى
الله (تعالى) وطلبا لثوابه يقول الله: لا تستحلوا ذلك فتغصبوه أهله عليه، ولا
تحولوا بينهم وبين ما اهدوا من ذلك إلى بيت الله ان يبلغوه محله من الحرم، ولكن
419

خلوهم حتى يبلغوا به المحل الذي جعله عز وجل له. وهو كعبته. قال ابن عباس:
والهدي يكون هديا قبل ان يقلد ما جعله على نفسه أن يهديه ويقلده. وقوله: " ولا
القلائد " معناه ولا تحلوا القلائد. واختلفوا في معناه فقال بعضهم: عنى بالقلائد
الهدي. وإنما كرر، لأنه أراد المنع من حل الهدي الذي لم يقلد، والهدى الذي
قلد. وهو قول ابن عباس. وقال آخرون: يعني بذلك القلائد التي كان المشركون
يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة من لحاء السمر، وإذا خرجوا منها إلى
منازلهم منصرفين منها إلى المشعر. ذهب إليه قتادة وقال كان في الجاهلية إذا خرج
الرجل من أهله يريد الحج تقلد من السمر، فلا يعرض له أحد وإذا رجع تقلد قلادة
شعر، فلا يعرض له أحد. وقال عطا: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم يأمنون به
إذا خرجوا من الحرم. وقال الفراء: كان أهل الحرم يتقلدون بلحاء الشجر، وأهل
غير الحرم يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما، فنزلت " لا تحلوا شعائر الله.. "
وقال مجاهد: وهو اللحافي رقاب الناس. والبهائم امن لهم. وهو قول السدي.
وقال ابن زيد: إنما عنى بالمؤمنين نهاهم أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يتقلدون
به، كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم. ذهب إليه عطا في رواية والربيع بن
أنس. وقال أبو علي الجبائي: القلائد هو ما قلده الهدي، نهاهم عن حلها، لأنه
كان يحب أن يتصدق بها. قال: ويحتمل أن تكون عبارة عن الهدي المقلد. والأقوى
أن يكون المراد بذلك النهي عن حل القلائد، فيدخل فيه الانسان والبهيمة إذ هو
نهي عن استحلال حرمة المقلد، هو هديا كان ذلك أو انسانا.
قوله: " ولا آمين البيت الحرام " معناه، ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام.
يقال: أممت كذا: إذا قصدته وعمدته. وبعضهم يقول يممته قال الشاعر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد * يممت صدر بعيري غيره بلدا (1)
والبيت الحرام بيت الله بمكة، وهو الكعبة.

(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 146.
420

وقوله: " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " معناه يلتمسون أرباحا في
تجارتهم من الله " ورضوانا " يعني وان ترضى عنهم منسكهم. نهى الله تعالى أن
يحل ويمنع من هذه صورته. فاما من قصد البيت ظلما لأهله، وجب منعه
ودفعه عنهم.
[النزول]:
وقال أبو جعفر (عليه السلام): نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة
يقال له: الحطم. قال السدي: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي (صلى
الله عليه وآله) وحده، وخلف خيله خارجة من المدينة، فدعاه فقال: الام تدعو
فأخبره وقد كان النبي صلى الله عليه وآله قال: لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة
يتكلم بلسان شيطان، فلما أخبره النبي (صلى الله عليه وآله) قال: انظروا لعلي
أسلم ولي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرج من سرج المدينة فساقه
وانطلق به، وهو يرتجز ويقول:
قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم * باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم * خدلج الساقين ممسوح القدم (1)
ثم اقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا، فأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله
) أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية " ولا آمين البيت الحرام " هذا قول ابن
جريج، وعكرمة والسدي وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يأمون البيت من

(1) البيان والتبيين 2: 308 الأغاني 14: 44 اللسان (حطم) وقبل هذا الرجز
قوله هذا أوان الشد فاشتدي زيم. حطم السائق الذي يسير بأقصى سرعة: الوضم: خشبة
القصاب التي يقطع عليك اللحم الزلم: قدح الميسر. خدلج الساقين: ممتلئ الساقين. ممسوح
القدم: قدمه مستو. وقد جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وآله: مسيح القدمين.
421

المشركين يهلون بعمرة. فقال المسلمون: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إنما هؤلاء مشركون،
مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم، فأنزل الله تعالى الآية قال ابن عباس: ذلك في كل من
توجه حاجا. وبه قال الضحاك والربيع بن انس.
[النسخ]:
واجمعوا على أنه نسخ من حكم هذه الآية شئ إلا ابن جريج فإنه قال: لم
ينسخ منها شئ، لأنه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في أشهر الحرم بالقتال إلا إذا
قاتلوا. وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وقال الشعبي: لم ينسخ من المائدة غير هذه
الآية وقال أبو ميسرة: في المائدة ثمانية عشر فريضة ليس منها شئ منسوخ.
واختلفوا فيما نسخ منه فقال بعضهم: نسخ جميعها ذهب إليه الشعبي وقال: لم ينسخ
من المائدة غير هذه الآية لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا
القلائد. وبه قال مجاهد: قال: نسخها قوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "
وبه قال قتادة والضحاك وحبيب بن أبي ثابت وابن زيد. وقال آخرون: نسخ منها
قوله: " ولا الشهر الحرام، امين البيت الحرام " ذكر ذلك عن ابن أبي عروبة عن
قتادة وقال: نسخها قوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وقوله: " ما كان
للمشركين أن يعمروا مساجد الله " وقوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا
المسجد الحرام... الآية " في السنة التي نادى علي (عليه السلام) فيها بالاذان.
وبه قال ابن عباس وقال قوم: لم ينسخ منه إلا القلائد. وروي ذلك عن ابن أبي
بحيح عن مجاهد. وأقوى الأقوال قول من قال: نسخ منها " ولا الشهر الحرام ولا
القلائد ولا امين البيت الحرام " لاجماع الأمة على أنه (تعالى) أحل قتال أهل
الشرك في أشهر الحرام وغيرها من شهور السنة. واجمعوا أيضا على أن مشركا لو قلد
لحا جميع أشجار الحرم عنقه أو ذراعه، لم يكن ذلك أمانا له من القتل إذا لم يتقدم
له أمان.
422

[المعنى]:
وقوله: " ولا آمين البيت " ظاهره يحتمل المسلم والمشرك لعموم اللفظ، لكن
خصصنا المشركين بقوله: " اقتلوا المشركين.. الآية " ويحتمل أيضا أن يكون
مخصوصا بأهل الشرك. وعليه أكثر المفسرين. فإن كان مخصوصا بهم، فلا شك
أيضا أنه منسوخ بما قدمناه من الآية والاجماع. وقوله: " يبتغون فضلا من
ربهم ورضوانا " معناه يلتمسون ويطلبون الزيادة، والأرباح في التجارة ورضوان
الله عنهم وألا يحل بهم ما حل بغيرهم من الأمم بالعقوبة في غالب دنياهم. وهو قول
قتادة وقال: هي للمشركين يلتمسون فضل الله، ورضوانه بما يصلح لهم دنياهم.
وبه قال ابن عباس والربيع بن انس ومجاهد وفي الآية دلالة على جواز حمل المتاع
للتجارة في الحج. وقوله: إذا حللتم، فاصطادوا فأهل الحجاز يقولون: حللت
من الاحرام أحل، والرجل حلال. وكذلك سعد بن بكر وكذا يقولون: حرم
الرجل فهو حرام: إذا صار محرما، وقوم حرم واسد وقيس وتميم يقولون: أحل
من احرامه، فهو محل وأحرم فهو محرم. معناه إذا حللتم من إحرامكم، فاصطادوا
الصيد الذي نهيتكم ان تحلوه، وأنتم حرم. وهو بصورة الامر. ومعناه الإباحة.
وتقديره لا حرج عليكم في اصطياده فاصطادوه ان شئتم حينئذ لان السبب المحرم
قد زال. وهو قول جميع المفسرين: مجاهد وعطا، وابن جريج وغيرهم.
وقوله: " ولا يجرمنكم " قال ابن عباس: ولا يحملنكم شنآن قوم. وهو
قول قتادة. واختلف أهل اللغة في تأويلها، فقال الأخفش، وجماعة من البصريين،
لا يحقن لكم، مثل قوله: " لا جرم ان لهم النار " ومعناه حق ان لهم النار.
وقال الكسائي والزجاج معناه: لا يحملنكم وقال بعض: الكوفيين معناه لا يحملنكم.
قال: يقال: جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني عليه. وقال الفراء: معناه
لا يكسبنكم شنآن قوم. واستشهد الجميع بقول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * جرمت فزارة بعدها ان يغضبوا (1)

(1) قائله أبو أسم ء بن الضريبة. مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 147 اللسان: (جرم)
423

فمنهم من حمل قوله: جرمت على أن معناه حملت. ومنهم من حمله على أن
معناه أحقت الطعنة، لفزارة الغضب. ومنهم من قال: معناه كسبت فزارة أن
يغضبوا وقال المغربي: معناه قطعت فزارة وليس من هذا في شئ. وسمع الفراء من
العرب من يقول: فلان جريمة أهله أي كاسبهم. وخرج يجرمهم أي يكسبهم.
والأقاويل متقاربة المعاني. وقراءة القراء المعروفين " لا يجرمنكم " - بفتح الياء من
جرمته. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش " يجرمنكم " بضم الياء من أجرمته فهو
يجرمني. وقيل: هما لغتان. والأولى أفصح، وأعرف، وأجاز أبو علي الفارسي معنى
جرم كسب. قال: وهو فعل يتعدى إلي مفعولين مثل كسب يدل على ذلك قول
الشاعر في صفة عقاب:
جريمة ناهض في رأسه نيق * يرى لعظام ما جمعت صليبا
معناه تكسب لفرخها. جريمة ناهض يحتمل تقريرين:
أحدهما - جريمه قوت ناهض اي كاسب قوته، كما قالوا ضارب قداح،
وضريب قداح وعريف وعارف.
والآخر - ان تقدر حذف المضاف، وتضيف جريمة إلى ناهض. والمعنى كاسب
ناهض، فجرم يستعمل في الكسب وما يريد من سعي الانسان عليه.
واما جرم فمعناه اكتسب الاثم قال الله تعالى: " إنا من المجرمين منتقمون " وقال:
" فعلي جرامي " ومعناه فعلي عقوبة إجرامي أو اثم إجرامي ومعنى " لا يجرمنكم
شنئان قوم " لا تكتسبوا لبغض قوم عدوانا، ولا تفتنوه، فمن فتح أن أوقع
النهي في اللفظ على الشنئان. والمعنى بالنهي المخاطبون، كما قالوا: لا أريتك هاهنا ولا
تموتن إلا وأنتم مسلمون.
الاعراب:
وكذلك قوله: لا يجرمنكم شقاقي يصيبكم المفعول الثاني وأسماء المخاطبين المفعول
الأول، كما أن المفعول الأول في الآية الأخرى المخاطبون. والثاني قوله: " أن
424

تعتدوا " ولفظ النهي واقع على الشقاق. والمعني بالنهي المخاطبون. قال الزجاج:
موضع (ان) الأولى نصب بأنه مفعول له.
وتقديره لا يحملنكم بغض قوم لان
صدودكم عن المسجد يعني النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه، لما صدوهم عن مكة. وموضع
ان الثانية مفعول به ومعناه لا يكسبنكم بغض قوم أي بغضكم قوما الاعتداء عليهم،
لصدهم عن المسجد الحرام.
وقوله: " شنئان قوم " معناه بغض قوم في قول ابن عباس، وقتادة وابن
زيد، وغيرهم يقول: شنئت الرجل اشناه شنئا وشنأنا وشنا ومنشأة: إذا أبغضته
وذهب سيبويه إلى أن ما كان من المصادر على فعلان لم يتعد فعله إلا أن يشد شئ
نحو شنيته شنأ ولا يجوز أن يكون شنيته يراد به حذف الجر، كقول سيبويه
في فرقته وحذرته أن أصله حذرت منه لان اسم الفاعل منه على فاعل، نحو شاني
و " ان شانئك هو الأبتر " وقال الشاعر:
بشانيك الضراعة والكلول
قال أبو علي: هذا يقوي انه مثل علم يعلم، فهو عالم، ونحوه من المتعدي وأيضا،
فان شنيت في المعنى بمنزلة أبغضت، فلما كان معناه عدي كما عدي أبغضت كما أن
الرفث لما كان بمعنى الافضاء عدي بالجار، كما عدى الافضاء به. وقال سيبويه:
قالوا: لويته حقه ليانا على فعلان، فيجوز أن يكون شنان فيمن أسكن النون مصدرا
كالليان فيكون المعنى لا يحملنكم بغض قوم، لو فتح النون. قال أبو عبيدة: " شنأن
قوم " بغضاء وهي متحركة الحروف مصدر شنيت، وبعضهم يسكنون النون الأولى
وانشد للأحوص:
وما العيش الا ما تلذ وتشتهي * وان عاب فيه ذو الشنان وفندا
فحذف الهمزة قال أبو علي: ويجوز أن يكون خففها. وقال أبو عبيدة:
وشنيت أيضا بمعنى أقررت به، وبؤت به وانشد للعجاج.
زل بنو العوام عن آل الحكم * وشنؤا الملك لملك ذو قدم
425

وقال الفرزدق:
ولو كان هذا الامر في جاهلية * شنئت به أوغص بالماء شاربه
قال أبو علي: وقد جاء فعلان مصدرا ووصفا وهما جميعا قليلان. فمما حل
مصدرا ما حكاه سيبويه من قولهم: خصمان وندمان. وانشد أبو زيد ما ظاهره أن
يكون فعلان منه صفة وهو:
لما استمر بها شيحان منبجح * بالبين عنك بها مولاك شنأنا
[اللغة]:
حكي أبو زيد في مؤنث شنئان شنئاني.
ويقرب أن يكون شيحان فعلان.
وفي الحديث (ثم اعرض وأشاح) قال أبو علي: وترك صرف شيحان في البيت
مع أنه لا فعلى له. ويجوز أن يكون، لأنه اسم علم. ويجوز أن يكون على قول
من يجوز ترك صرف ما يتصرف في الشعر. فاما الشنان قال أبو علي: فعلان يجئ
على ضربين:
أحدهما - اسم، والاخر - صفة فالاسم على ضربين:
أحدهما أن يكون مصدرا، كالنقر ان والغليان، والطوفان والغثيان. وعامة
ذلك يكون معناه التحرك والتقلب. والاسم الذي ليس بمصدر نحو الورشان
والعلجان. وأما مجيئه فنحو الزفيان والقطوان والصميان، وكبش اليان ونعجة
اليانة، وكباش إلي، ومثله حمار قطوان واتان قطوانة من قطا يقطو قطوا وقطوا:
إذا قارب بين خطوه. ومن خفف النون ذهب إلى أنه مصدر، مثل ليان. ومعنى الآية
لا يحملنكم بغض قوم أي بغضكم قوما لصدهم إياكم ومن اجل صدهم إياكم ان تعتدوا
فأضيف المصدر إلي المفعول وحذف الفاعل كقوله: من دعاء الخير وسؤال نعجتك
وقوله: ان صدوكم من كسر الهمزة إلي ان (ان) للجزاء يقوي ذلك ان في
قراءة ابن مسعود ان يصدوكم فمتى؟ قيل كيف تكون للجزاء والصد ماض، لأنه كان
سنة الحديبية من المشركين للمسلمين، وما يكون ماضيا لا يكون شرطا؟ قيل:
426

ذكر أبو علي ان الماضي قد يقع في الجزاء لا ان المراد بالماضي الجزاء، لكن على أنه
إن كان مثل هذا الفعل، فيكون اللفظ على ما مضى والمعنى على مثله، كأنه
يقول: إن وقع مثل هذا الفعل يقع منكم كذا. وعلى ذلك حمل قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة * ولم تجدي من أن تقري به بدا (1)
إن قد أغنى عنه ما تقدم من قوله: " لا يجرمنكم " والمعنى إن صدوكم قوم
عن المسجد الحرام، فلا تكسبوا عدوانا. ومن فتح الهمزة، فلانه مفعول له والتقدير
لا يجرمنكم شنئان قوم، لان صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، فان الثانية
في موضع نصب بأنه المفعول الثاني. والأولى منصوبة، لأنه مفعول له وقوله:
" ان تعتدوا " معناه إن تجاوزوا حكم الله فيهم إلى ما نهاكم عنه. وذكر انها نزلت في
النهي عن الطلب بدخول الجاهلية. ذهب إليه مجاهد وقال: هذا غير منسوخ. وهو
الأولى. وقال غيره هو منسوخ ذهب إليه ابن زيد. وإنما قلنا: إنه غير منسوخ،
لان معناه لا تتعدوا الحق فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك، لم يخبر أن يقال هو
منسوخ إلا بحجة.
وقوله: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ليس
بعطف على أن تعتدوا، فيكون في موضع نصب، بل هو استئناف كلام أمر الله
تعالى الخلق بان يعين بعضهم بعضا على البر وهو العمل بما أمرهم الله به، واتقاء ما
نهاهم عنه، ونهاهم ان يعين بعضهم بعضا على الاثم. وهو ترك ما أمرهم به، وارتكاب
ما نهاهم عنه من العدوان، ونهاهم ان يجاوزوا ما حد الله لهم في دينهم، وفرض لهم
في أنفسهم وبه قال ابن عباس وأبو العالية وغيرهما من المفسرين.
وقوله: " واتقوا الله ان الله شديد العقاب " أمر من الله، ووعيد وتهديد
لمن اعتدى حدوده، وتجاوز أمره يقول الله:. ومعناه احذروا معاصيه
وتعدي حدوده فيما امركم به ونهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه متى خالفتم وتستحقوا

(1) انظر 1: 289 - 352.
427

اليم عقابه، ثم وصف عقابه بالشدة فقال: إن الله شديد العقاب لمن يعاقبه من خلقه،
لأنه نار لا يطفى حرها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهيبا (نعوذ بالله منها).
قوله تعالى:
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله
به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما اكل السبع الا
ما ذكيتم وما ذبح على النصب وان تستقسموا بالأزلام ذلكم
فسق ان اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فان الله غفور
رحيم) (3) آية بلا خلاف.
[اللغة]:
بين الله (تعالى) في هذا الآية ما استثناه في قوله: " أحلت لكم بهيمة الأنعام
إلا ما يتلى عليكم " فهذا مما تلاه علينا فقال مخاطبا للمكلفين: " حرمت
عليكم الميتة " وأصله الميتة مشدد غير أنه خفف، ولو قرئ، على الأصل كان جائزا
إلا أنه لم يقرأ به أحد هاهنا إلا أبا جعفر المدني يقال: ميت بمعنى واحد. وقال
بعضهم الميت لما لم يمت والميت لما قد مات وهذا ليس بشئ لان ميت يصلح لما قد مات،
ولما سيموت. قال الله (تعالى): " انك ميت وانهم ميتون " وقال الشاعر في الجمع
بين اللغتين:
ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الاحياء
فجعل الميت مخففا من الميت وقال بعضهم: الميتة كلما له نفس سائلة من دواب
428

البر، وطيره مما أباح الله اكلها أهليها ووحشيها فارقتها روحها بغير تذكية. وقد روي
عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه سمى الجراد والسمك ميتا فقال: ميتتان
مباحان: الجراد، والسمك.
وقوله: " والدم " تقديره، وحرم عليكم الدم. وقيل: إنهم كانوا يجعلون
في المباعر يشوونها ويأكلونها، فاعلم الله تعالى ان الدم المسفوح أي المصبوب حرام،
فاما المتلطخ باللحم، فهو كاللحم، وما كان منه كاللحم مثل الكبد فهو مباح.
وأما الطحال، فهو محرم عندنا. وقد روي كراهته عن " علي عليه السلام، وابن
مسعود وأصحابهما " وعند جميع الفقهاء أنه مباح. وإنما شرطنا في الدم المحرم ما كان
مسفوحا، لأنه (تعالى) بين ذلك في أخرى فقال: " أو دما مسفوحا ".
وقوله: " ولحم الخنزير " معناه وحرم عليكم لحم الخنزير أهلية وبرية، فالميتة والدم
مخرجهما في الظاهر مخرج العموم. والمراد بهما الخصوص. ولحم الخنزير على ظاهره
في العموم. وكذلك كل ما كان من الخنزير حرام كلحمه من الشحم والجلد، وغير
ذلك وقوله ": وما أهل لغير الله به " موضع ما رفع وتقديره وحرم عليكم ما أهل
لغير الله به. ومعنى أهل لغير الله به ما ذبح للأصنام والأوثان أي ذكر اسم غير الله
عليه، لان الاهلال رفع الصوت بالشئ. ومنه استهلال الصبي وهو صياحه إذا
سقط من بطن أمه. ومنه إهلال المحرم بالحج أو العمرة: إذا لي به. قال ابن احمر:
يهل بالفرقد ركباننا * كما يهل الراكب المعتمر
فما تقرب به من الذبح لغير الله أو ذكر عليه غير اسمه حرام، وكل ما حرم اكله
مما عددناه يحرم بيعه وملكه، والتصرف فيه.
والخنزير يقع على الذكر والأنثى. وفي الآية دلالة على أن ذبائح من خالف
الاسلام، لا يجوز اكله، لأنهم يذكرون عليه اسم غير الله لأنهم يعنون بذلك من
ابد شرع موسى، أو اتخذ عيسى ابنا، وكذب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وذلك غير
الله، فيجب ان لا يجوزا أكل ذبيحته. فاما من اظهر الاسلام، ودان بالتجسيم،
429

والصورة وقال بالجبر والتشبيه أو خالف الحق، فعندنا لا يجوز اكل ذبيحته. فاما
الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وموارثته، فإنه يجري عليه، لأن هذه الأحكام
تابعة في الشرع لاظهار الشهادتين. واما مناكحته فلا تجوز عندنا. وقال
البلخي حاكيا عن قوم: إنه لا يجوز أجراء شئ من ذلك عليهم. وحكى عن آخرين
أنه يجري جميع ذلك عليهم، لأنها تجري على من اظهر الشهادتين دون المؤمنين على
الحقيقة، وكذلك أجريت على المجانين، والأطفال. فاما التسمية على الذبيحة، فعندنا
واجبة من تركها متعمدا، لا يجوز اكل ذبيحته، وان تركها ناسيا، لم يكن به يأس.
وكذلك إن ترك استقبال القبلة متعمدا لم يحل أكل ذبيحته، وان تركه ناسيا، لم
يحرم.. وفي ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.
والمنخنقة قال السدي: هي التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق
وتموت. وقال الضحاك: هي التي تخنق وتموت. وقال قتادة: هي التي تموت في
خناقها. وقال ابن عباس: هي التي تختنق، فتموت. وحكي عن قتادة ان أهل
الجاهلية كانوا يخنقونها، ثم يأكلونها. والأولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك
وهي التي تختنق حتى تموت، سواء كان في وثاقها أو بادخال رأسها في موضع لا تقدر
على التخلص أو غير ذلك، لان الله (تعالى) وصفها بأنها المنخنقة، ولو كان الامر
على ما حكي عن قتادة، لقال: " والمخنوقة ".
وقوله: " والموقوذة " يعني التي تضرب حتى تموت: يقال: وقذتها أقذها
وقذا وأوقذها يوقذها إيقاذا: إذا أثخنتها ضربا. قال الفرزدق:
شفارة تقذ الفصيل برجلها * فطارة لقوادم الابكار
وهو قول ابن عباس، وقتادة والضحاك والسدي:
وقوله: " والمتردية يعني التي تقع من جبل، أو تقع في بئر أو من مكان
عال، فتموت. وهو قول ابن عباس. وقتادة والسدي، والضحاك ومتى وقع في
بئر ولا يقدر على موضع ذكاته، جاز أن يطعن ويضرب بالسكين في غير المذبح حتى
430

يبرد، ثم يؤكل. وقوله: " والنطيحة " يعني التي تنطح أو تنطح، فتموت
والنطيحة بمعنى المنطوحة، فنقل من مفعول إلي فعيل، فان قيل: كيف تثبت فيها
الهاء، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول مثل لحية دهين، وعين كحيل وكف خضيب، بلا هاء،
التأنيث في شئ من ذلك؟ قيل: اختلف في ذلك فقال: بعض البصريين أثبت فيها
الهاء أعني في النطيحة، لأنها جعلت كالاسم، مثل الطويلة والظريفة فوجه. هذا
تأويل النطيحة إلي معنى الناطحة. ويكون المعنى حرمت عليكم الناطحة التي تموت
من نطاحها. وقال بعض الكوفيين: إنما يحذف الهاء من فعيلة بمعنى مفعولة إذا
كانت صفة لاسم قد تقدمها، مثل كف خضيب، وعين كحيل، فاما إذا حذف
الكف والعين والاسم الذي يكون فقيل نعتا له واجتزوا بفعيل أثبتوا فيه هاء
التأنيث، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر فيقول: رأينا كحيلة
وخضيبة واكيلة السبع، فلذلك دخلت الهاء في النطيحة، لأنها صفة المؤنث. والقول
بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول أكثر المفسرين: ابن عباس، وأبو ميسرة
والضحاك، والسدي وقتادة، لأنهم اجمعوا على تحريم الناطحة والمنطوحة إذا ماتا.
وقوله: " وما اكل السبع " موضع (ما) رفع وتقديره وحرم عليكم ما اكل
السبع بمعنى ما قتله السبع. وهو قول ابن عباس، والضحاك وقتادة، وهو فريسة
السبع.
وقوله: " إلا ما ذكيتم " معناه إلا ما أدركتم ذكاته، فذكيتموه من هذه
الأشياء التي وصفها. وموضع (ما) نصب بالاستثناء. واختلفوا في الاستثناء إلى
ماذا يرجع فقال قوم: يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من قوله: " حرمت عليكم
الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة
وما اكل السبع " الا ما لا يقبل الذكاة من الخنزير والدم. وهو الأقوى. ذهب
إليه علي (عليه السلام) وابن عباس قال: وهو أن تدركه تتحرك أذنه أو ذنبه، أو
تطرف عينه. وهو المروى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وبه قال الحسن وقتادة
431

وإبراهيم وطاووس، وعبيد بن عمير والضحاك، وابن زيد وقال آخرون: هو استثناء
من التحريم، لا من المحرمات، لان الميتة لا ذكاة لها، ولا الخنزير قالوا: والمعنى
حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية،
فإنه حلال لكم. ذهب إليه مالك وجماعة من أهل المدينة، والجبائي وسئل مالك من
الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاءها فقال لا أرى ان تذكى ولا يؤكل أي
شئ يذكى منها. وقال كثير من الفقهاء إنه يراعي أن يلحق فيه حياة مستقرة،
فيذكى ويجوز أن يؤكل وما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة، فلا يجوز بحال. واختار
الطبري الأقل. وقال: كل ما أدرك ذكاته مما ذكر من طير أو بهيمة قبل خروج نفسه
ومفارقة روحه جسده، فحلال اكله إذا كان مما أحله الله لعباده واختار البلخي،
والجبائي الأول، فان قيل: فما وجه تكرير قوله: " وما أهل لغير الله به والمنخنقة
والموقوذة " وجميع ما عدد تحريمه في هذه الآية وقد افتتح الآية بقوله: " حرمت
عليكم الميتة " والميتة تعم جميع ذلك وان اختلفت أسباب موته من خنق أو ترد أو
نطح أو اهلال لغير الله به أوا كيل سبع. وإنما يكون لذلك معنى على قول من
يقول: إنها، وان كانت فيها حياة إذا كانت غير مستقرة، فلا يجوز أكلها. قيل:
الفائدة في ذلك ان الذين خوطبوا بذلك لم يكونوا يعدون الميت إلا ما مات حتف
انفه من دون شئ من هذه الأسباب، فأعلمهم الله ان حكم الجميع واحد، وان وجه
الاستباحة هو التذكية المشروعة. وقال السدي إن ناسا من العرب كانوا يأكلون
جميع ذلك، ولا يعدونه ميتا. إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع.
والتذكية: هو فري الأوداج والحلقوم إذا كانت فيه حياة، ولا يكون
بحكم الميت. واصل الذكاء في اللغة تمام الشئ فمن ذلك الذكاء في السن، والفهم
وهو تمام السن. قال الخليل: الذكاء أن تأتي في السن على قروحه، وهو سن في
ذات الحافر، هي البزولة في ذات الخف، وهي الصلوغه في ذات الظلف. وذلك تمام
استكمال القوة. قال الشاعر:
432

يفضله إذا اجتهدا عليها * تمام السن منه والذكاء
وقيل جرى المذكيات غلاب اي جرى المسار التي قد أسنت ومعنى تمام السن
النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذك أو زاد، فلا يقال له الذكاء. والذكاء في
الفهم أن يكون فهما تاما سريع القبول وذكيت النار إنما هو من هذا تأويله أتممت
اشعالها فالمعنى على هذا ما ذكيتم أي ما أدركتم ذبحه على التمام.
وقوله: " وما ذبح على النصب " فالنصب: الحجارة التي كانوا يعبدونها
وهي الأوثان. واحدها نصب، ويجوز أن يكون واحدا، وجمعه أنصاب. (وما)
موضعه رفع عطفا على ما تقدم. وتقديره وحرم عليكم ما ذبح على النصب. وبه
قال مجاهد وابن جريج، وقتادة. وقال ابن جريج: النصب ليست أصناما الصنم
يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب ثلاثمائة وستون حجرا. ومنهم من يقول ثلاثمائة
منها لخزاعة، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت، وشرحوا
اللحم، وجعلوه على الحجارة. فقال المسلمون: كان أهل الجاهلية يعظمون البيت
بالدم فنحن أحق أن نعظمه، فأنزل الله " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها...
الآية " وقوله: " وان تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق " موضع (ان) رفع.
وتقديره. وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. وواحد الأزلام زلم وزلم قال الراجز:
بات يراعيها غلام كالزلم
وهي سهام كانت للجاهلية مكتوب على بعضها أمرني ربي، وعلى بعضها نهاني
ربي، فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتم به. ضربوا تلك القداح فان خرج السهم الذي
عليه أمرني ربي، مضى لحاجته وإن خرج الذي عليه نهاني ربي، لم يمض، وإن
خرج ما ليس عليه شئ أعادوها فبين الله (تعالى) أن ذلك حرام العمل به.
والاستقسام الاستفعال من قسمت أمري أي قلبته ودبرته قال الراعي:
وتركت قومي يقسمون أمورهم * إليك أم يتلبثون قليلا
433

وقيل: معناه طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم
وابتداءات أمورهم قال الشاعر يفتخر بقوة عزيمته وانه لا يلتفت إلى ذلك.
أولم اقسم فترثبني القسوم (1)
وبه قال ابن عباس، وقتادة وسعيد بن جبير، ومجاهد والسدي قال مجاهد:
هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها.
وقوله: " ذلكم فسق " معنى هذه الأشياء التي ذكرها فسق يعني خروج من
طاعة الله إلى معصيته وهو قول ابن عباس، وأصله من فسقت الرطبة: إذا خرجت
من قشرها. قال الزجاج: ولو كان بعض هذه المرفوعات نصبا بتقدير وحرم الله الدم
ولحم الخنزير، لكان جائزا إلا أنه لم يقرأ به أحد والقراءة متبعة، لا يجوز خلاف
ما قرئ به.
وقوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " نصب اليوم على الظرف.
والعامل فيه يئس ذو والفسق اليوم. وليس يراد به يوما بعينه ومعناه الآن يئس
الذين كفروا من دينكم، كما يقول القائل: أنا اليوم قد كبرت، وهذا لا يصلح إلى
اليوم يريد الآن.
وبئس على وزن فعل ييأس على وزن يفعل - بفتح العين، وروي بكسرها -
وقيل: يئس على وزن لعب بكسر اللام، والعين - وذكر يأيس.
والمعنى ان الله قد حول الخوف الذي كان يلحقكم منكم إليهم، ويئسوا من
بطلان الاسلام، وجاء كم ما كنتم توعدون به من قوله، ليظهره على الدين كله.
والدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالقيام به. ومعنى يئس انقطع طمعهم
من دينكم أن تتركوه، وترجعوا منه إلى الشرك. وبه قال ابن عباس والسدي وعطا.
وقيل: إن اليوم الذي ذكر هو يوم عرفة من حجة الوداع بعد دخول العرب كلها
في الاسلام. ذهب إليه مجاهد، وابن جريج وابن زيد. وقيل: يوم جمعة، لما نظر

(1) في المطبوعة " فتوثبني " بدل " فترثبني ". الطبري 9 - 510 مجاز القرآن
لأبي عبيدة 1: 152. قسوم جمع قسم: الحظ الربث حبسك الانسان عن حاجته.
434

النبي (صلى الله عليه وآله) فلم ير الا مسلما موحدا، أو لم ير مشركا.
وقوله " فلا تخشوهم " هذا خطاب للمؤمنين نهاهم الله ان يخشوا ويخافوا من
الكفار أن يظهروا على دين الاسلام، ويقهر والمسلمين ويرد وهم عن دينهم، ولكن
اخشوني وخافوني إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي ان أحل بكم عقابي وأنزل
عليكم عذابي وهو قول ابن جريج، وغيره.
وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " في تأويله ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس، والسدي وأكثر المفسرين إن معناه أكملت لكم
فرائضي وحدودي وأمري ونهيي وحلالي وحرامي بتنزيلي ما أنزلت، وتبياني ما
بينت لكم، فلا زيادة في ذلك، ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم. وكان ذلك
اليوم عام حجة الوداع قالوا: ولم ينزل بعد هذا على النبي صلى الله عليه وآله شئ من الفرائض
في تحليل شئ، ولا تحريمة وأنه (عليه السلام) مضى بعد ذلك بإحدى وثمانين
ليلة. وهو اختيار الجبائي والبلخي، فان قيل: أكان دين الله ناقصا في حال حتى
أتمه ذلك اليوم؟ قيل: لم يكن دين الله ناقصا في حال، ولا كان إلا كاملا، لكن
لما كان معرضا للنسخ، والزيادة فيه. وذلك يجري مجرى وصف العشرة بأنها كاملة
العدد، ولا يلزم أن توصيف بأنها ناقصة، لما كان عدد المئة أكثر منها، وأكمل.
فكذلك ما قلناه. وقال الحكم وسعيد بن جبير وقتادة معناه أكملت لكم حجكم
وأفردتكم بالبلد الحرام تحجون دون المشركين، ولا يخالطكم مشرك وهو الذي
اختاره الطبري قال لان الله قد انزل بعد ذلك قوله: " يستفتونك قل الله يفتيكم
في الكلالة " وقال الفراء هي آخر آية نزلت. وهذا الذي ذكره لو صح لكان
ترجيحا لكن فيه خلاف. وقال الزجاج: معنى أكملت لكم الدين كفيتكم خوف
عدوكم وأظهرتكم عليهم، كما تقول: الآن كمل لنا الملك. وكمل لنا ما نريد أي
كفينا ما كنا تخافه. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) أن الآية نزلت بعد
أن نصب النبي صلى الله عليه وآله عليا علما للأمة يوم غدير خم منصرفه عن حجة الوداع، فأنزل
435

الله يومئذ " اليوم أكملت لكم دينكم ".
وقوله: " وأتممت عليكم نعمتي " خاطب الله (تعالى) جميع المؤمنين بأنه أتم
نعمته عليهم باظهارهم على عدوهم المشركين، ونفيهم إياهم عن بلادهم، وقطعه طمعهم
من رجوع المؤمنين، وعودهم إلى ملة الكفر، وانفراد المؤمنين بالحج البلد الحرام.
و: قال ابن عباس وقتادة والشعبي.
وقوله: " ورضيت لكم الاسلام دينا " معناه رضيت لكم الاستسلام
لامري والانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده، وفرائضه ومعالمه دينا يعني
بذلك طاعة منكم لي. فان قيل: أوما كان الله راضيا الاسلام دينا لعباده الا يوم
أنزلت هذه الآية؟ قيل: لم يزل الله راضيا لخلقه الاسلام دينا، لكنه لم يزل يصف
نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) وأصحابه في درجات الاسلام، ومراتبه درجة بعد
درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال حتى أكمل لهم شرائعه وبلغ بهم أقصى
درجاته، ومراتبه، ثم قال: حين أنزلت هذه الآية " ورضيت لكم الاسلام دينا "
فالصفة التي لها اليوم والحال التي أنتم عليها، فالزموه، ولا تفارقوه. قال ابن عباس
وعمر وعامر الشعبي وقتادة، كان ذلك يوم الجمعة. وقال الطاووس بن شهاب، وشهر
ابن خوشب، وأكثر المفسرين نزلت هذه الآية يوم عرفة حجة الوداع. وروى حنش
عن ابن عباس، قال: ولد النبي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين،
ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت المائدة يوم الاثنين، وأنزلت " اليوم أكملت
لكم دينكم يوم الاثنين " ورفع الذكر يوم الاثنين. وقال الربيع بن أنس: نزلت
في المسير من حجة الوداع. وقوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم "
معناه من دعته الضرورة في مجاعة لان المخمصة شدة ضمور البطن.
لاثم أي غير مائل إلى إثم.
والمخمصة مفعلة، مثل المجنبة والمنجلة من خمص البطن وهو طيه، واضطماره
من الجوع، وشدة السغب هاهنا دون أن يكون مخلوقا كذلك. قال النابغة الدنباني
436

في صفة امرأة بخمص البطن:
والبطن ذوعكن خميص لين * والنحر ينفجه بثدي مقعد (1)
ولم يرد بذلك وصفها بالجوع، لكن أراد وصفها بلطافة طي ما علا الأوراك
والأفخاذ من جسدها، لان ذلك المحمود من النساء. فاما الاضطمار من الضر فكقول
أعشى ثعلبة:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم * وجاراتكم غبر تبن خماصا (2)
يعني يبتن مضطرات البطن من الجوع. وقال بعض نحوي البصريين:
المخمصة المصدر من خمصه الجوع. وغيره يقول: هو اسم للمصدر، وكذلك تقع
المفعلة اسما في المصادر للتأنيث، والتذكير: والذي قلناه هو قول ابن عباس وقتادة
والسدي وابن زيد.
وقوله: " غير متجانف لاثم " نصب على الحال. والمتجانف المتمايل للإثم
المنحرف إليه. ومعناه في هذا الموضع المعتمد له القاصد إليه من جنف القوم: إذا
مالوا. وكل أعوج، فهو أجنف.
والمعنى فمن اضطر إلى أكل الميتة، وما عدد الله تحريمه عند المجاعة الشديدة غير
متعمد إلى ذلك، ولا مختار له، ولا مستحل له على كل حال، فان الله أباحه له. تناول
ذلك مقدار ما يمسك رمقه، لا زيادة عليه. وهو قول أهل العراق. وقال أهل
المدينة: يجوز أن يشبع منه عند الضرورة. وما قلناه قول ابن عباس، ومجاهد
وقتادة. قال قتادة: " غير متجانف لاثم " أي غير عاص بان يكون باغيا أو محاربا
أو خارجا في معصية. وقال ابن زيد: لا تأكل ذلك ابتغاء الاثم ولا جرأة عليه.
وقوله: " فان الله غفور رحيم " في الكلام متروك دل ما ذكر عليه، لان
المعنى فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية غير متجانف
لاثم، فاكله لدلالة الكلام عليه.
ومعنى " فان الله غفور رحيم " ان الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية

(1) - ديوانه: 66 واللسان: (قعد). العكن: اطواء البطن. تنفجه: ترفعه.
(2) ديوانه: 109. ومجاز القرآن 1: 153.
437

أكله في مخمصة متجانف، لاثم غفور لذنوبه أي ساتر عليه أكله، ويعفو عن
مؤاخذته به، وليس يريد أن يغفر له عقاب ذلك، لأنه اباحه له، فلا يستحق عليه
العقاب وهو رحيم أي رفيق بعباده. لان رحمته ورفقه أنه أباح لهم أكل
ما حرم عليهم في حال الخوف على النفس وروى المثنى قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله
إنا بأرض يصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا أو
تعتبقوا أو تختفؤا بها بقلا، فشأنكم بها. وقال الحسن: يأكل منها مسكته.
وذكر في تختفئوا خمس لغات: تختفئوا بالهمزة وتختفوا - بحذفها - وتختفيوا -
بقلبها ياء - وتختفوا وتخفوا - بالتخفيف - والخفا أصل البردي كانوا يقشرونه
ويأكلونه في المجاعة، فمع وجود ذلك لا يجوز اكل الميتة.
وقوله: " فان الله غفور رحيم " عقيب قوله: " فمن اضطر في مخمصة غير
متجانف لاثم " لا يدل على أن له أن يعاقبهم على فعل المباح، لان الوجه في ذلك
أنه أراد أن يصف نفسه بمغفرة الذنوب وسترها، والصفح عنها ليدل بذلك على أنه
أحرى ألا يؤخذ بفعل المباحات التي ليست بذنوب، كما قال: " إن تعذبهم فإنهم
عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " فدل على أن ما يفعله من المغفرة أو
العقوبة صواب وحكمة، ليكون أعم في الدلالة على استحقاقه الأوصاف المحمودة.
وأجاز بعضهم أن يكون ذلك ثوابا لبعض المكلفين قدمه، كما أنه يجوز أن تكون
الحدود عقابا لهم قدمه فلا شبهة في ذلك.
قوله تعالى:
(يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم
من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن
عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله ان الله سريع الحساب) (5)
- آية بلا خلاف -.
438

موضع (ما) رفع ويحتمل أن يكون وحدها اسما وخبرها قوله: (ذا)
وأحل من صلة ذا. وتقديره اي شئ الذي أحل لهم؟ ويحتمل أن يكون ما وذا
اسما واحدا، ورفع بالابتداء وتقديره أي شئ أحل لهم؟ وأحل لهم خبر الابتداء.
فمعنى الآية يسألك يا محمد أصحابك ما الذي أحل لهم اكله من المطاعم، فقل لهم:
أحل لكم الطيبات منها وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح على
قول الطبري والجبائي، وغيرهما وقال البلخي: الطيبات هو ما يستلذ به. قال قوم:
وأحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكواسب من سباع
الطير، والبهائم ولا يجوز أن يستباح عندنا أكل شئ مما اصطاده الجوارح من
السباع سوى الكلب إلا ما أدرك ذكاته. وسميت الطير جوارح، لجرحها أربابها
وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد يقال منه: جرح فلان أهله خيرا إذا كسبهم خيرا.
وفلان جارحة أهله يعني كاسبهم، ولا جارحة لفلانة أي لا كاسب لها قال أعشى
بني ثعلبة:
ذات خد منضج ميسمها * تذكر الجارح ما كان اجترح
يعني اكتسب. وقوله: " وما علمتم " تقديره وصيد ما علمتم من الجوارح
وحذف لدلالة الكلام عليه، لان القوم على ما روي كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله
حين أمرهم بقتل الكلاب عما يحل لهم اتخاذه منها، وصيده. فأنزل الله (تعالى)
فيما سألوا عنه هذه الآية، فاستثنى (عليه السلام) مما كان حرم اتخاذه منها،
وأمر بقتله كلاب الصيد، وكلاب الماشية، وكلاب الحرث وأذن في اتخاذ ذلك ذكرت
ذلك سلمى أم رافع عن أبي رافع. قال جاء جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وآله يستأذن عليه، فاذن
له فقال: قد اذنا لك يا رسول الله فقال: اجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب. قال
أبو رافع: فأمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن أقتل كل كلب بالمدينة،
فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها. وجئت
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته، فأمرني فرجعت، وقتلت الكلب، فجاؤوا فقالوا:
يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله
439

فأنزل الله " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح
مكلبين " وبه قال عكرمة ومحمد بن كعب القرطي واختلفوا في الجوارح التي ذكر
إلي الآية: بقوله: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " فقال قوم: هو كل ما علم
فصيد فيتعلمه بهيمة كانت أو طائرا. ذهب اليه الحسن، ومجاهد وحثيمة بن
عبد الرحمن. ورووه عن ابن عباس، وطاووس وعلي بن الحسين وأبي جعفر (ع)
وقالوا: الفهد والبازي من الجوارح. وقال قوم: عنى بذلك الكلاب خاصة دون
غيرها من السباع. ذهب إليه الضحاك والسدي وابن عمر وابن جريج. وهو الذي
رواه أصحابنا عن أبي عبد الله (عليهما السلام) فاما ما عدا الكلاب، فما أدرك
ذكاته، فهو مباح، وإلا فلا يحل أكله. ويقوي قولنا قوله تعالى: " مكلبين "
وذلك مشتق من الكلب ومن صاد بالباز والصقر لا يكون مكلبا.
وقوله: " مكلبين " نصب على الحال وتقديره وأحل لكم صيد ما علمتم
من الجوارح مكلبين أي في هذه الحال. يقال: رجل مكلب وكلاب إذا كان
صاحب صيد بالكلاب. وفي ذلك دليل على أن صيد الكلب الذي لم يعلم، حرام
إذا [لم] (1) تدرك ذكاته.
وقوله: " تعلمونهن مما علمكم الله " معناه تؤدبون الجوارح، فتعلمونهن
طلب الصيد لكم بما علمكم الله من التأديب الذي أدبكم به. وقال بعضهم: معناه
كما علمكم الله. ذهب إليه السدي. وهذا ضعيف لان من المعنى الكاف لا يعرب في
اللغة، ولا بينهما تقارب، لان الكاف للتشبيه ومن للتبعيض واختلفوا في صفة التعليم
للكلب فقال بعضهم: هوان يستشلى لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه، ويمسك عليه
إذا أخذه، فلا يأكل منه ويستجيب له إذا دعاه. فإذا توالي منه ذلك كان معلما.
ذهب إليه ابن عباس وعط وابن عمرو الشعبي وطاووس وإبراهيم والسدي. قال عطا: إذا
أكل منه فهو ميتة. وقال ابن عباس: إذا اكل الكلب من الصيد، فلا تأكل منه
فإنما امسك على نفسه. وهو الذي دلت عليه أخبارنا. غير أنهم اعتبروا أن يكون

(1) - (لم) - ساقطة من المطبوعة.
440

اكل الكلب للصيد دائما. فاما إذا كان نادرا، فلا بأس ما أكل منه. وقال
أبو يوسف، ومحمد: حد التعليم أن يفعل ذلك ثلاث مرات. وقال قوم: لاحد
لتعليم الكلاب، فإذا فعل ما قلناه، فهو معلم. وقد دل على ذلك رواية أصحابنا،
لأنهم رووا أنه إذا أخذ كلب مجوسي فعلمه في الحال، فاصطاد به، جاز أكل ما
يقتله. وقد بينا أن صيد غير الكلب، لا يحل أكله الا ما أدرك ذكاته. فلا يحتاج
أن تراعي كيف تعلمه، ولا اكله منه. ومن أجاز ذلك أجاز أكل ما اكل منه
البازي والصقر. ذهب إليه عطا وابن عباس والشعبي وإبراهيم، وقالوا: تعلم البازي
هو أن يرجع إلى صاحبه. وقال قوم: جوارح الطير والسباع سواء في ذلك ما
أكل منه، وما لا يؤكل. روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله والشعبي وعكرمة، وابن
جريج. وقال قوم: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد وهو أن يشلى على
الصيد، فيستشلى، ويأخذ الصيد، ويدعوه صاحبه، فيجيب، فإذا كان كذلك كان معلما
اكل منه أو لم يأكل. روي ذلك عن سلمان رواه قتادة عن أبي وقاص. وقال لو لم يبق
إلا جذية، جاز أكلها وبه قال أبو هريرة، وابن عمر. وقد بينا مذهبنا في ذلك
وهو الذي رواه عدي بن حاتم عن النبي (صلى الله عليه وآله).
وقوله: " فكلوا مما أمسكن عليكم " يقوي قول من قال: ما أكل منه
الكب لا يجوز أكله، لأنه أمسك على نفسه. ومن شرط استباحة ما يقتله الكلب
أن يكون صاحبه سمى عند إرساله، فإن لم يسم لم يجزله اكله إلا إذا أدرك ذكاته
وحده أن يجده يتحرك: عينه أو أذنه أو ذنبه، فيذكيه حينئذ بفري الحلقوم
والأوداج، واختلفوا في (من) [من] قوله: " مما أمسكن عليكم " فقال قوم:
هي زائدة، لان جميع ما يمسكه، فهو مباح. وتقديره فكلوا ما أمسكن عليكم. وجرى
ذلك مجرى قوله: " يكفر عنكم من سيئاتكم " وقوله: " وينزل من السماء من جبال
فيها من برد " وتقديره وينزل من السماء جبالا فيها برد. وقال بعضهم: وينزل من
441

السماء من جبال فيها من برد أي من السماء من برد يجعل الجبال من برد في السماء
ويجعل الانزال منها وانكر قوم ذلك وقالوا (من) للتبعيض ويقوي قولهم: قد كان
من مطر وكان من حديث. يقول هل كان من مطر، وهل كان من حديث
عندكم ونكفر عنكم من سيئاتكم ما يشاؤه ويريده. وقوله: " وينزل من السماء من
جبال فيها من برد " يجيز حذف (من) برد ولا يجيز حذفها من الجبال. ويقول:
المعنى وينزل من السماء من أمثال جبال بردا، ثم أدخلت في من البرد مفسر عنده
عن أمثال الجبال. وقد أقيمت الجبال مقام الأمثال. والجبال هي جبال فلا يجيز
حذف (من) من الجبال، لأنها دالة على أن في السماء الذي أنزل منه البرد أمثال
جبال برد، لا جبال برد. وأجاز حذف (من) من برد، لان البرد مفسر من
الأمثال، كما يقال: عندي رطلان زيتا، ومن زيت. وليس عندك الرطلان وإنما
عندك المقدار، فمن تدخل في المفسر وتخرج منه، وكذلك عند هذا القائل من السماء
من أمثال جبال، وليس بجبال. وقال: فإن كان أنزل من جبال في السماء من برد جبالا
، ثم حذف الجبال الثانية فالجبال الأولى في السماء جاز كما يقال: أكلت من الطعام
يريدا كلت من الطعام طعاما، ثم يحذف الطعام، ولا يحذف (من). والأقوى أن
تكون من في الآية للتبعيض، لان ما يمسكه الكلب من الصيد، لا يجوز أكل جميعه
لان في جملته ما هو حرام من الدم، والفرث والغدد، وغير ذلك مما لا يجوز أكله،
فإذا قال: فكلوا مما أمسكن عليكم، أفاد ذلك بعض ما أمسكن، وهو الذي أباح
الله أكله من اللحم، وغيره. وقوله: " ونكفر عنكم من سيئاتكم " قد بينا الوجه
فيه وسنبين الوجه في قوله: " من السماء جبال فيها من برد " إذا انتهينا إليه إن شاء الله.
وقوله: " واذكروا اسم الله عليه " صريح في وجوب التسمية عند الارسال.
وهو قول ابن عباس والسدي وغيرهما. وقوله: " واتقوا الله " معناه واجتنبوا
ما نهاكم عنه، فلا تقربوه، واحذروا معاصيه في ارتكاب ما نهاكم عنه في أن
تأكلوا من صيد الكلب غير المعلم، أو مما لم يمسكه عليكم، أو تأكلوا مما لم يسم
442

الله عليه من الصيد، والذبائح مما صاده أهل الأوثان والأصنام " ان الله سريع
الحساب " معناه التخويف بأنه سريع حسابه لمن حاسبه على نعمه، لا يشغله حساب
بعض عن بعض. ومتى غاب الكلب والصيد عن العين، ثم رآه ميتا لا يجوز أن يأكله،
لأنه يجوز أن يكون مات من غير قتل الصيد. وفي الحديث: (كل ما أصميت
ولا تأكل ما أنميت) فمعنى اصميت أن تصطاد بكلب أو غيره، فمات وأنث تراه
مات بصيدك. واصل الصميان السرعة والخفة: ومعناه هاهنا ما أسرع فيه الموت
وأنت تراه. ومعنى ما أنميت ما غاب عنك فلا تدري مات بصيدك أو بعارض آخر
يقال نمت الرمية: إذا مضت والسهم فيها. وأنميت الرمية: إذا رميتها، فمضيت،
والسهم فيها قال امرؤ القيس:
فهو لا تنمى رميته * ما له لا عد من نفره
وقال الحارث بن وعلة الشيباني:
قالت سليمى فد غنيت فتى فالان لا تصمى ولا تنمى
أي عشت ومتى اخذ الكلب الصيد ومات في يده من غير أن يجرحه، لم
يجز أكله. وأجاز قوم ذلك. والأول أحوط. وكل من لا تؤكل ذبيحته من
أجناس الكفار، لا يؤكل صيده أيضا. فأما الاصطياد بكلابه المتعلمة فجائز إذا
صاده المسلم.
قوله تعالى:
(اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب
حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات
من الذين اتوا الكتاب من قبلكم إذا اتيمتوهن أجورهن محصنين غير
مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله
443

وهو في الآخرة من الخاسرين) (5) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه أحل للمؤمنين الطيبات، وهي الحلال على
ما بينا القول فيه في الآية الأولى، دون ما حرم في الآية المتقدمة. وقيل: معنى
الطيبات ما يستلذ ويستطاب. وظاهر الآية على هذا يقتضي تحليل كل مستطاب إلا
ما قال دليل على تحريمه.
وقوله: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " رفع بالابتداء " وحل لكم "
خبره وذلك يختص عند أكثر أصحابنا بالحبوب، لأنها المباحة من أطعمة أهل
الكتاب، فاما ذبائحهم وكل مائع يباشرونه بأيديهم فإنه تحبس ولا يحل استعماله
وتذكيتهم لا تصح لان من شرط صحتها التسمية لقوله: ولا تأكلوا مما لم يذكر
اسم الله عليه وهؤلاء لا يذكرون اسم الله. وإذا ذكروه قصدوا بذلك اسم من ابد
شرع موسى أو عيسى أو اتخذ عيسى ابنا. وكذب محمدا (صلى الله عليه وآله)
وذلك غير الله. وقد حرم الله ذلك بقوله: " وما أهل لغير الله به " على ما مضى
القول فيه وأكثر المفسرين على أن قوله ": وطعام الذين أوتوا الكتاب " المراد به
ذبائحهم وبه قال قوم من أصحابنا: فممن ذهب إليه الطبري والبلخي والجبائي وأكثر
الفقهاء، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: أراد بذلك ذباحة كل كتابي ممن أنزل عليه
التوراة والإنجيل، أو ممن دخل في ملتهم ودان بدينهم، وحرم ما حرموا، وحلل
ما حللوا. ذهب إليه ابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن المسيب، والشعبي
وابن جريج، وعطا والحكم وقتادة. وأجازوا ذبائح نصارى بني تغلب وقال آخرون:
إنما عنى به الذين أنزلت التوراة والإنجيل عليهم، ومن كان دخيلا فيهم من سائر
الأمم، ودان بدينهم، فلا تحل ذبائحهم. حكى ذلك الربيع عن الشافعي من الفقهاء.
وروي تحريم ذبائح نصارى تغلب عن علي (عليه السلام) ورواه سعيد بن جبير
عن ابن عباس. وقال مجاهد، وإبراهيم وابن عباس وقتادة والسدي والضحاك،
وابن زيد وأبو الدرداء إن اطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم وغيرها من الأطعمة.
444

وبه قال الطبري والجبائي والبلخي وغيرهم.
وقوله: " وطعامكم حل لهم " فيه بيان إن طعامنا أيضا حل لهم، فان قيل
فما معنى ذلك، وهم لا يستحلون طعامنا بتحليلنا لهم ذلك؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - ان الله بين بذلك أنه حلال لهم ذلك سواء قبلوه، أو لم يقبلوه.
والثاني - أن يكون حلال للمسلمين بذله لهم، ولو كان محرما عليهم، لما جاز
لمسلم بذله إياه.
وقوله: " والمحصنات من المؤمنات " معناه وأحل لكم العقد على المحصنات
يعني العفائف من المؤمنات. وقيل هن الحرائر منهن، ولا يدل ذلك على تحريم من
ليس بعفيفة، لان ذلك دليل خطاب يترك لدليل يقوم على خلافه، ولا خلاف أنه
لو عقد على من ليس بعفيفة، ولا أمة كان عقده صحيحا غير مفسوخ، وإن كان
الأولى تجنبه. وكذلك لو عقد على أمة بشرط جواز العقد على الأمة على ما مضى
القول فيه. واختلف المفسرون في المحصنات التي عنا هن هاهنا فقال بعضهم عنى
بذلك الحرائر خاصة: فاجرة كانت أو عفيفة وحرموا إماء أهل الكتاب بكل حال
لقوله: " ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات فمما ملكت ايمانكم من
فتياتكم المؤمنات ". ذهب إليه مجاهد وطارق بن شهاب، وعامر الشعبي والحسن
وقتادة. وقال آخرون: أراد بذلك العفائف من الفريقين: حرائر كن أو إماء،
وأجازوا العقد على الأمة الكتابية. روى ذلك أيضا عن مجاهد، وعامر الشعبي وسفين
وإبراهيم والحسن بن أبي الحسن وقتادة في رواية، ثم اختلفوا في المحصنات من
الذين أوتوا الكتاب، فقال قوم: هو عام في العفائف منهن: حرة كانت أو أمة،
حربية كانت أو ذمية. وهو قول من قال المراد بالمحصنات العفائف. وقال آخرون:
أراد الحرائر منهن: حربيات كن أو ذميات. وعلى قول الشافعي المراد بذلك من كان
من نساء بني إسرائيل دون من دخل فيهن من سائر الملل. وقال قوم: أراد بذلك
الذميات منهن. ذهب إليه ابن عباس. واختار الطبري أن يكون المراد بذلك الحرائر
445

من المسلمات والكتابيات. وعندنا لا يجوز العقد على الكتابية نكاح الدوام،
لقوله تعالى: " ولا تنكح المشركات حتى يؤمن، " ولقوله: " ولا تمسكوا بعصم
الكوافر " فإذا ثبت ذلك، قلنا في قوله ": والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب "
تأويلان.
أحدهما - أن يكون المراد بذلك اللائي أسلمن منهن. والمراد بقوله: " والمحصنات
من المؤمنات " من كن في الأصل مؤمنات. ولدن على الاسلام قيل: إن قوما
كانوا يتحرجون من العقد على الكافرة إذا أسلمت فبين الله بذلك انه لا حرج في
ذلك، فلذلك أفردهن بالذكر حكى ذلك البلخي.
والثاني - أن يخص ذلك بنكاح المتعة أو ملك اليمين، لأنه يجوز عندنا وطؤهن
بعقد المتعة، وملك اليمين على أنه روى أبو الجارود عن أبي جعفر (ع) أن ذلك
منسوخ بقوله: " ولا تنكح المشركات حتى يؤمن " روى عن أبي عبد الله (ع)
أنه قال: هو منسوخ بقوله: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " وقوله: " وإذا
اتيتموهن أجورهن " يعني مهورهن. وهو عوض الاستمتاع بهن. وهو قول
ابن عباس، وجميع المفسرين.
وقوله: " محصنين غير مسافحين ولا متخذي اخذ ان " نصب على الحال وتقديره
أحل لكم المحصنات من الفريقين، وأنتم محصنون غير مسافحين، ولا متخذي أخدان
يعني اعفاء غير مسافحين بكل فاجرة، وهو الزنا، ولا متخذي اخذ ان يعني
اعنا غير مسافحين، ولا متخذي أخدان، ولا متفردين ببغية واحدة، خادنها
وخادنته اتخذها لنفسه صديقة يفجر بها. وقد بينا معنى الاحصان ووجوهه، ومعنى
السفاح والخدن في سورة النساء، فلا وجه لإعادته وبذلك قال ابن عباس وقتادة
والحسن.
وقوله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين "
يعني من يجحد ما أمر الله الاقرار به، والتصديق به من توحيد الله، ونبوة نبيه،
446

والاقرار بما جاء به فقد حبط عمله يعني الاعمال التي يعملها، ويعتقدها قربات إلى
الله، فإنها تنحبط، ولا يستحق عليها ثوابا، بل يستحق عليها العقاب، " وهو في
الآخرة من الخاسرين " يعني الهالكين الذين غبنوا نفوسهم حظها من ثواب الله
بكفرهم، واستحقاقهم العقاب على جحدهم التوحيد، والاسلام. وقال قوم: إن
قوله: " ومن يكفر بالايمان " عنى به أهل الكتاب، لان قوما تحرجوا من نكاح
نساء أهل الكتاب، واكل طعامهم وما بين الله في هذه الآية. ذهب إليه قتادة
وابن جريج ومجاهد وابن عباس. فان قيل ما معنى " ومن يكفر بالايمان " قيل:
الايمان هو الاقرار بتوحيد الله، وصفاته، وعدله، والاقرار بالنبي (صلى الله عليه وآله
) وما جاء به من عند الله. فمن جحد ذلك أو شيئا منه كان كافرا بالايمان.
وقد حبط عمله الذي يرجو به الفوز والنجاة. وهو في الآخرة من الخاسرين. وقال
مجاهد: معناه من يكفر بالله. قال البلخي لا يعرف تأويل مجاهد في اللغة.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وان كنتم
جنبا فاطهروا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من
الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صيدا طيبا فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد
ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) (6) - آية بلا خلاف -
[القراءة]
قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب، والأعشى إلا النقار
" وأرجلكم " - بالنصب - الباقون بالجر وقرأ لمستم بلا الف حمزة والكسائي
447

وخلف الباقون لامستم بألف هاهنا وفي النساء هذا خطاب للمؤمنين أمرهم الله إذا
أرادوا القيام إلى الصلاة، وهم على غير طهر، أن يغسلوا وجوههم، ويفعلوا ما أمرهم
الله به فيها. وحذف الإرادة، لان في الكلام دلالة عليه، ومثله " فإذا قرأت
القران فاستعذ بالله " ومعناه وإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، وإذا قمت فيهم
فأقمت لهم الصلاة ومعناه فأردت أن تقيم لهم الصلاة. ثم اختلفوا هل يجب ذلك
كلما أراد القيام إلى الصلاة أو بعضها أو في اي حال هي؟ فقال قوم: المراد به إذا
أراد القيام إليها، وهو على غير طهر. وهو الذي اختاره الطبري والبلخي والجبائي
والزجاج وغيرهم. وهو المروي عن ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسى
الأشعري وأبي العالية، وسعيد بن المسيب وجابر بن عبد الله، وإبراهيم والحسن
والضحاك، والأسود والسدي، وغيرهم. وقال آخرون: معناه إذا قمتم من نومكم
إلي الصلاة ذهب إليه زيد ابن أسلم والسدي وقال آخرون: المراد به كل حال قيام
الانسان إلى الصلاة، فعليه ان يجدد طهر الصلاة. ذهب إليه عكرمة. وقال: كان
علي يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية. وقال ابن سيرين إن الخلفاء كانوا
يتوضؤن لكل صلاة، والأول هو الصحيح عندنا. وما روي عن علي (عليه السلام)
في تجديد الوضوء عند كل صلاة محمول على الندب. وقال قوم: كان الفرض أن
يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ ذلك بالتخفيف، وهو المروي عن ابن عمر انه حدثته
أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها أن
النبي صلى الله عليه وآله أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأمر بالسواك
ورفع عنه الوضوء إلا من حدث، فكان عبد الله يرى أن فرضه عليه، فكان يتوضأ
وروى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال عمر:
يا رسول الله صنعت شيئا ما كنت تصنعه! قال: عمدا فعلته يا عمر. وقال الحسين بن
علي المغربي: معنى إذا قمتم إذا عزمتم عليها وهممتم بها. قال الراجز للرشيد:
448

ما قاسم دون الفتى ابن أمه * وقد رضيناه فقم فسمه
فقال: يا أعرابي، ما رضيت ان تدعونا إلى عقد الامر له قعودا حتى أمرتنا
بالقيام، فقال: قيام عزم لا قيام جسم. وقال حريم الهمداني:
فحدثت نفسي أنها أو خيالها * اتانا عشاء حين قمنا لنهجعا
أي حين عزمنا للهجوع. وأقوى الأقوال ما حكيناه أولا من أن الفرض
بالوضوء يتوجه إلى من أراد الصلاة وهو على غير طهر، فاما من كان متطهرا،
فعليه ذلك استحبابا. وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله والصحابة في تجديد الوضوء، فهو
محمول على الاستحباب في جميع الأحوال، لاجماع أهل العصر على أن الفرض في
الوضوء كان في كل صلاة، ثم نسخ، فعلمنا بذلك أن ما روي من تجديد الوضوء،
كان على وجه الاستحباب. وقال قوم: إن الله (تعالى) أنزل هذه الآية اعلاما
للنبي (صلى الله عليه وآله) أنه لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها
من الاعمال، لأنه كان إذا أحدث امتنع من الاعمال حتى يتوضأ فأباح الله له
بهذه الآية أن يفعل ما بدا له من الاعمال بعد الحدث إلى عمل الصلاة، توضأ أو لم
يتوضأ. وأمره بالوضوء للصلاة. روى ذلك عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم
عن عبد الله بن علقمة عن أبيه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا بال لم
يرد جواب السلام حتى يتطهر للصلاة، ثم يجيب حتى نزلت هذه الآية.
وقوله: " فاغسلوا وجوهكم " امر من الله بغسل الوجه واختلفوا في حد
الوجه الذي يجب غسله، فحده عندنا من قصاص شعر الرأس إلى محاذي شعر الذقن
طولا وما دخل بين الوسطى والابهام عرضا، وما خرج عن ذلك فلا يجب غسله.
وما نزل من الشعر عن المحادر، فلا يجب غسله. وقال بعضهم: ما ظهر من بشرة
الانسان من قصاص شعر رأسه منحدرا إلى منقطع ذقنه طولا، وما بين الاذنين
عرضا. قالوا والأذنان وما بطن من داخل الفم والانف والعين، فليس من الوجه،
ولا يجب غسل ذلك، ولا غسل شئ منه. واما ما غطاه الشعر كالذقن، والصدغين،
449

فان امرار الماء على ما علا الشعر عليه يجزي من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه،
لان الوجه عندهم ما ظهر لعين الناظر من ذلك يقابلها دون غيره. وهذا بعينه
مذهبنا. إلا ما خرج عن الابهام والوسطى إلى الاذن، فإنه لا يجب غسله. ذهب إلى
ما حكيناه إبراهيم، ومغيرة والحسن وابن سيرين، وشعبة والزهري وربعية وقتادة،
والقاسم بن محمد وابن عباس، وابن عمر. قال ابن عمر: الأذنان من الرأس. وبه قال
قتادة والحسن، ورواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وقال آخرون:
الوجه كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولا، ومن الاذن إلى الاذن
الأخرى عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بطن منه من منابت شعر اللحية،
والعارضين، وما كان منه داخل الفم والانف، وما أقبل من الاذنين على الوجه.
وقالوا: يجب غسل جميع ذلك ومن ترك شيئا منه لم تجزه الصلاة. ذهب إليه ابن
عمر في رواية نافع عنه، وأبو موسى الأشعري. ومجاهد وعطا والحكم، وسعيد بن
جبير وطاووس، وابن شيرين والضحاك، وأنس بن مالك وأم سلمة، وأبو أيوب
وأبو امامة، وعمار بن ياسر وقتادة كلهم قالوا بتخليل اللحية، فاما غسل باطن الفم،
فذهب إليه مجاهد، وحماد وقتادة. واما من قال: ما أقبل من الاذنين يحب غسله،
وما أدبر يجب مسحه فالشعبي. وقد بينا مذهبنا في ذلك. والذي يدل على صحة
ذلك أن ما قلناه مجمع على أنه من الوجه. ومن ادعى الزيادة فعليه الأدلة. واستوفينا.
ذلك في مسائل الخلاف وتهذيب الاحكام.
وقوله: " وأيديكم إلى المرافق " منصوب بالعطف على الوجوه الواجب غسلها.
ويجب عندنا غسل الأيدي من المرافق، وغسل المرافق معها إلى رؤوس الأصابع، ولا
يجوز غسلها من الأصابع إلى المرافق (وإلي) في الآية بمعنى مع كقوله: " تأكلوا
أموالهم إلى أموالكم " وقوله: " من أنصاري إلى الله " وأراد بذلك (مع) قال
امرؤ القيس:
له كفل كالدعص لبده الندى * إلي حارك مثل الرتاج المضبب
450

وقال النابغة الجعدي:
ولوح ذراعين في بركة * إلى جؤجؤ رهل المنكب
أراد مع حارك ومع رهل. وطعن الزجاج على ذلك فقال: لو كان المراد بالى
مع، لوجب غسل اليد إلى الكتف، لتناول الاسم له. وإنما المراد بالى الغاية
والانتهاء، لكن المرافق يجب غسلها مع اليدين. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح،
لأنا لو خلينا وذلك، لقلنا بما قاله. لكن خرجنا بدليل. ودليلنا على صحة ما
قلناه: اجماع الأمة على أنه متى بدأ من المرافق كان وضوءه صحيحا وإذا جعلت
غاية ففيه الخلاف. واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال مالك بن أنس: يجب
غسل اليدين إلى المرفقين، ولا يجب غسل المرفقين. وهو قول زفر. وقال الشافعي:
لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها. وقال الطبري: غسل المرفقين، وما فوقهما
مندوب إليه غير واجب. وإنما. اعتبرنا غسل المرافق، لاجماع الأمة على أن من
غسلهما صحت صلاته. ومن لم يغسلهما، ففيه الخلاف. والمرافق جمع مرفق. وهو
المكان الذي يرتفق به، ويتكأ عليه على المرفقة وغيرها.
وقوله: " وامسحوا برؤوسكم " اختلفوا في صفة المسح، فقال قوم: يمسح
منه ما يقع عليه اسم المسح، وهو مذهبنا. وبه قال ابن عمر، والقاسم بن محمد، وعبد
الرحمن بن أبي ليلي، وإبراهيم والشعبي وسفيان. واختاره الشافعي وأصحابه
والطبري. وذهب قوم إلى أنه يجب مسح جميع الرأس ذهب إليه مالك. وقال أبو
حنيفة، وأبو يوسف ومحمد: لا يجوز مسح الرأس بأقل من ثلاثة أصابع. وعنه
روايتان فيهما خلاف، ذكرناهما في الخلاف. وعندنا لا يجوز المسح إلا على مقدم
الرأس. وهو المروي عن ابن عمر والقاسم بن محمد، واختاره الطبري. ولم يعتبر
أحد من الفقهاء ذلك. وقالوا: أي موضع مسح أجزاه وإنما اعتبرنا المسح ببعض
الرأس، لدخول الباء الموجبة، للتبعيض لان دخولها في الموضع الذي يتعدى الفعل
فيه بنفسه لا وجه له غير التبعض وإلا كان لغوا. وحملها على الزيادة لا يجوز مع
451

إمكان حملها على فائدة مجددة، فان قيل: يلزم على ذلك المسح ببعض الوجه في
التيمم قلنا كذلك نقول، لأنا نقول بمسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف
ومن غسل الرأس، فإنه لا يجزيه عن المسح عندنا وخالف جميع الفقهاء في ذلك،
وقالوا يجزيه لأنه يشتمل عليه. وهذا غير صحيح، لان حد المسح هو إمرار العضو
الذي فيه نداوة على العضو الممسوح من غير أن يجري عليه الماء. والغسل لا يكون
الا بجريان الماء عليه، فمعناهما مختلف، وليس إذا دخل المسح في الغسل يسمى
الغسل مسحا، كما أن العمامة لا تسمى خرقة، وان كانت تشتمل على خرق كثيرة.
وقوله: " وأرجلكم إلى الكعبين " عطف على الرؤوس فمن قرأ بالجر ذهب إلى أنه
يجب مسحهما كما وجب مسح الرأس، ومن نصبهما ذهب إلى أنه معطوف على
موضع الرؤوس، لان موضعها نصب لوقوع المسح عليها، وإنما جر الرؤوس لدخول
الباء الموجبة للتبعيض على ما بيناه فالقراءتان جميعا تفيدان المسح على ما نذهب
إليه. وممن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري وأبو علي الجبائي ومحمد بن جرير
الطبري، وغيرهم ممن ذكرناهم في الخلاف، غير أنهم أوجبوا الجمع بين المسح والغسل
المسح بالكتاب، والغسل بالسنة وخيرة الطبري في ذلك. وأوجبوا كلهم استيعاب
جميع الرجل ظاهرا وباطنا. وعندنا أن المسح على ظاهرهما من رؤوس الأصابع إلى
الكعبين. وهما الناتئان في وسط القدم على ما استدل عليه. وقال عكرمة عن ابن
عباس: الوضوء غسلتان ومسحتان. وبه قال أنس بن مالك. وقال عكرمة ليس على
الرجلين غسل إنما فيهما المسح. وبه قال الشعبي: ألا ترى أن التيمم يمسح ما كان
غسلا ويلغي ما كان مسحا. وقال قتادة افترض الله مسحتين وغسلتين. روى أوس
ابن أبي أوس قال: رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) توضأ ومسح على نعليه،
ثم قام فصلي. وروى حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله سباطة قوم، فبال عليها
قائما، ثم دعا بماء، فتوضأ ومسح على نعليه. وروى حبة الغربي قال: رأيت علي
ابن أبي طالب (عليه السلام) شرب في الرحبة قائما، ثم توضأ ومسح علي نعليه.
وروي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمسح
452

على رجليه. وعنه أنه قال: إن كتاب الله المسح ويأبى الناس الا الغسل. وعن
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال ما نزل القرآن إلا بالمسح. فان قيل:
القراءة بالجر ليست على العطف على الرؤوس في المعنى. وإنما عطف عليها على طريق
المجاورة، كما قالوا: حجر ضب خرب، وخرب، من صفات الحجر لا الضب وكما
قال الشاعر:
كان بثيرا في عرانين وبله * كبير أناس في بجاد مزمل
والمزمل من صفة الكبير لا البجاد. وقال الأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته * تقضى لبانات ويسام سائم
قلنا: هذا لا يجوز من وجوه:
أحدها - ما قال الزجاج أن الاعراب بالمجاورة، لا يجوز في القرآن، وإنما
يجوز ذلك في ضرورة الكلام والشعر.
والثاني - أن الاعراب بالمجاورة لا يكون مع حرف العطف فاما قول الشاعر:
فهل أنت ان ماتت اتانك راحل * إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
قالوا: جر مع حرف العطف الذي هو الفاء، فإنه يمكن أن يكون أراد الرفع
وإنما جر الراوي وهما. ويكون عطفا على راحل يكون قد أقوى لان القصيدة
مجرورة. وقال قوم: أراد بذلك الامر وإنما جر لاطلاق الشعر.
والثالث - أن الاعراب بالمجاورة إنما يجوز مع ارتفاع اللبس. فاما مع
حصول اللبس، فلا يجوز، ولا يشتبه على أحد أن خرب من صفة حجر، لا الضب.
وكذلك قوله: مزمل من صفة الكبير لا البجاد. وليس كذلك في الآية، لان
الأرجل يمكن أن تكون ممسوحة ومغسولة، فاما قول الشاعر: ثواء ثويته، فإنما
جره بالبدل من الحول والمعنى لقد كان في ثواء ثويته تقضى لبانات. وهو من
بدل الاشتمال، كقوله: " قتل أصحاب الأخدود النار ". وقول الشاعر:
لم يبق الا أسير غير منفلت * وموثق في عقال الأسر مكبول
فليس خفض موثق على المجاورة، لان معنى البيت لم يبق غير أسير قالا بمعنى
453

غير وهي تعاقبها في الاستثناء. فقوله غير موثق عطف المعنى على موضع أسير.
وتقديره لم يبق غير أسير وغير منفلت. واما قوله: " وحور عين " في قراءة من
جرهما، فليس بمجرور على المجاورة، بل يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون عطفا على قوله: " يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب
وأباريق وكأس من معين " إلى قوله: " وحور عين " عطف على أكواب. وقولهم:
انه لا يطاف إلا بالكاس غير مسلم، بل لا يمتنع أن يطاف بالحور العين كما يطاف
بالكاس وقد ذكر في جملة ما يطاف به الفاكهة واللحم.
والثاني - أنه لما قال: " أولئك المقربون في جنات النعيم " عطف بحور عين
على جنات النعيم فكأنه قال: هم في جنات النعيم. وفي مقاربة أو معاشرة حور عين.
ذكره أبو علي الفارسي، فاما من قال: الرجلان ممسوحان ويراد بالمسح الغسل،
فقوله: يبطل بما قلناه من أن المسح غير الغسل. واستشهادهم بقولهم: تمسحت للصلاة
وأنهم سموا الغسل مسحا. وقوله: " فطفق مسحا بالسوق والأعناق "، وانه أراد
غسلها باطل بما قدمناه، ولأنه لو كان ذلك محتملا لغة، لما احتمل شرعا، لان
الشرع فرق بين الغسل والمسح، ولذلك قالوا بعض أعضاء الطهارة مغسولة، وبعضها
ممسوحة. وفلان يرى غسل الرجلين، وفلان يرى مسحهما، ولأنه لا خلاف أن
الرأس ممسوح مسحا ليس بغسل، فلا بد أن يكون حكم الرجلين حكمه، لكونهما
معطوفتين عليه، وقولهم: تمسحت للصلاة، فلأنهم لما أرادوا أن يخبروا بلفظ
مختصر عن جميع أفعال الصلاة، لم يخز أن يقولوا اغتسلت للصلاة، لان في الطهارة
ما ليس بغسل. واستطالوا أن يقولوا اغتسلت وتمسحت للصلاة قالوا: بدلا من
ذلك تمسحت توسعا، ومجازا. وقوله: " فطفق مسحا بالسوق " فأكثر المفسرين
على أن المراد به فطفق ضربا. ذهب إليه الفراء وأبو عبيدة. وقال آخرون: أراد
المسح في الحقيقة، وأنه كان مسح أعراقها وسوقها. وإنما حمل على الغسل شاذ منهم
ومن قال القراءة تقتضي المسح غير أنه المسح على الخفين، فقوله باطل، لان الخف
454

لا يسمى رجلا في لغة ولا شرع. والله (تعالى) أمر بايقاع الفرض علي ما يسمى
رجلا في الحقيقة. واما لقراءة بالنصب، فقد بينا أنها معطوفة علي موضع الرؤوس
لان موضعها النصب، والحكم فيها المسح والعطف على الموضع جائز، لأنهم يقولون:
لست بقائم ولا قاعدا. ويقولون حسبت بصدره وصدر زيد وان زيدا في الدار
وعمرو، فيرفع عمرو بالعطف على الموضع. وقال الشاعر:
معاوي اننا بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وقال اخر:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا * أو عبد رب اخاعون بن مخراق
وإنما نصب عبد رب، لان التقدير باعث دينارا، فحمله على الموضع، وقد
سوغوا العطف على المعنى، وإن كان اللفظ لا يقتضيه قال الشاعر:
جئني بمثل بني عمرو لقومهم * أو مثل أسرة منظور بن سبار
لما كان معنى جئني هات مثلهم، أو اعطني مثلهم. قال: أو مثل بالنصب
عطفا على المعنى، وعطف الأرجل على الأيدي لا يجوز، لان الكلام متى حصل فيه
عاملان: قريب وبعيد لا يجوز إعمال البعيد دون القريب مع صحة حمله، عليه.
لا يجوز أن يقول القائل: ضربت زيدا وعمرا وأكرمت خالدا وبكرا. ويريد
بنصب بكر العطف على زيد أو عمرو المضروبين، لان ذلك خروج عن فصاحة
الكلام، ودخول في معنى اللغو وبمثل ما قلناه ورد القران وأكثر الشعر قال الله
تعالى: " وانهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا " ولو اعمل الأول، لقال:
كما ظننتموه. وقال " آتوني أفرغ عليه قطرا " ولو أعمل الأول، لقال أفرغه.
وقال: " هاؤم اقرأوا كتابيه " ولو اعمل الأول لقال: هاؤم اقرأوه. وقال الشاعر:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها
ولو أعمل الأول، لقال: فوفاه غريمه. فاما قول امرئ القيس:
فلو إنما أسعى لأدنى معيشة * كفاني ولم اطلب قليل من المال
455

فإنما أعمل الأول للضرورة، لأنه لم يجعل القليل مطلوبا وإنما كان المطلوب
عنده الملك. وجعل القليل كافيا. ولو لم يرد هذا ونصب، لفسد المعنى. فاما من
نصب بتقدير واغسلوا أرجلكم، كما قالوا:
متقلدا سيفا ورمحا وعلفها تبنا وماء باردا
فقد أخطأ، لان ذلك إنما يجوز إذا استحال حمله على اللفظ. فاما إذا جاز
حمله علي ما في اللفظ، فلا يجوز هذا التقدير. ومن قال يجب غسل الرجلين،
لأنها محدودتان كاليدين، فقوله ليس بصحيح، لأنا لا نسلم ان العلة في كون
اليدين مغسولتين كونهما محدودتين. وإنما وجب غسلهما، لأنهما عطفا على عضو
مغسول. وهو الوجه. فكذلك إذا عطف الرجلين على ممسوح هو الرأس، وجب
أن يكونا ممسوحين. والكعبان عندنا هما الناتئان في وسط القدم. وبه قال محمد
بن الحسن وإن أوجب الغسل. وقال أكثر المفسرين والفقهاء: الكعبان هما عظما
الساقين يدل على ما قلناه أنه لو أراد ما قالوا، لقال إلى الكعاب، لان في الرجلين
منها أربعة. وأيضا فكل من قال: يجب مسح الرجلين، ولا يجوز الغسل قال
الكعب هو ما قلناه، لان من خالف في أن الكعب ما قلناه على قولين: قائل يقول
بوجوب الغسل، وآخر يقول بالتخيير. قال الزجاج: كل مفصل للعظام فهو كعب.
وفي الآية دلالة على وجوب الترتيب في الوضوء من وجهين:
أحدهما - ان الواو يوجب الترتيب لغة على قول الفراء وأبي عبيد وشرعا على
قول كثير من الفقهاء، ولقوله (عليه السلام): ابدأوا بما بدأ الله به.
والثاني - ان الله أوجب على من يريد القيام إلى الصلاة إذا كان محدثا أن
يغسل وجهه أولا، لقوله: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " والفاء توجب التعقيب
والترتيب بلا خلاف، فإذا ثبت أن البداءة بالوجه هو الواجب، ثبت في باقي
الأعضاء، لان أحدا لا يفرق ويقويه قوله (عليه السلام) للاعرابي - حين علمه
الوضوء، فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، فإن كان رتب فقد بين انه
الواجب الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به، وان لم يرتب لزم أن يكون من رتب،
456

لا يجزيه وقد اجتمعت الأمة على خلافه. وفي الآية دلالة على أن من مسح على العمامة
أو الخفين لا يجزيه، لان العمامة لا تسمى رأسا. والخف لا يسمى رجلا كمالا يسمى البرقع
وما يستر اليدين وجها ولا يدا. وما روي من المسح على الخفين أخبار آحاد لا يترك لها
ظاهر القرآن. على أنه روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: نسخ ذلك بهذه الآية
وكذلك قال لمن قال: اقبل المائدة أو بعدها. وفي الآية دلالة على وجوب النية
في الوضوء، لأنه قال: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا. وتقديره فاغسلوا للصلاة كما
يقول القائل: إذا أردت لقاء عدوك، فخذ سلاحك بمعنى فخذ سلاحك للقائه ولا
يمكن أن يكون غاسلا هذه الأعضاء للصلاة إلا بنية. وقوله: ". ان كنتم جنبا
فاطهروا " معناه وإن أصابتكم جنابة وأردتم القيام إلى الصلاة فاطهروا بالاغتسال.
والجنابة تكون بشيئين:
أحدهما - بانزال الماء الدافق في النوم أو اليقظة. وعلى كل حال بشهوة كان أو
بغير شهوة.
والآخر - بالتقاء الختانتين وحده غيبوبة الحشفة أنزل أو لم ينزل، والجنب يقع على
الواحد والجماعة والاثنين، والمذكر والمؤنث مثل رجل عدل، وقوم عدل، ورجل زور وقوم
زور، ونحو ذلك وهو بمنزلة المصدر قال الزجاج: تقديره ذو جنب. ويقال أجنب
الرجل وجنب واجتنب والفعل الجنابة وقد حكي في جمعه أجناب والأول أظهر.
واصل الجنابة البعد قال علقمة:
فلا تحرمني نائلا عن جنابة * فاني امرؤ وسط القباب غريب
وقوله: " وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لامستم النساء " معناه وان كنتم مرضى يعني ان كنتم جرحى أو مجدرين أو مرضى
يضر بكم استعمال الماء وكنتم جنبا أو على غير وضوء قد بينا ذلك في سورة النساء
وقوله: " أو على سفر " معناه وإن كنتم مسافرين وأنتم جنبا وجاء أحد منكم من
الغائط معناه أو جاء أحد منكم من الغائط قد قضى حاجته فيه، وهو مسافر أو
لامستم النساء معناه أو جامعتم النساء، وأنتم مسافرون. وقد بينا اختلاف الفقهاء
في اللمس، وبينا أصح الأقوال في ذلك، فلا وجه لإعادته، فان قيل: ما معنى
457

تكرير قوله: لامستم النساء إن كان معنى اللمس الجماع مع أنه قد تقدم ذكر
الواجب عليه لقوله: " وان كنتم جنبا فاطهروا " قلنا وجه ذلك أن المعني في قوله:
" وان كنتم جنبا " غير المعني الذي ألزمه الله بقوله: أو لامستم النساء، لأنه
(تعالى) بين الحكم بقوله: " وان كنتم جنبا فاطهروا " معناه إذا كنتم واجدين
للماء ممكنين لاستعماله، ثم بين حكمه إذا عدم الماء، أو لا يتمكن من استعماله أو
هو مسافر غير مريض مقيم، فاعلمه أن التيمم هو فرضه، وهو طهارته. وقد بينا
حكم التيمم ومعناه وكيفيته فيما مضى.
وقوله: " فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم
منه " قد بينا جميع ذلك فيما مضى. جملته أنه يقول: أيها المؤمنون إذا قمتم إلى
الصلاة، وأنتم على غير طهر، ولم تجدوا ماء، ولا تتمكنون من استعماله، فاقصدوا
وجه الأرض طاهرا نظيفا غير نجس، ولا قذر " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه "
يعني مما يعلق بأيديكم منه يعني من الصعيد وقد بينا كيفية التيمم، وأنه من
قصاص الشعر إلى طرف الأنف، ومن الزند إلي أطراف الأصابع في اليدين. وقد
بينا اختلاف المفسرين والفقهاء في ذلك، فلا معنى لإعادته. وقوله: " ما يريد الله
ليجعل عليكم من حرج " معناه ما يريد الله مما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى
الصلاة والغسل من الجنابة والتيمم صعيدا طيبا عند عدم الماء أو تعذر استعماله،
ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا لتفتنكم فيه، وهو قول علي (عليه السلام)
ومجاهد وجميع المفسرين. وقوله: " ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم
لعلكم تشكرون " معناه لكن يريد الله ليطهركم بما فرض عليكم من الوضوء والغسل
من الاحداث والجنابة أن ينظف بذلك أجسامكم من الذنوب. واللام في قوله:
" ليطهركم " دخلت لتبيين الإرادة والمعنى ارادته لتطهيركم كما قال الشاعر:
أريد لانسى ذكرها فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل
روي ما قلناه عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة ان رسول الله
(صلى الله عليه وآله) قال: إن الوضوء يكفر ما قبله وقوله: " وليتم نعمته
458

عليكم " معناه ويريد الله مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من
الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة مع وجود الماء، والتيمم مع عدمه، أن يتم
نعمته بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا رخصة منه لكم
في ذلك مع سوابغ نعمه التي أنتم بها عليكم " لعلكم تشكرون " معناه ولتشكروا
الله على نعمه التي أنعم بها عليكم بطاعتكم إياه فيما امركم به ونهاكم عنه.
قوله تعالى:
(واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم
سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور) (7) آية
بلا خلاف.
في هذه الآية أذكار بنعم الله تعالى عليهم برسوله (صلى الله عليه وآله)
وميثاقه الذي واثقهم به عندما ضمنوا لرسول الله صلى الله عليه وآله السمع والطاعة، ثم
حذرهم ان ينقضوا ذلك بقلوبهم، واعلمهم أنه عليم بذات الصدور.
والميثاق الذي واثقهم به قال البلخي: والجبائي هو ما أخذ عليهم رسول الله
(صلى الله عليه وآله) عند اسلامهم وبيعتهم بأن يطيعوا الله في كل ما يفرضه
عليهم مما ساءهم أو سرهم. قال الجبائي: هو مبايعتهم له ليلة العقبة وبيعة الرضوان
وهو قول ابن عباس وقال آخرون: هو ما اخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم
(ع) واشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟ قالوا: بلى. ذهب إليه مجاهد. والصحيح
قول ابن عباس لامرين:
أحدهما - ان الخبر مروي في أخذ الميثاق على من استخرج من صلب ادم
(ع) ضعيف تحيله العقول.
والثاني - أن الله (تعالى) ذكر بعقب تذكيره المؤمنين ميثاقه الذي واثق به
أهل التوراة بعدما أنزل كتابه على نبيه موسى (ع) فيما أمرهم به ونهاهم عنه،
459

فقال: " ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " الآيات
بعدها منبها بذلك أصحاب رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)
على مواضع
حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه وتعريفهم سوء عاقبة هل الكتاب في تضييعهم
من الوفاء لله بما عاهدهم عليه وما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره
ونهيه زاجرا لهم عن نكث عهده لئلا يحل بهم ما حل بمن تقدم من الناكثين عهده
من أهل الكتاب. وقال أبو الجارود عن أبي جعفر (ع) - الميثاق هوما بين لهم في
حجة الوداع من تحريم كل مسكر وكيفية الوضوء على ما ذكره الله وغير ذلك
ونصب أمير المؤمنين (عليه السلام) اماما للخلق وهذا داخل فيما حكيناه عن ابن
عباس إذ هو بعض ما أمر الله به
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا
يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى
واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون) (8) آية - بلا خلاف -.
هذا خطاب للمؤمنين أمرهم الله تعالى ان يكونوا قوامين بالقسط أي قائمين
بالعدل يقومون به، ويدومون عليه شهدا. لله أي مبينون عن دين الله، لان الشاهد
يبين ما شهد عليه.
و " قوامين " نصب بأنه خبر كان (شهداء) نصب على الحال.
وقوله: " ولا يجرمنكم " قد فسرناه فيما مضى. قال الكسائي: وأبو عبيدة
معناه لا يحملنكم بغض قوم على الا تعدلوا يقال: جرمني فلان على أن فعلت
كذا أي حملني عليه وقال الفراء يجرمنكم يكسبنكم يقال: جرمت على أهلي أي
كسبتهم. وفلان جريمة أهله أي كاسبهم قال الكسائي: وفيه لغتان جرمت اجرم جرما
وأجرمت اجرم أجراما. وشنئان قال الكسائي: معناه البغض وفيه لغتان: فتح
460

النون الأولى وجزمها. وقد بينا اختلاف القراء فيه. قال الزجاج: من حرك النون
أراد بغض قوم. ومن سكن أراد بغيض قوم. وحكى أيضا جرم واجرم لغتين وقيل
أجرمته أدخلته في الجرم كما قيل أثمته ومعناه أدخلته في الاثم والمعنى لا يحملنكم
شنآن قوم اي بغض قوم ألا تعدلوا في حكمكم فيهم، وسيرتكم بينهم، فتجوروا
عليهم. وقال عبد الله بن كثير: نزلت هذه الآية في يهود حين مضى النبي صلى الله عليه وآله
إلى حصن بني قريظة يستعينهم في دية فهموا أن يقتلوه، فنزلت هذه الآية، ثم
أمرهم بعد النبي عن الجور أن يفعلوا العدل مع كل أحد وليا كان أو عدوا، فان
فعل العدل أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، ثم حذرهم تعالى فقال " واتقوا
الله " أي خافوا عقابه باجتناب معاصيه وفعل طاعاته، فان الله خبير أي عالم بأعمالكم
والكناية في قوله: " هو أقرب للتقوى " كناية عن العدل أي العدل أقرب للتقوى،
ولو لم يكن هو في الكلام، لكان أقرب نصبا، كما قال: انتهوا خيرا لكم وكنى
عن الفعل في هذا الموضع بهو.
قوله تعالى:
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة واجر
عظيم) (9) - آية بلا خلاف -.
وعد الله تعالى في هذه الآية الذين صدقوا بوحدانية الله وأقروا بنبوة نبيه
محمد (صلى الله عليه وآله) وعملوا الصالحات ان لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة ووقعت
الجملة موقع المفرد كما قال الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاء * وجنات وعينا سلسبيلا
وتكون الجملة التي هي لهم مغفرة في موضع النصب، ولذلك عطف في البيت
وعينا، فنصب على الموضع، ويحتمل أن يكون موضع (لهم مغفرة) في موضع
الرفع، ويكون الموعود به محذوفا، ويكون التقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما
461

وعدهم أو لهم مغفرة وأجر عظيم هو الجنة. وهو معنى قول الحسن والجبائي والوعد،
هو الخبر الذي يتضمن النفع من المخبر. والوعيد: هو الخبر الذي يتضمن الضرر
من المخبر. وتقول: وعدته خيرا وأوعدته شرا والا يعاد مطلقا يكون في الشر.
والوعد مطلقا في الخير، فإذا قيدته بذكر الخير أو الشر، قلت فيهما معا وعدته
وأوعدته معا فيما حكاه الزجاج. والمغفرة أصلها التغطية ومعناها تكفير السيئة.
والتكفير أيضا: التغطية ومنه تكفر في السلاح: إذا تغطي به قال لبيد:
في ليلة كفر النجوم غمامها
والاجر المذكور في الآية هو الثواب الذي وعد الله المؤمنين به على فعلهم
الطاعات. والفرق بين الثواب والاجر في العرف أن الثواب هو الجزاء على الطاعات.
والاجر قد يكون مثل ذلك وقد يكون في المعنى المعاوضة على المنافع بمعنى الاجر.
قوله تعالى:
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم)
(10) - آية -.
قوله: " والذين كفروا " معناه جحدوا توحيد الله، وصفاته وعدله،
وأنكروا نبوة نبيه، والاعتراف بما جاء به من عند الله، وكذبوا بآيات الله أخبر
الله عنهم أنهم أصحاب الجحيم. وجحيم اسم من أسماء جهنم، فعلى هذا قوله،
" والذين " في موضع رفع على الابتداء " وكفروا " في صلة الذين وكذبوا بآياتنا
عطف على ما في الصلة. وقوله: أولئك أصحاب الجحيم جملة في موضع خبر الذين.
وحد الكفر عندنا كل معصية يستحق بها عقاب دائم، لان ما ليس بكفر
من المعاصي لا يستحق عليه إلا عقاب منقطع، ثم ينقسم قسمين فإن كان كفر ردة،
تعلقت عليه أحكام من منع الموارثة من المسلم والصلاة عليه، والدفن في مقابر
المسلمين، وغير ذلك. وإن كان كافر ملة بأن يكون مظهرا للشهادتين لم يجر عليه شئ
من هذه الأحكام. وقال قوم: إن الكفر أعظم الاجرام، لأنه جحد أنعم الله،
462

ونعمته أعظم النعم، ويستحق عليها أعظم الشكر، فيجب أن يكون كفرها وجحدها أعظم
الاجرام والمكذب بآيات الله، وان يعلمها آيات، فهو كافر إذا كان له سبيل إلى
معرفتها. ومعنى أصحاب الجحيم أنهم يخلدون في النار، لان المصاحبة تقتضي
الملازمة كما يقال أصحاب الصحراء بمعنى الملازمين لها.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن
يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل
المؤمنون) (11) - آية بلا خلاف -.
هذا خطاب للمؤمنين ذكرهم الله نعمته عليهم حين هم قوم أن يبسطوا إليهم
أيديهم. واختلفوا في الباسطين أيديهم على خمسة أقوال:
فقال مجاهد وقتادة وأبو مالك: هم اليهود هموا بأن يقتلوا النبي صلى الله عليه وآله لما
مضى إلى بني قريظة يستعين بهم على دية مقتولين من بني كلاب بعد بئر معونة كانا
وفدا على النبي (صلى الله عليه وآله) فلقيهما عمرو بن أمية الضمري فقال: أمسلمين؟
فقالا: بل رافدين، فقتلهما، فقال له النبي صلى الله عليه وآله قتلت قتيلين قبل أن يبلغا الماء
والله لأدينهما. ومضى إلى يهود بني قريظة يستعين بهم.
وقيل: كان يستقرض لأجل الدية لأنه كل يحملها، فهمت بنو قريظة بالفتك
به وبقتله، فأعلم الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله ذلك فانصرف عنهم.
وقال الحسن: إنما بعثت قريش رجلا ليفتك بالنبي (صلى الله عليه وآله)
فاطلع الله نبيه على امره ومنعه الله منه، لأنه دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسيفه مسلول
فقال له: أرنيه فأعطاه إياه، فلما حصل في يده قال: ما الذي يمنعني من قتلك؟
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) الله يمنعك فرمى بالسيف وأسلم. واسم الرجل
عمرو بن وهب الجمحي بعثه صفوان بن أمية ليغتاله (صلى الله عليه وآله) بعد بدر،
463

فاعلمه الله ذلك. وكان ذلك سبب إسلام عمرو بن وهب.
وقال الواقدي. غزا رسول الله صلى الله عليه وآله جمعا من بني ذبيان ومحارب بذي
أمر فتحصنوا برؤوس الجبال، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله بحيث يراهم، فذهب لحاجته
فأصابه مطر فبل ثوبه، فنشره على شجرة واضطجع تحته بعيدا من أصحابه،
والاعراب ينظرون إليه فأخبروا سيدهم دعشور بن الحارث المحاربي فجاء حتى وقف
على رأسه بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد صلى الله عليه وآله من يمنعك منى اليوم؟ فقال: الله
ودفع جبرائيل في صدره وقع السيف من يده، فاخذه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقام
على رأسه وقال: من يمنعك مني اليوم؟ فقال: لا أحد وانا اشهد ان لا اله إلا الله،
وان محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله فنزلت الآية.
وقال أبو علي الجبائي المعني بذلك ما لطف الله (تعالى) المسلمين من كف
أعدائهم عنهم حين هموا باستئصالهم بأشياء شغلهم بها من الأمراض والقحط، وموت
الأكابر، وهلاك المواشي وغير ذلك من الأسباب التي انصرفوا عندها عن قتل
المؤمنين:
وقال ابن عباس. كانت اليهود دعوا رسول الله صلى الله عليه وآله إلى طعام لهم، وعزموا
على الفتك به، فاعلم الله ذلك نبيه صلى الله عليه وآله فلم يحضر.
وقال آخرون: نزلت الآية فيما عزم المشركون على الايقاع بالنبي صلى الله عليه وآله
وأصحابه يوم بطن النخلة إذا دخلوا في الصلاة، فاعلمه الله ذلك، فصلى بهم صلاة
الخوف. وإنما جعل الله تخليص النبي مما هموا به نعمة على المؤمنين من حيث كان
إمامهم وسيدهم، وكان مبعوثا إليهم بما فيه مصالحهم، فمقامه بينهم نعمة على المؤمنين،
فلذلك اعتد به عليهم. وقال قوم: هو مردود على قوله: " اليوم يئس الذين
كفروا من دينكم " ومعناه جملة الظفر
. [اللغة]:
والذكر هو حضور المعنى للنفس يقال: ذكر يذكر ذكرا. واذكره إدكارا وتذاكروا
تذاكرا. وذاكره مذاكرة. وذكره تذكيرا. واستذكر استذكارا واذكر اذكارا.
وقد يستعمل الذكر بمعنى القول، لان من شأنه أن تذكر به المعنى. والتذكر هو طلب
464

المعني لاطلب القول. والفرق بين الذكر والعلم ان الذكر ضده الجهل. وقد يجمع الذكر
للشئ والجهل به من وجه واحد. ومحال ان يجتمع العلم به والجهل به من وجه
واحد والفرق بين الذكر والخاطر أن الخاطر مرور المعنى على القلب. والذكر
حصول المعنى في النفس وأيضا الذكر يجري على نقيض النسيان، لأنه يستعمل بعدما
نسيه. وليس كذلك الخاطر.
والهم بالامر هو حديث النفس بفعله. يقال: هم بالامر يهم هما. ومنه الهم.
وهو الفكر الذي يغم. وجمعه هموم واهتم اهتماما. وأهمه الامر إذا عني به، فحدث
نفسه به والفرق بين الهم بالشئ والقصد إليه انه قد يهم بالشئ قبل أن يريده
ويقصده بان يحدث نفسه به وهو مع ذلك مميل في فعله ثم يعزم إليه ويقصد إليه.
قوله تعالى:
(ولقد اخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر
نقيبا وقال الله انى معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم
برسلي وعززتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم
سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد
ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) (12) - آية بلا خلاف -.
الميثاق: اليمين المؤكدة، لأنه يستوثق بها من الامر، فاخذ الله ميثاقهم
باخلاص العبادة له، والايمان برسله. وما يأتون به من شرايع دينه.
وقوله: " بعثنا منهم اثني عشر نقيبا " فالنقيب فيه أربعة أقوال:
قال الحسن " هو الضمين وقال الربيع: هو الأمين.
وقال قتادة: هو الشهيد على قومه. وقال قوم: هو الرئيس من العرفاء.
[اللغة]:
واصل النقيب في اللغة النقب وهو الثقب الواسع. وقال أبو مسلم: هو
فعيل بمعنى مفعول كأنه اختير ونقر عليه، فقيل نقيب، لأنه ينقب عن أحوال
465

القوم، كما ينقب عن الاسرار. ومنه نقاب المرأة. ومنه المناقب وهي الفضائل.
والنقب: الطريق في الجبل. ويقال نقب الرجل على القوم ينقب نقبا: إذا صار
نقيبا. ونكب عليهم ينكب نكابة: إذا صار منكبا. وهو عون العريف. وقد
نقب نقابة. والنقبة سراويل بغير رجلين لاتساع نقبه تلبسة المرأة. وأول الجرب
النقبة وجمعها النقب. والنقب قال الشاعر:
متبذلا تبدو محاسنه * يضع الهاء مواضع النقب
ويقال: كلب نقيب إذا نقب حنجرته، لئلا يرتفع صوته في نباحه يفعل
ذلك البخلاء، لئلا يطرقهم ضيف بسماع نباح الكلاب. ومنه نقبت الحائط: إذا
بلغت في النقب آخره.
وفي معنى قوله: " اثني عشر نقيبا " قولان:
أحدهما - قال الحسن والجبائي: أنه اخذ من كل سبط منهم ضمينا بما عقد
عليهم بالميثاق من امر دينهم.
الثاني قال مجاهد والسدي: إنهم بعثوا إلى الجبارين، ليقفوا على آثارهم
ويرجعوا بذلك إلى موسى، فرجعوا ينهون قومهم عن قتالهم لما رأوا من شدة
بأسهم، وعظم خلقهم إلى اثنين منهم.
وقال البلخي: يجوز أن يكون النقباء رسلا ويجوز ان يكونوا قادة. وقوله:
" بعثنا " لا يدل على أنهم رسل، كما إذا قال القائل: الخليفة بعث الأمير أو القضاة
لا يفيد أنهم رسل، بل يفيد أنه ولاهم وقلدهم. والغرض بذلك إعلام النبي صلى الله عليه وآله
أن هؤلاء الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وآله صفاتهم وأخلاقهم أخلاق أسلافهم الغدر،
ونقض العهد.
وقوله: " وقال الله اني معكم " معناه ناصركم على عدوكم وعدوي الذي أمرتكم
بقتالهم إن قاتلتموهم، ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم. وفي الكلام
حذف، وتقديره وقال الله: إني معكم. وإنما حذف استغناء بقوله: " ولقد اخذ
الله ميثاق بني إسرائيل " ثم ابتدأ تعالى قسما، لئن أقمتم الصلاة معشر بني إسرائيل
466

" وآتيتم الزكاة " أي أعطيتموها " وآمنتم برسلي " معناه وصدقتم بما اتاكم به
رسلي من شرائع ديني وقال الربيع بن أنس: هذا الخطاب من الله للنقباء وقال غيره:
هو خطاب لبني إسرائيل. والتقدير ان موسى (ع) قال لهم عن الله تعالى: إن
الله ناصركم على عدوكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي " وعززتموهم "
قيل معناه قولان:
أحدهما - قال مجاهد والسدي: معناه نصرتموهم وهو اختيار الزجاج.
الثاني - قال عبد الرحمن بن زيد: معناه ونصرتموهم وأطعتموهم. وبه قال أبو
عبيدة. والعزز - في اللغة -: الرد والمنع في قول الفراء تقول: عزرت فلانا: إذا
أدبته، وفعلت به ما يردعه عن القبيح. وقال تعالى: " وتعزروه وتوقروه " ومعناه
تنصروه. وإلا كان تكرارا. وهو اختيار الطبري وأنشد أبو عبيدة في التعزير
بمعنى التوقير قول الشاعر:
وكم من ما جدلهم كريم * ومن ليث يعزر في الندي (1)
أي يعظم. وهو قول أبي علي.
وقوله: " وأقرضتم الله قرضا حسنا " معناه وأنفقتم في سبيل الله، وجهاد
عدوه وعدوكم قرضا حسنا. وقيل: معناه بطيبة نفس. وقيل معناه الا يتبعه
من ولا اذى. وقيل من الحلال دون الحرام. وإنما قال: قرضا، ولم يقل إقراضا،
لأنه رده إلى قرض قرضا، كما قال: " أنبتكم من الأرض نباتا " (2) ولم يقل إنباتا
ويقال: أعطيته عطاء. وقال امرؤ القيس:
ورضت فذلت صعبة اي إذلال (2)
لان فيه معنى أذللت.
وقوله: " لأكفرن عنكم سيئاتكم " اللام جواب القسم. وهو قوله: " لئن
أقمتم الصلاة " فالأولى لام القسم والثانية جوابه، وقال قوم: كل واحد منهما

(1) - مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 157 وتفسير الطبري 10: 120. الندي
مجلس القوم ما داموا مجتمعين فيه.
(2) سورة نوح، آية 17.
(3) ديوانه: 141. راض الدابة علمها السير.
467

قسم. وصحيح الأول، لان الكلام لم يتم في قوله: " لئن أقمتم الصلاة واتيتم
الزكاة " ومعنى " لأكفرن " لأعطين بعفوي وصفحي عن عقوبتكم على ما مضى
اجرامكم، ولأدخلنكم مع ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار والجنات البساتين
والكفر معناه الجحود، والتغطية والستر. قال لبيد:
في ليلة كفر النجوم غمامها (1)
وقوله تجري من تحتها يعني من تحت أشجار هذه الجنات الأنهار.
وقوله: فمن كفر بعد ذلك منكم يعني من جحد منكم يا معشر بني إسرائيل
ما أمرته به، فتركه أو ركب ما نهيته عنه بعد أخذي الميثاق عليه، فقد ضل يعني
أخطأ قصد الطريق الواضح، وزال عن منهاج السبيل القاصد. والضلال هو
الركوب على غير هدى. وسواء السبيل يعني وسطه.
قوله تعالى:
(فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية
يحرفون الكلم عن مواضعه نسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال
تطلع على خائنة منهم الا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح ان الله
يحب المحسنين) (13) - آية بلا خلاف -.
[القراءة]:
قرأ حمزه والكسائي قسية بلا الف - وقرأ الباقون قاسية - بألف.
[المعنى]:
المعني بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وآله فقال الله له: لا تعجبن من هؤلاء اليهود
الذين هموا ان يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك ونكثوا العهد الذي بينك

(1) - انظر 1: 60
468

وبينهم، وغدروا بك، فان ذلك من عادتهم، وعادات اسلافهم، لأني اخذت ميثاق
سلفهم على عهد موسى على طاعتي، وبعثت منهم اثني عشر نقيبا، فنقضوا ميثاقي،
ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم. وفي الكلام محذوف اكتفى بدلالة الظاهر
عليه. والمعنى فمن كفر بعد ذلك منكم، فقد ضل سواء السبيل، فنقضوه، فلعنتهم
فبما نقضهم ذلك لعناهم فاكتفى بقوله: فبما نقضهم من ذكر فنقضوا.
(وما) زائدة والتقدير فبنقضهم (وما) مؤكدة. وهو قول قتادة وجميع
المفسرين ومثله قول الشاعر:
لشئ ما يسود من يسود
والهاء والميم كنايتان عن بني إسرائيل واللعن هو الطرد للسخط على العبد،
وهو الابعاد من رحمة الله على جهة العقوبة. وقال الحسن: هو المسخ الذي كان
فيهم حين صاروا قردة، وخنازير. ومعنى جعلنا - هاهنا - قال البلخي: سميناها
بذلك عقوبة على كفرهم، ونقض ميثاقهم. قال: ويجوز أن يكون المراد ان الله
بكفرهم لم يفعل بهم اللطف الذي تنشرح به صدورهم كما يفعل بالمؤمن. وذلك مثل
قولهم: أفسدت سيفك: إذا تركت تعاهده حتى صدئ. ويقولون: جعلت
أظافيرك سلاحك: إذا لم تقصها. ويشهد للأول قوله تعالى: " وجعلوا لله شركاء
الجن " وأراد بذلك انهم سموا لله شركاء. وقال أبو علي: هو البيان عن حالهم،
وجفا قلوبهم عن الايمان بالله ورسوله، كما يقال: جعلته فاسقا مهتوكا: إذا أبان
عن حاله للناس.
ومعنى قاسية. أي يابسة يقال للرحيم: لين القب، ولغير الرحيم: قاسي
القلب. والقاسي والقاسح - بالحاء - الشديد الصلابة. ويقال: قسا يقسو قسوة
ومنه " فهي كالحجارة أو أشد قسوة " وقسية أشد مبالغة. وقاسية أعرف
وأكثر في الاستعمال. وقال أبو عبيدة: قاسية معناه فاسدة من قولهم: درهم قسي
أي زائف قال أبو زبيد:
469

لها صواهل في صم السلام كما * صاح الفسيات في أيدي الصياريف
يصف وقع المساحي في الحجارة. وقال أبو عباس: الدرهم إنما سمي قسيا
إذا كان فاسدا لشدة صوته بالقس الذي فيه، فهو راجع إلى الأول. وقال الراجر:
وقد قسوت وقسا لداتي
وقوله: " يحرفون الكلم " فالتحريف يكون بأمرين: بسوء التأويل،
وبالتغيير والتبديل، كما قال تعالى: " ويقولون هومن عند الله وما هو من عند
الله " بعد قوله: " وان منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من
الكتاب وما هو من الكتاب " والكلم جمع كلمة.
وقوله: " ونسوا حظا مما ذكروا به " معناه تركوا نصيبا مما ذكروا به يعني
مما أنزل على موسى. وهو قول الحسين والسدي وابن عباس.
وقوله: " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " معناه على خيانة منهم وفاعله
في أسماء المصادر كثير، نحو عافاه لله عافية. " والمؤتفكات بالخاطئة " و " أهلكوا
بالطاغية " ويقال: قائلة بمعنى القيلولة. كل ذلك بمعنى المصدر وراغية الإبل
وثاغية الشاة. ويقال: رجل خائنة قال الشاعر:
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن * للغدر خائنة مغل الإصبع
فخائنة على وجه المبالغة، كما قالوا: رجل نسابة، لأنه يخاطب رجلا.
ومعناه لا تخن، فتغلل إصبعك في المتاع أي تدخلها الخيانة، ومغل بدل من خائنة.
ويجوز أن يكون على خائنة معناه على فرقة خائنة.
وقوله: " الا قليلا منهم " نصب على الاستثناء من الهاء والميم في قوله:
" على خائنة منهم ".
وقوله: " فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين " قال قتادة: هو
470

منسوخ بقوله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " وقال أبو علي
بقوله: " واما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " وقال البلخي: يجوز
أن يكون أمر بالعفو والصفح بشرط التوبة أو بذل الجزية، لأنهم إذا بذلوا الجزية
لا يؤاخذون بشئ من كفرهم. وهو قول الحسن، وجعفر بن مبشر. واختار
الطبري هذا. فعلى هذا لا يكون منسوخا وقوله: " يحرفون الكلم " لا يدل على
أنه جعل قلوبهم قاسية، ليحرفوا بل يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون كلاما مستأنفا ويكون التمام عند قوله: " قاسية " ثم
أخبر عنهم بأنهم يحرفون الكلام عن مواضعه.
الثاني - أن يكون ذلك حالا، لقوله: " فيما نقضهم ميثاقهم يحرفون " اي
يحرفون الكلم ناسين لحظوظهم " لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ".
قوله تعالى:
ومن الذين قالوا انا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما
ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف
ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) (14) - آية بلا خلاف -.
قوله: " ومن الذين قالوا إنا نصارى " إنما لم يقل: من النصارى لما قاله
الحسن: من أنه أراد تعالى بذلك أن يدل على أنهم ابتدعوا النصرانية التي هم عليها
اليوم، وتسموا بها.
وقوله: " أخذنا ميثاقهم " يعني بتوحيد الله عز وجل، والاقرار بنبوة
المسيح، وجميع أنبياء الله وانهم كلهم عبيد الله لا يذكر. وقال أبو علي: معناه
تركوا العمل به، فكان كالذي لا يذكر.
وقوله: " مما ذكروا به " يعني فيما أنزله الله على موسى وعيسي في التوراة
والإنجيل، والكتب المتقدمة.
471

وقوله: " فأغرينا بينهم " قال مجاهد وقتادة وابن زيد والسدي والجبائي:
معناه بين اليهود والنصارى. وقال الربيع والزجاج والطبري:
معناه بين النصارى. وهو ما وقع بينهم من الخلاف نحو الملكية، وهم الروم
والنسطورية، واليعقوبية من العداوة. وأصل الاغراء تسليط بعضهم على بعض.
وقيل: معناه التحريش. وأصله اللصوق. يقال: غريت بالرجل غرى - مقصور
وممدود - ومعناه لصقت به. قال كثير:
إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا * غراء ومدتها حوافل تهمل
واغريت زبدا بكذا حتى غرى به. ومنه الغراء الذي يغرى به للصوق والاغراء
بالشئ معناه الالصاق من جهة التسليط. وإنما أغرى بينهم بالأهواء المختلفة في
الدين في قول إبراهيم. وقيل. بالقاء البغضاء بينهم - عن الحسن وقتادة - وقيل:
يأمر بعضهم أن يعادي بعضا في قول أبي علي فكأنه يذهب إلى ما تقدم من الامر لهم
بمعاداة الكفار. والذي يقوله أن الوجه في اغراء الله فيما بينهم أنه امر النصارى
بمعاداة اليهود فيما يفعله اليهود من القبيح في التكذيب بالمسيح، وشتم أمه، والقذف
لها والغرية عليها، واضافتها إليه تعالى، ووصفها بما لا يليق، وامر اليهود بمعاداة
النصارى في اعتقادهم التثليث، وان المسيح ابن الله وغير ذلك من اعتقاداتهم
الفاسدة، نقضوا هذا الميثاق واعرضوا عنه حتى صار بمنزلة المنسي فكان في ذلك
أمر كل واحد منهما بالطاعة، فان قيل يمنع من ذلك قوله: (فنسوا حظا مما ذكروا
به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) فجعل اغراءه لهم بالعداوة جوابا لقوله: (فنسوا
حظا مما ذكروا به) لان الفاء تدل على الجواب. وإذا كانت جوابا، وجب أن يكون (تعالى) إنما أغرى بينهم، لأجل نسيانهم للحظ الذي ذكروا به، وانه عاقبهم
بهذا الاغراء، وليس في الأمر والنهي والعبادات عقوبات - بلا خلاف - فدل
جوابه بالفاء في قوله: " فأغرينا " عقيب قوله: " فنسوا حظا " على أنه عاقب
بالاغراء لا على ما قلتموه؟ قيل: قوله " فنسوا حظا مما ذكروا به " جوابه وانه
فعل هذا الاغراء، لأجل نسيانهم. غير أنه ليس بعقوبة، وإن كان جوابا. فكا
472

لأجل نسيانهم. غير أنه ليس بعقوبة، وإن كان جوابا. فكان الاغراء إنما وقع
بينهم من أجل نسيانهم لحظهم من قبل أنهم نسوا ما ذكروا به من معرفة التوحيد،
والتدين به، فصاروا إلى القول بالاتحاد والشرك والفرية عليه (تعالى) فلأجل
ذلك أمر الله أضدادهم بمعاداتهم، واغرائهم بهم. فان قيل: فان الله (تعالى) ذكر
النصارى في هذه الآية بنسيان حظهم ثم أجاب بالفاء في قوله: " فأغرينا بينهم "
وليس يصح على هذا أن يكون أغرى بينهم من اجل ما فعله النصارى من الكفر،
لأنه إذا أمر اليهود بمعاداة النصارى، لأجل نسيان النصارى وكفرهم فإنما هذا عن
امر الله اليهود بهم، وليس باغراء بعضهم ببعض، وقوله: " فأغرينا بينهم " يدل
على أن الله بعث كل واحد من الفريقين على صاحبه، وهذا يوجب خلاف قولكم؟!
قيل: الامر على ما قلتم من أن امر اليهود بمعاداة النصارى هو إغراء لهم بهم،
وليس باغراء بين النصارى، لكنه تعالى قد ذكر اليهود فيما تقدم من هذه السورة،
وتكذيبهم، وفريتهم على الله، ثم ذكر النصارى، فلما جمع بين الفريقين في الذكر في
هذه السورة، وان لم يجمعهم في هذه الآية، جاز ان يذكر انه أغرى بينهم العداوة
بان امر كل واحد منهما بمعاداة عدوه فيما عصى فيه. وصح الاغراء بينهم والقاء
العداوة والتباعد والمنافرة، وصح أن يجعل ذلك جوابا. وقد قال البلخي جوابا
آخر: وهوان يكون الاغراء بين النصارى خاصة بعضهم لبعض على ظاهر الآية،
وهو أن الله تعالى نصب الأدلة على ابطال قول كل فرقة من فرق النصارى، فإذا
عرفت طائفة منها فساد مذهب الأخرى فيما نصب الله لها من الأدلة، وان جهلت
فساد مقالة نفسها لتفريطها في ذلك، وسوء اختيارها، فجاز على هذا أن يضاف
الاغراء في ذلك إلى الله من حيث إنه امر كل فرقة منها بمعاداة الأخرى على ما
تعتقده، وان أمرها أيضا بأن تترك ما هي متمسكة به لفساده وهذا واضح بحمد
الله، فان قيل: أيجوز على هذا ان يقال إن الله أغرى بين المؤمنين والكفار العداوة؟
قلنا: اما اغراء المؤمن بالكفر فصحيح، واما اغراء الكافر بالمؤمن، فليس بصحيح،
لان ما عليه المؤمنون حق، وما عليه الكفار، باطل. وإنما يقال: إن الله أغرى بين
473

قوم وقوم إذا كان على بطلان قول كل طائفة منهما دليل يدل على فساد قول من
يخالفها فعلى هذا لا يصح إطلاق القول بما قالوه، ومتى قيد القول على ما بيناه،
جاز، وأن لم يخبر مع الاطلاق.
وقوله: " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " لما قال (تعالى) لنبيه:
" فاعف عنهم واصفح " بين انه من وراء الانتقام منهم، وانه سيجازيهم عند ورودهم
عليه، بما كانوا يصنعون في الدنيا من نقض الميثاق، ونكث العهد ويعاقبهم على
ذلك بحسب استحقاقهم.
قوله تعالى:
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين الله لكم كثيرا
مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاء كم من الله
نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل
السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) ()
آيتان كوفي وثلاث بصري ومدني. هذا خطاب لأجل الكتاب من اليهود
والنصارى الذين عصوا الرسول فيما أمرهم به، ودعاهم إليه، فقال لهم. قد جاءكم
رسولنا محمد (صلى الله عليه وآله) يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي
يبين للناس ما كنتم تخفونه. وقال ابن عباس وقتادة: إن مما بينه رجم الزانين،
وأشياء كانوا يحرفونها بسوء التأويل. وإنما لم يقل: يا أهل الكتابين، لان الكتاب
اسم جنس. وفيه معنى العهد، وهو أو جزوا حسن في اللفظ من حيث كانوا، كأنهم
أهل كتاب واحد. والوجه في تبيين بعضه، وترك بعضه أنه يبين ما فيه دلالة
على نبوة النبي صلى الله عليه وآله من صفاته، ونعته، وبشارته به، وما يحتاج إلى علمه من
غير ذلك مما تتفق له الأسباب التي يحتاج معها إلى استعلام ذلك، كما اتفق في الرجم
474

وما عدا هذين مما ليس في تفصيله فائدة يكفي ذكره في الجملة.
وقوله: " ويعفو عن كثير " معناه يترك كثيرا لا يأخذكم به، ولا يذكره
لأنه لم يؤمر به على قول أبي علي وقال الحسن: ويصفح عن كثير بالتوبة منه.
ومعنى النور في الآية يحتمل أمرين:
أحدهما - أنه النبي (صلى الله عليه وآله) في قول الزجاج
والاخر - هو القرآن على قول أبي علي وإنما سمي نورا، لأنه يهتدى به كما يهتدى بالنور
، ويجب ان يتبع لأنه نور مبين عن الحق من الباطل في الدين. والأولى أن يكون
كناية عن النبي، لان قوله: " وكتاب مبين " المراد به القرآن،
وقوله: " يهدي به الله " يعني يفعل اللطف المؤدي إلى سلوك طريق الحق يعني
بالنبي (صلى الله عليه وآله) أو الكتاب " من اتبع رضوانه " يعني رضا الله
والرضوان والرضا من الله ضد السخط. وهو إرادة الثواب لمستحقه وقال قوم: هو
المدح على الطاعة والثناء. وقال الرماني: هو جنس من الفعل يقتضي وقوع الطاعة
الخالصة مما يبطلها، ويضاد الغضب. قال لان الرضا بما كان يصح، وإرادة ما كان
لا يصح إذ قد يصح أن يرضى بما كان، ولا يصح أن يريد ما كان. وهذا الذي
ذكره ليس بصحيح، لان الرضا عبارة عن إرادة حدوث الشئ من الغير، غير أنها
لا تسمى بذلك إلا إذا وقع مرادها، ولم يتخللها كراهة، فتسميتها بالرضا، موقوفة
على وقوع المراد إلا أن بعد وقوع المراد بفعل إرادة هي رضا لما كان فسقط ما قاله.
وقوله: " سبل السلام " السبل جمع سبيل. وفي السلام قولان:
أحدهما - هو الله في قول الحسن والسدي - والمعنى دين الله. وقال:
" هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن "
الثاني - قال الزجاج: إنه السلامة من كل مخافة ومضرة إلا ما لا يعتد به،
لأنه يؤول إلى نفع في العاقبة.
وقوله: " يخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه " معناه من الكفر إلى الايمان،
لان الكفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام، ويهتدي بالايمان إلى النجاة كما
475

يهتدي. بالنور وقوله: " باذنه " معناه بلطفه.
وقوله: " يهديهم إلى صراط مستقيم " معناه يرشدهم إلى طريق الحق. وهو
دين الحق. وقال الحسن: هو الذي يأخذ بصاحبه حتى يؤديه إلى الجنة. وبه قال
أبو علي. ومعنى " صراط مستقيم " طريق مستقيم وهو دين الله القويم الذي لا
اعوجاج فيه.
قوله تعالى:
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل
فمن يملك من الله شيئا إن أراد ان يهلك المسيح بن مريم وأمه
ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق
ما يشاء والله على كل شئ قدير) () آية بلا - خلاف -
اللام في قوله: " لقد كفر " جواب للقسم وتقديره أقسم لقد كفر الذين
قالوا. وإنما كفروا بقولهم: إن الله هو المسيح بن مريم على وجه التدين به، لأنهم
لو قالوه على وجه الحكاية منكرين لذلك لم يكفروا به. وإنما كانوا بذلك كافرين
من وجهين:
أحدهما - انهم كفروا بالنعمة من حيث أضافوها إلى غير الله ممن ادعوا
إلهيته.
والثاني - كفر صفة لأنهم وصفوا المسيح وهو محدث بصفات الله تعالى،
فقالوا:
هو إله واحد فكل جاهل بالله كافر، لأنه لما ضيع حق نعمة الله، كان بمنزلة من
أضافها إلى غيره ومعنى من يملك من الله شيئا من يقدر ان يدفع من أمر الله
شيئا، من قولهم: ملكت على فلان أمره: إذا اقتدرت عليه حتى لا يمكنه انفاذ
شئ من امره الا بك. وتقديره من يملك من امره شيئا. ووجه الاحتجاج بذلك
انه لو كان المسيح إلها، لقدر على دفع أمر الله إذا اتى باهلاكه واهلاك غيره، وليس
476

بقادر عليه لاستحالة القدرة على مغالبة القديم (تعالى) إذا ذلك من صفات المحتاج
الذليل.
وقوله: " ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما " انها لم يقل وما بينهن مع
ذكر السماوات على الجمع، لأنه أراد به النوعين أو الصنفين كما قال الشاعر:
طرقا فتلك هما همى اقريهما * قلصا لواقح كالقسي وحولا
فقال: طرفا، ثم قال: فتلك هما همى. فان قيل: كيف حكى عنهم ان الله هو
المسيح بن مريم. وعندهم هو ابن الله؟ قلنا: لأنهم زعموا انه اله. وهذا الاسم
إنما هو للاله بمنزلة ذلك، كما لو قال الدهري: إن الجسم قديم لم يزل، وان لم يذكره
بهذا الذكر.
قوله تعالى:
(وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من
يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما واليه المصير) ()
آية بلا خلاف -.
روي عن ابن عباس أن جماعة من اليهود قالوا للنبي حين حذرهم بنقمات الله
وعقوباته، فقالوا: لا تخوفنا فإننا أبناء الله وأحباؤه وقال السدي: إن اليهود تزعم أن
الله عز وجل أوحى إلى بني إسرائيل إن ولدك بكر من الولد. وقال الحسن: إنما
قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد. واما قول النصارى، فقيل فيه: إنهم
تأولوا ما في الإنجيل من قول عيسى اذهب إلى أبي وأبيكم. وقال قوم: لما قالوا:
المسيح ابن الله أجرى ذلك على جميعهم، كما يقولون: هذيل شعراء أي منهم شعراء
وكما قالوا في رهط مسيلمة قالوا: نحن أنبياء أي قال قائلهم. وكما قال جرير:
ندسنا أبا مندوسة ألقين بالقنى
477

فقال: ندسنا. وإنما النادس رجل من قوم جرير.
وقوله: " وأحباؤه " جمع حبيب، فقال الله لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله)
قل لهؤلاء المفترين على ربهم: " فلم يعذبكم بذنوبكم " فلأي شئ يعذبكم بذنوبكم
إن كان الامر على ما زعمتم، فان الأب يشفق على ولده. والحبيب على حبيبه،
لا يعذبه وهم يقرون بأنهم معذبون، لأنهم لو لم يقولوا به، كذبوا بكتبهم وأباحوا
الناس ارتكاب فواحشهم. واليهود تقر انهم يعذبون أربعين يوما. وهي عدد الأيام التي
عبدوا فيها العجل.
وقوله: " بل أنتم بشر " معناه قل لهم: ليس الامر على ما زعمتم انكم أبناء
الله وأحباؤه، بل أنتم بشر ممن خلق من بني آدم ان أحسنتم جوزيتم على إحسانكم
مثلهم، وإن أسأتم، جوزيتم علي إساءتكم، كما يجازى غيركم. وليس لكم عند الله
إلا ما لغيركم من خلقه.
وقوله: " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " فإنه وان علق العذاب بالمشيئة،
فالمراد به المعصية، لأنه تعالى لا يشاء العقوبة إلا لمن كان عاصيا، فكان ذكرها
أوجز وأبلغ، لما في ذلك من رد الامر إلى الله الذي يجازي به على وجه الحكمة.
وإنما هذا وعيد من الله لهؤلاء اليهود والنصارى المتكلين على منازل أسلافهم في الجنان
عندهم. فقال الله تعالى: لا تغتروا بذلك فإنهم نالوا ما نالوا بطاعتي وايثار رضاي،
لا بالأماني. وقال السدي: معنى " يغفر لمن يشاء " يعني يهدي من يشاء في الدنيا
فيغفر له، ويميت من يشاء على كفره، فيعذبه.
وقوله تعالى: " ولله ملك السماوات والأرض " معناه انه يملك ذلك وحده
لا شريك له يعارضه، فقد وجب اليأس مما قدروا من كل جهة، وأنه لا منجي
لهم الا بالعمل بطاعة الله واجتناب معاصيه. وقال أبو علي: ذلك بأنه يملك السماوات،
والأرض وما بينهما على أنه لا ولد له، لان المالك لذلك لا شبه له، ولان المالك لا يملك
ولده لخلقه له.
وقوله: " واليه المصير " معناه انه يؤول إليه امر العباد في أنه لا يملك ضرهم،

(1) - في المطبوعة (يجزيها).
478

ولا نفعهم غيره - عز وجل -، لأنه يبطل تمليكه لغيره ذلك اليوم كما ملكهم
في دار الدنيا كما يقال: صار أمرنا إلى القاضي لاعلى معنى قرب المكان،
وإنما يراد بذلك أنه المتصرف فينا والآمر لنا دون غيره.
قوله تعالى:
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة
من الرسل تقولوا ما جاء نا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير
ونذير والله على كل شئ قدير) (21) - آية بلا خلاف -
هذا خطاب لليهود والنصارى ناداهم الله خصوصا لينبههم على ما
يذكر لهم.
وقوله (قد جاءكم رسولنا يبين لكم) يدل على أنه اختصه من العلم بما
ليس مع غيره " على فترة من الرسل " يعني على انقطاع من الرسل. وفيه
دلالة على أن زمان الفترة: لم يكن فيه نبي. والفترة انقطاع ما بين النبيين
عند جميع المفسرين. والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد فيه من
العسل، يقال: فتر عن عمله وفترته عنه. وفتر الماء إذا انقطع عما كان عليه من
البرد إلى السخونة. وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر. وفتور
البدن كفتور الماء، والفتر ما بين السبابة والابهام إذا فتحا. وقال الحسن:
كانت هذه الفترة بين عيسى ومحمد (ص) ستمائة سنة وقال قتادة خمسمائة
وخمسين سنة. وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضعا وستين سنة.
وقوله (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) يدل على بطلان مذهب
479

المجبرة في القدرة، لان الحجة بمنع القدرة أوكد من الحجة بمنع اللطف،
وتكون الحجة في ذلك لمن علم الله أن بعثة الأنبياء مصلحة لهم، فإذا لم يبعث،
تكون لهم الحجة، فاما من لا يعلم ذلك فيهم، فلا حجة لهم، وان لم يبعث
إليهم الرسل. ومعنى " أن تقولوا " ألا تقولوا " ما جاء نا من بشير ولا نذير ".
على قول الفراء وغيره من الكوفيين، كقوله تعالى: " يبين الله لكم أن تضلوا "
ومعناه ألا تضلوا. وقال البصريون: معناه كراهة أن تضلوا، وكراهة أن
تقولوا، وحذفت كراهة. كما قال " واسأل القرية " وإنما أراد أهلها. وأن
" تقولوا " في موضع نصب عند أكثر البصريين وقال الخليل والكسائي:
موضعه الجر وتقديره لئلا تقولوا. والبيان الذي أتاهم به النبي صلى الله عليه وآله هو دين
الاسلام الذي ارتضاه الله. وهو بيان نفس الحق من الباطل، وما يجب.
والبشير هو المبشر لكل مطيع بالثواب. والنذير هو المنذر المخوف كل
عاص لله بالعقاب ليتمسك المطيع بطاعته، ويجتنب العاصي لمعصيته. والجملة
التي ذكرناها قول ابن عباس وقتادة وجميع المفسرين.
قوله تعالى:
(وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم
إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا
من العالمين (22) آية بلا خلاف
في هذه الآية اعلام من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله قديم تمادي هؤلاء اليهود في
الغي وبعدهم من الحق وسوء اختيارهم لأنفسهم وشدة خلافهم لأنبيائهم مع
480

كثرة نعم الله عليهم وتتابع أياديه وآلائه عليهم، مسليا بذلك نبيه صلى الله عليه وآله من
مقاساتهم في ذات الله. فقال: فاذكر يا محمد إذ قال موسى لهم (يا قوم اذكروا.
نعمة الله عليكم) وأياديه لديكم وآلائه عليكم. وهو قول ابن عباس وابن
عيينة.
وقوله (إذ جعل فيكم أنبياء) يعني ان موسى ذكر قومه بنعمه عليهم،
وبلائه لديهم فقال لهم (اذكروا نعمة الله عليكم) إذ فضلكم بأن جعل فيكم
أنبياء يخبرونكم بأنباء لغيب، ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا، وقيل إن
الأنبياء الذين ذكرهم الله أنهم جعلوا فيهم هم الذين اختارهم موسى إلى
الجبل: وهم السبعون الذين ذكرهم الله تعالى فقال (واختار موسى قومه
سبعين رجلا لميقاتنا) (1) وقال قوم: هم الأنبياء الذين كانوا بعد موسى (ع).
وقوله (وجعلكم ملوكا) معناه سخر لكم من غيركم خدما يخدمونكم.
وقال قتادة: لأنهم أول من سخر لهم الخدم من بني إسرائيل، وملكوا. قال
قوم: كل من ملك بيتا أو خادما أو امرأة ولا يدخل عليه إلا بأمره فهو ملك
- كائنا من كان - ذهب إليه عمرو بن العاص وزيد بن أسلم والحسن والفراء
قال: هؤلاء إنما خاطبهم موسى بذلك لأنهم كانوا يملكون الدور والخدم ولهم
نساء وأزواج. وبه قال الحسن وابن عباس ومجاهد. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله.
وقال السدي جعلهم ملوكا يملك الرجل منهم نفسه وأهله وماله. وقال
الزجاج: جعلكم الله تملكون أمركم ولا يغلبكم عليه غالب. وقال البلخي:

(1) سورة 7 الأعراف آية 154.
481

ليس ينكر أن يكون الله جعل لهم الملك والسلطان ووسع عليهم التوسعة التي
يكون الانسان بها ملكا. وقال المؤرج: معناه - بلغة كنانة وهذيل - جعلكم
أحرارا. وقال أبو علي: الملك هو الذي له ما يستغني به عن تكلف الاعمال
وتحمل المشاق، والتسكع في المعاش. وقال ابن عباس، ومجاهد: جعلوا
ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام. وزاد الجبائي: وبغير ذلك من
الأموال. وقال قوم: ملكوا أنفسهم بالتخلص من الغيظ.
وقوله: (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) يعني أعطاكم ما لم يعط
أحدا من عالمي زمانهم. وهو قول الحسن والبلخي. وقال أبو علي: أعطاكم
ما لم يعط أحدا من العالمين أي من اجتماع هذه الأمور وكثرة الأنبياء فيهم،
والآيات التي جاءتهم، إنزال المن والسلوى عليهم. وهو قول الفراء والزجاج.
وقال ابن عباس ومجاهد والحسن: هذا خطاب موسى لامته - وهو الأظهر -
وقال سعيد بن جبير، وأبو مالك: هو خطاب من الله لامة محمد صلى الله عليه وآله. وإنما
قلنا: أن الأول أولى لان الله أخبر حاكيا عن موسى (ع) أنه قال لهم " اذكروا
نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا) ثم عطف على ذلك قوله:
(وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) فالعدول عن ذلك من غير ضرورة
لا يجوز.
وقوله: " أنبياء " لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لان علامة التأنيث فيها
لازمة مثل حمراء تأنيث أحمر. ويخالف ذلك علامة التأنيث في طلحة وقائمة
تأنيث قائم فلذلك انصرف هذا في النكرة دون المعرفة.
482

قوله تعالى:
(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا
ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) (23) آية بلا خلاف
هذه حكاية عن موسى (ع) أنه خاطب قومه وأمرهم بالدخول إلى الأرض
المقدسة وهي: بيت المقدس على قول ابن عباس، وابن زيد، والسدي وأبي
علي. وقال الزجاج والفراء: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن. قال الفراء
بتشديد النون - وقال قتادة: هي الشام. وقال مجاهد هي أرض الطور.
والمقدسة في اللغة: المطهرة. وقيل: إنها طهرت من الشرك وجعلت
مسكنا وقرارا للأنبياء والمؤمنين، والأصل التقديس، وهو التطهير، ومنه
قيل للسطل الذي يتطهر منه: القدس. وقيل: بيت المقدس لأنه يطهر من
الذنوب. ومنه تسبيح الله وتقديسه سبوح قدوس، وهو تنزيهه عما لا يجوز
عليه من نحو الصحابة والولد والظلم والكذب.
وقوله: " كتب الله لكم " يعني في اللوح المحفوظ. فان قيل: كيف
كتب الله لهم مع قوله " فإنها محرمة عليهم "؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - قال ابن إسحاق: إنها كانت هبة من الله لهم ثم حرمهم إياها.
والثاني - إن ظاهر ذلك يقتضي العموم بأن الله كتب لهم، فلما قال " إنها
محرمة عليهم أربعين سنة " استثنى ذلك من جملته.
ويحتمل أن يكون المراد انها يدخلها قوم منهم. وقيل: ان القوم الذين
كتب لهم دخولها غير الذين حرم عليهم، والذين كتب لهم دخولها مع يوشع بن
483

نون بعد موت موسى بشهرين.
وقوله: " ولا ترتدوا على أدباركم " فيه قولان:
أحدهما - لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته - في قول أبي علي.
الثاني - لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها.
وقوله " فتنقلبوا خاسرين " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أنه كان فرض عليهم دخولها كما فرضت الصلاة والصوم
والزكاة والحج، فلما لم يفعلوا فقد خسروا الثواب. هذا قول قتادة والسدي.
والثاني - أنه أراد بذلك خسران حظهم كالخسران في البيع بذهاب
رأس المال.
وخاسرين نصب على الحال، والعامل فيه " فتنقلبوا " دون قوله
" ولا ترتدوا ".
قوله تعالى:
قالوا يا موسى ان فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى
يخرجوا منها فان يخرجوا منها فانا داخلون (24) آية بلا خلاف
هذه حكاية من الله عن قوم موسى لما أمرهم بدخول الأرض المقدسة،
انهم قالوا: إن في الأرض قوما جبارين، ونصب (جبارين) ب‍ (أن) و (فيها)
خبر (إن) قدم على الاسم. والجبار هو الذي لا ينال بالقهر وأصله - في
النخل - ما فات اليد طولا والجبار من الناس هو الذي يجبرهم على ما يريد.
وقال ابن عباس: بلغ من جبرية هؤلاء القوم أنه لما بعث موسى من قومه
484

اثنى عشر نقيبا ليخبروه خبرهم، رآهم رجل من الجبارين يقال له عوج
فأخذهم في كمه مع فاكهة كان حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين
يديه وقال معجبا للملك منهم: هؤلاء يريدون قتالنا؟ فقال الملك: ارجعوا
إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا.
وقال قتادة ومجاهد مثله. قال مجاهد كانت فاكهتهم لا يقدر على حمل
عنقود لهم خمسة رجال بالخشب. ويدخل في قشر رمانة خمسة رجال.
وان موسى كان طوله عشرة أذرع وله عصا طولها مثل ذلك ونزا من الأرض
مثل ذلك، فبلغ كعب عوج بن عوق فقتله. وقيل كان سريره مئة ذراع.
وأصل الجبار من الاجبار على الامر وهو الاكراه عليه. والجبر جبر
العظم وهو كالاكراه على الصلاح. قال العجاج:
قد جبر الدين الاله فجبر * وعور الرحمن من ولى العور (1)
أي أصلحه ولامه كجبر العظم كرها. والجبار هدر الأرش لان فيه
معنى الكره. والجبار في صفات الله صفة التعظيم، لأنه يفيد الاقتدار،
وتقول: لم يزل الله جبارا بمعنى أن ذاته تدعو العارف بها إلى تعظيمها.
والفرق بين الجبار والقهار أن القهار هو الغالب لمن ناوأه أو كان في حكم
المناوئ بمعصيته إياه، ولا يوصف فيما لم يزل بأنه قهار. والجبار في صفة
المخلوقين صفة ذم، لأنه يتعظم بما ليس له من العظمة. فان العظمة لله تعالى.
وقوله (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) يعني هؤلاء الجبارين " فان

(1) لسان العرب (جبر)، (عور)، والعور هنا بمعنى قبح الامر
وفساده، تقول: عورت عليه أمره أي أفسدته عليه.
485

يخرجوا منها فانا داخلون " تمام الحكاية عن قوم موسى.
قوله تعالى:
قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا
عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون (25)
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (26) آيتان في البصري
وآية عند الباقين.
هذا إخبار من الله تعالى عن رجلين من جملة النقباء الذين بعثهم موسى لتعرف خبر القوم. وقيل هما يوشع بن نون، وكالب، وقيل كلاب بن يوفنا،
في قول ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والربيع. وقال الضحاك: هما
رجلان كانا في مدينة الجبارين وكانا على دين موسى (ع). وقوله: " من الذين
يخافون " قال قتادة: يخافون الله - عز وجل - وقال أبو علي يخافون
الجبارين أي لم يمنعهم الخوف من الجبارين أن قالوا الحق " أنعم الله عليهما "
بالتوفيق للطاعة. وقال الحسن: أنعم الله عليهما بالاسلام. وكان سعيد بن
جبير يقرأ " يخافون " بضم الياء. وروي تأويل ذلك عن ابن عباس: انهما
كانا من الجبارين أنعم الله عليهما بالاسلام.
وقوله: " ادخلوا عليهم الباب فإذ أدخلتموه فإنكم غالبون " اخبار عن
قول الرجلين انهما قالا ذلك. وإنما صار الظفر بدخول باب مدينة الجبارين
لما رأوا من رعبهم وما ألقى الله في قلوبهم من حكمة بأنه كتبها لهم، وما تقدم
من وعد موسى (ع) إياهم بأنهم إن دخلوا الباب غلبوا.
وقوله " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " معناه فتوكلوا على الله في
486

نصره إياكم على الجبارين إن كنتم مؤمنين بالله، وبما آتاكم به رسوله
من عنده.
قوله تعالى:
قالوا يا موسى انا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت
وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون (27) آية بلا خلاف.
هذا إخبار عن قوم موسى أنهم قالوا: لا ندخل هذه المدينة ما دام
الجبارون فيها، لأنهم جنبوا وخافوا من قتال الجبارين لعظم أجسامهم وشدة
بطشهم، ولم يثقوا بوعد نبيهم بالنصر لهم عليهم والغلبة لهم.
وقوله " فاذهب أنت وربك " إنما أبرز الضمير ليصح العطف عليه، لأنه
لا يجوز العطف على الضمير قبل أن يؤكد. وإنما جاز في قوله " فاجمعوا
أمركم وشركاءكم " (1) ذلك، لان ذكر المفعول صار عوضا عن المنفصل مثل
(لا) في " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " (2) وإنما لم يقرن قوله (اذهب
أنت وربك فقاتلا) بالنكير - إذ الذهاب لا يجوز عليه تعالى - لامرين:
أحدهما - لان الكلام كله يدل على الأفكار عليهم والتعجب من جهلهم
في تلقيهم أمر نبيهم بالرد له والمخالفة عليه.
الثاني - لأنهم قالوا ذلك على المجاز بمعنى وربك معين لك - على ما
ذكره البلخي - والأول أقوى لأنه أظهر من أولئك الجهال. وإنما يتأول على
ما قاله البلخي لو كانوا ممن لا يجوز عليهم مثل ذلك. وقال الحسن: هذا
القول منهم يدل على أنهم كانوا مشبهة وأنهم كفروا بذلك بالله. وقال أبو
علي: إن كانوا قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر، لان

(1) سورة يونس آية 71
(2) سورة الأنعام آية 148
487

ذلك جل بالله تعالى. وإن قالوه على وجه الخلاف فهو فسق.
فان قيل: هل يجوز وصفه تعالى بالقتال كما قال " قاتلهم الله أنى
يؤفكون) (1)؟
قلنا: هذا مجاز، والمعنى إن عداوته لهم عداوة المقاتل، وانه يحل بهم
ما يحله بالمقاتل المستعلي بالاقتدار وعظم السلطان، وليس كذلك قول هؤلاء
الجهال.
قوله تعالى:
قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين
القوم الفاسقين (28) آية بلا خلاف.
في هذه الآية إخبار من الله تعالى عما قاله موسى (ع) عقيب ما كان من
قومه من الخلاف وقلة القبول على نبيهم، وخرج ذلك مخرج الغضب منه على
قومه لما كان من عصيانهم إياه. ومثل ذلك لا يخرج إلا على غضب.
وقوله " لا أملك إلا نفسي وأخي " مجاز، لان الانسان لا يصح أن
يملك نفسه، لان الأصل في الملك القدرة، والمالك هو القادر، ومحال أن يقدر
الانسان على نفسه، ثم من حق المملوك أن يكون مقدورا عليه أو في حكم
المقدور عليه في أن له أن يصرفه تصريف المقدور عليه كملك الانسان للمال
والعبد ونحوه، فلا يجوز على هذا أن يملك نفسه. ومعنى الآية أنه لما ملك
تصريف نفسه في طاعة الله جاز أن يصف نفسه بأنه يملكها، لأنه مما يجوز أن
يملكه. وقوله: " وأخي " لأنه كان أيضا طائعا له فيما يأمره به، فكان
كالقادر عليه. ويحتمل موضعه أربعة أوجه:

(1) سورة 9 التوبة آية 31 وسورة 65 المنافقون آية 4.
488

أحدها - الرفع على موضع (إن) وتقديره: إني لا أملك إلا نفسي
وأخي لا يملك الا نفسه.
الثاني - الرفع أيضا بالعطف على الياء في (إني).
الثالث - النصب بالعطف على الياء في (إني).
الرابع - النصب بالعطف على نفسي.
وقوله " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " قيل في الوجه الذي سأل
الفرق بينه وبينهم قولان:
أحدهما - أن يحكم ويقتضي بما يدل على بعدهم عن الحق وذهابهم عن
الصواب فيما ارتكبوا من العصيان ولذلك ألقوا في التيه. هذا قول ابن
عباس والضحاك.
الثاني - قال أبو علي إنما دعا بأن يفرق بينه وبينهم في الآخرة بأن يكون
هؤلاء في النار، وأن يكون هؤلاء في الجنة. ولو دعا بالهلاك في الدنيا
لأهلكهم الله.
وقال قوم: إنما سأل أن ينصره الله عيلهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال
البلخي معناه باعد، وافصل. وحكي عن المؤرج ان معناه: اقض - بلغة
مدبن - والفرق الذي يدل على المباعدة مثل قول الراجز:
يا رب فافرق بينه وبيني * أشد ما فرقت بين اثنين
وقوله " الفاسقين " في الآية - لا يدل على أن ما وقع منهم كان فسقا
لا كفرا، لان الكفر قد يوصف بالفسق، لان الفسق هو الخروج من الطاعة
إلى المعصية على وجه التمرد، ويكون ذلك في الكفر قال الله تعالى " إلا إبليس
كان من الجن ففسق عن أمر ربه " (1) وكان بذلك كافرا بلا خلاف.

(1) سورة 18 الكهف آية 51.
489

قوله تعالى:
قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض
فلا تأس على القوم الفاسقين (29) آية
هذه الآية إخبار من الله، وخطاب لموسى (ع) أن قومه قد حرم عليهم
دخول بلد الجبارين أربعين سنة، وفي كيفية التحريم قولان:
أحدهما - قول أكثر المفسرين: أنه تحريم منع كما قال الشاعر:
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري * اني امرؤ صرعي عليك محرم
يعني دابته التي هو راكبها ويريد بذلك إني فارس لا يمكنك أن
تصرعني. وقال أبو علي: يجوز أن يكون المراد به تحريم تعبد - والأول هو
الأظهر - وقال البلخي: يجوز أن يكونوا أمروا بأن يطوفوا فيه أربعين سنة
يتيهون في الأرض يعني في المسافة التي بينهم وبينها. وقال الربيع: وكان
مقداره ستة فراسخ. وقال مجاهد، والحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا
ويمسون حيث أصبحوا. وقال الحسن: لم يمت موسى (ع) في التيه. وروي
عن ابن عباس أنه مات في التيه على علم منه فيه. وأما هارون فإنه مات قبل
موسى في التيه، وكان أكبر من موسى. واستخلف موسى يوشع بعده. وقال:
إن الله بعثه نبيا. وفي دخوله أيضا مدينة الجبارين خلاف.
وأصل التيه التحير الذي لا يهتدى لأجله للخروج عن الطريق إلى الغرض
المقصود. وأصله الحيرة. يقال: تاه يتيه تيها: إذا تحير. وتيهته، وتوهته،
والياء أكثر. والتيهاء - من الأرض - هي التي لا يهتدي فيها. يقال: أرض
تيه وتيهاء. قال الشاعر:
تيه أتاويه على السفاط
490

فان قيل: يجوز على جماعة - عقلا - كثيرين أن يسيروا في فراسخ
يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - قال أبو علي: يكون ذلك بأن تحول الأرض التي هم عليها
إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدؤا منه.
الثاني - أن يكون بالاشتباه. والأسباب المانعة من الخروج عنها إما بأن
يمحو العلامات التي يستدل بها أو بآن يلقى شبه بعضها على بعض، ويكون
ذلك معجزة خارقة للعادة.
وقيل: إن التيه كان عقوبة لهم بعدد الأيام التي عبدوا فيها العجل عن
كل يوم سنة. ومن قال هذا قال: لم يكن موسى وهارون فيها، أو كانا فيها
غير متوهين، كما كان إبراهيم في نار نمرود غير متألم بها.
وقوله: (أربعين سنة) نصبه يحتمل أمرين:
أحدهما - على قول الربيع ب‍ " محرمة " حرمها عليهم أربعين سنة.
والثاني - " يتيهون " على قول الحسن وقتادة، لأنهما قالا: إنه ما دخلها
أحد منهم. وقيل: انه دخلها يوشع بن نون وكالب بن يوفنا بعد موت موسى
بشهرين. قالوا لأنه لا خلاف بين المفسرين أن دخولها كان محرم عليهم على
طريق التأييد. وإنما دخلها أولادهم مع يوشع وكالب بن يوفنا. وقوله:
" فلا تأس على القوم الفاسقين " خطاب لموسى (ع) أمره الله أن لا يحزن على
هلاكهم لفسقهم. والأسى: الحزن يقال أسى يأسى أسى أي حزن قال امرؤ
القيس:
وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقال الزجاج: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله.
491

قوله تعالى:
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل
من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما
يتقبل الله من المتقين (30) آية بلا خلاف
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى أراد أن يبين أن حال اليهود
في الظلم ونقض العهد وارتكاب الفواحش من الأمور كحال ابن آدم قابيل في
قتله أخاه هابيل، وما عاد عليه من الوبال بتعديه. فأمر نبيه أن يتلو عليهم
اخبارهما وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله لما ناله من جهلهم بالتكذيب في جحوده
وتبكيت اليهود.
وقوله: " إذ قربا قربانا " متعلق بنبأ، وتقديره: اقرأ عليهم خبر ابني
آدم وما جرى منهما إذ قربا قربانا. والقربان يقصد به القرب من رحمة الله
من أعمال البر وهو على وزن فعلان من القرب، كالفرقان من الفرق، والعدوان
من العدو، والشكران من الشكر، والكفران من الكفر.
قال ابن عباس وعبد الله بن عمر، ومجاهد، وقتادة، وأكثر المفسرين:
إن المتقربين كانا ولدي آدم لصلبه: قابيل، وهابيل. وقال الحسن، وأبو
مسلم محمد بن بحر، والزجاج: هما من بني إسرائيل، لان علامة تقبل القربان
لم تكن قبل ذلك. وكان سبب قبول قربان أحدهما. ورد الآخر أحد أمرين:
أحدهما - أنه رد قربان أحدهما لأنه كان فاجرا فاسقا. وقبل قربان
هابيل لأنه كان متقيا مطيعا، ولذلك قال الله (إنما يتقبل الله من المتقين).
الثاني - انه قرب بشر ماله وأخسه. وقرب الآخر بخير ماله، وأشرفه.
492

فتقبل الأشرف، ورد الاخس.
وقال قوم ان سبب القربان أنه لم يكن هناك فقير فمن أراد القربان أخرج
من ماله ما أحب، ففعلا ذلك، فأكلت النار قربان أحدهما دون الآخر، ولم يكن
ذلك عن أمر الله. وقال أكثر المفسرين ورواه أبو جعفر وغيره من المفسرين:
أنه ولد لكل واحد من قابيل وهابيل أخت توأم له فأمر آدم كل واحد بتزويج
أخت الآخر. وكانت أخت قابيل أحسن من الأخرى، فأرادها، وحسد أخاه
عليها، فقال آدم قربا قربانا، فأيكما قبل قربانه فهي له، وكان قابيل صاحب
زرع فعمد إلى أخبث طعام. وعمد هابيل إلى شاة سمينة ولبن وزبد، فصعدا
به الجبل فأتت النار فأكلت قربان هابيل، ولم تعرض لقربان قابيل. وكان
آدم غائبا عنهما بمكة، فقال قابيل لا عشت يا هابيل في الدنيا، وقد تقبل
قربانك ولم يتقبل قرباني. وتريد أن تأخذ أختي الحسناء. وآخذ أختك
القبيحة، فقال له هابيل: ما حكاه الله تعالى، فشدخه بحجر فقتله، ثم حمله
على عاتقه وكان يضعه على الأرض ساعة ويبكي ويعود يحمله كذلك ثلاثة
أيام إلى أن رأى الغرابين.
وقوله: " لأقتلنك " معناه قال الذي لم يتقبل قربانه: و " قال إنما
يتقبل الله " يعني الذي تقبل قربانه، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه.
وقيل في علامة القبول قولان:
قال مجاهد كانت النار تأكل المردود. وقال غيره بل كانت العلامة في
ذلك نارا تأتي فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود.
وقال قوم في الآية دلالة على أن طاعة الفاسق غير متقبلة لكنها تسقط
عقاب تركها. واما النافلة فيصل إليه ضرب من النفع بها. وتقبل الطاعة إيجاب
الثواب عليها - وهذا الذي ذكروه غير صحيح - لان قوله " إنما يتقبل الله
493

من المتقين ": معناه إنما يستحق الثواب على الطاعات من يوقعها لكونها طاعة
فاما إذا فعلها لغير ذلك فإنه لا يستحق عليها ثوابا. فإذا ثبت ذلك، فلا يمتنع
أن تقع من الفاسق يوقعها على الوجه الذي يستحق عليها الثواب فيستحق
الثواب ولا تحابط عندنا بين ثوابه وما يستحق عليه العقاب. والاتقاء يكون
لكل شئ يمتنع منه غير أنه لا يطلق اسم المتقين إلا على المتقين للمعاصي خاصة
بضرب من العرف، لأنه أحق ما يجب أن يخاف منه كما لا يطلق خالق إلا على
الله - عز وجل - لأنه أحق بهذه الصفة من كل فاعل، لان جميع أفعاله تقع
على تقدير وترتيب وقوله: " إنما يتقبل الله من المتقين " يعني القرابين إنما
قوله تعالى:
لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك
إني أخاف الله رب العالمين (31) آية
يتقبلها الله من الذين يتقون معاصي الله خوف عقابه دون من لا يتقيها.
في هذه الآية إخبار عن ولد آدم المقتول، وهو هابيل أنه قال لأخيه حين
هدده بالقتل لما تقبل قربانه ولم يتقبل قربان أخيه، فقال " لئن بسطت إلي
يدك " ومعناه لئن مددت إلي يدك. والبسط هو المد وهو ضد القبض
" لتقتلني " معناه لان تقتلني ما أنا باسط يدي إليك لان أقتلك.
فان قيل لم قال ذلك وقد وجب بحكم العقل الدفع عن النفس وإن أدى
إلى قتل المدفوع؟! قلنا: عنه جوابان:
أحدهما - أن معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك لا على أني لا أدفعك عن
نفسي إذا قصدت قتلي هذا قول ابن عباس وجماعة، وقيل: إنه قتله غيلة بأن
ألقى عليه وهو نائم صخرة شدخه بها.
494

الثاني - قال الحسن، ومجاهد، والجبائي: إنه كان كتب عليهم إذا
أراد الرجل قتل رجل تركه ولم يمتنع منه. وكان عمرو بن عبيد يجيز الوجهين
وهو الأقوى لان كلا الامرين جائز.
فان قيل كيف يجوز الوجه الأخير وفيه أطماع في النفس؟!
قلنا: ليس فيه شئ من ذلك لأنه يجري مجرى قول القائل لغيره لئن
ظلمتني لم أظلمك، ولئن قبحت في أمري لم أقبح في أمرك بل في ذلك غاية
الزجر والردع عن القبيح، لان القبيح منفر عن نفسه صارف عن فعله.
وقوله: " إني أخاف الله رب العالمين " يعني أخاف الله في ابتداء مدي
إليك يدي لقتلك " رب العالمين " يعني رب الخلائق.
واللام في قوله " لئن " لام القسم وتقديره أقسم " لئن بسطت إلي
يدك " وجوابه " ما أنا بباسط " ولا تقع (ما) جوابا للشرط والفرق بينهما
أن ل‍ (ما) صدر الكلام والقسم لا يخرجها عن ذلك كما جاز أن يكون جواب
القسم ب‍ (أن) ولام الابتداء، ولم يجز بالفاء لان المقسم عليه ليس يجب
بوجوب القسم وإنما القسم يؤكده، وجواب الشرط يجب بوجوبه، وإذا
اجتمع القسم والجزاء كان جواب القسم أولى من جواب الجزاء، لأنه لما تقدم
وصار الجزاء في حشو الكلام غلبه على الجواب فصار له واكتفى به من جواب
الجزاء لدلالته عليه.
وروى غياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمداني عن علي (ع) أنه قال:
لما قتل ابن آدم (ع) أخاه بكا وقال:
تغيرت البلاد ومن عليها * فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم * وقل بشاشة الوجه المليح
495

فأجاب آدم (ع) أيا هابيل قد قتلا جميعا * وصار الحي بالموت الذبيح
وجاء بشرة قد كان فيه * على خوف فجاء بها يصيح
قوله تعالى:
إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب
النار وذلك جزاء الظالمين (32)
في هذه الآية إخبار عن ابن آدم (ع) المقتول أنه قال: لا أبدأك بالقتل
لأني " أريد أن تبوء بإثمي " ومعناه أن ترجع، وأصله الرجوع إلى المنزل
يقال: باء إذا رجع إلى المباءة وهي المنزل " وباءوا بغضب من الله " (1) أي
رجعوا. والبواء الرجوع بالقود، وهم في هذا الامر بواء أي سواء، لأنهم
يرجعون فيه إلى معنى واحد. وقال الشاعر:
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي * محارمنا لا يبؤؤ الدم بالدم (2)
أي لا يرجع الدم بالدم. وقوله " بإثمي وإثمك " معناه اثم قتلي ان
قتلتني، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي - هذا قول ابن عباس، وابن مسعود
والحسن، وقتادة، والضحاك، ومجاهد - وقال مجاهد معناه خطيأتي ودمي،
ذهب إلى أن المعنى مثل إثمي. وقال الجبائي، والزجاج. وإثمك الذي من
أجله لم يتقبل قربانك. ويجوز أن يريد بإثمي الأول اثم قتلي ان قتلتني

(1) سورة 2 البقرة آية 61 وسورة 3 آل عمران آية 112.
(2) اللسان (بوء) وفيه روايتان: لا يبأء، لا يبؤء.
496

وإثمك الذي قتلتني، فأضافه تارة إلى المفعول وأخرى إلى الفاعل، لأنه
مصدر يصح ذلك فيه، كما تقول ضرب زيد عمرا وضرب عمرو زيد
فتضيفه تارة إلى الفاعل وأخرى إلى المفعول.
فان قيل: كيف جاز أن يريد منه الاثم وهو قبيح؟
قلنا: المراد بذلك عقاب الاثم، لان الرجوع بالاثم رجوع بعقابه،
لأنه لا يجوز لاحد أن يريد معصية الله من غيره كما لا يجوز. أن يريدها من
نفسه، وهو قول أبي علي وغيره. وقال قوم: التقدير إني أريد أن لا تبوء
بإثمي كما قال " يبين الله لكم أن تضلوا " ومعناه ألا تضلوا. وهذا وجه
يحتمله الكلام لكن الظاهر خلافه، وإنما يحمل على ذلك إذا دل الدليل على
أنه لا يجوز أن يريد من غيره الاثم. وليس ههنا ما يدل عليه والكلام يدل
على أنه أراد العقاب لا محالة لو أراد الاثم. وقوله " فتكون من أصحاب
النار وذلك جزاء الظالمين " لا يدل على فساد القول بالارجاء، لان ظاهره
يقتضي أنه يستحق بذلك النار والعذاب، وان ذلك جزاءه وليس في ذلك
ما يمنع من جواز اسقاطه بغير توبة فينبغي أن لا يمنع منه.
وفي الآية دلالة على أن الوعيد بالنار قد كان في زمن آدم بخلاف ما
يدعيه جماعة من اليهود والنصارى.
قوله تعالى:
فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من
الخاسرين (33) آية بلا خلاف
497

قيل في معنى " طوعت له نفسه " ثلاثة أقوال:
أحدها - شجعته نفسه على قتل أخيه في قول مجاهد. وقال قتادة
زينت له نفسه قتل أخيه. وقال قوم: معناه ساعدته نفسه على قتل أخيه،
فلما حذف حرف الجر نصب قوله " قتل أخيه ".
ومن قال معناه زينت نصبه كأنه مفعول به. يقال طاع لهذه الظبية أصول
الشجرة، وطاع لفلان كذا أي أتاه طوعا، ويقال أيضا انطاع. ولا يقال
اطاعته نفسه، لان (أطاع) يدل على قصد لموافقة معنى الامر، وليس كذلك
طوع، لأنه بمنزلة انطاع له أصول الشجرة. وفي الفعل ما يتعدى إلى نفس
الفاعل نحو حرك نفسه، وقتل نفسه. وفيه ما لا يتعدى نحو أمر ونهى،
لان الأمر والنهي لا يكون إلا ممن هو أعلى لمن هو دونه.
وقال ابن عباس وابن مسعود وأبو مالك وأبو جعفر (عليه السلام):
إنه قتله بصخرة شدخ رأسه بها، وقال مجاهد: لم يدر كيف يقتله حتى ظهر
له إبليس فعلمه ذلك، ظهر في صورة طير، فأخذ طيرا آخر وترك رأسه بين
حجرين فشدخه. وقابيل ينظر إليه ففعل مثله. وقيل هو أول قتل كان في
الناس. وقوله: " فأصبح من الخاسرين " لا يدل على أنه قتله ليلا، لان
معناه صار من الخاسرين بقتله ليلا أو نهارا، لأنه يحسن في هذا أن يقال:
أصبح، لأنه بمنزلة الامر الذي بيت ليلا، فكانت ثمرته الوبال والخسران،
والمعنى - ههنا - ذهاب رأس المال بهلاك نفسه. وذلك أعظم الخسران كما
قال تعالى " خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " فمعنى الآية أصبح من
الذين باعوا الآخرة بالدنيا، فخسروا في ذلك وخابت صفقتهم.
498

قوله تعالى:
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري
سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا
الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين (34)
آية بلا خلاف
قرأ الحسن (يا ويلتني) مضاف، وهما لغتان يقال يا ويلتا ويا ويلتي
ذكره الأزهري.
قيل: إنه كان أول ميت من الناس فلذلك لم يدر كيف يواريه وكيف
يدفنه حتى بعث الله غرابين أحدهما حي والآخر ميت، وقيل كانا حيين فقتل
أحدهما صاحبه ثم بحث الحي الأرض فدفن فيه الغراب الميت، ففعل به مثل
ذلك قابيل، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وابن مالك ومجاهد والضحاك
وقتادة. وفي ذلك دلالة على فساد ما قال الحسن وأبو علي وأبو مسلم إنهما
كانا من بني إسرائيل، لأنه لم يكن الناس إلى زمان بني إسرائيل، لا يدرون
كيف يدفنون ميتهم، قال الرماني ولا يجوز أن يكون الغراب مكلفا، لان
المعلوم من دعوة الرسول أن المكلفين هم الملائكة والانس والجن، والمعلوم
ضرورة أنه لا مطيع لله أحد إلا من هذه الثلاثة أصناف، وأيضا فقد بعث الله
النبي صلى الله عليه وآله إلى كل مكلف سوى الملائكة ولا يقول أحد: إنه مبعوث إلى
الغربان. ومعنى " فبعث الله غرابا " ألهمها ذلك. وقال الزجاج أكرم الله
499

المقتول بأن بعث غرابا حثا عليه التراب ليريه كيف يواري سوأة أخيه. وقال
قوم: كان ملكا في صورة الغراب. وقال أبو علي يجوز أن يكون الغراب
قد زاد الله في عقله ما عقل أمر الله لا على وجه التكليف كما نأمر صبياننا
وأولادنا فيفهمون عنا.
ومعنى " سوءة أخيه " قيل فيه قولان: أحدهما - قال أبو علي: إنه
جيفة أخيه، لأنه كان تركه حتى أنتن فقيل لجيفته سوءة. وقال غيره: معناه
عورة أخيه والظاهر يحتمل الامرين. وأصل السوء التكرة تقول ساءه يسوءه
إذا أتاه بما يكرهه.
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله ضرب لكم مثلا ابني آدم
فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما).
وقوله " قال ويا ويلتا " فيه حذف لان تقديره ليريه كيف يواري سوأة
أخيه فواراه قال والقائل أخاه يا ويلتاه. وقال الزجاج الوقف في غير القران
عليها يا ويلتاه، والنداء لغير الآدميين نحو " يا حسرتا على العباد " (1).
و " يا ويلتا أألد وأنا عجوز " (2). وقال يا ويلتا وإنما وقع في كلام العرب.
على تنبيه المخاطب وان الوقت الذي يدعي هذه الأشياء هو وقتها. والمعنى
يا ويلتا تعالي فإنه من ابانك أي قوله: مني الويل وكذلك يا عجبا: المعنى
يا أيها العجب هذا وقتك. وقال سيبويه: الويل كلمة تقال عند الهلكة.
وقيل الويل واد في جهنم وقوله " أعجزت " يقال عجزت عن الامر أعجز
عجزا ومعجزة.

(1) سورة يس آية 30.
(2) سورة هود آية 72
500

وقوله " فأصبح من النادمين " قيل كانت توبته غير صحيحة، لأنها لو
كانت صحيحة لاستحق عليها الثواب. وقال أبو علي: ندم على قتله على غير
الوجه الذي يكون الندم توبة لأنه ندم لأنه لم ينتفع به وناله ضرر بسببه من
أبيه واخوته. ولو كان على الوجه الصحيح لقبل الله توبته. وعلى مذهبنا
كان يستحق الثواب لو كانت صحيحة، وإن لم يسقط العقاب.
قوله تعالى:
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل
نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس
جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد
جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك
في الأرض لمسرفون (35) آية عند الجميع.
قرأ أبو جعفر والزبير (من أجل) ذلك بفتح النون واسكان الهمزة
ومثله (قد أفلح) وما أشبهه. الباقون يقطعون الهمزة بفتح النون بنقل
الحركة من الهمزة إلى ما قبلها. ومن اسكنها تركها على أصلها.
ومعنى (من أجل) من جراء ذلك وجريرته. وقال الزجاج: معناه من
جناية ذلك. يقال أجلت الشئ أجلا إذا أجنيته. قال الخواني:
وأهل خباء صالح ذات بينهم * قد احتربوا في عاجل أنا آجله (1)

(1) اللسان (أجل) وروايته كنت بينهم) بدل (ذات بينهم) وفي
الصحاح مثل هنا وقائله خوات بن جبير.
501

أي جانيه وقيل جاره عليهم. وقال عدي بن زيد:
أجل ان الله قد فضلكم * فوق من احكأ صلبا بارزا (1)
وأصله الجر. ومنه الأجل الوقت الذي يجر إليه العقد الأول ومنه
الآجل نقيض العاجل. ومنه (أجل) بمعنى نعم، لأنه انقياد إلى ما يجر إليه
ومنه الآجال القطيع من بقر الوحش، لان بعضها ينجر إلى بعض.
و " ذلك " إشارة إلى قتل أحد ابني آدم أخاه ظلما. حكمنا إلى بني إسرائيل
أنه من قتل منهم نفسا بغير نفس أو فساد كان منها في الأرض
فاستحقت بذلك قتلها. وفسادها في الأرض إنما يكون بالحرب لله ولرسوله
وإخافة - السبيل - على ما سنبينه فيما بعد - وهو قول الضحاك وجميع
المفسرين. واختلفوا في تأويل قوله (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في
الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)
على ستة أقوال:
أحدها - قال الزجاج: معناه إنه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنهم
خصومه من قبل ذلك الانسان.
والثاني - قال أبو علي: إن عليه مثل مأثم كل قاتل من الناس لأنه
سن القتل وسهله لغيره، فكان بمنزلة المشارك فيه. ومثله قوله (ع): (من
سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن
سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها).
الثالث - قال الحسن وقتادة ومجاهد: إن معناه تعظيم الوزر والمأثم

(1) اللسان (أجل).
502

وتقديره يا ابن آدم انك لو قتلت الناس جميعا كان لك من عملك ما تفوز به
وتنجو من النار؟! - والله - كذبتك نفسك والشيطان، فكذلك قتلك ظلما
الانسان أي كنت تستحق الخلود في النار كما كنت تستحقه بقتل الناس جميعا.
الرابع - قال ابن عباس: معناه من شد على عضد نبي أو امام عدل.
فكأنما أحيا الناس جميعا. ومن قتل نبيا أو إماما عدلا، فكأنما قتل
الناس جميعا.
الخامس - قال ابن مسعود وغيره من الصحابة: معناه (من قتل نفسا
بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) عند المقتول " ومن
أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " عند المستنفذ.
السادس - قال ابن زيد معناه انه عليه من القود والقتل مثل ما يجب
عليه لو قتل الناس جميعا. وقوله: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)
قال مجاهد معناه من نجاها من الهلاك مثل الغرق والحرق. وقال الحسن
وابن زيد معناه من عفا عن دمها وقد وجب القود عليها. وقال أبو علي
معناه من زجر عن قتلها بما فيه حياتها على وجه يقتدى به فيها بأن يقتدى
به فيها بأن يعظم تحريم قتلها كما حرمه الله. فلم يقدم عليه فقد حي الناس
بسلامتهم منه وذلك احياؤه إياها. وهو اختيار الطبري والله تعالى هو المحيي
للخلق لا يقدر على ذلك غيره تعالى. وإنما قال: (أحياها) على وجه المجاز
بمعنى نجاها من الهلاك كما حكى عن نمرود إبراهيم " أنا أحيي وأميت "
فاستبقا واحدا وقتل الاخر. قوله (ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات) قسم من
الله تعالى أن رسله أتت بني إسرائيل الذين ذكر قصصهم وأخبارهم بالآيات
الواضحة والحجج الدالة على صدق رسله وصحة ما أتوا به ثم أخبر أن
503

كثيرا منهم يعني من بني إسرائيل لمسرفون بعد مجيئ رسل الله إليهم ومعنى
(لمسرفون) العاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمره ونهيه باتباعهم غير رسل
الله. والاسراف الخروج عن التقصير والاقتصاد وضده التقطير. والاقتصاد
هو التعديل بلا إسراف ولا اقتار وقد يمدح بالاقتصاد. وقال أبو جعفر (ع):
المسرفون هم الذين يستحلون المحارم ويسفكون الدماء.
قوله تعالى:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي
في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (36) آية بلا خلاف.
المحارب عندنا هو الذي أشهر السلاح وأخاف السبيل سواء كان في
المصر أو خارج المصر، فان اللص المحارب في المصر وغير المصر سواء. وبه
قال الأوزاعي ومالك والليث بن سعد وابن لهيعة والشافعي والطبري. وقال
قوم: هو قاطع الطريق في غير المصر ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه وهو المروي
عن عطاء الخراساني. ومعنى (يحاربون الله) يحاربون أولياء الله ويحاربون
رسوله (ويسعون في الأرض فسادا) وهو ما ذكرناه من إشهار السيف وإخافة
السبيل. وجزاءهم على قدر الاستحقاق إن قتل قتل وان أخذ المال وقتل قتل
وصلب وان أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف. وان أخاف
السبيل فقط فإنما عليه النفي لا غير هذا مذهبنا. وهو المروي عن أبي جعفر
504

عليه السلام وأبي عبد الله (ع) وهو قول ابن عباس وأبي مجلز وسعيد بن
جبير، والسدي، وقتادة، والربيع وإبراهيم على خلاف عنه - وبه قال
أبو علي الجبائي والطبري وحكي عن الشافعي أنه إن أخذ المال جهرا كان
للامام صلبه حيا وان لم يقتل.
" وان يقتلوا " في موضع رفع وتقديره إنما جزاؤهم القتل، والصلب
أو القطع من موضع الخلاف، ومعنى (إنما) ليس جزاؤهم الا هذا قال
الزجاج: إذا قال جزاؤك عندي درهم جاز أن يكون معه غيره، فإذا قال إنما
جزاؤك درهم كان معناه ما جزاؤك إلا درهم.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس والضحاك، نزلت في
قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله موادعة فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض،
فخير الله نبيه في ما ذكر في الآية، وقال الحسن وعكرمة نزلت في أهل الشرك.
وقال قتادة، وأنس وسعيد بن جبير والسدي: انها نزلت في العرنيين
والعكليين حين ارتدوا وأفسدوا في الأرض فأخذهم النبي صلى الله عليه وآله وقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم (1) وفي بعض الأخبار أحرقهم بالنار.
ثم اختلفوا في نسخ هذا الحكم الذي فعله بالعرنيين، فقال البلخي وغيره
نسخ ذلك بنهيه عن المثلة. ومنهم من قال: حكمه ثابت في نظرائهم لم ينسخ.
وقال آخرون لم يسمل النبي صلى الله عليه وآله أعينهم وإنما أراد أن يسمل فأنزل الله آية
المحاربة، والذي نقوله: إن عندنا إن كان فيهم طليعة لهم حتى يقتلوا قوما

(1) سمل أعينهم أي فقأها بحديدة محماة.
505

سملت عين الربيئة (1) وأجري على الباقين ما ذكرناه. وقال قوم: الامام
مخير فيه ذهب إليه ابن عباس في رواية ومجاهد والحسن وسعيد بن المسيب،
وعطا وإبراهيم في رواية عنه. فمن قال بالأول، ذهب إلى أن (أو) في الآية
تقتضي التفصيل ومن قال بالثاني ذهب إلى انها للتخيير.
ومعنى قوله: " وأرجلهم من خلاف " معناه أن يقطع اليد اليمنى والرجل
اليسرى. ولو كان موضع (من) (على) أو (الباء) لكان المعنى واحدا.
وقوله " أو ينفوا من الأرض " في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه يخرج من بلاد الاسلام ينفى من بلد إلى إلا أن يتوب
ويرجع وهو الذي نذهب إليه. وبه قال ابن عباس، وأنس بن مالك، ومالك
ابن أنس، والحسن والسدي والضحاك، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع
ابن انس، والزهري. وقال أصحابنا لا يمكن أيضا من دخول بلاد الشرك،
ويقاتل المشركون على تمكينهم من ذلك حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق.
وقال الفراء النفي أن يقال: من قتله فدمه هدر.
والثاني - انه ينفى من بلد إلى بلد غيره ذهب إليه سعيد بن جبير في
رواية أخرى، وعمر بن عبد العزيز.
الثالث ان النفي هو الحبس ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه.
أصل النفي الاهلاك ومنه النفي الاعدام، فالنفي الاهلاك بالاعدام.
ومنه النفاية لردئ المتاع. ومنه النفي، وهو ما تطاير من الماء عن الدلو،
قال الراجز:

(1) ربيئة القوم عينهم الذي يطلعهم على أخبار العدو. يقف على مرتفع
عال ويرقب حركات العدو.
506

كأن متنيه من النفي * مواقع الطير على الصفي (1)
والنفي الطرد قال أوس بن حجر:
ينفون عن طرق الكرام * كما ينفى المطارق ما يلي الفرد
وقوله " ذلك لهم خزي في الدنيا " معناه أن فعل ما ذكرناه من الاحكام
خزي في الدنيا، والخزي الفضيحة يقال خزي يخزي خزيا إذا افتضح وخزى
يخزى خزاية إذا استحيا وخزوته اخزوه خزوا إذا سسته ومنه قول لبيد:
واخزها بالبر لله الأجل (2)
" ولهم في الآخرة عذاب عظيم " معناه زيادة على ذلك وهذا يبطل قول
من قال إقامة الحدود تكفير للمعاصي لأنه يقال مع إقامة الحدود عليهم بين ان
لهم في الآخرة عذابا عظيما ومعنى ان لهم في الآخرة عذابا عظيما انهم يستحقون
ذلك ولا يدل على أنه يفعل بهم ذلك لا محالة لأنه يجوز أن يعفو الله عنهم
ويتفضل عليهم باسقاط عقابهم.

(1) اللسان (نفي) وروايته:
كأن متنيه من النفي.
من طول اشرافي على الطوي
مواقع الطير على الصفي
(2) اللسان (خزا) وقبله:
أكذب النفس إذا حدثتها * ان صدق النفس يزدي بالأمل
غير أن لا تكذبنها في التقى * واخزها بالبر لله الأجل
507

قوله تعالى:
إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا
أن الله غفور رحيم (37) آية بلا خلاف.
قال الزجاج يحتمل الذين أن يكون في موضع الرفع بالابتداء وخبره
فاعلموا ان الله غفور رحيم والمعنى غفور رحيم لهم والمعنى لكن التائبون من
قبل القدرة عليهم فالله غفور رحيم. ويجوز أن يكون في موضع نصب
بالاستثناء من قوله (فاعلموا أن الله غفور رحيم).
لما بين الله حكم المحارب - على ما فصلناه - استثناء من جملتهم
من يتوب مما ارتكبه قبل أن يؤخذ، ويقدر عليه لان توبته بعد حصوله في
قبضة الامام، وقيام البينة عليه بذلك لا ينفعه، ووجب إقامة الحد عليه.
واختلفوا فيمن تدرأ عنه التوبة الحدود: هل هو المشرك أو من كان
مسلما من أهل الصلاة؟ فقال الحسن، وقتادة، ومجاهد والضحاك: هو
المشرك دون من كان مسلما. فأما من أسلم، فإنه لم يؤاخذ بما جناه إلا أن
يكون معه عين مال قائمة فإنه يجب عليه ردها وما عداه يسقط. وأما علي (ع)
فإنه حكم بذلك فيمن كان مسلما وهو حارثة بن بدر، لأنه كان قد خرج
محاربا ثم تاب فقبل علي (ع) توبته. وجعل له أمانا على يد سعيد بن قيس.
وحكم به أبو موسى الأشعري في فلان المرادي جاء تائبا بعد كونه محاربا فقبل
توبته. وأبو هريرة في علي الأسدي وبه قال السدي ومالك بن أنس إلا أن
مالكا قال يؤخذ بالدم إذا طالب به وليه. وقال الليث بن سعيد لا يؤاخذ به
وقال الشافعي تضع توبته عنه حد الله الذي وجب لمحاربته، ولا يسقط عنه
508

حقوق بني آدم وهو مذهبنا، فعلى هذا إن أسقط الآدمي حق نفسه ويكون
ظهرت منه التوبة قبل ذلك لا يقاص عليه الحد، وإن لم يكن ظهرت منه
التوبة أقيم الحد، لأنه محارب فيتحتم عليه الحد. وهو قول أبي علي.
ولا خلاف أنه إذا أصيب المال بعينه في يده أنه يرد إلى أهله. فاما المشرك
المحارب فمتى أسلم وتاب سقطت عنه الحدود، سواء كان ذلك منه قبل
القدرة عليه أو بعدها بلا خلاف.
فاما السارق إذا قدر عليه بعد التوبة وتكون التوبة منه بعد قيام البينة
فإنه لا يسقط عنه الحد. وإن كان قبل قيام البينة أسقطت عنه. وقال قوم:
لا تسقط التوبة الحد عن السارق - ولم يفصل. وادعي في ذلك الاجماع.
قالوا لان الله جعل هذا الحكم للمحارب بالاستثناء بقوله: " فاعلموا أن الله
غفور رحيم " ولم يكن غير المحارب في معناه فيقاص عليه، لان ظاهر هذا
التفرد وليس كذلك هو في المحارب الممتنع بفئة وفي الآية حجة على من قال
لا تصح التوبة مع الإقامة على معصية أخرى يعلم صاحبها أنها معصية، لأنه
تعالى علق بالتوبة حكما لا يحل به الإقامة على معصية هي السكر أو شرب
نبيذ التمر على غير التأويل باجماع المسلمين.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة
وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (38) آية بلا خلاف.
خاطب الله في هذه الآية المؤمنين وأمرهم أن يتقوه ومعناه أن يتقوا
معاصيه ويجتنبوها ويبتغوا إليه معناه يطلبون إليه الوسيلة وهي القربة في
509

قول الحسن ومجاهد وقتادة وعطا والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير وأبي
وابل. وهي على وزن (فعيلة) من قولهم توسلت إليك أي تقربت قال عنترة
ابن شداد:
إن الرجال لهم إليك وسيلة * أن يأخذوك فلجلجي وتخضبي
وقال الآخر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل
يقال منه سلت أسال أي طلبت وهما يتساولان أي يطلب كل واحد منهما
من صاحبه. والأصل الطلب والوسيلة التي ينبغي أن يطلب مثلها.
فان قيل كيف قال تعالى " اتقوا الله " وهو غاية التحذير مع أنه تعالى
رغب في الدعاء إليه وهما كالمتنافرين؟ قيل إنما قال ذلك لئلا يكون المكلف
على غرور من أمره بكثرة نعم الله عليه فيظن أنها موجبة للرضاء عنه فحقيقة.
الدعاء إليه باتقائه من جهة اجتناب معاصيه والعمل بطاعته. فان قيل هل
يجوز أن يتقى المعاقب من أجل عقابه كما يحمد المحسن من أجل إحسانه.
قلنا: لا لان أصل الاتقاء الحجز بين الشيئين لئلا يصل أحدهما إلى الاخر من
قولهم اتقاه بالترس. ومنه اتقاه بحقه، فالطاعة له تعالى حاجزة بين العقاب
وبين العبد أن يصل إليه. وأما حمد الانسان، فمجاز لان المحمود في الحقيقة
يستحق الولاية والكرامة.
وقوله: " وجاهدوا في سبيله " أمر منه تعالى بالجهاد في دين الله، لأنه
وصلة وطريق إلى ثوابه. ويقال لكل شئ وسيلة إلى غيره هو طريق إليه فمن
ذلك طاعة الله فهي طريق إلى ثوابه. والدليل على الشئ طريق إلى العلم به
والتعرض للشئ طريق إلى الوقوع فيه واللطف طريق إلى طاعة الله والجهاد
510

في سبيل الله قد يكون باللسان واليد والقلب والسيف والقول والكتاب.
وقوله: (لعلكم تفلحون) يحتمل أمرين
:
أحدهما - اعملوا لتفلحوا ومعناه ويكون غرضكم الصلاح فهذا يصح
مع اليقين.
الثاني - اعملوه على رجاء الصلاح به فهذا مع الشك في خلوصه مما
يحبطه وهذا الوجه لا يصح إلا على مذهب من قال بالاحباط. فاما من لا
يقول به فلا يصح ذلك فيه غير أنه يمكن أن يقال الشك فيه يجوز أن يكون
في هل أوقعه على الوجه المأمور به أم لا؟ لأنه لا حال إلا وهو يجوز أن
يكون فرط فيما أمر به " والمفلحون " هم الفائزون بما فيه غاية صلاح أحوالهم.
قوله تعالى:
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا
ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل
منهم ولهم عذاب اليم (39) يريدون أن يخرجوا من النار وما
هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم (40) آيتان بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية " ان الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض
جميعا ومثله معه " وافتدوا بجميع ذلك من العذاب الذي يستحقونه على
كفرهم " ما تقبل منهم ".
والذين في موضع نصب بان وخبر (ان) الجملة في (لو) وجوابها.
وقوله: " ولهم عذاب اليم " يحتمل أمرين:
511

أحدهما - أن يكون في موضع الحال.
والثاني - أن يكون عطفا على الخبر، ولا يجوز أن يكون خبرا من
" يريدون " أن يخرجوا من النار، وما هم بخارجين منها ". و (لو) في
موضع الحال كما تقول مررت بزيد لو رآه عدوه لرحمه، لأنه في موضع
معتمد الفائدة مع أن الثاني في استئناف (إنه) ولا يحكم بقطع الخبر، وإنما
أجيبت (لو) ب‍ (ما) ولم يجز أن يجاب (أن) ب‍ (ما) لان (ما) لها صدر الكلام
وجواب (لو) لا يخرجها من هذا المعنى كما لا يخرجها جواب القسم، لأنه
غير عامل. و (أن) عاملة فلذلك صلح أن يجاب ب‍ (لا) ولم يصلح ب‍ (ما)
كقولك إن تأتي لا يلحقك سوء، ولا يجوز (ما) لان (لا) تنفي عما بعدها
ما وجب لما قبلها في أصل موضوعها كقولك قام زيد لا عمرو و (ما) تنفي
عما بعدها ما لم يجب لغيرها، فلذلك كان لها صدر الكلام. وإنما نفى الله
أن يقبل منهم فدية من غير تقييد بالتوبة، لامرين:
أحدهما لأنهم لا يستحقون هذه الصفة لو وقعت منهم التوبة مع البيان
عن أن الآخرة لا تقبل فيها توبة.
الثاني ان ذلك مقيد بدليل العقل والسمع الذي دل على وجوب اسقاط
العقاب عند التوبة كقوله " غافر الذنب وقابل التوب " (1) وعندنا أنه لم يقيده
بالتوبة لان التوبة لا يجب اسقاط العقاب عندها عندنا. وإنما يتفضل الله بذلك
عند التوبة فأراد الله أن يبين أن الخلاص من عقابه الذي استحق على الكفر
به ومعاصيه لا يستحق على وجه. وإنما يكون ذلك تفضلا على كل حال.
واللام في قوله: " ولهم عذاب اليم " لام الملك لان حقيقتها الإضافة

(1) سورة غافر آية 3.
512

على معنى الاختصاص غير أنها إذا أضيفت تصح أن يكون فعلا إلى ما يصح
أن يكون فاعلا فالإضافة بمعنى إضافة الفعل إلى الفاعل نحو " إن قام زيد "
ويجوز أن يكون على معنى المفعول بقرينة ككلام زيد ونحوه. وقوله:
" لو أن لهم ما في الأرض جميعا " يدل على أنه ليس لهم ما في الأرض جميعا،
لأنه لو كان لهم لكان الأبلغ أن يقال يسلبون النعمة به من غير فدية تسقط
عنهم شيئا من العقوبة. وقوله: " يريدون أن يخرجوا من النار " في معناه
ثلاثة أقوال:
أحدها - قال أبو علي معناه يتمنون أن يخرجوا منها فجعل الإرادة
ههنا تمنيا.
وقال الحسن معناه الإرادة على الحقيقة، لأنه قال كلما رفعتهم النار
بلهبها رجوا أن يخرجوا منها، وهو قوله: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها
أعيدوا فيها " (1). وقال بعضهم معناه يكادون أن يخرجوا منها، إذا رفعتهم
بلهبها كما قال - عز وجل - " جدارا يريد أن ينقض " (2) أي يكاد ويقارب.
فان قيل كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بأنهم
لا يخرجون؟ قلنا: لان العلم بأن الشئ لا يكون لا يصرف عن إرادته.
كما أن العلم بأنه يكون لا يصرف عن إرادته وإنما يدعو إلى الإرادة حسنها
أو الحاجة إليها كما أن المراد بهذه المنزلة. فان قيل: هل يجوز أن يطمعوا في
الخروج من النار كما قال الحسن قلنا الخروج منها إلى غير عذاب يجري
مجرى عذابها فلا يجوز لعلمهم بأن العذاب دائم لا يفتر عنهم فإن كان معه
العلم بأنهم لا يخرجون منها لم يجز أن يطمعوا في الخروج، لان العلم ينافي

(1) سورة ألم السجدة آية 20.
(2) سورة الكهف آية 78.
513

الطمع ولا ينافي الإرادة كما لا يطمع العاقل في أن يعود في الدنيا شابا كما
كان. وقال أبو علي: إنما يتمنون الخلاص منها قبل دخولها، لما في التمني
من التروح، وليس ذلك من صفة أهلها. ولا يجوز أن يقال في الكلام
يريدون أن يستخرجون من النار كما جاز (علم أن سيكون منكم مرضى) (1)
لان أن المخففة من الشديدة لتحقيق كائن في الحال أو الماضي أو المستقبل.
وليس في الإرادة تحقيق وقوع المراد لا محالة، كما ليس في الامر تحقيق وقوع
المأمور به، فلذلك لم يجز أمرته أن سيقوم، وجاز أمرته أن يقوم. قوله
" وما هم بخارجين منها " يعني من جهنم " ولهم عذاب مقيم " أي دائم ثابت
لا يزول ولا يحول، كما قال الشاعر:
فان لكم بيوم الشعب مني * عذابا دائما لكم مقيما
وروي أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس يا أعمى القلب يا أعمى البصر
تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: " وما هم بخارجين
منها "! فقال ابن عباس ويحك أو ما فقهت هذه للكفار؟!.
قوله تعالى:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا
نكالا من الله والله عزيز حكيم (41) آية بلا خلاف.
وقوله " والسارق والسارقة " قال سيبويه الأجود فيه النصب ومثله
" الزانية والزاني ". وبالنصب قرأ عيسى بن عمر وهو بخلاف ما عليه القراء
لا يجوز أن يقرأ به والوجه الرفع. ومثله " اللذان يأتيانها منكم فآذوهما ".

(1) سورة المزمل آية 20.
514

ويحتمل رفعهما شيئين:
أحدهما - قال سيبويه إنه على تفسير فرض فيما يتلى عليكم حكم السارق
والسارقة. ومنه " واللذان يأتيانها منكم " (1).
الثاني - قال المبرد والفراء لان معناه الجزاء وتقديره من سرق فاقطعوه،
وله صدر الكلام. وقال الفراء ولو أردت سارقا بعينه لكان النصب الوجه
ويفارق ذلك قولهم زيدا فاضربه، لأنه ليس فيه معنى الجزاء.
وظاهر قوله " والسارق والسارقة " يقتضي عموم وجوب القطع على
كل من يكون سارقا أو سارقة، لان الألف واللام إذا دخلا على الأسماء
المشتقة أفادا الاستغراق إذا لم يكونا للعهد دون تعريف الجنس - على ما
ذهب إليه قوم -. وقد دللنا على ذلك في أصول الفقه. فأما من قال القطع
لا يجب إلا على من كان سارقا مخصوصا من مكان مخصوص مقدارا
مخصوصا وظاهر الآية لا ينبئ عن تلك الشروط، فيجب أن تكون الآية
مجملة مفتقرة إلى بيان، فقوله فاسد لان ظاهر الآية يقتضي وجوب القطع
على كل من يسمى سارقا وإنما يحتاج إلى معرفة الشروط ليخرج من جملتهم.
من لا يجب قطعه فأما من يجب فانا نقطعه بالظاهر، فالآية مجملة فيمن لا يجب
قطعه دون من يجب قطعه فسقط ما قالوه.
وقوله " فاقطعوا أيديهما " أمر من الله بقطع أيدي السارق والسارقة.
والمعنى ايمانهما. وإنما جمعت أيدي لان كل شئ من شيئين، فتثنيته بلفظ
الجمع كما قال - عز وجل -: " فقد صغت بكما " (2) وقال الفراء كلما

(1) سورة النساء آية 15
(2) سورة التحريم آية 4.
515

كان في البدن منه واحد فتثنيته بلفظ الجمع لان أكثر أعضائه فيه
منه اثنان، فحمل ما كان فيه الواحد على مثل ذلك، فقيل قلوبهما
وظهورهما. كما قيل عيونهما وأيديهما. وقال الفراء إنما فعلوا ذلك للفصل
بين ما في البدن منه واحد وبين ما في البدن منه اثنان، فجعل ما في البدن منه
واحد تثنيته وجمعه بلفظ واحد ولم يثن أصلا، لان الإضافة تدل عليه،
ولان التثنية جمع، لأنه ضم شئ إلى شئ. وإن ثني جاز قال الشاعر:
ظهراهما مثل ظهور الترسين.
فجمع بين الامرين. وإنما اعتبرنا قطع الايمان، لاجماع المفسرين على
ذلك. كالحسن والسدي والشعبي وغيرهم. وفي قراءة ابن مسعود
" والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما " والنصاب الذي يتعلق القطع
به قيل فيه ستة أقوال:
أولها - على مذهبنا، وهو ربع دينار. وبه قال الأوزاعي والشافعي،
لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال القطع في ربع دينار.
الثاني - ثلاثة دراهم وهو قيمة المجن. ذهب إليه مالك بن أنس.
الثالث - خمسة دراهم روي ذلك عن علي (ع) وعن عمر، وانهما قالا:
لا يقطع الخمس إلا في خمسة دراهم وهو اختيار أبي علي، قال: لأنه بمنزلة
من منع خمسة دراهم من الزكاة في أنه فاسق.
الرابع - قال الحسن: يقطع في درهم، لان ما دونه تافه.
الخامس - عشرة دراهم ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه لما رووا أنه
كان قيمة المجن عشرة دراهم.
السادس - قال أصحاب الظاهر وابن الزبير يقطع في القليل والكثير.
516

ولا يقطع إلا من سرق من حرز. والحرز يختلف، فلكل شئ حرز
يعتبر فيه حرز مثله في العادة. وحده أصحابنا بأنه كل موضع لم يكن لغيره
الدخول إليه والتصرف فيه إلا باذنه فهو حرز. وقال أبو علي الجبائي الحرز
أن يكون في بيت أو دار مغلق عليه وله من يراعيه ويحفظه.
ومن سرق من غير حرز لا يجب عليه القطع. قال الرماني، لأنه لا يسمى
سارقا حقيقة وإنما يقال ذلك مجازا كما يقال سرق كلمة أو معنى في شعر لأنه
لا يطلق على هذا اسم سارق على كل حال. وقال داود: يقطع إذا سرق
من غير حرز.
وكيفية القطع عندنا يجب من أصول الأصابع الأربعة ويترك الابهام
والكف - وهو المشهور عن علي (ع): وقال أكثر الفقهاء: إنه يقطع من
الرسغ. وهو المفصل بين الكف والساعد. وقالت الخوارج يقطع من
الكتف. وأما الرجل فعندنا تقطع الأصابع الأربعة من مشط القدم ويترك
الابهام والعقب.
دليلنا أن ما قلناه مجمع على وجوب قطعه. وما قالوه ليس عليه دليل.
ولفظ اليد يطلق على جميع اليد إلى الكتف ولا يجب قطعه - بلا خلاف إلا
ما حكيناه عمن لا يعتد به. وقد استدل قوم من أصحابنا على صحة ما قلناه
بقوله " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " (1) وإنما يكتبونه بالأصابع.
- والمعتمد ما قلناه - وعليه اجماع الفرقة المحقة.
ومتى تاب السارق قبل أن يرفع إلى الامام. وظهر ذلك منه ثم قامت
عليه البينة، فإنه لا يقطع. غير أنه يطالب بالسرقة وإن تاب بعد قيام البينة

(1) سورة البقرة آية 79.
517

عليه وجب قطعه على كل حال. وقال الفقهاء يجب قطعه على كل حال. فإن كان
تاب كان قطعه امتحانا، وان لم يكن تاب كان عقوبة وجزاء. ومتى
قطع فإنه لا يسقط عنه رد السرقة سواء كانت باقية أو هالكة، فان كانت باقية
ردها - بلا خلاف - وإن كانت هالكة رد عندنا قيمتها. وقال أبو حنيفة
وأصحابه: لا يجمع عليه القطع والغرامة معا، فان قطع سقطت الغرامة وان
غرم سقط القطع. وقد دللنا على صحة ما قلناه - في مسائل الخلاف - ومتى
سرق بعد قطع اليد دفعة ثانية قطعت رجله اليسرى حتى يكون من خلاف.
فان سرق ثالثة حبس عندنا. وبه قال الحسن. وقال أبو علي تقطع اليد
الأخرى، فان سرق في الحبس قتل عندنا. ولا يعتبر ذلك أحد من الفقهاء
وظاهر الآية يقتضي وجوب قطع العبد والأمة إذا سرقا لتناول اسم السارق
والسارقة لهما
وقوله: " جزاء بما كسبا " معناه استحقاقا على فعلهما " نكالا من
الله " أي عقوبة على ما فعلاه. قال زهير:
ولولا أن ينال أبا طريف * عذاب من خزيمة أو نكال
أي عقوبة. ونصبه يحتمل أمرين:
أحدهما - مفعول له وتقديره لجزاء فعلهما
الثاني - نصب على المصدر الذي دل عليه فاقطعوا لان معنى فاقطعوا:
جازوهم ونكلوا بهم. وقال الأزهري معناه لينكل غيره نكالا عن مثل فعله
يقال نكل ينكل إذا جبن، فهو نأكل " والله عزيز حكيم " أي مقتدر لا يغالب
" حكيم " فيما يأمر به من قطع السارق والسارقة، وفي غيره من الافعال.
518

قوله تعالى:
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب
عليه إن الله غفور رحيم (42) آية بلا خلاف
أخبر الله تعالى أن من تاب وأقلع وندم على ما كان منه من فعل الظلم
بالسرقة وغيرهما وفعل الفعل الجميل الصالح " فان الله يتوب عليه " ومعناه
يقبل توبته باسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب منها. ووصف الله تعالى
بأنه يتوب على التائب فيه فائدة عظيمة، لان في ذلك ترغيبا للعاصي في فعل
التوبة، ولذلك قال تعالى واصفا نفسه بأنه تواب رحيم. ووصف العبد بأنه
تواب معناه أواب وهي صفة مدح من أجل المدح على التوبة التي يسقط
العقاب عندها. ولا خلاف في سقوطه عندها وهي الندم على ما مضى من
القبيح أو الاخلال بالواجب والعزم على ترك الرجوع إلى مثله في القبح.
وفي الناس من قال يكفي الندم مع العزم على ترك المعاودة. والذي ذكرناه
أولى، لان سقوط العذاب عنده مجمع عليه. وان اختلفوا هل هو واجب
أو تفضل؟ وما قالوه فيه خلاف. ويمكن التوبة من الحسن إلا أن حسنه
لا يدعو إلى التوبة منه كما يدعو قبح القبيح إلى التوبة منه لكن قد يتوب
الانسان منه لقبحه فيما يتوهمه أو لمضرة تلحقه به. ولا يجوز التوبة من
الحسن كيف تصرفت الحال لأنه تحريم لما ليس بحرام، وقبيح لما ليس
بقبيح. ويمكن أن تكون التوبة من القبيح معصية لله كالذي يتوب من
الالحاد ويدخل في النصرانية
وقال مجاهد: ان الحد كفارة. وهذا غير صحيح، لان الله تعالى دل
519

على معنى الامر بالتوبة. وإنما يتوب المذنب من ذنبه. والحد من فعل غيره.
وأيضا فمتى كان مصرا كان إقامة الحد عليه عقوبة. والعقوبة لا تكفر
الخطيئة. كما لا يستحق بها الثواب. وقوله " إن الله غفور رحيم " يدل
على ما نذهب إليه من أن قبول التوبة واسقاط العقاب عندنا تفضل من الله،
فلذلك صح وصفه بأنه غفور رحيم. ولو كان الغفران واجبا عند التوبة لم
يلق به غفور رحيم
قوله تعالى:
ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب
من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير (43)
قيل فيمن يتوجه هذا الخطاب إليه قولان:
أحدهما - انه متوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله والمراد به أمته كما قال " يا أيها
النبي إذا طلقتم النساء "
والثاني - أنه متوجه إلى كل مكلف من الناس وتقديره: ألم تعلم
يا انسان. واتصال هذا الخطاب بما قبله اتصال الحجاج والبيان عن صحة
ما تقدم من الوعد والوعيد. وما ذكره من الاحكام
والمعنى ألم تعلم يا انسان " ان الله له ملك السماوات والأرض " يعني
له التصرف فيهما من غير دافع ولا منازع " يعذب من يشاء " إذا كان
مستحقا العقاب " ويغفر لمن يشاء " إذا عصاه ولم يتب، لأنه إذا تاب، فقد
وعد بأنه لا يؤاخذ به بعد التوبة. وعند المخالفة يقبح مؤاخذته بعدها.
فعلى الوجهين معا لا يعلق ذلك بالمشيئة. وفي ذلك دلالة على أنه قادر على
520

أن يعاقب على وجه الجزاء، لأنه لو لم يكن قادرا عليه لما كان فيه وجه مدح
والله على كل شئ قدير " معناه ههنا أن من ملك السماوات والأرض وقدر
على هذه الأجسام والاعراض التي يتصرف فيها ويديرها، فهو لا يعجزه
شئ لقدرته على كل جنس من أجناس المعاني. وقوله " على كل شئ قدير "
عام في كل ما يصح أن يكون مقدرا له تعالى. ولا يحتاج إلى أن يقيد بذكر
ما تصح القدرة عليه لامرين:
أحدهما - ظهور الدلالة عليه، فجاز ألا يذكر في اللفظ
والآخر - أن ذلك خارج فخرج المبالغة كما يقول القائل أتاني أهل
الدنيا. ولعله لم يجئه الا خمسة فاستكثرهم
قوله تعالى:
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في
الكفر. من الذين قالوا أمنا بأفواهم ولم تؤمن قلوبهم
ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين
لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن
أو تيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد
الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم
يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في
الآخرة عذاب عظيم (44)
521

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله نهاه الله أنه يحزنه الذين يسارعون في الكفر أي
يبادرون فيه. و (يحزنك) - بفتح الياء وضمها - لغتان. وقد قرئ بهما.
وقد قدمنا ذكره مستوفى
من المنافقين " الذين قالوا آمنا " يعني صدقنا " بأفواههم ولم تؤمن
قلوبهم " يعني لم تصدق قلوبهم " ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون
لقوم آخرين لم يأتوك " وقف ههنا. و " سماعون " فيه مبالغة من سامع
مثل جابر وجبار. وقيل في رفع " سماعون " قولان:
أحدهما - قال سيبويه رفع على الابتداء والخبر " من الذين هادوا
كما تقول من قومك عقلاء
الثاني - قال الزجاج: على أنه خبر الابتداء. وتقديره: المنافقون هم،
واليهود سماعون للكذب. وقيل في معنى ذلك قولان:
أحدهما - " سماعون " كلامك للكذب عليك سماعون كلامك " لقوم
آخرين لم يأتوك " ليكذبوا عليك إذا رجعوا إليهم أي هم عيون عليك
وقيل إنهم كانوا رسل أهل خيبر لم يحضروا. فلهذا جالسوك، هذا قول
الحسن والزجاج وأبو علي.
الثاني - قال أهل التفسير " سماعون للكذب " قابلون له كما يقال
لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه، ومنه سمع الله لمن حسده " سماعون لقوم
آخرين " أرسلوا بهم في قضية زان محصن. فقالوا لهم: إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وآله
بالجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه، لأنهم قد كانوا حرفوا حكم
الجلد الذي في التوراة إلى جلد أربعين، وتسويد الوجه والاشهار على حمار.
هذا قول ابن عباس، وجابر، وسعيد بن المسيب والسدي، وابن زيد.
522

وقال قتادة: إنما كان ذلك في قتيل منهم قالوا: إن أفتاكم بالدية فاقبلوه
وإن أفتاكم بالقود فاحذروه. وقال أبو جعفر (ع) نزلت الآية في أمر بني
النضير وبني قريظة وقوله: " يحرفون الكلم " قيل في معنى (تحريفهم) قولان:
أحدهما - تحريف كلام النبي صلى الله عليه وآله بعد سماعه، للكذب " يقولون
إن أو تيتم هذا " أي دين اليهود فاقبلوه " وإن لم تؤتوه فاحذروا " أن تقبلوا
خلافه - في قول الحسن وأبي علي
الثاني - جعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله - في
قول المفسرين.
وقوله: " من بعد مواضعه لان المعنى من بعد استقراره في مواضعه،
ومضي الأيام عليه. وقال الزجاج من بعد أن فرض فروضه، وأحل حلاله،
وحرم حرامه. ولو قال مكان " بعد مواضعه " عن مواضعه لجاز، لان
معناهما متقارب، هذا كما يقول القائل: أتيتك عن فراغي من الشغل، وبعد
فراغي منه، ولا يجوز كما قياسا على ذلك أن تقول بدل قولك: رميت عن
القوس، رميت بعد القوس، ولا في قولك: جاء زيد بعد عمرو، أن تقول:
عن عمرو، لان المعنى يختلف. وذلك أن (عن) لما عدا الشئ الذي هو
كالسبب له و (بعد) إنما هي لما تأخر عن كون الشئ، فما صح معنى
السبب ومعنى التأخر جاز فيه الأمران، وما لم يصح إلا أحد المعنيين لم يجز
إلا أحد الحرفين.
وقوله: " ومن يرد الله فتنته " في الفتنة ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الزجاج معناه من يرد فضيحته باظهار ما ينطوي عليه.
الثاني - قال السدي من يرد الله هلاكه.
523

الثالث - قال الحسن وأبو علي والبلخي من يرد الله عذابه من قوله
" يوم هم على النار يفتنون " أي يعذبون. وقوله " ذوقوا فتنتكم " أي
عذابكم. وقوله " ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " يعني الذين عذبوا.
وأصل الفتنة التخليص من قولهم: فتنت الذهب في النار أي خلصته
من الغش والفتنة الاختبار تسمى بذلك لما فيها من تخليص الحال لمن أراد
الاضلال. وإنما أراد الحكم عليه بذلك بايراد الحجج. ففيه تمييز وتخليص
لحالهم من حال غيرهم من المؤمنين. ومن فسره على العذاب فلأنهم يحرقون
كما يحرق خبث الذهب فهم خبث كلهم. ومن فسره على الفضيحة فلما فيها
من الدلالة عليهم التي يتميزون بها من غيرهم. وقوله " أولئك لم يرد الله
أن يطهر قلوبهم " قيل فيه قولان:
أحدهما - قال أبو علي وغيره لم يرد الله أن يطهرها من الحرج والضيق
الدال على دنس الكفر عقوبة لهم.
الثاني - قال البلخي وغيره: لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم بأنها
بريئة منه مندوحة بضده كما يطهر قلوب المؤمنين بذلك. ولا يجوز أن
يكون المراد بذلك الذين لم يرد الله منهم الايمان، لأنه لو لم يكن مريدا منهم
الايمان، لم يكن مكلفا لهم، لان التكليف هو إرادة ما فيه المشقة والكلفة،
ولان الله أمرهم بالايمان - بلا خلاف - والامر لا يكون أمرا إلا بإرادة
المأمور به على ما بين في غير موضع.
وقوله: " لهم في الدنيا خزي " يعني لهؤلاء الكفار والمنافقين الذين
ذكرهم في الآية، فبين أن لهم خزيا عن عذاب الله في الدنيا وهو ما كان
يفعله بهم من الذل والهوان، والبغض والزام الجزية على وجه الصغار " ولهم
524

في الآخرة عذاب عظيم " مضافا إلى عذاب الدنيا وخزيها.
وقال أبو جعفر (ع) وجماعة من المفسرين ذكرنا أسماءهم: إن امرأة
من خيبر - في شرف منهم - زنت وهي محصنة فكرهوا رجمها، فأرسلوا إلى
يهود المدينة يسألون النبي (ع) طمعا أن يكون أتى برخصة، فسألوه، فقال:
هل ترضون بقضائي؟ قالوا: نعم، فأنزل الله عليه الرجم، فأبوه. فقال
جبرائيل: سلهم عن ابن صوريا، ثم اجعله بينك وبينهم، فقال: تعرفون
شابا أبيضا أعورا أمردا يسكن فدكا يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم هو
أعلم يهودي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى. قال: فأرسلوا إليه فأسلوا
فأتى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت عبد الله بن صوريا. قال: نعم. قال:
أنت أعلم اليهود قال: كذلك يقولون. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فاني أنا شدك
الله الذي لا إله إلا هو القوي إله بني إسرائيل الذي أخرجكم من أرض مصر،
وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون، وظلل عليكم الغمام وأنزل
عليكم المن والسلوى، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه، هل تجدون
في كتابكم الذي جاء به موسى الرجم على من أحصن؟ قال عبد الله بن صوريا:
نعم، والذي ذكرتني لولا مخافتي من رب التوراة أن يهلكني إن كتمت ما
اعترفت لك به، فأنزل الله فيه " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم
كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير " (1) فقام ابن صوريا
فوضع يديه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال: هذا مقام العائذ بالله وبك
أن تذكر لنا الكثير أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك،
ثم سأله ابن صوريا عن نومه وعن شبه الولد بأبيه وأمه وما حظ الأب من

(1) سورة 4 النساء آية 16.
525

أعضاء المولود؟ وما حظ الام؟ فقال: تنام عيناي ولا ينام قلبي، والشبه
يغلبه أي المائين علا، وللأب العظم والعصب والعروق، وللأم اللحم والدم
والشعر. فقال: أشهد أن أمرك أمر نبي، وأسلم، فشتمه اليهود. فقال
المنافقون لليهود: إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه وإن أمركم بالرجم فلا
تقبلوا. وهو قوله: " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه " يعني الجلد " وان لم
تؤتوه فاحذروا " وسلاه عن ذلك بقوله: " لا يحزنك الذين يسارعون في
الكفر " فلما أرادوا الانصراف تعلقت قريظة بالنضير، فقالوا يا أبا القاسم
- وكانوا يكرهون أن يقولوا يا محمد لئلا يوافق ذلك ما في كتابهم من ذكره -
هؤلاء اخواننا بنوا النضير إذا قتلوا منا قتيلا لا يعطونا القود وأعطونا القود وأعطونا سبعين
وسقا من تمر، وإن قلنا منهم قتيلا أخذوا القود ومعه سبعون وسقا من
تمر، وإن أخذوا الدية أخذوا منا مئة وأربعين وسقا. وكذلك جراحاتنا على
أنصاف جراحاتهم، فأنزل الله تعالى " وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا،
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " (1) فحكم بينهم بالسواء، فقالوا:
لا نرضى بقضائك، فأنزل الله " أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله
حكما لقوم يوقنون " (2).
ثم قال " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " شاهدا
لك بما يخالفونك. ثم فسر ما فيها من حكم الله فقال " وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس " الآية " فان تولوا " يعني بني النضير، لما قالوا لا تقبل حكمك
" يصيبهم ببعض ذنوبهم " وهو إجلاؤهم من ديارهم.

(1) سورة 5 المائدة آية 53.
(2) سورة 5 المائدة آية 46.
526

واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية. وقال السيدي نزلت في أبي لبابة
الأنصاري لقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله: إنما هو الذبح فلا
تنزلوا على حكم سعد.
وقال عكرمة وعامر الشعبي: نزلت في رجل من اليهود قتل رجلا من
أهل دينه فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين سلوا لي محمدا صلى الله عليه وآله فان بعث
بالدية اختصمنا إليه وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته. وقال أبو هريرة: نزلت
في عبد الله بن صوريا، وذلك أنه ارتد بعد إسلامه على ما وصفناه عن أبي
جعفر (ع) وقال ابن جريج ومجاهد: نزلت في المنافقين وهم السماعون لقوم
آخرين والأصح من هذه الأقوال أنها نزلت في ابن صوريا على ما قدمناه عن
أبي جعفر (ع) وهو اختيار الطبري لأنه رواه أبو هريرة والبراء بن عازب
وهما صحابيان.
قوله تعالى:
سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاؤوك فاحكم
بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك
شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب
المقسطين 45) آية
قرأ السحت - بضم السين والحاء - ابن كثير وأهل البصرة والكسائي
وأبو جعفر (ع) الباقون باسكان الحاء.
وقوله: " سماعون للكذب " وصف لهؤلاء اليهود الذين تقدم وصفهم.
ورفعه كما رفع سماعون الأول سواء، لأنه صفة بعد صفة. وقد يجوز
527

النصب في الموضعين على القطع لكن لم يقرأ به، وقد فسرنا معنى الكذب.
وقوله: " أكالون للسحت " معناه أنه يكثر أكلهم للسحت، وهو
الحرام.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (السحت الرشوة في الحكم) وفي
السحت لغتان ضم الحاء وإسكانها. وقد قري بهما على ما بيناه، فالسحت
اسم للشئ المسحوت وليس بمصدر، المصدر بفتح السين. وقال الحسن
سمعوا كذبه وأكلوا رشوته. وقال ابن مسعود وقتادة وإبراهيم ومجاهد
والضحاك والسدي: السحت الرشى وروي عن علي (ع) أنه قال: (السحت
الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل، وكسب الحجام، وثمن
الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن والاستعجال في المعصية).
وروي عن أبي هريرة مثله. وقال مسروق سألت عبد الله عن الجور في الحكم
قال: ذلك الكفر، وعن السحت فقال الرجل يقضي لغيره الحاجة فيهدي
له الهدية.
وأصل السحت الاستئصال اسحت الرجل إسحاتا وهو أن يستأصل
كل شئ يقال: سحته وأسحته إذا استأصله. وأذهبه. قال الفرزدق:
وعض زمان يا بن مروان لم يدع * من المال إلا مسحتا أو مجلف (1)
ويقال للحالق: اسحت أي استأصل. ومنه قوله: " فيسحتكم
بعذاب " (2) أي يستأصلكم به وفلان مسحوت المعدة إذا كان أكولا شرها.

(1) اللسان (جلف). عض زمان: ساء زمان. المسحت الشئ المهلك
والمجلف - بضم الميم وتشديد اللام - الشئ الذي بقي منه بقية قليلة
لا يعتنى بها.
(2) سورة طه آية 61.
528

وقد أسحت ماله إذا أفسده وأذهبه. ففي اشتقاق السحت أربعة أقوال:
قال الزجاج لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار. وقال أبو علي هو حرام
لا بركة فيه لأهله، لأنه يهلك هلاك الاستئصال، وقال الخليل هو القبيح
الذي فيه العار نحو ثمن الكلب والخمر فعلى هذا يسحت مروة الانسان.
وقال بعضهم حرام يحمل عليه الشره، فهو كشره المسحوت المعدة.
وقوله: " فان جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم " قال ابن عباس،
والحسن، ومجاهد، وابن شهاب: خيره الله تعالى في الحكم بين اليهود في
زناء المحصن، وفي رواية أخرى عن ابن عباس، وقتادة، وابن زيد أنه خيره
في الحكم بينهم في قتيل قتل من اليهود. وكلا القولين قد رواه أصحابنا على
ما قدمناه. وروي أن عليا (ع) دخل في بيت المال فأفرط فيه ثم قال لا أمسي
وفيك درهم ثم أمر رجلا فقسمه بين الناس، فقيل له لو عوضته شيئا، فقال
إن شاء لكنه سحت وفي اختيار الحكام، والأئمة الحكم بين أهل الذمة إذا
احتكموا إليهم قولان:
أحدهما - قال إبراهيم الشعبي وقتادة وعطاء والزجاج، والطبري،
وهو المروي عن علي (ع) والظاهر في رواياتنا أنه حكم ثابت والتخيير حاصل.
وقال الحسن وعكرمة، ومجاهد، والسدي، والحكم، وجعفر بن
مبشر، واختاره الجبائي: أنه منسوخ بقوله " وان احكم بينهم بما أنزل
الله " (1) فنسخ الاختيار وأوجب الحكم بينهم بالقسط، وهو العدل يقال
أقسط إقساطا إذا عدل " إن الله يحب المقسطين " يعني العادلين، وقسط
يقسط قسوطا إذا جار. ومنه قوله: " وأما القاسطون فكانوا لجهنم

(1) سورة المائدة آية 52.
529

حطبا " (1) أي الجائرون وقوله: " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا "
أي لا يقدرون لك على ضر في دين، ولا دنيا، فدع النظر ان شئت وإن حكمت
فاحكم بما أنزل الله.
قوله تعالى:
وكيف يحكمونك وعندهم التورية فيها حكم
الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (46)
آية بلا خلاف
المعنى كيف يحكمك هؤلاء اليهود يا محمد بينهم، فيرضوا بك حكما،
وعندهم التوراة فيها حكم الله التي أنزلها على موسى التي يقرون بها أنها كتابي
وجه التعجب للنبي صلى الله عليه وآله وفيه تقريع لليهود الذين نزلت فيهم فكأنه قال
الذي أنزلته على نبيي وإنه الحق وإن ما فيه حكم من حكمي لا يتناكرونه
ويعلمونه، وهم مع ذلك يتولون: أي يتركون الحكم به جرأة علي
كيف تقرون أيها اليهود بحكم نبيي محمد مع جحدكم نبوته، وتكذيبكم إياه
وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه واجب وأنه حق من عند الله.
وقوله: " فيها حكم الله " قال أبو علي فيه دليل على أنه لم ينسخ لأنه
لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله كما لا يطلق أن حكم الله تحليل
الخمر أو تحريم السبت. وقال الحسن " فيها حكم الله " بالرجم. وقال قتادة
وعصيانا لي.
" فيها حكم الله " بالقود.

(1) سورة الجن آية 15.
530

فان قيل كيف يقولون " فيها حكم الله " وعندكم أنها محرفة مغيرة؟:.
قلنا: على ما قال الحسن وقتادة لا يتوجه، لأنها وإن كانت مغيرة محرفة
لا يمتنع أن يكون فيها هذان الحكمان غير مبدلين، وهو رجم المحصن
ووجوب القود. ويحتمل أن يكون المراد بذلك فيها حكم الله عندهم، لأنهم
لا يقرون بأنها مغيرة بل يدعون أنها هي التي أنزلت على موسى (ع) بعينها.
والحكم هو فصل الامر على وجه الحكمة فيما يفصل به، وقد يفصل
بالبيان أنه الحق وقد يفصل بالزام الحق والاخذ به كما يفصل الحكام بين
الخصوم بما يقطع الخصومة وتثبت القضية. وقوله: " ثم يتولون " فالتولي
هو الانصراف عن الشئ والتولي عن الحق. الترك له. وهو خلاف التولي
إليه، لان الاقبال عليه والتولي له فالله صرف النصرة والمعونة إليه ومنه تولي
الله للمؤمنين.
وقوله: " من بعد ذلك " قال عبد الله بن كثير: إشارة إلى حكم الله في
التوراة. وقال قوم هو إشارة إلى تحكيمك، لأنهم ليسوا منه على ثقة،
وإنما طلبوا به الرخصة. وقوله: " وما أولئك بالمؤمنين " قيل في معناه قولان:
أحدهما - وما هم بالمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم نبوتك
والعدول عما يعتقدونه حكما لله فيه لا على من يقرون بنبوته، فبين أن حالهم
ينافي حال المؤمن به. والثاني - قال أبو علي أن من طلب غير حكم الله من
حيث لم يرض به فهو كافر بالله وهكذا هؤلاء اليهود.
قوله تعالى:
إنا أنزلنا التورية فيها هدى ونور يحكم بها
531

النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار
بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا
الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (47) آية
عند الجميع
قرأ " اخشوني " بياء في الوصل أهل البصرة وأبو جعفر، وإسماعيل،
ويقف يعقوب بالياء.
أخبر الله تعالى أنه الذي أنزل التوراة فيها هدى أي بيان أن أمر النبي
حق وأن ما سألوك عنه في حكم الزانيين حق، والقود حق " ونور " يعني
فيها جلاء ما أظلم عليهم وضياء ما التبس عيلهم " يحكم بها النبيون الذين
اسلموا " يعني يحكم بالتوراة النبيون الذين أذعنوا بحكم الله وأقروا به.
وقال الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي: إن النبي صلى الله عليه وآله داخل في
ذلك، بل قال أكثرهم: هو المعني بذلك لما حكم في رجم المحصن، ولا يدل
ذلك على أنه كان متعبدا بشرع موسى (ع) لان الله تعالى هو الذي أوجب
عليه بوحي أنزل عليه لا بالرجوع إلى التوراة فصار ذلك شرعا له وإن وافق
ما في التوراة وإنما نبه اليهود بذلك على صحة نبوته من حيث علم ما هو
من غامض علم التوراة ومما قد التبس على كثير منهم وهو قد عرف ذلك من
غير قراءة كتبهم، والرجوع إلى علمائهم، فلم يكن ذلك إلا باعلام الله له
ذلك وذلك من دلائل صدقه (صلى الله عليه وآله).
532

وقوله: " للذين هادوا " العامل في (الذين) أحد شيئين:
أحدهما (يحكم) في قول الزجاج وأبي علي وجماعة من أهل التأويل.
والثاني - قال قوم العامل (أنزلنا) كأنه قال أنزلناها للذين هادوا.
والربانيون. قد فسرناه فيما مضى (1) وهو جمع رباني وهم العلماء
البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم، قال السدي: عنا به ابن صوريا.
وقال الباقون - وهو الأولى - إنه على الجمع، والأحبار جمع حبر، وهو
العالم مشتق من التحبير وهو التحسين فالعالم يحسن الحسن ويقبح القبيح،
وقال الفراء، أكثر ما سمعت فيه حبر بالكسر. وقوله " بما استحفظوا " معناه
بما استودعوا. والعامل في الباء أحد سببين:
أحدهما - " الأحبار " كأنه قال العلماء بما استحفظوا.
والثاني - (يحكم) بما استحفظوا.
وقوله: " وكانوا عليه شهداء " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وآله في التوراة.
الثاني - شهداء على ذلك الحكم أنه الحق من عند الله.
وقوله: " فلا تخشوا الناس واخشوني " قيل في معناه قولان:
أحدهما - لا تخشوهم يا علماء اليهود في كتمان ما أنزلت ذهب
إليه السدي.
الثاني - لا تخشوهم في الحكم بغير ما أنزلت بل اخشوني فان النفع
والضر بيدي " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " معناه لا تأخذوا بترك الحكم
الذي أنزلته على موسى (ع) أيها الأحبار خسيسا. وهو الثمن القليل. وإنما

(1) في تفسير آية 79 من سورة آل عمران المجلد الثاني ص 110 - 111.
533

نهاهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله وتغييرهم حكمه، وهو قول
ابن زيد والسدي.
وقوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " معناه
من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكما بين عباده، فأخفاه وحكم
بغيره: من رجم المحصن والقود " فأولئك هم الكافرون ".
واختلفوا هل الآية على عمومها أم لا؟
فقال ابن مسعود والحسن
وإبراهيم هي على عمومها. وقال ابن عباس: هي في الجاحد لحكم الله.
وقيل في اليهود خاصة في قول الجبائي، لأنه قال لا حجة للخوارج فيها من
حيث هي خاصة في اليهود. وقال البلخي يجوز أن تكون (من) بمعنى
(الذي) وتكون للعهد، وهو من تقدم ذكره من اليهود. ويحتمل أن يكون
خرج مخرج الشتم لا على وجه المجازاة كما يقول القائل: من فعل كذا فهو
الذي لا حسب له ولا أصل، ولا يريد أنه استحق الدناءة بالفعل الذي
ذكروا أنه إنما كان غير حسيب من أجل فعله وإنما يريدون الشتم وإن كان
قد يفعل ذلك لعارض الحسيب العظيم الهمة. واختار الرماني قول ابن
مسعود غير أنه قال الحكم هو فصل الامر على وجه الحكمة عند الحاكم
بخلاف ما أنزل الله، لأنه بمنزلة من قال الحكمة خلاف ما أنزل الله. والأولى
أن تقول هي عامة فيمن حكم بغير ما أنزل الله مستحلا لذلك، فإنه يكون
كافرا بذلك - بلا خلاف - ومتى لم يكن كذلك فالآية خاصة على ما قاله
ابن عباس في الجاحدين أو ما قاله أبو علي في اليهود.
وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله أن هذه الآيات الثلاث: " ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. ومن لم يحكم بما أنزل الله
534

فأولئك هم الظالمون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " في
الكفار خاصة، وبه قال ابن مسعود وأبو صالح. وقال ليس في أهل الاسلام
منها شئ وبه قال الضحاك وأبو مجلز وعكرمة وقتادة. وقال الشعبي: نزلت
" الكافرون " في المسلمين " والظالمون " في اليهود " والفاسقون " في النصارى
وقال عطا وطاووس أراد به كفرا دون كفر، وظلما دون ظلم، وفسقا دون
فسق. ورووه عن ابن. وقال إبراهيم هي عامة في بني إسرائيل وغيرهم
من المسلمين، وبه قال الحسن: وقد بينا الأقوى من هذه الأقاويل.
قوله تعالى:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين
والانف بالأنف والاذن والسن بالسن والجروح
قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (48) آية بلا خلاف
قرأ الكسائي " والعين بالعين والانف والاذن بالاذن والسن بالسن "
بالرفع فيهن. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وأنه كان يقرأ به. وقرأ نافع
" الاذن " بسكون الذال حيث وقع. وقرأ نافع وعاصم وحمزة وخلف
ويعقوب " والجروح قصاص " بالنصب.
قوله " وكتبنا " أي فرضنا عليهم يعني اليهود الذين تقدم ذكرهم
" فيها " يعني في التوراة " أن النفس بالنفس " ومعناه إذا قتلت نفس نفسا
أخرى متعمدا أنه يستحق عليها القود إذا كان القاتل عاقلا مميزا، وكان
535

المقتول مكافيا للقاتل، أما بأن يكونا مسلمين حرين أو كافرين أو مملوكين،
فأما أن يكون القاتل حرا مسلما والمقتول كافرا أو مملوكا فان عندنا لا يقتل.
وفيه خلاف بين الفقهاء. وإن كان القاتل مملوكا أو كافرا أو المقتول مثله
أو فوقه فإنه يقتل به - بلا خلاف -.
وقوله: " والعين بالعين والانف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن
والجروح قصاص " من نصب جميع ذلك عطفه على المنصوب بواو الاشتراك
ثم استأنف، فقال والجروح قصاص. ومن نصب الجروح عطفها على ما قبلها
من المنصوبات. ومن لم ينصب غير النفس فعلى أن ذلك هو المكتوب عليهم.
ثم ابتدأ ما بعده بيانا مبتدأ. ويحتمل أن يكون الواو عاطفة جملة على جملة
ولا يكون الاشتراك فيمن نصب. ويحتمل أن يكون حمل على المعنى، لان
التقدير قلنا لهم " ان النفس بالنفس " فحمل " العين بالعين " على المعنى دون
اللفظ. ويحتمل أن يكون عطف على الذكر المرفوع في الظرف الذي هو
الخبر، وإن لم يؤكد المعطوف عليه بضمير منفصل، كما قال " لو شاء الله
ما أشركنا ولا آباؤنا " (1) فلم يؤكد كما أكد في قوله: " يراكم هو
وقبيله " (2) ذكر الوجوه الثلاثة الزجاج، وأبو علي الفارسي ومن نصب
الجميع جعل الكل فيما كتب عليهم.
هذا وإن كان إخبار من الله أنه ما كتب عليهم في التوراة فإنه لا خلاف
أن ذلك ثابت في هذا الشرع ويراعى في قصاص الأعضاء ما يراعى في قصاص
النفس من التكافؤ. ومتى لم يكونا متكافئين، فلا قصاص على الترتيب

(1) سورة 6 الانعام آية 148.
(2) سورة 7 الأعراف آية 26.
536

الذي رتبناه في النفس سواء. وفيه أيضا خلاف، ويراعى في الأعضاء التساوي
أيضا، فلا تقلع العين اليمنى باليسرى، ولا تقطع اليمين باليسار. وتقطع
الناقصة بالكاملة. فمن قطع يمين غيره وكانت يمين القاطع شللا. قال أبو
علي: يقال له إن شئت قطعت يمينه الشلاء أو تأخذ دية يدك. وقد ورد في
أخبارنا أن يساره تقطع إذا لم يكن للقاطع يمين، فأما عين الأعور، فإنها تقلع
بالعين التي قلعها سواء كانت المقلوعة عوراء أو لم تكن. وان قلعت العين
العوراء كان فيها كمال الدية إذا كانت خلقة أو ذهبت بآفة من الله أو يقلع
احدى عيني القالع ويلزمه مع ذلك نصف الدية. وفي ذلك خلاف ذكرناه
في الخلاف.
وأما الجروح، فإنه يقتص منها إذا كان الجارح مكافيا للمجروح على ما
بيناه في النفس، وتقتص بمثل جراحته الموضحة بالموضحة والهاشمة بالهاشمة
والمنقلة بالمنقلة (1) ولا قصاص في المأمومة وهي التي أم الرأس ولا الجايفة،
وهي التي تبلغ الجوف، لان في القصاص منها تعزيرا بالنفس. ولا ينبغي أن
يقتص من الجراح إلا بعد أن تندمل من المجروح، فإذا اندمل اقتص حينئذ

(1) الموضحة هي الجراح التي بلغة العظم فأوضحت عنه.
(الهاشمة) قيل: شجة تهشم العظم. وقيل: هي التي هشمت العظم
ولم يتباين فراشه. وقيل هي التي هشمت العظم فنقش واخرج، فتباين
فراشه. و (المنقلة) - بكسر القاف وتشديده - هي التي تنقل العظم أي
تكسره حتى يخرج منها فراش العظم وهي قشور تكون على العظم دون
اللحم. وفيها أقوال أخر وروايات في الشرع من شاء فليراجع كتب الفقه
الاستدلالية.
537

من الجارح. وإن سرت إلى النفس كان فيها القود. وكسر العظم لا قصاص
فيه، وإنما فيه الدية. وكل جارحة كانت ناقصة فإذا قطعت كان فيها حكومة.
ولا يقتص لها الجارحة الكاملة كيد شلاء وعين لا تبصر وسن سوداء متأكلة (1)،
فان جميع ذلك حكومة لا تبلغ دية تلك الجارحة. وقد روي أن في هذه
الأشياء مقدرا وهو ثلث دية العضو الصحيح. وتفصيل أحكام الجنايات
والديات استوفيناه في النهاية والمبسوط في الفقه لا نطول بذكره ههنا.
وقوله: " فمن تصدق به فهو كفارة له " الهاء في " كفارة له " يحتمل
عودها إلى أحد أمرين:
أحدهما - وهو الأقوى - ما قاله عبد الله بن عمر والحسن وقتادة وابن
زيد وإبراهيم - على خلاف عنه - والشعبي بخلاف عنه: إنها عائدة على
المتصدق من المجروح أو ولي المقتول، لأنه إذا تصدق بذلك على الجارح
لوجه الله كفر الله عنه بذلك عقوبة ما مضى من معاصيه.
الثاني - على المتصدق عليه لأنه يقوم مقام أخذ الحق عنه ذهب إليه
ابن عباس ومجاهد، وإنما رجحنا الأول، لان العائد يجب أن يرجع إلى
مذكور، وهو من تصدق، والمتصدق عليه لم يجر له ذكر، ومعنى " من
تصدق " به عفا عن الحق واسقط.
فان قيل: هل يكفر الذنب إلا التوبة أو اجتناب الكبيرة؟
قلنا: على مذهبنا يجوز أن يكفر الذنب شئ من أفعال الخير، ويجوز
أن يتفضل الله باسقاط عقابها. وقال قوم: يجوز أن يكفر بالطاعة الصغيرة

(1) (المتأكلة) هي السن المحتكة اما من الكبر أو من عاهة فيها وهي
أيضا السن التي قد ذهب منها شئ وبقي منها بقية.
538

حتى يسقط بها.
وقوله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " قد بينا أن في
الناس من قال ذلك يختص باليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله في التوراة
من القود والرجم. ويمكن أن يحمل على عمومه في كل من لم يحكم بما أنزل
الله وحكم بخلافه بأنه يكون ظالما لنفسه بارتكاب المعصية الموجبة للعقاب.
وهذا الوجه يوجب أن ما تقدم ذكره من الاحكام يجب العلم به في هذا
الشرع وإن كان مكتوبا في التوراة.
قوله تعالى:
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين
يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور
ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين
(49 آية عند الجميع
قوله: (وقفينا) معناه أتبعنا يقال: قفاه يقفوه وقفوا ومنه قافية الشعر
لأنها تتبع الوزن ومنه القفا، ويثنى قفوان، واستقفاه إذا قفا أثره ليسلبه.
والقفي الضيف، لأنه يقفى بالبر واللطف. وقوله " على آثارهم " فالآثار
جمع أثر وهو العسل الذي يظهر للحس، وآثار القوم ما أبقوا من أعمالهم،
ومنه المأثرة، وهي المكرمة التي يأثرها الخلف عن السلف، لأنها عمل يظهر
نصا المنفس، والأثير الكريم على القوم لأنهم يؤثرونه بالبر، ومنه الايثار
بالاختيار، لأنه اظهار أحد العملين على الآخر واستأثر فلان بالشئ إذا
539

اختاره لنفسه. والهاء والميم في قوله: " آثارهم " قيل فيمن يرجع إليه قولان:
أحدهما - اختاره البلخي والرماني: انهما يرجعان إلى النبيين الذين
أسلموا، وقد تقدم ذكرهم. وقال أبو علي يعودان على الذين فرض عليهم
الحكم الذي مضى ذكره، لأنه أقرب. والأول أحسن في المعنى. وهذا
أجود في العربية.
وقوله: " بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة " نصب
مصدقا على الحال. والمعنى أنه يصدق على ما مضى من التوراة الذي أنزلها
الله على موسى ويؤمن بها. وإنما قال لما مضى قبله بين يديه لأنه إذا كان
ما يأتي بعده خلفه، فالذي مضى قبله قدامه وبين يديه.
وقوله (وآتيناه الإنجيل) يعني عيسى أنزلنا عليه الإنجيل " فيه " يعني
في الإنجيل " هدى " يعني بيان، وحجة " ونور " سماه نورا لما فيه من
الاهتداء به كما يهتدى بالنور و " هدى " رفع بالابتداء " وفيه " خبره
قدم عليه. و " نور " عطف عليه و " مصدقا لما بين يديه من التوراة "
نصب على الحال وليس ذلك بتكرير لان الأول حال لعيسى (ع) وأنه يدعوا
إلى التصديق بالتوراة. والثاني - أن في الإنجيل ذكر التصديق بالتوراة
وهما مختلفان و " هدى " في موضع نصب بالعطف على " مصدقا ".
و (موعظة) عطف على " هدى للمتقين ". وإنما اضافه إلى المتقين، لأنهم
المنتفعون بها. وقد مضى مثل ذلك فيما مضى. والمتقون هم الذين يتقون
معاصي الله وترك واجباته خوفا من عقابه والوعظ والموعظة هو الزجر عما
كرهه الله إلى ما يحبه الله والتنبيه عليه.
540

قوله تعالى:
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (50) آية
قرأ حمزة (وليحكم) بكسر اللام، ونصب الميم. الباقون بجزم الميم
وسكون اللام على الامر.
حجة حمزة أنه جعل اللام متعلقة بقوله " وآتيناه الإنجيل " لان إيتاءه
الإنجيل انزال ذلك عليه، فصار كقوله " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم
بين الناس " (1) وحجة من جزم الميم انه جعله أمرا بدلالة قوله: " وأن احكم
بينهم بما أنزل الله " فكما أمر النبي صلى الله عليه وآله بالحكم بما أنزل عليه كذلك أمر
عيسى (ع) بالحكم بما أنزل الله في الإنجيل. وفي معنى الامر قولان:
أحدهما - وقلنا: " ليحكم أهل الإنجيل " فيكون على حكاية ما فرض
عليهم وحذف القول لدلالة ما قبله في قوله وقفينا، وآتيناكما قال: " والملائكة
يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم " (2) أي يقولون سلام عليكم.
الثاني - أنه استأنف الامر لأهل الإنجيل على غير حكاية، لان أحكامه
كانت حينئذ موافقة لاحكام القرآن. ولم تنسخ بعد - هذا قول أبي علي -
والأول أقوى - وهو اختيار الرماني.
وقوله: " بما أنزل الله فيه " يعني الإنجيل، وهو يذكر ويؤنث،

(1) سورة 4 النساء آية 104.
(2) سورة 13 الرعد آية 25.
541

والإنجيل إفعيل من النجل وهو الأصل، والنجل النز من الماء. والنجل
الولد. والنجل القطع. ومنه سمي المنجل. وقرأ الحسن (إنجيل) بفتح
الهمزة وهو شاذ وهو ضعيف. لأنه ليس في كلام العرب شئ على وزن
(أفعيل) وإنما جزمت لام الامر ونصبت لام كي، لان لام الامر توجب معنى
لا يكون للاسم فأوجبت إعرابا لا يكون للاسم ولام كي يقدر بعدها (أن)
بمعنى الاسم. وقوله: " ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون "
قيل فيه قولان:
أحدهما - قال أبو علي ان (من) بمعنى الذي وهو خبر عن قوم
معرفين، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم.
والثاني - قال غيره ان ذلك خرج مخرج المجاراة والمعنى أن من لم
يحكم بما أنزل الله من المكلفين فهو فاسق، لأن اطلاق الصفة يدل على أنه
ذهب إلى أن الحكمة في خلاف ما أمر الله به، فلهذا كان كافرا.
وقال ابن زيد: الفاسقون - ههنا - وفي أكثر القرآن بمعنى الكاذبين
كقوله " إن جاءكم فاسق " (1) يعني كاذب.
قوله تعالى:
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من
الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم

(1) سورة 49 الحجرات آية 6.
542

في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا
فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (51) آية بلا خلاف
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله بأنه تعالى أنزل إليه الكتاب يعني القرآن
" بالحق مصدقا " نصب على الحال يصدق ما بين يديه من الكتاب يعني
التوراة والإنجيل وما فيهما من توحيد الله وعد له والدلالة على نبوته (ع)
والحكم بالرجم والقود على ما تقدم ذكره. وفيه دلالة على أن ما حكى الله
أنه كتبه عليهم في التوراة حكم بأنه يلزمنا العمل به، لأنه جعل القرآن مصدقا
لذلك ومهيمنا عليه.
وقيل في معنى (المهيمن) خمسة أقوال: أحدهما - قال ابن عباس
والحسن وقتادة، ومجاهد: معناه أمين عليه وشاهد. وقال قوم: مؤتمن.
وقال آخرون: شاهد. وقال آخرون حفيظ. وقال بعضهم: رقيب.
والأصل فيه (مؤيمن) فقبلت الهزة هاء، كما قيل في أرقت الماء: هرقت.
هذا قول أبي العباس والزجاج وقد صرف، فقيل (هيمن) الرجل إذا ارتقب،
وحفظ وشهد، يهيمن هيمنة فهو مهيمن. وقال بعضهم مهيمنا - بفتح الميم
الثانية - وهو شاذ. وفي معنى المهيمن ههنا قولان:
قال ابن عباس، والحسن، وأكثر المفسرين: إنه صفة للكتاب.
الثاني - قال مجاهد هو صفة النبي صلى الله عليه وآله والأول أقوى، لأجل حرف العطف،
لأنه قال: " فأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب "
ثم قال: " ومهيمنا " ولا يجوز أن يعطف على حال لغير الأول. لا تقول
ضربت هند زيدا قاعدا وقائمة، ولو قلت قائمة بلا واو لكان جائزا. ويجوز
543

أن يكون عطفا على مصدقا ويكون مصدقا حالا للنبي صلى الله عليه وآله والأول أظهر.
وقوله " فاحكم بينهم بما أنزل الله " قال ابن عباس، والحسن،
ومسروق: يدل على أن أهل الكتاب إذا ترافعوا إلى الحكام يجب أن يحكموا
بينهم بحكم القرآن وشريعة الاسلام، لأنه أمر من الله تعالى بالحكم بينهم
والامر يقتضي الايجاب. وقال أبو علي ذلك نسخ بالتخيير في الحكم بين أهل
الكتاب والاعراض عنهم والترك. وقوله: " ولا تتبع أهواءهم " نهي له صلى الله عليه وآله
عن اتباع أهوائهم في الحكم، لا يدل ذلك على أنه كان اتبع أهواءهم،
لأنه مثل قوله " لئن أشركت ليحبطن عملك " (1) ولا يدل ذلك على أن
الشرك كان وقع منه. وقوله " عما جاءك من الحق " أي لا تتبع أهواءهم
عادلا عما جاءك من الحق.
وقوله " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " فالشرعة والشريعة واحد وهي
الطريقة الظاهرة. والشريعة هي الطريق الذي يوصل منه إلى الماء الذي فيه
الحياة فقيل الشريعة في الدين أي الطريق الذي يوصل منه إلى الحياة في النعيم،
وهي الأمور التي تعبد الله - عز وجل - بها من جهة السمع قال الشاعر:
أتنسونني يوم الشريعة والقنا * بصفين في لباتكم قد تكسرا
يريد شريعة الفرات والأصل فيه الظهور أشرعت القنا إذا أظهرته.
وشرعت في الامر شروعا إذا دخلت فيه دخولا ظاهرا، والقوم في الامر شرع
سواء أي متساوون. والمنهاج الطريق المستمر يقال: طريق نهج ومنهج
أي بين قال الراجز:

(1) سورة 39 الزمر آية 65.
544

من يك ذا شك فهذا فلج * ماء رواء وطريق نهج (1)
وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر قال:
وهذه الألفاظ إذا تكررت فلزيادة فائدة منه. ومنه قول الحطيئة:
ألا حبذا هند وأرض هند * وهند أتى من دونها النأي والبعد (2)
قال فالنأي لما قل بعده والبعد لما كثر بعده فالنأي للمفارقة، وقد جاء
بمعنى واحد. قال الشاعر:
حييت من طلل تقادم عهده * أقوى واقفر بعد أم الهيثم
وأقفر وأقوى معناهما خلا
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك " شرعة ومنهاجا "
أي سنة وسبيلا والشرعة التي جعلت " لكل " قيل فيه قولان: أحدهما -
قال مجاهد شريعة القرآن لجميع الناس لو آمنوا به. الثاني - قال قتادة
وغيره واختاره الجبائي أنه شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن.
وقوله " منكم " قيل في المعنى به قولان:
أحدهما أمة نبينا وأمم الأنبياء قبله على تغليب المخاطب على الغائب.
الثاني - أنه أراد أمة نبينا وحده، وهو قول مجاهد. والأول أقوى
لأنه تعالى بين أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا غير شرعة صاحبه ويقوي ذلك
قوله " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " ولو كان الامر على ما قال مجاهد
لما كان لذلك معنى، لأنه تعالى قد جعلهم أمة واحدة بأن أمرهم بالدخول

(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 168 واللسان (روى). وقد رواه
الطبري (من يك في شك).
(2) اللسان " نأى ".
545

فيها والانقياد لها. وقوله " ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة " قيل في معناه
أقوال:
أحدها قال الحسن والجبائي انه اخبار عن القدرة كما قال " ولو شئنا
لآتينا كل نفس هداها " (1).
الثاني قال البلخي معناه لو شاء الله لفعل ما يختارون عنده الكفر، لكنه
لا يفعله، لأنه مناف للحكمة ولا يلزم على ذلك أن يكون في مقدوره ما
يؤمنون عنده فلا يفعله، لان ذلك لو كان مقدورا لوجب أن يفعله ما لم
يناف التكليف.
الثالث قال قوم: لو شاء الله لجمعهم على ملة واحدة في دعوة جميع
الأنبياء والأول أصح لان دعوة الأنبياء تابعة للمصالح، فلا يمكن جمع الناس
على شريعة واحدة مع اختلاف المصالح.
الرابع قال الحسين بن علي المغربي: معناه لو شاء الله ألا يبعث إليهم
نبيا، فيكونون متعبدين بما في العقل ويكونون أمة واحدة. وأقوى
الوجوه أولها.
وقوله " ولكن ليبلوكم فيما أتاكم " معناه ليختبركم بما كلفكم من
العبادات وهو عالم بما يؤول إليه أمركم، لأنه عالم لنفسه وقد فسرنا معنى
البلوى فيما مضى. " فاستبقوا الخيرات " قيل في معناه قولان:
أحدهما - بادروا فوت الحظ بالتقدم في الخير.
الثاني - بادروا الفوت بالموت ذكره الجبائي.

(1) سورة 32 حم السجدة آية 13.
546

وقوله " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " أي
إلى الله مرجعكم يعني إلى الموضع الذي لا يملك أحد فيه لكم ضرا ولا نفعا
غيره فجعل رجوعهم إلى هذا الحد بالموت رجوعا إليه تعالى وبين أنه يعلمهم
ما كانوا يختلفون فيه في الدنيا من أمر دينهم وأنه يحكم في ذلك بينهم بالحق.
قوله تعالى:
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم
واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فان
تولوا فاعلم أنما يريد الله يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن
كثيرا من الناس لفاسقون (52) آية بلا خلاف
موضع " أن احكم " نصب والعامل فيها وأنزلنا والتقدير وأنزلنا إليك
أن احكم بينهم بما انزل الله. ويجوز أن يكون موضعها رفعا وتقديره ومن
الواجب أن احكم بينهم بما أنزل الله. ووصلت أن بالامر ولا يجوز صلة
الذي بالامر لان (الذي) اسم ناقص مفتقر إلى صلة في البيان عنه فتجري
مجرى صفة النكرة ولذلك لابد لها من عائد يعود إليها وليس كذلك " ان "
لأنها حرف، وهي مع ما بعدها بمنزلة شئ واحد فلما كان في فعل الامر معنى
المصدر جاز وصل الحرف به على معنى مصدره.
وإنما كرر الامر بالحكم بينهم، لامرين:
أحدهما - أنهما حكمان أمر بهما جميعا لأنهم احتكموا إليه في زناء
المحصن ثم احتكموا إليه في قتيل كان منهم ذكره أبو علي وهو المروي عن
547

أبي جعفر (ع).
الثاني - ان الأمر الأول مطلق والثاني دل على أنه منزل.
وقوله " ولا تتبع أهواءهم " نهي له صلى الله عليه وآله أن يتبع أهواءهم فيحكم
بما يهوونه.
وقوله " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " في؟؟
قولان:
أحدهما - قال ابن عباس احذرهم ان يضلوك عن ذلك إلى ما يهوون
من الاحكام اطماعا منهم في الاستجابة إلى الاسلام.
الثاني - قال ابن زيد احذرهم ان يضلوك بالكذب عن التوراة بما ليس
فيها فاني قد بينت لك حكمها. وقال الشعبي الآية وان خرجت مخرج الكلام
على اليهود فان المجوس داخلون فيها.
وقوله " فان تولوا " معناه فان أعرضوا عن حكمك بما أنزل الله " فاعلم
إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " قيل في معناه أربعة أقوال:
أحدها - قال الجبائي انه وان ذكر لفظ الخصوص فان المراد به العموم
كما قد يذكر العموم ويراد به الخصوص.
الثاني - انه على تغليط العقاب أي يكفي أن يؤخذوا ببغض ذنوبهم
في اهلاكهم والتدمير عليهم.
الثالث ان يعجل بعض العقاب بما كان من التمرد في الاجرام لان ذلك
من حكم الله في العباد.
الرابع - قال الحسين: ان المراد به اجلاء بني النضير بنقض العهد وقتل
بني قريظة وقوله " وان كثيرا من الناس لفاسقون " معناه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله
عن اتباع هؤلاء القوم إلى اجابته والاقرار بنبوته بأن قليلا من الناس الذين
548

يؤمنون، وان الأكثر هم الفاسقون، فلا ينبغي ان يعظم ذلك عليك.
قوله تعالى:
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما
لقوم يوقنون (53) آية بلا خلاف
قرأ (تبغون) بالتاء ابن عامر وحده الباقون بالياء. من قرأ بالتاء فعلى
معنى قل لهم، ومن قرأ بالياء، فلان ما قبله على لفظ الغيبة وهو قوله
" وان كثيرا من الناس لفاسقون " فحملوا عليه. والكناية في قوله " أفحكم
الجاهلية تبغون " قيل فيها قولان:
أحدهما - إنها كناية عن اليهود في قول مجاهد، وأبو علي قال أبو علي
لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه. وإذا وجب على
أقويائهم بالغنى والشرف في الدنيا لم يأخذوهم به، فقيل لهم " أفحكم
الجاهلية " يعني عبدة الأوثان " تبغون " وأنتم أهل كتاب.
الثاني - انها كناية عن كل من طلب غير حكم الله أي إنما خرج منه إلى
حكم الجاهلية. وكفى بذلك خزيا أن يحكم بما يوجبه الجهل دون ما
يوجبه العلم.
ونصب " أفحكم الجاهلية يبغون " وهو مفعول به ومعنى تبغون تطلبون
يقال بغى يبغي بغيا إذا طلبه والبغاة هم الذين يطلبون التآمر على الناس
والترأس بغير حق والبغي الفاجرة لأنها تطلب الفاحشة، ومنه قوله " ومن
عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله " (1) أي من طلب عليه الاستعلاء

(1) سورة الحج آية 60.
549

بالظلم. وقوله " ومن أحسن من الله حكما " نصب على التمييز أي فصلا بين الحق
والباطل من غير محاباة، ولا مقاربة لأنه لا يجوز للحاكم أن يحابي في الحكم
بأن يعمل على ما يهواه بدلا مما يوجبه العدل وقد يكون حكم أحسن من
حكم بأن يكون أولى منه وأفضل منه وكذلك لو حكم بحق يوافق هواه
كان ما يخالف هواه أحسن مما يوافقه وقوله " لقوم يوقنون " معناه عند
قوم يوقنون بالله وبحكمه فأقيمت اللام مقام (عند) هذا قول أبي علي،
وهذا جائز إذا تقاربت المعاني ولم يقع اللبس لان حروف الصفات يقوم
بعضها مقام بعض.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى
أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم
إن الله لا يهدي القوم الظالمين (54) آية
قوله " بعضهم أولياء بعض " إخبار منه تعالى ان الكفار يوالي بعضهم
بعضا وقوله " ومن يتولهم منكم " يعني من استنصرهم واتخذهم أنصارا فإنه
منهم أي محكوم له بحكمهم في وجوب لعنه والبراءة منه ويحكم بأنه من
أهل النار. وقوله " ان الله لا يهدي القوم الظالمين " معناه لا يهديهم إلى
طريق الجنة لكفرهم، واستحقاقهم العذاب الدائم بل يضلهم عنها إلى طريق
النار، هذا قول أبي علي. وقال غيره: معناه لا يحكم لهم بحكم المؤمنين في
المدح والثناء والنصرة على الاعداء.
550

قوله تعالى:
فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون
نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو
أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين
(55) آية بلا خلاف
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله أعلمه الله أنه يرى الذين في قلوبهم مرض أي
شك ونفاق " يقولون " في موضع الحال، وتقديره قائلين نخشى أن تصيبنا
دائرة. الذين يخشون أن تصيبهم دائرة قيل فيه قولان:
أحدهما - قال مجاهد وقتادة والسدي وأبو علي الجبائي: إنهم قوم
من المنافقين.
وقال عطية بن سعد وعبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت: إنه عبد الله
ابن أبي بن سلول.
و " الدائرة " الدولة التي تحول إلى من كانت له عمن هي في يديه،
قال الشاعر:
ترد عنك القدر المقدروا * ودائرة الدهر أن تدورا (1)
يعني دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم.
وقوله " فعسى الله أن يأتي بالفتح " عسى موضوعة في اللغة للشك وهي
من الله تعالى تفيد الوجوب، لان الكريم إذا أطمع في خير يفعله، فهو بمنزلة

(1) مجاز القرآن 1: 169 وتفسير الطبري 10: 404.
551

الوعد به في تعلق النفس به وإرجائها له، ولذلك حق لا يضيع ومنزلة لا تخيب.
والفتح القضاء والفصل - وهو قول قتادة - ومنه قوله " افتح بيننا وبين
قومنا بالحق " (1) وقال أبو علي هو فتح بلاد المشركين على المسلمين وقال
السدي: هو فتح مكة. ويقال للحاكم الفتاح، لأنه يفتح الحكم ويفصل به
الامر. وقوله " أو أمر من عنده " قيل فيه ثلاثة أقوال:
قال السدي: هو تجديد أمر فيه إذلال المشركين وعز للمؤمنين، وقيل
هو الجزية.
وقيل: هو اظهار نفاق المنافقين مع الامر بقتلهم في قول الحسن والزجاج.
وقال أبو علي: هو أمر دون الفتح الأعظم أو موت هذا المنافق، لأنه
إذا أتى الله المؤمنين ذلك ندم المنافقون والكفار على تقويتهم بأنفسهم ذلك،
وكذلك إذا ماتوا أو تحققوا ما يصيرون إليه من العقاب ندموا على ما فعلوه
في الدنيا من الكفر والنفاق.
قوله تعالى:
ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد
أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين
(56) آية
قرأ ابن كثير، وعامر، ونافع " يقول " بلا واو. الباقون بالواو،
وكلهم قرأ بضم اللام إلا أبا عمرو، فإنه فتحها. من نصب اللام فالمعنى عسى

(1) سورة 7 الأعراف آية 88.
552

أن يقول، ومن رفعه فعلى الاستئناف.
فان قيل كيف يجوز النصب ولا يجوز أن يقول الذين آمنوا؟
قيل: قال أبو علي الفارسي يحتمل ذلك أمرين غير هذا:
أحدهما - أن يحمل على المعنى، لأنه إذا قال عسى الله أن يأتي بالفتح
وكأنه قال عسى أن يأتي الله بالفتح، " ويقول الذين آمنوا " كما قال
" فاصدق وأكن " كأنه قال: أصدق وأكن، وقد جاء مثله نحو قوله " عسى
أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم (1) وقال
" عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا " (2).
ووجه آخر وهو: أن يبدل (أن يأتي) من اسم الله اسم كما أبدلت (أن) من الضمير
الذي في قوله " وما إنسانية إلا الشيطان أن أذكره " (3) فإذا أبدلته فكأنك
قلت عسى أن يأتي الله بالفتح، ويقول الذين آمنوا. وأما من رفع فلانه
عطف جملة على جملة، ولم يجعلها عاطفة على مفرد. ويقوى الرفع قراءة
من قرأ بلا واو وأما إسقاط الواو وإثباتها فجميعا حسنان: أما الحذف فلان
في الجملة المعطوفة ذكرا في المعطوف عليها وذلك أن من وصف بقوله " يسارعون
فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " إلى قوله " نادمين " هم الذين قال
فيهم " أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم انهم لمعكم حبطت أعمالهم "
فلما صار في كل واحدة من الجملتين ذكر فيما تقدم من الأخرى حسن عطفها
بالواو وبغير الواو، كما أن قوله " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون

(1) سورة 2 البقرة آية 216.
(2) سورة 4 النساء آية 83.
(3) سورة 18 الكهف آية 64.
553

خمسة سادسهم كلبهم " (1) لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر ما تقدم
اكتفى بذلك عن الواو. ويدل على حسن اثبات الواو قوله " ويقولون سبعة
وثامنهم كلبهم ".
قوله " ويقول الذين آمنوا " أي الذين صدقوا بالله ورسوله ظاهرا
وباطنا تعاجبا من نفاق المنافقين " أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم
لمعكم " في معاونتكم على أعدائكم ونصرتكم " حبطت أعمالهم " أي ضاعت
أعمالهم التي عملوها، لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به، لان
ما فعلوه فعلوه على وجه النفاق دون التقرب به إلى الله. وقوله " فأصبحوا
خاسرين " ليس المراد به معنى الصباح، وإنما معناه صاروا خاسرين، ومثل
ذلك قولهم: ظل فلان يفعل كذا، وبات يفعل كذا، وليس بمراد وقت بعينه،
وإنما وصفهم بالخسران، لأنهم فوتوا نفوسهم الثواب واستحقوا عوضا منه
العقاب فأي خسران أعظم من ذلك.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف
يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة
على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (57) آية
قرأ نافع وأهل المدينة " يرتدد " بدالين، وبه قرأ ابن عامر، وكذلك

(1) سورة الكهف آية 22.
554

هو في مصاحفهم. الباقون بدال واحدة مشددة، وكذلك هو في مصاحفهم.
من أظهر ولم يدغم قال: لان الحرف المدغم لا يكون إلا ساكنا ولا يمكن
الادغام في الحرف الذي يدغم حتى يسكن، لان اللسان يرتفع عن المدغم
والمدغم فيه ارتفاعة واحدة، فإذا لم يسكن لم يرتفع اللسان ارتفاعة واحدة،
وإذا لم يرتفع كذلك لم يمكن الادغام، فإذا كان كذلك لم يسغ الادغام في
الساكن لان المدغم إذا كان ساكنا والمدغم فيه كذلك التقى ساكنان، والتقاء
الساكنين في الوصل في هذا النحو ليس من كلامهم فأظهر الحرف الأول في
حركة وأسكن الثاني من المثلين، وهذه لغة أهل الحجاز، فلم يلتق الساكنان.
وحجة من أدغم أنه لما أسكن الحرف الأول من المثلين للادغام لم يمكنه
أن يدغمه في الثاني والثاني ساكن فحرك المدغم فيه لالتقاء الساكنين وهذه
لغة بني تميم. وفي القرآن نظيره قال الله تعالى: " ومن يشاقق الرسول " (1)
وقال: " ومن يشاقق الله ورسوله " (2).
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقول:
فقال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج إنها نزلت في أبي بكر.
الثاني - قال السدي: نزلت في الأنصار.
الثالث - قال مجاهد: نزلت في أهل اليمن، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله
واختاره الطبري لمكان الرواية. وروي أنهم قوم أبي موسى الأشعري.
وكانت وفودهم قد أتت أيام عمر، وكان لهم في نصرة الاسلام أثر. وقال
أبو جعفر وأبو عبد الله (ع) وروي ذلك عن عمار وحذيفة، وابن عباس: أنها
نزلت في أهل البصرة ومن قاتل عليا (ع) فروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال:

(1) سورة 4 النساء آية 114.
(2) سورة 8 الأنفال آية 13.
555

يوم البصرة " والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم " وتلا هذه الآية.
ومثل ذلك روى حذيفة، وعمار وغيرهما. والذي يقوي هذا التأويل أن
الله تعالى وصف من عناده بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين (ع) مستكملا
لها بالاجماع، لأنه قال: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف
يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين " وقد شهد النبي صلى الله عليه وآله
لأمير المؤمنين (ع) بما يوافق لفظ الآية في قوله وقد ندبه لفتح خيبر بعد
فرار من فر عنها واحدا بعد واحد (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه) فدفعها
إلى أمير المؤمنين، فكان من ظفره ما وافق خبر الرسول صلى الله عليه وآله. ثم قال
" أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين
والرفق بهم، والعزة على الكافرين. والعزيز على الكافرين هو الممتنع من
أن ينالوه مع شدة نكايته فيهم ووطأته عليهم، وهذه أوصاف أمير المؤمنين (ع)
التي لا يدانى فيها ولا يقارب. ثم قال " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون
لومة لائم " فوصف - جل اسمه من عنا بهذا الجهاد وبما يقتضي الغلية
فيه، وقد علمنا أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله بين رجلين: رجلا لا عناء له في
الحرب ولا جهاد. والآخر له جهاد وعناء، ونحن نعلم قصور كل مجاهد عن
منزلة أمير المؤمنين (ع) في الجهاد، فإنهم مع علو منزلتهم في الشجاعة وصدق
البأس لا يلحقون منزلته ولا يقاربون رتبته لأنه عليه السلام المعروف بتفريج
الغمم، وكشف الكرب عن وجه الرسول صلى الله عليه وآله وهو الذي لم يحم قط عن
قرن، ولا نكص عن هول، ولا ولى الدبر، وهذه حالة لم تسلم لاحد قبله
ولا بعده فكان (ع) بالاختصاص بالآية أولى لمطابقة أوصافه لمعناها.
556

فاما من قال أنها نزلت في أبي بكر فقوله بعيد من الصواب، لأنه تعالى
إذا كان وصف من أراده بالآية بالعزة على الكافرين وبالجهاد في سبيله مع
اطراح خوف اللوم كيف يجوز أن يظن عاقل توجه الآية إلى من لم يكن له
حظ في ذلك الموقف لان المعلوم أن أبا بكر لم يكن له نكاية في المشركين،
ولا قتيل في الاسلام، ولا وقف في شئ من حروب النبي صلى الله عليه وآله موقف أهل
البأس والفناء، بل كان الفرار شيمته، والهرب ديدنه، وقد انهزم عن
النبي صلى الله عليه وآله في مقام بعد مقام، فانهزم يوم أحد ويوم حنين، وغير ذلك،
فكيف يوصف بالجهاد في سبيل الله - على ما يوصف في الآية - من لا جهاد
له جملة. وهل العدول بالآية عن أمير المؤمنين (ع) مع العلم الحاصل بموافقة
أوصافه لها إلى غيره إلا عصبية ظاهرة. ولم يذكر هذا طعنا على أبي بكر
(رضي الله عنه) ولا قدحا فيه، لان اعتقادنا فيه أجمل شئ، بل قلنا أليس
في الآية دلالة على ما قال.
ومعنى " أذلة على المؤمنين " أي أهل لين ورقة " أعزة على الكافرين "
أي أهل جفاة وغلظة. والذل بكسر الذال غير الذال بضمها، لان الأول اللين
والانقياد والثاني الهوان والاستخفاف. وروي عن علي (ع) وابن عباس
(رحمة الله عليه) أن معنى " أذلة " أهل رحمة ورقة. ومعنى " أعزة
أهل غلظة وشدة. وقال الأعمش " أذلة " يعني ضعفاء.
ومحبة الله تعالى لخلقه إرادة ثوابهم وإكرامهم وإجلالهم. ومحبتهم له
إرادتهم لشكره وطاعته وتعظيمه. والارتداد - عندنا - على ضربين: مرتد
عن فطرة الاسلام، فإنه يجب قتله ولا يستتاب، ويقسم ماله. بين ورثته
وتعتد منه زوجته عدة الوفاة من يوم ارتداده. والآخر من أسلم عن كفر
557

ثم ارتد فهذا يستتاب، فان تاب وإلا وجب عليه القتل، فان لحق بدار الحرب.
اعتدت منه زوجته عدة الطلاق، فان رجع إلى الاسلام في زمان العدة كان
أملك بها، وإن لم يرجع وانقضت العدة فقد ملكت نفسها، ولا سبيل له
عليها وإن رجع فيما بعد. وأما المرأة فإنها تستتاب على كل حال، فان تابت
وإلا حبست حتى تموت. وفي ذلك خلاف قد بيناه في مسائل الخلاف، فأما
من يعتقد الجبر والتشبيه وأزلية صفات قديمة معه تعالى فهو كافر بلا خلاف
بين أهل العدل. واختلفوا فمنهم من قال حكمه حكم المرتد يستتاب فان تاب
وإلا قتل. ومنهم من قال يستتاب ولا يقتل لأنه لم يخرج عن الملة لاقراره
بالشهادتين.
وقوله " يجاهدون في سبيل الله " صفة للقوم الذين وعد الله أن يأتي
بهم إن ارتدوا. وقوله " ولا يخافون لومة لائم " أي لا يخشون لوم أحد
وعذله ولا يصدهم ذلك عن العمل بما أمرهم الله به وذلك إشارة إلى هذا
النعت الذي نعتهم به " ذلك فضل الله " أي ذلك فضل من الله وتيسر منه
ولطف منه، ومنة من جهته " والله واسع عليم " يعني جواد على من يجود
به عليه لا يخاف نفاد ما عنده " عليم " بموضع جوده وعطائه ولا يبذله الا
لمن تقتضي الحكمة إعطاؤه.
قوله تعالى:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون 58 آية بلا خلاف
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه، فروى أبو بكر الرازي في كتاب
558

أحكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه، والطبري، والرماني، ومجاهد،
والسدي: إنها نزلت في علي (ع) حين تصدق بخاتمه وهو راكع، وهو قول
أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وجميع علماء أهل البيت. وقال الحسن والجبائي:
انها نزلت في جميع المؤمنين. وقال قوم نزلت في عبادة بن الصامت في تبرئه
من يهود بني قينقاع، وحلفهم إلى رسول الله والمؤمنين. وقال الكلبي نزلت
في عبد الله بن سلام وأصحابه لما أسلموا فقطعت اليهود موالاتهم، فنزلت الآية.
واعلم إن هذه الآية من الأدلة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين (ع)
بعد النبي بلا فصل.
ووجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أن الولي في الآية بمعنى الأولى والأحق.
وثبت أيضا أن المعني بقوله " والذين آمنوا " أمير المؤمنين (ع) فإذا ثبت هذان
الأصلان دل على إمامته، لان كل من قال: ان معنى الولي في الآية ما ذكرناه
قال إنها خاصة فيه. ومن قال باختصاصها به (ع) قال المراد بها الإمامة.
فان قيل دلوا أولا على أن الولي يستعمل في اللغة بمعنى الأولى والأحق
ثم على أن المراد به في الآية ذلك، ثم دلوا على توجهها إلى أمير المؤمنين (ع)
قلنا: الذي يدل على أن الولي يفيد الأولى قول أهل اللغة للسلطان
المالك للامر: فلان ولي الأمر قال الكميت:
ونعم ولي الأمر بعد وليه * ومنتجع التقوى ونعم المؤدب
ويقولون: فلان ولي عهد المسلمين إذا استخلف للامر لأنه أولى بمقام
من قبله من غيره وقال النبي صلى الله عليه وآله (أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها
باطل) يريد من هو أولى بالعقد عليها. وقال تعالى: " فهب لي من لدنك
559

وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " (1) يعني من يكون أولى بحيازة ميراثي
من بني العم. وقال المبرد: الولي والأولى والأحق والمولى بمعنى واحد والامر
فيما ذكرناه ظاهر، فاما الذي يدل على أن المراد به في الآية ما ذكرناه هو ان
الله تعالى نفى أن يكون لنا ولي غير الله وغير رسوله، والذين آمنوا بلفظة
" إنما " ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين، لان
الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم. قال الله تعالى " والمؤمنين والمؤمنات
بعضهم أولياء بعض " (2) وإنما قلنا: أن لفظة (إنما) تفيد التخصيص،
لان القائل، إذا قال إنما لك عندي درهم فهم منه نفي ما زاد عليه، وقام مقام
قوله: ليس لك عندي إلا درهم. ولذلك يقولون إنما النحاة المدققون
البصريون ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم. ومثله قولهم: إنما السخاء
سخاء حاتم يريدون نفي السخاء عن غيره، قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى * وإنما العزة للكاثر (3)
أراد نفي العزة عن من ليس بكاثر. واحتج الأنصار بما روي عن النبي
صلى الله عليه وآله أنه قال (إنما الماء من الماء) في نفي الغسل من غير انزال.
وادعى المهاجرون نسخ الخبر، فلولا أن الفريقين فهموا التخصيص لما كان
الامر كذلك ولقالوا (إنما) لا تفيد الاختصاص بوجوب الماء من الماء.
ويدل أيضا على أن الولاية في الآية مختصة أنه قال: " وليكم " فخاطب
به جميع المؤمنين ودخل فيه النبي صلى الله عليه وآله وغيره ثم، قال ورسوله، فاخرج

(1) سورة مريم آية 4 - 5.
(2) سورة التوبة آية 72.
(3) اللسان (كثر) والأكثر هنا والكاثر بمعنى العدد الكثير وليس
هو للتفضيل.
560

النبي صلى الله عليه وآله من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، فلما قال " والذين آمنوا "
وجب أيضا أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية. وإلا.
أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه وأدى إلى أن يكون كل واحد
منهم ولي نفسه، وذلك محال. وإذا ثبت أن المراد بها في الآية ما ذكرناه،
فالذي يدل على أن أمير المؤمنين (ع) هو المخصوص بها أشياء:
منها - أن كل من قال: ان معنى الولي في الآية معنى الأحق قال إنه هو
المخصوص به. ومن خالف في اختصاص الآية يجعل الآية عامة في المؤمنين
وذلك قد أبطلناه.
ومنها - ان الطائفتين المختلفتين الشيعة وأصحاب الحديث رووا أن
الآية نزلت فيه (عليه السلام) خاصة.
ومنها - أن الله تعالى وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلا فيه،
لأنه قال: " والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
" فبين أن المعني بالآية هو الذي أتى الزكاة في حال الركوع. وأجمعت الأمة
على أنه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين (ع)، وليس لاحد
أن يقول: إن قوله " وهم راكعون " ليس هو حالا ل‍ " يؤتون الزكاة "
بل المراد به أن من صفتهم إيتاء الزكاة، لان ذلك خلاف لأهل العربية، لان
القائل إذا قال لغيره لقيت فلانا، وهو راكب لم يفهم منه الا لقاؤه له في حال
الركوب، ولم يفهم منه أن من شأنه الركوب. وإذا قال: رأيته وهو جالس
أو جاءني وهو ماش لم يفهم من ذلك كله إلا موافقة رؤيته في حال الجلوس
أو مجيئه ماشيا. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الآية مثل ذلك.
فان قيل: ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الآية المراد به
561

الخضوع كأنه قال يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين كما قال الشاعر:
ولا تهين الفقير علك أن * تركع يوما والدهر قد رفعه (1)
والمراد علك أن تخضع، قلنا الركوع هو التطأطأ المخصوص، وإنما
يقال للخضوع ركوعا تشبيها ومجازا، لان فيه ضربا من الانخفاض، يدل
على ما قلناه نص أهل اللغة عليه، قال صاحب العين: كل شئ ينكب لوجهه
فتمس ركبتيه الأرض أولا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع قال لبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت * أدب كأني كلما قمت راكع (2)
وقال ابن دريد: اراكع الذي يكبو على وجهه، ومنه الركوع في الصلاة
قال الشاعر:
وأفلت حاجب فوق العوالي * على شقاء تركع في الظراب (3)
أي تكبوا على وجهها. وإذا كانت الحقيقة ما قلناه، لم يجز حمل
الآية على المجاز.
فان قيل قوله " الذين آمنوا " لفظ جمع كيف تحملون ذلك على
الواحد؟
قيل: قد يعبر عن الواحد لفظ الجمع إذا كان معظما عالي الذكر قال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " (3) وقال: " رب ارجعون "

(1) قائله الأضبط بن قريع الأسدي. وهو في اللسان (ركع). وقد
مر في موارد كثيرة من هذا الكتاب.
(2) اللسان (ركع) وقد مر في 1 / 195.
(3) اللسان (ركع) وقد مر في 1 / 195.
(4) سورة الحجر آية 9.
562

وقال " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " (1) ونظائر ذلك كثيرة. وقال:
" الذين قال لهم الناس قد جمعوا لكم " (2) ولا خلاف في أن المراد
به واحد، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي. وقال: " أفيضوا من حيث
أفاض الناس " (3) والمراد رسول الله صلى الله عليه وآله وقال " الذين قالوا لاخوانهم
وقعودا لو أطاعونا ما قتلوا " (4) نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول.
فإذا ثبت استعمال ذلك كان قوله " الذين يقيمون الصلاة " محمولا
على الواحد الذي قدمناه.
فان قيل: لو كانت الآية تفيد الإمامة لوجب أن يكون ذلك إماما في
الحال ولجاز له أن يأمر وينهى ويقوم بما يقوم به الأئمة.
قلنا: من أصحابنا من قال: إنه كان إماما في الحال ولكن لم يأمر
لوجود النبي صلى الله عليه وآله وكان وجوده مانعا من تصرفه، فلما مضى النبي صلى الله عليه وآله
قام بما كان له. ومنهم من قال - وهو الذي نعتمده - أن الآية دلت على
فرض طاعته واستحقاقه للإمامة. وهذا كان حاصلا له. وأما التصرف فموقوف
على ما بعد الوفاة كما يثبت استحقاق الامر لولي العهد في حياة الامام الذي
قبله وإن لم يجز له التصرف في حياته. وكذلك يثبت استحقاق الوصية
للوصي وان منع من التصرف وجود الموصي. وكذلك القول في الأئمة وقد
استوفينا الكلام على الآية في كتب الإمامة بما لا يحتمل بسطه هاهنا.
فان قيل: أليس قد روي أنها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد الله بن
سلام وأصحابه؟ فما أنكرتم أن يكون المراد بالذين آمنوا هم دون من

(1) سورة ألم السجدة آية 13.
(2) سورة آل عمران آية 172.
(3) سورة البقرة آية 199.
(4) سورة آل عمران آية 168.
563

ذهبتم إليه؟
قلنا: أول ما نقوله: إنا دللنا على أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (ع)
بنقل الطائفتين، ولما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الآية وأنها ليست
حاصلة في غيره بطل ما يروى في خلاف ذلك، على أن الذي روي في الخبر
من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه، لان عبادة لما تبرأ من حلف
اليهود أعطي ولاية من تضمنته الآية، فأما ما روي من خبر عبد الله بن سلام
فبخلاف ما ذهبوا إليه لأنه روي أن عبد الله بن سلام لما أسلم قطعت اليهود
حلفه وتبرؤوا منه فاشتد ذلك عليه، وعلى أصحابه فأنزل الله تعالى الآية
تسلية لعبد الله ابن سلام وأصحابه وأنه قد عوضهم من محالفة اليهود، ولاية
الله وولاية رسوله وولاية الذين آمنوا. والذي يكشف عما قلناه أنه قد روي
أنها لما نزلت خرج النبي صلى الله عليه وآله من البيت، فقال لبعض أصحابه (هل أعطى
أحد سائلا شيئا فقالوا: نعم يا رسول الله قد أعطى علي بن أبي طالب السائل
خاتمه، وهو راكع. فقال النبي صلى الله عليه وآله الله أكبر قد أنزل الله فيه قرآنا) ثم
تلا الآية إلى آخرها. وفي ذلك بطلان ما قالوه. وقد استوفينا ما يتعلق
بالشبهات المذكورة في الآية في كتاب الاستيفاء وحللناها بغاية ما يمكن،
فمن أراده وقف عليه من هناك. فأما الولي بمعنى الناصر فلسنا ندفعه في
اللغة لكن لا يجوز أن يكون مرادا في الآية لما بيناه من نفي الاختصاص.
وإقامة الصلاة اتهامها بجميع فروضها من قولهم فلان قائم بعمله الذي
وليه أي يوفي العمل جميع حقوقه، ومنه قوام الآمر. وفي الآية دلالة على
أن العمل القليل لا يفسد الصلاة.
564

قوله تعالى:
ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله
هم الغالبون (59) آية
قيل في معنى قوله " ومن يتولى الله ورسوله " قولان:
أحدهما - قال أبو علي من يتولى القيام بطاعة الله ورسوله ونصرة
المؤمنين.
الثاني - من يكون وليا لله ورسوله والمؤمنين: بنصرة دين الله والاخلاص
له. ولا يدل ذلك على أن الولاية الأولى هي تولي النصرة من حيث كان في
هذه الآية كذلك، لأنه لا تنافي بين أن تفيد الآية الأولى الطاعة وإن أفادت
الثانية تولى النصرة وليس يجب أن تحمل الثانية على الآية الأولى من غير
ضرورة.
على أن في أصحابنا من قال: هذه الآية مطابقة للأولى وأنها تفيد وجوب
طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة الذين آمنوا، وهم الذين ذكرهم الله في الآية
فعلى هذا زالت الشبهة.
و " من " رفع بالابتداء. والجملة خبر عنه وفي " يتولى " ضمير يعود إلى
(من) والعائد إلى " من " معنى الخبر، كأنه قال، فهو غالب وصار هذا
الكلام في موضعه، وهذا العائد في موضع الجواب. ومعنى " من " في
الجزاء معنى " إن " فلهذا جزمت الفعل المضارع، و " لو " لا تجزم لأنها
للماضي، وليست بمعنى " إن " وإنما يعرب الفعل المضارع دون الماضي.
والفرق بين " من " والذي " من ثلاثة أوجه أحدها - أن " من " لما يعقل
565

و " الذي " مشتركة. و " من " في الجزاء لما يستقبل، وهي في معنى
" إن " وليس كذلك " الذي " وثالثها - أن " من " تجزم ولا تحتاج
في الجزاء والاستفهام إلى صلة ولا يكون جوابها إلا بالفعل والفاء.
وقوله: " فان حزب الله هم الغالبون " قال الحسن حزب الله جند الله.
وقال غيره أنصار الله قال الشاعرة:
وكيف أضوى وبلال حزبي (1)
أي كيف استضام وبلال ناصري. وأصله النائبة من قولهم: حزبه الامر
يجز به حزبا إذ أنابه، وكل قوم تشابهت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب. ومنه
قوله " أولئك الأحزاب " (2) " وكل حزب لما لديهم فرحون " (3).
و " إن حزب الشيطان هم الخاسرون " وتحزب القوم إذا اجتمعوا كالاجتماع
على النائبة. وأرض حزبة غليظة وحمار حزابية مجتمع الخلق غليظ.

(1) قائلة رؤبة بن العجاج. ديوانه: 16، ومجاز القرآن 1: 169 من
أرجوزة يمدح بها بلال بن أبي بردة وقد ذكر نفسه ثم اعترض من يعترضه
في الهجاء فقال:
ذاك وان عبى لي المعجبى * وطحطح الجد لحاء القشب
ألقيت أقوال الرجال الكذب * وكيف اضوى وبلال حزبي
ورواية الديوان " ولست اضوى ". طحطح الشئ): فرقه.
و (اللحاء): المخاصمة و (القشب) - بفتح القاف وسكون الشين
الكلام المفترى.
(2) سورة ص آية 13.
(3) سورة المؤمنون آية 54 وسورة الروم آية 32.
566

قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم
هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار
أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (60) آية
قرأ " والكفار " بالجر أبو عمرو، ونافع، والكسائي. والباقون
بالنصب، فمن نصب عطف على " الذين اتخذوا دينكم " وحجتهم في ذلك
قوله: " لا يتخذوا المؤمنون الكافرين أولياء ". ومن جر عطف على " من
الذين أوتوا الكتاب " أي ومن الكفار أولياء وحجتهم في ذلك أن الحمل على
أقرب العاملين أجود، لأنها لغة القرآن وحسن الحمل على الجر، لان فرق
الكفار ثلاث المشرك. والمنافق. والكتابي الذي لم يسلم وقد كان منهم
الهزء فساغ لذلك أن يكون الكفار مجرورا وتفسيرا للموصول وموضحا له.
وقد اخبر الله تعالى أن المشركين كان منهم استهزاء بقوله " إنا كفيناك
المستهزئين " (1) وعن المنافقين في قوله: " وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا انا
معكم إنما نحن مستهزؤن " (2) وأخبر عن الكتابي في هذه الآية. فقال
" لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
والكفار " وإن وقع على جميع الأصناف، فهو في من ليس من أهل الكتاب
أليق، وعليه أغلب، فلذلك أفرد بالذكر. وقال الحسن: المعنى بالكفار
مشركوا العرب، وإنما دخل غيرهم في الحكم بما صحب الكلام من الدليل

(1) سورة المجادلة آية 19.
(2) سورة البقرة آية 14.
567

وقال غيره: يدخل فيه جميع أصناف الكفار، وإنما وصفهم الله تعالى بما كانوا
عليه من التلاعب بالدين لامرين:
أحدهما - لاغراء المؤمنين بعداوتهم والبراءة منهم.
الثاني - ذما لهم وتحذيرا من مثل حالهم لأنها حال السفهاء الذين
لا خلاق لهم. وقال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن
الحارث قد أظهرا الاسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل
الله هذه الآية ويجوز في " هزوا " أربعة أوجه: الأول " هزؤا " بضم الزاي
وتخفيف الهمزة، الثاني هزوا بالواو ومن غير همز على التخفيف لان الهمزة
مفتوحة قبلها ضمة كجون، الثالث هزأ بسكون الزاي والهمز. الرابع
هزى على وزن هدى بفتح الزاي واسقاط الهمزة. والهزء السخرية وهو
اظهار ما يلهي تعجبا مما يجري. قال الله تعالى: " ولقد استهزئ برسل
من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن " (1) وقال الشاعر:
ألا هزئت واعجبها المشيب * فلا نكر لديك ولا عجيب
ويقال هزئ به يهزأ هزوا وهزؤا واستهزؤا به استهزاءا. و (اللعب)
الاخذ على غير طريق الحق، ومثله العبث وأصله من لعاب الصبي يقال:
لعب يلعب لعبا إذا سال لعابه لأنه يخرج إلى غير جهته وكذلك اللاعب يمر
في غير جهة الصواب.
وقوله: " ان كنتم مؤمنين ": قيل في معناه قولان:
أحدهما - ان كنتم مؤمنين بوعده ووعيده.
الثاني - إن من كان مؤمنا غضب لايمانه على من طعن فيه. وكافاه

(1) سورة الأنعام آية 10 وسورة الأنبياء آية 41.
568

بما يستحقه من المقت له.
قوله تعالى:
وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذها هزوا ولعبا ذلك
بأنهم قوم لا يعقلون (61) آية بلا خلاف
النداء والدعاء بمد الصوت على طريقة يا فلان وأصله ندى الصوت
وهو بعد مذهبه وضجة جرمه. ومنه قولهم: أناديك ولا أناجيك أي
أعالنك النداء، ولا أسر لك النجوى، وأصل الباب الندو، وهو الاجتماع
يقال ندى القوم يندون ندوا إذا اجتمعوا في النادي، ومنه دار الندوة
وندى الماء، لأنه يجتمع قليلا قليلا وندى الصوت لأنه عن جرم ندي.
أخبر الله تعالى عن صفة الكفار الذين نهى الله المؤمنين عن اتخاذهم
أولياء بأنهم إذا نادى المؤمنون إلى الصلاة ودعوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا
وفي معنى ذلك قولان:
قال قوم: إنهم كانوا إذا أذن المؤمنون للصلاة تضاحكوا فيما بينهم
وتغامزوا على طريق السخف والجنون تجهيلا لأهلها، وتنفيرا للناس عنها،
وعن الداعي إليها.
الثاني - أنهم كانوا يرون المنادي إليها بمنزلة اللاعب الهازئ بفعلها
جهلا منهم بمنزلها وقال أبو ذهيل الجمحي:
وأبرزتها من بطن مكة بعد ما * أصات المنادي بالصلاة فأعتما
وقوله تعالى: " بأنهم قوم لا يعقلون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - انهم لا يعقلون ما لهم في اجابتهم لو أجابوا إليها من الثواب،
569

وما عليهم في استهزائهم بها من العقاب.
الثاني - انهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح ويردعه من الفواحش
وقال السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة فسمع المؤذن ينادي أشهد
أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله قال: حرق الكاذب
فدخلت خادمة له ليلة بنار وهو نائم وأهله فسقطت شرارة فأحرق البيت
واحترق هو وأهله.
قوله تعالى:
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله
وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم
فاسقون (62) آية واحدة
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يخاطب أهل الكتاب فيقول لهم " هل
تنتقمون منا " وقيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها هل تسخطون. الثاني هل
تنكرون. والثالث هل تكرهون، والمعنى متقارب يقول ينقم نقما ونقم
ينقم والأول أكثر قال عبد الله بن قيس الرقيات:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا (1)
قال ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن
أخطب ورافع ابن أبي رافع وغيره، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال

(1) ديوانه: 70 ومجاز القرآن 1: 170 واللسان (نقم) من
قصيدته التي قالها لعبد الملك بن مروان في خبر ذكره أبو الفرج الاصفهاني
في الأغاني 50: 76 - 80.
570

أؤمن " بالله وما أنزل الينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل ويعقوب
والأسباط وأما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين
أحد منهم ونحن له مسلمون " (2) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا:
لا نؤمن به وبمن آمن به، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله " وإن أكثركم فاسقون " في موضع نصب، لأنه مصدر في
تقدير بان أكثركم، ولو أستأنفه كان صوابا لكن لم يقرأ به. وقيل في معناه
ثلاثة أقوال:
قال الزجاج والفراء هل تكرهون منا إلا ايماننا وفسقكم، والمعنى
ليس هذا مما ينقم.
الثاني - قال الحسن: لفسقكم نقمتم ذلك علينا.
الثالث - قال أبو علي: نقموا فسق أكثرهم، لأنهم لم يتابعوهم عليه.
فان قيل كيف قال: " وان أكثركم فاسقون " وهم جميعا فساق؟ قلنا
عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها أنهم خارجون عن أمر الله طلبا للرئاسة وحسدا على منزلة النبوة.
الثاني - فاسقون بركوب الأهواء. الثالث - على التلطف للاستدعاء.
ومعنى الآية هل تكرهون إلا ايماننا وفسقكم أي إنما كرهتم ايماننا
وأنتم تعلمون أنا على حق، لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم
الرئاسة وتكسبكم بها الأموال.
فان قيل كيف يعلم عاقل أن دينا من الأديان حق فيؤثر الباطل على
على الحق؟!

(1) سورة البقرة آية 136.
571

قلنا: أكثر ما نشاهده كذلك، من ذلك أن الانسان يعلم أن القتل
يورده النار، فيقتل إما إيثارا لشفاء غيظ أو لاخذ مال. وكما فعل إبليس
مع علمه بأن الله يدخله النار بمعصيته فآثر هواه على القربة من الله وعمل
لما يدخله النار. وهذا ظاهر في العادات.
قوله تعالى:
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه
الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد
الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (63)
قراء حمزة " وعبد الطاغوت " بضم الباء وخفض التاء يريد خدم
الطاغوت في قول الأعمش، ويحيى بن رئاب. الباقون بفتح الباء والدال
ونصب التاء
قال أبو علي: حجة حمزة أنه حمل على ما عمل فيه (جعل) كأنه قال
وجعل منهم من عبد الطاغوت. ومعنى (جعل) خلق، كما قال " وجعل منها
زوجها " (1) وقال " وجعل الظلمات والنور " (2) قال: وليس (عبد)
لفظ جمع لأنه ليس في أبنية الجمع شئ على هذا البناء لكنه واحد في موضع
جمع كما قال " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (3) وجاء على (فعل) لان
هذا البناء يراد به الكثرة نحو يقط وندس و (عبد) في الأصل صفة، وان

(1) سورة الأعراف آية 188.
(2) سورة الأنعام آية 1.
(3) سورة الرعد آية 34 وسورة النحل آية 18.
572

كان استعمل استعمال الأسماء، ولا يزيل ذلك عنه كونه صفة كما لم يزل
في الأبرق والأبطح حيث كسر تكسير الأسماء لم يزل عنهما معنى الصفة
بدلالة أنهم تركوا صرفهما كما تركوا صرف (أحمر) ولم يجعلوه كأوكل
وابدع.
وأما من فتح فإنه عطفه على مثال الماضي الذي في الصلة، وهو قوله
" لعنه الله وغضب عليه " وأفرد الضمير في (عبد) وإن كان المعنى فيه كثرة
لان الكلام محمول على لفظ (من) دون معناه، ولو حمل الكلام أو البعض
على المعنى لكان صوابا قال الفراء: وقرأ أبي وعبد الله " وعبد الطاغوت "
على الجمع، والمعنى والذين عبد الطاغوت - بضم العين والباء - مثل ثمار
وثمر، وعبيد وعبد، على أنه جمع جمع، ويكون المعنى وجعل منهم عبد
الطاغوت كما تقول: جعلت زيدا أخاك أي نسبته إليك ويجوز على هذا
رفع الدال على تقدير، وهم عبد الطاغوت لكن لم يقرأ به أحد. قال:
ولو قرأ قارئ وعبد الطاغوت كان صوابا يريد به عبدة الطاغوت ويحذف
الهاء للإضافة كما قال الشاعر:
قام ولاها فسقوه صر خدا (1) يريد ولاتها وحكي في الشواذ و (عبد الطاغوت) على ما لم يمسي
فاعله، ذكره الرماني. قال الطبري هي قراءة أبي جعفر المدني. وحكى
البلخي (عابد الطاغوت، وعبد الطاغوت) مثل شاهد وشهد. وحكى أيضا
(عباد الطاغوت) مثل كافر وكفار، ولا يقرأ بشئ من ذلك. وقال الطبري

(1) معاني القرآن للفراء 1: 314. والطبري 1: 441 (صرخد)
موضع في الشام تنسب له الخمرة الجيدة.
573

عن بريدة الأسلمي انه قرأ (عابد الطاغوت) فهذه ثمانية أوجه، لكن لا يقرأ
إلا بقرائتين أو ثلاثة، لان القراءة متبوعة يؤخذ بالمجموع عليه، قال الفراء
(عبد) على ما قرأ حمزة إن كانت لغة فهو مثل حذر وحذر، وعجل وعجل
فهو وجه والا فإنه أراد قوله الشاعر:
أبنى لبيني إن أمكم * أمة وإن أباءكم عبد (1)
فحرك وهذا في ضرورة الشعر لا في القراء وأنشد الأخفش:
أنسب العبد إلى آبائه * اسود الجلدة من قوم عبد (2) أما الله تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله أن يخاطب الكفار ويقول لهم
" هل أنبئكم " أي هل أخبركم " بشر من ذلك " أي من الذي طعنتم عليه
من المسلمين، ومما رغبتم عنه ونقمتم عليه، وإنما قال " بشر من ذلك
وان لم يكن من المؤمن شر وكذلك قوله " أولئك شر مكانا " على الانصاف
في الخطاب والمظاهرة في الحجاج لان الكفار يعتقدون ان هؤلاء أشرار،
وأن ما فيهم شر فخرج على ما يعتقدونه.
وقوله: " مثوبة " معناها الثواب الذي هو الجزاء ووزنها مفولة مثل
مقولة ومجوزة ومضوفة على معنى المصدر وقال الشاعر:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة * أشمر حتى ينصف الساق مئزري (3)

(1) قائله أوس بن حجر. ديوانه القصيدة: 5 البيت 4 ومعاني
القرآن للفراء 1: 14، 315 واللسان (عبد).
(2) اللسان (عبد).
(3) قائله أبو جندب الهذلي. اشعار الهذليين 3: 92 ومجاز القرآن
لأبي عبيدة 170 واللسان (ضيف)، (نصف). المضيفة، والمضافة: الامر
يشفق منه وقد روي البيت بهما جميعا.
574

وقال أبو عبيدة هي (مفعلة) مثل مكرهة ومعقلة ومشغلة.
وموضع (من) يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب: أحدها - الجر
والتقدير بشر من ذلك لمن لعنه الله والرفع على من لعنه الله، وا لنصب على
أنبئكم من لعنه الله. وقيل في معنى (الطاغوت) قولان:
أحدهما قال الحسن: هو الشيطان، لأنهم أطاعوه طاعة المعبود.
والثاني كل ما دعا إلى عبادته من دون الله من الفراعنة، فشبه به
ما عبد من الأصنام ونحوها. قال أبو علي: وهو هاهنا العجل الذي عبدته
اليهود، لان الكلام كله في صفتهم.
وقوله (أولئك شر مكانا) يعني هؤلاء الذين وصفهم بأنهم لعنهم
وغضب عليهم، وانهم عبدة الطاغوت شر مكانا يعني في عاجل الدنيا وآجل
الآخرة. وهو نصب على التمييز وقوله " وأضل عن سواء السبيل " يعني
أجوز عن الطريق المستقيم. وظن بعضهم ان قوله (وجعل منهم القردة
جعلهم كذلك والخنازير وعبد الطاغوت) يفيد أنه جعلهم يعبدون الطاغوت
- يتعالى الله عن ذلك - لأنه لو كان جعلهم كذلك لما كان عليهم لوم، وإنما
المعنى ما قلناه: من أنه اخبر عمن هو شر ممن عابوه، وهم الذين لعنهم
وغضب عليهم، ومن جعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت،
لأنه تعالى هو الخالق لهم، وإن كان لم يخلق عبادتهم للطاغوت. وقال أبو
علي: هو معطوف على قوله " من لعنه الله وغضب عليه " ومن " عبد
الطاغوت " ومن جعل منهم القردة والخنازير وليس بمعطوف على قوله
(وجعل منهم القردة والخنازير) فعلى هذا سقطت الشبهة.
575

قوله تعالى:
وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد
خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (64) آية بلا خلاف
أخبر الله تعالى عن هؤلاء المنافقين بأنهم إذا جاؤوا المؤمنين (قالوا آمنا)
أي صدقنا (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) قيل فيه قولان:
أحدهما - قال الحسن وابن عباس والسدي وقتادة وأبو علي: وقد
دخلوا بالكفر بخلاف ما أظهروه على النبي صلى الله عليه وآله وخرجوا به من عنده.
الثاني - وقد دخلوا به في أحوالهم وقد خرجوا به إلى أحوال أخر
كقولك هو يتقلب في الكفر ويتصرف به، ومعناه تقريب الماضي من الحال
ولهذا دخلت (في) هذا الموضوع. وقال الخليل: ويكون لقوم ينتظرون
الخبر كقولك قد ركب الأمير لمن كان ينتظره، وهو راجع إلى ذلك الأصل
لأنه تقريب من الحال المنتظرة وأصل الدخول الانتقال إلى محيط كالوعاء
إلا أنه قد كثر حتى قيل دخل في هذا الامر، ولا يدخل في المعنى ما ليس
منه. ودخل في الاسلام. وخرج بالردة منه. وكان ذلك مجاز. وقوله:
(جاؤكم) لا يجوز أن يكون عاملا في " إذا " كما يعمل في " متى " لو.
قيل: متى جاؤكم، قالوا آمنا، لان " إذا " مضافة إلى ما بعدها والمضاف
إليه لا يعمل في المضاف لأنه من تمامه. وليس كذلك " متى " لأنها جزاء.
وقوله " والله أعلم بما كانوا يكتمون " معناه ما يكتمونه من نفاقهم إذ
أظهروا بألسنتهم ما أضمروا خلافه في قلوبهم فبين الله للناس أمرهم.
576

قوله تعالى:
وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم
السحت لبئس ما كانوا يعملون (65) آية بلا خلاف
وصف الله تعالى المنافقين الذين تقدم وصفهم لنبيه صلى الله عليه وآله بأنه " ترى
كثيرا منهم يسارعون " أي يبادرون في الاثم والعدوان.
قال السدي: الاثم الكفر، وقال غيره وهو يقع على كل معصية وهو
الأولى. والفرق بين الاثم والعدوان أن الاثم الجرم كائنا ما كان، والعدوان
الظلم، فهم يسارعون في ظلم الناس وفي الجرم الذي يعود عليهم بالوبال
والخسران. وقيل - العدوان من عدوهم على الناس بما لا يحل. وقيل -
لمجاوزتهم حدود الله وتعديتهم إياها. ويقال تأثم إذا تحرج
من الاثم. والآثم الفاعل للإثم. والسحت الرشوة في الحكم - في قول
الحسن - وأصله استئصال القطع فيكون من هذا لأنه يقتضي عذاب
الاستئصال ويتكرر لأنه يقتضي استئصال المال بالذهاب.
وإنما قال " يسارعون " بدل قوله (يعجلون) وان كانت العجلة أدل
على الذم لامرين:
أحدهما - أنهم يبادرون إليه كالمبادرة إلى الحق، فأفاد " يسارعون "
أنهم يعملونه كأنهم محقون فيه.
والاخر - لإزالة إيهام أن الذم من جهة العجلة، وايجابه في الاثم
والعدوان.
وقوله " لبئس ما كانوا يعملون " يدل على أن الحمد والذم يكونان
577

للأفعال، لأنه بمنزلة بئس العمل عملهم، وهذا ذم لذلك العمل إلا أنه جرى
على طريقة الحقيقة أو طريقة المجاز بدليل آخر يعلم. وقد كثر استعماله حتى
قيل الأخلاق المحمودة والأخلاق المذمومة. ونعم ما صنعت وبئس ما صنعت
وأصل الذم واللوم واحد إلا أن الذم كثر في نفس العمل دون اللوم، لأنه
لا يقال: لمت عمله كما يقال ذممت عمله. و (ما) في قوله " لبئس ما "
يحتمل أمرين: أحدهما - أن تكون كافة كما تكون في إنما زيد منطلق
وليتما عمرو قائم، فلا يكون لها على هذا موضع. الثاني أن تكون نكرة
موصوفة كأنه قيل: لبئس شيئا كانوا يعملون.
قوله تعالى:
لولا ينهيهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم
وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون (66) آية.
معنى " لولا " هاهنا هلا. واصلها ان يمتنع الشئ لوجود غيره.
(لو) معناها امتناع الشئ لامتناع غيره. وقال الرماني أصلها التقدير
لوجوب الشئ عن الأول فنقلت إلى التحضيض على فعل الثاني من أجل
الأول. وان لم يذكر ولابد معها من دلالة دخلها معنى: لم لا يفعل.
فان قيل كيف تدخل (لولا) على الماضي وهي للتحضيض وفي
التحضيض معنى الامر؟!
قيل: لأنها تدخل للتحضيض والتوبيخ، فإذا كانت مع الماضي فهي
توبيخ كقوله تعالى " لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء " (1) وقوله " ولولا إذ
سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " (2).

(1) سورة 24 النور آية 12 - 13
(2) سورة 24 النور آية 12 - 13
578

و " الرباني " العالم بالدين الذي من قبل الرب، وهو منسوب إلى الرب
على وجه تغيير الاسم، كما قالوا روحاني في النسبة إلى الروح، وبحراني
في النسبة إلى البحر. وقال الحسن " الربانيون " علماء أهل الإنجيل
والأحبار علماء أهل التوراة. وقال غيره كله في اليهود، لأنه يتصل بذكرهم.
وقوله: " لبئس ما " اللام فيه لام القسم ولا يجوز أن تكون لام
الابتداء، لأنها لا تدخل على الفعل الا في باب " أن " خاصة لأنها حلقت
عن الاسم إلى الخبر لئلا يجمع بين حرفين في موضع واحد بمعنى واحد
والصنع والعمل واحد. وقيل الفرق بينهما أن الصنع مضمن بالجودة من
قولهم: ثوب صنيع، وفلان صنيعة فلان إذا استخلصه إلى غيره وصنع الله
لفلان أي أحسن إليه وكل ذلك كالفعل الجيد.
قوله تعالى:
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما
قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا
منهم ما انزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم
العداوة والبغضاء إلى يوم القيمة كلما أوقدوا نارا
للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب
المفسدين 67، آية.
579

أخبر الله تعالى في هذه الآية عن اليهود انها قالت: إن " يد الله مغلولة "
وقيل في معني (مغلولة) قولان: أحدهما قال ابن عباس وقتادة، والضحاك:
إن المراد بذلك أنها مقبوضة من العطاء على وجه الصفة له بالبخل كما قال
تعالى " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " (1) وإنما
قالوا ذلك لما نزل قوله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " (2) قالوا:
إن رب محمد فقير يستقرض منا في أنزل الله هذه الآية.
الثاني قال الحسن معناه انها مقبوضة عن عذابنا.
وقال البلخي يجوز أن يكون اليهود، قالوا قولا واعتقدوا مذهبا معناه
يؤدي إلى أن الله يبخل في حال ويجود في حال أخرى، فحكى الله تعالى
ذلك على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم. ويجوز أن يكون ذلك على
وجه التعجب منهم والتكذيب له. ويجوز ان يكونوا قالوا ذلك على وجه
الهزء حيث لم يوسع على النبي صلى الله عليه وآله وعلى أصحابه. وليس ينبغي أن يتعجب
من قوم يقولون لموسى: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " ومن اتخذ العجل
إلها، ومن زعم أن ربه أبيض الرأس واللحية جالس على كرسي، كيف
يقولون إن الله يبخل مرة ويجود أخرى. وقال الحسين بن علي المغربي
حدثني بعض اليهود الثقات منهم بمصر ان طائفة قديمة من اليهود قالت
ذلك بهذا اللفظ.
وأما اليد فإنها تستعمل على خمسة أوجه: أحدها - الجارحة. والثاني -
النعمة. الثالث - القوة. الرابع - الملك. الخامس - تحقيق إضافة الفعل،

(1) سورة 17 الاسرى آية 29.
(2) سورة 2 البقرة آية 245 وسورة 57 الحديد آية 11.
580

قال الله تعالى " أولى الأيدي والابصار (1) معناه القوى ويقال لفلان على
فلان يد أي نعمة وله علي يد أشكرها أي نعمة. وقال الشاعر:
له في ذوي الحاجات أيد كأنها * مواقع ماء المزن في البلد القفر
ومثل ذلك يقولون له عليه صنع حسنة. وقوله " الذي بيده عقدة
النكاح " (2) معناه من يملك ذلك وقوله " لما خلقت بيدي " (3) أي توليت
خلقه. وقوله " غلت أيدهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الزجاج وغيره معناه الزموا البخل على مطابقة الكلام
الأول فهم أبخل الناس.
الثاني - قال الحسن وأبو علي " غلت أيديهم " في جهنم.
وقوله " ولعنوا بما قالوا " أي أبعدوا من رحمة الله وثوابه. وقوله
" بل يداه مبسوطتان " تكذيب منه تعالى لما قالوا وإخبار أن يديه مبسوطتان
أي نعمه مبسوطة. وقيل في وجه تثنية اليد ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه أراد نعمة الدنيا ونعمة الدين أو نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.
الثاني - قال الحسن معناه قوتاه بالثواب والعقاب والغفران والعذاب
بخلاف قول اليهود إن يده مقبوضة عن عذابنا.
الثالث - أن التثنية للمبالغة في صفة النعمة مثل قولهم: لبيك وسعديك،
وكما يقول القائل: بسط يديه يعطي يمنة ويسرة ولا يريدون الجارحة وإنما
يريدون كثرة العطية وقال الأعشى:

(1) سورة ص آية 45.
(2) سورة البقرة آية 237.
(3) سورة ص آية 75.
581

يداك يدا مجد فكف مفيدة * وكف إذا ما ضن بالزاد تنفق (1)
وقوله تعالى " ينفق كيف يشاء " معناه يعطي من شاء من عباده ويمنع
من شاء منهم، لأنه متفضل بذلك ويفعل حسب ما تقتضيه المصلحة.
وقوله " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " أي
وسيزدادون عند ذلك طغيانا وكفرا لان القرآن لا يفعل شيئا من ذلك، كما
يقول القائل: وعظتك فكانت موعظتي وبالا عليك. وما زادتك إلا شرا أي
انك ارددت عندها شرا. وذلك مشهور في الاستعمال. والطغيان هنا هو
الغلو في الكفر.
وقوله " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " قيل فيه قولان:
أحدهما - إن المراد بذلك بين اليهود والنصارى على ما قلناه في قوله
" فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء " (2) هذا قول الحسن ومجاهد. وقد
جرى ذكرهم في قوله " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " (3).
الثاني - ان الكناية راجعة على اليهود خاصة. والمراد ما وقع بينهم
من الخلاف بين الاشمعينية والعنانية وغيرهم من طوائف اليهود ذكره الرماني.
وبماذا القي بينهم العداوة والبغضاء؟ قيل فيه قولان:
أحدهما - قال أبو علي بتعريف اليهود قبح مذهب النصارى في عبادة
المسيح وبتعريف النصارى قبح مذهب اليهود في الكفر بالمسيح.
الثاني - قال الرماني بوضع البغضاء عقابا على الاختلاف بالباطل.
وقوله " إلى يوم القيامة " فيه دلالة على أنهم لا يجتمعون على مذهب

(1) ديوانه: 150
(2) سورة المائدة آية 15.
(3) سورة المائدة آية 54.
582

واحد إلى يوم القيامة.، ولابد أن يكون ذلك مختصا بمن يعلم الله من حالهم
انهم لا يؤمنون.
وقوله " كلما أو قدوا نارا للحرب أطفأها الله " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن ومجاهد: لحرب محمد صلى الله عليه وآله وفي ذلك دلالة
ومعجزة، لان الله أخبر عن الغيب وكان كما أخبر، لان اليهود كانت أشد
أهل الحجاز بأسا وأمنعهم دارا حتى أن قريشا كانت تعتضد بهم والأوس
والخزرج تستبق إلى محالفتهم والتكثر بنصرتهم، فأباد الله حضراءهم واقتلع
أصلهم فأجلي النبي صلى الله عليه وآله بني قينقاع وبني النضير، وقتل بني قريظة وشرد
أهل خيبر وغلب على فدك ودان له أهل وادي القرآن. فمحي الله آثارهم
صاغرين وحقق بخبر نبيه صلى الله عليه وآله. وهذه كلمة مستعملة في اللغة في التشاغل
بالحرب والاستعداد لها. قال عوف ابن عطية:
إذا ما اجتنينا جنا منهل * شببنا لحرب بعلياء نارا
الثاني - قال قتادة: هو عام. والمعنى إن الله أذلهم بذاك لا يغزون أبدا
وإنما يطفئ الله بلطفه نار حربهم وما يوقي نبيه صلى الله عليه وآله من نقض ما يبرمون.
وما يطلعه عليه من أسرارهم ويمن به عليه من النصر والتأييد، ثم أخبر تعالى
أن هؤلاء اليهود " يسعون في الأرض فسادا " يعني بمعصية الله وتكذيب
رسله ومخالفة أمره ونهيه، واجتهادهم في دفع الاسلام ومحو ذكر النبي صلى الله عليه وآله.
من كتبهم، وذلك هو سعيهم بالفساد، ثم قال " والله لا يحب المفسدين "
بعني لا يحب من كان عاملا بمعاصيه في أرضه.
قوله تعالى:
ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم
583

سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (68) آية
قد بينا أن معنى (لو) امتناع الشئ لامتناع غيره. وقال الرماني
معناه وجوب المعني الثاني، بالأول على جهة التقدير بطريقة لو كان كذا لكان
كذا، فان قطع الأول قطع الثاني بطريقة كقولك وقد كان كذا وكذا، وقد
كان كذا وما كان كذا، فما كان كذا فنحوه. وما كفرنا عنهم سيئاتهم فما
آمنوا واتقوا. والفرق بين (لو) و (إن) - مع أن كل واحدة منهما تعلق
المعنى الأول - أن " لو " للماضي و " ان " للمستقبل كقولك: ان أتيتني
أكرمتك. ولو اتيتني لأكرمتك، فيقدر الاكرام بالاتيان في الماضي. وفي
" إن " وعد وليس في " لو " ذلك.
أخبر الله تعالى أن هؤلاء اليهود والكفار لو آمنوا واتقوا معاصيه لكفر
عنهم سيئاتهم أي غطاها عليهم وأزال عقابها عنهم وأثابهم على إيمانهم وتقواهم.
" ولأدخلناهم جنات النعيم " اللام لام القسم وأصل التكفير التغطية.
ومنه يكفر في السلاح قال الشاعر:
في ليلة كفر النجوم غمامها (1).
وقوله " ولأدخلناهم جنات النعيم " وإن كان على لفظ الماضي فالمراد
به الاستقبال وإنما كان كذلك، لأنه قدر تقدير الماضي كما قال " ولو
ردوا لعادوا " وذلك يدل على أن " لو " أوسع من " ان ".
قوله تعالى:
ولو أنهم أقاموا التورية والإنجيل وما أنزل إليهم

(1) قد مر في 1: 60 منسوب إلى لبيد.
584

من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم
أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (69) آية.
قد بينا معنى (لو) فيما مضى وإنما فتحت (أنهم) بعدها لان هذا
موضع قد خالف الابتداء بأنه بالفعل أولى فصار بمنزلة العامل الذي يختص
بالفعل دون الاسم أو الاسم دون الفعل يبين ذلك امتناع اللام من الدخول
على الخبر في (لو) وليس كذلك (حتى) و (الا). ومعنى " أقاموا
التوراة والإنجيل " علموا بما فيهما على ما فيهما دون أن يحرفوا شيئا منهما
أو يغيروا أو يبدلوا كما كانوا يفعلون ويحتمل أن يكون معناه بما فيهما بأن
أقاموهما نصب أعينهم لئلا يزلوا في شئ من حدودهما.
وقوله " وما أنزل إليهم من ربهم " يحتمل أمرين:
أحدهما - قال ابن عباس وأبو علي وغيرهما: المراد به الفرقان.
الثاني - قال قوم: كل ما دل الله عليه من أمور الدين. وقوله " لأكلوا
من فوقهم " بارسال السماء عليهم مدرارا " ومن تحت أرجلهم " باعطاء
الأرض خيرها وبركتها وقال قوم " من فوقهم " ثمار النخل والأشجار " ومن
تحت أرجلهم " الزرع. والمعنى لو آمنوا لأقاموا في أوطانهم، وأموالهم
وزروعهم، ولم يجلوا عن بلادهم، ففي ذلك التأسيف لهم على ما فاتهم،
والاعتداد بسعة ما كانوا فيه من نعمة الله عليهم، وهو جواب التبخيل في
قولهم " يد الله مغلولة " (1).
الثاني ان المعنى فيه التوسعة، كما يقال: هو في الخير من قرنه إلى

(1) سورة المائدة آية 67.
585

قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها. واختار الطبري الوجه الأول.
وقد جعل الله التقي من أسباب الرزق فقال " ومن يتق الله يجعل له
مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " (1) وقال " ولو أن أهل القرى آمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " (2) وقال " استغفروا ربكم
إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل
لكم جنات ويجعل لكم أنهارا " (3) وقال " وأن لو استقاموا على الطريقة
لأسقيناهم ماء غدقا " (4).
وقوله " منهم أمة مقتصدة " يعني من هؤلاء الكفار قوم معتدلون في
العمل من غير غلو ولا تقصير. قال أبو علي: وهم الذين أسلموا منهم،
وتابعوا النبي صلى الله عليه وآله، وهو المروي في تفسير أهل البيت.
وقال قوم: نزلت في النجاشي وأصحابه. وحكى الزجاج عن قوم أنهم
قالوا: نزلت في قوم لم يناصبوا النبي صلى الله عليه وآله مناصبة هؤلاء. والأول أقوى،
لان الله تعالى لا يجوز أن يسمي الناصب مقتصدا بحال. ويحتمل أن يكون
أراد به من يقر منهم بأن المسيح عبد الله، ولا يدعي فيه الإلهية والبنوة.
وقال مجاهد: هم مسلموا أهل الكتاب. وبه قال ابن زيد، والسدي.
واشتقاق المقتصدين من القصد، لأنه القاصد إلى ما يعرف، فكان
خلاف الطالب المتحير في طلبه. والاقتصاد الاستواء في العمل المؤدي إلى
الغرض. وقوله " وكثير منهم ساء ما يعملون " أخبار منه تعالى أن أكثر
هؤلاء اليهود والنصاري. يعملون الاعمال السيئة وهم الذين يقيمون على

(1) سورة 65 الطلاق آية 2 - 3.
(2) سورة الأعراف آية 95.
(3) سورة نوح آية 10 - 13
(4) سورة الجن آية 16.
586

الكفر والجحود بالنبي صلى الله عليه وآله وقوله " ساء " معناه قبح و " ما يعلمون "
يحتمل أن تكون (ما) مع ما بعدها بمنزلة المصدر والتقدير: بئس شيئا عملهم
كما قال: " ساء مثلا القوم الذين كذبوا ". والثاني أن تكون (ما) بمعنى
الذي وما بعدها صلة لها والعائد محذوف.
قوله تعالى:
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن
لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن
الله لا يهدي القوم الكافرين (70) آية بلا خلاف.
قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر " رسالاته " على الجمع.
الباقون " رسالته " على التوحيد. من قرأ على الجمع ذهب إلى أن الأنبياء
يبعثون بضروب الرسائل واختلاف العبادات. ومن وحد، فلانه يدل على
الكثرة.
قيل في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال:
أحدها - قال محمد بن كعب القرطي، وغيره: إن اعرابيا هم بقتل
النبي صلى الله عليه وآله فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه.
الثاني - أن النبي صلى الله عليه وآله كان يهاب قريشا فأزال الله عز وجل
بالآية تلك الهيبة. وقيل كان للنبي صلى الله عليه وآله حراس بين أصحابه، فلما نزلت
الآية قال الحقوا بملاحقكم، فان الله عصمني من الناس.
الثالث - قالت عائشة إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صلى الله عليه وآله
كتم شيئا من الوحي للتقية.
587

الرابع - قال أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهما السلام) إن الله تعالى:
لما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله أن يستخلف عليا كان يخاف أن يشق ذلك على
جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له على القيام بما
أمره بأدائه.
والآية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وإيجاب عليه تبليغ ما أنزل إليه من ربه
وتهديد له إن لم يفعل وانه يجري مجري إن لم يفعل ولم يبلغ رسالته.
فان قيل كيف يجوز ذلك؟ ولا يجوز أن يقول: إن لم تبلغ رسالته
فما بلغتها لان ذلك معلوم لا فائدة فيه!
قلنا: قال ابن عباس: معناه إن كتمت آية مما أنزل إليك فما بلغت
رسالته والمعنى ان جريمته كجريمته لو لم يبلغ شيئا مما أنزل إليه في أنه
يستحق به العقوبة من ربه.
وقوله " والله يعصمك من الناس " معناه يمنعك أن ينالوك بسوء من فعل
أو شر أو قهر. وأصله عصام القربة، وهو وكاؤها الذي يشد به من سير
أو خيط. قال الشاعر:
وقلت عليكم مالكا إن مالكا * سيعصمكم إن كان في الناس عاصم (1)
أي سيمنعكم. وقوله تعالى " إن الله لا يهدي القوم الكافرين " قيل
في معناه قولان:
قال الجبائي: إن الله يهدي إلى الثواب والجنة الكافرين.
وقال الرماني: معنى الهداية ههنا المعونة بالتوفيق والالطاف إلى الكفر
بل إنما يهديهم إلى الايمان والثواب، لان من هداه إلى غرضه فقد أعانه

(1) مجاز القرآن 1: 171 والطبري 10: 472.
588

على بلوغه، ولا يجوز أن يكون المراد به أنه لا يهديهم إلى الايمان، لأنه
تعالى هداهم إليه بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه.
وفي الآية دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله من وجهين:
أحدهما أنه لا يقدم على الاخبار بذلك محققا إلا من يأمن أن يكون
مخبره على ما هو به، لأنه لا داعي له إلى ذلك غير الصدق
والثاني - أنه لما وقع مخبره على ما أخبر به فيه وفي نظائره دل على أنه
من عند علام الغيوب. وحكى البلخي أن بعد قوله تعالى " والله يعصمك من
الناس " لم يكن الكفار قادرين على قتل النبي ولا منهيون عن قتله، لان
مع المنع لا يصح النهي عنه، قال وإنما هم منهيون عن أسباب القتل التي
تقتل غالبا، لأنهم كانوا قادرين عليها. قال ووجه آخر أنهم كانوا قادرين
لكن علم أنهم لا يقتلونه. وأنه يحول بينهم وبين القتل. والأول لا يصح،
لان القدرة على بعض الأجناس قدرة على كل جنس تتعلق القدرة بها.
قوله تعالى:
قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا
التورية والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن
كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا
تأس على القوم الكافرين (71)
سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس أنه جاء جماعة من اليهود،
فقالوا: يا محمد ألست تقول: إن التوراة من عند الله؟ قال بلى. قالوا فانا
589

نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها فنزلت الآية.
ومعناها أنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لأهل الكتاب " لستم على
شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل ". وقيل في معناه قولان:
أحدهما - حتى تقيموهما بالتصديق بما فيهما من البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله
والعمل بما يوجب ذلك فيهما.
الثاني - قال أبو علي يجوز أن يكون الامر بإقامة التوراة والإنجيل وما
فيهما إنما كان قبل النسخ لهما.
وقوله " وما أنزل إليكم من ربكم " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يريد به القرآن الذي أنزله على جميع الخلق.
الثاني - أن يريد جميع ما نصبه الله من الأدلة الدالة على توحيده
وصفاته وصدق نبيه (صلى الله عليه وآله).
وقوله: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا "
والمراد أنهم يزدادون عند نزوله طغيانا وكفرا، لان القرآن المنزل لا يزيد
شيئا طغيانا.
فان قيل هذا هو المفسدة بعينه، لأنهم إذا فسدوا عنده ولولاه لما
فسدوا كان ذلك مفسدة.!!!
قيل ليس في الآية أنه لو لم ينزل القرآن لم يكونوا يفعلون الكفر بل
لا يمتنع أنه لو لم ينزل القرآن لفعلوا من الكفر ما هو أعظم، فصار إنزال
القرآن لطفا في استنقاص الكفر وتقليل المفسدة، فالمفسدة زائلة واللطف
حاصل، على أنه لا يمنع أن يكونوا يفعلون الكفر بعينه لو لم ينزل القرآن
590

فحقيقة المفسدة إذا ليست بحاصلة، لان حد المفسدة ما وقع عنده الفساد
ولولاه لم يقع من غير أن يكون تمكينا.
والطغيان ههنا تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه وأصله تجاوز الحد.
ومنه قوله تعالى: " انا لما طغى الماء " (1) وقوله: " إن الانسان ليطغى " (2)
أي يتجاوز الحد في الخروج عن الحق.
وقوله: " فلا تأس على القوم الكافرين " معناه لا تحزن تقول أسى
يأسى أسا إذا حزن. قال الشاعر:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى (3)
وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وليس بنهي عن الحزن، لأنه لا يقدر عليه
لكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن. قال البلخي ذلك يدل على بطلان
ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله دعا للكفار بالهداية، لأنه نهاه عن الحزن وأمره
بلعنهم ولا يجتمع قول اللهم العنهم، واهدهم واغفر لهم.
قوله تعالى:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله
واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (72)
أخبر الله تعالى أن الذين صدقوا الله وأقروا بنبوة نبيه صلى الله عليه وآله " والذين
هادوا " يعني الذين اعتقدوا اليهودية ونبوة موسى، وتأييد شرعه " والصابئون "

(1) سورة الحاقة اية 11.
(2) سورة العلق آية 6.
(3) قائله العجاج. ديوانه: 31 ومجاز القرآن 1: 171 والكامل للمبرد
1: 352 واللسان (حلب)، (كرس).
591

وهو جمع صابئ، وهو الخارج عن دين عليه أمة عظيمة من الناس إلى ما
عليه فرقة قليلة، وهم عباد الكواكب. وعندنا لا يؤخذ منهم الجزية.
وعند المخالفين يجرون مجرى أهل الكتاب وصبأ ناب البعير وسن الصبي
إذا خرج. وضبأ - بالضاد المعجمة - معناه اختبأ في الأرض، ومنه اشتق
ضابي البرجمي. و " النصارى " وهم الذين يقرون بالمسيح (ع) وقوله:
" من آمن بالله " قيل فيه قولان:
أحدهما يعني الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون
ذكره الزجاج.
الثاني - من دام على الايمان والاخلاص ولم يرتد عن الاسلام.
وقيل في معني رفع الصابئين ثلاثة أقوال: أحدها قال سيبويه: إنه
على التقديم والتأخير والتقدير: ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون،
والصابئون كذلك. قال الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم * بغاة ما بقينا في شقاق
والمعنى فاعلموا انا بغاة ما بقينا في شقاق وأنتم كذلك. وقال ضبابئ
البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله * فاني وقياربها لغريب (1)
والثاني - قال الكسائي هو عطف على الضمير في (هادوا) وكأنه
قال هادوا هم والصابئون. قال الرماني هذا غلط من وجهين: أحدهما ان
الصابئ لا يشارك اليهود في اليهودية. والاخر أنه عطف على الضمير المتصل

(1) قد مر هذا البيت في 1: 203.
592

من غير تأكيد بالمنفصل.
والثالث قال الفراء: إن عطف على ما لا يتبين فيه الاعراب وهو (الذين)
ويجوز النسق على مثل (الذين) وعلى المضمر نحو اني وزيد قائمان،
فعطف على موضع (ان).
وقوله " وعمل صالحا " فالعمل والفعل واحد. وقال الرماني: فعل
الشئ إحداثه وايجاده بعد أن لم يكن وعمله إحداث ما يكون به متغيرا سواء
كان إحداثه نفسه أو احداث حادث فيه.
وقوله تعالى " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " مع ما يمر بهم من
أجل يوم القيامة لامرين: أحدهما - أن ذلك لا يعتد به لأنه عارض، ثم
يصيرون إلى النعيم الدائم. ومنه قوله " لا يحزنهم الفزع الأكبر " (2) وهو
عذاب النار كما يقال للمريض لا بأس عليك. الثاني أن أهوال يوم القيامة
إنما تنال الضالين دون المؤمنون. والأول أقوى لعموم قوله: " يوم ترونها
تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس
سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " (3) وروي عن النبي صلى الله عليه وآله
أن الناس يلجمهم العرق. وانهم يحشرون حفاة عراة عزلا، فقالت عائشة
لا يحتشمون من ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " (4)
فأما قوله " من آمن بالله " وقد ذكر الذين آمنوا، فلان المعني بالذين آمنوا
ههنا - في قول الزجاج - المنافقون بدلالة قوله " لا يحزنك الذين يسارعون
في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " (5) والتقدير من

(2) سورة الأنبياء آية 103
(3) سورة الحج آية 2.
(4) سورة عبس آية 37.
(5) سورة المائدة آية 44.
593

آمن منهم. وقال قوم: من آمن يرجع إلى من عدا الذين آمنوا وحمل
" الذين آمنوا " على ظاهره من حقيقة الايمان. ومنهم من قال: يرجع إلى
الجميع ويكون المعني في " من آمن " من يستديم على الايمان ويستمر عليه.
وقد استوفينا ما يتعلق بذلك في سورة البقرة.
قوله تعالى:
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم
رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا
وفريقا يقتلون (73) آية عند الجميع.
اللام في قوله " لقد " لام القسم. أقسم الله تعالى أنه أخذ الميثاق وهو
الايمان المؤكدة التي أخذها أنبياءهم على بني إسرائيل في قول أبي علي.
وقال غيره: يجوز أن يكون الميثاق هي الآيات البينة التي قرر بها علم ذلك
عندهم. وإنما أخذ ميثاقهم على الاخلاص لتوحيد الله تعالى، والعمل بها
أمر به، والانتهاء عما نهى عنه والتصديق برسله والبشارة بالنبي الأمي
والاقرار به، حسب ما تقدمت صفته عندهم.
ووجه الاحتجاج على أهل الكتاب بما أخذ على آبائهم من الميثاق أنهم
قد عرفوا ذلك في كتبهم، وأقروا بصحته، فحجته لازمة لهم، والعمل به
واجب عليهم، وعيب المخالفة يلحقهم كما لحق آباءهم الذين نقضوا الميثاق
الذي أخذ عليهم.
وقوله " كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم " والهوى هو لطف
محل الشئ من النفس مع الميل إليه بما لا ينبغي، فلذلك غلب على الهوى
594

صفة الذم، كما قال تعالى " ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى " (1)
ويقال: منه: هوى يهوى ويقال: هو يهوي هويا إذا انحط في الهواء
وأهوى بيده إذا انحط بها ليأخذ شيئا. و " أمه هاوية " (2) أي جهنم،
لأنه يهوي فيما. وهم يتهاوون في الهواء إذا سقط بعضهم في أثر بعض
والفرق بين الهوى والشهوة: أن الشهوة تتعلق بالمدركات فيشتهي الانسان
الطعام، ولا يهوى الطعام. وهواء الجو ممدود، وهوى النفس مقصور.
وقوله " وأفئدتهم هواء " (3) قيل فيه قولان: أحدهما - أنها منحرفة
لا تعي شيئا كهواء الجو. والآخر أنه قد أطارها الخوف. ومنه قوله
" كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران " (4) أي استهوته من هوى
النفس.
وقوله " فريقا كذبوا وفريقا يقتلون " نصب فريقا في الموضعين بأنه
مفعول به قدم. وإنما قال في الأول " كذبوا " بلفظ الماضي. وفي الثاني
" يقتلون " بلفظ المستقبل لامرين:
أحدهما - ليدل بذلك على أن من شأنهم ذلك وعادتهم ففيه معنى كذبوا
وقتلوا ويكذبون ويقتلون مع موافقته لرؤوس الآي.
الثاني - أن يكون على معنى فريقا كذبوا، ولم يقتلوا وفريقا كذبوا
وقتلوا فيكون يقتلون صفة الفريق.
قوله تعالى:
وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله

(1) سورة النازعات آية 40 - 41.
(2) سورة القارعة آية 9.
(3) سورة إبراهيم آية 43.
(4) سورة الأنعام آية 71.
595

عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون
(74) آية بلا خلاف.
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " ألا تكون " بالرفع. الباقون
بالنصب. ولم يختلفوا في رفع (فتنة) فمن رفع، فالمعنى حسبوا فعلهم غير
فاتن لهم، لأنهم كانوا يقولون " نحن أبناء الله وأحباؤه " ومن نصبه فلان
" أن " تنصب الفعل المضارع. وقال أبو علي الفارسي الافعال على ثلاثة
أضرب: فعل يدل على ثبات الشئ واستقراره نحو العلم، وفعل يدل على
خلاف الاستقرار والثبات، وفعل يحتمل الامرين، فما كان معناه العلم وقع
بعده (أن) الثقيلة، ولم تقع بعده الخفيفة الناصبة للفعل، لان الثقيلة معناها
إثبات الشئ واستقراره والعلم بأنه كذلك أيضا، فإذا أوقع عليه واستعمل
معه كان وقعه ملائما له. ولو استعملت الناصبة للفعل بعدما معناه العلم
واستقرار الشئ له لتباينا وتدافعا، فمن استعمال الثقيلة بعد العلم وايقاعه
عليها قوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " (1) و " ألم يعلم بأن الله
يرى " (2)، لان الباء زائدة. وكذلك التبين والتيقن، وما كان معناه العلم
كقوله " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات " (3) فهذا ضرب من العلم لأنه
تبين لامر قد بان فلذلك كان قسما كما كان علمت قسما في نحو قوله:
ولقد علمت لتأتين منيتي
وكذلك " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين (4) فهو

(1) سورة النور آية 25.
(2) سورة العلق آية 14.
(3) سورة يوسف آية 35.
(4) سورة يوسف آية 35.
596

بمنزلة علموا ليسجننه وعلى ذلك قول الشاعر:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى * (ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا)
فأوقع بعدها الشديدة كما يوقعها بعد علمت واما ما كان معناه ما لم
يثبت ولم يستقر فنحو (أطمع) و (أخاف) و (أشفق) و (أرجو) فهذا
ونحوه لا يستعمل بعده إلا الخفيفة الناصبة للفعل كقوله تعالى: " والذي
أطمع أن يغفر لي خطيئتي " (1) وقوله " تخافون أن يتخطفكم الناس
فآواكم " (2) وقوله: " الا أن يخافا الا يقيما حدود الله. فان خفتم ان
لا يقيما حدود الله " (3) وقوله: " فخشينا ان يرهقهما (4) وقوله " أأشفقتم
أن تقدموا " (5) وكذلك أرجو، وعسى، ولعل فأما ما يستعمل في الامرين
نحو حسبت وظننت وزعمت فهذا النحو يجعل مرة بمنزلة (أرجو) و (أطمع)
من حيث كان أمرا غير مستقر ومرة يجعل بمنزلة العلم من حيث استعمل
استعماله. ومن حيث كان خلافه. والشئ قد يجري مجرى الخلاف نحو
(عطشان) و (ريان) فاما استعمالهم استعمال العلم، فلأنهم قد أجابوه
بجواب القسم. حكى سيبويه ظننت ليسقيني. وقيل في قوله " وظنوا
ما لهم من محيص " (6) ان النفي جواب الظن كما كان جوابا لعلمت في قوله
" علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات " (7) وكلا الوجهين جاء به القرآن
مثل قراءة من نصب قوله " أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا " (8)

(1) سورة الشعراء آية 82.
(2) سورة الأنفال آية 26.
(3) سورة البقرة آية 229.
(4) سورة الكهف آية 81
(5) سورة المجادلة آية 13
(6) حم السجدة آية 48.
(7) سورة الاسرى آية 102.
(8) سورة العنكبوت آية 4.
597

" أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم " (9) " ألم أحسب الناس
أن يتركوا " (10) ومثل قراءة من رفع قوله " أم يحسبون أنا لا نسمع
سرهم " (11) " أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين (12) " أيحسب الانسان
أن لن نجمع عظامه " (13) فهذه مخففة من الشديدة. ومثل ذلك في الظن
قوله: " تظن أن يفعل بها فاقرة " (14) وقوله " إن ظنا أن يقيما حدود
الله " (15) ومن الرفع قوله: " وانا ظننا أن لن تقول الإنس والجن. وانهم
ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا " (1) وإن هاهنا الخفيفة من الثقيلة لان
الناصبة للفعل لا تقع بعدها (أن) لاجتماع الحرفين في الدلالة على الاستقبال كما
لم تجتمع الناصبة مع السين، ولم يجتمعا كما لم يجتمع الحرفان بمعنى
واحد. ولذلك كانت (ان) في قوله " علم أن سيكون " (2) المخففة من
الشديدة. ومن ذلك قوله " وظنوا أنهم أحيط بهم " (3) فاما قوله: الذين
يظنون أنهم ملاقوا ربهم " (4) وقوله: " ظننت اني ملاق حسابيه " (5) فالظن
هاهنا بمعنى العلم، وحسن وقوع الخفيفة من الشديدة في قول من رفع
وإن كان بعده فعل لدخول (لا) وكونها عوضا من حذف الضمير معه وايلاء

(9) سورة الجاثية آية 20.
(10) سورة العنكبوت آية 2.
(11) سورة الزخرف آية 80.
(12) سورة المؤمنون آية 56.
(13) القيامة آية 3.
(14) سورة القيامة آية 25.
(15) سورة البقرة آية 230.
(1) سورة الجن آية 5 - 7.
(2) سورة المزمل آية 20.
(3) سورة يونس آية 22.
(4) سورة البقرة آية 46.
(5) سورة الحاقة آية 20.
598

ما لم يكن يليه. ولو قلت علمت أن يقول لم يجز حتى يأتي بما يكون عوضا
نحو (قد) و (لا) والسين وسوف، كما قال " علم أن سيكون " ولا
يدخل على ذلك قوله: " وان ليس للانسان الا ما سعى " (6) فلم يدخل بين
(أن) و (ليس) شئ لان (ليس) ليس بفعل على الحقيقة. أما (فتنة)
فلو نصب لكان صحيحا في العربية على تقدير: أن لا يكون قولهم فتنة.
ولكن لم يقرأ به أحد. قال الرماني: وحد الحسبان هو قوة أحد النقيضين.
في النفس على الآخر على وأصله الحساب، فالنقيض القوي يحتسب به دون
الآخر أي هو فيما يحتسب ولا يطرح ومنه الحسب لأنه مما يحسب ولا
يطرح لأجل الشرف ومنه قولهم: حسبك أي يكفيك، لأنه بحساب الكفاية
ومنه احتساب الاجر، لأنه فيما يحتسب ويكفي.
الفتنة هاهنا العقوبة. وقيل البلية - في قول السدي وقتادة والحسن
ومجاهد - وقيل: الشدة. وكل ذلك متقارب. وقال ابن عباس: الفتنة
- هاهنا - الشرك. وأصل الفتنة الاختبار، ومنه افتتن بفلانة إذا هواها،
لأنه يظهر ما يطوي من خبره بها. وفتنت الذهب في النار إذا خلصته ليظهر
خبره في نفسه متميزا من شائب غيره. وقوله " يوم هم على النار يفتنون " (1)
أي يحرقون. فإذا هم خبث كلهم " وفتناك فتونا " (2) أي اختبرناك اختبارا
أي ليظهر خبرك على خلوص أمرك في طاعتك أو غير ذلك من حالك.
وقوله " فعموا وصموا " معناه عن الحق على وجه التشبيه بالأعمى

(6) سورة النجم آية 39.
(1) سورة الذاريات آية 13.
(2) سورة 20 طه آية 40.
599

والأصم لأنه لا يهدي إلى طريق الرشد في الدين كما لا يهتدي هذا إلى
طريق الرشد في الدنيا لأجل العمى والصمم، فكذلك أولئك لاعراضهم
عن النظر.
وقوله " ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا " إخبار منه تعالى أن هؤلاء
الكفار حسبوا أن لا يكون فتنة على ما فسرناها " فعموا وصموا " وقتلوا
الأنبياء وكذبوهم ثم أن فريقا منهم تابوا فتاب الله عليهم ثم عموا وصموا "
يعني عادوا إلى ما كانوا عليه. وقيل قوله " ثم عموا وصموا " في الاقرار
بالنبي صلى الله عليه وآله وقوله: " كثير منهم " قال الزجاج يحتمل رفعه ثلاثة أوجه:
أحدها - أن يكون بدلا من الفاء، فكأنه لما قال " عموا وصموا "
ابدل الكثير منهم أي عمي وصم كثير منهم كما يقول جاءني قومك أكثرهم.
والثاني - أن يكون جمع الفعل متقدما على لغة من قال اكلوني
البراغيث، وذهبوا قومك. قال أبو عمرو الهذلي:
ولكن ديا في أبوه وأمه * بحوران يعصرن السليط أقاربه (1)
الثالث أن يكون (كثيرا) خبر ابتداء محذوف والتقدير ذو العمى
والصمم " كثير منهم " ثم بين تعالى " إنه بصير " أي عالم " بما يعملون "
أي بأعمالهم.
قوله تعالى:
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه

(1) اللسان (سلط)، (ديف) نسبة إلى الفرزدق.
600

من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة وماويه النار وما
للظالمين من أنصار (75) آية بلا خلاف.
اللام في قوله " لقد " لام القسم. أقسم الله تعالى بأنه " كفر الذين
قالوا إن الله هو المسيح بن مريم " والكفر هو الجحود لما يجب عليه الاقرار
به، والتصديق له. وقال الرماني: هو تضييع حق النعمة بالجحد أو ما جرى
مجراه في عظم الجرم. ولذلك كان من قتل نبيا فهو كافر وان أقر بجميع
نعم الله. وعندنا إن قتل نبي يدل على أن قاتله جاحد لما يجب عليه الاقرار
به، والاعتقاد لتصديقه.
والذين يقولون من النصارى: إن الله هو المسيح بن مريم هم اليعقوبية،
وهم مع ذلك مثلثة، لأنهم يقولون إن الأب والابن وروح القدس إله واحد.
وغيرهم يقولون: إن المسيح ابن الله. ولا يقولون هو الله وأجمعوا على أنه إله.
وقوله: " وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم " اخبار
عن المسيح (ع) أنه قال لبني إسرائيل الذين كانوا في زمانه " اعبدوا الله ربي
وربكم " الذي يملكني وإياكم وإني وإياكم عبيده، ومن خلقني وخلقكم " إنه من
يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " فالشرك هو الكفر. وإنما يطلق على
من أشرك في عبادة الله غيره، وإنما كان كافرا، لأنه جحد نعمة الله بإضافتها
إلى غيره، وزعمه أن غيره يستحق العبادة مع ما ثبت أنه لا يقدر أحد على
ما يستحق به العبادة سوى الله تعالى. والشرك أصله الاجتماع في الملك،
فإذا كان الملك بين نفسين، فهما شريكان وكذلك كل شئ يكون بين نفسين،
ولا يلزم على ذلك ما يضاف إلى كل واحد منهما منفردا كالعبد يكون ملكا
601

لله وهو ملك للانسان، لأنه لو بطل ملك الانسان، لكان ملكا لله كما كان،
لم يزد في ملكه شئ لم يكن.
وقوله: " فقد حرم الله عليه الجنة " اخبار من المسيح لقومه أن من
يشرك بالله، فان الله يمنعه الجنة. والتحريم هاهنا هو تحريم منع لا تحريم
عبادة.
وقوله: " ومأواه النار وما للظالمين من أنصار " معناه أنهم مع حرمانهم
الجنة مستقرهم النار، ولا ناصر لهم يدفع عنهم ويخلصهم مما هم فيه من
أنواع العذاب.
قوله تعالى:
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من آله
إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين
كفروا منهم عذاب أليم (76) آية بلا خلاف.
وهذا قسم آخر من الله بأنه كفر من قال: " إن الله ثالث ثلاثة " والقائلون
بهذه المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية، واليعقوبية والنسطورية،
لأنهم يقولون: أب، وابن، وروح القدس إله واحد، ولا يقولون ثلاثة
آلهة. ويمنعون من العبارة. وإن كان يلزمهم أن يقولوا إنهم ثلاثة آلهة.
وما كان هكذا صح أن يحكى بالعبارة اللازمة. وإنما قلنا: يلزمهم، لأنهم
يقولون الابن إله والأب إله وروح القدس إله. والابن ليس هو الأب.
ومعنى " ثالث ثلاثة " أحد ثلاثة. وقال الزجاج، لا يجوز نصب ثلاثة
لكن للعرب فيه مذهب آخر وهو أنهم يقولون رابع ثلاثة، فعلى هذا يجوز
602

الجر والنصب، لان معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه فيهم.
ثم أخبر تعالى، فقال " وما من إله الا إله واحد " أي ليس إلا اله
واحد. ودخلت (من) للتوكيد.
وقوله: " وإن لم ينتهوا عما يقولون " أي إن لم يرجعوا ويتوبوا عما يقولون
من القول بالتثليث أقسم " ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم " يعني
الذين يستمرون على كفرهم والمس - هاهنا - ما يكون معه احساس وهو
حلوله فيه، لان العذاب لا يمس الحيوان إلا أحس به ويكون المس بمعنى
اللمس، لان في اللمس طلبا لاحساس الشئ، فلهذا اختير هاهنا المس.
واللمس ملاصقة معها إحساس وإنما قال " ليمسن الذين كفروا منهم "
لامرين:
أحدهما - ليعم الوعيد الفريقين الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم،
والذين قالوا هو ثالث ثلاثة والضمير عائد إلى أهل الكتاب.
الثاني - أنه من أقام منهم على الكفر لزمه هذا الوعيد في قول أبي علي،
والزجاج، وليس في الآية ما يدل على أن في أفعال الجوارح ما هو كفر لان
الذي فيها هو الاخبار عن أن من قال الله ثالث ثلاثة فهو كافر، وهذا لا خلاف
فيه. وليس فيها أن هذا القول بعينه هو كفر أن دلالة على الكفر، فمن يقول
الكفر هو الجحود، وان الايمان هو التصديق بالقلب يقول إن في أفعال
الجوارح ما يدل على الكفر الذي هو الجحود في القلب مثل القول الذي
ذكره الله تعالى. ومثل ذلك السجود للشمس وعبادة الأصنام وغير ذلك،
فلا دلالة في الآية على ما قالوه.
603

قوله تعالى:
أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (77) آية
الألف في قوله " أفلا " الف إنكار وأصلها الاستفهام، لأنه لا يصح
للسؤال جواب عن مثل هذا فيكون حينئذ تقريعا لهم وإنكارا عليهم
ترك التوبة وإنما دخلت " إلى " في قوله: " يتوبون إلى الله " لان معنى
التوبة الرجوع إلى طاعة الله، لان التائب بمنزلة من ذهب عنها ثم عاد إليها، وقد
بينا فيما مضى أن التوبة طاعة يستحق بها الثواب، فأما إسقاط العقاب عندها
فهو تفضل من الله غير واجب.
والفرق بين التوبة والاستغفار أن الاستغفار طلب المغفرة بالدعاء أو
التوبة أو غيرهما من الطاعة. والتوبة الندم على القبيح مع العزم على أن
لا يعود إلى مثله في القبيح أو الاخلال بالواجب والاستغفار مع الاصرار
على القبيح لا يصح ولا يجوز. وفي الآية تحضيض على التوبة والاقلاع من
كل قبيح والانكار لتركها، وحث على الاستغفار " والله غفور رحيم " إخبار
منه تعالى أنه يستر الذنوب ويغفرها رحمة منه لعباده.
قوله تعالى:
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام أنظر كيف
نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (78 آية بلا خلاف
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ليس المسيح بن مريم إلا رسول أرسله
الله " قد خلت من قبله الرسل " أي انه رسول ليس بإله كما أن الأنبياء قبله
604

رسل ليسوا بآلهة. وانه أتى بالمعجزات من قبل الله كما أتوا بها من قبل
ربهم، فمن ادعى له الآلهية فهو كمن ادعى الإلهية لجميعهم لتساويهم في
المنزلة ومعنى " خلت " مضت. " وأمه صديقة " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أنها كانت تصدق بآيات ربها ومنزلة ولدها، وتصدقه فيما
أخبرها به بدلالة قوله " وصدقت بكلمات ربها " (1) ذكر ذلك الحسن،
والجبائي.
الثاني لكثرة صدقها وعظم منزلتها فيما تصدق به من أمرها أو سميت
صديقة على وجه المبالغة، كما قيل: رجل سكيت. أي مبالغ في السكوت.
وقوله " كانا يأكلان الطعام " فيه احتجاج على النصارى، لان من
ولدته النساء، وكان يأكل الطعام لا يكون إلها للعباد لان سبيله سبيلهم في
الحاجة إلى الصانع المدبر، لان من فيه علامة الحدث، لا يكون قديما. ومن
يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شئ وقيل إن ذلك كناية عن قضاء
الحاجة لان من أكل الطعام لابد أن يحدث حدثا مخصوصا على مجرى العادة.
وقوله " انظر كيف نبين لهم الآيات " أمر للنبي وأمته بأن يفكروا فيما
بين الله من الآيات والدلالات لهم على بطلان ما اعتقدوه من ربوبية المسيح،
وبنوته ثم أمره بأن ينظر ثانيا " أنى يؤفكون " أي كيف يؤفكون. وقيل
من أين يؤفكون ومعنى " يؤفكون " يصرفون. وقيل يقلبون. والمعنى
متقارب، لان المعنى انظر كيف يصرفون عن الآيات التي بيناها لهم ويقال:
لكل مصروف عن شئ مأفوك عنه، وقد افكت فلانا عن كذا أي صرفته عنه
صرفا. فأنا آفكه إفكا فهو مأفوك وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر،

(1) سورة التحريم آية 12.
605

والافك الكذب، لأنه صرف الخبر عن وجهه. والمؤتفكات المنقلبات من
الرياح، وغيرها، لأنها صرفت بقلبها عن وجهها.
قوله تعالى:
قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا ولا
نفعا والله هو السميع العليم (79) آية
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء النصارى الذين قالوا " إن الله
ثالث ثلاثة ": " أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا " أي
توجهون عبادتكم إلى من لا يقدر على الضر والنفع، لان القادر عليهما هو
الله تعالى أو من يمكنه الله من ذلك. ولو جاز توجيه العبادة إلى المسيح الذي
لا يملك ذلك لجاز توجيهها إلى الأصنام كما يقوله عباد الأصنام. وقد
علمنا خلاف ذلك.
والملك: هو القدرة على تصريف ما للقادر عليه أن يصرفه، فملك الضرر
والنفع أخص من القدرة عليهما، لان القادر عليهما قد يقدر من ذلك على ماله
أن يفعل، وقد يقدر منه على ما ليس له أن يفعله. والنفع: هو فعل اللذة
أو السرور أو ما أدى اليهما أو إلى واحد منهما مثل الملاذ التي تحصل في
الحيوان. والصلة بالمال والوعد باللذة، فان جميع ذلك نفع، لأنه يؤدي
إلى اللذة، والضرر هو فعل الألم أو الغم أو ما أدى اليهما أو إلى واحد منهما
كالآلام التي توجد في الحيوان والقذف والسب، لان جميع ذلك يؤدي إلى
الآلام والغضب ضرر لأنه من الأسباب المؤدية إلى الآلام.
وقوله " والله هو السميع العليم " قيل في معناه هاهنا قولان:
606

أحدهما - أنه ذكر للاستدعاء إلى التوبة فهو يسمع قول العبد فيها وما
يضمره منها.
والآخر التحذير من الجزاء بالسيئة، لأنه يعلم الاعمال ويسمع الاسرار
والاعلان. وذلك دليل على ملك الجزاء بالثواب والعقاب.
قوله تعالى:
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق
ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا
وضلوا عن سواء السبيل (80) آية بلا خلاف.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يخاطب أهل الكتاب، وهم النصارى هاهنا.
وقال قوم: المراد به اليهود والنصارى، لان اليهود أيضا غلوا في تكذيب
عيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله ويقول لهم " لا تغلو في دينكم " ومعناه لا تتجاوزوا
الحد الذي حده الله لكم إلى الازدياد. وضده التقصير وهو الخروج عن
الحد إلى النقصان. والزيادة في الحد والنقصان معا فساد أي ودين الله الذي
أمر به هو بين الغلو، والتقصير، وهو الاقتصاد.
وقوله " ولا تتبعوا أهواء قوم " وقل لهم: لا تسلكوا سبيل الأوائل،
لان الاتباع هو سلوك الثاني طريقة الأول على وجه الاقتداء به وقد يتبع
الثاني الأول في الحق وقد يتبعه في الباطل. وإنما يعلم أحدهما بدليل.
والمراد هاهنا النهي عن اتباع سبيلهم الباطل. و (الأهواء) هاهنا المذاهب
التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، لان قد يستثقل النظر لما فيه من المشقة،
وميل طبعه إلى بعض المذاهب فيعتقده، وهو ضلال فيهلك به. وقوله:
607

" قد ضلوا من قبل " فيه قولان:
قال الحسن، ومجاهد: هم اليهود.
وقال أبو علي هم أسلافهم الذين هم رؤساء ضلالتهم الذين سنوا لهم
هذا الكفر من الفريقين اليهود والنصارى " وأضلوا كثيرا " يعني هؤلاء الذين
ضلوا من قبل وأضلوا أيضا كثيرا من الخلق. ونسب الاضلال إليهم، من
حيث كان بدعائهم وإغوائهم.
وقوله " وضلوا عن سواء السبيل " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ضلوا باضلالهم غيرهم في قول الزجاج.
الثاني - وضلوا من قبل، وضلوا من بعد، فلذلك كرر. وقيل
" وضلوا من قبل " عن الهدى في الدنيا " وأضلوا كثيرا " عن طريق الجنة.
و " سواء السبيل " معناه مستقيم الطريق. والمعنى فيه الحق من الدين،
لأنه يستقيم بصاحبه إلى الجنة، والخلود في النعيم. وقيل له: سواء
لاستمراره على استواء.
قوله تعالى:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى
ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (81) آية بلا خلاف.
قيل في معني " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل " الآية ثلاثة أقوال:
أحدها - إياسهم من مغفرة الله مع الإقامة على الكفر والمعصية لله
- عز وجل - لدعاء الأنبياء (عليهم السلام) عليهم بالعقوبة ودعوتهم مستجابة
مع ما في ذلك من الفضيحة، وانطواء أولياء الله لهم على العداوة، والمظاهرة
608

عليهم في إقامة الحجة.
الثاني - قال الحسن ومجاهد وقتادة وأبو مالك لعنوا على لسان داود،
فصاروا قردة وعلى لسان عيسى، فصاروا خنازير. وإنما ذكر عيسى وداود،
لأنهما انبه الأنبياء المبعوثين بعد موسى (ع) ولما ذكر داود أغنى عن ذكر
سليمان، لان قولهما واحد. وقال أبو جعفر (ع) أما داود فلعن أهل أيلة لما
اعتدوا في سبتهم وكان اعتداؤهم في زمانه، فقال: اللهم ألبسهم اللعنة مثل
الرداء ومثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم الله قردة. وأما عيسى فلعن الذين
أنزلت عليهم المائدة ثم كفروا بعد ذلك.
الثالث - قال أبو علي الجبائي: إنه إنما أظهر ذلك لئلا يوهموا الناس
أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقوبة المعاصي.
واللعن هو الابعاد من رحمة الله، فلعنه الله يعني أبعده الله من رحمته
إلى عقوبته، ولا يجوز لعن من لا يستحق العقوبة من الأطفال والمجانين
والبهائم، لأنه تعالى لا يبعد من رحمته من لا يستحق الابعاد عنها. وقوله:
" ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " إشارة إلى اللعن الذي تقدم ذكره
بمعصيتهم واعتدائهم.
ف‍ (ذا) لما قرب و (ذلك) لما بعد، لأنه اجتزئ في دلالة الخطاب لما
قرب بالاقبال عليه. وفي القريب بالإشارة إليه فلما بعد لم يصلح الاجتزاء
فيهما كما يصلح فيما قرب، فاتى بالكاف للخطاب واكد ذلك باللام وكسرت
لالتقاء الساكنين والكاف في ذلك حرف وفي غلامك اسم، ولهذا لم يؤكد
بما يؤكد في غلامك لأنك لا تقول ذلك نفسك. كما تقول في غلامك نفسك.
وإنما قال: " بما عصوا وكانوا يعتدون " وإن كان الكفر أعظم الاجرام
609

ليدل على أن من خلصت معصيته مما يكفرها أو بقته، وأنهم مع كفرهم قد
عصوا بغير الكفر من الجرم الذي فسر في الآية التي بعد.
قوله تعالى:
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا
يفعلون (82) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى أن هؤلاء الكفار الذين ذكرهم لم يكونوا يتناهون
عن منكر أي لم يكن ينهى بعضهم بعضا مثل قولك لا يتضاربون ولا
يترامون ولا ينتهون ومعناه لا يكفون عما نهوا عنه.
وقوله: " لبئس ما كانوا يفعلون " وفتحت اللام لام القسم وتقديره
اقسم لبئس ما كانوا يفعلون كما فتحت لام الابتداء لأنها لما لم تكن عاملة
ك‍ (لام الإضافة) اختير لها أخف الحركات. ولا يجوز أن تكون لام
الابتداء، لأنها لا تدخل على الفعل الا في باب (أن) ولا تدخل على الماضي.
و (ما) في قوله " لبئس ما " قيل فيها قولان: أحدهما - أن تكون (ما)
كافة ل‍ (بئس) كما تكف في (إنما) و (بعدما) و (ربما) والاخر - أن
تكون اسما نكرة كأنه قال: بئس شيئا فعلوه، كما تقول بئس رجلا كان
عندك.
وفي الآية دلالة على وجوب انكار المنكر، لان كل شئ ذم الله عليه
فواجب تركه إلا أن يقيد بوقت يخصه، لان ظاهر ذلك يقتضي قبحه،
والتحذير منه. والمنكر هو القبيح، سمي بذلك لأنه ينكره العقل من حيث
أن العقل يقبل الحسن ويعترف به، ولا يأباه وينكر القبيح ويأباه والانكار
610

ضد الاقرار. فما يقر به العقل هو الحق، وما ينكره، فهو الباطل.
وقيل في معنى (المنكر) - هاهنا - ثلاثة أقوال: أحدها صيد السمك
في السبت. والثاني - أخذ الرشوة في الحكم. والثالث - أكل الربا وأثمان
الشحوم. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لا قدست أمة لا تأخذ لضعيفها حقه
غير مضيع.
قوله تعالى:
ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت
لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون
(83) آية بلا خلاف.
هذا خطاب من الله للنبي صلى الله عليه وآله يقول له " ترى كثيرا منهم " يعني من
هؤلاء اليهود في قول الحسن وأبي علي. وقال غيرهما يعني أهل الكتاب
أي " يتولون الذين كفروا " من عبدة الأوثان في قول الحسن وغيره. وقال
أبو جعفر يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم أهوائهم ليصيبوا من دنياهم.
فان قيل: كيف يتولى أهل الكتاب عبدة الأوثان مع إكفارهم إياهم على
تلك العبادة؟! قلنا لأنهم يعملون عمل المتولي بالنصرة والمعاونة والرضا بما
يكون منهم من عداوة النبي صلى الله عليه وآله ومحاربته. ويجوز أن يكونوا تولوهم
على ذلك في الحقيقة، فيكون على جهة تقييد الصفة.
فان قيل ما الفائدة في اخباره صلى الله عليه وآله يراه وهو عالم به؟ قلنا: عنه جوابان:
أحدهما - التوبيخ لصاحبه فيقرعون بما هو من حالهم.
والآخر التنبيه على باطن أمرهم بما يدل عليه ظاهر حالهم المعلومة
611

فينكشف باطنهم القبيح.
وقوله " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما بئس شيئا قدموه من العمل لمعادهم في الآخرة في قول أبي علي.
واللام لام القسم على ما بيناه.
والثاني - أنه يجري مجرى قوله: " سولت لهم أنفسهم " أي قدمت
لهم أنفسهم بما بعثهم على تولي الذين كفروا مع مخالفتهم. وقوله: " أن
سخط الله عليهم " قيل في موضع " أن سخط الله " قولان:
أحدهما - رفع كقولك: ما قدموه لأنفسهم سخط الله أي هو سخط
الله عليهم وخلودهم في النار بما كان من توليهم ورفعه كرفع (زيد) في قولك:
بئس رجلا زيد.
الثاني - أنه جر على تقدير لان سخط الله عليهم وحصلوا على الخلود
في النار وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على تقدير بئس الشئ ذلك،
لان أكسبهم السخطة عليهم.
قوله تعالى:
ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم
أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (84) آية بلا خلاف
قيل في معنى قوله " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه
ما اتخذوهم " مع العلم بأنهم لا يؤمنون بالنبي قولان:
أحدهما - قال الحسن ومجاهد أنه في المنافقين من اليهود
الثاني - المراد بالنبي موسى (ع) ومنعي (لو) - هاهنا - النفي
612

لايمانهم وإن لم يكون حرف نفي لكنه خرج مخرج الحجاج الذي يدل على
نفي الايمان. وإنما معناه تعليق الثاني بالأول في أنه يجب بوجوبه، فإذا
ظهر أن الثاني لم يجب دل على أن الأول لم يكن قد دخله معنى النفي من
هذه الجهة.
فان قيل: إذا كان المؤمن بالله لا يطلق عليه اسم مؤمن إلا وهو مؤمن
بالنبي وبما أنزل إليه فلم ذكرا؟.
قلنا للدلالة على التفصيل لان تلك الصفة وان كانت دالة فإنما تدل
على طريق الجملة وقوله " ما اتخذوهم أولياء " يعني هؤلاء لو كانوا مؤمنين
على الحقيقة لما اتخذوا المشركين أولياء و (ما) يجوز أن تكون جواب (لو)
ولا يجوز أن تكون جواب (ان) لان حرف الجزاء يعمل فيما قبله و (ها)
لها صدر الكلام فلا يعمل فيها. وليس كذلك (لم) فلذلك لم يجز ان آتيني
ما ضرك ويجوز ان آتيني لم يضرك، لأنه يجوز أن تقول زيدا لم أضرب
ولا يجوز أن تقول زيدا ما ضربت وقوله: " ولكن كثيرا منهم فاسقون "
إنما وصفهم بالفسق وإن كان الكفر أعظم في باب الذم لامرين:
أحدهما إن معناه خارجون عن أمر الله فهذا المعنى لا يظهر بصفة كافر.
والآخر ان الفاسق في كفره هو المتمرد فيه والكلام يدل على أنهم فاسقون
في كفرهم أي خارجون إلى التمرد فيه.
قوله تعالى:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن
613

أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك
بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (85)
آية بلا خلاف
قيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: إنها نزلت
في النجاشي ملك الحبشة وأصحابه لما اسلموا.
وقال قتادة: نزلت في قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين
بشريعة عيسى (ع) فلما جاء محمد (صلى الله عليه وآله) آمنوا به.
وقال مجاهد: نزلت في الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب (رحمه الله)
مسلمين واللام في قوله " لتجدن " لام القسم. والنون دخلت لتفصل بين
الحال والاستقبال، هذا مذهب الخليل، وسيبويه وغيرهما. وقوله:
" عداوة " منصرف منتصب على التمييز.
وصف الله تعالى اليهود والمشركين بأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين،
لان اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين مع أن المؤمنين يؤمنون بنبوة موسى
والتوراة التي أتى بها، فكان ينبغي أن يكونوا إلى من وافقهم في الايمان
بنبيهم وكتابهم أقرب. وظاهروا المشركين حسدا للنبي (عليه السلام).
وقوله: " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى "
يعني الذين قدمنا ذكرهم - عن المفسرين. وقال الزجاج يجوز أن يكون
أراد به النصارى، لأنهم كانوا أقل مظاهرة للمشركين، وبه قال الجبائي.
وروي عن ابن عباس أنه قال: من زعم أنها في النصارى فقد كذب. وإنما
614

هم النصارى الأربعون الذين فاضت أعينهم حين قرأ النبي صلى الله عليه وآله عليهم القرآن
اثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام. وسارعوا إلى الاسلام
ولم يسارع اليهود.
والمودة هي المحبة إذا كان معها ميل الطباع يقال: وددت الرجل أوده
ودا وودادا ومودة: إذا أحببته ووددته: إذا تمنيته أوده ودا. ومنه قوله
" ودوا لو تدهن فيدهنون " (1).
وقوله " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبان " فالقسيسون العباد في قول
ابن زيد والقس والقسيس واحد إلا أنه قد صار كالعلم على رئيس من رؤساء
النصارى في العبادة. ويجمع قسوسا وأصله في اللغة النميمة يقس قسا إذا
نم الحديث. قال رؤبة بن العجاج:
يضحكن عن قس الأذى غوافلا * لا جعبريات ولا طهاملا (2)
الطهامل من النساء القباح. ومصدره القسوسة والقسيسة فالقس
الذي ينم حاله بالاجتهاد في العبادة. والرهبان جمع راهب، كراكب وركبان
وفارس وفرسان. قال الشاعر:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا * والعصم من شعف العقول الفادر (1)
وقيل: إنه يكون واحدا ويجمع رهابين كقربان وقرابين ورهابنة أيضا
قال الشاعر:

(1) سورة القلم آية 9.
(2) اللسان (قسس)، (جعبر) ورايته (يمسين) بدل " يضحكن ".
(3) قائله جرير ديوانه: 305 واللسان (ذهب)، ومعجم البلدان (مدين).
615

لو عاينت رهبان دير في القلل * لاقبل الرهبان يمشي ونزل (2)
وكل ذلك من الرهبة التي هي المخافة ورهب يرهب رهبا إذا خاف
والترهيب ضد الترغيب. وقوله " وإنهم لا يستكبرون " معناه إن هؤلاء
النصارى الذين آمنوا لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له كما استكبر
اليهود وعباد الأوثان وانفوا من قبول الحق، وأخبر الله تعالى في هذه الآية
عن مجاوري النبي صلى الله عليه وآله من اليهود، ومودة النجاشي وأصحابه الذين أسلموا
معه من الحبشة لان الهجرة كانت إلى المدينة وبها اليهود والى الحبشة وبها
النجاشي وأصحابه فأخبر عن عداوة هؤلاء ومودة أولئك.
تم المجلد الثالث من التبيان
ويليه المجلد الرابع وأوله قوله تعالى:
" وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع... (86)

(1) تفسير القرطبي 6: 251 وتفسير الطبري 10: 503.
616