الكتاب: أضواء على السنة المحمدية
المؤلف: محمود أبو رية
الجزء:
الوفاة: ١٣٨٥
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الخامسة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: نشر البطحاء
ردمك:
ملاحظات: الطبعة الخامسة ، مزيدة محققة

محمود أبو ريه
أضواء على السنة المحمدية
أو دفاع عن الحديث
الطبعة الخامسة
مزيدة محققة
5

الإهداء
أي ولدي العزيز مصطفى (1)
كانت سعادتي في وجودك، وحياتي تستضئ بنورك، فلما أفل بدرك،
وغاب عن عيني شخصك، أطبقت على الدنيا بأحزانها وبأسائها، وأصبحت غريبا
فيها وإن كنت من أبنائها.
فإليك يا ولدي العزيز أهدي هذا الكتاب الذي ما قصدت بتأليفه إلا وجه
الحق الذي فطرك الله عليه، وكنت دائما تؤثره وتسكن إليه، وخدمة العلم الذي
أخلصت له نفسك، وأفنيت فيه عمرك، وجاهدت حق الجهاد في تحصيله،
وقضيت نحبك في سبيله.
وإني والله يا بني لعلي ما عهدت من حب عميق لك لم يظفر بمثله أحد غيرك،
ومكانك من قلبي لا تدنو منه نفس سواك.
لئن غبت عن عيني وشط بك النوى * فأنت بقلبي حاضر وقريب
خيالك في وهمي، وذكرك في فمي * ومثواك في قلبي فأين تغيب؟
أما الأسى لك، والحزن عليك، فلا ينال منهما مرور الأيام، ولا يخففهما
تطاول الأعوام، إذ لا صبر عليك ولا سلوان عنك.
كيف أرجو شفاء ما بي، وما بي * دون سكناي في ثراك شفاء
شطر نفسي دفنت، والشطر باق * يتمنى! ومن مناه الفناء
القاهرة - الجيزة محمود أبو ريه

(1) هو ولدي العزيز مصطفى صادق، ترقبه القضاء وهو يتهيأ للخروج إلى الحياة بعد إتمام
دراسته الهندسية الكهربائية بجامعة القاهرة فعاجله بسهم مسموم نفذ إلى (صدره) فتلقته مصحة حلوان
ليعاني فيها برحاء المرض، ويتلوى من غرز الإبر ثلاث سنين سويا، ثم فاضت روحه إل بارئها،
وكان ذلك في فجر يوم الخميس غرة رمضان سنة 1359 - 3 أكتوبر سنة 1940 ولما يتجاوز الثانية
والعشرين من عمره، ولم يدعني القضاء أتجرع الفجيعة التي قصمت ظهري فثنى بسهم آخر أصاب (كبد)
أمه بعد أن ابيضت من الحزن عليه إحدى عينيها، فخرت صريعة بيني وبين أولادها. وقد أضرحت لها مع
عزيزها لتأنس به ويأنس بها. وغادراني بعدهما في حزن مقيم وعذاب أليم، إلى أن يلحقني الله بهما.
6

كلمة نصير الفكر والدين والعلم العلامة
الدكتور طه حسين
" ولا بأس عليه من هذه الهنات التي أشرت
إلى بعضها فالذين يبرؤون من النقص والتقصير
أو الهفوات أحيانا لا يكادون يوجدون "
أضواء على السنة المحمدية
جهد وعبء ثقيل
لا يقوم به في هذه الأيام إلا القليلون
هذا كتاب بذل فيه مؤلفه من الجهد ما لا يبذل مثله إلا الأقلون الذين يمكن
إحصاؤهم في هذه الأيام التي انتشر فيها الكسل العقلي، وعم فيها إيثار الراحة والعافية
على الجد والمشقة والعناء.
والذين يقرأون هذا الكتاب قراءة المتدبر المستأني سيلاحظون مقدار هذا الجهد
العنيف الذي مكن المؤلف من أن يصبر نفسه السنين الطوال على قراءة طائفة
ضخمة من الكتب التي لا يكاد الباحثون يطيلون النظر فيها لكثرة ما يتعرضون له
من كثرة الأسانيد وتكرارها وتعدد الروايات واضطرابها وإعادة الخبر الواحد مرات
كثيرة في مواطن مختلفة.
وأقل ما يوصف به النظر في هذه الكتب أنه يعرض صاحبه لكثير من الملل
والضيق، فليس قليلا أن يأخذ الإنسان نفسه بقراءة المعروف من كتب السنة والموازنة
بين ما روى فيها من الحديث في النص وفي الأسانيد التي روى بها هذا النص والبحث
بعد ذلك عن الرجال الذين تتألف منهم هذه الأسانيد في الكتب المخصصة لذلك.
* * *
ويكفي أن نذكر أن المؤلف قرأ كتاب الموطأ لمالك رحمه الله وصحيح البخاري
وصحيح مسلم وسنن أبي داوود وكتاب الترمذي، وكتاب ابن ماجة ومسند أحمد
ابن حنبل، ونظر مع ذلك في شروح طوال لبعض هذه الكتب وفي كتب كثيرة
7

أحرى منها الطوال ومنها القصار كتبت في تفسير نصوص الحديث وفي رجال
الأسانيد وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الطبقات. وهو قد أثبت أسماء
الكتب التي قرأها والتي أطال النظر فيها أو رجع إليها في كتابه في آخر الكتاب،
ويكفي أن تنظر إلى هذه الأسماء لتعرف مقدار ما أخذ المؤلف نفسه من الصبر
والأناة والتعمق لما قرأ.
فهذا وحده يدل على جهد عنيف وعبء ثقيل لا ينهض بهما في هذه الأيام
إلا الأقلون جدا كما قلت آنفا.
وهذه هي المزية الأولى التي تسجل لمؤلف هذا الكتاب، وقد قرأته مرتين،
وأشهد أنه قد ذكر في أثناء كتابه كل الكتب التي أثبتها أو أشار إليها. وإذا كانت
لهذا دلالة فهو يدل على أنه لم يبالغ ولم يتكثر حين أثبت هذه الكتب في مراجعه
وإنما انتفع بها جميعا أدق الانتفاع وأقواه.
وموضوع الكتاب خطير حقا وقيم حقا لا يقف الناس عنده في هذه
الأيام وإنما يشفقون منه أشد الإشفاق يخافون أن تزل أقلامهم أو أن يثيروا سخط
المحافظين الذين قرروا أن هذا النحو من العلم قد أصبح شيئا مقدسا أو كالمقدس
لا ينبغي التعرض له إلا بالنقل والاستشهاد. فأما النقد والتعمق وإصدار الأحكام
فأشياء لا يستقيم الخوض فيها لأحد.
فقد أضاف المؤلف إذن إلى مزية الصبر والأناة وأخذ النفس بالعنف في
سبيل البحث والاستقراء مزية أخرى وهي الشجاعة على البحث عن الحق والجهر
به متى اطمأن إليه عقله لا يخاف في ذلك لوما ولا اعتراضا. وإنما هو مستعد
للجدال عن آرائه والنضال عما استقر في نفسه أنه الحق.
* * *
الموضوع إذن خطير قيم وهو نقد ما وصل إلينا من الحديث الذي يحمل عن
النبي صلى الله عليه وسلم وتمييز الصحيح من غيره ليطمئن المسلمون إلى ما يروى
لهم عن رسول الله. وقد ألح المؤلف في تبيين أشياء تحمل على النبي وليست من
كلامه في شئ وإنما دست عليه لأغراض مختلفة بعضها دسه جماعة من اليهود
أظهروا الإسلام والورع واخترعوا أشياء من عند أنفسهم أضافوا بعضها إلى النبي
8

وأضافوا بعضها إلى التوراة. وليست هي من كلام النبي ولا من التوراة في شئ.
وبعضها دس أثناء الوعظ والقصص أريد بها دعوة الناس إلى الفضائل وحب الخير
واجتناب الآثام فرغبوا ورهبوا ولم يتحرجوا من إضافة أشياء إلى النبي يرون أن الناس
يتأثرون بها أكثر مما يتأثرون بكلام الوعاظ والقصاص. وأشياء أخرى دست تملقا
للخلفاء ورجال الحكم والتماسا للحظوة عندهم، وأشياء أخرى اخترعها المختصمون في
الكلام والفقه دفاعا عن آرائهم في هذين النوعين من العلم، وأشياء دست لنشر الدعوة
لبعض الأحزاب السياسية في العصور الأولى. ذلك إلى أفراد من الناس أكثروا من
اختراع الحديث ليلقوا في روع العامة وبعض الخاصة أنهم أصحاب علم غزير
ومعرفة دقيقة بأقوال النبي وأعماله.
وكان لهذا كله أثر أي أثر في إفساد العقول والانحراف بآراء كثير من الناس
عن الاستقامة في فهم الدين وتصور النبي كما ينبغي أن يتصوره المسلمون منزها
عن هذا السخف الكثير الذي حمل عليه وهو منه برئ.
(وكان هذا أيضا مطمعا لكثير من خصوم الإسلام وأعدائه في نقد الدين
والتحامل عليه وعلى الرسول الذي جاء به ظلما وبهتانا).
* * *
وقد فطن المحدثون القدماء لهذا كله واجتهدوا ما استطاعوا في التماس الصحيح
من الحديث وتنقيته من كذب الكذابين وتكلف المتكلفين، وكانت طريقتهم
في هذا الاجتهاد إنما هي الدرس لحياة الرجال الذين نقلوا الحديث جيلا بعد جيل
حتى تم تدوينه. فكانوا يتتبعون كل واحد من هؤلاء الرجال ويتحققون من أنه
كان نقي السيرة صادق الإيمان بالله ورسوله شديد الحرص على الصدق في حديثه
كله وفي حديثه عن النبي خاصة. وهو جهد محمود خصب بذله المتقنون من
علماء الحديث وأخلصوا فيه ما وجدوا إلى الإخلاص سبيلا.
ولكن هذا الجهد على شدته وخصبه لم يكن كافيا، فمن أعسر الأشياء وأشدها تعقيدا
أن تتبع حياة الناس بالبحث والفحص والتنقيب عن دقائقها، فمن الممكن أن تبحث
وتفحص وتنقب دون أن تصل إلى حقائق الناس ودقائق أسرارهم وما تضمر قلوبهم في
أعماقها وما يمعنون في الاستخفاء به من ألوان الضعف في نفوسهم وفي سيرتهم أيضا.
9

ولم يكن بد من أن يضاف إلى هذا الجهد جهد آخر وهو درس النص نفسه،
فقد يكون الرجل صادقا مأمونا في ظاهر أمره بحيث يقبل القضاة شهادته إذا شهد
عندهم. ولكن الله وحده هو الذي اختص بعلم السرائر وما تخفيه القلوب أو تستره
الضمائر، وقد يكون الرجال الذين روى عنهم حديثه صادقين مأمونين مثله
يقبل القضاة شهادتهم إن شهدوا عندهم، ولكن سرائرهم مدخولة تخفي دخائلها
على الناس. فلا بد إذن من أن نتعمق نص الحديث الذي يرويه عن أمثاله من
العدول لنرى مقدار موافقته للقرآن الذي لا يتطرق إليه الشك ولا يبلغه الريب من
أي جهة من جهاته لأنه لم يصل إلينا من طريق الرواة أفرادا أو جماعات وإنما
تناقلته أجيال الأمة الإسلامية مجمعة على نقله في صورته التي نعرفها.
وهذه الأجيال لم تنقله بالذاكرة وإنما تناقلته مكتوبا، كتب في أيام النبي
نفسه، وجمع في خلافة أبي بكر وسجل في المصاحف وأرسل إلى الأقاليم في خلافة
عثمان. فاجتمعت فيه الرواية المكتوبة والرواية المحفوظة في الذاكرة وتطابقت كلتا
الروايتين دائما فلا معنى للشك في نص من نصوص القرآن لأنها وصلت إلينا عن
طريق لا يقبل فيها الشك.
* * *
وكذلك طائفة من أعمال النبي لم ينقلها فرد أو جماعة وإنما تناقلتها الأمة
الإسلامية كلها جيلا عن جيل كالصلوات الخمس المكتوبة التي أمر الله بها
ولم يفصلها ففصلها النبي حين صلى بأصحابه وتناقلتها الأمة على نحو ما أداها النبي.
وقل مثل ذلك في الزكاة والحج وصيام رمضان الذي فصل الله في القرآن بعض
أحكامه وفصلها النبي بصيامه وتعليم أصحابه كيف يصومون، فإذا وصل إلينا حديث
عن النبي فينبغي أن ندرس نص هذا الحديث ونتبين أنه لم يناقض القرآن ولم يناقض
ما تواتر من أعمال النبي.. فإن كان فيه مناقضة قليلة أو كثيرة رفضناه واطمأنت
قلوبنا إلى رفضه لأن النبي إنما كان مفسرا للقرآن ومفصلا للمجمل من أحكامه.
وكذلك كانت عائشة رحمها الله تفعل، فقد نقل إليها أن بعض الصحابة يقولون
إن النبي رأى ربه ليلة المعراج، فقالت لمن نقل إليها ذلك: لقد قف شعري مما قلت..
وقرأت الآية الكريمة " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ".
10

ونقل إليها عن بعض أصحاب النبي أن النبي قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله
عليه، فرفضت هذا الحديث، وقرأت قول الله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى ".
وكان الصالحون من أصحاب النبي يتحرجون أشد التحرج من رواية الحديث
عن النبي، وكان عمر رحمه الله يشتد على من أكثر الحديث عن النبي وربما ضربهم
بدرته كما فعل عمر مع أبي هريرة وأنذره بالنفي عن المدينة إلى أرض قومه في اليمن
إن عاد إلى الحديث.
ويروى أن النبي نفسه نهى عن كتابة أقواله وكره أن يكتب المسلمون عنه شيئا
غير القرآن.
وهذا كله سجله المؤلف في كتابه ولكنه يبتكره من عند نفسه وإنما هو
شئ كان المتقنون من علماء المسلمين يقولونه ويذيعونه في كتبهم كما فعل ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم وغيرهما. ولكن المحدثين نسوا هذا أو أعرضوا عنه فاختلطت على
الناس أمور الحديث وكان فضل المؤلف في إظهارها في هذا العصر ليقرأها الذين
يحبون أن يصلح دينهم ويعصم من التخليط الكثير.
ولكن المؤلف مع ذلك قد أسرف على نفسه في بعض المواطن، ولست أريد أن
أذكر هذه المواطن كلها تجنبا للاسراف في الإطالة وإنما اكتفى بضرب الأمثال.
فمنها مثلا هذه المؤامرة التي دبر فيها مقتل عمر بن الخطاب رحمه الله وشارك
فيها كعب الأحبار وهو يهودي أسلم أيام عمر. والرواة يحدثوننا بأن كعبا هذا أنبأ
عمر بأنه مقتول في ثلاث ليال. فلما سأله عمر عن ذلك زعم أنه يجده في التوراة،
فدهش عمر لأن اسمه يذكر في التوراة، ولكن كعبا أنبأه بأنه لا يجد اسمه في التوراة
وإنما يجد صفته. ثم غدا عليه في اليوم الثاني لهذا الحديث. فقال له:
بقي يومان. ثم غدا عليه في اليوم الثالث فقال له مضى يومان وبقي يوم: وإنك
مقتول من غد. فلما كان الغد في صلاة الصبح أقبل ذلك العبد الأعجمي فطعنه
وهو يسوي الصفوف للصلاة، والمؤلف يؤكد أن عمر إنما قتل نتيجة لمؤامرة دبرها
الهرمزان وشارك فيها كعب ويؤكد أن هذه المؤامرة ثابتة لا يشك فيها إلا الجهلاء.
وأريد أن أؤكد أنا للمؤلف أني أنا أحد هؤلاء الجهلاء لأني أشك في هذه
المؤامرة أشد الشك وأقواه ولا أراها إلا وهما. فقد قتل ذلك العبد المشؤوم نفسه قبل
11

أن يسأل. وتعجل عبيد الله بن عمر فقتل الهرمزان دون أن يسأل، وعاش كعب الأحبار
هدا سبعة أعوام أو ثمانية دون أن يسأله أحد أو يتهمه أحد بالاشتراك في هذه المؤامرة،
وكان كثيرا ما يدخل على عثمان، ثم ترك المدينة وذهب إلى حمص فأقام فيها حتى
مات سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، فمن أين استطاع المؤلف أن يؤكد وقوع هذه المؤامرة
أولا ومشاركة كعب فيها ثانيا مع أن المسلمين قد غضبوا حين تعجل عبيد الله
ابن عمر حين قتل الهرمزان جهلا عليه ولم يقدمه إلى الخليفة ولم يقم عليه البينة لأنه
شارك من قريب أو من بعيد في قتل أبيه. وقد ألح جماعة من المسلمين من أصحاب
النبي على عثمان أن يقيم الحد على عبيد الله لأنه قتل مسلما دون أن يقاضيه إلى
الإمام ودون أن يثبت عليه قتل عمر بالبينة. فعفا عنه عثمان مخافة أن يقول الناس
قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم. وعد الثائرون على عثمان هذا العفو أحد أغلاطه،
وكان علي حين تولى الخلافة مزمعا معاقبة عبيد الله على فعلته تلك. ولكنه هرب
من علي ولجأ إلى معاوية فعاش في ظله وقتل في موقعة صفين. ولم يسأل عثمان
كعبا عن شئ ولم يتهمه أحد بشئ وقد ذهب من المدينة إلى الشام ومعاوية أمير
عليها فعاش فيها حتى مات فلم يسأله عن شئ، فمن أين يأتي هذا التأكيد الذي
ألح فيه المؤلف حتى لعن كعبا ولم يكن له ذلك، فالمعروف من أمر كعب أنه أسلم
والمعروف كذلك أن لعن المسلمين غير جائز.
ومثل آخر في الصفحة 154 حين زعم أن أبا هريرة رحمه الله لم يصاحب النبي
محبة له أو طلبا لما عنده من الدين والهدى وإنما صاحبه على ملء بطنه. كان مسكينا
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطعمه. والمؤلف يروي لإثبات ذلك حديثا رواه
أحمد بن حنبل ورواه البخاري أيضا، ولكن مسلما روى هذا الحديث نفسه عن
أبي هريرة. ونص الحديث عند مسلم أصرح وأوضح من نصه عند البخاري وابن حنبل
فقد كان أبو هريرة يقول فيما روى مسلم أنه كان يخدم النبي على ملء بطنه. وفرق
بين من يقول إنه كان يخدم ومن يقول إنه كان يصاحب، وحسن الظن في هذه
المواطن شر من سوئه، وما أظن أبا هريرة أقبل من اليمن مع من أقبل منها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم لا ليؤمن به ولا ليأخذ عنه الدين بل ليملأ بطنه عنده.
هذا إسراف في التأويل وفي إساءة الظن.
والمؤلف شديد على أبي هريرة شدة أخشى أن يكون قد أسرف فيها شيئا.
12

فنحن نعلم أن أبا هريرة كان كثير الحديث عن النبي وأن عمر شدد عليه في ذلك
وأن بعض أصحاب النبي أنكروا بعض حديثه وأنه أخذ كثيرا عن كعب الأحبار.
وكان المؤلف يستطيع أن يسجل هذا كله تسجيلا موضوعيا كما يقال دون أن يقحم
فيه غيظا أو موجدة. فهو لا يكتب قصة ولا يكتب أدبا فيظهر شخصيته بما ركب
فيها من الغضب والغيظ والموجدة وإنما يكتب عالما وعالما يتصل بالدين وأخص مزايا
العلماء ولا سيما في هذا العصر أنهم ينسون أنفسهم حين يكتبون العلم وأنهم يبحثون
ويقررون بعقولهم لا بعواطفهم. فمن الظلم لأبي هريرة أن يقال إنه لم يصاحب النبي
إلا ليأكل من طعامه. والذي نعلمه أنه أسلم وصلى مع النبي وسمع منه بعض أحاديثه.
فليقل فيه المؤلف إنه لم يصاحب النبي إلا ثلاث سنين وقد روى من الحديث أكثر
مما روى المهاجرون الذين صحبوا النبي بمكة والمدينة، وأكثر من الأنصار الذين
صاحبوا النبي منذ هاجر إلى المدينة حتى آثره الله بجواره. وهذا يكفي للتحفظ
والاحتياط بإزاء ما يروى عنه من الحديث.
وأخرى أريد أن أثبتها هنا وهي أن المؤلف يقول في حديثه الطويل عن
أبي هريرة إنه لحرصه على الأكل ورغبته في الطيبات كان يأكل عند معاوية ويصلي مع
علي ويقول إن الأكل مع معاوية أدسم أو بعبارة أدق إن المضيرة عند معاوية أدسم،
والمضيرة لون من الحلوى، وأن الصلاة مع علي أفضل.
وأريد أن أعرف كيف كان يجتمع لأبي هريرة أن يأكل عند معاوية ويصلي
مع علي وقد كان أحدهما في العراق والآخر في الشام أو أحدهما في المدينة والآخر
في الشام إلا أن يكون قد فعل ذلك أثناء الحرب في صفين. وما أحسبه كان يسلم
لو فعله أثناء الحرب إذن لاتهمه أحد الفريقين بالنفاق والتجسس. وإنما هذا كلام
قيل في بعض الكتب وكان يجب على الأستاذ المؤلف أن يتحقق منه قبل أن يثبته.
فهذا أيسر ما يجب على العلماء.
وبعد فالمؤلف يطيل في تأكيد ما اتفقت عليه جماعة المسلمين من أن
الأحاديث التي يرويها الأفراد والآحاد كما يقول المحدثون لا تفيد القطع وإنما تفيد
الظن وحده، ومن أجل ذلك لا يستدل المسلمون بهذه الأحاديث على أصول الدين
وعقائده وإنما يستدلون بها أحيانا على الأحكام الفرعية في الفقه وعلى فضائل الأعمال
13

ويستعان بها على الترغيب في الخير والتخويف من الشر، وكل الأحاديث التي اعتمد
عليها المؤلف في المواضع التي ضربنا لها الأمثال إنما هي أحاديث رواها الأفراد
والآحاد فهي لا تفيد قطعا ولا يقينا، فما باله يرغب عن الإفراط في الثقة بهذه الأحاديث
ثم يستدل بها هو ليتهم الناس بأشياء لا سبيل له إلى إثباتها.
وملاحظة أخيرة أختم بها هذا الحديث الذي أراه على طوله موجزا، وهي أن
المؤلف قد أخذ في كتابه وهو يؤمن فيما يظهر بأنه لن يظفر برضى الناس عنه ولن
يظفر برضى فريق من رجال الدين خاصة فعرض بهم أحيانا، واشتد عليهم أحيانا
أخرى ووصفهم بالجمود حينا وبالتقليد حينا وبالحشوية أحيانا فأغرى هؤلاء الناس
بنفسه وسلطهم على كتابه وخيل إليهم أنه يبغضهم ولا يراهم أهلا للبحث القيم
والمحاولة لاستكشاف حقائق العلم. ولو أنه صبر حتى يخرج كتابه ويقرأه الناس
ويسمع رأيهم فيه ونقدهم له لكان هذا الصبر خيرا له وأبقى عليه.
وأنا بعد ذلك أجدد اعترافي للمؤلف بجهده العنيف الخصب في تأليف هذا
الكتاب وإخلاصه الصادق للعلم والحق في بحثه عن الحديث.
ولا بأس عليه من هذه الهنات التي أشرت إلى بعضها فالذين يبرؤون من النقص
والتقصير أو الهفوات أحيانا لا يكادون يوجدون. وصدق بشار حين قال:
إذ أنت لم تشرب مرارا على القذى * ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه!
طه حسين
14

هذه هي الكلمة النفيسة التي تفضل الدكتور طه حسين فنشرها عن كتاب (أضواء
على السنة المحمدية " بعد ما قرأه. وإذا كان قد وجب علي أن أقدم له أخلص الشكر
وأعمقه - أن أولى كتابي هذا من بالغ العناية ما جعله يقرؤه غير مرة. فإن مما يسرني
- وأحمد الله عليه - أن سيادته وهو العالم الجليل، والناقد العظيم. لم يجد شيئا يتجه إليه
النقد بين مختلف مواضيع الكتاب - وهي خطيرة - لم يسبق أن حملها كتاب من
قبل، وأن ما بدا من نقده إنما كان " هنات لا بأس علي منها " كما صرح بذلك
في كلمته (1).
أما هذه الهنات فإني أضع على هامشها هذا التعليق الوجيز، وأرجو أن ينال
من لدنه رضا وقبولا.
كانت أولى هذه الهنات أن الدكتور قد شك في مؤامرة قتل عمر، وفي أن
كعب الأحبار كان ممن اشتركوا فيها، ولقد ابتسمت عندما قرأت كلامه في ذلك،
وقلت كيف يغيب علم هذا الأمر عن مثله وهو العالم النقاب وارتقبت كتابه
" الشيخان " لأنظر ما سيقول في مقتل عمر، وما كدت أقرأ ما كتبه في ذلك
حتى اطمأننت بما ذكرته في كتابي وحمدت الله أن ألفيت الشك الذي كان قد
اعترى الدكتور في أمر مؤامرة قتل عمر قد زال والحمد لله (2).
أما الهنة الثانية فهي أني قد أسرفت في التأويل عندما قلت: إن أبا هريرة قد
أسلم ليملأ بطنه. وأني لم أذكر ذلك إلا لأنه قد اعترف بنفسه في كتب الحديث الكثيرة،
ففي رواية البخاري: صاحبت النبي على ملء بطني، ورواية مسلم خدمت النبي
على ملء بطني، والاعتراف كما يقول أئمة القانون سيد الأدلة، فأنا لم أتأول ولم أسرف
في التأويل، على أن تاريخ أبي هريرة يؤيد اعترافه هذا، فقبل إسلامه يروي ابن سعد
عنه: أنه كان أجيرا لابن عفاف وابنة غزوان بطعام بطنه، وبعد إسلامه عندما كان
نزيلا على الصفة جرى منه ما جرى مما بينه البخاري نفسه وغيره ولا داعي لبيانه هنا.

(1) نشرت هذه الكلمة بجريدة الجمهورية الصادرة في يوم الثلاثاء 25 نوفمبر سنة 1958.
(2) ص 256 و 257 من كتاب (الشيخان).
15

أما الهنة الثالثة وهي الأخيرة فهي شك الدكتور فيما رويناه من أن أبا هريرة
كان يأكل المضيرة عند معاوية ويصلي خلف علي - وكيف يفعل أبو هريرة.
ذلك ويأمن على نفسه من أن يتهمه أحد الفريقين بالنفاق والتجسس!.
وإني قبل كل شئ أقول إن هذا الخبر قد ورد في مصادر كثيرة للمؤرخين
وكبار العلماء مثل: شذرات الذهب للعماد الحنبلي، والسيرة الحلبية لبرهان الدين
الحلبي، والزمخشري في ربيع الأبرار وأساس البلاغة، وبديع الزمان الهمذاني الذي لم
يكن من كبار الكتاب فحسب وإنما كان كما يعلم من تاريخه ثقة في الحديث يعرف
الرجال والمتون، والثعالبي في المضاف والمنسوب، ولا نستوفي ذكر كل المصادر التي
حملت هذا الخبر، على أنه إن يفعل ذلك لا يخشى ضررا لأنه كان معروفا بأنه
لا في العير ولا في النفير ولم يكن من المحاربين بل ظل طوال حياته رجلا سلما.
أما ما لاحظه الدكتور على أسلوبي من الشدة، فلو أنه عرف ما قوبلت به
من شتائم وسباب من يوم أن نشرت ما نشرت من فصول هذا الكتاب في مجلة
الرسالة قبل أن يطبع الكتاب لعذرني فيما كتبت.
على أني قد رجعت إلى كل ما رأيته شديدا فيما كتبت فحذفته من هذه الطبعة
وآثرت أن أدفع بالتي هي أحسن وأن أتبع قول الله فأمر على كل ما ينالني مرا
كريما، وأن يكون خطابي لمن يسوءني سلاما سلاما.
أما الشدة على أبي هريرة التي أشار إليها الدكتور فليست منا، وإنما هي
شدة الأدلة التي أحاطت به.
هذه سطور وجيزة عن الهنات التي رآها الدكتور طه حسين في كتابي، وإني
لمغتبط كثيرا من أن سيادته لم يلاحظ شيئا على أي موضوع من مواضيع الكتاب
وهي كثيرة وخطيرة لم يسبق أن نشرت في كتاب جامع وأن يسمى ما وجده
هنات ويقول في صراحة: " ولا بأس عليه من هذه الهنات التي أشرت إلى بعضها
فالذين يبرؤون من النقص والتقصير أو الهفوات أحيانا لا يكادون يوجدون ".
حفظه الله.
محمود أبو ريه
16

بسم الله الرحمن الرحيم
[والذين اجتنبوا الطاغوت (1) أن يعبدوها وأنابوا إلى الله.
لهم البشرى، فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون
أحسنه. أولئك الذين هداهم الله. وأولئك هم أولو الألباب]
(آية 17، 18 من سورة الزمر)
تعريف بالكتاب
مما لا يكاد يختلف فيه اثنان، أو يحتاج في إثباته إلى برهان، أن للحديث
المحمدي من جلال الشأن وعلو القدر ما يدعو إلى العناية الكاملة به، والبحث الدقيق
عنه، حتى يدرس ما فيه من دين وأخلاق، وحكم وآداب، وغير ذلك مما ينفع
المسلمين في دينهم ودنياهم. وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة، والمنزلة الرفيعة، فإن
العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون رجال
الحديث يتداولونه فيما بينهم. ويدرسونه على طريقتهم - وطريقة هذه الفئة التي
اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل. فترى المتقدمين منهم
وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث
- على قدر الوسع - في تاريخهم. ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء
الرواة صحيحا في نفسه أو غير صحيح. معقولا أو غير معقول. ذلك بأنهم وقفوا
بعلمهم عندما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شئ. ثم
جاء المتأخرون منهم فقعدوا وراء الحدود التي أقامها من سبقهم، لا يتجاوزونها
ولا يحيدون عنها، وبذلك جمد علم الرواية منذ القرون الأولى لا يتحرك ولا يتغير.

(1) الطاغوت ما تكون عبادته وطاعته سببا للطغيان والخروج عن الحق، من مخلوق يعبد ورئيس
يقلد، وهوى يتبع - وقال ابن القيم: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع،
فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير
بصيرة من الله، ويطيعونه فيما يعلمون أنه طاعة لله.
17

ووقف هؤلاء وهؤلاء عند ظواهر الحديث كما أدت إليه الرواية مطمئنين إليها،
آخذين بها من غير بحث فيها ولا تمحيص لها.
وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث العناية
بسنده حتى قيل: " إن علم الحديث قد نضج واحترق " (1). فإنهم قد أهملوا جميعا
أمرا خطيرا كان يجب أن يعرف قبل النظر في هذا العلم ودرس كتبه - ذلك هو
البحث عن حقيقة النص الصحيح لما تحدث به النبي صلوات الله عليه. وهل أمر
بكتابة هذا النص بلفظه عند إلقائه - كما فعل بالقرآن الكريم. أو تركه ونهى عن
كتابته؟ وهل دونه الصحابة ومن بعدهم، أو انصرفوا عن تدوينه؟ وماذا كان
أمرهم - ومن تبعهم - عندما أخذوا في روايته؟ وهل ما روي منه قد جاء مطابقا
لحقيقة ما نطق به النبي - لفظا ومعنى - أو كان مخالفا له؟ وما هي العوامل التي
تدسست إليه من نزعات أعدائه، والمؤثرات التي أصابته من أغراض أوليائه، حتى
شيب بما ليس منه، وتسرب إليه ما هو غريب عنه؟ ثم في أي زمن دون ما حملته
الرواية منه؟ وهل اتخذ التدوين طريقة واحدة لم تتغير على مد العصور وتوالي
الأجيال؟ وفي أية صورة خرج أخيرا إلى الناس في كتبه التي اعتمد عليها الجمهور؟
وماذا كان موقف علماء الأمة منه؟ وما مبلغ ثقتهم به، ومدى اختلافهم فيه،
بعد أن عراه ما عراه وتأثر بما تأثر به؟ وما إلى ذلك من الأمور المهمة التي يجب
أن يعرفها كل مسلم أو باحث في الدين الإسلامي قبل النظر فيه، والأخذ بما تؤدي
إليه ألفاظه ومعانيه.
أما هذا كله وغيره مما يتصل - بحياة الحديث وتاريخه - فقد انصرف عنه
العلماء والباحثون، وتركوه أخبارا في بطون الكتب مبعثرة، وأقوالا بين ضمائر الأسفار
مستترة، لا يضم نشرها كتاب ولا يعنى بتصنيفها باحث نقاب (2).
ولقد كان يجب عليهم قبل أن يشتغلوا بعلم الحديث أن يعرفوا تاريخ هذا

(1) قالوا: العلوم ثلاثة: علم نضج وما احترق، وهو علم النحو والأصول، وعلم لا نضج ولا
احترق، وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق وهو علم الحديث والفقه.
(2) يقال رجل نقاب أي نافذ الأمور.
18

العلم. ذلك بأن العلماء قد أوجبوا معرفة تاريخ كل علم قبل دراسته فقالوا: إن
تاريخ كل مادة يقع منها موقع البصر من الجسم (1).
أسباب تصنيف هذا الكتاب:
لما أنشأت أدرس ديني درس العقل والفكر، بعد أن تلقيته تلقينا من نواحي
العاطفة والتقليد، رأيت أن أرجع إلى مصادره الأولى وأسانيده الصحيحة، ولما
وصلت من دراستي إلى كتب الحديث المعتمدة لدى الجمهور، ألفيت فيها من
الأحاديث ما يبعد أن يكون - في ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه - من محكم قوله،
وبارع منطقه صلوات الله عليه، ومما راعني أني أجد في معاني كثير من الأحاديث
ما لا يقبله عقل صريح، ولا يثبته علم صحيح، ولا يؤيده حس ظاهر، أو كتاب
متواتر (2).
ووجدت مثل ذلك في كثير من الأحاديث التي شحنت بها كتب التفسير
والتأريخ وغيرها! ومما كان يثير عجبي أني إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف العرب
أهتز لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت أكثر ما ينسب إلى النبي
من قول لا أجد له هذه الأريحية، ولا ذلك الاهتزاز، وكنت أعجب كيف
يصدر عنه صلوات الله عليه - مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة والعاري عن
الفصاحة - وهو أبلغ من نطق بالضاد، أو يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة وهو
أحكم من دعا إلى رشاد!! وما كان هذا العجب إلا لأني كنت أسمع من شيوخ
الدين - عفا الله عنهم - أن الأحاديث التي تحملها كتب السنة قد جاءت كلها
على حقيقتها، بألفاظها ومعانيها، وأن على المسلمين أن يسلموا بكل ما حملت ولو
كان فيها ما فيها!!
ولما قرأت حديث " من كذب علي - متعمدا - فليتبوأ مقعده من النار "
غمرني الدهش لهذا القيد الذي لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق وأمر
به، ونهى عن الكذب وحذر منه، إذ ليس بخاف أن الكذب هو الإخبار بالشئ

(1) كتاب مناهج وتجديد للأستاذ أمين الخولي ص 88.
(2) الكتاب المتواتر هو القرآن الكريم فحسب.
19

على خلاف ما هو عليه سواء أكان عن عمد أم غير عمد.
وظللت على ذلك حتى حفزني حب عرفان الحق إلى أن أبحث عن أصل
الحديث وروايته، وتاريخ حياته من المصادر الصحيحة، والأسانيد الوثيقة، لعلي
أقف على شئ يذهب بما يحيك في صدري من حرج، ويصرف ما يغمر نفسي
من ضيق. وذلك لأن هذا الأمر الجليل - لم يفرد من قبل بالتأليف
الجامع الذي يشبع نهم الباحث، ويحقق بغية الطالب. ولبثت زمنا طويلا أبحث
وأنقب فلا أدع كتابا يمكن أن يستفاد منه كلمة لما أنا بسبيله إلا قرأته في طلبها،
لا آلو في ذلك جهدا، ولا أطاوع النفس عندما تسكن إلى الراحة، مما يدركها
من ملل أو يغشاها من تعب، بل آخذها بالصبر والأناة والمطاولة، حتى انتهيت
إلى حقائق عجيبة ونتائج خطيرة! ذلك أني وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب
الحديث كلها مما سموه صحيحا، أو ما جعلوه حسنا - حديث - قد جاء على
حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، كما نطق الرسول به، ووجدت أن الصحيح منه على
اصطلاحهم إن هو إلا معان مما فهمه بعض الرواة! وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة
بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والندرة، وتبين لي
أن ما يسمونه في اصطلاحهم حديثا " صحيحا " إنما كانت صحته في نظر رواته،
لا أنه صحيح في ذاته، وأن ما يقال عنه " متفق عليه " ليس المراد أنه متفق على صحته
في نفس الأمر، وإنما المراد أن البخاري ومسلم قد اتفقا على إخراجه - وليس من
شروط الحديث الصحيح أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان
والسهو على الثقة، ومن أجل ذلك جاءت الأحاديث وليس عليها من ضياء بلاغته
صلوات الله عليه إلا نور خافت أو شعاع ضئيل.
ولا أحصى هنا كل ما انكشف لي، لأنه كثير جدا قد فصلناه في كتابنا
هذا تفصيلا.
كان أول ما بان لي من هذه الحقائق، أن النبي صلوات الله عليه لم يجعل
لحديثه كتابا يكتبونه عندما كان ينطق به كما جعل للقرآن الحكيم، وتركه ينطلق
من غير قيد إلى أذهان السامعين، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر، الذي لا يستطيع
إنسان مهما كان أن ينكره أو ينازع فيه، من سهو أو وهم، أو غلط أو نسيان.
20

وبذلك تفكك نظم ألفاظه وتمزق سياق معانيه، ولم يدع صلوات الله عليه الأمر
على ذلك فحسب، بل نهى عن كتابته، فقال فيما رواه مسلم وغيره: " لا تكتبوا
عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه. "
وقد استجاب أصحابه لهذا النهي فلم يكتبوا عنه غير القرآن، ولم يقف الأمر
بهم عند ذلك بل ثبت عنهم أنهم كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون الناس
عنها، ويتشددون فيما يروى لهم منها. وقد كان أبو بكر وعمر لا يقبلان الحديث
من الصحابي مهما بلغت منزلته عندهما، إلا إذا جاء عليه بشاهد يشهد معه أنه
قد سمعه من النبي، وكان علي يستحلف الصحابي على ما يرويه له رضي الله عنهم
جميعا. وكان ذلك في عصر الصحابة فترى ماذا يكون الأمر بعد ذلك؟!
رواية الحديث بالمعنى:
ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، وذلك في المناسبات
التي تقتضي روايتها، وقد يكون ذلك بعد مضي سنين طويلة على سماعها، ووجدوا
أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بالحديث على أصل لفظه، كما نطق النبي به، استباحوا
لأنفسهم أن يرووا على المعنى، ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم،
فيتلقى المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع
أن يمسكه ذهنه منه، وهذا أمر معلوم لا يمتري فيه أحد حتى لقد قال وكيع كلمته
المشهورة: " إذا لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس " وقال سفيان الثوري: " إن
قلت إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني! فإنما هو المعنى ".
وهكذا ظلت الألفاظ تختلف والمعاني تتغير بتغير الرواة. فيهم - كما قال
السيوطي: الأعاجم والمولدون وغيرهم ممن ليسوا بعرب ولهجتهم العربية ليست
خالصة!
وكان البخاري - وهو شيخ رجال الحديث، وكتابه، كما هو مشهور بين
الجمهور - أصح كتاب بعد كتاب الله كما يقولون، يروي على المعنى!
ولقد كان لرواية الحديث بالمعنى - ولا جرم - ضرر كبير على الدين واللغة
والأدب، كما ستراه فيما بعد.
21

وكذلك أباحوا لأنفسهم أن يأخذوا الحديث إذا أصابه اللحن أو اعتراه الخطأ
أو اختل نظمه بالتقديم والتأخير، وأن يأخذوا ببعض الحديث ويدعوا بعضا.
وسيتبين ذلك كله في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله.
حديث من كذب علي:
وقد عنيت بالبحث عن حقيقة هذا الحديث حتى وصلت بعد طول السعي إلى
أن كلمة " متعمدا " لم تأت في روايات كبار الصحابة. ويبدو أن هذه الكلمة
قد تسللت إلى هذا الحديث من سبيل " الادراج " المعروف عند رجال الحديث
لكي يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم من جهة الخطأ أو الوهم، أو الغلط
أو سوء الفهم، ليدرأوا بذلك عن أنفسهم إثم الكذب، ولا يكون عليهم في الرواية
أي حرج، ذلك بأن المخطئ غير مأثوم - أو أن هذه الكلمة قد وضعت ليسوغ
بها الذين " يضعون الأحاديث " عن غير عمد عملهم، ليسندوا بها أقوالهم، وليثق
الناس فيهم (1).
الموضوعات:
لم يرزأ الإسلام بشئ في حياته كلها مثل ما رزئ بتلك الموضوعات التي
تولى كبرها أعداء الإسلام وأحباؤه على السواء لأسباب كثيرة بيناها في موضعها،
وناهيك بالإسرائيليات التي بثها اليهود، أمثال كعب الأحبار، ووهب بن منبه
وغيرهما. وكذلك المسيحيات وغيرها مما تسلل إلى الدين من الأديان والنحل غير
الإسلامية وقبلها المسلمون من غير أن يبحثوا فيها، أو يفطنوا لها.
أبو هريرة:
ولما كان أبو هريرة أكثر الصحابة رواية عن رسول الله على حين أنه لم يصاحب
النبي إلا سنة واحدة وتسعة أشهر، كما حققناه في كتابنا (شيخ المضيرة) (2)،

(1) كالقصاص وغيرهم.
(2) طبع هذا الكتاب مرتين ونعده الآن للطبعة الثالثة إن شاء الله.
22

وفي رواياته ما فيها من مشكلات بقيت على وجه الدهر، وستبقى، فقد أفردنا له
ترجمة خاصة أدينا فيها حق العلم وتحرينا وجه الحق فأوردنا فيها ما له وما عليه بغير
أن نخشى أحدا في إظهار الحق، أو نتحرج من شئ في بيان العلم، ذلك بأن الحق
أولى من أبي هريرة وأكبر من أبي هريرة.
جمع القرآن وتدوينه:
وقد رأينا قبل تفصيل القول في تدوين الحديث أن نوطئ بفذلكة صغيرة في
تدوين القرآن أتينا فيها على خلاصة كاملة من أمر هذا التدوين حتى يتجلى للناس
كيف كانوا يتحرون الدقة التامة والتثبت الفائق في جمع القرآن، وبذلك جاء
كله " متواتر " يكفر من جحد شيئا منه. ولو أن الحديث قد دون في عصر النبي
كما دون القرآن، واتخذ له من وسائل التحري والدقة مثل ما اتخذ للقرآن،
لجاء كله " متواتر " كذلك ولما اختلف المسلمون فيه هذا الاختلاف الشديد
الذي لم يستطع أحد - على مد العصور - تلافيه.
كتابة الحديث:
ومما كشف عنه البحث أن كتابة الحديث لم تقع إلا في القرن الثاني، أي بعد
انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى بأكثر من مائة سنة، ولم يكن ذلك بدافع من الرواة،
وإنما كان بوازع من الولاة، إذ كانوا يتحرجون من كتابته خشية أن يقعوا فيما نهى
النبي عنه - وقد كانت هذه الكتابة أول ما بدأت غير كاملة ثم تقلبت في أطوار
مختلفة، إلى أن خرجت في صورتها الأخيرة حول منتصف القرن الثالث وأوائل
القرن الرابع الهجري.
ولقد كان لتأخير كتابة الحديث ضرر كبير بيناه في موضعه من الكتاب.
نشأة علم الحديث:
ولما كان علم الحديث يتصل ببحثنا، فقد أتينا بإلمامة صالحة منه يهتدي بها من
يريد معرفته. وتكلمنا عن كتب الحديث المشهورة لنبين حقيقتها وما استدرك عليها وقيل
فيها، وألمعنا إلى أمر الجرح والتعديل واستطردنا من ذلك إلى " عدالة الصحابة "
23

واختلاف العلماء فيها، وإلى درجاتهم في العلم والفضل، وخلصنا من ذلك كله إلى
المذهب الحق الذي يجانب ناحيتي الإفراط والتفريط في هذه العدالة.
علماء الأمة إزاء الحديث:
ولأن الحديث لم ينشأ تدوينه إلا في القرن الثاني كما قلنا وكتبه المشهورة بين
جمهور أهل السنة - وهي البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي -
لم تظهر إلا في القرنين الثالث والرابع، وما فيها من الأحاديث قد روي من طريق
الآحاد الذي لا يعطي إلا الظن، فإن علماء الأمة لم يتلقوا أحاديثها بمحض التسليم
والاذعان، كما تلقوا ما جاءهم من آيات القرآن، ولا اعتبروها من الأخبار المتواترة
التي يجب الأخذ بها، ولا يجوز لأحد أن يخالف عن أمرها، وإنما طاروا عليها
بددا واختلفوا فيها طرائق قددا.
فالمتكلمون وعلماء الأصول - لما كان الخبر عندهم ينقسم إلى " متواتر وآحاد "،
والمتواتر هو الذي يعطي العلم اليقيني ويؤخذ به في العقائد فحسب، والآحاد لا يعطي
إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، وببحثهم - لم يجدوا في كتب الحديث
خبرا ينطبق عليه حكم التواتر فتكون دلالته يقينية. وإن علماء الحديث لم يعرضوا
للبحث فيه لأنه خارج عن علمهم. ورأوا ما يأتي من طريق الآحاد - الذي هو
ظني الدلالة ولا يجوز البناء في العقائد على الظن، فقد ردوا كل حديث لا يتفق
مع ما ذهبوا إليه من أصول، وما وضعوه من قواعد - ومما اتفق عليه جميع النظار:
أن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد مهما قويت أسانيدها وتعددت طرقها.
وأما مقلدة المذاهب الذين يسمون أنفسهم علماء الفقه فقد كبلهم التقليد
فلم يعنوا بكتب الحديث التي ظهرت بعد موت أئمتهم، ولم يعطوها حقها من البحث
والدرس كما أعطوا كتب شيوخهم، ولم يجعلوها من أدلتهم في أحكامهم، وإذا
وجد أحدهم من الأحاديث - حتى الواهية - ما يتفق ومذهبه تشبث به ورد ما سواه
وإن كان أقوى من الحديث الذي يعتمد عليه، وقد يأخذ ببعض الحديث ويدع
بعضا! أما ما يخالف مذهبه فينبذه ولا يقبله ولو كان مما رواه الجماعة (1)، وقد

(1) الجماعة هم: أحمد، والشيخان - البخاري، ومسلم - وأبو داود، والنسائي، والترمذي.
24

ساعدهم على ذلك أن دلائل الفقهاء كلها ظنية الثبوت ولا يشترط فيها التواتر.
ولكل إنسان أن يأخذ بما يطمئن به قلبه من الأحاديث بغير ما حرج.
ولو أنت رجعت إلى كتب المحققين وبخاصة كتاب " أعلام الموقعين "
لابن قيم الجوزية لوجدت فيه أحاديث كثيرة تبلغ المائة أو تزيد - لم يأخذ شيوخ الفقه
بها، ولم يخالفوا مذاهبهم من أجلها، وإذا سألتهم عن سبب استمساكهم بما وجدوه
في مذاهبهم وعدم الأخذ عن غيرها قالوا: إن أئمتهم لم يأخذوا بما أخذوا من أحاديث
وفتاوى من قبلهم إلا بما اطمأنت به قلوبهم وسكنت إليه نفوسهم مما هو صحيح في
رأيهم، وجرى عليه العمل في أزمانهم، وإن هؤلاء الأئمة الكبار قد كانوا لقربهم
من الصحابة وكبار التابعين أوسع علما، وأعمق فقها من أصحاب كتب السنة الذين
لم تشتهر كتبهم إلا بعد انقضاء القرون الأولى التي هي خير القرون بنص الحديث
الذي رووه في ذلك.
وأما أئمة النحو فإنهم لم يجعلوا الحديث من النصوص التي يستشهدون بها على
قواعدهم في اللغة والنحو لأنهم استيقنوا أن النص الصحيح للحديث قد ضاعت
معالمه، وأن ما يروى عن النبي لم يأت على حقيقة لفظه، ولا يعلم أحد على اليقين
ما هي الصورة الصحيحة التي نطق النبي بها، وبذلك لا يصح الاستشهاد بالحديث،
وعلى أنهم لا يأخذون بالحديث الذي جاءهم عن نبيهم، فإنهم يستشهدون بكلام
أجلاف العرب الذين كانوا يبولون على أعقابهم!
كلمة عامة:
لما انكشف لي ذلك كله وغيره مما يحمله كتابنا - وبدت لي حياة الحديث
المحمدي في صورة واضحة جلية تتراءى في مرآة مصقولة، أصبحت على بينة من
أمر ما نسب إلى الرسول من أحاديث، آخذ ما آخذ منه ونفسي راضية، وأدع ما أدع
وقلبي مطمئن، ولا علي في هذا أو ذلك أي حرج أو جناح.
ولا يتوهمن أحد أني بدع في ذلك، فإن علماء (1) الأمة لم يأخذوا بكل حديث

(1) وقد قال أبو عمر وغيره من كبار العلماء، أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل
العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله. وقال ابن القيم تعليقا على هذا القول: قد تضمن هذان الإجماعان
اطراح المتعصب بالهوى، والمقلد الأعمى من زمرة العلماء وأسقطوهما باستكمال من فوقهما الفروض من وراثة
الأنبياء. وكان السلف يعبرون عن المقلد بالجاهل لأن العالم من كان مستقلا في فهمه للعلم واستدلاله على
فهمه، ويقولون مثل إنسان يقلد كبهيمة تقاد.
25

نقلته إليهم كتب السنة فليسعني ما وسعهم، بعد ما تبين لي ما تبين لهم، وهذا
أمر معلوم لذوي البصائر لا يختلف فيه عالم، اللهم إلا الحشوية الذين يؤمنون بكل
ما حمله سيل الرواية سواء أكان صحيحا أم غير صحيح، ما دام قد ثبت سنده على
طريقتهم، قال ابن أبي ليلى: " لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع ".
وقال عند الرحمن بن مهدي: " لا يكون إماما في الحديث، من تتبع شواذ الحديث،
أو حدث بكل ما يسمع أو حدث عن كل أحد ". والأمثلة على ذلك كثيرة تجدها
في مواضعها من كتابنا.
وهذا البحث لم يعن به أحد من قبل - كما قلنا - وكانت دراسته واجبة قبل النظر
في كتب الحديث والتفسير والفقه والأصول والتأريخ والنحو وكل ما إليها مما يتصل بالدين
الإسلامي، وكان يجب أن يفرد بالتأليف منذ ألف سنة عندما ظهرت كتب الحديث
المعروفة بعد انتشار المذاهب الفقهية بين المسلمين حتى توضع هذه الكتب في
مكانها الصحيح من الدين، ويعرف الناس حقيقة ما روي فيها من أحاديث
ليكونوا منها في أمرهم على يقين، ولو أنني ألفيت أمامي في المكتبة العربية على سعتها
كتابا قد انطوى على هذا الأمر الخطير الذي يجب على كل مسلم أن يحيط به علما -
لانحط عن كاهلي هذا " العبء الثقيل (1) " الذي احتملته في سبيل البحث والتنقيب
بين مئات الكتب والأسانيد التي أطلعت عليها، ورجعت إليها، ثم أخذت منها،
ونقلت عنها، ولما أنفقت ما أنفقت من سنين طوال في اقتحام هذا الطريق الشاق،
الذي لم يعبد من قبل ولم يضع له أحد فيما سبق منارا يهتدى به - حتى تسنى لي أن
أعثر على تلك المواد الغزيرة التي مكنتني من أن أسوي منها هذا الكتاب الجامع
الذي يعد الأول في موضوعه، وأن أذيعه في الناس حتى يكونوا على بينة من أمر
الحديث المحمدي، يدرسونه على نور العلم، ويفهمونه بمنطق العقل.
ولأن هذا البحث - كما قلنا - طريف وغريب، وقد ينبعث له من يتطال إلى
معارضته من بعض الحشوية والجامدين، استكثرت فيه من بعض الأدلة، التي لا يرقى الشك

(1) هذا هو وصف الدكتور طه حسين لعملنا في كلمته النفيسة التي افتتحنا بها هذه الطبعة.
26

إليها، وأتزيد من الشواهد التي لا ينال الضعف منها، وقد يتكرر بعض هذه
الأدلة بين الأبواب المناسبة تقتضيها أو سبب يدعو إليها، أو لأن الكلام معقود بها
وسياق المعنى لا يتم بدونها، وما يتقدمها أو يليها من الكلام مفتقر إليها. وبرغمي
أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم التأليف
العلمي الصحيح في هذا العصر عليها.
وقد اضطررت إلى ذلك لأن قومنا حديثو عهد بمثل هذا البحث على أني
أرجو أن يكون قد انقضى ذلك الزمن الذي لا يشيع فيه إلا النفاق العلمي والرياء
الديني، ولا ينشر فيه إلا ما يروج بين الدهماء ويرضى عنه من يزعمون للناس
أنهم من المحدثين أو العلماء، وأن يكون قد أظلنا عهد لا يثبت فيه غير القول الحق
ولا يستقر به إلا العمل الصالح، ولا يقبل فيه إلا العلم النافع الذي يمكث في
الأرض.
وأرجو كذلك - وقد حسرت النقاب عن وجه الحق في أمر الحديث المحمدي
الذي جعلوه الأصل الثاني من الأدلة الشرعية، بعد السنة العملية، واتخذوا منه،
أسانيد لتأييد الفرق الإسلامية، ودلائل على الخرافات والأوهام، وقالوا بزعمهم إنها
دينية، وكشفت القناع عما خفي على الناس من أمره، وعرضت لهم صورة صادقة
من تاريخه - أرجو أن أكون قد وفقت إلى إصابة الغرض الأول الذي بذلت كل
ما بذلت من أجله، وأنفقت من عمر وتعب في سبيله، وهو الدفاع عن السنة
القولية وحياطتها مما يشوبها، وأن يصان كلام الرسول من أن يتدسس إليه شئ
من افتراء الكاذبين أو ينال منه كيد المنافقين وأعداء الدين، وأن تنزه ذاته الكريمة
من أن يعزى إليها إلا ما يتفق وسمو مكانتها وجلال قدرها، إذ لم يكن صلوات الله
عليه - وهو في أعلى أفق من العلم والحكمة والبلاغة - ليصدر عن جهل، أو ينطق
عن هوى.
وإذا كان هذا الكتاب سيغير - ولا ريب - من آراء كثير من المسلمين
فيما ورثوه من عقائد، وما درسوه من أحكام، فإنه سيقفهم إن شاء الله على حقائق
كثيرة تزيدهم تبصرة وعلما بدينهم، ويحل لهم مشاكل متعددة مما تضيق به صدورهم،
ويدفع شبهات مما يتكئ عليها المخالفون، والصادون عن دينهم، وبذلك يستقيم
27

النظر لي معرفة أصول الدين، ويعتدل الرأي في فهم أغراضه من المسلمين،
وغير المسلمين.
وسيبقى هذا الكتاب - إن شاء الله - منارة عالية تهدي إلى معالم تاريخ
الحديث المحمدي على مد التاريخ كله ما دام هذا الحديث يقرأ أو يدرس بين
الناس في الأرض.
وإني لأتوجه بعملي هذا - بعد الله سبحانه وله العزة - إلى المثقفين من المسلمين
خاصة، وإلى المهتمين بالدراسات الإسلامية عامة، ذلك بأن هؤلاء وهؤلاء هم
الذين يعرفون قيمته ويدركون قدره. والله أدعو أن يجدوا فيه جميعا ما يرضيهم
ويرضى العلم والحق معهم.
وأتضرع إليه سبحانه أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يكتب له
توفيقا وتأييدا من عنده، حتى يبلغ ما أرجو له من خدمة الدين، وإظهار الحق،
ونفع الناس أجمعين إنه سميع الدعاء.
عن جيزة الفسطاط في يوم السبت 5 من جمادى الأولى سنة 1377
7 من ديسمبر 1957
محمود أبو ريه
28

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية (1)
" ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده.
ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون، أولئك
الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها
هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده "..
(88 - 90 سورة الأنعام)
أرى من الحق علي - وأنا أقدم بين يدي هذه الطبعة الثانية من كتابي
" أضواء على السنة المحمدية، أو دفاع عن الحديث " أن آتى بكلمة صريحة
عن الطبعة الأولى منه - وكيف قوبلت من الناس على اختلاف طبقاتهم ونزعاتهم.
فأما كبار العلماء وقادة الفكر في بلادنا وغير بلادنا، فقد ظفر منهم - والحمد
لله على فضله وتوفيقه - بالرضا والتقدير، وأثنوا عليه ثناء جميلا، جزاهم الله عنا
وعن العلم خير الجزاء، وأما أولئك الذين يكرهون التحقيق في البحث، والاجتهاد في
الفهم، والحرية في الفكر، ولا يرون العلم إلا فيما أخذوه عن شيوخهم تلقينا،
فهؤلاء جميعا قد قابلوه بما كنا نتوقعه منهم، وغضبوا عليه، وثاروا حوله من
هاهنا، وهاهنا حتى ألفوا في ذلك كتبا، فأعرضت عنهم جميعا، ولم أعرض لهم.
على أننا لم نجد في أي من هذه الكتب - على ضخامتها وكثرتها - دراسة قيمة
ولا نقدا موضوعيا، يقوم على الأسلوب العلمي الحديث، الذي يظهر حقا،
أو يصحح غلطا، أو يعدل رأيا - وكل قيمتها أنها قد أظهرت أخلاق مؤلفيها
ومبلغ علمهم. وإذا كان مثل هذا النقد سائغا عند بعضهم، فإنه قد أصبح

(1) قد حذفنا من هذه المقدمة أكثر من سبع عشرة صفحة مما كنا قد بينا فيها موقف الذين ثاروا
علينا وعلى كتابنا، وقد أثرنا أن نتبع الحسنى وندفع بالحسنة السيئة فألقينا كل ما قالوه فينا من وراء ظهرنا وأن
ندعو الله أن يغفر لكل الذين آذونا، وأن يهديهم سواء السبيل.
29

اليوم ممقوتا لا يعمد إليه إلا كل جاهل لا يعرف من أصول النقد شيئا.
ذلك أن النقد الصحيح في هذا العصر إنما يقوم على أصول ثابتة من العلم
الكامل، والعقل الراجح والمنطق السليم، وأن يكون الناقد قبل ذلك عف اللسان
مهذب الأسلوب - وبذلك كله يؤدى إلى النقد واجبه، وإلى العلم حقه، حتى يقع
نقده موقع القبول، ويؤثر في القلوب والعقول معا.
هذا هو النقد الصحيح، أما النقد المبني على غير ذلك ولا يعمل له حساب
فهذا لا يعد نقدا!
ومما لا يقضي الإنسان منه عجبا، أن كل الذين ثاروا على كتابنا لم ينفذوا
إلى فهم الغاية منه ولم يدركوا أغراضه، ولعل مرد ذلك إلى أنه من وراء علمهم،
وموضوعه غريب عليه، وأن بحثه يقوم على المنهج العلمي الحديث وهم لا يحسنونه،
فما كاد يخرج عليهم حتى روعهم فنكروه، وأوجسوا منه خفية فعارضوه.
وليتهم لما لم يفهموا كلامنا قد أراحوا الناس بسكوتهم، واستمعوا إلى نصيحة
الشاعر الحكيم في قوله:
ليت من لا يحسن * العلم كفانا شر علمه!
وإني بعد ذلك لأستعلن وقلبي مطمئن أي اطمئنان أنه لا ضير على كتابي
هذا من مثل هذا النقد الهزيل الذي زاد من قيمته، وأعلى من شأنه.
30

للحق والتاريخ
هذه هي قصة كتابي مع العلماء المحققين وغير المحققين أسجلها هنا للحق
والتأريخ في عبارة وجيزة لتبقى على وجه الدهر شاهدة صادقة يقرؤها الناس جيلا بعد
جيل على مد العصور لكي يعرفوا كيف كان بعض شيوخ الدين - في عصرنا
هذا، عصر النور والعرفان، عصر الذرة - يقابلون كتب العلم التي تكتب بتحقيق
في البحث واجتهاد في الفهم، وحرية في الفكر!!
وإني هنا أرى أنه لا مناص لي من أن أذكر أمرا لاحظته واضحا في نقد
المنتقدين، وذلك أن حملاتهم قد اشتدت فيما يتصل بأبي هريرة خاصة وفي عدالة
الصحابة عامة، حتى بلغوا في ذلك حالة غير معقولة - ومن أجل ذلك رأيت
وفاء بحق التأريخ ورعاية لحرمة العلم أن أعود فأراجع كتابي كله لكي أعزز
أبوابه، وأدعم فصوله، بما كنت قد أمسكت عن نشره في الطبعة الأولى - وبما أعثر
عليه البحث بعد صدور هذه الطبعة - من المصادر الوثيقة والأسانيد المعتبرة لدى
الجمهور إن في هذين الموضوعين وإن في غيرهما من سائر مواضيع الكتاب إلى
ما يدعو إليه إعادة النظر في كل ما يكتب لأول مرة من تهذيب وتنقيح واستيفاء
وزيادة وتوضيح حتى أصبح الكتاب كاملا. فأما أبو هريرة فلأن له وضعا خاصا
به لا يشاركه فيه سواه من سائر الصحابة وليس له مثيل منهم، لا في سيرته،
ولا في تاريخه، ولا في كثرة أحاديثه، فقد كسرت له كتابا خاصا باسم " شيخ
المضيرة " وطبعناه على حدة مرتين (1).
وأما الصحابة فقد رأينا أن نعزز ما كتبناه في الطبعة الأولى بنقل بعض ما جاء
عنهم من أصدق كتاب يرجع إليه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ذلكم
هو القرآن الكريم، فمن استطاع أن يمتري في آية من آياته، أو يجادل في كلمة
من كلماته فليفعل، ويكون بذلك شهما شجاعا.
ولعل بعضهم يقول: إن الآيات التي جاءت في وصف الصحابة قد نسخت!

(1) طبع طبعتين الأولى في مدينة صور - لبنان، والثانية بالقاهرة.
31

وإن هذا كان شأنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أما بعد ذلك فقد أصبحوا
مبرئين معصومين (1) ومن قال غير ذلك فهو زنديق. وإن إيمانه على حرف (2).
وفي ختام كلمتي أقول: بأني سأتقبل كل ما قد يوجه إلي من نقد بالاغتباط
والسرور.
ورحم الله ابن حزم حيث يقول:
من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق، وإن آلمتها في أول
صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه، أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه.
هدانا الله جميعا إلى الصراط المستقيم وتولانا بفضله، ورضوانه إنه هو البر
الرحيم.

(1) مما يتكئ عليه بعضهم بأن الصحابة كلهم عدول حديث يرددونه وهو: أصحابي كالنجوم...
وهو حديث لا أصل له، أنظر كتاب المنتقى لابن تيمية ص 551 وغيره.
(2) راجع كتابنا " شيخ المضيرة " لتجد اسم من قضى بهذا الحكم وهو - وا أسفا - أستاذ يدرس الشريعة
الإسلامية بإحدى الجامعات المصرية.
32

بيان لا بد منه
قبل أن أضع القلم من إعداد الطبعة الثانية لهذا الكتاب أجد من الضروري أن
أنشر هذا البيان لأجيب فيه عن ملاحظتين دقيقتين أبدى إحداهما العالم الجليل الدكتور
طه حسين بعد أن قرأ الكتاب في طبعته الأولى مرتين - كما صرح بذلك حفظه
الله - في الفصل الممتع الذي تفضل فكتبه عن كتابنا هذا، وأثنى فيه عليه وعلى مؤلفه
ثناء طيبا استحق من أجله أن أقدم له أجمل الشكر وأخلص الحمد، وقد استخرنا
الله في أن نجعل هذا الفصل مقدمة لهذه الطبعة.
أما الملاحظة الأولى فقد أبداها مع الدكتور بعض العلماء وهي:
أني - وأنا أقص على الناس قصة الحديث، وأبين لهم ما أصابه من فعل
الرواة، وما اعتراه من وضع الوضاعين وغيرهم، وما إلى ذلك مما بينته في كتابي -
أعود فأستشهد ببعض الأحاديث وأجعلها من أدلتي فيما أريد من إثبات أو نفي،
أو غير ذلك! مما قد يبدو في ظاهر الأمر أنه تناقض.
وقد يكون لهذه الملاحظة حظ من الاعتبار - إذا كنت أنا أعتقد صحة
الأحاديث التي أستشهد بها، وأقطع بأنها قد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم
بألفاظها ومعانيها!
ولكي أدرأ عن نفسي هذه الشبهة أقول: إن الأحاديث التي أوردها في
سياق كلامي للاستدلال بها على ما أريد في كتابي، إنما أسوقها لكي نقنع من
لا يقتنع إلا بها، على اعتبار أنها عنده من المسلمات التي يصدقها ولا يمارى فيها.
وأنا إذ أفعل ذلك لم أخرج عن أصول المنطق وأساليب الحجاج والجدل،
فهناك ما يمسى " بالدليل الإقناعي " وهو أن يحتج على الخصم بما هو مسلم عنده،
كأن يحتج المسلم على النصراني بما في الإنجيل، وهو في نفسه غير مؤمن بما يحتج
به، أو عكس ذلك، أو الذي يسمونه " دليل الالزام " الذي يقولون فيه " ألزموهم
أضواء على السنة المحمدية
33

بما ألزموا به أنفسهم " وهذا أمر مشهور بين العلماء فلا نحتاج إلى إيراد الأدلة عليه.
على أن ذلك ليس عاما في كل ما أورده من أحاديث في كتابي، فإن منها
ما يبدو عليه علائم الصحة - كأن يكون بيانا للقرآن الكريم، أو متفقا مع العقل
السليم، أو جاء " على مقتضى الأصول التي قام عليها الدين، وإليها قامت الدعوة،
ولأجلها منحت النبوة " أو أتنور خلال معانيه شعاعا من نور النبوة، ولو كان خافتا
ضئيلا - وهذا أمر أحسه بوجداني، فما كان من مثل ذلك مما يطمئن به القلب ويسلم
به العقل فأنا آخذ به وأرويه وأنا مطمئن وأعتبره من بيان الرسول للكتاب العزيز -
وإن كنت على ثقة بعد ذلك كله من أنه من أحاديث الآحاد، وأنه ظني الدلالة
بحيث لا يبلغ منزلة القطع الذي يفيد اليقين، وأن روايته قد جاءت " بالمعنى "
لا بأصل اللفظ الصحيح الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأحاديث ما تقضي البداهة بصدقه كحديث: " لا تكتبوا عني شيئا غير
القرآن " وهو الحديث الذي بنينا عليه كتابنا هذا.
ذلك بأن القرائن كلها تدل على صحته وجاء عمل الصحابة بتأييده، فإنهم
جميعا قد اتبعوه وامتنعوا عن كتابة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ثم منعوها
بالنهي عنها.
ومن أجل ذلك جاءت هذه الأحاديث كلها بالرواية لا بالكتابة كما جاء
القرآن.
أما الملاحظة الثانية التي لاحظها الدكتور الفاضل فكانت بلسانه فقال:
إنك قد أكثرت من النقل عن السيد رشيد رضا " رحمه الله "، وهذه الملاحظة سمعتها
كذلك من غيره من كبار العلماء، وما لاحظه دكتورنا - ومن معه - هو حق
لا أماري فيه!
وجوابي عن هذه الملاحظة أني لم أصنع ذلك عفوا أو فقرا من الأدلة - وإنما
كان ذلك مقصودا مني لأسباب مهمة.
منها: أن هذا السيد يعتبر في هذا العصر من كبار أئمة الفقه المجتهدين عند أهل السنة
34

الذين يعتد برأيهم، ويوثق بهم، ويؤخذ عنهم، وأنه بلا منازع شيخ محدثي أهل
السنة في عصرنا، بحيث يعلم من أمر الأحاديث التي حملتها الكتب المشهورة
لدى الجمهور ويدرك ما اعتراها من فعل الرواة وغير ذلك، مما يتصل بموضوع
كتابي، ما لم يعلم مثله سواه، وبحسبك أن الأزهر - هذا المعهد العظيم - لم يخرج -
في هذا العصر وفي عصور كثيرة - من يضارعه علما وبحثا، وأنا أعرف ما أقول.
على أنه فوق ذلك ورث علم الأستاذ الإمام محمد عبده - وناهيك به علما
وفضلا، بحيث لا يختلف اثنان في أنه من كبار أئمة الدين المجتهدين - فما يقوله
السيد رشيد إنما أعتبره كأنه صادر عن أستاذه الإمام وذلك فيما أرى أنه من منهج
الأستاذ الإمام وأسلوبه في النظر إلى الدين (1).
ولأنه قد جمع كل هذه الصفات تكون أقواله وآراؤه ولا ريب - عند الجمهور
- حججا دامغة، وبراهين مقنعة، لا يستطيع أحد منهم أن يعارضها أو يمارى فيها.
من أجل ذلك أكثرنا من الاستشهاد في كتابنا بأقواله وآرائه، وجعلنا ذلك
من الأدلة القوية على ما نأتي به.
والأمر في هذا العالم كالأمر في غيره ممن نستشهد بأقوالهم كابن تيمية الذي
أكثرنا كذلك من النقل عنه، ذلك أنه يلقب عند أهل السنة " بشيخ الإسلام "،
وله لدى الجمهور مقام، أي مقام، وإذا كنا نعرف لهذين العالمين الكبيرين
قدرهما، فإنا لنعلم كذلك ما يؤخذ عليهما - وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه،
إلا صاحب الرسالة صلوات الله عليه.
وقد صنعنا ذلك لأننا على علم بما سيثار حول كتابنا من الذين يقولون إنهم
من أهل السنة - وذلك بما سبق أن قابلونا به عندما نشرنا من فصول هذا الكتاب
ما نشرنا على مجلة الرسالة قبل طبع كتابنا - طبعته الأولى - ببضع سنين. قد
أيد ذلك ما ابتلينا به بعد ظهور الكتاب مطبوعا.

(1) قال العلامة الكبير الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر (سابقا) رحمه الله:
إذا كان الشيخ محمد عبده إماما في الدين فالسيد رشيد رضا لا شك صاحبه ومفسر مذهبه ومكمله،
وقد بذل منشئ المنار رحمة الله عليه مجهودا في هذه الناحية ضخما حافلا بالمباحث الدينية، والمناقشات
الفقهية، وكان لهذا المجهود العظيم أثر غير ضئيل في طلاب العلوم الدينية ومناهجهم، وفي توجيه
الدراسات الشرعية في البلاد الإسلامية المختلفة (ص 15 من كتاب رائد الفكر المصري).
35

هذا هو جوابنا عما لاحظه الدكتور طه حسين وغيره - ونرجو أن يكون هذا
الجواب شافيا ومقنعا له ولسائر العلماء المثقفين - وحسبي ذلك.
وهنا يتاح لي أن أزيد في هذا البيان سطورا أعرض فيها لحقيقة ثابتة ضل في
فهمها بعض الناس.
ذلك أنهم يزعمون أني أرمي من وراء كتابي هذا إلى غاية خفية وهي الصد
عن السنة القولية والاكتفاء بالقرآن الكريم وحده في أخذ أمور الدين! ولست أدري
من أين جاءهم هذا الفهم الخاطئ، ولا في أي موضع من كتابي هذا ذكرت ذلك،
أو أشرت من قريب أو بعيد إليه.
أما الذي صرحت به في عبارات واضحة لا لبس فيه ولا غموض، أن يتحفظ
الناس في أخذ الحديث، وأن يتحروا الصحيح الثابت منه ما استطاعوا إلى ذلك
سبيلا، أما غير الصحيح والموضوع فيدعونه ولا يلتفتون إليه بعد ما عراه من فعل الرواة
ما عراه، مما فصلناه في كتابنا تفصيلا، ولم أكن بدعا في ذلك فهذه سنة من قبلنا من
أئمة الإسلام، وما جرى عليه عمل العلماء الأعلام.
هذا ما صرحت به مرارا وأكدته وأنا على يقين من أن القرآن هو أصل الدين
القويم وأن السنة لم تكن إلا مبينة له، ولا بد أن يكون البيان صحيحا واضحا
لا شبهة فيه.
وعلى أن كلامي هذا واضح، فقد سمعنا ما سمعنا ولكن هذا لا يهمنا، ولا يضر
بشئ من قريب أو بعيد كتابنا.
عن جيزة الفسطاط في يوم الجمعة 8 من محرم سنة 1383 ه‍
31 من مايو سنة 1963 م
36

مقدمة الطبعة الثالثة
نستخير الله في أن نقدم هذه الطبعة من كتابنا إلى القراء، ونستهلها بكلمة
مختصرة نبين فيها ما صنعناه لها من تنقيح وزيادة على ما كانت عليه الطبعة الثانية
منه.
عندما عزمنا على طبع كتابنا هذا للمرة الثالثة رأينا من التدبير أن نعيد النظر
في الطبعة الثانية، وما إن انتهينا من قراءتها حتى بدا لنا أن بعض مواضيعها
يحتاج إلى مزيد من البيان والايضاح، وقد يطول هذا البيان أو يقصر، وذلك حسب
ما يقتضيه الموضوع، وألفينا مواطن عديدة منها تستدعي شيئا من التصحيح أو التنقيح،
ثم عثرنا على أغلاط مطبعية قد شاعت في كلمات كثيرة وقد نجمت هذه الأغلاط
من أن الكتاب قد طبع في لبنان بعيدا عنا.
ولا أفصل القول في بيان كل ما قمت به لتهيئة الكتاب وإخراجه للطبعة الثالثة
لأن ذلك يعتبر تطويلا لا جداء فيه، وإنما الذي يمكن أن أذكره عن طريق
الإجمال - وأنا مطمئن - أني قد بذلت كل ما أستطيع من جهد وقوة في سبيل
تقويم كل ما وجدت في الطبعة الثانية بدقة وأناة حتى خرجت هذه الطبعة الحالية -
والحمد لله - كاملة مستوفاة. وقد جئنا في هذه الطبعة بخلاصة وجيزة من تاريخ
أبي هريرة بعد أن كنا قد حذفنا تاريخه من الطبعة الثانية وجعلناه في كتاب خاص
مفصل جامع.
وإذا كنت - وأنا أقدم هذه الطبعة للناس قد أصبحت راضيا عنها مغتبطا
بها - فإني أرجو مخلصا أن ينفع الله بها، وأن يزداد رضا العلماء الكمل عنها، والحمد
لله في البدء والنهاية ونسأله دوام التوفيق والهداية، إنه سميع مجيب.
37

السنة
نرى من الحق علينا قبل أن نتناول أطراف الحديث الذي أخذنا على أنفسنا
القيام به أن نمهد بصدر صالح من القول في تعريف " السنة " لغة واصطلاحا وبيان
حكم القولية منها التي هي أحاديث النبي، ومكانها من الدين. ثم نمضي في سبيلنا
إن شاء الله.
عرفوا السنة لغة: بأنها الطريقة المعبدة، والسيرة المتبعة، أو المثال المتبع -
وجمعها سنن، وذكروا أنها مأخوذة من قولهم: سن الماء إذا والى صبه. فشبهت
العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالى جريانه على نهج واحد يكون
كالشئ الواحد.
قال الشاعر (1):
فلا تجز عن من سيرة أنت سرتها * وأول راض سنة من يسيرها
وفي الأساس: سن سنة حسنة، طرق طريقة حسنة، واستن بسنته. وفلان
متسنن، عامل بالسنة.
وقال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم:
السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لنوع الناس مما يعدونه عبادة أو
لا يعدونه عبادة. قال تعالى: " قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض "
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " والاتباع هو الاقتفاء
والاستنان.
وسنة النبي طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله تعالى قد تقال لطريقة حكمته
وطريقة طاعته، نحو: " سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا "
" ولن تجد لسنة الله تحويلا ".
وقال الجرجاني في التعريفات: السنة في اللغة الطريقة مرضية كانت أو غير

(1) هو خالد بن عتبة الهذلي وابن أخت أبي ذؤيب الهذلي.
38

مرضية، وفي الشريعة هي الطريقة المسلوكة في الدين في غير افتراض ولا وجوب،
فالسنة ما واظب النبي عليها مع الترك أحيانا، فإن كانت المواظبة المذكورة على
سبيل العبادة فسنن الهدى، وإن كانت على سبيل العادة فسنن الزوائد.
وسنة رسول الله هي ما كان عليه هو وخاصة أصحابه عملا وسيرة، وهذه السنة
تعرف من الصحابة بالعمل والأخبار، كنحو: من السنة كذا. ثم اصطلح
المحدثون على تسمية كلام الرسول " حديثا وسنة " ا ه‍ أي أنه اصطلاح مستحدث
لا تعرفه اللغة ولا يستعمل في أدبها وقد جرينا على هذا الاصطلاح في تسمية كتابنا
هذا وفيما يجري حديثنا فيه - وكان الحق أن نسميه - دفاعا عن الحديث لأنه وضع
في الحقيقة من أجل ذلك وقد زدناها في تسمية هذه الطبعة.
وقالوا السنة تطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبي، من قول أو فعل
أو تقرير.
مكان السنة في الدين
جعلوا السنة القولية في الدرجة الثالثة من الدين، وأنها تلي السنة العملية، وهذه
تلى القرآن في المرتبة، ذلك بأن القرآن قد جاء من طريق متواتر بحيث لا يتطرق إليه
الشك، فهو من أجل ذلك مقطوع به جملة وتفصيلا. أما السنة فقد جاءت من
طريق غير متواتر، فهي مظنونة في تفصيلها، وإن كان مقطوعا بجملتها، وأما
الذي هو في الدرجة الثانية من الدين فهو السنة العملية.
قال الإمام الشاطبي في الموافقات (1):
رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار، والدليل على ذلك أمور:
أحدها - أن الكتاب مقطوع به، والسنة مظنونة، والقطع بها إنما يصح في
الجملة لا في التفصيل، بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل،
والمقطوع به مقدم على المظنون، فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة.

(1) ص 3 وما بعدها ج‍ 4.
39

الثاني - أن السنة إما بيان للكتاب، أو زيادة على ذلك، فإن كانت بيانا كانت
ثانيا على المبين في الاعتبار - إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان، ولا يلزم من
سقوط البيان سقوط المبين - وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم، وإن لم يكن بيانا
فلا يعتبر إلا بعد ألا يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب.
الثالث - ما دل على ذلك من الأخبار والآثار كحديث معاذ، بم تحكم؟
قال: بكتاب الله. قال، فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟
قال: أجتهد رأيي (1).
وبعد ما أورد الشاطبي أدلة كثيرة عن عمر وابن مسعود وابن عباس تثبت
ذلك قال: والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار.
ومما قاله: " إن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، ودل
على ذلك قوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم)، وأن السنة راجعة في معناها إلى
الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان
له، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)
فلا تجد في السنة (2) أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية،
وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة (3) وينبوع لها فهو دليل على
ذلك ولأن الله قال: (وإنك لعلى خلق عظيم): وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن،
- واقتصرت في خلقه على ذلك - فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن،
لأن الخلق محصور في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبيانا لكل شئ (4)،
فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة، لأن الأمر والنهي أول
ما في الكتاب، ومثل قوله: (ما فرطنا في الكتاب من شئ (5)) وقوله: (اليوم
أكملت لكم دينكم) وهو يريد بإنزال القرآن - فالسنة إذن في محصول الأمر بيان

(1) رواه أبو داود والترمذي والدارمي.
(2) أي السنة الثابتة.
(3) أي جامع لكليات الشريعة وأصولها.
(4) قال تعالى في سورة النحل: " وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى
للمسلمين ".
(5) أي من أمور الدين وغير الدين.
40

لما فيه، وذلك معنى كونها راجعة إليه، وأيضا فالاستقراء التام دل على ذلك
وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب، وإلا وجب
التوقف عن قبولها وهو أصل كاف في هذا المقام " إلى أن قال: " إن السنة تطاع
لأنها بيان للقرآن، فطاعة الله العمل بكتابه، وطاعة الرسول العمل بما بين به
كتاب الله تعالى قولا أو عملا أو حكما. ولو كان في السنة شئ لا أصل له في
الكتاب لم تكن بيانا له، ولا يخرج من هذا ما في السنة - من التفصيل لأحكام
القرآن الإجمالية وإن كانت تتراءى أنها ليست منه كالصلاة المجملة في القرآن
والمفصلة في السنة، ولكننا علمنا بهذا التفصيل أنه مراد الله في الصلاة التي ذكرها في
كتابه مجملة ".
وقال (1): إن السنة توضح المجمل، وتقيد المطلق، وتخصص العموم.
وقال (2): إن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه.
وسئل الإمام أحمد عن الحديث الذي روى في أن السنة قاضية على الكتاب
فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول إن السنة تفسر القرآن وتبينه (3).
وكان الإمام مالك " يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ويترك ما سوى
ذلك وإن جاء فيه أحاديث. وقال: أحب الأحاديث إلى ما اجتمع الناس عليه (4).
وفي روح البيان للآلوسي أن الإمام الشافعي قال: جميع ما حكم به النبي فهو
مما فهمه من القرآن.
وقال الإمام الشافعي: لا تخالف سنة لرسول الله كتاب الله بحال (5).
وقال الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله: والنبي مبين للقرآن بقوله
وفعله ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد ولكن لا يدخل فيه إبطال
حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره، ولذلك كان التحقيق " أن السنة

(1) ص 21 ج 1.
(2) ص 43 ج 3 أكثرنا من النقل عن هذا الكتاب لأنه كما قال أستاذنا الإمام محمد عبده: " من
الكتب النفيسة التي لم يؤلف مثلها ".
(3) ص 26 ج 4 الموافقات للشاطبي وص 23 - 1 تفسير القرطبي.
(4) ص 66 و 70 ج 3 الموافقات.
(5) ص 576 من الرسالة طبعة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.
41

لا تنسخ القرآن ".. والعمدة في الدين كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى والسنة العملية
المتفق عليها في المرتبة الثانية وما ثبت عن النبي، وأحاديث الآحاد فيها رواية ودلالة
في الدرجة الثالثة - ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلما ناجيا في الآخرة مقربا عند
الله تعالى وقد قرر ذلك الغزالي (1).
حكم كلام الرسول في الأمور الدنيوية
هذا ما رأينا إيراده من كلام كبار الأئمة من حيث بيان درجة كلام الرسول
في الأمور الدينية - أما كلامه صلوات الله عليه في الأمور الدنيوية فإنه كما قالوا
من الآراء المحضة ويسميه العلماء " أمر إرشاد "، أي أن أمره صلى الله عليه وسلم في أي
شئ من أمور الدنيا يسمى إرشادا - وهو يقابل " أمر التكليف ". ومن القواعد
الأصولية أن العمل بأمر الإرشاد - لا يسمى واجبا ولا مندوبا، لأنه لا يقصد به
القربة ولا فيه معنى التعبد. ومن المعلوم أنه: لا دليل على وجوب أو ندب إلا بدليل
خاص.
وما ذكره العلماء في ذلك إنما هو لأن الرسل غير معصومين في غير التبليغ.
قال السفاريني في شرح عقيدته (2):
قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: وإنهم معصومون فيما يؤدونه عن الله تعالى
وليسوا بمعصومين في غير ذلك من الخطأ والنسيان والصغائر. وقال ابن عقيل في
الإرشاد: إنهم عليهم السلام لم يعتصموا في الأفعال - بل في نفس الأداء ولا يجوز
عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى. وهذا ينكره علماء الشيعة فإنهم
أجمعوا على أن الأنبياء لا يخطئون ولا يعتريهم السهو والنسيان - وهم مجمعون على
أنهم معصومون في الكبر والصغر حتى في أمور الدنيا.
وقد ثبت أن النبي كان يصدق بعض ما يفتريه المنافقون، كما وقع في غزوة

(1) ص 694 ج 12 المنار وقرر الغزالي ذلك في كتابه القسطاس المستقيم.
(2) 291 ج 2.
42

تبوك وغيرها وصدق بعض أزواجه، وتردد، في حديث الإفك وضاق صدره به زمنا
حتى نزل عليه آيات البراءة فكشفت له الغطاء عن الحقيقة.
قال القاضي عياض (1): أما أحواله في أمور الدنيا فقد يعتقد الشئ على
وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع. عن
رافع بن خديج (2) قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل
فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا،
فتركوه فنفضت، فذكروا ذلك له. فقال: " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم
فخذوا به وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا بشر ". وفي رواية أنس " أنتم أعلم
بأمر دنياكم " وفي حديث آخر إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن. وفي حديث ابن
عباس في قصة الخرص (3) فقال رسول الله: " إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو
حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ أصيب ". وهذا على ما قررنا
فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، ولما نزل بأدنى مياه بدر
قال له الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أم هو الرأي
والحرب والمكيدة؟ قال: لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: فإنه ليس
بمنزل! انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب
فنشرب ولا يشربون. فقال: أشرت بالرأي. وفعل ما قاله. وأراد مصالحة بعض
عدوه على ثلث تمر المدينة فاستشار الأنصار فلما أخبروه برأيهم رجع عنه. فمثل
هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها
يجوز عليه فيها ما ذكرناه.
وقال (4) وأما ما يعتقده في أمور أحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم
ومعرفة المحق من المبطل، وعلم المصلح من المفسد فبهذه السبيل، لقوله صلى الله

(1) ص 178 و 179 ج 2 الشفاء.
(2) هذه الأحاديث رواها مسلم في كتابه، بألفاظ مختلفة وظاهرها هو في الضابط القطعي بين ما قاله
الرسول رأيا وإرشادا، وبين ما قاله تشريعا.
(3) كانوا قد مروا بشجر مثمر يخرصونه يجربون حدسهم، وخرصها النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت
على خلاف خرصه.
(4) ص 180 ج 2 من الشفاء.
43

عليه وسلم: " إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته
من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشئ
فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار " (عن أم سلمة). وفي رواية الزهري
عن عروة " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له ".
وهو صلى الله عليه وسلم يجري أحكامه على الظاهر وموجب غلبات الظن بشهادة
الشاهد ويمين الحالف ومراعاة الأشبه... إلخ.
وقال (1): فأما ما تعلق منها (أي معارف الأنبياء) بأمر الدنيا فلا يشترط في
حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي
عليه، ولا وصم عليهم فيه.
وقال صلى الله عليه وسلم: إني لا أعلم إلا ما علمني ربي. وقال موسى للخضر
(هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) (2).
وقال الوزير اليماني في الروض الباسم:
غير خاف عمن له أنس بقواعد العلماء أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
عند المحققين لا تدل بنفسها على الوجوب، ولا على الندب، وإنما تدل على
الإباحة - والقدر المقطوع به أنه لم يكن يفعل المعاصي المحرمة، فإن فعل شيئا من
الصغائر سهوا لم يقر عليه، وبين الله تعالى ذلك - وقال المحققون: إذا فعل فعلا
نظرنا، هل دلت القرائن على أنه فعل ذلك متقربا به إلى الله تعالى أولا، فإن لم تدل
القرائن على ذلك لم يستحب التأسي به وكان من فعله على الإباحة، من شاء فعله
ومن شاء تركه، ومن ذلك إقراره لعمر بن الخطاب على مخالفة رأيه في قصة
أسرى بدر (3).

(1) 107 ج‍ 2.
(2) ص 109 من نفس المصدر.
(3) ص 142 ج 1.
44

مجرد أمر الرسول لا يقتضي الوجوب
روى محمد بن الحنفية رحمه الله عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام قال:
كان قد كثر على مارية القبطية أم إبراهيم في ابن عم لها قبطي كان يزورها،
ويختلف إليها، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا السيف وانطلق، فإن
وجدته عندها فاقتله. قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة
المحماة، أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال لي النبي
صلى الله عليه وسلم: " بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب " فأقبلت متوشحا بالسيف
فوجدته عندها، فاخترطت السيف فلما أقبلت نحوه، عرف أني أريده، فأتى
نخلة فرقى إليها، ثم رمى بنفسه على قفاه، وشغر برجليه، فإذا به أجب أمسح،
ما له مما للرجال قليل ولا كثير، قال فغمدت السيف، ورجعت إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فأخبرته فقال: الحمد لله يصرف عنا أهل البيت.
قال الشريف المرتضى في تعليقه على هذا الخبر:
ومما فيه من الأحكام اقتضاؤه أن مجرد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقتضي
الوجوب، لأنه لو اقتضى ذلك لما حسنت مراجعته ولا استفهامه، وفي حسنها ووقوعها
موقعها دلالة على أنها لا تقتضي ذلك (1).
وفي طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل عن سعد بن أبي وقاص قال:
مرضت مرضا فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ائت الحارث بن
كلدة فإنه رجل بتطيب.
فأمر رسول الله بإتيان الأطباء ومسألتهم عما بين أيديهم (2).

(1) ص 77 و 78 ق 1 أمالي المرتضى.
(2) ص 54 وهذا الكتاب من مطبوعات المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة.
45

النهي عن كتابة الحديث
كان رسول الله صلوات الله عليه - كما قلنا - مبينا ومفسرا للقرآن بفعله
وقوله، ولكن أقواله في هذا البيان أو في غيره لم تحفظ بالكتابة كما حفظ القرآن،
فقد تضافرت الأدلة النقلية الوثيقة، وتواتر العمل الثابت الصحيح على أن أحاديث
الرسول صلوات الله عليه لم تكتب في عهده كما كان يكتب القرآن ولا كان لها
كتاب يقيدونها عند سماعها منه وتلفظه بها كما كان للقرآن كتاب ومعروفون يقيدون
آياته عند نزولها، وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة
أحاديثه صلى الله عليه وسلم نجتزئ هنا بذكر بعضها:
روى أحمد ومسلم والدارمي، والترمذي والنسائي، عن أبي سعيد الخدري
قال: قال رسول الله: " لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن
فليمحه (1) "، وأخرج الدارمي عن أبي سعيد كذلك: أنهم استأذنوا النبي صلى الله
عليه وسلم في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم. وراية الترمذي عن عطاء بن يسار
عن أبي سعيد قال: استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا (2).
(ومن مراسيل ابن أبي مليكة) أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال:
إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس
بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم
كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (3).
وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة - أن عمر أراد

(1) لهذا الحديث صيغ كلها تتفق في المعنى. والدارمي شيخ البخاري.
(2) ص 91 ج‍ 2 طبع الهند، وقد أملى النبي صلى الله عليه وسلم كتبا في الشرائع والأحكام جهز بها
رسله وعماله في الأقطار المفتوحة بعضها في الصدقات والفرائض ولا يتعدى ما كتب عن الرسول في عصره
عشر صفحات في أمور يجب أن تحفظ بنصوصها لكي لا يعتورها التغيير والتشويه.
(3) ص 3 تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1.
46

أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك - ورواية البيهقي - فاستشار،
فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله
له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم
كتبوا كتابا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشئ
أبدا. ورواية البيهقي " لا ألبس كتاب الله بشئ أبدا ".
وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ثم بدا له أن
لا يكتبها ثم كتب في الأمصار من كان عنده شئ فليمحه (1).
وروى ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يملي
علي أحاديث، فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب (2) فأنشد
الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب،
قال (3) فمنعني الناس القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثا.
ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، وأمر إنسانا أن يكتبه فقال
له زيد: " إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرنا ألا نكتب شيئا من حديثه،
فمحاه. وعن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليا يخطب يقول: أعزم على كل من
عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم
وتركوا كتاب ربهم.
وعن الأسود بن هلال قال: أتى عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث
فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت. ثم قال أذكر الله رجلا يعلمها عند
أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها، بهذا هلك أهل الكتاب

(1) ص 64 و 65 ج‍ 1 جامع بيان العلم وفضله وص 206 ج‍ 1 / 3 طبقات ابن سعد طبعة ليدن
وما خشيه عمر قد وقع.
(2) بدأت رواية الحديث تكثر في عهد عمر فترى ماذا يكون الأمر بعد وفاة عمر.
(3) ص 140 ج‍ 5 طبقات ابن سعد وص 52 تقييد العلم للبغدادي. ولعل عمر يقصد أن يمثل
ذلك بما صنعه اليهود عندما تركوا التوراة وعملوا بمجموعة الروايات الإسرائيلية وسموها " مثناة " ومن مختار
الصحاح عن أبي عبيدة أن الأحبار والرهبان وضعوا بعد موسى عليه السلام كتابا فيما بينهم على ما أرادوا من
غير كتاب الله فهو " المثناة " ويرويها بعضهم بالسين المهملة. وجاء في كتاب مقالة في الإسلام بالشين -
المثناة.
47

قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون! وهناك غير ذلك
أخبار كثيرة يرجع إليها في كتابي جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وتقييد
العلم للبغدادي وغيرهما. ولئن كان هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة بكتابة
الأحاديث إن أحاديث النهي أصح وأقوى، بله ما جرى عليه العمل في عهد
الصحابة والتابعين.
وقد عقد الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله فصلا قيما في التعادل
والترجيح بين روايات النهي وروايات الرخصة نأتي به هنا ليكون مقطع الحق في
هذا الأمر. قال رحمه الله (1):
إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في مسنده ومسلم
في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا:
" لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن فمن كتب غير القرآن فليحمه ".
وإن أصح ما ورد في الإذن حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا:
" اكتبوا لأبي شاه " وهو لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه على قاعدتنا التي
مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مراد به ألا تتخذ دينا
عاما كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة خطبها صلى الله عليه
يوم فتح مكة موضوعها تحريم مكة ولقطة الحرم، وهذا من بيانه صلى الله عليه وسلم
للقرآن الذي صرح به يوم الفتح وصرح به في حجة الوداع وأمر بتبليغه -
فهو خاص مستثنى من النهي العام. قد صرح البخاري في باب اللقطة من صحيحه
بأن أبا شاه اليمني طلب أن تكتب له الخطبة المذكورة فأمر صلى الله عليه وسلم
بإجابة طلبه.
ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضا يصح أن
يكون به أحدها ناسخا للآخر، لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر
بأمرين أحدهما استدلال من روى عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها
بالنهي عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما عدم تدوين الصحابة
الحديث ونشره، ولو دونوا ونشروا لتوافر ما دونوه.

(1) ص 766 وما بعدها من المجلد العاشر في المنار وص 511 وما بعدها من المجلد 19 من
48

فعزيمة علي (رضي الله عنه) على من عنده كتاب أن يمحوه وقول أبي سعيد
الخدري: " تريدون أن تجعلوها مصاحف " (1) وقول عمر بن الخطاب عند الفكر في
كتابة الأحاديث أو بعدم الكتابة " لا كتاب مع كتاب الله " في الرواية الأولى
وقوله في الرواية الثانية بعد الاستشارة في كتابتها: " والله إني لا أشوب كتاب الله
بشئ أبدا "، وقول ابن عباس: " كنا نكتب العلم ولا نكتبه ". أي لا نأذن لأحد
أن يكتبه عنا - ونهيه في الرواية الأخرى عن الكتابة.. ومحو زيد بن ثابت للصحيفة
ثم إحراقها وتذكيره بالله من يعلم أنه توجد صحيفة أخرى في موضع آخر ولو بعيدا
أن يخبره بها ليسعى إليها ويحرقها - وقول سعيد بن جبير عن ابن عمر، إنه
لو كان يعلم بأنه يكتب عنه لكان ذلك فاصلا بينهما، ومحو عبد الله بن مسعود
للصحيفة التي جاءه بها عبد الرحمن بن الأسود وعلقمة وقوله عند ذلك " إن هذه
القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره ".
كل هذا الذي أورده ابن عبد البر وأمثاله مما رواه غيره كإحراق أبي بكر لما كتبه (2)
وعدم وصول شئ من صحف الصحابة إلى التابعين وكون التابعين لم يدونوا الحديث
لنشره إلا بأمر الأمراء - يؤيد ما ورد من أنهم كانوا يكتبون الشئ لأجل حفظه
ثم يمحونه. وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث
بل في رغبتهم عنه بل في نهيهم عنه (3) - قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن
يجعلوا الأحاديث (كلها) دينا عاما دائما كالقرآن. ولو كانوا فهموا عن النبي
(صلى الله عليه وسلم) أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون
ما كتب وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به، ولم يكتفوا بالقرآن

(1) عن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد الخدري: ألا نكتب ما نسمع منك؟ قال: أتريدون أن
تجعلوها مصاحف؟ إن نبيكم كان يحدثنا فنحفظ (ص 27 تقييد العلم للخطيب البغدادي).
(2) يشير السيد رشيد بذلك إلى الخبر الذي رواه الحاكم عن عائشة ونقله الحافظ الذهبي في تذكرة
الحفاظ ص 5 ج‍ 1 الذي قالت فيه: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب
ولما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فأحرقها وقال: خشيت أن أموت وهي عندك
فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك!
والسيد رشيد إذا أشار إلى خبر في مثل ذلك أو استشهد بحديث فثق بأنه صحيح لا ريب فيه لأنه كان
من صيارفة الحديث.
(3) سترى ذلك كله فيما بعد.
49

والسنة المتبعة المعروفة للجمهور يجريان العمل بها.
وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث
بالرواية، وإذا أضفت إلى ذلك كله حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة
بما يخالف بعض تلك الأحاديث، ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول
والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قل،
وعدم تعينه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه - قوي عندك ذلك
الترجيح.
بل تجد الفقهاء - بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلا من أصول الأحكام
الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج به -
لم يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب
المتبعة ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية، فيها مئات من المسائل المخالفة
للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفا لأصول الدين.
أما ما رووه عن أبي هريرة من قوله: إن عبد الله بن عمرو كان يكتب
ولا أكتب فليس حجة شرعية وهو لا يدل على أن ابن عمرو كان يكتب بأمر النبي
ولا بإقراره فيصلح معارضا لحديث نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن كتابة شئ عنه
غير القرآن - (على أن ما كتبه عبد الله بن عمرو إنما كان أدعية كما سيتبين ذلك
في موضعه).
وقد أورد ابن القيم في أعلام الموقعين شواهد كثيرة جدا من رد الفقهاء
للأحاديث الصحيحة عملا بالقياس أو لغير ذلك - ومن أغربها أخذهم ببعض
الحديث الواحد دون باقيه - وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدا (1).
وقد ذكروا أن نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن كتابة حديثه إنما كان
لخوفه من اختلاط الحديث بالقرآن، وهو سبب لا يقتنع به عاقل عالم، ولا يقبله

(1) أنظر فيما بعد موقف علماء الفقه من كتب الحديث. وقال رحمه الله في ص 288 من تفسيره
السادس: " ونحن نجزم بأننا نسينا وأضعنا من حديث نبينا صلى الله عليه وسلم حظا عظيما لعدم كتابة
علماء الصحابة كل ما سمعوه ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين.
50

محقق دارس اللهم إلا إذا جعلنا الأحاديث من جنس القرآن في البلاغة وأن أسلو بها
في الإعجاز من أسلوبه - وهذا ما لا يقره أحد حتى الذين جاءوا بهذا الرأي،
إذ معناه إبطال معجزة القرآن وهدم أصولها من القواعد.
هذا على أن الأحاديث لو كانت قد كتبت فإنما ذلك على أنها أحاديث
للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وبين الحديث والقرآن ولا ريب فروق كثيرة يعرفها كل
من له بصر بالبلاغة وذوق في البيان. ومن ثم كانت تؤثر على هذه الصفة - وإذا
كتبها الصحابة بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ووزعوا منها نسخا
على الأمصار كما فعلوا بالقرآن فيكون ذلك على أنها أحاديث، ويتلقاها المسلمون على أنها
كلام النبي، ويظل أمرها على ذلك جيلا بعد جيل فلا يدخلها الشوب، ولا يعتريها
التغيير ولا ينالها الوضع. على أن هذا السبب الذي يتشبثون به قد زال بعد أن كتب
القرآن في عهد أبي بكر على ما رووه وبعد أن نسخ في عهد عثمان ووزعت
منه نسخ على الأمصار وأصبح من العسير بل من المستحيل أن يزيدوا على القرآن
حرفا واحدا، وما لهم يذهبون إلى اختراع الأسباب وابتداع العلل وقد بين كبار
الصحابة أنفسهم السبب الحق في عدم كتابة الحديث كما تبين لك من قبل.
وقد يكون قريبا من الصواب في حكمة نهي النبي عن كتابة حديثه هو لكي
لا تكثر أوامر التشريع ولا تتسع أدلة الأحكام، وهو ما كان يتحاشاه (صلى الله
عليه وسلم) حتى كان يكره كثرة السؤال - أو يكون من أحاديث في أمور خاصة
بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها (1).
وقبل أن نفرغ من هذا الفصل لا بد لنا أن نشير إلى حديث يروونه ليجعلوا
كل الأحاديث من وحي الله كالقرآن الكريم، وهذا الحديث هو (2):

(1) ونضرب لذلك مثلا أن بعض الصحابة أو لم للنبي وبعض الصحابة وليمة أكلوا فيها لحم
جزور، وبعد أن فرغوا من طعامهم خرج من أحدهم ريح وصل إلى أنوف المدعوين، فرأى النبي - لكي
لا ينال من أحدث ذلك خزي - أن يقول لهم جميعا: " من أكل لحم جزور فليتوضأ ". ومن الغريب أن كثيرا
من الفقهاء قد جعلوا هذا الحكم عاما فيأمرون بأن يتوضأ كل من أكل لحم الجمال وفاتهم أن الوضوء إنما
يكون من شئ يخرج من السبيلين لا مما يدخل الجوف.
(2) روى هذا الحديث أبو داود والدارمي وابن ماجة ولم يروه البخاري ومسلم وهو مثل القرآن كما
يزعمون أو شطره كما يروون!
51

" ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه " وفي وراية: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ".
وهذا الحديث من أغرب ما قذفته الرواية في سيلها! لأن النبي إذا كان قد أوتي مثل
" الكتاب " أو " مثل القرآن " فمعنى ذلك أنه قد أوتي ذلك ليكون تماما على القرآن
وإكمالا له لبيان دينه وشريعته - وإذا كان الأمر كذلك فلم لم يعن النبي بكتابة
هذا " المثل " في حياته، عندما تلقاه عن ربه، كما عني بكتابة القرآن؟ ولم لم يجعل
له كتابا يقيدونه عند نزوله، كما جعل للقرآن كتابا؟ ولم اقتصر في النهي عن كتابة
غير القرآن وأغفل هذا المثل فقال: " لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن " ولم يقل -
وغير ما أوتيته معه وهو " مثله!! ".
وهنا يجوز لسائل أن يسأل:
هل يصح أن يدع النبي نصف ما أوحاه الله إليه يغدو بين الأذهان بغير
قيد، يمسكه هذا، وينساه ذاك، ويتزيد فيه ذلك! مما يصيب غير المدون في
كتاب محفوظ؟ وهل يكون الرسول بعمله هذا قد بلغ الرسالة على وجهها، وأدى
الأمانة كاملة إلى أهلها!! وأين كان هذا الحديث عندما قال النبي في مرضه
الأخير الذي انقلب بعده إلى ربه، وبعد أن نزلت الآية: " اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا ": إني والله ما تمسكوا علي
بشئ، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن (1)، ثم أين كان
هذا الحديث عندما قال أبو بكر للناس: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله
وحرموا حرامه!
وعندما قال عمر عندما طلب النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يحتضر أن
يكتب للناس كتابا لن يضلوا بعده: حسبنا كتاب الله!
ولم لم يشفق عمر من ضياع هذا " المثل "، وهو بزعمهم نصف ما أوحى الله
به إلى النبي، فيذكره لأبي بكر عندما فزع إليه في أن يجمع القرآن ويكتبه بعد
وقعة اليمامة؟!
ثم أين كان هذا المثل عندما أجابت عائشة في خلق النبي، إذ كان عليها أن
تقول كان خلقه القرآن ومثله معه؟ ولكنها اكتفت بقولها: كان خلقه القرآن!

(1) ص 332 ج‍ 4 سيرة ابن هشام.
52

وأين ذهبت عانية الصحابة بهذا " المثل " فلم يكتبوه كما كتبوا القرآن في زمن
أبي بكر وعند ما نسخ في عهد عثمان ووزعت نسخه على الأمصار؟
إلا إنهم بإهمالهم هذا الأمر الخطير إنما يكونون قد تركوا " نصف الوحي "
بغير تدوين، ويصبحون بذلك جميعا من الآثمين (1).
الصحابة ورواية الحديث
إذا كانت الآثار الصحيحة قد جاءت في نهي النبي (صلى الله عليه وسلم)
عن كتابة حديثه، والأخبار الوثيقة قد ترادفت بأن صحابته قد استمعوا إلى نهيه،
ولم يكتبوا حديثه بعد موته - كما علمت مما مر بك - فإنا نجد هؤلاء الصحابة
لم يقف بهم الأمر عند ذلك، وإنما كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون عنها
وأنهم كانوا يتشددون في قبول الأخبار تشديدا قويا.
روى الذهبي في تذكرة الحفاظ قال: من مراسيل ابن أبي مليكة (2) أن
الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث
تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن
سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه.
وروى ابن عساكر عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني صالح بن إبراهيم

(1) بعد صدور الطبعة الأولى من كتابنا هذا في سنة 1958 جاءنا كتيب من الهند بعث به إلينا
صديقنا العلامة عبد الحميد الخطيب رحمه الله من دمشق ووصل إلينا في يوم السبت الموافق 6 فبراير
سنة 1960 واسم هذا الكتيب رسالة " الذب عن العرب " تأليف عبد العزيز إسماعيل الخالدي ومطبوع في
بلاد الهند في سنة 1368 (1948) وهي رسالة قيمة تنم عن علم مؤلفها وفضله، بين فيها ما بثه
علماء الفرس في دين الإسلام انتقاما منه لما دك عروش ملوكهم وقضى على دولتهم وملكهم، وقد جعل هذا
الحديث الذي تكلمنا عنه مما بثوه في الدين الإسلامي (ص 14) وذلك ليفسدوا به أحكام الدين بعد أن
عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم. فالحمد لله على توفيقه وأن ما نفهمه في ديننا يقول به علماء كبار من
غير بلادنا.
(2) ص 3 ج‍ 1 - وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكي القرشي التميمي المكي.
قاضي مكة في زمن ابن الزبير كان إماما فقيها فصيحا مفوها، اتفقوا على توثيقه، وممن روى عنه الليث بن
سعد، توفي سنة 117 ه‍، وص 63 من كتاب التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري.
53

ابن عبد الرحمن بن عوف قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب
رسول الله فجمعهم من الآفاق، عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة
ابن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا:
تنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم،
نأخذ منكم، ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات (1). وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ
عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء
وأبا مسعود الأنصاري فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله (2)، وكان قد حبسهم
في المدينة ثم أطلقهم عثمان (3).
وروى ابن عساكر عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول
لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس (أي بلاده).
وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.
وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان (4).
وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد - واللفظ لابن سعد قال:
سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في
عهد أبي بكر ولا في عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله أن لا أكون
من أوعى أصحابه، إلا أني سمعته يقول: من قال علي ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من
النار.
وفي جامع بيان العلم وفضله (5) لحافظ المغرب ابن عبد البر عن الشعبي عن قرظة
ابن كعب قال:

(1) أخرجه ابن عساكر ومحمد بن إسحاق.
(2) ص 7 ج‍ 1، وص 123 تاريخ التشريع الإسلامي للخضري، وص 161 من كتاب تمهيد
لتاريخ الفلسفة الإسلامية للشيخ مصطفى عبد الرازق.
(3) قال أبو بكر بن " العربي في العواصم من القواصم " وهو يدافع عن عثمان فيما نسبوه إليه من
المظالم والمناكير ما نصه: ومن العجيب أن يأخذ عليه في أمر فعله عمر! فقد روي أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استشهد فأطلقهم عثمان، وكان سجنهم
لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - ص 75 و 76.
(4) راجع كتابنا " شيخ المضيرة " الطبعة الثالثة.
(5) ص 120 ج‍ 2.
54

خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار (1) ثم قال لنا: أتدرون
لم مشيت معكم؟ قلنا: أردت أن تشيعنا وتكرمنا؟ قال: إن مع ذلك
لحاجة خرجت لها. إنكم لتأتون بلدة لأهلها دوي كدوي النحل فلا تصدوهم
بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم، قال قرظة: فما حدثت بعده حديثا عن
رسول الله. وفي رواية أخرى: إنكم تأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل
فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم. جودوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا
شريككم. فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا! فقال: نهانا عمر (2).
وفي الأم للشافعي رواية الربيع بن سليمان: فلما قدم قرظة قالوا حدثنا!
قال: نهانا عمر!
وكان عمر يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به (3).
ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك، لأنه كان لا يعتمد إلا على القرآن والسنة
العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حضر رسول الله (أي حضرته الوفاة)
وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا
بعده، فقال عمر: " إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ":
وفي رواية: أن النبي يهجر.
وروى ابن سعد في الطبقات عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص
من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدث عن النبي حديثا حتى رجع،
وسئل عن شئ فاستعجم وقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدا فتزيدوا عليه
المائة! وسعد هذا من كبار الصحابة ومن العشرة المبشرين بالجنة (4) كما يقولون.
وعن عمرو بن ميمون قال:
اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة، فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله

(1) صرار: بالكسر موضع قرب المدينة، وفي رواية: خرجنا فشيعنا.
(2) هذه الزيادة من تذكرة الحفاظ للذهبي. وصححه الحاكم في المستدرك ص 102 ج‍ 1.
(3) أي السنة العملية ص 107 ج‍ 8 البداية والنهاية.
(4) ص 102 / 2 / 2.
55

ولا يقول قال رسول الله، إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال
رسول الله! فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدر عن جبينه!! ثم قال: إن شاء
الله إما فوق ذاك، أو قريب من ذاك، وإما دون ذاك.
وفي رواية عند ابن سعد عن علقمة بن قيس، أن عبد الله بن مسعود كان
يقوم قائما كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة
واحدة، فنظرت إليه وهو يعتمد على عصا - فنظرت إلى العصا تزعزع..
وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن كعب قال: قلت لأبي قتادة،
حدثني بشئ سمعته عن رسول الله، قال أخشى أن يزل لساني بشئ لم يقله
رسول الله.
وأخرج البخاري عن السائب بن يزيد قال: صحبت طلحة بن عبيد الله
وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم
فما سمعت أحدا منهم يحدث عن رسول الله، إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد.
وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث، قال ابن بطال وغيره كان كثير من كبار
الصحابة لا يحدثون عن رسول الله خشية المزيد والنقصان (1).
وأخرج أحمد وأبو يعلى عن دجين قال: قدمت المدينة فلقيت أسلم مولى
عمر بن الخطاب فقلت: حدثني عن عمر. فقال: لا أستطيع، أخاف أن أزيد
أو أنقص، كنا إذا قلنا لعمر: حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
أخاف أن أزيد أو أنقص، إن رسول الله قال: من كذب علي فهو في النار.
وأخرج ابن ماجة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قلت لزيد بن أرقم:
حدثنا عن رسول الله، قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد.
وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (2): وكان كثير من جلة الصحابة
وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس
ابن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد
ابن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، كما يروون.

(1) ص 28 ج‍ 6 من الفتح الباري.
(2) ص 49 قال ابن تيمية عن ابن قتيبة إنه كان لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة لأنه خطيب
السنة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة، وهذا الكلام في صفحة 121 من تفسير سورة الإخلاص.
56

ولو أنت تصفحت البخاري ومسلم لما وجدت فيهما حديثا واحدا لأمين هذه
الأمة أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وليس فيهما كذلك حديث لعتبة
ابن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم.
والأخبار في ذلك كثيرة لا يمكن استقصاؤها وإليك كلمة صغيرة نختتم بها
هذا الفصل. قال ابن القيم: إن الصحابة كانوا يهابون الرواية عن رسول الله ويعظمونها
ويقللونها - خوف الزيادة والنقص - ويحدثون بالشئ الذي سمعوه من النبي مرارا.
ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون: قال رسول الله (1).
تشديد الصحابة في قبول الأخبار
كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم - كما علمت -
يتقون الرواية عن النبي ويهابونها بل كانوا يرغبون عنها، إذ كانوا يعلمون أنهم
لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه الصحيح
لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسع، وما تحفظه مما تسمعه لا يمكن أن
يبقى فيها على أصله مهما تحرى الإنسان الضبط، وكذلك لم يأمنوا من يسمع منهم
أن يغير فيما سمعه بالزيادة أو النقص أو الغلط أو التبديل أو التحريف أو بغير
ذلك، وهم بما عرفوا من أصول الدين وفروعه كاملة عن رسول الله ما كانوا ليرضوا
بما رضي به بعضهم ومن جاء بعدهم من رواية الحديث " بالمعنى " لأنهم كانوا
يعلمون أن تغيير اللفظ يغير المعنى في الغالب، وكلام الرسول ليس كغيره من
الكلام، إذ كل لفظة من كلامه صلى الله عليه وسلم يكمن وراءها معنى خاص
يقصده هو (صلى الله عليه وسلم). من أجل ذلك كانوا يتشددون في قبول الأخبار
من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط،
حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثا إلا بشهادة من غيره على أنه سمعه من
الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وضع بعمله هذا أول شروط علم الرواية وهو شرط
الإسناد الصحيح. قال الذهبي في ترجمته (2): إنه أول من احتاط في قبول الأخبار.

(1) ص 128 ج‍ 4 من أعلام الموقعين.
(2) ص 3 ج‍ 1 من تذكرة الحفاظ.
57

روى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تورث
فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئا،
ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال، كان رسول الله يعطيها السدس فقال له: هل
معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر.
هذا هو عمل أبي بكر، أما عمر فقد كان أشد من ذلك احتياطا وتثبتا.
قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (1): " وكان عمر شديدا على من
أكثر الرواية - أو أتي بخبر في الحكم لا شاهد عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا
الرواية - يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب
من المنافق والفاجر والأعرابي (2). "
وقد بلغ من شدة حرصه على صيانة الحديث أن ضرب أبا هريرة على رواية
الحديث وأنذره بالنفي إلى بلاده إذا هو روى.
وقال الذهبي في طبقات الحفاظ: " وهو الذي سنن للمحدثين التثبت في النقل
وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب ".
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال كنت في مجلس - من مجالس
الأنصار - إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور! فقال: استأذنت على عمر ثلاثا،
فلم يؤذن لي فرجعت. قال عمر: ما منعك؟ فقال استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي
فرجعت. قال رسول الله: " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع "، فقال
والله لتقيمن عليه بينة - زاد مسلم - وإلا أوجعتك - وفي رواية ثالثة: فوالله
لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا - أمنكم أحد سمعه من
النبي؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر
القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك.
فانظر كيف تشدد عمر في أمر ليس فيه حلال ولا حرام، وقدر ماذا يكون
الأمر لو كان الحديث في غير ذلك من أصول الدين أو فروعه!

(1) ص 48.
(2) قد وقع ما خشيه عمر بعد أن اتسع الناس في الرواية فدخلها الشوب ووقع فيها التدليس
والكذب. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
58

وقد استند إلى هذه القصة من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد،
واستدل بها من قال: إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره،
كما في الشهادة، وقال ابن بطال: يؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه
من السهو وغيره. وقد رأيت من قبل ما فعله مع أبي هريرة وغيره، ولم تكثر أحاديث
أبي هريرة إلا بعد وفاة عمر (1)، فقد روى عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقلت له -
أكنت تحدث في زمان عمر هذا؟ قال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم
لضربني بمخفقته.
الكذب على رسول الله
شر الرذائل كلها الكذب - لا يختلف في ذلك أحد. وليس في خلال
الإنسان أسوأ خلة من الافتراء، ولا في أدواء الجماعات أعضل من داء البهتان،
ولئن كان الكذب بين الأفراد والجماعات مما يمكن تداركه والقضاء عليه. إن
بلاءه ولا ريب إنما يكون عميما، وضرره يكون عظيما، إذا كان على مثل رسول الله،
فإن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، لأنه رسول دين عام وصاحب شريعة
للناس كافة.
أخرج الطبراني عن رافع بن خديج قال، قال رسول الله: لا تكذبوا على
فإنه ليس كذب علي ككذب على أحد (2).
وقد أتت الرسالة المحمدية بأصول في العقائد ليس لانسان مهما بلغ من العلم
أن يغير أصلا من أصولها، وجاءت بأحكام في العبادات لا يجوز لأحد أن يزيد
فيها أو ينقص منها، أو يبدل شيئا من صورها ولا أزمانها، ذلك بأن الأعمال الدينية
مبنية على قاعدتين: إحداهما ألا يعبد إلا الله، والثانية أن يعبد بما شرعه،
وما عدا ذلك من نظم العمران وقواعد الاجتماع وغيرهما، فقد وضع له الدين أسسا
عامة من العدل والرحمة والخير والمصلحة والمساواة والحرية وعدم الضرر والصدق.

(1) في تاريخ أبي هريرة " شيخ المضيرة " مزيد من القول في هذا الأمر فارجع إليه في طبعته الثالثة
(2) ص 10 و 11 من تحذير الخواص.
59

والأمانة والاحسان وما إلى ذلك من أمهات الفضائل.
ولما كان القرآن الكريم مصونا بالتدوين والحفظ، وأحاديث الرسول لم تدون
فقد كان أشد ما يخشاه صلوات الله عليه أن يكذب أحد عليه وبخاصة بعد أن
نرك حديثه بغير تدوين محفوظ، وقد شدد في هذا الأمر تشديدا عظيما، حتى
جعل جزاءه القتل في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة.
روى البخاري (1) عن ربعي بن خراش قال: سمعت عليا يقول: قال النبي:
لا تكذبوا علي فإن من كذب علي فليلج النار. وقال الحافظ ابن حجر في شرح
هذا الحديث. يؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ " يلج النار ".
وروى البخاري عن أنس وأبي هريرة بزيادة لفظ " معتمدا "، وكذلك أتت
أحاديث في غير البخاري بهذه الزيادة، ولكن من حقق النظر، وأبعد النجعة في
مطارح البحث، يجد أن الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة،
ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الكلمة
" متعمدا " وكل ذي لب يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها، لمنافاة ذلك للعقل
والخلق اللذين كان الرسول متصفا بالكمال فيهما. ذلك بأن الكذب " هو الإخبار
بالشئ على خلاف ما هو عليه سواء أكان عمدا أم خطأ "، ولعل هذه اللفظة قد
تسللت إلى هذا الحديث من طريق " الادراج " المعروف عند العلماء ليسوغ بها
الذين يضعون الحديث على رسول الله حسبة من غير عمد، كما كان يفعل الصالحون
من المؤمنين ويقولون " نحن نكذب له لا عليه "! أو يتكئ عليها الرواة فيما يروونه
عن غيرهم على سبيل الخطأ، أو الوهم أو سوء الفهم، لكي لا يكون عليهم حرج
في ذلك لأن المخطئ غير مأثوم - ومن أجل ذلك وضع هؤلاء الرواة قاعدتهم
المشهورة: " إنما الكذب على من تعمده ".

(1) أخرج هذا الحديث كذلك مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني والحاكم في المدخل.
60

الأدلة القوية الصحيحة
على حقيقة حديث من كذب علي
وإنا نسوق هنا طائفة من الأدلة التي تؤيد ما ذهبنا إليه:
ففي رواية لأحمد عن " عمر " مرفوعا: من كذب علي فهو في النار.
وروى ابن سعد في طبقاته وابن عساكر عن محمود بن لبيد واللفظ لابن سعد
قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد أن يروي حديثا
لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر (1)، فإني لم يمنعني أن أحدث عن رسول
الله ألا أكون أوعى أصحابه! إلا أني سمعته يقول: " من قال علي ما لم أقل فقد
تبوأ مقعده من النار ".
وروى أحمد والدارمي وابن ماجة وآخرون من حديث أبي قتادة عن النبي
أنه قال: إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال عني فلا يقولن إلا حقا وصدقا،
فمن قال على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ".
وأقطع دليل في هذا الأمر الحديث الذي رواه البخاري عن عامر بن عبد الله
ابن الزبير فقد قال فيه: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله
كما يحدث فلان وفلان! قال أما إني لم أفارقه ولكني سمعته يقول: " من كذب علي
فليتبوأ مقعده من النار (2).
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث وهذا الحديث أخرجه الزبير بن بكار في
كتاب النصب من وجه آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال:
" عناني ذلك " يعني قلة رواية الزبير فسألته - أي عن ذلك - فقال: يا بني كان
بيني وبينه (صلى الله عليه وسلم) من القرابة والرحم ما علمت. وعمته أمي، وزوجته
خديجة عمتي وأمه آمنة بنت وهب، وجدتي هالة بنت وهب ابن عبد مناف بن

(1) ص 100 ج‍ 2 ق 2.
(2) اختلاف صيغ هذا الحديث قد جاء من أنهم كانوا يروون أحاديث رسول الله بالمعنى
كما ستراه في هذا الكتاب إن شاء الله.
61

زهرة، وعندي أمك وأختها عائشة عنده، ولكن سمعته يقول: من كذب علي
فليتبوأ مقعده من النار " (1)، وأخرجه الدارمي عن عبد الله بن الزبير بلفظ " من حدث
عني " كذبا ولم يذكر العمد.
وهذا الحديث أخرجه كذلك أبو داود (2) والنسائي وابن ماجة والدارمي
والدارقطني (3) وقال: والله ما قال متعمدا "، وأنتم تقولون متعمدا، ورواية ابن قتيبة في
كتاب تأويل مختلف الحديث (4): من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار، وقال أراهم
يزيدون فيها " متعمدا " ووالله ما سمعته قال " متعمدا (5) "، وفي نسخة إنهم
يزيدون! ورواية ابن سعد والله ما قال متعمدا وأنتم تقولون متعمدا (6)، وقد قال
ابن حجر في شرح هذا الحديث: " وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب
إليه في اختيار قلة التحديث، دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشئ
على خلاف ما هو عليه سواء أكان عمدا أم خطأ - والمخطئ وإن كان غير مأثوم
الإجماع، لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر، لأنه
وإن لم يأثم بالخطأ، لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ فحمل عنه -

(1) ص 162 ج‍ 1 فتح الباري.
(2) في مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري ومعالم السنن لأبي سليمان الخطابي وتهذيب الإمام ابن القيم
ص 248 ج‍ 5 بعد أن أورد هذا الحديث قال: " وأخرجه البخاري والنسائي وابن ماجة وليس
في حديث البخاري والنسائي " متعمدا " والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه " متعمدا " وقد روى
الزبير أنه قال والله ما قال " متعمدا " وأنتم تقولون متعمدا. وهذا الكتاب اشترك في تحقيقه وطبعه الشيخ أحمد
شاكر رحمه الله.
(3) الدارقطني هو الإمام الحافظ الكبير قال فيه الحافظ ابن حجر: " إنه حافظ عصره وهو أشهر
المنتقدين على الصحيحين وأوسعهم تتبعا واستقصاء " توفي سنة 385 ه‍.
(4) ص 49.
(5) على أن رواية " متعمدا " مرجوحة وواهية وأنها لم تثبت في رواية كبار الصحابة وأن العقل
يدفعها، وخلق النبي يمنعها، فإن بعض أدعياء السنة وعبيد الأسانيد في عصرنا لا يزالون يكابرون في إثباتها
وكأنهم أعلم بالحديث من ابن قتيبة والبخاري والنسائي والمنذري والدارقطني والخطابي وابن حجر وابن القيم
والسيوطي وغيرهم، ومن إمعانهم في اللجاجة أن يزعم بعضهم أن الزبير بن العوام لم يقل: " والله ما قال
متعمدا وأنتم تقولون متعمدا " وينسب هذه العبارة إلى أحد الذين رووا عنه في حين أن الرواية صحيحة ثابتة
من رواية كبار أئمة الحديث ولم يقل أحد منهم إنها لغير بن الزبير!!
(6) ص 74 و 75 ج‍ 2 ق 2
62

وهو لا يشعر أنه خطأ - ما يعمل به على الدوام للوثوق بنقله فيكون سببا للعمل
بما لم يقله الشارع، فمن خشي من الإكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم " (1).
ولعلك تمعن الفكر كثيرا في هذا الحديث وشرحه وتجعله مرآة لغيره.
وقال الحاكم في المدخل: " إن موعد الكاذب عليه في النار، وقد شدد في
ذلك وبين أن الكاذب عليه في النار، تعمد الكذب أم لم يتعمد (2) في قوله (صلى
الله عليه وسلم) فيما رواه ابن عمر: " إن الذي يكذب علي يبنى له بيتا في النار "، وقد
زاد تشددا بقوله فيما رواه عثمان بن عفان: " من قال علي ما لم أقل " فإنه إذا نقله غير
متعمد للكذب استوجب هذا الوعيد من المصطفى (3).
ومن روايات هذا الحديث: " من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار ".
قالوا: وهذا أصعب ألفاظه وأشقها لشموله للمصحف واللحان والمحرف.
وهذا الإمام الشافعي الذي قالوا عنه إنه عالم قريش، والذي كان أقرب إلى معين
السنة الصافي من البخاري ومسلم وأصحاب السنن جميعا وأستاذا للإمام أحمد،
لو رجعنا إليه لنرى ما رواه في هذا الأمر لوجدناه قد روى أحاديث كثيرة في هذا
المعنى ليس فيها كلها كلمة " متعمدا ".
وإليك بعض ما رواه في رسالته المشهورة (4):
عن واثلة بن الأسقع عن النبي قال: " إن أفرى الفري من قولني ما لم أقل
ومن أرى عينيه ما لم تر، ومن ادعى إلى غير أبيه ".
وعن ابن عمر أن النبي قال: " إن الذي يكذب علي يبنى له بيتا في النار ".
وعن أم أسيد قالت: قلت لأبي قتادة: ما لك لا تحدث عن رسول الله
كما يحدث الناس عنه؟ قال: سمعت رسول الله يقول: من كذب علي فليلتمس لجنبيه
مضجعا من النار.

(1) ص 162 ج‍ 1 شرح البخاري لابن حجر.
(2) لعل هذا يكون ميسما من الخزي لوجوه أدعياء العلم الذين ينشرون بين الناس أن الكذب
غير المتعمد ليس كالكذب المتعمد.
(3) ص 26 من رسالة تحذير الخواص للسيوطي.
(4) ص 395 وما بعدها.
63

هذا بعض ما رواه الشافعي في رسالته، وكله لم يرد فيه كلمة " متعمدا "
فليسمع من يعقل! - وكذلك ليس فيما ننقله مما رواه هذه اللفظة.
وقال النووي في شرح حديث من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو
أحد الكاذبين، الذي رواه مسلم، ولا فرق في تحريم الكذب عليه (صلى الله عليه
وسلم) بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ،
وغير ذلك، وكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد
بهم في الإجماع - إلى أن قال: وقد أجمع أهل الحل والعقد على تحريم الكذب
على آحاد الناس! فكيف بمن قوله شرع، وكلامه وحي، والكذب عليه كذب
على الله تعالى (1).
وقال السيوطي: وللتحرز من ذلك كان الخلفاء الراشدون، والصحابة المنتخبون،
رضوان الله عليهم يتقون كثرة الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص
وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود وأبو أيوب الأنصاري وثوابان مولى رسول
الله وزيد بن أرقم... إلخ.
وكان أبو بكر وعمر يطالبان من روي لهما حديثا عن رسول الله لم يسمعاه منه،
إقامة البينة ويتوعدانه في ذلك، وكان علي بن أبي طالب يستحلف عليه، وكان
عبد الله بن مسعود يتغير عند ذكر الحديث عن رسول الله وتنتفخ أوداجه ويسيل
عرقه وتدمع عيناه ويقول، أو قريبا من هذا، أو نحو هذا، أو شبه هذا، كل
ذلك خوفا من الزيادة والنقصان، أو السهو والنسيان، واحتياطا للدين وحفظا
للشريعة، وحسما لطمع طامع، أو زيغ زائغ أن يجترئ فيحكى عن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) ما لم يقله، أو يدخل في الدين ما ليس منه، ويقتدى بهم من
يسمع منهم ويأخذ عنهم، فيقفو أثرهم ويسلك طريقهم (2).
وعن مالك بن عبادة قال: إن النبي عهد إلينا في حجة الوداع فقال:
عليكم بالقرآن وإنكم سترجعون إلى قوم يشتهون الحديث عني، فمن عقل شيئا

(1) ص 23 تحذير الخواص.
(2) راجع صفحة 28 و 29 من نفس المصدر.
64

فليحدث به ومن افترى علي فليتبوأ مقعدة في جهنم (1).
هذا ما رأينا إيراده من الأدلة على أن حديث الرسول " من كذب علي " لم يكن
فيه كلمة " متعمدا " وإنك لتجد مما أوردناه أن روايات كبار الصحابة ومنهم
ثلاثة من الخلفاء الراشدين والزبير بن العوام حواري رسول الله قد اتفقت كلها
على أن الرواية الصحيحة للحديث لم يكن فيها كلمة " متعمدا " (2).
وإن العقل السليم والخلق الكريم، لينفران من قبول رواية " متعمدا " لأن
الكذب هو أبو الرذائل كلها سواء أكان عن عمد أم غير عمد.
الكذب على النبي في حياته
صلوات الله عليه
لعل النبي صلوات الله عليه قد حذر من الكذب عليه بعد أن سمع أن بعضهم
قد افترى عليه كذبا وهو حي، فقد جاء في كتاب الأحكام في أصول الأحكام لابن
حزم الظاهري (3) عن عبد الله بن بريدة عن ابن الخطيب الأسلمي قال: كان
حي من بني ليث على ميلين من المدينة فجاءهم رجل وعليه حلة فقال: إن رسول
الله كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى! وكان قد خطب
منهم امرأة في الجاهلية فلم يزوجوه، فانطلق حتى نزل على تلك المرأة، فأرسلوا
إلى رسول الله فقال: كذب عدو الله، ثم أرسل رجلا فقال: إن وجدته حيا
- ولا أراك تجده - فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فحرقه بالنار.
وأخرج ابن سعد في الطبقات والطبراني عن المقنع التميمي قال: أتيت النبي
بصدقة إبلنا فأمر بها فقبضت - فقلت إن فيها ناقتين هدية لك: فأمر بعزل
الهدية عن الصدقة، فمكثت أياما وخاض الناس أن رسول الله باعث خالد بن الوليد
إلى رقيق مضر فمصدقهم، فقلت: والله ما عند أهلنا من مال! فأتيت النبي صلى

(1) ص 171 ج‍ 1 مشكل الآثار للطحاوي.
(2) قال الحافظ ابن حجر: إن الصفات العلية من الرواة تقام مقام العدد أو تزيد عليه (ص 164
ج 1 فتح الباري).
(3) ص 582 ج‍ 2.
أضواء على السنة المحمدية
65

الله عليه وسلم فقلت له: إن الناس خاضوا في كذا وكذا فرفع النبي يديه حتى
نظرت إلى بياض إبطه وقال: اللهم لا أحل لهم أن يكذبوا على، قال المقنع
فلم أحدث بحديث عن النبي إلا حديثا نطق به كتاب أو جرت به سنة (1).
وهذا لمن يكذب عليه في حياته! فكيف بعد موته؟ - والأخبار في ذلك كثيرة.
الكذب على النبي بعد موته
صلوات الله عليه
وإذا كان قد كذب عليه في حياته، فإن الكذب قد كثر عليه وفشا بعد وفاته
والصحابة متوافرون والدين غض والناس ناس، وقد استفاض هذا الكذب بعد
موت عمر لأنه كما علمت كان يخيف الناس حتى أفزعت كثرة ما نسب إلى رسول
الله من أحاديث - كبار الصحابة وأمضتهم.
فقد روى مسلم في مقدمة كتابه بسنده عن طاووس قال: جاء هذا إلى
ابن عباس (يعني بشير (2) بن كعب) فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس: عد
لحديث كذا وكذا، فعاد، فقال له: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال:
ما أدري؟ أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟
فقال ابن عباس: إنا كنا نحدث عن رسول الله إذ لم يكن يكذب عليه! فلما
ركب الناس الصعبة والذلول تركنا الحديث عنه (3).
وجاء بشير بن كعب العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول
الله، قال رسول الله: قال فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال:
يا ابن عباس ما لي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع! قال

(1) أي سنة عملية إذا لم تكن تعرف حينئذ إلا بذلك وفي هذا القول فوائد كثيرة يدركها كل
ذي لب.
(2) بشير مصغر بشر مخضرم يروي عن أبي ذر وأبي الدرداء وثقه ابن سعد والنسائي. وانظر فصل
" الوضع في الحديث وأسبابه " فيما بعد.
(3) إذا كان الناس قد ركبوا الصعبة والذلول في عهد ابن عباس، فترى ماذا يكون الأمر بمن
جاءوا بعد هذا العهد؟. وفيما نقلناه لك من قول أبي بكر أنهم يحدثون عن رسول الله أحاديث يختلفون فيها!
66

ابن عباس: إنا كنا مدة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله، ابتدرته أبصارنا،
وأصغينا بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا
ما نعرف!
وروي عن ابن أبي مليكة قال كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي
كتابا ويخفي عني، قال: ولد ناصح، إني أختار له الأمور اختيارا وأخفي عنه
قال: فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء ويمر بالشئ فيقول والله ما قضى
بهذا علي إلا أن يكون قد ضل!
وروي عن أبي بكر بن عياش قال: سمعت المغيرة يقول: لم يكن يصدق علي
علي في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود.
نجتزئ بهذه النصوص التي تدل على أن الرسول صلوات الله عليه قد كذب
عليه في حياته وبعد مماته، ولم يكن ذلك من أهل البدع والأهواء وأعداء الدين
فحسب، وإنما كان كذلك من الصالحين، كما سيتبين لك ذلك في فصل " الوضاع
الصالحون " من هذا الكتاب.
حكم من كذب على رسول الله
قال السمعاني: من كذب في خبر واحد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وجب إسقاط ما تقدم من حديثه (1) وقال أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي
وأبو بكر الصيرفي: لا تقبل رواية من كذب في أحاديث رسول الله وإن تاب عن
الكذب بعد ذلك (2) وقال ابن حجر العسقلاني: اتفق العلماء على تغليظ الكذب
على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأنه من الكبائر حتى بالغ الشيخ أبو محمد
الجويني فحكم بكفر من وقع منه ذلك، وكلام القاضي أبو بكر بن العربي يميل
إليه، وجهل من قال من الكرامية، وبعض المتزهدة: إن الكذب على النبي يجوز

(1) ص 14 التقريب للنووي.
(2) ص 111 اختصار علوم الحديث.
67

فيما يتعلق بتقوية أمر الدين وطريقة أهل السنة والترغيب والترهيب، واعتلوا بأن
الوعيد ورد في حق من كذب عليه، لا في الكذب له، وهو اعتلال باطل لأن
المراد بالوعيد من نقل عنه الكذب سواء أكان له أم عليه، والدين بحمد الله كامل
غير محتاج إلى تقويته بالكذب (1).
الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر
أخرج ابن عساكر في تاريخه عن واثلة بن الأسقع قال:
سمعت رسول الله يقول: إن من الكبائر أن يقول الرجل على ما لم أقل. وقال
النووي في شرح مسلم، تحريم رواية الحديث الموضوع:
ولا فرق في تحريم الكذب عليه (صلى الله عليه وسلم) بين ما كان في الأحكام
وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك، وكله حرام من أكبر
الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين إلى أن قال:
وقد أجمع أهل الحل والعقد على تحريم الكذب على آحاد الناس فكيف بمن
قوله شرع، وكلامه وحي، والكذب عليه كذب على الله تعالى.
درجات الصحابة (2)
لم يكن الصحابة طرازا واحدا في الفقه والعلم، ولا نمطا متساويا في الإدراك
والفهم، وإنما كانوا في ذلك طبقات متفاوتة، ودرجات متباينة، شأن الناس جميعا
في هذه الحياة على مر الدهور: سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. قال
ابن خلدون في مقدمته (3): " إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين
يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه

(1) ص 389 ج‍ 6 فتح الباري.
(2) عقدنا فيما بعد فصلا خاصا بعدالة الصحابة.
(3) ص 446 من طبعة بيروت.
68

ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالته، بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم
أو ممن سمعه منهم وعن عليتهم وكانوا يسمون لذلك (القراء) أي الذين يقرءون الكتاب
لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته
يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة ".
وعن محمد بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه (1) قال: كان الذين يفتون على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من المهاجرين، وثلاثة من الأنصار،
عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت.
وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه
كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي، دعا رجالا من المهاجرين
والأنصار، دعا عمر وعثمان وعليا، و عبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي
ابن كعب وزيد بن ثابت. وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر وإنما تصير
فتوى الناس إلى هؤلاء فمضى أبو بكر على ذلك.
ثم ولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر.
وفي مسلم: عن مسروق قال: شاممت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: إلى عمر وعلي وعبد الله ومعاذ (2) وأبي الدرداء وزيد
ابن ثابت، فشاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله (3).
وروى ابن القيم في إعلام الموقعين عن مسروق قال: جالست أصحاب محمد
(صلى الله عليه وسلم) فكانوا كالإخاذة (4)، الإخاذة تروي الراكب، والإخاذة
تروي الراكبين، والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم، وإن عبد الله من تلك
الإخاذة.
وروى البخاري ومسلم عن النبي قال: إن مثل ما بعثني به الله من الهدى

(1) ص 168 ج‍ 4 طبقات ابن سعد.
(2) رواية ابن القيم في إعلام الموقعين، وأبي بن كعب بدل معاذ.
(3) هو عبد الله بن مسعود.
(4) الإخاذة: الغدير.
69

والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية (1) قبلت الماء فأنبتت الكلا
والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا
وسقوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت
كلا.
وعن عامر قال: كان علماء هذه الأمة بعد نبيها ستة: عمر وعبد الله وزيد
ابن ثابت. فإذا قال عمر قولا وقال هذان قولا كان قولهما لقوله تبعا، وعلي وأبي
بن كعب وأبو موسى الأشعري، فإذا قال علي قولا كان قولهما لقوله تبعا، وقال
قضاة هذه الأمة أربعة: عمر وعلي وزيد وأبو موسى الأشعري. ودهاة هذه الأمة
أربعة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد.
تفاوت الصحابة في صدق الرواية
فبعضهم أصدق من بعض
صدق عمر عبد الرحمن بن عوف وقال له: أنت عندنا العدل الرضا -
قال الذهبي في شرح الخبر فأصحاب رسول الله وإن كانوا عدولا فبعضهم أعدل
من بعض فهاهنا عمر قنع بخبر عبد الرحمن، وفي قصة الاستئذان يقول لأبي موسى
الأشعري: ائت بمن يشهد معك (2).
رواية الصحابة بعضهم عن بعض
وروايتهم عن التابعين
ليس كل ما جاء من الأحاديث عن الصحابة مما رووه عن رسول الله ودون
في الكتب قد سمعوه كله بآذانهم من النبي صلوات الله عليه مشافهة، ولا أخذوه

(1) في رواية طائفة طيبة. ارجع في هذه الأخبار كلها إلى طبقات ابن سعد ص 109 و 110
ج‍ 2 ق 2.
(2) ص 48 ج‍ 1 سير أعلام النبلاء للذهبي، راجع صفحة 58.
70

عنه تلقينا، وإنما كان يروي بعضهم عن بعض، فمن لم يسمع من الرسول كان
يأخذ ممن سمع منه (صلى الله عليه وسلم)، وإذا رواه لغيره لم يعزه إلى الصحابي الذي
تلقاه عنه، بل يرفعه إلى النبي بغير أن يذكر اسم هذا الصحابي - ذلك أن مجالس
الرسول كانت متعددة، وتقع في أزمنة وأمكنة مختلفة، ولا يمكن أن يحضر
الصحابة جميعا كل مجلس من مجالسه، فما يحضره منها بعض الصحابة لا يحضره
البعض الآخر.
وقد ذكر الآمدي في كتاب الأحكام في أصول الأحكام (1): أن ابن
عباس لم يسمع من رسول الله سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ولما روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم " إنما الربا في النسيئة " وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي
حتى رمى حجر العقبة، قال في الجزء الأول لما روجع فيه، قال: أخبرني به أسامة
ابن زيد، وفي الخبر الثاني: أخبرني به أخي الفضل بن العباس. ولما روى أبو هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له،
راجعوه في ذلك، فقال: ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمدا قاله! ثم عاد فقال:
حدثني به الفضل بن العباس (2).
وروي عن البراء بن عازب قال: " ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم! ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه ".
وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار (3). ويدل على ذلك ما روي
عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي: إذا حدثتني فأسند (4) فقال:
إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي حدثني وإذا قلت لك حدثني

(1) ص 178 - 180 ج‍ 2 وقال ابن القيم في الوابل الصيب: إن ما سمعه ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يبلغ العشرين حديثا، وعن ابن معين والقطان وأبي داود في السنن أنه روي تسعة أحاديث
وذلك لصغر سنه ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده 1696 حديثا!
(2) لهذا الحديث قصة شائقة تقرؤها في تاريخ أبي هريرة الذي طبعناه باسم " شيخ المضيرة " مرتين.
(3) الرواية المرسلة للحديث هي التي لم يذكر فيها اسم الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) الحديث المسند ما اتصل سنده إلى منتهاه، وكان التابعون يتبعون في ذلك سبيل الصحابة فيما
يروون من الأحاديث التي لم يسمعوها من النبي وإنما تلقوها من إخوانهم فإنهم كانوا لا يذكرون أسماء من
تلقوا عنهم.
71

عبد الله، فقد حدثني جماعة عنه، وقد قال الآمدي بعد ذلك، ولم يزل ذلك
مشهورا فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير فكان إجماعا (1) ا ه‍.
وكما كان الصحابة يروي بعضهم عن بعض فإنهم كذلك كانوا يروون عن
التابعين. وهذا أمر نص عليه علماء الحديث في كتبهم فارجع إليه إن شئت.
وفي كلام ابن الصلاح وغيره في باب " رواية الأكابر عن الأصاغر " أن
ابن عباس والعبادلة الثلاثة وأبا هريرة وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار -
اليهودي الذي أسلم خداعا في عهد عمر وعدوه من كبار التابعين ثم سوده بعد
ذلك على المسلمين. وهاك ما قاله السيوطي في ألفيته (2).
وقد روى الكبار عن صغار * في السن أو في العلم والمقدار
ومنه أخذ الصحب عن أتباع * وتابع عن تابع الأتباع
كالبحر عن كعب وكالزهري * عن مالك ويحيى الأنصاري
وقال شارح هذه الألفية الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله - ومن هذا النوع
رواية الصحابة عن التابعين كرواية البحر عبد الله بن عباس وسائر العبادلة وأبي
هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم عن كعب الأحبار!
على أن الصحابة في روايتهم عن إخوانهم أو عن التابعين لم يكونوا - كما أبنا -
يذكرون أن أحاديثهم قد جاءت من سبيل الرواية عن غيرهم، بل يروون ما يروون
في المناسبات التي تستدعي ذكر الحديث مهما طال الزمن من غير عزو إلى من
سمعوا منه ثقة بهم ويرفعونها إلى النبي، وظلوا على ذلك إلى أن وقعت الفتنة، ومن
ثم قالوا، سموا لنا رجالكم!
قال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة (3) قالوا:
سموا لنا رجالكم.

(1) ص 178 - 180 ج‍ 2.
(2) ص 237.
(3) ذر قرن الفتنة بعد انقضاء بضع سنين من خلافة عثمان رضي الله عنه - وعلى ذكر الفتنة نسوق
هذا الخبر عن الزهري قال: لما ولي عثمان عاش اثنتي عشرة سنة أميرا يعمل ستة سنين لا ينقم الناس عليه شيئا،
وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب! لأن عمر كان شديدا عليهم، فلما وليهم عثمان لأن لهم ووصلهم، ثم توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر. وكتب لمروان بخمس خراج مصر
وأعطى أقرباءه المال وتأول في ذلك واتخذ الأموال واستسلف من بيت المال وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من
ذلك ما هو لهما وإني أخذته فقسمته في أقربائي! فأنكر الناس عليه ذلك (ص 34 / 2 / 3 طبقات ابن سعد).
وارجع إلى فصل - " كيف قامت دولة بني أمية في كتابنا " شيخ المضيرة ".
72

وأخرج مسلم عنه: لقد أتى على الناس زمان وما يسأل عن إسناد حديث،
فلما وقعت الفتنة سئل عن إسناد الحديث.. وفي سنن الترمذي عنه: كانوا في
الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد! فلما وقعت الفتنة، سألوا عن الإسناد، إن
الرجل ليحدثني فما أتهمه ولكن أتهم من هو فوقه.
وقد روى التابعون عن " تابعي التابعين ". ومن رواية التابعين عن تابعي
التابعين.. رواية الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري عن مالك وهو تلميذهما.
ومن الطريف للفطن كما قال السيوطي في ألفيته - أن يروي الصحابي عن
تابعي، عن صحابي آخر حديثا، ومن ذلك حديث السائب بن يزيد الصحابي عن
عبد الرحمن بن عبد القاري التابعي عن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عليه
وسلم " من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة
الظهر، كتب له كأنما قرأه في الليل " رواه مسلم في كتابه، ومن ذلك حديث
" لا يستوي القاعدون ".
وقد جمع الحافظ العراقي من ذلك عشرين حديثا.
نقد الصحابة بعضهم لبعض
لم يقف الأمر بالصحابة عند تشديدهم في قبول الأخبار من إخوانهم في
الصحبة كما أسلفنا، ولكنه تجاوز ذلك إلى أن ينقد بعضهم بعضا.
ولقد كان عمر وعلي وعثمان وعائشة وابن عباس وغيرهم من الصحابة يتصفحون
على إخوانهم في الصحبة، ويشكون في بعض ما يروونه عن الرسول ويردونه على
أصحابه.
عن محمود بن الربيع - وكان ممن عقل عن رسول الله وهو صغير - أنه سمع
73

عتبان بن مالك الأنصاري وكان ممن شهد بدرا، أن رسول الله قال: إن الله حرم
النار على من قال: لا إله إلا الله يبغي بها وجه الله - وكان الرسول في دار عتبان
فحدثها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله - فأنكرها على أبو أيوب وقال: والله
ما أظن رسول الله قد قال ما قلت! وقد استدلت المرجئة (1) بهذا الحديث ونحوه
على مذهبهم. وردت عائشة حديث عمر وابن عمر: " إن الميت يعذب ببكاء
أهله عليه "، فقالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولكن السمع يخطئ والله
ما حدث رسول الله أن الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه! وقالت: حسبكم القرآن
" ولا نزر وازرة وزر أخرى ".
وفي رواية أنها لما سمعت أن ابن عمر يحدث بهذا الحديث قالت: وهل!
إنما قال: إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه " وفي رواية ثالثة:
إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ وقالت مثل قوله (ابن عمر) إن رسول الله قام
على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال: إنهم ليسمعون ما أقول. وقالت:
إنما قال: إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقوله لهم حق، ثم قرأت " إنك لا تسمع
الموتى، وما أنت بمسمع من في القبور " حين تبوءوا مقاعدهم من النار.. والحديثان
في البخاري ومسلم وغيرهما.
وردت عائشة كذلك حديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء الذي رواه
الشيخان عن عامر بن مسروق الذي قال لعائشة: يا أمتاه. هل رأى محمد ربه؟
فقالت: لقد قف شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث من حدثكم فقد كذب (2):
من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: " لا تدركه الأبصار وهو
يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من
وراء حجاب " ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: " وما تدري
نفس ماذا تكسب غدا "، ومن حدثك أنه كتم شيئا فقد كذب، ثم قرأت:
" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ".

(1) المرجئة فرقة من كبار الفرق الإسلامية تقول لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر
طاعة.
(2) في مسلم: فقد أعظم على الله الفرية. وأحاديث الرؤية بلغت كما ذكر ابن القيم في حادي الأرواح
ثلاثين حديثا، والمرفوع منها أكثر من عشرين حديثا، دع الموقوف والآثار.
74

وفي مسلم وكنت متكئا فجلست فقلت: ألم يقل الله " ولقد رآه نزلة أخرى "
فقالت: أنا أول من سأل رسول الله عن هذا فقلت يا رسول الله، هل رأيت
ربك؟ فقال: لا، أنا رأيت جبريل منهبطا. وفي حديث أبي ذر عند مسلم أنه
سأل النبي عن ذلك فقال: نور أني أراه - ولأحمد رأيت نورا (1).
وردت خبر ابن عمر وأبي هريرة: أن الشؤم في ثلاث: فقالت إنما كان (2)
رسول الله يحدث عن أحوال الجاهلية، وذلك لمعارضته الأصل القطعي من " أن
الأمر كله لله ".
ولما بلغها قول أبي الدرداء من أدرك الصبح فلا وتر له. قالت: لا - كذب
أبو الدرداء، كان النبي يصبح فيوتر، ولما سمعت أن ابن عمر قال: اعتمر رسول
الله عمرة في رجب، قضت عليه بالسهو، وقالت عن أنس بن مالك وأبي سعيد
الخدري، ما علم أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله، وإنما كانا غلامين
صغيرين! وكانت عائشة ترد كل ما روي مخالفا للقرآن - وتحمل رواية الصادق
من الصحابة على خطأ السمع. أو سوء الفهم (3) - وكذب عمران بن حصين سمرة
في حديث أن للنبي سكتين في الصلاة عند قراءته (4). والأمثلة على ذلك كثيرة
وقد أتينا في تاريخ أبي هريرة بطائفة من الأحاديث التي انتقدوه فيها، وردوها
عليه فراجعها هناك (5).
عدالة الصحابة
أما الكلام عن عدالة الصحابة فقد أرجأناه إلى مكانه من هذا الكتاب.

(1) قال ابن حجر في فتح الباري: وقد رجح القرطبي في المفهم قول الوقف في هذه المسألة
وعزاه لجماعة من المحققين، وقواه أنه ليس في الباب دليل قاطع، وغياية ما استدل به للطائفتين ظواهر
متعارضة قابلة للتأويل - وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية - وإنما هي من المعتقدات
فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي.
(2) راجع كتابنا " شيخ المضيرة " تجد فيه هذه الأخبار وغيرها مبسوطة هناك.
(3) جمع الإمام الزركشي كتابا قيما فيما استدركته عائشة على الصحابة سماء " الإجابة لإيراد
ما استدركته عائشة على الصحابة "، توفي الزركشي 794 ه‍.
(4) 154 ج‍ 2 من الإستيعاب.
(5) راجع كتاب " شيخ المضيرة " الطبعة الثالثة.
75

كيف روي الحديث؟
بعد نهي النبي عن كتابته
يحسب الذين لا خبرة لهم بالعلم، ولا علم عندهم بالخبرة، أن أحاديث الرسول
التي يقرؤونها في الكتب، أو يسمعونها ممن يتحدثون بها، قد جاءت صحيحة المبنى
محكمة التأليف، وأن ألفاظها قد وصلت إلى الرواة مصونة كما نطبق النبي بها،
بلا تحريف فيها ولا تبديل.
وكذلك يحسبون أن الصحابة ومن جاء من بعدهم، ممن حملوا عنهم أحاديث
النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى زمن التدوين، قد نقلوا هذه الأحاديث بنصها
كما سمعوها، وأدوها على وجهها كما تلقوها، فلم ينلها تغيير ولا اعتراها تبديل،
ومما وقر في أذهان الناس أن هؤلاء الرواة قد كانوا جميعا صنفا خاصا بين بني آدم
في جودة الحفظ، وكمال الضبط وقوة الذاكرة، وأن أذهانهم قد فطرت على صورة
خاصة غير ما فطرت عليه أذهان البشر جميعا، فكل ما يسمعونه ينقش على
ألواحها، فلا تفلت منه كلمة، ولا يشذ عنه حرف.
ولقد كان ولا جرم لهذا الفهم أثر بالغ في أفكار شيوخ الدين - إلا من
عصم ربك - فاعتقدوا أن هذه الأحاديث في منزلة آيات الكتاب العزيز، من
وجوب التسليم بها، وفرض الإذعان لأحكامها، بحيث يأثم أو يرتد أو يفسق من
يخالفها، ويستتاب من أنكرها أو شك فيها.
من أجل ذلك رأينا أن نشبع القول في هذا الأمر، ليعلم الناس وجه الحق
فيه، ويدركوا أن الأحاديث التي جاءتهم عن رسول الله صلوات الله عليه قد رويت
عنه بمعناها، لما لم يستطيعوا أن يأتوا بها على حقيقة مبناها، لنسيان أصلها أو لمضي
الزمن عليها في أذهانهم عندما رووها، وأن كل راو قد روى ما بقي في ذهنه من هذا
المعنى بعد أن عجزت ذاكرته عن ضبط ألفاظه. ولم يكونوا قد عنوا في أول الأمر
بتدوينه، وعلى أن الأمر قد جرى على رواية الحديث بالمعنى، حتى لم يختلف
76

في ذلك أحد من العارفين (1)، فقد وقع الاختلاف بعد ذلك بين العلماء في أمر
هذه الرواية، فمنهم من منعها ومنهم من أجازها، ولأن هذا الأمر مما يجب بيانه
لأهميته رأينا أن نذكر هنا طرفا من أدلة هؤلاء وهؤلاء، ولم نجد أحدا
عرض بتحقيق شامل لهذا الأمر مثل العلامة الشيخ طاهر الجزائري في كتابه النفيس
" توجيه النظر " وهاك ما قاله (2):
رواية الحديث بالمعنى واختلاف العلماء في ذلك
" اختلف العلماء في رواية الحديث بالمعنى. فذهب قوم إلى عدم جواز ذلك
مطلقا منهم ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي، ويروى ذلك عن ابن عمر (3).
وذهب الأكثرون إلى جواز ذلك - إذا كان الراوي عارفا بدقائق الألفاظ بصيرا
بمقدار التفاوت بينها، خبيرا بما يحيل معانيها فإذا أبدل اللفظ الذي بلغه بلفظ آخر
مقامه بحيث يكون معناه مطابقا لمعنى اللفظ الذي بلغه جاز ذلك (4).
وقد تعرض لهذه المسألة علماء الأصول - ولما كانت من المسائل المهمة جدا
فقد أحببت أن أروى من عباراتهم هنا ما يكون فيه الكفاية:
قال أبو إسحاق الشيرازي في اللمع: والاختيار في الرواية أن يروي الخبر
بلفظه، لقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع،

(1) قال ابن الصلاح في مقدمته: كثيرا ما كانوا ينقلون معنى واحدا في أمر واحد بألفاظ
مختلفة، وما ذلك إلا لأن معولهم كان على المعنى دون اللفظ (ص 90).
(2) ص 298 وما بعدها ببعض اختصار.
(3) كان من الذين يجوزون رواية الحديث بالمعنى من الصحابة جماعة منهم: ابن عباس وأنس،
أما التابعون فكان الذين يتشددون في رواية الحديث على لفظه محمد بن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن
حياة، والذين يتساهلون في ذلك الحسن والشعبي والنخعي.
(4) إن معرفة دقائق الألفاظ والبصر بمقدار التفاوت بينها إنما يكون ذلك كله ولا ريب عند
ضبط اللفظ الأصلي للحديث ومعرفته حتى يمكن أن يغيره بلفظ آخر، ولكن رواية الحديث بالمعنى إنما
تأتي من ذهاب شئ من معالم اللفظ الأصلي ونسيانه مما يدعو إلى تغييره - وإذا كان اللفظ الأصلي محفوظا
فليس هناك ما يسوغ تغييره، ويكون هو أولى بالرواية من سواه.
77

فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (1) فإن أورد الرواية نظر! فإن كان ممن
لا يعرف معنى الحديث لم يجز لأنه لا يؤمن أن يغير معنى الحديث،
وإن كان ممن
يعرف معنى الحديث نظر! فإن كان ذلك في خبر محتمل لم يجز أن يروي بالمعنى،
لأنه ربما نقله بلفظ لا يؤدي مراد الرسول فلا يجوز أن يتصرف فيه، إن كان خبرا
ظاهرا ففيه وجهان:
من أصحابنا من قال: لا يجوز، لأنه ربما كان التعبد باللفظ كتكبير الصلاة،
والثاني أنه يجوز. وهو الأظهر لأنه يؤدي معناه ولهذا روى عن النبي أنه قال:
إذا أصبت المعنى فلا بأس.
وهذا الحديث قد رواه ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني في المعجم الكبير
من حديث عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي قال: قلت يا رسول الله، إني
أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك، يزيد حرفا أو ينقص
حرفا، فقال: " إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس " (2)
فذكر للحسن فقال: لولا هذا ما حدثنا.
وقد احتج من منع الرواية بالمعنى بالنص والمعقول، أما النص فقوله عليه
السلام " رحم الله أمرا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من
سامع " (3) قالوا: وأداؤه كما سمع هو أداء اللفظ المسموع، ونقل الفقيه إلى من هو

(1) من العجيب أن هذا الحديث نفسه قد جاءت روايته بصيغ كثيرة! وكل رواية تختلف من
الأخرى في اللفظ والمعنى، ولولا خشية الإطالة لأوردناها كلها فليرجع إليها في مظانها. وقد قال ابن الجوزي
بعد أن أو رد قول الرسول " نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها ": وتأدية الحديث كما يسمع لا يكاد
يحصل إلا من الكتابة لأن الحفظ خوان. وقد كان أحمد بن حنبل رضي الله عنه يحدث بالحديث فيقال له:
أمله علينا: فيقول: لا بل من الكتاب. وقد قال علي بن المديني أمرني أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا
من الكتاب (ص 221 من تلبيس إبليس).
(2) ص 50 ج‍ 3 فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي - وهذا الحديث يناقض ولا ريب حديث
" رحم الله امرأ سمع مقالتي.. " ولكن لا بد لكل فئة من أن تؤيد رأيها بحديث.
(3) من وصية النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:
" ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه، وفي رواية " رب مبلغ أوعى من سامع ".
رواهما البخاري وغيره، وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي والضياء من حديث زيد بن ثابت مرفوعا
نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس
بفقيه - وفي معناه حديث " نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع. رواه
أحمد والترمذي وابن حبان.
78

أفقه منه معناه - والله أعلم - أن الأفطن ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ بما لم
يفطن له الراوي، لأنه ربما كان دونه في الفقه.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول - إنا لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر
ما لم يتنبه له أهل الأعصار السالفة من العلماء والمحققين - فلو جوزنا النقل بالمعنى
فربما حصل التفاوت العظيم، مع أن الراوي يظن أن لا تفاوت.
الثاني - أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول بلفظ نفسه، كان للراوي
الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه - بل هذا أولى لأن تبديل لفظ الراوي
أولى بالجواز من تبديل لفظ الشارع، وإن كان ذلك في الطبقة الثالثة والرابعة
فذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول، لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة
لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل، فإذا توالت التفاوتات كان التفاوت الأخير
تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة.
وقال القرافي في شرح تنقيح الفصول في الأصول: ونقل الخبر بالمعنى عند
أبي الحسين وأبي حنيفة والشافعي جائز خلافا لابن سيرين وبعض المحدثين بشروط
أن لا تزيد الترجمة ولا تنقص ولا تكون أخفى ولا أجلى - لأن المقصود إنما هو
إيصال المعاني فلا يضر فوات غيرها، ومتى زادت عبارة الراوي أو نقصت فقد
زاد الشرع أو نقص، وذلك حرام إجماعا - ومتى كانت عبارة الحديث جلية
فغيرها بعبارة خفية، فقد أوقع في الحديث وهنا يوجب تقديم غيره عليه بسبب
خفائه، فإن الأحاديث إذا تعارضت في الحكم الواحد، يقدم أجلاها على أخفاها
فإذا كان أصل الحديث جليا فأبدله بخفي فقد أبطل منه مزية حسنة تخل به
عند التعارض، وكذلك إذا كان الحديث خفي العبارة فأبدلها بأجلى منها، فقد
أوجب له حكم التقديم على غيره - وحكم الله أن يقدم غيره عليه عند التعارض،
فقد تسبب بهذا التغيير في العبارة إلى تغيير حكم الله تعالى - وذلك لا يجوز - فهذا
هو مستند هذه الشروط فإذا حصلت هذه الشروط فحينئذ يجري الخلاف في
الجواز، أما عند عدمها فلا يجوز إجماعا.
79

ومن حجج المانعين حديث البراء بن عازب (1).
وحجة " الجواز " أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمعون الأحاديث
ولا يكتبونها ولا يكررون عليها، ثم يروونها بعد السنين الكثيرة ومثل هذا يجزم
الإنسان فيه بأن نفس العبارة لا تنضبط بل المعنى فقط، ولأن أحاديث كثيرة
وقعت بعبارات مختلفة وذلك مع اتحاد القصة! وهو دليل جواز النقل بالمعنى،
ولأن لفظ السنة ليس متعبدا به، بخلاف لفظ القرآن، فإذا " ضبط المعنى " (2)
فلا يضر فوات ما ليس بمقصود.
وقال القاسمي في كتابه " قواعد التحديث " (3):
رخص في سوق الحديث بالمعنى دون سياقه جماعة منهم: علي وابن عباس
وأنس بن مالك وأبو الدرداء وواثلة بن الأسقع وأبو هريرة ثم جماعة من التابعين
يكثر عددهم، منهم إمام الأئمة حسن البصري ثم الشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم
النخعي ومجاهد وعكرمة.
وقد اختلفت ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) فمنهم من يرويه تاما، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصرا،
وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعا إذا لم يخالف المعنى، وكلهم لا يتعمد
الكذب وجميعهم يقصد الصدق، ومعنى ما سمع، فلذلك وسعهم، وكانوا يقولون
" إنما الكذب على من تعمده "، وقد روى عن عمران بن مسلم قال: قال رجل

(1) حديث البراء بن عازب نصه، كما رواه البخاري: قال رسول الله إذا أتيت مضجعك فتوضأ
وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك،
وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، ولا منجا (يجوز فيها هذا الرسم) إلا إليك آمنت بكتابك الذي
أنزلته وبنبيك الذي أرسلته. فإن مت فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول، فقلت: استذكرهن،
ورسولك الذي أرسلت. قال: لا ونبيك الذي أرسلت. وهذا الحديث قد رواه كذلك مسلم والنسائي والترمذي
وفي بعض رواياته: فطعن بيده في صدري ثم قال " ونبيك الذي أرسلت " على أن الرسول هو نبي والنبي لا يكون
رسولا.
(2) إذا ضبط المعنى ولكن هيهات!
(3) ص 207، نكتفي بهذا القدر من الأدلة، وفي كتاب الجزائري أدلة أخرى كثيرة إليها من
يريد التوسع في ذلك.
80

للحسن: يا أبا سعيد إنما تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقا، وأجود تحبيرا،
وأفصح به لسانا منه إذا حدثنا به! فقال، إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك.
وقد قال النضر بن شميل: " كان هشيم لحانا فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة
- يعني بالإعراب - وكان النضر بن شميل نحويا وكان سفيان يقول: " إذا رأيت
الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فاعلم أنه يقول: اعرفوني! وجعل رجل
يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه فقال له يحيى: يا هذا،
ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى - قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة
أحرف، فلا تشدد " (1) وروى البيهقي عن مكحول قال دخلت أنا وأبو الأزهر
على واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله ليس فيه وهم
ولا تزيد ولا نسيان! فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا؟ فقلنا: نعم وما
نحن له بحافظين جدا، إنا نزيد الواو والألف وننقص، فقال: هذا القرآن مكتوب بين
أظهركم لا تألونه حفظا، وإنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون فكيف بأحاديث سمعناها
من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عسى ألا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة؟
حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى.
وكان ابن أبي ليلى يروي الشئ مرة هكذا ومرة هكذا بغير إسناد - وإنما جاء
هذا من جهة حفظه، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون،
ومن كتب منهم فإنما كان يكتب لهم بعد السماع، وكان كثير منهم يروي بالمعنى
فكثيرا ما يعبر عنه بلفظ من عنده فيأتي قاصرا عن أداء المعنى بتمامه، وكثيرا
ما يكون أدنى تغيير محيلا له وموجبا لوقوع الإشكال فيه - وقد أجاز الجمهور الرواية
بالمعنى (2).
وفي سنن الترمذي - عن مكحول عن واثلة بن الأسقع قال: إذا حدثناكم
على المعنى فحسبكم، ورواية الذهبي في سير أعلام النبلاء: إذا حدثتكم بالحديث

(1) كانت العرب لا ترى بأسا من تغيير كلمة بكلمة، وقد روى عن ذي الرمة أنه قال لقيس
ابن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أحب إلي من الحفظ، لأن العربي ينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلة
فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس (ص 180 و 181 من كتاب نقض الشعر الجاهلي) للشيخ
الخضر حسين.
(2) ص 76 توجيه النظر.
81

على معناه فحسبكم (1). وقال وكيع (2) عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال:
إذا أصبت المعنى أجزأك، وقال: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس، وإنما
تفاضل أهل العلم بالحفظ والاتقان والتثبت عند السماع - مع أنه لم يسلم من الخطأ
والغلط كبير أحد من الأئمة. وقال سفيان الثوري (3) إن قلت إني أحدثكم
كما سمعت فلا تصدقوني فإنما هو المعنى، وقيل له: يا أبا عبد الله، حدثنا كما سمعت.
قال: والله ما إليه سبيل، وما هو إلا المعاني. ومن قوله: لو أردنا أن نحدثكم
بالحديث كما سمعناه ما حدثناكم بحديث واحد!
وقد قال الثقات من العلماء: إن الأولى هو إيراد الحديث بألفاظه دون
التصرف فيه. ولكن أنى ذلك وقد جرى الأمر على غير الأولى!
قال القاضي عياض: " ينبغي سد باب الرواية بالمعنى لئلا يتسلط من لا يحسن
ممن يظن أنه يحسن، كما وقع لكثير من الرواية قديما وحديثا والله الموفق!
ومما ذكره المحققون، أن الرواية بالمعنى لا تكون فيما يتعبد فيه باللفظ كالتكبير
والتشهدات. على أن التشهدات قد وردت بألفاظ مختلفة وإليك أكثرها.
صيغ التشهدات
تشهد ابن مسعود: في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول
الله التشهد وكفي بكفه كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - وكذلك رواه أصحاب السنن.
وفي رواية: " ولقنيه كلمة كلمة " وفي رواية: إذا قلت هذا، أو قضيت هذا،

(1) ص 259 ج‍ 3.
(2) وكيع بن الجراح الإمام الحافظ محدث العراق قال فيه أحمد بن حنبل: ما رأيت أوعى للعلم،
ولا أحفظ من وكيع. وكان ثقة متقنا ورعا، توفي سنة 197 ه‍.
(3) سفيان الثوري سيد الحفاظ الكوفي الفقيه، قال القطان فيه: ما رأيت أحفظ منه، وإنه فوق
مالك في كل شئ. مات بالبصرة سنة 161 ه‍.
82

فقد قضيت صلاتك - وقد اختاره أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث وأكثر
العلماء.
تشهد ابن عباس: روى مسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس وكذلك روى
الشافعي في الأم قال:
كان رسول الله يعلمنا كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول، قولوا:
التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
محمدا رسول الله.
تشهد عمر بن الخطاب: روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة
ابن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر
يقول، قولوا:
التحيات الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله.
ورواية السرخسي في المبسوط: التحيات الناميات الزاكيات المباركات
الطيبات لله.
قال مالك: أفضل التشهد تشهد عمر بن الخطاب، لأن عمر قاله على المنبر
بمحضر من الصحابة فلم ينكروه عليه إجماعا، ورواه أبو داود وابن مردويه مرفوعا.
تشهد أبي سعيد الخدري: التحيات الصلوات الطيبات السلام عليك أيها النبي
ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله. قال أبو سعيد: وكنا لا نكتب إلا القرآن والتشهد (1)!
تشهد جابر: وفي حديث جابر المرفوع عند النسائي وابن ماجة والترمذي في
العلل بلفظ: كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن " باسم الله
وبالله التحيات إلخ وصححه الحاكم.
تشهد عائشة: روى مالك في الموطأ عن عائشة زوج النبي أنها كانت تقول
إذا تشهدت: التحيات الطيبات الزاكيات لله. فتسقط (لله) عقب التحيات والصلوات

(1) ص 93 تقييد العلم للخطيب البغدادي.
83

بخلاف ما في حديث عمر وابن مسعود من إثباتهما، وهي مرفوعة، وزادت على
حديث عمر " وحده لا شريك له " وكذلك ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى
مرفوعا عند مسلم.
تشهد أبي موسى الأشعري: روى مسلم وأبو داود أن التشهد عند أبي موسى
" التحيات الطيبات الصلوات لله ". وفيه " وحده لا شريك له " (1).
تشهد سمرة بن جندب: التحيات الطيبات والصلوات والملك لله إلخ.
تشهد ابن عمر: روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتشهد
فيقول باسم الله (في أوله) التحيات لله الصلوات لله السلام على النبي بإسقاط (كاف
الخطاب ولفظ أيها) إلخ وقال فيه: " فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال السلام على
النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وهذه زيادة تكرير
في التشهد. ورواية " السلام على النبي " التي جاءت في هذا التشهد - قد وردت
في رواية البخاري عن ابن مسعود في " باب الاستئذان " فقد قال في آخره: وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله وهو بين ظهرانينا فلما قضى (صلى الله عليه وسلم) قلنا
السلام على النبي.
وقد علق ابن حجر على ذلك بقوله: ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود
ما يقتضي المغايرة بين زمانه (صلى الله عليه وسلم) فيقال بلفظ الخطاب وأما بعده
فيقال بلفظ الغيبة، وفي الاستئذان في صحيح البخاري من طريق أبي معمر عن ابن
مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا فلما قضى قلنا السلام
يعني على النبي.
وقال السبكي في شرح المنهاج: إن صح هذا عن الصحابة دل على أن الخطاب
في السلام بعد النبي غير واجب فيقال السلام على النبي - قال الحافظ قد صح
بلا ريب.

(1) عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال: صليت مع أبي موسى الأشعري وبعد الصلاة قال:
أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم. إن رسول الله خطبنا فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا وذكر
التشهد فإذا هو التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك إلخ ص 13 ج‍ 2 مسلم.
84

قال عبد الرازق: أخبرنا ابن جريج أخبرنا عطاء أن الصحابة كانوا يقرءون
والنبي " حي " السلام عليك أيها النبي فلما مات قالوا: السلام على النبي وهذا
إسناد صحيح.
ولهذا الاختلاف (1) قال القاضي: هذا يدل على أنه إذا أسقط لفظة هي
ساقطة في بعض التشهدات المروية صح التشهد، فعلى هذا يجوز أن يقال: أقل
ما يجزئ في التشهد " التحيات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله -
أو أن محمدا رسول الله ".
هذه تشهدات تعسة (2) وردت عن الصحابة وقد اختلفت ألفاظها، ولو أنها
كانت من الأحاديث القولية التي رويت بالمعنى لقلنا عسى! ولكنها من الأعمال المتواترة
التي كان يؤديها كل صحابي مرات كثيرة كل يوم وهم يعدون بعشرات الألوف،
ومما يلفت النظر أن كل صاحب تشهد يقول، إن الرسول كان يعلمه التشهد
كما يعلمهم القرآن، وأن تشهد عمر قد ألقاه من فوق منبر رسول الله والصحابة جميعا
يسمعون فلم ينكر عليه أحد منهم ما قال، كما ذكر مالك في الموطأ.
ومما يلفت النظر كذلك، أن هذه التشهدات على تباين ألفاظها وتعدد صيغها
وكثرة رواتها، قد خلت كلها من الصلاة على النبي فكأن الصحابة كانوا كما قال
إبراهيم النخعي يكتفون بالتشهد والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله.
ولقد اختلفت الأئمة في وجوب الصلاة على النبي في الصلاة المفروضة فأبو حنيفة
وأصحابه لا يوجبونها فيها وأما الشافعي فقد جعلها شرطا!
وفي البحر الزاخر لابن نجيم: وأما موجب الأمر في قوله تعالى: " صلوا عليه "
فهو افتراضها في العمر مرة واحدة في الصلاة أو خارجها، لأن الأمر لا يقتضي
التكرار وهذا بلا خلاف.

(1) ص 575 ج‍ 1 المغني والشرح الكبير.
(2) هذا ما أمكن إحصاؤه من التشهدات ولم يتفق أئمة الفقه على تشهد واحد منها بل اختلفوا فيها
فاختار أبو حنيفة وأحمد تشهد ابن مسعود واختار مالك تشهد عمر بن خطاب واختار الشافعي تشهد ابن
عباس.
85

وقد قال بذلك السرخسي في المبسوط وابن همام في شرح فتح القدير والقسطلاني
في إرشاد الساري. وقال القاضي عياض في الشفاء، وقد شذ الشافعي فقال من
لم يصل على فصلاته فاسدة، ولا سلطان له في هذا القول ولا سنة يتبعها، وشنع
عليه في ذلك جماعة منهم الطبري والقشيري، وخالفه من أهل مذهبه الخطابي
فقال إنها ليست بواجبة ولا أعلم له فيها قدوة، والتشهدات المرويات عن الصحابة
لم يذكر فيها ذلك أما حديث " لا صلاة لمن لم يصل على " فقد ضعفه أهل الحديث،
وحديث ابن مسعود " من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه " فقد قال الدارقطني إنه من قول أبي جعفر محمد الباقر بن علي وبن الحسين.
ونص قوله: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا على
أهل بيته لرأيت أنها لا تتم (1).
... وكلمة التوحيد
وما قاله هؤلاء الأئمة في الصلاة على النبي، قد جاء مثله في كلمة التوحيد
(لا إله إلا الله). قال العلامة سعيد بن حجى في رسالة " الكلام المنتقى فيما يتعلق
بكلمة التقوى - لا إله إلا الله ". وأما حكمها فقال " في فاكهة القلوب والأفواه ":
" أما المؤمن بالأصالة فيجب أن يذكرها مرة في عمره، وينوي بها الوجوب ". ولا نطيل
في ذلك حتى نستطرد إلى ما ليس من موضوعنا.
وقال الفقيه المحدث رشيد رضا رحمه الله عند كلامه على أحاديث أشراط
الساعة في تفسيره (2).
" لا شك في أن أكثر الأحاديث قد روى بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه
العلماء، ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى
المختصر منها، وما دخل على بعض هذه الأحاديث (في المدرجات) وهي ما يدرج
في اللفظ المرفوع من كلام الرواة فعلى هذا، كان يروي كل أحد ما فهمه، وربما

(1) ص 55 ج‍ 2 من الشفاء.
(2) ص 506 ج‍ 9.
86

وقع في فهمه الخطأ وربما فسر بعض ما فهمه، بألفاظ يزيدها، إلى أن قال:
فهل من الغرابة أن يقع الخلط والتعارض فيما يروى عنه بالمعنى بقدر فهم الرواة؟
وسئل رحمه الله عن رأيه فيمن قال: إنه لم يثبت عن النبي إلا 12 أو 14
حديثا فأجاب (1):
هذا القول غير صحيح، ولم يقل به أحد بهذا اللفظ، وإنما قيل هذا أو ما دونه،
في الأحاديث التي تواتر لفظها.
ولا بأس من أن نثبت هنا كلمة لنا نشرناها في العدد 957 من مجلة الرسالة
الصادر في 5 نوفمبر سنة 1951 تصحيحا لما نشره الأستاذ عبد السلام هارون في
كتاب البيان والتبيين للجاحظ وها هي ذي:
هو سماع الحديث لا سماع الغناء!
يعثر الإنسان أحيانا أثناء مطالعاته في الصحف على أشياء تستدعي النقد،
وتستوجب التصحيح فيتجاوزها ولا يعني بها، لأنه إذا تولى نقد أو تصحيح كل
ما يعثر عليه من الغلط فإنه لا يجد من الوقت ما يسعه، ولا من هدوء البال ما يعينه،
وقد ينشط أحيانا فينهض لبيان ما يجد من خطأ، وبخاصة عندما يقف على أمر
لا يصح السكوت عليه أو الإغضاء عنه.
ومن ذلك أني كنت أقرأ في الجزء الثاني من كتاب " البيان والتبيين " للجاحظ
الذي خرج بتحقيق وشرح الأستاذ عبد السلام هارون فإذا بي أجد في الصفحة
322 من هذا الجزء ما يلي:
" وقال ابن عون: أدركت ثلاثة يتشددون في السماع، وثلاثة يتساهلون (في
المغانى) فأما الذين يتساهلون، فالحسن والشعبي والنخعي، وأما الذين يتشددون،
فمحمد بن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حياة (2) ".
وقد حسب الأستاذ هارون أن السماع في هذا الخبر هو سماع الأغاني! فآثر

(1) ص 260 ج‍ 34 من مجلة المنار.
(2) راجع صفحة 77 من هذا الكتاب.
87

كلمة " المغانى " بالمعجمة التي وجدها في بعض نسخ الأصول، على لفظها بالمهملة
التي جاءت بأصول أخرى، وأخذ يفسرها على ما ظن تفسيرا لا أدري إن كان
يرضى أئمة اللغة أم يغضبهم!
فقال في شرح الكلمة: " المغانى جمع مغنى مصدر ميمي من غنى يغنى! وفي
التيمورية المعاني بالمهملة تحريف، أي أن هذه الكلمة قد جاءت في نسخة مكتبة
كوبرلى والنسخة التيمورية بالمهملة وهو تحريف.
والذي قال عنه الأستاذ إنه تحريف هو الصحيح، وإن صحة الكلمة المعاني
بالمهملة كما جاءت بهاتين النسختين، والسماع هنا هو سماع الحديث النبوي،
لا سماع الأغاني!
وقد جاءت عبارة ابن عون هذه، لأن نقل حديث رسول الله على حقيقة لفظه
أو بمعناه، كان موضع خلاف بين الصحابة، ثم امتد هذا الخلاف إلى التابعين
ومن بعدهم، فكان من الصحابة الذين يجوزون رواية الحديث بالمعنى، كما يقولون،
على وابن عباس وأنس وجماعة معهم. وكان الذي يمنع ذلك ابن عمر، أما التابعون
فكان الذين يتشددون في رواية الحديث على لفظه محمد بن سيرين والقاسم
ابن محمد ورجاء بن حياة، والذين يتساهلون في ذلك الحسن والشعبي والنخعي (1)،
ومن هنا جاءت كلمة ابن عون التي رواها الجاحظ وأخطأ في فهمها الأستاذ
عبد السلام هارون...
المنصورة محمود أبو ريه

(1) ص 80 ج‍ 1 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وص 308 توجيه النظر، وقد ذكر
لابن سيرين أن الحسن والشعبي والنخعي يروون بالمعنى فقال، إنهم لو حدثوا كما سمعوا لكان أفضل،
ص 206 من الكفاية للخطيب.
88

أمثلة من رواية الحديث بالمعنى
حديث الإسلام والإيمان
روى مسلم عن طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد
ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله فإذا هو
يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل
على غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل على
غيره؟ فقال: لا إلا أن تطوع. وذكر له رسول الله الزكاة. فقال، هل على
غيرها؟ فقال: لا، إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد
على هذا، ولا أنقص منه. فقال رسول الله أفلح إن صدق، وفي رواية أخرى
أفلح وأبيه إن صدق، وفي رواية ثالثة دخل الجنة وأبيه إن صدق.
وعن أبي هريرة في حديث جبريل.
قال رسول الله: سلوني فهابوه فجاء رجل فجلس عند ركبتيه وقال: يا رسول
الله ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئا. وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم
رمضان. قال: صدقت، ثم قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله
وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالغيب، وتؤمن بالقدر كله قال: صدقت،
قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن
تراه فإنه يراك إلخ. وقد تكلمنا عن هذا الحديث في كتابنا " شيخ المضيرة " فيرجع
إليه ويقرأ ما قاله الدكتور طه حسين فيه (1).
وعن أبي أيوب (2) قال: جاء رجل إلى النبي فقال: دلني على عمل أعمله
يدنيني من الجنة، ويباعدني من النار. قال: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم
الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك. قال رسول الله: إن تمسك بما أمر به
دخل الجنة.

(1) ص 211 و 212 مرآة الإسلام.
(2) هو خالد بن زيد الأنصاري، ص 172 ج‍ 1 شرح النووي على مسلم وص 119 من كتاب
المعارف لابن قتيبة.
89

وفي رواية ابن أبي شيبة إن تمسك به.
وعن أبي هريرة: أن أعرابيا جاء إلى رسول الله فقال يا رسول الله، دلني على
عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة
المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال والذي نفسي بيده،
لا أزيد على هذا شيئا ولا أنقص منه. فلما ولى قال النبي: من سره أن ينظر إلى
رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
قال الإمام النووي معلقا على هذه الأحاديث ما نصه (1): " اعلم أنه لم يأت
في حديث طلحة - ذكر (الحج) ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية
أبي هريرة، وكذا غير هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها " الصوم " ولم يذكر في
بعضها " الزكاة " وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع
في بعضها ذكر " الإيمان " - فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان
زيادة ونقصا وإثباتا وحذفا.
وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو
ابن الصلاح وهذبه فقال: ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله. بل هو من
تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه
ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وإن كان اقتصاره على ذلك يشعر بأنه
(الكل) فقد بان بما أتى به غيره من الثقات أن ذلك ليس " بالكل " وأن اقتصاره
عليه كان لقصور حفظه عن تمامه. ألا ترى حديث النعمان بن توقل الذي اختلفت
الرواية في خصاله بالزيادة والنقصان، مع أن راوي الجميع راو واحد؟!
وهذا هو حديث النعمان بن توقل (2): عن أبي سفيان عن جابر أتى
النبي (صلى الله عليه وسلم) النعمان بن توقل فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت
المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال أأدخل الجنة؟
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): نعم.

(1) ص 215 ج‍ 1 شرح النووي لمسلم على هامش القسطلاني.
(2) ص 175 ج 1 شرح النووي على مسلم.
90

وعن الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال: قال النعمان بن
توقل: يا رسول الله بمثله، وزادا فيه، ولم أزد على ذلك شيئا.
حديث زوجتكها بما معك (1)
جاءت امرأة إلى النبي وأرادت أن تهب نفسها له، فتقدم رجل فقال:
يا رسول الله: أنكحنيها؟ ولم يكن معه من المهر غير بعض القرآن، فقال له النبي:
أنكحتكها بما معك من القرآن، وفي رواية: " قد زوجتكها بما معك من القرآن "
وفي رواية ثالثة: " زوجتكها على ما معك " وفي رواية رابعة: " قد ملكتكها بما
معك "، وفي رواية خامسة: " قد ملكتكها بما معك من القرآن " وفي رواية
سادسة: " أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها "، وفي رواية سابعة: " أمكناكها.. ".
وفي رواية ثامنة: " خذها بما معك " فهذه اختلافات ثمانية - في لفظة واحدة.
قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة واختلف فيها مع اتحاد
مخرج الحديث! وقال العلائي: من المعلوم أن النبي لم يقل هذه الألفاظ كلها تلك
الساعة فلم يبق إلا أن يكون قال لفظة منها، وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، فمن قال
بأن النكاح ينعقد بلفظ التملك ثم احتج بمجيئه في هذا الحديث، إذا عورض ببقية
الألفاظ لم ينتهض احتجاجه! فإن جزم بأنه هو الذي تلفظ به النبي - ومن قال
غيره ذكره بالمعنى! - قلبه عليه مخالفه وادعى ضد دعواه، فلم يبق إلا الترجيح
بأمر خارجي.
وهذا الحديث ومثله كان مما دعا سيبويه وغيره إلى عدم جعلهم الحديث من
شواهدهم في إثبات اللغة والنحو كما ستراه في محله من هذا الكتاب.

(1) لم نعرض هنا لاختلافات الفقهاء في حكم هذا الحديث بسبب اختلاف ألفاظه فارجع إليها في كتبهم لترى كيف تفعل الرواية بالمعنى، ويراجع من ص 168 إلى ص 176 ج‍ 9 فتح الباري.
91

حديث الصلاة في بني قريظة
روى البخاري عن ابن عمر أن النبي قال يوم الأحزاب: لا يصلين أحد
" العصر " إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم
لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكروا ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري
ووقع في جميع النسخ عند مسلم " الظهر " مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته
عن شيخ واحد بإسناد واحد، وقد وافق مسلما أبو يعلى وآخرون، وكذا أخرجه
ابن سعد، وأما أصحاب المغازي فقد اتفقوا على أنها العصر.
ثم قال ابن حجر بعد ذلك: إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ
كما عرف من مذهبه (1) في تجويز ذلك، بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ
كثيرا، ولم يجوز مثله لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري.
وقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه
إلى كتب السنة.
قال العراقي في شرح ألفيته:
إن البيهقي في السنن والمعرفة والبغوي في شرح السنة وغيرهما، يروون الحديث
بألفاظهم وأسانيدهم، ثم يعزونه إلى البخاري ومسلم مع اختلاف الألفاظ والمعاني،
فهم إنما يريدون أصل الحديث لا عزو ألفاظه ا ه‍.

(1) الذي قاله ابن حجر عن البخاري يؤيده ما رواه الخطيب البغدادي عن البخاري قال: رب
حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر، فقيل له يا أبا عبد الله،
بكماله. قال: فسكت (ص 11 ج‍ 2 من تاريخ الخطيب). وقال: حيدر بن أبي جعفر والى بخارى:
قال لي محمد بن إسماعيل يوما: رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته
بمصر، فقلت له: يا أبا عبد الله، بتمامه؟ فسكت (ص 201 ج‍ 2 هدى الساري مقدمة فتح الباري).
ويراجع الكلام عن كتاب البخاري بين كتب الحديث المشهورة في الفصل الذي عقدناه لذلك في كتابنا هذا.
92

ومن هذا القبيل قول النووي في حديث " الأئمة من قريش " أخرجه الشيخان
مع أن لفظ الصحيح " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " وبين
اللفظين والمعنيين تفاوت عظيم كما ترى ا ه‍.
حديث تأبير النخيل
روى مسلم في كتابه عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول
الله بقوم على رؤوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقلت: يلقحونه، يجعلون
الذكر في الأنثى فتلقح! فقال رسول الله: ما أظن يغني ذلك شيئا! قال: فأخبروا
بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني
ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به،
فإني لن أكذب على الله عز وجل.
وعن رافع بن خديج قال: قدم نبي الله المدينة وهم يأبرون النخل فقال:
ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا، قال: فتركوه
فنفضت، أو قال فنقصت، قال: فذكروا ذلك له فقال: إنما أنا بشر إذا
أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا بشر. رواه
مسلم والنسائي.
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وعن أنس، أن النبي مر بقوم يلقحون
فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا: فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟
قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم.
وفي رواية أحمد: ما كان أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم
أعلم به، وفي رواية رويت عن ابن رشد في كتاب التحصيل والبيان " ما أنا بزارع
ولا صاحب نخل ".
93

حديث صحيفة علي رضي الله عنه
هذا الحديث رواه الجماعة أحمد والشيخان وأصحاب السنن بألفاظ مختلفة.
أما البخاري فقد رواه عن أبي جحيفة في كتاب العلم بلفظ قلت لعلي: هل عندكم
كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهما أعطيه رجلا مسلما، أو ما في هذه
الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل
مسلم بكافر. ورواية الكشميهني " وإن لا يقتل " إلخ.
وفي كتاب الجهاد بلفظ: قلت لعلي هل عندكم شئ من الوحي، إلا ما في
كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، وما أعلمه إلا فهما يعطيه
الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة؟ قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال
العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وفي باب الديات: سألت عليا رضي الله عنه: هل عندكم شئ مما ليس في
القرآن؟ فقال، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما
يعطى رجل في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال:
العقل وفكاك الأسير إلخ.
وفي باب حرم المدينة من كتاب الحج عن إبراهيم التيمي عن أبيه بلفظ
ما عندنا شئ إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) " المدينة
حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل " وقال: " ذمة المسلمين
واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف
ولا عدل، ومن تولى بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين،
لا يقبل منه صرف ولا عدل ".
وفي باب ذمة المسلمين من كتاب الجزية بلفظ، خطبنا علي فقال: ما عندنا
كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، قالوا، وما في هذه الصحيفة
فقال، فيها الجراحات وأسنان الإبل والمدينة حرام ما بين عير إلى كذا فمن أحدث
94

فيها حدثا، أو آوى فيها محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه
صرف ولا عدل، ومن تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك، وذمة المسلمين واحدة،
فمن أخفر مسلما فعليه مثل ذلك.
وفي باب إثم من عاهد ثم غدر بلفظ، عن علي قال: ما كتبنا عن النبي
(صلى الله عليه وسلم) إلا القرآن وما في هذه الصحيفة: قال النبي (صلى الله عليه
وسلم): المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة
يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين،
لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل.
وفي باب إثم من تبرأ من مواليه بلفظ: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله
وغير هذه الصحيفة، وأخرجها فإذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل، وفيها -
المدينة حرام إلخ وذكر مسألة الولاء فمسألة الذمة بمثل ما تقدم.
وفي باب كراهة التعمق والتنازع والغلو في الدين من كتاب الاعتصام بلفظ:
خطبنا علي على منبر من آجر فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب
الله وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم من
عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله... وذمة المسلمين واحدة يسعى
بها أدناهم فمن أخفر فعليه... وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه...
(إلا أنه قال): لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (هذه روايات البخاري).
وروايات مسلم وأصحاب السنن بمعنى روايات البخاري - وصرح مسلم بحدي
المدينة، وهما عير وثور (جبلان) وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث
علي رضي الله عنه من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه: إن الصحيفة كانت مشتملة
على كل ما ورد - أي فكان يذكر كل راو منها شيئا، إما لاقتضاء الحال ذكره
دون غيره، وإما لأن بعضهم لم يحفظ كل ما فيها، أو لم يسمعه، ولا شك أنهم
نقلوا ما نقلوه بالمعنى دون التزام اللفظ كله، ولذلك وقع الخلاف في ألفاظهم،
ولم يقل الرواة " إنه قرأها عليهم " برمتها فحفظوها أو كتبوها عنه بل (تدل ألفاظهم)
95

على أنه كان يذكر ما فيها أو بعضه من حفظه، ومن قرأها لهم كلها أو بعضها
لم يكتبوها، بل حدثوا بما حفظوا، ومنه ما هو من لفظ الرسول (صلى الله عليه وسلم)
ومنه ما هو إجمال للمعنى كقوله " العقل وفكاك الأسير " فإن المراد بالعقل دية القتل
وسميت عقلا لأن الأصل فيها أن تكون إبلا تعقل أي تربط بالعقل في فناء دار
المقتول أو عصبته المستحقين لها، وقوله (أسنان الإبل) في بعض الروايات، معناه
ما يشترط في أسنان إبل الدية أو الصدقة إلخ... وجملة القول: أننا لا نعلم أن
أحدا كتب عن أمير المؤمنين ما كان في تلك الصحيفة بنصه، ولا أنه هو كتبها
بأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) لأنه قال في رواية قتادة عن أبي حسان إنه سمع
شيئا فكتبه. ا ه‍ باختصار.
وإذا كان لنا من كلمة نعلق بها على أمر هذه الصحيفة المنسوبة إلى علي رضي
الله عنه - وما جاء فيها من روايات مختلفة في كتب الحديث فهي أننا لا نطمئن إلى
ما جاء فيها من روايات مهما كان رواتها، وبحسبك أن تجد ابن حجر قد قال في
هذه الروايات ما قال.
ومرد شكنا إلى أن عليا رضي الله عنه إذا كان قد أراد أن يكتب عن رسول
الله ما يراه نافعا للدين وللمسلمين فلا تكفيه مثل هذه الصحيفة التي كان يضعها
كما يقولون في قراب سيفه وإنما كان يكتب آلاف الأحاديث في جميع ما يهم
المسلمين وهو صادق في كل ما يكتب إذا أراد، على أننا قد أفدنا من أخبار
هذه الصحيفة فائدة كبيرة إذ أثبتت لنا كيف تفعل الرواية بالمعنى فعلها،
وأنها كانت ضررا على الدين وعلى اللغة والأدب كما سنبينه قريبا إن شاء الله.
ونختم هذا الفصل بكلمة صغيرة جامعة للحافظ ابن كثير جاءت في كتاب
الباعث الحثيث (1)، قال بعد أن تكلم عمن جوزوا رواية الحديث بالمعنى:
" ومنع الرواية بالمعنى طائفة آخرون من المحدثين والفقهاء والأصوليين، وشددوا
في ذلك آكد التشديد - وكان ينبغي أن يكون هذا هو الواقع، ولكن لم يتفق ذلك "
وذلك لأن الذي جرى عليه الأمر، هو رواية الحديث بالمعنى، وهو ما تجده في

(1) ص 165 و 166 من كتاب الباعث الحثيث.
96

جميع كتب الحديث بلا استثناء. وستعرف من تاريخ البخاري أنه ممن كانوا يروون
بالمعنى - ويراجع فصل " موقف النحاة من كتب الحديث " في موضعه من هذا الكتاب.
ضرر رواية الحديث بالمعنى
لما كانت أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) قد جاء نقلها بالمعنى -
كما بينا من قبل - وأنهم قد أباحوا لرواتها أن يزيدوا فيها ويختصروا منها، وأن يقدموا
ويؤخروا في ألفاظها - بله ما سوغوه من قبول الملحون منها - لما كان الأمر قد
جرى على ذلك فقد نشأ من أثر ذلك كله - ولا جرم وبخاصة بسبب نقل الحديث
بالمعنى - ضرر عظيم.
وقال العلامة الجزائري في كتابه " توجيه النظر " (1).
[بعد البحث والتتبع تبين أن كثيرا ممن روى بالمعنى قد قصر في الأداء ولذلك
قال بعضهم: ينبغي سد باب الرواية بالمعنى لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه
يحسن، كما وقع لكثير من الرواة قديما وحديثا. وقد نشأ عن الرواية بالمعنى ضرر
عظيم حتى عد من جملة أسباب اختلاف الأمة، قال بعض المؤلفين (2) في ذلك في مقدمة
كتابه: إن الخلاف قد عرض للأمة من " ثمانية أوجه "، وجميع وجوه الخلاف
متولدة منها، ومتفرعة عنها. " الأول " منها اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة،
" الثاني " الحقيقة والمجاز، " الثالث " الإفراد والتركيب، " الرابع " الخصوص والعموم،
" الخامس " الرواية والنقل، " السادس " الاجتهاد فيما لا نص فيه، " السابع " الناسخ
والمنسوخ، " الثامن " الإباحة والتوسيع - وقال في باب الخلاف العارض من جهة
الرواية والنقل: هذا الباب لا تتم الفائدة التي قصدناها منه إلا بمعرفة العلل التي
تعرض للحديث فتحيل معناه، فر بما أوهمت فيه معارضة بعضه لبعض، وربما
ولدت فيه إشكالا يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد. ونحن نذكر العلل كم هي؟

(1) ص 337 وما بعدها.
(2) ظللنا نبحث عن هذا المؤلف حتى وجدنا أنه أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي
الأندلسي المتوفى سنة 521 وهذا الكلام في كتابه " الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف
بين المسلمين في آرائهم "، وقد طبع في مصر سنة 1319 مصححا بقلم الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري.
أضواء على السنة المحمدية
97

ونذكر من كل نوع منها مثالا أو أمثلة يستدل بها على غيرها إن شاء الله (1).
قال البطليوسي: اعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وعن أصحابه والتابعين لهم، تعرض له " ثماني علل " - أولاها: فساد الإسناد، (الثانية)
من جهة نقل الحديث على معناه دون لفظه، (والثالثة) من جهة الجهل بالإعراب،
(والرابعة) من جهة التصحيف، (والخامسة) من جهة إسقاط شئ في الحديث
لا يتم المعنى إلا به، (والسادسة) أن ينقل المحدث الحديث ويغفل نقل السبب
الموجب له، أو بسط الأمر الذي جر ذكره، (السابعة) أن يسمع المحدث بعض
الحديث ويفوته سماع بعضه، (الثامنة) نقل الحديث من الصحف دون المشايخ (2).
العلة الأولى
وهي فساد الإسناد، وهذه العلة أشهر العلل عند الناس حتى
إن كثيرا منهم يتوهم (3) أنه إذا صح الإسناد صح الحديث! وليس كذلك فإنه
قد يتفق أن يكون رواة الحديث مشهورين بالعدالة، معروفين بصحة الدين
والأمانة، غير مطعون عليهم، ولا مستراب بنقلهم، ويعرض مع ذلك لأحاديثهم
أعراض على وجوه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك - والإسناد يعرض له الفساد
من أوجه: (منها) الإرسال وعدم الاتصال، (ومنها) أن يكون بعض
رواته صاحب بدعة، أو متهما بكذب وقلة ثقة، أو مشهورا ببله وغفلة، أو يكون
متعصبا لبعض الصحابة منحرفا عن بعضهم، فإن كان مشهورا بالتعصب ثم روى
حديثا في تفضيل من يتعصب له، ولم يرد من غير طريقه، لزم أن يستراب به،
وذلك أن إفراط عصبية الإنسان لمن يتعصب له وشدة محبته يحمله على افتعال
الحديث، وإن لم يفتعله بدله وغير بعض حروفه... ومما يبعث على الاسترابة

(1) وننقل هذه العلل باختصار من أصل كتاب البطليوسي.
(2) قد لا يصح أن يعد ذلك من علل الحديث، فقد ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل
بالحديث على سماعه. وقال أبو إسحاق الأسفرائيني: الإجماع على جواز النقل من الكتاب المعتمدة، وقال
الطبري: من وجد حديثا في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به، وكذلك قال العز بن عبد السلام.
(3) ومنهم حشوية دهرنا الذين يظهرون بين الناس في لباس العلماء.
98

بنقل الناقل أن يعلم منه حرص على الدنيا وتهافت على الاتصال بالملوك ونيل المكانة
والحظوة عندهم - فإن من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغيير والتبديل والافتعال
للحديث والكذب حرصا على مكسب يحصل عليه (1). وقد نبه رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) على نحو هذا الذي ذكرنا بقوله: إن الأحاديث ستكثر بعدي
كما كثرت عن الأنبياء قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه
كتاب الله فهو عني قلته أو لم أقله.
وقد روي أن قوما من الفرس واليهود (2) وغيرهم لما رأوا الإسلام قد ظهر وعم
ودوخ وأذل جميع الأمم، ورأوا أنه لا سبيل إلى مناصبته، رجعوا إلى الحيلة والمكيدة
فأظهروا الإسلام من غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف، فلما حمد
الناس طريقتهم ولدوا الأحاديث والمقالات، وفرقوا الناس فرقا...
وإذا كان عمر بن الخطاب يتشدد في الحديث ويتوعد عليه والزمان زمان،
والصحابة متوافرون، والبدع لم تظهر، والناس في القرن الذي أثنى عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بالحال في الأزمنة التي ذمها! وقد كثرت البدع
وقلت الأمانة...
العلة الثانية
وهي نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه - وهذا الباب
يعظم الغلط فيه جدا. وقد نشأت منه بين الناس شغوب شنيعة، وذاك أن أكثر
المحدثين لا يراعون ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم التي نطق بها، وإنما ينقلون إلى
من بعدهم معنى ما أراده بألفاظ أخرى، ولذلك نجد الحديث الواحد في المعنى
الواحد يرد بألفاظ شتى، ولغات مختلفة، يزيد بعض ألفاظها على بعض.
على أن اختلاف ألفاظ الحديث قد تعرض من أجل تكرير النبي (صلى الله
عليه وسلم) له في مجالس عدة مختلفة وما كان من الحديث بهذه الصفة فليس

(1) كما هو شأن بعضهم في عصرنا.
(2) مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام.
99

كلامنا فيه، وإنما كلامنا في اختلاف الألفاظ التي تعرض من أجل نقل الحديث
على المعنى. ووجه الغلط الواقع من هذه الجهة، أن الناس يتفاضلون في صورهم
وألوانهم وغير ذلك من أمورهم وأحوالهم، فربما اتفق أن يسمع الراوي الحديث من
النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره، فيتصور معناه في نفسه على غير الجهة التي
أرادها، وإذا عبر عن ذلك المعنى الذي تصور في نفسه بألفاظ أخرى، كان
قد حدت بخلاف ما سمع من غير قصد منه إلى ذلك - وذلك أن الكلام الواحد
قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد تكون فيه اللفظة المشتركة التي تقع على الشئ
وضده، كقوله صلى الله عليه وسلم: " قصوا الشارب واعفوا اللحى " ففي مثل
هذا يجوز أن يذهب النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المعنى الواحد ويذهب
الراوي عنه إلى المعنى الآخر، فإذا أدى معنى ما سمع دون لفظه بعينه،
كان قد روى عنه ضد ما أراده غير عامد، ولو أدى لفظه بعينه، لأوشك أن
يفهم منه الآخر ما لم يفهم الأول، وقد علم (صلى الله عليه وسلم) أن هذا سيعرض
بعده فقال محذرا من ذلك: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها.
فرب مبلغ أوعى من سامع "...
العلة الثالثة
وهي الجهل بالإعراب ومباني كلام العرب ومجازاتها، وذلك أن كثيرا
من رواة الحديث قوم جهال باللسان العربي لا يفرقون بين المرفوع والمنصوب
والمخفوض. ولعمري لو أن العرب وضعت لكل معنى لفظا يؤدى عنه لا يلتبس
بغيره، لكان لهم عذر في ترك تعلم الإعراب، ولم يكن بهم حاجة إليه في معرفة
الخطأ من الصواب. ولكن العرب قد تفرق بين المعنيين المتضادين بالحركات فقط،
واللفظ واحد - ألا ترى أن الفاعل والمفعول ليس بينهما أكثر من الرفع والنصب -
فربما حدث المحدث بالحديث، فرفع لفظة منه ينوي بها أنها فاعلة، ونصب أخرى
ينوي بها أنها مفعولة، فنقل عنه السامع ذلك الحديث فرفع ما نصب ونصب ما رفع
جهلا منه بما بين الأمرين فانعكس المعنى إلى ضد ما أراده المحدث الأول.
100

العلة الرابعة
وهي التصحيف (1)، وهي أيضا باب عظيم الفساد في الحديث
جدا - وذلك أن كثيرا من المحدثين لا يضبطون الحروف، ولكنهم يرسلونها إرسالا
غير مقيدة ولا مثقفة اتكالا على الحفظ، فإذا غفل المحدث عما كتب مدة من
زمانه ثم أحتاج إلى قراءة ما كتب، أو قرأه غيره، فربما رفع المنصوب، ونصب
المرفوع - فانقلبت المعاني إلى أضدادها، وربما تصحف له الحرف بحرف آخر
لعدم الضبط فيه، فانعكس المعنى إلى نقيض المراد به - وذلك أن هذا الخط العربي
شديد الاشتباه، وربما لم يكن بين المعنيين المتضادين غير الحركة أو النقطة،
كقولهم مكرم بكسر الراء إذا كان فاعلا، ومكرم بفتح الراء إذا كان مفعولا، ورجل
أفرع بالفاء إذا كان تام الشعر، وأقرع بالقاف لا شعر في رأسه. وفي الحديث -
كان رسول الله أفرغ. وقد جاءت من هذا الباب أشياء طريفة من المحدثين نحو
ما يروى عن يزيد بن هارون أنه روي: كنا جلوسا حول بشر بن معاوية وإنما هو
حول بسر بن معاوية، وكما روى عبد الرزاق: يقاتلون خور كرمان، وإنما هو خوز
(بالزاي معجمة).
وهذا النوع كثير جدا وقد وضع فيه الدارقطني رحمه الله كتابا مشهورا سماه
" تصحيف الحفاظ ".
ومن ظريف ما وقع منه في كتاب مسلم ومسنده الصحيح: نحن يوم القيامة
على كذا - أنظر - وهذا شئ لا يتحصل له معنى، وهكذا تجده في كثير من
النسخ وإنما هو " نحن يوم القيامة على كوم) والكوم جمع كومة وهو المكان

(1) وقال ابن الصلاح في مقدمته عن التصحيف ما يلي، معرفة المصحف من أسانيد الأحاديث
ومتونها فن جليل ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ، والدارقطني منهم وله فيه تصنيف مفيد، وروينا
عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه قال: ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟ وأتى ابن الصلاح بمثال
للتصحيف في السنن، ما رواه ابن لهيعة عن كتاب موسى بن عقبة بإسناده إليه عن زيد بن ثابت أن
رسول الله احتجم في المسجد وإنما هو بالراء - احتجر في المسجد بخص أو حصير حجرة يصلي فيها فصحفه
ابن لهيعة (ص 114).
101

المشرف. فصحفه بعض النقلة فكتب: نحن يوم القيامة على كذا، فقرأ من قرأ
فلم يفهم ما هو! فكتب في طرة الكتاب: انظر - يأمر قارئ الكتاب بالنطر
فيه وينبهه عليه، فوجده ثالث فظنه من الكتاب فألحقه بمتنه.
العلة الخامسة
وهي إسقاط شئ من الحديث لا يتم إلا به: وهذا النوع أيضا قد وردت منه
أشياء كثيرة في الحديث كنحو ما رواه قوم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل
عن ليلة الجن، فقال: ما شهدها منا أحد - وروي عنه من طريق آخر أنه رأى قوما
من الزط فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن. فهذا الحديث يدل على
أنه شهدها - والأول يدل على أنه لم يشهدها - فالحديثان كما ترى متعارضان - وإنما
أوجب التعارض بينهما - إن الذي روى الحديث الأول أسقط منه كلمة رواها
غيره - وإنما الحديث - ما شهدها منا أحد غيري.
العلة السادسة
وهي أن ينقل المحدث الحديث ويغفل عن نقل السبب الموجب له فيعرض من
ذلك إشكال في الحديث أو معارضة لحديث آخر، كنحو ما رواه قوم من أن النبي
صلى الله عليه وسلم أتى بالعرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وأغاروا على لقاحه فأمر
بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركوا بالحرة يستسقون فلا يسقون حتى
ماتوا. وقد وردت عنه الروايات من طرق شتى أنه نهى عن المثلة -
وإنما عرض هذا التعارض من أجل أن الذي روى الحديث الأول أغفل نقل سببه
الذي أوجبه، ورواه غيره فقال إنما فعل بهم ذلك لأنهم مثلوا برعائه فجازاهم بمثل
فعلهم...
102

العلة السابعة
وهي أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه: كنحو ما روي
من أن عائشة رضي الله عنها، أخبرت أن أبا هريرة حدث أن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) قال: " إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس (1) "، وهذا
الحديث معارض لقوله (صلى الله عليه وسلم): " لا عدوي ولا هامة ولا صفر ولا غول " -
وقد روي في أحاديث عنه كثيرة أنه (صلى الله عليه وسلم) نهى عن التطير، فغضبت
عائشة (رضي الله عنها) وقالت: والله ما قال هذا رسول الله قط، وإنما قال:
" أهل الجاهلية يقولون إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس "، فدخل
أبو هريرة فسمع الحديث ولم يسمع أوله - وهذا غير منكر أن يعرض لأن النبي
(صلى الله عليه وسلم) كان يذكر في مجلسه الأخبار حكاية ويتكلم بما لا يريد به
أمرا ولا نهيا ولا أن يجعله أصلا في دينه وشيئا يستسن به، وذلك معلوم من فعله،
مشهور من قوله.
العلة الثامنة
وهي نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ والسماع عن الأئمة - وهذا
باب عظيم البلية والضرر في الدين فإن كثير من الناس يتسامحون فيه جدا وأكثرهم
إنما يعول على إجازة الشيخ له دون لقائه، والضبط عليه يأخذ بعد ذلك علمه من
الصحف المسودة والكتب التي لا يعلم بصحتها من سقمها.
وربما كانت مخالفة لرواية شيخه، فيصحف الحروف، ويبدل الألفاظ،
وينسب جميع ذلك إلى شيخه ظالما له - وقد صار علم أكثر الناس في زماننا
هذا على هذه الصفة ليس بأيديهم من العلم غير أسماء الكتب ا ه‍ باختصار (2).

(1) أنظر القول المفصل في الحديث وأشباهه في كتابنا " شيخ المضيرة ".
(2) ص 100 وما بعدها.
103

إلى هنا ينتهي ما نقلناه من كتاب البطليوسي عن الخلاف العارض بين المسلمين
من جهة الرواية، ونعود إلى العلامة الجزائري الذي وقف ينتظرنا لكي يسمعنا ما بقي
من كلامه عن ضرر رواية الحديث بالمعني فإذا به يقول:
واعلم أن الرواية بالمعنى قد أحس بضررها كثير من العلماء وشكوا منها على
اختلاف علومهم، غير أن معظم ضررها كان في الحديث والفقه لعظم أمرهما.
وقد نسب لكثير من العلماء الأعلام أقوال بعيدة عن السداد جدا اتخذها كثير من
خصومهم ذريعة للطعن فيهم والإزراء بهم، ثم تبين بين البحث الشديد والتتبع أنهم
لم يقولوا بها، وإنما نشأت نسبتها إليهم من أقوال رواها الراوي عنهم بالمعنى، فقصر
في التعبير عما قالوه فكان من ذلك ما كان.
هذا وقد تعرض العلامة النحرير نجم الدين أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي
للضرر الذي نشأ من الرواية بالمعنى في مذهبه فقال في آخر كتاب " صفة المفتي "
في باب جعله لبيان عيوب التأليف وغير ذلك ليعرف المفتي كيف يتصرف في المنقول
ويقف على مراد القائل بما يقول، ليصح نقله للمذهب وعزوه إلى الإمام أو إلى
بعض من إليه ينسب.
" اعلم أن أعظم المحاذير في التأليف النقلي إهمال نقل الألفاظ بأعيانها والاكتفاء
بنقل المعاني مع قصور الناقل عن استيفاء مراد المتكلم الأول بلفظه، وربما كانت
بقية الأسباب مفرعة عنه، لأن القطع بحصول مراد المتكلم بكلامه، أو الكاتب
بكتابته مع ثقة الراوي، تتوقف على انتفاء الاضمار والتخصيص والنسخ، والتقديم
والتأخير، والاشتراك والتجوز والتقدير، والنقل، والمعارض العقلي، فكل نقل
لا يؤمن معه حصول بعض الأسباب، لا نقطع بانتفائها نحن ولا الناقل، ولا نظن
عدمها، ولا قرينة تنفيها ولا نجزم فيه بمراد المتكلم، بل ربما ظنناه أو توهمناه -
ولو نقل لفظه بعينه وقرائنه وتأريخه وأسبابه (1) انتفى هذا المحذور أو أكثره، وهذا
من حيث الإجمال، وإنما يحصل الظن به حينئذ بنقل المتحري، فيعذر تارة لدعوى
الحاجة إلى التصرف لأسباب ظاهرة، ويكفي ذلك في الأمور الظنية وأكثر المسائل

(1) آه لو كان كل ذلك يتحقق!
104

الفروعية (1) ا ه‍.
وإليك كلمات قيمة في رواية الحديث نستوفي بها هذا الفصل المهم من كتابنا:
قال الخطابي: ولا يبدل لفظ بأظهر منه، إذ الشارع ربما قصد باللفظ
الجلي تارة، وبالخفي أخرى، وكذا بالعكس.
وقال ابن حزم: وحكم الخبر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يورد بنص
لفظه، لا يبدل ولا يغير إلا في حال واحدة - وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه،
وعرف معناه يقينا، فيسأل فيفتى بمعناه وموجبه فيقول: حكم رسول الله بكذا،
وأباح عليه السلام كذا، ونهى عن كذا، وحرم كذا، والواجب في هذه القضية
ما صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو كذا، وكذلك القول فيما جاء من الحكم
في القرآن ولا فرق، وجائز أن يخبر المرء بموجب الآية: ويحكيها بغير لفظها - وهذا
ما لا خلاف فيه من أحد في أن ذلك مباح، وأما من حدث وأسند القول إلى
النبي (صلى الله عليه وسلم) وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي (صلى الله عليه وسلم)
فلا يحل له إلا تحري الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفا مكان آخر، وإن كان
معناهما واحدا، ولا يقدم حرفا ولا يؤخر آخر - وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها
ولا فرق. وبرهان ذلك، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) علم البراء بن عازب دعاء
وفيه " ونبيك " الذي أرسلت، فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي قال
وبرسولك الذي أرسلت، فقال النبي: " لا. ونبيك الذي أرسلت " (2) فأمره
(صلى الله عليه وسلم) أن لا يضع لفظة " رسول " - في موضع لفظة " نبي " وذلك
حتى لا يحيل معنى، وهو عليه السلام رسول دين، فكيف يسوغ للجهال المغفلين
أن يقولوا إنه عليه السلام كان يجيز أن يوضع في القرآن مكان عزيز حكيم، غفور
رحيم، أو سميع عليم، وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا، والله يقول مخبرا
عن نبيه: " ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي "، ولا تبديل أكثر من وضع
كلمة مكان أخرى (3).

(1) لكلام الحراني تفصيل دقيق نافع يمكن الرجوع إليه في كتابه أو في كتاب توجيه النظر
للجزائري صفحة 340 وما بعدها
(2) راجع صفحة 77.
(3) ص 86 و 87 ج 2 من الأحكام في أصول الأحكام لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري.
105

بعثت بجوامع الكلم
وقال ابن حجر العسقلاني في شرح قول الرسول صلوات الله عليه: " بعثت بجوامع
الكلم " من فتح الباري (1) ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله
آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا، أوحاه الله إلى، فأرجو أني أكثرهم
تابعا يوم القيامة.
معنى الحصر في قوله " إنما كان الذي أوتيته ": أن القرآن أعظم المعجزات
وأفيدها وأدومها، لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع إلى آخر الدهر - فلما
كان لا شئ يقاربه فضلا عن أن يساويه، وكان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع،
قيل: يؤخذ من إيراد البخاري هذا الحديث عقب الذي قبله - أي بعثت بجوامع
الكلم - أن الراجح عنده أن المراد بجوامع الكلم القرآن، وليس ذلك بلازم، فإن
دخول القرآن في قوله: " بعثت بجوامع الكلم " لا شك فيه - وإنما النزاع هل يدخل غيره
من كلامه من غير القرآن؟ وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلام في القرآن قوله تعالى:
" ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون "، وقوله: " ومن يطع الله ورسوله
ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " إلى غير ذلك. ومن أمثلة جوامع الكلام من
الأحاديث النبوية حديث عائشة: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وحديث " كل
شرط ليس في كتاب الله فهو باطل "، وحديث " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "
وحديث المقدام " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه " إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع
وإنما يسلم ذلك فيما لم تتصرف الرواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أن تقل
مخارج الحديث وتتفق ألفاظه، وإلا فإن مخارج الحديث إذا كثرت قل أن تتفق
ألفاظه لتوارد أكثر الرواة على الاقتصار على الرواية بالمعنى بحسب ما يظهر لأحدهم
أنه واف به، والحاصل لأكثرهم على ذلك إنهم كانوا - لا يكتبون ويطول الزمان
فيتعلق المعنى بالذهن فيرتسم فيه، ولا يستحضر اللفظ فيحدث بالمعنى لمصلحة

(1) ص 210 و 211 ج 13.
106

التبليغ ثم يظهر من سياق ما هو أحفظ منه أنه لم يوف بالمعنى. ا ه‍.
ولكي يزداد اليقين بما نجم من الضرر البالغ لعدم كتابة الحديث في حياته
صلوات الله عليه، ومن أن هذا الحديث قد تغير لفظه وضاع الكثير منه - نسوق
في ختام هذا الفصل دليلا من أقوى الأدلة على إثبات ما نقول، وهذا الدليل نأخذه
مما فعلت الرواية في خطبة الوداع التي ألقاها النبي في آخر حياته - وبعد ثلاث
وعشرين سنة من بعثته وأجمل فيها وصاياه العظيمة وتعاليمه الجليلة - وكانت هذه
الخطبة في يوم مجموع له الصحابة كافة وكانوا حوال مائة وخمسين ألفا فقد كان المعقول
واليقين أن تأتي هذه الخطبة الجامعة محفظة بألفاظها ومعانيها كما نطق النبي بها،
وأن يحرص الصحابة جد الحرص على حفظها، وأن يؤدوها إلى من بعدهم كما سمعوها!
ولكنهم برغم ذلك كله قد تركوها بغير قيد كتابي أو ذهني يعبث الرواة بها.
ولو أنك اطلعت على ما نشر منها متناثرا في كتب الحديث المشهورة والسير
الكبيرة ثم درستها دراسة لا تتأثر فيها بالعاطفة فإنك تجد ألفاظها متباينة ومعانيها
مختلفة، وعباراتها غير مؤتلفة، مما يثير عندك الدهش، ويبعث العجب!
ومن عجيب أمر الذين يكابرون في أن الحديث قد روي بالمعنى ما يقرع آذانهم
من جميع خطباء المساجد في أيام الجمع على مدار السنين من قولهم عندما يفرغون
من تلاوة حديث الخطبة " أو كما قال! " حتى أصبحت هذه العبارة كأنها من
أصل الحديث - فلم هذا الاحتياط - الواجب؟
ضرر الرواية بالمعنى
من الناحية اللغوية والبلاغية
هذا بعض ما قالوه في ضرر نقل الحديث بالمعنى في الأمور الدينية. أما الضرر
اللغوي والبلاغي فقد بينه في عبارة وجيزة الأديب الإسلامي الكبير السيد مصطفى
صادق الرافعي رحمه الله، وذلك عند كلامه عن البلاغة النبوية في كتابه النفيس " إعجاز
القرآن " قال رحمه الله (1): إن ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقلها

(1) ص 364 من إعجاز القرآن، ولهذا الكلام البليغ بقية من هذا الطراز العالي يرجع إليه. حتى
ص 422 من إعجاز القرآن.
107

لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي، فقد جاءت من
سبيله، وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله.
محكمة الفصول، حتى ليس فيها عروة مفصولة، محذوفة الفضول، حتى
ليس فيها كلمة مفضولة، وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلم، وإنما
هي في سموها وإجادتها مظهر من خواطره صلى الله عليه وسلم "... إلخ (1). وقال
وهو يتحدث عن نسق البلاغة النبوية: " ليس كل ما يروى على أنه حديث يكون
من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) بألفاظه وعبارته، بل من الأحاديث ما يروى
بالمعنى، فتكون ألفاظه أو بعضها لمن أسندت إليه في النقل، ولجواز الرواية بالمعنى
لم يستشهد سيبويه وغيره من أئمة المصرين (أي البصرة والكوفة) على النحو واللغة
بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصحيح النقل عن العرب، ولو كان التدوين
شائعا في الصدر الأول، وتيسر لهم أن يدونوا كل ما سمعوه من النبي (صلى الله
عليه وسلم)، بألفاظه وصوغه، وبيانه، لكان لهذه اللغة شأن غير شأنها ".
وقد كان الأصل عندهم أن يضبط المحدث معنى الحديث، فأما الألفاظ فمنها
ما يتفق لهم بنصه، وخاصة في الأحاديث القصار، وفي حكمه وأمثاله (صلى الله عليه
وسلم)، ومنها ما لا يتفق فيلبسه الراوية من عبارته، حتى قال سفيان الثوري: إن
قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى (2).
وقد أطلنا القول في هذا الباب، لأنه من الأبواب المهمة في هذا الكتاب.
اللحن والخطأ في الحديث
بعد أن أباحوا لأنفسهم رواية الحديث بالمعنى، سوغوا كذلك أن يأتي
الحديث ملحونا، ولا يرون بأسا في إصلاح لحنه وخطئه.
قال حافظ المغرب ابن عبد البر في كتابه " جامع بيان العلم وفضله " (3):

(1) ص 364 من إعجاز القرآن.
(2) ص 422 من نفس المصدر.
(3) ص 78 - 81 ج 1.
108

حدث الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي يقول: لا بأس بإصلاح اللحن
والخطأ في الحديث. وقال كذلك سمعت الأوزاعي يقول: اعربوا الحديث فإن
القوم كانوا عربا.
وعن جابر قال: سألت عامرا - يعني الشعبي - وأبا جعفر - يعني محمد بن علي -
والقاسم - يعني ابن محمد - وعطاء - يعني ابن أبي رباح - عن الرجل يحدث بالحديث
فيلحن، أأحدث به كما سمعت أم أعربه؟ قالوا: لا، بل أعربه!
وقال يحيى بن معين: لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية.
وقال النضر بن شميل: كان هشيم لحانا فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة -
يعني بالإعراب. وحدث علي بن الحسن قال: قلت لابن المبارك: يكون في
الحديث لحن، أقومه؟ قال: نعم لأن القوم لم يكونوا يلحنون! اللحن منا.
وقد تعرض الإمام ابن فارس لهذا الأمر في رسالة سماها " مأخذ العلم " فقال (1):
" ذهب أناس إلى أن المحدث إذا روى فلحن، لم يجز للسامع أن يحدث عنه
إلا لحنا كما سمعه، وقال آخرون: بل على السامع أن يرويه إذا كان عالما بالعربية
معربا صحيحا مقوما بدليل نقوله - وهو أنه معلوم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
كان أفصح العرب وأعربها، وقد نزهه الله عز وجل - وإذا كان كذا فالوجه
أن يروى كلامه مهذبا من كل لحن.
وكان شيخنا أبو الحسن علي بن إبراهيم القطان يكتب الحديث على ما سمعه
لحنا. ويكتب على حاشية كتابه. (كذا) قال: يعني الذي حدثه والصواب كذا.
وهذا أحسن ما سمعت في هذا الباب.
وقال ابن الأنباري في الإنصاف في منع (أن) في خبر كاد، وأما حديث
كاد الفقر أن يكون كفرا. فإنه من تغييرات الرواة لأنه (صلى الله عليه وسلم)
أفصح من نطق بالضاد، والأمثلة في ذلك كثيرة والكلام طويل

(1) ص 308 و 309 توجيه النظر.
109

التقديم والتأخير في الحديث والزيادة والنقص
وكذلك لم يروا بأسا من تقديم الحديث وتأخيره.
فعن أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حفص عن أشعث عن الحسن والشعبي
أنهما كانا لا يريان بأسا بتقديم الحديث وتأخيره (1).
وروي عن جابر بن عبد الله عن حذيفة أنه قال: إنا قوم عرب نورد الحديث
فنقدم ونؤخر (2).
وبلغ من صنيعهم في رواية الحديث أن يأتي أحد الرواة بزيادة في الحديث
لا تكون في رواية غيره، وقد وضعوا لذلك قاعدة هي " الزيادة من الحافظ مقبولة ".
رواية بعض الحديث واختصاره
ومما أجازوه اختصار الحديث ورواية بعضه.
وفي سنن الترمذي عن مجاهد: أنقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه (3).
وقال ابن حجر في شرح النخبة:
أما اختصار الحديث فالأكثرون على جوازه، بشرط أن يكون الذي يختصره
عالما.
وقال النووي في شرح مسلم: الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير والمحققون
من أصحاب الحديث جواز رواية بعض الحديث من العارف، ثم قال: وأما تقطيع
المصنفين الحديث في الأبواب فهو بالجواز أولى - بل يبعد طرد الخلاف فيه، وقد
استمر عليه عمل الأئمة الحفاظ الجلة من المحدثين وغيرهم، من أصناف العلماء.
وممن ذهب إلى جواز اختصار الحديث مسلم، وقد أشار إلى ذلك في مقدمته.

(1) ص 80 ج‍ 1 جامع بيان العلم.
(2) هذا الخبر مذكور كذلك في ص 136 ج‍ 3 من عيون الأخبار.
(3) ص 237 من طبعة الهند.
110

وقال أبو شامة في كتاب مختصر كتاب المؤمل (1):
مما يفعله شيوخ الفقه في الأحاديث النبوية والآثار المروية، كثرة استدلالهم
بالأحاديث الضعيفة على ما يذهبون إليه، نصرة لقولهم، وينقصون من ألفاظ الحديث
وتارة يزيدون فيه، وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد. ومن
قبيح ما يأتي به بعضهم أن يحتج بخبر ضعيف هو دليل خصمه عليه فيوردونه معرضين
عما كانوا ضعفوه.
تساهلهم فيما يروى في الفضائل وضرر ذلك
قال ابن مهدي: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام
والأحكام شددنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب
والعقاب تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال. أخرجه البهيقي في المدخل.
وممن جوزوا التساهل في رواية الحديث، إذا كان في فضائل الأعمال أحمد
ابن حنبل وعبد الله بن المبارك، وقال الحاكم سمعت أبا زكريا العنبري يقول: الخبر
إذا لم يحرم حلالا، ولم يحل حراما، ولم يوجب حكما في ترغيب أو ترهيب،
أغمض عنه وتسوهل في روايته. ولأحمد رأي آخر تراه فيما بعد.
وقال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به، وقال:
أحاديث الفضائل تسامح العلماء قديما في روايتها عن كل، ولم ينتقدوا فيها كانتقادهم
في أحاديث الأحكام (2).
وقال السيد رشيد رضا في تعليقه على ما ذكره صاحب الآداب الشرعية (لابن
مفلح (3) من أنه قد جاء عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يعمل بالحديث

(1) ص 21 و 22.
(2) ص 45 ج‍ 1 جامع بيان العلم.
(3) ص 313 و 314 من الآداب الشرعية ج‍ 2، لكن جاءت رواية أخرى عن أحمد بن حنبل
بأن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال.
111

الضعيف في الفضائل والمستحبات: " رضي الله عن أحمد ما أوسع علمه وأدق فهمه!
إن القول بالعمل بالحديث الضعيف فيما ذكر، والتساهل في روايته قد فتح على
الأمة بابا من الغلو في الدين وتكثير العبادات المحرجة التي تنافي يسر الإسلام.
حتى جعلوا بعضها من الشعائر فيه، مع تقصير الأكثرين في إقامة الفرائض
والتزام الواجبات، وترتب عليه ما نقله المصنف بعده عن ابن تيمية في قبول
الإسرائيليات والمنامات وكذا الخرافات، إن العبادات والفضائل الثابتة بالقطع من
الكتاب والسنة كافية للأمة - ويا ليت يوجد فيها كثيرون ممن لا يقصر فيها " ا ه‍.
وحقا ما قاله هؤلاء الأئمة وما بينوه من ضرر نقل الأحاديث الضعيفة على الأمة
بله ما ذهب إليه بعضهم من العمل بها في الفضائل.
ومن أجل ذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إنه لا يجوز العمل
بالأحاديث الضعيفة مطلقا (1).
وللكاتب الإسلامي البليغ السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله فصل ممتع
كبير على الرواية - وذلك في كتابه النفيس " تاريخ آداب العرب " نقتطف منه
ما يلي:
الرواية في الإسلام
كان الصحابة يأخذون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخذا علميا
ليتفقهوا في الدين - فكانت مجالسه (صلى الله عليه وسلم) هي الحلقات العلمية
الأولى التي عرفت في سلسلة التاريخ العربي كله، كما هو (صلى الله عليه وسلم)
أول من علم...
فلما قبض (صلى الله عليه وسلم) بدأ من بعده علم الرواية. إذ لم يعد من سبيل
إلى الاستدلال والفصل إلا بها. وكان أبو بكر لا يقبل من أحد إلا بشهادة على

(1) ص 129 ج‍ 31 من المنار.
112

سماعه من الرسول (1) والعهد يومئذ قريب، والصحابة متوافرون، والمادة لم تنقض
بعد...
ثم كان عمر يتثبت في النقل إذ كانت طائفة من الناس قد مردت على النفاق
وكانت الحاجة قد اشتدت إلى الرواية - وكان عمر وعثمان وعائشة وجلة من الصحابة
يتصفحون الأحاديث، ويكذبون بعض الروايات التي تأتي، ويردونها على
أصحابها، ثم خشي عمر أن يتسع الناس في الرواية، فيدخلها الشوب، ويقع
التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، فكان يأمرهم أن يقلوا الرواية وكان
شديدا على من أكثر منها أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، لأن المكثر وإن
جاء بالصحيح فقد لا يسلم من التحريف أو الزيادة أو النقصان في الرواية، وقد
سمعوه (صلى الله عليه وسلم) يقول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار (2). وعلى
هذه الجهة من التوقي والإمساك في الرواية كان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة
بالرسول (صلى الله عليه وسلم) كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن
عبد المطلب يقلون الرواية عنه بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
وكان أكثر الصحابة رواية أبو هريرة وقد صحب ثلاث سنين (3) وعمر بعده
(صلى الله عليه وسلم) نحوا من خمسين سنة (4) ولهذا كان عمر وعثمان وعائشة
ينكرون عليه ويتهمونه وهو أول راوية اتهم في الإسلام وكانت عائشة أشدهم إنكارا
عليه لتطاول الأيام بها وبه إذ توفيت قبله بسنة...
ثم كانت الفتنة أيام عثمان واضطرب من بعدها حبل الكلام في الخلافة
وخاض الناس في ضروب من الشك والحيرة والقلق فكان فيهم من لا يتوقى ولا يتثبت،
وألف كثير من الناس أمر هؤلاء فلم يبالوا أن يتبينوا فيرجعوا في الرواية إلى شهادة

(1) وقال علي رضي الله إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا
حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته.
(2) هذه هي الرواية الصحيحة.
(3) الصحيح أنه صحب النبي عاما وتسعة أشهر كما حققناه في كتابنا " شيخ المضيرة "
فيرجع إليه.
(4) توفي أبو هريرة سنة 59 هجرية.
113

قاطعة أو دلالة قائمة. على أن كل ما كان يقع في الحديث قبلهم من خطأ فإنما
كان من قبل ما يعترض المحدث من السهو والاغفال. وقد قال عمران بن حصين
وهو من الصحابة (1) والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدثون
أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم
كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون (2).
غير أن الأعلام كانت يومئذ لا تزال قائمة، والفروع لا تزال باسقة، فكان
الخطب لم يستفحل حتى إذا خرجت الخوارج، وتحزب الناس فرقا، وجعلوا أهلها
شيعا، بدءوا يتخذون من الحديث صناعة فيضعون ويصنعون ويصفون الكذب،
ثم ظهر القصاص والزنادقة، وأهل الأخبار المتقادمة (3) مما يشبه أحاديث خرافة،
فوقع الشوب والفساد في الحديث من كل هذه الوجوه في عصور مختلفة، أما القصاص
فإنهم كانوا يميلون وجوه القوم إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغرائب والأكاذيب
من الأحاديث، ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبا خارجا
عن قطر المعقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون، وللقوم في هذه
الفنون الأكاذيب العريضة والأخبار المستفيضة. وأما الزنادقة فقد جعلوا يحتالون
للإسلام ويهجنونه بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة مما يشبه خرافات اليونان
والرومان وأساطير الهنود والفرس ليشنعوا بذلك على أهل السنة في روايتهم ما لا يصح
في العقول ولا يستقيم على النظر. وأما أهل الأخبار المتقادمة فقد قصدوا من ذلك
إلى إثبات الخرافات الجاهلية وجعلها بسبيل من الصحة للاستعانة بها على التفسير
وما إليه. وأمثلة ذلك كله فاشية.

(1) توفي عمران بن حصين سنة 52 هجرية.
(2) أنظر الكلام في قول عمران بن حصين بعد هذه الكلمة.
(3) كأخبار اليهود ومن إليهم.
114

إلى أن كان تدوين الحديث
واستمر الحديث بعد الطبقة التي كان منها صغار الصحابة وكبار التابعين -
كطبقة ابن عباس، على ما يعترض فيه من عوارض السهو والاغفال، وما يدخل
عليه من الشبه والتأويلات - وعلى أن بعض الثقات ربما أخذه عن غير الثقة حتى
كانت خلافة عمر بن عبد العزيز (1)... فخشى تزيد الناس وشيوع الكذب
إذا قل الصحيح، وكانت قد فشت في زمنه أشياء مما يتعمد فيه الكذب لغير مصلحة
يتأول عليها، كالأحاديث التي كان يكذب فيها عكرمة مولى ابن عباس (2) وبرد
مولى سعيد بن المسيب (3) وغيرهما - خشي عمر عاقبة ذلك وما أشبهه فكتب إلى
أبي بكر بن حزم نائبه في الإمرة والقضاء على المدينة (4) أن انظر ما كان من
حديث رسول الله فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.
وكان هذا أول البدء في تدوين الحديث وجمعه ولم يكن الحديث يدون قبل
ذلك (5)... إلخ
ونختم هذا البحث بذكر علة خطيرة من علل الرواية.
علة خطيرة من علل الرواية
كيف كانت رواياتهم
كان لرواية الحديث عن رسول الله - بعد نهي النبي (صلى الله عليه وسلم)
عن كتابته علل كثيرة، منها أنه كان لا يروى عند سماعه، ومن أجل ذلك اضطر

(1) بويع سنة 99 ه‍ وتوفي سنة 101 ه‍.
(2) توفي عكرمة سنة 105 ه‍.
(3) توفي سعيد سنة 94 ه‍.
(4) توفي أبو بكر سنة 120 ه‍.
(5) من صفحة 276 - 281 من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب المطبوع سنة 1329 ه‍
الموفق سنة 1911 م.
115

الرواة إلى أن يرووا (بالمعنى)، ومنها أنهم كانوا " يدلسون " فيروي الصحابي حديث
رسول الله عن صحابي آخر من غير أن يذكر اسم من روى عنه - وكانوا لا يرون
في ذلك بأسا، كما ذكر ذلك ابن قتيبة، إذ قال في كتابه " تأويل مختلف الحديث " (1)
وهو يتكلم عن روايات أبي هريرة التي لم يسمعها من النبي: إنه كان يقول:
قال رسول الله " كذا " وإنما سمعه من الثقة " عنده " فحكاه، وكذلك كان ابن
عباس يفعل وغيره من الصحابة. ومثل هذه الرواية يسميها رجال الحديث في علمهم
" بالتدليس " وقد قال الحافظ الذهبي وهو يؤرخ لأبي هريرة " كان أبو هريرة
يدلس " وتدليس الصحابة " كثير ولا عيب فيه " (2).
وقد بينا هذه العلل من قبل في كتابنا هذا وفي كتابنا " شيخ المضيرة " الذي
طبعناه على حدة وأظهرنا أضرارها، ولكن ثم علة خطيرة لم نتكلم عنها من قبل
كشف عنها الصحابي الكبير - عمران بن حصين (3) في كلامه الذي أقسم عليه:
إذ قال: " والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله يومين
متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك، أن رجالا من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت،
وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي
كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون - وفي رواية - يخطئون - لا أنهم كانوا
يتعمدون (4).
وروى ابن الجوزي في كتاب " شبهة التشبيه (5) " قال: سمع الزبير (ابن
العوام) رجلا يحدث، فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه، فقال له الزبير:
أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم!! فقال الزبير: هذا وأشباهه

(1) ص 50
(2) ص 437 و 438 ج‍ 2 من سير أعلام النبلاء ويرجع إلى كتاب شيخ المضيرة.
(3) عمران بن حصين بن عبيد بن خلف أسلم هو وأبوه وأبو هريرة في وقت واحد سنة سبع، وغزا
مع النبي عدة غزوات، ولي قضاء البصرة وكان عمر بعثه ليفقههم - وكان الحسن يحلف ما قدم عليهم
البصرة خير لهم من عمران بن حصين، توفي سنة 52 ه‍ مسنده 180 حديثا وله في البخاري أربعة أحاديث
وفي مسلم 9 ص 363 - 366 ج‍ 2 سير أعلام النبلاء.
(4) ص 49 و 50 تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة.
(5) ص 38.
116

مما يمنعاني أن أتحدث عن النبي! قد لعمري سمعت هذا من رسول الله، وأنا يومئذ
حاضر ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب
حديثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث - وذكر الرجل الذي هو من
أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله!!
وقال بسر بن سعيد اتقوا الله وتحفظوا في الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس
أبا هريرة فيحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويحدثنا عن كعب، ثم
يقوم فأسمع بعض من كان معنا، يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل
حديث كعب عن رسول الله (1).
هذا ما ذكره عمران بن حصين، والزبير بن العوام، وبسر بن سعيد،
وإن على كل مسلم مفكر غير مغلول العقل، أن يتدبره، ويطيل النظر فيه.
فالصحابي عمران بن حصين يقسم بالله أنه لو شاء لحدث عن رسول الله يومين
متتابعين ولكنه يأبى، لأنه رأى رجالا من من أصحاب رسول الله، يحدثون أحاديث
ما هي كما يقولون، وإنما يغلطون - أو يخطئون - فإذا كان هذا شأن غير المتعمدين
من الصحابة الصادقين - فترى ماذا يكون أمر المتعمدين، ومن إليهم من المنافقين
وأعداء الدين؟ إنها والله في الرواية لإحدى الكبر! ومن يبصر الناس بذلك يقولون
عنه: إنه قد كفر.
ويصف الزبير علة أخرى، هي أن يسمع بعضهم الحديث من النبي - بعد
انقضاء صدر منه ثم يخرج فيروي ما سمعه - على أنه حديث كامل.
ثم يأتي بسر بن سعيد، فينا شد الناس، أن يتقوا الله في الحديث لأن بعضهم
كان يجعل حديث رسول الله عن كعب الأحبار ويجعل حديث كعب عن رسول الله
وكل ذلك وغيره قد حملته بطون الكتب، وبقي على وجه الزمن، يرويه الخلف
عن السلف إلى يوم القيامة - ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وثم كلام كثير في التحفظ من الحديث تجده مسطورا في كتابنا " شيخ المضيرة "
فارجع إليه.

(1) ص 436 ج‍ 2 سير أعلام النبلاء للذهبي.
117

الوضع في الحديث وأسبابه
كان من آثار تأخير تدوين الحديث وربط ألفاظه بالكتابة - إلى ما بعد المائة
الأولى من الهجرة وصدر كبير من المائة الثانية - أن اتسعت أبواب الرواية، وفاضت
أنهار الوضع، بغير ما ضابط ولا قيد، حتى لقد بلغ ما روي من الأحاديث الموضوعة
عشرات الألوف، لا يزال أكثرها منبثا بين تضاعيف الكتب المنتشرة بين المسلمين
في مشارق الأرض ومغاربها.
نشأة الاختراع في الرواية
والوضع على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وقد أجمع الباحثون والعلماء المحققون - على أن نشأة الاختراع في الرواية
ووضع الحديث على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما كان في أواخر عهد عثمان
وبعد الفتنة التي أودت بحياته، ثم اشتد الاختراع واستفاض بعد مبايعة علي رضي الله
عنه فإنه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن الشيطان الأموي ليغتصب
الخلافة من صاحبها، ويجعلها حكما أمويا! وقد كان وا أسفاه! وإليك كلمة
صادقة دقيقة كتبها الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله في " مقدمات " رسالة
التوحيد بعد أن تكلم عن الفتنة الكبرى التي " هوى بها ركن عظيم من هيكل الخلافة،
واصطدم الإسلام وأهله صدمة زحزحتهم عن الطريق التي استقاموا عليها وبقي القرآن
قائما على صراطه ".
قال رضي الله عنه:
" توالت الأحداث بعد ذلك ونقض بعض المبايعين للخليفة الرابع (1) ما عقدوا،
وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطان إلى الأمويين! غير أن بناء

(1) أول من نقض البيعة: طلحة والزبير وأعانهما على ذلك أم المؤمنين عائشة لما كان بينها
وبين علي رضي الله عنه من حقد وموجدة، وطلحة والزبير من العشرة الذين قالوا إن النبي صلوات الله
عليه بشرهم بالجنة.
118

الجماعة قد انصدع، وانفصمت عرى الوحدة بينهم، وتفرقت بهم المذاهب في
الخلافة، وأخذت الأحزاب في تأييد آرائهم، كل ينصر رأيه على رأي خصمه،
بالقول والعمل، وكانت نشأة الاختراع في الرواية والتأويل، وغلا كل قبيل فافترق
الناس... إلخ (1).
الحديث الموضوع
والحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) زورا وبهتانا سواء أكان ذلك عمدا أم خطأ.
ووضع الحديث على رسول الله كان - كما قال أحد الأئمة - أشد خطرا على
الدين وأنكى ضررا بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين. وإن تفرق
المسلمين إلى شيع وفرق ومذاهب ونحل لهو أثر من آثار الوضع في الدين.
وقال المرتضى اليماني في كتابه " إيثار الحق ": إن معظم ابتداع المبتدعين من
أهل الإسلام إنما يرجع إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما: الزيادة في الدين
والنقص منه، ومن أنواع الزيادة في الدين - الكذب عليه.
وقال النووي في شرح مسلم نقلا عن القاضي عياض:
الكاذبون ضربان: أحدهما - ضرب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهم أنواع: منهم من يضع ما لم يقله رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) أصلا كالزنادقة وأشباههم ممن لم يرج لله وقارا إما حسبة بزعمهم وتدينا كجهلة
المتعبدين (2) الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب، وإما إغرابا وسمعة
كفسقة المحدثين، وإما تعصبا واحتجاجا كدعاة المبتدعة ومتعصبي المذاهب،
وإما إشباعا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه، وطلب الفوز لهم فيما أتوه (3). ومنهم من

(1) ص 7 و 8 من الطبعة الأولى من رسالة التوحيد.
(2) سنتكلم في آخر الفصل عن الوضاع الصالحين.
(3) قالت دائرة المعارف الإسلامية: بعد وفاة محمد (ص) لم تستطع الآراء والمعاملات الدينية
الأصلية التي سادت في الرعيل الأول أن تثبت على حالها من غير تغيير - فقد حل عهد للتطور جديد،
وبدأ العلماء يدخلون شيئا من التطور في نظام مرتب من الأعمال والعقائد يتواءم والأحوال الجديدة. فقد
أصبح الإسلام بعد الفتوح العظيمة يبسط سيادته على مساحات شاسعة واستعير من الشعوب المغلوبة على أمرها
آراء ونظم جديدة وتأثرت حياة المسلمين وأفكارهم حين ذاك في كثير من النواحي لا بالنصرانية والإسرائيلية
وحدهما، بل بالهلينية والزرادشتية والبوذية كذلك.
وعلى أية حال فإن المسلمين التزموا أيما التزام المبدأ القائل: إن سنة النبي والسابقين الأولين في الإسلام
هي وحدها التي يمكن أن تكون القانون الخلقي للمؤمنين، وسرعان ما أدى هذا بالضرورة إلى وضع الأحاديث
فاستباح الرواة لأنفسهم اختراع أحاديث تتضمن القول أو الفعل، وينسبونها إلى النبي لكي تتفق وآراء
العصر التالي، وكثرت الأحاديث الموضوعة وتداولها الناس منسوبة إلى النبي بحيث تجعله يقول أو يفعل
شيئا مما كان بعد ذلك العصر من الأمور المستحسنة، وظهرت في الحديث أقوال مأخوذة من أقوال الرسل
والأناجيل المنحولة، ومن الآراء الإسرائيلية والعقائد الفلسفية اليونانية إلخ تلك الآراء التي لقيت الحظوة
عند فريق معين من المسلمين، ونسبت كل هذه الأقوال إلى النبي - ولم يتورع الناس عند ذاك أن يجعلوا
النبي يفصل على هذا النحو القصصي (حذفنا من هنا كلمة الأساطير لأن قلمنا لم يطاوعنا على إثباتها) التي
وردت موجزة في القرآن ويدعو إلى آراء ومعتقدات جديدة إلخ بل كان كثير من هذه الأحاديث الموضوعة
المنسوبة إلى النبي تتناول الأحكام كالحلال والحرام والطهارة وأحكام الطعام والشريعة وآداب السلوك
ومكارم الأخلاق والعقائد ويوم الحساب والجنة والنار إلخ.
ومع مضي الزمن ازداد ما روي عن النبي من قول أو فعل شيئا فشيئا في عدده وفي غزارته، وفي القرون
الأولى التي تلت وفاة الرسول عظم الخلاف بين المسلمين على جملة من الآراء في مسائل تختلف طبائعها أشد
الاختلاف، وعملت كل فرقة على تأييد رأيها على قدر ما تستطيع بقول أو تقرير منسوب إلى النبي، ومن
استطاع أن يرد رأيه إلى أثر من آثار النبي فهو على الحق من غير شك، ولهذا كثرت الأحاديث الموضوعة
المتناقضة أشد التناقض في سنة محمد صلى الله عليه وآله - وفي الخلافات الكبيرة التي نشأت عن العصبية جرى كل
فريق على التوسل بمحمد " ص ".. فمثلا أنه قد نسب إلى النبي قول يتنبأ به بقيام دولة العباسين، وجملة
القول أنهم جعلوه يتنبأ على نحو تمتزج فيه الرؤية بالنبوة بما جرى بعد ذلك من حوادث سياسية وحركات
دينية، بل بالظواهر الاجتماعية الجديدة التي نشأت من الفتوح العظيمة " كازياد الشرف " وكان غرضهم
من ذلك " تبرير " كل أولئك في نظر الجماعة الإسلامية الجديدة.
وهناك قسم خاص من هذه الأحاديث التنبئية وضعت في صورة أقوال نسبت إلى محمد (ص) تتعلق
بفضائل أما كن متعددة ونواح لم يفتحها المسلمون إلا في عصر متأخر.
وعلى هذا لا يمكن أن نعد للكثرة من الأحاديث وصفا تاريخيا صحيحا لسنة النبي بل هي على عكس
ذلك تمثل آراء اعتنقها بعض أصحاب النفوذ في القرن الأولى بعد محمد " ص " ونسبت إليه عند ذلك فقط
(ص 330 - 335 ج‍ 7).
يظن بعض الجهلاء أن نقلنا لمثل هذه الكلمة هو لكي نجعلها من أدلتنا ويعدون ذلك من مآخذهم
علينا، ولا يدركون أننا إذ نفعل ذلك إنما نبين لهم ولإخوانهم من الجاهلين أن المستشرقين يعلمون من أمر ديننا
ما لم يعلموا - وسبحان واهب العقول!
119

لا يضع متن الحديث ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسنادا صحيحا مشهورا.
ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ويتعمد ذلك إما للإغراب على غيره،
120

وإما لرفع الجهالة عن نفسه. ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يسمع ولقاء
من لم يلق ويحدث بأحاديثهم الصحيحة عنهم، ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة
وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا، وإن لوضع الحديث والكذب على رسول الله أسبابا كثيرة غير التي
تكلم عنها النووي من قبل بينها العلماء نأتي هنا على أهمها (1).
أحدها - وهو أهمها ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشا ونفاقا وقصدهم
بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين - قال حماد بن زيد:
وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث، وهذا بحسب ما وصل إليه علمه واختباره
في كشف كذبها، وإلا فقد نقل المحدثون أن زنديقا واحدا وضع هذا المقدار
قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال: " وضعت فيكم أربعة آلاف
حديث، أحرم فيها الحلال وأحل الحرام ".
ثانيها - الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين وفروعه: فإن المسلمين لما
تفرقوا شيعا ومذاهب جعل كل فريق يستفرغ ما في وسعه لإثبات مذهبه لا سيما بعد
ما فتح عليهم باب المجادلة والمناظرة في المذاهب، ولم يكن المقصود من ذلك إلا
إفحام مناظره والظهور عليه حتى إنهم جعلوا " الخلاف " علما صنفوا فيه المصنفات
مع أن دينهم ما عادى شيئا كما عادى الخلاف. وهذا السبب يشبه أن يكون أثرا من
آثار السبب الذي قبله - وقد استشهد لهذا بعض المحدثين الذين كتبوا في أسباب
الوضع بقوله: تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول: انظروا عمن تأخذون هذا
الحديث، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا. وليس الوضع لنصرة المذاهب
محصورا في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول، بل إن من أهل السنة المختلفين في
الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم إمامه...
وإليك حديثا واحدا وهو " يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر
على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي "،
قالوا: وفي إسناده وضاعان أحدهما مأمون بن أحمد السلمي والآخر أحمد بن عبد الله
الخونباري. وقد رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعا، واقتصر على ما ذكره في

(1) راجع المجلد الثالث من مجلة المنار.
121

أبي حنيفة، وقال، موضوع وضعه محمد بن سعيد المروزي البورقي، ثم قال: هكذا
حدث به في بلاد خراسان ثم حدث به في العراق وزاد فيه " وسيكون في أمتي رجل
يقال له محمد بن إدريس فتنته أضر على أمتي من فتنة إبليس " قالوا وهذا الإفك
لا يحتاج إلى بيان بطلانه - ومع هذا تجد الفقهاء المعتبرين يذكرون في كتبهم
الفقهية شق الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه سراج الأمة (1) ويسكنون عليه، بل
يستدلون به على تعظيم إمامهم على سائر الأئمة، وهم مع هذا قدوة الأمة الذين يؤخذ
بأقوالهم في الدين، ويتركون لهم الكتاب والسنة لأنهما على قولهم يختصان بالمجتهدين.
قال أبو العباس القرطبي في شرح صحيح مسلم: أجاز بعض فقهاء أهل الرأي
نسبة الحكم الذي دل عليه القياس الجلي إلى رسول الله نسبة قولية، فيقولون في ذلك:
قال رسول الله: كذا، ولهذا نرى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها
موضوعة لأنها تشبه فتاوى الفقهاء، ولا تليق بجزالة كلام سيد المرسلين ولأنهم
لا يقيمون لها إسنادا.
وقال أبو شامة في كتابه مختصر كتابه المؤمل:
مما يفعله شيوخ الفقه في الأحاديث النبوية والآثار المروية كثرة استدلالهم
بالأحاديث الضعيفة على ما يذهبون إليه نصرة لقولهم، وينقصون في ألفاظ الحديث
وتارة يزيدون فيه، وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد (2).
ثالثها - الغفلة عن الحفظ اشتغالا عنه بالزهد والانقطاع للعبادة: وهؤلاء
العباد والصوفية يحسنون الظن بالناس ويعدون الجرح من الغيبة المحرمة، ولذلك
راجت عليهم الأكاذيب وحدثوا عن غير معرفة ولا بصيرة.. فيجب ألا يعتمد
على الأحاديث التي حشيت بها كتب الوعظ والرقائق والتصوف من غير بيان

(1) اضطرت الشافعية إزاء ذلك إلى أن يرووا في إمامهم حديثا يفضلونه على كل إمام وهذا
نصه: قال رسول الله عليه وسلم: " أكرموا قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما! ".
وأنصار الإمام مالك لم يلبثوا أن وضعوا في إمامهم هذا الحديث: " يخرج الناس من المشرق إلى المغرب
فلا يجدون أعلم من عالم أهل المدينة " ثم حديث آخر عن أبي هريرة بهذا المعنى - راجع كتاب الانتقاء
لابن عبد البر.
(2) ص 21.
122

تخريجها ودرجتها، ولا يختص هذا الحكم بالكتب التي لا يعرف لمؤلفها قدم في العلم
ككتاب " نزهة المجالس " المملوء بالأكاذيب في الحديث وغيره، بل إن كتب
أئمة العلماء كالإحياء للغزالي لا تخلو من الموضوعات الكثيرة.
رابعها - قصد التقرب من الملوك والسلاطين والأمراء كما نص على ذلك غير
واحد من الحفاظ. وكما كذب علماء السوء على الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل
السلاطين، كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأجلهم. ومن
الأحاديث الموضوعة في هذا الباب ما اشتمل على مدح السلاطين وتعظيم شأنهم،
وهو ما يتملق به الجهال للملوك في هذا العصر كما تملقوا لهم فيما قبله.
خامسها - الخطأ والسهو: وقع هذا لقوم ومنهم من ظهر له الصواب،
ولم يرجع إليه أنفة واستنكافا أن ينسب إليهم الغلط. ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم
إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع.
سادسها - التحديث عن الحفظ ممن كانت له كتب يعتمد عليها فلم يتقن
الحفظ فضاعت الكتب فوقع الغلط (1).
سابعها - اختلاط العقل في أواخر العمر - وقع هذا لجماعة من الثقات فكانوا
معذورين، دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روى عنهم في
طور الكمال والعقل، وبين ما روي في طور الاختلاط والهرم.
ثامنها - الظهور على الخصم في المناظرة ولا سيما إذا كانت في الملأ - وهو غير
الوضع لنصرة المذاهب، قال ابن الجوزي: ومن أسباب الوضع ما يقع ممن لا دين له
عند المناظرة في المجامع، من استدلال على ما يقوله كما يطابق هواه، تنسيقا لجداله
وتقويما لمقاله، واستطالة على خصمه، ومحبة للغلب وطلبا للرياسة وفرارا من الفضيحة
إذا ظهر عليه من يناظره.
تاسعها - إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور مجالسهم

(1) هؤلاء هم كما قال ابن عساكر في تاريخه: " تارة يرفعون المرسل، ويسندون الموقوف،
وتارة يقبلون الإسناد وتارة يدخلون حديثا في حديث " (ص 10 ج‍ 2).
123

الوعظية، وتوسيع دائرة حلقاتهم، وقد ألصق المحدثون هذا السبب بالقصص...
ولعل ابن الجوزي ما تصدى لتأليف كتابه في الموضوعات إلا بعد ما زاول الوعظ
واختبر ما أفسد الوعاظ من دين الناس - وقد ذكر عن نفسه: أن الأحاديث
كانت ترد عليه في مجلس وعظه فيردها فيحقد عليه سائر القصاص (1).
ضرر القصص والقصاص:
أخرج السلفي من طريق الفضل بن زياد قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول:
أكذب الناس السؤال والقصاص.
وعن أبي قلابة قال: ما أمات العلم إلا القصاص.
وأخرج العقيلي عن عاصم قال: كان أبو عبد الرحمن يقول: اتقوا القصاص.
معاوية هو الذي أحدث القصص:
أخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن نافع وغيره من أهل العلم قالوا:
لم يقص في زمان النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا في زمان أبي بكر ولا زمان عمر،
وإنما القصص محدث أحدثه معاوية حين كانت الفتنة.
وأخرج ابن أبي شيبة مثل هذا الخبر عن ابن عمر وكان عمر قد نهى عن
القصص.
عاشرها - شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس، ولعل الذي
سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة - هو قول العلماء إن الأحاديث
الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال (2) وما في معناها مما لا يتعلق بالأحكام والحقوق

(1) ومنهم قوم من السؤال والمكدين يقفون في الأسواق والمساجد يضعون على رسول الله أحاديث
بأسانيد صحاح قد حفظوها فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد (ص 69 ج 1 من تفسير القرطبي).
(2) كم جلب هذا القول وأتباعه من الضرر العظيم للناس في دينهم ودنياهم.
124

- وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام، والله سبحانه وتعالى يقول:
" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ". وإن
جميع البدع الدينية التي يسميها الناس " بدعا حسنة "... هي من الزيادة في
الدين ويا ليتها كانت زيادة في الأعمال فقط ولكنها زيادة في العقائد أيضا - كاعتقاد
وساطة بعض الصالحين " الأموات " بين الله والناس في قضاء حوائجهم - إما بأن
يقضوها بأنفسهم لأن لهم سلطة غيبية وراء الأسباب، وإما بأن يقضيها الله تعالى
لأجلهم فتكون إرادة الله تعالى تابعة في ذلك لإرادتهم، كما اشتهر من قولهم " إن لله
عبادا إذا أرادوا أراد "! وغير ذلك، فإذا قلت لهم إن هذا شرع لم يأذن به الله
يأتونك بأمثال ينزه الله عنها، كتشبيهه بالملوك والأمراء الذين يتقرب إليهم بمن يحبون (1)
ليفعلوا ما لم يكونوا يفعلونه لولاهم، وفاتهم أن إرادة الله تعالى لا تتغير لأجل أحد،
لأن تخصيصها وترجيحها إنما يكون بحسب العلم القديم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل.
حادي عشرها - إجازة وضع الأسانيد للكلام الحسن (2) ليجعل حديثا،
ذكروا هذا سببا مستقلا وهو يدخل فيما سبقه.
ثاني عشرها - تنفيق المدعي العلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض البحث
عن حديث - فيقول من في دينه رقة وفي علمه دغل، هذا الحديث أخرجه فلان
وصححه فلان ويسند هذا إلى كتب يندر وجودها، ليوهم أنه مطلع على ما لم يطلع
عليه غيره أو يخلق للحديث إسنادا جديدا. ا ه‍
وحكى السيوطي عن ابن الجوزي أنه من وقع في حديثه الموضوع " والكذب
والقلب أنواع: منهم من غلب عليهم الزهد فغفلوا عن الحفظ، أو ضاعت كتبه
فتحدث من حفظه فغلط، ومنهم قوم ثقات لكن اختلطت عقولهم في آخر أعمارهم
ومنهم من روى الخطأ سهوا فلما رأى الصواب وأيقن به لم يرجع أنفة أن ينسب إليه
الغلط، ومنهم زنادقة وضعوا قصدا إلى إفساد الشريعة، وإيقاع الشك والتلاعب
بالدين. وقد كان بعض الزنادقة يتغفل الشيخ فيدس في كتابه ما ليس من حديثه،

(1) مما وضعوه في ذلك هذه القاعدة (لولا الواسطة لذهب الموسوط).
(2) يرجع إلى باب وضع الحديث للكلام الحسن في هذا الكتاب.
125

ومنهم من يضع لنصرة مذهبه، ومنهم من يضع حسبة وترغيبا، ومنهم من أجاز
وضع الأسانيد بكلام حسن، ومنهم من قصد التقرب إلى السلطان، ومنهم القصاص
يروون أحاديث ترقق وتنفق (1) ا ه‍.
ولأن الكلام قد طال في هذا الأمر فإنا نكتفي بما أوردناه.
أما وضاع الحديث فكانوا كثيرين لا يحصيهم العدد وقد قالوا إن أشهرهم أربعة:
ابن أبي يحيى في المدينة، والواقدي في بغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد
ابن سعيد بالشام (2).
وإليك مثلا واحدا من أمثلة الوضع للتقرب من الملوك والأمراء:
كان الرشيد يعجبه الحمام واللهو به، فأهدى إليه حمام وعنده أبو البختري
القاضي (3) فقال: روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: لا سبق إلا في خف
أو حافر أو جناح - فزاد جناح، وهي لفظة وضعها للرشيد، فأعطاه جائزة سنية.
ولما خرج قال الرشيد والله لقد علمت أنه كذاب - وأمر بالحمام أن يذبح، فقيل:
وما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول الله!
الوضع السياسي أو الوضع للسياسة
ولا بد لنا قبل أن نختم هذا الفصل أن نكشف عن ناحية خطيرة من نواحي
الوضع في الحديث كان لها أثر بعيد في الحياة الإسلامية، ولا يزال هذا الأثر يعمل
عمله في الأفكار العفنة والعقول المتخلفة والنفوس المتعصبة، ذلك أن السياسة قد
دخلت في هذا الأمر وأثرت فيه تأثيرا بالغا فسخرته ليؤيدها في حكمها، وجعلته
من أقوى الدعائم لإقامة بنائها..
وقد علا موج هذا الوضع السياسي وطغى ماؤه في عهد معاوية الذي أعان عليه
وساعده بنفوذه وماله، فلم يقف وضاع الحديث عند بيان فضله والإشادة بذكره

(1) ص 409 ج‍ 2 كشف الخفاء.
(2) ص 113 ج‍ 2 ابن خلكان.
(3) كان أبو البختري قاضي مدينة النبي بعد بكار بن عبد الله، ثم ولي قضاء بغداد بعد
أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، توفي سنة 200 ه‍ في خلافة المأمون. ص 69 ج‍ 1 تفسير القرطبي.
126

بل أمعنوا في مناصرته، والتعصب له حتى رفعوا مقام الشام الذي يحكمه إلى درجة
لم تبلغها مدينة الرسول صلوات الله عليه، ولا البلد الحرام التي ولد فيه، وأسرفوا في
ذلك إسرافا كثيرا وأكثروا حتى ألفت في ذلك مصنفات خاصة.
وإذا كان هذا الموضوع وحده يحتاج إلى مؤلف برأسه فإنا - في حدود هذا
الكتاب - سنلتزم جانب الإيجاز ولا نبدي إلا علائم وشواهد قليلة.
ومن أمثلة هذا الوضع:
مما وضعته البكرية وأخرجه ابن عساكر عن أبي هريرة: تباشرت الملائكة
يوم بدر، فقالوا أما ترون الصديق مع رسول الله في العريش. وأخرج الخطيب
عن ابن عباس عن النبي: هبط على جبريل عليه السلام وعليه طنفسة وهو يتخلل،
فقلت له يا جبريل ما هذا؟ قال: إن الله تعالى أمر الملائكة أن تتخلل في السماء
كتخلل أبي بكر في الأرض.
وأخرج أبو يعلى عن أبي هريرة، قال رسول الله: عرج بي إلى السماء فما مررت
بسماء إلا وجدت فيها اسمى (محمد رسول الله وأبو بكر الصديق خلفي).
وأخرج أبو يعلى كذلك عن ابن عمر أن النبي قال: إن الملائكة لتستحي
من عثمان كما تستحي من الله ورسوله.
وفي حديث أن رسول الله قال: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على
سائر الطعام... وفي حديث أن صورتها قد جاءت النبي في سرقة من حرير مع
جبريل وقال له: " هذه زوجتك في الدنيا والآخرة "!!
وفي حديث آخر: خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء وفي رواية " خذوا
شطر دينكم... " إلخ.
وهذا باب واسع لا يمكن إحصاء كل ما فيه.
معاوية والشام
أما معاوية والشام الذي حكمه هو وأقاربه حقبة طويلة فهاك فذلكة مما وضعوه
في فضلهما.
127

ومعاوية كما هو معروف أسلم هو وأبوه يوم فتح مكة، فهو بذلك من الطلقاء،
وكان كذلك من المؤلفة قلوبهم الذين كانوا يأخذون ثمنا لإسلامهم، وهو الذي هدم
مبدأ الخلافة الرشيدة في الإسلام فلم تقم لها من بعده إلى اليوم قائمة، وقد اتخذ
" دمشق " حاضرة لملكه.
وإليك بعض ما وضعوه من الأحاديث في فضله:
أخرج الترمذي أن النبي قال لمعاوية: اللهم اجعله هاديا مهديا.
وفي حديث آخر أن النبي قال: اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب -
وهناك زيادة في هذا الحديث تقول: وأدخله الجنة.
وعلى كثرة ما جاء في فضائل معاوية من أحاديث لا أصل لها، فإن إسحاق
ابن راهويه وهو الإمام الكبير وشيخ البخاري قد قال: إنه لم يصح في فضائل
معاوية شئ.
وقد ذكر البخاري في باب " فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " فقال:
باب ذكر معاوية رضي الله عنه (1)، ولم يأت في هذا الباب بأحاديث مرفوعة
إلى النبي وإنما أورد قولين عن ابن عباس في وصف معاوية - قال في الأول: إنه
صحب رسول الله، وقال في الثاني: إنه فقيه!

(1) قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الباب: " تنبيه " عبر البخاري في هذه الترجمة بقوله " ذكر "
ولم يقل فضيلة، ولا منقبة لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب لأن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه
والصحبة دالة على الفضل الكثير - وقد صنف ابن أبي عاصم جزءا في مناقبه وكذلك أبو عمر غلام ثعلب
وأبو بكر النقاش وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها ثم ساق عن إسحاق بن راهويه
أنه قال: لم يصح في فضائل معاوية شئ - فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ " منقبة "
اعتمادا على قول شيخه " ابن راهويه " وقصة النسائي في ذلك مشهورة، وكأنه اعتمد أيضا على قول شيخه
إسحاق وكذلك في قصة الحاكم، وأخرج ابن الجوزي أيضا من طريق ابن عبد الله بن أحمد بن حنبل،
سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثم قال: اعلم أن عليا كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له
عيبا فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيدا منهم لعلي - فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من
الفضائل مما لا أصل له، وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد
وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر ص 83 ج‍ 7 من فتح الباري.
أما قصة النسائي التي أشار إليها ابن حجر - وهو صاحب أحد كتب الحديث المشهورة - فقد رواها
الذهبي فقال: سئل النسائي وهو بدمشق عن فضائل معاوية فقال، ألا يرضى رأسا برأس، حتى يفضل؟
قال الذهبي فما زالوا يدفعونه حتى أخرج من المجلس وحمل إلى الكوفة فتوفي بها رحمه الله.
128

أما الشام:
فقد ذكروا أنها أرض المحشر والمنشر وأرض الابدال... وأن نزول عيسى
سيكون بهذه الأرض، وإليك بعض ما جاء فيه من الأحاديث الكثيرة:
روى أحمد وأبو داود والبغوي والطبراني وغيرهم: عليكم بالشام فإنها خيرة
الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، إن الله قد توكل بالشام وأهله.
وفي حديث آخر: الشام صفوة الله في بلاده يجتبي إليها صفوته من عباده
فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه، ومن دخلها من غيرها فبرحمته.
وروى البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة مرفوعا: الخلافة بالمدينة والملك بالشام.
وعن كعب الأحبار: أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم ممن
عصاه!
ومن حديث: ستفتح عليكم الشام، فإذا خيرتم المنازل فيها فعليكم بمدينة
يقال لها " دمشق " - وهي حاضرة الأمويين - فإنها معقل المسلمين في الملاحم،
وفسطاطها منها بأرض يقال لها الغوطة.
وقد جعلوا دمشق (1) هذه - هي الربوة التي ذكرت في القرآن الكريم " وآويناهما
إلى ربوة ذات قرار ومعين " وذلك في حديث مرفوع. وقد جعلها أبو هريرة من
مدائن الجنة في حديث رفعه إلى النبي هذا نصه: أربعة مدائن من مدائن الجنة
مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق. وأما مدائن النار: فالقسطنطينية وطبرية
وأنطاكية وصنعاء!
وبينما يجعلون القسطنطينية هذه في هذا الحديث من مدن النار إذا بهم يروون
هذا الحديث في فضلها وذلك بعد أن أصبحت مطمح الأنظار: لتفتحن القسطنطينية
فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش، ولعل هذا الحديث قد وضع من أجل
يزيد بن معاوية لأنه كان أمير الجيش في غزوة القسطنطينية.

(1) مما روى في فضل دمشق ما أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء أن رسول الله قال: إن فسطاط
المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام.
أضواء على السنة المحمدية
129

ولا نستقصي كل ما جاء في فضل الشام لأنه يملأ مصنفات كما قال ابن تيمية
في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (1):
وقد صنف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس وغيره من
البقاع التي بالشام، وذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن أخذ
عنهم ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم، وأمثل من نقل عنه تلك الإسرائيليات
كعب الأحبار، وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرا من الإسرائيليات.
أصل قرية الأبدال
كان مما خصوا به بلاد الشام من الفضل - بعد أن وصفوها وأهلها بما وصفوا -
أن جعلوا منها " الأبدال "، وقد كانت هذه العقيدة من عوامل هدم الإسلام إذ
اتخذها الصوفية أصلا لطريقتهم، وبنوا عليها ما بنوا من أوهامهم وخرافاتهم.
روى الواقدي (2) أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن
(سنة 41 ه‍) خطب فقال: أيها الناس إن رسول الله قال: إنك ستلي الخلافة من
بعدي! فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال - وقد أخبرتكم فالعنوا أبا تراب!
- أي علي بن أبي طالب - فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم
وفيه: هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمدا
نبيا وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب، فاصطفى له من أهله وزيرا كاتبا أمينا، فكان
الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب، فلم يكن بيني وبين الله
أحد من خلقه، فقال الحاضرون: صدقت (3)!
وما كاد معاوية يذكر أن الشام أرض الأبدال حتى ظهرت أحاديث مرفوعة
عن هؤلاء الأبدال نذكر منها ما يلي (4):
1 - الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلا، قلوبهم على قلب إبراهيم خليل

(1) ص 208 ويراجع كتابنا " شيخ المضيرة ".
(2) ص 361 ج شرح نهج البلاغة.
(3) لم يكن معاوية في كتاب الوحي ولا خط بقلمه لفظة واحدة من القرآن.
(4) هذه الأحاديث أوردها السيوطي في الجامع الصغير.
130

الرحمن كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا (عن عبادة بن الصامت).
2 - الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض! وبهم تنصرون وبهم تمطرون!
(عن عبادة).
3 - الأبدال في أهل الشام بهم ينصرون وبهم يرزقون (عن عوف بن مالك).
4 - الأبدال بالشام وهم أربعون رجلا، كلما مات رجل أبدل الله مكانه
رجلا، يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم
العذاب - (عن علي)...
5 - الأبدال أربعون رجلا وأربعون امرأة! كلما مات رجل أبدل الله مكانه
رجلا، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة - (عن أنس بن مالك).
6 - الأبدال من الموالي - (عن عطاء بن أبي رباح).
وقد رفع سؤال عن هذه الأحاديث إلى الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه
الله، وقال السائل في سؤاله: وما معنى اختصاص الشام بهم؟ وما معنى رفع
العذاب عن أهل الشام ونصرهم ورزقهم بالأبدال؟ وهل أهل الشام يرزقون وينصرون
ويرفع العذاب عنهم دون غيرهم من أهل الأرض؟!
وقد أجاب السيد بجواب عالم مطلع دقيق نختصره هنا فيما يلي (1):
بدأ رحمه الله جوابه بقوله: " إن هذه الأحاديث باطلة رواية ودراية، سندا ومتنا،
وإنما راجت في الأمة بعناية المتصوفة، وقد ذكرها الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات
وطعن فيها واحدا بعد واحد... وأحاديث الأبدال اشترك فيها المتصوفة والشيعة (2)
والباطنية ورواة الإسرائيليات ككعب الأحبار وغيره من أصحاب الترهات الصحاصح،
دون أهل الأحاديث الصحائح (3) - قال حكيمنا المحقق ابن خلدون في سياق

(1) ص 747 - 754 ج‍ 27 مجلة المنار.
(2) ينفي الشيعة نفيا باتا أن يكونوا قد اشتركوا في وضع أحاديث الأبدال لأنه ليس عندهم أبدال
حتى يضعوا لهم أحاديث ولا يعترفون بهم.
(3) لسلطان العلماء العز بن عبد السلام رسالة مطبوعة في حلب عن الأبدال والغوث والقطب
والنجباء ذكر فيها أن هذه الأسماء ليس لها أصل في الدين الإسلامي وغير مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث صحيح ولا ضعيف.
131

كلامه في علم التصوف من مقدمة تاريخه، بعد أن بين منشأ التصوف وحال أهله
في علمهم وعملهم، ما نصه (1):
" ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس
توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة. وملأوا الصحف منه، مثل
الهروي وغيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف... وكان سلفهم
مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة.
مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط
كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس
العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله،
ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا
القطب، كما قاله الشيعة في النقباء، حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف
ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخليهم، رفعوه إلى علي رضي الله عنه، وهو من هذا المعنى
أيضا، وإلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخلية ولا طريقة في
لباس ولا حال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة، ولم يختص أحد منهم في الدين بشئ يؤثر عنه
في الخصوص، بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة - ثم إن كثيرا
من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها
وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة ".
وأما أهل الحديث المحققون فقد تكلموا في أسانيد هذه الأحاديث (2) فالحافظ
ابن الجوزي حكم بوضعها - وتابعه شيخ الإسلام ابن تيمية - وكذلك السخاوي،
وهو والسيوطي من تلاميذ الحافظ ابن حجر، إلا أن الأول أدق وأدنى إلى التحقيق
وقد قال خبر الأبدال له طرق بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة. وهذا القول أصح من
كلام ابن حجر نفسه: منها ما يصح ومنها ما لا يصح! "
وبعد أن فند السيد رشيد هذه الأحاديث حديثا حديثا قال:

(1) راجع صفحة 473 من المقدمة طبع بيروت.
(2) أي أحاديث الأبدال.
132

وذكر ملا علي القارئ في الموضوعات عن ابن الصلاح أنه قال: أقوى
ما روينا في الأبدال قول علي: إنه بالشام يكون الأبدال. هذا يوافق ما قاله ابن
تيمية في رسالته (1) في أهل الصفة والصوفية من جهة الرواية، وأما ما حققه شيخ
الإسلام في المسألة من جهة الدراية فهو غاية الغايات.. ونذكر هنا بعض جمل
مما قال: قال رحمه الله تعالى:
(فصل) وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث
الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء
الثلثمائة - فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن
النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال فقد
روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب، مرفوعا إلى النبي
صلى الله عليه وآله أنه قال " إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلا كلما مات رجل
أبدله الله مكانه رجلا " ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا
الترتيب... إلخ، ثم ذكر أن لفظ الغوث والغياث لا يستحقه إلا الله تعالى - ثم تكلم
شيخ الإسلام في مسألة الأوتاد والقطب بكلام معقول موافق للغة، وعاد إلى الأبدال
فقال " فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم،
فإن الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح الشام وكانت الشام والعراق دار كفر،
ثم في خلافة علي قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تمرق مارقة على
خير فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " فكان علي وأصحابه أولى بالحق
ممن قاتلهم من أهل الشام ".
ثم عاد السيد رشيد رحمه الله فقال: " إن سبب ما ورد من الأثر المروي عن
علي رضي الله عنه هو أن بعض جماعته كانوا يسبون أهل الشام، فنهاهم عن ذلك
الإطلاق وقال: إن فيهم الأبدال، أي أن الله تعالى يبدل من أنصار معاوية
غيرهم أو ما هذا معناه، فزاد فيه الرواة المتزلفون لبني أمية، ثم الصوفية، ما زادوا

(1) هي الرسالة الثالثة من مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية.
133

وجعلوه حديثا مرفوعا كما وضعوا أحاديث أخرى للأمصار المشهورة من مدح وذم
- روى ابن عساكر أن كعب الأحبار (1) قال: الأبدال ثلاثون. وقال أيضا
الأبدال بالشام والنجباء بالكوفة، ثم ذكر كثيرا من هذه الأقوال عن أهل ذلك
العصر في الأبدال والنجباء النقباء والأخيار. ولفظ الأبدال أشهر هذه الألفاظ
ولم يكن الناس يفهمون في القرن الثاني والثالث من هذا اللفظ ما ادعاه الصوفية بعد،
بل قال الإمام أحمد " إن الأبدال هم أهل الحديث ".
وأما ما في هذه الروايات من أن الله تعالى ينصر أهل الشام ويرزقهم بالأبدال
فهو من علل متونها، ودلائل وضعها فالله تعالى قد جعل للنصر أسبابا تعرف من
كتابه ومن سننه في خلقه، وقد أخل أفضل الأمم بقيادة أفضل الرسل (عليهم
السلام) ببعض أسبابه في غزوة أحد فانكسروا بعد انتصار، وظهر المشركون عليهم،
ولما استغربوا ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ما بين له ذلك
فقال (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل هو من عند
أنفسكم...)
ومن هذه الأسباب الاجتماعية، ما بينه تعالى بقوله (إن تنصروا الله ينصركم)
وقوله (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ومن أسبابه الحسية ما أمر به بقوله:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ومن أسبابه الروحية المعنوية قوله تعالى: (إذا
لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا) الآية.
وبعد أن بين ما كان عليه أهل الشام في سنة 1927 (2) من البؤس وضيق
الرزق، والجيوش الفرنسية تدمر بلادهم، وكثيرون منهم يهلكون جوعا وعريا
قال: فأين الأبدال وأسرارهم؟! واختتم كلامه رضي الله عنه بقوله: " إن هذه
الروايات قد أفسدت بأس الأمة الإسلامية وصار المتصوفة وأهل الطريق المتمسكون
بها فتنة لنابتة المسلمين ينفرون أولي الاستقلال العقلي والعلوم العصرية من الإسلام،

(1) في كل واد أثر من ثعلبة.
(2) السنة التي كتبت فيها هذه الفتوى.
134

فيعدونه كغيره دين خرافات وأوهام، كما أنهم عار على المسلمين أمام شعوب البشر
الراقين، وقد بلغ من جهلهم وفساد دينهم وأخلاقهم أنهم صاروا أعوان فرنسا في
أفريقية من حدود تونس إلى ريف مراكش، وقد آن لنا أن نعقل ونفهم ديننا من
القرآن لا من هذه الروايات المنكرة التي صرفتنا عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله
التي لا تحتمل التأويل، ولا ينال منها التضليل، وآن لنا أن ندوس هؤلاء المضلين
وكل من ينصرهم ويتأول لهم من سدنة القبور المعبودة، لاعتقاد العامة أن الرزق
وسعادة الدنيا، تطلب من المدفونين فيها، فقد صارت أمتنا بهذه الخرافات تحت أرجل
جميع الأمم، ولا تزال عامتها تعتقد أن الميتين ورجال الغيب هم سبب رزقها ودفع
البلاء عنها " ا ه‍ (1).
دولة بني العباس:
وإذا كانت قد رويت أحاديث في فضل معاوية والشام، فإن دولة بني العباس
قد ظفرت هي الأخرى بأحاديث تشد أزرها بعد أن أدبرت دولة بني أمية وقامت هي
على أنقاضها، وهاك بعضا منها:
روى البزار: عن أبي هريرة أن رسول الله قال للعباس: فيكم النبوة والمملكة.
وأخرجه كذلك أبو نعيم في الدلائل وابن عدي في الكامل - وابن عساكر وروايته
" فيكم النبوة وفيكم المملكة ".
وروى الترمذي عن ابن عباس، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دعا
للعباس بدعاء قال فيه: واجعل الخلافة باقية في عقبه.
وروى الطبراني، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الخلافة في ولد
عمي وصنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح (2).
وقد امتد وضع الحديث إلى السفاح، فقد روى أحمد عن أبي سعيد الخدري

(1) فليسمع من لا يزالون يكابرون في الحقائق.
(2) وقد صحت نبوءة الحديث فظل الملك في بني العباس حتى تسلمه منهم المسيح!!
135

أن رسول الله قال: يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع الزمان وظهور الفتن،
يقال له السفاح!!
وبمناسبة الكلام عن دولة بني العباس نذكر ما رواه السيوطي في كتابه " تاريخ
الخلفاء " عن المتوكل:
قال أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل
عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية - وتوفر دعاء الخلق
للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له - حتى قال قائلهم: الخلفاء ثلاثة:
أبو بكر الصديق في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم والمتوكل
في إحياء السنة وإماتة التجهم.
ودولة نبي العباس هذه التي رويت لها كل هذه الأحاديث، كان من آثارها
- كما قال بعض كبار المؤرخين - أن افترقت كلمة الإسلام، وسقط اسم العرب
من الديوان واستولت عليها الديلم ثم الأتراك، وصارت لهم دولة عظيمة، وانقسمت
ممالك الأرض عدة أقسام!
ذم الأتراك:
ولمناسبة ذكر الأتراك نقول: إنه لما استكثر المعتصم (1) من الأتراك حتى
امتلأت بهم بغداد كانوا يؤذون الناس ويظلمونهم - فكره أهل بغداد مجيئهم إذ
كانوا في حلهم وترحالهم شؤما عليهم، فأخذ المحدثون يروون في ذم الأتراك أحاديث
رفعوها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ومنها، أن الترك أول من يسلب أمتي
ما خولوا.
وعن ابن عباس: ليكونن الملك - أو الخلافة - في ولدي، حتى يغلبهم على
عزهم الحمر الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة.
وعن أبي هريرة: لا تقوم الساعة حتى يجيئ قوم عراض الوجوه صغار
الأعين، فطس الأنوف، حتى يربطوا خيولهم بشاطئ دجلة، وقد رواه أحمد في
مسنده عن أبي هريرة بلفظ آخر نصه: قال رسول الله: لا تقوم الساعة حتى
تقاتلوا الترك صغار العيون حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة.

(1) كانت أم المعتصم تركية.
136

وقد مر بك من قبل حديث " القسطنطينية ".
وإذا أردت المزيد من ذلك فارجع إلى كتاب " تاريخ الخلفاء للسيوطي ".
كيف استجازوا وضع الأحاديث
لم يشأ وضاع الحديث أن يدعوا عملهم بغير أن يسندوه بأدلة تسوغ ما يضعون
فقد أخرج الطحاوي في المشكل عن أبي هريرة مرفوعا: إذا حدثتم عني حديثا
تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به، قلته أم لم أقله! فإني أقول ما يعرف ولا ينكر،
وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه، فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر
ولا يعرف.
ويشبه هذا الحديث حديث آخر رواه أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أبشاركم، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم
به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه
منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه. قال السيد رشيد إن إسناده جيد (1).
وقال خالد بن يزيد سمعت محمد بن سعيد الدمشقي يقول: إذا كان كلام
حسن، لم أر بأسا من أن أجعل له إسنادا (2).
وأخرج في الحلية عن ابن مهدي عن أبي لهيعة، أنه سمع شيخا من الخوارج
يقول بعد أن تاب: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا
كنا إذا هوينا أمرا صيرنا له حديثا.
قال الحافظ ابن حجر: هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل، إذ
بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام والصحابة متوافرون، ثم في عصر التابعين
فمن بعدهم، وهؤلاء إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا وأشاعوه، فربما سمع الرجل
الشئ فحدث به ولم يذكر من حدثه به تحسينا للظن، فيحمله عنه غيره ويجيئ
الذي يحتج بالمنقطعات فيحتج به، مع كون أصله ما ذكرت!

(1) ص 228 ج 9 تفسير المنار.
(2) ص 32 ج‍ 1 النووي على مسلم.
137

الوضاع الصالحون
لم يكن وضع الحديث على رسول الله مقصورا على أعداء الدين وأصحاب
الأهواء فحسب - كما بينا - وإنما كان الصالحون من المسلمين يضعون كذلك
أحاديث على رسول الله، ويجعلون ذلك حسبة لله بزعمهم، ويحسبون أنهم بعملهم
هذا يحسنون صنعا، وإذا سألهم سائل. كيف تكذبون على رسول الله، قالوا:
نحن نكذب له لا عليه! وإن الكذب على من تعمده!
روى مسلم في كتابه عن يحيى بن سعيد القطان قال: لم نر الصالحين في شئ
أكذب منهم في الحديث - وفي رواية - لم نر أهل الخير في شئ أكذب منهم في
الحديث، يعني أنه - كما قال مسلم: يجري على لسانهم ولا يتعمدون الكذب (1).
وروى مسلم عن أبي الزناد قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ
عنهم الحديث (2). قال الحافظ ابن حجر (3) وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا
أحاديث الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد
شريعته!!
وما دروا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله لأنه
إثبات حكم من الأحكام الشرعية، سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا
مقابلهما وهو الحرام والمكروه، ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوزوا
وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتج بأنه
كذب له لا عليه وهو جهل باللغة العربية (4).
قال عبد الله النهاوندي: قلت لغلام أحمد، من أين لك هذه الأحاديث التي
تحدث بها في الرقائق؟ فقال وضعناها لنرقق بها قلوب العامة، قال ابن الجوزي

(1) هذه من بلايا تلك الكلمة " متعمدا " التي يتشبث بها الذين يزعمون أنهم من المحدثين
(ص 132 ج 1 فتح الملهم).
(2) من قواعدهم: أن الورع لا يقتضي صحة الرواية.
(3) ص 161 ج 1 فتح الباري.
(4) ليت الحشوبة يفقهون ما قاله الحافظ الكبير، ولكن أنى لهم الفقه! أو الفهم.
138

عن غلام أحمد هذا: إنه كان يتزهد ويهجر شهوات الدنيا، ويتقوت الباقلاء
صرفا، وغلقت أسواق بغداد يوم موته.
وكان أحمد بن محمد الفقيه المروزي - من أصلب أهل زمانه في السنة،
وأكثرهم مدافعة عنها، ويحقر كل من خالفها، وكان مع ذلك يضع الحديث
ويقلبه. وأخرج البخاري في التاريخ الأوسط عن عمر بن صبيح بن عمران التميمي أنه
قال: أنا وضعت خطبة النبي، وأخرج الحاكم في المدخل بسنده إلى أبي عمار
المروزي، أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل
القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال إني رأيت الناس قد
أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي، ابن إسحاق فوضعت هذا
الحديث حسبة.
لطيفة
وقد بلغ من أمرهم أنهم يضعون الحديث لأسباب تافهة، ومن أمثلة ذلك
ما أسنده الحاكم عن سيف بن عمر التميمي (1) قال: كنت عند سعد بن
طريف فجاء ابنه من الكتاب يبكي! فقال له مالك؟ قال: ضربني المعلم. قال:
لأخزينهم اليوم!
حدثنا عكرمة عن ابن عباس مرفوعا: " معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم
رحمة لليتيم وأغلظهم على المساكين "
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى
الوضع بالإدراج
قد يأتي الوضع من الراوي للحديث غير مقصود له - وعدوا ذلك من باب
" الإدراج "، والحديث " المدرج " ما كانت فيه زيادة ليست منه. وقال أهل الأثر
إن الادراج نوعان. إدراج في الإسناد وإدراج في المتن.

(1) وسيف بن عمر هذا كان كذابا وكان أشهر من روى عنهم الطبري في التاريخ وغيره من كتبه.
139

وإدراج المتن يكون في أول الحديث، مثل حديث أبي هريرة الذي رواه
الخطيب أن رسول الله قال: " أسبغوا الوضوء، ويل للإعقاب من النار " فقوله:
" أسبغوا الوضوء " مدرج من قول أبي هريرة.
ويكون الادراج في أثناء الحديث مثل حديث فضالة عند النسائي " أنا زعيم
- والزعيم الحميل - لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله، يبيت في ربض الجنة.
فقوله: والزعيم الحميل - مدرج في الحديث.
أما الادراج الذي في آخر الحديث، فقد جاء في حديث الكسوف - وهو في
الصحيح: أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا
لحياته - فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة. قال الغزالي إن هذه
الزيادة لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها.
هل يمكن معرفة الموضوع
ذكر المحققون أمورا كلية يعرف بها أن الحديث موضوع، منها:
مخالفته لظاهر القرآن، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي أو القواعد
المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان، وسائر اليقينات أو اشتمال
الحديث على مجازفات في الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، أو كان مناقضا
لما جاءت به السنة الصريحة، أو كان باطلا في نفسه، أو ما تقوم الشواهد
الصحيحة على بطلانه، أو لا يشبه كلام الأنبياء، أو كان بكلام الأطباء أشبه،
أو يشتمل على تواريخ الأيام المستقبلة، أو يكون سمجا أو يسخر منه - وغير
ذلك. ومنها، أن تقوم الشواهد الصحيحة، أو تجارب العلم الثابتة، على بطلانه
أو يكون ركيكا في معناه.
وقال ابن حجر العسقلاني: المراد في الركة على " المعنى " فحيثما وجدت دلت على
الوضع، لأن هذا الدين كله محاسن - أما ركاكة " اللفظ " فلا تدل على ذلك،
لاحتمال أن يكون الراوي قد رواه بالمعنى فغير ألفاظه بغير فصيح.
وقال ابن الجوزي: إن الحديث المنكر، يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر
140

منه قلبه، يعني الممارس لألفاظ الشارع الخبير بها، وبرونقها وبهجتها.
وقال: إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول
فاعلم أنه موضوع.
وقال الربيع بن خيثم: إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة
الليل تنكره. رواه الخطيب.
وأخرج أبي حاتم عن ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه
من كتاب الله.
وعن ابن جبير، ما بلغني حديث على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب
الله (1).
وأخرج البيهقي بسنده عن ابن عباس قال: إذا حدثتكم بحديث عن رسول
الله فلم تجدوا تصديقه في الكتاب (2)، أو هو حسن في أخلاق الناس، فإنه
كاذب (3). والأحاديث الموضوعة لا يمكن حصرها، وقد جمع منها ابن الجوزي
والسيوطي وغيرهما مجلدات كثيرة يمكن الرجوع إليها.
وقد عقد العالم القاسمي في كتابه " قواعد التحديث " بابا عن الحديث الموضوع
ختمه بفصلين نلخصهما فيما يأتي وقد جعل عنوانهما:
هل يمكن معرفة الموضوع بضابط من غير نظر في سنده؟
سئل الإمام شمس الدين بن القيم: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع
بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ فقال:
هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعرف ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة،
وخلطت بلحمه ودمه وصار له فيها ملكة واختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار،
ومعرفة سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه

(1) ص 39 من كتاب المرقاة.
(2) أي كتاب الله.
(3) ص 17 من كتاب مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي.
141

ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة كأنه مخالط له (صلى الله عليه وسلم).
فمثل هذا يعرف من أحواله وهديه وكلامه وأفعاله وأقواله، وما يجوز أن يخبر به،
وما لا يجوز، ما لا يعرفه غيره - وهذا شأن كل متبوع مع تابعه فإن للأخص به
الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه
وما لا يصح، ليس كمن لا يكون كذلك... إلخ.
وقال ابن دقيق العيد: " كثيرا ما يحكمون بالوضع باعتبار أمور ترجع إلى
المروي وألفاظ الحديث، وحاصله يرجع إلى أنه حصلت لهم، لكثرة محاولة ألفاظ
النبي صلى الله عليه وسلم، هيئة نفسانية، وملكة قوية عرفوا بها ما يجوز أن يكون
من ألفاظ النبوة وما لا يجوز ".
للقلب السليم إشراف على معرفة الموضوع
وفي فصل لأبي الحسن علي بن عروة الحنبلي:
" القلب إذا كان نقيا نظيفا زاكيا كان له تمييز بين الحق والباطل، والصدق
والكذب، والهدى والضلال، ولا سيما إذا كان قد حصل له إضاءة وذوق من النور
النبوي، فإنه حينئذ تظهر له خبايا الأمور ودسائس الأشياء والصحيح من السقيم،
ولو ركب على متن ألفاظ موضوعة على الرسول إسناد صحيح أو على متن صحيح إسناد
ضعيف، لميز ذلك وعرفه وذاق طعمه، وميز بين غثه وسمينه، وصحيحه وسقيمه،
فإن ألفاظ الرسول لا تخفى على عاقل ذاقها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله (1) " رواه الترمذي من حديث أبي سعيد.
وقال جماعة من السلف في قوله تعالى: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " - أي
للمتفرسين.
وقال معاذ بن جبل: " إن للحق منارا كمنار الطريق ".
هذا وإن القلب الصافي له شعور بالزيغ والانحراف في الأفعال والأعمال فإذا

(1) قال أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
142

سمع الحديث عرف مخرجه من أين، وإن لم يتكلم فيه الحفاظ وأهل النقد.
فمن كانت أعماله خالصة لله موافقة للسنة، ميز بين الأشياء كذبها وصدقها..
والله سبحانه وتعالى يلهم الصادق الذكي معرفة الصدق من الكذب، كما في الحديث:
" الصدق طمأنينة والكذب ريبة " وقال لوابصة: " استفت قلبك "، وقد ترك النبي
أمته على البيضاء ليلها كنهارها.. وكلام الرسول ولا ريب عليه جلالة وفيه فحولة
ليست لغيره من الناس..
وقال ابن تيمية: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح
شرعي... فمتى ما وقع عنده، وحصل في قلبه ما يظن معه أن هذا الأمر،
أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله، كان ترجيحا بدليل شرعي - والذين أنكروا
كون الإلهام ليس طريقا إلى الحقائق مطلقا، أخطأوا. فإذا اجتهد العبد في طاعة
الله وتقواه، كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة، فإلهام هذا دليل
في حقه وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة، والظواهر والاستصحابات
الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف وأصول الفقه.
وقال عمر: " الحق أبلج لا يخفى عن فطن "، وقال حذيفة بن اليمان: " إن في
قلب المؤمن سراجا يزهر "، وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له
وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل
السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم.. وفي الصحيح عن النبي " قد
كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر " والمحدث هو
الملهم المخاطب في سره، وقد كان أبو سليمان الداراني يسمى أحمد بن عاصم الأنطاكي
" جاسوس القلب " لحدة فراسته.. ا ه‍ ما قلناه ملخصا من هذين الفصلين (1).
ومما يجب أن يكون من موازين الحديث الصحيح ألا يمجه الذوق السليم
مثل حديث " الذباب "، وألا يخالف أغراض الإسلام العليا التي ترمي إلى سعادة
الإنسان في الدنيا والآخرة.

(1) ص 147 - 155 باختصار.
143

الكاذبون وما جنوا
من الافتراء على النبي صلوات الله عليه
قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة على رسول الله اثنى عشر ألف حديث.
وقال المهدي: أقر عندي رجل من الزنادقة أنه وضع 400 حديث، فهي تجول
في أيدي الناس.
وأخرج ابن عساكر عن الرشيد أنه جيئ إليه بزنديق فأمر بقتله، فقال:
يا أمير المؤمنين، أين أنت عن أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم أحرم فيها الحلال
وأحل فيها الحرام.
ولما أخذ عبد الكريم بن أبي العوجاء بضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم
أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحلل الحرام.
وقال إسحاق بن راهويه وهو شيخ البخاري أحفظ أربعة آلاف حديث مزورة.
وعن سهل بن السري الحافظ قال: وضع أحمد بن عبد الله الجوبياري،
ومحمد بن عكاشة الكرماني، ومحمد بن تميم الفارابي على رسول الله أكثر من عشرة
آلاف حديث.
وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح.
والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى، ومن أراد أن يستزيد منها فليرجع إلى
مظانها، وبخاصة كتاب تحذير الخواص للسيوطي.
ونقف من نقلنا عند ذلك وهو كفاية.
144

الإسرائيليات في الحديث
لما قويت شوكة الدعوة المحمدية واشتد ساعدها، وتحطمت أمامها كل قوة
تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها ويصدون عن سبيلها، إلا أن يكيدوا لها
من طريق الحيلة والخداع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بعدد القوة والنزاع.
ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا ليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله
المختار، فلا يعترفون لأحد غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة، فإن
رهبانهم وأحبارهم لم يجدوا بدا - وبخاصة بعد أن غلبوا على أمرهم وأخرجوا من
ديارهم (1) - من أن يستعينوا بالمكر، ويتوسلوا بالدهاء، لكي يصلوا إلى ما يبتغون،
فهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهروا بالإسلام ويطووا نفوسهم على دينهم، حتى
يخفى كيدهم، ويجوز على المسلمين مكرهم، وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء وأشدهم
مكرا، كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام. ولما وجدوا أن حيلهم
قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى، وأن المسلمين قد سكنوا إليهم،
واغتروا بهم، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم، وذلك بأن
يدسوا إلى أصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير وخرافات، وأوهام وترهات
لكي تهيئ هذه الأصول وتضعف. ولما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم لأنه
قد حفظ بالتدوين، واستظهره آلاف من المسلمين، وأنه قد أصبح بذلك في منعة
من أن يزاد فيه كلمة أو يتدسس إليه حرف - اتجهوا إلى التحدث عن النبي فافتروا
- ما شاءوا أن يفتروا - عليه أحاديث لم تصدر عنه (2)، وأعانهم على ذلك أن ما تحدث
به النبي في حياته لم يكن محدود المعالم، ولا محفوظ الأصول، لأنه لم يكتب في
عهده صلوات الله عليه كما كتب القرآن، ولا كتبه صحابته من بعده، وأن في

(1) أجلى عمر يهود خيبر إلى أذرعات وغيرها سنة 20 ه‍، وأجلى يهود نجران إلى الكوفة، وقسم وادي
القرى ونجران بين المسلمين (ص 108 ج‍ 8 البداية والنهاية لابن كثير)، وذلك لمن لم يكن معه عهد من
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) قال ابن الجوزي: لما لم يستطيع أحد أن يدخل في القرآن ما ليس منه أخذ أقوام يزيدون
في الحديث ويضعون ما لم يقل (ص 14 ج‍ 2 تاريخ ابن عساكر).
145

استطاعة كل ذي هوى أو دخلة سيئة، أن يتدسس إليه بالافتراء، ويسطو عليه
بالكذب، ويسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما لا يعلمون
من أمور العالم الماضية - واليهود بما لهم من كتاب، وما فيهم من علماء، كانوا
يعتبرون أساتذة العرب فيما يجهلون من أمور الأديان السابقة، إن كانوا مخلصين
صادقين.
قال الحكيم بن خلدون (1) عندما تكلم عن التفسير النقلي، وأنه كان يشتمل
على الغث والسمين والمقبول والمردود: والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب
ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوفوا إلى معرفة شئ مما تتشوف
إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون
عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم (2)، وهم أهل التوراة من اليهود
ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله
ابن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم.. وتساهل المفسرون
في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كلها كما قلنا من التوراة،
أو مما كانوا يفترون.
وقال في موضع آخر من مقدمته (3):
" وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين، وأئمة النقل من المغالط في الحكايات
والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، لم يعرضوها على أصولها،
ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات،
وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم
والغلط.
وقال الدكتور أحمد أمين:
اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام،

(1) ص 439 و 440 من المقدمة.
(2) كان ابن إسحاق يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول - ص 8 ج‍ 18
معجم الأدباء.
(3) ص 9 في المقدمة.
146

واتصل التابعون بابن جريج - وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة
والإنجيل وشروحها وحواشيها، فلم ير المسلمون بأسا من أن يقصوها بجانب آيات
القرآن فكانت منبعا من منابع التضخم " ا ه‍ (1).
من أجل ذلك كله أخذ أولئك الأحبار يبثون في الدين الإسلامي أكاذيب
وترهات، يزعمون مرة أنها في كتابهم أو من مكنون علمهم، ويدعون أخرى أنها
مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في الحقيقة من مفترياتهم، وأنى
للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون
العبرانية (2) التي هي لغة كتبهم، ومن ناحية أخرى كانوا أقل منهم دهاء وأضعف
مكرا، وبذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب، وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل
ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص، مغتبرين أنه صحيح لا ريب فيه.
وقبل أن نعرض لبيان بعض الإسرائيليات التي امتلأت بها كتب التفسير
والحديث والتاريخ، نؤرخ هنا بإيجاز لزعماء هؤلاء الأحبار: كعب ووهب،
وعبد الله بن سلام.
كعب الأحبار (3)
هو كعب بن ماتع الحميري من آل ذي رعين، وقيل من ذي الكلاع،
ويكنى أبا إسحاق من كبار أحبار اليهود، وعرف بكعب الأحبار وأسلم في عهد عمر
على التحقيق وسكن المدينة في خلافته، وكان معه في فتح القدس، ثم تحول إلى الشام

(1) ص 139 ج‍ 2 ضحى الإسلام.
(2) روى البخاري عن أبي هريرة: أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها
بالعربية لأهل الإسلام (ص 285 ج‍ 2).
(3) كان الأستاذ سعيد الأفغاني قد نشر بمجلة الرسالة مقالة ذكر فيها أن الصهيوني الأول هو
عبد الله بن سبأ، فرددنا عليه بمقال مفصل أثبتنا فيه أن الصهيوني الأول هو كعب الأحبار، ونشر هذا الرد
بالعدد 656 من الرسالة.
147

في زمن عثمان فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه (1)، كما كانوا
يفهمون، وهو الذي أمره أن يقص في بلاد الشام (2) وبذلك " أصبح أقدم الأخباريين في
موضوع الأحاديث اليهودية والاسلامية، وبواسطة كعب وابن منبه وسواهما من اليهود
الذين أسلموا تسربت إلى الحديث طائفة من أقاصيص التلمود - الإسرائيليات - وما لبثت
هذه الروايات أن أصبحت جزءا من الأخبار الدينية والتاريخية. وقال عنه الذهبي في
تذكرة الحفاظ إنه قدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة
وغيرهم وروى عن جماعة من التابعين مرسلا مات بحمص (3) في سنة 32 أو 33
أو 38 بعد ما ملأ الشام وغيرها من البلاد الإسلامية اليهودية برواياته وقصصه
المستمدة من الأخبار، كما فعل تميم الداري في الأخبار النصرانية (4).
سبب إسلامه:
افتجر هذا الكاهن لإسلامه سببا عجيبا ليتسلل به إلى عقول المسلمين وقلوبهم!
فقد أخرج ابن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال:
قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم في عهد النبي وأبي بكر؟ فقال: إن
أبي كتب لي كتابا من التوراة، فقال أعجل به! وختم على سائر كتبه، وأخذ

(1) ص 164 من الإسلام والحضارة العربية، وكيف لا يوصف كعب بكثرة العلم وقد قال
لقيس بن خرشة القيسي: ما من شبر في الأرض إلا وهو مكتوب في التوراة التي أنزل على نبيه موسى عليه
السلام ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة - رواه الطبري والبيهقي في الدلائل. وص 533 ج‍ 2
من الإستيعاب لابن عبد البر.
(2) ص 323 ج‍ 5 في الإصابة.
(3) على أن كعبا قد مات بحمص ودفن بها فإنهم في مصر قد جعلوا له قبرا أقاموا عليه قبة عالية
يزورها الناس ويتبركون بها، وهذه القبة قائمة بمسجد كبير في شارع الناصرية في القاهرة تنفق عليه
وزارة الأوقاف من أموالها، وحمص التي دفن فيها كعب ليست كغيرها من بلدان المسلمين فقد رووا
فيها حديثا رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وآله هذا لفظه: " ليبعثن الله تعالى من مدينة بالشام يقال لها " خمص "
سبعين ألفا يوم القيامة، لا حساب عليهم ولا عذاب "، ولا ريب أن هذا كله من بركات جثمان سيدنا
كعب.. ومن حقه على الله!! ومن العجيب أنهم أسندوا هذا الحديث إلى عمر!! (راجع الجزء الثاني
من الجامع الصغير للسيوطي).
وذكر ابن جبير في رحلته أن بالجيزة قبرا لكعب الأحبار ص 25.
(4) ص 97 ج‍ 2 ضحى الإسلام.
148

علي بحق الوالد على الولد - ألا أفض الختم عنها. فلما رأيت ظهور الإسلام، قلت
لعل أبي غيب عني علما! ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته! فجئت الآن مسلما!
وروى عبد الله بن عمر (1) أن رجلا من أهل اليمن جاء إلى كعب الأحبار
فقال له: إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة، فقال كعب: هاتها، فقال له
الرجل: إنه يقول لك: ألم تكن سيدا شريفا مطاعا! فما الذي أخرجك من دينك
إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعا إليه؟ قال: نعم، قال: فإن رجعت إليه
فخذ بطرف ثوبه، لئلا يفر منك، وقل له: يقول لك: أسألك بالذي فلق البحر
لموسى، وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كل شئ!
ألست تجد في كلمات الله تعالى: أن أمة محمد ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنة
بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة
بشفاعة أحمد، فإنه سيقول لك: نعم، فقل له: يقول لك كعب: اجعلني في أي
الأثلاث شئت! " ا ه‍.
وقال ابن حجر في الإصابة: إنه روى عن النبي مرسلا وروى عنه في الصحابة
ابن عمر وأبو هريرة وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وغيرهم (2).
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء:
وحدث عنه عبد الله بن حنظلة (3) وأسلم مولى عمر وتبيع الحميري وأبو سلام
الأسود، وروى عنه عدة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلا. وقع له رواية
في سنن أبي داود والترمذي والنسائي (4).
وهب بن منبه
ذكر المؤرخون أنه فارسي الأصل جاء جده إلى اليمن في جملة من بعثهم
كسرى لنجدة اليمن على الحبشة، فأقاموا هناك وتناسلوا وصاروا يعرفون بين العرب

(1) ص 266 ج‍ 1 في حياة الحيوان.
(2) ص 323 ج‍ 5 في الإصابة، وانظر كتابنا " شيخ المضيرة ".
(3) ص 218 ج‍ 3.
(4) ص 322 في نفس المصدر.
149

" بالأبناء " أي أبناء الفرس، ومنهم طاوس بن كيسان التابعي المشهور.
وكان آباء وهب على دين الفرس (المجوسية أو الزردشتية)، فلما أقاموا بين
اليهود باليمن، أخذوا عنهم آداب اليهود وتقاليدهم فتعلموا شيئا من النصرانية،
وكان يعرف اليونانية وعنده من علم أهل الكتاب شئ كثير. ولكن ضعفه
الفلاس (1).
أدرك عدة من الصحابة وروى عنهم، وكذلك روى عنه كثير من الصحابة
منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وابن عباس وغيرهم، وكان للعرب ثقة بهم.
وذكر الإمام أحمد أن والده منبها فارسي أخرجه كسرى إلى اليمن فأسلم، وأن
ابنه وهبا كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها.
ومن أقواله: إني قرأت من كتب الله 72 كتابا...
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: إنه عالم أهل اليمن ولد سنة 34 ه‍ وتوفي
بصنعاء سنة 110 ه‍. أو بعد ذلك بسنة أو أكثر، وقيل إنه توفي سنة 116 (1) ه‍.
عبد الله بن سلام
هو أبو الحارث الإسرائيلي، أسلم بعد أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة،
وهو من أحبار اليهود، حدث عنه أبو هريرة وأنس بن مالك وجماعة، وقال فيه
وهب بن منبه الإسرائيلي: كان أعلم أهل زمانه، وكعب أعلم أهل زمانه، وقد مات
سنة 40 ه‍.
كيف استحوذوا على عقول المسلمين
اتبع هؤلاء الأحبار بدهائهم العجيب طرقا غريبة لكي يستحوذوا بها على
عقول المسلمين، ويكونوا محل ثقتهم، وموضع احترامهم، وإليك طرفا من هذه
الأساليب العجيبة:

(1) ص 171 ج‍ 2 مقدمة فتح الباري.
150

أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام (1) - وهو أحد كبار اليهود الذين
أسلموا - أنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار،
مولده مكة ومهاجره طيبة، وأخرج كذلك، مكتوب في التوراة صفة النبي
وعيسى بن مريم يدفن معه.
وهذا الذي أخرجه الترمذي عن ابن سلام قد أحكمه الداهية كعب: فقد
وي الدارمي عنه - في صفة النبي في التوراة قال: في السطر الأول محمد رسول الله
عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام (2).
وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة حتى وجدناه في سنن الدارمي
كذلك عن الداهية الأكبر كعب: فقد روى ذكوان عنه قال:
في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب
بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته
بطيبة وملكه بالشام (3).
وفي السطر الثاني: محمد رسول الله أمته الحمادون، يحمدون الله في السراء
والضراء، يحمدون الله في كل منزل، ويكبرون على كل شرف، رعاة الشمس
يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة، ويأتزرون على أوساطهم
ويوضئون أطرافهم، وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل.
وهذا الكلام قد أورده ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس في جواب لكعب،
وقد امتدت هذه الخرافة إلى أحد تلاميذ كعب عبد الله بن عمرو بن العاص.
فقد روى البخاري عن عبد الله بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن
العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: أجل، والله (4) إنه
لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا

(1) ص 274 ج‍ 4 فتح الباري.
(2) ممن رووا عن عبد الله بن سلام أبو هريرة وأنس بن مالك.
(3) تخصيص الملك بالشام في قول كعب إنما جاء لغرض سياسي خطير، مر بك شئ من خبره،
وسيأتيك نبأ عنه فيما بعد.
(4) هكذا يورطه أستاذه حتى يقسم بالله. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
151

ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ
ولا سخاب (1) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، بل يعفو ويغفر، ولا يقبضه
الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: " لا إله إلا الله " ويفتح بها أعينا عميا وآذانا
صما وقلوبا غلفا. وزاد ابن كثير، قال ابن يسار، ثم لقيت كعبا الحبر فسألته
فما اختلفا في حرف. وكيف يختلفان وكعب هو الذي علمه!
وروى السيوطي في الاتقان (2)، أن كعب الأحبار قال: في التوراة: يا محمد،
إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
وروى الجواليقي في كتاب المغرب (3) قال: قال ابن الأعرابي: ذكر عن
كعب الأحبار أنه قال: أسماء النبي في الكتب السالفة: محمد وأحمد وحمياط -
أي حامي الحرم!
وروى القاضي عياض في الشفاء (4) أن وهب بن منبه قال: قرأت في أحد
وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا،
وأفضلهم رأيا، وفي رواية أخرى: فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع
الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله (صلى الله عليه وسلم)
إلا كحبة رمل من رمال الدنيا.
كعب وعمر
لما قدم كعب إلى المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه، أخذ يعمل بدهاء ومكر
لما أسلم من أجله، من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبي (صلى الله عليه وسلم).
ومما أغراه بالرواية أن عمر بن الخطاب كان في أول أمره يستمع إليه على
اعتبار أنه قد أصبح مسلما صادق الإيمان، فتوسع في الرواية الكاذبة ما شاء أن

(1) سخاب بالسين لغة أثبتها الفراء وغيره، والأشهر بالصاد.
(2) ص 53 ج‍ 1.
(3) ص 122.
(4) ص 55 ج‍ 1.
152

يتوسع. قال ابن كثير (1): " لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي
الله عنه، فر بما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده
من غث وسمين ".
ولكن لم يلبث عمر أن فطن لكيده وتبين له سوء دخلته، فنهاه عن الحديث،
وتوعده إن لم يترك الحديث عن الأول أو ليلحقنه بأرض القردة (2).
وعلى أن عمر قد ظل يترقب هذا الداهية بحزمه وحكمته، وينفذ إلى أغراضه
الخبيثة بنور بصيرته، كما ترى في قصة الصخرة - فإن شدة دهاء هذا اليهودي
قد تغلبت على فطنة عمر وسلامة نيته، فظل يعمل بكيده في السر والعلن، حتى
انتهى الأمر بقتل عمر، وتدل القرائن كلها على أن هذا القتل كان بمؤامرة من جمعية
سرية، وكان هذا الدهي من أكبر أعضائها وعلى رأسها الهرمزان (3) ملك الخوزستان
الذي كان قد جيئ به إلى المدينة أسيرا، وعهدوا بتنفيذها إلى أبي لؤلؤة الأعجمي.
قتل عمر ويد كعب فيه
ذكر المسور بن مخرمة (4) أن عمر لما انصرف إلى منزله بعد أن أوعده أبو لؤلؤة
جاء كعب الأحبار (5) فقال: يا أمير المؤمنين " أعهد " فإنك ميت في ثلاث ليال،

(1) ص 17 ج‍ 4 تفسير.
(2) ص 206 ج‍ 8 البداية والنهاية، ورواية الذهبي في سير أعلام النبلاء " لتتركن الحديث
أو لألحقنك بأرض القردة ص 433 ج‍ 2.
(3) هو صاحب تستر من أعظم قواد الفرس وكان على ميمنة جيش رستم وزير ملك فارس في حرب
القادسية، ولما قتل رستم فر الهرمزان بمن بقي من جنده، فما زال المسلمون يتابعونه حتى لجأ إلى مدينة تستر
وتحصن بها فحاصروه أشد حصار حتى أنزلوه على حكم الفاروق، وأتوا به إلى المدينة (سنة 17 ه‍) وكان
المسلمون يسبون أبناء فارس ويتخذونهم عبيدا. ومن كان منهم بالمدينة كانوا يختلفون إلى الهرمزان،
ومن هؤلاء السبايا فيروز الملقب " بأبي لؤلؤة " وكان غلاما للمغيرة بن شعبة وهو الذي طعن عمر.
(4) ص 24 / 3 تاريخ ابن الأثير والجزء الخامس من تاريخ الطبري.
(5) كان لهذا الرجل أفانين عجيبة في اللعب بعقول المسلمين، وإليك لعبة من ألاعيبه رواها
المؤرخون الثقات: قال كعب لعمر: أجدك في التوراة تقتل شهيدا! قال عمر: وأنى لي بالشهادة وأنا
بجزيرة العرب؟ وعن شداد بن أوس عن كعب قال: كان في نبي إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر،
وإذا ذكرنا عمر ذكرناه، وكان إلى جنبه نبي يوحى إليه فأوحى الله إلى النبي أن يقول له: أعهد عهدك
واكتب إلي وصيتك، فإنك ميت إلى ثلاثة أيام، فأخبره النبي بذلك - فلما كان اليوم الثالث وقع بين
الجدار والسرير ثم جاء إلى ربه فقال: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أعدل في الحكم وإذا اختلفت
الأمور اتبعت هداك، وكنت وكنت فزد في عمري حتى يكبر طفلي، وتربو أمتي، فأوحى الله إلى النبي أنه قال
كذا وكذا وقد صدق وقد زدته في عمره خمس عشرة ففي ذلك ما يكبر طفله وتربو أمته، فلما طعن عمر
قال كعب: لئن سأل عمر ربه ليبقينه الله، فأخبر بذلك عمر فقال: اللهم اقبضني إليك غير عاجز
ولا ملوم - من ص 90، 98 تاريخ الخلفاء و 357 ج‍ 2 في تاريخ الكامل لابن الأثير.
153

" رواية " الطبري " ثلاثة أيام " قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التوراة،
قال عمر: أتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكن أجد حليتك
وصفتك، وأنك قد فني أجلك، قال ذلك وعمر لا يحس وجعا فلما كان الغد،
جاءه كعب فقال: " بقي يومان " فلما كان الغد جاءه كعب فقال: مضى
يومان وبقي يوم - ورواية الطبري وبقي يوم وليلة - وهي لك إلى صبيحتها فلما
أصبح خرج عمر إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالا، فإذا استوت كبر،
ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه فضرب عمر ست
ضربات، إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته. وكان أبو لؤلؤة من سبي نهاوند.
ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: وأتى كعب عمر فقال: " ألم أقل
لك إنك لا تموت إلا شهيدا " وإنك تقول: " من أين وأنا في جزيرة العرب " (1)؟
وإليك خبرا عجيبا من أخبار هذا الكاهن لعله يمتلخ منك عرق الشك في اشتراكه
في هذه المؤامرة، فقد أخرج الخطيب عن مالك، أن عمر دخل على أم كلثوم
بنت علي وهي زوجته فوجدها تبكي: فقال: ما يبكيك؟ قالت هذا اليهودي (2)
أي كعب الأحبار - يقول: إنك على باب من أبواب جهنم، فقال عمر: ما شاء
الله! ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين - لا تعجل علي
والذي نفسي بيده، لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة؟ فقال عمر: ما هذا؟
مرة في الجنة، ومرة في النار؟! قال كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده
إنا لنجدك في كتاب الله (3) على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها،

(1) ص 236 / 3 / 1 طبقات ابن سعد.
(2) حقا إنه يهودي ماكر، هذا الخبر في فتح الباري ص 41 ج 13 وص 253 ج‍ 3 ق 2
طبقات ابن سعد.
(3) كان يعزو كل مفترياته إلى كتاب الله، وكتاب الله منه برئ.
154

فإذا مت لم يزالوا يقتحمون فيها إلى يوم القيامة! ولما طعن عمر جاء كعب فجعل يبكي
بالباب ويقول: والله لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره (1).
وقد صدقت يمينه - لعنه الله - فقد قتل عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين
من ذي الحجة سنة 23 ه‍. ودفن يوم الأحد هلال المحرم 24 ه‍.
وهذه الأدلة كلها تثبت أن قتل عمر على يد أبي لؤلؤة لم يكن إلا نتيجة لتلك
المؤامرة التي دبرها له الهرمزان لما كان يكنه من الحقد الموجدة للعرب، بعد أن ثلوا
عرش الفرس، ومزقوا دولتهم، وممن اشترك فيها وكان له أثر كبير في تدبيرها كعب
الأحبار وهذا أمر لا يمتري فيه أحد إلا الجهلاء.
حديث الاستسقاء
روى التاريخ أن الأرض أجدبت إجدابا شديدا في خلافة عمر، وكان ذلك
في عام الرمادة (2) فلم يدع كعب هذه الفرصة تفلت من غير أن يتخذ منها وسيلة
ليرمي الإسلام طعنة من طعناته - فقال لعمر: إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم
مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء. وهنا جاءت روايات بأن عمر قال: هذا عم
رسول الله وصنو أبيه وسيد بني هاشم - العباس، فمشى إليه ثم استسقوا. وقال أنس (3)
إن عمر قال في هذا استسقاء: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك
بعم نبينا فتسقينا.
ومما لا مراء فيه أن هذا اليهودي قد أراد بقوله هذا أن يخدع عمر عن أول
أساس قال عليه الدين الإسلامي - وهو التوحيد الخالص - ليزلقه إلى هوة التوسل

(1) ص 262 ج‍ 3 ق 2 طبقات ابن سعد.
(2) ذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة 18 ه‍ ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء
وتخفيف الميم، سمى العام بها من شدة الجدب فأغبرت الأرض جدا من عدم المطر وهلكت الماشية وجاع
الناس وهلكوا حتى كانوا يستفون الرماد ويحفرون نفق اليرابيع والجرذان يخرجون ما فيها 223 / 2 / 3
طبقات ابن سعد.
(3) لا شك أن رواية أنس هذه أو غيرها لا تنهض أمام الروايات القوية التي جاءت بخلافها.
وأنس هذا من الذين لا يوثق كثيرا برواياتهم، وكان أبو حنيفة لا يثق به ولا بأبي هريرة ولا بسمرة بن جندب.
155

الذي هو الشرك بعينه، حتى إذا هوى فيها عمر وأثرت عنه بالعمل اتخذت سنة
من بعده وكان لها أثر بالغ لدى المسلمين جميعا في العقيدة الإسلامية على مد
العصور، فينهدم بذلك الأساس المتين للدين، ولكن عمر وهو في الأفق من البصيرة
بالدين والفقه فيه قد فطن لها ولم يقع في الفخ الذي نصبه له هذا الخدعة، فلم
يستسق بأحد حتى بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يزد على الاستغفار.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب المطر، وفي كتاب مجابى الدعوة
عن خوات بن جبير قال: خرج عمر يستسقي بهم فصلى الركعتين فقال: اللهم
إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكانه حتى مطروا. وعن الشعبي قال: خرج
عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا يا أمير المؤمنين: ما نراك
استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح (1) السماء التي يستنزل بها المطر،
ثم قرأ: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا "، ثم قرأ:
" وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه "... الآية (2).
وعن الشعبي: خرج يستسقي فقام على المنبر فقرأ هؤلاء الآيات:
" استغفروا ربكم إنه كان غفارا " ويقول " استغفروا ربكم ثم توبوا إليه " ثم
نزل فقيل يا أمير المؤمنين: ما منعك أن تستسقي؟ فقال: قد طلبت المطر بمجاديح
السماء التي ينزل بها القطر.
وعن عبد الله بن دينار الأسلمي عن أبيه قال: لما أجمع عمر على أن يستسقي
ويخرج بالناس كتب إلى عماله أن يخرجوا يوم كذا وكذا، وأن يتضرعوا إلى ربهم
ويطلبوا إليه أن يرفع هذا المحل عنهم، وخرج لذلك اليوم عليه برد رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) حتى انتهى إلى المصلى فخطب الناس، وتضرع وجعل الناس يلحون فما كان أكثر دعائه إلا الاستغفار حتى إذا قرب أن ينصرف رفع يديه مادا وحول
رداءه وجعل اليمين على اليسار، ثم اليسار على اليمين، ثم مد يده، وجعل يلح في
الدعاء ويبكي بكاء طويلا حتى اخضلت لحيته (3).

(1) في أساس البلاغة لجار الله في مادة " ج د ح " وخفق المجدح أي الدبران ونوءه غزير، يقولون
أرسلت السماء مجاديح الغيث وفي حديث عمر " لقد استسقيت بمجاديح السماء " أراد الاستغفار.
(2) ص 92 ج 7 البداية والنهاية لابن كثير.
(3) ص 231 / 2 / 3 طبقات ابن سعد.
156

وفي المغني والشرح الكبير، أن عمر خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار
وقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء (1).
وقال الجاحظ: ولما صعد " عمر " المنبر قابضا على يد العباس يوم الاستسقاء
لم يزد على الدعاء. فقيل له إنك لم تستسق وإنما تستغفر، قال: قد استسقيت
بمجاديح السماء - ذهب إلى قوله تعالى: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء
عليكم مدرارا " (2).
وإذا كان الأمر قد وقع على هذه الصورة فلا بأس به ما داموا جميعا كانوا
يدعون الله، وإنا نكاد نقطع بأن عمر لم يتوسل بأحد في الاستسقاء ولم يتخذ من
وسيلة فيه إلى الله غير الدعاء والاستغفار، كما جاء في الأخبار الصحيحة المؤيدة
بآيات من كتاب الله العزيز.
من مكر وكيد كعب
في موطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أراد الخروج إلى العراق فقال له
كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين! فإن بها تسعة أعشار السحر:
فسقة الجن وبها الداء العضال (3).
ما بثه كعب ووهب من الإسرائيليات
ولكي تقف على بعض ما بثه هذان الكاهنان من الإسرائيليات، وكانت شبها
على الإسلام يحتج بها عليه أعداؤه، ويضيق بها ذرعا أولياؤه، والتي أصبحت
من المشكلات التي نعاني سيئاتها، ويعسر علينا التخلص منها - نمد لك بطرف

(1) 290 ج‍ 2.
(2) ص 279 ج 4 البيان والتبيين، وهذا الخبر رواه كذلك ابن قتيبة في تاريخ يزيد بن عبيد
في كتاب الشعر والشعراء ورواه الطبري في التفسير.
(3) ص 538 من كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة ابن دحلان.
157

صغير منها على سبيل المثال:
قال معاوية لكعب: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا! فقال
كعب: إن قلت ذلك فإن الله قال: وآتيناه من كل شئ سببا!!
قال ابن كثير في تفسيره (1) وهذا الذي أنكره معاوية على كعب هو الصواب،
والحق مع معاوية في ذلك الإنكار، فإن معاوية كان يقول عن كعب: إنا كنا
لنبلو عليه الكذب، وذكر القرطبي في تفسير سورة غافر عن خالد بن معدان
عن كعب أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش قال: لم يخلق الله تعالى خلقا أعظم
مني، واهتز تعاظما، فطوقه الله بحية لها سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون
ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل
فم سبعون ألف لسان! يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر،
وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا، وعدد الملائكة
أجمعين، والتوت الحية على العرش - فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية عليه،
فتواضع عند ذلك!
وفي التفسير (2) أن عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له فوصل إلى جنة
شداد فحمل ما قدر عليه مما كان هناك، وبلغ خبره معاوية فاستحضره وقص
عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من
المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال. وعلى عنقه خال، يخرج
في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله هو ذلك الرجل (3)

(1) ص 101 ج 3.
(2) اللفظ هنا منقول عن تفاسير الفخر الرازي والطبري وأبي السعود والنيسابوري على هامش تفسير
الطبري ص 87 ج 3.
(3) من أساطيرهم أنه كان لعاد ابنان، شداد وشديد، فملكا وقهرا البلاد، ثم مات شديد وخلص
الأمر لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فقال أبني مثلها. فبنى إرم في بعض
صحارى عدن في 300 سنة، وكان عمره 900 سنة، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها
من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان
منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا..
158

ولا يدخل المدينة أحد بعده إلى يوم القيامة (1). ولما فرغ كعب من كلامه قال له
معاوية (2): يا أبا إسحاق، أخبرني عن كرسي سليمان بن داود وما كان عليه ومن أي
هو. فأخذ ينشئ من خرافاته وأساطيره ما لا نستطيع إيراده، فيرجع إليه في كتب
التفسير...
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن كعب قال: الأرضون السبع على صخرة،
والصخرة في كف ملك، والملك على جناح الحوت، والحوت في الماء، والماء على
الريح، والريح على الهواء، ريح عقيم لا تلقح، وإن قرونها معلقة في العرش.
وعن وهب بن منبه: أربعة أملاك يحملون العرش على أكتافهم، لكل واحد
منهم أربعة وجوه! وجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه إنسان، ولكل واحد
منهم أربعة أجنحة، أما جناحان فعلى وجهه ليحفظاه من أن ينظر إلى العرش
فيصعق فيهفو بهما، ليس له كلام إلا أن يقول: قدوس الملك القوي ملأت عظمته
السماوات والأرض (3).
روى ابن الفقيه في تاريخه:
سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الأرض، سبع هي؟ قال: نعم والسماوات
سبع. وقرأ - " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ". فقال رجل:
فنحن على وجه الأرض الأولى؟ قال: نعم، وفي الثانية خلق يطيعون، ولا يعصون.
وفي الثالثة خلق، وفي الرابعة صخرة ملساء، والخامسة ضحضاح من الماء، والسادسة
سجيل وعليها عرش إبليس، والسابعة ثور، والثور على سمكة، والسمكة على الماء،
والماء على الهواء، والهواء على الثرى، والثرى منقطع فيه علم العلماء (4).
وقرأ معاوية آية " حتى بلغ مغرب الشمس " حتى إذا بلغ " عين حمئة "
قال ابن عباس إنها عين حمئة، فجعلا كعبا بينهما فأرسلوا إليه فسألوه فقال:

(1) لقد أخذ الطريق على معاوية بذلك، لأن وصول غيره إليها ليبحث عنها سيفضحه ويفضح
رواياته وخرافاته.
(2) ص 36 ج‍ 4 تفسير ابن كثير.
(3) ص 99 من كتاب التنبيه في الرد على أهل الأهواء والبدع للملطي.
(4) ص 51 من تاريخ الأدب الجغرافي العربي تأليف المستشرق أغناطيوس يوليا نوفتش
تشكوفسكى.
159

أما الشمس فإنها تغيب في " ثأط " والثأط الطين. وقال مرة أخرى: تغيب في طينة
سوداء.
ويروى أن ابن عباس وعمرو بن العاص اختلفا في قراءة هذه الآية " في عين
حمئة " وارتعفا إلى (1) كعب الأحبار في ذلك.
وأخرج ابن خيثمة عن قتادة قال: بلغ حذيفة أن كعبا يقول: إن السماء تدور
على قطب كالرحى فقال: كذب كعب، إن الله يقول: " يمسك السماوات والأرض
أن تزولا (2) ".
وذكر الحافظ ابن حجر أن كعب الأحبار روى، أن باب السماء الذي يقال
له " مصعد الملائكة " يقابل بيت المقدس (3) فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في
الأسراء إلى بيت المقدس قبل العروج، ليحصل العروج مستويا. من غير
تعويج...
وهكذا تنفذ الإسرائيليات إلى معتقداتنا، وقال ابن حجر بعد أن أورد تلك
الخرافة: وفيه نظر لورود أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في سماء الدنيا
حيال الكعبة، وكان من المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور بغير
تعويج! لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور!!
وروى كعب أن في الجنة ملكا لو شئت أن أسميه لسميته، يصوغ لأهل الجنة
الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة، لو أبرز قلب منها (أي سوار) لرد شعاع
الشمس، كما ترد الشمس شعاع القمر.
ومما يدلك على أن الصحابة كانوا يرجعون إليه حتى فيما هو من علمهم وبخاصة
عندما قال: " ما من شئ إلا وهو مكتوب في التوراة "، أن أبا عبد الرحمن محمد
ابن الحسين النيسابوري ذكر أن عمر قال لكعب - وقد ذكر الشعر - يا كعب هل
تجد للشعر ذكرا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوما من ولد إسماعيل

(1) ص 112 ج‍ 2 سنن الترمذي طبع الهند.
(2) ص 323 ج‍ 5 من الإصابة في تمييز الصحابة.
(3) ص 156 ج‍ 7 فتح الباري.
160

أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم
إلا العرب (1).
وروى يزيد بن حبيب أن معاوية بن أبي سفيان سأل كعب الأحبار: هل تجد
لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال: إي والذي فلق البحر لموسى عليه السلام،
إني لأجد في كتاب الله عز وجل: أن الله يوحي إليه في كل عام مرتين. يوحي
إليه عند جريه: أن الله يأمرك أن تجري فيجري كما كتب الله، ثم يوحي إليه بعد
ذلك، عد حميدا (2).
وروى البيهقي في الأسماء والصفات بسند صحيح عن ابن عباس قال: في قوله
تعالى " الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن " قال سبع أرضين في كل
أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى
كعيسى - ولم يذكر لموسى مثيلا!
قال البيهقي في الشعب: هو شاذ بالمرة، قال السيوطي - هذا من البيهقي في
غاية الحسن، فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، لاحتمال صحة الإسناد
مع أن في المتن شذوذا أو علة تمنع صحته ".
وقال ابن كثير بعد عزو هذا الحديث لابن جرير بلفظ " كل أرض في الخلق
مثل ما في هذه من آدم كآدمكم وإبراهيم كإبراهيمكم " هو محمول - إن صح عن
ابن عباس - على أنه أخذه من الإسرائيات.
وعن مكحول، قال كعب: أربعة من الأنبياء أحياء أمان لأهل الأرض،
اثنان في الأرض: الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى (3).
وفي تفسير الطبري أن ابن عباس سأل كعبا عن " سدرة المنتهى " فقال: إنها على
رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وليس لأحد وراءها علم، ولذلك

(1) ص 8 من كتاب العمدة لابن رشيق.
(2) ص 33 ج 1 من النجوم الزاهرة.
(3) ص 337 ج‍ 6 فتح الباري.
161

سميت " سدرة المنتهى " لانتهاء العلم بها، هذا ما قاله لتلميذه الثاني. أما تلميذه
الأول فهو أبو هريرة، ففي حديث له أنها شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء
غير آسن، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل - وهي شجرة يسير
الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها تغطي الأمة كلها - يا حفيظ!
وفي حديث المعراج أنه لما فرض الله خمسين صلاة على العباد في النهار وفي الليل
لم يستطع أحد من الرسل جميعا غير موسى - أن يفقه استحالة أدائها على البشر!
فهو وحده الذي فطن لذلك وحمل محمدا صلى الله عليه وسلم على أن يراجع ربه عشر
مرات في حديث، وخمس مرات في حديث ثان، وبضع مرات في حديث ثالث -
وفيها كلها أنه صلوات الله عليه كلما نزل بعدد منها من عند الله، أعاده موسى إلى
ربه لينقصها حتى رجعت إلى خمس صلوات. وكأن الله سبحانه وتعالى لما فرض
الصلاة على المسلمين، كان لا يعلم مبلغ قوة احتمال عباده على أدائها - تعالى الله
عن ذلك علوا كبيرا - وكذلك لا يعلم محمد الذي اصطفاه للرسالة العامة إلى الناس
كافة - والله أعلم حيث يجعل رسالته - لا يعلم إن كان من أرسل إليهم يستطيعون
احتمال هذه العبادة أو لا يستطيعون. حتى بصره موسى! وهكذا ترى الإسرائيليات
تنفذ إلى ديننا وتسري في معتقداتنا فتعمل عملها ولا تجد أحدا إلا قليلا يزيفها
أو يردها، بل نرى - وا أسفاه - من يصدقها ويعتقدها من حشوية آخر الزمان، الذين
يتجرون بالدين ولا يهمهم أن ينسب الجهل الخاتم المرسلين، صلوات الله عليه،
ولا يزالون يذكرون اسم كعب الأحبار مقرونا بالسيادة (1)، ونكتفي بهذه
الأمثلة فإنها مجزئة (2).

(1) كانوا يعتبرون كعبا في الطبقة الأولى من التابعين ص 90 ج‍ من النجوم الزاهرة - ولا يزال
الحشويون يعتبرونه كذلك.
(2) أنظر ما أوردناه من الإسرائيليات التي تلقاها أبو هريرة عن أستاذه كعب الأحبار وذلك
في كتابنا " شيخ المضيرة ".
162

هل يجوز رواية الإسرائيليات
جاءت الشريعة الإسلامية فنسخت ما قبلها من الشرائع. وإن كانت قد أبقت
على أصول العقائد وما لا يتعارض معها من الأمور التي أرسل الله بها جميع الرسل
إلى خلقه - وقد بين القرآن الكريم أن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) قد كتبوا
من عند أنفسهم كتبا ليشتروا بها ثمنا قليلا.
ومن أجل ذلك نهى رسول الله أن يأخذ المسلمون على أهل الكتاب أمرا يخالف
أصول دين الله وأحكامه وآدابه، وكان يغضب أشد الغضب إذا رأى أحدا ينقل
عنهم شيئا، فقد روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن خطاب أتى النبي:
بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال: أمهوكون فيها
يا بن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني، وفي
رواية: فغضب وقال: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوا أهل الكتاب عن
شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو باطل فتصدقوا به.
وروى البخاري عن أبي هريرة: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم،
وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.
وروى البخاري من حديث الزهري عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون
أهل الكتاب عن شئ، وكتابكم الذي أنزل الله على رسول الله أحدث الكتب
تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه،
وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا! ألا ينهاكم
ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي
أنزل إليكم!
وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن
شئ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل!
هذه هي الروايات الصحيحة التي تتفق مع الدين والعقل، والتي كانت معروفة
عند المحققين.
163

هذا بعض ما روي عن النبي صلوات الله عليه في النهي عن الأخذ عن أهل
الكتاب، ولكن ما لبث الأمر أن انقلب بعد أن اغتر بعض المسلمين بمن أسلم من
أحبار اليهود خدعة - فظهرت أحاديث رفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبيح
الأخذ وتنسخ ما نهى عنه.
فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما أن رسول الله قال:
حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب
الأحبار، وقد جاءت الأخبار بأن الثاني - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص -
أصاب يوم اليرموك - زاملتين من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منها. وزاد
ابن حجر " فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين " (2).
رواية بعض الصحابة عن أحبار اليهود
كان من أثر وثوق الصحابة بمسلمة أهل الكتاب واغترارهم بهم أن صدقوهم
فيما يقولون، ويروون عنهم ما يفترون - وقد نص رجال الحديث في كتبهم أن
العبادلة الثلاثة (3) وأبا هريرة (4) ومعاوية وأنس وغيرهم، قد رووا عن كعب
الأحبار وإخوانه - وكان أبو هريرة أكثر الصحابة وثوقا به، وأخذا عنه،
وانقيادا له، كما يتبين لك من تاريخه الذي نشرناه في كتاب خاص باسم (شيخ
المضيرة فيرجع إليه.
وقد استطاع هذا اليهودي (كعب الأحبار) كما دعته السيدة الجليلة أم كلثوم
- بوسائله الشيطانية أن يدس من الخرافات والأوهام والأكاذيب في الدين
ما امتلأت به كتب التفسير والحديث والتاريخ فشوهتها وأدخلت الشك إليها،
وما زالت تمدنا بأضرارها إلى ما شاء الله وقد حدثناك بشئ منها من قبل لأن استيعابها
يحتاج إلى مصنفات مفردة.

(1) ص 4 ج 1 تفسير ابن كثير.
(2) ص 167 ج 1 فتح الباري.
(3) العبادلة الثلاثة: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو.
(4) يرجع إلى كتابنا " شيخ المضيرة " ليعلم كيف اتصل أبو هريرة بكعب الأحبار وكيف
وقع في فخه.
164

تكذيب الصحابة لكعب
كان الصحابة - كما علمت - يثقون بكعب أول الأمر، ولكن ما لبث بعضهم
أن فطن له بعد ما تبين من كذبه وانكشف من أمره، فنزعوا عنه ثوب الثقة وشكوا
في أخباره، بل كذبوه وإن كان بعضهم أمثال أبي هريرة والعبادلة وغيرهم قد
ظلوا على تصديقه، والأخذ عنه حتى لقى ربه.
وقد نهى عمر كعبا عن الحديث وأوعده بالنفي إلى بلاده، وقال له: لتتركن
الحديث أو لألحقنك بأرض القردة (1) - وكان علي يقول: إنه لكذاب.
وروى البخاري عن الزهري أن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا
من قريش وذكر كعبا فقال: إنه من أصدق (2) هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب
وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
وأخرج ابن أبي خيثمة بسند حسن عن قتادة قال: بلغ حذيفة أن كعبا
يقول: إن السماء تدور على قطب كالرحى، فقال: كذب كعب، إن الله
يقول: " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا " (3)، وقال ابن عباس لرجل مقبل
من الشام: من لقيت؟ قال: كعبا، قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول
إن السماوات تدور على منكب ملك. فقال: كذب كعب. أما ترك يهوديته بعد!
ثم قرأ: " إن الله يمسك السماوات والأرض "... الآية (4).
والأخبار في ذلك كثيرة فنجتزئ بما قدمناه.

(1) ص 106 ج‍ 8 البداية والنهاية.
(2) هناك رواية أخرى (أمثل).
(3) ص 323 ج‍ 1 من الإصابة لابن حجر.
(4) ص 139 من كتاب الكافي الشاف لابن حجر العسقلاني.
165

قصة الصخرة بين عمر وكعب
لما افتتحت إيليا وأرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة 16 ه‍ ودخل عمر
بيت المقدس دعا كعب الأحبار وقال له: أين ترى أن نجعل المصلى؟ فقال كعب
الأحبار: إلى الصخرة (1)!! فقال له عمر: ضاهيت والله اليهودية (2) يا كعب -
وفي رواية - يا بن اليهودية خالطتك يهودية أبنيه في صدر المسجد؟ فإن لنا صدور
المساجد - وقد رأيتك وخلعك نعليك! فقال: أحببت أن أباشره بقدمي! ولما أخذ
في تنظيف بيت المقدس من الكناسة التي كانت الروم قد دفنتها به (3) سمع التكبير
من خلفه - وكان يكره سوء الرعة (4) في كل شئ فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب
وكبر الناس بتكبيره فقال: علي به، فقال: يا أمير المؤمنين - إنه قد تنبأ على
ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة!! قال: وكيف؟ قال: إن الروم أغاروا
على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه - إلى أن وليت فبعث الله نبيا على الكناسة
فقال أبشري أوري شلم، عليك الفاروق ينقيك مما فيك (5)، وفي رواية أتاك الفاروق
في جندي المطيع ويدركون لأهلك بثأرك من الروم إلخ هذه الخرافات التي افتجرها
هذا الدجال الأفاك..
" وقد ظللت الصخرة مكشوفة في خلافة عمر وعثمان مع حكمهما على الشام،
وكذلك في خلافة علي رضي الله عنه، وإن كان لم يحكم عليها، ثم كذلك في إمارة
معاوية وابنه وابن ابنه، فلما كان في زمن عبد الملك وجرى بينه وبين ابن الزبير
من الفتنة ما جرى كان هو الذي بنى القبة على الصخرة (6) وعظم عبد الملك شأن

(1) وفي رواية إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، أي أن تكون الصخرة قبلة.
(2) مضاهاة اليهودية مشابهتها في استقبال الصخرة. لما فيه من مشابهة من يعتقدها قبلة باقية.
(3) كان نصارى الروم قد ألقوا هذه الكناسة معاندة لليهود الذين يعظمون الصخرة، ويصلون إليها.
(4) سوء التقية والورع.
(5) لخصنا هذا الكلام من الطبري ص 160 وما بعدها ج‍ 4.
(6) على ذكر عبد الملك بن مروان الذي بنى الصخرة نورد ما رواه عنه ابن الأثير في الصفحة
190 من الجزء الرابع قال:
حج عبد الملك بن مروان بالناس سنة 75 فخطب الناس بالمدينة فقال: أما بعد فإني لست الخليفة
المستضعف يعني عثمان، ولا الخليفة المداهن يعني معاوية، ولا الخليفة المأفون يعني يزيد، ألا وإني
لا أداوى هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم، وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين،
ولا تعملون مثل أعمالهم. وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون أنفسكم والله لا يأمرن أحد بتقوى الله بعد مقامي
هذا إلا ضربت عنقه.
166

الصخرة بما بناه عليها وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف، ليكثر قصد الناس
للبيت المقدس فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير - والناس على دين الملوك.
وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة ما لم يكن المسلمون يعرفونه، وصار بعض
الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها، حتى روى بعضهم عن كعب الأحبار عند
عبد الملك بن مروان - وعروة بن الزبير حاضر - أن الله قال للصخرة: أنت عرشي
الأدنى. وقد صنف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس وغيره من
البقاع التي بالشام، وذكروا من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن أخذ عنهم
ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم، وأمثل من ينقل عنه تلك الإسرائيليات
كعب الأحبار - وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرا من الإسرائيليات.
وفي مرآة الزمان لسبط بن الجوزي: توقفهم فيما رواه كعب الأحبار عن الرسول
عليه الصلاة والسلام، لأنه أسلم على يد الفاروق، وكان يضربه بالدرة ويقول له:
دعنا من يهوديتك (1).
الإسرائيليات - في فضل بيت المقدس
قال كعب: إن الله نظر إلى الأرض فقال: إني واطئ على بعضك، فاستبقت
له الجبال، وتضعضعت الصخرة، فشكر لها ذلك، فوضع عليها قدمه!
وقال: إن العرض والحساب من بيت المقدس. وإن مقبور بيت المقدس
لا يعذب.
وقال: هي أقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا - وهي أرض المحشر والمنشر.
وقال: لا تقوم الساعة حتى يزور البيت الحرام بيت المقدس فينقادان جميعا
إلى الجنة وفيهما أهلوهما.
وقال: إن في التوراة أنه يقول لصخرة بيت المقدس: أنت عرشي الأدنى،
ومنك ارتفعت إلى السماء، ومن تحتك بسطت الأرض، وكل ما يسيل من ذروة

(1) ص 35 ج‍ 1.
167

الجبال من تحتك - من مات فيك فكأنما مات في السماء إلخ.
وعن أبي هريرة - تلميذ كعب الأحبار - أن النبي قال: الأنهار كلها
والسحاب والبحار والرياح تحت صخرة بيت المقدس.
وقال كعب: قال الله عز وجل لبت المقدس: أنت جنتي وقدسي وصفوتي
من بلادي، من سكنك فبرحمة مني، ومن خرج منك فبسخط مني عليه.
وعن كعب: اليوم في بيت المقدس كألف يوم، والشهر كألف شهر، والسنة فيه
كألف سنة، ومن مات فيه فكأنما مات في السماء، ومن مات حوله فكأنما
مات فيه (1).
عن وهب بن منبه قال: أهل بيت المقدس جيران الله، وحق الله عز وجل
ألا يعذب جيرانه، ومن دفن في بيت المقدس نجا من فتنة القبر وضيقه.
وفي حديث أن الطائفة من أمته الظاهرين على الحق، والذين لا يضرهم من
خالفهم حتى يأتيهم أمر الله، أنهم في بيت المقدس وأكنافه.
وقال العلامة الأستاذ نعمة الله السلجوقي رئيس فخر المدارس (بهرات) من
بلاد أفغانستان وهو يقرظ كتابنا " أضواء على السنة المحمدية " في كتاب قيم بعث
به إلينا.
أما الأحاديث المروية في فضل الشام فنحن نعترف بأن أكثرها دسائس
إسرائيلية. وفي ذلك ما روي في بعض الكتب أن من أهل من المسجد الأقصى
للحج غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذه الرواية - مع ما تدل على أفضلية
المسجد الأقصى - تؤدي إلى الإلحاد وعدم المبالاة بارتكاب المعاصي وتفتح
أبواب الفسوق، ومن الخرافات التي دسها اليهود وأدرجت في كتب السير وبعض
التفاسير: أن السماوات بعضها من الفضة وبعضها من الزبرجد، وأن السيارات
مركوزة في السماوات على الترتيب المذكور في كتب اليونان، مثل إن القمر مركوز
بسماء الدنيا، والعطارد بالثانية، وهكذا إلى السابعة. وهكذا أن السماوات موضوعة
على رأس جبل محيط بالأرض يقال له قاف. وأن الأرض موضوعة على قرن ثور

(1) ارجع إلى ص 332 ج‍ 1 وما بعدها من نهاية الإرب للنويري فترى هذه الأخبار واعجب منها.
168

قائم فوق ظهر حوت يسبح في الماء.
كل ذلك من غفلة العلماء، وعدم مبالاتهم بوخامة عاقبة ما دس أعداء الدين
بين المسلمين.
ما قيل في المسجد الأقصى
كانت الأحاديث الصحيحة أول الأمر في فضل المسجد الحرام ومسجد رسول
الله ولكن بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث في فضلها وفضل المسجد الأقصى.
وقد روى أبو هريرة: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا
ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى. وفي رواية: يسافر إلى ثلاثة مساجد، الكعبة
ومسجدي ومسجد إيليا: وروى مالك في الموطأ ومسلم في كتابه عن أبي هريرة:
صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام.
وعنه أيضا: " صلاة في مسجد رسول الله أفضل من ألف صلاة فيما سواه من
المساجد إلا المسجد الحرام "، وفي رواية: كألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا أن
يكون المسجد الحرام، وعن أبي عمر: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة
فيما سواه إلا المسجد الحرام.
وعن ابن عباس: أن امرأة اشتكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن
فلأصلين في بيت المقدس، فبرئت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة
زوج النبي تسلم عليها فأخبرتها بذلك، فقالت: اجلسي، فكلي ما صنعت وصلي
في مسجد رسول الله، فإني سمعت رسول الله يقول:
صلاة فيه أفضل من ألف فيما سواه إلا مسجد الكعبة.
ولو أن المسجد الأقصى كان قد ورد فيه تلك الأحاديث، لما منعت ميمونة
هذه المرأة من أن توفي بنذرها.
169

اليد اليهودية في تفضيل الشام
ذكرنا لك من قبل (1) أن إشادة كهان اليهود إلى أن ملك النبي سيكون
بالشام إنما هو الأمر خبئ في أنفسهم، ونبين هنا أن الشام ما كان لينال من الإشادة
بذكره، والثناء عليه، إلا لقيام دولة بني أمية فيه، تلك الدولة التي قلبت الحكم
من خلافة عادلة إلى ملك عضوض، والتي تحت كنفها وفي أيامها نشأت الفرق
الإسلامية التي فتت في عضد الدولة الإسلامية ومزقتها تمزيقا واستفاض فيها وضع
الحديث، فكان جديرا بكهنة اليهود أن ينتهزوا هذه الفرصة وينفخوا في نار الفتنة،
ويمدوها بجيوش الأكاذيب والكيد وكان من هذه الأكاذيب أن بالغوا في مدح الشام
وأهله، وأن الخير كل الخير فيه، والشر كل الشر في غيره.
وعلى أنه قد مر بك ذرو مما قاله هؤلاء الكهنة في أن ملك النبي سيكون
بالشام، وأن معاوية قد زعم أن رسول قد قال له إنه سيلي الخلافة من بعده.
وطلب منه أن يختار الأرض المقدسة التي فيها الأبدال، فإنا نكشف هنا عن جانب
آخر من كيد الدهاء اليهودي للمسلمين ودينهم وملكهم، ذلك أنهم لم يكتفوا بما
قالوه في الشام مما أتينا على بعضه من قبل، بل زادوا على ذلك بأن جعلوا الطائفة
الظاهرة على الحق تكون في الشام كذلك، وحتى نزول عيسى الذي قالوا عنه
سيكون بأرضه...
فقد جاء في الصحيحين: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم
من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، روى البخاري هم بالشام (2).
وفي مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: لا يزال أهل الغرب ظاهرين على
الحق حتى تقوم الساعة. قال أحمد وغيره: هم أهل الشام.
ولما فتحت بلاد الأندلس جعلوها هذا الغرب المقصود، في الحديث وأطلقوا

(1) ص 151.
(2) في رواية أبي أمامة الباهلي أنهم لما سألوا النبي قال: بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
ص 333 ج‍ 1 نهاية الإرب.
170

الحديث على بلادهم، ففي المعجب في تلخيص أخبار المغرب عن سعد بن أبي
وقاص أن رسول الله قال: لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق لا يضرهم من
خذلهم حتى تقوم الساعة (1).
وفي كشف الخفاء أن كعب الأحبار قال: أهل الشام سيف من سيوف
الله ينتقم الله بهم من العصاة. ولعل العصاة هنا هم الذين لا ينضوون تحت لواء
معاوية ويتبعون غيره وغيره، هو علي رضي الله عنه!
قال عروة بن رويم: إن رجلا لقى كعب الأحبار فسلم عليه ودعا له،
فسأله كعب: ممن هو؟ فقال: من أهل الشام، قال: لعلك من الجند الذين
يدخل الجنة منهم سبعون ألفا بغير حساب، ولا عذاب، قال: ومن هم، قال:
أهل دمشق! فقال: لست منهم؟ قال فلعلك من الجند الذين ينظر الله إليهم في
كل يوم مرتين. قال: ومن هم؟ قال: أهل فلسطين. قال: أنا منهم! وفي لفظ
قال: لعلك من الجند الذين يشفع شهيدهم بسبعين؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل
حمص (2).
وقال كعب: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان: حائط حران
ودمشق ثم بابل (3).
وعن نافع عن ابن عمر عن كعب قال: تخرج نار تحشد الناس فإذا سمعتم
بها فاخرجوا إلى الشام (4). وابن عمر هو أحد تلاميذ كعب.
ومن أحاديث الجامع الصغير للسيوطي التي أشر عليها بالصحة:
الشام صفوة الله من بلاده، إليها يجتبي صفوته من عباده، فمن خرج من
الشام إلى غيرها فبسخطة، ومن دخلها فبرحمة!
طوبى للشام إن الرحمن لباسط رحمته عليه..

(1) ص 15.
(2) ص 57 ج‍ 1 من تاريخ ابن عساكر - المخطوط - وحمص هذه هي التي دفن فيها جثمانه الطاهر!
(3) ص 14 من نفس المصدر.
(4) ص 69 ج‍ 13 من فتح البار.
171

ليبعثن الله من مدينة بالشام يقال لها " حمص " سبعين ألفا يوم القيامة،
لا حساب عليهم ولا عذاب، يبعثهم فيما بين الزيتون والحائط.. إلخ.
ومدينة حمص هذه يجب أن يكون لها هذا الشأن العظيم حتى في الآخرة بحيث
لا يدانيها في ذلك مدينة أخرى حتى مدينة النبي.. وذلك لأن الكاهن اليهودي
- الذي يعده كثير من شيوخ المسلمين أنه من كبار التابعين - قد اتخذها مقاما له،
ثم ضمت رفاته بعد موته. ولا نطيل بإيراد كل ما لدينا من هذه الأخبار لأن
ما جئنا به فيه الكفاية.
قول المحققين في الإسرائيليات ورواتها
وقبل أن نفرغ من الكلام عن الإسرائيليات التي مني بها الدين الإسلامي
نسوق إليك بعض ما قاله المحققون من أئمة المسلمين في هؤلاء الكهنة الذين أظهروا
الإسلام، وفي رواياتهم المدخولة.
قال ابن تيمية عن الإسرائيليات التي قيلت في بيت المقدس وغيره من بقاع
الشام ما يأتي:
وقد صنف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس وغيره من
البقاع التي بالشام، وذكروا ما فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن
أخذ عنهم، ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم - وأمثل من ينقل عنه تلك
الإسرائيليات كعب الأحبار. وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرا من الإسرائيليات،
وقد قال معاوية: ما رأينا في هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب أمثل من كعب،
وإن كنا لنبلو عليه الكذب أحيانا، قد ثبت في الصحيح عن النبي (صلى الله
عليه وسلم) أنه قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما
أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه (1).

(1) هذا هو الحديث الصحيح الذي يسطع منه نور النبوة، ولكن أحد تلاميذ كعب هو
عبد الله بن عمرو بن العاص يأتي فيروي عن النبي هذا الحديث: " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل
ولا حرج " ثم يخالف عن أمر النبي ويغضبه فيحدث عن الزاملتين وراجع صفحة 163 و 164 من
هذا الكتاب.
172

ومن العجب أن هذه الشريعة المحفوظة (1) المحروسة، مع هذه الأمة المعصومة
التي لا تجتمع على ضلالة - إذا حدث بعض أعيان التابعين عن النبي (صلى الله
عليه وسلم) كعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وأبي العالية ونحوهم - وهم من
خيار علماء المسلمين وأكابر أئمة الدين - توقف أهل العلم في مراسيلهم فمنهم من
يرد المراسيل مطلقا، ومنهم من يتقبلها بشروط، إلى أن قال: وهؤلاء ليس بين
أحدهم وبين النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا رجل، أو رجلان، أو ثلاثة مثلا.
وأما ما يوجد في كتب المسلمين في هذه الأوقات من الأحاديث التي يذكرها
صاحب الكتاب مرسلة، فلا يجوز الحكم بصحتها باتفاق العلماء - فكيف بما ينقله
كعب الأحبار وأمثاله عن الأنبياء - وبين كعب وبين النبي الذي ينقل عنه ألف
سنة وأكثر وأقل، وهو لم يسند ذلك عن ثقة بعد ثقة بل غايته أن ينقل عن بعض
الكتب التي كتبها شيوخ اليهود (2)، وقد أخبر الله عن تبديلهم وتحريفهم، فكيف
يحل للمسلم أن يصدق شيئا من ذلك بمجرد هذا النقل، بل الواجب ألا يصدق
ذلك ولا يكذبه أيضا، إلا بدليل على كذبه.
وهكذا أمرنا النبي (صلى الله عليه وسلم). وفي هذه الإسرائيليات مما هو كذب
على الأنبياء أو ما هو منسوخ في شريعتنا ما لا يعلمه إلا الله ا ه‍ (3).
وقال ابن كثير في تفسير سورة النمل، بعد أن ذكر ما جاء في قصة ملكة سبأ
مع سليمان من الإسرائيليات ما يلي:
" والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في
صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من
أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرف
وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة.
وقد أشار الحكيم ابن خلدون في مواضيع كثيرة من مقدمته إلى كعب ووهب
وما جاء عنهما فليرجع إليه من أراد زيادة في البيان.

(1) أي الشريعة الإسلامية.
(2) هذا على فرض أنهم ينقلون عن شيوخهم، ولكنهم كانوا يفترون من عند أنفسهم!
(3) ص 208 و 209 من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم.
173

ولم نجد في هذا العصر، بل في العصور الأخيرة من فطن لدهاء كعب ووهب
وكيدهما، مثل الفقيه المحدث السيد محمد رشيد رضا رحمه الله. وإني أنقل هنا
بعض ما قاله في كعب خاصة، وفيه وفي زميله وهب عامة.
قال في كعب ردا على من وصفوه بأنه كان من أوعية العلم ما يلي (1):
إن ثبوت العلم الكثير لا يقتضي نفي الكذب. وكان جل علمه عندهم،
ما يرويه عن التوراة ليقبل وغيرها من كتب قومه وينسبه إليها ليقبل، ولا شك أنه
كان من أذكى علماء اليهود قبل إسلامه وأقدرهم على غش المسلمين بروايته بعده.
وقال عنه إنه كان من زنادقة اليهود الذين أظهروا الإسلام والعبادة لتقبل
أقوالهم في الدين. وقد راجت دسيسته حتى انخدع به بعض الصحابة ورووا عنه،
وصاروا يتناقلون قوله بدون إسناد إليه، حتى ظن بعض التابعين ومن بعدهم أنها
مما سمعوه عن النبي، وأدخلها بعض المؤلفين في الموقوفات التي لها حكم المرفوع كما قال
الحافظ ابن كثير في مواضع من تفسيره (2).
وقال عنه: إنه كان بركان الخرافات وأجزم بكذبه بل لا أثق بإيمانه (3). وقال
فيهما معا - أي كعب ووهب (4).
" إن شر رواة هذه الإسرائيليات، أو أشد تلبيسا وخداعا للمسلمين
هذان الرجلان. فلا تجد خرافة دخلت في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي في
أمور الخلق والتكوين والأنبياء وأقوامهم، والفتن والساعة والآخرة، إلا وهي منهما
مضرب المثل - في كل واد أثر من ثعلبة - ولا يهولن أحد انخداع بعض
الصحابة والتابعين بما بثاه وغيرهما من هذه الأخبار - فإن تصديق الكاذب لا يسلم
منه أحد من البشر ولا المعصومين من الرسل: فإن العصمة إنما تتعلق بتبليغ الرسالة
والعمل بها، فالرسل معصومون من الكذب ومن الخطأ في التبليغ ومن العمل بما ينافي
ما جاءوا به التشريع، لأن هذا ينافي القدوة ويخل بإقامة الحجة. ولكن الرسول

(1) ص 541 وما بعدها 27 مجلة المنار.
(2) ص 752 ج‍ 27 من نفس المصدر.
(3) ص 697 ج‍ 27.
(4) ص 783 ج‍ 27 من نفس المصدر.
174

إذا صدق الكاذب في أمر يتعلق به وبعمله، أو بمصلحة الأمة، فإن الله تعالى
يبين له ذلك ومنه ما كان، من بعض أزواجه، الذي نزل فيه أول سورة التحريم،
وعلم من قوله تعالى فيها " قالت من أنبأك هذا؟؟ قال نبأني العليم الخبير " أي
أنه لم يعلم المكيدة بملكة العصمة، بل بوحي الله تعالى بعد وقوعها. ومنه قوله
تعالى فيما كان كذب عليه بعض المنافقين الذين اعتذروا عن الخروج معه (صلى
الله عليه وسلم) إلى تبوك، " عفا الله عنك، لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين
صدقوا وتعلم الكاذبين ".
وما نقله الزرقاني من رأيه: أن ما روي عن الصحابي مما لا مجال للرأي فيه
موقوفا عليه، فإن له حكم المرفوع، (وإن احتمل أخذ الصحابي له عن أهل الكتاب
تحسينا للظن به) فهو رأي باطل مردود عليه، لا نتخذه قاعدة وأصلا في ديننا
وما علله به ظاهر البطلان، إذ لا محل هنا لتحسين الظن، ولا لمقابله، فمن المعتاد
المعهود من طباع البشر أن يصدقوا كل خبر لا يظهر لهم دليل على تهمة قائله فيه
ولا على بطلانه في نفسه، فإذا صدق بعض الصحابة كعب الأحبار في بعض
مفترياته التي كان يوهمهم أنه أخذها من التوراة أو غيرها من كتب أنبياء بني
إسرائيل وهو من أحبارهم، أو في غير ذلك، فلا يستلزم هذا إساءة الظن فيهم،
وإذا كانت هذه الخرافات الإسرائيلية مما يصد عن الإسلام ويجري الألسنة والأقلام
بالطعن فيه، مع العلم بأنها مروية عمن لا تعد أقوالهم ولا آراؤهم نصوصا دينية،
ولا أدلة شرعية، وإن كانوا من أفراد علماء السلف - كما هو واقع بالفعل -
فكيف يكون موقفنا مع هؤلاء الطاعنين فيه من الملاحدة ودعاة الأديان المعادين
للإسلام، والمسلمين من زنادقة المسلمين أيضا إذا قلنا إن كل تلك الترهات
والخرافات الإسرائيلية إذا كان بعض رواتها من الصحابة فإنها تنتظم في سلك
الأحاديث المرفوعة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ويجب الإيمان بها؟ ألا إن هذا
باب واسع في الطعن في الإسلام والصد عنه، لو فتحه علينا من هو أكبر من
الزرقاني من مقلدة القرون الوسطى المظلمة لأغلقناه في وجهه وقلنا له، إن علماء
الأصول قد اتفقوا على أن طروء الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال، يكسوها
175

ثوب الإجمال فيسقط بها الاستدلال.
وهذا الاحتمال أولى من ذاك أن يمنع عد الموقوف مرفوعا، وجعله دليلا شرعيا.
وقال رحمه الله (1): وإنا بعد اختبارنا ثلث قرن قضيناه في معالجة الشبهات
ومناظرة الملاحدة وأمثالهم من خصوم الإسلام والرد عليهم قولا وكتابة، قد ثبت
عندنا أن روايات كعب ووهب في كتب التفسير والقصص والتاريخ، كانت
شبهات كثيرة للمؤمنين، لا للملاحدة والمارقين وحدهم. وإن المستقلين في الرأي
لا يقبلون ما قالوه: إن كل من قال جمهور رجال الجرح والتعديل بعدالته فهو
عدل، وإن ظهر لمن بعدهم فيه من أسباب الجرح ما لم يظهر لهم.
وقال رحمه الله: رأينا الشئ الكثير في رواياتهما (2) مما نقطع بكذبه، لمخالفة
ما روياه مما كانا يعزوانه للتوراة وغيرها من كتب الأنبياء - فجزمنا بكذبهما وهو
مما لم يكن يعلمه المتقدمون. لأنهم لم يطلعوا على كتب أهل الكتاب، والطعن في
روايتهما يدفع شبهات كثيرة عن كتب الإسلام ولا سيما تفسير كتاب الله المحشو
بالخرافات.
وقال كذلك عن روايتهما: إن أكثرها خرافات إسرائيلية شوهت كتب
التفسير وغيرها من الكتب، وكانت شبها على الإسلام يحتج بها أعداؤه الملاحدة
أنه كغيره دين خرافات وأوهام، وما كان فيها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه
أكبر كالذي ذكره كعب من صفة النبي في التوراة (3).
وعلى أن الأئمة المحققين قد طعنوا في رواية هذين الكاهنين، لا يزال يوجد
بيننا - وا أسفاه - من يثق بهما، ويصدق ما يرويانه، ولا يقبل أي كلام فيهما.

(1) ص 539 ج‍ 27 من مجلة المنار.
(2) أي كعب ووهب.
(3) ص 618 ج‍ 27.
176

الكيد السياسي
ولكي نستوفي القول في بيان مدى الكيد اليهودي للإسلام والمسلمين - وإن
كان ذلك يعد استطرادا ينحرف بنا عما نحن بسبيله - نكشف لك عن جانب
آخر من عمل دهاة اليهود، ذلك هو الجانب السياسي، فلقد كان كيدهم في محاربة
الإسلام يتجه إلى ضربه من ناحيتين: ناحية دينية، وأخرى سياسية، أما طعنهم
في الناحية الدينية فقد حدثناك به من قبل، وهاك ذروا صغيرا من كيدهم السياسي.
عبد الله بن سبأ
قال رفيق العظم في أشهر مشاهير الإسلام (1):
" إن بذار الفتنة بذرت في أنحاء المملكة (الإسلامية) وعواصمها الكبيرة كمصر
والبصرة والكوفة بدعوة سرية قام ببثها عبد الله بن سبأ المعروف " بابن السوداء "
وكان يهوديا من حمير أسلم على عهد عثمان بإيعاز جمعية سرية تريد بهذا أحد أمرين:
إما تفريق المسلمين في الدين، أو تفريقهم في السياسة.
وهذا الرجل لما أسلم نزل في البصرة على حكيم بن جبلة العبدي، واجتمع
إليه نفر فأخذ يغريهم بالدعوة التي قام بها، فقبلوا منه، وبلغ ابن عامر أمره فطرده
من البصرة، فأتى الكوفة فأخرج منها أيضا، فأتى مصر واستقر فيها، والتف عليه
ناس من أهل مصر، منهم كنانة بن بشر، وسودان بن حمران، وخالد بن ملجم
وأشباههم فقال لهم: العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمدا يرجع،
فوضع لهم الرجعة فقبلت منه ا ه‍.
ومن قول ابن سبأ هذا: إن لكل نبي وصيا، وعلي وصي محمد، والرجعة بعد
محمد لعلي - وهذا هو متعقد الشيعة، وإن عثمان قد أخذ حق علي.
وقال عنه الدكتور أحمد أمين في فجر الإسلام (2) إنه " هو الذي حرك أبا ذر

(1) ص 763.
(2) ص 330 و 331.
أضواء على السنة المحمدية
177

الغفاري للدعوة الاشتراكية (1)، وكان من أكبر من ألب الأمصار على عثمان وأله
عليا، والذي يؤخذ من تاريخه أنه وضع تعاليم لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية
لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستارا يستر به نياته - وأشهر تعاليمه الوصاية والرجعة،
وقد بدأ قوله بأن محمدا يرجع، فكان مما قاله: " العجب ممن يصدق أن عيسى
يرجع، ويكذب أن محمدا يرجع ". ثم تحول إلى القول بأن عليا يرجع، وقال
ابن حزم، لما قتل علي قال: " لو أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت
حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وفكرة الرجعة هذه أخذها ابن سبأ من
اليهودية، فعندهم أن النبي " إلياس " صعد إلى السماء وسيعود فيعيد الدين والقانون،
ووجدت الفكرة في النصرانية أيضا في عصورها الأولى.
وصفوة القول في هؤلاء اليهود - كما قال بعض الباحثين - أن سلاحهم كان
الافتراء والكذب، والمكر والدس، وتحريف الكلم، وإثارة الشكوك والشبهات
بين المسلمين وإيقاع الضغينة بينهم.
وقد تبين لك أن قتل عمر كان من تدبير جمعية سرية اشترك فيها كعب الأحبار
اليهودي. وقتل عثمان كان بعضه بتأثير دسائس عبد الله بن سبأ اليهودي، وإلى
جمعية السبئيين وجمعيات الفرس، ترجع جميع الفتن السياسية، وأكاذيب الرواية
في الصدر الأول.
كتبنا ذلك في الطبعة الأولى من كتابنا اعتمادا على ما كتبه كبار المؤرخين ومن
جاء بعدهم عن ابن سبأ، وقد ظهر كتاب نفيس اسمه " عبد الله بن سبأ " من تأليف
العالم العراقي الكبير الأستاذ مرتضى العسكري أثبت فيه بأدلة قوية مقنعة أن هذا
الاسم لا حقيقة له، لأن المصدر الأول الذي اعتمد عليه كل المؤرخين من الطبري
إلى الآن في إثبات وجوده هو سيف بن عمر التميمي المتوفى سنة 170 ه‍، وقد طعن
أئمة السنة جميعا في روايته، وقال فيه الحاكم: اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط.
وإنا - إنصافا للعلم والحق نقول: إن الدكتور طه حسين قد شك قبل ذلك في

(1) لما لقى ابن السوداء أبا ذر في الشام قال يا أبا ذر: ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال
مال الله؟ ألا إن كل شئ لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين - 734 - أشهر مشاهير الإسلام.
178

وجود عبد الله بن سبأ هذا، وإليك بعض ما أثبته في كتابه العظيم " الفتنة الكبرى "
الجزء الثاني " علي وبنوه " وهو يتحدث عن وقعة صفين (1):
أقل ما يدل عليه إعراض المؤرخين عن السبئية وعن ابن السوداء في حرب صفين
أن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفا منحولا وقد اخترع بأخرة حين
كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية. أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا
في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم، والنيل منهم، ولو قد
كان أمر ابن السوداء مستندا إلى أساس من الحق والتاريخ الصحيح لكان من الطبيعي
أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقدة المعضلة التي كانت بصفين، ولكان
من الطبيعي أن يظهر أثره حين اختلف أصحاب علي في أمر الحكومة، ولكان من
الطبيعي بنوع خاص أن يظهر أثره في تكوين هذا الحزب الجديد، الذي كان
يكره الصلح وينفر منه ويكفر من مال إليه، أو شارك فيه.
ولكنا لا نرى لا بن السوداء ذكرا في أمر الخوارج، فكيف يمكن تعليل هذا
الإهمال؟ أو كيف يمكن أن نعلل غياب ابن سبأ عن وقعة صفين وعن نشأة حزب
المحكمة؟ أما أنا فلا أعلل الأمرين إلا بعلة واحدة. وهي أن ابن السوداء لم يكن
إلا وهما وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوره المؤرخون وصوروا
نشاطه أيام عثمان وفي العام الأول من خلافة علي! وإنما هو شخص ادخره خصوم
الشيعة للشيعة وحدهم ولم يدخروه للخوارج... إلخ.
وإليك مثلا من هذا الكيد في أمر خطير تحول به التاريخ الإسلامي عن مجراه:
كعب ومعاوية
قرأت فيما سبق وبيناه (2) أن عمر بن الخطاب كان قد نهى كعب الأحبار عن
الحديث وتوعده بالنفي إذا هو روى من إسرائيلياته أو ما يزعم أنه عن النبي (صلى
الله عليه وسلم) ذلك بعد أن فطن لكيده، وتبين له سوء دخلته، ولم يجد كعب
تلقاء هذا التهديد الشديد مناصا من أن يذعن في غيظ وموجدة، ثم أخذ يسعى في

(1) ص 98 و 99.
(2) ص 153 في هذا الكتاب.
179

الخفاء لكن يحقق أغراضه التي أسلم من أجلها، ورأى أن ذلك لا يتسنى إلا بعد
التخلص من هذه الصخرة العاتية التي اعترضت طريقه، وحالت بينه وبين
ما يريد، وما لبث أن أتيحت له فرصة المؤامرة التي دبرتها جمعية سرية لقتل عمر
فاشترك فيها ونفخ في نارها!
ولما خلا له الجو بقتله، وأمن من خوفه، أطلق العنان لنفسه لكي يبث
ما شاء الكيد اليهودي أن يبث من الخرافات والإسرائيليات التي تشوه بهاء الدين
يعاونه في ذلك تلاميذه الكبار أمثال: عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر،
وأبو هريرة..
ولم يكفه ذلك، ولا أقنعه أن يصبح ولا معارض له فيما يريد، وأن يجد من
غفلة المسلمين، وعون الحاكمين إصغاء لكل ما يفتري وتقديرا، بل ظل على مكره
يهتبل كل فرصة لكي يضرب الإسلام من ضرباته الخبيثة.
ولنضرب لذلك هنا مثلا واحدا نجتزئ به، ذلك أنه لما اشتعلت نيران الفتنة
في زمن عثمان واشتد زفيرها، حتى التهمت عثمان فقتلته وهو في بيته، لم يدع هذا
الكاهن الماكر هذه الفرصة تمر دون أن يهتبلها بل أسرع ينفخ في نارها ويسهم
بكيده اليهودي فيها ما استطاع على ذلك سبيلا، وقد كان من كيده في هذه الفتنة أن
أرهص بيهوديته بأن الخلافة بعد عثمان ستكون لمعاوية!
فقد روى وكيع عن الأعمش عن أبي صالح (1) أن الحادي كان يحدو بعثمان
(رضي الله عنه) يقول:
إن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلق رضي
فقال كعب الأحبار: بل هو صاحب البغلة الشهباء! (يعني معاوية)، وكان يراه
يركب بغلة. فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال: يا أبا إسحاق ما تقول هذا! وها هنا
علي والزبير وأصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)! قال: أنت صاحبها. ولعله
أردف ذلك بقوله: إني وجدت ذلك في الكتاب الأول!!
وقدر معاوية هذه اليد الجليلة لكعب، وأخذ يغمره بأفضاله، وقد عرف من تاريخ

(2) ص 51 من رسالة النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم للمقريزي.
180

هذا الكاهن أنه تحول إلى الشام في عهد عثمان وعاش تحت كنف معاوية فاستصفاه
لنفسه وجعله من خلصائه لكي يروي من أكاذيبه وإسرائيلياته ما شاء أن يروي في
قصصه لتأييده، وتثبيت قوائم دولته. وقد ذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة
بأن معاوية هو الذي أمر كعبا بأن يقص في الشام (1)، وحسبك ما وقفت عليه من
قبل، وما وصل إلينا مما رواه في تفضيل الشام وأهله (2).
ومن العجيب أن هذه الإسرائيليات لا تزال تجد إلى اليوم من يصدقها بل
يقدسها، وإذا بصرناهم بتخفيفها هب في وجهنا أدعياء العلم في عصرنا وبخاصة من
كانوا من حفدة الأمويين ورمونا بالسب والشتم تعصبا لهم وحماقة.
هذا مثل واحد نسوقه هنا في مواقف كعب مع معاوية خاصة، وما أصاب
الإسلام من كيده ومكره عامة، ولأن عليا هو ابن عم النبي صلى الله عليه وآله الذي أرصد له
هؤلاء الكهان كل قواهم لمحاربة شريعته، ولو شئنا أن نستوفي كل ما أتاه هذا
الكاهن من كيد للإسلام وأهله لاقتضى منا ذلك أن نعقد مؤلفا خاصا كما فعلنا
لتلميذه الأكبر أبي هريرة (3).
ولا ننسى أن عليا رضي الله عنه كان يقول عن كعب إنه لكذاب (4).
المسيحيات في الحديث
حديث الجساسة - حديث طعن الشيطان
لكل بني آدم إلا عيسى وأمه - ابن جريح
إذا كانت الإسرائيليات قد شوهت بهاء الدين الإسلامي بمفترياتها، فإن
المسيحيات كان لها كذلك نصيب مما أصاب هذا الدين، وأول من تولى كبر هذه

(1) ص 323 ج‍ 5.
(2) ص 158 وما بعدها في هذا الكتاب.
(3) راجع كتاب " شيخ المضيرة ".
(4) صفحة 156 في هذا الكتاب.
181

المسيحيات هو تميم بن أوس الداري وهو من نصارى اليمن، وكان مقامه مع قبيلته
في الشام في ناحية فلسطين، وفد على النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد غزوة تبوك
سنة 9 ه‍ وأسلم قال أبو نعيم: كان راهب أهل عصره، وعابد أهل فلسطين،
وهو أول من أسرج السراج وأول من قص، وقد صحب النبي (صلى الله عليه وسلم)
وغزا معه، ولم يزل بالمدينة حتى تحول إلى الشام بعد قتل عثمان (1)، ومات في خلافة
علي سنة 40.
وكان يحدث بروايات وقصص عن الجساسة والدجال، وإبليس، وملك
الموت، والجنة والنار فملأ الأرض بهذه الروايات، كما فعل زميلاه من قبل كعب
الأحبار ووهب بن منبه، ولا يعجب القارئ من أن يدخل في الإسلام مسيحيات
بعد أن دخل فيه إسرائيليات، فإنه قد شيب بأشياء من كل دين ومن كل نحلة.
ولكن المجال لا يتسع لبيان كل ما دخل عليه من الملل والنحل الأخرى،
لأن ذلك يحتاج إلى مؤلف برأسه.
حديث الجساسة:
مما بثه تميم الداري من مسيحياته، ما ذكره للنبي (صلى الله عليه وسلم) من
قصة الجساسة والدجال ونزول عيسى وغير ذلك.
أما حديث الجساسة فقد رواه مسلم (2) في كتابه من طرق يخالف بعضها
بعضا. وها هو ذا من طريق فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت
من المهاجرات الأول.
قال رسول الله بعد أن جمع الناس: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن

(1) مما يلفت النظر ويسترعي الفكر أننا نجد هؤلاء الكهان جميعا من اليهود والنصارى وذوي
الهوى من المسلمين يتحولون كلهم إلى الشام بعد مقتل عثمان. ويبدو أن هذا التحول لم يكن لله، وإنما
كان ذلك ليتعاونوا على نشر الفتنة وليشعلوا نار البغضاء بين المسلمين، لكي تنضج دولة الأمويين،
ويتمزق شمل المسلمين. ويملئوا أيديهم بعد ذلك من غنائم الأمويين.
(2) ص 520 ج‍ 2.
182

جمعتكم لأن تميما الداري (1) كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني أنه
ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا
في البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر (2) حتى مغرب الشمس، وأنهم دخلوا
الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الحساسة، ثم أشارت عليهم أن يتطلعوا إلى رجل في الدير وأشارت إليه.
فدخلوا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه خلقا، وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه
ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، ولما عرف أمرهم وأنهم من العرب سألهم جملة
أسئلة، وهم يجيبون عنها إلى أن قال لهم: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟
قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم. قال: كيف
صنع بهم! فأخبروه بأنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال: وإني
مخبركم عني: إني أنا المسيح وإني أوشك (3) أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير
في الأرض أربعين يوما فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة
فإنهما محرمتان على كلتاهما. كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني
ملك بيده السيف مصلتا يصدني عنها، وبعد ما ذكر ذلك، طعن الرسول بمخصرته
في المنبر وقال: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، يعني المدينة.
ولم يشأ أبو هريرة أن يدع هذا الخبر بغير أن يمسه بنفحة من غرائبه، فروى
أن بين قرني الجساسة فرسخ للراكب!
وقد رأينا تعليقا على هذا الحديث للعلامة السيد رشيد رضا رحمه الله نثبته
هنا في محله.
" حديث الجساسة الذي حدث به تميم الداري رسول الله وأخرجه مسلم في
صحيحه مرفوعا من طرق يخالف بعضها بعضا في متنه - فهذا الخلاف في المتن علته

(1) جاء هو وأخوه نعيم المدينة سنة 9 ه‍ وأسلما كما قلنا.
(2) لعل علماء الجغرافيا يبحثون عن هذه الجزيرة ويعرفون أين مكانها من البحر! ثم يخبروننا
حتى نرى ما فيها من الغرائب التي حدثنا بها - سيدنا - تميم الداري رضي الله عنه.
(3) هذا الوشك كان حوالي سنة 9، ونحن الآن في 1386 ولم نر لهذا المسيح وجها ولا لمسنا له
أثرا!
183

من بعض رواة الصحيح، ولا يظهر حمله على تعدد القصة (1) ثم إن رواية الرسول
له من تميم الداري - إن سلم سندها من العلل - هل تجعل الحديث ملحقا بما حدث
به النبي (صلى الله عليه وسلم) من تلقاء نفسه، فيجزم بصدق أصله قياسا على
إجازته (صلى الله عليه وسلم) أو تقريره للعمل، إذ يدل حله وجوازه؟ الظاهر لنا
أن هذا القياس لا محل له هنا - والنبي ما كان يعلم الغيب فهو كسائر البشر
يحمل كلام الناس على الصدق، إذا لم تحف به شبهة، وكثيرا ما صدق المنافقين
والكفار في أحاديثهم وحديث العرينيين (2) وأصحاب بئر معونة مما يدل على ذلك،
وإنما كان يعرف كذب بعض الكاذبين بالوحي، أو ببعض طرق الاختبار،
أو إخبار الثقات ونحو ذلك، من طرق العلم البشري، وإنما يمتاز الأنبياء على
غيرهم بالوحي والعصمة من الكذب - وما كان الوحي ينزل إلا في أمر الدين
وما يتعلق بدعوته وحفظه وحفظ من جاء به، وتصديق الكاذب ليس كذبا،
وحسبك أن تتأمل في هذا الباب عتاب الله لرسوله، إذ أذن لبعض المعتذرين
من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وما علله به وهو قوله " عفا الله عنك
لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ".
وإذا جاز على الأنبياء والمرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين
ولا يترتب عليه حكم شرعي، ولا شئ ينافي منصب الرسالة، أفلا يجوز على من
دونهم أن يصدقوا الكاذب في أي خبر لا تقوم القرينة على كذبه فيه؟ ومن صدق
شيئا يجوز أن يحدث به من غير عزو إلى من سمعه منه (3).

(1) يشير رحمه الله إلى صنيع رجال الحديث عندما يرون اختلافا في متن حديث فإنهم لا يلبثون
أن يقدروا تعدد القصة التي قيل فيها الحديث، ويحسبون أنهم بذلك قد حلوا عقدة التناقض.
(2) حديث العرينيين: أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي وأسلموا ثم قالوا: يا نبي الله إنا كنا
أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، فآونا وأطعمنا، وكانوا قد استوخموا المدينة، فأمر لهم النبي بذود وراع،
وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحيرة كفروا بعد إسلامهم
وقتلوا راعي النبي، واستاقوا الذود فبلغ النبي فبعث الطلب في أثارهم وأمر بهم فقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا
في ناحية الحيرة حتى ماتوا على حالتهم - وأما أصحاب بئر معونة: فإن ناسا من رعل وذكوان وعصية
وبني لحيان أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وزعموا له أنهم قد أسلموا واستمدوه على قومهم فأمدهم بسبعين من
الأنصار فانطلقوا بهم حتى بلغوا بئر معونة، فغدروا بهم وقتلوهم، فقنت النبي شهرا، يدعو على رعل وذكوان
وبني لحيان.
(3) ص 99 و 100 ج 19 مجلة المنار.
184

وقال رحمه الله في أمر نزول عيسى من السماء وخروج الدجال والمهدي (1):
إن الأحاديث الواردة في نزول عيسى كثيرة في الصحيحين والسنن وغيرها،
وأكثرها واردة في أشراط الساعة وممزوجة بأحاديث الدجال، وفي تلك الأشراط -
ولا سيما أحاديث الدجال والمهدي - اضطراب واختلاف وتعارض كثير، والظاهر
من مجموعها، أنه يظهر في اليهود دجال بل أكبر دجال عرف في تاريخ الأمم
فيدعي أنه هو المسيح الذي تنتظره اليهود فيفتتن به خلق كثير، وفي آخر مدته
يظهر المسيح الذي هو عيسى بن مريم، ويكون نزوله في المنارة البيضاء شرقي
دمشق - ويلتقي بالمسيح الدجال بباب لد بفلسطين، وهناك يقتل المسيح الصادق
عيسى بن مريم الدجال (2) بعد حرب طويلة تكون بين المسلمين واليهود.. فنزول
عيسى عقيدة أكثر النصارى وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام إلى الآن
بثها في المسلمين، وممن حاولوا ذلك بإدخالها في التفسير وهب بن منبه الركن الثاني
بعد كعب الأحبار لتشويه تفسير القرآن بما بثه من الخرافات.
حديث طعن الشيطان لكل بني آدم إلا عيسى وأمه:
ومن المسيحيات في الحديث ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال:
كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد، غير عيسى بن مريم، ذهب
يطعن فطعن في الحجاب. وفي رواية: سمعت رسول الله يقول: ما من بني آدم
مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها ".
وفي رواية ثالثة: كل بني آدم قد طعن الشيطان فيه حين ولد غير عيسى بن مريم
وأمه، جعل الله دون الطعنة حجابا فأصاب الحجاب ولم يصبها!
وفي رواية عند مسلم " إلا نخسة الشيطان " و " إلا يستهل من نخسة الشيطان ".
وفقه هذا الحديث الذي سمعه الصحابي الجليل من الرسول، أن الشيطان يطعن

(1) ص 756 ج 28 مجلة المنار.
(2) في الباب الثاني في الرسالة الثانية لبولس إلى أهل تسالونيقى والباب التاسع عشر من المشاهدات
أن عيسى سيقتل الدجال ص 191 ج 2 إظهار الحق.
185

كل ابن آدم، أو ينخسه إلا عيسى بن مريم وأمه، وبذلك لم يسلم من طعن الشيطان
أحد غيرهما من بني آدم أجمعين، حتى الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم،
وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وعلى جميع النبيين، فانظر واعجب! (1).

(1) اتكأ المسيحيون على هذا الحديث في إثبات عقيدتين من عقائدهم، أولاهما: أن البشر جميعا قد
سقطوا في الخطيئة واقتراف الآثام إلا عيسى بن مريم الذي ارتفع عن طبقة البشر، والأخرى نزول عيسى بن
مريم من السماء إلى الأرض ليحكم بين الناس ويجازيهم.
قال القس إبراهيم لوقا في كتابه " المسيحية في الإسلام " - بعد أن ذكر ارتفاع مقام عيسى عن طبقة
البشر، وأنه وحده قد استحق العصمة والصون من الآثام: " جاء في سورة مريم: (وإن منكم إلا واردها
كان على ربك حتما مقضيا) فهذه الآية قد حكمت على جميع البشر بورود جهنم والعياذ بالله، ومعلوم أن
العقاب لا يكون إلا لذنب وإلا كان ظلما - وما ربك بظلام للعبيد، فهذه الآية تدل على أن البشر جميعا
معرضون للوقوع في أسر الشهوات والخطايا. ثم قال: لتقرأ هذه الآية مرة أخرى، ثم لتقرأ بعدها آية سورة
آل عمران: " وإني أعيذها بك وذريتها (أي المسيح) من الشيطان ". تر أن الله قد حفظ العذراء والمسيح
من غواية الرجيم، ثم لنقرأ بعد هذا الحديث الذي تضمن هاتين الحقيقتين معا - سقوط البشر أجمعهم،
وعصمة المسيح دون سواه وهو كما أورده البخاري: " كل ابن آدم يطعنه الشيطان في جنبه بإصبعيه حين يولد،
غير عيسى بن مريم، ذهب يطعنه فطعن في الحجاب ".
فإقرار الإسلام بأن البشر جميعا قد زاغوا وفسدوا، وأنهم مجردون عن العصمة، معرضون لاقتراف
الخطايا والآثام، بجانب إقراره للمسيح وحده بالعصمة، وأنه مصون عن مس الشيطان، يرفع المسيح عن طبقة
البشر وبالتالي يقر بلاهوته الممجد (ص 127 من الطبعة الثالثة من هذا الكتاب) ولهذا الحديث روايات
أخرى - راجع الجزء السادس من فتح الباري.
وذكر في صحفة 135: إن الذي روى هذا الحديث هو أبو هريرة.
وفي ص 149 من الكتاب قال تحت هذا العنوان " دينونة المسيح " روى البخاري: " لا تقوم الساعة
حتى ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا " فهذا الحديث ناطق بأن المسيح سيأتي ديانا عادلا، وهذا ما يعلنه
الوحي الإلهي في الإنجيل المقدس (يو 5: 22) قال المسيح " لأن الآب لا يدين أحدا بل قد أعطى كل الدينونة
للابن "، وفي ختام سفر الرؤيا (رؤيا 22: 12) " وها أنا آتى سريعا وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما
يكون عمله ".
ومن العجيب أن يصرح أبو هريرة في حديثي البخاري بطعن الشيطان ونزول عيسى أنه سمعهما من النبي،
كما صرح بسماع حديث خلق الله التربة يوم السبت - وأثبت المحققون أنه قد رواه عن كعب الأحبار -
وهكذا يبث راويتنا المكثار من الأحاديث بين الناس ما يكون مشكلات في ديننا وحججا لتأييد عقائد غيرنا!
وحديث طعن الشيطان الذي رواه البخاري قال ابن حجر في شرحه: " وقد طعن صاحب الكشاف في
معنى هذا الحديث وتوقف في صحته، وكذلك طعن فيه الرازي وقال " إن الحديث خبر واحد ورد على خلاف
الدليل ".
186

ولم يقفوا عند ذلك بل كان من رواياتهم أن النبي صلوات الله عليه ولم ينج من
نخسة الشيطان إلا بعد أن نفذت الطعنة إلى قلبه - وكان ذلك بعملية جراحية
تولتها الملائكة بآلات جراحية مصنوعة من الذهب! ونصب هذه الروايات أن
صدره صلوات الله عليه قد شق وأخرجت منه العلقة السوداء! وحظ الشيطان -
كما يقولون - وكأن العملية الأولى لم تنجح فأعيد شق صدره، ووقع ذلك مرات
عديدة بلغت خمسا، وأربع منها باتفاق كما يقولون، في الثالثة من عمره، وفي العاشرة،
وعند مبعثه، وعند الإسراء. ومرة خامسة فيها خلاف (1) وقد قالوا، إن تكرار
الشق إنما هو زيادة في تشريف النبي!
وإن هذه العملية الجراحية لتشبه من بعض الوجوه عملية صلب السيد المسيح
عليه السلام، وهو لم يرتكب ذنبا يستوجب هذا الصلب، وإنما ذكروا ذلك لكي
يغفر الله خطيئة آدم التي احتملها هو وذريته من بعده إلى يوم القيامة، وأصبحت
في أعناقهم جميعا، وتنص العقيدة المسيحية أنه لا يظفر بهذا الغفران إلا من يؤمن
بعقيدة الصلب.
ولئن قال المسلمون لإخوانهم المسيحيين: ولم يغفر الله لآدم خطيئته بغير
هذه الوسيلة القاسية التي أزهقت فيها روح طاهرة بريئة، هي روح عيسى عليه
السلام بغير ذنب؟ قيل لهم: ولم لم يخلق الله قلب رسوله الذي اصطفاه كما خلق
قلوب إخوانه من الأنبياء المرسلين - والله أعلم حيث يجعل رسالته - نقيا من العلقة
السوداء وحظ الشيطان بغير هذه العملية الجراحية التي تمزق فيها صدره وقلبه مرار
عديدة!

(1) نظم بعضهم أمر شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أيا طالبا نظم الفرائد في عقد * مواطن فيها شق صدر لذي رشد
لقد شق صدر للنبي محمد * مرار لتشريف وذا غاية المجد
فأولى له التشريف فيها مؤثل * بتطهيره من مضغة في بني سعد
وثانية كانت له وهو يافع * وثالثة للمبعث الطيب الند
ورابعة عند العروج لربه * وذا باتفاق فاستمع يا أخا الرشد
وخامسة فيها خلاف تركتها * لفقدان تصحيح لها عند ذي النقد
ص 154 - 156 ج 1 سيرة ابن هشام، وسبحان واهب العقول للأنام!
187

ولا أدري والله أين يذهبون مما جاء في سورة الحجر من الكتاب العزيز في قوله
تعالى: " قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك
منهم المخلصين. قال هذا صراط علي مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " (1). وكيف يدفعون الكتاب بالسنة، أو يعارضون
المتواتر الذي يفيد اليقين، بأحاديث الآحاد التي لا تفيد إلا الظن؟! هذا إذا كانت
هذه الأحاديث صحيحة.
على أن حديث نخس الشيطان هذا قد طعن فيه الزمخشري في الكشاف وقال
فيه فخر الدين الرازي في تفسيره (2) " طعن القاضي في هذا الخبر وقال إنه خبر
واحد، ورد على خلاف الدليل فوجب رده، وإنما قلنا على خلاف الدليل لوجوه،
أحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر - والصبي ليس
كذلك!
الثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك، من
إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم.
الثالث: لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء
عليهم السلام؟
الرابع: أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء -
فلما لم يكن ذلك علمنا بطلانه.
وقال أستاذنا الإمام محمد عبده رضي الله عنه (3):
" والمحقق عندنا أنه ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين، وخيرهم
الأنبياء والمرسلون - وأما ما ورد في حديث مريم وعيسى من أن الشيطان لم يمسهما،
وحديث إسلام شيطان النبي (صلى الله عليه وسلم) وحديث إزالة حظ الشيطان من
قلبه (صلى الله عليه وسلم)، فهو من الأخبار الظنية لأنه من رواية الآحاد -

(1) سورة الحجر: 39 - 41.
(2) ص 459 ج 2.
(3) ص 291، 392 ج 3 تفسير القرآن الحكيم.
188

ولما كان موضعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها
بالظن لقوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " - كنا غير مكلفين الإيمان
بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا.
ابن جريج
وممن كان يبث في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه - ابن جريج الرومي، الذي
مات سنة 150 ه‍ وكان البخاري لا يوثقه وهو على حق في ذلك. قال الذهبي في
تذكرة الحفاظ إنه من أصل رومى فهو نصراني الأصل. ويقول عنه بعض العلماء
إنه كان يضع الحديث، وإنه تزوج بتسعين امرأة زواج متعة.
ومن المسيحيات التي تدسست إلى الإسلام ما ذكروه من إقعاد النبي (صلى
الله عليه وسلم) على العرش! ذلك أنهم لما رأوا أن من عقائد المسيحيين أن عيسى
عليه السلام يقعد بجوار الله على العرش (1) عز عليهم ألا يقعد محمد (صلى الله عليه
وسلم) هو الآخر على العرش، فرووا هذا الخبر الذي ننقله لك بنصه عن كتاب
بدائع الفوائد لابن القيم ص 39 و 40 ج 4.
" قال القاضي: صنف المروزي كتابا في فضيلة النبي (صلى الله عليه وسلم)
وذكر فيه " إقعاده على العرش " قال القاضي: وهو قول أبي داود وأبي جعفر
الدمشقي وإسحاق بن راهويه وإبراهيم الحربي وعبد الله بن الإمام أحمد، والمروزي،
وبشر الحافي، ثم ذكر أسماء أكثر من خمسة عشر عالما يقولون بذلك.

(1) يعتقد المسيحيون أن المسيح عليه السلام قد ارتفع بجسمه بعد صلبه وأنه يجلس هناك مع أبيه.
وعند الكاثوليكية الرومانية عقيدة جوهرية تقضي بأن أمه مريم العذراء قد ارتفعت هي الأخرى بجسدها
إلى السماء وأنها لم تمت. ومنذ سبع عشرة سنة انعقد مجمع ديني مقدس برياسة البابا بيوس الثاني عشر بميدان
القديس بطرس اشترك فيه 35 كردينالا ونحو 500 بطريرك من جميع أنحاء العالم واحتشد له مليون
مسيحي وقرر هذا المجمع هذه العقيدة الدينية، وقال إنها لا تقبل الجدل أو المناقشة ومن يناقشها أو يشك فيها
يعتبر من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية ملحدا أو كافرا (يراجع جريدة الوفد المصري في 31 / 10،
و 1 و 2 و 3 / 11 / 1950) والأقباط المصريون جميعا يؤمنون بهذه العقيدة وتحتفل كل طوائفهم في يوم
16 مسرى من كل سنة بعيد انتقال السيدة مريم بجسدها إلى السماء، ويطلقون على هذا الاحتفال اسم " عيد
العذراء الكبير "، وليس لأحد أن يعترض على هذه العقيدة أو يمارى فيها إذ ما دام المسيح عليه السلام قد
ارتفع إلى السماء وجلس بجوار أبيه فإنه لا مانع من أن تصعد إليه أمه من بعده لتقيم وإياه مع الله في السماء ويحيون
جميعا حياة طيبة في هناء وصفاء!
189

قلت (أي ابن القيم): وهو قول ابن جرير الطبري، وإمام هؤلاء كلهم مجاهد
إمام التفسير، وهو قول أبي الحسن الدارقطني ومن شعره فيه:
حديث الشفاعة عن أحمد * إلى أحمد المصطفى مسنده
وجاء (حديث بإقعاده * على العرش) أيضا فلا تجحده
أمروا الحديث على ووجهه * ولا تدخلوا فيه ما يفسده
ولا تنكروا (أنه قاعد) * ولا تنكروا أنه يقعده (1)
وإليك هذه الكلمة الصغيرة ننقلها من كتاب العقيدة والشريعة للمستشرق
الكبير جولد تسيهر ص 42 و 43:
وهناك جمل أخذت من العهد القديم والعهد الجديد، وأقوال للربانيين، أو
مأخوذة من الأناجيل الموضوعة وتعاليم من الفلسفة اليونانية، وأقوال من حكم
الفرس والهنود، كل ذلك أخذ في الإسلام عن طريق " الحديث " حتى لفظ
" أبونا " لم يعدم مكانه في الحديث المعترف به، وبهذا أصبحت ملكا خالصا
للإسلام بطريق مباشر أو غير مباشر! وقد تسرب إلى الإسلام كنز كبير من
القصص الدينية حتى إذا ما نظرنا إلى المواد المعدودة في الحديث ونظرنا إلى الأدب
الديني اليهودي فإننا نستطيع أن نعثر على قسم كبير دخل الأدب الديني الإسلامي
من هذه المصادر اليهودية.

(1) نقلنا هذا الخبر عن ابن القيم في الطبعة الثانية، ولكن تبين أن ابن القيم هذا وهو " حنبلي " لم
يكن صادقا فيما نسبه إلى ابن جرير الطبري، فقد جاء في تاريخه الذي ذكره صاحب معجم الأدباء أنه لما
قدم إلى بغداد من طبرستان تعصب عليه قوم وسأله الحنابلة عن حديث الجلوس على العرش فقال: أما حديث
الجلوس على العرش فمحال، ثم أنشد:
سبحان من ليس له أنيس * ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم فدخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى
صار على بابه كالتل العظيم، فركب صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف
على بابه يوما إلى الليل، وأمر برفع الحجارة وكان قد كتب على بابه هذا البيت الذي أوردناه آنفا فأمر
صاحب الشرطة بمحوه وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث هذه الأبيات:
لأحمد منزل لا شك عال * إذا وافى إلى الرحمن وافد
فيدنيه ويقعده كريما * على رغم لهم في أنف حاسد
على عرش يغلفه بطيب * على الأكباد من باغ وعاند
له هذا المقام الفرد حقا * كذاك رواه ليث عن مجاهد
ص 57 - 59 ج 18.
190

ولا نستقصي كل ما دخل الإسلام من المسيحيات.
ومن شاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات والمسيحيات وغيرها في الدين
الإسلامي، فليرجع إلى كتب التفسير والحديث والتاريخ وإلى كتب المستشرقين
أمثال جلد تسيهر، وفون كريمر وغيرهما، فقد نقلت فيهما من هذه الإسرائيليات
والمسيحيات أشياء كثيرة.
وقبل أن نخرج من هذا الباب نتحفك بشئ مما رواه أبو هريرة في نزول
عيسى من السماء.
عيسى بن مريم ونزوله
ذكروا أن من علامات الساعة نزول المسيح من السماء. وفي الصحيحين وغيرهما
عن أبي هريرة قال رسول الله: " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم
حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقتل القرد ولا يقبل
إلا الإسلام ".
ولا ينزل بشريعة مستقلة، ويتسلم الأمر من المهدي، ويكون المهدي من أصحابه
وأتباعه.
وكل أعماله تشابه الأعمال التي ذكروا أن المهدي سيقوم بها.
محل نزوله:
محل نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعا كفيه على أجنحة ملكين
إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفع رأسه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، ويكون نزوله لست
ساعات مضت من النهار ويقعد على المنبر، فيدخل المسلمون والنصارى واليهود المسجد،
ويصلي بالمسلمين صلاة العصر بمسجد دمشق، ثم يخرج بمن معه من أهلها في
طلب الدجال، والأرض تقبض له إلى أن يأتي بيت المقدس فيجده مغلقا قد حصره
الدجال.
191

مقدار مدته:
في حديث أبي هريرة عند الطبراني وابن عساكر عن النبي (صلى الله عليه وسلم)
" يمكث عيسى في الناس أربعين سنة "، ثم يدفنه المسلمون عند نبينا (صلى الله
عليه وسلم). وعن ابن عمر مرفوعا: يتزوج ويلد ولدين ذكرين أحدهما يسمى
موسى والآخر محمدا، ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت ويدفن معي في قبري،
فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر!
وقالوا إنه يمكث سبع سنين، وبعد أن يقتل الدجال يذهب إلى المدينة فيزور
قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) ويحج البيت الحرام ويتوفى بالمدينة!
وهناك أخبار من هذا القبيل كثيرة أعرضنا عنها لعدم فائدتها.
ما استشكلوه:
وقد قالوا: الروايات ثابتة أن نزول عيسى مع الفجر على منارة دمشق الشرقية (1)،
ولكن كيف يقال في رواية أخرى إن النزول كان لست ساعات مضت من النهار!
وكذلك المعروف عند أهل العلم أن عيسى إنما يصلي وراء المهدي صلاة
الصبح لا العصر!
كثرة الأحاديث المروية
رأيت فيما تقدم أن الوضع كان له أسباب كثيرة، وبواعث متعددة، وأن
أبوابه قد ظلت مفتحة قرونا، يخرج منها كل يوم ألوان مختلفة من الأحاديث التي
يفتن الوضاع في صوغها وإسنادها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ولقد كان من رواء ذلك أن كثرت الأحاديث المنسوبة إلى النبي كثرة هائلة،

(1) لم جعلوا نزول عيسى على منارة دمشق الأموية؟
192

حتى بلغت مئات الألوف (1) مما جعل الحافظ الدارقطني يقول: إن الحديث
الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود (2).
وقد أفزعت هذه الكثرة العلماء فنهضوا لكشف القناع عن الأحاديث الموضوعة،
ووضعوا فيها المؤلفات الكثيرة، ومن أشهر من تجرد لذلك ابن الجوزي السيوطي
والصاغاني والملا علي القاري وغيرهم.
وقد عرض الدكتور أحمد أمين رحمه الله لأمر كثرة الأحاديث هذه فقال (3):
" ومن الغريب أننا لو اتخذنا رسما بيانيا للحديث لكان شكل " هرم " طرفه
المدبب هو عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ثم يأخذ في السعة على مر الزمان،
حتى نصل إلى القاعدة أبعد ما نكون على عهد الرسول - مع أن المعقول كان
العكس. فصحابة رسول الله أعرف الناس بحديثه، ثم يقل الحديث بموت بعضهم
مع عدم الراوي عنه وهكذا، ولكنا نرى أن أحاديث العهد الأموي أكثر من
أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العباسي أكثر من أحاديث العهد
الأموي.

(1) قال الإمام أحمد في مسنده: هذا كتاب جمعته وانتقيته من 750 ألف حديث: وقال
أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: كان أبو زرعة يحفظ 700 ألف حديث، وكان يحفظ 140 ألف
حديث في التفسير، واختار مالك الموطأ من مائة ألف حديث، وسترى عند الكلام عن البخاري أنه اختار
كتابه من 600 ألف حديث، وأن مسلما قد اختار كتابه كذلك من 600 ألف حديث، وأن أبا داود قد
كتب عن رسول الله 500 ألف حديث - وعلى أنهم قد رووا عشرات الآلاف من الأحاديث في التفسير فإن
ابن تيمية قد ذكر في كتابه " في أصول التفسير " أن الإمام أحمد قد قال: ثلاثة أمور ليس لها إسناد:
التفسير والملاحم والمغازي (ص 14). ولذلك قال شعبة: تسعة أعشار الحديث كذب.
ونأتي هنا بكلمة قيمة من كتاب " وجهة الإسلام " الذي ترجمه الأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريدة
منقولة عن كتاب " روح الإسلام " الذي ألفه سيد أمير علي للدفاع عن الإسلام: " إن الإصلاح يجب أن
يسبقه التعليم وتحرر العقل من القيود ويجب أن نطرح التمسك بالظواهر تمسكا صوريا، لأنه أصبح عديم
الأثر، ويجب أن تكون أحكامنا صادرة عن استعمال العقل، وعما نستشعر أنه حق وملائم في ظرف ما. للإسلام
قدرة على صبغ ما عداه بصبغته وسيبقى جوهره، وإن تغير مظهره - ولو أن الأئمة كانوا أحرارا في استعمال
رأيهم ونبذوا بشجاعة خمسمائة ألف من الأحاديث واستبقوا منها ثمانية آلاف إذا لجعلنا لأنفسنا مثل هذه
الحرية، ولماذا يظن إنسان أن الإسلام صار مسبوكا في قالب لا يتغير بعد الإجماع على الكتب السنة؟
ص 126.
(2) ص 215 من كتاب الإسلام الصحيح.
(3) ص 128 و 129 ج‍ 2 ضحى الإسلام.
193

قد يكون ضمن الأسباب الصحيحة أن الهجرة لطلب الحديث في العصر
العباسي وجمعه من مختلف الأمصار كانت أتم وأنشط، لكن ليس هذا كل
السبب، بل من أكبر الأسباب في تضخم الحديث - الوضع - فاليهود والنصارى
وغيرهم (1) من أهل الديانات الأخرى أدخلوا في الأحاديث أشياء كثيرة من دياناتهم
وأخبارهم، فملئت الأحاديث بما في التوراة وحواشيها، وبعض أخبار النصرانية..
وبعض تعاليم الشعوبية كالأحاديث التي تدل على فضل الفرس والروم ا ه‍.
أبو هريرة
لو كانت أحاديث رسول الله كلها من الدين العام - كالقرآن - لا يقوم
إلا عليها، ولا يؤخذ إلا منها، وأنه يجب على كل مسلم أن يعرفها ويتبع ما فيها،
كما يتبع ما في القرآن، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أمر أصحابه أن يحفظوا
هذه الأحاديث لكي تؤثر من بعده - لكان أكثر الصحابة رواية لها، أعلاهم
درجة في الدين، وأثبتهم قدما في الإيمان، وأسناهم مرتبة في العلم - ولكان المقلون
منهم في الرواية دون المكثرين في رتبة الدين، ووراءهم في درجة العلم والفضل، وخلفهم
في منزلة الاعتبار، ولكنا نجد الأمر - على ما بدا في كتب الحديث المعروفة -
قد جرى على خلاف ذلك!! فإن أفضل الصحابة في المرتبة، وأرفعهم في المنزلة
وأوسعهم علما بالدين، وأشدهم عناية به، وأقواهم حياطة له، الذين نيط بهم حمل
أحكام الدين بما تلقوه عن أستاذهم الأكبر - كالخلفاء الراشدين والعشرة الذين
قالوا إنه (صلى الله عليه وسلم) قد مات وهو راض عنهم - أو بشرهم بالجنة، وكبار
المهاجرين والأنصار وغيرهم - كل أولئك كانوا أقل الصحابة تحديثا عنه، وأنزرهم
رواية، حتى لقد بلغ الأمر ببعضهم أنه لم يرو عن الرسول حديثا واحدا!!
ولم يقف الأمر بهم عند ذلك فحسب، بل قد وجدنا كبار الصحابة يرغبون
عن رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها، ولقد أدى بهم فرط الاحتياط إلى أن كانوا

(1) لم يذكر هنا الوضاع الصالحون من المسلمين وغيرهم فليرجع إلى فصل الوضع في الحديث وأسبابه
في هذا الكتاب ص 118.
194

يحرقون ما يكتبون منها - كما علمت ذلك كله من قبل - وهذا الأمر قد دعانا إلى
أن نفرد ترجمة خاصة لمن كان أكثر الصحابة تحديثا عن رسول الله، وأوسعهم
رواية، على حين أنه كان من عامة الصحابة، وكان بينهم لا في العير ولا في النفير
ذلكم هو " أبو هريرة ".
ولولا أن هذه الكثرة البالغة - بفضل ثقة الجمهور بها - قد استفاضت في
كتب الحديث، وأخذت مكان الاعتبار والتصديق من قلوب المسلمين، وسيطرت
على عقولهم وأفكارهم. وجعلوها من عام دينهم، على ما فيها من مشكلات تحار فيها
عقول المؤمنين، وشبهات وخرافات تتخذ مطاعن على الدين، وأسانيد يتكأ عليها
في إثبات الإسرائيليات والمسيحيات وغيرها من الملل والنحل - لولا ذلك كله ما
جرى بهذا البحث قلمنا، ولا اتجه إليه بالعناية همنا.
الاختلاف في اسمه:
لم يختلف الناس في اسم أحد - في الجاهلية والإسلام - كما اختلفوا في اسم
" أبي هريرة " فلا يعرف أحد على التحقيق الاسم الذي سماه به أهله، ليدعى بين
الناس به.
قال النووي: اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الصحيح من ثلاثين
قولا...
وقال حافظ المغرب ابن عبد البر في الإستيعاب (1):
اختلفوا في اسم أبي هريرة وأمم أبيه اختلافا كثيرا لا يحاط به ولا يضبط في
الجاهلية والإسلام - ومثل هذا الاختلاف والاضطراب لا يصح معه شئ يعتمد
عليه - وقد غلبت عليه كنيته، فهو كمن لا اسم له غيرها وأولى المواضع باسمه المكنى.
وقال صاحب المشكاة: قد اختلف الناس في اسم أبي هريرة ونسبه اختلافا
كثيرا، وقد غلبت عليه كنيته فهو كمن لا اسم له واشتهرت الكنية حتى نسي الاسم
الأصلي لأنه قد اختلف فيه اختلافا كثيرا.

(1) ص 718، 719
195

ومما تبين لك يكون الجزم باسم خاص يطلق عليه، من ضروب التخمين فنكتفي
بذكر كنيته التي التصقت به - وهذه الكنية قد بين هو نفسه سببها فقال:
كنت أرعى غنم أهلي - وكانت لي هرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة،
وإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها فكنوني " أبا هريرة "!!
نشأته وأصله:
وإذا كانوا قد اختلفوا في اسم أبي هريرة، فإنهم كذلك لم يعرفوا شيئا عن
نشأته، ولا عن تاريخه قبل إسلامه، غير ما ذكر هو عن نفسه، من أنه كان
يلعب بهرة صغيرة. وأنه كان فقيرا معدما، يخدم الناس بطعام بطنه - وكل ما يعرف
عن أصله أنه من عشيرة سليم بن فهم من قبيلة أزد ثم من دوس.
ومن قوله في ذلك: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا بطعام بطني.
وقال ابن قتيبة في ترجمته بكتاب " المعارف " بعد أن ذكر اختلاف الناس
في اسمه، وأنه من قبيلة باليمن يقال لها دوس ما نصه:
" وقال أبو هريرة نشأت يتيما وهاجرت مسكينا. وكنت أجيرا لبسرة بنت
غزوان بطعام بطني، وعقبة رجلي، فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدو إذا ركبوا،
وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها.
قدومه إلى المدينة وذهابه إلى خيبر:
قدم أبو هريرة بعد أن تخطى الثلاثين من عمره - وكان النبي (صلى الله عليه
وسلم) حينئذ في غزوة خيبر، التي وقعت في سنة 7 من الهجرة: قال ابن سعد في
الطبقات الكبرى: قدم الدوسيون فيهم أبو هريرة ورسول الله بخيبر فكلم رسول الله
أصحابه في أن يشركوا أبا هريرة في الغنيمة ففعلوا - ولفقره اتخذ سبيله إلى الصفة (1)
بعد ما عاد إلى المدينة فعاش بها ما أقام بالمدينة، وكان من أشهر من أمها.

(1) الصفة موضع مظلل في مؤخرة مسجد النبي بالمدينة من الناحية الشمالية.
وأهل الصفة - كما قال أبو الفداء في تاريخه المختصر -: أناس فقراء لا منازل لهم ولا عشائر،
ينامون على عهد رسول الله في المسجد ويظللون فيه، وكانت صفة المسجد مثواهم، فنسبوا إليها - وكان
إذا تعشى رسول الله يدعو منهم طائفة يتعشون معه، ويفرق منهم طائفة على الصحابة ليعشوهم.
196

سبب صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم:
كان أبو هريرة صريحا صادقا في الإبانة عن سبب صحبته للنبي (صلى الله
عليه وسلم)، كما كان صريحا صادقا في الكشف عن حقيقة نشأته. فلم يقل إنه
صاحبه للمحبة والهداية - كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين - وإنما قال:
" إنه قد صاحبه على ملء بطنه ". ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن
الزهري عن عبد الرحمن الأعرج (1) قال: " سمعت أبا هريرة يقول: إني كنت امرأ
مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني ". وراية مسلم: أخدم رسول الله، وفي
رواية " لشبع بطني ".
وفي رواية لمسلم: كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله على ملء بطني. وفي
رواية له أيضا: وكنت ألزم رسول الله على ملء بطني.
وسجل التاريخ أنه كان أكولا نهما، يطعم كل يوم في بيت النبي، أو في بيت
أحد أصحابه، حتى كان بعضهم ينفر منه.
ومما رواه البخاري عنه أنه قال: كنت أستقرئ الرجل الآية وهي معي كي
ينقلب بي فيطعمني - وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان
ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، وروى الترمذي عنه: وكنت إذا سألت جعفر
عن آية لم يجبني حتى يذهب إلى منزله. ومن أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي
أبي هريرة أفضل الصحابة جميعا، فقدمه على أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وغيرهم
من كبار الصحابة رضي الله عنهم جميعا.
فقد أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: ما احتذى النعال
ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب، بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب (2).
شيخ المضيرة:
كان أبو هريرة يلقب " بشيخ المضيرة " وقد نالت هذه المضيرة من عناية العلماء
والكتاب والشعراء ما لم ينله مثلها من أصناف الحلوى، وظلوا يتندرون بها،
ويغمزون أبا هريرة قرونا طويلة من أجلها، وإليك بعض ما أرسلوه فيها.

(1) الأعرج تلميذه وصاحبه.
(2) ص 62 ج 7 فتح الباري.
197

قال الثعالبي في كتابه " ثمار القلوب في المضاف والمنسوب " ما يلي (1):
شيخ المضيرة: كان أبو هريرة رضي الله عنه على فضله واختصاصه بالنبي
(صلى الله عليه وسلم) مزاحا أكولا، وكان مروان بن الحكم يستخلفه على المدينة
فيركب حمارا قد شد عليه برذعة فيلقى الرجل فيقول: الطريق! الطريق! قد جاء
الأمير.. وكان يدعي الطب...
وبعد أن ذكر الثعالبي شيئا من طبه وكله طعام يشفي
داء الأمعاء، ويداوي نهم البطن، قال: وكان يعجبه المضيرة جدا فيأكل مع
معاوية، فإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي رضي الله عنه، فإذا قيل له في
ذلك قال: مضيرة معاوية أدسم وأطيب، والصلاة خلف علي أفضل، وكان
يقال له " شيخ المضيرة " وختم الثعالبي قوله ببيتين لشاعر هجا فيهما أبا هريرة
أعرضنا عنهما.
وعقد بديع الزمان الهمذاني مقامة خاصة - من مقاماته - لهذه المضيرة، غمز
فيها أبا هريرة غمزة أليمة فقال:
حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بالبصرة ومعي أبو الفتح الإسكندري
رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض
التجار، فقدمت إلينا مضيرة تثنى على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن
بالسلامة، وتشهد لمعاوية رحمه الله بالإمامة...
وقال أستاذنا الإمام محمد عبده في شرح ذلك: " ومعاوية ادعى الخلافة بعد
بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يكن من يشهد له بها في حياة علي
إلا طلاب اللذائذ، وبغاة الشهوات، فلو كانت هذه المضيرة من طعام معاوية
لحملت آكليها على الشهادة له بالخلافة، وإن كان صاحب البيعة الشرعية حيا -
وإسناد الشهادة إليها لأنها سببها الحامل عليها. والإمامة والخلافة في معنى واحد "
وفي الأساس لجار الله: علي مع الحال المضيرة، خير من معاوية مع المضيرة.
وأخرج أبو نعيم في الحلية قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت هو يقول:
ويل لي بطني، إذا أشبعته كظني، وإن أجعته سبني، ورواية ابن كثير في البداية
والنهاية: أضعفني.

(1) ص 86، 87.
198

وفي خاص الخاص للثعالبي (1):
كان أبو هريرة يقول: ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحار،
وما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر
. قد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة، فقد سئل: ما المروءة؟ قال:
تقوى الله وإصلاح الصنيعة، والغداء والعشاء بالأفنية.
وقد أضربنا عن أخبار كثيرة لأن في بعضها ما يزيد في إيلام بعض الناس.
حديث زر غبا تزدد حبا:
قال رسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ذات يوم: زر غبا تزدد حبا، وقد
كان صلوات الله عليه نعم المؤدب لأصحابه، وكان دائما يتولاهم بحكمته، ويغرس فيهم
مكارم أخلاقه بسيرته، وما كان له (صلى الله عليه وسلم) أن يذر مثل أبي هريرة
على ما كان عليه من غشيان البيوت في كل وقت، يقبله هذا ويصده ذاك، من
غير أن يؤدبه بأدبه العالي، وكان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال له: أين
كنت أمس يا أبا هريرة؟ قال زرت أناسا من أهلي، فقال يا أبا هريرة: زر غبا
تزدد حبا.
وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه " الصداقة والصديق " قال أبو هريرة:
لقد دارت كلمة العرب " زر غبا تزدد حبا " إلى أن سمعت من رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) " ولقد قالها لي ".
قال العسجدي: " ليست هذه الكلمة محمولة على العام، ولكن لها مواضع
يجب أن تقال فيها، لأن الزائر يستحقها! ألا ترى أنه صلوات الله عليه لا يقول
ذلك لأبي بكر، ولا لعلي بن أبي طالب وأشباههما، فأما أبو هريرة فأهل ذاك!
لبعض الهنات التي يلزمه أن يكون مجانبا لها، وحائدا عنها (2) ".
وهنات أبي هريرة التي يغمزه بها العسجدي، أنه كان لنهمه يغشي بيوت
الصحابة في كل وقت، وكان بعضهم يزور عنه، وينزوي منه، فأراد الرسول أن
يلقي عليه درسا في أدب الزيارة وغشيان البيوت، فذكر له المثل العربي " زر غبا
تزدد حبا ". وكان صلوات الله عليه لا يفتأ يتعهد أصحابه بالتأديب وتحرى حسن الخلق.

(1) ص 43.
(2) ص 51.
199

مزاحه وهذره:
أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان مزاحا مهذارا، يتودد إلى الناس ويسليهم
بكثرة الحديث، والإغراب في القول ليشتد ميلهم إليه، ويزداد إقبالهم عليه،
وإليك بعض ما رووه في ذلك.
قالت عنه عائشة، وهي أعلم الناس به لامتداد العمر بهما، في حديث
المهراس: إنه كان رجلا مهذارا.
التهكم به:
ولقد كانوا يتهكمون برواياته ويتندرون عليها لما تفنن فيها وأكثر منها.
فعن أبي رافع: أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها،
فقال يا أبا هريرة: إنك تكثر الحديث عن رسول الله، فهل سمعته يقول في
حلتي هذه شيئا؟!! فقال سمعت أبا القاسم يقول: إن رجلا ممن كان قبلكم
بينما هو يتبختر في حلة، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم
الساعة، فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك (1).
ويبدو من سؤال هذا الرجل أنه لم يكن مستفهما وإنما كان متهكما، إذ لم يقل
له: إنك تحفظ أحاديث رسول الله! وإنما قال: تكثر الحديث عن رسول الله،
وسياق الحكاية يدل كذلك على أنه كان يهزأ به، ويسخر منه.
كثرة أحاديثه:
أجمع رجال الحديث على أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة حديثا عن رسول
الله! على حين أنه لم يصاحب النبي إلا عاما وتسعة أشهر! (2) وقد ذكر أبو محمد
ابن حزم أن مسند بقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على 5374 روى
البخاري منها 446.
وقد قال هو عن نفسه - كما روى البخاري - ما من أصحاب النبي صلى الله

(1) ص 108 ج البداية والنهاية.
(2) راجع كتابنا " شيخ المضيرة ".
200

عليه وسلم أحد أكثر حديثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو (1) فقد كان
يكتب ولا أكتب (2)! ولو بحثنا عن كل ما رواه ابن عمرو هذا لوجدناه 700
حديث عند ابن الجوزي وفي مسند أحمد 722 روى البخاري منها سبعة ومسلم 20،
وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدرة وقال له:
أكثرت يا أبا هريرة من الرواية، وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله.
ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده.
وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن
رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس.
ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة، إذ أصبح
لا يخشى أحدا بعده. ومن قوله في ذلك: إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن
عمر لضربني بالدرة - وفي رواية لشج رأسي. وعن الزهري عن أبي سلمة: سمعت
أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر! ثم يقول:
أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة
ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله.
وقد قال الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله في ذلك: لو طال عمر
عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة (3)، وقال عن
أحاديثه المشكلة: " لا يتوقف على شئ منها إثبات أصل من أصول الدين " (4).

(1) أحد العبادلة الثلاثة الذين رووا عن كعب الأحبار وكان قد أصاب زاملتين من كتب:
أهل الكتاب، كان يرويها للناس فتجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين - وكان يقال له
لا تحدثنا عن الزاملتين. أما صحيفته التي كان يسميها " الصادقة " ويحرص عليها، فهي أدعية وصلوات
كما قال الخطيب البغدادي - وقال فيها مغيرة " ما تسرني أنها لي بفلسين - ص 93 تأويل مختلف الحديث).
(2) قال ابن حجر في الفتح: ثبت أن أبا هريرة لم يكن يكتب - ص 167 ج 2 فتح الباري.
وكذلك لم يحفظ القرآن.
(3) ص 851 ج‍ 10 مجلة المنار.
(4) ص 100 ج‍ 19 المنار.
201

كيف سوغ كثرة الرواية!
كان أبو هريرة يسوغ كثرة الرواية عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه ما دام
لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، فإنه لا بأس من أن يروى. وقد أيد صنيعه هذا
بأحاديث رفعها إلى النبي، ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي هريرة أن رسول الله قال:
" إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم، المعنى فلا بأس ".
وقال أيضا إنه سمع النبي يقول:
" من حدث حديثا هو لله عز وجل رضا فأنا قلته وإن لم أكن قلته "،
روى ذلك ابن عساكر في تاريخه.
وأخرج الطحاوي عن أبي هريرة: " إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه
فصدقوا به، قلته أم لم أقله، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا
تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف " (1).
روى ذلك وغيره على حين أن الثابت عن النبي أنه قال: " من نقل عني ما لم أقله
فليتبوأ مقعده من النار " وقد اضطر عمر أن يذكره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية.
تدليسه:
ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس - والتدليس كما عرفوه أن يروي
عمن لقيه ما لم يسمعه منه أو عمن عاصره ولم يقله، موهما أنه سمعه منه، والتدليس
أنواع كثيرة، وحكمه أنه مذموم كله على الإطلاق (2)، وقد كره التدليس جماعة
من العلماء، وكان شعبة (3) أشد الناس إنكارا لذلك حتى قال: لأن أزني أحب
إلي من أن أدلس! وقال أيضا: التدليس أخو الكذب.
ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة فرد روايته مطلقا

(1) ص 23 ج 2 الموافقات للشاطبي.
(2) ص 35 من شرح ألفية السيوطي للشيخ أحمد شاكر.
(3) شعبة بن الحجاج إمام أهل الحديث توفي بالبصرة سنة 160 ه‍ وكان صريحا فيما يقول
ومن صراحته أنه كان يقول: " والله لأنا في الشعر أسلم منى في الحديث، ولو أردت الله ما خرجت لكم
ولو أردتم الله ما جئتموني ولكنا نحب المدح ونكره الذم ".
202

وإن أتى بلفظ الاتصال، ولو لم يعرف أنه دلس إلا مرة واحدة. كما نص على ذلك
الشافعي رحمه الله.
وروى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعيد قال: اتقوا الله وتحفظوا من
الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقول فأسمع بعض من كان معنا يجعل
حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله! وفي رواية - يجعل
ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب! فاتقوا الله وتحفظوا
في الحديث.
وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس - أي
يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله، ولا يميز هذا من هذا - ذكره
ابن عساكر - وكأن شعبة يشير بهذا إلى حديث " من أصبح جنبا فلا صيام له "،
فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله (1).
وقال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث ": (2) وكان أبو هريرة يقول، قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه.
أول راوية اتهم في الإسلام:
قال ابن قتيبة في تأويل متخلف الحديث: " إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه
صلى الله عليه وسلم ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين
اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت
عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه (3) وممن اتهم أبا هريرة
بالكذب، عمر وعثمان وعلي وغيرهم وبذلك كان - كما قال الكاتب الإسلامي الكبير

(1) ص 109 ج‍ 8 البداية والنهاية لابن كثير، وفي الكتاب الخاص بأبي هريرة بسط هذا
القول فارجع إليه.
(2) ص 50.
(3) ص 48.
203

مصطفى صادق الرافعي (1) - " أول راوية اتهم في الإسلام ".
ولما قالت له عائشة: إنك لتحدث حديثا ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم
أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار، إذ قال لها - كما رواه ابن سعد والبخاري
وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة! وفي رواية -
ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك!!
على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه، وأن المرآة والمكحلة لم يشغلاها،
ذلك أنه لما روى حديث " من أصبح جنبا فلا صوم عليه " أنكرت عليه عائشة
هذا الحديث فقالت: إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من غير احتلام
فيغتسل ويصوم، وبعثت إليه بأن لا يحدث بهذا الحديث عن رسول الله،
فلم يسعه إزاء ذلك إلا الإذعان. وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي،
وإنما سمعته من الفضل بن العباس - فاستشهد ميتا وأوهم الناس أنه سمع الحديث
من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما قال (2) ابن قتيبة في تأويل مختلف
الحديث.
وكان علي رضي الله عنه سيئ الرأي فيه، وقال عنه ألا إنه أكذب الناس
- أو قال: أكذب الأحياء على رسول لأبو هريرة. ولما سمع أنه يقول: حدثني
خليلي! قال له: متى كان النبي خليلك؟ ولما روى حديث: متى استيقظ أحدكم
من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت
يده - لم تأخذ به عائشة وقالت: كيف نصنع بالمهراس (3).
ولما سمع الزبير أحاديثه قال: صدق، كذب (4).

(1) ص 278 تاريخ آداب العرب ج‍ 1 ويراجع فصل نقد الصحابة بعضهم لبعض في هذا الكتاب.
وفي اختصار علوم الحديث قال ابن حنبل وأبو بكر الحميدي وأبو بكر الصيرفي: لا تقبل رواية من كذب
في أحاديث رسول الله وإن تاب عن الكذب بعد ذلك ص 111 وقال السمعاني من كذب في خبر واحد
وجب إسقاط ما تقدم من حديثه (ص 14 من التقريب للنووي) وقال الحافظ ابن حجر اتفق العلماء
على تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه من الكبائر حتى بالغ الشيخ أبو محمد الجويني فحكم بكفر
من وقع منه ذلك، وكلام القاضي أبي بكر بن العربي يميل إليه.
(2) ص 28.
(3) المهراس صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه، يملأونه ماء ويتطهرون به.
(4) ص 109 ج‍ 8 البداية والنهاية..
204

وعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها فقالا:
إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الطيرة في المرأة والدابة
والدار "، فطارت شفقا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم، من
حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنما قال رسول الله - كان أهل
الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت: " ما أصاب من مصيبة
في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " (1).
وأنكر عليه ابن مسعود قوله: من غسل ميتا، ومن حمله فليتوضأ - وقال فيه
قولا شديدا ثم قال: يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم (2).
وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقلد من كان من القضاة المفتين
من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة ولا أستجيز خلافهم
برأيي إلا ثلاثة نفر - وفي رواية - أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي
إلا ثلاثة نفر (أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب) فقيل له في ذلك فقال:
أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يستفتى فيفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله،
وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن
يعرف الناسخ من المنسوخ (3) ".
وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف
قياسنا، ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي.
فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال ناهيك بهما. فقلت: وعلي وعثمان؟
قال: كذلك. فلما رآني أعد الصحابة - قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا
رجالا. وعد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك (4).

(1) ص 126 و 127 تأويل مختلف الحديث.
(2) ص 85 ج‍ 2 جامع بيان العلم.
(3) ص 31 و 32 من كتاب مختصر كتاب المؤمل لأبي شامة.
(4) هذا هو رأي أبي حنيفة فيه وهو من نعلم، والذي ولد في المائة الأولى والذي أدرك عصر
الصحابة ولجلال قدره سموه الإمام الأعظم ولد سنة 80 ه‍ ومات سنة 150 ه‍.
205

وعن إبراهيم النخعي قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة.
ورواية الأعمش عنه - ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة!
وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم: كانوا يرون في أحاديث رسول الله
شيئا، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة
أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهى عن شر جاء في القرآن (1).
وروى أبو شامة عن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث (2)، فكنت
إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح
عن أبي هريرة فقال: دعني من أبي هريرة! إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه.
وقال أبو جعفر الإسكافي - وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي
الرواية، ضربه عمر وقال: أكثرت من الحديث وأحر بك أن تكون كاذبا على
رسول الله (3).
وقال ابن الأثير: أما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها (4).
وفي الأحكام للآمدي:
أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته وذلك لأن الإكثار لا يؤمن معه
اختلاط الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته.
وجرت مسألة المصراة (5) في مجلس الرشيد فتنازع القوم فيها، وعلت أصواتهم
فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة، فرد بعضهم الحديث وقال:
أبو هريرة متهم فيما يرويه، ونحا نحوه الرشيد.

(1) ص 109 ج‍ 8 البداية والنهاية.
(2) كانوا يسمونه صيرفي الحديث.
(3) ص 360 ج‍ 1 شرح نهج البلاغة.
(4) ص 81 من كتاب المثل السائر.
(5) المصراة هي الناقة أو البقرة يجمع اللبن في ضرعها ويحبس أياما بغير حلب، لإيهام المشتري
أنها غزيرة اللبن - وسبب در الحنفية لحديث " المصراة " أنه مخالف للأقيسة بأسرها فإن حلب اللبن تعد،
وضمان التعدي يكون بالمثل أو بالقيمة والصاع من التمر ليس بواحد منها.
206

أخذه عن كعب الأحبار:
ذكر علماء الحديث في باب " رواية الصحابة عن التابعين، أو رواية الأكابر
عن الأصاغر " أن أبا هريرة والعبادلة ومعاوية وأنس وغيرهم، قد رووا عن كعب
الأحبار اليهودي الذي أظهر الإسلام خداعا وطوى قلبه على يهوديته - ويبدو أن
أبا هريرة كان أكثر الصحابة انخداعا به، وثقة فيه، ورواية عنه وعن إخوانه،
كما كان أكثرهم رواية للحديث، ويتبين من الاستقراء أن كعب الأحبار قد سلط
قوة دهائه على سذاجة أبي هريرة لكي يستحوذ عليه وينيمه ليلقنه كل ما يريد
أن يبثه في الدين الإسلامي من خرافات وأوهام، وكان له في ذلك أساليب غريبة،
وطرق عجيبة.
فقد روى الذهبي في طبقات الحفاظ - في ترجمة أبي هريرة - أن كعبا قال
فيه - أي في أبي هريرة - ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة!!
فانظر مبلغ دهاء هذا الكاهن ومكره بأبي هريرة الذي يتجلى في درس تاريخه
أنه كان رجلا فيه غفلة وغرة! إذ من أين يعلم أبو هريرة ما في التوراة وهو لم يعرفها،
ولو عرفها لما استطاع أن يقرأها (1) لأنها كانت باللغة العبرية وهو لا يستطيع أن
يقرأ حتى لغته العربية، إذ كان أميا لا يقرأ ولا يكتب.
ومما يدلك على أن هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى
جعله يردد كلام هذا الكاهن بالنص ويجعله حديثا مرفوعا إلى النبي ما نورد لك
شيئا منه:
روى البزار عن أبي هريرة أن النبي قال: إن الشمس والقمر ثوران في النار
يوم القيامة!
فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله وتقول ما ذنبهما؟

(1) روى البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها
بالعربية لأهل الإسلام، ولو كان يعرف العبرانية لقال: وكنت من الذين يفسرون التوراة.
207

وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصه، فقد روى أبو يعلى الموصلي، قال
كعب: يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم
يراهما من عبدهما (1).
وروى الحاكم في المستدرك والطبراني - ورجاله رجال الصحيح - عن
أبي هريرة: أن النبي قال: إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض
وعنقه مثبتة تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك! قال: فيرد عليه
ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا.
وهذا الحديث من قول كعب الأحبار ونصه: إن لله ديكا عنقه تحت العرش
وبراثنه في أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الديكة فيقول: سبحان القدوس
الملك الرحمن لا إله غيره (2).
وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: النيل وسيحان وجيحان والفرات من
أنهار الجنة، وهذا القول نفسه رواه كعب إذ قال: أربعة أنهار الجنة وضعها الله
عز وجل في الدنيا فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة،
وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة.
وقال ابن كثير في تفسيره إن حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج ونصه
كما رواه أحمد عن أبي هريرة " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى
إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون...
إلخ، وقد روى أحمد هذا الحديث عن كعب - قال ابن كثير لعل أبا هريرة
تلقاه من كعب فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه - وبين في مواضع كثيرة
من تفسيره ما أخذه أبو هريرة من كعب، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة
أن الله خلق آدم على صورته - وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأول من التوراة
(العهد القديم) ونصه هناك: وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله
خلقه (3).

(1) ص 222 حياة الحيوان.
(2) ص 220 ج‍ 1 نهاية الإرب للنويري.
(3) من روايات هذا الحديث. وطوله - أي آدم - ستون ذراعا، وفي رواية على صورة الرحمن. وقد
انتقد هذا الحديث من إحدى نواحيه ابن حجر في الفتح فقال ويشكل على هذا من الآن - الآثار للأمم
السالفة كديار عاد وثمود فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة في الطول على حسب ما يقتضيه
الترتيب الذي ذكره أبو هريرة. وأنكر مالك هذا الحديث.
208

ولما ذكر كعب صفة النبي في التوراة: قال أبو هريرة في صفته صلى الله
عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق - وهذا هو نص كلام
كعب كما أوردناه من قبل.
وروى مسلم عن أبي هريرة: أخذ رسول الله بيدي! فقال: خلق الله التربة
يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد! وخلق الشجر يوم الاثنين! وخلق
المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء! وبث فيها الدواب يوم الخميس!
وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق من آخر ساعة
من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل. وقد روى هذا الحديث كذلك أحمد
والنسائي عن أبي هريرة!!
وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن
كعب الأحبار لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث (بسماعه) من النبي
صلى الله عليه وسلم وأنه قد أخذ بيده حين حدثه به - وإني لأتحدى الذين يزعمون
أنهم على شئ من علم الحديث عندنا، وجميع من هم على شاكلتهم، في غير
بلادنا أن يحلوا لنا هذا المشكل.
إن الحديث صحيح السند على قواعدهم - لا خلاف في ذلك - وقد رواه مسلم
في صحيحه ولم يصرح بسماعه من النبي فقط، بل زعم أن رسول الله قد أخذ بيده
وهو يحدثه به، وقد قضى أئمة الحديث بأن هذا الحديث مأخوذ عن كعب الأحبار
وأنه مخالف للكتاب العزيز، فمثل هذه الرواية تعد ولا ريب كذبا صراحا، وافتراء
على رسول الله، فما حكم من يأتي بها؟ وهل تدخل تحت حكم حديث الرسول:
من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار؟ أم هناك مخرج لراوي هذا الحديث بذاته!
إني والله لفي حاجة إلى الانتفاع بعلمهم في هذا الحديث وحده الذي يكشف
ولا ريب عن روايات أبي هريرة التي يجب الاحتياط الشديد في تصديقها!
209

وقد بلغ من دهاء كعب الأحبار واستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته، أن
كان يلقنه ما يريد بثه في الدين الإسلامي من خرافات وترهات حتى إذا رواها
أبو هريرة عاد هو فصدق أبا هريرة، وذلك ليؤكد هذه الإسرائيليات وليمكن لها
في عقول المسلمين - كأن الخبر قد جاء عن أبي هريرة وهو في الحقيقة عن كعب
الأحبار.
وإليك مثلا من ذلك نختم به ما ننقله من الأحاديث التي رواها أبو هريرة عن
النبي، وهي في الحقيقة من الإسرائيليات حتى لا يطول بنا القول:
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله قال:
إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إن شئتم " وظل
ممدود ".
ولم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث حتى أسرع كعب فقال: صدق
والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمد، لو أن رجلا ركب حقة
أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما! إن الله تعالى
غرسها بيده ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء أستار الجنة وما في الجنة
نهر إلا وهو يخرج من أصل هذه الشجرة. وهكذا يتعاونان على نشر مثل هذه
الخرافات، ومن العجيب أن يروي هذا الخبر الغريب وهب بن منبه في أثر غريب
فيرجع إليه من أراده (1).
وفي فصل الإسرائيليات الذي مر بك أحاديث كثيرة من مثل ذلك.
ولما روى أن رسول الله قال: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ودما خير من
أن يمتلئ شعرا " قالت عائشة: لم يحفظ إنما قال: ".. من أن يمتلئ شعرا
هجيت به (2) ".

(1) ص 513، 514 ج‍ 4 تفسير ابن كثير.
(2) اتخذ الذين لا يعلمون قول أبي هريرة هذا حجة على أن النبي صلوات الله عليه كان يكره الشعر،
وفشا ذلك بين المسلمين وغير المسلمين، في حين أنا نجده صلى الله عليه وسلم كان يصغى إلى الشعر ويمدحه
ويثيب عليه، فقد روى أبي بن كعب أن رسول الله قال إن من الشعر حكمة وأخرج أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم
" إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن الشعر حكمة "، ورواية البخاري في الأدب المفرد
وأبي داود والترمذي وابن ماجة " إن من الشعر حكما "، واستشهد صلى الله عليه وآله من شعر أمية بن أبي الصلت.
210

حفظ الوعائين:
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله وعاءين (1) فأما
أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.
وهذا الحديث معارض بحديث رواه الجماعة (2) بألفاظ متقاربة عن علي
رضي الله عنه، فقد سئل: هل عندكم كتاب؟ فقال: لا، إلا كتاب الله أو فهم
أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة.
وكذلك يعارضه ما رواه البخاري عن عبد العزيز بن رفيع قال:
دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد، أترك النبي من
شئ؟ فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين.
ولو كان هناك شئ يؤثر به النبي (صلى الله عليه وسلم) أحد خواصه ويحجبه
عن سائر أصحابه، لكان علي أول الناس جميعا بذلك، ذلك بأن ربيبه وابن عمه
وأول من أسلم وزوج ابنته، ولم يفارقه لا في سفر ولا في حضر، وشهد معه المشاهد
كلها - سوى تبوك - ولما استخلفه النبي فيها على المدينة قال له علي: أتخلفني في
النساء والصبيان؟ فقال له النبي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟!
إلا أنه لا نبي بعدي، رواه البخاري والترمذي.
حقا كان علي أولى الناس جميعا بذلك، فإن لم يكن علي فالصديق أبو بكر
أو عمر، أو أبو عبيدة أو الزبير حواريه وابن عمته أو عائشة أحب أزواجه إليه
بعد خديجة، أو العاقلة الرزينة أم سلمة أو ابن مسعود الذي قال له النبي: أذنك
على أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي أي سراري، حتى كانوا لشدة ملازمته للنبي
(صلى الله عليه وسلم) لا يرون إلا أنه رجل من أهل بيته صلى الله عليه وسلم،
وعرف بين الصحابة جميعا بأنه صاحب السواد والوساد، الذي لا يعرفه غيره
رضي الله عنهم جميعا.

(1) في رواية أخرى جرابين وفي ثالثة ثلاثة أجربة.
(2) الجماعة أحمد والشيخان وأصحاب السنن.
211

كان هؤلاء هم أولى الناس بأن يؤثرهم النبي بما لا يريد أن يظهره لأحد من
سائر أصحابه، وإذا كان هناك أمر يريد أن يسره لأحد من خواصه.
ومن هو أبو هريرة حتى يؤثره النبي بشئ يخصه به ويكتمه ويخفيه عن أصفيائه
وأحبابه وأقرب الناس إليه؟! إنه لم يكن له أي فضل يدنو به إلى النبي - ولا عد
بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى من أية طبقة (1) من طبقات الصحابة، فلا هو
من السابقين الأولين ولا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من المجاهدين
بأموالهم أو بأنفسهم (2) ولا في النقباء، ولا من العرفاء، ولا من الكملة في الجاهلية
وأول الإسلام، ولا من شعراء النبي الذين نافحوا عنه ولا من المفتين، ولا من
القراء - الذين حفظوا القرآن - ولا جاء في فضله حديث عن الرسول (3)، وكل
ما عرف عنه أنه كان من أهل الصفة لا أكثر ولا أقل!
تشيع أبي هريرة لبني أمية:
علمت مما كشفناه لك من تاريخ أبي هريرة أنه لم يصاحب النبي إلا على ملء
بطنه، كما ذكر هو مرارا عن نفسه، وأنه قد اتخذ الصفة ملاذا له لفقره، يأكل
فيها كما يأكل سائر أهلها، أو يأكل عند النبي أو عند أحد أصحابه.
ومن كان هذا شأنه لا يكون ولا جرم إلا من عامة الصحابة لا شأن له ولا خطر،
وقد ظل على ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - ثم أخذ يظهر
في زمن عثمان بعد انزوائه، ويبدو للناس بعد خفائه.

(1) قسموا الصحابة من حيث فضلهم إلى اثنتي عشرة درجة. فما وجدناه في واحدة منها! وهي
(1) قدماء السابقين الذين أسلموا بمكة (2) أصحاب دار الندوة (3) مهاجرة الحبشة
(4) أصحاب العقبة الأولى (5) أصحاب العقبة الثانية (6) أول المهاجرين الذين وصلوا إلى النبي
بقباء قبل أن يدخل المدينة (7) أهل بدر (8) المهاجرون بين بدر والحديبية (9) أهل بيعة الرضوان
(10) من هاجر بين الحديبية وفتح مكة (11) مسلمة الفتح (12) صبيان - وأطفال رأوا رسول الله
يوم الفتح وفي حجة الوداع، ويصح أن نعده في هذه الطبقة مع الصبيان - ص 69 و 70 ج‍ 1 الروض
الباسم للوزير اليماني.
(2) أثبت التاريخ أنه فر يوم مؤتة ولما عيروه بذلك لم يحر جوابا.
(3) روى البخاري وغيره أحاديث كثيرة في فضل طائفة كبيرة من أجلاء الصحابة لم نر بينهم
أبا هريرة.
212

ولما شبت نار الحزب بين علي رضي الله عنه وبين معاوية، وإن شئت فقل
لما انبعث الصراع بين الأموية والهاشمية (1) بعد أن توارى - فرقا من القوة - في زمن
النبي وخليفتيه أبي بكر وعمر، وانقسم المسلمون فرقا اتجه أبو هريرة إلى الناحية
التي يميل إليها طبعه، وتتفق مع هوى نفس - وهي ناحية معاوية - إذ كانت
تملك من أسباب السلطان والترف والمال والنعيم ما لم تملك ناحية على التي ليس فيها
إلا الفقر والجوع والزهد - وليس بغريب على من نشأ نشأة أبي هريرة وعاش
عيشته، أن يتنكب الطريق التي تؤدي إلى علي، وأن يتخذ سبيله إلى معاوية
ليشبع نهمه من ألوان موائده الشهية، ويقضي وطره من رفده وصلاته وعطاياه السنية.
وإذا كان قد بلغ من فاقة أبي هريرة وجوعه أن يخر مغشيا عليه (2)، فيضع
الناس أرجلهم على عنقه! فهل تراه يدع دولة بني أمية ذات السلطان العريض
والأطعمة الناعمة، وينقلب إلى علي الزاهد الفقير الذي كان طعامه القديد؟
إن هذا لمما تأباه الطباع الإنسانية، ولا يتفق والغرائز النفسية! اللهم إلا من عصم
ربك، وقليل ما هم.
ولقد عرف بنو أمية صنيعه معهم، وقدروا موالاته لهم، فأغدقوا عليه من
أفضالهم، وغمروه برفدهم وأعطيتهم! فلم يلبث أن تحول حاله من ضيق إلى سعة،
ومن شظف العيش إلى دعة، ومن فقر إلى ثراء، وبعد أن كان يستر جسمه بنمرة
بالية (3) صار يلبس الخز والكتان الممشق (4).
ولقد كانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة لقاء مناصرته إياهم أن

(1) ارجع إلى كتابنا المطول عن أبي هريرة تجد فيه فصلا خاصا عنوانه " كيف قامت دولة
بني أمية ".
(2) من قول أبي هريرة - كما روى البخاري: لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله إلى حجرة
عائشة مغشيا علي، فيجيئ الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون - وما بي من جنون - ما بي إلا
الجوع.
(3) ومن قوله - كما جاء في الحلية - نزعت نمرة على ظهري فبسطتها بين يديه صلى الله عليه وآله كأني أنظر
إلى القمل يدب عليها، وهذه النمرة كان يربطها في عنقه فتبلغ ساقيه فيجمعها بيده لئلا تبدو عورته.
(4) في طبقات ابن سعد أن أبا هريرة كان يلبس الخز والساج المزرور بالديباج، وروى
البخاري أنه كان يلبس الكتان الممشق.
213

ولاه بسر بن أرطأة على المدينة بعد أن بعثه معاوية إلى أهل الحجاز يفعل فعلاته
بهم وبأموالهم وذراريهم - وكذلك كان مروان ينيبه عنه على ولاية المدينة، ثم
زادت أياديهم عليه فبنوا له قصرا بالعقيق وأقطعوه أرضا بالعقيق وبذي الحليفة،
ولم يكتفوا بذلك بل زوجوه بسرة بنت غزوان أخت الأمير عتبة بن غزوان وهي
التي كان يخدمها أيام عريه وفقره بطعام بطنه (1).
ولقد استخفه أشره وزهوه، ونم عليه أصله ونحيزته، فخرج عن حدود الأدب
والوقار مع هذه السيدة الكريمة، فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان ليحلم به:
" إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقت بهم وإذا
نزلوا خدمتهم - والآن تزوجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني! " ويقول:
وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت فقالت لا أريم حتى تجعل لي عصيدة!
فها أنا إذا أتيت على نحو من مكانها قلت لها: لا أريم حتى تجعلي لي عصيدة!
ومما أخرجه ابن سعد أنه قال: أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني
وعقبة رجلي.. فكانت تكلفني أن أركب قائما وأورد حافيا، فلما كان بعد ذلك
زوجنيها الله فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية (2).
ولم يكن ما قدم أبو هريرة لمعاوية جهادا بسيفه أو بماله، وإنما كان جهاده
أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار علي ويطعن فيها عليه، ويجعل الناس
يبرؤون منه، ويشيد بفضل معاوية ودولته.
وقد كان مما رواه أحاديث في فضل عثمان ومعاوية وغيرهما ممن يمت بأواصر
القربى إلى آل أبي العاص وسائر بني أمية.
روى البيهقي عنه أنه لما دخل دار عثمان وهو محصور، استأذن في الكلام
ولما أذن له قال: إني سمعت رسول الله يقول، إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافا،

(1) مما يدل على أن أبا هريرة قد ظل على فقره وعريه إلى أواخر عهد عمر - أن عمر قال له عندما
استدعاه من البحرين لما أتى أشياء استوجبت عزله وكان قد ولاه عليها سنة 21 ه‍: هل علمت من حين
أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين!!
(2) أنظر إلى هذا الكلام الذي تعرى عن كل مروءة وكرم - فتجده يباهي بامتهان زوجه والتشفي
منها - وهل يفعل مثل ذلك رجل كريم.
214

فقال له قائل من الناس فمن لنا يا رسول الله؟.. أو ما تأمرنا؟ فقال: عليكم
بالأمين وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان، وقد أورده أحمد بسند جيد.
ولما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال (1):
أصبت ووفقت! أشهد لسمعت رسول الله يقول: إن أشد أمتي حبا لي، قوم
يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون بما جاء في الورق المعلق.. حتى رأيت
المصاحف. قال فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف.
وهذا الحديث من غرائبه، وهو ينطق ولا ريب بأنه ابن ساعته.
ومما وضعه في معاوية ما أخرجه الخطيب عنه: ناول النبي صلى الله عليه وسلم
معاوية سهما فقال: خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة.
وأخرج ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي عنه: سمعت رسول الله.
يقول: إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة: أنا وجبريل ومعاوية، وفي رواية أخرى (2)
عن أبي هريرة مرفوعا: الأمناء ثلاثة، جبريل وأنا ومعاوية.
ونظر (أبو هريرة) إلى عائشة بنت طلحة وكانت مشهورة بالجمال الفائق -
فقال: سبحان الله، ما أحسن ما غذاك أهلك! والله ما رأيت وجها أحسن منك
إلا وجه معاوية على منبر رسول الله (3). والأخبار في ذلك كثيرة.
ولقد بلغ من مناصرته لبني أمية أنه كان يحث الناس على ما يطالب به عمالهم
من صدقات، ويحذرهم أن يسبوهم.
قال العجاج الراجز: قال لي أبو هريرة: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق،
قال: يوشك أن يأتيك بقعان الشام (4) فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقهم بها
فإذا دخلوها فكن في أقاصيها، وخل عنهم وعنها، وإياك أن تسبهم فإنك إن سببتهم

(1) ص 216 ج‍ 7 البداية والنهاية لابن كثير
(2) ص 120 ج‍ 8 البداية والنهاية لابن كثير
(3) ص 109 ج‍ 6 من العقد الفريد
(4) بقعان الشام خدمهم وعبيدهم ومماليكهم.
215

ذهب أجرك وأخذوا صدقتك وإن صبرت جاءت في ميزانك يوم القيامة (1).
وضعه أحاديث على علي:
قال أبو جعفر الإسكافي (2) إن معاوية حمل قوما من الصحابة، وقوما من
التابعين، على رواية أخبار قبيحة على علي تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه، وجعل
لهم في ذلك جعلا، فاختلقوا له ما أرضاه، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص،
والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.
وروى الأعمش: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة (3) جاء
إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب
صلعته مرارا وقال: يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله ورسول الله (4)
وأحرق نفسي بالنار. والله لقد سمعت رسول الله يقول: لكل نبي حرما وإن
حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها. فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه
وولاه إمارة المدينة.
على أن الحق لا يعدم أنصارا، وأن الصحابة إذا كان فيهم مثل أبي هريرة
ممن يستطيع معاوية أن يستحوذ عليه، فإن فيهم كثرة غالبة لا يستهويها وعد، ولا يرهبها
وعيد. فقد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار
أن أبا هريرة، لما قدم الكوفة مع معاوية، كان يجلس بالعشيات بباب كندة
ويجلس الناس إليه، فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه فقال: يا أبا هريرة،
أنشدك الله، أسمعت رسول الله يقول لعلي بن أبي طالب، اللهم وال من والاه

(1) ص 572 الشعر والشعراء لابن قتيبة.
(2) ص 358 ج‍ 1 شرح نهج البلاغة.
(3) هو العام الذي نزل فيه الحسن رضي الله عنه عن الحكم إلى معاوية حقنا لدماء المسلمين سنة 41 ه‍
وسموه عام الجماعة وهو في الحقيقة كان عام الفرقة.
(4) يدل هذا القول على أن كذب أبي هريرة على النبي قد اشتهر حتى عم الآفاق - لأنه قال ذلك
وهو بالعراق. وإن الناس جميعا كانوا يتحدثون عن هذا الكذب في كل مكان.
216

وعاد من عاداه؟ فقال: اللهم نعم. فقال: فأشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت
وليه، ثم قام عنه - بعد أن لطمه هذه اللطمة الأليمة.
وروى مسلم:
أن معاوية بن أبي سفيان قال لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب (1)؟
فقال: أما ذكرت ثلاثا قالهن له الرسول؟ فلن أسبه - لأن تكون لي واحدة
منهن أحب إلى من حمر النعم! سمعت رسول الله يقول له، لما خلفه في بعض
مغازيه (2) يا رسول الله: خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله: " أما
ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي " وسمعته يقول
يوم خيبر، " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله "، فتطاولنا
لها فقال: ادعوا عليا فأتي به أرمد. فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح
الله عليه - ولما نزلت هذه الآية " قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " الآية دعا رسول
الله - عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهلي.
ومن فضائل على أن النبي قال له: أنت مني وأنا منك. وقال له: من كنت
مولاه فعلي مولاه. وقال أحمد بن حنبل ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا
عن علي. وقال هو والنسائي والنيسابوري وغيرهم: لم يرد في حق أحد من الصحابة
بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء فيه.
وأخرج مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد إلى: " أنه
لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " وقد جمع النسائي في مناقبه كتاب
الخصائص.
سيرته في ولايته:
استعمل عمر أبا هريرة على البحرين حوالي سنة 21 ه‍ ثم بلغه عنه أشياء تخل
بأمانة الوالي العادل فعزله وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي - واستدعاه وقال

(1) أبو تراب هو علي رضي الله عنه - وكان مما فعله معاوية ومن جاءوا بعده من ملوك بني أمية أن
طلبوا من الناس أو ألزموهم أن يسبوا عليا ويلعنوه على المنابر، وظلت هذه السنة السيئة حتى أبطلها عمر
ابن عبد العزيز رحمه الله.
(2) هي غزوة تبوك.
217

له: هل علمت من حين أني استخلفتك على البحرين وأنت بلا نعلين! ثم بلغني
أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار!! فقال: كانت لنا أفراس تناتجت
وعطايا تلاحقت! قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك، وهذا فضل فأده. فقال
له: ليس لك ذلك! فأجابه عمر: بلى والله وأوجع ظهرك، ثم قام إليه بالدرة
فضربه حتى أدماه. ثم قال له: إئت بها - قال: احتسبتها. فقال له عمر: ذلك
لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا! أجئت من أقصى حجر بالبحرين يجبى الناس
لك، لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة (أم أبي هريرة) إلا لرعية الحمر (1).
وفي رواية عن أبي هريرة نفسه: أن عمر قال: يا عدو الله وعدو كتابه،
سرقت مال الله، من أين اجتمعت لك عشرة آلاف.
ونكتفي بما أوردناه ففيه بلاغ.
وفاته:
مات أبو هريرة سنة 59 ه‍ عن ثمانين سنة بقصره بالعقيق وحمل إلى المدينة
ودفن بالبقيع وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميرا على المدينة
تكريما له. ولما كتب الوليد إلى عمه معاوية ينعي له أبا هريرة أرسل إليه معاوية
" انظر من ترك، وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسن جوارهم وافعل إليهم
معروفا ". وهكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته.
كلمة مجملة فيه:
وإذ وصلنا من تاريخ أبي هريرة إلى هنا، فإنا نردف ما سقناه بكلمات للعالم
الكبير المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله (1) قالها في أبي هريرة:
كان إسلامه في سنة 7 ه‍ فصحب رسول الله ثلاث سنين ونيفا، فأكثر
أحاديثه لم يسمعها من النبي، وإنما سمعها من الصحابة والتابعين، فإذا كان جميع

(1) أي ما ولدتك أمك إلا لرعية الحمر. وانظر هل تجد عمر يخاطب غير أبي هريرة بمثل هذه اللهجة
القاسية التي تنم عن الاحتقار الشديد، وأي احتقار أبلغ من أن يصفه بأنه لا يصلح إلا لرعية الحمر..
والحقيقة أنه صحب النبي عاما وتسعة أشهر (راجع كتابنا شيخ المضيرة).
218

الصحابة عدولا في الرواية - كما يقول جمهور المحدثين، فالتابعون ليسوا كذلك،
وقد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار، وأكثر أحاديثه عنعنة، على أنه صرح
بالسماع (1) في حديث " خلق الله التربة يوم السبت " وقد جزموا بأن هذا الحديث
أخذه من كعب الأحبار (2).
وقال: إنه يكثر في أحاديثه الرواية بالمعنى والإرسال (3) لأن الكثير منه قد
سمعه من الصحابة وكذا بعض التابعين - ورواية الحديث بالمعنى كانت مثارا
لمشكلات كثيرة.
وقال: إنه انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظنته لغرابة
موضوعها كأحاديث الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات التي
تقع بعده، ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو انفرد بمثله
غير صحابي لعد من العلل التي يتثبت بها في روايته - كما هو المعهود عند نقاد
الحديث، أهل الجرح والتعديل (4) ولذلك نرى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض
روايات أبي هريرة (5).
وقد أخرج البخاري لأبي هريرة 446 حديثا في صحيحه وأخرج لابن عباس
217 حديثا. وهذا القدر من روايتهما للأصول الموصولة من الأحاديث لم ينفردا به،
وإنما شاركهما في رواية الكثير منه غيرهما، ولو أحصينا ما انفرد بروايته أبو هريرة
وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه قليلا جدا، وعلمنا أنه لو لم يروه

(1) أي أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) يثبت السيد رحمه الله وهو المحدث الكبير بل شيخ المحدثين في هذا العصر - كما يثبت غيره أنه
غير صادق في إدعائه أنه سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد مر بك نص هذا
الحديث وقصته ص 43 ج‍ 29 مجلة المنار.
(3) الحديث المرسل الذي لا يذكر فيه اسم الصحابي الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وآله.
(4) ولكن أنى لانسان مهما كان أن يجرؤ على تجريح أبي هريرة وقد أوصدوا باب الجرح
والتعديل دون الصحابة جميعا وفتحوه على مصراعيه ليدخل فيه الناس كافة، ولو نفذ الجرح والتعديل إلى
الصحابة لاستفاد الإسلام فوائد جليلة.
(5) ص 97 ج‍ 19 مجلة المنار.
219

لما نقصت كتب الأحكام شيئا كثيرا، وأن ما عسى أن تنقصه يمكن أن يعرف
حكمه من قواعد الشريعة الثابتة وأصولها القطعية، كقاعدة رفع الحرج
والعسر، وإثبات اليسر وترجيحه، وقاعدة كون الأصل براءة الذمة، وكون الأصل
في كل الخبائث والمضرات الحرمة، وفي كل الطيبات الحل، وكون الضرورات
تبيح المحظورات وغير ذلك (1).
وقال وهو يبين أن بطلي الإسرائيليات وينبوعي الخرافات هما كعب الأحبار
ووهب بن منبه:
" وما يدرينا أن كل الروايات - أو الموقوفة منها - ترجع إليهما، فإن الصحابة
رضي الله عنهم لم يكونوا يذكرون ما يسمع بعضهم من بعض ومن التابعين على
سبيل الرواية والنقل، بل يذكرونه بالمناسبات من غير عزو غالبا، وكثير من
التابعين كذلك، بل أكثر ما روى عن أبي هريرة من الأحاديث المرفوعة لم يسمعه
منه صلى الله عليه وسلم، ولذلك روى أكثره عنه بالعنعنة أو بقوله قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأقله بلفظ سمعت رسول الله يقول كذا (2)، وقد روى عن
بعض الصحابة وعن بعض التابعين وثبت أنه روى عن كعب الأحبار. ومن هنا
نجزم بأن موقوفات الصحابة التي لا مجال فيها للاجتهاد والرأي لا يكون لها قوة
المرفوع - كما قال المحدثون إلا إذا كانت ليست من قبيل الإسرائيليات (3).
هذه ترجمة مختصرة لأبي هريرة التزمنا فيها الناحية التقريرية ولم نسلك الطريقة
التحليلة والموضوعية، التي لا تكمل التراجم الصحيحة إلا بها، ولا تتم دراسة الرجال
والأحداث إلا باتباعها، ذلك بأننا لم نصل بعد إلى احتمال سطوتها، وبخاصة إذا كان
الأمر يتصل بأحد الصحابة الذين قالوا فيهم " إنهم كلهم عدول " فلا يجوز لأحد

(1) ص 101 من المصدر نفسه، ويلاحظ أن السيد قال هذا الكلام في رد له على دعاة النصرانية
الذين انتقدوا أبا هريرة، ولذلك نجد فيه روح الدفاع عن أبي هريرة ظاهرة.
(2) ولقد علمت قيمة صحة روايته فيما قال " إنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم من قبل
في حديث خلق الله التربة يوم السبت!
(3) 476 ج 9 من تفسير المنار.
220

أن ينتقد بالعلم والبرهان والحجة أحدا منهم، لا في روايته ولا في شهادته، ولا في
سيرته، ومما قالوه في ذلك أيضا " إن بساطهم قد طوي " كأن العدالة موقوفة عليهم
وحدهم وكأنهم في ذلك قد ارتفعوا عن درجة الإنسانية، فلا يعتريهم ما يعتري كل
إنسان من سهو أو خطأ، أو وهم أو نسيان - ولا نقول الكذب والبهتان!
على أننا لو سلمنا لهم بأن كل صحابي معصوم فيما يقع فيه غيره من بني الإنسان وأنه
لا ينسى ولا يخطئ ولا يهم، ولا يعتريه سوء فهم أو غلط، وأنه لم يكن في
الصحابة منافقون، ولم يرتكب أحد منهم كبيرة ولا صغيرة ولا وقع بينهم ما وقع،
ولا ارتد بعضهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غير ذلك كله مما حملته
كتب التاريخ الصحيحة عنهم - فإن أمر أبي هريرة يباين أمر الصحابة جميعا،
فقد جرحه كبار الصحابة ومن جاء بعدهم وشكوا في روايته، كما أبنا ذلك من
قبل وبخاصة في كتابنا المطول عنه.
ويعجبني قول علماء الكلام - أصحاب العقول الصريحة - في هذا الأمر
نفسه، فقد جاءت عنهم هذه الكلمة الحكيمة وهي " ومن عجيب شأنهم - أي
رجال الحديث - أنهم ينسبون (الشيخ) (1) إلى الكذب ولا يكتبون عنه ما يوافقه
عليه المحدثون - بقدح يحيى بن معين وعلي بن المديني وأشباههما (2) ويحتجون
بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقد أكذبه عمر وعلي وعثمان
وعائشة (3).
وما بيناه من تاريخ أبي هريرة قد سقناه لك على حقيقته، وأظهرنا شخصيته
كما خلقها الله ولم نأت فيها بشئ من عند أنفسنا، بل أتينا بالروايات الصحيحة
فيها، ورجعنا إلى مصادر ثابتة لا يرقى الشك إليها، ولا يدنو الريب منها وعلى أننا
قد طوينا كثيرا مما أثبته التاريخ الصحيح، لأن بعض الناس في دهرنا لا يزالون
يخشون سطوة الحق، ولا يحتملون قوة البرهان.
وأبو هريرة لم يكن له - كما قلنا - أي شأن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

(1) ليس المراد به شيخا معينا، بل المراد به أي شيخ من الأشياخ.
(2) أي علماء الجرح والتعديل.
(3) ص 10 و 11 من كتاب تأويل مختلف الحديث.
221

ولا في عهد الخلفاء الأربعة، ولم يستطع أن يفتح فاه بحديث واحد إلا بعد قتل
عمر، ولم يجرؤ على الفتوى إلا بعد الفتنة الأولى (1) وهي قتل عثمان وعلو شأن بني
أمية، وناهيك بالبخاري فإنه لم يذكره بين الصحابة الذين جاءت في فضلهم
أحاديث عن رسول الله.
على أنه لا يفوتنا أن نذكر أن فيما رواه أحاديث يبدو منها شعاع من نور
النبوة، ينفذ إلى القلوب السليمة، ولعلها مما يكون قد سمعه (وضبطه) والحديث
الصحيح له ضوء كضوء النهار.
أمثلة مما رواه أبو هريرة:
أخرج البخاري ومسلم عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام
فلما جاءه صكه (2) فرجع إلى ربه! فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت،
فرد الله عليه عينيه! وقال ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت
يده بكل شعرة سنة! قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن
فأسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر! قال رسول الله: فلو كنت ثم
لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر!!
وفي رواية لمسلم قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها.

(1) قال ابن سعد وهو يترجم لابن عباس ما يلي: عن زياد بن مينا كان ابن عباس وابن عمر
وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر بن عبد الله ورافع بن خديج وسلمة بن
الأكوع أبو واقد الليثي وعبد الله بن بحينة مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتون
بالمدينة ويحدثون عن رسول الله من لدن توفى عثمان إلى أن توفوا، وإذا رجعت إلى من كانوا يفتون
على عهد رسول الله وعهد صاحبيه أبي بكر وعمر، فإنك لا تجد أبا هريرة بينهم، وكذلك لم نجد أحدا
من الصحابة كان يرجع إليه في شئ إلا بعد موت عثمان، وكانت عائشة تفتى في خلافة أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي إلى أن ماتت، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله يسألونها عن السنن.
(2) لما أورد الثعالبي في كتابه " ثمار القلوب " هذا الخبر تحت عنوان " لطمة موسى " قال:
ومن أساطير الأولين، أن موسى سأل ربه إلخ القصة ومما قاله: إن ملك الموت أعور حتى قيل فيه:
يا ملك الموت لقيت منكرا * لطمة موسى تركتك أعورا!!
وختم الثعالبي قوله بهذه العبارة " وأنا برئ من عهدة هذه الحكاية ". وله الحق في هذه البراءة.
222

وفي تاريخ الطبري عن أبي هريرة أن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى
أتى موسى فلطمه ففقأ عينه، ومن بعد حادثة موسى - يأتي الناس خفيا ا ه‍
وإن رائحة الإسرائيلية لتفوح من هذا الحديث!
وأخرجا كذلك عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: تحاجت الجنة والنار!
فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء
الناس وسقطتهم! قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء
من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل
واحدة ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول قط،
قط، فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض
وروى البخاري عنه " ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع ".
وأخرج أوله مسلم عنه مرفوعا، وزاد: وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام.
وروى البخاري وابن ماجة عنه عن النبي: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم
فليغمسه كله ثم يطرحه فإن أحد جناحيه داء والآخر شفاء (1).
وروى الطبراني في الأوسط عنه عن النبي: أتاني ملك برسالة من الله عز وجل،
ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها.
وروى الترمذي عنه قال رسول الله: العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم.
وروى الحاكم وابن ماجة من حديثه بسند صحيح:
خمروا الآنية وأوكئوا الأسقية وأجيفوا الأبواب واكفتوا صبيانكم عن النساء
فإن للجن انتشارا وخطفة، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة (أي الفأرة)
ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت.

(1) نص هذا الحديث: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد
جناحيه داء وفي الآخر شفاء. رواه البخاري وابن ماجة عن أبي هريرة، وفي رواية بزيادة " فإنه يتقى
بجناحه الذي فيه الداء. وفي رواية ثالثة: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله منه فإن في أحد جناحيه
سما وفي الآخر شفاء وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء. وفي رواية رابعة إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه
كله أو ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء.
وفي رواية خامسة: فإنه يتقى بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله.
223

وروى مسلم عنه أن رسول الله قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في
ظلها مائة سنة.
وروايات أبي هريرة من هذا القبيل، وأدهى منه تفهق الكتب بها ولا نستطيع
إيرادها هنا لأن ذلك يحتاج إلى مجلدات برأسها.
ما رواه كبار الصحابة:
علمت مما تقدم أن أبا هريرة روى عن رسول الله 5374 روى البخاري منها
446 على حين أنه لم يصاحب النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا عاما وبضعة أشهر -
وبقي أن تعرف مقدار ما رواه الذين سبقوه بالإيمان وكانوا أدنى منه إلى رسول الله
وأعلم بالدين وأبعد في الفضل والجهاد من المهاجرين والأنصار وغيرهم وقضوا مع
الرسول سنين طويلة - لنرى كم روى كبارهم من أحاديث رسول الله.
ما رواه أبو بكر:
فهذا أبو بكر أول الرجال إسلاما بعد علي، وشيخ الصحابة جميعا وقضى مع
النبي ما قضى بمكة والمدينة وكان نسابة العرب، ترى كم من حديث رواه؟
قال النووي في تهذيبه: روى الصديق عن النبي 142 حديثا، أورد السيوطي
منها في تاريخ الخلفاء 104 وله في البخاري 22 حديثا.
ما رواه عمر:
أسلم سنة ست وظل مع النبي إلى آخر حياته (صلى الله عليه وسلم) ومن قوله:
كنت وجارا من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله، ينزل يوما، وأنزل يوما،
فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك -
وبرغم ذلك كله لم يصح عنه إلا حوال خمسين حديثا كما أثبت ذلك ابن حزم.
ما رواه علي:
أول من أسلم وتربى في حجر النبي وعاش تحت كنفه من قبل البعثة وظل معه إلى
أن انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى لم يفارقه لا في سفر ولا في حضر وهو ابن عمه وزوج
224

ابنته فاطمة الزهراء، شهد المشاهد كلها سوى تبوك فقد استخلفه النبي فيها على المدينة
فقال: يا رسول الله، أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال رسول: أما ترضى أن
تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي.
هذا الإمام الذي لا يكاد يضارعه أحد من الصحابة جميعا في العلم - قد
أسندوا له كما روى السيوطي 58 حديثا، وقال ابن جزم: لم يصح منها إلا خمسون
حديثا لم يرو البخاري ومسلم منها إلا من عشرين حديثا.
عثمان:
أما عثمان فقد روى البخاري له تسعة أحاديث ومسلم خمسة.
الزبير بن العوام روى له البخاري تسعة أحاديث ومسلم حديث.
طلحة بن عبيد الله روى له البخاري أربعة أحاديث.
عبد الرحمن بن عوف روى له البخاري تسعة أحاديث.
أبي بن كعب له في الكتب الستة ستون حديثا ونيف.
زيد بن ثابت روى له البخاري ثمانية أحاديث، واتفق الشيخان على خمسة.
سلمان الفارسي أخرج له البخاري 4 أحاديث ومسلم ثلاثة... إلخ.
وقد ثبت أن كثيرا من الصحابة لم يرووا عن النبي شيئا، منهم سعيد بن زيد
ابن نفيل أحد العشرة وأبي بن عمارة... إلخ.
أحاديث مشكلة
قلنا من قبل: إن الرواية قد حملت عن رسول الله فيما حملت أحاديث كثيرة
مشكلة وغريبة، وإنا نورد هنا بعض هذه الأحاديث على طريق المثال لأن استيعابها
يحتاج إلى أسفار.
عن ابن عباس أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء،
قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماوات والأرض ينظر فيه كل يوم نظرة،
أضواء على السنة المحمدية
225

ويحيي ويميت ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء فذلك قوله " كل يوم هو في شأن ".
رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبراني والحاكم.
وروى الشيخان وبعض السنن والمسانيد والتفسير المأثور عن أبي ذر، قال
رسول الله لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب؟ قلت الله ورسوله أعلم!
قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن
تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث شئت
فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها "... الآية.
وروى مسلم في مقدمة كتابه عن عبد الله بن عمرو بن العاص صاحب
الزاملتين قال: إن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان بن داود، يوشك أن
تخرج فتقرأ على الناس قرآنا.
وروى البخاري في " باب الدواء بالعجوة للسحر " عن عامر بن سعد بن أبي
وقاص عن أبيه قال، قال النبي: " من اصطبح كل يوم تمرات عجوة لم يضره
سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل - وفي رواية سبع تمرات عجوة - وكذا المسلم عن
سعد بن أبي وقاص.
وعند النسائي من حديث جابر: العجوة من الجنة وهي شفاء من السم.
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط
حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى
إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه - وقال العلماء المحققون في
شرح هذا الحديث: لئلا يسمع فيضطر أن يشهد له بذلك يوم القيامة...
وروى مسلم عن أبي سفيان أنه قال للنبي: يا رسول الله أعطني ثلاثا، تزوج
ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتبا، وأمرني أن أقاتل الكفار كما قاتلت
المسلمين...
وأم حبيبة تزوجها رسول الله وهو بالحبشة وأصدقها النجاشي، وأبو سفيان
أسلم عام الفتح وبين الهجرة والفتح عدة سنين.
226

وروى مسلم عن عمرو بن الشريد قال: ردفت النبي (صلى الله عليه وسلم)
قال: هل معك من شعر أمية؟ قلت: نعم، فأنشدته مائة بيت، فقال: لقد
كاد يسلم في شعره.
وروى أحمد في مسنده عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه
وسلم) قال: صدق أمية في شئ من شعره، وفي رواية قال رسول الله: صدق
أمية ابن أبي الصلت في شئ من شعره فقال:
زحل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله: صدق وقال:
والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء يصبح لونها يتورد
تأتي فما تطلع لنا في رسلها (1) * إلا معذبة وإلا تجلد
وهذا الحديث صحيح الإسناد وهو في مجمع الزوائد، ورواه أبو يعلى والطبراني
ورجاله ثقات.
ولما اعترض عليه في قوله: " إلا معذبة وإلا تجلد "! قال ابن عباس (2)
والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك فيقولون
لها: اطلعي، اطلعي! فتقول: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله! فيأتيها
ملك فتشتعل لضياء بني آدم، فيأتيها شيطان فيريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع
بين قرنيه فيحرقه الله تحتها، وذلك قول رسول الله: ما طلعت شمس إلا بين
قرني شيطان، ولا غربت إلا بين قرني شيطان، وما غربت الشمس قط إلا خرت
ساجدة، فيأتيها شيطان فيريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه فيحرقه
الله تحتها. وروى الطبراني عن أبي أمامة، أن الله وكل بالشمس تسعة أملاك
يرمونها بالثلج كل يوم، ولولا ذلك ما أتت على شئ إلا أحرقته..
وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك: أن رجلا سأل النبي قال:

(1) رسلها، الرسل الرفق التؤدة - ارجع إلى ص 7 ج 4 من تفسير ابن كثير.
(2) ابن عباس هو من كبار تلاميذ كعب الأحبار ويلقب بحبر الأمة، وقد تهكم المعري بأسلوبه
اللاذع بهذا الحديث وجعله من أكاذيبهم التي يفترونها على النبي صلى الله عليه وآله فقال:
وقد كذبوا حتى على الشمس * أنها تهان إذا حان الشروق وتضرب
ص 207 ج 1 من اللزوميات.
227

متى تقوم الساعة؟ قال: فسكت رسول الله هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من
أزد شنوءة فقال: " إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " قال أنس: ذاك
الغلام من أترابي يومئذ.
وقد مات أنس في سنة 93 ه‍ على المشهور وهو ترب الغلام الذي قال النبي إنه
لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، وبذلك يكون قيام الساعة قبل انقضاء القرن
الأول الهجري (1) كما نص الحديث!
فما قول عباد الأسانيد؟! لعل بعضهم ينبري فيقول: وما يدريك لعل هذا
الغلام لم يدركه الهرم إلى الآن!!
حديث فيم يختصم الملأ الأعلى:
وروى أحمد في مسنده، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج عليهم
ذات غداة وهو طيب النفس مسفر الوجه فسئل عن السبب فقال: وما يمنعني!
أتاني ربي عز وجل في أحسن صورة قال: يا محمد قلت لبيك ربي وسعديك!
قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري أي ربي! قال: فوضع كفيه بين كتفي
فوجدت بردهما بين ثديي حتى تجلى لي ما في السماوات وما في الأرض!
ورواية الشهرستاني: لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي
حتى وجدت برد أنامله.
ثور الجنة:
وفي بدائع الفوائد (2) لابن القيم ثبت عن النبي أن المؤمنين ينحر لهم يوم
القيامة ثور الجنة الذي كان يأكل منها فيكون نزلهم، قال ابن القيم: فهذا حيوان
قد كان يأكل من الجنة فينحر نزلا لأهلها.

(1) جاءت آثار أخرى عن عمر الدنيا تراها فيما بعد.
(2) ص 177 ج 3.
228

رؤية النبي لله 11 مرة، والإسراء كان يقظة:
قال القاضي (1): نص أحمد على أن الإسراء كان يقظة، وحكى له أن موسى
ابن عقبة قال: أحاديث الإسراء منام فقال: هذا كلام الجهمية (2) - وقال
أبو بكر النجار: رآه إحدى عشرة مرة! تسع مرات ليلة المعراج حينما كان يتردد
بين موسى وبين ربه عز وجل، ومرتين بالكتاب.
ملك من حملة العرش:
في منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال:
عن أنس عن النبي أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش رجلاه
في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش وبين شحمة أذنه وعاتقه خفقات الطير 700 عام
يقول: أنت الملك سبحانك حيث كنت.
الرعد:
عن ابن عباس: الرعد ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب معه مخاريق من
نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله تعالى (3) - وعنه أيضا الحيات مسخ الجن
كما مسخت القردة والخنازير زمن بني إسرائيل - وعنه: أول ما خلق الله من شئ
" القلم "، ثم خلق النون فكبس الأرض على ظهر النون (4)
الحجر الأسود:
عن ابن عباس: الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض يصافح بها من يشاء

(1) ص 39 ج 4 من نفس المصدر (بدائع الفوائد) وفي البخاري من حديث شريك أن الإسراء
كان مناما.
(2) ص 455 ج‍ 2.
(3) ص 459 من نفس المصدر.
(4) ص 449 من نفس المصدر. والنون هو الحوت.
229

من خلقه (1) وفي رواية أخرى عنه أنه قال: الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد
بياضا من الثلج حتى سودته خطايا الشرك، وقالوا إنه يأتي يوم القيامة، وله لسان
وشفتان ليشهد لمن استلمه بحق.
وهذا الحديث إسرائيلي منقول عن وهب بن منبه الذي قال فيه:
كان لؤلؤة بيضاء فسوده المشركون (2).
وقد استهزأ الجاحظ بهذا الحديث فقال: كان يجب أن يبيضه المسلمون
حين أسلموا...
فضل بسم الله الرحمن الرحيم:
عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: لما نزل بسم الله الرحمن
الرحيم هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها
ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله ألا يسمى اسمه على
شئ إلا بارك فيه (3).
أحد حملة العرش:
عن جابر قال رسول الله: " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من
حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام. رواه أبو داود
والبيهقي.
جبريل له ستمائة جناح:
وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال: رأى رسول الله جبريل في صورته له
ستمائة جناح، كل جناح منها يسد الأفق، يسقط من جناحه من الدر والياقوت،
ما الله به أعلم. (إسناده قوي)

(1) ص 271 من كتاب تأويل مختلف الحديث.
(2) ص 368 من نفس المصدر.
(3) ص 17 ج‍ 1 تفسيرا بن كثير.
230

وعن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله جبريل في حلة خضراء وقد ملأ
بين السماء والأرض. (رواه مسلم)
يكشف ربنا عن ساقه:
روى الشيخان عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الله عز وجل يكشف عن
ساقه.
وفي البخاري عن أبي سعيد قال: سمعت النبي يقول: يكشف ربنا عن ساقه
فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة.
وقال ابن مسعود: يكشف الله عن ساقه اليمنى فيضيئ من نور ساقه الأرض.
الشاة من دواب الجنة:
وفي سنن ابن ماجة من حديث ابن عمر، أن النبي قال: الشاة من دواب الجنة.
قدم الجبار:
في الصحيحين من حديث أنس، أن النبي قال: لا تزال جهنم يلقى فيها
وتقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض.
شجرة في الجنة:
روى البخاري عن ابن سعيد عن النبي قال:
إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد، أو المضمر السريع مائة عام ما يقطعها.
وفي رواية: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها.
أصدق الحديث ما عطس عنده:
رواه الطبراني في الأوسط والترمذي وغيرهما عن أنس.
231

طوبى شجرة في الجنة:
رواه أحمد وابن حبان وفي رواية، طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ
فيها من روحه تنبت بالحلى والحلل، وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة.
والمشكلات لا يمكن حصرها، وبحسبك أن تجد الطحاوي قد ألف كتاب
" مشكل الآثار " في أربعة مجلدات كبار، ولم يستوعب فيها كل المشكلات.
وهذا الكتاب طبع في الهند.
أحاديث المهدي:
مما يبدو من مشكلات الرواية تلك الأحاديث المختلفة التي جاءت في كتب
السنة المشهورة عند الجمهور عن " المهدي المنتظر " والتي تذكر أنه يخرج في آخر
الزمان ليملأ الدنيا عدلا - كما ملئت جورا.
وهو عند أهل السنة " محمد بن عبد الله " وفي رواية: أحمد بن عبد الله -
والشيعة الإمامية متفقون على أنه " محمد بن الحسن المهدي " من الأئمة المعصومين
ويلقبونه بالحجة والقائم المنتظر.
وتقول الكيسانية: إن المهدي هو: محمد بن الحنفية وهو حي يقيم بجبل
رضوى بين أسدين يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تفيضان ماء وعسلا ومعه أربعون.
والمشهور في نسبه أنه علوي فاطمي من ولد الحسن، وعند الشيعة الإمامية
أنه من ولد الحسين رضي الله عنهما. وقد قال الحكيم ابن خلدون (1) في مقدمته إن
المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار، أنه لا بد في آخر الزمان
من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون،
ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى " بالمهدي "، ويكون خروج الدجال
وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل بعده
فيقتل الدجال وينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته، ويحتجون في

(1) ص 311 من طبعة بيروت.
232

الباب بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض
الأخبار... إلخ).
وقد طعن ابن خلدون في أكثر أحاديث المهدي التي جاءت في كتب السنة
عند الجمهور.
أما الشيعة - وبخاصة الإمامية فإن لهم أدلة يروونها عن أئمتهم وهم يعتمدون
عليها في إثبات ظهور المهدي - ولكل قوم سنة وإمامها.
المهدي العباسي:
وهناك عدة أحاديث مصرحة بأنه سيكون من ولد العباس، ولكثرة هذه
الأحاديث نكتفي بالإشارة إليها، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إليها في مظانها.
المهدي السفياني:
وإذا كان للعلويين مهدي، وللعباسيين آخر، فلم لا يكون للأمويين مهدي
ثالث! ما دام باب الوضع يسع كل ما يدخل فيه، وبخاصة بعد أن أصبحوا من
القوة والسلطان بحيث يتقرب الوضاعون إليهم لينالوا من عطائهم، وقد جاءت
آثار بأن لهم مهديا يسمى " السفياني " لا نطيل بذكر أخباره وما جاء فيه.
الخلفاء الاثنا عشر:
وإليك بعض ما جاء في الخلفاء الاثني عشر، لكي تقف على ناحية من
نواحي الاختلاق في رواية الحديث وهو مما يعنينا في هذا البحث أما ما وراء ذلك
فليس من غرضنا ولا من حقنا مناقشة الناس في معتقداتهم.
جاءت أحاديث كثيرة تنبئ أن الخلفاء سيكونون اثنى عشر خليفة. وإنا نورد
هنا ما وقفنا عليه من مختلف ألفاظها، ولا نعرض لمعاني متونها!
روى الشيخان واللفظ للبخاري عن جابر بن سمرة: يكون اثنا عشر أميرا
كلهم من قريش.
233

ورواية مسلم: " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا وكلهم
من قريش ".
وفي رواية أخرى: " إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي له فيهم اثنا عشر
خليفة ".
وفي رواية ثالثة: " لا يزال الإسلام عزيزا منيعا إلى اثنى عشر خليفة ".
ووقع عند أبي داود بلفظ: " لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثنى عشر خليفة ".
وفي حديث أبي جحيفة عند البزار والطبراني بلفظ " لا يزال أمر أمتي صالحا "
وأخرج أبو داود عن جابر بن سمرة نحوه وزاد (1).
" فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ فقال: الهرج "
أي الفتنة والقتال.
وعند أبي داود: " لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة
كلهم تجتمع عليهم الأمة ".
وعند أحمد: " لا تزال هذا الأمر صالحا، ورواية أخرى عنده، لا يزال هذا
الأمر مرضيا، وأخرجه الطبراني بلفظ " لا تضرهم عداوة من عاداهم ".
ووقع عند أبي داود وأخرجه أحمد والبزار من حديث ابن مسعود، أنه سئل
كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ قال: سألنا عنها رسول الله فقال: اثنا عشر كعدة
نقباء بني إسرائيل.
وأخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: إذا ملك
اثنا عشر من بني كعب بن لؤي، كان النقف والنقاف إلى يوم القيامة.
وعن كعب الأحبار - ولا بد من كعب الأحبار!!، وفي كل واد أثر من
ثعلبة!! - يكون اثنا عشر مهديا ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال.
وعلى أن هذه الأحاديث قد جعلت الخلفاء اثنى عشر، فقد رووا حديثا
يعارض هذه الأحاديث جميعا، وهو حديث سفينة الذي أخرجه أصحاب السنن

(1) يلاحط أن أكثر أحاديث المهدي التي جاءت في كتب السنة من رواية جابر بن سمرة.
234

وصححه ابن حيان وغيره " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا ".
وكذلك أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود رفعه " تدور رحى الإسلام
لخمس وثلاثين سنة أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من هلك،
وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما " زاد الطبراني والخطابي: فقالوا: سوى
ما مضى؟ قال: نعم.
أقوال بعض العلماء في هذه الأحاديث:
قال القاضي عياض: توجه على هذا العدد " أي الاثني عشر " سؤالان
أحدهما أنه يعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سفينة " الخلافة بعدي
ثلاثون سنة ثم يكون ملكا " لأن الثلاثين سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة،
وأيام الحسن بن علي، والثاني أنه ولى الخلافة أكثر من هذا العدد.
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل: قد أطلت البحث عن معنى هذا
الحديث، وتطلبت مظانه، وسألت عنه فلم أقع على المقصود، لأن ألفاظه مختلفة
ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة.
أما السيوطي فبعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة. خرج
برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء وهو:
وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر، الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية
وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز - وهؤلاء ثمانية ويحتمل أن يضم إليهم المهدي من
العباسيين لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر، لما أوتيه
من العدل وبقي الاثنان المنتظران!! أحدهما المهدي! لأنه من أهل البيت محمد -
ولم يبين المنتظر الثاني - ورحم الله من قال في السيوطي: إنه حاطب ليل (1).
وقبل أن نختم الكلام عن المهدي نثبت هنا كلمة عنه للعلامة الكبير الأستاذ
مرتضى العسكري من كبار علماء العراق تبين عقيدة الشيعة الإمامية الاثنا عشرية
في المهدي.

(1) يرجع إلى ص 179 - 183 ج‍ 13 من فتح الباري وتاريخ الخلفاء.
235

قال حفظه الله من جواب طويل بعث به إلينا: الشيعة الاثنا عشرية يعتقدون أن الأرض لم تخل من حجة لله على خلقه
ولا تخلو منه كذلك، وهو إما أن يكون نبيا يوحي إليه أو من يعين من قبله على
شريعته من بعده، ويبينها لأمته.
وهم يرون في الأحاديث الاثني عشر التي أوردتموها في كتابكم ص 210 - 211 (1)
تحت عنوان " الخلفاء الاثنا عشر " بيانا لعدد الأئمة الاثني عشر الذين يلون
أمر الدين بعد النبي، فإن هذا العدد لا ينطبق على الراشدين، ولا الأمويين ولا غيرهم
مضافا إلى مئات الأحاديث التي يروونها بطرقهم الخاصة عن رسول الله مما فيه
التنصيص على ذلك. وثاني عشر هؤلاء الأئمة عندهم هو المهدي ابن الحسن العسكري
المولود بسامراء سنة 255 ه‍ والذين يعتقدون فيه أنه لا يزال حيا كحياة نوح ألف
سنة إلا خمسين عاما بين قومه، وكحياة عيسى الذي ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
بل رفعه الله إليه...
وهم يعتقدون بأن المهدي موجود وحي بقدرة الله التي جعلت الطين طيرا
لإبراهيم، والنار بردا وسلاما له، والإيمان بوجوده كل هذه المدة دليل على الإيمان
بقدرة الله، ويعتقدون أنه موجود بين الناس، وقد يعاينهم كأحدهم دون أن
يشخصوه.
ومما يذكر من فوائد وجوده أنه إذا أحتاج المسلمون إلى بيان رأي خفي فيه وجه
الصواب يقوم بإرشاد بعض العلماء إلى صواب الرأي في الأمر.
أما موعد ظهوره فإنهم يجمعون على أنه من الغيب الذي لا يعرفه إلا الله
وأن لظهوره علائم منها ما هو حتمي الوقوع، وأخرى غير حتمية على ما في
الأحاديث، وأنه يبدأ ظهوره من مكة على الأشهر، وتكون حملته الأولى من جيش
عدده كعدد جيش رسول الله في بدر، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأنه يحكم بين
الناس بالواقع وإن خالف ذلك شهادة الشاهدين، أما سرداب الغيبة الذي قيل عنه في
الحلة أو سامراء فلم أسمع بشيعي يقول بغيبة المهدي فيه، أو بوجوده فيه، أو بخروجه

(1) أي كتابنا " الأضواء " في الطبعة الأولى.
236

منه، ولعل السرداب الموجود في سامراء كان مصلى للإمامين علي الهادي والحسن
العسكري اتخذاه مصلى لهما للعبادة فقد كانوا يتخذون في بيوتهم مصلى يعبدون
الله فيه، ثم بقي كذلك حتى اليوم.
هذا بعض ما حضر آن عصر الجمعة 2 ربيع الآخر سنة 1381.
237

الدجال (1)
جاء في الدجال الذي أشار إليه ابن خلدون في كلمته عن المهدي أحاديث
كثيرة بعضها يصرح بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يرى أن من المحتمل ظهور الدجال في
زمنه، وأنه يكفي المسلمين شره، وبعضها يصرح، أنه يخرج بعد فتح المسلمين
لبلاد الروم والقسطنطينية، وبعض الأحاديث تقول بأنه سيكون معه جبال من
خبز وأنهار من ماء وعسل! كما رواه أحمد والبيهقي وزاد مسلم جبال من لحم!
وأخرج نعيم بن حماد من طريق كعب " أن الدجال تلده أمه بقوص من
أرض مصر، وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة...!
ومن أخباره أنه ينزل عند باب دمشق الشرقي ثم يظهر بالمشرق فيعطى الخلافة
ثم يأتي النهر فيأمره أن يسيل فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس
فييبس، ثم يأمر الجبال أن تتناطح فتتناطح، ويأمر الريح أن تثير سحابا فتمطر
الأرض، ويخوض البحر في كل يوم ثلاث خوضات فلا يبلغ حقويه - وإحدى
يديه أطول من الأخرى، فيمد الطويلة في البحر فتبلغ مقره فيخرج من الحيتان
ما يريد!
وفي رواية عن مسلم أنه يخرج من أصبهان - وفي حديث الجساسة عند مسلم
أنه محبوس بدير أو قصر في جزيرة في الشام أو بحر اليمن - وروى الحاكم وأحمد
أنه يخرج من خراسان، وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم أنه يخرج بين
الشام والعراق.
الدجالة في خطبة الوداع:
روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي بين
أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر المسيح الدجال
فأطنب في ذكره وقال: ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته أنذره نوح والنبيون

(1) سبق لنا فيما مضى كلام آخر عن الدجال في حديث الجساسة.
238

من بعده، وأنه يخرج فيكم فما خفى عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم! إن ربكم
ليس على ما يخفى عليكم ثلاثا! إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور عين اليمنى
كأن عينه عنية طافية، ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم
هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم
اشهد ثلاثا ويلكم أو يحكم انظروا: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم
رقاب بعض.
وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث: ذكر الخطبة في حجة الوداع جماعة
من الصحابة ولم يذكر أحد منهم قصة الدجال فيها إلا ابن عمر
ولعل ابن حجر قد فاته أن ابن عمر هذا أحد تلاميذ كعب الأحبار.
وهاك حديثا غريبا آخر في الدجال.
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي أنه ذكر الدجال فقال:
إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور.
وقال الفخر الرازي في " أساس التقديس " عند الكلام على هذا الحديث:
إن هذا الخبر مشكل لأن ظاهره يقضي أن النبي أظهر الفرق بين الإله تعالى
وبين الدجال بكون الدجال أعور! وكون الله تعالى ليس بأعور! وذلك بعيد.
وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى وجب أن يعتقد أن الكلام كان
مسبوقا بمقدمة لو ذكرت لزال هذا الإشكال.
وهناك أحاديث أخرى عن هذا الدجال أعرضنا عن ذكرها وكلها مرفوعة إلى
النبي.. ولكي يمكنوا لهذه العقيدة في عقول المسلمين، أوردوا حديثا عن النبي
بأن " من كذب بالمهدي فقد كفر، ومن كذب بالدجال فقد كفر " (1).

(1) نقل هذا الحديث ابن حجر الهيثمي في كتابه الفتاوى الحديثة عن أبي جعفر الإسكافي عن
النبي بلفظ من كذب بالدجال فقد كفروا من كذب بالمهدي فقد كفر - ص 60 من كتاب الإمام
المنتظر للسيد محمد الكاظمي القزويني.
239

عمر الدنيا
في تفسير الآلوسي أن السيوطي أخرج عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة
آلاف سنة.. وذكر أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة
خمسمائة سنة، واستدل على ذلك بأخبار وآثار ذكرها - أي السيوطي - في رسالته
التي سماها " الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف " (1)، وقد قال الآلوسي:
وإذا لم يظهر المهدي على رأس المائة التي نحن فيها ينهدم جميع ما نبأه فيها - كما
لا يخفى وكأني بك تراه منهدما.
وقد مضت المائة التي كان فيها الآلوسي وهي المائة الثالثة عشرة من الهجرة
ومضى بعدها ست وثمانون سنة من المائة الرابعة عشرة، ولم يظهر المهدي وبذلك
ينهدم يقينا ما نبأه السيوطي وخلط فيه.
وذكر ابن خلدون في مقدمته قالوا: إن خروج الدجال يكون سنة 743 ه‍ (2)،
والكلام في ذلك يطول بغير طائل، وقد أعرضنا كذلك عن إيراد أخبار الفتن
وأشراط الساعة ونزول عيسى التي زخرت بها كتب السنة المعتمدة بين المسلمين،
والمقدسة من شيوخ الدين، وكذلك أهملنا هنا ذكر الأحاديث الواردة في
خروج النيل والفرات وسيحون وجيحون من أصل سدرة المنتهى فوق السماء السابعة
وهي في البخاري وغيره، وخلق كل شئ من نور النبي صلى الله عليه وسلم وبشارة
الوحوش به، وما إلى ذلك من هذه الأخبار الغريبة.
ومن يرد أن يقف على هذه الأخبار كلها فليرجع إلى كتب السنة وإلى ما جاء
في الفصل الثاني والخمسين من مقدمة ابن خلدون وهو الفصل الذي عقده على
" أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك ".

(1) في حديث للشيخين أن الساعة تقوم قبل انتهاء القرن الأول الهجري.
(2) ص 325 من الطبعة الشامية. ارجع إلى هذه الأحاديث في كتاب " شيخ المضيرة ".
240

كلمة جامعة في أحاديث أشراط الساعة - وأمثالها
انتهى العلامة السيد رشيد رضا في تفسيره، بعد أن طعن في أحاديث أشراط
الساعة وأماراتها - مثل الفتن والدجال والجساسة وظهور المهدي وغير ذلك - إلى
هذه النتائج القيمة (1):
1 - أن النبي لم يكن يعلم الغيب " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء
الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير
وبشير لقوم يؤمنون " وهو معلوم من الدين بالضرورة، وإنما أعلمه الله ببعض الغيوب
بما أنزل عليه في كتابه، وهو قسمان صريح، ومستنبط.
2 - لا شك أن أكثر الأحاديث قد روى بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه
العلماء، ويدل على ذلك اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى
المختصر منها، وما دخل على بعض الأحاديث من المدرجات وهو ما يدرج في اللفظ
المرفوع من كلام الرواة - فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه وربما وقع في
فهمه الخطأ، لأن هذه أمور يد غيبية وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها (2).
وإذا كان النبي لم يطلعه الله تعالى على ما أطلعه عليه من هذه المغيبات بالتفصيل.
وكان يجتهد في بعضها ويقدر، ويأخذ بالقرائن كما قال النووي وابن الجوزي في
تجويزه صلى الله عليه وسلم أن يكون ابن صياد اليهودي المعاصر له هو الدجال
المنتظر، وكذا تجويزه أن يظهر في زمنه وهو حي، فهل من الغرابة أن يقع الخلط
والتعارض فيما يروي عنه بالمعنى بقدر فهم الرواة. إن العابثين بالإسلام ومحاولي
إفساد المسلمين وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع،
وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية، وقد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها
وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها، وراج كثير منها بإظهار رواتها

(1) ص 504 - 507 ج‍ 9 تفسير القرآن الحكيم.
(2) راجع فصل رواية الحديث بالمعنى في هذا الكتاب ص 77.
241

للصلاح والتقوى، ولم تعرف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله
من واضعيها. ولقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله يقول: إن الإسلام
الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن - وإن بعض
الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم وما كل مؤمن صادق،
وما كانوا يفرقون في الأداء بين ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره،
وما بلغهم عنه بمثل سمعت وحدثني - وأخبرني - ومثل - عن النبي أنه قال -
أو قال رسول الله - كما فعل المحدثون من بعد، عند وضع مصطلح الحديث - وقد
ثبت أن الصحابة كان يروي بعضهم عن بعض (1) وعن التابعين حتى عن كعب
الأحبار وأمثاله - والقاعدة عند أهل السنة أن جميع الصحابة عدول (2) فلا يخل
جهل اسم راو منهم بصحة السند! وهي قاعدة أغلبية لا مطردة، فقد كان في
عهد النبي منافقون قال تعالى: (9 - 102) " وممن حولكم من الأعراب منافقون.
ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " مردوا عليه، أحكموه
وصقلوه أو صقلوا فيه حتى لم يعد يظهر في سيماهم وفحوى كلامهم، كالذين قال
الله فيهم - منهم (47 - 31): " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في
لحن القول "، ولكن البلية من الرواية عن مثل كعب الأحبار وممن روى عنه أبو هريرة
وابن عباس (3) ومعظم التفسير المأثور مأخوذ عنه وعن تلاميذه، ومنهم المدلسون
كقتادة وغيره من كبار المفسرين وكابن جريج (4). فكل حديث مشكل المتن
أو مضطرب الرواية، أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق، أو لأصول الدين.
أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية، فهو مظنة لما ذكرنا..
فمن صدق رواية مما ذكر - ولم يجد فيها إشكالا فالأصل فيها الصدق، ومن ارتاب

(1) راجع فصل رواية الصحابة بعضهم عن بعض في هذا الكتاب ص 70.
(2) راجع فصل عدالة الصحابة في هذا الكتاب.
(3) وكذلك كان يروي عنه سائر العبادلة وطائفة كبيرة من الصحابة.
(4) ابن جريج كان من النصارى.
242

في شئ منها، أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالا في متونها،
فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية، لاحتمال كونها من دسائس
الإسرائيليات، أو خطأ الرواية بالمعنى، أو غير ذلك مما أشرنا إليه، وإذا لم يكن
شئ منها ثابتا بالتواتر القطعي فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق الرسول صلى الله
عليه وسلم المعلوم بالقطع، ولا على غير ذلك من القطعيات.
نقلنا هذا الكلام الجامع ليهتدي الناس إلى دراسة الحديث - لا أحاديث
أشراط الساعة فحسب، بل في كل ما روي منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ونختم هذا الفصل بهذه الأحاديث المتناقضة:
أحاديث متناقضة
ولا يدري المسلمون، بأيها يأخذون!
روى البخاري عن عمران بن حصين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري
أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون،
ويخونون، ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن.
وعن عبد الله رضي الله عنه أن النبي قال: " خير الناس قرني، ثم الذين
يلونهم، ثم يجيئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته.
وقال ابن حجر العسقلاني:
قد سبق في صفة النبي صلى الله عليه وآله قوله: بعثت في خير قرون بني آدم - وفي
رواية بريدة عند أحمد: خبر هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم. وقد ظهر
أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة 120 سنة أو دونها، أو فوقها بقليل
على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وآله فيكون
مائة سنة أو تسعين، أو سبعا وتسعين!
243

وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، إلى أن
قال: واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله، من عاش
حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا، وأطلقت
المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها! وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق
القرآن! وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا (1)، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر
قوله صلى الله عليه وآله ثم يفشو الكذب ظهورا بينا (2) حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات
والله المستعان!!
وقد اقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل
من أتباع التابعين.. وقد احتج ابن عبد البر بحديث: مثل أمتي مثل المطر،
لا يدرى أوله خير أم آخره (3)، وهو حديث حسن له طرق قد يرتقى بها إلى الصحة.
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبر قال رسول الله ليدركن
المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير - ثلاثا، وروى أبو داود والترمذي من حديث
أبي ثعلبة رفعه: يأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟
قال: بل منكم. وهو شاهد لحديث، مثل أمتي مثل المطر - وروى أحمد والدارمي
والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة يا رسول الله أأحد خير منا!
أسلمنا معك وجاهدنا معك! قال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني.
وإسناده حسن وقد صححه الحاكم.
وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد
الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة وبذلك صرح القرطبي، ولكن كلام
ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة فإنه صرح في كلامه
باستثناء أهل بدر والحديبية، ولابن حجر كلام كثير في ذلك يرجع إليه.

(1) ص 4 وما بعدها ج 7 من فتح الباري.
(2) كأن الكذب لم يفش إلا في القرن الثالث...
(3) هذا الحديث رواه الترمذي وأبو يعلى والدارقطني عن أنس مرفوعا، وأخرجه الخطيب في الرواة
عن مالك وكذا أبو الحسن القطان في العلل، وله شاهد عن عمار بن ياسر أخرجه ابن حبان في صحيحه
وفي لفظ عند الطبراني الكبير: مثل أمتي كالمطر يجعل الله في أوله خيرا وفي آخره خيرا، وأخرجه البزار
بسند جيد عن عمران بن حصين (وهو راوي الحديث الأول).
244

ونحن نقول إن قرن النبي صلوات الله عليه وقع فيه من الأحداث الجسام ما وقع
مثل فتنة عثمان وما جرت على المسلمين من بلايا، ومثل ما فعل الأمويون في حكمهم
من تقويض قاعدة الشورى في الإسلام! ولا نطيل بذكر ما وقع في هذا القرن
مما سجله التاريخ على صفحاته.
ومن أجل ذلك نرجح أن الحديث الصحيح الذي يتفق مع روح الرسالة
المحمدية هو حديث " مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ".
هذا والأحاديث المتناقضة كثيرة تؤلف منها كتب
كتابة القرآن
رأينا قبل أن نعرض للكلام عن كتابة الحديث، أن نأتي بفذلكة وجيزة
من تأريخ جمع القرآن وكتابته لنبين كيف كانت عناية الرسول صلى الله عليه وآله وكذا
صحابته من بعده بكتابة هذا الكتاب العظيم، وكيف كانوا يبالغون في التدقيق في
جمعه وحفظه حتى أوفوا على الغاية من الكمال، وخرج إلى الناس في أصدق صورة
بلغها كتاب على مد الزمن كله، وبذلك استحق صفة التواتر الصحيح الذي
لا يمترى فيه إنسان، ولا يختلف عليه اثنان. وتلقاه المسلمون جميعا في مشارق
الأرض ومغاربها على اختلاف مذاهبهم بالثقة التامة واليقين الكامل، لا يشذ في
ذلك منهم أحد.
ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد عنى بكتابة الحديث كما عنى بكتابة
القرآن وعنى الصحابة من بعده بكتابته، لجاءت أحاديث الرسول كلها متواترة في
لفظها ومعناها، ليس شئ فيها اسمه صحيح، ولا شئ اسمه حسن، ولا شئ
اسمه ضعيف، ولا غير ذلك من الأسماء التي اخترعوها مما لم يكن معروفا زمن النبي
وصحابته، وبذلك كان يرتفع الخلاف في حقيقته، وينحط عن كاهل العلماء أعباء
البحث عن صحته، ووضع المؤلفات الكثيرة التي صنفت في " علوم الحديث "
والبحث عن أحوال الرواة، من حيث العدالة والضبط والجرح والتعديل وغير ذلك،
وكان فقهاء الدين يسيرون على نهج واحد لا اختلاف بينهم في أصله ولا تباين،
245

اللهم إلا في الفهم والإدراك، إذ تكون أدلتهم كلها متواترة كالقرآن الكريم فلا يأخذون
بما سموه الظن الغالب الذي فتح أبواب الخلاف ومزق صفوف الأمة وجعلها مذاهب
وفرقا، مما لا يزال أمره بينهم إلى اليوم وما بعد اليوم قائما. ثم كانت الأحاديث
تصبح كذلك من أهم المصادر لعلماء النحو ورجال اللغة والبلاغة.
كيف كانت كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
كان النبي حينما ينزل عليه من القرآن ما ينزل يأمر كتابه بأن يسارعوا إلى
كتابته عند النطق به حتى لقد بلغ من حرصه على أدائه كما أوحى إليه، أن كان
يحرك لسانه بما يتلقاه من الوحي حتى لا يتفلت منه شئ، فقد أخرج البخاري
وغيره عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى " لا تحرك به لسانك.. " الآية، قال:
كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت
منه - يريد أن يحفظه - فأنزل الله: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه
وقرآنه " ويقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه فإذا قرأناه - إذا أنزلناه عليك
" فاتبع قرآنه " فاسمع له وأنصت، ثم إن علينا بيانه أي تبيينه بلسانك... إلخ.
وكان النبي يحض صحابته على حفظه وضبطه، والمداومة بالليل والنهار على تلاوته
وكذلك كان يحث على قراءته في الصلاة وفي غير الصلاة وبذلك كثر القراء
" الحفاظ " وقد كان بعضهم يكتب ما ينزل " ابتداء من عند أنفسهم أو بأمر النبي "
ومنهم من حفظ بعضه، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظه كله
وهم قليل.
كتاب الوحي:
كان كتاب الوحي - كما ذكروا - الخلفاء الأربعة وسعيد بن العاص وغيرهم،
وقالوا كذلك إن أكثرهم كتابة وأشهرهم بينهم كان زيد بن ثابت وإن كان أول من
كتب للنبي بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي ارتد، ثم عاد
إلى الإسلام يوم الفتح، وأول من كتب بالمدينة أبي بن كعب وزيد بن ثابت (1).

(1) كان بين نزول أول القرآن وآخره، 20 سنة، أو 23، أو 25، وهو مبني على
الاختلاف في مدة إقامته بمكة بعد البعثة، فقيل عشر وقيل 13 وقيل 15، ولم يختلف في مدة
إقامته بالمدينة أنها عشر سنين - وكان القرآن ينزل بحسب الحاجة، خمس آيات، وعشر آيات
وأكثر وأقل، وصح نزول " غير أولي الضرر " وحدها وهي بعض آية - 29 من كتاب التبيان للجزائري.
246

وفي المواهب الفتحية (1):
إن الزبير بن العوام وجهم بن الصلت كانا يكتبان أموال الصدقة، وكان
حذيفة يكتب خرص النخل، وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير، يكتبان
المداينات والمعاملات.
جمع القرآن وسببه:
قضى رسول الله ولم يكن القرآن جمع في شئ وذلك أنه كان في الصدور،
وفيما كتب متفرقا، في عهد النبي، ولما تولى أبو بكر ونشبت حرب الردة وقتل فيها كثير
من الصحابة - خشي عمر من ضياع القرآن بموت الصحابة، فدخل على أبي بكر
وقال له: إن أصحاب رسول الله باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني
أخشى ألا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا وهم حملة القرآن (2) فيضيع
القرآن وينسى، ولو جمعته وكتبته؟ فنفر منها أبو بكر، ولما تراجعا أرسل أبو بكر
إلى زيد بن ثابت وقال له: إن عمر قد دعاني إلى أمر فأبيت، وأنت كاتب الوحي
فإن تكن معه اتبعتكما، فنفر زيد كذلك، وقال: نفعل ما لم يفعل رسول الله؟
فقال عمر: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ فشرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك
ما رأى عمر، ثم تتبعت القرآن أجمعه من العسب (3) واللخاف، والأكتاف وقطع

(1) ص 85 ج‍ 2.
(2) مما يلفت النظر البعيد، ويسترعي العقل الرشيد، أن عمر لما راعه تهافت الصحابة في
حرب اليمامة تهافت الفراش في النار - وفزع إلى أبي بكر لكي يسارع إلى جمع القرآن وكتابته،
لم يقل عنهم إنهم حملة الحديث، بل قال إنهم حملة القرآن ولم يطلب جمع الحديث وكتابته، عندما
فزع إلى أبي بكر، بل جعل همه في جمع القرآن وحده وكتابته، ولم يقف الأمر عند ذلك فحسب،
بل إننا لم نجدهم وهم يجمعون القرآن ويكتبونه - وكان ذلك على عين الصحابة جميعا - قد اقترح واحد
منهم أن يجمعوا الحديث ويكتبونه، بل انحصرت عنايتهم جميعا في جمع القرآن فحسب، وفي ذلك
أقوى الأدلة وأصدق البراهين على أنهم لم يكونوا يعنون بأمر الحديث، ولا أن يكون لهم فيه كتاب
محفوظ، يبقى على وجه الدهر كالقرآن الكريم.
(3) العسب جمع عسيب وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص عنه ويكتبون في الطرف
العريض، واللخاف جمع لخفة بفتح وسكون، وهي صفائح الحجارة.
وهذه الأشياء هي التي كانوا يكتبون فيها عند نزول القرآن.
247

الأديم، وصدور الرجال (1)... وقد اختص أبو بكر زيدا بذلك لأنه من كتاب
الوحي، وكان حافظا للقرآن، وهذا الجمع هو ضم متفرق القرآن من صحف لتكون
هذه الصحف في مصحف.
تحريهم في جمع القرآن:
لما اتفق الرأي على جمع القرآن وتدوينه قام عمر في الناس وقال:
من تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأت به. وقال أبو بكر لعمر وزيد:
اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شئ من كتاب الله فاكتباه،
وكان عمر - كما علمت - لا يقبل من أحد حديثا عن رسول الله حتى يشهد
شاهدان على أنهما قد تلقياه من النبي، وعهدوا إلى بلال أن ينادي بأنحاء المدينة،
أن من كان عنده قطعة عليها شئ من كتاب الله فليأت بها إلى الجامع وليسلمها
إلى الكتبة. قال أبو شامة وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين
يدي النبي لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال زيد في آخر سورة التوبة لم أجدها مع
غيره - أي لم أجدها مكتوبة مع غيره - لأنه كان لا يكتفى بالحفظ دون الكتابة.
وقد روى ابن وهب في موطئه عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله
ابن عمر أنه قال: قد جمع أبو بكر القرآن في قراطيس ا ه‍، وبذلك يكون أبو بكر
هو أول من جمع القرآن في الصحف وهذا هو الجمع الأول.
هذا ما أمكن نشره هنا في هذا الحيز الضيق من الكلام في موضوع كتابة القرآن
الكريم، ولم نعرض لشئ من التفصيل عما جاء في هذا الأمر الخطير الذي تشعبت فيه
الرواية، واختلف فيها كلام الرواة لأن ذلك ليس من همنا، ولا هو من موضوع كتابنا.
ومن شاء أن يقف على كل ما قيل في هذا الأمر فليرجع إلى كتاب الاتقان
للسيوطي، وكتاب التبيان للجزائري والجزء الأول من " البيان في تفسير القرآن " للعلامة
المحقق الكبير السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي.
وهذا الكتاب وحده كاف في بيان هذا الأمر لأن مؤلفه الجليل قد درسه درسا

(1) ارجع إلى حديث زيد بن ثابت الذين رواه البخاري في ذلك.
248

وافيا، وفصل فيه القول تفصيلا بحيث لا تجد مثله في كتاب آخر حتى ليجب على
كل مسلم أن يقرأه ليستفيد منه علما ومعرفة.
غريبة توجب الحيرة:
من أغرب الأمور، ومما يدعو إلى الحيرة أنهم لم يذكروا اسم علي رضي الله عنه
فيمن عهد إليهم بجمع القرآن وكتابته، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان!
ويذكرون غيره ممن هم أقل منه درجة في العلم والفقه! فهل كان علي لا يحسن
شيئا من هذا الأمر؟ أو كان من غير الموثوق بهم؟ أو ممن لا يصح استشارتهم
أو إشراكهم في هذا الأمر؟
اللهم إن العقل والمنطق ليقضيان بأن يكون على أول من يعهد إليه بهذا الأمر،
وأعظم من يشارك فيه وذلك بما أتيح له من صفات ومزايا لم تهيأ لغيره من بين
الصحابة جميعا - فقد رباه النبي صلى الله عليه وآله على عينه، وعاش زمنا طويلا تحت
كنفه، وشهد الوحي من أول نزوله إلى يوم انقطاعه، بحيث لم يند عنه آية من آياته!!
فإذا لم يدع إلى هذا الأمر الخطير فإلى أي شئ يدعى؟!
وإذا كانوا قد انتحلوا معاذير ليسوغوا بها تخطيهم إياه في أمر خلافة أبي بكر
فلم يسألوه عنها ولم يستشيروه فيها، فبأي شئ يعتذرون من عدم دعوته لأمر كتابة
القرآن؟ فبماذا نعلل ذلك؟ وبماذا يحكم القاضي العادل فيه؟ حقا إن الأمر
لعجيب وما علينا إلا أن نقول كلمة لا نملك غيرها وهي:
لك الله يا علي! ما أنصفوك في شئ!
الجمع الثاني في عهد عثمان:
لبثت الصحف التي كتبت في عهد أبي بكر عنده إلى أن قضى نحبه - رضي
الله عنه - ثم حفظت عنه عمر مدة ولايته، وقبل موته دفع بها إلى ابنته حفصة،
وظلت عندها حتى طلبها عثمان ليراجعوا عليها المصحف الذي كتب في عهده.
كتابة القرآن في عهد عثمان:
ما كاد عمر رضي الله عنه ينقلب إلى ربه، ويتولى عثمان الخلافة حتى أخذ
أمر المسلمين يتحول، واختلف المسلمون حتى في قراءة القرآن.
249

أخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق أبي قلابة أنه قال:
لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة
الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى
كفر بعضهم بعضا، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال، أنتم عندي تختلفون فمن نأى
عني من الأمصار أشد اختلافا. وروى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم
على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق،
فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة وقال لعثمان: يا أمير المؤمنين: أدرك هذه الأمة
قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ا ه‍.
ومما ذكره حذيفة: رأيت أناسا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من
قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن " المقداد "، ورأيت أهل دمشق يقولون
إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، فإنهم قرأوا بقراءة " أبي بن كعب " ورأيت أهل
الكوفة يقولون مثل ذلك وأنهم قرأوا على " أبي موسى "، ويسمون مصحفه " لباب
لقلوب ".
وفي رواية عمارة بن غزية ذكرها ابن حجر في الفتح (ص 14 ج 9) أن حذيفة
قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك الناس!
قال: وما ذاك؟ قال غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة " أبي بن كعب "
فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود
فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضا.
ولما بلغ كل ذلك عثمان ورأى الأمر قد حزب أرسل إلى حفصة (1) ابنة

(1) كانت حفصة رضي الله عنها وصية من قبل أبيها عمر على أوقافه وتركته، ويبدو أن عمر كان لا
يثق بابنه عبد الله فقد روى السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء قال: أخرج النخعي أن رجلا قال لعمر: ألا
تخلف عبد الله بن عمر؟ فقال له: قاتلك الله! والله ما أردت الله بهذا! استخلف رجلا لم يحسن أن يطلق
امرأته؟ (ص 98) وقد ثبت عنه أنه قال: لو كان سالم مولى حذيفة حيا لوليته (ص 123 ج 1 سير أعلام
النبلاء). أما خبر هذا الطلاق الذي أشار إليه عمر فقد رواه البخاري عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق
امرأته وهي حائض على عهد رسول الله، فقال رسول الله مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر
ثم إن شاء أمسك بعد، إن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (ص 288
ج 9 فتح الباري).
وقد ذكر ابن دقيق العيد أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ مما فعل ابن عمر.
250

عمر أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها
حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط
القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان
قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد
عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف، مما نسخوا، وأمر
بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال الحافظ ابن حجر - وكان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 ه‍.
الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان:
قال ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان، أن جمع
أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شئ بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا
في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي
صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة، حتى
قرأوا بلغاتهم من اتساع اللغات، فأدى ذلك إلى تخطئة بعضهم بعضا، فخشي
من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره
واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد
وسع في قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة في إبداء الأمر، فرأى أن الحاجة
في ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة
عدد المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الآفاق:
اختلف في عدة المصاحف التي أمر عثمان بكتابتها، والمشهور أنها كانت
خمسة، أرسل أربعة منها إلى الآفاق وأمسك عنده واحدا منها.
هذه لمعة ضئيلة مما جمعناه في هذا البحث رأينا إيرادها هنا، ولعل الله يهيئ
لنا نشر البحث الطويل الذي أعددناه لكتاب برأسه في هذا الموضوع الجليل لينتفع
به المسلمون خاصة، والمعنيون بالمباحث الإسلامية عامة.
251

وقفة قصيرة:
ولا بد لي هنا من أن أقف وقفة قصيرة أستعلن فيها ما عراني من حيرة فيما أوردوه
من أنباء هذا الجمع وما فيها من تناقض كثير. فنبأ يقول: إن عمر هو الذي فزع
إلى أبي بكر في هذا الجمع، وخبر يقول: إن هذا الجمع لم يكن في عهد أبي بكر،
وإنما هو عمر الذي تولاه، ورواية ثالثة تفيد أن عمر قد قتل قبل أن يكمل هذا
الجمع، وأن عثمان هو الذي أتمه، وثم روايات أخرى كثيرة تحمل مثل هذا
التناقض، لا نتوسع بإيرادها.
ونحن لو أخذنا بالأخبار المشهورة، التي رواها البخاري، وهي التي فزع فيها عمر
إلى أبي بكر لكي يجمع القرآن لما رأى القتل قد استحر في وقعة اليمامة وأنه قد قتل
فيها من الصحابة مئات وهم، حملة القرآن، وإذا استمر الأمر على ذلك فإن القرآن
يضيع وينسى!
لو نحن أخذنا بهذا النبأ فإنه يتبين منه أن الصحابة وحدهم هم الذين كانوا في
هذا العهد يحملون القرآن، فإذا ما ماتوا أو قتلوا ضاع القرآن ونسي، وأنه ليس هناك
مصدر آخر يحفظ القرآن على مد الزمان إذ كانوا مادته وكانوا كتابه؟
على حين ذكروا قبل ذلك في أخبار وثيقة يرضى بها العقل ويؤيدها العلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب كل ما ينزل عليه من قرآن وقت نزوله على
العسب واللخاف وقطع الأديم وغيرها، وأنه اتخذ لذلك كتابا أحصى التاريخ أسماءهم،
فأين ذهبت هذه النسخة، التي لا يشك فيها أحد ولا يمتري فيها إنسان؟ لأنها هي
التي حفظ الله بها القرآن الكريم في قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "
وفي قوله تعالى " إنا علينا جمعه وقرآنه ".
إن هذه النسخة الفريدة التي تحمل الصورة الصحيحة للقرآن التي ستبقى
على وجه الزمن خالدة لو كانت موجودة لأغنتهم عما وجدوه في سبيل عملهم من
عناء، ولا صبحت هي المرجع الأول للقرآن في كل عصر ومصر والتي كان يجب على
عثمان أن يراجع عليها مصاحفه التي كتبها قبل أن يوزعها على الأمصار.
252

تعقيب لا بد منه:
وإذا كانوا - كما قلنا - قد أوفوا على الغاية من التحقيق في كتابة القرآن
الكريم وحفظه حتى لا يستطيع أحد أن يمارى في ذلك، أو يحيك بصدره شئ من
الريب فيه، فقد قامت حول هذا الأمر الخطير أمور سموها مشكلات نرى من
الواجب أن نشير إلى بعضها حتى لا يأخذ علينا أحد أننا قد أغفلنا شيئا مما يجب أن
يعلمه قراء كتابنا عن الرواية وما جنت، وهو ما يتصل بموضوعنا
" وفي كل واد أثر
من ثعلبة "!
قال العلامة طاهر الجزائري في كتابه " التبيان " (1) وهو يتكلم عن وجوب
تواتر القرآن وما ورد على ذلك من مشكلات:
وهنا مشكلات ترد على أصل وجوب تواتر القرآن نذكرها مع الجواب عنها:
المشكل الأول:
نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن وقد
أنكر صحة النقل عنه كثير من العلماء، قال النووي في شرح المهذب: أجمع
المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد شيئا منها كفر،
وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح. وقال ابن حزم في كتاب القدح المعلى
تتميم المحلى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم
عن زر عنه، وفيها المعوذتان والفاتحة.
وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد صح عن ابن مسعود إنكار ذلك
فأخرج أحمد وابن حبان عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه - وبعد أن
أورد كل الروايات التي جاءت في أن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من مصاحفه
قال (ابن حجر): فقول من قال إنه كذب عليه مردود، والطعن في الروايات
الصحيحة بغير مستند لا يقبل!!
وقال ابن قتيبة في مشكل القرآن: ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن

(1) ص 96 - 101، وكتاب التبيان هو مهذب كتاب الاتقان للسيوطي.
253

لأنه رأى النبي صلى الله عليه وآله يعوذ بهما الحسن والحسين فأقام على ظنه، ولا نقول
إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار - وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه
فليس لظنه أنها ليست من القرآن، معاذ الله! ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب
وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان، والزيادة والنقصان، ورأى أن ذلك
مأمون في سورة الحمد لقصرها ووجوب تعلمها على كل أحد...
ومما يشاكل ما نقل عن ابن مسعود، ما نقل عن أبي بن كعب، أنه كتب
في مصحفه سورتين تسميان سورتي الخلع والحقد، كان يقنت بهما وهما: اللهم إنا
نستعينك، ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك،
اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو
رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق. وقد تعرض القاضي لذكر ذلك في الانتصار
فقال: إن كلام القنوت المروي أن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم الحجة بأنه
قرآن منزل بل هو ضرب من الدعاء، وإنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن وحصل
العلم بصحته، وإنه يمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ثم نسخ وأبيح الدعاء به
وخلط بكلام ليس بقرآن - ولم يصح ذلك عنه - وإنما روى عنه أنه أثبته في
مصحفه، وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء وتأويل.
المشكل الثاني:
نقل عن زيد بن ثابت أنه قال في أثناء ذكره لحديث جمع القرآن في المصحف
- وهو الجمع الأول - وكان ذلك في عهد أبي بكر الصديق: فقمت فتتبعت
القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة
التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع أحد غيره " لقد جاءكم
رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم... " إلى آخرها، ونقل عنه أنه
قال: لما نسخنا المصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت
أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي
جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا
الله عليه "، وقد وقع هذا الجمع الثاني، وكان ذلك في عهد عثمان، وقد اختلف
254

المتكلمون في ذلك، فقال بعضهم: إن هذا الخبر وإن كان مخرجا في الصحيحين،
غير صحيح، لاقتضائه أن الآيات الثلاث المذكورة قد ثبتت بغير طريق التواتر،
وهو خلاف ما يقتضيه الدليل المذكور، وقال بعضهم: ليس في الخبر المذكور
ما يقتضي ثبوت الآيات المذكورة بغير طريق التواتر، لاحتمال أن يكون زيد قد
أراد بقوله: لم أجدها مع غير فلان: لم أجدها مكتوبة عند غيره، وهو لا يقتضي
أنه لم يجدها محفوظة عند غيره.. وقال بعضهم: إن الدليل المذكور إنما يتقضى
كون القرآن قد نقل على وجه يفيد العلم - وإفادة العلم قد تكون بغير طريق التواتر،
فإن في أخبار الآحاد ما يفيد العلم، وهي الأخبار التي احتفت بها قرائن توجب ذلك - وعلى هذا فنحن لا نستبعد أن يكون في القرآن ما نقل على هذا الوجه،
وذلك كالآيات الثلاث المذكورة، إذ المطلوب حصول العلم على أي وجه كان،
وقد حصل بهذا الوجه.
وهذا القول في غاية القوة والمتانة، ولا يرد عليه شئ مما يرد على من أفرط
في هذا الأمر أو فرط عليه.
المشكل الثالث:
روى البخاري عن قتادة أنه قال: سألت أنس بن مالك، من جمع القرآن
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار، أبي بن كعب،
ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد؟ قال:
أحد عمومتي، وروى من طريق ثابت عن أنس أنه قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع
القرآن غير أربعة، أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
وفيه مخالفة لحديث قتادة من وجهين: التصريح بصيغة الحصر في الأربعة،
والآخر ذكر أبا الدرداء بدل أبي بن كعب، وقد استنكر جماعة من الأئمة
الحصر في الأربعة. وقال المازري: لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم، أن
يكون الواقع في نفس الأمر كذلك، لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه،
وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد، وهذا لا يتم
إلا إن كان لقى كل واحد منهم على انفراده، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع
255

القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى
ما في علمه، لم يلزم أن يكون الواقع كذلك..
وأخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو أنه قال: جمعت القرآن
فقرأت به كل ليلة (1) فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأه في شهر الحديث.
وأخرج ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع
القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار، معاذ بن جبل، وعبادة
ابن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري.
وقد اعترض الإسماعيلي على إخراج حديثي أنس معا في الصحيح مع اختلافهما
فقال: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوز أن يكونا في الصحيح مع تباينهما، بل
الصحيح أحدهما. وجزم البيهقي بأن ذكر أبي الدرداء وهم والصواب أبي بن كعب،
وقال الداودي لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظا، والصحيح هو الرواية الأولى،
وأما الرواية الثانية فالظاهر أن بعض الرواة " رواها بالمعنى " فزاد فيها الحصر لتوهمه
أنه مراد وذهل في ذكر الأسماء، فأبدل اسم أبي بن كعب باسم أبي الدرداء! ومن
أمعن النظر في أمر الرواية بالمعنى - لم يستبعد ذلك. ا ه‍ ما نقلناه من كتاب
التبيان.
ولم يقف فعل الرواية عند ذلك بل تمادت إلى ما هو أخطر من ذلك حتى
زعمت أن في القرآن نقصا ولحنا وغير ذلك مما أورد في كتب السنة، ولو شئنا أن
نأتي به كله لطال الكلام - ولكنا نكتفي بمثالين مما قالوه في نقص القرآن، ولم نأت
بهما من كتب السنة العامة بل مما حمله الصحيحان، ورواه الشيخان البخاري
ومسلم.
أخرج البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال - وهو على المنبر: إن
الله بعث محمدا بالحق نبيا وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم فقرأناها
وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس
زمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضل بترك فريضة أنزلها الله

(1) هل هذا ممكن؟ إن الشك ليبدو على هذا الخبر.
256

- والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء. ثم إنا كنا
نقرأ فيما يقرأ في كتاب الله، ألا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن
آبائكم.
وأخرج مسلم عن أبي الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى الأشعري، إلى
قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل
البصرة وقراؤهم، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان
قبلكم - وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني قد
حفظت منها " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف
ابن آدم إلا التراب "، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني
حفظت منها " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم
فتسألون عنها يوم القيامة ".
نجتزئ بما أوردنا وهو كاف هنا لبيان كيف تفعل الرواية حتى في الكتاب
الأول للمسلمين وهو القرآن الكريم! ولا ندري كيف تذهب هذه الروايات
التي تفصح بأن القرآن فيه نقص وتحمل مثل هذه المطاعن مع قول الله سبحانه
" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وأيهما نصدق؟!
اللهم إن هذا أمر عجيب يجب أن يتدبره أولو الألباب.
أضواء على السنة
257

تدوين الحديث (1)
كيف نشأ تدوين الحديث:
عندما شرعوا في تدوين الحديث دونوه على الهيئة التي وصل بها إليهم، فجمع
كل منهم ما جمع مما رواه الرواة بالأسانيد التي رووه بها، وبعد ذلك بحثوا عن
أحوال هؤلاء الرواة لكي يعرفوا من تقبل روايته ومن ترد.
وعلى أنهم قد بذلوا في هذه السبيل ما بذلوا، لكنهم لم يصلوا إلى الغرض
المرجو منه ولا بلغوا مستقر اليقين الذي تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب من
أن ما دونوه هو نفس ما نطق النبي به بحيث لا يدنو منه شك، أو يعروه شبهة.
وأنى لهم أن ينفذوا إلى دخائل النفوس وبواطنها حتى يطلعوا على حقيقتها؟
ومن أجل ذلك جاءت كتبهم (كلها) وليس فيها مما جاء عن رسول الله - حديث
يعتبر متواترا، بل نجدها قد جمعت بين ما هو صحيح في نظر الرواة وما هو موضوع
لا أصل له، ولا يخلو من ذلك كتاب حتى التي سموها الصحاح وهي البخاري ومسلم
لأنها لم تسلم من سهام النقد التي وجهها إلى كتب الحديث أئمة الحديث وعلماء
الأصول وعلم الكلام.
وسيتبين لك كل ذلك فيما سيقابلك في مواضيعه من هذا الكتاب.
وقد رأيت فيما تقدم من الفصل السابق أن الصحابة في عهد أبي بكر قد جمعوا
القرآن في موضع واحد، مما كان قد كتب في حياة الرسول صلوات الله عليه،
وما حفظ في الصدور، وأنهم قد عنوا بذلك عناية فائقة، أما أحاديث الرسول
فإنهم لم يكتبوها ولم يجمعوها لأنها لم تكتب في عهد النبي كما كتب القرآن، إذ كان

(1) التدوين هو تقييد المتفرق المثبت وجمعه في ديوان أي في كتاب تجمع فيه الصحف فيضم الشمل
ويحفظ من الضياع، وهو أوسع من التقييد بمعناه المحدود. في تاج العروس دونه تدوينا جمعه، وقال نقلا عن
الفيروزآبادي: الديوان مجمع الصحف.
والتصنيف أدق من التدوين فهو ترتيب ما دون في فصول محدودة، وأبواب متميزة. قال في تاج
العروس - وصنفه تصنيفا جعله أصنافا وميز بعضها عن بعض، وقال الزمشخري ومنه تصنيف الكتاب.
258

النبي قد نهى عن كتابتها، وكانت صدورهم، هي التي تحملها، ومن أجل
ذلك كانوا ينشرونها بالرواية، إما بنفس الألفاظ التي سمعوها من النبي - إن بقيت
في أذهانهم وهذا نادر جدا - وإن وقع ذلك ففي بعض الأحاديث القصيرة، أو -
بما يؤدي معناها إذا غابت عنهم، وهذا كان غالب أمرهم، ولم يروا حرجا من
ذلك " لأن المقصود من الحديث عندهم - كما قالوا - هو المعنى ولا يتعلق في
الغالب حكم بالمبنى " بخلاف القرآن فإن لألفاظه مدخلا في الإعجاز، فلا يجوز
إبدال لفظ بلفظ آخر، ولو كان مرادفا له خشية النسيان مع طول الزمان، فوجب
أن يقيد بالكتابة ولا يكتفى بالحفظ - وإعجازه قائم ولا جرم على تأليف ألفاظه.
قال الإمام الخطابي في كتابه إعجاز القرآن: إنما يقوم الكلام بهذه الأشياء
الثلاثة: لفظ حاصل، ومعنى قائم، ورباط لهما ناظم.
وقال الشيخ أبو بكر بن عقال الصقلي في فوائده على ما رواه ابن بشكوال:
إنما لم يجمع الصحابة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصحف كما جمعوا القرآن،
لأن السنن انتشرت وخفي محفوظها من مدخولها، فوكل أهلها في نقلها إلى حفظهم
ولم يوكلوا من القرآن إلى مثل ذلك، وألفاظ السنن غير محروسة من الزيادة والنقصان
كما حرس الله كتابه ببديع النظم الذي أعجز الخلق عن الاتيان بمثله، فكانوا في
الذي جمعوه من القرآن مجتمعين، وفي حروف السنن ونقل نظم الكلام نصا
مختلفين، فلم يصح تدوين ما اختلفوا فيه (1).
وقد ظل الأمر في رواية الحديث على ما ذكرنا، تفعل فيه الذاكرة ما تفعل،
لا يكتب ولا يدون طوال عهد الصحابة وصدرا كبيرا من عهد التابعين إلى أن
حدث التدوين - على ما قالوا - في آخر عهد التابعين (2) قال الهروي (3):
لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها لفظا ويأخذونها

(1) ص 48 و 49 من شرح شروط الأئمة الخمسة للحازمي.
(2) آخر عصر التابعين هو حدود الخمسين ومائة. والحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس
سنة 300 ه‍.
(3) ص 7 ج 1 إرشاد الساري شرح القسطلاني وص 10 ج 1 شرح الزروقاني على الموطأ.
259

حفظا، إلا كتاب الصدقات والشئ اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء،
حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز
أبا بكر الحزمي (1)، فيما كتب إليه: انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه.
وقال مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى
أبي بكر بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله، أو سننه فاكتبه
لي فإني حفت دروس العلم وذهاب العلماء، وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة
بنت عبد الرحمن الأنصارية - وكانت تلميذة عائشة رضي الله عنها - والقاسم
ابن محمد بن أبي بكر.
أما أمر عمر بن عبد العزيز فقد كان على رأس المائة الأولى (2).
ويبدو أنه لما عاجلت المنية عمر بن عبد العزيز انصرف ابن حزم عن كتابة
الحديث، وبخاصة لما عزله يزيد بن عبد الملك عندما تولى بعد عمر بن عبد العزيز
سنة 101، ه‍ وكذلك انصرف كل من كانوا يكتبون مع أبي بكر وفترت حركة
التدوين إلى أن تولى هشام بن عبد الملك سنة 105 ه‍ فجد في هذا الأمر
ابن شهاب الزهري (3)، بل قالوا إنه أكرهه على تدوين الحديث لأنهم كانوا يكرهون كتابته
- كما سيتبين لك بعد - ولكن لم تلبث هذه الكراهية أن صارت رضا ولم يلبث
ابن شهاب أن صار حظيا عند هشام فحج معه وجعله " معلم أولاده " إلى أن توفي قبل
هشام بسنة، وتوفي هشام سنة 125 ه‍، وبموته تزعزع ملك بني أمية ودب فيه الاضطراب.

(1) أبو بكر بن محمد الأنصاري، لجده صحبة وهو تابعي فقيه، استعمله عمر بن عبد العزيز على
إمرة المدينة وقضائها، قال مالك: لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن حزم.
مات سنة 120 ه‍.
(2) تولى عمر بن عبد العزيز سنة 99 ه‍ ومات سنة 101 ه‍. لعدله بلسم، وإليك كلمة بليغة للجاحظ
في هذا الإمام العادل.
قال في كتاب فضل هاشم على عبد شمس: والذي حسن أمره - يريد عمر بن عبد العزيز - وشبه على
الأغبياء حاله، أنه قام بعقب قوم قد بدلوا عامة شرائع الدين وسنن النبي صلى الله عليه وسلم وكان الناس قبله
من الظلم والجور والتهاون بالإسلام في أمر صغر في جنبه ما عاينوا منه ألفوه عليه فجعلوه لما نقص من تلك
الأمور الفظيعة في عداد الأئمة الراشدين - ص 91 من رسائل الجاحظ جمع السندوبي، وص 204 من كتاب
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية للعلامة مصطفى عبد الرازق.
(3) هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أحد الأئمة توفي سنة 124 ه‍.
260

ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري، وكان ذلك بتشجيع
العباسيين.
وقد اعتبر ابن شهاب الزهري أول من دون الحديث، ولعل سبب ذلك أخذ
بني أمية عنه - وجاء في تذكرة الحفاظ: أن خالد بن معدان الحمصي لقى 70
صحابيا. وكان يكتب الحديث وله مصنفات، ولكن لم يأت لهذه المصنفات ذكر
في كتب الحديث، ومات ابن معدان سنة 104 ه‍.
وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري، بعد أن بين أن آثار النبي لم
تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأنهم نهوا عن ذلك
كما ثبت في صحيح مسلم: " ثم حدث في أواخر التابعين تدوين الآثار وتبويب
الأخبار، لما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض... إلخ.
وروى البخاري والترمذي عن أبي هريرة أنه قال: ما من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان
يكتب ولا أكتب (1)، والمحدثون لا يعدون ما يوجد في صحيفة محدث أو عالم رواية
صحيحة عنه إلا إن حدث أنه سمعها من صحابها ويسمونها " الوجادة ".
وقال العلامة الشيخ مصطفى عبد الرازق: " مما أكد الحاجة لتدوين السنن شيوع
رواية الحديث وقلة الثقة ببعض الرواة وظهور الكذب في الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأسباب سياسية أو مذهبية - أما أول تدوين للسنن بالمعنى
الحقيقي فيقع ما بين سنة 120 ه‍ وسنة 150 ه‍ (2).
لم يدونوا الحديث إلا مكرهين:
لما أمروا بتدوين الحديث لم يستجيبوا للأمر إلا مكرهين، ذلك بأنهم كانوا
يتحرجون من كتابته بعد أن مضت سنة من كان قبلهم من الصحابة على عدم

(1) ذكر البغدادي أن ما دونه عبد الله بن عمرو في صحيفته التي يسميها " الصادقة " وكان يحرص
عليها حرصه على نفسه إنما كانت أدعية وصلوات كان يرجع إليها. يرجع إلى كتاب " شيخ المضيرة " لمعرفة
ما في هذه الصحيفة.
(2) ص 195 و 198 من كتاب " تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ".
261

تدوينه، فقد حدث معمر عن الزهري قال: كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا
عليه (1) هؤلاء الأمراء فرأينا ألا نمنعه أحدا من المسلمين (2).
وقال الزهري كذلك: استكتبني الملوك فأكتبتهم فاستحييت الله إذ كتبها
الملوك ألا أكتبها لغيرهم (3).
وذلك لأن المسلمين كان همهم في أول الإسلام مقصورا على كتابة القرآن،
أما الحديث فقد كانوا يتناقلونه من طريق الرواية معتمدين في ذلك على ذاكرتهم.
لم يعتبروا التدوين في عصر بني أمية تدوينا منسقا:
لم يعتبر العلماء عصر بني أمية عصر تصنيف منسق، لأنهم لم يجدوا من آثار
هذا العصر كتبا جامعة مبوبة، وإنما وجدوا أن ما صنعوه إنما كان في مجموعات
لا تحمل علما واحدا، وإنما كانت تضم الحديث والفقه والنحو واللغة والخبر
وما إلى ذلك.
قال الأستاذ العالم أحمد السكندري في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية (4):
انقضى عصر بني أمية ولم يدون فيه غير قواعد النحو وبعض الأحاديث
وأقوال فقهاء الصحابة في التفسير، ويروى أن خالد بن يزيد (5) وضع كتبا في
الفلك والكيمياء وأن معاوية استقدم عبيد بن سارية (6) من صنعاء فكتب له كتاب

(1) قال أبو المليح: كان هشام هو الذي أكره الزهري على كتاب الحديث فكان الناس يكتبون
بعد ذلك، ورواية ابن سعد في الطبقات " فرأينا ألا يمنعه أحد من المسلمين " - ص 135 ج 2 ق / 2.
(2) ص 107 من تقييد العلم للخطيب البغدادي.
(3) ص 77 ج 1 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
(4) ص 72.
(5) ذكروا أن خالد بن يزيد بن معاوية ترجم كتب الفلاسفة والنجوم والكيمياء والطب والحروب
وغيرها وكانت الترجمة أحيانا من لغة يونان إلى العبرانية ومن العبرانية، إلى السريانية، ومن السريانية إلى
العربية، وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة - توفي سنة 85 ه‍.
(6) عبيد بن سارية وفي رواية شرية الجرهمي، استحضره معاوية من اليمن إلى الشام ليسأله عن
أخبار ملوك العرب والعجم، وأمر أن يدون ما يقول وينسب إليه، فكان ذلك أول التدوين في التاريخ
" الفهرست " لابن النديم طبعة ليبسك - ص 89. وقال الجاحظ في البخلاء إنه كان لا يعرف إلا ظاهر
اللفظ أي أنه كان راوية فقط.
262

" الملوك والأخبار الماضية " وأن وهب بن منبه والزهري وموسى بن عقبة كتبوا في
ذلك أيضا كتبا، ولكن ذلك لم يقنع الباحثين في تاريخ العلوم وتصنيفها أن يعتبروا
عصر بني أمية عصر تصنيف، إذ لم تتم فيه كتب جامعة حافلة مبوبة مفصلة
وإنما كان كل ذلك مجموعات تدون حسب ورودها واتفاق روايتها ا ه‍ (1).
وقال الغزالي في الإحياء: بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شئ منهما في
زمن الصحابة وصدر التابعين وإنما حدث بعد سنة 120 ه‍ وبعد وفاة جميع الصحابة
وجلة التابعين رضي الله عنهم، وبعد وفاة سعيد بن المسيب (توفي سنة 105 ه‍)
والحسن (توفي سنة 110 ه‍) وخيار التابعين، بل كان الأولون يكرهون كتب الحديث،
وتصنيف الكتب، لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبر
والتذكر، وقالوا: احفظوا كما كنا نحفظ... (2)
والذي يخلص من ذلك كله أن أول تدوين الحديث قد نشأ في أواخر
عهد بني أمية وكان على طريقة غير مرتبة من صحف متفرقة تلف وتدرج بغير
أن تقسم على أبواب وفصول، ولعل هذا التدوين كان يجري على نمط ما كان
يدرس في مجالس العلم في زمنهم - إذ كانت غير مخصصة لعلم من العلوم، وإنما
كان المجلس الواحد يشتمل على علوم متعددة، قال عطاء (3) ما رأيت مجلسا أكرم
من مجلس ابن عباس، ولا أكثر فقها ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه وأصحاب
العربية يسألونه، وأصحاب الشعر يسألونه، فكلهم يصدر من واد فسيح، وقال عمر بن
دينار: ما رأيت مجلسا أجمع لكل خير من مجلسه (ابن عباس) الحلال والحرام
وتفسير القرآن والعربية والشعر. وهذا هو الطور الأول من التدوين ولم يصل إلينا منه
أي كتاب.

(1) ص 72 من تاريخ آداب اللغة العربية للسكندري.
(2) ص 79 ج 1 من طبعة بولاق سنة 1296 ه‍.
(3) عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال، كنا نكتب الحلال والحرام وكان ابن شهاب
يكتب كل ما سمع - ص 73 ج 1 جامع بيان العلم.
263

التدوين في العصر العباسي
وقال السكندري:
هب العلماء في العصر العباسي إلى تهذيب ما كتب في الصحف وتدوين
ما حفظ في الصدور، ورتبوه وبوبوه وصنفوه كتبا، وكان من أقوى الأسباب في
إقبال العلماء على التصنيف في هذا العصر حث الخليفة أبي جعفر المنصور (1) عليه
وحمله الأئمة الفقهاء على جمع الحديث، والفقه، وأنه قد بذل - على بخله - في
هذا السبيل أموالا طائلة، وذكروا أن عنايته بالعلم لم تقف عند تعضيد العلوم
الإسلامية، بل إنه حمل العلماء والمترجمين من السريان والفرس أن ينقلوا إلى العربية
من الفارسية واليونانية علوم الطب والسياسة والحكمة والفلك والتنجيم والآداب والمنطق
وغيرها (2). فكان بذلك أول حاكم ترجمت له الكتب من اللغات الأخرى
إلى العربية، على أن عنايته بالحديث وجمعه وتدوينه كانت فائقة، حتى لقد قيل له:
هل بقي من لذات الدنيا شئ لم تنله؟ فقال: بقيت خصلة، أن أقعد في مصطبة
وحولي أصحاب الحديث. وهو الذي أشار على مالك بن أنس أن يضع كتاب " الموطأ "
في بعض الروايات.
وقال الصولي: كان المنصور أعلم الناس بالحديث والأنساب.
ولا عجب في أن يكثر رجال الحديث في عهد المنصور ولا في أن يشتد العلماء
في طلب آثار الرسول وفي أن يرغبوا في جمعها وتدوينها، وقد قال عمر بن عبد العزيز
إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برا أتوه ببرهم، وإن
كان فاجرا أتوه بفجورهم (3)، قال ابن تغرى بردى في حوادث 143 ما يلي:
قال الذهبي: وفي هذا العصر (سنة 143 ه‍) شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث

(1) كان أبو جعفر أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية بالعربية، وأول من أوقع
الفرقة بين بني العباس والعلويين، بعد أن كان أمرهم واحدا - تولى سنة 136 ه‍ ومات سنة 158 ه‍.
(2) ص 72 من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية للسكندري.
(3) هناك رواية أخرى، أن أبا حازم الأعرج قال لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق فما
ينفق عنده حمل إليه.
264

والفقه والتفسير فصنف ابن جريح (1) التصانيف بمكة (مات سنة 150 ه‍)،
وصنف سعيد بن أبي عروبة (مات سنة 156) وحماد بن سلمة (مات سنة 167)
وغيرهما بالبصرة، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي بالكوفة (مات سنة 150)، وصنف
الأوزاعي بالشام (مات سنة 156 أو 157)، وصنف مالك الموطأ بالمدينة (مات
سنة 179) وصنف ابن إسحاق المغازي (مات سنة 151)، وصنف معمر باليمن
(مات سنة 153) وصنف سفيان الثوري كتاب الجامع بالكوفة (مات سنة 161)
ثم بعد يسير صنف هشام (2) كتبه (مات سنة 188) وصنف الليث بن سعد
(سنة 175) وعبد الله بن لهيعة (سنة 174) ثم ابن المبارك (سنة 181) والقاضي أبو يوسف
يعقوب (سنة 182) وابن وهب (سنة 197) وكثر تبويب العلم وتدوينه ورتبت ودونت
كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان سائر العلماء
- وفي رواية (كان الأئمة) - يتكلمون عن حفظهم ويروون العلم عن صحف غير
مرتبة. ا ه‍ كلام الذهبي (3).
ولأنهم في عصر واحد فإنه لا يعلم على التحقيق أيهم كان الأسبق
بالتدوين، فبعضهم قال: إن أول من صنف سعيد بن أبي عروبة. وبعضهم قال:
ابن جريج، وبعضهم قال: الربيع بن صبيح وبعضهم قال: حماد بن سلمة، وقال
ابن حجر: أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة - إلى أن قام
كبار الطبقة (4) الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف مالك الموطأ وتوخى فيه القوي
من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.
وقال الحافظان ابن حجر والعراقي: وكان هؤلاء في عصر واحد فلا يدرى أيهم
أسبق، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض
الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي خاصة، وذلك على رأس المائتين، ولم يصل إلينا
من هذه المجموعات إلا موطأ مالك، ووصف لبعض المجموعات الأخرى، وكذلك

(1) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي.
(2) هو هشيم وكان بواسط.
(3) ص 351 ج 1 من النجوم الزاهرة وص 101 تاريخ الخلفاء للسيوطي.
(4) الطبقة في اصطلاح المحدثين عبارة عن جماعة اشتركوا في السن ولقاء المشايخ.
265

كان التدوين في هذا العصر يمزج الحديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن
بعدهم كما قال ابن حجر، وظل على ذلك إلى تمام المائتين.
وهذا هو الطور الثاني من أطوار التدوين.
التدوين بعد المائتين:
أخذت طريقة تدوين الحديث بعد المائتين صورة أخرى، ذلك أن يفرد
حديث النبي خاصة بالتدوين، بعد أن كان مشوبا بغيره مما ليس بحديث،
فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي (213) مسندا، وصنف مسدد بن مسرهد
البصري (228) مسندا، وصنف الحميدي (219) مسندا وغيرهم.
واقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم كالإمام أحمد (241) وإسحاق بن راهويه
(237) وغيرهما، ولئن كانت هذه المسانيد قد أفردت الحديث وحده بالتدوين ولم
تخلط به غيره من أقوال الصحابة ولا غيرهم - إنها كانت تجمع بين الصحيح
وغير الصحيح. مما كان يحمله سيل الرواية في هذا الزمن من الأحاديث، إذ لم يكن
قد عرف إلى هذا العصر تقسيم الحديث إلى ما تعارفوا عليه من صحيح وحسن وضعيف
ولذلك كانت هذه المسانيد دون كتب السنن في المرتبة ولا يسوغ الاحتجاج بها مطلقا،
وسنتكلم عن هذه المسانيد فيما بعد وعن منزلتها بين كتب الحديث المعروفة.
وقد استمر التدوين على هذا النمط إلى أن ظهرت طبقة البخاري. ومن
ثم أخذ صورة أخرى ودخل في دور جديد، هو دور التنقيح والاختيار.
قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري:
لما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها، وانتشق رياها واستجلى محياها
وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين، والكثير
منها يشمله التضعيف (1) فلا يقال لغة سمين، فحرك همته لجمع الحديث الصحيح
الذي لا يرتاب فيه أمين، وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين
في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه.. قال
أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم

(1) بل الوضع كما سيتبين لك.
266

كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال فوقع ذلك في قلبي
فأخذت في جمع الجامع الصحيح (1).
الأطوار التي تقلب فيها التدوين:
تبين لك فيما تقدم أن أحاديث رسول الله صلوات الله عليه لم تدون في حياته
ولا في عصر الصحابة وكبار تابعيهم، وأن التدوين لم ينشأ إلا في القرن الثاني
للهجرة في أواخر عهد بني أمية، وأنه لم يتخذ طريقا واحدا بل تقلب في أطوار
مختلفة.
فكان في أول أمره جمعا من رواية الرواة مما وعت الذاكرة من أحاديث
رسول الله، وكان ذلك في صحف لا يضمها مصنف جامع مبوب، وكانت هذه
الصحف تضم مع الحديث فقها ونحوا ولغة وشعرا وما إلى ذلك، مما تقضي به طفولة
التدوين، وهذا هو " الطور الأول " من التدوين ولم يصل إلينا منه شئ في كتاب
خاص جامع ثم أخذ التدوين " طوره الثاني " في عصر العباسيين فهذب العلماء - بما
اقتبسوا من مدينة فارس - ما في هذه الصحف ورتبوه، بعد أن ضموا إليه
ما زادته الرواية في هذا العصر، وصنفوا من كل ذلك كتبا كسروها على الحديث
وما يتصل به من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين ولم يدخلوا فيها أدبا ولا شعرا. وكان
كثير من المتقدمين يطلقون اسم الحديث على ما يشمل آثار الصحابة والتابعين،
وأخذ التدوين هذا النمط تبعا لارتقاء التأليف في العصر العباسي، وتميزت العلوم
بعضها من بعض وجمعت مسائل كل علم على حدة، وظل التأليف يجري على هذا
السنن إلى آخر المائة الثانية ولم يصل إلينا من الكتب المبوبة في هذا الطور إلا موطأ
مالك رحمه الله.
وبعد المائة الثانية أخذ التدوين يسير في طريق أخرى دخل بها في " الطور
الثالث " فأنشأ العلماء يفردون كل ما روى من الأحاديث في عهدهم بالتدوين بعد
أن كان من قبل مشوبا بأقوال الصحابة وغيرهم - كما بينا - وصنفت في ذلك
مسانيد كثيرة أشهرها مسند أحمد وهو لا يزال موجودا بيننا، وسنتحدث عنه عند

(1) ص 4 من مقدمة فتح الباري لابن حجر.
267

الكلام على كتب الحديث ونبين منزلته من الصحة وقيمته بينها.
والمسند - أن يجعل جميع ما يروى عن كل صحابي - أي ما يسند إليه -
في باب على حدة مهما كان موضوع الحديث، وأيا كانت درجته من الصحة
إذ لم يكن قد ظهر تمييز الصحيح من غير الصحيح في التأليف.
ولقد كانت هذه المسانيد تحمل الأحاديث الصحيحة والموضوعة كما قلنا، وجرى
العمل على هذا النهج حتى ظهر البخاري وطبقته فانتقل التدوين إلى:
" الطور الرابع " وهو طور " التنقيح والاختيار " كما ذكرنا آنفا، فوضعوا كتبا
مختصرة في الحديث اختاروا فيها ما رأوا أنه من الصحيح على طريقتهم في البحث،
كما فعل البخاري ومسلم ومن تبعهما، وسنتكلم عن هذه الكتب كلها عند الكلام على
كتب الحديث، وهذا الطور من التصنيف هو الأخير، إذ أصبحت هذه الكتب
هي المعتمدة عند أهل السنة، أما الشيعة فلهم كتب في الحديث يعتمدون عليها
ولا يثقون إلا بها، ولكل قوم سنة وإمامها.
وبهذا يخلص لك أن التدوين المعتمد لدى الجمهور لم يقع إلا حوالي
منتصف القرن الثالث إلى القرن الرابع..
أثر تأخير التدوين:
لما تركت أحاديث الرسول صلوات الله عليه بغير تدوين في عهده ولم ينهض
الصحابة من بعده لكتابتها كما كتبوا القرآن، اتسعت أبواب الرواية عن رسول
الله لكل ذي هوى زائغ، أو دخلة سيئة، من غير خوف من ضمير ولا وازع من دين
فرووا ما شاءوا أن يرووا (1).
ولو أن المسلمين الأولين أو من دخلوا في الإسلام - من بعد - كانوا طبقة
واحدة في الصدق، ودرجة متساوية في العدل وكمال السيرة، أو لو أن الرواية قد
وقفت على من أطلقوا عليهم اسم الصحبة الصحيحة، وربطت الكتابة ما روى في
عهد الخلفاء الراشدين، لكان عسى أن يكون النقل مقصورا على ما قاله النبي صلوات
الله عليه بغير زيادة ولا نقص، ولجاءت الأحاديث كلها صحيحة لا شك فيها - ومن ثم

(1) راجع فصل وضع الحديث وأسبابه فيما سبق ص 118.
268

كانت الأمة تتلقاها بالرضا والتسليم، كما تلقت من قبلها آيات القرآن الحكيم،
ويأخذها الخلف عن السلف بألفاظها ومعانيها ولا يخالف أحد من المسلمين وغير
المسلمين فيها، ثم تسير الأمة على نورها وتهتدي بهديها، من غير تمذهب ولا تفرق
كما هو الأصل في الدين الذي يقول كتابه " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا -
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ "، ولكن الناس هم الناس في
كل عصر، والبشر لهم طباع لا تتغير، وغرائز لا تتبدل، وأهواء لا تتحول،
وما كان الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من التابعين بدعا من الناس
ولا هم بالمعصومين (1)، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وبحسبك أن تعرف أنه ما كاد الرسول صلوات الله عليه ينتقل إلى الرفيق
الأعلى، حتى ذر قرن الخلاف بين أصحابه حتى قبل دفن جثمانه الطاهر ثم ارتد
كثير ممن صحب النبي، ولولا حزم أبي بكر وصرامة عمر ومن عاونهما من خيار
الصحابة وصالحيهم لاندك صرح الإسلام وهو في المهد.
ومن أجل ذلك كان كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعلي لا يصدقون من
يروي لهم من الصحابة - حتى من كبارهم - حديثا إلا إذا جاء بشهيد يشهد معه أنه
قد سمعه من النبي، أو يحلف أنه تلقاه عنه، ولو كانوا كلهم مبرئين من الخطأ
والكذب كما قالوا عنهم لقبلت رواية كل من يروي منهم في عهد هؤلاء الخلفاء
الكبار، والدين في عنفوانه والأعلام ظاهرة - بغير شاهد أو يمين، وبخاصة أنهم
كانوا هم الناس الذين تلقوا الدين مشافهة عن نبيهم - ولا يزال نور النبوة يشرق
في قلوبهم.
إن الذي يريد أن يدرس تاريخ الإسلام على حقه إنما يجب عليه أن يحيط
علما بما كان عليه العرب قبل الإسلام عامة وبخاصة بين بني هاشم وبين بني أمية
في الجاهلية (2) ثم في الإسلام. وبما شجر بين الصحابة منذ عهد عثمان والحروب
التي وقعت بين علي رضي الله عنه وبين معاوية، وجنودهما أكثرهم من الصحابة، وما كان

(1) راجع فصل عدالة الصحابة من هذا الكتاب
(2) ارجع إلى كتاب النزاع والتخاصم فيما بين نبي أمية وبني هاشم للمقريزي. وإلى كتابنا " شيخ
المضيرة " لكي تعرف قامت دولة بني أمية.
269

بعد ذلك بين الأمويين والعباسيين، وكذلك ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم
وبين اليهود - وما تكنه قلوب أهل الأديان والأمم الأخرى للإسلام من بغض
وشنآن.
حقا يجب على كل من يريد أن يقف على تاريخ الإسلام الصحيح أن يحيط
بذلك كله علما فتنكشف أمامه آفاق بعيدة ينبعث منها نور قوي يهدي إلى تحليل
الحوادث تحليلا صادقا، وتعليل الوقائع تعليلا صحيحا، فإن كل هذه الأمور
كان لها ولا ريب أثر بعيد في تكوين التاريخ الإسلامي وفيما تدسس إلى تفسير القرآن
من أساطير، وما نسب إلى النبي - كذبا - من أحاديث.
وإن التاريخ لينبئك أن رسول الله صلى الله عليه وآله ما كاد ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى
بدا ما كان يكنه بنو أمية من الموجدة لبني هاشم مما كان قد استسر بغطاء الإسلام
حينا، فحاولوا إغراء بني هاشم بالمطالبة بالخلافة لكي تقع الفتنة، ولكن يقظة على
أحبطت كيدهم فسكنوا وطووا على ما بين جوانحهم حتى يهيئوا فرصة تسنح لهم
إلى أن تهيأت في خلافة عثمان رضي الله عنه.
ذلك بأنه ما كاد يتولى الأمر حتى كشف الأمويون عما كانت تخفى
صدورهم - وكان رضي الله عنه أمويا - وأخذوا ينفذون خطتهم بدقة ومهارة حتى
أصبح الأمر كله في عهده لهم، وانقلب نظام الحكم كله في السنين الأخيرة
من حكم عثمان من خلافة عادلة، إلى ملك تتعاوره الأهواء، وتتداوله الأغراض.
ولما انشقت العصا بعد وفاة عثمان واستعرت نار الفتنة، وانشعب الناس إلى
شعب متعددة، أخذ كل فريق يؤيد حزبه بكل ما يستطيع من وسائل التأييد المادية
والمعنوية والقولية، فهذا يشايع الهاشميين، وذاك يناصر الأمويين، وهكذا.
وقد رأوا أن أقوى أسلحة الغلب أن يستعين كل فريق بأدلة مأثورة عن النبي
تشد أزر فرقته وتقوى دعوتها، من أجل ذلك أخذوا جميعا يروون أحاديث ينسبونها
إلى الرسول صلوات الله عليه، وبخاصة في الفضائل، كما رأيت ذلك في أسباب
وضع الحديث من قبل.
وإنهم لم يفعلوا ذلك إلا لأنهم وجدوا أن شخص الرسول صلوات الله عليه
مما تعنوا له الهام، وأن مقامه بينهم جميعا فوق كل مقام، ولكن الغلب كتب
270

لبني أمية على بني هاشم بما كان لهم من قوة ومكر، وما كان في أيديهم من مال
وسلطان وقهر.
وثم ناحية أخرى كان لها حظ كبير - في العبث بالرواية - وكان عمل
أصحابها دينيا خفيا، وغايتها التي تسعى إليها أن تفسد عقائد الدين النقية، بأن تدخل
فيها ما ليس منها وتدس إليها من التعاليم الزائفة ما يشوه جمالها، أولئك هم أهل
الكتاب من اليهود والنصارى الذين أظهروا الإسلام خدعة، ثم ألقوا ما شاء لهم الكيد
والهوى من الإسرائيليات والمسيحيات والأكاذيب في دين العرب الجديد - كما مر
بك - ومن هذا، ومن أسباب كثيرة بيناها من قبل، أخذ الوضع والكذب يفشوان
بين الناس، واستبحرت الرواية عن رسول الله حتى ركب الناس في ذلك - كما قال
ابن عباس - الصعبة والذلول.
وإذا كان القرآن وهو الذي جعل له الرسول كتابا يقيدونه ساعة الوحي
وكتب مرة أخرى في عهد أبي بكر، وكان يحفظه كثير من الصحابة، وقضى الله
بحفظه في قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "، قد اختلف المسلمون
في قراءته حتى كفر بعضهم بعضا، ووقع هذا الاختلاف قبل انقضاء حوالي
عشر سنين على موت الرسول صلوات الله عليه حتى اضطر عثمان في سنة 25 ه‍
إلى كتابة مصاحف تحمل الصورة الصحيحة منه، ويبعث بها إلى الأمصار،
ويأمر بما سواها من المصاحف التي تحمل القرآن المختلف في قراءته أن يحرق - إذا
كان أمر القرآن هكذا، فترى ماذا يكون أمر الحديث وهو لم يكتب في عهد النبي،
ولا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان وظل أمره مطلقا من قيد التدوين تكتنفه
تلك الأهواء المختلفة، وتترامى به تيارات الأغراض المتباينة قرنا وبعض قرن؟؟!!
من أجل ذلك كان الوصول إلى معرفة الأحاديث الصحيحة شاقا، والبحث
عن معرفة حقيقة ضمائر الرواة أشق. وإذا علم ذلك كله بدا - ولا ريب - أن
تأخير التدوين كان له ضرر بالغ، إذ كان سببا في اتساع آفاق الرواية، واختلاط
الصحيح بالموضوع، وتعذر التمييز بينهما على مر الدهور.
271

تدوين الحديث عند الشيعة:
بعد أن فرغنا من الكلام على تدوين الحديث عند أهل السنة رأينا أن نتم بحثنا
عن تاريخ تدوينه عند الشيعة حتى نستوفي الكلام في هذا الأمر من كل نواحيه
فنقول:
إن الشيعة يقولون: إن أول من جمع الحديث ورتبه على الأبواب أبو رافع مولى
رسول الله (1) وله كتاب السنن والأحكام والقضايا، وقالوا: فلا أقدم منه في ترتيب
الحديث وجمعه في الأبواب (2).
وقال العالم الكبير محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي في كتابه " المطالعات
والمراجعات والردود " (3): إن أول من دون الحديث ابن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام وخازنه على بيت المال، بل الحق أن أول من دونه
هو نفس أمير المؤمنين عليه السلام كما يدل عليه خبر الصحيفة في الصحيحين (4).

(1) أبو رافع مولى رسول الله واسمه أسلم وكان للعباس بن عبد المطلب فوهبه لرسول الله، وهو
الذي عمل منبر رسول الله من أثل الغابة، وكانت سلمى مولاة رسول الله عند أبي رافع فولدت له عبيد الله بن
أبي رافع كاتب علي عليه السلام.
(2) ص 27، 28 من كتاب " الشيعة وفنون الإسلام " لمؤلف السيد حسن الصدر من علماء العراق -
مطبعة العرفان بصيدا سنة 1331.
(3) ص 56.
(4) أوردنا من قبل حديث الصحفية بين الأحاديث التي استشهدنا بها على إثبات الرواية بالمعنى.
272

نشأة علم الحديث
بينا من قبل أنه لو أن أحاديث الرسول كانت قد كتبت عندما كان ينطق
بها، وحفظ ما كتب على وجه الدهر منها، لتلقاها الناس كما تلقوا كتاب الله
بغير بحث في صحتها، ولا تنقيب عن حقيقتها، ولكن عدم تدوينها في عهد صاحب
الرسالة وأصحابه، وإتيانها من ناحية الرواية قد ألزم العلماء أن يبحثوا في أمرها لكي
يعرفوا الصحيح والموضوع منها، وغير ذلك من أمور هذا العلم.
أول من ألف علم الحديث:
قال الحافظ ابن حجر (1): أول من صنف في الاصطلاح القاضي أبو محمد
الرامهرامزى (2) فعمل كتاب " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي " لكنه لم
يستوعب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري المتوفي سنة 405، ولكنه لم يهذب
ولم يرتب، وتلاه أبو نعيم الإصبهاني (430 م) فعمل على كتابه مستخرجا وأبقى أشياء
للمنقب.... ثم جاء بعده الخطيب البغدادي (463) إلى أن جاء الحافظ
الإمام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح (643) فجمع كتابه المشهور فهذب
فنونه، ولهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره، فمنهم المختصر له، كالنووي
في تقريبه والناظم له كالعراقي (806). انتهى باختصار.
المراد من علم الحديث:
وقال ابن خلدون في فصل " علوم الحديث " من مقدمته (3):
ومن علوم الحديث النظر في الأسانيد ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث
بوقوعه على السند الكامل الشروط، لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه

(1) ص 9 من تدريب الراوي.
(2) المتوفى سنة 360 هو ورامهرمز بلدة من بلاد فارس وكتابه " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي "
توجد نسخة خطية منه بدار الكتب المصرية.
(3) ص 417.
273

من أخبار رسول الله، فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن، وهو معرفة رواة
الحديث بالعدالة والضبط... إلخ.
وقال النووي في شرح خطبة مسلم:
المراد من علم الحديث (1) تحقيق معاني المتون وتحقيق علم الإسناد والمعلل،
والعلة عبارة عن معنى في الحديث خفي يقتضي ضعف الحديث مع أن ظاهره
السلامة منها، وتكون العلة تارة في المتن، وتارة في الإسناد، وليس المراد من هذا
العلم مجرد السماع ولا الإسماع ولا الكتابة (2) بل الاعتناء بتحقيقه والبحث عن خفي
معاني المتون والأسانيد والفكر في ذلك ودوام الاعتناء به ومراجعة أهل المعرفة ومطالعة
كتب أهل التحقيق فيه (3).
سند الحديث ومتنه:
" السند " في اللغة ما استندت إليه من جدار وغيره، وهو في عرف أهل
الحديث طريق متن الحديث، وسمى " سندا " لاعتماد الحفاظ عليه في صحة الحديث
ووضعه. وقد يقال للطريق " الوجه " فيقال: هذا الحديث لا يعرف إلا من هذا
الوجه. " والمتن " في اللغة الظهر وما صلب من الأرض وارتفع، ثم استعمل في العرف
بما ينتهي إليه السند، مثال ذلك قول يحيى: أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن
عمر أن رسول الله قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض، فسند الحديث، هم الرواة
ومتن الحديث " لا يبع بعضكم... إلخ ".
من يؤخذ منه الحديث:
اتفق علماء الحديث على أنه لا يؤخذ بالحديث إلا إذا كان رواته موصوفين
بهاتين الصفتين: العدالة، والضبط. والعدالة هي الركن الأكبر في الرواية.

(1) وصف هذا العلم عالم جليل فقال: إنه علم اصطلاحي محض يوعي بكد الحافظة ويستنبط بقوة
الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا الخيال الجوال في جواء الشعريات، ولا
الروح المرفوف في رياض الأدب أو المحلق في سماء الإلهيات - ص 10 من مقدمة كتاب قواعد التحديث
للقاسمي - طبعة دمشق.
(2) فليسمع حشوية دهرنا الذين لم يبلغوا في علم الحديث حتى أن يسمعوا أو يسمعوا، وإنما كل
علمهم أن يقرءوا بعض كتب الحديث أو يطبعوها ليغنموا أثمانها.
(3) ص 28.
274

" والعدالة " وحدها غير كافية، وقد اختلفوا في صفتها اختلافا شديدا حتى قالوا:
" إن من الصعب الوقوف على رسم العدالة فضلا عن حدها، وخاضوا في ذلك كثيرا،
ولا نطيل فيما قالوه في ذلك، وقد عرفوا " الضابط " (1) في الرواية بأنه هو الذي
يقل خطؤه في الرواية - وغير الضابط هو الذي يكثر غلطه (2) ووهمه، سواء أكان
ذلك لضعف استعداده، أم لتقصيره في اجتهاده، وقد وضعوا صفات كثيرة للضابط
لا نعرض لها (3). لأن كلا من العدالة والضبط له مراتب عليا ووسطى ودنيا،
ويحصل من تركيب بعضها مع بعض مراتب للحديث مختلفة في القوة والضعف (4).
و " الثقة " هو الذي يجمع بين العدالة والضبط، وليس كل ما يرويه " الحافظ
المتقن " صوابا لاحتمال أن يكون قد زل في بعض المواضع، وكذلك ليس كل
ما يرويه " غير الحافظ المتقن " خطأ لإصابته في كثير من المواضع، والعاقل اللبيب
هو الذي يسعى لمعرفة صواب كل فريق ليأخذ به.
الخبر وأقسامه:
لما كان الحديث عبارة عن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله كما عرفوه،
وكان من لم يدرك هذه الأقوال بطريق الحس لا سبيل له إلى إدراكها إلا بطريق
الخبر، اعتنى العلماء ببيان أقسام الخبر مطلقا، وجعلوا للحديث الذي هو قسم
من أقسام الخبر بحثا خاصا به.
وقد قسم " علماء الكلام والأصول " الخبر إلى قسمين: خبر متواتر، وخبر
آحاد " فالخبر المتواتر " هو خبر عن محسوس أخبر به جماعة بلغوا في الكثرة مبلغا
تحيل العادة تواطؤهم على الكذب فيه، وهو مفيد للعلم بنفسه (5) لأنه صحيح قطعا

(1) الراوي الضابط في الحقيقة هو الذي يؤدي ما سمع إلى غيره بغير تغيير ولا تبديل كما جاء في
الحديث: وأداها كما سمعها لفظا ومعنى.
(2) قال ابن تيمية: وأما الغلط فلم يسلم منه أكثر الناس بل في الصحابة من قد يغلط أحيانا
وفيمن بعدهم ولهذا كان فيما صنف في الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط.
(3) قسموا الرواة الجامعين بين العدالة والضبط باعتبار تفاوت درجاتهم إلى تسعة أنواع بينوها في
كتبهم.
(4) ص 407 من توجيه النظر.
(5) لم يسلم المتواتر من شبهة على إفادته - علم اليقين - فمن هذه الشبهة أنه يجوز أن تخبر جماعة
لا يمكن تواطؤهم على الكذب بأمر حياة فلان وتخبر جماعة أخرى مثلهم بما ينقض خبرهم.
وقال الغزالي: إن العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر تقتضي أيالة الملك وسياسته إظهاره والمخبرون من
رؤساء جنود الملك، فيتصور إجماعهم تحت ضغط الايالة على الاتفاق على الكذب.
والفرقة التي أنكرت إفادة المتواتر العلم اليقيني قالت إن الحاصل منه هو الظن القوي الغالب.
275

ويجب الأخذ به من غير توقف في العقائد وهو دليلها.
و " خبر الآحاد " ويسمى أيضا خبر الواحد - هو الخبر الذي لم تبلغ نقلته في
الكثرة مبلغ الخبر المتواتر، سواء أكان المخبر واحدا أم اثنين أم ثلاثة أم أربعة
أم خمسة، إلى غير ذلك من الأعداد التي لا يشعر بأن الخبر دخل بها في خبر
المتواتر (1). وهو يفيد الظن ويؤخذ به في العبادات والمعاملات، ولا يؤخذ به في
العقائد.
وفي شرح النوري على مسلم: أن الخبر ضربان، متواتر وآحاد.
فالمتواتر ما نقله عدد لا يمكن مواطأتهم على الكذب عن مثلهم ويستوي
طرفاه والوسط ويخبرون عن حس غير مظنون ويحصل العلم بقولهم (2)، والمختار الذي
عليه المحققون والأكثرون أن ذلك لا ينضبط بعدد مخصوص ولا يشترط في المخبرين
الإسلام ولا العدالة. وأما " خبر الواحد " فهو ما لم يوجد فيه شرط " المتواتر " سواء
كان الراوي له واحدا أو أكثر (3) ا ه‍. وفيه الصحيح، وغير الصحيح، وكل كتب
الحديث تدخل في قسم " الآحاد ".
حكم المتواتر والآحاد:
إذا كان الخبر متواترا أفاد " العلم قطعا "، وإذا كان خبر آحاد لم يفد العلم
قطعا، وقد يوجد في أخبار الآحاد ما تسكن إليه النفس.

(1) ص 33 توجيه النظر.
(2) صرح كثير من علماء الأصول بأن المتواتر لا بد فيه من القرائن، فلا يبقى حينئذ فرق بينه وبين
خبر الآحاد الذي إن احتفت به القرائن أوجبت العلم بصدقه ويكون إيجاب كل منهما العلم إنما هو بمعونة
القرائن وسبب اختلافهم هو غموض هذا البحث ودقته.
(3) ص 169 ج 1: ومما نورده من فكاهات أئمة الأدب في " أخبار الآحاد " أن الثعالبي قال عنها
في ثمار القلوب " هي التي لم يروها إلا الآحاد ولا يحكم بها سائر الفقهاء "، ومن فصل للصاحب بن عباد فيها:
مولاي يعرف أخبار الآحاد، وكم أهلكت من العباد، وله كذلك:
لا تع ما جاءك الوشاة به * فإن هذه أخبار آحاد
وعد إلى الرسم في مواصلتي * واعطف على عبدك ابن عباد
276

وقال الجمهور: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم قطعا ولو كانت مخرجة في
البخاري ومسلم، وإن تلقي الأمة لهما بالقبول إنما يفيد العمل بما فيهما بناء على أن
الأمة مأمورة، بالأخذ بكل خبر يغلب على الظن صدقه (1)، ولا يفيد أن ما فيهما ثابت
في نفس الأمر قطعا. كالقاضي فإنه مأمور بالحكم بشهادة من كان عدلا في
الظاهر، وكونه مأمورا بذلك لا يدل على أن شهادة العدل لا بد أن تكون مطابقة للواقع
وثابتة في نفس الأمر، لاحتمال أن يكون قد شهد بخلاف الواقع، إما لوهم وقع له إذا
كان عدلا في نفس الأمر، أو لكذب لم يخرج منه إذا كان عدلا فيما يبدو للناس -
هذا ما قاله الجمهور.
وقال كثير من العلماء في أخبار الآحاد، إنه يعمل بها ولا يشهد أن النبي قالها.
وأطلق ابن عبد البر وجماعته: إنه قول جمهور أهل العلم والنظر حتى قال
بعضهم: ولو مع قرينة أي أنه لا يفيد العلم ولو مع قرينة.
وقال الرازي في تفسيره: ورواية الواحد إنما تفيد الظن.
وقال في كتاب معالم أصول الدين (2)، بعد أن عدد العناصر الذاتية التي
تشتمل عليها البراهين النقلية المبنية على الروايات: " وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل
النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية والظن لا يعارض القطع ".
المتواتر ليس من مباحث علم الإسناد:
قال ابن الصلاح: إن المتواتر لا يبحث عنه في علم الأثر.
وقال الجزائري في توجيه النظر: ما قاله ابن الصلاح من أن المتواتر لا يبحث
عنه في علم الأثر مما لا يمترى فيه.
وقال بعض العلماء: ليس المتواتر من مذهب علم الإسناد، إذ هو (3) علم

(1) ترى هل هذه القاعدة التي قرروها قد أمر الله بها ورسوله؟ وترى هل هي تخرجنا من حكم اتباع
الظن الذي جاء في آيات كثيرة من القرآن مثل " وما يتبع أكثرهم إلا ظنا وإن الظن لا يغني من الحق شيئا -
وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " ومثل قوله تعالى " ما لهم به من علم
إلا اتباع الظن "؟
(2) ص 9.
(3) أي علم الإسناد.
277

يبحث فيه عن صحة الحديث وضعفه، من حيث صفات رواته وصيغ أدائهم،
ليعمل به أو يترك.
وقالوا: إنه (1) يفيد " علم اليقين " وإن ورد عن غير الأبرار بل عن الكفار،
ولا بد في الخبر المتواتر من استواء الطرفين - وهما الطبقة الأولى والطبقة الأخيرة -
والوسط - وهو ما بينهما - والمراد بالاستواء في الكثرة المذكورة، لا الاستواء في العدد
بأن يكون في كل طبقة مستويا فإنه لا يضر الاختلاف فيه - إذا كان كل عدد
منها فيها الكثرة مثل أن يكون عدد الطبقة ألفا وعدد الثانية تسعمائة وعدد الثالثة
ألفا وتسعمائة.
ابن الصلاح ومخالفوه:
قال النووي في التقريب: وإذا قالوا، صحيح متفق عليه، أو على صحته
فمرادهم اتفاق الشيخين، وذكر الشيخ (2) أن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع
بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد
الظن ما لم يتواتر.
وقال في شرحه على مسلم: هذا الذي ذكره الشيخ في هذه المواضع خلاف
ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة
إنما تفيد الظن فإنها آحاد، والآحاد تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري
ومسلم وغيرهما في ذلك. وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما..
ولا يلزم من إجماع (3) الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه
كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أنكر ابن برهان الإمام علي من قال بما قاله
الشيخ وبالغ في تغليظه - اه‍.
وقد كثر الرادون علي ابن الصلاح والمنتصرون له، ومما قاله الرادون عليه إنه

(1) أي المتواتر.
(2) هو ابن الصلاح.
(3) إذا كانوا لم يتفقوا على الإجماع في ذاته فإن هنا غير مسلم لأن كثيرا من المذاهب الإسلامية
كالشيعة والزيدية والأباضية وغيرهم لا يلتزمون بالعمل بما في البخاري وغيره من كتب السنة المعروفة لدى
الجمهور وحتى أصحاب المذاهب الفقهية عند أهل السنة قد استمسكوا في مذهبهم بما أخذوه عن أئمتهم ولم
يعرجوا عن كتب السنة بل تراهم قد خالفوا أكثر ما جاء فيها كما سيتبين لك فيما بعد.
278

خالف جمهور أرباب الكلام والأصول، فإنهم ذهبوا إلى أن أخبار الآحاد لا تفيد
العلم وإنما تفيد الظن، وذهب هو إلى أن أخبار الآحاد التي في الصحيحين - سوى
ما استثنى منهما - تفيد العلم ولو اكتفى بذلك لأمكن أن يقال لعله يريد بالعلم
الظن القوي - فلا يكون الخلاف بينه وبينهم شديدا، ولكنه زاد فوصف العلم
بكونه يقينيا، فلم يبق وجه للصلح بينه وبينهم - ولا يخفى أن مخالفة أهل الكلام
والأصول ليست بالأمر السهل. وهنا شئ، وهو أن بعض المحققين منهم ذهب إلى
أن أخبار الآحاد قد تفيد العلم - مع القرائن - وقد اختلفوا في أن القرائن،
أتدل على صدق الخبر أم لا، فذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إليه، وأنكره
الباقون (1)..
ليس في الحديث متواتر:
قال الحازمي في شروط الأئمة الخمسة (2).
الحديث الواحد لا يخلو إما يكون من قبيل التواتر أو من قبيل الآحاد،
وإثبات التواتر في الحديث عسر جدا، لا سيما على مذهب من لم يعتبر العدد في
تحديده - وأما الآحاد فعند أكثر الفقهاء توجب العمل دون العلم.
وقال الإمام الشاطبي في الجزء الأول من الاعتصام (3) وهو يتكلم عن
خبر الواحد:
إن عامة التكليف مبني عليه، لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب
الله، أو من سنة رسوله، وما تفرع منهما راجع إليها، فإذا كان واردا من السنة
فمعظم نقل السنة " بالآحاد " بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر.
وقال ابن حبان البستي: وأما الأخبار فإنها كلها أخبار الآحاد، لأنه ليس
يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين

(1) من شاء أن يتوسع في الاطلاع على هذا البحث فليرجع إلى كتاب توجيه النظر للجزائري الذي
نقلنا عنه هذا الكلام.
(2) ص 37 من شروط الأئمة الخمسة للجازمي.
(3) ص 130 ج 1.
279

وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله، فلما استحال هذا
وبطل، ثبت أن الأخبار كلها أخبار الآحاد (1).
وقال النووي في التقريب.
المتواتر المعروف في الفقه وأصوله ولا يذكره المحدثون وهو قليل لا يكاد يوجد
في رواياتهم (2)، ونفى بعضهم المتواتر اللفظي في السنة إلا حديث " من كذب
علي " وحديث الحوض (3) وبضعة أحاديث أخرى.
أحاديث الآحاد:
بينا لك - أن الخبر ينقسم إلى متواتر وآحاد، ووقفناك على تعريف كل منهما
وحكمه - ونتم القول هنا في بيان ما اصطلح عليه أهل الحديث، من تقسيم أحاديث
الآحاد وما يتعلق بذلك مما هو موضوع علم الحديث، وما يتصل بما نحن بسبيله.
إن الحديث بالنظر - إلى الواقع ونفس الأمر - لا يكون إلا صحيحا أو غير
صحيح، فالصحيح ما ثبتت صحة نسبته إلى النبي، وغير الصحيح ما لم تثبت صحته،
ولكن المحدثين يقسمون الحديث إلى صحيح، وحسن وضعيف (4) يريدون به
الحديث المروي من طريق الآحاد. وأما المتواتر فهو خارج عن مورد القسمة كما بينا.

(1) ص 32 من شروط الأئمة الخمسة للحازمي.
(2) ص 31.
(3) نص هذا الحديث: حوضي بين عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل
وأكوابه عدد نجوم السماء!! من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها. وأول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين
الشعث رؤوسا، الدنس ثيابا، الذين لا ينكحون المنعمات، ولا تفتح لهم السدود!! هذا مثل من المتواتر عندهم،
ولهذا الحديث روايات متعددة تختلف ألفاظها ويختلف مقدار هذا الحوض اختلافا كثير فيها!!
(4) هناك أقسام أخرى للحديث لم نعرض لها لأنها من مباحث فن الحديث. وأول من قسم الحديث
ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وضعيف هو أبو عيسى الترمذي المتوفى سنة 279 ه‍ في جامعه ولم تعرف هذه القسمة
عن أحد قبله، وقد بين أبو عيسى مراده بذلك فذكر أن الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيهم متهم بالكذب ولم
يكن شاذا وهو دون " الصحيح " الذي عرفت عدالة ناقليه وضبطهم - والضعيف الذي عرف أن ناقله متهم
بالكذب ردئ الحفظ - وقال ابن تيمية في فتاويه بعد ذلك.
أما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي ولكن كانوا يقسمونه إلى صحيح
وضعيف والضعيف كان عندهم نوعين: ضعيف ضعفا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح
الترمذي، وضعيف ضعفا يوجب تركه وهو الواهي. وكذلك تقسيم الأخبار، ولا سيما الناسخ والمنسوخ والعام
والخاص، والمحكم والمتشابه، وعلل الحديث تقسيم فني لحديث بعد عصر الصحابة والتابعين مما اصطلح عليه
المصنفون في أصول الفقه بعد الشروع في تدوين الحديث ولم يكن مما يدور على ألسنتهم ولا مما يروونه عن النبي
وما ورد في القرآن من هذه الألفاظ لم يرد كله بهذه المعاني الاصطلاحية التي حددوها.
280

الصحيح:
الحديث الصحيح كما عرفوه هو الذي يكون متصل الإسناد من أوله إلى منتهاه
بنقل العدل الضابط عن مثله، ولا يكون فيه شذوذ ولا علة.
وقال النووي في التقريب: هو ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير
شذوذ ولا علة، وإذا قيل - صحيح فهذا معناه، لا أنه مقطوع به، وإذا قيل غير
صحيح فمعناه لم يصح إسناده - والمختار أنه لا يجزم في إسناد أنه أصح الأسانيد
مطلقا. وإذا قالوا: صحيح متفق عليه، أو على صحته فمرادهم اتفاق الشيخين.
وقد يكون أجمع تعريف له: " أنه المروي على وجه تسكن إليه النفس،
مع السلامة من الشذوذ، والعلة ".
وقال الجرجاني في تعريفاته:
الحديث الصحيح ما سلم لفظه من ركاكة، ومعناه من مخالفة آية أو خبر
متواتر أو إجماع، وكان راويه عدلا - وفي مقابله السقيم.
والصحيح تتفاوت رتبه بسبب تفاوت الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة
فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة - اقتضت أن يكون لها
درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور القوية - وإذا كان كذلك فما يكون
رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح
كان أصح مما دونه - وإذا كانوا قد جعلوا الأسانيد متفاوتة فإنهم كذلك قد جعلوا
الرواة والبلاد درجات، فقدموا رواة المدينة على رواة البصرة، وجعلوا رواة
الشام أقل من رواة البصرة وهكذا، وللصحيح أقسام تعرف من كتبهم.
الحسن:
اختلف رجال الحديث في تعريف الحسن اختلافا كثيرا وإليك بعض ما قالوه
في تعريفه:
281

قال الخطابي: هو ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث
ويقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، وقال ابن الصلاح هو قسمان:
" أحدهما " ما لا يخلو إسناده من مستور لم تتحقق أهليته وليس مغفلا كثير الخطأ
ولا ظهر منه سبب مفسق، ويكون الحديث معروفا برواية مثله أو نحوه من وجه
آخر، " الثاني " أن يكون راويه مشهورا بالصدق والأمانة ولم يبلغ درجة الصحيح
لقصوره في الحفظ والاتقان، وهو مرتفع عن حال من يعد تفرده منكرا، والحسن
كالصحيح في الاحتجاج به وإن كان دونه في القوة.
الضعيف:
هو ما لم يجمع صفة الصحيح أو الحسن، ويتفاوت ضعفه كصحة الصحيح.
وقال النووي في شرح مسلم: وأنواعه: الموضوع والمقلوب والشاذ والمنكر
والمضطرب وغير ذلك مما هو مبين في علم الحديث.
وقال بعض العلماء إنه يعمل به في فضائل الأعمال ولكن منع ذلك كبار
الأئمة.
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1):
وعن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يعمل بالحديث الضعيف في الفضائل
والمستحبات.
وقال الشيخ تقي الدين " ابن تيمية " عن قول العلماء في العمل بالحديث
الضعيف في فضائل الأعمال:
العمل به بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب، أو تخاف ذلك العقاب، ومثال
ذلك في الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات وكلمات السلف والعلماء ووقائع
العالم وغير ذلك مما لا يجوز إثبات حكم شرعي به لا استحباب ولا غيره - لكن يجوز
أن يذكر في الترغيب والترهيب فيما حسنه أو قبحه بأدلة الشرع، فإن ذلك ينفع
ولا يضر، وسواء كان في نفس الأمر حقا أم باطلا.

(1) ص 313 و 314 ج 2.
282

وقد علق بعض كبار العلماء على قول الإمام أحمد بأن - لا يعمل بالحديث
الضعيف في الفضائل والمستحبات فقال: رضي الله عن أحمد ما أوسع علمه
وأدق فهمه، إن القول بالعمل بالحديث الضعيف فيما ذكر، والتساهل في روايته
قد فتح على الأمة بابا من الغلو في الدين وتكثير العبادات المحرجة التي تنافي يسر
الإسلام، حتى جعلوا بعضها من الشعائر فيه، مع تقصير الأكثرين في إقامة
الفرائض والتزام الواجبات، وترتب عليه ما نقله المصنف بعده عن تقي الدين من
قبول الإسرائيليات والمنامات وكذا الخرافات، إن العبادات والفضائل الثابتة بالقطع
في الكتاب والسنة كافية للأمة، ويا ليت يوجد فيها كثيرون ممن لا يقصرون
فيها " ا ه‍.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: " إنه لا يجوز العمل بالأحاديث
الضعيفة مطلقا " وهو الصواب (1).
تعدد طرق الحديث لا يقويها:
قال العلامة السيد رشيد رضا:
يقول المحدثون في بعض الأحاديث - حتى التي لم يصح لها سند، إن تعدد
طرقها يقويها - وهي قاعدة للمحدثين لم يشر إليها الله في كتابه، ولا ثبتت في
سنة عن رسوله - وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة، فتعدد الطرق في مسألة مقطوع
ببطلانها شرعا كمسألة الغرانيق، أو عقلا، لا قيمة له، لجواز اجتماع تلك الطرق
على الباطل.
ليس من شرط الحديث الصحيح أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر:
قال الحافظ ابن الصلاح (2):
ومتى قالوا: هذا حديث صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف

(1) ص 128 ج 31 من مجلة المنار.
(2) ص 6 من كتاب علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح ويطلق عليه عند رجال
الحديث اسم الشيخ توفي سنة 643 ه‍.
283

المذكورة: وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر، إذ منه ما ينفرد
بروايته عدل واحد، وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول.
وكذلك إذا قالوا في حديث إنه غير صحيح، فليس ذلك قطعا بأنه كذب في
نفس الأمر، إذ قد يكون صدقا في نفس الأمر، وإنما المراد أنه لم يصح إسناده
على الشرط المذكور. وقال في فتاويه: قالت الأئمة: في الحديث، حديث إسناده
صحيح ومتنه غير صحيح، وإسناده غير صحيح ومتنه صحيح، أو إسناده مجهول ومتنه
مجهول، أو إسناده صحيح ومتنه صحيح، أو إسناده ضعيف ومتنه ضعيف (1).
وقال الزين العراقي في ألفيته (2) المتوفى سنة 806 ه‍:
وحيث قال أهل الحديث: هذا الحديث صحيح، فمرادهم فيما ظهر لنا عملا
بظاهر الإسناد، لا أنه مقطوع بصحته في نفس الأمر، لجواز الخطأ والنسيان على
الثقة (3)، هذا هو الصحيح الذي عليه أكثر أهل العلم خلافا لمن قال إن خبر
الواحد يوجب العلم الظاهر.. وكذا قولهم هذا حديث ضعيف فمرادهم، لم تظهر لنا
فيه شروط الصحة لا أنه كذب في نفس الأمر، لجواز صدق الكذاب وإصابته
من كثير الخطأ ا ه‍، وقال: لا يلزم من كون الشئ له أصل صحيح أن يكون هو
صحيحا، وذكر السمعاني في القواطع: أن الصحيح لا يعرف برواية الثقات فقط،
وإنما يعرف بالفهم والمعرفة وكثرة السماع والمذاكرة.
وقالوا: إن صحة الحديث لا توجب القطع به في نفس الأمر لجواز الخطأ
والنسيان على الثقة، وعزاه النووي في التقريب للأكثرين والمحققين وأنهم قالوا: إنه
يفيد الظن ما لم يتواتر، وقال في شرح مسلم: لأن ذلك شأن الآحاد، ولا فرق في

(1) ص 19.
(2) ص 12 من فتح المغيث بشرح ألفية الحديث.
(3) ولنضرب لذلك مثلا: الحديث الذي روي عن النبي عند رجوعه إلى المدينة من غزوة أحد بعد أن
أمر المسلمين أن يصطفوا خلفه واصطف الناس خلفهم والذي قال فيه: استووا حتى أثني على ربي - والذي
ختمه بقوله: اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق - فهذا الحديث قد أخرجه أحمد والبخاري
في الأدب المفرد والنسائي وغيرهم - قال الذهبي فيه: إنه على نظافة إسناده منكر، وأخشى أن يكون
موضوعا. وكتب الحديث فيها كثير من مثل هذه الروايات.
284

ذلك بين الشيخين وغيرهما..
والمحدثون لا يعنون بغلط المتون، ويقولون: متى صح السند صح المتن.
كان اهتمامهم بالسند أولا:
قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء وهو يؤرخ ليحيى بن سعيد القطان
إن يحيى قال:
" لا تنظروا إلى الحديث ولكن انظروا إلى الإسناد، فإن صح الإسناد
وإلا فلا تغتروا بالحديث إذا لم يصح الإسناد ".
وقال الذهبي - كان السلف يزجرون عن التعمق ويبدعون أهل الجدل!
وقفة هنا لا بد منها
يصح لنا هنا أن نقف وقفة لا نطيل فيها تلقاء ما نقلناه آنفا من أقوال ابن
الصلاح والعراقي والحاكم وغيرهم من أئمة الحفاظ في أمر الحديث الذي اعتبروه صحيحا.
وإذا نحن استعرضنا مع ذلك بعض ما بيناه في أمر الحديث عامة من قبل
وما سنبينه من بعد، وجدنا أمورا كثيرة تسوغ لنا هذه الوقفة بل تدفعنا إليها دفعا.
وإن أول ما يبدو لنا في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وآله لم يكتب حديثه في حياته كما
كتب القرآن حتى يأتي من بعده متواترا كما أتى القرآن - ولم يكتف بذلك بل نهى عن
كتابته، واتبع أصحابه ومن تبعهم أمره فلم يكتبوه، وكانوا يكتفون بنقله بالرواية،
ولكن لا على أصل لفظه الذي نطق النبي به، وإنما كانوا يروونه بالمعنى.
وظل الأمر على ذلك إلى أن شرعوا في تدوينه - وكان ذلك حوالي منتصف
القرن الثاني الهجري، وقد كان لتأخير التدوين على الدين واللغة ضرر أي ضرر - بله
ما أدخله الوضاع والكاذبون من أعداء الدين، وأصحاب الأهواء، حتى الصالحون
من المسلمين.
ولما أخذ علماء الجرح والتعديل في البحث عن أحوال الرواة لكي يعرفوا من
285

تقبل روايته منهم ومن ترد، لم يستطيعوا على كثرة ما بذلوا في هذا البحث من تعب
أن يصلوا إلى ما كان ينبغي أن يبلغوه، ولا تم لهم ما أرادوا أن يحققوه، لأن بحثهم
قد جرى على قدر وسعهم وإمكانهم الإنساني، ولم يتجاوزوا الظاهر من أحوال الرواة،
ولا تثريب عليهم في ذلك، لأن الوقوف على أسرار الرجال وبواطنهم محال بل مستحيل.
وفي ذلك يقول الوزير اليماني في الروض الباسم.
نجد كثيرا من أئمة الجرح والتعديل يترددون في الراوي فيوثقونه مرة ويضعفونه
مرة! لأن دخول وهمه في حيز (الكثرة) مما لا يوزن بميزان معلوم وإنما يظن ويرجع
فيه إلى التحري والاجتهاد، فصار النظر فيه كنظر الفقهاء في الحوادث الظنية،
فلذا يكون لابن معين (1) في الراوي قولان، التوثيق والتضعيف ونحو ذلك - والاحتراز
عن الوهم غير ممكن، والعصمة مرتفعة عن العدول، بل العصمة (أي عصمة
الرسول) لا تمنع من الوهم إلا في التبليغ (أي تبليغ الوحي) فقد وهم رسول الله أنه
صلى بعض الفرائض على الكمال.. فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت (2).
ومن أجل ذلك جاءت كل كتب الحديث تحمل الصحيح وغير الصحيح
حتى ما كان موضوعا مكذوبا، ولم يسلم من ذلك كتاب حتى البخاري ومسلم
اللذين سموهما بالصحيحين فقد نالهما ضربات قوية من سهام الناقدين.
ولما كانت هذه الكتب قد جاءت بهذه المثابة وأنها قد خلت من الأحاديث
المتواترة التي تعطي اليقين بل كل ما فيها أحاديث آحاد التي لا تفيد غير الظن،
فإن علماء الأمة من فقهاء وأصوليين وكلاميين لم ويأخذوا بها، ولا تقيدوا بما فيها.
وكذلك علماء النحو، فإنهم لم يجعلوا الحديث مما يستشهدون به على اللغة والنحو بعد
ما ثبت عندهم أنه لم يأت صحيح متواترا كما نطق النبي به، وإنما جاءت روايته
بالمعنى، ومن حججهم في ذلك حديث زوجتها بما معك (3) فقد جاء بثمان صيغ على
حين أنه كلمتان!

(1) يحيى بن معين من كبار علماء الجرح والتعديل.
(2) راجع ص 81 ج 1
(3) راجع قصة هذا الحديث في صفحة 91 من هذا الكتاب.
286

هذا ما أردنا استعراضه قبل الأخذ في نقل أقوال العلماء الذين جعلونا نقف
أمامها هذه الوقفة.
قال ابن الصلاح:
ومتى قالوا: هذا حديث صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأصناف
المذكورة، وليس من شرطه، أن يكون مقطوعا به في نفس الأمر.
وأكد ذلك العراقي في شرح ألفيته فقال:
وحيث قال أهل الحديث، هذا حديث صحيح فمرادهم - فيما ظهر لنا عملا
بظاهر الإسناد - لا أنه مقطوع بصحته في نفس الأمر، لجواز الخطأ والنسيان
على الثقة.
وقال السمعاني في القواطع: إن الصحيح لا يعرف برواية الثقات فقط وإنما
يعرف بالفهم والمعرفة وكثرة السماع والمذاكرة.
وقال الحاكم: كم من حديث ليس في إسناده إلا ثقة ثبت وهو معلول واه.
وقال عبد الرحمن بن مهدي (1): معرفة الحديث إلهام! فلو قلت للعالم
بعلل الحديث، من أين هذا؟ لم يكن له حجة.
هذا بعض ما قاله العلماء في الحديث الذي جعلوه صحيحا فترى ماذا يكون
الشأن فيما نزل عن درجة الصحيح عندهم من أنواع الحديث التي بينوها في كتبهم؟
وماذا يصنع بعد ذلك كله من يريد أن يعرف الحديث الصحيح الذي يطمئن
به القلب وتسكن إليه النفس؟ وأي سبيل يسلكه لكي يهتدي إلى تمييزه من غيره وهو
يجد تلقاءه هذه الأقوال وغيرها مما يوجب الحيرة ويدعو إلى الشك والاسترابة! وأي
حديث يأخذ وأيها يدع؟ وبخاصة بعد أن يطلع على ما نقله ابن الصلاح في
فتاويه عن الأئمة فيما ذكروه من أصناف الحديث إذ قال:
قالت الأئمة: في الحديث (1) حديث إسناده صحيح ومتنه غير صحيح.
(2) أو إسناده غير صحيح ومتنه صحيح.
(3) أو إسناده مجهول ومتنه مجهول.
(4) أو إسناده صحيح ومتنه صحيح.
(5) أو إسناده ضعيف ومتنه ضعيف!!

(1) عبد الرحمن بن مهدي من كبار علماء الجرح والتعديل.
287

فهذه خمسة أصناف من الحديث يتيه الباحث بين أوديتها الغامضة ولا يدري شيئا
عن منفذ فيها يخلص منه، ذلك بأنهم لم يبينوا حدودها ولا ميزوا بين أصنافها
ولا وضعوا موازين لتقديرها حتى يكون الناس على علم بها.
وهب الطالب قد اهتدى إلى القسم الصحيح منها فإن قلبه لا يطمئن إلى الأخذ
به بعد أن صرحوا بأن صحة الحديث لا توجب القطع به في نفس الأمر لجواز الخطأ
والنسيان على الثقة!
هذه كلمة صغيرة نذكرها في وقفتنا هذه ولا نتوسع فيها، وليس لنا بعدها
إلا أن ندعو الله فنقول: اللهم أدركنا برحمتك وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
بعض أنواع الحديث
جعلوا للحديث أنواعا كثيرة ووضعوا في ذلك كتبا مستفيضة، وإذا كنا كما قلنا
لا نعرض إلى الناحية الفنية من هذا العلم، وإنما نكتب في تاريخ الحديث فحسب، فقد
رأينا أن نشير إلى بعض ما يفيد موضوعنا من هذه الأنواع، لأن ذلك مما يعين على معرفة
ما أصاب الرواية من تباين واختلاف، وما تأثرت به من تغيير وتبديل، وهذا غير
ما بيناه من قبل.
المضطرب:
قال ابن الصلاح: المضطرب من الحديث هو الذي تختلف الرواية فيه،
فيرونه بعضهم على وجه، وبعضهم على وجه آخر مخالف له... وقد يقع
الاضطراب في متن الحديث، وقد يقع في الإسناد، وقد يقع ذلك من راو واحد،
وقد يقع من رواة له جماعة، والاضطراب موجب ضعف الحديث لإشعاره بأنه لم
يضبط ا ه‍.
ومثال الاضطراب في المتن حديث أبي بكر الصديق أنه قال: يا رسول الله
أراك شبت! قال شيبتني هود وأخواتها، فهذا مضطرب، فإنه لم يرو إلا من طريق
أبي إسحاق السبيعي وقد اختلف عليه فيه، فمنهم من رواه عنه مرسلا، ومنهم
288

من رواه موصولا، ومنهم من جعله من مسند أبي بكر، ومنهم من جعله من مسند سعد
ومنهم من جعله من مسند عائشة، وقد وقع الاختلاف فيه على نحو عشرة أوجه
أوردها الدارقطني، ورواته ثقات لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض والجمع متعذر.
المحدثون لا يعنون بغلط المتون ونقدها:
قال الجزائري: إن المحدثين قلما يحكمون على الحديث بالاضطراب. إذا كان
الاختلاف فيه واقعا في نفس المتن - لأن ذلك ليس من شأنهم من جهة كونهم
محدثين، وإنما هو من شأن المجتهدين وإنما يحكمون على الحديث بالاضطراب
إذا كان الاختلاف فيه في نفس الإسناد، لأنه من شأنهم.
وقد وقع الاختلاف في الصلاة الكائنة في قصة ذي اليدين (1) - فإن الراوي
شك فيها مرة - ولم يدر أهي الظهر أو العصر! وقال مرة هي إحدى صلاتي العشي
إما الظهر وإما العصر، وجزم مرة بالظهر ومرة بالعصر، وقال مرة، أكبر ظني
أنها العصر، وقد روى النسائي ما يشهد بأن الشك فيها كان من أبي هريرة ولفظه:
صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، قال أبو هريرة ولكني
نسيت (2) أنا... وقد حاول بعضهم الجمع فذهب إلى أن القصة وقعت مرتين.
وكثيرا ما يسلك بعضهم مثل ذلك في الجمع توصلا إلى تصحيح كل من الروايات
صونا للرواة من أن ينسب الغلط أو السهو أو النسيان إليهم، وكأن عناية هؤلاء
بالرواة فوق عنايتهم بالمرويات فجمعهم كلا جمع، لا سيما إن كان مما ينبو عنه
السمع (3).
وبمناسبة ما ذكره العلامة الجزائري من عدم عناية المحدثين بالمتون نسوق هنا
كلمة قيمة في هذا الأمر للعلامة السيد رشيد رضا رحمه الله. قالها وهو يتكلم عن

(1) قصة ذي اليدين كما جاءت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال صلى بنا النبي صلى الله عليه
وسلم الظهر، أو العصر فسلم، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله، أنقصت؟ فقال النبي لأصحابه:
أحق ما يقول؟ قالوا: نعم، فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين.
(2) وكيف ينسى؟ وقد زعم أن النبي أمره أن يبسط ثوبه ثم أفرغ فيه من بركاته حتى لا ينسى
شيئا سمعه أبدا. راجع كتابنا " شيخ المضيرة ".
(3) ص 257 من توجيه النظر.
289

حديث ذهاب الشمس بعد الغروب وهو من الأحاديث المشكلة التي مرت بك:
إن علماء الحديث قلما يعنون بغلط المتون فيما يخص معانيها وأحكامها - وإنما
كانت عنايتهم التامة بالأسانيد وسياق المتون وعباراتها، والاختلاف فيها
والمرفوع والموقوف منها، وما عساه يكون مدرجا فيها من كلام بعض الرواة
(مما) ليس من النص المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يظهر معاني غلط
المتون للعلماء الباحثين في شروحها من أصول الدين وفروعه وغير ذلك، ولو لم يكونوا
من المحدثين في الاصطلاح، على أنهم يرجعون في ذلك إلى أصول المحدثين كقولهم:
إن صحة السند لا تقتضي صحة المتن في الواقع ونفس الأمر حتما، وعدم صحة السند
لا تقتضي وضعه في الواقع ونفس الأمر حتما.
وقولهم: - إن من علامات وضع الحديث - وإن صح سنده - أن يكون
مخالفا لنص القرآن القطعي، وفي معناه كل قطعي شرعي، كبعض أصول العقائد،
أو الأعمال المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، بحيث يتعدر الجمع بينهما.
ولهذا جزموا بغلط حديث أبي هريرة عند مسلم في خلق السماوات والأرض في سبعة أيام.
وإذا كانت مخالفة القطعي سببا للحكم إما بعدم صحة الحديث لعدم الثقة
برواته، وإما لغلطهم في سياق متنه، فمن الضروري أن تختلف الأفهام في ذلك
باختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم، فالذين لا يعلمون أن الشمس لا تغيب عن
الأرض ولا تحتجب عن جميع سكانها من البشر ساعة ولا دقيقة - لا يرون شيئا
من إشكال في حديث أبي ذر، في بيان أين تكون بعد غروبها، لأنهم يظنون
أن غروبها عنهم غروب عن جميع العالم (1).
وقال: لو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها، كما تنتقد من جهة سندها
لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض (2).
وقال رحمه الله وهو يتكلم عن الإشكالات التي تعرض في بعض الأحاديث

(1) ص 40 و 41 ج 29 تفسير المنار.
(2) ص 141 ج 3 تفسير المنار.
290

كحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم وحديث سجود الشمس تحت العرش
ما يلي:
إن أمثال هذه المشكلات في الروايات لا يهتدي إلى تحقيق الحق فيها،
إلا الذي يعطي لعقله حرية الاستقلال فيما قاله أصناف العلماء، وقال: إن علماء
الأصول الاعتقادية والفقهية أعلم من المحدثين بنقد المتون وما يوافق المعقول وأصول
العقائد منها وما لا يوافقها.
وقد اتفق الفريقان على أنه: ليس كل ما صح سنده من الأحاديث المرفوعة
يصح متنه، لجواز أن يكون في بعض الرواة من أخطأ في الرواية عمدا أو سهوا،
وما كل ما لم يصح سنده يكون متنه باطلا، بل قالوا: إن الموضوع من حيث
الرواية قد يكون صحيحا في الواقع، وإن الصحيح السند قد يكون موضوعا في
الواقع - وإنما علينا أن نأخذ بالظواهر مع مراعاة القواعد، فما صح سنده قبلنا
روايته وحكمنا قواعد الاعتقاد ودلائل العقل في متنه إن كان مشكلا، وما كان
غير صحيح السند لا يجوز لنا أن نسميه حديثا نبويا وإن كان معناه صحيحا (1).
ونضيف إلى ما قاله السيد رشيد أن مما اتفقوا عليه كذلك: أن صحة الإسناد
أو حسنه لا تقتضي صحة الحديث أو حسنه. وقال الحاكم (2): كم من حديث
ليس في إسناده إلا ثقة ثبت وهو معلول واه، فالصحيح لا يعرف برواته فقط
وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع.
وإن الدارقطني وغيره من أئمة النقد، لم يتعرضوا لاستيفاء النقد فيما يتعلق
بالمتن كما تعرضوا لذلك في الإسناد - وذلك لأن النقد المتعلق بالإسناد دقيق غامض
لا يدركه إلا أفراد من أئمة الحديث المعروفين بمعرفة علله، بخلاف النقد المتعلق
(بالمتن) فإنه يدركه كثير من العلماء الأعلام المشتغلين بالعلوم الشرعية، والباحثين

(1) ص 101 و 102 المنار والأزهر.
(2) ذكر الحاكم ذلك وهو يبين النوع التاسع عشر من علوم الحديث، من كتابه " معرفة
علوم الحديث "، وقد قال في هذا البيان - إن هذا النوع من هذه العلوم غير الجرح والتعديل.
291

عن مسائلها الأصلية والفرعية، ككثير من المفسرين والفقهاء وأهل أصول الفقه
وأصول الدين.
وقد تعرض كثير من أئمة الحديث للنقد من جهة المتن إلا أن ذلك قليل
جدا بالنسبة لما تعرضوا له من النقد من جهة الإسناد. فمن ذلك قول الإسماعيلي
بعد أن أورد الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال: يلقى إبراهيم أباه
آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة - الحديث - هذا خبر في صحته نظر من جهة
أن إبراهيم عالم بأن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزيا له مع إخباره أن
الله قد وعده أن لا يخزيه يوم يبعثون، وأعلمه أنه لا خلف لوعده. وقد أعل
الدارقطني هذا الحديث من جهة الإسناد فقال: هذا رواه إبراهيم بن طهمان عن
ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة - - وأجيب عن ذلك بأن
البخاري قد علق حديث إبراهيم بن طهمان في التفسير فلم يهمل حكاية الخلاف
فيه، وينبغي للناظر في الصحيحين أن يبحث عما انتقد عليهما من الجهتين، فبذلك
تتم له الدراية فيما يتعلق بالرواية (1).
المعلل في الحديث:
المعلل من الحديث هو من أجل أنواع علوم الحديث وأدقها وأغمضها - ولا
يقوم به إلا من كان له فهم ثاقب، وحفظ واسع، ومعرفة تامة بالأسانيد والمتون،
وأحوال الرواة: والحديث المعلل ويسميه أهل الحديث المعلول - هو الذي اطلع
فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي
رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر. وقد تقع العلة في إسناد
الحديث وهو الأكثر وقد تقع في متنه، ثم ما يقع في الإسناد قد يقدح في صحة
الإسناد والمتن جميعا.
ونكتفي بإيراد مثل واحد لعلة المتن. ما انفرد مسلم بإخراجه في حديث أنس من
اللفظ المصرح بنفي قراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) فعلل قوم رواية اللفظ المذكور،

(1) ص 334 من كتاب توجيه النظر.
292

لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه، فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين
من غير تعرض لذكر البسملة، وهو الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراجه
في الصحيح، ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له. ففهم
من قوله كانوا يستفتحون بالحمد، أنهم كانوا لا يبسلمون، فرواه على ما فهم وأخطأ،
لأن معناه أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس فيه
تعرض لذكر التسمية، وانضم إلى ذلك أمور: منها أنه ثبت عن أنس أنه سئل عن
الافتتاح بالتسمية، فذكر أنه لا يحفظ شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يطلق اسم العلة على غير ذلك من الأسباب القادحة في الحديث المخرجة
له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ
العلة في الأصل، ولذلك نجد في كثير من كتب علل الحديث الكثير من الجرح
بالكذب والغفلة وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح - وعلة الحديث تكثر
في أحاديث الثقات، بأن يحدثوا له علة فيخفى عليهم علمها، فيصير
الحديث معلولا، والحجة فيه الحفظ والفهم والمعرفة لا غير.
وقال عبد الرحمن بن مهدي - معرفة الحديث " إلهام " فلو قلت للعالم يعلل
الحديث من أين هذا؟ لم يكن له حجة.
ومن أنواع الحديث: المصحف والمحرف
ذكرنا من قبل (1) نقلا عن العلامة البطليوسي أن من أسباب الخلاف الذي
عرض للأمة، التصحيف ولم نتكلم عنه هناك، وإليك شيئا منه هنا.
والمصحف هو ما وقعت المخالفة فيه بتغير النقط في الكلمة مع بقاء صورة
الخط فيها، ومثاله حديث: من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال، فجعلت شيئا
والتصحيف كما يقع في المتن، يقع في الإسناد، ومثال فيه تصحيف بعض
المحدثين ابن مراجم وهو بالراء والجيم بابن مزاحم. ويراجع ما قاله فيه البطليوسي هناك.
وقال ابن الصلاح:
معرفة المصحف من أسانيد الأحاديث ومتونها - فن جليل ينهض بأعبائه

(1) ص 103.
293

الحذاق من الحفاظ، والدار قطني منهم، وله فيه تصنيف مفيد. وروينا عز
أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه قال: ومن يعرى من الخطأ والتصحيف!
ومن التصحيف في " المتن " ما رواه ابن لهيعة عن كتاب موسى بن عقبة
بإسناده إليه عن زيد بن ثابت أن رسول الله احتجم في المسجد وإنما هو (بالراء)
احتجر، في المسجد بخص أو حصير، حجرة يصلي فيها فصحفه ابن لهيعة (1).
ومن أنواع الحديث المحرف:
والمحرف: هو ما وقعت المخالفة فيه بتغيير الشكل في الكلمة مع بقاء صورة
الخط فيها، ومثال ذلك ما وقع لبعض الأعراب. فإنه رأى في كتاب من كتب
الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى نصبت بين يديه عنزة - والعنزة
الحربة (2) - فظنها بسكون النون ثم روى ذلك بالمعنى حسب وهمه، فقال: كان
النبي إذا صلى نصب بين يديه شاة!!
المقلوب:
هو ما وقعت فيه المخالفة بالتقديم والتأخير كما في حديث أبي هريرة عند
مسلم في السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة تحت ظل عرشه فإن فيه " ورجل تصدق
بصدقة أخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، فهذا ما انقلب على أحد الرواة
- وإنما هو: حتى تعلم شماله ما تنفق يمينه - كما ورد في البخاري وفي مسلم في
بعض طرقه - والأمثلة كثيرة في مصنفاتهم.
كتب الحديث المشهورة
ذكرنا لك أن أقسام حديث (الآحاد) هي الصحيح، والحسن، والضعيف،
وأتينا لك بشئ قليل من أقوالهم في الصحيح، لأن ما قالوه فيه جد كثير لا يمكن

(1) ص 114 من مقدمة ابن الصلاح.
(2) ومن معانيها العصا.
294

إيراده كله هنا. وإذا كانوا قد قالوا أن الكتب المشهورة التي تحمل هذه الأقسام
هي: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. فقد وجب علينا أن نتكلم
باختصار عن كل كتاب منها، وإتماما للفائدة رأينا أن نتكلم كذلك عن كتاب
الموطأ للإمام مالك لأنه هو الذي بقي لنا مما دون في القرن الثاني، وصاحبه ذو قدر
كبير وله مذهب بين المذاهب مشهور. وكذلك سنتكلم عن مسند أحمد لشهرته
ولأن لصاحبه كذلك مذهبا يقلده كثير من المسلمين.
وسنبدأ بالكلام عن الموطأ لأنه أسبق هذه الكتب جميعا في الزمن والتأليف.
مالك وموطؤه
هو الإمام مالك بن أنس من ذي أصبح من حمير، كان إماما جليلا أدرك
خيار التابعين، اختلف في تاريخ مولده بين سنة 91 وسنة 93 ه‍ أما وفاته فكانت
سنة 179 ه‍.
قال عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الناس في أزمانهم أربعة سفيان الثوري
بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة.
ومن قول مالك: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت
سبعين ممن يقولون: قال رسول الله عند هذه الأساطين (1) فما أخذت عنهم شيئا،
وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت المال لكان أمينا - وكان يتكلم برأيه على الاجتهاد
وعلى ما أدرك عليه أهل العلم ببلده (2).
قال الشافعي: أصح الكتب بعد كتاب الله، موطأ مالك (3)، وقال الدهلوي
في حجة الله البالغة: إن الطبقة الأولى من كتب الحديث منحصرة بالاستقراء في

(1) عمد المسجد.
(2) بلده هي المدينة " يثرب ".
(3) هناك روايات أخرى منها: ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب
مالك، ولا أعلم كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك، ما على الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن
من كتاب مالك - ما بعد كتاب الله أنفع من الموطأ. وأطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح ص 9 ج 1
شرح الزرقاني على الموطأ.
295

ثلاثة كتب: الموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم، والثانية، كتب لم تبلغ مبلغ
الموطأ والصحيحين ولكنها تتلوها، سنن أبي داوود والترمذي والنسائي. والثالثة
مسانيد ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم، وفي زمانهما وبعدهما - جمعت
بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف، والغريب والشاذ والمنكر والخطأ
والصواب، والثابت والمقلوب - وعلى الطبقة الثانية اعتماد المحدثين.
ونقل السيوطي في تنوير الحوالك عن القاضي أبي بكر بن العربي: أن الموطأ
هو الأصل الأول والبخاري هو الأصل الثاني. وإن مالكا روى مائة ألف حديث
اختار منها في الموطأ عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة (أي السنة
العملية) حتى رجعت إلى 500 حديث - أي الحديث المسند (1)، ورواية ابن الهباب:
ثم لم يزل يعرضه على الكتاب والسنة ويختبرها بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى
500 حديث.
وذكر ابن فرحون في الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب (أي المالكي)
قال عتيق الزبيدي: وضع مالك الموطأ على نحو من عشرة آلاف حديث، فلم يزل
ينظر فيه كل سنة ويسقط منه حتى بقي هذا، ولو بقي قليلا لأسقطه كله (2).
وفي شرح الزرقاني على الموطأ: أنه ظل يخلصها عاما فعاما بقدر ما يرى أنه
أصلح للمسلمين وأمثل في الدين (3).
وذكر ابن الهباب أن مالكا روى مائة ألف حديث جمع منها الموطأ عشرة
آلاف ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويختبرها بالآثار والأخبار حتى رجعت
إلى 500 حديث.
وقال الكيا الهراس: موطأ مالك كان تسعة آلاف حديث، ثم لم يزل ينتقي حتى
رجعت إلى 500 حديث (ص 11 من مقدمة شرح الزرقاني على موطأ مالك).

(1) " المسند " مرفوع صحابي بسنده ظاهر الاتصال - والمرسل ما سقط من سنده الصحابي بأن
يرويه التابعي عن رسول الله مباشرة، والموقوف ما أضيف إلى الصحابي قولا أو فعلا أو نحوه متصلا
كان أو منقطعا - والمرفوع هو ما أخبر فيه الصحابي عن رسول الله.
(2) ص 25.
(3) ص 11 ج‍ 1.
296

وقال الأبهري أبو بكر: جملة ما في موطأ مالك من الآثار عن النبي صلى الله
عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين 1720 حديث، المسند منها 600 والمرسل 222
والموقوف 613 ومن أقوال التابعين 285. وقال السيوطي في تقريبه نقلا عن
ابن حزم: أحصيت ما في الموطأ وما في حديث سفيان بن عيينة فوجدت في كل
واحد منهما من السنن 500 ونيفا و 300 مرسل، وفيه نيف وسبعون حديثا قد ترك
مالك نفسه العمل بها.
وقال بعض العلماء: إن مالكا أول من ألف في الصحيح غير أنه لم يقتصر في
كتابه عليه، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات، ومن بلاغاته أحاديث
لا تعرف، كما ذكره الحافظ ابن عبد البر فهو لم يجرد الصحيح.
اختلاف رواياته:
روى عن مالك روايات مختلفة تختلف في ترتيب الأبواب، وتختلف في عدد
الأحاديث حتى بلغت هذه الروايات عشرين نسخة وبعضهم قال إنها ثلاثون (1).
وقال الشيخ عبد العزيز الدهلوي (2) في كتابه " بستان المحدثين ": إن نسخ
الموطأ التي توجد في بلاد العرب في هذه الأيام متعددة، عد منها 16 نسخة، كل
نسخة عن راو خاص.
وقال أبو القاسم بن محمد بن حسين الشافعي:
الموطآت المعروفة عن مالك أحد عشر، ومعناها متقارب والمستعمل منها أربعة:
موطأ يحيى بن يحيى " وموطأ ابن بكر، وموطأ أبي مصعب، وموطأ ابن وهب ثم ضعف
استعمال الآخرين.
وبين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة ونقص، ومن أكبرها
وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب (3) قال ابن حزم، في رواية أبي مصعب زيادة

(1) ذكر مثل ذلك الزرقاني في شرحه على الموطأ ص 7 ج‍ 1.
(2) المتوفى سنة 1139 ه‍.
(3) أبو المصعب الزهري كان آخر من روى الموطأ عن مالك لصغر سنه وعاش بعد مالك 63
سنة، وموطؤه أكمل الموطأت لأن فيه 590 حديثا بالمكرر وبإسقاط المتكرر فيه 559 - ص 17 من
توجيه النظر.
297

على سائر الموطآت نحو مئة حديث.
وقال السيوطي: في رواية محمد بن الحسن أحاديث يسيرة زيادة عن سائر الموطآت،
وقد علل الدكتور أحمد أمين سبب هذا الاختلاف فقال:
إن مالكا لم ينته من نسخة يؤلفها ويقف عندها، بل قد كان دائم التغيير فيها،
كما روينا من أنه كان دائم المراجعة للأحاديث وحذف ما لم يثبت صحته منها، فالذين
سمعوا الموطأ سمعوه من مالك في أزمان مختلفة، فكان من ذلك الاختلاف في النسخ
وقد بقي من هذه النسخ بين أيدينا رواية يحيى بن الليثي وهي التي شرحها الزرقاني،
ورواية محمد بن الحسن الشيباني صحاب أبي حنيفة وفيها أشياء كثيرة ليست في رواية
يحيى وهو يمزج ما روى عن مالك بآرائه فكثيرا ما يقول " قال محمد (1) ".
سبب تأليفه وزمن تأليفه (2):
ألف الموطأ في أواخر عهد المنصور وكان ذلك في سنة 148 ه‍ وكان سبب
ذلك كما روى الشافعي أن أبا جعفر المنصور بعث إلى مالك لما قدم المدينة وقال له:
إن الناس قد اختلفوا في العراق فضع للناس كتابا نجمعهم عليه، فوضع " الموطأ ".
وفي رواية لغير الشافعي، أنه قال له مع ذلك: اجتنب فيه شواذ ابن عباس
وتشددات ابن عمر ورخص ابن مسعود، فقال له مالك: ما ينبغي يا أمير المؤمنين
أن نحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب. وقد كان المنصور كما بينا
من قبل معنيا بأمر الحديث ودراسته - وقد أخرج ابن عبد البر أن أول من عمل
كتابا بالمدينة على معنى الموطأ - من ذكر ما أجمع عليه أهل المدينة - عبد العزيز بن
عبد الله بن سلمة الماجشون المتوفى في سنة 164 ه‍ ونظر فيه مالك قبل أن يضع موطأه.

(1) ص 215 ج 2 منجي الإسلام.
(2) قال الحافظ ابن البر في كتاب الانتقاء ص 41 أن محمد بن سعد قال:
سمعت مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه، فحادثته وسألني فأجبته
فقال: إني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعت (يعني الموطأ) فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلى كل مصر
من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها! فإني رأيت أصل العلم
رواية أهل المدينة وعلمهم، قال، فقلت يا أمير المؤمنين: لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم
أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا من اختلاف
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل
كل بلد لأنفسهم، فقال لعمري، لو طاوعتني على ذلك لأمرت به. وفي روايات أخرى أن المنصور طلب
منه أن يضع للناس كتابا يتجنب فيه تشديدات ابن عمر، ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود.
298

نقد ابن معين لمالك:
قال ابن معين، إن مالكا لم يكن صاحب حديث بل كان صاحب رأي. وقال
الليث بن سعد - أحصيت على مالك سبعين مسألة وكلها مخالفة لسنة الرسول.
وقد اعترف مالك بذلك، وألف الدارقطني جزءا فيما خولف فيه مالك من
الأحاديث في الموطأ وغيره، وفيه أكثر من عشرين حديثا، وهو من محفوظات
الظاهرية بدمشق.
البخاري وكتابه
البخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الفارسي رحمه الله. ولد
ببخارى سنة 194 ه‍ وارتحل بطلب الحديث، وتنقل في البلاد وابتدأ في تراجم
أبواب كتابه بالحرم الشريف، ولبث في تصنيفه ست عشرة سنة بالبصرة وغيرها
حتى أتمه ببخارى، ومات بخرتنك قرب سمرقند سنة 256 ه‍.
روى ابن حجر في مقدمة فتح الباري (1) أن أبا علي الغساني روى عنه أنه
قال خرجت الصحيح من 600 ألف حديث.
وروى عنه الإسماعيلي أنه قال: لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا (2)
وما تركت من الصحيح أكثر (3) وقال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ
مائتي ألف حديث غير صحيح (4) ولا يهولنك وجود مثل هذه المئات من آلاف الأحاديث
في عصر البخاري، فقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال: صح من الحديث سبعمائة
ألف وكسر.. وهذا الفتى - يعني أبا زرعة - قد حفظ سبعمائة ألف...
وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: كان أبو زرعة يحفظ سبعمائة
ألف حديث، وكان يحفظ مائة وأربعين ألفا في التفسير.. (ص 4 توجيه النظر).

(1) ص 4.
(2) أي عنده وفي رأيه كما أدت إليه روايته.
(3) ص 4 من هدي الساري مقدمة فتح الباري.
(4) ص 201 ج‍ 2 من المصدر السابق.
299

سبب جمع البخاري لكتابه:
قال الحافظ ابن حجر في مقدمته: إن الذي حرك همة البخاري لجمع الحديث
الصحيح وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه
إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه، قال أبو عبد الله محمد بن
إسماعيل البخاري:
كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة الله؟
فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح، وخرجت الصحيح من ستمائة
ألف حديث (1).
كان البخاري يروي بالمعنى:
روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أنه قال يوما عن البخاري إنه قال:
رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته
بمصر! فقيل له: يا أبا عبد الله، بكماله؟ فسكت (2).
وقال أحيدر بن أبي جعفر والي بخارى: قال لي محمد بن إسماعيل يوما: رب
حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر!
فقلت له: يا أبا عبد الله بتمامه؟ فسكت (3).
وقال محمد بن الأزهر السجستاني: كنت في مجلس سليمان بن حرب
والبخاري معنا يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم: ما له لا يكتب؟ فقال يرجع إلى
بخارى ويكتب من حفظه (4).
وقال ابن حجر العسقلاني: من نوادر ما وقع في البخاري، أنه يخرج الحديث
تاما بإسناد واحد بلفظين (5).

(1) ص 4 مقدمة فتح الباري.
(2) ص 11 ج‍ 2.
(3) ص 201 ج‍ 2 من هدى الساري.
(4) ص 194 من المصدر السابق.
(5) ص 186 ج‍ 1 من فتح الباري.
300

مات البخاري قبل أن يبيض كتابه:
يظهر أن البخاري مات قبل أن يتم تبييض كتابه، فقد ذكر ابن حجر في
مقدمة الفتح، أن أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت كتاب
البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه
أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا، ومنها أحاديث لم يترجم
لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا
القول رواية أبي إسحاق المستملي، ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم
الكشميهي ورواية أبى زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم انتسخوا من
أصل واحد! وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة
مضافة أنه من موضع ما، فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر
من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث (1).
وقال (2) في الجزء السابع من فتح الباري (3):
لم أقف في شئ من نسخ البخاري على ترجمة " عبد الرحمن بن عوف " ولا
" لسعيد بن زيد - " - وهما من العشرة، وإن كان قد أفرد ذكر إسلام سعيد
ابن زيد بترجمة في أوائل السيرة النبوية، وأظن أن ذلك من تصرف الناقلين لكتاب
البخاري، كما تقدم مرارا أنه ترك الكتاب مسودة، فإن أسماء من ذكرهم هنا لم يقع
فيهم مراعاة الأفضلية ولا السابقة ولا الأسنية - وهي جهات التقدم في الترتيب، فلما
لم يراع واحدا منها دل ذلك على أنه كتب كل ترجمة على حدة فضم بعض النقلة
بعضها إلى بعض حسبما اتفق.
والبخاري أول من ميز الصحيح - في نظره - من غيره، فاختار كتابه مما تبين
له أنه صحيح - ذلك أن التدوين قبله كان يجمع - كما بينا - كل ما روى من غير
تمييز بين صحيح وغير صحيح - كما ترى ذلك في مسند أحمد وغيره من المسانيد -

(1) ص 5 ج 1 من نفس المصدر.
(2) أي ابن حجر.
(3) ص 74.
301

أو يضم إلى أحاديث الرسول أقوال الصحابة وفتاوى التابعين - كما تجد ذلك في
موطأ مالك، ومن أجل ذلك قالوا في كتاب البخاري: إنه أول كتاب ألف في
الصحيح.
وقد انتقده الحفاظ في عشرة ومائة حديث منها 32 حديثا، وافقه مسلم على
تخريجه، و 78 حديثا انفرد هو بتخريجه (1).
والذين انفرد البخاري بالاخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثون رجلا،
المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلا (2)، والذين انفرد مسلم بالاخراج لهم دون
البخاري 620 رجلا المتكلم بالضعف منهم 160 رجلا.. والأحاديث التي انتقدت
عليهما بلغت مائتي حديث وعشرة، اختص البخاري منها بأقل من ثمانين وباقي
ذلك يختص بمسلم (3). وقال ابن حجر في الأحاديث التي انتقدها الدارقطني: إن
هذه المواضع متنازع في صحتها فلم يحصل لها من التلقي ما حصل لمعظم الكتاب.
في البخاري إشكالات كثيرة:
وقال السيد محمد رشيد رضا بعد أن عرض لأحاديث المنتقدة على البخاري
ما يلي:
وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها رأيتها كلها في صناعة الفن.. (4) ولكنك
إذا قرأت الشرح نفسه " فتح الباري " رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في
معانيها أو تعارضها مع غيرها، مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات

(1) ص 81 ج‍ 2 مقدمة فتح الباري.
(2) هذا هو عدد الرجال المتكلم فيهم بالضعف الذين أخرج لهم البخاري دون مسلم أما الذين طعن
فيهم من رجال البخاري فقد عقد لهم ابن حجر فصلا خاصا في الجزء الثاني من مقدمة فتح الباري " سرد فيه
أسماءهم، مع حكاية ذلك الطعن والتنقيب عن سببه والقيام بجوابه " كما يرى هو، وقد بلغت هذه الأسماء نحو
أربعمائة استغرقت 65 صفحة من رقم 113 - 176، وسنذكر بعض هذه الأسماء في باب اختلافهم
في الجرح والتعديل.
(ص 7 من مقدمة الفتح وص 111 ج 2 من نفس المصدر. وص 119 ج 2 ضحى الإسلام)
(3) ص 7 و 8 من نفس المصدر ج‍ 1.
(4) أي فن مصطلح الحديث أي من ناحية السند أما من ناحية متون أحاديث البخاري فلم يعرض
لنقدها، ولو تجرد لها عالم فقيه متحرر لوجد فيها أحاديث كثيرة تستحق النقد.
302

- بما يرضيك بعضه دون بعض (1).
وقال الدكتور أحمد أمين - بعد أن ذكر عدد الأحاديث التي انتقدت على
البخاري كما بيناها - ما يلي (2):
إن بعض الرجال الذي روى لهم (3) غير ثقات، وقد ضعف الحفاظ من
رجال البخاري نحو الثمانين، وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل، فالوقوف على أسرار
الرجال محال، نعم إن من زل زلة واضحة سهل الحكم عليه، ولكن ماذا يصنع
بمستور الحال؟ ثم إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف، فبعض
يوثق رجلا وآخر يكذبه، والبواعث النفسية على ذلك لا حصر لها، ثم كان
المحدثون أنفسهم يختلفون في قواعد التجريح والتعديل، فبعضهم يرفض حديث
المبتدع مطلقا كالخارجي والمعتزلي، وبعضهم يقبل روايته في الأحاديث التي لا تتصل
ببدعته، وبعضهم يقول، إن كان داعيا لها لا تقبل روايته وإن كان غير داع
قبلت! وبعض المحدثين يتشدد فلا يروي حديث من اتصلوا بالولاة ودخلوا في أمر
الدنيا مهما كان صدقهم وضبطهم، وبعضهم لا يرى في ذلك بأسا، متى كان
عدلا صادقا، وبعضهم يتزمت فيأخذ على المحدث مزحة مزحها، كالذي روى
أن بعض مجان البصرة كانوا يضعون صرر نقود في الطريق ويختفون، فإذا انحنى المار
لأخذها صاحوا به فتركها خجلا وضحكوا منه، فأفتى بعض المحدثين أن يملأ صرة
من زجاج مكسر فإذا صاحوا به وضع صرة الزجاج وأخذ صرة الدراهم عقابا لهم
وتأديبا، فجرحه بعض المحدثين من أجل ذلك، وعدله بعضهم إذ لم ير به بأسا،
إلى غير ذلك من أسباب يطول شرحها، ومن أجل هذا اختلفوا اختلافا كثيرا في
الحكم على الأشخاص، وتبع ذلك اختلافهم في صحة روايته والأخذ عنه، ولعل من
أوضح المثل في ذلك - عكرمة مولى ابن عباس وقد ملأ الدنيا حديثا وتفسيرا، فقد
رماه بعضهم بالكذب وبأنه يرى رأي الخوارج وبأنه كان يقبل جوائز الأمراء،
ورووا عن كذبه شيئا كثيرا، فرووا أن سعيد بن المسيب قال لمولاه " برد ":

(1) ص 41 ج 29 منار.
(2) ص 117 و 118 ج‍ 2 ضحى الإسلام.
(3) أي البخاري.
303

لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس (1) وأكذبه سعيد بن المسيب في
أحاديث كثيرة، وقال القاسم: إن عكرمة كذاب يحدث غدوة بحديث يخالفه
عشية، وقال ابن سعد: " كان عكرمة بحرا من البحور وتكلم الناس فيه وليس
يحتج بحديثه " هذا على حين أن آخرين يوثقونه ويعدلونه فابن جرير الطبري يثق به
كل الثقة ويملأ تفسيره وتاريخه بأقواله والرواية عنه، وقد وثقه أحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه ويحيى ابن معين وغيرهم من كبار المحدثين. من أجل هذا كله
وقف جامعو الصحيح منه مواقف مختلفة، فالبخاري ترجح عنده صدقه فهو
يروي له في صحيحه كثيرا، ومسلم ترجح عنده كذبه، فلم يرو له إلا حديثا واحدا
في الحج، ولم يعتمد فيه عليه وحده وإنما ذكره تقوية لحديث سعيد بن جبير
في الموضوع نفسه.
من هذا ترى صعوبة الحكم على مستوى الحال، ولم يسلم جامع كتاب
حديث من ذلك لاختلاف الناس في الحكم على الرجال.
أحاديث البخاري وحكم من أنكر شيئا منها:
قال السيد رشيد رضا رحمه الله في جواب عن سؤال قدم له في ذلك:
لا شك في أن أحاديث الجامع الصحيح للبخاري في جملتها أصح في صناعة
الحديث وتحرى الصحيح من كل ما جمع في الدفاتر من كتب الحديث، ويليه
في ذلك صحيح مسلم، ومما لا شك فيه أيضا أنه يوجد في غيرهما من دواوين السنة
أحاديث أصح من بعض ما فيهما، وما روى من رفض البخاري وغيره لمئات الألوف
من الأحاديث التي كانت تروى يؤيد ذلك، فإنما نفوا ما نفوا لينتقوا الصحاح
الثابتة (2): ودعوى وجود أحاديث موضوعة في أحاديث البخاري المسندة بالمعنى الذي

(1) ورد كذلك عن ابن عمر أنه قال لمولاه نافع: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس.
وذكر ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير، أن رجلا سأل سعيد بن المسبب عن آيات من القرآن، فقال له:
لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شئ! يعني عكرمة (ص 39).
(2) أي في رأيهم لا أنها صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله.
304

عرفوا به الموضوع في علم الرواية - ممنوعة لا يسهل على أحد إثباتها، ولكنه لا يخلو
من أحاديث قليلة في متونها نظر قد يصدق عليه بعض ما عدوه من علامة الوضع.
كحديث سحر بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أنكره بعض العلماء
كالإمام الحصاص من المفسرين المتقدمين والأستاذ الإمام " محمد عبده " من
المتأخرين لأنه معارض بقوله تعالى (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا -
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.. هذا وإن في
البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز ليست من أصول الدين ولا فروعه،
فإذا تأملتم هذا وذاك علمتهم أنه ليست - لعلها " ليس " - من أصول الإيمان
ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري مهما يكن
موضوعه، بل لم يشترط أحد في صحة الإسلام ولا في معرفته التفصيلية الاطلاع على
صحيح البخاري والاقرار بكل ما فيه - وعلمتم أيضا أن المسلم لا يمكن أن ينكر
حديثا من هذه الأحاديث بعد العلم به إلا بدليل يقوم عنده على عدم صحته متنا
أو سندا، فالعلماء الذين أنكروا صحة بعض هذه الأحاديث لم ينكروها إلا بأدلة
قامت عندهم قد يكون بعضها صوابا وبعضها خطأ، ولا يعد أحدهم طاعنا في دين
الإسلام (1).
" وما كلف الله مسلما أن يقرأ صحيح البخاري ويؤمن بكل ما فيه، وإن لم
يصح عنده، أو اعتقد أنه ينافي أصول الإسلام.
سبحان الله!! يقول ملايين المسلمين من الحنفية إن رفع اليدين عند الركوع
والقيام منه مكروه شرعا وقد رواه البخاري في صحيحه وغير صحيحه عن عشرات
من الصحابة بأسانيد كثير جدا، ولا إثم عليهم ولا حرج لأن إمامهم لم يصح
عنده لأنه لم يطلع على أسانيد البخاري فيه، وكل من اطلع من علماء مذهبه
عليها يوقن بصحتها - ثم يكفر مسلم (2) من خيار المسلمين علما وعملا ودفاعا عن

(1) ص 104 و 105 ج‍ 29 المنار.
(2) هذا المسلم هو الدكتور محمد توفيق صدقي وكان قد طعن في حديث الذباب فكفره شيوخ
الأزهر بذلك كما هي عادتهم.
305

الإسلام ودعوة إليه، بدليل أو شبهة على صحة حديث رواه البخاري عن رجل يكاد
يكون مجهولا واسمه يدل على أنه لم يكن أصيلا في الإسلام وهو عبد بن حنين،
وموضوع متنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته ولا من شرائعه، ولا التزم
المسلمون العمل به، بل ما من مذهب من مذاهب المقلدة إلا وأهله يتركون العمل
ببعض ما صح عند البخاري وعند مسلم أيضا من أحاديث التشريع المروية عن كبار
أئمة الرواة لعلل اجتهادية أو لمحض التقليد. وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر من مائة
شاهد على ذلك في كتابه أعلام الموقعين، وهذا المكفر للدكتور منهم.. مع هذا
نقول بحق إن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، ولكنه ليس معصوما هو
ورواته من الخطأ. وليس كل مرتاب في شئ من روايته كافرا! ما أسهل التكفير
على مقلدة أقوال المتأخرين وحسبنا الله ونعم الوكيل (1).
وفي الانتصار لابن الجوزي جملة أحاديث لم تأخذ بها الشافعية من أحاديث
الصحيحين لما ترجح عندهم مما يخالفها وكذا في بقية المذاهب.
البخاري وأهل الشام:
ذكر الذهبي عن أبي عمرو حمدان: سألت ابن عقدة أيهما أحفظ،
البخاري أم مسلم؟ فقال كان محمد عالما، ومسلم عالم، فأعدت عليه مرارا،
فقال: يقع لمحمد (2) الغلط في أهل الشام وذلك لأنه أخذ كتبهم ونظر فيها فربما
ذكر الرجل بكنيته، ويذكره في موضع آخر باسمه يظنهما اثنين، وأما مسلم فقلما
يوجد له غلط في العلل، لأنه كتب المسانيد ولم يكتب المقاطيع ولا المراسيل ا ه‍ (3).
البخاري أدركته محنة مسألة " خلق القرآن ":
قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخه: قدم البخاري نيسابور في سنة 250 ه‍
فأقبل عليه الناس ليسمعوا منه، وفي أحد الأيام سأله رجل عن " اللفظ بالقرآن "

(1) ص 51 ج‍ 29 مجلة المنار.
(2) أي البخاري.
(3) ص 5 من شروط الأئمة الستة للمقدسي.
306

فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا، فوقع بذلك خلاف ولم يلبث أن
حرض الناس عليه محمد بن يحيى الذهلي وقال: من قال ذلك فهو مبتدع، ولا يجالس
ولا يكلم! ومن ذهب بعد ذلك إلى البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من
كان على مذهبه! فانقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة
فقال الذهلي: ألا من قال باللفظ - فلا يحل له أن يحضر مجلسنا! فأخذ مسلم
رداءه فوق عمامته وقام على رؤس الناس، وبعث جميع ما كان قد كتبه عنه،
وقد خشي البخاري على نفسه فسافر من نيسابور (1) ا ه‍ ملخصا.
ومن المعلوم أن مسلما منسوب أيضا إلى اللفظ.
روايات البخاري تختلف في العدد:
فعدد أحاديث البخاري يزيد في رواية الفربري على عدده في رواية إبراهيم
ابن معقل النسفي بمائتين، ويزيد عدد النسفي على عدد حماد بن شاكر النسفي
بمائة كما ذكره العراقي (2).
وقد حرر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري أن عدة ما في البخاري
من المتون الموصولة بلا تكرار 2602، ومن المتون المعلقة المرفوعة 159، فمجموع
ذلك 2761، وقال في شرح البخاري إن عدته على التحرير 2513 حديث (3).

(1) ص 203 و 204 ج‍ 2 من هدى الساري.
(2) 58 شروط الأئمة الخمسة.
(3) ص 70 ج 1.
307

مسلم وكتابه
هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري رحمه الله ولد بنيسابور
سنة 204 ه‍ وتوفى بها سنة 268 ه‍ جرد الصحاح ولم يتعرض للاستنباط ونحوه وفاق
البخاري في جمع الطرق وحسن الترتيب، وكتابه سهل التناول، إذ جعل لكل حديث
موضعا واحدا يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها، وأورد فيه أسانيده المتعددة وألفاظه
المختلفة، وكان لا يروي بالمعنى بخلاف البخاري وكان لا يخلط مع الأحاديث شيئا من
أقوال الصحابة ومن بعدهم - ومن مزاياه كما قال ابن حجر في مقدمة الفتح:
أنه قد صنفه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه فكان يتحرز في
الألفاظ ويتحرى في السياق ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام
ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم الطرق كلها
في مكان واحد واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض
المواضيع على سبيل الندورة تبعا لا مقصودا (1).
وقد نقل عنه أنه صنف مسنده من 300 ألف حديث مسموعة أما عدد
أحاديث كتابه فأربعة آلاف حديث دون المكرر.
وقال النووي في شرح مسلم: قول مسلم ليس كل شئ صحيحا عندي وضعته
هنا " أي في كتابه " وإنما وضعت هنا ما أجمعوا عليه، فمشكل، فقد وضع فيه
أحاديث كثيرة مختلفا في صحتها لأنها من حديث من اختلفوا في صحة حديثه،
وكذلك قال ابن الصلاح. وقال ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص إن الحديث
الذي رواه مسلم في خلق التربة يوم السبت (2) حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث
كالبخاري وغيره وقالوا إنه من قول كعب الأحبار ولهذا الحديث نظائر عند مسلم
فقد روى أحاديث عرف أنها غلط مثل قول أبي سفيان لما أسلم أريد أن أزوجك
أم حبيبة (أي بنته) ولا خلاف بين الناس أن النبي قد تزوجها قبل إسلام

(1) ص 8.
(2) هذا الحديث رواه أبو هريرة وصرح فيه بسماعه من النبي. راجع كتابنا " شيخ المضيرة ".
308

أبي سفيان، ومثل حديث صلاة الكسوف أن النبي صلاها بثلاث ركوعات.
والصواب أنه لم يصلها إلا مرة واحدة بركوعين ا ه‍ (1).
وقد بلغت الأحاديث التي انتقدت على مسلم 132، وعدد من انتقدوهم من
رجاله 110.
وقال الحافظ أبو زرعة الرازي (2) - وقد ذكر له كتاب مسلم - هؤلاء قوم
أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئا يتسوقون به، ألفوا كتابا لم يسبقوا إليه، ليقيموا
لأنفسهم رياسة قبل وقتها.
وأتاه ذات يوم رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم فجعل ينظر فيه فإذا
حديث عن أسباط بن نصر.. ثم رأى في الكتاب قطن بن نسير فقال: وهذا أطم
من الأول! قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس، ثم نظر
فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتاب الصحيح! ثم قال: أيحدث
عن هؤلاء ويترك محمد بن عجلان ونظراءه ويطرق لأهل البدع عليها فيجدوا السبيل
بأن يقولوا للحديث إذا احتج عليهم به، ليس هذا من كتاب الصحيح.
وكان أبو زرعة يذم وضع هذا الكتاب.
وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر أحاديث كثيرة بالعنعنة وقد قال الحفاظ:
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي يدلس في حديث جابر، وروى عن جابر
وابن عمر في حجة الوداع حديثا بروايتين قال ابن حزم فيهما: إحداهما كذب
بلا شك. وروى حديث (خلق الله التربة يوم الست).
وقال الحفاظ: إن مسلما لما وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة الرازي
فأنكر عليه وتغيظ وقال: سميته الصحيح! فجعلت سلما لأجل البدع وغيرهم
فإذا روى لهم المخالف حديثا يقولون: هذا ليس في صحيح مسلم.
ولما قدم مسلم الري خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن واره فجفاه وعاتبه
على هذا الكتاب، وقال له نحوا مما قال أبو زرعة، فاعتذر إليه مسلم وقال له:

(1) ص 16.
(2) قال الإمام أحمد عنه إنه حفظ 700 ألف حديث، وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ
كان أبو زرعة يحفظ 700 ألف حديث، وكان يحفظ 140 ألفا في التفسير - ص 4 من توجيه النظر.
309

إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت (هو صحاح) ولم أقل: إن ما لم أخرجه من
الحديث في هذا الكتاب ضعيف! ولكن إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح
ليكون مجموعا عندي وعند من يكتبه عني، ولا يرتاب في صحتها، ولم أقل إن
ما سواه ضعيف، فقبل عذره وحدثه (1) ا ه‍ باختصار.
وأخرج مسلم أحاديث أقوام ترك البخاري حديثهم لشبهة وقعت في نفسه (2)
ذلك بأن أئمة النقل على اختلاف مذاهبهم وتباين أحوالهم - في تعاطي اصطلاحاتهم
يختلفون في أكثرها - فرب راو هو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي ومجروح
عند يحيى بن سعيد القطان وبالعكس، وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل ومن
عندهما يتلقى معظم شأن الحديث (3).
والكلام في نقد البخاري ومسلم طويل فنكتفي بما نورده هنا.
البخاري ومسلم - وما قيل فيهما
قال الحافظ زين الدين العراقي في شرح ألفيته في علوم الحديث - عندما
ذكر مراتب الصحيح - قال محمد بن طاهر في كتابه في شروط الأئمة: شرط
البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجتمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور - قال
العراقي في شرح ألفيته: ليس ما قاله ابن طاهر بجيد لأن النسائي ضعف جماعة
أخرج لهم الشيخان أو أحدهما ا ه‍.
وقال البدر العيني: في الصحيح جماعة جرحهم بعض المتقدمين.
وفي العلم الشامخ قال المقبلي: في رجال الصحيحين من صرح كثير من الأئمة
يجرحهم، وتكلم فيهم من تكلم بالكلام الشديد، وإن كان لا يلزمهما إلا العمل
باجتهادهما.
وقال ابن الصلاح: احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح له كعكرمة

(1) ص 60 - 63 شروط الأئمة الخمسة للحازمي وشرحها.
(2) ص 10 و 11 شروط الأئمة الستة للقدسي.
(3) 58 - 59 شروط الأئمة الخمسة للحازمي.
310

مولى ابن عباس وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي، وعمرو بن مرزوق وغيرهم
واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم وهكذا فعل أبو داود (1).
قال الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله في شرحه لألفية السيوطي: وقد وقع
في الصحيحين أحاديث كثيرة من رواية بعض المدلسين (2).
ومعلوم أن التدليس (3) كان من أسباب الجرح.
وفي شرح شروط الأئمة الخمسة للشيخ محمد زاهد الكوثري نقلا عن ابن الهمام (4).
وقد أخرج مسلم عن كثير ممن لم يسلم من غوائل الجرح، وكذا في البخاري
جماعة تكلم فيهم، فدار الأمر في الرواية على اجتهاد العلماء فيهم وكذا في الشروط
حتى إن من اعتبر شرطا وألغاه آخر، يكون ما رواه الآخر مما ليس فيه هذا الشرط
عنده مكافئا لمعارضة المشتمل على ذلك الشرط، وكذا فيمن ضعف راويا
ووثقه الآخر.
وأما الانتقاد عليهما من جهة ما يتعلق بالمتون من جهة مخالفتهما للكتاب أو
للسنة المتواترة ونحو ذلك فلم يتصدوا له، لأن ذلك من متعلقات علماء الكلام
والأصول (5).
تجافي الرواية - عن أهل الرأي:
قال القاسمي: تجافي أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي - كالإمام
أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن فقد لينهما أهل الحديث كما ترى في ميزان
الاعتدال وآثارهما تشهد بسعة علمهما وتبحرهما بل تقدمهما على كثير من الحفاظ (6)
وكذلك تجافى البخاري عن الرواية عن أئمة أهل البيت النبوي، وإليك كلمة قيمة في
هذا الأمر.
قال العلامة عبد الحسين شرف الدين في كتابه الفصول المهمة في تأليف الأمة (7)

(1) ص 41 من مقدمة ابن الصلاح.
(2) ص 36.
(3) راجع ما كتبناه عن التدلس والمدليسين في كتابنا شيخ المضيرة.
(4) ص 58 من شرح الشروط الخمسة.
(5) ص 131 توجيه النظر.
(6) ص 24 من كتاب الجرح والتعديل للقاسمي.
(7) ص 168 و 169 من الطبعة الثانية.
311

وأنكى من هذا كله عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمة أهل البيت
النبوي، إذ لم يرو شيئا عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي العسكري
وكان معاصرا له، ولا روى عن الحسن بن الحسن ولا عن زيد بن علي بن الحسين.
ولا عن يحيى بن زيد ولا عن النفس الزكية محمد بن عبد الله الكامل بن الحسن
الرضا بن الحسن السبط ولا عن أخيه إبراهيم بن عبد الله ولا عن الحسين الفخي بن
علي بن الحسن بن الحسن، ولا عن يحيى بن عبد الله بن الحسن ولا عن أخيه إدريس
ابن عبد الله ولا عن محمد بن جعفر الصادق، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل
ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا ولا عن أخيه القاسم الشرسي،
ولا عن محمد بن زيد بن علي، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف بن زين
العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري - ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة
وأغصان الشجرة الزاهرة، كعبد الله بن الحسن وعلي بن جعفر العريضي وغيرهما. ولم يرو
شيئا من حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيد
شباب أهل الجنة مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدهم عداوة لأهل البيت (عمران
ابن حطان) القائل في ابن ملجم وضربته لأمير المؤمنين عليه السلام:
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا
هل أصح الأحاديث ما في الصحيحين:
قال الإمام كمال الدين ابن الهمام في شرح الهداية: وقول من قال: أصح
الأحاديث ما في الصحيحين ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم
ما اشتمل على شرطهما، ثم ما اشتمل على شرط أحدهما، تحكم لا يجوز التقليد فيه،
إذ الأصحية ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها، فإن فرض وجود تلك
الشروط في رواة حديث في غير الكتابين، أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين
عين التحكم (1)؟.

(1) ص 120 توجيه النظر وص 25 من شرح شروط الأئمة الخمسة.
312

الاستدراك على البخاري ومسلم:
قال النووي في شرح مسلم: استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث
أخلا بشرطيهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه. وقد ألف الإمام الحافظ الدارقطني
في بيان ذلك كتابه المسمى (بالاستدراكات والتتبع)، وذلك في مائتي حديث مما في
الكتابين، ولأبي مسعود الدمشقي (صاحب الأطراف) استدراك عليهما وكذا
لأبي علي الغساني في كتابه تقييد المهمل. وقال: في أول شرح مسلم: وما يقوله
الناس أن من روى له الشيخان فقد جاوز القنطرة! هذا من التجوه ولا يقوى.
مثل غريب مما اتفق البخاري ومسلم على روايته:
روى البخاري عن ابن عمر قال النبي يوم الأحزاب: أن لا يصلين أحد
(العصر) إلا في بني قريظة - قال ابن حجر: كذا وقع في جميع النسخ عند
البخاري ووقع في جميع النسخ عند مسلم (الظهر) مع اتفاق البخاري ومسلم على
روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه! قال: ويظهر من تغاير
اللفظين أن عبد الله بن محمد شيخ الشيخين لما حدث به حدث فيه بلفظين أو أن
البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ - كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك
بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ.
وفي الصحيحين ما ينوف على مائتي حديث من الغرائب وقد ألف الحافظ
الضياء المقدسي في ذلك مؤلفا سماه (غرائب الصحيحين) ذكر فيه ما يزيد على
مائتي حديث من الغرائب والأفراد المخرجة في الصحيحين (1).

(1) ص 31 من شرح شروط الأئمة الخمسة للحازمي.
313

أصحية البخاري ومسلم وعند من تكون؟
قال ابن أمير الحاج في شرح التحرير ما معناه (1):
ثم مما ينبغي التنبه له أن أصحيتهما على ما سواهما تنزلا إنما تكون بالنظر إلى من
بعدهما، لا المجتهدين المتقدمين عليهما، فإن هذا مع ظهوره قد يخفى على بعضهم،
أو يغالط به والله سبحانه أعلم.
وقال الشارح لهذا الكلام: يريد أن الشيخين وأصحاب السنن جماعة
متعاصرون من الحفاظ أتوا بعد تدوين الفقه الإسلامي، واعتنوا بقسم من الحديث
وكان الأئمة المجتهدون قبلهم أوفر مادة، وأكثر حديثا، بين أيديهم المرفوع والموقوف
والمرسل وفتاوى الصحابة والتابعين - ونظر المجتهد ليس بمقصور على قسم من
الحديث - ودونك الجوامع والمصنفات في كل باب منها تذكر هذه الأنواع التي
لا يستغني عنها المجتهد، وأصحاب الجوامع والمصنفات قبل الستة من الحفاظ " أي
أصحاب الكتب الستة " أصحاب هؤلاء المجتهدين وأصحاب أصحابهم، والنظر في
أسانيدها كان أمرا هينا عندهم لعلو طبقتهم، لا سيما أو استدلال المجتهد بحديث
تصحيح له - والاحتياج إلى الستة والاحتجاج بها إنما هو بالنظر إلى من تأخر
عنهم فقط - ومما يلفت إليه النظر هنا أن بعض الحفاظ المتأخرين يتساهلون في
عزو ما يروونه إلى الأصول الستة وغيرها على اختلاف عظيم في اللفظ والمعنى.
قال العراقي في شرح ألفيته: إن البيهقي في السنن والمعرفة، والبغوي في شرح
السنة وغيرهما يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى البخاري ومسلم
مع اختلاف الألفاظ والمعاني، فهم إنما يريدون أصل الحديث لا غزو ألفاظه ا ه‍.
ومن هذا القبيل قول النووي في حديث " الأئمة من قريش " أخرجه الشيخان،
مع أن لفظ الصحيح " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " وبين
اللفظين والمعنيين تفاوت عظيم كما ترى ا ه‍.
وقد وضع الحافظ الرشيد العطار كتابا على الأحاديث المقطوعة المخرجة في مسلم

(1) ص 58 و 59 من هامش شروط الأئمة الخمسة للحازمي.
314

سماه (الفوائد المجموعة في شأن ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة) وما يقوله
الناس: إن من روى له الشيخان فقد جاوز القنطرة فهو من التجوه ولا يقوى، فقد
روى مسلم في كتابه عن ليث بن أبي سليم وغيره من الضعفاء.. واعلم أن " أن وعن "
مقتضيان للانقطاع " أي من المدلس " عند أهل الحديث، ووقع في مسلم
والبخاري من هذا النوع شئ كثير، فيقولون على سبيل التجوه: ما كان من هذا
النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول على
الاتصال!! وروى مسلم في كتابه عن أبي الزبير عن جابر أحاديث كثيرة بالعنعنة
وقد قال الحفاظ: أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي يدلس في حديث
جابر، فما كان بصيغة العنعنة لا يقبل ذلك - وقد روى مسلم أيضا في كتابه عن
جابر وابن عمر في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وآله توجه إلى مكة يوم النحر فطاف
طواف الإفاضة ثم صلى الظهر بمكة ثم رجع إلى منى، وفي الرواية الأخرى، أنه
طاف طواف الإفاضة ثم رجع فصلى الظهر بمنى فيتجوهون (1) ويقولون: أعادها لبيان
الجواز! وغير ذلك من التأويلات!! قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما
كذب بلا شك.
وروى مسلم أيضا حديث الإسراء وفيه (ذلك قبل أن يوحى إليه) وقد تكلم
الحفاظ في هذه اللفظة وضعفوها - وروى مسلم أيضا حديث " خلق الله التربة يوم
السبت " (2)، وفي مسلم أيضا عن أبي سفيان أنه قال للنبي " ص " لما أسلم: يا رسول
الله أعطني ثلاثا، تزوج ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتبا، وأمرني أن
أقاتل الكفار، فأعطاه النبي ما سأل الحديث، وفي هذا من الوهم ما لا يخفى! فأم حبيبة
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي، وأبو سفيان أسلم عام
الفتح وبين الهجرة والفتح عدة سنين - وأما إمارة أبي سفيان فقد قال الحفاظ:
إنهم لا يعرفونها... ويذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة، أن النبي صلى الله عليه وآله
أمره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرف وما حملهم على هذا كله إلا بعض التعصب.
وقد قال الحفاظ أن مسلما لما وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة
الرازي، فأنكر عليه وتغيظ وقال: سميته الصحيح، فجعلت سلما لأهل البدع

(1) تجوه - تعظم - تكلف الجاه وليس به ذلك.
(2) ارجع في الكلام عن هذا الحديث إلى كتابنا " شيخ المضيرة ".
315

وغيرهم، فإذا روى لهم المخالف حديثا يقولون، هذا ليس في صحيح مسلم (1).
وقد أوردنا من قبل كلاما غير ذلك مما قاله أبو زرعة وغيره في مسلم وكتابه.
قال الحازمي في شروط الأئمة الخمسة تحت هذا العنوان ما يلي:
(باب في إبطال قول من زعم أن شرط البخاري إخراج الحديث عن
عدلين وهلم جرا، إلى أن يتصل الخبر بالنبي صلى الله عليه وسلم)
إن هذا حكم من لم يمعن الغوص في خبايا الصحيح، ولو استقرأ الكتاب
حق الاستقراء لوجد جملة من الكتاب ناقضة عليه دعواه.
وأما قول الحاكم: إن اختيار البخاري ومسلم إخراج الحديث عن عدلين إلى
النبي (2) صلى الله عليه وسلم فهذا غير صحيح طردا وعكسا، بل لو عكس القضية
وحكم كان أسلم له، وقد صرح بنحو ما قلت من هو أمكن منه في الحديث -
وهو أبو حاتم محمد بن حبان البستي فقد قال: وأما الأخبار فإنها كلها أخبار
الآحاد لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر من رواية عدلين روى
أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فلما استحال هذا وبطل ثبت أن الأخبار كلها أخبار الآحاد
ومن اشترط ذلك فقد عمد إلى ترك السنن كلها لعدم وجود السنن إلا من رواية
الآحاد. انتهى كلام ابن حبان.
ومن سبر مطالع الأخبار عرف أن ما ذكره ابن حبان أقرب إلى الصواب.
انتهى (3) كلام الحازمي.
هذه هي كتب الطبقة الأولى من كتب الحديث أما الطبقة الثانية فهاك الكلام عنها
بإيجاز وهي سنن أبي داود والترمذي والنسائي (4).

(1) ص 61 و 62 من هامش شروط الأئمة الخمسة للحازمي ويراجع صفحة 310 من هذا الكتاب.
(2) أول حديث في البخاري وهو حديث إنما الأعمال بالنيات وآخر حديث فيه أعني حديث
(كلمتان خفيفتان) فردان غريبان باعتبار المخرج كما نص على ذلك الحفاظ البرهان البقاعي وغيره
ص 31 من نفس المصدر.
(3) ص 31 نفس المصدر.
(4) ذكر رجال الحديث أن الكتب التي تأتي درجتها بعد البخاري ومسلم هي سنن أبي داود المتوفى
سنة 275 ه‍ وسنن النسائي - 303 - وجامع الترمذي - 279 - وقد جعلوا هذه الكتب الخمسة
هي الأصول، وزاد بعضهم عليها كتاب سنن ابن ماجة - 375 وقال بعضهم إن الأحق بأن يكون الكتاب
السادس هو سنن الدارمي المتوفى سنة 255 لأن ابن ماجة قد أخرج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب
وسرقة الأحاديث أما سنن الدارمي فإنه قليل الرجال الضعفاء ويندر أن يكون فيه أحاديث منكرة أو شاذة
وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى منه وهو حقا كما قالوا.
316

أبو داود
هو الإمام الفقيه أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني رحمه الله
ولد سنة 202 ه‍ قدم بغداد مرارا ومات بالبصرة سنة 275 ه‍. قال الخطابي: لم
يصنف في علم الحديث مثل سنن أبي داود وهو أحسن وضعا وأكثر فقها من
الصحيحين، حدث عنه الترمذي والنسائي، وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث:
إن الروايات لسنن أبي داود كثيرة، في بعضها ما ليس في الأخرى. ومن أشهر
رواة السنن عنه أبو سعيد بن الأعرابي، وأبو علي اللؤلؤي وأبو بكر بن داسه.
وكانت همة أبي داود جمع الأحاديث التي استدل بها فقهاء الأمصار وبنوا
عليها الأحكام، فصنف سننه وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل،
ومن قوله: ما ذكرت في كتابي حديثا أجمع الناس على تركه. وما كان به من
حديث فيه وهن شديد فقد بينته.
وقال أبو بكر بن داسه: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله
500 ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - جمعت فيه أربعة آلاف
وثمانمائة حديث - ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه.
وقد قالوا: إن سنن أبي داود تكفى المجتهد. وإنه يكفي منها لدينه أربعة
أحاديث " 1 " إنما الأعمال بالبيات " 2 " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
" 3 " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه " 4 " الحلال بين والحرام
بين وبينهما أمور مشتبهات. وقد. فضلها بعضهم على البخاري.
وقد تفقه أبو داود هو والبخاري على فقهاء العراق.
317

الترمذي
هو أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي الضرير رحمه الله، ولد سنة 209 ه‍
بترمذ وتوفى بها سنة 279 ه‍. قال ابن الأثير: في سنن الترمذي ما ليس في غيرها
من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن
والغريب.
جمع كتابه واختصر فيه طريق الحديث اختصارا لطيفا وبين أمر كل حديث
من أنه صحيح أو ضعيف أو منكر. أما كتابه الجامع الصحيح له ففيه أحاديث
كثيرة منكرة (1).
قال الحفاظ ابن رجب في " سرح علل الترمذي " اعلم أن الترمذي خرج في
كتابه الحديث الصحيح والحديث الحسن وهو ما نزل عن درجة الصحيح وكان
فيه بعض ضعف والحديث الغريب، والغرائب التي خرجها، فيها بعض المناكير
ولا سيما في كتاب الفضائل ولكنه يبين ذلك غالبا ولا يسكت عنه، ولا أعلم أنه
خرج عن متهم بالكذب متفق على اتهامه - حديثا بإسناد منفرد إلا أنه قد يخرج
حديثا مرويا من طرق أو مختلفا في إسناده وفي بعض طرقه متهم وعلى هذا الوجه
خرج حديث محمد بن سعيد المصلوب ومحمد بن السائب الكلبي، نعم قد يخرج
عن سيئ الحفظ وعمن غلب على حديثه الوهم، ويبين ذلك غالبا ولا يسكت عنه وقد
شاركه أبو داود في التخريج عن كثير من هذه الطبقة مع السكوت على حديثهم
كإسحاق ابن أبي فروة. والترمذي يخرج حديث الثقة الضابط ومن يهم قليلا ومن
يهم كثيرا ومن يغلب عليه الوهم يخرج حديثه قليلا ويبين ذلك ولا يسكت عنه.
الترمذي أول من قسم الحديث:
الترمذي هو أول من قسم الحديث صحيح، وحسن، وضعيف، وكان قبله
لا يقسم إلا إلى صحيح وغير صحيح.

(1) ص 18 من كتاب اختصار علوم الحديث.
318

النسائي
هو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ولد في نسا من نيسابور سنة
215 ه‍. قال الدارقطني خرج حاجا فامتحن بدمشق وأدرك الشهادة، فقال احملوني
إلى مكة فحمل وتوفى بها ودفن بين الصفا والمروة وكانت وفاته سنة 303 ه‍.
قال الذهبي: سئل بدمشق عن فضائل معاوية، فقال: ألا يرضى رأسا برأس
حتى يفضل! قال: فما زالوا يدفعونه حتى أخرج من المسجد. ثم حمل إلى مكة
فتوفى بها - كذا في هذه الرواية إلى (مكة) وصوابه (الرملة) - وأنه قال: دخلت دمشق
والمنحرف عن علي بها كثير، فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله.
وروايات النسائي تختلف اختلافا كثيرا، والذي عد من " الأصول الخمسة " -
هو " المجتبى " المعروف بسنن النسائي الصغير، رواية ابن السني، وأما رواية
ابن حياة وابن الأحمر وابن قاسم فيقال لها النسائي الكبير. وقال ابن كثير إن في
سنن النسائي رجالا مجهولين إما اعتبارا وإما حالا، وفيهم المجروح وفيه أحاديث
ضعيفة ومعللة ومنكرة (1).
وهناك كتب أخرى لا نطيل بذكرها ما داموا قد قالوا.
إن هذه الكتب الخمسة " البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي لم يفتها
من أحاديث رسول الله إلا اليسير ".
قال النووي في التقريب (2): " الصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير "
وقد أشار إلى ذلك السيوطي في ألفيته فقال:
النووي - لم يفت الخمسة من * ما صح إلا النزر فاقبله ودن
وقال ابن خلدون بعد أن تكلم عن الموطأ وهذه هي الكتب الخمسة (3)، هذه
هي المسانيد المشهورة في الملة وهي أمهات كتب الحديث في السنة، وإنها إن تعددت
ترجع إلى هذه في الأغلب (4).

(1) ص 18 اختصار علوم الحديث.
(2) ص 3.
(3) وأشهر الكتب المصنفة في القرن الرابع: المعاجم الثلاثة للطبراني سنة 360 وسنن الدارقطني
385 ه‍ وصحيح ابن حبان البستي - 354 - وصحيح ابن خزيمة - 311 - ومصنف الطحاوي - 321 إلخ.
(4) ص 418 من المقدمة.
319

وهاك كلمة للمسيو أميل درمنغهم قالها في كتاب حياة محمد:
إن من المنابع الأولى لسيرة محمد القرآن والسنة. فالقرآن هو أوثقها سندا ولكنه
غير شامل الشمول الكافي في هذا الموضوع، وأما الحديث فبرغم جميع ما تحراه
المحدثون لا سيما البخاري في جمع أقوال الرسول والإحاطة بأقل إشارة من إشاراته
وترجمة الرجال الذين روى عنهم الحديث مسلسلا ومعنعنا لا يزال فيه كثير مما هو
محل للتهمة ومما هو موضوع إلخ...
وعلق الأمير شكيب أرسلان على كلام درمنغهم بقوله:
".. هو غير معتقد بصحة كثير من الأحاديث حتى الوارد منها في الصحيحين،
وهذا مشرب من المشارب الفكرية لا نقدر أن نؤاخذه عليه لا سيما أن كثيرين من
المسلمين، ومن ذوي الحمية الإسلامية وممن لا ينقصهم شئ من الإيمان والايقان
يشاركون المسيو " درمنغهم " في هذا الرأي... ولا يرون من الواجب الديني الإيمان
بكل ما جاء في الصحيحين وغيرهما من الأحاديث لاحتمال، أن يكون تطرق إليها
التبديل والتغيير، أو دخلها الزيادة والنقصان، إذ من المعلوم أنهم كانوا يروون
الأحاديث بالمعنى. وإذا روى الحديث بالمعنى لم يخل الأمر من أن تتطرق إليه
زيادات كثيرة قد يتغير بها المعنى أو يبعد عن أصله، إلى أن قال:
والأدلة التي تستظهر بها هذه الفئة على وجوب عدم القطع بأكثر الأحاديث
ولزوم التوقف في كثير مما يسارع الناس فيه هي ما يلي:
أولا: عدم إمكان رواية الأحاديث إلا النادر الأندر بدون زيادة أو نقصان
مما يعرفه كل إنسان من نفسه، وذلك أنه إذا أراد أن يعيد كلاما سمعه ولو بعد سماعه
إياه بساعة من الزمن تعذر عليه سرده بحرفه.
ثانيا: كونهم يقولون إن ما لا يكاد يحصى من الأحاديث مروي بالمعنى،
فيتغير فيه كثير من اللفظ.
ثالثا: جواز السهو والنسيان مما لا يخلو منه إنسان ولا يمكن الجدال فيه أصلا.
رابعا: كون النبي صلى الله عليه وآله نفسه أشار إلى وضع الأحاديث عليه في أيامه وأنه
من أوثق الأحاديث قوله: لقد كثرت علي الكذابة، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده
من النار.
320

ثم قال: ولا يزال الشك يحوم حول أحاديث كثيرة واردة في الصحاح، وهذا
الشك ليس من جهة عدم الأمانة في النقل - ولكن من جهة عدم استطاعة البشر
إلا ما ندر من رواية كل ما يسمعونه بحرفه، أو من وصف كل حادثة كانوا فيها
كما وقعت بلا زيادة ولا نقصان، وقد يكون اثنان في حادثة من الحوادث ويرويها
كل واحد منهما بشكل يختلف قليلا أو كثرا عن الآخر (1).
المستخرجات
الاستخراج أن يعمد حافظ من الحفاظ إلى البخاري مثلا فيورد أحاديثه
حديثا حديثا بأسانيد لنفسه غير ملتزم فيها ثقة الرواة من غير طرق البخاري إلى
أن يلتقي معه في شيخه أو فيمن فوقه، لكن لا يسوغ للمخرج أن يعدل عن الطريق
التي يقرب فيها اجتماعه مع مصنف الأصل إلى الطريق البعيدة إلا لغرض مهم،
من علو أو زيادة مهمة أو نحو ذلك - وربما ترك المستخرج أحاديث لم يجد له بها
إسنادا مرضيا، وربما علقها عن بعض رواتها،
وربما ذكرها من طريق صاحب
الأصل. وقد اعتنى كثير من الحفاظ بالاستخراج لما فيه من الفوائد المهمة وقصروا
ذلك غالبا على صحيح البخاري وصحيح مسلم لكونهما العمدة في هذا العلم " عند أهله "
فممن استخرج على البخاري أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، وأبو بكر أحمد
ابن محمد البراقاني، وممن استخرج على صحيح مسلم أبو جعفر أحمد النيسابوري
وأبو بكر محمد بن محمد بن رجا النيسابوري وهو ممن يشارك مسلما في أكثر شيوخه
وغيرهما كثير...
ومن المستخرجين على كل منهما أبو نعيم الأصفهاني وجماعة معه، واستخرجوا
كذلك على أبي داود والترمذي.. وللمستخرجات فوائد كثيرة منها ما يقع فيها من
زيادات في الأحاديث التي يوردونها لم تكن في الأصل المستخرج عليه. وإنما وقعت
لهم تلك الزيادات لأنهم لم يلتزموا إيراد ألفاظ ما استخرجوا عليه بل التزموا إيراد
الألفاظ التي وقعت لهم الرواية بها عن شيوخهم، وكثيرا ما تكون مخالفة لها،
وقد تقع المخالفة في المعنى أيضا - ومنها أن يكون مصنف الصحيح روى عمن

(1) في ص 44 - 51 حاضر العالم الإسلامي ج 1.
321

اختلط، ولم يبين هل سماع ذلك الحديث في هذه الرواية قبل الاختلاط أو بعده!
فيبينه المستخرج إما تصريحا، أو بأن يرويه عنه من طريق من لم يسمع منه إلا قبل
الاختلاط، ومنها أن يروي في الصحيح عن مدلس بالعنعنة فيرويه المستخرج
بالتصريح بالسماع.. ومنها أن يكون في الحديث مخالف لقاعدة اللغة العربية
فيتكلف لتوجيهه ويتمحل لتخريجه، فيجئ في رواية المستخرج على القاعدة فيعرف
بأنه هو الصحيح، وأن الذي في الصحيح قد وقع فيه الوهم من الرواة (1)! ا ه‍
ببعض اختصار.
وقال ابن الصلاح: الكتب المخرجة على البخاري ومسلم لم يلتزم مصنفوها فيها
موافقتهما في ألفاظ الحديث بعينها من غير زيادة ونقصان، لكونهم رووا تلك
الأحاديث من غير جهة البخاري ومسلم طلبا لعلو الإسناد، فحصل فيها بعض
التفاوت في الألفاظ - وهكذا ما أخرجه المؤلفون في تصانيفهم المستقلة كالسنن
الكبرى للبيهقي وشرح السنة لأبي محمد البغوي وغيرهما مما قالوا فيه: أخرجه البخاري
أو مسلم، فلا يستفاد من ذلك أكثر من أن البخاري أو مسلما أخرج أصل ذلك
الحديث مع احتمال أن يكون بينهما تفاوت في اللفظ، وربما كان تفاوتا في بعض
المعنى (2) فقد وجدت في ذلك ما فيه بعض التفاوت من حيث المعنى (3). ولا نعرض
لما في هذه المستخرجات من تغيير في الألفاظ أو في المعاني أو في الزيادات، فارجع
إليها في كتبهم، وقد ميز الحميدي في الأكثر تلك الزيادات من ألفاظ الصحيح
فيقول بعد سياق الحديث (اقتصر منه البخاري على كذا) وزاد فيه البرقاني مثلا
كذا! أو نحو ذلك وعدم التمييز إنما وقع في الأقل فإنه قد يسوق الحديث ناقلا له
من مستخرج البرقافي أو غيره ثم يقول: اختصره البخاري فأخرج طرفا منه، ولا يبين
القدر الذي اقتصر عليه، فيلتبس الأمر على الواقف عليه، ولا يزول عنه اللبس
إلا بالرجوع إلى أصله فارتفع عنه الملام في الأكثر (4)، وقد مر بك أنهم أعلوا
أحاديث كثيرة مما رواه البخاري ومسلم، وكذلك نجد في شرح ابن حجر للبخاري

(1) ص 141 و 142 من توجيه النظر.
(2) إلى متى تتفاوت ألفاظ الحديث ومعانيها؟
(3) ص 9 و 10 من مقدمة ابن الصلاح.
(4) ص 144 من توجيه النظر.
322

والنووي لمسلم إستشكالات كثيرة وألف عليها مستخرجات متعددة، فإذا كان البخاري
ومسلم - وهما الصحيحان - كما يسمونهما - يجملان كل هذه العلل والانتقادات
وقيل فيهما كل هذا الكلام - دع ما وراء ذلك من تسرب بعض الإسرائيليات
وخطأ النقل بالمعنى وغير ذلك في روايتها إلى بعض كتب الأحاديث ولا نقول المسانيد!
لأنها في نفسها لا ثقة بها، ولا اعتماد عليها، لأن ما فيها كغثاء السيل. وقد
قال فيها الأئمة إنه لا يحتج بها، ولا يركن إلى ما فيها كما تراه قريبا.
اللهم إنا نسألك أن تهيئ لهذا الدين القويم، من يحفظ أصوله ويصون
قواعده، فلا يغشاها ما ليس منها، ولا يتسور عليها ذو دخلة سيئة لها.
مسند أحمد
قد يقول القارئ ما بالنا لم نجد لمسند أحمد ذكرا بين كتب الحديث التي
جرى الكلام عنها وهو أوسعها رواية، وأكثرها جمعا، حتى قيل إنه يحوي أربعين
ألف حديث!! ومؤلفه إمام كبير وله مذهب من المذاهب المتبعة تدين به طوائف
كثيرة من المسلمين؟ وإنا نقول إننا لم نعرض لهذا الكتاب ولا إلى غيره من كتب المسانيد
بالتفصيل - وهي كثيرة إلا لأن العلماء قد تكلموا فيها وقضوا بأنه لا يسوغ
الاحتجاج بها، ولا التعويل عليها، على أنا قد رأينا أن نتكلم عن مسند أحمد الذي
هو أشهرها لنبين للمسلمين حقيقته، ونكشف عن درجته، خاصة بين كتب
الحديث ليقاس عليها درجة سائر المسانيد. ويغنينا ذلك عن الكلام في غيره.
وسنوطئ لذلك بصدر من القول في بيان رتبة كتب المسانيد عامة بين كتب
الحديث، وحكم ما حملته من الروايات ثم نتحدث عن مسند أحمد.
323

كتب المسانيد دون الكتب الستة
كتب المسانيد هي ما أفرد فيه حديث كل صحابي على حدة، من غير نظر
للأبواب، وقد جرت عادة مصنفيها أن يجمعوا في مسند كل صحابي ما يقع لهم من
حديثه صحيحا كان أو سقيما، ولذلك لا يسوغ الاحتجاج بما يورد فيها مطلقا.
قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته: كتب المسانيد غير ملحقة بالكتب
الخمسة التي هي الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي، وما جرى
مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما يورد فيها مطلقا، كمسند أبي داود الطيالسي
ومسند عبيد الله بن موسى، ومسند أحمد بن حنبل... وأشباهها - فهذه جرت
عادة مؤلفيها أن يخرجوا في سند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن
يكون حديثا محتجا به، فلهذا تأخرت مرتبتها - وإن جلت لجلالة مؤلفيها - عن
مرتبة الكتب الخمسة، وما التحق بها من الكتب المصنفة على الأبواب (1).
وقال ولي الله الدهلوي إن كتب المسانيد قد " جمعت بين الصحيح والحسن
والضعيف والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب، والثابت والمقلوب،
ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة، ولم يفحص
عن صحتها وسقمها المحدثون كثير فحص، ومنه ما لم يخدمه لغوي لشرح غريب
ولا فقيه بتطبيقه بمذاهب السلف ولا محدث ببيان مشكله ولا مؤرخ بذكر أسماء
رجاله (2).
وقال النووي في تقريبه وهو يتكلم عن كتب الحديث ومراتبها:
وأما مسند أحمد بن حنبل وأبي داود الطيالسي وغيرهما من المسانيد فلا تلتحق
بالأصول الخمسة وما أشبهها، في الاحتجاج بها والركون إلى ما فيها ا ه‍ (3).

(1) ص 15 من مقدمة ابن الصلاح.
(2) ص 134 و 135 ج 1 حجة الله البالغة.
(3) ص 5.
324

الكلام في مسند أحمد:
هذا بعض ما قالوه في رتبة كتب المسانيد عامة بين كتب الحديث، مما يكاد
يكون إجماعا. أما مسند أحمد خاصة فإننا ننقل هنا بعض كلام أئمة الحديث فيه
مبتدئين بقول إمام الحنابلة - بعد أحمد - ابن تيمية، وليس علينا - بعد أن ننقل
ما ننقل أن يغضب أحد ممن يزعمون في عصرنا أنهم من رجال الحديث - لأن الحق
أحق أن يتبع، وما سوينا هذا الكتاب إلا لنرضي الحق وحده، فإذا ما غضب
غاضب، فليكن غضبه من الحق لا منا.
قال ابن تيمية رحمه الله من كلام له عن أبي نعيم:
إنه روى كثيرا من الأحاديث التي هي ضعيفة بل موضوعة باتفاق العلماء،
وهو وإن كان حافظا ثقة كثير الحديث واسع الرواية لكن روى - كما هي عادة
المحدثين أمثاله - يروون جميع ما في الباب لأجل المعرفة بذلك، وإن كان لا يحتج
من ذلك إلا ببعضه - والناس في مصنفاتهم، منهم من لا يروى عمن يعلم أنه
يكذب مثل مالك وشعبه، وأحمد بن حنبل - فإن هؤلاء لا يروون عن شخص
ليس بثقة عندهم ولا يروون حديثا يعلمون أنه عن كذاب من الذين يعرفون بتعمد
الكذب لكن قد يتفق فيما يروونه ما يكون صاحبه أخطأ فيه، وقد يروي الإمام أحمد
وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم لاتهام رواتها بسوء الحفظ ونحو ذلك
ليعتبر بها ويستشهد بها، فإنه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد له أنه محفوظ،
وقد يكون له ما يشهد بأنه خطأ، وقد يكون صاحبه كذابا في الباطن ليس مشهورا
بالكذب بل يروي كثيرا من الصدق فيروى حديثه، وكثير من المصنفين يعز عليه
تمييز ذلك على وجهه بل يعجز عن ذلك فيروي ما سمعه كما سمعه، والدرك على غيره
لا عليه (1) وقال رحمه الله، وليس كل ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجة
عنده، بل يروي ما رواه أهل العلم، وشرطه في المسند أن لا يروي عن (المعروفين

(1) ص 15 ج 4 منهاج السنة.
325

بالكذب عنده) وإن كان في ذلك ما هو ضعيف.. وأما كتب الفضائل فيروي ما سمعه من شيوخه سواء كان صحيحا أو ضعيفا، فإنه لم يقصد أن لا يروي في ذلك
إلا ما ثبت عنده ثم زاد ابن أحمد زيادات، وزاد أبو بكر القطيعي زيادات وفي
زيادات القطيعي أحاديث كثيرة موضوعة (1).
وقال: إن أحمد بن حنبل كان يروي ما رواه الناس وإن لم يثبت صحته.
وكل من عرف العلم - يعلم: أنه ليس كل حديث رواه أحمد في الفضائل ونحوه
يقول إنه صحيح - ولا كل حديث رواه في مسنده يقول إنه صحيح، بل أحاديث
مسنده هي التي رواها الناس عمن هو معروف عند الناس بالنقل ولم يظهر كذبه،
وقد يكون في بعضها علة تدل على أنه ضعيف، بل باطل (2).
وقال يرد على من استشهد بحديث رواه أحمد وهو كذب:.. وبتقدير أن
يكون أحمد روى الحديث، فمجرد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحا يجب
العمل به، بل الإمام أحمد روى أحاديث كثيرة لتعرف ويبين للناس ضعفها وهذا
في كلامه وأجوبته أظهر وأكبر، من أن يحتاج إلى بسط، لا سيما في مثل هذا
الأصل العظيم - وهذا الكتاب (مسند أحمد) زاد فيه ابنه عبد الله زيادات ثم إن
القطيعي الذي رواه عن ابنه عبد الله زاد عن شيوخه زيادات فيها أحاديث موضوعة
باتفاق أهل المعرفة (3).
وقال في كتابه " قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ":
تنازع الحافظ أبو العلاء الهمداني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي، هل في
المسند (4) حديث موضوع؟ فأنكر الحافظ أن يكون في المسند حديث موضوع
وأثبت ذلك أبو الفرج، وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة، ولا منافاة بين
القولين، فإن الموضوع في اصطلاح أبو الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل وإن

(1) ص 27 ج 4 منهاج السنة.
(2) ص 61 من المصدر نفسه.
(3) ص 106 ج 4 منهاج السنة.
(4) أي مسند أحمد.
326

كان المتحدث لم يتعمد الكذب بل غلط فيه، وأما الحافظ أبو السعود وأمثاله فإنما
يريدون بالموضوع المختلق الذي تعمد صاحبه الكذب (1) وهذا على قاعدة " الكذب
على من تعمد " أما رواية الكاذب غير المتعمد فلا تعد من الكذب!! وكم جلبت
هذه القاعدة على الدين من أضرار.
وقال في " القاعدة " كذلك أن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن
يروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت (2).
ومما قاله أحمد بن حنبل ووافقه عليه عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك
(إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا).
وفي كتاب اختصار علوم الحديث لابن كثير (3).
وأما قول الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني في مسند أحمد - إنه
صحيح، فقول ضعيف فإن فيه أحاديث ضعيفة بل موضوعة كأحاديث فضائل مرو
وعسقلان والبرث الأحمر عند حمص وغير ذلك، كما نبه عليه طائفة من الحفاظ
ثم إن الإمام أحمد قد فاته في كتابه أحاديث كثيرة جدا بل قد قيل إنه لم يقع له
جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبا من مائتين.
وقال العراقي: يرد على من قال إن أحمد بن حنبل التزم الصحيح في مسنده:
إنا لا نسلم ذلك، وأما وجود الضعيف في المسند فهو محقق بل فيه أحاديث موضوعة
وقد جمعتها في جزء، ولعبد الله ابنه فيه زيادات فيها الضعيف والموضوع وحديث
أنس: عسقلان أحد العروسين يبعث منها يوم القيامة سبعون ألفا لا حساب
عليهم - ومما فيه من المناكير حديث بريدة: " كونوا في بعث خراسان ثم انزلوا
مدينة مرو فإنه بناها ذو القرنين إلخ أما حديث برث فهو: يبعث الله منها سبعين
ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب فيما بين البرث الأحمر وبين كذا، وحديث عائشة
في قصة أم زرع في الصحيح ليس في مسند أحمد.
وقال العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه " الباعث

(1) ص 75 و 76.
(2) ص 77.
(3) ص 18 و 19.
327

على إنكار البدع والحوادث "، قال أبو الخطاب: أصحاب الإمام أحمد يحتجون
بالأحاديث التي رواها في مسنده وأكثرها لا يحل الاحتجاج بها وإنما أخرجها
الإمام أحمد حتى يعرف من أين الحديث مخرجه والمنفرد به أعدل أو مجروح!
ولا يحل لمسلم عالم أن يذكر إلا ما صح لئلا يشقى في الدارين، لما صح عن سيد
الثقلين أنه قال: " من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " (1).
وقال بعض الناظرين في مسند أحمد: الحق أن في المسند أحاديث كثيرة
ضعيفة وقد بلغ بعضها في الضعف إلى أن أدخلت في الموضوعات (2).
ولما أشكل قول الإمام أحمد: عملت هذا الكتاب إماما إذا اختلف الناس
في سنة عن رسول الله رجع إليه (3):
أجيب عن ذلك بأن الإمام أحمد شرع في جمع المسند فكتبه في أوراق
مفردة وفرقه في أجزاء منفردة على نحو ما تكون المسودة، ثم جاء حلول المنية قبل
حصول الأمنية فبادر بإسماعه لأولاده وأهل بيته ومات قبل تنقيحه وتهذيبه، فبقي
على حاله ثم إن ابنه عبد الله ألحق به ما يشاكله وضم إليه من مسموعاته ما يشابهه
ويماثله، فسمع القطيعي من كتبه من تلك النسخة. على ما يظفر به منها فوقع
الاختلاط من المسانيد والتكرار من هذا الوجه قديما، فبقي كثير من الأحاديث
في الأوراق والأجزاء لم يظفر بها، فما لم يوجد فيه من الأحاديث الصحاح من
هذا القبيل (4).
ولما قال الإمام أحمد: إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من
750 ألف حديث فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
فارجعوا إليه فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة، قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي،
هذا القول منه على غالب الأمر وإلا فلنا أحاديث قوية في الصحيحين والسنن
والأجزاء ما هي في المسند. وقدر الله تعالى أن الإمام قطع الرواية قبل تهذيب المسند

(1) ص 55.
(2) ص 155 توجيه النظر.
(3) في مقدمة ابن خلدون أن مسند أحمد فيه 50 ألف حديث ولما أورد هذا الخبر محمد إسعاف
لنشاشيبي في كتابه الإسلام الصحيح، أردفه بقوله " يا لطيف... " وحقا يا لطيف...
(4) ص 30 و 31 ج‍ 1 مقدمة مسند أحمد للشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.
328

وقبل وفاته بثلاث عشرة سنة فتجد في الكتاب أشياء مكررة ودخول مسند في مسند
وسند في سند وهو نادر (1)
وللحافظ ابن الجوزي كلمة في كتابه " صيد الخاطر " بشأن المسند ننقلها
بحروفها عن مقدمة الجزء الأول من المسند طبع دار المعارف.
فصل - كان قد سألني بعض أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس
بصحيح؟ فقلت. نعم: فعظم ذلك جماعة ينسبون إلى المذهب، فحملت أمرهم
على أنهم عوام! وأهملت فكر ذلك، وإذا بهم قد كتبوا فتاوى فكتب فيها جماعة
من أهل خراسان منهم أبو العلاء الهمداني، يعظمون هذا القول ويردونه ويقبحون
قول من قاله! فبقيت دهشا متعجبا. وقلت في نفسي: واعجبا صار المنتسبون إلى
العلم عامة أيضا! وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث ولم يبحثوا عن صحيحه وسقيمه،
وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد وليس كذلك، فإن
الإمام أحمد روى المشهور والجيد والردئ، ثم هو قد رد كثيرا مما روى ولم يجعله
مذهبا له. أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ مجهول! ومن نظر في كتاب
العلل الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في المسند، وقد
طعن فيها أحمد.
ونقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألة النبيذ قال:
إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر ولم يقصد الصحيح ولا السقيم، ويدل على ذلك
أن عبد الله قال: قلت لأبي، ما تقول في حديث ربعي بن خراش عن حذيفة؟
قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي داود؟ قلت: نعم، قال الأحاديث بخلافه،
قلت: فقد ذكرته في المسند! قال: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن
أقصد ما صح عندي لم أرو في هذا المسند إلا الشئ بعد الشئ اليسير، ولكنك
يا بني تعرف طريقتي في الحديث: لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن
في الباب شئ يدفعه.
قال القاضي: وقد أخبر عن نفسه كيف طريقه في المسند، فمن جعله أصلا
للصحة فقد خالفه وترك مقصده.

(1) ص 31 من نفس المصدر.
329

قلت (أي ابن الجوزي): قد غمني في هذا الزمان (1) أن العلماء لتقصيرهم
في العلم صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع. قالوا: قد روي (2)!
والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (3).
وقال ابن قتيبة في كتاب الاختلاف في اللفظ: قطع أحمد بن حنبل رواية
الحديث قبل وفاته بسنين كثيرة من سنة 228 ه‍ على ما يذكره أبو طالب المكي
وغيره فدخل في الروايات عنه ما دخل من الأقوال البعيدة عن العلم، إما من سوء
الضبط أو من سوء الفهم أو تعمد الكذب (4).
أحمد يروي عن صحابي مرتد!!
قال ابن حجر في فتح الباري: وقع في مسند أحمد حديث ربيعة بن أمية
ابن خلف الجمحي وهو ممن أسلم في الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع
وحدث عنه بعد موته ثم لحقه الخذلان فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصر بسبب
شئ أغضبه - وإخراج حديث مثل هذا مشكل ولعل من أخرجه لم يقف على قصة
ارتداده (5).
هذا ما رأينا نقله مما قاله الأئمة الكبار في مسند أحمد وهو كاف في التعريف به
وبيان قيمته في نفسه، لا فيما هو مشهور عنه، وإنه من المصادر التي لا يعول
عليها، أو يحتج بها، شأنه شأن سائر المسانيد.

(1) ولد ابن الجوزي سنة 510 ه‍ ومات سنة 597 ه‍.
(2) البلاء كله في كلمة (قد روي).
(3) ص 56 و 57 من مقدمة الجزء الأول من المسند طبع دار المعارف، التي أشرف عليها الشيخ
أحمد شاكر رحمه الله.
(4) ص 53.
(5) ص 3 ج‍ 7 فتح الباري.
330

الجرح والتعديل
بعد أن فرغنا من الكلام عن كتب الحديث نأخذ في الكلام عن " الجرح
والتعديل " فنقول:
لما كان الوضع قد اقتحم على الرواية وشيبت الأحاديث الصحيحة بغيرها واستساغ
أهل الهوى ومن لا دين لهم، وضع الأحاديث على رسول الله إرضاء لأهوائهم
ولاختلاف أحوال الرواة وما يوجد بينهم ممن لم يتصف بصفتي الضبط والعدالة،
وهما الشرطان الواجبان لصحة الرواية، نهض علماء أجلاء لنقد رواة الحديث لكي
يعرف الناس من الوقوف على تاريخهم، درجة ما يصدر عن رواياتهم، وقد سموا
هذا النقد " بالجرح والتعديل ".
روى مسلم عن محمد بن سيرين قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون
دينكم. وقال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا
رجالكم.
وقال النووي: إن جرح الرواة جائز بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية
إليه. لصيانة الشريعة المكرمة. وليس هو من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة لله
تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
والنقد قد أمر به القرآن ودعا إليه، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا " الآية، وقال: " وأشهدوا ذوي عدل منكم ". وقال: " ممن
ترضون من الشهداء " وأثنى فقال: " نعم العبد إنه أواب " وذم فقال: " هماز مشاء
بنميم، مناع للخير متعد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم ".
ونقد الرجال واقع من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سرد ابن عدي
- المتوفى سنة 365 في مقدمة كتاب الكامل - جماعة إلى زمنه، فمن الصحابة
ابن عباس (67) وعبادة بن الصامت (34) ومن التابعين الشعبي توفي بعد المائة
وابن سيرين (110) وسعيد بن المسيب (190).
ويقولون إن شعبة الذي قال في الشعبي إنه أمير المؤمنين في الحديث - هو أول
331

من تكلم في الرجال ولد سنة 82 وتوفي 160.
وذكر كثيرا من النقاد في القرن الثاني - ومما قاله في هذا القرن: إنه كان
في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء، وضعف أكثرهم نشأ غالبا من
قبل تحملهم وضبطهم للحديث - فكانوا يرسلون كثيرا ويرفعون الموقوف - وكانت
لهم أغلاط وكان أشهر النقاد في آخر القرن الثاني الحافظان الحجتان يحيى بن سعيد
القطان (198) وعبد الرحمن بن مهدي (198) وكان للناس وثوق بهما فصار
من وثقاه مقبولا، ومن جرحاه مجروحا. ومن اختلف فيه رجع الناس فيه إلى ما ترجح
عندهم، وأول من جمع كلامه في الجرح والتعديل يحيى بن سعيد القطان،
ثم تكلم من بعده تلامذته مثل يحيى بن معين (233) وقد اختلفت آراؤه وعباراته في
بعض الرجال، ومن تلامذة يحيى بن معين أحمد بن حنبل (241) وعلي بن المديني
(224) وغيرهم.
وممن تكلم كذلك في هذا الأمر محمد بن سعد (230) كاتب الواقدي في
طبقاته وكلامه جيد مقبول.
ولا نستوعب أسماء الذين تكلموا في الجرح والتعديل، لأن ذلك ليس من
غرضنا.
أسباب الجرح والتعديل
أسباب الجرح:
وقال الحافظ ابن حجر. أسباب الجرح مختلفة ومدارها على خمسة أشياء:
البدعة، أو المخالفة، أو الغلط، أو جهالة الحال، أو دعوى الانقطاع في
السند، بأن يدعى في الراوي أنه كان يدلس أو يرسل (1).

(1) ص 111 ج‍ 2 هدى الساري.
332

اختلافهم في الجرح والتعديل:
إن علماء الجرح قد اختلفوا في الجرح والتعديل باختلاف مذاهبهم وأحوالهم.
قال الحازمي في " شروط الأئمة الخمسة ":
إن أئمة النقل على اختلاف مذاهبهم وتباين أحوالهم في تعاطي اصطلاحاتهم
يختلفون في أكثرها، فرب راو هو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي ومجروح
عند يحيى بن سعيد القطان وبالعكس - وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل،
ومن عندهما يتلقى معظم شأن الحديث (1).
وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي: قد تكلم بعض أهل الحديث في قوم من
أجلة أهل العلم وضعفوهم من قبل حفظهم، ووثقهم آخرون من الأئمة لجلالتهم
وصدقهم، وإن كانوا قد وهموا في بعض ما رووا، وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان
في محمد بن عمرو، ثم روى عنه، وكان ابن أبي ليلى يروي الشئ مرة هكذا،
ومرة هكذا بغير إسناد، وإنما جاء هذا من قبل حفظه، لأن أكثر من مضى
من أهل العلم كانوا لا يكتبون، ومن كتب منهم إنما كان يكتب لهم بعد السماع (2).
وإليك أمثلة من اختلافهم (3) نوردها على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل
الحصر، لأن ذلك يحتاج إلى مؤلف برأسه:
1 - أحمد بن صالح المصري، أبو جعفر بن الطبري - أحد أئمة الحديث
الحفاظ المتقنين الجامعين بين الفقه والحديث أكثر عنه البخاري وأبو داود ووثقه أحمد
ابن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، ولكن كان النسائي سيئ الرأي
فيه ذكره مرة فقال: ليس بثقة ولا مأمون!
2 - أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي - وثقه أبو حاتم والنسائي وقال فيه
أبو داود، لا أحدث عنه لأنه كان يعلم المجان المجون.

(1) ص 58 و 59.
(2) ص 75 و 76 توجيه النظر.
(3) راجع صفحة 286 من هذا الكتاب. وص 101 وما بعدها من توجيه النظر.
333

3 - خالد بن مخلد القطواني الكوفي - من كبار شيوخ البخاري روى عنه
وروى عن واحد عنه قال العجلي ثقة فيه تشيع وقال أحمد بن حنبل له مناكير.
ومن إفراد البخاري له حديث من عادى لي وليا (1). إلخ وقد عدوه من غرائب
البخاري وطعن الأئمة في بعض رجاله - وقد خرجه أيضا من يروون الضعاف
والمناكير كابن أبي الدنيا والطبراني بأسانيد في كل منهما مقال.
4 - عكرمة مولى ابن عباس احتج به البخاري وأصحاب السنن وتركه مسلم
كما كذب عكرمة على ابن عباس. وكذلك قال ابن سيرين لمولاه برد: لا تكذب
علي كما كذب عكرمة على ابن عباس.
5 - الواقدي كذبه الشافعي ووثقه آخرون - وفي تهذيب التهذيب: أنه
لا خلاف في كونه من أعلم علماء الملة! وتكلم الثوري في أبي حنيفة، وابن معين
في الشافعي وتكلم الذهلي في البخاري.
وقال صحاب العلم الشامخ: قد اختلفت آراء الناس واجتهاداتهم في التعديل
والترجيح، فترى الرجل الواحد تختلف فيه الأقوال حتى يوصف بأنه أمير المؤمنين
وبأنه أكذب الناس، أو قريب من هاتين العبارتين.
وإليك كلمة جامعة في هذا الأمر للعلامة السيد رشيد رضا رحمه الله.
إن توثيق كل من وثقه المتقدمون وإن ظهر خلاف ذلك بالدليل يفتح باب
الطعن في أنفسنا بنبذ الدليل، والأخذ في مقدماته بالتقليد، ومخالفة هداية القرآن
المجيد (2).
ولم يأخذ هذا العلامة بقاعدتهم في تعديل الرجال على إطلاقها فقال:
إن كل من قال جمهور رجال الجرح والتعديل المتقدمون بعدالتهم فهو عدل
وإن ظهر لمن بعدهم فيه من أسباب الجرح ما لم يظهر لهم. إن المستقلين في الرأي

(1) لما أورد الذهبي في ترجمة خالد بن مخلد القطواني من الميزان هذا الحديث قال: إن هذا
حديث غريب جدا ولولا هيبة الجامع الصحيح لعددته من منكرات ابن مخلد ا ه‍. وانظر نص الحديث في
كتابنا شيخ المضيرة. وهو مما رواه أبو هريرة.
(2) ص 615 ج‍ 27 مجلة المنار.
334

لا يقبلون هذا القول، ولهذا الكلام بقية ستراها في خاتمة الكتاب.
وهذه الأقوال وغيرها مما قرره هذا العلامة لم نر مثلها لأحد غيره من علماء
أهل السنة من المسلمين، وكذلك لم نجد أحدا قد تعمق في دراسة الحديث ونفذ إلى
لبابه وفقهه في هذا العصر بل في عصور كثيرة مثله - ولا غرو فهو أكبر
تلاميذ الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله، وصاحبه الذي نشر علمه وفسر مذهبه
في الدين وكمله وحفظه ودونه وكان منه كما كان أصحاب أبي حنيفة والشافعي من
صاحبهم كما بينا ذلك من قبل (1).
قال الوزير اليماني في الروض الباسم:
تجد كثيرا من أئمة الجرح والتعديل يترددون في الراوي فيوثقونه مرة، ويضعفونه
أخرى، وذلك لأن دخول وهمه في حيز الكثرة - مما لا يوزن بميزان معلوم - وإنما
يظن ويرجع فيه إلى التحري والاجتهاد فصار النظر فيه كنظر الفقهاء في الحوادث
الظنية فلذا يكون لابن معين في الراوي قولان! التوثيق والتضعيف ونحو ذلك..
والاحتراز عن الوهم غير ممكن، والعصمة مرتفعة عن العدول. بل العصمة
لا تمنع من الوهم إلا في التبليغ (2) فقد وهم رسول الله أنه صلى بعض الفرائض على
الكمال فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ والحديث في
الصحيح. وقال " ص " رحم الله فلانا لقد ذكرني آية كنت أنسيتها، رواه مسلم.
وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت في حق ابن عمر: ما كذب ولكنه
وهم (3).
وإليك مثلا في ذلك: أبو جعفر الرازي عيسى بن ماهان - وقيل: عبد الله بن
ماهان، قال الذهبي: صالح الحديث ثم روى فيه الاختلاف، قال الحافظ
عبد العظيم: قد اختلف قول ابن المديني وابن معين، وأحمد بن حنبل، فقال
المديني مرة: ثقة. وقال مرة: كان مخلطا! وقال أحمد مرة: ليس بقوي، وقال

(1) ص 34.
(2) أي تبليغ النبي عن الله.
(3) ص 80 و 81 ج 1 من الروض الباسم.
335

مرة صالح الحديث، وقال ابن معين مرة: ثقة، يكتب حديثه إلا أنه يخطئ،
وقال أبو زرعة الرازي يتهم كثيرا، وقال الفلاس: سيئ الحفظ..
اضطربوا في توثيقه لأن معرفة حد الوهم الذي يجب معه ترك الصدوق، دقيقة
اجتهادية تكون فيها للحافظ قولان كما يكون للفقيه قولان في دقيق مسائل الفقه (1).
وأكثر الإمام الشافعي من الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي ووثقه وخالفه
الأكثرون في ذلك، وقال ابن عبد البر في تمهيده: أجمعوا على تجريح
ابن يحيى إلا الشافعي (2).
وإليك مثلا آخر: محمد بن إسحاق أكبر مؤرخ في حوادث الإسلام الأولى
قال قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش محمد بن إسحاق، وقال فيه النسائي،
ليس بالقوي، وقال سفيان: ما سمعت أحدا يتهم محمد بن إسحاق، وقال
الدارقطني: لا يحتج به وبأبيه، وقال مالك: أشهد أنه كذاب (3).
الجرح مقدم على التعديل:
قال ابن الصلاح:
إذا اجمتع في شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم، لأن المعدل يخبر على
ما ظهر من حاله والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل، فإن كان عدد المعدلين
أكثر فقد قيل التعديل أولى، والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى (4).
وقال الفيلسوف الحكيم ابن خلدون وهو يتكلم عن السبب الذي حمل بعض
الرواة على تقليل الرواية.
وإنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل المطاعن التي تعترضه فيها، والعلل التي

(1) ص 135 و 136 من نفس المصدر.
(2) ص 163 من المصدر السابق.
(3) ص 366 فجر الإسلام.
(4) ص 42 من مقدمة الصلاح.
336

تعرض في طرقها، لا سيما أو الجرح مقدم عند الأكثر، فيؤديه الاجتهاد إلى ترك
الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد، ويكثر ذلك فتقل
روايته لضعف في الطرق (1).
كلمة عامة
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن علماء الجرح والتعديل قد بذلوا جهدا كبيرا
في تمحيص ما روي من أحاديث رسول الله مما يستحقون عليه الثناء الطيب والتقدير الحق.
بيد أنهم على فضلهم وتدقيقهم، لم يبلغوا الغاية من عملهم، إذ لا تزال كتب
الحديث تحمل الكثير من الأحاديث المشكلة، أو التي يبدو عليها الوضع.
ولم يكن ذلك عن تقصير منهم - رحمهم الله - لأنهم قد بذلوا كل طاقتهم في
عملهم، وإنما كان ذلك لأمر فوق قدرتهم البشرية، ذلك بأن حكمهم على
الرجال إنما كان (لظاهر أحوالهم) وما وصل إلى علمهم من أخبارهم، أما بواطنهم،
ودخائل نفوسهم ومطويات ضمائرهم، فهذا أمر من وراء إدراكهم لا يطلع عليه
إلا علام الغيوب، ورب رجل حسن السمت طيب المظهر، إذا كشف عن
دخيلته تبين لك سوء مخبره، وهذا أمر لا يمتري فيه أحد، وقد تكلم فيه العلماء
المحققون، قال مجتهد اليمن الوزير اليماني في الروض الباسم (2):
إن الإجماع منعقد على الاعتبار بالظاهر دون الباطن، ومن نجم نفاقه،
وظهر كفره يترك حديثه ومن (ظهر إسلامه) وأمانته وصدقه قبل وإن كان في
الباطن خلاف ما ظهر منه، فقد عملنا بما وجب علينا وبذلنا في طلب الحق جهدنا،
وقد كان رسول الله يعمل بالظاهر ويتبرأ من علم الباطن، وإلى ذلك الإشارة
في هذه الآية بقوله: " لا تعلمهم نحن نعلمهم " أي أنه صلى الله عليه وآله لم يمكن يعلم
المنافقين وذلك في الآية " 101 " من سورة التوبة ونصها: " وممن حولكم من الأعراب
منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم، نحن نعلمهم، سنعذبهم
مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ".

(1) ص 444 من المقدمة طبع بيروت.
(2) ص 151 ج 1. أضواء على السنة المحمدية
337

وقال الدكتور طه حسين في كلمة قيمة (1) قرظ فيها كتابنا " الأضواء "
وهو يذكر ما بذله رجال الجرح والتعديل:
وقد فطن المحدثون القدماء لهذا كله 8 واجتهدوا ما استطاعوا في التماس الصحيح
من الحديث وتنقيته من كذب الكذابين وتكلف المتكلفين. وكانت طريقتهم في
هذا الاجتهاد إنما هي الدرس لحياة الرجال الذين نقلوا الحديث جيلا بعد جيل
حتى تم تدوينه فكانوا يتتبعون كل واحد من هؤلاء الرجال ويتحققون من أنه
كان نقي السيرة صادق الإيمان بالله ورسوله. شديد الحرص على الصدق في حديثه
كله وفي حديثه عن النبي خاصة، وهو جهد محمود خصب بذله المتقنون من علماء
الحديث وأخلصوا فيه ما وجدوا إلى الإخلاص سبيلا. ولكن هذا الجهد على شدته
وخصبه لم يكن كافيا، فمن أعسر الأشياء وأشدها تعقيدا أن تتبع حياة الناس
والبحث والفحص والتنقيب عن دقائقها، فمن الممكن أن تبحث وتنقب دون أن
تصل إلى حقائق الناس ودقائق أسرارها، وما تضمر قلوبهم في أعماقها، وما يمعنون
في الاستخفاء به من ألوان الضعف في نفوسهم، وفي سيرتهم أيضا.
ولم يكن بد إلى أن يضاف إلى هذا الجهد جهد آخر، وهو درس النص نفسه
فقد يكون الرجل صادقا مأمونا في ظاهر أمره بحيث يقبل القضاة شهادته إذا شهد
عندهم. ولكن الله وحده هو الذي اختص بعلم السرائر وما تخفيه القلوب،
أو تستره الضمائر، وقد يكون الرجال الذين روى عنهم حديثه صادقين مأمونين مثله
يقبل القضاة شهادتهم إن شهدوا عندهم. ولكن سرائرهم مدخولة تخفى دخائلها على
الناس. فلا بد إذن من أن نتعمق نص الحديث الذي يرويه عن أمثاله من العدول
لنرى مقدار موافقته للقرآن الذي لا يتطرق إليك الشك ولا يبلغه الريب من أي جهة
من جهاته، لأنه لم يصل إلينا من طريق الرواة أفرادا أو جماعات، وإنما تناقلته
أجيال الأمة الإسلامية مجمعة على نقله في صورته التي نعرفها.
وهذه الأجيال لم تنقله بالذاكرة وإنما تناقلته مكتوبا، كتب في أيام النبي
نفسه وجمع في خلافة أبي بكر، وسجل في المصاحف وأرسل إلى الأقاليم في خلافة

(1) نشرت هذه الكلمة بجريدة الجمهورية المصرية الصادرة في 25 نوفبر 1958 وقد افتتحنا
بها هذه الطبعة من كتابنا.
338

عثمان، فاجتمعت فيه الرواية المكتوبة، والرواية المحفوظة في الذاكرة، وتطابقت
كلتا الروايتين دائما، فلا معنى للشك في نص من نصوص القرآن لأنها وصلت إلينا
عن طريق لا يقبل فيها الشك.
وإنا إذ نسوق ما سقناه من عرض الحقائق على وجهها، وإظهار وقائع التاريخ
بعد تمحيصها، لا نقصد وأيم الله أن ننال أحدا بسوء من عندنا، وإنما لنبين في غير
حرج أمر الصحابة على حقيقته، وأنهم أناس من الناس فيهم البر والآثم، والصادق
وغير الصادق، وأنهم كانوا يعيشون في الحياة ويستمتعون بها كما يعيش الناس
ويستمتعون، وهذا كله لا يضر الإسلام في شئ وإن ضياءه ليشرق من كتابه العظيم
على الناس إلى يوم الدين.
عدالة الصحابة
إن أمر عدالة جميع الصحابة أمر خطير، كثر الكلام فيه، وطال المراء حوله في
كل العصور، فهو من أجل ذلك يستحق الاهتمام، ويحتاج إلى العناية حتى
يعتدل الرأي فيه، ويزول الاختلاف عليه.
لقد اختلف المسلمون في هذه العدالة اختلافا كثيرا، على حين أنها في نفسها
قضية مسلمة فصل القرآن والرسول فيها، وهي بذلك لا تدعو إلى الخلاف،
ولا تفتقر إلى جدال، وهل يصح في قضية فصل القرآن والرسول فيها أن يدور حولها
خلاف أو جدال؟؟ لقد غلا فيها قوم حتى قضوا بعدالتهم جميعا حتى من انغمس
منهم في الفتنة أو نزل الكتاب بنفاقه، بحيث لا يجوز أن يوجه إلى واحد منهم نقد،
أو تقابل روايته بشك ومن فعل ذلك فقد فسق (1).
وهذا لعمرك إسراف في الثقة، وإفراط في التقدير، ثم هو غير ذلك يتعارض
مع ما جاء في الكتاب والسنة في الأدلة القوية، ولا يتفق والطبائع البشرية.
إن القول بعدالة جميع الصحابة، وتقديس كتب الحديث يرجع إليهما كل
ما أصاب الإسلام من طعنات أعدائه، وضيق صدور ذوي الفكر من أوليائه!

(1) ارجع إلى ردنا على العجاج وغيره بكتابنا " شيخ المضيرة ".
339

ذلك بأن عدالة جميع الصحابة تستلزم ولا ريب الثقة بما يروون، وما رووه
قد حملته كتب الحديث بما فيه من غثاء - وهذا الغثاء هو مبعث الضرر وأصل
الداء.
ولو نحن ذهبنا نحصي الأضرار التي أصابت المسلمين من وراء ذلك لطال بنا
سبيل القول - فنكتفي ببيان ضررين فحسب:
أولهما: ذلك الخلاف الشديد الذي ضرب في مفاصل الأئمة وأعرق بين
المسلمين من لدن عهد عثمان إلى اليوم وما بعد اليوم! فمزق صفوف المسلمين وجعلهم
فرقا متباينة، ونحلا متشاكسة، ومذاهب مختلفة، إن في العقائد، أو في
العبادات، أو في المعاملات، وعلى كثرة الأساة الذين عملوا على جمع شمل
المسلمين في مئات السنين - لكي يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، فإن سوس
الخلاف لا يزال، ولن يزال ينخر في عظم الأمة الإسلامية، وهذا أمر مشهور
غير منكور.
وثانيهما: ما يوجه كل يوم إلى الإسلام من طعنات دامية بسبب ما يوجد في
كتب الحديث من روايات تحمل الخرافات والجهالات، وغير ذلك مما لا يقبله عقل
صريح، ولا يؤيده علم صحيح، حتى أطلقوا عليه اسم " دين الخرافات والأوهام " وأنه
لا يصلح لعصور العلم والعمران - ولا خلاف بأن الذين رووا هذه الأحاديث
المشكلة إنما هم الصحابة، ثم تلقاها الرواة عنهم ودونها رجال الحديث في كتبهم.
فإذا نحن رفعنا صوتنا وقلنا: إن البلاء الذي يصيب الإسلام إنما يرجع إلى
أمرين: عدالة الصحابة المطلقة، والثقة العمياء بكتب الحديث التي تجمع بين الغث
والسمين، فإننا لا نبعد ولا نتجاوز الحقيقة.
ولو نحن سلكنا السبيل القويم، والتزمنا الحجة الواضحة، واتبعنا منطق العقل
واتخذنا المنهج الذي اتخذه علماء العصر في دراستهم للأمور غير متأثرين بأي أثر
تقليدي أو عاطفي سواء في دراستنا لشخصيات الصحابة أو فيما رووه، لبدا وجه الحق
واضحا، ولظهر نور الإسلام ساطعا، ولاعتصم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بحبل
الله متفقين غير متفرقين.
340

ولأن عدالة الصحابة كما قلنا أمرها خطير فقد رأينا أن نعقد هذا الفصل لكي
نضع هذا الأمر في نصابه، ولنبين بالأدلة القوية التي لا يدنو الشك منها - من
كتاب الله وأحاديث رسوله، وجه الصواب الذي يمنع من الزلل ويعصم من الخطل.
من هو الصحابي؟
يجب علينا قبل أن نتكلم عن عدالة الصحابة: أن نبين من هو الصحابي
كما عرفوه. وأوفى تعريف له عند الجمهور ما ذكره البخاري.
قال البخاري في كتابه (1): من صحب النبي صلى الله عليه وآله أو رآه من المسلمين فهو
صحابي (2)!
وقد شرح ابن حجر العسقلاني تعريف البخاري بقوله: يعني أن اسم صحبة
النبي صلى الله عليه وآله مستحق لمن صحبة أقل ما يطلق على اسم صحبة لغة وإن كان العرف
يخص ذلك ببعض الملازمة، ويطلق أيضا على من رآه رؤية ولو على بعد.
وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح، إلا أنه هل يشترط في الرائي بحيث
يميز ما رآه أو يكتفى بمجرد حصول الرؤية - محل نظر - وعمل من صنف في
الصحابة يدل على الثاني، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق، وإنما ولد
قبل وفاة النبي بثلاثة أشهر وأيام كما ثبت في الصحيح أن أمه أسماء بنت عميس
ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة وذلك في أواخر ذي القعدة سنة 20 ه‍.
وقال علي بن المديني: من صحب النبي أو رآه ساعة من نهار فهو من أصحاب
النبي. وكأنهم أيدوا تعريفهم هذا بما رووه عن النبي من أنه قال: يغزو قوم فيقال:
هل فيكم من رأى رسول الله فيفتح لهم.

(1) ص 2 ج‍ 3 فتح الباري.
(2) قال العلامة المقبلي يرد على الذين أثبتوا الصحبة لكل من رأى النبي: إنهم يصطلحون على
شئ في متأخر الأزمان، ثم يفسرون الكتاب والسنة باصطلاحهم المجرد، والصحبة ليس فيها لسان شرعي
إنما هي بحسب اللغة، وكذلك سائر الألفاظ التي وردت فيها فضائل الصحابة، لكن المحدثين اصطلحوا وقضوا
بغير دليل على أن الصحبة لكل من رآه النبي - أو رأى هو النبي - ولو طفلا! بشرط أن يكون محكوما
بإسلامه، ويشترط أن يموت على ذلك ولا يرتد..
341

وقال (1) في مقدمة كتاب الإصابة في تمييز الصحابة يعرف ما هو الصحابي:
" أصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي - من لقى النبي صلى الله عليه وآله مؤمنا به ومات
على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه ومن طالت مجالسته له، أو قصرت، ومن روى
عنه، أو لم يرو، ومن غزا معه، أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم
يره لعارض كالعمى (2)
أوجب العلماء - كما علمت في الفصل السابق - البحث عن رواة الحديث،
فجرحوا من جرحوا، وعدلوا من عدلوا - وهم على حق في ذلك، إذ لا يصح أن
يؤخذ قول أي إنسان مهما كان بغير تمحيص وتحقيق ونقد، وعلى أنهم قد جعلوا
جرح الرواة وتعديلهم واجبا تطبيقه على كل راو مهما كان قدره - فإنهم قد وقفوا
دون عتبة الصحابة فلم يتجاوزوها، إذ اعتبروهم جميعا عدولا لا يجوز عليهم نقد،
ولا يتجه إليهم تجريح، ومن قولهم في ذلك: " إن بساطهم قد طوي "، ومن العجيب
أنهم يقفون هذا الموقف، على حين أن الصحابة أنفسهم قد انتقد بعضهم بعضا
وكفر بعضهم بعضا كما بينا لك - وسنبين - في هذا الكتاب.
قال النووي في التقريب: الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتنة وغيرهم.
وقال الذهبي في رسالته التي ألفها - في الرواة الثقات (3):
ولو فتحنا هذا الباب (الجرح والتعديل) على نفوسنا لدخل فيه عدة من
الصحابة والتابعين والأئمة، فبعض الصحابة كفر بعضهم بعضا - بتأويل ما!!
والله يرضى عن الكل ويغفر لهم، فما هم بمعصومين، وما اختلافهم ومحاربتهم بالتي
تلينهم عندنا.
ثم قال: وأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي، وإن جرى ما جرى،
وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات!! فما يكاد يسلم أحد من الغلط - ولكنه غلط
نادر لا يضر أبدا! إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوا - العمل وبه ندين الله تعالى.

(1) أي ابن حجر
(2) ص 4
(3) من ص 3 - 21.
342

وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمدا، ولكن لهم غلط وأوهام، فمن ندر
غلطه في حديث ما احتمل، ومن تعدد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضا
ونقل حديثه وعمل به، على تردد بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج بمن هذا نعته وكثر
تفرده. ومن فحش خطؤه لم يحتج بحديثه. وأما أصحاب التابعين - كمالك والأوزاعي
وهذا الضرب فعلى المراتب المذكورة. ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب أو من كثر
غلطه فترك حديثه، هذا مالك: هو النجم الهادي بين الأمة وما سلم من الكلام
فيه! ولو قال قائل عند الاحتجاج بمالك - فقد تكلم فيه لعذر وأهين! وكذا الأوزاعي
ثقة حجة وربما انفرد ووهم وحديثه عن الزهري فيه شئ! وقد قال فيه أحمد بن
حنبل رأي ضعيف. وحديث ضعيف - وكذا تكلم من لم يفهم في الزهري لكونه
خضب بالسواد، ولبس لبس الجند، وخدم هشام بن عبد الملك - وهذا باب
واسع. ومحمد بن إدريس الشافعي من سارت الركائب بفضله ومعارفه وثقته وأمانته
فهو حافظ متثبت نادر الغلط، ولكن قال أبو عمر بن عبد البر، روينا عن محمد
ابن وضاح قال: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: ليس بثقة.
وكلام ابن معين (1) في الشافعي إنما كان من فلتات اللسان بالهوى والعصبية (2)،
فإن ابن معين كان من الحنفية وإن كان محدثا.
وجعفر بن محمد الصادق، وثقه أبو حاتم والنسائي إلا أن البخاري لم يحتج
به (3) وسعيد بن أبي عروبة: ثقة إمام ساء حفظا بأخرة. وحديثه في الكتب إلا أنه
قدري - قاله أحمد بن حنبل.
والوليد بن مسلم: عالم أهل دمشق ثقة حافظ لكنه يدلس عن الضعفاء،
وحديثه في الكتب كلها. انتهى ما نقلناه من هذه الرسالة باختصار.
وقال الآمدي في الأحكام (4):
اتفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة، وقال قوم: إن حكمهم في العدالة

(1) يحيى بن معين من كبار أئمة الجرح والتعديل الذين جعلوا قولهم في الرجال حجة قاطعة.
(2) انظر كيف تفعل العصبية. وراجع صفحة 334 من هذا الكتاب.
(3) وإذا كان البخاري لا يحتج بمثل هذا العلم الشامخ فبمن يحتج؟ وانظر ما فعل البخاري
بأئمة أهل البيت الذين تجافى الرواية عنهم فيما بيناه لك من قبل.
(4) ص 128 ج 2.
343

حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم في الرواية ومنهم من قال: إنهم لم
يزالوا عدولا إلى حين ما وقع الاختلاف والفتن فيما بينهم، وبعد ذلك فلا بد من
البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم، إذا لم يكن ظاهر العدالة. ومنهم
من قال: إن كل من قاتل عليا عالما منهم فهو فاسق مردود الرواية والشهادة على
الإمام، الحق، ومنهم من قال: برد رواية الكل وشهادتهم لأن أحد الفريقين فاسق
وهو غير معلوم ولا معين ا ه‍ (1).
وقال الغزالي في المستصفى: وزعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث..
وقال قوم: حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغيرت
الحال وسفكت الدماء، فلا بد من البحث
ومما يتكئ عليه من يعتقدون عدالة جمع الصحابة قولهم إن رسول الله قال:
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وفي رواية فأيهم أخذتم بقوله...
ولكن هذا الحديث باطل لا أصل له.
بحث قيم في الاختلاف
عقد الإمام المقبلي (2) في كتابه " العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء
والمشايخ " فصلا قيما عرض فيه لأمر الاختلاف في الدين واستطرد لأمر الصحابة
وعدالتهم، نأتى به هنا ببعض اختصار لما فيه من الفوائد الجزيلة والقواعد الجليلة.
نوه الله سبحانه بالاختلاف في الدين، وكرر ذلك في كتابه العزيز لعلمه
سبحانه وتعالى بضرره في الدنيا، وكم كرر ذلك في بني إسرائيل قائلا: " وما تفرقوا
إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " ونحوها، وصدق الله تعالى، ما وجدنا الخلاف

(1) قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث قالوا: ومن عجيب شأنهم أنهم ينسبون الشيخ إلى
الكذب ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين وعلي بن المديني وأشباههما، ويحتجون
بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقد أكذبه عمر وعثمان وعائشة - ص 10 و 11.
(2) هو الشيخ صالح مهدي المقبلي من علماء اليمن المجتهدين توفي سنة 1108 ه‍ كان في الأصل
على مذهب الزيدية، ثم طلب الحق بعدم التقليد فانتهى إلى ترك التمذهب، وقبول الحق الذي يقوم على
الدليل، وقد شهد له الإمام الشوكاني بالاجتهاد المطلق. رحمه الله ورضي عنه.
344

إلا في محل قد تبين الحق فيه. وقد تمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى
رسول الله عن مظان الخلاف، وحذر منها كالجدل في القدر. وقال تعالى: " لا تسألوا
عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم "، وقال رسول الله: " اتركوني ما تركتكم "، وكمل الله
سبحانه الدين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يبق شئ يقربنا إلى الجنة
إلا بينه لنا، ولا شئ يقربنا إلى النار إلا بينه، وما عفا الله عنه وسكت عنه
رسوله، فلا يريد الله أن نبحث عنه بمجرد عقولنا القاصرة، فإنها إنما جعلت الدنيا
في قدر محدود في علمه سبحانه، وجاءت الرسل بتتميم ما تتم به النعمة، وتؤكد
الحجة، فما عدا ذلك فضول يخاف ضرره ولا يرجى نفعه، وقد قام بمراد الله في ذلك
خير القرون فكانوا يحاذرون الاختلاف أشد المحاذرة وما فرط منهم تلافوه أشد
التلافي، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، كما كان من طلحة والزبير وعائشة
رضي الله عنهم، ولقد صبر من بقي من الصحابة بعد خلافة النبوة على أمراء الجور
أشد الصبر، إلى أن ظهرت البدع بسبب التنقير عما سكت الله عنه ورسوله،
ولو كان لهم من ذلك خير لوقفهم الله على تلك المطالب على لسان رسوله ولم يتركهم
يتخبطون. ثم حدثت بين المسلمين أنفسهم نوادر كالكلام في القدر ومسألة خلق
القرآن والتعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم، واتصل بذلك المناظرة عند
الملوك والأمراء وصارت عصبية، والدعوى من الجانبين أن ذلك تدين، وما هو
إلا أنهم لما تعدوا طورهم ولم يقفوا على حدهم، الذي وقفهم الله ورسوله صلى الله وسلم
عليه، تركهم الله وشأنهم ولبسهم شيعا، وأذاق بعضهم بأس بعض، فكان
خليفة يوافق هؤلاء فيذيق مخالفيهم العذاب الأليم، ويخلفه الآخر وينقض
ما فعله الأول وينكل بهؤلاء، ويوطئ شأن هؤلاء، حتى استحكم الشر وصار
الناس شيعا.
تجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ، أو دولة أو غير ذلك
من الأسباب الدنيوية والعصبية الطبيعية. كما رووا أن ابن عبد الحكم أراد مجلس
الشافعي بعد موته فقيل له، قال الشافعي: الربيع أحق بمجلسي، فغضب
وتمذهب لمالك وصنف كتابا سماه: الرد على محمد بن إدريس فيما خالف فيه
الكتاب والسنة. وهكذا ذكره ابن السبكي، وقد علم الله سبحانه والراسخون في العلم
أن الحق لم يكن برمته عند فرقة، والباطل عند البواقي، ولكن الحق والحمد الله
345

لا يخرج عن مجموعهم، وما الحق كله إلا عند من بقي على ما كان عليه النبي صلى
الله عليه وسلم، ولا بد له من الخطأ في اجتهاداته أيضا في المسائل المعفو عن الخطأ
فيها، لا في المهمات. وقل لي: من ذا الذي وقف على ما وقف، وقنع بما جاء
عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتمذهب ويؤثر الأسلاف على الكتاب
والسنة ويترك هذا الداء الدوى، ويتمسك بالإنصاف فيما يأتي ويذر؟ لا والله
ما أعرف أحدا في هذه الكتب التي طبقت البسيطة إلا وقد تخبط وخلط وتعسف
لمذهبه وما أنصف، ورد كتاب الله تعالى إلى عقيدته وحرف! وبعد أن تكلم عن
أحوال المتكلمين، أخذ يبين أحوال المحدثين فقال:
وهؤلاء المحدثون الذين يزعمون الثبوت على السنة وينهون عن الكلام (1) قد سرت
فيهم المفسدة أكثر منها في غيرهم، لأنهم قاعدون في طريق الشريعة، والمفسدة
والحرب والفتك، والحيات والعقارب والسموم والسباع في الجادة أعظم ضررا منها
في ثنيات الطريق، مع أن داءهم جاء من الخوض في الكلام، وصاروا أشد عصبية
من المتكلمين لأن المتكلمين بنو أمرهم على التفتيش، وأن لا يلام الطالب على
المباحثة وإيراد الأسئلة واختراع التعليلات، بل يعدون ذلك ظرافة وكمالا، فربما
انكشف للمتأخر مع تعاقب الأنظار تقارب كلام الفريقين ونحو ذلك، كما
انكشف لاتباع الأشعري بطلان الجبر، ثم تشبثوا بالكسب، ثم تبين عواره،
فصاروا إلى مذهب المعتزلة من حيث المعنى كما مضى،، وليس ثبوت الاختيار يختص
بالمعتزلة حتى ينفر منه، إنما هو دين الله وحجته. فمن حقق من المتأخرين هون
ما عظم سلفه ولانت عريكته، وأما المحدثون فإنما أخذوا شيئا بأول رؤية ثم لم ينقروا،
كأن ذلك بدعة وصدقوا، ولكنه بدعة من أوله إلى آخره، فما لهم دخلوا فيه! كأن
دخولهم من غير نية، لكن دس لهم الشيطان: أنتم أهل السنة فمن يذب عنها إن
تركتم هؤلاء؟ فلا هم اقتصروا على ما هم عليه، ولا هم بلغوا إلى مقاصد القوم ليتمكنوا
من الرد عليهم!.
هذا الإمام أحمد حفظه للسنة وتقدمه وتجريده نفسه لله سبحانه وتعالى لا يجهل،
لكنه لما تكلم في مسألة خلق القرآن وأبتلي بسببها، جعلها عديل التوحيد أو زاد!

(1) أي علم الكلام.
346

حتى إنه بلغه أن محمد بن هارون قال لإسماعيل بن علية: يا بن الفاعلة! قلت
القرآن مخلوق! أو نحو هذه العبارة! قال أحمد: لعل الله يغفر له، يعني محمد
ابن هارون، وكان إسماعيل بن علية أحق أن يرجو له أحمد، لأنه إمام مثله
علما وورعا، وإن فرض خطؤه فيما زعم أحمد، فعفو الله أوسع، وما خطؤه فيها
كمن يقعد في الخلافة خاليا عن صفاتها ويعوث (1) في الدماء والأموال!
غفر الله لأحمد، لقد بلغ في هذه المسألة ما أمكنه من التعصب، حتى صار
يرد كل من خالفه فيها ولا يقبل روايته، وهذه خيانة للسند، فإن الذي أوجب
قبول خبر العدول يوجب قبول خبر هذا، وها هو ذا يقول نروي عن القدرية،
ولو فتشت البصرة وجدت ثلثهم قدرية. هكذا في تهذيب المزي وغيره.
وهذه المسألة لا تزيد على القدر لو كان للخلاف في المسألتين استقرار، بل
زاد فصار يرد الواقف ويقول (فلان واقفي (2) مشئوم) بل غلا وزاد وقال: لا أحب
الرواية عمن أجاب في المحنة كيحيى بن معين. مع أن أحمد ليس من المتعنتين ولا من
المتشددين. فمن شيوخه عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام،
قال فيه النسائي ليس بثقة، وقال الدارقطني بتركه، وقال ابن معين: كذاب
خبيث عدو الله، ليس بشئ، وقال: جن أحمد. يحدث عن عامر بن صالح؟
وقال الذهبي " واهن. لعل ما روى أحمد عن أحد أوهى منه، مع غلو الذهبي (3)
في أحمد ورؤيته له بعين الرضا، وعلى الجملة فلا يشك أن رواته لم يكن فيهم
بالشحيح، إلا أن يكون من قبيل مسألة القرآن. فيا هذا ما الذي عندك في القرآن
والسنة، إن القرآن ليس بمخلوق؟ أو أنه مخلوق؟ وبحثك وبحث غيرك كلاهما
بدعة! والله وصف القرآن بأنه قرآن عربي " غير ذي عوج " وقال جعلناه ونزلناه
وفصلناه ولم يقل خلقناه، ولم يقل ليس بمخلوق، فمن أين جئت بهذه السنة،

(1) يقال: عثى يعثي وعثا وفيه لغة أخرى عاث يعيث وهو أشد الفساد ص 43 من كتاب " القرطين "
(2) الواقف هو الذي لم يتكلم في مسألة خلق القرآن.
(3) وصف المقبلي الذهبي بأنه كان يتكلف الغمز في أهل البيت ويعمى عن مناقبهم ويحابي بني
أمية ولا سيما المروانية.
347

ولما أجاب علي بن المديني الذي قال البخاري (1): ما أستحقر نفسي عند أحد
إلا عنده فأجاب في المحنة فتكلموا فيه مع أنه عذر له لو أجاب في الترك كيف
مسألة خلق القرآن حتى تحاماه بذلك مسلم (2) مع تساهله في رجاله. وأعجب من
هذا أن الذابين عن علي بن المديني لم يجدوا من الذب إلا قولهم: روى عنه فلان،
وروى عنه فلان أنه قال: من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر! ومن قال: إن الله
لا يرى فقد كفر! فهذا التنزيه إن صح هو الذي ينقم عليه به لأنه تكفير مسلم يبوء
به أحدهما من غير دليل، وكيف وما سلم من هذا التكفير أم المؤمنين عائشة
الصديقة رضي الله عنها ومن وافقها من الصحابة والتابعين في نفي الرؤية - ولكن
المحدثين لم يعرفوا مقدار الخطأ في الكلام، لأنه غير صنعتهم - وكل صاحب سلعة
لا يعرف إلا سلعته، فنقر عن هذا المعنى وخذ في كل فن عن أئمته، وإياك والدخيل
فيه - وتراهم يكررونه فمن أرادوا تنزيهه أو مدحه قالوا: من قال القرآن مخلوق فهو
كافر - ذكروا هذا في جماعة، منهم ابن لهيعة وغيره بل قالوا: ترك المحاسبي
ميراث أبيه وقال: أهل ملتين لا يتوارث (3) لأن أباه كان واقفيا.
وقال يحيى بن معين أمير الجرح والتعديل: كان عمرو بن عبيد دهريا! قيل،
وما الدهري؟ قال، يقول: لا شئ.. وما كان عمرو هكذا. فلو طلبت أعظم
المتكلمين، بل القصاص المجازفين لا تكاد تجد من يتجاسر هذا التجاسر على رجل
علمه وزهده وتألهه مثل الشمس في الضحى، وقد تبعه شطر هذه البسيطة. وقال
يحيى بن معين في عنبسة بن سعيد بن العاص بن أمية، ثقة - وهو جليس الحجاج
ابن يوسف وكذا قال النسائي وأبو داود والدارقطني، بل روى له البخاري ومسلم،
وروى البخاري لمروان بن الحكم الذي رمى طلحة وهو في جيشه، والمتسبب في

(1) من الذين تكلموا في مسألة خلق القرآن البخاري ونص قوله: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من
أفعالنا.
(2) مسلم بن الحجاج صاحب الكتاب المشهور.
(3) لعلها: يتوارثون.
348

خروجه على علي، وفعل كل طامة، وقال ابن حجر العسقلاني وهو إمام في
المتأخرين (كامل) في ترجمة مروان: إذا ثبتت صحبته لم يؤثر الطعن فيه!! كأن
الصحبة نبوة، أو أن الصحابي معصوم (1)! وهو تقليد في التحقيق بعد أن صارت
عدالة الصحابة مسلم بها عند الجمهور. والحق أن المراد بذلك (الغلبة) فقط،
فإن الثناء من الله تعالى ورسوله - وهو الدليل على عدالتهم - لم يتناول الأفراد
بالنصوصية إنما غايته عموم، مع أن دليل شمول الصحبة لمطلق الرائي (2). ونحوه
ركيك جدا، وليت شعري من المخاطب الموصى؟ وهل هو عين الموصى به في نحو
قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لم يبلغ مد أحدهم
ولا نصيفه. فأنظر أسباب تلك الأحاديث (3) هو وقوع شئ من متأخري الإسلام
في حق بعض السابقين، كما قال لعمار رضي الله عنه أيسبني هذا العبد! وإذا
أردت تعميم اسم الصحبة من الطرف الأعلى إلى الأدنى، أعني من السابقين إلى من
ثبت له مطلق الرؤية، فانظر مواقع الممادح التي في الكتاب والسنة وافرق بين
ما يقضي بالدرجة المنيفة التي أقل أحوالها العدالة وما يقضي بنوع شرف، مع أنه
ربما جاء التفريق النبوي صريحا كقوله صلى الله عليه وسلم في بعض فقراء الصحابة:
" هو خير من ملء الأرض مثل هذا " يعني بعض الرؤساء من متأخري الإسلام.
وعلى الجملة فمن تتبع تلك الموارد وسوى بين الصحابة فهو أعمى أو متعام،
فمنهم من علمنا عدالتهم ضرورة وهو الكثير الطبيب، ولذا قلنا (إنها غالبية فيهم)
بحيث يسوغ ترك البحث في أحوالهم، ومن الصحابة نوادر ظهر منهم ما يخرج عن
العدالة فيجب إخراجه - كالشارب (4) - من العدالة لا من الصحبة، ومنهم من أسلم
خوف السيف كالطلقاء (5) وغيرهم، فمن ظهر حسن حاله فذاك، وإلا بقي أمره *

(1) راجع تعريفهم للصحابي الذي بيناه لك من قبل بصحفة 341.
(2) راجع تعريفهم للصحابي الذي بيناه لك من قبل بصحفة 341.
(3) قيل هذا الحديث عندما تقاول عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد في بعض الغزوات
فأغلظ له خالد في المقال، ولما بلغ ذلك رسول الله قال: لا تسبوا أصحابي الحديث - فهو إذن في مناسبة
خاصة - والحديث رواه مسلم.
(4) أي شارب الخمر.
(5) كأبي سفيان ومعاوية. ومن معهما.
349

في حيز المجهول وهم في حيز الندور، ومع هذا فالعدالة غير العصمة. وقد غلا الناس
فيمن ثبتت صحبته في التعنت في إثبات العدالة، فلو سلمنا شمول الصحبة ثم العدالة
لم يبلغ الأمر إلى الحد الذي عليه غلاة الرواة. ولو نفعت الصحبة نحو بشر بن
مروان على فرض الثبوت أو الوليد لتبين لنا، أن الصحبة لا يضر معها عمل غير
الكفر فتكون الصحبة أعظم من الإيمان، ويكون هذا أخص من مذهب مقاتل
وأتباعه من المرجئة. ثم أين أحاديث (لا تدري ماذا أحدثوا بعدك) وهي متواترة
المعنى، بل لو ادعى في بعضها تواتر اللفظ لساغ ذلك، والمدعون للسنة، ادعوا
الصحبة أو ثبوتها لمن لم يقض له بها دليل، وفرعوا عليها ما ترى. ثم بنوا الدين على
ذلك ألم يقل الله (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) في رجل متيقن صحبته (1). ولم
تزل حاله مكشوفة مع الصحبة، ومنهم من شرب الخمر (2)، وما لا يحصى مما سكت
عنه رعاية لحق النبي صلى الله عليه وسلم، ما لم يلجئ إليه ملجئ ديني فيجب
ذكره، ومن أعظم الملجئات ترتب شئ من الدين على رواية مروان والوليد بن
عقبة (3) وغيرهما، فإنها أعظم خيانة لدين الله ومخالفة لصريح الآية الكريمة، والنقم
بذلك لا يعود على جملة الصحابة بالنقص، بل هو تزكية لهم فإياك والاغترار.
ولا شك أن البخاري من سادات المحدثين الرفعاء - فما ظنك بمن دونه
ومع هذا تجنب (البخاري) ما لا يحصى من الحفاظ العباد (4)، كما تخبرك عنه
كتب الجرح والتعديل وعلي بن المديني تجنبه مسلم. وقال العجلي في عمر بن سعد
ابن أبي وقاص تابعي ثقة روى عنه الناس. وهو الذي باشر قتل الحسين. فقل لي
أي جرح في الدين أكبر من هذا! وهذا تنبيه. وإلا فهذا باب لو فتح وصنف
فيه لكان فنا كبيرا، وكذلك سائر الكلام من المحدثين في مخالفيهم في العقائد
فاختبره، وشاهد هذه الدعوى من كتب الجرح، فتأمل كلامهم في الموافق
والمخالف، واجعله من شهادة الأعداء وأهل الإحن، وليتهم جعلوا ذلك باطنا

(1) أي أنه من الصحابة وهو الوليد بن عقبة.
(2) كقدامة بن مظعون.
(3) هو الذي نزلت فيه الآية " إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ".
(4) أنظر ما ذكرناه من قبل في هذا الأمر بصفحة 311.
350

وظاهرا، ولكن يقولون: نحن نروي عن المبتدعة ثم يعاملونهم هذه المعاملة،
قال يحيى بن معين - وقيل له في سعيد بن خالد البجلي حين وثقه (شيعي) قال
وشيعي ثقة، وقدري ثقة، وقال العجلي كذلك في عمران بن حطان ثقة وهو خارجي
مدح ابن ملجم (1) لعنه الله بقوله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
فانظر عمن رضي بقتل علي، وعمن قتل طلحة، وعمن قتل الحسين وتوثيقهم
لهم، وأما علماء الأمة وحفاظها كحماد بن سلمة الإمام، ومكحول العالم الزاهد،
فتجنبهم مثل البخاري ومسلم أيضا، وقد اختلفت عقائد المحدثين، فترى الرجل
الواحد تختلف فيه الأقوال حتى يوصف بأنه أمير المؤمنين، وبأنه أكذب الناس
أو قريب من هاتين العبارتين، وانظر الصحيحين كم تحامى صاحباهما من الأئمة
الكبار الذين يتطلب النقم عليهم تطلبا، ولو نظر تجنب أفضلهم لاضمحل،
ولما أثر في ظن صدقهم إلا كقطرة دم في بحر يم - وفي رجالهما من صرح كثير من
الأئمة بجرحهم، وتكلم فيهم من تكلم بالكلام الشديد، وإن كان لا يلزمهما - أعني
صاحبي الصحيحين - إلا العمل باجتهادهما. وأعجب من هذا أن في رجالهما من لم
يثبت تعديله، وإنما هو في درجة المجهول أو المستور. قال الذهبي في ترجمة حفص
ابن بغيل: قال ابن القطان: لا يعرف له حال ولا يعرف، يعني فهو مجهول العدالة
ومجهول العين، فجمع الجهالتين قال الذهبي: لم أذكر هذا النوع في كتابي
" الميزان " قال ابن القطان: تكلم في كل ما لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الرجل أو أحد
ممن عاصره ما يدل على عدالته وهذا شئ كثير ففي الصحيحين من هذا النمط
خلق كثير مستورون ما ضعفهم أحد ولا هم مجاهيل، وقال في ترجمة مالك بن
الخير الزبادى: في رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحدا نص على
توثيقهم. فانظر هذا العجب. يروي عمن حاله ما ذكر ويترك أئمة مشاهير
مصنفين، لأنهم قالوا بخلق القرآن أو وقفوا أو نحو ذلك. والعجب هنا من مجاملة
الذهبي بقوله: ولا هم مجاهيل، فمن لم يعلم عدالته لم تشمله أدلة قبول خبر الآحاد
الخاصة بالعدول، والاصطلاح على تسميته مستورا لا يدخله في العدول الذين

(1) ابن ملجم هو الذي اقترف إثم قتل علي رضي الله عنه.
351

تتناولهم أدلة قبول الآحاد، فهذا تفريط وإفراط! يترك أبا حنيفة ومحمد بن الحسن
وابن إسحاق وداود الظاهري، ومنهم من أذعن له الناس في المغازي ومنهم من تبعه
شطر أهل البسيطة ثم يروي عن مستور لا يعلم من هو ولا ما هو.
وليس مرادنا الحط من الصحيحين، ولكن ليعلم أن الخلاف دخلت مفسدته
في كل شعب، فهذا هو ما نحن بصدده من التنفير عن الخلاف فاعلمه (1) اه‍ باختصار.
ثم قال المقبلي فيه ذيل هذا الكتاب المسمى بالأوراح النوافخ فيما شرح به
قوله (2) وادعوا الصحبة وأثبتوها لمن لم يقض له بها دليل: وجه هذا الكلام ما كررناه
أنهم يصطلحون على شئ في متأخر الأزمان ثم يفسرون الكتاب والسنة باصطلاحهم
المجدد، والصحبة ليس فيها لسان شرعي، إنما هي بحسب اللغة وكذلك سائر
الألفاظ التي وردت بها فضائل الصحابة، ولكن المحدثون اصطلحوا وقضوا بغير
دليل، على أن الصحبة لكل من رأى النبي، أو رأى هو النبي ولو طفلا، بشرط
أن يكون محكوما بإسلامه، ويموت على ذلك ولا يرتد، ولا يشك منصف بل عاقل
أن هذه القيود أمر اصطلاحي لا تقضي اللغة بها، لأن الاشتقاق إنما هو من
صحب، لا من رأى أو رئي تحقيقا أو تقديرا، ليدخل الأعمى. وكان عليهم أن
يقولوا تقديرا قريبا أو نحوه، ليخرج المعاصر الذي لم يره، بل ليخرج كل أحد،
إذ التقدير بحر واسع، فهذا أصل الخطأ في هذه المسألة كما قد حذرناك من هذه
الغلطة التي وقع الناس كثيرا فيها.
ثم بعد أن تم لهم تعريف الصحبة ذيلوها بإطراح ما وقع من مسمى الصحابي
فمنهم من يتستر بدعوى الاجتهاد، دعوى تكذبها الضرورة في كثيرة من المواضع
ومنهم من يطلق! ويا عجباه من قلة الحياء في ادعاء الاجتهاد لبسر بن أرطاة (3)

(1) من صفحة 297 إلى صفحة 312 من كتاب العلم الشامخ.
(2) ص 687 إلى 688.
(3) نقل الحافظ ابن حجر في الإصابة أن معاوية وجه بسر بن أرطأة إلى اليمن والحجاز وأمره أن
ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم ويقتلهم، وهو الذي قتل طفلين لعبيد الله بن عباس. ولأمهما عائشة
بنت المدان قصيدة في ذلك نكتفي منها بهذا البيت:
أنحى على ودجي ابني مرهفة * مشحوذة وكذلك الإثم يقترف
ثم وسوست فكانت تقف في الموسم تنشد هذا الشعر وتهيم على وجهها.
352

الذي انفرد بأنواع الشر لأنه مأمور المجتهد معاوية ناصح الإسلام في سب علي بن
أبي طالب وحزبه. وكذلك مروان والوليد الفاسق، وكذلك الاجتهاد الجامع
للشروط في البيعة ليزيد ومن أشار بها، وسعى فيها، أو رضيها، وما لا يحصى..
والله ما قال قائلهم ذلك نصحا لله ولرسوله، اللهم إلا مغفل لا يدري ما يخرج من
رأسه - قد سلم مقدمات وغذا لحمه وعروقه بالهوى والتقليد، وعود جسمه
ما اعتاد، فصار بذلك غذاؤه. ثم أخذ يتجاسر في البناء على ذلك، كنظائر لها
قلما يخلو منها أحد، وإن اختلفت مكانتها في الدين. غايته أن الورع يتحرز من
الرضا بتلك الطوام، فمن غاب عن المعصية ثم رضيها، كان كمن حضرها،
والعكس كما صرح به الحديث النبوي... ا ه‍ (1).
الأخذ بعدالة جميع الصحابة
وإذا كان الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول ولم يقبلوا الجرح والتعديل
فيهم كما قبلوه في سائر الرواة واعتبروهم جميعا معصومين من الخطأ والسهو والنسيان
فإن هناك كثيرا من المحققين لم يأخذوا بهذه العدالة (المطلقة) لجميع الصحابة وإنما

(1) ممن جعلوهم من الصحابة من لمز النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات ومنهم من آذاه وقال
(هو أذن) ومنهم من اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، ومنهم من كان في قلبه مرض ومنهم
المعوقون ومنهم الذين اعتذروا في غزوة تبوك وكانوا بضعة وثمانين رجلا، وحلفوا للنبي فقبل منهم علانيتهم
فنزل فيهم قوله تعالى (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم
جهنم جزاء بما كانوا يكسبون، يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) وفي
هذه الغزوة هم أربعة عشر منافقا أن يفتكوا برسول الله في ظلمات الليل عند عقبة هناك ولما انصرف النبي من
هذه الغزوة إلى المدينة كان في الطريق ماء يخرج من وشل بوادي المشقق فقال رسول الله: من سبقنا إلى
ذلك الماء فلا يسقين منه شيئا حتى نأتيه فسبقه إليه نفر من المنافقين واستقوا ما فيه! فلما أتاه رسول الله
وقف عليه فلم ير فيه شيئا، ولما علم النبي بأمر المنافقين قال: أو لم ننههم أن يستقوا منه شيئا حتى نأتيه
ثم لعنهم ودعا عليهم.
وبحسبك أن تجد أن في القرآن سورة، تسمى سورة المنافقين. وسيأتيك بيان مفصل عن المنافقين في
غزوة تبوك.
وروى البخاري عن زيد بن ثابت: لما خرج النبي إلى أحد رجع ناس من أصحابه فقالت فرقة
منهم: نقتلهم، وقالت فرقة: لا نقتلهم، نزلت الآية الكريمة: " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما
كسبوا... " الآية. قال الراغب في مفرداته (أركسهم أي ردهم إلى كفرهم - والكلام في هذا الباب كثير جدا.
أضواء على السنة
353

قالوا كما قال العلامة المقبلي إنها (أغلبية) لا عامة وإنه يجوز عليهم ما يجوز على
غيرهم من الغلط والنسيان والسهو، بل والهوى ويؤيدون رأيهم بأن الصحابة إن هم
إلا بشر يقع منهم ما يقع من غيرهم، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية، وإن سيدهم الذي
اصطفاه الله صلوات الله عليه " والله أعلم حيث يجعل رسالته " قد قال: إنما أنا
بشر أصيب وأخطئ - ويعززون حكمهم بمن كان منهم في عهده صلوات الله
عليه من المنافقين والكاذبين وبأن كثيرا منهم قد ارتدوا عن دينهم بعد أن انتقل
إلى الرفيق الأعلى، بله ما وقع منهم من الحروب والفتن التي أهلكت الحرث والنسل
ولا تزال آثارها - ولن تزال - إلى اليوم وما بعد اليوم، وكأن الرسول صلوات الله
قد رأى بعيني بصيرته النافذة ما سيقع من أصحابه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى،
فقال في حجة الوداع: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (1) ".
وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي قال: (إنكم تحشرون حفاة عراة
وأن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي! أصحابي! فيقول
إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح:
" وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ".
وروى مسلم هذا الحديث بلفظ " ليردن علي ناس من أصحابي حتى
إذا عرفتهم اختلجوا من دوني، فأقول: أصحابي فيقول: لا تدري ماذا
أحدثوا بعدك ".
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى
إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم قال: هلم، قلت أين؟ قال: إلى النار

(1) سمعت أم سلمة الرسول يقول " إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أموت أبدا. فخرج
عبد الرحمن بن عوف من عندها مذعورا حتى دخل على عمر فقال: اسمع ما تقول أمك! فقام عمر حتى أتاها
فدخل عليها فسألها ثم قال: أنشدك الله، أمنهم أنا؟ قالت لا ولا أني أبرئ أحدا بعدك. ذكر هذا
الحديث في مسندها من جامع المسانيد لابن الجوزي وعزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى أحمد والطبراني
وسأل عمر وهو الذي فر منه الشيطان! حذيفة هل أنا ممن عد لك رسول الله من المنافقين؟ قال: لا ولا
أزكى أحدا بعدك - ص 92 من العلم الشامخ للمقبلى.
354

والله، قلت وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. ثم إذا زمرة
حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم قلت: أين؟ قال: إلى
النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. فلا
أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم (1).
وفي رواية أخرى أن النبي قال: يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلأون
عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك،
إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري.
وأخرج عن سهل بن سعد قال: قال النبي: ليوردن علي أقوام أعرفهم
ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم، فسمعني النعمان بن أبي عياش
فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري
لسمعته - وهو يزيد فيها - فأقول إنهم مني فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك
فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي.
وأخرج من حديث عن ابن عباس جاء فيه:
وأن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي! أصحابي..
فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم... الحديث.
وأخرج البخاري أيضا في باب غزوة الحديبية عن العلاء بن المسيب عن أبيه
قال لقيت البراء بن عازب فقلت له: طوبى لك. صحبت النبي صلى الله عليه وآله وبايعته
تحت الشجرة، فقال؟ يا بن أخي: إنك لا تدري ما أحدثنا بعده!
وأخرج عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله أنا فرطكم على الحوض وليرفعن
رجال منكم، ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري
ما أحدثوا بعدك، قال البخاري: تابعه عاصم عن أبي وائل وقال حصين: عن
أبي وائل، عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله.
وأخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله إني على الحوض
حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي؟

(1) همل النعم الإبل بلا راع أي لا يخلص منهم من النار إلا قليل.
355

فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم - قال
البخاري فكان ابن أبي مليكه يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا
ونفتن عن ديننا.
هذا بعض ما نقلناه من البخاري ومسلم وفيهما وفي غيرهما كثير أعرضنا عنه
خشية التطويل.
المنافقون من الصحابة
وما جاء عنهم في سورة التوبة عن غزوة تبوك:
ذكر البغوي وغيره عن ابن عباس أنه قال: لم يكن رسول الله يعرف المنافقين
حتى نزلت سورة براءة وكان قبلها يعرف بعض صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم مما جاء عنهم
في عدة سور نزلت قبل سورة براءة، منها سورة المنافقين والأحزاب والنساء والأنفال
والقتال والحشر.
أما سورة براءة فقد فضحتهم وكشفت جميع أنواع نفاقهم الظاهرة والباطنة
ومن أجل ذلك سميت (الفاضحة) والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والمثيرة، والحافرة
والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب!
وإليك بيان أمورهم في غزوة تبوك، وحدها، وأعمالهم وآيات نفاقهم، وهتك
أستارهم وعقابهم مرتبة على سياق آيات سورة التوبة لا على الحروف (1):
1 - استئذانهم في التخلف وهو لا يقع من مؤمن، وإنما يستأذن ترك الجهاد
من لا يؤمن بالله ولا بالآخرة (467).
2 - لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة (471) 3 - إن الله كره انبعاثهم فثبطهم (471)
4 - إنهم لو خرجوا في المؤمنين لم يزيدوهم إلا خبالا، ويبغون فتنتهم (473).

(1) هذا الفصل منقول عن الجزء العاشر من تفسير القرآن الحكيم للإمامين محمد عبده ومحمد رشيد
رضا رضي الله عنهما والأرقام الموضوعة هي أرقام الصفحات من هذا الجزء.
356

5 - أنهم اتبعوا الفتنة من قبل تبوك في غزوة أحد، إذ أوقعوا الشقاق في
المسلمين وثبطوا بعضهم (474).
6 - أنهم قلبوا الأمور للنبي من أول الأمر إلى أن جاء الحق بنصره وظهور
أمر الله وهم كارهون لذلك (475).
7 - أن منهم من استأذن النبي في القعود معتذرا بأنه يخاف على نفسه الافتتان
بجمال نساء الروم فسقطوا في فتنة معصية الله ورسوله بالفعل (477).
8 - أن كل حسنة تصيب النبي تسوءهم، وكل مصيبة تعرض له تسرهم،
ويرون أنهم أخذوا بالحزم في التخلف (478).
9 إن المؤمنين يتربصون بالمنافقين عذاب الله مباشرة أو بأيديهم (479).
10 أن صدقاتهم لا تقبل لفسوقهم ولكفرهم وإتيانهم الصلاة وهم كسالى
وإنفاق ما ينفقون وهم كارهون (481).
11 تعذيبهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا وموتهم على كفرهم (485: 474).
12 حلفهم للمؤمنين بأنهم منهم، ووصف خيبتهم وفرقهم منهم (485).
13 لمز بعضهم للرسول في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا، وإلا سخطوا
(487).
14 - إيذاؤهم له صلى الله عليه وآله بقولهم: هو أذن (516).
15 - حلفهم للمؤمنين ليرضوهم دون إرضاء الله ورسوله (522).
16 - حذرهم إنزال سورة تنبئهم بما في قلوبهم ووعيدهم على استهزائهم
بإخراج ما يحذرون (525).
17 - اعتذارهم عن استهزائهم بأنهم كانوا يقصدون الخوض واللعب، وكون
هذا الخوض عين الكفر، ووعيدهم بتعذيب طائفة منهم بإصرارهم على إجرامهم
واحتمال العفو عن طائفة أخرى (528 - 532).
18 - بيان حال المنافقين وصفاتهم العامة ذكرانا وإناثا، وإيقادهم هم
والكفار نار جهنم ولعنهم إلخ (533).
357

19 - تشبيههم بمنافقي الأمم الغابرة في كونهم لاحظ لهم إلا الاستماع بما ذكروا
في خوضهم بالباطل وحبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة مثلهم وخسارهم التام (527)
وتذكيرهم بنبأ أقوام الأنبياء قبلهم (539)
20 - إن المنافقين هم الفاسقون. الآية (67).
21 - قرنهم بالكفار في وجوب جهادهم والإغلاظ في معاملتهم ووعيدهم (549)
22 - حلفهم على إنكار ما قالوا من كلمة الكفر، وإثبات الله لما نفوه
(ولهمهم بما لم ينالوا) أي محاولة اغتياله " ص " (551 - 555).
23 - من عاهد الله منهم على الصدقة في حالة العسر وإخلافه وكذبه بعد الغنى
واليسر وإعقابهم ذلك نفاقا يصحبهم إلى الحشر، وجهلهم علم الله بحالهم في السر
والجهر (558).
24 - لمزهم وعيبهم للمؤمنين في الصدقات وسخريتهم منهم (563).
25 - حرمانهم الانتفاع باستنفار الرسول لهم بكفرهم حتى بالله ورسوله
لا يرجى اهتداؤهم بالرجوع عن قسوتهم (666).
26 - فرح المخلفون منهم بمقعدهم خلاف رسول الله وتواصيهم بعدم النفر
في الحر وتذكيرهم بحر جهنم (569).
27 - كون الأجدر بهم أن يحزنوا، ويضحكوا قليلا ويبكوا كثيرا (572).
28 - نهيه صلى الله عليه وآله عن الصلاة على موتاهم وتعليله بكفرهم وموتهم عليه (573).
29 - استئذان أغنيائهم بالتخلف عن الجهاد كلما نزلت سورة تأمر بالجمع
بين الإيمان والجهاد (581)
30 - حال الأعراب واستئذان بعضهم بالقعود عن الجهاد، وقعود الكاذبين
بغير اعتذار ووعيدهم بعذاب أليم على الكفر (583).
نكتفي بذلك من صفات المنافقين في غزوة تبوك التي جاءت بسورة التوبة
ومن أراد المزيد من معرفة سائر أعمال المنافقين فليرجع إلى سور المنافقين
والأحزاب والنساء والأنفال والقتال والحشر.
358

وفي الصحيحين من حديث الإفك أن أسيد بن الخضير قال لسعد بن عبادة:
إنك منافق، تجادل عن المنافقين. واختصم الفريقان فأصلح النبي بينهم - فهؤلاء
البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق ولم يكفر النبي لا هذا ولا ذاك.
والأخبار في ذلك كثيرة ومن شاء أن يقف على أسماء المنافقين من الخزرج
والأوس فيلرجع إلى الجزء الأول من أنساب الأشراف يجد أسماءهم قد ملأت عشر
صفحات كاملة من صفحة 274 إلى 283.
يفضلون التجارة واللهو عن الصلاة:
ولا بأس أن نورد هنا ما صنعه الصحابة مع رسول الله وانفضاضهم من حوله
إلى التجارة واللهو، وتفضيل ذلك على الصلاة وتركهم إياه قائما وحده يصلي يوم الجمعة
وذلك بعد أن أمرهم الله سبحانه بأن يسعوا إلى الصلاة ويتركوا البيع، لأن ذلك خير لهم
(إن كانوا يعلمون) فخالفوا عن أمر الله، وانصرفوا إلى تجارتهم ولهوهم من حول
رسول الله! وإليك هذه الآية الكريمة التي تفضحهم قال تعالى: (وإذا رأوا تجارة
أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير
الرازقين " 9 - 11 سورة الجمعة.
نفاق الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده:
وإليك حديثا رواه البخاري وغيره (1) عن حذيفة بن اليمان يبين فيه نفاق
الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وبعده.
قال حذيفة: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله كانوا يومئذ
يسرون واليوم يجهرون! وفي رواية أخرى للبخاري كذلك عنه:
قال: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وآله فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد
الإيمان وفي رواية: فإنما الكفر والإيمان.
وأخرج البزار عن أبي وائل، قلت لحذيفة: النفاق اليوم شر أم على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: فضرب بيده على جبهته وقال: أوه! هو اليوم ظاهر،

(1) ص 62 و 63 ج‍ 13 فتح الباري.
359

إنما كانوا يستخفون على عهد رسول الله!
وأنا نعزز هذا الفصل بكلمة للدكتور طه حسين في كتابه القيم (عثمان)
أشار فيها إلى أمر الفتنة التي وقعت في عهد عثمان وكلام المؤرخين فيها.
إن الناس وقفوا من الأحداث أيام عثمان، ومن نصيب عثمان منها، مواقف
متباينة أشد التباين، فقوم أراحوا أنفسهم جملة وقالوا إن أكثر هذه الأحداث
مكذوب مصنوع لم يصح وقوعه، وإنما تكلفه المتكلفون، أراد بعضهم به الكيد
للإسلام، ودفع بعضهم إليه بما كان من الخصومة العنيفة بين الأحزاب وهم من
أجل ذلك يرفضون أكثر الأحداث ويرون فيما يقبلون منها أنها أمور ليست بذات
خطر ذهب فيها الإمام مذهب الاجتهاد، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله
أجر، وهو على كل حال لم يرد إلا الخير، ولم يكن يريد ولا يمكن أن يريد
إلا الخير، وهم يرون مثل هذا الرأي فيما يقبلون من الروايات التي تتحدث ببعض
ما كان بين عثمان وأصحاب النبي من الخصومة - أكثر هذه الروايات عندهم
مكذوب مصنوع وقليل منها يقبل على ما مضى من التأويل - أي على أنه كان
نتيجة الاجتهاد، ومن اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
وأكثر الذين يذهبون هذا المذهب إنما يدفعون إليه، لأنهم يقدسون ذلك العصر
من عصور الإسلام، ويكرهون أن يحملوا على أصحاب النبي ما يحمل عادة على
الذين يستقبلون أمور الدنيا بما في نفوسهم من استعداد للمنافسة والاصطراع حول
أعراض وأغراض لا تلائم قوما صحبوا رسول الله، وأبلوا في سبيل الله أحسن البلاء
وأسسوا الدولة بما أنفقوا في ذلك من دمائهم وأموالهم وجهودهم فهم يخطئون ويصيبون،
ولكنهم يجتهدون دائما، ويسرعون إلى الخير دائما، فلا يمكن أن يتورطوا في
الكبائر، ولا أن يحدثوا إلا هذه الصغائر التي يغفرها الله للمحسنين من عباده!
وقليل من الذين يرون هذا الرأي، ويذهبون هذا المذهب يدفعون إلى ذلك بحكم
الكسل والعقلي الذي يمنعهم من البحث والدرس والاستقصاء.
وقوم آخرون يريحون أنفسهم نوعا آخر من الإراحة، فيستبعدون أن تقع هذه
الأحداث والفتن من أصحاب النبي ويرون أنها مؤامرات دبرها الكائدون للإسلام
360

- كعبد الله بن سبأ ومن لف لفه من أهل الكتاب، وغير أهل الكتاب. وواضح
جدا أننا لا نستطيع أن نذهب هذا المذهب أو ذاك، فنحن لا نحب الكسل
ولا نطمئن إلى الراحة، ولا نغلو في تقديس الناس إلى هذا الحد البعيد، ولا نرى
في أصحاب النبي ما لم يكونوا يرون في أنفسهم، فهم كانوا يرون أنهم بشر فيتعرضون
لما يتعرض له غيرهم من الخطايا والآثام، وهم تقاذفوا التهم الخطيرة، وكان منهم
فريق تراموا بالكفر والفسوق، فقد روى أن عمار بن ياسر كان يكفر عثمان ويستحل
دمه ويسميه نعثل، وروى أن ابن مسعود كان يستحل دم عثمان أيام كان في الكوفة
وهو كان يخطب الناس فيقول: إن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل
بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار - يعرض في ذلك بعثمان وعامله الوليد. وروى
أن عبد الرحمن بن عوف.. قال لبعض أصحابه في المرض الذي مات فيه:
عاجلوه - أي على - قبل أن يطغى ملكه.
والذين ناصروا عثمان من أصحاب النبي كانوا يرون أن خصومهم قد خرجوا
على الدين وخالفوا عن أمره، وهم جميعا من أجل ذلك قد استحلوا أن يقاتل
بعضهم بعضا، وقاتل بعضهم بعضا بالفعل يوم الجمل ويوم صفين - إلا ما كان
من سعد وأصحابه القليلين. وإذا دفع أصحاب النبي أنفسهم إلى هذا الخلاف،
وتراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضا في سبيل الله، فما ينبغي أن يكون رأينا فيهم أحسن
من رأيهم في أنفسهم، وما ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون أكثر الأخبار
التي نقلت إلينا ما كان بينهم من فتنة واختلاف، فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد عن أن
نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي، لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن
هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء، فما ينبغي
أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا،
وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر، لا لشئ إلا لأن بعضه
يرضينا وبعضه يؤذينا، وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يروى، أو نكذب كل
ما يروى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس يجوز عليه الخطأ والصواب ويجوز
عليهم الصدق والكذب، والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد
التعديل والتجريح، والتصديق والتكذيب، وترجيح ما يمكن ترجيحه، وإسقاط
361

ما يمكن إسقاطه، والشك فيما يجب الشك فيه، فليس علينا بأس من أن نسلك
الطريق التي سلكوها وأن نضيف إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحدثون من القواعد
الجديدة التي يستعينون بها على تحقيق النصوص وتحليلها وفقهها.
والشئ الذي لا يمكن أن يتعرض للشك، هو أن المسلمين قد اختلفوا على
عثمان، وأن هذا الاختلاف قد انتهى إلى ثورة قتل فيها عثمان، وأن هذه الثورة قد
فرقت المسلمين تفريقا لم يجتمعوا بعده إلى الآن. ا ه‍ (1).
وختم الدكتور طه حسين هذا الفصل الممتع بكلام عن القواعد التي يجب على
كل دارس للتاريخ الإسلامي أن يتبعها، ويقيم بحثه على أصولها، " ليستعينوا بها
على تحقيق النصوص وتحليلها وفقهها ".
وأوجب كذلك على من يتصدى لدراسة هذه الأخبار دراسة صحيحة أن يقف
من رواة الأخبار موقف العالم بطبائع النفوس البشرية، فينظر إليهم على أنهم " ناس
من الناس يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب " وأن
يتحرى الحق والإنصاف فيما يصل إليه من مروياتهم فلا يصدق منها ما يصدق
لمرض في قلبه، أو يكذب ما يكذب لهوى في نفسه.
وإذا كانت هذه القواعد السليمة التي ساقها الدكتور طه حسين قد تغضب
بعض الناس - فإنها ولا ريب مما يرضى عنه ويطمئن به العلم والحق والدين جميعا.
ونختم هذا الفصل بكلمة نقلها الدكتور أحمد أمين رحمه الله في ضحى
الإسلام (2) من رسالة لبعض الزيدية وهي: " إنا رأينا الصحابة أنفسهم ينقد بعضهم
بعضا، بل يعلن بعضهم بعضا - ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنزلة التي
لا يصح فيها نقد ولا لعن لعلمت ذلك من حال نفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من
عوام أهل دهرنا (3)، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم،
لم يروا أن يمسكوا عن علي، وهذا معاوية وعمرو بن العاص لم يقصرا دون ضربه

(1) ص 170 - 173 ج‍ الفتنة الكبرى (عثمان).
(2) ص 75 و 76 ج‍ 3.
(3) ومثلهم عوام أهل دهرنا وإن ظهروا بين الناس بلباس العلماء.
362

وضرب أصحابه بالسيف، وكالذي روى عن عمر من أنه طعن في رواية أبي هريرة (1)
وشتم خالد بن الوليد وحكم بفسقه، وخون عمرو بن العاص ومعاوية ونسبهما إلى سرقة
مال الفيئ واقتطاعه، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده، إلى
كثير من أمثال ذلك مما رواه التاريخ - وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك
ويقولون في العصاة منهم هذا القول، وإنما اتخذهم العامة أربابا بعد ذلك. والصحابة
قوم من الناس، لهم ما للناس وعليهم ما عليهم. من أساء ذممناه، ومن أحسن
منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته
لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنهم شاهدوا الأعلام
والمعجزات، فمعاصينا أخف لأننا أعذر ".
بعد أن فرغنا من الكلام عن عدالة الصحابة نبين كيف كان موقف علماء
الأمة من أخبار الآحاد.
موقف علماء الأمة من أخبار الآحاد
قال الجزائري يعقب على قول ابن الصلاح (2): إن الأمة قد تلقت البخاري
ومسلم بالقبول "! إنه لم يبين ماذا أراد بالأمة! ولا ماذا أراد بتلقيها إياهما بالقبول!
وقد كان عليه أن يبين ذلك حتى لا تذهب العقول والأفهام في ذلك كل مذهب.
فإذا أراد بالأمة كل الأمة فلا يخفى فساده لأن الكتابين إنما حسنا في المئة
الثالثة بعد عصر البخاري وأئمة المذاهب المتبعة، وإن أراد بعضها - وهم من وجد بعد
الكتابين فهم بعض الأمة فلا يستقيم دليله، وإن أراد بالأمة علماءها - وهو الظاهر -
فإن العلماء في هذا الأمر ثلاثة أقسام.
المتكلمون - والفقهاء - والنحويون - على أن العلماء الذين ينطبق عليهم هذا
الوصف إنما هم الذين جاءوا بعد ظهور هذين الكتابين، في القرن الثالث الهجري،
أما من قبلهم من أهل القرون الأولى الذين جاء فيهم حديث رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وآله

(1) يراجع كتابنا " شيخ المضيرة ".
(2) ص 125 من توجيه النظر.
363

بأنهم خير القرون! فهم جميعا لم يروا هذين الكتابين حتى كان يعلم رأيهم فيهما،
ولا كيف تلقوهما!
ولنعد إلى العلماء الذين جاءوا بعد هذين الكتابين لنرى موقفهم منهما، وبماذا
قابلوهما:
أما المتكلمون: فقد عرف من حالهم أنهم يردون كل حديث يخالف ما ذهبوا
إليه، ولو كان من الأمور الظنية، فإذا أورد عليهم من ذلك حديث صحيح
عند المحدثين أولوه إن وجدوا تأويله قريب المأخذ، أو ردوه مكتفين بقولهم: هذا
من أخبار الآحاد وهي لا تفيد غير الظن، ولا يجوز البناء على الظن في المطالب
الكلامية، ذلك بأن الأساس في علم الكلام هو دائما أن " الدلائل النقلية لا تفيد
اليقين " (1)، فمن ذلك حديث: تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت
بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم!
قال الله تبارك وتعالى للجنة، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي! وقال للنار:
إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها!
فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول، قط، قط، قط، فهنالك تمتلئ
ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله
عز وجل ينشئ لها خلقا ا ه‍. وهذا الحديث متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم (عن أبي
هريرة) عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أخرى عند البخاري - عن
أبي هريرة - بلفظ: اختصمت الجنة والنار إلى ربهما - الحديث - وفيه أنه ينشئ
للنار خلقا وفي رواية لمسلم " حتى يضع الله رجله " وذهب المحققون إلى أن الراوي أراد
أن يذكر الجنة فذهل فسبق لسانه إلى النار.
فهذا الحديث ونظائره - وهي كثيرة - يبعد على المتكلم أن يقول بصحتها
فضلا عن أن يجزم بذلك! وإذا ألجئ إلى القول بصحتها لم يأل جهدا في تأويلها،
ولو على وجه لا يساعد اللفظ عليه بحيث يعلم السامع أن المتكلم لا يقول بجوازه في
الباطن، وقد نشأت بسبب ذلك عداوة شديدة بين المتكلمين والمحدثين يعرفها من نظر

(1) المواقف للإيجي والجرجاني ص 79 طبعة استانبول.
364

في كتب التاريخ حتى إن المتكلمين سموا جمهور المحدثين بالشبهة والمحدثين سموهم
بالمعطلة (1).
الفقهاء:
وأما الفقهاء فقد عرف من حالهم أنهم يؤولون كل حديث يخالف ما ذهب
إليه علماء مذهبهم - ولو كان من المتأخرين - أو يعارضون الحديث بحديث آخر -
ولو كان غير معروف عند أئمة الحديث - والحديث الذي عارضوه ثابتا في الصحيحين
بل مما أخرجته الستة. ومن نظر في شروح الصحيحين اتضح له الأمر وقد ترك بعضهم
المجاملة للمحدثين، فصرح بأن ترجيح الصحيحين على غيرهما - ترجيح من غير
مرجح، والذين جاملوا اكتفوا بدلالة الحال. وقد أشار إلى ذلك العز بن عبد السلام
في " كتاب القواعد " فقال:
ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه
بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب
والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر
الكتاب والسنة ويتأولها التأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده، وقد رأيناهم
يجتمعون في المجالس، فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه، تعجب منه
غاية العجب من غير استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه، ولو تدبره لكان
تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره! فالبحث مع هؤلاء ضائع
مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها - وما رأيت أحدا رجع عن مذهب

(1) كذلك يسمى المتكلمون المحدثين بالحشوية ويصفونهم بأنهم أجهل الناس بما يحملون وبخس
الناس حظا فيما يطلبون، وفي ذلك يقول شاعرهم:
زوامل للأسفار لا علم عندهم * بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا * بأحماله أو راح - ما في الغرائر
قد قنعوا من العلم برسمه، ورضوا بأن يقولوا: فلان عارف بالطرق ورواية الحديث وزهدوا في أن
يقال: عالم بما كتب أو عامل بما علم!!
وهناك كلام كثير في قول بعضهم في بعض ويراجع في ذلك الجزء الثاني من كتاب جامع بيان العلم
وفضله لابن عبد البر وسيأتيك شئ في ذلك في فصل (طلب الحديث بدون فقه).
365

إمامه إذ ظهر له الحق في غيره! بل يصر عليه مع علمه بضعفه وبعده. فالأولى
ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه، قال: لعل
إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولم أهتد إليه، ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل
بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله
ما أكثر من أعمى التقليد بصره، حتى حمله على مثل ما ذكرته، وفقنا الله لاتباع
الحق أين كان وعلى لسان من ظهر. ا ه‍ كلام العز.
وقد ختم الجزائري رحمه الله هذا البحث (بتنبيه) مهم قال فيه تعليقا على
نقدهم لحديث (تحاج الجنة والنار) من أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها
خلقا آخر:
" ومن الغريب في ذلك محاولة بعض الأغمار ممن ليس له إلمام بهذا الفن لا من
جهة الرواية ولا من جهة الدراية، لنسبة الغلط إليه كأنه ظن أن النقد قد سد
بابه على كل أحد - أو ظن أن النقد من جهة المتن لا يسوغ لأنه يخشى أن يدخل
منه أرباب الأهواء - ولم يدر أن النقد إذا جرى على المنهج المعروف لم يستنكر
وقد وقع ذلك لكثير من أئمة الحديث مثل الإسماعيلي فإنه بعد أن أورد حديث (يلقى
إبراهيم أباه آزر يوم القيامة) وعلى وجه آزر قترة - الحديث - قال وهذا خبر في
صحته نظر من جهة أن إبراهيم عالم بأن الله لا يخلف الميعاد فقد يجعل ما بأبيه خزيا له،
مع إخباره أن الله قد وعده بأن لا يخزيه يوم يبعثون، وعلمه بأنه لا خلف لوعده فانظر
كيف أعل المتن بما ذكره.
وقد قال بعض علماء الأصول إن في الأحاديث ما لا تجوز نسبته إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه لا يمكن حملها على ظاهرها لكونه على خلاف
البرهان، وغير ظاهرها بعيد عن فصاحته صلى الله عليه وسلم (1) وملخصا.

(1) ص 130، 131، 136، 137 وما بعدها من كتاب توجيه النظر.
366

كلام مقلدة المذاهب:
وبعد أن فرغنا من كلام الذين ردوا على ابن الصلاح نأتي بطائفة من القول
في أمر مقلدة المذاهب وموقفهم من الحديث ليكون تماما على ما قاله العز بن عبد
السلام آنفا.
من المعروف الذي لا خلاف فيه أنك تجد الحديث يعمل به الحنفي لشهرته
ثم يأتي الشافعي فيرفضه لضعف في سنده! وتجد المالكي يترك الحديث لأن العمل
جرى على خلافه، ويعمل به الشافعي لقوة في سنده على ما رأى. وهكذا
وفي مرآة الأصول وشرحها مرقاة الوصول - من أصول الحنفية يرحمهم الله
في بحث حال الراوي - وهو، إن عرف بالرواية فإن كان فقيها تقبل منه الرواية مطلقا،
سواء وافق القياس أو خالفه وإن لم يكن فقيها، كأبي هريرة وأنس رضي الله عنهما
فترد روايته إن لم توافق الحديث الذي رواه.
ومن العلماء من قال: لا تقبل رواية الأخبار عن رسول الله إلا إذا كانت
خبر عامة عن عامة، أو اتفق علماء الأمصار على العمل بها، وهذا الطريق هو
لذي يميل إليه فقهاء العراق، أبو حنيفة وأصحابه.
وقد أوضح هذا الأمر الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنفية في كتابه الذي
ألفه عن الأوزاعي. وجاء في كتاب (الأم) للإمام الشافعي (1) - نقل هذا القول
عن أبي يوسف تلميذ الشافعي - حيث قال:
فعليك من الحديث بما تعرفه العامة (2) وإياك والشاذ منه، فإنه حدثنا
ابن أبي كريمة عن جعفر عن رسول الله: أنه دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا
على عيسى فصعد المنبر فخطب الناس فقال:
إن الحديث سيفشو على فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني
يخالف القرآن فليس عني. وكان عمر فيما بلغنا لا يقبل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) ص 307 و 308 ج‍ 7.
(2) يريد بالعامة الجمهور، لا مقابل الخاصة.
367

إلا بشاهدين. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا يقبل الحديث عن رسول الله
والرواية تزداد كثرة ويخرج منها ما لا يعرف ولا يعرفه أهل الفقه، ولا يوافق الكتاب
ولا السنة فإياك وشاذ الحديث، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه
الفقهاء، وما يوافق الكتاب والسنة (1) فقس الأشياء على ذلك فما خالف القرآن فليس
عن رسول الله وإن جاءت به الرواية. وحدثنا الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال في مرضه الذي مات فيه: إني لأحرم وفي رواية: لا أحرم إلا ما حرم
القرآن والله لا يمسكون علي بشئ (2) فاجعل القرآن والسنة المعروفة لك إماما وقائدا،
واتبع ذلك، وقس عليه ما يرد عليك مما لم يوضح لك في القرآن والسنة ا ه‍.
وقال الإمام علم الدين الفلاني المالكي في كتابه إيقاظ الهمم (3)
ترى بعض الناس إذا وجدوا حديثا يوافق مذهبه فرح به وانقاد له وسلم،
وإن وجد حديثا صحيحا سالما من النسخ والمعارض مؤيدا لمذهب غير إمامه فتح له
باب الاحتمالات البعيدة، وضرب عنه الصفح والعارض، ويلتمس لمذهب إمامه
أوجها من الترجيح مع مخالفته للصحابة والتابعين والنص الصريح.. وإن عجز عن
ذلك كله أدعى النسخ (4) بلا دليل، أو الخصوصية أو عدم العمل به أو غير
ذلك مما يحضر ذهنه العليل، وإن عجز عن ذلك كله ادعى أن إمامه اطلع على كل
مروى أو جله فما ترك هذا الحديث الشريف إلا وقد اطلع على طعن فيه برأيه المنيف
فيتخذ علماء مذهبه أربابا، ويفتح لمناقبهم وكراماتهم أبوابا، ويعتقد أن كل من
خالف ذلك لم يوافق صوابا، وإن نصحه أحد من علماء السنة اتخذه عدوا ولو كانوا
قبل ذلك أحبابا!
رأي مالك وأصحابه:
ورأي الإمام مالك وأصحابه أنهم يقولون: تثبت السنة من وجهين: أحدهما
أن نجد الأئمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا بما يوافقها.

(1) السنة هي السنة العملية، وما كانت تعرف عندهم إلا بذلك.
(2) ارجع إلى هذا الكلام من 332 ج 4 من سيرة ابن هشام.
(3) ص 72 من قواعد التحديث.
(4) قال الزهري أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله ومنسوخه.
368

الثاني - ألا نجد الناس اختلفوا فيها.
وقد كان رضي الله عنه يراعي كل المراعاة العمل المستمر الأكثر ويترك
ما سوى ذلك، وإن جاء فيه أحاديث، وقال: أحب الأحاديث إلى ما اجتمع
الناس عليه.
ولنعد إلى ما نحن بصدده:
قال الشاطبي في الموافقات (1): قال الإمام مالك في حديث غسل الإناء
من ولوغ الكلب سبعا: جاء هذا الحديث ولا أدري ما حقيقته! وكان يضعفه
ويقول: يؤكل صيده فكيف يكره لعابه؟ وأهمل مالك كذلك اعتبار حديث
من مات وعليه صوم. صام عنه وليه (2) وذلك للأصل القرآني ولا تزر وازرة
وزر أخرى.
وقال ابن العربي: إذا جاء خبر الواحد معارضا لقاعدة من قواعد الشرع،
فهل يجوز العمل به أم لا؟ قال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به، وقال الشافعي:
يجوز، وقال مالك إن الحديث إذا عضدته قاعدة قال به وإن كان وحده تركه كما
في حديث ولوغ الكلب - لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين، أحدهما
قوله تعالى: " فكلوا مما أمسكن عليكم " والثاني أن علة الطهارة (الحياة) وهي قائمة
بالكلب، ونهى عن صيام ست من شوال - مع ثبوت الحديث الذي أخرجه الترمذي
وأبو داود والنسائي، وهو من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام
الدهر - رد ذلك تعويلا على أصل سد الذرائع.
ومذهب أبي حنيفة: أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل ولهذا
لم يقبلوا حديث المصراة.
وكان الطحاوي (3) إمام الحنفية مجتهدا في المذهب يخالف أبا حنيفة عند قيام
الدليل، وينقد الحديث نقد معنى وإن صح السند في نظر المحدثين.

(1) ص 21 وما بعدها ج 3.
(2) رواه الشيخان وأبو داود.
(3) هو أبو جعفر الطحاوي تفقه على خاله المزني صاحب الشافعي، ألف معاني القرآن ومشكل الآثار
وغيرهما عاش من سنة 229 ه‍ إلى سنة 321 ه‍.
أضواء على السنة المحمدية
369

بين الأوزاعي وأبي حنيفة:
ذكر ابن الهمام أن الأوزاعي قال: ما لكم لا ترفعون الأيدي عند الركوع
والرفع منه؟ فقال لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شئ..
فقال الأوزاعي: كيف لم يصح وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه ابن عمر أن
رسول الله كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه - فقال
أبو حنيفة حدثنا حماد عن إبراهيم (أي النخعي) عن علقمة، والأسود عن عبد الله
ابن مسعود أن النبي كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود. فقال
الأوزاعي أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه وتقول حدثني حماد عن إبراهيم!
فقال أبو حنيفة - كان حماد أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر في
الفقه، وإن كان لابن عمر فضل صحبته فالأسود له فضل كثير.
وقال حافظ المغرب في الانتقاء (1):
إن كثيرا من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من
أخبار الآحاد العدول، لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه
من الأحاديث ومعاني القرآن فما شذ عن ذلك رده وسماه شاذا.
وقال الثوري: كان أبو حنيفة شديد الأخذ للعلم ذابا عن حرم الله أن تستحل
يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي كان يحملها الثقات، وبالأخير من فعل
رسول الله وبما أدرك عليه علماء الكوفة.
وكان الأوزاعي يقول: إنا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى (2)، كلنا يرى، ولكننا
ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيخالفه إلى غيره (3).
هذا ولا يزال أبو حنيفة إلى يوم القيامة بين الأئمة، هو الإمام الأعظم وأتباعه
يملأون مشارق الأرض ومغاربها، ولا يستطيع أحد أن يشك في إسلامهم، أو يطعن

(1) ص 149.
(2) كان أبو حنيفة إمام أهل الرأي.
(3) ص 63 تأويل مختلف الحديث.
370

في عبادتهم، هذا وقد أحصى ابن القيم في أعلام الموقعين حوال مائة حديث لم يأخذ
بها مقلدة الفقهاء. وذلك من الكتب المعتبرة عن أهل السنة.
وذكر سبط بن الجوزي جملة أحاديث من أحاديث الصحيحين لم يأخذ بها
الشافعية لما ترجح عندهم مما يخالفها وكذا بقية المذاهب.
وأخرج الخطيب عن أبي صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول
: رد أبو حنيفة على رسول الله أربعمائة حديث أو أكثر. وأخرج عن وكيع قال
وجدنا أبا حنيفة خالف مئتي حديث، وأخرج أيضا عن حماد بن سلمة من طريقين
قال إن أبا حنيفة استقبل الآثار والسنن فردها برأيه (1).
ونختم هذا الفصل بكلمة رائعة لأبي شامة.
المذهب دين مبدل:
قال رضي الله عنه في مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول:
سئل بعض العارفين عن معنى المذهب فأجاب إن معناه دين مبدل، قال تعالى
ولا تكونوا من المشركين، من الذي فرقوا دينهم وكانوا شيعا (2).
ما اختلف فيه أقوال الفقهاء:
مما اختلف فيه أقوال الفقهاء لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به، ولم
يتصل به سواه، ما روى عن عبد الوارث (3) بن سعيد أنه قال: قدمت مكة
فألفيت بها أبا حنيفة، فقلت له: ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا؟ فقال:
البيع باطل والشرط باطل! فأتيت ابن أبي ليلى فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز
والشرط باطل. فأتيت ابن شبرمة فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط
جائز، فقلت في نفسي، سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على

(1) ص 390 ج‍ 13.
(2) ص 10.
(3) في نسخة: الليث بن سعد.
371

مسألة! فعدت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك،
حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله عن بيع وشرط،
فالبيع باطل والشرط باطل، فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه،
فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة (رض)
قالت أمرني رسول الله أن أشتري بريرة فأعتقها، البيع جائز والشرط باطل (1).
قال فعدت إلى ابن شبرمة فأخبرته بما قال صاحباه: فقال: ما أدري ما قالا لك،
حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر قال: بعت النبي صلى الله عليه وآله
بعيرا وشرط لي حملانه إلى المدينة - البيع جائز والشرط جائز (2).
ونكتفي بهذا القدر لأن الأدلة كثيرة تملأ مجلدا برأسه.
علماء النحو واللغة:
مر بك أن علماء الأمة قد انقسموا في تلقي الحديث إلى ثلاثة أقسام: المتكلمون
والأصوليون - والفقهاء - والمحدثون، ولكي نستوفي هذا البحث نذكر كذلك
موقف علماء النحو اللغة فإنهم لم يجعلوا الحديث من شواهدهم في إثبات اللغة
وقواعد النحو: ذكر السيوطي في كتابه الاقتراح في أصول النحو:
وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي
وذلك نادر جدا، وإنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضا، فإن غالب
الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها فرووها بما أدت
إليه عباراتهم فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظ ولهذا نرى الحديث
الواحد في القصة الواحدة مرويا على أوجه شتى بعبارات مختلفة (3) - ومن ثم أنكر
على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث.
ثم نقل عن أبي الحسن بن الضائع أنه قال (4) في شرح الجمل:

(1) الحديث رواه البخاري في باب الشروط في الولاء.
(2) من كتاب الإنصاف للبطليوسي ص 70 و 71.
(3) راجع فصل رواية الحديث بالمعنى ص 77 من هذا الكتاب.
(4) توفي ابن الضائع سنة 86 ه‍.
372

تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد
على إثبات اللغة بالحديث. واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن
العرب - ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات
فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أفصح العرب.
وقد قال صاحب ثمار الصناعة " النحو علم يستنبط بالقياس والاستقراء من
كتاب الله تعالى وكلام فصحاء العرب. فقصره عليهما ولم يذكر الحديث.
وقال أبو حيان (1) في شرح التسهيل يرد على ابن مالك (2) الذي جوز
الاستشهاد بالحديث وهو صاحب الألفية المشهورة.
قد أكثر المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد
الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحدا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة
غيره. على أن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب
كأبي عمرو بن العلاء (3) وعيسى بن عمر (4) والخليل (5) وسيبويه (6) من أئمة
البصريين - والكسائي (7) والفراء (8) وعلي بن مبارك الأحمر (9) وهشام بن الضرير
من أئمة الكوفيين - لم يفعلوا ذلك - وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين
وغيرهم من نحاة الأقاليم، كنحاة بغداد وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك
مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم بأن ذلك
لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن الكريم في

(1) توفي سنة 740 ه‍.
(2) توفي سنة 672 ه‍.
(3) توفي سنة 154 ه‍.
(4) توفى سنة 149 ه‍.
(5) توفي سنة 175 ه‍.
(6) توفي سنة 188 ه‍.
(7) توفي سنة 189 ه‍.
(8) توفي سنة 207 ه‍.
(9) توفي سنة 194 ه‍.
373

إثبات القواعد الكلية وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في
زمانه صلى الله عليه وسلم ولم تنقل بتلك الألفاظ جميعها نحو ما ورد في قوله صلى الله
عليه وسلم " زوجتكها بما معك من القرآن وملكتكها بما معك " (1) وغير ذلك من
الألفاظ الواردة في هذه القصة فتعلم يقينا أنه صلى الله عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه
الألفاظ، بل لا نجزم بأنه قال بعضها إذ يحتمل أنه قال لفظا مرادفا لهذه الألفاظ
غيرها فأتت الرواة بالمرادف ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب ولا سيما مع
تقادم السماع وعدم ضبطه بالكتابة والاتكال على الحفظ والضابط منهم من ضبط
المعنى (2) وأما ضبط اللفظ فبعيد جدا لا سيما في الأحاديث الطوال، وقد قال سفيان
الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى. ومن
نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم يروون بالمعنى.
الثاني: أنه وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث، لأن كثيرا من الرواة
كانوا غير عرب بالطبع ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو فوقع اللحن في كلامهم
وهم لا يعلمون ذلك، وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب -
ونعلم قطعا من غير شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس فلم
يكن يتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها.. والمصنف " أي
ابن مالك " قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبا بزعمه على النحويين
- وما أمعن النظر في ذلك ولا صحب من له التمييز - وقد قال لنا قاضي القضاة
بدر الدين بن جماعة - وكان ممن أخذ عن ابن مالك قلت له يا سيدي: هذا الحديث
رواية الأعاجم ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنه ليس من لفظ الرسول صلى الله
عليه وسلم! فلم يجب بشئ: قال أبو حيان: وإنما أمعنت الكلام في هذه
المسألة لئلا يقول المبتدئ، ما بال النحويين، يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم
والكافر ولا يستدلون بما روى في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما
فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث ه‍.

(1) راجع ألفاظ هذا الحديث بصحفة 91.
(2) وبعيد جدا أن يضبط المعنى كله.
374

وقال ابن الأنباري في الإنصاف في منع (أن) في خبر كاد: وأما حديث كاد
الفقر أن يكون كفرا، فإنه من تغييرات الرواة لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح من
نطق بالضاد، وحديث كاد الفقر أن يكون كفرا، ضعيف. وفي كتاب النحو
لإبراهيم مصطفى ورد في الحديث: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون
فلحن راويه (1)، وهذا الحديث رواه مسلم.
وممن رد على ابن مالك كذلك أبو إسحق إبراهيم الأندلسي الشاطبي الغرناطي في
شرحه على ألفية ابن مالك قال (2):
وأما استدلاله (ابن مالك) بالحديث الشريف فإنه قد خالف في الاستشهاد
به جميع المتقدمين، إذ لا تجد في كتاب نحو منهم استدلالا بحديث منقول عن
النبي صلى الله عليه وسلم إلا على وجه أذكره إن شاء الله تعالى - وهم يستشهدون بكلام
سفهاء العرب وأجلافهم وبأشعارهم التي فيها ذكر الخنى والفحش، بل روى أبو حاتم
عن الجرمي، أنه أتاه أبو عبيدة معمر بن المثنى بشئ من كتابه في تفسير غريب
القرآن الكريم قال، فقلت له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإن هذا خلاف
تفسير الفقهاء!! فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم! فإن شئت فخذ
وإن شئت فذر! ويتركون الأحاديث الصحيحة كما ترى، ووجه تركهم للحديث
أن يستشهدوا به في النحو واللغة، ما ثبت عندهم من جواز نقله بالمعنى عند الأئمة -
إذ المقصود الأعظم إنما هو المعنى لتلقي الأحكام الشرعية لا اللفظ، ولذلك تجد في
الأحاديث، اختلاف الألفاظ كثيرا فترى الحديث الواحد في القصة الواحدة قد
اختلفت فيه العبارات اختلافا متفاوتا بين ما هو جار على ما عرف من كلام العرب
وما لم يعرف، وما ذاك إلا لما ساغ لهم (أعني الرواة) من نقله بالمعنى. وذلك خلاف
ما عليه الأمر في نقل الشعر وكلام العرب، فإن رواته لم ينقلوه أخذا لمعناه فقط

(1) ص 65.
(2) نقلنا هذا الكلام عن كتاب المواهب الفتحية للشيخ حمزة فتح الله رحمه الله ص 39 -
41 ج 1 الذي لخص فيه ما نقله العلامة أبو عبيد الله الأندلسي المالكي المشهور بالراعي عن شيخ
شيوخه أبي إسحق إبراهيم الأندلسي.
وممن تكلموا عن موقف علماء النحو من الحديث وأنهم لا يستشهدون به عبد القادر البغدادي
صاحب خزانة الأدب فراجع، ما قاله في الصفحتين 5 و 6 من الجزء الأول.
375

بل المعنى به عندهم اللفظ، لما ينبئ على ذلك من الأحكام اللسانية، فاعتنى
النحويون بالاستنباط مما نقل من كلام العرب عن الثقات، وتركوا ما نقل من
الأحاديث لاحتمال إخراج الراوي لفظ الحديث عن القياس العربي فيكون قد بنى
على غير أصل - وذلك من جملة تحريهم في المحافظة على القواعد اللسانية. ولو رأيت
اجتهادهم في الأخذ عن العرب وكيفية التلقي عنهم لرأيت العجب، فليس بمنكر
تركهم للاستشهاد بالحديث الشريف والاستنباط منه، كيف وهم بنوا على ما نقل
الألفاظ. إلى أن قال: ولا أعرف له (1) من النحاة سلفا إلا ابن خروف. وكأن
ابن مالك - والله أعلم - بنى على القول بمنع رواية الحديث بالمعنى مطلقا، وهو قول
ضعيف يرده المقطوع به من نقل القضايا المتحدة بالألفاظ المختلفة غير مختصة بزمان
الصحابة دون غيرهم ولا يقتصر به على العرب دون من عداهم، ومن تأمل كتب
الحديث وجد فيها كثيرا من ذلك بل من الألفاظ الحائدة عن كلام العرب أشياء
كثيرة حتى تقع تخطئة الرواة من الأئمة الناقدين، والعلماء العارفين بكلام العرب
من غير نكير من غيرهم - قال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي - فالحق أن ابن مالك في هذه
القاعدة غير مصيب إلخ.. ا ه‍.
ولعل القارئ قد لاحظ أننا قد أكثرنا من الاستشهاد بكلام أئمة النحو الكبار
في هذا الأمر، ولم نفعل ذلك إلا لأن في كلام كل إمام منهم من الفوائد ما لا يوجد
في غيره، وأن في أدلتهم جميعا ما يقنع أهل الفكر والرأي، ولا يمتري فيه إلا جهول
أو متعصب.
وثم طوائف أخرى وقفت من الحديث مواقف مختلفة كالشيعة والزيدية
والخوارج وغيرهم ولكل قوم سنة وإمامها.
فأما الشيعة وبخاصة الإمامية فإنهم لا يعتبرون من الأحاديث إلا ما صح لهم من
طرق أهل البيت عن جدهم، يعني ما رواه الصادق " جعفر " عن أبيه الباقر عن أبيه

(1) أي لابن مالك.
376

زين العابدين عن الحسين السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله سلام الله عليهم
جميعا، أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن الحكم وعمران بن
حطان وعمرو بن العاص ونظرائهم فليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة (1)
وأما الخوارج (2) فإنهم اقتصروا من الحديث على من يتولونه من الصحابة،
فالأحاديث المقبولة عندهم هي ما خرجت للناس قبل الفتنة (3)، أما ما بعدها فإنهم
نابذوا الجمهور كله لأنهم اتبعوا أئمة الجور - بزعمهم - فلم يصبحوا بذلك
أهلا لثقتهم.
رأي الإمام محمد عبده رحمه الله:
كان الأستاذ الإمام محمد عبده لا يأخذ بحديث الآحاد مهما بلغت درجته من
الصحة في نظر المحدثين، إذا ما خالف العقل أو القرآن أو العلم، وإليك طرفا
من أقواله في ذلك: قال رحمه الله وهو يتكلم عن سحر النبي ما يلي:
وقال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر
بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح (4) فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق
من بدع المبتدعين. لأنه ضرب من إنكار السحر وقد جاء القرآن بصحة السحر!!
فأنظر كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح في نظر المقلدين بدعة! نعوذ بالله!
يحتج بالقرآن على ثبوت السحر! ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله
عليه وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك! مع أن
الذي قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون إن الشيطان يلابسه عليه السلام،
وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر
الذي نسب إلى لبيد (5) فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم!

(1) ص 149 من كتاب أصل الشيعة وأصولها للعلامة محمد الحسين آل كاشف الغطاء - الطبعة
العاشرة.
(2) هم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه.
(3) ومن الذي يستطيع أن يميز ما خرج قبل الفتنة مما خرج بعدها.
(4) حديث السحر رواه أحمد والشيخان والنسائي.
(5) لبيد بن الأعصم الذي قالوا بأنه سحر النبي " ص ".
377

والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم
صلى الله عليه وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه،
وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له
إلى المشركين أعدائه ووبخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور قطعا.
حديث السحر من الآحاد:
وأما الحديث - فعلى فرض صحته - هو حديث آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها
في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ
في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون! على أن الحديث
الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من
قامت له الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال - فلنا بل
علينا أن نفوض الأمر في الحديث - ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب
وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبي في عقله - كما زعموا - جاز عليه أن يظن أنه
بلغ شيئا وهو لم يبلغه، أو أن شيئا ينزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر
لا يحتاج إلى بيان، إلى أن قال رحمه الله، ما أضر المحب الجاهل، وما أشد خطره
على من يظن أنه يحبه، نعوذ بالله من الخذلان - على أن نافي السحر بالمرة لا يجوز
أن يعد مبتدعا، لأن الله تعالى ذكر ما يعتقد به المؤمنون في قوله " آمن الرسول "
الآية وفي غيرها من الآيات، ووردت الأوامر بما يجب على المسلم أن يؤمن به حتى
يكون مسلما ولم يأت في شئ ذكر السحر.. وقال:
ولو كان هؤلاء يقدرون الكتاب قدره، ويعرفون من اللغة ما يكفي لعاقل أن
يتكلم ما هذروا هذا الهذر، ولا وصموا الإسلام بهذه الوصمة - لكن من تعود القول
بالمحال، لا يمكن الكلام معه بحال، نعوذ بالله من الخبال (1).
وسحر النبي قد نفاه من المتقدمين غير الأستاذ الإمام، الجصاص في تفسيره.

(1) ص 183 - 186 من تفسير جزء عم وقد أنكر صحة رواية حديث السحر بعض العلماء،
ومنهم المفسر الفقيه أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن.
378

وقد رد الأستاذ الإمام كذلك أحاديث كثيرة في أمور اعتقادية وغير اعتقادية
كحديث الغرانيق وحديث زينب بنت جحش وغيرهما مما لا نستطيع إيراد أقواله
فيها هنا.
رأي السيد رشيد رضا:
نختتم هذا الموضوع بكلمة قيمة للعلامة السيد رشيد رضا رحمه الله:
إن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من تثبت عنده واطمأن قلبه بها،
ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة يكتبون جميع
ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها، مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به
وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة كصحيفة علي رضي الله عنه
المشتملة على بعض الأحكام كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة، ولم يرض
الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحمل الناس على العمل بكتبه حتى
الموطأ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة، وعلى من
وثق برواية أحد وفهمه لشئ منها أن يأخذ عنه - ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما.
ومن بلغه حديث وثبت عنده وجب عليه العمل به، ومن خالف بعض
الأحاديث لعدم ثبوتها عنده، أو لعدم العلم بها فهو معذور. وأحاديث الآحاد
لا يؤخذ بها في العقائد، وإنما يؤخذ بها في الأحكام الفرعية، لأن العقائد دلائلها
الأخبار المتواترة.
وكل من ظهر له علة في رواية حديث فلم يصدق رفعه لأجلها، فهو معذور
كذلك، ولا يصح أن يقال في حقه إنه مكذب لحديث كذا.
وهي تفيد الظن، والأمة لم تتعبد إلا بخبر يغلب على الظن صدقه، حتى جعلوا
من قواعدهم: يقع الحكم بالظن الغالب، ولا يلزم من ظنهم صحته، صحته في نفس
الأمر، ومن القواعد الجليلة المتفق عليها عند علماء الأصول: أن طروء الاحتمال
في المرفوع من وقائع الأحوال، يكسوها ثوب الإجمال، فيسقط به الاستدلال (1).

(1) ص 784 ج 27 المنار.
379

طلب الحديث بدون فقه
وما نبز به المشتغلون بالحديث
بقي أمر لا يصح لنا أن نغفل الكلام فيه، ذلك هو أمر طلب الحديث في
العصور المتأخرة، لأنه مما يتصل بموضوع كتابنا.
قال أبو عمر بن عبد البر:
أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا (1) اليوم دون تفقه فيه
ولا تدبر لمعانيه، فمكروه عند جماعة أهل العلم (2).
وقال الذهبي في كتابه (3) " بيان زغل العلم والطلب عن علم الحديث ":
وأما المحدثون فغالبهم لا يفهمون، ولا همة لهم في معرفة الحديث، ولا في
التدين به... معذور سفيان الثوري فيما يقول: لو كان الحديث خيرا لذهب كما
ذهب الخير! (نص كلام سفيان: لو كان هذا الحديث خيرا لنقص كما ينقص
الخير لكنه شر فأراه يزيد كما يزيد الشر) صدق والله! وأي خير في حديث مخلوط
صحيحه بواهيه، أنت لا تفليه، ولا تبحث عن ناقليه، ولا تدين الله تعالى به..
إلى أن قال: بالله خلونا فقد بقينا ضحكة لأولي العقول، ينظرون إلينا ويقولون
هؤلاء هم أهل الحديث!!
وبعد أن تكلم عن سير الرواية وكبار الرواة في العصور الأولى قال: ثم تناقص
هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثة. ولم يزل ينقص إلى اليوم، فأفضل
من في وقتنا اليوم من المحدثين على قلتهم، نظير صغار من كان في ذلك الزمان
على كثرتهم، وكم من رجل مشهور بالفقه وبالرأي في الزمن القديم أفضل في

(1) توفي الحافظ بن عبد البر سنة 463 ه‍.
(2) ص 127 ج 2 جامع بيان العلم.
(3) توفي الحافظ الذهبي سنة 748 ه‍.
380

الحديث من المتأخرين، وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من
مشيخة زماننا إلخ (1).
هذه هي أقوال أئمة الحديث فيما كانت عليه حالة المحدثين في القرنين الخامس
والثامن من الهجرة، فترى ماذا تكون حال كثيرين من الذين يزعمون اليوم أنهم
من المحدثين، ومبلغ علمهم أنهم قرأوا بعض كتب الحديث واستظهروا عددا مما فيها
وهذا وحده لا يكفي لأن يكون الإنسان به عالما ينتفع بعلمه، أو يطمئن الناس
إلى ما يقوله أو يفتي به.
ورحم الله أستاذنا الإمام محمد عبده حيث قال - في رجل وصفوه بأنه قد جد
واجتهد، حتى بلغ ما لم يبلغه أحد - فحفظ متن البخاري كله -: " لقد زادت نسخة
في البلد.. " حقا والله ما قال الإمام. أي أن قيمة هذا الرجل - الذي أعجب
الناس جميعا به لأنه حفظ البخاري - لا تزيد على قيمة نسخة من كتاب البخاري
لا تتحرك ولا تعي!
والذهبي الذي نقلناه عنه هذا الكلام القيم هو المحدث الكبير مؤرخ الإسلام
قال فيه العلامة الصفدي فيه كتابه " نكت الهميان "،
اجتمعت به، وأخذت عنه وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه ولم أجد عنده جمود
المحدثين ولا كودنة النقلة (2)
ولم يقل الصفدي ذلك إلا لما اشتهر بين الناس جميعا من جمود رجال الحديث،
وقد وصفهم كذلك الأستاذ الإمام بضيق العطن وحرج الصدر في رسالة الإسلام
والنصرانية (3).
وإذا كان الصفدي قد قال ذلك في شيخه لكي يبرئه من نقيصة الجمود الذي
عرف بها الذين يشتغلون بالحديث، فإن شيخه الذهبي نفسه قد قال فيهم ما ننقله
من كتابه النفيس " سير أعلام النبلاء " في ترجمة الفقيه المحدث شيخ الإسلام
أبي بكر بن عياش:

(1) ص 6 و 9 و 11.
(2) ص 242. وفي لسان العرب الكودن هو الهجين، وقيل هو البغل، ويقال للبرذون
الثقيل (كودن) تشبيها بالبغل وفي الأساس أثقل من البرذون.
(3) ص 107 من الطبعة الرابعة.
381

نقلت من فوائد أبي عمرو أحمد بن محمد النيسابوري عن أبي تراب محمد بن
الفرج قال: سمعت خالد بن عبد الله الكوفي يقول: كان في سكة أبي بكر بن
عياش كلب إذا رأى صاحب محبرة " أي من الذين يكتبون الحديث " حمل عليه،
فأطعمه أصحاب الحديث شيئا فقتلوه! فخرج أبو بكر، فلما رآه ميتا قال: إنا لله
ذهب الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! وقال نعيم بن حماد: كان
أبو بكر بن عياش يبزق في أصحاب الحديث.
وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (1):
وإنا لا نخلي أكثر أهل الحديث من العذل (2) في كتبنا في تركهم الاشتغال
بعلم ما قد كتبوا، والتفقه بما جمعوا، وتهافتهم على طلب الحديث من عشرة أوجه
وعشرين وجها! وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع لمن أراد الله
عز وجل بعلمه حتى تنقضي أعمارهم ولم يحلوا من ذلك إلا بأسفار (3)، اتبعت
الطالب ولم تنفع الوارث! فمن كان من هذه الطبقة فهو عندنا مضيع لحظه، مقبل
على ما كان غيره أنفع له منه.
وقد لقبوهم بالحشوية والنابتة (4) والمجبرة وربما قالوا: الجبرية، وسموهم الغثاء (5)
والغثر (6) وهذه كلها أنباز (7).
وقال الوزير اليماني في الروض الباسم: إنما سموا بالحشوية لأنهم يحشون الأحاديث

(1) ص 96.
(2) العذل اللوم.
(3) أسفار أي كتب، جمع سفر.
(4) في أساس البلاغة للزمخشري وهذا قول النابتة والنوابت وهم الحشوية.
(5) الغثاء بالضم والمد في الأصل، ما يجيئ فوق السبل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره أطلقوه
عليهم على المجاز.
(6) الغثر بضم فسكون جمع أغثر أصله سفلة الناس وأرذالهم.
(7) أي ألقاب جمع نبز.
382

التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول الله، أي يدخلونها فيها وليست منها.
وقال محمد بن نشوان في كتابه " ضياء العلوم ": إن الحشوية سموا بذلك لكثرة قبولهم
الأخبار من غير إنكار (1).
وقال الشعبي:
كره الصالحون الأولون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من أمري
ما استدبرت ما حدثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث.
وقال الأعمش:
والله لأن أتصدق بكسرة أحب إلى من أن أتحدث بستين حديثا.
وسأل شعبة أيوب السختياني عن حديث فقال: أنا أشك فيه. فقال:
شكك أحب إلي من يقين سبعة.
ومن قول شعبة بن الحجاج: يا قوم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن.
وقال: ما شئ أخوف عندي أن يدخلني النار من الحديث.
وقال وددت أني وقاد حمام، ولم أعرف الحديث.
وقال عبيد الله بن عمرو: كنت في مجلس الأعمش فجاءه رجل فسأله مسألة
فلم يجبه فيها، ونظر إلى أبي حنيفة فقال: يا نعمان قل فيها، فقال: القول فيها كذا.
قال: من أين؟ قال: من حيث حدثتناه، فقال الأعمش، نحن الصيادلة،
وأنتم الأطباء.
أي أن رجال الحديث كالصيادلة وأما الفقهاء فكالأطباء.
وقال شعبة: كنت إذا رأيت رجلا من أهل الحديث يجيئني أفرح به!
فصرت اليوم ليس شئ أبغض إلى من أن أرى واحدا منهم، وكان يقول: إن هذا
الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟

(1) ص 120 ج 1.
383

وكان الشعبي يرى أنه في الشعر أسلم منه في الحديث حتى قال لأصحابه:
لو أردت الله ما خرجت لكم، ولو أردتم الله ما جئتموني، ولكنا نحب المدح ونكره الذم.
وقال عمرو بن الحارث: ما رأيت علما أشرف، ولا أهلا أسخف من أهل
الحديث!!
ونظر سفيان إلى أصحاب الحديث فقال: أنتم سخنة عين، لو أدركنا
وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربا (1).
وقال مغيرة الضبي: والله لأنا أشد خوفا منهم (أصحاب الحديث) من الفساق.
وقال سفيان الثوري: إنا في هذا الحديث منذ ستين سنة، ووددت أني خرجت
منه كفافا لا علي ولا لي (2).
وعن محمد بن سلام قال: حدثني يحيى بن سعيد القطان قال:
رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يروون مصنوعا كثيرا،
ورواة الشعر ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون هذا مصنوع (3).
وسئل المازني (النحوي الكبير) عن صفات أهل العلم فقال: أصحاب القرآن
فيهم تخليط وضعف، وأهل الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج (أي طيش
وتسرع)، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار الظرف كله (4).
ولو أردنا أن ننقل كل ما قيل في جمود رجال الحديث، لطال بنا نفس
القول فنكتفي بذلك.
ونختتم هذا الفصل بأمر يؤسى له لأنه يدل على مقدار ما أصاب الإسلام من
داء التفرق، فمن فرق المسلمين فرقة المعتزلة وتسمى العدلية ومثلها فرقة تسمى أصحاب

(1) كان عمر يضرب من كان يروي الحديث، وممن ضربهم على ذلك أبا هريرة وكعب الأحبار
راجع كتابنا " شيخ المضيرة ".
(2) هذه الأخبار وغيرها كثير، تجدها في الجزء الثاني من كتاب جامع العلم وفضله لحافظ
المغرب ابن عبد البر.
(3) ص 105 من ذيل الأمالي لأبي علي القالي.
(4) ص 123 ج‍ 7 معجم الأدباء.
384

السنة وبينهما خلاف شديد أدى إلى أن يطعن بعضهم في بعض ونكتفي بذكر مثال
واحد من هذا الطعن.
فمما قالته العدلية في أصحاب السنة:
وجماعة سموا هواهم سنة * وجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا * شنع الورى فتستروا بالبلكفه (1)
وقال أصحاب السنة في أعدائهم العدلية:
وجماعة كفروا برؤية ربهم * حقا ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا: أجل * عدلوا بربهم فحسبهموا سفه
وتلقبوا الناجين كلا إنهم * إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه

(1) البلكفة أي بلا كيف.
385

خاتمة
رأينا - بعد أن فرغنا من القول في أمر الحديث المحمدي وحياته وتاريخه،
أن نختم كتابنا بفصول تشتمل على مباحث تتصل بالحديث وفقهه، وكيف يسلك
الطالب إلى معرفة الصحيح منه، وعلى قواعد وأصول في الدين الإسلامي لا يستغني
عنها القارئ، وهذه الفصول - ولا ريب - لازمة للكتاب ومتممة له، وسنمهد لها
بكلام ممتع لفيلسوف المؤرخين ابن خلدون في فلسفة التاريخ والاجتماع.
قال في مقدمته الشهيرة: إن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم
تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع
الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها
من العثور، ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيرا ما وقع للمؤرخين
والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد
النقل غثا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها
بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار
فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط (1).
ولما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته، وله أسباب تقتضيه، فمنها التشيعات
للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر،
أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها
تشيع لرأي أو نحلة، قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل
والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب
ونقله.
ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثقة بالناقلين، وتمحيص
ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح، ومنها " الذهول عن المقاصد " فكثير من الناقلين
لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في

(1) ص 9.
386

الكذب ومنها " توهم الصدق " وهو كثير وإنما يجيئ في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين
ومنها " الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع " لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع،
فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه، ومنها تقرب الناس
في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال وإشاعة
الذكر بذلك فيستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء
والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في
الفضائل ولا متنافسين في أهلها، ومن الأسباب المقتضية له أيضا - وهي سابقة
على جميع ما تقدم - الجهل بطبائع الأحوال في العمران، فإن كل حادث من
الحوادث - ذاتا كان أو فعلا لا بد من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من
أحواله - فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها
أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص
من كل وجه يعرض - وكثيرا ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها
وتؤثر عنهم (1).
تمحيص الأخبار بمعرفة طبائع العمران سابق على التمحيص بتعديل الرواة:
وقال: وأحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار إنما هو بمعرفة طبائع العمران
وتمييز صدقها من كذبها. وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى
تعديل الرواة، حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه، ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان
مستحيلا فلا فائدة، للنظر في التعديل والتجريح - ولقد عد أهل النظر من المطاعن
في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل، وإنما كان التعديل
والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية، لأن معظمها تكاليف إنشائية
أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة
بالعدالة والضبط ا ه‍ (2).

(1) ص 35 و 36.
(2) ص 37 من المقدمة.
387

ولما تكلم عن عمر الدنيا قال: كان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام آثارا
منقولة عن الصحابة، وخصوصا مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأحبار ووهب
ابن منبه وأمثالهما، وقال في حديثه عن تفسير القرآن:
وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث
والسمين، والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب
ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شئ، مما تتشوق
إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما
يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود
ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم
ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين
أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام
الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم
وأمثال ذلك وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم،
فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب
التفسير بهذه المنقولات. وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة فتلقيت بالقبول من
يومئذ (1).
وقال في بحث علوم الحديث (2).
إن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال فأبو حنيفة
رضي الله تعالى عنه: يقال بلغت روايته إلى 17 حديثا أو نحوها، ومالك رحمه الله
إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها 300 حديث أو نحوها، وأحمد بن حنبل
رحمه الله في مسنده 50 ألف حديث (3).. وإنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل
المطاعن التي تعترضه فيها، والعلل التي تعرض في طرقها، ولا سيما والجرح مقدم عند
الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث

(1) 439 من المقدمة.
(2) 444 و 445 من المقدمة.
(3) راجع الكلام عن الموطأ ومسند أحمد فيما مضى من القول.
388

وطرق الأسانيد، ويكثر ذلك، فتقل روايته لضعف في الطرق.. والإمام أبو حنيفة
إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل وضعف رواية الحديث اليقيني
إذا عارضها الفعل النفسي (1) فقل حديثه.. لا أنه ترك رواية الحديث متعمدا،
فحاشاه من ذلك.. وأما غيره فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم والكل على
اجتهاد.
وقال (2): إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ
عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخة ومنسوخه،
ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته، بما تلقوه من النبي أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم
وكانوا يسمون لذلك القراء، أي الذين يقرءون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية.
أعظم ما رزئ به الإسلام:
قال الأستاذ الإمام محمد عبده:
لم يرزأ الإسلام بأعظم مما ابتدعه المنتسبون إليه، وما أحدثه الغلاة من
المفتريات عليه، فذلك مما جلب الفساد على عقول المسلمين، وأساء ظنون غيرهم
فيما بنى عليه الدين. وقد فشت للكذب فاشية على الدين المحمدي في قرونه الأولى
حتى عرف ذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل عهد الكذب على النبي صلى
الله عليه وسلم في حياته.. إلا أن عموم البلوى بالأكاذيب حق على الناس بلاؤه
في دولة الأمويين فكثر الناقلون وقل الصادقون وامتنع كثير من أجلة الصحابة عن
الحديث إلا لمن يثقون بحفظه خوفا من التحريف فيما يؤخذ عنهم.. وروى الإمام
مسلم في مقدمة صحيحه قال: ما رأيت أهل الخير في شئ أكذب منهم في
الحديث (3) ثم اتسع شر الافتراء، وتفاقم خطب الاختلاق وامتد بامتدادات

(1) أي يعرض الأمر على الطبائع النفسية والبيئة الاجتماعية.
(2) ص 446 من أجل ذلك لم يأخذ أبو حنيفة بما جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة
ابن جندب لأسباب بينها ولأنهم لم يكونوا من أهل الفتيا راجع كتابنا " شيخ المضيرة ".
(3) روى مسلم هذه العبارة في مقدمة صحيحه عن يحيى بن سعيد القطان بهذا اللفظ، وبلفظ
الصالحين بدل أهل الخير.
389

الزمان، ومن راجع مقدمة الإمام مسلم، علم ما لحقه من التعب والعناء في تصنيف
صحيحه، واطلع على ما أدخله الدخلاء في الدين وليس منه في شئ. لم يخف على أهل
النظر في التاريخ أن الدين الإسلامي غشى أبصار العالم بلامع القوة، وعلا رؤس
الأمم بسلطان السطوة وفاض في الناس فيضان السيول المنحدرة، ولاحت لهم فيه
رغبات، وتمثلت لهم منه مرهبات، وقامت لأولي الألباب عليه آيات بينات، فكان
الداخلون في الدين على هذه الأقسام: قوم اعتقدوا به إذعانا لحاجته واستضاءة
بنوره وأولئك الصادقون، وقوم من ملل مختلفة انتحلوا لقبه واتسموا بسمته، إما لرغبة
في مغانمه أو لرهبة من سطوات أهله، أو لتعزز بالانتساب إليه فتدثروا بدثاره،
لكنهم لم يستشعروا بشعاره، لبسوا الإسلام على ظواهر أحوالهم، إلا أنه لم يمس
أعشار قلوبهم، فهم كانوا على أديانهم في بواطنهم، ويضارعون المسلمين في
ظواهرهم. وقد قال الله في قوم من أشباههم: " قالت الأعراب آمنا! قل لم تؤمنوا، ولكن
قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " فمن هؤلاء من كان يبالغ في الرياء
حتى يظن الناس أنه من الأتقياء، فإذا أحس من قوم ثقة بقوله أخذ يروي لهم
أحاديث دينه القديم مسندا لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض أصحابه،
ولهذا ترى جميع الإسرائيليات وما حوته شروح التوراة قد نقل إلى الكتب الإسلامية
على أنه أحاديث نبوية (1). ومنهم من تعمد وضع الأحاديث التي لو رسخت
معانيها في العقول أفسدت الأخلاق وحملت على التهاون بالأعمال الشرعية وفترت
الهمم عن الانتصار للحق، كالأحاديث الدالة على انقضاء عمر الإسلام " والعياذ
بالله أو المطمعة في عفو الله مع الانحراف عن شرعه، أو الحاملة على التسليم
للقدر بترك العقل فيما يصلح الدين والدنيا. كل ذلك يضعه الواضعون قصدا لإفساد
المسلمين وتحويلهم عن أصول دينهم. ليختل نظامهم ويضعف حولهم.
ومن الكاذبين قوم ظنوا أن التزيد في الأخبار والإكثار من القول، يرفع
من شأن الدين، فهذروا بما شاءوا، يبتغون بذلك الأجر والثواب، ولن ينالهم
إلا الوزر والعقاب، وهم الذين قال فهم مسلم في صحيحه ما رأيت الصالحين في
شئ أكذب منهم في الحديث (2) ويريد " بالصالحين " أولئك الذين يطيلون

(1) راجع فصل الإسرائيليات من هذا الكتاب ص 145 وما بعدها.
(2) راجع فصل الوضاع الصالحون ص 138.
390

سبالهم ويوسعون سربالهم، ويطأطئون رؤوسهم ويخفتون من أصواتهم، ويغدون
ويروحون إلى المساجد بأشباحهم، وهم أبعد الناس عنها بأرواحهم، يحركون بالذكر
شفاههم ويلحقون بها في الحركة سبحهم.. ولكنهم كما قال أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب جعلوا الدين من أقفال البصيرة ومغاليق العقل، فهم أغرار مرحومون يسيئون
ويحسبون أنهم يحسنون.. فهؤلاء قد يخيل لهم الظلم عدلا، والغدر فضلا، فيرون
أن نسبة ما يظنون - إلى أصحاب النبي مما يزيد في فضلهم، ويعلى في النفوس منزلتهم
فيصح فيهم ما قيل. عدو عاقل خير من محب جاهل (1) ا ه‍ ببعض اختصار.
ولما عرض رحمه الله لعلم الحديث في اللائحة التي وضعها لإصلاح التعليم،
وما يجب اتباعه قال: " فن الحديث على شرط أن يؤخذ مفسرا للقرآن مبينا له، مع
اطراح ما يخالف نصه، من الأحاديث الضعيفة، والاجتهاد لإرجاع الأحاديث
الصحيحة إليه إن كان ظاهرها يوهم المخالفة (2).
وقال في خطاب لأحد إخوانه ينصحه فيه بمداومة قراءة القرآن والسيرة النبوية
قال: " داوم قراءة القرآن وتفهم أوامره ونواهيه ومواعظه وعبره، كما كان يتلى على
المؤمنين والكافرين أيام الوحي، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ مفرد
غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب
إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يحمل عليه، وضم إلى ذلك
مطالعة السيرة النبوية، واقفا عند الصحيح المعقول، حاجزا عينيك عن الضعيف
والمبذول (3).
وقال طيب الله ثراه، في تفسير القرآن: وفهم الدين: لا يتبع إلا الدليل
القاطع لأن هذا من باب العقائد، وهو مبني على اليقين الذي لا يمكن الأخذ فيه
بالظن والوهم (4).

(1) ص 347 - 49 تاريخ الإسناد للإمام ج‍ 2.
(2) ص 516 من المصدر نفسه.
(3) ص 559 من المصدر نفسه.
(4) ص 643 من المصدر نفسه.
391

التصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم (1).:
قال الأستاذ الإمام محمد عبده:
يجب تصديق خبره صلى الله عليه وسلم والإيمان بما جاء به، ونعني بما جاء
به ما صرح به في الكتاب العزيز، وما تواتر الخبر به، تواترا صحيحا مستوفيا
لشرائطه، وهو ما أخبر به جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة في أمر
محسوس. ومن ذلك أحوال ما بعد الموت من بعث ونعيم في جنة، وعذاب في نار -
وحساب على حسنات وسيئات، وغير ذلك مما هو معروف.
ويجب أن يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح في الخبر، ولا تجوز الزيادة
على ما هو قطعي بظني - وشرط صحة الاعتقاد أن لا يكون فيه شئ يمس التنزيه
وعلو المقام الإلهي عن مشابهة المخلوقين.
أما أخبار الآحاد فإنما يجب الإيمان بما ورد فيها على من بلغته وصدق بصحة
روايتها، وأما من لم يبلغه الخبر، أو بلغه وعرضت له شبهة في صحته، وهو ليس
من المتواتر فلا يطعن في إيمانه عدم التصديق به. والأصل في جميع ذلك أن من
أنكر شيئا (2) وهو يعلم أن النبي حدث به أو قرره، فقد طعن في صدق الرسالة
وكذب بها، ويلحق به من أهمل العلم بما تواتر وعلم أنه من الدين بالضرورة وهو
ما في الكتاب وقليل من السنة في العمل (3).

(1) ص 200 - 202 رسالة التوحيد.
(2) أي من أمر الدين الذي هو موضوع الرسالة والتبليغ عن الله تعالى.
(3) أكثر السنن المتواترة هي العملية كصفة الصلاة والحج وأما الأحاديث القولية المتواترة
فقيل إنها لا تبلغ أقصى جمع القلة، من تعليق السيد رشيد.
392

هل كل من وثقه جمهور المتقدمين يكون ثقة:
كان أحد الشيوخ الأزهريين قد أخذ على العلامة السيد رشيد رضا أنه انتقد
كعب الأحبار ووهب بن منبه! وأظهر عدم الثقة بروايتهما، فأجاب رحمه الله برد
طويل ممتع مفحم، ننقل منه ما يلي: " إذا سلمنا أن كل من وثقه جمهور المتقدمين
فهو ثقة - وإن ظهر خلاف ذلك بالدليل - نفتح بابا للطعن في أنفسنا بنبذ الدليل
والأخذ في مقدماته بالتقليد، ومخالفة هداية القرآن المجيد ".
وبعد أن بين أن نقد رواة الحديث قد بحث فيه رجال الجرح والتعديل قال:
أما تمحيص متون الروايات وموافقتها أو مخالفتها للحق والواقع وللأصول أو الفروع
الدينية القطعية أو الراجحة وغيرها فليس من صناعتهم، (أي رجال الحديث) ويقل
الباحثون فيه منهم، ومن تعرض له منهم - كالإمام أحمد والبخاري لم - يوفه
حقه، كما تراه فيما يورده الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة
له ولغيره، ومنه ما كان يتعذر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع كظاهر، حديث
أبي ذر عند الشيخين وغيرهما (1): أين تكون الشمس بعد غروبها؟ فقد كان
المتبادر منه للمتقدمين أن الشمس تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها
مدة الليل! إذ تكون تحت العرش تنتظر الأذن لها بالطلوع ثانية!! وقد صار من
المعلوم القطعي لمئات الملايين من البشر أن الشمس لا تغيب عن الأرض في أثناء
الليل، وإنما تغيب عن بعض الأقطار وتطلع على غيرها، فنهارنا ليل عند غيرنا،
وليلنا نهار عندهم، كما هو المتبادر من قوله تعالى (يكور الليل على النهار ويكور
النهار على الليل)، وفي قوله: (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا)، فنحن - بعد

(1) نص الحديث قال رسول الله لأبي ذر حين غربت الشمس، أتدري أين تذهب؟ قلت:
الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد
فلا يقبل منها. وتستأذن فلا يؤذن لها! فيقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله
(والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم). هذا لفظ البخاري وقد رواه الشيخان وبعض أصحاب
السنن والمسانيد والتفسير المأثور والبيهقي بألفاظ متقاربة.
393

العلم القطعي الثابت بالحس في مثل هذه المسألة وما في حكمها - لا مندوحة لنا عن
أحد أمرين: إما الطعن في سند الحديث وإن صححوه - لأن رواية ما يخالف
القطعي من علامات الوضع عند المحدثين أنفسهم، وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر
رواته بالصدق والضبط أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه من مثل كعب
الأحبار، ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب الأحبار، وكان يصدقه ونرى
الكثير من أحاديثه عنعنة لم يصرح بسماعها من النبي صلى الله عليه وسلم - ومن
القطعي أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه صلى الله عليه وسلم لتأخر إسلامه فمن
القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار. ومرسل الصحابي إنما يكون حجة
إذا سمعه من صحابي مثله (1) ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب
الأحبار وكان يصدقه - وإما تأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى وأن بعض رواته
لم يفهم المراد منه فعبر عما فهمه، كعدم فهم راوي هذا الحديث الذي ذكرنا على
سبيل التمثيل - المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس تكون ساجدة تحت
العرش إلخ. فعبر عنه بما يدل على أنها تغيب عن الأرض كلها.. إلى أن قال: وقد
أول الحديث بعض شراح الصحيحين ليوافق رأي المتقدمين من علماء الفلك فكان
تأويلهم متكلف يرده ظاهر الحديث ولا سيما رواية مسلم المطولة.
ومن هذا القبيل حكاية بعض الرواة لكعب ووهب عن كتب بني إسرائيل،
ولم يكن يحيى بن معين وأحمد وأبو حاتم وابنه وأمثالهم (2) يعرفون ما يصح من ذلك
وما لا يصح لعدم اطلاعهم على تلك الكتب، وعدم ظهور دليل على كذب الرواة
المتقنين للكذب، فيما يعزونه إليها، فإذا ظهر لمن بعدهم في العصر أو فيما قبله،
أو فيما بعده ما لم يظهر لهم من كذب اثنين أو أكثر من هؤلاء الرواة فهل يكابر
حسه ويكذب نفسه، ويصدقهم بلسانه كذبا ونفاقا؟ أو يكتم الحق عن المسلمين

(1) هذا إذا جاءت الرواية بذلك ولكنها أتت بغير ذلك فلا يذكر الصحابي اسم من سمع منه
وبهذه الحالة تسقط حجية الحديث.
(2) من شيوخ الحديث وعلماء الجرح والتعديل.
394

لئلا يكون مخالفا لمن قبله فيما ظهر له ولم يظهر لهم! فلم ير المنتقد (1) الغيور على
السنة أن الملاحدة الذين يتقى طعنهم في السنة بتعديل كعب ووهب يشككون
المسلمين في الأصول والمسائل القطعية حتى في نصوص القرآن! ثم إننا نعيد القول
ونؤكده بأن ظهور كذب كعب ووهب لنا لا يترتب عليه خسراننا لشئ من
أصول ديننا ولا من فروعه، فالعمدة في الدين هو القرآن وسنن الرسول المتواترة وهي
السنن العملية، كصفة الصلاة والمناسك مثلا، وبعض الأحاديث القولية التي
أخذ بها جمهور السلف، وما عدا ذلك من أحاديث الآحاد التي هي غير قطعية
الدلالة، فهي محل اجتهاد. وإننا نرى بعض الأئمة المجتهدين قد تركوا الأخذ بكثير
من الأحاديث الصحيحة، حتى ما رواه الشيخان (البخاري ومسلم) منها. ولا يزال
يتبعهم الملايين من الناس في تركها، ولا يعدهم سائر المسلمين ضالين عن دينهم.
وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر من مائة شاهد من هذه الأحاديث الصحيحة التي
خالفها الحنفية وغيرهم، وهم أكثر مسلمي هذا العصر.
فماذا تكون قيمة روايات هذا الإسرائيلي (كعب الأحبار) وهذا الفارسي
(وهب بن منبه) وأكثرها خرافات إسرائيلية، شوهت كتب تفسير كتاب الله
وغيرها من الكتب، وكانت شبها على الإسلام يحتج بها أعداؤه الملاحدة بأنه كغيره
دين خرافات، وأوهام، وما كان منها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر،
كالذي ذكره كعب من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة (2) واعترف
المنتقد بصحته عنه.. إلى أن قال: إن جرحنا لهما (كعب ووهب) إنما كان في
شئ لم يكن يعرفه رجال الجرح والتعديل المتقدمون، وهو وجيه يتعين قبوله. وإن
الروايات المعروفة صحتها عنهما كافية في إثبات كذبها.
وبعد هذا كله أقول: إذا ثبت بما حررناه كذب الرجلين بما ذكرا،
فلا يبقى مجال للشك في أنهما كانا يغشان المسلمين، ويدخلان في كتبهم الدينية
ورواياتهم ما يقتضي الطعن في دينهم، وحينئذ لا يبقى محل لاستغراب اشتراكهما في
تلك الجمعيات اليهودية والمجوسية، التي كانت تكيد للإسلام والعرب (3).

(1) الذي كان قد أخذ عليه الطعن في كعب وغيره اسمه الشيخ عبد الرحمن الجمجموني.
(2) راجع ص 151 وما بعدها.
(3) ص 614 - 619 ج‍ 27 منار.
395

نقد علماء فقه الحديث:
وقال رحمه الله:
إن لعلماء فقه الحديث من وراء نقد أسانيد الأخبار والآثار، نقدا آخر
لمتونها من نواحي معانيها ولغتها، وحكم العقل والشرع فيها، وتعارضها مع غيرها،
ويشاركهم في هذا النوع من النقد رجال الفلسفة والأدب والتاريخ ويسمونه في عصرنا
" النقد التحليلي " ومن ثم استشكلوا كثيرا من الأحاديث حتى الصحيحة الأسانيد،
تكلموا عليها في شروحها وصنف بعضهم كتبا خاصة بها، أشهرها كتاب " مشكل
الآثار للطحاوي " (1).
وعلى الجملة فقد كان هم رجال الجرح والتعديل محصورا في تمحيص رواة السنة
من حيث جودة الحفظ والضبط، وعدم الشذوذ على قدر الوسع وقلما يحكمون على
الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف واقعا في المتن - ولكن تمحيص متون
الروايات أو مخالفتها للحق والواقع وللأصول أو الفروع الدينية القطعية الراجحة
وغيرها لم يجعلوه من صناعتهم، وقل الباحثون فيه منهم - وكم من حديث ليس
في إسناده إلا ثقة ثبت وهو معلول واه فالصحيح لا يعرف برواته فقط وإنما يعرف
بالفهم والحفظ.
جل أحاديث الآحاد لم تكن مستفيضة في العصر الأول:
جاء في مقدمة كتاب المغني والشرح الكبير ما يلي:
يعلم من أدلة المذاهب أن جل الأحاديث التي يحتج بها أهل الحديث على
أهل الرأي (2) وعلى القياسيين من علماء الرواية، هي من أحاديث الآحاد التي لم

(1) ص 620 ج‍ 34 منار وقد طبع مشكل الآثار هذا في الهند في أربعة أجزاء كبار وكذلك
نجد مشكلات كثيرة في شرح ابن حجر للبخاري المسمى (فتح الباري).
(2) انقسم الفقه عند أهل السنة إلى طريقتين طريقة أهل الرأي والقياس، وهم أهل العراق.
وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز. وأهل العراق قد استكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل لهم " أهل الرأي " إمامهم " أبو حنيفة " وإمام أهل الحجاز ومالك والشافعي بعده، وهناك فقه آخر لمذاهب
كثيرة كالشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية، وغيرهما من فرق المسلمين - ولكل قوم سنة وإمامها.
396

تكن مستفيضة في العصر الأول، أو نقل عن الصحابة والتابعين خلاف في
موضوعها، فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام، الذي جرى عليه عمل النبي
وأصحابه، وليست مما أمر النبي أن يبلغ الشاهد فيه الغائب، بل كانت مما يرد كثيرا
في استفتاء مستفت عرضت له المسألة فسأل عنها فأجيب، ولعله لو لم يسأل لكان
في سعة من العمل باجتهاده فيها، ولكان خيرا له وللناس، إذ لو كانت من مهمات
الدين التي أراد الله تكليف عباده إياها، لبينها لهم من غير سؤال، فإن الله تعالى
أعلم بما هو خير لهم (1).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره كثرة السؤال ونهى عنها لئلا تكون سببا
لكثرة التكاليف، فتعجز الأمة عن القيام بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم
" دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على
أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "،
رواه الشيخان ورواه الدارقطني من وجه آخر، وقال فنزل قوله تعالى: " يا أيها الذين
آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم " الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله فرض فرائض فلا تعتدوها، وحد حدودا
فلا تقربوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير
نسيان فلا تبحثوا عنها "، رواه الدارقطني والنووي في الأربعين.
وفوق كل هذا قول الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم
نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا ". ومن الجهل الفاضح والجناية على الدين أن
نهدم هذه القواعد والأصول العظيمة بأقيسة من ظنون الرأي والقياس.
ولقد ثبت أن النبي كان يجيب كل مستفت بما يناسب حاله، وأن بعض
فتاواه كانت رخصا خاصة أو عامة، ومن ذلك أنه رخص لعقبة بن عامر ولأبي
بردة بن نيار بأن يضحي بالجذع (أو العتود) من المعز وهو ما يرعى وقوي وأتى عليه

(1) وهذه الأسئلة لا يعلم أحد أسبابها ولا أوقاتها ولا مناسباتها وهي أمور ضرورية لفهمها.
397

حول، وقال الجوهري وخيره ما بلغ سنة - والحديث متفق عليه - والجمهور ومنهم
الأئمة الأربعة يمنعون التضحية بالجذع والمعز (1).
هل الأحاديث التي يسمونها بسنن الأقوال، دين وشريعة عامة؟
قال السيد رشيد رضا: هل الأحاديث - ويسمونها بسنن الأقوال دين - وشريعة
عامة، وإن لم تكن سننا متبعة بالعمل بلا نزاع ولا خلاف، لا سيما في الصدر الأول؟
إن قلنا نعم! فأكبر شبهة ترد علينا - نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة
شئ عنه غير القرآن، وعدم كتابة الصحابة للحديث! وعدم عناية علمائهم
وأئمتهم كالخلفاء بالتحديث! بل نقل عنهم الرغبة عنه.
ما يرد به خبر الواحد:
قال الشيرازي في اللمع في (باب بيان ما يرد به خبر الواحد).
إذا روى الخبر ثقة رد بأمور: " أحدها " أن يخالف موجبات العقول فيعلم
بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول (2) وأما بخلاف العقول فلا. " والثاني "
أن يخالف نص كتاب أو سنة متواترة، فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ.
" الثالث " أن يخالف الإجماع فيستدل به على أنه منسوخ، أو لا أصل له لأنه
لا يجوز أن يكون صحيحا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه. " والرابع " أن ينفرد
الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه، فيدل ذلك على أنه لا أصل له، لأنه
لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم. " والخامس " أن
ينفرد برواية ما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر، فلا يقبل لأنه لا يجوز أن ينفرد
في مثل هذا بالرواية، فأما إذا ورد مخالفا للقياس، أو انفرد الواحد برواية ما تعم به
البلوى، لم يرد - وقد حكينا الخلاف في ذلك فأغنى عن الإعادة ا ه‍ (3).

(1) ص 18 و 19 ج‍ 1.
(2) هذه القضية مسلم بها عند جميع النظار، وقد قال ابن تيمية، ويمتنع أن يتعارض دليلان
قطعيان سواء أكانا عقليين، أم كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا.
(3) ص 82 في توجيه النظر.
398

وقال الغزالي في المستصفى: القسم الثاني من الأخبار ما يعلم كذبه، وهي
أربعة: " الأول " ما يعلم خلافه بضرورة العقل، أو نظره، أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر - وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة، " الثاني " ما يخالف
النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة، فإنه ورد مكذبا لله تعالى
ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأمة، " الثالث " ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل
في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا: حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه
من الواقعة أصلا، " الرابع " ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان
الواقعة بمشهد منهم، ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على
نقله ولا حالة العادة اختصاصه بحكايته.
وقال القرافي: الدال على كذب الخبر خمسة: وهو منافاته لما علم بالضرورة
أو النظر أو الدليل القاطع أو فيما شأنه أن يكون متواترا ولم يتواتر، وكقواعد الشرع،
أولهما جميعا، كالمعجزات أو طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقراء
الأحاديث فلم يوجد ا ه‍ (1).
حال الناس في الصدر الأول وبعده:
قال الإمام أبو زيد الدبوسي رحمه الله في تقويم الأدلة: كان الناس في
الصدر الأول، أعني الصحابة والتابعين والصالحين، يبنون أمورهم على الحجة،
فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة (2) ثم بأقوال من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ما يصح
بالحجة، فكان الرجل يأخذ بقول عمر في مسألة، ثم يخالفه بقول علي في مسألة
أخرى. وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة أنهم وافقوه مرة، وخالفوه أخرى، بحسب
ما تتضح لهم الحجة، ولم يكن المذهب في الشريعة عمريا، ولا علويا، بل النسبة
كانت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فكانوا قرونا أثني عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالخير
فكانوا يرون الحجة، لا علماءهم، ولا نفوسهم، فلما ذهبت التقوى عن

(1) ص 82 توجيه النظر للجزائري.
(2) المقصود بالسنة هنا هي السنة العملية.
399

عامة القرن الرابع وكسلوا عن طلب الحجج، جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم،
فصار بعضهم حنفيا وبعضهم مالكيا وبعضهم شافعيا، ينصرون الحجة بالرجال،
ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب، ثم كل قرن بعدهم اتبع عالمه كيف
ما أصابه بلا تمييز حتى تبدلت السنن بالبدع فضل الحق بين الهوى (1).
الفقه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
قال ولي الله الدهلوي في رسالته " الإنصاف في بيان سبب الاختلاف ".
لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدونا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل
بحث هؤلاء الفقهاء حيث يبينون بأقصى جهدهم الأركان والشروط والآداب...
ويفرضون الصور من صنائعهم ويتكلمون عن تلك الصور المفروضة ويحدون
ما يقبل الحد، ويحصرون ما يقبل الحصر إلى غير ذلك.
أما رسول الله فكان يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن
يبين أن هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون صلاته فيصلون كما رأوه يصلي (2)
وحج فرمق الناس حجه ففعلوا كما فعل (3) وهذا كان غالب حاله صلى الله عليه وآله
ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان
بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد إلا ما شاء الله، وقلما كانوا يسألونه
عن هذه الأشياء.
عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن، منهن: يسألونك عن
الشهر الحرام قتال فيه، ويسألونك عن المحيض، قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم
- وقال القاسم إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها، وتنقرون عن أشياء ما كنا

(1) 334 من قواعد التحديث ومن حقها أن تكون تبدلت البدع بالسنن لأن الباء تدخل على
المتروك.
(2) قال رسول الله: صلوا كما رأيتموني أصلى. متفق عليه.
(3) روى مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر أن رسول الله قال: خذوا عني مناسككم.
400

ننقر عنها فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا من الصحابة (1).
وبالجملة فهذه كنت عادته الكريمة صلى الله عليه وآله فرأى كل صحابي ما يسره الله من
عبادته وفتاواه وأقضيته فحفظها وعقلها، وعرف لكل شئ وجها من قبل حفوف
القرائن به.. ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان (2) والثلج من غير التفات
إلى طرق الاستدلال كما ترى الأعراب يفهمون مقصود الكلام فيما بينهم (3).
من وجوه الترجيح ما فيه تعارض:
قال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه " قواعد التحديث ":
إن من نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم، وجدهم متفقين
على العمل بالراجح وترك المرجوح، وطرق الترجيح كثيرا جدا، ومدار الترجيح
على ما يزيد الناظر قوة في نظره على وجه صحيح مطابق للمسالك الشرعية، فما كان
محصلا لذلك فهو مرجح معتبر، والترجيح قد يكون باعتبار الإسناد وباعتبار المتن
وباعتبار المدلول وباعتبار أمر خارج، ثم ذكر وجوها كثيرة من وجوه الترجيح
باعتبار الإسناد نختار منها ما يلي:
1 - الترجيح بكثرة الرواة. وقال الكرخي - إنهما سواء، ورب عدل يعدل

(1) قول ابن عباس هذا رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (ص 141 ج‍ 2) وقد ذكرها
السيوطي في الاتقان فقال: إنها 12 سؤالا وأوردها الرازي بلفظ 14 حرفا، وقال: منها ثمانية في البقرة
" 1 " وإذا سألك عبادي عني " 2 " يسألونك عن الأهلة " 3 " ويسألونك ماذا ينفقون قل:
ما أنفقتم " 4 " يسألونك عن الشهر الحرام " 5 " يسألونك عن الخمر والميسر " 6 " ويسألونك عن
اليتامى " 7 " ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو " 8 " ويسألونك عن المحيض " 9 " ويسألونك
ماذا أحل لهم " 10 " يسألونك عن الأنفال " 11 " يسألونك عن الساعة " 12 " يسألونك عن الجبال
" 13 " يسألونك عن الروح " 14 " يسألونك عن ذي القرنين:
والسائل عن الروح وعن ذي القرنين هم مشركو مكة واليهود - كما في أسباب النزول لا الصحابة فأذن
يكون الخالص 12 سؤالا - كما ذكر السيوطي.
(2) قال رسول الله لوابصة لما سأله عن البر: استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن
له القلب ثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. رواه أحمد والدرامي.
(3) ص 2، 3 من الرسالة وص 140 و 141 ج‍ 1 من حجة الله لمؤلف الرسالة.
401

ألف رجل في الثقة - كما قيل إن شعبة بن الحجاج كان يعدل مئتين، وقد كان
الصحابة يقدمون رواية الصديق على رواية غيره.
2 - ترجيح رواية من كان فقيها، لأنه أعرف بمدلولات الألفاظ.
3 - ترجيح رواية الأوثق والأحفظ.
4 - أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر.
5 - أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالتزكية والآخر بمجرد الظاهر.
6 - تقدم رواية من لم ينكر عليه، على رواية من أنكر عليه.
7 - تقدم رواية من كان أشهر بالعدالة والثقة من الآخر، لأن ذلك
يمنع من الكذب.
ومن جهة أخرى الترجيح باعتبار أمور أخرى:
1 - يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر.
2 - يقدم ما عمل عليه أكثر السلف، على ما ليس كذلك لأن الأكثر أولى
بإصابة الحق.
3 - أن يكون أحدهما موافقا لعمل الخلفاء الأربعة.
4 - أن يكون أشبه بظاهر القرآن فإنه يقدم. ا ه‍ مختصرا (1)
وفي كتابه - أي القاسمي - " تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب (2)
قواعد أصولية نقتطف منها ما يلي:
1 - اتفقوا على أن " الوجوب " حكم من الأحكام الشرعية. وقد عرفوا
الحكم بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين. " والخطاب " توجيه الكلام
نحو الغير للإفهام. والوجوب حكم، والحكم لا يكون إلا من حاكم، والحاكم
هو الله تعالى لا غيره.
2 - في المحصول: واعلم أن الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين من
هذه الدلائل اللفظية إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين، سواء كانت تلك القرائن

(1) 301 و 304.
(2) ص 13 و 14 و 37 و 38.
402

مشاهدة أو منقولة إلينا (بالتواتر).. لأنها إن لم تكن مشاهدة ولا متواترة تكون
منقولة بالآحاد، وذلك لا يفيد إلا الظن ا ه‍. من شرح مختصر منهاج البيضاوي.
3 - استدل بعض الحشوية من حديث " كل أمر ذي بال " بوجوب البداءة
بالبسملة عنده قال: لأن الحديث خبر لفظا، إنشاء معنى - لأنه بمعنى الأمر
والأمر للوجوب، فقيل له: إن شرط دلالة الأمر على الوجوب أمران:
الأول: أن يكون ثبوته قطعيا، بأن يكون آية من كتاب الله أو حديثا
متواترا.
الثاني: أن تكون دلالته على المعنى قطعية، لا يحتمل لفظ غير هذا المعنى
فإن سقط أحد الأمرين من الأمر لم يفد الوجوب، فبهت وكأنما ألقم حجرا.
4 - لا يفتي إلا المجتهد: قاله ابن الهمام رحمه الله. وقال أبو يوسف وزفر
وغيرهما لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا - أي لأنه إذا حكم
بإيجاب أو تحريم يستند إلى دليل نير، يبذل فيه قصارى جهده، وأما المقلد فلا
يسوغ له طرق هذا الباب، لأنه سد على نفسه الأبواب، وأرخى ما أمكنه من ستر
وحجاب. وقال الغزالي في فيصل التفرقة: حق المقلد أن يسكت ويسكت عنه
ا ه‍ ما اقتطفناه من هذا الكتاب (1).
قواعد وأصول
لما أنشأت أضع أصول هذا الكتاب لم أكن أظن أنه سيبلغ هذا المدى من
الطول، فاضطررت من أجل ذلك إلى أن أحتجن عنه كثيرا مما أعثر البحث عليه
وأن أمسك القلم عن أن يجري إلى أكثر من هذا المدى، على أني لم أر بدا من أن
أذيله بقواعد مهمة اقتطفت بعضها مما حملته أغصانه من ثمرات، على أن يكون في
مقدمة ذلك بعض آيات من القرآن العظيم، يتلوها أحاديث مما روي عن النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم، تبدو صحتها من دقة معانيها.
قال تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله ".

(1) ص 47 و 55 و 57.
403

وقال تعالى: " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " وقال
تعالى: " وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ".
- وقال تعالى: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ".
- وقال تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى
للمسلمين ".
وقال تعالى " ما فرطنا في الكتاب من شئ " (1).
- وقال تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت
لكم الإسلام دينا ".
وروى الشيخان (البخاري ومسلم) أنه قيل لعبد الله بن أوفى (2)، هل وصى
رسول الله؟ قال: لا، قيل: فلم؟ وقد كتب الوصية على الناس، قال: وصى
بكتاب الله، قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: أي التمسك به والعمل
بمقتضاه ولعله أشار إلى قوله صلوات الله عليه: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم
تضلوا: كتاب الله، واقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم، ولأن ما فيه
تبيان كل شئ إما بطريق النص أو بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما في
الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به ا ه‍.
والحديث الذي أشار إليه ابن حجر رواه مسلم في سياق حجة الوداع قال:
إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا. وفي رواية أخرى عن جابر لما خطب
صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: " تركت فيكم ما لن تضلوا بعده - إن اعتصمتم به،
كتاب الله ". وفي الموطأ: " وسنتي "، ولم تكن السنة يومئذ تعرف إلا بالسنة العملية.
وفي رواية: إني تارك فيكم الثقلين! كتاب الله، وعترتي أهل بيتي.
وقد جاء هذا الحديث بروايات مختلفة والمعنى واحد في كثير من كتب السنة،

(1) أي أن القرآن محيط بكل أصول أحكام الدين وغير الدين مما خلق وذرأ.
(2) عبد الله بن أوفى أحد الذين بايعوا تحت الشجرة في الحديبية، وجاهد مع النبي ست غزوات،
وجرح يوم حنين وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة.
404

وإذا أردت الوقوف على هذه الروايات فارجع إلى كتاب " المراجعات " التي جرت
بين العلامة شرف الدين الموسوي رحمه الله، وبين الأستاذ الكبير الشيخ سليم البشري
شيخ الأزهر (سابقا) في الصفحات من 20 وما بعدها من الطبعة الرابعة.
* وعن أبي الدرداء مرفوعا " ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم
فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية، فأقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى
شيئا، وما كان ربك نسيا " - رواه البزار وابن أبي حاتم والطبراني.
* ومن مراسيل ابن أبي مليكة: أن الصديق (أبا بكر) جمع الناس بعد
وفاة نبيهم فقال: " إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها (1) والناس
بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا! فمن سألكم فقولوا: بيننا
وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه ".
* لما صلى رسول الله صلوات الله عليه صلاته التي صلاها في مرضه الأخير،
أقبل على الناس يكلمهم ويحذرهم الفتن رافعا صوته حتى خرج من المسجد فقال:
أيها الناس سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله
ما تمسكون علي بشئ، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن (2).
* وعندما ضلت ناقته صلوات الله عليه في غزوة تبوك، وقال المنافقون يومئذ:
هو لا يعلم خبر موضع ناقته! فكيف يعلم خبر السماء! فقال - لما بلغه قولهم هذا -
إني لا أعلم إلا ما علمني الله (3).
* ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي، قالت: إن النبي كان خلقه
القرآن، رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
* وقال الأستاذ الإمام محمد عبده رضي الله عنه: إن المسلمين ليس لهم إمام في

(1) انظر كيف بدأ الاختلاف في عهد أبي بكر وانظر كيف أن الخلاف قد اشتد بعده بين الناس
إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم. والناس هم الناس.
(2) ص 332 ج 4 سيرة ابن هشام في رواية البلاذري في أنساب الأشراف " إني والله لا أحل لكم
إلا ما أحل الله ولا أحرم عليك إلا ما حرم الله " ص 558 و 59 ج‍ 1.
(3) ص 111 ج‍ 1 الإستيعاب لابن عبد البر.
405

هذا العصر غير القرآن، وأن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه الصدر الأول
قبل ظهور الفتن.
* وقال رحمه الله: " لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم ما دامت هذه الكتب فيها (1)
ولن تقوم إلا بالروح التي كانت في القرن الأول وهو (القرآن) وكل ما عداه فهو
حجاب قائم بينه وبين العمل والعلم ".
* وقال رحمه الله في تفسير سورة الفاتحة: إذا وزنا ما في أمغتنا من الاعتقاد
بكتاب الله تعالى من غير أن ندخلها أولا فيه، يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين!
وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرآن وحشرناها فيه أولا، فلا يمكننا أن نعرف
الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان فلا يدرى ما هو الموزون من الموزون
به - أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن
تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف
إليها، كما جرى عليه المخذولون، وياه فيه الضالون ا ه‍ (2).
* العبرة في العقائد بالدلالة القطعية، وجميع العقائد التي تتوقف عليها صحة
الإسلام، ثابتة بنصوص القرآن وإجماع المسلمين، ولا يوجد شئ منها يتوقف
على أحاديث الآحاد التي يمكن الارتياب في بعضها - وكذلك أصول العبادات
كلها قطعية ثابتة بالقرآن والسنة العملية المتواترة التي لا تتوقف على أخبار الآحاد،
وما ثبت من أحكام العبادات بأحاديث الآحاد ولم يجمع عليه أئمة العلم فلا تتوقف
عليه صحة الإسلام، وإن كان صحيحا في نفسه.
* العمدة في الدين هو القرآن الحكيم وما دل عليه دلالة قطعية يجب الإيمان
به والاذعان له علما وعملا وتركا - وما كان غير قطعي الدلالة منه، فهو محل اجتهاد
للعارفين بأساليب لغته، ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلما ناجيا.
* وسنن الرسول المتواترة - وهي السنن العملية - وما أجمع عليه مسلمو الصدر

(1) يعني الكتب التي تدرس في الأزهر وأمثالها.
(2) ص 54.
406

الأول، وكان معلوما عندهم بالضرورة - كل ذلك قطعي لا يسع أحد جحده
أو رفضه، بتأويل ولا اجتهاد، ككون الصلاة المعروفة خمسا، وكون الفجر
ركعتين والمغرب ثلاثا والبواقي أربعا أربعا، وكون كل ركعة تشتمل على قيام وقراءة
قرآن فيه، وركوع وسجودين إلخ ما هو معروف " بالعمل " من عهد الرسول
إلى اليوم.
* هذه هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إطلاقها على ما يشمل
الأحاديث فاصطلاح حادث.
* أحاديث الآحاد التي لم يعمل بها جمهور السلف، هي محل اجتهاد في -
أسانيدها ومتونها ودلالتها، لأن ما صح سنده منها يكون خاصا بصاحبه.
* ومن صح عنده شئ منها رواية ودلالة عمل به - ولا تجعل تشريعا عاما
تلزمه الأمة إلزاما، تقليدا لمن أخذ به.
* الحديث الصحيح لا يعرف برواته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ -
وكم من حديث ليس في إسناده إلا ثقة وهو معلول واه.
* الأحاديث الصحيحة مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة عند الفقهاء،
وقال النووي في شرح مسلم: لأن ذلك شأن الآحاد، الذي لا يفيد شئ منها العلم
البرهاني واليقين المنطقي، ولا فرق في ذلك بين الشيخين البخاري ومسلم، وغيرهما،
هذا هو الصحيح، خلافا لمن قال " إن خبر الواحد يوجب العلم ".
* ما كل ما صح سنده يكون متنه صحيحا، وما كل ما لم يصح سنده يكون
متنه غير صحيح.
لا يلزم من إجماع الأمة (1) على العمل بما في البخاري ومسلم، إجماعهم على
القطع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على أن ما فيهما مجزوم بصحة نسبته
إلى النبي، وأن تقدير ما فيهما إنما كان للذين أتوا بعدهما.
* لم يكن الأئمة الأربعة الذين يتبعهم أكثر المسلمين في الأحكام العملية

(1) هذا الإجماع الذي يقول به من سموا أنفسهم أهل السنة غير مسلم فهناك الشيعة والزيدية
والأباضية وغيرهم، وهم فرق كبيرة، لا يستهان بهم، لا يلزمون أنفسهم بالعمل بما فيها، ولكل قوم سنة
وإمامها.
407

مطلعين على كتب الحديث، ولا سيما الإمام أبي حنيفة، ولم يكن الحديث مدونا في
الأسفار فيأخذه منها - وهو مع ذلك معترف بإمامته واجتهاده عند اتباعه وغيرهم
من أهل السنة، ولم يظهر البخاري ولا غيره من كتب الحديث إلا بعد انقضاء
خير القرون.
* لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمة الفقه، إن معرفة الدين تتوقف على
الإحاطة بجميع ما رواه المحدثون من الأحاديث ولا بأكثرها.
* اتفق علماء الأصول على هذه القاعدة " أن طروء الاحتمال في المرفوع من
وقائع الأحوال، يكسوها ثوب الإجمال، فيسقط به الاستدلال ".
* يعذر من لم يصدق رواية بعض الأحاديث لشبهة عنده في المتن والسند فكذب
مضمونها، أو خالفها لذلك، وإن صح ويرد عليه بالتي هي أحسن.
* جعل العلماء المتقدمون " أن مدار الارتداد عن الإسلام هو جحد المجمع
عليه المعلوم من الدين بالضرورة ".
* الأمة ما تعبدوا إلا بخبر يغلب على الظن صدقه، لأنهم إنما أمروا بالاستناد
إلى ما ظنوا صحته - والحكم يقع بالظن الغالب، ولا يلزم من ظنهم صحته، صحته
في نفس الأمر، وكذلك لا يلزم من الإجماع على حكم مطابقته لحكم الله في
نفس الأمر.
مضت سنة السلف الصالح في الأحاديث غير المتواترة، بأن من بلغه حديث
منها بطريق يعتقد ثبوته عمل به ولم يوجبوا على أحد - ولو كان منقطعا لتحصيل
العلم - أن يبحث عن جميع ما روى من هذه الأحاديث ويعمل بها، كيف
والصحابة لم يكتبوا الحديث، ولم يتصدوا لجمعه وتلقينه للناس، بل منهم من نهى
عن روايته.
قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: ثلاثة أمور ليس لها إسناد، التفسير
والملاحم، والمغازي. وقال ابن تيمية خليفة أحمد بن حنبل في إمامة الحنابلة:
408

والمؤدى ليست لها أصول، أي إسناد، لان الغالب عليها المراسيل (1).
لم يجمع الصحابة السنة القولية، ولم يتفقوا عليها، كما جمعوا القرآن واتفقوا
عليه.
إن أئمة المسلمين لم يتفقوا على الصحيح منها، وما منهم من أحد إلا خالف
في مذهبه كثيرا منها - ولو صح عند غيره الخ.
الأصل في العبادات والأصل في العقود (المعاملات):
الأصل في العبادات البطلان، حتى يقوم دليل على الأمر.
والأصل في العقود والمعاملات الصحة، حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.
والفرق بينهما - أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن
العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه.
وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله
سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب
إليه بما لا يشرعه، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه - وما سكت عنه
فهو عفو.
رب راو هو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي ومجروح عند يحيى بن سعيد
القطان وبالعكس، وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل ومن عندهما يتلقى معظم
شأن الحديث.
إن ما كان قطعي الدلالة في النصوص فهو " الشرع العام " الذي يجب على
جميع المسلمين اتباعه عملا وقضاء، وإن ما كان ظني الدلالة، فهو موكول إلى
اجتهاد الأفراد في التعبدات والمحرمات، وإلى أولي الأمر في الأحكام القضائية.
إن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية، لا يجعل
تشريعا عاما تطالب به كل الأمة - وإنما يعمل فيه كل أحد باجتهاده، فمن فهم

(1) ص 14 من مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية طبعة دمشق.
409

منه الدلالة على تحريم شئ امتنع منه، ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل
الإباحة.
قال الفخر الرازي في كتاب " معالم أصول الدين " إن الدلائل النقلية ظنية،
وإن الفعلية قطعية - والظن لا يعارض القطع - والأساس في علم الكلام هو دائما،
أن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين.
كانت عائشة ترد كل ما روي مخالفا للقرآن، وتحمل رواية الصادق من
الصحابة على خطأ السمع، أو سوء الفهم.
قال السيد رشيد رضا - إنني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابي
يخالف ظاهر القرآن، وإن وثقوا رجاله، فرب راو يوثق للاغترار بظاهر حاله
وهو سيئ الباطن، وقال: ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها، كما تنتقد
من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالتناقض، ونحن نجزم بأننا
نسينا وأضعنا من حديث نبينا حظا عظيما لعدم كتابة علماء الصحابة كل
ما سمعوه، ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن، أو من أمور الدين فإن أمور الدين
معروفة في القرآن ومبينة في السنة العملية، وما دون من الأحاديث فهو مزيد هداية
وبيان (1).
1 - والخلق ما كلفوا الصواب عند الله، فإن ذلك غير مقدور عليه ولا يكلف
بما لا يطاق، بل كلفوا بما يظنونه صوابا، وقد عرف الأصوليون " الاجتهاد " بأنه
استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظني بحكم شرعي - وإنما قالوا: تحصيل ظني
بحكم " لأن الأحكام القطعية المعلومة في الدين بالضرورة لا اجتهاد فيها "
2 - ومن قواعدهم المشهورة أنه لا يلزم من ظنهم صحة الخبر، صحته في
نفس الأمر.
من قواعد الشريعة الثابتة، وأصولها القطعية.
كقاعدة رفع الحرج والعسر وإثبات اليسر وترجيحه

(1) ص 288 ج‍ 6 من تفسير القرآن الكريم للإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا.
410

وقاعدة كون الأصل براءة الذمة
وكون الأصل في كل الخبائث والمضرات الحرمة
وفي كل الطيبات الحل
وكون الضرورات تبيح المحظورات
ولا ضرر ولا ضرار (1).
قال الإمام أبو حنيفة: " ردي على كل رجل يحدث عن النبي بخلاف
القرآن - ليس ردا على النبي ولا تكذيبا له، ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل،
والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله، وكل شئ تكلم به النبي فعلى الرأس والعين
قد آمنا به وشهدنا أنه كما قال، ونشهد أنه لم يأمر بشئ يخالف أمر الله، ولم يبتدع
ولم يتقول غير ما قال الله ولا كان من المتكلفين " (ص 99 من مناقب أبي حنيفة).
وقال الإمام أحمد بن حنبل: انظروا في أمر دينكم، فإني التقليد لغير المعصوم
مذموم، وفيه عمى للبصيرة (2).
* * *
وهنا نضع القلم بعد أن قدمنا ما أعاننا الله عليه من عمل، وما وفقنا إليه من
بحث، مستعينين بالله في إخراجه إلى الناس جميعا في صورة صادقة، مؤيدة بأقوم
البراهين، وأقوى الأسانيد، وفي سبيل الله ما أنفقنا من عمر، في قراءة مئات
المصادر التي رجعنا إليها، وما بذلنا من جهد في تناول ما يصح لكتابنا منها،
ولمرضاته تعالى ما نالنا من مشقة في تهيئة مواده، وتنسيق فصوله، وبخاصة لأن هذا
المصنف لم يكن له من قبل مثال نحتذيه، ولا طريق عبده لنا أحد ممن سبقنا
فنتبعه ونسير عليه.
وتقسيم الكتاب وتبويبه كما قالوا أكبر خطوة في سبيل تأليفه.
فإن يقع عملنا هذا لدى المستنيرين، ورجال الفكر المثقفين، في مكان الرضا
والقبول فهذا ما نرجوه وهو حسبنا. وإن تضق به صدور بعض النفوس فهذا
لا يهمنا ولا يعنينا، إذ ليس لمثل هؤلاء خطر عندنا ولا وزن في حسابنا.
وإنا لنرجو أن نكون بما قدمنا قد وضعنا - كما قلنا من قبل - لما روي عن

(1) قال الإمام الطوخي في شرح هذا الحديث إن المصلحة تقدم في المعاملات على النص والإجماع.
(2) ص 297 من الإسلام الصحيح.
411

رسول الله من أحاديث مرآة صادقة، تبدو فيها صورتها على حقيقتها، وآتينا الذين
يريدون الاهتداء إلى معرفة أصول هذه المرويات، سراجا منيرا يكشف عن الصادق
وغيره من صورتها.
وما دام عملنا هذا قد جعلناه خالصا لوجهه تعالى، فإنا لا نطلب عليه من
غيره أجرا، ولا نرتقب من أحد في هذه الحياة حمدا ولا شكرا، وهو سبحانه وتعالى
حسبنا ونعم الوكيل، بيده الخير، يهدي من يشاء إلى سواء السبيل، ويجزيه من
فضله الثواب الجزيل. والحمد لله في المبدأ والنهاية، ونسأله تعالى دوام التوفيق
والهداية، إنه سميع مجيب.
412