الكتاب: الإنصاف فيما تضمنه الكشاف
المؤلف: ابن المنير الإسكندري
الجزء: ١
الوفاة: ٦٨٣
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٥ - ١٩٦٦ م
المطبعة:
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ، عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاهم - خلفاء
ردمك:
ملاحظات:

الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال
تأليف
الامام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي
الجزء الأول
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاهم - خلفاء
1

الطبعة الأخيرة
1385 ه‍ = 1966 م
حقوق الطبع محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم
قال محمود رحمه الله تعالى (الباء في البسملة تتعلق بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ أو أتلو) قال أحمد رحمه الله
تعالى: الذي يقدره النحاة أبتدئ وهو المختار لوجوه: الأول أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل بسملة ابتدئ بها
فعل ما من الأفعال خلاف فعل القراءة، والعام لعموم صحة تقديره أولى أن يقدر، ألا تراهم يقدرون متعلق الجار
الواقع خبرا أو صفة أو صلة أو حالا بالكون والاستقرار حيثما وقع، ويؤثرونه لعموم صحة تقديره. والثاني أن
26

تقدير فعل الابتداء مستقل بالغرض من البسملة، إذ الغرض منها أن تقع مبدأ، فتقدير فعل الابتداء أوقع بالمحل،
وأنت إذا قدرت أقرأ فإنما تعنى أبتدئ القراءة، والواقع في أثناء التلاوة قراءة أيضا، لكن البسملة غير مشروعة
في غير الابتداء، ومنها ظهور فعل الابتداء في قوله تعالى - اقرأ بسم ربك - وقوله عليه السلام والسلام " كل أمر خطير
ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر " ولا يعارض هذا ما ذكر من ظهور فعل القراءة في قوله تعالى - اقرأ بسم ربك -
فإن فعل القراءة إنما ظهر ثم لأن الأهم هو القراءة غير منظور إلى الابتداء بها، ألا ترى إلى تقدم الفعل فيها على متعلقه
لأنه الأهم، ولا كذلك في البسملة فإن الفعل المقدر كائنا ما كان إنما يقدر بعدها، ولو قدر قبل الاسم لفات الغرض
27

من قصد الابتداء إذا على أنه الأهم في البسملة فوجب تقديره وسيأتي الكلام على هذا النكتة.
28

قال محمود (لم قدرت المحذوف متأخرا الخ) قال أحمد: لأنك لو ابتدأت بالفعل في التقدير لما كان الاسم
مبتدأ به، فيفوت الغرض من التبرك باسم الله تعالى أول نطقك، وأما إفادة التقديم الاختصاص ففيه نظر سيأتي
إن شاء الله تعالى.
29

قال محمود (فإن قلت: ما معنى تعلق اسم الله تعالى بالقراءة الخ) قال أحمد: وفى قوله إن اسم الله هو الذي
صير فعله معتبر شرعا حيد عن الحق المعتقد لأهل السنة في قاعدتين: إحداهما أن الاسم هو المسمى، والأخرى أن
فعل العبد موجود بقدرة الله تعالى لاغير. فعلى هذا تكون الاستعانة باسم الله معناها اعتراف العبد في أول فعله بإنه
جار على يديه وهو محل له لاغير، وأما وجود الفعل فيه فبالله تعالى أي بقدرته تسليما لله في أول كل فعل والزمخشري
رحمه الله لا يستطيع هذا التحقيق لاتباعه الهوى في مخالفة القاعدتين المذكورتين فيعتقد أن اسم الله تعالى الذي هو
التسمية معتبر في شرعية الفعل لا في وجوده، إذ وجوده على زعمه بقدرة العبد فعلى ذلك بنى كلامه. أقول: دعواه
أن عند أهل السنة الاسم غير المسمى ممنوعة، وتحقيقه قد ذكر في غير هذا الكتاب.
31

قال محمود (وفى الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم الخ) قال أحمد: لا يتم الاستدلال بقصر البناء وطوله على
نقصان المبالغة وتمامها، ألا ترى بعض صيغ المبالغة كفعل أحد الأمثلة أقصر من فاعل الذي لا مبالغة فيه البتة،
وأما قولهم رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا فلا دلالة فيه أيضا على مبالغة رحمن بالنسبة إلى رحيم، فإن حاصله أن
الرحمة منه بالدلالة على إتمامها، ألا ترى أن ضارب لما كان أعم من ضراب كان ضراب أبلغ منه لخصوصه، فلا
يلزم إذا من خصوص رحيم أن يكون أقصر مبالغة من رحمن لعمومه.
41

قال محمود رحمه الله تعالى (فإن قلت: كيف تقول الله رحمن أتصرفه أم لا الخ) قال أحمد: ليت شعري بعد
امتناع فعلانة وفعلى ما الذي عين قياسه على عطشان دون ندمان، مع أن قياسه على ندمان معتضد بالأصل في
الأسماء وهو الصرف. أقول: الذي عينه هو أن باب سكران وعطشان أكثر من باب ندمان، وإذا احتمل أن
يكون من كل واحد منهما فحمله على ما هو الأكثر أولى، ولأن رحمن وعطشان مشتركان في عدم وجود فعلانة
بخلاف ندمان، فلهذا كان حمله على عطشان أولى، ثم قال: وقد نقل غيره خلافا في صرف رحمن مجردا من
42

التعريف، وبناه على تعيين العلة في منع صرف عطشان، هل هي وجود فعلى فيصرف رحمن، أو امتناع فعلانة
فيمتنع الصرف وهو أيضا نظر قاصر، وأتم منهما أن يقال امتنع صرف عطشان وفقا، وامتناع صرفه معلل بشبه
زيادتيه بألفي التأنيث، والشبه دائر على وجود فعلى وامتناع فعلانة، فإما أن يجعل الأمر آن وصفى شبه بهما
مجموعهما مستقل، أو كل واحد منهما مستقلا ببيان الشبه، أو أحدهما دون الآخر على البدل، فهذه أربع
احتمالات. فإن كان مقتضى الشبه المجموع أو وجود فعلى خاصة انصرف رحمن، وإن كان كل واحد من الأمرين
مستقلا أو الشبه بامتناع فعلانة خاصة منع رحمن من الصرف، فلم يبق إلا تعيين ما به حصل الشبه في عطشان بين
زيادتيه وبين ألفى التأنيث من الاحتمالات الأربعة، وعليه يبتنى الصرف وعدمه. والتحقيق أن كل واحد من
الأمرين المذكورين مستقل باقتضاء الشبه، فيمتنع صرف رحمن لوجود إحدى العلتين المتعلقتين في الشبه، وهى
امتناع فعلانة على هذا التقدير. وإنما قلنا ذلك لأن امتناع فعلانة فيه حاصله امتناع دخول تاء التأنيث على زيادتيه
كامتناع دخولها على ألفى التأنيث، فحصل الشبه بهذا الوجه. ووجود فعلى يحقق أن مذكره مختص ببناء ومؤنثه
مختص ببناء آخر، فيشبه أفعل وفعلى في اختصاص كل واحد منهما ببناء غير الآخر، فهذا وجه آخر من الشبه،
ومن تأمل كلام سيبويه فهم منه ما قررته، فإن قيل: حاصل ذلك ناسبة كل واحد من الأمرين المذكورين
لاقتضاء الشبه، فما الذي دل على استقلال كل واحد منهما علة في الشبه وهلا كان المجموع علة وحينئذ ينصرف
رحمن وهو أحد الاحتمالات الأربعة المتقدمة؟ قلت: امتناع صرف عمران العلم يدل على استقلال كل واحد من
الأمرين بالشبه المانع من الصرف، إذ عمران علما لا فعلى له، وهو غير منصرف وفاقا. أقول: قد عثر ههنا
رحمه الله، وإن الجواد قد يعثر لأن اعتبار وجود فعلى أو انتفاء فعلانة إنما كان في الصفة، أما في الاسم فشرطه
العلمية لا وجود فعلى ولا انتفاء فعلانة.
43

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: ما معنى وصف الله بالرحمة الخ) قال أحمد رحمه الله: فالرحمة على هذا من
صفات الأفعال، ولك أن تفسرها بإرادة الخير فيرجع إلى صفات الذات، وكلا الأمرين قال به الأشعرية في
الرحمة وأمثالها مما لا يصح إطلاقه باعتبار حقيقته اللغوية على الله تعالى، فمنهم من صرفه إل صفة الذات، ومنهم من
صرفه إلى الفعل.
44

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه الخ) قال أحمد رحمه الله:
إنما كان القياس تقديم أدنى الوصفين، لأن في تقديم أعلاهما ثم الإرداف بأدناهما نوعا من التكرار، إذ يلزم من
حصول الأبلغ حصول الأدنى، فذكره بعده غير مفيد، ولا كذلك العكس فإنه ترق من الأدنى إلى مزيد بمزية
الأعلى لم يتقدم ما يستلزمه، ولذلك كان هذا الترتيب خاصا بالإثبات. وأما النفي فعلى عكسه تقدم فيه الأعلى، تقول:
ما فلان نحريرا ولا عالما، ولو عكست لوقعت في التكرار، إذ يلزم من نفى الأدنى عنه نفس الأعلى، وكل ذلك
مستمدة في عموم الأدنى وخصوص الأبلغ، وإثبات الأخص يستلزم ثبوت الأعم، ونفى الأعم يستلزم نفى الأخص.
45

القول في سورة الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال محمود رحمه الله (الأصل في الحمد النصب الخ) قال أحمد رحمه الله: ولأن الرفع أثبت اختار
سيبويه في قول القائل: رأيت زيدا فإذا له علم علم الفقهاء الرفع، وفى مثل: رأيت زيدا فإذا له صوت
صوت حمار النصب. والسر في الفرق بين الرفع والنصب أن في النصب إشعارا بالفعل، وفى صيغة الفعل
46

إشعار بالتجدد والطرو ولا كذلك الرفع فإنه إنما يستدعى اسما ذلك الاسم صفة ثابتة، ألا ترى أن المقدر مع
النصب نحمد الله الحمد، ومع الرفع الحمد ثابت لله أو مستقر.
47

قال محمود رحمه الله (وتعريف الحمد هو نحو التعريف في أرسلها العراك وهو تعرف الجنس ومعناه الخ) قال
أحمد رحمه الله: تعريف التكرار باللام إما عهدي وإما جنسي. والعهدي إما أن ينصرف العهد فيه إلى فرد معين من
49

أفراد الجنس باعتبار يميزه عن غيره من الأفراد كالتعريف في نحو - فعصى فرعون الرسول - وإما أن ينصرف العهد
فيه إلى الماهية باعتبار يميزها عن غيرها من الماهيات كالتعريف في نحو: أكلت الخبز وشربت الماء، والجنسي
هو الذي ينضم إليه شمول الآحاد نحو: الرجل أفضل من المرأة، وكلا نوعي العهد لا يوجب استغراقها، وإنما
يوجبه الجنسي خاصة، فالزمخشري جعل تعريف الحمد من النوع الثاني من نوع العهد وإن كان قد عبر عنه
بتعريف الجنس لعدم اعتنائه باصطلاح أصول الفقه، وغير الزمخشري جعله للجنس، فتقتضي بإفادته لاستغراق
جميع أنواع الحمد وليس ببعيد.
50

قال محمود رحمه الله (العالم اسم لذوي العلم من الملائكة الخ) قال أحمد رحمه الله: تعليله الجمع بإفادة استغراقه
لكل جنس تحته فيه نظر، فإن عالما كما قرره اسم جنس عرف باللام الجنسية فصار العالم وهو مفرد أدل على
الاستغراق منه جمعا، قال إمام الحرمين رحمه الله: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور، فإن التمر يسترسل على
53

الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور ترده إلى تخيل الوحدان ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع وفى صيغة الجمع
مضطرب انتهى كلامه. والتحقيق في هذا وفى كل ما يجمع من أسماء الأجناس ثم يعرف تعريف الجنس أنه يفيد
أمرين: أحدهما أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة، والآخر أنه مستغرق لجميع ما تحته منه، لكن المفيد لاختلاف
الأنواع الجمع، والمفيد لاستغراق جميعها التعريف، ألا ترى أنه إذا جمع مجردا من التعريف دل على اختلاف
الأنواع، ثم إذا عرف أفاد الاستغراق غير موقوف على الجمعية، إذ هذا حكم مفرده إذا عرف. فقول الزمخشري
إذا إن فائدة جمع العالمين الاستغراق مردود وبثبوت هذه الفائدة وإن لم يجمع. وقول إمام الحرمين إن الجمع يؤيد
الإشعار بالاستغراق لما نتخيله من الرد إلى الوحدان مردود بأن فائدة الجمع الإشعار باختلاف الأنواع، واختلافها
لا ينافي استغراقها بصيغة المفرد المقرر من تعريف الجنس، وإن أراد أن الجمع يخيل الإشارة إلى أنواع مختلفة
معهودة فهذه الخيل بعينه من المفرد، فالعالم إذن جمع ليفيد اختلاف الأنواع المندرجة تحته من الجن والإنس
والملائكة، وعرف ليفيد عموم الربوبية الله تعالى في كل أنواعه. وتوضيح هذا التقرير أنا لو فرضنا جنسا ليس
54

تحته إلا آحاد متساوية وهو الذي يسميه غير النحاة النوع الأسفل، لما جاز جمع هذا بحال لا معرفا ولا منكرا،
وبهذه الفائدة يرد قول إمام الحرمين أن التمور جمع من حيث اللفظ لا معنى تحته لجمع الجمع في نحو نوق ونياق
وأينق. وأما تعليل الزمخشري جمعه بالواو النون بإشعاره بصفة العلم فيلحق بصفات من يعقل فصحيح إذا بنى
الأمر على أنه لا يتناول إلا أولى العلم، وأما على القول بأنه اسم لكل موجود سوى الله فيحتاج إلى مزيد نظر في
تغليب العاقل في الجمع على غير العاقل.
55

قال محمود رحمه الله (وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات الخ) قال أحمد رحمه الله يعنى
أنه ابتدأ بالخطاب ثم التفت إلى الغيبة ثم إلى التكلم، وعلى هذا فهما التفاتات لاغير، وإنما أراد الزمخشري والله
أعلم أنه أتى بثلاثة أساليب خطاب لحاظر وغائب ولنفسه، فوهم بقوله ثلاث التفاتات، أو نجعل الأخير ملتفتا
التفاتين عن الثاني وعن الأول فيكون ثلاثا، والأمر فيه سهل
63

قال محمود رحمه الله (فإن قلت لم قدمت العبادة على الاستعانة الخ) قال أحمد رحمه الله: معتقد أهل السنة أن
العبد لا يستوجب على ربه جزاء، تعالى الله عن ذلك والثواب عندنا من الإعانة في الدنيا على العبادة، ومن صنوف
النعيم في الآخرة ليس بواجب على الله تعالى بل فضل منه وإحسان. في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال:
" لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " مضافا إلى
دليل العقل المحيل أن يجب على الله تعالى شئ لكن كما قام الدليل عقلا وشرعا على أنه تعالى لا يبج عليه شئ فقد
قام عقلا وشرعا على أن خبره تعالى صدق ووعده حق أي يجب عقلا أن يقع، فإما أن يكون الزمخشري تسامح في
إطلاق الاستيجاب وأراد وجوب صدق الخبر وإما أن يكون أخرجه على قواعد البدعية في اعتقاد وجوب الخبر
على الله تعالى وإن لم يكن وعد.
65

قال محمود رحمه الله (وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام) قال أحمد رحمه الله: إن إطلاق الإنعام يفيد الشمول
كقوله إن إطلاق الاستعانة يتناول كل مستعان فيه وليس بمسل فإن الفعل لا عموم لمصدره. والتحقيق أن الإطلاق
إنما يقتضى إبهاما وشيوعا، والنفس إلى المبهم أشوق منها إلى المقيد لتعلق الأمل مع الإبهام لكل نعمة تخطر بالبال.
69

قال محمود رحمه الله (ومعنى الغضب من الله تعالى إرادة الانتقام الخ) قال أحمد رحمه الله: أدرج في هذا
ما يقتضى عنده وجوب وعيد العصاة، وليس مذهب أهل السنة بل الأمر عندهم في المؤمن العاصي موكول إلى
المشيئة، فمنهم من أراد الله تعالى عقوبته والانتقام منه فيقع ذلك لا محالة، ومنهم من أراد العفو عنه وإثباته فضلا
منه تعالى على أن المغضوب عليهم والضالين واقعان على الكفار ووعيدهم واقع لا محالة ومراد والله الموفق. أقول:
قول الزمخشري رحمه الله الغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العصاة الخ لا يدل على ما فسره، فإن وجوب وعيد
71

العصاة لا يعلم منه، والغضب من لله عند أهل السنة والمعتزلة عبارة عما ذكره الزمخشري رحمه الله، إلا أن عند أهل
السنة أن الله تعالى إن شاء عذب صاحب الكبيرة وإن شاء غفر له، وعند المعتزلة وجوب عذابه. فعند المعتزلة
ظاهر أن الغضب عبارة عن إرادة الانتقام وعند أهل السنة إن غفر له فلا غضب، وإن لم يغفر له فغضبه عبارة
عما ذكره.
72

القول في سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم
76

قال محمود رحمه الله (وقد سأل الخليل أصحابه كيف ينطقون بالكاف الخ) قال أحمد رحمه الله: وسألهم
أيضا كيف ينطقون بالقاف من يقبل، فقالوا قاف كقولهم الأول، فأجابهم كجوابه الأول، وقال: أما أنا
فأقول: أق فألحق رضي الله عنه أولا هاء السكت لأن الحرف المنطوق به متحرك، وثانيا همزة الوصل لأنه
ساكن.
79

قال محمود رحمه الله (فإن قلت فما وجه قراءة من قرأ " ص وق ون " مفتوحات الخ) قال أحمد رحمه الله تعالى:
كلامه على الوجه الأول يوجب كونها معربة، وعلى الوجه الثاني يحتمل أن يكون أراد أن الفتحة لالتقاء الساكنين
نشأت عن سكون الحكاية، فإنها إنما تحكى ساكنة مجردة من سمة الإعراب فلا تكون الحركة إذا إعرابا، إذ
لا مقتضى له مع الحكاية ولابناء إذ هي معربة عنده على هذا التقدير، ويحتمل أن يكون أراد أنها مبنية فتكون
الحركة مثلها في أين وكيف حركة بناء، والأول هو الظاهر من مراده إذ حتم قبل أنها معربة على أن سيبويه نص
في كتابه على ما أورده بلفظه. قال: وأما ص فلا يحتاج إلى أن يجعل اسما أعجميا لأن وزنه في كلامهم، ولكنه
يجوز أن يكون اسما للسورة فلا يصرف، ويجوز أن يكون أيضا يس وص اسمين غير متمكنين فيلزمان الفتح كما
ألزمت الأسماء غير المتمكنة للحركات نحو كيف وأين وحيث وأمس اه‍ كلام سيبويه. وفيه رد على الزمخشري
رحمه الله في حتمه أن تكون معربة وأن فتحتها نصب أو لالتقاء الساكنين العارض للحكاية على ما ظهر من مقوله
آنفا، وسيأتي له أيضا ما يدل على أنه لا يجوز بناؤها البتة. أقول بعد تسليم أن الأول هو الظاهر من مراده، فما
ذكره حكاية عن سيبويه غير وارد عليه لأنه اختار أحد الوجهين.
قال محمود رحمه الله (هلا زعمت أنها مقسم بها الخ) قال أحمد رحمه الله: وله البقاء على أنها منصوبة على
القسم وجعل الواو عاطفة على مذهب الخليل وسيبويه في أمثاله، ويسلك حينئذ في العطف سبيل:
86

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا * فإن المقسم به وإن كان منصوبا لأنه محل يعهد وفيه الخبر فعطف بالجر رعاية لذلك العهد
وههنا أولى بالصحة منه في بيت زهير المذكور لأن انتصاب المقسم به إنما نشأ عن حذف حرف الجر الذي هو أصل في
القسم، وانتصاب خبر ليس أصلا في نفسه ليس ناشئا عن حذف، غايته أن حرف الجر قد يصحب خبرها دخيلا
87

فمراعاة الأصل أجدر من مراعاة العارض فقد تحرر في فتح ص وجهان: أحدهما أن يكون إعرابا وهو إما جرى
على الوجه الذي أبداه الزمخشري، أو نصب على الوجه الذي نقلته عن سيبويه، ثانيهما أنه لا إعراب ولا بناء وهو
عروضه على الوقف في الحكاية.
88

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر الخ) قال أحمد رحمه الله: وهذا تحقق
لك مخالفته لما نقلته من نص سيبويه من أنها غير متمكنة، ويدلك على أن فتحتها التي قال قبل إنها لالتقاء الساكنين
فتحة بناء أنه إنما أراد السكون العارض في الحكاية لا سكون البناء، وهو مخالف لنص سيبويه كما نبهت عليه أيضا.
قال محمود رحمه الله (هل تسوغ لي في المحكية إرادة القسم كما سوغت لي في المعربة الخ) قال أحمد رحمه الله:
وقد منع الزمخشري أن يكون ص منصوبا على القسم لما تقدم، وأجاز أن يكون حم في الحديث المذكور منصوبة
على القسم بخلاف " حم " في القرآن فتلك يتعين أن يكون نصبها على إضمار الفعل أو مجرورة على القسم، وأما النصب
مع القسم فلا يجيزه إلا في الحديث. والفرق عنده أن المانع من إجازته في القرآن مجئ المعطوف بعده مخالفا له
91

(1) في الإعراب، إذ المعطوفات كلها مجرورة، ويتعذر عنده القسم في الثواني خوفا من جمع قسمين على مقسم عليه
واحد، ولا كذلك الحديث فإنه لم يأت بعده ما يأباه، فلذلك خص جواز هذا الوجه بالحديث. وأما على الوجه
الذي أوضحته فيعم جواز ذلك القرآن والحديث جميعا.
92

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف الخ) قال أحمد رحمه الله:
على هذا المعنى من خروج خط المصحف عن قياس الخط اعتمد القاضي رضي الله عنه في كتاب الانتصار في
الجواب عما نقل عن عثمان رضي الله عنه أن عكرمة لما عرض عليه المصحف وجد فيه حروفا من اللحق فقال
لاتغير وها فإن العرب ستقيمها بألسنتها، فلو كان الكاتب من ثقيف والمملل من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف.
قال القاضي: وإنما قال عثمان رضي الله عنه ذلك لأن ثقيفا كانت أبصر بالهجاء، وهذيلا كانت تظهر الهمزة،
والهمزة إذا ظهرت في لفظ الممل كتبها الكاتب على صورة، فما أراد عثمان رضي الله عنه إلا أن تلك الحروف
كتبت على خلاف قياس الخط، مثل كتابة الصلاة والزكاة بالواو لا بالألف. قال القاضي: وإنما أخذ الله على
الحفظة أن لا يغيروا التلاوة، وأما الخط فلم يأخذ عليهم رسما بعينه حتى لا يسوغ الخروج من قياس رسم خاص من
رسوم الخط اه كلامه.
93

قال محمود رحمه الله (الوجه الثاني أن يكون ورود هذا الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد الخ) قال أحمد
رحمه الله: إنما أردت هذا الفصل في كلام الزمخشري لأنه غاية الصناعة ونهاية البراعة لولا الإخلال بلطيفة لو
سلكها التمت فصاحته، وهى أنه بنى أول الكلام على النفي وطول فيه حتى انتهى إلى الإثبات، فكان أول الكلام
رهينا لآخره يفهم على الضد حتى ينقضى على البعد، فهو كما انتقد على أبى الطيب قوله في الخيل:
ولا ركبت بها إلا ظفر * ولا حصلت بها إلا على أمل
95

فإنه صدر الصدر والعجز بما صورته الدعاء على المخاطب في العرض مستدركا بعد، وإنما يؤاخذ بهذا مثل
أبى الطيب والزمخشري لأن لهما في مراتب الفصاحة علوا يفطن السامع لمثل هذا النقد.
96

قال محمود رحمه الله (واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف
أسامي حروف المعجم الخ) قال أحمد رحمه الله: بقى عليه من الأصناف الحروف الشديدة، وقد ذكر تعالى نصفها
الهمزة المعبر عنها بالألف والكاف والقاف والطاء والمطبقة، وقد ذكر تعالى نصفها الصاد والطاء والمنفتحة، وقد
100

ذكر نصفها الألف والحاء والراء والسين والعين والقاف والكاف واللام والميم والنون والهاء والياء، وحروف
الصفير لما كانت ثلاثا السين والصاد والزاي لم يكن لها نصف فذكر منها اثنين السين والصاد، وتلك العادة
المأنوسة فيما يقصد إلى تنصيفه فلا يمكن فيتم الكسر. ألا ترى طلاق العبد وعدة الأمة ونحو ذلك، والحروف
اللينة وهى ثلاثة الألف والياء والواو، وذكر منها اثنين الألف والياء كحروف الصفير، والمكرر وهو الراء،
والهاوي وهو الألف، والمنحرف وهو اللام وقد ذكرها، ولم يبق من أصناف الحروف خارجا عن هذا النمط إلا
ما بين الشديد والرخو، فإنه لم يقتصر منها علم النصف لأن ما ذكر منها زائدا على النصف اندرج في غيرها من
الأصناف فلم يمكن الاقتصار لها كالشديدة والرخوة فكم يكن بها عناية. وأما حروف الذلافة والمصمتة فالصحيح
أن لا يعدا صنفين، ولمن عدهما صنفين متميزين خبط طويل في جهة تميزهما حتى أبعد الزمخشري في مفصله في
تميزهما فقال: حروف الذلاقة التي يعتمد الناطق فيها على ذلق اللسان: أي طرفه وهو تمييز مردود جدا لأن من
جملتها الميم والباء والفاء، ولا مدخل لطرف اللسان فيها، ثم لا يتم على هذا التمييز مطابقتها للمصمتة، إذ المصمتة
مفسرة عنده بأنها حروف تكون عن تركيب كلمة رباعية، فما زاد منها حتى يدرج معها أحد حروف الذلاقة
فكيف المقابلة بين الخروج من طرف اللسان وبين الصمت، فالحق أنهما صنفان ضعيف تميزهما، فلم يعتبر
101

جريانهما على النمط المستمر في غيرهما من الأصناف البين امتيازها. وعد الزمخشري في هذا النمط حروف
القلقلة وذكر أن المذكور منها النصف القاف والطاء ووهم فإنها خمسة أحرف لم يذكر منها في الفواتح سوى الحرفين
المذكورين: وعلى الجملة فلا يقدم الناظر تخريج مالم يجر على هذا النمط من الأصناف على وجه يمكن الاستئناس إليه.
102

قال محمود رحمه الله (ومما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعها في تراكيب الكم
أن الأنف واللام الخ) قال أحمد رحمه الله: الألف المذكورة في الفواتح يحتمل أن يكون المراد بها الهمزة ويحتمل أن
يراد بها الألف اللينة، وقد اضطراب فيها كلام الزمخشري في هذا الفصل، فعندما عد الحروف أربعة عشر حرفا
في الفتوح قال: إنها نصف حروف العربية، فهذا يدل على أن جملتها ثمانية وعشرون حرفا فلابد من سقوط
أحد الحرفين من هذا العدد إما اللينة أو الهمزة وإلا كانت تسعة وعشرين، والظاهر أن الساقط الهمزة، وعند
ما قال في تسع وعشرين على عدد الحروف اقتضى هذا دخول الألفين في العدد، والظاهر من كلامه أن الألف
103

عنده هي اللينة فلذلك علل تسميتها بالألف بأن النطق لما تعذر بها أولا استقرت الهمزة مكانها وفاء بمراعاة تلك
اللطيفة التي قدمها من جعل مسمى الحرف أول اسمه، وأما عند النحاة فالألف المعدودة في حروف المعجم مفردة
هي الهمزة، وأما اللينة فهي المعدودة مع اللام حيث يقولون لام ألف ويكتبونها على صورة لا.
104

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: ما محل هذه الفواتح من الإعراب الخ) قال أحمد رحمه الله: وإنما جاز النصب
مع القسم فيما لا يعقبه معطوف مجرور، فأما ما يعقبه معطوف مجرور مثل ص وق ون فإنه لا يجيز فيه النصب مع القسم
البتة، ويحمله على إضمار فعل، أو على أن الفتح في موضع الجر. وأما على وجه بدئه فيما تقدم فيجوز النصب مع
القسم في جميعها فجدد به عهدا وعلى النصب بإضمار فعل أعربها سيبويه في كتابه.
107

قوله تعالى (ذلك الكتاب) قال محمود رحمه الله: (إن قلت لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد الخ) قال
أحمد رحمه الله: ولأن البعد هنا باعتبار علو المنزلة وبعد مرتبة المشار إليه من مرتبة كل كتاب سواه كما يقطعون بثم
للإشعار بتراخي المراتب وقد يكون المعطوف سابقا في الوجود على المعطوف عليه وسيأتي أمثاله.
108

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: لم ذكر اسم الإشارة الخ) قال أحمد رحمه الله: ولو مثل ذلك يقول القائل
حصان كانت دابتك لكان أقوم وأسلم من الفرق لما في لفظ من من الإبهام الصالح للمذكر والمؤنث، ومثل هذا
قوله تعالى - يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو - فيمن وصل الكلام فجعل هم العدو جملة في موضع المفعول الثاني
110

للحسبان، وعدل عن أن يقول هي العدو نظرا إلى المفعول الثاني الذي هو في المعنى خبر عن الصيحة، فذكر وجمع
لما كان المبتدأ هو الخبر في المعنى، وقد وجه الشيخ أبو عمرو قول الزمخشري وتسمى الجملة بالتاء واليا - عقيب
قوله والكلام هو المركب من كلمتين بهذا التوجيه:
111

قوله تعالى (هدى للمتقين) قال محمود رحمه الله) إن قلت: فلم قيل هدى للمتقين والمتقون مهتدون الخ)
قال أحمد رحمه الله الهدى يطلق في القرآن على معنيين: أحدهما الإرشاد وإيضاح سبيل الحق، ومنه قوله تعالى - وأما
116

ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى - وعلى هذا يكون الهدى للضال باعتبار أنه رشد إلى الحق سواء
حصل له الاهتداء أولا. والآخر خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه - أولئك الذين هدى الله
فبهداهم اقتده - فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعا، وأما قول
الزمخشري إن القرآن لا يكون هدى للمعلوم بقاؤهم على الضلالة فإنما يستقيم إذا أريد بالهدى خلق الاهتداء في
قلوبهم، وأما إذا أريد معناه الأول فلا يمتنع أن الله تعالى أرشد الخلق أجمعين وبين للناس ما نزل إليهم، فمنهم من
اهتدى ومنهم من حقت عليه الضلالة، هذا مذهب أهل السنة.
117

قال محمود رحمه (واختلف في الصغائر الخ) قال أحمد رحمه الله: ومن تمنى القدرية على الله اعتقادتهم أن
الصغائر مموحة عنهم ما اجتنبوا الكبائر، وأنه يجب أن يعفو الله عنها لمجتنب الكبائر، كما يجب عندهم أن لا يعفو عن
مرتكب الكبائر، وهذا هو الخطأ الصراح والمحادة لآيات الله البينات وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم الصحاح.
والحق أن غفران الصغائر وإن اجتنب الكبائر موكول إلى المشيئة، كما أن غفران الكبائر موكول إليها أيضا، ومن
لا يعتقد ذلك وهم القدرية يضطرون إلى الوقوف عند قوله تعالى - فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال
120

ذرة شرا يره - فإنه ناطق بالمؤاخذة بالصغائر، ويتحيرون عند قوله تعالى - إن الله يغفر الذوب جميعا - فإنه مصرح
بمغفرة الكبائر، أما أهل السنة فقد ألفوا بين هاتين الآيتين بقوله تعالى - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء - فإن التقييد بالمشيئة في هذه يقضى الآيتين المطلقتين.
121

قوله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب)
123

قال محمود رحمه الله تعالى (إن قلت: ما معنى الإيمان الصحيح الخ) قال أحمد رحمه الله: يعنى بالفاسق غير
مؤمن ولا كافر، وهذا من الأسماء التي سماها القدرية وما أنزل الله بها من سلطان، ومعتقد أهل السنة أن الموحد
لله الذي لا خلل في عقيدته مؤمن وإن ارتكب الكبائر، وهذا الصحيح لغة وشرعا. أما لغة فإن الإيمان هو التصديق
وهو مصدق. وأما شرعا فأقرب شاهد عليه هذه الآية، فإنه لما عطف فيها العمل الصالح على الإيمان دل على أن
الإيمان معقول بدونه، ولو كان العمل الصالح من الإيمان لكان العطف تكرارا. وانظر حلية الزمخشري على
128

تقريب معتقده من اللغة بقوله: المؤمن من اعتقد الحق وأعرب عنه بلسانه وصدقه بعمله. فجعل التصديق من حظ
العمل حتى يتم له أن من لم يعمل فقد فوت التصديق الذي هو الإيمان لغة، ولقد أوضحنا أن التصديق إنما هو
بالقلب ولا يتوقف وجوده على عمل الجوارح، فما يحقق معتقد أهل السنة أن من آمن بالله ورسوله ثم اخترم قبل أن
يتعين عليه عمل من أعمال الجوارح فهو مؤمن باتفاق وإن لم يعمل، وأصدق شاهد على ذلك قوله عليه الصلاة
والسلام " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى إذا لم يبق بينه وبينها إلا فواق ناقة عمل بعمل أهل الجنة فكتب من
أهل الجنة " وإنما مثل عليه الصلاة والسلام بفواق الناقة لأنه الغاية في القصر، ومثل هذا الزمان إنما يتصور فيه
القصد الصحيح خاصة، ومع ذلك فقد عده من أهل الجنة، وإنما يدخل المؤمن الجنة باتفاق الفريقين، والأدلة
على ذلك تجرد كون الشرط فيه شطرا. أقول: تفسير الفاسق بغير مؤمن ولا كافر كما هو مذهب المعتزلة غير
موجه، والشئ الذي هو لم يصرح به لا يجب علينا تصريحه وتعريفه، فإن عندنا أيضا من أخل بالعمل فهو فاسق.
129

قوله تعالى (ومما رزقناهم ينفقون) قال محمود رحمه الله (أضاف الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم إنما ينفقون من
الحلال الطلق الخ) قال أحمد رحمه الله: فهذه بدعة قدرية، فإنهم يرون أن الله تعالى لا يرزق إلا الحلال، وأما
الحرام فالعبد يرزقه لنفسه حتى يقسمون الأرزاق قسمين: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائه، وإذا أثبتوا خالقا غير
132

الله فلا يأنفون عن إثبات رازق غيره. أما أهل السنة فلا خالق ولا رازق في عقدهم إلى الله سبحانه تصديقا بقوله
تعالى - هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون - أيها القدرية.
133

قوله تعالى (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم).
151

قال محمود رحمه الله (والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء الخ) قال أحمد رحمه الله: وحاصل هذا النقل استعمال
152

الحرف في أعم معناه، فالهمزة المعادلة لأم موضوعة في الأصل للاستفهام عن أحد متعادلين في عدم علم التعيين
فنقلت إلى مطلق المعادلة وأم لم يكن استفهاما واستعملت في الجزء الحقيقي، وكذلك حرف النداء موضوع في
الأصل لتخصيص المنادى بالدعاء ثم نقل إلى مطلق التخصيص ولا نداء، كما يكون المجاز بالتخصيص والقصر
مثل تخصيص الدابة بذوات الأربع وإن كانت في الأصل لكل ما دب، فقد يكون بالتعميم والتعدي مثل
تسمية الرجل الشجاع أسدا نقلا لهذا الاسم من موصوف بالشجاعة مخصوص وهو الحيوان المعروف إلى كل
موصوف بتلك الصفة غير مقصورة على محلها الأصلي.
153

قوله تعالى (ختم الله على قلوبهم) الآية.
155

قال محمود رحمه الله (فإن قلت كيف أسند الختم إلى الله تعالى الخ) قال أحمد رحمه الله: هذا أول عشواء
خبطها في مهواة من الأهواء هبطها حيث نزل من منصة النص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة استبقاء لما كتب
عليه من المحنة، فانطوى كلامه هذا على ضلالات أعدها وأردها: الأولى مخالفة دليل العقل على وحدانية الله
تعالى ومقتضاه أنه لا حادث إلا بقدرة الله تعالى لا شريك له، والامتناع من قبول الحق من حملة الحوادث، فوجب
انتظامه في سلك متعلقات القدرة العامة التعلق بالكائنات والممكنات. الثانية مخالفة دليل النقل المضاهى لدليل العقل
كأمثال قوله تعالى - الله خالق كلي شئ - هل من خالق غير الله - وهذه الآية أيضا، فإن الختم فيها مسند إلى الله تعالى نصا
والزمخشري رحمه الله لا يأبى ذلك ولكنه يدعى الالتجاء إلى تأويلها لدليل قام عنده عليه، فإذا ثبت أن الدليل العقلي
على وفق ما دلت عليه وجب إبقاؤها على ظاهره، بل لو وردت على خلافها ذلك ظاهرا لوجب تأويلها بالدليل
157

جمعا بين العقل والنقل. الثالثة الفرار من نسبة ما اعتقده قبحا إلى الله تعالى تنزيها على زعمه أن الإشراك به (1) في الاعتقاد
أن الشيطان هو الذي يخلق الختم والكافر يخلقه لنفسه بقدرته على خلاف مراد ربه فلقد استوخم من السنة المناهل
العذاب، وورد من حميم البدعة موارد العذاب. الرابعة الغلط باعتقاد أن ما يقبح شاهدا يقبح غائبا، فلما كان المنع
من قبول الحق قبيحا في الشاهد وجب على زعمه أن يكون قبيحا من الغائب، وهذه قاعدة قد فرغ من بطلانها
في فنها. الخامسة اعتقاد أن ذلك لو فرض وجود بقدرة الله تعالى لكان ظلما، والله تعالى منزه عن الظلم بقوله
تعالى - وما أنا بظلام للعبيد - ومن الظلم البين جهل حقيقة الظلم، فإن التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فكيف
يتصور ثبوت حقيقته لله تعالى، وكل مفروض محصور بسور ملكه عز وجل - الملك لله الواحد القهار - السادسة أنه
فر من اعتقاد نسبة الظلم إلى الله تعالى فتورط فيه إلى عنقه، لأنه قد جزم بأن المنع من قبول الحق لو كان من

(1) (قوله أن الاشراك) الخ كذا في الأصل ولعل قبله سقطا فليحرر كتبه مصححه.
158

فعل الله تعالى لكان ظلما فيقال له، وقد قام البرهان على أنه من فعل الله تعلى، فيلزمك أن يكون ظلما،
تعالى الله عما يقول الظالمون عليوا كبيرا. والخيال الذي يدندن حوله هؤلاء أن أفعال العبد لو كانت مخلوقة
لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم ولا قامت حجة الله عليهم، وهذا الشبه قد أجراها في أدراج كلامه
المتقدم فيقال لهم: لم قلتم إنها لو كانت مخلوقة لله لما عناها على عباده، فإن أسندوا هذه الملازمة وكذلك
يفعلون إلى قاعدة التحسين والتقبيخ وقالوا: معاقبة الإنسان بعمل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت المعاقبة
من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا. قيل لهم ويقبح في الشاهد أيضا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش
بمرأى منه ومسمع، ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة عل يردعه ورده من الأول عنها. وأنتم معاشر القدرية تزعمون
أن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك.
فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبيه به الحريم، وذلك في الشاهد قبيح جزما فسيقولون:
أجل إنه لقبيح في الشاهد، ولكن هناك حكمة استأثر الله تعالى بعلمها فرقت بين الشاهد والغائب، فحسن من
الغائب تمكين عبده من الفواحش مع القدرة على أن لا يقع منه شئ ولم يحسن ذلك في الشاهد، وفى هذا الموطن
159

تتزلزل أقدامهم وتتنكس أعلامهم إذا أعلامهم إذا لاحت لهم قواطع اليقين وبوارق البراهين، فيقال لهم: ما لمانع أن تكون
تلك الأفعال مخلوقة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة عليها لمصلحة وحكمة استأثر الله بها كما فرغتم منه الآن سواء، فلم لايسلك
أحدكم الطريق الأعدل وينظر عاقبة هذا الأمر فيصير آخر أول، وليوفض من الابتداء إلى خالقه، ويتلقى حجة
الله تعالى عليه بالقبول والتسليم، ويسلك مهتديا بنور العقل ومقتديا بدليل الشرع الصرطا المستقيم، فإن نازعته
النفس وحادثته الهواجس ورغب في مستند من حيث النظر يأنس به من مفاوز الفكر، فليخطر بباله ما ذكر عند
كل عاقل من التمييز بين الحركة الاختيارية والقسرية، فلا يجد عنده في هذه التفرقة ريبا، فإذا استشعر ذلك فليتنبه
فقد لطف به إلى أن انحرف عن مضايق الجبر فارا أن يلوح به شيطان الضلال إلى مهامه الاعتزال، فليمسك
نفسه دونها بزمام دليل الوحدانية، على أن لا فاعل ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا وقف لم يقف إلا وهو على الصراط
المستقيم والطريقية المثلى، مارا عليها في أسرع من البرق الخاطف والريح العاصف، فليتأمل الناظر هذا الفصل
ويتخذه وزره في قاعدة الأفعال يقف على الحق إن شاء الله تعالى.
160

قال محمود رحمه الله (اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفى حكم التغشية الخ) قال أحمد
رحمه الله: وكان جدي رحمه الله يذكر هذا ويزيد عليه: أن الأسماع والقلوب لما كانت محسوبة كان استعمال
الختم لها أولى، والأبصار لما كانت بارزة وإدراكها متعلق بظاهرها كان الغشاء لها أليق.
163

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: كيف ذلك ومخادعة الله والمؤمنين لا تصح الخ) قال أحمد رحمه الله: هذا
الفصل من كلام الزمخشري جمع فيه بين الغث والسمين، ونح ن ننبه على ما فيه من الزبد ليتم للناظر أخذ ما فيه من
السنة آمنا من التورط في وضر البدعة، مستعينين بالله وهو خير معين، فما خالف فيه السنة قوله: إن الله تعالى عالم
بذاته، يريد لا يعلم، وهذا مما وسمت به المعتزلة في المقدمة من أنهم يجحدون صفات الكمال الإلهي، يبغون بذلك
زعمهم التوحيد والتنزيه. ومعتقد أهل السنة أن الله تعالى عالم بعلم قديم أزلي، متعلق بكل معلوم واجب أو ممكن
أو مستحيل، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب
مبين، وحسبك هذه الآية مصدقة لمعتقدهم في ثبوت صفة العلم له تعالى وفى عموم تعلقه بالكليات والجزئيات إلى
ما وراءها من البراهين الكلامية على ذلك، ولسنا بصدد ذكرها في هذا الكتاب. ومما خالف فيه السن اعتقاده أن
في الكائنات ما ليس مخلوقا لله تعالى لأنه قبيح على زعمه كالمفهوم من الخداع في هذه الآية، وما جره إلى هاتين
النزعتين إلا اعتقاده أنه لا يتم استحالة كونه تعالى مخدوعا إلا بأنه عالم بذاته تعم عالميته كل كائن فلا يخدع،
إذ نسبة الذات إلى الكائنات نسبة واحدة، ولا يتم استحالة كونه تعالى خادعا إلا باستحالة صدور بعض الكائنات
عنه لأنه قبيح على زعمهم، ولقد وقف هذا التنزيه على مالا توقف عليه ولا شرط فيه، فنحن معاشر أهل السنة
170

نعتقد أن الله تعالى عالم بعلم، ومع ذلك نعتقد استحالة كونه مخدوعا لأن علمه عندنا عام التعلق كما وصفنا،
ونعتقد أنه لايصصدر كائن في الوجود إلا عن قدرته لا غير، ومع ذلك نمنع أن ينسب الخداع إلى الله تعالى لما يوهم
ظاهره من أنا إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم، هذا هو الموهوم منه في الإطلاق، ولكن حيث
أطلقه تعالى مقابلا لما ذكره من خداع المنافقين كمقابلة المكر بمكرهم علمنا أن المراد منه أنه فعل معهم فعلا سماه
خداعا مقابلة ومشاكة، وإلا فهو قادر على هتك سترهم وإنزال العذاب بهم رأى العين، فهذا معتقد أهل السنة
في هذه الآية وأمثالها، لا كالزمخشرى وشيعته الذين يزعمون أنهم يوحدون فيجدون وينزهون فيشركون،
والله الموفق للحق. وكذلك الخداع المنسوب إليهم على سبيل المجاز عن تعاطيهم أفعال المخادع على ظنهم، وأصدق
شاهد على أنه مجاز نفيه بعقب إثباته في قوله - وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون - ففي هذه التمة نفى احتمال
الحقيقة حتى يتعين جهة المجاز، ومما عده البيانيون من أدلة المجاز صدق نفيه، فتأمل هذا الفصل فله على سائر
الفصول الفضل.
171

قوله تعالى (وما يشعرون الآية) قال محمود رحمه الله تعالى (والشعور علم الشئ علم حس الخ) قال أحمد
رحمه الله: إيضاح هذا الكلام على تفسير الشعور، كما قال بأنه علم الشئ من ناحية الحس الخ، أنه لما كانت
175

مفسدة النفاق عائدة على المنافق عودا بينا جليلا محسوسا، نعى عليهم جهلهم بالمحسوس فنفى شعورهم به، ولا
كذلك معرفة الحق وتميزه عن الباطل فإنه أمر عقلي نظري.
176

قوله تعالى (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) الآية. قال محمود رحمه الله (فإن قلت: لم كانت مخاطبتهم
المؤمنين بالجملة الفعلية الخ) قال أحمد رحمه الله: وبنى هذا التقرير على أن الجملة الاسمية أثبت من الفعلية خصوصا
مؤكدة بأن مردفة بإنما على أنه حكى إيمان المؤمنين المخلصين بالجملة الفعلية أيضا في قوله - ربنا آمنا بما أنزلت
واتبعنا الرسول - وعلى الجملة فلقد أحسن الزمخشري رحمه الله في تقريره ما شاء وأجمل ما أراد. (*)
185

قوله تعالى (إنما نحن مستهزئون الآية) قال محمود رحمه الله: (إن قلت كيف ابتدئ قوله - الله يستهزئ بهم - ولم
يجعله معطوفا الخ) قال أحمد رحمه الله: فإن قال قائل: أفلا يستفاد هذا المعنى من العطف؟ قيل له لو عطف لأشعر
بأن الغرض كل الغرض اجتماع مضمون الجملتين وإعراض عن هذا المعنى الذي ينفرد به الاستئناف. (*)
187

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: فهلا قيل الله مستهزئ بهم الخ) قال أحمد رحمه الله: (ولهذا الفرق بين الفعل
والاسم ورد قوله تعالى - إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق والطير محشورة - لما كان التسبيح من
الطوائد متكررا متجددا شيئا فشيئا وحشر الطير معه أمر دائم، ذكر التسبيح بصيغة الفعل والحشر بصيغة الاسم،
وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد تقرير فيه.
قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) قال محمود رحمه الله: إن قلت: (كيف جاز أن يوليهم الله مددا
من الطغيان الخ) قال أحمد رحمه الله: ما يمنعه أن يقره على ظاهره ويبقيه في نصابه إلا أنه توحيد محض وحق صرف،
والقدرية من من يعيد 7 على مراحل. (*)
188

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: ما النكتة في إضافة الطغيان إليهم الخ) قال أحمد رحمه الله: كل فعل صدر (*)
189

من العبد اختيارا فله اعتباران: إن نظرت إلى وجوده وحدوثه وما هو عليه من وجوه التخصيص فانسب ذلك إلى
قدرة الله وحده وإرادته لا شريك له، وإن نظرت إلى تميزه عن القسر الضروري فانسبه من هذه الجهة إلى العبد وهى
النسبة المعبر عنها شرعا بالكسب في أمثال قوله تعالى - بما كسبت أيديكم - وهى المتحققة أيضا إذا عرضت على
ذهنك الحركتين الضرورية الرعشية مثلا والاختيارية، فإنك تميز بينهما لا محالة بتلك النسبة. فإذا تقرر تعدد الاعتبار
فمدهم في الطغيان مخلوق لله تعالى فأضافه إليه، ومن حيث كونه واقعا منهم على وجه الاختيار المعبر عنه بالكسب
أضافه إليهم ففرع على أصول السنة بحسن ثمار فروعك في الجنة لا كما تفرع القدرية، فإنهم بجنون ولكن على
أنفسهم، ألهمنا الله التحقيق وأيدنا بالتوفيق.
قوله تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) قال محمود رحمه الله (الشراء يستدعى بذل العوض الخ) (*)
190

قال أحمد رحمه الله: ومن هذا القبيل منع مالك رضي الله عنه أن يشترى إحدى أوزتين مذبوحتين يختارها المشترى
منهما لأنه يعد مختارا لكل واحدة منهما ثم بائعا لها بالأخرى فيدخله الربا، وهو الذي يعبر عنه متأخر وأصحابه بأن
من ملك أن يملك هل يعد مالكا أولا، وربما قالوا: من خير بين شيئين عد منتقلا على أحد القولين. (*)
191

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى الخ) قال أحمد رحمه الله: وهذا النوع قريب
من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
لما شبهته في الاهتداء به بالعلم المرتفع أتبعت ذلك ما يناسبه ويحققه فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى
ذلك ظهورا آخر باشتعال النار في رأسه. (*)
192

قوله تعالى (يجعلون أصابعهم في أذانهم الآية) قال محمود رحمه الله (فإن قلت: المجعول من الأصابع في (*)
216

الآذان رؤوسها الخ) قال أحمد رحمه الله لأن فيه إشعارا بأنهم يبالغون في إدخال أصابعهم في آذانهم فوق العادة
المعتادة في ذلك فرارا من شدة الصوت.
قال محمود رحمه الله (فإن قلت فالأصبع التي تسد بها الأذن الخ) قال أحمد رحمه الله لا ورود لهذين
السؤالين أما الأول فلأنه غير لازم أن يسدوا في تلك الحالة بالسبابة ولابد فإنها حالة حيرة ودهش فأي أصبع
اتفق أن يسدوا بها فعلوا غير معرجين على ترتيب معتاد في ذلك فذكر مطلق الأصابع أدل على الدهش والحيرة
28 - كشاف - أول. (*)
217

أو فلعلهم يؤثرون في هذه الحال سد اذانهم بالوسطى لأنها أصم للأذن وأحجب للصوت، فلم يلزم اقتصارهم
على السبابة. وأما السؤال الثاني ففرع على الأول، وقد ظهر بطلانه أيضا ففيه مزيد ركاكة، إذ الغرض تشبيه
حال المنافقين بحال أمثالهم من ذوي الحيرة، فكيف يليق أن يكنى عن أصابعهم بالمسبحات، ولعل ألسنتهم
ما سبحت الله قط، ثم إذا كان الغرض من التمثيل تصوير المعاني في الأذهان تصور المحسوسات فذلك خليق بذكر
الصرائح واجتناب الكنايات والرموز. (*)
218

قوله تعالى (إن الله على كل شئ قدير) قال محمود رحمه الله: (وفى الأشياء مالا تعلق به للقادر كالمستحيل
الخ) قال أحمد رحمه الله: هذا الذي أورده خطأ على الأصل والفرع، أما على الأصل فلأن الشئ لا يتناول إلا
الموجود عند أهل السنة، وأما على الفرع فلأنا وإن فرعنا على معتقد القدرية والشئ عندهم إنما يتناول الموجود
والمعدوم الذي يصح وجوده فلا يتناول المستحيل إذا على هذا التفريع، فإيراده إياه نقضا غير مستقيم على المذهبين.
وأما المقدور بين قادرين فإنها ورطة إنما يستاق إليها القدرية الذين يعتقدون أن ما تعلقت به قدرة العبد استحال أن
تتعلق به قدرة الرب، إذ قدرة العبد خالقة، فيستغنى الفعل بها عن قدرة خالق اخر، تعالى الله عما يشركون علوا
كبيرا. وأما أهل السنة فالقادر الخالق عندهم واحد وهو الله الواحد الأحد، فتتعلق قدرته تعالى بالفعل فيخلقه، (*)
222

وتتعلق به قدرة العبد تعلق اقتران لا تأثير، فلذلك لم يخلق مقدور بين قادرين على هذا التفسير. وقد خشى
الزمخشري في إدراك كلامه هذا سلب القدرة القديمة وجحدها وجعل الله تعالى قادرا بالذات لا بالقدرة دس
ذلك تحت قوله وفى الأشياء مالا تعلق به لذات القادر، ولم يقل لقدرة القادر، فليتفطن لدفائنه، وكم من ضلالة
استدسها في هذه المقالة والله الموفق. فإن قيل: أيها الأشعرية إذا كان الشئ عندكم هو الموجود فما معنى القدرة
عليه بعد وجوده وبقائه والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين - إن الله على كل شئ قدير - قلنا: القدرة تتعلق
بمقدورها فتوجده فيكون حينئذ شيئا، فلما كان مال ما تعلقت به القدرة إلى الشئ حتما صح إطلاق الشئ عليه،
وهو من وادى " من قتل قتيلا فله سلبه " وإذا سموا الشئ باسم ما يئول إليه غالبا فما يئول إليه حتما أجدر. (*)
223

قوله تعالى (لعلكم تتقون) قال محمود رحمه الله (لعل واقعة في الآية موقع المجاز الخ) قال أحمد رحمه الله:
كلام سديد إلا قوله وأراد منهم التقوى والخير فإنه كلام أبرزه على قاعدة القدرية والصحيح والسنة أن الله
تعالى أراد من كل أحد ما وقع منه من خير وغيره، ولكن طلب الخير والتقوى منهم أجمعين والطلب والأمر
عند أهل السنة مباين للإرادة ألهمنا الله صواب القول وسداده. (*)
230

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: فهلا تعبدون الخ) قال أحمد رحمه الله كلام حسن إلا قوله " خلقكم "
للاستيلاء على أقصى غايات العبادة فإنه مفرع على تلك النزغة المتقدمة آنفا، والعبارة المحررة في ذلك على
قاعدة السنة أن يقال اعبدوا ربكم الذي خلقكم على حالة من حقكم معها أن تستولوا على أقصى غاية العبادة وهى
التقوى لما ركب فيكم من العقول وبينه لكم من البواعث على تقواه فكان جديرا بكم أن لا تدعوا من جهدكم
في التقوى شيئا. (*)
232

قوله تعالى (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) الآية. قال محمود رحمه الله (الضمير يحتمل عوده لما نزلنا
الخ) قال أحمد رحمه الله: ومعنى هذا الترجيح أن المتحدى عليهم في التفسير الأوجه جملة المخاطبين: أي إنهم (*)
238

باجتماعهم ومظاهرة بعضهم بعضا عجزة عن الاتيان بطائفة منه، وأما على التفسير المرجوح فهم مخاطبون بأن يعينوا
واحدا منهم يكون معارضا للمتحدى بأنه يأتي بمثل ما أتى به أو ببعضه، ولا شك أن عجز الخلائق أجمعين أبهى من (*)
239

عجز واحد منهم، ويشهد لرجحان الأول قوله تعالى - لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يلاتوا بمثل هذا القرآن
لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا -. (*)
240

قوله تعالى (فاتقوا النار التي وقودها الناس) الآية. قال محمود رحمه الله (هذه الآية نزلت بالمدينة بعد نزول
آية التحريم بمكة الخ) قال أحمد رحمه الله: يعنى بالآية قوله تعالى - قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة -
لكني لم أقف على خلاف بين المفسرين أن سورة التحريم مدنية، وما اشتملت عليه من القصة المشهورة أصدق
شاهد على ذلك، فالظاهر أن الزمخشري وهم في نقله أنها مكية. (*)
249

قوله تعالى (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) الآية. قال محمود رحمه الله (معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل
الخ) قال أحمد رحمه الله: وهذا من التشبيه بغير الأداة، وهو أبلغ مراتب التشبيه كقولهم: أبو يوسف أبو حنيفة. (*)
259

قوله تعالى (إن الله لا يستحيى) الآية قال محمود رحمه الله (إن قلت: كيف جاز وصف الله تعالى
بالاستحيائية الخ) قال أحمد رحمه الله ولقائل أن يقول ما الذي دعاه إلى تأويل الآية مع أن الحياء الذي يخشى
نسبة ظاهرة إلى الله تعالى مسلوب في الآية كقولنا الله ليس بجسم ولا بجوهر في معرض التنزيه والتقديس وأما
تأويل الحديث فمستقيم لأن الحياء فيه ثبت لله تعالى وللزمخشري أن يجيب بأن السلب في مثل هذا إنما يطرأ على
ما يمكن نسبته إلى المسلوب عنه إذ مفهوم نفى الاستحياء عنه في شئ خاص ثبوت الاستحياء في غيره فالحاجة
داعية إلى تأويله لما أفضى إليه مفهومه وإنما يتوجه السؤال لو كان الاستحياء مسلوبا مطلقا كقولنا الله لا يحول
ولا يزول فإن ذلك لا يثبت ومحال بل يقال هو مقدس منزه مطلقا.
263

قال محمود رحمه الله (وما هذه إبهامية الخ) قال أحمد رحمه الله وفيها وهم إمام الحرمين في تقرير نصوصية
العموم في قوله عليه الصلاة والسلام " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها " الحديث فإنه قرر العموم والإبهام في
أي ثم قال فإذا انضافت إليها ما الشرطية كان ذلك أبلغ في اقتضاء العموم فاعتقد أن المؤكد هي الشرطية
وإنما هي حرف مزيد لهذا الغرض وأما ما الشرطية فاسم كمن والله الموفق.
قال محمود (هذا إذا نصبت بعوضة فإن رفعتها فهي إذا موصولة إلى قوله ووجه آخر جميل وهو أن تكون
الخ) قال أحمد حملها على الاستفهامية بالمعنى الذي قرره فيه نظر لأن قوله تعالى فما فوقها - في الحقارة فيكون
معناه فما دونها وإما أن يراد به فما هو أكبر منها حجما وعلى كلا التقديرين بتقدر الاستفهام لأنه إنما يستعمل
في مثل ما؟؟ دينار وديناران أي إذا جاد بالكثير فما القليل وإذا ذهبت في الآية هذا المذهب لم تجد لصحته مجالا،
264

إذ يكون المراد أن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا بالمحقرات فما البعوضة وما هو أحقر منها؟ وقد فرضنا أنها في أحد
الوجهين نهاية في المحقرات وفى الوجه الآخر ليست نهاية بل النهاية في قوله (فما فوقها) أي دونها فإذا حمل ما بعد
الاستفهام على النهاية في الوجهين جميعا لم ينتظم التنبيه المذكور بل ينعكس الغرض فيه إذ المقصود في مثل قولنا
فلان لا يبالي بعطاء الألوف فما الدينار الواحد التنبيه على أن عطاء القليل منه محقق بعطائه الكثير بطريق الأولى ولا
يتحقق في الآية على هذا التقدير أنه لا يستحيى من ضرب المثل بالمحقرات التي لا تبلغ النهاية فكيف يستحيى من
ضرب المثل بما يبلغ النهاية في الحقارة كالبعوضة؟ هذا عكس لنظم الأولوية ولو كانت الآية مثلا واردة على
غير هذا التكلم كقول القائل إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا بالبعوضة التي هي نهاية في الحقارة فما الأنعام
265

التي هي أبهى من البعوضة أو أبعد منها عن الحقارة بما لا يخفى، لكان تقرير الزمخشري متوجها، وما أراه والله أعلم
إلا واهما في هذا الوجه، وما طولت النفس ووسعت العبارة في الاعتراض عليه إلا أنه محل ضيق ومعنى متعاص
لا يخلص إلى الفهم بهذا المزيد من البسط وناهيك بموضع العكس على فهم الزمخشري بل مع تعود فهمه وإصابة
نسجه خصوصا في تنسيق المعاني وتفصيلها، والله الموفق، وما تبجحه بالعثور على الوجه الذي ظن أن رؤبة ابن
العجاج رعاه في قراءته فكلام ركيك توهم أن القراءة موكولة إلى رأى القارئ وتوجيهه لها ونصرته بالعربية
وفصاحته في اللغة وليس الأمر كذلك بل القراءة على اختلاف وجوهها وبعد حروفها سنة تتبع وسماع يقضى
بنقله الفصيح وغيره على حد سواء لا حيلة للفصيح في تعسر شئ منه عما سمعه عليه وما يصنع بفصاحته في القرآن
الذي بدد كل فصاحة وعزل كل بلاغة فالصحيح والمعتقد أن كل قارئ معزول إلا عما سمعه فوعاه وتلقنه من
الأفواه فأداه إلى أن ينتهى ذلك إلى استماع من أفصح من نطق بالضاد سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فتأمل
هذا الفصل فإن فاهمه قليل.
266

قوله تعالى (يضل به كثيرا) الآية. قال محمود رحمه الله فإن قلت: كيف وصف المهديون بالكثرة الخ
قال أحمد رحمه الله: جوابه صحيح وتنظيره بالبيت وهم، لأن الشاعر إنما ذهب إلى أن عدد الكرام وإن كان قليلا
في نفسه فالواحد منهم لعموم نفعه وانبساط كرمه يقوم مقام ألف من جنسه مثلا، وعدد اللئام وإن كثروا
فلأكثرون منهم يعدون بواحد من غيرهم لغل أيديهم وانقباضها عن الجود وعدم تعدى نفع منهم إلى غيرهم كقول
أبن يزيد: الناس الف منهم كواحد * وواحد كألف إن أمر عرا
وأما الآية فمضمونها أن عدد المهديين كثير في نفسه، ومضمون الآيات الأخر أن عددهم قليل بالنسبة إلى كثرة
عدد الضالين فعبر عنه تارة بالكثرة نظرا إلى ذاته، وتارة بالقلة نظرا إلى غيره، فليس معنى البيت من الآية في شئ.
قال محمود رحمه الله (ونسبة الإضلال إلى الله تعالى من إسناد الفعل إلى السبب الخ) قال أحمد رحمه الله: جرى
على سنة السببية في اعتقاد أن الإشراك بالله وأن الإضلال من جملة المخلوقات الخارجة عن عدد مخلوقاته عز وجل
بل من مخلوقات العبد لنفسه على زعم هذه الطائفة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وانظر إلى ضيق الخناق
267

فغلبه الحكايات لإطلاقات المشايخ فرتب عليها حقائق العقائد، وهذا من ارتكاب الهوى واقتحام الهلكة،
وما أشنع تصريحه بأن الله سبب الإضلال لا خالقه، كما أن السلة سبب في وضع القيود في رجلي المحبوس وإسناد
الفعل لله عزو جل مجاز لا حقيقة، كما أن إسناد الفعل إلى البلد كذلك ياله في تمثيل صار به مثلة وتنظير صار به
حائدا عن النظر الصحيح مردود على التفصيل والجملة، نسأل الله تعالى العصمة من أمثال هذه الزلة، وهو
ولى التوفيق.
268

قوله تعالى (هو الذي خلق لكم) الآية. قال محمود رحمه الله تعالى (وقد استدل بقوله خلق لكم على أن الأشياء
التي يصح أن ينتفع بها الخ) قال أحمد رحمه الله: هذا استدلال فرقة من القدرية ذهبت إلى أن حكم الله تعالى الإباحة
في ذوات المنافع التي لا يدل العقل على تحريمها قبل ورود الرسل تلقيا من العقل، وزعموا أنها اشتملت على منافع
وحاجة الخلق داعية إليها فخلقها مع خطرها على العباد خلاف مقتضى الحكمة، فوجب عندهم بمقتضى العقل أن
يعتقدوا إباحتها في حكم الله عزو جل، وهذا زلل ناشئ عن قاعدة التحسين والتقبيح الباطلة. وأما استدلال
الزمخشري لهذه الفرقة بالآية فغير مستقيم، فإن دعواهم أن العقل كاف في إباحة هذه الأشياء، فإن دلت الآية
على الإباحة فنحن نقول بموجبها ويكون إذا إباحة شرعية سمعية، وإن لم تدل على الإباحة لم يبق في الاستدلال بها
مطمع.
270

قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) الآية قال محمود رحمه الله (أي أسماء المسميات الخ) قال أحمد رحمه الله
وهو يفر من اعتقاد أن الاسم هو المسمى لأن ذلك معتقد أهل السنة فيعمل الحيلة في إبعاده عن مقتضى الآية
بقوله - أنبئهم بأسمائهم - ويتغافل عن قوله - ثم عرضهم على الملائكة فإن الضمير فيه عائد إلى المسميات اتفاقا ولم يجر
إلا ذكر الأسماء فدل على أنها المسميات ويعرض أيضا عن حكمة التعليم وأن تعليقه بنفس الألفاظ لا كبير غرض
فيه بل الغرض المهم تعليمه لذوات المسميات وإطلاعه على حقائقها وما أودع الله تعالى فيها من خواص وأسرار
وعلى تسميتها أيضا فإن طريق التعليم يميز كل حقيقة باسمها فقد ثبت بهاتين النكتتين أن المراد بالأسماء المسميات
هي الذوات لزمت إضافة الشئ إلى نفسه وهذا ما لا مطمع فيه فإن هذه الإضافة مثلها في قولك نفس زيد
وحقيقته فالمراد إذا أنبئوني بحقائق هؤلاء ولا نكير في هذه الإضافة فإن الأسماء بمعنى المسميات والحقائق
أعم من هؤلاء المشار إليهم والمضاف إليهم فصحت الإضافة لما بين الأعم والأخص من التغاير وهذا هو
المصحح للإضافة في مثل نفس زيد وأشباهه فهذه نبذة من مسألة الاسم والمسمى تختص بهذه الآية وفيها إن
شاء الله كفاية على أنها وإن عدها المتكلمون من فن الكلام فالغالب عليها أنها مسألة لفظية لا يرجع اختلاف
الأشعرية والمعتزلة فيها إلى كبير من حيث الحقيقة.
272

قوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها) قال محمود رحمه الله (وقيل فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما
كما تقول زل الخ) قال أحمد رحمه الله ويشهد له قوله تعالى - كما أخرج أبويكم من الجنة -.
273

قوله تعالى (فإما يأتينكم منى هدى) الآية قال محمود رحمه الله (إن قلت لم جئ بكلمة الشك وإتيان الهدى
كائن الخ) قال أحمد رحمه الله: هاتان زلتان زلهما فزلهما في قرن الأولى إيراد السؤال بناء على أن الهدى على
الله تعالى واجب. والثانية بناء الجواب على أن الواجب الشرعي يثبت بالنقل قبل ورود الشرع. والحق أن الله
تعالى لا يجب عليه شئ تعالى عن الإيجاب رب الأرباب وإنما يدخل تحت ربقة التكاليف المربوب لا الرب.
274

وأما وجوب النظر في أدلة التوحيد فإنما يثبت بالسمع لا بالعقل، وإن كان حصول المعرفة بالله وتوحيده غير
موقوف على ورود السمع بل محض العقل كاف فيه باتفاق.
قال محمود رحمه الله (فإن قلت: الخطيئة التي أهبط بها آدم من الجنة الخ) قال أحمد رحمه الله تعالى: مقتضاه
تأويل الآي المشعر ظاهرها بوقوع الصغائر من الأنبياء تنزيها لهم عنها على أن تجويز الصغائر عليهم قد قال به طوائف
من أهل السنة، وفى طي وقوعها ألطاف وزيادة في الالتجاء إلى الله تعالى والتواضع له والإشفاق على الخطائين
والدعاء لهم بالتوبة والمغفرة، كما نقل عن داود أنه كان بعد ابتلاء الله له يدعوا للخطائين كثيرا. وعلى الجملة فالقدرى
يجوز الصغائر على الأنبياء ويقول: إن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر في حق آحاد الناس، فلا جرم
التزم الزمخشري ورود السؤال لأن آدم عليه السلام معصوم من الكبائر باتفاق، فيلزم على قاعدة القدرية أن تكون
صغيرة واجبة التكفير والمحو غير مؤاخذ عليها ولا مستوجب بسببها عقوبة ولا شيئا مما وقع، وهذا لا جواب
275

للزمخشري عنه إلا الإنصاف والرجوع عن المعتقدات الباطلة والمذاهب الماحلة، ولقد شنع السؤال بقوله إن
الذي جرى على آدم عليه السلام كالذي جرى على إبليس عليه اللعنة، ومعاذ الله أن يكون الحالان سواء، والعاقبتان
كما تعلم أن آدم عليه السلام خالد في النعيم المقيم، وأن إبليس خالد في العذاب الأليم.
قوله تعالى (ولا تلبسوا الحق بالباطل) الآية. قال محمود رحمه الله (إن قلت لبسهم وكتمانهم ليسا بفعلين
متميزين الخ) قال أحمد رحمه الله: السؤال غير موجه لأنه ادعى فيه عدم التميز بين الفعلين، وغاية ما قدره
تلازمهما، والتلازمان متغايران متميزان إلا أن يعنى التميز عدم الانفكاك، فلا نسلم له تعذر جمعهما في النهى
إذا، بل النهى عن أحدهما على هذا التقدير مستلزم للنهي عن الآخر وإن لم يصرح به.
276

قوله تعالى (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس) الآية. قال محمود رحمه الله (هل فيه دليل على أن الشفاعة
لا تقبل للعصاة الخ) قال أحمد رحمه الله: أما من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها، وأما من آمن بها وصدقها
وهم أهل السنة والجماعة فأولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم،
وليس في الآية دليل لمنكريها لأن قوله يوما أخرجه منكرا، ولا شك أن في القيامة مواطن ويومها معدود بخمسين
ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة وبعضها هو الوقت الموعود وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل
الصلاة والسلام، وقد وردت أي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى: - فلا أنساب
بينهم يومئذ ولا يتساءلون - مع قوله: - وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - فيتعين حمل الآيتين على يومين
مختلفين ووقتين متغايرين: أحدهما محل للتساؤل، والآخر ليس محلا له، وكذلك الشفاعة وأدلة ثبوتها لا تحصى
كثرة، رزقنا الله الشفاعة، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة.
278

قوله تعالى (وإذ فرقنا بكم البحر) قال محمود رحمه الله (يحتمل أنهم كانوا يسلكون الخ) قال أحمد رحمه الله:
فتكون الباء على هذا الوجه للاستعانة مثلها في كتبت بالقلم.
قال محمود رحمه الله (ويحتمل أن يكون المراد فرقناه بسببكم) قال أحمد رحمه الله وهى على هذا الوجه سببية
كما تقول أكرمتك بإحسانك إلى.
قال محمود رحمه الله (ويحتمل أن يكون في موضع الحال الخ) قال أحمد رحمه الله وهى على هذا الوجه للمصاحبة
مثلها في أسندت ظهري بالحائط والوجه الأول ضعيف من حيث أن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببنى إسرائيل
والمنقول بل المنصوص عليه في الكتاب العزيز أن البحر إنما انفرق بعصا موسى يشهد لذلك قوله تعالى أن اضرب
بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل.
قوله تعالى (لعلكم تشكرون) قال محمود (ومعناه إرادة أن تشكروا) قال أحمد رحمه الله أخطأ في تفسير
لعل بالإرادة لأن المراد الله تعالى كائن لا محالة فلو أراد منهم الشكر لشكروا ولا بد وإنما أجراه الزمخشري على
قاعدته الفاسدة في اعتقاد أن مراد الرب كمراد العبد منه ما يقع ومنه ما يتعذر تعالى الله عن ذلك ما شاء الله كان وما
لم يشأ لم يكن والتفسير الصحيح في لعل هو الذي حرره سيبويه رحمه الله قوله لعله يتذكر أو يخشى -
280

قال سيبويه الرجاء منصرف إلى المخاطب كأنه قال كونا على رجائكما في تذكره وخشيته وكذلك هذه الآية
معناها لتكونوا على رجاء الشكر لله عز وجل ونعمه فينصرف الرجاء إليهم وينزه الله تعالى.
قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) الآية.
281

قال محمود رحمه الله (فيه دليل على أن موسى عليه السلام زادهم القول وعرفهم أن رؤية من لا يجوز عليه الخ)
قال أحمد رحمه الله انتهز الزمخشري ما اعتقده فرصة من هذه الآية التي لا مطمع له عند التحقيق في التشبث بها.
فبنى الأمر على أن العقوبة سببها طلب ما لا يجوز على الله تعالى من الرؤية على ظنه وأنى له ذلك وثم سبب ظاهر
في العقوبة سوى ما ادعاه هو كل سبب وذلك أن موسى عليه السلام لما علم جواز رؤيته تعالى طلبها في آية
الأعراف في دار الدنيا فأخبره الله تعالى أنه لا يراه في الدنيا وصار ذلك عنده وعند بني إسرائيل أصلا مقررا كما
أخبر أنه لا يرى في دار الدنيا فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة وتخصيص ذلك
بالمؤمنين وبعد استقرار هذا المعتقد طلب بنو إسرائيل الرؤية في الدنيا تعنتا أو شكا في الخبر فأنزل الله تعالى
بهم تلك العقوبة وكيف تخيل الزمخشري وشيعته أن موسى عليه السلام طلب من الله ما لا يجوز عليه وهل
هو لو كان الأمر على ما تخيله إلا كبنى إسرائيل ومعاذ الله لقد برأه من ذلك وكان عند الله وجيها وأما الأدلة
العقلية على جواز رؤيته تعالى عقلا والسمعية على وقوعها في الدار الآخرة فأكثر من أن تحصى وهى مستقصاة
في فن الكلام وإنما غرضنا في هذا (الباب مباحثة الزمخشري والرد عليه من حيث يتمسك على ظنه وأخذه قوما
منه (1) والله الموفق.

(1) قوله (وأخذه قوما منه) هكذا في الأصل وفى نسخة " قرما " بالراء مكان الواو، ولعل في العبارة
تحريفا فحرر كتبه مصححه.
282

قوله تعالى (فبدل الذين ظلموا) الآية قال محمود رحمه الله (وفى تكرير الذين ظلموا زيادة في تقبيح الخ)
قال أحمد رحمه الله وفيه تهويل لظلمهم من حيث وضع الظاهر موضع المضمر وهو مفيد لذلك إذ هو من قبيل
الإشهار لهذا المعين مع إمكان الاختصار بالإضمار.
283

قوله تعالى (عوان بين ذلك) قال محمود رحمه الله (فإن قلت بين يقتضى شيئين الخ) قال أحمد رحمه الله:
وقد مر نظير هذا عند قوله - فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا - فجدد به عهدا.
287

قال محمود رحمه الله (فإن قلت لم قيل أشد قسوة الخ) قال أحمد رحمه الله: ولأن سياق هذه الأقاصيص قصد
فيه الإسهاب لزيادة التقريع حتى جعلت القصة الواحدة قصتين كما مر الآن ولا شك أن قوله أو أشد قسوة
أدخل في الإسهاب من قول القائل أو أقسى.
290

قوله تعالى (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) الآية قال محمود رحمه الله (أو قال منافقوهم الخ) قال أحمد
رحمه الله وصح عود الضمير في اللفظ إلى جهة واحدة مع اختلاف المرجوع إليه لأنهما صنفان مندرجان في
الأول ونظيره قوله تعالى إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن - فالضمير الأول للأزواج والثاني
للأولياء وهو راجع إلى جهة واحدة وهى جهة المخاطبين لاشتمالهم على الصنفين جميعا والله أعلم.
291

قوله تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) قال محمود (إن قلت: ما فائدة قوله بأيديهم الخ) قال
أحمد رحمه الله وربما قال الزمخشري في مثل هذا إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع
لذلك أن يكون مشاهدا للهيئة.
قوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) الآية قال محمود رحمه الله تعالى (لا تعبدون إخبار في معنى النهى
الخ) قال أحمد رحمه الله وجه الدليل منه أن الأول لو لم يكن في معنى النهى لما حسن عطف الأمر عليه لما بين
الأمر والخبر المحض من التنافر ولا كذلك الأمر والنهى لالتقائهما في معنى الطلب.
292

قال محمود رحمه الله (وقيل هو جواب قوله) وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل الخ. قال أحمد رحمه الله: لو قدر
القسم مضافا إلى المذكورين لكان أوجه فيقول: وإذ أقسمتم لا تعبدون إلا الله الخ.
قوله تعالى (وقولوا للناس) الآية. قال محمود (أي قولا هو حسن في نفسه الخ) قال أحمد: وفيه من التأكيد
والتخصيص على إحسان مقاولة الناس أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد
الوصف كرجل عدل وصوم وفطر. وقرئ حسنا فهو على هذا من الصفات المشبهة.
قوله تعالى (ثم أنتم هؤلاء) قال محمود رحمه الله (أدخل ثم استبعادا الخ) قال أحمد رحمه الله: وهذا نظير
ما تقدم آنفا في قوله تعالى - ثم قست قلوبكم - الآية.
قال محمود رحمه الله (والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون يعنى أنكم قوم آخرون غير أولئك الخ) قال
أحمد رحمه الله: هو بيان لتغير الصفة الموجب لتنزيلهم منزلة المغايرين لهم بالذات.
293

قوله تعالى (ففريقا كذبتم) الآية. قال محمود رحمه الله (إن قلت هلا قيل وفريقا قتلتم الخ) قال أحمد رحمه
الله: والتعبير بالمضارع يفيد ذلك دون الماضي كقوله تعالى - ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء - فعبر بالماضي ثم
قال - فتصبح الأرض مخضرة - فعدل عنه إلى المضارع إرادة لتصوير اخضرارها في النفس، وعليه قول ابن
معديكرب يصور شجاعته وجرأته:
فإني قد لقيت القرن أسعى * بسهب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربه فيهوى * صريعا لليدين وللجران
قوله تعالى (وقالوا قلوبنا غلف) الآية. قال محمود رحمه الله (ثم رد الله أن تكون قلوبهم محلوقة الخ) قال
أحمد رحمه الله: وهذا من نوائب الزمخشري على تنزيل الآيات على عقائدهم الباطلة، وأنى له بذلك في الكتاب
العزيز الذي - لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - ألا تراه كيف أخذ من رد الله على هذه الطائفة أن تكون
قلوبهم مخلوقة على الكفر أن الكفر والامتناع من قبول الحق هم خلقوه لأنفسهم تمهيدا لقاعدته الفاسدة في خلق
الأعمال وسبيل الرد عليه أن الله تعالى إنما كذبهم ورد عليهم في ادعائهم عدم الاستطاعة للإيمان وسلب التمكن،
وعللوا ذلك بأن قلوبهم غلف، وصدق الله ورسوله في أنه إنما خلقهم على الفطرة والتمكن من الإيمان والتأني
والتيسر له، وإنما هم اختاروا الكفر على الإيمان فوقع اختيارهم الكفر مقارنا لخلق الله تعالى إياه في قلوبهم بعد
ما أنشأهم على الفطرة، فقيام حق الله تعالى عليهم بأنه خلقهم متمكنين من الإيمان غير مقسورين على الكفر.
295

وذلك لا ينافي توجيه أهل السنة في اعتقاد أن الله تعالى خالق ذلك في قلوبهم على وفق اختيارهم هذا هو الحق
الأبلج والصراط الأبهج والله الموفق وقول الزمخشري إن كفرهم إنما خلقوه لأنفسهم بسبب منع ألطاف الله تعالى
التي تسبب المؤمنون في حصولها لهم وكانت سببا في خلقهم الإيمان في قلوبهم كل هذا تستر من الإشراك واعتقاد
آلهة غير الله تخلق لنفسها ما شاءت من إيمان وكفر تعالى الله عما يشركون علوا كبيرا.
قوله تعالى (ويكفرون بما وراءه وهو الحق) الآية. قال محمود رحمه الله (لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة
الخ) قال أحمد رحمه الله: وهذه النكتة بعينها هي الموجب لكفر القدرية على أحد قول مالك والشافعي والقاضي
رضي الله عنهم فإن العقائد الصحيحة السنية متلازمة متوافقة يصدق بعضها بعضا فجحد أحدها كفر به ثم كفر
بالجميع نسأل الله تعالى العصمة.
296

قوله تعالى (قل من كان عدوا لجبريل) الآية. قال محمود رحمه الله (فإن قلت كان حق الكلام أن يقال على
قلبي الخ) قال أحمد رحمه الله الحكاية مرة تكون مع التزام اللفظ ومرة تكون بالمعنى غير متبعة للفظ، فلعل
الأمر في هذه الآية توجه على النبي عليه الصلاة والسلام أن يحكى معنى قول الله تعالى له - من كان عدوا لجبريل فإنه نزله
على قلبك - بلفظ المتكلم، ونظير هذا قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن
العزيز العليم. الذي جعل لكم الأرض مهدا - إلى قوله - والذي نزل من السماء ماء يقدر فأنشرنا به بلدة ميتا - فانظر
ما وقع بعد القول المنسوب إليهم مما يفهم أنه قول الله عز وجل لا على سبيل الحكاية عنهم إذ هم لا يقولون فأنشرنا
وإنما يقولون فأنشر على لفظ الغيبة ولكن جاء الكلام حكاية على المعنى لأن معنى قولهم فأنشر الله هو معنى قول
الله عن ذاته فأنشرنا، ولا يستتب لك أن يجعل هذا من باب الخروج من الغيبة إلى التكلم الذي يسمى التفاتا فإن
في هذا مزيدا، ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا
ينسى الذي جعل لكم الأرض - إلى قوله - فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى - فأول الكلام يفهم قول موسى
وآخره يفهم قول الله تعالى والطريق الجامع في ذلك ما قررته والله أعلم.
299

قوله تعالى (ولو أنهم آمنوا واتقوا) الآية. قال محمود رحمه الله (ويجوز أن يكون قوله تعالى آمنوا تمنيا الخ)
قال أحمد رحمه الله: التمني مجاز عن إرادة الله تعالى لإيمانهم وتقواهم من طراز تفسيره للعمل بالإرادة والرد عليه على
سبيله ثم.
302

قوله تعالى (حسدا من عند أنفسهم) قال محمود رحمه الله (إن قلت بم تعلق قوله من عند أنفسهم الخ) قال أحمد
رحمه الله يبعد الوجه الثاني دخول عند ويقرب الأول قوله تعالى تلك أمانيهم - قال محمود رحمه الله (فإن
قلت لم قيل تلك أمانيهم وقولهم لن يدخل الجنة أمنية واحدة الخ) قال أحمد رحمه الله يبعد هذا الجواب قوله
تعالى عقيب ذلك - قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين - بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا
خوف عليهم ولا هم يحزنون فإن البرهان المطلوب منهم ههنا إنما هو على صحة دعواهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم
ويحقق هذا قوله بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه فإنما يعنى الجنة ونعيمها ردا عليهم في نفى
غيرهم عن دخولها ففي هذا دليل بين على أن الأماني المشار إليها ليس إلا ما طولبوا بإقامة البرهان على صحته وهو
أمنية واحدة والله أعلم والجواب القريب أنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم جمعت
ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم بالغة منهم كل مبلغ والجمع يفيد ذلك وإن كان مؤداه واحدا ونظيره قولهم
معا جياع فجمعوا الصفة ومؤداها واحد لا لأن موصوفها واحد تأكيدا لثبوتها وتمكينها، وهذا المعنى أحد
ما روى في قوله تعالى - إن هؤلاء لشرذمة قليلون فإنه جميع قليلا، وقد كان الأصل إفراده فيقال لشرذمة قليلة
304

كقوله تعالى - كم من فئة قليلة - لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها ووجه إفادة الجمع في مثل هذا
للتأكيد أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد فنقل إلى تأكيد الواحد وإبانة زيادته على نظرائه نقلا مجازيا بديعا
فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان والله الموفق.
قوله تعالى (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ) الآية قال محمود رحمه الله (هذه مبالغة عظيمة لأن
المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشئ الخ) قال أحمد رحمه الله: وتفسيره الشئ مخالف لفريقي أهل السنة والبدعة
فإنه عند أهل السنة قاصر على الموجود، وعند المعتزلة يطلق على الموجود وعلى المعدوم الذي يصح وجوده
فليس متناولا للمحال بحال عندهما، وقد تقدم له مثله.
305

قوله تعالى (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) قال محمود رحمه الله (الخطاب فيه للمؤمنين بمعنى
ما شاهدتم الخ) قال أحمد رحمه الله وإنما اختار على هذا التفسير أن تكون متصلة لأنه لو جعلها منقطعة كالأول
لكان مضمون الكلام نفى شهود المخاطبين وهم اليهود على هذا التفسير الثاني لوفاة يعقوب والوصية بالإسلام
وحينئذ يكون ذلك كإقامة حجتهم على جحد الإسلام وإنكار أن يكون الأنبياء مسلمين والرغض ضد ذلك
وإنما كان الكلام يقتضى النفي حينئذ لأن الاستفهام من الله تعالى لا يحمل على ظاهره فتعين صرفه إلى الإنكار لأن
السياق يقتضيه ولهذا كان نفيا لشهود المسلمين وفاة يعقوب ووصيته على التفسير الأول لا سيما والمعتاد
خطاب اليهود المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام بما يخاطب به أوائلهم وتنزيلا لعلمهم ورضاهم منزلة حضورهم
وتعاطيهم كقوله تعالى - وإذ قتلتم نفسا - وإذ قلتم يا موسى - لي أشباه ذلك فإذا كانت أم متصلة والخطاب لليهود
فقد جرى الأمر في خطابهم على المعتاد وإذا كانت منقطعة انعكس الأمر.
313

قوله تعالى (لا نفرق بين أحد منهم) قال محمود رحمه الله (وأحد في معنى جماعة الخ) قال أحمد رحمه الله:
وفيه دليل على أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا حتى يتنزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله الآحاد
مطابقة، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات وذلك الدلالة
على الماهية، وإنما لزم فيها العموم من حيث أن سلب الماهية يستوجب سلب الأفراد لما بين الأعم والأخص من
التلازم في جانب النفي، إذ سلب الأعم أخص من سلب الأخص فيستلزمه، فلو كان لفظا ما لا إشعار له بالتعدد
والعموم وضعا لما جاز دخول بين عليها.
315

قوله تعالى (سيقول السفهاء) قال محمود رحمه الله تعالى (أي فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه الخ) قال
أحمد رحمه الله تعالى: ولهذه النكتة أجرى من حذو النظار في إدراج مناظرتهم العمل بمقتضى الذي هو كذا السالم
عن معارضة كذا فسيقول درء للمعارض قبل ذكر الخصم له، وهى نكتة بديعة أحسن ما يستدل على صحتها بهذه
الآية فتفطن لها فإنها من الملح.
قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) قال محمود رحمه الله (وقيل للخيار وسط الخ) قال أحمد رحمه الله:
وهذا مما اقتضى المجاز فيه التعميم.
317

قوله تعالى (ويكون الرسول عليكم شهيدا) قال محمود رحمه الله (فإن قلت: فهلا قيل لكم شهيدا وشهادته لهم
لا عليهم الخ) قال أحمد رحمه الله: وجه الاستدلال بالآية أنه وصف الله تعالى في أولها بالرقيب وفى آخرها بالشهيد
على وجه التخصيص أولا ثم التعميم ثانيا، وإنما ينتظم التعميم والتخصيص مع اتحاد مؤدى الرقيب والشهيد، إذ
الآية في مثل قول القائل لمن شكره كنت محسنا إلى وأنت بكل أحد محسن، وكأنه لما قال: كنت أنت الرقيب
عليهم، وكان ذلك مخصصا لرقيبيته تعالى على بني إسرائيل أراد أن يصفه بما هو أهله حتى ينفى وهم الخصوصية
فقال في التقدير - وأنت على كل شئ - كذلك فوضع شهيدا موضع كذلك المشار إلى رقيبيته فلا يتم الاستدلال
بها إلا على هذا الوجه، وفيه غموض على كثير من الأفهام، والله الموفق.
قال محمود رحمه الله (فإن قلت لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا الخ) قال أحمد رحمه الله: لأن المنة
عليهم في الطرفين، ففي الأول بثبوت كونهم شهداء، وفى الثاني بثبوت كونهم مشهودا لهم بالتزكية خصوصا من
هذا الرسول المعظم، ولو قدم شهيدا لانتقل الغرض إلى الامتنان على النبي عليه الصلاة والسلام بأنه شهيد، وسياق
318

الخطاب لهم والامتنان عليهم يأباه، وإنما أخذ الزمخشري الاختصاص من التقديم لأن فيه إشعارا بالأهمية والعناية،
وكثيرا ما يجرى ذلك في أثناء كلامه، وفيه نظر.
قوله تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) قال محمود رحمه الله (معناه كثرة الرؤية الخ) قال أحمد رحمه
الله: وهذا من المواضع التي تبالغ العرب فيها بالتعبير عن المعنى بضد عبارته ومنه - ربما يود الذين كفروا -
والمراد كثرة مودتهم للإسلام في القيامة وعند معاينة جزائه وثوابه، وكذلك - وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم -
ومراده إظهار عنادهم بأن علمهم برسالته يقيني مؤكد ومع ذلك يكفرون به.
319

قوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام) قال محمود رحمه الله (الشطر: النحو والسمت الخ) قال
أحمد رحمه الله: وقد نقل أصحابنا المالكية خلافا عن المذهب في الواجب فقيل الجهة وقيل العين هذا مع البعد. وأما
حيث تشاهد الكعبة في المسجد الحرام فمن خرج عن السمت ثم لم تصح صلاته قولا واحدا، ثم لهم على كل واحد
من القولين إشكال. أما على قول العين فيلزم أن لا تصح صلاة الصف المستقيم المستطيل زيادة على مسامتة الكعبة
شرفها الله تعالى لأنا نعلم بالضرورة وإن لم نشاهد أن بعضهم يصلى إلى غير عينها، إذ لا يفي سمتها بذلك على هذا
التقدير، لكن الجواز في مثل هذا مع البعد متفق عليه. وأما على قول الجهة فيلزم تجويز صلاة الكائن في الشمال
مثلا إلى الجهات الثلاث لأنها كلها جهات الكعبة، والسمت غير مراعى على هذا المذهب، وإنما جاء هذا الخبط
من عدم التمييز بين مراعاة الجهة والسمت، ولقد ميزهما أبو حامد بمثال هندسي في كتاب الإحياء فلا نطول بذكره
والتحقيق عند الفتوى أن المعتبر مع البعد الجهة لا السمت.
قوله تعالى (وما أنت بتابع قبلتهم) قال محمود رحمه الله) إن قلت لما جاء على التوحيد وهما قبلتان الخ) قال
أحمد رحمه الله: ومثل هذا ما أجيب به عن قوله تعالى - لن نصبر على طعام واحد - مع أنه متعدد وهو المن
والسلوى. فقيل إنهم أرادوا أنهما من طعام الترفه وآثروا طعام الفلاحة والأجلاف، فلما اتحد الطعامان المذكوران
في الرفاهية جعلوهما طعاما واحدا، وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم - لن نصبر
على طعام واحد - حتى أكدوه بقولهم واحد. وللزمخشري عنه جواب آخر سلف بمكانه.
320

قوله تعالى (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) قال محمود رحمه الله (إن قلت لم خص الأبناء ولم يقل أولادهم الخ)
قال أحمد رحمه الله: بنى كلامه على هذا أن الإناث لا يدخلن في لفظ الأبناء كما يدخلن في لفظ الأولاد، وليس
الامر كذلك بل اللفظان سواء في شمول الإناث ولذلك يدخلن في لفظ الواقف إذا وقف على بنيه وبنى بنيه كما
يدخلن في لفظ الأولاد. مذاهب الامام مالك رضي الله عنه.
321

قوله تعالى (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع) قال محمود رحمه الله (وعن الشافعي رضي الله عنه،
الخوف خوف الله والجوع صيام شره رمضان، والنقص من الأموال الزكوات، ومن الأنفس الأمراض، ومن
323

الثمرات موت الأولاد) قال أحمد: وفى تفسيره هذا نظر، لان هذا الابتلاء موعود به في المستقبل مذكور قبل
وقوعه توطنا عليه عند الوقوع، ولعله ما من قبلة ذكرها إلا وقد تقدمت لهم قبل نزول الآية، إذ الخوف من الله
تعالى لم يزل مشحونا في قلوب المؤمنين، ويبعد أن يعبر عن الصدقة بالنقص وقد عبر عنا الشرع بالزكاة التي هي
النمو ضد النقص وورد (ما نقص مال من صدقة) ويمكن أن يقال: هي نقص حسا، وإنما سميت زكاة باعتبار
ما يئول إليه حال القيام بها من النمو، فالعوض المرجو من كرم الله خلف، فلما ذكر الله تعالى في سياق الابتلاء
الموعود به عبر عنها بالزكاة تسهيلا لاخراجها على المكلف، لأنه إذا استشعر العوض من الله تعالى ونمو ماله بذلك
هان عليه بذلها وسمحت نفسه لذلك.
324

قوله تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) الآية. قال محمود رحمه الله (يحبونهم كحب الله
يعظمونهم كما يعظم الله الخ) قال أحمد رحمه الله: فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول الأول، ولكن هذا مسمى
الفاعل وفعله مبنى للفاعل عند فكه من السبك.
326

قوله تعالى (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) الآية: قال محمود رحمه الله (هم ههنا: بمنزلتها في قوله
هم يفرشون الخ) قال أحمد رحمه الله: أشد ما أخفى في هذه الكلمات معتقد أو رب صدره كلمات فهو ينفس
عن نفسه خناق الكتمان بما ينفثه منه في بعض الأحيان، وكشف ذلك أن يقال لما استشعر دلالة الآية لأهل السنة
على أنه لا يخلد في النار الا الكافر، وأما العاصي وإن أصر على الكبائر فتوحيده يخرجه منها، ولا بد وفاء بالوعد،
ووجه الدلالة منها على ذلك أنه صدر الجملة بضمير مبتدأ، ومثل هذا النظم يقتضى الاختصاص والحصر لغة
وستمر للزمخشري مواضع يستدل فيها على الحصر بذلك، فقد قال في قوله تعالى - أم اتخذوا آلهة من الأرض هم
ينشرون - أن معناه: لا ينشر إلا هم وأن المنكر عليهم ما يلزمهم من حصر الألوهية فيهم، وكذلك يقول في أمثال
قوله - وهم بالآخرة هم يوقنون - أن معناه: الحصر أنه لا يوقن بالآخرة إلا هم، فإذا ابنتي الامر على ذلك لزم حصر
نفى الخروج من النار في هؤلاء الكفار دون غيرهم من الموحدين، لكن الزمخشري يأبى ذلك فيعمل الحال من
معارضة هذه الفائدة بفائدة تتم له على القاعدة، فيجعل الضمير المذكور يفيد تأكيد نسبة الخلود إليهم لا اختصاصه
327

بهم، وهم عنده بهذه المثابة لان العصاة وإن خلدوا على زعمه إلا أن الكفار أحق بالخلود وأدخل في استحقاقه
منهم. فسبحان من امتحنه بهذه المحنة على حذق وفطنة، والله ولى التوفيق.
328

قوله تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم) الآية. قال محمود رحمه الله (الخطاب فيه لليهود والنصارى الخ)
قال أحمد رحمه الله: هذا منقول عن المبرد مصمى بسهام الرد، فان فيه إبهاما بأن اختلاف وجوه القراءة موكول إلى
الاجتهاد، وأنه مهما اقتضاه قياس اللغة جازت القراءة به لمن يعد أهلا للاجتهاد في العربية واللغة، وهذا خطأ
محض، فالقراءات سنة متبعة لا مجال فيها للدراية على أن ما قاله وقدر أنه الأوجه ليس ببالغ ذروة فصاحة الآية إلا
على القراءات المستفيضة، لان الكلام مصدر بذكر البر الذي هو المصدر قولا واحدا، فلو عدل إلى ذكر البر
الذي هو الوصف لانفك عن المطابقة ومعنى النظام، ولذلك كان تأويل الآية بحذف المضاف من الثاني على تأويل بر
من امن أوجه وأحسن وأبقى على السياق ومن ظن أنه يشق غبارا أو يتعلق بأذيال فصاحة المعجز فقد سولت له
نفسه محالا ومنته ضلالا.
330

قوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) الآية. قال محمود رحمه الله (مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما
أن الحر لا يقتل بالعبد والذكر لا يقتل بالأنثى الخ) قال أحمد رحمه الله: وهذا من الزمخشري وهم على
الامامين فإنهما يقتصان من الذكر للأنثى بلا خلاف عنهما، وأما الحر والعبد عندهما فهو الذي وهم الزمخشري
عنهما.
قوله تعالى (فمن عفى له من أخيه شئ). قال محمود رحمه الله (معنى الآية فمن عفى له من جهة أخيه الخ) قال
أحمد رحمه الله: ويقوى هذا التأويل القول بأن موجب العمد أحد الامرين من القصاص أو الدية والخيار إلى الولي
وهو أحد القولين في مذهب مالك رضي الله عنه ومشهورهما، إذ لو جعلنا موجب العمد القود على القول الآخر
331

لكان في ذلك تضييق على الولي، والآية مشعرة بالتخفيف والسعة. وتحتمل الآية وجها اخر وهو عود الضميرين
جميعا إلى الولي، وقالوا على هذا الوجه يكون العفو إعطاء البدل كأنه قال: فمن أعطى شيئا من أخيه: أي بدلا
من أخيه، ويكون من مثلهما في قوله تعالى - ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون - ونظيره في استعمال
العفو في العطاء عندي قوله تعالى - إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح - إذا حمل الذي بيده العقدة على
الزوج وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، ويقول أصحابه عفوه على أحد وجهين: إما من استرجاع النصف
الواجب إن كان قد سلم جميع المهر، وإما على دفع النصف الآخر الذي سقط عنه إن كان لم يسلمه، فيكون العفو
على هذا مستعملا في الاعطاء، ويقوى هذا الوجه في أنه لا قصاص (قوله تعالى - فاتباع بالمعروف) - لان المخاطب
بالاتباع بالمعروف إنما هو الولي، فإذا جعلنا الضميرين له انساق الكلام سياقة واحدة إلى جهة واحدة وصار
المعنى: فمن أعطى من الأولياء بدلا من أخيه فليتبع بالمعروف في طلب ما أعطى، ولما خالفه الولي عن التقاضي
خاطب القاتل بحسن الأداء فينتظم الكلام موجها إلى جهة واحدة، وأما على الوجه الذي قرره الزمخشري فالضميران
جميعا راجعان إلى القاتل وتقدير الكلام فمن عفى له من القاتلين عن جنايته شئ من العفو فليتبع الولي هذا القاتل
المعفو عنه بالمعروف، فيكون المخاطب أول الآية القاتل واخرها الولي، بخلاف الوجه الذي قررته والله أعلم،
وكلا الوجهين حسن جيد.
332

قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) قال محمود رحمه الله (كلام فصيح لما فيه من الغرابة الخ) قال أحمد
رحمه الله: قوله جعل أحد الضدين محلا للآخر كلام، إما وهم فيه أو تسامح، لان شرط تضاد الحياة والموت
اجتماعهما في محل واحد تقديرا، ولا تضاد بين حياة غير المقتص منه وموت المقتص، والبلاغة التي أوضحها في
الآية بينة بدون هذا الاطلاق.
333

قوله تعالى (ولتكملوا العدة الآية). قال محمود رحمه الله (الفعل المعلل محذوف تقديره شرع ذلك الخ)
قال أحمد رحمه الله: ولقبه الخاص به في صناعة البديع رد إعجاز الكلام إلى صدره، ولقد أحسن الزمخشري
في التنقيب عنه فهو منظوم في سلك حسناته
336

قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) قال محمود رحمه الله (كان الرجل إذا أمسى حل له
الاكل الخ) قال أحمد رحمه الله: ويشهد لصحة هذا الجواب أنه لما استقرت الإباحة فيه قال - فالآن باشروهن
فكنى عنه الكناية المألوفة في الكتاب العزيز، ويشكل بقوله - فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج - فان هذه
العبارة استعملت، ولم ينقل في الحج ما نقل في الصوم من سبب نزول الآية وهو مواقعة المكروه، ويمكن أن
يجاب عنه لما وقع في آية الحج منهيا عنه أريد للشعبة عندهم كيلا يقعوا فيه، فعبر عنه بما هجنه لكون ذلك منفرا لهم
عن التورط.
337

قوله تعالى (وكلوا واشربوا) الآية. قال محمود رحمه الله (قالوا فيه دليل على جواز النية بالنهار الخ) قال
أحمد رحمه الله: وجه استدلالهم من الآية على الحكم الأول متعذر، لان إقران النية بأول الصوم وجودا غير معتبر
باتفاق، وتقديمها من الليل وتستصحب معتبر باتفاق، فاذن لا تنافي بين الأكل والشرب إلى الفجر وبين نية الصوم
المستقبل من الليل، ووجودها من الليل متقدمة على الصوم مستفاد من دليل دل عليه، وإنما لم يتم لهم الاستدلال
بالآية على اعتبار النية في النهار لو كان الأكل والشرب ليلا إلى الفجر ينافي صحة استصحاب النية، وكان اقتضاء
الآية لجواز الأكل والشرب إلى الفجر يمنع من اعتبار النية من الليل إلى الفجر لوجود المنافى لها ولابد منها،
فيتعين أن يوقع بعد الفجر على هذا التقدير وذلك التقدير كما علمت متفق على بطلانه. وأما الاستدلال بها على
الحكمين الآخرين فصحيح مستند والله أعلم. ولتفطن الزمخشري لبطلان الاستدلال بالآية على الحكم المذكور
سلك سبيل النقل عنهم فقال قالوا، لا يقولها إلا في مثل هذا المعنى، ولم يسعه التنبيه على بطلان الاستدلال لأنه على
وفق مذهبه.
338

قوله تعالى (تلك حدود الله فلا تقربوها) الآية. قال محمود رحمه الله تعالى (إن قلت: كيف قال فلا تقربوها
الخ؟) قال أحمد رحمه الله تعالى: وفى هذه الآية دليل بين لمذهب مالك رضى الله تعالى عنه في سد الذرائع
والاحتياط للمحرمات لا يدافع عنه.
قوله تعالى (يسألونك عن الأهلة) الآية. قال محمود رحمه الله (فان قلت ما وجه إيصال هذا الكلام الخ؟)
340

قال أحمد رحمه الله: ومثل هذا من الاستطراد في كتاب الله تعالى قوله - وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ
شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا - إلى آخر الآية، فإنه تعالى بين عدم الاستواء بينهما إلى قوله
أجاج، وبذلك تم القصد في تمثيل عدم استواء الكافر والمسلم، ثم قوله - ومن كل تأكلون - لا يتقرر به عدم
الاستواء، بل المفاد به استواؤهما فيما ذكر، فهو من إجراء الله الكلام بطريق الاستطراد المذكور، وإنما مثلت
هذا النوع الذي نبه عليه الزمخشري لأنه مفرد عن الاستطراد الذي بوب عليه أهل صناعة البديع والمطابق لما بوبوا
عليه سواء قوله تعالى - لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور -
فإنه ذم اليهود واستطرد بذلك ذم المشركين المنكرين للبعث على نوع من التشبيه لطيف المنزع. وفى البديع التمثيل
بقوله: إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه فليس به بأس وإن كان من جرم
وسيأتي فيه مزيد تقرير إن شاء الله تعالى.
341

قوله تعالى (الحج أشهر معلومات) قال محمود رحمه الله (هي شوال وذو القعدة الخ) قال أحمد: الذي نقله
عن مالك أحد قوليه وليس بالمشهور عنه. وأما استدلاله لهذا القول بكراهية عمر الاعتمار إلى أن يهل المحرم فلا
ينهض دليلا لمالك لأنه يقول: لا تنعقد العمرة في أيام منى خاصة لمن حج مالم يتم الرمي ويحل بالإضافة فتنعقد،
وجميع السنة ما عدا ما ذكر ميقات للعمرة، ولا تظهر فائدة هذا القول عند مالك الا في إسقاط الدم عن مؤخر
طواف لإفاضة إلى اخر ذي الحجة لاغير، وهى الفائدة التي نقلها الزمخشري عن عروة، ولعمرى إن هذا القول
حسن دليلا فلا يحتاج إلى مزيد، ولكن ظاهر الآية ومقتضاها أن جملة الأشهر هي زمان الحج، الا ترى أن من
قال وعشر من ذي الحجة يحتاج في تنزيل الآية على مذهبه إلى تقرير أن بعض الشهر يتنزل منزلة جميعه، ويستشهد
على ذلك بقوله: ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال * وإنما أحوجه إلى الاستشهاد خروج مقالته عن ظاهر الآية،
فالمتمسك بها على ظاهرها في كما الأشهر الثلاثة واقف مع اقتضائها غير مضطر إلى مزيد عليه.
قوله تعالى (فلا رفث ولا فسوق) الآية. قال محمود رحمه الله (إنما أمر باجتناب ذلك في الحج واجتنابه
واجب الخ) قال أحمد رحمه الله: وفيه نكتة تتعلق بعلم البيان، وهى أن تخصيص الحج بالنهى عن الرفث فيه
والفسوق والجدال يشعر بأنها في غير الحج وإن كانت منهيا عنها وقبيحة، الا أن ذلك القبح الثابت لها في غير الحج
346

كلا قبح بالنسبة إلى وقوعها في الحج، فاشتمل هذا التخصيص على هذا النوع من المبالغة البليغة والله أعلم، على
أن الرفث إن كان التحدث في أمر الجماع خاصة فالنهي عنه خاص بالحج، وهو جائز في غيره على الوجه الشرعي،
وقد نبه مالك رضي الله عنه على أنه لا بأس للحاج بالسعي في أمور النساء، الا أن ذلك قد يوقع في الوهم أنه
يؤدى إلى ترك المحظور، وهذا يدل على تشديد مالك في حظر الرفث للحاج وما يتعلق به والله أعلم. وسمعت
الشافعية يلهجون بالاعتراض على إسحاق في قوله من التنبيه، وتحرم الغيبة على الصائم فيقولون وعلى المفطر، فلا
فائدة في تخصيص الصائم ويعبدون ذلك وهما منه، وهم بمعزل عن هذه الآية وأمثالها، فقد أوسعته عذرا في عبارته
تلك، إذ الكتاب العزيز به تمتحن الفصاحة وصحة العبارات.
347

قوله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات) قال محمود رحمه الله (فان قلت هلا منعت عرفات الصرف الخ) قال أحمد
رحمه الله: يلزمه إذا سمى امرأة بمسلمات أن لا يصرفه فيقول هذا مسلمات بغير تنوين، وهو قول ردئ بل الأفصح
الصحيح في مسلمات إذا سمى به أن ينون، وإنما بنى الزمخشري كلامه هذا على أن تنوين عرفات للتمكين
لا للمقابلة، ولذلك أسقط تنوين المقابلة من أنواع التنوين التي عدها في مفصله على أنه راجع إلى تنوين التمكين.
348

قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) قال محمود رحمه الله (وذلك لما كان عليه الحمس من الترفع
في الجاهلية الخ) قال أحمد رحمه الله: وقد اشتملت الآية على نكتتين: إحداهما عطف الإفاضتين إحداهما على
الأخرى، ومرجعهما واحد وهو الإفاضة المأمور بها، فربما يتوهم متوهم أنه من باب عطف الشئ على نفسه،
فيزال هذا الوهم بأن بينهما من التغاير ما بين العام والخاص، والمخبر عنه أولا الإفاضة من حيث هي غير مقيدة،
والمأمور به ثانيا الإفاضة مخصوصة بمساواة الناس. والثانية بعد وضوح استقامة العطف كونه وقع بحرف المهملة،
وذلك يستدعى التراخي مضافا إلى التغاير، وليس بين الإفاضة المطلقة والمقيدة تراخ، فالجواب غير ذلك أن
التراخي كما يكون باعتبار الزمان قد يكون باعتبار علو المرتبة وبعدها في العلو بالنسبة إلى غيرها، وهو الذي أجاب
به بعد مزيد نشيط وإيضاح.
قوله تعالى (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) قال محمود رحمه الله (أشد معطوف على ما أضيف
إليه الذكر الخ) قال أحمد رحمه الله: فعلى الأول يكون أشد واقعا على المذكور المفعول، ومثاله على الأول أن
يضرب اثنان زيدا مثلا فيقول: أيهما أشد ضربا لزيد فيوقعه على الضارب، ومثال الثاني أن يضرب زيد اثنين
349

مثلا فتقول: أيهما أشد ضربا فتوقعه على المضروب، وعلى الوجه الأول يكون التفضيل على الفاعل وهو القياس،
وعلى الثاني يكون التفضيل على المفعول وهو خلاف القياس. وقد ذكر الزمخشري في مفصله أنه شاذ بقولهم:
أتسبل مرآة لتحسين وأنا أسر منك هذا في أمثلة عددها، فليت شعري كيف حمل الآية عليه وقد وجد غير ذلك
سبيلا، وفى الوجهين جميعا يفر من عطف أشد على الذكر الأول لئلا يكون واقعا على الذكر، وقد انتصب الذكر
تمييزا عنه فيكون الذكر ذكرا وهو محال، لكن أبا الفتح صحح هذا الوجه وألحقه بباب قولهم شعر شاعر وجن جنونه
ونحوه مما بالغت العرب فيه حتى جعلت الصفة صفة مثلها تمكينا لثبوتها، ووضح ذلك أن انتصاب الذكر تمييزا
يوجب أن لا يقع أشد عليه ويعين خروجه منه إما أن يقع على الجثة الذاكرة بتأويل جعله ذاكرا على ما صار إليه
أبو الفتح إنك لو قلت: زيد أكرم أبا، لكان زيد من الأبناء، ولو قلت: زيد أكرم أب، لكان من الأباء
ويحتمل عطفة على الذكر: أعني وجها آخر سوى ما ذهب إليه أبو الفتح وهو أن يكون من باب ما ذكره سيبويه
قال: ويقولون هو أشح الناس رجلا وهما خير الناس رجلا وهما خير الناس اثنين فالمجرور هنا بمنزلة التنوين،
وانتصب الرجل والاثنين كما انتصب الوجه في قولك هو أحسن منه وجها، ولا يكون إلا نكرة كما لا تكون الحال
إلا نكرة، والرجل هو الاسم المبتدأ، فإنما أراد بذلك أن هذا ليس بمثابة هو أشجع الناس غلاما، فإن هذا يجوز
أن يكون غلاما هو الاسم المبتدأ كما في المثال الأول، ويجوز أن يكون غيره، فالآية على هذا الوجه الذي أوضحته
منزلة على المثال الأول، فيكون ذكرا المنصوب واقعا على أشد كما كان الرجل المنصوب واقعا على أشح، فكأنه
قال: أو أشد الأذكار ذكرا، فهذه وجوه أربعة كلها مطروقة إلا هذا الوجه الذي زدته، فان خاطري أبو عذرته
كخشية الله أو أشد خشية ولم أقف على كلام الزمخشري فيها بعد.
350

قوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) الآية. قال محمود: إنما نفى الاثم في الطرفين جميعا ليدل على
التخيير بين الامرين الفاضل والأفضل، كما خير المسافر بين الصوم والفطر وإن كان الصوم أفضل. قال أحمد
رحمه الله: قوله إن التخيير يقع بين الفاضل والأفضل غير مستقيم، فإن التخيير يوجب التساوي في غرض المخير
وينافى طلب أحد الطرفين والأمر به، وكيف يستقيم اجتماع ما يوجب الطلب والترجيح وما يوجب التساوي
والتخيير، وقد وقع لإمام الحرمين قريب من هذا فإنه ميز الوجوب من الندب بأن الندب يشتمل على اقتران الامر
بخيرة الترك ولا كذلك الوجوب، ولم يرضه محققو الفن، وإنما أخل الزمخشري في تفسير الآية فلزمه ذلك السؤال
الوارد عليه، وبيان عدم التطابق بين تفسيره والآية أن مضمونها نفى الاثم عن الطرفين جميعا، وهذا القدر مشترك
بين الندب والكراهة والإباحة، لكن يتميز الندب بترجيح الفعل على الترك، وتتميز الكراهة والإباحة بالتخيير
بينهما، فلا تنافى إذا بين الندب إلى التأخير وأنه أفضل، وبين نفى الاثم عن تاركه إلى التعجيل، وحينئذ لا يرد
السؤال الذي لزمه فأجاب عنه.
351

قوله تعالى (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) قال محمود رحمه الله (المزين هو الشيطان الخ) قال أحمد رحمه
الله: وردت إضافة التزيين إلى الله تعالى وإضافته إلى غيره في مواضع من الكتاب العزيز، وهذه الآية تحتمل
الوجهين، لكن الإضافة إلى قدرة الله تعالى حقيقة والإضافة إلى غيره مجاز على قواعد السنة، والزمخشري يعمل
على عكس هذا، فان أضاف الله فعلا من أفعاله إلى قدرته جعله مجازا، وإن أضافه إلى بعض مخلوقاته جعله
حقيقة، وسبب هذا التعكيس اتباع الهوى في القواعد الفاسدة.
قوله تعالى (ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا) الآية. قال محمود رحمه الله (لأنهم في عليين من السماء
وهم في سجين الخ) قال أحمد رحمه الله: وهذا من وضع الظاهر موضع المضمر بصفة أخرى ومثله في كتاب الله
كثير، قال الله تعالى - إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم -
وكان الأصل ألا إنهم الآية، فوضع الظاهر موضع المضمر بصفة أخرى وضمنه ذكر صفة الظلم بتلو صفة
الخسران. وفى كلام الزمخشري طماح إلى قاعدته في وجوب وعيد العصاة، ألا تراه يقول: ليريك أنه لا يسعد
عنده إلا المؤمن المتقى إشارة إلى أن غير المتقى وهو المصر على الكبائر شقى حتما كهؤلاء الذين يسخرون من الذين
آمنوا، ومنهم من يتمحل فيقول: لأنه جعل المؤمن عين المتقى، ومقتضى قاعدته الفاسدة أن الإيمان يستلزم
التقوى حتى لا يفرض مؤمن إلا متقيا، إذ الايمان فيما فسره هو في تفسيره. هذا وفيما فسره أهل بدعته في كتبهم هو
تصديق الاعتقاد الصحيح والنطق به بالعمل الصالح. والمخل عندهم بالعمل إما بالإصرار على كبيرة أو بترك مهم
من الواجبات فاسق ليس بمؤمن ولا كافر، فمقتضى هذا التقرير على ما ترى أن كل مؤمن متق، وقد علمت من
كلامه على هذه الآية ما يأبى ذلك وينقضه.
354

قوله تعالى (يسألونك عن الخمر) الآية. قال محمود رحمه الله (نزلت في الخمر أربع آيات بمكة الخ) قال
أحمد: ويظهر لي سر واقع مما ذكره في هذا الغرض، وذلك أن السؤال الأول من الأسئلة المقرونة بالواو عين
السؤال الأول من الأسئلة المجردة عن الواو، ولكن وقع جوابه أولا بالمصرف لأنه الأهم وإن كان المسؤول عنه
إنما هو المنفق لا وجه مصرفه. ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسؤول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن
المسؤول عنه صريحا، فقيل العفو: أي الفاضل من النفقة الواجبة على العيال أو نحو ذلك حيثما ورد في تفسيره،
فتعين إذا اقتران هذا السؤال بالواو وليرتبط بالأول، ويحتمل أنهم لما أجيبوا أو لا ببيان جهة المصرف ولم يصرح لهم
بالجواب على عين المنفق ما هو أعاد السؤال لكي يتلقوا جوابه صريحا فتعين دخول الواو. وأما السؤال الثاني من
الأسئلة المقرونة بالواو فقد وقع عن أحوالهم مع اليتامى وهل يجوز لهم مخالطتهم في النفقة والكسوة والسكوني، وقد
كانوا يتحرجون من ذلك في الجاهلية، فلما كان مناسبا للسؤال عن الانفاق باعتبار المنفق وباعتبار جهة المصرف
عطف عليه ليكمل لهم بيان المشروعية في النفقة وآدابها الدينية بيانا شافيا، لأنه قد اجتمع في علمهم ما ينفقون وفيم
ينفقون وعلى أي حالة ينفقون من مخالطة اليتيم وانفراد عنه. وأما السؤال الثالث منها وهو الواقع عن النساء الحيض
فقد ورد أنهم في الجاهلية كانوا يعتزلون الحيض في المؤاكلة والمساكنة يقتدون في ذلك باليهود فسألوا السؤال
المذكور، كما كانوا يعتزلون اليتامى في المساكنة والمؤاكلة تحرجا جاهليا، وكان بين هذين السؤالين تناسب كما
ترى، فحسن أن يعطف الاخر على ما قبله تنبيها على ما بينهما من المشاكلة والله أعلم. وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة
عن الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة، إذ الأول منها عن النفقة، والثاني عن القتال في الشهر الحرام، والثالث
عن الخمر والميسر، فبين هذه الأسئلة من التباين والتقاطع مالا يخفى، فذكرت كذلك مرسلة متعاطفة غير مربوطة
بعضها ببعض، فتنبه لهذا السر فإنه بديع لا تجده يراعى الا في الكتاب العزيز لاستيلائه على أسرار البلاغة ونكت
الفصاحة، ولا تستفاد منه الا بالتنقب في صناعة البيان وعلم اللسان. وقد اشتمل جواب الزمخشري المقدم على وهم
أنبه عليه، وذلك أنه قال: الأسئلة الثلاثة الأخيرة وقعت في وقت واحد، وكانت في حكم السؤال الواحد فربط
بعضها ببعض بالواو، وهذا يقتضى كما ترى أن يقترن السؤال الثاني والثالث بالواو خاصة دون الأول، إذ الواو
إنما يربط ما بعدها بما قبلها، فاقترانها بالأول لا يربطه بالثاني وانما يربطه بما قبله، وعلى هذا تكون الأسئلة التي
وقعت في وقت واحد أربعة أسئلة لا ثلاثة خاصة، وقد قال: إن الأسئلة المرتبطة الواقعة في وقت واحد هي
الثلاثة الأخيرة فهو وأهم بلا شك، وكل مأخوذ من قوله: ومتروك الا المعصوم.
358

قوله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم) الآية. قال محمود رحمه الله (وحكم ذلك أنه إذا فاء إليها في المدة الخ)
قال أحمد رحمه الله: وهذا التفسير منزل على مذهب أبي حنيفة لأنه لا يرى الفيئة بعد انقضاء الأربعة الأشهر مقيدة
إذا وقع الطلاق بنفس مضيها، فلا تكون الفيئة معتبرة عنده إلا في أربعة الأشهر خاصة.
363

قال محمود رحمه الله (فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انقضاء مدة التربص الخ؟) قال
أحمد رحمه الله: هذا جواب عن سؤال موجه على أبي حنيفة رحمه الله، لأن إذا رأى الفيئة في الأشهر الأربعة خاصة
لا فيما بعدها والله تعالى عطف الفيئة على تربص أربعة أشهر بالفاء، ومقتضاها كما علمت وقوع ما عطفه بعد
ما عطفه عليه فيلزم وقوع الفيئة المعتبرة بعد انقضاء الأشهر الأربعة، وأبو حنيفة يأباه فلذلك أجاب عنه الزمخشري
بجوابه المتقدم، والسؤال عندي يندفع بطريق آخر وهو أن المعطوف عليه التربص وهو حاصل من أول المدة
فوقوع الفيئة في المدة بعد التربص فلا يحتاج إلى الجواب بالمثال المذكور، وإنما أوقع الزمخشري في التزام السؤال،
تسليمه لتقدم الفيئة في الأربعة الأشهر على تربصها بناء منه على أنه لا يصدق قول القائل: قد تربصت بفلان أربعة
أشهر إلا إذا انقضت المدة، وليس الأمر كذلك فإنه يصدق من الحاكم أن يقول عند ضرب أجل المولى: قد
تربصت لك أربعة أشهر كما قال الله تعالى لينظر أيفئ أم لا؟ ويصدق رب الدين في أن يقول لمديانه حالة القرض:
قد أجلتك بهذا الدين سنة وإن كان المقتضى منها حينئذ دقيقة واحدة، فلذلك التربص المعطوف عليه في الآية واقع
عند ضرب الأجل المذكور، فالفيئة الواقعة في الأجل إنما تقع بعده فالفاء على بابها المعروف.
قال محمود رحمه الله (فإن قلت: ما تقول في قوله - فإن الله سميع عليم - الخ) قال أحمد رحمه الله: في هذا
الجواب إسلاف جواب عن سؤال آخر يتوجه على أبي حنيفة رحمه الله فيقال له: إذا كان مضى الأربعة الأشهر
يوجب عندك وقوع الطلاق بنفسه غير موقوف على إيقاع من أحد، فما الذي يسمع إذا وهو أمكن من السؤال الذي
قدره الزمخشري، فان لقائل أن يقول: عبر بالعزم عن الايقاع لأنه يستلزمه غالبا، وفى أثناء كلامه نكتة تحتاج إلى
التنبيه عند قوله: والعزم مما يعلم ولا يسمع، والذي ننبه عليه أن قاعدة أهل السنة أن كل موجود يجوز أن يسمع
حتى الجواهر والألوان والمعانى بجملتها، وكذلك يعتقد أن موسى عليه السلام سمع الكلام القديم وليس بحرف ولا
صوت، فلا يتوقف السمع عندهم على أن يكون المسموع صوتا ولا نطقا، غير أن المعتاد انقسام الموجودات إلى
مسموع ومرئى وملموس ومشموم ومذوق وهو المعلوم بالحس وإلى معلوم بغير ذلك، وعلى هذا المعتاد جرت
364

عادة خطاب الله تعالى لعبده، وإن كان الزمخشري ثابتا فيما قاله على الامر العرفي معتقدا ما ذكرناه من حيث
المعروف، وما أراه كذلك فالامر سهل، وإن أخرج كلامه المذكور على قاعدة الاعتزال وهو الظاهر من حاله
في اعتقاد أن ما عدا الأصوات لا يجوز أن يسمع عقلا، فالحذر الحذر من هذه القاعدة الفاسدة والله المستعان. ثم
لابد لنا في مسألة الإيلاء من البصر لما نعتقده من مذهب مالك رحمه الله، ومذهب مالك رحمه الله هو الذي اقتفاه
الشافعي رحمه الله في المسألة فنقول: مضى الأربعة الأشهر بمجرده لا يوجب وقوع الطلاق على الزوج، لأن
الأصل بقاء العصمة، وقد جعل الله له الفيئة بعد تربص الاجل المذكور، ونحن وإن بينا أولا أن الآية لا تأبى
وقوع الفيئة في الاجل فهي أيضا لا تأبى وقوعها بعد الاجل، فينتظم من أصليه: أعني بقاء العصمة والسلامة من
معارضة الآية وقوع الفيئة المعتبرة بعد الاجل، وبقاء العصمة بعد الاجل استصحابا للأصل غير معارض بالآية
وهو المطلوب.
365

قوله تعالى (والذين يتوفون منكم) الآية. قال محمود رحمه الله (قرأها علي رضي الله عنه بفتح الياء الخ) قال
أحمد رحمه الله: ولعل السائل لأبي الأسود كان ممن يفهم عنه أنه لا فرق عنده بين الكسرة والفتح وهو الظاهر،
وعلى ذلك أجابه أبو الأسود فلا تناقض حينئذ.
قال محمود رحمه الله (تقول صمت عشرا الخ) قال أحمد رحمه الله: ومنه (من صام رمضان. وأتبعه بست من
شوال فكأنما صام الدهر) فغلب الليالي وإن كان الصوم غير متصور فيها قالوا: إن شريطة النية وزمانها الليل
فلهذا جعل لها حظا في الصوم وغلبها.
372

قوله تعالى (علم الله أنكم ستذكرونهن) الآية. قال محمود رحمه الله (إن قلت أين المستدرك بقوله ولكن
الخ) قال أحمد رحمه الله: وقويت دلالة هذا المذكور على ما حذف لان المعتاد في مثل هذه الصيغة ورود الإباحة
عقيبها، ونظير هذا النظم قوله تعالى - علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن -
الآية - ولهذا الحذف سر، والله أعلم، وهو أنه اجتنب لان الإباحة لم تنسحب على الذكر مطلقا بل اختصت بوجه
واحد من وجوهه، وذلك الوجه المباح عسر التميز عما لم يبح فذكرت مستثناة بقوله - إلا أن تقولوا قولا معروفا -
تنبيها على أن المحل ضيق والامر فيه عسر والأصل فيه الحظر، ولا كذلك الوطء في زمن ليل الصوم فإنه أبيح
مطلقا غير مقيد، فلذلك صدر الكلام بالإباحة والتوسعة، وجاء النهى عن مباشرة المعتكفة في المسجد تلوا
الإباحة وتبعا في الذكر لأنها حالة فإذا، والمنع فيها لم يكن لأجل الصوم ولكن الامر يتعلق به من حيث المصاحب
وهو الاعتكاف، فتفطن لهذا السر فإنه من غرائب النكت.
373

قوله تعالى (إلا أن يعفون) الآية. قال محمود رحمه الله (والذي بيده عقدة النكاح الولي الخ) قال أحمد رحمه
الله: هذا النقل وهم فيه الزمخشري عن الشافعي رحمه الله، فان مذهبه موافق لمذهب أبي حنيفة رحمه الله في أن المراد
به الزوج، وانما ذهب إلى أن المراد الولي الامام مالك رحمه الله، وصدق الزمخشري إنه قول ظاهر الصحة، عليه
374

رونق الحق وطلاوة الصواب لوجوه: الأول أن الذي بيده عقدة النكاح ثابتة مستقرة هو الولي، وأما الزوج فله
ذلك حالة العقد المتقدم خاصة ثم هو بعد الطلاق، والكلام حينئذ ليس من عقدة النكاح في شئ البتة. فإن قيل
أطلق عليه ذلك بعد الطلاق بتأويل كان مقدرة فلا يخفى على المنصف ما في ذلك من البعد والخروج عن حد إطلاق
الكلام وأصله. الثاني أن الخطاب الأول للزوجات اتفاقا بقوله - إلا أن يعفون - وفيهن من لاعفو لها البتة كالأمة
والبكر، فلولا استتمام التقسيم بصرف الثاني إلى الولي على ابنته البكر أو أمته وإلا لزم الخروج عن ظاهر عموم الأول،
وحيث حمل الكلام على الولي صار الكلام بمعنى إلا أن يعفون إن كن أهلا للعفو، أو يعفو لهن إن لم يكن أهلا
ولهذا كان الولي الذي يعفو ويعتبر عفوه عند مالك هو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته خاصة. الثالث أن
الكتاب العزيز جدير بتناسب الأقسام وانتظام أطراف الكلام، والامر فيه على هذا المحمل بهذه المثابة، فان الآية
حينئذ مشتملة على خطاب الزوجات ثم الأولياء ثم الأزواج بقوله - ولا تنسوا الفضل بينكم - فتكون على هذا
الوجه مليئة بالفوائد جامعة للمقاصد. الرابع أن المضاف إلى صاحب عقدة النكاح العفو كما هو مضاف إلى
الزوجات. والعفو الاسقاط لغة وهو المراد في الأول اتفاقا، إذ المضاف إلى الزوجات هو الاسقاط بلا ريب
ولو كان المراد بصاحب العقدة الزوج لتعين حمل العفو على تكميل المهر وإعطائه مالا يستحق عليه، وهذا إنما
يطابقه من الأسماء التفضل، ومن ثم قال في خطاب الأزواج - ولا تنسوا الفضل بينكم - لان المبذول من جهته غير
مستحق عليه فهو فضل لاعفو. ولا يقال لعل الزوج تعجل المهر كاملا قبل الطلاق وطلق فيجب استرجاع
النصف فيسقطه ويعفو عنه، وحينئذ يبقى العفو من جانب الزوج على ظاهره وحقيقته. لأنا نقول: حسبنا في رد
هذا الوجه ما فيه من الكلفة وتقدير ما الأصل خلافه. الخامس أن صدر الآية خطاب الزواج في قوله - وإن
طلقتموهن - إلى قوله - فرضتم - فلو جاء قوله - أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح - مرادا به الزوج لكان عدولا
375

والتفاتا من الخطاب إلى الغيبة وليس هذا من مواضعه، ولأجل هذا جاء قوله - ولا تنسوا الفضل بينكم - على
صيغة الخطاب لان المراد به الأزواج لخطابهم أولا. السادس أن قوله - إلا أن يعفون - وما عطف عليه استثناء من
قوله - فنصف ما فرضتم - وأصل الكلام فنصف ما فرضتم واجب عليكم إلا أن يعفو عنه الزوجات فليس بواجب
عليكم إذا، فإذا حمل الكلام على الولي استقام، إذ هم لو كملوا المهر لهن فالنصف واجب عليهم لا يتغير، ولا يخالف
الحالة المستثناة مما وقع منه الاستثناء، فلا يجرى الاستثناء على حقيقته في المخالفة بين الأول والثاني، إلا أن يقال:
مقتضى قوله فنصف ما فرضتم واجب عليكم أن النصف الآخر غير مؤدى إليهن لأنه ساقط عن الزوج، فإذا عفا
بمعنى كمل المهر فقد صار النصف الآخر مؤدى إليهن، ففي هذا التأويل من الكلفة ما يسقط مؤنة رده
376

قوله تعالى (قالوا أنى يكون له الملك علينا) الآية. قال محمود رحمه الله (إن قلت ما الفرق بين الواوين الخ)
قال أحمد رحمه الله: وحاصل هذا أن الواو الأولى أفادت جملتها الحالية بنفسها، وأفادت الجملة الثانية الحالية أيضا
لكن بواسطة الواو العاطفة، وهذا النظر من السهل الممتنع.
قال محمود رحمه الله (وزن التابوت فعلوت الخ) قال أحمد رحمه الله: يريد لان الفاء تاء واللام كذلك،
والعرب تستثقل ما فاؤه ولامه حرف واحد لأنه توأم التكرار.
379

قوله تعالى (فمن شرب منه فليس منى) الآية. قال محمود: مستثنى من قوله (فمن شرب منه فليس منى)
قال أحمد رحمه الله: وفي هذه الآية تقوية لمن ذهب إلى أن الاستثناء المتعقب للجمل لا يتعين عوده إلى الأخيرة
لاحتمال عوده إلى ما قبلها، ورد على من منع ذلك محتجا بامتناع الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بأجنبي من
الاستثناء، ولذلك حقق عوده إلى الأخيرة وتوقف في انعطافه على ما تقدمها، فيجوز عنده أن يعود على الجميع
380

مع الأخيرة: وأما عوده على ما قبل الأخيرة دونها فمتعذر عند هذا القائل فلم يقف في العود إلى الأخيرة لهذه الشبهة.
وقد بين القاضي أبو بكر صلاحية عوده إلى ما قبل الأخيرة دونها ردا على هذا القائل، واستشهد بقوله تعالى - ولو
ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان
إلا قليلا - ووجه استشهاده أن المعنى يأبى انعطاف هذا الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ويعين عوده إلى ما قبلها
وسيأتي بيان ذلك عند الكلام على الآية.
381

قوله تعالى (تلك الرسل فضلنا) الآية. قال محمود رحمه الله (والظاهر أنه أراد محمدا عليه الصلاة
والسلام من الفضل بعض حقه، وأصاب الزمخشري في قوله حيث أوتى النبي عليه الصلاة والسلام من الفضل
المنيف على سائر ما أوتيه الأنبياء، على الجميع الصلاة والسلام، وليس كما يقال عن بعض أهل العصر من تفضيل
النبي عليه الصلاة والسلام على كل واحد من آحاد الأنبياء، وينبغي الوقوف عن نسبته له فإنه من العلماء الأعلام
وعمد دين الاسلام، والوجه التوريك بالغلط على النقلة عنه.
382

قوله تعالى (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) الآية. قال محمود رحمه الله (كرر ولو شاء الله للتأكيد)
قال أحمد رحمه الله: ووراء التأكيد سر أخص منه وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها
مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول قصدت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها وذلك عندهم مهيع من
الفصاحة مسلوك وطريق معتد، وكان جدي لامى أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير يعد في كتاب الله تعالى
مواضع في هذا المعنى: منها قوله تعالى - من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من
شرح بالكفر صدرا - ومنها قوله تعالى ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم
معرة بغير علم - إلى قوله - لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم - وهذه الآية من هذا النمط ما صدر الكلام بأن
اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الامر الخاص وهو
اقتتال هؤلاء فهي نافذة في كل واقع. وهو المعنى المعبر عنه في قوله - ولكن الله يفعل ما يريد - طرأ ذكر
تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام وتعرف كل بشكله، فهذا سر ينشرح لبيانه الصدر
ويرتاح السر والله الموفق. وأي قدم يثبت للاعتزال قبالة هذا لأنه الدائرة القاطعة لدابره الكافلة بالرد على منتحله
وناصره ولذلك جوزها الزمخشري لاعتياضها على تأويله واعتصامها بالنصوصية من حيله وتحيله.
383

قوله تعالى (من قبل أن يأتي يوم لا بيع) الآية. قال محمود رحمه الله (ومعناه إن أردتم أن يحط عنكم ما في
ذمتكم الخ) قال أحمد رحمه الله: أما القدرية فقد وطنوا أنفسهم على حرمان الشفاعة وهم جدير أن يحرموها، وأدلة
أهل السنة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى وما أنكرها القدرية إلا لايجابهم مجازاة الله تعالى
للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية إيجابا عقليا على زعمهم، فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة
وقد تقدم جواب عن التمسك بإطلاق مثل هذه الآية في نفى الشفاعة. ونعيده فنقول: أيام القيامة متعددة والشفاعة
في بعضها ثابتة، فكل ما ورد مفهما لنفيها حمل على الأيام الخالية منها جمعا بين الأدلة كما ورد قوله تعالى - فإذا نفخ
في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - وورد - وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - وورد - فيومئذ
لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان - وورد - وقفوهم إنهم مسؤولون - ولا تخلص في أمثال هذه الآي باتفاق إلا الحمل
على تعدد أوقات القيامة واختلاف أحوالها وأيامها وكذلك أمر الشفاعة سواء. رزقنا الله الشفاعة وحشرنا في زمرة
أهل السنة والجماعة.
384

قال محمود رحمه الله (وفى قوله تعالى - وسع كرسيه السماوات والأرض - أربعة أوجه الخ) قال أحمد رحمه الله:
قوله في الوجه الأول: إن ذلك تخييل للعظمة سوء أدب في الاطلاق وبعد في الاضرار، فإن التخيل إنما يستعمل
في الأباطيل وما ليست له حقيقة صدق، فإن يكن معنى ما قاله صحيحا فقد أخطأ في التعبير عنه بعبارة موهمة لا مدخل
لها في الأدب الشرعي، وسيأتي له أمثالها مما يوجب الأدب أن يجتنب (عاد كلامه) قال: فإن قلت: كيف
ترتبت الجمل في آية الكرسي وما بالها لم تعطف بالواو؟ قلت: لأنها كلها في حكم البيان والبيان متحد بالمبين
فدخول الواو بينهما كما تقول العرب: دخول بين العصا ولحائها. فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا
عليه غير ساه عنه. والثانية لكونه مالكا لتدبيره. والثالثة لكبرياء شأنه. والرابعة لاحاطته بأحوال الخلق. والخامسة لسعة
علمه وتعلقه بالمعلومات كلها وقد وردت آثار في تفضيلها منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما قرئت هذه الآية في
دار إلا اجتنبتها الشياطين ثلاثين يوما، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة. يا علي علمها ولدك وأهلك
وجيرانك، فما نزلت آية أعظم منها)، وعن علي رضي الله عنه: سمعت نبيكم على أعواد المنبر يقول: (من قرأ آية
الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد. ومن
قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله) وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن
فقال علي: أين أنتم من آية الكرسي ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا علي سيد البشر آدم، وسيد
العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال طور سيناء
وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي) وإنما فضلت لما
فضلت له سورة الاخلاص من اشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى. قال أحمد: وكان جدي رحمة الله
عليه يقول: اشتملت آية الكرسي على مالم تشتمل عليه آية من أسماء الله عز وجل، وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر
موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستكنا في بعض، ويظهر لكثير من العادين منها ستة عشر إلا على بصير
حاد البصيرة لدقة استخراجه: الأول الله الثاني هو الثالث الحي الرابع القيوم الخامس ضمير لا تأخذه السادس ضمير له
السابع ضمير عنده الثامن ضمير إلا بإذنه التاسع ضمير يعلم العاشر ضمير علمه الحادي عشر ضمير شاء الثاني عشر
385

ضمير كرسيه الثالث عشر ضمير ولا يئوده الرابع عشر وهو الخامس عشر العلى السادس عشر العظيم. فهذه عدة
الأسماء البينة. وأما الخفي فالضمير الذي اشتمل عليه المصدر في قوله حفظهما فإنه مصدر مضاف إلى المفعول،
وهو الضمير البارز ولابد له من فاعل وهو الله، ويظهر عند فك المصدر فتقول: ولا يئوده أن يحفظهما هو.
وكان الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي قد رام الزيادة على هذا العدد لما أخبرته به عن الجد رحمه الله
فقال: يمكن أن يعد ما في الآية من الأسماء المشتقة كل واحد منها باثنين، لان كل واحد يتحمل ضميرا
ضرورة كونه مشتقا، وذلك الضمير إنما يعود إلى الله تعالى وهى باعتبار ظهورها اسم، وقد اشتملت على آخر
مضمر فيكون جملة العدد على هذا النظر أحدا وعشرين اسما، وكنت قد أجريت معه في تعدد الزيادة المذكورة
وجها لطيفا وهو أن الاسم المشتق لا يتحمل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما على الأصح، وهذه الصفات
كلها أسماء الله تعالى ثم ولو، فرضناها متحملة للضمائر بعد التسمية على سبيل التنزيل فالمشتق إنما يقع على موصوفه
باعتبار تحمله ضميره. ألا تراك إذا قلت زيد كريم وجدت كريما إنما يقع على زيد لان فيه ضميره حتى لو جردت
النظر إليه لم تجده مختصا بزيد بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس ولا تجده مختصا بزيد إلا باعتبار
اشتماله على ضميره، فليس المشتق إذا مستقلا بوقوعه على موصوفه إلا بضميمة الضمير إليه، فلا يمكن أن يجعل
له حكم الانفراد عن الضمير مع الحكم برجوعه إلى معين البتة، فرضى الشيخ المذكور عن هذا البحث وصوبه، والله الموفق للصواب.
386

قوله تعالى (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم) الآية. قال محمود (أن آتاه متعلق بحاج على وجهين الخ) قال أحمد
387

عفا الله عنه: والوجهان قريبان من حيث المعنى إلا أن بينهما في الصناعة فرقا وهو إنما استعمل المصدر في الأول
مفعولا من أجله وفي الثاني ظرفا، وقد وقعت المصادر ظروفا في مثل خفوق النجم ومقدم الحاج وأمثال ذلك،
وإنما وقعت محاجته بهذا الظرف لاشتماله على إيتاء الملك الحامل له على البطر أو على وضع كفر النعمة فيه مكان
شكرها، وهذان المعنيان هما المذكوران في الوجه الأول بعينهما، فلهذا نبهت على أن الفرق بين الوجهين صناعي
لا معنوي، والله الموفق لمعاني كلامه.
قال محمود (فإن قلت: كيف جاز أن يؤتى الله الملك الكافر؟ قلت: ذلك على وجهين: أحدهما آتاه ما غلب
به وتسلط من المال والخدم والاتباع. فأما التغليب والتسليط فلا. الثاني أن يكون ملكه امتحانا لعباده (قال أحمد)
السؤال مبنى وروده على قاعدة فاسدة وهى اعتقاد وجوب مراعاة ما يتوهمه القدرية صلاحا أو أصلح على الله تعالى
في أفعاله، وكل ذلك من أصول القدرية التي اجتثها البرهان القاطع فما لها من قرار - وأما إيراد السؤال على صيغة
لم آتاه الله الملك وهو كافر أو لم فعل كذا وكذا فجواب رده على الاطلاق في قوله تعالى - لا يسأل عما يفعل وهم
يسألون - لو سمع الصم البكم، والله ولى التوفيق. عاد كلامه قال: ومعنى قوله أنا أحيى وأميت: أعفى عن القتل
وأقتل، وكان الاعتراض عتيدا ولكن إبراهيم عليه السلام لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكنه انتقل إلى
ما لا يقدر فيه على مثل ذلك ليبهته أول شئ، وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. قال
أحمد: وقد التزم غير واحد من العلماء أن هذا الذي صدر من الخليل عليه الصلاة والسلام ليس بانتقال من الحجة
ولكن من المثال، وأما الحجة فهي استدلاله على ألوهية الله تعالى بتعلق قدرته بما لا يجوز تعلق قدرة الحادث به،
ثم هذا له أمثلة منها الإحياء والإماتة، ومنها الاتيان بالشمس من المشرق والعدول بعد قيام الحجة، وتمهيد القاعدة
من مثال إلى مثال ليس ببدع عند أهل الجدل، والله أعلم.
388

قوله تعالى (أو كالذي مر) الآية. قال محمود (معناه أو أرأيت مثل الذي مر الخ) قال أحمد: ومثل هذا
النظم يحذف منه فعل الرؤية كثيرا كقوله:
قال لها كلابها أسرعي * كاليوم مطلوبا ولا طالبا
يريد لم أر كاليوم فحذف الفعل وحرف النفي، والظاهر حمل الآية على الوجه الأول لوجود نظيره والله أعلم.
عاد كلامه قال: والمار كان كافرا بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد، وقيل كان مؤمنا
وهو عزير أو الخضر وأراد أن يعاين الاحياء كما طلبه إبراهيم، وقوله يوما بناه على الظن. روى أنه مات ضحى
وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس يوما ثم التفت فرأى بقية منها فقال أو بعض
يوم اه‍ كلامه. قال أحمد: أما استدلال الزمخشري على أن المار كان كافرا بانتظامه مع نمروذ في سلك واحد
فمعارض بأنه نظمت قصته مع قصة إبراهيم عليه السلام في نسق واحد، فليس الاستدلال على كفره باقتران قصته
مع قصة نمروذ أولى من الاستدلال على إيمانه بانتظامها أيضا مع قصة إبراهيم إلا أن يقول إن قصة هذا المار معطوفة
على قصة نمروذ عطف تشريك في الفعل منطوقا به في الأولى ومحذوفا من الثانية مدلولا عليه بذكره أولا، ولا
كذلك عطف قصة إبراهيم فإنها مصدرة بالواو التي لا تدخل في كثير من أحوالها للتشريك ولكن لتحسين النظم
حتى تتوسط بين الجمل التي يعلم تعاطفها لذلك الغرض، ولا كذلك عطفها في قصة نمروذ فإنه بأو التي لا تستعمل
إلا مشركة، إذ عطف التحسين اللفظي خاص بالواو فنقول: إذا انتهى الترجيح إلى هذا التدقيق فهو معارض بما
بين قصة المار وقصة إبراهيم من التناسب المعنوي لان طلبتهما واحدة، إذ المار سأل معاينة الإحياء، وكذلك طلبة
إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم التناسب المعنوي أرجح من التعلق بأمور لفظية ترد إلى أنحاء مختلفة. ويؤيد القول
بأن المار كان مؤمنا تحريه في قوله تعالى - يوما أو بعض يوم - فإن ظاهره الاحتراز من التحريف في القول حتى
لا يعبر عن جل اليوم باليوم حذرا من إبهام طلبته لجملة اليوم. ومثل هذا التحري لا يصدر عن معطل والله أعلم،
ولا يقال إنما صدر منه هذا التحري بعد أن حيى وآمن. لأنا نقول: إنما آمن على القول بكفره بعد ظهور الآيات
يدل عليه قوله تعالى - فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير - وأما التحري المذكور فكان أول القصة
389

قبل الايمان وما قدرت هذا السؤال إلا لنكتة يذكرها الزمخشري الآن تشعر بإيراده على الترجيح المذكور. ثم هذه
الجراءة التي نقلها الزمخشري في خلال كلامه من أنه إنما قال أو بعض يوم لما رأى بقية من الشمس لم يكن رآها
أول كلامه، فاستدرك الامر فيها نظر دقيق لم أقف عليه لاحد ممن أورد الحكاية في تفسيره، وذلك أن الامر إذا
كان على ما تضمنته وكلام المار المذكور بنى أولا على الجزم بأنه لبث يوما ثم جزم آخرا أن لبثه إنما كان بعض
يوم لرؤية بقية من الشمس وكان مقتضى التعبير عن حاله أن يقول بل بعض يوم مضربا عن جزمه الأول إلى جزمه
الثاني، لان أو إنما تدخل في الخبر إذا انبنى أوله على الجزم ثم عرض في آخره شك ولا جزم بالنقيض، فالحكاية
المذكورة توجب أن يكون الموضع لبل لالأو إذ موضع بل جزم بنقيض الأول، فإذا استقر ذلك فالظاهر من
حال المار أنه كان أولا جازما، ثم شك لا غير اتباعا لمقتضى الآية وعدولا عن الحكاية التي لا تثبت إلا بإسناد
قاطع فيضطر إلى تأويل، فتأمل هذا النظر فإنه من لطيف النكت والله الموفق. عاد كلامه قال: فإن قلت: إذا
كان المار كافرا الخ؟ قال أحمد: وهذا السؤال عجيب والجواب عنه أعجب منه، ومن سلم لهذا السائل أن الله
تعالى لا يسوغ أن يكلم الكافر وهل هذا إلا خطب بلا أصل أليس أن إبليس رأس الكفر ومعدنه، ومع هذا قال
الله تعالى - اخرج منها فإنك رجيم - إلى آخر الآية، ويقول تعالى للكفار وهم بين أطباقها يعذبون - اخسئوا فيها
ولا تكلمون - ولان هذا الامر متيقن وقوعه فضلا عن جوازه أول العلماء قوله تعالى - ولا يكلمهم الله - بمعنى
ولا يكلمهم بما يسرهم وينفعهم، هذا وجه تعجبي من السؤال. وأما الجواب فقد أسلفت آنفا رده بأن إيمان هذا
المار على القول بأنه كان كفرا إنما حصل في آخر القصة بعد أن تبينت له الآيات، وأما كلام الله تعالى فمن أول
القصة. قلت: الزمخشري كفانا مؤنة هذا الفصل سؤالا وجوابا والله المستعان.
390

قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب أرنى) إلى قوله (ولكن ليطمئن قلبي) قال محمود (إن قلت: كيف قال له أو لم
تؤمن وقد علم الخ) قال أحمد: الأولى في هذه الآية أن يذكر فيها المختار في تفسيرها من المباحث الممتحنة بالفكر المحرر
والنكت المفصحة بالرأي المخمر، فما وافق من كلام المصنف ما يذكره فالحمد الله، وما خالفه فالحق فيما ذكرناه والله الموفق
فنقول: أما سؤال الخليل عليه السلام بقوله له كيف تحيى الموتى فليس عن شك والعياذ بالله في قدرة الله عن
الاحياء، ولكنه سؤال عن كيفية الاحياء، ولا يشترط في الايمان الإحاطة بصورتها فإنما هي طلب علم مالا
يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف وموضعها السؤال عن الحال، ونظير هذا
السؤال أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك إنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه لا ثبوته،
ولو كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فيطرق إلى إبراهيم شكا من هذه الآية وقد قطع النبي عليه الصلاة
والسلام دابر هذا الوهم بقوله (نحن أحق بالشك من إبراهيم) أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى وأولى.
فإن قلت: إذا كان السؤال مصروفا إلى الكيفية التي لا يضر عدم تصورها ومشاهدتها بالايمان ولا تخل به فما
موقع قوله تعالى - أو لم تؤمن - قلت: قد وقعت لبعض الحذاق فيه على لطيفة وهى أن هذه الصيغة تستعمل ظاهرا
في السؤال عن الكيفية كما مر، وقد تستعمل في الاستعجاز. مثاله أن يدعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت
جازم بعجزه عن حمله فتقول له: أرنى كيف محمل هذا، فلما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال
الذي أحاط علم الله تعالى بأن إبراهيم مبرأ منه أراد بقوله أو لم تؤمن أن ينطق إبراهيم بقوله بلى آمنت ليدفع عنه ذلك
الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصا نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهما لا يلحقه فيه
شك. فإن قلت: قد تبين لي وجه. الربط بين الكلام على التقدير المبين فما موقع قول إبراهيم ولكن ليطمئن قلبي؟
391

وذلك يشعر ظاهرا بأنه كان عند السؤال فاقدا للطمأنينة؟ قلت: معناه ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية
الحياة، لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد، وجاءت
الآية مطابقة لسؤاله لأنه شاهد صورة حياة الموتى تقديره الذي يحيى ويميت، فهذا أحسن ما يجرى لي في تفسير هذه
الآية وربك الفتاح العليم. وأما قول الزمخشري إن علم الاستدلال يتطرق إليه التشكيك بخلاف العلم الضروري،
فكلام لم يصدر عن رأى منور ولا فكر محرر، وذلك أن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام
سببه مذكورا في نفس العالم، وإنما الذي يقبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق
في الذكر، وبهذا ينحط الاعتقاد الصحيح عن ذروة العلم، ولكن للقدماء من القدرية خبط طويل في تمييز العلم عن
الاعتقاد حتى غالى أبو هاشم فقال: العلم بالشئ والجهل به مثلان، وهذا على الحقيقة جهل حتى لحقيقة الجهل،
والزمخشري في قواعد العقائد يقفو آثار هذا القائل أية سلك، فلعله من ثم طرق إلى العلم النظري الشك حسب تطرقه
إلى الاعتقاد الذي يكون مرة جهلا ومرة مطابقا والله الموفق.
قوله تعالى (فصرهن إليك) قال محمود (إن قلت: ما معنى أمره بضمها الخ) قال أحمد: يريد ولم يقل طيرانا
لأنه إذا كانت ساعية كان أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة، والله أعلم.
392

قوله تعالى (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) قال محمود (في نوابغ الكلم
صنوان الخ) قال أحمد: ثم في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبعد ما بينهما
والزمخشري يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى
ذلك كهذه الآية. وحاصله أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة. وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه
الآية ونحوها وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه، فهي على هذا لم تخرج عن
الاشعار ببعد الزمن، ولكن معناها الأصلي تراخى زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعار إليه دوام وجود
الفعل وتراخى زمن بقائه، وعليه حمل قوله تعالى - ثم استقاموا - أي داموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد
وتلك الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات وكذلك قوله - ثم لا يتبعون
ما أنفقوا منا ولا أذى - أي يدومون على تناسى الاحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى
الاذاية وتقييد المنن سببه ثم يتوبون والله أعلم. وقريب من هذا أو مثله أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه
وتراخيه، ثم ورد قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام - إني ذاهب إلى ربى سيهدين - وقد حكى الله تعالى
393

في مثل هذه الآية - الذي خلقني فهو يهدين - فليس إلى حمل السين على تراخى زمان وقوع الهداية له من سبيل فيتعين
المصير إلى حملها على الدلالة على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخى بقائها وتمادى أمدها، ولعل الزمخشري
أشار إلى هذا المعنى في آية إبراهيم عليه السلام، فتأمل هذا الوجه فهو أوجه مما حمل الزمخشري عليه
آية البقرة، وهذه الآية أبقى على الحقيقة وأقرب إلى الوضع على أحسن طريقة، والله الموفق.
394

قوله تعالى (أيود أحدكم أن تكون له جنة..) إلى آخر الآية قال محمود (إن قلت لم ذكر النخيل والأعناب أولا
الخ) قال أحمد: وهذا من باب تثنية ذكر ما يقع الاهتمام به مرتين عموما وخصوصا، ومثله - فيهما فاكهة ونخل
ورمان - إلا أنه في تلك الآية بدأ بالتعميم، وفي هذه الآية بدأ بالتخصيص، والمقصود هو ما نبهنا عليه، والله أعلم.
395

قوله تعالى (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) قال محمود (لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين الخ)
قال أحمد: المعتقد الصحيح أن الله هو الذي يخلق الهدى لمن يشاء هداه وذاك هو اللطف لا كما يزعم الزمخشري أن
الهدى ليس خلق الله وإنما العبد يخلقه لنفسه، وإن أطلق الله تعالى إضافة الهدى إليه كما في هذه الآية فهو مؤول على
زعم الزمخشري بلطف الله الحامل للعبد على أن يخلق هداه، إن هذا إلا اختلاق، وهذه النزعة من توابع معتقدهم
السئ في خلق الافعال، وليس علينا هداهم ولكن الله يهدى من يشاء، وهو المسؤول أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا
397

قوله تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) قال محمود (يعنى إذا
بعثوا من قبورهم الخ) قال أحمد: قوله وتخبط الشيطان من زعمات العرب: أي كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة
398

لها كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك، وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية في زعماتهم المردودة
بقواطع الشرع، فقد ورد (ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا)، وفي بعض الطرق (إلا طعن
الشيطان في خاصرته ومن ذلك يستهل صارخا، إلا مريم وابنها لقول أمها إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان
الرجيم)، وقوله عليه الصلاة والسلام (التقطوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين). وفي حديث
مكحول (أنه مر برجل نائم بعد العصر فركضه برجله وقال: لقد دفع عنك الشياطين، أو لقد عوفيت، إنها
ساعة مخرجهم وفيها ينتشرون وفيها يكون الخبتة) قال شمر: كان في لسان مكحول لكنة، وإنما أراد الخبطة من
الشيطان: أي إصابة مس أو جنون وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه
الصلاة والسلام أنه حدث عن شأنه معهم قال: فجاءني طائر كأنه جمل فتعثرني فاحتملني على خافية من خوافيه،
إلى غير ذلك مما يطول الكتاب بذكره. واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر
الشرع عنها، وإنما القدرية خصماء العلانية فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم من ذلك السحر
وخبطة الشيطان ومعظم أحوال الجن، وإن اعترفوا بشئ من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة،
وينبئ عنه ظاهر الشرع في خبط طويل له، فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون.
قوله تعالى (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا) قال محمود (إن قلت: لم
لم يقولوا إنما الربا مثل البيع الخ) قال أحمد: وعندي وجه في الجواب عن السؤال الذي أورده غير ما ذكر، وهو
أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم فللقائل أن يسوى بينهما طردا فيقول مثلا الربا مثل البيع
399

وغرضه من ذلك أن يقول والبيع حلال فالربا حلال، وله أن يسوى بينهما في العكس فيقول البيع مثل الربا، فلو
كان الربا حراما كان البيع حراما ضرورة المماثلة، ونتيجة التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول: ولما كان البيع
حلالا اتفاقا غير حرام وجب أن يكون الربا مثله. والأول على طريقة قياس الطرد، والثاني على طريقة قياس
العكس، ومآلهما إلى مقصد واحد فلا حاجة على هذا التقرير إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره، وليس
الغرض من هذا كله إلا بين هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح وإن كان قياسا فاسد الوضع لاستعماله
على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما، ولكن إذا استعملت الطريقتين
المذكورتين استعمالا صحيحا فقل في الأولى: النبيذ مثل الخمر في علة التحريم وهو الاسكار والخمر حرام فالنبيذ
حرام، وقل في الثانية: إنما الخمر مثل النبيذ، فلو كان النبيذ حلالا لكان الخمر حلالا وليست حلالا (1) اتفاقا،
فالنبيذ كذلك ضرورة المماثلة المذكورة، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه والله أعلم.
قوله تعالى (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) قال محمود رحمه الله (في هذه الآية دليل على
تخليد الفساق الخ) قال أحمد: هو يبنى على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة، ولا يساعده على
ذلك الظاهر الذي استدل به، فإن الذي وقع العود إليه مسكوت عنه في الآية، ألا تراه قال: ومن عاد فلم يذكر
المعود إليه فيحمل على ما تقدم كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون،
والذي سلف ذكره فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع، ولا شك عندنا أهل السنة والجماعة
أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات بما يتوهمه من
الخيالات فقد كفر ثم ازداد كفرا، وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقول إنه كافر مكذب غير
مؤمن، وهذا لا خلاف فيه، فلا دليل للزمخشري إذن على اعتزاله في هذه الآية والله الموفق، وإنما هو موكل
بتحميل الآيات من المعتقدات الباطلة مالا تحتمله، وأنى له ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

(1) (قول المحشى وليست حلالا الخ) لعل الصواب أن يقول: وليس النبيذ حلالا اتفاقا فالخمر كذلك كما هو مقتضى
المقابلة ا ه‍ مصححه
400

قوله (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) قال محمود (إن قلت: هلا قيل إذا تداينتم الخ) قال أحمد:
الاجل المسمى هو المعلوم انتهاؤه، ولعلم الانتهاء طرق منها التحديد بنفس الزمان كالسنة والشهر، ومنها التحديد بما
يعتاد وقوعه في زمن مخصوص مضبوط بالعرف كالحصاد ومقدم الحاج، وكيفما علم الاجل صح ضربه، فمن
ثم أجاز مالك البيع إلى الحصاد لأنه معلوم عندهم، ثم المعتبر زمان وقوع هذه المسميات لا نفس وقوعها، حتى
لو حل زمن قدوم الحاج فمنعه مانع من القدوم مثلا لم يكن به عبرة وحكمنا بحلول أجل الدين، والله أعلم.
402

قوله تعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا فرهان مقبوضة) قال محمود (إن قلت لم شرط السفر في
الارتهان ولا يختص به سفر الخ؟) قال أحمد: فالتخصيص بالسفر على هذا جرى على وفق الغالب فلا مفهوم له،
404

وفي هذه الآية دليل بين مذهب مالك رضي الله عنه في إقامة الرهن عند التنازع في قدر الدين مقام شاهد للمرتهن
إلى تمام قيمته، حتى لو تنازعا فقال الراهين رهنتكه بمائة، وقال المرتهن بل الرهن بمائتين لكان الرهن شاهدا
بقيمته، خلافا للشافعي رضي الله عنه فإنه يرى القول قول الراهن مطلقا لأنه غارم. ووجه الدليل لمالك رضي الله
عنه من الآية أن الله تعالى جعل في التوثق عوضا من الاشهاد والكتابة، وخصه بالسفر لاعوازهما حينئذ * ولو
كان القول قول الراهن شرعا لم يكن قائما مقام الاشهاد ولا مفيدا فائدته يوجه، إذ لو لم يكن الرهن لكان القول
قول المديان في قدر الدين، لم يزد وجود الرهن فائدة على عدمه باعتبار نيابته عن الاشهاد: ولا يقال إن فائدته
الامتياز به على الغرماء لان تلك فائدة الاشهاد حتى يكون نائبا عنه عند تعذره، ولا فائدة إذ ذاك إلا جعل القول
قول المرتهن في قدر الدين عند التخالف وهو مذهب مالك المقدم ذكره، ومن ثم لم يجعله شاهدا إلا في قيمته لا فيما
زاد عليها معتضدا بالعادة في أن رب الدين لا يقبل في دينه إلا الموفى بقيمته، فدعواه أن الدين أكثر من القيمة
مردودة بالعادة، والمديان أيضا لا يسمح بتسليم ما قيمته أكثر فيما هو أقل، فدعواه أو أن الدين أقل من القيمة مردودة
بالعادة، ولا يبقى إلا النظر في أمر واحد، وهو أن المعتبر عند مالك في القيمة يوم الحكم حتى لو تصادقا على أن
القيمة كانت يوم الرهن أكثر أو أقل لم يلتفت إلى ذلك زادت أو نقصت وإنما يعتبر يوم القضاء. ولقائل أن يقول:
إذا جعلتم الرهن مقام الشاهد عند عدمه لان العادة تقتضي أن الناس إنما يرهنون في الديون المساوي قيمته لها،
فينبغي أن تعتبروا القيمة يوم الرهن غير معرجين على زيادتها ونقصانها يوم القضاء، وعند ذلك يتجاذب أطراف
الكلام في أن المقتضي لاقامته مقام الشاهد هو المعنى المتقدم أو غيره، وليس غرضنا إلا أن الآية ترشد إلى إقامته مقام
الشهادة في الجملة. وأما تفاصيل المسألة فذلك من خظ الفقه.
قال محمود (وأما القبض فلا بد من اعتباره الخ) قال أحمد: ليس بين مالك والشافعي خلاف في صحة الارتهان
بالايجاب والقبول دون القبض، ولكنه عند مالك رضي الله عنه يصح بذلك ويلزم الراهن بالعقد تسليمه للمرتهن،
وعند الشافعي لا يلزم بالقعد ولكن للقبض عند مالك اعتبار في الابتداء والدوام، ولا يشترط الشافعي كثيرا من
أحكامه عند مالك، وذلك أنهما لو تقاررا على القبض ثم قام الغرماء انتفع بالرهن عند الشافعي وامتاز به، ولم
ينتفع به عند مالك وكان أسوة الغرماء فيه حتى ينضاف إلى الشهادة عليهما بالقبض معاينة البينة لذلك لأنه يتهمهما
بالتواطؤ على إسقاط حق الغرماء، فلا يعتبر إقرارهما إلا بانضمام المعاينة، فالقبض من هذا الوجه أدخل في الاعتبار
405

على رأي مالك منه على رأى الشافعي هذا في الابتداء. وأما في الدوام فمالك رضي الله عنه يشترط بقاءه في يد
المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أجره منه أو أعاره إياه إعارة مطلقة فقد خرج من
الرهن، ولو قام الغرماء وهو بيد الراهن بوجه من الوجوه المذكورة كان أسوة الغرماء فيه، والشافعي رضي الله عنه
لا يشترط دوام القبض على هذا الوجه، بل للراهن عند الشافعي أن ينتفع بالرهن ولو كره المرتهن إذا لم يكن
الانتفاع مضرا بالرهن كسكنى الدار واستخدام العبد، وله أن يستوفى منافعه بنفسه على الصحيح عنده المنصوص
عليه في الام، ولا يؤثر ذلك في الرهن بطلانا ولا خللا، فقد علمت أن القبض أدخل في الاعتبار على مذهب مالك
ابتداء ودواما والآية تعضده، فإن الرهن في اللغة هو الدوام أنشد أبو علي:
فالخبز واللحم لهم راهن * وقهوة راووقها ساكب *
ولعل القائل باشتراط دوام الرهن في يد المرتهن تمسك بما في لفظ الراهن من اقتضاء الدوام وله في ذلك متمسك،
406

وما طولت في حكاية مذهب مالك في القبض إلا لان المفهوم من كلام الزمخشري اطراح القبض عند مالك، لأنه
فهم من قول أصحابه إن القبض لا يشترط في صحة الرهن ولا في لزومه أنه غير معتبر عنده بالكلية، والله أعلم.
قوله تعالى (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) قال محمود (نقل عن ابن عباس أنه قرأ وكتابه الخ) قال
أحمد: وقد قال مالك إن التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور فإن التمر استرسل على الجنس لا بصيغة لفظية،
والتمور يرده إلى تخيل الوجدان ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب، وهذا الكلام من
الامام لو ظفر له بقول ابن عباس هذا لأشهر الفرضية في الاستشهاد به على صحة مقالته هذه فلا نعيده.
407

قوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال محمود (فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما الخ)
قال أحمد: ولا ورود لهذا السؤال على قواعد أهل السنة، لأنا نقول: إنما ارتفعت المؤاخذة بهذين بالسمع كقوله
عليه الصلاة والسلام (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) وإذا كان كذلك فلعل رفع المؤاخذة بهما كان إجابة لهذه
الدعوة، فقد نقل أن الله تعالى عند كل دعوة منها قد فعلت، وإنما التزم الزمخشري ورود السؤال على قواعد
القدرية الذاهبين إلى استحالة المؤاخذة بالخطأ والنسيان عقلا لأنه من تكليف مالا يطيق، وهو مستحيل عندهم
تفريعا على قاعدة التحسين والتقبيح وكلها قواعد باطلة ومذاهب ما حلة، فإن الله تعالى يجعل لنا من إجابة هذه
الدعوات أوفر نصيب، ويلهمنا المعتقد الحق والقول المصيب، إنه سميع مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
408

القول في سورة آل عمران
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم. نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من
410

قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) قال محمود (فإن قلت: لم قيل في القرآن نزل على صيغة فعل إلخ) قال أحمد:
يريد لأن فعل صيغة مبالغة وتكثير، فلما كان نزول القرآن منجما كان أكثر تنزيلا من غيره لتفرقه في مرار عديدة
فعبر عنه بصيغة مطابقة لكثرة تنزيلاته، وعبر عن الكتابين بصيغة خلية عن المبالغة والتكثير والله أعلم. عاد كلامه
قال: والفرقان يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل، أو الكتب التي ذكرها أو
أراد الكتاب الرابع وهو الزبور كما أفرده وأخر ذكره في قوله - وآتينا داود زبورا - أو كرر ذكر القرآن بما هو
نعت له، ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه وإظهارا لفضله والله أعلم.
قال أحمد: وقد جعل الزمخشري سر التعبير عن نزول القرآن بصيغة فعل تفريقه في التنزيل كما تقدم آنفا، ثم حمل
الفرقان على أحد تأويلاته على القرآن والتعبير عنه بأفعل كغيره، فإن يكن هذا والله أعلم، فالوجه أنه لما عبر أولا
عن نزوله الخاص به أتى بعبارة مطابقة لقصد الخصوصية، فلما جرى ذكره ثانيا لينعت بصفة زائدة على اسم
الجنس عبر عن نزوله من حيث الإطلاق اكتفاء بتميزه أولا وإجمالا لذلك في غير مقصوده، ومن العبارة السائرة
عن هذا المعنى الكلام يجمل في غير مقصوده ويفصل في مقصوده.
قوله تعالى (والله عزيز ذو انتقام) قال محمود (معناه له انتقام شديد إلخ) قال أحمد: وإنما يلقى هذا التفخيم
من التنكير وهو من علاماته مثله في قوله - فقل ربكم ذو رحمة واسعة -.
411

قوله تعالى (منه آيات محكمات) الآية. قال محمود (المحكمات التي أحكمت عبارتها إلخ) قال أحمد: هذا كما
قدمته عنه من تكلفه لتنزيل الآي على وفق ما يعتقده، وأعوذ بالله من جعل القرآن تبعا للرأي أو ذلك أن معتقده
إحالة رؤية الله تعالى بناء على زعم القدرية من أن الرؤية تستلزم الجسمية والجهة، فإذا ورد عليهم النص القاطع
الدال على وقوع الرؤية كقوله - إلى ربها ناظرة - مالوا إلى جعله من المتشابه حتى يردوه بزعمهم إلى الآية التي يدعون
أن ظاهرها يوافق رأيهم والآية قوله تعالى - لا تدركه الأبصار - وغرضنا الآن بيان وجوب الجمع بين الآيتين على
الوجه الحق فنقول: محمل قوله لا تدركه الأبصار في دار الدنيا، ومحمل الرؤية على الدار الآخرة جميا بين الأدلة،
أو نقول الأبصار وإن كانت ظاهرة العموم إلا أن المراد بها الخصوص: أي لا تدركه أبصار الكفار كقوله - كلا
إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون - أو نقول: لا تعارض بين الآيتين فتقر كل واحدة منهما في نصابها. وبيان ذلك
أن الأبصار عام بالألف واللام الجنسيتين ولا يتم غرض القدرية على زعمهم إلا بالموافقة على عمومها وحينئذ يكون
في العموم مرادفة لدخول كل لأن كليهما أعني المعرف والجنسي، وكلا يفيد الشمول والإحاطة، وإذا أثبت
ذلك فالسلب داخل على الكلية والقواعد مستقرة على أن سلب الكلية جزئي لغة وتعقلا ألا ترى أن القائل إذا قال:
لا تنفق كل الدراهم كان المفهوم من ذلك الإذن في إنفاق البعض والنهي عن إنفاق البعض، ومن حيث المعقول
إن الكلية تسلب بسلب بعض الأفراد ولو واحدا، وحينئذ يكون مقتضى الآية سلب الرؤية عن بعض الأبصار
وثبوتها لبعض الأبصار، وهذا عين مذهب أهل السنة لأنهم يثبتونها للموحدين ويسلبونها عن الكفار كما أنبأ عنه
قوله تعالى - كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون - فقد ثبت أن هذه الآية إما محمولة على إثبات الرؤية وإما باقية
على ظاهرها دليلا على ثبوتها على وفق السنة. ولا يقال: قد ثبت الفرق بين دخول كل على المعرف تعريف
الجنس وبين عدم دخولها ألا ترى أنهم يقولون إن قولنا الإنسان كاتب مهمل في قوة الجزئي، وإن قولنا كل
إنسان حيوان كلي لا جزئي. لأنا نقول: إنما جارتنا القدرية على ما يلزمهم الموافقة فيه وهم قد وافقوا على تناول
الأبصار لكل واحد واحد من أفراد الجنس، ولولا ذلك لما تم لهم مرام ولكفونا مؤنة البحث في ذلك، وهذا (*)
412

القدر من الكلية المتفق عليها بين الفريقين لا يثبت لما سماه أهل ذلك الفن مهملا، بل هذا هو الكلي عندهم والله
الموفق، وأما الآيتان الأخريان اللتان إحداهما قوله تعالى - إن الله لا يأمر بالفحشاء - والأخرى التي هي قوله تعالى
- أمرنا مترفيها ففسقوا فيها - فلا ينازع الزمخشري في تمثيل المحكم والمتشابه بهما.
قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) قال محمود (معناه لا يهتدي إلى تأويله إلخ) قال أحمد:
قوله لا يهتدي إليه إلا الله عبارة قلقة ولم يرد إطلاق الاهتداء على علم الله تعالى مع أن في هذه اللفظة إيهاما، إذ
الاهتداء لا يكون في الإطلاق إلا عن جهل وضلال جل الله وعز، حتى إن الكافر إذا أسلم أطلق أهل العرف عليه
فلان المهتدي ذلك مقتضى اللغة فيه فإنه مطاوع هدى، يقال هديته فاهتدى، والإجماع منعقد على أن ما لم يرد
إطلاقه وكان موهما لا يجوز إطلاقه على الله عز وجل، ولذا أنكر القاضي إطلاقه المعرفة على علم الله تعالى حيث
حد مطلق العلم بأنه معرفة المعلوم على ما هو عليه، فلأن ينكر الزمخشري إطلاق الاهتداء على علم الله تعالى
أجدر وما أراها صدرت منه إلا وهما حيث أضاف العلم إلى الله تعالى وإلى الراسخين في العلم، فأطلق الاهتداء على
الراسخين أو غفل عن كونه ذكرهم مضافين إلى الله تعالى في الفعل المذكور والله أعلم.
قوله تعالى (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) قال محمود (معناه ربنا لا تبلنا ببلايا إلخ) قال أحمد: أما أهل السنة
فيدعون الله بهذه الدعوة غير محرفة، لأنهم يوحدون حق التوحيد فيعتقدون أن كل حادث من هدي وزيغ مخلوق
413

لله تعالى، وأما القدرية فعندهم أن الزيغ لا يخلقه الله تعالى وإنما يخلقه العبد لنفسه، فلا يدعون الله تعالى بهذه الدعوة
إلا محرفة إلى غير المراد بها كما أولها المصنف به، وإن كنا ندعو الله تعالى مضافا إلى هذه الدعوة بأن لا يبتلينا ولا
يمنعنا لطفه آمين، لأن الكل فعله وخلقه، ولا موجود إلا هو وأفعاله التي نحن وأفعالنا منها.
414

قوله تعالى (يرونهم مثليهم رأي العين) قال محمود (معناه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين إلخ) قال أحمد
وكذلك آيات الشفاعة المقدسة على رأي أهل السنة. عاد كلامه: قال وقيل يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين إلخ
قال أحمد: إنما قال ذلك لأن الخطاب على قراءة نافع يكون المسلمين: أي ترونهم يا مسلمون ويكون ضمير المسلمين
أيضا للمسلمين، وقد جاء على لفظ الغيبة فيلزم الخروج في جملة واحدة من الحضور إلى الغيبة والالتفات وإن
كان سائغا فصيحا إلا أنه يأتي في الأغلب في جملتين، وقد جاء ههنا الكلام جملة واحدة لأن مثليهم مفعول ثان للرؤية،
ولو قال القائل ظننتك يقوم على لفظ الغيبة بعد الخطاب لم يكن بذاك، فهذا هو الوجه الذي باعد الزمخشري به
بين قراءة نافع وبين هذا التأويل، إلا أنه يلزم مثله على أحد وجهيه المتقدمين آنفا لأنه قال: معناه على قراءة نافع
ترون يا مشركون المسلمين مثلي عددهم أو مثلي فئتكم الكافرة، فعلى هذا الوجه الثاني يلزم الخروج من الخطاب إلى
الغيبة في الجلمة بعينها كما ألزمه هو على ذلك الوجه والله أعلم.
415

قوله تعالى (زين للناس حب الشهوات) الآية. قال محمود (المزين هو الله تعالى) إلخ قال أحمد: التزيين
الشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب، وهو بهذا المعنى مضاف إلى الله تعالى حقيقة لأنه لا خالق إلا هو
خالق كل شئ من جوهر ومن عرض قائم بالجوهر حب أو غيره محمود في الشرع أو لا، ويطلق التزيين ويراد به
الحض على تعاطي الشهوات والأمر بها فهو بهذا الاعتبار لا يضاف إلى الله تعالى منه إلا الحض على بعض الشهوات
المنصوص عليها شرعا كالنكاح المقترن بقصد التناسل واتباع السنة فيه وما يجري مجراه، وأما الشهوات المحظورة
فتزيينها بهذا المعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها،
وكلام الحسن رضي الله تعالى عنه محمول على التزيين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فإنه يحاشى أن ينسب خلق الله إلى
غير الله، وإنما الزمخشري كثيرا ما يورد أمثال هذه العبارة الملتبسة تنزيلا لها على قواعد القدرية الفاسدة فتفطن لها
وبرى قائلها من السلف الصالح عما يزعم الزمخشري النقل عنه والله الموفق. عاد كلامه: قال جعل الأعيان التي
ذكرت شهوات إلخ. قال أحمد: يريد إلحاقها بباب رجل صوم وفطر مما يوضع فيه المعنى موضع الاسم مبالغة.
416

قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو إلى قوله إن الدين عند الله الإسلام) قال محمود (إن قلت ما فائدة تكرار
لا إله إلا هو إلخ؟) قال أحمد: وهذا التكرار لما قدمته في نظيره مما صدر الكلام به إذا طال عهده، وذلك أن
الكلام مصدر بالتوحيد، ثم أعقب التوحيد تعداد الشاهدين به، ثم قوله قائما بالقسط وهو التنزيه فطال الكلام
بذلك، فجدد التوحيد تلو التنزيه ليلي قوله - إن الدين عند الله الإسلام - ولولا التجديد لكان التوحيد المتقدم
كالمنقطع في الفهم مما أريد إيصاله به والله أعلم (قوله وفيه أن من ذهب إلى تشبيه إلخ) قال أحمد: هذا تعريض
بخروج أهل السنة من ربقة الإسلام بل تصريح وما ينقم منهم إلا أن صدقوا وعد الله عباده المكرمين على لسان
نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم بأنهم يرون ربهم كالقمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته ولأنهم وحدوا الله حق
توحيده فشهدوا أن لا إله إلا هو ولا خالق لهم ولأفعالهم إلا هو، واقتصروا على أن نسبوا لأنفسهم قدرة تقارن
فعلهم لا خلق لها ولا تأثير غير التمييز بين أفعالهم الاختيارية والاضطرارية، وتلك المعبر عنها شرعا بالكسب في مثل
قوله تعالى - بما كسبت أيديكم - هذا إيمان القوم وتوحيدهم لا كقوم يغبرون في وجه النصوص فيجحدون الرؤية
التي يظهر أن جحدهم لها سبب في حرمانهم إياها ويجعلون أنفسهم الخسيسة شريكة لله في مخلوقاته فيزعمون أنهم
يخلقون لأنفسهم ما شاءوا من الأفعال على خلاف مشيئة ربهم محادة ومعاندة لله في ملكه، ثم بعد ذلك يتسترون
بتسمية أنفسهم أهل العدل والتوحيد، والله أعلم بمن اتقى ولجبر خير من إشراك إن كان أهل السنة مجبرة فأنا أول
المجبرين، ولو نظرت أيها الزمخشري بعين الإنصاف إلى جهالة القدرية وضلالها لانبعثت إلى حدائق السنة وظلالها،
ولخرجت من مزالق البدع ومزالها، ولكن كره الله انبعاثهم، ولعلمت أي الفريقين أحق بالأمن وأولى بالدخول
في أولي العلم المقرونين في التوحيد بالملائكة المشرفين بعطفهم على اسم الله عز وجل. اللهم ألهمنا على اقتفاء السنة
شكرك، ولا تؤمنا مكرك إنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فليس ينجي من الخوف إلا الخوف، والله
ولي التوفيق.
418

قوله تعالى (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) قال محمود:
(ذلك التولي والإعراض بسبب طمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل، كما طمعت الحشوية والمجبرة وغرهم
في دينهم ما كانوا يفترون) قال أحمد رحمه الله: هذا أيضا تعريض بأهل السنة في اعتقادهم تفويض العفو عن كبائر
المؤمن الموحد إلى مشيئة الله تعالى وإن مات مصرا عليها إيمانا بقوله تعالى - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء - وتصديقا بالشفاعة لأهل الكبائر وينقم عليهم ذلك حتى يجعلهم أصلا يقيس عليهم اليهود القائلين
- لن تمسنا النار إلا أياما معدودات - فانظر كيف أشحن قلبه بغضا لأهل السنة وشقاقا وكيف ملأ الأرض من هذه
النزعة نفاقا، فالحمد لله الذي أهل عبيده الفقير إلى التورك عليه لأن أخذ من أهل البدعة بثأر السنة فأصمى
أفئدتهم من قواطع البراهين بمقومات الأسنة.
421

قوله تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) قال محمود (آل عمران موسى
وهارون إلخ) قال أحمد: ومما يرجح هذا القول الثاني أن السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم
في سورة أبسط من شرحها في هذه السورة، وأما موسى وهرون فلم يذكر من قصتهما في هذه السورة فدل ذلك
على أن عمران المذكور ههنا هو أبو مريم والله أعلم.
قوله تعالى (إذ قالت امرأت عمران إلى قوله فلما وضعتها) قال محمود (الضمير عائد إلى ما في بطني إلخ)
424

قال أحمد: الضمير في قوله: وضعتها يتناول إذا ما نسب إليها الوضع والأنوثة فالحال واقعة عليها من حيث الجهة العامة
وتلك الجهة كونها شيئا وضع لا خصوص نسبة الأنوثة إليها وقد مر البحث بعينه عند قوله تعالى - فإن لم يكونا
رجلين - عاد كلامه: قال (وإنما أرادت بقولها وضعتها أنثى التحسر والتأسف إلخ) قال أحمد: هذا التأويل على
أنه من كلام الله تعالى لا حكاية عنها. وقد ذكر أهل التفسير تأويلا آخر وهو أن يكون هذا القول قولها حكاه الله
تعالى عنها: أعني قولها " وليس الذكر كالأنثى " ويرشد إليه عطف كلامها على وهو قوله - وإني سميتها مريم إلخ -
425

ويوردون على هذا الوجه قياس كونه من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى
بالنسبة إلى الذكر والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه الكامل لا العكس وقد وجد الأمر في ذلك مختلفا فلم
يثبت لي عين ما قالوه، ألا ترى إلى قوله تعالى - لستن كأحد من النساء - فنفى عن الكامل شبهة الناقص مع أن الكمال
لأزواج النبي عليه الصلاة والسلام ثابت بالنسبة إلى عموم النساء، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران والله أعلم،
ومنه أيضا - أفمن يخلق كمن لا يخلق - عاد كلامه: قال (وفائدة قولها: وإني سميتها مريم، أن مريم في لغتهم العابدة
إلخ) قال أحمد: أما الحديث فمذكور في الصحاح متفق على صحته فلا محيص له إذا عن تعطيل كلامه عليه السلام بتحميله
ما لا يحتمله جنوحا إلى اعتزال منتزع في فلسفة منتزعة في إلحاد ظلمات بعضها فوق بعض، وقد قدمت عنه قوله تعالى
- لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس - ما فيه كفاية، وما أرى الشيطان إلا طعن في خواصر
القدرية حتى يقرها، ووكر في قلوبهم حتى حمل الزمخشري وأمثاله أن يقول في كتاب الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة
والسلام بما يتخيل كما قال في هذا الحديث، ثم نظره بتخييل ابن الرومي في شعره جراءة وسوء أدب، ولو كان
معنى ما قاله صحيحا لكانت هذه العبارة واجبا أن تجتنب، ولو كان الصراخ غير واقع من المولود لأمكن على بعد
أن يكون تمثيلا وما هو واقع مشاهد فلا وجه لحمله على التخييل إلا الاعتقاد الوبي وارتكاب الهوى الوبيل.
426

قوله تعالى (هنالك دعا زكريا ربه) قال محمود (فقد يستعار هنا وثم وحيث للزمان إلخ) قال أحمد: لا يليق
427

بالنبي أن يقف علمه بجواز ولادة العاقر على مشاهدة مثله فإن العقل يقتضي بجواز ذلك في قدرة الله تعالى وإن لم
يقع نظيره، وأحسن من هذه العبارة وأسلم أن يقال لما شاهد وقوع هذا الحادث كرامة لمريم امتد أمله إلى حادث
يناسبه كرامة له، والله أعلم.
428

قوله تعالى (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم) قال محمود (إن قلت لم قيل عيسى ابن مريم
والخطاب لمريم إلخ) قال أحمد: ويحقق هذا الجواب قولها - أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر - فإنه لم يتقدم في وعد
الله لها بالولد ما يدل على أنه من غير أب إلا أنه لما نسبه إليها دل على أنها فهمت من ذلك كونه من غير أب والله
أعلم. عاد كلامه قال: (فإن قلت: لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم إلخ) قال أحمد: وفي هذا التقرير خلاص
من إشكال يوردونه فيقولون المسيح في الآية إن أريد به التسمية وهو الظاهر فما موقع قوله عيسى ابن مريم والتسمية
لا توصف بالنبوة، وإن أريد بالمسيح المسمى بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله اسمه. ويجاب عن الإشكال بأن المسيح
خبر عن قوله اسمه والمراد التسمية، وأما عيسى ابن مريم فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو عيسى ابن مريم، ويكون
الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعا عن قوله المسيح، والذي قرره الزمخشري لا يرد عليه هذا
الإشكال وهو حسن جدا، والله أعلم.
430

قوله تعالى (ولا تؤمنوا إلا لمن اتبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند
ربكم). قال محمود (أو يحاجوكم معطوف على أن يؤتى إلخ) قال أحمد: وفي هذا الوجه من الإعراب إشكال،
وهو وقوع أحد في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار واستفهام للإنكار في مثله إثبات، إذ حاصله أنه أنكر عليهم
ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات
محقق. ويمكن أن يقال: روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقة، فحسن لذلك دخول أحد في سياقه
والله أعلم. قال محمود: (والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجميع إلخ). قال أحمد: أي حيث كان نكرة
في سياق النفي كما وصفه بالجمع في قوله - فما منكم من أحد عند حاجزين -
437

قوله تعالى (وإذ أخذ ربك ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة إلى قوله لتؤمنن به).
440

قال محمود (اللام في لما آتيتكم لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى القسم إلخ) قال أحمد: يريد على أن قوله رسول فاعل
جاء لأنه لا يخلو من الضمير، وإلا فهذا القول صحيح على أن يكون الفاعل مضمرا ورسول خبر الموصول، ولم يرد
الزمخشري إلا الأول وهو ظاهر الآية. عاد كلامه: قال مجيبا عن السؤال (قلت: بلى إلخ) قال أحمد: يريد أن
الكلام وإن خلا من العائد إلا أنه في معنى كلام يتحقق فيه العائد، فيجوز دخوله في الصلة والله أعلم.
441

قوله تعالى (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) قال
محمود (إن قلت: كيف موقع قوله ولو افتدى به إلخ) قال أحمد: لم يبين تطبيق لفظ الآية على هذا التقدير
443

الذي ذهب إليه بوجه، ونحن نبين السبب الباعث له على إخراج الكلام عن ظاهره ثم نقرر وجها يطابق الآية،
وذلك أن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر يعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة، والعادة في مثل
ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى، مثاله قولك: أكرم زيدا ولو أساء، فهذه الواو
عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء،
على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى، ومنه - كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم - معناه والله أعلم
لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى
بالوجوب، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهرا، لأن
قوله " لو افتدى به " يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، وهذه الحال المذكورة
وهي حالة افتدائهم بملء ء الأرض ذهبا هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية وليس وراءها حالة أخرى تكون
أولى بالقبول منها، فذلك قدر الكلام بمعنى لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء ء الأرض ذهبا حتى تبين
حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء ء الأرض ذهبا أولى بالقبول منها، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن
ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى، فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور. وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدا،
فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله فنقول: قبول الفدية التي هي
ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال: منها أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال
القاتل على قول. ومنها أن يقول المفتدي في التقدير: أفدي نفسي بكذا وقد لا يفعل. ومنها أن يقول هذا القول
وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته. وإذا تعددت
الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول وهو أن يفتدي بملء ء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر
على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ومع ذلك لا يقبل منه، فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجري
444

هذا المجرى بطريق الأولى فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول
بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة، وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى - إن الذين كفروا لو أن
لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم - والله أعلم. وهذا كله تسجيل بأنه
لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم، ونظير هذا التقدير من
الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلي في يدي هذه، فتأمل هذا النظر فإنه من
السهل الممتنع، والله ولي التوفيق.
445

عاد كلامه قال: ويجوز أن يكون معنى الكلام ولو افتدى بمثله إلخ. قال أحمد وعلى هذا النمط يجري الكلام
على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهبا على عدم قبول مثلها مرة واحدة بطريق الأولى.
446

قوله تعالى (فيه آيات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا) قال محمود (فإن قلت كيف يصح بيان الجماعة
بالواحد إلخ) قال أحمد: ونظير هذا التأويل ما تقدم لي عند قوله تعالى - وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا
أو نصارى تلك أمانيهم - قال محمود فيما تقدم: والذي صدر منهم أمنية واحدة فما وجه جمعها؟ وبينت فيها هذا
بعينه وهو أن الشئ الواحد متى أريد تمكينه وامتيازه عن غيره من صفة جمع أفاد الجمع فيه ذلك. وقد لاح لي
الآن في جمع الأماني، ثم وجه آخر وذلك أن كل واحد منهم صدرت منه هذه الأمنية فجمعها بهذا الاعتبار تنبيها
على تعددها بتعددهم. والعجب أن الجمع في مثل هذا هو الأصل وأن الإفراد إنما يقع فيه على نوع ما من الاختصار
ومنه " كلوا في بعض بطنكم تصحوا ". عاد كلامه: قال: الوجه الثاني اشتماله على آيات لأن أثر القدم في الصخرة
الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء
آية، وحفظه مع كثرة عدوه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية، ويجوز أن يريد مقام إبراهيم
وأمن من دخله وكثيرا سواهما، والله أعلم.
447

قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت الآية) قال محمود (وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد، منها قوله:
ولله على الناس أي في رقابهم لا ينفكون عنه إلخ) قال أحمد: قوله إن المراد بمن كفر من ترك الحج وعبر عنه
بالكفر تغليظا عليه فيه نظر، فإن قاعدة أهل السنة توجب أن تارك الحج لا يكفر بمجرد تركه قولا واحدا فيتعين
حمل الآية على تارك الحج جاحدا لوجوبه، وحينئذ يكون الكفر راجعا إلى الاعتقاد لا إلى مجرد الترك، وأما
الزمخشري فيستحيل ذلك لأن تارك الحج بمجرد الترك يخرج من ربقة الإيمان ومن اسمه ومن حكمه لأنه عنده غير
مؤمن ومخلد تخليد الكفار. وعلى قاعدة أهل السنة يتعين المصير إلى ما ذكرناه، هذا إن كان المراد بمن كفر من ترك
الحج، ويحتمل أن يكون استئناف وعيد للكافر فيبقى على ظاهره، والله أعلم.
448

قوله تعالى (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا الآية) قال محمود (أي
اعوجاجا إلخ) قال أحمد: وفي تقديره الجار مع ضمير المفعول حيث قال تطلبون لها اعوجاجا تنقيص من المعنى
وأتم من إعرابه معنى أن تجعل الهاء هي المفعول به، وعوجا حال وقع فيها المصدر الذي هو عوجا موقع الاسم،
وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج على طريقة المبالغة في مثل رجل
صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم والله أعلم.
449

قوله تعالى (وكنتم على شفا حفرة من الناز فأنقذكم منها) قال محمود (الضمير للشفا وهو مذكر وإنما أنثه
للإضافة إلخ) قال أحمد: ويجوز عود الضمير إلى الحفرة فلا يحتاج إلى تأويله المذكور كما تقول: أكرمت غلام
هند وأحسنت إليها، والمعنى: على عوده إلى الحفرة أتم لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة. وأما الامتنان بالإنقاذ
من الشفا فلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهوي إلى الحفرة، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي
يتوقع الهوي فيها، فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع، مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه
قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر خلاف رأيه في الإيضاح نقله ابن يسعون، وما حمل الزمخشري على
إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ منها، وقد بينا
في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالإنقاذ من الحفرة لأنهم كانوا صائرين إليها غالبا لولا الإنقاذ الرباني.
ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام " المرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ". وإلى قوله تعالى - أمن أسس بنيانه
على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم - وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره
في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله هار والله أعلم.
451

قوله تعالى (ولتكن منكم أمة) الآية. قال محمود (من للتبعيض إلخ) قال أحمد: وفي هذا التبعيض وتنكير
أمة تنبيه على قلة العاملين بذلك، وأنه لا يخاطب به إلا الخواص، ومن هذا الأسلوب قوله تعالى - واتقوا الله ولتنظر
نفس ما قدمت لغد - فإنما وجه الخطاب على نفس منكرة تنبيها على قلة الناظر في معاده، وكذلك قوله - وتعيها أذن
واعية - حتى ورد في التفسير أن المراد أذن واحدة مخصوصة، وهي أذن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
452

عاد كلامه قال (وقوله يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر صدر الكلام بالدعاء إلخ). قال أحمد:
عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام كقوله - من كان
عدوا لله ملائكته ورسله وجبريل وميكائيل - وكقوله - فيها فاكهة ونخل ورمان - وكقوله - حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى - وشبه ذلك لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر يفيده تمييزا عن غيره من بقية المتناولات.
وأما هذه الآية فقد ذكر بعد العام فيها جميع ما يتناوله، إذ الخير المدعو إليه، إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو
واحدا من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات، فالأولى في ذلك أن يقال فائدة هذا التخصيص
ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا، وفي تنبيه أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية والله أعلم، إلا أن
يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير، فإذ ذاك يتم مراد الزمخشري، وما أرى
هذا العرف ثابتا، والله أعلم.
453

قوله تعالى (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) قال محمود (إن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله ثم
لا ينصرون إلخ) قال أحمد: وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى لأنهم وعدوا بتولية عدوهم
الأدبار عند المقابلة، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقا، ويزيد هذا الترقي
بدخول ثم دون الواو فإنها تستعار ههنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود كأنه قال: ثم ههنا ما هو أعلى في الامتنان
وأسمج في رتب الإحسان، وهو أن هؤلاء القوم لا ينصرون البتة، والله أعلم.
455

قوله تعالى (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته
وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) قال أبو القاسم محمود (الصر الريح الباردة إلخ) قال أحمد: كلها أوجه
456

وجيهة، وهذا الأخير أحسنها وأوجهها، لكن لم يبين الزمخشري وجه الظرفية في الأمثلة المذكورة، ونحن نبينها
فنقول: إذا قلت مثلا إن ضيعني زيد ففي عمرو بعد الله كاف، فقولك كاف أثبت به منكرا مجردا من القيود
المشخصة المخصصة، ثم جعلت المعين الذي هو عمرو محلا له فشخصت ذلك المطلق المجرد بهذا المعين فهي ظرفية
صحيحة إذ كل مقيد ظرف لمطلقه إذ المطلق بعض المقيد، فتنبه لهذه النكتة فإنها لطيفة، والله الموفق.
قال محمود (فإن قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه إلخ) قال أحمد: أما إيراد السؤال فلا نرتضي
صيغته لما فيها من حيف بالأدب إذ جزم السائل المقدر بأن كلام الله غير مطابق لمراده، واللائق بالسؤال الوارد
عن كتاب الله تعالى أن يذكر بصيغة الاسترشاد الصريحة لا بصيغة الاعتراض المحضة، والعبارة الصحيحة أن يقال:
فما وجه مطابقة الكلام للغرض، ولا ينبغي التساهل في ذلك فإن أحدنا لو أورد سؤالا على كلام إمام معتبر بمرأى
منه ومسمع تحيل في أنواع التلطف في إيراده وبعد عن أمثاله هذه العبارة، ولعل الاعتراض على ذلك الإمام يكون
457

واردا لا يمكن عنه جواب، فكيف يليق التسامح في إيراد الأسئلة على كتاب الله تعالى بصيغ الاعتراضات، وإنما
يسأل عن كتاب الله تعالى بمرأى منه ومسمع على علم بأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من
حكيم حميد، فما أجدره أن يتوفر في الاسترشاد وأن يتأدب في الإيراد، ثم نعود إلى جواب الزمخشري الثاني وهو
قوله: إن المراد مثل إهلاك ما ينفقون، فنقول: لم يكشف الغطاء بهذا الجواب عن المطابقة المسؤول عنها والسؤال
باق، وذلك أن الريح المشبه بها ليست الإهلاك وإنما هي المهلكة، ولا مطابقة بين المصدر والاسم إلا بتأويل آخر،
وحينئذ يبعد هذا الوجه، وأقرب منه أن يقول: أصل الكلام والله أعلم مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل
حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة
وهو تقديم ما هو أهم، لأن الريح التي هي مثل العذاب ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث
فقدمت عناية بذكرها واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر
وجه، ومثل هذا في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله تعالى - فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل
إحداهما - الآية، ومثله أيضا: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، والأصل أن تذكر إحداهما الأخرى
إن ضلت، وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة والله الموفق.
458

قوله تعالى (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) قال محمود (إن قلت: كيف وصفت
الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة إلخ) قال أحمد: يمكن أن يقال: المس أقل تمكنا من الإصابة، وكأنه أقل درجاتها
فكأن الكلام والله أعلم: إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدونكم عليها، وإن تمكنت الإصابة منكم
وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثى الشامت عنده منها فهم لا يرثون لكم ولا ينفكون عن حسدهم ولا في هذه
الحالة بل يفرحون ويسرون، والله أعلم.
459

قوله تعالى (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) قال محمود (معناه يغفر لمن يشاء بالتوبة إلخ) قال أحمد: هذه
الآية واردة في الكفار، ومعتقد أهل السنة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان
وليسوا محل خلاف بين الطائفتين، وعندهم أن المؤمن التائب من كفره هو المعني في قولهم: يغفر لمن يشاء كما قاله
463

الزمخشري، وأما تسلقه من ذلك على تعميم هذا الحكم وتعديته إلى الموحدين فمن التعامي والتصام حقيقة، وإلا فهو
أحذق من ذلك، وأما نسبته إلى أهل السنة التعامي والتصام والهوى والبدعة والافتراء فالله حسيبه في ذلك والسلام.
464

قوله تعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) الآية. قال محمود (ولما تجاهدوا
لأن العلم متعلق بالمعلوم إلخ) قال أحمد: التعبير عن نفي المعلوم بنفي العلم خاص بعلم الله تعالى لأنه يلزم من عدم
466

تعلق علمه بوجود شئ ما عدم ذلك الشئ ضرورة أنه لا يعزب عن علمه شئ لعموم تعلقه، فاستقام التعبير
عن نفي الشئ بنفي تعلق العلم القديم بوجوده المصحح للملازمة، ولا كذلك علم آحاد المخلوقين فإنه لا يعبر عن نفي
شئ بنفي تعلق علم الخلق به لجواز وجود ذلك الشئ غير معلوم للخلق، والزمخشري يظهر من كلامه صحة هذا
التعبير مطلقا، ويعتقد الملازمة المذكورة عامة فلذلك قال في قول فرعون - ما علمت لكم من إله غيري - أنه عبر
عن نفي المعلوم بنفي العلم لأنه من لوازمه، وسيأتي بيان أن الزمخشري وهم في هذا الموضع وإلا فهو يحاشي عن
الوقوع في مثله اعتقادا والله أعلم، وإنما عبر فرعون بذلك تلبيسا على مثله وتتميما لدعوى ألوهيته الكاذبة بأنه
لا يعزب عن علمه شئ، فلو كان إله سواه على دعواه لتعلق علمه به، وهذا يعد من حماقات فرعون ودعاويه
الفارغة، والله الموفق.
467

قوله تعالى (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) قال محمود (إن قلت:
أكان هناك حجة حتى ينزلها الله فيصح لهم الإشراك إلخ) قال أحمد: إنما يرد هذا السؤال لم أفهم ظاهر اللفظ أن
ثم حجة وليس في ظاهره ما يفهم ذلك ولو كانت الآية كقول القائل: بما أشركوا بالله ما لم ينزل سلطانه،
بإضافة السلطان إلى ما أشركوا به لكان للسائل مقال، ولكان قول القائل * على لا حب لا يهتدى بمناره *
فإنه بإضافة المنار إليه يوهم أن فيه منارا، فيحتاج الناظر إلى حمله عن معنى لا منار فيه فيهتدى به، ولو أطلق
الشاعر فقال: على لا حب لا يهتدى فيه بمنار مثلا لاستغني عن تأويل الكلام، وكذلك الآية غنية عن التأويل،
والله أعلم.
470

قوله تعالى (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله) الآية. قال محمود (إن قلت: كيف صح أن يقع ما هو
مسألة عن الأمر إلخ) قال أحمد: ويلاحظ هذا النظر في قوله تعالى عن الملائكة - أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء - الآية. فإن هذا السؤال استفهام، والاستفهام لا يتصف بما يتصف به الخبر من الصدق ونقيضه، ومع
ذلك ورد قوله تعالى في خطابهم - أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين - يعني في قولكم - أتجعل فيها من يفسد
فيها - فأجرى استفهامهم مجرى الخبر لاستلزامه الإخبار بأن هذا النوع الإنساني ليس بمعصوم عن الفساد وسفك
الدماء إلا من عصمه الله تعالى منهم، والله أعلم.
472

قوله تعالى (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) قال محمود (فيه توجيهان: أحدهما
أن يكون ذلك تنزيها لرسول الله عليه الصلاة والسلام الخ) قال احمد رحمه الله: حمل الآية على الوجه الثاني، يشهر
475

له ورود هذه الصيغة كثيرا في النهي في أمثال قوله تعالى - ما كان لنبي أن تكون له أسرى - ما كان للنبي والذين
آمنوا أن يستغفروا للمشركين - وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله - إلى غير ذلك، على أن الزمخشري حاف
في العبارة إذ يقول عبر عن الحرمان بالغلول تغليظا وتقبيحا وما كان له أن يعبر عن هذا المعنى بهذه العبارة فإن عادة
لطف الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم في التأديب أن يكون ممزوجا بغاية التخفيف والتعطف، ألا ترى إلى
قوله تعالى - عفا الله عنك لم أذنت لهم - قال بعض العلماء: بدأه بالعفو قبل العتب، ولو لم يبدأه بالعفو لانفطر قلبه
صلى الله عليه وسلم.
476

قوله تعالى (قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) قال محمود (إن قلت: فقد كانوا صادقين
في أنهم دفعوا الخ) قال احمد: السؤال المذكور إنما يرد على معتزلي من مثله، فإنهم يعتقدون أن الموت قد يكون
بحلول الاجل وقد يكون قبله، وأن المقتول لولا القتل لاستوفى أجله المكتوب له الزائد على ذلك، فلا جرم أن
478

الانسان على زعمهم يدفع عن نفسه العارض قبل حلول الأجل بتوقي الأسباب الموجبة لذلك، فعلى ذلك ورد
السؤال المذكور. وأما أهل السنة فمعتقدهم أن كل ميت بأجله يموت، ويقولون إن الخارجين إلى القتال في المعركة
لم يكن بد من موتهم في ذلك الوقت، وأن ذلك الحين هو وقت حينهم في علم الله عز وجل إيمانا بقوله تعالى - فإذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون - وخلافا للمنافقين وللموافقين لهم من المعتزلة في قولهم: لو أطاعونا
ما ماتوا، ولعمري إنهم في هذا المعتقد مقلدون لنمرود في قوله - أنا أحيي وأميت - فإن الأحمق ظن أنه يقتل إن شاء
فيكون ذلك إماتة، ويعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء، وغاب عنه أن الذي عفا عن قتله إنما حيى لاستيفاء الاجل
الذي كتبه الله له، وأن الذي قتله إنما مات لأنه استوفى تلك الساعة أجله، والله الموفق.
479

قوله تعالى (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) قال محمود (إن
قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الاثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم الخ) قال احمد: بنى الزمخشري هذا الجواز
على شفا جرف هار فانهار، لان معتقده أن الاثم الواقع منهم ليس مرادا لله تعالى بل هو واقع على خلاف الإرادة
الربانية، فلما وردت الآية مشعرة بأن ازدياد الاثم مراد لله تعالى إشعارا لا يقبل التأويل أخذ يعمل الحيلة في وجه
من التعطيل التزاما لاتمام الفاسد وضربا في حديد بارد، فجعل ازدياد الاثم سببا وليس بغرض.
482

قوله تعالى (كل نفس ذائقة الموت) الآية. قال محمود (لان المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون الخ)
قال أحمد: هذا كما ترى صريح في اعتقاده حصول بعضها قبل يوم القيامة، وهو المراد بما يكون في القبر من نعيم
وعذاب، ولقد أحسن الزمخشري في مخالفة أصحابه في هذه العقيدة، فإنهم يجحدون عذاب القبر وها هو قد
اعترف به، والله الموفق.
485

القول في سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها) قال محمود (معناه: فرعكم من
أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم وعلام عطف الخ) قال أحمد: وإنما قدر المحذوف في الوجه الأول حيث جعل
الخطاب عاما في الجنس لأنه لولا التقدير لكان قوله وبث منهما تكرار لقوله خلقكم إذ مؤداهما واحد وليس على
492

سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه حينئذ، وأما وهو معطوف على المقدر فذاك المقدر واقع صفة مبينة والمعطوف
عليه داخل في حكم البيان فاستقام. وأما الوجه الثاني فالتكرار فيه ليس بلازم إذ المخاطب بقوله خلقكم الذين بعث
إليهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقوله وبث منهما واقع على من عدا المبعوث إليهم من الأمم، فلا حاجة للتقدير
المذكور في الوجه الثاني، والله أعلم.
493

قوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم) قال محمود (إما أن يراد باليتامى الصغار الخ) قال أحمد: والوجه الأول
قوي بقوله بعد آيات - وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم - دل على أن
الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية في الحض على الايتاء الحقيقي عند
حصول البلوغ والرشد، ويقويه أيضا قوله عقيب الأولى - ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى
أموالكم - فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره، وأما على الوجه الآخر فيكون مؤدى
الآيتين واحدا وهو الامر بالايتاء حقيقة، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة، والثانية كالمبينة لشرط الايتاء
من البلوغ وإيناس الرشد، والله أعلم.
494

قوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) قال محمود (معناه: ولا تضموها إلى أموالكم الخ) قال أحمد
وأهل البيان يقولون المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيها على الاعلى كقوله تعالى - فلا
تقل لهما أف - وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفا لها، إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم
في النهي أن يأكله وهو غني عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن
أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغني عنه من طريق الأولى، وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح
فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته، ولا شك أن
النهي عن الأدنى وإن أفاد النهي عن الاعلى، إلا أن للنهي عن الاعلى أيضا فائدة أخرى جليلة لا تؤخذ من النهي
عن الأدنى، وذلك أن المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد، ولا شك أن المستقر في
النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الاكل، فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه حتى إذا
استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الاحجام عن أكل ماله مطلقا، ففيه تدريب
للمخاطب على النفور من المحارم، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر، إذ ليست
الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب كإعانتها عليه في الصورة الأولى، ويحقق مراعاة هذه المعنى تخصيصه
الاكل مع أن تناول مال اليتيم على أي وجه كان منهي عنه كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح
مثلا أو غير ذلك، إلا أن حكمة تخصيص النهي بالاكل أن العرب كانت تتذمم بالاكثار من الاكل، وتعد البطنة
من البهيمية وتعيب على من اتخذها ديدنه ولا كذلك سائر الملاذ، فإنهم ربما يتفاخرون بالاكثار من النكاح
ويعدونه من زينة الدنيا، فلما كان الاكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى
طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها أكلا أو غيره، ومثل هذه الآية
في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى - لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة - فخص هذه الصورة لان الطبع على
الانتهاء عنها أعون، ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الامر، وهو أنه تارة يخص سورة الامر الأدنى
تنبيها على الاعلى، وتارة يخص سورة الاعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب، إلا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات
من هذه السورة - وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم - الآية، كيف خص صورة
حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم، وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال، فلو أمر بإسعاف
495

الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف
كانبعاثها مع حضورهم، بخلاف ما إذا حضروا فإن النفس يرق طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم
حاضر محروم ولا يسعف ولا يساعد، فإذا أمرت في هذه الحالة بالاسعاف هان عليها امتثال الامر وائتلافها على
امتثال الطبع، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقا حضر أو غاب، فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد
يلقى إلا في الكتاب العزيز، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا
النمط، فخذ هذا القانون عمدة، وهو أن النهي إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الاعلى، وإن خص الاعلى
فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح، ومثل هذا النظر في جانب الامر،
والله الموفق.
قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) الآية. قال
محمود (لما نزلت آية اليتامى خاف الأولياء الخ) قال أحمد: قد ثبت أن قاعدة القدرية وعقيدتهم أن الكبيرة الواحدة
توجب خلود العبد في العذاب وإن كان موحدا ما لم يتب عنها، فمن ثم يقولون: لا تفيد التوبة عن بعض الذنوب
496

والإصرار على بعضها لأنه بواحدة من الكبائر ساوى الكافر في الخلود في العذاب، ولا يفيد توحيده ولا شئ من
أعماله، هذا هو معتقدهم الفاسد الذي يروم الزمخشري تفسير الآية عليه فاحذره. أما أهل السنة فيقولون: إذا
تاب العبد من بعض الذنوب كان الخطاب بوجود التوبة من باقيها متوجها عليه، وكأنه قام ببعض الواجبات
وترك القيام ببعضها، فأفادته التوبة محو المتوب عنه بإذن الله ووعده، وهو في العهدة فيما لم يتب عنه، فإن كان
تفسير الآية على أنهم خوطبوا بالتحرج في حقوق النساء والتوبة من الجور عليهن كما تابوا عن الحيف على اليتامى
فالامر في ذلك منزل على ما بيناه من قواعد السنة والله ولي التوفيق. عاد كلامه: قال محمود (وقيل كانوا
لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى الخ) قال أحمد: وهذا التأويل الذي أخره جدير بالتقدم وهو
الاظهر وتكون الآية معه تتميما لبيان حكم اليتامى وتحذيرا من التورط في الجور عليهن وأمرا بالاحتياط وفي غيرهن
متسع إلى الأربع وأصدق شاهد على أنه هو المراد.
497

قوله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) قال محمود (نحلة
منصوب على المصدر لأنها في معنى الايتاء الخ) قال أحمد: هذا الفصل بجملته حسن جدا، غير أن في حمله تذكير
الضمير في منه على الصداق ثم تنظيره ذلك بقوله فأصدق نظرا، وذلك أن المراعى ثم الأصل وهو عدم دخول الفاء
498

والجزم وتقدير ما هو الأصل وإعطاؤه حكم الموجود ليس ببدع، ولا كذلك إفراد الصدق المقدر فإنه ليس بأصل الكلام
بل الأصل الجمع. وأما الافراد فقد يأتي في مثله على سبيل الاختصار استغناء عن الجمع بالإضافة، ولا يرد أنهم
قد راعوا ما ليس بأصل في قوله:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
لان دخول الباء وأن لم يكن أصلا ألا أنها قد توطنت بهذا الموضوع وكثر حلولها فيه، فصارت كأن الأصل
دخولها في الخبر والله أعلم، والامر في ذلك قريب.
499

قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا
معروفا) قال محمود (المراد أموال السفهاء وأضافتها إلى الأولياء الخ) قال أحمد: ويؤيد هذا المعنى أنه لما أمر
بإسعاف ذوي القربى على سبيل المواساة قال: وارزقوهم منه، لان المدفوع إليهم من صلب المال، والله أعلم.
قوله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) قال محمود
(معناه اختبروا أحوالهم الخ) قال أحمد: الابتلاء على هذا الوجه مذهب مالك رضي الله عنه، غير أنه لا يكون
عنده إلا بعد البلوغ ولا يدفع إليه من ماله شئ قبله، وكذلك أحد قولي الشافعي رضي الله عنه، وقوله الآخر
كمذهب أبي حنيفة غير أن عنه خلافا في صورته قبل البلوغ على وجهين: أحدهما أن يسلم إليه المال ويباشر
500

العقود بنفسه كالبالغ، والآخر أن يكون وظيفته أن يساوم وتقرير الثمن إذا بلغ الامر إلى العقد باشره الولي دونه
وسلم الصبي الثمن. فأما الرشد فالمعتبر عند مالك رضي الله عنه فيه هو أن يحرز ماله وينميه وإن كان فاسقا في حاله.
وعند الشافعي المعتبر صلاح الدين والمال جميعا، وغرضنا الآن أن نبين وجه تنزيل مذهب مالك في هذه الآية،
والله المستعان - فأما منعه من الايتاء قبل البلوغ وإن كان ظاهر الآية أن الايتاء قبله من حيث جعل البلوغ وإيناس
الرشد غاية للايتاء والغاية متأخرة عن المغيا ضرورة، فيتعين وقوع الايتاء قبل، ولهذه النكتة أثبته أبو حنيفة قبل
البلوغ والله أعلم. فعلى جعل المجموع من البلوغ وإيناس الرشد هو الغاية حينئذ يلزم وقوع الابتلاء قبلهما: أعني
المجموع وإن وقع بعد أحدهما وهو البلوغ لان المجموع من اثنين فصاعدا لا يتحقق إلا بوجود كل واحد من
مفرديه. ويحقق ويحقق هذا التنزيل أنك لو قلت وابتلوا اليتامى بعد البلوغ حتى إذا اجتمع الأمران وتضاما البلوغ والرشد
فادفعوا إليهم أموالهم، لاستقام الكلام ولكان البلوغ قبل الابتلاء وإن كان الابتلاء مغيا بالامرين واقعا قبل
مجموعهما. ونظير هذا النظر توجيه مذهب أبي حنيفة في قوله: إن فيئة المولى إنما تعتبر في أجل الايلاء لا بعده،
وتنزيله على قوله تعالى - للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم - فجدد به عهدا
يتضح لك تناسب النظرين والله أعلم. وأما اقتصاره رضي الله عنه بالرشد على المال، فإن كان المولى عليه فاسق
الحال فوجه استخراجه من الآية أنه علق إيناس الرشد فيها بالابتلاء بدفع مال إليهم ينظر تصرفهم فيه، فلو كان المراد
صلاح الدين فقط لم يقف الاختبار في ذلك على دفع المال إليهم، إذ الظاهر من المصلح لدينه أنه لا يتفاوت حاله
في حالتي عدمه ويسره، ولو كان المراد صلاح الدين والمال معا كما يقوله الشافعي رضي الله عنه لم يكن صلاح
الدين موقوفا على الاختبار بالمال كما مر آنفا، وأيضا فالرشد في الدين والمال جميعا هو الغاية في الرشد وليس الجمع
بينهما بقيد، وتنكير الرشد في الآية يأبى ذلك، إذ الظاهر فإن آنستم منهم رشدا ما فبادروا بتسليم المال إليهم غير
منتظرين بلوغ الغاية فيه، والله أعلم.
قال محمود (فإن قلت فما وجه نظم الكلام الواقع بعد حتى، إلى قوله: فادفعوا إليهم أموالهم الخ) قال أحمد:
501

هو يروم بهذا التقدير تنزيل مذهب أبي حنيفة في سبق الابتلاء على البلوغ على مقتضى الآية، وقد أسلفنا وجه
تنزيل مذهب مالك عليها بأظهر وجه وأقربه. والحاصل أن مقتضى النظر إلى المجموع من حيث هو، ومقتضى
مذهب أبي حنيفة النظر إلى المفردين، والظاهر اعتبار المجموع فان العطف بالفاء يقتضيه، والله أعلم.
قوله تعالى (ومن كان غنيا فليستعفف) قال محمود (استعف أبلغ من عف وكأنه يطلب زيادة العفة من نفسه)
قال أحمد: في هذا إشارة إلى أنه من استفعل بمعنى الطلب وليس كذلك، فإن استفعل الطلبية متعدية وهذه
قاصرة، والظاهر أنه مما جاء فيه فعل واستفعل بمعنى، والله أعلم.
502

قوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا)
قال محمود (المراد الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله الخ) قال أحمد: وإنما ألجأه إلى تقدير تركوا بقوله شارفوا أن
503

يتركوا، لان جوابه قوله خافوا عليهم والخوف عليهم إنما يكون قبل تركهم إياهم وذلك في دار الدنيا، فقد دل
على أن المراد بالترك الاشراف عليه ضرورة، وإلا لزم وقوع الجواب قبل الشرط وهو باطل، ونظيره - فإذا بلغن
أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف - أي شارفن بلوغ الاجل، ولهذا المجاز في التعبير عن المشارفة
على الترك بالترك سر بديع، وهو للتخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة ولا في الذب عن الذرية
الضعاف وهي الحالة التي وإن كانت من الدنيا إلا أنها لقربها من الآخرة ولصوقها بالمفارقة صارت من حيزها
ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك، والله أعلم.
قوله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) قال محمود (معناه ظالمين أو
على وجه الظلم الخ) قال أحمد: ومثله - قد بدت البغضاء من أفواههم - أي شدقوا بها وقالوها بملء ء أفواههم،
أو يكون المراد بذكر البطون تصوير الاكل للسامع حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير، ولأجل
تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله خص الاكل أنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها، والله أعلم.
504

قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) قال محمود. إن قلت: هلا قيل للأنثيين
مثل حظ الذكر الخ) قال احمد: لان الأفضلية حينئذ مدلول عليها بواسطة الاستلزام لا منطوق بها، وأما على نظم
الآية فالأفضلية منطوق بها غير محتاجة إلى ذلك. عاد كلامه: قال (ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث
الخ) قال أحمد: وعلى مقتضى هذا لا يكون حكم الابن إذا انفرد مذكورا في الآية، لأنه حيث ذكره فإنما عنى
حالة الاجتماع مع الإناث خاصة على تفسير الزمخشري. هذا، ويمكن خلافه وهو أن المذكور أولا ميراث الذكر
على الاطلاق مجتمعا مع الإناث ومنفردا. أما وجه تلقي حكمه حالة الاجتماع فقد قرره الزمخشري، وأما وجه تلقيه
حالة الانفراد فمن حيث إن الله تعالى جعل له مثل حظ الأنثيين، فإن كانت معه فذاك، وإن كانت منفردة عنه
فقد جعل لها في حال انفرادها النصف، فاقتضى ذلك أن للذكر عند انفراده مثلي نصيبها عند انفرادها وذلك الكامل،
والله أعلم. عاد كلامه. (قال محمود: فإن قلت: لم قيل فإن كن نساء ولم يقل وإن كانت امرأة الخ) قال أحمد:
يريد أن حكم البنتين حال اجتماعهما مع الابن مذكور في قوله - للذكر مثل حظ الأنثيين - وأن حكم البنات
منفردات مذكور في قوله - فإن كن نساء - وأن حكم البنت منفردة مذكور في قوله - وإن كانت واحدة فلها
النصف - وبقى عليه أن ذكر الابن في حال الانفراد مستفاد من قوله - للذكر مثل حظ الأنثيين - إذا ضممته إلى
قوله - وإن كانت واحدة فلها النصف - على التقرير الذي قدمته. عاد كلامه (قال في الجواب أما حكمهما
فمختلف فيه. فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة الخ) قال أحمد: ومحز النظر أن ابن عباس أجرى التقييد
بالصفة وهي قوله - فوق اثنتين - على ظاهره من مفهوم المخالفة، غير أنه ما كان يقتضى اللفظ أن يقتصر لهما على
النصف لأجل تعارض المفهومين، إذ مفهوم - فلهن ثلثا ما ترك - أن تكون الأنثى أقل من الثلثين، ومفهوم - فإن
كانت واحدة فلها النصف - أن تكون الأنثيين أزيد من النصف فيكون نصيبهما مترددا فيما بين النصف والثلثين
بقدر مجمل، وأما غيره فأظهر للتقييد فائدة سوى المخالفة، وتلك الفائدة رفع الفرق المتوهم بين الأنثيين وما
فوقهما، ومتى ظهرت للتخصيص فائدة جلية سوى المخالفة وجب المصير إليها وسقط التعلق بالمفهوم، وكأنه على
القول المشهور لما علم أن الأنثيين يستوجبان الثلثين بالطرق المذكورة وكان الوهم قد يسبق إلى أن الزائد على
الأنثيين يستوجبن أكثر من فرض الأنثيين، لان ذلك مقتضى القياس رفع هذا الوهم بإيجاب الثلثين لما فوق
الأنثيين كوجوبه لهما، والله أعلم.
505

قوله (ولأبويه لكل واحد منهما السدس) قال محمود (لكل واحد منهما بدل من لأبويه بتكرير العامل الخ)
قال أحمد: وفي إعرابه بدلا نظر، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشئ من الشئ وهما كعين واحدة،
ويكون أصل الكلام والسدس لأبويه لكل واحد منهما، ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما
في السدس كما قال - فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك - فاقتضى اشتراكهن فيه، فيقتضي البدل لو قدر
إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل لأنه
يلزم في هذا النوع أن يكون مؤدى المبدل والبدل واحدا، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة
معنى، فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة، وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الاعراب
وإلا لزم زيادة معنى في البدل، فالوجه والله أعلم أن يقدر مبتدأ كأنه محذوف: قيل ولأبويه الثلث، ثم لما ذكر
نصيبهما مجملا فصله بقوله - لكل واحد منهما السدس - وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من
استحقاق كل واحد منهما للسدس استحقاقهما معا للثلث والله أعلم. ولا يستقيما على هذا الوجه أيضا جعله من بدل
التقسيم، ألا تراك لو قلت: الدار كلها لثلاثة لزيد. ولعمرو ولخالد كان هذا بدلا وتقسيما صحيحا، لأنك لو حذفت
المبدل منه فقلت: الدار لزيد ولعمرو ولخالد ولم تزد في البدل زيادة استقام، فلو قلت: الدار لثلاثة لزيد ثلثها
507

ولعمرو ثلثها ولخالد ثلثها لم يستقم بدل تقسيم، إذ لو حذفت المبدل منه لصار الكلام الدار لزيد ثلثها ولعمرو ثلثها
ولخالد ثلثها، فهذا كلام مستأنف لأنك زدت فيه معنى تمييز ما لكل واحد منهم، وذلك لا يعطيه المبدل، ولا
سبيل في بدل الشئ من الشئ إلى زيادة معنى. عاد كلامه: قال محمود (فإن قلت قد بين حكم الأبوين
في الإرث الخ) قال أحمد: ومذهب ابن عباس أن الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الام عنه مع وجود الأب،
فعلى هذا يكون فائدة قوله - وورثه أبواه - الاحتراز مما لو ورثه الاخوة مع الأبوين فإن الام لها حينئذ السدس، وكأنه
قيل وورثه أبواه ولم يكن ثم إخوة فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس، ولا يمكن جعله على مذهب
ابن عباس مقيدا بعدم الزوجين، لان ثلث الام عنده لا يتغير بوجود واحد منهما والله الموفق.
عاد كلامه: قال محمود (ويستوي في حجب الام الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس الخ) قال أحمد: ولقد
أحسن في هذا التقرير ما لم يحسن كثير من حذاق الأصوليين يريد متلقى 7 في تغاير وصفي الجمع والتثنية إذ الجمع
يتناول الاثنين ويتناول أزيد منهما ولك هذا 7 وأما التثنية فقاصرة على الاثنين فبينهما على هذا العموم والخصوص
فكل تثنية جمع وليس كل جمع تثنية.
قوله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) قال محمود (إن قلت: لم قدمت الوصية على الدين الخ)
قال أحمد: الوصية على ضربين: لغير معين فلا يطالب بها إلا الامام إن عثر عليها، ولمعين فله المطالبة ولكن
يتباينان في القوة بين مطالبة رب الدين بدينه والموصى له بوصيته، لان رب الدين يطالب بحق مستمر في الذمة سبق
له به الفضل على مديانه، والموصى له إنما يطلب صدقة تفضل بها عليه الميت لا عن استحقاق ثابت، فاكتفى بما
لرب الدين من القوة عن تقديمه في الذكر وعضد ضعف الموصى له بتقديمه في الذكر عونا له على حصول رفق
508

الوصية. ويمكن في دفعه طريق آخر فأقول: لم يخالف ترتيب الآية الواقع شرعا، فلا يرد السؤال، وذلك أن
أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية ثم اقتسام ذوي الميراث، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج
الوصية تلو الدين، فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية والدين صورة الواقع شرعا، ولو سقط ذكر بعد
وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لما أمكن ورود السؤال المذكور، والله أعلم.
509

قوله تعالى (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبوا من قريب فأولئك يتوب الله عليهم) الآية.
قال محمود (يعني إنما القبول والغفران واجب على الله الخ) قال أحمد: وقد تقدم في مواضع أن إطلاق مثل هذا
من قول القائل يجب على الله كذا مما نعوذ بالله منه، تعالى عن الالزام والايجاب رب الأرباب. وقاعدة أهل السنة
أن الله تعالى مهما تفضل فهو لا عن استحقاق سابق، لانهم يقولون: إن الافعال التي يتوهم القدرية أن العبد يستحق
بها على الله شيئا كلها خلق الله، فهو الذي خلق لعبده الطاعة وأثابه عليها وخلق الله التوبة له وقبلها منه فهو المحسن
أولا وآخرا وباطنا وظاهرا، لا كالقدرية الذين يزعمون أن العبد خلق لنفسه التوبة بقدرته وحوله ليستوجب على
ربه المغفرة بمقتضى حكمته التي توجب عليه على زعمهم المجازاة على الأعمال إيجابا عقليا، فلذلك يطلقون بلسان
الجراءة هذا الاطلاق، وما أبشع ما أكد الزمخشري هذا المعتقد الفاسد بقوله: يجب على الله قبول التوبة كما يجب
على العبد بعض الطاعات، فنظر المعبود بالعبد وقاس الخالق على الخلق، وإنه لاطلاق يتقيد عنه لسان العاقل
ويقشعر جلده استبشاعا لسماعه ويتعثر القلم عند تسطيره، على أن من لطف الله تعالى أن لم يجعل حاكي الكفر كافرا
ولا حاكي البدعة لضرورة ردها والتحذير منها مبتدعا. وما بلغ الزمخشري في هذا الاطلاق إلا اغتناما لفرصة
التمسك على صحته بصيغة (على) المشعرة بالوجوب فجعلها ذريعة لاستباحة هذا الاطلاق، ولم يجعل الله له فيها مستروحا:
فإنا نقول: معاشر أهل السنة قد وعدنا الله قبول التوبة المستجمعة لشرائط الصحة، ووقوع هذا الموعود واجب
ضرورة صدق الخبر، فمهما ورد من صيغ الوجوب فمنزل على وجوب صدق الوعد، ومعنى قولنا صدق الخبر
واجب كمعنى قولنا وجود الله واجب، لان أحدا لا يستوجب على الله شيئا، ألهمنا الله الأدب في حق جلاله
وعصمنا من زيغ القول وضلاله.
512

قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، إلى قوله: ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) قال
محمود (كان الرجل إذا مات له قريب ألقى ثوبه على امرأته وقال أنا أحق بها من كل أحد الخ) قال أحمد: وخص
تعالى ذكر من أتى القنطار من المال بالنهي تنبيها بالأعلى على الأدنى لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من
الأموال منهيا عن استعادة شئ يسير حقير منها على هذا الوجه كان من لم يبذل إلا الحقير منهيا عن استعادته بطريق
الأولى، ومعنى قوله وآتيتم والله أعلم: وكنتم آتيتم، إذ إرادة الاستبدال في ظاهر الامر واقعة بعد إيتاء المال
واستقرار الزوجية.
513

قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) قال
محمود فيه (كانوا ينكحون روابهم وناس منهم يمقتونه الخ) قال أحمد: وعندي في هذا الاستثناء سر آخر، وهو
أن هذا المنهي عنه لفظاعته وبشاعته عند أكثر الخلق حتى كان ممقوتا قبل ورود الشرع جدير أن يمتثل النهي فيه:
فيجتنب، فكأنه قد امتثل النهي عنه حتى صار مخبرا عن عدم وقوعه، وكأنه قيل ما يقع نكاح الأبناء المنكوحات
للآباء ولا يؤخذ منه شئ إلا ما قد سلف، وأما في المستقبل بعد النهي فلا يقع منه شئ البتة، ومثل هذا النظر
جار في مثل قوله تعالى - وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله - فأجراه مرفوعا على أنه خبر وإن كان
المراد النهي عن عبادة غير الله، ولكن لما كان هذا المنهي جديرا بالاجتناب وكأنه اجتنب عبر عن النهي فيه
بصيغة الخبر ورفع الفعل، وقد مضى هذا التقرير بعينه ثم لم يجر مثله في هذه الآية، والله أعلم.
قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) الآية. قال محمود (معناه تحريم نكاحهن الخ) قال أحمد: وهذا تفريع
515

على القول بعموم المشترك في معانيه 7 فاستقام تعليق الجار المذكور بهما والله أعلم. عاد كلامه. قال (ولا يجوز
الثاني لان ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به ما لم يعترض أمر لا يرد إلا أن تقول أعلقه بالنساء والربائب أجعل من
للاتصال كقوله تعالى - المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض - فإني لست منك ولست مني، ما أنا من دد ولا
الدد مني. وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن الخ) قال أحمد: يعني أن لهذا الاعراب وجها في الصحة،
وتكون من على هذا مستعملة في معنى واحد من معانيها وهو الاتصال فيستقيم تعلقها بهما. وقد نقل ذلك عن ابن
عباس مذهبا. ونقل أيضا قراءة علي وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن.
وكان ابن عباس يقول: والله ما نزل إلا هذا انتهى نقل الزمخشري. والقول المشهور عن الجمهور إبهام تحريم
المرأة، ويقيد تحريم الربيبة بدخول الام كما هو ظاهر الآية، ولهذا الفرق سر وحكمة، وذلك لان المتزوج بابنة
المرأة، لا يخلو بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها ومخاطبات ومساررات، فكانت الحاجة داعية إلى
تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الام فيعاملها معاملة ذوات المحارم، ولا كذلك العاقد على الام فإنه بعيد عن مخاطبة
ابنتها قبل الدخول بالام، فلم تدع الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة، وأما إذا وقع الدخول بالام فقد وجدت مظنة
خلطة الربيبة فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما، والله أعلم. عاد كلامه. قال (فإن قلت: ما فائدة قوله:
في حجوركم الخ) قال أحمد: وهذا مما قدمته من تخصيص أعلى صور المنهي عنه النهي، فإن النهي عن نكاح
516

الربيبة المدخول بأمها عام في جميع الصور سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية ولكن نكاحه
لها وهي في حجره أقبح الصور والطبع عنها أنفر، فخصت بالنهي لتساعد الجبلة على الانقياد لاحكام الملة ثم
يكون ذلك تدريبا وتدريجا إلى استقباح المحرم في جميع صوره، والله أعلم.
517

قوله تعالى (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف الخ) قال أحمد: موقع هذا الاستثناء كموقع نظيره المقدم
ذكره عند قوله - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - على الوجه الذي بينت، وهو أن هذا النهي لكونه جديرا
بأن يمتثل أجرى مجرى الاخبار عن امتثاله حتى كأنه قيل: لا يقع شئ من هذه المحرمات إلا السالف منها لا غير،
أو على الوجه الذي بينه الزمخشري فيما تقدم وهو أن يكون المراد إلا ما قد سلف فإنه غير محرم، فتعاطوه إن كان
ممكنا من باب التعليق على المحال بتا للتحريم، إلا أن الزمخشري لم يسلك هذا المسلك ههنا لان قوله - إن الله كان غفورا
رحيما - يرشد إلى أن المراد إلا ما قد سلف فإنه مغفور لاستثنائه في الآية الأولى لأنه عقبه ثم بقوله - إنه كان فاحشة
ومقتا وساء سبيلا - فقدر في كل آية ما يناسب سياقها، والله أعلم.
518

قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات) الآية. قال محمود (معناه ومن لم يستطع زيادة
في المال وسعة الخ) قال أحمد: وعلى هذا يكون الطول عند أبي حنيفة وجود الحرة تحته، وهو أحد القولين لمالك
رضي الله عنه، لكن يبعد هذا المعنى لان الطول عند مالك في أحد قوليه القدرة بالمال على نكاح الحرة خاصة حتى
لو كانت الحرة تحته فأراد نكاح الأمة عجزا عن حرة أخرى جاز له ذلك. وفي القول الآخر الطول أحد الامرين
إما القدرة بالمال على نكاح الحرة، وإما وجود الحرة تحته حتى لا يجوز له نكاح أمة على حرة إن كان عاجزا عن
حرة أخرى، ومقتضى ما نقله المصنف عن أبي حنيفة أنه لا يجوز لمن تحته حرة نكاح أمة، وأنه يجوز لمن ليس
تحته حرة أن ينكح الأمة ولو كان غنيا، وهو قول لا يساعده ظاهر الآية لان الاستطاعة تثبت وإن لم يفعل
المستطيع بمقتضاها، فالمستطيع لنكاح الحرة ذو الطول وإن لم يكن تحته الحرة، وتفسير الاستطاعة على مذهب
أبي حنيفة بعيد جدا.
519

قوله تعالى (فانكحوهن بإذن أهلهن) قال محمود (هذا اشتراط لاذن الموالي في نكاحهن الخ) قال أحمد:
وليس في الآية اشتراط إذن المولى لمن يتولى عقد نكاح أمته، ومتولي العقد ومباشرته مسكوت عنه في الآية،
فيحمل على إذنه لوكيله في العقد على أمته، ولا يلزم أن تكون الأمة هي المباشرة، ولا دليل في الآية على ذلك،
والله أعلم.
520

قوله تعالى (واللاتي تخافون نشوزهن) الآية. قال (أمر الله تعالى بوعظهن أولا الخ) قال أحمد: وهذا
الترتيب بين هذه الأفعال المعطوفة غير متلقى من صيغة لفظية، إذ العطف بالواو وهي مسلوبة الدلالة على الترتيب
متمحضة للاشعار بالجمعية فقط، وإنما يتلقى الترتيب المذكور من قرائن خارجة عن اللفظ مفهومة عن مقصود
الكلام وسياقه. عاد كلامه قال: (وقيل معناه أكرهوهن الخ) قال أحمد: ولعل هذا المفسر يتأيد بقوله - فإن
أطعنكم - فإنه يدل على تقدم إكراه على أمر ما وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع، وإطلاق الزمخشري لما أطلقه
في حق هذا المفسر من الافراط.
524

قوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) قال محمود (إنما أنث الضمير وهو للمثقال
الخ) قال أحمد: وقد تقدم له مثل ذلك في قوله - وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها - وقد بينا ثم أن
عوده إلى الحفرة جائز بل أولى، وكذلك عوده ههنا إلى الذرة ولا يمنع ذلك كون المضاف إليه غير مخبر عنه،
لان عود الضمير لا يستلزم الاخبار عنه في الكلام الأول، ويجوز كانت دابتك، وكل ذلك أسهل من اكتساب
المضاف للتأنيث من المضاف إليه، فقد نص أبو علي في التعاليق على أنه شاذ.
527

قوله تعالى (فتيمموا صعيدا طيبا) قال محمود (والصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره الخ) قال أحمد: هذا
إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد، وثم وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله - وإن كنتم
مرضى - إلى آخرها، فإن المفهوم منه وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال سفر أو مرض أو مجئ من
الغائط أو ملامسة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث فتيمموا منه، يقال تيممت من الجنابة وموقع من
على هذا مستعمل متداول، وهي على هذا الاعراب إما للتعليل أو لابتداء الغاية وكلاهما فيها متمكن، والله أعلم.
قال محمود (فإن قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين وبين المحدثين والمجنبين الخ)
قال أحمد: وهذا من ذكر المعتنى به خاصا ومندرجا في العموم تنبيها بذكره على وجهين مختلفين، لان المرضى
والسفر مندرجان في عموم المحدثين والمجنبين، والله أعلم.
529

قوله تعالى (ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم) الآية. قال محمود (غير مسمع
حال من المخاطب الخ) قال أحمد: مراده بذلك أنه لما فسر غير مسمع بالدعاء وهو إنشاء وطلب وقد أوقعه حالا
530

والحال خبر، أراد أن يبين أوجه صحة التعبير عن الخبر بالانشاء بواسطة أن هؤلاء كانوا يظنون دعاءهم مستجابا مخبرا
بوقوع المدعو فيه، ونظير ورود الامر بصيغة الخبر تنبيها على تحقق وقوعه، قال محمود (ومعناه غير مسمع جوابا الخ)
قال أحمد: والظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به في هذه السورة مثل - غير مسمع وراعنا - ولم يقصد ههنا
تبديل الاحكام وتوسطها بين الكلمتين، بين قوله - يحرفون - وبين قوله - ليا بألسنتهم - والمراد أيضا تحريف مشاهد
بين على أن المحرف هما وأمثالهما. وأما في سورة المائدة فالظاهر والله أعلم أن المراد فيها بالكلم الاحكام وتحريفها
تبديلها، كتبديلهم الرجم بالجلد، ألا تراه تقبه بقوله - يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا -
ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين، قيل في سورة المائدة - يحرفون الكلم من بعد مواضعه - أي ينقلونه عن
الموضع الذي وضعه الله فيه، فصار وطنه ومستقره إلى غير الموضع فبقى كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه
هذا غريب من بعد مواضعه ومقاره، ولا يوجد هذا المعنى في مثل راعنا وغير مسمع، وإن وجد على بعد فليس
الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم
أمره، فلذلك جاء هنا يحرفون الكلم عن مواضعه غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف، والله أعلم.
531

قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) قال محمود (فإن قلت: قد ثبت أن الله
عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه الخ) قال أحمد رحمه الله: عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة وما
دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء الله أن يغفره له هذا مع عدم التوبة، وأما مع التوبة فكلاهما مغفور، والآية
إنما وردت فيمن لم يتب ولم يذكر فيها توبة كما ترى، فلذلك أطلق الله تعالى نفي مغفرة الشرك، وأثبت مغفرة
ما دونه مقرونة بالمشيئة كما ترى، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة. أما القدرية فإنهم يظنون التسوية
بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة ولا يشاء الله أن يغفرهما إلا
للتائبين: فإذا عرض الزمخشري هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه، إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك وثابتة
لما دونه مقرونة بالمشيئة، فإما أن يكون المراد فيهما من لم يتب فلا وجه للتفصيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما
بالمشيئة وتعليقها بالآخر مطلقا، إذ هما سيان في استحالة المغفرة، وإما أن يكون المراد فيهما التائب فقط قال في الشرك
إنه لا يغفر، والتائب من الشرك مغفور له، وعند ذلك أخذ الزمخشري يقطع أحدهما عن الآخر فيجعل المراد مع
الشرك عدم التوبة ومع الكبائر التوبة حتى تنزل الآية على وفق معتقده فيحملها أمرين لا تحمل واحدا منهما:
أحدهما إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة ولا دليل عليها فيما ذكر، وأيضا لو كانت مرادة لكانت هي
532

السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل، فكيف يليق السكوت
عن ذكر ما هو العمدة والموجب وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الردئ. الثاني أنه بعد تقريره التوبة احتكم
فقدرها على أحد القسمين دون الآخر، وما هذا گلا من جعل القرآن تبعا للرأي نعوذ بالله من ذلك. وأما القدرية
فهم بهذا المعتقد يقع عليهم المثل السائر: السيد يعطي والعبد يمنع، لان الله تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على
الكبائر إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح التي هي
بالفساد أجدر وأحق.
533

قوله تعالى (فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) قال محمود (إن قلت بم تعلق قوله
في أنفسهم الخ) قال أحمد: ولكل من هذه التأويلات شاهد على الصحة: أما الأول فلان حاصله أمره بتهديدهم على
وجه مبلغ صميم قلوبهم، وسياق التهديد في قوله - فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك - يشهد
له فإنه أخبر بما سيقع لهم على سبيل التهديد. وأما الثاني فيلائمه من السياق قوله - أولئك الذين يعلم الله ما في
قلوبهم - يعني ما انطوت عليه من الخبث والمكر والحيل، ثم أمره بوعظهم والاعراض عن جرائمهم حتى لا تكون
مؤاخذتهم بها مانعة من نصحهم ووعظهم، ثم جاء قوله - وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا - كالشرح للوعظ ولذكر
أهم ما يعظهم فيه، وتلك نفوسهم التي علم الله ما انطوت عليه من المذام، وعلى هذا يكون المراد الوعظ وما يتعلق
به. وأما الثالث فيشهد له سيرته عليه الصلاة والسلام في كتم عناد المنافقين والتجافي عن أفصاحهم والستر عليهم
حتى عد حذيفة رضي الله عنه صاحب سره عليه الصلاة والسلام لتخصيصه إياه بالاطلاع على أعيانهم وتسميتهم
له بأسمائهم وأخباره في هذا المعنى كثيرة.
537

قوله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول) الآية. قال محمود (وإنما
لم يقل واستغفرت لهم لأنه عدل به الخ) قال أحمد: وفي هذا النوع من الالتفات خصوصية، وهي اشتماله على ذكر
صفة مناسبة لما أضيف إليه وذلك زائد على الالتفات بذكر الاعلام الجامدة، والله الموفق.
قوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) قال معناه (فوربك ولا مزيدة لتأكيد الخ)
قال أحمد: يشير إلى أن لما زيدت مع القسم وإن لم يكن المقسم به دل ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم، فإذا
دخلت حيث يكون المقسم عليه نفيا تعين جعلها لتأكيد القسم طردا للباب، والظاهر عندي والله أعلم أنها هنا لتوطئة
النفي المقسم عليه والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك. وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الاثبات، وذلك
لا يأبى مجيئها في النفي عن الوجه الآخر من التوطئة على أن في دخولها على القسم المثبت نظرا، وذلك أنها لم ترد في
الكتاب العزيز إلا مع القسم حيث يكون بالفعل مثل - لا أقسم بهذا البلد - لا أقسم بيوم القيامة - فلا أقسم بالخنس -
فلا أقسم بمواقع النجوم - فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون - ولم تدخل أيضا إلا على القسم بغير الله تعالى،
ولذلك سر يأبى كونها في آية النساء لتأكيد القسم ويعين كونها للتوطئة، وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي
عددناها تأكيد تعظيم المقسم به، إذ لا يقسم بالشئ إلا إعظاما له، فكأنه بدخولها يقول إن إعظامي لهذه الأشياء
بالقسم بها كلا إعظام: يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعا لتوهم كون
هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم وللاقسام بها فيزاح هذا الوهم بالتأكيد في إبراز فعل القسم مؤكدا بالنفي المذكور:
538

وقد قرر الزمخشري هذا المعنى في دخول لا عند قوله - لا أقسم بيوم القيامة - على وجه مجمل هذا بسطه وإيضاحه،
فإذا بين ذلك فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير الله مندفع في الأقسام بالله فلا يحتاج إلى دخول لا مؤكدة
للقسم فيتعين حملها على الموطئة، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت، وأما دخولها
في القسم وجوابه نفي فكثير مثل:
فلا وأبيك ابنة العامري * لا يدعي القوم أني أفر
وكقوله:
ألا نادت أمامة باحتمال * لتحزنني فلا يك ما أبالي
وقوله:
رأي برقا فأوضع فوق بكر * فلا يك ما أسال ولا أقاما
وقوله:
فخالف فلا والله تهبط تلعة * من الأرض إلا أنت للذل عارف
وهو أكثر من أن يحصى فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل.
539

قوله تعالى (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إلى قوله ذلك الفضل من الله) قال محمود (والمعنى: أن ما أعطى
المطيعون من الاجر الخ) قال أحمد: عقيدة أهل السنة أن المطيع لا يستحق على الله بطاعته شيئا، وأنه مهما أثيب
به من دخول الجنة والنجاة من النار فذاك فضل من الله لا عن استحقاق ثابت فهم يقرءون هذه الآية في رجائها.
وأما القدرية فيزعمون أن المطيع يستوجب على الله ثواب الطاعة، وأن المقابل لطاعته من الثواب أجر مستحق
كالأجرة على العمل في الشاهد ليس بفضل، وإنما الفضل ما يزاده العبد على حقه من أنواع الثواب وصنوف
الكرامة، فلما وردت هذه الآية ناطقة بأن جملة ما يناله عباد الله فضل من الله اضطر الزمخشري إلى ردها إلى
معتقده، فجعل الفضل المشار إليه هو الزيادة التابعة للثواب: يعني المستحق، ثم اتسع في التأويل فذكر وجها
آخر وهو أن يكون المشار إليه مزايا هؤلاء المطيعين في طاعتهم وتميزهم بأعمالهم، وجعل معنى كونها فضلا من الله
أنه وفقهم لاكتسابها ومكنهم من ذلك لا غير: يعني وأما إحداثها فبقدرهم، وهذا من الطراز الأول. والحق أن
الكل أيضا فضل من الله بكل اعتبار، لان معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء
الخواص خلق الله تعالى وفعله، وأن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم، بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات
ويثيبهم عليها، فالطاعة إذا من فضله وثوابها من فضله، فله الفضل على كل حال والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى
بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة فقد قال عليه الصلاة والسلام (لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، ولكن
بفضل الله ورحمته، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة) - قل بفضل
الله وبرحمته فبذلك فليفرحو - اللهم اختم لنا باقتفاء السنة وأدخلنا بفضلك المحض الجنة.
540

قوله تعالى (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن
أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) قال محمود
فيه المراد بالمصيبة القتل والهزيمة الخ) قال أحمد: وفي هذه القراءة نكتة غريبة وهي الإعادة إلى لفظ من بعد
541

الإعادة إلى معناها، وهو مستغرب أنكر بعضهم وجوده في الكتاب العزيز لما يلزم من الاجمال بعد البيان وهو
خلاف قانون البلاغة، إذ الإعادة إلى لفظها ليس بمفصح عن معناها، بل تناوله للمعنى مجمل منهم، فوقوعه بعد
البيان عسر، ومنهم من أثبته وعد موضعين، وهذه الآية على هذه القراءة ثالث، وسيأتي بيان شاف إن شاء الله
تعالى.
قوله تعالى (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا
أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) قال محمود (يجوز أن يكون المستضعفين مجرورا، إلى قوله: ومنصوبا الخ)
قال أحمد: ونبه على هذا مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين: إحداهما التخصيص بعد التعميم فإنه يقتضي
إضمار الناصب الذي هو اختص، ولولا النصب لكان التخصيص معلوما من إفراده بالذكر، ولكن أكد هذا
المعلوم بطريق اللزوم بأن أخرجه إلى النطق.
قوله تعالى (الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) قال محمود. (إن قلت: لم ذكر الظالم
وموصوفه مؤنث الخ) قال أحمد: ووقفت على نكتة في هذه الآية حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب
العزيز فالظلم إليها ينسب بطريق المجاز كقوله - وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة - إلى قوله - فكفرت بأنعم
الله - وقوله - وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها - وأما هذه القرية في سورة النساء فينسب الظلم إلى أهلها على
الحقيقة لان المراد بها مكة، فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها شرفها الله تعالى.
542

قوله تعالى (يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) قال محمود (قوله تعالى كخشية الله من إضافة المصدر
الخ) قال أحمد: وقد مر نظير هذه الآية في الاعراب وهو قوله تعالى - فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا -
وقد قرأ الزمخشري ثم ما أذعن له هنا وهو الجر عطفا على الذكر وبينا ثم جوازه بالتأويل الذي ذكره الزمخشري
543

ههنا وهو إلحاقه بباب: جد جده، وأصل هذا الاعراب لأبي الفتح وقد بينت جواز الجر عطفا على الذكر من
غير احتياج إلى التأويل المذكور، وأجرى مثله ههنا وهو وجه حسن استنبطته من كتاب سيبويه، فإن أصبت
فمن الله وإن أخطأت فمني، والله الموفق. والذي ذكر سيبويه جواز قول القائل زيد أشجع الناس رجلا، ثم قال
سيبويه: فرجل واقع على المبتدأ ولك أن تجره فتقول زيد أشجع رجل وهو الأصل انتهى المقصود من كلام
سيبويه، وإذا ينبت عليه جاز أن تقول خشى فلان أشد خشية فتنصب الخشية، وأنت تريد المصدر كأنك قلت:
خشى فلان خشية أشد خشية، فتوقع خشية الثانية على الأولى وإن نصبتها فهو كما قلت زيد أشجع رجلا،
فأوقعت رجلا على زيد، وإن كنت نصبته فهو على أن الأصل أن تقول أشد خشية، فتجرها كما كان الأصل أن
تقول زيد أشجع رجل فتجره، وما منع الزمخشري من النصب مع وقوعه على المصدر إلا أن مقتضى النصب في
مثله خروج المنصوب على الأول بخلاف المجرور، إلا تراك تقول: زيد أكرم أبا فيكون زيد من الأبناء وأنت
تفضل أباه وتقول زيد أكرم أب، فيكون من الآباء وأنت تفضله، فلو ذهبت توقع أشد على الخشية الأولى وقد
نصبت مميزها لزم خروج الثاني عن الأول وهو محال، إذ لا تكون الخشية خشية فتحتاج إلى التأويل المذكور وهو
جعل الخشية الأولى خاشية حتى تخرجها عن المصدر المميز لها، وقد بينا في كلام سيبويه جواز النصب مع وقوع
الثاني على الأول كما لو جررت، فمثله يجوز في الآية من غير تأويل والله أعلم. وقد مضت وجوه من الاعراب
في آية البقرة يتعذر بعضها ههنا لمنافرة المعنى، والله الموفق. ومثل هذه الأنواع من الاعراب منزل من العربية منزلة
للب الخالص، فلا يوصل إليها إلا بعد تجاوز جملة القشور، وربك الفتاح العليم.
544

قوله تعالى (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) قال محمود (قرئ يدرككم بالرفع وقيل
هو على حذف الفاء الخ. قال أحمد: أما الوجه الذي ألحقه بتوجيه سيبويه في الشعرين المذكورين ففيه نظر،
أما قوله ولا ناعب فمختار، فإن دخول الباء في خبر ليس أمر مطرد غالب، والخبر وطن معروف لها، فإذا
قدرت فيه حيث تسقط روعي هذا التقدير في المعطوف لما ذكرناه من الغلبة التي تقتضي إلحاق دخولها بالأصل
الواجب الذي يعتبر نطق به أو سكت عنه، وأما تقدير أينما تكونوا في معنى كلام آخر يرتفع معه قوله يدرككم
فذلك تقدير لم يعهد له نظير ولم يغلب هذا المقدر فيلتحق بغلبة دخول الباء في الخبر، فلا يلزم من مراعاة ما يقتضيه
غالب الاستعمال ومعهوده مراعاة ما لم يسبق به عهد، وأما البيت الآخر لزهير فالمنقول عن سيبويه حمله أو حمل
مثله على التقديم والتأخير كقوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع * إنك إن يصرع أخوك تصرع
فليس من قبيل ولا ناعب، والله الموفق. وفي الوجه الأخير الذي أبداه الزمخشري حجة واضحة على أن
القتل في المعارك والملاحم لا يعترض على الاجل المقدر بنقص، وأن كل مقتول فبأجله مات، لا كما يزعمه القدرية،
والله الموفق.
545

قوله تعالى (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الامر منهم لعلمه
الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) قال محمود (هم ناس من ضعفة
المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال الخ) قال أحمد: وفي اجتماع الهمزة والباء على التعدية نظر لأنهما
متعاقبتان، وهو الذي اقتضى عند الزمخشري قوله في الوجه الثاني فعلوا الإذاعة ليخرجها عن الباء المعاقبة للهمزة.
ثم في هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع وكفى به كذبا، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء
والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم خيرا أو غيره، ولقد جربنا
ذلك في زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد طهرها الله من دنسه وصانها عن رجسه ونجسه وعجل للمسلمين
الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر. عاد كلامه قال (ومعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ولولا إرسال الرسل
وإنزال الكتب الخ) قال أحمد: وفي تفسير الزمخشري هذا نظر، وذلك أنه جعل الاستثناء من الجملة التي وليها بناء
اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه، وليس لله عليه في ذلك فضل، ومعاذ الله أن يعتقد ذلك. وبيان لزومه أن لولا
حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد
سلبت تأثير فضل اله من امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالايمان
وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله: ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه: لولا مساعدتي
لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب وإنما مننت عليه بتأثير
مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله، ومن المحال أن يعتقد موحد مسلم أنه عصم في شئ من الأشياء من اتباع
الشيطان إلا بفضل الله تعالى عليه. وأما قواعد أهل السنة فواضح أن كل ما يعد به العبد عاصيا للشيطان من إيمان
547

وعمل خير مخلوق لله تعالى وواقع بقدرته ومنعم على العبد به. وأما المعتزلة فهم وإن ظنوا أن العبد يخلق لنفسه إيمانه
وطاعته إلا أنهم لا يخالفون في أن فضل الله منسحب عليه في ذلك لأنه خلق له القدرة التي بها خلق العبد ذلك على
زعمهم ووفقه لإرادة الخير، فقد وضح ذلك تعذر الاستثناء من الجملة الأخيرة على تفسير الزمخشري، وما أراه إلا
واهما مسترسلا على المألوف في الاعراب وهو إعادة الاستثناء إلى ما يليه من الجمل مهملا للنظر في المعنى، ومن
ثم اتخذ القاضي أبو بكر رضي الله عنه الاستثناء في هذه الآية إلى ما قبل الجملة الأخيرة فطنة منه ويقظة، ولأنه
إمام مؤيد في نظره مسدد في فكره، ثم اتخذ القاضي رضي الله عنه هذه الآية وزره في الرد على من زعم الجزم بعود
الاستثناء المتعقب للجمل إلى الأخيرة ظنا منه أن ذلك واجب لا يسوغ سواه، ثم يقف في عوده إلى ما تقدم خاصة،
وقد بينت عند قوله تعالى - فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده - أن
الاستثناء في هذه الآية أيضا يتعين عوده إلى الأول ويتعذر رده إلى الأخيرة لان المعنى يأباه، وهي موازرة للقاضي
في الرد على من حتم عود الاستثناء إلى الأخيرة، والله الموفق.
548

قوله تعالى (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) قال (معناه: من جعله الخ) قال أحمد: وهو بهذين الوجهين
يفر من الحق والحقيقة، أما الحق فلان الله هو الذي خلق الضلال لمن ضل إذ لا خالق إلا الله، وأما الحقيقة فلانها
أعني الآية اقتضت نسبة الأصل إلى فعل الله تعالى، فالتخيل في تحريف الفاعلية إلى التسبيب عدول عن الحقيقة
إلى المجاز، وقد علمت الباعث له على هذا المعتقد فلا نعيده.
551

قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) قال
(في هذه الآية من التهديد والوعيد والابراق الخ) قال أحمد: وكفى بقوله تعالى في هذه السورة - إن الله لا يغفر أن
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - دليلا أبلج على أن القاتل الموحد وإن لم يتب في المشيئة وأمره إلى الله إن شاء
آخذه وإن شاء غفر له، وقد مر الكلام على الآية: وما بالعهد من قدم. وأما نسبة أهل السنة إلى الأشعبية فذلك
لا يضيرهم لانهم إنما تطفلوا على لطف أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين ولم يقنطوا من رحمة الله إنه لا يقنط من رحمة
الله إلا القوم الظالمون.
554

قوله تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، إلى قوله: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان
لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) قال (الاستثناء من
المتوعدين في قوله - أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا - الخ) قال أحمد: قوله إن المراهقين من الولدان يكلفون
556

إلحاقا بالبالغين مردود بقوله عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم) فجعل البلوغ
نفسه مناط التكليف وهذا مذهب الجماهير، ولم يبلغنا خلافه. وقال الزمخشري: أراد الحديثي العهد بالصبا وإن
بلغوا تسمية لهم بالاسم السالف لقرب عهدهم به كما قال - وآتوا اليتامى أموالهم - فسماهم يتامى وإن بلغوا إذ لا تدفع
أموالهم حتى يبلغوا لانهم حديثو عهد باليتم، والغرض تعجيل دفع الأموال لهم إذا رشدوا وإن قرب عهدهم
باليتم، حتى إنهم لذلك يعبر عنهم باليتامى ولا يماطلوا، ولو قال الزمخشري في الولدان كذلك لكان قولا سديدا،
والله أعلم.
557

قوله تعالى (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) قال (قرئ
يدركه برفع الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف الخ) قال أحمد: وتوجيه الرفع على إضمار المبتدا فيه عطف الاسمية
على الفعلية والأولى خلافه ما وجد عنه سبيل. وأما الوجه الثاني من إجراء الوصل مجرى الوقف ففيه شذوذ بين على
أن الأفصح في الوقف خلاف نقل الحركة، وقد زاد شذوذا بإجراء الوصل مجرى الوقف، فكيف وعندي وجه
حسن خالص من الشذوذ مرتفع الذروة في الفصاحة وهو العطف على ما يقع موقع من مما يكون الفعل الأول معه
مرفوعا كأنه قال: والذي يخرج من بيته مهاجرا ثم يدركه الموت، وهو الذي ذكره الزمخشري عند قوله - أينما تكونوا
يدرككم الموت - فيمن قرأ بالرفع وقال: ثم هو وجه نحوي سيبويه وإجراؤه ههنا أقرب وأصوب منه ثمة،
والله أعلم.
558

قوله (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم) قال (فيه قيل المأمور
بأخذ الأسلحة المصلون الخ) قال أحمد: والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون إذ من لم يصل إنما أعد
للحرس، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه، وهو إنما أخروا الصلاة لذلك، أما المصلون فهم
في مظنة طرح الأسلحة لانهم لم يعتادوا حملها في الصلاة فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في
الصلاة لضرورة الخوف وخشية الغرة، وأيضا فصنيع الآية يعطى ذلك لأنه قال - فلتقم طائفة منهم معك - وعقب
ذلك بقوله - وليأخذوا أسلحتهم فالظاهر رجوع الضمير إليهم وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة
العود إليهم بدلالة قوة الكلام عليهم وإن لم يذكروا. عاد كلامه: قال (والمراد بقوله فليكونوا من ورائكم
غير المصلين) قال أحمد: والظاهر أن معنى السجود ههنا الصلاة، وقد عبر عنها بالسجود كثيرا، والمراد فإذا
559

صلت الطائفة: أي أتمت صلاتها فليكونوا من ورائكم. وفيه دليل لمشهور مذهب مالك من أن الطائفة الأولى تتم
صلاتها والامام منتظر للطائفة الأخرى، وقوله - ولتأت طائفة أخرى - يعني إذا أتمت الأولى صلاتها ووقفت من
ورائكم فلتأت الطائفة الأخرى التي لم تصل بعد شيئا فليصلوا معك. وفيه دليل بين أيضا لاحد القولين في مذهب
مالك من أن الامام ينتظر الثانية حتى تتم صلاتها ويسلم بهم، لان ظاهر المعية المطلقة يوجب ذلك إذ لو كانوا
يقضون بعد سلامه لم يكونوا مصلين معه على الاطلاق، والله أعلم. فهذه الآية منطبقة على أكثر مشهور مذهبه
في تفاصيل صلاة الخوف، والله الموفق للصواب. عاد كلامه: قال (فإن قلت: كيف جمع بين الأسلحة الخ)
قال أحمد: وحسن هذا المجاز وبلغ به ذروة الفصاحة عطف الحقيقة عليه.
560

قوله تعالى (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا. لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. ولأضلنهم
ولأمنينهم) الآية. قال محمود (والمراد الأماني الباطلة الخ) قال أحمد: هو تعريض بأهل السنة الذين يعتقدون أن
الموحد ذا الكبائر غير التائب أمره يرجأ إلى الله تعالى، والعفو عنه موكول إلى مشيئته إيمانا وتصديقا بقوله
في الآية المعتبرة في هذا - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - والعجب أن هذه الآية
تكررت في هذه السورة مرتين على أذن الزمخشري وهو مع ذلك يتصام عنها ويجعل العقيدة المتلقاة منها من
جملة الأماني الشيطانية، نعوذ بالله من إرسال الرسن في اتباع الهوى، وكذلك أيضا عرض بأهل السنة في اعتقادهم
صدق الوعد الصادق بالشفاعة المحمدية، وعد ذلك أيضا أمنية شيطانية، وما أرى من جحد الشفاعة ينالها فلا
حول ولا قوة إلا بالله، لقد مكر بهذا الفاضل فلا يأمن بعده عاقل - إنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون -.
564

قوله تعالى (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا)
565

قال (فإن قلت: كيف خص الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم في ذلك). قلت فيه وجهان: أحدهما أن
يكون الراجع في (ولا يظلمون) لعمال السوء وعمال الصالحات جميعا. والثاني أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دالا
على ذكره عند الآخر، لان كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا تفاوت بينهم، ولان ظلم المسئ أن يزاد في عقابه،
وأرحم الراحمين معلوم أنه لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه. وأما المحسن فله ثواب وتوابع للثواب
من فضل الله هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل لأنه ليس بواجب، وكان نفي الظلم دلالة على أنه
لا يقع نقصان في الفضل انتهى كلامه. قلت: مدار هذا التطويل بالسؤال والجواب على بث المعتقد الفاسد في أن
الله تعالى يجب عليه أن يثيب على الطاعات، وأن الثواب منقسم إلى واجب ليس بفضل، والى زيادة على الواجب
وهي الفضل خاصة، وهذا المعتقد هو الذي يصدق عليه أن الشيطان مناه للقدرية حتى زعموا أن لهم على الله واجبا،
تعالى الله عن ذلك، إن الله لغني عن عمل يوجب عليه حقا جل الله وعز، لقد نفخ الشيطان بهذه الأمنية في آذان
القدرية. اللهم لا عمدة لنا إلا فضلك فأجزل نصيبنا منه يا كريم.
566

قوله تعالى (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم
سبيلا) قال محمود (نفي للغفران والهداية الخ) قال أحمد: وليس في هذه الآية ما يخالف ظاهر القاعدة المستقرة على
أن التوبة مقبولة على الاطلاق، لان آخر ما ذكر من حال هؤلاء ازدياد الكفر، ولو كان المذكور في آخر أحوالهم
التوبة والايمان لاحتيج إلى الجمع بين الآية والقاعدة إذا، وإنما يقع هذا الفصل الذي أورده الزمخشري موقعه
في آية آل عمران وهو قوله تعالى - إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم
الضالون - وقد ظهر الآن في الجمع بين هذه الآية والقاعدة وجه آخر سوى ما تقدم في آل عمران، وهو أن يكون
المراد لن يصدر منهم توبة فلن يكون قبول، من باب * على لأحب لا يهتدي بمناره * وعلى هذا يكون خبرا
لا حكما، والمخبر عنهم من سبق في علم الله أنه لا يتوب من المرتدين، والله أعلم. وفي قول الزمخشري: إن الناكث
571

للتوبة العائد إليها يغلب من حاله أنه يموت بشر حال نظر فقد ورد في الحديث (المؤمن مفتن تواب) قال
الهروي: معناه يقارف الذنب لفتنته ثم يعقبه بالتوبة.
572

قوله تعالى (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب
قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين) قال (سمى ظفر المسلمين فتحا تعظيما لشأن المسلمين الخ) قال أحمد:
وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن، فإن الذي كان يتفق للمسلمين فيه استئصال لشأفة الكفار واستيلاء أرضهم
وديارهم وأموالهم وأرض لم يطئوها، وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا،
فالتفريق بينهما مطابق أيضا للواقع، والله أعلم.
573

قوله تعالى (يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) قال: لانهم إنما يصلون رياء ما دام من يرقبهم فإذا
خلوا بأنفسهم لم يصلوا أو لا يذكرون الله بالتهليل والتسبيح إلا ذكرا قليلا في الندرة، وهكذا ترى كثيرا من
المتظاهرين بالاسلام ولو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به
أوقاته لا يفتر عنه، ولا يجوز أن يراد بالقلة العدم انتهى كلامه. قلت: وإنما منع من أن يراد بها العدم لأنه خبر
فيجب صدقه، وقد كانوا يذكرون الله في بعض الأحيان فلا يمكن أن يسلب ذكر الله مطلقا، وإذا بنينا على أن
المراد بالذكر الصلاة وهو الظاهر فالمراد أيضا الصلاة المعتبرة التي يذكر بها الانسان حق الله عليه فينتهي عن
الفحشاء والمنكر، والصلاة في هذا الوجه مسلوبة عن المنافقين مطلقا، فيجوز إذا حمل القلة على العدم بهذا
التفسير، والله أعلم.
574

قوله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) قال فيه (تقديره لا يحب الله الجهر بالسوء من
القول إلا جهر من ظلم، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه الخ) قال أحمد: ووجه التغاير أن الظالم لا يندرج
في المستثنى منه كما أن الله تعالى مقدس أن يكون في السماوات أو في الأرض، فاستحال دخوله في المستثنى منه،
575

وكذا لا يندرج المستثنى في المستثنى منه في قولك: ما جاءني زيد إلا عمرو، وكلام الزمخشري في هذا الفصل
لا يتحقق لي منه ما يسوغ مجازيته فيه لاغلاق عبارته، والله أعلم بمراده.
576

قوله تعالى (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا
الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم الآية) قال فيه (فقد سألوا موسى جواب لشرط مقدر الخ) قال أحمد:
وهذا من المواضع التي استولى عليه فيها الاغفال ولوح به اتباع هواه إلى مهواة الضلال، لأنه بنى على أن الظلم
المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد كونهم طلبوا الرؤية، وهي محال عقلا دنيا وآخرة على زعم القدرية لما يلزم عندهم
لو قيل بجوازها من اعتقاد التشبيه، فلذلك سمى أهل السنة المعتقدين لجوازها ووقوعها في الآخرة وفاء بالوعد
الصادق مشبهة، وغفل عن كون اليهود اقترحوا على موسى عليه السلام خصوصية علقوا إيمانهم بها، ولم يعتبروا
المعجز من حيث هو كما يجب اعتباره فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فهذا الاقتراح والتعنت يكفيهم
ظلما. ألا ترى أن الذين قالوا - لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء أو حتى تفجر الأرض أو يكون لك
بيت من زخرف كيف هم من أظلم الظلمة وإن كانوا إنما طلبوا أمورا جائزة، ولكنهم اقترحوا في الآيات على
الله، وحقهم أن يسندوا إيمانهم إلى أي معجز اختاره الله دل ذلك دلالة يلجأ على أن ظلمهم مسبب عن اقتراحهم
لا عن كون المقترح ممتنعا عقلا، والعجب بتنظير هذا السؤال لو كان المسؤول جائزا كسؤال إبراهيم عن إحياء
الموتى على زعم الزمخشري غفلة منه عما انطوى عليه سؤال إبراهيم عليه السلام من صريح الايمان حيث قال له تعالى
- أو لم تؤمن قال بلى - وعما انطوى عليه سؤال هؤلاء الملاعين من محض الكفر والإصرار عليه في قولهم - لن نؤمن
577

لك - فصدروا كلامهم بالجحد والنفي. وأما دعاء الزمخشري على أهل السنة بالتب والصواعق فالله أعلم أي الفريقين
أحق بها، ويكفيه هذه الغفلة التي تنادي عليه باتباع الهوى الذي يعمي ويصم، نسأل الله العصمة من الضلال
والغواية.
قوله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله
عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) قال (إن قلت: بم تعلقت الباء في قوله فبما نقضهم ميثاقهم) قلت: إما أن
تتعلق بمحذوف كأنه قيل فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا وإما أن تتعلق بقوله حرمنا عليهم، على أن قوله
فبظلم من الذين هادوا بدل من قوله فبما نقضهم انتهى كلامه. قلت: ولذكر البدل المذكور سر، وهو أن
الكلام لما طال بعد قوله فبما نقضهم حتى بعد عن متعلقه الذي هو حرمنا قوى ذكره بقوله فبظلم من الذين هادوا
حتى يلي متعلقه، وجاء النظم به على وجه من الاقتصار في إجمال ما سبق تفصيله، لان جميع ما تقدم من النقض
والقتل وقولهم قلوبنا غلف وكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ودعواهم قتل المسيح ابن مريم قد انطوى عليه
الاجمال المذكور آخرا انطواء جامعا مع التسجيل على أن جميع أفاعيلهم الصادرة منهم ظلم، وقد تقدم لهذا التقرير
نظائر والله الموفق. عاد كلامه قال (إن قلت: هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله بل
طبع الله عليها فيكون التقدير فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم) قلت: لم يصح هذا التقدير لان قوله بل طبع
الله عليها بكفرهم رد وإنكار لقولهم قلوبنا غلف فكان متعلقا به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم قلوبنا غلف أن الله
خلقها غلفا: أي في أكنة لا يتوصل إليها شئ من الذكر والموعظة، كما حكى الله عن المشركين وقالوا لو شاء
الرحمن ما عبدناهم، وكمذهب المجبرة أخزاهم الله فقيل لهم بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم فصارت
كالمطبوع عليها انتهى كلامه. قال أحمد: هؤلاء قوم زعموا أن لهم على الله حجة بكونه خلق قلوبهم غير قابلة
578

للحق ولا متمكنة من قبوله فكذبهم الله في قولهم، لأنه خلق قلوبهم على الفطرة، أي أن الايمان وقبول الحق من
جنس مقدورهم كما هو من جنس مقدور المؤمنين، وذلك هو المعبر عنه بالتمكن وبخلقهم ميسرين للايمان متأتيا
منهم قبول الحق قامت عليهم حجة الله، إذ يجد الانسان بالضرورة الفرق بين قبول الحق والدخول في الايمان
وبين طيرانه في الهواء ومشيه على الماء، ويعلم ضرورة أن الايمان ممكن منه كما يعلم أن الطيران غير ممكن منه عادة،
فقد قامت الحجة وتبلجت ألا لله الحجة البالغة، فمن هذا الوجه اتجه الرد عليهم، لا كما يزعمه الزمخشري من أن لهم
قدرة على الايمان يلحقونه بها لأنفسهم ويقرونه في قلوبهم، وتلك القدرة موجودة سواء وجد الفعل أو لا
كالسيف المعد في يد القاتل للقتل سواء وجد أو لا وأن هذه القدرة التي هي كالآلة للخلق عما زعمه يصرفها العبد
حيث شاء في إيمان وكفر وافق ذلك مشيئة الله أو لا، وأن هؤلاء صرفوا قدرتهم إلى خلق الكفر لأنفسهم على
خلاف مشيئة الله تعالى، فلذلك يعرض الزمخشري بأهل السنة القائلين بأن الله تعالى لو شاء من عبدة الأوثان أن
لا يعبدوها لما عبدوها وتسميتهم لذلك مجبرة ويجعل قوله تعالى - وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم - ردا على الأشعرية
كما هو رد على الوثنية، ويغفل عن النكتة التي نبهنا عليها وهي أن الرد على الوثنية بذلك لم يكن إلا لانهم ظنوا
أن هذا المقدار يقيم لهم الحجة على الله، ولذلك قال تعالى عقيب ذلك - قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين -
فأوضح الله تعالى أن الرد عليهم لم يكن لقولهم أن الله لو شاء لهداكم أجمعين، ولكن إنما كان الرد لظنهم أن ذلك
حجة على الله بقوله فلله الحجة البالغة، فهذا التقرير هو الايمان المحض والتوحيد الصرف وما عداه من الاشراك
الصراح فخزي نعوذ بالله منه.
579

قوله تعالى (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) قال محمود (إن قلت قد
وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح الخ) قال أحمد: وليس في هذا الجواب شفاء للعليل، والظاهر والله أعلم أنهم
كانوا أغلب أحوالهم الشك في أمره والتردد، فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم ثم كانوا لا يخلون من
ظن في بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرفعون إلى العلم فيه البتة، وكيف يعلم الشئ على خلاف ما هو به،
فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة في الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن البتة، والله أعلم.
قوله تعالى (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) قال محمود: (يعني
إذا عاين قبل أن تزهق روحه الخ) قال أحمد: كقول فرعون لما عاين الهلاك - آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به
580

بنو إسرائيل - عاد كلامه قال: وعن شهر بن حوشب قال لي الحجاج آية ما قرأتها الخ. قال أحمد: ويبعد هذا
التأويل قوله - ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا - فإن ظاهره التهديد، ولكن ما أريد بقوله في حق هذه الأمة - ويكون
الرسول عليكم شهيدا - والله أعلم:
581

قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما. رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) قال
محمود (ومن بدع التفاسير أن كلم من الكلم الخ) قال أحمد: وإنما ينقل هذا التفسير عن بعض المعتزلة لانكار هم
الكلام القديم الذي هو صفة الذات، إذ لا يثبتون إلا الحروف والأصوات قائمة بالأجسام لا بذات الله تعالى، فيرد
عليهم بجحدهم كلام النفس إبطال خصوصية موسى عليه السلام في التكليم، إذ لا يثبتونه إلا بمعنى سماعه حروفا
وأصواتا قائمة ببعض الاجرام، وذلك مشترك بين موسى وبين كل سامع لهذه الحروف حتى المشرك الذي قال
الله فيه - حتى يسمع كلام الله - فيضطر المعتزلي إلى إبطال الخصوصية الموسوية بحمل التكليم على التجريح،
582

وصدق الزمخشري وأنصف إنه لمن بدع التفاسير التي ينبو عنها الفهم ولا يبين بها إلا الوهم، والله الموفق. عاد
كلامه: قال محمود (فإن قلت كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل الخ) قال أحمد: قاعدة المعتزلة في
التحسين والتقبيح العقليين وتجرئهم إلى إثبات أحكام الله تعالى بمجرد العقل وإن لم يبعث رسولا فيوجبون
بعقولهم ويحرمون ويبيحون على وفق زعمهم ومما يوجبونه قبل ورود الشرع النظر في أدلة المعرفة ولا يتوقفون
على ورود الشرع الموجب فمن ثم يلزمون بعد خبط وتطويل أن من ترك النظر في الأدلة قبل ورود الشرع فقد
ترك واجبا استحق به التعذيب وقد قامت الحجة عليه في الوجوب وإن لم يكن شرع وإذا تليت عليهم هذه
الآية وهي قوله - رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل - وقيل لهم ما هذه الآية تناديكم
يا معشر القدرية أن الحجة إنما قدمت على الخلق بالأحكام الشرعية المؤدية إلى الجزاء بإرسال الرسل لا بمجرد العقل
فما يقولون فيها؟ صمت حينئذ آذانهم وغبروا في وجه هذا النص وغيروه عما هو موضوع له فقالوا: المراد أن
الرسل تتمم حجة الله وتنبه على ما وجب قبل بعثها بالنقل كما أجاب به الزمخشري، وقريبا من هذا التعسف يقولون
إذا ورد عليهم قوله تعالى - وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا - وربما يدلس على ضعفة المطالعين لهذا الفصل من
كلام الزمخشري قوله: إن أدلة التوحيد والمعرفة منصوبة قبل إرسال الرسل، وبذلك تقوم الحجة فتظن أن ذلك
جار على سنن الصحة، إذ المعرفة باتفاق والتوحيد بإجماع، إنما طريقه العقل لا النقل الذي يلبس عليه أن النظر
في أدلة التوحيد هو فعل المكلف ليس بالحكم الشرعي، بل الحكم وجوب النظر والمعرفة متلقاة من العقل المحض
والوجوب متلقى من النقل الصرف، وبه تقوم الحجة وعليه يرتب الجزاء، والله سبحانه ولي التوفيق والمعونة.
قوله تعالى (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون) قال محمود فيه (إن قلت الاستدراك
لا بد له من مستدرك الخ) قال أحمد: ورود هذا الفصل في كلامه مما يغتبط به.
583

قوله تعالى (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم) قال محمود فيه (أي جمعوا بين الكفر والمعاصي
الخ) قال أحمد: يعدل عن الظاهرة لعله يتروح إلى بث طرف من العقيدة الفاسدة في وجوب وعيد العصاة، وأنهم
مخلدون تخليد الكفار، وقد تكرر ذلك منه، وهذه الآية تنبو عن هذا المعتقد فإنه جعل الفعلين: أعني الكفر
والظلم كليهما صلة للموصول المجموع، فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده. ألا تراك إذا قلت
الزيدون قاموا فقد أسندت القيام إلى كل من واحد آحاد الجمع؟ فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه
ذلك ضرورة، والله الموفق:
584

قوله تعالى (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) قال محمود (معناه: لن يأنف ولن
يذهب بنفسه عزة الخ) قال أحمد: وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة: فذهب جمهور الأشعرية
إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر منا والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة. واتخذ المعتزلة
هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري. ونحن بعون الله نشبع القول في
المسألة من حيث الآية فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة أحدها أن سيدنا محمدا عليه أفضل الصلاة
والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح أن تكون أفضل من
محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء أفضل من
كل واحد من آحاد الملائكة وبين طائفتنا في هذا الطرف خلاف. السؤال الثاني أن قوله: ولا الملائكة المقربون
صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، ولا يلزم أن يكون
585

ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها، فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة لم يشتمل عليها الأول
بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد استد النظر وطابق صيغة الآية، والله أعلم. وعلى الجملة
فالمسألة سمعية والقطع فيها معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،
وما أحسن تأكيد الزمخشري لاستدلاله يبعث الملائكة المعنيين بأنهم المقربون، ومن ثم ينشي ظهور من فصل
القول في الملائكة والأنبياء فلم يعمم التفضيل في الملائكة ولا في الأنبياء بل فصل ثم فضل، وليس الغرض إلا
ذكر محامل الآية لا البحث في اختلاف المذاهب، والله الموفق.
قوله تعالى (ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، إلى قوله: ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا)
قال (إن قلت التفصيل غير مطابق للمفصل الخ) قال أحمد: المراد بالمفصل من لم يستنكف ومن استنكف لسبق
ذكرهما. ألا ترى أن المسيح والملائكة المقربين ومن دونهم من عباد الله لم يستنكفوا عن عبادة الله وقد جرى
ذكرهم ويرشد إليه تأكيد الضمير بقوله - جميعا - فكأنه قال: فسيحشر إليه المقربين وغيرهم جميعا. ووقوع الفعل
المتصل به الضمير جزاء لقوله: ومن يستنكف، لا يعين اختصاص الضمير بالمستنكفين، لان المصحح لارتباط
الكلام قد وجد مندرجا في طي الضمير الشامل لهم ولغيرهم، وحينئذ يكون المفصل مشتملا على الفريقين
وتفصيله منطبق عليه، والله أعلم.
588

قوله تعالى (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) قال (إن قلت: إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع الخ)
قال أحمد، وقد سبق له هذا التمثيل في مثل هذا الموضع ولو مثل بقول القائل: حصان كانت دابتك لكان أسا،
589

إذ في لفظ من من الابهام ما يسوغ وقوعها على الأصناف المختلفة من مذكر ومؤنث وتثنية وجمع، ومثل الآية
سواء قوله تعالى - يحسبون كل صيحة عليهم هو العدو - فيمن جعل الجملة مفعولا ثانيا للحسبان، فإن أصل الكلام
هي العدو، إذ الضمير على هذا الاعراب للصيحة ولكنه ذكره وجمعه لمكان الخبر، والله أعلم.
القول في سورة المائدة
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) قال المصنف (يقال وفى بالعهد وأوفى به ومنه - الموفون بعهدهم)
590

قال أحمد: ورد في الكتاب العزيز، وفى بالتضعيف في قوله تعالى - وإبراهيم الذي وفى - وورود أوفى كثير، ومنه
- أوفوا بالعقود - وأما وفى ثلاثيا فلم يرد إلا في قوله تعالى - ومن أوفى بعهده من الله - لأنه بنى أفعل التفضيل من وفى،
إذ لا يبنى إلا من ثلاثي.
591

قوله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم) الآية. قال
(وما علمتم عطف على الطيبات الخ) قال أحمد: ولقد أحسن في التنبيه على هذا السر الخفي غير أن الحال بأصالتها
منتقلة غير لازمة، ومقتضى هذا التقرير جعلها من الصفات اللازمة لمعلم الجوارح الثابتة له.
عاد كلامه. قال (وفي قوله: تعلمونهن مما علمكم الله فائدة جليلة الخ) قال أحمد: وفي الآية دليل على أن
البهائم لها علم لان تعليمها معناه لغة تحصيل العلم لها بطرقه خلافا لمنكري ذلك.
594

قوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) قال (معناه: فلا عليكم أن تطعموهم
الخ) قال أحمد: وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة لان التحليل حكم، وقد علقه
بهم في قوله: وطعامكم حل لهم كما علق الحكم بالمؤمنين، وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله - لا هن
حل لهم ولا هم يحلون لهن - فان لقائل أن يقول في تلك الآية: نفي الحكم ليس بحكم ولا يستطيع ذلك في آية المائدة
هذه لان الحكم فيها مثبت، والله أعلم. ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك وهو من القائلين بأن الكفار
يستحيل خطابهم بفروع الشريعة أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، إي لا جناح عليكم أيها المسلمون
أن تطعموا أهل الكتاب كما رأيته في كلامه أيضا.
595

قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) الآية. قال (قوله - إذا قمتم - كقوله - فإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله - الخ) قال أحمد: هذا الكلام يستقيم وروده من السني كما يستقيم من المعتزلي. لأنا نقول: الفعل يوجد
بقدرة العبد ملتبسا بها ومقارنا لها، والمعتزلي يقوله ويعني مخلوقا بها وناشئا عن تأثيرها، فالعبارة مستعملة في
المذهبين ولكن باختلاف المعنى، والله الموفق.
عاد كلامه: قال (فان قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء عن كل قائم الخ) قال أحمد: الزمخشري أنكر
أن يراد بالمشترك كل واحد من معانيه على الجمع وقد سبق له إنكار ذلك، ومن جوز إرادة جميع المحامل أجاز
ذلك في الآية، ومن المجوزين لذلك الشافعي رحمه الله تعالى، وناهيك بإمام الفن وقدوته، هذا إذا وقع البناء
على أن صيغة أفعل مشتركة بين الوجوب والندب صح تناولها في الآية للفريقين المحدثين والمتطهرين وتناولها
للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.
596

قوله تعالى (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) قال فيه (قرأ جماعة وأرجلكم بالنصب الخ) قال أحمد: ولم
يوجه الجر بما يشفي الغليل، والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو
فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم كقوله:
* متقلدا سيفا ورمحا * وعلفتها تبنا وماء باردا *
ونظائره كثيرة وبهذا وجه الحذاق. ثم يقال: ما فائدة هذه الشريك بعلة التقارب، وهلا أسند إلى كل واحد
منهما الفعل الخاص به على الحقيقة، فيقال فائدته الايجاز، والاختصار وتوكيد الفائدة بما ذكره الزمخشري،
وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد، فاختصرت هذه
المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح، ونبه بهذا التشريك الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين
جدا، على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة،
وهذا تقرير كامل لهذا المقصود، والله أعلم.
597

قوله تعالى (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم) الآية. قال محمود (فإن قلت: فهلا قيل من
النصارى الخ) قال أحمد: وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم ولم يتفق ذلك
600

في غيره، ألا ترى إلى قوله تعالى - وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه - فالوجه في ذلك والله أعلم أنه لما
كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما
يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة، وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة
وقولها دون فعلها، والله أعلم.
601

قوله تعالى (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) الآية. قال محمود (معنى قولهم أبناء الله أشياع
ابني الله عزير الخ) قال أحمد: ومنه قول الملائكة لانهم خواص عباد الله - إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. لنرسل
عليهم، إلى قوله: إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين - فأضفوا التقدير إليهم، وفي الحقيقة المقدر الله، وكذلك
قول الدابة لأنها من خواص آيات الله - أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون - فيمن جعله من قول الدابة، والله أعلم.
قوله تعالى (بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء) قال محمود (يعني أهل الطاعة ويعذب من يشاء، قال:
يعني العصاة) قال أحمد رحمه الله بل مشيئة الله تعالى تسع التائب المنيب والعاصي المصر إذا كان موحدا،
والزمخشري أخرج هذا التفسير على قاعدته المتكررة في غير ما موضع، وهي القطع بوعيد العصاة المصرين
الموحدين وأن المغفرة لهم محال.
602

قوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم
ما لم يؤت أحدا من العالمين) قال محمود (لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء الخ) قال أحمد:
والحامل على تفسير الملك بهذه التفاسير أن الله تعالى أنبأ في ظاهر الكلام أنه جعل الجميع ملوكا بقوله - وجعلكم
ملوكا - ولم يقل وجعل فيكم ملوكا كما قال - جعل فيكم أنبياء - فلما عمم الملك فيهم ولا شك أن الملك المعهود
وهو الاستيلاء العام لم يثبت لكل أحد منهم، فيتعين حمل الملك على ما كان ثابتا لجميعهم أو لأكثرهم من الابعاض
المذكورة، هذا هو الباعث على تفسير الملك بذلك والله أعلم. وهذا المعنى وإن لم يثبت لكل واحد منهم إلا أنه
كان ثابتا لملوكهم وهم منهم، إذ إسرائيل الأب الأقرب يجمعهم، فلما كانت ملوكهم منهم وهم أقرباؤهم
وأشياعهم وملتبسون بهم جاز الامتنان عليهم بهذه الصنيعة والمعنى مفهوم، وهذا بعينه هو التقرير السالف آنفا
في قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه * وما بالعهد من قدم * فإن قلت: فلم لم يقل إذ جعلكم أنبياء لان
الأنبياء منهم كما قلت في الملوك؟ قلت: النبوة مزية غير الملك، وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار
الملك ملكا، ولا كذلك النبوة فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها
ونعتها، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك، والله أعلم.
603

قوله تعالى (قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها - إلى قوله فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون) قال (يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب ولكن الخ) قال أحمد رحمه الله: يريد الزمخشري سألوا رؤية
الله جهرة وهي محال عقلا تعنتا منهم، وقد مر له ذلك وبينا أن تلبسهم بذلك كان لعدم فهم الايمان به على
التعيين اقتراحا وتقاعسا عن الحق في قوله - لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة -. عاد كلامه: قال (رب إني
لا أملك إلا نفسي لنصرة دينك الخ) قال أحمد: وفي قول موسى عليه السلام ليلة الاسراء لنبينا عليه الصلاة والسلام.
إني جربت بني إسرائيل وخبرتهم فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، وتكريره هذا القول
مرارا مصداق لما ذكره الزمخشري، وأما إن كان المراد بالرجلين غير يوشع وكالب وكانا من العماليق الذين
خافهم بنو إسرائيل، ويكون معنى يخافون: أي يخافهم بنو إسرائيل، فالضمير على هذا يرجع إلى بني إسرائيل
والعائد محذوف وهو المفعول، فعلى هذا لا شك أن هذين الرجلين ليسا من بني إسرائيل المكتوب عليهم قتال
العمالقة وإنما عنى موسى عليه السلام، إني لا أملك من بني إسرائيل المفروض عليهم القتال أمر أحد إلا نفسي
وأخي، والله أعلم.
604

قوله تعالى (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) قال (إن قلت:
كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذبيه الخ) قال أحمد: وهذا من دسه للمعتقد الفاسد في بيان كلامه، والفاسد
من هذا اعتقاده أن في الكائنات ما ليس مرادا لله تعالى وتلك القبائح بجملتها، فإنها على زعمه واقعة على خلاف
المشيئة الربانية وهذا هو الشرك الخفي، فإياك أن تحوم حول شركه والعياذ بالله، فأما إرادته لاثم أخيه وعقوبته
فمعناه: إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب. ولما لم يكن بد من إرادة أحد الامرين إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه
فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم، وكان غير مريد للأول اضطر إلى الثاني فلم يرد إذا إثم أخيه لعينه
وإنما أراد أن الاثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل، ولم تكن حينئذ مشروعة فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه، وهذا
كما يتمنى الانسان الشهادة ومعناها: أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الاثم، ولكن لم يقصد هو إثم
الكافر لعينه وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا، والذي يدل على ذلك أنه
لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالايمان فيحبط عنه إثم
القتل الذي به كان الشهيد شهيدا: أعني بقى الاثم على قاتله أو حبط عنه، إذ ذلك لا ينقص من فضيلة شهادته ولا
يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه فدل على أنه أمر لازم تبع
لا مقصود، والله أعلم. عاد كلامه (فإن قلت: لم جاء الشرط بصيغة الفعل والجزاء باسم الفاعل الخ) قال أحمد:
وإنما امتاز اسم الفاعل عن الفعل بهذه الخصوصية من حيث أن صيغة الفعل لا تعطي سوى حدوث معناه من مفاعل
لا غير، وأما اتصاف الذات به فذاك أمر يعطيه اسم الفاعل ومن ثم يقولون: قام زيد فهو قائم، فيجعلون اتصافه
607

بالقيام ناشئا عن صدوره منه، ولهذا المعنى قوله تعالى - لتكونن من المرجومين - عدولا عن الفعل الذي هو
لنرجمنك إلى الاسم تغليظا: يعنون أنهم يجعلون هذه لثبوتها ووقوعها به كالسمة والعلامة الثابتة ولا يقتصرون
على مجرد إيقاعها به.
608

قوله تعالى (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل
منهم ولهم عذاب اليم. يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) قال (وما يروى عن
عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما يخرجون من النار الخ) قال
أحمد: في هذا الفصل من كلامه وتمشدقه بالسفاهة على أهل السنة ورميهم بما لا يقولون به من الاخبار بالكذب
والتخليق والافتراء ما يحمي الكبد المملوء بحب السنة وأهلها على الانتصاف للانتصاب منه، ولسنا بصدد تصحيح
هذه الحكاية ولا وقف الله صحة العقيدة على صحتها.
610

قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) الآية (قال: رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند
سيبويه كأنه الخ) قال أحمد: المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح،
وجدير بالقرآن أن يجري على أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح، وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل
أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها، وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتماله على
الشاذ الذي لا يعد من القرآن. ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من
عهدة هذا النقل. قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب، وملخصها
أنه متى بني الاسم على فعل الامر فذاك موضع اختيار النصب. ثم قال: كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار
فيها النصب. وأما قوله عز وجل (والسارق والسارقة فاقطعوا) الآية، وقوله - الزانية والزاني فاجلدوا - فإن هذا
لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله - مثل الجنة التي وعد المتقون - ثم قال بعد: فيها أنهار فيها كذا: يريد
سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب
يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل، وأما في هذه الآية فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب. عاد كلامه
قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكر بعده، فذكر أخبارا وقصصا فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة
فهو محمول على هذا الاضمار والله أعلم. وكذلك الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه - سورة أنزلناها وفرضناها - قال
في جملة الفرائض - الزاني والزانية - ثم جاء: فاجلدوا بعد أن مضى فيهما الرفع، يريد سيبويه لم يكن الاسم مبنيا على
الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا. عاد كلامه: قال كما جاء * وقائلة خولان
فانكح فتاتهم * فجاء بالفعل بعد إن عمل فيه المضمر وكذلك والسارق والسارقة وفيما فرض عليكم السارق والسارقة
وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث وقد قرأ ناس السارق والسارقة بالنصب وهو في العربية على
ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع. يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل
غير معتمد على متقدم فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعني
أنه قوي بالنسبة إلى الرفع حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه
النصب فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القراءتين مختلف، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب
فالنصب أرجح من الرفع حيث ينبني الاسم على الفعل والرفع متعين، لا أقول أرجح حيث بني الاسم على كلام
متقدم. ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج
سيبويه إلى تقدير بل كان يرفعه على الابتداء ويجعل الامر خبره كما أعربه الزمخشري. فالملخص على هذا أن
النصب على وجه واحد وهو بناء الاسم على فعل الامر والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف وهو الابتداء وبناء
611

الكلام على الفعل، والآخر قوي بالغ كوجه النصب وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وحيثما
تعارض لنا وجهان في الرفع أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رضي
الله عنه، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ
قدير) قال (فإن قلت: لم قدم التعذيب على المغفرة الخ) قال أحمد: هو مبني على أن المراد بالمغفور لهم التائبون
وبالمعذبين السراق، ولا يجعل المغفرة تابعة للمشيئة إلا بقيد التوبة، لان غير التائب على زعمه لا يجوز أن يشاء الله
612

المغفرة له، فلذلك ينزل الاطلاق على المتقدم ذكره، ونحن نعتقد أن المغفرة في حق غير التائب من الموحدين تتبع
المشيئة، حتى إن من جملة ما يدخل في عموم قوله - ويغفر لمن يشاء - السارق الذي لم يتب، وعلى هذا يكون تقديم
التعذيب لان السياق للوعيد، فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر، والله أعلم.
قوله تعالى (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) الآية (قال:
معنى - ومن يرد الله فتنته - ومن يرد تركه مفتونا الخ) قال أحمد رحمه الله: كم يتلجلج والحق أبلج، هذه الآية
كما تراها منطبقة على عقيدة السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة
613

ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أنه تعالى ما أراد الفتنة من أحد وأراد من كل أحد الايمان وطهارة القلب،
أن الواقع من الفتن على خلاف إرادته، وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع فحسبهم
هذه الآية وأمثالها لو أراد الله أن يطهر قلوبهم من وضر البدع - أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها -
وما أبشع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله لم يرد الله أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجع فيهم ولا
تنفع، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع فلطف من ينفع وإرادة
من تنجع * وليس وراء الله للمرء مطمع *
614

قوله تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار)
الآية. قال محمود (قوله أسلموا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح الخ) قال أحمد: وإنما بعثه على حمل
هذه الصفة على المدح دون التفصلة، والتوضيح أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها، فذكر النبوة يستلزم
ذكرها، فمن ثم حملها على المدح، وفيه نظر فإن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح
عمن دونه، والاسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي
أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فإن أقل متبعيه كذلك، فالوجه والله أعلم أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها،
ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر كما يكون تنويها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف
615

بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها، وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء بالصلاح في
قوله تعالى - وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين - وأمثاله تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة الأنبياء وبعثا لآحاد
الناس على الدأب في تحصيل صفته وكذلك قيل في قوله تعالى - الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد
ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا - فأخبر عن الملائكة المقربين بالايمان تعظيما لقدر الايمان وبعثا
للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا،
ولهذا قال - ويستغفرون للذين آمنوا - يعني من البشر لثبوت حق الاخوة في الايمان بين الطائفتين، فكذلك
والله أعلم جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالاسلام تنويها به، ولقد أحسن القائل في أوصاف الاشراف
والناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام:
فلئن مدحت محمدا بقصيدتي * فلقد مدحت قصيدتي بمحمد
والاسلام وإن كان من أشرف الأوصاف إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه،
إلا أن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم الاسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة فلو لم نذهب إلى
الفائدة المذكورة في ذكر الاسلام بعد النبوة في سياق المدح لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز
وفي كلام العرب الفصيح وهو الترقي من الأدنى إلى الاعلى لا النزول على العكس: ألا ترى أبا الطيب كيف
تزحزح عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها * در تقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال وعن الدر إلى الزبرجد في سياق المدح، فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت
أديم صيغته، فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهود لها، والله الموفق.
616

قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) الآية. قال:
محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن
الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله
وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا، وهم الفرقة المفتعلة
المتفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله وفي مراقصهم عطلها الله بأبيات
الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى يوم دلك الطور، فتعالى الله
عنه علوا كبيرا. ومن كلماتهم: كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته، فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت
والصفات اه‍ كلامه. قال أحمد: لا شك أن تفسير محبة العبد لله بطاعته له على خلاف الظاهر، وهو من المجاز
الذي يسمى فيه المسبب باسم السيب، والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها، فليمتحن حقيقة المحبة لغة
بالقواعد لينظر أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا، إذ المحبة لغة ميل المتصف بها إلى أمر ملذ. واللذات الباعثة
على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس كلذة الذوق في المطعوم، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة، ولذة
الشم في الروائح العطرة، ولذة السمع في النغمات الحسنة. والى لذة تدرك بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم
وما يجري مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة
621

ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها، فليس اللذة برياسة الانسان على أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم
معتبرة، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات،
فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم،
والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات. فقد تحصل من ذلك
أن محبة العبد ممكنة بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الايمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب
تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعات والموافقات
كالمسبب عنها والمغاير لها. ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:
ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: أنت
مع من أحببت. فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات، لان الأعرابي نفاها
وأثبت الحب وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك. ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة فالمحبة في
اللغة إذا تأكدت سميت عشقا، فمن تأكدت محبته لله تعالى وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في
ذكره وطاعته فلا يمنع أن تسمى محبته عشقا، إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة، وما أردت بهذا الفصل إلا تخليص
الحق والانتصاب لأحباء الله عز وجل من الزمخشري فإنه خلط في كلامه الغث بالسمين، فأطلق القول كما سمعته
بالقدح الفاحش في المتصوفة من غير تحر منه نسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه، ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص
البشر، ولا يلزم من تسمي طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله، ثم ارتكابهم ما نقل عنهم مما ينافي حال المسمين
به حقيقة أن يؤاخذ الصالح بالطالح - ولا تزر وازرة وزر أخرى - وهذا كما أن علماء الدين قد انتسب إليهم
قوم سموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، ثم خلعوا الربقة فجحدوا صفات الله تعالى وقضاءه وقدره وقالوا: إن
الامر أنف، وجعلوا لأنفسهم شركا في المخلوقات وفعلوا وصنعوا، فلا يسوغ لنا أن نقدح في علماء أصول الدين
مطلقا، لانهم قد انتسب إليهم من لا حيلة لهم في نفيه عن التسمي بنعتهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا
شك أن في الناس من أنكر تصور محبة العبد لله إلا بمعنى طاعته له لا غير، وهو الذي يحاز إليه الزمخشري، وقد
بينا تصور ذلك وأوضحناه، والمعترفون بتصور ذلك وثبوته ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا، كما أن
الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن
622

ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو شبهة ذلك، وكل طائفة تسخر بمن فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير
شئ. قال الغزالي: والمحبون لله يقولون لمن أنكر عليهم ذلك - إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون -.
قوله تعالى (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) قال محمود (هذا من إقامة
الظاهر مقام المضمر ومعناه الخ) قال أحمد: ومقابلة قوله تعالى - إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم - فوضع الظالمين موضع ضمير الأول ليزيدهم سمة الظلم إلى الخسران.
623

قوله تعالى (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير
وعبد الطاغوت) الآية. قال (وعبد الطاغوت عطف على صلة من الخ) قال أحمد رحمه الله: السؤال يلزم القدرية
لانهم يزعمون أن الله تعالى إنما أراد منهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأن عبادتهم للطاغوت قبيحة والله تعالى
لا يريد القبائح بل تقع في الوجود على خلاف مشيئته، فلذلك يضطر الزمخشري إلى تأويل الجعل بالخذلان أو
بالحكم، وكذلك أول قوله تعالى - وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار - بمعنى حكمنا عليهم بذلك هذا مقتضى قاعدة
القدرية، وأما على عقيدة أهل السنة الموحدين حقا فالآية على ظاهرها والله تعالى هو الذي أشقاهم وخلق في قلوبهم
طاعة الطاغوت وعبادته ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا روجع القدري في تحقيق الخذلان أو الحكم الذي
يستروح إلى التأويل لم يقدر منه على حقيقة ولم يفسره بغير الخلق إن اعترف بالحق وترك ارتكاب المراء والتذبذب مع
الأهواء، والله ولي التوفيق.
625

قوله تعالى (وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) قال (المجروران حالان: أي
دخلوا كافرين الخ) قال أحمد: وفي تصدير الجملة الثانية بالضمير تأكيد لاتحاد حالهم في الكفر: أي وقد دخلوا
بالكفر وخرجوا وهم أولئك على حالهم في الكفر كما تقول: لقيت زيدا بعد عوده من سفره وهو هو: أي على
حاله، وفي المثل: وعبد الحميد عبد الحميد: أي حالته باقية، والله أعلم.
قوله تعالى (وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا
ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) قال (الاثم: الكذب الخ)
626

قال أحمد: وقوله عن قولهم الاثم يدل على أن الاثم الأول مقول فيحتمل أن يكون المراد الكذب مطلقا، ويحتمل
أن يراد كلمة الشرك، واستدلال الزمخشري على أن المراد الكذب لا يتم وإنما يدل أنه مقول فيحتمل الامرين والله
أعلم. عاد كلامه: قال (جعلوا آثم من مرتكبي المناكير لان كل عامل الخ) قال أحمد: يعني أنه لما عبر عن
الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله - لبئس ما كانوا يعملون - وعبر عن ترك الانكار عليهم حيث
ذمه بالصناعة في قوله - لبئس ما كانوا يصنعون - كان هذا الذم أشد، لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء
وحرفة لازمة هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم هذا مراده، والله أعلم.
قوله تعالى (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان) الآية. قال (غل
اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود الخ) قال أحمد: والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية
627

بصورة حسية تلزمها غالبا، ولا شئ أثبت من الصور الحسية في الذهن، فلما كان الجود والبخل معنويين لا يدركان
بالحس ويلازمهما صورتان تدركان بالحس وهو بسط اليد للجود وقبضها للبخل عبر عنهما بلازمهما لفائدة
الايضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات والله أعلم. عاد كلامه: قال (فإن قلت: قد صح أن قولهم:
يد الله مغلولة عبارة عن البخل الخ). قال أحمد: لقد نقص فضيلته التي أوردها في هذا الفصل بما ضمنه هذا
السؤال. والجواب من القاعدة الفاسدة في أن الله تعالى يستحيل عليه أن يريد من عباده شيئا مما نعاه عليهم، وبنى
على ذلك استحالة أن يدعو عليهم بالبخل لأنه لم يرده منهم، ويستحيل أن يريده منهم، فوجه هذا النص بالتأويل
والتمسك بالأباطيل، والحق أن الله يدعو عليهم بالبخل، وعاؤه عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في
أيديهم، فهو الداعي والخالق لا خالق إلا هو يخلق لهم البخل ويتقدس عنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، فليت
الزمخشري لم يتحدث في تفسير القرآن إلا من حيث علم البيان، فإنه فيه أفرس الفرسان لا يجارى في ميدانه ولا
يمارى في بيانه. عاد كلامه، قال (فإن قلت: لم ثنيت اليد في يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله الخ) قال
أحمد: ولما كان المعهود في العطاء أن يكون بإحدى اليدين وهي اليمين، وكان الغالب على اليهود لعنت اعتقاد
الجسمية جاءت عبارتهم عن اليد الواحدة المألوف منها العطاء، فبين الله تعالى كذبهم في الامرين في نسبة البخل
وفي إضافته إلى الواحدة تنزيلا منهم على اعتقاد الجسمية بأن نسب إلى ذاته صفة الكرم المعبر عنها بالبسط، وبأن
أضافه إلى اليدين جميعا لان كلتا يديه يمين كما ورد في الحديث تنبيها على نفي الجسمية، إذ لو كانت ثابتة جل الله
عنها لكانت إحدى اليدين يمينا والاخرى شمالا ضرورة، فلما أثبت أن كلتيهما يمين نفي الجسمية وأضاف الكرم
إليهما لا كما يضاف في الشاهد إلى اليد اليمنى خاصة، إذ الأخرى شمال وليست محلا للتكرم، والله أعلم.
628

قوله تعالى (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم) قال: فيه دليل
على أن الايمان لا ينجي الخ. قال أحمد: هو ينتهز الفرصة من ظاهر هذه الآية فيجعله دليلا على قاعدته في أن مجرد
الايمان لا ينجي من الخلود في النار حتى ينضاف إليه التقوى، لان الله تعالى جعل المجموع في هذه الآية شرطا
للتكفير ولادخال الجنة، وظاهره أنهما ما لم يجتمعا لا يوجد تكفير ولا دخول الجنة، وأنى له ذلك والاجماع
والاتفاق من الفريقين أهل السنة والمعتزلة على أن مجرد الايمان يجب ما قبله ويمحوه كما ورد النص، فلو فرضنا
موت الداخل في الايمان عقيب دخوله فيه لكان كيوم ولدته أمه باتفاق مكفرا الخطايا محكوما له بالجنة، فدل
ذلك على أن اجتماع الامرين ليس بشرط، هذا إن كان المراد بالتقوى الأعمال، وإن كانت التقوى على أصل
وضعها الخوف من الله عز وجل فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر، وحينئذ لا يتم للزمخشري منه
غرض، وما هذا إلا إلحاح أو لجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام (من قال لا إله إلا الله
دخل الجنة وإن زنى أو سرق) كررها النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ثم قال (وإن رغم أنف أبي ذر) لما راجعه
رضي الله عنه في ذلك، ونحن نقول: وإن رغم أنف القدرية.
629

قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس
إن الله لا يهدي القوم الكافرين) قال: معناه بلغ غير مراقب في التبليغ أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه، وإن لم
تفعل معناه: وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك فما بلغت رسالته، فلم تبلغ إذا ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها
شيئا قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من البعض، فكأنك أغفلت أداءها جميعها، كما أن من لم يؤمن
ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لادلاء كل منها بما يدليه غيرها، وكونها كذلك في حكم الشئ الواحد، والشئ
الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن إلى أن قال (فإن قلت: وقوع قوله فما بلغت رسالته جزاء
للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أنه إذا لم يمتثل الخ) قال أحمد: وهذا الاتحاد بين الشرط
630

والجزا طاهر لان حاصله: إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة باتحاد المبتدا والخبر حتى لا يزيد الخبر عليه شيئا في
الظاهر كقوله * أنا أبو النجم وشعري شعري * فجعل الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد
وشعري شعري المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أفهم بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل
الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك
أريد في الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الافهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، بل
عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول، فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت
بها الشرط أو الجزاء للصوقها بالجزاء في الافهام، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد
والتهديد وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما بقوله وإن لم تفعل، ولم يقل وإن لم تبلغ الرسالة
فما بلغت الرسالة حتى يكون اللفظ متغايرا، وهذه المغايرة اللفظية وإن كان المعنى واحدا أحسن رونقا وأظهر
طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدا بلفظ الخبر،
وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز فلا يعاب عليه في ذلك، وهذا الفصل كالباب من علم البيان،
والله الموفق.
قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى) الآية. قال فيه (الصابئون رفع
على الابتداء وخبره محذوف الخ) قال أحمد: صدق لا ورود للسؤال بهذا التوجيه، ولكن ثم سؤال متوجه
631

وهو أن يقال لو عطف الصابئين ونصبه كما قرأ ابن كثير لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من
تقديم ذكرهم على النصارى ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين وهم أوغل الناس في الكفر يتاب عليهم فما الظن
بالنصارى ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا والعطف إفرادي، فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين، وهل يمتاز
بفائدة على النصب والعطف الافرادي؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية
لهذا الصنف، لان الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات، وهذا الصنف من جملتها والخبر
عنها واحد، وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الافرادي وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به، ويكون
خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل تقديره مثلا والصابئون كذلك، فيجئ كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق
بها، وهو بهذه المثابة لانهم لما استقر بعد الأصناف من قول التوبة فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن
هم أقعد منهم بهذا الخبر، وفائدة التقديم على الخبر أن يكون توسط هذا المبتدا المحذوف الخبر بين الجزأين أدل
على الخبر المحذوف من ذكره بعد تقضي الكلام وتمامه، والله أعلم.
632

قوله تعالى (وأرسلنا إليهم رسلا كما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) قال
(إن قلت أين جواب الشرط الخ) قال أحمد: ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهرا في الآية الأخرى وهي
توأمة هذه قوله تعالى - أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون - فأوقع
قوله استكبرتم جوابا، ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض، ولو قدر الزمخشري
ههنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال: وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما تهوى
أنفسهم استكبروا لكان أولى لدلالة مثله عليه. عاد كلامه: قال (فإن قلت لم جئ بأحد الفعلين ماضيا الخ)
قال أحمد: أو يكون حالا على حقيقته لانهم داروا حول قتل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد قيل هذا
الوجه في أخت هذه الآية في البقرة، وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي
وتمثيله بقوله تعالى - ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة - فعدل عن فأصبحت إلى فتصبح
تصويرا للحال واستحضارا لها في ذهن السامع ومنه:
بأني قد لقيت الغول تسعى * بسهب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربها فخرت * صريعا لليدين وللجران
وأمثاله كثيرة والله أعلم.
633

قوله تعالى (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) قال (فإن قلت: ما معنى التراخي في قوله ثم
انظر الخ) قال أحمد: ومنه - ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم - وقوله - فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر - وهي
في سائر هذه المواضع منقولة من التراخي الزماني إلى التراخي المعنوي في المراتب.
قوله تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا
635

وضلوا عن سواء السبيل (قال) معناه لا تغلوا في دينكم غلوا باطلا الخ قال أحمد: يعني بأهل العدل والتوحيد
المعتزلة، ويعني بغلوهم الذي هو حق عندهم أنهم غلوا في التوحيد فجحدوا الصفات الإلهية، وغلوا في التعديل
فنفوا أكثر الافعال بل كلها عن أن تكون مخلوقة لله تعالى لانطوائها في مفاسد، ولان الله تعالى يعاقب على ما هو
قبيح منها، والعدل عندهم أن لا يعاقب على فعل خلقه فهذا غلوهم في التعديل، وهو كما ترى أنه كاسد عن
التوحيد لانهم جعلوا كل مخلوق من الحيوانات خالقا، فالنصارى غلوا فأشركوا ثلاثة، والمعتزلة كما رأيت
أشركوا كل أحد بل غير الآدميين في الخلق الذي هو خاص بالرب، ويعني الزمخشري بأهل البدع والأهواء من
عدا الطائفة المذكورة، ويعني بغلوهم الباطل إثبات الصفات لله تعالى وتوحيده على الحق حتى لا خالق سواه
ولا مخلوق إلا بقدرته، وقد ترضى عن شيعته وإخوانه وسكت عن ذكر من عداهم، ونحن نقول: اللهم ارض
عمن هو أحق الطوائف برضاك وهذه دعوة أيضا بلا خلاف والله الموفق.
قوله تعالى (لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) قال (إن قلت كيف وقع ترك التناهي الخ) قال
أحمد: وفي هذا التوبيخ الاخبار بأمرين قبيحين أحدهما بأنهم كانوا يفعلون المناكر والآخر أنهم كانوا تاركين
للنهي عنها: أي عن أمثالها في المستقبل، ولولا زيادة فعلوه لما صرح بوقوعها منهم، ولكان المصرح به ترك
النهي عن المنكر عند استحقاق النهي وذلك حين الاشراف على تعاطيه وظهور الامارات الدالة عليه، فانتظم
ثبوت الامرين جميعا على أخصر وجه وأبلغه. وقد دلت هذه الآية على المذهب الصحيح الأشعري من أن متعلق
النهي فعل وهو الترك، خلافا لأبي هاشم المعتزلي في قوله إن متعلقه نفي محض وعدم صرف. ووجه دلالة الآية
636

على أن متعلقه فعل أنه عبر عن ترك التناهي الذي وقع توبيخهم عليه بالفعل حيث قال: لبئس ما كانوا يفعلون:
أي لبئس الترك للتناهي فعلا كما تقول: زيد بئس الرجل، فتجعل الرجل واقعا على زيد، وقد سمى تركهم
للنهي عن المنكر في الآية السالفة قبل هذه صنعا فقال - لولا ينهاهم الربانيون والأحبار، إلى قوله: لبئس ما كانوا
يصنعون - وذلك أبلغ في الدلالة على أن متعلق النهي أمر ثابت، إذ الصنع أمكن من الفعل في الدلالة على الاثبات
وقد مر هذا التقرير والله الموفق.
قوله تعالى (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا
الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) قال (وصف الله تعالى شدة شكيمة
اليهود وصعوبة إجابتهم الخ) قال أحمد: وإنما قال الذين قالوا إنا نصارى ولم يقل النصارى تعريضا بصلابة اليهود
637

في الكفر والامتناع من الامتثال للامر، لان اليهود قيل لهم - ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا
ترتدوا على أدباركم - فقابلوا ذلك بأن قالوا - فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون - والنصارى قالوا نحن -
أنصار الله - ومن ثم سموا نصارى وكذلك أيضا ورد أول هذه السورة - ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم
فنسوا حظا مما ذكروا به - فأسند ذلك إلى قولهم والإشارة به إلى قولهم نحن أنصار الله، لكنه ههنا ذكر تنبيها على
أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. وفي الآية الثانية ذكر تنبيها على أنهم أقرب حالا من
اليهود، لانهم لما ورد عليهم الامر لم يكافحوه بالرد مكافحة اليهود، بل قالوا نحن أنصار الله، واليهود قالت:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، فهذا سره والله أعلم. عاد كلامه: قال (إن قلت: ما معنى قوله
ترى أعينهم تفيض من الدمع الخ). قال أحمد: وهذه العبارة من أبلغ العبارات وأنهاها، وهي ثلاث مراتب:
فالأولى فاض دمع عينه وهذا هو الأصل، والثانية محولة من هذه وهي قول القائل فاضت عينه دمعا حولت
الفعل إلى العين مجازا ومبالغة ثم نبهت على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز، والثالثة فيها هذا
التحويل المذكور، وهي الواردة في الآية إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح المنبهة على الأصل وعدم نصب التمييز
وإبرازه في صورة التعليل والله أعلم. وإنما كان الكلام مع التعليل أبعد عن الأصل منه مع التمييز، لان التمييز في
مثله قد استقر كونه فاعلا في الأصل في مثل تصبب زيد عرقا، وتفقأ عمرو شحما - واشتغل الرأس شيبا - وتفجرت
638

الأرض عيونا. فإذا قلت: فاضت عينه دمعا فهم هذا الأصل في العادة في أمثاله، وأما التعليل فلم يعهد فيه ذلك.
إلا تراك تقول: فاضت عينه من ذكر الله، كما تقول: فاضت عينه من الدمع، فلا يفهم التعليل ما يفهم التمييز
والله الموفق.
639

قوله تعالى (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) قال (المشار إليه هو المذكور فيما تقدم ولو قيل الخ) قال أحمد:
بل في هذه الآية وجه لطيف المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة المعتبرة شرعا حيث أضاف إذا
إلى مجرد الحلف، وليس في الآية إيجاب الكفارة حتى يقال قد اتفق على أنها إنما تجب بالحنث فتعين تقديره مضافا
إلى الحلف بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار، إذ لا يعطى قوله ذلك - كفارة أيمانكم -
إيجابا إنما يعطى صحة واعتبارا، والله أعلم. وهذا انتصار على من منع التكفير قبل الحنث مطلقا وإن كانت
اليمين على بر والأقوال الثلاثة في مذهب مالك إلا أن القول المنصور هو المشهور. عاد كلامه: قال (واحفظوا
أيمانكم فبروا فيها الخ). قال أحمد: وفي هذا التأويل إشعار بأن الشاك في صورة اليمين بعد تحقق أصلها يشدد
عليه ويؤاخذ بالأحوط، فأرشده الله إلى حفظ اليمين لئلا يفضي أمره إلى أن يلزم في ظاهر الامر على وجه الاحتياط
ما لم يصدر منه في علم الله تعالى، كالذي يحلف بالطلاق وينسى هل قيده بالثلاث مثلا أو أطلقه فيلزمه الثلاث على
641

المذهب المشهور. ويحتمل أن يكون في علم الله تعالى أنه إنما حلف بالطلاق مطلقا فأرشد إلى الحفظ لئلا يجره
النسيان إلى هذا التشديد، والمراد بالايمان كل ما ينطلق عليه يمين سواء كان حلفا بالله أو بغيره مما يلزم في الشرع
حكما، والله أعلم.
قوله تعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما
يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم
منتهون) قال (أكد الله تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد منها الخ) قال أحمد: ويجوز عود الضمير إلى
الرجس الذي انطوى على سائر ما ذكر، والله أعلم. عاد كلامه: قال (فإن قلت: لم جمع الخمر والميسر مع
الأنصاب الخ) قال أحمد: ويرشد إلى أن المقصود الخمر والميسر خاصة، لانهم إنما كانوا يتعاطونهما خاصة.
الآية الأخرى وهي قوله - يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما -
فخصهما بالذكر ولم يثبت النهي عنهما، فلذلك ورد أن قوما تركوهما لما فيهما من الاثم وقوما بقوا على تعاطيهما
لما فيهما من المنافع ثم نزلت هذه الآية جازمة بالنهي، والله أعلم.
642

قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب
فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) قال (إن قلت: ما معنى التقليل والتصغير الخ) قال أحمد: وقد وردت هذه
الصيغة بعينها في الفتن العظيمة في قوله تعالى - ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس
والثمرات وبشر الصابرين - فلا خفاء في عظم هذه البلايا والمحن التي يستحق الصابر عليها أن يبشر لأنه صبر على
عظيم، فقول الزمخشري إذا إنه قلل وصغر تنبيها على أن هذه الفتنة ليست من الفتن العظام مدفوع باستعمالها مع
الفتن المتفق على عظمها. والظاهر والله أعلم أن المراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتصغير التنبيه على أن جميع
ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى، وأنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم
643

به من ذلك أعظم مما يقع أو أهول، وأنه مهما اندفع عنهم مما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف
وأسهل لطفا بهم ورحمة ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال. والذي يرشد إلى أن هذا مراد
أن سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متواطئين على ذلك عند وقوعه، فيكون أيضا باعثا على تحمله، لان
مفاجأة المكروه بغتة أصعب والانذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه، وحاصل ذلك لطف في القضاء فسبحان
اللطيف بعباده. وإذا فكر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا وجد المندفع عنه منها أكثر إلى ما لا يقف عند غاية،
فنسأل الله العفو والعافية واللطف في المقدور.
644

قوله تعالى (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) قال (اختلف في المراد بالتحريم الخ) قال أحمد: وتخصيص
عموم الآية لازم على كلتا الطائفتين، لان مالكا رضي الله عنه يجيز أكل المحرم لصيد البر إذا صاده حلال لنفسه
أو لحلال، فلا بد إذا على مذهبه من تخصيص العموم المخصوص، غاية ذلك أن صورة التخصيص على مذهب
أبي حنيفة تكون أكثر منها على مذهب مالك، لأنه لا يجيز أكل ما صاده الحلال من أجل المحرم كما نقله عنه،
فيزيد على مذهب مالك بهذه الصورة والله أعلم.
قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد) الآية. قال (معنى قياما
646

للناس انتعاشا لهم في أمر دينهم ودنياهم الخ) قال أحمد: وفي هذه الآية ما يبعد تأويلين من التأويلات الثلاثة
المذكورة في قوله أول هذه السورة - لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد - فإن حمل القلائد
ثم على ظاهرها وتأويل صرف الاحلال إلى مواقعها من المقلد كقوله - ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها - يريد
مواقع الزينة والنهي عن إحلال القلائد يشبهه كأنه قال: لا تحلوا قلائدها فضلا عنها متعذر في هذه الآية، لأنها
وردت في سياق الامتنان بما جعله الله قياما للناس من هذه الأمور المعدودة، وقد خص الله بالبدن في قوله
- والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير - الآية، ولا يليق بسياق الامتنان الخروج من الأعلى إلى الأدنى
حتى يقع الامتنان بالمقلد ثم بالقلائد بل ذلك لائق في سياق النهي أن يخرج من النهي عن الاعلى إلى الشديد بالنهي
عن الأدنى. وأما التأويل الآخر وهو بقاء القلائد على حقيقتها وصرف الاحلال المنهي عنه إليها حقيقة: أي
لا تتعرضوا للقلائد ولا تنتفعوا بها كما قال عليه الصلاة والسلام (ألق قلائدها في دمها وخل بين الناس وبينها)
فمتعذر أيضا بما بعد به الذي قبله. وأما التأويل الثالث وهو حملها على ذوات القلائد فلائق بالاثنين، فيتعين المصير
إليه، ومن ثم لم يذكر الزمخشري في هذه الآية سواه، ووجه صلاحيته وظهوره فيهما أن الغرض في سياق النهي
إفراده بالذكر وتخصيصه بالنهي بعد أن اندرج مع غيره في النهي، فكأنه نهى عنه لخصوصيته مرتين والغرض في
سياق الامتنان أيضا ذلك وهو تكرير المنة به مندرجا في العموم ومخصوصا بالذكر، وأيضا فيليق في الامتنان
الترقي من الأدنى إلى الاعلى بخلاف النهي، والله أعلم.
قوله تعالى (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) الآية. قال (البون بين الخبيث والطيب
بعيد عند الله الخ) قال أحمد رحمه الله: وقد ثبت شرعا أن أكثر أهل الجنة من هذه الأمة، وقد اعترف القدرية
647

أنهم قليل فيها وشذوذ بالنسبة إلى من عداهم من الطوائف والامر بهذه المثابة، وهم أيضا يعتقدون أنهم الفرقة
الناجية الموعودون بالجنة لا غيرهم، إذ كل من عداهم على طمعهم الفاسد مخلد في النار مع الكفار، فعلى هذا
تكون هذه الطائفة الشاذة القليلة أكثر أهل الجنة، وحاشا لله أن يستمر ذلك على عقل عاقل محصل مطلع على
ما ورد في السنن من الآثار المكافحة لهذا الظن الفاسد بالرد والتكذيب، ومن هم المعتزلة حتى يترامى طمعهم على
هذا الحد وهذا الاستنباط الذي استنبطه الزمخشري من أن المراد بالطيب هذا النفر المعتزلي من قبيل القول بأن المراد
في قوله تعالى - لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير - أهل الحديث وأصحاب الرأي: يعني الحنفية. وقد
أغلظ في تفسير هذه الآية على من قال ذلك وعده من البدع، وها هو قد ابتدع قريبا منه في حمله الطيب في هذه
الآية على الفريق المعتزلي، بل والله شرا من تلك المقالة لأنه حمل الخبيث على من عداهم من الطوائف السنية، نعوذ
بالله من ذلك ونبرأ من تجريه على السلف والخلف.
648

قوله تعالى (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) قال (يوم يجمع
بدل من المنصوب الخ) قال أحمد: ويكون انتصابه إذن انتصاب المفعول به لا الظرف على حكم المبدل منه. عاد
كلامه، قال (أو ظرف لقوله: لا يهدي القوم الفاسقين الخ) قال أحمد: وهو على هذا أيضا مفعول به. عاد
كلامه: قال (وماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أي إجابة الخ). قال أحمد: والتعظيم في هذا نحو
التعظيم بالسكوت عن الصلة في مثل ما حصل إلا بعد التي واللتيا. عاد كلامه: قال (وقيل من هول ذلك اليوم
يفزعون ويذهلون عن الجواب الخ). قال أحمد: وأيضا فالمسئول عنه إجابتهم عند دعائهم إياهم إلى الله لا ما حدث
بعد ذلك مما لا يتعلق به علم الرسل، والله أعلم. عاد كلامه: قال (وقرئ علام الغيوب بالنصب الخ). قال
أحمد: ويكون هذا من باب * أنا أبو النجم وشعري شعري * وقد مر قبل بآيات، وإنما ذكرت هذه الثلاثة
من الاعراب لالتباسها إلا على الحذاق وقليل ما هم.
652

قوله تعالى (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك) الآية. قال (فإن قلت: كيف قالوا
هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم) في قوله (وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا
واشهد بأننا مسلمون. قال: قلت ما وصفهم بالايمان والاخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما الخ) قال أحمد: وقيل
إن معنى هل يستطيع: هل يفعل، كما تقول للقادر على القيام هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي، ونقل هذا
القول عن الحسن، فعلى هذا يكون إيمانهم سالما عن قدح الشك في القدرة، فإن استقام التعبير عن الفعل
بالاستطاعة، فذاك والله أعلم من باب التعبير عن المسبب بالسبب، إذ الاستطاعة من جملة أسباب الايجاد، وعلى
عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية بالسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله
إذا قمتم إلى الصلاة، وقد مضى أول السورة، وفي هذا التأويل الحسنى تعضيد لتأويل أبي حنيفة حيث جعل
الطول المانع من نكاح الأمة وجود الحرة في العصمة، وعدمه أن لا يملك عصمة الحرة وإن كان قادرا على ذلك
فتباح له حينئذ الأمة وحمل قوله (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات) على معنى: ومن لم يملك
منكم وحمل النكاح على الوطء. فجعل استطاعة الملك المنفية هي الملك كما ترى حتى إن القادر غير المالك عادم
الطول عنده فينكح الأمة، وقد مضى ذكر مذهبه وكنت أستبعد إنهاضه لان يكون تأويلا يحتمله اللفظ ويساعده
الاستعمال حتى وقفت على تفسير الحسن هذا، والله أعلم.
654

قوله تعالى (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) قال (أن في قوله أن اعبدوا إن جعلتها
مفسرة لم يكن لها بد من مفسر الخ) قال أحمد: وقد أجاز بعضهم وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها
على ما في معناه، فيجوز على هذا القول وقوعها تفسيرا لفعل القول، وقد أبى الزمخشري في مفصله وقوعها إلا
بعد فعل في معنى القول كمذهبه ههنا. عاد كلامه: قال (وما فعل الامر فمسند إلى ضمير الله عز وجل الخ)
قال أحمد: ويجوز أيضا هذا الوجه على صرف التفسير إلى المعنى، كأنه حكى معنى اعبدوا الله رب عيسى وربكم، فلما
حكاه عيسى عليه السلام قال اعبدوا الله ربي وربكم. فكنى عن اسمه الظاهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن
موسى - قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا
وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى - فانظر كيف جاء أول الكلام حكاية لقول موسى وموسى
لا يقول فأخرجنا ولكن فأخرج الله، فلما حكاه الله تعالى عن موسى رد الكلام إليه تعالى وأضاف الاخراج إلى
ذاته عن طريق المتكلم لا الحاكي، وكذلك قوله تعالى - ليقولن خلقهن العزيز العليم، إلى قوله: فأنشرنا به بلدة
ميتا - ونظائره كثيرة، وقد قدمت نحوا من هذا البحث عند قوله تعالى حكاية عن اليهود - إنا قتلنا المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله - لما استبعد الزمخشري أن تصفه اليهود بهذه الصفات المنافية لاعتقادهم فيه. عاد كلامه: قال
(وإن جعلت أن موصولة مع فعل الامر الخ) قال أحمد: أي فلا يقدر بالعبادة ولكن الامر بها، كأنه قيل:
ما قلت لهم إلا الامر بالعبادة لله، والامر مقول لقلت، على أن جعل العبادة مقولة ليس ببعيد على طريقة - ثم
يعودون لما قالوا - أي للوطء الذي قالوا قولا يتعلق به، وكقوله تعالى - ونرثه ما يقول ويأتينا فردا - وسيأتي له
تصحيح هذا الاستعمال لوروده كثيرا في القرآن الكريم. عاد كلامه: قال (وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء لأنك
الخ) قال أحمد: وهذا أيضا غير مانع من البدل وإنما يواجه المصنف بما لا يسعه إنكاره، فقد قال في مفصله ما هذا
نصه. وقولهم إن البدل في حكم تنحية الأول إيذان منهم باستقلاله بنفسه ومفارقته التأكيد والصفة في كونهما اسمين
لما يتبعانه لا أن يعنوا إهدار الأول واطراحه. ألا تراك تقول: زيدا غلامه رجلا صالحا، فلو ذهبت إلى
656

إهدار الأول لم يسند كلامك، فانظر كيف يرد كلامه في المفصل وهو الحق ما ارتكبه من رد البدل في هذه الآية
للزوم طرح الأول فتخلوا الصلة من الضمير، ولم يجعل هذا القدر مانعا في المثال المذكور مع أنك لو طرحت
الأول لخلا الخبر من الضمير العائد ولم يسند الكلام، فهذه وجوه أربعة منعها في إعراب أن وكلها مسندة حسبما
بينا وهذه المساجلة في هذا الاعراب من الغرر والحجول في صناعة الاعراب وعلم البيان وفرسان هذا المضمار قليل.
عاد كلامه: قال (فإن قلت: كيف يصنع؟ قلت: يحمل فعل الخ) قال أحمد: هذا التأويل لتوقع أن المفسرة
بعد فعل في معنى القول وليس قولا صريحا، وحمل القول على الامر مما يصحح المذهب الآخر في إجازة وقوعها
بعد القول، فإنه لولا ما بين القول والامر من التفاوت المعنوي لما جاز إطلاق أحدهما وإرادة الآخر. والعجب
أن الامر قسم من أقسام القول وما بينهما إلا عموم وخصوص، وليس في هذا التأويل الذي سلكتم إلا كلفة
لا طائل وراءها، ولو كانت العرب تأبى وقوع المفسرة بعد القول لما أوقعتها بعد فعل ليس بقول، ثم عبرت عن
ذلك الفعل بالقول لان ذلك كالعود إلى ما وقع الفرار منه وهم بعداء من ذلك. عاد كلامه: قال (ويجوز أن
تكون موصولة الخ) قال أحمد: يريد بجعله عطف بيان أن يسلم من تقدير اطراح الأول في البدل وخلو الصلة
حينئذ من العائد، وقد بينا أن ذلك غير لازم في البدل. والعجب أنه أيضا في مفصله لم يفصل بين عطف البيان
والبدل إلا في مثل قول المرار * أنا ابن التارك البكري بشر * لأنه لو جعله بدلا للزم تكرير العامل وإضافة
اسم الفاعل المعرف بالألف واللام إلى العلم، ولم يفصل بينهما في غير هذا المثال. ومن حيث المعنى أن المعتمد في
عطف البيان الأول، وأما الثاني فللتوضيح والمعتمد في البدل الثاني، وأما الأول فبساط لذكره لاعلى أنه مطرح
مهدر.
قوله تعالى (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) قال (إن قلت: المغفرة لا تكون
للكفار فكيف قال وإن تغفر لهم الخ؟) قال أحمد رحمه الله: تذبذب الزمخشري في هذا الموضع، فلا إلى أهل السنة
ولا إلى القدرية. أما أهل السنة فالمغفرة للكافر جائزة عندهم في حكم الله تعالى عقلا، بل عقاب المتقي المخلص كذلك
657

غير ممتنع عقلا من الله تعالى، وإذا كان كذلك فهذا الكلام خرج على الجواز العقلي وإن كان السمع ورد
بتعذيب الكفار وعدم الغفران لهم إلا أن ورود السمع بذلك لا يرفع الجواز العقلي. وأما القدرية فيزعمون أن المغفرة
للكافر ممتنعة عقلا لا تجوز على الله تعالى لمناقضتها الحكمة فمن ثم كفحتهم هذه الآية بالرد، إذ لو كان الامر
كزعمهم لما دخلت كلمة إن المستعملة عند الشك في وقوع الفعل بعدها لغة في فعل لا شك في عدم وقوعه عقلا،
ولكان ذلك من باب التعليق بالمحال كإن يبيض القار وأشباهه وليس هذا مكانه، فقول الزمخشري إذا إن يغفر لهم
لم يعدم وجها من الحكمة في المغفرة، لان العفو عن المجرم حسن عقلا لا يأتلف بقواعد السنة، إذ لا يلتفت عندهم
إلى التحسين العقلي، ولا يأتلف أيضا بنزعات القدرية لانهم يجزمون بأنه لا وجه من الحكمة في المغفرة للكافر
ويقطعون بمنافاتها الحكمة، فكيف يخاطب الله تعالى به، فعلم أن عيسى عليه السلام يبرأ إلى الله من هذا الاطلاق
ومما اشتمل عليه من سوء الأدب، فإن قول القائل لمن يخاطبه: ما فعل كذا فلم يعدم فيه عذرا ووجها من المصلي
وكلام مبذول وعبارة نازلة عن أو في مراتب الأدب، إنما يطلقها المتكلم لمن هو دونه عادة، فنسأل الله إلهام
الأدب وتجنب ما في إساءته من مزلات العطب.
قوله تعالى (قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) قال (إن قلت: ما معناه إن أريد صدقهم في الآخرة الخ)
658

قال أحمد: ولو أجاب بحمل الصادقين على الدنيا وصدقهم على الآخرة حتى يكون التقدير: هذا يوم ينفع
الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة لكان أوضح طباقا لتفسير قتادة وأخرج لإبليس وأشباهه من هذا العموم،
فإن إبليس وإن صدق في الآخرة إلا أنه لم يكن من الصادقين في الدنيا، فلم ينفعه صدقه في الآخرة، والوجهان
متقاربان.
بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء الأول، ويليه الجزء الثاني
وأوله: تفسير سورة الأنعام
659