الكتاب: التفسير الصافي
المؤلف: الفيض الكاشاني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٠٩١
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: رمضان ١٤١٦ - ١٣٧٤ ش
المطبعة: مؤسسة الهادي - قم المقدسة
الناشر: مكتبة الصدر - طهران
ردمك:
ملاحظات:

تفسير الصافي 2
1

تفسير الصافي
تأليف
فيلسوف الفقهاء،، وفقيه الفلاسفة، أستاذ عصره
ووحيد دهره، المولى محسن الملقب ب‍ " الفيض الكاشاني "
المتوفى سنة 1091 ه‍
الجزء الثاني
منشورات
مكتبة الصدر طهران - شارع ناصر خسرو
تليفون 397696
3

" هوية الكتاب "
الكتاب: تفسير الصافي
المؤلف: فيلسوف الفقهاء المولى محسن الفيض الكاشاني قدس سره
الطبعة: الثانية
العدد: 5000 نسخة
القطع: وزيري
عدد الصفحات مجلدات الخمس: 2288 صفحة
ليتوغراف: آرمان
المطبعة: مؤسسة الهادي - قم المقدسة
تاريخ الطبعة: شهر رمضان 1416 قمرية - 1374 شمسية
الناشر: مكتبة الصدر - بطهران شارع ناصر خسرو تليفون 397696
السعر: 850 تومان
4

سورة المائدة
هي مدينة في ابن عباس ومجاهد، وقيل هي مدينة كلها الا قوله: (اليوم أكملت
لكم دينكم) فإنه نزل في حجة الوداع وهي مأة وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود.
القمي عن الصادق (عليه السلام) أي بالعهود.
أقول: الايفاء والوفاء بمعنى والعقد العهد الموثق ويشمل هيهنا كل ما عقد الله
على عباده والزمه إياهم من الايمان به وبملائكته وكتبه ورسله وأوصياء رسله وتحليل
حلاله وتحريم حرامه والاتيان بفرائضه وسننه ورعاية حدوده وأوامره ونواهيه وكل ما
يعقده المؤمنون على أنفسهم لله وفيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات الغير
المحظورة.
والقمي عن الجواد (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عقد عليهم
لعلي بالخلافة في عشر مواطن ثم أنزل الله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي
عقدت عليكم لأمير المؤمنين (عليه السلام) أحلت لكم بهيمة الأنعام قيل إضافة بيان
أريد بها الأزواج الثمانية (1) والمستفاد من ظاهر الأخبار أن بيان حل الأنعام في آيات
اخر.
والمراد هنا بيان حل الأجنة التي في بطونها.
ففي الكافي والتهذيب والفقيه والعياشي عن أحدهما في تفسيرها الجنين في بطن أمه
إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه

(1) الأزواج الثمانية المعز والضأن والبقر والإبل ذكرها وأنثاها ويأتي ما بين هذا.
5

وزاد في الكافي والقمي فذلك الذي عنى الله عز وجل به.
وفي رواية وإن لم يكن تاما فلا تأكله والعياشي عن الباقر (عليه السلام) هي الأجنة
التي في بطون الأنعام وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يأمر ببيع الأجنة.
أقول: لعل هذا يكون أحد معانيها.
ويحتمل أن يكون المراد بهذه الأخبار بيان الفرد الأخفى أو يكون تحديد الأول
تسميتها بالبهيمة وحلها فلا ينافي التعميم مع أنه نص في حل الأم.
والعياشي عنه (عليه السلام) أن عليا (عليه السلام) سئل عن أكل لحم الفيل والدب
والقرد فقال ليس هذا من بهيمة الأنعام التي تؤكل إلا ما يتلى عليكم تحريمه غير محلي
الصيد وأنتم حرم قيل يعنى أحلت لكم في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا
يتحرج عليكم.
أقول: وهو ينافي عموم حلها سائر الأحوال إن الله يحكم ما يريد من تحليل
وتحريم.
(2) يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله لا تتهاونوا بحرمات الله جمع شعيرة
وهي ما جعله الله شعار الدين وعلامته من أعمال الحج وغيرها ولا الشهر الحرام بالقتال
فيه (1)
في المجمع عن الباقر (عليه السلام) نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له: الحطم.
أقول: يعني حين قدم حاجا وأراد المسلمون قتله في أشهر الحرم لكفره وبغيه وكان
قد استاق سرح (2) المدينة قيل هي منسوخة بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.

(1) والشهر الحرام إما خصوص شهر الحج أو جنس يشتمل الأشهر الحرم جميعا وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة
والمحرم.
(2) السرح كالقتل متعديا بمعنى الإرسال والإخراج وغيرهما ولازما بمعنى السير في السهلة والمراد هنا أراد السير إلى
المدينة.
6

وفي المجمع عنه (عليه السلام) لم ينسخ من هذه السورة شئ ولا من هذه الآية
لأنه لا يجوز أن يبتدئ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا ولا الهدى (1) ما
أهدي إلى الكعبة ولا القلائد ما قلد به الهدي من نعل قد صلى فيه أو غيره ليعلم به أنه
هدي فلا يتعرض له ولا آمين (2) البيت الحرام قاصدين لزيارته يبتغون فضلا من ربهم
ورضوانا أن يثيبهم من فضله ويرضى عنهم أو يرزقهم بالتجارة ويرضى عنهم بنسكهم
بزعمهم والمقصود النهي عن التعرض لهؤلاء وقرئ رضوانا بضم الراء وإذا حللتم
من احرامكم فاصطادوا ان شئتم ولا يجرمنكم (3) ولا يحملنكم ولا يكسبنكم شنآن قوم
شدة بغضهم وعداوتهم وقرئ بسكون النون أن صدوكم عن المسجد الحرام لان
صدوكم يعني عام الحديبية وقرئ بكسر الهمزة أن تعتدوا بالانتقام وتعاونوا على البر
والتقوى على العفو والإغضاء و متابعة الأمر ومجانبة الهوى ولا تعاونوا على الإثم
والعدوان للتشفي والانتقام واتقوا الله إن الله شديد العقاب فانتقامه أشد.
(3) حرمت عليكم الميتة بيان لما يتلى عليكم والدم أي المسفوح منه لقوله تعالى
أو دما مسفوحا قيل كانوا في الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها ولحم الخنزير وأن
ذكي وإنما خص بالذكر دون الكلب وغيره لاعتيادهم أكله دون غيره وما أهل رفع
الصوت لغير الله به كقولهم باسم اللات والعزى عند ذبحه والمنخنقة والموقوذة (4) والمتردية (5)
والنطيحة وما اكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وان تستقسموا
بالأزلام ذلكم فسق في العيون عن الباقر (عليه السلام) في تفسيرها الميتة والدم ولحم
الخنزير معروف وما أهل لغير الله به يعني ما ذبح للأصنام وأما المنخنقة فان المجوس
كانوا لا يأكلون الذبايح ويأكلون الميتة وكانوا يخنقون البقر والغنم فإذا انخنقت وماتت

(1) والهدي ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسك وهو جمع هدية كجدي وجدية والقلائد جمع قلادة.
(2) أي القاصدين زيارة والحج والعمرة وإحلال هذه الأشياء ان يتهاون بحرمتها فتضيع.
(3) وجرم مثل كسب في التعدية إلى واحد واثنين تقول جرم ذنبا وجرمته ذنبا وكسب شيئا وكسبته إياه وأول المفعولين
ضمير المخاطبين والثاني ان تعتدوا.
(4) وقذه يقذه وقذا ضربه حتى استخرى وأشرف على الموت ومنه شاة موقوذة للتي وقذت بالخشب.
(5) المتردية التي تردت وسقطت من جبل أو حائط أو في بئر وما يدرك ذكاته.
7

أكلوها والموقوذة كانوا يشدون أرجلها ويضربونها حتى تموت فإذا ماتت أكلوها والمتردية
كانوا يشدون أعينها ويلقونها من السطح فإذا ماتت أكلوها والنطيحة (1) كانوا يناطحون
بالكباش (2) فإذا مات أحدها أكلوه وما أكل السبع الا ما ذكيتم فكانوا يأكلون ما يأكله
الذئب والأسد فحرم الله ذلك وما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران وقريش
كانوا يعبد ون الشجر والصخر فيذبحون لهما وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق قال
كانوا يعمدون إلى الجزور (3) فيجزونه عشرة أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام
فيدفعونها إلى رجل وهي عشرة سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها فالتي لها أنصباء فالفذ
والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلى فالفذ له سهم والتوأم له سهمان والمسبل
له ثلاثة أسهم والنافس له أربعة أسهم والحلس له خمسة أسهم والزقيب له ستة أسهم
والمعلى له سبعة أسهم والتي لا أنصباء لها السفيح والمنيح والوغد وثمن الجزور (3) على من
لم يخرج له من الأنصباء شئ وهو القمار فحرمه الله
والقمي مثله.
وفي الفقيه والتهذيب عن الجواد (عليه السلام) ما يقرب منه إلا أنه قال والموقوذة التي
مرضت ووقذها المرض حتى لم تكن بها حركة قال (عليه السلام) وكانوا في الجاهلية
يشترون بعيرا فيما بين عشرة أنفس ويستقسمون عليه بالقداح ثم ذكر أسماءها السبعة
والثلاثة كما ذكر قال فكانوا يجيلون السهام بين عشرة فمن خرج باسمه سهم من التي
لا أنصباء لها الزم ثلث ثمن البعير فلا يزالون كذلك حتى تقع السهام الثلاثة التي لا
أنصباء لها إلى ثلاثة منهم فيلزمونهم ثمن البعير ثم ينحرونه ويأكله السبعة الذين لم
ينقدوا في ثمنه شيئا فلما جاء الاسلام حرم الله تعالى ذكره ذلك فيما حرم فقال عز وجل
وان تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق يعني حرام.

(1) نطحه نطحا أصابه بقرنه.
(2) الكبش فحل الضأن في أي سن كان.
(3) الجزور بالفتح وهي من الإبل خاصة ما كمل خمس سنين ودخل في السادسة يقع على الذكر والأنثى والجمع جزر
كرسول ورسل.
8

أقول: معنى تجزيته عشرة أجزاء اشتراؤه فيما بين عشرة أنفس كما ذكر في حديث
الجواد (عليه السلام) لا تجزية لحمه والأنصباء جمع نصيب والفذ بالفاء والذال المعجمة
المشددة.
والتوأم بالتاء المثناة الفوقانية والهمزة والمسبل كمحسن بالسين المهملة والباء
الموحدة والنافس بالنون والفاء والسين المهملة والحلس بكسر الحاء وسكون اللام والسين
المهملة وقد يحرك والزقيب بالزاي والقاف على وزن فعيل والمعلى بضم الميم وسكون
العين وفتح اللام والسفيح بالسين المهملة والفاء والحاء المهملة على وزن فعيل كالمنيح
بالنون والحاء المهملة.
والوغد بالواو والغين المعجمة والدال المهملة وقيل معنى الاستقسام بالأزلام طلب
معرفة ما قسم لهم بالأقداح يعني السهام وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح
مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى اخر نهاني ربي وعلى الثالث غفل فان خرج الأمر
مضوا على ذلك وان خرج الناهي تجنبوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا.
وفي بعض الأخبار إيماء إلى ذلك كما يأتي في أواخر السورة ويمكن التوفيق بالتعميم
وقوله تعالى إلا ما ذكيتم يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة
من الخنزير والدم كذا في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) والعياشي عن الرضا
(عليه السلام) المتردية والنطيحة وما أكل السبع إذا أدركت ذكاته فكله.
وفي المجمع عن الباقر والصادق عليهما الصلاة والسلام ان أدنى ما يدرك به الذكاة
أن يدركه وهو يحرك أذنه أو ذنبه أو يطرف عينيه.
وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في كتاب علي (عليه السلام) إذا طرفت العين أو
ركضت الرجل أو تحركت الذنب فكل منه فقد أدركت ذكاته وفي معناه أخبار آخر اليوم
الان يئس الذين كفروا من دينكم انقطع طمعهم من دينكم أن تتركوه وترجعوا منه إلى
الشرك
القمي قال ذلك لما نزلت ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فلا تخشوهم أن يظهروا
9

على دين الإسلام ويردوكم عن دينكم واخشون إن خالفتم أمري أن تحل بكم
عقوبتي اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
في المجمع عنهما (عليهما السلام) إنما نزل بعد أن نصب النبي (صلى الله عليه وآله) عليا
صلوات الله عليهما علما للأنام يوم غدير خم عند منصرفه عن حجة الوداع قالا (عليه السلام)
وهي آخر فريضة أنزلها الله ثم لم تنزل بعدها فريضة.
وفي الكافي عن الباقر الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكان الولاية آخر
الفرايض فأنزل الله اليوم أكملت لكم دينكم قال لا أنزل بعد هذه فريضة قد أكملت
لكم الفرائض.
والعياشي والقمي عنه ما يقرب منه.
أقول: وإنما أكملت الفرائض بالولاية لان النبي (صلى الله عليه وآله) أنهى جميع ما
استودعه الله من العلم إلى علي صلوات الله عليه ثم إلى ذريته الأوصياء واحدا بعد
واحد فلما أقامهم مقامه وتمكن الناس من الرجوع إليهم في حلالهم وحرامهم و استمر ذلك
بقيام واحد به بعد واحد كمل الدين وتمت النعمة انشاء الله وقد ورد هذا المعنى بعينه
عنهم (عليهم السلام) ويأتي ما يقرب منه في خطبة الغدير فمن اضطر متصل بذكر
المحرمات وما بينهما اعتراض والمعنى فمن اضطر إلى تناول شئ من هذه المحرمات في
مخمصة في مجاعة غير متجانف غير مايل لاثم.
والقمي عن الباقر (عليه السلام) غير متعمد الإثم.
أقول: وذلك بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة وهذا كقوله سبحانه غير
باغ ولا عاد
وقد مضى تفسيرهما في سورة البقرة فإن الله غفور رحيم لا يؤاخذه بأكله.
(4) يسألونك ماذا أحل: كأنهم لما تلا عليهم ما حرم عليهم سألوا عما أحل لهم
قل أحل لكم الطيبات قيل ما لم يستخبثه الطباع السليمة ولم تتنفر عنه وما علمتم
من الجوارح أي صيدهن وهي كواسب الصيد على أهلها من السباع والطير مكلبين
مؤدبين لها والمكلب مؤدب الجوارح ومغريها بالصيد مشتق من الكلب.
10

في الكافي والتهذيب عن الصادق (عليه السلام) في كتاب علي (عليه السلام) في قول
الله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين قال هي الكلاب.
وعنه (عليه السلام) إذا أرسلت بازا أو صقرا أو عقابا فلا تأكل حتى تدركه فتذكيه
وإن قتل فلا تأكل.
وعنه (عليه السلام) أنه سئل عن ارسال الكلب والصقر فقال أما الصقر فلا تأكل
من صيده حتى تدرك ذكاته وأما الكلب فكل منه إذا ذكرت اسم الله عليه أكل الكلب
منه أو لم يأكل وفي معناهما أخبار كثيرة تعلمونهن مما علمكم الله ألهمكم من طرق
التأديب وفسر أدبه باتباع الصيد بارسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه
وإمساكه عليه الصيد في الكافي عن الباقر (عليه السلام) ما قتلت من الجوارح مكلبين
وذكرتم اسم الله عليه فكلوا من صيدهن وما قتلت الكلاب التي لم تعلموها من قبل
أن تدركوه فلا تطعموه.
وفي الكافي والفقيه والتهذيب عن الصادق (عليه السلام) قال في صيد الكلب إن
أرسله صاحبه وسمى فليأكل كل ما أمسك عليه وإن قتل وإن أكل فكل ما بقي وإن كان
غير معلم فعلمه في ساعته حين يرسله فليأكل منه فإنه معلم فأما ما خلا الكلاب مما
تصيده الفهود والصقور وأشباه ذلك فلا تأكل من صيده إلا ما أدركت ذكاته لان الله
عز وجل قال مكلبين فما خلا الكلاب فليس صيده بالذي يؤكل الا أن تدرك ذكوته وأما
الأخبار التي وردت بخلاف ذلك فمحمولة على التقية لموافقتها مذاهب العامة كما بيناه في
الوافي فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه.
القمي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن صيد البزاة والصقور والفهود
والكلاب قال: لا تأكل الا ما ذكيت إلا الكلاب قيل فإن قتله قال كل فإن الله يقول وما
علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم ثم قال
فكلوا مما أمسكن عليكم ثم قال كل شئ من السباع يمسك الصيد على نفسها الا

(1) البازي ضرب من الصقور جمعه بواز وبزاة وأبوز وبؤز وبيزان.
11

الكلاب المعلمة فإنها تمسك على صاحبها وقال إذا أرسلت الكلب المعلم فاذكر اسم الله
عليه فهو ذكاته واتقوا الله فيما حرم عليكم إن الله سريع الحساب فيؤاخذكم بما جل
ودق.
(5) اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم
القمي قال عنى بطعامهم هيهنا الحبوب والفاكهة غير الذبايح التي يذبحونها فإنهم
لا يذكرون اسم الله خالصا على ذبايحهم ثم قال والله ما استحلوا ذبايحكم فكيف
تستحلون ذبايحهم.
في الكافي وغيره عنهما (عليهما السلام) في عدة أخبار أن المراد به الحبوب والبقول وفي
بعضها لا تأكل من ذبايح اليهود والنصارى ولا تأكل من آنيتهم وفي بعضها الذبيحة
بالاسم ولا يؤمن عليها إلا أهل التوحيد وفي بعضها إذا شهدتموهم وقد سموا اسم الله
فكلوا ذبايحهم وإن لم تشهدوهم فلا تأكلوا وإن أتاك رجل مسلم فأخبرك أنهم سموا فكل
وفي بعضها لا تأكله ولا تتركه تقول أنه حرام ولكن تتركه تنزها عنه إن في آنيتهم الخمر
ولحم الخنزير وطعامكم حل لهم فلا جناح عليكم أن تطعموهم منهم وتبيعوه منهم
والمحصنات وأحل لكم العقد على العفائف من المؤمنات
العياشي عن الصادق (عليه السلام) هن المسلمات والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم في الفقيه عن الصادق (عليه السلام) هن العفايف.
والعياشي عن الكاظم (عليه السلام) أنه سئل ما معنى احصانهن قال هن العفايف
من نسائهم.
وفي الكافي والمجمع والعياشي عن الباقر (عليه السلام) أنها منسوخة بقوله ولا تمسكوا
بعصم الكوافر.
وزاد في المجمع وبقوله ولا تنكحوا المشركات.
والقمي أحل الله نكاح أهل الكتاب بعد تحريمه في قوله في سورة البقرة ولا تنكحوا
12

المشركات حتى يؤمن قال وإنما يحل نكاح أهل الكتاب الذين يؤدون الجزية وغيرهم لم
تحل مناكحتهم.
أقول: ويؤيد هذا الحديث النبوي أن سورة المائدة آخر القرآن نزولا فأحلوا
حلالها وحرموا حرامها.
وفي الكافي: عن الحسن بن الجهم قال قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام) يا أبا
محمد ما تقول في رجل يتزوج نصرانية على مسلمة قلت جعلت فداك وما قولي بين
يديك قال لتقولن فإن ذلك تعلم به قولي قلت لا يجوز نصرانية على مسلمة ولا على غير
مسلمة قال ولم قلت لقول الله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قال فما تقول في
هذه الآية والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قلت
فقر له ولا تنكحوا المشركات نسخت هذه الآية فتبسم ثم سكت.
وفيه وفي الفقيه عن الصادق (عليه السلام) في الرجل المؤمن يتزوج النصرانية
واليهودية قال إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية فقيل يكون له فيها
الهوى فقال إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير واعلم أن عليه في دينه
غضاضة (1).
وعن الباقر (عليه السلام) لا ينبغي للمسلم أن يتزوج يهودية ولا نصرانية وهو يجد
مسلمة حرة أو أمة.
وعنه (عليه السلام) إنما يحل منهن نكاح البله (2).
وفي الفقيه عنه (عليه السلام) أنه سئل عن الرجل المسلم أيتزوج المجوسية قال لا
ولكن إن كانت له أمة مجوسية فلا بأس أن يطأها ويعزل عنها ولا يطلب ولدها وفي
رواية لا يتزوج الرجل اليهودية والنصرانية على المسلمة ويتزوج المسلمة على اليهودية

(1) قولهم ليس عليك في هذا الأمر غضاضة أي ذلة ومنقصة عليه في دينه غضاضة وما علي من غضاضة.
(2) بله الرجل يبله بلها من باب تعب ضعف عقله فهو أبله والأنثى بلهاء والجمع بله كأحمر وحمراء وحمر وفي الحديث
عليك بالبلهاء قلت وما البلهاء قال ذوات الخدور العفايف.
13

والنصرانية وفي التهذيب عن الصادق (عليه السلام) لا بأس أن يتمتع الرجل باليهودية
والنصرانية وعنده حرة.
وفيه في جواز التمتع بهما وبالمجوسية أخبار أخر إذا آتيتموهن أجورهن مهورهن
محصنين اعفاء بالنكاح غير مسافحين غير مجاهرين بالزنا ولا متخذي أخدان (1)
مسرين به والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى ومن يكفر بالإيمان بجحد الشرايع
أو بتركها في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في تفسيره ترك العمل الذي أقربه من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل.
وفي رواية ترك العمل حتى يدعه أجمع والعياشي مثله وروى هو عن الصادق (عليه
السلام) أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحق فيقيم عليه
قال ومن يكفر بالايمان الذي لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به وعن الباقر (عليه
السلام) يعني ولاية علي (عليه السلام).
والقمي قال من آمن ثم أطاع أهل الشرك فقد حبط عمله وهو في الآخرة من
الخاسرين.
(6) يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وقرء بنصب الأرجل وهو مردود عندنا
كما يأتي وأريد بالقيام القيام من النوم.
ففي التهذيب والعياشي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل ما معنى إذا قمتم قال
إذا قمتم من النوم.
والعياشي عن الباقر (عليه السلام) سئل ما عنى بها قال عن النوم فاسترحنا من
تكلفات المفسرين واضماراتهم (2) وأما وجوب الوضوء بغير حدث النوم فمستفاد من الأخبار
كما أن وجوب الغسل بغير الجنابة مستفاد من محل آخر وكما أن سائر مجملات القرآن

(1) قوله تعالى ولا متخذي أخدان أي ولا متفردين ببغية واحدة خادنها وخادنته اتخذها لنفسه صديقة يفجر بها.
(2) قال في مجمع البيان معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم على غير طهر وحذف الإرادة لان في الكلام دلالة على
ذلك ومثله قوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وإذا كنت فيهم لهم الصلاة وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين.
14

إنما يتبين بتفسير أهل البيت وهم أدرى بما نزل في البيت من غيرهم والوجه ما يواجه به فلا
يجب تخليل الشعر الكثيف أعني الذي لا يرى البشرة خلاله في التخاطب إذ المواجهة
حينئذ إنما تكون بالشعر لا بما تحته كما ورد عن الباقر (عليه السلام) كل ما أحاط به
الشعر فليس على العباد ان يطلبوا ولا ان يبحثوا عنه ولكن يجري عليه الماء رواه في
التهذيب وفيه وفي الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) انه سئل عن الرجل يتوضأ
ايبطن (1) لحيته يقال لا.
وأما حد الوجه ففي الفقيه وفي الكافي والعياشي عن الباقر (عليه السلام) الوجه
الذي امر الله بغسله الذي لا ينبغي لاحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه إن زاد عليه لم
يؤجر وان نفص منه أثم ما دارت الوسطى والابهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن
وما جرت عليه الاصبهان من الوجه مستديرا فهو من الوجه وما سوى ذلك فليس من
الوجه قيل الصدغ ليس من الوجه قال لا وأما في سائر الأعضاء فيجب ايصال الماء
والبلل إلى البشرة وتخليل ما يمنع من الوصول كما هو مقتضى الأمر بالغسل والمسح فلا
يجزي المسح على القلنسوة ولا على الخفين في التهذيب عن الباقر (عليه السلام) جمع عمر
بن الخطاب أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيهم علي (عليه السلام) فقال
ما تقولون في المسح على الخفين فقام المغيرة بن شعبة فقال رأيت رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) يمسح على الخفين فقال علي قبل المائدة أو بعد المائدة فقال لا أدري
فقال علي سبق الكتاب الخفين إنما أنزلت المائدة قبل أن يقبض (صلى الله عليه وآله)
بشهرين أو ثلاثة.
أقول: المغيرة بن شعبة هذا هو أحد رؤساء المنافقين من أصحاب العقبة والسقيفة لعنهم الله.
وفي الفقيه روت عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال أشد الناس حسرة
يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد غيره.

(1) قوله يبطن بتشديد الطاء من بطن بيطن إذا أدخل الماء تحتها مما هو مستور بشعرها.
15

وروي عنها أنها قالت لان امسح على ظهر عير بالفلاة أحب إلي من أن أمسح
على خفي ولم يعرف للنبي (صلى الله عليه وآله) خف الا خف هداه له النجاشي وكان موضع
ظهر القدمين منه مشقوقا فمسح النبي (صلى الله عليه وآله) رجليه وعليه خفاه فقال
الناس أنه مسح على خفيه وعلى أن الحديث في ذلك غير صحيح الأسناد انتهى كلام
الفقيه ولما كانت اليد تطلق على ما تحت الزند وعلى ما تحت المرفق وعلى ما تحت المنكب
بين الله سبحانه غاية المغسول منها كما تقول لغلامك اخضب يدك إلى الزند وللصيقل
صقل سيفي إلى القبضة فلا دلالة في الآية على ابتداء الغسل بالأصابع وانتهائه إلى
المرافق كما أنه ليس في هاتين العبارتين دلالة على ابتداء الخضاب والتصقيل بأصابع اليد
ورأس السيف فهي مجملة في هذا المعنى يحتاج إلى تبيين أهل البيت (عليهم السلام) والمرفق
بكسر أوله وفتح ثالثه أو بالعكس مجمع عظمي الذراع والعضد ولا دلالة في الآية على
إدخاله في غسل اليد ولا على ادخال الكعب في مسح الرجلين لخروج الغاية تارة ودخولها
أخرى فهي في هذا المعنى مجملة وإنما تتبين بتفسيرهم والغسل يحصل بصب الماء على
العضو أو غمسه فيه إن لم يدلك فالباء في برؤوسكم للتبعيض وكذا في بوجوهكم وكذا في
المعطوفين عليهما أعني أرجلكم وأيديكم كذا عن الباقر (عليه السلام) كما يأتي والكعب
عظم مائل إلى الاستدارة واقع في ملتقى الساق والقدم نأت عن ظهره يدخل نتوه في
طرف الساق كالذي في أرجل البقر والغنم وربما يلعب به الأطفال وقد يعبر عنه بالمفصل
لمجاورته له وإنما اختلف الناس فيها لعدم غورهم في كلام أهل اللغة وأصحاب
التشريح واعراضهم عن التأمل في الأخبار المعصومية ولما كانت الرجل تطلق على القدم
وعلى ما تحت الركبة وعلى ما يشمل الفخذين بين الله سبحانه غاية الممسوح منها ثم
دلالة الآية على مسح الرجلين دون غسلهما اظهر من الشمس في رابعة النهار وخصوصا
على قراءة الجر ولذلك اعترف بها جمع كثير من القائلين بالغسل.
في التهذيب عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن قول الله عز وجل فامسحوا
برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين على الخفض هي أم على النصب قال بل هي على
الخفض.
أقول: وعلى تقدير القراءة على النصب أيضا يدل على المسح لأنها تكون حينئذ
16

معطوفة على محل الرؤوس كما تقول مررت بزيد وعمروا إذ عطفتها على الوجوه خارج
عن قانون الفصاحة بل عن أسلوب العربية روى العامة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
وابن عباس عن النبي (صلى الله عليه السلام) انه توضأ ومسح على قدميه ونعليه.
ورووا أيضا عن ابن عباس أنه قال إن كتاب الله المسح ويأبى الناس إلا الغسل
وانه قال الوضوء غسلتان ومسحتان من باهلني باهلته وأنه وصف وضوء رسول الله (صلى
الله عليه وآله) فمسح على رجليه.
وفي التهذيب عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن مسح الرجلين فقال هو الذي
نزل به جبرئيل.
وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) أنه يأتي عن الرجل ستون وسبعون سنة ما
قبل الله منه صلاة قيل وكيف ذلك قال لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه.
وفي الفقيه عن علي (عليه السلام) أن الرجل ليعبد الله أربعين سنة ما يطيعه في الوضوء
يغسل ما أمر الله بمسحه.
وفي الكافي والعياشي عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن وضوء رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فدعا بطست (1) أو تور فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة
فصبها على وجهه ثم غمس كفه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى
فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق، ثم غمس كفه اليمنى
فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع بها ما صنع باليمنى ثم مسح رأسه
وقدميه ببل كفه لم يحدث لهما ماء جديدا ثم قال ولا يدخل أصابعه تحت الشراك (2) قال
ثم قال إن الله تعالى يقول إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وليس له أن يدع شيئا
من وجهه إلا غسله وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين فليس له أن يدع شيئا من يديه إلى
المرفقين إلا غسله لان الله تعالى قال اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ثم قال
وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين فإذا مسح بشئ من رأسه أو بشئ من
قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأ فقيل أين الكعبان قال هيهنا يعني

(1) والترديد من الراوي والتور بالفتح فالسكون اناء صغير من صفر أو خزف يشرب منه ويتوضأ فيه ويؤكل منه.
(2) الشراك بكسر الشين أحد سيور النعل التي يكون على وجهها توثق به الرجل ومنه الحديث لا تدخل يدرك تحت
الشراك أي شراك النعل.
17

المفصل دون عظم الساق قيل هذا ما هو فقال هذا من عظم الساق والكعب أسفل من
ذلك قيل أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجري للوجه وغرفة للذراع قال نعم إذا بالغت
فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله.
وفي الفقيه والعياشي عن زرارة قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) الا تخبرني من
أين علمت وقلت أن المسح ببعض الرأس وببعض الرجلين فضحك (عليه السلام) ثم
قال يا زرارة قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونزل به الكتاب من الله لان الله تعالى
يقول فاغسلوا وجوهكم فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل ثم قال وأيديكم إلى
المرافق فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين ثم
فصل بين الكلام فقال وامسحوا برؤوسكم فعرفنا حين قال برؤوسكم أن المسح ببعض
الرأس لمكان الباء ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال وأرجلكم
إلى الكعبين فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما ثم فسر ذلك رسول الله
للناس فضيعوه الحديث ويأتي تمامه عن قريب وأشار إليه بقوله لمكان الباء أن الباء
للتبعيض فلا وجه لانكار سيبويه مجيئها له في سبعة عشر موضعا من كتابه.
وإنما بسطنا الكلام في تفسير آية الوضوء لعموم البلوى بها وكثرة الاختلاف فيها
والحمد لله على ما هدانا ببركة أهل بيت نبيه صلوات الله عليهم وتمام الكلام فيه يطلب
من كتابنا الوافي وإن كنتم جنبا فاطهروا عطف على جزاء الشرط الأول أعني فاغسلوا
وجوهكم يعني إذا قمتم من النوم إلى الصلاة فتوضؤوا وإن كنتم جنبا فاغتسلوا يدل
عليه قوله تعالى وإن كنتم مرضى فإنه مندرج تحت الشرط البتة فلو كان قوله وإن كنتم
معطوفا على قوله إذا؟ قمتم أو كان مستأنفا لم يتناسق المتعاطفان وللزم أن لا يستفاد
الارتباط ما بين الغسل والصلاة من الآية ولم يحسن لفظة إن بل ينبغي أن يقال وإذا
كنتم جنبا كما هو غير خاف (1) على من تتبع أساليب الكلام ويدل عليه أيضا ما في الكافي
عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن المرأة يجامعها الرجل فتحيض وهي في المغتسل قال

(1) خفي كرضي خفاء فهو خاف وخفي لم يظهر.
18

جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل وفي التهذيب عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل
عن غسل الجنابة فقال تبدأ فتغسل كفيك ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك
ومرافقك ثم تمضمض واستنشق ثم تغسل جسدك من لدن قرنك (1) إلى قدميك ليس بعده
ولا قبله وضوء وكل شئ أمسسته الماء فقد أنقيته ولو أن رجلا ارتمس في الماء ارتماسة
واحدة أجزأه ذلك وإن لم يدلك جسده.
وفي الكافي مقطوعا إن لم يكن أصاب كفه شئ غمسها في الماء ثم بدا بفرجه
فأنقاه بثلاث غرف ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على منكبه الأيمن مرتين وعلى
منكبه الأيسر مرتين فما جرى عليه الماء أجزأه وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد
منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه قد مضى تفسير هذه الآية في سورة النساء فلا حاجة إلى
إعادته.
وفي الفقيه في حديث زرارة السابق آنفا متصلا بآخره ثم قال ولم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه فلما وضع الوضوء إن لم يجدوا الماء أثبت
بعض الغسل مسحا لأنه قال بوجوهكم ثم وصل بها وأيديكم ثم قال منه أي من ذلك
التيمم لأنه علم أن ذلك أجمع لم يجر على الوجه لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض
الكف ولا يعلق ببعضها قوله (عليه السلام) من ذلك التيمم الظاهر أن المراد به المتيمم به
بدليل قوله إن ذلك يعني الصعيد أجمع لم يجر على الوجه ويستفاد منه أن لفظة من في
منه للتبعيض وأنه يشترط علوق التراب بالكف وأنه لا يجوز التيمم بالحجر الغير المغبر
كما مضى تحقيقه ما يريد الله بفرض الطهارات ليجعل عليكم من حرج من ضيق
ولكن يريد ليطهركم من الأحداث والذنوب فإن الطهارة كفارة للذنوب كما هي رافعة
للاحداث وليتم نعمته عليكم بهذا التطهير لعلكم تشكرون نعمته.
(7) واذكروا نعمة الله عليكم بالاسلام ليذكركم المنعم ويرغبكم في شكره

(1) القرن جانب الرأس.
19

وميثاقه الذي واثقكم به قيل يعني عند اسلامكم بأن تطيعوا الله فيما يفرضه عليكم
سركم أو ساءكم.
وفي المجمع عن الباقر (عليه السلام) أن المراد بالميثاق ما بين لهم في حجة الوداع من
تحريم المحرمات وكيفية الطهارة وفرض الولاية وغير ذلك.
أقول: وهذا داخل في ذاك إذ قلتم سمعنا وأطعنا.
القمي قال لما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الميثاق عليهم بالولاية قالوا سمعنا
وأطعنا ثم نقضوا ميثاقه واتقوا الله في إنساء نعمته ونقض ميثاقه إن الله عليم بذات
الصدور بخفياتها فضلا عن جليات أعمالكم.
(8) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط مر تفسيره ولا يجرمنكم
ولا يحملنكم شنان قوم شدة عداوتهم وبغضهم على أن لا تعدلوا فتعدوا عليهم
بارتكاب ما لا يحل كمثله وقذف وقتل النساء وصبية ونقض عهد تشفيا مما في قلوبكم
اعدلوا في أوليائكم وأعداءكم هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون
فيجازيكم قيل تكرير هذا الحكم إما لاختلاف السبب كما قيل أن الأولى نزلت في
المشركين وهذه في اليهود أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء نائرة الغيظ.
(9) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم.
(10) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم قابل الوعد بالوعيد
وفاء بحق الدعوة.
(11) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا
يبطشوا إليكم أيديهم بالقتل والإهلاك فكف أيديهم عنكم منعها أن تمد إليكم ورد
مضرتها عنكم (1)
القمي يعني أهل مكة من قبل فتحها فكف أيديهم بالصلح يوم الحديبية واتقوا الله

(1) البطش الأخذ بسرعة والأخذ بعنف وسطوة
20

وعلى الله فليتوكل المؤمنون فإنه الكافي لايصال الخير ودفع الشر.
(12) ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا كفيلا
أمينا شاهدا من كل سبط ينقب (1) عن أحوال قومه ويفتش عنها ويعرف مناقبهم وقال الله
إني معكم بالنصرة لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وصدقتموهم
وعزرتموهم ونصرتموهم وقويتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا بالانفاق في سبيله لأكفرن
عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر
منكم فقد ضل سواء السبيل قيل أمر الله بني إسرائيل بعد هلاك فرعون بمصر بأن
يسيروا إلى أريحا من أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة وقال إني كتبتها لكم قرارا وأمر
موسى (عليه السلام) بأن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا
به من الخروج إلى الجبابرة والجهاد وقائدا ورئيسا لهم فاختار النقباء وأخذ الميثاق على
بني إسرائيل وتكفل لهم به وسار بهم فلما دنا من أرضهم بعث النقباء يتجسسون فرأوا
اجراما عظاما وقوة فرجعوا وأخبروا موسى بذلك فأمرهم أن يكتموا ذلك فحدثوا بذلك
قومهم الا كالب بن يوفنا من سبط يهودا ويوشع بن نون من سبط افرائيم بن يوسف وكانا
من النقباء.
(13) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم طردناهم من رحمتنا وجعلنا قلوبهم قاسية لا
تنفعل عن الآيات والنذر، وقرئ قسية على المبالغة يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا
حظا تركوا نصيبا وافرا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم خيانة أو فرقة خائنة
إلا قليلا منهم لم يخونوا فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين حث على الصفح
القمي منسوخة بقوله اقتلوا المشركين.
(14) ومن الذين قالوا إنا نصارى ادعوا نصرة الله بالاتسام بهذا الاسم أخذنا
ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم من بني إسرائيل فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا فالزمنا

(1) يقال نقبوا في البلاد صاروا في نقوبها أي في طرقها طلبا للهرب ونقيب القوم كالكفيل والضمين ينقب عن الأسرار
ومكنون الإضمار وإنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف الطريق إلى معرفة أمورهم.
21

بينهم العداوة بالافعال والبغضاء بالقلوب إلى يوم القيمة وسوف ينبئهم الله بما كانوا
يصنعون بالجزاء والعقاب.
(15) يا أهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من
الكتاب كنعت (محمد صلى الله عليه وآله) وآية الرجم في التورية وبشارة عيسى بأحمد
(صلى الله عليه وآله) في الإنجيل ويعفوا عن كثير مما تخفونه لا يخبر به. القمي قال يبين
النبي كثيرا مما أخفيتموه مما في التوراة من أخباره ويدع كثيرا لا يبينه.
وفي المجمع عن الباقر (عليه السلام) عند تفسير يا أيها الرسول لا يحزنك الذين
يسارعون في الكفر من هذه السورة ان امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل
من أشرافهم وهما محصنان فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا
النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب
بن الأشرف وكعب بن أسيد وشعبة بن عمرو ومالك بن الضيف وكنانة بن أبي الحقيق
وغيرهم فقالوا يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما فقال (صلى الله
عليه وآله) وهل ترضون بقضائي في ذلك قالوا نعم فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم
بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبرئيل (عليه السلام) اجعل بينك وبينهم ابن صوريا
ووصفه له فقال النبي (صلى الله عليه وآله) هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن
فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم قال فأي رجل هو فيكم قالوا هو أعلم يهودي بقي
على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى قال فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم عبد الله بن
صوريا فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) إني أنشدك الذي لا إله إلا هو الذي
أنزل التوراة على موسى وفلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون وظلل عليكم
الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن قال
ابن صوريا نعم والذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني رب التورية أن كذبت أو غيرت
ما اعترفت لك ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمد قال (صلى الله عليه وآله) إذا
شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم
فقال ابن صوريا هكذا أنزل الله في التوراة على موسى (عليه السلام) فقال له النبي (صلى
22

الله عليه وآله) فماذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله قال كنا إذا زنى الشريف تركناه وإذا
أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم
نرجمه ثم زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه لا حتى ترجم فلانا يعنون ابن
عمه فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد
والتحميم (1) وهو أن يجلد أربعين جلدة ثم يسود وجوههما ثم يحملان على حمارين ويجعل
وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم فقالت اليهود لابن
صوريا ما أسرع ما أخبرته وما كنت لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائبا فكرهنا
أن نغتابك فقال إنه أنشدني بالتوراة ولولا ذلك لما أخبرته فأمر بهما النبي (صلى الله عليه
وآله) فرجما عن باب مسجده وقال أنا أول من أحيى أمرك إذ أماتوه فأنزل الله سبحانه
فيه يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو
عن كثير فقام ابن صوريا فوضع يده على ركبتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال
هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض النبي
(صلى الله عليه وآله) عن ذلك قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين قيل النور محمد (صلى
الله عليه وآله) والكتاب القرآن وقيل كلاهما القرآن وأيد بتوحيد الضمير في به.
والقمي قال يعني بالنور أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام).
(16) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام طرق السلامة من العذاب
ويخرجهم من الظلمات أنواع الكفر إلى النور بالإسلام بإذنه بإرادته وتوفيقه ويهديهم
إلى صراط مستقيم طريق هو أقرب الطرق إلى الله والى جنته.
(17) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله
شيئا فمن يمنع من قدرته وارادته شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن
في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله
على كل شئ قدير.

(1) حمم رأسه إذا اسود الحلق وحممت سخمت وجهه بالفحم.
23

(18) وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه أشياع ابنيه عزير والمسيح
قل فلم يعذبكم بذنوبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وفي الآخرة بالنار أياما معدودة
بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهم كفر والمعنى أنه يعاملكم
معاملة سائر الناس لا مزية لكم عليهم ولله ملك سماوات والأرض وما بينهما كلها
سواء في كونه خلقا وملكا وإليه المصير فيجازيكم كلا بما كسب.
(19) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم ما يحتاج إلى البيان على فترة من
الرسل على فتور من الارسال وانقطاع من الوحي قال الصدوق طاب ثراه في اكماله
معنى الفترة ان لا يكون نبي ولا وصي ظاهر مشهور وقد كان بين نبينا (صلى الله عليه
وآله) وبين عيسى (عليه السلام) أنبياء وأئمة مستورون خائفون منهم خالد بن سنان
العبسي لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر وكان بين مبعثه ومبعث نبينا (صلى الله عليه وآله)
خمسون سنة.
أقول: تصديق ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تخلو الأرض من قائم لله
بحجة اما ظاهر مشهور وإما خائف مغمور أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير كراهة
أن تقولوا ذلك وتعتذروا به فقد جاءكم بشير ونذير فلا تعتذروا والله على كل شئ قدير
قد مضى في سورة النساء عند قوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد إن الأمم يوم
القيمة تجحد تأدية رسالات رسلهم وتقول ما جاءنا من بشير ولا نذير والرسل
يستشهدون نبينا فيقول نبينا (صلى الله عليه وآله) لكل أمة بلى قد جائكم بشير ونذير
والله على كل شئ قدير أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل عليكم
رسالاتهم.
(20) وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم
أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين من فلق البحر وتظليل
الغمام وانزال المن والسلوى وغير ذلك.
(21) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة.
24

العياشي عن الباقر (عليه السلام) يعني الشام التي كتب الله لكم أن تكون مسكنا
لكم العياشي عن الصادق (عليه السلام) أن بني إسرائيل قال الله لهم ادخلوا الأرض
المقدسة فلم يدخلوها حتى حرمها عليهم وعلى أنبيائهم وإنما أدخلها أبناء أبنائهم وعنهما
(عليهما السلام) كتبها لهم ثم محاها ولا ترتدوا على أدباركم ولا ترجعوا مدبرين فتنقلبوا
خاسرين ثواب الدارين.
(22) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين شديدي البطش والبأس والخلق لا
تتأتى لنا مقاومتهم.
إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون إذ لا طاقة لنا
بهم.
(23) قال رجلان هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما ابنا عمه كذا عن الباقر (عليه
السلام) رواه العياشي من الذين يخافون أي يخافون الله ويتقونه أنعم الله عليهما
بالايمان والتثبيت ادخلوا عليهم الباب باب قريتهم أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق
وامنعوهم من الإصحار فإذا دخلتموه فإنكم غالبون لتعسر الكر عليهم في المضايق من
عظم أجسامهم ولأنهم أجسام لا قلوب فيها وعلى الله فتوكلوا في نصرته على الجبارين
إن كنتم مؤمنين به ومصدقين لوعده
(24) قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا
إنا هيهنا قاعدون قالوها استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما.
(25) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم
الفاسقين.
(26) قال فإنها محرمة عليهم لا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم أربعين سنة
يتيهون في الأرض يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقا فلا تأس على القوم
الفاسقين لأنهم أحقاء بذلك لفسقهم

(1) أصحر الرجل أي خرج إلى الصحراء. مجمع
25

العياشي عن الباقر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لا
تخطئون طريقهم ولا تخطأكم سنة بني إسرائيل ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) قال موسى
لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم فردوا عليه وكانوا ست مائة ألف
فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين الآيات قال فعصى إلا أربعون ألفا وسلم هارون
وابناه ويشوع بن نون وكالب بن يوفنا فسماهم الله فاسقين فقال لا تأس على القوم
الفاسقين فتاهوا أربعين سنة لأنهم عصوا فكانوا حذوا النعل بالنعل أن رسول الله لما
قبض لم يكن على أمر الله إلا علي والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام وسلمان
والمقداد وأبو ذر فمكثوا أربعين حتى قام علي فقاتل من خالفه.
وعنه (عليه السلام) قال نعم الأرض الشام وبئس القوم أهلها وبئس البلاد مصر أما
أنها سجن من سخط الله عليه ولم يكن دخول بني إسرائيل إلا معصية منهم لله لان
الله قال ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم يعني الشام فأبوا أن يدخلوها فتاهوا
في الأرض أربعين سنة في مصر وفيا فيها ثم دخلوها بعد أربعين سنة قال وما خروجهم
من مصر ودخولهم الشام إلا بعد توبتهم ورضاء الله عنهم وعن الصادق (عليه السلام)
وذكر موسى وقولهم اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هيهنا قاعدون قال فحرمها الله عليهم
أربعين سنة وتيههم فكانوا إذا كان العشاء وأخذوا في الرحيل نادوا الرحيل الرحيل الوحا (1)
الوحا فلم يزالوا كذلك حتى تغيب الشمس حتى إذا ارتحلوا واستوت بهم الأرض قال
الله تعالى للأرض ديري بهم فلم يزالوا كذلك حتى إذا أسحروا وقارب الصبح قالوا إن
هذا الماء قد أتيتموه فانزلوا فإذا أصبحوا إذا تيههم (2) ومنازلهم التي كانوا فيها بالأمس
فيقول بعضهم لبعض يا قوم لقد ضللتم وأخطأتم الطريق فلم يزالوا كذلك حتى اذن
الله لهم فدخلوها وقد كان كتبها لهم.
وفي الكافي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن موسى كليم الله مات في التيه

(1) الوحا الوحا بالمد والقصر أي السرعة وهو منصوب بفعل مضر.
(2) أرض تيه وتيه بالكسر وتيهاء ومتيهة كسفينة وتضم الميم وكمرحلة ومقعد مصلة وتيهه ضيعه.
26

فصاح صائح من السماء مات موسى وأي نفس لا تموت.
والقمي عن الباقر (عليه السلام) مات هارون قبل موسى وماتا جميعا في التيه والقمي
لما أراد موسى (عليه السلام) أن يفارقهم فزعوا وقالوا إن خرج موسى من بيننا نزل علينا
العذاب ففزعوا إليه وسألوه أن يقيم معهم ويسأل الله أن يتوب عليهم.
(27) واتل عليهم نبأ ابني آدم قابيل وهابيل بالحق بالصدق إذ قربا قربانا
القربان ما يتقرب به إلى الله من ذبيحة أو غيرها فتقبل من أحدهما لأنه رضى بحكم
الله وأخلص النية لله وعمد إلى أحسن ما عنده وهو هابيل ولم تقبل من الآخر لأنه
سخط حكم الله ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده وهو قابيل قال
لأقتلنك توعده (1) بالقتل لفرط حسده له على تقبل قربانه قال إنما يتقبل الله من المتقين
يعني إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي قيل فيه إشارة إلى أن الحاسد
ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا الا في
إزالة حظه فان ذلك مما يضره ولا ينفعه وان الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق.
(28) لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي وقرء يدي باسكان الياء
إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.
(29) انى أريد أن تبوء أن ترجع بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار
وذلك جزاء الظالمين لعل غرضه بالذات أن لا يكون ذلك له لا أن يكون لأخيه في
ثواب الأعمال عن الباقر (عليه السلام) من قتل مؤمنا أثبت الله على قاتله جميع الذنوب
وبرأ المقتول منها وذلك قول الله عز وجل إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من
أصحاب النار.
(30) فطوعت له نفسه (2) اتسعت له قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين دينا

(1) في الكلام حذف وتقدير أي قال الذي لم يتقبل منه للذي تقبل منه لأقتلنك فقال له لم تقتلني قال إنه تقبل قربانك
ولم يتقبل قرباني قال له وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين. إ
(2) أي شجعته وزينته وقيل رخصته وسهلته من أطاع له المرتع إذا اتسع
27

ودنيا إذ بقي مدة عمره مطرودا محزونا نادما.
في المجمع عن الباقر (عليه السلام) أن حواء امرأة آدم كانت تلد في كل بطن غلاما
وجارية فولدت في أول بطن قابيل وقيل قابين وتوأمته أقليما بنت آدم والبطن الثاني
هابيل وتوأمته ليوذا فلما أدركوا جميعا أمر الله تعالى أن ينكح آدم (عليه السلام) قابيل أخت هابيل
وهابيل أخت قابيل فرضي هابيل وأبى قابيل لان أخته كانت أحسنهما وقال ما أمر الله
بهذا ولكن هذا من رأيك فأمرهما أن يقربا قربانا فرضيا بذلك فعمد هابيل وكان صاحب
ماشية فأخذ من خير غنمه وزبدا ولبنا وكان قابيل صاحب زرع فأخذ من شر زرعه
ثم صعدا فوضعا القربانين على الجبل فأتت النار فأكلت قربان هابيل وتجنبت قربان
قابيل وكان آدم غايبا بمكة خرج إليها ليزور البيت بأمر ربه فقال قابيل لا عشت يا
هابيل في الدنيا وقد تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني وتريد أن تأخذ أختي الحسناء وآخذ
أختك القبيحة فقال له هابيل ما حكاه الله تعالى فشدخه بحجر فقتله والعياشي عن
الصادق (عليه السلام) في حديث سبق صدره في أول سورة النساء قيل له إنهم يزعمون
أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما فقال تقول هذا ما تستحي أن تروي
هذا على نبي الله آدم فقيل فبم قتل قابيل هابيل فقال في الوصية ثم قال إن الله تبارك
وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل وكان قابيل أكبر فبلغ
ذلك قابيل فغضب فقال أنا أولى بالكرامة والوصية فأمرهما أن يقربا قربانا بوحي من الله
إليه ففعلا فتقبل الله قربان هابيل فحسده قابيل فقتله.
وفي الإكمال عن الباقر (عليه السلام) قال بعد ذكر قربانيهما وكان القربان إذا قبل
تأكله النار فعمد قابيل فبنى لها بيتا وهو أول من بنى للنار البيوت وقال لأعبدن هذه
النار حتى يتقبل قرباني ثم إن عدو الله إبليس قال لقابيل إنه قد تقبل قربان هابيل
ولم يتقبل قربانك فان تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك فقتله قابيل فلما رجع
إلى آدم قال له يا قابيل أين هابيل فقال ما أدري وما بعثتني راعيا له فانطلق آدم فوجد
هابيل مقتولا فقال لعنت من أرض كما قبلت دم هابيل فبكى آدم على هابيل أربعين ليلة
وفي الكافي عنه (عليه السلام) ما في معناه.
28

(31) فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سواة أخيه (1) قال
يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من
النادمين (2) على قتله.
القمي عن السجاد بعد ذكر قربانيهما قال فلم يدر كيف يقتله حتى جاء إبليس
فعلمه فقال ضع رأسه بين حجرين ثم أشدخه فلما قتله لم يدر ما يصنع به فجاء غرابان
فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر الأرض الذي بقي بمخالبه ودفن فيها صاحبه
قال قابيل يا ويلتي الآية فحفر له حفيرة فدفنه فيها فصارت سنة يدفنون الموتى فرجع
قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم أين تركت ابني قال له قابيل أرسلتني
عليه راعيا فقال آدم انطلق معي إلى مكان القربان وأوجس (3) قلب آدم بالذي فعل قابيل
فلما بلغ مكان القربان استبان قتله فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل وأمر آدم أن
يلعن قابيل ونودي قابيل من السماء لعنت كما قتلت أخاك ولذلك لا تشرب الأرض
الدم فانصرف آدم فبكى على هابيل أربعين يوما وليلة فلما جزع عليه شكى ذلك إلى
الله فأوحى إليه أني واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل فولدت حواء غلاما مباركا
فلما كان اليوم السابع أوحى الله إليه يا آدم إن هذا الغلام هبة مني لك فسمه هبة الله
فسماه هبة الله.
وفي المجمع روت العامة عن الصادق (عليه السلام) قتل قابيل هابيل وتركه بالعراء (4)
لا يدري ما يصنع به فقصده السباع فحمله في جراب (5) على ظهره حتى أروح (6)
وعكفت (7) عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا

(1) سوأة أخيه أي عورته وما لا يجوز أن ينكشف من جسده وقيل أي جيفته والسوء الخالة القبيحة ويا ويلتي كلمة
عذاب يقال ويل له وويله ومعناه الدعاء بالاهلاك.
(2) قوله فأصبح من النادمين على قتله ولكن لم يندم على الوجه الذي يكون توبة كمن يندم على الشرب لأنه يصدعه
فلذلك ندمه عن الجبائي وقيل من النادمين على حمله لا على قتله وقيل من النادمين على موت أخيه لا على انكار الذنب.
(3) الوجس كالوعد الفزع يقع في القلب أو السمع من صوت أو غيره كالوجسان والصوت الخفي وقوله تعالى
فأوجس في نفسه أي أحس وأضمر.
(4) العراء بالمد فضاء لا يتوارى فيه شجر أو غيره ويقال العراء وجه الأرض.
(5) الجراب بالكسر وعاب من أهاب شاة يوعى فيه الحب والدقيق ونحوهما.
(6) أروح أي أنتن ريحه. 7 - عكفت عليه الطير أي اجتمعت.
29

فقتل أحد ها صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجليه ثم ألقاه في الحفيرة وواراه وقابيل
ينظر إليه فدفن أخاه.
العياشي عن الباقر (عليه السلام) أن قابيل بن آدم معلق بقرونه في عين الشمس
تدور به حيث دارت في زمهريرها وحميمها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة صيره إلى
النار.
وعنه (عليه السلام) وذكر ابن آدم القاتل فقيل له ما حاله أمن أهل النار هو فقال
سبحان الله الله أعدل من ذلك أن يجمع عليه عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
وفي الإحتجاج قال طاووس اليماني لأبي جعفر (عليه السلام) هل تعلم أي يوم مات ثلث
الناس فقال يا عبد الله لم يمت ثلث الناس قط إنما أردت ربع الناس قال وكيف ذلك
قال كان آدم وحواء وقابيل وهابيل فذلك ربع قال صدقت قال أبو جعفر هل تدري ما صنع
بقابيل قال لا قال علق بالشمس ينضح (1) بالماء الحار إلى أن تقوم الساعة.
(32) من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل القمي لفظ الآية خاص في بني
إسرائيل ومعناها جار في الناس كلهم إنه من قتل نفسا بغير نفس بغير قتل نفس
يوجب الاقتصاص أو فساد في الأرض أو بغير فساد فيها كالشرك وقطع الطريق
فكأنما قتل الناس جميعا لهتكه حرمة الدماء وتسنينه سنة القتل وتجرأة الناس عليه
في الفقيه والعياشي عن الصادق (عليه السلام) واد في جهنم لو قتل الناس جميعا
كان فيه إنما يدخل ذلك المكان قيل فان قتل آخر قال يضاعف عليه.
وفي رواية أخرى له في النار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يزدد على ذلك المقعد.
والعياشي ما يقرب من الروايتين ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ومن تسبب
لبقاء حياتها بعفو أو منع من القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلاك فكأنما فعل ذلك
بالناس جميعا، القمي قال من أنقذها من حرق أو غرق أو هدم أو سبع أو كفله حتى

(1) النضح الرش ونضحت الثوب نضحا من باب ضرب ونفع رششته بالماء.
30

يستغني أو أخرجه من فقر إلى غني وأفضل من ذلك من أخرجها من ضلال إلى هدى.
وفي الكافي عن الباقر (عليه السلام) في تفسيرها قال من حرق أو غرق قيل فمن
أخرجها من ضلال إلى هدى قال ذلك تأويلها الأعظم.
وفيه والعياشي مثله عن الصادق (عليه السلام).
وعنه (عليه السلام) من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها ومن أخرجها من
هدى إلى ضلال فقد قتلها وعنه (عليه السلام) تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له.
وفي الفقيه عنه (عليه السلام) من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق
رقبة ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه كان كمن أحيا نفسا " فكأنما
أحيا الناس جميعا ولقد جائتهم رسلنا بالبينات الواضحة بعد ما كتبنا عليهم هذا
التشديد العظيم تأكيدا للامر وتجديدا للعهد كي يتحاموا (1) من أمثال هذه الجنايات ثم إن
كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون مجاوزون عن الحق، في المجمع عن الباقر
(عليه السلام) المسرفون هم الذين يستحلون المحارم ويسفكون الدماء.
(33) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن
يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض في
الكافي والعياشي عن الصادق (عليه السلام) قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قوم من بني ضبة مرضى فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أقيموا عندي فإذا
برأتم بعثتكم في سرية فقالوا أخرجنا من المدينة فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من
أبوالها ويأكلون من ألبانها فلما برأوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل وساقوا الإبل
فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخبر فبعث إليهم عليا وهم في واد قد تحيروا
ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريب من أرض اليمن فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت عليه هذه الآية فاختار رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) القطع فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وعنه (عليه السلام) أنه سئل عن هذه الآية

(1) حاميت عنه محاماة وحماء منعت عنه.
31

فقال ذلك إلى الإمام يفعل به ما يشاء قيل فمفوض ذلك إليه قال لا ولكن نحو الجناية
وفي حديث آخر ليس أي شئ شاء صنع ولكنه يصنع بهم على قدر جناياتهم من قطع
الطريق فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله وصلب ومن قطع الطريق وقتل ولم يأخذ
المال قتل ومن قطع الطريق وأخذ المال ولم يقتل قطع يده ورجله ومن قطع الطريق ولم
يأخذ مالا ولم يقتل نفي من الأرض وفي معناه أخبار أخر وعن الرضا (عليه السلام) ما
يقرب منه وأنه سئل كيف ينفى وما حد نفيه فقال ينفى من المصر الذي فعل فيه ما
فعل إلى مصر آخر غيره ويكتب إلى أهل ذلك المصر بأنه منفي فلا تجالسوه ولا تبايعوه
ولا تناكحوه ولا تواكلوه ولا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فان خرج من ذلك المصر إلى
غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتى يتم السنة وفي حديث آخر فإنه سيتوب قبل ذلك وهو
صاغر قيل فإن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها قال إن توجه إلى أرض الشرك
ليدخلها قوتل أهلها.
أقول إنما يقاتل أهلها إذا أرادوا استلحاقه إلى أنفسهم وأبوا أن يسلموه إلى
المسلمين ليقتلوه وهذا معنى قوله قوتل أهلها.
وفي رواية أخرى للعياشي يضرب عنقه إن أراد الدخول في أرض الشرك وفي
رواية له عن الجواد (عليه السلام) في جماعة قطعوا الطريق قال فإن كانوا أخافوا السبيل
فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا امر بايداعهم الحبس فإن ذلك معنى نفيهم من
الأرض.
وفي رواية في الكافي أن معنى نفي المحارب أن يقذف في البحر ليكون عدلا للقتل
والصلب.
وعن الباقر (عليه السلام) من حمل السلاح بالليل فهو محارب إلا أن يكون رجلا
ليس من أهل الريبة ذلك لهم خزي في الدنيا ذل وفضيحة ولهم في الآخرة عذاب
عظيم لعظم ذنوبهم.
(34) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم
قيل الاستثناء مخصوص بما هو حق الله أما القتل قصاصا فإلى الأولياء يسقط بالتوبة
32

وجوبه لا جوازه والتوبة بعد أخذه إنما تسقط العذاب دون الحد إلا أن تكون عن
الشرك.
(35) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ما تتوسلون إليه به إلى
ثوابه والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي بعد معرفة الإمام واتباعه من وسل
إلى كذا إذا تقرب إليه.
القمي قال تقربوا إليه بالإمام (عليه السلام).
وفي العيون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأئمة من ولد الحسين (عليهم
السلام) من أطاعهم فقد أطاع الله ومن عصاهم فقد عصى الله هم العروة الوثقى
والوسيلة إلى الله.
وفي الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة الوسيلة إنها أعلى درجة في الجنة
ثم وصفها ببسط من الكلام من أراده فليرجع إليه وجاهدوا في سبيله سبيل الله
بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة لعلكم تفلحون بالوصول إلى الله والفوز بكرامته.
(36) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض من صنوف الأموال جميعا ومثله
معه ليفتدوا به ليجعلوه فدية لأنفسهم من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم تمثيل
للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه ولهم عذاب أليم.
(37) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم
العياشي عنهما (عليهما السلام) أنهم أعداء علي (عليه السلام).
(38) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما السرقة أخذ مال الغير في خفية.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل في كم يقطع السارق قال في ربع دينار
قيل في درهمين قال في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ قيل أرأيت من سرق أقل من ربع
دينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق وهل هو عند الله سارق في تلك الحال فقال
كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق وهو عند الله
سارق ولكن لا يقطع إلا في ربع دينار وأكثر ولو قطعت أيدي السراق فيما هو أقل من
33

ربع دينار لألفيت عامة الناس مقطعين وعنه (عليه السلام) القطع من وسط الكف ولا
يقطع الإبهام وإذا قطعت الرجل ترك العقب لم يقطع.
وفي رواية يقطع الأربع أصابع ويترك الإبهام يعتمد عليها في الصلاة ويغسل بها
وجهه للصلاة وفي معناهما أخبار أخر
والعياشي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان إذا قطع السارق ترك له الإبهام
والراحة فقيل له يا أمير المؤمنين تركت عامة يده فقال فإن تاب فبأي شئ يتوضأ يقول
الله فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم، وعن الجواد
أن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف والحجة في ذلك قول
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين
والرجلين فإذا قطعت يده من الكوع (1) أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تعالى
وان المساجد لله يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها فلا تدعوا مع الله
أحدا وما كان لله لم يقطع.
وفي الكافي عن الباقر (عليه السلام) قال قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في السارق
إذا سرق قطعت يمينه فإذا سرق مرة أخرى قطعت رجله اليسرى ثم إذا سرق مرة
أخرى سجنه وتركت رجله اليمنى يمشى عليها إلى الغائط ويده اليسرى يأكل بها
ويستنجي بها وقال إني لأستحيي من الله أن أتركه لا ينتفع بشئ ولكن أسجنه حتى
يموت في السجن وقال ما قطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سارق بعد بده
ورجله.
والعياشي ما يقرب منه وفي معناه أخبار كثيرة جزاء بما كسبا نكلا من الله عقوبة
منه والله عزيز حكيم.
(39) فمن تاب من السراق من بعد ظلمه بعد سرقته وأصلح أمره برد المال

(1) الكوع بالضم طرف الزند الذي يلي الابهام والجمع أكواع وعن الأزهري الكوع طرف الزند الذي يلي رسغ اليد
المحاذي للابهام وهما عظمان متلاصقان في الساعد أحدهما أدق من الآخر وطرفا يلتقيان عند مفصل الكف فالذي يلي
الخنصر يقال له الكرسوع والذي يلي الإبهام يقال له الكوع وهما عظما ساعدي الذراع.
34

والتفصي عن التبعات فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم يقبل توبته فلا يقطع
ولا يعذب في الآخرة إلا إذا كانت توبته بعد أن يقع في يد الإمام فلا يسقط القطع حينئذ
وإن عفا عنه صاحبه.
ففي الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنا فلم
يعلم ذلك منه ولم يؤخذ حتى تاب وصلح فقال إذا صلح فعرف منه أمر جميل لم يقم
عليه الحد.
وعن الصادق (عليه السلام) من أخذ سارقا فعفا عنه فذاك له فإذا رفع إلى الإمام
قطعه فإن قال الذي سرق منه أنا أهب له لم يدعه الإمام حتى يقطعه إذا رفع إلى
الإمام وإنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام وذلك قول الله والحافظون لحدود الله فإذا انتهى
الحد إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه.
وعنه (عليه السلام) أنه سئل عن الرجل يأخذ اللص يرفعه أو يتركه فقال إن
صفوان بن أمية كان مضطجعا في المسجد الحرام فوضع رداءه قد سرق حين رجع إليه
فقال من ذهب بردائي فذهب يطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال اقطعوا يده فقال صفوان تقطع يده من أجل ردائي يا رسول الله قال نعم
قال فإني أهبه له فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهلا كان هذا قبل أن ترفعه
إلي قيل فالامام بمنزلته إذا رفع إليه قال نعم.
(40) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن
يشاء والله على كل شئ قدير.
(41) يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر في إظهاره إذا وجدوا
منه فرصة من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم يعني المنافقين ومن الذين
هادوا سماعون للكذب (1) قائلون له أو سماعون كلامك ليكذبوا عليك سماعون لقوم
آخرين لم يأتوك أي لجمع آخر من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وافراطا

(1) على تضمين السماع معنى القبول حتى يصح استعماله مع اللام.
35

في البغضاء يعني مصغون لهم قائلون كلامهم أو سماعون منك لأجلهم وللانهاء إليهم
يحرفون الكلم من بعد مواضعه يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بتغييره وحمله
على غير المراد وإجرائه في غير مورده أو إهماله يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ان أوتيتم
هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به وإن لم تؤتوه بل أفتاكم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
بخلافه فاحذروا قبول ما أفتاكم به قيل كان سبب نزول هذه الآية ما مر في تفسير قد
جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من هذه السورة من قصة ابن صوريا
ومحاكمته بين نبينا (صلى الله عليه وآله) واليهود.
والقمي كان سبب نزولها إنه كان في المدينة بطنان من اليهود من بني هارون وهم
النضير وقريظة وكانت قريظة سبعمأة والنضير ألفا وكانت النضير أكثر مالا وأحسن
حالا من قريظة وكانوا حلفاء لعبد الله بن أبي فكان إذا وقع بين قريظة والنضير قتل
وكان القتيل من بني النضير قالوا لبني قريظة لا نرضى أن يكون قتيل منا بقتيل منكم
فجرى بينهم في ذلك مخاطبات كثيرة حتى كادوا أن يقتلوا حتى رضيت قريظة وكتبوا
بينهم كتابا على أنه أي رجل من اليهود من النضير قتل رجلا من بني قريظة أن يحنب (1)
ويحمم والتحنيب أن يقعد على جمل ويولى وجهه إلى ذنب الجمل ويلطخ وجهه بالحمأة (2)
ويدفع نصف الدية وأيما رجل قتل رجلا من النضير أن يدفع إليه الدية كاملة ويقتل به
فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخل الأوس والخزرج في الإسلام
ضعف أمر اليهود فقتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير فبعثوا إليهم بني
النضير ابعثوا إلينا بدية المقتول وبالقاتل حتى نقتله فقالت قريظة ليس هذا حكم
التوراة وإنما هو شئ غلبتمونا عليه فإما الدية وإما القتل وإلا فهذا محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) بيننا وبينكم فهلموا نتحاكم إليه فمشت بنو النضير إلى عبد الله بن أبي
فقالوا سل محمدا أن لا ينقض شرطنا في هذا الحكم الذي بيننا وبين قريظة في القتل
فقال عبد الله بن أبي ابعثوا رجلا يسمع كلامي وكلامه فإن حكم لكم بما تريدون وإلا

(1) حنب تحنيبا نكس.
(2) الحمأة الطين الأسود المنتن.
36

فلا ترضوا به فبعثوا معه رجلا فجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا
رسول الله إن هؤلاء القوم قريظة والنضير قد كتبوا بينهم كتابا وعهدا وثيقا تراضوا به
والآن في قدومك يريدون نقضه وقد رضوا بحكمك فيهم فلا تنقض كتابهم وشرطهم فإن
النضير لهم القوة والسلاح والكراع (1) ونحن نخاف الدواير فاغتم رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) من ذلك ولم يجبه بشئ فنزل عليه جبرئيل بهذه الآيات قال يحرفون الكلم
من بعد مواضعه يعني عبد الله بن أبي وبني النضير وإن لم تؤتوه فاحذروا يعني عبد
الله قال لبني النضير إن لم يحكم بما تريدونه فلا تقبلوا ومن يرد الله فتنته اختباره ليفضح
فلن تملك له من الله شيئا فلن تستطيع له من الله شيئا في دفعها أولئك الذين لم يرد
الله أن يطهر قلوبهم من العقوبات المرتبة على الكفر كالختم والطبع والضيق لهم في
الدنيا خزي هوان بالزام الجزية على اليهود وإجلاء بني النضير منهم وإظهار كذبهم في
كتمان الحق وظهور كفر المنافقين وخوفهم جميعا من المؤمنين ولهم في الآخرة عذاب عظيم
وهو الخلود في النار.
(42) سماعون للكذب كرره للتأكيد أكلون للسحت أي الحرام من سحته إذا
استأصله لأنه مسحوت البركة وقرئ بضمتين.
وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن السحت فقال الرشا في الحكم.
وعنه (عليه السلام) السحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغي والرشوة
وأجر الكاهن وفي رواية ثمن الكلب الذي لا يصيد.
وعن الباقر (عليه السلام) كل شئ غل من الإمام فهو سحت وأكل مال اليتيم
وشبهه سحت والسحت أنواع كثيرة منها أجور الفواجر وثمن الخمر والنبيذ المسكر
والربا بعد البينة وأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله.
وفي الفقيه عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قاض بين فريقين يأخذ من
السلطان على القضاء الرزق قال ذلك السحت وفي العيون عن أمير المؤمنين (عليه

(1) الكراع اسم لجماعة الخيل خاصة. قوله تعالى ان تصيبنا دائرة أي من دوائر الزمان أعني صروفه التي تدور
وتحيط بالانسان مرة بخير ومرة بشر.
37

السلام) في قوله تعالى أكالون للسحت قال هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل
هديته.
والقمي قال السحت بين الحلال والحرام وهو أن يواجر الرجل نفسه على المسكر
ولحم الخنزير واتخاذ الملاهي فاجارته نفسه حلال ومن جهة ما يحمل ويعمل هو سحت
فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم تخيير له في التهذيب عن الباقر (عليه السلام)
أن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة والإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه إن شاء حكم
بينهم وإن شاء تركهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا بأن يعادوك لاعراضك
عنهم فإن الله يعصمك من الناس وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط بالعدل الذي أمر
الله به إن الله يحب المقسطين.
(43) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله تعجيب من تحكيمهم
من لا يؤمنون به والحال إن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي عندهم وفيه تنبيه
على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا به ما يكون أهون
عليهم وإن لم يكن حكم الله في زعمهم ثم يتولون من بعد ذلك ثم يعرضون عن
حكمك الموافق لكتابهم بعد التحكيم وما أولئك بالمؤمنين بكتابهم لاعراضهم عنه أولا
وعما يوافقه ثانيا.
(44) إنا أنزلنا التوراة فيها هدى بيان للحق ونور يكشف ما أسبتهم من
الأحكام يحكم بها النبيون الذين أسلموا انقادوا لله قيل وصفهم بالاسلام لأنه دين
الله للذين هادوا يحكمون لهم والربانيون والأحبار يحكم بها الربانيون والأحبار بما
استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء (1).
العياشي عن الصادق عليه الصلاة والسلام الربانيون هم الأئمة دون الأنبياء
الذين يربون الناس بعلمهم والأحبار هم العلماء دون الربانيين قال ثم أخبر عنهم فقال
بما استحفظوا من كتب الله وكانوا عليه شهداء ولم يقل بما حملوا منه.

(1) أي كانوا على حكم النبي (صلى الله عليه وآله) في الرجم أنه ثابت في التوراة شهداء عن ابن عباس وقيل كانوا
شهداء على الكتاب أنه من عند الله عطاء.
38

وعن الباقر (عليه السلام) هذه الآية فينا نزلت فلا تخشوا الناس واخشون قيل نهي
للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها ولا تشتروا بآياتي ولا تستبدلوا
بأحكامي التي أنزلتها ثمنا قليلا من رشوة أو جاه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الكافرون.
في الكافي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حكم بدرهمين بحكم جور ثم
جبر عليه كان من أهل هذه الآية.
وعن الباقر والصادق (عليهما السلام) من حكم في درهمين بغير ما أنزل
الله ممن له سوط أو عصا فهو كافر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
(45) وكتبنا عليهم وفرضنا على اليهود فيها في التوراة أن النفس بالنفس (1) أي
تقتل بها والعين بالعين (2) تفقأ بها والأنف بالأنف تجدع بها. والأذن بالأذن (3) تصلم بها
والسن بالسن تقلع بها والجروح قصاص ذات قصاص وقرء بالرفع في الخمس
وبتخفيف الأذن.
القمي هي منسوخة بقوله كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد
والأنثى بالأنثى وقوله والجروح قصاص لم ينسخ فمن تصدق به بالقصاص أي عفا
عنه فهو كفارة له.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح
وغيره وفي الفقيه مثله إلا أنه قال ما عفا عن العمد ومن لم يحكم بما أنزل الله من
القصاص وغيره فأولئك هم الظالمون.
(46) وقفينا على اثارهم واتبعنا على آثار النبيين الذين أسلموا بعيسى ابن مريم

(1) معناه إذا قتلت نفسا أخرى عمدا فإنه يستحق عليه العود إذا كان القاتل عاقلا مميزا أو كان المقتول مكافئا
للقاتل.
(2) قال العلماء كل شخصين جرى القصاص بينهما في العين والأنف والأذن والسن وجميع الأطراف إذا تماثلا في
السلامة والشلل وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضا في الأطراف.
(3) الاصطلام الاستيصال و هو افتعال من الصلم وهو القطع المستأصل.
39

مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ومصدقا لما بين يديه
من التوراة وهدى وموعظة للمتقين إنما خصهم بالذكر مع عموم الموعظة لأنهم
اختصوا بالانتفاع به.
(47) وليحكم وقرء بكسر اللام وفتح الميم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (1).
(48) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق أي القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب
من جنس الكتب المنزلة ومهيمنا عليه ورقيبا على سائر الكتب يحفظه عن التغير
ويشهد له بالصحة والثبات فاحكم بينهم بما أنزل الله أي انزل إليك ولا تتبع أهوائهم
عما جاءك من الحق بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه لكل جعلنا منكم أيها الناس
شرعة شريعة وهي الطريق إلى الماء شبه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة
الأبدية ومنهاجا وطريقا واضحا من نهج الأمر إذا أوضح، وفي الكافي عن الباقر (عليه
السلام) في حديث فلما استجاب لكل نبي من استجاب له من قومه من المؤمنين جعلنا
لكل منهم شرعة ومنهاجا والشرعة والمنهاج سبيل وسنة قال وأمر كل نبي بالاخذ بالسبيل
والسنة وكان من السبيل والسنة التي أمر الله بها موسى (عليه السلام) أن جعل عليهم السبت ولو شاء
الله لجعلكم أمة واحدة جماعة متفقة على دين واحد ولكن ليبلوكم فيما آتيكم من
الشرائع المختلفة المناسبة لكل عصر وقرن هل تعلمون بها مصدقين بوجود الحكمة في
اختلافها فاستبقوا الخيرات فابتدروها انتهازا (2) للفرصة وحيازة لقصب السبق والتقدم إلى
الله مرجعكم جميعا وعد ووعيد للمبادرين والمقصرين فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون
بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والمبادر والمقصر.
(49) وأن أحكم بينهم بما أنزل الله قيل عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك
الكتاب والحكم أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم ويجوز الاستيناف بتقدير
وأمرنا أن احكم.

(1) قيل أن الأول في الجاحد والثاني والثالث في المقر التارك.
(2) النهزة بالضم الفرصة وانتهزتها ونهز نهزا من باب نفع نهض لتناول شئ وانتهز الفرصة بادر وقتها.
40

في المجمع عن الباقر (عليه السلام) إنما كرر الأمر بالحكم بينهم لأنهما حكمان أمر بهما
جميعا لأنهم احتكموا إليه في قتل كان بينهم ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك أن
يضلوك ويصرفوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا عن الحكم المنزل وأرادوا
غيره فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم فيه تنبيه على أن لهم ذنوبا كثيرة
والتولي عن حكم الله مع عظمته واحد منها معدودة من جملتها وإن كثيرا من الناس
لفاسقون هذا تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن امتناع القوم من الاقرار
بنبوته والاسراع إلى إجابته بأن أهل الإيمان قليل وأن أهل الفسق كثير فلا ينبغي أن
بعظم ذلك عليك.
(50) أفحكم الجاهلية يبغون انكار على توليهم عن حكم الله وقرء بالتاء ومن
أحسن من الله حكما لقوم يوقنون أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين
يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله.
في الكافي عن الصادق عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهما الحكم حكمان حكم
الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية وقد قال الله عز وجل
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وأشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض
بحكم الجاهلية.
(51) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء لا تعتمدوا على
الإنتصار بهم متوددين إليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب بعضهم أولياء بعض في
العون والنصرة ويدهم واحدة عليكم وهم المتفقون في مضادتكم ومن يتولهم منكم
فإنه منهم من استنصر بهم فهو كافر مثلهم.
العياشي عن الصادق (عليه السلام) من تولى آل محمد صلوات الله عليهم وقدمهم
على جميع الناس بما قدمهم من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو من آل
محمد صلوات الله عليهم بمنزلة آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين لا أنه من القوم
بأعيانهم وإنما هو منهم بتوليه إليهم واتباعه إياهم وكذلك حكم الله في كتابه ومن يتولهم
منكم فإنه منهم وقول إبراهيم فمن تبعني فإنه منى إن الله لا يهدى القوم الظالمين
41

الذين ظلموا أنفسهم والمؤمنين بمولاة الكفار.
(52) فترى الذين في قلوبهم مرض كابن أبي وأضرابه يسارعون فيهم
موالاتهم ومعاونتهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم
دائرة من الدواير بأن ينقلب الأمر ويكون الدولة للكفار، روي أن عبادة بن الصامت
قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم وإني أبرء
إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم وأوالي الله ورسوله فقال ابن أبي إني رجل أخاف
الدواير لا أبرئ من ولاية موالي فنزلت فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسوله أو أمر من
عنده فيه إعزاز المؤمنين وإذلال المشركين وظهور الإسلام فيصبحوا أي هؤلاء المنافقين
على ما أسروا في أنفسهم من النفاق والشك في أمر الرسول نادمين.
العياشي عن الصادق (عليه السلام) في تأويل هذه الآية اذن (1) في هلاك بني أمية بعد
احراق زيد سبعة أيام.
(53) ويقول الذين آمنوا بعضهم لبعض أو لليهود وقرء بدون واو العطف
وبالنصب عطفا على يأتي أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم تعجبا من
حال المنافقين وتبجحا (2) بما من الله عليهم من الإخلاص وجهد الأيمان أغلظها حبطت
أعملهم فأصبحوا خاسرين إما من جهة المقول أو من قول الله شهادة لهم.
وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أحبط أعمالهم ما أخسرهم.
(54) يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه وقرء يرتدد بدالين جوابه
محذوف يعني فلن يضر دين الله شيئا فإن الله لا يخلي دينه من أنصار يحمونه.
القمي قال هو مخاطبة لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين غصبوا
آل محمد صلوات الله عليهم حقهم وارتدوا عن دين الله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه يحبهم الله ويحبون الله وقد سبق معنى المحبة من الله ومن العباد أذلة على

(1) أي كما اذن الله في هلاكهم إنما ذكر بمناسبة قوله فعسى الله أن يأتي بالفتح م أو أمر من عنده.
(2) البجح محركة الفرح.
42

المؤمنين (1) رحماء عليهم من الذل بالكسر الذي هو اللين لا من الذل بالضم الذي هو
الهوان أعزة على الكافرين غلاظ شداد عليهم من عزه إذا غلبه يجاهدون في سبيل
الله بالقتال لاعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ولا يخافون لومة لائم فيما يأتون من الجهاد
والطاعة.
في المجمع عن الباقر والصادق (عليهما السلام) هم أمير المؤمنين وأصحابه
حتى قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين.
قال ويؤيد هذا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفه بهذه الصفات حين ندبه
لفتح خيبر بعد أن رد عنها حامل الراية إليه مرة بعد أخرى وهو يجبن الناس
يجبنونه لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار لا
يرجع حتى يفتح الله على يديه ثم أعطاها إياه فأما الوصف باللين على أهل الإيمان
والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع أنه لا يخاف لومة لائم فمما لا يمكن دفع
علي عن استحقاق ذلك لما ظهر من شدته على أهل الشرك والكفر ونكابته فيهم
ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين والرأفة بالمؤمنين وعن أمير المؤمنين (عليه
السلام) أنه قال يوم البصرة والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم وتلا هذه الآية، وعن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلئون (2) عن
الحوض فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا
على أدبارهم القهقرى.
والقمي إنها نزلت في مهدي الأمة وأصحابه (عليهم السلام) وأولها خطاب لمن ظلم آل
محمد صلوات الله عليهم وقتلهم وغصبهم حقهم.
وفي المجمع ويمكن أن ينصر هذا بأن قوله سبحانه فسوف يأتي الله بقوم يوجب أن
يكون ذلك القوم غير موجودين في وقت نزول الخطاب فهو يتناول من يكون بعدهم بهذه

(1) قال ابن عباس تراهم للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده وهم في الغلظة على الكافرين كاسبع على فريسته.
(2) حلات؟ الإبل بالتشديد تحلئة وتحلا طردتها عنه ومنعتها ان تراه وكذلك غير الإبل.
43

الصفة إلى قيام الساعة.
أقول: لا منافاة بين الروايتين على ما حققناه في المقدمات من جواز التعميم ذلك
فضل الله أي محبتهم لله سبحانه ولين جانبهم للمؤمنين وشدتهم على الكافرين تفضل
من الله وتوفيق ولطف منه ومنة من جهته يؤتيه من يشاء يعطيه من يعلم أنه محل له
والله واسع جواد لا يخاف نفاد ما عنده عليم بموضع جوده وعطائه.
(55) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم راكعون.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية يعني أولى بكم أي أحق
بكم وبأموركم من أنفسكم وأموالكم الله ورسوله والذين آمنوا يعني عليا وأولاده الأئمة
إلى يوم القيامة ثم وصفهم الله عز وجل فقال الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) في صلاة الظهر وقد صلى ركعتين وهو راكع وعليه حلة
قيمتها ألف دينار وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاه إياها وكان النجاشي
أهداها له فجاء سائل فقال السلام عليك يا ولي الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم تصدق
على مسكين فطرح الحلة إليه وأومى بيده إليه أن أحملها فأنزل الله عز وجل فيه هذه
الآية وصير نعمة أولاده بنعمته فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة
مثله فيتصدقون وهم راكعون والسائل الذي سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) من الملائكة
والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة.
وعنه عن أبيه عن جده (عليهم السلام) في قوله عز وجل يعرفون نعمة الله ثم
ينكرونها قال لما نزلت إنما وليكم الله الآية اجتمع نفر من أصحاب رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجد المدينة فقال بعضهم إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها وإن
آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالوا قد علمنا أن
محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق فيما يقول ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا قال
فنزلت هذه الآية يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها يعني ولاية علي وأكثرهم الكافرون
بالولاية.
44

وعنه (عليه السلام) أنه سئل الأوصياء طاعتهم مفروضة قال نعم هم الذين قال الله
أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم وهم الذين قال الله إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا الآية.
وفي الإحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث فقال المنافقون هل بقي
لربك بعد الذي فرض علينا شئ آخر يفترض فتذكره لتسكن أنفسنا إلى أنه لم
يبق غيره فأنزل الله في ذلك قل إنما أعظكم بواحدة يعني الولاية فأنزل الله إنما وليكم
الله ورسوله الآية وليس بين الأمة خلاف إنه لم يؤت الزكاة يومئذ أحد منهم وهو راكع
غير رجل واحد ولو ذكر اسمه في الكتاب لأسقط مع ما أسقط.
وعن الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث في قوله
سبحانه يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك قال وأنا مبين لكم سبب نزول هذه
الآية إن جبرئيل هبط إلي مرارا يأمرني عن السلام ربي وهو السلام أن أقوم في هذا
المشهد فأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه أخي
ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي وهو وليكم بعد الله ورسوله وقد أنزل الله تبارك
وتعالى علي بذلك آية من كتابه إنما وليكم الله ورسوله الآية وعلي بن أبي طالب (عليه
السلام) أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع يريد الله عز وجل في كل حال.
وفي الخصال في إحتجاج علي صلوات الله عليه على أبي بكر قال فأنشدك بالله ألي
الولاية من الله مع ولاية رسوله في آية زكاة الخاتم أم لك قال بل لك وفيه في مناقب أمير
المؤمنين (عليه السلام) وتعدادها قال وأما الخامسة والستون فإني كنت أصلي في المسجد
فجاء سائل وأنا راكع فناولته خاتمي من أصبعي فأنزل الله تعالى إنما وليكم الله ورسوله
الآية.
والقمي عن الباقر (عليه السلام) قال بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس
وعنده قوم من اليهود وفيهم عبد الله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الآية فخرج رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسجد فاستقبله سائل فقال هل أعطاك أحد شيئا قال
نعم ذاك المصلي فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا هو أمير المؤمنين (عليه
السلام.
45

والأخبار مما روته العامة والخاصة في أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام)
كثيرة جدا ونقل في المجمع عن جمهور المفسرين أنها نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام)
حين تصدق بخاتمه في ركوعه وذكر قصته عن ابن عباس وغيره ويمكن التوفيق بين ما
رواه في الكافي أن المصدق به كان حلة وبين ما رواه غيره واشتهر بين الخاصة والعامة
أنه كان خاتما بأنه لعله تصدق في ركوعه مرة بالحلة وأخرى بالخاتم والآية نزلت بعد
الثانية وفي قوله تعالى ويؤتون إشعار بذلك لتضمنه التكرار والتجدد كما إنه فيه إشعار
بفعل أولاده أيضا.
(56) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
فإن هم الغالبون وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه وكأنه قيل فإنهم
حزب الله وإن حزب الله هم الغالبون (1) وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا
الاسم وتعريضا بمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان وأصل الحزب القوم يجتمعون
لامر حزبهم، في المجالس عن الباقر (عليه السلام) في قوله إنما وليكم الله الآية قال إن رهطا
من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن أمين وابن صوريا فأتوا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا يا نبي الله إن موسى (عليه السلام) أوصى إلى يوشع بن نون
فمن وصيك يا رسول الله ومن ولينا بعدك فنزلت هذه الآية إنما وليكم الله ورسوله الآية
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوموا فقاموا فأتوا المسجد فإذا سائل خارج
فقال يا سائل أما أعطاك أحد شيئا قال نعم هذا الخاتم قال من أعطاكه قال أعطانيه
ذلك الرجل الذي يصلي قال قال على أي حال أعطاك قال كان راكعا فكبر النبي (صلى
الله عليه وآله) وكبر أهل المسجد فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب
(عليه السلام) وليكم بعدي قالوا رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) نبيا وبعلي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وليا فأنزل الله ومن يتول
الله ورسوله والذين امنوا فإن حزب الله هم الغالبون.

(1) يقال نوهت باسمه بالتشديد إذا رفعت ذكره ونوهته تنويها إذا رفعته وناه الشئ ينوه إذا ارتفع فهو نايه قاله
الجزري.
46

وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال والله لقد تصدقت بأربعين خاتما وأنا راكع
لينزل في ما نزل في علي بن أبي طالب فما نزل.
وفي الإحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) والذين آمنوا في هذا الموضع
هم المؤتمنون على الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر.
وفي التوحيد عن الصادق (عليه السلام) يجئ رسول الله صلى الله عليه وآله) يوم
القيامة آخذا بحجزة (1) ربه ونحن آخذون بحجزة نبينا (صلى الله عليه وآله) وشيعتنا
آخذون بحجزتنا فنحن وشيعتنا حزب الله وحزب الله هم الغالبون والله ما يزعم أنها
حجزة الإزار ولكنها أعظم من ذلك يجئ رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخذا بدين الله
ونحن نجئ آخذين بدين نبينا (صلى الله عليه وآله) وتجئ شيعتنا آخذين بديننا.
(57) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء وقرء الكفار بالجر إلى رتب النهي عن موالاتهم
على اتخاذهم دينهم هزوا ولعبا إيماء إلى العلة وتنبيها على أن من هذا شأنه بعيد عن
الموالاة جدير بالمعاداة قيل نزلت في رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث أظهر الإسلام
ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما خص المنافقين باسم الكفار وإن عم أهل
الكتاب لتضاعف كفرهم واتقوا الله إن كنتم مؤمنين.
(58) وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا اتخذوا الصلاة والمناداة
مضحكة روي أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قال أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام
فتطاير شرارة في البيت فأحرقه وأهله ذلك بأنهم قوم لا يعقلون فإن السفه يؤدي إلى
الجهل بالحق والهزء به (2) والعقل يمنع منه.

(1) في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) خذوا بحجزة هذا الأنزع يعني عليا (عليه السلام) فإنه الصديق الأكبر
والفارق الأعظم يفرق بين الحق والباطل الحجرة بضم الحاء المهملة وإسكان الجيم والرأي معقد الأزار ثم قيل للازار
حجزة للمجاورة والجمع حجز مثل غرفة غرف وقد استعير الأخذ بالحجزة للتمسك والاعتصام يعني تمسكوا واعتصموا به.
(2) الهزو والهزء السخرية والاستخفاف بعدي بالباء فيقال هزأت به واستهزأت به سخرت به ويقال هزأت منه أيضا.
47

(59) قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا هل تنكرون منا وتعيبون إلا أن آمنا بالله
وما انزل الينا وما انزل من قبل بالكتب المنزلة كلها وان أكثركم فاسقون وبأن أكثركم
خارجون عن أمر الله طلبا للرياسة وحسدا على منزلة النبوة.
(60) قل هل أنبئكم بشر من ذلك المنقوم يعني إن كان ذلك شرا عندكم فأنا أخبركم
بشر منه مثوبة جزاء ثابتا عند الله والمثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر وضعت هيهنا
موضعها على طريقة قوله سبحانه فبشرهم بعذاب أليم من لعنه الله أبعد من رحمته
وغضب عليه وسخط عليه بكفره وانهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات وجعل
منهم القردة والخنازير مسخهم وعبد الطاغوت وقرء (1) بضم الباء وجر التاء ومن عبد
الطاغوت وهو الشيطان وكل من عبد من دون الله قيل من جعل القردة هم أصحاب
السبت والخنازير كفار أهل مائدة عيسى على نبينا و (عليه السلام) وقيل إنهما معا
أصحاب السبت مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير ومن عبد الطاغوت أصحاب
العجل ويأتي ما ورد في ذلك في هذه السورة أولئك الملعونون شر مكانا وأضل عن
سواء السبيل عن قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى وغلو اليهود والمراد
بصيغتي التفضيل الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين.
(61) وإذا جاؤكم قالوا آمنا القمي نزلت في عبد الله بن أبي وقد دخلوا
بالكفر وهم قد خرجوا به يخرجون من عندك كما دخلوا لا يؤثر فيهم ما سمعوا منك
والله أعلم بما كانوا يكتمون من الكفر فيه وعيد لهم.
(62) وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم المعصية والعدوان تعدى حدود
الله وأكلهم السحت الحرام كالرشوة لبئس ما كانوا يعملون.

(1) أي وقرأ حمزة وحده قال أبو علي حجته في قراءته أنه يحمله على ما عمل فيه جعل كأنه وجعل فيهم عبد الطاغوت
ومعنى جعل خلق كقوله وجعل الظلمات والنور وجعل عنها زوجها وليس عبد جمع لفظ لأنه ليس من أبنية الجموع شئ
على هذا البناء ولكنه واحد يراد به الكثرة الا ترى ان في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الأفراد ومعناه الجمع
كما في قوله وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ولان بناء فعل يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ وندس فكان تقديره أنه قد ذهب
في عبادة الطاغوت كل مذهب وتكرر ذلك له ومن فتح فقال وعبد الطاغوت فإنه عطف على بناء الماضي الذي في الصلة
وهو قوله لعنه الله وافرد الضمير في عبد وإن كان المعنى فيه الكثرة لان الكلام محمول على لفظه دون معناه وفاعله ضمير من
كما أن فاعل الأمثلة للمعطوف عليه ضمير من فأفرد لحمل ذلك جمعا على اللفظ ولو حمل الكل على المعنى أو البعض على
المعنى أو البعض على اللفظ والبعض على المعنى لكان مستقيما.
48

(63) لولا ينههم الربانيون والأحبار علماؤهم عن قولهم الإثم كالكذب
وكلمة الشرك مثل عزير ابن الله وأكلهم السحت قيل لولا إذا دخل على الماضي أفاد
التوبيخ وإذا دخل على المستقبل أفاد التخصيص لبئس ما كانوا يصنعون ذمهم بأبلغ
من ذم مرتكبي الكباير لان كل عامل لا يسمى صانعا حتى يتمكن في عمله ويتمهر
والوجه فيه أن ترك الحسنة أقبح من مواقعة المعصية لأن النفس تلتذ بالمعصية وتميل
إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها وعن ابن عباس هي أشد آية في القرآن.
وفي الكافي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه في خطبة له إنما هلك من كان
قبلكم حيثما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك وأنهم لما
تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات
فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر الحديث.
وفي كلام آخر له (عليه السلام) في حديث رواه ابن شعبة في تحف العقول قال اعتبروا أيها
الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار يقول لولا ينهاهم الربانيون
والأحبار عن قولهم الإثم وقال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل إلى قوله لبئس ما
كانوا يفعلون وقد مضى أخبار أخر في ذلك في سورة آل عمران عند قوله تعالى ولتكن
منكم أمة يدعون إلى الخير.
(64) وقالت اليهود يد الله مغلولة غل (1) اليد كناية عن البخل وبسطها عن
الجود.
والقمي قال قالوا قد فرغ الله من الأمر لا يحدث الله غير ما قدره في التقدير
الأول فرد الله عليهم فقال بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء أي يقدم ويؤخر ويزيد
وينقص وله البداء والمشيئة.
وفي التوحيد عن الصادق (عليه السلام) في هذه الآية لم يعنوا أنه هكذا ولكنهم
قالوا قد فرغ الله من الأمر فلا يزيد ولا ينقص قال الله جل جلاله تكذيبا لقولهم غلت
أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ألم تسمع الله تعالى يقول
يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتب.

(1) غل فلانا من باب منع ادخل عليه الغل وهو معروف والمصدر غل بفتح الفاء أو غلول كقعود.
49

وفي العيون عن الرضا (عليه السلام) في كلام له في إثبات البداء مع سليمان
المروزي وقد كان ينكره فقال أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب قال أعوذ بالله من
ذلك وما قالت اليهود قال قالت اليهود يد الله مغلولة يعنون إن الله قد فرغ من الأمر فليس
يحدث شيئا الحديث.
والعياشي عن الصادق (عليه السلام) يعنون أنه قد فرغ مما هو كان غلت أيديهم
ولعنوا بما قالوا دعاء عليهم بل يداه مبسوطتان تثنية (1) اليد إشارة إلى تقابل أسمائه
سبحانه وكناية عن غاية الجود فإن الجواد في الغاية إنما يعطي بيديه جميعا ينفق كيف
يشاء على ما تقتضيه الحكمة والصلاح وليزيدن كثيرا منهم ما انزل إليك من ربك
طغيانا وكفرا على طغيانهم وكفرهم كما يزداد المريض مرضا من تناول غذاء
الأصحاء
وألقينا بينهم العدوة والبغضاء إلى يوم القيمة فكلماتهم مختلفة و قلوبهم شتى
فلا يقع بينهم موافقة (2) كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله كلما أرادوا محاربة غلبوا قيل
كانوا في أشد بأس وأمنع دار حتى أن قريشا كانت تعتضد بهم وكان الأوس والخزرج
تتكثر بمظاهرتهم فذلوا وقهروا وقتل النبي بني قريظة وأجلى بني النضير وغلب على
خيبر وفدك واستأصل الله شأفتهم (3) حتى إن اليوم تجد اليهود في كل بلدة أذل
الناس ويسعون في الأرض فسادا للفساد بمخالفة أمر الله والاجتهاد في محو ذكر
الرسول من كتبهم قيل لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بخت نصر ثم أفسدوا
فسلط الله عليهم فطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم

(1) ويمكن أن يكون المراد النعمة ويكون الوجه في تثنية النعمة انه أراد نعم الدنيا ونعم الآخرة لان الكل وان كانت
نعم الله فمن حيث أخص كل منهما بصفة تخالف صفة الآخر كأنهما جنسان ويمكن أن يكون تثنية النعمة انه أريد بهما النعم
الظاهرة والباطنة كما قال الله وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وقيل إن المراد باليد القوة والقدرة عن الحسن ومعناه قوتاه
بالثواب والعقاب مبسوطتان بخلاف قول اليهود ان يده مقبوضة عن عذابنا.
(2) وفي هذا دلالة معجزة لان الله أخبرهم فوافق خبره المخبر فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأسا وامنعهم دارا
إلى آخر ما ذكره في مجمع البيان وأورد خلاصته في هذا الكتاب.
(3) الشأفة قرحة تخرج في أصل القدم فيكوى فتذهب وإذا قطعت مات صاحبها والأصل واستأصل الله شأفته أذهبه
كما تذهب تلك القرحة أو معناه ازاله من أصله.
50

المسلمين والله لا يحب المفسدين فلا يجازيهم إلا شرا.
(65) ولو أن أهل الكتاب آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبما جاء به واتقوا لكفرنا
عنهم سيئاتهم التي فعلوها ولم يؤاخذهم بها ولأدخلناهم جنت النعيم فإن الإسلام
يجب ما قبله وإن جل.
(66) ولو أنهم أقاموا التورية والإنجيل بإذاعة ما فيهما والقيام بأحكامهما وما
أنزل إليهم من ربهم.
في الكافي والعياشي عن الباقر (عليه السلام) يعني الولاية لأكلوا من فوقهم ومن
تحت أرجلهم لوسع عليهم أرزاقهم وأفيض عليهم بركات من السماء والأرض
القمي قال من فوقهم المطر ومن تحت أرجلهم النبات منهم أمة مقتصدة قد
دخلوا في الإسلام القمي قوم من اليهود دخلوا في الإسلام فسماهم الله مقتصدة وكثير
منهم ساء ما يعملون وفيه معنى التعجب أي ما أسوء عملهم وهم الذين أقاموا
على الجحود والكفر.
(67) يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك يعني في علي صلوات
الله عليه فعنهم (عليهم السلام) كذا نزلت وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (1) إن تركت تبليغ
ما انزل إليك في ولاية علي (عليه السلام) وكتمته كنت كأنك لم تبلغ شيئا من رسالات ربك في
استحقاق العقوبة وقرء رسالته على التوحيد والله يعصمك من الناس يمنعك من أن ينالوك
بسوء إن الله لا يهدى القوم الكافرين في الجوامع عن ابن عباس وجابر بن عبد الله
رضي الله عنه إن الله تعالى أمر نبيه (صلى الله عليه وآله) ان ينصب عليا عليه الصلاة
والسلام للناس ويخبرهم بولايته فتخوف أن يقولوا حامى ابن عمه وأن يشق ذلك على
جماعة من أصحابه فنزلت هذه الآية فأخذ بيده يوم غدير خم وقال (صلى الله عليه وآله)
من كنت مولاه فعلي مولاه.
وقرء العياشي عنهما (عليهما السلام) ما في معناه.

(1) يعني ان لم تنص بولاية علي فيضيع امر التوحيد ولا يخلص ايمان الله وفي بعض القراءات الشاذة فما بلغت رسالاته
بصيغة الجمع.
51

ورواه في المجمع عن الثعلبي والحسكاني وغيرهما من العامة وفي الكافي عن
الباقر (عليه السلام) في حديث ثم نزلت الولاية وإنما أتاه ذلك يوم الجمعة بعرفة أنزل الله
تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي وكان كمال الدين بولاية علي
بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه فقال عند ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أمتي حديثوا عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ويقول قائل
فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني فأتتني عزيمة من الله بتلة (1) أوعدني ان لم
أبلغ أن يعذبني فنزلت (يا أيها الرسول بلغ) الآية
فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) فقال
أيها الناس إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد كان عمره الله
ثم دعاه فأجابه فأوشك أن ادعى فأجيب وأنا مسؤولون فماذا أنتم
قائلون؟
فقالوا نشهد انك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك فجزاك الله أفضل جزاء
المرسلين.
فقال اللهم اشهد ثلاث مرات ثم قال:
يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي فليبلغ الشاهد منكم الغائب قال أبو
جعفر (عليه السلام) كان والله أمين الله على خلقه وغيبه ودينه الذي ارتضاه لنفسه.
وعنه (عليه السلام) أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي (عليهما السلام) وانزل
عليكم إنما وليكم الله ورسوله الآية وفرض ولاية اولي الأمر فلم يدروا ما هي فأمر الله
محمدا (صلى الله عليه وآله) أن يفسر لهم الولاية كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم
والحج فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتخوف
أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله تعالى إليه
يا أيها الرسول الآية وصدع بأمر الله تعالى ذكره فقام بولاية علي (عليه السلام) يوم غدير

(1) يقال بتلت الشئ أبتله بالكسر إذا قطعته وأبنته من غيره ومنه قوله طلقها بتة بتلة ومنه حديث رسول الله (صلى
الله عليه وآله) في خبر النص فانتني عزيمة من الله بتلة أو عدني ان لم أبلغ ان يعذبني.
52

خم فنادى الصلاة جامعة وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب. (1)
قال (عليه السلام) وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر
الفرايض فأنزل الله عز وجل اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي قال يقول
الله تعالى عز وجل لا انزل عليكم بعدها فريضة قد أكملت لكم الفرائض.
وفي الإحتجاج عنه (عليه السلام) أنه قال قد حج رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) من المدينة وقد بلغ جميع الشرايع قومه غير الحج والولاية فأتاه جبرئيل (عليه
السلام) فقال له " يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك إني لم أقبض نبيا
من أنبيائي ولا رسولا من رسلي إلا بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي وقد بقي عليك من
ذلك فريضتان مما يحتاج أن تبلغهما قومك فريضة الحج، وفريضة الولاية والخلافة من
بعدك، فإني لم أخل أرضي من حجة ولن أخليها أبدا فإن الله يأمرك أن تبلغ قومك
الحج تحج ويحج معك كل من استطاع إليه سبيلا من أهل الحضر والأطراف والأعراب
وتعلمهم من حجهم مثل ما علمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وتوقفهم من ذلك
على مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم من الشرايع ".
فنادى مناد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الناس ألا إن رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) يريد الحج وأن يعلمكم من ذلك مثل الذي علمكم من شرايع
دينكم ويوقفكم من ذلك على ما أوقفكم عليه من غيره فخرج رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم) وخرج معه الناس وأصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله فحج
بهم وبلغ من حج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل المدينة وأهل الأطراف
والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون على نحو عدد أصحاب موسى سبعين ألفا
الذين أخذ عليهم بيعة هارون فنكثوا واتبعوا العجل والسامري وكذلك رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) أخذ البيعة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخلافة على عدد

(1) قال الفيروزآبادي فاصدع بما تؤمر أي شق جماعاتهم بالتوحيد أو أجبر بالقرآن أو أجبر بالقرآن أو اظهر أو احكم بالحق والفصل
بالأمر أو اقصد بما تؤمر أو أفرق به بين الحق والباطل وصدعه كمنعه شقه أو شقه نصفين أو شقه ولم يفترق وفلانا قصده
لمكرمه وبالحق تكلم به جهارا وبالأمر أصاب به موضعه وجاهر به انتهى.
53

أصحاب موسى فنكثوا البيعة واتبعوا العجل سنة بسنة ومثلا بمثل واتصلت التلبية ما بين
مكة والمدينة.
فلما وقف بالموقف أتاه جبرئيل عن الله تعالى فقال يا محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) إن الله تعالى يقرؤك السلام ويقول لك إنه قد دنا أجلك ومدتك وأنا مستقدمك على
ما لا بد منه ولا عنه محيص فاعهد عهدك (1) وقدم وصيتك واعمد إلى ما عندك من العلم
وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء
فسلمها إلى وصيك وخليفتك من بعدك حجتي البالغة على خلقي علي بن أبي طالب
(عليه السلام) فأقمه للناس علما وجدد عهده وميثاقه وبيعته وذكرهم ما أخذت عليهم من
بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم به وعهدي الذي عهدت إليهم من ولاية ولي ومولاهم
ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإني لم أقبض نبيا من الأنبياء
إلا من بعد إكمال ديني واتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي وذلك كمال توحيدي
وديني وإتمام نعمتي على خلقي باتباع ولي وطاعته وذلك أني لا أترك أرضي بلا قيم
ليكون حجة لي على خلقي فاليوم أكملت لكم دينكم الآية بولاية ولي ومولى كل
مؤمن ومؤمنة علي عبدي ووصي نبي والخليفة من بعده وحجتي البالغة على خلقي مقرون
طاعته بطاعة محمد (صلى الله عليه وآله) نبي ومقرون طاعته مع طاعة محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) بطاعتي من اطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني جعلته
علما بيني وبين خلقي من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ومن أشرك بيعته كان
مشركا ومن لقيني بولايته دخل الجنة ومن لقيني بعداوته دخل النار فأقم يا محمد عليا
صلوات الله عليهما علما وخذ عليهم البيعة وجدد عليهم عهدي وميثاقي الذي
واثقتهم عليه فإني قابضك إلي ومستقدمك علي.
فخشي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قومه وأهل النفاق والشقاق أن يتفرقوا
ويرجعوا جاهلية لما عرف من عدواتهم ولما تنطوي عليه أنفسهم لعلي (عليه السلام) من

(1) فاعهد عهدك أي أوص وصيتك واستعمال العهد في الوصية والعكس فوق حد الإحصاء في الآيات والأخبار
وغيرهما كقوله تعالى وعهدنا إلى آدم وعهدنا إلى إبراهيم وغير ذلك.
54

البغضة (1) وسأل جبرئيل (عليه السلام) أن يسأل ربه العصمة من الناس وانتظر أن يأتيه جبرئيل
بالعصمة من الناس من الله جل اسمه فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف (2) فأتاه
جبرئيل في مسجد الخيف فأمره أن يعهد عهده ويقيم عليا صلوات الله عليه علما للناس ولم
يأته بالعصمة من الله جل جلاله الذي أراد حتى أتى كراع الغميم بين مكة والمدينة
فأتاه جبرئيل (عليه السلام) وأمره بالذي أتاه به من قبل الله ولم يأته بالعصمة من الله
جل جلاله الذي أراد فقال يا جبرئيل إني أخشى قومي أن يكذبوني ولا يقبلوا قولي في
علي (عليه السلام) فرحل فلما بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبرئيل على
خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار (3) والعصمة من الناس فقال يا محمد إن
الله تعالى يقرؤك السلام ويقول لك " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي
صلوات الله وسلامه عليه وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس وكان
أوايلهم قربت من الجحفة (4) فأمره بأن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك
المكان ليقيم عليا (عليه السلام) للناس ويبلغهم ما أنزل الله تعالى في علي (عليه السلام)
وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس.
فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما جاءته العصمة مناديا ينادي في
الناس بالصلاة جامعة ويرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر فتنحى عن يمين الطريق
إلى جنب مسجد الغدير وأمره بذلك جبرئيل عن الله عز وجل وفي الموضع سلمات (5) فأمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقم (6) ما تحتهن وينصب له أحجار كهيئة المنبر

(1) البغض بالضم ضد الحب والبغضة بالكسر والبغضاء شدته.
(2) الخيف ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل ومنه سمى مسجد الخيف بمنى لأنه بني في خيف الجبل
والأصل مسجد خيف منى فخفف بالحذف. 3 - نهره وانتهره أي زبره وزجره.
(4) الجحفة بضم الجيم هي مكان بين مكة والمدينة محاذية لذي الخليفة من الجانب الشامي قريب من رابغ بين بدر
وخليص. 5 - السلمة كفرحة الحجارة ج ككتاب.
(6) قم البيت قما من باب قتل كنسه. قوله تعالى فحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا أي لم نبق منهم أحدا ومنه سمى
الغدير لأنه ماء يغادره السيول أي تخلفه فعيل بمعنى مفعول أو فعيل بمعنى فاعل لأنه يغدر بأهله أي ينقطع عند شدة الحاجة
إليه ومنع الدعاء اللهم من نعمك وهي اجل من أن تغادر أي تنقطع وغدير خم موضع بالجحفة شديد الوباء قال الأصمعي
لم يولد بغدير خم أحد فعاش إلى أن ينجو منه ويوم الغدير هو يوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو اليوم الذي
نصب رسول الله (صلى الله عليه آله وسلم) عليا (عليه السلام) خليفة بحضرة الجمع الكثير من الناس حيث قال من كنت مولاه فعلي مولاه قال الغزالي
وهو من أكابر علماء القوم في كتابه المسمى بسر العالمين ما هذا لفظه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى يو م الغدير من كنت مولاه
فعلي مولاه فقال عمر بن الخطاب بخ بخ لك يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ثم قال وهذا رضى
وتسليم وولاية وتحكيم ثم بعد ذلك غلب الهوى وحب الرياسة وعقود البنود وخفقان الرايات وازدحام الخيول وفتح
الأمصار والأمر والنهى فحملتهم على الخلاف فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون إلى أن قال ثم
أن أبا بكر قال على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم أفقال ذلك هزوا وجدا أو امتحانا فإن كان هزوا
فالخلفاء لا يليق بهم الهزل ثم قال والعجب من منازعة معاوية بن أبي سفيان عليا في الخلافة وأين أليس رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) قطع طمع من طمع فيها بقوله إذا ولى الخليفتان فاقتلوا الأخير منهما والعجب من حق واحد كيف ينقسم بين اثنين
والخلافة ليست بجسم ولا عرض فتتجزى انتهى كلامه وفيه دلالة على انحرافه عما كان عليه والله أعلم.
55

ليشرف على الناس فتراجع الناس واحتبس أواخرهم في ذلك المقام كان لا يزالون فقام
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوق تلك الأحجار ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم).
الحمد لله الذي علا في توحده ودنا في تفرده وجل في سلطانته وعظم في
أركانه وأحاط بكل شئ علما وهو في مكانه وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه مجيدا
لم يزل محمودا لا يزال بارئ المسموكات وداحي المدحوات وجبار الأرضين
والسماوات سبوح قدوس رب الملائكة والروح متفضل على جميع من براه متطول
على جميع من أنشأه يلحظ كل عين والعيون لا تراه كريم حليم ذو أناة قد وسع كل
شئ برحمته ومن عليهم بنعمته لا يعجل بانتقامه ولا يبادر إليهم بما استحقوا من
عذابه قد فهم السرائر وعلم الضمائر ولم تخفى عليه المكنونات ولا اشتبهت عليه
الخفيات له الإحاطة بكل شئ والغلبة على كل شئ والقوة في كل شئ والقدرة
على كل شئ ليس مثله شئ وهو منشئ الشئ حين لا شئ دائم قائم بالقسط لا
إله إلا هو العزيز الحكيم جل عن أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو
اللطيف الخبير لا يلحق أحد وصفه من معاينة ولا يجد أحد كيف هو من سر وعلانية
إلا بما دل عز وجل على نفسه وأشهد بأنه الله الذي ملا الدهر قدسه والذي يغشى
الأبد نوره والذي ينفذ أمره بلا مشاورة مشير ولا معه شريك في تقدير ولا تفاوت
في تدبير صور ما أبدع على غير مثال وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلف
ولا احتيال أنشأها فكانت وبرأها فبانت فهو الله الذي لا إله إلا هو المتقن الصنعة
56

الحسن الصنيعة العدل الذي لا يجور والأكرم الذي ترجع إليه الأمور وأشهد أنه
الذي تواضع كل شئ لقدرته وخضع كل شئ لهيبته مالك الأملاك ومفلك
الأفلاك ومسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يكور الليل على النهار
ويكور النهار على الليل يطلبه حثيثا قاصم كل جبار عنيد ومهلك كل شيطان
مريد لم يكن معه ضد ولا ند أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد إله
واحد ورب ماجد يشاء فيمضي ويريد فيقضي ويعلم ويحصي ويميت ويحيي ويفقر
ويغني ويضحك ويبكي ويدني ويقصي ويمنع ويعطي له الملك وله الحمد بيده
الخير وهو على كل شئ قدير يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل لا إله
إلا هو العزيز الغفار مستجيب الدعاء ومجزل العطاء محصي الأنفاس ورب الجنة
والناس لا يشكل عليه شئ ولا يضجره صراخ المستصرخين ولا يبرمه إلحاح
الملحين العاصم للصالحين والموفق للمفلحين ومولى العالمين الذي استحق من كل
من خلق أن يشكره ويحمده على السراء والضراء والشدة والرخاء وأومن به
وبملائكته وكتبه ورسله أسمع أمره وأطيع وأبادر إلى كل ما يرضاه واستسلم
لقضائه رغبة في طاعته وخوفا من عقوبته لأنه الذي لا يؤمن مكره ولا يخاف
جوره أقر على نفسي بالعبودية وأشهد له بالربوبية وأؤدي ما أوحى إلي حذرا من أن
لا أفعل فيحل بي منه قارعة لا يدفعها عني أحد وإن عظمت حيلته لا إله إلا هو
لأنه قد أعلمني أني إن لم أبلغ ما أنزل إلى فما بلغت رسالته فقد ضمن لي تبارك
وتعالى العصمة وهو الله الكافي الكريم فأوحى الله إلي بسم الله الرحمن الرحيم يا
أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي صلوات الله وسلامه عليه وإن لم
تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس معاشر الناس ما قصرت في
تبليغ ما أنزله إلى وأنا مبين لكم سبب هذه الآية إن جبرئيل هبط إلي مرارا يأمرني عن
السلام ربي وهو السلام أن أقوم في هذا المشهد فاعلم كل أبيض وأسود أن علي
بن أبي طالب (عليه السلام) أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي الذي محله
مني محل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وهو وليكم بعد الله ورسوله وقد
57

أنزل الله تبارك وتعالى علي بذلك آية من كتابه إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وعلي بن أبي طالب (عليه
السلام) أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع يريد الله عز وجل في كل حال وسألت
جبرئيل (عليه السلام) أن يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم أيها الناس لعلمي بقلة
المتقين وكثرة المنافقين وإدغال (1) الآثمين وختل (2) المستهزئين بالاسلام الذين وصفهم
الله تعالى في كتابه بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويحسبونه هينا وهو
عند الله عظيم وكثرة إذا هم لي غير مرة حتى سموني اذنا وزعموا أني كذلك لكثرة
ملازمته إياه وإقبالي عليه حتى أنزل الله عز وجل في ذلك ومنهم الذين يؤذون
النبي ويقولون
هو اذن قل اذن على الذين يزعمون أنه اذن خير لكم الآية ولو شئت أن أسمي
بأسمائهم لسميت وأن أومي إليهم بأعيانهم لأومأت وأن أدل عليهم لدللت ولكني
والله في أمورهم قد تكرمت وكل ذلك لا يرضى الله مني إلا أن أبلغ ما أنزل إلي ثم
تلا يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي وإن لم تفعل فما بلغت
رسالته والله يعصمك من الناس علموا معاشر الناس أن الله قد نصبه لكم وليا
وإماما مفترضا طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين لهم بإحسان وعلى
البادي والحاضر وعلى الأعجمي والعربي والحر والمملوك والصغير والكبير وعلى
الأبيض والأسود وعلى كل موحد ماض حكمه جايز قوله نافذ أمره ملعون من
خالفه مرحوم من تبعه ومن صدقه فقد غفر الله له ولمن سمع منه وأطاع له معاشر
الناس إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لامر ربكم
فإن الله عز وجل هو ربكم ووليكم وإلهكم ثم من بعدي علي صلوات الله وسلامه عليه

(1) الدغلى محركة دخل في الأمر مفسد والشجر الكبير الملتف واشتباك النبت وكثرته والموضع يخاف فيه الاغتيال ج
ادغال ودغال ومكان دغل ككتف.
(2) يقال ختله يختله إذا خدعه وراوغه والمخاتلة المخادعة.
58

وليكم وإمامكم بأمر الله ربكم ثم الإمامة في ذريتي من ولده إلى يوم القيامة
يوم يلقون الله ورسوله لا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله عرفني
الحلال والحرام وأنا أفضيت (1) بما علمني ربي من كتابه حلاله وحرامه إليه معاشر
الناس ما من علم إلا وقد أحصاه الله في وكل علم علمته فقد أحصيته في علي
إمام المتقين وما من علم إلا وقد علمته عليا وهو الإمام المبين معاشر الناس لا
تضلوا عنه ولا تنفروا منه ولا تستنكفوا من ولايته فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل
به ويزهق الباطل وينهى عنه ولا تأخذه في الله لومة لائم ثم إنه أول من آمن
بالله ورسوله والذي فدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه والذي كان مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أحد يعبد الله مع رسوله من الرجال غيره
معاشر الناس فضلوه فقد فضله الله واقبلوه فقد نصبه الله معاشر الناس إنه إمام
من الله ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته ولن يغفر الله له حتما على الله أن
يفعل ذلك ممن خالف أمره فيه وأن يعذبه عذابا نكرا أبد الآباد ودهر الدهور
فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين أيها
الناس بي والله بشر الأولون من النبيين والمرسلين وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين
والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين فمن شك في ذلك فهو
كافر كفر الجاهلية الأولى ومن شك في شئ من قولي هذا فقد شك في الكل منه
والشاك في الكل فله النار معاشر الناس حباني (2) الله بهذه الفضيلة منا منه علي
وإحسانا منه إلى ولا إله إلا هو له الحمد مني أبد الآبدين ودهر الداهرين على كل
حال، معاشر الناس فضلوا عليا فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى بنا أنزل
الله الرزق وبقى الخلق ملعون ملعون مغضوب مغضوب من رد قولي هذا وإن لم
يوافقه ألا إن جبرئيل خبرني عن الله تعالى بذلك ويقول من عادى عليا ولم يتوله
فعليه لعنتي وغضبي فلتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله أن تخالفوه فتزل قدم

(1) يقال أفضيت بكذا إلى فلان أي أوسلته إليه ومسته به.
(2) يقال حبوت الرجل حباء بالكسر والمد أعطيته الشئ بغير عوض والاسم منه الحبوة بالضم ومنه بيع المحاباة.
59

بعد ثبوتها إن الله خبير بما تعملون معاشر الناس إنه جنب الله نزل في كتابه يا
حسرتي على ما فرطت في جنب الله معاشر الناس تدبروا القرآن وافهموا آياته
وانظروا إلى محكماته ولا تتبعوا متشابهاته فوالله لن يبين لكم زواجره ولا يوضح لكم
تفسيره إلا الذي أنا آخذ بيده ومصعده إلي وشائل (1) بعضده ومعلمكم أن من كنت
مولاه فهذا علي مولاه وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) أخي ووصيي
وموالاته من الله عز وجل أنزلها على معاشر الناس إن عليا والطيبين من ولدي
صلوات الله عليهم أجمعين هم الثقل الأصغر والقرآن هو الثقل الأكبر فكل واحد
منبئ عن صاحبه وموافق له لن يفترقا حتى يردا علي الحوض أمناء الله في خلقه
وحكامه في أرضه ألا وقد بلغت ألا وقد أسمعت ألا وقد أوضحت ألا
وإن الله عز وجل قال وأنا قلت عن الله عز وجل ألا إنه ليس أمير المؤمنين صلوات
الله وسلامه عليه غير أخي هذا ولا تحل إمرة المؤمنين لاحد غيره ثم ضرب بيده إلى
عضده فرفعه وكان منذ أول ما صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) شال
عليا حتى صارت رجليه مع ركبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال
معاشر الناس هذا علي أخي ووصيي وواعي علمي وخليفتي على أمتي وعلى
تفسير كتاب الله والداعي إليه والعامل بما يريضاه والمحارب لأعدائه والموالي على
طاعته والناهي عن معصيته خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير
المؤمنين والإمام الهادي وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بأمر الله أقول ما يبدل
القول لدي بأمر الله ربي أقول اللهم وال من والاه وعاد من عاداه والعن من أنكره
واغضب على من جحد حقه اللهم إنك أنزلت علي أن الإمامة لعلي وليك عند تبياني
ذلك ونصبي إياه بما أكملت لعبادك من دينهم وأتممت عليهم نعمتك ورضيت
لهم الإسلام دينا فقلت ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة
من الخاسرين اللهم إني أشهدك أني قد بلغت معاشر الناس إنما الله عز وجل
أكمل دينكم بإمامته فمن لم يأتم به وبمن يقوم مقامه من ولدي من صلبه إلى يوم

(1) شلت بالجرة أشول بها شولا رفعتها ولا تقل شلت ويقال أيضا اشلت الجرة فانشالت هي.
60

القيامة والعرض على الله عز وجل فأولئك الذين حبطت أعمالهم وفي النار هم
خالدون لا يخفف الله عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
معاشر الناس هذا علي أنصركم لي وأحقكم بي وأقربكم إلي وأعزكم علي
والله عز وجل وأنا عنه راضيان وما نزلت آية رضى إلا فيه وما خاطب الله الذين
آمنوا إلا بدأ به ولا نزلت آية مدح في القرآن إلا فيه ولا شهد الله بالجنة في هل
أتى على الإنسان إلا له ولا أنزلها في سواه ولا مدح بها غيره.
معاشر الناس هو ناصر دين الله والمجادل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وهو التقي النقي الهادي المهدي نبيكم خير نبي ووصيكم خير
وصي وبنوه خير الأوصياء.
معاشر الناس ذرية كل نبي من صلبه وذريتي من صلب علي صلوات الله
عليهم أجمعين معاشر الناس إن إبليس أخرج آدم (عليه السلام) من الجنة بالحسد
فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم فإن آدم أهبط إلى الأرض بخطيئة
واحدة وهو صفوة الله عز وجل فكيف بكم وأنتم أنتم ومنكم أعداء الله ألا إنه لا
يبغض عليا إلا شقي ولا يتولى عليا إلا تقي ولا يؤمن به إلا مؤمن مخلص وفي
علي والله أنزل سورة العصر بسم الله الرحمن الرحيم والعصر إلى آخره.
معاشر الناس قد استشهدت الله وبلغتكم رسالتي وما على الرسول إلا البلاغ
المبين معاشر الناس اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون معاشر الناس
آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل معه من قبل أن نطمس وجوها فنرد على
أدبارها معاشر الناس النور من الله عز وجل في ثم مسلوك في علي ثم في
النسل منه إلى القائم المهدي صلوات الله وسلامه عليه الذي يأخذ بحق الله
وبكل حق هو لنا لان الله عز وجل قد جعلنا حجة على المقصرين والمعاندين
والمخالفين والخائنين والآثمين والظالمين من جميع العالمين.
معاشر الناس إني أنذركم أني رسول الله إليكم قد خلت من قبلي الرسل
أفإن مت أو قتلت انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا
61

وسيجزي الله الشاكرين ألا وإن عليا (عليه السلام) الموصوف بالصبر والشكر ثم
من بعده ولدي من صلبه معاشر الناس لا تمنوا على الله تعالى إسلامكم فيسخط
عليكم ويصيبكم بعذاب من عنده إنه لبالمرصاد معاشر الناس سيكون من بعدي
أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون معاشر الناس إن الله وأنا بريئان
منهم.
معاشر الناس إنهم وأشياعهم وأتباعهم وأنصارهم في الدرك الأسفل من النار
لبس مثوى المتكبرين ألا إنهم (1) أصحاب الصحيفة فلينظر أحدكم في صحيفته
قال فذهب على الناس إلا شرذمة منهم أمر الصحيفة معاشر الناس إني أدعها
أمانة ووراثة في عقبي إلى يوم القيامة وقد بلغت ما أمرت بتبليغه حجة على كل
حاضر وغائب وعلى كل أحد ممن شهد أو لم يشهد ولد أو لم يولد فليبلغ
الحاضر الغائب والوالد الولد إلى يوم القيامة وسيجعلونها ملكا اغتصابا ألا لعن
الله الغاصبين والمغتصبين وعندها سنفرغ لكم أيها الثقلان ويرسل عليكما شواظ
من نار ونحاس فلا تنتصران معاشر الناس إن الله عز وجل لم يكن يذركم على ما
أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب معاشر
الناس إنه ما من قرية إلا والله مهلكها بتكذيبها وكذلك يهلك القرى وهي ظالمة
كما ذكر الله تعالى وهو إمامكم ووليكم وهو مواعيد الله والله يصدق ما وعده معاشر

(1) قوله (صلى الله عليه وآله) الا انهم أصحاب الصحيفة أي أئمة النار الغاصبين لحق علي (عليه السلام) فلينظر أحدكم...
أي فلينظر بعض منكم في صحيفة التي صنعها وحفظها عنده فيعرف نفسه انه من أئمة النار وأصحابها ويعرف شركاءه في
هذا الأمر انهم بأسرهم من رؤساء أهل النار وقضية الصحيفة معروفة مشهورة لا يناسب المقام التعرض لتفصيلها لطولها
وما جمالها ان سبعين رجلا من رؤوس المعاندين وأصول الكفر والنفاق منهم الأول والثاني لما عرفوا هذا الأمر من رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) ورغبته في علي (عليه السلام) قال وا في أنفسهم وبعضهم انا إنما آمنا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرا لجلب الرياسة ونظم أمر دنيانا والآن قد
ترد الأمر على ابن عمه وقطع رجاءنا فما الحيلة ولا يسعنا طاعة علي (عليه السلام) فتوطئوا أو تحالفوا على دفع هذا الأمر وعلاجه ولو
تقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا دفعوا السم اليهما فدستا في اللبن واستقاه واجتمعوا في السقيفة وأوحى إليهم الشيطان
وأفسدوا ما أفسدوا قال يعني الإمام محمد بن علي الباقر فذهب على الناس الا شرذمة منهم آه يعني ضاع واختفى عليهم أمر
الصحيفة فلم يدروا ما في الصحيفة ولم يعرفوا أربابها فاغتروا بهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واما الشرذمة فهؤلاء المتحالفون
وبعض خواص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين اعلمهم النبي بفعل هؤلاء وما عقدوا عليه وما يريدون وسيركبونه في تخريب الدين
وافساد أمور المسلمين.
62

الناس قد ضل قبلكم أكثر الأولين والله لقد أهلك الأولين وهو مهلك الآخرين.
معاشر الناس إن الله قد أمرني ونهاني وقد أمرت عليا ونهيته فعلم الأمر
والنهي من ربه عز وجل فاسمعوا لامره تسلموا وأطيعوه تهتدوا وانتهوا لنهيه
ترشدوا وصيروا إلى مراده ولا تتفرق بكم السبل عن سبيله أنا صراط الله المستقيم
الذي أمركم باتباعه ثم علي من بعدي ثم ولدي من صلبه أئمة يهدون بالحق وبه
يعدلون ثم قرأ الحمد لله رب العالمين إلى آخرها وقال في نزلت وفيهم نزلت ولهم
عمت وإياهم خصت أولئك أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ألا إن حزب الله
هم الغالبون ألا إن أعداء علي هم أهل الشقاق وهم العادون واخوان الشياطين
الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ألا إن أوليائهم المؤمنون حقا
الذين ذكرهم الله في كتابه فقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر
يوادون من حاد الله ورسوله إلى آخر الآية ألا إن أولياءهم الذين وصفهم الله عز
وجل فقال الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ألا
إن أولياءهم الذين يدخلون الجنة آمنين وتتلقاهم؟ الملائكة بالتسليم إن طبتم فادخلوها
خالدين ألا إن أولياءهم الذين قال الله عز وجل يدخلون الجنة بغير حساب ألا إن
أعدائهم الذين يصلون سعيرا ألا إن أعدائهم الذين يسمعون لجهنم شهيقا وهي
تفور ولها زفير كلما دخلت أمة لعنت أختها الآية ألا إن أعداءهم الذين قال الله عز
وجل كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير الآية ألا
إن أولياءهم الذين يدخلون الجنة آمنين وتتلقاهم الملائكة بالتسليم ان طبتم فادخلوها
خالدين ألا إن أولياء هم الذين قال الله عز وجل يدخلون الجنة بغير حساب ألا إن
أعدائهم الذين يصلون سعيرا ألا إن أعدائهم الذين يسمعون لجهنم شهيقا وهي
تفور ولها زفير كلما دخلت أمة لعنت أختها الآية ألا إن أعدائهم الذين يسمعون لجهنم شهيقا وهي
تفور ولها زفير كلما دخلت أمة لعنت أختها الآية ألا إن أولياءهم الذين
يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير معاشر الناس شتان ما بين السعير والجنة
عدونا من ذمه الله ولعنه وولينا من أحبه الله ومدحه معاشر الناس ألا وإني منذر
علي هاد معاشر الناس إني نبي وعلي وصيي ألا وإن خاتم الأئمة منا
القائم المهدي صلوات الله وسلامه عليه ألا إنه الظاهر على الدين ألا إنه المنتقم
من الظالمين ألا إنه فاتح الحصون وهادمها ألا إنه قاتل كل قبيلة من أهل الشرك
ألا إنه مدرك كل ثار لأولياء الله عز وجل ألا إنه ناصر دين الله عز وجل ألا إنه
63

الغراف (1) من بحر عميق ألا إنه يسم (2) كل ذي فضل بفضله وكل ذي جهل بجهله
ألا إنه خيرة الله ومختاره ألا إنه وارث كل علم والمحيط به ألا إنه المخبر عن ربه عز
وجل المنبه بأمر إيمانه ألا إنه الرشيد السديد ألا إنه المفوض إليه ألا إنه قد بشر به
من سلف بين يديه ألا إنه الباقي حجة ولا حجة بعده ولا حق إلا معه ولا نور إلا
عنده ألا إنه لا غالب له ولا منصور عليه ألا إنه ولي الله في أرضه وحكمه في
خلقه وأمينه في سره وعلانيته معاشر الناس قد بينت لكم وأفهمتكم وهذا علي
يفهمكم؟ بعدي ألا وإن عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته والإقرار
به ثم مصافقته من بعدي ألا وإني قد بايعت الله وعلي قد بايعني وأنا آخذكم
بالبيعة له عن الله عز وجل ومن نكث فإنما ينكث على نفسه الآية معاشر الناس
إن الحج والصفا والمروة والعمرة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر الآية.
معاشر الناس حجوا البيت فما ورده أهل بيت إلا استغنوا ولا تخلفوا عنه إلا
افتقروا معاشر الناس ما وقف بالموقف مؤمن إلا غفر الله له ما سلف من ذنبه إلى
وقته ذلك فإذا انقضت حجته استأنف عمله معاشر الناس الحجاج معانون
ونفقاتهم مخلفة والله لا يضيع أجر المحسنين.
معاشر الناس حجوا البيت بكمال الدين والتفقه ولا تنصرفوا عن المشاهد إلا
بتوبة واقلاع معاشر الناس أقيموا الصولة وآتوا الزكاة كما أمركم الله تعالى لئن
طال عليكم الأمد فقصرتم أو نسيتم فعلي وليكم ومبين لكم الذي نصبه الله عز
وجل بعدي ومن خلقه الله مني وأنا منه يخبركم بما تسألون عنه ويبين لكم ما لا
تعلمون ألا إن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيهما وأعرفهما فأمر بالحلال وأنهى
عن الحرام في مقام (3) واحد فأمرت أن آخذ البيعة عليكم والصفقة لكم بقبول ما

(1) الغراف كشداد نهر بين واسط والبصرة عليه كورة كبيرة وفرس البراء بن قيس ومن الأنهر الكثير الماء قاله الفيروز
أبادي والمراد به هنا المعني الأخير أي هو النهر العظيم المنشق من عميق بحر الولاية.
(2) قوله تعالى سنسمه على الخرطوم أي سنجعل له سمة أهل النار وهي أن سود وجهه وقوله إنه يسم... يمكن أن يكون
من هذا القبيل بأن يجعل سمة الفضل والجهل على أربابهما ووسمه وسما وسمة إذا اثر فيه بسمة وكي ووسمت في
الشئ وسما من باب وعد علمية ومن هذين أيضا يناسب اخذه.
3 - قوله في مقام واحد أي في مرتبة واحدة.
64

جئت به عن الله تعالى في علي أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده
صلوات الله عليهم أجمعين الذين هم مني ومنه أمة قائمة منهم المهدي صلوات
الله عليه إلى يوم القيامة الذي يقضي بالحق معاشر الناس وكل حلال دللتكم
عليه وكل حرام نهيتكم عنه فإني لم أرجع عن ذلك ولم أبدل ألا فاذكروا ذلك (1)
واحفظوه وتواصوا به ولا تبدلوه ولا تغيروه ألا وإني أجدد القول ألا فأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ألا وإن رأس الأمر بالمعروف أن
تنتهوا إلى قولي وتبلغوه من لم يحضره وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته فإنه أمر
من الله عز وجل ومني ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلا مع إمام معصوم
معاشر الناس القرآن يعرفكم أن الأئمة (عليهم السلام) من بعده من ولده وعرفتكم أنهم
مني ومنه حيث يقول الله وجعلها كلمة باقية في عقبه وقلت لن تضلوا ما إن
تمسكتم بهما معاشر الناس التقوى التقوى احذروا الساعة كما قال الله تعالى إن
زلزلة الساعة شئ عظيم أذكروا الممات والحساب والموازين والمحاسبة بين يدي رب
العالمين والثواب والعقاب فمن جاء بالحسنة أثيب ومن جاء بالسيئة فليس له في
الجنان نصيب.
معاشر الناس إنكم أكثر من أن تصافقوني بكف واحدة وأمرني الله أن آخذ
من ألسنتكم الإقرار بما عقدت لعلي (عليه السلام) من إمرة المؤمنين ومن جاء بعده
من الأئمة مني ومنه على ما أعلمتكم أن ذريتي من صلبه فقولوا بأجمعكم إنا
سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلغت عن ربنا وربك في أمر علي وأمر
ولده من صلبه من الأئمة نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا على
ذلك نحيى ونموت ونبعث ولا نغير ولا نبدل ولا نشك ولا نرتاب ولا نرجع عن عهد
ولا ننقض الميثاق ونطيع الله ونطيعك وعليا أمير المؤمنين وولده الأئمة (عليهم
السلام) الذين ذكرتهم من ذريتك من صلبه بعد الحسن والحسين (عليهما السلام)
الذين قد عرفتكم مكانهما مني ومحلهما عندي ومنزلتهما من ربي فقد أديت ذلك

(1) أي يوصي بعضكم إلى بعض.
65

إليكم وإنهما سيدا شباب أهل الجنة وإنهما سيدا شباب أهل الجنة وأنهما الإمامان بعد أبيهما علي وأنا أبوهما
قبله وقولوا أطعنا الله بذلك وإياك وعليا والحسن والحسين والأئمة صلوات الله
عليهم الذين ذكرت عهدا وميثاقا مأخوذا لأمير المؤمنين (عليه السلام) من قلوبنا
وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا من أدركهما بيده وأقر بيده وأقربهما بلسانه لا نبتغي بذلك
بدلا ولا نرى من أنفسنا عنه حولا أبدا أشهدنا الله وكفى بالله شهيدا وأنت به علينا
شهيد وكل من أطاع ممن ظهر واستتر وملائكة الله وجنوده وعبيده والله أكبر من
كل شهيد.
معاشر الناس ما تقولون فإن الله يعلم كل صوت وخافية كل نفس فمن
اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومن بايع فإنما يبايع الله يد الله فوق
أيديهم معاشر الناس فاتقوا الله وبايعوا عليا صلوات الله عليه أمير المؤمنين
والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) كلمة باقية يهلك الله من غدر ويرحم الله
من وفى ومن نكث فإنما ينكث على نفسه الآية.
معاشر الناس قولوا الذي قلت لكم وسلموا على علي عليه الصلاة والسلام
بأمرة المؤمنين وقولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير وقولوا الحمد لله الذي
هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله معاشر الناس إن فضائل علي بن أبي
طالب عند الله عز وجل وقد أنزلها على في القرآن أكثر من أن أحصيها في مكان
واحد فمن أنبأكم بها وعرفها فصدقوه معاشر الناس من يطع الله ورسوله وعليا
والأئمة الذين ذكرتم فقد فاز فوزا عظيما معاشر الناس السابقون إلى مبايعته
وموالاته والتسليم عليه بإمرة أمير المؤمنين أولئك هم الفائزون في جنت النعيم معاشر
الناس قولوا ما يرضى الله به عنكم من القول فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض
جميعا فلن يضر الله شيئا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات واغضب على الكافرين
والحمد لله رب العالمين.
فناداه القوم نعم سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا،
66

وتداكوا (1) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى علي وصافقوا (2) بأيديهم فكان أول
من صافق رسول الله الأول والثاني والثالث والرابع والخامس وباقي المهاجرين والأنصار
وباقي الناس عن آخرهم على طبقاتهم وقدر منازلهم إلى أن صليت العشاء والعتمة في
وقت واحد وواصلوا البيعة والمصافقة ثلاثا ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول
كلما بايع قوم الحمد لله الذي فضلنا على جميع العالمين وصارت المصافقة سنة ورسما
يستعملها من ليس له حق فيها.
والقمي قال: نزلت هذه الآية في منصرف رسول الله من حجة الوداع وحج رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة وكان من
قوله في خطبته بمنى أن أحمد لله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه عني فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا
ثم قال هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة.
قال الناس هذا اليوم.
قال فأي شهر.
قال الناس هذا الشهر.
قال: وأي بلد أعظم حرمة؟
قالوا بلدنا هذا.
قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم
هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا هل بلغت أيها الناس
قالوا نعم.
قال اللهم اشهد ثم قال ألا كل مأثرة (3) أو بدع كانت في الجاهلية أو دم أو مال فهو

(1) تداك عليه الناي أي اجتمعوا.
(2) يقال صفقت له بالبيعة صفقا أي ضربت بيدي على يده وكانت العرب إذا وجب البيع ضربت أحدهما يده على
يد صاحبه ثم انتقلت الصفقة في العقد فقيل بارك الله لك في صفقة يدك.
(3) المأثرة بضم الثاء المكرمة لأنها تؤثر وتتحدث بها.
67

تحت (1) قدمي هاتين ليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد ثم قال: ألا وكل ربا (2) كان في الجاهلية فهو موضوع وأول
موضوع منه رباء العباس بن عبد المطلب ألا وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع وأول
موضوع منه دم ربيعة الأهل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد ثم قال ألا وإن الشيطان
قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم ألا وإنه إذا أطيع
فقد عبد ألا أيها الناس إن المسلم أخ المسلم حقا ولا يحل لامرئ مسلم دم امرء مسلم
وماله إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا
الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ألا فهل
بلغت أيها الناس قالوا نعم قال اللهم اشهد ثم قال أيها الناس احفظوا قولي تنتفعوا به
بعدي وافقهوه تنتعشوا (3) ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف
على الدنيا فإن أنتم فعلتم ذلك ولتفعلن لتجدوني في كتيبة (4) بين جبرئيل وميكائيل أضرب
وجوهكم بالسيف.
ثم التفت عن يمينه وسكت ساعة ثم قال إن شاء الله أو علي بن أبي طالب ثم قال
ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي
صلوات الله عليهم فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض
ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا ومن خالفهما فقد هلك ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم
اشهد ثم قال ألا وإنه سيرد علي الحوض منكم رجال يعرفون فيدفعون عني فأقول رب

(1) قوله تحت قدمي أي مضمحل ومشف وموهون كالشئ الذي يقع تحت القدمين فإنه ليس شئ أهون منه ونسبه
إلى نفسه لأنه الذي أزال حرمته.
(2) لما تعارف بينهم في الجاهلية أكل الربا وممن كان يكثر هده المعاملة العباس عمه أو كان ذمة كثير منهم مشغولة
بالمنافع الربوبية للعباس بمقتضى المعاملات الصادرة منه معهم في الجاهلية وقد حرمها الله فحينئذ إذا سروا العباس ومن عليه
النبي بالفداء شرط عليه بخصوصه وإن كان من لوازم الإسلام أيضا ان لا يطالب بها ويقنع بالأصل ويترك الفرع فأشار
(صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته إلى هذا الأمر وإلى هذا الأمر وإلى أنه لا خصوصية في هذا للعباس بل هو حكم عام للمسلمين.
(3) وفي الدعاء أسألك نعمة تنعشني بها وعيالي أي ترفعني بها عن مواطن الذل من قولهم نعشه الله ينعشه نعشا
رفعه.
(4) الكتيبة على فعيلة الطائفة من الجيش والجمع الكتاب.
68

أصحابي فيقال يا محمد إنهم قد أحدثوا بعدك وغيروا سنتك فأقول سحقا (1) سحقا فلما
كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله) نعيت (2) إلى نفسي ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخيف
فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال نضر الله (3) امرء سمع مقالتي فوعاها وبلغها
لمن لم يسمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا
يغل عليهن قلب امرئ مسلم اخلاص العمل لله والنصيحة (4) لائمة المسلمين ولزوم
جماعتهم فإن دعوته (5) محيطة من ورائهم المؤمنون إخوة تكافي دماءهم يسعى بذمتهم
أدناهم وهم يد على من سواهم أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين.
قالوا: يا رسول الله وما الثقلان؟
فقال كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا
حتى يردا علي الحوض كإصبعي هاتين وجمع بين سبابتيه ولا أقول كهاتين وجمع بين
سبابتيه والوسطى فتفضل هذه على هذه فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) أن يجعل الإمامة في أهل بيته فخرج منهم أربعة نفر إلى مكة ودخلوا
الكعبة وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتابا إن أمات الله محمدا (صلى الله عليه وآله
وسلم) أو قتله أن لا يرد هذا الأمر في أهل بيته أبدا فأنزل الله على نبيه في ذلك أم أبرموا
أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجويهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون
فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة يريد المدينة حتى نزل منزلا يقال له

(1) قوله تعالى فيحقا لأصحاب السعير أي بعدا يقال سحق المكان فهو سحيق مثل بعد فهو بعيد لفظا ومعنى.
(2) يقال نعيت الميت. من باب نفع إذا اخبر بموته وهو منعي ونعى إليه نفسه أخبر بموته.
(3) نضر وجه من باب قتل أي حسن ونضر الله وجهه يتعدى ولا يتعدى ويقال نضر الله وجهه بالتشديد وانضر الله
وجهه بمعناه وفي الخبر نضر الله امرء سمع مقالتي... أي حسنه بالسرور والبهجة لما رزق بعلمه ومعرفته من القدر والمنزلة
بين الناس ونعمة في الأخرى حتى يرى عليه ونق الرخاء ورفيق النعمة أي ثلث خصال لا يضيق منها أو معها.
(4) أي ترك الغش وركوب الصفا والصدق واخلاص لطاعة.
(5) أي دعوة الله وهي الموت محيطة من ورائهم أي محيطة بالناس بعد انقضاء آجالهم أي من كان عاقبة أمره الموت
ينبغي أن لا يترك هذه الخصال الثلاث.
69

غدير خم وقد علم الناس مناسكهم وأوعز (1) إليهم وصيته إذ أنزل الله عليه هذه الآية يا
أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال تهديد ووعيد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس هل تعلمون من وليكم؟ قالوا: نعم الله ورسوله.
قال ألستم تعلمون أني أولى بكم منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى قال: اللهم
اشهد فأعاد ذلك عليهم ثلاثا كل ذلك يقول مثل قوله الأول ويقول الناس كذلك
ويقول اللهم اشهد ثم أخذ بيد أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه فرفعه حتى بدا
للناس بياض إبطيه ثم قال ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد
من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه ثم قال: اللهم اشهد
عليهم وأنا من الشاهدين فاستفهمه عمر من بين أصحابه فقال: يا رسول الله هذا من الله
أو من رسوله؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نعم هذا من الله ومن رسوله إنه أمير
المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين يقعده الله يوم القيامة على الصراط فيدخل
أولياءه الجنة وأعداءه النار فقال أصحابه الذين ارتدوا بعده قال محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) في مسجد الخيف ما قال وقال هيهنا ما قال وإن رجع إلى المدينة يأخذنا
بالبيعة له فاجتمع أربعة عشر نفرا وتوامروا على قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقعدوا له في العقبة وهي عقبة هرشي (2) بين جحفة والإيواء فقعدوا سبعة عن يمين العقبة
وسبعة عن يسارها لينفروا ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما جن عليه الليل
تقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الليلة العسكر فأقبل ينعس على ناقته
فلما دنا من العقبة ناداه جبرئيل يا محمد إن فلانا وفلانا قد قعدوا لك فنظر رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) فقال من هذا خلفي فقال حذيفة بن اليمان أنا حذيفة بن اليمان يا
رسول الله قال قد سمعت ما سمعت قال بلى قال فاكتم ثم دنا رسول الله (صلى الله عليه

(1) أو عزت إليه بكذا تقدمت وكذلك وعزت إليه توعيزا قال في ص وقد يخفف.
(2) هرشى كسكرى ثنية قرب الجحفة.
70

وآله وسلم) منهم فناداهم بأسمائهم فلما سمعوا نداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
مروا ودخلوا في غمار الناس وقد كانوا عقلوا رواحلهم فتركوها ولحق الناس برسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوهم وانتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
رواحلهم فعرفها فلما نزل قال ما بال أقوام تحالفوا في الكعبة إن أمات الله محمدا أو قتله
أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبدا فجاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فحلفوا أنهم لم يقولوا من ذلك شيئا ولم يريدوه ولم يهموا بشئ في رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) فأنزل الله يحلفون بالله ما قالوا أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما
لم ينالوا من قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما نقموا إلا أن أغنهم الله
ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا نعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا
والآخرة وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى المدينة وبقى بها المحرم والنصف من صفر لا يشتكي شيئا ثم ابتدأ به الوجع
الذي توفى فيه.
وفي المجمع روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت هذه الآية قال لحراس
من أصحابه يحرسونه الحقوا بملاحقكم فإن الله عصمني من الناس.
(68) قل يا أهل الكتاب لستم على شئ على دين يعتد به حتى يسمى شيئا
لفساده وبطلانه حتى تقيموا التوراة والإنجيل بالتصديق بما فيها من البشارة بمحمد
(صلى الله عليه وآله وسلم) والإذعان بحكمه وما أنزل إليكم من ربكم.
العياشي عن الباقر (عليه السلام) هو ولاية أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه
وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم
الكافرين فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم فإن ضرر ذلك يرجع إليهم لا
يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة لك عنهم.
(69) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن يعني منهم
71

بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون قد سبق تفسيرها في
سورة البقرة.
(70) لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل بالتوحيد والنبوة والولاية وأرسلنا إليهم
رسلا ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم ويقفوهم على الأوامر والنواهي كلما جائهم رسول
بما لا تهوى أنفسهم من التكاليف فريقا كذبوا وفريقا يقتلون قيل حكى الحال
الماضية استحضارا لها واستفظاعا لها واستفظاعا (1) للقتل وتنبيها على أن ذلك ديدنهم ماضيا ومستقبلا
ومحافظة على رؤس الآي.
(71) وحسبوا ألا تكون فتنة أن لا يصيبهم من الله بلاء وعذاب بقتل الأنبياء
وتكذيبهم وقرء لا تكون بالرفع أي أنه لا يكون فعموا عن الدين وصموا عن استماع
الحق ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كرة أخرى كثير منهم بدل من الضمير والله
بصير بما يعملون في الكافي عن الصادق (عليه السلام) وحسبوا أن لا تكون فتنة قال
حيث كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أظهرهم فعموا وصموا حيث قبض رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تاب الله عليهم حيث قام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم
عموا وصموا إلى الساعة (2).
(72) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل
اعبدوا الله ربى وربكم أي إني عبد مربوب لا فرق بيني وبينكم احتج الله
تعالى عليهم بقوله إنه من يشرك بالله في عبادته أو فيما يختص به من صفاته وأفعاله فقد
حرم الله عليه الجنة لأنها دار الموحدين ومأواه النار لأنها معدة للمشركين وما للظالمين

(1) فظع الأمر ككرم فظاعة فهو فظيع اي شديد شنيع جاوز المقدار في ذلك كأفظع وأفظعه واستفطعه وجده فظيعام
(2) لعل المراد بالساعة في هذه الرواية ساعة غلبة الحق بظهور القائم (عليه السلام) جمعا بينها وبين سائر الروايات فان
غلبة الحق على الكفر في ثلاث دورات الأولى في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله) بحيث انقطعن العذر عن كل أحد والثانية
في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) والثالثة في زمان القائم (عليه السلام) فحسب أهل الكتاب في الأولين انهم لم يغتتنوا بما
وعدوا في كتبهم فلم يؤمنوا حتى علب الحق وانقطع عذرهم اختفى ظهور الحق فعموا وصموا لكن في الثالثة يؤمنون به
كما فسر سابقا قوله تعالى وان من أهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته.
72

من أنصار وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا على أن الشرك ظلم وهو إما من كلام
عيسى على نبينا و (عليه السلام) أو من كلام الله عز وجل.
(73) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة قيل القائلون بذلك
جمهور النصارى يقولون ثلاثة أقانيم (1) جوهر واحداب وابن وروح القدس إله واحد ولا
يقولون ثلاثة آلهة ويمنعون من هذه العبارة وإن كان يلزمهم ذلك لأنهم يقولون الابن إله
والأب إله وروح القدس إله والابن ليس هو الأب.
القمي عن الباقر (عليه السلام) في حديث أما المسيح فعصوه وعظموه في أنفسهم
حتى زعموا أنه إله وأنه ابن الله وطائفة منهم قالوا ثالث ثلاثة وطائفة منهم قالوا هو الله
وما من إله إلا إله واحد وهو الله وحده لا شريك له ومن مزيدة لتأكيد النفي وإن لم
ينتهوا عما يقولون اقسم ليمسن الذين كفروا منهم من دام على كفره ولم ينقلع عنه
عذاب أليم.
(74) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه فيه تعجيب من إصرارهم والله غفور
رحيم يستر الذنوب على العباد ويرحمهم إذا تابوا.
(75) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ما هو إلا رسول
من جنس الرسل الذين خلوا قبله أتى بمعجزات باهرة من قبل الله تعالى كما أتوا فإن
أحيى الموتى على يده فقد أحيى العصا على يد موسى وجعلها حية تسعى وهو عجب
وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأم وهو أغرب وأمه صديقة صدقت
بكلمات ربها وكتبه كسائر النساء اللاتي تلازمن الصدق كانا يأكلان الطعام في العيون
عن الرضا (عليه السلام) معناه أنهما كانا يتغوطان والقمي قال كانا يحدثان فكنى عن
الحدث وكل من أكل الطعام يحدث.
وفي الإحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب الزنديق قال له لولا ما في
القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم ثم ذكر من ذلك إن الله شهر هفوات

(1) الأقانيم الأصول واحد في أقنوم أحسبها رومية.
73

أنبيائه وكنى عن أسماء أعدائه قال (عليه السلام) وأما هفوات الأنبياء وما بين الله في
كتابه فإن ذلك من أدل الدلائل على حكمة الله الباهرة وقدرته القاهرة وعزته الظاهرة
لأنه علم أن براهين الأنبياء تكبر في صدور أممهم وان منهم من يتخذ بعضهم إلها كالذي
كان من النصارى في ابن مريم فذكر دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي كان انفرد به
عز وجل ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى على نبينا و (عليه السلام) حيث قال فيه وفي
أمه كانا يأكلان الطعام يعني أن من أكل الطعام كان له ثفل ومن كان له ثفل فهو بعيد
مما ادعته النصارى لابن مريم أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون
كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله وثم لتفاوت ما بين العجبين يعني أن بياننا
للآيات عجيب وإعراضهم عنها أعجب.
(76) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا يعني عيسى (عليه
السلام) فإنه كان لا يملك شيئا من ذلك من ذاته وان ملك شيئا منه فإنما هو بإذن الله
وتمليكه إياه والله هو السميع لما يقولون العليم بما يعتقدون.
(77) قل يا أهل الكتب لا تغلوا في دينكم غير الحق غلوا باطلا يعني لا
تتجاوزوا الحد الذي حده الله لكم ولا ترفعوا عيسى (عليه السلام) من حد النبوة إلى حد
الألوهية ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل هم أئمتهم في النصرانية الذين كانوا
في الضلال قبل مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأضلوا كثيرا ممن بايعهم على
التثليث وضلوا لما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سواء السبيل حين
كذبوه وبغوا عليه.
(78) لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم في
الكافي والقمي عن الصادق عليه الصلاة والسلام الخنازير على لسان داود (عليه السلام)
والقردة على لسان عيسى بن مريم (عليهما السلام).
وفي المجمع عن الباقر (عليه السلام) أما داود فإنه لعن أهل إيلة (1) لما اعتدوا في سبتهم

(1) أيلة جبل بين مكة والمدينة قرب ينبع وموضع بين ينبع ومصر وعقبتها.
74

وكان اعتداؤهم في زمانه فقال اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء ومثل المنطقة
على الحقوين فمسخهم الله قردة وأما عيسى (عليه السلام) فإنه لعن الذين أنزلت عليهم
المائدة ثم كفروا بعد ذلك ورواه في الجوامع مقطوعا وزاد فقال عيسى (عليه السلام) اللهم
عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لا تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت
أصحاب السبت فصاروا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون.
(79) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه هذا بيان عصيانهم واعتدائهم يعني لا
ينتهون أو لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر.
القمي قال كانوا يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور ويأتون النساء أيام
حيضهن.
وفي ثواب الأعمال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما وقع التقصير في بني إسرائيل
جعل الرجل منهم يرى أخاه في الذنب فينهاه فلا ينتهي فلا يمنعه ذلك من أن يكون
أكيله وجليسه وشريبه حتى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ونزل فيهم القرآن حيث
يقول جل وعزل عن الذين كفروا الآية.
والعياشي عن الصادق (عليه السلام) أما أنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا
يجلسون مجالسهم ولكنهم كانوا إذا لقوهم أنسوا بهم لبئس ما كانوا يفعلون تعجيب من
سوء فعلهم مؤكدا بالقسم.
القمي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال
السلطان ويعملون لهم ويجبون لهم ويوالونهم قال ليس هم من الشيعة ولكنهم من أولئك
ثم قرء لعن الذين كفروا الآية.
(80) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا يوالوهم ويصادقونهم لبئس ما
قدمت لهم أنفسهم لبئس زادهم إلى الآخرة أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم
خالدون في المجمع عن الباقر (عليه السلام) يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم أهوائهم
ليصيبوا من دنياهم.
75

(81) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء فإن الأيمان
يمنع من ذلك ولكن كثيرا منهم فاسقون خارجون عن دينهم.
(82) لتجدن أشد الناس عدوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا لشدة
شكيمتهم (1) وتضاعف كفرهم وانهماكهم (2) في اتباع الهوى وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن
التحقيق وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم إياهم ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا
الذين قالوا إنا نصارى للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة
اهتمامهم بالعلم والعمل ذلك بأن منهم قسيسين رؤساء في الدين والعلم ورهبانا عبادا
وأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموه ويتواضعون.
(83) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما
عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين من الذين شهدوا بأنه حق.
(84) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم
الصالحين استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الايمان مع قيام الداعي وهو الطمع في
الانخراط (3) مع الصالحين والدخول مداخلهم.
(85) فأثابهم الله بما قالوا عن اعتقاد واخلاص كما دل عليه قوله مما عرفوا من
الحق والقول إذا اقترن بالمعرفة كمل الايمان جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين
فيها أبدا وذلك جزاء المحسنين.
العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا
قال أولئك كانوا بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) ينتظرون مجئ محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) القمي كان سبب نزولها أنه لما اشتدت قريش في أذى رسول الله (صلى الله

(1) فلان شديد الشكيمة إذا كان لا ينقاد لاحد لما فيه من الصلابة والصعوبة على العدو وغيره.
(2) يقال انهمك الرجل في الشئ اي جد ولج وفي ق الانهماك التمادي في الشئ واللجاج فيه
(3) والانخراط معهم اما بمعنى الاستصلاح اي نصلح حالنا ونعالج أنفسنا بمرافقتهم وبمعنى الانسلال أي نلقى
أنفسنا بينهم فالأول من خرط العود قشر وسواه والثاني من اخترط السيف استله ومن خرط البعير في المرعى أو الدلو في البشر
أرسلهما.
76

(عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين آمنوا بمكة قبل الهجرة أمرهم رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) أن يخرجوا إلى الحبشة وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم فخرج جعفر
ومعه سبعون رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر فلما بلغ قريشا خروجهم بعثوا عمرو
بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردهم إليهم وكان عمرو وعمارة متعاديين
فقالت قريش كيف نبعث رجلين متعاديين فبرأت بنو مخزوم من جناية عمارة وبرأت بنو
سهم عن جناية عمرو بن العاص فخرج عمارة وكان حسن الوجه شابا مترفا فأخرج
عمرو بن العاص أهله معه فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر فقال عمارة لعمرو بن
العاص قل لأهلك تقبلني فقال عمرو أيجوز هذا سبحان الله فسكت عمارة فلما انتشى (1)
عمرو وكان على صدر السفينة فدفعه عمارة وألقاه في البحر فتشبث عمرو بصدر السفينة
وأدركوه وأخرجوه فوردوا على النجاشي وقد كانوا حملوا إليه هدايا فقبلها منهم فقال
عمرو بن العاص أيها الملك إن قوما خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم
إلينا فبعث النجاشي إلى جعفر فجاءه فقال يا جعفر ما يقول هؤلاء فقال جعفر أيها
الملك وما يقولون قال يسألون أن أردكم إليهم.
قال أيها الملك سلهم أعبيد نحن لهم؟ فقال عمرو لا بل أحرار كرام.
قال فسلهم ألهم علينا ديون يطالبونها بها؟ فقال لا ما لنا عليكم ديون.
قال فلكم في أعناقنا دماء تطالبونها؟ فقال عمرو: لا قال: فما تريدون منا؟
آذيتمونا فخرجنا من بلادكم؟
فقال عمرو بن العاص: أيها الملك خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وأفسدوا شباننا
وفرقوا جماعتنا فردهم إلينا لنجمع أمرنا فقال جعفر نعم أيها الملك خالفناهم بعث الله فينا
نبيا أمر بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام وأمرنا بالصلاة والزكاة وحرم الظلم والجور
وسفك الدماء بغير حقها والزناء والرباء والميتة والدم ولحم الخنزير وأمرنا بالعدل
والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فقال النجاشي بهذا

(1) نش نشوا ونشوة مثلثة سكر.
77

بعث الله عيسى بن مريم (عليه السلام) ثم قال النجاشي يا جعفر هل تحفظ مما أنزل الله
على نبيك شيئا قال نعم فقرء عليه سورة مريم (عليه السلام) فلما بلغ قوله وهزي إليك
بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقرى عينا.
فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاء شديدا وقال: هذا والله هو الحق فقال عمرو بن
العاص أيها الملك إن هذا مخالف لنا فرده إلينا فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو
ثم قال اسكت والله لان ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك فقام عمرو بن العاص من عنده
والدماء تسيل على وجهه وهو يقول إن كان هذا كما تقول أيها الملك فانا لا نتعرض له
وكانت على رأس النجاشي وصيفة (1) له تذب (2) عنه فنظرت إلى عمارة بن الوليد وكان فتى
جميلا فأحبته فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله قال لعمارة لو راسلت جارية الملك
فراسلها فأجابته فقال عمرو قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا فقال لها فبعثت
إليه فأخذ عمرو من ذلك الطيب وكان الذي فعل به عمارة في قبله حين ألقاه في البحر
فأدخل الطيب على النجاشي فقال: أيها الملك إن حرمة الملك عندنا وطاعته علينا وما
يلزمنا إذا دخلنا بلاده ونأمن فيه أن لا نغشه ولا نريبه وإن صاحبي هذا الذي معي قد
راسل حرمتك وخدعها وبعثت إليه من طيبك ثم وضع الطيب بين يديه فغضب النجاشي
وهم بقتل عمارة ثم قال لا يجوز قتله فإنهم دخلوا بلادي بأمان فدعا النجاشي السحرة
فقال لهم اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل فأخذوه ونفخوا في أحليله الزيبق فصار مع
الوحش يغدو ويروح وكان لا يأنس بالناس.
فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش فأخذوه فما
زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتى مات ورجع عمرو إلى قريش فأخبرهم إن جعفرا في
أرض الحبشة في أكرم كرامة ولم يزل بها حتى هادن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قريشا وصالحهم وفتح خيبر فوافى بجميع من معه وولد لجعفر بالحبشة من أسماء بنت
عميس عبد الله بن جعفر وولد للنجاشي ابن فسماه النجاشي محمدا وكانت أم حبيب

(1) الوصيف كأمير الخادم والخادمة ج وصفاء كالوصيفة ج وصائف.
(2) تطرد الذباب عنه.
78

بنت أبي سفيان تحت عبد الله فكتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى النجاشي
يخطب أم حبيب فبعث إليها النجاشي فخطبها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فأجابته فخطبها فزوجها منه وأصدقها أربعمأة دينار وساقها عن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وبعث إليها بثياب وطيب كثير وجهزها وبعثها إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وبعث إليه بمارية القبطية أم إبراهيم وبعث إليه بثياب وطيب وفرس
وبعث ثلاثين رجلا من القسيسين فقال لهم انظروا إلى كلامه وإلى مقعده ومشربه
ومصلاه فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام وقرء
عليهم القرآن وإذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى
والدتك إلى قوله فقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين فلما سمعوا ذلك من رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي وأخبروه خبر رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) وقرؤوا عليه ما قرأ عليهم فبكى النجاشي وبكى القسيسون وأسلم
النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه وخرج من بلاد الحبشة يريد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما عبر البحر توفى فأنزل الله على رسوله لتجدن أشد
الناس عداوة للذين آمنوا اليهود إلى قوله وذلك جزاء المحسنين.
(86) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحب الجحيم
(87) يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا لا تمنعوا أنفسكم طيبات ما أحل الله لكم ما
طاب منه ولذ ولا تعتدوا عما حد الله إن الله لا يحب المعتدين في المجمع والقمي عن
الصادق (عليه السلام) نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين (عليه السلام) وبلال وعثمان بن
مظعون فأما أمير المؤمنين (عليه السلام) فحلف أن لا ينام بالليل أبدا وأما بلال فإنه
حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا وأما عثمان (1) بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا وزاد
القمي فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة ما لي أراك
متعطلة فقال ولمن أتزين فوالله ما قربني زوجي منذ كذا وكذا فإنه قد ترهب ولبس

(1) عثمان بن مظعون أول صحابي مات بالمدينة.
79

المسوح (1) وزهد في الدنيا فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرته عائشة
بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات إني أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار
فمن رغب عن سنتي فليس مني فقام هؤلاء فقالوا يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك
فأنزل الله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية.
أقول: ليس في مثل هذا الخطاب والعتاب منقصة على المخاطب والمعاتب إن لم
يكن محمدة نظيره قوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضات
أزوجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله موليكم وهو العليم الحكيم
وقد ورد القرآن كله تقريع وباطنه تقريب.
وفي الإحتجاج عن الحسن بن علي صلوات الله وسلامه عليهما في حديث أنه قال
لمعوية؟ وأصحابه أنشدكم بالله أتعلمون أن عليا (عليه السلام) أول من حرم الشهوات
على نفسه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله يا أيها الذين
آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم.
(88) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا مباحا لذيذا واتقوا الله الذي أنتم به
مؤمنون استدعاء إلى التقوى بألطف الوجوه.
(89) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم بما يبدو من غير قصد في الكافي والفقيه
والعياشي عن الصادق (عليه السلام) هو قول الرجل لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ.
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية يعني إذا حنثتم
فحذف للعلم به وقرء عقدتم بالتخفيف وعاقدتم فكفارته فكفارة نكثه أي الفعلة
التي تذهب اثمه وتستره إطعام عشرة مسكين من أوسط ما تطعمون أهليكم.
في المجمع عن الصادق (عليه السلام) أنه قرء أهاليكم أو كسوتهم في الكافي عنه
(عليه السلام) الوسط الخل والزيتون وأرفعه الخبز واللحم والصدقة مد من حنطة لكل

(1) المسح بالكسر فالسكون واحد والمسوح ويعبر عنه بالبلاس وهو كساء معروف.
80

مسكين والكسوة ثوبان وعنه (عليه السلام) هو كما يكون أنه يكون في البيت من يأكل
أكثر من المد ومنهم من يأكل أقل من المد فبين ذلك وإن شئت جعلت له أدما والأدم أدناه
ملح وأوسطه الخل والزيت وأرفعه اللحم.
وعن الباقر (عليه السلام) ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك قيل وما أوسط ذلك
قال الخل والزيت والتمر والخبز تشبعهم به مرة واحدة قيل كسوتهم قال ثوب واحد وفي
رواية ثوب يواري به عورته.
أقول: فيحمل الثوبان في الرواية المتقدمة على ما إذا لم يوارها الواحد أو تحرير
رقبة عتق عبد أو أمة ويجوز المولود كما في الكافي عن الصادق (عليه السلام) وعنه (عليه
السلام) كل شئ في القرآن أو (أي لفظة أو) فصاحبه بالخيار ويختار ما يشاء.
والعياشي عن الباقر (عليه السلام) مثله فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
في الكافي عن الكاظم (عليه السلام) أنه سئل عن كفارة اليمين ما حد من لم يجد
وأن الرجل يسأل في كفه وهو يجد فقال إذا لم يكن عنده فضل عن قوت عياله فهو ممن
لا يجد وعن الصادق (عليه السلام) كل صوم يفرق فيه إلا ثلاثة أيام في كفارة اليمين.
وعنه (عليه السلام) صيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين متتابعات لا يفصل بينهن ذلك
كفارة أيمانكم إذا حلفتم أي حلفتم وحنثتم (1) واحفظوا أيمانكم بروا (2) فيها ما استطعتم ولا
تحنثوا ولا تبذلوها لكل أمر أو كفروا إذا حنثتم أو الجميع كذلك يبين الله لكم آياته
أعلام شرايعه لعلكم تشكرون نعمة التعليم والتبيين.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) الايمان ثلاثة يمين ليس فيها كفارة ويمين (3) فيها

(1) الحنث بالكسر الاثم والخلف في اليمين.
(2) البر الصدق في اليمين وبكسر وقد بررت وبررت وبرت اليمين يتبر وتبر كيمل ويحل برا وبرا وبرورا وابرها
أمضاها على الصدق.
(3) في الحديث اليمين الغموس هي التي تذر الديار بلاقع اليمين الغموس بفتح الغين هي اليمين الكاذبة الفاجرة
التي يقطع بها الحالف ما لغيره مع علمه ان الأمر بخلافه وليس فيها كفارة لشدة الذنب فيها سميت بذلك لأنها تغمس
صاحبها في الإثم ثم في النار فهي فعول للمبالغة وفيه اليمين الغموس هي التي عقوبتها دخول النار وهي أن يحلف الرجل
على مال امرء مسلم أو على حقه ظلما.
81

كفارة ويمين غموس توجب النار فاليمين التي ليس فيها كفارة على باب برأن لا
يفعله وكفارته أن يفعل واليمين التي تجب فيها الكفارة الرجل يحلف على باب معصية
أن لا يفعله فيفعله فتجب عليه الكفارة واليمين الغموس التي توجب النار الرجل يحلف
على حق امرئ مسلم على حبس ماله وعنه (عليه السلام) من حلف على يمين فرأى
غيرها خيرا منها فأتى ذلك فهو كفارة يمينه.
وعنه (عليه السلام) ما حلفت عليه مما فيه البر فعليك الكفارة إذا لم تف به وما
حلفت عليه مما فيه المعصية فليس عليك فيه الكفارة إذا رجعت عنه وما كان سوى ذلك
مما ليس فيه بر ولا معصية فليس بشئ وفي الخصال عنه (عليه السلام) لا حنث ولا
كفارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلما عن نفسه وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) لا
يمين لولد مع والده ولا للمرأة مع زوجها.
(90) يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من
عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون في الكافي عن الباقر (عليه السلام) لما نزلت
هذه الآية قيل يا رسول الله وما الميسر فقال كل ما تقوم عليه حتى الكعاب والجوز قيل
فما الأنصاب قال ما ذبحوا لآلهتهم قيل فما الأزلام قال قداحهم التي يستقسمون بها.
أقول: قد مضى في تفسير الأنصاب والأزلام حديث آخر في أول السورة وفي
الآية ضروب من التأكيد في تحريم الخمر والميسر وقد مضت أخبار في ذلك عند قوله
تعالى ويسألونك عن الخمر والميسر من سورة البقرة.
والقمي عن الباقر (عليه السلام) في هذه الآية أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا
خمر (1) فهو خمر وما أسكر كثيره فقليله حرام وذلك أن أبا بكر شرب قبل أن يحرم الخمر
فسكر فجعل يقول الشعر ويبكي على قتلى المشركين من أهل بدر فسمع النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) فقال اللهم أمسك على لسانه فامسك فلم يتكلم حتى ذهب عنه السكر

(1) عن ابن الأعرابي إنما سمي الخمر خمرا لأنها تركت فاختمرت واختمارها بغير ريحها ويقال سميت بذلك لمخامرتها
العقل والتخمير التغطية.
82

فأنزل الله تحريمها بعد ذلك وإنما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر والتمر فلما
نزل تحريمها خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقعد بالمسجد ثم دعا بآنيتهم
التي كانوا ينبذون فيها فكفأها (1) كلها وقال هذه كلها خمر فقد حرمها الله فكان أكثر شئ
كفى في ذلك اليوم من الأشربة الفضيخ ولا أعلم كفى يومئذ من خمر العنب شئ إلا
اناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا فأما عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شئ
حرم الله الخمر قليلها وكثيرها وبيعها وشرائها والانتفاع بها وقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد في
الرابعة فاقتلوه وقال حق على الله أن يسقي من شرب الخمر مما يخرج من فروج
المومسات والمومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد والصديد قيح ودم
غليظ مختلط يؤذي أهل النار حره ونتنه وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من
شرب الخمر لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة فإن عاد فأربعين ليلة من يوم شربها فان
مات في تلك الأربعين ليلة من غير توبة سقاه الله يوم القيامة من طينة خبال (الخبال الفساد)
وسمى المسجد الذي قعد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أكفيت الأشربة
مسجد الفضيخ من يومئذ لأنه كان أكثر شئ اكفأ من الأشربة الفضيخ فأما الميسر
فالنرد والشطرنج وكل قمار ميسر وأما الأنصاب فالأوثان التي كان يعبدها المشركون
وأما الأزلام فالقداح التي كانت يستقيم بها مشركوا العرب في الأمور في الجاهلية كل
هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشئ من هذا حرام من الله محرم وهو رجس من عمل
الشيطان وقرن الله الخمر والميسر مع الأوثان.
وفي الخصال عن الباقر لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة
غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبايعها ومشتريها
وآكل ثمنها.
(91) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر
ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون قيل إنما خص الخمر والميسر

(1) كفأه كمنعه صرفه وكتبه وقلبه كأكفأه واكتفاه.
83

بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيها على أنهما المقصود من البيان وذكر
الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة كقول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) شارب الخمر كعابد الوثن وخص الصلاة من الذكر بالافراد للتعظيم
والاشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الايمان من حيث أنها عماده والفارق بينه وبين
الكفر ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أنواع
الصوارف إيذانا بأن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وإن الأعذار قد انقطعت.
(92) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا عما نهينا عنه أو عن مخالفتهما فإن
توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في
هذه الآية أما والله ما هلك من كان قبلكم وما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا إلا في
ترك ولايتنا وجحود حقنا وما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدنيا حتى
ألزم رقاب هذه الأمة حقنا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(93) ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا من المستلذات
أكلا كان أو شربا فان الطعم يعمهما
في المجمع في تفسير أهل البيت (عليهم السلام) فيما طعموا من الحلال إذا ما اتقوا
وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين القمي
لما نزل تحريم الخمر والميسر والتشديد في أمرهما قال الناس من المهاجرين والأنصار يا
رسول الله قتل أصحابنا وهم يشربون الخمر وقد سماه الله تعالى رجسا وجعلها من عمل
الشيطان وقد قلت ما قلت أفيضر أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا فأنزل الله هذه الآية
فهذا لمن مات أو قتل قبل تحريم الخمر والجناح هو الاثم وهو على من شربها بعد
التحريم وقيل فيما طعموا أي مما لم يحرم عليهم إذا ما اتقوا أي المحرم وآمنوا
وعملوا الصالحات أي ثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحات ثم اتقوا أي ما حرم
عليهم بعد كالخمر وآمنوا بتحريمه ثم اتقوا أي استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي
وأحسنوا أي وتحروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها.
أقول: لما كان لكل من الايمان والتقوى درجات ومنازل كما ورد عنهم (عليهم
السلام) لم يبعد أن يكون تكريرهما في الآية إشارة إلى تلك الدرجات والمنازل ففي
84

الكافي عن الصادق (عليه السلام) للايمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل فمنه التام
المنتهي تمامه ومنه الناقص البين نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحانه.
وعن الباقر (عليه السلام) أن المؤمنين على منازل منهم على واحدة ومنهم على اثنتين
ومنهم على ثلاث ومنهم على أربع ومنهم على خمس ومنهم على ست ومنهم على سبع فلو
ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو وساق
الحديث ثم قال وعلى هذه الدرجات.
وفي مصباح الشريعة عنه (عليه السلام) التقوى على ثلاثة أوجه تقوى في الله وهي
ترك الحلال فضلا عن الشبهة وهي تقوى خاص الخاص وتقوى من الله وهي ترك
الشبهات فضلا عن الحرام وهي تقوى الخاص وتقوى من خوف النار والعقاب وهي
ترك الحرام وهي تقوى العام ومثل التقوى كماء يجري في نهر ومثل هذه الطبقات الثلاث
في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر من كل لون وجنس وكل شجرة منها
يستمص الماء من ذلك النهر على قدر جوهره وطبيعته ولطافته وكثافته ثم منافع الخلق من
تلك الأشجار والثمار على قدرها وقيمتها قال الله تعالى صنوان وغير صنوان يسقى بماء
واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل فالتقوى للطاعات كالماء للأشجار ومثل
طبائع الأشجار في لونها وطعمها مثل مقادير الإيمان فمن كان أعلى درجة في الإيمان
وأصفى جوهرا بالروح كان أتقى ومن كان اتقى كانت عبادته أخلص وأطهر ومن كان
كذلك كان من الله أقرب وكل عبادة غير مؤسسة على التقوى فهي هباء منثور وقال الله
تعالى أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا
جرف هار فانهار به في نار جهنم انتهى كلامه (عليه السلام) فنقول في بيان ذلك:
إن أوائل درجات الإيمان تصديقات مشوبة بالشبه والشكوك على اختلاف مراتبها
ويمكن معها الشرك كما قال سبحانه وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ويعبر عنها
بالإسلام كما قال الله عز وجل قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما
يدخل الايمان في قلوبكم والتقوى المتقدمة عليها هي تقوى العام وأوسطها تصديقات لا
يشوبها شك ولا شبهة كما قال عز وجل الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وأكثر
85

إطلاق الإيمان عليها خاصة كما قال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا
تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون والتقوى المتقدمة عليها هي تقوى
الخاص وأواخرها تصديقات كذلك مع شهود وعيان ومحبة كاملة لله عز وجل كما قال
يحبهم ويحبونه ويعبر عنها تارة بالاحسان كما ورد في الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله
وسلم) الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأخرى بالايقان كما قال وبالآخرة هم يوقنون
والتقوى المتقدمة عليها هي تقوى خاص الخاص وإنما قدمت التقوى على الإيمان لان
الإيمان إنما يتحصل ويتقوى بالتقوى لأنها كلما ازدادت ازداد الإيمان بحسب ازديادها
وهذا لا ينافي تقدم أصل الإيمان على التقوى بل ازدياده بحسب ازديادها أيضا لان
الدرجة المتقدمة لكل منها غير الدرجة المتأخرة ومثل ذلك مثل من يمشي بسراج في ظلمة
فكلما أضاء له من الطريق قطعة مشى فيها فيصير ذلك المشي سببا لإضاءة قطعة
أخرى منه وهكذا.
وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال أتي عمر بقدامة بن مظعون قد شرب
الخمر وقامت عليه البينة فسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) فأمره أن يجلده ثمانين فقال
قدامة يا أمير المؤمنين ليس علي حد أنا من أهل هذه الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جناح فيما طعموا قال قال علي صلوات الله وسلامه عليه لست من أهلها ان
طعام أهلها لهم حلال ليس يأكلون ولا يشربون إلا ما أحله الله لهم ثم قال علي (عليه
السلام) إن الشارب إذا شرب لم يدر ما يأكل ولا ما يشرب فاجلدوه ثمانين جلدة.
أقول: في قوله (عليه السلام) إلا ما أحله الله لهم تنبيه على أنهم يحترزون عن
الشبهات بل عن كل ما يمنعهم من الشهود مع الله والجناح في الآية نكرة في سياق النفي
يعم أدنى مراتبه كاستحقاق العقاب والسر فيه أن شكر نعم الله تعالى أن تصرف في
طاعة الله سبحانه على وجهها فليتدبر فيه وعلى ما حققناه أن صح إن سبب نزول هذه
الآية ما ذكره القمي موافقا لطائفة من المفسرين فمعنى الآية إن الذين كانوا يشربون
الخمر قبل نزول تحريمها إذا كانوا بهذه المثابة من الإيمان والتقوى والعمل الصالح فلا
جناح عليهم في شربها.
86

(94) يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم
ورماحكم يعني في حال إحرامكم نبه بقوله بشئ على تحقيره بالإضافة إلى الابتلاء
ببذل الأنفس والأموال.
القمي قال: نزلت في عمرة الحديبية جمع الله عليهم الصيد فدخلوا بين رحالهم.
وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) حشر عليهم الصيد في كل مكان حتى دنا
منهم ليبلوهم الله به.
وعنه (عليه السلام) حشر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عمرة الحديبية
الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم.
وفي رواية ما تناله الأيدي البيض والفراخ وما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه
الأيدي، وفي المجمع عنه (عليه السلام) الذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش
والبيض والتي تناله الرماح الكبار من الصيد ليعلم الله من يخافه بالغيب ليتميز من
يخاف عقاب الآخرة وهو غائب منتظر فيتقي الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه فمن
اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم.
(95) يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم محرمون، في التهذيب عن
الصادق (عليه السلام) إذا حرمت فاتق قتل الدواب كلها إلا الأفعى والعقرب والفأرة
فإنها (1) توهي السقاء وتضرم على أهل البيت البيت وأما العقرب فإن نبي الله مد يده إلى
الحجر فلسعته عقرب فقال لعنك الله لا تدعين برا ولا فاجرا والحية إذا أرادتك فاقتلها
وإن لم تردك فلا تردها والكلب العقور والسبع إذا أراداك فاقتلهما فإن لم يريداك فلا
تردهما والأسود (2) الغدر فاقتله على كل حال ارم الغراب رميا والحدأة (3) على ظهر
بعيرك وفي الكافي ما في معناه.

(1) اي تخرقه وتضعفه عن امساك الماء.
(2) الأسود الحية العظيمة ومنه المحرم يقتل الأسود العذر وهو بمعنى البالغ فمعناه الأسود البالغ في السواد والأسود
العظيم الجوف فان العذر جاء بهذا المعنى أيضا.
(3) الحدأة كعتبة وهو طائر خبيث ويجمع بحذف الهاء وفي الخبر لا بأس بقتل الحداء للمحرم.
87

وعنه (عليه السلام) يقتل المحرم الزنبور والنسر والأسود الغدر والذئب وما خاف أن
يعدو عليه وقال الكلب العقور وهو الذئب، وعنه (عليه السلام) كل ما خاف المحرم على
نفسه من السباع والحيات فليقتله وإن لم يردك فلا ترده ومن قتله منكم متعمدا فجزاء
مثل ما قتل من النعم وقرء فجزاء بالإضافة؟ في التهذيب عن الصادق (عليه السلام) في
تفسيرها في الظبي شاة وفي حمار وحش بقرة وفي النعامة جزور وزاد في رواية أخرى
وفي البقرة بقرة والعياشي عن الباقر (عليه السلام) ما يقرب منه يحكم به ذوا عدل منكم
في المجمع عن الباقر والصادق (عليهما السلام) ذو عدل،؟ وفي الكافي عنهما (عليهما السلام)
والعياشي عن الباقر (عليه السلام) العدل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام من
بعده ثم قال هذا مما أخطأت به الكتاب وزاد العياشي يعني رجلا واحدا يعني الإمام.
أقول: يعني أن رسم الألف في ذوا عدل من تصرف نساخ القرآن خطأ والصواب
عدم نسخها وذلك لأنه يفيد أن الحاكم اثنان والحال أنه واحد وهو الرسول في زمانه ثم
كل إمام في زمانه على سبيل البدل.
وفي التهذيب عن الباقر (عليه السلام) العدل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
والإمام من بعده يحكم به وهو ذو عدل فإذا علمت ما حكم به رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) فحسبك ولا تسأل عنه هديا بالغ الكعبة.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) من وجب عليه هدي في إحرامه فله أن ينحره
حيث شاء إلا فداء الصيد فإن الله يقول هديا بالغ الكعبة وعنه (عليه السلام) من وجب
عليه هدي فداء صيد أصابه وهو محرم فإن كان حاجا نحر هديه الذي يجب عليه بمنى
وإن كان معتمرا نحر بمكة قبالة الكعبة.
وعن الباقر (عليه السلام) مثله وزاد وإن شاء تركه إلى أن يقدم فيشتريه فإنه يجزي عنه
عنه أو كفارة طعام مساكين وقرء كفارة طعام بالإضافة أو عدل ذلك صياما.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن محرم أصاب نعامة أو حمار وحش
قال عليه بدنة قيل فإن لم يقدر على بدنة قال فليطعم ستين مسكينا قيل فإن لم يقدر
88

على أن يتصدق قال فليصم ثمانية عشر يوما والصدقة مد على كل مسكين وسئل عن
محرم أصاب بقرة قال عليه بقرة قيل فإن لم يقدر على بقرة قال فليطعم ثلاثين مسكينا
قيل فإن لم يقدر على أن يتصدق قال فليصم (1) تسعة أيام قيل فإن أصاب طيبا قال عليه
شاة قيل فإن لم يقدر قال فإطعام عشرة مساكين فإن لم يجد ما يتصدق به فعليه صيام
ثلاثة أيام.
وفي الفقيه والقمي عن السجاد (عليه السلام) في حديث الزهري أو تدري كيف يكن
عدل ذلك صياما يا زهري قال لا أدري قال يقوم الصيد قيمة ثم تفض (2) تلك القيمة على
البر ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما ليذوق وبال أمره يعني
هذا الجزاء ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الاحرام عفا الله عما سلف يعني
الدفعة الأولى ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في محرم أصاب صيدا قال عليه الكفارة قيل
فإن أصاب آخر قال فان أصاب آخر فليس عليه كفارة وهو ممن قال الله تعالى ومن عاد
فينتقم الله منه وفي معناه أخبار أخر وفي التهذيب عنه (عليه السلام) إذا أصاب المحرم
الصيد خطأ فعليه الكفارة فإن أصاب ثانية خطأ فعليه الكفارة أبدا إذا كان خطأ فإن
أصابه متعمدا كان عليه الكفارة فإن أصابه ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم الله منه ولم يكن
عليه الكفارة.
وفي الكافي عنه (عليه السلام) في قوله الله عز وجل ومن عاد فينتقم الله منه قال إن
رجلا انطلق وهو محرم فأخذ ثعلبا فجعل يقرب النار إلى وجهه وجعل الثعلب يصيح
ويحدث من استه (3) وجعل أصحابه ينهونه عما يصنع ثم أرسله بعد ذلك فبينا الرجل نائم
إذ جاءت حية فدخلت في فيه فلم تدعه حتى جعل يحدث كما أحدث الثعلب ثم خلت
عنه.

(1) قوله فليصم تسعة أيام طلاقه مقيد بصورة العجز عن صوم الثلثين أو ما وافق قيمة طعام الصدقة بالاجماع المنقول
وقاعد ة معادلة الصوم لعدد المطعمين المستفادة من الآية وغير ذلك من الأخبار فهو بظاهره غير معمول به عند الأصحاب.
(2) الفض الكسر التفرقة وقد فضه يفضه.
(3) الاست العجز وقد يراد به حلقة الدبر واصلة سته على فعل بالتحريك يدل على ذلك ان جمعه استاه مثل حمل
واحمال.
89

(96) أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ولسيارتكم يتزودونه
قديدا (1) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما في الكافي عن الصادق (عليه السلام) لا
بأس أن يصيد المحرم السمك ويأكل مالحه (2) وطريه (3) ويتزود وقال أحل لكم صيد البحر
وطعامه متاعا لكم وللسيارة قال مالحه الذي يأكلون وفصل ما بينهما كل طير يكون في
الآجام (4) يبيض في البر ويفرخ في البر فهو من صيد البر وما كان من صيد البر يكون في
البر ويبيض في البحر فهو من صيد البحر وعنه (عليه السلام) كل شئ يكون أصله في
البحر ويكون في البر والبحر فلا ينبغي للمحرم أن يقتله فإن قتله فعليه الجزاء كما قال
الله تعالى وعن أحدهما (عليهما السلام) قال لا يأكل المحرم طير الماء واتقوا الله الذي إليه
تحشرون.
(97) جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما وقرء قيما بغير ألف للناس لمعايشهم
ومكاسبهم يستقيم به أمور دينهم ودنياهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح
عنده التجار باجتماعهم عنده من سائر الأطراف ويغفر بقصده المذنب ويفوز حاجه
بالمثوبات.
في المجمع: عن الصادق (عليه السلام) من أتى هذا البيت يريد شيئا في الدنيا
والآخرة أصابه والقمي قال ما دامت الكعبة قائمة ويحج الناس إليها لم يهلكوا فإذا
هدمت وتركوا الحج هلكوا والشهر الحرام والهدى والقلائد مضى تفسيرها ذلك لتعلموا
أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض يعني إذا اطلعتم على الحكمة في جعل
الكعبة قياما وما في الحج ومناسكه من الحكم علمتم أن الله يعلم الأشياء جميعا وأن الله
بكل شئ عليم تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق.
(98) اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم وعيد ووعد لمن هتك
محارمه ولمن حافظ عليها؟ في التوحيد عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل (عليه السلام) قال قال الله تعالى من

(1) القدية اللحم المقدد أي المشرح طولا. 2 - ملح السمك والقدر طرح فيه الملح.
(3) والطري الغض.
(4) الأجمة محركة الشجر جمع الكثير الملتف جمع اجم بالضم وبضمتين وبالتحريك واجام واجام وأجمات 44.
90

أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا وهو يعلم أن لي أن أعذبه وان أعفو عنه عفوت عنه.
(99) ما على الرسول إلا البلاغ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به والله يعلم ما
تبدون وما تكتمون من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة.
(100) قل لا يستوى الخبيث والطيب إنسانا كان أو عملا أو مالا أو غير ذلك
ولو أعجبك كثرة الخبيث فإن العبرة بالجودة والرداءة لا بالكثرة والقلة فاتقوا الله يا
أولى الألباب في تحري (1) الخبيث وان كثر واثروا (2) الطيب وإن قل لعلكم تفلحون.
(101) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا
عنها حين ينزل القرآن تبد لكم في الكافي عن الباقر (عليه السلام) لا تسألوا عن أشياء
لم تبد لكم إن تبد لكم تسؤكم.
وفي المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال إن الله كتب عليكم الحج فقال عكاشة بن محصن ويروى سراقة بن مالك
أفي كل عام يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا
فقال رسول الله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم
لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم كفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان
قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم
وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه.
والقمي عن الباقر (عليه السلام) أن (3) صفية بنت عبد المطلب مات ابن لها فأقبلت
فقال لها عمر غطي قرطك (4) فإن قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تنفعك
شيئا فقالت له هل رأيت لي قرطا يا ابن اللخناء (5) ثم دخلت على رسول الله (صلى الله

(1) التحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشئ بالفعل والقول.
(2) قوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا ان تقدموها وتفضلوها على الآخرة.
(3) صفية بنت عبد المطلب والدة الزبير ولذا كان علي ابن خاله.
(4) القرط بالضم فالسكون هو الذي يعلق في شحمة الأذن والجمع قرطة وقراط أيضا كرمح ورماح.
(5) لخن السقاء وغيره كفرح أنتن والجوزة فسدت ورجل الخن وأمة لخناء لم يختنا واللخن مركة قبح ريح الفرج
والارفاغ وقبح الكلام.
91

عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك وبكت فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنادى
الصلاة جامعة فاجتمع الناس فقال ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع لو قد قمت
المقام المحمود لشفعت في خارجكم لا يسألني اليوم أحد من أبوه إلا أخبرته.
فقام إليه رجل فقال من أبي يا رسول الله؟ فقال أبوك غير الذي تدعى له أبوك
فلان بن فلان فقام آخر فقال من أبي يا رسول الله قال أبوك الذي تدعى له ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بال الذي يزعم أن قرابتي لا تنفع لا يسألني عن
أبيه فقام إليه عمر فقال له أعوذ بالله يا رسول الله من غضب الله وغضب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أعف عني عفا الله عنك فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا الآية
عفا الله عنها قيل استئناف أي عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها
وقيل بل صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها وكف عن ذكرها
ويؤيده قول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إن الله افترض عليكم فرائض فلا
تضيعوها وحد لكم حدودا فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها (1) وسكت لكم عن
أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها والله غفور حليم لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم
ويعفو عن كثير.
(102) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين حيث لم يأتمروا
وجحدوا.
(103) ما جعل الله ما شرع الله من بحيرة ولا سائبة (2) ولا وصيلة ولا حام في
المعاني عن الصادق أن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين من بطن واحد قالوا
وصلت فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة ولا يستحلون
ظهرها ولا أكلها والحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلون فأنزل الله عز وجل إنه لم يحرم
شيئا من ذلك قال وقد روي أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن فإن كان

1 - نهكت من الطعام بالغت في أكله يقال أنهك من هذا الطعام وكذلك أنهك عرضه أي بالغ في شتمه.
2 - السائبة المهملة والعبد يعتق على أن لا ولاء له والبعير يدرك نتاج نتاجه فيسيب اي يترك لا يركب والناقة كانت
تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه أو كانت إذا ولدت عشرة ابطن كلهن إناث سيبت.
92

الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان الخامس أنثى بحروا اذنها أي شقوه وكانت
حراما على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء والسائبة البعير يسيب بنذر
يكون على الرجل أن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك والوصيلة من
الغنم كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال
والنساء وإن كان أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلا تذبح
وكان لحومهما حراما على النساء إلا أن يموت منها شئ فيحل أكلها للرجال والنساء
والحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره.
وقد يروى أن الحام هو من الإبل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا
يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب بتحريم
ذلك ونسبته إليه وأكثرهم لا يعقلون إن ذلك افتراء وكذب يعني الأتباع الذين يقلدون
في تحريمها رؤساءهم الذين يمنعهم حب الرياسة عن الاعتراف به.
وفي المجمع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لحي بن قمعة بن جندب
كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وبحر
البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه (1) ويروى تجر قصبه في النار.
(104) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا
عليه آباءنا بيان لقصور عقلهم وإنهاكهم في التقاليد وأن لا سند لهم سواه أولو كان
آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون يعني أوجبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة
ضالين.
(105) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم احفظوها والزموا صلاحها لا
يضركم من ضل إذا اهتديتم قيل نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة
ويتمنون إيمانهم.

(1) القصب محركة عظام الأصابع وشعب الحلق ومخارج الأنفاس والقصب بالضم الظهر والمعى والمراد هنا الأمعاء
روى عن ابن عباس وروى مكان ريح حر فيناسب الظهر أيضا.
93

والقمي قال أصلحوا أنفسكم ولا تتبعوا عورات الناس ولا تذكروهم فإنه لا
يضركم ضلالتهم إذا كنتم صالحين.
وفي المجمع أن أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية
فقال ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وهوى متبعا
وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة (1) نفسك وذر عوامهم إلى الله مرجعكم جميعا
فينبئكم بما كنتم تعملون وعد ووعيد للفريقين على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره.
(106) يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم الاشهاد الذي شرع بينكم فيما أمرتم به
إذا حضر أحدكم الموت إذا شارفه وحضرت إماراته حين الوصية قيل فيه تنبيه على
أن الوصية مما لا ينبغي أن يتهاون فيه اثنان شهادة اثنين ذوا عدل منكم من المسلمين
أو آخران من غيركم من أهل الكتاب والمجوس كما يأتي إن أنتم ضربتم في الأرض
سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت قاربكم الأجل تحبسونهما تقفونهما من بعد الصلاة
لتغليظ اليمين بشرف الوقت ولأنه وقت اجتماع الناس فيقسمان بالله أي الآخران إن
ارتبتم (2) ارتاب الوارث منكم وهو اعتراض لا نشترى به بالقسم أو بالله ثمنا عوضا من
الدنيا ولو كان ذا قربى أي ولو كان المقسم له ذا قربى ولا نكتم شهادة الله التي أمر
الله بإقامتها إنا إذا لمن الآثمين أي إن كتمنا.
(107) فإن عثر فإن اطلع وحصل العلم على أنهما أي الآخرين استحقا إثما
استوجبا عقوبة بسبب تحريف في الشهادة أو خيانة فآخران فشاهدان آخران يقومان
مقامهما من الذين استحق عليهم أي الذين حق عليهم يعني بهم الورثة الأوليان
الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وقرء عليهم استحق على البناء للفاعل والأولين
بالجمع على أنه صفة للذين فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما أي يميننا أصدق

1 - الخويصة تصغير الخاصة ياؤها ساكنة لان ياء التصغير لا يتحرك.
2 - أي ان ارتبتم اعتراض والضمير في به للقسم وفي كان للمقسم له يعني لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من
الدنيا ولو كان من نقسم له قريبا منا أراد أن هذه عادتهم: صدقهم وأمانتهم أبدا كقوله شهداء لله ولو على أنفسكم وخص
ذا القربى بالذكر لان الميل إليهم أتم والمداهنة بينهم أكمل قاله النيسابوري.
94

سمى اليمين شهادة لوقوعها موقعها كما في اللعان وما اعتدينا وما تجاوزنا فيها الحق إنا
إذا لمن الظالمين.
(108) ذلك أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهدين أدنى أقرب أن يأتوا
بالشهادة على وجهها على نحو ما تحملونها من غير تحريف ولا خيانة فيها أو يخافوا أن
ترد أيمان أي ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين
الكاذبة جمع اليمين ليعم الشهود كلهم.
في الكافي والفقيه والتهذيب عن الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية اللذان
منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن
المجوس لان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سن في المجوس سنة أهل الكتاب في
الجزية وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل
الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم
شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين قال وذلك إن ارتاب ولي الميت في شهادتهما فإن عثر على
أنهما شهدا بالباطل فليس له أن ينفض شهادتهما حتى يجئ بشاهدين فيقومان مقام
الشاهدين الأولين فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن
الظالمين فإذا فعل ذلك نقض شهادة الأولين وجازت شهادة الآخرين يقول الله تعالى
ذلك أدنى أن يأتوا الآية.
وفي الكافي مرفوعا خرج تميم الداري وابن بيدي وابن أبي مارية في سفر وكان تميم
الداري مسلما وابن بيدي وابن أبي مارية نصرانيين وكان مع تميم الداري خرج (1) له فيه
متاع وآنية منقوشة بالذهب وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع واعتل تميم
الداري علة شديدة فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بيدي وابن أبي مارية
وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة وأوصلا
سائر ذلك إلى ورثته فافتقد القوم الآنية والقلادة فقال أهل تميم لهما أهل مرض صاحبنا

(1) الخرج بالضم الجوالق ذو اذنين وهو عربي.
95

مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة فقالا لا ما مرض إلا أياما قلائل قالوا فهل سرق منه
شئ في سفره هذا قالا لا قالوا فهل اتجر تجارة خسر فيها قالا لا قالوا افتقدنا أفضل
شئ كان معه آنية منقوشة مكللة بالجواهر وقلادة فقالا ما دفع إلينا فقد أدينا إليكم
فقدموهما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأوجب عليهما اليمين فحلفا فخلى
عنهما ثم ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما.
فجاء أولياء تميم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا يا رسول الله قد
ظهر على ابن بيدي وابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما فانتظر رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) من الله الحكم في ذلك فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم الآية
فأطلق الله تعالى شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ولم يجد
المسلمين فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا
نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فهذه الشهادة
الأولى التي جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن عثر على أنهما استحقا إثما
أي أنهما حلفا على كذب فآخران يقومان مقامهما يعني من أولياء المدعي من الذين
استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما وانهما
قد كذبا فيما حلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين فأمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولياء تميم الداري أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به
فحلفوا فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القلادة والآنية من ابن بيدي وابن
أبي مارية وردهما إلى أولياء تميم الداري والقمي ما يقرب منه.
وفي الكافي في عدة أخبار عن الصادق (عليه السلام) إذا كان الرجل في أرض
غربة لا يوجد فيها مسلم جاز شهادة من ليس بمسلم على الوصية واتقوا الله واسمعوا
سمع إجابة وقبول والله لا يهدى القوم الفاسقين إلى طريق الجنة.
(109) يوم يجمع الله الرسل اذكره فيقول لهم ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك
أنت علام الغيوب في الجوامع السؤال توبيخ ولذلك قالوا لا علم لنا ووكلوا الأمر إلى
علمه بسوء إجابتهم ولجأوا إليه في الانتقام منهم.
96

وفي المعاني عن الصادق (عليه السلام) يقولون لا علم لنا بسواك وقال القرآن كله
تقريع وباطنه تقريب.
وفي الكافي عن الباقر إن لهذا تأويلا يقول ماذا أجبتم في أوصيائكم الذين
خلفتموهم على أممكم فيقولون لا علم لنا بما فعلو من بعدنا
والقمي عنه (عليه السلام) مثله من دون أن يسميه تأويلا.
(110) إذ قال الله بدل من يوم يجمع يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك
وعلى والدتك إذ أيدتك قويتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا تكلمهم
في جميع أحوالك على سواء وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتورية والإنجيل وإذ
تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه
والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني مضى تفسيرها في سورة آل عمران وقرء طائرا
وإذ كففت بني إسرائيل عنك يعني اليهود حين هموا بقتله إذ جئتهم بالبينات فقال
الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وقرء ساحر.
(111) وإذ أوحيت إلى الحواريين العياشي عن الباقر (عليه السلام) الهموا أن آمنوا
بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون مخلصون قد مضى الوجه في تسمية
الحواريين وذكر عددهم في سورة آل عمران.
(112) إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك وقرء بالخطاب
والعياشي مقطوعا قراءتها هل يستطيع أن تدعو ربك وقيل هذه الاستطاعة بناء على ما
تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة أن ينزل علينا مائدة من السماء
المائدة الخوان إذا كان عليه الطعام قال اتقوا الله من أمثال هذا السؤال إن كنتم
مؤمنين بكمال قدرته.
(113) قالوا نريد أن نأكل منها تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وتطمئن
قلوبنا بالمشاهدة ونعلم أن قد صدقتنا في ادعاء النبوة ونكون عليها من الشاهدين
97

قيل نشهد عليها عند الذين لم يحضروها.
(114) قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا
عيدا قيل يكون يوم نزولها عيدا نعظمه وكان يوم الأحد ولهذا اتخذه النصارى عيدا
وقيل بل العيد السرور العايد ومنه يوم العيد لأولنا واخرنا نأكل منها جميعا وقيل لمن في
زماننا ولمن بعدنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين.
(115) قال الله إني منزلها عليكم إجابة إلى سؤالكم وقرء منزلها بدون التشديد
فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين في المجمع عن
الباقر (عليه السلام) إن عيسى بن مريم (عليهما السلام) قال لبني إسرائيل صوموا ثلاثين
يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين فلما فرغوا قالوا إنا لو عملنا لأحد من
الناس فقضينا عمله لأطعمنا طعاما وإنا صمنا وجعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة
من السماء فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أخوان (1) حتى وضعتها
بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.
وعن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزلت المائدة خبزا ولحما
وذلك أنهم سألوا عيسى عليه السلام طعاما لا ينفد يأكلون منه قال فقيل لهم فإنها مقيمة
لكم ما لم تخونوا (2) وتخبأوا وترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتكم قال فما مضى يومهم حتى خبأوا
وترفعوا وخانوا.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال والله ما تبع عيسى (عليه السلام) شيئا من
المساوئ قط ولا انتهز شيئا ولا قهقه ضحكا ولا ذب ذبابا عن وجهه ولا أخذ أنفه
من نتن شئ قط ولا عبث قط ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا
وبكى قال اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين

1 - الخوان كغراب وكتاب ما يؤكل عليه الطعام كالاخوان.
2 - قوله ما لم تخونوا وتخبأوا يمكن أخذه من جبا بالجيم الموحدة من باب منع وفرح أي لم تدعوا وتكرهوا أو تغضبوا ومن
خبأ بالخاء المعجمة والباء الموحدة من باب منع أي ما لم تستروا وتخفوا أمرها وخبأتم فيها من كيد خائبى أي خائب أو التاء
المثناة من ختأه كمنعه كفه عن الامر اختتأ له أي خدمه.
98

وهم ينظرون إليها وهي تهوى منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى على نبينا
وآله و (عليه السلام) وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها فتلة (1)
مثلة وعقوبة واليهود ينظرون إليها ينظرون إلى شئ لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا
أطيب من ريحه.
فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى صلاة طويلة ثم كشف المنديل عنها وقال
بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوس تسيل سيلا من الدسم
وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما عدا الكراث وإذا خمسة
أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن
وعلى الخامس قديد.
فقال شمعون يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى
(عليه السلام) ليس شئ مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شئ افتعله
الله بالقدرة الغالبة كلوا ما سألتم يمددكم ويرزقكم من فضله فقال الحواريون يا روح
الله لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية أخرى فقال عيسى (عليه السلام) يا سمكة أحيي
بإذن الله تعالى فاضطربت السمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها وفرقوا منها فقال ما لكم
تسألون أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها ما أخوفني عليكم أن تعذبوا يا سمكة عودي كما
كنت بإذن الله فعادت السمكة مشوية كما كانت فقالوا يا روح الله كن أول من يأكل
منها ثم نأكل نحن فقال عيسى (عليه السلام) معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها من
سألها فخافوا أن يأكلوا منها فدعا لها عيسى (عليه السلام) أهل الفاقة والزمنى (2) والمرض
والمبتلين فقال كلوا منها ولكم الهناء ولغيركم البلاء فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة
من فقير ومريض ومبتلى وكلهم شبعان تتجشأ. (3)
ثم نظر عيسى (عليه السلام) إلى السمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء ثم

1 - قوله فتلة يقال فتله عن وجهه فانفتل أي صرفه فانصرف والمراد لعله لا تجعله سببا لانصراف النعمة.
2 - الزمانة العاهة وآفة في الحيوان يقال زمن الشخص زمنا وزمانة فهو زمن من باب تعب وهو مرض يدوم زمانا طويلا.
3 - التشجؤ تنفس المعدة.
99

طارت المائدة صعداء وهم ينظرون إليها حتى توارت عنهم فلم يأكل يومئذ منها زمن إلا
صح ولا مريض إلا برء ولا فقير إلا استغنى ولم يزل غنيا حتى مات وندم الحواريون
ومن لم يأكل منها وكانت إذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والصغار والكبار يتزاحمون
عليها فلما رآى ذلك عيسى عليه السلام جعلها نوبة بينهم فلبثت أربعين صباحا تنزل
ضحى فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفئ طارت صعداء وهم ينظرون في
ظلها حتى توارت عنهم وكانت تنزل غبا يوما ويوما لا فأوحى الله تعالى إلى عيسى (عليه
السلام) اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا
الناس فيها فأوحى الله تعالى إلى عيسى إني شرطت على المكذبين شرطا إن من كفر
بعد نزولها أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عيسى (عليه السلام) إن تعذبهم
فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون
رجلا باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم في ديارهم فأصبحوا خنازير يسعون في
الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الحشوش (1) فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى
عيسى (عليه السلام) وبكوا وبكى على الممسوخين أهلوهم فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا قال وفي
تفسير أهل البيت عليهم السلام كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون
منها ثم ترفع فقال كبراؤهم ومترفوهم لا ندع سفلتنا يأكلون منها فرفع الله المائدة ببغيهم
ومسخوا قردة وخنازير.
والقمي اقتصر على ما نسبه إلى تفسير أهل البيت عليهم السلام مقطوعا والعياشي
عن الباقر (عليه السلام) المائدة التي نزلت على بني إسرائيل كانت مدلاة (2) بسلاسل من
ذهب عليها تسعة أخونة وتسعة أرغفة وفي رواية أخرى تسعة ألوان أرغفة
وفي المجمع عن الكاظم (عليه السلام) إنهم مسخوا خنازير والعياشي مثله.

1 - الحش بالفتح والتشديد والفتح أكثر من الضم والكسر المخرج وموضع الحاجة واصله من الحش البستان لأنهم
كانوا كثيرا ما يتغوطون في البساتين فلما اتخذوا الكنيف وجعلوها خلفا عنها أطلقوا عليها الاسم مجازا وجمع الحش حشان
مثل ضيف وضيفان.
2 - أدليتها أرسلتها، تدلى من الشجرة تعلق.
100

وفي التهذيب عن الرضا (عليه السلام) والجريث والضب فرقة من بني إسرائيل
حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم (عليهما السلام) لم يؤمنوا فتاهوا (1) فوقعت فرقة في
البحر وفرقة في البر وفي الخصال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث
المسوخات وأما الخنازير فقوم نصارى سألوا ربهم تعالى انزال المائدة عليهم فلما أنزلت عليهم
كانوا أشد ما كانوا كفرا وأشد تكذيبا.
(116) وإذ قال الله يا عيسى بن مريم العياشي عن الباقر (عليه السلام) لم يقله
وسيقوله إن الله إذا علم شيئا هو كائن أخبر عنه خبر ما قد كان أأنت قلت للناس
اتخذوني وأمي إلهين من دون الله توبيخ للكفرة وتبكيت لهم.
القمي وذلك أن النصارى زعموا أن عيسى (عليه السلام) قال لهم إني وأمي إلهين (2) من
دون الله فإذا كان يوم القيامة يجمع الله بين النصارى وبين عيسى على نبينا وآله و (عليه
السلام) فيقول أأنت قلت الآية قال سبحانك أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك ما
يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ما لا يحق لي أن أقوله إن كنت قلته فقد علمته
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه.
والعياشي عن الباقر (عليه السلام) في تفسيرها إن الاسم الأكبر ثلاثة وسبعون حرفا
فاحتجب الرب تعالى بحرف فمن ثمة لا يعلم أحد ما في نفسه عز وجل أعطى آدم
اثنين وسبعين حرفا فتوارثها الأنبياء حتى صارت عند عيسى فذلك قول عيسى عليه السلام
تعلم ما في نفسي يعني اثنين وسبعين حرفا من الاسم الأكبر يقول أنت علمتنيها فأنت
تعلمها ولا أعلم ما في نفسك يقول لأنك احتجبت من خلقك بذلك الحرف فلا يعلم
أحد ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب.
(117) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم
شهيدا رقيبا مطلعا أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويعتقدوه ما دمت فيهم فلما توفيتني

1 - تاه في الأرض أي ذهب متحيرا يتيه تيها وتيهانا.
2 - لعل التقدير انى وأمي اتخذوا الهين ولا يستقيم حكاية عن الآية كما لا يخفى.
101

بالرفع إلى السماء من قوله أنى متوفيك ورافعك إليك والتوفي أخذ الشئ وافيا والموت
نوع منه قال الله عز وجل يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها كنت أنت
الرقيب عليهم المراقب لأحوالهم وأنت على كل شئ شهيد مطلع مراقب له.
(118) إن تعذبهم فإنهم عبادك تملكهم وتطلع على جرائمهم قيل فيه تنبيه على
أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز
الحكيم القادر القوي على الثواب والعقاب الذي لا تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة
وصواب فإن المغفرة حسنة لكل مجرم فان عذبت فعدل وإن غفرت ففضل.
(119) قال الله هذا يوم (1) ينفع الصادقين صدقهم وقرء يوم بالنصب ولا يخلو من
تكلف لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا
عنه ذلك الفوز العظيم.
(120) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شئ قدير فيه تنبيه
على كذب النصارى وفساد دعواهم في المسيح وأمه.
القمي والدليل على أن عيسى عليه السلام لم يقل لهم ذلك قوله تعالى هذا يوم ينفع
الصادقين صدقهم.
ثم روى باسناده عن الباقر عليه السلام في هذه الآية إذا كان يوم القيامة وحشر
الناس للحساب فيمرون بأهوال يوم فيمرون بأهوال يوم القيامة فلا ينتهون إلى العرصة حتى يجهدوا جهدا
شديدا قال يقفون بفناء العرصة ويشرف الجبار عليهم وهو على عرشه فأول من يدعى
بنداء يسمع الخلائق أجمعين أن يهتف باسم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم
النبي القرشي العربي قال فيتقدم حتى يقف على يمين العرش.
قال ثم يدعى بصاحبكم فيتقدم حتى يقف على يسار رسول الله صلى الله عليه

1 - قوله تعالى هذا يوم ينفع هذا مبتدأ ويوم خبره وهو معرب لأنه مضاف إلى معرب فيبقى على حقه من الاعراب
ويقرء يوم الفتح وهو منصوب على الظرف وهذا فيه وجهان أحدهما هو مفعول قال الله هذا القول في يوم والثاني ان هذا مبتدء
ويوم ظرف للخبر المحذوف اي هذا يقع أو يكون يوم ينفع وقال الكوفيون يوم في موضع رفيع خبر هذا ولكنه بني على الفتح
لإضافته إلى الفعل وعندهم يجوز بناؤه وان أضيف إلى معرب وعندنا لا يجوز الا إذا أضيف إلى مبني.
102

وآله وسلم ثم يدعي بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون على يسار علي ثم يدعى
بنبي نبي وأمته معه من أول النبيين إلى آخرهم وأمنهم معهم فيقفون على يسار العرش.
قال ثم أول من يدعى للمسائلة القلم قال فيتقدم فيقف بين يدي الله في صورة
الآدميين فيقول الله هل سطرت في اللوح ما ألهمتك وأمرتك به من الوحي فيقول القلم
نعم يا رب قد علمت اني قد سطرت في اللوح ما أمرتني وألهمتني به من وحيك فيقول
الله فمن يشهد لك بذلك فيقول يا رب وهل أطلع على مكنون سرك خلق غيرك قال
فيقول له أفلجت حجتك.
قال ثم يدعى باللوح فيتقدم في صورة الآدميين يقف مع القلم فيقول له هل
سطر فيك القلم ما ألهمته وأمرته به من وحى فيقول اللوح نعم يا رب وبلغته إسرافيل ثم
يدعى بإسرافيل فيتقدم إسرافيل مع اللوح والقلم في صورة الآدميين فيقول الله له هل
بلغك إسرافيل ما بلغ فيقول يا رب وبلغته جميع أنبيائك وأنفذت إليهم جميع ما انتهى
إلى من أمرك وأديت رسالاتك إلى نبي نبي ورسول رسول وبلغتهم كل وحيك وحكمتك
وكتبك وان آخر من بلغته رسالتك ووحيك وحكمتك وعلمك وكتابك وكلامك محمد بن
عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم العربي القرشي الحرمي حبيبك قال أبو جعفر عليه
السلام فأول من يدعى من ولد آدم للمسائلة محمد بن عبد الله فيدنيه الله حتى لا يكون
خلق أقرب إلى الله يومئذ منه فيقول الله يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هل بلغك
جبرئيل ما أوجبت إليك وأرسلته به إليك من كتابي وحكمتي وعلمي وهل أوحى ذلك
إليك فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعم يا رب قد بلغني جبرئيل جميع ما
أوحيته إليه وأرسلته به من كتابك وحكمتك وعلمك وأوحاه إلى فيقول الله لمحمد صلى
الله عليه وآله وسلم هل بلغت لامتك ما بلغك جبرئيل من كتابي وحكمتي وعلمي فيقول
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معكم يا رب قد بلغت أمتي جميع ما أوحيت إلى من
كتابك وحكمتك وعلمك وجاهدت في سبيلك.
فيقول الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن يشهد لك بذلك فيقول محمد صلى
الله عليه وآله وسلم يا رب أنت الشاهد لي بتبليغ الرسالة وملائكتك والأبرار من أمتي
103

وكفى بك شهيدا فيدعى بالملائكة فيشهدون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ
الرسالة ثم يدعى بأمة محمد فيسألون هل بلغكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالتي
وكتابي وحكمتي وعلمني وعلكم ذلك فيشهدون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ
الرسالة والحكمة والعلم فيقول الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل استخلف في
أمتك من بعدك من يقوم فيهم بحكمتي وعلمي ويفسر لهم كتابي ويبين لهم ما يختلفون
فيه من بعدك حجة لي وخليفة في الأرض فيقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعم يا
رب قد خلقت فيهم علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه أخي ووزيري ووصيي
وخير أمتي ونصبته لهم علما في حيوتي ودعوتهم إلى طاعته وجعلته خليفتي في أمتي إماما
يقتدى به الأمة من بعدي إلى يوم القيامة فيدعى بعلي بن أبي طالب فيقال له هل
أوصى إليك محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستخلفك في أمته ونصبك علما لامته في
حياته وهل قمت فيهم من بعده مقامه فيقول له علي نعم يا رب قد أوصى إلى محمد
وخلفني في أمته نصبني لهم علما في حياته فلما قبضت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
إليك جحدتني أمته ومكروا بي واستضعفوني وكادوا يقتلونني وقدموا قدامي من أخرت
وأخروا من قدمت ولم يسمعوا مني ولم يطيعوا أمري فقاتلتهم في سبيلك حتى قتلوني
فيقال لعلي هل خلفت من بعدك في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة وخليفة في
الأرض يدعو عبادي إلى ديني والى سبيلي فيقول علي نعم يا رب قد خلفت فيهم
الحسن ابني وابن بنت نبيك فيدعى بالحسن بن علي صلوات الله عليهما فيسأل عما
سئل عنه علي بن أبي طالب عليه السلام قال ثم يدعى بامام إمام وبأهل عالمه
فيحتجون بحجتهم فيقبل الله عذرهم ويجيز حجتهم قال ثم يقول الله هذا يوم ينفع
الصادقين صدقهم العياشي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال كان القرآن ينسخ بعضه
بعضا وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآخره وكان آخر ما نزل
عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها ولم ينسخها شئ لقد نزلت عليه وهو على بغلة
شهباء وثقل عليه الوحي حتى وقفت وتدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض
وأغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن
وهب الجحمي ثم دفع ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ علينا سورة
104

المائدة فعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلمنا.
وعن الصادق عليه السلام نزلت المائدة كملا ونزلت معها سبعون ألف ألف ملك
وفي ثواب الأعمال عن الباقر عليه السلام من قرء سورة المائدة في كل يوم خميس لم
يلبس إيمانه بظلم ولم يشرك به أبدا انشاء الله تعالى.
105

سورة الأنعام
هي مكية غير ست وما قدروا الله حق قدرة إلى إلى آخر
ثلاث آيات قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ربكم إلى آخر ثلاث آيات فإنهن نزلن
بالمدينة وعدد آيها مائة وخمس وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وصف نفسه بما نبه به على أنه
المستحق للحمد حمد أو لم يحمد ليكون حجة على العادلين به وجعل الظلمات والنور
أنشأهما والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التصيير
كإنشاء شئ من شئ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون: يعني أنه خلق ما لا يقدر عليه
أحد سواه، ثم هم يسوون به ما لا يقدر على شئ منه ومعنى ثم استبعاد عدو لهم (1) بعد
هذا الوضوح.
في الاحتجاج عن الصادق عليه السلام في حديث في نزول هذه الآية إنها رد على
ثلاثة أصناف لما قال الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض كان ردا على الدهرية
الذين قالوا إن الأشياء لا بدو لها وهي قائمة ثم قال وجعل الظلمات والنور فكان ردا
على الثنوية (2) الذين قالوا إن النور والظلمة هما المدبر ان ثم قال ثم الذين كفروا بربهم

1 - وعدلوا بالله أشركوا به وجعلوا له مثلا ومنه حديث علي (عليه السلام) كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم.
2 - الثنوية من يثبت مع القديم قديما غيره قيل وهم فرق المجوس يثبتون مبدئين مبدء للخير ومبدء للشر وهما النور
والظلمة ويقولون بنبوة إبراهيم وقيل هم طائفة يقولون إن كل مخلوق مخلوق للخلق الأول وقد شهد ببطلان قولهم قوله عليه السلام
في وصف الحق تعالى لا من شئ كان ولا من شئ خلق ما كان فبهذا يدفع جميع حجج الثنوية وشبههم.
106

يعدلون فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا إن أوثاننا آلهة.
(2) هو الذي خلقكم من طين: أي إبتدأ خلقكم منه ثم قضى أجلا: كتب وقدر
أجلا محتوما لموتكم لا يتقدم ولا يتأخر وأجل مسمى عنده لموتكم أيضا يمحوه ويثبت
غيره لحكمة الصدقة والدعاء وصلة الرحم وغيرها مما يحقق الخوف والرجاء ولوازم
العبودية فان بها وبأضدادها يزيد العمر وينقص وفيه سر البداء وقد بيناه في كتابنا
المسمى بالوافي مستوفى. في الكافي عن الباقر عليه السلام في تفسيرها قال: أجلان
أجل محتوم وأجل موقوف.
والقمي: عن الصادق عليه السلام الأجل المقضي: هو المحتوم الذي قضاه الله
وحتمه، والمسمى هو الذي فيه البداء يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء والمحتوم ليس فيه
تقديم ولا تأخير ثم أنتم تمترون تشكون فيه وفي بعثه إياكم استبعاد لامترائهم بعدما
ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم فإن من قدر على خلق الأصول
وجمعها وإبداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء وتوقيفهم في الأجل بعد حتمه إياه في الخوف
والرجاء بعد قضائه الأمر كان حقيقا بأن يعبد وكان أقدر على جمع الأصول وإحيائها
ثانيا فالآية الأولى: دليل التوحيد والثانية دليل التوحيد والبعث جميعا.
(3) وهو الله في السماوات وفي الأرض هو المعبود فيهما والمعروف بالإلهية
والوحدانية مثل قوله: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) في التوحيد: عن الصادق
عليه السلام في هذه الآية كذلك هو في كل مكان قيل بذاته قال ويحك الأماكن أقدار
فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار وغير ذلك ولكن هو باين من خلقه
محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا وليس علمه بما في الأرض بأقل مما في
السماء لا يبعد عنه شئ والأشياء عنده سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا وإحاطة يعلم
سركم وجهركم.
القمي: قال: السر ما أسر في نفسه، والجهر ما أظهره ويعلم ما تكسبون من خير
وشر فيثيب عليه ويعاقب.
(4) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين تاركين النظر
107

فيها غير ملتفتين إليها.
(5) فقد كذبوا بالحق بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون فسيظهر لهم ما كانوا به يستهزؤون عند نزول
العذاب بهم.
(6) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن: من أهل زمان مكناهم في الأرض
أعطيناهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال ما لم نمكن لكم ما لم نعطكم يا
أهل مكة وفي الكلام التفات وأرسلنا السماء المطر عليهم مدرارا مغزارا (1) وجعلنا الأنهار
تجري من تحتهم فعاشوا في الخصب (2) بين الأنهار والثمار فأهلكناهم بذنوبهم ولم يغن
ذلك عنهم شيئا وأنشأنا وأحدثنا من بعدهم
قرنا آخرين بدلا منهم يعني إنا كما قدرنا
أن نهلك من قبلكم كعاد وثمود وننشئ مكانهم آخرين قدرنا أن نفعل ذلك بكم.
(7) ولو نزلنا عليك كتبا في قرطاس مكتوبا في ورق فلمسوه بأيديهم ولم
يقتصر بهم على الرؤية لئلا يقولوا: سكرت أبصارنا لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر
مبين لعظم عنادهم وقسوة قلوبهم.
(8) وقالوا لولا أنزل عليه ملك يصدقه ويكلمنا إنه نبي لقوله لولا أنزل عليه
ملك فيكون معه نذيرا ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر لحق إهلاكهم فإن سنة الله جرت
بذلك فيمن قبلهم ثم لا ينظرون لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين.
(9) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا جواب ثان أو جواب لاقتراح ثان فإنهم كانوا
تارة يقولون: لولا أنزل عليه ملك وتارة يقولون: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة والمعنى لو جعلنا
قرينا لك ملكا يصدقك ويعاينوه أو جعلنا مكانك ملكا كما اقترحوه لمثلناه رجلا كما مثل
جبرئيل في صورة دحية فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته وللبسنا

1 - في الحديث الامام كالعين الغزيرة يقال غزر الماء بالضم غزارا وغزارة كثر فهو غزير أي كثير والمراد شدة النفع
وعمومه. والمدرار الكثير الدر مفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث.
2 - الخصب بالكسر كحمل: النماء والبركة والمرعى الخصب كثير العشب.
108

عليهم ما يلبسون: ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلنا
وكذبوه كما كذبوك في تفسير الإمام عليه السلام في سورة البقرة.
وفي الاحتجاج عنه عليه السلام قال قلت لأبي علي بن محمد عليهما السلام هل
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم قال
بلى مرارا كثيرة إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة إذ
ابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة وقلت
مقالا هائلا زعمت أنك رسول رب العالمين وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين
أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده بل لو
أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ما أنت يا محمد إلا
مسحورا ولست بنبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللهم أنت السامع لكل
صوت، والعالم بكل شئ، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل عليه يا محمد (وقالوا لولا أنزل عليه
ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر) إلى قوله تعالى: (وللبسنا عليهم ما يلبسون) ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأما قولك لي ولو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك
ونشاهده بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا، فالملك لم
تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لا عيان منه، ولو شاهدتموه بأن يزاد في قوى
أبصاركم لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر، لأنه إنما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي
ألفتموه لتفهموا عنه مقالته وتعرفوا خطابه ومراده فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وإن
ما يقوله حق بل إنما بعث الله بشرا رسولا وأظهر على يده المعجزات التي ليست في
طبايع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبكم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة، وأن
ذلك شهادة من الله بالصدق له، ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما يعجز عنه البشر لم
يكن في ذلك ما يدلكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير
ذلك معجزا الا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز لأن لها أجناسا يقع
منها مثل طيرانها ولو أن آدميا طار كطيرانها كان ذلك معجزا فالله عز وجل سهل عليكم
الأمر وجعله مثلكم بحيث تقوم عليكم حجته وأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا
109

حجة فيه، الحديث ويأتي نبذ منه في سورة الفرقان وآخر في سورة الزخرف إنشاء الله.
(10) ولقد استهزئ برسل من قبلك: تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
على ما يرى من قومه فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون فأحاط بهم
الذي يستهزؤون به من العذاب.
(11) قل سيروا في الأرض: قيل: أي سافروا فيها ثم انظروا بأبصاركم وتفكروا
بقلوبكم.
القمي: أي انظروا في القرآن وأخبار الأنبياء فانظروا، وقد مضى نظيره عن الصادق
عليه السلام في سورة آل عمران كيف كان عاقبة المكذبين المستهزئين بالرسل من
الأمم السالفة حيث استأصلهم العذاب.
(12) قل لمن ما في السماوات والأرض: سؤال تبكيت (1) قل لله تقرير لهم أي هو لله
لا خلاف بيني وبينكم في ذلك، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره. كتب على
نفسه الرحمة: أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة،
وإنزال الكتب والإمهال على الكفر والذنوب لتدارك ما فرط ليجمعنكم: قرنا بعد قرن إلى
يوم القيامة لا ريب فيه: قيل: استيناف، ووعيد على إشراكهم، وإغفالهم النظر. وقيل:
بدل من الرحمة فإنه منها. الذين خسروا أنفسهم: بتضييع رأس مالهم الذي هو الفطرة
الأصلية. فهم لا يؤمنون: فإن إبطال الفطرة أداهم إلى الإصرار على الكفر.
(13) وله: ولله. ما سكن في الليل والنهار: ما تمكن وحل من السكنى. ذكر في
الأول السماوات والأرض المشتملتين على الأمكنة جميعا، وهنا الليل والنهار المشتملين
على الأزمنة جميعا ليعم الموجودات التي تندرج تحت الظرفين. وهو السميع العليم: لا
يخفى عليه شئ.
(14) قل أغير الله أتخذ وليا: إنكار لاتخاذ غير الله وليا لا لاتخاذ الولي، ولذلك قدم
غير وأولى الهمزة. فاطر السماوات والأرض: منشؤهما ومبدعهما، ابتدأ بقدرته وحكمته من

1 - التبكيت التقريع والتوبيخ كما يقال له يا فاسق أما استحييت أما خفت الله.
110

غير احتذاء مثال وهو يطعم ولا يطعم: يرزق ولا يرزق يعني أن المنافع كلها من عنده،
ولا يجوز عليه الانتفاع. قل إني أمرت: أي أمرني ربي. أن أكون أول من أسلم: لأن
النبي سابق أمته في الإسلام. ولا تكونن من المشركين: وقيل لي: (ولا تكونن من المشركين)،
ويجوز عطفه على (قل).
(15) قل إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم: مبالغة أخرى في قطع
أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب.
العياشي: عن الصادق عليه السلام ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إني
أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك
الكلام. (16) من يصرف عنه يومئذ يعني العذاب، وقرئ بالبناء للفاعل. فقد رحمه: وتفضل
عليه. في المجمع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي نفسي بيده ما من الناس
أحد يدخل الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة
منه وفضل وذلك الفوز المبين.
(17) وإن يمسسك الله بضر: ببلية كمرض وفقر. فلا كاشف له: فلا قادر على
كشفه. إلا هو وإن يمسسك بخير: بنعمة كصحة، وغنى. فهو على كل شئ قدير: يقدر
على إدامته وإزالته.
(18) وهو القاهر فوق عباده: تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة يعني أنهم تحت
تسخيره وتذليله. وهو الحكيم: في أمره وتدبيره. الخبير: بالعباد، وخفايا أحوالهم، وبكل شئ.
(19) قل أي شئ أكبر شهادة: أعظم شهادة، وأصدق. قل الله شهيد بيني
وبينكم: قيل: الله جواب، وشهيد: مستأنف بتقدير هو. وقيل: بل الله شهيد ساد مسد
الجواب.
أقول: لعله أريد أنه لا يحتاج إلى الجواب ويكون معنى السؤال أنه غير خاف أن
الله هو أكبر شئ شهادة وأنتم أيضا تعلمون ذلك، ومعنى (الله شهيد): أن الله الذي هو أكبر
شئ شهادة هو الذي يشهد لي بالنبوة، وإنما جاز إطلاق الشئ على الله تعالى لإخراجه
111

عن حد التعطيل، ولكنه شئ بخلاف الأشياء كذا في الكافي: عن الصادق عليه السلام.
القمي: عن الباقر عليه السلام إن مشركي أهل مكة قالوا: يا محمد ما وجد الله
رسولا يرسله غيرك ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول؟ وذلك في أول ما دعاهم، وهو
يومئذ بمكة، قالوا: ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم
فأتانا بأمر يشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم الله شهيد بيني وبينكم. وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ: قيل:
يعني أنذركم، وأنذر سائر من بلغه إلى يوم القيامة.
وفي المجمع، والكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية ومن بلغ أن
يكون إماما من آل محمد (صلوات الله عليهم): فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم.
والقمي: ما في معناه. أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى: تقرير لهم مع إنكار
واستبعاد. قل لا أشهد: بما تشهدون. قل إنما هو إله وحد: بل أشهد أن لا إله إلا هو
وإنني برئ مما تشركون: به من الأوثان وغيرها.
(20) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه: يعرفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بحليته المذكورة في التوراة والأنجيل. كما يعرفون أبنائهم: بحلاهم.
القمي: نزلت في اليهود والنصارى لأن الله قد أنزل عليهم في التوراة والأنجيل
والزبور صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصفة أصحابه ومهاجره، وهو قوله تعالى:
(محمد رسول الله) صلى الله عليه وآله إلى قوله: (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل)،
فهذه صفة رسول الله صلى الله عليه وآله في التوراة والأنجيل وصفة أصحابه فلما بعثه
الله عز وجل عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به). الذين
خسروا أنفسهم: من أهل الكتاب والمشركين. فهم لا يؤمنون: لتضييعهم ما به يكتسب
الأيمان.

1 - الحلية بالكسر بمعنى الصفة.
112

(21) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا: كقولهم: الملائكة بنات الله، وهؤلاء
شفعاؤنا عند الله. أو كذب بآياته: كأن كذبوا بالقرآن والمعجزات وسموها سحرا، وإنما (أو)
وهم قد جمعوا بين الأمرين تنبيها على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم. إنه
لا يفلح الظالمون: فضلا عمن لا أحد أظلم منه.
(22) ويوم نحشرهم (1) جميعا: منصوب بمضمر تهويلا للأمر. ثم نقول للذين أشركوا
أين شركاؤكم: قيل: أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله تعالى ويأتي ما ورد فيه، وأن
المراد بها شركاؤهم في الولاية، وقرئ يحشر، ويقول: بالياء. الذين كنتم تزعمون: أي
تزعمونهم شركاء توبيخ لهم بعدم انتفاعهم بها.
(23) ثم لم تكن فتنتهم: في المجمع: عن الصادق عليه السلام يعني معذرتهم.
أقول: يعني معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها من فتنت الذهب إذا خلصته،
وقرئ لم تكن بالتاء، وفتنتهم بالرفع وبالياء والنصب. إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا
مشركون: يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفع من فرط الحسرة والدهشة، وقرئ
ربنا بالنصب.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام، والقمي: عن الصادق عليه السلام يعنون بولاية
علي صلوات الله وسلامه عليه.
(24) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون من
الشركاء.
في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث يذكر فيه أهوال يوم القيامة،
ثم يجتمعون في موطن آخر ويستنطقون فيه، فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، وهؤلاء
خاصة هم المقرون في دار الدنيا بالتوحيد فلم ينفعهم إيمانهم بالله تعالى مع مخالفتهم
رسله وشكهم فيما أتوا به عن ربهم، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم، واستبد الهم الذي هو

1 - قوله ويوم نحشرهم اه هو مفعول به والتقدير واذكر يوم نحشرهم وجميعا حال من ضمير المفعول ومفعولا تزعمون
محذوفان اي تزعمونهم شركاء ودل على المحذوف ما تقدم.
113

أدنى بالذي هو خير فكذبهم الله فيما انتحلوه من الأيمان بقوله: (انظر كيف كذبوا على
أنفسهم).
والقمي: مقطوعا قال: إنها في قدرية (1) هذه الأمة يحشرهم الله تعالى يوم القيامة مع
الصابئين والنصارى والمجوس فيقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) يقول الله تعالى: (انظر
كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون). قال: وقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إن لكل أمة مجوسا ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، ويزعمون أن
المشيئة والقدرة إليهم ولهم.
(25) ومنهم من يستمع إليك: حين تتلو القرآن. وجعلنا على قلوبهم أكنة: أغطية
جمع كنان وهو ما يستر الشئ. أن يفقهوه: كراهة أن يفقهوه. وفى آذانهم وقرا (2): يمنع من
استماعه كناية عن نبو (3) قلوبهم وأسماعهم عن قبوله. وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها: لفرط
عنادهم، واستحكام التقليد فيهم. حتى إذا جاءوك يجادلونك: يخاصمونك. يقول الذين
كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين: الأساطير: الأباطيل، وأصله السطر، بمعنى الخط والمعنى
بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك، ويناكرونك، ويجعلون كلام الله الذي هو أصدق
الحديث خرافات الأولين، وهي غاية التكذيب. وهم ينهون عنه وينأون عنه: القمي:
قال: بنو هاشم كانوا ينصرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويمنعون قريشا عنه،
وينأون عنه، أي: يباعدونه ولا يؤمنون به وإن يهلكون وما يهلكون بذلك إلا أنفسهم وما
يشعرون: إن ضررهم لا يتعداهم إلى غيرهم.
(27) ولو ترى إذ وقفوا على النار: جوابه محذوف، يعني لو تراهم حين يوقفون على
النار حتى يعاينوها أو حين يطلعون عليها بالدخول لرأيته أمرا فظيعا (4).

1 - في الحديث ذكر القدرية وهم المنسوبون إلى القدر ويزعمون أن كل عبد خالق فعله ولا يرون المعاصي والكفر
بتقدير الله ومشيته فنسبوا إلى القدر لأنه بدعتهم وضلالتهم. وفي شرح المواقف قيل القدرية هم المعتزلة لاستناد أفعالهم إلى
قدرتهم وفي الحديث لا يدخل الجنة قدري وهو الذي يقول لا يكون ما شاء الله ويكون ما شاء إبليس.
2 - الوقر بالفتح الثقل في الاذن.
3 - نبا السيف ينبو من باب قتل نبوا على فعول: كل ورجع من غير قطع.
4 - فظع الامر بالضم فهو فظاعة فهو فظيع أي شديد شنيع جاوزا المقدار.
114

القمي: قال: نزلت في بني أمية. فقالوا يا ليتنا نرد: تمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا. ولا
نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين: عطف على نرد أو ابتداء كلام، وقرئ بالنصب
فيهما على الجواب بإضمار (أن) بعد الواو إجراء لها مجرى - الفاء -، وبرفع الأول ونصب
الثاني.
(28) بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل من نفاقهم، وقبايح أعمالهم، فتمنوا ما تمنوا
ضجرا لا عزما على أنهم لو ردوا لآمنوا. ولو ردوا: أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور
لعادوا لما نهوا عنه: من الكفر والمعاصي. وإنهم لكاذبون: فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون
به.
العياشي: عن الصادق عليه السلام أنهم ملعونون في الأصل.
(29) وقالوا: عطف على عادوا أو ابتداء. إن هي إلا حياتنا الدنيا: الضمير للحياة.
وما نحن بمبعوثين. (30) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم: للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين
يدي مولاه كناية عن اطلاعهم على الرب وجزائه، والوقوف: بمعنى الاطلاع. قال أليس
هذا بالحق: تعيير من الله لهم على تكذيبهم بالبعث. قالوا بلى وربنا: أقروا وأكدوا باليمين
لانجلاء الأمر غاية الجلاء. قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون: بسبب كفركم.
(31) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله: ببلوغ الآخرة وما يتصل به من الجزاء إذ
فاتهم النعيم، واستوجبوا العذاب المقيم. حتى إذا جاءتهم الساعة: غاية لكذبوا لا لخسر
لأن خسرانهم لا غاية له. بغتة: فجأة. قالوا يا حسرتنا: أي تعالي فهذا أوانك. على ما
فرطنا: قصرنا فيها. قيل: أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر للعلم بها أو في الساعة أي في
شأنها والأيمان بها أو في الجنة يعني في طلبها والعمل لها، لما روي عن النبي صلى الله
عليه وآله في هذه الآية يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا. وهم يحملون
أوزارهم على ظهورهم: تمثيل لاستحقاقهم آضار (1) الآثام ألا ساء ما يزرون: بئس شيئا

1 - الوضر بالتحريك الدرن والدسم يقال وضرت القصعة أي دسمت ووضره وضرا فهو وضر مثل وسخ وسخا فهو
115

يزرونه وزرهم.
(32) وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو: وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهي الناس
ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية، وهي جواب قولهم: (إن هي إلا حياتنا الدنيا).
وللدار الآخرة خير للذين يتقون: لدوامها وخلود لذاتها ومنافعها، وقرئ ولدار الآخرة. أفلا
تعقلون: أي الأمرين خير، وقرئ على الخطاب.
(33) قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك في الحقيقة ولكن
الظالمين بآيات الله يجحدون: ولكنهم يجحدون آيات الله ويكذبونه، و (الباء) لتضمن الجحود
معنى التكذيب، وقرأ بالتخفيف من اكذبه إذا وجده كاذبا أو نسبه إلى الكذب.
في الكافي: والعياشي: عن الصادق عليه السلام قرئ رجل على أمير
المؤمنين عليه السلام (فإنهم لا يكذبونك)، فقال: لي والله لقد كذبوه أشد التكذيب، ولكنها
مخففة (لا يكذبونك) لا يأتون بباطل يكذبون به حقك.
ونسبه القمي إلى الصادق عليه السلام إلا أنه قال: لا يأتون بحق يبطلون حقك.
ويؤيد هذا ثبوت التكذيب، والعياشي: عنه عليه السلام أي لا يستطيعون إبطال قولك.
وفي المجمع: عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه كان يقرأ لا يكذبونك، ويقول: إن المراد
بها أنهم لا يأتون بحق أحق من حقك.
وفيه عن أكثر المفسرين لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، قال: ويشهد لهذا ما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي أبا جهل فصافحه فقيل له في ذلك فقال: والله
إني لأعلم أنه صادق ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف، فأنزل الله تعالى الآية.
(34) ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا: في الكافي: عن الصادق عليه السلام
إن من صبر صبر قليلا، وإن من جزع جزع قليلا، ثم قال: وعليك بالصبر في جميع أمورك
فإن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بالصبر والرفق قال: فصبر
116

حتى نالوه (1) بالعظائم، ورموه بها فضاق صدره فأنزل الله عز وجل: (ولقد نعلم أنك يضيق
صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) ثم كذبوه ورموه، فحزن لذلك
فأنزل الله: (قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله
يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا)،
فألزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه الصبر الحديث.
والقمي: عنه عليه السلام ما يقرب منه. ولا مبدل لكلمات الله: قيل: اي لمواعيده من
قوله: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون). ولقد جاءك من نبأ
المرسلين: من قصصهم وما كابدوا (2) من قومهم.
(35) وإن كان كبر عليك: عظم وشق. إعراضهم: عنك، وعن الأيمان بما جئت به.
القمي: عن الباقر عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب إسلام
الحرث بن نوفل بن عبد مناف دعاه وجهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشق ذلك
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله هذه الآية. فإن استطعت أن
تبتغى نفقا في الأرض: منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض. أو سلما في السماء: أو
مصعدا تصعد به إلى السماء. فتأتيهم بآية: فتطلع لهم آية من الأرض أو تنزل آية من
السماء يؤمنون بها وجوابه محذوف أي فافعل، والجملة جواب الشرط الأول، والمقصود بيان
حرصه البالغ على إيمان قومه، وأنه لو قدر على ذلك لفعل، ولكنه لا يقدر نظيره (فلعلك
باخع نفسك). ولو شاء الله لجمعهم على الهدى: بأن تأتيهم آية يخضعوا لها، ولكن لا يفعل
لخروجه عن الحكمة.
في الإكمال: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا علي إن الله قد قضى الفرقة
والاختلاف على هذه الأمة فلو شاء الله لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف اثنان من
هذه الأمة، ولا ينازع في شئ من أمره، ولا يجحد المفضول لذي الفضل فضله فلا

1 - قوله نالوه بالعظائم يعني نسبوه إلى الكذب والجنون والسحر وغير ذلك وافتروا عليه.
2 - الكبد بالتحريك: الشدة والمشقة من المكابدة للشئ وهو تحمل المشاق في شئ.
3 - أي قاتل نفسك بالغم والوجد عليهم.
117

تكونن من الجاهلين.
القمي: مخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعني الناس.
(36) إنما يستجيب الذين يسمعون: بتفهم وتدبر يعني إن الذين تحرص على
إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون. والموتى يبعثهم الله: فيحكم فيهم. ثم إليه
يرجعون: فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم.
(37) وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه: مما اقترحوه، تركوا الاعتداد بما نزلت عليه
من آيات الله والمعجزات مع كثرتها كأنه لم ينزل عليه شئ من الآيات عنادا منهم. قل
إن الله قادر على أن ينزل آية: يخضعوا لها، وقرئ أن ينزل بالتخفيف. ولكن أكثرهم لا
يعلمون: إنه يقدر عليه، وإن حكمته لا يقتضي ذلك.
القمي: قال: لا يعلمون إن الآية إذا جاءت ولم يؤمنوا بها لهلكوا. وعن الباقر عليه
السلام في هذه الآية: سيريكم في آخر الزمان آيات. منها: دابة الأرض، والدجال، ونزول
عيسى بن مريم، وطلوع الشمس من مغربها.
(38) وما من دابة في الأرض: تدب على وجهها. ولا طائر يطير بجناحيه
في الهواء. قيل: وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها. إلا أمم أمثالكم: محفوظة أحوالها،
مقدرة أرزاقها، مكتوبة آجالها، مخلوقة أبدانها، مربوبة أرواحها كما أنتم كذلك.
القمي: يعني خلق مثلكم قال: وقال: كل شئ مما خلق خلق مثلكم. قيل:
المقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره وليكون كالدليل
على أنه قادر على أن ينزل آية. ما فرطنا في الكتاب من شئ: شيئا من التفريط لأن
(فرط) لا يتعدى بنفسه وقد عدى بفي إلى الكتاب، وقرئ بالتخفيف، ويعني بالكتاب
القرآن كما يستفاد من كثير من الأخبار كحديث اختلاف العلماء في الفتيا. في نهج
البلاغة: عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم
على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فعليهم أن يقولوا: وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله دينا تاما
فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وفيه
118

تبيان كل شئ. وحديث وصف الإمامة عن الرضا عليه السلام في العيون، وغيره: جهل
القوم وخدعوا عن أديانهم إن الله لم يقبض نبيه حتى أكمل الدين، وأنزل عليه القرآن
فيه تفصيل كل شئ بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه
كملا، فقال عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب من شئ). ثم إلى ربهم يحشرون: يعني الأمم
كلها. في الفقيه: عن الصادق عليه الصلاة والسلام أي بعير حج عليه ثلاث سنين جعل
من نعم الجنة. قال: وروي سبع سنين.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها فقال: أين
صاحبها مروه فليستعد غدا للخصومة.
وفي الخصال: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث القيامة قال: لن يركب
يومئذ إلا أربعة: أنا وعلي، وفاطمة، وصالح نبي الله. فأما أنا: فعلى البراق، وأما فاطمة ابنتي:
فعلى ناقتي العضباء، وأما صالح: فعلى ناقة الله التي عقرت، وأما علي: فعلى ناقة من نور
زمامها من ياقوت عليه حلتان خضراوان.
(39) والذين كذبوا بآياتنا صم: عن الهدى. وبكم: لا يتكلمون بخير. في الظلمات:
يعني ظلمات الكفر، كذا رواه القمي عن الباقر عليه السلام في تفسير الآية. من يشأ
الله يضلله: يخذله فيضل لأنه ليس من أهل الهدى. ومن يشأ يجعله على صراط
مستقيم: يرشده إلى الهدى بلطفه لأنه من أهل الهدى واللطف.
القمي: عن الباقر عليه السلام نزلت في الذين كذبوا الأوصياء، هم صم وبكم كما
قال الله: (في الظلمات) من كان من ولد إبليس فإنه لا يصدق بالأوصياء ولا يؤمن بهم أبدا،
وهم الذين أضلهم الله، ومن كان من ولد آدم آمن بالأوصياء وهم على صراط مستقيم.
(40) قل أرأيتكم: أرأيت أنفسكم معناه أخبروني. إن أتيكم عذاب الله: في الدنيا
أو أتتكم الساعة: يعني القيامة، من تدعون. أغير الله تدعون: تبكيت لهم. إن كنتم
صادقين: بأن الأصنام آلهة.
(41) بل إياه تدعون: بل تخصون الله بالدعاء دون الآلهة. فيكشف ما تدعون
119

إليه: ما تدعون إلى كشفه. إن شاء: أن يتفضل عليكم بكشفه. وتنسون ما تشركون
وتتركون آلهتكم لما ركز في العقول إنه القادر على كشف الضر دون غيره أو لا تذكرونها
في ذلك الوقت من شدة الأمر وهو له.
(42) ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك: يعني الرسل فكذبوهم. فأخذناهم بالبأساء:
بالشدة والفقر. والضراء والمرض، ونقصان الأنفس والأموال. لعلهم يتضرعون لكي
يتضرعوا، ويخضعوا، ويتذللوا، أو يتوبوا عن ذنوبهم.
(43) فلولا إذ جائهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما
كانوا يعملون: معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت جاء بلولا ليدل على أنه لم يكن لهم
عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان
لهم في نهج البلاغة: من كلامه ولو أن الناس حين ينزل بهم النقم، ويزول عنهم النعم
فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد عليهم كل شارد وأصلح لهم كل
فاسد.
(44) فلما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء يعني تركوا الاتعاظ به. فتحنا
عليهم أبوب كل شئ: من الصحة والتوسعة في الرزق، وقرئ فتحنا بالتشديد حيث وقع
حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الخير والنعم واشتغلوا بالنعم عن المنعم. أخذناهم بغتة
مفاجأة من حيث لا يشعرون. فإذا هم مبلسون: آيسون من النجاة والرحمة متحسرون.
(45) فقطع دابر القوم الذين ظلموا: أي اخرهم لم يترك منهم أحد من دبره
إذا تبعه. والحمد لله رب العلمين: على إهلاك أعدائه وإعلاء كلمته فإن تخليص أهل
الأرض من سوء عقايد الكفار وقبيح أعمال العصاة والفجار نقمة جليلة يحق أن يحمد
عليها.
قل في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأيت الله تعالى يعطي على
المعاصي فإن ذلك استدراج منه، ثم تلا هذه الآية، وعن أمير المؤمنين عليه السلام يا ابن
آدم إذا رأيت ربك تتابع عليك نعمه فاحذره.
120

القمي: عن الباقر عليه السلام (فلما نسوا ما ذكروا به) يعني فلما تركوا ولاية علي
ابن أبي طالب عليه السلام وقد أمروا بها (فتحنا عليهم أبواب كل شئ) دولتهم في الدنيا
وما بسط لهم فيها (أخذناهم بغتة) يعني بذلك قيام القائم (صلوات الله عليه) حتى كأنهم لم
يكن لهم سلطان قط.
والعياشي: عنه عليه السلام لما تركوا ولاية علي صلوات الله عليه وقد أمروا
بها (أخذناهم بغتة) الآية قال: نزلت في ولد العباس. (46) قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم: بأن يصمكم ويعميكم
وختم على قلوبكم بأن يغطي عليها ما يذهب عقلكم ويسلب تميزكم. من إله غير الله
يأتيكم به: بذلك.
القمي: عن الباقر عليه السلام إن أخذ الله منكم الهدى. أنظر كيف نصرف
الآيات ثم هم يصدفون: قال: يعرضون.
(47) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة من غير مقدمة وظهور إمارة أو
جهرة بتقدم أمارة، قابل البغتة بالجهرة لما في البغتة من معنى الخفية. هل يهلك إلا
القوم الظالمون: ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا بكفرهم وفسادهم.
القمي: نزلت لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وأصاب
أصحابه الجهد والعلل والمرض، فشكوا ذلك إليه يعني لا يصيبكم إلا الجهد والضر في
الدنيا، فأما العذاب الأليم الذي فيه هو الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين.
العياشي: عن الصادق عليه السلام يؤاخذ بني أمية بغتة، وبني العباس جهرة.
(48) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين: المؤمنين بالجنة. ومنذرين: الكافرين
بالنار. فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم: من العذاب. ولا هم يحزنون: بفوت الثواب.
(49) والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب: جعل العذاب ماسا لهم كأنه
الطالب للوصول إليهم يفعل بهم ما يريد. بما كانوا يفسقون: بسبب خروجه عن
التصديق والطاعة.
121

(50) قل لا أقول لكم عندي خزائن الله: في التوحيد، والمعاني، والمجالس: عن
الصادق عليه السلام لما صعد موسى على نبينا وآله وعليه السلام إلى الطور فنادى ربه عز
وجل قال: يا رب أرني خزائنك فقال تعالى: يا موسى إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول
له كن فيكون. ولا أعلم الغيب: الذي اختص الله بعلمه، وإنما أعلم منه ما يعلمني الله. ولا
أقول لكم إني ملك: من جنس الملائكة أقدر على ما يقدرون عليه. إن أتبع إلا ما
يوحى إلي ما أنبئكم بما كان وما يكون إلا بالوحي تبرأ من دعوى الألوهية والملكية
وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر ردا لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد
مدعاه.
في العيون عن الرضا عليه السلام إنه سئل يوما وقد اجتمع عنده قوم من
أصحابه، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في الشئ الواحد فقال: إن الله عز وجل حرم حراما وأحل حلالا، وفرض فرائض،
فما جاء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو رفع فريضة في كتاب الله رسمها
قائم بلا نسخ نسخ ذلك فذلك شئ لا يسع الأخذ به لأن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرم الله ولا ليغير فرائض الله
وأحكامه، وكان في ذلك كله متبعا مسلما مؤديا عن الله عز وجل، وذلك قول الله عز وجل:
(إن أتبع إلا ما يوحى إلي) فكان متبعا لله مؤديا عن الله ما أمر به من تبليغ الرسالة. قل
هل يستوى الأعمى والبصير: قيل: الضال والمهتدي.
والقمي: من لا يعلم، ومن يعلم.
ونسبه في المجمع إلى أهل البيت عليهم السلام. أفلا تتفكرون: فلا تكونوا
ضالين أشباه العميان وتنصفوا من أنفسكم.
(51) وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى
ولا شفيع لعلهم يتقون:
في المجمع: عن الصادق عليه السلام وأنذر بالقرآن الذين يرجون الوصول إلى
122

ربهم، ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع.
(52) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي: يعيدونه على الدوام
يريدون وجهه: يبتغون مرضاته مخلصين له وقرئ بالغدوة. ما عليك من حسابهم من شئ
وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم: جواب النفي. فتكون من الظالمين: جواب
النهي.
القمي: قال: كان سبب نزولها أنه كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمون
أصحاب الصفة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يكونوا في صفة
يأوون إليها وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهدهم بنفسه، وربما يحمل إليهم
ما يأكلون، وكانوا يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقربهم ويقعد معهم
ويؤنسهم، وكان إذا جاء الأغنياء والمترفون من أصحابه ينكرون عليه ذلك، ويقولون
له اطردهم عنك فجاء يوما رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وعنده رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أصحاب الصفة قد
لزق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله يحدثه فقعد الأنصاري بالبعد
منهما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقدم فلم يفعل، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لعلك خفت أن يلزق فقره بك، فقال الأنصاري: اطرد هؤلاء
عنك، فأنزل الله، ولا تطرد الذين يدعون ربهم، الآية.
(53) وكذلك مثل ذلك الفتن، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا. فتنا
ابتلينا. بعضهم ببعض: في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق
إلى الأيمان ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أي هؤلاء من أنعم الله عليهم
بالهداية والتوفيق لما يسعده دوننا ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء، وهو إنكار
لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم: (لو كانوا خيرا ما
سبقونا إليه) واللام للعاقبة. أليس الله بأعلم بالشاكرين بمن يقع منه الأيمان والشكر
فيوفقه، وبمن لا يقع منه فيخذله.
123

(54) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على
نفسه الرحمة: قيل: نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم، وكان النبي صلى
الله عليه وآله وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقيل: نزلت في حمزة، وجعفر، وعمار، ومصعب بن
عمير، وغيرهم.
وقيل: إن جماعة أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: إنا أصبنا ذنوبا
كثيرة فسكت عنهم فنزلت.
وفي المجمع: عن الصادق عليه السلام أنها نزلت في التائبين. ويؤيده تمام الآية،
ولا تنافي بين الروايات. إنه: استيناف يفسر الرحمة، وقرئ بالفتح على البدل منها. من عمل
منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح: بالتدارك. فإنه غفور رحيم: وقرئ
بالفتح.
(55) وكذلك: ومثل ذلك التفصيل الواضح. نفصل الآيات: آيات القرآن في
صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين. ولتستبين سبيل المجرمين: قرئ بالتاء،
ونصب السبيل على الخطاب وبالياء ورفعها.
(56) قل إني نهيت: صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة، وانزل علي من
الآيات في أمر التوحيد أن أعبد الذين تدعون: تعبدون. من دون الله قل لا أتبع
أهواءكم تأكيد لقطع أطماعهم، وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع من متابعتهم
واستجهال لهم وبيان مبدأ ضلالهم، وإن ما هم عليه هوى وليس بهدى، وتنبيه لمن تحرى
الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد. قد ضللت إذا: أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت وما
أنا من المهتدين: أي في شئ من الهدى حتى أكون من عدادهم، وفيه تعريض بأنهم
كذلك.
(57) قل إني على بينة: على حجة واضحة. من ربى: من معرفة ربي، وأنه لا
معبود سواه، أو صفة لبينة. وكذبتم به: أنتم حيث أشركتم به غيره. ما عندي ما
تستعجلون به: قيل: يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم: (فأمطر علينا حجارة من السماء
أو ائتنا بعذاب أليم). إن الحكم إلا لله: في تعجيل العذاب وتأخيره. يقضي الحق: قضاء الحق
124

في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل، وهو خير الفاصلين القاضين وقرئ يقص الحق
أي يتبعه من قص أثره.
(58) قل لو أن عندي ما تستعجلون به: من العذاب. لقضى الامر بيني
وبينكم: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي، وانقطع ما بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين: في
معنى استدراك كأنه قال: ولكن الأمر إلى الله وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ، وبمن ينبغي
أن يمهل كذا قيل.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام في حديث وقال الله عز وجل لمحمد صلى
الله عليه وآله وسلم (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الأمر بيني وبينكم) قال: لو
إني أمرت أن أعلمكم الذي أخفيتم في صدوركم من استعجالكم بموتي لتظلموا أهل
بيتي من بعدي فكان مثلكم كما قال الله عز وجل: (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت
ما حوله) يقول: أضاءت الأرض بنور محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تضئ الشمس
الحديث.
(59) وعنده مفاتح الغيب: خزائنه إن كان جمع المفتح بفتح الميم بمعنى
المخزن أو مفاتيحه إن كان جمع المفتح بكسر الميم بمعنى المفتاح أي ما يتوصل به إلى
المغيبات، وقرئ مفاتيح. لا يعلمها إلا هو: فيظهرها على ما اقتضته حكمته. ويعلم ما في
البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب
ولا يابس: معطوفات على ورقة. إلا في كتب مبين: قيل: أي علم الله، أو اللوح المحفوظ،
أو القرآن، بدل من الاستثناء الأول، وقرئت المعطوفات بالرفع عطفا على محل من (ورقة)، أو
على (الابتداء)، والخبر (إلا في كتاب). في الفقيه: في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام (وما تسقط
من ورقة) من شجرة.
وفي الكافي، والمعاني، والعياشي: عن الصادق عليه السلام والقمي: الورقة: السقط،
والحبة: الولد، وظلمات الأرض: الأرحام، والرطب: ما يحيى الناس، واليابس: ما يغيض، وكل ذلك: في
كتاب مبين. والعياشي: عن الكاظم عليه السلام الورقة: السقط، يسقط من بطن أمه من
125

قبل أن يهل الولد، والحبة: الولد في بطن أمه إذا هل وسقط من قبل الولادة، والرطب: المضغة
إذا أسكنت في الرحم قبل أن يتم خلقها قبل أن تنتقل، واليابس: الولد التام، والكتاب
المبين: الأمام المبين.
وفي الاحتجاج: عن الصادق عليه السلام في حديث وقال: لصاحبكم أمير
المؤمنين عليه السلام (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب). وقال الله
عز وجل: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وعلم هذا الكتاب عنده.
أقول: قد مضى معنى الكتاب من جهة التأويل في أول سورة البقرة.
وهو الذي يتوفاكم بالليل يقبض أرواحكم عن التصرف بالنوم كما
يقبضها بالموت. ويعلم ما جرحتم: أي ما كسبتم من الأعمال. بالنهار ثم يبعثكم فيه: ثم
ينبهكم من نومكم في النهار. ليقضى أجل مسمى: لتستوفوا آجالكم.
القمي: عن الباقر عليه السلام في قوله: (ليقضى أجل مسمى) قال: هو الموت. ثم
إليه مرجعكم: بالموت. ثم ينبئكم بما كنتم تعملون: بالمجازاة.
(61) وهو القاهر فوق عباده: المقتدر المستعلي على عباده. ويرسل عليكم
حفظة: يحفظونكم ويحفظون أعمالكم، ويذبون عنكم مردة الشياطين، وهوام الأرض، وسائر
الآفات، ويكتبون ما تفعلون. قيل: الحكمة في كتابة الأعمال: أن العباد إذا علموا أن
أعمالهم تكتب عليهم وتعرض على رؤوس الأشهاد كانوا أزجر من القبائح، وأن العبد إذا
وثق بلطف سيده واعتمد على عطفه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمة المتطلعين
عليه. ويأتي ما يقرب منه عن الصادق عليه السلام في سورة الانفطار إنشاء الله. حتى
إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ملك الموت وأعوانه كما سبق بيانه في سورة النساء،
وقرء توفاه بألف (1) ممالة وهم لا يفرطون لا يقصرون بالتواني والتأخير.
(62) ثم ردوا إلى الله: إلى حكمه وجزائه موليهم: الذي يتولى أمرهم الحق

1 - بأن يشبع الفتحة حتى يحصل منها نصف ألف وتميل إلى الألف.
126

العدل الذي لا يحكم إلا بالحق. ألا له الحكم: يومئذ لا حكم لغيره. وهو أسرع الحاسبين:
يحاسب الخلائق في مقدار لمح البصر كما مر في سورة البقرة.
وفي الإعتقادات: أن الله تعالى يخاطب عباده من الأولين والآخرين يوم القيامة
بمجمل حساب عملهم مخاطبة واحدة يسمع منها كل واحد قضيته دون غيره، ويظن
أنه المخاطب دون غيره، لا يشغله عز وجل مخاطبة عن مخاطبة، ويفرغ من حساب
الأولين والآخرين في مقدار نصف ساعة من ساعات الدنيا.
(63) قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر من شدائدهما استعيرت
الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول وإبطال الأبصار، فقيل: لليوم الشديد: يوم مظلم. تدعونه
تضرعا: متضرعين بألسنتكم. وخفية: ومسرين في أنفسكم لئن أنجنا من هذه: على إرادة
القول أي قائلين لئن أنجيتنا من هذه الظلمة والشدة لنكونن من الشكرين.
(64) قل الله ينجيكم منها: وقرئ بالتخفيف. ومن كل كرب: غم سواها. ثم
أنتم تشركون: تعودون إلى الشرك، ولا توفون بالعهد بعد قيام الحجة عليكم.
(65) قل هو القادر على أن يبعث: يرسل عليكم عذابا من فوقكم: كما أمطر
على قوم لوط، وعلى أصحاب الفيل الحجارة. ومن تحت أرجلكم: كما أغرق فرعون،
وخسف بقارون. أو يلبسكم: يخلطكم. شيعا: فرقا مختلفي الأهواء، كل فرقة منكم مشايعة
للأمام، ومعنى خلطهم أن يختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. ويذيق بعضكم بأس
بعض: يقتل بعضكم بعضا. انظر كيف نصرف الآيات: بالوعد والوعيد. لعلهم يفقهون:
العياشي، والقمي: عن الباقر عليه السلام (عذابا من فوقكم): هو الدخان،
والصيحة، (أو من تحت أرجلكم): هو الخسف، (أو يلبسكم شيعا): هو الاختلاف في الدين،
وطعن بعضكم على بعض، (ويذيق بعضكم بأس بعض): هو أن يقتل بعضكم بعضا، وكل
هذا في أهل القبلة، يقول الله: (أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون). وفي المجمع: عن
الصادق عليه السلام، (من فوقكم): من السلاطين الظلمة، (ومن تحت أرجلكم): العبيد السوء،
ومن لا خير فيه، (أو يلبسكم شيعا): يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة
127

والعصبية، (ويذيق بعضكم بأس بعض): هو سوء الجوار.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألت ربي أن لا يظهر على أمتي أهل
دين غيرهم، فأعطاني، وسألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني، وسألته أن لا يجمعهم على
ضلال فأعطاني، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني. قال:
وفي الخبر أنه قال: إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة.
(66) وكذب به قومك وهو الحق قيل: أي بالقرآن، وقيل: أي بالعذاب. وهو الحق
الصدق أو الواقع لابد أن ينزل. قل لست عليكم بوكيل بحفيظ.
(67) لكل نبأ خبر مستقر وقت استقرار ووقوع. وسوف تعلمون: عند
وقوعه.
(68) وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والاستهزاء بها
والطعن فيها. فأعرض عنهم: فلا تجالسهم، وقم من عندهم.
العياشي: عن الباقر عليه السلام في هذه الآية قال: الكلام في الله، والجدال في
القرآن، قال: منه القصاص. حتى يخوضوا في حديث غيره: غير ذلك. وإما ينسينك
الشيطان النهي، وقرئ ينسينك بالتخفيف. فلا تقعد بعد الذكرى (1) بعد أن تذكر مع القوم
الظالمين أي معهم فوضع الظاهر موضعه تنبيها على أنهم ظلموا بوضع التكذيب
والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام.
في العلل عن السجاد ليس لك أن تقعد مع من شئت لأن الله تبارك وتعالى
يقول: (وإذا رأيت الذين) الآية.
والقمي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم إن الله تعالى يقول في كتابه: (وإذا
رأيت الذين يخوضون في آياتنا) الآية.

1 - ودفعا لتوهم رجوع الضمير إلى خصوص هؤلاء المكذبين المعهودين بل النهي عام لكل من فعل مثل فعلهم.
128

(69) وما على الذين يتقون: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم. من حسابهم
من شئ مما يحاسبون عليه من قبائح أعمالهم وأقواهم ولكن ذكرى ولكن عليهم ذكرى
أو عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها
لعلهم يتقون: يجتنبون ذلك حبا أو كراهة لمسائتهم.
في المجمع عن الباقر عليه السلام لما نزل (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم
الظالمين) قال المسلمون كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون قمنا وتركناهم فلا
ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله: (وما على الذين يتقون من
حسابهم من شئ) أمر بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا.
(70) وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا: حيث سخروا به واستهزؤا منه وبنوا
أمر دينهم على التشهي أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لعب ولهو.
والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم وغرتهم الحياة الدنيا فألهتهم
عن العقبى وذكر به أي بالقرآن. أن تبسل نفس بما كسبت: مخافة أن تسلم إلى الهلاك
وترتهن بسوء عملها، وأصل البسل: المنع. ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع: يدفع
عنها العذاب. وإن تعدل كل عدل: وإن تفد كل فداء، والعدل: الفدية لأنها تعادل المفدى،
أريد به هيهنا الفداء. لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا: أي سلموا إلى
العذاب بسبب أعمالهم القبيحة، وعقائدهم الزايفة لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما
كانوا يكفرون: تأكيد، وتفصيل لذلك، والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم، ونار
تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم.
(71) قل أندعوا: نعبد. من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا: لا يقدر على
نفعنا وضرنا. ونرد على أعقابنا: ونرجع عن دين الإسلام إلى الشرك. بعد إذ هدينا الله
كالذي استهوته الشياطين: كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة (1) من هوى إذا ذهب،

1 - المهامة اما من الهومة بمعنى الفلاة ولذا يلقب الأسد بالهوام لاتخاذه المسكن في الهومة فيكون الهومة والمهامة بمعنى أو
يأتي من الهيماء بمعنى المفازة بلا ماء.
129

وقرئ استهواه بألف ممالة في الأرض حيران: متحيرا ضالا عن الطريق. له أصحاب
لهذا المستهوى رفقة يدعونه إلى الهدى: إلى الطريق المستوي أو إلى أن يهدوه الطريق
المستقيم. ائتنا: يقولون له: ائتنا وقد اعتسف التيه تابعا للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم وهذا
مبني على ما تزعمه العرب أن الجن يستهوي الإنسان كذلك. قل إن هدى الله: الذي هو
الإسلام. هو الهدى: وحده وما سواه ضلال. وأمرنا لنسلم لرب العلمين: من جملة المقول.
(72) وأن أقيموا الصلاة واتقوه: أي أمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا يعني
للإسلام، ولإقامة الصلاة. وهو الذي إليه تحشرون: فيجازي كل عامل منكم بعمله.
(73) وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق: قائما بالحق والحكمة. ويوم
يقول كن فيكون.
(74) قوله الحق قيل أي قوله الحق يوم يقول كقولك القتال يوم الجمعة واليوم
بمعنى الحين والمعنى أنه الخالق للسموات والأرض، وقوله الحق نافذ في الكائنات أو يوم
معطوف على السماوات وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول
لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون والمراد حين يكون الأشياء ويحدثها وله الملك يوم
ينفخ في الصور كقوله لمن الملك اليوم لله الواحد القهار والصور قرن من نور التقمه
إسرافيل فينفخ فيه كذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي أن فيه بعدد كل إنسان ثقبة فيها روحه ووصف بالسعة والضيق
واختلف في أن أعلاه ضيق وأسفله واسع أو بالعكس ولكل وجه ويأتي في بيانه وصفة
النفخ فيه حديث في سورة الزمر. إنشاء الله عالم الغيب والشهادة: أي هو عالم الغيب
والشهادة وهو الحكيم الخبير وهذا كالفذلكة (1) للآية.
(75) وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر.
في المجمع قال عن الزجاج ليس بين النسابين اختلاف في أن اسم أبي

1 - فذلك حسابه أنهاه وفرغ منه مخترعه من قوله إذا أجمل حسابه فذلك كذا وكذا.
130

إبراهيم تارح (1) قال وهذا يقوي ما قاله أصحابنا إن آزر كان جد إبراهيم عليه السلام
لأمه أو كان عمه من حيث صح عندهم أن آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم
عليه السلام كان كلهم موحدين وأجمعت الطائفة على ذلك ورووا عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أنه قال لم يزل ينقلني الله تعالى من أصلاب الطاهرين إلى أرحام
المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية ولو كان في آبائه كافر
لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله إنما المشركون نجس.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام أن آزر أبا إبراهيم عليه السلام كان
منجما لنمرود وساق الحديث إلى أن قال ووقع آزر بأهله فعلقت بإبراهيم الحديث.
والعياشي عنه عليه السلام أنه سئل عن قوله تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر
قال كان اسم أبيه آزر والعلم عند الله أتتخذ أصناما آلهة إني أريك وقومك في
ضلال عن الحق مبين ظاهر الضلالة.
(76) وكذلك نرى إبراهيم مثل هذا التبصير نبصره وهو حكاية حال
ماضية ملكوت السماوات والأرض ربوبيتها وملكها والملكوت أعضم الملك والتاء فيه
للمبالغة وليكون من الموقنين أي وليكون أو وفعلنا ذلك ليكون.
في المجمع عن الباقر عليه السلام كشط (2) الله عن الأرضين حتى رآهن وما
تحتهن وعن السماوات حتى رآهن وما فيهن من الملائكة وحملة العرش.
والعياشي والقمي عن الصادق عليه السلام كشط له عن الأرض ومن عليها
وعن السماء ومن فيها والملك الذي يحملها والعرش ومن عليه.
وزاد القمي وفعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه
السلام وفي رواية والأمة عليهم السلام.

1 - تارح بالتاء المثناة من فوق والمهملتين منه.
2 - الكشط رفعك شيئا عن شئ قد غشاه.
131

وفي رواية العياشي عن الباقر عليه السلام وفعل بمحمد صلى الله عليه وآله
وسلم كما فعل بإبراهيم عليه السلام واني لأرى صاحبكم قد فعل به مثل ذلك.
وعنه عليه السلام قال أعطى بصره من القوة ما نفذ السماوات فرأى ما فيها
ورأي العرش وما فوقه ورأي ما في الأرض وما تحتها وفي المناقب عنه عليه السلام أنه
سأله جابر بن يزيد عن هذه الآية فرفع بيده وقال ارفع رأسك قال فرفعته فوجدت
السقف متفرقا ورمق (1) يناظري في ثلم (2) حتى رأيت نورا حار عنه بصري فقال هكذا رأى
إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض وانظر إلى الأرض ثم ارفع رأسك فلما
رفعته رأيت السقف كما كان ثم أخذ بيدي وأخرجني من الدار وألبسني ثوبا وقال
غمض عينيك ساعة، ثم قال أنت في الظلمات التي رأى ذو القرنين، ففتحت عيني فلم أر
شيئا ثم أخطأ خطا فقال: أنت على رأس عين الحياة للخضر عليه السلام، ثم خرجنا من
ذلك العالم حتى تجاوزنا خمسة أقاليم، فقال: هذا ملكوت الأرض، ثم قال: غمض عينيك
وأخذ بيدي فإذا نحن بالدار التي كنا فيها، وخلع عني ما كان ألبست قلت جعلت فداك
كم ذهب من اليوم؟ فقال: ثلاث ساعات.
وفي الكافي، والمجمع، والقمي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام لما رآى
إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثم رآى
آخر فدعا عليه فمات، ثم رآى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله إليه يا إبراهيم إن
دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي فإني لو شئت أن أميتهم لدعائك ما خلقتهم،
فإني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: صنف يعبدني ولا يشرك بي شيئا فأثيبه، وصنف
يعبد غيري فليس يفوتني، وصنف يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني.
(76) فلما جن عليه الليل: أظلم عليه وستره بظلامه. رأى كوكبا قال هذا ربى:

1 - رمقه بعينه رمقا من باب قتل أطال النظر إليه م.
2 - ثلم الاناء والسيف ونحوه كضرب وفرح وثلمه فانثلم وتثلم كسر حرفه فانكسر والثلمة بالضم فرجة المكسور
والمهدوم.
132

على سبيل الإنكار والاستخبار لأن قومه كانوا يعبدون الكواكب أو على وجه النظر
والاستدلال لأنه كان طالبا في حداثة سنه. فلما أفل: غاب. قال إني لا أحب الآفلين
فضلا عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب والاستتار دليل الحدوث والفقر.
(77) فلما رأى القمر بازغا: مبتدءا في الطلوع. قال هذا ربى فلما أفل قال
لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم الضالين: استعجز نفسه واستعان بربه في درك
الحق فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشادا لقومه وتنبيها لهم على أن القمر أيضا لتغير
حاله لا يصلح للألوهية وإن من اتخذه إلها فهو ضال.
العياشي: عنهما عليهما السلام لأكونن من القوم الضالين ناسيا للميثاق.
(78) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى: قيل: ذكر اسم الإشارة لتذكير
الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث. هذا أكبر: كبره إظهارا لشبهة الخصم أو استدلالا
فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون: من الأجرام المحدثة المفتقرة
إلى محدث يحدثها ويخص أحوالهما بما خصت به ثم لما تبرأ عنها توجه إلى
موجدها، ومبدعها الذي دلت هي عليه فقال.
(79) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين: في العيون: عن الرضا عليه السلام أنه سأل المأمون فقال: له يا ابن رسول الله
أليس من قولك أن الأنبياء معصومون قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل: (فلما
جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى) فقال الرضا عليه السلام: إن إبراهيم عليه
السلام وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد
الشمس، وذلك حين خرج من السرب (1) الذي أخفي فيه فلما جن عليه الليل رأى الزهرة
قال: (هذا ربى) على الإنكار والاستخبار (فلما أفل) الكوكب قال: (لا أحب الآفلين) لأن

1 - السرب بالتحريك جحر الوحشي والحقير تحت الأرض والقناة التي يدخل منها الماء الحائط والمراد الغار الذي ولد
فيه هربت إليه أمها من خوف النمرودية وولدها فيه وربته فإعانة جبرئيل حتى مر عليه سنوات فخرج من الغار وبرز وشرع
في الدعوة.
133

الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم (فلما رآى القمر بازغا قال هذا ربى)
على الإنكار والاستخبار (فلما أفل قال عليه السلام لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم
الضالين) فلما أصبح (ورآى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) من الزهرة والقمر، على
الإنكار والاستخبار لا على الأخبار والإقرار (فلما أفلت قال) للأصناف الثلاثة من عبدة
الزهرة والقمر والشمس: (يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر
السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) وإنما أراد إبراهيم عليه السلام بما قال: أن
يبين لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أن العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض وكان
ما احتج به على قومه ما ألهمه الله وآته كما قال تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على
قومه نرفع درجات من نشاء)، فقال المأمون: لله درك يا ابن رسول الله.
والقمي: عن الصادق عليه السلام إن آزر أبا إبراهيم عليه السلام كان منجما
لنمرود بن كنعان فقال له: إني أرى في حساب النجوم أن هذا الزمان يحدث رجلا
فينسخ هذا الدين، ويدعو إلى دين آخر، فقال له نمرود: في أي بلاد يكون؟ قال: في هذه
البلاد، وكان منزل نمرود بكوثاريا، فقال له نمرود: قد خرج إلى الدنيا؟ قال آزر: لا، قال:
فينبغي أن يفرق بين الرجال والنساء فحملت أم إبراهيم بإبراهيم عليه السلام ولم يتبين
حملها، فلما حان ولادتها قالت: يا آزر إني قد اعتللت وأريد أن أعتزل عنك، وكان في
ذلك الزمان المرأة إذا اعتلت اعتزلت عن زوجها فخرجت واعتزلت في غار، ووضعت
إبراهيم عليه السلام وهيئته وقمطته ورجعت إلى منزلها وسدت باب الغار بالحجارة.
فأجرى الله لإبراهيم عليه السلام لبنا من إبهامه، وكانت أمه تأتيه ووكل نمرود
بكل امرأة حامل، وكان يذبح كل ولد ذكر. فهربت أم إبراهيم بإبراهيم عليه السلام من
الذبح، وكان يشب إبراهيم في الغار يوما كما يشب غيره في الشهر حتى أتى له في الغار
ثلاثة عشرة سنة.
فلما كان بعد ذلك زارته أمه، فلما أرادت أن تفارقه تشبث بها فقال: يا أمي
أخرجيني، فقالت له: يا بني إن الملك إن علم أنك ولدت في هذا الزمان قتلك، فلما خرجت
134

أمه خرج من الغار وقد غابت الشمس نظر إلى الزهرة في السماء، فقال: (هذا ربى) فلما
غابت الزهرة قال: لو كان ربي ما تحرك وما برح، ثم قال: (لا أحب الآفلين)، والآفل: الغائب
فلما رآى القمر بازغا قال هذا ربي هذا أكبر) وأحسن، فلما تحرك وزال قال: (لئن لم يهدني
ربي لأكونن من القوم الضالين) فلما أصبح وطلعت الشمس ورآى ضوءها وقد أضاءت
الدنيا لطلوعها (قال هذا ربي هذا أكبر) وأحسن فلما تحركت وزالت كشط الله له عن
السماوات حتى رأى العرش ومن عليه وأراه الله ملكوت السماوات والأرض فعند ذلك
قال: (يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
حنيفا وما أنا من المشركين) فجاء إلى أمه وأدخلته إلى دارها وجعلته بين أولادها قال:
وسئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول إبراهيم عليه السلام (هذا ربي) أشرك في قوله:
هذا ربي قال: من قال هذا اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم عليه السلام شرك، وإنما كان
في طلب ربه، وهو من غيره شرك.
والعياشي: مثله، وزاد عن أحدهما عليهما السلام إنما كان طالبا لربه ولم يبلغ
كفرا، وأنه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته.
(80) وحاجه قومه: وخاصموه في التوحيد قال أتحجوني في الله: في وحدانيته،
وقرئ بتخفيف النون. وقد هدان إلى توحيده. ولا أخاف ما تشركون به: أي لا أخاف
معبوداتكم قط، لأنها لا قدرة لها على ضر ولا على نفع. إلا أن يشاء ربى شيئا: أن يصيبني
بمكروه وكأنه جواب لتخويفهم إياه من جهة آلهتهم وسع ربى كل شئ علما: فلا يستبعد
أن يكون في علمه إنزال مخوف بي. أفلا تتذكرون فتميزوا بين القادر والعاجز.
(81) وكيف أخاف ما أشركتم: ولا يتعلق به ضرر ولا تخافون أنكم
أشركتم بالله: وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع،
وتسوية بين المقدور والعاجز والقادر الضار النافع ما لم ينزل به عليكم سلطانا: حجة،
والمعنى وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في
موضع الخوف. فأي الفريقين أحق بالأمن: الموحدون أو المشركون. إن كنتم تعلمون.
135

(82) الذين آمنوا ولم يلبسوا: ولم يخلطوا. إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم
مهتدون: في المجمع: عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: أنه من تمام قول إبراهيم عليه
السلام.
وعن ابن مسعود: لما نزلت هذه الآية شق على الناس، وقالوا يا رسول الله وأينا
لم يظلم نفسه، فقال: إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح عليه
السلام (يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم).
والعياشي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية قال: الظلم: الضلال فما
فوقه.
وعنه عليه السلام: إنه سئل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الزنا منه قال:
أعوذ بالله من أولئك لا ولكنه ذنب إذا تاب تاب الله عليه، وقال: مدمن الزنا، والسرقة،
وشارب الخمر، كعابد الوثن. وفي رواية قال: أولئك الخوارج، وأصحابهم.
وفي الكافي، والعياشي: عنه عليه السلام: إن الظلم هنا: الشك.
وعنه عليه السلام: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: آمنوا بما جاء به محمد صلى الله
عليه وآله وسلم من الولاية، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان.
(83) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم: أرشدناه إليها، وعلمناه إياها على قومه
نرفع درجات من نشاء: في العلم والحكمة، وقرئ بالتنوين. إن ربك حكيم: في رفعه وخفضه.
عليم: بحال من يرفعه واستعداده له.
(84) ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا: أي كلا منهما. ونوحا هدينا من
قبل: يعني هديناهم لنجعل الوصية في أهل بيتهم كذا عن الباقر عليه السلام رواه في
الكافي، والإكمال: في حديث اتصال الوصية من لدن آدم. ومن ذريته داود وسليمان وأيوب
ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين.
(85) وزكريا ويحيى وعيسى: العياشي: عن الصادق عليه السلام والله لقد
نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم عليه السلام من قبل النساء، ثم تلا هذه
الآية.
136

وفي العيون: عن الكاظم عليه السلام إنما الحق عيسى عليه السلام بذراري
الأنبياء من طريق مريم، وكذلك ألحقنا بذراري النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل
أمنا فاطمة عليها السلام في جواب هارون عن هذه المسألة وإلياس كل من
الصالحين.
(86) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين.
(87) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صرط
مستقيم.
(88) ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا: مع فضلهم
وعلو شأنهم. لحبط عنهم ما كانوا يعملون: فكانوا كغيرهم.
(89) أولئك الذين آتيناهم الكتاب: يريد به الجنس. والحكم: والحكمة أو الحكم
بين الناس. والنبوة فإن يكفر بها: أي بالنبوة أو الثلاثة. هؤلاء: يعني قريشا. فقد وكلنا بها
قوما ليسوا بها بكافرين.
في المحاسن: عن الصادق عليه السلام قوما يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
ويذكرون الله كثيرا.
(90) أولئك الذين هدى الله: يريد الأنبياء المقدم ذكرهم. فبهديهم اقتده:
فاقتص طريقتهم بالاقتداء، والهاء للوقف في مصباح الشريعة: عن الصادق عليه السلام
لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء، لأنه المنهج الأوضح والمقصد الأصح
قال الله لأعز خلقه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده)
فلو كان لدين الله مسلك أقوم من الاقتداء لندب أنبياءه وأولياءه إليه.
والقمي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحسن الهدى: هدى الأنبياء.
وفي نهج البلاغة: اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى. قل لا أسئلكم عليه:
على التبليغ أجرا جعلا من جهتكم كما لم يسأل من كان قبلي من النبيين، وهذا من جملة
137

ما أمر بالاقتداء بهم. إن هو: أي التبليغ. إلا ذكرى للعلمين: تذكيرا وعظة لهم.
(91) وما قدروا الله حق قدره وما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق عظمته،
وما وصفوه بما هو أهل أن يوصف به من الرحمة على عباده واللطف بهم.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقد قال
في كتابه: (وما قدروا الله حق قدره) فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك. ويأتي فيه
حديث آخر في سورة الزمر إنشاء الله تعالى إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ: حين
أنكروا الوحي وبعثة الرسل وذلك من أعظم رحمته وأجل ألطافه.
القمي: هم قريش واليهود. قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا
وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا: الزموا بما لا بد لهم من الإقرار
به مع توبيخهم بتحريفهم بإبداء بعض وإخفاء بعض، وجعلها ورقات متفرقة ليتمكنوا بما
حاولوه.
العياشي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية قال: كانوا يكتمون
ما شاؤوا، ويبدون ما شاؤوا. وفي رواية كانوا يكتبونه في القراطيس، ثم يبدون ما شاؤوا، ويخفون
ما شاؤوا.
والقمي: يخفون يعني من أخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرئ بالياء.
وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله: أي أنزله الله، قيل: أمره بأن يجيب عنهم
إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيها على أنهم بهتوا بحيث لا يقدرون على
الجواب. ثم ذرهم في خوضهم يلعبون: القمي: يعني ما خاضوا فيه من التكذيب.
(92) وهذا كتاب أنزلناه مبارك: كثير النفع والفائدة مصدق الذي بين يديه:
الكتب التي قبله. ولتنذر: وقرئ بالياء أي الكتاب. أم القرى: يعني مكة سميت بها لأنه
دحيت الأرض من تحتها، فكأنها تولدت منها.
والقمي: قال: سميت أم القرى لأنها أول بقعة خلقها الله من الأرض. ومن
138

حولها: أهل الشرق والغرب. والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم
يحافظون: فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر
حتى يؤمن به ويحافظ على الطاعة، وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الأيمان.
(93) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلى ولم يوح إليه
شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله: في الكافي، والعياشي: عن أحدهما عليهما السلام
نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مضر، وهو ممن كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة هدر دمه، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فإذا أنزل الله عز وجل (إن الله عزيز حكيم) كتب (إن الله عليم حكيم) فيقول له
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعها فإن الله عليم حكيم، وكان ابن أبي سرح
يقول للمنافقين: إني لأقول من نفسي مثل ما يجئ به فما يغير علي فأنزل الله تبارك
وتعالى فيه الذي أنزل.
والقمي: عن الصادق عليه السلام قال: إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح
أخو عثمان بن عفان من الرضاعة أسلم وقدم المدينة وكان له حسن، وكان إذا نزل
الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاه فكتب ما يمليه رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فكان إذا قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سميع بصير يكتب
سميع عليم، وإذا قال له: والله بما تعملون خبير يكتب بصير، ويفرق بين التاء والياء وكان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو واحد، فارتد كافرا ورجع إلى مكة، وقال
لقريش: والله ما يدري محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يقول. أنا أقول: مثل ما يقول فلا
ينكر علي ذلك، فأنا أنزل مثل ما ينزل فأنزل الله على نبيه في ذلك (ومن أظلم ممن افترى
على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) فلما
فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة أمر بقتله فجاء به عثمان، وقد أخذ بيده
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه، فسكت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أعاد فسكت، ثم أعاد فقال: هو لك، فلما مر قال
139

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ألم أقل من رآه فليقتله فقال رجل: كانت
عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
إن الأنبياء لا يقتلون بالإشارة، فكان من الطلقاء. والعياشي: عن الباقر عليه السلام في
تأويله من ادعى الإمامة دون الإمام عليه السلام. ولو ترى إذ الظالمون في غمرات
الموت: شدائده من غمره الماء إذا غشيه. والملائكة باسطوا أيديهم: لقبض أرواحهم
كالمتقاضي المتسلط. أخرجوا أنفسكم: يقولون لهم: تغليظا وتعنيفا (1) اليوم تجزون
عذاب الهون: الهوان، القمي: قال: العطش. والعياشي: عن الباقر عليه السلام العطش
يوم القيامة. بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون: لا تؤمنون
بها.
(94) ولقد جئتمونا فرادى عن أموالكم، وأولادكم، وأوثانكم. كما خلقناكم أول
مرة: على الهيئة التي ولدتم عليها. في الخرايج: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ
على فاطمة بنت أسد هذه الآية، فقالت: وما فرادى فقال: عراة، فقالت: وا سوأتاه، فسأل الله
أن لا يبدي عورتها، وأن يحشرها بأكفانها. وفي معناها حديث في الكافي عن الصادق عليه
السلام.
وعنه عليه السلام تنوقوا (2) في الأكفان فإنكم تبعثون بها.
وفي الاحتجاج: عنه عليه السلام أنه سئل عن الناس أيحشرون عراة قال: بل
يحشرون في أكفانهم، قيل: أنى لهم بالأكفان وقد بليت؟ قال: إن الذي أحيى أبدانهم جدد
أكفانهم، قال: فمن مات بلا كفن؟ قال: يستر الله عورته بما يشاء من عنده. وتركتم ما
خولناكم: ما ملكناكم به في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة وراء ظهوركم: لم تحتملوا منه
شيئا. وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء أي شركاء الله في

1 - يقال عنفه تعنيفا أي لامه وعتب والتعنيف التعيير واللوم وعنف به وعليه من باب قرب إذا لم يرفق به وأعنف
الامر إذا اخذ به بعنف.
2 - في الحديث تنوقوا بأكفانكم فإنكم تبعثون بها أي اطلبوا أحسنها وجودتها من قولهم تنوق وتنيق في مطعمه وملبسه
تجود وبالغ والاسم النيقة بالكسر.
140

ربوبيتكم، واستحقاق عبادتكم. لقد تقطع بينكم: أي تقطع وصلكم وتشتت جمعكم - والبين -
من الأضداد يستعمل للوصل والفصل، وقرئ بالنصب على إضمار الفاعل أي ما بينكم.
وضل عنكم: ضاع وبطل ما كنتم تزعمون: القمي: عن الصادق عليه السلام نزلت هذه
الآية في معاوية وبني أمية وشركاؤهم وأئمتهم. (لقد تقطع بينكم): يعني المودة.
(95) إن الله فالق الحب والنوى: بالنبات والشجر. يخرج الحي من الميت: ما
ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو كالنطفة والحب. ومخرج الميت من الحي: ما لا ينمو مما
ينمو، في الكافي: عن الصادق عليه السلام في حديث الطينة، الحب: طينة المؤمنين
ألقى الله عليها المحبة، والنوى: طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير، وإنما سمي
النوى من أجل أنه نأى عن كل خير وتباعد منه، فقال الله: (يخرج الحي من الميت ومخرج
الميت من الحي) فالحي: المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر، والميت الذي
يخرج من الحي: هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن.
والقمي قال: الحب: ما أحبه، والنوى: ما نأى (1) عن الحق، وقال أيضا: فالق الحب:
أي يفلق العلم عن الأئمة، والنوى: ما بعد عنه (2). والعياشي: عن الصادق عليه السلام الحب:
المؤمن وذلك قوله: (وألقيت عليك محبة مني) والنوى: الكافر الذي نأى عن الحق فلم يقبله.
ذلكم الله: أي الذي يحق له العبادة. فأنى تؤفكون: تصرفون عنه إلى غيره.
(96) فالق الإصباح: شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل: وجعل الليل
سكنا: يسكن فيه الخلق كما قال: (لتسكنوا فيه). في نهج البلاغة: ولا تسر أول الليل فإن الله
جعله سكنا، وقدره مقاما لا ظعنا (3) فأرح فيه بدنك وروح ظهرك. وفي الكافي: عن الباقر
عليه السلام تزوج بالليل، فإن الله جعله سكنا.
والعياشي: مثله. وفي رواية: ولا تطلبوا الحوائج بالليل فإنه مظلم.

1 - النأي البعيد يقال نأيت عنه نأيا أي بعدت.
2 - فلقته من باب ضرب شققته والفلق بالسكون الشق.
3 - ظعن كجعل ظعنا سار.
141

وفي الكافي: كان علي بن الحسين عليهما السلام يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتى
يطلع الفجر. ويقول: إن الله جعل الليل سكنا لكل شئ، وقرئ وجاعل الليل. والشمس
والقمر حسبانا: على أدوار مختلفة تحسب بها الأوقات. ذلك تقدير العزيز: الذي قهرهما
وسيرهما على الوجه الخاص العليم: بتدبيرهما.
(97) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر (1): في
ظلمات الليل في البر والبحر، وأضافتها إليهما للملابسة، أو في مشتبهات الطرق، أو الأمور
سماها ظلمات على الاستعارة. القمي: مقطوعا قال: (النجوم): آل محمد عليهم السلام. قد فصلنا
الآيات: بيناها فصلا فصلا. لقوم يعلمون: فإنهم منتفعون به.
(98) وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام. فمستقر: وقرء
بكسر القاف أي قار. ومستودع: والعياشي: عن الباقر عليه السلام إنه قال لأبي بصير
حين سأله عن هذه الآية: ما يقول أهل بلدك الذي أنت فيه؟ قال: يقولون: مستقر: في
الرحم، ومستودع: في الصلب، فقال: كذبوا، المستقر: من استقر الأيمان في قلبه فلا ينزع منه
أبدا، والمستودع: الذي يستودع الأيمان زمانا ثم يسلبه، وقد كان الزبير منهم.
وعن الصادق عليه السلام: أنه سئل عنها؟ فقال: مستقر: في الرحم، ومستودع: في
الصلب، وقد يكون مستودع الأيمان ثم ينزع منه، ولقد مشى الزبير في ضوء الأيمان ونوره
حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مشى بالسيف، وهو يقول: لا نبايع
إلا عليا. وفي رواية: قال: المستقر: الثابت، والمستودع: المعار.
وعن الكاظم عليه السلام في هذه الآية: ما كان من الأيمان المستقر: فمستقر إلى

1 - لان من النجوم ما يكون بين يدي الانسان ومنها ما يكون خلفه ومنها ما يكون عن يمينه ومنها ما يكون عن يساره
ويهتدي بها في الاسفار وفي البلاد وفي القبلة وأوقات الليل وإلى الطريق في مسالك البراري والبحار وقال البلخي ليس في
قوله لتهتدوا ما يدل على أنه لم يخلقها لغير ذلك بل خلقها سبحانه لأمور جليلة عظيمة ومن فكر في صغر الصغير منها وكبر
الكبير واختلاف مواقعها ومجاريها واتصالاتها وسيرها وظهور منافع الشمس والقمر في نشو الحيوان والنبات علم أن الامر
كذلك.
142

يوم القيامة أبدا، وما كان مستودعا سلبه الله قبل الممات.
وفي الكافي: عنه عليه السلام أن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا
أنبياء، وخلق المؤمنين على الأيمان فلا يكونون إلا مؤمنين، وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم
وإن شاء سلبهم إياه، قال: وفيهم جرت (فمستقر ومستودع)، وقال: إن فلانا كان مستودعا
إيمانه فلما كذب علينا سلب إيمانه ذلك.
أقول: وكنى بفلان عن أبي الخطاب محمد بن مقلاص الغالي كما يستفاد من
حديث آخر. قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون: قيل: ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها
ظاهر ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة، وتصريفهم بين
أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر.
(99) وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا: على تلوين (1) الخطاب. به: بالماء.
نبات كل شئ: نبت كل شئ من أصناف النبات، والمعنى إظهار القدرة في إنبات
الأنواع المختلفة بماء واحد كما قال: (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل).
فأخرجنا منه خضرا: نبتا غضا أخضر، وهو الخارج من الحبة المتشعب. نخرج منه: من
الخضر. حبا متراكبا: قد ركب بعضه على بعض، وهو السنبل. ومن النخل من طلعها
قنوان أعذاق (2) جمع قنو، كصنوان جمع صنو دانية: قريبة من التناول. وجنات من أعناب
والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه: بعضها متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم،
وبعضها غير متشابه. انظروا إلى ثمره: إلى ثمر كل واحد من ذلك، وقرئ بضم الثاء على
الجمع. إذا أثمر: إذا أخرج ثمره كيف يكون صغيرا حقيرا لا يكاد ينتفع به. وينعه: وإلى
حال نضجه أو إلى نضيجه كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة مصدر ينعت (3) الثمرة: إذا

1 - تلوين الخطاب لغيره من أسلوب إلى آخر وهو من البلاغة.
2 - العذق النخلة بحملها وبالكسر والقنو منها والعنقود من العنب وإذا اكل ما عليه أعذاق.
3 - ينع الثمر كمنع وضرب ينعا وينعا وينوعا بضمهما خان قطافه كأينع واليانع الأحمر من كل شئ والثمر الناضج.
كالينع جمع ينع.
143

أدركت أو جمع يانع. إن في ذلكم لآيات: على وجود صانع عليم حكيم قدير، يقدره، ويدبره،
وينقله من حال إلى حال. لقوم يؤمنون: فإنهم المنتفعون.
(100) وجعلوا لله شركاء الجن: الملائكة جعلوهم أندادا لله فعبدوهم وقالوا: إنهم
بنات الله، سماهم جنا لاجتنانهم (1)، وتحقيرا لشأنهم ونحوه وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا.
وقيل: بل أريد بالجن: الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله، أو عبدوا الأوثان
بتسويلهم، أو قالوا إن الله خالق الخير، وإبليس خالق الشر. وخلقهم وقد خلقهم (2) أي وقد
علموا أن الله خالقهم دون الجن، وليس من يخلق كما لا يخلق. وخرقوا (3) له: واختلقوا لله.
بنين وبنات: فإن المشركين قالوا: الملائكة بنات الله، وأهل الكتابين: عزير ابن الله، والمسيح:
ابن الله، وقرء وخرقوا للتكثير. بغير علم: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه، ولكن جهلا
منهم بعظمة الله. سبحانه وتعالى عما يصفون: وهو أن له شريكا وولدا.
(101) بديع السماوات والأرض أي هو مبدعهما ومنشؤهما بعلمه ابتداء لا من
شئ ولا على مثال سبق كذا في المجمع عن الباقر عليه السلام أنى يكون له ولد من
أين وكيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة يكون منها الولد وخلق كل شئ وهو
بكل شئ عليم ومن كان بهذه الصفات فهو غني عن كل شئ.
(102) ذلكم موصوف بهذه الصفات الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ.
في الخصال عن الباقر عليه السلام.
وفي العيون: عن الرضا عليه السلام أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق
تكوين والله خالق كل شئ ولا نقول بالجبر والتفويض فاعبدوه فإن من استجمع هذه
الصفات استحق العبادة وهو على كل شئ وكيل حفيظ مدبر وقيل هو مع تلك
الصفات متولي أموركم فكلوها (4) إليه وتوسلوا بعبادته إلى انجاح مأربكم ورقيب على

1 - أي لاستتارهم من الجنة الليل. 2 - خلق الإفك افتراه كاختلقه وتخلقه.
3 - خرق الرجل كذب
4 - وكل بالله يكل وتوكل عليه فأوكل واتكل استسلم إليه ووكل إليه الأمر وكلا ووكولا سلمه وتركه.
144

أعمالكم فيجازيكم عليها.
(103) لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار.
في الكافي والتوحيد عن الصادق عليه السلام في هذه الآية يعني إحاطة الوهم
الا ترى إلى قوله وقد جاءكم بصائر من ربكم ليس يعني بصر العيون فمن أبصر
فلنفسه ليس يعني من البصر بعينه ومن عمي فعليها لم يعن عمى العيون إنما عني
إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر وفلان بصير بالفقه وفلان بصير بالدراهم
وفلان بصير بالثياب الله أعظم من أن يرى بالعين.
وعن الباقر عليه السلام في هذه الآية أوهام القلوب أدق من أبصار العيون
أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولم تدركها ببصرك وأوهام
القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون في التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام وقد
سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات وأما قوله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
فهو كما قال لا تدركه الأبصار لا تحيط به الأوهام وهو يدرك الأبصار يعني
يحيط بها.
وفي المجمع والعياشي عن الرضا عليه السلام أنه سئل عما اختلف الناس من
الرؤية فقال من وصف الله سبحانه بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على
الله لا تدركه الأبصار وهذه الأبصار ليست هذه الأعين إنما هي الأبصار التي في القلوب
لا يقع عليه الأوهام. وهو اللطيف (1) الخبير.
في الكافي والتوحيد والعيون عن الرضا عليه السلام وأما اللطيف فليس على
قلة وقصافة وصغر ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك كقول
الرجل لطف عني هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه وقوله يخبرك أنه غمض فيه العقل

1 - في الحديث إن الله لطيف ليس على قلة وقضافة صغر للقضافة بالضم والقضف محركة النحافة والقضف الدقة
وقد قضف بالضم قضافة فهو قضيف اي نحيف والجمع قضاف.
145

وفات الطلب وعاد متعمقا متلطفا لا يدركه الوهم فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن
يدرك بحد أو يحد بوصف واللطافة منا الصغر والقلة فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى
قال:
وأما الخبير فالذي لا يغرب عنه شئ ولا يفوته شئ ليس للتجربة ولا للاعتبار
بالأشياء فتفيده التجربة والاعتبار علما ولولاهما ما علم لأن من كان كذلك كان جاهلا
والله لم يزل خبيرا بما يخلق والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم فقد جمعنا
الاسم واختلف المعنى.
(104) قد جاءكم بصائر (1) من ربكم البصيرة للقلب كالبصر للبدن فمن
أبصر الحق وآمن به فلنفسه أبصر لأن نفعه لها ومن عمى عن الحق وضل فعليها وباله
وما أنا عليكم بحفيظ: وإنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم
عليها، وهذا كلام ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
(105) وكذلك نصرف الآيات مثل ذلك التصريف نصرف وهو إجراء
المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشئ من حال إلى حال
وليقولوا درست: أي (وليقولوا درست) صرفنا، واللام للعاقبة، والدرس: القراءة والتعلم، وقرئ
(دارست) أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم، ودرست: من الدروس أي: قدمت هذه الآيات،
وعفت كقولهم: (أساطير الأولين).
القمي: كانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الذي
تخبرنا من الأخبار تتعلمه من علماء اليهود وتدرسه. ولنبينه: (اللام) هنا على أصله، لأن
التبيين مقصود التصريف، والضمير للآيات باعتبار المعنى. لقوم يعلمون: فإنهم
المنتفعون به.

1 - قوله بصائر من ربكم أي حجج بينة واحدها بصيرة وهي الدلالة التي يستبصرها الشئ على ما هو به وهو نور.
146

وأعرض عن المشركين: ولا تحتفل (1) بأقوالهم، ولا تلتفت إلى آرائهم.
(107) ولو شاء الله ما أشركوا:
في المجمع: في تفسير أهل البيت عليهم السلام ولو شاء الله أن يجعلهم كلهم
مؤمنين معصومين حتى كان لا يعصيه أحد لما كان يحتاج إلى جنة ولا إلى نار، ولكنه
أمرهم ونهاهم وامتحنهم وأعطاهم ما له عليهم به الحجة من الآلة والاستطاعة ليستحقوا
الثواب والعقاب.
القمي: ما يقرب منه. وما جعلناك عليهم حفيظا: رقيبا. وما أنت عليهم بوكيل:
تقوم بأمورهم.
(108) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله: ولا تذكروا آلهتهم التي
يعبدونها بما فيها من القبائح. فيسبوا الله عدوا: تجاوزا عن الحق إلى الباطل. بغير علم:
على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به.
في المجمع، والقمي: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن قول النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: إن الشرك أخفى من دبيب (2) النمل على صفا (3) سوداء، في ليلة ظلماء
فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله. فكان المشركون يسبون ما
يعبد المؤمنون، فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسبوا الكفار إله المؤمنين فيكون
المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون.
وفي الكافي: عنه عليه السلام في حديث طويل وإياكم وسب أعداء الله حيث
يسمعونكم فيسبوا الله عدوا بغير علم.
والعياشي: عنه عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية فقال: أرأيت أحدا يسب الله؟
فقيل: لا، وكيف؟ قال: من سب ولي الله فقد سب الله. وفي إعتقادات عنه عليه السلام أنه

1 - أي لا تعتن كمال الاعتناء بأقوالهم من الاحتفال بمعنى حسن القيام بالأمور.
2 - دب يدب دبا ودبيبا مشى على هيئته وهو خفي.
3 - الصفا والصفاة صخرة ملساء.
147

قيل: إنا نرى في المسجد رجلا يعلن بسب أعدائكم ويسبهم، فقال: ما له لعنه الله تعرض
بنا، قال الله: (ولا تسبوا الذين يدعون) الآية.
قال: وقال الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية: لا تسبوهم فإنهم يسبون
عليكم. وقال: من سب ولي الله فقد سب الله وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي
صلوات الله عليه: من سبك فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله فقد كبه (1)
الله على منخريه في نار جهنم. كذ لك زينا لكل أمة عملهم: في الخير والشر.
والقمي: يعنى بعد اختبارهم ودخولهم فيه، فنسبه الله إلى نفسه والدليل على ذلك
لفعلهم المتقدم: قوله (بما كانوا يعملون). ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون:
بالمحاسبة والمجازاة.
(109) وأقسموا بالله جهد أيمانهم حلفوا به مجدين مجتهدين، القمي: يعني
قريشا. لئن جاءتهم آية: من مقترحاتهم. ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله هو قادر
عليها يظهر منها ما يشاء على مقتضى الحكمة، ليس شئ منها بقدرتي وإرادتي. وما
يشعركم: وما يدريكم استفهام إنكار. أنها: إن الآية المقترحة. إذا جاءت لا يؤمنون: بها
يعني أنا أعلم إنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون بذلك. قيل: وذلك أن المؤمنين
كانوا يطمعون في إيمانهم عند مجئ الآية، يتمنون مجيئها فأخبرهم الله سبحانه أنهم ما
يدرون ما سبق علمه به من أنهم لا يؤمنون، ألا ترى إلى قوله: (كما لم يؤمنوا به أول مرة)
وقيل: (لا) مزيدة.
وقيل: (إن) بمعنى (لعل) ويؤيده قراءة أبي لعلها، وقرئ (إنها) بالكسر، على أن الكلام
قد تم قبله، ثم أخبرهم بعلمه فيهم وهذا أوضح، ولا تؤمنون - بالتاء على أن الخطاب
للمشركين.
(110) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم: عطف على لا يؤمنون، أي وما يشعركم إنا

1 - كببت فلانا كبا ألقيته على وجهه فأكب هو بالألف وهي من النوادر التي يعدى ثلاثيها دون رباعيها.
148

حينئذ نقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم فلا يبصرونه، فلا يؤمنون بها. كما لم
يؤمنوا به أول مرة: أي بما أنزل الله من الآيات. والقمي: يعني في الذر، والميثاق. ونذرهم
في طغيانهم يعمهون وندعهم متحيرين ولا نهديهم هداية المؤمنين.
القمي: عن الباقر عليه السلام (ونقلب أفئدتهم)، يقول: ننكس قلوبهم فيكون
أسفل قلوبهم أعلاها، وتعمى أبصارهم فلا يبصرون الهدى، وقال علي بن أبي طالب
صلوات الله عليه: إن أول ما تقلبون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم،
ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه معروفا، ولم ينكر منكرا، نكس قلبه، وجعل أعلاه
أسفله، فلم يقبل خيرا أبدا.
(111) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ
قبلا (1) كما اقترحوا فقالوا: (لولا أنزل علينا الملائكة) (فأتوا بآبائنا) (أو تأتي بالله والملائكة
قبيلا).
القمي: قبلا: أي عيانا. وفسر بمعان أخر، وقرئ (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء وهو
بمعناه المذكور. ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون: أنهم لو أوتوا
بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، ولذلك أسند الجهل
إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم، ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون،
فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم كذا قيل.
(112) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا: أي كما جعلنا لك عدوا جعلنا لكل
نبي سبقك عدوا بمعنى التخلية بينهم وبين أعدائهم للامتحان.
القمي: عن الصادق عليه السلام ما بعث الله نبيا قط إلا وفي أمته شيطانان
يؤذيانه ويضلان الناس بعده، فأما صاحبا نوح ففيطيقوس، وحزام، وأما صاحبا إبراهيم
فمكمل، ورزام، وأما صاحبا موسى فالسامري ومر عقيبا، وأما صاحبا عيسى فبوليس،

1 - أي قبيلا قبيلا وقيل عيانا وقبلا أي أصنافا جمع قبيل أي صنف.
149

ومرينون، وأما صاحبا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحبتر وزريق بتقديم الزاي على
الراء مصغر زرق، والحبتر بتقديم المهملة ثم الموحدة ثم المثناة من فوق ثم الراء على وزن - جعفر -:
الثعلب، وإنما كنى عنهما بهما لزرقة عين أحدهما، ولشبه الآخر بالثعلب في الحيلة. شياطين
الإنس والجن: مردتهما. يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا: الأباطيل
المموهة (1) من زخرفة: إذا زينه.
القمي: يقول بعضهم إلى بعض: لا تؤمنوا بزخرف القول، فهذا الوحي كذب.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام في حديث من لم يجعله الله من أهل صفة
الحق فأولئك شياطين الأنس والجن.
وفي الخصال: عنه عليه السلام الأنس على ثلاثة أجزاء: فجزء تحت ظل العرش
يوم لا ظل إلا ظله، وجزء عليهم الحساب والعذاب، وجزء وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم
قلوب الشياطين. ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون.
(113) ولتصغى إليه: تميل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه:
لأنفسهم. وليقترفوا: وليكتسبوا ما هم مقترفون: من الآثام.
(114) أفغير الله أبتغي حكما: يعني قل لهم: أفغير الله أطلب من يحكم بيني
وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل وهو الذي أنزل إليكم الكتاب: القرآن. مفصلا:
مبينا فيه الحق والباطل بحيث ينفي التخليط والالتباس. والذين آتيناهم الكتاب:
التوراة والأنجيل. يعلمون أنه منزل من ربك بالحق: لتصديق ما عندهم إياه
ولتصديقه وما عندهم مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يمارس كتبهم ولم يخالط
علماءهم، فلا تكونن من الممترين: في أنهم يعلمون ذلك أو في أنه منزل بجحود
أكثرهم فيكون من باب التهييج كقوله: (ولا تكونن من المشركين) ومن قبيل إياك أعني
واسمعي يا جارة.

1 - موهت الشئ بالتشديد إذا طليته بفضة أو ذهب وتحت ذلك نحاس أو حديد ومنه التمويه وهو التلبيس وقول
مموه اي مزخرف مزخرف أو ممزوج من الحق والباطل.
150

(115) وتمت كلمت ربك: ما تكلم به من الحجة وقرأت (كلمات ربك). يعني
بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده. صدقا: في الأخبار والمواعيد. وعدلا: في الأقضية
والأحكام. لا مبدل لكلمته: لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل. وهو السميع: بما
يقولون. العليم: بما يضمرون.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام إن الأمام يسمع في بطن أمه فإذا ولد
خط بين كتفيه، وفي رواية بين عينيه. وفي أخرى: على عضده الأيمن (وتمت كلمة ربك صدقا
وعدلا) الآية فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل
بلدة.
وفي رواية فبهذا (1) يحتج الله على خلقه.
والقمي، والعياشي: ما يقرب منه.
(116) وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله: لأن الأكثر
في الغالب يتبعون الأهواء. إن يتبعون إلا الظن: وهو ظنهم أن آباءهم كانوا محقين وهم
يقلدونهم، أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة. وإن هم إلا يخرصون: يقولون: عن تخمين.
(117) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله: أي بمن يضل أو استفهام.
وهو أعلم بالمهتدين: أي أعلم بالفريقين.
(118) فكلوا مما ذكر اسم الله عليه: مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين
يحرمون الحلال ويحلون الحرام وذلك أنهم قالوا للمسلمين: أتأكلون مما قتلتم أنتم ولا
تأكلون مما قتل ربكم؟ فقيل: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه خاصة دون ما ذكر عليه
اسم غيره، أو مات حتف أنفه. إن كنتم بآياته مؤمنين: فإن الأيمان بها يقتضي استباحة ما
أحله الله واجتناب ما حرمه.
(119) وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه: وأي غرض لكم بأن
تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم منه. وقد فصل لكم ما حرم عليكم: مما لم يحرم بقوله:

1 - أي فبمن يكون على هذه الصفة.
151

(حرمت عليكم الميتة)، وقرئ (فصل) على البناء للمفعول و (حرم) على البناء للفاعل. إلا ما
اضطررتم إليه: مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة. وإن كثيرا ليضلون:
بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، وقرئ بضم الياء. بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم
بالمعتدين: المتجاوزين الحق إلى الباطل، والحلال إلى الحرام.
(120) وذروا ظاهر الإثم وباطنه: ما يعلن وما يسر.
القمي: قال: الظاهر من الإثم: المعاصي، والباطن: الشرك والشك في القلب. إن
الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون: يعملون.
(121) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه: في الفقيه، والتهذيب: عن الباقر
عليه السلام إنه سئل عن مجوسي قال: بسم الله وذبح فقال: كل، فقيل: مسلم ذبح ولم يسم
فقال: لا تأكل إن الله يقول: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله
عليه).
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن ذبائح أهل الكتاب؟ فقال:
لا بأس إذا ذكر اسم الله عليه، ولكني أعني منهم من يكون على أمر موسى وعيسى
عليهما السلام.
وعنه عليه السلام: إنه سئل عن ذبائح اليهود والنصارى؟ فقال: الذبيحة اسم
ولا يؤمن على الاسم إلا مسلم.
وفي التهذيب: عن الباقر عليه السلام في ذبيحة الناصب واليهودي والنصراني،
قال: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله عليه أما سمعت قول الله: (ولا تأكلوا مما
لم يذكر اسم الله عليه).
أقول: هذا الحديث يوضح سابقه ويحكم عليهما، ويفصل إجمالهما، كما أن أولهما
يحكم عليه، والثلاثة توفق بين كل ما ورد في هذا المعنى مع كثرته واختلافه.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن رجل ذبح ولم يسم، فقال:
152

إن كان ناسيا فليسم حين يذكر، ويقول بسم الله على أوله وآخره.
وعنه عليه السلام: إذا ذبح المسلم ولم يسم ونسي فكل من ذبيحته وسم الله
على ما تأكل.
وفيه: عنه عليه السلام أنه سئل عن رجل ذبح فسبح أو كبر أو هلل أو حمد الله، قال:
هذا كله من أسماء الله تعالى، ولا بأس به. وإنه لفسق: وان الفسق: ما أهل لغير الله به
لقوله تعالى: (أو فسقا أهل لغير الله به). وإن الشياطين (1) ليوحون: ليوسوسون. إلى أوليائهم:
من الكفار. ليجادلوكم: بقولهم: تأكلون ما قتلتم أنتم، وجوارحكم، وتدعون ما قتله الله. وإن
أطعتموهم: في استحلال ما حرم. إنكم لمشركون: فإن من ترك طاعة الله إلى طاعة غيره
واتبعه في دينه فقد أشرك بالله.
(122) أو من كان ميتا: وقرئ بالتشديد. فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في
الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها: يعني مثل من هداه الله وأنقذه من
الضلالة وجعل له حجة يهتدي بنورها كمن صفته البقاء في الضلالة لا يفارقها بحال
أبدا.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام (ميتا): لا يعرف شيئا، و (نورا يمشي به في
الناس): إماما يؤتم به، (كمن مثله في الظلمات): الذي لا يعرف الأمام. والعياشي: مثله.
وعنه عليه السلام الميت: الذي لا يعرف هذا الشأن يعني هذا الأمر، و (جعلنا له
نورا) إماما يأتم به يعني علي بن أبي طالب صلوات الله عليه (كمن مثله في الظلمات) قال:
بيده هكذا هذا الخلق الذي لا يعرفون شيئا. وفي المناقب: عن الصادق عليه السلام كان
ميتا عنا فأحييناه بنا.
والقمي: كان جاهلا عن الحق والولاية فهديناه إليها، قال: (النور): الولاية، (في

1 - يعني علماء الكافرين ورؤساؤهم المتمردين في كفرهم وقال ابن عباس معناه وإن الشياطين من الجن وهم
إبليس وجنوده ليوحون إلى أوليائهم من الانس والوحي القاء المعنى إلى النفس من وجه خفي وهم يلقون الوسوسة إلى
قلوب أهل الشرك.
153

الظلمات) يعني ولاية غير الأئمة عليهم السلام.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام في حديث قال الله تعالى: (يخرج الحي
من الميت ويخرج الميت من الحي) فالحي: المؤمن الذي يخرج طينته من طينة
الكافر، والميت الذي يخرج من الحي: هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن، فالحي:
المؤمن، والميت: الكافر، وذلك قوله عز وجل: (أو من كان ميتا فأحييناه) فكان موته اختلاط طينته
مع طينة الكافر، وكان حياته حين فرق الله بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن
في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة
بعد دخوله إلى النور، وذلك قوله عز وجل: (لينذر من كان حيا ويحق القول على
الكافرين). كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون.
في المجمع: عن الباقر عليه السلام إن الآية نزلت في عمار بن ياسر، وأبي
جهل.
(123) وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها أي كما
جعلنا في مكة والمعنى خليناهم وشأنهم. ليمكروا ولم نكفهم عن المكر، وإنما خص الأكابر
لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. وما يمكرون إلا بأنفسهم: لأن وباله يحيق (1)
بهم. وما يشعرون: ذلك.
(124) وإذا جاءتهم آية قالوا: القمي: قال الأكابر. لن نؤمن حتى نؤتى مثل
ما أوتى رسل الله: روي أن أبا جهل قال: زاحمنا (2) بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا
صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن
يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت. ونحوه قوله عز وجل: (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى

1 - قوله تعالى وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون أي أحاط بهم وحل يقال حاق بهم العذاب حيقا إذا نزل والحيق نزول
البلاء.
2 - قوله لع تزاحمنا أي ضايقنا الامر عليهم من كل وجه ولم نقصر عنهم في شرف حتى صرنا كالفرسين المتسابقين في
ميدان الاستباق يهم في سبق كل منهما على الآخر فلا نسلم أبدا لهم شرفا لا يكون مثله لنا فلا نؤمن بالآيات المنزلة فيهم إلا
أن ينزل مثلها فينا حتى لا نقصر عنهم.
154

صحفا منشرة). الله أعلم حيث يجعل رسالته: استيناف للرد عليهم بأن النبوة ليست
بالنسب والمال، وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله بها من يشاء من عباده فيجتبي
لرسالته من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي فيه يضعها، وقرئ رسالاته.
سيصيب الذين أجرموا صغار: ذل وحقارة بعد كبرهم. عند الله: يوم القيامة، وقيل: من عند
الله. وعذاب شديد بما كانوا يمكرون: القمي: أي يعصون الله في السر.
(125) فمن يرد الله أن يهديه: يعرفه الحق ويوفقه للأيمان. يشرح صدره
للاسلام: فيتسع له ويفسح فيه مجاله، وهو كناية عن جعل القلب قابلا للحق مهيئا
لحلوله فيه، مصفى عما يمنعه وينافيه.
في المجمع: قد وردت الرواية الصحيحة انه لما نزلت هذه الآية سئل رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: عن شرح الصدر وما هو؟ قال: نور يقذفه الله تعالى في
قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح، قالوا: فهل لذلك من إمارة يعرف بها؟ فقال: نعم،
الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت.
ومن يرد أن يضله (1) يجعل صدره ضيقا حرجا: بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله
الأيمان، وقرئ ضيقا بالتخفيف، وحرجا بالكسر أي شديد الضيق.
في المعاني: عن الصادق عليه السلام: في هذه الآية قال: قد يكون ضيقا وله
منفذ يسمع منه ويبصر، والحرج: هو الملتأم الذي لا منفذ له، يسمع به ولا يبصر منه.
والعياشي: عنه عليه السلام: إنه قال لموسى بن أسمر أتدري ما الحرج قال: قلت:
لا، فقال بيده وضم أصابعه: كالشئ (2) المصمت الذي لا يدخله فيه شئ، ولا يخرج منه شئ.
كأنما يصعد في السماء: يتصعد، وقرئ بالتخفيف، ويصاعد بمعنى يتصاعد مبالغة في ضيق

1 - لا يجوز أن يكون المراد بالاضلال في الآية الدعاء إلى الضلال ولا الامر به ولا إجبار عليه لاجماع الأمة على أن
الله تعالى لا يأمر بالضلال ولا يدعوا إليه فيكف يجبر عليه والدعاء إليه أهون من الاجبار عليه وقد ذم الله فرعون والسامري
عن إضلالهما عن دين الهدى في قوله وأضل فرعون قومه وما هدى وقوله فاضلهم السامري ولا خلاف في أن إضلالهما
اضلال أمر واجبار ودعاء وقد ذمهما الله تعالى عليه مطلقا فكيف بما ذم عليه غيره.
2 - المصمت الذي لا جوف له.
155

صدره. بتشبيهه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن
الاستطاعة ويضيق عند القدرة. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون:
العياشي: عن الصادق عليه السلام: هو الشك.
وفي الكافي: عنه عليه السلام إن القلب ليتخلخل (1) في الجوف يطلب الحق فإذا
أصابه اطمأن به وقر ثم تلا (فمن يرد الله أن يهديه) الآية.
والعياشي: مثله. وفي رواية: قال: إن القلب ينقلب عن موضعه إلى حنجرته ما لم
يصب الحق فإذا أصاب الحق قر، ثم تلا هذه الآية.
وفي المجمع: عنه عليه السلام: مثله.
أقول: يتخلخل بالخاءين المعجمتين أو الجيمين أي يتحرك.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا
نكت (2) في قلبه نكتة من نور فأضاء لها سمعه وقلبه حتى يكون أحرص على ما في أيديكم
منكم، وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء فأظلم لها سمعه وقلبه، ثم تلا: (فمن يرد
الله أن يهديه) الآية.
وفيه، وفي التوحيد، والعياشي: عنه عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد
خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، وفتح مسامع قلبه، ووكل به ملكا يسدده، وإذا أراد بعبد
سوء نكت في قلبه نكتة سوداء سد مسامع قلبه، ووكل به شيطانا يضله، ثم تلا هذه الآية.
وفي الكافي: عنه عليه السلام: في حديث واعلموا أن الله إذا أراد بعبد خيرا
شرح الله صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحق، وعقد قلبه عليه فعمل به.
فإذا جمع الله له على ذلك تم له إسلامه، وكان عند الله إن مات على ذلك الحال من
المسلمين حقا، وإذا لم يرد الله بعبد خيرا وكله إلى نفسه فكان صدره ضيقا حرجا فإن

1 - ليتخلخل اي يتحرك ويضطرب كالخلخال الملبوس.
2 - النكتة في الشئ كالنقطة والجمع نقط.
156

جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه، وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله
العمل به، فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله من
المنافقين، وصار ما جرى على لسانه من الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه ولم
يعطه العمل به حجة (1) عليه فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام وأن يجعل
ألسنتكم تنطق بالحكمة حتى يتوفاكم وأنتم على ذلك.
وفي التوحيد، والمعاني، والعيون: عن الرضا عليه السلام: إنه سئل عن هذه الآية
فقال: من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا وإلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح
صدره للتسليم لله، والثقة به، والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه، ومن يرد
أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره
ضيقا حرجا حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاد قلبه حتى يصير (كأنما يصعد في
السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون).
(126) وهذا صراط (2) ربك: قيل يعني طريقته وعادته في التوفيق والخذلان.
مستقيما: عادلا مطردا لا إعوجاج فيه. القمي: يعني الطريق الواضح. قد فصلنا الآيات
لقوم يذكرون: فيعلمون أن القادر هو الله، وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه،
وأنه عليم بأحوال العباد حكيم عدل فيما يفعل بهم.
(127) لهم: للذين تذكروا وعرفوا الحق. دار السلام: دار الله أو دار السلامة من
كل آفة وبلية.
القمي: يعني في الجنة، والسلام: الأمان والعافية والسرور. ويأتي في سورة يونس
فيه حديث بالمعنى الأول. عند ربهم: في ضمانه يوصلهم إليها لا محالة. وهو وليهم: قيل:
مولاهم ومحبهم. القمي: أي أولى بهم. بما كانوا يعملون: وبسبب أعمالهم.

1 - فإن العلم إذا لم يقارن العمل فهو مخاصم صاحبه.
2 - وصف الصراط الذي هو أدلة الحق بالاستقامة مع اختلاف وجوه الأدلة لأنها مع اختلافها تؤدي إلى الحق فكأنها
طريق واحد لسلامة جميعها من التناقض والفساد.
157

(128) ويوم نحشرهم جميعا: واذكر يوم نحشرهم أو يوم يحشرهم، وقرئ بالياء
ثم يقول يا معشر الجن: يعني الشياطين. قد استكثرتم من الإنس: أضللتم منهم كثيرا.
القمي: قال: كل من والى قوما فهو منهم، وإن لم يكن من جنسهم. وقال
أولياؤهم من الإنس: الذين اتبعوهم وأطاعوهم ربنا استمتع بعضنا ببعض: أي انتفع
الأنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وما يوصل إليها، وانتفع الشياطين بالأنس
حيث أطاعوهم وحصلوا مرادهم. وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا.
القمي: يعني القيامة. قال: قال الله لهم. النار مثواكم: مقامكم. خالدين فيها:
مؤبدين. إلا ما شاء الله إن ربك حكيم: في أفعاله. عليم: بأعمال الثقلين (1) وأحوالهم.
(129) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون: نكل بعضهم
إلى بعض.
القمي: قال: نولي كل من يولي أولياءهم فيكونون معهم.
وفي الكافي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام: ما انتصر الله من ظالم، إلا بظالم
وذلك قوله عز وجل: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا).
(130) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم
آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا: يعني يوم القيامة. في العيون: في خبر الشامي أنه سأل
أمير المؤمنين عليه السلام: هل بعث الله نبيا إلى الجن فقال: نعم. بعث الله نبيا يقال له:
يوسف فدعاهم إلى الله فقتلوه.
وعن الباقر عليه السلام: في حديث أن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله
عليه وآله وسلم إلى الجن والأنس.
أقول: وعموم رسالته الثقلين مستفيض. قالوا شهدنا على أنفسنا: بالجرم
والعصيان، وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب. وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا

1 - الثقل محركة متاع المسافر وحشمه وكل شئ نفيس مصون ومنه الحديث إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
والثقلان الإنس والجن.
158

على أنفسهم أنهم كانوا كافرين: ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا
بالحياة الدنيا واللذات المخدجة (1) وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن
اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيرا للسامعين
من مثل حالهم.
(131) ذلك: أي إرسال الرسل ان لم يكن لان لم يكن ربك مهلك القرى
بظلم: ظالما أو بسبب ظلم فعلوه. وأهلها غافلون: لم ينبهوا برسول.
(132) ولكل: من المكلفين. درجات: مراتب. مما عملوا وما ربك بغافل عما
يعملون: فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب، وقرئ بالخطاب.
(133) وربك الغنى: عن عباده، وعن عبادتهم. ذو الرحمة: يترحم عليهم
بالتكليف ليعرضهم (2) للمنافع العظيمة التي لا يحسن إيصالهم إليها إلا بالاستحقاق إن
يشأ يذهبكم: أيها العصاة. ويستخلف من بعدكم ما يشاء: وينشئ من بعد هلاككم و
إذهابكم خلقا غيركم يطيعونه يكونوا خلفا لكم. كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين: قرنا
بعد قرن.
(134) إن ما توعدون: من الحشر والثواب والعقاب. لآت: لكائن لا محالة وما
أنتم بمعجزين: بخارجين من ملكه يقال: أعجزني كذا أي فاتني وسبقني.
(135) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم: قيل: على غاية تمكنكم
واستطاعتكم أو على حالكم التي أنتم عليها، وقرئ مكاناتكم حيث ما وقع. إني عامل:
على مكانتي التي أنا عليها وهو تهديد، والمعنى أثبتوا على كفركم وعداوتكم فإني ثابت

1 - في الخبر كل صلاة لا يقرء فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج أي نقصان وصف بالمصدر للمبالغة يقال خدجت
الناقة فهي خادج إذا ألقت ولدها قبل تمام الأيام وإن كان تمام الخلق وفي حديث علي (عليه السلام) في ذي الثدية مخدج اليد أي ناقص
اليد.
2 - قوله تعالى وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا أي أظهرناها حتى يراها الكفار يقال عرضت الشئ فأعرض
أي أظهرته فظهر.
159

على الإسلام وعلى مصابرتكم. فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار: أينا تكون له
العاقبة الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار؟ وقرئ يكون بالياء، والتهديد بصيغة الأمر
مبالغة في الوعيد وتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر وهذا كقوله تعالى: (اعملوا
ما شئتم). إنه لا يفلح الظالمون: وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة.
(136) وجعلوا لله: يعني مشركي العرب مما ذرأ: مما خلق الله. من الحرث
والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم: من غير أن يؤمروا به، وهذا لشركائنا: أصنامهم
التي أشركوها في أموالهم وقرئ بضم الزاي وكذا فيما يأتي فما كان لشركائهم فلا يصل
إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون: حكمهم هذا. روي أنهم
كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وشيئا منهما
لآلهتهم وينفقون على سدنتها (1) ويذبحون عندها ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى بدلوه بما
لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم واعتلوا لذلك بأن الله غني.
وفي المجمع: عن أئمتنا عليهم السلام: كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما
جعل لله ردوه وإذا اختلط ما جعل لله بما جعلوه للأصنام تركوه، وقالوا: الله غني وإذا
انخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه وإذا انخرق (2) من الذي للأصنام
في الذي لله سدوه وقالوا إن الله غني قيل: وفي قوله (مما ذرأ) تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم
أشركوا الخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شئ ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له.
(137) وكذلك: ومثل ذلك التزيين. زين لكثير من المشركين قتل أولدهم:
بالوأد (3) خيفة العيلة أو العار أو بالنحر لآلهتهم. شركاؤهم: من الشياطين أو السدنة. ليردوهم:
ليهلكوهم بالإغواء. وليلبسوا عليهم دينهم: وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه. ولو شاء الله ما
فعلوه فذرهم وما يفترون.

1 - سدن سدنا وسدانة خدم الكعبة أو بيت الصنم وعمل الحجابة فهو سادن.
2 - قوله إذا انخرق أي انفتح وخرج.
3 - وأدبنته يئدها دفنها حية فهي وئيد ووئيدة وموؤدة.
160

(138) وقالوا هذه: إشارة إلى ما جعل لآلهتهم. أنعام وحرث حجر: حرام. لا
يطعمها إلا من نشاء بزعمهم: من غير حجة.
القمي: قال: كانوا يحرمونها على قوم. وأنعام حرمت: حرام. ظهورها: قال: يعني
البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها: في الذبح والنحر.
وقيل: لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها، والمعنى إنهم قسموا أنعامهم فقالوا: هذه
أنعام حجر، وهذه أنعام محرمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله فجعلوها
أجناسا بدعواهم الباطلة، ونسبوا ذلك التقسيم إلى الله. افتراء عليه: أي فعلوا ذلك كله
على جهة الافتراء. سيجزيهم بما كانوا يفترون.
(139) وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على
أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء.
القمي: كانوا يحرمون الجنين الذي يخرجونه من بطون الأنعام على النساء، فإذا
كان ميتا يأكله الرجال والنساء. قيل: وانث - خالصة - لأن ما في معنى الأجنة، والتاء فيه
للمبالغة كما في رواية الشعر، أو هو مصدر كالعافية، وقرئ تكن بالتاء وميتة بالنصب، بوجوه
أخر سيجزيهم وصفهم: أي جزاء وصفهم الكذب على الله في التحريم والتحليل من قوله:
وتصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام). إنه حكيم عليم.
(140) قد خسر الذين قتلوا أولادهم: كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر،
وقرئ (قتلوا) بالتشديد بمعنى التكثير. سفها بغير علم: لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله رازق
أولادهم. لا هم. وحرموا ما رزقهم الله: من البحاير، ونحوها. افتراء على الله قد ضلوا وما
كانوا مهتدين: إلى الحق والصواب.
(141) وهو الذي أنشأ جنات: من الكروم. معروشات: مرفوعات على ما
يحملها. وغير معروشات: ملقيات على وجه الأرض. والنخل والزرع مختلفا أكله: أكل
ذلك أي ثمره الذي يؤكل في اللون والطعم والحجم والرائحة. والزيتون والرمان متشابها
161

وغير متشابه: يتشابه بعض أفرادهما في الطعم واللون والحجم ولا يتشابه بعضها. كلوا من
ثمره: من ثمر كل واحد من ذلك. إذا أثمر: وإن لم يدرك ولم يينع بعد، وقيل: فائدته رخصة
المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله.
أقول: وإنما يصح ذلك إذا خرص ما يأكل. وآتوا حقه يوم حصاده: وقرئ بكسر
الحاء. في قرب الأسناد: إنه قرء عند الرضا عليه السلام: فقال للقارئ: هكذا يقرؤها من
كان قبلكم قال: نعم قال: افتح الفم بالحاء. كأنه كان يقرؤها: بالكسر، وكأن القمي أيضا
بهذا أشار حيث قال: كذا نزلت. قيل: يريد بالحق: ما يتصدق به يوم الحصاد، لا الزكاة
المقدرة، لأن الزكاة فرضت بالمدينة، والآية مكية. وقيل: بل هو: الزكاة أي لا تؤخروه عن أول
وقت يمكن فيه الإيتاء، والآية مدنية.
والمروي عن أهل البيت عليهم السلام: إنه غير الزكاة. ففي الكافي، والعياشي:
عن الصادق عليه السلام: في الزرع حقان: حق تؤخذ به، وحق تعطيه، أما الذي تؤخذ به:
فالعشر ونصف العشر، وأما الذي تعطيه فقول الله عز وجل: (وآتوا حقه يوم حصاده)
فالضغث (1) تعطيه ثم الضغث حتى تفرغ.
وعن الباقر عليه السلام: هذا من الصدقة تعطي المسكين القبضة بعد القبضة،
ومن الجذاذ (2) الحفنة بعد الحفنة (3).
والقمي: عن الصادق عليه السلام: في هذه الآية قال: الضغث: من السنبل،
والكف من التمر إذا خرص.
والعياشي: عنه عليه السلام: فيها قال: إعط من حضرك من مشرك وغيره.

1 - الضغث بالكسر والفتح قبضة الحشيش المختلط رطبها ويابسها ويقال ملأ الكف من القضبان والحشيش
والشماريخ.
2 - جذذت الشئ جذا من باب قتل كسرته وقطعته فهو مجذوذ والجذاذ ضما وكسرا والضم أفصح قطع ما يكسر.
الجداد بالفتح والكسر صرام النخل وهو قطع ثمرتها.
3 - الحفنة بالفتح فالسكون ملأ الكفين من طعام والجمع حفنات كسجدة وسجدات وحفنت لفلان من باب ضرب
أعطيته قليلا.
162

والأخبار في هذا المعنى: كثيرة.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام: لا تصرم (1) بالليل، ولا تحصد بالليل، ولا
تضح بالليل، ولا تبذر بالليل إلى قوله: وإن حصدت بالليل لم يأتك السؤال وهو قول الله:
(وآتوا حقه يوم حصاده) يعني القبضة بعد القبضة إذا حصدته فإذا خرج فالحفنة بعد
الحفنة، وكذلك عند الصرام، وكذلك عند البذر ولا تبذر بالليل لأنك تعطي من البذر كما
تعطي في الحصاد.
وعنه عليه السلام: في هذه الآية تعطي المسكين يوم حصادك الضغث، ثم إذا
وقع في البيذر، ثم إذا وقع في الصاع العشر ونصف العشر.
والقمي: قال: فرض الله يوم الحصاد من كل قطعة أرض قبضة للمساكين، وكذا
في جذاذ النخل وفي التمر، وكذا عند البذر، وإن الرضا عليه السلام: سئل إن لم
يحضر المساكين وهو يحصد كيف يصنع؟ قال: ليس عليه شئ. وأن الصادق عليه السلام:
سئل هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله؟ قال: لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخله بيته. ولا
تسرفوا: في التصدق، كقوله: (ولا تبسطها كل البسط). إنه لا يحب المسرفين: لا يرتضي
فعلهم.
في الكافي، والعياشي: عن الرضا عليه السلام: إنه سئل عن هذه الآية فقال: كان
أبي يقول: من الإسراف في الحصاد والجذاذ أن يتصدق الرجل بكفيه جميعا، وكان أبي إذا
حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به اعط بيد واحدة
القبضة بعد القبضة، والضغث بعد الضغث من السنبل.
وعن الصادق عليه السلام: إنه سئل عن هذه الآية فقال: كان فلان بن فلان
الأنصاري وسماه كان له حرث، وكان إذا أخذه تصدق به، ويبقى هو وعياله بغير شئ
فجعل الله عز وجل ذلك سرفا. وفي الكافي: عنه عليه السلام: في حديث قال: وفي غير آية
من كتاب الله يقول: (إنه لا يحب المسرفين) فنهاهم عن الإسراف، ونهاهم عن التقتير، لكن

1 - الصرام وجذاذ النخل وهذا أول الصرام بالفتح والكسر والصرمة القطعة من النخل نحوا من ثلاثين.
163

أمر بين أمرين لا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له.
(142) ومن الانعام حمولة وفرشا: وأنشأ من الأنعام ما تحمل الأثقال، وما
ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. كلوا مما رزقكم الله منها ولا تتبعوا خطوات
الشيطان: في تحريم شئ منها من عند أنفسكم. إنه لكم عدو مبين: ظاهر العداوة.
(143) ثمانية أزواج: بدل من حمولة وفرشا أو مفعول (كلوا)، (ولا تتبعوا) معترض،
والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، وقد يقال: لمجموعهما. من الضأن اثنين: الأهلي
والوحشي. ومن المعز اثنين: الأهلي والوحشي، وقرئ بفتح العين. قل أالذكرين: ذكر الضأن
وذكر المعز. حرم أم الأنثيين: أم أنثييهما. أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين: أو ما حملته
إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى. نبؤني بعلم: بأمر معلوم يدل على أن الله حرم شيئا من
ذلك. إن كنتم صادقين: في دعوى التحريم عليه.
(144) ومن الإبل اثنين: العراب (1) والبخاتي (2). ومن البقر اثنين: الأهلي والوحشي،
وقيل: أريد بالأنثيين الذكر والأنثى من كل صنف، والصواب ما قلناه كما يأتي بيانه. قل
الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين كما مر والمعنى انكار ان
الله حرم من الأجناس الأربعة أهليا كان أو وحشيا ذكرا كان أو أنثى وما تحمل إناثها
ردا عليهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادها كيف كانت تارة
زاعمين أن الله تعالى حرمها. أم كنتم شهداء: بل كنتم حاضرين شاهدين. إذ وصكم الله بهذا:
حين وصكم بهذا التحريم فإنكم لا تؤمنون بالرسل فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال
ذلك إلا المشاهدة أو السماع. فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا: فنسب إليه تحريم ما
لا يحرم، والمراد كبراؤهم المقررون لذلك، أو عمرو بن لحي المؤسس له الذي بحر البحاير،
وسيب السوائب. ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدى القوم الظالمين.
القمي: فهذه التي أحلها الله في كتابه في قوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية

1 - الإبل العراب خلاف البخاتي 2 - البخت بالضم الإبل الخراسانية كالبختية ج بخاتي وبخاتي وبخات.
164

أزواج) ثم فسرها في هذه الآية فقال من الضأن اثنين عنى الأهلي (الجبلي)، ومن المعز اثنين
عنى الأهلي والوحشي (الجبلي) ومن البقر اثنين عنى الأهلي والوحشي (الجبلي)، ومن الإبل
اثنين يعني البخاتي والعراب، فهذه أحلها الله.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام: حمل نوح عليه السلام: في السفينة
الأزواج الثمانية التي قال الله عز وجل: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) الآية فكان من
الضأن اثنين زوج داجنة (1) يربيها الناس، والزوج الآخر الضأن التي تكون في الجبال
الوحشية أحل لهم صيدها، ومن المعز اثنين زوج داجنة يربيها الناس والزوج الآخر
الضباء التي تكون في الغار، ومن الإبل اثنين البخاتي والعراب، ومن البقر اثنين زوج
داجنة للناس، والزوج الآخر البقر الوحشية، وكل طير طيب وحشي وانسي.
وفيه، وفي الفقيه: عن داود الرقي قال: سألني بعض الخوارج عن هذه الآية (من
الضأن اثنين) الآية ما الذي أحل الله من ذلك وما الذي حرم؟ فلم يكن عندي فيه شئ
فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام: وأنا حاج فأخبرته بما كان، فقال: إن الله تعالى
أحل في الأضحية بمنى الضأن والمعز الأهلية، وحرم أن يضحى بالجبلية، وأما قوله: (ومن
الإبل اثنين ومن البقر اثنين) فإن الله تعالى أحل في الأضحية الإبل العراب، وحرم منها
البخاتي (2) وأحل البقر الأهلية أن يضحى بها، وحرم الجبلية فانصرفت إلى الرجل فأخبرته
بهذا الجواب، فقال: هذا شئ حملته الإبل من الحجاز.
أقول: لعل الخارجي كان قد سمع تحريم الأضحية ببعض هذه الأزواج
الثمانية مع حلها كلها فأراد أن يمتحن بمعرفته داود، ولعل علة تحريم الأضحية بالجبلية
منها بمنى كونها صيدا وتحريمها بالبخت لعلة أخرى.
(145) قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما: طعاما محرما. على طاعم يطعمه: فيه
ايذان بأن التحريم إنما يثبت بالوحي لا بالهوى. إلا أن يكون: الطعام. ميتة أو دما

1 - دجن بالمكان دجنا من باب قتل ودجونا: أقام فيه وأدجن مثله.
2 - الظاهر المراد بالبخاتي في هذا الخبر هو الوحشي من الإبل.
165

مسفوحا: مصبوبا كالدم في العروق، لا كالكبد والطحال أو المختلط باللحم لا يمكن
تخليصه منه. أو لحم خنزير فإنه رجس: قذر. أو فسقا أهل لغير الله به: سمي ما ذبح على
اسم الصنم فسقا لتوغله (1) في الفسق. فمن اضطر: فمن دعته الضرورة إلى تناول شئ
من ذلك. غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم: لا يؤاخذه بأكله، وقد مضى تفسير
الباغي والعادي في سورة البقرة. فإن قيل: لم خص هذه الأشياء الأربعة هنا بذكر
التحريم مع أن غيرها محرم أيضا، فإنه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المنخنقة والموقوذة
والمتردية وغيرها، وقد ورد الأخبار الصحيحة بتحريم كل ذي مخلب (2) من الطير، وكل ذي
ناب من الوحش، وما لا قشر له من السمك، إلى غير ذلك. قلنا: أما المذكورات في المائدة
فكلها يقع عليه اسم الميتة فيكون في حكمها فأجمل هيهنا وفصل هناك، وأما غيرها
فليس بهذه المثابة في الحرمة فخص هذه الأشياء بالتحريم تعظيما لحرمتها، وبين تحريم ما
عداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وورد أنه مما يعاف عنه. وأما ما قيل: إن هذه السورة مكية، والمائدة مدنية فيجوز
أن يكون غير ما في هذه الآية من المحرمات إنما حرم فيما بعد فلا تساعده الأخبار الواردة
في ذلك عن أهل البيت عليهم السلام. وكذا ما قاله القمي فإنه قال:
قد احتج قوم بهذه الآية على أنه ليس شئ محرم إلا هذا وأحلوا كل شئ من
البهائم: القردة، والكلاب، والسباع، والذئاب، والأسد، والبغال، والحمير، والدواب، وزعموا أن
ذلك كله حلال، وغلطوا في ذلك هذا غلطا بينا، وإنما هذه الآية رد على ما أحلت العرب
وحرمت لأن العرب كانت تحلل على نفسها وتحرم أشياء فحكى الله ذلك لنبيه صلى الله
عليه وآله: ما قالوا، فقال: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على
أزواجنا) الآية فكان إذا سقط الجنين أكله الرجال وحرم على النساء، وإذا كان ميتا أكله
الرجال والنساء، انتهى كلامه.

1 - أوغل في البلاد والعلم ذهب وبالغ وأبعد كتوغل.
2 - مخلب الطائر بكسر الميم وفتح اللام بمنزلة الظفر للانسان.
166

انتهى كلامه وإنما قلنا إن القولين لا يساعده الأخبار لأنها وردت بأن الحرام
ليس إلا ما حرم الله وتليت هذه الآية، وذلك حين سألوا عن حرمة غير المذكور فيها من
الحيوان. ففي التهذيب، عن الصادق عليه السلام: والعياشي: عن الباقر عليه السلام: إنه
سئل عن الجري (1) والمار (2) ما هي والزمير (3) وما ليس له قشر من السمك حرام هو فقال لي: يا
محمد إقرأ هذه الآية التي في الأنعام: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه)
فقال: فقرأتها حتى فرغت منها، فقال: إنما الحرام ما حرم الله ورسوله في كتابه، ولكنهم قد
كانوا يعافون عن أشياء فنحن نعافها.
وعن الباقر والعياشي: عن الصادق عليهما السلام: إنه سئل عن سباع الطير
والوحش حتى ذكر له القنافذ، والوطواط (4)، والحمير، والبغال، والخيل فقال: ليس الحرام إلا ما
حرم الله في كتابه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوم خيبر عن أكل لحوم
الحمير، وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوها وليست الحمير بحرام، ثم قال: اقرأ هذه
الآية: (قل لا أجد) الآية. وعنه عليه السلام: إنه سئل عن الجريث؟ فقال: وما الجريث؟ فنعت
له فقال: (لا أجد) الآية ثم قال: لم يحرم الله شيئا من الحيوان في القرآن إلا الخنزير بعينه،
ويكره كل شئ من البحر ليس له قشر مثل الورق، وليس بحرام وإنما هو مكروه. وعن
أحدهما عليهما السلام: إن أكل الغراب ليس بحرام إنما الحرام ما حرم الله في كتابه، ولكن
الأنفس تتنزه عن كثير من ذلك تقززا (5). قال صاحب التهذيب: قوله: (ليس الحرام إلا ما حرم
الله في كتابه) المعنى فيه أنه ليس الحرام المخصوص المغلظ الشديد الحظر إلا ما ذكره الله
في القرآن وإن كان فيما عداه أيضا محرمات كثيرة إلا أنها دونه في التغليظ.
(146) وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر من دابة أو طير. ومن البقر

1 - الجري بالجيم والراء المشددة المكسورة والياء المشددة أخيرا ضرب من السمك عديم الفلس ويقال له الجريث
بالثاء.
2 - المار ما هي بفتح الراء معرب وأصله حية السمك. 3 - الزمير كسكيت نوع من السمك.
4 - الوطواط الخطاف وقيل الخفاش والجمع الوطاوط.
5 - التقزز بالقاف والزائين المعجمتين التباعد عن الدنس والمبالغة في التطهير.
167

والغنم حرمنا عليهم شحومهما: الثروب وشحوم الكلى. إلا ما حملت ظهورهما: أي ما
علقت بظهورهما. أو الحوايا (1) أو ما اشتمل على الأمعاء أو ما اختلط بعظم: وهو شحم
الألية فإنه متصل بالعصعص (2) ذلك جزيناهم ببغيهم: بسبب ظلمهم. وإنا لصادقون: في
الأخبار والوعد والوعيد.
(147) فإن كذبوك: فيما تقول. فقل ربكم ذو رحمة واسعة: لا يعجل بالعقوبة
فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يمهل إذا جاء وقته. ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين: حين ينزل.
(148) سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا
من شئ كذلك حذر الذين من قبلهم أي مثل هذا التكذيب لك في أن الله منع من
الشرك ولم يحرم ما حرموه (كذب الذين من قبلهم الرسل). حتى ذاقوا بأسنا: الذي أنزلنا
عليهم بتكذيبهم. قل هل عندكم من علم: من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما
زعمتم. فتخرجوه لنا: فتظهروه لنا. إن تتبعون إلا الظن: ما تتبعون في ذلك إلا الظن.
وإن أنتم إلا تخرصون: تكذبون على الله تعالى.
(149) قل فلله الحجة البالغة (3): البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة، والقوة
على الأثبات. فلو شاء لهديكم أجمعين: بالتوفيق لها والحمل عليها.
القمي قال: لو شاء لجعلكم كلكم على أمر واحد، ولكن جعلكم على
الاختلاف.
وفي الكافي: عن الكاظم عليه السلام أن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة،
وحجة باطنة، فأما الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة، أما الباطنة: فالعقول. وعن الباقر عليه

1 - الحوية كغنية استدارة كل شئ كالتحوي وما تحوى من الأمعاء كالحاوية والحاوياء ج حوايا.
2 - العصعص بضم عينيه عظم الذنب وهو عظم يقال له أول ما يخلق وآخر ما يبلى.
3 - الحجة البالغة التي تبلغ الجاهل آه لعل المقصود انها ما تساوي في معرفتها الجاهل والعالم وان افترقا في أن العالم
يعرفها بحقيقة الايمان والجاهل بالالزام والغلبة عليه والاعجاز والاذلال وان أنكرها في قلبه بمعنى حسده عليه وعدم رضاه
وتسليمه لها مثل معرفة إبليس بالمعارف الحقة فان الحسد والجحود والعداوة والكبر يمنعه عن الرضاء بها وتسليمه لها.
168

السلام: نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض.
والعياشي: عنه عليه السلام مثله. وفي الأمالي: عن الصادق عليه السلام إنه
سئل عن قوله تعالى: (فلله الحجة البالغة) فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي
أكنت عالما؟ فإن قال: نعم. قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن كان جاهلا قال له: أفلا
تعلمت حتى تعمل فيخصمه. فتلك الحجة البالغة.
وفي رواية: عن الصادق عليه السلام الحجة البالغة التي تبلغ الجاهل من أهل
الكتاب فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه.
(150) قل هلم شهداءكم: احضروهم. الذين يشهدون أن الله حرم هذا: يعني
قدوتهم فيه استحضرهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم
كمن يقلدهم، ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفهم بما يقتضي العهد بهم. فإن شهدوا
فلا تشهد معهم: فلا تصدقهم فيه وبين لهم فساده. ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا:
فيه إشعار بأن التكذيب مسبب عن متابعة الهوى، والتصديق مسبب عن متابعة الحجة.
والذين لا يؤمنون بالآخرة: كعبدة الأصنام. وهم بربهم يعدلون: يجعلون له عديلا.
(151) قل تعالوا أتل: أقرء. ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا: لما
أوجب ترك الشرك، والإحسان إلى الوالدين، فقد حرم الشرك والإساءة إليهما، لأن إيجاب
الشئ نهي عن ضده، فيصح أن يقع تفصيلا لما حرم. وبالوالدين إحسانا، وضعه موضع
النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة والدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف.
القمي: مقطوعا قال: الوالدين رسول الله، وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما. ولا
تقتلوا أولادكم من إملاق: من أجل فقر أو من خشية فقر لقوله: (خشية إملاق). نحن
نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش: كبائر الذنوب أو الزنا. ما ظهر منها وما بطن: في
الكافي، والعياشي: عن السجاد ما ظهر: نكاح امرأة الأب، وما بطن: الزنا.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام ما ظهر: هو الزنا: وما بطن المخالة (1). ولا تقتلوا

1 - المخالة بالتشديد من الخلة يعني اتخاذ الخليل قال الله تعالى ولا متخذان منه رحمه الله وخاله مخالة وخلالا
ويفتح وانه الكريم الخل والخلة بكسرهما أي المصادقة والإخاء والخلة أيضا الصديق للذكر والأنثى والواحد والجمع.
169

النفس التي حرم الله إلا بالحق: كالقود، وقتل المرتد، ورجم المحصن. ذلكم: إشارة إلى ما ذكر
مفصلا. وصكم به: بحفظه. لعلكم تعقلون.
(152) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن: إلا بالخصلة التي هي أحسن
مما يفعل بماله كحفظه وتثميره. حتى يبلغ أشده: قوته، وهو بلوغ الحلم، وكمال العقل.
في الفقيه، والتهذيب: عن الصادق انقطاع يتم اليتيم: الاحتلام، وهو أشده، وإن
احتلم ولم يؤنس منه رشده وكان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله.
وفيهما، وفي الكافي: عنه عليه السلام إذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في
الأربع عشرة وجب عليه ما وجب على المحتلمين احتلم أو لم يحتلم، وكتبت عليه السيئات،
وكتبت له الحسنات، وجاز له كل شئ إلا أن يكون ضعيفا أو سفيها. وأوفوا الكيل والميزان
بالقسط: بالعدل والتسوية. لا نكلف نفسا إلا وسعها: إلا ما يسعها ولا يعسر عليها في اتباع
إيفاء الكيل والميزان بذلك تنبيه على تعسيره وإن ما وراء الوسع فيه معفو. وإذا قلتم: في
حكومة ونحوها. فاعدلوا: فيه. ولو كان ذا قربى: ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم.
وبعهد الله أوفوا: يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع. ذلكم
وصيكم به لعلكم تذكرون: تتعظون به، وقرء بتخفيف الذال.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام إنه كان متكئا على فراشه إذ قرء الآيات
المحكمات التي لم ينسخهن شئ من الأنعام فقال: شيعهن سبعون ألف ملك (قل تعالوا
أتل ما حرم عليكم ربكم ألا تشركوا به شيئا) الآيات.
وفي المجمع: عن ابن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شئ من جميع
الكتب وهي محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة، ومن
تركهن دخل النار، وقال كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إن هذا لأول شئ في
التورية
(بسم الله الرحمن الرحيم (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الآيات.
(153) وأن: ولأن تعليل للأمر باتباعه. هذا صراطي مستقيما: قيل: الإشارة فيه
إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة، وبيان الشريعة، وقرء (إن)
170

بالكسر على الاستيناف وبالفتح والتخفيف، وصراطي: بفتح الياء وبالسين. فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل: الأديان المختلفة المنشعبة على الأهوية المتباينة. فتفرق بكم: فتفرقكم
وتزيلكم. عن سبيله: الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان. ذلكم: الأتباع. وصكم به
لعلكم تتقون: الضلال، والتفرق عن الحق.
في روضة الواعظين: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية، سألت
الله أن يجعلها لعلي عليه السلام ففعل.
وفي الاحتجاج: عنه عليه السلام في خطبة الغدير معاشر الناس: إن الله قد
أمرني ونهاني، وقد أمرت عليا ونهيته فعلم الأمر والنهي من ربه، فاسمعوا لأمره تسلموا،
وأطيعوه تهتدوا، وانتهوا نهيه ترشدوا، وصيروا إلى مراده، ولا تتفرق بكم السبل عن سبيله.
معاشر الناس: أنا الصراط المستقيم الذي أمركم باتباعه، ثم علي من بعدي، ثم ولدي
من صلبه: (أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون).
والعياشي: عن الباقر عليه السلام إنه قال لبريد العجلي: تدري ما يعني
ب‍ (صراطي مستقيما)؟ قال: قلت لا، قال: ولاية علي والأوصياء عليهم السلام، قال: وتدري ما
يعني (فاتبعوه)؟ قال: قلت: لا، قال: يعني علي بن أبي طالب، قال: وتدري ما يعني (ولا تتبعوا
السبل)؟ قال: قلت: لا، قال: ولاية فلان وفلان والله، قال: وتدري ما يعني: (فتفرق بكم عن
سبيله) قال: قلت: لا، قال: يعني سبيل علي عليه السلام.
(154) ثم آتينا موسى الكتاب: عطف على وصاكم، و (ثم) للتراخي في الأخبار
أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: (ذلكم وصاكم به) قديما وحديثا، ثم أعظم من ذلك إنا آتينا
موسى الكتاب. تماما: للكرامة والنعمة. على الذي أحسن: على من أحسن القيام به.
وتفصيلا لكل شئ: وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين. وهدى ورحمة لعلهم:
لعل بني إسرائيل. بلقاء ربهم يؤمنون: بلقائه للجزاء.
(155) وهذا كتاب: يعني القرآن. أنزلناه مبارك: كثير النفع. فاتبعوه واتقوا
لعلكم ترحمون: باتباعه والعمل بما فيه.
171

(156) أن تقولوا: أنزلناه كراهة أن تقولوا. إنما أنزل الكتاب على طائفتين من
قبلنا: اليهود والنصارى. وإن كنا عن دراستهم: قرائتهم. لغافلين: لا ندري ما
هي.
(157) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم: لحدة أذهاننا وثقابة
أفهامنا، ولذلك تلقفنا فنونا من العلم كالقصص والأشعار والخطب على إنا أميون. فقد
جائكم بينة من ربكم حجة واضحة تعرفونها. وهدى ورحمة: لمن تأمل فيه وعمل به. فمن
أظلم ممن كذب بآيات الله: بعد أن عرف صحتها أو تمكن من معرفتها وصدف: أعرض
وصد (1).
القمي: أي دفع. عنها: فضل وأضل. سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء
العذاب: شدته بما كانوا يصدفون: بإعراضهم وصدهم.
(158) هل ينظرون: إنكار يعني ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة: ملائكة
الموت أو العذاب، أو يأتي ربك: أي أمره بالعذاب. أو يأتي بعض آيات ربك.
في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام في معنى هذه الآية إنما خاطب
نبينا هل ينتظر المنافقون والمشركون (إلا أن تأتيهم الملائكة) فيعاينوهم (أو يأتي ربك أو
يأتي بعض آيات ربك): يعني بذلك أمر ربك والآيات هي العذاب في دار الدنيا كما عذب
الأمم السالفة والقرون (2) الخالية.
وفيه، وفي التوحيد: عنه عليه السلام يخبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عن
المشركين والمنافقين الذين لم يستجيبوا لله ولرسوله فقال: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم
الملائكة) حيث لم يستجيبوا لله ولرسوله (أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك) يعني
بذلك العذاب يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى. يوم يأتي بعض آيات
ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: كأن المعنى

1 - صد عنه صدودا أعرض وفلانا عن كذا صدا منعه وصرفه.
2 - قوله تعالى وقد خلت القرون أي مضت.
172

إنه لا ينفع الأيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة ايمانها غير كاسبة في إيمانها
خيرا.
في التوحيد: في الحديث السابق (من قبل): يعني من قبل أن تجئ هذه الآية،
وهذه الآية طلوع الشمس من مغربها، ومثله في الاحتجاج: عنه عليه السلام.
والقمي: عن الباقر عليه السلام نزلت أو اكتسبت في إيمانها خيرا قال: إذا
طلعت الشمس من مغربها من آمن في ذلك اليوم لم ينفعه إيمانه أبدا.
وفي الخصال: عنه عليه السلام فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس
كلهم في ذلك اليوم، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها.
ومثله في الكافي، والعياشي: عنهما عليهما السلام في قوله (يوم يأتي بعض آيات
ربك) قال: طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدجال، والدخان، والرجل يكون مصرا ولم
يعمل عمل الأيمان، ثم تجئ الآيات فلا ينفعه إيمانه.
وعن أحدهما عليهما السلام في قوله: (أو كسبت في إيمانها خيرا) قال: المؤمن
العاصي حالت بينه وبين إيمانه كثرة ذنوبه وقلة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيرا.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام (من قبل) يعني في الميثاق (أو كسبت في
إيمانها) خيرا قال: الإقرار بالأنبياء والأوصياء وأمير المؤمنين عليهم السلام خاصة قال: لا
ينفع إيمانها لأنها سلبت.
وفي الإكمال: عنه عليه السلام في هذه الآية يعني: خروج القائم المنتظر.
وعنه عليه السلام: قال: (الآيات): هم الأئمة عليهم السلام، والآية المنتظرة القائم
عليه السلام فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث يذكر فيه خروج الدجال وقاتله،
يقول: في آخره ألا إن بعد ذلك الطامة الكبرى، قيل: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال خروج
دابة الأرض من عند الصفا معها خاتم سليمان وعصا موسى عليه السلام تضع الخاتم
173

على وجه كل مؤمن فينطبع فيه هذا مؤمن حقا، وتضعه على وجه كل كافر فينكت هذا
كافر حقا، حتى أن المؤمن لينادي الويل لك يا كافر، وأن الكافر لينادي طوبى لك يا
مؤمن وددت أني كنت مثلك فأفوز فوزا عظيما، ثم ترفع الدابة رأسها فيراها من بين
الخافقين (1) بإذن الله جل جلاله وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها فعند ذلك ترفع التوبة
فلا تقبل توبة ولا عمل يرفع (ولا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في
إيمانها خيرا) ثم فسر صعصعة راوي هذا الحديث طلوع الشمس من مغربها بخروج
القائم عليه السلام قل انتظروا (2) إنا منتظرون: وعيد لهم وتهديد، أي انتظروا إتيان أحد
الثلاثة إنا منتظرون له، وحينئذ لنا الفوز ولكم الويل.
(159) إن الذين فرقوا دينهم: بددوه (3) فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وافترقوا فيه،
وقرئ فارقوا أي باينوا، ونسبها في المجمع: إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام قال: كان علي عليه السلام يقرؤها فارقوا
دينهم، قال: فارق والله القوم. وكانوا شيعا: فرقا يشيع كل فرقة إماما.
في المجمع: عن الباقر عليه السلام إنهم أهل الضلال وأصحاب الشبهات
والبدع من هذه الأمة.
والقمي: قال: فارقوا أمير المؤمنين عليه السلام وصاروا أحزابا.
وعن الصادق عليه السلام في هذه الآية: فارق القوم والله دينهم.
وفي الحديث النبوي: ستفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا
واحدة وهي التي تتبع وصيي عليا لست منهم في شئ: قيل: أي من السؤال عنهم وعن

1 - الخافقان جانبا الجو من المشرق إلى المغرب والخافقان السماء والأرض.
2 - قوله تعالى قل انتظروا أي اتيان الملائكة ووقوع هذه الآيات انا منتظرون بكم وقوعها في هذه الآية حث على
المسارعة إلى الايمان والطاعة قبل الحال التي لا يقبل فيها التوبة وفيها أيضا حجة على من يقول إن الايمان اسم لأداء
الواجبات أو للطاعات فإنه سبحانه قد صرح فيها بان اكتساب الخبرات غير الايمان المجرد لعطفه سبحانه كسب الخيرات
وهي الطاعات في الايمان على الايمان فكأنه قال لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم وكذا لا ينفع نفسا لم تكن كاسبة خيرا
في ايمانها قبل ذلك كسبها الخيرات ذلك اليوم.
3 - بددت الشئ بدا من باب قتل فرقته واستعمل مبالغة وتكثيرا وبدد الله عظامه يوم القيامة فرقها.
174

تفرقهم. وقيل: معناه إنك على المباعدة التامة من الاجتماع معهم في شئ من مذاهبهم
الفاسدة. إنما أمرهم: والحكم بينهم في اختلافهم. إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون:
بالمجازاة.
(160) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها: أي عشر حسنات أمثالها فضلا
من الله تعالى.
في المجمع: عن الصادق عليه السلام لما نزلت هذه الآية (من جاء بالحسنة فله
خير منها) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رب زدني فأنزل الله سبحانه: (من جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها) الحديث.
القمي: هذه ناسخة لقوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها).
أقول: هذا أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين، وسبع مائة،
وبغير حساب.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام أنه سئل هل للمؤمن فضل على المسلم في
شئ من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك فقال: لا، هما يجريان في ذلك مجرى واحد،
ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به إلى الله عز وجل، قيل: أليس
الله عز وجل يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)؟ وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة
والزكاة والصوم والحج مع المؤمن، قال: أليس قد قال الله: (فيضاعفه له أضعافا كثيرة)
فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله لهم حسناتهم لكل حسنة سبعين ضعفا فهذا فضل
المؤمن، ويزيده الله في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافا كثيرة، ويفعل الله بالمؤمنين ما
يشاء من الخير.
والقمي: عنه عليه السلام في هذه الآية هي للمسلمين عامة، قال: فإن لم يكن
ولاية دفع عنه بما عمل من حسنة في الدنيا (وما له في الآخرة من خلاق). ومن جاء
بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها: عدلا من الله سبحانه. وهم لا يظلمون: بنقص الثواب
وزيادة العقاب.
175

القمي: عن الصادق عليه السلام لما أعطى الله سبحانه إبليس ما أعطاه من
القوة قال آدم: يا رب سلطته على ولدي وأجريته فيهم مجرى الدم في العروق وأعطيته ما
أعطيته فما لي ولولدي؟ فقال: لك ولولدك السيئة بواحدة، والحسنة بعشر أمثالها، قال: رب
زدني، قال: التوبة مبسوطة إلى أن تبلغ النفس الحلقوم، فقال: يا رب زدني، قال: أغفر ولا
أبالي، قال: حسبي.
أقول: لعل السر في كون الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إن الجوهر
الإنساني المؤمن بطبعه مائل إلى العالم العلوي لأنه مقتبس منه، وهبوطه إلى القالب
الجسماني غريب من طبيعته، والحسنة إنما ترتقى إلى ما يوافق طبيعة ذلك الجوهر لأنها من
جنسه، والقوة التي تحرك الحجر إلى ما فوق ذراعا واحدا هي بعينها إن استعملت في
تحريكه إلى أسفل حركته عشرة أذرع وزيادة، فلذلك كانت الحسنة بعشر أمثالها إلى
سبعمأة ضعف، ومنها ما يوفى أجرها بغير حساب، والحسنة التي لا يدفع تأثيرها سمعة أو
رياء أو عجب كالحجر الذي يدور من شاهق لا يصادفه دافع لأنه لا يتقدر مقدار هويته
بحساب حتى تبلغ الغاية.
(161) قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم: بالوحي والإرشاد. دينا:
هداني دينا. قيما: فيعل من قام كالسيد والهين، وقرئ قيما بكسر القاف خفيفة الياء على
المصدر. ملة إبراهيم حنيفا: هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته (1) وما كان من
المشركين: العياشي: عن الباقر عليه السلام ما أبقت الحنيفية شيئا حتى أن منها قص
الأظفار، والأخذ من الشارب، والختان.
وعنه عليه السلام: ما من أحد من هذه الأمة يدين بدين إبراهيم غيرنا، وغير
شيعتنا. وعن السجاد عليه السلام: ما أحد على ملة إبراهيم عليه السلام إلا نحن وشيعتنا،
وسائر الناس منها براء.

1 - الحنيف: المسلم المايل إلى الدين المستقيم والجمع حنفاء والحنيف المسلم لأنه لا تحنف أي تحرى الدين
المستقيم والحنف محركة الاستقامة.
176

(162) قل إن صلاتي ونسكي: عبادتي وقرباني. ومحياي ومماتي: وما أنا عليه
في حيوتي، وأموت عليه من الأيمان والطاعة. لله رب العالمين: خالصة له.
(163) لا شريك له: لا أشرك فيها غيره. وبذلك: أي الإخلاص لله. أمرت
وأنا أول المسلمين: قيل: لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.
أقول: بل لأنه أول من أجاب في الميثاق في عالم الذر كما ورد عنهم عليهم
السلام فإسلامه متقدم على إسلام الخلايق كلهم.
العياشي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قد ذكر فيه إبراهيم
عليه السلام فقال: دينه ديني، وديني دينه، وسنته سنتي، وسنتي سنته، وفضلي فضله، وأنا
أفضل منه.
(164) قل أغير الله أبغي ربا فاشركه في عبادتي، وهو جواب عن دعائهم إلى
عبادة آلهتهم. وهو رب كل شئ: والحال إن كل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية.
ولا تكسب كل نفس: جزاء عمل من طاعة أو معصية. إلا عليها: فعليها عقاب
معصيتها، ولها ثواب طاعتها. ولا تزر وازرة وزر أخرى: لا تحمل نفس إثم نفس أخرى،
جواب عن قولهم اتبعوا سبلنا ولنحمل خطاياكم.
في العيون: عن الرضا عليه السلام إنه سئل ما تقول في حديث يروى عن
الصادق عليه السلام أنه إذا خرج القائم عليه السلام قتل ذراري قتلة الحسين عليه
السلام بفعال آبائهم فقال عليه السلام: هو كذلك. فقيل: قول الله تعالى: (ولا تزر وازرة
وزر أخرى) ما معناه قال: صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراري قتلة الحسين عليه
السلام يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومن رضي شيئا كان كمن أتاه، ولو أن رجلا
قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل وإنما
يقتلهم القائم عليه السلام إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم.
وفيه: فيما كتبه عليه السلام للمأمون من محض الإسلام وشرائع الدين ولا يأخذ
177

الله البرئ بالسقيم، ولا يعذب الله الأطفال بذنوب الآباء: (ولا تزر وازرة؟؟ أخرى).
ثم إلى ربكم مرجعكم: يوم القيامة. فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون: بتبيين الرشد من
الغي، وتميز المحق عن المبطل.
(165) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض: قيل: أي يخلف بعضكم بعضا،
كلما مضى قرن خلفهم قرن يجري ذلك على انتظام واتساق إلى يوم القيامة
أو خلفاء الله في أرضه يتصرفون فيها. ورفع بعضكم فوق بعض درجات: في الشرف،
والغنى، والعقل، وغير ذلك. ليبلوكم: ليختبركم. فيما آتيكم: من الجاه والمال كيف تشكرون
نعمه. إن ربك سريع العقاب: لمن كفر نعمه. وإنه لغفور رحيم: لمن قام بشكرها.
في الكافي، وثواب الأعمال: عن الصادق عليه السلام إن سورة الأنعام نزلت
جملة واحدة شيعها سبعون ألف ملك حتى نزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم
فعظموها وبجلوها فإن اسم الله فيها في سبعين موضعا ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما
تركوها.
والقمي: عن الرضا عليه السلام نزلت الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألف
ملك لهم زجل (1) بالتسبيح، والتهليل، والتكبير، فمن قرأها سبحوا له إلى يوم القيامة.

1 - الزجل بالتحريك الصوت يقال سحاب زجل أي ذو رعد ومنه لهم زجل بالتسبيح.
178

سورة الأعراف
مكية عدد آيها مأتان وست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) المص: قد مضى الكلام في تأويله في أول سورة البقرة.
وفي المعاني: عن الصادق عليه السلام في حديث و (المص) معناه أنا الله المقتدر الصادق.
وفيه، والعياشي: عنه عليه السلام أنه أتاه رجل من بني أمية وكان زنديقا، فقال
له: قول الله عز وجل في كتابه: (المص) أي شئ أراد بهذا؟ وأي شئ فيه من الحلال والحرام؟
وأي شئ فيه مما ينتفع به الناس؟ قال: فاغتاظ من ذلك فقال: أمسك ويحك، الألف: واحد،
واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، والصاد: تسعون، كم معك؟ فقال الرجل: مأة وواحد وستون،
فقال: إذا انقضت سنة إحدى وستين ومأة ينقضي ملك أصحابك، قال: فنظر فلما انقضت
إحدى وستين ومأة يوم عاشوراء دخل المسودة (1) الكوفة وذهب ملكهم.
(2) كتاب: هو كتاب. أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه: ضيق من تبليغه.
قيل: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف تكذيب قومه وإعراضهم عن قبول قوله،
وأذاهم له. فكان يضيق صدره في الأداء ولا ينبسط له فأمنه الله بهذه الآية وأمره بترك
مبالاته. لتنذر به: أي انزل إليك لإنذارك به. وذكرى: وتذكيرا. للمؤمنين.
(3) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم: من القرآن والوحي. ولا تتبعوا من دونه

1 - المسودة بكسر الواو أي لابسي السواد ومنه الحديث فدخلت علينا المسودة يعني أصحاب الدعوة العباسية لأنهم
كانوا يلبسون ثيابا سوداء وعيسى بن موسى أول من لبس لباس العباسيين من العلويين استحوذ عليهم الشياطين وأغمرهم
لباس الجاهلية.
179

أولياء: شياطين الأنس والجن. فيحملوكم على الأهواء والبدع، ويضلوكم عن دين الله وعما
أمرتم باتباعه. قليلا ما تذكرون: تذكرا قليلا تتذكرون، وقرء خفيفة الذال ويتذكرون،
وبالغيبة خطابا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(4) وكم من قرية: وكثيرا من القرى. أهلكناها فجاءها: فجاء أهلها. بأسنا:
عذابنا. بياتا: بايتين كقوم لوط. أو هم قائلون (1): أو هم قائلين نصف النهار كقوم شعيب يعني
أخذهم في غفلة منهم وأمن وفي وقتي دعة واستراحة.
(5) فما كان دعواهم: ما كانوا يدعونه من دينهم، أو دعائهم، واستغاثتهم. إذ
جائهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين: إلا اعترافهم ببطلانه، وبظلمهم فيما كانوا عليه،
وتحسرهم على ما كان منهم.
(6) فلنسئلن الذين أرسل إليهم: يعني الأمم عن قبول الرسالة، وإجابتهم
الرسل. ولنسئلن المرسلين: يعني الأنبياء عن تأدية ما حملوا من الرسالة.
في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث فيقام الرسل فيسألون
عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أممهم فيخبرون أنهم قد أدوا ذلك إلى أممهم، وتسأل
الأمم فيجحدون كما قال الله: (فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين).
الحديث، وقد مضى تمامه في سورة النساء عند تفسير (فكيف إذا جئنا من كل
أمة بشهيد).
(7) فلنقصن عليهم: على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم. بعلم: عالمين
بأحوالهم الظاهرة والباطنة. وما كنا غائبين: عنهم وعن أفعالهم وأحوالهم والغرض من
السؤال: التوبيخ، والتقرير عليهم، وازدياد سرور المثابين بالثناء عليهم، وغم المعاقبين باظهار
قبايحهم.
(8) والوزن يومئذ الحق أي وزن الأعمال، والتميز بين خفيفها وراجحها.

1 - قوله تعالى وأحسن مقيلا هو من القائلة وهو استكنان في وقت نصف النهار وفي التفسير إنه لا ينتصف النهار يوم
القيامة حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار بالنار.
180

القمي: قال: المجازاة بالأعمال إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا، قال: وهو قوله: (فمن
ثقلت) الآية.
فمن ثقلت موازينه: حسناته جمع موزون.
في التوحيد: عن أمير المؤمنين عليه السلام إنما يعني الحسنات توزن الحسنات
والسيئات، والحسنات ثقل الميزان، والسيئات خفة الميزان.
وفي الاحتجاج: عنه عليه السلام هي قلة الحسنات وكثرتها. فأولئك هم المفلحون:
الفائزون بالنجاة والثواب.
(9) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم: بتضييع الفطرة السليمة
التي فطرت عليها، واقتراف ما عرضها للعذاب. بما كانوا بآياتنا يظلمون: فيكذبون مكان
التصديق. القمي: قال: بالأئمة يجحدون.
في الاحتجاج: عن الصادق عليه السلام إنه سئل أوليس توزن الأعمال؟ قال: لا
لأن الأعمال ليست أجساما، وإنما هي صفة ما عملوا، وإنما يحتاج إلى وزن الشئ من جهل
عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها ولا خفتها، وإن الله لا يخفى عليه شئ، قيل: فما معنى الميزان؟ قال:
العدل قيل: فما معناه في كتابه: (فمن ثقلت موازينه)؟ قال: فمن رجح عمله.
أقول: وسر ذلك أن ميزان كل شئ هو المعيار الذي به يعرف قدر ذلك الشئ
فميزان الناس يوم القيامة: ما يوزن به قدر كل إنسان، وقيمته على حسب عقيدته وخلقه
وعمله لتجزى كل نفس بما كسبت، وليس ذلك إلا الأنبياء والأوصياء عليهم السلام إذ
بهم وباتباع شرايعهم واقتفاء آثارهم وترك ذلك، وبالقرب من سيرتهم والبعد عنها يعرف
مقدار الناس وقدر حسناتهم وسيئاتهم. فميزان كل أمة هو نبي تلك الأمة، ووصي نبيها،
والشريعة التي أتى بها، فمن ثقلت حسناته وكثرت فأولئك هم المفلحون، ومن خفت وقلت
فأولئك الذين خسروا أنفسهم بظلمهم عليها من جهة تكذيبهم للأنبياء والأوصياء أو
عدم اتباعهم.
في الكافي، والمعاني: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن قول الله عز وجل: (ونضع الموازين
181

القسط ليوم القيامة) قال: هم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام.
وفي رواية أخرى: نحن الموازين القسط. وقد حققنا معنى الميزان وكيفية وزن
الأعمال ووقفنا بين الأخبار المتعارضة في ذلك والأقوال بما لا مزيد عليه في كتابنا الموسوم
بميزان القيامة وهو كتاب جيد لم يسبق بمثله فيما أظن يوفق لمطالعته وفهمه من كان من
أهله إن شاء الله.
(10) ولقد مكناكم في الأرض: مكناكم من سكناها، وزرعها، والتصرف فيها.
وجعلنا لكم فيها معايش: تعيشون بها. قليلا ما تشكرون: فيما خلقنا لكم.
(11) ولقد خلقناكم ثم صورناكم.
القمي: عن الباقر عليه السلام أما خلقناكم: فنطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم
لحما، وأما صورناكم: فالعين، والأنف، والأذنين، والفم، واليدين، والرجلين صور هذا ونحوه، ثم
جعل الدميم، والوسيم، والجسيم، والطويل، والقصير، وأشباه هذا.
أقول: الاقتصار على بيان الخلق والتصوير لبني آدم في الحديث لا ينافي شمول
الآية لآدم لأنه خلقه طينا غير مصور ثم صوره، فلا ينافي الحديث تمام الآية. ثم قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم: أي بعد خلق آدم وتصويره. فسجدوا إلا إبليس لم يكن من
الساجدين: ممن سجد لآدم.
(12) قال ما منعك ألا تسجد: أي أن تسجد ويزاد - لا - في مثله لتأكيد معنى الفعل
الذي دخلت عليه نظيره لئلا يعلم، وفيه تنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل:
الممنوع عن الشئ مضطر إلى خلافه فكأنه قيل: ما اضطرك إلى أن لا تسجد؟ إذ أمرتك
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين: في الكافي: عن الصادق عليه السلام أن
إبليس قاس نفسه بآدم فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فلو قاس الجوهر الذي خلق
الله منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نورا وضيئا من النار. وعنه عليه السلام: أن الملائكة
كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم فاستخرج ما في نفسه من
الحمية فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين).
182

وفي الكافي، والاحتجاج، والعلل: عنه عليه السلام أنه دخل عليه أبو حنيفة فقال له:
يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس، قال: نعم أنا أقيس، قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس
حين قال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم
بنورية النار عرف فضل ما بين النورين، وصفاء أحدهما على الآخر.
وعنه عليه السلام في حديث طويل: إن أول معصية ظهرت: الأنانية من إبليس
اللعين، حين أمر الله ملائكته بالسجود لآدم فسجدوا وأبى اللعين أن يسجد، فقال الله عز
وجل: (ما منعك ألا تسجد)؟ الآية فطرده الله عز وجل عن جواره، ولعنه وسماه رجيما، وأقسم
بعزته لا يقيس أحد في دينه إلا قرنه مع عدوه إبليس في أسفل درك من النار.
والقمي: عنه عليه السلام كذب إبليس ما خلقه الله إلا من طين، قال الله عز وجل:
(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) قد خلقه الله من تلك الشجرة، والشجرة أصلها
من طين.
(13) قال فاهبط منها: من المنزلة التي أنت عليها في السماء، وزمرة الملائكة. فما يكون
لك: فما يصح لك. أن تتكبر فيها: وتعصي فإنها مكان الخاشع المطيع. قيل: فيه تنبيه على أن
التكبر لا يليق بأهل الجنة، وأنه تعالى إنما طرده وأهبطه للتكبر لا لمجرد عصيانه، قال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله. فاخرج إنك من
الصاغرين: ممن أهانه الله تعالى لكبره.
(14) قال أنظرني إلى يوم يبعثون: أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني، ولا تعجل
عقوبتي.
(15) قال إنك من المنظرين: أجابه الله إلى ما سأله من الإمهال، ولم يجبه إلى ما سأله
من غايته، لأن الله يقول في موضع آخر: (فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم)، وهو
النفخة الأولى، ويوم البعث والقيامة: هو النفخة الثانية. في العلل: عن الصادق عليه السلام
يموت إبليس ما بين النفخة الأولى والثانية.
والعياشي: عنه عليه السلام أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا، ويأتي الخبران في سورة
183

الحجر إن شاء الله تعالى، وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته.
(16) قال فبما أغويتني: أي فبسبب إغوائك إياي وهو تكليفه إياه ما وقع به في
الغي ولم يثبت كما ثبتت الملائكة فإنه لما أمره الله بالسجود حملته الأنفة على معصيته.
لأقعدن لهم صراطك المستقيم: لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت
بسببهم بأن أترصد لهم على طريق الإسلام كما يترصد القطاع على الطريق ليقطعه على
المارة.
العياشي: عن الصادق عليه السلام الصراط هنا: علي عليه السلام.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام يا زرارة إنما عمد لك ولأصحابك، فأما
الآخرون فقد فرغ منهم. وفي رواية العياشي: عنه عليه السلام إنما صمد (1).
(17) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم: من
الجهات الأربع جمع.
في المجمع: عن الباقر عليه السلام: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) معناه أهون عليهم
أمر الآخرة (ومن خلفهم) أمرهم بجمع الأموال، والبخل بها عن الحقوق، لتبقى لورثتهم
(وعن أيمانهم) أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة (وعن شمائلهم)
بتحبيب اللذات إليهم، وتغليب الشهوات على قلوبهم (2) والقمي: ما يقرب منه ببيان أبسط.
ولا تجد أكثرهم شاكرين: مطيعين قاله تظننا لقوله سبحانه: (ولقد صدق عليهم إبليس
ظنه). (18) قال اخرج منها مذؤما: مذموما من ذأمه إذا ذمه. مدحورا: مطرودا. لمن تبعك

1 - يصمد في الحوائج يقصد والصمد القصد يقال صمده يصمده صمدا.
2 - قيل المعنى من قبل دنياهم وآخرتهم ومن جهة حسناتهم وسيئاتهم عن ابن عباس وتلخيصه إني أزين لهم الدنيا
وأخوفهم بالفقر وأقول لهم لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب واثبطهم عن الحسنات واشغلهم عنها واحبب إليهم السيئات
وأحثهم عليها قال ابن عباس وإنما لم يقل من فوقهم لان فوقهم جهة نزول الرحمة من السماء فلا سبيل له إلى ذلك ولم يكن
من تحت أرجلهم لان الاتيان به يوحش انتهى وإنما دخلت من في القدام الخلف وعن في اليمين والشمال لان في القدام
والخلف معنى طلب النهاية وفي اليمين والشمال الانحراف عن الجهة.
184

منهم: اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه. لأملأن جهنم منكم أجمعين: أي منك ومنهم فغلب
المخاطب.
القمي: عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: اخرج منها فإنك رجيم وإن عليك
لعنتي إلى يوم الدين فقال إبليس: يا رب فكيف وأنت العدل الذي لا يجور فثواب عملي
بطل؟ قال: لا، ولكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثوابا لعملك أعطك، فأول ما سئل: البقاء
إلى يوم الدين، فقال الله: قد أعطيتك، قال: سلطني على ولد آدم، قال: سلطتك، قال: أجرني
فيهم مجرى الدم في العروق، قال: قد أجريتك، قال: لا يولد لهم ولد إلا ولد لي اثنان، وأراهم
ولا يروني، وأتصور لهم في كل صورة شئت، فقال: قد أعطيتك، قال: يا رب زدني قال: قد
جعلت لك ولذريتك في صدورهم أوطانا، قال: يا رب حسبي، قال إبليس عند ذلك: (فبعزتك
لأغوينهم إلى قوله (شاكرين)، قيل له: جعلت فداك بماذا استوجب إبليس من الله أن أعطاه
ما أعطاه؟ فقال: بشئ كان منه شكره الله عليه، قيل: وما كان منه جعلت فداك؟ قال: ركعتين
ركعهما في السماء في أربعة آلاف سنة.
(19) ويا آدم: وقلنا يا آدم. اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا
تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين: قد مضى تفسيرها في سورة البقرة.
(20) فوسوس لهما الشيطان الفرق بين وسوس إليه ووسوس له: أن الأول: بمعنى
الأصل: الصوت الخفي. ليبدي لهما: ليظهر لهما. ما وري (1): غطي. عنهما من سوآتهما: عوراتهما.
قيل: وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وقال ما نهاكما ربكما عن هذه
الشجرة إلا أن تكونا: كراهة أن تكونا. ملكين أو تكونا من الخالدين.
(21) وقاسمهما: أقسم لهما. إني لكما لمن الناصحين.
(22) فدليهما: فدلاهما إلى الأكل من الشجرة، نبه به على أنه أهبطهما بذلك من درجة
عالية إلى رتبة سافلة، فإن التدلية والأدلاء: إرسال الشئ من أعلى إلى أسفل. بغرور: بما

1 - قيل تكتب بواو واحدة وتلفظ بواوين مثل داود.
185

غرهما به من القسم. فإنهما ظنا أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا فلما ذاقا الشجرة بدت لهما
سوآتهما: فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة فتهافت عنهما لباسهما
وظهرت لهما عوراتهما.
القمي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام كانت سوآتهما لا تبدو لهما فبدت،
يعني كانت داخلة. وطفقا يخصفان (1): وأخذا يرقعان (2) ويلزقان ورقة فوق ورقة. عليهما من
ورق الجنة: يغطيان سوآتهما به.
القمي: عن الصادق عليه السلام لما أسكنه الله الجنة وأباحها له إلا الشجرة
لأنه خلق الله خلقة لا تبقى إلا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والأكنان (3) والتناكح ولا
يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوقيف فجائه إبليس فقال له: إنكما إن أكلتما من هذه
الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبدا وإن لم تأكلا منها
أخرجكما من الجنة، وحلف لهما أنه لهما ناصح، فقبل آدم عليه السلام قوله فأكلا من
الشجرة وكان الأمر كما حكى الله (بدت لهم سوآتهما)، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من
لباس الجنة، وأقبلا يستران من ورق الجنة. وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة
وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين: عتاب على مخالفة النهي، وتوبيخ على الاغترار
بقول العدو.
(23) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين.
(24) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع
إلى حين قد مضى تفسيرها مع تمام القصة في سورة البقرة.

1 - أي يلزقان بعضه على بعض ليسترا به عورتهما من الخصف وهم ضم الشئ إلى الشئ والالصاق به.
2 - رقع الثوب أصلحه بالرقاع.
3 - الكن بالكسر وقا كل شئ وستره كالكنة والكنان بكسرهما والبيت ج اكنان واكنة.
186

(25) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون: بالجزاء للجزاء، وقرء بفتح
التاء.
(26) يا بني آدم: العياشي: عنهما عليهما السلام قالا: هي عامة. قد أنزلنا
عليكم لباسا يوارى سوآتكم: ويغنيكم عن خصف الورق. وريشا: تتجملون به،
والريش ما يتجمل به، استعير من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته. ولباس (1) التقوى: خشية
الله ذ لك خير: وقرء لباس بالنصب.
القمي: قال: لباس التقوى ثياب البياض.
وعن الباقر عليه السلام: وأما اللباس: فالثياب التي تلبسون، وأما الرياش:
فالمتاع والمال، وأما لباس التقوى: فالعفاف، إن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عاريا
من الثياب، والفاجر: بادي العورة وإن كان كاسيا من الثياب، (ذلك خير)، يقول: والعفاف
خير. ذلك: أي انزال اللباس. من آيات الله: الدالة على فضله ورحمته. لعلهم يذكرون:
فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبايح.
(27) يبنى آدم لا يفتننكم الشيطان: لا يمتحننكم بأن يمنعكم دخول الجنة
باغوائكم، والمعنى نهيهم عن اتباعه والافتتان به. كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع
عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما أسند النزع إليه للتسبب. إنه يريكم هو وقبيله من
حيث لا ترونهم: تعليل للنهي، وتأكيد للتحذير من فتنته، وقبيله: جنوده، وفي الحديث: أن
الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم. إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا
يؤمنون: لما بينهم من التناسب.
(28) وإذا فعلوا فاحشة: فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم، والائتمام بإمام
الجور، والطواف بالبيت عريانا. قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر
بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون:

1 - قوله ولباس التقوى خشية الله وقيل السمت الحسن وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره ذلك خيرا أو خير
وذلك صفته كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ولباس بالنصب عطفا على لباسا.
187

القمي: قال الذين عبدوا الأصنام فرد الله عليهم.
وفي الكافي: مضمرا، والعياشي: عن عبد صالح قال: هل رأيت أحدا زعم أن
الله أمرنا بالزنا وشرب الخمر وشئ من هذه المحارم؟ فقيل: لا، قال: ما هذه الفاحشة التي
يدعون أن الله أمرهم بها؟ قيل: الله أعلم ووليه، فقال: فإن هذا في أئمة الجور ادعوا أن الله
أمرهم بالايتمام بقوم لم يأمرهم الله بالايتمام بهم فرد الله ذلك عليهم فأخبر أنهم قد قالوا
عليه الكذب، وسمى ذلك منهم فاحشة. والعياشي: عن الصادق عليه السلام قال: من زعم
أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر إليه فقد كذب على
الله.
(29) قل أمر ربى بالقسط: بالعدل والاستقامة. وأقيموا وجوهكم: توجهوا إلى
عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها أو أقيموها نحو القبلة. عند كل مسجد: في كل
وقت سجودا، وفي كل مكان سجود، وهو الصلاة.
في التهذيب: عن الصادق عليه السلام هذه في القبلة. وعنه عليه السلام:
مساجد محدثة فأمروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام.
والعياشي: مثل الحديثين، وزاد في الأول ليس فيها عبادة الأوثان خالصا مخلصا،
وعنه عليه السلام: عند كل مسجد: يعني الأئمة. وادعوه: واعبدوه. مخلصين له الدين: أي
الطاعة فإن إليه مصيركم. كما بدأكم: كما أنشأكم ابتداءا تعودون: بإعادته فيجازيكم على
أعمالكم.
القمي: عن الباقر عليه السلام في هذه الآية خلقهم حين خلقهم مؤمنا وكافرا
وسقيا وسعيدا، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتد وضال.
(30) فريقا هدى: بأن وفقهم للأيمان. وفريقا حق عليهم الضلالة: أي
الخذلان إذ لم يقبلوا الهدى فضلوا. إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله:
أطاعوهم فيما أمروهم به. ويحسبون أنهم مهتدون.
القمي: وكأنه تمام الحديث السابق، وهم القدرية: الذين يقولون لا قدر، ويزعمون
188

إنهم قادرون على الهدى والضلال، وذلك إليهم إن شاؤوا اهتدوا وإن شاؤوا ضلوا، وهم مجوس
هذه الأمة وكذب أعداء الله المشيئة والقدرة لله (كما بدأهم يعودون) من خلقه شقيا يوم
خلقه كذلك يعود إليه، ومن خلقه سعيدا يوم خلقه كذلك يعود إليه سعيدا، قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: الشقي: من شقي في بطن أمه، والسعيد: من سعد في بطن أمه.
وفي العلل: عنه عليه السلام: أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله يعني
أئمة دون أئمة الحق.
(31) يبنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد: القمي: قال: في العيدين،
والجمعة يغتسل ويلبس ثيابا بيضا.
وروى أيضا: المشط عند كل صلاة.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام يعني في العيدين والجمعة.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام أي خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة
في الجمعات والأعياد.
والعياشي: عن الرضا عليه السلام هي الثياب.
وعن الصادق عليه السلام: هي الأردية في العيدين والجمعة.
وفي الجوامع، والعياشي: كان الحسن بن علي عليهما السلام إذا قام إلى الصلاة
لبس أجود ثيابه فقيل له: في ذلك، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، فأتجمل لربي، وقرء الآية.
وفي الفقيه: عن الرضا عليه السلام: من ذلك التمشط عند كل صلاة.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام مثله.
وفي الخصال: عنه عليه السلام في هذه الآية تمشطوا فإن التمشط يجلب الرزق،
ويحسن الشعر، وينجز الحاجة، في ماء الصلب، ويقطع البلغم، وكان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يسرح تحت لحيته أربعين مرة ويمر فوقها سبع مرات، ويقول: إنه يزيد في
الرزق ويقطع البلغم.
189

وفي التهذيب: عنه عليه السلام في هذه الآية قال: الغسل عند لقاء كل إمام.
والعياشي: عنه عليه السلام يعني الأئمة عليهم السلام. وقيل: هو أمر بلبس
الثياب في الصلاة والطواف وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نعبد في ثياب أذنبنا فيها.
القمي: أن أناسا كانوا يطوفون عراة بالبيت الرجال بالنهار والنساء بالليل.
فأمرهم الله بلبس الثياب، وكانوا لا يأكلون إلا قوتا فأمرهم الله أن يأكلوا ويشربوا ولا
يسرفوا.
أقول: يعني في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم وكلوا واشربوا: ما طاب
لكم. ولا تسرفوا: بالإفراط والإتلاف، وبالتعدي إلى الحرام، وبتحريم الحلال، وغير ذلك. قيل: (1)
لقد جمع الله الطب في نصف آية فقال: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا). وهو ناظر إلى الإفراط في
الأكل، وهو مذموم في أخبار كثيرة. إنه لا يحب المسرفين: لا يرضى فعلهم.
العياشي: عن الصادق عليه السلام قال: أترى الله أعطى من أعطى من كرامته
عليه، ومنع من منع من هوان به عليه، لا ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودايع
وجوز لهم أن يأكلوا قصدا، ويشربوا قصدا، ويلبسوا قصدا، وينكحوا قصدا، ويركبوا قصدا،
ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، ويلموا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان ما يأكل
حلالا، ويشرب حلالا، ويركب حلالا، وينكح حلالا، ومن عدا ذلك كان عليه حراما، ثم
قال: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) أترى الله إئتمن رجلا على مال خول (1) له أن يشتري
فرسا بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرس بعشرين درهما ويشتري جارية بألف دينار
ويجزيه بعشرين دينارا، وقال: (لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). وعنه عليه السلام: قال: من
سأل الناس شيئا وعنده ما يقوته يومه فهو من المسرفين.

1 - وقد حكى ان الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن راقد ليس في كتابكم من
علم الطب شئ والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له علي قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه وهو
قوله كلوا واشربوا ولا تسرفوا وجمع نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الطب في قوله: المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء واعط كل بدن ما
عودته فقال الطبيب ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.
2 - خوله اله امال أعطاه إياه متفضلا.
190

(32) قل من حرم زينة الله: من الثياب وسائر ما يتجمل به. التي أخرج
لعباده: من الأرض كالقطن والكتان والإبريسم والصوف والجواهر. والطيبات من
الرزق: المستلذات من المآكل والمشارب، وهو إنكار لتحريم هذه الأشياء.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام بعث أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله
بن العباس إلى ابن الكوا وأصحابه، وعليه قميص رقيق وحلة، فلما نظروا إليه، قالوا: يا
ابن عباس أنت خيرنا في أنفسنا وأنت تلبس هذا اللباس؟ فقال: وهذا أول ما
أخاصمكم فيه (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) وقال الله:
(خذوا زينتكم عند كل مسجد).
والعياشي: عنه عليه السلام ما في معناه.
وفي الكافي: عنه عليه السلام أنه رآه سفيان الثوري وعليه ثياب كثيرة القيمة
حسان، فقال: والله لآتينه ولأوبخنه فدنا منه، فقال: يا ابن رسول الله ما لبس رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذا اللباس ولا علي عليه السلام ولا أحد من آبائك، فقال
له كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمان قتر (1) مقتر وكان يأخذ لقتره واقتاره
وأن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها (2) فأحق أهلها بها ابرارها ثم تلا: (قل من حرم زينة الله)
الآية فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله غير أني يا ثوري ما ترى علي من ثوب
إنما لبسته للناس، ثم اجتدب يد سفيان فجرها إليه، ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوبا
تحت ذلك على جلده غليظا، فقال: هذا لبسته لنفسي وما رأيته للناس، ثم جذب ثوبا على
سفيان أعلاه غليظ خشن وداخل ذلك الثوب ثوب لين، فقال: لبست هذا الأعلى للناس،
ولبست هذا لنفسك تسرها.

1 - قتر قترا وقتورا من بابي ضرب وقعد ضيق عليه في النفقة ومنه قتر على عياله إذا ضيق عليهم وأفتر اقتارا وقتر
تقتيرا مثله.
3 - في الحديث فأرسلت السماء عزاليها أي أفواهها والعزالي بفتح اللام وكسرها جمع العزلاء مثل الحمراء وهرفم
المزادة فقوله أرسلت السماء عزاليها يريد شدة وقع المطر على التشبيه نزوله من أفواه المزادة ومثله وان الدنيا بعد ذلك أرخت
عزاليها.
191

وعنه عليه السلام: أنه كان متكئا على بعض أصحابه فلقيه عباد بن كثير
وعليه ثياب مروية حسان، فقال: يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت نبوة، وكان أبوك، (1)
وكان فما لهذه الثياب المروية عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب، المروية عليك
فقال له ويلك يا عباد من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق) إن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يراها عليه ليس بها بأس، ويلك
يا عباد إنما أنا بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تؤذوني، وكان عباد
يلبس ثوبين من قطن.
وعنه عليه السلام: أنه قيل له: أصلحك الله ذكرت أن علي بن أبي طالب عليه
السلام كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك
اللباس الجيد؟ فقال له إن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يلبس ذلك في زمان لا
ينكر، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا
إذا قام لبس لباس علي وسار بسيرته.
أقول: وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه علل خشونة
مطعمه وملبسه بأن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا
يتبيغ (2) بالفقير فقره. قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا: بالأصالة وأما مشاركة الكفار
لهم فيها فتبع. خالصة يوم القيامة: لا يشاركهم فيها غيرهم، وقرء بالرفع.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام بعد أن ذكر أنهار الأرض فما سقت
واستقت فهو لنا، وما كان لنا فهو لشيعتنا وليس لعدونا منه شئ إلا ما غصب عليه، وإن
ولينا لفي أوسع فيما بين ذه وذه يعني فيما بين السماء والأرض، ثم تلا هذه الآية: (قل هي
للذين آمنوا في الحياة الدنيا) المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب.

1 - وكان أبوك وكان يعني كان زاهدا وكان يلبس الخشن وكان تاركا لنعم الدنيا يعني بأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي
بعض النسخ قطوتين مكان قطن في آخر الحديث وهو بالمهملة ضرب من البرود منه.
2 - في الحديث ان الله فرض على أئمة العدل (الخ) اي تهيج به تبيغ عليه الامر اختلط والدم هاج وغلب واللبن
كثر.
192

وفي الأمالي: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث واعلموا يا عباد الله أن
المتقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا
في آخرتهم أباحهم الله في الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله: (قل من حرم زينة الله
الآية، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت. شاركوا أهل الدنيا في
دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من
أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وتزوجوا من أفضل ما يتزوجون،
وركبوا من أفضل ما يركبون، وأصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غدا جيران الله
يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة فإلى
هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل. كذ لك نفصل الآيات لقوم يعلمون: أي
كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لهم.
(33) قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير
الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
في الكافي، والعياشي: عن الكاظم عليه السلام فأما قوله: (ما ظهر منها) يعني الزنا
المعلن، ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر الفواحش في الجاهلية، وأما قوله عز
وجل: (وما بطن) يعني ما نكح من أزواج الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي
صلى الله عليه وآله إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن
أمه فحرم الله عز وجل ذلك، وأما (الإثم) فإنها الخمر بعينها، وقد قال الله عز وجل في
موضع آخر: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس) فأما الإثم في
كتاب الله: فهي الخمر والميسر، وإثمهما كبير.
وزاد العياشي بعد قوله: (والميسر) أخيرا فهي النرد، قال: (وإثمهما كبير) وأما قوله:
(والبغي) فهي الزنا سرا.
أقول: وربما يعمم الفواحش لكل ما تزايد قبحه ما علن منها، وما خفي،
ويعمم الإثم لكل ذنب، ويفسر البغي بالظلم والكبر ويجعل بغير الحق تأكيدا، وما لم ينزل
193

به سلطانا تهكما إذ لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام إن القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرم
الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك: أئمة الجور، وجميع ما أحل الله في الكتاب هو
الظاهر، والباطن من ذلك: أئمة الحق. وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون: أي تتقولوا
وتفتروا.
وفي الخصال: عنه عليه السلام إياك وخصلتين فيهما هلك من هلك، إياك أن
تفتي الناس برأيك، وتدين بما لا تعلم. وفي رواية أخرى: أن تدين الله بالباطل، وتفتي
الناس بما لا تعلم.
وفيه، وفي التوحيد عن الباقر عليه السلام أنه سئل ما حجة الله على العباد؟
فقال: أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عندما لا يعلمون.
وفي الفقيه: عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه محمد بن الحنفية: يا
بني لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم.
وفي العيون: عنه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أفتى
الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض.
(34) ولكل أمة أجل: مدة أو وقت لنزول الموت والعذاب. فإذا جاء أجلهم:
انقرضت مدتهم أو حان وقتهم. لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون: العياشي: عن
الصادق عليه السلام هو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر (1).
وفي الكافي: عنه عليه السلام تعد السنين ثم تعد الشهور، ثم تعد الأيام، ثم تعد
النفس (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
(35) يا بني آدم أما يأتينكم: ضمت - ما - إلى إن الشرطية تأكيدا لمعنى الشرط.
رسل منكم: من جنسكم. يقصون عليكم آياتي فمن اتقى: التكذيب منكم. وأصلح:

1 - لعل مرجع الضمير المستتر الملائكة الموكلون بالآجال وهم ملك الموت وأعوانه المعبر عنهم بالرسل.
194

عمله. فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(36) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون: قيل: إدخال - الفاء - في الجزاء الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد، والمسامحة في
الوعيد.
(37) فمن أظلم: أشنع ظلما. ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته: تقول
عليه ما لم يقله أو كذب ما قاله. أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب: مما كتبت لهم من
الأرزاق والآجال.
والقمي: أي ينالهم ما في كتابنا من عقوبات المعاصي. حتى إذا جاءتهم رسلنا
يتوفونهم: (حتى) غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم إياه أي إلى وقت وفاتهم، وهي التي يبتدأ
بعدها الكلام، والمراد بالرسل هنا: ملك الموت وأعوانه. قالوا: أي الرسل. أين ما كنتم
تدعون من دون الله: أي الآلهة التي تعبدونها. قالوا ضلوا عنا: غابوا عنا. وشهدوا على
أنفسهم أنهم كانوا كافرين: اعترفوا بأنهم لم يكونوا على شئ فيما كانوا عليه.
(38) قال: أي قال الله تعالى لهم ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم: كائنين في
جملة أمم مصاحبين لهم. من الجن والإنس: يعني كفار الأمم الماضية من النوعين. في النار:
متعلق بادخلوا كلما دخلت أمة: في النار. لعنت أختها: التي ضلت بالاقتداء بها. حتى إذا
أداركوا (1) فيها جميعا: أي تداركوا وتلاحقوا في النار.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام في حديث برأ بعضهم من بعض، ولعن بعضهم
بعضا، يريد بعضهم أن يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، وليس بأوان
بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة، ولات حين نجاة. قالت أخراهم: منزلة وهم الأتباع
والسفلة. لأولاهم: منزلة أي لأجلهم إذ الخطاب مع الله لا معهم، وهم القادة والرؤساء.

1 - أدرك بعضهم بعضا أي خاصمه وجادله رجاء الفلج محركة أي الفوز والتخلص من العذاب فيفلتوا أي يطر
عقلهم بغتة ويزلون ويسلب تدبيرهم فلا يهتدون سبيلا.
195

في المجمع: عن الصادق عليه السلام يعني أئمة الجور. ربنا هؤلاء أضلونا: دعونا إلى
الضلال وحملونا عليه. فاتهم عذابا ضعفا من النار: مضاعفا لأنهم ضلوا وأضلوا. قال لكل
ضعف: أما القادة فبكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم. ولكن لا
تعلمون: ما لكل، وقرء بالياء على الانفصال.
(39) وقالت أوليهم لأخراهم: مخاطبين لهم. فما كان لكم علينا من فضل: عطفوا
كلامهم على قول الله سبحانه للأتباع لكل ضعف، أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا،
وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق الضعف. فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون:
القمي: قال: شماتة بهم.
(40) إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها: أي عن الأيمان بها. لا تفتح لهم
أبواب السماء: لأدعيتهم وأعمالهم، ولنزول البركة عليهم، ولصعود أرواحهم إذا ماتوا.
في المجمع: عن الباقر عليه السلام أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى
السماء فتفتح لهم أبوابها، وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى
مناد اهبطوا إلى سجين، وهو واد بحضرموت (1) يقال له: برهوت (2) ولا يدخلون الجنة
حتى يلج الجمل في سم الخياط: أي لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا من
ولوج الجمل الذي لا يلج إلا في باب واسع في ثقب الأبرة. وكذلك: مثل ذلك الجزاء
الفضيع. نجزى المجرمين.
(41) لهم من جهنم مهاد: فراش. ومن فوقهم غواش: أغطية. وكذلك نجزى
الظالمين.
(42) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها: اعتراض بين
المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب النعيم المقيم بما يسعه طاقتهم ويسهل عليهم. أولئك

1 - حضرموت بضم الميم بلد وقبيلة ويقال هذا حضرموت ويضاف فيقال حضرموت بضم الراء وان شئت لا تنون
الثاني والتصغير حضيرموت.
2 - برهوت محركة وبالضم بئرا وواد أو بلد.
196

أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
(43) ونزعنا ما في صدورهم من غل: على إخوانهم في الدنيا فسلمت قلوبهم
وطهرت من الحقد والحسد والشحناء، ولم يكن منهم إلا التعاطف والتراحم والتواد.
القمي: عن الباقر عليه السلام العداوة تنزع منهم أي من المؤمنين في الجنة. تجرى
من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدينا الله: في
الكافي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية إذا كان يوم القيامة دعي بالنبي
وأمير المؤمنين، وبالأئمة عليهم السلام فينصبون للناس فإذا رأتهم شيعتهم قالوا: (الحمد
لله الذي هدانا لهذا) الآية، في ولاية أمير المؤمنين، والأئمة عليهم السلام من ولده. لقد
جاءت رسل ربنا بالحق: فاهتدينا بإرشادهم، يقولون ذلك: اغتباطا وتبجحا (1) إذ صار علم
يقينهم في الدنيا عين يقينهم في الآخرة. ونودوا أن تلكم الجنة: إذا رأوها. أورثتموها بما كنتم
تعملون.
في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما من أحد إلا وله منزل في الجنة
ومنزل في النار، فأما الكافر فيرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من
الجنة فذلك قوله: (أورثتموها بما كنتم تعملون).
(44) ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل
وجدتم ما وعد ربكم حقا: قالوا: تبجحا بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وتحسرا لهم، وإنما
لم يقل: ما وعدكم كما قال: ما وعدنا لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا وعده
بهم كالبعث والحساب ونعيم الجنة لأهلها. قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن: وقرء - أن -
بالتشديد. لعنة الله على الظالمين:
في الكافي، والقمي: عن الكاظم، والعياشي: عن الرضا عليهما السلام المؤذن:
أمير المؤمنين وزاد القمي يؤذن أذانا يسمع الخلائق.

1 - البجح بتقديم الباء ثم الجيم ثم الحاء محركة الفرح.
197

وفي المجمع، والمعاني: عن أمير المؤمنين عليه السلام أنا ذلك المؤذن.
(45) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم عوجا: زيغا وميلا عما هو عليه. وهم
بالآخرة كافرون.
(46) وبينهما حجاب: أي بين الفريقين لقوله: (فضرب بينهم بسور) أو بين الجنة
والنار ليمنع وصول إحداهما إلى الأخرى. وعلى الأعراف: أعراف الحجاب أي أعاليه. رجال:
من الموحدين العارفين المعروفين. يعرفون كلا: من أهل الجنة والنار. بسيماهم: بعلامتهم
التي أعلمهم الله بها لأنهم من المتوسمين أهل الفراسة.
في المجمع، والجوامع: عن أمير المؤمنين عليه السلام نحن نوقف يوم القيامة بين
الجنة والنار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه
فأدخلناه النار.
وفيهما، والقمي: عن الصادق عليه السلام الأعراف: كثبان (1) بين الجنة والنار،
والرجال: الأئمة ويأتي تمام الحديث.
وفي الكافي: عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الآية نحن على الأعراف نعرف
أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا، ونحن
الأعراف يوقفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا
وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه.
ومثله في البصاير، والاحتجاج: إلا أنه قال: نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فلا
يدخل الجنة الحديث..
وزاد في آخره وذلك بأن الله تبارك وتعالى لو شاء عرف الناس نفسه حتى يعرفوا حده
ويأتوه من بابه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله، وبابه الذي يؤتى منه.

1 - انكثب الرمل أي اجتمع وكل ما انصب في شئ فقد انكثب فيه ومنه سمي الكثيب من الرمل لأنه انصب في
مكان واجتمع فيه والجمع الكثبان وهي تلال الرمل.
198

والعياشي: ما يقرب منه.
وعن سلمان: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول لعلي عليه
السلام: أكثر من عشر مرات يا علي إنك والأوصياء من بعدك أعراف بين الجنة والنار، ولا
يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه، ولا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه.
وعن الباقر عليه السلام: هم آل محمد عليهم السلام لا يدخل الجنة إلا من عرفهم
وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه.
ورواه في المجمع أيضا. وفي البصائر: عنه عليه السلام الرجال: هم الأئمة من آل
محمد عليهم السلام، والأعراف: صراط بين الجنة والنار، فمن شفع له الأئمة منا من
المؤمنين المذنبين نجا، ومن لم يشفعوا له هوى فيه.
وعنه عليه السلام: قال: نحن أولئك الرجال، الأئمة منا يعرفون من يدخل النار، ومن
يدخل الجنة كما تعرفون في قبايلكم الرجل منكم يعرف من فيها من صالح أو طالح.
والأخبار في هذا المعنى كثيرة وزاد في بعضها لأنهم عرفاء العباد عرفهم الله إياهم عند
أخذ المواثيق عليهم بالطاعة فوضعهم في كتابه فقال: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا
بسيماهم) وهم الشهداء على الناس والنبيون شهداؤهم بأخذهم (1) لهم مواثيق العباد
بالطاعة.
والقمي: عن الصادق عليه السلام كل أمة يحاسبها إمام زمانها ويعرف الأئمة
أولياءهم وأعداءهم بسيماهم وهو قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)
فيعطوا (2) أوليائهم كتابهم بيمينهم فيمروا إلى الجنة بلا حساب، ويعطوا أعدائهم كتابهم
بشمالهم فيمروا إلى النار بلا حساب.
وفي البصائر، والقمي: عن الباقر عليه السلام إنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال:

1 - أي بأخذ النبيين للأئمة عليهم السلام.
2 - سقوط النون من يعطوا وما بعده من الافعال لعله من جهة انجزامها جوابا لشرط مقدر أي إذا عرفوا وحوسبوا
فيعطوا.
199

إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الأعمال وأنهم لكما قال الله عز
وجل.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عنهم فقال: قوم استوت حسناتهم
وسيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته.
وفي رواية العياشي: وإن أدخلهم الله الجنة فبرحمته وإن عذبهم لم يظلمهم.
أقول: لا منافاة بين هاتين الروايتين، وبين ما تقدمهما من الأخبار كما زعمه
الأكثرون، لأن هؤلاء القوم يكونون مع الرجال الذين على الأعراف وكلاهما أصحاب
الأعراف، يدل على ما قلناه صريحا حديث الجوامع.
والقمي، والآيتان في آخر هذه الآيات فإنهما يدلان على أنه يكون على الأعراف
الأئمة مع مذنبي أهل زمانهم من شيعتهم، والوجه في إطلاق لفظ الأعراف على الأئمة كما
ورد في عدة من الأخبار التي سبقت: أن الأعراف إن كان اشتقاقها من المعرفة فالأنبياء
والأوصياء هم العارفون والمعروفون والمعرفون الله والناس للناس في هذه النشأة وإن كان
من العرف (1) بمعنى المكان العالي المرتفع فهم الذين من فرط معرفتهم وشدة بصيرتهم
كأنهم في مكان عال مرتفع ينظرون إلى سائر الناس في درجاتهم ودركاتهم ويميزون
السعداء عن الأشقياء على معرفة منهم بهم وهم بعد في هذه النشأة، وكذلك بعض من
سار سيرتهم من شيعتهم كما يدل عليه حديث حارثة بن النعمان الذي كان ينظر إلى أهل
الجنة يتزاورون في الجنة، وإلى أهل النار يتعاوون في النار وكان بعد في الدنيا، وحديثه
مروي في الكافي ونادوا: يعني ونادى أصحاب الأعراف أريد بهم من كان من الأئمة
عليهم السلام على الأعراف من مذنبي شيعتهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم.
أصحاب الجنة أن سلام عليكم: أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم. لم يدخلوها وهم
يطمعون.

1 - العرف الرمل والمكان المرتفعان ويضم راؤه كالعرفة بالضم.
200

(47) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا: تعوذا بالله. ربنا لا تجعلنا
مع القوم الظالمين: أي في النار.
وفي المجمع: أن في قراءة الصادق عليه السلام قالوا ربنا عائذا بك أن تجعلنا مع
القوم الظالمين.
(48) ونادى أصحاب الأعراف: أي الأئمة. رجالا يعرفونهم بسيماهم: من رؤساء
الكفار. قالوا ما أغنى عنكم جمعكم: في الدنيا. وما كنتم تستكبرون: عن الحق.
(49) أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة: من تتمة قول الأئمة للرجال
والإشارة إلى شيعتهم الذين كانوا معهم على الأعراف الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في
الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة. ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون:
أي فالتفتوا إلى أصحابهم، وقالوا لهم: ادخلوها لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
في الجوامع: عن الصادق عليه السلام الأعراف كثبان بين الجنة والنار يوقف عليها
كل نبي وكل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء
من جنده وقد سبق المحسنون إلى الجنة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه
انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا إلى الجنة فيسلم عليهم المذنبون وذلك قوله:
(سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) أن يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم والأمام عليه السلام وينظر هؤلاء إلى أهل النار فيقولون: (ربنا لا تجعلنا
مع القوم الظالمين).
وينادي أصحاب الأعراف وهم الأنبياء والخلفاء رجالا من أهل النار ورؤساء
الكفار يقولون لهم: مقرعين (ما أغنى عنكم جمعكم) واستكباركم (أهؤلاء الذين أقسمتم لا
ينالهم الله برحمة) إشارة لهم إلى أهل الجنة الذين كان الرؤساء يستضعفونهم ويحتقرونهن
بفقرهم، ويستطيلون عليهم بدنياهم، ويقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة (ادخلوا الجنة)
يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين: عن أمر من أمر الله عز وجل لهم بذلك:
(ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) أي لا خائفين ولا محزونين.
201

والقمي: عنه عليه السلام الأعراف: كثبان بين الجنة والنار، والرجال: الأئمة عليهم
السلام يقفون على الأعراف مع شيعتهم، وقد سبق المؤمنون إلى الجنة فيقول الأئمة
لشيعتهم من أصحاب الذنوب: انظروا إلى إخوانكم في الجنة وقد سبقوا إليها بلا حساب،
وهو قول الله تعالى: (سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) ثم يقال لهم: انظروا إلى
أعدائكم في النار، وهو قوله: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا
مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم) في النار فقالوا: (ما
أغنى عنكم جمعكم) في الدنيا (وما كنتم تستكبرون) ثم يقولون لمن في النار من أعدائهم
هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تحلفون في الدنيا (لا ينالهم الله برحمة)، ثم يقول
الأئمة لشيعتهم: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
(50) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء: أي صبوه
وذلك لأن الجنة فوق النار. أو مما رزقكم الله: من الأطعمة والفواكه.
العياشي: عن أحدهما عليهما السلام قال: إن أهل النار يموتون عطاشا، ويدخلون
قبورهم عطاشا، ويدخلون جهنم عطاشا، فيرفع لهم قراباتهم من الجنة فيقولون: (أفيضوا
علينا من الماء أو مما رزقكم الله). وعن الصادق عليه السلام: يوم التناد: يوم ينادي أهل
النار أهل الجنة (أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله). قالوا إن الله حرمهما: حرم شراب
الجنة وطعامها. على الكافرين.
(51) الذين اتخذوا دينهم: الذي كان يلزمهم التدين به لهوا ولعبا وغرتهم الحياة
الدنيا: فحرموا ما شاؤوا واستحلوا ما شاؤوا. فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا: في
العيون: عن الرضا عليه السلام: في حديث أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم
هذا، وقال: إنما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم كما قال تعالى: (ولا
تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون).
وفي التوحيد: عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسيره يعني بالنسيان أنه لم يثبهم
كما يثيب أولياء الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به، وبرسله وخافوه في
الغيب، وقد يقول العرب في باب النسيان: قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي أنه لا يأمر لهم
202

بخير ولا يذكرهم به. وما كانوا بآياتنا يجحدون: وكما كانوا منكرين لآياتنا.
(52) ولقد جئناهم بكتاب فصلناه: بينا معانيه من العقائد، والأحكام، والمواعظ،
مفصلة. على علم: عالمين بوجه تفصيله حتى جاء (1) حكيما. هدى ورحمة لقوم يؤمنون.
(53) هل ينظرون: هل ينتظرون. إلا تأويله: ما يؤل إليه أمره من تبيين صدقه
بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد. يوم يأتي تأويله: قيل: يوم القيامة. والقمي: ذلك في قيام
القائم ويوم القيامة. يقول الذين نسوه من قبل: تركوه ترك الناسي. قد جاءت رسل ربنا
بالحق: قد تبين أنهم جاؤوا بالحق. فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا: اليوم. أو نرد: إلى الدنيا.
فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم: بصرف أعمالهم في الكفر. وضل عنهم ما
كانوا يفترون: بطل عنهم فلم ينفعهم.
(54) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام القمي: قال: في
ستة أوقات.
وفي الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام ولو شاء أن يخلقها في أقل من لمح
البصر لخلق ولكنه جعل الأناة والمداراة مثالا لأمنائه وإيجابا للحجة على خلقه.
وفي العيون: عن الرضا عليه السلام: وكان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين، ولكنه
عز وجل خلقها في ستة أيام ليظهر على الملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شئ فيستدل
بحدوث ما يحدث على الله تعالى مرة بعد مرة.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام: إن الله خلق الخير يوم الأحد، وما كان ليخلق
الشر قبل الخير، وفي الأحد والاثنين خلق الأرضين، وخلق أقواتها يوم الثلاثاء، وخلق
السماوات يوم الأربعاء ويوم الخميس، وخلق أقواتها يوم الجمعة، وذلك قوله تعالى: (خلق
السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام).
أقول: هذه الآية مشتملة على قوله: (وما بينهما) إنما هي في سورة الفرقان، وفي سورة

1 - أي محكما وخالصا من كل خلل وقدح ومعجزا ثابتا باقيا على وجه الدهر.
203

السجدة التالية للقمان ويستفاد منها ومن هذا الحديث وأمثاله مما ورد من هذا القبيل أن
ما بينهما أيضا داخل في المقصود من الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام: أن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا في ستة أيام
ثم اختزلها (1) عن أيام السنة، والسنة ثلاثمأة وأربعة وخمسون يوما.
وفي الفقيه، والتهذيب: عنه عليه السلام إن الله تعالى خلق السنة ثلاثمائة وستين يوما،
وخلق السماوات والأرض في ستة أيام فحجزها (2) من ثلاثمأة وستين يوما فالسنة ثلاثمأة
وأربعة وخمسون يوما، الحديث.
وفي الخصال، والعياشي: عن الباقر عليه السلام ما يقرب منه. أن قيل: ان الأيام إنما
تتقدر وتتمايز بحركة الفلك فكيف خلقت السماوات والأرض في الأيام المتمايزة قبل
تمايزها. قلنا: مناط تمايز الأيام وتقدرها إنما هو حركة الفلك الأعلى دون السماوات السبع
والمخلوق في الأيام المتمايزة إنما هو السماوات السبع والأرض وما بينهما دون ما فوقهما، ولا
يلزم من ذلك خلاء لتقدم الماء الذي خلق منه الجميع على الجميع.
وليعلم إن هذه الآية وأمثال هذه الأخبار من المتشابهات التي تأويلها عند
الراسخين في العلم. ثم استوى على العرش: في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام
استوى تدبيره وعلا أمره.
وعن الكاظم عليه السلام: استولى على ما دق وجل. وفي الكافي: عن الصادق عليه
السلام: استوى على كل شئ فليس شئ أقرب إليه من شئ، وفي رواية أخرى استوى
من كل شئ فليس شئ أقرب إليه من شئ.
وفي أخرى استوى في كل شئ فليس أقرب إليه من شئ لم يبعد منه بعيد ولم
يقرب منه قريب استوى في كل شئ.
أقول: قد يراد بالعرش الجسم المحيط بجميع الأجسام، وقد يراد به ذلك الجسم

1 - انخزل الشئ أي انقطع والاختزال الانقطاع.
2 - أي فصلها عنها وجعل في طرف منها كالحاشية للشئ.
204

مع جميع ما فيه من الأجسام أعني العالم الجسماني بتمامه، وقد يراد به ذلك المجموع مع
جميع ما يتوسط بينه وبين الله سبحانه من الأرواح التي لا تتقوم الأجسام إلا بها أعني
العوالم كلها بملكها وملكوتها وجبروتها.
وبالجملة ما سوى الله عز وجل، وقد يراد به علم الله سبحانه المتعلق بما سواه، وقد
يراد به علم الله سبحانه الذي اطلع عليه أنبياءه ورسله وحججه وقد وقعت الإشارة إلى
كل منها في كلامهم، وربما يفسر بالملك والاستواء بالاحتواء كما يأتي في سورة طه، ويرجع
إلى ما ذكر. ثم أقول: فسر الصادق عليه السلام الاستواء في روايات الكافي: باستواء
النسبة والعرش بمجموع الأشياء وضمن الاستواء في الرواية الأولى ما يتعدى بعلى
كالاستيلاء والأشراف ونحوهما لموافقة القرآن فيصير المعنى استوى نسبته إلى كل شئ
حال كونه مستوليا على الكل ففي الآية دلالة على نفي المكان عنه سبحانه خلاف ما
يفهمه الجمهور منها، وفيها أيضا إشارة إلى معيته القيومية واتصاله المعنوي بكل شئ على
السواء على الوجه الذي لا ينافي أحديته وقدس جلاله وإلى إفاضة الرحمة العامة على
الجميع على نسبة واحدة وإحاطة علمه بالكل بنحو واحد وقربه من كل شئ على نهج
سواء وأتى بلفظة (من) في الرواية الثانية تحقيقا لمعنى الاستواء في القرب والبعد وبلفظة
في الثالثة تحقيقا لمعنى ما يستوي فيه، وأما اختلاف المقربين كالأنبياء والأولياء مع
المبعدين كالشياطين والكفار في القرب والبعد فليس ذلك من قبله سبحانه بل من جهة
تفاوت أرواحهم في ذواتها.
وفي التوحيد: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الجاثليق قال: إن الملائكة
تحمل العرش وليس العرش كما يظن كهيئة السرير، ولكنه شئ محدود مخلوق مدبر وربك
عز وجل مالكه لا أنه عليه ككون الشئ على الشئ. يغشى الليل النهار: يغطيه به، وقرء
بالتشديد. يطلبه حثيثا: يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شئ والشمس والقمر
والنجوم مسخرات بأمره: وقرء برفع الكل. ألا له الخلق: عالم الأجسام. والأمر: عالم الأرواح.
تبارك الله رب العلمين: تعالى بالوحدانية في الألوهية، وتعظم بالفردانية في الربوبية.
(55) ادعوا ربكم تضرعا وخفية ذوي تضرع وخفية فإن الأخفاء أقرب إلى
205

الإخلاص، وقرء بكسر الخاء. إنه لا يحب المعتدين: المجاوزين ما أمروا به في الدعاء
وغيره.
في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان في غزاة فأشرف على واد
فجعل الناس يهللون ويكبرون ويرفعون أصواتهم، فقال: يا أيها الناس اربعوا (1) على
أنفسكم أما أنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا إنه معكم. وفي
مصباح الشريعة: عن الصادق عليه السلام استعن بالله في جميع أمورك متضرعا إليه آناء
الليل والنهار، قال الله تعالى: (ادعوا ربك تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) والاعتداء من
صفة قراء زماننا هذا وعلامتهم.
(56) ولا تفسدوا في الأرض: بالكفر والمعاصي. بعد إصلاحها: ببعث الأنبياء،
وشرع الأحكام.
في الكافي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام أن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله
بنبيه، فقال: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).
والقمي: أصلحها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام
فأفسدوها حين تركوا أمير المؤمنين عليه السلام. وادعوه خوفا وطمعا: ذوي خوف من
الرد لقصور أعمالكم، وعدم استحقاقكم، وطمعا في إجابته تفضلا وإحسانا لفرط رحمته.
إن رحمت الله قريب من المحسنين: ترجيح للطمع، وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة.
في الفقيه: في وصية النبي لعلي (صلوات الله وسلامه عليهما) يا علي من يخاف ساحرا
أو شيطانا فليقرأ (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) الآية.
وفي الكافي: عن أمير المؤمنين عليه السلام من بات بأرض قفر فقرأ هذه الآية (ان
ربكم الله إلى قوله: (تبارك الله رب العالمين) حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين، قال:
فمضى الرجل فإذا هو بقرية خراب فبات فيها ولم يقرء هذه الآية فتغشاه الشياطين فإذا

1 - ربع كمنع وقف وانتظر وتحبس ومنه قولهم أربع عليك أو على نفسك أو على ظلعك.
206

هو أخذ بخطمه (1) فقال له صاحبه: انظره واستيقظ الرجل فقرأ الآية فقال الشيطان
لصاحبه: أرغم الله أنفك أحرسه الآن حتى يصبح فلما أصبح رجع إلى أمير المؤمنين
فأخبره، وقال له رأيت في كلامك الشفاء والصدق، ومضى بعد طلوع الشمس فإذا هو بأثر
شعر الشيطان مجتمعا في الأرض، الحديث.
(57) وهو الذي يرسل الرياح نشرا جمع نشور بمعنى ناشر، وقرء بالتخفيف وبفتح
النون، وبالباء مخففة جمع بشير. بين يدي رحمته: قدام رحمته يعني المطرفان الصبا (2) تثير
السحاب، والشمال تجمعه، والجنوب يجلبه، والدبور يفرقه. حتى إذا أقلت: حملت. سحابا:
سحائب. ثقالا: بالماء. سقناه لبلد ميت: لأحيائه، وقرء بتخفيف الياء. فأنزلنا به الماء فأخرجنا
به من كل الثمرات: من كل أنواعها. كذلك نخرج الموتى: نحييهم ونخرجهم من
الأجداث. لعلكم تذكرون: فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا.
(58) والبلد الطيب: الأرض الكريمة التربة. يخرج نباته بإذن ربه: بأمره وتيسره، عبر
به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة (3) نفعه بقرينة المقابلة. والذي خبث: كالحرة (4)
والسبخة (5). لا يخرج: نباته. إلا نكدا: قليلا عديم النفع. كذلك نصرف الآيات: نرددها
ونكررها. لقوم يشكرون: نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها. قيل: الآية مثل لمن تدبر
الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأسا ولم يتأثر بها.
والقمي: مثل للأئمة يخرج علمهم بإذن ربهم ولأعدائهم لا يخرج علمهم إلا كدرا

1 - الخطم من كل دابة مقدم أنفه وفمه ومن كل طاير منقاره.
2 - الصبا كعصا ريح تهب من مطلع الشمس وهي أحد الأرياح الأربعة وقيل الصبا التي من ظهرك إذا استقبلت
القبلة والدبور عكسها والعرب تزعم أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه فإذا علا كشف عنه واستقبلته
الصبا فوزعت بعضه على بعض حتى يصير كسفا واحدا والجنوب تلحق روادفه وتمده والشمال تزق السحاب وعن بعض
أهل التحقيق الصبا محلها ما بين مطع الشمس والجدي في الاعتدال والشمال محلها من الجدي إلى مغرب الشمس في
الاعتدال والدبور من سهيل إلى المغرب والجنوب من مطلع الشمس إليه.
3 - غزر الماء بالضم غزارا غزارة كثر فهو غزير أي كثير.
4 - الحرة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار والجمع الجرار والحرات.
5 - السبخة بالفتح واحدة السباخ وهي ارض مالحة يعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الأشجار.
207

فاسدا. وفي المناقب: قال عمرو بن العاص للحسين: ما بال لحاكم أوفر من لحانا فقرء هذه
الآية.
(59) لقد أرسلنا نوحا إلى قومه: جواب قسم محذوف. قيل: هو نوح بن ملك بن
متوشلخ بن إدريس أول نبي بعده.
والقمي: روى في الخبر أن اسم نوح عبد الغفار، وإنما سمي نوحا لأنه كان ينوح
على نفسه.
وفي العلل: عن الصادق عليه السلام مثله، قال: وفي رواية اسمه عبد الأعلى.
وفي أخرى عبد الملك. وفي رواية إنما سمي نوحا لأنه بكى خمسمأة عام.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام في حديث إن آدم عليه السلام بشر بنوح عليه
السلام وأنه يدعو إلى الله ويكذبه قومه فيهلكهم الله بالطوفان وأوصى ولده أن من أدركه
منكم فليؤمن به وليتبعه فإنه ينجو من الغرق، وكان بينهما عشرة آباء أنبياء وأوصياء، وكانوا
مستخفين ولذلك خفي ذكرهم في القرآن.
وفيه، والعياشي: عنه عليه السلام كانت شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد،
والإخلاص، وخلع الأنداد، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها، وأخذ الله ميثاقه على نوح
والنبيين أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأمر بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي على
المنكر والحلال والحرام ولم يفرض عليهم أحكام حدود، ولا فرض مواريث، فهذه شريعته.
فقال يا قوم اعبدوا الله: اعبدوه وحده. ما لكم من إله غيره: وقرء بالجر. إني أخاف عليكم
عذاب يوم عظيم: إن لم تؤمنوا. و (اليوم): يوم القيامة، أو يوم الطوفان.
(60) قال الملأ. من قومه: أي الأشراف. إنا لنريك في ضلال: متمكنا في ذهاب عن
الحق والصواب. مبين: بين.
(61) قال يا قوم ليس بي ضلالة: شئ من الضلال بالغ في النفي كما بالغوا في
الأثبات. ولكني رسول من رب العالمين: على غاية من الهدى.
(62) أبلغكم رسالات ربى: ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة، وفي المعاني المختلفة،
208

وقرء أبلغكم بالتخفيف، ورسالة بالوحدة. وأنصح لكم: في زيادة اللام دلالة على إمحاض
النصيحة. وأعلم من الله: من صفاته وشدة بطشه أو من جهته بالوحي. ما لا تعلمون:
أشياء لا علم لكم بها.
(63) أوعجبتم: الهمزة للإنكار، والواو للعطف على محذوف أي أكذبتم وعجبتم. أن
جاءكم: من إن جاءكم. ذكر من ربكم: موعظة منه. على رجل: على لسان رجل. منكم: وذلك
أنهم تعجبوا من إرسال البشر. لينذركم: ليحذركم عاقبة الكفر والمعاصي. ولتتقوا: بسبب
الأنذار. ولعلكم ترحمون: بالتقوى.
(64) فكذبوه فأنجيناه والذين معه: وهم من آمن به. في الفلك وأغرقنا الذين
كذبوا بآياتنا: بالطوفان. إنهم كانوا قوما عمين: عمى القلب غير متبصرين، وأصله عميين
ويأتي قصة نوح عليه السلام في سورة هود إن شاء الله.
(65) وإلى عاد: وأرسلنا إلى عاد. أخاهم هودا: يعني بالأخ الواحد منهم كقولهم: يا
أخا العرب للواحد منهم.
والعياشي: عن السجاد عليه السلام إنه قيل له: إن جدك قال: إخواننا بغوا علينا
فقاتلناهم على بغيهم، فقال: ويلك أما تقرأ القرآن؟ (وإلى عاد أخاهم هودا، وإلى مدين أخاهم
شعيبا، وإلى ثمود أخاهم صالحا) فهم مثلهم وكانوا إخوانهم في عشيرتهم وليسوا إخوانهم
في دينهم.
وفي رواية أخرى: قال: فأهلك الله عادا وأنجى هودا، وأهلك الله ثمودا وأنجى
صالحا. وفي الاحتجاج: ما يقرب من الروايتين. قيل: إنما جعل واحدا منهم ليكونوا إليه أسكن،
وعنه أفهم وهو من ولد سام بن نوح كما أن عاد، كذلك وقيل: عاد جد هود.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام في حديث وبشر نوح ساما بهود وقال: إن الله
باعث نبيا يقال له: هود، وإنه يدعو قومه إلى الله فيكذبونه فيهلكهم بالريح فمن أدركه منهم
فليؤمن به وليتبعه وكان بينهما أنبياء.
وفي الإكمال: عن الصادق عليه السلام لما حضرت نوحا الوفاة دعا الشيعة فقال
209

لهم: إعلموا أنه سيكون من بعدي غيبة يظهر فيها الطواغيت، وأن الله عز وجل سيفرج
عليكم بالقائم من ولدي اسمه هود له سمت (1) وسكينة ووقار يشبهني في خلقي
وخلقي.
وعنه عليه السلام: إن هودا لما بعث سلم له العقب من ولد سام، وأما الآخرون
فقالوا: من أشد منا قوة فأهلكوا بالريح العقيم، وأوصاهم هود، وبشرهم بصالح.
وفيه عن الباقر عليه السلام: إن الأنبياء بعثوا خاصة وعامة، وأما هود: فإنه أرسل إلى
عاد بنبوة خاصة. قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون: عذاب الله.
(66) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنريك في سفاهة: متمكنا في خفة عقل
راسخا فيها حيث فارقت دين قومك. وإنا لنظنك من الكاذبين.
(67) قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العلمين.
(68) أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح: فيما أدعوكم من توحيد الله وطاعته.
أمين: ثقة مأمون في تأدية الرسالة فلا أكذب ولا أغير.
(69) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم: مضى
تفسيره، وفي إجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا، والأعراض عن
مقابلتهم بمثلها مع علمهم بأنهم أضل الخلق، وأسفههم أدب حسن، وحكاية الله ذلك
تعليم لعباده كيف يخاطفون السفهاء ويدارونهم.
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح: أي خلفتموهم في الأرض بعد
هلاكهم بالعصيان. وزادكم في الخلق بصطة: قامة وقوة.
في المجمع: عن الباقر عليه السلام كانوا كالنخل الطوال، وكان الرجل منهم

1 - السمت عبارة عن الحالة التي يكون عليها الانسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة النظر
والهيئة.
210

ينحر (1) الجبل بيده فيهدم منه قطعة. فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون: لكي يفضي بكم
ذكر النعم إلى الشكر المؤدي إلى الفلاح.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام أتدري ما آلاء الله؟ قيل: لا، قال: هي أعظم نعم
الله على خلقه، وهي ولايتنا.
(70) قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا: استبعدوا اختصاص
الله تعالى بالعبادة، والأعراض عما أشرك به آباؤهم وانهماكا في التقليد، وحبا لما ألفوه. فأتنا
بما تعدنا: من العذاب المدلول عليه بقوله: (أفلا تتقون). إن كنت من الصادقين: فيه.
(71) قال قد وقع: وجب. عليكم من ربكم رجس: عذاب، من الارتجاس وهو
الاضطراب. وغضب: إرادة انتقام. أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم: في أشياء
ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات لأنكم سميتموها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدوم
ونحوه ما تدعون من دونه من شئ. ما نزل الله بها من سلطان: من حجة، ولو استحقت للعبادة
لكان استحقاقها بإنزال آية من الله ونصب حجة منه. فانتظروا: نزول العذاب. إني معكم
من المنتظرين.
(72) فأنجيناه والذين معه: في الدين. برحمة منا: عليهم. وقطعنا دابر الذين كذبوا
بآياتنا وما كانوا مؤمنين: يعني استأصلناهم وكان ذلك بأن أنشأ الله سبحانه سحابة سوداء
زعموا أنها ممطرهم فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم.
وفي الكافي، والقمي: عن الباقر عليه السلام الريح العقيم: تخرج من تحت الأرضين
السبع، وما خرجت منها ريح قط إلا على قوم عاد حين غضب الله عليهم فأمر الخزان أن
يخرجوا منها مثل سعة الخاتم فعتت (2) على الخزان فخرج منها على مقدار منخر الثور تغيظا
منها على قوم عاد، فضج الخزنة إلى الله تعالى من ذلك فقالوا: يا ربنا إنها قد عتت عن أمرنا

1 - انتحر القوم على الشئ إذا تشاحوا عليه حرصا وتنافروا في القتال أي تقابلوا.
2 - أي جاوزت الريح حد سعة الخاتم وانسلب الأخيار من الخزان.
211

ونحن نخاف أن يهلك من لم يعصك من خلقك وعمار بلادك، فبعث الله
إليها جبرئيل فردها بجناحه فقال لها: إخرجي على ما أمرت به وأهلكت قوم
عاد ومن كان بحضرتهم.
وفي المجمع: عنه عليه السلام إن لله تبارك وتعالى بيت ريح مقفل لو فتحت
لأذرئت (1) ما بين السماء والأرض ما أرسل على قوم عاد إلا قدر الخاتم، قال: وكان
هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل ونبينا يتكلمون بالعربية، ويأتي تمام قصة هود في سورة
هود إنشاء الله.
(73) وإلى ثمود: وأرسلنا إلى ثمود. أخاهم صالحا: هم قبيلة أخرى من العرب
سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود، بن عابر بن آدم بن سام بن نوح وصالح من ولد ثمود.
وفي الإكمال: عن الباقر عليه السلام وأما صالح فإنه أرسل إلى ثمود، وهي قرية
واحدة لا تكمل أربعين بيتا على ساحل البحر صغيرة. قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من
إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم: معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي. هذه ناقة الله
لكم آية: أضافها إلى الله لأنها خلقت بلا واسطة، ولذلك كانت آية. فذروها تأكل في أرض
الله: العشب. ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم.
(74) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من
سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا: في المجمع: يروى أنهم لطول أعمارهم كانوا
يحتاجون إلى أن ينحتوا في الجبال بيوتا لأن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم.
فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين: أي ولا تبالغوا في الفساد.
(75) قال الملاء الذين استكبروا: أنفوا من اتباعه. من قومه للذين استضعفوا:
للذين استضعفوهم واستذلوهم. لمن آمن منهم: بدل من الذين. أتعلمون أن صالحا مرسل
من ربه: قالوه على الاستهزاء. قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون.

1 - ذررت الجسد والملح والدواء أذره ذرا فرقته ومنه الذربرة.
212

(76) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون.
(77) فعقروا الناقة: أسند العقر إلى جميعهم وإن لم يعقرها إلا بعضهم لأنه كان
برضاهم. وعتوا عن أمر ربهم: تولوا واستكبروا عن امتثاله عاتين، وهو ما أمر به على لسان
صالح فذروها تأكل في أرض الله. وقالوا يصلح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين.
(78) فأخذتهم الرجفة: الزلزلة، وفي سورة هود: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة)، وفي
سورة الحجر: (فأخذتهم الصيحة) ولعلها كانت من مباديها.
القمي: فبعث الله عليهم صيحة وزلزلة فهلكوا. فأصبحوا في دارهم جاثمين:
خامدين ميتين لا يتحركون، يقال: الناس جثم أي قعود لا حراك بهم، وأصل الجثوم: اللزوم
في المكان.
(79) فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا
تحبون الناصحين: قال: ذلك متحسرا على ما فاته من إيمانهم متحزنا لهم بعدما أبصرهم
موتى صرعى.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل
جبرئيل عليه السلام كيف كان مهلك قوم صالح؟ فقال: يا محمد إن صالحا بعث إلى قومه،
وهو ابن ست عشرة سنة فلبث فيهم حتى بلغ عشرين ومأة سنة لا يجيبونه إلى خير، قال:
وكان لهم سبعون صنما يعبدونها من دون الله فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم إني بعثت
إليكم وأنا ابن ست عشرة سنة، وقد بلغت عشرين ومأة سنة، وأنا أعرض عليكم أمرين
إن شئتم فاسئلوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما سألتموني الساعة، وإن شئتم سألت
آلهتكم فإن أجابتني بالذي أسألها خرجت عنكم فقد سئمتكم وسئمتموني. فقالوا: قد
أنصفت يا صالح، فاتعدوا ليوم يخرجون فيه قال: فخرجوا بأصنامهم إلى ظهرهم ثم قربوا
طعامهم وشرابهم فأكلوا وشربوا فلما ان فرغوا دعوه، وقالوا: يا صالح سل. فقال لكبيرهم:
ما اسم هذا؟ قالوا: فلان.
فقال له صالح: يا فلان أجب فلم يجبه، فقال صالح: ما له لا يجيب؟ قالوا ادع غيره.
213

قال: فدعاه كلها بأسمائها فلم يجبه منها شئ، فأقبلوا إلى أصنامهم فقالوا لها: مالك لا
تجيبين صالحا؟ فلم تجب، فقالوا: تنح عنا ودعنا وآلهتنا ساعة، ثم نحوا بسطهم وفرشهم،
ونحوا ثيابهم وتمرغوا على التراب وطرحوا التراب على رؤوسهم وقالوا لأصنامهم: لئن لم
تجيبي صالحا اليوم لنفضحن، قال: ثم دعوه فقالوا: يا صالح ادعها فدعاها فلم تجبه.
فقال لهم: يا قوم قد ذهب صدر النهار ولا أرى آلهتكم تجيبني فاسئلوني حتى
ادعوا إلهي فيجيبكم الساعة فانتدب له منهم سبعون رجلا من كبرائهم والمنظور إليهم
منهم. فقالوا: يا صالح نحن نسألك فإن أجابك ربك اتبعناك وأجبناك ويبايعك جميع أهل
قريتنا.
فقال لهم صالح: سلوني ما شئتم؟ فقالوا: تقدم بنا إلى هذا الجبل، وكان الجبل قريبا
منهم فانطلق معهم صالح فلما انتهوا إلى الجبل قالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا من
هذا الجبل الساعة ناقة حمراء، شقراء، وبراء، وعشراء، بين جنبيها ميل. فقال لهم صالح: لقد
سألتموني شيئا يعظم علي ويهون على ربي تعالى.
قال: فسأل الله تعالى صالح ذلك، فانصدع الجبل صدعا كادت تطير منه عقولهم
لما سمعوا ذلك، ثم اضطرب ذلك الجبل اضطرابا شديدا كالمرأة إذا أخذها المخاض، ثم لم
يفجأهم إلا رأسها قد طلع عليهم من ذلك الصدع فما استتمت رقبتها حتى اجترت (1)،
ثم خرج سائر جسدها، ثم استوت قائمة على الأرض، فلما رأوا ذلك قالوا: يا صالح ما
أسرع ما أجابك ربك، ادع لنا ربك يخرج لنا فصيلها فسأل الله ذلك فرمت به فدب
حولها.
فقال لهم: يا قوم أبقى شئ؟ قالوا: لا، انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم بما رأينا وهم
يؤمنون بك.
قال: فرجعوا فلم يبلغ السبعون إليهم حتى ارتد منهم أربعة وستون رجلا، وقالوا:

1 - اجتر البعير بالجيم والراء المهملة اكل ثانيا ما اخرجه مما اكله أولا منه رحمه الله.
214

سحر وكذب.
قال: فانتهوا إلى الجميع وقال الستة: حق، وقال الجميع: سحر وكذب.
قال: فانصرفوا على ذلك، ثم ارتاب من الستة واحد فكان فيمن عقرها، قال
الراوي: فحدثت بهذا الحديث رجلا من أصحابنا يقال له: سعيد بن يزيد، فأخبرني أنه رأى
الجبل الذي خرجت منه بالشام، فرأيت جنبها قد حك الجبل فأثر جنبها فيه، وجبل آخر
بينه وبين هذا ميل.
وعن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (كذبت ثمود بالنذر) هذا فيما كذبوا صالحا،
وما أهلك الله تعالى قوما قط حتى يبعث إليهم قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم فبعث
الله إليهم صالحا فدعاهم إلى الله فلم يجيبوا وعتوا عليه وقالوا: لن نؤمن لك حتى تخرج لنا
من هذه الصخرة ناقة عشراء وكانت الصخرة يعظمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في
رأس كل سنة، ويجتمعون عندها، فقالوا له: إن كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى
يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا منهم.
ثم أوحى الله إليه أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة من الماء شرب
يوم، ولكم شرب يوم، فكانت الناقة إذا كان يوم شربها شربت ذلك اليوم الماء فيحلبونها
فلا يبقى صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك، فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى
مائهم فشربوا منه ذلك اليوم، ولم تشرب الناقة ذلك اليوم.
فمكثوا بذلك إلى ما شاء الله، ثم أنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا
اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها، لا نرضى أن يكون لها شرب يوم ولنا شرب يوم، ثم قالوا:
من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلا ما أحب، فجاء لهم رجل أحمر، أشقر أزرق ولد الزنا لا
يعرف له أب، يقال له: قدار (1)، شقي من الأشقياء، مشؤوم عليهم، فجعلوا له جعلا فلما
توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت ذلك الماء وأقبلت راجعة فقعد

1 - قال في مجمع البحرين وفي الحديث بئس العبد القاذورة وان الله يبغض العبد القاذورة القاذورة من الرجالالذي لا يبالي بما قال وما صنع والقاذورة السئ الخلق وكأن المراد به هنا الوسخ الذي لم يتنزه عن الأقذار وقد يطلق القاذورة على الفاحشة ورجل مقذار بخسه الناس انتهى والظاهر أن اسم هذا الملعون الشقي من هذه المادة.
215

لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم تعمل شيئا، فضربها ضربة أخرى فقتلها، وخرت
إلى الأرض على جنبها وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات إلى السماء،
وأقبل قوم صالح فلم يبق أحد منهم إلا شركه في ضربته، واقتسموا لحمها فيما بينهم ولم
يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها.
فلما رآى ذلك صالح أقبل إليهم، فقال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم أعصيتم
ربكم؟ فأوحى الله إلى صالح أن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثتها إليهم حجة
عليهم، ولم يكن عليهم منها ضرر، وكان لهم فيها أعظم المنفعة، فقل لهم: إني مرسل إليكم
عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم، وإن هم لم يتوبوا
ولم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث.
فأتاهم صالح عليه السلام فقال لهم: (يا قوم إني رسول ربكم إليكم) وهو يقول لكم: إن أنتم تبتم
ورجعتم واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم، فلما قال لهم ذلك، كانوا أعتى ما كانوا
وأخبث، وقالوا: (يا صالح إئتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)، قال: يا قوم إنكم تصبحون
غدا ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني: وجوهكم محمرة، واليوم الثالث: وجوهكم مسودة.
فلما أن كان أول يوم أصبحوا ووجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا:
قد جاءكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح، ولا نقبل قوله، وإن
كان عظيما، فلما كان اليوم الثاني: أصبحت وجوههم محمرة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا:
يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول
صالح، ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها، ولم يتوبوا ولم يرجعوا.
فلما كان اليوم الثالث: أصبحوا ووجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض وقال
يا قوم قد آتيكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح فلما كان
نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم وفلقت
216

قلوبهم وصدعت أكبادهم، وقد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا وتكفنوا وعلموا أن
العذاب نازل بهم، فماتوا أجمعون في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم فلم يبق لهم ناعية ولا
راعية [ثاغية ولا راغية خ ل] ولا شئ إلا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم
موتى أجمعين، ثم أرسل الله عليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقتهم أجمعين وكانت
هذه قصتهم.
والقمي: ما يقرب من بعض ما في الحديث في سورة هود.
(80) ولوطا: وأرسلنا لوطا، أو واذكر لوطا، في الكافي: عن الصادق عليه السلام أن
أم إبراهيم وأم لوط كانتا أختين وهما ابنتان لللاحج وكان اللاحج نبيا منذرا ولم يكن
رسولا.
وفي العلل، والعياشي: عن الباقر عليه السلام وكان لوط ابن خالة إبراهيم، وكانت
سارة امرأة إبراهيم أخت لوط، وكان لوط وإبراهيم نبيين منذرين. وفي الكافي: عن
الصادق عليه السلام إن إبراهيم خرج من بلاد نمرود ومعه لوط لا يفارقه، وسارة إلى أن
نزل بأعلى الشامات وخلف لوطا بأدنى الشامات. إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة: توبيخ
وتقريع على تلك السيئة المتمادية في القبح. ما سبقكم بها من أحد من العالمين: ما فعلها
قبلكم أحد قط. في الكافي، والعلل: عن أحدهما عليهما السلام في قوم لوط إن إبليس
أتاهم في صورة حسنة فيه تأنيث، عليه ثياب حسنة فجاء إلى شبان منهم فأمرهم أن يقعوا
به، ولو طلب إليهم أن يقع بهم لأبوا عليه، ولكن طلب إليهم أن يقعوا به، فلما وقعوا به
التذوا ثم ذهب عنهم وتركهم فأحال بعضهم على بعض. وفي العيون: عن أمير المؤمنين
عليه السلام إن أول من عمل عمل قوم لوط إبليس فإنه أمكن من نفسه.
(81) إنكم لتأتون الرجال: من أتى المرأة إذا غشيها. شهوة من دون النساء: تاركين
إتيان النساء اللاتي أباح الله إتيانهن، وقرآنكم على الأخبار المستأنف. بل أنتم قوم
مسرفون: متجاوزون الحد في الفساد حتى تجاوزتم المعتاد إلى غير المعتاد.
(82) وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم أي ما جاؤوا بما
217

يكون جوابا عن كلامه ولكنهم جاؤوا بما لا يتعلق بكلامه ونصيحته من إخراجه ومن معه
من قريتهم. إنهم أناس يتطهرون: من الفواحش والخبائث.
(83) فأنجيناه: خلصنا لوطا. وأهله: المختصين به من الهلاك. إلا امرأته: وهي واهلة
فإنها كانت تسر الكفر وتوالي أهل القرية. كانت من الغابرين: من الذين غبروا في ديارهم
أي بقوا فيها فهلكوا.
(84) وأمطرنا عليهم مطرا: نوعا من المطر عجبا وهي أمطار حجارة من سجيل
كما يأتي في موضع آخر. فانظر كيف كان عاقبة المجرمين: في المجمع: عن الباقر عليه السلام
إن لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة، وكان نازلا فيهم ولم يكن منهم يدعوهم إلى الله وينهيهم
عن الفواحش، ويحثهم على الطاعة فلم يجيبوه ولم يطيعوه، وكانوا لا يتطهرون من الجنابة،
بخلاء أشحاء على الطعام، فأعقبهم البخل الداء الذي لا دواء له في فروجهم، وذلك أنهم
كانوا على طريق السيارة إلى الشام ومصر، وكان ينزل بهم الضيفان فدعاهم البخل إلى أن
كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه، وإنما فعلوا ذلك لينكل النازلة عليهم من غير شهوة
بهم إلى ذلك فأوردهم البخل هذا الداء حتى صاروا يطلبونه من الرجال ويعطون عليه
الجعل، وكان لوط سخيا كريما يقري الضيف إذا نزل بهم فنهوه عن ذلك فقالوا لا تقري
ضيفانا تنزل بك فإنك إن فعلت فضحنا ضيفك، فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره
مخافة أن يفضحه قومه، وذلك أنه لم يكن للوط عشيرة فيهم.
وفي العلل، والعياشي: عنه عليه السلام مثله، ويأتي تمام القصة في سورة هود، والحجر
إنشاء الله.
(85) وإلى مدين: وأرسلنا إلى مدين. أخاهم شعيبا: قيل: هم أولاد مدين بن إبراهيم،
وشعيب منهم، وكان يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، سموا باسم جدهم
وسميت به قريتهم. والقمي: قال: بعث الله شعيبا إلى مدين، وهي قرية على طريق الشام
فلم يؤمنوا به.
وفي الإكمال: عن الباقر عليه السلام أما شعيب فإنه أرسل إلى مدين وهي لا يكمل
218

أربعين نبيا. قال يا قوم اعبدوا الله: وحده. ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم:
معجزة شاهدة بصحة نبوتي، وهي غير مذكورة في القرآن ولم نجدها في شئ من الأخبار.
فأوفوا الكيل والميزان: أريد بالكيل: المكيال كما في سورة هود. ولا تبخسوا الناس أشياءهم:
لا تنقصوهم حقوقهم، جئ بالأشياء للتعميم. ولا تفسدوا في الأرض: بالكفر والحيف.
بعد إصلاحها: بعدما أصلح فيه الأنبياء وأتباعهم بإقامة الشرايع والسنن. ذلكم خير لكم:
في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما تطلبونه من الربح لأن الناس إذا عرفوا منكم النصفة
والأمانة رغبوا في متاجرتكم. إن كنتم مؤمنين: مصدقين لي في قولي.
(86) ولا تقعدوا بكل صراط: بكل منهج من مناهج الدين مقتدين بالشيطان في
قوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم). توعدون: تتوعدون. وتصدون عن سبيل الله من آمن
به: قيل: كانوا يجلسون على الطرق فيقولون لمن يمر بها: إن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن
دينكم كما كانت تفعل قريش بمكة. وتبغونها عوجا: تطلبون لسبيل الله عوجا، يعني تصفونها
بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة بإلقاء الشبه لتصدوهم عن سلوكها والدخول فيها.
واذكروا إذ كنتم قليلا: عددكم أو عددكم. فكثركم: بالنسل والمال، قيل: إن مدين بن
إبراهيم الخليل تزوج بنت لوط فولدت له فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا
وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين: من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح، وهود، وصالح،
ولوط، وكانوا قريبي العهد بهم.
(87) وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به: وقبلوا قولي. وطائفة لم يؤمنوا
فاصبروا: فتربصوا وانتظروا. حتى يحكم الله بيننا: أي بين الفريقين بأن ينصر المحق على
المبطل وهذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين. وهو خير الحاكمين: إذ لا معقب لحكمه ولا
حيف فيه.
(88) قال الملاء الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا
معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا: أي ليكونن أحد الأمرين، والعود: إما بمعنى الصيرورة
أو ورود الخطاب على تغليب الجماعة على الواحد أو ورد على زعمهم، وذلك لأن شعيبا
لم يكن على ملتهم قط لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر قط. قال: شعيب. أولو كنا كارهين:
219

أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها.
(89) قد افترينا على الله كذبا: فيما دعوناكم إليه. إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجينا
الله منها: بأن أقام لنا الدليل على بطلانها وأوضح الحق لنا. وما يكون لنا: وما يصح لنا. أن
نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا: خذلاننا ومنعنا الألطاف بأن يعلم أنه لا ينفع فينا وسع
ربنا كل شئ علما: أحاط علمه بكل شئ مما كان وما يكون فهو يعلم أحوال عباده كيف
تتحول وقلوبهم كيف تتقلب. وقيل: أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا
يكون على الله توكلنا: في أن يثبتنا على الأيمان، ويوفقنا لازدياد الأيقان. ربنا افتح بيننا وبين
قومنا بالحق: احكم بيننا فإن الفتاح القاضي، والفتاحة الحكومة أو أظهر أمرنا حتى
ينكشف ما بيننا وبينهم، ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه. وأنت خير
الفاتحين: على المعنيين.
(90) وقال الملأ الذين كفروا من قومه: أشرافهم. لئن اتبعتم شعيبا: وتركتم دينكم.
إنكم إذا لخاسرون: لأستبدلكم الضلالة بالهدى، قالوها لمن دونهم يثبطونهم عن
الأيمان.
(91) فأخذتهم الرجفة: الزلزلة، وفي سورة هود: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة). وفي
المجمع: عن الصادق عليه السلام بعث الله عليهم الصيحة الواحدة فماتوا، وقد سبق
نظيره. فأصبحوا في دارهم جاثمين: خامدين.
(92) الذين كذبوا شعيبا كأن لم أي استأصلوا كأن لم يقيموا بها، والمعنى
المنزل الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين: دينا ودنيا، والمعنى أنهم هم المخصوصون
بالهلاك، والاستيصال، وبالخسران العظيم دون اتباع شعيب لأنهم الرابحون.
وفي هذا الابتداء والتكرير تسفيه لرأي الملأ، ورد لمقالتهم ومبالغة في ذلك.
(93) فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم: فلم
تصدقوني. فكيف آسى على قوم كافرين: فكيف أحزن على قوم ليسوا بأهل للحزن
عليهم. لكفرهم واستحقاقهم العذاب النازل بهم.
220

(94) وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء: البؤس والفقر والضراء
الضرر والمرض. لعلهم يضرعون: لكي يتضرعوا، ويتوبوا، ويتذللوا.
(95) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة: أي رفعنا ما كانوا فيه من البلاء والمحنة،
ووضعنا مكانه الرخاء والعافية. حتى عفوا: أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم
عفا النبات: أي كثر ومنه: اعفاء اللحى.
وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء: بطرتهم النعمة فتركوا شكر الله،
ونسوا ذكر الله، وقالوا: هذه عادة الدهر يعاقب في الناس بين السراء والضراء، وقد مس
آباءنا نحو ذلك فلم ينتقلوا عما كانوا عليه فكونوا (1) على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم
كذلك. فأخذناهم بغتة: فجأة، عبرة لمن كان بعدهم. وهم لا يشعرون: إن العذاب نازل بهم
إلا بعد حلوله.
(96) ولو أن أهل القرى: ولو أنهم. آمنوا: بدل كفرهم واتقوا: الشرك والمعاصي
لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض: لوسعنا عليهم الخيرات ويسرناها لهم من كل
جانب بإنزال المطر، وإخراج النبات، وغير ذلك. ولكن كذبوا: الرسل. فأخذناهم بما كانوا
يكسبون: بسوء كسبهم.
(97) أفأمن أهل القرى: المكذبون لنبينا. أن يأتيهم بأسنا: عذابا. بياتا ليلا وقت
بيات. وهم نائمون.
(98) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى: ضحوة النهار، وهو في الأصل
اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت، وقرء بسكون الواو. وهم يلعبون: يشتغلون بما
لا ينفعهم.

1 - متفرع على قولهم هذه عادة الدهر أي قالوا هذه عادة الدهر آه فكونوا.
221

(99) أفأمنوا مكر الله: مكر الله استعارة لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا
يحتسب.
والقمي: المكر من الله العذاب. فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون: بترك النظر
والاعتبار، فيه تنبيه على ما يجب أن يكون عليه العبد من الخوف لعقاب الله، واجتناب
المعصية.
(100) أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها: يخلفون من خلا قبلهم في
ديارهم، وإنما عدى يهدي باللام لأنه بمعنى يبين. أن لو نشاء: أنه لو نشاء أصبناهم بذنوبهم:
بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم. ونطبع على قلوبهم: مستأنف يعني ونحن نطبع على
قلوبهم. فهم لا يسمعون: سماع تفهم واعتبار.
(101) تلك القرى نقص عليك من أنبائها بعض أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم
بالبينات بالمعجزات فما كانوا ليؤمنوا عند مجيئهم بها بما كذبوا من قبل مجيئهم.
القمي: قال: لا يؤمنون في الدنيا بما كذبوا في الذر، وهو رد على من أنكر الميثاق في الذر
الأول.
وفي الكافي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام إن الله خلق الخلق فخلق من أحب
مما أحب وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما
أبغض أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال، فقيل: وأي شئ الظلال؟ قال: ألم تر إلى
ظلك في الشمس شئ وليس بشئ، ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله وهو
قوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)، ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم
وأنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض وهو قوله
تعالى: (وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به (1) من قبل)، ثم. قال عليه السلام كان التكذيب، ثم.
وفي رواية أخرى: فمنهم من أقر بلسانه ولم يؤمن بقلبه، فقال الله: (فما كانوا ليؤمنوا

1 - لفظة به في القرآن إنما هي في سورة يونس وليست هنا. منه رحمه الله.
222

بما كذبوا به من قبل).
والعياشي: عنهما عليهما السلام إن الله خلق الخلق وهم أظلة فأرسل إليهم رسوله
محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فمنهم من آمن به ومنهم من كذبه، ثم بعثه في الخلق
الآخر فآمن به من آمن به في الأظلة، وجحده من جحده يومئذ، فقال: (فما كانوا ليؤمنوا بما
كذبوا به من قبل).
وعن الصادق عليه السلام في هذه الآية: بعث الله الرسل إلى الخلق وهم في
أصلاب الرجال وأرحام النساء فمن صدق حينئذ صدق بعد ذلك، ومن كذب حينئذ
كذب بعد ذلك. كذ لك يطبع الله على قلوب الكافرين.
(102) وما وجدنا لأكثرهم من عهد: وفاء عهد، فإن أكثرهم نقضوا عهد الله
إليهم في الأيمان والتقوى. وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين: وأنه علمنا أكثرهم خارجين عن
الطاعة.
في الكافي: عن الكاظم عليه السلام إنها نزلت في الشاك.
وعن الصادق عليه السلام: إنه قال لأبي بصير: يا أبا بصير إنكم وفيتم بما أخذ الله
عليه ميثاقكم من ولايتنا وإنكم لم تبدلوا بنا غيرنا، ولو لم تفعلوا لعيركم الله كما عيرهم
حيث يقول جل ذكره: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين).
والعياشي: عن أبي ذر والله ما صدق أحد ممن أخذ الله ميثاقه فوفى بعهد الله غير أهل
بيت نبيهم وعصابته قليلة من شيعتهم، وذلك قول الله: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وان
وجدنا أكثرهم لفاسقين)، وقوله: (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون).
(103) ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا: بالمعجزات. إلى فرعون وملأه فظلموا
بها: بأن كفروا بها مكان الأيمان الذي هو من حقها لوضوحها، ولهذا المعنى وضع ظلموا
موضع كفروا، وفرعون لقب لمن ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس، وقيصر لمن ملك
الروم، وكان اسمه قابوس أو الوليد بن مصعب ابن الريان. فانظر كيف كان عاقبة
المفسدين: في الإكمال: عن الباقر عليه السلام في حديث ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل
223

الأسباط اثني عشر بعد يوسف، ثم موسى وهارون إلى فرعون وملأه إلى مصر وحدها.
والعياشي: مرفوعا إن فرعون بنى سبع مداين يتحصن فيها من موسى عليه السلام وجعل فيما
بينها آجاما وغياضا (1) وجعل فيها الأسد ليتحصن بها من موسى، قال: فلما بعث الله
موسى إلى فرعون فدخل المدينة فلما رآه الأسد تبصبصت وولت مدبرة، ثم قال: لم يأت
مدينة إلا انفتح له بابها حتى انتهى إلى قصر فرعون الذي هو فيه، قال: فقعد على بابه وعليه
مدرعة من صوف ومعه عصاه فلما خرج آذن قال له موسى: استأذن لي على فرعون، لم
يلتفت إليه، قال: فمكث بذلك ما شاء الله يسأله أن يستأذن له، قال: فلما أكثر عليه قال له: أما
وجد رب العالمين من يرسل غيرك قال: فغضب موسى فضرب الباب بعصاه فلم يبق بينه
وبين فرعون باب إلا انفتح حتى نظر إليه فرعون ومن في مجلسه، فقال: أدخلوه، فدخل عليه
وهو في قبة له مرتفعة كثيرة الارتفاع ثمانون ذراعا، قال: فقال: (إني رسول رب العالمين إليك)،
قال: فقال: (فأت بآية إن كنت من الصادقين)، قال: (فألقى عصاه)، وكان لها شعبتان، قال: فإذا حية
قد وقع إحدى الشعبتين في الأرض، والشعبة الأخرى في أعلى القبة، قال: فنظر فرعون إلى
جوفها وهو يلتهب نيرانا، قال: وأهوت إليه فأحدث، وصاح يا موسى خذها.
(104) وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين: إليك. حقيق على أن لا
أقول على الله إلا الحق: وكان أصله حقيق علي أن لا أقول فقلب لأمن الالتباس، أو لأن ما
ألزمك فقد لزمته، أو للإغراق في الوصف بالصدق، يعني أنه حق واجب - علي القول الحق -
أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي، أو ضمن حقيق معنى حريص، أو وضع - على - مكان
الباء كقولهم: رميت السهم على القوس، وقرء علي على الأصل، وعن أبي أنه قرء بالباء، وقرء
في الشواذ بحذف على. قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل: فخلهم حتى
يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم
في الأعمال الشاقة.
(106) قال إن كنت جئت بآية: من عند من أرسلك. فأت بها إن كنت من

1 - الغيضة الأجمة وهي مغيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر والجمع غياض واغياظ وغيض الأسد اي ألف ألف
الغيضة.
224

الصادقين: في الدعوى.
(107) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين: ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان، وهو
الحية العظيمة.
(108) ونزع يده: من جيبه. فإذا هي بيضاء للناظرين: بياضا نورانيا غلب شعاعه
شعاع الشمس، وكان موسى آدم شديد الأدمة فيما يروى.
(109) قال الملاء من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم في سورة الشعراء (قال
للملأ حوله) ولعله قاله: وقالوه، أو قالوه عنه.
(110) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون: تشيرون في أن نفعل.
(111) قالوا أرجه وأخاه: أخرهما وأصدرهما عنك حتى ترى رأيك فيهما وتدبر
أمرهما.
العياشي: مقطوعا لم يكن في جلسائه يومئذ ولد سفاح، ولو كان لأمر بقتلهما، قال:
وكذلك نحن لا يسرع إلينا إلا كل خبيث الولادة. وقرء ارجه بحذف الهمزة الثانية
وكسر الهاء مع الإشباع وبدونه، وبسكون الهاء من غير همز. وأرسل في المدائن حاشرين
(112) يأتوك بكل ساحر عليم: وقرئ سحار.
(113) وجاء السحرة فرعون قالوا أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين.
(114) قال نعم وإنكم لمن المقربين: وقرء ان لنا على الأخبار، وإيجاب الأجر.
(115) قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين: خيروه مراعاة
للأدب، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليه بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ.
قال ألقوا: كرما وتسامحا، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد
الإلهي. فلما ألقوا سحروا أعين الناس: بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه بالحيل
225

والشعوذة. واسترهبوهم: وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا رهبتهم. وجاؤا بسحر
عظيم: في فنه، وروي أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا كأنها حيات ملأت الوادي
وركب بعضها بعضا.
(117) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك: فألقيها فصارت حية عظيمة. فإذا هي
تلقف ما يأفكون: ما يزورونه من الإفك، وهو الصرف وقلب الشئ عن وجهه، وقرء
تلقف بالتخفيف حيث كان. روي أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها
أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم، ثم أخذها موسى فصارت
عصا كما كانت، فقالت السحرة: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا.
(118) فوقع الحق: فحصل وثبت لظهوره أمره وبطل ما كانوا يعملون: من
السحر والمعارضة.
(119) فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين: صاروا أذلاء منهزمين.
(120) وألقى السحرة ساجدين: وخروا سجدا كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم،
ولعل الحق بهرهم (2) واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك لينكسر فرعون
بالذين أراد بهم كسر موسى، وينقلب الأمر عليه.
(121) قالوا آمنا برب العالمين.
(122) رب موسى وهارون: أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به
فرعون.
(123) قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم: وقرء بحذف الهمزة على الأخبار. إن
هذا لمكر مكرتموه في المدينة: إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل

1 - الشعوذة خفة في اليد واخذ كالسحر يري الشئ بغير ما عليه أصله في رأي العين
وهو مشعوذ ومشعوذ والاخذة
بالضم رقية كالسحر أو خرزة يؤخذ بها.
2 - بهره بهرا أي غلبه.
226

أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء وتواطأتم على ذلك. لتخرجوا منها أهلها: يعني القبط،
وتخلص لكم ولبني إسرائيل، وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على الناس لئلا يتبعوا
السحرة في الأيمان فسوف تعلمون: وعيد مجمل يفصله ما بعده.
(124) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف: أي من كل شق طرفا. ثم
لأصلبنكم أجمعين: تفضيحا لكم، وتنكيلا لأمثالكم.
(125) قالوا إنا إلى ربنا منقلبون: أي لا نبالي بالموت والقتل، لانقلابنا إلى لقاء ربنا
ورحمته، وإنا جميعا ننقلب إلى الله فيحكم بيننا.
(126) وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا: أي وما تنكر منا وتعيب إلا
الأيمان بآيات الله، وهو أصل كل منقبة وخير. ربنا أفرغ: أفض. علينا صبرا: واسعا كثيرا
يغمرنا كما يفرغ الماء. وتوفنا مسلمين: ثابتين على الإسلام.
(127) وقال الملاء من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض: بتغيير
الناس عليك، ودعوتهم إلى مخالفتك ويذرك وآلهتك: معبوداتك، القمي: قال: كان فرعون
يعبد الأصنام، ثم ادعى بعد ذلك الربوبية.
وفي المجمع: عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قرء ويدرك وإلاهتك يعني عبادتك.
وقيل: إن فرعون صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه، ولذلك قال: (أنا ربكم
الأعلى). قال: فرعون. سنقتل أبنائهم ونستحي نساءهم: كما كنا نفعل من قبل ليعلم إنا على
ما كنا عليه من القهر والغلبة، وإن غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا، وقرء سنقتل بالتخفيف.
وإنا فوقهم قاهرون: غالبون، وإنهم مقهورون تحت أيدينا.
(128) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا: تسكينا لهم من ضجرهم
بوعيد فرعون، وتسلية لقلوبهم. إن الأرض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين:
وعد لهم منه بالنصرة، وتذكير لما كان قد وعدهم من إهلاك القبط، وتوريثهم ديارهم،
وتحقيق له.
العياشي: عن الصادق عليه السلام قال: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده)
227

قال: فما كان لله فهو لرسوله، وما كان لرسول الله فهو للأمام بعد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم.
وعن الباقر عليه السلام: قال: وجدنا في كتاب علي أن الأرض لله يورثها من يشاء
من عباده والعاقبة للمتقين) وأنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض، ونحن المتقون،
والأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فعمرها فليؤد خراجها إلى الأمام من
أهل بيتي، وله ما أكل منها. فإن تركها وأخربها بعد ما عمرها فأخذها رجل من المسلمين
بعده فعمرها وأحياها فهو أحق به من الذي تركها، فليؤد خراجها إلى الأمام من أهل بيتي،
وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف، فيحوزها ويمنعها ويخرجهم عنها،
كما حواها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنعها، إلا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه
يقاطعهم ويترك الأرض في أيديهم.
(129) قالوا: أي بنو إسرائيل. أوذينا من قبل أن تأتينا: بالرسالة. قيل: أي بقتل
الأبناء. ومن بعد ما جئتنا: أي بإعادته.
والقمي: قال: قال الذين آمنوا بموسى: قد أوذينا قبل مجيئك يا موسى بقتل أولادنا،
ومن بعد ما جئتنا لما حبسهم فرعون لأيمانهم بموسى. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم
ويستخلفكم في الأرض: صرح بما كنى عنه أولا لما رآى أنهم لم يتسلوا بذلك. فينظر:
فيرى. كيف تعملون: من شكر، وكفران، وطاعة، وعصيان، ليجازيكم على حسب ما يوجد
منكم.
(130) ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين: بالجدوب لقلة الأمطار والمياه. والقمي:
يعني السنين الجدبة.
أقول: السنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به ثم اشتق منها
فقيل: أسنت القوم إذا قحطوا (1). ونقص من الثمرات: بكثرة العاهات. لعلهم يذكرون:

1 - القحط بالتحريك الجدب وقحط المطر من باب نفع إذا احتبس وحكى عن الفراء قحط المطر من باب
تعب وقحط القوم أصابهم القحط وقحطوا على ما لم يسم فاعله.
228

لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا وليرق قلوبهم بالشدائد
فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده.
(131) فإذا جاءتهم الحسنة: من الخصب والسعة. قالوا لنا هذه: لأجلنا ونحن
مستحقوها. وإن تصبهم سيئة: جدب وبلاء. يطيروا بموسى ومن معه: يتشأموا بهم، ويقولوا:
ما أصابتنا إلا بشؤمهم. القمي: قال: الحسنة هيهنا: الصحة والسلامة والأمن والسعة،
والسيئة هنا: الجوع والخوف والمرض. ألا إنما طائرهم عند الله: أي سبب خيرهم وشرهم
عنده، وهو حكمه ومشيئته كما قال: (قل كل من عند الله). ولكن أكثرهم لا يعلمون.
(132) وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين: أي شئ تأتنا
لتموه علينا فما نحن لك بمصدقين، أرادوا أنهم مصرون على تكذيبه، وإن أتى بجميع
الآيات.
(133) فأرسلنا عليهم الطوفان: ما طاف بهم وغشيهم.
العياشي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل ما الطوفان؟ فقال: هو طوفان الماء،
والطاعون. والجراد والقمل: قيل: هو كبار القردان، وقيل: هو صغار الجراد، وقيل: (1) غير ذلك.
والضفادع والدم آيات مفصلات: مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته
عليهم، أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل آيتين منها سنة، وكان امتداد كل
واحدة أسبوعا. فاستكبروا: عن الأيمان. وكانوا قوما مجرمين.
(134) ولما وقع عليهم الرجز: العذاب، العياشي: عن الرضا عليه السلام الرجز:
هو الثلج، ثم قال: خراسان بلاد رجز.
وفي المجمع: عن الصادق عليه السلام أنه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل ذلك

() وقيل الدبا الذي لا أجنحة له قال بعض المفسرين: اختلف العلماء في القمل المرسل على بني إسرائيل فقيل هو السوس
والذي يخرج من الحنطة وقيل غير ذلك وروي أن موسى عليه السلام مشى إلى كثيب أعفر كثيب مهيل فضربه بعصاه
فانتثر كله قملا في مصر فتتبع حروثهم وأشجارهم ونباتهم فأكله ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده
فيعضه وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ قملا فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل فإنه أخذ شعورهم وأبشارهم
وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري ومنعهم النوم والقرار.
229

فماتوا فيه وجزعوا، وأصابهم ما لم يعهدوه قبله. قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك:
بعهده عندك. لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل.
(135) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بلغوه: إلى حد من الزمان هم بالغوه.
إذا هم ينكثون: فاجأوا النكث وبادروه ولم يؤخروه.
(136) فانتقمنا منهم: فأردنا الانتقام منهم. فأغرقناهم في اليم: في البحر الذي لا
يدرك قعره. بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين: القمي: مقطوعا، ونسب حديثه في
المجمع: إلى الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام: قال: لما سجد السحرة وآمن به
الناس، قال هامان لفرعون: إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه،
فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل. فجاء إليه موسى فقال له: خل عن بني إسرائيل،
فلم يفعل. فأنزل الله عليهم في تلك السنة الطوفان، فخرب دورهم ومساكنهم حتى
خرجوا إلى البرية، وضربوا الخيام.
فقال فرعون لموسى: ادع لنا ربك حتى يكف عنا الطوفان حتى أخلي عن بني
إسرائيل وأصحابك، فدعا موسى ربه فكف عنهم الطوفان، وهم فرعون أن يخلي عن بني
إسرائيل فقال له هامان: إن خليت عن بني إسرائيل غلبك موسى وأزال ملكك، فقبل منه
ولم يخل عن بني إسرائيل، فأنزل الله عليهم في السنة الثانية الجراد فجردت كل شئ كان
لهم من النبت والشجر حتى كانت تجرد شعرهم ولحيتهم، فجزع فرعون من ذلك جزعا
شديدا وقال:
يا موسى ادع ربك أن يكف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل وأصحابك،
فدعا موسى ربه فكف عنهم الجراد، فلم يدعه هامان أن يخلي عن بني إسرائيل، فأنزل الله
عليهم في السنة الثالثة القمل فذهبت زروعهم وأصابتهم المجاعة، فقال فرعون لموسى: إن
رفعت عنا القمل كففت عن بني إسرائيل فدعا موسى ربه حتى ذهب القمل، وقال: أول ما
خلق الله القمل في ذلك الزمان، فلم يخل عن بني إسرائيل فأرسل الله عليهم بعد ذلك
الضفادع فكانت تكون في طعامهم وشرابهم، ويقال: إنها تخرج من أدبارهم وآذانهم
وآنافهم. فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فجاؤوا إلى موسى فقالوا:
230

ادع الله يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا
موسى ربه فرفع الله عنهم ذلك، فلما أبوا أن يخلوا عن بني إسرائيل حول الله ماء النيل دما.
فكان القبطي رآه دما والإسرائيلي رآه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، وإذا شربه
القبطي يشربه دما، وكان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فمك وصبه في فمي فكان
إذا صبه في فم القبطي يحول دما فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فقالوا لموسى: لئن رفع
الله عنا الدم لنرسلن معك بني إسرائيل، فلما رفع الله عنهم الدم غدروا ولم يخلوا عن بني
إسرائيل فأرسل الله عليهم الرجز وهو الثلج ولم يروه قبل ذلك فماتوا فيه وجزعوا
وأصابهم ما لم يعهدوه قبله، فقالوا: (يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا
الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل) فدعا ربه فكشف عنهم الثلج فخلى عن
بني إسرائيل، فلما خلي عنهم اجتمعوا إلى موسى عليه السلام وخرج موسى من مصر واجتمع إليه من
كان هرب من فرعون وبلغ فرعون ذلك، فقال له هامان: قد نهيتك أن تخلي عن بني
إسرائيل فقد استجمعوا إليه، فجزع فرعون وبعث في المدائن حاشرين، وخرج في طلب
موسى.
(137) وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون: يعني بني إسرائيل، كان
يستضعفهم فرعون وقومه بالاستعباد، وذبح الأبناء مشرق الأرض ومغاربها: يعني أرض
مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة، والعمالقة، وتمكنوا في نواحيها. التي باركنا
فيها: بالخصب والعيش. وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل: ومضت عليهم
واتصلت بإنجاز عدته إياهم بالنصر والتمكين، وهي قوله عز وجل: (ونريد أن نمن على
الذين استضعفوا) إلى قوله: (ما كانوا يحذرون)، وقرئ كلمات ربك لتعدد المواعيد. بما صبروا:
بسبب صبرهم على الشدائد. ودمرنا: وخربنا. ما كان يصنع فرعون وقومه: من القصور
والعمارات. وما كانوا يعرشون: من الجنان، أو ما كانوا يرفعون من البنيان، وقرء بضم
الراء.
(138) وجوزنا ببني إسرائيل البحر: بعد مهلك فرعون. فأتوا على قوم: فمروا
عليهم. يعكفون على أصنام لهم: يقيمون على عبادتها. قالوا يا موسى اجعل لنا إلها: صنما
231

نعبده. كما لهم آلهة: يعبدونها. قال إنكم قوم تجهلون.
(139) إن هؤلاء: إشارة إلى القوم. متبر: مدمر مكسر. ما هم فيه: إن الله يهدم دينهم
الذي هم عليه على يدي، ويحطم أصنامهم هذه، ويجعلها رضاضا. وبطل: مضمحل. ما
كانوا يعملون: من عبادتها، لا ينتفعون بها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله عز وجل.
(140) قال أغير الله أبغيكم إلها: أطلب بكم معبودا. وهو فضلكم على العالمين:
والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم.
(141) وإذ أنجيناكم من آل فرعون: واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت، وقرء
أنجيكم. يسومونكم سوء العذاب: يبغونكم ويكلفونكم شدة العذاب. يقتلون أبنائكم:
وقرء بالتخفيف. ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم: في الإنجاء نعمة
عظيمة، أو في العذاب محنة عظيمة.
(142) وواعدنا موسى ثلاثين ليلة: ذا القعدة، وقرء ووعدنا وأتممناها بعشر: من ذي
الحجة. فتم ميقات ربه أربعين ليلة: قد سبق تفسيره في سورة البقرة مبسوطا. وقال موسى
لأخيه هارون أخلفني في قومي: كن خليفتي فيهم. وأصلح: ما يجب أن يصلح من أمورهم.
ولا تتبع سبيل المفسدين: ولا تطع من دعاك إلى الإفساد، ولا تسلك طريقه.
(143) ولما جاء موسى لميقاتنا: لوقتنا الذي وقتناه له وحددناه. وكلمه ربه: من غير
واسطة، كما يكلم الملائكة. قال رب أرني أنظر إليك: أرني نفسك واجعلني متمكنا من
رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك. قال لن تراني: لن تطيق رؤيتي. ولكن انظر إلى
الجبل فإن استقر مكانه: لما تجليت عليه. فسوف تريني فلما تجلى ربه للجبل: ظهر له عظمته،
وتصدى له اقتداره وأمره. جعله دكا: مدكوكا مفتتا، والدك والدق متقاربان، وقرء دكاء أي
أرضا مستوية. وخر موسى صعقا: مغشيا عليه من هول ما رآى. فلما أفاق قال: تعظيما لما رآى.
سبحانك تبت إليك: من الجرأة والأقدام على مثل هذا السؤال. وأنا أول المؤمنين: بأنك لا
ترى.
في المجمع: عن الصادق عليه السلام أنا أول من آمن وصدق بأنك لا ترى.
وفي العيون: عن الرضا عليه السلام أنه سئل كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى
232

ابن عمران لا يعلم أن الله لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟ فقال عليه السلام:
إن كليم الله علم أن الله منزه عن أن يرى بالأبصار، ولكنه لما كلمه الله وقربه نجيا (1) رجع
إلى قومه فأخبرهم أن الله كلمه وقربه وناجاه فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما
سمعته، وكان القوم سبعمأة ألف فاختار منهم سبعين ألفا، ثم اختار منهم سبعة آلاف، ثم
اختار منهم سبعمأة، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه فخرج بهم إلى طور سيناء.
فأقامهم في سفح (2) الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل الله أن يكلمه ويسمعهم كلامه.
فكلمه الله وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن الله أحدثه في
الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن بأن هذا الذي
سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة.
فلما قالوا: هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث الله عليهم صاعقة يعني نارا
وقع من السماء فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا، فقال موسى: يا رب ما أقول لبني
إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت
من مناجاة الله إياك، فأحياهم وبعثهم معه فقالوا: إنك لو سألت الله أن يريك تنظر إليه
لأجابك فتخبرنا كيف هو ونعرفه حق معرفته.
فقال موسى: يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له وإنما يعرف بآياته ويعلم
بأعلامه، فقالوا: (لن نؤمن لك) حتى تسأله، فقال موسى: يا رب إنك قد سمعت مقالة بني
إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله إليه يا موسى سلني ما سألوك فلم أؤاخذك
بجهلهم فعند ذلك قال موسى: (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل
فإن استقر مكانه) وهو يهوي (فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل) بآياته من آياته (جعله دكا
وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك) يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن
جهل قومي (وأنا أول المؤمنين) منهم بأنك لا ترى.
وفي الإكمال: عن القائم عليه السلام في كلام فلما وجدنا اختيار من قد اصطفيه

1 - قوله تعالى قربناه نجيا أي مناجيا وهو مصدر كالصهيل والنعيق يقع على الواحد والجماعة.
2 - سفح الجبل أسفله حيث يسفح فيه الماء.
233

الله للنبوة يعني موسى عليه السلام واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنه
الأصلح دون الأفسد علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما في الصدور وتكن الضمائر
الحديث، ويأتي تمامه في سورة القصص إنشاء الله.
وفي التوحيد: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث وسأل موسى عليه السلام وجرى على
لسانه من بعد حمد الله عز وجل (رب أرني أنظر إليك) فكانت مسألته تلك أمرا عظيما، وسأل
أمرا جسيما فعوتب فقال الله وتعالى: (لن تراني) في الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة، ولكن إن
أردت أن تراني في الدنيا فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فأبدى الله
سبحانه بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما وخر موسى صعقا، ثم
أحياه الله وبعثه فقال: (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) يعني أول من آمن بك منهم
أنه لن يراك.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام: إن موسى بن عمران لما سأل ربه
النظر إليه وعده الله أن يقعد في موضع ثم أمر الملائكة أن تمر عليه موكبا موكبا بالبرق
والرعد والريح والصواعق فكلما مر به موكب ارتعدت فرائصه (1) فيرفع رأسه فيسأل
أفيكم ربي فيجاب هو آت وقد سألت عظيما يا ابن عمران.
وعنه وعن الباقر عليهما السلام: لما سأل موسى عليه السلام ربه تعالى (قال رب
أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني)، قال: فلما
صعد موسى الجبل فتحت أبواب السماء وأقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد وفي
رأسها النور يمرون به فوجا بعد فوج يقولون: يا ابن عمران أثبت فقد سألت عظيما، قال:
فلم يزل موسى عليه السلام واقفا حتى تجلى ربنا جل جلاله فجعل الجبل دكا وخر
موسى صعقا، فلما أن رد الله إليه روحه وأفاق قال: (سبحانك تبت إليك وأنا أول
المؤمنين).

1 - في الحديث ارتعدت فرائصه واصطكت فرائص الملائكة هي جمع فريصة وهي اللحمة بين جنب الدابة وكتفها لا
تزال ترعد من الدابة وجمعها أيضا فريص وفريص العنق أوداجها الواحدة فريصة.
234

وفي رواية: إن النار أحاطت بموسى عليه السلام لئلا يهرب لهول ما رأى، وقال: لما
خر موسى صعقا مات، فلما أن رد الله روحه أفاق فقال: (سبحانك تبت إليك وأنا أول
المؤمنين).
والقمي: في قوله: (ولكن انظر إلى الجبل) قال: فرفع الله الحجاب ونظر إلى الجبل فساخ (1)
الجبل في البحر فهو يهوي حتى الساعة ونزلت الملائكة وفتحت أبواب السماء فأوحى الله
إلى الملائكة أدركوا موسى لا يهرب فنزلت الملائكة وأحاطت بموسى وقالوا: أثبت يا ابن
عمران فقد سألت الله عظيما، فلما نظر موسى إلى الجبل قد ساخ والملائكة قد نزلت وقع
على وجهه من خشية الله وهول ما رأى فرد الله عليه روحه فرفع رأسه وأفاق، وقال:
(سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) أي أول من صدق أنك لا ترى.
وفي البصائر: عن الصادق عليه السلام إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق
الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم، ثم
قال: ان موسى عليه السلام لما سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل
وجعله دكا. قال في الجوامع: وقيل في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بقوله أرني أنظر
إليك عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا بإظهار بعض آيات الآخرة التي تضطر الخلق إلى
معرفتك، أنظر إليك أعرفك معرفة ضرورية كأني أنظر إليك كما جاء في الحديث (سترون
ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) بمعنى ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء مثل أبصاركم
القمر إذا امتلى واستوى بدرا، قال: (لن تراني) لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة، ولن تحتمل
قوتك تلك الآية، ولكن انظر إلى الجبل فإني أورد عليه آية من تلك الآيات فإن ثبت
لتجليها واستقر مكانه فسوف تثبت بها وتطيقها (فلما تجلى ربه) فلما ظهرت للجبل آية من
آيات ربه (جعله دكا وخر موسى صعقا) لعظم ما رآى (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك) مما
اقترحت (وأنا أول المؤمنين) بعظمتك وجلالك.
أقول: تحقيق القول في رؤية الله سبحانه ما أفاده مولانا أمير المؤمنين عليه

1 - ساخت قوائمه في الأرض تسوخ سوخا وتسيخ سيخا من باب قال وباع دخلت فيها وغابت وساخت فرسي
غاصت في الأرض وساخت بهم الأرض بالوجهين خسفت وبعدي بالهمزة فيقال أساخه الله.
235

السلام لم تره العيون بمشاهدة الأبصار (1) ولكن رأته القلوب بحقائق الأيمان، لا يعرف
بالقياس، ولا يدرك بالحواس، ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات. وقال
عليه السلام: لم أعبد ربا لم أره.
وفي التوحيد: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن الله عز وجل هل يراه المؤمنين
يوم القيامة؟ قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقيل: متى؟ قال: حين قال لهم: (ألست بربكم
قالوا بلى)، ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ألست تراه
في وقتك هذا قيل: فأحدث بها عنك فقال: لا فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى
ما تقوله، ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عما
يصفه المشبهون والملحدون.
(144) قال يا موسى إني اصطفيتك: اخترتك. على الناس: أي الذين كانوا في زمانك،
وهارون وإن كان نبيا كان مأمورا باتباعه، ولم يكن كليما ولا صاحب شرع برسالاتي يعني
أسفار التوراة، وقرء برسالتي. وبكلامي: وبتكليمي إياك. فخذ ما آتيتك: ما أعطيتك من
الرسالة. وكن من الشاكرين: على النعمة، فيه.
روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة يوم النحر.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام ان يا موسى
تدري لما اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال: رب ولم ذاك؟ قال: فأوحى الله وتعالى إليه يا
موسى إني قلبت عبادي ظهرا لبطن فلم أجد فيهم أحدا أذل لي نفسا منك، يا موسى إنك
إذا صليت وضعت خدك على التراب، أو قال: على الأرض، وفي العلل: عنه عليه السلام
ما يقرب منه.
(145) وكتبنا له في الألواح من كل شئ: ومما يحتاجون إليه من أمر الدين. موعظة
وتفصيلا لكل شئ: وكانت زبرجدة من الجنة كما رواه

1 - بالكسر على المصدر في مقابلة الايمان وفي توحيد الصدوق العيان مكان الابصار وحقايق الايمان أركانه من
التصديق بالله وبوحدانيته واعتبارات أسمائه وصفاته عز وجل ولرؤية الله سبحانه بالقلوب مراتب بحسب درجات الايمان
قوة وضعفا.
236

العياشي: عن الصادق عليه السلام. وفي البصائر: عن أمير المؤمنين عليه السلام أنها
كانت من زمرد أخضر. فخذها بقوة: بجد وعزيمة. القمي: أي قوة القلب. وأمر قومك
يأخذوا بأحسنها: بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتقام والاقتصاص، وهو
مثل قوله وتعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم)، وقوله: (فيتبعون أحسنه). سأريكم
دار الفاسقين: منازل القرون الماضية المخالفة لأمر الله الخارجة عن طاعة الله ليعتبروا.
العياشي: عن الصادق عليه السلام في الجفر أن الله عز وجل لما أنزل الألواح على موسى
أنزلها عليه وفيها تبيان كل شئ كان أو هو كائن إلى أن تقوم الساعة فلما انقضت أيام
موسى أوحى الله إليه أن استودع الألواح وهي زبرجدة من الجنة، جبلا يقال له: زينة فأتى
موسى الجبل فانشق له الجبل فجعل فيه الألواح ملفوفة فلما جعلها فيه انطبق الجبل
عليها فلم تزل في الجبل حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل ركب من
اليمن يريدون الرسول.
فلما انتهوا إلى الجبل انفرج الجبل وخرجت الألواح ملفوفة كما وضعها موسى
فأخذها القوم فلما وقعت في أيديهم القي في قلوبهم أن لا ينظروا إليها، وهابوها حتى يأتوا
بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله جبرئيل على نبيه صلى الله عليه وآله
وسلم فأخبره بأمر القوم وبالذي أصابوه فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وسلموا عليه ابتدأهم فسألهم عما وجدوا فقالوا: وما علمك بما وجدنا؟ قال: أخبرني به ربي
وهو الألواح، قالوا: نشهد أنك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجوها فوضعوها
إليه فنظر إليها وقرأها وكانت بالعبراني.
ثم دعا أمير المؤمنين عليه السلام فقال: دونك هذه ففيها علم الأولين والآخرين
وهي ألواح موسى، وقد أمرني ربي أن أدفعها إليك فقال: لست أحسن قرائتها، قال: إن
جبرئيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه فإنك تصبح وقد علمت
قرائتها، قال: فجعلها تحت رأسه فأصبح وقد علمه الله كل شئ فيها فأمر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بنسخها فنسخها في جلد وهو الجفر، وفيه علم الأولين والآخرين، وهو
عندنا والألواح عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثنا النبيين - أجمعين.
237

قال: قال أبو جعفر عليه السلام: تلك الصخرة التي حفظت ألواح موسى تحت
شجرة في واد يعرف بكذا.
وفي البصائر: أن الباقر عليه السلام عرف تلك الصخرة ليماني دخل عليه وفيه: هذا
الخبر بنحو آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام، وفي آخره فأخذ النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وإذا هو كتاب بالعبرانية وفتق فدفعه إلي ووضعته عند رأسي فأصبحت بالغداة
وهو كتاب بالعربية جليل فيه علم ما خلق الله منذ قامت السماوات والأرض إلى أن تقوم
الساعة فعلمت ذلك.
(146) سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق: بالطبع على
قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وإن يروا كل آية: منزلة أو معجزة. لا يؤمنوا بها:
لاختلاف عقولهم بسبب انهماكهم في التقليد والهوى، في الحديث: إذا عظمت أمتي الدنيا
نزعت عنها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة
الوحي. وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا: وقرئ الرشد بفتحتين. وإن يروا سبيل
الغى يتخذوه سبيلا.
القمي: قال: إذا رأوا الأيمان والصدق والوفاء والعمل الصالح لا يتخذوه سبيلا، وإن
يروا الشرك والزنا والمعاصي يأخذوا بها ويعملوا بها. ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها
غافلين: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات.
(147) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم: لا ينتفعون بها. هل
يجزون إلا ما كانوا يعملون: إلا جزاء أعمالهم.
(148) واتخذ قوم موسى من بعده: من بعد ذهابه للميقات. من حليهم: وقرء بكسر
الحاء. عجلا جسدا: خاليا من الروح. له خوار: صوت كصوت البقر، قد مضى قصة العجل
مبسوطة في سورة البقرة.
العياشي: عن الباقر عليه السلام أن في ما ناجى موسى ربه أن قال: يا رب هذا
السامري صنع العجل فالخوار من صنعه، قال: فأوحى الله إليه يا موسى أن تلك فتنتي فلا
تفحص عنها.
238

وعن الصادق عليه السلام: قال: يا رب ومن أخار الصنم؟ فقال الله: يا موسى أنا
أخرته، فقال: موسى: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء). ألم يروا أنه لا
يكلمهم ولا يهديهم سبيلا: تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر، يعني إنه ليس
كآحاد البشر فكيف يكون خالق القوى والقدر. اتخذوه إلها وكانوا ظالمين: واضعين الأشياء
في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم.
(149) ولما سقط في أيديهم: كناية عن اشتداد ندمهم فإن النادم المتحسر يعض
يده غما فتصير يده مسقوطا فيها. ورأوا: وعلموا. أنهم قد ضلوا: باتخاذ العجل. قالوا لئن لم
يرحمنا ربنا ويغفر لنا: بالتجاوز عن الخطيئة. لنكونن من الخاسرين: وقرء بالخطاب
والنداء.
(150) ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا: شديد الغضب، أو حزينا. قال بئس
ما خلفتموني من بعدي: أي قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي حيث عبدتم العجل
مكان عبادة الله. أعجلتم أمر ربكم: يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام وأعجله عنه غيره
ويضمن معنى سبق فيقال: عجل الأمر، والمعنى أتركتم أمر ربكم غير تام؟ وهو انتظار موسى
حافظين لعهده. وألقى الألواح: طرحها من شدة الغضب لله وفرط الضجر حمية للدين.
روي: أنه لما ألقاها انكسرت فذهب بعضها.
وفي البصائر: عن أمير المؤمنين عليه السلام: إن منها ما تكسر، ومنها ما بقي، ومنها ما
ارتفع.
وعن الباقر عليه السلام: إنه عرف يمانيا صخرة باليمن ثم قال: تلك الصخرة التي
التقمت ما ذهب من التوراة حين ألقى موسى الألواح فلما بعث الله رسوله أدته إليه وهي
عندنا.
وفي المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحم الله أخي موسى عليه
السلام ليس المخبر كالمعاين لقد أخبره الله بفتنة قومه، ولقد عرف أن ما أخبره ربه حق
وان على ذلك لمتمسك بما في يديه فرجع إلى قومه ورآهم فغضب وألقى الألواح.
239

والعياشي: عن الصادق عليه السلام ما في معناه. وأخذ برأس أخيه يجره إليه (1).
في العلل: عن الصادق عليه السلام وذلك لأنه لم يفارقهم لما فعلوا ذلك، ولم يلحق
بموسى، وكان إذا فارقهم ينزل بهم العذاب. قال ابن أم: وقرء أم بالكسر، وإنما نسبه إلى الأم
لأنه أقرب إلى الاستعطاف.
وفي العلل: عنه ولم يقل يا ابن أبي لأن بني الأب إذا كانت أمهاتهم شتى لم تستبعد
العداوة بينهم إلا من عصمة الله منهم، وإنما تستبعد بين بني أم واحدة.
وفي الكافي: عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة الوسيلة إنه كان أخاه لأبيه
وأمه.
والقمي: مثله عن الباقر والصادق عليهما السلام. قيل: وكان هارون أكبر من موسى
بثلاث سنين وكان حمولا (2) لينا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل.
والقمي: عن الباقر عليه السلام أن الوحي ينزل على موسى، وموسى عليه السلام
يوحيه إلى هارون، وكان موسى الذي يناجي ربه، ويكتب العلم، ويقضي بين بني إسرائيل،
قال: ولم يكن لموسى ولد وكان الولد لهارون. إن القوم استضعفوني: قهروني واتخذوني
ضعيفا، ولم آل جهدا في كفهم بالإنذار والوعظ. وكادوا يقتلونني: وقاربوا قتلي لشدة
إنكاري عليهم. فلا تشمت بي الأعداء: فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله. ولا تجعلني مع
القوم الظالمين: معدودا في عدادهم بالمؤاخذة علي ونسبة التقصير إلي.
(151) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الرحمين.
(152) إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم: قيل: هو ما أمروا من
قتل أنفسهم. وذلة في الحياة الدنيا: قيل: هي خروجهم من ديارهم وقيل: هي الجزية

1 - قيل في معناه ان موسى إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم مفكرا فيما كان منهم كما يفعل الانسان بنفسه عند حالة
الغضب وشدة الفكر مثل ذلك فيقبض على لحيته ويعض على شفتيه فاجرى موسى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع
الانسان بنفسه عند حالة الغضب والفكر.
2 - حمل عنه حلم فهو حمول ذو حلم.
240

وكذلك نجزى المفترين: وافتراؤهم قولهم: (هذا إلهكم وإله موسى).
في الكافي: عن الباقر عليه السلام أنه تلا هذه الآية فقال: فلا ترى صاحب بدعة إلا
ذليلا، ولا مفتريا على الله وعلى رسوله وعلى أهل بيته إلا ذليلا.
(153) والذين عملوا السيئات: من الكفر والمعاصي. ثم تابوا من بعدها: من بعد
السيئات. وآمنوا: وعملوا بمقتضى الأيمان. إن ربك من بعدها: من بعد التوبة. لغفور
رحيم.
(154) ولما سكت عن موسى الغضب: عبر عن سكون الغضب وإطفائه
بالسكوت. تنبيها على أن الغضب كان هو الحامل له على ما فعل، والأمر له به والمغرى عليه،
وهذا من البلاغة في الكلام. أخذ الألواح: التي ألقيها. وفى نسختها هدى: دلالة وبيان لما
يحتاج إليه من أمر الدين. ورحمة: نعمة ومنفعة. للذين هم لربهم يرهبون: معاصي الله.
(155) واختار موسى قومه: من قومه، من باب الحذف والإيصال. سبعين رجلا
لمقاتنا: سبقت قصتهم عند ذكر سؤال الرؤية. فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت
أهلكتهم من قبل وإياي: تمنى هلاكهم، وهلاكه قبل أن يرى ما رأى. أتهلكنا بما فعل
السفهاء منا: من التجاسر على طلب الرؤية. في التوحيد: عن الرضا عليه السلام أن
السبعين لما صاروا معه إلى الجبل قالوا له: إنك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته، فقال:
إني لم أره، فقالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة)، واحترقوا عن
آخرهم، وبقى موسى وحيدا، فقال: يا رب اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت
بهم وأرجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرتهم به؟ فلو شئت أهلكتهم من قبل
وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا)؟ فأحياهم الله بعد موتهم.
وفي العيون: ما يقرب منه كما مر. إن هي إلا فتنتك: ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك
حتى طمعوا في الرؤية. تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا: القائم بأمرنا. فاغفر
لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين: تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.
(156) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة: حسن معيشة، وتوفيق طاعة. وفى الآخرة:
241

الجنة. إنا هدنا إليك: تبنا إليك، من هاد يهود إذا رجع. قال عذابي أصيب به من أشاء: تعذيبه.
ورحمتي وسعت كل شئ: في الدنيا فما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو
متقلب في نعمتي، أو في الدنيا والآخرة، إلا أن قوما لم يدخلوها لضلالهم. فسأكتبها: فسأثبتها
وأوحيها في الآخرة. للذين يتقون: الشرك والمعاصي. ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا
يؤمنون: فلا يكفرون بشئ منها.
(157) الذين يتبعون الرسول النبي.
في الكافي: عنهما عليهما السلام الرسول: الذي يظهر له الملك فيكلمه، والنبي: هو
الذي يرى في منامه، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد. الأمي: المنسوب إلى أم القرى
وهي مكة، كذا في المجمع.
وعن الباقر عليه السلام، والعياشي: عنه عليه السلام أنه سئل لم سمي النبي الأمي؟ قال: نسب
إلى مكة، وذلك قول الله: (لتنذر أم القرى ومن حولها) وأم القرى مكة، فقيل: أمي لذلك.
وفي العلل: عن الجواد عليه السلام أنه سئل عن ذلك؟ فقال: ما يقول الناس؟ قيل:
يزعمون أنه إنما سمي الأمي لأنه لم يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله، أنى ذلك،
والله يقول: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة)، فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن، والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقرأ ويكتب باثنين وسبعين، أو قال: بثلاث وسبعين لسانا، وإنما سمي الأمي
لأنه كان من أهل مكة، ومكة من أمهات القرى، وذلك قول الله عز وجل: (لتنذر أم القرى
ومن حولها) الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التورية والإنجيل: باسمه ونعته. والعياشي: عن
الباقر عليه السلام يعني اليهود والنصارى صفة محمد واسمه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي المجالس: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال يهودي لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: إني قرأت نعتك في التوراة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله،
وسلم مولده بمكة ومهاجره بطيبة، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب (1) ولا مترنن بالفحش،

1 - في الحديث إياك أن تكون سخابا هو بالسين المفتوحة والباء الموحدة صيغة مبالغة من السخب بالتحريك وهو
شدة الصوت والخنا مرادف الفحش.
242

ولا قول الخنا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا
مالي فاحكم فيه بما أنزل الله.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام لما نزلت التورية على موسى بشر بمحمد صلى
الله عليه وآله وسلم قال: فلم تزل الأنبياء تبشر به حتى بعث الله المسيح عيسى بن مريم
فبشر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وذلك قوله: (يجدونه): يعني اليهود والنصارى (مكتوبا):
يعني صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، (عندهم): يعني في التوراة والأنجيل، وهو قول الله
عز وجل يخبر عن عيسى عليه السلام: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).
وفيه مرفوعا: إن موسى ناجاه ربه تعالى فقال له في مناجاته: أوصيك يا موسى وصية
الشفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم، ومن بعده بصاحب الجمل الأحمر، الطيب،
الطاهر، المطهر، فمثله في كتابك إنه مهيمن على الكتب كلها، وأنه راكع، ساجد، راغب،
راهب، إخوانه المساكين، وأنصاره قوم آخرون. يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث: يستفاد من بعض الروايات تأويل الطيبات بأخذ العلم من
أهله، والخبائث بقول من خالف. ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم:
ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة وأصل الأصر: الثقل، وقد مضى حديث
وضع الأصر عن هذه الأمة في آخر سورة البقرة، وقرء أصارهم. فالذين آمنوا به وعزروه:
وعظموه بالتقوية والذب عنه، وأصل التعزير: المنع. ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه:
قيل النور: القرآن.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام النور: علي عليه السلام.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام النور في هذا الموضع: علي والأئمة عليهم
السلام. أولئك هم المفلحون.
(158) قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا: في المجالس: عن الحسن
المجتبى عليه السلام قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقالوا: يا محمد أنت الذي تزعم أنك رسول الله وأنك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى
موسى بن عمران؟ فسكت النبي ساعة ثم قال: نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم
243

النبيين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، قالوا: إلى من إلى العرب أم إلى العجم أم إلينا؟
فأنزل الله هذه الآية. الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا
بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته: يريد بها ما أنزل الله عليه، وعلى من
تقدمه من الرسل. واتبعوه لعلكم تهتدون:
أقول: يعني إلى العلم اللدني الموصل إلى محبة الله وولايته فإنه لا يحصل إلا
بالأيمان واتباع النبي، ومن أمر النبي باتباعه (1).
(159) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق: بكلمة الحق. وبه: وبالحق. يعدلون:
بينهم في الحكم.
العياشي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية قوم موسى: هم أهل الإسلام.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام إن هذه الأمة قوم من وراء الصين، بينهم وبين
الصين واد حار من الرمل، لم يغيروا ولم يبدلوا، ليس لأحدهم مال دون صاحبه، يمطرون
بالليل، ويضحون (2) بالنهار، ويزرعون لا يصل إليهم أحد منا، ولا منهم إلينا، وهم على
الحق، وقال: وقيل: إن جبرئيل انطلق بالنبي صلى الله عليه وآله ليلة المعراج إليهم فقرأ
عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكة فآمنوا به وصدقوه، وأمرهم أن يقيموا مكانهم
ويتركوا السبت، وأمرهم بالصلاة والزكاة ولم يكن نزلت فريضة غيرهما ففعلوا، قال: وروى
أصحابنا أنهم يخرجون مع قائم آل محمد عليهم السلام.
وروي: أن ذا القرنين رآهم وقال: لو أمرت بالمقام لسرني أن أقيم بين أظهركم.
(160) وقطعناهم: وصيرناهم قطعا متميزا بعضهم عن بعض. اثنتي عشرة

1 - العياشي عن الصادق عليه السلام قال إذا قام قائم آل محمد عليهم السلام استخرج من ظهر الكعبة سبعة
وعشرين رجلا خمسة عشر يعدلون وسبعة من أصحاب الكهف ويوشع وصي موسى ومؤمن آل فرعون وسلمان الفارسي
وأبا دجانة الأنصاري ومالك الأشتر وعن أمير المؤمنين عليه السلام ان بني إسرائيل بعد موسى افترقت على احدى وسبعين
فرقة كلها في النار إلا واحدة فان الله يقول ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون فهذه التي تنجو (منه رحمه الله)
أقول ولا يبعد ان يكونوا هم المقصودون بالآخرين في الرواية المتقدمة.
2 - ضحى ضحوا وضحيا اصابته الشمس وارض مضحاة لا تكاد تغيب عنها الشمس ويضحون مبني على للمفعول اما
من باب نصر أو من باب الافعال.
244

أسباطا أمما: والأسباط ولد الأولاد، والأسباط في ولد يعقوب بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل
وأوحينا إلى موسى إذ استسقه قومه: في التيه. أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست: أي
فضرب فانبجست، وفي حذفه إشارة إلى أنه لم يتوقف في الامتثال. منه اثنتا عشرة عينا قد
علم كل أناس مشربهم: كل سبط مشربهم. وظللنا عليهم الغمام: ليقيهم حر الشمس.
وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا: أي وقلنا لهم: كلوا. من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: مضى تفسيره في سورة البقرة.
(161) وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية: بإضمار اذكروا، والقرية: بيت المقدس. وكلوا
منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد
المحسنين.
(162) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من
السماء بما كانوا يظلمون: مضى تفسيره فيها، وقرء تغفر بالتاء والبناء للمفعول، وخطيئتكم
بالتوحيد، وخطاياكم.
(163) واسألهم: واسأل اليهود، وهو سؤال تقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود
الله. عن القرية: عن خبرها، وما وقع بأهلها. التي كانت حاضرة البحر: قريبة منه. إذ يعدون
في السبت: يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم السبت وقد نهوا عنه. إذ تأتيهم حيتانهم
يوم سبتهم: يوم تعظيمهم أمر يوم السبت، مصدر سبت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد
للعبادة. شرعا: ظاهرة على وجه الماء، من شرع عليه إذا دنا منه وأشرف. ويوم لا يسبتون لا
تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون.
(164) وإذ قالت أمة منهم: جماعة من أهل القرية. لم تعظون قوما الله مهلكهم:
مخترمهم. أو معذبهم عذابا شديدا: لتماديهم في العصيان. قالوا معذرة: وقرء معذرة بالرفع
إلى ربكم: يعني موعظتنا أنها عذرا إلى الله حتى لا تنسب إلى تفريط في النهي عن المنكر.
ولعلهم يتقون: إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك.
(165) فلما نسوا: تركوا ترك الناسي. ما ذكروا به: ما ذكرهم به الواعظون. أنجينا
الذين ينهون عن السوء: وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس: شديد من بؤس يبؤس
245

بأسا إذا اشتد، وقرء على وزن ضيغم، وبكسر الباء وسكون الهمزة وبكسرها، وقلب الهمزة
ياء بما كانوا يفسقون: بسبب فسقهم.
(166) فلما عتوا عما نهوا عنه: تكبروا عن النهي أو عن ترك ما نهو عنه، وهذا مثل
قوله تعالى: (وعتوا عن ربهم). قلنا لهم كونوا قردة خاسئين: مطرودين مبعدين من كل خير،
كقوله: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون).
في تفسير الإمام عليه السلام في سورة البقرة عند قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا
منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين)، قال علي بن الحسين عليهما السلام: كان
هؤلاء قوما يسكنون على شاطئ بحر نهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم
السبت، فتوصلوا إلى حيلة ليحلوا بها لأنفسهم ما حرم الله فخدوا أخاديد (1) وعملوا طرقا
تؤدي إلى حياض يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق ولا يتهيأ لها الخروج إذ
همت بالرجوع فجاءت الحيتان يوم السبت جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد
وحصلت في الحياض والغدران فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج
لتأمن من صايدها فرامت الرجوع فلم تقدر وبقيت ليلها في مكان يتهيؤ أخذها بلا
اصطياد لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها، وكانوا يأخذون يوم الأحد
ويقولون ما اصطدنا في السبت إنما اصطدنا في الأحد، وكذب أعداء الله بل كانوا آخذين
لها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتى كثر من ذلك مالهم وثراهم، وتنعموا بالنساء
وغيرهم لاتساع أيديهم به.
وكانوا في المدينة نيفا وثمانين ألفا، فعل هذا منهم سبعون ألفا وأنكر عليهم الباقون
كما قص الله: (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) الآية، وذلك أن طائفة منهم
وعظوهم وزجروهم، ومن عذاب الله خوفوهم، ومن انتقامه وشدائد بأسه حذروهم،
فأجابوهم من وعظهم (لم تعظون قوما الله مهلكهم) بذنوبهم هلاك الاصطلام (2) (أو
معذبهم عذابا شديدا)، أجاب القائلين هذا لهم: (معذرة إلى ربكم) هذا القول منا لهم معذرة

1 - الأخدود شق في الأرض مستطيل جمعه أخاديد وخد الأرض من باب مد شقها.
2 - الاصطلام الاستيصال وهو افتعال من الصلم وهو القطع المستأصل وصلمت الاذن من باب ضرب استأصلتها
قطعا. -
246

إلى ربكم، إذ كلفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربنا
مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم، قالوا: ولعلهم يتقون ونعظهم أيضا لعلهم تنجع فيهم
المواعظ فيتقوا هذه الموبقة (1) ويحذروا عقوبتها.
قال الله تعالى: (فلما عتوا) حادوا وأعرضوا وتكبروا عن قبول الزجر عما نهوا عنه قلنا
لهم: (كونوا قردة خاسئين) مبعدين من الخير مغضبين فلما نظر العشرة الآلاف والنيف أن
السبعين ألفا لا يقبلون مواعظهم ولا يخافون بتخويفهم إياهم وتحذيرهم لهم اعتزلوهم
إلى قرية أخرى وانتقلوا إلى قرية من قريتهم، وقالوا: نكره أن ينزل بهم عذاب الله ونحن في
خلالهم، فأمسوا ليلة فمسخهم الله كلهم قردة، وبقى باب المدينة مغلقا، لا يخرج منه أحد
ولا يدخله أحد وتسامع بذلك أهل القرى فقصدوهم وسموا حيطان البلد فاطلعوا
عليهم فإذا هم كلهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض، يعرف هؤلاء
الناظرين معارفهم وقراباتهم وخلطائهم فيقول المطلع لبعضهم: أنت فلان وأنت فلانة
فتدمع عينه ويؤمي برأسه أو بفمه بلى أو نعم، فما زالوا كذلك ثلاثة أيام، ثم بعث الله تعالى
مطرا وريحا فجرفهم إلى البحر وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيام، وإنما الذين ترون من هذه
المصورات بصورها فإنما هي أشباهها لا هي بأعيانها ولا من نسلها.
والقمي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام قال: وجدنا في كتاب علي عليه السلام
إن قوما من أهل أيلة من قوم ثمود وأن الحيتان كانت سبقت إليهم يوم السبت ليختبر الله
طاعتهم في ذلك فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم وقدام أبوابهم في أنهارهم
وسواقيهم فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم عنها
الأحبار، ولا يمنعهم العلماء من صيدها، ثم إن الشيطان أوحى إلى طائفة منهم إنما نهيتم عن
أكلها يوم السبت، ولم تنهوا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما سوى ذلك من
الأيام، فقالت طائفة منهم: الآن نصطادها فعتت، وانحازت طائفة أخرى منهم ذات اليمين
فقالوا: ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرضوا بخلاف أمره، واعتزلت طائفة منهم ذات
الشمال، وسكتت فلم يتعظهم، فقالت للطائفة التي وعظتهم: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو
معذبهم عذابا شديدا)، فقالت الطائفة التي وعظتهم: (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)،

1 - وبق كوعد ورجل وورث وبوقا وموبقا هلك كاستوبق وكمجلس المهلك.
247

قال: فقال الله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به) يعني لما تركوا ما وعظوا به مضوا على
الخطيئة فقالت الطائفة التي وعظتهم: لا والله لا نجامعكم ولا نبايتكم الليلة في مدينتكم
هذه التي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل بكم البلاء فيعمنا معكم، قال: فخرجوا عنهم من
المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء فلما أصبح أولياء
الله المطيعون لأمر الله تعالى غدوا (1) لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فإذا
هو مصمت فدقوه فلم يجابوا ولم يسمعوا منها حس أحد فوضعوا سلما على سور المدينة ثم
أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قردة يتعاوون، فقال الرجل
لأصحابه: يا قوم أرى والله عجبا! قالوا: وما ترى؟ قال: أرى القوم قد صاروا قردة يتعاوون،
لها أذناب، فكسروا الباب ودخلوا المدينة، قال: فعرفت القردة أنسابها من الأنس، ولم يعرف
الأنس أنسابها من القردة، فقال القوم للقردة: ألم ننهكم؟
قال: فقال علي عليه السلام: والله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة أني لأعرف أنسابهم
من هذه الأمة لا ينكرون ولا يغيرون بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا، وقد قال الله: (فبعدا
للقوم الظالمين) فقال الله: (أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب
بئيس بما كانوا يفسقون).
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية: كانوا ثلاثة أصناف صنف
إئتمروا وأمروا: فنجوا، وصنف إئتمروا ولم يأمروا فمسخوا ذرا، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا
فهلكوا. والعياشي: عن الباقر عليه السلام ما في معناه.
وفي المجمع: عن الصادق عليه السلام هلكت الفرقتان، ونجت الفرقة الثالثة.
(167) وإذ تأذن ربك: تفعل، من الإيذان بمعنى الأعلام والعزم، والأقسام معناه
واذكر إذا علم أو عزم ربك وأقسم. ليبعثن عليهم: ليسلطن على اليهود. إلى يوم القيامة من
يسومهم: يكلفهم. سوء العذاب: شدته بالقتل والأذلال، وضرب الجزية. قيل: بعث الله
عليهم من بعد سليمان بخت نصر فخرب ديارهم، وقتل مقاتليهم، وسبى نساءهم

1 - غدا غدوا من باب قعد ذهب غدوة وجمع الغدوة غدى كمدية ومدى هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب
والانطلاق أي وقت كان.
248

وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله
محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ففعل ما فعل وضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة
إلى آخر الدهر.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام إن المعنى بهم: أمة محمد صلى الله عليه وآله
وسلم إن ربك لسريع العقاب: عاقبهم في الدنيا. وإنه لغفور رحيم: لمن تاب وآمن.
(168) وقطعناهم في الأرض أمما: وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو بلد من فرقة
منهم. منهم الصالحون: هم الذين آمنوا بالله ورسوله. ومنهم دون ذلك: ناس دون ذلك، أي
منحطون عن الصلاح وهم كفرتهم وفسقتهم وبلوناهم بالحسنات والسيئات: بالنعم
والنقم والمسخ والمحن لعلهم يرجعون: ينتبهون فينيبون.
(169) فخلف من بعدهم خلف: بدل سوء وهو بالتسكين شائع في الشر،
وبالتحريك في الخير، وقيل المراد به: الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ورثوا الكتاب: التوراة من أسلافهم. يأخذون عرض هذا الأدنى: حطام هذا الشئ الأدنى،
يعني الدنيا. قيل: هو ما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم، وعلى تحريف الكلم للتسهيل
على العامة. ويقولون سيغفر لنا: لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه. وإن يأتهم عرض مثله
يأخذوه: أي يرجون المغفرة وهم مصرون وعايدون إلى مثل فعلهم غير تائبين عنه. ألم
يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب: الميثاق في التوراة. أن لا يقولوا على الله إلا الحق: بأن لا
يكذبوا على الله ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله. ودرسوا ما فيه: وقرأوا ما فيه، فهم ذاكرون
لذلك.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام إن الله خص عباده بآيتين (1) من كتابه أن لا
يقولوا حتى يعلموا، ولا يردوا ما لم يعلموا، وقال عز وجل: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن

1 - قيل يعني عباده الذين هم من أهل الكتاب والكلام كأن من سواهم ليسوا مضافا إليه بالعبودية بآيتين أي
مضمونهما وإلا فالآيات في ذلك فوق اثنتين كقوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا وكذب بآياته ومن لم يحكم بما
انزل الله فأولئك هم الكافرون فأولئك هم الفاسقون فأولئك هم الظالمون إلى غير ذلك ولا يردوا ما لم يعلموا يعني لا يكذبوا
به بل يكلوا علمه إلى قائله فان التصديق بالشئ كما هو محتاج إلى تصوره اثباتا فكذلك هو مفتقر إليه نفيا وهذا في غاية
الظهور ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
249

لا يقولوا على الله إلا الحق)، وقال: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه).
والعياشي: عنه وعن الكاظم عليهما السلام ما يقرب منه والدار الآخرة خير
للذين يتقون: محارم الله مما يأخذ هؤلاء. أفلا تعقلون: فيعلمون ذلك، وقرء بالخطاب.
(170) والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين: أما
عطف على الذين يتقون وما بينهما اعتراض، وإما استيناف ووضع الظاهر موضع المضمر
لأنه في معناه، وللتنبيه على أن الإصلاح مانع عن الإضاعة، وقرء يمسكون بالتخفيف من
الإمساك.
القمي: عن الباقر عليه السلام نزلت في آل محمد (صلوات الله عليهم) وأشياعهم.
(171) وإذ (1) نتقنا الجبل: قلعناه ورفعناه وأصله الجذب. فوقهم كأنه ظلة: سقيفة،
وهي كل ما أظل. وظنوا: وتيقنوا. أنه واقع بهم: ساقط عليهم، لأن الجبل لا يثبت في الجو
ولأنهم كانوا يوعدون به.
قيل: إنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقة خذوا (2) ما آتيناكم بقوة: بعزم من قلوبكم
وأبدانكم.
العياشي: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية أقوة في الأبدان أم قوة
في القلوب؟ قال: فيهما جميعا. واذكروا ما فيه: من الأوامر والنواهي. لعلكم تتقون.
القمي: عن الصادق عليه السلام لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه
فرفع الله عليهم جبل طور سيناء، فقال لهم موسى إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه
وطأطأوا رؤوسهم، وقد مضى تفسيره في سورة البقرة بأبسط من هذا.
(172) وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم: وقرء ذرياتهم، أخرج من

1 - معناه واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل من أصله فرفعناه فوق بني إسرائيل وكان عسكر موسى فرسخا في فرسخ فرفع
الله الجبل فوق جميعهم.
2 - قوله تعالى خذوا ما اتيناكم بقوة أي خذوا ما ألزمناكم من أحكام كتابنا وفرائضه فاقبلوه بجد واجتهاد منكم في
كل أوان من غير تقصير ولا توان.
250

أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن، يعني نثر حقايقهم بين يدي علمه
فاستنطق الحقايق بأسنة قابليات جواهرها وألسن استعدادات ذواتها. وأشهدهم على
أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا: أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم
ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة الأشهاد على طريقة التمثيل، نظير ذلك قوله
عز وجل: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) وقوله جل وعلا: (فقال لها
وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) ومعلوم أنه لا قول ثمة وإنما هو تمثيل
وتصوير للمعنى وذلك حين كانت أنفسهم في أصلاب آبائهم العقلية، ومعادنهم الأصلية
يعني شاهدهم وهم دقايق في تلك الحقايق، وعبر عن تلك الآباء بالظهور لأن كل واحد
منهم ظهر أو مظهر لطائفة من النفوس أو ظاهر عنده لكونه صورة عقلية نورية ظاهرة
بذاتها وأشهدهم على أنفسهم أي أعطاهم في تلك النشأة الإدراكية العقلية شهود ذواتهم
العقلية، وهو يأتهم النورية فكانوا بتلك القوى العقلية يسمعون خطاب (ألست بربكم) كما
يسمعون الخطاب في دار الدنيا بهذه القوى البدنية وقالوا بألسنة تلك العقول بلى أنت ربنا
الذي أعطيتنا وجودا قدسيا ربانيا، سمعنا كلامك وأجبنا خطابك، ولا يبعد أيضا أن يكون
ذلك النطق باللسان الملكوتي في عالم المثالي الذي دون عالم العقل فإن لكل شئ ملكوتا
في ذلك العالم كما أشار إليه بقوله سبحانه: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ)
والملكوت باطن الملك، وهو كله حياة، ولكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح، والتمجيد
والتوحيد والتحميد وبهذا اللسان نطق الحصى في كف النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وبه تنطق الأرض يوم القيامة (يومئذ تحدث أخبارها) وبه تنطق الجوارح (أنطقنا الله الذي
أنطق كل شئ). أن تقولوا: أي كراهة أن تقولوا، وقرء بالياء. يوم القيامة إنا كنا عن هذا
غافلين: لم ننبه عليه.
(173) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم: فاقتدينا بهم لأن
التقليد عند قيام الحجة والتمكن من العلم بها لا يصلح عذرا. أفتهلكنا بما فعل المبطلون:
يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك.
(174) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون: عن التقليد واتباع الباطل.
251

في الكافي، والتوحيد، والعياشي: عن الباقر عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية؟ فقال:
أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم نفسه وأراهم صنعه
ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه.
وفي الكافي: عنه، والعياشي: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية؟ فقال:
وأبوه يسمع حدثني أبي أن الله عز وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق آدم منها
فصب عليها الماء العذب الفرات ثم تركها أربعين صباحا، ثم صب عليها المالح
الأجاج (1) فتركها أربعين صباحا، فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها (2) عركا شديدا
فخرجوا كالذر من يمينه وشماله، وأمرهم جميعا أن يقعوا في النار فدخل أصحاب اليمين
فصارت عليهم بردا وسلاما، وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها.
وعن الصادق عليه السلام: أنه سئل كيف أجابوا وهم ذر؟ فقال: جعل فيهم ما إذا
سألهم أجابوه. وزاد العياشي يعني في الميثاق.
أقول: وهذا بعينه ما قلناه أنه عز وجل ركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار.
وعنه عليه السلام: لما أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم: من ربكم؟
فأول من نطق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة
عليهم السلام فقالوا: أنت ربنا فحملهم العلم والدين، ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة ديني
وعلمي وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون، ثم قال لبني آدم أقروا الله بالربوبية، ولهؤلاء
النفر بالولاية والطاعة، فقالوا: نعم ربنا أقررنا، فقال الله للملائكة: اشهدوا فقال الملائكة:
شهدنا على أن لا تقولوا غدا: (إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا) الآية.
والقمي: عنه عليه السلام في هذه الآية أنه سئل معاينة كان هذا؟ قال: نعم فثبتت
المعرفة ونسوا الموقف، وسيذكرونه ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه، فمنهم من أقر
بلسانه في الذر، ولم يؤمن بقلبه فقال الله: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل). والعياشي:
عنه وعن أبيه عليهما السلام ما في معناه إلى قوله: ورازقه. وفي رواية أخرى له: وأسر

1 - الأجاج المالح والمر الشديد الملوحة يقال أج الماء اجوجا إذا ملح واشتدت ملوحته.
2 - يقال عرك البعير جنبه بمرفقه إذا دلكه فأثر فيه.
252

بعضهم خلاف ما أظهر. وفي معنى هذه الأخبار: أخبار كثيرة منها: ما هو أبسط مما ذكر، وقد
شرحنا بعضها بما لا مزيد عليه في كتابنا الوافي.
(175) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا: القمي: نزلت في بلعم بن باعورا، وكان
من بني إسرائيل أوتي علم بعض كتب الله.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام الأصل فيه بلعم ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر
هواه على هدى الله من أهل القبلة.
والعياشي: عنه عليه السلام مثل المغيرة بن سعيد مثل بلعم الذي أوتي الاسم
الأعظم الذي قال الله: (آتيناه آياتنا) الآية. فانسلخ منها: بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره. فأتبعه
الشيطان: فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له. فكان من الغاوين: من الضالين.
القمي: عن الرضا عليه السلام أنه أعطى بلعم بن باعورا الاسم الأعظم وكان
يدعو به فيستجيب له فمال إلى فرعون فلما مر فرعون في طلب موسى وأصحابه قال
فرعون: لبلعم ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب
موسى فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عز وجل فقالت: ويلك على ماذا
تضربني أتريدني أن أجئ معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين، فلم يزل يضربها حتى
قتلها وانسلخ الاسم من لسانه وهو قوله تعالى (فانسلخ منها) الآية.
(176) ولو شئنا لرفعناه: إلى منازل الأبرار من العلماء. بها: بتلك الآيات وملازمتها.
ولكنه أخلد إلى الأرض: مال إلى الدنيا. واتبع هواه: في إيثار الدنيا واسترضاء قومه
وأعرض عن مقتضى الآيات فحططناه. فمثله كمثل الكلب: فصفته كصفة الكلب في
أخس أحواله. إن تحمل عليه: بالزجر، والطرد، من الحملة لا من الحمل. يلهث: يخرج لسانه
بالتنفس الشديد. أو تتركه يلهث: دائم اللهف بخلاف سائر الحيوان فإنه إذا هيج وحرك
لهث وإلا لم يلهث، والمعنى إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، ضال في كل حال.
ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص: المذكورة لعلهم يتفكرون:
فيتعظون ويحذرون مثل عاقبته.
253

(177) ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا: أي مثلهم. وأنفسهم كانوا يظلمون: لا
غيرهم.
(178) من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون: قيل: الأفراد
في الأول والجمع في الثاني لاعتبار اللفظ والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد
طريقتهم بخلاف الضالين.
(179) ولقد ذرأنا: خلقنا. لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون
بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها.
القمي: عن الباقر عليه السلام لهم قلوب لا يفقهون بها، يقول: طبع الله عليها فلا
تعقل، ولهم أعين عليها غطاء عن الهدى لا يبصرون، بها ولهم آذان لا يسمعون بها، جعل في
آذانهم وقرا فلم يسمعوا الهدى. أولئك كالأنعام: في عدم الفقه والأبصار للاعتبار
والاستماع للتدبر وفي أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها.
بل هم أضل: فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار، وتجتهد في جذبها ودفعها
غاية جهدها وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار. أولئك هم
الغافلون: الكاملون في الغفلة.
في العلل: عن أمير المؤمنين عليه السلام أن الله ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة،
وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو
خير من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم.
(180) ولله الأسماء الحسنى: التي هي أحسن الأسماء لتضمنها معاني هي أحسن
المعاني.
القمي: قال: الرحمن الرحيم. فادعوه بها: فسموه بتلك الأسماء.
في الكافي: عن الرضا عليه السلام أنه سئل عن الاسم فقال: صفة موصوف.
والعياشي: عنه عليه السلام قال: إذا نزلت بكم شدة فاستعينوا بنا على الله وهو قول
254

الله: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).
قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: نحن والله الأسماء الحسنى الذي لا يقبل
من أحد طاعة إلا بمعرفتنا، قال: (فادعوه بها). وقد مضى تمام تحقيق معنى الاسم في أوائل
سورة البقرة. وذروا الذين يلحدون في أسمائه: وقرء بفتح الياء والحاء وهو بمعناه، أي
واتركوا الذين يعدلون بأسمائه عما هي عليه فيسمون بها أصنامهم، أو يصفونه بما لا يليق
به، ويسمونه بما لا يجوز تسميته به.
في الكافي: عن الرضا عليه السلام أن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنى
يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار
عن الإحاطة به، جل عما يصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون الحديث.
وفي التوحيد: عن الصادق عليه السلام في حديث طويل وله الأسماء الحسنى التي
لا يسمى بها غيره، وهي التي وصفها في الكتاب فقال: (فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في
أسمائه) جهلا بغير علم، فالذي يلحد في أسمائه بغير علم يشرك وهو لا يعلم، ويكفر به
وهو يظن أنه يحسن، ولذلك قال: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فهم الذين
يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها. سيجزون ما كانوا يعملون.
(181) وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون:
في الكافي: عن الصادق، والعياشي: عن الباقر عليهما السلام في هذه الآية: هم الأئمة
عليهم السلام.
وفي المجمع: عنهما عليهما السلام قالا: نحن هم.
والقمي: هذه الآية لآل محمد عليهم السلام، وأتباعهم.
والعياشي: عن أمير المؤمنين عليه السلام والذي نفسي بيده لتفرقن هذه الأمة على
ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فهذه
التي تنجو من هذه الأمة.
255

وعنه عليه السلام: يعني أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه لكم وقد أعطي قوم موسى
مثلها.
وعنه صلى الله عليه وآله وسم هي لأمتي بالحق يأخذون، وبالحق يعطون، وقد
أعطي لقوم بين أيديكم مثلها (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون).
أقول: أريد بهذه الأخبار الثلاثة بعض الأمة كما يدل على قوله: (مثلها) وما رواه في
المجمع: أن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم.
(182) والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم: سنستدينهم قليلا قليلا إلى الهلاك حتى
يقعوا فيه بغتة، وأصل الاستدراج: الاستصعاد أو الاستنزال. درجة بعد درجة. من حيث لا
يعلمون: ما يراد بهم، وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله بهم فيزدادوا
بطرا وانهماكا في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب.
القمي: قال تجديد النعم عند المعاصي.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو العبد يذنب
الذنب فتجدد له النعمة تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب.
وعنه عليه السلام: إذا أراد الله بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره
الاستغفار، وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا فأتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار، ويتمادى بها وهو
قول الله عز وجل: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) بالنعم عند المعاصي.
(183) وأملى لهم: وأمهلهم. إن كيدي متين (1) لا يدفع بشئ إنما سماه كيدا لأن
ظاهره إحسان وباطنه خذلان.

1 - المتين من أسمائه وهو الشديد القوي الذي لا يعتريه وهن ولا يسمه لغوب والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة انه قادر
بليغ الاقتدار على كل شئ ومتن الشئ بالضم متانة اشتد وصلب فهو متين.
256

(184) أو لم يتفكروا ما بصاحبهم: يعني محمد صلى الله عليه وآله وسلم. من جنة:
أي جنون، روي أنه علا الصفا فدعاهم فخذا (1) يحذرهم بأس الله، فقال قائلهم: إن
صاحبكم لمجنون بات يهوت (2) إلى الصباح فنزلت. إن هو إلا نذير مبين: موضح إنذاره
بحيث لا يخفى على ناظر.
(185) أو لم ينظروا: نظر اعتبار. في ملكوت السماوات والأرض: في باطنها
وأرواحها. وما خلق الله من شئ: مما يقع عليه اسم الشئ من أجناس خلقه التي لا
يمكن حصرها لتدلهم على كمال قدرة صانعها، ووحدة مبدعها، وعظم شأن مالكها، ومتولي
أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه. وأن عسى: وأنه عسى. أن يكون قد اقترب أجلهم:
يعني في اقتراب آجالهم، وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم
قبل مغافصة (3) الموت ونزول العذاب. فبأي حديث بعده: بعد القرآن. يؤمنون: إذا لم
يؤمنوا به، والمعنى ولعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الأيمان بالقرآن؟ وماذا
ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا.
(186) من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون (4).
القمي: قال: يكله إلى نفسه، وقرء يذرهم بالياء، وبه وبالجزم، كأنه قيل: لا يهده
أحد غيره ويذرهم.
(187) يسئلونك عن الساعة: أي القيامة، وهي من الأسماء الغالبة. أيان مرساها:
متى ارساؤها، أي اثباتها واستقرارها. قل إنما علمها عند ربى: استأثر (5) به لم يطلع عليه

1 - الفخذ بالكسر فالسكون للتخفيف دون القبيلة وفوق البطن والجمع أفخاذ.
2 - هوت به تهويتا صاح.
3 - عافصة فاجأه وأخذه على غرة.
4 - العمة في القلب العمى في العين.
5 - استأثر بالشئ استبد به وخص به نفسه.
257

ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا. لا يجليها لوقتها: لا يظهرها في وقتها. إلا هو: يعني إن الخفاء بها
مستمر على غيره إلى وقت وقوعها، واللام للتوقيت. ثقلت في السماوات والأرض: عظمت
على أهلها من الملائكة والثقلين لهو لها وشدتها. لا تأتيكم إلا بغتة: فجأة على غفلة.
في الجوامع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الساعة تهيج بالناس والرجل
يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقوم سلعته في سوقه، والرجل يخفض
ميزانه ويرفعه. يسئلونك كأنك حفى عنها (1) قيل: أي عالم بها وأصله كأنك حفيت
بالسؤال حتى علمتها أي استقصيت وألحفت (2) قل إنما علمها عند الله: لم يؤته أحدا من
خلقه لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به ولكن أكثر الناس لا يعلمون: إنه المختص
بالعلم بها.
القمي: إن قريشا بعثت العاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث بن كلدة،
وعقبة ابن أبي معيط إلى نجران ليتعلموا من علماء اليهود مسائل يسألونها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وكان فيها سألوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم متى تقوم الساعة؟
فإن ادعى علم ذلك فهو كاذب فإن قيام الساعة لم يطلع الله عليه ملكا مقربا ولا نبيا
مرسلا، فلما سألوه نزلت.
(188) قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا: جلب نفع ولا دفع ضرر، وهو إظهار
للعبودية والتبري عن ادعاء العلم بالغيوب. إلا ما شاء الله: من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني
له. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء.
في المعاني والعياشي: عن الصادق عليه السلام يعني الفقر. والقمي: قال: كنت أختار

1 - أي كأنك استحفيت بالسؤال عنها حتى علمتها والحفي المستقصي بالسؤال عن الشئ وأعفى فلان في المسألة
إذا ألح فيها وبالغ.
2 - قوله تعالى لا يسألون الناس الحافا أي الحاحا وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه
أي أعطاني من فضل ما عنده والمعنى على ما قيل لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحفوا.
258

لنفسي الصحة والسلامة. إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون: فإنهم المنتفعون.
(189) هو الذي خلقكم من نفس واحدة: هي نفس آدم وجعل منها: من فضل
طينها. زوجها: حواء. ليسكن إليها: ليستأنس بها ويطمئن إليها. فلما تغشيها: جامعها. حملت حملا
خفيفا: خف عليها. فمرت به: أي استمرت بالحمل. فلما أثقلت: صارت ذات ثقل بكبر
الولد في بطنها. دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا: ولدا سويا بريئا من الآفة. لنكونن من
الشاكرين.
(190) فلما أتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتيهما: وقرئ شركا بالمصدر. فتعالى الله
عما يشركون.
القمي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام هما آدم وحواء وإنما كان شركهما شرك
طاعة، وليس شرك عبادة. وزاد القمي قال: جعلا للحارث نصيبا في خلق الله ولم يكن
أشركا إبليس في عبادة الله بعد أن ذكر في ذلك حديثا مبسوطا رواه عن الباقر عليه
السلام موافقا لما روته العامة فيه مما لا يليق بالأنبياء والمستفاد من ذلك الحديث أن معنى
اشراكهما فيما آتيهما الله تسميتهما أولادهما بعبد الحارث، والحارث اسم إبليس، وإبليس قد
حملهما على ذلك بتغريره. وقيل: معناه التسمية بعبد عزى، وعبد مناة، وعبد يغوث، وما أشبه
ذلك من أسماء الأصنام، ومعنى - جعلا له -: جعل أولادهما شركاء فيما أتى أولادهما على حذف
المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه في الموضعين.
وفي العيون: عن الرضا عليه السلام أنه قال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من
قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فما معنى قول الله عز وجل: (فلما أتاهما صالحا جعلا له
شركاء فيما آتيهما)؟ فقال له الرضا عليه السلام: إن حواء ولدت لآدم عليه السلام خمسمأة
بطن في كل بطن ذكرا وأنثى، وأن آدم وحواء عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا: لئن آتيتنا
صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتيهما صالحا من النسل خلقا سويا بريئا من الزمانة
والعاهة كان ما آتيهما صنفين: صنفا ذكرانا، وصنفا إناثا، فجعل الصنفان لله سبحانه شركاء
فيما آتيهما، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عز وجل، فتعالى الله عما يشركون فقال المأمون: أشهد
أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقا.
259

(191) أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون: يعني الأصنام.
(192) ولا يستطيعون لهم: لعبدتهم. نصرا ولا أنفسهم ينصرون: فيدفعون عنها ما
يعتريها.
(193) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم أن يكون
الخطاب للمسلمين، و (هم) ضمير المشركين، يعني أن تدعو المشركين إلى الإسلام لا يجيبوكم.
والثاني: أن يكون الخطاب للمشركين و (هم) ضمير الأصنام، يعني إن تدعو الأصنام إلى أن
يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله، وقرء يتبعوكم بالتخفيف. سواء
عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون.
(194) إن الذين تدعون من دون الله: أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دونه
سبحانه. عباد أمثالكم: مملوكون مسخرون. فادعوهم فليستجيبوا لكم: في مهماتكم. إن
كنتم صادقين: إنهم آلهة.
(195) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم
لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم: واستعينوا بهم في عداوتي. ثم كيدون: فبالغوا
فيما تقدرون عليه من مكر وهي أنتم وشركاؤكم. فلا تنظرون: فلا تمهلوني فإني لا أبالي
بكم لوثوقي على ولاية الله وحفظه.
(196) إن وليي: ناصري وحافظي. الله الذي نزل الكتاب: القرآن. وهو يتولى
الصالحين: ينصرهم ويحفظهم.
(197) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون.
(198) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتريهم ينظرون إليك وهم لا
يبصرون: يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه.
(199) خذ العفو: أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما تأتي منهم
260

من غير كلفة وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم، ولا تداقهم، واقبل الميسور منهم، ونحوه
قوله: (يسروا ولا تعسروا) من العفو الذي هو ضد الجهد.
العياشي: عن الصادق عليه السلام أن الله أدب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
بذلك أي خذ منهم ما ظهر وما تيسر قال: والعفو: الوسط.
وفي الفقيه: عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال لرجل من ثقيف: إياك أن تضرب
مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنا أمرنا أن نأخذ
منه العفو. وأمر بالعرف: بالمعروف الجميل من الأفعال، والحميد من الأخلاق. وأعرض عن
الجاهلين: ولا تمار (1) السفهاء، ولا تكافأهم بمثل سفههم.
في المجمع: روي أنه لما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
جبرئيل عن ذلك فقال: لا أدري حتى أسأل العالم، ثم أتاه فقال: يا محمد إن الله يأمرك أن
تعفوا عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.
وفي الجوامع: عن الصادق عليه السلام أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في
القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
وفي العيون: عن الرضا عليه السلام أن الله أمر نبيه بمداراة الناس، فقال: (خذ العفو
وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).
(200) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ: ينخسنك (2) منه نخس في القلب
يوسوسك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب، والنزغ، والنسغ، والنخس: والغرز بمعنى، شبه
وسوسة الناس إغراء لهم على المعاصي، وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه.
في المجمع: لما نزلت الآية السابقة قال النبي صلى الله عليه وآله: كيف يا رب
والغضب، فنزلت فاستعذ بالله إنه سميع: يسمع استعاذتك. عليم: بما فيه صلاح أمرك.

1 - المماراة المجادلة.
2 - نخس الدابة كنصر وجعل غرز مؤخرها أو جنبها بعود ونحوه أصل النخس الدفع والحركة.
261

(201) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان: لمة (1) منه كأنها طافت بهم
ودارت حولهم ولم تقدر أن تؤثر فيهم، وقرء طيف بغير ألف. تذكروا: ما أمر الله به ونهى عنه.
فإذا هم مبصرون: مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيحترزون عنها.
في الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام هو العبد يهم بالذنب، ثم يتذكر
فيمسك. وفي رواية: فيدعه، وفي أخرى فيبصر ويقصر.
والقمي: قال: إذا ذكرهم الشيطان المعاصي وحملهم عليها يذكرون اسم الله فإذا
(202) وإخوانهم وإخوان الشياطين، يعني الذين لم يتقوا. يمدونهم: الشياطين، وقرء
بضم الياء وكسر الميم. في الغى: بالتزيين والحمل عليه. ثم لا يقصرون: لا يمسكون عن
إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا فيهلكوا أو لا يقصر الأخوان عن الغي.
(203) وإذا لم تأتهم بآية: من القرآن، أو بآية مما اقترحوه. قالوا لولا اجتبيتها: هلا
جمعتها، تقولا من عند نفسك كسائر ما تقرء، أو هلا طلبتها من الله. قل إنما أتبع ما يوحى
إلى من ربى: لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها. هذا: القرآن. بصائر: للقلوب بها تبصر
الحق. من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
(204) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون: قيل: نزلت في
الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات له.
وفي الفقيه: عن الباقر عليه السلام إن كنت خلف إمام فلا تقرأن شيئا في الأوليين
وأنصت لقراءته، ولا تقرأن شيئا في الأخيرتين فإن الله يقول للمؤمنين: (وإذا قرئ القرآن)
يعني في الفريضة خلف الأمام (فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) والأخيرتان تبع
للأولتين.

1 - وفي حديث ابن مسعود لابن آدم لمتان لمة من الملك ولمة من الشيطان واللمة الهمة والخطرة تقع في القلب أراد المام
الملك أو الشيطان به والقرب منه فما كان من خطرات الخير فهو من الملك وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان.
262

وفي التهذيب: عن الصادق عليه السلام إذا كنت خلف إمام تتولاه وتثق به فإنه
يجزيك قراءته وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت فيه فإذا جهر فأنصت قال الله تعالى:
(وأنصتوا لعلكم ترحمون). والعياشي: عن أحدهما عليهما السلام قال: إذا كنت خلف إمام
تأتم به فأنصت وسبح في نفسك.
وعن الصادق عليه السلام: يجب الإنصات للقرآن في الصلاة وفي غيرها، وإذا قرء
عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع.
وفي التهذيب: عنه عليه السلام إنه سئل عن الرجل يؤم القوم وأنت لا ترضى به
في صلاة يجهر فيها بالقراءة فقال: إذا سمعت كتاب الله يتلى فأنصت له، قيل: فإنه يشهد
علي بالشرك، قال: إن عصى الله فأطع الله فرددت عليه فأبى أن يرخص لي، قيل: أصلي إذن
في بيتي ثم أخرج إليه، فقال: أنت وذاك، وقال: إن عليا عليه السلام كان في صلاة الصبح
فقرأ ابن الكوا وهو خلفه (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين)، فأنصت علي تعظيما للقرآن حتى فرغ من الآية، ثم عاد في
قراءته ثم أعاد ابن الكوا الآية فأنصت علي أيضا، ثم قرء فأعاد ابن الكواء فأنصت علي
عليه السلام، ثم قال: (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ثم أتم
السورة ثم ركع.
أقول: هذان الحديثان وما في معناهما مما يوافق ظاهر القرآن في عموم وجوب
الاستماع، والإنصات محمول عند أصحابنا، وعامة الفقهاء: على الاستحباب وتأكده، بل قد
ورد الأمر بالقراءة خلف المخالف وإن سمعت قراءته إذا لم تكن هناك تقية.
(205) واذكر ربك في نفسك: عام في كل ذكر. تضرعا وخيفة: متضرعا وخائفا.
ودون الجهر من القول: باللسان لأن الذكر في النفس، ودون الجهر الذين يعبر عنهما
بالسر أدخل في الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى القبول. بالغدو والآصال: بالغدوة
والعشيات لفضل هذين الوقتين. ولا تكن من الغافلين: عن ذكر الله اللآهين عنه.
263

في الكافي، والعياشي: عن أحدهما عليهما السلام لا يكتب الملك إلا ما يسمع، وقال
الله عز وجل: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) فلا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس
الرجل غير الله لعظمته. والعياشي: مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (واذكر ربك
في نفسك) يعني مستكينا، (وخيفة) يعني خوفا من عذابه، (ودون الجهر من القول) يعني دون
الجهر من القراءة، (بالغدو والآصال) يعني بالغداوة والعشي.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام قال الله: من ذكرني سرا ذكرته علانية (1).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين
كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر، فقال الله تعالى: (يراؤن الناس ولا يذكرون
الله إلا قليلا).
وفيه، والعياشي: عنه عليه السلام في هذه الآية قال: تقول عند المساء لا إله إلا الله
وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حي لا يموت وهو
على كل شئ قدير، قيل: بيده الخير قال إن بيده الخير ولكن: قل كما أقول لك عشر مرات:
(وأعوذ بالله السميع العليم) حين تطلع الشمس وحين تغرب عشر مرات.
(206) إن الذين عند ربك قيل: يعني الملائكة. والقمي: يعني الأنبياء والرسل
والأئمة عليهم السلام. لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه: وينزهونه. وله يسجدون:
ويخصونه بالعبادة والتذلل، ولا يشركون به غيره. هنا أول سجدات القرآن.
وفي الحديث إذا قرء ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول: يا ويله
أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فعلي النار.
وفي ثواب الأعمال: عن الصادق عليه السلام من قرأ سورة الأعراف في كل شهر

1 - قال في الوافي بيان ذكر الله سرا يشمل الذكر في النفس الذي في مقابلة الغفلة والذكر على اللسان بالاخفات الذي
يقابل الجهر كذا ذكر الله لعبده علانية يشمل ذكره بالخير يوم القيامة على رؤوس الاشهاد وذكره بالجميل في الدنيا على السن
العباد.
264

كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن قرأها في كل جمعة كان ممن
لا يحاسب يوم القيامة، والله تبارك وتعالى أعلم بكل شئ.
265

سورة الأنفال
هي مدنية عن ابن عباس وقتادة غير سبع آيات نزلت بمكة (وإذ يمكر
بك الذين إلى آخرهن)، وقيل: نزلت بأسرها في غزاة بدر، عدد آيها ست وسبعون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) يسئلونك عن الأنفال: عن حكمها، وهي غنائم خاصة، والنفل: الزيادة
على الشئ، سميت به الغنيمة لأنها عطية من الله وفضل.
في المجمع: قرأ السجاد، والباقر، والصادق عليهم السلام: (يسألونك الأنفال)، يعني
أن تعطيهم. قل الأنفال لله والرسول: مختصة بهما يضعانها حيث شاءا.
في التهذيب: عن الباقر والصادق عليهما السلام الفئ والأنفال: ما كان من
أرض لم تكن فيها هراقة دم، أو قوم (1) صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة أو
بطون أودية فهو كله من الفئ والأنفال، فهذا كله لله ولرسوله، فما كان لله فهو لرسوله
يضعه حيث شاء وهو للأمام بعد الرسول.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا
ركاب، أو قوم صولحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكل أرض خربة، وبطون الأودية فهو لرسول
الله وهو للأمام من بعده يضعه حيث يشاء.
وعنه عليه السلام في عدة أخبار من مات وليس له وارث فماله من الأنفال.

1 - بيان أو قوم في الموضعين بتقدير مضاف وهو من عطف الخاص على العام فان الأول يشمل ما جلى عنها أهلها.
266

وعنه عليه السلام نحن قوم فرض الله طاعتنا لنا الأنفال، ولنا صفو (1) المال.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام لنا الأنفال، قيل: وما الأنفال؟ قال: منها المعادن
والآجام، وكل أرض لا رب لها، وكل أرض باد أهلها فهو لنا. وقال: وما كان للملوك فهو من
الأنفال.
وفي الجوامع: عن الصادق عليه السلام الأنفال: كل ما أخذ من دار الحرب بغير
قتال، وكل أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال أيضا، وسماها الفقهاء فيئا، والأرضون الموات،
والآجام، وبطون الأودية، وقطايع الملوك، وميراث من لا وارث له، وهي لله، وللرسول، ولمن قام
مقامه بعده.
والقمي: عنه عليه السلام أنه سئل عن الأنفال فقال: هي القرى التي قد
خربت، وانجلى أهلها فهي لله وللرسول، وما كان للملوك فهو للأمام، وما كان من أرض
خربة لم يوجف (2) عليها بخيل ولا ركاب، وكل أرض لا رب لها، والمعادن منها، ومن مات
وليس له مولى، فماله من الأنفال. وقال: نزلت يوم بدر لما انهزم الناس كان أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاث فرق: فصنف كانوا عند خيمة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وصنف أغاروا على النهب، وفرقة طلبت العدو، وأسروا وغنموا، فلما جمعوا
الغنائم والأسارى تكلمت الأنصار في الأسارى فأنزل الله تبارك وتعالى (ما كان لنبي أن
يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) فلما أباح الله لهم الأسارى والغنائم تكلم سعد
ابن معاذ وكان ممن أقام عند خيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ما
منعنا أن نطلب العدو زهادة في الجهاد ولا جبنا من العدو ولكنا خفنا أن يعرى موضعك
فيميل عليك خيل المشركين، وقد أقام عند الخيمة وجوه المهاجرين والأنصار ولم يشك
أحد منهم، والناس كثير يا رسول الله والغنائم قليلة، ومتى تعطي هؤلاء لم يبق لأصحابك

1 - الصفو من الغنيمة ما اختاره الرئيس لنفسه قبل القسمة وخالص كل شئ.
2 - قوله تعالى فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب هو من الايجاف وهو السير الشديد والمعنى فما أوجفتم على تحصيله
وتغنيمه خيلا ولا ركابا وإنما مشيتم إليه على أرجلكم فلم تحصلوا أموالهم بالغلبة والقتال ولكن الله سلط رسله عليهم وحواه
أموالهم.
267

شئ وخاف أن يقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم وأسلاب القتلى بين
من قاتل ولا يعطي من تخلف على خيمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا
فاختلفوا فيما بينهم حتى سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: لمن هذه
الغنائم؟ فأنزل الله: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) فرجع الناس وليس لهم
في الغنيمة شئ ثم أنزل الله بعد ذلك (واعلموا أنما غنمتم) الآية فقسمه رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بينهم، فقال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله أتعطي فارس القوم
الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ثكلتك أمك
وهل تنصرون إلا بضعفائكم قال: فلم يخمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببدر،
وقسم بين أصحابه، ثم استقبل بأخذ الخمس بعد بدر فاتقوا الله: في الاختلاف والمشاجرة.
وأصلحوا ذات بينكم: الحال التي بينكم بالمواساة، والمساعدة فيما رزقكم الله، وتسليم أمره
إلى الله والرسول. وأطيعوا الله ورسوله: فيه إن كنتم مؤمنين: فإن الأيمان يقتضي ذلك.
(2) إنما المؤمنون: أي الكاملون في الأيمان. الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم:
فزعت لذكره استعظاما له وهيبة من جلاله. وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا: ازدادوا
بها يقينا وطمأنينة نفس. وعلى ربهم يتوكلون: وإليه يفوضون أمورهم فيما يخافون
ويرجون.
(3) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
(4) أولئك هم المؤمنون حقا: لأنهم حققوا إيمانهم بضم مكارم الأخلاق ومحاسن
أفعال الجوارح إليه. لهم درجات عند ربهم: كرامة وعلو منزلة. ومغفرة: لما فرط منهم.
ورزق كريم: أعد لهم في الجنة. القمي: نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام، وأبي ذر،
وسلمان، ومقداد.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام بتمام الأيمان دخل المؤمنون الجنة،
وبالزيادة في الأيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرطون
النار. ويأتي صدر الحديث في أواخر سورة التوبة إن شاء الله.
268

(5) كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون:
قيل: يعني حالهم هذه في كراهة ما حكم الله في الأنفال مثل حالهم في كراهة خروجك من
بيتك للحرب.
وفي المجمع: في حديث أبي حمزة فالله ناصرك كما أخرجك من بيتك.
(6) يجادلونك في الحق: في إيثارك الجهاد اظهارا للحق لايثارهم تلقي
العير وأخذ المال الكثير على ملاقاة النفير والجهاد مع الجم الغفير. بعد ما تبين: أنهم
ينصرون أينما توجهوا بأعلام الرسول. كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون: أي
يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت، وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم،
وعدم تأهبهم للقتال.
(7) وإذ يعدكم الله: على إضمار اذكر إحدى الطائفتين أنها لكم: يعني العير
أو النفير. وتودون أن غير ذات الشوكة (1) الحدة. تكون لكم: يعني العير، فإنه لم يكن
فيها إلا أربعون فارسا، ولذلك يتمنونها ويكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم
وعدتهم (2).
العياشي: عن الصادق عليه السلام ذات الشوكة التي فيها القتال. يريد الله أن
يحق الحق: أن يثبته ويعليه. بكلماته: قيل: بآياته المنزلة في محاربتهم أو بأوليائه.
والقمي: قال: الكلمات: الأئمة عليهم السلام. ويقطع دابر الكافرين
ويستأصلهم، والمعنى أنكم تريدون مالا ألا تلقوا مكروها والله يريد إعلاء الدين وإظهار
الحق وما يحصل لكم به فوز الدارين.
(8) ليحق الحق ويبطل الباطل: فعل ما فعل وليس بتكرير لأن الأول: لبيان
مراد الله وتفاوت ما بينه وبين مرادهم، والثاني: لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار

1 - الشوكة شدة البأس والحدة بالسلاح يقال شاك الرجل من باب خاف ظهرت شوكته وحدته فهو شائك السلاح
وشاكي السلاح على القلب
2 - عطف على كثرة لا على عددهم أي لكثرة عددهم ولتأهبهم واستعدادهم.
269

ذات الشوكة ونصره عليها. ولو كره المجرمون: ذلك.
(9) إذ تستغيثون ربكم: لما علمتم أن لا محيص عن القتال مع قلتكم وكثرة
عدوكم بدل من - إذ يعدكم -.
في المجمع: عن الباقر عليه السلام إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نظر
إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال: اللهم انجز لي ما
وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف ربه مادا يديه
حتى سقط رداؤه عن منكبه فأنزل الله: (إذ تستغيثون) الآية. فاستجاب لكم أنى ممدكم
بألف من الملائكة مردفين: متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته أنا إذا جئت
بعده، وقرئ بفتح الدال، وهو من أردفته إياه.
(10) وما جعله الله: أي الأمداد. إلا بشرى: بشارة لكم بالنصر. ولتطمئن به
قلوبكم: ليزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم. وما النصر إلا من عند الله إن الله
عزيز حكيم: وإمداد الملائكة، وكثرة العدد وسائط لا تأثير لها فلا تحسبوا النصر منها، ولا
تيأسوا منه بفقدها.
(11) إذ يغشيكم النعاس أمنة منه: أمنا من الله، بدل ثان من - إذ يعدكم -
لإظهار نعمة ثالثة، والمعنى إذ تنعسون لأمنكم الحاصل من الله بإزالة الرعب عن
قلوبكم. وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به: من الحدث والخبث.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام اشربوا ماء السماء فإنه يطهر البدن
ويدفع الأسقام، ثم تلا هذه الآية.
ومثله في الخصال، والعياشي: عن أمير المؤمنين عليه السلام. ويذهب عنكم رجز
الشيطان: يعني الجنابة، وذلك لأنه احتلم بعضهم وغلب المشركون على الماء، ويحتمل أن
يكون المراد برجز الشيطان وسوسته وتخويفه إياهم من العطش إذ روي أنهم نزلوا في
كثيب أعقر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم، وقد غلب المشركون
على الماء فوسوس إليهم الشيطان، وقال: كيف تنصرون وقد غلبتم على الماء وأنتم
270

تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر
فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته (1) وسقوا الركاب (2) واغتسلوا
وتوضئوا، وتلبد (3) الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت الوسوسة.
وليربط على قلوبكم: بالوثوق على لطف الله تعالى بكم. ويثبت به: بالمطر. الاقدام: حتى
لا تسوخ في الرمل أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة.
(12) إذ يوحى ربك: بدل ثالث لإظهار نعمة رابعة. إلى الملائكة أنى معكم:
في إعانتهم، وتثبيتهم. فثبتوا الذين آمنوا: بالبشارة لهم، وبتكثير سوادهم، ومحاربة أعدائهم.
سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق: أعاليها التي هي
المذبح والرؤوس. واضربوا منهم كل بنان: أصابع، أي جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.
(13) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله: بسبب مشاقتهم لهما، وكونهم في شق
خلاف شقهما. ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب.
(14) ذلكم: الخطاب فيه مع الكفار على طريقة الالتفات. فذوقوه وأن
للكافرين عذاب النار: والمعنى ذوقوا ما عجل لكم من القتل والأسر مع ما أجل لكم في
الآخرة من عذاب النار.
القمي: وكان سبب ذلك أن عير قريش خرجت إلى الشام فيها خزائنهم فأمر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالخروج ليأخذوها فأخبرهم أن الله تعالى قد
وعده إحدى الطائفتين إما العير وإما القريش إن ظفر بهم، فخرج في ثلاثمائة وثلاثة عشر
رجلا، فلما قارب بدرا وكان أبو سفيان لعنه الله في العير فلما بلغه أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قد خرج يتعرض العير خاف خوفا شديدا ومضى إلى الشام فلما وافى (4)

1 - العدى كالى شاطئ الوادي كالعدوة مثلثة.
2 - الركب ركبان الإبل اسم جمع أو جمع وهم العشرة فصاعدا وقد يكون للخيل.
3 - لبد كنصر وفرح لبودا ولبدا أقام ولزق كالبد وتلبد الصوف ونحوه تداخل ولزق بعضه ببعض.
4 - وافى فلان اتى ووافيته موافاة اتيته ومثله وافيت القوم.
271

النقرة (1) اكترى ضمضم بن عمرو الخزاعي بعشرة دنانير وأعطاه قلوصا (2) وقال له: امض
إلى قريش وأخبرهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والصباة (3) من أهل يثرب قد
خرجوا يتعرضون لعيركم فأدركوا العير، وأوصاه أن يحزم ناقته ويقطع أذنها حتى يسيل
الدم، ويشق ثوبه من قبل ودبر، فإذا دخل مكة ولى وجهه إلى ذنب العير وصاح بأعلى
صوته: يا آل غالب يا آل غالب، اللطيمة (4) اللطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا، وما أريكم
تدركون فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والصباة من أهل يثرب قد خرجوا
يتعرضون لعيركم.
فخرج ضمضم يبادر إلى مكة ورأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم في
منامها بثلاثة أيام كأن راكبا قد دخل مكة ينادي: يا آل غدر يا آل غدر، اغدوا إلى
مصارعكم صبيح ثالثة ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما
ترك دارا من دور قريش إلا أصابه منه فلذة وكأن وادي مكة قد سال من أسفله دما.
فانتبهت ذعرة فأخبرت العباس بذلك، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة، فقال
عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا في قريش، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال: ما
رأت عاتكة هذه الرؤيا، وهذه تبنية ثانية في بني عبد المطلب، واللات والعزى لننتظرن
ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقا فهو كما رأت، وإن كان غير ذلك لنكتبن بيننا كتابا أنه ما
من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ولا نساء من بني هاشم، فلما مضى يوم، قال أبو
جهل: هذا يوم قد مضى، فلما كان اليوم الثاني، قال أبو جهل: هذان يومان قد مضيا، فلما
كان اليوم الثالث، وافى ضمضم ينادي في الوادي يا آل غالب: يا آل غالب، اللطيمة

1 - النقرة ويقال معدن النقرة وقد تكسر قافهما منزل لحاج العراق بين اضاخ ومأوان ق.
2 - القلوص من الإبل الشابة أو الباقية على السير أو أول ما يركب من انائها إلى أن تثنى ثم هي ناقة والناقة الطويلة
القوائم خاص بالإناث قلائص وقلص قلاص.
3 - في النهاية يقال صبا فلان إذا خرج من دين إلى دين غيره قال وكانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وآله
الصاب لأنه خرج من دن قريش إلى دين الاسلام ويسمون المسلمين الصباة بغير همز كأنه جمع الصاب (منه رحمه الله).
4 - بمعنى ضرب الخد والظاهر في مثل المقام انه كناية عن الصدمة اي اسرعوا إلى علاجها أو أشكوا والعير العير أي
أدركوهم ويمكن تقدير اسرعوا في الكل وغير ذلك أيضا.
272

اللطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا، وما أراكم تدركون، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم التي فيها خزائنكم.
فتصايح الناس بمكة وتهيئوا للخروج، وقام سهل بن عمرو، وصفوان بن أمية،
وأبو البختري بن هشام، ومنبه (1)، ونبيه ابنا الحجاج، ونوفل بن خويلد فقالوا: يا معشر قريش
والله ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه أن يطمع محمد والصباة من أهل يثرب أن
يتعرضوا لعيركم التي فيها خزائنكم، فوالله ما قرشي ولا قرشية إلا ولهما في هذه العير نش (2)
فصاعدا وأنه الذل والصغار أن يطمع محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أموالكم، ويفرق
بينكم وبين متجركم فأخرجوا.
وأخرج صفوان بن أمية خمسمأة دينار وجهز بها، وأخرج سهيل بن عمرو، وما
بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرجوا مالا وحملوا وقودا وخرجوا على الصعب (3) والذلول
لا يملكون أنفسهم كما قال الله تعالى: (خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس) وخرج معهم
العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحرث، وعقيل بن أبي طالب، وأخرجوا معهم القيان (4)
يشربون الخمر ويضربون بالدفوف.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلما
كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بشير بن أبي الرغباء، ومحمد بن عمرو يتجسسان
خبر العير فأتيا ماء بدر فأناخا راحلتيهما واستعذبا من الماء، وسمعا جاريتين قد تشبثت
إحديهما بالأخرى وتطالبها بدرهم كان لها عليها، فقالت: عير قريش نزلت أمس في موضع
كذا وهي تنزل غدا هيهنا وأعمل لهم وأقضيك، فرجعا فأخبراه بما سمعا، فأقبل أبو سفيان
بالعير فلما شارف بدرا تقدم العير وأقبل وحده حتى انتهى إلى ماء بدر وكان بها رجل
من جهينة يقال له كسب الجهني، فقال له: يا كسب هل لك علم بمحمد صلى الله عليه

1 - منبه كمعظم ونبيه كعظيم لفظا ومعنى.
2 - النش عشرون درهما.
3 - الجمل المتروك الذي لا يترك.
4 - والقينة الأمة مغنية كانت أو غير مغنية وقيل الأمة البيضاء والجمع قيان.
273

وآله وسلم وأصحابه؟ قال: لا، قال: واللات والعزى لئن كتمتنا أمر محمد صلى الله عليه وآله
وسلم لا تزال قريش لك معادية آخر الدهر فإنه ليس أحد من قريش إلا وله في هذا
العير نش فصاعدا فلا تكتمني.
فقال: والله ما لي علم بمحمد وأصحابه بالتخبار إلا إني رأيت في هذا اليوم
راكبين أقبلا فاستعذبا من الماء وأناخا راحلتيهما ورجعا فلا أدرى من هما، فجاء أبو
سفيان إلى موضع مناخ إبلهما ففت أبعار الإبل بيده فوجد فيها النوى، فقال: هذه
علايف يثرب هؤلاء والله عيون محمد فرجع مسرعا، وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل
البحر، وتركوا الطريق ومروا مسرعين.
ونزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره إن العير قد
أفلتت وأن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها، وأمره بالقتال ووعده النصرة وكان نازلا
ماء الصفراء فأحب أن يبلو الأنصار لأنهم إنما وعدوه لأن ينصروه، وكان في الدار
فأخبرهم أن العير قد جازت وأن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها، وأن الله قد أمرني
بمحاربتهم.
فجزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك وخافوا خوفا
شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أشيروا علي فقام أبو بكر، فقال: يا
رسول إنها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزت، ولم نخرج على
هيئة الحرب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فجلس، فقال: أشيروا علي،
فقام عمر، فقال: مثل مقالة أبي بكر، فقال: اجلس.
ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها وقد آمنا بك وصدقناك،
وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا (1) وشوك الهراس

1 - الغضا بالقصر شجر ذو شوك وخشبة من أصلب الخشب ولذا لا يكون في فحمه صلابة الهرماس كسحاب شجر
شائك ثمره كالنبق.
274

لخضنا معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هيهنا
قاعدون)، ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا وإنا معكما مقاتلون، فجزاه النبي خيرا ثم
جلس.
ثم قال: أشيروا علي فقام سعد بن معاذ، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله
كأنك أردتنا؟ قال: نعم، قال: فلعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره، قال: نعم.
قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إننا قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما
جئت به حق من عند الله، فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت،
والذي أخذت منه أحب إلي من الذي تركت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضنا
معك، ثم قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله ما خضت هذا الطريق قط وما لي به علم،
وقد خلفنا بالمدينة قوما ليس نحن بأشد جهادا لك منهم ولو علموا أنه الحرب لما تخلفوا
ولكن نعد لك الرواحل، ونلقى عدونا فإنا صبر عند اللقاء أنجاد في الحرب وإنا لنرجو أن
يقر الله عينيك بنا فإن يك ما تحب فهو ذاك، وإن يك غير ذلك قعدت على رواحلك
فلحقت بقومنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويحدث الله غير ذلك كأني بمصرع
فلان هيهنا، وبمصرع فلان هيهنا، وبمصرع أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة،
ومنبه ونبيه ابني الحجاج فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله الميعاد.
فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية: (كما أخرجك
ربك من بيتك بالحق) إلى قوله: (ولو كره المجرمون) فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بالرحيل حتى نزل عشاء على ماء بدر، وهي العدوة الشامية، وأقبلت قريش فنزلت
بالعدوة اليمانية، وبعثت عبيدها تستعذب من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وحبسوهم، فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش، قالوا: فأين
العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير، فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يصلي فانفتل من صلاته فقال: إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم علي بهم
فأتوا بهم.
275

فقال لهم: من أنتم قالوا يا محمد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم؟ قالوا: لا
علم لنا بعددهم؟ قال: كم ينحرون في كل يوم جزورا (1)؟ قالوا: تسعة إلى عشرة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، القوم تسعمأة إلى ألف، قال: فمن
فيهم من بني هاشم؟ قالوا: العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي
طالب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم فحبسوا.
وبلغ قريشا ذلك فخافوا خوفا شديدا، ولقى عتبة بن ربيعة أبا البختري بن
هشام فقال له: أما ترى هذا البغي والله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد
أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا والله ما أفلح قوم قط بغوا ولوددت أن ما في العير من أموال بني
عبد مناف ذهب كله ولم نسر هذا المسير.
فقال له أبو البختري: إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمل
العير التي أصابها محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنخلة ودم (2) ابن الحضرمي فإنه حليفك،
فقال عتبة: أنت تشير علي بذلك وما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعني أبا
جهل فسر إليه وأعلمه إني قد تحملت العير التي أصابها محمد صلى الله عليه وآله وسلم
بنخلة ودم ابن الحضرمي.
فقال أبو البختري: فقصدت خبأه وإذا هو قد أخرج درعا له، فقلت له: إن أبا الوليد
بعثني إليك، برسالة فغضب، ثم قال: أما وجد عتبة رسولا غيرك؟ فقلت: أما والله لو غيره
أرسلني ما جئت، ولكن أبا الوليد سيد العشيرة، فغضب غضبة أخرى، فقال: تقول سيد
العشيرة؟ فقلت: أنا أقوله وقريش كلها تقول أنه قد تحمل العير ودم ابن الحضرمي.
فقال: إن عتبة أطول الناس لسانا وأبلغهم في الكلام، ويتعصب لمحمد صلى
الله عليه وآله وسلم، فإنه من بني عبد مناف وابنه معه ويريد أن لا يخذله بين الناس لا

1 - الجزور بالفتح وهي من الإبل خاصة ما كمل خمس سنين ودخل في السادسة يقع على الذكر والأنثى والجمع جزر
كرسول ورسل يقال جزرت الجزور من باب قتل أي نحرتها.
2 - ودم بالفتح علم وبطن من كلب في تغلب.
276

واللات والعزى حتى نقحم (1) عليهم بيثرب ونأخذهم أسارى فندخلهم مكة فتسامع
العرب بذلك ولا يكون بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه.
وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثرة قريش ففزعوا فزعا
شديدا، وشكوا، وبكوا، واستغاثوا، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا
بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) فلما أمسى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجنه (2) الليل ألقى الله تعالى على أصحابه النعاس
حتى ناموا فأنزل الله تعالى عليهم السماء. (3)
وكان نزول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موضع لا يثبت فيه القدم.
فأنزل الله عليهم السماء ولبد الأرض حتى تثبت أقدامهم، وهو قول الله تعالى: (إذ يغشيكم
النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان)
وذلك أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتلم (وليربط على قلوبكم
ويثبت به الأقدام)، وكان المطر على قريش مثل العزالى (4)، وكان على أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم رذاذا بقدر ما يلبد به الأرض، وخافت قريش خوفا شديدا
فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمار بن
ياسر، وعبد الله بن مسعود، فقال: ادخلا في القوم وأتونا بأخبارهم فكانا يجولان بعسكرهم
لا يرون إلا خائفا ذعرا إذا صهل الفرس وثب على جحفلته (5) فسمعوا منبه بن الحجاج
يقول:
لا يترك الجوع لنا مبيتا * لابد أن نموت أو يميتنا

1 - قحم في الامر كنصر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية وقحمته تقحيما وأقحمته فانقحم واقتحم.
2 - جنه الليل وعليه حنا وأجنه ستره وكل ما ستر عنك فقد جن عنك وجن الليل وجنونه وجناه ظلمته.
3 - السماء المطر سمي به لأنه ينزل من السماء (منه رحمه الله).
4 - العزالي جمع عزلاء وهو مصب الماء من الرواية ونحوها والرذاذ المطر الضعيف (منه).
5 - الجحفلة بمنزلة الشفه للخيل والبغال والحمير.
277

قال: قد والله كانوا شباعا ولكنهم من الخوف قالوا: هذا، وألقى الله في قلوبهم
الرعب كما قال الله تعالى: (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب). فلما أصبح رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عبأ (1) أصحابه، وكان في عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فرسان: فرس للزبير بن العوام، وفرس لمقداد، وكان في عسكره سبعون جملا يتعاقبون
عليها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام،
ومرثد بن أبي مرثد الغنوي على جمل يتعاقبون عليه، والجمل لمرثد، وكان في عسكر قريش
أربعمائة فرس. فعبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بين يديه، فقال: غضوا
أبصاركم ولا تبدؤهم بالقتال، ولا يتكلمن أحد. فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال أبو جهل: ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا
باليد.
فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كمينا ومددا؟ فبعثوا عمرو بن وهب الجمحي،
وكان فارسا شجاعا فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ثم صعد في الوادي وصوت، ثم رجع إلى قريش فقال: ما لهم كمين ولا مدد ولكن
نواضح (2) يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ
الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أريهم يولون حتى يقتلوا، ولا يقتلون حتى تقتلوا
بعددهم فارتأوا (3) رأيكم، فقال أبو جهل: كذبت وجبنت وانتفخ سحرك حين نظرت إلى
سيوف أهل يثرب.
وفزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نظروا إلى كثرة

1 - عبأ المتاع والامر كمنع هيأه والجيش جهزه كعبأه تعبية وتعبيئا فيهما والطيب صنعه وخلطه.
2 - نضح البعير الماء حمله من نهر وبئر لسقي الزرع فهو ناضح سمي بذلك لأنه ينضح الماء أي يصبه والأنثى ناضحة
وسانية أيضا والجمع نواضح وهذا أصله ثم استعمل الناضح في كل بعير وان لم يحمل الماء.
3 - رتأ العقدة كمنع رتأ شدها وفلانا خنقه وأقام وانطلق.
278

قريش وقوتهم فأنزل الله تعالى على رسوله (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)
وقد علم الله أنهم لا يجنحون ولا يجيبون إلى السلم وإنما أراد الله تعالى بذلك لتطيب
قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إلى قريش فقال:
يا معشر قريش ما أجد من العرب أبغض إلي من أبدأكم فخلوني والعرب فإن
أك صادقا فأنتم أعلا بي عينا، وإن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري، فارجعوا.
فقال عتبة: والله ما أفلح قوم قط ردوا هذا، ثم ركب جملا له أحمر فنظر إليه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجول في العسكر وينهى عن القتال، فقال: إن يكن
عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن تطيعوه ترشدوا فأقبل عتبة يقول: يا معشر
قريش اجتمعوا واسمعوا، ثم خطبهم فقال:
يمن مع (1) رحب، ورحب مع يمن، يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر،
وارجعوا إلى مكة واشربوا الخمور وعانقوا الحور، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
إل (2) وذمة وهو ابن عمكم فارجعوا ولا تردوا رأيي وإنما تطالبون محمدا بالعير التي أخذها
محمد بنخله ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلي عقله.
فلما سمع أبو جهل ذلك غاضه وقال: إن عتبة أطول الناس لسانا، وأبلغهم في
الكلام ولئن رجعت قريش بقوله ليكونن سيد قريس إلى آخر الدهر، ثم قال: يا عتبة
نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب وجبنت وانتفخ سحرك (3) وتأمر الناس بالرجوع وقد
رأينا آثارنا بأعيننا، فنزل عتبة عن جمله وحمل على أبي جهل، وكان على فرس فأخذ
بشعره، فقال الناس: يقتله فعرقب فرسه، فقال: أمثلي يجبن؟ وسيعلم قريش اليوم أينا الألئم
والأجبن وأينا المفسد لقومه، لا يمشي إلا أنا وأنت بالموت عيانا، ثم قال هذا جناي وخياره

1 - رحب ككرم وسمع رحبا بالضم ورحابة فهو رحب ورحيب ورحاب بالضم اتسع.
الال بالكسر العهد والحلف والأمان والقرابة.
السحر ويحرك ويضم الرية ج سحور وأسحار واثر دبرة البعير وانتفخ سحره ومساحره عدا طوره وجاوز قدره
وانقطع منه سحري يئست منه.
279

فيه، وكل جان يده إلى فيه، ثم أخذ بشعره يجره فاجتمع إليه الناس فقالوا:
يا أبا الوليد الله الله لا تفت في أعضاد الناس، تنهى عن شئ تكون أوله.
فخلصوا أبا جهل من يده.
فنظر عتبة إلى أخيه شيبة، ونظر إلى ابنه الوليد فقال: قم يا بني فقام، ثم لبس
درعه وطلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوها لعظم هامته فاعتم بعمامتين، ثم أخذ سيفه
وتقدم هو وأخوه وابنه، ونادى يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليه ثلاثة نفر
من الأنصار: عوذ، ومعوذ، وعون بني عفراء، فقال عتبة: من أنتم؟ انتسبوا لنعرفكم؟ فقالوا: نحن
بنو عفراء أنصار الله وأنصار رسول الله، فقال: ارجعوا فإنا لسنا إياكم نريد، إنما نريد
الأكفاء من قريش، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أرجعوا، و
كره أن يكون أول الكرة بالأنصار فرجعوا وواقفوا موقفهم.
ثم نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبيدة بن الحرث بن عبد
المطلب، وكان له سبعون سنة فقال له: قم يا عبيدة، فقام بين يديه بالسيف، ثم نظر إلى
حمزة بن عبد المطلب فقال له: قم يا عم، ثم نظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: قم
يا علي، وكان أصغر القوم - سنا - فقاموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بسيوفهم فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد
أن تطفي نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
ثم قال رسول الله: يا عبيدة عليك بعتبة، وقال لحمزة: عليك بشيبه، وقال لعلي:
عليك بالوليد بن عتبة، فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقال عتبة: من أنتم؟ انتسبوا لنعرفكم،
فقال: أنا عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، فقال: كفو كريم، فقال: فمن هذان؟ فقال: حمزة
ابن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، فقال: كفوان كريمان، لعن الله من أوقفنا وإياكم هذا
الموقف، فقال: شيبة لحمزة من أنت؟ فقال: أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله،
فقال له شيبة: لقد لقبت أسد الحلفاء (1) فانظر كيف يكون صولتك يا أسد الله.

1 - الحلفة والحلفاء والحلف محركة النبت المعروف ولعل المراد بأسد الحلفاء الأسد الساكن تحت شجرتها لأنها تغطيه وهو يكمن فيها ويستأنس بها ويتوطن عندها فحاصل مراد القائل انك ملقب بالأسد تشبيها وانا أسد حقيقة نطير قول الشاعر أسد دم الأسد الهزبر خضابه.
280

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلق هامته، وضرب عتبة
عبيدة على ساقه وقطعها وسقطا جميعا، وحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيفين حتى
انثلما وكل واحد منهما يتقى بدرقته، وحمل أمير المؤمنين عليه السلام على الوليد بن عتبة
فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه، فقال علي عليه السلام: فأخذ يمينه
المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض.
ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى الكلب قد نهر عمك
فحمل عليه علي عليه السلام ثم قال: يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة
فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه أمير المؤمنين عليه السلام على رأسه فطير نصفه، ثم
جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه، وحمل عبيدة بين حمزة وعلي حتى أتوا به رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر فقال:
يا رسول الله بأبي أنت وأمي ألست شهيدا؟ قال: بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي،
فقال: أما لو أن عمك حي لعلم أني أولى بما قال منه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: وأي
أعمامي تعني؟ قال: أبو طالب حيث يقول:
كذبتم وبيت الله نبري محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نضرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول الله أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي الله ورسوله، وابنه الآخر
في جهاد أعداء الله بأرض الحبشة، فقال: يا رسول الله أسخطت علي في هذه الحالة؟
فقال: ما سخطت عليك ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك.
وقال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما عجل وبطر ابنا ربيعة عليكم
بأهل يثرب فأجزروهم جزرا، وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة فنعرفهم
ضلالتهم التي كانوا عليها، وكان فئة من قريش أسلموا بمكة فأحبسهم آباؤهم فخرجوا
281

مع قريش إلى بدر وهم على الشك والارتياب والنفاق منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة،
وأبو قيس بن الفاكهة، والحارث بن ربيعة. وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن المنبه، فلما
نظروا إلى قلة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم
فيقتلون الساعة فأنزل الله على رسوله (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر
هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم).
وجاء إبليس عليه اللعنة إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا
جار لكم ادفعوا إلي رايتكم فدفعوها إليه، وجاء بشياطينه يهول بهم على أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويخيل إليهم ويفزعهم، وأقبلت قريش يقدمها إبليس مع
الراية فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: غضوا أبصاركم، وعضوا على
النواجذ، ولا تسلوا سيفا حتى آذن لكم، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: يا رب إن تهلك
هذه العصابة لم تعبد، وإن شئت أن لا تعبد، لا تعبد، ثم أصابه الغشي فسرى (1) عنه وهو
يسلت العرق عن وجهه وهو يقول: هذا جبرئيل قد أتيكم في ألف من الملائكة مردفين.
قال: فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لايح قد وقعت على عسكر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وقائل يقول: إقدم حيزوم، (2) قدم حيزوم وسمعنا قعقعة
السلاح من الجو ونظر إبليس إلى جبرئيل فتراجع ورمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج
بمجامع ثوبه، ثم قال: ويلك يا سراقة تفت (3) في أعضاد الناس فركله (4) إبليس ركلة في
صدره، وقال: (إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله) وهو قول الله: (وإذ
زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما
تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف

1 - سرى عنه انكشف ويسلت العرق أي يمسحه ويميطه (منه رحمه الله).
2 - وحيزوم اسم فرس كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وفي التفسير اسم جبرئيل أراد أقدم يا حيزوم على الحذف
وفي ص حيزوم فرس من خيل الملائكة.
3 - أي تورد الضعف والانكسار فيهم وتذهب بقوتهم وشوكتهم.
4 - الركل ضربك الفرس برجلك ليعدو والضرب برجل واحدة.
282

الله والله شديد العقاب)، ثم قال عز وجل: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة
يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق).
وحمل جبرئيل على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر، وقال: رب أنجز لي ما
وعدتني من البقاء إلى يوم الدين.
وروي في خبر أن إبليس التفت إلى جبرئيل، وهو في الهزيمة فقال: يا هذا بد
لكم فيما أعطيتمونا؟ فقيل لأبي عبد الله عليه السلام: أترى كان يخاف أن يقتله؟ فقال: لا،
ولكنه كان يضربه ضربة يشينه منها إلى يوم القيامة، وأنزل الله على نبيه: (إذ يوحى ربك
إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا
فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)، قال: أطراف الأصابع فقد جاءت قريش بخيلائها
وفخرها تريد أن تطفئ نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
وخرج أبو جهل من بين الصفين فقال: اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم وآتانا بما لا
نعرفه فأهنه الغداة، فأنزل الله على رسوله أن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو
خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين)، ثم
أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفا من حصى فرمى به في وجوه قريش، وقال:
شاهت الوجوه فبعث الله رياحا تضرب وجوه قريش فكانت الهزيمة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا يغلبنك فرعون هذه الأمة
أبو جهل بن هشام، فقتل منهم سبعين وأسر منهم سبعين، والتقى عمرو بن الجموح مع
أبي جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه وضرب أبو جهل عمرا على يده فأبانها
من العضد فتعلقت بجلده فاتكى (1) عمرو على يده برجله ثم تراخى في السماء حتى
انقطعت الجلدة ورمى بيده.
وقال عبد الله بن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحط بدمه فقلت: الحمد

1 - أي وضع رجله على يده المبانة وتأخر في جهة العلو حتى انقلعت الجلدة وأراد بعبد ابن أم عبد ابن مسعود و
مرتقى صعبا أي يعسر ارتقاؤه وليس أمرا سهلا.
283

لله الذي أخزاك، فرفع رأسه.
فقال: إنما أخزى الله عبدا ابن أم عبد لمن الدين؟ ولمن الملك، ويلك؟ قلت: لله
ولرسوله وإني قاتلك ووضعت رجلي على عنقه، فقال: قد ارتقيت مرتقا صعبا يا رويعي
الغنم أما إنه ليس شئ أشد من قتلك إياي في هذا اليوم ألا يتولى قتلي رجل من
المطلبيين أو رجل من الأحلاف، فانقلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته وأخذت رأسه
وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله البشرى هذا رأس
أبي جهل بن هشام. فسجد لله شكرا.
وأسر أبو بشر الأنصاري العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وجاء
بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: هل أعانك عليهما أحد؟ قال: نعم رجل
عليه ثياب بيض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك من الملائكة، ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: أفد نفسك وابن أخيك، فقال: يا رسول الله قد
كنت أسلمت، ولكن القوم استكرهوني، فقال رسول الله: الله أعلم بإسلامك إن يكن ما
تذكر حقا فالله يجزيك عليه، فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا، ثم قال: يا عباس إنكم
خاصمتم الله فخصمكم، ثم قال: أفد نفسك وابن أخيك، وقد كان العباس أخذ معه
أربعين أوقية من ذهب فغنمها رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما قال رسول الله للعباس:
أفد نفسك قال يا رسول الله أحسبها من فدائي، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: لا، ذاك شئ أعطانا الله منك، فأفد نفسك وابن أخيك،
فقال العباس: فليس لي مال غير الذي ذهب مني، قال: بلى المال الذي خلفته
عند أم الفضل بمكة، وقلت لها: إن حدث علي حدث فاقسموه بينكم، فقال
له: أتتركني وأنا أسأل الناس بكفي؟ فأنزل الله على رسوله في ذلك (يا أيها النبي
قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم
خيرا مما اخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم).
284

ثم 687 قال الله: (وإن يريدوا خيانتك) في علي (فقد خانوا الله من قبل) فيك (فأمكن
منهم)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعقيل: لقد قتل الله يا أبا يزيد أبا
جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومنبه، ونبيه ابنا الحجاج، ونوفل بن
خويلد، وأسر سهيل بن عمرو، والنضر بن الحرث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، وفلان
وفلان، فقال عقيل: إذا لا تنازعون في تهامة فإن كنت قد أثخنت القوم وإلا فاركب
أكتافهم فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان القتلى ببدر سبعين، والأسرى سبعين، قتل منهم أمير المؤمنين عليه السلام
سبعة وعشرين ولم يؤسر أحدا، فجمعوا الأسارى وفرقوهم في الجمال وساقوهم على
أقدامهم، وجمعوا الغنائم، وقتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة
رجال فيهم سعد بن خيثمة، وكان من النقباء، فرحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
من بدر ونزل الأثيل عند غروب الشمس وهو من بدر على ستة أميال فنظر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم إلى عقبة ابن أبي معيط وإلى النضر بن الحرث بن كلدة وهما في
قران واحد، فقال النضر لعقبة: يا عقبة أنا وأنت مقتولان، فقال عقبة: من بين قريش؟ قال
نعم، لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد نظر إلينا نظرة رأيت فيها القتل، فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي علي بالنضر وعقبة.
وكان النضر رجلا جميلا عليه شعر فجاء علي عليه السلام فأخذه بشعره فجره
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال النضر: يا محمد أسألك بالرحم الذي بيني وبينك
إلا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني، وإن فاديتهم فاديتني، وإن أطلقتهم
أطلقتني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا رحم بيني وبينك قطع الله الرحم
بالإسلام، قدمه يا علي فاضرب عنقه، فقال عقبة: يا محمد ألم تقل لا تصبر قريش، أي
لا يقتلون صبرا، قال: وأنت من قريش؟ إنما أنت علج من أهل صفورية لأنت في الميلاد
أكبر من أبيك الذي تدعى له ليس منها، قدمه يا علي فاضرب عنقه، فقدمه فضرب
عنقه.
285

فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النضر وعقبة، خافت الأنصار أن
يقتل الأسارى كلهم، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: يا رسول الله
قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين وهم قومك وأساراك فهبهم لنا يا رسول الله وخذ منهم
الفداء وأطلقهم، فأنزل الله عليهم: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في
الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله
سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا)، فأطلق لهم أن يأخذوا
الفداء ويطلقوهم وشرط أن يقتل منهم في عام قابل بعدد من يأخذوا منهم الفداء فرضوا
منه بذلك، وتمام الحديث مضى في سورة آل عمران.
(15) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا كثيرا بحيث يرى
كثرتهم كأنهم يزحفون، أي يدنون. القمي: أي يدنو بعضهم من بعض. فلا تولوهم الادبار:
بالانهزام.
(16) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال: لأن يكر بعد الفر لان يخيل
عدوه أنه منهزم وهو من مكايد الحرب. أو متحيزا إلى فئة: أو منحازا إلى فئة أخرى من
المسلمين ليستعين بهم. فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير: العياشي:
عن الكاظم عليه السلام إلا متحرفا لقتال قال: متطردا، يريد الكرة عليهم أو متحيزا يعني
متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة فمن انهزم حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب
من الله.
(17) فلم تقتلوهم: بقوتكم، يعني إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم. ولكن
الله قتلهم: بأن أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم. وما رميت: أنت يا
محمد. إذ رميت ولكن الله رمى: حيث أثرت الرمية ذلك الأثر العظيم. القمي: يعنى الحصى
الذي حمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورمى به في وجوه قريش، وقال: شاهت
الوجوه (1).

1 - اي قبحت يقال شاه يشوه شوها وشوه شوها ورجل اشوه وامرأة شوهاء.
286

وروي: أن قريشا لما جاءت بخيلائها أتاه جبرئيل فقال: خذ قبضة من تراب
فارمهم بها، فقال لعلي: أعطني قبضة من حصاة الوادي فأعطاه فرمى بها في وجوههم،
وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم
ويأسرونهم. ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل: قتلت وأسرت فنزلت آية
الرمي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه وجد منه صورة ونفاه عنه معنى لأن
أثره الذي لا يدخل في قدرة البشر فعل الله سبحانه فكأنه فاعل الرمية على الحقيقة
وكأنها لم توجد من الرسول وفيه وجه آخر غامض.
وفي الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال: في هذه الآية
سمي فعل النبي فعلا له ألا ترى تأويله على غير تنزيله.
العياشي: عن الصادق، والسجاد عليهما السلام إن عليا عليه السلام ناول
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القبضة التي رمى بها في وجوه المشركين، فقال الله: (وما
رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
وفي الخصال: في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وتعدادها قال: وأما الخامسة
والثلاثون فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجهني يوم بدر، فقال: أئتني بكف
حصاة مجموعة من مكان واحد، فأخذتها ثم شممتها فإذا هي طيبة يفوح منها رائحة
المسك فأتيته بها فرمى بها وجوه المشركين، وتلك الحصيات أربع منها كن من الفردوس،
وحصاة من المشرق، وحصاة من المغرب، وحصاة من تحت العرش، مع كل حصاة مأة
ألف ملك مددا لنا، لم يكرم الله عز وجل بهذه الفضيلة أحدا قبلنا ولا بعدنا. وليبلى
المؤمنين منه بلاء حسنا: ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات،
فعل ما فعل. إن الله سميع: لاستغاثتهم ودعائهم. عليم: بنياتهم وأحوالهم.
(18) ذلكم: أي الغرض ذلكم. وأن الله موهن كيد الكافرين: يعني أن
المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، وقرئ موهن كيد بالإضافة والتشديد.
(19) إن تستفتحوا فقد جائكم الفتح: قيل: الخطاب لأهل مكة على سبيل
287

التهكم إذ روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهم انصر أعلى
الجندين وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين.
وفي المجمع: في حديث أبي حمزة قال أبو جهل: (اللهم ربنا ديننا القديم، ودين
محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم.
وروي أنه قال: أينا أهجر وأقطع للرحم فأهنه اليوم فأهلكه.
وقيل: خطاب للمؤمنين وكذا القولان فيما بعده. وإن تنتهوا: عن الكفر ومعاداة
الرسول والتكاسل في القتال، والرغبة عما يستأثره الرسول. فهو خير لكم: لتضمنه سلامة
الدارين، وخير المنزلين. وإن تعودوا: لمحاربة والتكاسل. نعد: لنصره والإنكار. ولن تغنى
عنكم فئتكم: ولن تدفع عنكم جماعتكم. شيئا: من الأغناء والمضار. ولو كثرت: فئتكم.
وأن الله مع المؤمنين: بالنصر والمعونة.
(20) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه: عن الرسول.
وأنتم تسمعون: القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.
(21) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا: ادعوا السماع. وهم لا يسمعون: سماعا
ينتفعون به.
(22) إن شر الدواب عند الله الصم عن الحق. البكم الذين لا يعقلون:
الحق (1).
(23) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم: سماع تفهم. ولو أسمعهم: وقد علم أن
لا خير فيهم. لتولوا: ولم ينتفعوا به. وهم معرضون: لعنادهم (2).
في المجمع: عن الباقر عليه السلام نزلت في بني عبد الدار لم يكن أسلم منهم
غير مصعب بن عمير، وحليف لهم يقال له: سويط.

1 - يعني هؤلاء المشركين الذين لم ينتفعوا بما يسمعون من الحق ولا يتكلمون به ولا يعتقدونه ولا يقرون به فكأنهم
صم بكم لا يتفكرون أيضا فيما يسمعون فكأنهم لم ينتفعوا بعقولهم أيضا وصاروا كالدواب.
2 - وفي هذا دلالة على أن الله تعالى لا يمنع أحدا من المكلفين اللطف وإنما لا يلطف لمن يعلم أنه لا ينتفع به.
288

(24) يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول: بالطاعة إذا دعاكم: الرسول.
لما يحييكم.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام نزلت في ولاية علي عليه السلام.
والقمي: الحياة: الجنة.
وعن الباقر عليه السلام: في هذه الآية ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام
فإن اتباعكم إياه وولايته أجمع لأمركم وأبقى للعدل فيكم. واعلموا أن الله يحول بين
المرء وقلبه يملك تقلب القلوب من حال إلى حال.
القمي: أن يحول بينه وبين ما يريد.
وعن الباقر عليه السلام يحول بين المؤمن ومعصيته أن تقوده إلى النار، وبين
الكافر وبين طاعته أن يستكمل بها الأيمان، قال: واعلموا أن الأعمال بخواتيمها.
وفي التوحيد، والعياشي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية يحول بينه وبين
أن يعلم أن الباطل حق.
وفي المجمع، والعياشي: عنه عليه السلام معناه لا يستيقن القلب أن الحق باطل
أبدا، ولا يستيقن القلب أن الباطل حق أبدا. والعياشي: عنه عليه السلام هو أن يشتهي
الشئ بسمعه وبصره ولسانه ويده أما إن هو غشى شيئا مما يشتهي فإنه لا يأتيه إلا
وقلبه منكر لا يقبل الذي يأتي يعرف أن الحق ليس فيه. وعن الباقر عليه السلام: هذا
الشئ يشتهيه الرجل بقلبه وسمعه وبصره لا تتوق نفسه إلى غير ذلك فقد حيل بينه
وبين قلبه إلا ذلك الشئ. وأنه إليه تحشرون: فيجازيكم بأعمالكم.
(25) واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل يعمهم وغيرهم
كالمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وافتراق الكلمة، وظهور البدع.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية قال: أصابت الناس فتنة
بعد ما قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى تركوا عليا عليه السلام وبايعوا غيره،
289

وهي الفتنة التي فتنوا بها، وقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأتباع علي عليه
السلام والأوصياء من آل محمد (صلوات الله عليهم).
وفي المجمع: عن علي، والباقر عليهما السلام أنهما قرئا لتصيبن.
وعن ابن عباس: أنها لما نزلت قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من ظلم
عليا عليه السلام مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء قبلي.
والقمي نزلت في طلحة والزبير لما حاربوا أمير المؤمنين عليه السلام وظلموه.
واعلموا أن الله شديد العقاب.
(26) واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن
يتخطفكم (1) الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات: من الغنائم. لعلكم
تشكرون: هذه النعم.
القمي: نزلت في قريش خاصة وهو مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام
أيضا.
(27) يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم
تعلمون: أنكم تخونون.
في المجمع: عن الباقر والصادق عليهما السلام نزلت في أبي لبابة بن عبد
المنذر الأنصاري وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاصر يهود بني قريظة
إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلح على ما صالح
عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض
الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن ينزلوا على حكم
سعد بن معاذ، فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله وولده كانت

1 - التخطف الاخذ بسرعة انتزاع يقال تخطف وخطف واختطف أي يستلبكم المشركون من العرب أن خرجتم
منها وقيل إنه يعني بالناس كفار قريش وقيل فارس والروم فآواكم أي جعل لكم مأوى ترجعون إليه يعني المدينة دار
الهجرة.
290

عندهم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم، فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة
أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه
جبرئيل فأخبره بذلك، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني
قد خنت الله ورسوله، فنزلت الآية فيه، فلما نزلت شد نفسه على سارية (1) من سواري
المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة
أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا
لبابة قد تيب عليك، فقال: لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم هو الذي يحلني فجاءه فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر
دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أخلع من مالي، فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم يجزيك الثلث إن تتصدق به.
والقمي: عن الباقر عليه السلام فخيانة الله والرسول: معصيتهما، أما خيانة
الأمانة: فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عز وجل عليه، قال: نزل في أبي لبابة بن
عبد المنذر فلفظ الآية عام ومعناها خاص. قال: ونزلت في غزوة بني قريظة في سنة خمس
من الهجرة، وقد كتبت في هذه السورة مع أخبار بدر، وكانت على رأس ستة عشر شهرا من
مقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، ونزلت مع الآية التي في سورة التوبة
قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم)، التي نزلت في أبي لبابة. قال: فهذا دليل على أن
التأليف على خلاف ما أنزل الله على نبيه ثم ذكر هذه القصة هناك كما يأتي.
(28) واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة (2) لإلهائهم إياكم عن ذكر الله. والله
عنده أجر عظيم: لمن آثر رضاء الله عليهم.
في المجمع: عن أمير المؤمنين عليه السلام لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك

1 - السارية: الأسطوانة.
2 - أي بلاء ومحنة وسبب لوقوعكم في الجرايم العظام يعني انه سبحانه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الراضي
يقسمه ممن لا يرضى به وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ولكن ليظهر الافعال التي بها يستحق الثواب والعقاب.
291

من الفتنة لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من
مضلات الفتن، فإن الله سبحانه يقول: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة).
(29) يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا هداية في قلوبكم
تفرقون بها بين الحق والباطل.
القمي: يعني العلم الذي به تفرقون بين الحق والباطل. ويكفر عنكم سيئاتكم:
ويسترها. ويغفر لكم: بالتجاوز والعفو عنها. والله ذو الفضل العظيم.
(30) وإذ يمكر بك الذين كفروا: واذكر إذ تمكر بك قريش، ذكره ذلك ليشكر
نعمة الله عليه في خلاصه. ليثبتوك: بالحبس. أو يقتلوك: بسيوفهم. أو يخرجوك: من مكة.
ويمكرون ويمكر الله: برد مكرهم ومجازاتهم عليه. والله خير الماكرين.
العياشي: عن أحدهما عليهما السلام أن قريشا اجتمعت فخرج من كل بطن
أناس، ثم انطلقوا إلى دار الندوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول الله، فإذا شيخ قائم على
الباب وإذا ذهبوا إليه ليدخلوا، قال: أدخلوني معكم، قالوا: ومن أنت يا شيخ؟ قال: أنا شيخ
من مضر ولي رأي أشير به عليكم، فدخلوا وجلسوا وتشاوروا وهو جالس وأجمعوا أمرهم
على أن يخرجوه، فقال: ليس هذا لكم برأي، إن أخرجتموه أجلب عليكم الناس فقاتلوكم،
قالوا: صدقت ما هذا برأي، ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه، قال: هذا ليس بالرأي
إن فعلتم هذا ومحمد رجل حلو اللسان أفسد عليكم أبناءكم وخدمكم وما نفع أحدكم إذا
فارقه أخوه وابنه وامرأته، ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه يخرجون من كل بطن
منهم بشاهر فيضربونه بأسيافهم جميعا عند الكعبة، ثم قرأ هذه الآية: (وإذ يمكر بك الذين
كفروا).
والقمي: نزلت بمكة قبل الهجرة، وكان سبب نزولها أنه لما أظهر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم الدعوة بمكة قدمت عليه الأوس والخزرج فقال لهم رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: تمنعوني (1) وتكونون لي جارا، حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله

1 - وهو في عز ومنعة محركة ويسكن أي معه من يمنعه من عشيرته. وامتنع بقومه تقوى بهم فهو في منعته بفتح النون
أي في عز قومه فلا يقدر عليه من يريده قال في المصباح قال الزمخشري هي مصدر مثل الآنفة والعظمة أو جمع مانع وهم العشيرة والحماة ويجوز أن يكون مقصورا من المناعة وقد يسكن في الشعر لا في غيره خلافا لما اجازه مطلقا والمنيع القوي ذو لمنعة.
292

الجنة، فقالوا: نعم خذ لربك ولنفسك ما شئت، فقال لهم: موعدكم العقبة (1) في الليلة الوسطى
من ليالي التشريق، فحجوا ورجعوا إلى منى وكان فيهم ممن قد حج بشر كثير، فلما كان
الثاني من أيام التشريق.
قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان الليل فاحضروا دار عبد
المطلب على العقبة، ولا تنبهوا نائما ولينسل (2) واحدا فواحدا، فجاء سبعون رجلا من الأوس
والخزرج فدخلوا الدار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تمنعوني وتجيروني
حتى أتلو عليكم كتاب ربي وثوابكم على الله الجنة.
فقال سعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وعبد الله بن حزام: نعم يا رسول الله
اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أما ما أشترط لربي فأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا،
وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم، وتمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم،
فقالوا: فما لنا على ذلك؟ فقال: الجنة في الآخرة، وتملكون العرب، ويدين لكم العجم في الدنيا،
وتكونون ملوكا في الجنة، فقالوا: قد رضينا.
فقال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك، كما أخذ
موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك فأشار إليه
جبرئيل، فقال: هذا نقيب وهذا نقيب تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، فمن الخزرج:
سعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وعبد الله بن حزام أبو جابر بن عبد الله، ورافع بن
مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمر، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة بن
الصامت، ومن الأوس: أبو الهيثم بن التيهان وهو من اليمن، وأسد بن حصين، وسعد بن
خيثمة.

1 - العقبة بالتحريك مرقى صعب من الجبال يجمع على عقاب كرقبة ورقاب وليلة العقبة هي التي بايع رسول الله
صلى الله عليه وآله الأنصار على الاسلام والنصرة وعقبة المدنيين في مكة لمن جاء على طريق المدينة وجمرة العقبة معروفة في
منى.
2 - قوله تعالى يتسللون منكم لواذا أي خيرجون من الجماعة واحدا واحدا كقولك سللت كذا من كذا إذا أخرجته
منه.
293

فلما اجتمعوا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، صاح إبليس يا
معشر قريش والعرب هذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصباة من أهل يثرب على
جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى، وهاجت قريش فأقبلوا بالسلاح.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النداء فقال للأنصار: تفرقوا.
فقالوا يا رسول الله: إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم أؤمر بذلك، ولم يأذن الله لي في
محاربتهم، قالوا: أفتخرج معنا؟ قال: أنتظر أمر الله، فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا
السلاح، وخرج حمزة وأمير المؤمنين عليه السلام ومعهما السيف فوقفا على العقبة فلما
نظرت قريش إليهما قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما اجتمعنا وما هيهنا أحد،
والله لا يجوز هذه العقبة أحد إلا ضربته بسيفي.
فرجعوا إلى مكة، وقالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشايخ
قريش في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمعوا في الندوة، وكان لا يدخل دار
الندوة إلا من قد أتى عليه أربعون سنة، فدخلوا أربعين رجلا من مشايخ قريش، وجاء
إبليس في صورة شيخ كبير، فقال له البواب: من أنت؟ قال: أنا شيخ من أهل نجد لا
يعدمكم مني من رأي صائب أني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل فجئت لأشير
عليكم، فقال: ادخل، فدخل إبليس فلما أخذوا مجلسهم.
قال أبو جهل: يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا نحن أهل
الله تفد إلينا العرب في السنة مرتين ويكرمونا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع، فلم
نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم فكنا نسميه الأمين
لصلاحه وسكونه، وصدق لهجته، حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه، ادعى أنه رسول الله وأن
أخبار السماء تأتيه فسفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا، وزعم أنه من
مات من أسلافنا ففي النار، فلم يرد علينا شئ أعظم من هذا، [وقد] رأيت فيه رأيا،
قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن ندس إليه رجلا منا ليقتله فإن طلبت بنو هاشم بدمه
أعطياتهم عشر ديات.
294

فقال الخبيث؟ هذا رأي خبيث، قالوا وكيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لا
محالة، فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم، فإنه إذا قتل محمد صلى الله عليه وآله وسلم
تعصبت بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد
صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض فيقع بينكم الحروب في حرمكم، وتتفانوا، فقال آخر
منهم: فعندي رأي آخر، قال: وما هو؟ قال: نثبته في بيته ونلقي إليه قوته حتى يأتي عليه ريب
المنون فيموت كما مات زهير، والنابغة، وامرء القيس.
فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن بني هاشم لا
ترضى بذلك، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه،
وقال آخر منهم: لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ نحن لعبادة آلهتنا، قال إبليس: هذا
أخبث من الرأيين المتقدمين.
قالوا: وكيف ذاك؟ قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجها، وأنطق الناس
لسانا، وأفصحهم لهجة، فتحملونه إلى بوادي العرب فيخدعهم ويسخرهم بلسانه فلا
يفجأكم إلا وقد ملأها عليكم خيلا ورجلا، فبقوا حائرين، ثم قالوا لإبليس: فما الرأي فيه
يا شيخ؟ قال: ما فيه إلا رأي واحد، قالوا: وما هي؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون
قريش واحد ويكون معهم من بني هاشم رجل فيأخذون سكينة أو حديدة أو سيفا
فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا
يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه، وقد شاركوا فيه، فإن سألوكم أن تعطوا الدية فأعطوهم
ثلاث ديات، فقالوا: نعم عشر ديات.
ثم قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي، فاجتمعوا، ودخل معهم في ذلك أبو لهب عم
النبي ونزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره أن قريشا قد
اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك، وأنزل عليه في ذلك: (وإذ يمكر بك الذين كفروا
ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) واجتمعت قريش
أن يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يصفرون، ويصفقون، ويطوفون بالبيت،
295

فأنزل الله: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء (1) وتصدية)، فالمكاء: التصفير، والتصدية:
صفق اليدين، وهذه الآية معطوفة على قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) وقد كتبت بعد
آيات كثيرة.
فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت قريش ليدخلوا عليه،
فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا ونساء ولا نأمن أن
تقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه فناموا حول حجرة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفرش له ففرش له،
فقال لعلي بن أبي طالب عليه السلام: أفدني بنفسك؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: نم على
فراشي والتحف ببردتي.
فنام علي عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
والتحف ببردته، وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجه
على قريش وهم نيام، وهو يقرء عليهم (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور، وهو جبل على طريق
منى له سنام كسنام الثور، فدخل الغار، وكان من أمره ما كان.
فلما أصبحت قريش وثبوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش فوثب علي في وجوههم
فقال: ما شأنكم، قالوا له: أين محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: جعلتموني عليه رقيبا؟
ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم، فأقبلوا يضربونه، ويقولون أنت تخدعنا
منذ الليلة، فتفرقوا في الجبال، وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز يقفو الآثار،
فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: هذه قدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والله لأخت القدم التي في المقام.
وكان أبو بكر استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرده معه، فقال أبو

1 - قبل المكاء الصفير والتصدية تفعلة من الصدي وهو أن يضرب بإحدى يديه على الأخرى فيخرج من بينهما صوت
وهو التصفيق.
296

كرز: وهذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه، ثم قال: وهيهنا عير ابن أبي قحافة، فما زال بهم
حتى أوقفهم على باب الغار، ثم قال: ما جازوا هذا المكان، إما أن يكون صعدوا السماء
أو دخلوا تحت الأرض، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من
الملائكة حتى وقف على باب الغار، ثم قال: ما في الغار أحد فتفرقوا في الشعاب فصرفهم
الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أذن لنبيه في الهجرة.
(31) وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا: قيل:
قائله النضر بن الحرث بن كلدة، واسر يوم بدر فقتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم
صبرا بيد علي عليه السلام، وإنما قاله صلفا (1) وهذا غاية مكابرتهم، وفرط عنادهم إذ لو
استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاؤا، وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم
بالسيف فلم يعارضوا سواه مع فرط حرصهم على قهره وغلبته. إن هذا إلا أساطير
الأولين: ما سطره الأولون من القصص، قيل: قاله النضر أيضا وذلك أنه جاء بحديث
رستم واسفنديار من بلاد فارس، وزعم أن هذا هو مثل ذلك.
(32) وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة
من السماء أو ائتنا بعذاب أليم: قيل: هذا أيضا من كلام النضر، وهو أبلغ في الجحود، أراد
به التهكم وإظهار الجزم التام على كونه باطلا.
والقمي: قاله أبو جهل.
وفي الكافي: قاله الحارث بن عمرو الفهري.
وفي المجمع: قاله النعمان بن الحرث، كما يأتي جميعا.
(33) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون: بيان لموجب إمهالهم والتوقف في إجابة دعائهم.
(34) وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام: فإنهم
297

ألجأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى الهجرة، وأحصروا عام
الحديبية. وما كانوا أولياءه: مستحقين ولاية أمره مع شركهم، وهو رد لقولهم نحن ولاة
البيت والحرم. إن أولياؤه إلا المتقون: من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره.
في المجمع: عن الباقر عليه السلام معناه وما أولياء المسجد الحرام إلا المتقون.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام وما كانوا أولياءه، يعني أولياء البيت، يعني
المشركين، إن أولياءه إلا المتقون حيثما كانوا أولى به من المشركين. ولكن أكثرهم لا
يعلمون: أن لا ولاية لهم عليه.
القمي: نزلت لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقريش: (إن الله بعثني
أن أقتل جميع ملوك الدنيا وأجر الملك إليكم فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكوا بها
العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونوا ملوكا في الجنة).
فقال أبو جهل: اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك
فأمطر علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم حسدا لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ثم قال: كنا وبني هاشم كفرسي رهان نحمل إذا حملوا ونطعن إذا طعنوا، ونوفد (1) إذا
وفدوا فلما استوى بنا وبهم الركب قال قائل منهم: منا نبي، لا نرضى بذلك أن يكون في
بني هاشم نبي ولا يكون في بني مخزوم، ثم قال: (غفرانك اللهم)، فأنزل الله في ذلك (وما كان الله
ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) حين قال: (غفرانك اللهم).
فلما هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجوه من مكة، قال الله:
(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياؤه) يعني قريشا ما
كانوا أولياء مكة (إن أولياؤه إلا المتقون) أنت وأصحابك يا محمد فعذبهم الله يوم بدر
فقتلوا.
وفي الكافي: عن أبي بصير قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس

1 - والوفد هم القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد والوافد السابق من الإبل ومنه إمام القوم وافدهم أي
سابقهم إلى الله فقدموا أفضلكم.
298

إذ أقبل أمير المؤمنين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن فيك شبها من
عيسى بن مريم، ولولا أن يقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن
مريم لقلت فيك قولا لا تمر بملأ من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدمك
يلتمسون بذلك البركة.
قال: فغضب الأعرابيان، والمغيرة بن شعبة، وعدة من قريش معهم، فقالوا: ما
رضى أن يضرب لابن عمه مثلا إلا بعيسى بن مريم، فأنزل الله على نبيه فقال: (ولما ضرب
ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل
هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى إسرائيل ولو نشاء لجعلنا
منكم) يعني من بني هاشم (ملائكة في الأرض يخلفون).
قال: فغضب الحرث بن عمرو الفهري فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك أن بني هاشم يتوارثون هرقلا (1) بعد هرقل فأرسل علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب أليم فأنزل الله عليه مقالة الحرث ونزلت هذه الآية: (ما كان الله ليعذبهم وأنت
فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) ثم قال له: يا ابن عمرو إما تبت وإما رحلت،
فدعا براحلته فركبها فلما صار بظهر المدينة أتته جندلة فرضت هامته، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله من المنافقين: انطلقوا إلى صاحبكم فقد أتاه ما
استفتح به، قال الله عز وجل: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد).
وفي المجمع: عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، لما نصب رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا يوم غدير خم، قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) طار ذلك
في البلاد فقدم على النبي النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا
إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم

1 - هرقل وزان خندف اسم ملك الروم قال الجوهري ويقال أيضا هر قل على وزن دمشق قال في المجمع هرقل
وضغاطر ملكان من ملوك الروم فضغاطر اسلم ودعا الروم إلى الاسلام فقتلوه واما هرقل فشح بملكه وحارب المسلمين في
موتة وتبوك ويحتمل ان يضمر الاسلام ويفعل هذه المعاصي شحا بملكه.. ومن كلام الحارث بن عمرو الفهري اللهم إن كان
هذا هو الحق من أن بني هاشم يتوارثون هرقا بعد هرقل أراد أن بني هاشم يتوارثون ملكا بعد ملك.
299

والصلاة والزكاة فقبلناها، ثم لم ترض عنا حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت
مولاه فعلي مولاه، فهذا شئ منك أو أمر من عند الله؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو إن
هذا من الله، فولى النعمان بن الحرث، وهو يقول: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك
فأمطر علينا حجارة من السماء)، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، وأنزل الله تعالى: (سأل
سائل بعذاب واقع).
وفي الكافي: عنه عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
إن لكم في حيوتي خيرا، وفي مماتي خيرا، قال: فقيل يا رسول الله أما حيوتك فقد علمنا،
فما لنا في وفاتك؟ فقال: أما في حيوتي فإن الله يقول: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) وأما
في مماتي فتعرض علي أعمالكم فأستغفر لكم.
والقمي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام ما يقرب منه، وقال في آخره: فإن
أعمالكم تعرض علي كل خميس واثنين، فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من
سيئة استغفرت الله لكم.
وفي نهج البلاغة: كان في الأرض أمانان من عذاب الله فرفع أحدهما، ودونكم
الآخر فتمسكوا به، أما الأمان الذي رفع فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما
الأمان الباقي: فالاستغفار ثم تلا الآية.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والاستغفار حصنين لكم من العذاب، فمضى أكبر الحصنين وبقي الاستغفار، فأكثروا منه
فإنه ممحاة للذنوب وإن شئتم فاقرؤا، ثم تلا الآية.
(35) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء صفيرا وتصدية تصفيقا، يعني
وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة.
وفي المعاني، والعياشي: عن الصادق عليه السلام قال: التصفير والتصفيق.
300

وفي العيون عن الرضا عليه السلام سميت مكة مكة (1) لأن الناس يمكون فيها،
وكان يقال لمن قصدها قد مكا (2)، وذلك قول الله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا
مكاء وتصدية) فالمكاء: الصفير، والتصدية: تصفيق اليدين. قيل: كانوا يطوفون بالبيت عراء
يشبكون بين أصابعهم ويصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته يخلطون عليه.
وفي المجمع: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى في المسجد
الحرام قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، ورجلان عن يساره فيصفقان
بأيديهما فيخلطان عليه صلاته، فقتلهم الله جميعا ببدر. فذوقوا العذاب: يعني القتل والأسر
يوم بدر، أو عذاب النار في الآخرة. بما كنتم تكفرون: بسبب كفركم.
القمي: هذه الآية معطوفة على قوله (وإذ يمكر بك الذين كفروا) كما نقلنا عنه
هناك.
(36) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله
فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.
القمي: نزلت في قريش لما وافاهم ضمضم وأخبرهم بخبر رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في طلب العير، فأخرجوا أموالهم، وحملوا وأنفقوا، وخرجوا إلى محاربة رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ببدر فقتلوا وصاروا إلى النار، وكان ما أنفقوا حسرة
عليهم.
أقول: قد مضت تسمية بعض المنافقين في قصة بدر.
والذين كفروا إلى جهنم يحشرون: يساقون.
(37) ليميز الله الخبيث من الطيب: الكافر من المؤمن، والصالح من الفاسد.

1 - المك النقض والهلاك ومنه سمي البلد الحرام مكة لأنها تنقض الذنوب وتنقيها أو تمك من قصدها بالظلم أي
تهلكه كما وقع لأصحاب الفيل أو لقلة الماء بها.
2 - مكا يمكو إذا صفر ويقال المكاء صفير كصفير المكاء بالتشديد والمد وهو طائر بالحجاز له صفير.
301

ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا: فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض.
فيجعله في جهنم: كله. أولئك هم الخاسرون: الكاملون في الخسران.
في العلل: عن الباقر عليه السلام في حديث إن الله سبحانه مزج طينة المؤمن
حين أراد خلقه بطينة الكافر، فما يفعل المؤمن من سيئة فإنما هو من أجل ذلك المزاج،
وكذلك مزج طينة الكافر حين أراد خلقه بطينة المؤمن فما يفعل الكافر من حسنة فإنما هو
من أجل ذلك المزاج. أو لفظ هذا معناه، قال: فإذا كان يوم القيامة ينزع الله من العدو
الناصب سنخ المؤمن ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله الصالحة ويرده إلى
المؤمن، وينزع الله تعالى من المؤمن سنخ الناصب ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع
جميع أعماله السيئة الردية ويرده إلى الناصب عدلا منه جل جلاله وتقدست أسماؤه،
ويقول: للناصب لا ظلم عليك هذه الأعمال الخبيثة من طينتك ومزاجك وأنت أولى بها
وهذه الأعمال الصالحة من طينة المؤمن ومزاجه وهو أولى بها (لا ظلم اليوم إن الله سريع
الحساب)، ثم قال: أزيدك في هذا المعنى من القرآن أليس الله عز وجل يقول: (الخبيثات
للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما
يقولون لهم مغفرة ورزق كريم)، وقال عز وجل: (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله
الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم
أولئك هم الخاسرون). وقد أوردنا تمام هذا الحديث على وجهه وشرحناه في كتابنا المسمى
بالوافي، من أراده فليطلبه هناك.
(38) قل للذين كفروا إن ينتهوا: عن الكفر ومعاداة الرسول. يغفر لهم ما قد
سلف: من ذنوبهم. وإن يعودوا: إلى قتاله. فقد مضت سنة الأولين: الذين تحزبوا على
الأنبياء بالتدمير، كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك.
العياشي: عن الباقر عليه السلام أنه قال له رجل: إني كنت عاملا لبني أمية
فأصبت مالا كثيرا، فظننت أن ذلك لا يحل لي فسألت عن ذلك فقيل لي: إن أهلك
ومالك وكل شئ لك حرام، فقال ليس كما قالوا لك، قال: فلي توبة، قال: نعم توبتك في
302

كتاب الله: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف).
(39) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة: لا يوجد فيهم شرك.
القمي: أي كفر، قال: وهي ناسخة لقوله: (كفوا أيديكم) ولقوله (ودع أذاهم). ويكون
الدين كله لله: ويضمحل عنهم الأديان الباطلة.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام لم يجئ تأويل هذه الآية بعد إن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم رخص لهم لحاجته وحاجة أصحابه، فلو قد جاء تأويلها لم يقبل
منهم، ولكنهم يقتلون حتى يوحد الله، وحتى لا يكون شرك.
وفي المجمع، والعياشي: عن الصادق عليه السلام لم يجئ تأويل هذه الآية، ولو
قد قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمد
صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغ الليل حتى لا يكون مشرك على ظهر الأرض كما قال
الله تعالى (يعبدونني ولا يشركون بي شيئا). فإن انتهوا: عن الكفر. فإن الله بما يعملون
بصير: فيجازيهم على انتهائهم عنه، وإسلامهم.
(40) وإن تولوا: ولم ينتهوا. فاعلموا أن الله مولاكم: ناصركم، فثقوا به ولا
تبالوا بمعاداتهم. نعم المولى: لا يضيع من تولاه. ونعم النصير: لا يغلب من نصره.
(41) واعلموا أنما غنمتم من شئ: قيل: أي الذي أخذتموه من الكفار
قهرا.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام هي والله الإفادة يوما بيوم.
أقول: يعني استفادة المال من أي جهة كانت. فأن لله خمسه وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل:
في الكافي: عن الباقر عليه السلام إن ذا القربى هم قرابة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، والخمس لله، وللرسول، ولنا.
والعياشي: عن أحدهما عليهما السلام مثله، وزاد: أنه سئل منهم اليتامى
303

والمساكين وابن السبيل قال: نعم.
وفي الكافي، والتهذيب: عن أمير المؤمنين عليه السلام نحن والله عنى بذي
القربى الذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله، فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى
فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) منا خاصة، قال: ولم يجعل
لنا في سهم الصدقة نصيبا أكرم الله نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس.
وفي الكافي: عن الرضا عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقيل له: فما كان
لله فلمن هو؟ فقال: لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وما كان لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فهو للأمام)، فقيل له: أرأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر وصنف
أقل ما يصنع به؟ قال: ذاك إلى الأمام، أرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف
يصنع؟ أليس إنما كان يعطي على ما يرى؟ كذلك الأمام.
وفي الفقيه، والتهذيب، والعياشي: عن الصادق عليه السلام أما خمس الله:
فللرسول يضعه في سبيل الله، وأما خمس الرسول: فلأقاربه، وخمس ذوي القربى: فهم
أقرباؤه، واليتامى يتامى أهل بيته، فجعل هذه الأربعة الأسهم فيهم، وأما المساكين، وابن
السبيل: فقد عرفت إنا لا نأكل الصدقة، ولا تحل لنا. فهي للمساكين، وأبناء السبيل.
وفي التهذيب: عن أحدهما عليهما السلام، خمس الله: للأمام، وخمس الرسول:
للأمام، وخمس ذي القربى: لقرابة الرسول والأمام واليتامى: يتامى الرسول، والمساكين منهم
فلا يخرج منهم إلى غيرهم.
والقمي: فهم أيتام آل محمد (صلوات الله عليهم) خاصة ومساكينهم وأبناء
سبيلهم، فمن الغنيمة يخرج الخمس ويقسم على ستة أسهم: سهم لله، وسهم لرسول الله،
وسهم للأمام، فسهم الله، وسهم الرسول يرثه الأمام فيكون للأمام ثلاثة أسهم من ستة،
والثلاثة الأسهم لأيتام آل الرسول صلوات الله عليهم، ومساكينهم، وأبناء سبيلهم، وإنما
صارت للأمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم لأن الله تعالى قد ألزمه بما ألزم النبي صلى
الله عليه وآله وسلم من تربية الأيتام ومؤن المسلمين وقضاء ديونهم وحملهم في الحج
والجهاد، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما انزل عليه: (النبي أولى بالمؤمنين
304

من أنفسهم) وهو أب لهم، فلما جعله الله أبا للمؤمنين لزمهم ما يلزم الوالد للولد، فقال عند
ذلك: من ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعا فعلي وإلي فلزم الأمام ما لزم الرسول
صلى الله عليه وآله، فلذلك صار له من الخمس ثلاثة أسهم. إن كنتم آمنتم بالله:
متعلق بمحذوف، يعني إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به،
فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة. وما أنزلنا: على عبدنا:
محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات، والملائكة، والنصر. يوم الفرقان: يوم بدر فإنه
فرق فيه بين الحق والباطل. يوم التقى (1) الجمعان: المسلمون والكفار. في الخصال في حديث الأغسال عن الباقر عليه السلام: ليلة التقى الجمعان:
ليلة بدر. والله على كل شئ قدير: فيقدر على نصر القليل على الكثير، والأمداد
بالملائكة.
(42) إذ أنتم بالعدوة الدنيا: من المدينة بدل من يوم الفرقان، والعدوة - مثلثة -:
شط الوادي. وهم بالعدوة القصوى: البعدى من المدينة، تأنيث الأقصى.
القمي: يعني قريشا حيث نزلوا بالعدوة اليمانية، ورسول الله صلى الله عليه وآله
نزل بالعدوة الشامية، وقرئ العدوة بكسر العين والركب:
القمي: يعني العير التي أفلتت.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام يعني أبا سفيان وأصحابه.
أقول: والتفسيران متحدان، فإن أبا سفيان كان مع العير. أسفل منكم: في
مكان أسفل من مكانكم يقودون العير بالساحل، والفائدة في ذكر هذا المواطن الأخبار
من الحالة الدالة على قوة المشركين وضعف المسلمين وإن غلبتهم على مثل هذه الحالة
أمر إلهي لا يتيسر إلا بحوله وقوته، وذلك أن العدوة القصوى كان فيها الماء، ولا ماء
بالعدوة الدنيا، وكانت رخوة تسوخ فيها الأرجل، وكانت العير وراء ظهورهم مع كثرة

1 - العياشي عن الباقر عليه السلام في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقي الجمعان قيل ما معنى يلتقي الجمعان قال
يجمع فيها ما يريد من تقديمه وتأخيره على إرادته وقضائه منه رحمه الله).
305

عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتحملهم على أن لا يبرحوا مواطنهم، ويبذلوا
نهاية نجدتهم، وفيه تصوير ما دبر الله من أمر وقعة بدر. ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد:
أي لو تواعدتم أنتم، وهم على موعدة للقتال ثم علمتم حالكم وحالهم لخالف بعضكم
بعضا، ثبطكم قلتكم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من الرعب فلم يتفق لكم
من الوفاء ما وفقه الله. ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا: كان واجبا أن يفعل من إعزاز
دينه، وإعلاء كلمته، ونصر أوليائه، وقهر أعدائه. ليهلك من هلك عن بينة: عاينها. ويحيى
من حي عن بينة: شاهدها.
القمي: قال: يعلم من بقي أن الله نصره. وقيل: ليصدر كفر من كفر، وإيمان من
آمن عن وضوح بينة، وقيام حجة، وقرئ حيي بفك الإدغام. وإن الله لسميع عليم: يعلم
كيف يدبر أموركم.
(43) إذ يريكهم الله في منامك قليلا: لتخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم
وتشجيعا على عدوهم. ولو أريكهم كثيرا لفشلتم: لجبنتم. ولتنازعتم في الأمر: أمر القتال
وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار. ولكن الله سلم: أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع.
إنه عليم بذات الصدور: يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها من الجرأة والجبن.
القمي: فالمخاطبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى لأصحابه، أراهم
الله قريشا في منامهم أنهم قليل، ولو أراكهم كثيرا لفزعوا.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام كان إبليس يوم بدر يقلل المسلمين في أعين
الكفار ويكثر الكفار في أعين الناس فشد عليه جبرئيل بالسيف فهرب منه، وهو يقول: يا
جبرئيل إني مؤجل حتى وقع في البحر، قيل: لأي شئ يخاف وهو مؤجل؟ قال: بقطع بعض
أطرافه.
(44) وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا: تصديقا لرؤيا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيتا لكم، في الجوامع: عن ابن مسعود لقد قللوا في أعيننا حتى
قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مأة، فأسرنا رجلا منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال:
306

ألفا. ويقللكم في أعينهم: حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور، وقال أبو جهل: ما هم
إلا أكلة رأس لو بعثنا عليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد، كما مر ذكره في القصة، وإنما
قللهم في أعينهم ليجترؤا عليهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيما بعد اللقاء لتفجأهم الكثرة
فيهابوا، وتقل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسبانهم، وهذا من عظائم آيات تلك
الواقعة، وعجائب قدرة الله فيها، فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا، والقليل كثيرا
لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد. ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع
الأمور.
(45) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة: إذا حاربتم جماعة كافرة أو باغية،
واللقاء مما غلب في القتال. فاثبتوا: لقتالهم ولا تفرقوا. واذكروا الله كثيرا: في مواطن الحرب
داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره. لعلكم تفلحون: تظفرون بمرادكم من النصرة
والمثوبة، قيل: فيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شئ عن ذكر الله تعالى وأن
يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل عليه بشراشره (1)، فارغ البال، واثقا بأن لطفه لا ينفك
عنه في شئ من الأحوال.
(46) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا: باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر واحد.
فتفشلوا: فتضعفوا عن قتال عدوكم. وتذهب ريحكم: دولتكم، شبهت الدولة بالريح في
نفوذ أمرها وهبوبها، يقال: هبت ريح فلان إذا نفذ أمره، وقيل: لم يكن قط نصر إلا بريح
يبعثها الله.
وفي الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم نصرت بالصبا، وأهلكت عاد
بالدبور. واصبروا إن الله مع الصابرين: بالكلاءة والنصر.
(47) ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم: يعني أهل مكة حين خرجوا منها
لحماية العير. بطرا: فخرا وأشرا. ورئاء الناس: ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك
أنهم لما بلغوا جحفة (2) وأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبى أبو

1 - الشراشر الأثقال الواحد شرشره يقال القى عليه شراشره أي نفسه حرصا ومحبة.
2 - وجحفة موضع بين مكة والدينة وهي ميقات أهل الشام وكان اسمها مهيعة فأجحف السيل بأهلها فسميت جحفة.
307

جهل، وقال: حتى نقدم بدرا ونشرب بها الخمور وتعزف (1) علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا
من العرب، فذلك بطرهم ورثاؤهم فوافوها فسقوا كأس الحمام (2) مكان الخمر وناحت عليهم
النوايح مكان القيان، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين. ويصدون عن
سبيل الله والله بما يعملون محيط.
(48) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم: في معادة الرسول وغيرها بأن وسوس
إليهم. وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم: مجيركم. فلما تراءت الفئتان:
تلاقى الفريقان. نكص على عقبيه: رجع القهقرى، وبطل كيده، وعاد ما خيل إليهم أنه
مجيرهم سبب هلاكهم. وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون: يعني جنود الملائكة.
إني أخاف الله: أن يصيبني مكروها. والله شديد العقاب: قد مضى لهذه الآية بيان في
سورة آل عمران في قصة بدر.
وفي المجمع: عن الباقر والصادق عليهما السلام أنهم لما التقوا كان إبليس في
صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: يا سراقة
أتخذلنا على هذه الحال؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، فقال: والله ما ترى إلا جواسيس
يثرب، فدفع في صدر الحرث وانطلق وانهزم الناس، فلما قدموا مكة قال الناس: هزم سراقة
فبلغ سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا: إنك آتيتنا في يوم كذا
فحلف لهم، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان.
العياشي: عن السجاد عليه السلام لما عطش القوم يوم بدر انطلق علي عليه
السلام بالقربة يستقي وهو على القليب إذ جاءت ريح شديدة، ثم مضت فلبث ما بدا له،
ثم جاءت ريح أخرى، ثم مضت، ثم جاءت أخرى كاد أن تشغله وهو على القليب (3)، ثم
جلس حتى مضى فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بذلك، فقال

1 - المعارف الملاهي والعازف اللاعب بها والمغني وقد عزف عزفا.
2 - الحمام بالكسر والتخفيف الموت.
3 - القليب البئر قبل أن تطوى يذكر ويؤنث.
308

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما الريح الأولى: ففيها جبرئيل مع ألف من
الملائكة، والثانية: فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة، والثالثة: فيها إسرافيل مع ألف من
الملائكة، وقد سلموا عليك، وهم مدد لنا وهم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي
القهقرى حين يقول: (إني أرى ما لا ترون) الآية.
(49) إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: الشاكون في الإسلام. غر
هؤلاء دينهم: يعني المسلمين، أي اغتروا بدينهم حتى تعرضوا مع قلتهم لقتال جم غفير.
ومن يتوكل على الله: جواب لهم. فإن الله عزيز: غالب ينصر الضعيف على القوي،
والقليل على الكثير. حكيم: يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن إدراكه،
وقد مضى لهذه الآية وما بعدها بيان في قصة بدر.
(50) ولو ترى: ولو رأيت وشاهدت، فإن (لو) تجعل المضارع ماضيا عكس إن إذ
يتوفى الذين كفروا الملائكة: ببدر، وقد قرئ تتوفى بالتاء. يضربون وجوههم: ما أقبل
منهم. وأدبارهم: وما أدبر.
العياشي: مرفوعا إنما أراد واستاههم ان الله كريم يكنى. وذوقوا عذاب الحريق:
ويقولون: ذوقوا عذاب الآخرة، وقيل: كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت
النار منها.
وفي المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلا قال له: إني حملت
على رجل من المشركين فذهبت لأضربه فبدر رأسه، فقال: سبقك إليه الملائكة.
(51) ذلك بما قدمت أيديكم بسبب ما كسبت أيديكم من الكفر والمعاصي.
وأن الله (1) ليس بظلام للعبيد: بأن الله يعذب الكفار بالعدل، لأنه لا يظلم عباده في
عقوبتهم، و (ظلام) للمتكثر لأجل العبيد.
(52) كدأب آل فرعون: أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، ودأبهم: وعادتهم،

1 - وفي هذا دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة في أنه يخلق الكفر ثم يعذب عليه وأنه يجوز أن يعذب من غير ذنب
وأن يأخذ بذنب غيره لان هذا غاية الظلم وقد بالغ عز اسمه في نفي الظلم عن نفسه بقوله ليس بظلام لعبيد.
309

وعملهم الذي دأبوا فيه، أي داوموا عليه. والذين من قبلهم: من قبل آل فرعون. كفروا
بآيات الله: تفسير لدأبهم. فأخذهم الله بذنوبهم: كما أخذ هؤلاء. إن الله قوى شديد
العقاب: لا يغلبه في دفعه شئ.
(53) ذلك: إشارة إلى ما حل بهم. بأن الله: بسبب أن الله. لم يك مغيرا: لا
يصح في حكمته أن يغير. نعمة أنعمها على قوم: مبدلا إياها بالنقمة. حتى يغيروا ما
بأنفسهم: يبدلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوء كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم،
والكف عن تعرض الآيات والرسل بمعاداة الرسول ومن تبعه منهم، والسعي في إراقة
دمائهم والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها، إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعث. وأن الله
سميع: لما يقولون. عليم: بما يفعلون.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام إن الله بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه
وأوحى إليه أن قل لقومك: أنه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم
فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وليس
من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره
إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون الحديث.
وعنه عليه السلام أنه كان أبي يقول: إن الله قضى قضاء حتما لا ينعم
على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة.
(54) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم
بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون: تكرير للتأكيد، وفي قوله: (بآيات ربهم) زيادة دلالة على كفران
النعم، وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب. وكل: من غرقى آل فرعون، وقتلى قريش.
كانوا ظالمين: أنفسهم بكفرهم ومعاصيهم.
(55) إن شر الدواب عند الله الذين كفروا أصروا على الكفر ورسخوا فيه.
فهم لا يؤمنون: فلا يتوقع منهم إيمان.
القمي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام نزلت في بني أمية، فهم أشر خلق الله،
310

هم الذين كفروا في بطن القرآن.
(56) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة: قيل: هم يهود
بني قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا يمالئوا عليه عدوا
فنكثوا، بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا: نسينا، ثم عاهدهم فنكثوا، ومالئوا عليه
الأحزاب يوم الخندق.
والقمي: هم أصحابه الذين فروا يوم أحد. وهم لا يتقون: لا يخافون عاقبة
الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار.
(57) فإما تثقفنهم: تصادفنهم وتظفر بهم. في الحرب فشرد بهم: ففرق عن
محاربتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم. من خلفهم: من وراء من الكفرة، والتشريد:
تفريق على اضطراب. لعلهم يذكرون: يتعظون.
(58) وإما تخافن من قوم معاهدين. خيانة: نقض عهد بإمارات تلوح لك.
فأنبذ إليهم: فاطرح إليهم عهدهم. على سواء: على طريق مقتصد مستو في العداوة وذلك
بأن تخبرهم بنقض العهد إخبارا ظاهرا مكشوفا يتبين لهم أنك قطعت ما بينك وبينهم
ولا تبدأهم بالقتال، وهم على توهم العهد، فيكون ذلك خيانة. إن الله لا يحب الخائنين: فلا
تخنهم بأن تناجزهم القتال من غير إعلامهم بالنبذ.
القمي: نزلت في معاوية لما خان أمير المؤمنين عليه السلام.
(59) ولا يحسبن الذين كفروا: وقرئ بالياء. سبقوا: فأتوا من أن يظفر بهم. إنهم
لا يعجزون: لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا من إدراكهم، وقرئ بالفتح بمعنى أنهم.
(60) وأعدوا: أيها المؤمنون. لهم: للكفار. ما استطعتم من قوة: من كل ما يتقوى
به في الحرب.
في الكافي، والعياشي: مرفوعا والعامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
القوة: الرمي.
311

والعياشي: عن الصادق عليه السلام سيف وترس.
والقمي: قال السلاح.
وفي الفقيه: عنه عليه السلام منه الخضاب بالسواد. ومن رباط الخيل: والرباط:
اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. ترهبون به: تخوفون به، وقرئ بالتشديد. عدو الله
وعدوكم: كفار مكة. وآخرين من دونهم: من غيرهم من الكفرة. لا تعلمونهم: لا تعرفونهم
بأعيانهم، لأنهم يصلون ويصومون. الله يعلمهم: يعرفهم، لأنه المطلع على الأسرار. وما تنفقوا
من شئ في سبيل الله يوف إليكم: جزاؤه. وأنتم لا تظلمون: بتضييع العمل أو نقص
الثواب.
(61) وإن جنحوا: مالوا. للسلم: للصلح والاستسلام، وقرئ بالكسر. فاجنح لها:
وعاهد معهم، وتأنيث الضمير لحملها على نقيضها الذي هي الحرب، وقد مضى للآية بيان
في قصة بدر.
والقمي: قال: هي منسوخة بقوله: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)،
ونزلت هذه الآية (وإن جنحوا) قبل نزول: (يسألونك عن الأنفال) وقبل الحرب، وقد كتبت في
آخر السورة بعد انقضاء أخبار بدر.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل ما السلم؟ قال:
الدخول في أمرنا. وتوكل على الله: ولا تخف من خديعتهم ومكرهم، فإن الله عاصمك
وكافيك منهم. إنه هو السميع: لأقوالهم. العليم: بنياتهم.
(62) وإن يريدوا أن يخدعوك: في الصلح بأن يقصدوا به دفع أصحابك عن
القتال حتى يقوى أمرهم فيبدوكم به من غير استعداد منكم. فإن حسبك الله: محسبك الله.
القمي: عن الباقر عليه السلام هؤلاء قوم كانوا معه من قريش. هو الذي أيدك:
قواك. بنصره وبالمؤمنين.
(63) وألف بين قلوبهم: حتى صاروا متحابين متوادين بعد ما كان بينهم من
312

التضاغن والتحارب.
في المجمع، والقمي: عن الباقر عليه السلام هم الأنصار، وهم الأوس والخزرج.
وزاد القمي كان بين الأوس والخزرج حرب شديد وعداوة في الجاهلية فألف
الله بين قلوبهم ونصر بهم نبيه لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما آلفت بين قلوبهم:
يعني تناهي عدواتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من
الأموال لم يقدر على الألفة والإصلاح. ولكن الله ألف بينهم: بالإسلام بقدرته البالغة،
فإنه مالك القلوب يقلبها كيف يشاء. إنه عزيز: تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده.
حكيم: يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريد.
(64) يا أيها النبي حسبك الله: كافيك. ومن اتبعك من المؤمنين: قيل: نزلت
بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.
(65) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال بالغ في حثهم على القتال.
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين وإن يكن منكم مأة يغلبوا ألفا من
الذين كفروا: هذه عدة من الله بأن الجماعة من المؤمنين أن صبروا وغلبوا عشرة أمثالهم
من الكفار بتأييد الله، وقرء تكن بالتاء. بأنهم قوم لا يفقهون: بسبب أن الكفار جهلة بالله
واليوم الآخر، يقاتلون على غير احتساب الثواب، ولا يثبتون ثبات المؤمنين الراجين لعلو
الدرجات.
(66) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا: وقرئ بفتح الضاد. فإن
يكن منكم مأة صابرة: وقرئ تكن بالتاء. يغلبوا مأتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا
ألفين بإذن الله: هذه الآية ناسخة لما قبلها.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام في حديث طويل ذكر فيه هذه الآية فقال:
نسخ الرجلان العشرة.
والعياشي: عن أمير المؤمنين عليه السلام من فر من رجلين في القتال [من
الزحف فقد] فر من الزحف، ومن فر من ثلاثة رجال في القتال من الزحف فلم يفر.
313

والقمي: ما يقرب من معنى الحديثين. قيل: كان فيهم قلة أولا. فامروا بذلك، ثم لما
كثروا خفف الله عنهم. والله مع الصابرين: بالنصر والمعونة فلا محالة يغلبون.
(67) ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض: يكثر القتل
ويبالغ فيه، حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله، من أثخنه المرض
إذا أثقله. تريدون عرض الدنيا: حطامها بأخذ الفداء. والله يريد الآخرة: يريد لكم ثواب
الآخرة. والله عزيز: يغلب أولياءه على أعدائه. حكيم: يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها.
قيل: كان هذا يوم بدر فلما كثر المسلمون نزل: (فإما منا بعد وإما فداء)، وقد مضى لهذه الآية
وما بعدها بيان في قصة بدر.
(68) لولا كتاب من الله سبق أي حكم منه سبق إثباته في اللوح بإباحة
الغنائم لكم. لمسكم: لنالكم. فيما أخذتم: فيما استحللتم قبل الإباحة من الفداء. عذاب
عظيم.
(69) فكلوا مما غنمتم: من الفدية. حلالا طيبا واتقوا الله: في مخالفته. إن الله
غفور: غفر لكم ذنبكم. رحيم: أباح لكم ما أخذتم.
(70) يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى: وقرئ الأسارى. إن
يعلم الله في قلوبكم خيرا: خلوص عقيدة، وصحة نية في الأيمان. يؤتكم خيرا مما أخذ
منكم: من الفداء. ويغفر لكم والله غفور رحيم: قد مضى لهذه الآية بيان في قصة بدر.
وفي الكافي العياشي: عن الصادق عليه السلام إنها نزلت في العباس، وعقيل،
ونوفل.
وقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني
هاشم وأبو البختري فأسروا فأرسل عليا عليه السلام فقال: انظر من هيهنا من بني
هاشم، قال: فمر علي عليه السلام على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه، [حار خ ل] عنه
فقال له عقيل: يا ابن أم علي أما والله لقد رأيت مكاني، قال: فرجع إلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وقال: هذا أبو الفضل في يد فلان، وهذا عقيل في يد فلان، وهذا نوفل
314

ابن الحرث في يد فلان، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حتى انتهى إلى عقيل
فقال له يا أبا يزيد قتل أبو جهل، فقال: إذا لا تنازعون في تهامة، فقال إن كنتم أثخنتم
القوم، وإلا فاركبوا أكتافهم، قال: فجئ بالعباس فقيل له: افد نفسك وافد ابني أخيك،
فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشا في كفي، قال: أعط ما خلفت عند أم الفضل وقلت لها
إن أصابني في وجهي هذا شئ فانفقيه على ولدك ونفسك، فقال له: يا ابن أخي من
أخبرك بهذا فقال: أتاني به جبرئيل من عند الله، فقال: ومحلوفه ما علم بهذا أحد إلا أنا
وهي، أشهد أنك لرسول الله، قال: فرجع الاسرى كلهم مشركين إلا العباس، وعقيل، ونوفل،
وفيهم نزلت هذه الآية (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية.
في قرب الأسناد: عن السجاد قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمأتي
درهم، فقال: يا عباس أبسط رداءك وخذ من هذا المال طرفا فبسط رداءه فأخذ منه طائفة،
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا من الذي قال الله: (إن يعلم الله في
قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) الآية.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام مثله.
(71) وإن يريدوا خيانتك: نقض ما عاهدوك. فقد خانوا الله: بالكفر. من قبل:
القمي: وإن يريدوا خيانتك في علي فقد خانوا الله من قبل فيك، كما مضى في
قصة بدر. فأمكن منهم: فأمكنك منهم يوم بدر، فإن أعادوا الخيانة فسيمكن منهم. والله
عليم حكيم.
(72) إن الذين آمنوا وهاجروا: فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ولرسوله، وهم
المهاجرون من مكة إلى المدينة. وجاهدوا بأموالهم: فصرفوها. وأنفسهم: فبذلوها. في
سبيل الله والذين آووا ونصروا: والذين أو وهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم، وهم
الأنصار. أولئك بعضهم أولياء بعض: أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث.
القمي: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة آخى بين
المهاجرين والمهاجرين، وبين الأنصار والأنصار، وبين المهاجرين والأنصار، وكان إذا مات
315

الرجل يرثه أخوه في الدين، ويأخذ المال، وكان له ما ترك دون ورثته، فلما كان بعد بدر
أنزل الله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله)، الآية، فنسخت أية الأخوة (بعضهم أولى ببعض).
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام إنهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى دون
التقارب حتى نسخ ذلك بقوله: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض). والذين آمنوا ولم
يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا: أي من توليهم في الميراث، وقرئ
ولايتهم بالكسر تشبيها لها بالعمل والصناعة، كالكتابة والأمارة كأنه بتولية صاحبه يزاول
عملا.
العياشي: عنهما عليهما السلام أن أهل مكة لا يولون أهل المدينة. وإن
استنصروكم في الدين: قيل: معناه وإن طلب المؤمنون الذين لم يهاجرون منكم النصرة
لهم على الكفار. فعليكم النصر: لهم. إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق: فلا يجوز لكم
نصركم عليهم. والله بما تعملون بصير.
(73) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض نهى المسلمون عن موالاة الكفار
ومعاونتهم وإن كانوا أقارب، وأوجب أن يتركوا يتولى بعضهم بعضا. إلا تفعلوه: لا تفعلوا
ما أمرتم به من التواصل بينكم، وتولي بعضكم بعضا حتى في التوارث تفضيلا لنسبة
الإسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار. تكن فتنة في
الأرض وفساد كبير: تحصل فيها فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة لأن المسلمين ما لم يكونوا
يدا واحدة على أهل الشرك كان الشرك ظاهرا وتجرأ أهله على أهل الإسلام ودعوهم إلى
الكفر.
(74) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا
أولئك هم المؤمنون حقا: لأنهم حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة والانسلاخ من الأهل
والمال والنفس لأجل الدين. لهم مغفرة ورزق كريم: لا تبعة له ولا منة فيه.
(75) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم: يريد اللاحقين بعد
السابقين كقوله: (والذين جاؤوا من بعدهم). فأولئك منكم: أي من جملتكم أيها المهاجرون
316

والأنصار، وحكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم ونصرتهم وإن تأخر إيمانهم وهجرتهم.
وأولوا الأرحام: وأولوا القربات. بعضهم أولى ببعض: بعضهم أولى بميراث بعض من
بعض، ومن غيرهم، وهو نسخ للتوارث بالهجرة، والنصرة كما سبق بيانه. في كتاب الله: في
حكمه المكتوب، وفيه دلالة على أن من كان أقرب إلى الميت في النسب كان أولى
بالميراث.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام كان علي عليه السلام إذا مات مولى له
وترك قرابته لم يأخذ من ميراثه شيئا، ويقول: (أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض).
والقمي: قال: هذه الآية نسخت قوله: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم).
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحسن
والحسين عليهما السلام أبدا، إنما جرت من علي بن الحسين عليه السلام كما قال الله:
(وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)، فلا يكون بعد علي بن الحسين عليهما
السلام، إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إن الله بكل شئ عليم: من المواريث وغيرها،
وبالحكمة في إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة (1) أولا واعتبار القرابة ثانيا إلى غير ذلك.
وذكر ثواب قراءة هذه السورة يأتي في آخر سورة التوبة إن شاء الله تعالى والله
العالم.

1 - المظاهرة المطابقة والمعاضدة والمعاونة والمساعدة وأصله من ترادف الظهرين والصاق أحدهما بالآخر واعتماده عليه.
317

سورة التوبة
وهي مدنية كلها، وقال بعضهم: غير آيتين (لقد جاءكم رسول من
أنفسكم) إلى آخر السورة، وعدد آيها مأة وتسع وعشرون آية، نزلت سنة تسع
من الهجرة، وفتحت مكة سنة ثمان، وحج رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم حجة الوداع سنة عشر.
في المجمع: عن أمير المؤمنين عليه السلام لم ينزل (بسم الله الرحمن الرحيم) على
رأس سورة براءة لأن بسم الله للأمان والرحمة، ونزلت براءة لدفع الأمان والسيف.
وفيه، والعياشي: عن الصادق عليه السلام الأنفال وبراءة واحدة.
(1) براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين: أي هذه براءة
والمعنى: أن الله ورسوله بريئان من العهد الذي عاهدتم به المشركين. إن قيل: كيف يجوز
أن ينقض النبي العهد؟ أجيب بوجهين.
أحدهما: أنه كان قد شرط عليهم بقاء العهد إلى أن يرفعه الله بوحي. والثاني:
أنهم قد نقضوا أو هموا بذلك، فأمر الله أن ينقض عهدهم.
وفي المجمع نسب الوجهين إلى الرواية.
(2) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر: خطاب للمشركين أمروا أن يسيحوا
في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا لا يتعرض لهم، ثم يقتلون حيث وجدوا.
القمي: عن الرضا عليه السلام فأجل الله المشركين الذين حجوا تلك السنة
أربعة أشهر حتى يرجعوا إلى مأمنهم، ثم يقتلون حيث وجدوا.
318

وعن الصادق عليه السلام: نزلت هذه الآية بعدما رجع رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة. قال: وكان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، وكان سنة من العرب في
الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها، وكانوا يتصدقون بها
ولا يلبسونها بعد الطواف، فكان من وافى مكة يستعير ثوبا ويطوف فيه ثم يرده، ومن لم
يجد عارية اكترى ثيابا، ومن لم يجد عارية ولا كرى ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف
بالبيت عريانا، فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة، فطلبت عارية أو كرى فلم تجده،
فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها، فقالت: وكيف أتصدق بها وليس لي
غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة، وأشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها
وأخرى على دبرها، وقالت: اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله فلما فرغت من
الطواف خطبها جماعة، فقالت: إن لي زوجا، وكانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلا من قاتله، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده،
وقد كان نزل عليه في ذلك من الله عز وجل: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم
السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا)، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا
يقاتل أحدا قد تنحى عنه، واعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين من
اعتزله ومن لم يعتزله إلا الذين قد كان عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم
فتح مكة إلى مدة، منهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، فقال الله عز وجل: (براءة من
الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ثم يقتلون
حيث ما وجدوا فهذه أشهر السياحة، عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع
الأول، وعشرا من ربيع الآخر، فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إلى أبي بكر وأمره بأن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر
فلما خرج أبو بكر، نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد لا
يؤدي عنك إلا رجل منك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه
319

السلام في طلبه فلحقه بالروحاء (1) فأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقال: يا رسول أنزل في شئ قال: إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا
أو رجل مني.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام كان الفتح في سنة ثمان، وبراءة في سنة
تسع، وحجة الوداع في سنة عشر.
وعنه عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث أبا بكر مع
براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس، فنزل جبرئيل فقال: لا يبلغ عنك إلا علي عليه
السلام فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا فأمره أن يركب ناقته العضباء (2) وأمره أن
يلحق أبا بكر فيأخذ منه البراءة ويقرأها على الناس بمكة، فقال أبو بكر: أسخطه فقال: لا
إلا أنه انزل عليه: (أنه لا يبلغ إلا رجل منك)، فلما قدم علي عليه السلام مكة وكان يوم
النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الأكبر، قام ثم قال: إني رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إليكم فقرأها عليهم (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا
في الأرض أربعة أشهر) عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشرا
من شهر ربيع الآخر، قال: لا يطوف بالبيت عريان، ولا عريانة، ولا مشرك، إلا من كان له
عهد من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمدته إلى هذه الأربعة أشهر.
قال: وفي خبر محمد بن مسلم قال أبو بكر: يا علي هل نزل في شئ منذ فارقت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: لا، ولكن أبى الله أن يبلغ عن محمد صلى الله عليه
وآله وسلم إلا رجل منه، فوافى الموسم فبلغ عن الله، وعن رسوله بعرفة، والمزدلفة، ويوم
النحر، عند الجمار في أيام التشريق كلها ينادي (براءة من الله ورسوله). الآية، ويقول: ولا
يطوفن بالبيت عريان.

1 - الروحاء موضع بين الحرمين ثلاثين أربعين ميلا من المدينة.
2 - في الحديث لا تضح بالعضباء بالمد مكسورة القرن الداخل أو مشقوقة الأذن قاله في المغرب وغيره والعضباء اسم
؟؟؟ كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله قيل هو علم لها وقيل كانت مشقوقة الأذن وفي كلام الزمخشري وهو منقول من
قولهم ناقة عضباء وهي القصيرة اليد.
320

وفي المجمع: روى أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولاه أيضا الموسم
وأنه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر.
وفيه، والعياشي عن الباقر عليه السلام قال: خطب علي عليه السلام الناس
واخترط سيفه، فقال: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن البيت مشرك، ومن كانت له مدة
فهو إلى مدته، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر، وكان خطب يوم النحر فكانت
عشرون من ذي الحجة، ومحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر.
واعلموا أنكم غير معجزي الله: لا تفوتونه وإن أمهلكم. وأن الله مخزي الكافرين: مذلهم
بالقتل والإسراف بالدنيا والعذاب في الآخرة.
(3) وأذن من الله ورسوله إلى الناس إيذان وإعلام، وهو كالأمان والعطاء
بمعنى الأيمان والاعتداء يوم الحج الأكبر: قيل: يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله،
ولأن الأعلام كان فيه.
والقمي، والعياشي: عن السجاد عليه السلام: الأذان: أمير المؤمنين عليه السلام.
القمي وفي حديث آخر: قال أمير المؤمنين عليه السلام: كنت أنا الأذان في
الناس، والأخير مروي في المعاني. والعلل: عن الصادق عليه السلام وزادا، فقيل له: فما
معنى هذه اللفظة، الحج الأكبر؟ فقال: إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها
المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة.
وفي الكافي، والمعاني، والعياشي: عنه عليه السلام في عدة أخبار يوم الحج الأكبر:
هو يوم النحر، الأصغر العمرة.
وفي بعض أخبار الكافي، والعياشي: عنه عليه السلام الحج الأكبر: الوقوف بعرفة،
ورمي الجمار، والحج الأصغر العمرة، وزاد العياشي وجمع (1) بعد عرفة. أن الله: بأن الله. برئ

1 - وجمع بالفتح فالسكون المشعر الحرام وهو أقرب الموقفين إلى مكة المشرفة ومنه حديث ادم عليه السلام ثم انتهى
إلى جمع فيها بين المغرب والعشاء قيل سمي به لان الناس يجتمعون فيه ويزدلفون إلى الله تعالى اي يتقربون إليه
بالعبادة والخير والطاعة وقيل لان آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف ودنا منها وقيل لأنه يجمع فيه المغرب والعشاء.
321

من المشركين ورسوله: عطف على الضمير في برئ ولا تكرير فيه، لأن الأول كان
إخبارا بثبوت البراءة، وهذا إخبار بإعلامها الناس. فإن تبتم: من الكفر والغدر. فهو خير
لكم وإن توليتم: عن التوبة. فاعلموا أنكم غير معجزي الله: غير سابقين الله ولا فائتين
بأسه وعذابه. وبشر الذين كفروا بعذاب أليم: في الآخرة.
(4) إلا الذين عهدتم من المشركين: استثناء من المشركين واستدراك، وكأنه
قيل لهم - بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين -: ولكن الذين عاهدوا منهم. ثم لم
ينقصوكم شيئا: من شروط العهد ولم ينكثوا ولم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط. ولم
يظاهروا: ولم يعاونوا. عليكم أحدا: من أعدائكم. فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم: إلى تمام
مدتهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر. إن الله يحب المتقين: تعليل وتنبيه على أن تمام عهدهم من
باب التقوى.
(5) فإذا انسلخ: انقضى. الأشهر الحرم: التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها.
العياشي: عن الباقر عليه السلام هي يوم النحر إلى عشر مضين من ربيع
الآخر. فاقتلوا المشركين: الناكثين. حيث وجدتموهم: من حل وحرم. وخذوهم: وأسروهم،
والأخيذ: الأسير. واحصروهم: واحبسوهم وحيلوا بينهم وبين المسجد الحرام. واقعدوا لهم
كل مرصد: كل ممر وطريق ترصدونهم به، لئلا يبسطوا في البلاد. فإن تابوا: عن الشرك
بالأيمان. وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة: تصديقا لتوبتهم. فخلوا سبيلهم: فدعوهم ولا
تتعرضوا لهم بشئ من ذلك. إن الله غفور رحيم: يغفر لهم ما قد سلف من كفرهم
وغدرهم.
(6) وإن أحد من المشركين: المأمور بالتعرض لهم. استجارك: استأمنك وطلب
منك جوارك. فأجره: فآمنه. حتى يسمع كلام الله: ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر، فإن
معظم الأدلة فيه. ثم أبلغه مأمنه: موضع أمنه إن لم يسلم.
القمي: قال: اقرأ عليه وعرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه. ذلك
بأنهم قوم لا يعلمون: ما الأيمان، وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلابد من أمانهم حتى
يسمعوا ويتدبروا.
322

(7) كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله كيف يكون
للمشركين عهد صحيح، ومحال أن يثبت لهم عهد مع إضمارهم الغدر والنكث، فلا تطمعوا
في ذلك. إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام: يعني ولكن الذين عاهدتم منهم عند
المسجد الحرام ولم يظهر منهم نكث. فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم: أي فتربصوا
أمرهم، فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء. إن الله يحب المتقين.
(8) كيف: تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوما، أي
كيف يكون لهم عهد. وإن يظهروا عليكم: وحالهم أنهم إن يظفروا بكم. لا يرقبوا فيكم:
لا يراعوا فيكم. إلا: قرابة أو حلفا. ولا ذمة: عهدا أو حقا. يرضونكم بأفواههم: بوعد الأيمان،
والطاعة، والوفا بالعهد. وتأبى قلوبهم: ما يتفوه به أفواههم، استيناف لبيان حالهم المنافية
لثباتهم على العهد المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر. وأكثرهم فاسقون: متمردون لا
عقيدة تزعهم (1)، ولا مروة تردعهم (2)، وتخصيص الأكثر لما يوجد في بعض الكفار من التعفف
عما يثلم العرض، والتفادي (3) عن الغدر.
(9) اشتروا بآيات الله: استبدلوا بالقرآن 779 وبيناته. ثمنا قليلا: عرضا يسيرا، وهو
اتباع الأهواء والشهوات. فصدوا عن سبيله: فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم. إنهم ساء ما
كانوا يعملون.
(10) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك (4) هم المعتدون: المتجاوزون
الغاية في الظلم والكفر.
(11) فإن تابوا: عن الكفر، ونقض العهد. وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
فإخوانكم: فهم إخوانكم. في الدين: لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم. ونفصل الآيات:

1 - تزعمهم أي تكفهم وتمنعهم (منه رحمه الله).
2 - ردعه عنه كمنعه كفه ورده فارتدع.
3 - تفادى منه تحاماه الناس توقوه واجتنبوا.
4 - والفائدة في الإعادة ان الأول في صفة الناقضين للعهد والثاني في صفة الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا وقيل إنما
كرر تأكيدا.
323

ونبينها لقوم يعلمون: اعتراض للحث على تأمل ما فصل.
(12) وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم وعابوه فقاتلوا
أئمة الكفر أي فقاتلوهم، وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأنهم صاروا بذلك ذوي
الرياسة، والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل. إنهم لا أيمان لهم: على الحقيقة، وإلا لما طعنوا ولم
ينكثوا، وقرئ بكسر الهمزة.
ورواها في المجمع: عن الصادق عليه السلام يعني لا عبرة بما أظهروه من الأيمان.
لعلهم ينتهون: متعلق ب‍ (قاتلوا)، أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه، لا
إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين، وهذا من غاية كرمه سبحانه وفضله.
القمي: نزلت هذه الآية في أصحاب الجمل، وقال أمير المؤمنين عليه السلام يوم
الجمل: ما قاتلت هذه الفئة الناكثة إلا بآية من كتاب الله، يقول الله: (وإن نكثوا ايمانهم)
الآية.
وفي قرب الأسناد والعياشي: عن الصادق عليه السلام قال: دخل علي أناس
من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير، فقلت لهم: كانا من أئمة الكفر، أن عليا يوم
البصرة لما صف الخيول قال لأصحابه: لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين
الله تعالى وبينهم، فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا:
لا، قال: فحيفا في قسمة؟ قالوا: لا، قال: فرغبة في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم
علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال: فأقمت فيكم الحدود وعطلتها عن غيركم؟ قالوا: لا، قال:
فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث؟ إني ضربت الأمر أنفه وعينه فلم أجد إلا
الكفر، أو السيف ثم ثنى إلى أصحابه فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه: (وإن نكثوا إيمانهم)
الآية.
ثم قال علي عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، واصطفى محمدا صلى
الله عليه وآله وسلم بالنبوة أنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت.
والعياشي عنه عليه السلام من طعن في دينكم هذا فقد كفر، قال الله: (وطعنوا في
324

دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أعذرني الله من طلحة والزبير، بايعاني طائعين
غير مكرهين، ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته، والله ما قوتل أهل هذه الآية منذ
نزلت حتى قاتلتهم (وإن نكثوا أيمانهم)، الآية وفي معناه أخبار كثيرة.
(13) ألا تقاتلون قوما: تحريض على القتال. نكثوا أيمانهم: التي حلفوها مع
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا. وهموا
بإخراج الرسول: حين تشاوروا في أمره بدار الندوة حتى أذن الله له في الهجرة فخرج
بنفسه على ما سبق ذكره في قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا). وهم بدأوكم أول مرة
بالمعاداة والمقاتلة، والبادي أظلم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم بمثله. أتخشونهم (1): أتتركون قتالهم
خشية أن ينالكم مكروه منهم؟. فالله أحق أن تخشوه: فقاتلوا أعداءه، ولا تتركوا أمره. إن
كنتم مؤمنين: فإن المؤمن لا يخشى إلا ربه.
(14) قاتلوهم: أمر بالقتال بعد بيان موجبه والتوبيخ على تركه. يعذبهم الله
بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم: وعد لهم إن قاتلوهم بالنصر عليهم، والتمكن من
قتلهم وإذلالهم. ويشف صدور قوم مؤمنين.
(15) ويذهب غيظ قلوبهم: لما لقوا منهم من المكروه، وقد أنجز الله هذه
المواعيد كلها، والآية من دلائل النبوة.
والعياشي: عن أبي الأعز التيمي قال: كنت واقفا يوم صفين إذ نظرت إلى
العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وهو شاك في السلاح إذ هتف به هاتف من
أهل الشام يقال له عرار بن أدهم: يا عباس هلم إلى البراز ثم تكافحا (2) بسيفهما مليا (3) لا

1 - لفظة استفهام والمراد به تشجيع المؤمنين وفي ذلك غاية الفصاحة لأنه جمع بين التقريع والتشجيع.
2 - في حديث حسان لا تزال مؤيدا بروح القدس ما كافحت عن رسول الله (ص) أي دافعت عنه من المكافحة
وهي المدافعة تلقاء الوجه.
3 - قوله تعالى واهجرني مليا أي حينا طويلا.
325

يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لامته إلى أن حط العباس درع الشامي فأهوى إليه
بالسيف انتظم به جوانح الشامي فخر الشامي صريعا وكبر الناس تكبيرة ارتجت لها
الأرض، فسمعت قائلا يقول: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) الآية، فالتفت فإذا هو أمير
المؤمنين ويتوب الله على من يشاء: استئناف أخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره، وقد
كان ذلك أيضا. والله عليم: بما كان وما سيكون. حكيم: لا يفعل إلا ما فيه الحكمة.
(16) أم حسبتم أن تتركوا: أم منقطعة، وفي الهمزة معنى التوبيخ، يعني إنكم لا
تتركون على ما أنتم عليه. ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم: ولم يتبين المخلصون منكم،
وهم المجاهدون في سبيل الله لوجه الله. ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين
وليجة: يعني المخلصين غير المتخذين من دونهم بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم،
ولما دلت على أنه متوقع قيل: أراد بنفي العلم: نفي العلوم.
والقمي: أي لما يرى فأقام العلم مقام الرؤية، لأنه قد علم قبل أن يعلموا.
وعن الباقر عليه السلام يعني بالمؤمنين آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم
والوليجة: البطانة.
وفي الكافي: عنه عليه السلام يعني بالمؤمنين الأئمة عليهم السلام.
وعنه عليه السلام: لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين، فإن كل
سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع إلا ما أثبته القرآن.
وعن أبي محمد الزكي عليه السلام الوليجة: الذي يقام دون ولي الأمر،
والمؤمنون في هذا الموضع: هم الأئمة عليهم السلام الذين يؤمنون على الله فيجيز أمانهم.
والله خبير بما تعملون: يعلم غرضكم منه.
(17) ما كان للمشركين: ما صح لهم ولا استقام. أن يعمروا مساجد الله: شيئا
من المساجد فضلا عن المسجد الحرام، وقرئ بالتوحيد. شاهدين على أنفسهم بالكفر:
بإظهار الشرك، ونصب الأصنام حول البيت.
326

وفي الجوامع: روي أن المسلمين عيروا أسارى بدر، ووبخ على العباس بقتال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقطيعة الرحم، فقال العباس: تذكرون مساوينا
وتكتمون محاسننا؟ فقالوا: أو لكم محاسن؟ قال: نعم، إنا نعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة،
ونسقي الحجيج، ونفك العاني (1) فنزلت. أولئك حبطت أعمالهم: التي هي العمارة، والسقاية،
والحجابة، وفك العناة، التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك. وفى النار هم: خالدون
لأجله.
(18) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى
الزكاة: إنما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، والعمارة يتناول
بناؤها، ورم ما (2) استرم منها، وكنسها، وتنظيفها وتنويرها بالسرج، وزيارتها للعبادة والذكر،
ودرس العلم وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا، وفي الحديث القدسي إن بيوتي في
الأرض: المساجد، وإن زواري فيها: عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي.
فحق على المزور أن يكرم زائره، وفي الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي في آخر
الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا
تجالسوهم فليس لله بهم حاجة. ولم يخش إلا الله: يعني في أبواب الدين بأن لا يختار على
رضاء الله رضاء غيره فإن الخشية على المحاذير جبلية لا يكاد العاقل يتمالك عنها. فعسى
أولئك أن يكونوا من المهتدين: ذكره بصيغة التوقع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء،
والانتفاع بأعمالهم.
(19) أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن: كإيمان من آمن.
بالله واليوم الآخر وجهد في سبيل الله: أو جعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام أنه قرأ سقاة الحاج، وعمرة المسجد الحرام.

1 - العاني الأسير ومنه اطعموا الجايع وفكوا العاني وكل سن ذل واستكان وخضع فقد عنى وهو عان والمرأة عانية
والجمع عوان ومنه الخبر اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أي اسراء كالاسراء.
2 - رممت الشئ ارمه وارمه رما ومرمة إذا أصلحته.
327

والقمي: عنه عليه السلام نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام
قوله: (كمن آمن بالله)، الآية.
وعنه عليه السلام: نزلت في علي عليه السلام، والعباس، وشيبة، فقال العباس: أنا
أفضل لأن سقاية الحاج بيدي، وقال شيبة: أنا أفضل لأن حجابة البيت بيدي، وقال علي
أنا أفضل فإني آمنت قبلكما، ثم هاجرت وجاهدت، فرضوا برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فأنزل الله.
وفي المجمع: ما يقرب منه، وزاد ضربت خرطومكما (1) بالسيف حتى آمنتما بالله.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام ما في معناه، وذكر عثمان بن أبي شيبة
مكان شيبة.
وفي الكافي، والعياشي: عن أحدهما عليهما السلام نزلت في حمزة، وعلي، وجعفر،
والعباس، وشيبة إنهم فخروا بالسقاية، والحجابة، فأنزل الله، وكان علي، وحمزة وجعفر الذين
آمنوا بالله، واليوم الآخر، وجاهدوا في سبيل (2) الله. لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم
الظالمين: بالشرك، والمسوين بينهم وبين المؤمنين.
(20) الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم
درجة عند الله: أعظم درجة وأكثر كرامة ممن لم يستجمع هذه الصفات. وأولئك هم
الفائزون: المختصون بالفوز ونيل الحسنى عند الله.
(21) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم: دائم،
والتنكير المبشر به اشعار بأنه وراء التوصيف والتعريف.
(22) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم: يستحقر دونه كل أجر.

1 - قوله تعالى سسمه على الخرطوم هو بضم الخاء الانف وهو أكرم موضع في الوجه كما أن الوجه أكرم موضع في
الجسد.
2 - وروي ان المشركين قالوا لليهود نحن سقات الحجيج وعمار المسجد الحرام فنحن أفضل أم محمد وأصحابه
فقالت اليهود أنتم أفضل فنزلت.
328

(23) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا
الكفر على الإيمان اختاروه عليه، قيل: لما أمروا بالهجرة فكان يمنعهم منها أقرباؤهم فمنهم
من كان يتركها لأجلهم فنزلت.
وفي المجمع: عنهما عليهما السلام نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب إلى
قريش يخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد فتح مكة.
والعياشي عن الباقر عليه السلام الكفر في الباطن في هذه الآية: ولاية الأول
والثاني، والأيمان: ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام. ومن يتولهم منكم فأولئك هم
الظالمون: بوضعهم الموالاة في غير موضعها.
(24) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم: أقرباؤكم،
وقرئ عشيراتكم وأموال اقترفتموها: اكتسبتموها. وتجارة تخشون كسادها ومساكن
ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا (1) حتى يأتي الله
بأمره: وعيده، والأمر عقوبة. والله لا يهدى القوم الفاسقين: لا يرشدهم.
القمي: لما أذن أمير المؤمنين عليه السلام بمكة أن لا يدخل المسجد الحرام
مشرك بعد ذلك العام، جزعت قريش جزعا شديدا، وقالوا: ذهبت تجارتنا، وضاع عيالنا،
وخربت دورنا، فأنزل الله عز وجل في ذلك: (قل) يا محمد (إن كان آباؤكم)، الآية.
أقول: في الآية تشديد عظيم، وقل من يتخلص عنه.
وفي الحديث: لا يجد أحدكم طعم الأيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله.
(25) لقد نصركم الله في مواطن كثيرة (2) يعني مواطن الحرب وهي مواقعها
ومواقفها.

1 - تربصت الامر تربصا انتظرته وتربصت بفلان الامر توقعت نزوله به.
2 - في الكافي عن علي عن بعض أصحابه ذكره قال لما سم المتوكل نذران عوفي أن يتصدق بمال كثير فلما عوفي سأل
الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه فقال بعضهم مأة الف وقال بعضهم عشرة آلاف وقالوا فيه أقاويل مختلفة فاشتبه
عليه الأمر فقال رجل من ندمائه يقال صفعان اتبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه فقال له المتوكل من تعني ويحك فقال ابن
الرضا فقال له وهو يحسن شيئا من هذا فقال يا أمير المؤمنين ان أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا والا فاضربني مأة
مقرعة فقال المتوكل قد رضيت يا جعفر بن محمود سر إليه واسأله عن حد المال الكثير فصار جعفر بن محمود إلى أبي الحسن
علي بن محمد عليهما السلام فسأله عن حد المال الكثير فقال الكثير ثمانون فقال له جعفر يا سيدي أرى أنه يسألني عن العلة
فيه فقال أبو الحسن عليه السلام ما معناه الدليل عليه قوله تعالى في مواطن كثيرة عددنا تلك المواطن فكانت ثمانين.
329

في الكافي والعياشي والقمي عن الهادي عليه السلام إنها كانت ثمانين موطنا
ويوم حنين وهو واد بين مكة والطائف إذ أعجبتكم كثرتكم في الجوامع لما التقوا قال
رجل من المسلمين لن نغلب اليوم من قلة فساءت مقالته رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قيل كان قائلها أبو بكر.
والعياشي عن الصادق عليه السلام في قوله إذ أعجبتكم كثرتكم إلى قوله ثم
وليتم مدبرين قال أبو فلان فلم تغن عنكم الكثرة شيئا من الغنى أوامر العدو وذلك
لما أدركتهم كلمة الاعجاب وضاقت عليكم الأرض بما رحبت بسعتها لا تجدون فيها
مقرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب ثم وليتم مدبرين منهزمين
(26) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها
وعذب الذين كفروا.
القمي عن الباقر عليه السلام وهو القتل يعني العذاب وذلك جزاء الكافرين
القمي كان سبب غزوة حنين أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى فتح
مكة أظهر أنه يريد هوازن فتهيئوا وجمعوا الجموع والسلاح واجتمع
رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النضري فرأسوه عليهم وخرجوا وساقوا معهم أموالهم
ونساءهم وذراريهم، ومروا حتى نزلوا بأوطاس قال ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم اجتماع هوازن بأوطاس فجمع القبائل ورغبهم في الجهاد ووعدهم النصر وأن الله
قد وعده أن يغنمه أموالهم ونساءهم وذراريهم فرغب الناس وخرجوا على راياتهم وعقد
اللواء الأكبر ودفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام وكل من دخل مكة براية أمره أن
يحملها وخرج في اثني عشر ألف رجل عشرة آلاف ممن كان معه.
وعن الباقر عليه السلام قال وكان معه من بني سليم ألف رجل رئيسهم عباس
330

عباس بن مرداس السلمي، ومن مزينة (1) ألف رجل، قال: فمضوا حتى كان من القوم مسيرة
بعض ليلة، قال: وقال مالك بن عوف لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله أو ماله خلف
ظهره، واكسروا جفون سيوفكم واكمنوا في شعاب هذا الوادي، وفي الشجر فإذا كان في
غلس الصبح فاحملوا حملة رجل وهدوا (2) القوم فإن محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب،
قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغداة انحدر في وادي حنين، وهو واد
له انحدار بعيد، وكان بنو سليم على مقدمته فخرج عليهم كتائب هوزان من كل ناحية.
فانهزمت بنو سليم وانهزم من ورائهم ولم يبق أحد إلا انهزم
وبقى أمير المؤمنين عليه السلام يقاتلهم في نفر قليل، ومر المنهزمون برسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لا يلوون (3) على شئ، وكان العباس آخذا بلجام بغلة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه، وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب عن يساره،
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي يا معشر الأنصار إلى أين أنا
رسول الله فلم يلو أحد عليه وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو (أي ترمي) في وجوه
المنهزمين التراب، وتقول: إلى أين تفرون عن الله، وعن رسوله.
ومر بها عمر فقالت: ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر الله. فلما رأى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهزيمة ركض (4) نحو علي بغلته، فرآه وقد شهر سيفه فقال: يا
عباس - وكان صيتا رفيع الصوت - إصعد هذا الظرب (5) وناد يا أصحاب البقرة، ويا أصحاب
الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله.
ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال: اللهم لك الحمد، وإليك
المشتكى، وأنت المستعان، فنزل عليه جبرئيل فقال يا رسول الله: دعوت بما دعا به موسى

1 - مزينة قبيل من مضر.
2 - الفلس بالتحريك الظلمة آخر الليل.
3 - أي لا يقف أحد لاحد ولا ينتظره.
4 - ركضت الدابة إذا ضربتها برجلك استحثها.
5 - الظرب ككتف ما نتأ من الحجارة وحد طرفه أو الجبل المنبسط والصغير ح ظراب.
331

عليه السلام حيث فلق الله له البحر ونجاه من فرعون، ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لأبي سفيان بن الحارث: ناولني كفا من حصى فناوله، فرماه في وجوه المشركين،
ثم قال: شاهت الوجوه، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم
تعبد، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد.
فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم، وهم يقولون:
لبيك، ومروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال: يا
رسول الله هؤلاء الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآن حمي (1) الوطيس
ونزل النصر من الله وانهزمت الهوازن وكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجو، وانهزموا في
كل وجه، وغنم الله ورسوله أموالهم ونساءهم وذراريهم، وهو قول الله: (ولقد نصركم الله في
مواطن كثيرة ويوم حنين).
قال: وقال رجل من بني نضر بن معاوية يقال له: شجرة بن ربيعة للمؤمنين وهو
أسير في أيديهم: أين الخيل البلق (2) والرجال عليهم الثياب البيض فإنما كان قتلنا بأيديهم،
وما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة، قالوا: تلك الملائكة.
وفي الكافي: عن الرضا عليه السلام أنه سئل ما السكينة؟ فقال: ريح من الجنة
لها وجه كوجه الإنسان أطيب ريحا من المسك، وهي التي أنزلها الله على رسوله بحنين فهزم
المشركين.
وعن الصادق عليه السلام: قال: قتل علي بن أبي طالب عليه السلام يوم حنين
أربعين.
(27) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء منهم بالتوفيق للإسلام. والله

1 - وفي حديث حنين الآن حمي الوطيس الوطيس التنور وهو كناية عن شدة الامر واضطراب الحرب ويقال أول من
قالها النبي (ص) لما اشتد البأس بموته وهي أحسن الاستعارات.
2 - البلق محركة سواد وبياض كالبلغة بالضم.
332

غفور رحيم: يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم.
روي أن أناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلموا،
وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وقد
سبي يومئذ ستة آلاف نفس واخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى، فقال: اختاروا إما
سباياكم وإما أموالكم، فقالوا: ما كنا نعدل الأحساب شيئا، فقام رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وقال: إن هؤلاء جاؤوا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا
بالأحساب شيئا فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا
وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فلنعطيه مكانه، فقالوا: رضينا وسلمنا، فقال: إني لا
أدري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفائكم فليرفعوا إلينا فرفعوا أنهم قد رضوا.
(28) يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس: لخبث باطنهم. فلا يقربوا
المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة: فقرا بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما
كان لكم من قدومهم من المكاسب والمنافع. فسوف يغنيكم الله من فضله: من عطائه
وتفضله على وجه آخر. إن شاء: قيل: قيده بالمشيئة لينقطع الآمال إلى الله تعالى ولنبيه
على أنه متفضل في ذلك، وأن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، وفي عام دون عام،
وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا، ووفق طائفة من أهل اليمن للإسلام
فحملوا الطعام إلى مكة، ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار
الأرض. إن الله عليم: بأحوالكم. حكيم: فيما يعطي ويمنع.
(29) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر: يعني لا يؤمنون بهما
على ما ينبغي فإن إيمانهم كلا إيمان. ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله: ما ثبت تحريمة
بالكتاب والسنة. ولا يدينون دين الحق: الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها.
من الذين أوتوا الكتاب: بيان للذين لا يؤمنون. حتى يعطوا الجزية: ما يقرر عليهم أن
يعطوه، من جزى دينه، إذا قضاه. عن يد: مواتية غير ممتنعة. وهم صاغرون: أذلاء، يعني
يؤخذ منهم على الصغار والذل.
333

في الكافي، والتهذيب: عن الباقر عليه السلام بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله
وسلم بخمسة أسياف إلى أن قال: والسيف الثاني على أهل الذمة، قال الله تعالى: (وقولوا
للناس حسنا) نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله سبحانه (قاتلوا الذين لا
يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية.
فمن كان منهم في دار الإسلام فلم يقبل منهم إلا الجزية أو القتل وما
لهم فئ، وذراريهم سبي، وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم وحرمت أموالهم،
وحلت لنا مناكحهم، ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم، ولم يحل لنا
مناكحتهم ولم يقبل منهم إلا الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل.
والعياشي: ما يقرب منه.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن المجوس أكان لهم نبي،
فقال: نعم أما بلغك كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل مكة أن أسلموا
وإلا فأذنوا بحرب فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن خذ منا الجزية
ودعنا على عبادة الأوثان فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إني لست آخذ
الجزية إلا من أهل الكتاب، فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه، زعمت أنك لا تأخذ
الجزية إلا من أهل الكتاب، ثم أخذت الجزية من مجوس هجر (1)، فكتب إليهم النبي صلى
الله عليه وآله وسلم إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه، وكتاب أحرقوه أتاهم نبيهم بكتابهم
في اثني عشر ألف جلد ثور.
وفيه، وفي الفقيه، والعلل: عنه عليه السلام إنه سئل عن النساء كيف سقطت
الجزية ورفعت عنهن؟ فقال: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء
والولدان في دار الحرب إلا أن تقاتلن، وإن قاتلت أيضا فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف
خللا، فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى، ولو امتنعت أن
تؤدي الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها، ولو امتنع الرجال وأبوا

1 - هجر محركة بلدة باليمن أو اسم لجميع ارض البحرين أو قرية كانت قرب المدينة.
334

أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد وحل دماؤهم وقتلهم لأن قتل الرجال مباح في دار
الشرك، وكذلك المقعد من أهل الشرك والذمة والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في
أرض الحرب، ومن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية.
وفي الكافي، والفقيه: عنه عليه السلام جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه (1)
ولا من المغلوب على عقله.
وفيهما، والعياشي، والقمي: عنه عليه السلام أنه سئل ما حد الجزية على أهل
الكتاب؟ وهل عليهم في ذلك شئ موظف لا ينبغي أن يجوزوا إلى غيره؟ فقال: ذلك إلى
الأمام يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله، وما يطيق إنما هم قوم فدوا
أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن
يأخذهم به حتى يسلموا فإن الله وتعالى قال: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
وكيف يكون صاغرا وهو لا يكترث (2) لما يؤخذ منه، لا حتى يجد ذلا لما أخذ منه فيألم بذلك
فيسلم.
وفيهما: عن الباقر عليه السلام في أهل الجزية أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم شئ
سوى الجزية؟ قال: لا.
(30) وقالت اليهود عزير ابن الله: إنما قال ذلك بعضهم ولم يقله كلهم.
في الاحتجاج: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه طالبهم بالحجة، فقالوا:
لأنه أحيى لبني إسرائيل التوراة بعدما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه، فقال
صلى الله عليه وآله وسلم: كيف صار عزير ابن الله دون موسى؟ وهو الذي جاءهم بالتوراة
ورأوا منه من المعجزات ما قد علمتم، فإن كان عزير ابن الله لما ظهر من إكرامه من إحياء
التوراة، فلقد كان موسى بالنبوة أحق وأولى، الحديث. وقالت النصارى المسيح ابن الله:
وهو أيضا قول بعضهم.

1 - المعتوه الناقص العقل وفي الحديث المعتوه الأحمق الذاهب العقل وقد عنه عنها من باب تعب وعتاها بالفتح نقص
عقله من غير جنون أو دهش. 2 - في الحديث لا يكترث لهذا الامر أي لا يعبأ به ولا يباليه.
335

وفي الاحتجاج: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه طالبهم بالحجة فقالوا:
إن الله لما أظهر على يد عيسى عليه السلام من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتخذه ولدا
على جهة الكرامة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقد سمعتم ما قلته
لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ثم أعاد ذلك كله فسكتوا، الحديث. ذلك قولهم
بأفواههم: اخترعوه بأفواههم لم يأتهم به كتاب ومالهم به حجة. يضاهؤن قول الذين
كفروا: يضاهي قولهم قول الذين كفروا. من قبل: كالقائلين بأن الملائكة بنات الله. قاتلهم
الله.
في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث أي لعنهم الله فسمى
اللعنة قتالا. أنى يؤفكون: كيف يصرفون عن الحق.
في المجالس، والعياشي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اشتد غضب
الله على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، واشتد غضب الله على النصارى حين قالوا:
المسيح بن الله، واشتد غضب الله على من أراق دمي وآذاني في عترتي.
(31) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله بأن أطاعوهم في تحريم
ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام أما والله ما دعوهم إلى عبادة
أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم
حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون.
وفي معناه أخبار كثيرة. والمسيح ابن مريم: بأن أهلوه للعبادة.
القمي عن الباقر عليه السلام أما المسيح فعصوه وعظموه في أنفسهم حتى
زعموا أنه إله، وأنه ابن الله، وطائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة، وطائفة منهم قالوا: هو الله، وأما
أحبارهم ورهبانهم فإنهم أطاعوهم وأخذوا بقولهم واتبعوا ما أمروهم به ودانوا بما دعوهم
إليه فاتخذوهم أربابا بطاعتهم لهم، وتركهم أمر الله وكتبه ورسله فنبذوه وراء ظهورهم، قال:
336

وإنما ذكر هذا في كتابنا لكي نتعظ بهم. وما أمروا إلا ليعبدوا: ليطيعوا. إلها وحدا: وهو الله
تعالى، وأما طاعة الرسل وأوصيائهم فهي في الحقيقة طاعة الله لأنهم عن الله يأمرون
وينهون. لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون: تنزيه له عن الأشراك.
(32) يريدون أن يطفئوا: يخمدوا. نور الله بأفواههم (1): بشركهم وتكذيبهم.
ويأبى الله إلا أن يتم نوره: بإعلاء التوحيد واعزاز الإسلام. ولو كره الكافرون: مثل الله
سبحانه حالهم في طلبهم إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وولاية علي عليه
السلام بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم يريد الله أن يبلغه الغاية
القصوى من الإضاءة والإنارة ليطفئه بنفخه.
في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الآية يعني أنهم أثبتوا في
الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليقة فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دل على
ما أحدثوه فيه وحرفوا منه.
وعنه عليه السلام: وجعل أهل الكتاب القيمين به والعالمين بظاهره وباطنه من
شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: يظهر مثل هذا
العلم لمحتمليه في الوقت، بعد الوقت وجعل أعداءها أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا
إطفاء نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره.
وفي الإكمال: عن الصادق عليه السلام وقد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في
طلب موسى كذلك بنو أمية وبنو العباس لما أن وقفوا على أن زوال ملك الامراء والجبابرة
منهم على يد القائم ناصبونا العداوة، ووضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وإبادة نسله طمعا منهم في الوصول إلى قتل القائم عليه السلام
فأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
(33) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله:

1 - لان الاطفاء يكون بالأفواه وهو النفخ وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم وتضعيف كبدهم لان
الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الاقباس العظيمة مجمع البيان.
337

ليظهر دين الحق على سائر الأديان. ولو كره المشركون.
القمي: نزلت في القائم من آل محمد عليه وعليهم السلام، وقال: وهو الذي ذكرناه
مما تأويله بعد تنزيله. وفي الإكمال: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية والله ما نزل
تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم، فإذا خرج القائم عليه السلام لم يبق
كافر بالله العظيم، ولا مشرك بالإمام إلا كره خروجه حتى لو كان كافرا أو مشرك في بطن
صخرة لقالت يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله.
وفي الكافي: عن الكاظم عليه السلام في هذه الآية هو الذي أمر رسوله صلى
الله عليه وآله وسلم بالولاية لوصيه، والولاية: هي دين الحق ليظهره على جميع الأديان عند
قيام القائم عليه السلام، والله متم ولاية القائم ولو كره الكافرون بولاية علي عليه السلام،
قيل: هذا تنزيل؟ قال: نعم هذا الحرف تنزيل وأما غيره فتأويل.
وفيه: في حديث مناجاة موسى عليه السلام ربه وقد ذكر الله محمدا صلى الله عليه
وآله وسلم، قال: فتمت كلماتي لأظهرن دينه على الأديان كلها ولأعبدن بكل مكان.
وفي الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام وغاب صاحب هذا الأمر
بايضاح الغدر له في ذلك لاشتمال الفتنة على القلوب حتى يكون أقرب الناس إليه
أشدهم عداوة، وعند ذلك يؤيده الله بجنود لم تروها ويظهر دين نبيه على يديه على
الدين كله ولو كره المشركون.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام في هذه الآية إن ذلك يكون عند خروج
المهدي من آل محمد عليه وعليهم صلوات الله، فلا يبقى أحد إلا أقر بمحمد صلى الله
عليه وآله وسلم.
والعياشي: عنه عليه السلام ما في معناه قال عليه السلام وفي خبر آخر قال:
ليظهره الله في الرجعة. وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: أظهر ذلك بعد؟ قالوا: نعم،
قال: كلا فوالذي نفسي بيده حتى لا يبقى قرية إلا وتنادي بشهادة أن لا إله إلا الله،
ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكرة وعشيا.
338

وعن الصادق عليه السلام في هذه الآية قال: إذا خرج القائم لم يبق مشرك
بالله العظيم، ولا كافر إلا كره خروجه.
وفي المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يبقى على وجه الأرض
بيت مدر (1) ولا وبر (2) إلا أدخله الله الإسلام إما بعز عزيز أو بذل ذليل، إما يعرهم فيجعلهم
الله من أهله فيعزوا به، وإما يذلهم فيدينون له.
وفي الإكمال، والعياشي: عن الباقر عليه السلام القائم منا منصور بالرعب، مؤيد
بالنصر، تطوى له الأرض، وتظهر له الكنوز، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويظهر الله به
دينه على الدين كله، فلا يبقى في الأرض خراب إلا عمر، وينزل روح الله عيسى بن
مريم فيصلي خلفه، الحديث.
(34) يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال
الناس بالباطل: يأخذونها من الحرام بالرشاء في الأحكام، وتخفيف الشرائع للعوام.
ويصدون عن سبيل الله: عن دينه. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها
في سبيل الله: قيد الكنز بعدم الأنفاق لئلا يعم من جمع للإنفاق وبعد إخراج الحقوق.
فبشرهم بعذاب أليم: هو الكي بهما.
(35) يوم يحمى عليها: يوقد النار ذات حمى شديدة على الكنوز. في نار
جهنم فتكوى بها: بتلك الكنوز المحماة. جباههم وجنوبهم وظهورهم: قيل: إنما خص هذه
الأعضاء لأنهم لم يطلبوا بترك الأنفاق إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس،
وأن يكون ماء وجوههم مصونا، ومن أكل طيبات يتضلعون (3) منها، ومن لبس ثياب ناعمة
يطرحونها على ظهورهم، أو لأنهم يعبسون وجوههم للفقير، إذا رأوه يولونه جنوبهم، وإذا دار

1 - المدر جمع مدرة كقصب وقصبة وهو التراب الملبد.
2 - فيه أحب إلي من أهل الوبر والمدر أي أهل البوادي والمدن والقرى وهو من وبر الإبل لان بيوتهم يتخذونها منه
3 - تضلع الرجل امتلأ شبعا وريا ومنه حديث ماء زمزم شرب حتى تضلع اي أكثر من الشرب حتى تمدد جنبه
وأضلاعه.
339

أعطوه ظهورهم. وان الجباه كناية عن مقاديم البدن، والجنوب عن طرفيه، والظهور عن الماء
خير، يعني به أن الكي يستوعب البدن كله. هذا ما كنزتم: يعني يقال لهم: هذا ما كنزتم.
لأنفسكم: لانتفاع أنفسكم، وكان سبب تعذيبها. فذوقوا ما كنتم تكنزون: يعني وباله،
القمي: عن الباقر عليه السلام في هذه الآية إن الله حرم كنز الذهب والفضة، وأمر
بإنفاقه في سبيل الله، قال: كان أبو ذر الغفاري يغدو كل يوم وهو بالشام فينادي بأعلى
صوته بشر أهل الكنوز بكي في الجباه، وكي في الجنوب، وكي في الظهور حتى يتردد الحر في
أجوافهم.
وفي المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية قال: تبا
للذهب تبا للفضة يكررها ثلاثا، فشق ذلك على أصحابه فسأله عمر أي المال نتخذ؟ فقال:
لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه.
وفي الخصال: عنه عليه السلام الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما
مهلكاكم. والقمي: في حديث قد سبق في سورة البقرة نظر عثمان بن عفان إلى كعب
الأحبار فقال له: يا أبا إسحق ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه
فيما بعد ذلك شئ؟ فقال: لا ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنا من فضة ما وجب عليه شئ، فرفع
أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، ثم قال له: يا ابن اليهودية الكافرة ما أنت والنظر في
أحكام المسلمين؟ قول الله أصدق من قولك حيث قال: (والذين يكنزون الذهب والفضة)،
الآية.
وفي المجمع: عن أمير المؤمنين عليه السلام ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز
أدى زكاته أو لم يؤد، وما دونها فهي نفقة.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: إنما عنى بذلك
ما جاوز ألفي درهم. وفي الأمالي: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
وسلم كل مال تؤدي زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لا تؤدى
زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
340

وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام موسع على شيعتنا أن ينفقوا مما
في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حرم على كل ذي كنز كنزه حتى يأتيه به فيستعين به
على عدوه، وهو قول الله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) الآية.
أقول: لعل التوفيق بين هذه الأخبار أن يقال: بجواز الجمع لغرض صحيح
إلى ألفي درهم أو إلى أربعة آلاف بعد إخراج الحقوق، ومن جملة الحقوق حق الأمام إذا
كان ظاهرا وهو ما زاد على ما يكف عن صاحبه.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل في كم تجب الزكاة من المال؟
فقال: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقيل: أريدهما جميعا، فقال: أما الظاهرة ففي كل ألف
خمسة وعشرون، وأما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك.
وعنه عليه السلام إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث
وجهها الله تعالى ولم يعطكموها لتكنزوها.
وفي التهذيب: عنه عليه السلام ما أعطى الله عبدا ثلاثين ألفا وهو يريد به
خيرا، وقال: ما جمع رجل قط عشرة آلاف درهم من حل وقد يجمعها لأقوام إذا أعطى
القوت ورزق العمل فقد جمع الله له الدنيا والآخرة.
(36) إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله: فيما كتبه وأثبته
عنده ورآه حكمة وصوابا. يوم خلق السماوات والأرض: منذ خلق الأجسام، والأزمنة.
منها أربعة حرم: يحرم فيها القتال، ثلاثة سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد
فرد وهو رجب. ذلك الدين القيم: أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القيم. فلا تظلموا
فيهن أنفسكم: بهتك حرمتها وارتكاب حرامها وقاتلوا المشركين كافة.
القمي: عن الباقر عليه السلام يقول جميعا. كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن
الله مع المتقين: بشارة وضمان لهم بالنصرة إن اتقوا.
(37) إنما النسئ تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر، كانوا إذا جاء شهر حرام
وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد
341

العدد، وقرء النسي بقلب الهمزة ياء والادغام، والنسي الكرمي.
ونسبه في المجمع إلى الباقر عليه السلام. وفي الجوامع: إلى الصادق عليه السلام.
زيادة في الكفر: لأنه تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرمه الله، فهو كفر آخر ضموه إلى
كفرهم يضل به الذين كفروا: ضلالا زائدا، وقرئ يضل على البناء للمفعول يحلونه عاما:
يحلون النسئ من الأشهر الحرم سنة، ويحرمون مكانه شهرا آخر. ويحرمونه عاما: فيتركونه
على حرمته.
القمي: كان سبب نزولها إن رجلا من كنانة كان يقف في الموسم فيقول: قد
أحللت دماء المحلين طي، وخثعم في شهر المحرم وأنسأته وحرمت بدله صفرا، فإذا كان
العام المقبل يقول: قد أحللت صفرا وأنسأته وحرمت بدله شهر المحرم، فأنزل الله (إنما
النسئ) الآية.
وقيل: أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل
أحمر في الموسم فينادي إن آلهتكم أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم ينادي في القابل إن
آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. ليواطئوا عدة ما حرم الله: ليوافقوا عدة الأربعة
المحرم. فيحلوا ما حرم الله: فيحلوا بمواطاة العدة وحدها ما حرم الله من القتال. زين لهم
سوء أعمالهم: خذلهم الله حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا. والله لا يهدى القوم الكافرين:
لعدم قبولهم الاهتداء.
(38) يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض:
تباطأتم مخلدين (1) إلى أرضكم والإقامة بدياركم.
في الجوامع: كان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف
استنفروا في وقت قحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق ذلك عليهم.
والقمي: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسافر سفرا أبعد ولا أشد

1 - قوله تعالى أخلد إلى الأرض أي مال وركن إلى الدنيا وشهواتها واتبع هواه في إيثار الدنيا.
2 - الشقة بالضم والكسر والناحية يقصدها المسافر والسفر البعيد والمشقة.
342

منه، وكان سبب ذلك أن الصيافة (1) كانوا يقدمون المدينة من الشام معهم الدرموك (2) والطعام
وهم الأنباط (3) فأشاعوا بالمدينة أن الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في عسكر عظيم وأن هرقل قد سار في جنوده، وجلب معهم غسان (4)،
وجذام (5)، وبهراء، وعاملة، وقد قدم عساكره البلقاء، ونزل هو حمص.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالتهيؤ إلى تبوك، وهي من
بلاد البلقاء، وبعث إلى القبائل حوله وإلى مكة وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة
وحثهم على الجهاد، وأمر رسول الله بعسكره فضرب في ثنية الوداع، وأمر أهل الجدة أن
يعينوا من لا قوة به، ومن كان عنده شئ أخرجه وحملوا وقووا وحثوا على ذلك، ثم خطب
خطبة ورغب الناس في الجهاد، قال: وقدمت القبايل من العرب ممن استنفرهم وقعد عنه
قوم من المنافقين وغيرهم.
أقول: وسنذكر بقايا هذه القصة متفرقة عند تفسير الآيات الآتية إلى آخر
السورة. أرضيتم بالحياة الدنيا: وغرورها. من الآخرة: بدل الآخرة ونعيمها. فما متاع
الحياة الدنيا في الآخرة: في جنب الآخرة. إلا قليل: مستحقر.
(39) إلا تنفروا: إلى ما استنفرتم إليه. يعذبكم عذابا أليما (6) ويستبدل قوما
غيركم: خيرا منكم، وأطوع. ولا تضروه شيئا: إذ لا يقدح تثاقلكم في نصرة دينه شيئا
فإنه الغني عن كل شئ وعن كل أمر، أو ولا تضروا النبي شيئا لأن الله وعده أن
ينصره ويعصمه من الناس، ووعده الله كائن لا محالة. والله على كل شئ قدير: فيقدر على
التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا عدد.

1 - أصناف القوم إذا دخلوا في الصيف وصائفة القوم مسيرتهم في الصيف.
2 - الدرمك كجعفر دقيق الحواري الدقيق الأبيض وهو الباب الدقيق وكل ما حواري بيض من طعام ق.
3 - نبط جبل ينزلون بالبطايح بين العراق ق.
4 - غسان كشداد ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه منهم بنو جفنة رهط الملوك أو غسان اسم القبيلة ق.
5 - جذام كغراب قبيلة بجيال صمي من معد ق.
6 - مؤلما في الآخرة وقيل في الدنيا م ن.
343

(40) إلا تنصروه فقد نصره الله: إن تركتم نصرته فسينصره الله كما نصره. إذ
أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين: لم يكن معه إلا رجل واحد. إذ هما في الغار: غار ثور،
وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة. إذ يقول لصاحبه: وهو أبو بكر. لا تحزن: لا تخف.
إن الله معنا: بالعصمة والمعونة.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل
يقول لأبي بكر في الغار: اسكن فإن الله معنا وقد أخذته الرعدة وهو لا يسكن، فلما رأى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاله قال له: تريد أن أريك أصحابي من الأنصار في
مجالسهم يتحدثون. وأريك جعفرا وأصحابه في البحر يغوصون، قال: نعم فمسح رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بيده على وجهه فنظر إلى الأنصار يتحدثون، ونظر إلى جعفر
وأصحابه في البحر يغوصون، فأضمر تلك الساعة أنه ساحر. فأنزل الله سكينته: أمنته
التي تسكن إليها القلوب عليه.
في الكافي: عن الرضا عليه السلام أنه قرأها (على رسوله) قيل له: هكذا، نقرؤها،
وهكذا تنزيلها.
والعياشي: عنه عليه السلام إنهم يحتجون علينا بقول الله تعالى: (ثاني اثنين إذ
هما في الغار) وما لهم في ذلك من حجة، فوالله لقد قال الله: (فأنزل الله سكينته على رسوله)
وما ذكره فيها بخير، قيل: هكذا تقرؤونها؟ قال: هكذا قرأتها.
وعن الباقر عليه السلام: (فأنزل الله سكينته على رسوله)، قال: ألا ترى أن
السكينة إنما نزلت على رسوله.
وفي الجوامع: نسب القراءة إلى الصادق عليه السلام أيضا. وأيده بجنود لم
تروها: يعني الملائكة، قد سبق فيه كلام في تفسير: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) في سورة
الأنفال. وجعل كلمة الذين كفروا السفلى:
العياشي: عن الباقر عليه السلام، هو الكلام الذي يتكلم به عتيق. والقمي: ما في
معناه. وكلمة الله هي العليا.
344

القمي: هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هي التوحيد أو دعوة
الإسلام.
أقول: المستفاد مما سبق في سورة الأنفال إن كلمتهم: ما كانوا يمكرون به من
إثباته أو قتله أو إخراجه وكلمة الله: نصره وغلبته عليهم. والله عزيز حكيم: في أمره
وتدبيره.
(41) انفروا خفافا وثقالا: القمي قال: شبانا وشيوخا، يعني إلى غزوة تبوك.
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله: بما تيسر لكم منهما. ذ لكم خير لكم إن كنتم
تعلمون.
(42) لو كان عرضا قريبا: أي لو كان ما دعوا إليه نفعا دنيويا قريبا سهل
المأخذ.
القمي: عن الباقر عليه السلام يقول: غنيمة قريبة. وسفرا قاصدا: متوسطا.
لاتبعوك: لوافقوك. ولكن بعدت عليهم الشقة: المسافة التي تقطع بمشقة.
القمي: يعني إلى تبوك.
وفي التوحيد، والعياشي: عن الصادق عليه السلام كان في علم الله لو كان
عرضا قريبا وسفرا قاصدا لفعلوا. وسيحلفون بالله: أي المتخلفون إذا رجعت من تبوك
معتذرين. لو استطعنا: يقولون لو كان لنا استطاعة العدة أو البدن. لخرجنا معكم: وهذا
إخبار بما سيقع قبل وقوعه. يهلكون أنفسهم: بإيقاعها في العذاب. والله يعلم إنهم
لكاذبون: في التوحيد: عن الصادق عليه السلام كذبهم الله في قولهم: (لو استطعنا لخرجنا
معكم) وقد كانوا مستطيعين للخروج.
(43) عفا الله عنك لم أذنت لهم: في القعود حين استأذنوك واعتلوا بالأكاذيب
وهلا توقفت. حتى يتبين لك الذين صدقوا: في الاعتذار. وتعلم الكاذبين:
القمي: عن الباقر عليه السلام يقول لتعرف أهل الغدر والذين جلسوا بغير
عذر. في الجوامع: وهذا من لطيف المعاتبة بدأ بالعفو قبل العتاب، ويجوز العتاب من الله فيما
غيره أولى لا سيما للأنبياء، وليس كما قال جار الله: من أنه كناية عن الجناية، وحاشا سيد
345

الأنبياء وخير بني حواء من أن ينسب إليه الجناية.
وفي العيون: عن الرضا (عليه الصلاة والسلام) في جواب ما سأله المأمون من
عصمة الأنبياء: هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة خاطب الله تعالى بذلك نبيه وأراد به
أمته.
(44) لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم
وأنفسهم: أي ليس من عادة (1) المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا وأن الخلص منهم
يتبادرون إليه ولا يوقفونه على الأذن فيه، فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، أوليس
من عادتهم أن يستأذنوك في التخلف كراهة أن يجاهدوا. والله عليم بالمتقين: شهادة
لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه.
(45) إنما يستأذنك: في التخلف. الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون: يتحيرون، في الخصال: عن أمير المؤمنين عليه
السلام من تردد في الريب سبقه الأولون، وأدركه الآخرون، ووطأته سنابك الشياطين.
(46) ولو أرادوا الخروج لا عدوا له للخروج. عدة: أهبة.
العياشي: مضمرا يعني بالعدة: النية، يقول: لو كان لهم نية لخرجوا. ولكن كره الله
انبعاثهم: نهوضهم للخروج إلى الغزو ولعلمه بأنهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالنميمة بين
المسلمين (2). فثبطهم: بطأهم، وجبنهم، وكسلهم، وخذلهم. وقيل اقعدوا مع القاعدين: مع النساء
والصبيان وهو إذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القعود، وفي هذا دلالة على أن
إذنه لم يكن قبيحا، وإن كان الأولى أن لا يأذن لهم ليظهر للناس نفاقهم.
(47) لو خرجوا فيكم ما زادوكم: بخروجهم. إلا خبالا: فسادا وشرا. ولأوضعوا
خلالكم: ولأسرعوا ركايبهم بينكم بالفساد.

1 - وقيل معناه لا يستأذنك في الخروج لأنه مستغنى عنه بدعائك إلى ذلك بل يتأهب له م ن.
2 - وكانوا عيونا للمشركين فكان الضرر في خروجهم أكثر من الفائدة م ن.
346

القمي: أي هربوا عنكم. يبغونكم الفتنة: يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف
فيما بينكم والرعب في قلوبكم وإفساد نياتكم في غزوتكم. وفيكم سمعون لهم:
أي عيون نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يسمعون قول المنافقين
ويقبلونه ويطيعونهم، يريد من كان ضعيف الأيمان من المسلمين. والله عليم بالظالمين:
المصرين على الفساد، يعلم ضمائرهم وما يتأتى منهم.
(48) لقد ابتغوا الفتنة: تشتيت شملك، وتفريق أصحابك. من قبل: قيل: يعني
يوم أحد، وقيل: هي وقوفهم على الثنية ليلة العقبة ليفتكوا به. وقلبوا لك الأمور: أي دبروا
لك الحيل والمكايد، واحتالوا في ابطال أمرك. حتى جاء الحق: وهو تأييدك ونصرك. وظهر أمر
الله: وغلب دينه، وعلا أهله. وهم كارهون: أي على رغم منهم، والآيتان لتسلية الرسول
والمؤمنين على تخلفهم، وبيان ما ثبطهم الله لأجله، وهتك أستارهم، وإزاحة اعتذارهم، تداركا
لما فات الرسول بالمبادرة إلى الأذن.
(49) ومنهم من يقول ائذن لي: في القعود. ولا تفتني: ولا توقعني في الفتنة،
أي العصيان والمخالفة بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت، أو في الفتنة
بنساء الروم، كما يأتي ذكره. ألا في الفتنة سقطوا: أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي
فتنة التخلف وظهور النفاق. وإن جهنم لمحيطة بالكافرين: أي بهم لأن آثار إحاطتها بهم
معهم فكأنهم في وسطها.
القمي: لقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجد بن قيس فقال له: يا أبا
وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزوة؟ لعلك أن تحتفد من بنات الأصفر، فقال: يا رسول الله
والله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجبا بالنساء وأخاف إن خرجت
معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتني، وإئذن لي أن أقيم، وقال لجماعة من
قومه: لا تخرجوا في الحر، فقال ابنه: ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقول ما
تقول، ثم تقول لقومك ولا تنفروا في الحر والله لينزلن الله في هذا قرآنا يقرؤه الناس إلى
يوم القيامة، فأنزل الله على رسوله في ذلك: (ومنهم من يقول إئذن لي) الآية، ثم قال الجد
347

ابن قيس: أيطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم لا يرجع من حرب هؤلاء أحد
أبدا.
(50) إن تصبك: في بعض غزواتك. حسنة تسؤهم: لفرط حسدهم. وإن تصبك
مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل: تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا رأيهم في
التخلف. ويتولوا وهم فرحون: مسرورون.
القمي: عن الباقر عليه السلام أما الحسنة: فالغنيمة والعافية، وأما المصيبة:
فالبلاء والشدة.
(51) قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا: ناصرنا ومتولي أمرنا. وعلى
الله فليتوكل المؤمنون: لأن حق المؤمن أن لا يتوكل إلا على الله.
(52) قل هل تربصون بنا: تنتظرون بنا. إلا إحدى الحسنيين: القمي: يقول الغنيمة
والجنة. ونحن نتربص بكم: إحدى السوئين. أن يصيبكم الله بعذاب من عنده: بقارعة (1)
من السماء. أو بأيدينا: وهو القتل على الكفر. فتربصوا: ما هو عاقبتنا. إنا معكم متربصون: ما
هو عاقبتكم.
في نهج البلاغة، وفي الكافي: عن أمير المؤمنين عليه السلام وكذلك المرء المسلم
البرئ من الخيانة ينتظر إحدى الحسنيين إما داعي الله فما عند الله خير له، وإما رزق
الله فإذا هو ذو أهل، ومال، ومعه دينه وحسبه.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام إلا إحدى الحسنيين، قال: أما موت في طاعة
الله أو إدراك ظهور الأمام، ونحن نتربص بهم مع ما نحن فيه من الشدة أن يصيبهم الله
بعذاب من عنده، قال: هو المسخ أو بأيدينا، وهو القتل، قل: تربصوا قال: التربص: انتظار
وقوع البلاء بأعدائهم.
(53) قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم: أمر في معنى الخبر، أي لن

1 - القارعة البلية تقرع القلب بشدة المخافة.
348

يتقبل منكم نفقاتكم، أنفقتم طائعين أو مكرهين. إنكم كنتم قوما فاسقين: تعليل.
(54) وما منعهم أن تقبل: وقرئ بالياء. منهم نفقتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله: أي
وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام لا يضر مع الأيمان عمل، ولا ينفع مع
الكفر عمل، ألا ترى أنه تعالى قال: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله
وبرسوله) صلى الله عليه وآله وسلم.
والعياشي ما في معناه. ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى: متثاقلين. ولا ينفقون
إلا وهم كارهون: لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا (1).
(55) فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم: فإن ذلك استدراج ووبال لهم.
في المجمع: الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد: جميع المؤمنين، وقيل:
الخطاب للسامع إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا: بسبب ما يكابدون (2) لجمعها
وحفظها من المتاعب ما يرون فيها من الشدائد والمصايب ويشق عليهم إنفاقها في
سبيل الله. وتزهق أنفسهم وهم كافرون: فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في
العاقبة، وأصل الزهوق الخروج بصعوبة.
(56) ويحلفون بالله إنهم لمنكم: لمن جملة المسلمين. وما هم منكم: لكفر قلوبهم.
ولكنهم قوم يفرقون: يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين من القتل والأسر
فيظهرون الإسلام تقية.
(57) لو يجدون ملجأ: حصنا يلجأون إليه. أو مغارات: غيرانا. أو مدخلا:
موضع دخول.

1 - وفي هذا دلالة على أن الكفار مخاطبون بالشرايع لأنه سبحانه ذمهم على ترك الصلاة والزكاة ولولا وجوبهما عليهما
لم يذموا بتركهما م ن.
2 - الكبد بالتحريك الشدة والمشقة من المكابدة للشئ وهي تحمل المشاق في شئ.
349

القمي: قال: موضعا يلجأون إليه.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام أسرابا في الأرض. لولوا إليه: لأقبلوا نحوه.
وهم يجمحون: أي يعرضون عنكم، يسرعون إسراعا لا يردهم شئ كالفرس الجموح.
(58) ومنهم من يلمزك: يعيبك، في الصدقات: في قسمتها. فإن أعطوا منها
رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون: يعني أن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا
للدين.
في المجمع: عن الباقر عليه السلام بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي، وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج،
فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل... الحديث إلى أن قال:
فنزلت.
والقمي: نزلت لما جاءت الصدقات، وجاء الأغنياء وظنوا أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقسمها بينهم، فلما وضعها في الفقراء تغامزوا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، ولمزوه، وقالوا: نحن الذين نقوم في الحرب وننفر معه ونقوي أمره، ثم يدفع
الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه ولا يغنون عنه شيئا.
وفي الكافي، والمجمع، والعياشي: عن الصادق عليه السلام إن أهل هذه الآية
أكثر من ثلثي الناس.
(59) ولو أنهم رضوا ماءاتهم الله ورسوله: ما أعطاهم الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم من الغنيمة أو الصدقة، وذكر الله للتعظيم، والتنبيه على أن ما فعله الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم كان بأمره. وقالوا حسبنا الله: كفانا فضله. سيؤتينا الله من
فضله: صدقة أو غنيمة أخرى. ورسوله إنا إلى الله راغبون: في أن يوسع علينا من فضله،
وجواب الشرط محذوف تقديره لكان خيرا لهم.
(60) إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم
وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل: أي الزكاة لهؤلاء المعدودين
350

دون غيرهم. فريضة من الله: فرض لهم فريضة. والله عليم حكيم: يضع الأشياء
مواضعها.
في الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام الفقير الذي لا يسأل الناس،
والمسكين أجهد منه، والبائس (1) أجهدهم.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام الفقير: هو المتعفف الذي لا يسأل، والمسكين
الذي يسأل.
والقمي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل من هم؟ فقال: الفقراء هم الذين لا
يسألون وعليهم مؤنات من عيالهم، والدليل على أنهم هم الذين لا يسألون قول الله
تعالى في سورة البقرة: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في
الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا)،
والمساكين هم أهل الزمانة (2) من العميان، والعرجان، والجذمين (3)، وجميع أصناف الزمني
من الرجال، والنساء، والصبيان، والعاملين عليها: هم السعاة والجباة في أخذها وجمعها
وحفظها حتى يؤدوها إلى من يقسمها، والمؤلفة قلوبهم: قوم وحدوا الله ولم يدخل المعرفة
قلوبهم - أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فكان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يتألفهم، ويعلمهم كي ما يعرفوا فجعل الله لهم نصيبا في الصدقات لكي
يعرفوا ويرغبوا، وفي الرقاب: قوم قد لزمهم كفارات في قتل الخطأ وفي الظهار، وقتل
الصيد في الحرم وفي الأيمان وليس عندهم ما يكفرون، وهم مؤمنون فجعل الله لهم
سهما في الصدقات ليكفر عنهم، والغارمين: قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة
الله من غير إسراف فيجب على الأمام أن يقضي ذلك عنهم، ويكفيهم من مال

1 - لعل البائس هو الذي أصابه الشدة في المال والبدن جميعا.
2 - الزمانة العاهة وآفة في الحيوان يقال زمن الشخص زمنا فهو وزمانة فهو زمن من باب تعب وهو مرض يدوم زمانا
طويلا.
3 - الجذام كغراب علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وربما انتهى إلى تأكل
الأعضاء وسقوطها عن تقرح جذم كعنى فهو مجذوم ومجذم واجذم ق.
351

الصدقات، وفي سبيل الله: قوم يخرجون في الجهاد وليس عندهم ما ينفقون، أو قوم من
المسلمين ليس عندهم ما يحجون به، أو في جميع سبيل الخير فعلى الأمام أن يعطيهم
من مال الصدقات حتى يتقووا به على الحج والجهاد، وابن السبيل: أبناء الطريق
الذين يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الأمام أن
يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات، والصدقات تتجزى ثمانية أجزاء فيعطى كل
إنسان من هذه الثمانية على قدر ما يحتاجون إليه بلا اسراف ولا تقتير، يقوم في ذلك
الأمام يعمل بما فيه الصلاح.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام ما كانت المؤلفة قلوبهم قط أكثر منهم
اليوم، وهم قوم وحدوا الله وخرجوا من الشرك ولم يدخل معرفة محمد صلى الله عليه وآله
وسلم قلوبهم، وما جاء به فتألفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتألفهم المؤمنون
بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكي ما يعرفوا. والعياشي عنه عليه السلام ما
في معناه. وفي الفقيه، والعياشي: عن الصادق عليه السلام سئل عن مكاتب عجز عن
مكاتبته وقد أدى بعضها؟ قال: يؤدى عنه من مال الصدقة، إن الله عز وجل يقول في
كتابه: (وفي الرقاب).
وفي الكافي، والعياشي: عنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: أيما مسلم أو مؤمن مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الأمام
أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك إن الله تعالى يقول: (إنما الصدقات للفقراء
والمساكين) الآية، فهو من الغارمين وله سهم عند الأمام فإن حبسه فإثمه عليه.
وفيه عنه عليه السلام كان (1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم صدقة
أهل البوادي في أهل البوادي، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر، ولا يقسمها بينهم
بالسوية، وإنما يقسمها على قدر ما يحضرها منهم وما يرى، وليس في ذلك شئ موقت
موظف.

1 - لعل ذلك لان أعين فقراء كل موطن ممدودة إلى أموال ذلك الموطن فالأولى ان تصرف إلى أهله ولا تخرج منه.
352

وعنه عليه السلام سهم المؤلفة قلوبهم، وسهم الرقاب: عام، والباقي خاص.
يعني خاص بالعارف (1) ولا يعطى غيره.
وفي الخصال: عن الباقر عليه السلام لا تحل الصدقة لبني هاشم إلا في
وجهين: إن كانوا عطاشا فأصابوا ماء فشربوا، وصدقة بعضهم على بعض.
(61) ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن: يسمع كل ما يقال له
ويصدقه. قل أذن خير لكم: تصديق لهم بأنه اذن ولكن لا على الوجه الذي ذموه به بل
من حيث أنه يسمع الخبر ويقبله، وقرء اذن بالتخفيف. يؤمن بالله: يصدق به. ويؤمن
للمؤمنين: يصدقهم، واللام للتفرقة بين التصديقين.
القمي: قال: كان سبب نزولها أن عبد الله بن نفيل كان منافقا، وكان يقعد إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين، وينم عليه فنزل
جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد إن رجلا من
المنافقين ينم عليك، وينقل حديثك إلى المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: من هو؟ فقال: الرجل الأسود كثير شعر الرأس ينظر بعينين كأنهما قدران، وينطق
بلسان كأنه لسان شيطان، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فحلف أنه
لم يفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد قبلت منك فلا تقعد، فرجع إلى
أصحابه فقال: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم اذن أخبره الله إني أنم عليه وأنقل
أخباره فقبل، وأخبرته أني لم أفعل فقبل، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:
(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)
أي يصدق الله فيما يقول له: ويصدقك فيما تعتذر إليه في الظاهر ولا يصدقك في الباطن، قوله:
(ويؤمن للمؤمنين) يعني المقرين بالأيمان من غير اعتقاد.

1 - المعرفة معرفة الإمام عليه السلام.
353

والعياشي: عن الصادق عليه السلام يعني يصدق الله، ويصدق المؤمنين لأنه
كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين. ورحمة: أي هو رحمة، وقرئ بالجر. للذين آمنوا منكم: لمن أظهر
الأيمان (الاسلام) حيث يقبله ولا يكشف سره، وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم
جهلا بحالكم بل رفقا بكم وترحما. والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم: بإيذائه.
(62) يحلفون بالله لكم: على معاذيرهم فيما قالوا أو تخلفوا. ليرضوكم: لترضوا
عنهم، والخطاب للمؤمنين. والله ورسوله أحق أن يرضوه: بالطاعة والوفاق، وتوحيد الضمير
لتلازم الرضاءين. إن كانوا مؤمنين: صدقا.
القمي: نزلت في المنافقين الذين كانوا يحلفون للمؤمنين أنهم منهم لكي يرضى
عنهم المؤمنون.
(63) ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله: يشاقق، من الحد لأن كلا من
المخالفين في حد غير حد صاحبه. فإن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم.
(64) يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم: وتهتك
عليهم أستارهم. قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون.
(65) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب
القمي: كان قوم من المنافقين لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى
تبوك يتحدثون فيما بينهم ويقولون: أيرى محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم؟ لا يرجع
منهم أحد أبدا، فقال بعضهم: ما أخلقه أن يخبر الله محمدا بما كنا فيه وبما في قلوبنا وينزل
عليه بهذا قرآنا يقرؤه الناس، وقالوا: هذا على حد الاستهزاء، وقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر: الحق القوم فإنهم قد احترفوا فلحقهم عمار فقال لهم: ما
قلتم؟ قالوا ما قلنا شيئا إنما كنا نقول شيئا على حد اللعب والمزاح فنزلت.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة
إئتمروا بينهم ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بعضهم لبعض: إن فطن
354

نقول: - إنما كنا نخوض ونلعب - وإن لم يفطن نقتله، وذلك عند رجوعه من تبوك فأخبر
جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه
رواحلهم فضربها حتى نحاهم، فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ فقال: لم أعرف
منهم أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلان بن فلان، حتى عدهم، فقال
حذيفة: ألا نبعث إليهم فنقتلهم، فقال: أكره أن يقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل
يقتلهم.
وفي الجوامع: تواثقوا على أن يدفعوه عن راحلته في الوادي إذا تسنم العقبة
بالليل فأمر عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هما كذلك إذ
سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل، وبقعقعة (1) السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال: إليكم
يا أعداء الله، وضرب وجوه رواحلهم حتى نحاهم.
الحديث، إلى آخر ما ذكره في المجمع أورده عند تفسير (يحلفون بالله ما قالوا)، من
هذه السورة كما يأتي. قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون.
(66) لا تعتذروا: لا تشتغلوا باعتذاراتكم فإنها معلومة الكذب. قد كفرتم: قد
أظهرتم الكفر. بعد إيمانكم: بعد إظهاركم الأيمان. إن يعف عن طائفة منكم: لتوبتهم
وإخلاصهم. تعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين: مصرين على النفاق، وقرئ بالنون فيهما.
القمي: عن الباقر عليه السلام في قوله (لا تعتذروا) قال: هؤلاء قوم كانوا مؤمنين
صادقين ارتابوا وشكوا ونافقوا بعد إيمانهم وكانوا أربعة نفر، وقوله: (إن نعف عن طائفة
منكم) كان أحد الأربعة: مختبر بن الحمير فاعترف وتاب، وقال: يا رسول الله أهلكني
اسمي فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عبد الله بن عبد الرحمن، فقال: يا رب
اجعلني شهيدا حيث لا يعلم أين أنا، فقتل يوم اليمامة، ولم يعلم أحد أين قتل فهو الذي
عفى عنه.
(67) المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض: تكذيب لهم فيما حلفوا أنهم

1 - القعقعة حكاية صوت السلاح ق.
355

لمنكم، وتحقيق لقوله: (وما هم منكم). يأمرون بالمنكر: بالكفر والمعاصي. وينهون عن
المعروف: عن الأيمان والطاعة. ويقبضون أيديهم: شحا بالخيرات والصدقات (1). نسوا الله:
أغفلوا ذكره. فنسيهم: (2) فتركهم عن رحمته وفضله.
في التوحيد، والعياشي: عن أمير المؤمنين عليه السلام يعني نسوا الله في دار
الدنيا فلم يعملوا بطاعته، فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا. فصاروا
منسيين عن الخير.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام نسوا الله: تركوا طاعة الله فنسيهم، قال:
فتركهم. إن المنافقين هم الفاسقون: هم الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير.
(68) وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي
حسبهم: عقابا وجزاء، فيه دلالة على عظم عذابها. نعوذ بالله منها. ولعنهم الله: أبعدهم من
رحمته، وأهانهم. ولهم عذاب مقيم: لا ينقطع فيها، ويجوز أن يكون المراد به ما يقاسونه من
تعب النفاق وما يخافونه أبدا من الفضيحة.
(69) كالذين من قبلكم أنتم مثلهم. كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا
وأولادا: بيان لتشبيههم بهم، وتمثيل حالهم بحالهم. فاستمتعوا بخلاقهم: نصيبهم من ملاذ الدنيا.
فاستمتعتم بخلقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلقهم: ذم الأولين باستمتاعهم
بحظوظهم الفانية، والتهائهم بها عن النظر في العاقبة، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية
الباقية تمهيدا لذم المخاطبين لمشابهتهم بهم واقتفائهم أثرهم. وخضتم: دخلتم في الباطل.
كالذي خاضوا: كالخوض الذي خاضوه. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة: لم
يستحقوا عليها ثوابا في الدارين. أولئك هم الخاسرون: الذين خسروا الدنيا والآخرة.
(70) ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح: كيف أغرقوا بالطوفان. وعاد
كيف أهلكوا بالريح. وثمود: كيف أهلكوا بالرجفة. وقوم إبراهيم: كيف أهلك نمرود

1 - وقيل معناه يمسكون أيديهم عن الجهاد في سبيل الله م ن.
2 - وذكر ذلك لازدواج الكلام لان النسيان لا يجوز عليه تعالى م ن.
356

ببعوض، وأهلك أصحابه. وأصحاب مدين: قوم شعيب كيف أهلكوا بالنار يوم الظلة.
والمؤتفكات قرى قوم لوط كيف ائتفكت بهم، أي انقلبت وصارت عاليها سافلها.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن المؤتفكات؟ قال: أولئك قوم
لوط ائتفكت عليهم، أي انقلبت. أتتهم رسلهم بالبينات: يعني الكل. فما كان الله
ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
(71) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (1): في مقابلة: (المنافقون
والمنافقات بعضهم من بعض). يأمرون (2) بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله: لا محالة، فإن
السين مؤكدة للوقوع. إن الله عزيز: غالب على كل شئ لا يمتنع عليه ما يريده حكيم
يضع الأشياء مواضعها.
(72) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين
فيها ومساكن طيبة: يطيب فيها العيش. في جنات عدن: إقامة وخلود.
في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدن: دار الله التي لم ترها عين، ولم تخطر
على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيين، والصديقين، والشهداء، يقول الله تعالى: (طوبى لمن
دخلك).
وفي الخصال: عنه عليه السلام من سره أن يحيى حياتي ويموت مماتي، ويسكن
جنتي التي واعدني ربي جنات عدن، قضيب غرسه الله بيده، ثم قال له: (كن فيكون)
فليوال علي بن أبي طالب وذريته عليهم السلام من بعده.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: إنه سأله يهودي أين يسكن نبيكم من الجنة؟ فقال:

1 - أي بعضهم أنصار بعض يلزم كل واحد منهم نصرة صاحبه وموالاته حتى أن المرأة تهيئ أسباب السفر لزوجها
إذا خرج وتحفظ غيبة زوجها وهم يد واحدة على من سواهم م ن.
2 - وفي الآية دلالة على أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الأعيان لأنه جعلهما من صفات جميع
المؤمنين ولم يخص قوما منهم دون قوم م ن.
357

في أعلاها درجة، وأشرفها مكانا في جنات عدن، فقال: صدقت والله إنه لبخط هارون
وإملاء موسى. وفي الفقيه: في حديث بلال (جنة عدن) في وسط الجنان سورها ياقوت أحمر،
حصياتها اللؤلؤ. ورضوان من الله أكبر: يعني وشئ من رضوانه أكبر من ذلك كله، لأن
رضاه سبب كل سعادة، وموجب كل فوز، وبه تنال كرامته التي أكبر أصناف الثواب. ذلك:
أي الرضوان. هو الفوز العظيم: الذي يستحقر دونه كل لذة وبهجة.
(73) يا أيها النبي جاهد الكفار: قيل: بالسيف. والمنافقين: قيل: بإلزام الحجة،
وإقامة الحدود.
القمي: عن الباقر عليه السلام جاهد الكفار والمنافقين بإلزام الفرائض. وفي
المجمع: في قراءة أهل البيت جاهد الكفار بالمنافقين، قالوا لأن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لم يكن يقاتل المنافقين، ولكن كان يتألفهم، ولأن المنافقين لا يظهرون الكفر، وعلم الله
بكفرهم لا يبيح قتلهم إذا كانوا يظهرون الأيمان.
وفيه: في سورة التحريم عن الصادق عليه السلام أنه قرأ (جاهد الكفار
بالمنافقين) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل منافقا قط إنما كان
يتألفهم.
والقمي أيضا: إنما نزلت (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) لأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لم يجاهد المنافقين بالسيف، قاله هنا.
وفي سورة التحريم عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد
الكفار والمنافقين) هكذا نزلت فجاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكفار، وجاهد
علي المنافقين، فجاهد علي جهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. واغلظ عليهم
ومأويهم جهنم وبئس المصير.
(74) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم
وهموا بما لم ينالوا.
القمي: نزلت في الذين تحالفوا في الكعبة أن لا يردوا هذا الأمر في بني هاشم،
358

فهي كلمة الكفر، ثم قعدوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة وهموا بقتله،
وهو قوله: (وهموا بما لم ينالوا). وقال في موضع آخر: فلما أطلع الله نبيه وأخبره حلفوا له أنهم لم
يقولوا ذلك ولم يهموا به حتى أنزل الله: (يحلفون بالله ما قالوا) الآية.
وعن الصادق عليه السلام: لما أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا
يوم غدير خم كان بحذائه سبعة نفر من المنافقين، وهم: أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن
عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة، والمغيرة بن شعبة، قال
عمر: ألا ترون عينيه كأنهما عينا مجنون يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم الساعة يقوم
ويقول: قال لي ربي، فلما قام قال: يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم، قالوا: الله
ورسوله، قال: اللهم فاشهد، ثم قال ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، وسلموا عليه بإمرة
المؤمنين، فنزل جبرئيل وأعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقالة القوم فدعاهم
وسألهم فأنكروا وحلفوا فأنزل الله: (يحلفون بالله ما قالوا).
وفي المجمع: نزلت في أهل العقبة فإنهم أضمروا أن يقتلوا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في العقبة حين مرجعهم من تبوك وأرادوا أن يقطعوا أنساع (1) راحلته ثم
ينخسوا (2) به، فأطلعه الله على ذلك، وكان من جملة معجزاته، لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا
بوحي من الله فبادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة وحده، وعمار وحذيفة
أحدهما يقود ناقته والآخر يسوقها، وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي وكان الذين
هموا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر عرفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وسماهم بأسمائهم.
قال: وقال الباقر عليه السلام: كانت ثمانية منهم من قريش، وأربعة من العرب.
أقول: قد مضى بعض هذه القصة عند تفسير (يا أيها الرسول بلغ) من المائدة،
وعند تفسير: (إنما كنا نخوض ونلعب) من هذه السورة.

1 - النسع بالكسر سير بنسج عريضا يشد به الرحال القطعة منه نسعة ويسمى نسعا لطوله وجمعه نسع بالضم وانساع م‍.
2 - نخس الدابة كنصر وجعل غرز مؤخرها بعود ونحوه م‍.
359

والعياش عن الصادق عليه السلام لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما
قال في غدير خم، وصاروا بالأخبية (1) مر المقداد بجماعة منهم يقولون: إذا دنا موته وفنيت
أيامه وحضر أجله أراد أن يولينا عليا من بعده، أما والله ليعلمن، قال: فمضى المقداد وأخبر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الصلاة جامعة، قال: فقالوا: قد رمانا المقداد فقوموا
نحلف عليه، قال: فجاؤوا حتى جثوا (2) بين يديه فقالوا: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، والذي
بعثك بالحق، والذي كرمك بالنبوة ما قلنا ما بلغك والذي اصطفاك على البشر، قال: فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا
كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا) بك يا محمد ليلة العقبة. وما نقموا: وما أنكروا وما
عابوا. إلا أن أغنهم الله ورسوله من فضله: قال: كان أحدهم يبيع الرؤوس، وآخر يبيع
الكراع (3) ويفتل القرامل (4) فأغناهم الله برسوله، ثم جعلوا حدهم وحديدهم عليهم والمعنى
إنهم جعلوا موضع شكر النعمة كفرانها، وكان الواجب عليهم أن يقابلوها بالشكر.
فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا: بالأصرار على النفاق. يعذبهم الله
عذابا أليما في الدنيا والآخرة: بالقتل، والنار. وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير:
فينجيهم من العذاب.
(75) ومنهم من عاهد الله لئن اتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من
الصالحين.
القمي: عن الباقر عليه السلام هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف، كان
محتاجا فعاهد الله فلما أتاه بخل به.
وفي الجوامع: هو ثعلبة بن حاطب، قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا،

1 - أي دخلوا خيامهم.
2 - أي جلسوا واجتمعوا.
3 - الكرع: محركة من الدابة قوائمها ودقة مقدم الساقين وكغراب من البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس وهو
مستدق الساق.
4 - القرامل هي ما تشده المرأة في شعرها من الخيوط.
360

فقال: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لأن
رزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى
ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة، وبعث رسول الله صلى الله
عليه وآله وسم المصدق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل، وقال: ما هذه إلا أخت الجزية، فقال
صلى الله عليه وآله وسلم: يا ويح ثعلبة.
وفي المجمع: روى ذلك مرفوعا.
(76) فلما آتيهم من فضله بخلوا به: منعوا حق الله منه. وتولوا: عن طاعة الله.
وهم معرضون.
(77) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم: فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم. إلى
يوم يلقونه: يلقون الله.
في التوحيد: عن أمير المؤمنين عليه السلام اللقاء: هو البعث. بما أخلفوا الله ما
وعدوه وبما كانوا يكذبون.
(78) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم: ما أسروه في أنفسهم من النفاق.
ونجويهم: وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن. وأن الله علم الغيوب: لا يخفى عليه
شئ.
(79) الذين يلمزون: يعيبون. المطوعين: المتطوعين. من المؤمنين في الصدقات
والذين لا يجدون إلا جهدهم: إلا طاقتهم فيتصدقون بالقليل.
وفي الحديث: أفضل الصدقة جهد المقل. فيسخرون منهم: يستهزؤون. سخر الله
منهم: جازاهم جزاء السخرية، كذا في العيون عن الرضا عليه السلام. ولهم عذاب أليم.
القمي: جاء سالم بن عمير الأنصار بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله كنت ليلتي أجر
الجرير (1) حتى عملت بصاعين من تمر. فأما أحدهما فأمسكته وأما الآخر فأقرضته ربي، فأمر

1 - الجرير الحبل الذي يجر به البعير يريد انه استقى للناس على اجرة صناعين (منه رحمه الله).
361

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينثره في الصدقات، فسخر منه المنافقون، فقالوا: والله إن
كان الله لغني من هذا الصاع ما يصنع الله بصاعه شيئا ولكن أبا عقيل أراد أن يذكر نفسه
ليعطى من الصدقات فنزلت.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام آجر أمير المؤمنين عليه السلام نفسه على أن
يستقي كل دلو بتمرة بخيارها فجمع تمرا، فأتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعبد
الرحمن بن عوف على الباب فلمزه، أي وقع فيه فنزلت هذه الآية (الذين يلمزون).
(80) استغفر لهم أو لا تستغفر لهم: لا فرق بين الأمرين في عدم الإفادة لهم.
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم: قيل: السبعون جاء في كلامهم مجرى المثل
للتكثير. وروت العامة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: والله لأزيدن على السبعين
فنزلت: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم). وفي لفظ آخر قال: لو
علمت أنه لو زدت على السبعين مرة غفر لهم لفعلت.
والعياشي عن الرضا عليه السلام إن الله قال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم:
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فاستغفر لهم مأة مرة ليغفر لهم فأنزل الله: (سواء
عليهم استغفرت لهم) الآية، وقال: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فلم
يستغفر لهم بعد ذلك ولم يقم على قبر أحد منهم.
أقول: لا يبعد استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن يرجو إيمانه من
الكفار، وإنما لا يجوز استغفاره لمن يئس من إيمانه وهو قوله عز وجل: (ما كان للنبي والذين
آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب
الجحيم) إلى قوله: (تبرأ منهم) ويأتي تمام الكلام في هذا المقام عن قريب إنشاء الله ذلك
بأنهم كفروا بالله ورسوله: إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس
لبخل منا ولا لقصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها. والله لا يهدى
القوم الفاسقين: المتمردين في كفرهم.
362

(81) فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله: بقعودهم عن الغزو، وخلفه
يقال: أقام خلاف القوم، أي: بعدهم وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله:
إيثارا للدعة والخفض (1) على طاعة الله. وقالوا لا تنفروا في الحر: قاله بعضهم لبعض، وقد
سبق قصة الجد بن قيس في ذلك عند تفسير (ومنهم من يقول إئذن لي) وهذا تفضيح له
من الله سبحانه. قل نار جهنم أشد حرا: وقد آثرتموها بهذه المخالفة. لو كانوا يفقهون: أن
ما بهم إليها وانها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.
(82) فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا: إما على ظاهر الأمر، وإما أخبار عما
يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة، يعني: فيضحكون قليلا ويبكون كثيرا، أخرجه على
صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين
عن السرور والغم. جزاء بما كانوا يكسبون: من الكفر والتخلف.
(83) فإن رجعك الله إلى طائفة منهم: فإن ردك إلى المدينة، وفيها طائفة من
المتخلفين يعني منافقيهم ممن لم يتب ولم يكن له عذر صحيح في التخلف. فاستأذنوك
للخروج: إلى غزوة أخرى بعد تبوك. فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقتلوا معي عدوا:
إخبار في معنى النهي للمبالغة. إنكم رضيتم بالقعود أول مرة: تعليل له، وكان إسقاطهم
عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم أول مرة وهي الخرجة إلى غزوة تبوك. فاقعدوا
مع الخالفين: أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان.
(84) ولا تصل على أحد منهم مات أبدا: لا تدعو له وتستغفر. ولا تقم على
قبره: للدعاء.
وفي المجمع: فإنه عليه السلام كان إذا صلى على ميت يقف على قبره ساعة
ويدعو له فنهاه الله عن الصلاة على المنافقين والوقوف على قبرهم والدعاء لهم ثم بين
سبب الأمرين. إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون.

1 - الخفض الراحة والسكون يقال هو في خفض من العيش أي في سعة وراحة ومنه عيش خافض وعيش خفيض
أي واسع م‍.
363

القمي: في آية الاستغفار السابقة إنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم إلى المدينة ومرض عبد الله بن أبي وكان ابنه عبد الله مؤمنا فجاء إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم وأبوه يجود بنفسه، فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إنك إن لم تأت
على أبي كان ذلك عارا علينا، فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والمنافقون عنده.
فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله استغفر له، فاستغفر فقال عمر: ألم
ينهك الله يا رسول الله أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم.
فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعاد عليه، فقال له: ويلك
إني خيرت فاخترت إن الله يقول: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة
فلن يغفر الله لهم) فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إن رأيت أن تحضر جنازته، فحضر رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام على قبره، فقال له عمر: يا رسول الله أولم ينهك الله أن
تصلي على أحد منهم مات أبدا وأن تقوم على قبره.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويلك وهل تدري ما قلت إنما
قلت: اللهم احش قبره نارا، وجوفه نارا، واصله (1) النار، فبدا من رسول الله ما لم يكن يحب.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن
عبد الله بن أبي: إذا فرغت من أبيك فأعلمني، وكان قد توفى فأتاه فأعلمه فأخذ رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم نعليه للقيام، فقال له عمر: أليس قد قال الله: (ولا تصل على
أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)؟ فقال له: ويحك أو ويلك إنما أقول: اللهم إملأ قبره
نارا، واملأ جوفه نارا، وأصله يوم القيامة نارا. وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم
أخذ بيد ابنه في الجنازة ومضى فتصدى له عمر ثم قال: أما نهاك ربك عن هذا أن تصلي

1 - والصلاء ككساء الشواء لأنه يصلى بالنار والصلاء أيضا النار قال الجوهري فان فتحت الصاد قصرت وقلت صلا
النار والاصطلاء بالنار التسخن بها وفلان لا يصطلى بناره اي شجاع لا يطاق م‍.
364

على أحد مات منهم أبدا؟ أو تقوم على قبره؟ فلم يجبه، فلما كان قبل أن ينتهوا به إلى القبر
أعاد عمر ما قاله أولا.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر عند ذلك: ما رأيتنا صلينا له على
جنازة ولا قمنا على قبر، ثم قال: إن ابنه رجل من المؤمنين وكان يحق علينا أداء حقه، فقال
عمر: أعوذ بالله من سخط الله، وسخطك يا رسول الله.
أقول: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا كريما كما قال الله عز
وجل، (فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق)، فكان يكره أن يفتضح رجل من
أصحابه ممن يظهر الأيمان، وكان يدعو على المنافقين ويوري (1) أنه يدعو لهم وهذا معنى قوله
صلى الله عليه وآله وسلم لعمر: ما رأيتنا صلينا له على جنازة ولا قمنا له على قبر، وكذا معنى
قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث القمي: خيرت فاخترت، فورى صلى الله عليه
وآله وسلم باختيار الاستغفار، وأما قوله فيه: (فاستغفر له) فلعله استغفر لابنه لما سأل لأبيه
الاستغفار، وكان يعلم أنه من أصحاب الجحيم، ويدل على ما قلناه قوله عليه السلام: (فبدا
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكن يحب)، هذا.
إن صح حديث القمي فإنه لم يستند إلى المعصوم، والاعتماد على حديث العياشي
هنا أكثر منه على حديث القمي، لاستناده إلى قول المعصوم دونه، ولأن سياق كلام القمي
تارة يدل على أنه كان سبب نزول الآية قصة ابن أبي، وأخرى تدل على نزولها قبل ذلك.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يكبر على قوم خمسا، وعلى قوم آخرين أربعا فإذا كبر على رجل أربعا أتهم يعني
بالنفاق.
وفيه، والعياشي: عنه عليه السلام كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا

1 - وريت الخبر بالتشديد تورية إذا سترته وأظهرت غيره حيث يكون للفظ معنيان أحدهما اشيع من الآخر فتنطق به
وتريد الخفي م‍.
365

صلى على ميت كبر وتشهد، ثم كبر وصلى على الأنبياء، ثم كبر ودعا للمؤمنين، ثم كبر
الرابعة ودعا للميت، ثم كبر وانصرف فلما نهاه الله عز وجل عن الصلاة على المنافقين كبر
وتشهد، ثم كبر وصلى على النبيين، ثم كبر ودعا للمؤمنين، ثم كبر الرابعة وانصرف ولم يدع
للميت.
(85) ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم في الدنيا: بما
يلحقهم فيها من المصائب والغموم وبما يشق عليهم إخراجها من الزكوات والإنفاق في
سبيل الله. وتزهق أنفسهم وهم كافرون: قد مر تفسير الآية، وإنما كررت للتأكيد، أو هذه في
فريق غير الأول.
(86) وإذا أنزلت سورة آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا
الطول منهم: ذو الفضل والسعة. وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين: الذين قعدوا لعذر.
(87) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف: جمع خالفة.
العياشي: عن الباقر عليه السلام قال: مع النساء. وطبع على قلوبهم فهم لا
يفقهون: ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة.
(88) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم: إن تخلف
هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم. وأولئك لهم الخيرات: منافع الدين والدنيا
النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة ونعيمها في الآخرة. وأولئك هم المفلحون: الفائزون
بالمطالب.
(89) أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز
العظيم.
(90) وجاء المعذرون من الاعراب: أهل البدو. ليؤذن لهم: المعذرون والمقصرون
من عذر في الأمر - إذا توانى، ولم يجد فيه، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل، ولا عذر
له.
ويجوز أن يكون من إعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال، ونقل حركتها
366

إلى العين، وهم الذين يعتذرون بالباطل. وقعد الذين كذبوا الله ورسوله: في ادعاء الأيمان
فلم يجيبوا ولم يعتذروا. سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم: بالقتل والنار.
(91) ليس على الضعفاء ولا على المرضى: كالهرمى (1) والزمنى. ولا على الذين لا
يجدون ما ينفقون: لفقرهم. حرج: إثم في التأخير. إذا نصحوا لله ورسوله: بالأيمان والطاعة
في السر والعلانية. ما على المحسنين من سبيل: لا جناح ولا عتاب. والله غفور رحيم.
(92) ولا على الذين إذا ما أتوك: يعني معك. لتحملهم قلت لا أجد ما
أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع: أي يسيل دمعها فإن (من) للبيان كأن
العين كلها دمع فائض. حزنا أن لا يجدوا: لئلا يجدوا. ما ينفقون: في مغزاهم.
العياشي: عنهما عليهما السلام عبد الله بن يزيد بن ورقاء الخزاعي أحدهم.
والقمي: في قصة غزوة تبوك، وجاء البكاؤن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وهم سبعة نضر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير قد شهد بدر الاختلاف
فيه، ومن بني واقف هرمي بن عمير، ومن بنى حارثة علية بن زيد، وهو الذي تصدق
بعرضه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالصدقة فجعل الناس يأتون
بها فجاء علية فقال: يا رسول الله ما عندي ما أتصدق به وقد جعلت عرضي حلالا.
فقال له رسول الله: قد قبل الله صدقتك، ومن بني مازن ابن النجار أبو ليلى
عبد الرحمن بن كعب، ومن بني سلمة عمرو بن غنيمة، ومن بني زريق سلمة بن صخر،
ومن بني المعز ماضرة بن سارية السلمي هؤلاء جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يبكون، فقالوا: يا رسول الله ليس بنا قوة أن نخرج معك فأنزل الله فيهم (ليس على
الضعفاء ولا على المرضى) إلى قوله: (ألا يجدوا ما ينفقون) قال: وإنما سأل هؤلاء البكاؤن
نعلا يلبسونها.
(93) إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع

1 - الهرم محركة والمهرم والمهرمة أقصى الكبر.
367

الخوالف: قال: كانوا ثمانين رجلا من قبائل شتى، والخوالف: النساء. وطبع الله على قلوبهم:
حتى غفلوا عن وخامة (1) العاقبة. فهم لا يعلمون: مغيبه.
(94) يعتذرون إليكم: في التخلف. إذا رجعتم إليهم: من الغزوة. قل لا
تعتذروا: بالمعاذير الكاذبة. لن نؤمن لكم: لن نصدقكم. قد نبأنا الله من أخباركم: أعلمنا
بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم، وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد. وسيرى الله
عملكم ورسوله: أتتوبون عن الكفر؟ أم تثبتون عليه؟ ثم تردون إلى علم الغيب
والشهادة: أي إليه، فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم
وعلنهم، لا يفوت عن عمله شئ من ضمايرهم وأعمالهم. فينبئكم بما كنتم تعملون:
بالتوبيخ، والعقاب.
(95) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم: فلا تعاتبوهم.
فأعرضوا عنهم: ولا توبخوهم. إنهم رجس: لا ينفع فيهم التوبيخ والنصح والعتاب، لا
سبيل إلى تطهيرهم. ومأويهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون.
(96) يحلفون لكم لترضوا عنهم: بحلفهم فتستديموا عليهم بما كنتم تفعلون
بهم. فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين: ولا ينفعهم رضاكم إذا
كان الله ساخطا عليهم.
في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التمس رضى الله بسخط
الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله
عليه، وأسخط عليه الناس.
القمي: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك كان أصحابه المؤمنون
يتعرضون للمنافقين ويؤذونهم، وكانوا يحلفون لهم أنهم على الحق وليسوا هم بمنافقين لكي
تعرضوا عنهم وترضوا عنهم فأنزل الله (سيحلفون بالله لكم) الآية.

1 - وخامة العاقبة سوؤها وعدم موافقتها وثقلها وردائها.
368

الإعراب: أهل البدو. أشد كفرا ونفاقا: من أهل (1) الحضر، لتوحشهم،
وقساوتهم، وجفائهم، ونشوهم في بعد من مشاهدة العلماء وسماع التنزيل. وأجدر أن لا
يعلموا: وأحق بأن لا يعلموا. حدود ما أنزل الله على رسوله: من الشرايع وفرائضها وسننها.
والله عليم: يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر. حكيم: فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم
عقابا وثوابا.
(98) ومن الإعراب من يتخذ: يعد. ما ينفق: يصرفه في سبيل الله ويتصدق
مغرما: غرامة وخسرانا إذ لا يحتسبه عند الله، ولا يرجو عليه ثوابا، وإنما ينفق رياء وتقية
ويتربص بكم الدوائر: دوائر الزمان، وعقباته، وحوادثه، لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من
الأنفاق. عليهم دائرة السوء: اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصونه، أو إخبار عن
وقوع ما يتربصون عليهم، والله سميع: لما يقولون عند الأنفاق. عليم: بما يضمرون.
(99) ومن الإعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات:
سبب قربات. عند الله وصلوات الرسول: وسبب دعواته لأنه كان يدعو للمتصدقين
بالخير والبركة ويستغفر لهم. ألا إنها قربة لهم: شهادة من الله لهم بصحة معتقدهم، وتصديق
لرجائهم. سيدخلهم الله في رحمته: وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم. إن الله غفور رحيم:
تقرير لهم.
(100) والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
القمي: هم النقباء، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان، وعمار، ومن آمن وصدق وثبت على
ولاية أمير المؤمنين عليه السلام. وفي نهج البلاغة: لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة
الحجة في الأرض، فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر. والذين اتبعوهم بإحسان: بالأيمان
والطاعة إلى يوم القيامة.
في الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام في حديث فبدأ بالمهاجرين

1 - ومعناه ان سكان البوادي إذا كانوا كفارا ومنافقين فهم أشد كفرا من أهل الحضر لبعدهم عن مواضع العلم وعن
استماح الحجج ومشاهدة المعجزات وبركات الوحي م‍ ن.
369

الأولين على درجة سبقهم، ثم ثنى بالأنصار، ثم ثلث بالتابعين باحسان فوضع كل قوم
على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده. رضي الله عنهم: بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم. ورضوا
عنه: بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية. وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار: وقرء من
تحتها كما هو في سائر المواضع. خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (1).
(101) وممن حولكم: ممن حول بلدتكم يعني المدينة. من الاعراب منافقون
ومن أهل المدينة: عطف على ممن حولكم. مردوا على النفاق: صفة للمنافقين، أي تمهروا (2)
فيه وتمرنوا (3). لا تعلمهم: لا تعرفهم بأعيانهم، وهو تقرير لمهارتهم فيه، يعني يخفون عليك مع
فطنتك وصدق فراستك (4) لفرط تحاميهم مواقع الشك في أمرهم. نحن نعلمهم: ونطلع على
أسرارهم. سنعذبهم مرتين: في الجوامع: هو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض
أرواحهم، وعذاب القبر (5). ثم يردون إلى عذاب عظيم: عذاب النار.
(102) وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله
أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم.
القمي، وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر،
وقد سبقت قصته عند تفسير (لا تخونوا الله والرسول) من سورة الأنفال.

1 - قيل نزلت هذه الآية فيمن صلى إلى القبلتين وقيل نزلت فيمن بايع بيعة الحديبية ومن اسلم بعد ذلك وهاجر
فليس من المهاجرين الأولين وقيل وهم أهل بدر وهم الذين اسلموا قبل الهجرة (مجمع البيان).
2 - المتمهر الأسد الحاذق بالافتراس وتمهر حذق ق.
3 - مرن على الشئ يمرن مرونا ومرانة تعود واستمر عليه ص.
4 - في الحديث اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله الفراسة بالكسر الاسم من قولك تفرست فيه خيرا وهي نوعان
أحدهما ما يوقعه الله قي قلوب أوليائه فيعلمون بعض أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الحدس والظن وهو ما دل
عليه ظاهر الحديث اتقوا آه وثانيهما نوع يعلم بالدلائل والتجارب والأخلاق م‍.
5 - فيه أقوال أحدها ما ذكره المصنف رحمه الله والثاني معناه نعذبهم في الدنيا بالفضيحة فان النبي صلى اله عليه وآله ذكر
رجالا منهم وأخرجهم من المسجد الحرام يوم الجمعة في خطبته وقال اخرجوا فإنكم منافقون ونعذبكم في القبر والثالث مرة
في الدنيا بالسبي والقتل ومرة في الآخرة بعذاب القبر وروى عذبوا بالجوع مرتين والرابع اخذ الزكاة منهم وعذاب القبر
الخامس غيظهم من أهل الاسلام وعذاب القبر السادس إقامة الحدود عليهم وعذاب القبر وكل ذلك محتمل وهاتان المرتان
قبل ان يردوا إلى عذاب النار.
370

وفي الكافي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام أولئك قوم مؤمنون يحدثون في
إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم.
والعياشي: عنه عليه السلام في هذه الآية قال: - عسى - من الله واجب وإنما نزلت في
شيعتنا المذنبين.
وفي رواية أخرى: قوما اجترحوا ذنوبا مثل حمزة وجعفر الطيار، ثم تابوا، ثم قال: ومن
قتل مؤمنا لم يوفق للتوبة إلا أن الله لا يقطع طمع العباد فيه، ورجاءهم منه، قال: هو أو غيره
إن - عى - من الله واجب.
(103) خذ من أموالهم صدقة.
القمي: نزلت حين أطلق أبو لبابة وعرض ماله للتصدق. تطهرهم: الصدقة أو
أنت. وتزكيهم بها: أي تنسبهم إلى الزكاء، والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى
الإنماء والبركة في المال. وصل عليهم: وترحم عليهم بالدعاء لهم بقبول صدقاتهم وغيره.
إن صلاتك سكن لهم: تسكن إليها نفوسهم، وتطمئن بها قلوبهم، والله سميع: يسمع
دعاءك لهم. عليم: يعلم ما يكون منهم.
في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم
قال: (اللهم صل عليهم).
والعياشي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية أجارية هي في
الأمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: نعم.
وفي الكافي: عنه عليه السلام لما نزلت آية الزكاة: (خذ من أموالهم صدقة) وأنزلت
في شهر رمضان فأمر رسول الله مناديه فنادى في الناس إن الله فرض عليكم الزكاة كما
فرض عليكم الصلاة، ففرض الله عليهم من الذهب والفضة، وفرض عليهم الصدقة من
الإبل والبقر والغنم، ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب، ونادى بهم في رمضان،
وعفى لهم عما سوى ذلك، قال: ثم لم يتعرض لشئ من أموالهم حتى حال عليهم الحول
من قابل فصاموا وأفطروا فأمر مناديه فنادى في المسلمين أيها المسلمون زكوا أموالكم
371

تقبل صلاتكم، قال: ثم وجه عمال الصدقة وعمال الطسوق (1).
(104) ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده: إذا صحت. ويأخذ
الصدقات: إذا صدرت عن خلوص النية يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله.
في التوحيد: عن الصادق عليه السلام في حديث والأخذ في وجه
القبول منه، كما قال: (ويأخذ الصدقات) أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها.
وفي الكافي: عنه عليه السلام إن الله يقول ما من شئ إلا وقد وكلت به من
يقبضه غيري إلا الصدقة فإني أتلقفها (2) بيدي تلقفا حتى أن الرجل ليتصدق بالتمرة أو
بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل فلوه (3) وفصيله (4) فيأتي يوم القيامة وهو مثل أحد
وأعظم من أحد.
والعياشي عن السجاد عليه السلام ضمنت على ربي أن الصدقة لا تقع في يد
العبد حتى تقع في يد الرب وهو قوله: (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات).
وعنه عليه السلام أنه كان إذا أعطى السائل قبل يد السائل، فقيل له: لم
تفعل ذلك؟ قال: لأنها تقع في يد الله قبل يد العبد، وقال: ليس من شئ إلا وكل به ملك
إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله، قال الراوي: أظنه يقبل الخبز أو الدرهم.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام كان أبي إذا تصدق بشئ
وضعه في يد السائل ثم ارتده منه وقبله وشمه ثم رده في يد السائل.
وفي الخصال: عن أمير المؤمنين عليه السلام إذا ناولتم السائل شيئا فاسألوه أن
يدعو لكم فإنه يجاب له فيكم ولا يجاب في نفسه لأنهم يكذبون، وليرد الذي ناوله يده إلى
فيه فيقبلها فإن الله تعالى يأخذها قبل أن تقع في يده كما قال تعالى: (ألم يعلموا أن الله هو

1 - الطسوق بالفتح ما يوضع من الخراج على الجربان منه رحمه الله.
2 - لقفه كسمح لقفا ولقفانا محركة تناوله بسرعة ق.
3 - الفلو بالكسر وكعدو وسمو الجحش والمهر فطما أو بلغا السنة جمعه أفلا ق.
4 - الفصيل ولد الناقة إذا فصل عن أمه جمعه فصلان بالضم والكسر وككتاب ق.
372

يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) وأن الله هو التواب الرحيم: من شأنه قبول
توبة التائبين والتفضل عليهم.
(105) وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون خيرا
كان أو شرا.
في الكافي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام أنه ذكر هذه الآية فقال: هو والله
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. وعن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه
الآية فقال: والمؤمنون: هم الأئمة عليهم السلام.
والقمي: عنه عليه السلام مثله.
وفي الكافي: عنه عليه السلام قال: إيانا عنى. وعنه عليه السلام إنه قرأ هذه
الآية فقال: ليس هكذا هي إنما هي والمأمونون فنحن المأمونون.
وفيه، والعياشي: عنه عليه السلام قال: تعرض الأعمال على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أعمال العباد كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروها، وهو قول الله تعالى:
(وقل اعملوا) الآية.
والعياشي: عنه عليه السلام في هذه الآية قال: إن الله شاهد في أرضه وإنما
أعمال العباد تعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الكافي: عنه عليه السلام ما لكم تسوؤن رسول الله فقيل: كيف نسوؤه
فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى معصية فيها ساءه ذلك فلا تسوؤا
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسروه.
وعن الرضا عليه السلام: أنه قيل له: ادع الله لي ولأهل بيتي فقال: أو لست
أفعل والله إن أعمالكم تعرض علي في كل يوم وليلة، قال: فاستعظمت ذلك، فقال: أما تقرأ
كتاب الله فقال: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، قال: هو والله علي بن
أبي طالب.
373

والقمي: عن الصادق عليه السلام إن أعمال العباد تعرض على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروا وليستحي أحدكم أن
يعرض على نبيه العمل القبيح.
وعنه عليه السلام، والعياشي: عن الباقر عليه السلام ما من مؤمن يموت أو كافر
يوضع في قبره حتى يعرض عمله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أمير
المؤمنين عليه السلام وهلم جرا إلى آخر من فرض الله طاعته على العباد. فذلك قوله: (وقل
اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). وستردون إلى عالم الغيب والشهادة:
بالموت. فينبئكم بما كنتم تعملون: بالمجازاة.
(106) وآخرون مرجؤن: مؤخرون أي موقوف أمرهم من أرجأته إذا أخرته، وقرئ
مرجون بالواو وهو بمعناه. (1) لأمر الله: في شأنهم. إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم:
بأحوالهم. حكيم: فيما يفعل بهم.
في الكافي، والعياشي عن الباقر عليه السلام، والقمي: عن الصادق عليه السلام
في هذه الآية قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ثم أنهم
دخلوا في الإسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك ولم يعرفوا الأيمان بقلوبهم فيكونوا من
المؤمنين فتجب لهم الجنة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار فهم على تلك
الحال إما يعذبهم الله وإما يتوب عليهم.
(107) والذين اتخذوا مسجدا: وقرئ الذين بدون الواو لأنه قصة برأسها.
في الجوامع: روي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء (2) وصلى فيه رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، وقالوا: نبني مسجدا
نصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فبنوا مسجدا إلى جنب

1 - قال الأزهري الارجاء يهمز ولا يهمز يقال أرجأت الامر وأرجيته.
2 - هو بضم القاف يقصر ويمد ولا يصرف ويذكر ويؤنث موضع بقرب المدينة المشرفة من جهة الجنوب نحوا من
ميلين وهو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم م‍.
374

مسجد قباء وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وهو يتجهز إلى تبوك إنا نحب أن
تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر، ولما انصرف من تبوك نزلت فأرسل من
هدم المسجد وأحرقه وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف والقمامة. ضرارا: مضارة
للمؤمنين أصحاب مسجد قباء وكفرا: وتقوية للكفر الذي كانوا يضمرونه. وتفريقا بين
المؤمنين: الذين كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قبا، أرادوا أن يتفرقوا عنه، وتختلف
كلمتهم. وإرصادا: وإعدادا أو ترقبا. لمن حارب الله ورسوله من قبل: يعني أبا عامر (1)
الراهب. قيل: بنوه على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر إذا قدم من الشام.
في الجوامع: أنه كان قد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، فلما قدم النبي المدينة
حسده وحزب عليه الأحزاب، ثم هرب بعد فتح مكة وخرج إلى الروم وتنصر، وكان
هؤلاء يتوقعون رجوعه إليهم وأعدوا هذا المسجد له ليصلي فيه، ويظهر على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان يقاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته
إلى أن هرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله ومات بقنسرين (2)
وحيدا. وليخلفن إن أردنا إلا الحسنى: ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة
والذكر، والتوسعة على المصلين. والله يشهد إنهم لكاذبون: في حلفهم.
القمي: كان سبب نزولها أنه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله أتأذن لنا أن نبني مسجدا في بني سالم للعليل، والليلة
المطيرة، والشيخ الفاني، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على الخروج
إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله لو أتيتنا فصليت فيه، قال: أنا على جناح السفر فإذا
وافيت إن شاء الله آتيته وأصلي فيه.
فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك نزلت عليه هذه الآية

1 - وهو من اشراف قبيلة خزرج وله مهارة في علم التوراة والإنجيل وكان يحدث نعت النبي على أهل المدينة فلما
بعث النبي صلى الله عليه وآله وقدم بالمدينة حسده وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي صلى الله عليه وآله يوم
أحد وكان جنبا فغسله الملائكة.
2 - قنسرين وقنسرون بالكسر فيهما كورة بالشام وتكسر نونهما ق.
375

في شأن المسجد، وأبي عامر الراهب، وقد كانوا حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أنهم يبنون ذلك للصلاح والحسنى، فأنزل الله على رسوله (والذين اتخذوا مسجدا) الآية،
قال: (وإرصادا لمن حارب الله) يعني أبا عامر الراهب كان يأتيهم فيذكر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وفي تفسير الإمام عليه السلام عند قوله: (ولا تقولوا راعنا) من سورة البقرة رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة (1) الجندل وكان ملك
النواحي له مملكة عظيمة مما يلي الشام وكان يهدد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بقصده، وقتل أصحابه، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خائفين وجلين
من قبله.
قال: ثم إن المنافقين اتفقوا وبايعوا لأبي عامر الراهب الذي سماه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الفاسق وجعلوه أميرا عليهم ونجعوا له بالطاعة، فقال لهم: الرأي
أن أغيب عن المدينة لئلا أتهم إلى أن يتم تدبيركم، وكاتبوا أكيدر - صاحب دومة الجندل -
ليقصد إلى المدينة فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعرفه ما أجمعوا عليه
من أمره، وأمره بالمسير إلى تبوك. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما أراد غزوا
ورى بغيره إلا غزاة تبوك فإنه أظهر ما كان يريده، وأمرهم أن يتزودوا لها، وهي الغزاة التي
افتضح فيها المنافقون وذمهم الله تعالى في تثبطهم عنها، وأظهر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ما أوحى الله تعالى إليه أن الله سيظهره باكيدر حتى يأخذه ويصالحه على ألف
أوقية ذهب في رجب ومائتي حلة وألف أوقية في صفر وينصرف سالما إلى ثمانين يوما،
فقال لهم رسول الله: إن موسى وعد قومه أربعين ليلة وإني أعدكم ثمانين ليلة
ارجع سالما غانما ظافرا بلا حرب يكون ولا يشتاك أحد من المؤمنين.
فقال المنافقون: لا والله ولكنها آخر كرامة كذا التي لا ينجبر بعدها إن

1 - دومة الجندل حصن عادي بين المدينة والشام يقرب من تبوك وهي أقرب إلى الشام وهي لفصل بين الشام
والعراق وهي أحد حدود فدك ويقال انها تسمى بالجوف قال الجوهري وأصحاب اللغة يقوون بضم الدال وأصحاب
الحديث يفتحونها م‍.
376

أصحابه ليموت بعضهم في هذا الحر، ورياح البوادي، ومياه المواضع المؤذية الفاسدة، ومن
سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر، وقتيل وجريح، واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها
بعضهم يعتل بالحر وبعضهم بمرض بجسده، وبعضهم بمرض في عياله، وكان
يأذن لهم
فلما أصبح وضح عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرحلة إلى
تبوك. عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجدا، وهو مسجد الضرار يريدون
الاجتماع فيه، ويوهمون أنه للصلاة وإنما كان ليجتمعوا فيه لعلة الصلاة فيتم تدبيرهم،
ويقع هناك ما يسهل به لهم ما يريدون، ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قالوا: يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك فإنا نكره الصلاة في غير
جماعة، ويصعب علينا الحضور وقد بنينا مسجدا فإن رأيت أن تقصده وتصلي فيه لنتيمن
ونتبرك بالصلاة في موضع مصلاك.
فلم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عرفه الله عن أمرهم
ونفاقهم، وقال: إئتوني بحماري فأتي باليعفور فركبه يريد نحو مسجدهم فكلما بعثه هو
وأصحابه لم ينبعث، ولم يمش، فإذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سيره وأطيبه،
قالوا: لعل هذا الحمار قد رآى من الطريق شيئا كرهه ولذلك لا ينبعث نحوه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إئتوني بفرس فركبه فلما بعثه نحو
مسجدهم لم ينبعث، وكلما حركوه نحوه لم يتحرك حتى إذا فتلوا رأسه إلى غيره سار
أحسن سير، فقالوا: ولعل هذا الفرس قد كره شيئا في هذا الطريق، فقال: تعالوا نمش إليه
فلما تعاطى هو ومن معه المشي نحو المسجد جفوا في مواضعهم، ولم يقدروا على الحركة
وإذا هموا بغيره من المواضع خفت حركاتهم، ونقيت أبدانهم وبسطت قلوبهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا أمر قد كرهه الله وليس يريده
الآن وأنا على جناح سفر فأمهلوني حتى أرجع إن شاء الله، ثم أنظر في هذا نظرا يرضاه
الله، وجد في العزم على الخروج إلى تبوك، وعزم المنافقون على اصطلام مخلفيهم إذا خرجوا
فأوحى الله تعالى إليه يا محمد إن العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول: إما أن تخرج أنت
377

ويقيم علي، وإما أن يخرج علي وتقيم أنت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك
لعلي فقال: علي السمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله، وإن كنت أحب أن لا أتخلف عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال من الأحوال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون
من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فقال: رضيت يا رسول الله، فقال له رسول الله: يا أبا
الحسن إن أجر خروجك معي في مقامك بالمدينة، وإن الله قد جعلك أمة وحدك كما جعل
إبراهيم أمة تمنع جماعة المنافقين والكفار هيبتك عن الحركة على المسلمين.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيعه علي خاض المنافقون
وقالوا: إنما خلفه محمد بالمدينة لبغضه له وملاله منه، وما أراد بذلك إلا أن يبيته المنافقون
فيقتلوه، فاتصل ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال علي: أتسمع ما يقولون يا
رسول الله.
فقال رسول الله ما يكفيك إنك جلدة ما بين عيني، ونور بصري، وكالروح في
بدني، ثم سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه، وقام علي بالمدينة، فكان كلما
دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من علي وخافوا أن يقوم معه عليهم يدفعهم عن
ذلك، وجعلوا يقولون فيما بينهم: هي كرة محمد التي لا يؤب منها، ثم ذكر قصة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم مع أكيدر وأخذه له وصلحه معه على ما مر ذكره.
ثم قال: وعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غانما ظافرا وأبطل الله كيد
المنافقين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإحراق مسجد الضرار فأنزل الله
تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) الآيات ثم ذكر إن أبا عامر الراهب كان عجل هذه
الأمة كعجل قوم موسى وأنه دمر الله عليه وأصابه بقولنج وبرص وفالج ولقوة وبقى
أربعين صباحا في أشد عذاب ثم صار إلى عذاب الله.
(108) لا تقم فيه أبدا: أي لا تصل فيه أبدا، يقال: فلان يقوم بالليل أي
يصلي. لمسجد أسس على التقوى من أول يوم: من أيام وجوده.
378

في الكافي: عن الصادق، والعياشي: عنهما عليهما السلام، والقمي: يعني مسجد قبا.
قيل: أسسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقبا. أحق أن تقوم
فيه: أولى بأن تصلي فيه.
العياشي: قال: يعني من مسجد النفاق، وكان على طريقه رجل إذا أتى مسجد
قبا فقام فينضح بالماء والسدر ويرفع ثيابه عن ساقيه ويمشي على حجر في ناحية
الطريق ويسرع المشي ويكره أن يصيب ثيابه منه شئ فسألته هل كان النبي صلى الله
عليه وآله وسلم يصلي في مسجد قبا؟ قال: نعم. فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب
المطهرين.
العياشي: عن الصادق عليه السلام هو الاستنجاء بالماء. والقمي: كانوا يتطهرون
بالماء.
وفي المجمع: عن الباقر والصادق عليهما السلام يحبون أن يتطهروا بالماء عن الغايط
والبول. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأهل قبا: ماذا تفعلون في طهركم؟ فإن
الله قد أحسن عليكم الثناء، قالوا نغسل أثر الغايط، فقال: أنزل الله فيكم (والله يحب
المطهرين).
(109) أفمن أسس بنيانه: بنيان دينه. على تقوى من الله ورضوان: على قاعدة
محكمة هي الحق الذي هو التقوى من الله وطلب مرضاته بالطاعة. خير أم من أسس
بنيانه على شفا جرف هار: على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطل
والنفاق الذي مثله مثل (شفا جرف هار) في قلة الثبات، والشفا: الشفير، وجرف الوادي:
جانبه الذي ينحفر أصله بالماء وتجرفه السيول، والهار: الهاير الذي أشفى على السقوط
والهدم، وقرئ أسس على البناء للمفعول، وجرف بالتخفيف. فانهار به في نار جهنم: لما
جعل الجرف والهار مجازا عن الباطل قيل: فانهار به في نار جهنم، والمعنى: فهوى به الباطل
في نار جهنم، فكأن المبطل أسس بنيانا على شفير جهنم فطاح به إلى قعرها.
القمي: عن الباقر عليه السلام مسجد الضرار الذي أسس على شفا جرف هار
379

فانهار به في نار جهنم. والله لا يهدى القوم الظالمين: إلى ما فيه صلاح ونجاة.
(110) لا يزال بنيانهم الذي بنوا: يعني مسجد الضرار. ريبة في قلوبهم:
سبب شك وازدياد نفاق في قلوبهم لا يضمحل أثره، ثم لما هدمه الرسول رسخ ذلك في
قلوبهم، وازداد بحيث لا يزول رسمه. إلا أن تقطع قلوبهم: قطعا بحيث لا يبقى لها قابلية
الإدراك والإضمار.
في الجوامع عن الصادق عليه السلام إنه قرأ (إلى أن تقطع والقمي: حتى تقطع
قلوبهم). وقرئ نقطع والله عليم: بنياتهم. حكيم: فيما أمر بهدم بنائهم.
القمي: فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مالك بن دخثم الخزاعي،
وعامر بن عدي أخا بني عمرو بن عوف على أن يهدموه ويحرقوه فجاء مالك فقال لعامر:
انتظرني حتى أخرج نارا من منزلي فدخل وجاء بنار وأشعل في سعف النخل ثم
أشعله في المسجد فتفرقوا، وقعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية ثم أمر بهدم حايطه.
(111) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة: تمثيل
لإثابة الله إياهم بالجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله. يقاتلون في سبيل الله
فيقتلون ويقتلون: استيناف ببيان ما لأجله الشرى، وقرئ بتقديم المبني للمفعول. وعدا
عليه حقا في التورية والإنجيل والقرآن: وعد ذلك على نفسه وعدا ثابتا مثبتا في
الكتب الثلاثة. ومن أوفى بعهده من الله: أي لا أحد أوفى بعهده من الله. فاستبشروا
ببيعكم الذي بايعتم به: فافرحوا به غاية الفرح إذ بعتم فانيا بباق، وزائلا بدائم. وذلك
هو الفوز العظيم.
(112) التائبون: رفع على المدح أي هم التائبون.
وفي قراءة الباقر والصادق عليهما السلام التائبين إلى قوله والحافظين رواها في
المجمع عنهما عليهما السلام اجراء على الصفة للمؤمنين.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام إنه تلا (تلي ظ) عنده (التائبون العابدون)،
فقال: لا، إقرأ (التائبين العابدين) إلى آخرها، فسئل عن العلة في ذلك، فقال: اشترى من
380

المؤمنين التائبين العابدين. العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين.
في الكافي: عن الصادق عليه السلام لما نزلت هذه الآية (إن الله اشترى من
المؤمنين) قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله أرأيتك الرجل
يأخذ سيفه فيقاتل حتى يقتل إلا أنه يقترف من هذه المحارم أشهيد هو؟ فأنزل الله على
رسوله (التائبون العابدون) الآية فبشر النبي المجاهدين من المؤمنين الذين هذه صفتهم
وحليتهم بالشهادة والجنة.
وقال: (التائبون): من الذنوب، (العابدون): الذين لا يعبدون إلا الله ولا يشركون به
شيئا، (الحامدون): الذين يحمدون على كل حال في الشدة والرخاء، (السائحون): الصائمون،
(الراكعون الساجدون): الذين يواظبون على الصلوات الخمس، (الحافظون): لها والمحافظون
عليها بركوعها وسجودها والخشوع فيها وفي أوقاتها الآمرون بالمعروف بعد ذلك،
والعاملون به، والناهون عن المنكر، والمنتهون عنه، قال: فبشر من قتل وهو قائم بهذه
الشروط بالشهادة والجنة الحديث.
أقول: إنما فسر السياحة بالصيام لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
سياحة أمتي الصيام.
وعنه عليه السلام لقى عباد البصري علي بن الحسين عليه السلام في طريق
مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته إن الله
اشترى من المؤمنين الآية، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: أتم الآية فقال: (التائبون
العابدون) الآية، فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم
فالجهاد معهم أفضل من الحج.
والقمي: لقى الزهري علي بن الحسين عليه السلام إلى آخر الحديث.
العياشي: قال: هم الأئمة عليهم السلام.
والقمي: قال نزلت الآية في الأئمة عليهم السلام لأنه وصفهم بصفة لا تجوز في
381

غيرهم فالآمرون بالمعروف: هم الذين يعرفون المعروف كله صغيره وكبيره ودقيقه وجليله،
والناهون عن المنكر: هم الذين يعرفون المنكر صغيره وكبيره، والحافظون لحدود الله: هم
الذين يعرفون حدود الله صغيرها وكبيرها، ودقيقها وجليلها ولا يجوز أن يكون بهذه
لصفة غير الأئمة عليهم السلام.
وفي نهج البلاغة: أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.
وفيه: فلا أموال بذلتموها للذي رزقها ولا أنفس خاطرتم (1) بها للذي خلقها.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام أنه سئل عن قول الله تعالى (إن الله اشترى)
الآية.
فقال: يعني في الميثاق، ثم قرأت عليه (التائبون العابدون)، فقال: لا إقرأها (التائبين
العابدين) إلى آخر الآية، وقال: إذا رأيت هؤلاء فعند ذلك هؤلاء اشترى منهم أنفسهم
وأموالهم يعني في الرجعة.
(113) ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي
قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم بموتهم على الشرك أو بوحي من الله
أنهم لن يؤمنوا.
(114) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما
تبين له أنه عدو لله تبرء منه: قطع استغفاره.
العياشي: عن الصادق عليه السلام أنه قال: ما يقول الناس في قول الله تعالى:
(وما كان استغفار إبراهيم لأبيه)؟ فقيل: يقولون: إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له، قال: ليس هو
هكذا، إن أبا إبراهيم وعده أن يسلم فاستغفر له، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وفي
رواية أخرى لما مات تبين له أنه عدو لله فلم يستغفر له.
أقول: لا ينافي هذا التفسير ما رواه القمي: إن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه:

1 - الخطر بالتحريك الاشراف على الهلاك وقوله خاطر بنفسه من استغنى برأيه وبئس الخطر لمن خاطر الله يترك
طاعته كلاهما من المخاطرة وهي ارتكاب ما فيه خطر وهلاك م‍.
382

إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك، فلما لم يدع الأصنام تبرأ منه، وذلك لجواز وقوع كلا
الوعدين وكون استغفار إبراهيم له مشروطا بإسلامه، وكون المراد بالوعد في هذه الآية
وعد أبيه إياه، ويدل على وعد إبراهيم إياه قوله تعالى: (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن
لك) إن إبراهيم لاواه حليم.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام.
وفي المجمع عن الصادق عليه السلام: الأواه: هو الدعاء.
والقمي: عن الباقر عليه السلام الأواه: المتضرع إلى الله في صلاته، وإذا خلا في
قفرة من الأرض، وفي الخلوات.
وقيل: هو الذي يكثر التأوه والبكاء، والدعاء، ويكثر ذكر الله عز اسمه.
(115) وما كان الله ليضل: قوما بعد إذ هديهم: للإسلام. حتى يبين لهم ما
يتقون: ما يجب اتقاؤه.
في الكافي، والعياشي، والتوحيد: عن الصادق عليه السلام حتى يعرفهم ما يرضيه
وما يسخطه. إن الله بكل شئ عليم: يعلم أمرهم في الحالين.
(116) إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون
الله من ولى ولا نصير يعني ولا يتأتى ولاية ولا نصرة إلا من الله فتوجهوا بشراشركم
إليه وتبروا عما عداه.
(117) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار.
في الاحتجاج: عن الصادق، وفي المجمع: عن الرضا عليه السلام
إنهما قرءا لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين.
والقمي: عن الصادق عليه السلام هكذا نزلت. وفي الاحتجاج: عن أبان بن
تغلب، فقلت له يا ابن رسول الله إن العامة لا تقرأ كما عندك، قال: وكيف تقرأ يا أبان
قال: قلت: إنها تقرأ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار، فقال: ويلهم وأي ذنب
383

كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تاب الله منه إنما تاب الله به على أمته.
الذين اتبعوه في ساعة العسرة (1).
القمي: في قصة تبوك هم أبو ذر، وأبو خيثمة، وعميرة بن وهب الذين تخلفوه ثم
لحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قوم من أهل ثبات وبصاير لم يكن يلحقهم شك ولا ارتياب، ولكنهم قالوا: نلحق
برسول الله، منهم أبو خيثمة (2) وكان قويا وكان له زوجتان وعريشان فكانتا زوجتاه قد رشتا (3)
عريشته (4)، قال: لا والله ما هذا بإنصاف، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر الله له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد خرج في الضح (5) والريح وقد حمل السلاح يجاهد في سبيل
الله، وأبو خيثمة قوي قاعد في عريشه وامرأتين حسناوين، لا والله ما هذا بإنصاف ثم
أخذ ناقته فشد عليها رحله فلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونظر الناس إلى
راكب على الطريق فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كن أبا خيثمة فكان أبا خيثمة، أقبل
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما كان فجزاه خيرا ودعا له، وكان أبو ذر تخلف عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام، وذلك أن جمله كان أعجف فلحق بعد
ثلاثة أيام ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه، وحمل ثيابه على ظهره.
فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: كن أبا ذر، فقالوا: هو أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

1 - وهي صعوبة الامر قال جابر يعني عسرة الزاد وعسرة الظهر وعسرة الماء والمراد بساعة العسرة وقت العسرة لان
الساعة تقع على كل زمان م‍ ن.
2 - بالخاء المفتوحة المعجمة والياء التحتانية الساكنة والثاء المثلثة والميم والهاء.
3 - أي طلبتنا ان تتخذاهما.
4 - العريش كالهودج وما عرش للكرم والبيت الذي يستظل به ق.
5 - الضح: الشمس وقولهم جاء فلان بالضح والريح أي بما طلعت عليه الشمس وما جرت عليه الريح يعني من
الكثرة (ص).
384

أدركوه بالماء فإنه عطشان، فأدركوه بالماء ووافى أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ومعه أداوة فيها ماء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له: يا أبا ذر معك ماء وعطشت؟ فقال:
نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السماء فذقته فإذا هو
عذب بارد، فقلت لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله له: يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك،
وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من العراق يتولون غسلك،
وتجهيزك، ودفنك.
وفي الجوامع: والعسرة: حالهم في غزوة تبوك كان يعتقب العشرة على بعير
واحد وكان زادهم الشعير المسوس، والتمر المدود، والإهالة (1) السنخة وبلغت الشدة بهم إلى
أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء (2)، وكانوا في حمازة القيظ، وفي
الضيقة الشديدة من القحط وقلة الماء. من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم: عن
الثبات على الايمان ومن اتباع الرسول في تلك الغزوة، وقرء تزيغ بالتاء، قيل: إن قوما منهم
هموا بالانصراف عن غزاتهم بغير استيذان فعصمهم الله حتى مضوا.
القمي: وكان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتبوك رجل يقال له:
المضرب، لكثرة ضرباته التي أصابته ببدر وأحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: عد لي أهل العسكر، فعددهم، فقال: هو خمسة وعشرون ألف رجل، سوى العبيد
والتباع، فقال: عد المؤمنين فقال: خمسة وعشرون رجلا. ثم تاب عليهم: إنه بهم رؤوف
رحيم: تداركهم برأفته ورحمته.
(118) وعلى الثلاثة الذين خلفوا:

1 - الإهالة كل هن يؤتدم به والسنخة بالمهملة والنون والخاء المعجمة الريح وحمازة القيظ بالحاء المهملة والزاي
شدته (منه رحمه الله).
2 - اي الماء المتغير م‍.
385

العياشي: عن الصادق عليه السلام هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال
ابن أمية. وفي المجمع: عن السجاد، والباقر، والصادق عليهم السلام إنهم قرؤا (خالفوا) (1).
والقمي: قال العالم عليه السلام: إنما نزل وعلى الثلاثة الذين خالفوا، ولو - خلفوا -
لم يكن عليهم عتب.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام لو كانوا خلفوا لكانوا في حال
طاعة. حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت: أي مع سعتها، وهو مثل لحيرتهم في
أمرهم كأنهم لا يجدون في الأرض موضع قرار وضاقت عليهم أنفسهم: أي قلوبهم من
فرط الوحشة، والغم. وظنوا: وعلموا. أن لا ملجأ من الله: من سخط الله. إلا إليه ثم تاب
عليهم: ثم رجع عليهم بالقبول.
في المعاني: عن الصادق عليه السلام هي الإقالة. ليتوبوا: ليعودوا إلى حالتهم
الأولى. إن الله هو التواب الرحيم: لمن تاب ولو عاد في اليوم مأة مرة، وقد مضى تحقيق
معنى التوبة من الله ومن العبد في سورة البقرة. والقمي: في قصة غزوة تبوك وقد كان
تخلف عن رسول الله قوم من المنافقين، وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في
نفاق، منهم: كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي.
فلما تاب الله عليهم، قال كعب: ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وما اجتمعت لي راحلتان إلا في ذلك
اليوم فكنت أقول: أخرج غدا أخرج بعد غد، فإني قوي وتوانيت وبقيت (2) بعد خروج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أياما أدخل السوق ولا أقضي حاجة فلقيت هلال بن
أمية، ومرارة بن الربيع، وقد كانا تخلفا أيضا فتوافقنا أن نبكر إلى السوق ولم نقض حاجة،
فما زلنا نقول: نخرج غدا وبعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

1 - وفي رواية العياشي الأخرى والكافي ان الثلاثة هم عثمان وصاحباه ان الله سلط عليهم الخوف فما سمعوا صوت
كافر ولا قعقعة حجرية الا قالوا اتينا فأقالهم الله وما تابوا فلعله تأويل للآية واجراء لها فيهم (منه رحمه الله).
2 - الوني كفتي التعب والفترة ضد ويمدوني يني ونيا وونيا ووني ونية وونية وونى واوناه وتوانى هو وناقة وآنية فاترة
طليح ق.
386

فندمنا، فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استقبلناه نهنيه بالسلامة، فسلمنا
عليه، فلم يرد علينا السلام، فأعرض عنا، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام، فبلغ
ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد ولا يكلمنا فجاءت
نساؤنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا
أفنعتزلهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن، فلما
رآى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حل بهم، قال: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ولا إخواننا ولا أهلونا فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال
فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت، فخرجوا إلى ذناب جبل بالمدينة فكانوا يصومون، وكان
أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية، ثم يولون عنهم فلا يكلمونهم، فبقوا على هذه
الحالة أياما كثيرة يبكون بالليل والنهار، ويدعون الله أن يغفر لهم، فلما طال عليهم الامر،
قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا، ورسوله قد سخط علينا وإخواننا سخطوا علينا،
وأهلونا سخطوا علينا، فلا يكلمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض، فتفرقوا في الليل
وحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه فبقوا على هذه ثلاثة
أيام كل منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه.
فلما كان في الليلة الثالثة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أم
سلمة نزلت توبتهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حتى إذا ضاقت
عليهم الأرض بما رحبت) حيث لم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا
إخوانهم، ولا أهلوهم، فضاقت المدينة عليهم حتى خرجوا منها، وضاقت عليهم أنفسهم
حيث حلفوا أن لا يكلم بعضهم بعضا فتفرقوا وتاب الله عليهم لما عرف صدق نياتهم.
(119) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين:
في الكافي: عن الباقر عليه السلام إيانا عنى. وعن الرضا عليه السلام
الصادقون: هم الأئمة عليهم السلام والصديقون بطاعتهم.
387

وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام قال مع آل محمد صلى الله عليه وآله
وسلم.
والقمي: قال: هم الأئمة عليهم السلام.
وفي الاكمال: عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال في مجمع من المهاجرين
والأنصار أيام خلافة عثمان أسألكم بالله أتعلمون أنه لما نزلت هذه الآية قال سلمان: يا
رسول الله عامة هذه الآية أم خاصة؟ فقال: أما المأمورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك، وأما
الصادقون فخاصة لأخي وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة، قالوا: اللهم نعم.
وفي المجمع: عن الصادق عليه السلام أنه قرأ (من الصادقين).
(120) ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن
رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه: بل عليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء،
ويكابدوا معه الشدائد برغبة ونشاط كما فعله أبو ذر وأبو خيثمة. ذلك بأنهم لا يصيبهم
ظمأ: شئ من العطش. ولا نصب: تعب. ولا مخمصة: مجاعة. في سبيل الله: في طريق
الجهاد. ولا يطأون: لا يدوسون بأرجلهم، وبحوافر خيولهم، وأخفاف رواحلهم. موطئا: موضعا.
يغيظ الكفار: وطأهم إياه ويضيق صدورهم بتصرفهم في أرضهم. ولا ينالون من عدو
نيلا: بقتل أو أسر أو نهب. إلا كتب لهم به عمل صلح: واستوجبوا الثواب عند الله. إن
الله لا يضيع أجر المحسنين. (121) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا: أرضا في
مسيرهم، والوادي: كل منعرج ينفذ فيه السيل. فشاع بمعنى الأرض. إلا كتب لهم: ذلك
الانفاق وقطع الوادي. ليجزيهم الله: بذلك. أحسن ما كانوا يعملون: جزاء أحسن أعمالهم،
أو أحسن جزاء أعمالهم.
(122) وما كان المؤمنون لينفروا كآفة: وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو
غزو وطلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا. فلولا نفر من كل فرقة منهم: فهلا
نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة. طائفة: جماعة قليلة. ليتفقهوا في الدين:
388

ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا (1) مشاق ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم: فيه
دلالة على أنه ينبغي أن يكون غرض المتفقه أن يستقيم (2) ويقيم. لا الترفع على الناس
والتبسط في البلاد. لعلهم يحذرون: إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه.
في العلل: عن الصادق عليه السلام أنه قيل له: إن قوما يروون أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: اختلاف أمتي رحمة، فقال صدقوا، فقيل: إن كان اختلافهم
رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قول الله عز وجل: (فلولا نفر
من كل فرقة) الآية فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويختلفوا
إليه فيتعلموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم إنما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في
دين الله، إنما الدين واحد.
وفي الكافي: قيل للصادق عليه السلام: إذا حدث على الامام حدث كيف
يصنع الناس؟ فقال: أين قول الله عز وجل: (فلولا نفر من كل فرقة) الآية، قال: قلت: فما حالهم؟
قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم
أصحابهم.
والعياشي عنه عليه السلام ما في معناه.
وفي المجمع: عن الباقر عليه السلام كان هذا حين كثر الناس فأمرهم أن ينفر
منهم طائفة، ويقيم طائفة للتفقه، وأن يكون الغزو نوبا.
أقول: يعني يبقى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة للتفقه وإنذار
النافرة فيكون النفر للغزو والقعود للتفقه.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام، والعياشي: عن الباقر عليه السلام تفقهوا
في الدين فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله يقول في كتابه: (ليتفقهوا في
الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم).

1 - جشم الامر كسمع جشما وجشامة تكلفه على مشقة كتجشمه ق.
2 - أي يستقيم نفسه ويقيم غيره.
389

(123) يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار: أمروا بقتال
الأقرب منهم فالأقرب، نظيره (وأنذر عشيرتك الأقربين)، فإن الأقرب أحق بالشفقة
والاستصلاح.
في الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام قال: الديلم. والقمي: يجب على
كل قوم أن يقاتلوا من يليهم ممن يقرب من الامام ولا يجوزوا ذلك الموضع. وليجدوا
فيكم غلظة: شدة وصبرا على القتال.
القمي: أي غلظوا لهم القول والقتل. واعلموا أن الله مع المتقين: بالحراسة
والإعانة.
(124) وإذا ما أنزلت سورة فمنهم: فمن المنافقين. من يقول: إنكارا واستهزاء.
أيكم زادته هذه: السورة. إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا: بزيادة العلم الحاصل من
تدبر السورة وانضمام الايمان بها وبما فيها. وهم يستبشرون: بنزولها، لأنه سبب زيادة
كمالهم وارتفاع درجاتهم.
القمي: وهو رد على من يزعم أن الايمان لا يزيد ولا ينقص.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام إن الله تبارك وتعالى فرض
الايمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها ثم بين صلى الله عليه وآله وسلم
ذلك، قيل: قد فهمت نقصان الايمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ قال: قول الله
تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول) الآية، وقال: (وزدناهم هدى)، ولو كان كله واحدا
لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، ولا استوت النعم فيه، ولا
استوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الايمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في
الايمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرطون النار. وقد مضى
لهذا المعنى زيادة بيان في سورة الأنفال.
(125) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم: القمي،
والعياشي: عن الباقر عليه السلام يقول: شكا إلى شكهم. وماتوا وهم كافرون:
390

القمي والعياشي عن الباقر يقول شكا إلى شكهم واستحكم ذلك فيهم حتى
ماتوا عليه.
(126) أولا يرون: يعني المنافقين. أنهم يفتنون: يبتلون بأصناف البليات أو
بالجهاد مع رسول الله فيعاينون ما يظهر عليهم من الآيات.
والقمي: يمرضون. في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون: من نفاقهم. ولا هم
يذكرون: لا يعتبرون.
(127) وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: تغامزوا بالعيون، إنكارا
لها وسخرية، أو غيظا لما فيها من عيوبهم. هل يريكم من أحد: أي يقولون: هل يريكم من
أحد من المسلمين إن قمتم وانصرفتم؟ فإنا لا نصبر على استماعه، وترامقوا يتشاورون في
تدبير الخروج والانسلال، فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد أقاموا. ثم انصرفوا:
تفرقوا مخافة الفضيحة. صرف الله قلوبهم: عن الايمان والانشراح به بالخذلان.
والقمي: عن الحق إلى الباطل باختيارهم الباطل على الحق. قيل: ويحتمل
الدعاء. بأنهم: بسبب أنهم. قوم لا يفقهون: لسوء فهمهم وعدم تدبرهم.
(128) لقد جاءكم رسول من أنفسكم: من جنسكم عربي.
القمي: مثلكم في الخلقة، قال: ويقرء (من أنفسكم) أي من أشرفكم. في الجوامع:
قيل: هو قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة عزيز عليه: شديد شاق. ما
عنتم: عنتكم ولقاؤكم المكروه.
والقمي: ما أنكرتم وجحدتم. حريص عليكم: على إيمانكم، وصلاح شأنكم حتى
لا يخرج أحد منكم عن الاستسعاد بدينه الذي جاء به. بالمؤمنين: منكم ومن غيركم.
رؤوف رحيم.
(129) فإن تولوا: عن الايمان بك. فقل حسبي الله: استعن بالله فإنه يكفيك
أمرهم وينصرك عليهم. لا إله إلا هو عليه توكلت: فلا أرجو غيره ولا أخاف إلا منه. وهو
391

رب العرش العظيم:
في التوحيد: عن الصادق عليه السلام أي الملك العظيم.
العياشي: عنه عليه السلام (رسول من أنفسكم) قال: فينا، (عزيز عليه ما عنتم) قال:
فينا، (حريص عليكم) قال: فينا، (بالمؤمنين رؤوف رحيم) قال: يشركنا المؤمنون في هذه الرابعة،
وثلاثة لنا. وفي رواية أخرى: فلنا ثلاثة أرباعها، ولشيعتنا ربعها.
وفي الكافي: عنه عليه السلام هكذا أنزل الله تعالى (لقد جاءنا رسول من
أنفسنا عزيز عليه ما عنتنا حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم).
وفي ثواب الأعمال، والعياشي: عن الصادق عليه السلام من قرأ سورة الأنفال
وسورة البراءة في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام،
وزاد العياشي: ويأكل يوم القيامة من موائد الجنة مع شيعته حتى يفرغ الناس من
الحساب.
392

سورة يونس
هي مكية في قول الأكثرين، وروي عن ابن عباس، وقتادة إلا ثلاث
آيات نزلت بالمدينة، (فإن كنت في شك) إلى آخرهن، عدد آيها مائة وتسع آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) الر: القمي: (الر) هو من حروف الاسم الأعظم المتقطع في القرآن، فإذا ألفه
الرسول أو الامام فدعا به أجيب.
أقول: وقد سبق مثله في تأويل (ألم) في أول سورة البقرة.
وفي المعاني: عن الصادق عليه السلام و (الر) معناه أنا الله الرؤف. تلك آيات
الكتاب الحكيم: ذي الحكمة، أو المحكم آياته.
(2) أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم: إنكار لتعجبهم من أنه عز
وجل بعث بشرا رسولا، كما سبق ذكره في سورة الأنعام أو من أنه سبحانه بعث يتيما غير
ذي جاه ومال وبسطة، وهذا من فرط حماقتهم، وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم
بحقيقة الوحي والنبوة. أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم:
أي سابقة وفضلا، سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها باليد تعطى،
وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم ينالونها بصدق القول والنية.
في المجمع: عن الصادق عليه السلام أن معنى: (قدم صدق) شفاعة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الكافي، والعياشي، والقمي: عنه عليه السلام هو رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم.
393

أقول: وهذا يرجع إلى ذلك.
وفي الكافي، والعياشي: عنه عليه السلام بولاية أمير المؤمنين عليه السلام.
أقول: وهذا لأن الولاية من شروط الشفاعة، وهما متلازمتان. قال الكافرون
إن هذا: يعنون الكتاب وما جاء به الرسول لسحر مبين: وقرئ لساحر على أن الإشارة إلى
الرسول، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا منه أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة.
(3) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى
على العرش: قد سبق تفسيره في سورة الأعراف عند ذكر آية السخرة. يدبر الأمر: يقدره
ويقضيه ويرتبه في مراتبه على أحكام عواقبه، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجئ
محمودة العاقبة، والامر أمر الخلق كله. ما من شفيع إلا من بعد إذنه: تقرير لعظمته وعز
جلاله ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله. ذلكم الله: أي الموصوف بتلك
الصفات المقتضية للألوهية والربوبية. ربكم: لا غير إذ لا يشاركه أحد في شي من ذلك.
فاعبدوه: وحده، لا تشركوا به شيئا. أفلا تذكرون: يعني أنه أدنى تذكر ينبه على الخطأ فيما
أنتم عليه، وعلى أنه المستحق للعبادة لا ما تعبدونه.
(4) إليه مرجعكم جميعا: إليه رجوعكم في العاقبة فاستعدوا للقائه. وعد الله
حقا: وعد وعدا حقا. إنه يبدء الخلق ثم يعيده ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات
بالقسط: بعدله أو بعدالتهم في أمورهم. والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم
بما كانوا يكفرون: قيل: غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب، والتنبيه على أن
المقصود بالذات من الابداء والإعادة هو الإثابة، وأما العقاب فواقع بالعرض وأنه تعالى
يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء
ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم.
(5) هو الذي جعل الشمس ضياء: وقرئ بهمزتين حيث وقع. والقمر نورا وقدره
منازل: وقدر القمر ذا منازل، أو قدر مسيره منازل، وهذا كقوله سبحانه: (والقمر قدرناه
منازل). لتعلموا عدد السنين والحساب: حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي. ما
394

خلق الله ذلك إلا بالحق: الذي هو الحكمة البالغة. يفصل الآيات لقوم يعلمون: وقرئ
بالياء، فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها.
(6) إن في اختلاف الليل والنهار وما (1) خلق الله في السماوات والأرض
لآيات لقوم يتقون: العواقب.
(7) إن الذين لا يرجون لقاءنا: لا يتوقعونه لإنكارهم البعث وذهولهم
بالمحسوسات عما وراءها. ورضوا بالحياة الدنيا: من الآخرة لغفلتهم عنها. واطمأنوا
بها وسكنوا إليها سكون من لا يزعج عنها والذين هم عن آياتنا غافلون (2) ذاهبون عن
تأملها ذاهلون عن النظر فيها.
(8) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون: بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي.
(9) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم: بسبب إيمانهم
للاستقامة على سلوك الطريق المؤدي إلى الجنة. تجرى من تحتهم الأنهار في جنات
النعيم: لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها.
(10) دعويهم فيها سبحانك اللهم: دعاؤهم فيها اللهم إنا نسبحك تسبيحا.
العياشي: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن التسبيح؟ فقال: اسم من أسماء
الله تعالى، ودعوى أهل الجنة. وتحيتهم فيها سلام وآخر دعويهم: وخاتمة دعائهم. أن الحمد
لله رب العلمين.
(11) ولو يعجل الله للناس الشر: الذي دعوا به عند ضجر أو بطر كقولهم:
(رفعني الله من بينكم)، وكقولهم: (فأمطر علينا حجارة من السماء، أو الشر الذي استحقوه).
استعجالهم بالخير: كما يعجل لهم بالخير ويجيبهم إليه حين استعجلوه، قيل: وضع استعجالهم

1 - أي فعله فيما على ما يقتضيه الحكمة في السماوات من الأفلاك والكواكب السيارة وغير السيارة وفي الأرض من
الحيوان والنبات والحماد وأنواع الأرزاق والنعم م‍ ن.
2 - قال عليه السلام الآيات أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام والدليل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام ما
لله آية أكبر مني.
395

بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير حتى كان استعجالهم به
تعجيل لهم. لقضى إليهم أجلهم: لأميتوا وأهلكوا، وقرئ (لقضى) على البناء للفاعل.
القمي: قال: ولو يعجل الله لهم الشر كما يستعجلون الخير لقضي إليهم أجلهم،
أي فرغ من أجلهم. فنذر الذين لا يرجون لقائنا في طغيانهم يعمهون: يعني لا نعجل
لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم بل نمهلهم إمهالا.
(12) وإذا مس الإنسان الضر دعانا: لدفعه مخلصا فيه. لجنبه: أي مضطجعا.
أو قاعدا أو قائما: يعني أنه لا يزال داعيا في جميع حالاته لا يفتر حتى يزول عنه الضر.
فلما كشفنا عنه ضره مر: على طريقته الأولى قبل أن مسه الضر أو مر عن موقف
الدعاء والتضرع لا يرجع إليه. كأن لم يدعنا: كأنه لم يدعنا. إلى ضر مسه: كشف الضر.
كذلك: مثل ذلك التزيين. زين للمسرفين ما كانوا يعملون: من الانهماك في الشهوات
والاعراض عن العبادات عند الرخاء.
(13) ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا: بالتكذيب. وجائتهم رسلهم
بالبينات: بالحجج الدالة على صدقهم. وما كانوا ليؤمنوا: لفساد استعدادهم وخذلان الله
لعلمه بإصرارهم على الكفر وأنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن لزمهم الحجة بإرسال الرسل.
كذلك نجزى القوم المجرمين: كل مجرم.
(14) ثم جعلناكم خلائف في الأرض: استخلفناكم في الأرض. من بعدهم:
من بعد القرون التي أهلكناهم. لننظر كيف تعملون: خيرا أو شرا.
(15) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقائنا ائت بقرآن
غير هذا: قرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذم عبادة الأوثان، والوعيد لعابديها. أو بدله (1):
بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة، وذم عبادتها. قل ما يكون (2) لي: (3) ما

1 - أي العليل الذي لا يقدر أن يجلس أو قاعدا الذي لا يقدر أن يقوم أو قائما الصحيح.
2 - في الكافي والقمي والعياشي عن الصادق عليه السلام قالوا وبدل عليا عليه السلام منه رحمه الله.
3 - ومن استدل بهذه الآية على أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز فقد ابعد لأنه إذا نسخ القرآن بالسنة وما يقوله النبي صلى الله عليه وآله فإنما يقول بالوحي من الله ينسخ القرآن ولم يبدله من قبل نفسه بل يكون تبديله من قبل الله تعالى ولكن لا يكون قرآنا ويؤيد ذلك قوله وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى من.
396

يصح لي. أن أبدله من تلقاء نفسي: من قبل نفسي من غير أن يأمرني بذلك ربي. إن أتبع
إلا ما يوحى إلى: ليس إلي تبديل ولا نسخ. إني أخاف إن عصيت ربى: في التبديل
والنسخ من عند نفسي. عذاب يوم عظيم.
(16) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به: ولا أعلمكم الله
به على لساني، وقرئ ولأدراكم بلام التأكيد أي ولأعلمكم به على لسان غيري، يعني
أن تلاوته ليست إلا بمشية الله وإحداثه أمرا عجيبا خارقا للعادة، وهو أن يخرج رجل
أمي لم يتعلم ساعة من عمره ولا نشأ (1) في بلد فيه العلماء فيقرأ عليكم كتابا بهر
بفصاحته كل كلام فصيح مسحونا بعلم ما كان وما يكون. فقد لبثت فيكم عمرا من
قبله: فقد أقمت فيما بينكم ناشيا وكهلا مقدار أربعين سنة فلم تعرفوني متعاطيا شيئا
من نحو ذلك فتتهموني باختراعه. أفلا تعقلون: أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر
لتعلموا أنه ليس إلا من عند الله.
(17) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح
المجرمون.
(18) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء
شفعاؤنا عند الله: تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا والآخرة. قل أتنبئون الله بما لا يعلم
في السماوات ولا في الأرض: أتخبرونه بما ليس بمعلوم للعالم بجميع المعلومات، يعني بما
ليس بموجود. سبحانه وتعالى عما يشركون: وقرئ بالتاء، القمي: كانت قريش يعبدون
الأصنام ويقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فإنا لا نقدر على عبادة الله، فرد الله
عليهم، فقال: قل لهم يا محمد: (أتنبئون الله بما لا يعلم) أي ليس يعلم فوضع حرفا مكان
حرف، أي ليس له شريك يعبد.
(19) وما كان الناس إلا أمة واحدة: يعني قبل بعث نوح كانوا على الفطرة

1 - نشأ كمنع شب والناشئ الغلام جاز حد الصغر ق.
397

لا مهتدين ولا ضلالا كما مضى بيانه في سورة البقرة عند تفسير هذه الكلمة. فاختلفوا:
باتباع الهوى، وببعثة الرسل فتبعهم طائفة وأضرب أخرى. ولولا كلمة سبقت من ربك:
بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة. لقضى بينهم: عاجلا. فيما فيه يختلفون: ولتميز المحق
من المبطل، ولكن الحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار للتكليف والاختبار، وتلك للثواب
والعقاب.
(20) ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه: أي من الآيات التي اقترحوها.
فقل إنما الغيب لله: هو المختص بعلمه، ولكل أمر أجل. فانتظروا: لنزول ما اقترحتموه.
إني معكم من المنتظرين: لما يفعل الله بكم.
(21) وإذا أذقنا الناس رحمة: صحة وسعة. من بعد ضراء مستهم: كمرض
وقحط. إذا لهم مكر: فاجأوا وقوع المكر منهم. في آياتنا: بالطعن والاحتيال في دفعها، قيل:
قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون، ثم لما رحمهم الله بالمطر طفقوا يقدحون في
آيات الله، ويكيدون رسوله. قل الله أسرع مكرا: منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا
كيدكم، والمكر: إخفاء الكيد، وهو من الله تعالى الاستدراج، والجزاء على المكر. إن رسلنا
يكتبون ما تمكرون: إعلام بأن ما يظنونه خافيا غير خاف على الله وتحقيق للانتقام.
(22) هو الذي يسيركم: يحملكم على السير ويمكنكم منه بتهيئة أسبابه. في
البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك: في السفن. وجرين بهم: بمن فيها، عدل عن
الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم ليتعجب من حالهم. بريح طيبة: لينة
الهبوب. وفرحوا بها: بتلك الريح. جاءتها: جاءت السفن. ريح عاصف: شديدة الهبوب.
وجاءهم الموج من كل مكان: من أمكنة الموج. وظنوا أنهم أحيط بهم: أي أهلكوا يعني
سدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاطت به العدو، وهو مثل في الهلاك. دعوا الله
مخلصين له الدين: لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه. لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من
الشاكرين: على إرادة القول.
(23) فلما أنجيهم: إجابة لدعائهم. إذا هم يبغون في الأرض: فاجأوا الفساد
398

فيها، وسارعوا إلى ما كانوا عليه. بغير الحق: مبطلين فيه، وهو احتراز عن تخريب المسلمين
ديار الكفرة فإنها إفساد بحق. يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم: فإن وباله عليكم
أو أنه على أمثالكم وأبناء جنسكم. متاع الحياة الدنيا: منفعة الحياة الدنيا لا تبقى ويبقى
عقابها، وهو خبر بغيكم أو خبر محذوف، وقرئ بالنصب أي يتمتعون متاع الحياة الدنيا.
العياشي: عن الصادق عليه السلام ثلاث يرجعن على صاحبهن: النكث،
والبغي، والمكر، ثم تلا هذه الآية. ثم إلينا مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون.
(24) إنما مثل الحياة الدنيا: حالها العجيبة في سرعة تقضيها، وذهاب نعيمها
بعد اقبالها، واغترار الناس بها. كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما
يأكل الناس والانعام: من الزروع والبقول والحشيش. حتى إذا أخذت الأرض زخرفها:
زينتها. وازينت: وتزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس أخذت من
ألوان الثياب والزين فتزينت بها. وظن أهلها أنهم قادرون عليها: متمكنون من حصدها
ورفع غلتها. أتاها أمرنا: ضربها عاهة وآفة بعد أمنهم وإيقانهم أن قد سلم. ليلا أو نهارا
فجعلناها: فجعلنا زرعها. حصيدا: شبيها بما يحصد من الزرع من أصله. كأن لم تغن
بالأمس: كأن لم يوجد زرعها فيما قبله، والأمس: مثل في الوقت القريب، والممثل به في
الآية مضمون الحكاية، وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما (1) بعد ما كان غضا
والتف وزين الأرض حتى طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الآفات، لا الماء و (إن) وليه
حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون: فإنهم
المنتفعون به.
(25) والله يدعوا إلى دار السلام: أي دار الله.
في المعاني: عن الباقر عليه السلام في هذه الآية قال: إن السلام: هو الله عز
وجل، وداره التي خلقها لعباده وأوليائه: الجنة. ويهدى من يشاء: بالتوفيق. إلى صراط

1 - الحطام ما يحطم عن عيدان الزرع إذا يبس من حطم الشئ حطما من باب تعب إذا انكسر وحطمه حطما من
باب ضرب فانحطم م‍.
399

مستقيم: الذي هو طريقها.
(26) للذين أحسنوا الحسنى: المثوبة الحسنى. وزيادة: وما يزيد على المثوبة
تفضلا.
القمي: هي النظر إلى رحمة الله.
وعن الباقر عليه السلام أما الحسنى: فالجنة، وأما الزيادة: فالدنيا، ما أعطاهم الله
في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة، ويجمع لهم ثواب الدنيا والآخرة.
وفي المجمع: عن أمير المؤمنين عليه السلام الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة، لها
أربعة أبواب. ولا يرهق وجوههم: ولا يغشاها. قتر: غبرة فيها سواد. ولا ذلة: أثر هوان.
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون: دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها.
(27) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أي أن تجازى سيئة بسيئة
مثلها لا يزاد عليها، وفيه دلالة على أن المراد بالزيادة: الفضل. وترهقهم ذلة ما لهم من
الله من عاصم: لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه، أو مالهم من عند الله من
يعصمهم كما يكون للمؤمنين. كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما: لفرط
سوادها وظلمتها، وقرئ قطعا بسكون الطاء. أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:
القمي: عن الباقر عليه السلام هؤلاء أهل البدع والشبهات والشهوات يسود
الله وجوههم ثم يلقونه، قال: ويلبسهم الذلة والصغار.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام أما ترى البيت إذا كان الليل
كان أشد سوادا، فكذلك هم يزدادون سوادا.
(28) ويوم نحشرهم جميعا: يعني الفريقين. ثم نقول للذين أشركوا مكانكم:
ألزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم: ففرقنا
بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم،
والقمي: يبعث الله نارا تزيل بين (1) الكفار والمؤمنين. وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا

1 - زيلته فنزيل أي فرقته فتفرق ص.
400

تعبدون: لأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهوائهم التي حملتهم على الاشراك لا ما أشركوا به
أو الشياطين حيث أمروهم أن يتخذوا لله أندادا فأطاعوهم.
(29) فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم: فإنه العالم بكنه الامر. إن كنا: أنه كنا.
عن عبادتكم لغافلين.
(30) هنالك: في ذلك المقام. تبلو كل نفس ما أسلفت: تختبر ما قدمت من
عمل فتعاين نفعه وضره، وقرء تتلو أي تقرء من التلاوة أو تتبع من التلو. وردوا إلى الله
موليهم الحق: ربهم الصادق ربوبيته، المتولي لأمرهم على الحقيقة، لا ما اتخذوه مولى.
وضل عنهم: وضاع عنهم. ما كانوا يفترون: يدعون أنهم شركاء الله وأنهم تشفع لهم.
(31) قل من يرزقكم من السماء والأرض جميعا بأسباب سماوية وأرضية.
أمن يملك السمع والأبصر: من يستطيع خلقهما وتسويتهما وحفظهما من الآفات
مع كثرتها وسرعة انفعالهما من أدنى شئ. ومن يخرج الحي من الميت ويخرج
الميت من الحي: من يحيي ويميت. ومن يدبر الامر: ومن يلي تدبير أمر العالم. فسيقولون
الله: إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه. فقل أفلا تتقون: عقابه
في عبادة غيره.
(32) فذلكم الله ربكم الحق: أي المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة: هو
ربكم الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم. فماذا بعد الحق
إلا الضلال: يعني: لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال. فأنى تصرفون:
عن الحق.
(33) كذلك حقت كلمت ربك: وحكمه. على الذين فسقوا: تمردوا في كفرهم
وخرجوا عن الرشد. أنهم لا يؤمنون: بدل من الكلمة، أي حق عليهم انتفاء الايمان أو
أريد بالكلمة العدة بالعذاب، وهذا تعليل له وقرئ كلمات.
(34) قل هل من شركائكم من يبدؤ الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤ الخلق
ثم يعيده فأنى تؤفكون: جعل الإعادة كالإبداء في الالزام بها لظهور برهانها وإن لم
401

يساعدوا عليها ولذلك أمر الرسول بأن ينوب عنهم في الجواب.
(35) قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق: بنصب الحجج وإرسال
الرسل، والتوفيق للنظر والتدبر. قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع
أمن لا يهدى: لا يهتدي، وقرئ بفتح الهاء وتشديد الدال وبالكسر والتشديد. إلا أن
يهدى: يهديه غيره.
القمي: عن الباقر عليه السلام فأما من يهدي إلى الحق فهو محمد وآل محمد
عليهم السلام من بعده، وأما من لا يهدي فهو من خالف من قريش وغيرهم أهل بيته
من بعده. فما لكم كيف تحكمون: بالباطل.
(36) وما يتبع أكثرهم إلا ظنا مستندا إلى خيالات فاسدة. إن
الظن لا يغنى من الحق: من الاعتقاد الحق. شيئا إن الله عليم بما يفعلون: وعيد على
اتباعهم الظن وإعراضهم عن البرهان.
(37) وما كان: ما صح وما استقام. هذا القرآن أن يفترى من دون الله: أن
يكون افتراء من الخلق. ولكن تصديق الذي بين يديه: من الكتب المنزلة لأنه معجز
دونها وهو عيار عليها شاهد لصحتها. وتفصيل الكتاب: وتبيين ما شرع وفرض من
الاحكام من قوله كتاب الله عليكم. لا ريب فيه من رب العالمين.
(38) أم يقولون: بل أيقولون؟ افتراه: اختلقه. قل: إن افتريته كما زعمتم. فأتوا
بسورة مثله: في البلاغة، وحسن النظم على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية
والفصاحة. وادعوا من استطعتم: أن تدعوه للاستعانة به على الاتيان بمثله. من دون الله:
سوى الله فإنه وحده قادر على ذلك لا غير. إن كنتم صادقين: إنه افتراء.
(39) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله: بل كذبوا بالقرآن قبل
أن يعلموا كنه أمره، ويقفوا على تأويله ومعانيه. لنفورهم عما يخالف ما ألفوه من دين
آبائهم ولو لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الاخبار بالغيوب، أي عاقبته حتى يتبين لهم
أهو كذب أم صدق، يعني أنه كتاب معجز من جهتين: إعجاز نظمه، وما فيه من الاخبار
402

بالغايبات فسارعوا إلى التكذيب قبل أن ينظروا في بلوغه حد الاعجاز، وقبل أن
يختبروا إخباره بالمغيبات.
العياشي: عن الباقر عليه السلام أنه سئل عن الأمور العظام من الرجعة
وغيرها، فقال: إن هذا الذي تسألوني عنه لم يأت أوانه قال الله: (بل كذبوا بما لم يحيطوا
بعلمه
ولما يأتهم تأويله)، ومثله: عن الصادق عليه السلام.
والقمي: قال: نزلت في الرجعة كذبوا بها أي أنها لا تكون.
في الكافي، والمجمع، والعياشي: عن الصادق عليه السلام إن الله خص هذه الآية
بآيتين من كتابه ألا يقولوا ما لا يعلمون، وأن لا يردوا ما لا يعلمون، ثم قرأ (ألم يؤخذ
عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) وقوله: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه
ولما يأتهم تأويله). كذلك كذب الذين من قبلهم: أنبياءهم. فانظر كيف كان عاقبة
الظالمين: وعيد لهم بما عوقب به من قبلهم.
(40) ومنهم من يؤمن به: في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند، أو ومنهم من
يؤمن به في المستقبل. ومنهم من لا يؤمن به: في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره أو فيما
يستقبل ويصر على الكفر.
القمي: عن الباقر عليه السلام هم أعداء محمد وآل محمد عليهم السلام من
بعده. وربك أعلم بالمفسدين: بالمعاندين أو المصرين.
(41) وإن كذبوك: وإن يئست من إجابتهم وأصروا على تكذيبك. فقل لي
عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون: لا تؤاخذون بعملي
ولا أؤاخذ بعملكم، يعني تبرأ منهم وخلهم فقد أعذرت إليهم، قيل: هي منسوخة بآية
القتال.
(42) ومنهم من يستمعون إليك: إذا قرأت القرآن وعلمت الشرايع ولكن لا
يقبلون كالأصم الذي لا يسمع. أفأنت تسمع الصم: تقدر على اسماعهم. ولو كانوا لا
403

يعقلون: ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم.
وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه، ولهذا لا
يوصف به البهائم وهو لا يأتي إلا باستعمال العقل السليم في تدبره، وعقولهم لما كانت
مؤفة بمعارضة الوهم ومشايعة الألف والتقليد تعذر أفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم
ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.
(43) ومنهم من ينظر إليك: ويعاينون دلالات نبوتك ولكن لا يصدقون.
أفأنت تهدى العمى: تقدر على هدايتهم. ولو كانوا لا يبصرون: وإن انضم إلى عدم
البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الابصار هو الاعتبار والاستبصار، والعمدة في
ذلك البصيرة، ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن ما لا يدركه البصير الأحمق
والآية مؤكدة للأمر بالتبري والاعراض عنهم.
(44) إن الله لا يظلم الناس شيئا لا ينقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم من
الحواس والعقول. ولكن الناس أنفسهم يظلمون: بإفسادها وتفويت منافعها عليهم.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام إن الله الحليم العليم إنما غضبه على من لم
يقبل منه رضاه، وإنما يمنع من لم يقبل منه عطاءه، وإنما يضل من لم يقبل منه هداه
الحديث.
(45) ويوم نحشرهم: وقرئ بالياء. كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار:
يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو القبور لهول ما يرون. يتعارفون بعضهم
بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، قيل: إن ذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع
التعارف لشدة الامر عليهم. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين.
(46) وإما نرينك بعض الذي نعدهم: من العذاب في حيوتك كما أراه يوم
بدر.
القمي: من الرجعة وقيام القائم عليه السلام. أو نتوفينك: قبل أن نريك. فإلينا
مرجعهم: فنريكه في الآخرة. ثم الله شهيد على ما يفعلون: مجاز عليه ذكر الشهادة وأراد
404

مقتضاها ولذلك رتبها على الرجوع بثم أو المراد يشهد على أفعالهم يوم القيامة.
(47) ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم: بالبينات فكذبوه أو يوم القيامة
ليشهد عليهم. قضي بينهم: بين الرسول ومكذبيه. بالقسط: بالعدل، فأنجى الرسول، وعذب
المكذبون. وهم لا يظلمون.
العياشي: عن الباقر عليه السلام تفسيرها في الباطن أن لكل قرن من هذه
الأمة رسولا من آل محمد - صلوات الله عليهم - يخرج إلى القرآن الذي هو إليهم رسول
وهم الأولياء، وهم الرسل، وأما قوله: (فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط) فإن معناه أن
رسل الله يقضون بالقسط وهم لا يظلمون.
(48) ويقولون متى هذا الوعد: استعجال لما وعدوا من العذاب، أو استبعاد
له. إن كنتم صادقين: شاركوا النبي والمؤمنين في الخطاب.
(49) قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا فكيف أملك لكم الضر. إلا ما شاء
الله: أن أملكه أو ما شاء وقوعه فيقع. لكل أمة أجل: لهلاكهم. إذا جاء أجلهم فلا
يستأخرون ساعة ولا يستقدمون: إذا جاء ذلك الأجل أنجز وعدكم.
العياشي: عن الصادق عليه السلام هو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر.
(50) قل أرأيتم: أخبروني. إن أتيكم عذابه: الذي تستعجلونه. بياتا: وقت بيات
واشتغال بالنوم. أو نهارا: حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم. ماذا يستعجل منه المجرمون:
أي شئ من العذاب يستعجلونه وليس شئ منه يوجب الاستعجال، وضع المجرمون
موضع الضمير للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا لمجئ الوعيد لا أن
يستعجلوه.
القمي: عن الباقر عليه السلام هذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل
القبلة، وهم يجحدون نزول العذاب عليهم.
وفي المجمع: عنه عليه السلام ما في معناه.
405

(51) أثم إذا ما وقع آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الايمان به. ألآن: على
إرادة القول، أي قيل لهم: إذا آمنوا بعد وقوع العذاب الآن آمنتم. وقد كنتم به
تستعجلون: تكذيبا واستهزاء.
(52) ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم
تكسبون: من الكفر والمعاصي.
(53) ويستنبؤنك: ويستخبرونك. أحق هو: أحق ما تقول من الوعد والوعيد
وغير ذلك (1).
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام ما تقول في علي عليه السلام.
وفي المجالس عن الباقر عليه السلام ويستنبئك أهل مكة عن علي إمام هو.
والقمي: مثله. قل إي وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين: فايتين إياه.
(54) ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض من خزائنها وأموالها.
لافتدت به: لجعلته فدية لها من العذاب. وأسروا الندامة لما رأوا العذاب: لأنهم بهتوا بما
عاينوا مما لم يحتسبوه من فظاعة الامر وهوله.
القمي: ظلمت يعني آل محمد - صلوات الله عليهم - حقهم لافتدت به، يعني في الرجعة.
في المجمع، والقمي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام إنه سئل ما ينفعهم
إسرار الندامة وهم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الأعداء. وقضى بينهم بالقسط: بين
الظالمين والمظلومين. وهم لا يظلمون.
(55) ألا إن لله ما في السماوات والأرض: تقرير لقدرته تعالى على الإثابة
والعقاب. ألا إن وعد الله حق: لا خلف فيه. ولكن أكثرهم لا يعلمون: لأن علمهم لا
يتجاوز الظاهر من الحياة الدنيا.

1 - وهذا الاستخبار منهم يحتمل أن يكون إنما وقع منهم على وجه التعريف والاستفهام ويحتمل أن يكون وقع على
وجه الاستهزاء م ن.
406

(56) هو يحيي ويميت وإليه ترجعون.
(57) يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور
وهدى ورحمة للمؤمنين: أي قد جائكم كتاب جامع لهذه الفوائد.
في الإهليلجة: عن الصادق عليه السلام إنه شفاء من أمراض الخواطر،
ومشتبهات الأمور.
وفي الكافي: في الحديث القدسي من نفث الشيطان (1).
والعياشي: عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أنه شكا إليه رجل وجعا في صدره فقال استشف بالقرآن فإن الله يقول:
(وشفاء لما في الصدور).
والقمي: قال: بعد ذكر الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والقرآن.
(58) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا: أي إن فرحوا بشئ فبهما
ليفرحوا. هو خير مما يجمعون: من حطام الدنيا، وقرئ بالتاء.
في المجمع، والجوامع: عن الباقر عليه السلام فضل الله: رسول الله، ورحمته: علي
ابن أبي طالب.
وزاد القمي: فبذلك فليفرح شيعتنا هو خير مما أعطوا أعداءنا من الذهب
والفضة.
والعياشي: عن أمير المؤمنين عليه السلام ما في معناه.
وفي المجالس: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضل الله: نبوة نبيكم، ورحمته:
ولاية علي بن أبي طالب، فبذلك: قال: بالنبوة والولاية، فليفرحوا: يعني الشيعة، هو خير مما
يجمعون: يعني مخالفيهم من الأهل والمال والولد في دار الدنيا.

1 - النفث شبه بالنفخ وهو أقل من التفل لان التفل لا يكون الا ومعه شئ من الريق والنفث نفخ لطيف بلا ريق
وفي الدعاء وأعوذ بك من نفث الشيطان وهو ما يلقيه في قلب الانسان ويوقعه في باله مما يصطاده به ونفث الشيطان على لسانه
اي القى فتكلم ومن هذا لم يزل الامام مدفوعا عنه نفوث كل غاسق م.
407

والعياشي: عن الباقر عليه السلام ما يقرب منه.
(59) قل أرءيتم: أخبروني. ما أنزل الله لكم من رزق: حلال كله. فجعلتم
منه حراما وحلالا: فجعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا مثل (هذه أنعام وحرث حجر) (ما في
بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا). قل أالله أذن لكم: في التحريم
والتحليل فيقولون: ذلك بحكمه. أم على الله تفترون: في نسبة ذلك إليه.
(60) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب أي شئ ظنهم. يوم القيامة:
أيحسبون أن لا يجازوا عليه وهو تهديد عظيم حيث أبهم الامر. إن الله لذو فضل على
الناس: بما فعل بهم من ضروب الانعام. ولكن أكثرهم لا يشكرون: نعمه.
(61) وما تكون: يا محمد. في شأن: في أمر. وما تتلو منه: من الشأن. من قرءان
ولا تعملون: أنتم جميعا. من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه: تخوضون فيه
وتندفعون.
في المجمع: عن الصادق عليه السلام والقمي: قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم إذا قرئ هذه الآية بكى بكاء شديدا. وما يعزب عن ربك: وما يبعد وما
يغيب عن علمه، وقرئ بكسر الزاي. من مثقال ذرة: ما يوازن نملة صغيرة أو هباء. في
الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين: إستناف
مقرر لما قبله، وقرئ بالرفع فيهما.
(62) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم: من لحوق مكروه. ولا هم يحزنون:
بفوات مأمول.
(63) الذين آمنوا وكانوا يتقون: بيان لأولياء الله أو استيناف خبره ما بعده.
العياشي: عن أمير المؤمنين عليه السلام هم نحن، وأتباعنا ممن تبعنا من بعدنا
طوبى لنا، وطوبى لهم، وطوباهم أفضل من طوبانا، قيل: ما شأن طوباهم أفضل من
طوبانا؟ ألسنا نحن وهم على أمر؟ قال: لا، أنهم حملوا ما لم تحملوا، وأطاقوا ما لم تطيقوا.
408

وفي الاكمال: عن الصادق عليه السلام طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره
في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون.
وفي الجوامع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه سئل عن أولياء الله؟ فقال:
هم الذين يذكرون الله برؤيتهم يعني في السمت والهيئة.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
عرف الله وعظمه منع فاه من الكلام، وبطنه عن الطعام، وعنى نفسه بالصيام والقيام،
قالوا بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله؟ قال: إن أولياء الله سكتوا فكان
سكوتهم ذكرا، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة، ومشوا فكان مشيهم
بين الناس بركة، لولا الآجال التي كتبت عليهم لم تقر أرواحهم في أجسادهم خوفا من
العذاب وشوقا إلى الثواب.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام قال: وجدنا في كتاب علي بن الحسين عليه
السلام (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) إذا أدوا فرض الله، وأخذوا بسنن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتورعوا عن محارم الله، وزهدوا في عاجل زهرة
الدنيا، ورغبوا فيما عند الله، واكتسبوا الطيب من رزق الله لا يريدون التفاخر والتكاثر،
ثم أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة. فأولئك الذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا
ويثابون على ما قدموا لآخرتهم. وفي المجمع: عن السجاد عليه السلام مثله.
(64) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الآخرة.
في الكافي، والفقيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والقمي: (البشرى في
الحياة الدنيا): هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشر بها في دنياه.
وزاد في الفقيه: وأما قوله (في الآخرة): فإنها بشارة المؤمن عند الموت يبشر بها
عند موته، إن الله عز وجل قد غفر لك ولمن يحملك إلى قبرك.
والقمي: (وفي الآخرة): عند الموت، وهو قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين
409

يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة).
وفي الجوامع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي في الدنيا الرؤيا الصالحة
يراها المؤمن لنفسه، أو يرى له، وفي الآخرة الجنة.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام في هذه الآية يبشرهم بقيام القائم، وبظهوره،
وبقتل أعدائهم، وبالنجاة في الآخرة، والورود على محمد وآله الصادقين على الحوض.
وعن الصادق عليه السلام إن الرجل إذا وقعت نفسه في صدره يرى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له أنا رسول الله أبشر، ثم يرى علي بن أبي طالب
عليه السلام فيقول له: أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحبه، أنا أنفعك اليوم، قال: وذلك
في القرآن قوله عز وجل: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي
الآخرة).
وفيه، والعياشي: في معناه أخبار أخر.
والعياشي: عن الباقر عليه السلام إنما أحدكم حين يبلغ نفسه هيهنا ينزل عليه
ملك الموت فيقول له: أما ما كنت ترجو فقد أعطيته، وأما ما كنت تخافه فقد أمنت منه
ويفتح له باب إلى منزله من الجنة، ويقال له: انظر إلى مسكنك من الجنة، وانظر هذا رسول
الله وأمير المؤمنين والحسن والحسين - صلوات الله عليهم - رفقاؤك وهو قول الله تبارك وتعالى
وتقدس: (الذين آمنوا وكانوا يتقون)، الآية. لا تبديل لكلمات الله: لا تغيير لأقواله ولا إخلاف
لمواعيده، وهو اعتراض. ذلك: إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين. هو الفوز العظيم.
(65) ولا يحزنك قولهم: تكذيبهم وتدبيرهم في إبطال أمرك وسائر ما يتكلمون
به في شأنك. إن العزة لله جميعا: إن القهر والغلبة جميعا لله لا يملك أحد شيئا منهما
غيره، فهو يغلبهم وينصرك عليهم: (إنا لننصر رسلنا). هو السميع: لما يقولون. العليم: بما
يعزمون فيكافيهم بذلك.
(66) ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض: من الملائكة والثقلين، وإذا
كان هؤلاء عبيدا له وهم في مملكته لا يصلح أحد منهم للألهية مع كونهم عقلاء مميزون
410

فما لا يميز ولا يعقل أحق أن لا يكون شريكا له. وما يتبع الذين يدعون من دون الله
شركاء: شركاء اقتصر على أحدهما، اي شركاء على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء أو
المعنى وما يتبعون يقينا، فحذف لدلالة ما بعده عليه. إن يتبعون إلا الظن: إلا ظنهم أنهم
شركاء. وإن هم إلا يخرصون: يقدرون تقديرا باطلا، ويجوز أن يكون (ما) استفهامية يعني
وأي شئ يتبعون؟ أو موصولة عطفا على (من) بمعنى ولله ما يتبعونه.
(67) هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا: تنبيه على كمال
قدرته وعظيم نعمته ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة. إن في ذلك لآيات لقوم
يسمعون: سماع تدبر وتفهم.
(68) قالوا اتخذ الله ولدا: يعني بنتا. سبحانه: تنزيه وتعجب من كلمتهم الحمقاء. هو
الغنى: لا يحتاج إلى اتخاذ الولد. له ما في السماوات وما في الأرض: تقرير لغناه. إن
عندكم من سلطان بهذا: ما عندكم من حجة بهذا القول. أتقولون على الله ما لا تعلمون:
توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم لما نفي عنهم الحجة جعلهم غير عالمين فدل ذلك
على أن كل قول ليس عليه برهان فهو جهل ليس بعلم.
(69) قل إن الذين يفترون على الله الكذب: باتخاذ الولد وإضافة الشريك
إليه. لا يفلحون: لا ينجون من النار، ولا يفوزون بالجنة.
(70) متاع في الدنيا: افتراؤهم تمتع في الدنيا يسير، يقيمون به رياستهم في
الكفر. ثم إلينا مرجعهم: بالموت فيلقون الشقاء المؤبد. ثم نذيقهم العذاب الشديد بما
كانوا يكفرون: بسبب كفرهم.
(71) واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر: عظيم وشق.
عليكم مقامي: مكاني وإقامتي بينكم مدة مديدة، أو قيامي على الدعوة. وتذكيري: إياكم.
بآيات الله فعلى الله توكلت: فبه وثقت. فأجمعوا أمركم: فاعزموا على ما تريدون.
وشركاءكم: مع شركائكم واجتمعوا على السعي في إهلاكي. ثم لا يكن أمركم عليكم
غمة: مستورا واجعلوه ظاهرا مكشوفا من غمه إذا ستره، والقمي: لا تغتموا. ثم اقضوا إلى:
411

أدوا إلى ذلك الامر الذي تريدون لي.
والقمي: ثم ادعوا علي. ولا تنظرون: ولا تمهلوني.
(72) فإن توليتم: أعرضتم عن تذكيري. فما سألتكم من أجر: يوجب توليكم
لثقله عليكم، واتهامكم إياي لأجله. إن أجرى: ما ثوابي على الدعوة والتذكير. إلا على الله:
لا تعلق له بكم يثيبني به آمنتم أو توليتم. وأمرت أن أكون من المسلمين: المنقادين
لحكمه لا أخالف أمره، ولا أرجو غيره.
(73) فكذبوه: فأصروا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجة، وكان تكذيبهم له في
آخر المدة الطويلة كتكذيبهم في أولها. فنجيناه ومن معه في الفلك: من الغرق. وجعلناهم
خلائف: خلفاء لمن هلك بالغرق. وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا: بالطوفان. فانظر كيف كان
عاقبة المنذرين: تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذب الرسول عن مثله وتسلية له.
(74) ثم بعثنا من بعده: أرسلنا من بعد نوح. رسلا إلى قومهم: يعني هودا،
وصالحا، وإبراهيم، ولوطا، وشعيبا، كلا إلى قومه. فجاؤوهم بالبينات: بالمعجزات الواضحة المثبتة
لدعواهم. فما كانوا ليؤمنوا: فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة تصممهم (1) على الكفر. بما
كذبوا به من قبل: يعني في الذر، وقد مضت الاخبار في هذا المعنى في سورة الأعراف.
كذلك نطبع على قلوب المعتدين: بالخذلان لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف.
(75) ثم بعثنا من بعدهم: من بعد هؤلاء الرسل موسى وهارون إلى فرعون
وملائه: وحزبه. بآياتنا: بالآيات التسع. فاستكبروا: عن اتباعهما. وكانوا قوما مجرمين:
معايدين الاجرام فلذلك تهاونوا رسالة ربهم، واجترؤا على ردها.
(76) فلما جاءهم الحق من عندنا: وعرفوه بتظاهر المعجزات القاهرة
المزيحة (2) للشك. قالوا: من فرط تمردهم. إن هذا لسحر مبين: ظاهر.

1 - أي تصلبهم وتشددهم.
2 - زاح الشئ يزيح زيحا من باب سار ويزوح زوحا من باب قال بعد وذهب ومنه زح عن الباطل اي زال وازاحه
غيره.
412

(77) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم: إنه لسحر حذف محكي القول
لدلالة ما بعده وما قبله عليه، أو المعنى: أتعيبون الحق وتطعنون فيه؟ أسحر هذا: استيناف
بانكار ما قالوه وليس بمحكي القول لأنهم بتوا (1) القول. ولا يفلح الساحرون: من تمام كلام
موسى.
(78) قالوا أجئتنا لتلفتنا: لتصرفنا. عما وجدنا عليه آباءنا: من عبادة الأصنام.
وتكون لكما الكبرياء في الأرض: أي الملك فيها لاتصاف الملوك بالكبر. وما نحن
لكما بمؤمنين: مصدقين فيما جئتما به.
(79) وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم: حاذق فيه، وقرئ سحار.
(80) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون.
(81) فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر: أي الذي جئتم به، لا ما
سميتموه سحرا، وقرئ السحر بقطع الألف ومدها على الاستفهام، ف‍ (ما) استفهامية. إن الله
سيبطله: سيمحقه ويظهر بطلانه. إن الله لا يصلح عمل المفسدين: لا يثبته ولا يقويه.
(82) ويحق الله الحق: يثبته. بكلماته: بأوامره، وقضاياه. ولو كره المجرمون.
(83) فما آمن لموسى: في مبدء أمره. إلا ذرية من قومه: إلا أولاد من قوم موسى
يعني بني إسرائيل، أو قوم فرعون. قيل: دعاهم فلم يجيبوه خوفا من فرعون إلا طائفة من
شبانهم. على خوف من فرعون وملأهم: أي حزب آل فرعون. أن يفتنهم: أن يعذبهم
فرعون. وإن فرعون لعال في الأرض: لقاهر فيها. وإنه لمن المسرفين: في الكبر والعتو
والظلم والفساد حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء.
(84) وقال موسى: لما رأى تخوف المؤمنين به. يا قوم إن كنتم آمنتم به فعليه
توكلوا فيه ثقوا وإليه اسندوا أمركم وعليه، اعتمدوا إن كنتم مسلمين مستسلمين: لقضاء
الله المخلصين له، وليس هذا تعليق الحكم بشرطين فإن المعلق بالأيمان وجوب التوكل فإنه

1 - البت القطع أي جزموا به م.
413

المقتضى له والمشروط بالإسلام حصوله، فإنه لا يوجد مع التخليط، ونظيره إن دعاك زيد
فأجبه إن قدرت.
(85) فقالوا على الله توكلنا: لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ولذلك أجيبت
دعوتهم. ربنا لا تجعلنا فتنة: موضع فتنة. للقوم الظالمين: أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا
عن ديننا أو يعذبونا.
في المجمع عنهما عليهما السلام، والعياشي: مقطوعا لا تسلطهم علينا فتفتنهم
بنا.
والقمي: عن الباقر عليه السلام إن قوم موسى استعبدهم آل فرعون وقال لو
كان لهؤلاء كرامة كما يقولون ما سلطنا عليهم، وقال موسى لقومه: (يا قوم إن كنتم آمنتم)
الآية.
أقول: هذه الرواية تفسير الرواية الأولى.
(86) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين: من كيدهم واستعبادهم إيانا.
(87) وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا: اتخذا مباءة أي مرجعا. لقومكما
بمصر بيوتا: ترجعون إليها للعبادة. واجعلوا: أنتما وقومكما. بيوتكم: تلك البيوت. قبلة: مصلى.
وأقيموا الصلاة: فيها.
القمي: عن الكاظم عليه السلام لما خافت بنو إسرائيل جبابرتها أوحى الله
إلى موسى وهارون (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة)، قال: أمروا أن يصلوا في
بيوتهم. وبشر المؤمنين: بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى.
في العلل، والعياشي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب الناس فقال:
أيها الناس إن الله عز وجل أمر موسى وهارون أن يبنيا لقومهما بمصر بيوتا، وأمرهما أن لا
يبيت في مسجدهما جنب، ولا يقرب فيه النساء إلا هارون وذريته، وأن عليا مني بمنزلة
هارون من موسى فلا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجدي، ولا يبيت فيه جنبا إلا علي
414

وذريته، فمن ساءه ذلك فهيهنا وضرب بيده نحو الشام.
وفي العيون: ما يقرب منه.
(88) وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاءه زينة: ما يتزين به من
اللباس والفرش والمراكب ونحوها. وأموالا: وأنواعا من المال. في الحياة الدنيا ربنا
ليضلوا عن سبيلك.
القمي: أي يفتنوا الناس بالأموال ليعبدوه ولا يعبدوك واللام للعاقبة. ربنا
اطمس على أموالهم: أهلكها وامحقها. واشدد على قلوبهم: واقسها، واطبع عليها حتى لا
تنشرح للأيمان. فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم: لما لم يبق له طمع في إيمانهم اشتد
غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ليشهد عليهم أنهم لا
يستحقون إلا الخذلان، وأن يخلى بينهم وبين إضلالهم، ومعنى الطمس على الأموال:
تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها، قيل: صارت جميع أموالهم حجارة.
(89) قال قد أجيبت دعوتكما: يعني موسى وهارون، قيل: كان موسى داعيا
وهارون يؤمن فسماهما داعيين.
في الكافي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا موسى وأمن هارون وأمنت
الملائكة، قال الله تعالى: (قد أجيبت دعوتكما) ومن غزا في سبيل الله استجيب له كما
استجيب لكما يوم القيامة. فاستقيما: فأثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة، وإلزام الحجة، ولا
تستعجلا فإن ما طلبتما كائن، ولكن في وقته.
في الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام كان بين قول الله عز وجل:
(قد أجيبت دعوتكما) وبين أخذ فرعون أربعون سنة.
وفي الخصال: عن الباقر عليه السلام أملى الله لفرعون ما بين الكلمتين أربعين
سنة، ثم أخذه الله نكال الآخرة والأولى، وكان بين ما قال الله لموسى وهارون: (قد أجيبت
دعوتكما) وبين أن عرفه الإجابة أربعين سنة، ثم قال: قال جبرئيل نازلت ربي في فرعون منازلة
شديدة فقلت: يا رب تدعه وقد قال: (أنا ربكم الاعلى)؟ فقال: إنما يقول: مثل هذا عبد مثلك.
415

ولا تتبعان: وقرئ بتخفيف النون. سبيل الذين لا يعلمون: طريق الجهلة في الاستعجال
وعدم الوثوق، والاطمئنان بوعد الله.
(90) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر: عبرنا بهم حتى جاوزوه سالمين. فأتبعهم:
لحقهم. فرعون وجنوده بغيا وعدوا: باغين وعادين.
العياشي مرفوعا: لما صار موسى في البحر أتبعه فرعون وجنوده، قال: فتهيب فرس
فرعون أن يدخل البحر فتمثل له جبرئيل على رمكة فلما رأى فرس فرعون الرمكة
أتبعها فدخل البحر هو وأصحابه فغرقوا. حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه: وقد قرئ
بالكسر على الاستيناف. لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين: كرر
المعنى الواحد ثلاث مرات بثلاث عبارات حرصا على القبول، ثم لم يقبل منه حيث
أخطأ وقته، وقاله في وقت الالجاء، وكانت المرة الواحدة كافية وقت الاختيار، وبقاء
التكليف.
(91) الآن: تؤمن وقد آيست من نفسك ولم يبق لك اختيار. وقد عصيت قبل:
قبل ذلك، مدة عمرك. وكنت من المفسدين: الضالين المضلين عن الايمان.
القمي: عن الصادق عليه السلام ما أتى جبرئيل عليه السلام رسول الله إلا
كئيبا حزينا ولم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون فلما أمره الله بنزول هذه الآية (وقد
عصيت قبل وكنت من المفسدين) نزل عليه وهو ضاحك مستبشر، فقال رسول الله ما
أتيتني يا جبرئيل إلا وتبينت الحزن من وجهك حتى الساعة، قال: نعم يا محمد لما غرق
الله فرعون (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)،
فأخذت حمأة فوضعتها في فيه ثم قلت له: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)
وعملت ذلك من غير أمر الله عز وجل ثم خفت أن يلحقه الرحمة من الله عز وجل
ويعذبني الله على ما فعلت، فلما كان الآن وأمرني الله عز وجل أن أؤدي إليك ما قلته أنا
لفرعون أمنت وعلمت أن ذلك كان لله تعالى رضا.
(92) فاليوم ننجيك ببدنك: ننقذك عاريا من الروح مما وقع فيه قومك من
416

البحر، أو نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع ليراك بنو إسرائيل. لتكون لمن
خلفك: وراك وهم بنو إسرائيل. آية: علامة يظهر لهم عبوديتك ومهانتك، وإن ما كنت تدعيه
من الربوبية محال وكان في أنفسهم أن فرعون أجل شأنا من أن يغرق.
القمي: أن موسى أخبر بني إسرائيل أن الله قد أغرق فرعون فلم يصدقوه فأمر
الله البحر فلفظ به على ساحل البحر حتى رأوه ميتا، ويأتي تمام الكلام فيه. وإن كثيرا
من الناس عن آياتنا لغافلون: لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون.
في العيون: عن الرضا عليه السلام أنه سئل لأي علة غرق الله تعالى فرعون
وقد آمن به وأقر بتوحيده؟ قال: لأنه آمن عند رؤية البأس، والايمان عند رؤية البأس غير
مقبول، وذلك حكم الله تعالى ذكره في السلف والخلف قال الله تعالى:
(فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما
رأوا بأسنا)، وقال عز وجل: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت
من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا)، وهكذا فرعون لما أدركه الغرق قال: (آمنت أنه لا إله إلا
الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين)، فقيل له: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من
المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) وقد كان فرعون من قرنه إلى قدمه
في الحديد قد لبس على بدنه فلما غرق ألقاه الله تعالى على نجوة من الأرض ببدنه
ليكون لمن بعده علامة فيرونه مع تثقله بالحديد على مرتفع من الأرض، وسبيل الثقيل أن
يرسب ولا يرتفع، فكان ذلك آية وعلامة، ولعلة أخرى أغرقه الله عز وجل وهي: أنه
استغاث بموسى لما أدركه الغرق ولم يستغث بالله تعالى فأوحى الله عز وجل إليه يا موسى
لم تغث فرعون لأنك لم تخلقه ولو استغاث بي لأغثته.
والقمي: عن الباقر عليه السلام في هذه الآية إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى
ادع الله أن يجعل لنا مما نحن فيه فرجا، فدعا فأوحى الله إليه أن سر بهم، قال: يا رب
البحر أمامهم، قال: امض فإني آمره أن يطيعك فينفرج لك، فخرج موسى ببني إسرائيل
وأتبعهم فرعون حتى إذا كاد أن يلحقهم ونظروا إليه قد أظلهم قال موسى للبحر: انفرج لي،
417

قال: ما كنت لأفعل، وقالت بنو إسرائيل لموسى غررتنا وأهلكتنا فليتك تركتنا يستعبدنا آل
فرعون ولم نخرج الآن نقتل قتلة، قال: (كلا إن معي ربى سيهدين)، واشتد على موسى ما
كان يصنع به عامة قومه، وقالوا: يا موسى (إنا لمدركون)، زعمت أن البحر ينفرج لنا حتى
نمضي ونذهب وقد رهقنا فرعون وقومه وهم هؤلاء تراهم قد دنوا منا، فدعا موسى ربه
فأوحى الله إليه (أن اضرب بعصاك البحر) فضربه فانفلق البحر فمضى موسى وأصحابه
حتى قطعوا البحر وأدركهم آل فرعون فلما نظروا إلى البحر قالوا لفرعون: أما تعجب مما
ترى؟ قال: أنا فعلت هذا فمروا وأمضوا فيه فلما توسط فرعون ومن معه أمر الله البحر
فأطبق عليهم فغرقهم أجمعين فلما أدرك فرعون الغرق، قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي
آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) يقول الله عز وجل: (الآن وقد عصيت قبل وكنت
من المفسدين) يقول: كنت من العاصين (فاليوم ننجيك ببدنك قال: إن قوم فرعون ذهبوا
جميعا في البحر فلم ير منهم أحد هووا في البحر إلى النار، وأما فرعون فنبذه الله عز
وجل فألقاه بالساحل لينظروا إليه وليعرفوه ليكون لمن خلفه آية ولئلا يشك أحد في هلاكه
أنهم كانوا اتخذوه ربا فأراهم الله عز وجل إياه جيفة ملقاة بالساحل ليكون لمن خلفه
عبرة وعظة، يقول الله: (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون). (93) ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوء صدق منزلا صالحا مرضيا وهو الشام
ومصر.
القمي: ردهم إلى مصر وغرق فرعون. ورزقناهم من الطيبات: من اللذائذ. فما
اختلفوا: في أمر دينهم وما تشعبوا شعبا. حتى جاءهم العلم: بدين الحق وقرأوا التوراة
وعلموا أحكامها، أو في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا من بعد ما علموا صدقه
بنعوته وتظافر معجزاته. إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون: فيميز
المحق من المبطل بالإنجاء والاهلاك.
(94) فإن كنت (1) في شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرءون الكتاب من

1 - قيل المعنى إذا وقع لك شك فرضا وتقديرا فاسأل علماء أهل الكتاب فإنهم يحيطون علما بصحة ما انزل إليك وقيل بل خوطب رسول الله صلى الله عليه وآله والمراد أمته والمعنى فان كنتم في شك وقيل الخطاب للسامع ممن يجور عليه الشك كقولهم إذا عز أخوك فهن ولا يخفى ما في هذه الأقوال من التهافت فان أهل الكتاب كيف يصدقونه وهو في شك من امره وان لم يصدقوه فهو اذن يدعونه إلى دينهم وما انزل من الوحي إنما انزل إليه ولم ينزل إلى الأمة فكيف تخاطب به الأمة (منه رحمه الله).
418

قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين.
(95) ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين.
في العلل، والعياشي: عن الهادي عليه السلام أنه سأله أخوه موسى عن هذه
الآية حين كتب إليه يحيى بن أكثم يسأله عن مسائل فيها أخبرني من المخاطب بالآية
فإن كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس قد شك فيما أنزل الله وإن
كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذن أنزل الكتاب، قال موسى: فسألت أخي علي بن
محمد عليهم السلام عن ذلك فقال: المخاطب بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ولم يكن في شك مما أنزل الله ولكن قالت الجهلة كيف لا يبعث إلينا نبيا من
الملائكة ليفرق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب في الأسواق
فأوحى الله إلى نبيه: (فأسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلكم) بمحضر من الجهلة
هل بعث الله رسولا قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة
وإنما قال: (فإن كنت في شك) ولم يكن ولكن ليتبعهم كما قال: (فقل تعالوا ندع أبناءنا
وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين)،
ولو قال: (تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم) لم يكن يجيبون للمباهلة وقد عرف أن نبيه
صلى الله عليه وآله وسلم مؤد عنه رسالته، وما هو من الكاذبين، وكذلك عرف النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه.
وفي العلل: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أشك ولا أسأل.
والقمي: عن الصادق عليه السلام لما أسري برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إلى السماء، وأوحى الله إليه في علي عليه السلام ما أوحى: من شرفه، ومن عظمته
عند الله، ورد إلى البيت المعمور، وجمع له النبيين وصلوا خلفه عرض في نفس رسول الله
419

صلى الله عليه وآله وسلم من عظم ما أوحى إليه في علي عليه السلام فأنزل الله: (فإن كنت
في شك مما أنزلنا إليك فأسأل الذين يقرؤن الكتب من قبلك). يعني الأنبياء، فقد أنزلنا
إليهم في كتبهم من فضله ما أنزلنا إليك في كتابك (لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن
من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) فقال الصادق
عليه السلام: فوالله ما شك وما سأل.
والعياشي: ما يقرب منه، وفي معناه أخبار أخر ويأتي نظيرها في سورة الزخرف
إنشاء الله، وعلى كلتا الروايتين فالخطاب من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة.
(96) إن الذين حقت عليهم: ثبتت. كلمت ربك: بأنهم يموتون على الكفر. لا
يؤمنون: إذ لا يكذب كلامه، ولا ينتقص قضاؤه.
(97) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم: وحيث لا ينفعهم كما
لم ينفع فرعون.
القمي: الذين جحدوا أمير المؤمنين عليه السلام عرضت عليهم الولاية وفرض
الله عليهم الايمان بها فلم يؤمنوا بها.
(98) فلولا كانت قرية آمنت: فهلا كانت قرية من القرى التي
أهلكناها آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إليها كما أخر فرعون إلى أن أدركه الغرق.
فنفعها إيمانها: بأن يقبله الله منها ويكشف العذاب عنها. إلا قوم يونس: لكن قوم
يونس. لما آمنوا: أول ما رأوا إمارة العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله. كشفنا عنهم عذاب
الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين: ويجوز أن يكون الجملة في معنى
النفي لتضمن حرف التخصيص معناه فيكون الاستثناء متصلا كأنه قيل: ما آمنت قرية
من القرى الهالكة إلا قوم يونس.
في الجوامع: وكان يونس قد بعث إلى نينوى (1) من أرض الموصل فكذبوه

1 - نينوى بكسر أوله موضع بالكوفة وقرية بالموصل ليونس. ق.
420

فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا وبكوا
فصرف الله عنهم العذاب، وكان قد نزل وقرب منهم.
والعياشي: عن أبي عبيدة الحذاء، عن الباقر عليه السلام قال: كتب أمير المؤمنين
عليه السلام قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جبرئيل حدثه أن يونس
بن متى عليه السلام بعثه الله إلى قومه وهو ابن ثلاثين سنة وكان رجلا تعتريه الحدة
وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم، عاجزا عما حمل من ثقل حمل أوقار (1) النبوة
وأعلامها وانه تفسخ تحتها كما يتفسخ الجذع تحت حمله وأنه أقام فيهم يدعوهم إلى
الايمان بالله والتصديق به واتباعه ثلاثا وثلاثين سنة، فلم يؤمن به ولم يتبعه من قومه إلا
رجلان اسم أحدهما روبيل، واسم الآخر تنوخا، وكان روبيل من أهل بيت العلم والنبوة
والحكمة، وكان قديم الصحبة ليونس بن متى عليه السلام من قبل أن يبعثه الله بالنبوة،
وكان تنوخا رجلا مستضعفا عابدا زاهدا منهمكا في العبادة، وليس له علم ولا حكم، وكان
روبيل صاحب غنم يرعاها ويتقوت منها، وكان تنوخا رجلا حطابا يحتطب على رأسه
ويأكل من كسبه، وكان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا لعلم روبيل وحكمته،
وقديم صحبته، فلما رأى يونس أن قومه لا يجيبونه ولا يؤمنون ضجر وعرف من نفسه قلة
الصبر فشكا ذلك إلى ربه وكان فيما شكا أن قال: يا رب إنك بعثتني إلى قومي ولي
ثلاثون سنة، فلبثت فيهم أدعوهم إلى الايمان بك، والتصديق برسالتي، وأخوفهم من عذابك
ونقمتك ثلاثا وثلاثين سنة، فكذبوني ولم يؤمنوا بي، وجحدوا نبوتي واستخفوا برسالتي، وقد
توعدوني وخفت أن يقتلوني، فأنزل عليهم عذابك فإنهم قوم لا يؤمنون، قال: فأوحى الله
إلى يونس أن فيهم الحمل والجنين والطفل، والشيخ الكبير، والمرأة الضعيفة، والمستضعف
المهين، وأنا الحكم العدل، سبقت رحمتي غضبي، لا أعذب الصغار بذنوب الكبار من قومك،
وهم يا يونس عبادي وخلقي وبريتي في بلادي، وفي عيلتي أحب أن أتأناهم وأرفق بهم
وأنتظر توبتهم، وإنما بعثتك إلى قومك لتكون حفيظا عليهم تعطف عليهم بسجال الرحمة

1 - الوقر بالكسر الجمل الثقيل أو أعم ج اوقار ق.
421

الماسة عنهم، وتأناهم برأفة النبوة، وتصبر معهم بأحلام الرسالة، وتكون لهم كهيئة الطبيب
المداوي العالم بمداواة الدواء، فخرجت بهم ولم تستعمل قلوبهم بالرفق ولم تسسهم
بسياسة المرسلين، ثم سألتني عن سوء نظرك العذاب لهم عند قلة الصبر منك، وعبدي
نوح كان أصبر منك على قومه، وأحسن صحبة وأشد تأنيا في الصبر عندي، وأبلغ في العذر،
فغضبت له حين غضب لي، وأجبته حين دعاني، فقال يونس: يا رب إنما غضبت عليهم
فيك، وإنما دعوت عليهم حين عصوك، فوعزتك لا أتعطف عليهم برأفة أبدا ولا أنظر إليهم
بنصيحة شفيق بعد كفرهم وتكذيبهم إياي وجحدهم نبوتي فأنزل عليهم عذابك فإنهم
لا يؤمنون أبدا، فقال الله تعالى: يا يونس إنهم مأة ألف أو يزيدون من خلقي يعمرون
بلادي ويلدون عبادي ومحبتي إن أتأناهم للذي سبق من علمي فيهم وفيك، وتقديري
وتدبيري غير علمك وتقديرك وأنت المرسل، وأنا الرب الحكيم، وعلمي فيهم يا يونس
باطن في الغيب عندي لا يعلم ما منتهاه وعلمك فيهم ظاهر لا باطن له، يا يونس قد
أجبتك إلى ما سألت من إنزال العذاب عليهم وما ذلك يا يونس بأوفر لحظك من عندي
ولا أحمد لشأنك وسيأتيهم عذاب في شوال يوم الأربعاء وسط الشهر بعد طلوع الشمس
فأعلمهم ذلك، قال: فسر ذلك يونس ولم يسؤه ولم يدر ما عاقبته فانطلق يونس إلى تنوخا
العابد وأخبره بما أوحى الله إليه من نزول العذاب على قومه في ذلك اليوم، وقال له: انطلق
حتى أعلمهم بما أوحى الله إلي من نزول العذاب، فقال تنوخا: فدعهم في غمرتهم
ومعصيتهم حتى يعذبهم الله، فقال له يونس: بل نلقى روبيل فنشاوره فإنه رجل عالم
حكيم من أهل بيت النبوة فانطلقا إلى روبيل فأخبره يونس بما أوحى الله إليه من نزول
العذاب على قومه في شوال يوم الأربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشمس، فقال له: ما
ترى؟ انطلق بنا حتى أعلمهم بذلك، فقال له روبيل: ارجع إلى ربك رجعة نبي حكيم،
ورسول كريم، واسأله أن يصرف عنهم العذاب فإنه غني عن عذابهم، وهو يحب الرفق
بعباده وما ذلك بإصر (1) لك عنده، ولا أسرى لمنزلتك لديه، ولعل قومك بعد ما سمعت ورأيت

1 - الإصر الذنب والثقل والإصر أيضا الكسر يقال أصرت الامر إصرا أي كسرته م ص.
422

من كفرهم وجحودهم يؤمنون يوما فصابرهم وتأناهم، فقال له تنوخا: ويحك يا روبيل ما
أشرت على يونس وأمرته به بعد كفرهم بالله وجحدهم لنبيه وتكذيبهم إياه وإخراجهم
إياه من مساكنه وما هموا به من رجمه، فقال روبيل لتنوخا: اسكت فإنك رجل عابد لا
علم لك، ثم أقبل على يونس فقال: أرأيت يا يونس إذا أنزل الله العذاب على قومك أنزله
فيهلكهم جميعا أو يهلك بعضا ويبقي بعضا، فقال له يونس: بل يهلكهم جميعا وكذلك
سألته ما دخلتني لهم رحمة تعطف فأراجع الله فيهم وأسأله أن يصرف عنهم، فقال له
روبيل: أتدري يا يونس لعل الله إذا أنزل عليهم العذاب فأحسوا به أن يتوبوا إليه
ويستغفروا فيرحمهم فإنه أرحم الراحمين، ويكشف عنهم العذاب من بعد ما أخبرتهم عن
الله تعالى أنه ينزل عليهم العذاب يوم الأربعاء فتكون بذلك عندهم كذابا، فقال له
تنوخا: ويحك يا روبيل لقد قلت عظيما يخبرك النبي المرسل أن الله أوحى إليه أن العذاب
ينزل عليهم، فترد قول الله تعالى وتشك فيه، وفي قول رسوله اذهب فقد حبط عملك، فقال
روبيل لتنوخا: لقد فسد رأيك ثم أقبل على يونس فقال: أنزل الوحي والامر من الله فيهم
على ما أنزل عليك فيهم من إنزال العذاب عليهم، وقوله الحق أرأيت إذا كان ذلك فهلك
قومك كلهم وخربت قريتهم أليس يمحو الله اسمك من النبوة وتبطل رسالتك وتكون
كبعض ضعفاء الناس، ويهلك على يدك مأة ألف من الناس؟ فأبى يونس أن يقبل وصيته
فانطلق ومعه تنوخا إلى قومه فأخبرهم أن الله أوحى إليه أنه منزل العذاب عليهم يوم
الأربعاء في شوال وسط الشهر بعد طلوع الشمس فردوا عليه قوله وكذبوه وأخرجوه
من قريتهم إخراجا عنيفا. فخرج يونس ومعه تنوخا من القرية وتنحيا عنهم غير بعيد،
وأقاما ينتظران العذاب وأقام روبيل مع قومه في قريتهم حتى إذا دخل عليه شوال
صرخ روبيل بأعلى صوته في رأس الجبل إلى القوم أنا روبيل الشفيق عليكم الرحيم
بكم إلى ربه قد أنكرتم عذاب الله هذا شوال قد دخل عليكم وقد أخبركم يونس نبيكم
ورسول ربكم أن الله أوحى إليه أن العذاب ينزل عليكم في شوال في وسط الشهر يوم
الأربعاء بعد طلوع الشمس، ولن يخلف الله وعده رسله. فانظروا ماذا أنتم صانعون؟
فأفزعهم كلامه فوقع في قلوبهم تحقيق نزول العذاب فأجفلوا نحو روبيل، وقالوا له: ماذا
423

أنت مشير به علينا يا روبيل؟ فإنك رجل عالم حكيم لم نزل نعرفك بالرقة علينا والرحمة
لنا، وقد بلغنا ما أشرت به على يونس فمرنا بأمرك وأشر علينا برأيك، فقال لهم روبيل:
فإني أرى لكم وأشير عليكم أن تنظروا وتعمدوا إذا طلع الفجر يوم الأربعاء في وسط
الشهر أن تعزلوا الأطفال عن الأمهات في أسفل الجبل في طريق الأودية، وتقفوا النساء
في سفح الجبل، ويكون هذا كله قبل طلوع الشمس فعجوا عجيج الكبير منكم والصغير
بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله والتوبة إليه والاستغفار له، وارفعوا رؤوسكم إلى
السماء، وقولوا: ربنا ظلمنا وكذبنا نبيك وتبنا إليك من ذنوبنا وإن لا تغفر لنا وترحمنا لنكونن
من الخاسرين المعذبين، فاقبل توبتنا وارحمنا يا أرحم الراحمين، ثم لا تملوا من البكاء
والصراخ والتضرع إلى الله، والتوبة إليه حتى توارى الشمس بالحجاب أو يكشف الله
عنكم العذاب قبل ذلك، فأجمع رأي القوم جميعا على أن يفعلوا ما أشار به عليهم روبيل،
فلما كان يوم الأربعاء الذي توقعوا العذاب تنحى روبيل عن القرية حيث يسمع
صراخهم ويرى العذاب إذا أنزل، فلما طلع الفجر يوم الأربعاء فعل قوم يونس ما أمرهم
روبيل به فلما بزغت الشمس أقبلت ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير وحفيف (1) فلما
رأوها عجوا جميعا بالصراخ والبكاء والتضرع إلى الله وتابوا إليه واستغفروه، وصرخت
الأطفال بأصواتها تطلب أمهاتها، وعجت سخال البهائم تطلب الثدي، وسعت الانعام
تطلب الرعا فلم يزالوا بذلك، ويونس وتنوخا يسمعان صيحتهم وصراخهم ويدعوان الله
بتغليظ العذاب عليهم، وروبيل في موضعه يسمع صراخهم وعجيجهم ويرى ما نزل وهو
يدعو الله بكشف العذاب عنهم، فلما أن زالت الشمس وفتحت أبواب السماء وسكن
غضب الرب تعالى رحمهم الرحمن، فاستجاب دعاءهم، وقبل توبتهم، وأقالهم عثرتهم، وأوحى
إلى إسرافيل أن اهبط إلى قوم يونس فإنهم قد عجوا إلى بالبكاء والتضرع وتابوا إلي
واستغفروني فرحمتهم وتبت عليهم وأنا الله التواب الرحيم، أسرع إلى قبول توبة عبدي

1 - حف الفرس حفيفا عند ركضه صوت والأفعى فح فحيحا الا ان الحفيف من جلدها والفحيح من فيها
وكذلك الطاير والشجر إذا صوتت ق.
424

التائب من الذنب، وقد كان عبدي يونس ورسولي سألني نزول العذاب على قومه وقد
أنزلته عليهم وأنا الله أحق من وفى بعده وقد أنزلته عليهم ولم يكن اشترط يونس حين
سألني أن أنزل عليهم العذاب أن أهلكهم فاهبط إليهم فاصرف عنهم ما قد نزل بهم
من عذابي فقال إسرافيل: يا رب إن عذابك قد بلغ أكنافهم (1) وكاد أن يهلكهم وما أراه إلا
وقد نزل بساحتهم فإلى أين أصرفه فقال الله كلا إني قد أمرت ملائكتي أن يصرفوه ولا
ينزلوه عليهم حتى يأتيهم أمري فيهم، وعزيمتي فاهبط يا إسرافيل عليهم واصرف عنهم،
واصرف به إلى الجبال وناحية مفاض العيون، ومجاري السيول في الجبال العاتية العادية
المستطيلة على الجبال فأذلها به ولينها حتى تصير ملتئمة حديدا جامدا فهبط إسرافيل
ونشر أجنحته فاستاق بها ذلك العذاب حتى ضرب بها تلك الجبال التي أوحى الله إليه
أن يصرفه إليها، قال أبو جعفر عليه السلام: وهي الجبال التي بناحية الموصل اليوم
فصارت حديدا إلى يوم القيامة، فلما رآى قوم يونس أن العذاب قد صرف عنهم هبطوا
إلى منازلهم من رؤوس الجبال وضموا إليهم نساءهم، وأولادهم وأموالهم وحمدوا الله على ما
صرف عنهم، وأصبح يونس وتنوخا يوم الخميس في موضعهما الذي كانا فيه لا يشكان أن
العذاب قد نزل بهم وأهلكهم جميعا لما خفيت أصواتهم عنهما، فأقبلا ناحية القرية يوم
الخميس مع طلوع الشمس ينظران إلى ما صار إليه القوم، فلما دنوا من القوم واستقبلهم
الحطابون والحمارة (2) والرعاة بأعناقهم ونظروا إلى أهل القرية مطمئنين، قال يونس لتنوخا: يا
تنوخا كذبني الوحي وكذبت وعدي لقومي لا وعزة ربي لا يرون لي وجها أبدا بعد ما
كذبني الوحي فانطلق يونس هاربا على وجهه مغاضبا لربه ناحية بحر أيلة متنكرا (3)
فرارا من أن يراه أحد من قومه فيقول له: يا كذاب فلذلك قال الله: (وذا النون إذ ذهب
مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه)، الآية ورجع تنوخا إلى القرية فلقى روبيل، فقال له: يا
تنوخا أي الرأيين كان أصوب وأحق أرأيي أو رأيك؟ فقال له تنوخا: بل رأيك كان أصوب

1 - في كنف الله محركة في حرزه وستره وهو الجانب والظل والناحية كالكنفة محركة. 2 - الحمارة كجبانة
أصحاب الحمير كالحامرة ق. 3 - أيلة جبل بين مكة والمدينة قرب ينبع وبلد بين ينبع ومصر ق.
425

ولقد كنت أشرت برأي العلماء والحكماء، وقال له تنوخا: أما إني لم أزل أرى إني أفضل
منك لزهدي وفضل عبادتي حتى استبان فضلك لفضل علمك، وما أعطاك ربك من
الحكمة مع التقوى أفضل من الزهد والعبادة بلا علم، فاصطحبا فلم يزالا مقيمين مع
قومهما، ومضى يونس على وجهه مغاضبا لربه فكان من قصته ما أخبره الله به في كتابه
فآمنوا فمتعناهم إلى حين، قال أبو عبيدة: قلت لأبي جعفر عليه السلام: كم كان غاب
يونس عن قومه حتى رجع إليهم بالنبوة والرسالة فآمنوا به وصدقوه؟ قال: أربعة أسابيع
سبعا منها في ذهابه إلى البحر، وسبعا في بطن الحوت، وسبعا تحت الشجرة بالعراء، وسبعا
منها في رجوعه إلى قومه، فقلت له: وما هذه الأسابيع شهورا أو أيام أو ساعات؟ فقال: يا أبا
عبيدة إن العذاب أتاهم يوم الأربعاء في النصف من شوال وصرف عنهم من يومهم
ذلك فانطلق يونس مغاضبا فمضى يوم الخميس سبعة أيام في مسيره إلى البحر، وسبعة
أيام في بطن الحوت، وسبعة أيام تحت الشجرة بالعراء، وسبعة أيام في رجوعه إلى قومه،
فكان ذهابه ورجوعه ثمانية وعشرين يوما، ثم أتاهم فآمنوا به وصدقوه واتبعوه فلذلك قال
الله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب
الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين).
وعنه عليه السلام: إن يونس لما أذاه قومه دعا الله عليهم فأصبحوا أول يوم
ووجوههم صفر، وأصبحوا اليوم الثاني ووجوههم سود، قال: وكان الله واعدهم أن يأتيهم
العذاب حتى نالوه برماحهم ففرقوا بين النساء وأولادهن، والبقر، وأولادها، ولبسوا المسوح
والصوف، ووضعوا الحبال في أعناقهم والرماد على رؤوسهم وضجوا ضجة واحدة إلى ربهم،
وقالوا: آمنا بإله يونس فصرف الله عنهم العذاب، وأصبح يونس وهو يظن أنه هلكوا
فوجدهم في عافية.
وفي العلل: عن الصادق عليه السلام أنه سئل لأي علة صرف الله العذاب
عن قوم يونس وقد أظلهم ولم يفعل كذلك بغيرهم من الأمم؟ قال: لأنه كان في علم الله
أنه سيصرفه عنهم لتوبتهم، وإنما ترك أخبار يونس بذلك لأنه عز وجل أراد أن يفرغه
لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه وكرامته.
426

وفي الكافي: عنه عليه السلام إن جبرئيل استثنى في هلاك قوم يونس ولم
يسمعه يونس.
والقمي: وافق العياشي في ذكر القصة إلا أنه اختصرها وذكر في اسم العابد
مليخا مكان تنوخا وأورد في آخرها أشياء أخر نوردها في سورة الصافات إنشاء الله
ويأتي بعض قصته في سورة الأنبياء أيضا إن شاء الله.
(99) ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم: بحيث لا يشذ منهم أحد.
جميعا: مجتمعين على الايمان لا يختلفون فيه. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.
(100) وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس: وقرئ بالنون
على الذين لا يعقلون: في العيون: عن الرضا عليه السلام إنه سأله المأمون عن هذه
الآية فقال: حدثني أبي عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: إن المسلمين قالوا
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس
على الاسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما
كنت لألقى الله ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئا، وما أنا من المتكلفين فأنزل الله عليه يا
محمد: (ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا) على سبيل الالجاء والاضطرار في
الدنيا كما يؤمن عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني
ثوابا ولا مدحا ولكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى
والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وأما قوله: (وما
كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) فليس ذلك على سبيل تحريم الايمان عليها ولكن
على معنى إنها ما كانت لتؤمن إلا بإذن الله وإذنه أمره لها بالأيمان ما كانت متكلفة
متعبدة، وإلجاؤوه إياها إلى الايمان عند زوال التكليف والتعبد عنها، فقال المأمون: فرجت
عني فرج الله عنك.
(101) قل انظروا ماذا في السماوات والأرض: من عجائب صنعه ليدلكم
على وحدته وكمال قدرته. وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون: لا يتوقع إيمانهم
427

و (ما) نافية أو استفهامية للإنكار.
في الكافي، والقمي: عن الصادق عليه السلام إنه سئل عن هذه الآية، فقال:
الآيات: الأئمة عليهم السلام، والنذر: الأنبياء سلام الله عليهم.
(102) فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم: مثل وقايعهم
ونزول بأس الله بهم، إذ لا يستحقون غيرها. قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين:
لذلك.
العياشي: عن الرضا عليه السلام إن انتظار الفرج من الفرج، إن الله يقول:
(انتظروا إني معكم من المنتظرين).
(103) ثم ننجي: وقرئ بالتخفيف. رسلنا والذين آمنوا: عطف على محذوف دل
عليه ما قبله كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن معهم. كذ لك حقا علينا
ننج المؤمنين: وقرئ بالتشديد، أي مثل ذلك الانجاء ننجي المؤمنين منكم حين نهلك
المشركين، وحقا علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقا.
في المجمع والعياشي: عن الصادق عليه السلام ما يمنعكم أن تشهدوا على من
مات منكم على هذا الامر أنه من أهل الجنة إن الله تعالى يقول: (كذلك حقا علينا ننج
المؤمنين).
(104) قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني: وصحته. فلا أعبد
الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم: وهو الحقيق بأن يخاف
ويرجى ويعبد وإنما خص التوفي بالذكر للتهديد. وأمرت أن أكون من المؤمنين: المصدقين
بالتوحيد فهذا ديني.
(105) وأن أقم وجهك للدين حنيفا: عطف على أن أكون غير أن صلة أن
محكية بصيغة الامر، والمعنى أمرت بالاستقامة والسداد في الدين بأداء الفرائض والانتهاء
عن القبايح. ولا تكونن من المشركين.
428

(106) ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك: إن دعوته. ولا يضرك: إن خذلته.
فإن فعلت: فإن دعوته. فإنك إذا من الظالمين: فإن الشرك لظلم عظيم.
القمي: مخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعني الناس.
(107) وإن يمسسك الله بضر: وإن يصبك به. فلا كاشف له: يدفعه. إلا هو:
إلا الله. وإن يردك بخير فلا راد: فلا دافع. لفضله: الذي أرادك به، قيل: ذكر الإرادة مع
الخير والمس مع الضر مع تلازم الامرين للتنبيه على أن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما
مسهم لا بالقصد الأول ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد
بهم من الخير لا استحقاق لهم عليه ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده. يصيب به: بالخير.
من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم: فتعرضوا لرحمته بالطاعة ولا تيأسوا من غفرانه
بالمعصية.
(108) قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم: ولم يبق لكم عذر. فمن
اهتدى: اختار الهدى بالأيمان والطاعة. فإنما يهتدى لنفسه: لأن نفعه لها. ومن ضل: اختار
الضلال بالجحود. فإنما يضل عليها: لأن وباله عليها. وما أنا عليكم بوكيل: بحفيظ
موكول إلي أمركم، وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير.
(109) واتبع ما يوحى إليك: بالامتثال والتبليغ. واصبر: على دعوتهم واحتمال
أذاهم. حتى يحكم الله: لك بالنصر عليهم والغلبة. وهو خير الحاكمين: لأنه لا يحكم إلا
بالحق والعدل.
في ثواب الأعمال: عن الصادق عليه السلام من قرأ سورة يونس في كل
شهرين أو ثلاثة لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، وكان يوم القيامة من المقربين إن شاء الله
تبارك وتعالى.

1 - وهو القرآن ودين الاسلام والأدلة الدالة على صحته وقيل يريد بالحق النبي صلى الله عليه وآله ومعجزاته الظاهرة
م ن.
429

سورة هود (عليه السلام)
مكية في قول الأكثرين، وقال قتادة: إلا آية وهو قوله:
(وأقم الصلاة طرفي النهار) فإنها مدنية عدد آيها مأة وثلاث وعشرون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) الر: سبق تأويله في أول سورة يونس. كتاب أحكمت آياته: نظمت نظما
محكما لا نقص فيه ولا خلل كالبناء المحكم. ثم فصلت: بدلائل التوحيد، والمواعظ،
والاحكام، والقصص، ومعنى (ثم) (1): للتراخي في الحال لا في الوقت.
القمي: عن الباقر عليه السلام هو القرآن من لدن حكيم خبير. قال من عند
حكيم خبير.
(2) أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه: من الله. نذير وبشير: بالعقاب على
الشرك والثواب على التوحيد.
(3) وأن استغفروا ربكم من الشرك والمعصية. ثم توبوا إليه: بالأيمان
والطاعة. يمتعكم متاعا حسنا: يعشكم (2) في أمن ودعة. إلى أجل مسمى: هو آخر أعماركم
المقدرة. ويؤت كل ذي فضل فضله: ويعط كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا
والآخرة. وإن تولوا: وإن تتولوا. فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير: يوم القيامة.

1 - كما تقول فلان كريم الأصل ثم كريم الفعال ثم كذا وكذا.
2 - عاش الرجل معاشا ومعيشا وكل واحد منهما يصلح أن يكون مصدرا أو أن يكون اسما مثل معاب ومعيب وممال
ومميل واعاشه الله عيشة راضية (ص).
430

القمي: يعني الدخان والصيحة.
(4) إلى الله مرجعكم: في ذلك اليوم. وهو على كل شئ قدير: فيقدر على
تعذيبكم أشد عذاب فكأنه تقرير لكبر اليوم.
(5) ألا إنهم يثنون صدورهم: يعطفونها. ليستخفوا منه: من الله بسرهم فلا
يطلع رسوله والمؤمنون عليه أو من رسوله.
في الكافي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام أخبرني جابر بن عبد الله أن
المشركين كانوا إذا مروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول البيت طأطأ أحدهم
ظهره ورأسه هكذا وغطى رأسه بثوبه حتى لا يراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فأنزل الله الآية.
والقمي: يكتمون ما في صدورهم من بغض علي عليه السلام، قال رسول الله إن
آية المنافق بغض علي، وكان قوم يظهرون المودة لعلي عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ويسرون بغضه.
في الجوامع: وفي قراءة أهل البيت (يثنوني) على (يفعوعل) من الثني وهو بناء
مبالغة. ألا حين يستغشون ثيابهم: يتغطون بثيابهم كراهة لاستماع كلام الله كقوله
تعالى: (جعلوا أصابعهم فئ اذانهم واستغشوا ثيابهم). يعلم ما يسرون: في قلوبهم. وما
يعلنون: بأفواههم يستوي في علمه سرهم وعلنهم. إنه عليم بذات الصدور: بأسرار
ذات الصدور أو بالقلوب وأحوالها. قيل: نزلت في طائفة من المشركين قالوا إذا
أرخينا ستورنا، واستغشينا بثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم.
والقمي: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حدث بشئ من فضل علي أو
تلا عليهم ما أنزل الله فيه نفضوا ثيابهم، ثم قاموا يقول الله: (يعلم ما يسرون وما يعلنون)
حين قاموا (إنه الله عليم بذات الصدور).
(6) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها لتكفله إياه تفضلا ورحمة.
ويعلم مستقرها: موضع قرارها ومسكنها. ومستودعها: قبل الاستقرار في أصلاب الآباء
431

وأرحام الأمهات، والبيض. كل: كل واحدة من الدواب، ورزقها، ومستقرها، ومستودعها. في
كتاب مبين: مذكور في اللوح المحفوظ، في نهج البلاغة: قسم أرزاقهم، وأحصى آثارهم
وأعمالهم، وعدد أنفاسهم، وخائنة أعينهم، وما تخفي صدورهم من الضمير، ومستقرهم
ومستودعهم من الأرحام، والظهور إلى أن يتناهى بهم الغايات.
(7) وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام: أي خلقهما وما بينهما
كما سبق بيانه في سورة الأعراف. وكان عرشه على الماء: قبل خلقهما.
القمي: وكان ذلك في مبدء الخلق.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام إن الله عز وجل ابتدع الأشياء كلها بعلمه
على غير مثال كان قبله فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون
أما تسمع لقوله تعالى: (وكان عرشه على الماء).
وفيه، وفي التوحيد: عن الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: (وكان
عرشه على الماء) فقال: ما يقولون؟ قيل: يقولون: إن العرش كان على الماء والرب فوقه، فقال:
كذبوا من زعم هذا فقد صير الله محمولا، ووصفه بصفة المخلوقين، ولزمه أن الشئ الذي
يحمله أقوى منه، ثم قال: إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن يكون سماء وأرض أو جن
أو إنس أو شمس أو قمر.
وفي حديث القمي: وكان الماء على الهواء، والهواء لا يحد ولم يكن يومئذ خلق
غيرهما، والماء عذب فرات.
أقول: تأويل هذه الأخبار عند الراسخين في العلم. ليبلوكم أيكم أحسن
عملا: أي خلقهن لحكمة بالغة وهي أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بفنون
النعم، ويكلفهم ويعرضهم لثواب الآخرة ولما شبه ذلك اختبار المختبر قال: (ليبلوكم) أي
ليفعل بكم ما يفعل المبتلى لأحوالكم كيف تعملون، ولما كان في الاختبار معنى العلم، وهو
طريق إليه قال: (أيكم أحسن عملا).
في الكافي: عن الصادق عليه السلام ليس يعني أكثركم عملا ولكن أصوبكم
432

عملا، وإنما الإصابة خشية الله، والنية الصادقة. وروى العامة: عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله. ولئن قلت إنكم
مبعوثون من بعد الموت: فيتوقعوه. ليقولن الذين كفروا ان هذا إلا سحر مبين: تمويه
ظاهر له لا حقيقة له، وقرئ ساحر.
(8) ولئن أخرنا عنهم العذاب: الموعود. إلى أمة معدودة: قيل: إلى جماعة من
الأوقات قليلة.
والقمي: عن أمير المؤمنين عليه السلام يعني به الوقت. ليقولن: استعجالا
واستهزاء. ما يحبسه: ما يمنعه من الوقوع. ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم: ليس
العذاب مرفوعا عنهم. وحاق بهم: وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة
في التهديد. ما كانوا به يستهزؤن.
القمي: يعني إن متعناهم في هذه الدنيا إلى خروج القائم عليه السلام فنردهم
ونعذبهم (ليقولن ما يحبسه) أي يقولوا ألا يقوم القائم؟ الا يخرج؟ على حد الاستهزاء. وعن
أمير المؤمنين عليه السلام: قال: الأمة المعدودة: أصحاب القائم الثلاثمأة والبضعة عشر.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام قال: هو القائم وأصحابه.
وعنه عليه السلام: (إلى أمة معدودة) يعني عدة كعدة بدر (ليس مصروفا عنهم)
قال: العذاب.
وعن الباقر عليه السلام: أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلا، هم والله
الأمة المعدودة التي قال الله في كتابه: وتلا هذه الآية، قال: يجتمعون والله في ساعة واحدة
قزعا (1) كقزع الخريف.
وفي الكافي، والمجمع: ما يقرب منه.
(9) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة: نعمة. ثم نزعناها: سلبناها منه. منه إنه ليؤس: شديد

- القزع محركة قطع من السحاب رقيقة والواحد قزعة وفي الحديث كأنهم قزع الخريف ص.
433

اليأس، قنوط من أن تعود عليه تلك النعمة المنزوعة قاطع رجاءه من سعة فضل الله.
كفور: عظيم الكفران لنعمه.
(10) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته كصحة بعد سقم، وغنى بعد عدم.
وفي اختلاف الفعلين في الاسناد نكتة لا تخفى. ليقولن ذهب السيئات عنى: أي
المصائب التي سائتني وحزنتني. إنه لفرح: أشر بطر مغتر بها. فخور: على الناس بما أنعم
الله عليه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر والقيام بحقها.
القمي قال: إذا أغنى الله العبد ثم اقترصا به اليأس والجزع والهلع (1)، وإذا كشف
الله عنه ذلك فرح. قيل: في لفظتي الإذاقة والمس: تنبيه على أن ما يجده الانسان في
الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة وإنه يقع في الكفران والبطر بأدنى
شئ، لأن الذوق: إدراك الطعم، والمس: مبدء الوصول.
(11) إلا الذين صبروا: في الشدة على الضراء إيمانا بالله واستسلاما لقضائه.
وعملوا الصالحات: في الرخاء شكرا لآلائه سابقها ولاحقها. أولئك لهم مغفرة وأجر
كبير.
(12) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك: تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك،
وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به. وضائق به صدرك أن يقولوا
لولا أنزل إليه كنز: ينفقه في الاستتباع كالملوك. أو جاء معه ملك: يصدقه. إنما أنت نذير:
ليس عليك إلا الانذار بما أوحى إليك، ولا عليك ردوا أو اقترحوا فما بالك يضيق به
صدرك. والله على كل شئ وكيل: فتوكل عليه فإنه عالم بحالهم، وفاعل بهم جزاء أقوالهم
وأفعالهم، ويأتي في هذه الآية كلام في سورة بني إسرائيل إن شاء الله.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية إن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم لما نزل قديدا (غديرا خ ل) قال لعلي عليه السلام: إني سألت ربي أن

1 - الهلع محركة الجزع ق.
434

يوالي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يواخي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن
يجعلك وصيي ففعل، فقال رجلان من قريش: والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلينا مما
سأل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه، فهلا سأل ربه ملكا يعضده على عدوه أو كنزا
يستعين به عن فاقته، والله ما دعاه إلى حق ولا باطل إلا أجابه الله إليه فأنزل الله إيه
: (فلعلك تارك)، الآية.
والقمي، والعياشي: ما يقرب منه وزاد العياشي ودعا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام في آخر صلاته رافعا بها صوته يسمع الناس يقول:
اللهم هب لعلي المودة في صدور المؤمنين، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين، فأنزل الله
تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا). فقال (رمع): والله لصاع
من تمر في شن بال أحب إلي مما سأل محمد ربه، ألا سأله ملكا يعضده أو كنزا يستظهر به
على فاقته فأنزل الله فيه عشر آيات من هود أولها (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك)،
الآية.
والعياشي: عن زيد بن أرقم، قال: إن جبرئيل الروح الأمين نزل على رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام عشية عرفة
فضاق بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخافة تكذيب أهل الافك والنفاق
فدعا قوما أنا فيهم فاستشارهم في ذلك ليقوم به في الموسم فلم ندر ما نقول له، وبكى.
فقال له جبرئيل: يا محمد أجزعت من أمر الله. فقال: كلا يا جبرئيل، ولكن قد علم ربي
ما لقيت من قريش إذ لم يقروا لي بالرسالة حتى أمرني بجهادهم وأهبط إلي جنودا
من السماء فنصروني، فكيف يقرون لعلي عليه السلام من بعدي فانصرف عنه جبرئيل
فنزل عليه (فلعلك تارك بعض ما) الآية.
(13) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور (1) مثله في البيان وحسن النظم.

1 - وهذا صريح في التحدي وفيه دلالة على جهة إعجاز القرآن وإنما هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لو كان جهة الاعجاز غير ذلك ما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق لان البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز وأدناها وأوسطها ممكن فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها ولو كان وجه الاعجاز الصرف لكان الركيك من الكلام أبلغ من باب الاعجاز والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لان مثله في الجنس يكون حكاية فلا يقع بها التحدي وإنما يرجع ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا كما اشتهر في مناقضات امرء القيس وعلقمة وغيرها م ن.
435

مفتريات: مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب
فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر لتعلمكم القصص، وتعودكم
الاشعار. وادعوا من استطعتم من دون الله: إلى المعاونة على المعارضة. إن كنتم
صادقين: إنه مفتر.
(14) فإن لم يستجيبوا لكم: أيها المؤمنون من دعوتموهم إلى المعارضة، أو أيها
الكافرون من دعوتموهم إلى المعاونة. فاعلموا أنما أنزل بعلم الله: ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله،
ولا يقدر عليه سواه. وأن لا إله إلا هو: وأعلموا أن لا إله إلا هو، لأنه العالم القادر بما لا
يعلم ولا يقدر عليه غيره، لظهور عجز المدعوين. فهل أنتم مسلمون: ثابتون على الاسلام،
راسخون فيه، أو داخلون في الاسلام مخلصون فيه.
(15) من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها: باحسانه وبره.
العياشي: عن الصادق عليه السلام يعني فلان وفلان. نوف إليهم أعمالهم فيها:
نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة، والرياسة، وسعة الرزق، وكثرة الأولاد. وهم
فيها لا يبخسون: لا ينقصون شيئا من أجورهم.
(16) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار: لأنهم استوفوا ما يقتضيه
صور أعمالهم الحسنة وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. وحبط ما صنعوا فيها: أي في
الآخرة لأنهم لم يريدونها. وباطل: في نفسه. ما كانوا يعملون: لأنه لم يعمل على ما ينبغي،
ولم يبق له ثواب في الآخرة، ويجوز تعليق (فيها) بصنعوا، وإرجاع الضمير إلى الدنيا.
القمي: يعني من عمل الخير على أن يعطيه الله ثوابه في الدنيا أعطاه الله ثوابه
في الدنيا، وما كان له في الآخرة إلا النار.
(17) أفمن كان على بينة من ربه: على برهان من الله يدله على الحق
والصواب فيما يأتيه ويذره، والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين
436

هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة يعني أفمن كان على بينة كمن
يريد الحياة الدنيا كيف وبينهما بون بعيد. ويتلوه شاهد منه: يتبعه شاهد يشهد له منه.
ومن قبله كتاب موسى: يعني التورية. إماما ورحمة.
في الكافي: عن الكاظم، والرضا عليهما السلام أمير المؤمنين عليه السلام: الشاهد
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورسول الله على بينة من ربه.
وفي المجمع: عن أمير المؤمنين، والباقر، والرضا عليهم السلام: إن الشاهد منه: علي
ابن أبي طالب عليه السلام يشهد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منه.
والقمي: عن الصادق عليه السلام إنما أنزل (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه
شاهد منه إماما ورحمة ومن قبله كتاب موسى). وعن الباقر عليه السلام إنما نزلت (أفمن
كان على بينة من ربه) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ويتلوه) علي شاهد منه
إماما ورحمة ومن قبله كتاب موسى أولئك يؤمنون به فقدموا وأخروا في التأليف.
والعياشي: عنه عليه السلام الذي على بينة من ربه: رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، والذي تلاه من بعده: الشاهد منه أمير المؤمنين عليه السلام، ثم أوصياؤه واحد
بعد واحد.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: ما من رجل من قريش إلا وقد نزل فيه آية أو
آيتان من كتاب الله، فقال رجل من القوم: فما نزل فيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أما تقرء
الآية التي في هود: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) محمد: على بينة من
ربه، وأنا: الشاهد. وفي الأمالي:، والبصائر مثله. وفي الأمالي: وأنا: الشاهد، وأنا: منه. وفي البصائر:
وانا شاهد له فيه وأتلوه معه.
أقول: وعلى هذه الرواية يكون المراد بالبينة: القرآن، ويكون يتلوه من
التلاوة.
وفي الاحتجاج: أنه سئل عن أفضل منقبة له؟ فتلا هذه الآية، وقال: أنا الشاهد
437

من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه في حديث قال: له بعض الزنادقة وأجد الله
يخبر أنه يتلو نبيه شاهد منه وكان الذي تلاه عبدة الأصنام برهة من دهره. فقال عليه
السلام: وأما قوله: (ويتلوه شاهد منه) فذلك حجة الله أقامها الله على خلقه وعرفهم أنه لا
يستحق مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من يقوم مقامه، ولا يتلوه إلا من يكون
في الطهارة مثله بمنزلته لئلا يتسع من ماسه رجس الكفر في وقت من الأوقات انتحال
الاستحقاق لمقام الرسول، وليضيق العذر، على من يعينه على إثمه وظلمه إذ كان الله حظر
على من مسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه وأوليائه بقوله تعالى لإبراهيم (لا ينال
عهدي الظالمين) أي المشركين لأنه سمى الشرك ظلما بقوله (إن الشرك لظلم عظيم)، فلما
علم إبراهيم أن عهد الله لا ينال عبدة الأصنام، قال: (واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام)
واعلم أن من آثر المنافقين على الصادقين والكفار على الأبرار، فقد افترى على الله إثما
عظيما إذ كان قد بين في كتابه الفرق بين المحق والمبطل، والطاهر والنجس، والمؤمن والكافر،
وأنه لا يتلو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند فقده إلا من حل محله صدقا
وعدلا، وطهارة وفضلا. وفي المجمع: عن الحسين بن علي عليه السلام (الشاهد من الله):
محمد.
أقول: وعلى هذا من كان على بينة يعم كل مؤمن مخلص ذا بصيرة في دينه،
وهذا لا ينافي نزوله في النبي والوصي، وإلى التعميم نظر من فسر الشاهد: بالقرآن، أي
شاهد من الله يشهد بصحته. أولئك يؤمنون به: بالقرآن أو بالرسول. ومن يكفر به من
الأحزاب: من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فالنار
موعده: يردها لا محالة.
في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع بي أحد من الأمة لا
يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار. فلا تك في مرية منه: من
القرآن أو الموعد.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام من ولاية علي عليه السلام. إنه الحق من
438

ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
(18) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم
ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين.
(19) الذين يصدون عن سبيل الله: عن دينه. ويبغونها عوجا: يطلبون لسبيل
الله زيغا عن الاستقامة يحرفونها بالتأويل، أو يبغونها بالانحراف عن الحق والصواب. وهم
بالآخرة هم كافرون.
العياشي: عن الباقر عليه السلام هم أربعة ملوك من قريش يتبع بعضهم
بعضا.
أقول: الملوك الأربعة: الثلاثة، ومعاوية.
وعن الصادق عليه السلام: الاشهاد: هم الأئمة عليهم السلام.
القمي: يعني بالاشهاد: الأئمة عليهم السلام، (ألا لعنة الله على الظالمين): آل محمد
حقهم، (يصدون عن سبيل الله): عن طريق الله وهي الإمامة، (يبغونها عوجا) حرفوها إلى
غيرها.
(20) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ما كانوا معجزين الله في
الدنيا أن يعاقبهم. وما كان لهم من دون الله من أولياء: يمنعونهم من العقاب لو أراد
عقابهم ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم. يضاعف لهم العذاب ما
كانوا يستطيعون السمع: لتصامهم عن الحق وبغضهم له.
القمي: قال: ما قدروا أن يسمعوا بذكر أمير المؤمنين عليه السلام. وما كانوا
يبصرون: لتعاميهم عن آيات الله.
(21) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون: خسروا
بما بذلوا، وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة.
القمي: بطل الذين دعوه غير أمير المؤمنين عليه السلام.
439

(22) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون: لا أحد أبين وأكثر خسرانا
منهم.
(23) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم: اطمأنوا إليه
وخشعوا له. أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
(24) مثل الفريقين: الكافر والمؤمن. كالأعمى والأصم: كالأعمى وكالأصم
أو كالأعمى الأصم. والبصير والسميع: كالبصير وكالسميع، أو كالبصير السميع، وذلك
لتعامي الكافر عن آيات الله، وتصامه عن استماع كلام الله، وتأبيه عن تدبر معانيه. هل
يستويان مثلا أفلا تذكرون: بضرب الأمثال والتأمل فيها.
(25) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أنى لكم: بأني لكم وقرئ بالكسر. نذير مبين
بين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص.
(26) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم: مؤلم، قد سبق
ذكر اسم نوح ونسبه وشريعته والبشارة به في سورة الأعراف.
(27) فقال الملاء: الاشراف. الذين كفروا من قومه ما نريك إلا بشرا مثلنا:
لا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. وما نريك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا:
أخساؤنا.
القمي: يعني الفقراء والمساكين. بادي الرأي: ظاهر الرأي من غير تعمق من
البدو أو أول الرأي من البدء وإنما استرذلوهم لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من
الحياة الدنيا كان الاحظ بها أشرف عندهم والمحروم أرذل. وما نرى لكم: لك ولمتبعيك.
علينا من فضل: يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. بل نظنكم كاذبين: أنت في دعوى
النبوة، وإياهم في دعوى العلم بصدقك.
(28) قال يا قوم أرأيتم: أخبروني. إن كنت على بينة من ربى: حجة شاهدة
بصحة دعواي. وآتاني رحمة من عنده: بإيتاء البينة أو النبوة. فعميت عليكم: فخفيت
440

عليكم واشتبهت حتى لم تعرفوها ولم تفهموها فلم تهدكم، وقرئ بضم العين وتشديد الميم.
أنلزمكموها: أنكرهكم على الاهتداء بها. وأنتم لها كارهون: لا تختارونها ولا تتأملون
فيها.
(29) ويا قوم لا أسألكم عليه على التبليغ. مالا: جعلا. إن أجرى إلا على
الله: فإنه المأمول منه. وما أنا بطارد الذين آمنوا: يعني الفقراء وهو جواب لهم حين سألوا
طردهم. إنهم ملقوا ربهم: يلاقونه ويفوزون بقربه فيخاصمون طاردهم فكيف أطردهم.
ولكني أراكم قوما تجهلون: الحق وأهله أو تتسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل.
(30) ويا قوم من ينصرني من الله: بدفع انتقامه. إن طردتهم: وهم بتلك
المثابة. أفلا تذكرون: لتعرفوا أن التماس طردهم وتوقيف الايمان عليه ليس بصواب.
(31) ولا أقول لكم عندي خزائن الله: خزائن رزقه حتى جحدتم فضلي. ولا
أعلم الغيب: ولا أقول إني أعلم الغيب حتى تكذبوني، استبعادا أو حتى أعلم أن هؤلاء
اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب. ولا أقول إني ملك: حتى تقولوا ما أنت
إلا بشر مثلنا. ولا أقول للذين تزدرى أعينكم: ولا أقول في شأن من استرذلتموهم
لفقرهم من زرى عليه إذا عابه، وإسناده إلى الأعين للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم
بادي الرؤية من غير روية. لن يؤتيهم الله خيرا: فإن ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما
أتيكم في الدنيا. الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين: أن قلت شيئا من ذلك.
(32) قالوا يا نوح قد جادلتنا: خاصمتنا. فأكثرت جدالنا: فأطلته. فأتنا بما
تعدنا من العذاب. إن كنت من الصادقين: في الدعوى والوعيد فإن مناظرتك لا تؤثر
فينا.
(33) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء: عاجلا أو آجلا. وما أنتم بمعجزين: بدفع
العذاب والهرب منه.
(34) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن
441

يغويكم: بأن علم منكم الاصرار على الكفر فخلاكم وشأنكم.
في قرب الإسناد، والعياشي: عن الرضا عليه السلام يعني الامر إلى الله تعالى
يهدي من يشاء، وزاد العياشي: ويضل والعياشي، والقمي: عن السجاد عليه السلام
نزلت في العباس.
أقول: يعني فيه وفي أمثاله إذا عمم التنزيل. هو ربكم وإليه ترجعون.
(35) أم يقولون افتراه: اعتراض. قل إن افتريته فعلى إجرامي: وباله وقرئ
بفتح الهمزة على الجمع. وأنا برئ مما تجرمون: من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي.
(36) وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس:
فلا تحزن حزن بائس مستكين. بما كانوا يفعلون: أقنطه الله من إيمانهم، ونهاه أن يغتم بما
فعلوه من التكذيب والايذاء.
في الكافي، والعياشي: عن الباقر عليه السلام إن نوحا لبث في قومه ألف سنة إلا
خمسين عاما يدعوهم سرا وعلانية فلما أبوا وعتوا قال رب: (إني مغلوب فانتصر) فأوحى الله
تعالى إليه (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) فلذلك
قال: نوح (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا).
(37) واصنع الفلك بأعيننا: متلبسا بأعيننا عبر بكثرة آلة الحس الذي به
يحفظ الشئ ويراعى عن الاختلال والزيغ عن المبالغة في الحفظ والرعاية على طريقة
التمثيل. ووحينا: إليك كيف تصنعها. ولا تخاطبني في الذين ظلموا: ولا تراجعني فيهم،
ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم. إنهم مغرقون: محكوم عليهم بالإغراق فلا سبيل إلى
كفه.
(38) ويصنع الفلك: حكاية حال ماضيه. وكلما مر عليه ملاء من قومه
سخروا منه: استهزؤا به لعمله السفينة. قيل: أنه كان يعملها في برية بعيدة من الماء أوان
نجرته، وكانوا يضحكون منه، ويقولون: صرت نجارا بعدما كنت نبيا.
442

وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام إن نوحا لما غرس النوى مر عليه قومه
فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون: قد قعد (1) غراسا حتى إذا طال النخل وكان جبارا (2)
طوالا (3) قطعه، ثم نحته (4)، فقالوا: قد قعد نجارا، ثم ألفه فجعله سفينة فمروا عليه فجعلوا
يضحكون ويسخرون ويقولون: قد قعد ملاحا في فلاة من الأرض حتى فرغ منها. قال
إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون: إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق
في الآخرة. فسوف تعلمون.
(39) من يأتيه عذاب يخزيه: يعني به إياهم، وبالعذاب: الغرق. ويحل عليه
عذاب مقيم: دائم وهو عذاب النار.
(40) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور: نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور.
في الكافي، والمجمع: عن الصادق عليه السلام كان التنور في بيت عجوز مؤمنة
في دبر قبلة ميمنة المسجد يعني مسجد الكوفة فقيل له: فإن ذلك موضع زاوية باب الفيل
اليوم ثم سئل وكان بدو وخروج الماء من ذلك التنور؟ فقال: نعم إن الله عز وجل أحب أن
يري قوم نوح آية، ثم إن الله تعالى أرسل المطر يفيض فيضا وفاض الفرات فيضا،
والعيون كلهن فيضا فغرقهم الله وأنجى نوحا ومن معه في السفينة.
وفيه، والعياشي: عنه عليه السلام جاءت امرأة نوح إليه وهو يعمل السفينة
فقالت له: إن التنور قد خرج منه ماء فقام إليه مسرعا حتى جعل الطبق عليه فختمه
بخاتمه فقام الماء فلما فرغ من السفينة جاء إلى خاتمه ففضه وكشف الطبق ففار الماء.
وفي الكافي: عن أمير المؤمنين عليه السلام أن نوحا لما فرغ من السفينة وكان
ميعاده فيما بينه وبين ربه في اهلاك قومه أن يفور التنور ففار، فقالت امرأته: إن التنور قد فار،

1 - وحدد شفرته حتى قعدت كأنها حربة أي صارت ق.
2 - العظيم القوي الطويل ق.
3 - كرمان المفرط الطول ق.
4 - نحته ينحته كيضربه وينصره ويعلمه براه ق.
5 - والمعنى فذلك حاله وحالهم حتى إذا جاء قضاؤنا بنزول العذاب م ن.
443

فار فقام إليه فختمه، فقام الماء وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج، ثم
جاء إلى خاتمه ونزعه يقول الله (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) (وفجرنا الأرض عيونا
فالتقى الماء على أمر قد قدر) قال: وكان نجرها في وسط مسجدكم. قلنا احمل فيها: في السفينة.
من كل زوجين: أي من كل صنف ذكر وصنف أنثى، وقرئ بتنوين كل أي من كل نوع
من الحيوانات المنتفع بها زوجين. اثنين: ذكرا وأنثى. وأهلك: أريد امرأته وبنوه ونساؤهم. إلا
من سبق عليه القول: بأنه من المغرقين أريد ابنه كنعان وامرأته وأهلة فإنهما كانا
كافرين. ومن آمن: والمؤمنين من غيرهم. وما آمن معه إلا قليل.
في المجمع: عن الصادق عليه السلام آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر.
وفي المعاني: عن الباقر عليه السلام مثله. والقمي: عن الصادق عليه السلام في
حديث فلما فرغ نوح من اتخاذ السفينة أمره الله أن ينادي بالسريانية لا يبقى بهيمة ولا
حيوان إلا حضر فأدخل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين السفينة وكان الذين
آمنوا به من جميع الدنيا ثمانين (1) رجلا فقال الله عز وجل: (احمل فيها من كل زوجين اثنين) الآية، وكان
نجر السفينة في مسجد الكوفة، فلما كان في اليوم الذي أراد الله عز وجل إهلاكهم كانت
امرأة نوح تخبر في الموضع الذي يعرف بفار التنور في مسجد الكوفة، وكان نوح عليه
السلام قد اتخذ لكل ضرب من أجناس الحيوان موضعا في السفينة، وجمع لهم فيها ما
يحتاجون إليه من الغذاء، فصاحت امرأته لما فار التنور فجاء نوح إلى التنور فوضع عليه
طينا وختمه حتى أدخل جميع الحيوان السفينة، ثم جاء إلى التنور ففض الخاتم، ورفع
الطين، وانكسفت الشمس، وجاء من السماء ماء منهمر صب بلا قطر، وتفجرت الأرض
عيونا وهو قوله سبحانه: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى
الماء على أمر قد قدر). وعن الباقر عليه السلام ليس كل من في الأرض من بني آدم من
ولد نوح عليه السلام قال الله تعالى في كتابه: (احمل فيها من كل زوجين اثنين) إلى قوله:

1 - أقول لا تنافي بين ما سبق من أنه امن معه من قومه ثمانية نفر وبين هذا الحديث من كون الذين آمنوا معه من
جميع الدنيا ثمانين رجلا جواز أن يكون المراد بالثمانية الذين كانوا في قومه بنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم وزوجته
المسلمة وبنته ويكون الباقي من الثمانين من غير أهله (منه رحمه الله).
444

(ومن آمن) وقال: (ذرية من حملنا مع نوح عليه السلام).
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام حمل نوح في السفينة الأزواج
الثمانية التي قال الله (ثمنية أزواج) فكان من الضأن اثنين زوج داجنة (1) يربيها الناس
والزوج الآخر الضأن التي تكون في الجبال الوحشية أحل لهم صيدها الحديث.
وقد سبق تمامه في سورة الأنعام. وفي المجمع، والقمي: عنه عليه السلام
لما أراد الله هلاك قوم نوح عليه السلام عقم أرحام النساء أربعين سنة فلم يلد لهم
مولود ولما فرغ نوح من اتخاذ السفينة أمره الله أن ينادي بالسريانية أن يجتمع جميع
الحيوانات فلم يبق حيوان إلا حضر فأدخل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين
ما خلا الفأر والسنور، وأنهم لما شكوا من سرقين الدواب والقذر دعا بالخزير فمسح
جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج فأر فتناسل فلما كثروا شكوا إليه منها فدعا بالأسد
فمسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج سنور. وفي حديث آخر أنهم شكوا العذرة فأمر
الله تعالى الفيل فعطس فسقط الخنزير.
والعياشي: عنه عليه السلام إن نوحا حمل الكلب في السفينة ولم يحمل ولد الزنا.
وعنه عليه السلام: ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له شهادة، ولا يؤم بالناس، لم يحمله نوح في
السفينة، وقد حمل فيها الكلب والخنزير.
وفي العلل: عن الرضا عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم
السلام أنه سئل ما بال الماعز معرقبة الذنب بادية الحياء والعورة؟ فقال: لأن الماعز عصت
نوحا لما أدخلها السفينة فدفعها فكسر ذنبها، والنعجة مستورة الحياء والعورة، لأن النعجة
بادرت بالدخول إلى السفينة فمسح نوح يده على حيائها وذنبها فاستوت الالية.
وفي الخصال: عن الرضا عليه السلام أتخذ نوح في الفلك تسعين بيتا للبهائم.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام أن الله أمر نوحا أن يحمل في السفينة من

1 - دجن الحمام والشاة الفت وهي داجنة.
445

كل زوجين اثنين فحمل الفحل والعجوة فكانا زوجا.
في الكافي، والعياشي: عنه عليه السلام كان طول سفينة نوح عليه السلام
ألف ذراع ومأتي ذراع، وعرضها ثمانمأة ذراع، وطولها في السماء ثمانين ذراعا.
والقمي: عنه عليه السلام مثله كما يأتي. وفي العيون في الخبر الشامي ذكر
الطول ثمانمأة: والعرض خمسمأة.
وفي الكافي عنه عليه السلام في فضل مسجد الكوفة، قال ومنه فار التنور، وفيه
نجرت السفينة.
ومثله في المجمع: عن الباقر عليه السلام. وفي رواية في الكافي: ومنه سارت.
والعياشي: عن سلمان، عن أمير المؤمنين عليه السلام في فضله، فيه نجر نوح
سفينته، وفيه فار التنور، وبه كان بيت نوح ومسجده.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام وكان منزل نوح عليه السلام
وقومه في قرية على منزل من الفرات مما يلي غربي الكوفة، وكان نوح عليه السلام رجلا
نجارا فجعله الله نبيا وانتجبه، ونوح عليه السلام أول من عمل سفينة تجري على ظهر
الماء قال: ولبث نوح في قومه (ألف سنة إلا خمسين عاما) يدعوهم إلى الهدى فيمرون به
ويسخرون منه، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: يا رب لا تذر على الأرض من
الكافرين ديارا فأوحى الله إليه يا نوح اصنع الفلك وأوسعها وعجل عملها
بأعيننا ووحينا، فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده يأتي بالخشب من
بعد حتى فرغ منها سئل في كم عمل نوح عليه السلام سفينته حتى فرغ منها قال:
في دورين، قيل: وكم الدورين؟ قال: ثمانون سنة، قيل: فإن العامة يقولون عملها في خمسمائة
عام فقال: كلا والله، كيف والله يقول (ووحينا).
أقول: آخر الحديث يحتمل معنيين أحدهما: إن ما يكون بأمر الله وتعليمه كيف
يطول زمانه إلى هذه المدة، والثاني: أن يكون قد فسر الوحي هنا بالسرعة والعجلة فإنه
446

جاء بهذا المعنى، يقال: الوحا الوحا ممدودا ومقصورا يعني البدار البدار، والمعنى الثاني أتم
في الاستشهاد.
(41) وقال اركبوا فيها: صيروا فيها راكبين كما يركب الدواب في البر بسم
الله مجريها ومرساها: مسمين الله قائلين ذلك، ومعناه بالله، اجراؤها وارساؤها،
والقمي: عن الصادق عليه السلام أي مسيرها وموقفها، وقرء مجريها بفتح الميم.
إن ربى لغفور رحيم: أي لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم.
(42) وهي تجرى بهم في موج: من الطوفان. كالجبال: كل موجة منها كجبل
في تراكمها وارتفاعها.
في الخصال: عن الكاظم عليه السلام، وفي العيون: عن الرضا عليه السلام أن
نوحا عليه السلام لما ركب السفينة أوحى الله إليه: يا نوح إن خفت الغرق فهللني ألفا،
ثم سلني النجاة أنجك من الغرق ومن آمن معك، قال: فلما استوى نوح ومن معه في
السفينة ورفع القلس (القلص خ ل) عصفت الريح عليهم فلم يأمن نوح عليه السلام
واعجلته الريح فلم يدرك أن يهلل ألف مرة فقال: بالسريانية هيلوليا ألفا ألفا يا ماريا
أتقن قال فاستوى القلص واستمرت السفينة، فقال نوح عليه السلام: إن كلاما نجاني
الله به من الغرق لحقيق أن لا يفارقني، قال: فنقش في خاتمه لا إله إلا الله ألف مرة يا
رب اصلح.
وفي الاحتجاج: عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إن نوحا لما ركب السفينة وخاف الغرق قال: اللهم إني أسألك بمحمد وآل محمد لما
أنجيتني من الغرق فنجاه الله عز وجل. ونادى نوح ابنه: كنعان.
القمي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام ليس بابنه إنما هو ابن امرأته وهو
لغة طي يقولون لابن الامرأة ابنه، يعني بفتح الهاء.
في المجمع: عن علي والباقر والصادق عليهم السلام إنهم قرأوا كذلك.
447

وروي أيضا ابنها والضمير لامرأته. وكان في معزل: أي مكان عزل فيه نفسه
عن المركب. يا بنى اركب معنا: في السفينة. ولا تكن مع الكافرين.
القمي: عن الصادق عليه السلام نظر نوح عليه السلام إلى ابنه يقع ويقوم،
فقال له: (يا بنى اركب) الآية. (43) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء: في الفقيه: عن الصادق عليه
السلام إنه قال حين أشرف على النجف -: هو الجبل الذي اعتصم به ابن جدي نوح،
عليه السلام فقال: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) فأوحى الله إليه يا جبل أيعتصم
بك مني أحد؟ فغار في الأرض، وتقطع إلى الشام. وفي العلل: ما يقرب منه. قال لا عاصم
اليوم من أمر الله إلا من رحم: إلا الراحم وهو الله تعالى. وحال بينهما الموج: بين نوح
وابنه. فكان من المغرقين.
(44) وقيل يا أرض ابلعي ماءك: أنشفي.
العياشي: عن الصادق عليه السلام نزلت بلغة الهند إشربي، وفي رواية حبشية.
ويا سماء اقلعي: أمسكي نداء الأرض والسماء بما ينادي به العقلاء مما يدل على كمال
القدرة والاقتدار، وإن هذه الاجرام العظيمة منقادة لتكوينه فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه
عارفون جلالته وعظمته يتمثلون أمره على الفور من غير ريث. وغيض الماء: نقص. وقضى
الأمر: وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين. واستوت على الجودى:
واستقرت عليه، وهو جبل بالموصل. وقيل بعدا للقوم الظالمين: أصله بعد بعدا بعيدا لا
يرجى عوده، ثم استعير للهلاك، وخص بدعاء السوء، قيل الآية في غاية الفصاحة لفخامة
لفظها، وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال مع الايجاز الخالي عن الاخلال، وإيراد
الاخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه مستغني عن
ذكره إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم بأن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليه سوى الواحد
القهار.
القمي: عن الصادق عليه السلام في حديث فدارت السفينة وضربتها الأمواج
448

حتى وافت مكة، وطافت بالبيت، وغرق جميع الدنيا إلا موضع البيت، وإنما سمي البيت
العتيق لأنه أعتق من الغرق، فبقي الماء ينصب من السماء أربعين صباحا، ومن الأرض
العيون حتى ارتفعت السفينة فمسحت السماء، قال فرفع نوح عليه السلام يده فقال: يا
رهمان اتقن، وتفسيرها يا رب أحسن، فأمر الله عز وجل الأرض أن تبلع ماءها وهو قوله عز
وجل: (يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي) أي امسكي (وغيض الماء وقضى الأمر
واستوت على الجودى)، فبلعت الأرض ماءها فأراد ماء السماء أن يدخل في الأرض
فامتنعت الأرض من قبولها وقالت: إنما أمرني الله أن أبلع مائي فبقي ماء السماء على وجه
الأرض، واستوت السفينة على جبل الجودي، وهو بالموصل جبل عظيم فبعث الله عز
وجل جبرئيل فساق الماء إلى البحار حول الدنيا.
والعياشي: ما يقرب من بعض ما تضمن هذا الحديث وهو دعاء نوح عليه
السلام وقصة امتناع الأرض.
وفي التهذيب: عنه عليه السلام إن الله عز وجل أوحى إلى نوح عليه السلام
وهو في السفينة أن يطوف بالبيت أسبوعا فطاف بالبيت كما أوحى إليه، ثم نزل في الماء
إلى ركبتيه فاستخرج تابوتا فيه عظام آدم فحمله في جوف السفينة حتى طاف ما شاء
الله أن يطوف، ثم ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها ففيها قال الله للأرض: (ابلعي
ماءك) فبلعت ماءها من مسجد الكوفة كما بدأ الماء منه، وتفرق الجمع الذي كان مع نوح
عليه السلام في السفينة.
وفي الكافي: عن الكاظم عليه السلام إن نوحا كان في السفينة وكان فيها ما
شاء الله وكانت السفينة مأمورة فطاف بالبيت وهو طواف النساء، وخلى سبيلها نوح عليه
السلام فأوحى الله عز وجل إلى الجبال إني واضع سفينة نوح عليه السلام عبدي على
جبل منكن فتطاولت وشمخت وتواضع الجودي، وهو جبل عندكم فضربت السفينة
بجؤجؤها الجبل، قال: فقال نوح عند ذلك: يا ماري أتقن وهو بالسريانية: رب إصلح.
وفي المجمع، والعياشي: ما يقرب منه، قال: وهو جبل بالموصل.
449

والعياشي: عن الباقر عليه السلام سمع نوح عليه السلام صرير السفينة على
الجودي فخاف عليها فأخرج رأسه من كوة كانت فيها فرفع يده وأشار بإصبعه وهو
يقول: (يا رهمان اتقن) تأويلها رب أحسن.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام أنه سئل كم لبث نوح عليه
السلام ومن معه في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها؟ فقال: لبثوا فيها سبعة أيام
ولياليها، فطاف بالبيت أسبوعا، ثم استوت على الجودي، وهو فرات الكوفة. وفي رواية
وسعت بين الصفا والمروة.
وفي الكافي: عنه عليه السلام ارتفع الماء على كل جبل وعلى كل سهل خمسة
عشر ذراعا.
أقول: لعل ارتفاعه هذا المقدار بعدما استوى على الجميع وخفي فيه كل
سهل وجبل.
وفي الخصال: عنه عليه السلام إن نوحا عليه السلام لما كان أيام الطوفان دعا
مياه الأرض فأجابته إلا الماء المر والكبريت.
(45) ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق: وقد
وعدت أن تنجي أهلي. وأنت أحكم الحاكمين: أعدلهم وأعلمهم.
(46) قال يا نوح إنه ليس من أهلك: الذين وعدتك بنجاتهم لأنه ليس على
دينك.
في المجمع، والعياشي، والعيون: عن الرضا، عليه السلام إن الله قال لنوح: إنه
ليس من أهلك لأنه كان مخالفا له، وجعل من اتبعه من أهله. إنه عمل غير صالح:
تعليل لنفي كونه من أهله، وجعلت ذاته عملا غير صالح مبالغة في ذمه، وقرئ: عمل بصيغة
الماضي وغير بالفتح: أي عمل عملا غير صالح.
وفي العيون: عن الرضا عليه السلام كيف تقرؤن هذه الآية؟ قيل: من الناس
450

من يقرأ: أنه عمل غير صالح، ومنهم من يقرأ: أنه عمل غير صالح فمن قرأ أنه عمل غير
صالح نفاه عن أبيه، فقال: كلا لقد كان ابنه ولكن لما عصى الله نفاه عن أبيه، كذا من
كان منا لم يطع الله فليس منا. وفي رواية أخرى نفاه عنه حين خالفه في دينه.
والعياشي: ما في معنى الرواية الثانية. فلا تسألن ما ليس لك به علم: ما لا
تعلم أصواب هو أم لا حتى تعرف كنهه، وقرئ تسألن بفتح اللام وتشديد النون المفتوحة،
وبكسر النون المشددة وإثبات الياء. إني أعظك أن تكون من الجاهلين.
(47) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك: فيما يستقبل. ما ليس لي به علم ما
لا علم لي بصحته تأدبا بأدبك واتعاظا بموعظتك. وإلا تغفر لي: ما فرط مني من السؤال.
وترحمني: بالتوبة والتفضل علي. أكن من الخاسرين: أعمالا، قاله على سبيل الخضوع لله
والتذلل والاستكانة.
(48) قيل يا نوح اهبط بسلام منا أنزل من السفينة مسلما من المكاره
محفوظا من جهتنا. وبركات عليك: ومباركا عليك، والبركات: الخيرات النامية. وعلى أمم
ممن معك: يعني في السفينة لأنهم كانوا جماعات أو لتشعب الأمم منهم. وأمم سنمتعهم:
أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا. ثم يمسهم منا عذاب أليم: أراد بهم الكفار من
ذرية من معه.
القمي: عن الصادق عليه السلام فنزل نوح بالموصل من السفينة مع الثمانين،
وبنوا مدينة الثمانين، وكانت لنوح عليه السلام ابنة ركبت معه السفينة فتناسل الناس
منها، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم نوح أحد الأبوين.
(49) تلك: إشارة إلى قصة نوح عليه السلام. من أنباء الغيب: أي بعضها.
نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر: على مشاق الرسالة
وإيذاء القوم كما صبر نوح. عليه السلام إن العاقبة: في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز.
للمتقين: عن الشرك والمعاصي.
القمي: عن الصادق عليه السلام بقي نوح عليه السلام في قومه ثلاث مأة
451

سنة يدعوهم إلى الله عز وجل فلم يجيبوه فهم أن يدعو عليهم فوافاه عند طلوع
الشمس اثنا عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة السماء الدنيا وهم العظماء من الملائكة،
فقال لهم نوح عليه السلام: من أنتم؟ فقالوا: نحن اثنا عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة
السماء الدنيا، وإن غلظ مسيرة السماء الدنيا خمسمأة عام، ومن السماء الدنيا إلى الدنيا
خمسمأة عام، وخرجنا عند طلوع الصبح ووافيناك في هذا الوقت فنسألك أن
لا تدعو على قومك، فقال نوح: قد أجلتهم ثلاثمأة سنة، فلما أتى عليهم ستمأة
سنة ولم يؤمنوا هم أن يدعو عليهم فوافاه اثنا عشر ألف قبيل من
قبائل ملائكة السماء الثانية، فقال نوح عليه السلام: من أنتم؟ قالوا: نحن اثنا
عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة السماء الثانية وغلظ السماء الثانية مسيرة
خمسمأة عام ومن السماء الثانية إلى السماء الدنيا مسيرة خمسمأة عام، وغلظ
السماء الدنيا مسيرة خمسمأة عام، ومن السماء الدنيا إلى الدنيا مسيرة خمسمأة عام
خرجنا عند طلوع الشمس، ووافينا ضحوة نسألك أن لا تدعو على قومك، فقال نوح
عليه السلام: قد أجلتهم ثلاثمأة سنة، فلما أتى عليهم تسعمأة سنة ولم يؤمنوا هم أن يدعو
عليهم فأنزل عز وجل (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون)
فقال نوح: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا
يلدوا إلا فاجرا كفارا) فأمره الله عز وجل أن يغرس النخل فأقبل بغرس النخل، فكان
قومه يمرون به ويسخرون منه، ويستهزؤن به، ويقولون: شيخ قد أتى له تسعمأة سنة
يغرس النخل، وكانوا يرمونه بالحجارة، فلما أتى لذلك خمسون سنة وبلغ النخل واستحكم
أمر بقطعه فسخروا منه، وقالوا: بلغ النخل مبلغه وهو قوله عز وجل (وكلما مر عليه ملأ من
قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون)
فأمره الله أن يتخذ السفينة وأمر جبرئيل أن ينزل عليه ويعلمه كيف يتخذها فقدر طولها
في الأرض ألفا ومأتي ذراع، وعرضها ثمانمأة ذراع، وطولها في السماء ثمانون ذراعا، فقال: يا
رب من يعينني على اتخاذها فأوحى الله عز وجل إليه ناد في قومك من أعانني عليها
ونجر منها شيئا صار ما ينجره ذهبا وفضة، فنادى نوح عليه السلام فيهم بذلك فأعانوه
452

عليه، وكانوا يسخرون منه، ويقولون: سفينة يتخذ في البر.
وفي الاكمال: عنه وأما إبطاء نوح عليه السلام فإنه لما استنزل العقوبة على
قومه من السماء بعث الله تعالى جبرئيل الروح الأمين معه سبع نوايات فقال: يا نبي الله
إن الله تعالى يقول لك: إن هؤلاء خلائقي وعبادي لست أبيدهم بصاعقة من صواعقي
إلا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجة فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك فإني مثيبك عليه،
وأغرس: هذا النوى فإن لك في نباتها وبلوغها وادراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص،
فبشر بذلك من اتبعك من المؤمنين، فلما نبتت الأشجار وتأزرت وتسوقت واغتصنت
وزهى التمر عليها بعد زمان طويل استنجز من الله العدة فأمره الله تعالى أن يغرس نوى
تلك الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد، ويؤكد الحجة على قومه فأخبر بذلك الطوائف
التي آمنت به، فارتد منهم ثلاثمأة رجل، وقالوا لو كان ما يدعيه نوح عليه السلام حقا لما
وقع في وعد ربه خلف، ثم إن الله تعالى لم يزل يأمره عند كل مرة بأن يغرسها تارة بعد
أخرى إلى أن غرسها سبع مرات، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتد منهم طائفة
بعد طائفة إلى أن عاد إلى نيف وسبعين رجلا فأوحى الله إليه عند ذلك وقال: يا نوح
الآن أسفر الصبح عن الليل، لنعينك حين صرح الحق عن محضه، وصفا من الكدر
بارتداد كل من كانت طينته خبيثة فلو أني أهلكت الكفار وأبقيت من قد ارتد من
الطوائف التي كانت آمنت بك لما كنت صدقت وعدي السابق للمؤمنين الذين أخلصوا
التوحيد من قومك، واعتصموا بحبل نبوتك بأني أستخلفهم في الأرض، وأمكن لهم دينهم،
وأبدلهم خوفهم بالأمن، لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشرك من قلوبهم، وكيف يكون
الاستخلاف والتمكين وبذل الامن مني لهم مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الذين
ارتدوا وخبث طينتهم وسوء سرائرهم التي كانت نتائج النفاق وسنوخ الضلالة، فلو أنهم
تنسموا من الملك الذي أوتي المؤمنين وقت الاستخلاف إذ أهلكت أعداؤهم لنشقوا
روايح صفاته ولاستحكمت مراير نفاقهم وثارت خبال ضلالة قلوبهم، ولكاشفوا إخوانهم
بالعداوة، وحاربوهم على طلب الرياسة، والتفرد بالأمر والنهي، وكيف يكون التمكين في
453

الدين وانتشار الامر في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب؟ كلا (فاصنع الفلك بأعيننا ووحينا).
وفي العيون عن الرضا عليه السلام إنه قيل له يا ابن رسول الله لا
علة أغرق الله الدنيا كلها في زمن نوح عليه السلام وفيهم الأطفال وفيهم من لا ذنب له؟ فقال: ما
كان فيهم الأطفال، لأن الله أعقم أصلاب قوم نوح وأرحام نسائهم أربعين عاما فانقطع
نسلهم فغرقوا ولا طفل فيهم، وما كان الله تعالى ليهلك بعذابه من لا ذنب له، وأما الباقون من
قوم نوح فأغرقوا بتكذيبهم لنبي الله نوح وسائرهم أغرقوا برضاهم بتكذيب المكذبين، ومن
غاب عن أمر فرضي به كان كمن شهد.
وفي الكافي، والاكمال: عن الصادق عليه السلام لما حسر (1) الماء عن عظام الموتى
فرأى ذلك نوح عليه السلام جزع جزعا شديدا واغتم لذلك فأوحى الله عز وجل هذا
عملك أنت دعوت عليهم، قال يا رب: إني أستغفرك وأتوب إليك فأوحى الله إليه أن كل
العنب الأسود ليذهب غمك.
وعنه عليه السلام: كانت أعمار قوم نوح ثلاثمأة سنة.
وفي الكافي: عنه عليه السلام عاش نوح ألفي سنة وثلاث مأة سنة، منها: ثمانمأة
سنة وخمسون سنة قبل أن يبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما وهو في قومه يدعوهم،
وخمسمأة عام بعدما نزل من السفينة ونضب الماء، فمصر الأمصار، وأسكن ولده البلدان،
ثم أن ملك الموت جاءه وهو في الشمس فقال: السلام عليك فرد عليه نوح عليه السلام
فقال: ما جاء بك يا ملك الموت؟ فقال: جئتك لأقبض روحك، قال: دعني أدخل من
الشمس إلى الظل، فقال له: نعم فتحول، ثم قال: يا ملك الموت كل ما مر بي من الدنيا
مثل تحويلي من الشمس إلى الظل فامض لما أمرت به فقبض روحه.
وعنه عليه السلام: عاش نوح عليه السلام بعد الطوفان خمسمأة سنة ثم أتاه
جبرئيل فقال: يا نوح إنه قد انقضت نوبتك واستكملت أيامك فانظر إلى الاسم الأكبر، وميراث
العلم، وآثار علم النبوة التي معك فادفعها إلى ابنك سام فإني لا أترك الأرض إلا وفيها عالم
تعرف به طاعتي، ويعرف به هداي، وتكون النجاة فيما بين مقبض النبي ومبعث النبي

1 - حسره يحسره كشفه والشئ حسورا انكشف ق
454

الآخر ولم أكن أترك الناس بغير حجة لي وداع إلي وهاد إلى سبيلي وعارف بأمري فإني
قد قضيت أن أجعل لكل قوم هاديا أهدي به السعداء ويكون حجة لي على الأشقياء،
قال: فدفع نوح الاسم الأكبر، وميراث العلم، وآثار علم النبوة إلى سام، وأما حام ويافث
فلم يكن عندهما علم ينتفعان به، قال: وبشرهم نوح بهود وأمرهم باتباعه وأمرهم أن
يفتحوا الوصية في كل عام وينظروا فيها ويكون عيدا لهم.
(50) وإلى عاد أخاهم هودا أخاهم يعني أحدهم كما سبق بيانه في سورة
الأعراف. قال يا قوم اعبدوا الله وحده. مالكم من إله غيره: وقرء بالجر. إن أنتم إلا
مفترون على الله باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء.
(51) يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذي فطرني: خاطب
كل رسول به قومه إزاحة للتهمة، وتمحيصا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة
بالمطامع. أفلا تعقلون: أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل، والصواب من
الخطأ.
(52) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه: اطلبوا مغفرة الله بالأيمان، ثم
توسلوا إليها بالتوبة. يرسل السماء عليكم مدرارا: كثير الدر. ويزدكم قوة إلى قوتكم
ويضاعف قوتكم، قيل: رغبهم في الايمان بكثرة المطر، وزيادة القوة، لأنهم كانوا أصحاب
زروع وبساتين، وكانوا يدلون بالقوة والبطش. ولا تتولوا: ولا تعرضوا عني وعما أدعوكم
إليه. مجرمين: مصرين على إجرامكم.
(53) قالوا يا هود ما جئتنا ببينة: بحجة تدل على صحة دعواك، وهو كذب
وجحود، لفرط عنادهم، وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. وما نحن بتاركي آلهتنا
بتاركي عبادتهم. عن قولك وما نحن لك بمؤمنين اقناط له من الإجابة والتصديق.
(54) إن نقول إلا اعتراك: أصابك. بعض آلهتنا بسوء بجنون لسبك إياها
وصدك عنها، فمن ثمة تتكلم بكلام المجانين. قال إني أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما
تشركون.
(55) من دونه: من إشراككم آلهة من دونه. فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون
واجههم بهذا الكلام مع قوتهم وشدتهم وتعطشهم إلى إراقة دمه ثقة بالله واعتمادا
455

على عصمته إياه، واستهانة بهم وبكيدهم وإن اجتمعوا عليه وتواطئوا على إهلاكه.
(56) إني توكلت على الله ربى وربكم: تقرير له، والمعنى: وإن بذلتم غاية
وسعكم لن تضروني فإني متوكل على الله واثق بكلامه، وهو مالكي ومالككم، ولا يحيق بي
ما لم يرده، ولا تقدرون على ما لم يقدره. ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أي إلا وهو
مالك لها، قاهر عليها، يصرفها على ما يريد بها، والاخذ بالناصية تمثيل لذلك. إن ربى على
صراط مستقيم: أنه على الحق والعدل، لا يضيع عنده معتصم، ولا يفوته ظالم.
العياشي: عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه يعني إنه على حق يجزي
بالإحسان إحسانا، وبالسئ سيئا، ويعفو عمن يشاء ويغفر سبحانه وتعالى.
(57) فإن تولوا: فإن تتولوا. فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم: فقد أديت ما
علي من الابلاغ وإلزام الحجة. ويستخلف ربى قوما غيركم: وعيد لهم بالإهلاك
والاستبدال. ولا تضرونه شيئا: بتوليكم. إن ربى على كل شئ حفيظ: رقيب، فلا يخفى
عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم.
(58) ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من
عذاب غليظ: تكرير لبيان ما نجاهم عنه أو المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة أيضا
والتعريض بأن المهلكين كما عذبوا بالدنيا فهم معذبون في الآخرة بالعذاب
الغليظ.
(59) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم: كفروا بها. وعصوا رسله: لأنهم إذا
عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله. واتبعوا أمر كل جبار عنيد: يعني رؤساؤهم
الدعاة إلى تكذيب الرسل.
(60) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة: أي جعلت اللعنة تابعة لهم
في الدارين تكبهم (1) في العذاب. ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود: دعاء
عليهم بالهلاك، ودلالة بأنهم كانوا مستوجبين لما نزل بهم، وفي تكرير (ألا) وإعادة ذكر عاد

1 - قوله تعالى فمن يمشي مكبا آه أي ملقى على وجهه يقال ذلك لكل ساير أي ماش كان على اربع قوائم أو لم يكن
يقال كببت فلانا كبا القينة على وجهه فأكب هو بالألف وهي من النوادر التي يعدى ثلاثيها دون رباعيها من.
456

تفظيع لأمرهم وحثهم على الاعتبار بحالهم، والحذر من مثل أفعالهم، وإنما قيل: قوم هود،
ليتميزوا عن عاد ارم.
القمي: إن عادا كانت بلادهم في البادية من المشرق إلى الاجفر (1) أربعة منازل،
وكان لهم زرع ونخل كثير، ولهم أعمار طويلة، وأجسام طويلة، فعبدوا الأصنام، وبعث الله
إليهم هودا يدعوهم إلى الاسلام وخلع الأنداد فأبوا ولم يؤمنوا بهود، وآذوه فكفت السماء
عنهم سبع سنين حتى قحطوا، وكان هود زراعا، وكان يسقي الزرع فجاء قوم إلى بابه
يريدونه فخرجت عليهم امرأة شمطاء (2) عوراء (3)، فقالت: من أنتم، فقالوا: نحن من بلاد كذا
وكذا أجدبت بلادنا فجئنا إلى هود نسأله أن يدعو الله حتى يمطر ويخصب بلادنا، فقالت:
لو استجيب لهود لدعا لنفسه، وقد احترق زرعه لقلة الماء، قالوا فأين هو؟ قالت: هو في
موضع كذا وكذا، فجاؤوا إليه فقالوا: يا نبي الله قد أجدبت بلادنا ولم يمطر فسل الله أن
يخصب بلادنا ويمطر فتهيأ للصلاة وصلى ودعا لهم فقال لهم: ارجعوا فقد أمطرتم
وأخصبت بلادكم، فقالوا: يا نبي الله إنا رأينا عجبا قال: وما رأيتم؟ قالوا: رأينا في منزلك
امرأة شمطاء عوراء قالت لنا: من أنتم ومن تريدون؟ فقلنا: جئنا إلى هود ليدعو الله لنا
فنمطر، فقالت: لو كان هود داعيا لدعا لنفسه، فإن زرعه قد احترق، فقال هود: ذاك أهلي
وأنا أدعو الله لها بطول البقاء، فقالوا وكيف ذلك؟ قال: لأنه ما خلق الله مؤمنا إلا وله عدو
يؤذيه، وهي عدوي فلان يكون عدوي ممن أملكه خير من أن يكون عدوي وممن
يملكني، فبقي هود في قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن عبادة الأصنام حتى أخصبت
بلادهم وأنزل الله تعالى عليهم المطر، وهو قوله عز وجل: (يا قوم استغفروا ربكم) الآيات فلما لم
يؤمنوا أرسل الله عليهم الريح الصرصر (4) يعني الباردة، وهو قوله تعالى في سورة القمر
(كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس

1 - الاجفر موضع بين الخريمية وفيد ق والمراد بلادهم في جانب شرق الاجفر ببعد أربعة منازل منه.
2 - في الحديث لا بأس بجز الشمط ونتفه وجزه أحب إلي من نتفه وهو بالتحريك بياض شعر الرأس يخالط سواده
والرجل اشمط والمرأة شمطاء.
3 - عورت العين عورا من باب تعب نقصت أو غارت والرجل أعور والأنثى عوراء م.
4 - والصرة بالكسر شدة البرد أو البرد كالصر فيهما وأشد الصياح وبالفتح الشدة من الكرب والحرب والحر وريح
صر وصرصر شديد الصوت أو البرد وصر النبات بالضم اصابه الضر.
457

مستمر) وحكي في سورة الحاقة فقال: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم
سبع ليال وثمانية أيام حسوما)، قال: كان القمر منحوسا بزحل سبع ليال وثمانية أيام.
أقول: وقد سبق تمام بيان استيصالهم في سورة الأعراف.
(61) وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
هو أنشأكم من الأرض: هو كونكم منها لا غيره فإنه خلق آدم ومواد النطف التي خلق
نسله منها من التراب. واستعمركم فيها: استبقاكم من العمر أو أمركم بعمارتها.
فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب: منكم. مجيب: لمن دعاه.
(62) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا نرجو منك الخير لما كانت
يلوح منك من مخايلة (1) فكنا نسترشدك في تدابيرنا ونشاورك في أمورنا فالآن انقطع رجاؤنا
عنك وعلمنا أن لا خير فيك. أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا
إليه: من التوحيد والتبري عن الأوثان. مريب: موقع في الريبة أو ذي ريبة.
(63) قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى: بيان وبصيرة. واتاني
منه رحمة: نبوة. فمن ينصرني من الله: فمن يمنعني من عذابه. إن عصيته: في تبليغ
رسالته والنهي عن الاشراك به. فما تزيدونني إذا باستتباعكم إياي. غير تخسير: غير
أن أنسبكم إلى الخسران أو غير أن تخسروني بإبطال ما منحني الله به.
(64) ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله: ترع
نباتها وتشرب ماءها. ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب: عاجل.
(65) فعقروها فقال تمتعوا في داركم: عيشوا في منازلكم أو بلدكم. ثلاثة
أيام: ثم تهلكون. ذلك وعد غير مكذوب.
(66) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا برحمة منا ومن خزى يومئذ:
أي ونجيناهم من خزي ذلك اليوم، وذله وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان

1 - والمخايل جمع المخيلة وهي ما يوقع في الخيال يعني به الامارات وخلت الشئ خيلا ومخيلا ظننته.
458

هلاكه بغضب الله وبأسه، أو أريد بيومئذ: يوم القيامة، وقرئ يومئذ: بفتح الميم بناء على بنائه
حين أضيف إلى إذ. إن ربك هو القوى العزيز: القادر على كل شئ والغالب عليه.
(67) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين: ميتين
وأصل الجثوم: اللزوم في المكان، وقد سبق تفسيره في سورة الأعراف مع تمام القصة.
(68) كأن لم يغنوا فيها: كأن لم يقيموا فيها أحياء. ألا إن ثمود وقرئ منونا.
كفروا ربهم ألا بعدا لثمود.
(69) ولقد جاءت رسلنا إبراهيم: يعني الملائكة. بالبشرى: ببشارة الولد.
في المجمع: عن الصادق عليه السلام كانوا أربعة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل
وكروبيل (1).
وفيه، والعياشي: عن الباقر عليه السلام إن هذه البشارة كانت بإسماعيل من
هاجر. ويأتي من العلل، والعياشي: إنها بإسحاق. قالوا سلاما: سلمنا عليك سلاما أي
سلامة. قال سلام: أي أمركم سلام، وقرئ سلم بالكسر والسكون. فما لبث أن جاء بعجل
حنيذ: مشوى نضيج (2).
العياشي: عن الباقر عليه السلام يعني زكيا مشويا نضيجا. وعن الصادق عليه
السلام: يعني مشويا نضيجا.
وعنه عليه السلام إنه قال: كلوا، فقالوا: لا نأكل حتى تخبرنا ما ثمنه؟ قال: إذا
أكلتم فقولوا: بسم الله، وإذا فرغتم فقولوا: الحمد لله، قال: فالتفت جبرئيل إلى أصحابه
وكانوا أربعة رئيسهم جبرئيل، فقال: حق لله أن يتخذ هذا خليلا.
(70) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه: لا يمدون إليه أيديهم نكرهم: أنكرهم.
وأوجس منهم خيفة: أضمر منهم خوفا إن يريدوا به مكروها. قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى
قوم لوط: إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب، وإنما لم نمد إليه أيدينا لأنا لا نأكل.
(71) وامرأته قائمة: تسمع محاورتهم وهي سارة ابنة لاحج، وهي ابنة خالته.

1 - بفتح الكاف وتخفيف الراء المضمومة.
2 - نضج اللحم والفاكهة نضجا أي استوى وطاب أكله والاسم النضج بضم النون فهو نضيج.
459

العياشي: عن الباقر عليه السلام إنما عنى سارة. فضحكت: سرورا وحاضت من
الفزع.
في العلل، والعياشي: عن الباقر عليه السلام يعني تعجبت من قولهم.
وفي المعاني، والمجمع، والعياشي: عن الصادق عليه السلام حاضت.
والقمي: ضحكت أي حاضت، وقد كان ارتفع حيضها منذ دهر طويل.
أقول: ومنه قول الشاعر: وعهدي بسلمى ضاحكا في لبابة ولم تعد حقا ثديها
أن تحلبا ومنه ضحكت الثمرة (الشجرة خ ل) إذا سال صمغها. فبشرناها بإسحق ومن
وراء إسحق يعقوب: أي ومن بعده. وقيل: الوراء ولد الولد، وقرئ يعقوب بالرفع.
(72) قالت يا ويلتي: يا عجبا وأصله في الشر فأطلق في كل أمر فظيع. أألد
وأنا عجوز وهذا بعلى: زوجي. شيخا: في العلل: عن أحدهما عليهما السلام وهي يومئذ
ابنة تسعين سنة، وإبراهيم يومئذ ابن عشرين ومأة سنة. إن هذا لشئ عجيب: يعني الولد
من الهرمين وهو استعجاب بحسب العادة دون القدرة.
(73) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت: يعني
هذه وأمثالها مما يكرمكم الله به يا أهل بيت النبوة فليس هذا مكان تعجب. إنه حميد:
فاعل ما يستوجب به الحمد. مجيد: كثير الخير والاحسان.
العياشي: عن الصادق عليه السلام قال: أوحى الله إلى إبراهيم أنه سيولد لك،
فقال: لسارة، فقالت: أألد وأنا عجوز؟ فأوحى الله إليه أنها ستلد ويعذب أولادها أربعمأة
سنة بردها الكلام علي، قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجوا وبكوا إلى الله
أربعين صباحا فأوحى الله إلى موسى وهارون نخلصهم من فرعون، فحط عنهم سبعين
ومأة سنة، قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام هكذا أنتم لو فعلتم لفرج الله عنا، فأما إذا لم تكونوا فإن
الامر ينتهي إلى منتهاه.
(74) فلما ذهب عن إبراهيم الروع: أي ما أوجس من الخيفة يعني لما اطمأن
قلبه بعد الخوف. وجاءته البشرى: بدل الروع. يجادلنا في قوم لوط: يجادل رسلنا في
شأنهم ومعناهم، وكان لوط ابن خالته كما سبق ذكره في سورة الأعراف، ومجادلته إياهم أنه
460

قال لهم: إن كان فيها مأة من المؤمنين أتهلكونهم فقال: جبرئيل لا إلى آخر ما يأتي في
قصته.
(75) إن إبراهيم لحليم: غير عجول على من أساء إليه بالانتقام. أواه: كثير
الدعاء.
العياشي: عنهما عليهما السلام قالا دعاء. منيب: راجع إلى الله تعالى بما يحب
ويرضى، والغرض من هذا الكلام بيان الحامل له على المجادلة، وهو رقة قلبه، وفرط ترحمه.
(76) يا إبراهيم: على إرادة القول، أي قالت الملائكة: يا إبراهيم. أعرض عن
هذا عن الجدال، وإن كانت الرحمة دأبك فلا فائدة فيه. إنه قد جاء أمر ربك: قضاؤه وحكمه
الذي لا يصدر إلا عن حكمة. وإنهم آتيهم عذاب غير مردود: لا مرد له بجدال ولا
غيره.
(77) ولما جاءت رسلنا لوطا سيئ بهم: ساءه مجيئهم لأنهم جاؤوا في صورة
غلمان فظن أنهم أناس فخاف عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم. وضاق
بهم ذرعا: وضاق بمكانهم ذرعه، وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه.
وقال هذا يوم عصيب شديد.
(78) وجاءه قومه يهرعون إليه: يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعا لطلب
الفاحشة من أضيافه. ومن قبل: ومن قبل ذلك الوقت. كانوا يعملون السيئات:
الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاؤوا يسارعون إليه مجاهرين. قال يا قوم
هؤلاء بناتي: فتزوجوهن، فدى بهن أضيافه كرما وحمية.
في الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام عرض عليهم التزويج.
والعياشي: عن أحدهما عليهما السلام أنه وضع يده على الباب ثم ناشدهم
فقال: اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، ثم عرض عليهم بناته بنكاح.
والقمي: مقطوعا قال عنى به أزواجهم، وذلك أن النبي هو أبو أمته فدعاهم إلى
الحلال ولم يكن يدعوهم إلى الحرام. هن أطهر لكم: هن أنظف فعلا وأقل فحشا، قيل:
يعني أدبارهن.
461

وفي التهذيب، والعياشي: عن الرضا عليه السلام إنه سئل عن إتيان الرجل
المرأة من خلفها؟ قال: أحله آية من كتاب الله قول لوط: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) وقد
علم أنهم لا يريدون الفرج. فاتقوا الله: في مواقعة الذكور. ولا تخزون: ولا تخجلوني من
الخزاية بمعنى الحياء أو لا تفضحوني من الخزي. في ضيفي: في شأنهم، فإن إخزاء ضيف
الرجل إخزاؤه. أليس منكم رجل رشيد: يهتدي إلى الحق، ويرعوي عن القبيح.
(79) قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق: من حاجة. وإنك لتعلم ما
نريد: عنوا إتيان الذكران.
(80) قال لو أن لي بكم قوة لو قويت بنفسي على دفعكم. أو آوي إلى
ركن شديد: أو أويت إلى قوي أتمنع به عنكم لدفعتكم عن أضيافي، شبه القوي العزيز
بالركن من الجبل في شدته ومنعته، في الجوامع: قال جبرئيل: إن ركنك لشديد افتح الباب
ودعنا وإياهم.
وفي المجمع: عن الصادق عليه السلام لو يعلم أي قوة له، وعن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام رحم الله لوطا لو يدري من معه في الحجرة
لعلم أنه منصور حيث يقول: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) أي ركن أشد من
جبرئيل معه في الحجرة.
(81) قالوا يا لوط إنا رسل ربك: أرسلنا لإهلاكهم فلا تغتم. لن يصلوا إليك:
بسوء أبدا. فأسر بأهلك: من الاسراء وهو السير ليلا، وقرئ بالوصل من السري وهو بمعناه.
بقطع من الليل: بطائفة منه.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام بقطع من الليل مظلما، قال: هكذا قراءة
أمير المؤمنين عليه السلام. ولا يلتفت منكم أحد: ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه. إلا
امرأتك: وقرئ بالرفع. إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب
462

جواب لاستعجال لوط، واستبطائه العذاب، في الجوامع: روي أنه قال: متى موعد اهلاكهم؟
قالوا: الصبح. قال: أريد أسرع من ذلك لضيق صدره بهم، فقالوا (أليس الصبح بقريب).
في العلل، والعياشي: عن الباقر عليه السلام فأسر بأهلك يا لوط إذا مضى لك
من يومك هذا سبعة أيام ولياليها (بقطع من الليل) إذا مضى نصف الليل، قال: فلما كان
اليوم الثامن مع طلوع الفجر قدم الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسحق ويعزونه (1) بهلاك
قوم لوط، وذلك قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى).
(82) فلما جاء أمرنا جعلنا عليها سافلها: بأن جعل جبرئيل جناحه في
أسفلها ثم رفعها إلى السماء ثم قلبها عليهم واتبعوا الحجارة من فوقهم. وأمطرنا عليهم
حجارة من سجيل: من طين متحجر هي معربة من - سنك كل بدليل قوله تعالى: (حجارة
من طين). منضود: نضد معدا لعذابهم أو أرسل بعضه في أثر بعض متتابعا.
القمي: يعني بعضها على بعض منضدة. مسومة: معلمة للعذاب.
القمي: أي منقوطة. عند ربك: في خزائنه. وما هي من الظالمين ببعيد: فإنهم
بظلمهم حقيق بأن يمطر عليهم، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل عن
جبرئيل فقال: يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من
ساعة إلى ساعة.
وفي الكافي: عن الباقر عليه السلام (وما هي من الظالمين ببعيد) ظالمي أمتك، إن
عملوا ما عمل قوم لوط. وفيه، والعياشي: عن الصادق عليه السلام من مات مصرا على
اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجر من تلك الأحجار فيكون فيه منيته،
وزاد العياشي: ولا يراه أحد.
والقمي: عنه عليه السلام ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل عمل قوم لوط
إلا رمى الله كبده من تلك الحجارة تكون منيته بها ولكن الخلق لا يرونه.

1 - العزاء الصبر يقال عزيته تعزية فتعزى (صحاح).
463

والعياشي: عنه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عمل قوم
لوط ما عملوا بكت الأرض إلى ربها حتى بلغ دموعها العرش فأوحى الله عز وجل إلى
السماء أن أحصبهم وأوحى إلى الأرض أن اخسفي بهم.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام قال، كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله
فطلبهم إبليس الطلب الشديد، وكان من فضلهم وخيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل
خرجوا بأجمعهم وتبقى النساء خلفهم ولم يزل إبليس يعتادهم وكانوا إذا رجعوا خرب
إبليس ما كانوا يعملون، فقال بعضهم لبعض: تعالوا نرصد لهذا الذي يخرب متاعنا
فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقالوا له: أنت الذي تخرب متاعنا مرة
بعد مرة؟ فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيتوه عند رجل، فلما كان الليل صاح فقال له: ما
لك؟ فقال: كان أبي ينومني على بطنه فقال له: تعال فنم على بطني، قال: فلم يزل يدلك
الرجل حتى علمه أن يفعل بنفسه فأولا علمه إبليس، والثانية علمه هو، ثم انسل ففر
منهم، وأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام ويعجبهم منه، وهم لا يعرفونه فوضعوا
أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بالرجال بعضهم ببعض، ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق
فيفعلون بهم حتى تنكب (1) مدينتهم الناس، ثم تركوا نساءهم وأقبلوا على الغلمان، فلما رأى
أنه قد أحكم أمره في الرجال جاء إلى النساء فصير نفسه امرأة، ثم قال: إن رجالكن
يفعل بعضهم ببعض قلن نعم قد رأينا ذلك، وكل ذلك يعظهم لوط ويوصيهم، وإبليس
يغويهم حتى استغنى النساء بالنساء فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرئيل
وميكائيل وإسرافيل في زي غلمان عليهم أقبية، فمروا بلوط وهو يحرث، قال: أين تريدون؟
ما رأيت أجمل منكم قط، قالوا: إنا أرسلنا سيدنا إلى رب هذه المدينة، قال: أو لم يبلغ
سيدكم ما يفعل أهل هذه المدينة؟ يا بني والله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج
الدم، فقالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها، قال: فلي إليكم حاجة، قالوا: وما هي؟ قال: تصبرون

1 - نكب عنه كنصر وفرح نكبا ونكبا ونكوبا عدل كنكب وتنكب ونكبه تنكيبا نحاه لازم متعد وطريق منكوب على
غير قصد ونكبة الطريق ونكب به عدل والنكب الطرح بالتحريك شبه ميل في الشئ ق.
464

هيهنا إلى اختلاط الظلام، قال: فجلسوا، قال: فبعث ابنته فقال: جيئي لهم بخبز، وجيئي لهم
بماء في القرعة (1) وجيئي لهم عباء يتغطون بها من البرد، فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر
والوادي، فقال لوط: الساعة يذهب بالصبيان الوادي، قال: قوموا حتى نمضي، وجعل لوط يمشي
في أصل الحائط وجعل جبرئيل وميكائيل وإسرافيل يمشون وسط الطريق فقال: يا بني
امشوا هيهنا فقالوا: أمرنا سيدنا أن نمر في وسطها وكان لوط يستغنم الظلام، ومر إبليس
فأخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط، فلما
أن نظروا إلى الغلمان في منزل لوط، قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا، فقال: هؤلاء ضيفي
فلا تفضحون في ضيفي، قالوا: هم ثلاثة خذ واحدا وأعطنا اثنين، قال: وأدخلهم الحجرة،
وقال لوط: لو أن لي أهل بيت يمنعوني منكم، قال: وتدافعوا على الباب وكسروا باب لوط
وطرحوا لوطا، فقال له جبرئيل: (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) فأخذ كفا من بطحاء (2)
فضرب بها وجوههم، وقال: شاهت الوجوه فعمي أهل المدينة كلهم، وقال لهم لوط: يا رسل
ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسحر، قال: فلي إليكم حاجة، قالوا: وما
حاجتك؟ قال: تأخذونهم الساعة، فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم، فقالوا: يا لوط (إن
موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) لمن يريد أن يأخذ، فخذ أنت بناتك وامض ودع
امرأتك.
وفيه، والعياشي: عن الصادق عليه السلام إن الله بعث أربعة أملاك في إهلاك
قوم لوط، جبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل، وكروبيل، فمروا بإبراهيم وهم معتمون فسلموا عليه
فلم يعرفهم، ورأي هيئة حسنة، فقال: لا يخدم هؤلاء أحد إلا أنا بنفسي، وكان صاحب
ضيافة فشوى لهم عجلا سمينا حتى انضجه ثم قربه إليهم، فلما وضعه بين أيديهم رأى
أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة، فلما رأى ذلك جبرئيل حسر العمامة عن
وجهه، وعن رأسه فعرفه إبراهيم فقال: أنت هو؟ قال: نعم، ومرت سارة امرأته فبشرها بإسحاق،

1 - القرعة واحدة القرع وهو حمل اليقطين يجعل وعاء منه رحمه الله.
2 - البطح ككتف والبطحة والبطحاء مسيل واسع فيه دقاق الحصى ق.
465

ومن وراء اسحق يعقوب، فقالت: ما قال الله عز وجل: وأجابوها بما في الكتاب العزيز، فقال
لهم إبراهيم: لماذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط، فقال لهم: إن كان فيها مأة من المؤمنين
أتهلكونهم؟ فقال جبرئيل لا، قال: فإن كان فيها خمسون؟ قال: لا، قال فإن كان فيها ثلاثون؟
قال: لا، قال: فإن كان فيها عشرون؟ قال: لا، قال: فإن كان فيها عشرة؟ قال: لا، قال: فإن
كان فيها خمسة؟ قال: لا، قال: فإن كان فيها واحد؟ قال: لا (قال فإن فيها لوطا قالوا نحن
أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) قال الراوي، لا أعلم هذا
القول إلا وهو يستبقيهم، وهو قول الله (يجادلنا في قوم لوط) فأتوا لوطا وهو في زراعة له قرب
القرية فسلموا عليه، وهم معتمون، فلما رأى هيئة حسنة، عليهم ثياب بيض، وعمايم بيض،
فقال لهم: المنزل، فقالوا: نعم، فتقدمهم ومشوا خلفه فتندم على عرضه المنزل عليهم، فقال:
أي شئ صنعت آتي بهم قومي وأنا أعرفهم، فالتفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من
خلق الله، قال تعالى لجبرئيل لا تعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات، فقال
جبرئيل: هذه واحدة، ثم مشى ساعة، ثم التفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق
الله، فقال جبرئيل: هذه ثنتان، ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم، فقال: إنكم لتأتون
شرارا من خلق الله: فقال جبرئيل: هذه الثالثة، ثم دخل ودخلوا معه حتى دخل منزله فلما
رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما
رأو الدخان أقبلوا يهرعون حتى جاؤوا إلى الباب فنزلت إليهم، فقالت: عنده قوم ما رأيت
قوما قط أحسن منهم هيئة فجاؤوا إلى الباب ليدخلوا فلما رآهم لوط، قام إليهم فقال لهم: يا
قوم (اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) وقال: (هؤلاء بناتي هن أطهر
لكم) فدعاهم إلى الحلال فقالوا: (لقد علمت مالنا في بناتك من حق وأنك لتعلم ما نريد)
فقال لهم: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) فقال جبرئيل لو يعلم أي قوة له؟ قال:
فكاثروه حتى دخلوا البيت، فصاح بهم جبرئيل، وقال: يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا
أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم، وهو قول الله: (فطمسنا على أعينهم) ثم ناداه
جبرئيل فقال له: (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل) وقال له
466

جبرئيل: إنا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجل، فقال: (إن موعدهم الصبح أليس
الصبح بقريب) فأمره فيحمل هو ومن معه إلا امرأته، ثم اقتلعها يعني المدينة جبرئيل
بجناحه من سبعة أرضين، ثم رفعها حتى سمع أهل سماء الدنيا نباح الكلاب، وصراخ
الديوك، ثم قلبها وأمطر عليها وعلى من حول المدينة حجارة من سجيل.
أقول: وقد سبق نبذ من قصة قوم لوط، في سورة الأعراف ويأتي طرف آخر
منه في سورة الحجر إن شاء الله.
القمي: قد ذكر قصة إبراهيم ولوط ببيان مبسوط من غير إسناد إلى معصوم، فيها
أشياء غير ما ذكرنا من أرادها رجع إليها.
(84) وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله
غيره: مضى تفسيره في سورة الأعراف. ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أريكم بخير:
بسعة تغنيكم عن البخس.
في الفقيه، والعياشي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية كان سعرهم
رخيصا. وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط: مهلك من قوله: (وأحيط بثمره) أو لا
يشذ منه أحد منكم.
(85) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان صرح الامر بالإيفاء بعد النهي عن ضده
مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف بل يلزمهم السعي في
الايفاء ولو بزيادة لا يتأتي بدونها. بالقسط: بالعدل والسوية.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام وجدنا في كتاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم إذا طفف المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص. وفي رواية أخرى
وشدة المؤنة وجور السلطان. ولا تبخسوا الناس أشياءهم: تعميم بعد تخصيص فإنه أعم
من أن يكون في المقدار أو في غيره. ولا تعثوا في الأرض مفسدين: هذا أيضا تعميم
بعد تخصيص فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد من السرقة والغارة
وقطع السبل وغير ذلك.
467

(86) بقيت الله: ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام. خير لكم: مما
تجمعون بالتطفيف. إن كنتم مؤمنين: بشرط الايمان إذ الثواب والنجاة من العقاب لا
يحصلان إلا به أو يريد إن كنتم مصدقين بي في نصيحتي. وما أنا عليكم بحفيظ: أحفظ
عليكم أعمالكم.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام أنه صعد جبلا يشرف على أهل مدين حين
أغلق دونه باب مدين، ومنع أن يخرج إليه بالأسواق فخاطبهم بأعلى صوته يا أهل المدينة
الظالم أهلها، أنا بقية الله، يقول الله: (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم
بحفيظ)، قال: وكان فيهم شيخ كبير فأتاهم فقال لهم: يا قوم هذه والله دعوة شعيب النبي
عليه السلام والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت
أرجلكم الحديث.
وفي الاكمال: عنه عليه السلام أول ما ينطق به القائم عليه السلام
حيث خرج هذه الآية (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين)، ثم يقول: أنا بقية الله، وحجته،
وخليفته عليكم فلا يسلم عليه مسلم إلا قال: السلام عليك يا بقية الله في أرضه.
(87) قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا: من الأصنام،
يعني تأمرك بأن تكلفنا ذلك أجابوا أمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به، والتهكم بصلاته
والاشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس
ما تواظب عليه، وكان كثير الصلاة ولذلك جمعوا وخصوا بالذكر، وقرء على الافراد. أو أن
نفعل في أموالنا ما نشاء: أو نترك فعلنا في أموالنا وهو جواب النهي عن التطفيف والامر
بالإيفاء. إنك لانت الحليم الرشيد: قيل: أرادوا بذلك نسبته إلى غاية السفه والغي
ليتهكموا فعكسوا به.
والقمي: قالوا إنك لأنت السفيه الجاهل فحكى الله عز وجل قولهم فقال: (إنك
لأنت الحليم الرشيد).
(88) قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى: قيل إشارة إلى ما أتاه
468

الله من العلم والنبوة. ورزقني منه رزقا حسنا: قيل: إشارة إلى ما آتيه الله من المال
الحلال، وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع لي مع هذه الانعام أن أخون في وحيه
وأخالفه في أمره ونهيه ولا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن القبايح وإنما بعثني لذلك.
وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه: يعني وما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التي
نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم. إن أريد إلا الاصلاح: أن أصلحكم. ما استطعت: ما
دمت أستطيع الاصلاح، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه، والجواب الأول:
إشارة إلى مراعاة حق الله، والثاني: إلى مراعاة حق النفس، والثالث: إلى مراعاة حق
الناس. وما توفيقي إلا بالله: إلا بهدايته ومعونته. عليه توكلت: فإنه القادر المتمكن من
كل شئ دون غيره، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدء.
وإليه أنيب: إشارة إلى معرفة المعاد نبه بهذه الكلمات إلى اقباله على الله بشراشره فيما
يأتي ويذر وحسم أطماع الكفار وعدم المبالاة بعداوتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله
للجزاء.
(89) ويا قوم لا يجرمنكم: لا يكسبنكم. شقاقي: خلافي ومعاداتي. أن
يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح: من الغرق. أو قوم هود: من الريح. أو قوم صالح:
من الرجفة. وما قوم لوط منكم ببعيد: يعني إنهم أهلكوا في عهد قريب عهدكم فإن
لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم.
واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه: عما أنتم عليه. إن ربى رحيم ودود:
عظيم الرحمة، متودد على عباده، مريد لمنافعهم، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الاصرار.
(91) قالوا يا شعيب ما نفقه: ما نفهم. كثيرا مما تقول وإنا لنريك فينا
ضعيفا: لا قوة لك ولا عز، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها.
القمي: وقد كان ضعف بصره. ولولا رهطك: قومك وعزتهم عندنا لكونهم على
ملتنا. لرجمناك: لقتلناك شر قتلة. وما أنت علينا بعزيز: فتمنعنا عزتك عن القتل بل رهطك
هم الأعزة علينا.
469

(92) قال يا قوم أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا:
وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر لا يعبؤ به، والظهري: منسوب إلى الظهر، والكسر من
تغييرات النسب. إن ربى بما تعملون محيط: فلا يخفى عليه شئ منها.
(93) ويا قوم اعملوا على مكانتكم: قارين على ما أنتم عليه من الشرك
والعداوة. إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب من
المعذب والكاذب مني ومنكم سبق مثله في سورة الأنعام. وارتقبوا: وانتظروا ما أقول
لكم. إني معكم رقيب: منتظر.
في الاكمال، والمجمع: عن الرضا عليه السلام ما أحسن الصبر وانتظار الفرج
أما سمعت قول الله عز وجل (وارتقبوا إني معكم رقيب).
والعياشي: عنه عليه السلام إن انتظار الفرج من الفرج، ثم تلا هذه الآية. وفي
المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان شعيب خطيب الأنبياء.
(94) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا: إنما ذكر هنا
وفي قصة عاد بالواو، وفي قصتي صالح وهود بالفاء، لسبق ذكر وعد يجري مجرى السبب
في قصتي صالح وهود، دون الآخرين. وأخذت الذين ظلموا الصيحة: في الجوامع روي
أن جبرئيل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم حيث هو. فأصبحوا في ديارهم
جاثمين.
(95) كأن لم يغنوا فيها: كأن لم يقيموا فيها أحياء. ألا بعدا لمدين كما
بعدت ثمود: قيل: شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت
من تحتهم، وصيحة مدين كانت من فوقهم.
(96) ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين: بالمعجزات القاهرة والحجج
الباهرة.
(97) إلى فرعون وملأه فاتبعوا أمر فرعون: أمره بالكفر بموسى. وما أمر
470

فرعون برشيد: ما في أمره من رشد إنما هو غي وضلال.
(98) يقدم قومه يوم القيامة: بتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه كما كان لهم
قدوة في الضلال في الدنيا. فأوردهم النار ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحققه. وبئس الورد
المورود: بئس الورد الذي يردونه النار، لأن الورد وهو الماء الذي يورد إنما يراد لتسكين
العطش، وتبريد الأكباد، والنار ضده.
(99) وأتبعوا في هذه: الدنيا. لعنة ويوم القيامة: أي يلعنون في الدنيا والآخرة.
بئس الرفد المرفود: رفدهم لأن الرفد: وهو العون والعطاء إنما يراد للنفع واللعنة مدر للعذاب
في الدارين.
القمي: (في هذه لعنة) يعني الهلاك والغرق، (ويوم القيامة): رفدهم الله بالعذاب.
(100) ذلك: أي ذلك النبأ. من أنباء القرى: المهلكة. نقصه عليك منها قائم:
باق كالزرع القائم. وحصيد: ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود.
العياشي: عن الصادق عليه السلام أنه قرء فمنها قائما وحصيدا بالنصب، قال:
لا يكون الحصيد إلا بالحديد (1).
(101) وما ظلمناهم: بإهلاكنا إياهم. ولكن ظلموا أنفسهم: بأن عرضوها له
بارتكاب ما يوجبه. فما أغنت عنهم: فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم. آلهتهم التي
يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك: أي عذابه ونقمته. وما زادوهم غير
تتبيب: غير تخسير.
(102) وكذلك: ومثل ذلك الاخذ. أخذ ربك إذا أخذ القرى: أي أهلها. وهي
ظالمة إن أخذه أليم شديد: وجيع صعب.
في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله يمهل الظالم حتى إذا

1 - أي لا يكون الا بالسيف والرمح والسهم ونحو ذلك والظاهر أنه مستأنف منفصل عما قبله لا انه علة لقراءة
النصب بل بيان المراد مرفوعا أو منصوبا وعلى تقدير النصب يكون التقدير منها أبقى قائما ومنها احصد حصيدا على أنهما
حالان مؤكد ان مثل زيد أبوك عطوفا.
471

أخذه لم يفلته ثم تلا هذه الآية.
(103) إن في ذلك: أي فيما نزل بالأمم الهالكة. لآية: لعبرة. لمن خاف عذاب
الآخرة: لعلمه بأنه أنموذج منه. ذلك: أي يوم القيامة، وعذاب الآخرة. يوم مجموع له الناس:
الأولون والآخرون. وذلك يوم مشهود: كثير شاهدوه.
القمي يشهد عليه الأنبياء والرسل. وقيل: مشهود فيه أهل السماوات
والأرضين.
العياشي: عن أحدهما عليهما السلام في هذه الآية فذلك يوم القيامة وهو اليوم
الموعود.
وفي الكافي: عن السجاد في كلام له في المواعظ والزهد وأعلم أن من وراء هذا أعظم
وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) يجمع الله عز
وجل فيه الأولين والآخرين.
(104) وما نؤخره أي اليوم إلا لأجل معدود إلا لانتهاء مدة معدودة
متناهية.
(105) يوم يأت: وقرئ بحذف الياء. لا تكلم نفس: لا تتكلم نفس بما ينفع وينجي.
إلا بإذنه: بإذن الله كقوله: (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا) وهذا في
موطن من مواطن ذلك اليوم، وقوله: (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) في موطن
أخر منها كما في التوحيد عن أمير المؤمنين. فمنهم شقى: وجبت له النار بمقتضى الوعيد.
وسعيد: وجبت له الجنة بموجب الوعد.
(106) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق: الزفير: إخراج
النفس، والشهيق: رده، دل بهما على شدة كربهم وغمهم.
(107) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن
ربك فعال لما يريد.
472

(108) وأما الذين سعدوا: ففي الجنة خالدين فيها ماد أمت السماوات
والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ: غير مقطوع.
القمي: في هذه الآية (يوم يأتي) والتي بعدها هذا في نار الدنيا قبل يوم القيامة،
قال: وأما قوله (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها) يعني في جنان الدنيا التي تنقل
إليها أرواح المؤمنين (ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) يعني
غير مقطوع من نعيم الآخرة، في الجنة يكون متصلا به، قال: وهو رد على من أنكر عذاب
القبر والثواب والعقاب في الدنيا وفي البرزخ قبل يوم القيامة.
أقول: ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا).
قال الصادق عليه السلام: إن هذا في نار البرزخ قبل يوم القيامة إذ لا غدو
ولا عشي في القيامة، ثم قال: ألم تسمع قول الله عز وجل: (يوم تقوم الساعة أدخلوا آل
فرعون أشد العذاب). ويؤيد أيضا قوله: (ما دامت السماوات والأرض) يعني سماوات الدنيا
وأرضها كما هو معلوم.
والعياشي: عن الباقر والصادق عليهما السلام ما معناه إن المراد بالجنة والنار في
هذه الآية: ولاية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وولاية أعدائهم.
قال: قال الصادق عليه السلام: قال: الجاهل بعلم التفسير إن هذا الاستثناء من
الله إنما هو لمن دخل الجنة والنار، وذلك إن الفريقين جميعا يخرجان منهما فتبقيان وليس
فيهما أحد، وكذبوا قال: والله تبارك وتعالى ليس يخرج أهل الجنة ولا كل أهل النار منهما
أبدا كيف يكون ذلك، وقد قال الله تعالى في كتابه: (ماكثين فيه أبدا) ليس فيه استثناء.
وقال الباقر عليه السلام: هاتان الآيتان في غير أهل الخلود من أهل الشقاوة
والسعادة.
(109) فلا تك في مرية: في شك. مما يعبد هؤلاء: بعد ما أنزل عليك من هذه
القصص في سوء عاقبة عبادتهم للأوثان وتعرضهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية
473

لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووعد له بالانتقام منهم، ووعيد لهم. ما يعبدون إلا
كما يعبد آباؤهم من قبل: أي حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين
الحالتين فينزل بهم مثل ما نزل بآبائهم تعليل النهي عن المرية. وإنا لموفوهم نصيبهم:
حظهم من العذاب كآبائهم. غير منقوص: بلا نقص.
(110) ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه: فآمن به قوم وكفر به قوم، كما
اختلف هؤلاء في القرآن.
في الكافي: عن الباقر عليه السلام اختلفوا كما اختلفت هذه الأمة في الكتاب،
وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم الذي يأتيهم به حتى ينكره ناس منهم فيقدمهم
فيضرب أعناقهم. ولولا كلمة سبقت من ربك: يعني كلمة الانظار إلى يوم القيامة.
لقضى بينهم: بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز عن المحق. وإنهم: وإن كفار قومك. لفي شك
منه: من القرآن. مريب: موقع للريبة.
(111) وإن كلا: وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين. لما ليوفينهم ربك
أعمالهم.
القمي: قال: في القيامة. قيل: اللام في (لما) توطئة للقسم، والأخرى للتوكيد،
أو (بالعكس)؟، و (ما) مزيدة للفصل بينهما. يعني وإن جميعهم والله ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم،
وقرئ (أن) بالتخفيف من المثقلة على إعمال المخففة عمل الثقيلة اعتبارا لأصلها (ولما)
بالتشديد على أن أصله - لمن ما - يعني لمن الذين يوفيهم وقرأ أبي (وإن كل) بالرفع (ولما)
بالتشديد، على أن (إن) نافية، (ولما) بمعنى إلا، ويؤيده قراءة إلا مكان (لما). إنه بما يعملون خبير:
فلا يفوت عنه شئ وإن خفي.
(112) فاستقم كما أمرت على جادة الحق غير عادل عنها، وهي شاملة
للعقايد والاعمال. ومن تاب معك: وليستقم من تاب من الكفر وآمن معك. ولا تطغوا: ولا
تخرجوا من حدود الله. إنه بما تعملون بصير: فهو مجازيكم عليه
في الجوامع: عن الصادق عليه السلام (فاستقم كما أمرت) أي افتقر إلى الله
474

بصحة العزم، وعن ابن عباس ما نزلت آية كان أشق على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم من هذه الآية ولهذا قال: (شيبتني هود والواقعة وأخواتهما).
(113) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا: ولا تميلوا إليهم أدنى ميل، فإن الركون هو
الميل اليسير. فتمسكم النار: بركونكم إليهم.
في المجمع: عنهم عليهم السلام إن الركون: المودة والنصيحة والطاعة. والقمي
مثله.
وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام هو الرجل يأتي السلطان فيحب بقاءه
إلى أن يدخل يده كيسه فيعطيه. والعياشي عنه عليه السلام أما أنه لم يجعلها خلودا
ولكن تمسكم النار فلا تركنوا إليهم. وما لكم من دون الله من أولياء: من أنصار يمنعون
العذاب عنكم. ثم لا تنصرون: ثم لا ينصركم الله.
(114) وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل: وساعات من الليل
قريبة من النهار من أزلفه إذا قربه وهو جمع زلفة.
في التهذيب: عن الباقر عليه السلام طرفاه: المغرب والغداة، وزلفا من الليل: هي
صلاة العشاء الآخرة.
والعياشي: عن الصادق عليه السلام مثله. إن الحسنات يذهبن السيئات:
يكفرنها.
وفي الحديث النبوي المشهور إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما
اجتنبت الكباير.
وفي الأمالي عن أمير المؤمنين عليه السلام إن الله يكفر بكل حسنة سيئة ثم
تلا الآية.
وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية صلاة المؤمن
بالليل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار. والقمي مثله.
وفي الكافي: عنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
: أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك: يهم العبد بالحسنة فيعملها فإن هو
475

لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته وإن هو عملها كتب الله له عشرا، ويهم بالسيئة
أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شئ وإن هو عملها أجل سبع ساعات، وقال
صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها
بحسنة تمحوها فإن الله عز وجل يقول: (إن الحسنات يذهبن السيئات) أو الاستغفار فإن هو
قال: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم
ذو الجلال والاكرام وأتوب إليه) لم يكتب عليه شئ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها
بحسنة واستغفار، قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: اكتب على الشقي المحروم.
وفي المجمع، والعياشي: عنه عليه السلام إعلم أنه ليس شئ أضر عافية ولا
أسرع ندامة من الخطيئة، وإنه ليس شئ أشد طلبا ولا أسرع دركا للخطيئة من الحسنة،
أما إنها لتدرك الذنب العظيم القديم المنسي عند صاحبه فتحطه وتسقطه وتذهب به بعد
إثباته، وذلك قوله سبحانه: (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين). وعن
أحدهما: عليهما السلام أن عليا عليه السلام قال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: أرجى آية في كتاب الله (أقم الصلاة طرفي النهار) وقرأ الآية كلها،
وقال: يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من
جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بقلبه ووجهه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شئ كما ولدته
أمه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس. ثم
قال: يا علي إنما مثل الصلوات الخمس لامتي كنهر جار على باب أحدهم فما يظن
أحدهم إذا كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقي في
جسده درن فكذلك والله الصلوات الخمس لامتي. ذلك: قيل: إشارة إلى قوله (فاستقم) وما
بعده. ذكرى للذاكرين: عظة للمتعظين.
(115) واصبر: على الطاعات وعن المنهيات. فإن الله لا يضيع أجر المحسنين:
عدل عن المضمر ليكون كالبرهان على المقصود.
(116) فلولا كان: فهلا كان. من القرون من قبلكم أولوا بقية: من الرأي والعقل
476

والفضل وإنما سمى بقية لأن الرجل يستبقي لنفسه أفضل ما يخرجه، ومنه يقال: فلان من
بقية القوم أي من خيارهم. وقولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ينهون عن
الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم: لكن قليلا منهم أنجيناهم لأنهم نهوا
عن الفساد. واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه: ما أنعموا فيه من الشهوات أراد بالذين
ظلموا تاركي النهي عن المنكرات أي اتبعوا ما عودوا من التنعم وطلب أسباب العيش
الهنئ ورفضوا ما وراء ذلك. وكانوا مجرمين: كأنه أراد بيان سبب استيصال الأمم
السالفة وهو فشو الظلم فيهم، واتباعهم للهوى، وتركهم النهي عن المنكرات.
(117) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه لهم أو منهم لأنفسهم كشرك
ومعصية. وأهلها مصلحون: فيما بينهم، في المجمع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأهلها مصلحون ينصف بعضهم من بعض.
أقول: وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوق نفسه دون حقوق عباده، ولذا
قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم.
(118) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة: مسلمين كلهم، القمي: أي على
مذهب واحد. ولا يزالون مختلفين: بعضهم اختار الحق وبعضهم اختار الباطل لا تكاد
تحد اثنين يتفقان مطلقا.
(119) إلا من رحم ربك: إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على
دين الحق. ولذلك خلقهم: قيل: إن كان ضمير (هم) للناس فالإشارة إلى الاختلاف واللام
للعاقبة أو إلى الاختلاف والرحمة جميعا وإن كان الضمير لمن فالإشارة إلى الرحمة.
في الكافي، والعياشي، والعلل: عن الصادق عليه السلام كانوا أمة واحدة فبعث
الله النبيين ليتخذ عليهم الحجة. وفي التوحيد: عنه عليه السلام خلقهم فليفعلوا ما
يستوجبون به رحمته فيرحمهم.
وفي الكافي: عنه عليه السلام في هذه الآية الناس يختلفون في إصابة القول
وكلهم هالك إلا من رحم ربك، وهم شيعتنا ولرحمته خلقهم وهو قوله: (فلذلك
477

خلقهم) يقول: لطاعة الامام. والقمي: عن الباقر عليه السلام قال: (ولا يزالون مختلفين) في الدين (إلا من رحم
ربك) يعني آل محمد صلوات الله عليهم وأتباعهم يقول الله: (ولذلك خلقهم) يعني أهل
رحمة لا يختلفون في الدين.
والعياشي: عن السجاد عليه السلام في قوله: (ولا يزالون مختلفين) عني بذلك من
خالفنا من هذه الأمة، وكلهم فخالف بعضهم بعضا في دينهم، وأما قوله: (إلا من رحم ربك
ولذلك خلقهم) فأولئك أولياؤنا في المؤمنين، ولذلك خلقهم من الطينة الطيبة الحديث. وتمت
كلمة ربك: وهي قوله. لأملأن جهنم من الجنة والناس: من عصاتهما. أجمعين:
القمي: وهم الذين سبق الشقاء لهم فحق عليهم القول أنهم للنار خلقوا، وهم:
(الذين حقت عليهم كلمت ربك أنهم لا يؤمنون).
(120) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل نخبرك به. ما نثبت به فؤادك:
تنبيه على المقصود من الاقتصاص وهو زيادة يقينه، وطمأنينة قلبه، وثبات نفسه، على أداء
الرسالة، واحتمال الأذى. وجاءك في هذه: الانباء المقتصة عليك. الحق: ما هو حق. وموعظة
وذكرى للمؤمنين.
(121) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم: حالكم الذي أنتم عليه.
إنا عاملون: على حالنا.
القمي: أي نعاقبكم.
(122) وانتظروا: بنا الدواير. إنا منتظرون: أي ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم.
(123) ولله غيب السماوات والأرض: لا لغيره. وإليه يرجع الأمر كله: لا إلى
غيره، وقرئ بضم الياء. فاعبده وتوكل عليه: فإنه كافيك. وما ربك بغافل عما تعملون:
أنت وهم فيجازي كلا بما يستحقه، وقرئ بالياء.
في ثواب الأعمال: عن الباقر عليه السلام من قرأ سورة هود في كل جمعة بعثه
الله عز وجل يوم القيامة في زمرة النبيين، ولم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة، والحمد لله
478