الكتاب: التبيان
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٢
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
ردمك:
ملاحظات:

التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 ه‍.
تحقيق وتصحيح
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد الثاني
دار إحياء التراث العربي
1

الطبعة الأولى
النشر: 1409 ه‍. ق
2

" سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا
عليها، قل الله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
(142) - آية واحدة بلا خلاف.
أخبر الله (تعالى) نبيه عليه السلام أنه سيقول لك فيما بعد السفهاء، وهو جمع
سفيه، وهو والجاهل والغبي نظائر.
" ما ولاهم " معناه، أي شئ ولاهم ومعنى ولاهم صرفهم عنه، ومثله: قلبه
عنه وفتله. " عن قبلتهم التي كانوا عليها ". والقبلة: الجهة التي تستقبل في الصلاة،
وقبلة المسلمين: الكعبة. والسفيه الخفيف إلى ما لا يجوز له أن نخف إليه، وهي
صفة ذم في الدين. وضد السفه الحكمة واشتقاق. لاهم من الولي، وهو حصول الثاني
بعد الأول من غير فصل. فالثاني يلي الأول، والثالث يلي الثاني، والرابع يلي الثالث
ثم هكذا أبدا. وولى عنه خلاف ولى إليه: مثل قولك: عدل عنه، وعدل إليه،
وانصرف، عنه وانصرف إليه. فإذا كان الذي يليه متوجها إليه فهو متول إليه وإذا
كان متوجها إلى خلاف جهته إلى خلاف جهته، فهو متول عنه.
والقبلة مثل الجلسة للحال التي يقابل الشئ غيره عليها. كما أن الجلسة للتي يجلس
عليها. فكان يقال: فيما حكي هو لي قبلة، وأنا له قبلة، ثم صار علما على
الجهة التي تستقبل في الصلاة.
واختلفوا في الذين عابوا المسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة
على ثلاثة أقوال:
(الأول) فقال ابن عباس، والبراء بن عازب: هم اليهود. و (الثاني) قال
الحسن: هم مشركوا العرب، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله لما حول الكعبة
من بيت المقدس، قالوا: يا محمد صلى الله عليه وآله رغبت عن قبلة آبائك، ثم رجعت إليها أيضا،
والله لترجعن إلى دينهم. والثالث قال السدي: انهم المنافقون، قالوا ذلك استهزاء
3

بالاسلام. واختلفوا في سبب عيبهم الصرف عن القبلة: فقال قوم: انهم قالوا ذلك على
وجه الانكار للنسخ. و (الثاني) قال ابن عباس: إن قوما من اليهود قالوا: يا محمد ما ولاك عن
قبلتك التي كنت عليها، ارجع إليها نتبعك ونؤمن. وأرادوا بذلك فتنته. الثالث - أنه قال
ذلك مشركوا العرب ليوهموا ان الحق ما هم عليه.
وإنما صرفهم الله عن القبلة الأولى لما علم الله تعالى من تغير المصلحة في ذلك.
وقيل إنما فعل ذلك لما قال تعالى " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع
الرسول ممن ينقلب على عقبيه "، لأنهم كانوا بمكة، أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس
ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة، فلما انتقل رسول
الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة كان اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس فنقلوا
إلى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما أريد في الأول ان يتميزوا من أولئك. واختار
ذلك البلخي والجبائي والرماني.
وقوله تعالى:
" قل لله المشرق والمغرب " أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ان
يقول لهؤلاء الذين عابوا انتقالهم عن بيت المقدس إلى الكعبة: المشرق والمغرب ملك لله
يتصرف فيهما كيف شاء على ما تقتضيه حكمته. والمشرق والمطلع نظائر، وكذلك
المغرب والمغيب نظائر.
وفي الآية دلالة على جواز النسخ لأنه تعالى نقلهم - عن عبادة كانوا عليها -
إلى ايقاعها على وجه آخر وهذا هو النسخ.
وقوله: " لله المشرق والمغرب " فيه دلالة على أن من له
المشرق والمغرب، فله التدبير فيهما، وفي ذلك اسقاط قول من زعم: أن الأرض المقدسة
أولى بالتوجه إليها. لأنها مواطن الأنبياء - وقد شرفها الله وعظمها - فلا وجه للتولية
عنها - فرد الله عليهم بأن المواطن كلها لله يشرف منها ما يشاء في كل زمان على ما يعلمه
من مصالح العباد. وقال ابن عباس، والبراء بن عازب: انه كانت الصلاة إلى بيت
المقدس إلى بعد مقدم النبي صلى الله عليه وآله بسبعة عشر شهرا. وقال انس بن مالك: إنما كان
ذلك تسعة أشهر أو عشرة اشهر. وقال معاذ بن جبل كان ثلاثة عشر شهرا. وقال
4

قتادة صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وصلى النبي صلى الله عليه وآله
بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا ثم وجهه الله إلى الكعبة. ولا خلاف ان التوجه
إلى بيت المقدس قبل النسخ كان فرضا واجبا. ثم اختلفوا فقال الربيع: كان ذلك
على وجه التخيير، خير الله نبيه بين ان يتوجه إلى بيت المقدس وبين غيرها.
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين كان ذلك فرضا معنيا - وهو الأقوى -، لقوله:
" وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " فبين انه جعلها قبلة، وظاهر ذلك أنه معين،
لأنه لا دليل على التخيير، على أنه لو ثبت انه كان مخيرا لما خرج من أن يكون فرضا،
كما أن الغرض ان يصلى الصلاة في الوقت ثم هو مخير بين أوله وأوسطه وآخر.
وقوله: " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " معنا: يهديهم إلى الدين
المستقيم الذي يؤديهم إلى الجنة، فلذلك سماه صراطا كما يؤدي الطريق إلى المقصد.
قوله تعالى:
" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها
الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وان كانت
لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع ايمانكم إن الله
بالناس لرؤوف رحيم " (143) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم " لرؤوف " على وزن
لرعوف. الباقون " لرؤف " على وزن (فعل).
5

المعنى:
اخبر الله تعالى أنه جعل أمة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسطا: أي سماها بذلك وحكم
لها به. والوسط: العدل. وقيل الخيار، ومعناهما واحد: وقيل: انه مأخوذ من المكان
الذي تعدل المسافة منه إلى أطرافه. وقيل: بل أخذ الوسط من التوسط بين المقصر
والمغالي، فالحق معه (1). وقال مؤرج: اي وسط بين الناس وبين أنبيائهم
وقال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم * إذا نزلت احدى الليالي بمعظم (2)
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أمة وسطا: عدلا. وهو قول مجاهد،
وقتادة، والربيع، وابن عباس، وأكثر المفسرين. وقال صاحب العين: الوسط من
الناس وغيرهم، ومن كل شئ أعدله، وأفضله وقيل الواسط والوسط بمعنى واحد، كما قيل
يابس ويبس بمعنى واحد. قال تعالى " في البحر يبسا " (3) والوسط - بتسكين
السين - الموضع. والوسط - بالتحريك - لما بين طرفي كل شئ، ويسمى واسط
الرحل بين القادمة والآخرة، وكذلك واسطة القلادة. واصل الباب الوسط: العدل.
وقولهم فلان من أوسطهم نسبا: اي تكلله الشرف من نواحيه.
الاعراب:
واللام الأولى في قوله: " لتكونوا شهداء على الناس " لام كي، كأنه قال
كي تكونوا، واصلها لام الإضافة. واللام في قوله: " وان كانت لكبيرة " لام
تأكيد، وهي تلزم أن المخففة من الثقيلة، لئلا تلبس بأن التي بمعنى ما، كقوله تعالى:

(1) الضمير راجع إلى الوسط اي الحق مع الوسط لأنه ليس بالمقصر ولا بالمغالي.
(2) ديوانه 2: 27 وروايته.
لحي حلال يعصم الناس أمرهم * إذا طرقت احدى الليالي بمعظم
وفي تفسير الطبري وبعض المصادر الأخرى كما هو مثبت في المتن.
(3) سورة طه: آية 77.
6

" إن الكافرون إلا في غرور " (1) وهي لام الابتداء أخرت إلى الخبر في باب
(ان) خاصة. واما اللام الثالثة في قوله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " فلام الجحد،
واصلها الام الإضافة، والفعل نصب باضمار (أن)، ولا يظهر بعدها (ان)، لان
التأويل: ما كان الله مضيعا ايمانكم، فلما حمل معناه على التأويل، حمل، لفظه أيضا
على التأويل من غير تصريح باظهار (ان).
المعنى:
فان قيل: باي شئ يشهدون على الناس، قلنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها -
ليشهدوا على الناس باعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا وفي الآخرة كما قال: " وجيئ
بالنبيين والشهداء " (2) وقال " يوم يقوم الاشهاد " (3) قال ابن زيد: الاشهاد أربعة
الملائكة، والأنبياء، وأمة محمد صلى الله عليه وآله والجوارح. كما قال: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم
وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " (4).
الثاني - يشهدون الأنبياء على أممهم المكذبين بأنهم بلغوا. وجاز ذلك لاعلام
النبي صلى الله عليه وآله إياهم بذلك.
الثالث - " لتكونوا شهداء على الناس " أي حجة عليهم فيما يشهدون، كما أن
النبي صلى الله عليه وآله شهيد بمعنى حجة في كلما اخبر به. والنبي صلى الله عليه وآله وحده كذلك. فأما
الأمة فجماعتها حجة دون كل واحد منها. واستدل البلخي، والجبائي، والرماني، وابن
الاخشاد، وكثير من الفقهاء، وغيرهم بهذه الآية على أن الاجماع حجة من حيث إن
الله وصفهم بأنهم عدول، فإذا عدلهم الله تعالى، لم يجز أن تكون شهادتهم مردودة
- وقد بينا في أصول الفقه أنه لا دلالة فيها على أن الاجماع حجة - وجملته ان الله
تعالى وصفهم بأنهم عدول، وبأنهم شهداء وذلك يقتضي أن يكون كل واحد عدلا،

(1) سورة الملك: آية 20.
(2) سورة الزمر: آية 69.
(3) سؤرة المؤمن: آية 51.
(4) سورة النور: آية 24.
7

وشاهدا، لان شهداء جمع شهيد، وقد علمنا أن كل واحد من هذه الأمة ليس بهذه
الصفة، فلم يجز أن يكون المراد ما قالوه، على أن الأمة إن أريد بها جميع الأمة،
فقد بينا ان فيها كثيرا ممن يحكم بفسقه بل بكفره، فلا يجوز حملها على الجميع.
وان خصوها بالمؤمنين العدول، لنا أن نخصها بجماعة، كل واحد منهم موصوف بما وصفنا به
جماعتهم: وهم الأئمة المعصومون من آل الرسول صلى الله عليه وآله على أنالوه سلمنا ما قالوه من كونهم
عدولا، ينبغي أن نجنبهم ما يقدح في عدالتهم وهي الكبائر، فأما الصغائر التي تقع
مكفرة، فلا تقدح في العدالة، فلا ينبغي أن نمنع منها، ومتى جوزنا عليهم الصغائر
لم يمكنا أن نحتج باجماعهم، لأنه لا شئ أجمعوا عليه إلا ويجوز أن يكون صغيرا
فلا يقدح في عدالتهم، ولا يجب الاقتداء بهم فيه لكونه قبيحا. وفي ذلك بطلان
الاحتجاج باجماعهم. وكيف يجنبون الصغائر، وحال شهادتهم ليس بأعظم من شهادة
النبي صلى الله عليه وآله ومع هذا يجوزون عليه الصغائر فهلا جاز مثل ذلك عليهم، ولا تقدح في
عدالتهم - كما لم تقدح في عدالة النبي صلى الله عليه وآله؟
قوله: " ويكون الرسول عليكم شهيدا ". قيل في معناه قولان:
أحدهما - عليكم شهيدا بما يكون من اعمالكم. وقيل: يكون حجة عليكم.
والثاني - يكون لكم شهيدا بأنكم قد صدقتم - يوم القيامة - فيما تشهدون به.
وجعلوا (على) بمعتى اللام كما قال: " وما ذبح على النصب " (2) اي للنصب. والتشبيه
في قوله " وكذلك " وقع بما دل عليه الكلام في الآية التي قبلها: وهي قوله " يهدي
من يشاء إلى صراط مستقيم " فتقديره أنعمنا عليكم بالعدالة كما أنعمنا عليكم بالهداية
والعامل في الكاف جعلنا، كأنه قيل: " من يشاء إلى صراط مستقيم " فقد أنعمنا
عليكم بذلك وجعلناكم أمة وسطا فأنعمنا كذلك الانعام. إلا أن (جعلنا) يدل على
أنعمنا في هذا الكلام، فلم نحتج إلى حذفه معه في قوله تعالى: " وما جعلنا القبلة التي
التي كنت عليها " اي ما صرفناك عن القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، وحذف لدلالة

(1) سورة المائدة: آية 4
8

الكلام عليه. وقوله " إلا لنعلم " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أولها " إلا لنعلم " اي لنعلم حزبنا من النبي والمؤمنين، كم يقول الملك فعلنا
وفتحنا بمعنى فعل أولياؤنا ومن ذلك قيل: فتح عمر السواد وجبا الخراج وإن لم
يتول ذلك بنفسه.
الثاني - إلا ليحصل المعلوم موجودا، فقيل على هذا: إلا لنعلم، لأنه قبل
وجود المعلوم لا يصح وصفه بأنه عالم بوجوده.
والثالث - إلا لنعاملكم معاملة المختبر الممتحن الذي كأنه لا يعلم أن العدل
يوجب ذلك، من حيث لو عاملهم بما يعلم أنه يكون منهم كان ظلما لهم. ويظهر ذلك
قول القائل لمن انكر أن تكون النار تحرق الحطب: فليحضر النار والحطب لنعلم
أتحرقه أم لا، على جهة الانصاف في الخطاب، لاعلى جهة الشك في الاحراق. وهذا
الوجه اختاره ابن الاخشاد، والرماني. وكان علي بن الحسين المرتضى الموسوي يقول
في مثل ذلك وجها مليحا: وهو ان قال: قوله لنعلم يقتضي حقيقة ان يعلم هو وغيره
ولا يحصل علمه مع علم غيره إلا بعد حصول الاتباع، فاما قبل حصوله فإنما يكون هو
تعالى العالم وحده، فصح حينئذ ظاهر الآية وهذا وجه رابع، وفيه قول خامس
- وهو ان يعلموا انا نعلم، لأنه كان منهم من يعتقد ان الله لا يعلم الشئ حتى يكون
على أن قوله: " لنعلم من يتبع الرسول " لا يدل على حدوث العلم، لأنه كان قبل ذلك
عالما بان الاتباع سيوجد، أو لا يوجد، فان وجد كان عالما بوجوده وان لم يتجدد
له صفة. وإنما يتجدد المعلوم، لان العلم بان الشئ سيوجد علم بوجوده إذا وجد.
وإنما يتغير عليه الاسم، ويجري ذلك مجرى تغير الاسم على زمان بعينه، بان يوصف
بأنه غد قبل حصوله، فإذا حصل قيل إنه اليوم، فإذا تقضى وصف بأنه أمس، فتغير
عليه الاسم والمعلوم لم يتغير.
وقوله تعالى: " ممن ينقلب على عقبيه " قيل في معناه قولان:
أحدهما ان قوما ارتدوا عن الاسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيها
من وجه الحكمة.
9

والآخر ان المراد به كل مقيم على كفره، لان جهة الاستقامة إقبال،
وخلافها ادبار، لذلك وصف الكافر بأنه ادبر واستكبر. وقال " لا يصلاها إلا
الأشقى الذي كذب وتولى " (1) اي عن الحق.
اللغة:
والعقب مؤخر القدم قال ثعلب: ونرد على أعقابنا: أي نعقب بالشر بعد الخير
وكذلك رجع على عقبيه. وسميت العقوبة عقوبة لأنها تتلو الذنب. والعقبة كرة بعد
كرة في الركوب والمشي. المعقبات: ملائكة الليل تعاقب ملائكة النهار. وعقب الانسان
نسله. والعقاب معروف والعقب أصلب من العصاب وامتن، يعقب به الرماح.
والتعقيب: الرجوع إلى امر تريده. ومنه قوله تعالى: " ولم يعقب " (2) ومنه
يقال عقب الليل النهار يعقبه. وأعقب الرأي خبرا، وأعقب عزه ذلا أي ابدل به. والعقبة
طريق في الجبل. وعرو العقاب: الراية لشبهها بعقاب الطائر. واليعقوب ذكر القبج
تشبه به الخيل في السرعة. لا معقب لحكمه أي لا راد لقضائه. والمعقب: الذي يتبع
الانسان في طلب حق. واصل الباب التلو.
المعنى:
والضمير في قوله " وان كانت لكبيرة " يحتمل رجوعه إلى ثلاثة أشياء: القبلة
على قول ابن عامر. والتحويلة على قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وهو الأقوى،
لان القوم ثقل عليهم التحويل لا نفس القبلة. وعلى قول ابن زيد الصلاة. وقوله:
" لكبيرة " قال الحسن: معناه ثقليه يعني التحويلة إلى بيت المقدس، لان العرب لم
تكن قبلة أحب إليهم من الكعبة. وقيل معناه عظيمة على من لم يعرف ما فيها من
وجوه الحكمة. فاما الذين هدى الله، لان المعرفة بما فيها من المصلحة تسهل المشقة
فيصير بمنزلة مالا يعتد بها ولذلك حسن الاستثناء بما يخرجهم منها.

(1) سورة الليل: آية 15 - 6 1
(2) سورة النمل آية 10 وسورة القصص آية 31
10

وقوله: " وما كان الله ليضيع ايمانكم " قيل في معناه أقوال:
أولها - قال ابن عباس وقتادة والربيع: لما حولت القبلة قال ناس: كيف بأعمالنا
التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى. وقيل: كيف من مات من اخواننا قبل ذلك، فأنزل
الله (وما كان الله ليضيع ايمانكم).
الثاني - معناه قال الحسن: وانه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة اتبعه
بذكر مالهم عنده من المثوبة وانه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه لان التذكير به
يبعث على ملازمه الحق والرضا به.
الثالث - قال البلخي: انه لما ذكر انعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر
سبب ذلك الذي استحقوه به وهو ايمانهم بما عملوه أولا فقال: " وما كان الله ليضيع
ايمانكم " الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة.
اللغة:
والإضاعة مصدر أضاع يضيع. وضاع الشئ يضيع ضياعة، وضيعة تضييعا. قال
صاحب العين: ضبعة الرجل حرفته. يقال: ما ضيعتك اي ما حرفتك، هذا في الضياع
وضاع عمل فلان ضيعة، وضياعا. وتركهم بضيعة ومضيعة. والضيعة والضياع معروف
واصل الضياع الهلاك.
وقوله: (ان الله بالناس لرؤف رحيم) ان قيل: ما الذي اقتضى ذكر هذه
الصفة، قلنا الرؤوف بعباده الرحيم بهم لا يضيع عنده عمل عامل منهم، فدل بالرأفة
والرحمة على التوفير عليهم فيما استحقوه دون التضيع لشئ منه. وإنما قدمت الرأفة
على الرحمة، لان الرأفة أشد مبالغة من الرحمة ليجري على طريقه التقديم - بما هو
اعرف - مجرى أسماء الاعلام ثم اتباعه بما هو دون منه ليكون مجموع ذلك تعريفا
أبلغ منه، لو انفرد كل واحد عن الاخر كما هو في الرحمن الرحيم فرؤوف على ورن
فعول، لغة أهل الحجا على ورن فعل، لغة غيرهم قال الأنصاري (1):

(1) هو كعب بن مالك الأنصاري.
11

نطيع نبينا لنطيع ربا * هو الرحمن كان بنا رؤوفا (1)
وقال حريز: يعني منعمين حقا، كفعل الوالد الرؤوف الرحيم. والرأفة: الرحمة تقول
رأف يرأف رأفة:
المعنى:
واستدل من قال الصلاة: الايمان بهذه الآية، فقالوا: سمى الله الصلاة
ايمانا - على تأويل ابن عباس، وقتادة، والسدي والربيع وداود بن أبي عاصم وابن زيد
وسعيد بن المنذر وعمرو بن عبيد وواصل وجميع المعتزلة. ومن خالفهم من المرجئة
لا يسلم هذا التأويل ويقول: الايمان على ظاهره وهو التصديق ولا ينزل ذلك بقول
من ليس قوله حجة، لأنهم ليسوا جميع المفسرين بل بعضهم ولا يكون ذلك حجة.
واستدل الجبائي بهذه الآية على أن الشاهد هو الحاضر دون من مات، بان قال: لو
كان الرسول شاهدا على من مضى قبله أو من يأتي بعده ومن هو حاضر معه لم يكن
لقوله (ويكون الرسول عليكم شهيدا) معنى. ويؤكد ذلك قوله (وكنت عليهم
شهيدا ما دمت فيهم) (2) وقال غيره: قد يجوز ان يشهد العالم بما علم وان لم يحضره
- وهو الأقوى - وهذه الآية فيها دلالة على جواز النسخ في الشريعة بل على وقوعه،
لأنه قال (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) فأخبر ان الجاعل لتلك القبلة كان هو تعالى،
وانه هو الذي نقله عنها وذلك هو النسخ، فان قيل: كيف أضاف الايمان إلى الاحياء
وهم كانوا قالوا: كيف بمن مضى من اخواننا قلنا يجوز ذلك على التغليب، لان من
عادتهم ان يغلبوا المخاطب على الغائب كما يغلبون المذكر على المؤنث تنبيها على الأكمل،
فيقولون: فعلنا بكما وبلغنا كما، وإن كان أحدهما حاضرا والاخر غائبا، فان قيل
كيف جاز على أصحاب النبي صلى الله وآله الشك فيمن مضى من اخوانهم فلم يدروا
انهم كانوا على حق في صلاتهم إلى بيت المقدس؟ قيل في ذلك: كيف اخواننا لو
أدركوا الفضل بالتوجه، وانهم أحبوا لهم ما أحبوا لأنفسهم. ويكون قال ذلك منافق
بما فيه الرد على المخالفين المنافقين.

(1) اللسان " رأف " وروايته " ونطيع " بدل " لنطيع " في المطبوعة " رؤوف "
بدل " رؤوفا ".
(2) سورة المائدة: آية 120.
12

قوله تعالى:
" قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها
فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم
شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما
الله بغافل عما تعملون " (144) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وروح " عما تعملون "
بالتاء. الباقون بالياء.
النزول:
وقال قوم ان هذه الآية نزلت قبل التي تقدمتها: وهي قوله: (سيقول السفهاء)
المعنى:
إن قيل لم قلب النبي صلى الله عليه وآله وجهه في السماء، قلنا عنه جوابان:
أحدهما - انه كان وعد بالتحويل عن بيت المقدس، وكان يفعل ذلك
انتظارا وتوقعا لما وعد به.
والثاني - انه كان يحبه محبة الطباع، ولم يكن يدعو به حتى ادركه فيه،
لان الأنبياء لا يدعون إلا بما أذن لهم فيه لئلا تكون المصلحة في خلاف ما سألوه
فيكون في ردهم تنفر عن قبول قولهم. وهذا الجواب يروى عن ابن عباس، وقتادة.
وقيل في سبب محبة التوجه إلى الكعبة ثلاثة أقول:
أولها - قال مجاهد: انه أحب ذلك، لأنها كانت قبلة إبراهيم - حكاه الزجاج -
انها أحب ذلك استدعاء العرب إلى الايمان.
13

اللغة:
وقوله: (قد نرى) فالرؤية هي ادراك الشئ من الوجه الذي يتبين بالبصر.
وقوله: (تقلب وجهك) التقلب والتحول والتصرف نظائر: وهو التحرك في الجهات
وقوله: (ترضاها) تحبها. والرضاء ضد السخط: وهو إرادة الثواب. والسخط
إرادة الانتقام. وقوله: (شطر المسجد) اي نحوه، وتلقاه بلا خلاف بين أهل اللغة
. وعليه المفسرون كابن عباس، ومجاهد، وأبي العالية، وقتادة، والربيع،
وابن زيد، وغيرهم. قال الشاعر:
وقد أظلكم من شطر ثغركم * هول له ظلم يغشاكم قطعا
اي من نحو ثغركم وانشد ابن عبيدة الهذلي (1):
ان السير بها داء مخامرها * فشطرها نظر العينين محسور (2)
وقال ابن احمر (3):
تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة * قد كارب العقد من ايفادها الحقبا (4)
وقال الجبائي: أراد بالشطر النصف، كأنه قال: وجهك نصف المسجد،
لان شطر الشئ: نصفه، فأمره ان يولي وجهه نحو نصف المسجد حتى يكون مقابل
الكعبة. وهذا فاسد، لأنه خلاف أقوال المفسرين، ولان اللفظ إذا كان مشتركا
بين النصف، وبين النحو ينبغي ألا يحمل على أحدهما إلا بدليل. وعلى ما قلناه اجماع
المفسرين، قال الزجاج: يقال: هؤلاء القوم شاطرونا دورهم، تتصل بدورنا كما

(1) هو قيس بن العيزارة الهذلي. والعيزارة أمه واسمه قيس بن خويلد بن كاهل.
(2) ديوانه: 261 والكامل لابن الأثير 1: 12، 2: 3 واللسان " شطر " في المطبوعة
" العشير " بدل " العسير " وتخامرها " بدل " مخامرها " و " محشورا " بدل " محسور "
(3) في المطبوعة " الراحم " وهو تحريف.
(4) سيرة ابن هشام 2: 119، والروض الانف 2: 38 والخزانة 3: 38، ومجاز
القرآن لأبي عبيدة: 60 في المطبوعة " كادت العقد من العادها " بدل " كارب العقد ص يفادها "
وهو تحريف فاحش؟ قوله: جمع هي اسم مكان، ويسمى المزدلفة عاقدة قد عكف ذنبها بين
فخذيها. كارب: أوشك، وكاد، وقارب، ودنا. أوفدت الناقة: أسرعت. الحقب: الحزام.
14

يقال هؤلاء يناحوننا أي نحن نحوهم وهم نحونا. وقال صاحب العين شطر كل شئ
نصفه وشطره: قصده ونحوه، ومنه المثل احلب حلبا لك شطره اي نصفه. وشطرت
الشئ جعلته نصفين، وقد شطرت الشاة شطارا: وهو أن يكون أحد طستها أكثر من
الآخر وان حلبا جميعا، ومنزل شطر: اي بعيد، وشطر فلان على أهله: اي تركهم
مراغما أو مخالفا. ورجل شاطر. وقد شطر شطورة، وشطورا وشطارة: وهو اعيا
أهله خبثا. واصل الشطر النصف.
المعنى:
وقال السدي المعني بقوله (وان الذين أوتوا الكتاب) هم اليهود. وقال غيره:
هم أحبار اليهود، وعلماء النصارى غير أنهم جماعة قليلة يجوز على مثلهم اظهار خلاف
ما يبطنون، لان الجمع الكثير لا يتأتى ذلك منهم لما يرجع إلى العادة، وانه لم يجز بذلك
مع اختلاف الدواعي، وإنما يجوز العناد على النفر القليل وقد مضى فيما تقدم نظير
ذلك، وان على ما نذهب إليه في الموافاة لا يمكن أن يكونوا عارفين بذلك إلا أن
يكون نظيرهم لا يوجه وجوب المعرفة، فإذا حصلت المعرفة عند ذلك فلا يستحقون
عليه الثواب لان النبي (ص) يمنع منه ان يكونوا مستحقين للثواب الدائم ويكفرون
فيستحقون العقاب الدائم والاحباط باطل، فيؤدي ذلك إلى اجتماع الاستحقاقين
الدائمين وذلك حلاف الاجماع.
وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس قبل ذلك. وروي عن ابن
عباس أنه قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة. وقال قتادة:
نسخت هذه الآية ما قبلها. وقال جعفر بن مبشر هذا مما نسخ من السنة بالقرآن
- وهذا هو الأقوى -، لأنه ليس في القرآن مما يدل على تعبده بالتوجه إلى بيت
المقدس. ومن قال: انها نسخت قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) قلنا له هذه
ليست منسوخة بل هي مختصة بالنوافل - في حال السفر - فأما من قال: يجب على
الناس ان يتوجهوا إلى الميزاب الذي على الكعبة ويقصدوه، فقوله باطل، لأنه خلاف
15

ظاهر القرآن. قال ابن عباس: البيت كله قبلة - وهو قول جميع المفسرين. وروى
بعض أصحاب الحديث: ان البيت هو القبلة وان قبلته بابه. وهذا يجوز. قال فاما ان
يجب على جميع الخلق التوجه إليه، فهو خلاف الاجماع.
وقوله: (حيثما كنتم قولوا وجوهكم شطره) روي عن أبي جعفر وأبي
عبد الله (ع) ان ذلك في الفرض، وقوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله)
في النافلة.
وروى عن ابن عباس وأبي جعفر بن محمد بن علي: انه لما حول إلى الكعبة اتى رجل
من عبد الأشهل من الأنصار وهم قيام يصلون الظهر وقد صلوا ركعتين نحو بيت
المقدس، فقال: ان الله قد صرف رسوله نحو البيت الحرام، فصرفوا وجوههم نحو البيت
الحرام في بقية صلاتهم.
الاعراب:
قوله: (وحيثما كنتم) موضع كنتم جزم بالشرط، وتقديره وحيث ما تكونوا،
والفاء جواب ولولا (ما) لم يجز الجزاء (بحيث) لخروجها عن نظائرها، بأنه لا يستفهم بها،
ولان الإضافة لها كالصلة لغيرها، وليست بصلة كصلة أخواتها. والهاء في قوله تعالى:
(وانه للحق) على قول الجبائي يعود إلى التحويل. وقال الحسن: هي عائدة إلى
التوجه إلى الكعبة، لأنها قبلة إبراهيم، والأنبياء قبله.
اللغة:
و " الحق " وضع الشئ في موضعه إذا لم يكن فيه وجه من وجوه القبح.
والغفلة: هي السهو عن بعض الأشياء خاصة وإذا كان السهو عاما فهو فوق الغفلة وهو
السهو العام، لان النائم لا يقال: انه غفل عن الشئ الا مجاز.
المعنى:
وقال عطا في قوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) قال: الحرم
16

كله مسجد. وهذا مثل قول أصحابنا أن الحرم قبلة من كان نائيا عن الحرم من أهل
الآفاق. واختلف الناس في صلاة النبي صلى الله عليه وآله إلى بيت المقدس فقال قوم: كان يصلي
بمكة إلى الكعبة، فلما صار بالمدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا
ثم أعيد إلى الكعبة. وقال قوم: كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس إلا أنه كان يجعل
الكعبة بينه وبينها ولا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه. وقال قوم: بل كان
يصلي بمكة، وبعد قدومه المدينة سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس، ولم يكن عليه ان يجعل
الكعبة بينه وبينها، ثم أمره الله بالتوجه إلى الكعبة. ومن صلى إلى غير القبلة لشبهة
دخلت عليه، ثم تبينه، فإن كان الوقت باقيا أعاد الصلاة. وان خرج الوقت، فإن كان
صلى يمينا وشمالا، فلا إعادة عليه، وإن صلى إلى استدبارها أعاد. وفيه خلاف بين الفقهاء
ذكرناه في الخلاف.
قوله تعالى:
(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا
قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن
اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين)
(145) آية بلا خلاف.
الاعراب:
اختلف النحويون في أن جواب - لئن - لم كان جواب (لو) فقال الأخفش، ومن
تبعه أجيبت بجواب - لو، لان الماضي وليها كما يلي لو فأجيبت بجواب (لو) ودخلت كل
واحدة منهما على صاحبتها قال الله تعالى: (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من
بعده يكفرون) (1) فجرى مجرى ولو أرسلنا وقال (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة
من عند الله (2) على جواب لئن. قال سيبويه وجميع أصحابه: ان معنى (لظلوا

(1) سورة الروم آية 51
(2) سورة البقرة آية 103
17

من بعده يكفرون) ليظلن ومعنى (لئن) غير معنى (لو) في قول الجماعة. وإن قالوا إن
الجواب متفق لأنهم لا يدفعون أن معنى (لئن) ما يستقبل ومعنى (لو): ما مضى وحقيقة
معنى (لو) أنها يمتنع بها الشئ لامتناع غيره. كقولك لو أتيتني لأكرمتك أي لم تأتني
فلم أكرمك، فامتنع الاكرام، لامتناع الاتيان. ومعنى (إن) (ولئن) إنما يقع بهما
الشئ لوقوع غيره تقول: إن تأتني أكرمك، فالا كرام يقع بوقوع الاتيان. وقال
بعضهم: إن كل واحدة منهما على موضعها، وإنما لحق في الجواب هذا التداخل، لدلالة
اللام على معني القسم، فجاء الجواب القسم، فأغني عن جواب الجزاء لدلالته عليه،
لان معني لظلوا ليظلن وهذا هو معنى قول سيبويه. ويجوز أن تقول: إن أتيتني لم
أجفك، ولا يجوز أن تقول: إن اتيتني ما جفوتك، لان (ما) منفصلة (ولم) كجزء من
الفعل. ألا ترى أنه يجوز ان تقول: زيدا لم أضرب،
ولا يجوز زيدا ما ضربت.
وإنما يجاب الجزاء بالفعل أو الفاء، فإذا تقدم لام القسم جاز، فقلت لئن أتيتني
ما جفوتك.
المعنى:
فان قيل: كيف قال (ولئن أتيت الذين أوتو الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك)
وقد آمن منهم خلق؟ قلنا عن ذلك جوابان:
أحدهما - قال الحسن: إن المعنى أن جميعهم لا يؤمن، وهو اختيار الجبائي.
والثاني - أن ذلك مخصوص لمن كان معاندا من أهل الكتاب دون جميعهم
الذين وصفهم الله، فقال " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " اختاره البلخي والزجاج. وهذه
الآية دالة على فساد قول من قال: لا يكون الوعيد بشرط، وعلى فساد قول من قال
بالموافاة، وإن من علم الله أنه يؤمن لا يستحق العقاب أصلا، لان الله تعالى علق الوعيد
بشرط يوجب أن يكون متى تحصل الشرط تحصل استحقاق العقاب، وفيها دليل على
فساد قول من قال: إن الوعيد لا يقع لمن علم أنه لا يعصي، لان الله تعالى علم من حال
الرسول أنه لا يتبع أهواءهم ومع هذا يوعده إن اتبع أهواءهم. وفي الآية دلالة على
18

بطلان قول من قال: إن في المقدور لطفا، لو فعل الله بالكافر لآمن لا محالة، من قبل
أنه قيل في قوله (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك)
قولان:
أحدهما - أن المعاند لا ينفعه الدلالة لأنه عارف والآخر أنه لألطف لهم فتلتمسه
ليؤمنوا، وعلى القولين فيه دلالة على فساد قول أصحاب اللطف، لان مخرجه مخرج
التنصل من التخليف عنهم ما يؤمنون عنده طوعا، فلو قال قائل: وما في أن الآية لا ينفعهم
في الايمان لطف ينفعهم فيه لكان لا يسقط سؤاله. إلا بأن يقال: لا لطف لهم كما
لا آية تنفعهم. وقوله: (ولئن اتبعت أهواءهم) قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدهما - (لئن اتبعت أهواءهم) في المداراة لهم حرصا على أن يؤمنوا (إنك
إذا لمن الظالمين) لنفسك مع اعلامنا إياك: (انهم لا يؤمنون) هذا قول أبي
علي الجبائي.
الثاني - الدلالة على أن الوعيد يجب باتباع أهوائهم فيما دعوا إليه من قبلتهم،
وأنه لا ينفع مع ذلك عمل سلف، لأنه ارتداد. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به كل
من كان بتلك الصفة. كما قال: (لئن أشركت ليحبطن عملك) (1) وهذا قول
الحسن، والزجاج.
الثالث - ان معناه الدلالة على فساد مذاهبهم، وتبكيتهم بها. كما تقول: لئن
قيل عنك أنه لخاسر تريد به التبكيت على فساد رأيه، والتبعيد من قبوله.
وقوله: (وما أنت بتابع قبلتهم) قيل في معناه أربعة أقوال:
أولها - أنه لما قال: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا
قبلك وما أنت بتابع قبلتهم) على وجه المقالة كما تقول: ما هم بتاركي انكار الحق
وما أنت بتارك الاعتراف به، فيكون الذي جر الكلام التقابل للكلام الأول،
وذلك حسن من كلام البلغاء.

(1) سورة الزمر: آية 65.
19

الثاني - أن يكون المراد أنه ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف
وجهتهم، لان النصارى يتوجهون إلى المشرق، واليهود إلى بيت المقدس، فبين الله
تعالى: أن رضا الفريقين محال.
الثالث - أن يكون المراد حسم طمع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا
في ذلك وظنوا انه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس، وما جوا في ذكره.
الرابع - انه لما كان النسخ مجوزا قبل نزول هذه الآية، فأنزل الله تعالى
الآية، ليرتفع ذلك التجوز.
وقوله: (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن، والسدي، وابن زيد، والجبائي: أنه لا يصير النصارى
كلهم يهودا، ولا اليهود كلهم يصيرون نصارى أبدا، كما لا يتبع جميعهم الاسلام. وهذا
من الاخبار بالغيب.
وقال غيرهم: معناه إسقاط الاعتلال بأنه مخالفة لأهل الكتاب الذين ورثوا ذلك
عن أنبياء الله بأمره إياهم به، فكلما جاز أن يخالف بين وجهتهم للاستصلاح جاز ان
يخالف بوجهة ثالثة للاستصلاح في بعض الأزمان.
وقد بينا حد الظلم فيما تقدم، واعترضنا قول من قال: هو الضرر والقبيح الذي
يستحق به الذم من حيث أن ذلك ينقض بفعل الساهي، والنائم، والطفل، والمجنون
- إذا كان بصفة الظلم - فإنه يكون قبيحا وان لم يستحقوا به ذما. ومن خالف
في ذلك كان الكلام عليه في موضع آخر. على أن المخالف في ذلك ناقض، فإنه قال: ان
الكذب يقع من الصبي ويكون قبيحا. وهذا إذا جاز. هلا جاز ان يقع منه الظلم؟
فان قال: لان العقل للانسان البالغ، يزجر الصبي عن ذلك بالتأديب. قلنا مثل ذلك
في الظلم سواء.
قوله تعالى:
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن
20

فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) (146) آية بلا خلاف
المعنى:
أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وآله كما يعرفون أبناءهم،
وأن جماعة منهم يكتمون الحق مع علمهم بأنه حق. وقيل في الحق الذي كتموه
قولان:
أحدهما - قال مجاهد: كتموا محمدا صلى الله عليه وآله ونبوته، وهم يجدونه مكتوبا عندهم
في التوراة والإنجيل.
والثاني - قال الربيع: انهم كتموا أمر القبلة. وقوله (وهم يعلمون)
يحتمل أمرين:
أحدهما - يعلمون صحة ما كتموه. والثاني - يعلمون ما لمن دفع الحق من
العقاب والذم.
و (الهاء) في قوله: (يعرفونه) عائدة - في قول ابن عباس، وقتادة، والربيع -
على أن أمر القبلة حق. وقال الزجاج هي عائدة على أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وآله
وصحة أمره، وثبوت نبوته، وإنما قال: (وان فريقا منهم ليكتمون الحق) وفي
أول الآية قال: (يعرفونه) على العموم، لان أهل الكتاب منهم من أسلم وأقر بما
يعرف فلم يدخل في جملة الكاتمين. كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما
ممن دخل في الاسلام.
والعلم والمعرفة واحد. وحده ما اقتضى سكون النفس. وإن فصلت، قلت: هو
الاعتقاد للشئ على ما هو به مع سكون النفس. وفصل الرماني بين العلم والمعرفة، بأن
قال: المعرفة هي التي يتبين بها الشئ من غيره على جهة التفصيل. والعلم قد يتميز به
الشئ على طريق الجملة دون التفصيل كعلمك بان زيدا في جملة العشرة. وإن لم تعرفه
بعينه وإن فصلت بين الجملة التي هو فيها، والجملة التي ليس هو فيها. وهذا غير صحيح
21

لان المعرفة أيضا قد يتميز بها الشئ على الطريق الجملة، فلا فرق بينهما. فان قيل لم قال:
" يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " إنهم أبناءهم في الحقيقة، ويعرفون أن محمدا صلى الله عليه وآله
هو النبي المبشر به في الحقيقة؟ قلنا التشبيه وقع بين المعرفة بالابن في الحكم: وهي
معرفة تميزه بها من غيره، وبين المعرفة بالنبي المبشر به في الحقيقة، فوقع التشبيه بين
معرفتين. إحداهما أظهر من الأخرى.
قوله تعالى:
(الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) (147)
آية بلا خلاف.
الاعراب:
" الحق " مرتفع بأنه خبر ابتداء محذوف وتقدير ذاك الحق من ربك أو
هو الحق من ربك. ومثله مررت برجل كريم زيد: اي هو زيد، ولو نصب كان
جائزا في العربية على تقدير إعلم الحق من ربك.
المعنى:
وقوله: " فلا تكونن من الممترين " معناه من الشاكين ذهب إليه ابن زيد،
والربيع، وغيرهما من المفسرين. والامتراء الاستخراج. وقيل: الاستدرار. فكأنه
قال: فلا تكن من الشاكين فيما يلزمك استخراج الحق فيه. قال الأعشى:
تدر على اسؤق الممترين * ركضا إذا ما السراب ارجحن (1)
يعني الشاكين في درورها، لطول سيرها. وقيل: المستخرجين ما عندها. قال
صاحب العين: المري مسحك ضرع الناقة. تمر بها بيدك لكي تكن، للحلب،
والريح تمري السحاب مريا. والمرية من ذلك. والمرية الشك. ومنه الامتراء،

(1) ديوانه: 23 رقم القصيدة: 2، واللسان " رجحن " تدر - بضم الدال وتشديد
الراء - تجري بسرعة. الممترين: الذين يغمزون خيلهم بساقهم. ارجحن السراب: ارتفع في
المطبوعة " وكفا " بدل " ركضا " و " السحاب " بدل " السراب ".
22

والتماري، والمماراة. والمراء. وأصل الباب الاستدرار. ويقال: بالشكر تمتري النعم
اي تستدر. وقال الحسن، والربيع، والجبائي: معنى الآية " فلا تكونن من الممترين "
في الحق الذي تقدم اخبار الله به من أمر القبلة، وعناد من كتم النبوة وامتناعهم من
الاجتماع على ما قامت به الحجة. وقال بعضهم: " لا تكونن من الممترين " في شئ
يلزمك العلم به. وهو الأولى، لأنه أعم، والخطاب وإن كان متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله
فالمراد به الأمة كما قال تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم " (1) وقال: (يا أيها النبي
اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) (2). وقال قوم: إن الخطاب له، لأنه
إنما لا يجوز عليه ذلك لملازمته أمر الله. ولو لم يكن هناك أمر لم يصح أن يلازم.
والنون الثقيلة يؤكد بها الأمر والنهي، ولا يؤكد بها الخبر، لما كان المخبر يدل على كون
المخبر به، وليس كذلك الأمر والنهي، والاستخبار، لأنه لا يدل على كون المدلول
عليه، فألزم الخبر التأكيد بالقسم وما يتبعه من جوابه، واختصت هذه الأشياء بنون
التأكيد ليدل على اختلاف المعنى في المؤكد. ولما كان الخبر أصل الجمل أكد بأبلغ
التأكيد وهو القسم.
قوله تعالى:
(ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا
يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير). (148)
آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم (مولاها). وروي ذلك عن ابن عباس
ومحمد بن علي، فجعلا الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد، كذا قال الفراء.

(1) سورة الطلاق: آية 1
(2) سورة الأحزاب آية: 1.
23

المعنى:
وفي قوله: " ولكل وجهة هو موليها " أقوال:
أحدهما - قال مجاهد، والربيع، وابن زيد، وابن عباس، والسدي: أن
لكل أهل ملة من اليهود والنصارى.
الثاني - قال الحسن: إن لكل نبي وجهة واحدة: وهي الاسلام وان اختلف
الاحكام كما قال: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " اي في شرائع الأنبياء.
الثالث - قال قتادة: هو صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة.
الرابع - ان لكل قوم من المسلمين وجهة، من كان منهم وراء الكعبة وقدامها
أو عن يمينها أو عن شمالها، وهو الذي اختاره الجبائي. والوجهة قيل فيه قولان:
أحدهما - انه قبلة. ذهب إليه مجاهد، وابن زيد. الثاني قال الحسن: هو
ما شرعه الله لهم من اسلام.
وفي (جهة) ثلاث لغات: وجهة، وجهة، ووجه. وإنما أتم لأنه اسم لم
يجئ على الفعل. ومن قال: جهة. قال المبرد: جاء به على قولهم وجهني، ووجهته.
ومعنى " موليها " مستقبلها - في قول مجاهد وغيره. كأنه قال: مول إليها، لان ولى
إليه نقيض ولى عنه. كقولك: انصرف إليه، وانصرف عنه. وقوله " هو " عائد
- على قول أكثر المفسرين - إلى كل. وقال قوم يعود على اسم الله حكاهما الزجاج.
و " الخيرات " هي الطاعات لله - على قول ابن زيد وغيره - وقوله: " يأت بكم الله
جميعا " يعني يوم القيامة - من حيث ما متم من بلاد الله - وهو قول السدي، والربيع
وقد روي " ولكل وجهة " مضاف غير منون - وذلك لا يجوز، لأنه يكون الكلام
ناقصا، لا معنى له ولا فائدة فيه. وقوله: " استبقوا " يحتمل معنيين:
أحدهما - بادروا إلى ما أمرتم به مبادرة من يطلب السبق إليه.
الثاني - قال الربيع: سارعوا إلى الخيرات. وهو الأولى، لأنه أعم.
24

اللغة:
والاستباق، والابتدار، والاسراع نظائر. قال صاحب العين: السبق: القدمة
في الجري وفي كل أمر. تقول: له في هذا الامر سبقة، وسابقة وسبق: أي سبق
الناس إليه. والسبق الخطر الذي يوضع بين أهل السباق، وجمعه اسباق. والسباقان
في رجل الطائر الجارح قيداه من خيط أو سير. واصل الباب السبق: القدم
في الامر.
قوله تعالى:
(ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه
للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) " 149 " آية بلا خلاف.
قيل في تكرار قوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " قولان:
أحدهما - أنه لما كان فرضا، نسخ ما قبله، كان من مواضع التأكيد لينصرف إلى
الحال الثانية بعد الحال الأولى على يقين.
والثاني - أنه مقدم لما يأتي بعده ويتصل به، فأشبه الاسم الذي تكرره لتخبر
عنه باخبار كثيرة كقولك: زيد كريم، وزيد عالم، وزيد حليم، وما أشبه ذلك مما
تذكره لتعلق الفائدة به وإن كانت في نفسها معلومة عند السامع، ومعنى قوله " وإنه
للحق " الدلالة على وحوب المحافظة - من حيث كان حقا لله فيه طاعة -، ومعنى قوله
" وما الله بغافل عما تعملون " هاهنا التهديد كما يقول الملك لعبيده ليس يخفى علي ما أنتم
فيه، ومثله قوله: " إن ربك لبالمرصاد " (1). والوجه الجارحة المخصوصة وقد
حده الرماني بأنه صفيحة فيها محاسن تعرف بها الجملة، وحيث مبنية على الضم، لأنها
كالغاية تمامها الإضافة إلى المفرد، دون الجملة، لها بمنزلة الصلة، فجرت لذلك مجرى
قوله " من قيل ومن بعد ". (2)

(1) سورة الفجر آية: 14
(2) سورة الروم آية: 5.
25

قوله تعالى:
(ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث
ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا
الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم
تهتدون) " 150 " آية بلا خلاف.
المعنى:
قيل في تكرار قوله: " ومن حيث خرجت " ثلاثة أقوال:
أحدها - لاختلاف المعنى وإن اتفق اللفظ، لان المراد بالأول: من حيث
خرجت منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس. " فول وجهك شطر المسجد الحرام "
وأريد بالثاني أين كنت في البلاد، فتوجه نحو المسجد الحرام مستقبلا كنت لظهر
الكعبة أو وجهها أو يمينها أو شمالها.
الثاني - لاختلاف المواطن التي تحتاج إلى هذا المعنى فيها.
الثالث - لأنه مواضع التأكيد بالنسخ الذي نفلوا فيه من جهة إلى جهة للتقرير
والتثبيت. فان قيل هل في قوله تعالى: " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " حذف
منه (في الصلاة) أم هو مدلول عليه من غير حذف؟ قيل: هو محذوف، لأنه اجتزء
بدلالة الحال عن دلالة الكلام، ولو لم يكن هناك حال دالة لم يكن بد من ذكر هذا
المحذوف إذا أريد به الافهام لهذا المعنى فأما قوله: عليم وحكيم. فإنه يدل على المعلوم
من غير حذف.
ومعنى قوله:
" لئلا يكون للناس عليكم حجة " ها هنا. قيل فيه قولان:
أحدهما - لا تعدلوا عما أمركم الله في التوجه إلى الكعبة، فيكون لهم عليكم حجة،
بأن يقولوا لو كنتم تعلمون أنه من عند الله ما عدلتم عنه.
26

الثاني - لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة لو جاء على خلاف ما تقدمت
به البشارة في الكتب السالفة من أن المؤمنين سيوجهون إلى الكعبة.
وموضع اللام من " لئلا " نصب والعامل فيه أحد شيئين: فولوا. والآخر
ما دخل الكلام من معنى عرفتكم ذلك. وهو قول الزجاج.
وقوله: " إلا الذين ظلموا منهم " قيل فيه أربعة أقوال:
أحدها - أنه استثناء منقطع، و " إلا " بمنزلة (لكن) كقوله (ما لهم به
من علم إلا اتباع الظن) (1) وقوله: ماله علي إلا التعدي، والظلم، كأنك قلت:
لكن يتعدى ويظلم، وتضع ذلك موضع الحق اللازم، فكذلك لكن الذين ظلموا
منهم، فإنهم يتعلقون بالشبهة، ويضعونها موضع الحجة. فلذلك حسن الاستثناء المنقطع
قال النابغة:
لا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب (2)
جعل ذلك عيبهم على طريق البلاغة، وإن كان ليس بعيب. كأنه يقول: إن كان
فيهم عيب فهذا، وليس هذا بعيب، فإذا ليس فيهم عيب، فكذا إن كان على
المؤمنين حجة، فللظالم في احتجاجه، ولا حجة له، فليس إذا عليهم حجة.
القول الثاني - أن تكون الحجة بمعنى المحاجة، والمجادلة، كأنه قال: لئلا
يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم يحاجوكم بالباطل.
الثالث - ما قاله أبو عبيدة ان (إلا) هاهنا بمعنى الواو كأنه قال: لئلا
يكون للناس عليكم حجة والذين ظلموا منهم. وان ذكر ذلك الفراء والمبرد
قال الفراء: لا يجئ إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كما قال الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدة * دار الخليفة إلا دار مروان

(1) سورة النساء آية: 156.
(2) اللسان " فلل " (وقرع). فلول السيف. كسر من حده. القرع: الضرب الشديد
الكتائب جمع كتيبة وهي فرقة من الجيش المصفح.
27

وانشد الأخفش:
وأرى لها دارا بأغدرة * السيدان لم يدرس لها رسم
إلا رمادا هامدا دفعت * عنه الرياح خوالد سحم (1)
يعني أرى لها دارا ورمادا. وكأنه قال في البيت الأول: ما بالمدينة دار إلا دار
الخليفة ودار مروان. وخالفة أبو العباس فلم يجز أن تكون (إلا) بمعنى الواو أصلا.
الرابع - قال قطرب: يجوز الاضمار على معنى لئلا يكون للناس عليكم حجة
إلا على الذين ظلموا. وموضع الذين عنده خفض على هذا الوجه يجعله بدلا من الكاف
كأنه قيل في التقدير: لئلا يكون للناس على أحد حجة إلا الظالم. قال الرماني: وهذا
وجه بعيد لا ينبغي أن يتأول عليه، ولا على الوجه الذي قاله أبو عبيدة والاختيار
القول الأول.
وأثبتت (الياء) في قوله " واخشوني " هاهنا، وحذفت فيما عداه، لأنه
الأصل، وعليه اجماع هاهنا. واما الحذف فللاجتزاء بالكسرة من الياء.
وقوله: " واخشوني " معناه واخشوا عقابي بدلالة الكلام عليه في الحال، وإنما
ذكرهم فقال " فلا تخشوهم " لأنه لما ذكرهم بالظلم، والاستطالة بالخصومة والمنازعة
طيب بنفوس المؤمنين أي فلا تلتفتوا إلى ما يكون منهم فان عاقبة السوء عليهم. وقال
قتادة، والربيع: المعني بالناس هاهنا أهل الكتاب. وقال غيرهما: هو على العموم
- وهو الأقوى - وقال ابن عباس، والربيع، وقتادة: المعني بقوله " الذين
ظلموا " مشركوا العرب. وقال قوم: هو على العموم - وهو الأولى -.
وقوله " لئلا " ترك الهمزة نافع. الباقون يهمزون. ويلين كل همزة مفتوحة
قبلها كسرة. والحجة هي الدلالة. وهي البرهان.
قوله تعالى:
" كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم

(1) اللسان (خلد) ذكر البيت الثاني فقط.
28

الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " (151) -
آية بلا خلاف.
المعنى:
التشبيه بقوله (كما أرسلنا) يحتمل أمرين:
أحدهما - ان النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة، لان الله لطف بعباده بها
على ما يعلم من المصلحة، ومحمود العاقبة.
الثاني - الذكر الذي أمر الله به كالنعمة بالرسالة فيما ينبغي أن يكون عليه من
المنزلة في العظم والاخلاص لله، كعظم النعمة. وهو على نحو قوله: (كما أحسن الله
إليك (1) والعرب تقول: الجزاء بالجزاء، فسمي الأول باسم الثاني للمقابلة، والتشبيه
لكل واحد منهما بالآخر.
الاعراب:
و (ما) في قوله: (كما) مصدرية. كأنه قال: كارسالنا فيكم ويحتمل أن
تكون كافة قال الشاعر:
أعلاقة أم الوليد بعدما * أفنان رأسك كالثغام المخلس (2)
لأنه لا يجوز كما زيد يحسن إليك فأحسن إلى أبنائه. والعامل في قوله (كما)
يجوز أن يكون أحد أمرين:
أحدهما - الفعل الذي قبله: وهو قوله: (ولاتم نعمتي عليكم) (كما أرسلنا
فيكم) والقول الثاني - الفعل الذي بعده: وهو فاذكروني (كما أرسلنا). والأول

(1) سورة القصص آية: 77.
(2) قائله المرار الأسدي، وفي التكملة المرار الفقعسي.
(3) اللسان " علق " و " ثغم " و " فنن " العلاقة: الحب. أفنان خصل الشعر.
الثغام شجر ابيض. المخلس: الذي بين السواد والبياض: فكأنه يقول: أحب بعد الشيب.
29

أحد قولي الفراء، والزجاج واختاره الجبائي. والثاني قول مجاهد والحسن، وابن أبي
يحتج بأحد قولي الفراء، والزجاج، واختيار الزجاج. وقال الفراء: لا ذكروني
جوابان: أحدهما - (كما). والآخر - أذكركم، لأنه لما كان يجب عليهم الذكر
ليذكرهم الله برحمته، ولما سلف من نعمته، أشبه - من هذا الوجه - الجواب، لأنه
يجب للثاني فيه بوجوب الأول:
المعنى:
وقوله: (يزكيكم) معناه يعرضكم لما تكونوا به أزكياء من الامر بطاعة
الله واتباع مرضاته. ويحتمل أيضا أن يكون المراد: ينسبكم إلى أنكم أزكياء شهادة
لكم بذلك، ليعرفكم الناس به، وإنما قال: (الكتاب والحكمة) لاختلاف الفائدة
في الصفتين وإن كانتا لموصوف واحد. كقولك: هو العالم بالأمور القادر عليها.
ويحتمل أن يكون أراد بالكتاب: القرآن، وبالحكمة: الوحي من السنة.
والكاف في قوله: (فيكم) خطاب للعرب - على قول جميع أهل التأويل.
وقوله: (ويعلمكم) معناه مالا سبيل لكم إلى علمه إلا من جهة السمع،
فذكرهم الله بالنعمة فيه. ويكون التعليم لما عليه دليل من جهة العقل تابعا للنعمة فيه.
ولا سيما إذا أوقع موقع اللطف.
ومعنى الارسال: هو التوجه بالرسالة والتحميل لها ليؤدي إلى من قصد،
فالدلالة والرسالة جملة مضمنة بمن يصل إليه ممن قصد بالمخاطبة.
والتلاوة: ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام متسق في الرتبة.
والتزكية: النسبة إلى الازدياد من الأفعال الحسنة التي ليست بمشوبة. ويقال
أيضا على معنى التعريض لذلك بالاستدعاء إليه واللطف فيه.
والحكمة: هي العلم الذي يمكن به الافعال المستقيمة.
30

قوله تعالى:
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) (152)
آية بلا خلاف.
المعنى:
الذكر المأمور به في الآية، والموعد به، قيل فيه أربعة أقوال:
أحدهما - قال سعيد بن جبير " اذكروني " بطاعتي " أذكركم " برحمتي.
الثاني - " اذكروني " بالشكر (أذكركم) بالثواب.
الثالث (أذكروني) بالدعاء (أذكركم) بالإجابة.
الرابع - (اذكروني) بالثناء بالنعمة (أذكركم) بالثناء بالطاعة.
اللغة:
والذكر: حضور المعنى للنفس، فقد يكون بالقلب، وقد يكون بالقول،
وكلاهما يحضر به المعنى للنفس، وفي أكثر الاستعمال يقال: الذكر بعد النسيان، وليس
ذلك بموجب إلا أن يكون إلا بعد نسيان، لان كل من حضره المعنى بالقول أو العقد
أو الحضور بالبال: ذاكر له. واصله التنبيه على الشئ. فمن ذكر ناسيا، فقد نبهه
عليه. وإذا ذكرناه نحن فقد نبهنا عليه. والذكر نقيض الأنثى (وإنه لذكر
لك) (1) أي شرف لك من النباهة والجلالة. والفرق بين الذكر، والخاطر. أن
الخاطر: مرور المعنى بالقلب، والذكر قد يكون ثابتا في القلب. وقد يكون بالقول.
الاعراب:
وقوله تعالى: (واشكروا لي) معناه اشكروا لي نعمتي فحذف، لان حقيقة الشكر
هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم. وقوله: (ولا تكفرون) فيه حذف،

(1) سورة الزخرف آية: 44.
31

وتقديره: ولا تكفروا نعمتي، لان الكفر هو ستر النعمة وجحدها. لأستر المنعم.
وقولهم حمدت زيدا، وذممت عمرا، فلا حذف فيه وإن كنت إنما تحمد من اجل
الفعل الحسن، وتذم من اجل الفعل القبيح. كما أنه ليس في قولك: زيد متحرك
حذف، وإن كان إنما تحرك من أجل الحركة. وليس كل كلام دال على معني غير مذكور
يكون فيه حذف، لان قولك زيد ضارب دال على مضروب، وليس بمحذوف،
وكذلك زيد قاتل دال على مقتول، وليس بمحذوف، فالحمد للشئ دلالة على أنه
محسن، والذم له دلالة على أنه مسئ كقولك: نعم الرجل زيد، وبئس الرجل
عمرو، وكذلك قولك: زيد المحسن، وعمرو المسئ، ليس فيه محذوف ويقال:
شكرتك، وشكرت لك، وإنما قيل شكرتك، لأنه أوقع اسم المنعم موقع النعمة، فعدى
الفعل بغير واسطة والأجود. شكرت لك النعمة، لأنه الأصل في الكلام، والأكثر
في الاستعمال. قال الشاعر (1):
هم جمعوا بؤسى ونعمى عليكم * فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل (2)
ومثل ذلك نصحتك، ونصحت لك، وإنما حذف (الياء) في الفواصل،
لأنها في نية الوقف، فلذلك قال (ولا تكفرون) بغير (ياء) وهي في ذلك كالقوافي
التي يوقف عليها بغير ياء كقول الأعشى:
ومن شانئ كاشف وجهه * إذا ما انتسبت له أنكرن (3)
يعني أنكرني فحذف الياء.

(1) نسبه أبو حيان في تفسيره 1: 447 لعمر بن لجأ.
(2) معاني القرآن للفراء: 1: 92 يقول: لما ذا لم تشكر القوم الذين جمعوا لك النعيم
والبؤس وأنت لم تقاتل.
(3) ديوانه: 19. رقم القصيدة 2 في المطبوعة " بله " بدل " وجهه " و " ذكرت "
بدل " انتسبت ".
32

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع
الصابرين) (153) آية واحدة بلا خلاف.
اللغة والمعنى:
الصبر هو حبس النفس عما تدعوا إليه من الأمور، والصابر هو الحابس نفسه عما
تدعوا إليه مما لا يجوز له. وهو صفة مدح. ووجه الاستعانة بالصبر أن في توطين
النفس على الأمور تسهيلا لها. واستشعار الصبر إنما هو توطين النفس. ووجه الاستعانة
بالصلاة ما فيها من الذكر لله، واستشعار الخشوع له، وتلاوة القرآن وما فيه من
الوعظ، والتخويف، والوعد، والوعيد، والجنة، والنار، وما فيه من البيان الذي
يوجب الهدى ويكشف العمى. كل ذلك داع إلى طاعة الله، وزاجر عن معاصيه،
فمن هاهنا كان فيه المعونة على ما فيه المشقة من الطاعة. وأما الاستعانة فهي الازدياد
في القوة مثل من يريد أن يحمل مئة رطل فلا يتهيأ له ذلك فإذا استعان بزيادة قوة
تأتي ذلك، وكذلك إن عاونه عليه غيره وعلى ذلك السبب والآلة، لأنه بمنزلة
الزيادة في القوة. وقوله تعالى: (إن الله مع الصابرين) أي معهم بالمعونة،
والنصرة، كما تقول: إذا كان السلطان معك، فلا تنال من لقيت. وقد تكون (مع)
في الكلام على معنى الاجتماع في المكان. وذلك لا يجوز عليه تعالى.
وفي الآية دلالة على أن الصلاة فيها لطف، لان الله تعالى أمرنا بالاستعانة
بها، وتوضيحه قوله: (ان الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر) (1) ولولا هذا
النص، لجوزنا أن يكون في غير ذلك. والذي يستعان عليه بالصبر والصلاة. قيل
فيه قولان:
أحدهما - طاعة الله، كأنه قال استعينوا بهذا الضرب من الطاعة على غيره فيها.
والثاني - على الجهاد في سبيل الله، لأعدائه.

(1) سورة العنكبوت آية: 45.
33

الاعراب:
وموضع الذين رفع لا يجوز غير ذلك عند جميع النحويين إلا المازني، فإنه
أجاز يا أيها الرجل اقبل، والعامل فيه ما يعمل في صفة المنادي - عند جميع النحويين -
إلا الأخفش، فإنه يجعله صلة لأي ويرفعه بأنه خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل:
يامن هم الذين آمنوا. إلا أنه لا يظهر المحذوف مع أي، وإنما حمله على ذلك لزوم
البيان له، فقال: الصلة تلزم، والصفة لا تلزم. قال الرماني والوجه عندي أن تكون
صفة بمنزلة الصلة في اللزوم، وإنما لزمت أي هاهنا في النداء، لان العرض بحرف
التنبيه وقع في موضع التنبيه، فلزم، فلا يجوز أن تقول: نعم الذين في الدار، لان نعم
إنما تعمل في الجنس الذي يكره إذا أضمر فسر بها.
قوله تعالى:
(ولا تقولن لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن
لا تشعرون) (154) آية بلا خلاف.
المعنى:
فان قيل: هل الشهداء أحياء على الحقيقة، أم معناه أنهم سيحيون وليسوا أحياء؟
قلنا: الصحيح أنهم أحياء إلى أن تقوم الساعة، ثم يحييهم الله في الجنة، لا خلاف
بين أهل العلم فيه إلا قولا شاذا من بعض المتأخرين. والأول قول الحسن، ومجاهد،
وقتادة، والجبائي، وابن الاحشاد، والرماني، وجميع المفسرين. والقول الثاني حكاه
البلخي. يقال: ان المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله يقتلون نفوسهم
في الحرب لا لمعنى، فأنزل الله تعالى الآية. وأعلمهم أنه ليس الامر على ما قالوه،
وأنهم سيحيون يوم القيامة ويثابون، ولم يذكر ذلك غيره. وقيل: ليس هم أمواتا
بالضلالة بل هم أحياء بالطاعة، والهدى، كما قال: (أو من كان ميتا فأحييناه) (1)

(1) سورة الأنعام آية: 122.
34

فجعل الضلالة موتا، والهداية حياة. وقيل: معناه ليس هم أمواتا بانقطاع الذكر،
بل هم احياء ببقاء الذكر عند الله، وثبوت الاجر عنده. واستدل أبو علي الجبائي
على أنهم أحياء في الحقيقة بقوله: (ولكن لا تشعرون) فقال: لو كان المعنى
سيحيون في الآخرة، لم يقل للمؤمنين المقرين بالبعث، والنشور (ولكن لا تشعرون
لأنهم يعلمون ذلك، ويشعرون به. فان قيل: ولم خص الشهداء بأنهم احياء
والمؤمنون كلهم في البرزخ أحياء؟ قيل يجوز أن يكونوا ذكروا اختصاصا، تشريفا
لهم. وقد يكون على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم في البيان لما يختصون به من
أنهم يرزقون، كما قال تعالى (بل احياء عند ربهم يرزقون) (1). وإنما قيل للجهاد
سبيل الله، لأنه طريق إلى ثواب الله تعالى.
اللغة:
والموت: نقص بنية الحياة. والموت - عند من قال إنه معنى عرضي - ينافي
الحياة منافاة التعاقب. ومن قال: ليس بمعنى قال: هو عبارة عن فساد بنية الحياة.
فأما الحياة، فهي معنى بلا خلاف.
الاعراب:
وقوله: (أموات) رفع بأنه خبر ابتداء محذوف، كأنه قال: لا تقولوا هم
أموات. ولا يجوز فيه النصب على قولك: قلت خيرا، لأنه الخير في موضع المصدر كأنه
قال: قلت قولا حسنا. فاما قوله (ويقولون طاعة) (2) فيجوز فيه الرفع والنصب
في العربية: الرفع على منا طاعة: والنصب على نطيع طاعة والفرق بين (بل) و (لكن)
ان (لكن) نفي لاحد الشيئين، وإثبات للآخر، كقولك: ما قام زيد لكن
عمرو، وليس كذلك (بل)، لأنها للاضراب عن الأول، والاثبات للثاني، ولذلك
وقعت في الايجاب كقولك: قام زيد بل عمرو. فاما إذا قصد المتكلم، فإنما هو ليدل

(1) سورة آل عمران آية: 169.
(2) سورة النساء آية: 80.
35

على أن الثاني أحق بالاخبار عنه من الأول، كقولك؟ قام زيد بل عمرو، كأنه ليعتد بقيام الأول.
اللغة:
والشعور: هو ابتداء العلم بالشئ من جهة المشاعر، وهي الحواس، ولذلك
لا يوصف تعالى بأنه شاعر، ولا أنه يشعر، وإنما يوصف بأنه عالم ويعلم. وقد قيل: إن الشعور
إدراك ما دق للطف الحسن مأخوذ من الشعر لدقته، ومنه شاعر، لأنه يفطن من
إقامة الوزن وحسن النظم بالطبع لما لا يفطن له غيره.
المعنى:
فان قيل: هل كون عقولهم إذا كانوا أحياء، وكيف يجوز أن يصل إليهم
ثوابهم مع نقصان عقولهم؟ قيل الثواب لم يصل إليهم على كنهه وإنما يصل إليهم طرف منه.
ومثلهم في ذلك مثل النائم على حال جميلة في روضة طيبة يصل إليهم طيب ريحها ولذيذ
نسيمها على نحو ما جاء في الحديث من أنه يفصح له مد بصره، ويقال له؟ نومة
العروس. وأما الذين قتلوا في سبيل الله، فعلى ما ذكرناه من الاختصاص بالفضيلة.
فان قيل: كيف يجوز أن يكونوا أحياء - ونحن نرى جثتهم على خلاف ما كانت عليه
في الدنيا.؟ قيل: إن النعيم إنما يصل إلى الروح وهي الحية، وهي الانسان، دون
الجثة - والجثة كالجنة واللباس لصيانة الأرواح. ومن زعم أن الانسان هذه الجملة
المعروفة وجعل الجثة جزء منها فإنه يقول: يلطف أجزاء من الانسان توصل إليه
النعيم، وإن لم يكن الانسان بكماله على نحو ما ذكرنا أن النعيم لا يصل إليه نفسه.
قوله تعالى:
" ولنبلونكم بشئ من الجوع ونقص من الأموال
والأنفس والثمرات وبشر الصابرين " (155).
الخطاب بهذه الآية متوجه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله - على قول عطاء، والربيع
36

وأبي علي، والرماني، ولو قيل: أنه خطاب لجميع الخلق، لكان أيضا صحيحا،
لان ذلك جاز في جميعهم.
اللغة:
والابتلاء في الأصل: الطلب لظهور ما عند القادر على الامر من خير أو شر.
والابتلاء، والاختبار، والامتحان، بمعنى واحد، والابتلاء بهذه الأمور المذكورة
في الآية بأمور مختلفة. فالخوف هو انزعاج النفس لما يتوقع من الضرر، وكان ذلك
لقصد المشركين لهم بالعداوة. والجوع كان لفقرهم وتشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن
المعاش. ونقص الأموال للانقطاع بالجهاد عن العمارة. والأنفس بالقتل في الحرب
مع رسول الله صلى الله عليه وآله. والجوع ضد الشبع. يقال جاع يجوع جوعا، وأجاعه
إجاعة، وجوعه تجويعا، وتجوع تجوعا. قال صاحب العين: الجوع اسم جامع
للمخمصة، والمجاعة: عام فيه جوع. والنقص نقيض الزيادة. قال صاحب العين:
النقص الخسران في الحظ. تقول نقص نقصا، وانتقص انتقاصا، وتناقص تناقصا،
ونقصه تنقيصا، واستنقص استنقاصا، وتنقصه تنقصا. والنقصان يكون مصدرا أو
اسما، كقولك: نقصانه كذا: أي قدر الذاهب. ونقص الشئ، ونقصته، ودخل
عليه نقص: في عقله ودينه. ولا يقال: نقصان. والنقيصة: الوقيعة في الناس.
والنقيصة انتقاص حق ذي الرحم. وتنقصه تنقصا: إذا تناول عرضه. واصل الباب
النقص الحط من التمام. والمال معروف. وأموال العرب أنعامهم. ورجل مال: أي ذو
مال. ونال: أي ذو نوال. وتقول: تمول الرجل، ومول غيره. واصل الباب المال
المعروف. والثمرة: أفضل ما تحمله الشجرة.
المعنى:
ووجه المصلحة في ذلك هو ما في ذلك من الأمور المزعجة إلى الاستدلال
والنظر في الأدلة الدالة على النبوة، وليعلم أيضا انه ليس فيما يصيب الانسان من شدة
في الدنيا ما يوجب نقصان منزلته. ففي ذلك ضروب العبرة. فان قيل إذا كان الله
37

قد فعل الابتلاء بهذه الأشياء، والمشركون أوقعوها بالمؤمنين ففي ذلك إيجاب فعل من
فاعلين. قلنا: لا يجب ذلك، لان الذي يفعله الله تعالى غير الذي يفعله المشركون،
لان علينا ان نرضى بما فعله الله ونسخط مما فعله المشركون، وليس يقدرون على شئ
مما ذكر في الآية، ولكنهم يقدورن على التعريض له بما هو محرم عليهم،
وقبيح منهم.
الاعراب:
وفتحت الواو في لنبلونكم لامرين:
أحدهما - للعلة التي فتحت الراء في لننصرنكم (1) وهو أنه بني على الفتحة،
لأنها أخف إذ استحق البناء على الحركة كما استحق (يا) في النداء حكم البناء
على الحركة.
الثاني - أنه فتح لالتقاء الساكنين إذ كان قبل معتلا لا يدخله الرفع.
المعنى:
وإنما قال: " بشئ " من الخوف ولم يقل: بأشياء لامرين:
أحدهما - لئلا توهم بأشياء من كل واحد، فيدل على ضروب الخوف، ويكون
الجمع كجمع الأجناس للاختلاف، فقدر: شئ من كذا، وشئ من كذا، وأغني
المذكور عن المحذوف.
والثاني - أنه وضع الواحد في موضع الجمع للابهام الذي فيه ك‍ (من).
والابتلاء بما ذكر لابد أن يكون فيه لطف في الدين، وعوض في مقابلته،
ولا يحسن فعل ذلك لمجرد العوض - على ما ذهب إليه قوم -. فان قيل: الابتلاء
بأمر القبلة وغيره من عبادات الشرع هل يجري مجرى الألم - عند المصيبة؟ قلنا:
لا، بلا خلاف هاهنا، فإنه لابد أن يكون فيه لطف في الدين فان (2) كان فيه

(1) في المطبوعة " لنضربنكم " وهو غلط.
(2) والأصح " وإن كان " بدل " فإن كان "
38

خلاف في الألم، لأن هذه طاعات يستحق بها الثواب. وبالاخلال بها - إذا كانت
واجبة - يستحق العقاب، فلا يجري مجرى الألم المحض. والصبر واجب كوجوب
العدل الذي لا يجوز عليه الانقلاب - في الشرع - إذ الصبر حبس النفس عن القبيح
من الامر، وقد بينا فيما مضى ابتلاء الله تعالى العالم بالعواقب، فان المراد بذلك انه
يعامل معاملة المبتلي، لان العدل لا يصح إلا على ذلك، لأنه لو أخذهم بما يعلم أنه
يكون منهم، قبل ان يفعلوه، لكان ظلما وجورا، فبين الله بعد، أنه يعاملهم بالحق
دون الظلم.
والوقوف على قوله: (وبشر الصابرين) حسن، وقال بعضم: لا يحسن.
وذلك غلط، من حيث كانت صفة مدح، وعامل الصفة في المدح غير عامل الموصوف،
وإنما وجب ذلك، لان صفة صابر صفة كصفة تقي، كما قال الله تعالى: (إن الله مع
الصابرين) (1).
والجوع: الحاجة إلى الغداء، وتختلف مراتبه في القوة والضعف. وقد يقال:
جوع كاذب، لأنه يتخيل به الحاجة إلى الغذاء لبعض الأمور العارضة من
غير حقيقة.
وقوله تعالى: (وبشر الصابرين) فالتبشير في الأصل هو الاخبار بما يسر،
أو نعمة، يتغير له الشره، غير أنه كثر استعماله فيما يسر. والصبر المحمود هو حبس
النفس عما قبح من الامر.
قوله تعالى:
(الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)
(156) آية بلا خلاف.
المعنى:
في قوله: (إنا لله) إقرار لله بالعبودية (وإنا إليه راجعون) فيه إقرار

(1) سورة البقرة آية: 153.
39

بالبعث والنشور، وان مآل الامر يصير إليه، وإنما كانت هذه اللفظة تعزية عن المصيبة،
لما فيها من الدلالة على أن الله يجزها (1) ان كانت عدلا، وينصف من فاعلها إن
كانت ظلما. وتقديره (إنا لله) تسليما لامره ورضا بتدبيره (وإنا إليه
راجعون) ثقة بأنا إلى العدل نصير.
اللغة:
والمصيبة هي المشقة الداخلة على النفس، لما يلحقها من مضرة، وهي من
الإصابة، لأنها يصيبها بالبلية. ومعنى الرجوع إلى الله: الرجوع إلى انفراده
بالحكم كما كان أول مرة لأنه قد ملك قوما في الدنيا شيئا من الضر، والنفع لم
يكونوا يملكونه، ثم يرجع الامر إلى ما كان إذا زال تمليك العباد.
وأصل الرجوع هو مصير الشئ إلى ما كان، ولذلك يقال: رجعت الدار إلى
فلان إذا اشتراها مرة ثانية. والرجوع والعود، والمصير نظائر.
وفي الآية معنى الامر لأنها مدح عام، لكل من كان على تلك الصفة بتلك
الخصلة. وأجاز الكسائي والفراء في (إنا لله) الإمالة، ولا يجوز ذلك في غير اسم
الله، مثل قولك: إنا لزيد، لا يجوز إمالته، وإنما جاز الإمالة مع اسم الله لكثرة
الاستعمال حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة، وإنما لم يجز الإمالة في غير ذلك، لان
الحروف كلها وما جرى مجراها لا يجوز فيها الإمالة مثل (حتى) و (لكن) و (مما)
وما أشبه ذلك، لان الحروف بمنزلة بعض الكلمة من حيث امتنع فيها التصريف الذي
يكون في الأسماء والافعال.
قوله تعالى:
(أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمه وأولئك هم
المهتدون) (157) آية بلا خلاف.

(1) والأصح " يجز بها " بدل " " يجزها ".
40

(أولئك) إشارة إلى الصابرين الذين وصفهم الله في الآية الأولى.
وقيل في معنى الصلاة ثلاثة أقوال:
أحدها - انها الدعاء، كما قال الأعشى:
وصلى على دنها وارتسم (1)
أي دعا لها.
والثاني - انها مشتقة من الصلوى مكتنفا ذنب الفرس أو الناقة،
فسميت الصلاة - في الشرع - بذلك، لرفع الصلاة في الركوع والسجود. الثالث -
قال الزجاج: إن أصلها اللزوم من قوله (تصلى نارا حامية) (2) أي تلزمها،
والصلاة من أعظم ما يلزم من العبادة. وقال قوم: معنى الصلاة هاهنا: الثناء الجميل.
وقيل: بركات الدعاء، والثناء يستحق دائما، ففيه معنى اللزوم، وكذلك الدعاء يدعا
به مرة بعد مرة، فقيه معنى اللزوم. والمصلي من الخيل الذي يلزم أثر السابق.
ومعنى (المهتدون) يعني إلى الحق الذي به ينال الثواب، والسلامة من
العقاب. والرحمة: الانعام على المحتاج، وكل واحد يحتاج إلى نعمة الله. والاهتداء:
الإصابة لطريق الحق وهو الإصابة للطريق المؤدي إلى النعمة.
قوله تعالى:
" إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر
فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فان الله شاكر عليم " (158) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي (ومن يطوع) بالياء، وتشديد الطاء، والواو،
وسكون العين. والباقون بالتاء على فعل ماض.

(1) ديوانه: 35، رقم القصيدة: 4 واللسان " صلا " وقد مر البيت في 1: 56 - 193
(2) سورة الغاشية آية: 4.
41

اللغة:
الصفا - في الأصل - الحجر الأملس مأخوذ من الصفو. قال المبرد: الصفا:
كل حجر لا يخلط غيره، من طين أو تراب يتصل به حتى يصير منه، وإنما اشتقاقه من
صفا يصفو - إذا خلص - وهو الصافي الذي لا يكدره شئ يشوبه. وقيل واحد
الصفا: صفا،. وقيل بل هو واحد يجمع اصفاء أو صفى - وأصله من الواو -،
ولأنك تقول - في تثنيته: صفوان، ولأنه لا يجوز فيه الإمالة.
والمروة في الأصل: هي الحجارة الصلبة اللينة. وقيل: الصفا: الصغير، والمروة:
لغة في المرو. وقيل إنه جمع مثل تمرة وتمر، قال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مروة (1)
والمرو: نبت. والأصل الصلابة. والنبت سمي بذلك لصلابة بزره. والصفا
والمروة: هما الجبلان المعروفان بالحرم، وهما من الشعائر، كما قال الله تعالى.
والشعائر: المعالم للأعمال، فشعائر الله: معالم الله التي جعلها مواطن للعبادة، وهي
أعلام متعبداته من موقف، أو مسعى، أو منحر، وهو مأخوذ من شعرت به: أي
علمت، وكل معلم لعبادة من دعاء، أو صلاة، أو أداء فريضة، فهو مشعر لتلك العبادة،
وواحد الشعائر شعيرة، فشعائر الله أعلام متعبداته قال الكميت بن زيد:
نقتلهم جيلا فجيلا نراهم * شعائر قربان بهم نتقرب (2)
والحج: قصد البيت بالعمل المشروع من الاحرام، والطواف، والوقوف بعرفة
والسعي بين الصفا والمروة. واشتقاقه من الحج الذي هو القصد - على وجه التكرار
والتردد قال الشاعر (3):

(1) ديوانه 3. من قصيدة البارعة في رثاء أولاده. وعجزه:
بصفا المشرق كل يوم؟ قرع
ويرى " المشقر " وهو سوق الطائف. المروة: الصخرة والمشرق: الناسك بمعنى يصف
الشاعر نفسه بأنه من كثرة الحوادث: أصبح كالصخرة في مكان تمر بها الناس كثيرا ويقرعها
واحد بعد الآخر.
(2) اللسان " شعر " والهاشميات: 21
(3) هو المخبل السعدي، وهو مخضرم.
42

وأشهد من عوف حلولا كثيرة * يحجون سب الزبرقان المزعفرا (1)
يعني يكثرون التردد إليه بسؤدد. وقال آخر:
يحج مأمومة في قعرها لجف (2)
وأما العمرة في الأصل فهي الزيارة وهي هاهنا زيارة البيت بالعمل المشروع:
من طواف الزيارة والاحرام. وأخذت العمرة من العمارة لان الزائر للمكان يعمره
بزيارته له، وقوله: (فلا جناح عليه). فالجناح هو الميل عن الحق، وأصله من
جنح إليه جنوحا إذا مال إليه. قال صاحب العين: الاجناح: الميل. أجنحت هذا
فأجتنح أي أملته فمال. وقوله: (وإن جنحوا للسلم فأجنح لها) (3) أي مالوا
إليك لصلح فمل إليهم. وجناحا الطائر: يداه، ويدا الانسان: جناحاه. وجناحا
العسكر جانباه، وجناحا الوادي: مجريان عن يمينه وشماله. وجنحت الإبل في السير إذا
أسرعت. وإنما قيل للأضلاع جوانح، لاعوجاجها. وجنحت السفينة إذا مالت في
أحد شقيها. وكل مائل إلى شئ فقد جنح إليه (ولا جناح عليكم) أي ميل إلى
مأثم. وكل ناحية: جناح، ومر جنح من الليل أي قطعة نحو نصفه. وأصل الباب الميل.
والطواف: الدور حول البيت. ومنه الطائف: الدائر بالليل. والطائفة الجماعة كالحلقة
الدائرة. ويطوف أصله يتطوف، فأدغمت التاء في الطاء، لأنها من مخرجها، والطاء

(1) البيان والتبين 3: 97 واللسان (سبب) (حجج) (زبرق) حل بالمكان
حلولا: إذا نزل القوم به. يحجون يكثرون الاختلاف إليه (سب الزبرقان) الزبرقان بن بدر
الفزاري وهو من سادات العرب. وقيل إن سب: است: وقيل عمامة. المزعفر المصبوغ
بالزعفران. يقول يكثرون الذهاب إلى هذا الرجل الذي يصبغ عمامته، أو استه بالزعفران.
وهذا هجأ له.
(2) اللسان (حجج) (لجف) وعجزه:
فاست الطبيب قذاها كالمغاريد
يحج: يزور أو يكشف. مأمومة: شجة في أم الرأس. في قعرها: في أقصاها. لجف: حفر.
فاست: فميل. المغاريد: صمغ معروف يوضع على الجرح.
يقول يرى شجة في أم الرأس يخاف من رؤيتها ويجزع، فيصفر من هولها.
(3) سورة الأنفال آية: 62.
43

أقوى بالجهر منها. والفرق بين الطاعة والتطوع: ان الطاعة موافقة الإرادة في الفريضة
والنافلة. والتطوع التبرز بالنافلة خاصة. واصلها الطوع الذي هو الانقياد.
المعنى:
وإنما قال (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) وهو طاعة، من حيث أنه جواب
لمن توهم أن فيه جناحا، لصنمين كانا عليه: أحدهما إساف، والآخر نائلة، في قول
الشعبي، وكثير من أهل العلم. وروى ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وكان
ذلك في عمرة القضاء ولم يكن فتح مكة بعد، وكانت الأصنام على حالها حول الكعبة
وقال قوم: سبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما، فكره المسلمون ذلك
خوفا أن يكون من أفعال الجاهلية، فأنزل الله تعالى الآية. وقال قوم عكس ذلك:
أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون السعي بينهما، فظن قوم أن في الاسلام مثل ذلك،
فأنزل الله تعالى الآية. وجملته أن في الآية ردا على جميع من كرهه، لاختلاف
أسبابه. والطواف بينهما فرض عندنا في الحج والعمرة، وبه قال الحسن وعائشة وغيرهما،
وهو مذهب الشافعي، وأصحابه. وقال أنس بن مالك، وروى عن ابن عباس: أنه
تطوع وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، واختاره الجبائي. وعندنا ان من ترك الطواف
بينهما متعمدا، فلا حج له حتى يعود فيسعى، وبه قالت عائشة، والشافعي. وقال أبو
حنيفة، وأصحابه، والنوري: إن عاد، فحسن، وإلا جبره بدم، وقال عطا، ومجاهد
يجزيه ولا شئ عليه. وقوله تعالى: (ومن تطوع خيرا) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أولها " من تطوع خيرا " اي بالحج أو العمرة بعد الفريضة. الثاني - " ومن
تطوع خيرا " أي بالطواف بهما عند من قال إنه نفل. الثالث - " من تطوع خيرا "
بعد الفرائض، وهذا هو الأولى، لأنه أعم. وفي الناس من قال: وهو الجبائي، وغيره:
إن التقدير فلا جناح عليه ألا يطوف بهما كما قال: " يبين الله لكم أن تضلوا "
ومعناه ألا تضلوا وكما قال: " أن تقولوا يوم القيامة " (1). ومعناه الا تقولوا.

(1) سورة الأعراف آية: 171.
44

وقال آخرون: إن ذلك لا يجوز. وهو اختيار الرماني. وهو الصحيح، لان الحذف
يحتاج إلى دليل. ومعنى القرائتين واحد لا يختلف.
ووصف الله تعالى بأنه شاكر مجاز، لان الشاكر في الأصل هو المظهر للانعام،
والله لا يلحقه المنافع، والمضار - تعالى عن ذلك. ومعناه هاهنا المجازي على الطاعة
بالثواب، وخروج اللفظ مخرج التلفظ؟ على الاحسان إليهم، كما قال " من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا " (1) والله لا يستقرض من عوز، لكن تلطف في الاستدعاء
كأنه قال: من ذا الذي يعمل عمل المقرض، بأن؟ فيأخذ أضعاف ما قدم في وقت
فقره وحاجته إلى ذلك فكذلك، كأنه قال: " من تطوع خيرا فان الله " يعامله
معاملة الشاكر، يحسن المجازاة، وايجاب المكافاة. والفرق بين التطوع والفرض أن
الفرض يستحق بتركه الذم والعقاب، والتطوع لا يستحق بتركه الذم، ولا العقاب.
وروي عن جعفر بن محمد: أن آدم نزل على الصفا، وحواء على المروة، فسمى المرو
باسم المرأة.
قوله تعالى:
(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من
بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون) (159) آية بلا خلاف.
المعنى:
قيل في المعني بهذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد، والربيع، والحسن، وقتادة، السدي،

(1) سورة البقرة آية: 245.
45

واختاره الجبائي، وأكثر أهل العلم: انهم اليهود، والنصارى: مثل كعب بن الأشرف
وكعب بن أسيد، وابن صوريا، وزيد بن تابوه، وغيرهم من علماء النصارى الذين
كتموا أمر محمد صلى الله عليه وآله، ونبوته: وهم يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل مبينا فيهما.
والثاني - ذكر البلخي: أنه متناول لكل من كتم ما أنزل الله وهو أعم،
لأنه يدخل فيه أولئك وغيرهم، ويروى عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا
نفرا من اليهود عما في التوراة، فكتموهم إياه، فأنزل الله عز وجل " إن الذين
يكتمون " الآية. وإنما نزل فيهم هذا الوعيد، لان الله تعالى علم منهم الكتمان،
وعموم الآية يدل: على أن كل من كتم شيئا من علوم الدين، وفعل مثل فعلهم في
عظم الجرم أو أعظم منه، فان الوعيد يلزمه، وأما ما كان دون ذلك، فلا يعلم بالآية بل
بدليل آخر. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من سئل عن علم يعلمه، فكتمه
ألجم يوم القيامة بلجام من نار. وقال أبو هريرة: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم
وتلا " إن الذين يكتمون ما أنزل الله " الآية، فهذا تغليظ للحال في كتمان
علوم الدين.
وكتمان الشئ اخفاؤه مع الداعي إلى اظهاره، لأنه لا يقال لمن أخفى مالا
يدعوا إلى اظهاره داع: كاتم. والكتاب الذي عني هاهنا قيل التوراة. وقيل كل
كتاب أنزله الله. وهو أليق بالعموم. وقال الزجاج: هو القرآن، واستدل قوم
بهذه الآية على وجوب العمل بخير الواحد من حيث أن الله تعالى توعد على كتمان
ما أنزله، وقد بينا في أصول الفقه أنه لا يمكن الاعتماد عليه، لان غاية ما في ذلك
وجوب الاظهار، وليس إذا وجب الاظهار وجب القبول، كما أن على الشاهد الواحد
يجب إقامة الشهادة وإن لم يجب على الحاكم قبول شهادته، حتى ينضم إليه ما يوجب
الحكم بشهادته، وكذلك يجب على النبي صلى الله عليه وآله إظهار ما حمله، ولا يجب على أحد
قبوله حتى يقترن به المعجز الدال على الصدق، ولذلك نظائر ذكرناها. على أن الله
تعالى بين أن الوعيد إنما توجه على من كتم ما هو بينة وهدى وهو الدليل، فمن أين
أن خبر الواحد بهذه المنزلة، فإذا لا دلالة في الآية على ما قالوه، والبينات والهدى هي الأدلة
46

وهما بمعنى واحد، وإنما كرر لاختلاف لفظهما. وقيل: إنه أراد بالبينات الحجج الدالة
على نبوته صلى الله عليه وآله وبالهدى إلى ما يؤديه إلى الخلق من الشرائع، فعلى هذا لا تكرار.
اللغة:
واللعن في الأصل الابعاد على وجه الطرد قال الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه * مقام الذئب كالرجل اللعين (1)
أراد مقام الذئب اللعن. واللعين في الحكم: الابعاد - من رحمة الله - بايجاب العقوبة،
فلا يجوز لعن ما لا يستحق العقوبة. وقول القائل: لعنه الله دعاء، كأنه قال: أبعده
الله، فإذا لعن الله عبدا، فمعناه الاخبار بأنه أبعده من رحمته.
المعنى:
والمعني بقوله و (يلعنهم اللاعنون) قيل فيه أربعة أقوال:
أحدها - قال قتادة، والربيع، واختاره الجبائي، والرماني، وغيرهما: انهم
الملائكة والمؤمنون - وهو الصحيح -، لقوله تعالى في وعيد الكفار (أولئك عليهم
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (2) فلعنة اللاعنين كلعنة الكافرين.
الثاني - قال مجاهد، وعكرمة: إنها دواب الأرض، وهو انها تقول منعنا
القطر لمعاصي بني آدم.
الثالث - حكاه الفراء أنه كل شئ سوى الثقلين الإنس والجن، رواه عن
ابن عباس.
الرابع - قاله ابن مسعود: أنه إذا تلاعن الرجلان رجعت اللعنة على المستحق
لها، فإن لم يستحقها واحد منهم رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله. فان قيل:
كيف يجوز على قول من قال: المراد به البهائم اللاعنون، وهل يجوز على قياس ذلك الذاهبون؟
قلنا لما أضيف إليها فعل ما يعقل عوملت معاملة ما يعقل كما قال تعالى (والشمس والقمر رأيتهم لي

(1) مر تخريجه في 1: 343 من هذا الكتاب
(2) سورة البقرة آية: 161
47

ساجدين) (1) فان قيل: كيف يجوز إضافة اللعن إلى مالا يعقل من البهيمة والجماد؟
قيل: لامرين أحدهما - لما فيه من الآية التي تدعوا إلى لعن من عمل بمعصية الله.
والثاني - أن تكون البهائم تقول على جهة الالهام لما فيه من الاعتبار.
قوله تعالى:
" إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم
وأنا التواب الرحيم " (160) آية بلا خلاف.
المعنى:
استثنى الله تعالى في هذه الآية من جملة الذين يستحقون اللعنة من تاب، وأصلح،
وبين. واختلفوا في معنى " بينوا " فقال أكثر المفسرين، كقتادة، وابن زيد،
والبلخي، والجبائي، والرماني: إنهم بينوا ما كتموه من البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وقال
بعضهم: بينوا التوبة، وإصلاح السريرة بالاظهار لذلك. وإنما شرط مع التوبة
الاصلاح، والبيان ليرتفع الايهام بأن التوبة مما سلف من الكتمان يكفي في
ايجاب الثواب.
ومعنى قوله تعالى (أتوب؟) أقبل توبتهم. والأصل في أتوب أفعل التوبة
إلا أنه لما وصل بحرف الإضافة دل على أن معناه أقبل التوبة، وإنما كان لفظه مشتركا
بين فاعل التوبة، والقابل لها، للترغيب في صفة التوبة إذ وصف بها القابل لها، وهو
الله وذلك من إنعام الله على عباده، لئلا يتوهم بما فيها من الدلالة على مقارفة الذنب
أن الوصف بها عيب، فلذلك جعلت في أعلا صفات المدح، والتوبة هي الندم الذي يقع
موقع التنصل من الشئ وذلك بالتحسر على موافقته، والعزم على ترك معاودته إن أمكنت
المعاودة. واعتبر قوم المعاودة إلى مثله في القبح. وهو الأقوى. لاجماع الأمة على سقوط
العقاب عندها، وما عداها فمختلف فيه. فان قيل: ما الفائدة في هذا الاخبار، وقد

(1) سورة يوسف آية: 4.
48

علمنا أن العبد متى تاب لابد أن يتوب الله عليه؟ قلنا أما على مذهبنا، فله فائدة واضحة:
وهو أن اسقاط العقاب عندها ليس بواجب عقلا، فإذا أخبر بذلك أفادنا ما لم نكن
عالمين به، ومن خالف في ذلك قال: وجه ذلك أنه لما كانت توبة مقبولة وتوبة غير
مقبولة صحت الفائدة بالدلالة على أن هذه التوبة مقبولة. ومعنى قبول التوبة حصول
الثواب عليها وإسقاط العقاب عندها.
و (التواب) فيه مبالغة إما لكثرة ما يقبل التوبة وإما لأنه لا يرد تائبا
منيبا أصلا. وقبول التوبة بمعنى اسقاط العقاب عندها، غير واجب عندنا عقلا. وإنما
علم ذلك سمعا، وتفضلا، من الله تعالى على ما وعد به بالاجماع على ذلك. وقد بينا
في شرح الجمل في الأصول أنه لا دلالة عقلية عليه، ووصفه نفسه بالرحيم عقيب قوله
(التواب) دلالة على أن اسقاط العقاب عند التوبة تفضل منه ورحمة من جهته. ومن
قال: إن الفعل الواجب نعمة إذا كان منعما بسببه كالثواب، والعوض، فإنه لما كان
منعما بالتكليف وبالا لام التي يستحق بها الاعواض، جاز أن يقال في الثواب والعوض
أنه تفضل وإن كانا واجبين، فقوله باطل، لان ذلك إنما قلنا في الثواب للضرورة،
وليس هاهنا ضرورة تدعو إلى ذلك. وإصلاح العمل هو إخلاصه له من قبيح يشوبه،
والتبيين هو التعريض للعلم الذي يمكن به صحة التميز.
الاعراب:
وموضع الذين نصب على أنه استثناء من موجب. و (إلا) حقيقتها الاستثناء.
ومعنى ذلك الاختصاص بالشئ دون غيره كقولك: جائني القوم إلا زيدا فقد
اختصصت زيدا بأنه لم يجئ، وإذا قلت ما جاءني إلا زيد، فقد اختصصت زيدا بأنه
جاء، وإذا قلت ما جاءني زيد إلا راكبا فقد اختصصته بهذه الحال دون غيرها من
المشي والعدو، وما أشبه ذلك.
قوله تعالى:
" إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة
49

الله والملائكة والناس أجمعين " " 161 " آية بلا خلاف.
المعنى:
إن قبل: كيف يلعن الكافر كافرا مثله وهو الظاهر في قوله (والناس أجمعين)؟
قيل عنه ثلاثة أجوبة:
أولها - أنه يلعنه الناس أجمعون يوم القيامة كما قال تعالى (ثم يوم القيامة يكفر
بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) (1) وهو قول أبي العالية.
الثاني - قال السدي: انه لا يمتنع أحد من لعن الظالمين، فيدخل في ذلك
لعن الكافر لأنه ظالم.
الثالث يراد به لعن المؤمنين خصوصا، ولم يعتد بغيرهم كما يقال: المؤمنون هم
الناس، وهو قول قتادة والربيع، هذا إذا حمل على أن اللعن في دار الدنيا، لان
من المعلوم أن أهل ملة لا يلعن أهل ملته.
القراءة:
وحكي عن الحسن أنه قرأ " والملائكة " رفعا ويكون ذلك على حمله على معنى يلعنهم
الله والملائكة والناس أجمعون. كما تقول: عجبت من ضرب زيد، وعمرو - بالرفع -
وهذه قراءة شاذة لا يعول عليها لان المعتمد ما عليه الجمهور. ولا يجوز رفع " أجمعين "
وحده هاهنا لأن هذه اللفظة لا تكون إلا تابعة، وليس في الكلام مظهر ولا مضمر
تتبعه على ذلك، وإنما الحمل على المعنى بمنزلة إعادة معنى العامل الأول، كأنك قلت:
ويلعنهم الملائكة والناس أجمعون.
المعنى:
والكفر ما يستحق به العقاب الدائم عندنا، وعند من خالفنا في دوام عقاب
فساق أهل الصلاة انه ما يستحق به العقاب الدائم الكثير، ويتعلق به أحكام مخصوصة،

(1) سورة العنكبوت آية: 25
50

وسواء كان الكفر في تشبيه الله تعالى بخلقه أو في تجريده في أفعاله أو الرد على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أوما كان أعظم منه في القبح. واللعنة: الابعاد من الرحمة على
ما بيناه مع ايجاب العقوبة، ويجري ذلك من الناس على وجه الدعاء، ومن الله على وجه
الحكم، وإنما قال: (وماتوا وهم كفار) وكل كافر، فهو ملعون في حال كفره
وإن لم يكن ممن يوافي بالكفر للدلالة على خلودهم في النار إذا ماتوا على غير توبة،
وقد دل على ذلك ما بينه في الآية الثالثة، وإنما أكد بأجمعين ليرتفع الاحتمال،
والايهام قبل أن ينظر في تحقيق الاستدلال، ولهذا لم يجز الأخفش رأيت أحد الرجلين
كليهما، وأجاز رأيتهما كليهما، لأنك إذا ذكرت الحكم مقرونا بالدليل عليه، أزلت
الايهام للفساد، وإذا ذكرته وحده فقد يتوهم عليك الغلط في المقصد بقولك: أحد
الرجلين، لما ذكرت التثنية وذكرت أحدا كنت بمنزلة من ذكر الحكم، والدليل عليه
فأما ذكر التثنية في رأيتهما، فبمنزلة ذكر الحكم وحده. وواحد الناس إنسان في
في المعنى، فأما في اللفظ، فلا واحد له، وهو كنفر، ورهط مما يقال: إنه اسم للجمع.
قوله تعالى:
(خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) " 162 "
آية بلا خلاف.
المعنى:
والهاء في قوله " فيها " عائدة على اللعنة في قول الزجاج. وقال أبو العالية. هي
عائدة إلى النار، ومعني قوله (ولا هم ينظرون) على قول أبي العالية رفع لايهام
الاعتذار كما قال: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) (1) لئلا يتوهم أن التوبة والإنابة
هناك تنفع. والخلود في اللعنة يحتمل أمرين أحدهما - استحقاق اللعنة بمعنى أنها تحق
عليهم أبدا. والثاني - في عاقبة اللعنة: وهي النار التي لا تفنى، وإنما قال: (لا يخفف)

(1) سورة المرسلات آية: 36
51

مع أنهم مخلدون، لان التخفيف قد يكون مع الخلود، بان يقل المعاون ما يفعل، فأراد
الله أن يبين أنه يقع الخلود، ويرتفع التخفيف.
الاعراب:
وخالدين نصب على الحال من الهاء والميم في عليهم، كقولك: عليهم المال صاغرين،
والعامل فيه الاستقرار في عليهم.
اللغة:
والخلود: اللزوم أبدا، والبقاء: الوجود وقتين فصاعدا، ولذلك لم يجز في
صفات الله خالد، وجاز باق، ولذلك يقال: أخلد إلى قوله: أي لزم معنى ما أتى به،
ومنه قوله تعالى (ولكنه أخلد إلى الأرض) (1) أي مال إليها ميل اللازم لها،
كأنه قبل الخلد فيها.
والفرق بين الخلود والدوام أن الدوام: هو الوجود في الأول، ولا يزال.
وإذا قيل دام المطر، فهو على المبالغة، وحقيقته لم يزل من وقت كذا إلى وقت كذا،
والخلود هو اللزوم أبدا. والتخفيف: هو النقصان من المقدار الذي له اعتماد. والعذاب:
الألم الذي له امتداد. والانظار: الامهال قدر ما يقع النظر في الخلاص، واصل
النظر الطلب، فالنظر بالعين: الطلب بالعين، وكذلك النظر بالقلب أو باليد أو بغيرها
من الحواس، وتقول أنظر الثوب أين هو. والفرق بين العذاب والايلام ان الايلام
قد يكون بجزء (2) من الألم في الوقت الواحد. والعذاب له استمرار من الألم في
أوقات، ومنه العذب، لاستمراره في الحلق (3). والعذبة، لاستمرارها بالحركة (4).

(1) سورة الأعراف آية: 175
(2) في المطبوعة (محز)
(3) وفي مجمع البيان (ومنه العذاب لاستمراره بالخلق) والصحيح ما ذكره الشيخ، لان
المقصود منه: عذوبة لماء ونحوه، ولا يكون ذلك الا في الحلق.
(4) العذبة التي تستمر بالحركة: خرقة النائحة.
52

قوله تعالى:
" وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " " 163 " آية
بلا خلاف.
المعنى:
يوصف تعالى بأنه واحد على أربعة أوجه أولها - إنه ليس بذي أبعاض ولا
يجوز عليه الانقسام. الثاني - واحد في استحقاق العبادة. الثالث - واحد لا نظير له ولا
شبيه. الرابع - واحد في الصفات التي يستحقها لنفسه، فهو قديم، وقادر لا يعجزه
شئ، وعالم لا يخفى عليه شئ، فكل هذه الصفات يستحقها وحده، والواحد شئ
لا ينقسم عددا كان أو غيره، ويجري على وجهين: على الحكم، وعلى جهة الوصف،
فالحكم كقولك: الجزء واحد، والوصف كقولك: إنسان واحد، ودار واحدة.
ومعنى إله أنه يحق له العبادة، وغلط الرماني، فقال: هو المستحق للعبادة، ولو
كان كما قال لما كان تعالى إلها فيما لم يزل، لأنه لم يفعل ما يستحق به العبادة. ومعنى
ما قلناه: أنه قادر على ما إذا فعله استحق به العبادة. وقيل معنى إله انه منعم بما
يستحق به العبادة، وهذا باطل لما قد بيناه، ولا يجوز أن يحيا أحد من الخلق
بالإلهية، لأنه يستحيل ان يقدر أحد سوى الله على ما يستحق به العبادة من خلق
الأجسام، والقدرة، والحياة، والشهوة، والنفاد، وكمال العقل، الحواس وغير ذلك، فلا
تصح الآلهية الا له، لأنه القادر على ما عددناه، والآية تتصل بما قبلها وبما بعدها، فاتصالها
بما قبلها، كاتصال الحسنة بالسيئة، لتمحو أثرها، وتحذر من مواقعتها، لأنه لما ذكر
الشرك، وأحكامه أتبع ذلك بذكر التوحيد وأحكامه، واتصالها بما بعدها كاتصال
الحكم بالدلالة على صحته، لان ما ذكر في الآية التي بعدها حجة على صحة التوحيد.
فان قيل: كيف يتصل الوصف بالرحمة بما قبله؟ قلنا، لان العبادة تستحق بالنعمة التي
هي في أعلى مرتبة، ولذلك بولغ في الصفة بالرحمة، ليدل على هذا المعنى.
53

الاعراب:
و (هو) في موضع رفع، ولا يجوز النصب، ورفعه على البدل من موضع
(لا) مع الاسم، كقولك: لا رجل إلا زيد كأنك قلت: ليس إلا زيد - فيما تريد
من المعنى - إذا لم يعتد بغيره، ولا يجوز النصب على قولك: ما قام أحد إلا زيدا،
لان البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني، والمعني ذلك، والنصب يدل على أن
الاعتماد في الاخبار إنما هو على الأول، وقوله تعالى: (لا إله إلا هو) إثبات لله
تعالى وحده وهو بمنزلة قولك: الله إله وحده، وإنما كان كذلك لأنه القادر على
ما يستحق به الإلهية، ولا يدل على النفي في هذا الخبر من قبل أنه لم يدل على إله
موجود، ولا معدوم سوى الله عز وجل، لكنه نقيض لقول من ادعى إلها مع الله.
وإنما النفي إخبار بعدم شئ كما أن الاثبات إخبار بوجوده.
قوله تعالى:
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء
من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة
وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم
يعقلون) (164) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عاصم، وابن عامر (الرياح)
على الجمع. الباقون على التوحيد، ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام.
المعنى:
لما أخبر الله تعالى الكفار بأن إلههم إله واحد لا ثاني له، قالوا: ما الدلالة
54

على ذلك؟ فقال الله عز وجل: (إن في خلق السماوات والأرض) الآية إلى آخرها.
ووجه الدلالة من الآية (أن في خلق السماوات والأرض) يدل على أن
لها خالق، لا يشبهها ولا تشبهه، لأنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر
لنفسه الذي ليس بجسم، ولا عرض، إذ جميع ذلك محدث ولابد له من محدث ليس
بمحدث، لاستحالة التسلسل. وأما (الليل والنهار)، فيدلان على عالم مدبر من جهة
أنه فعل محكم، متقن، واقع على نظام واحد، وترتيب واحد، لا يدخل شيئا من
ذلك تفاوت، ولا اختلاف.
وأما (الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) فتدل على منعم دبر ذلك
لمنافع خلقه، ليس من جنس البشر، ولا من قبيل الأجسام، لان الأجسام يتعذر عليها
فعل ذلك.
وأما الماء الذي ينزل من السماء، فيدل على منعم به يقدر على التصريف فيما يشاء
من الأمور، لا يعجزه شئ.
وأما (إحياء الأرض بعد موتها)، فيدل على الانعام بما يحتاج إليه العباد.
وإحياؤها: إخراج النبات منها، وأنواع الثمار (وبث فيها من كل دابة) دال على أن
لها صانعا مخالفا لها منعما بأنواع النعم. (وتصريف الرياح) يدل على الاقتدار
على ما لا يتأتى من العباد ولو حرصوا كل الحرص، واجتهدوا كل الاجتهاد، لأنه
إذا ذهبت جنوبا مثلا، فاجتمع جميع الخلق على أن يقلبوها شمالا أو صبا أو دبورا،
لما قدروا على ذلك، ولا تمكنوا على رده من الجهة التي يجئ منها.
وأما (السحاب المسخر) فيدل على أنه يمسكه القديم، والذي لا شبه له ولا
نظير، لأنه لا يقدر على تسكين الأجسام الثقال بغير علاقة ولا دعامة إلا الله تعالى،
وكذلك لا يقدر على تسكين الأرض كذلك إلا القادر لنفسه،، فهي تدل
على صانع غير مصنوع قديم لا يشبهه شئ، قادر لا يعجزه شئ، عالم لا يخفى عليه شئ،
حي لا يموت واحد ليس كمثله شي، سميع بصير (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات
55

ولا في الأرض) (1) لان صفات النقص لا؟ عليه تعالى. ويدل على أنه منعم
بما لا يقدر غيره على الانعام بمثله (2)، أنه يستحق بذلك العبادة دون غيره.
اللغة:
والخلق هو الاحداث للشئ على تقدير من غير احتذاء على مثال، ولذلك
لا يجوز إطلاقه إلا في صفات الله، لأنه ليس أحد - جميع أفعاله على ترتيب من غير
احتذاء على مثال - إلا الله تعالى. وقد استعمل الخلق بمعنى المخلوق كما استعمل الرضى
بمعنى المرضى، وهو بمنزلة المصدر، وليس معنى المصدر معنى المخلوق، واختلف أهل
العلم فيه إذا كان بمعنى المصدر، فقال قوم: هو الإرادة له. وقال آخرون: إنما هو
على معنى مقدر، كقولك: وجود وعدم، وحدوث وقدم، وهذه الأسماء تدل
على مسمى مقدر للبيان عن المعاني المختلفة وإلا فالمعنى بما هو الموصوف في الحقيقة.
وإنما جمعت السماوات ووحدت الأرض، لأنه لما ذكرت السماء بأنها سبع في قوله
تعالى: (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات) (3) وقوله: (خلق سبع
سماوات) (4) جمع لئلا يوهم التوحيد معنى الواحدة من هذه السبع. وقد دل مع
ذلك قوله (ومن الأرض مثلهن) (5) على معنى السبع، ولكنه لم يجر على
جهة الافصاح بالتفصيل في اللفظ. ووجه آخر: وهو أن الأرض لتشاكلها تشبه
الجنس الواحد، كالرجل، والماء الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف، وليس تجري
السماوات مجرى الجنس، لأنه دبر في كل سماء أمرها. والتدبير الذي هو حقها.
وفي اشتقاق قوله (واختلاف الليل والنهار) قولان:
أحدهما - من الخلف، لان كل واحد منهما يخلف صاحبه على وجه المعاقبة له.
والثاني - من اختلاف الجنس كاختلاف السواد والبياض، لان أحدهما لا يسد
مسد الآخر في الادراك. والمختلفان مالا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته.

(1) سورة سبأ آية: 3
(2) في المطبوعة (لمثله)
(3) سورة البقرة آية: 29
(4) سورة الطلاق آية 12، وسورة الملك آية: 3
(5) سورة الطلاق آية: 12
56

والنهار: اتساع الضياء، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر: (1)
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها (2)
أي أوسعت، ويصلح أن يكون من النهر أي جعله كالنهر. والنهر أوسع مجاري الماء،
فهو أوسع من الجدول، والساقية. وإنما جمعت الليلة، ولم يجمع النهار لان النهار بمنزلة المصدر،
كقولك: الضياء، يقع على الكثير والقليل، فأما الليلة، فمخرجها مخرج الواحد من
الليل على أنه قد جاء جمعه على وجه الشذوذ. قال الشاعر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر * ثريد ليل وثريد بالنهر (3)
والفلك: السفن يقع على الواحد، والجمع بلفظ واحد، ومنه قوله: (في
الفلك المشحون) (4) ومنه (واصنع الفلك بأعيننا) (5) والفلك: فلك السماء.
قال الله تعالى: (كل في فلك يسبحون) (6). وكل مستدير فلك، والجمع أفلاك
وقال صاحب العين: قيل: اسم للدوران خاصة. وقيل: بل اسم لأطواق سبعة فيها
النجوم. وفلكت الجارية إذا استدار ثديها. والفلكة: فلكة المغزل معروف. وفلكة
الجدي، وهو قضيب يدار على لسانه لئلا يرضع. واصل الباب الدور، والفلك السفينة
لأنها تدور بالماء أسهل دور. وإنما جعل الفلك للواحد، والجمع بلفظ واحد، لان
فعل وفعل (7) يشتركان كثيرا: العرب، والعرب، والعجم، والعجم، والبخل والبخل.

(1) هو قيس بن الخطيم.
(2) اللسان (نهر) ملكت: شددت وقو؟. أنهرت فتقها: وسعته حتى جعلته نهرا.
يصف طعنة، فشبهها أولا بالنهر ثم شبهها بالنافذة بقوله: يرى قائم..) وهذا في غاية المبالغة.
(3) اللسان (نهر)، وتهذيب الألفاظ: 422، والمخصص 9: 51. ورواية
اللسان، والمخصص " لمثنا " بدل " لهلكنا ". الضمر - بضم الميم، وسكونها - الهزال، ولحاق
البطن، والضمر هنا: الجوع، لان المعنى لولا ثريد الليل وثريد النهار لمتنا جوعا. والثريد:
خبز؟ في ماء اللحم وغيره.
(4) سورة يس آية: 41 (5) سورة هود آية: 37
(6) سورة الأنبياء آية: 33، وسورة يس آية 40
(7) فعل الأولى - بفتح الفاء والعين - والثانية - بضم الفاء وسكون العين -، وكذلك
كل ما مثل به من الكلمات المتفقة في المادة في هذه الموضع.
57

ومن قال في أسد: أسد. قال في فلك: فلك، فجمعه على فعل. وإنما أنث الفلك إذا
أريد به الجمع، كقولك: السفن التي تجرى في البحر.
وقوله: (وما أنزل الله من السماء) يعني من نحو السماء عند جميع المفسرين.
وقال قوم: السماء تقع على السحاب، لان كل شئ علا فوق شئ، فهو سماء له. فان قيل:
هل السحاب بخارات تصعد من الأرض؟ قلنا ذلك جائز لا يقطع به، ولا مانع أيضا
من صحته من دليل عقل، ولا سمع. والسماء: السقف، فسماء البيت سقفه قال تعالى:
(وجعلنا السماء سقفا محفوظا) (1) فالسماء المعروفة سقف الأرض. وأصل الباب السمو:
وهو العلو. والسماء: الطبقة العالية على الطبقة السافلة إلا أنها صارت بمنزلة الصفة على
السماء المعروفة: وهي التي من أجل السمو كانت عالية على الطبقة السافلة. والأرض
الطبقة السافلة. يقال: أرض البيت وأرض الغرفة، فهو سماء لما تحته من الطبقة،
وارض لما فوقه، وقد صار الاسم كالعلم على الأرض المعروفة. وإنما يقع على
غيرها بالإضافة.
والليل هو الظلام المعاقب للنهار. وقد يقال لما لا يصل إليه ضوء الشمس: هو
الليل وإن كان النهار موجودا. والبحر: هو الخرق الواسع الماء الذي يزيد على سعة
النهر. والمنفعة: هي اللذة، والسرور وما أدى إليهما. أو إلى كل واحد منهما. والنفع،
والخير، والحظ نظائر، وقد تكون المنفعة بالآلام إذا أذت إلى لذات. والاحياء:
فعل الحياة. وحياة الأرض: عمارتها بالنبات، وموتها إخرابها بالجفاف الذي يمتنع
معه النبات. والبث: التفريق، وكل شئ بثثته،؟ فرقته، ومنه قوله تعالى:
(كالفراش المبثوث) (2)، وتقول: انبث الجراد في الأرض، وتقول: بثثته
سري، وابثثته إذا أطلعته عليه. والبث: ما يجده (3) الرجل من كرب، أو غم في
نفسه، ومنه قوله: (أشكو بثي وحزني إلى الله) (4). وأصل الباب التفريق.
وقال صاحب العين: كل شئ مما خلق الله يسمى دابة مما يدب، وصار بالعرف؟

(1) سورة الأنبياء آية: 32
(2) سورة القارعة آية: 4
(3) في المطبوعة " ما يمجده "
(4) سورة يوسف آية: 86
58

لما يركب، ويقولون للبرذون: دابة وتصغيرها دويبة. ودب النمل يدب دبيبه. ودب
الشراب بالانسان دبيبا. ودب القوم إلى العدو أي مشوا على هيئتهم لم يشرعوا.
والدبابة تتخذ في الحروب، ثم يدفع إلى أصل حصن فينقبون وهم في جوف الدبابة (1)
والدب: نوع من السباع، والأنثى دبه. والدبة لزوم حال الرجل في فعاله. ركب
فلان دبة فلان، وأخذ بدبته أي عمل بعمله.
وقوله تعالى: (وتصريف الرياح) التصريف والتقليب والتسليك نظائر.
وتصريف الرياح تصرفها من حال إلى حال، ومن وجه إلى وجه، وكذلك تصرف
الخيول، والسيول، والأمور. وصرف الدهر تقلبه، والجمع صروف. والصريف:
اللبن إذا سكنت رغوته. وقال بعضهم: لا يسمى صريفا حتى يتصرف به الضرع.
والصريف صريف الفحل بنابه حتى يسمع لذلك صوت، وكذلك صريف البكرة.
وعنز صارف: إذا أرادت الفحل. والصرف: صبغ أحمر، قال الأصمعي: هو الذي
يصبغ به الشرك. والصرف: فضل الدرهم على الدرهم في الجودة. وكذلك بيع
الذهب بالفضة، ومنه اشتق اسم الصير في، لتصريفه أحدهما في الاخر. والصرف:
النافلة. والعدل: الفريضة. والصرفة: منزل من منازل القمر: كوكب إذا طلع قدام
الفجر، فهو أول الخريف، وإذا غاب من طلوع الفجر، فذاك أول الربيع. والصرف:
الشراب غير ممزوج. والصرفان تمر معروف، أوزنه وأجوده. وأصل الباب: القلب
عن الشئ. والسحاب: مشتق من السحب وهو حرك الشئ على وجه الأرض،
تسحبه سحبا كما تسحب المرأة ذيلها، وكما تسحب الريح التراب، وسمي السحاب سحابا،
لانسحابه في السماء وكل منجر منسحب.
والتسخير، والتذليل، والتمهيد نظائر. تقول: سخر الله لفلان كذا إذا
سهله له، كما سخر الرياح لسليمان. وسخرت الرجل تسخيرا إذا اضطهدته، فكلفته
عملا بلا أجرة. وهي السخرة، وسخر منه إذا استهزأ به، قال الله تعالى (فيسخرون)

(1) في المطبوعة " دابة "
59

منهم سخر الله منهم) (1) وقال (فاتخذتموهم سخريا) (2) من الاستهزاء،
وسخريا من تسخير الحول وما أشبهه. واصل الباب: التسخير: التذليل.
المعنى:
وقيل في تصريف الرياح قولان: أحدهما - هبوبها شمالا وجنوبا
وصبا ودبورا. والثاني - قيل مجيؤها بالرحمة مرة وبالعذاب أخرى. وهو قول قتادة.
وقوله: (لقوم يعقلون) فيه قولان: أحدهما - أنه عام لمن استدل به،
ومن لم يستدل من العقلاء. والثاني - أنه خاص لمن استدل به كما قال: (إنما أنت
منذر من يخشاها) (3) وكما قال (هدى للمتقين) (4) لما كانوا هم الذين اهتدوا
بها وخشوا عند مجيئه أضيف إليهم وإنما أضيفت الآيات إلى العقلاء لامرين: أحدهما -
لأنها نصبت لهم. والثاني - لأنها لا يصح أن يستدل بها سواهم.
اللغة:
قال أبو زيد: قال؟: الرياح أربع: الشمال، والجنوب، والصبا، والدبور.
فأما الشمال عن يمين القبلة والجنوب عن شمالها والصبا والدبور متقابلتان، فالصبا من قبل المشرق
والدبور من قبل المغرب وإذا جاءت الريح بين الصبا، والشمال، فهي النكباء التي لا يختلف
فيها. والتي بين الجنوب والصبا، فهي الجريباء، وروى ابن الاعرابي عن الأصمعي،
وغيره: ان الرياح اربع: الجنوب، والشمال، والصبا، والدبور. قال ابن الاعرابي:
كل ريح بين ريحين، فهي نكباء. قال الأصمعي: إذا انحرفت واحدة منهن، فهي
نكباء، وجمعها نكب. فاما مهبهن، فان ابن الاعرابي قال: مهب الجنوب من مطلع
سهيل إلى مطلع الثريا، والصبا من مطلع الثريا إلى بنات نعش، والشمال من بنات نعش
إلى مسقط النسر الطائر، والدبور من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل، والجنوب،
والدبور لهما هيف ولطيف: الريح الحارة، والصبا، والشمال: لاهيف لهما. وقال

(1) سورة التوبة آية: 80
(2) سورة المؤمنون آية: 111
(3) سورة النازعات آية: 45
(4) سورة البقرة آية: 2
60

الأصمعي: ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر: جنوب. وما بان انهما هما، يستقبلهما
من الغرب: شمال، وما جاء من وراء البيت الحرام فهو دبور، وما جاء قبالة ذلك، فهو
صبا. وتسمى الصبا قبولا، لأنها تستقبل الدبور، وتسمى الجنوب الازيب،
والنعامى. وتسمى الشمال محوة ولا تصرف، لأنها تمحوا السحاب وتسمى الجريباء،
وتسمى مسعا، وتسعا. وتسمى الجنوب اللاقح. والشمال حائلا، وتسمى أيضا عقيما،
وتسمى الصبا عقيما أيضا. قال الله تعالى: " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العفيم "
(1) وهي التي لا تلقح السحاب. والذاريات التي تذروا التراب ذروا.
ومن قرأ بلفظ الجمع، فلان كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في
دلالتها على التوحيد وتسخيرها لنفع الناس. ومن وحد أراد به الجنس كما قالوا
أهلك الناس الدينار، والدرهم.
قوله تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب
الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب
أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب. (165) آية بلا خلاف
القراءة:
قرأ نافع وابن عامر، وأبو جعفر من طريق النهرواني " ولو ترى " بالتاء.
الباقون بالياء. وقرأ أبو جعفر، ويعقوب " إن القوة لله، وإن الله " بكسر الهمزة
فيهما. الباقون بفتحهما. وقرأ ابن عامر وحده " إذ يرون " بضم الياء. والباقون
بفتحها.
اللغة:
الأنداد، والأمثال، والأشباه نظائر، والأنداد (2) واحدها ند. وقيل

(1) سورة الذاريات آية: 41.
(2) في المطبوعة (الأنداد) ساقطة.
61

الأضداد. وأصل الند المثل المناوي والمراد به هنا قال قتادة، والربيع، ومجاهد،
وابن زيد، وأكثر المفسرين آلهتهم التي كانوا يعبدونها. وقال السدي: رؤساؤهم
الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال. وقوله تعالى " يحبونهم " فالمحبة هي الإرادة
إلا أن فيها حذفا، وليس ذلك في الإرادة فإذا قلت: أحب زيدا معناه أريد منافعه
أو مدحه، وإذا أحب الله تعالى عبدا فمعناه أنه يريد ثوابه وتعظيمه، وإذا قال:
أحب الله معناه أريد طاعته واتباع أوامره، ولا يقال: أريد زيدا، ولا أريد الله
ولا إن الله يريد المؤمن، فاعتيد الحذف في المحبة، ولم يعتد في الإرادة. وفي الناس
من قال: المحبة ليست من جنس الإرادة، بل هي من جنس ميل الطبع، كما تقولون:
أحب ولدي أي يميل طبعي إليه، وذلك مجاز، بدلالة أنهم يقولون: أحببت أن أفعل
بمعنى أردت أن أفعل. وضد الحب البغض. وتقول: أحبه حبا، وتحبب تحببا،
وحببه تحبيبا، وتحابا تحابا. والمحبة: الحب. والحب واحده حبة من بر، أو شعير،
أو عنب. أو ما أشبه ذلك. والحبة بزور البقل. وحبة القلب ثمرته. والحب: الجرة
الضخمة. والحب القرط من حبة واحدة. وحباب الماء: فقاقيعه. والحباب الحبة.
وأحب البعير إحبابا: إذا برك، فلا يثور، كالحران في الخيل، قال أبو عبيدة: ومنه
قوله تعالى " أحببت حب الخير عن ذكر أبي " (1) أي لصقت بالأرض لحب الخير،
حتى تأتيني الصلاة. وأصل الباب: الحب ضد البغض.
المعنى:
وقوله: " كحب الله " قيل في هذه الإضافة ثلاثة أقوال: أحدها - كحبكم
الله. والثاني - كحبهم الله. والثالث - كحب الله الواجب عليهم لا الواقع منهم،
كما قال الشاعر:
فلست مسلما ما دمت حيا * على زيد بتسليم الأمير (2)

(1) سورة ص آية: 32.
(2) البيان والتبيين 4: 51، ومعاني القرآن للفراء 1: 100، وأمالي الشريف
المرتضى 1: 215. ولم نعرف قائله.
62

أي مثل تسليمي على الأمير. فان قيل: كيف يحب المشرك - الذي لا يعرف
الله - شيئا كحبه لله؟ قلنا من قال: إن الكفار يعرفون الله قال: كحبه لله.
ومن قال: هم لا يعرفون الله - على من يقوله أصحاب الموافاة - قال: معناه كحب
المؤمنين لله أو كالحب الواجب عليهم.
وقوله تعالى: " والذين آمنوا أشد حبا لله " قيل في معناه قولان:
أحدهما - " أشد حبا لله " للاخلاص له من الاشراك به
والثاني - لأنهم عبدوا من يملك الضر والنفع، والثواب، والعقاب، فهم أشد
حبا لله بذلك ممن عبد الأوثان.
الاعراب:
ويجوز فتح " أن " من ثلاثة أوجه، وكسرها من ثلاثة أوجه - مع
القراءة بالياء -:
أولها - يجوز فتحها بايقاع الفعل عليها بمعنى المصدر. وتقديره " لو يرى
الذين ظلموا إذ يرون العذاب " قوة الله وشدة عذابه.
الثاني - أن يفتح على حذف اللام كقولك: لان القوة لله.
الثالث - على تقدير لرأوا أن القوة لله، على الاتصال بما حذف من الجواب.
والأول من الكسر على الاستئناف. الثاني - على الحكاية مما حذف من
الجواب كأنه قيل: لقالوا إن القوة لله جميعا. الثالث - على الاتصال مما حذف من
الحال، كقولك: يقولون: إن القوة لله.
ومن قرأ بالتاء، يجوز أيضا في الفتح ثلاثة أوجه. وفي الكسر ثلاثة أوجه:
أول الفتح - على البدل، كقولك: ولو ترى الذين ظلموا أن القوة لله عليهم،
وهو معنى قول الفراء. الثاني - لان القوة لله. الثالث - أرأيت أن القوة لله. قال
أبو علي الفارسي: من قرأ بالتاء لا يجوز أن تنصب أن إلا بالفعل المحذوف - في
الجواب. وأما البدل فلا يجوز، لأنها ليست " الذين ظلموا " ولا بعضهم ولا مشتملة
63

عليهم، هذا إن جعل الرؤية من رؤية البصر. وإن جعلها من رؤية القلب، فلا
يجوز أيضا، لان المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى: وقوله تعالى:
" إن القوة لله " لا يكون الذين ظلموا، فلم يبق بعد ذلك إلا أنه ينتصب بفعل
محذوف. والكسر مع التاء مثل الكسر مع الياء. واختار الفراء - مع الياء - الفتح،
ومع التاء الكسر، لان الرؤية قد وقعت على الذين، وجواب لو محذوف، كأنه
قيل: لرأوا مضرة اتخاذهم للأنداد، ولرأوا أمرا عظيما لا يحصر بالأوهام. وحذف
الجواب، يدل على المبالغة، كقولك: لو رأيت السياط تأخذ فلانا.
والضمير في قوله " يتخذ " عائد على لفظ من. وفي قوله يحبونهم على معنى
من، لان من مبهم، فمرة يحمل الكلام منها على اللفظ، وأخرى على المعنى، كما قال:
" ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا " (1) - بالتاء، والياء - حملا لمن
على اللفظ والمعنى.
واتصلت الآية بما قبلها اتصال انكار، كأنه قال: أبعد هذا البيان والأدلة
القاهرة على وحدانيته، يتخذون الأنداد من دون الله.
ومن قرأ قوله " ولو ترى " - بالتاء - جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به
غيره، كما قال: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " (2). والذين على هذا في موضع
نصب. ومن قرأ بالياء يكون الذين في موضع رفع بأنهم الفاعلون.
وقوله " جميعا " نصب على الحال، كأنه قيل: إن القوة لله ثابتة لله في حال
اجتماعها. وهي صفة مبالغة بمعنى إذا رأوا مقدورات الله فيما تقدم الوعيد به، علموا
أن الله قادر لا يعجزه شئ.
والشدة قوة العقد، وهو ضد الرخاوة. والقوة والقدرة واحد. و (ترى)
في قوله تعالى: " ولو ترى " من رؤية العين بدلالة أنها تعدت إلى مفعول واحد،
لان التقدير ولو ترون أن القوة لله جميعا أي ولو يرى الكفار ذلك.

(1) سورة الأحزاب آية: 31.
(2) سورة الاطلاق آية: 1
64

ومن قرأ - بالتاء - يقوى انها المتعدية إلى مفعول واحد، ويدل على ذلك
أيضا قوله " إذ يرون العذاب "، وقوله: " وإذا رأى الذين ظلموا العذاب " " فلا
يخفف عنهم "، فتعدى إلى مفعول واحد. فان قيل: كيف قال: " ولو يرى
الذين ظلموا " وهو أمر مستقبل، وإذ لما مضى؟ قيل: إنما جاء على لفظ المضي
لإرادة التقريب في ذلك، كما جاء " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب " (1) وعلى هذا جاء في هذا المعنى أمثلة الماضي كقوله: " ونادى أصحاب النار
أصحاب الجنة " (2). هكذا ذكره أبو علي الفارسي قال: وعلى هذا المعنى جاء في
" مواضع كثيرة في القرآن، كقوله تعالى " ولو ترى إذ وقفوا على ربهم " (3)
" ولو ترى إذ وقفوا على النار " (4) " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند
ربهم " (5) " ولو ترى إذ فزعوا، فلا فوق " (6) " ولو ترى إذ يتوفى الذين
كفروا الملائكة " (7). كذلك هذه الآية.
قوله تعالى:
إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت
بهم الأسباب (166) آية واحدة بلا خلاف
الاعراب واللغة:
العامل في (إذ) قوله تعالى: " وإن الله شديد العقاب إذ تبرأ الذين " كأنه
قيل وقت تبرأوا.
والتبرء: التباعد للعداوة، فإذا قيل تبرأ الله من المشركين معناه باعدهم من رحمته، وكذلك إذا تبرء الرسول منهم معناه باعدهم - للعداوة - عن منازل من

(1) سورة النحل آية: 77.
(2) سورة الأعراف آية: 50.
(3) سورة الأنعام آية: 30.
(4) سورة الأنعام آية: 27.
(5) سورة سبأ آية: 31.
(6) سورة سبأ آية: 51.
(7) سورة الأنفال آية: 51.
65

لا يحب له الكراهة.
والتبرء في أصل اللغة، والتزيل، والتقصي نظائر. وضد التبرء التولي.
والاتباع: طلب الاتفاق في مكان، أو مقال، أو فعال، فإذا قيل اتبعه
ليلحقه، فمعناه ليتفق معه في المكان، وإذا تبعه في مذهبه أو في سيره أو غير ذلك
من الأحوال، فمعناه طلب الاتفاق.
و " اتبعوا " ظمت الألف فيه لضمة الثالث، وضمة الثالث لما لم يسم فاعله،
لأنه إنما يضم له أول المتحرك من الفعل فيما بني عليه، والف الوصل لا يعتد به، لأنه
وصلة إلى التكلم بالساكن فإذا اتصل بمتحرك، استغني عنه.
المعنى:
والمعني بقوله: " الذين اتبعوا " رؤساء الضلالة من الانس. وقال قوم: هم
من الجن. وقيل: من الجميع. والأول - قول قتادة، والربيع، عطا. والثاني -
قول السدي.
وقوله تعالى: " وتقطعت بهم الأسباب " فالتقطع: التباعد بعد الاتصال.
والسبب: الوصلة إلى التعذر بما يصلح من الطلب. ومعنى الأسباب هاهنا. قيل فيه
ثلاثة أقوال:
أحدها - قال مجاهد، وقتادة، والربيع، وفي رواية عن ابن عباس: هي
الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها.
الثاني - روي عن ابن عباس: أنها الأرحام التي كانوا يتقاطعون بها.
الثالث - قال ابن زيد: الاعمال التي كانوا يوصلونها. وقال الجبائي: تقطعت
بهم أسباب: النجاة.
اللغة:
والسبب: الحبل. والسبب: ما تسببت به من رحم، أو يد، أو دين. ومنه
قوله: " فليرتقوا في الأسباب " (1). تقول العرب. إذا كان الرجل ذا دين:

(1) سورة ص آية: 10
66

ارتقا في الأسباب. والسب: الشتم. والسب: القطع. والسب: الشقة البيضاء من
الثياب، وهي السبيبة (1)، ومضت سبة من الدهر أي ملاوة. والسب: الوتد.
والسبابة: ما بنى الوسطى والابهام. والتسبب: التوصل إلى ما هو منقطع عنك.
ويقال: تسبب يتسبب تسببا، واستبوا استبابا، وسبب تسبيبا، وسابه؟.
قوله تعالى:
وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرء منهم كما تبرءوا
منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من
النار (167) آية بلا خلاف.
المعنى:
المعني بقوله: " وقال الذين اتبعوا " هم الذين تبرءوا منهم: ساداتهم الذين
اتبعوهم " لو أن لنا؟ " يعني رجعة إلى دار الدنيا، قال الأخطل:
ولقد عطفن على فزارة عطفة * كر المنيح وجلن بم مجالا (2)
فالعامل في " لو أن " محذوف، كأنه قال: لو صح أن لنا كرة، لان (لو) في
التمني، وغيره تطلب الفعل. وإن شئت قدرته: لو ثبت أن لنا كرة.
اللغة:
والكر نقيض الفر تقول: كر يكر كرا، وكرة، وتكرر تكررا، وكرر

(1) وفي لسان العرب (سبب) السب، والسبيبة: الشقة، وخص بعضهم به الشقة
البيضاء.
(2) ديوانه: 48، ونقائض جرير والأخطل: 79. في المطبوعة (المسيح) بدل
(المنيح) وفي الديوان (قدارة) بدل (فزاره). وفزارة: ابن ذبيان بن؟. والمنيح:
قدح لاحظ له في الميسر. والمنيح اسم رجل من بني أسد من بني مالك. ومعنى البيت: لقد
هاجمناهم في الحرب بشدة ومراس مثل ما يهاجم المنيح.
67

تكريرا، وتكرارا. والكرة والفرة متقابلان. والكر والرجع والفتل نظائر في
اللغة قال صاحب العين: الكر الرجوع عن الشئ ومنه التكرار. والكر الحبل
الغليظ. وقيل: الشديد الفتل. والكرير صوت في الحلق. والكرير: نهر. والكرة:
سبرقين وتراب، يدق، ويجلا به الدروع.
وقوله " فنتبرء منهم " فالتبرء والانفصال واحد، ومنه برئ من مرضه: إذا
انفصل منه بالعافية. ومنه برئ من الدين براءة. وبرئ الله من الخلق.
الاعراب:
وانتصب " فنتبرء " على أنه جواب التمني - بالفاء - كأنه قال: لو كان لنا
كرة فتبرءا (1) وكلما عطف للفعل على تأويل المصدر، نصب باضمار (أن). ولا
يجوز اظهارها.
المعنى:
وقوله: " كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات " وذلك لانقطاع الرجاء من
كل واحد منهما. قيل أيضا: كما أراهم العذاب يريهم أعمالهم حسرات عليهم.
وذلك، لأنهم أيقنوا بالهلاك في كل واحد منهما. والعامل في الكاف يريهم.
والاعمال التي يرونها حسرات قيل فيها ثلاثة أقوال:
أحدها - المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها.
الثاني - الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها، وكيف ضيعوها، ومثله
" زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون " (2) أي أعمالهم التي فرضناها عليهم، أو ند بناهم إليها.

(1) في المطبوعة نسختين إحداهما نفس الآية، وهذا لا يجوز مع قوله كأنه، لان
التشبيه يقتضي التغاير بين المشبه، والمشبه به حتى يكون بينهما اثنينية، والنسخة الثانية (كان لنا
كرة ور فنتبرأ) وهذه ليس فيه معنى محصل، فلابد أن تكون خطأ، وفى مجمع البيان (ليت لنا
كرورا فتبروءا) وبدل على صحة ما أثبتنا تتمة الجملة. والمخطوطة هنا ناقصة بعض الأوراق.
(2) سورة النمل آية: 4.
68

وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال: هو الرجل يكتسب المال، ولا يعمل فيه
خيرا، فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا، فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره
فان قيل: لو جاز أن تضاف الاعمال التي رغبوا فيها، ولم يفعلوها بأنها أعمالهم لجاز
أن يقال: الجنة دارهم وحور العين أزواجهم لأنهم عرضوا لها! قلنا لا يجب ذلك،
لأنا إنما حملنا على ذلك للضرورة. ولو سمى الله تعالى الجنة بأنها دارهم لتأولنا ذلك،
ولكن لم يثبت ذلك، فلا يقاس على غيره.
الثالث - الثواب، فان الله تعالى يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو
فعلوا الطاعات فيتحسرون عليه - لم فرطوا فيه - والقول الأول قول الربيع، وابن
زيد، واختيار الجبائي، وأحد قولي البلخي. والثاني قول عبد الله، والسدي،
وأحد قولي البلخي. وهو كما تقول الانسان أقبل على عملك وأعقدت عليه عملا
قلت في عملك، والذي أقوله: ان الكلام يحتمل أمرين: فلا ينبغي أن يقطع على
واحد منهما إلا بدليل إلا أن الأول أقوى، لأنه الحقيقة. والله أعلم بمراده.
اللغة:
والحسرات: جمع الحسرة، وهي أشد من الندامة. والفرق بينهما وبين الإرادة
ان الحسرة تتعلق بالماضي خاصه، والإرادة تتعلق بالمستقبل، لان الحسرة إنما هي
على ما فات بوقوعه أو يتقضي وقته. وإنما حركت السين، لأنه اسم على فعلة أوسطه
ليس من حروف العلة، ولو كان صفة لقلت: صعبات فلم يحرك، وكذلك جوزات
وبيضات. وإنما حرك الاسم، لأنه على خلاف الجمع السالم، إذ كان كان إنما
يستحقه ما يعقل.
والحسرة والندامة نظائر، وهي نقيض الغبطة. وتقول: حسرت العمامة عن
رأسي إذا كشفتها. وحسر عن ذراعيه حسرا، وانحسر انحسارا، وحسرة تحسيرا.
والحاسر في الخرب الذي لا درع عليه، ولا مغفر. وحسر يحسر حسرة وحسرا:
إذا كمد على الشئ الفائت (1)، وتلهف عليه. وحسرت الناقة حسورا: إذا أعيت.

(1) في المطبوعة (إذا كمل على الشئ الغايب) وهو تحريف.
69

وحسر البصر إذا كل عن البصر: والمحسرة: المكنسة. والطير يتحسر: إذا خرج
من ريشه العتيق إلى الحديث. وأصل الباب الحسر: الكشف.
وفي الآية دلالة على أنه كان فيهم قدرة على البراءة منهم، لأنهم لو لم يكونوا
قادرين لم يجز أن يتحسروا على ما فات، كما لا يتحسر الانسان لم لم يصعد إلى السماء،
ولا من كونه في الأرض.
قوله تعالى:
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا
خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (168) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ نافع، وأبو عمر، وحمزة، وخلف، وأبو بكر إلا البرجمي، والبزي إلا
ابن مرج والربيبي إلا الولي " خطوات " بسكون الطاء حيث وقع. والباقون بضمها.
اللغة:
الاكل: هو البلع عن مضغ، وبلع الحصا ليس بأكل في الحقيقة، وقد قيل:
النعام يأكل الخمر، فأجروه مجرى فلان يأكل الطعام. ويقال: مضغه ولم يأكله.
والحلال: هو الجائز من أفعال العباد، مأخوذ من أنه طلق، لم يعقد بحظر. والمباح
هو الحلال بعينه، وليس كل حسن حلالا، لان أفعاله تعالى حسنة ولا يقال: انها
حلال، إذا لحلال اطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع. وتقول: حل يحل حلالا،
وحل يحل حلولا، وحل العقد حلا، وأحله إحلالا، واستحل استحلالا، وتحلل
تحللا واحتل احتلا، وتحالوا تحالا، وحاله محالة، وحللة تحليلا، وانحل انحلالا، وحل العقد
يحله حلا، وكل جامد أذبته فقد حللته، وحل بالمكان إذا نزل به، وحل الدين محلا،
وأحل من إحرامه وحل، والحل: الحلال. ومن قرأ " يحلل " معناه ينزل ومن قرأ " يحل "
معناه يجب، وحلت عليه العقوبة أي وجبت. والحلال الجدي الذي يشق عن بطن
70

أمه، وتحلة اليمين، منه قول الشاعر: (1)
تحفي التراب بأضلاف ثمانية * في أربع مسهن الأرض تحليل (2)
أي هين. والحليل، والحليلة: الزوج والمرأة سميا بذلك، لأنهما يحلان في
موضع واحد. والحلة: أزار، ورداء برد، وغيره. لا يقال حلة حتى يكون ثوبين.
والإحليل مخرج اللبن من الضبي، والفرس، وخلف الناقة، وغيرها، وهو مخرج
البول من الذكر. وأصل الباب: الحل نقيض العقد، ومنه أحل من إحرامه، لأنه
حل عقد الاحرام بالخروج منه. وتحلة اليمين أخذ أقل القليل، لان عقدة اليمين
تنحل به.
والطيب: هو الخالص من شائب ينغص، وهو على ثلاثة أقسام:
الطيب المستلذ، والطيب الجائز، والطيب الطاهر، كقوله تعالى: " فتيمموا
صعيدا طيبا " (3) أي طاهرا. والأصل واحد، وهو المستلذ إلا أنه يوصف به
الطاهر، والجائر تشبيها إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع، كالذي تكرهه النفس في
الصرف عنه، وما تدعوا إليه بخلاف ذلك. وتقول: طاب طيبا، واستطاب استطابة،
وطايبه مطايبة، وتطيب تطيبا، وتطيبه تطييبا، والطيب: الحلال والنظيف، والطهور،
من الطيب. وأصل الباب: الطيب خلاف الخبيث.
والخطوة: بعد ما بين قدمي الماشي. والخطوة المرة من الخطو: وهو نقل
قدم الماشي. وتقول: خطوة، وخطوة واحدة. والاسم: الخطوة، وجمعها خطى،
وقوله تعالى: " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " أي لا تتبعوا آثاره ولا تقتدوا به.
وأصل الباب الخطو: نقل القدم قدما. والعدو: المباعد عن الخير إلى الشر. والولي
نقيضه.

(1) هو عبدة بن الطبيب.
(2) اللسان (حلل) في المطبوعة (خفي) بدل (تحفي) والأصلاب بدل (الاضلاف)
(3) سورة النساء آية: 42، وسورة المائدة آية: 7.
71

المعنى:
وإنما قال: " حلالا طيبا " فجمع الوصفين، لاختلاف الفائدتين: إذ وصفه
بأنه حلال يفيد بأنه طلق. ووصفه بأنه طيب مفيد أنه مستلذ إما في العاجل وإما
في الأجل. و " خطوات الشيطان " هاهنا قيل فيه خمسة أقوال: فقال ابن عباس:
أعماله. وقال مجاهد، وقتادة: خطاياه، وقال السدي: طاعتكم إياه. وقال الخليل:
ايثاره. وقال قوم: هي النذور في المعاصي. وقال الجبائي: ما يتخطى بكم إليه
بالامر والترغيب. وروي أن هذه الآية نزلت، لما حرم أهل الجاهلية من ثقيف،
وخزاعة، وبني مدلج من الانعام، والحرث: البحيرة والسائبة والوصيلة، فنهى الله
تعالى عما كانوا يفعلونه، وأمر المؤمنين بخلافه. والاذن في الحلال يدل على حظر
الحرام على اختلاف ضرور به، وأنواعه، فحملها على العموم أولى. والمآكل،
والمنافع في الأصل للناس فيها ثلاثة أقوال: فقال قوم: هي على الحظر. وقال آخرون:
هي على الإباحة. وقال قوم: هي على الوقف. وحكي الرماني: أن فيهم من قال:
بعضها على الحظر، وبعضها على الإباحة. قد بينا ما عندنا في ذلك في أصول الفقه
إلا أن هذه الآية دالة على إباحة المآكل إلا ما دل الدليل على حظره. (1) وقوله:
" انه لكم عدو مبين " في وصف الشيطان معناه أنه مظهر العداوة بما يدعوا إليه
من خلاف الطاعة لله التي فيها النجاة من الهلاك، والفوز بالجنة.
قوله تعالى:
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا
تعلمون (169) آية واحدة بلا خلاف.
اللغة:
الامر من الشيطان هو دعاؤه إلى الفعل، فأما الامر في اللغة، فهو قول

(1) كل لفظة حظر في الأسطر المتقدمة فإنها في المطبوعة " خطر ". والمخطوطة ناقصة
في هذا الموضع. والصحيح مأثبتناه لمقابلته بالحلال.
72

القائل لمن هو دونه: إفعل. وإذا كان فوقه سمي ذلك دعاء، ومسألة. وهل يقتضي
الامر الايجاب، أو الندب، ذكرناه في أصول الفقه، فلا نطول بذكره هاهنا.
والسوء: كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع، ويسمى ما تنفر عنه النفس
سوء، تقول: ساءني كذا يسوءني سوء. وقيل إنما سمي القبيح سوء، لسوء عاقبته،
لأنه يلتذ به في العاجل، ولا يخلوا المكلف من الزجر عن القبيح إما عقلا، أو
شرعا، ولو خلا منه لكان معرى بالقبيح، وذلك لا يجوز.
والسوء في الآية قيل فيه قولان: قال السدي: هو المعاصي. وقال غيره:
ما يسوء الفاعل: يعني ما يضره. والمعنى قريب من الأول، والأول هو الصحيح.
والفحشاء: هو العظيم القبح في الفعل، وكذلك الفاحشة. وقيل المراد به: الزنا
من الفجور، عن السدي. والفحشاء: مصدر فحش فحشا، كقولك: ضره ضرا وسره
سراء وسرا. والفحشاء، والفاحشة، والقبيحة، والسيئة نظائر، ونقيضها الحسنة.
تقول: فحش فحشا، وافحش إفحاشا، وتفاحش تفاحشا، وفحش تفحيشا، واستفحش
استفحاشا، وكل من تجاوز قدره فهو فاحش. وأفحش الرجل: إذا قال فحشا، وكل
شئ لم يكن موافقا للحق، فهو فاحشة. قال الله تعالى: " إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة " (1) يعني بذلك خروجها من بيتها بغير إذن زوجها المطلق لها. وقال تعالى
" وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي " (2) والقول: كلام له عبارة تنبئ عن
الحكاية، وذلك ككلام زيد، يمكن أن يأتي عمرو بعبارة عنه تنبئ عن الحكاية
له فيقول: قال زيد كذا وكذا، فيكون قوله: قال زيد، يؤذن أنه يحكى بعده
كلام، وليس كذلك إذا قال: تكلم زيد لأنه لا يؤذن بالحكاية.
والعلم: ما اقتضى سكون النفس. قيل: هو تبين الشئ على ما هو به
للمدرك له.

(1) سورة الطلاق آية: 1.
(2) سورة النحل آية: 90.
73

المعنى:
فان قيل: كيف يأمرنا الشيطان ونحن لا نراه، ولا نسمع كلامه! قلنا: لما
كان الواحد منا يجد من نفسه معنى الامر بما يجد من الدعاء إلى المعصية، والمنازعة
في الخطيئة، وكان ما نجده من نفوسنا من الدعاء والاغواء إنما هو بأمر الشيطان
الذي دلنا الله عليه، وحذرنا منه، صح إخبار الله بذلك. فان قيل: إذا كان الله
عز وجل يوصل معنى أمره لنا إلى نفوسنا، فما وجه ذلك في الحكمة، وهو لو أمر
من غير إيصال معنى الامر لم يكن في ذلك مضرة؟ قلنا. في ذلك أكبر النعمة لان
التكليف لا يصح إلا مع منازعة إلى الشئ المنهي عنه، فكان ذلك من قبل عدو،
يحذره، أولى من أن يكون المنازعة من قبل ولي يستنصحه. وفي ذلك المصلحة لنا
بالتعريض للثواب الذي يستحقه بالمخالفة له، والطاعة لله تعالى، كما أن في خلقه مصلحة
من هذه الجهة، وإذا كان إنما أفهمنا ذلك لنجتنبه، فهو كتعليم شبهة ملحد، لنعلم
حلها
وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال: إن المعارف ضرورة، لأنها لو
كانت ضرورة، لما جاز أن يدعوهم إلى خلافها، كما لا يدعوهم إلى خلاف ما هم مضطرون
إليه من أن السماء فوقهم، والأرض تحتهم، وما جرى مجراه مما يعلم ضرورة لان
الدعاء إلى ذلك يجري مجرى الدعاء إلى خلق الأجسام، وبعث الأموات، لا يدخل
تحت مقدور القدرة. وقد استدل نفاة القياس، والقول بالاجتهاد بهذه الآية بأن
قالوا: القول بالاجتهاد والقياس قول بغير علم، وقد نهى الله عن ذلك فيجب أن
يكون ذلك محظورا، ومذهبنا وإن كان المنع من القول بالاجتهاد، فليس في هذه
الآية دلالة على ذلك، لان للخصم أن يقول: إذا دلني الله تعالى على العمل بالاجتهاد،
فلا أعمل أنا به إلا بالعلم، ويجري ذلك؟ وجوب العمل عند شهادة الشاهدين،
والعمل بقول المقومين في أروش الجنايات وقيم المتلفات، وجهات القبلة، وغير ذلك
من الأشياء التي هي واقعة على الظن شرط، والعمل واقف على الدليل الموجب للعلم
74

عنده، فلا يكون في الآية دلالة على ذلك. وقد بينا ما نعتمده في بطلان القول
بالاجتهاد والرأي - في أصول الفقه - فلا وجه لذكره هاهنا.
قوله تعالى:
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا
عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)
آية واحدة بلا خلاف.
ألفينا، وصادفنا، ووجدنا بمعنى واحد، والأب، والوالد واحد.
الاعراب:
وقوله تعالى:
" أولو كان " هي واو العطف، دخلت عليها حرف الاستفهام،
والمراد بها التوبيخ والتقريع، فهي ألف التوبيخ. ومثل هذه الألف (1)
" أثم إذا ما وقع " (2) و " أفلم يسيروا في الأرض " (3). وإنما جعلت ألف
الاستفهام للتوبيخ، لأنه يقتضي ما الاقرار به فضيحة عليه، كما يقتضي الاستفهام
الاخبار، مما يحتاج إليه.
المعنى:
والمعنى: إنهم يقولون، هذا القول " وإن كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا
يهتدون ". والفرق بين دخول الواو، وسقوطها في مثل هذا الكلام، أنك إذا
قلت: اتبعه ولو ضرك، فمعناه اتبعه على كل حال ولو ضرك، وليس كذلك إذا قال:
اتبعه لو ضرك، لان هذا خاص، والأول عام، فإنما دخلت الواو لهذا المعنى.

(1) في المطبوعة (الواو).
(2) سورة يونس آية: 51.
(3) سورة يوسف آية: 109، وسورة الحج آية: 46، وسورة المؤمن آية 82،
وسورة محمد آية: 10.
75

ومعنى قوله: " لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " يحتمل شيئين:
أحدهما - لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون إليه.
والثاني - على الشتم والذم، كما يقال: هو أعمى إذا كان لا يبصر طريق الحق
- على الذم - هذا قول البلخي. والأول قول الجبائي.
وفي الآية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف، لأنها دلت على أنهم كانوا
على ضلال في الاعتقاد.
والضمير في قوله: " هم " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - انه يعود على (من) في قوله: " ومن الناس من يتخذ من دون
الله أندادا ".
والثاني - انه يعود على (الناس) من " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض
حلالا طيبا " فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة، كما قال تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم بريح طيبة ". (1)
الثالث - انه يعود على الكفار، إذ جرى ذكرهم، ويصلح أن يعود إليهم
وإن لم يجر ذكرهم، لان الضمير يعود على المعلوم، كما يعود على المذكور. وقال ابن
عباس: إن النبي صلى الله عليه وآله دعا اليهود من أهل الكتاب إلى الاسلام، فقالوا: بل نتبع
ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيرا منا، فأنزل الله عز وجل " وإذا قيل
لهم اتبعوا ما أنزل الله " الآية.
و " وألفينا " في الآية معناه وجدنا - في قول قتادة - قال الشاعر: (2)
فألفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا (3)

(1) سورة يونس آية: 22
(2) هو أبو الأسود الدؤلي.
(3) ديوانه: 49، والأغاني 11 107، وشرح شواهد المغنى: 31، واللسان
(عتب) وهو من أبيات قالها في امرأة كان يجلس إليها بالبصرة، فقالت له: هل لك أن تتزوجني،
فاني امرأة صناع الكف، حسنة التدبير قانعة بالميسور، فتزوجها ثم وجدها على خلاف ما قالت،
فخانته وأسرعت في ماله، وأفشت؟، فردها إلى أهلها، وأنشد الأبيات، فقالوا: بلى والله
يا أبا الأسود، فقال: هذه صاحبتكم، واني أحب أن أستر ما أنكرت من أمرها، ثم سلمها إليهم.
76

والاتباع: طلب الاتفاق في المقال أو الفعال. أما في المقال، فإذا دعا إلى
شئ استجيب له. وأما في الفعال، فإذا فعل شيئا، فعلت مثله.
والعقل مجموعة علوم بها يتمكن من الاستدلال بالشاهد على الغائب. وقال
قوم: هو قوة في النفس يمكن بها ذلك. والاهتداء الإصابة لطريق الحق بالعلم.
وفي الآية حجة عليهم من حيث أنهم إذا جاز لهم أن يتبعوا آباءهم فيما لا يدرون
أحق هو أم باطل، فلم لا يجوز اتباعهم مع العلم بأنهم مبطلون. وهذا في غاية البطلان.
وفيها دلالة على فساد التقليد، لان الله تعالى ذمهم على تقليد آبائهم، ووبخهم
على ذلك. ولو جاز التقليد لم يتوجه إليهم توبيخ، ولا لوم، والامر بخلافه.
قوله تعالى:
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء
ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171) آية بلا خلاف.
المعنى:
التشبيه في هذه الآية يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل:
أحدها - وهو أحسنها وأقربها إلى الفهم، وأكثرها في باب الفائدة - ما قاله
أكثر المفسرين كابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والربيع، واختاره
الزجاج، والفراء، والطبري، والجبائي، والرماني، وهو المروي عن أبي جعفر (ع)
إن مثل الذين كفروا في دعائك إياهم، " كمثل الذين ينعق " أي الناعق في دعائه.
المنعوق به من البهائم التي لا تفهم كالإبل، والبقر، والغنم، لأنها لا تعقل ما يقال
لها، وإنما تسمع الصوت. والحذف في مثل هذا حسن. كقولك لمن هو سئ الفهم:
أنت كالحمار، وزيد كالأسد: أي في الشجاعة، لان المعنى في أحد الشيئين أظهر،
فيشبه بالآخر ليظهر بظهوره، وهذا باب حسن البيان.
الثاني - حكاه البلخي، وغيره: إن مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من
77

الأوثان كمثل الناعق في دعائه مالا يسمع، بتعالى، وما جرى مجراه من الكلام، وذلك
أن البهائم لا تفهم الكلام، وإن سمعت النداء، والدعاء، وأقصى أحوال الأصنام
أن تكون كالبهائم في أنها لا تفهم، فإذا كان لا يشكل عليهم أن من دعا البهائم
بما ذكرناه جاهل، فهم في دعائهم الحجارة أولى بالجهل وصفة الذم.
الثالث - قال ابن زيد: إن مثل الذين كفروا في دعائهم آلتهم كمثل الناعق
في دعائه الصدى في الجبل، وما أشبهه، لأنه لا يسمع منه إلا دعاء ونداء، لأنه
إذا قال: يا زيد، سمع من الصدى يا زيد، فيتخيل إليه أن مجيبا أجابه، وليس هناك
شئ، فيقول: يا زيد، وليس فيه فائدة، فكذلك يخيل إلى المشركين أن دعاءهم
للأصنام يستجاب، وليس لذلك حقيقة، ولا فائدة. وإنما رجحنا الوجه الأول،
لما بيناه من حسن الكلام، ولأنه مطابق للسبب الذي قيل: إنها نزلت في اليهود،
فإنهم لم يكونوا يعبدون الأصنام، ولا يليق بهم الوجه الثاني، فإذا ثبت ذلك، ففيه
ثلاثة أوجه من الحذف:
أولها - " ومثل الذين كفروا " في دعائك لهم كمثل الناعق في دعائه المنعوق
به. والثاني - " ومثل الذين كفروا " في دعائهم الأوثان كمثل الناعق في دعائه
الانعام. الثالث - مثل وعظ الذين كفروا كمثل نعق الناعق بما لا يسمع، وهذا
من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه كقول الشاعر: (1)
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي * على وعل في ذي المطارة عاقل (2)
والتقدير على مخافة وعل. فان قيل: كيف قوبل الذين كفروا - وهم المنعوق
به - بالناعق، ولما تقابل المنعوق به بالمنعوق به - في ترتيب الكلام - أو الناعق
بالناعق؟ قيل للدلالة على تضمين الكلام تشبيه اثنين باثنين: الداعي للايمان للمدعو

(1) هو نابغة بني ذبيان.
(2) ديوانه: 90، واللسان (خوف)، ومجاز القرآن: 65، وأمالي الشريف المرتضى
1: 202، 216. الوعل: تيس الجبل يتحصن بوزره من الصياد. (ذي المطار) - بفتح
الميم -: اسم جبل. وعاقل: قد عقل في رأس الجبل. في المطبوعة (لقد) بدل (وقد) ورواية
اللسان (بذى) بدل (في ذي).
78

من الكفار بالداعي إلى المراد للمدعو من الانعام، فلما أريد الايجاز أبقي ما يدل
على ما ألقي، فأبقي في الأول ذكر المدعو، وفي الثاني ذكر الداعي، ولو رتب
على ما قال السائل، لبطل هذا المعنى. وزعم أبو عبيدة، والفراء: أنه يجري مجرى
المقلوب الذي يوضع فيه كلمة مكان كلمة، كأنه وضع الناعق مكان المنعوق به، وأنشد:
كانت فريضة ما تقول كما * كان الزناء فريضة الرجم (1)
والمعنى كما كان الرجم فريضة الزناء، وكما يقال: أدخلت القلنسوة في رأسي،
وإنما هو أدخلت رأسي في القلنسوة قال الشاعر:
إن سراجا لكريم مفخره * تحلى به العين إذا ما تجهره (2)
والمعنى يحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. والأقوى أن يكون الامر على
ما بيناه من المعنى الذي دعا إلى الخلاف في الحذف، ليدل بما بقي على ما ألقي.
اللغة:
قال صاحب العين: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا، ونعق
الغراب نعاقا، ونعيقا إذا صاح. والناعقان: كوكبان من كواكب الجوزاء: رجلها
اليسرى ومنكبها الأيمن، وهو الذي يسمى الهنعة، وهما أضوء كوكبين في الجوزاء.
وأصل الباب الصياح، والنداء: مصدر نادى مناداة، ونداء، وتنادوا تناديا،
وندى تندية، وتندى تنديا. والنداء، والدعاء، والسؤال نظائر، قال صاحب العين:
الندى له وجوه من المعنى: ندى الماء، وندى الخير، وندى الشر، وندى الصوت،
وندى الخصر. فأما ندى الماء فمنه ندى المطر، أصابه ندى من طل، ويوم ندى،
فأرض ندية. والمصدر منه الندوة، والندى ما أصابه من البلل، وندى الخير هو
المعروف، تقول: أندى علينا فلان ندى كثيرا، وإن يده لندية بالمعروف، وندى

(1) البيت للنابغة الجعدي. اللسان (زنا)، وأمالي الشريف المرتضى 1: 216،
ومعاني القرآن للفراء 1: 99، 131.
(2) اللسان (حلا). وأمالي الشريف المرتضى 1: 216. في المطبوعة (لجلاله)
بدل (تحلا به). تجهره: تنظر إليه نظرة اعجاب وتقدير.
79

الصوت: بعد مذهبه، وندى الخصر: صحة جريه، واشتق النداء في الصوت من
ندى ناداه أي دعاه بأرفع صوته: ناداه به. والندوة الاجتماع في النادي، وهو
المجلس، ندى القوم يندون ندوا إذا اجتمعوا، ومنه دار الندوة، وأصل الباب
لندى: البلل، وندى الجود كندى الغيث.
المعنى:
ومعنى " صم بكم عمي فهم لا يعقلون " أي صم عن استماع الحجة، بكم عن
التكلم بها، عمي عن الابصار لها، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي. والأعمى:
من في بصره آفة تمنعه من الرؤية. والأصم: من كان في آلة سمعه آفة تمنعه من
السمع. والأبكم: من كان في لسانه آفة تمنعه من الكلام. وقيل: إنه يولد كذلك،
والخرس قد يكون لعرض يتجدد.
وأجاز الفراء النصب في " صم " على الذم، والأجود الرفع على ما عليه
القراء، وتقديره هم صم.
وفيها دلالة على بطلان قول من زعم: أنهم لا يستطيعون سمعا على الحقيقة،
لأنه لا خلاف أنهم لم يكونوا صما لم يسمعوا الأصوات، وإنما هو كما قال الشاعر:
أصم عما ساءه سميع (1)
وفيها دلالة على بطلان قول من قال: إن المعرفة ضرورة، لأنهم لو كانوا
عالمين ضرورة لما استحقوا هذه الصفة.
وقال عطا: نزلت هذه الآية في اليهود، ومعنى ينعق يصوت قال الأخطل:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما * منتك نفسك في الخلاء ضلالا (2)
والدعاء: طلب الفعل من المدعو، والأولى أن يعتبر فيه الرتبة، وهو أن

(1) اللسان (صمم)، (سمع).
(2) ديوانه: 50، ونقائض حرير والأخطل: 81، واللسان (نعق) وطبقات فحول
الشعراء 429، ومجاز القرآن: 64، يقول: إنما أنت زاعي غنم وليس لك حظ في هذا الامر
الذي منتك نفسك به، فارجع إلى غنمك، فأمرها وانهاها، واترك الحرب، وانشاد الشعر.
80

يكون فوق الداعي. والسمع: إدراك الصوت. والمثل: قول سائر يدل على أن
سبيل الثاني سبيل الأول.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا
لله إن كنتم إياه تعبدون (172) آية بلا خلاف.
المعنى:
هذا الخطاب يتوجه إلى جميع المؤمنين، وقد بينا أن المؤمن هو المصدق بما
وجب عليه،، ويدخل فيه الفساق بأفعال الجوارح، وغيرها، لان الايمان لا ينفي
الفسق - عندنا -. وعند المعتزلة: إنه خطاب لمجتنبي الكبائر، وإنما يدخل فيه
الفساق على طريق التبع، والتغليب، كما يغلب المذكر على المؤنث في قولك: الإماء
والعبيد جاوزني، وقد بينا فيما تقدم أن أفعال الجوارح لا تسمى إيمانا - عند أكثر
المرجئة، وأكثر أصحابنا - وإن بعضهم يسمي ذلك إيمانا، لما رووه عن الرضا
(ع). وإيمان مأخوذ من أمان العقاب - عند من قال: إنه تناول مجتنبي الكبائر -
وعند الآخرين من أمان الخطأ، في الاعتقاد الواجب عليه. وفي المخالفين من يجعل
الطاعات الواجبات، والنوافل من الايمان. وفيهم من يجعل الواجبات فقط إيمانا،
ويسمي النوافل إيمانا مجازا.
وقوله " كلوا " ظاهره ظاهر الامر، والمراد به الإباحة، والتخيير، لان
الاكل ليس بواجب إلا أنه متى أراد الاكل، فلا يجوز أن يأكل إلا من
الحلال الطيب، ومتى كان الوقت وقت الحاجة فإنه محمول على ظاهره في باب الأمر:
سواء قلنا: إنه يقتضي الايجاب أو الندب.
وفي الآية دلالة على النهي عن أكل الخبيث - في قول البلخي، وغيره -
كأنه قيل: كلوا من الطيب دون الخبيث، كما لو قال: كلوا من الحلال، لكان ذلك
81

دالا على حظر الحرام - وهذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم. فأما غير ذلك،
فلا يدل على قبح ضده، لان قول القائل، كل من زيد، لا يدل على أن المراد
تحريم ما عداه، لأنه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصه، والاخر موقوف على
بيان آخر، وليس كذلك ما ضده قبيح، لأنه قد يكون من البيان تقبيح ضده.
والطيبات قد منا معناها فيما تقدم، وأن المراد بذلك الخالص من شائب ينغص،
وإن كان لا يخلو شئ من شائب، لكنه لا يعتد به في الوصف بأنه حلال طيب،
ولو كان في الطعام ما ينغصه لجاز وصفه بأنه ليس بطيب.
والرزق قد بينا فيما مضى: أنه ما للحي الانتفاع به على وجه لا يكون لاحد
منعه منه.
وقوله: " واشكروا لله " فالشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من
التعظيم، ويكون ذلك عن وجهين: (1)
أحدهما - الاعتراف بالنعمة - متى ذكرها - للمنعم بالاعتقاد لها.
الثاني - الطاعة بحسب جلالة النعمة، فالأول لازم في كل حال من أحوال
الذكر، والثاني إنما يلزم في الحال التي يحتاج فيها إلى القيام بالحق، واقتضى ذكر
الشكر هاهنا ما تقدم ذكره من الانعام في جعل الطيب من الرزق، للانتفاع،
واستدفاع المضار، وذكر الشرط هاهنا إنما هو وجه المظاهرة في الحجاج ولما فيه
من حسن البيان دون أن يكون ذلك شرطا في وجوب الشكر، وتلخيص الكلام إن
كانت العبادة لله واجبة عليكم بأنه إلهكم، فالشكر له واجب عليكم بأنه محسن إليكم.
وأما العبادة، فهي ضرب من الشكر، لأنها غاية ليس وراءها شكر، ويقترن
به ضرب من الخضوع. ولا يستحق العبادة إلا الله، لأنها تستحق بأصول النعم من
الحياة، والقدرة، والشهوة، والنفاد، وأنواع المنافع، وبقدر من النفع لا يواريه

(1) في المطبوعة هنا تكرير الوجه الأول كله والظاهر أنه تسطير من الناسخ وإنما
حذفناه لعدم وجوده في المخطوطة ولا في مجمع البيان. لان مجمع البيان ناقل المطلب بحذافيره،
ولم يكرر.
82

نعمة منعم، فلذلك اختص الله تعالى باستحقاقها.
قوله تعالى:
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير
الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
(173) آية بلا خلاف.
القراء:
قرأ نافع وابن عامر، وابن كثير، والكسائي - بضم نون - " فمن اضطر "
الباقون بكسرها.
اللغة والاعراب:
لفظة إنما تفيد إثبات الشئ، ونفي ما سواه كقول الشاعر:
وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (1)
ومعناه لا يدافع غيري، وغير من هو مثلي، وهو قول الزجاج، والفراء،
والرماني، والطبري، وأكثر أهل التأويل. وإنما كانت لا ثبات الشئ، ونفي ما سواء،
من قبل أنها لما كانت (إن) للتأكيد، ثم ضم إليها (ما) للتأكيد أيضا، أكدت
(إن) من جهة التحقيق للشئ، وأكدت (ما) من جهة نفي ما عداه، فكأنك
إذا قلت: إني بشر، فالمعنى أنا بشر على الحقيقة، فإذا قلت: إنما أنا بشر، فقد
ضممت إلى هذا القول ما أنا إلا بشر.
وتقدير قوله تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة " ما حرم عليكم إلا الميتة. ولو
كانت (ما) بمعني الذي، لكتبت مفصولة (2)، ومثله قوله تعالى: " إنما الله

(1) قائله الفرزدق، تلخيص المفتاح أو مختصر المعاني للتفتزاني (باب القصر) وهو:
أنا الذائد الحامي الديار وإنما * يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
(2) في المطبوعة (مفعوله).
83

إله واحد " (1) أي لا إله إلا واحد، مثله " إنما أنت منذر " (2) أي لا نذير
إلا أنت (3) ومثله إنما ضربت أخاك أي ما ضربت إلا أخاك.
فإذا ثبت ذلك، فلا يجوز في الميتة إلا النصب، لان (ما) كافة (4) ومعناه
تحريم الميتة، وتحليل المذكى، ولو كانت ما بمعنى الذي، لكان يجوز في الميتة الرفع.
والفرق بين الميت، والميتة قيل فيه قولان:
أحدهما - قال أبو عمرو: ما كان قد مات، فهو بالتخفيف مثل " يخرج الحي
من الميت " (5). وما لم يمت بالتثقيل كقوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون "
(6). ووجه ذلك أن التثقيل لما كان هو الأصل كان أقوى على التصريف في
معنى الحاضر والمستقبل.
و (الثاني) قال قوم: المعنى واحد، وإنما التخفيف لثقل الياء على الكسرة،
قال الشاعر: (7)
ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الاحياء (8)
فجمع بين اللغتين:

(1) سورة النساء آية: 17.
(2) سورة الرعد آية: 8.
(3) هكذا في النسخ كلها وفي مجمع البيان أيضا، والصحيح (ما أنت الا منذر) وهو
من باب قصر الموصوف على الصفة، وهو الذي يقتضيه المقام، وعبارة المتن من باب قصر الصفة
على الموصوف.
(4) في المطبوعة (كأنه) بدل (كافة) ومعنى كافة: أي قد كفت (ان) عن المعمل
بالجملة التي بعدها، وإذا كانت (ان) مكفوفة تعين نصب (الميتة) ب‍ (حرم)، وإذا كانت ان
عاملة في الجملة تكون " ما " اسم موصول بمعنى الذي، وهي اسم " ان ". والميتة خبر " ان "
فيتعين الرفع على هذا التقدير كما يتعين النصب على الأول.
(5) سورة الأنعام آية: 95. وسورة يونس آية: 31 وسورة الروم آية: 19.
(6) سورة الزمر آية: 30.
(7) هو عدي بن الرعلاء.
(8) اللسان " ميت " وشرح شواهد المغني: 138. ومعجم الشعراء: 253.
وغيرها كثير.
84

المعنى:
قوله: " وما أهل به لغير الله " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الربيع، وابن زيد، وغيرهما من أهل التأويل: معناه ذكر
غير اسم الله عليه.
والثاني - قال قتادة، ومجاهد: ما ذبح لغير الله.
اللغة:
والاهلال على الذبح: هو رفع الصوت بالتسمية، وكان المشركون يسمون
الأوثان، والمسلمون يسمون الله. ويقال: انهل المطر انهلالا وهو شدة انصبابه،
وتهلل السحاب ببرقه أي تلالا، وتهلل وجهه إذا تلالا، وتهلل الرجل فرحا.
والهلال غرة القمر، لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير، والمحرم يتهلل
بالاحرام، وهو أن يرفع صوته بالتلبية، ويهلل الرجل: يكبر إذا نظر إلى الهلال.
وهلل البعير تهليلا إذا تقوس كتقوس الهلال، وسمي به الذكر، لان الهلال ذكر.
وثوب هل أي رقيق مشبه بالهلال في رقته. والتهليل: الفزع. واستهل الصبي إذا
بكي حين يولد. والهلال: الحية الذكر، لأنه يتقوس، وسمي به الذكر، لان
الهلال ذكر.
" فمن اضطر " من كسر النون فلالتقاء الساكنين، ومن ضمها أتبع الضمة
الضمة في الطاء. وقرأ أبو جعفر بكسر الطاء.
والاضطرار: كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه، وذلك كالجوع
الذي يحدث للانسان، ولا يمكنه الامتناع منه. والفرق بين الاضطرار، والالجاء
أن الالجاء تتوفر معه الدواعي إلى الفعل من جهة الضر أو النفع، وليس كذلك
الاضطرار.
وأكثر المفسرين على أن المراد في الآية المجاعة. وقال مجاهد: ضرورة
إكراه. والأولى أن يكون محمولا على العموم إلا ما خصه الدليل.
85

" ولحم الخنزير " قال صاحب العين يقال: رجل لحم إذا كان أكول اللحم.
وبيت لحم: يكثر فيه اللحم. وألحمت القوم إذا قتلتهم وصاروا لحما. والملحمة:
الحرب ذات القتل الشديد. واستلحم الطريق إذا اتسع. واللحمة: قرابة النسب.
واللحمة ما يسد به بين السديين من الثوب. واللحام: ما يلحم به صدع ذهب أو
فضة أو حديد حتى يلتحما، ويلتئما. وكل شئ كان متباينا ثم تلاءم، فقد التحم.
وشجة متلاحمة إذا بلغة اللحم. وأصل الباب اللزوم، فمنه اللحم للزومه بعضه بعضا.
المعنى:
وقوله: " غير باع ولا عاد " قيل في معناه ثلاثة أقوال أولها - " غير باغ "
اللذة " ولا عاد " سد الجوعة وهو قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع،
وابن زيد. والثاني - ما حكاه الزجاج " غير باغ " في الافراط " ولاعاد " في
التقصير. والثالث - " غير باغ " على إمام المسلمين " ولا عاد " بالمعصية طريق
المحقين، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي
عبد الله (ع) قال الرماني: وهذا القول لا يسوغ، لأنه تعالى لم يبح لاحد قتل
نفسه بل حظر عليه ذلك، والتعريض للقتل قتل في حكم الدين، ولان الرخصة إنما
كانت لأجل المجاعة المتلفة، لا لأجل الخروج في طاعة، وفعل إباحة. وهذا
الذي ذكره غير صحيح لان من بغى على إمام عادل فأدى ذلك إلى تلفه، فهو
المعرض نفسه للقتل، كما لو قتل في المعركة، فإنه المهلك لها، فلا يجوز لذلك استباحة
ما حرم الله، كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين، وما قاله من
أن الرخصة لمكان المجاعة، لا يسلم إطلاقه، بل يقال: إنما ذلك للمجاعة التي لم يكن هو
المعرض نفسه لها، فأما إذا عرض نفسه لها، فلا يجوز له استباحة المحرم، كما قلنا
في قتل نفس الغير، ليدفع عن نفسه القتل. وأصل البغي: الطلب من قولهم: بغى
الرجل حاجته يبغيها بغا قال الشاعر:
86

لا يمنعنك من بغا * الخير تعقاد التمائم (1)
إن الأشائم كالأيامن * والأيامن كالأشائم (2)
والبغاء: طلب الزنا. وإنما اقتضى ذكر المغفرة هاهنا أحد أمرين:
أحدهما - النهي عما كانوا عليه من تحريم ما لم يحرمه الله من السائبة، والوصيلة،
والحام، فوعد الله بالمغفرة عند التوبة، والإنابة إلى طاعة الله فيما أباحه أو حظره.
الثاني - إذا كان يغفر المعصية، فهو لا يواخذ بها، جعل فيه الرخصة، ولا
يجوز أن يقع في موضع غير (إلا) لأنها بمعني النفي هاهنا، ولذلك عطف عليها
ب‍ (لا) لأنها في موضع (لا). فأما (إلا) فمعناها في الأصل الاختصاص لبعض
من كل، وليس هاهنا كل يصلح أن يحض منه. " غير باغ " منصوب على الحال
وتقديره لا باغيا، ولا عاديا. والقدر المباح من الميتة عند الضرورة ما يمسك الرمق
فقط - عندنا - وفيه خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء.
قوله تعالى:
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به
ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم
الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174) آية بلا خلاف.
المعنى:
المعني بهذه الآية أهل الكتاب باجماع المفسرين إلا أنها متوجهة - على قول
كثير منهم - إلى جماعة قليلة منهم، وهو علماؤهم الذين يجوز على مثلهم كتمان ما علموه،
فأما الجمع الكثير منهم الذين لا يجوز على مثلهم ذلك لاختلاف (3) دواعيهم، فلا

(1) اللسان " عقد " في المطبوعة " لا يمنعك " بدل " لا يمنعنك " ولم يستقم
الوزن.
(2) اللسان " شأم " وروايته " فإذا " بدل " ان ".
(3) في المطبوعة " لا خلاف ".
87

يجوز. والذي كتموه قيل فيه قولان:
قال أكثر المفسرين: إنهم كتموا أمر النبي صلى الله عليه وآله بأن حرفوه عن وجهه
في التأويل، هذا إذا حمل على الجماعة الكثيرة. وإن حمل على القليلة منهم، يجوز أن
يكونوا كتموا نفس التنزيل أيضا.
الثاني - قال الحسن: كتموا الاحكام، وأخذوا الرشا على الاحكام،
والكتاب على القول الأول: هو التوراة، وعلى الثاني يجوز أن يحمل على القرآن
وسائر الكتب.
وقوله: " ويشترون به ثمنا قليلا " ليس المراد به أنهم إذا اشتروا به ثمنا
كثيرا كان جائزا. وإنما المقصد كلما يأخذونه في مقابلته من حطام الدنيا، فهو
قليل، كما قال " ويقتلون النبيين بغير حق " (1) وكما قال " ومن يدع مع الله
إلها آخر لا برهان له به (2) وإنما أراد أن قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق، وإن
من ادعى مع الله إلها آخر لا يقوم له عليه برهان. وكما قال الشاعر:
على لا حب لا يهتدى بمناره
والمعنى لا لاحب هناك، فيهتدى به، لأنه لو كان، لاهتدي به.
وقوله تعالى " ما يأكلون في بطونهم إلا النار " معناه على قول الربيع،
والحسن، والجبائي، وأكثر المفسرين: الاجر الذي أخذوه على الكتمان، سمي
بذلك، لأنه يؤديهم إلى النار، كما قال في أكل مال اليتيم ظلما " إنما يأكلون في
بطونهم نارا " (3) وقال بعضهم: إنما يأكلون في جهنم نارا جزاء على تلك الأعمال،
والأول أحسن. فان قيل إذا كان الاكل (4) لا يكون إلا في البطن، فما معنى
قوله " في بطونهم "؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - ان العرب تقول: جعت في غير بطني وشبعت في غير بطني، إذا

(1) سورة آل عمران آية: 21.
(2) سورة المؤمنون آية: 117.
(3) في المطبوعة " الأول ".
(4) سورة النساء آية: 9.
88

جاع من يجري جوعه مجرى جوع نفسه، فذكر ذلك لإزالة اللبس.
والثاني - انه لما استعمل المجاز بالاجراء على الرشوة اسم النار، حقق بذكر
البطن، ليدل علي أن النار تدخل أجوافهم.
اللغة:
والبطن: خلاف الظهر. والبطن: الغامض من الأرض. والبطن من العرب:
دون القبيلة. وعرفت هذا الامر ظاهره، وباطنه أي سره وعلانيته. ورجل بطين:
عظيم البطن. ومبطن: خميض البطن. وفلان بطانتي دون إخواني. أي الذي أبطنه
أمري. واستبطنت أمر فلان: إذا وقفت على دخلته. ويقال في المثل: البطنة تذهب
الفطنة، وبطن الشئ بطونا إذا غمض. والبطان حزام الرحل. والبطين: نجم وهو
بطن الحمل. وأصل الباب البطون: خلاف الظهور.
المعنى:
وقوله تعالى: " ولا يكلمهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - لا يكلمهم بما يحبون، وإنما هو دليل على الغضب عليهم، وليس
فيه دليل على أنه لا يكلمهم بما يسوءهم، لأنه قد دل في موضع آخر، فقال
" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين " (1) وقال " ربنا أخرجنا منها
فان عدنا فانا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون " (2) وهذا قول الحسن،
وواصل، وأبي علي.
الثاني - لا يكلمهم أصلا، فتحمل آيات المسائلة على أن الملائكة تسألهم بأمر
الله ويتأول قوله " اخسئوا فيها ولا تكلمون " على أن الحال دالة على ذلك. وإنما
دل نفي الكلام على الغضب - على الوجه الأول - من حيث أن الكلام وضع في الأصل

(1) سورة الأعراف آية: 5.
(2) سورة المؤمنون آية: 108 - 109.
89

للفائدة، فلما انتفى على جهة الحرمان للفائدة، دل على الغضب، ولا يدخل في ذلك
الكلام للغم والايلام.
وقوله: " ولا يزكيهم " معناه لا يبني عليهم، ولا يصفهم بأنهم أزكياء.
ويحتمل أن يكون المراد لا يتقبل أعمالهم تقبل أعمال الأزكياء.
والاشتراء هو الاستبدال بالثمن العوض، فلما كانوا هؤلاء استبدلوا بذنبهم
الثمن القليل، قيل فيهم: إنهم اشتروا به ثمنا قليلا. والثمن هو العوض من العين،
والورق والقلة هو نقصان المقدار عن مقدار غيره، لأنه يقال: هو قليل بالإضافة
إلى ما هو أكثر منه، وكثير بالإضافة إلى ما هو أقل منه.
والكلام ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة: إذا وقع
ممن يصح منه أو من قبيله للإفادة وقال الرماني: الكلام ما كان من الحروف دالا
بتأليفه على معنى، قال وأصله من الآثار وهي كالعلامات الدالة، والكلم أي الجراح.
وما ذكرناه أولى، لان هذا ينتقض بالمهمل من الكلام، فإنه لا يفيد وهو كلام
حقيقة.
قوله تعالى:
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة
فما أصبرهم على النار (175) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
معنى " اشتروا الضلالة بالهدى " استبدلوا، لان أصل الشراء الاستبدال، وليس
يقع في مثله إشكال، فأما قولهم: استبدل بالجارية غيرها، فلا يجوز أن يقال بدلا
منه: اشترى، لأنه يلتبس. والضلالة التي اشتروها بالهدى: كفرهم بالنبي
صلى الله عليه وآله وجحدهم لنبوته استبدلوه بالايمان به، وهم وإن لم يقصدوا أن يضلوا بدلا
من أن يهتدوا فقد قصدوا الكفر بالنبي صلى الله عليه وآله بدلا من الايمان به، وذلك ضلال
90

بدلا من هدى، فقد قصدوا الضلال بدلا من الهدى، وإن لم يقصدوه من وجه
أنه ضلال. ولا يجوز أن يقول: قصدوا أن يضلوا. لأنه يوهم أنهم قصدوه من
هذا الوجه، كما ينبئ علموا أنهم يضلون غير أنهم علموه من هذا الوجه، ويجوز
قصدوا الضلال، وعلموا الضلال، لأنه لا ينبئ على هذا الوجه وإنما علموه، وقصدوه
من وجه آخر، وهو جحدهم محمدا صلى الله عليه وآله بدلا من التصديق به.
وقوله تعالى: " فما أصبرهم على النار " الفاء معناها معنى الجواب، لان الكلام
المتقدم قد تضمن معنى من كان بهذه الصفة، " فما أصبرهم على النار " فعومل معاملة
المعنى الذي تضمنه حتى كأنه قد لفظ به. والعجب لا يجوز على القديم تعالى، لأنه
عالم بجميع الأشياء، لا يخفى عليه شئ. والتعجب يكون مما لا يعرف سببه. وإنما
الغرض - من الآية - أن يدلنا على أن الكفار حلو محل من يتعجب منه، فهو
تعجيب لنا منهم. وقد قيل في معنا (ما) في قوله " فما أصبرهم على النار " قولان:
أحدهما - قال الحسن، وقتادة، ومجاهد: إنها للتعجب. والثاني - قال ابن
عباس، وابن جريج، وابن زيد والسدي: إنها للاستفهام. وقيل في معنا " أصبرهم "
أربعة أقوال:
أحدها - ما أجرأهم على النار، ذهب إليه الحسن وقتادة. والثاني - قال
مجاهد: ما أعملهم بأعمال أهل النار. وهو المروي عن أبي عبد الله (ع). والثالث -
حكاه الزجاج: ما أبقاهم على النار، كما تقول: ما أصبره على الحبس. والرابع -
ذكره الفراء: ما صبرهم على النار أي حبسهم عليها. وقال الكسائي: هو استفهام على
وجه التعجب. قال أبو العباس: المبرد: هذا حسن كأنه توبيخ لهم وتعجيب لنا،
مثل قولك للذي وقع في هلكة ما اضطرك إلى هذا، إذا كان غنيا عن التعرض
للوقوع في مثلها. يقال: أصبرت السبع، والرجل، ونحوه إذا نصبته لما يكره.
وقال الحطيئة:
قلت لها أصبرها جاهدا * ويحك أمثال طريف قليل: (1)

(1) اللسان (صبر). الضمير في أصبرها عائد على النفس، وكأنه يقول: احبس نفسك على الجهاد.
91

معناه ألزمها، واضطرها. فأما التعجب، فمثل قوله " قتل الانسان ما أكفره "
(1) أي قد حل محل ما يتعجب منه. وقيل: ما أصبرك على كذا بمعني ما أجرأك
قال أبو عبيدة: هي لغة يمانية.
واشتق أصبر بمعنى أجرأ من الصبر الذي هو حبس النفس، لان بالجرءة يصبر
على الشدة. فأما القول الآخر: فحبسوا أنفسهم على عمل أهل النار، بدوامهم عليه،
وانهما كهم فيه. وحكى الكسائي عن قاضي اليمن عن بعض العرب، قال لخصمه:
ما أصبرك على الله أي على عذاب الله تعالى.
قوله تعالى:
ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في
الكتاب لفي شقاق بعيد (176) آية واحدة.
الاعراب:
ذلك رفع بالابتداء، أو بأنه خبر الابتداء وهو إشارة إلى أحد ثلاثة أشياء:
أولها - قال الحسن: ذلك الحكم بالنار. الثاني - ذلك العذاب. الثالث -
ذلك الضلال.
وفي تقدير خبر ذلك ثلاثة أقوال: (الأول) - قال الزجاج: ذلك الامر،
أو الامر ذلك، فحذف لدلالة ما تقدم من الامر بالحق. فكأنه قال: ذلك الحق.
واستغنى عن ذكر الحق لتقدم ذكره في الكلام. الثاني - ذلك معلوم " بأن الله نزل
الكتاب بالحق " فقد تقدم ذكر ما هو معلوم بالتنزيل، فحذف لدلالة الكلام عليه.
الثالث - ذلك العذاب لهم " بأن الله نزل الكتاب بالحق " وكفروا به، فتكون
الباء في موضع الخبر. ويحتمل ذلك أن يكون رفعا على ما بينا. ويحتمل أن يكون
نصبا على فعلنا ذلك، لان في الكلام ما يدل على (فعلنا).

(1) سورة عبس آية: 17.
92

المعنى:
ومعنى الكتاب هاهنا قيل: إنه التوراة. وقال الجبائي: إنه القرآن، وغيره.
وهو أعم فائدة.
وقال بعضهم: إن المراد بالأول التوراة، وبالثاني القرآن. ومعنى الاختلاف
هاهنا يحتمل أمرين:
أحدهما - قول الكفار في القرآن. ومنهم من قال: هو كلام السحرة. ومنهم
من قال: كلام يعلمه. ومنهم من قال: كلام يقوله الثاني - اختلاف اليهود والنصارى
في التأويل، والتنزيل من التوراة، والإنجيل، لأنهم حرفوا الكتاب، وكتموا
صفة محمد النبي صلى الله عليه وآله وجحدت اليهود الإنجيل والقرآن.
قوله تعالى: " لفي شقاق بعيد " فيه قولان:
أحدهما - بعيد عن الألفة بالاجتماع على الصواب. الثاني - بعيد: من الشقاق،
لشهادة كل واحد على صاحبه بالضلال. وكلاهما قد عدل عن السداد. ومن ذهب إلى
أن المعنى ذلك العذاب " بأن الله نزل الكتاب بالحق " قدر فكفروا به، وجعله
محذوفا. ومن ذهب إلى أن المعنى: ذلك الحكم بدلالة " أن الله نزل الكتاب بالحق "
لم يجعله محذوفا.
والمعني بالذين اختلفوا على قول السدي: اليهود، والنصارى. وقال غيره:
هم الكفار من عبدة الأوثان، وغيرهم من أهل الضلال. وهو الأولى، لأنه أعم.
الاعراب:
وإنما كسرة (إن) الثانية لالحاق اللام الخبر، وهي لام الابتداء، فأخرت
إلى الخبر وكسرت معها (إن) لأنها للاستئناف أيضا. فأما (أن) المفتوحة فاسم يعمل
فيه عوامل الاعراب كما يعمل في الأسماء. وإنما كسرت (إن) في قوله تعالى: " وما
أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام " (1) لا لا لحاق اللام، ولكن

(1) سورة الفرقان آية: 20.
93

لدخول (إلا) على جملة مستأنفة في التقدير. كأنه قيل: إلا هم يأكلون الطعام. ولو
قلت ما ظننت إلا إنك لخارج لكسرت لأجل اللام.
اللغة:
والاختلاف: الذهاب على جهة التفريق في الجهات. وأصله من اختلاف الطريق.
تقول: اختلفنا الطريق، فجاء هذا من هاهنا، وجاء ذاك من هناك، ثم قيل في
الاختلاف في المذاهب تشبيها في الاختلاف في الطريق من حيث أن كل واحد منهم
على نقيض ما عليه الآخر من الاعتقاد. فأما الاختلاف في الأجناس، فهو ما لا يسد
واحد منهما مسد الآخر، فيما يرجع إلى ذاته، كالسواد والبياض، وغيرهما.
والشقاق: انحياز كل واحد عن شق صاحبه للعداوة له. وهو طلب كل واحد
منهما ما يشق على الآخر، لأجل العدواة. والمشاقة مثله.
قوله تعالى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن
البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين
وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم
إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك
الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ حفص الأهبيرة، وحمزة " ليس البر " بنصب الراء. الباقون برفعها.
وقرأ نافع، وابن عامر " ولكن البر " بتخفيف النون، ورفع الراء.
94

النزول:
قيل: إن هذه الآية نزلت لما حولت القبلة، وكثر الخوض في نسخ تلك
الفريضة، صار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا التوجه للصلاة، فأنزل الله تعالى الآية،
وبين فيها أن البر ما ذكره فيها، ودل على أن الصلاة إنما يحتاج إليها لما فيها من
المصلحة الدينية، وإنه إنما يأمر بها، لما في علمه أنها تدعوا إلى الصلاح، وتصرف
عن الفساد، وإن ذلك يختلف بحسب الأزمان، والأوقات.
المعنى:
وقوله: " ليس البر " قيل فيه قولان: أحدهما - ذكره ابن عباس، ومجاهد:
أنه " ليس البر " كله في التوجه إلى الصلاة بل حتى يضاف إلى ذلك غيره من
الطاعات التي أمر الله تعالى بها. والثاني - قاله قتادة، والربيع واختاره الجبائي:
انه " ليس البر " ما عليه النصارى من التوجه إلى المشرق، أو ما عليه اليهود من
التوجه إلى المغرب " ولكن البر " ما ذكره الله تعالى في الآية، وبينه. وقوله:
" ولكن البر من آمن " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أولها - " ولكن البر " بر " من آمن بالله " فحذف المضاف، وأقام المضاف
إليه مقامه، واختاره المبرد، لقوله " ليس البر أن تولوا " وقال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي * على وعل في ذي المطارة عاقل (1)
يعني مخافة وعل. وقالت الخنساء:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت * فإنما هي إقبال وإدبار (2)
معناه إنما هي مقبلة تارة، ومدبرة أخرى، فبالغ، فجعلها إقبالا وإدبارا،

(1) مر تخريجه في 2: 78.
(2) اللسان (قبل) في المطبوعة (غفت) بدل (غفلت) وفي مجمع البيان (ما رتعت).
الرتع: الاكل في شره، ورتعت المواشي: أكلت ما شأت وجاءت وذهبت. ادكرت: تذكرت.
95

وقال متمم: (1)
لعمري! وما دهري بتأبين هالك * ولا جزعا مما أصاب فأوجعا (2)
معناه ولا ذي جزع.
الوجه الثاني - ولكن ذا البر من آمن بالله. الثالث - ولكن البار من آمن
بالله، فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل. وقد بينا في ما مضى حقيقة الايمان
والخلاف فيه، فلا معنى لإعادته.
والضمير في قوله: " على حبه " يحتمل أن يكون عائدا على حب المال،
ويحتمل أن يكون عائدا على حب الاتيان، قال عبد الله بن مسعود: على حب المال،
لأنه يأمل العيش ويخشى الفقر. وأما على حب الاتيان، فوجهه ألا تدفعه وأنت
متسخط عليه كاره. ويحتمل وجها ثالثا: وهو أن يكون الضمير عائدا على الله،
ويكون التقدير على حب الله، فيكون خالصا لوجهه، وقد تقدم ذكر الله تعالى في
قوله " من آمن بالله ". وهو أحسنها. والآية تدل على وجوب إعطاء مال الزكاة بلا
خلاف، وتدل أيضا - في قول الشعبي، والجبائي - على وجوب غيره مما له سبب
وجوب كالانفاق على من تجب عليه نفقته، وعلى من يجب عليه سد رمقه إذا خاف
التلف، وعلى ما يلزمه من النذور، والكفارات، ويدخل فيها أيضا ما يخرجه الانسان
على وجه التطوع، والقربة إلى الله، لان ذلك كله من البر.
وابن السبيل: هو المنقطع به إذا كان مسافرا محتاجا وإن كان غنيا في بلده،
وهو من أهل الزكاة.
وقيل: إنه الضيف، والأول قول مجاهد، والثاني قول قتادة. وإنما قيل:
ابن السبيل: بمعنى ابن الطريق، كما قيل للطير: ابن الماء، لملازمته إياه، قال
ذو الرمة:

(1) هو متمم بن نويرة.
(2) اللسان (أبن، (دهر) ليس من عادتي تأبين الأموات، ومدحهم بعد موتهم،
ولست أجزع من المصيبة.
96

وردت اعتسافا والثريا كأنها * على قمة الرأس ابن ماء محلق (1)
والسائلين معناه: والطالبين للصدقة، لأنه ليس كل مسكين يطلب.
وقوله: " وفي الرقاب " قيل فيه قولان: أحدهما - عتق الرقاب. والثاني -
المكاتبين. وينبغي أن تحمل الآية على الامرين، لأنها تحتمل الامرين، وهو
اختيار الجبائي، والرماني.
اللغة:
والمراقبة: المراعاة. والرقبة: الانتظار. والرقيب: المشرف على القوم
لحراستهم. والرقيب: الحافظ. وتقول: رقبته أرقبه رقبا، وراقبته مراقبة،
وارتقبته ارتقابا، وتراقبوا تراقبا، وترقب ترقبا. والرقوب: الأرملة التي لا كاسب
لها، لأنها تترقب معروفا أو صلة. والرقبة مؤخر أصل العنق. وأعتق الله رقبته،
ولا يقال عتقه. والرقيب ضرب من الحيات خبيث. والرقوب: المرأة التي لا يعيش
لها ولد. والرقيب: النجم الذي يتبين من المشرق، فيعيب رقيبه من المغرب.
المعنى:
وقوله تعالى: " ذوي القربة " قيل أراد به قرابة المعطي، اختاره الجبائي،
لقول النبي صلى الله عليه وآله لفاطمة بنت قيس، لما قالت: يا رسول الله إن لي سبعين مثقالا من
ذهب، فقال: اجعليها في قرابتك. وقال (ع) لما سئل عن أفضل الصدقة، فقال:
جهد المقل على ذي القرابة الكاشح. ويحتمل أن يكون أراد به قرابة النبي صلى الله عليه وآله.
كما قال: " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " (2) وهو قول أبي
جعفر، وأبي عبد الله (ع) وقوله: " في البأساء والضراء وحين البأس " قال قتادة:

(1) ديوانه: 401، واللسان (عسف). وردت اعتسافا: سرت بدون تدبير، ولا
معرفة للطريق، بل اقتحمت اقتحاما. والثريا: جملة من النجوم تشبه قطف العنب. شبه الثريا
بالطير المحلق فوق رأسه وهو على الماء.
(2) سورة الشورى آية: 23.
97

البأسا: البؤس، والفقر. والضراء: السقم، والوجع. ومنه قوله: " مسني الضر "
(1). وحين البأس: حين القتال. وقال ابن مسعود: البأساء: الفقر. والضراء:
السقم. وإنما قيل: البأساء في المصدر ولم يقل منه أفعل، لان الأصل في فعلاء أفعل
للصفات التي للألوان، والعيوب. كقولك أحمر، وحمراء. وأعور، وعوراء. فأما
الأسماء التي ليست بصفات، فلا يجب ذلك فيها. وعلى ذلك تأولوا قول زهير:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم * كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم (2)
وأنكر ذلك قوم، لأنه لم يصرف أشأم. وقالوا إنما هو صفة وقعت موقع
الموصوف كأنه قال: غلمان أمر أشأم، فلذلك قالوا إنما المعنى الخلة البأساء، والخلة الضراء.
" والموفون بعهدهم " رفع عطفا على " من آمن ". ويحتمل أن يكون
رفعا على المدح، وتقديره: وهم الموفون، ذكره الزجاج. والصابرين نصب على
المدح، كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور * بذات الصليل وذات اللجم (3)
ويحتمل أن يكون نصب بفعل مضمر، وتقديره وأعني الصابرين. ويحتمل
أن يكون عطفا على قوله: " وآتى المال على حبه ذوي القربى " " والصابرين "
فعلى هذا يجب أن يكون رفع " الموفين " على المدح للضمير الذي في صلة (من)،
لأنه لا يجوز بعد العطف على الموصوف، العطف على ما في الصلة. وهذا الوجه
ضعيف، لأنه يؤدي إلى التكرار، لأنهم دخلوا في قوله: " والمساكين وابن

(1) سورة الأنبياء آية: 83.
(2) ديوانه: 20 من معلقته الفريدة، من أبياته في صفة الحرب. الضمير في (فتنتج)
عائد إلى الحرب، وقد مر ذكرها في أول الأبيات. (أشأم): أي؟ شؤم.
(3) معان القرآن للفراء 1: 105، وأمالي الشريف المرتضى 1: 205، والانصاف:
195، وخزانة الأدب: 216. القرم: السيد المقدم في المعرفة، والتجارب الكتيبة هي فرقة
من الجيش. المزدحم: هو المكان الذي تجتمع به الناس كثيرا، وتتسابق على التقدم فيه، والمقصود
منه هنا ساحة الحرب تغم الأمور أي تضيع عليهم. الصليل: صوت السيوف. وذات اللجم: الخيل
98

السبيل والسائلين " فيجب أن يحمل قوله: " والصابرين " على من لم يذكر، ليكون
فيه فائدة. وإن كان ذلك وجها مليحا.
والقراءة بالرفع أجود، وأقوى، لأنه اسم (ليس) مقدم قبل الخبر لفائدة
في الخبر، ولأنه قرأ " ليس البر بأن " ذكره الفراء.
وقوله: " أولئك الذين صدقوا " معناه الذين جمعوا العمل بهذه الخصال
الموصوفة: هم الموصوفون بأنهم صدقوا على الحقيقة، لأنهم عملوا بموجب ما أقروا
به. " أولئك هم المتقون " يعني اتقوا - بفعل هذه الخصال - نار جهنم.
واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن المعنى بها أمير المؤمنين (ع)، لأنه
لا خلاف بين الأمة أن جميع هذه الخصال كانت جامعة فيه. ولم تجتمع في غيره
قطعا، فهو مراد بالآية بالاجماع. وغيره مشكوك فيه غير مقطوع عليه. وقال
الزجاج، والفراء: هذه الآية تتناول الأنبياء المعصومين، لأنهم الذين يجمعون
هذه الصفات.
الاعراب:
ومن قرأ " ليس البر " بالرفع، جعل البر اسما، وجعل (أن) في موضع
نصب، ومن نصب جعل " أن تولوا " في موضع رفع، وقدم الخبر. ومثله قوله تعالى:
" ما كان حجتهم إلا أن قالوا " (1) " وما كان قولهم " (2) " وما كان جواب
قومه (3). " فكان عاقبتهما " (4) وما أشبه ذلك.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر
بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع
بالمعروف وأداء إليه باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى

(1) سورة الجاثية آية: 24.
(2) سورة آل عمران آية: 147
(3) سورة الأعراف آية 81.
(4) سورة الحشر آية: 17.
99

بعد ذلك فله عذاب أليم (178) آية بلا خلاف.
معنى قوله: كتب: فرض. وأصل الكتب: الخط الدال على معنى الفرض.
وقيل: لأنه، مما كتبه الله في اللوح المحفوظ على جهة الفرض، قال الشاعر: (1)
كتب القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات جر الذيول (2)
وقال النابغة الجعدي:
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني * عنكم فهل امنعن الله ما فعلا (3)
ومنه الصلاة المكتوبة أي المفروضة. فان قيل: كيف قيل: كتب عليكم
بمعنى فرض، والأولياء مخيرون: بين القصاص، والعفو، وأخذ الدية؟ قلنا عنه
جوابان:
أحدهما - انه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص. والفرض
قد يكون مضيقا ويكون مخيرا فيه. والثاني - فرض عليكم ترك مجاوزة ما حد لكم
إلى التعدي فيما لم يجعل لكم.
اللغة:
والقصاص: الاخذ من الجاني مثل ما جنى، وذلك لأنه تال لجنايته. وأصله
التلو، من قص الأثر: وهو تلو الأثر. والقصاص، والمقاصة، والمعاوضة، والمبادلة
نظائر. يقال: قص يقص قصا، وقصصا. وأقصه به إقصاصا. واقتص اقتصاصا.
وتقاصوا تقاصا. واستقص: إذا طلب القصاص استقصاصا. وقاصه مقاصة
وقصاصا. وقص الشئ بالمقص يقصه قصا. وقص الحديث يقصه قصصا. وكذلك
قص أثره قصصا: إذا اقتفى أثره. والقص والقصص: عظم الصدر من الناس،

(1) هو عمر بن أبي ربيعة، أو عبد الله بن الزبير الأسدي
(2) ديوان عمر، والبيان، والتبيين 2: 236، والكامل لابن الأثير 2: 154،
وتاريخ الطبري 7: 158، وأنساب الأشراف 5: 264. والأغاني 9: 229.
(3) اللسان (كتب).، وأساس البلاغة (كتب) والمقابيس 5: 159. ورواية الأساس
(أخرني) بدل (أخرجني).
100

وغيرهم. والقصة: الخصلة من الشعر. والقصة من القصص معروفة. والقصة الجص.
والقصاص: التقاص من الجراحات والحقوق شئ بشئ. والقصيص: نبات ينبت
في أصول الكمأة. واقصت الشاة، فهي مقص إذا استبان ولدها. وأصل
الباب التلو.
وقوله تعالى: " الحر بالحر " فالحر نقيض العبد، والحر من كل شئ:
أعتقه. والحر: ولد الحية، وولد الظبية، وفرخ الحمام. وأحرار البقول: ما يؤكل
غير مطبوخ. والحر: نقيض البرد، حر النهار يحر حرا. والحرير: ثياب من إبريسم.
والحريرة: دقيق يطبخ باللبن. والحرة: أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت
بالنار. وتحرير الكتابة: إقامة حروفها. والحرورية: منسوب إلى حرور: قرية
كان أول مجتمعهم بها، فالمحرر المختص بخدمة الكنيسة ما عاش، ومنه قوله " ما في
بطني محررا " (1) وأصل الباب الحر خلاف البرد. ومنه الحرير، لأنه يستدفأ به.
قوله: " من عفي له من أخيه شئ " معناه ترك، من عفت المنازل إذا تركت
حتى درست. والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها. وقيل: معنى العفو هاهنا ترك
القود بقبول الدية من أخيه، فالأخ يجمع أخوة إذا كانوا لأب، وإذا لم يكونوا
لأب، فهم أخوان، ذكر ذلك صاحب العين، ومنه قوله: " فأصلحوا بين أخويكم "
(2) ومنه الإخاء، والتآخي. والاخوة قرابة الأخ. والتآخي اتخاذ الاخوان.
وبينهما إخاء وأخوة. آخيت فلانا مواخاة، وإخاء. وأصل الباب الأخ من
النسب، ثم شبه به الأخ من الصداقة.
المعنى:
والهاء في قوله: " من أخيه " تعود إلى أخي المقتول - في قول الحسن -.
وقال غيره: تعود إلى أخي القاتل، فان قيل: كيف يجوز أن تعود إلى أخي القاتل
وهو في تلك الحال فاسق؟ قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة:

(1) سورة آل عمران آية: 35.
(2) سورة الحجرات آية: 10.
101

أحدها - إنه أراد أخوة النسب، لا في الدين، كما قال " وإلى عاد أخاهم
هودا " (1). والثاني - لان القاتل قد يتوب فيدخل في الجملة، وغير التائب على
وجه التغليب. الثالث - تعريفه بذلك على أنه كان أخاه قبل أن يقتله، كما قال:
" إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " (2) يعنى
الذين كانوا أزواجهن. وقال جعفر بن مبشر عن بعضهم: ان هذه الآية منسوخة
بقوله " النفس بالنفس " (3) قال: وليست عندي كذلك، لان الله تعالى إنما
أخبرنا أنه كتبها على اليهود قبلنا، وليس في ذلك ما يوجب أنه فرض علينا، لان
شريعتهم منسوخة بشريعتنا. والذي أقوله: إن هذه الآية ليست منسوخة، لان
ما تضمنته معمول عليه ولا ينافي قوله تعالى: " النفس بالنفس " لان تلك عامة،
ويمكن بناء تلك على هذه، ولا تناقض ولا يحتاج إلى أن ينسخ إحداهما بالأخرى.
وقال قتادة: نزلت هذه الآية، لان قوما من أهل الجاهلية كانت لهم حولة (4)
على غيرهم من أهل الجاهلية، فكانوا يتعدون في ذلك، فلا يرضون بالعبد إلا الحر،
ولا بالمرأة إلا الرجل، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
وقوله: " فاتباع بالمعروف " يعني العافي، وعلى المعفو عنه " أداء إليه
باحسان " وبه قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والشعبي، والربيع،
وابن زيد، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع). وقال قوم: هما على المعفو عنه.
والاعتداء هو القتل بعد قبول الدية على قول ابن عباس، والحسن، وقتادة،
ومجاهد، والربيع، وابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع).
وقال بعضهم " من اعتدى " بعد البيان في الآية، فقتل غير قاتل وليه أو بعد قبول

(1) سورة الأعراف آية: 64، سورة هود آية: 50.
(2) سورة البقرة آية: 232.
(3) سورة المائدة آية: 48.
(4) الحولة: هي المنكر، ويمكن أن يكون معناه الحق الذي حل أجله، ويكون المعنى
لهم عليهم حق قصاص حال، وعلى الأول لهم عليهم قود بمنكر قد فعلوه، ويريدون الاقتصاص منهم.
102

الدية " فله عذاب أليم " وهذا أيضا جيد تحتمله الآية.
الاعراب:
وقوله: " فاتباع " رفع بأنه ابتداء لخبر محذوف، كأنه قيل: فحكمه
اتباع، أو فعليه اتباع. وكان يجوز النصب في العربية. على تقدير فاليتبع اتباعا،
ولم يقرأ به.
اللغة:
والأداء، قال الخليل: أدى فلان يؤدي ما عليه إداء وتأدية. ويقال:
فلان آدى للأمانة من غيره. والأداة من أدوات الحرب. وأصل الباب التأدية
تبليغ الغاية.
المعنى:
وقوله تعالى: " تخفيف من ربكم " معناه: أنه جعل لكم القصاص، أو
الدية، أو العفو، وكان لأهل التوراة قصاص، وعفو، ولأهل الإنجيل عفو، أو
دية. ويجوز قتل العبد بالحر، والأنثى بالذكر إجماعا، ولقوله: " ومن قتل مظلوما
فقد جعلنا لوليله سلطانا " (1) ولقوله: " النفس بالنفس " (2). وقوله: في
هذه الآية " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " لا يمنع من ذلك، لأنه
تعالى لم يقل: ولا يقتل الأنثى بالذكر، ولا العبد بالحر. فإذا لم يكن ذلك في الظاهر،
فما تضمنته الآية معمول به، وما قلناه مثبت بما تقدم من الأدلة. فأما قتل الحر
بالعبد، فعندنا لا يجوز، وبه قال الشافعي، وأهل المدينة. وقال أهل العراق: يجوز.
ولا يقتل والد بولد عندنا، وعند أكثر الفقهاء. وعند مالك يقتل به على بعض
الوجوه. وأما قتل الوالدة بالولد، فعندنا تقتل. وعند جميع الفقهاء انها جارية مجرى

(1) سورة الاسرى آية: 33.
(2) سورة المائدة آية: 48.
103

الأب. فأما قتل الولد بالوالد فيجوز إجماعا. ولا يقتل مولى بعبده. ويجوز قتل
الجماعة بواحد إجماعا إلا أن عندنا يرد فاضل الدية، وعندهم لا يرد شئ على حال.
وإذا اشترك بالغ مع طفل. أو مجنون في قتل، فعندنا لا يسقط القود عن البالغ،
وبه قال الشافعي. وقال أهل العراق: يسقط. ودية القصاص في قود النفس ألف دينار
، أو عشرة آلاف درهم، أو مأة من الإبل، أو مأتان من البقر، أو ألف شاة
، أو مأتا حلة. ولا يجبر القاتل على الدية - عندنا - وان رضي، فهي عليه في
ماله. وقال الحسن: يجبر على العفو عن القصاص، والدية على العاقلة. والقتل بالحديد
عمدا يوجب القود إجماعا. فأما غير الحديد، فكل شئ يغلب على الظن أن مثله
يقتل فن يجب القود عندنا، وعند أكثر الفقهاء. والذي له العفو عن القصاص كل
من يرث الدية إلا الزوج، والزوجة. وهم لا يستثنون بها إلا أبا حنيفة: قال: إذا
كان للمقتول ولد صغار وكبار، فللكبار أن يقتلوا، ويحتج بقاتل علي (ع).
وقال غيره: لا يجوز حتى يبلغ الصغار. وعندنا أن لهم ذلك إذا ضمنوا حصة الصغار
من الدية إذا بلغوا، ولم يرضوا بالقصاص. وإذا اجتمع مع القصاص حدود، فإن كان
حد لله، فالقتل يأتي عليه. وإن كان حق لادمي كحد القذف، أقيم عليه
الحد ثم يقتل. وقال أهل المدينة: القتل يأتي على الكل. ويقتل الرجل بالمرأة
إذا رد أولياؤها نصف الدية. وخالف جميع الفقهاء في ذلك. وما قلنا، قول علي
(ع) وقول الحسن البصري. وشرح مسائل الديات ذكرناها في النهاية، والمبسوط،
لا يقتضي ذكرها هاهنا.
قوله تعالى:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون
(179) آية بلا خلاف.
المعنى:
أكثر المفسرين على أن قوله: " ولكم في القصاص حياة " المراد به القصاص
104

في القتل. وإنما كان فيه حياة من وجهين:
أحدهما - ما عليه أكثر المفسرين كمجاهد، وقتادة، والربيع، وابن زيد:
أنه إذا هم الانسان بالقتل فذكر القصاص، ارتدع، فكان ذلك سببا للحياة.
الثاني - قال السدي: من جهة أنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره. خلاف فعل
الجاهلية الذين كانوا يتفانون (1) بالطوائل، والمعنيان جميعا حسنان. وقال أبو
الجوزاء: معناه أن القران (2) حياة بالقصاص، أراد به القران. وهذا ضعيف،
لأنه تأويل خلاف الاجماع، ولأنه لا يليق بما تقدم، ولا يشاكله، وهو قوله:
" كتب عليكم القصاص في القتلى "، فكأنه قال بعده ولكم فيه حياة. ونظير هذه
الآية قولهم: القتل أنفى للقتل. وبينهما من التفاوت في الفصاحة، والبلاغة ما بين
السماء والأرض وقيل: الفرق بينهما من أربعة أوجه:
أحدها - أنه أكثر فائدة. وثانيها - أنه أوجز في العبارة. وثالثها - أنه
أبعد عن الكلمة بتكرير الجملة. ورابعها - أنه أحسن تأليفا بالحروف المتلائمة.
أما كثرة الفائدة، ففيه ما في قولهم: (القتل أنفى للقتل) وزيادة معان
حسنة: منها إبانة العدل، لذكره القصاص. ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه، لذكر
الحياة. ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به.
وأما الايجاز في العبارة، فان الذي هو نظير (القتل أنفى للقتل) قوله تعالى:
" في القصاص حياة " وهو عشرة أحرف. والأول أربعة عشر حرفا. وأما بعد
التكلف، فهو أن في قولهم: (القتل أنفى للقتل) تكرير غيره أبلغ منه. متى كان
التكرير كذلك، فهو مقصر في باب البلاغة. وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة،
فهو مدرك بالحس، وموجود باللفظ، فان الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من
الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة من اللام. وكذلك الخروج من الصاد

(1) في المطبوعة " يتغابون ".
(2) هكذا في المطبوعة ولم أجد قول لأبي الجوزاء في هذا الموضع في ما حضرني من
التفاسير، ولم أجد في كتب اللغة القصاص بمعنى القران، الا أن يكون - بفتح القاف -
105

إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام. فبإجماع هذه الأمور التي
ذكرناها كان أبلغ منه وأحسن. وإن كان الأول حسنا بليغا وأخذ هذا المعنى بعض
الشعراء، فقال:
أبلغ أبا مالك عني مغلغلة * وفي العتاب حياة بين أقوام (1)
وهذا وإن كان حسنا، فبينه وبين لفظ القرآن: ما بين أعلى الطبقة وأدناها.
وأول ما فيه أنه استدعاء إلى العتاب. وذلك استدعاء إلى العدل. وفي هذا إبهام.
وفي الآية بيان عجيب.
اللغة:
وقوله: " يا أولى الألباب " فالألباب: العقول وهو مأخوذ من النخلة على
وجه التشبيه به. واللب: العقل. لب الرجل يلب: إذا صار لبيبا. ولب بالمكان،
وألب به لبا، وإلبابا: إذا أقام به. ولب كل شئ خالصه. قال صاحب العين:
اللب: البال. تقول: الامر منه في لبب رخي أي في بال رخي. واللبب من
الرمل: شبيه حقف بين معظم الرمل، وجلد الأرض. وتلبب بالثياب إذا جمعها.
ويشبه به المتسلح بالسلاح. واللبة من الصدر: موضع القلادة. والتلبيب: مجمع
ما في موضع اللبب من ثياب الرجل. تقول: أخذ فلان بتلابيب فلان. وأصل
الباب لب الشئ: داخله: الذي تركبه القشرة، وتلزمه. ومنه لبيك وسعديك أي
ملازمة لأمرك وإسعادا لك.
المعنى:
وقوله تعالى: " لعلكم تتقون " قد بينا فيما مضى أن لعل معناه لكي. وقيل
في معناه هاهنا قولان:

(1) اللسان (غلل) أنشده بن؟. مغلغلة: رسالة محمولة من بلد إلى بلد والعتاب
هو الملاومة ولا يكون الا بين اثنين فصاعدا. وإنما قال: حياة، لأنه يخفف من الغيظ، وقد
يبطل العتاب حربا يقتل فيها الألوف. فكأنه يقول أوصل هذه الرسالة التي هي عتاب، والعتاب حياة
لقومي ولقومك.
106

(الأول) لكي تتقوا القتل بالخوف من القصاص. ذكره ابن زيد.
الثاني - قال الجبائي، وغيره: لتتقوا ربكم باجتناب معاصيه. وهذا أعم
فائدة، لأنه يدخل فيه اتقاء القتل، وغيره.
وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة: لان فيها دلالة على أنه أنعم على جميع
العقلاء، ليتقوا ربهم، وفي ذلك دلالة على أنه أراد منهم التقوى وإن عصوا، وإنما
خص الله تعالى بالخطاب أولي الألباب، لأنهم المكلفون المأمورون، ومن ليس بعاقل
لا يصح تكليفه، ولا يحسن، فلذلك خصهم بالذكر.
قوله تعالى:
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا
الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180)
آية بلا خلاف.
المعنى:
هذا ابتداء قصة، ولابد فيه من واو العطف، بان يقال: وكتب، لأنه حذف
اختصارا وقد بينا فيما مضى: أن معنى كتب فرض. وهاهنا معناه الحث والترغيب
دون الفرض، والايجاب. وفي الآية دلالة على أن الوصية جائزة للوارث، لأنه قال
الوالدين، والأقربين. والوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرين غير
قاتلين. ومن خص الآية بالكافرين، فقد قال: قولا بلا دليل، ومن ادعى نسخ
الآية فهو مدع لذلك، ولا يسلم له نسخها. وبمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري
سواء، فان ادعوا الاجماع على نسخها، كان ذلك دعوى باطلة ونحن نخالف في
ذلك. وقد خالف في نسخ الآية طاووس، فإنه خصها بالكافرين، لمكان الخبر ولم
يحملها على النسخ. وقد قال أبو مسلم محمد بن بحر: إن هذه الآية مجملة، وآية
الموارث مفصلة، وليست نسخا، فمع هذا الخلاف كيف يدعى الاجماع على نسخها.
107

ومن ادعى نسخها، لقوله (ع): لا وصية لوارث، فقد أبعد، لان هذا أولا
خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به إجماعا. وعندنا لا يجوز العمل به في تخصيص
عموم القرآن. وادعاؤهم أن الأمة أجمعت على الخبر دعوى عارية من برهان. ولو
سلمنا الخبر جاز أن نحمله على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث، لأنا لو خلينا
وظاهر الآية لأجزنا الوصية بجميع ما يملك للوالدين والأقربين، لكن خص ما زاد
على الثلث لمكان الاجماع.
فأما من قال: إن الآية منسوخة بآية الميراث فقوله بعيد عن الصواب. لان
الشئ إنما ينسخ غيره: إذا لم يمكن الجمع بينهما، فأما إذا لم يكن بينهما تناف ولا
تضاد بل أمكن الجمع بينهما، فلا يجب حمل الآية على النسخ، ولا تنافي بين ذكر
ما فرض الله للوالدين وغيرهم من الميراث، وبين الامر بالوصية لهم على جهة الخصوص،
فلم يجب حمل الآية على النسخ. وقول من قال: حصول الاجماع على أن الوصية
ليست فرضا يدل على أنها منسوخة باطل، لان اجماعهم على أنها لا تفيد الفرض،
لا يمتنع من كونها مندوبا إليها ومرغبا فيها، ولاجل ذلك كانت الوصية للوالدين،
والأقربين الذين ليسوا بوارث ثابتة بالآية ولم يقل أحد أنها منسوخة في خبرهم (1).
ومن قال: إن النسخ من الآية ما يتعلق بالوالدين، وهو قول الحسن والضحاك،
فقد قال قولا ينافي ما قاله مدعي نسخ الآية - على كل حال - ومع ذلك فليس
الامر على ما قال، لأنه لا دليل على دعواه. وقال طاووس: إذا وصى لغير ذي
قرابة لم تجز وصيته. وقال الحسن: ليست الوصية إلا للأقربين وهذا الذي قالاه
عندنا وإن كان غير صحيح، فهو مبطل قول من يدعي نسخ الآية. وإنما قلنا أنه
ليس بصحيح، لان الوصية لغير الوالدين، والأقربين عندنا جائزة. ولا خلاف
بين الفقهاء في جوازها. والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث إجماعا، والأفضل أن
يكون بأقل من الثلث، لقوله (ع) والثلث كثير، وأحق من وصي له من كان

(1) نسب الخبر إليهم مع أنهم يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله، لأنه لا يسلم صحته.
108

أقرب إلى الميت إذا كانوا فقراء - بلا خلاف - وإن كانوا أغنياء، فقال الحسن
وعمرو بن عبيد: هم أحق بها. وقال ابن مسعود، وواصل ألاحق بها الأجوع،
فالأجوع من القرابة.
وقوله تعالى: " إن ترك خيرا " يعنى مالا. واختلفوا في مقداره الذي يجب
الوصية عنده، فقال الزهري: كلما وقع عليه اسم مال من قليل أو كثير. وقال
إبراهيم النخعي: ألف درهم إلى خمسمائة. وروي عن علي (ع) أنه دخل على مولى
لهم في مرضه، وله سبع مائه درهم أو ستمائة، فقال: ألا أوصي، فقال: لا إنما
قال الله تعالى: " إن ترك خيرا " وليس لك كبير مال. وبهذا نأخذ، لان قوله
حجة عندنا.
الاعراب:
والوصية في الآية مرفوعة بأحد أمرين:
أحدهما - ب‍ (كتب)، لأنه لم يسم فاعله الثاني - أن يكون العامل فيه الابتداء
وخبره للوالدين، والجملة في موضع رفع على الحكاية بمنزلة قيل لكم: الوصية
للوالدين. وقيل في إعراب (إذا) والعامل فيه قولان: إحداهما - كتب على معنى
إذا حضر أحدكم الموت أي عند المرض. والوجه الاخر قال الزجاج، لأنه رغب
في حال صحته أن يوصي، فتقديره كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين
بالمعروف في حال الصحة قائلين: إذا حضرنا الموت فلفلان كذا.
المعنى:
المعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر ولا حيف فيه ولا جور والحضور
وجود الشئ بحيث يمكن أن يدرك. وليس معناه في الآية إذا حضره الموت أي
إذا عاين الموت، لأنه في تلك الحال في شغل عن الوصية. لكن المعنى كتب عليكم
أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الانسان: إذا حضرني الموت أي إذا
أنامت، فلفلان كذا.
109

والحق هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره وقيل ما علم صحته سواء كان
قولا أو فعلا أو اعتقادا وهو مصدر حق يحق حقا وانتصب في الآية على المصدر
وتقديره أحق حقا وقد استعمل على وجه الصفة،، بمعنى ذي الحق، كما وصف
بالعدل " على المتقين " معناه على الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه، وامتثال
أو امره.
قوله تعالى:
فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله
سميع عليم (181) آية بلا خلاف.
الهاء في قوله: " فمن بدله " عائدة على الوصية: وإنما ذكر حملا على المعنى،
لان الايصاء والوصية واحد. والهاء في قوله: " فإنما إثمه " عائدة على التبديل الذي
دل عليه قوله: " فمن بدله ". وقال الطبري: الهاء تعود على محذوف، لان عودها
على الوصية المذكورة لا يجوز، لان التبديل إنما يكون لوصية الموصي. فأما
أمر الله عز وجل بالوصية، فلا يقدر هو، ولا غيره أن يبدله. قال الرماني: وهذا
باطل، لان ذكر الله الوصية إنما هو لوصية الموصي، فكأنه قيل: كتب عليكم وصية
مفروضة عليكم، فالهاء تعود إلى الوصية المفروضة التي يفعلها الموصي.
وقوله تعالى: " فمن بدله " فالتبديل: هو تغيير الشئ عن الحق فيه. فأما
البدل، فهو وضع شئ مكان آخر. ومن أوصى بوصية في ضرار فبدلها الوصي،
لا يأثم. وقال ابن عباس: من وصى في ضرار لم تجز وصيته لقوله " غير مضار " (1).
والوصي إذا بدل الوصية لم ينقص من أجر الموصي شئ، كما لو لم تبدل،
لأنه لا يجازى أحد على عمل غيره، لكن يجوز أن يلحقه منافع الدعاء، والاحسان
الواصل إلى الموصى له، على غير وجه الاجر له، لكن على وجه الجزاء لغيره ممن
وصل إليه ذلك الاحسان، فيكون ما يلحق المحسن إليه من ذلك أجرا له، يصح

(1) سورة النساء آية: 11.
110

بما يصل إلى المحسن إليه من المنفعة. وفي الآية دلالة على بطلان مذهب من قال:
إن الطفل يعذب بكفر أبويه، لان الله تعالى بين وجه العدل في هذه. وقياس العدل
في الطفل ذلك القياس، فمن هناك دل على الحكم فيه. وفيها أيضا دلالة؟ بطلان
قول من يقول: إن الوارث إذا لم يقبض دين الميت أنه يؤخذ به في قبره أو في
الآخرة، لما قلنا من أنه دل على أن العبد لا يؤاخذ بجرم غيره وأن لا إثم عليه
بتبديل غيره. وكذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي به الميت لم يزل عقابه
بقضاء الوارث عنه إلا أن يتفضل باسقاطه عنه.
وقوله تعالى: " إن الله سميع عليم " معناه سميع لما قاله الموصى من العدل،
أو الجنف، عليم بما يفعله الوصي من التبديل أو التصحيح، فيكون ذكر ذلك داعيا
إلى طاعته.
قوله تعالى:
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه
إن الله غفور رحيم (182) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص وعن عاصم
" موص " بالتخفيف. الباقون بالتشديد. وهما لغتان: وصى، وأوصى بمعنى واحد.
المعنى:
فان قيل: كيف قال " فمن خاف من موص " لما قد وقع، والخوف إنما
يكون لما لم يقع؟ قيل فيه قولان:
أحدهما - إنه خاف أن يكون قد زل في وصيته، فالخوف للمستقبل، وذلك
الخوف هو أن يظهر ما يدل على أنه قد زل، لأنه من جهة غالب الظن.
الثاني - لما اشتمل على الواقع، وما لم يقع جاز فيه " خاف " ذلك فيأمره
111

بما فيه الصلاح، وما وقع رده إلى العدل بعد موته. والجنف: الجور، وهو الميل
عن الحق. وقال الحسن: هو أن يوصي من غير القرابة، قال: فمن أوصى لغير قرابته
رد إلى أن يجعل للقرابة الثلثان، ولمن أوصى له الثلث. وهذا باطل عندنا، لان
الوصية لا يجوز صرفها عن من وصي له. وإنما قال الحسن ذلك لقوله إن الوصية
للقرابة واجبة. وعندنا إن الامر بخلافه على ما بيناه.
اللغة:
وقال صاحب العين: الجنف: الميل في الكلام والأمور كلها. تقول: جنف
علينا فلان، وأجنف في حكمه، وهو مثل الحيف إلا أن الحيف من الحاكم خاصه،
والجنف عام، ومنه قوله تعالى: " غير متجانف " (1) أي متمايل: متعمد. ورجل
أجنف: في أحد شقيه ميل على الاخر. وقال ابن دريد: جنف يجنف جنفا إذا
صد عن الحق وأصل الباب: الميل عن الاستواء. وقال الشاعر في الجنف:
هم المولى وإن جنفوا علينا * وإنا من لقائهم لزور (2)
المعنى:
وإذا جنف الموصي في وصيته، فللوصي أن يردها إلى العدل، وهو المروي
عن أبي عبد الله (ع). وبه قال الحسن، وقتادة، وطاووس. وقال قوم، واختاره
الطبري: ان قوله " فمن خاف من موص " في حال مرضه الذي يريد أن يوصي
فيه، ويعطي بعضا، ويضر ببعض، فلا إثم أن يشير عليه بالحق، ويرده إلى الصواب
ويسرع في الاصلاح بين الموصي، والورثة، والموصى له حتى يكون الكل راضين،

(1) سورة المائدة آية: 3.
(2) قائله عامر الخصفي، من بني خصفة، ابن قيس عيلان، مجاز القرآن لأبي عبيدة:
66، 67، ومشكل القرآن: 119، واللسان (جنف) (ولي). قوله: هم المولى: أي هم
أبناء عمنا، أقام المفرد مقام الجمع، أراد الموالي. وان جنفوا: وان جاروا ومالوا عن الحق.
والزور: جمع أزور، وهو الغضب والانحراف. يقول: هم أبناء عمنا وان مالوا عن الحق وانا
لنكره لقاءهم.
112

ولا يحصل جنف، ولا ظلم، ويكون قوله " فأصلح بينهم " يريد فيما يخاف من
حدوث الخلاف فيه - فيما بعد - ويكون قوله " فمن خاف " على ظاهره، فيكون
مترقبا غير واقع. وهذا قريب أيضا، غير أن الأول أصوب، لان عليه أكثر المفسرين،
وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وإنما قيل للمتوسط بالاصلاح ليس
عليه إثم ولم يقل فله الاجر على الاصلاح، لان المتوسط إنما يجري أمره في الغالب
على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه، فاحتاج إلى أن يبين الله لنا
أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الاصلاح. والذي اقتضى قوله " غفور رحيم "
انه إذا كان يغفر المعصية، فإنه لا يجوز أن يؤاخذ بما ليس بمعصية مما بين أنه
لا إثم عليه.
والضمير في قوله " بينهم " عائد على معلوم بالدلالة عليه عند ذكر الوصي،
والاصلاح، لأنه قد دل على الموصى لهم ومن ينازعهم وأنشد الفراء - في مثل
" فأصلح بينهم ":
أعمى إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما * سمعي وما بي غيره وقر (1)
أراد بينهما وبين زوجها، وإنما ذكرها وحدها، وأنشد أيضا:
وما أدري إدا يممت وجها * أريد الخير أيهما يليني
هل الخير الذي أنا أبتغيه * أم الشر الذي لا يأتليني (2)
فكنى في البيت الأول عن الشر، وإنما ذكر الخير وحده. وقيل: بل يعود

(1) أمالي الشريف المرتضى 1: 34، 123. أعمى: أي أغض بصري. والضمير في
بينهما عائد على الزوج والزوجة. يقول لا أنظر إلى جارتي الا وهي مسترة ولا أبوح بسرها مع
زوجها وكل ما أسمعه منهما فأجعل نفسي كأني لم أسمعه.
(2) لم أجد هذين البيتين فيما حضرني من المصادر. في المطبوعة " هل " ساقطة.
" أنهما " بدل " أيهما ".
113

على مذكور، هم الوالدان والأقربون.
والضمير في قوله " فلا إثم عليه " عائد على الوصي - في قول الحسن -
ويجوز أن يعود على المصلح المذكور في (من).
وقوله تعالى: " جنفا " وإنما يريد بالجنف: الميل عن الحق عن جهة الخطأ،
لأنه لا يدري أنه لا يجوز، والاثم: أن يتعمد ذلك، وهو معنى قول ابن عباس،
والحسن، والضحاك، والسدي. وروي ذلك عن أبي جعفر. والجنف في الوصية:
أن يوصي الرجل لابن ابنته، وله أولاد. أو يوصي لزوج بنته، وله أولاد، فلا
يجوز رده على وجه عندنا. وخالف فيه ابن طاووس، وكذلك إن وصى للبعيد
دون القريب لا ترد وصيته. وخالف فيه الحسن.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين
من قبلكم لعلكم تهتدون (183) آية بلا خلاف.
هذه الآية ظاهرها يتوجه إلى من كان على ظاهر الايمان. فأما الكافر، فلا
يعلم بهذا الظاهر أنه مخاطب بالصيام. وقوله " كتب " معناه فرض على ما بيناه
فميا مضى.
اللغة:
والصيام، والصوم: مصدر صام يصوم صوما قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة *؟ العجاج وخيل تعلك اللجما (1)
وقال صاحب العين: الصوم، والصمت واحد كقوله تعالى " إني نذرت للرحمن
صوما " أي صمتا. والصوم قيام بلا عمل صام الفرس على أريه: إذا لم يعلف.

(1) ديوانه: 106 " ملحق "، واللسان " صوم "، "؟ " وهو من قصيدته
الشهيرة التي أولها:
بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما
114

وصامت الريح: إذا ركدت. وصامت الشمس: حين تستوي في منتصف النهار.
وصامت الفرس: موقفه. والصوم ذرق النعام. والصوم: شجر. وأصل الباب:
الامساك، فالصوم: الصمت، لأنه إمساك عن الكلام.
المعنى:
والصوم في الشرع هو الامساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص ممن
هو على صفات مخصوصة في زمان مخصوص. ومن شرط انعقاده النية.
وقوله " كما كتب على الذين من قبلكم " قيل فيه ثلاثة أقوال. أحسنها:
انه كتب عليكم صيام أيام، كما كتب عليهم صيام أيام. وهو اختيار الجبائي، وغيره،
ويكون الصيام رفعا، لأنه ما لم يسم فاعله، ويكون موضع (كما) نصب على المصدر.
والمعنى فرض عليكم فرضا كالذي فرض على الذين من قبلكم. ويحتمل أن
يكون نصبا على الحال من الصيام. وتقديره كتب عليكم مفروضا أي في هذه الحال.
والثاني - ما قاله الشعبي، والحسن: انه فرض علينا شهر رمضان كما فرض شهر
رمضان على النصارى. وإنما زادوا فيه وحولوه إلى زمان الربيع.
والثالث - ما قاله الربيع، والسدي: إنه كان الصوم من العتمة إلى العتمة
لا يحل بعد النوم مأكل، ولا مشرب، ولا منكح، ثم نسخ. والأول هو المعتمد.
وقال مجاهد. وقتادة: المعني بالذين من قبلكم أهل الكتاب.
وقوله " لعلكم تهتدون " أي لعلكم تتقون المعاصي بفعل الصوم - في قول
الجبائي - وقال السدي: لتتقوا ما حرم عليكم من المأكل والمشرب. وقالت فرقة:
معناه لتكونوا أتقياء بما لطف لكم في الصيام، لأنه لو لم بلطف به لم تكونوا أتقياء.
وإنما قلنا: الأول هم المعتمد، لأنه يصح ذلك في اللغة، إذا كان فرض عليهم
صيام أيام كما علينا صيام أيام وإن اختلف ذلك بالزيادة والنقصان.
قوله تعالى:
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة
من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن
115

تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم
تعلمون (184) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن عامر، ونافع " فدية طعام مساكين " على إضافة الفدية وجمع
المساكين. الباقون " فدية "؟ " طعام مسكين " على التوحيد. والقراءتان
متقاربتا المعنى، لان المعنى لكل يوم يفطر طعام مسكين. والقراءتان يفيدان ذلك.
الاعراب:
قوله تعالى: " أياما معدودات " منصوب بأحد شيئين: أحدهما - على الظرف،
كأنه قيل: الصيام في أيام معدودات. وهو الذي اختاره الزجاج. الثاني - أن
يكون قد عدي الصيام إليه كقولك: اليوم صمته. وقال الفراء: هو مفعول ما لم
يسمى فاعله كقولك: أعطي زيد المال. وخالفه الزجاج، قال، لأنه لا يجوز رفع
الأيام، كما لا يجوز رفع المال. وإذا كان المفروض في الحقيقة هو الصيام دون
الأيام، فلا يجوز ما قاله الفراء إلا على سعة في الكلام.
وقال عطا، وقتادة: الأيام المعدودات كانت ثلاثة أيام من كل شهر، ثم
نسخ. وكذلك روي عن ابن عباس. وقال ابن أبي ليلى: المعني به شهر رمضان
وإنما كان صيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا.
وقوله تعالى: " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ارتفع
عدة على الابتداء، وتقديره فعليه عدة من أيام أخر. وروي عن أبي جعفر (ع)
أن شهر رمضان كان صومه واجبا على نبي دون أمته. وإنما أوجب على أمة نبينا
محمد صلى الله عليه وآله فحسب. وإنما قال " أخر " ولا يوصف بهذا الوصف إلا جمع المؤنث
التي كل واحدة أنثى - والأيام جمع يوم وهو مذكر - حملا له على لفظ الجمع، لان
الجمع يؤنث كما يقال جاءت الأيام ومضت الأيام. و " أخر " لا يصرف، لأنه
116

معدول عن الألف واللام، لان نظائرها من الصغر والكبر لا يستعمل إلا بالألف
واللام، لا يجوز نسوة صغر، ويجوز في العربية " فعدة " على معنى، فليعد عدة
من أيام أخر بدلا مما افطر.
المعنى:
وهذه الآية فيها دلالة على أن المسافر، والمريض يجب عليهما الافطار، لأنه
تعالى أوجب عليهما القضاء مطلقا، وكل من أوجب القضاء بنفس السفر والمرض أوجب
الافطار وداود أوجب القضاء، وخير في الافطار، فان قدروا في الآية فأفطر،
كان ذلك خلاف الآية، وبوجوب الافطار في السفر قال عمر بن الخطاب، وعبد الله
ابن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وأو هريرة، وعروة ابن
الزبير، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وروى سعيد بن جبير عن قتادة عن
جابر بن زيد عن ابن عباس: قال: الافطار في السفر عزيمة. وروى يوسف ابن
الحكم، قال: سألت ابن عمر عن الصوم في السفر قال: أرأيت لو تصدقت على
رجل بصدقة فردها عليك ألا تغضب، فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم، وروى
عبد الملك بن حميد قال قال أبو جعفر: كان أبي لا يصوم في السفر وينهى عنه،
وروي عن عمر، أن رجلا صام في السفر، فأمره أن يعيد صومه، وروى عطا عن
المحرز بن أبي هريرة قال: كنت مع أبي في سفر في شهر رمضان، فكنت أصوم
ويفطر، فقال أبي أما أنك إذا أقمت قضيت، وروى عاصم مولى قومه: أن رجلا
صام في السفر فأمره عروة أن يقضي، وروى الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
ابن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. وروي
عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وآله قدم المدينة، فكان يصوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل
شهر ثم نسخ ذلك بشهر رمضان في قوله: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام "
واختار الطبري هذا الوجه قال، لأنه لم ينقطع العذر برواية صحيحة أنه كان هاهنا
صوم متعبد به فنسخه الله بشهر رمضان.
117

اللغة:
وأصل السفر الكشف تقول: سفر يسفر سفرا: إذا كشف. وأسفر لونه
إسفارا، وانسفرت الإبل: إذا انكشفت داهية انسفارا. وسافر سفرا، وسفرت
الريح السحاب إذا قشعته قال العجاج:
سفر الشمال الزبرج المزبررجا (1)
الزبرج السحاب الرقيق، ومنه السفر، لأنه يظهر به ما لم يكن ظهر، وينكشف
به ما لم يكن انكشف، والسفرة طعام السفر، وبه سميت الجلدة التي يحمل فيها الطعام
سفرة، والمسفرة: المكنسة، والسفير الداخل بين اثنين للصلح، والسفير: ورق
الشجر إذا سقط، وسفر فلان شعره إذا استأصله عن رأسه، ومنه قوله تعالى:
" وجوه يومئذ مسفرة " (2) أي مشر؟ مضيئة " والصبح إذا أسفر " (3)
إذا أضاء. والاسفار جمع سفر " بأيدي سفرة " (4) أي كتبة.
وقوله تعالى: " وعلى الذين يطيقونه " يقال: طاق يطوق طوقا وطاقة وهي
القوة، وأطاقه إطاقة أيضا إذا قوي عليه، وطوقه تطويقا: ألبسه الطوق، وهو
معروف من ذهب كان أو فضة كأنه يكسيه قوة بما يعطيه من الجلالة، وكل شئ
استدار فهو طوق، كطوق الرحا الذي يدير القطب مشبه بالطوق المعروف في الصورة،
وتطوقت الحية على عنقها: أي صارت كالطوق فيه، والطاقة: شعبة من ريحان أو
شعر ونحو ذلك، والطاق: عقد البناء حيث ما كان، والجمع الأطواق، وذلك
لقوته. وطوقه الامر إذا جعله كالطوق في عنقه.
المعنى:
قال الحسن وأكثر أهل التأويل: إن هذا الحكم كان في المراضع، والحوامل، والشيخ

(1) اللسان (سفر)، (زبرج). سفر: كشف. الشمال: ريح الشمال.
الزبرج - بكسر الزاء وسكون الباء وكسر الراء -: السحاب الرقيق فيه حمرة، وقيل: النمر
بسواد وحمرة في وجهه. وقيل: هو الخفيف الأحمر.
(2) سورة عبس آية: 38.
(3) سورة المدثر آية: 34.
(4) سورة عبس آية 15.
118

الكبير، فنسخ من الآية المراضع، والحوامل وبقى الشيخ الكبير. وقال أبو عبد الله
(ع) ذلك في الشيخ الكبير يطعم لكل يوم مسكينا. منهم من قال: نصف صاع
وهم أهل العراق. وقال الشافعي: مد عن كل يوم. وعندنا إن كان قادرا فمدان،
وإن لم يقدر إلا على مد أجراه. وقال السدي: لم ينسخ، وإنما المعنى وعلى الذين
كانوا يطيقونه.
وقوله تعالى: " فمن تطوع خيرا " يعني أطعم أكثر من مسكين في قول ابن
عباس، وعمل برا في جميع الدين في قول الحسن، وهو أعم فائدة. ومنهم من قال:
من جمع بين الصوم، والصدقة ذهب إليه ابن شهاب: والهاء في قوله يطيقونه - عند
أكثر أهل العلم - عائدة على الصوم، وهو الأقوى، وقال قوم: عائدة على الفداء،
لأنه معلوم وإن لم يجر له ذكر. والمعني بقوله " الذين يطيقونه " قيل فيه ثلاثة
أقوال:
أولها - أنه سائر الناس من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى لكل يوم
إطعام مسكين حتى نسخ ذلك - في قول ابن عباس، والشعبي.
الثاني - قال الحسن وعطا: إنه في الحامل، والمرضع، والشيخ الكبير، فنسخ
من الآية الحامل، والمرضع، وبقى الشيخ الكبير. وقال السدي: إنه فيمن كان
يطيقه إذا صار إلى حال العجز عنه. " ومن " في قوله: " فمن تطوع " الظاهر،
والأليق أنها للجزاء. ويحتمل أن تكون بمعنى الذي. وما روي في الشواذ من
قراءة من قرأ " يطوقونه " قيل فيه قولان:
أحدهما - يكلفونه على مشقة فيه، وهم لا يطيقونه لصعوبته.
الثاني - أن يكون معناه يلزمونه، وهم الذين يطيقونه، فيؤول إلى معنى
واحد. ومن قرأ " فدية طام مساكين " على إضافة الفدية، وجمع المساكين: عن
ابن عامر ونافع، فان معنى قراءته تؤول إلى قراءة من ينون " فدية طعام مسكين "،
119

لان المعنى: لكل يوم يفطر طعام مسكين. والأول يفيد هذا أيضا، لأنه إذا قيل:
إطعام مساكين للأيام بمعنى لكل يوم مسكين، صار المعنى واحدا.
وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: إن القدرة مع الفعل، لأنه لو كانت
الاستطاعة مع الفعل الذي هو الصيام، لسقطت عنه الفدية - لان إذا صام لم يجب
عليه فدية.
وقوله: " وإن تصوموا خير لكم " رفع (خير)، لأنه خبر المبتدأ.
وتقديره وصومكم خير لكم، كأن هذا مع جواز الفدية، فأما بعد النسخ، فلا يجوز
أن يقال: الصوم خير من الفدية مع أن الافطار لا يجوز أصلا.
قوله تعالى:
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس
وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه
ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على
ما هداكم ولعلكم تشكرون (185) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
يقرأ أبو بكر عن عاصم " ولتكملوا " بتشديد الميم. الباقون بتخفيفها. قال
أبو العباس: أكملت وكملت بمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة. ومن قرأ
بالتخفيف فلقوله " اليوم أكملت لكم دينكم " (1).
اللغة:
الشهر: معروف، وجمعه: الأشهر. والشهور والشهرة: ظهور الامر في

(1) سورة المائدة آية: 4.
120

شنعة. وشهرت الحديث أظهرته. وشهر فلان سيفه: إذا انتضاه. والمشهر: الذي
أتى عليه شهر. وأشهرت المرأة: إذا دخلت في شهر ولادتها. وأتان شهيرة: أي
عريضة ضخمة. والمشاهرة: المعاملة شهرا بشهر. وسمى الشهر شهرا، لاشتهاره
بالهلال. فأصل الباب الظهور.
وقال ابن دريد: الرمض: شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، والأرض
رمضاء. ورمض يومنا رمضا: إذا اشتد حره. ورمضان من هذا اشتقاقه، لأنهم
سموا الشهور بالأزمنة التي فيها، فوافق رمضان أيام رمض الحر، وقد جمعوا رمضان،
رمضانات. قال صاحب العين: والرمض حرقة غيظ تقول: أرمضني هذا الامر،
ورمضت له. والرمض: مطر يكون قبل الخريف. وأصل الباب شدة الحر.
الاعراب:
وشهر رمضان رفع لاحد ثلاثة أشياء:
أولها - أن يكون خبر ابتداء محذوف يدل عليه " أياما معدودات " وتقديره
هي شهر رمضان.
الثاني - على ما لم يسم فاعله، ويكون بدلا من الصيام، وتقديره " كتب
عليكم الصيام " " شهر رمضان ".
الثالث - أن يكون مبتدأ وخبره " الذي أنزل فيه القرآن " ويجوز في العربية
شهر رمضان بالنصب من وجهين: أحدهما - صوموا شهر رمضان. والاخر - على
البدل من أيام.
المعنى:
وقوله " أنزل فيه القرآن " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن: إن الله تعالى أنزل
جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك
121

نجوما. وهو المروي عن أبي عبد الله (ع).
والثاني - أنه ابتداء إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان. فان قيل كيف
يجوز انزاله كله في ليلة، وفيه الاخبار عما كان، ولا يصلح ذلك قبل أن يكون؟
قلنا: يجوز ذلك في مثل قوله: " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة " (1) وقوله:
" لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم
شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين " (2) على إذا كان وقت
كذا أنزل " لقد نصركم الله " كما قال تعالى " ونادى أصحاب الجنة " (3) أي
إذا كان يوم القيامة " نادى أصحاب الجنة أصحاب النار ".
الاعراب:
وقوله تعالى: " هدى للناس " موضعه نصب على الحال، كأنه قال: أنزل
فيه القرآن هاديا للناس. ولا يحتمل سواه، لقوله " وبينات من الهدى ".
اللغة:
والقرآن إشتقاقه قرأ يقرأ قراءة، وأقرأه إقراء وقال صاحب العين: رجل
قارئ: أي عابد ناسك، وفعله التقري والقراءة، وأقرأت المرأة: إذا حاضت.
وقرأت؟: إذا حملت. والقرأ: الحيض، وقد جاء بمعنى الطهر. وأصل الباب
الجمع، لقولهم. ما قرأت الناقة سلا قط: أي ما جمعت رحمها على سلا قط. وفلان
قرأ، لأنه جمع الحروف بعضها إلى بعض. والقرء الحيض، لاجتماع الدم في ذلك
الوقت. والفرقان: هو الذي يفرق بين الحق، والباطل. والمراد به القرآن هاهنا.
المعنى:
وقوله: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " قيل في معناه قولان:

(1) سورة آل عمران: 123 " 2. " سورة التوبة آية: 26.
(3) سورة الأعراف آية: 43.
122

أحدهما - من شاهد منكم الشهر مقيما. والثاني - من شهده بان حضره، ولم
يغب، لأنه يقال: شاهد: بمعنى حاضر وشاهد: بمعنى مشاهد. وروي عن ابن
عباس، وعبيدة السلماني، ومجاهد: وجماعة من المفسرين، ورووه عن علي (ع)
أنهم قالوا: من شهد الشر بأن دخل عليه الشهر، كره له أن يسافر حتى يمضي ثلاث
وعشرون من الشهر إلا أن يكون واجبا كالحج، أو تطوعا كالزيادة، فإن لم يفعل،
وخرج قبل ذلك كان عليه الافطار، ولم يجزه الصوم.
وقوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ناسخ الفدية - على قول من
قال بالتخيير - وناسخ للفدية أيضا في المراضع والحوامل - عند من ذهب إليه - وبقي
الشيخ الكبير، له أن يطعم، ولم ينسخ. وعندنا أن المرضعة والحامل إذا خافا على
ولدهما أفطرتا وكفرتا، وكان عليهما القضاء فيما بعد إذا زال العذر. وبه قال جماعة
من المفسرين، كالطبري وغيره.
وقوله: " ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " قد بينا أنه
يدل على وجوب الافطار - في السفر -. لأنه أوجب القضاء بنفس السفر، والمرض.
وكل من قال ذلك أوجب الافطار. ومن قدر في الآية أو على سفر فأفطر فعدة من
أيام أخر، زاد في الظاهر ما ليس فيه. فان قيل: هذا كقوله " فمن كان منكم
مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام " (1) ومعناه فحلق. قلنا: إنما قدرنا
هناك فحلق للاجماع على ذلك، وليس هاهنا إجماع، فيجب أن لا يترك الظاهر،
ولا يزاد فيه ما ليس فيه.
اللغة:
وقوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر " قال صاحب العين: الإرادة: أصلها
الواو، لأنك تقول: راودته على أن يفعل كذا وكذا، مراودة. ومنه راد،
يرود، روادا، فهو رايد بمعنى الطالب شيئا. ويقال أرود فلان إروادا: إذا رفق

(1) سورة البقرة آية: 19
123

في مشي أو غيره. ومنه رويدا فلانا: أي أمهله يتفسح منصرفا. ومنه ارتاد ارتيادا
كقولك: طلب طلبا، والرود: الميل. وفي المثل (الرائد لا يكذب أهله) أي
الطالب صلاحهم لا يكذبهم، لأنه لو كذبهم غشهم. وأصل الباب الطلب. والإرادة
بمنزلة الطلب للمراد، لأنها كالسبب له.
واليسر ضد العسر. يقال: أيسر إيسارا، ويسره تيسيرا، وتيسر تيسرا،
وتياسر تياسرا، واستيسر استيسارا. واليسار: اليد اليسرى. واليسار: الغنى،
والسعة. واليسر: الجماعة الذين يجتمعون على الجزور في الميسر، والجمع: الأيسار.
وفرس حسن التيسور: إذا كان حسن السمن (1). وأصل الباب السهولة.
والعسر ضد اليسر. وعسر الشئ عسرا. ورجل عسر بين العسر. ورجل
أعسر: يعمل بشماله. وأعسر الرجل إعسارا: إذا افتقر. والعسير الناقة التي اعتاصت
فلم تحمل من سنتها. وبعير عسران إذا ركب قبل أن يراض. وأصل الباب الصعوبة.
وقوله تعالى: " ولتكملوا العدة " يقال: كمل يكمل كمالا، وأكمل إكمالا،
وتكامل تكاملا، وكمله تكميلا، واستكمل استكمالا، وتكمل تكملا. أصل الباب
الكمال، وهو التمام.
الاعراب:
وعطف باللام في قوله تعالى: " ولتكملوا العدة " على أحد أمرين:
أحدهما - عطف جملة على جملة، لان بعده محذوفا، كأنه قال: ولتكملوا العدة
شرع ذلك أو أريد. ومثله قوله تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض وليكون من الموقنين " (2) أي أريناه. هذا قول الفراء.
الثاني - أن يكون عطفا على تأويل محذوف دل عليه ما تقدم من الكلام،
لأنه لما قال: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " دل على أنه فعل ذلك
ليسهل عليكم، فجاز " ولتكملوا العدة " عطفا عليه. قال الشاعر:

(1) حسن ساقطة من المطبوعة، والسمن - بكسر السين وفتح الميم.
(2) سورة الأنعام آية: 75.
124

يا رب غير آيهن مع البلى * إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج أما سواء قذاله * فبدوا وغيب ساره المعزاء (1)
فعطف على تأويل الكلام الأول كأنه قال: بها رواكد، ومشجج. وهذا
قول الزجاج وهو الأجود، لان العطف يعتمد على ما قبله، لاعلى ما بعده. وعطف
الظرف على الاسم في قوله " ومن كان مريضا أو على سفر " جائز، لأنه معنى
الاسم، وتقديره أو مسافرا، ومثله قوله: " دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " كأنه
قال مضطجعا أو قائما أو قاعدا.
المعنى:
واليسر المذكور في الآية: الافطار في السفر - في قول ابن عباس، ومجاهد،
وقتادة، والضحاك.
والعسر: الصوم فيه وفي المرض. والعدة: المأمور باكمالها، والمراد بها: أيام
السفر، والمرض الذي أمر بالافطار فيها. وقال الضحاك، وابن زيد: عدة
ما أفطروا فيه.
وقوله " ولتكبروا الله " المراد به تكبير ليلة الفطر عقيب أربع صلوات:
المغرب، والعشاء الآخرة، وصلاة الغداة، وصلاة العيد - على مذهبنا -. وقال ابن
عباس، وزيد بن أسلم، وسفيان، وابن زيد: التكبير يوم الفطر.
وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة من ثلاثة أوجه:
أحدها - قوله " هدى للناس " فعم بذلك كل إنسان مكلف، وهم يقولون
ليس يهدى الكفار.

(1) اللسان (شجج) ذكر البيت الثاني فقط. غير: بدل. آيهن جمع آية وهي العلامة.
والرواكد هي حجارة توضع تحت القدر. مشجج: مضروب. تذال: مجمع عظم الرأس بدا
ظهر وبان. ساره: جميعه. المعزاء: الأرض الصلبة ذات الحجارة. يقول رب لا تترك
لهن علامة، وافنهن جميعا سوى حجارة الموتد، ومكسرات الرأس، واجعل أرضهن صلبة وفيها
حجارة قد رماها العدو حتى غطت عليهن جميعا.
125

الثاني - قوله تعالى " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " والمجبرة
تقول: قد أراد تكليف العبد مالا يطيق مما لم يعطه عليه قدرة، ولا يعطيه، ولا
عسر أعسر من ذلك.
الثالث - لو أن إنسانا حمل نفسه على المشقة الشديدة التي يخاف معها التلف
في الصوم لمرض شديد لكان عاصيا، ولكان قد حمل نفسه على العسر الذي أخبر الله
أنه لا يريده بالعبد. والمجبرة تزعم أن كلما يكون من العبد من كفر أو عسر أو غير
ذلك من أنواع الفعل يريده الله.
مسائل من أحكام الصوم
يجوز قضاء شهر رمضان متتابعا، ومتفرقا، فالتتابع أفضل. وبه قال مالك،
والشافعي. وقال أهل العراق: هو مخير. ومن أفطر في شهر رمضان متعمدا بالجماع
في الفرج لزمه القضاء، والكفارة - عندنا - والكفارة: عتق رقبة، فإن لم يجد
فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا. وبه قال أبو حنيفة،
والشافعي. وقال مالك هو بالخيار. وفي أصحابنا من قال بذلك. والاطعام لكل
مسكين نصف صاع - عندنا - وبه قال أبو حنيفة، فإن لم يقدر فمد. وبه قال
الشافعي، ولم يعتبر العجز. فان جامع ناسيا، فلا شئ عليه. وقال مالك: عليه
القضاء. ومن أكل متعمدا أو شرب في نهار شهر رمضان لزمه القضاء، والكفارة
- عندنا - وهو قول أبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا كفارة عليه، وعليه
القضاء. والناسي لا شئ عليه - عندنا - وعند أهل العراق، والشافعي. وقال مالك
عليه القضاء. ومن أصبح جنبا متعمدا من غير ضرورة لزمه - عندنا - القضاء
والكفارة. وقال ابن حي عليه القضاء استحبابا. وقال جميع الفقهاء لا شئ عليه.
ومن ذرعه القئ، فلا شئ عليه، فان تعمده كان عليه القضاء. وبه قال أبو حنيفة
والشافعي ومالك. وقال الأوزاعي: إن غلبه، فعليه القضاء بلا كفارة. وإن
126

استدعاه فعليه القضاء، والكفارة. ومن أكل حصى أو نوى متعمدا فعليه القضاء،
والكفارة. وبه قال مالك والأوزاعي: وقال أهل العراق. عليه القضاء بلا كفارة.
وقال ابن حي لا قضاء ولا كفارة.
وإذا احتلم الصبي يوم النصف من شهر رمضان صام ما بقي، ولا قضاء عليه
فيما مضى، ويمسك بقية يومه تأديبا، فان أفطر فيه فلا قضاء عليه. وبه قال أهل
العراق. وقال مالك: أحب إلي أن يقضي ذلك اليوم، وليس بواجب. وقال
الأوزاعي: يصوم ما بقي، ويقضى ما مضى منه.
وحكم الكافر إذا أسلم حكم الصبي إذا احتلم في جميع ذلك. والمجنون، والمغمى
عليه في الشهر كله لا؟ عليه - عندنا - بدلالة قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر
، فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " وإنما أراد من شهد الشهر
وهو ممن يتوجه إليه الخطاب، والمجنون والمغمى عليه ليس بعاقل يتناوله الخطاب.
وقوله " ومن كان مريضا أو على سفر " المراد به إذا كان مريضا عاقلا، يشق عليه
الصوم، أو يخاف على نفسه منه، فيلزمه " عدة من أيام أخر ". وقال أهل العراق:
إن لم يفق المجنون في جميع الشهر، فلا قضاء عليه، وان أفاق في بعضه فعليه قضاؤه كله.
وأما المعنى عليه في الشهر كله، فعليه قضاؤه، لأنه بمنزلة المريض. وقال
حسن بن صالح، ومالك: المجنون، والمغمى عليه سواء، عليه قضاء الشهر كله إن
جن في الشهر كله، وأغمي عليه فيه. وقال الأوزاعي: المجنون، والمغمى عليه
سواء، لا قضاء على واحد منهما ما مضى من الشهر، ويقضى ما بقي منه، فان أفاق
بعد ما خرج الشهر كله فلا قضاء عليه. وهذا مثل ما قلناه. وقال الشافعي: يقضى
المغمى عليه، ولا يقضى المجنون.
والحامل، والمرضع، والشيخ الكبير إذا أفطروا، قال أهل العراق: في
الحامل، والمرضع، يخافان على ولدهما: يفطران، ويقضيان يوما مكانه، ولا صدقة
عليهما، ولا كفارة، وبه قال قوم من أصحابنا. وقال مالك الحامل تقضي، ولا
تطعم والمرضع: تقضي، وتطعم لكل يوم مدا. وقال الشافعي في رواية المزني:
127

عليهما القضاء في الوجهين، وتطعم لكل يوم مدا، وهو مذهبنا، والمعمول عليه.
وفي رواية البزنطي عن الشافعي مثل قول مالك. والشيخ الكبير الذي لا يطيق
الصوم يفطر ويتصدق مكان كل يوم نصف صاع في قول أهل العراق، وهو مذهبنا.
وقال الشافعي: مد لكل يوم. وقال مالك: يفطر ولا صدقة عليه. والسفر الذي
يوجب الافطار: ما كان سفرا حسنا، وكان مقداره ثمانية فراسخ: أربعة وعشرين
ميلا. وعند الشافعي: ستة عشر فرسخا. وعند أبي حنيفة: أربعة وعشرون فرسخا.
وقال داود: قليله، وكثيرة يوجب الافطار. والمرض الذي يوجب الافطار:
ما يخاف معه التلف أو الزيادة المفرطة في مرضه. وروي أنه كل مرض لا يقدر معه
على القيام مقدار صلاته، وبه قال الحسن، وعبيدة السلماني. في ذلك خلاف بين
الفقهاء ذكرناه في الخلاف.
ومن قال: إن قوله تعالى: " ولتكملوا العدة " يدل على أن شهر رمضان
لا ينقص أبدا، فقد أبعد من وجهين:
(الأول)، لان قوله " ولتكملوا العدة " معناه ولتكملوا عدة الشهر سواء
كان الشهر تاما أو ناقصا.
والثاني - أن ذلك راجع إلى القضاء، لأنه قال عقيب ذكر السفر، والمرض:
" فعدة من أيام أخر يريد الله بكم السير ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة " يعنى
عدة ما فاته، وهذا بين.
قوله تعالى:
وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا
دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186) آية
بلا خلاف.
128

النزول:
روي عن الحسن: أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وآله أقريب ربنا فتناجيه أم بعيد
فتناديه، فنزلت الآية. قال قتادة: نزلت جوابا لقوم سألوا النبي صلى الله عليه وآله كيف
تدعو.
المعنى:
وقوله تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب " معناه: إن اقتضت
المصلحة إجابته، وحسن ذلك، ولم تكن فيه مفسدة (1). فأما أن يكون قطعا
لكل من يسأل فلابد أن يجيبه. فلا. على أن الداعي لا يحسن منه السؤال إلا بشرط
ألا يكون في إجابته مفسدة، لا له، ولا لغيره، وإلا كان الدعاء قبيحا. ولا
يجوز أن يقيد الإجابة بالمشيئة بأن يقول: إن شئت، لأنه يصير الوعد به لا فائدة
فيه، فمن أجاز ذلك فقد أخطأ. فان قيل: إذا كان لا يجيب كل من دعا، فما معنى
الآية؟ قلنا معناه أن من دعا - على شرائط الحكمة التي قدمناها، واقتضت المصلحة
إجابته - أجيب لا محالة، بان يقول: اللهم إفعل بي كذا إن لم يكن فيه مفسدة لي
أو لغيري في الدين (2) أو دنيوي. هذا في دعائه.
وفي الناس من قال: إن الله وعد بإجابة الدعاء منه عند مسألة المؤمنين دون الكفار،
والفاسقين. والمعتمد هو الأول. فان قيل: إذا كان ما تقتضيه الحكمة لابد أن
يفعل به، فلا معنى للدعاء! قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أن ذلك عبادة كسائر العبادات. ومثله قوله: " رب احكم بالحق ".
والثاني - انه لا يمتنع أن تقتضي المصلحة إجابته إذا دعا. ومتى لم يدع لم
تقتض الحكمة إجابته.
فان قيل: هل يجوز أن تكون الإجابة غير ثواب؟ قلنا فيه خلاف. قال

(1) في المطبوعة " فئة "
(2) هكذا في المطبوعة والأولى أن يكون " في أمر ديني ".
129

أبو علي لا يكون إلا ثوابا، لان من أجابه الله، يستحق المدح في دين المسلمين،
فلا يجوز أن يجيب كافرا، ولا فاسقا. وكان أبو بكر بن الاخشاد يخبر ذلك في
العقل على وجه الاستصلاح له. وهذا الوجه أقرب إلى الصواب.
والدعاء: طلب الطالب للفعل من غيره. ويكون الدعاء لله على وجهين:
أحدهما - طلب في مخرج اللفظ، والمعنى على التعظيم والمدح، والتوحيد:
كقولك: يا الله لا إله إلا أنت، وقولك: ربنا لك الحمد.
الثاني - الطلب لأجل الغفران أو عاجل الانعام كقولك: اللهم اغفر لي
وارحمني، وارزقني، وما أشبه ذلك.
وقوله: " فاني قريب " قيل في معناه قولان:
أحدهما - إني قريب الإجابة: سريع الإجابة، فجاز ذلك لمشاكلة معنى قريب
لسريع.
الثاني - قريب -، لأنه يسمع دعاءهم كما يسمعه القريب المسافة منهم، فجاز
لفظة قريب، فحسن البيان بها. فأما قريب المسافة، فلا يجوز عليه تعالى، لأنه من
صفات المحدثات.
اللغة:
وقوله " أجيب دعوة الداعي إذا دعاني " فالإجابة من الجواب، وهو القطع.
يقال: جاب البلاد يجوب جوبا إذا قطع. ومنه قوله تعالى: " وثمود الذين جابوا
الصخر بالواد " (1) أي قطعوه. وأجاب الله دعاءه إجابة، وأجاب فلان عن
السؤال جوابا. وأجاب الظلام إذا قطعه. واستجاب له استجابة. وجاوبه مجاوبة،
وتجاوب تجاوبا، وانجاب السحاب: إذا انقشع. وأصل الباب القطع، فإجابة السائل:
القطع مما سأل، لان سؤاله على الوقف أيكون أم لا يكون.

(1) سورة الفجر آية: 9.
130

الاعراب:
وقوله تعالى " فليستجيبوا لي " هذه لام الامر، لابد منها للغائب. وأما
للحاضر (1)، فيجوز فيه إثباتها وإسقاطها. كقولك قم ولتقم. والأصل فيها
أن تكون مكسورة. ويجوز فيها السكون إذا اتصلت بحرف واحد كالفاء فأما ثم،
فالوجه معها الكسر، لأنها منفصلة. وإنما جاز فيها السكون دون لام كي، لأنه لما
كان عملها التسكين جاز فيها، لايذانه بعملها.
المعنى:
وقال أبو عبيدة: استجاب، وأجاب بمعنى واحد. وأنشد لكعب بن سعد
الغنوي:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب (2)
أي لم يجبه. وقال المبرد: هذا لا يجوز، لان في الاستجابة معنى الاذعان،
وليس ذلك في الإجابة. وقوله " لعلهم يرشدون " في لعل جوابان:
أحدهما - ليرشدوا، فتكون دالة على العوض في الإجابة، من الله تعالى للعبد.
الثاني - على الرجاء والطمع، لان يرشدوا، ويكون متعلقا بفعل العباد.
والرشد: نقيض الغي. يقال: رشد يرشد رشدا، ورشيد رشدا، وأرشده
إرشادا واسترشد استرشادا، وهو لرشدة خلاف لزنية. وأصل الباب إصابة الخير،
فمنه الارشاد: الدلالة على وجه الإصابة للخير. وروى عن أبي عبد الله (ع) أنه قال:
" وليؤمنوا بي " أي وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوا.
قوله تعالى:
أحل لكم ليله الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس

(1) في المطبوعة " قلنا الحاضر " وهو تحريف.
(2) أمالي القالي 2: 151. والأصمعيات: 14، واللسان " جوب " وهو من قصيدة
؟ بها أخاه أبا المغوار.
131

لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم؟
عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن
وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك
يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
الرفث الجماع هاهنا بلا خلاف، وفي قراءة ابن مسعود " فلا رفوث "،
وقيل: أصله فاحش القول فكنى به عن الجماع قال العجاج:
عن اللغا ورفث التكلم (1)
والرفث والترفث: قول الفحش يقال رفث يرفث رفثا. وروى عن أبي جعفر
وأبي عبد الله (ع) كراهية الجماع في أول ليلة من كل شهر، إلا أول ليلة من شهر
رمضان لمكان الآية والآشبه أن يكون المراد بليلة الصيام ليالي الشهر كله. وإنما
ذكر بلفظ التوحيد، لأنه اسم جنس يدل على التكثير.
ومعنى قوله: " هن لباس لكم " أنهن يصرن بمنزلة اللباس، كما قال النابغة
الجعدي:

(1) ديوانه: 59 من رجز له طويل، حمد فيه الله ومجده بقوله:
فالحمد لله العلي الأعظم * ذي الجبروت والجلال الأفخم
إلى أن قال:
ورب أسراب حجيج كظم * عن اللغا ورفث التكلم
والاسراب: القطيع من القطا أو الظباء أو الشاء أو النساء. يقصد به الججاج. والكظم
بفتح الكاف والظاء - السكوت عن الكلام وحبس النفس في الصدر. الغا: ما لا يعتد به من
لكلام. رفث التكلم: عطف بيان على اللغا.
132

إذا ما الضجيع ثنى عطفه * تثنت عليه فكانت لباسا (1)
وقال قوم: معناه هن سكن لكم، كما قال: " وجعلنا الليل لباسا " (2)
أي سكنا. واللباس الثياب التي من شأنها أن تستر الأبدان، ويشبه بها الأغشية
فيقال لبس السيف بالحلية.
وقوله تعالى: " علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم " معناه أنهم كانوا لما حرم عليهم
الجماع في شهر رمضان بعد النوم. خالفوا في ذلك فذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي
نسخت تلك الفريضة. فان قيل: أليس الخيانة انتقاص الحق على جهة المساترة،
فكيف يساتر نفسه؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أن بعضهم كان يساتر بعضا فيه فصار كأنه يساتر نفسه، لان ضرر
النقص والمساترة داخل عليه.
الثاني - أنه يعمل عمل المساتر له فهو يعمل لنفسه عمل الخائن له.
ويقال: خانه يخونه خونا وخيانة، وخونه تخوينا، واختانه اختيانا، وتخونه
تخونا، والتخون: التنقص، والتخون: تغيير الحال إلى ما لا ينبغي " وخاينة
الأعين ": (3) مشارفة النظر إلي مالا يحل. وأصل الباب منع الحق.
وقوله تعالى: " فتاب عليكم " أي قبل توبتكم على ما بيناه فيما تقدم. وقوله
تعالى: " وعفا عنكم " فيه قولان:
أحدهما - غفر ذنبكم. الثاني - أزال تحريم ذلك عنكم، وذلك عفو عن تحريمه
عليهم. وقوله تعالى: " فالآن باشروهن " أي جامعوا هن، ومعناه الإباحة دون
الامر، والمباشرة إلصاق: البشرة بالبشرة، وهي ظاهر أحد الجلدين بالآخر.
وقوله تعالى: " وابتغوا ما كتب الله لكم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن، وغيره: يعني طلب الولد.

(1) الشعر والشعراء: 225، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 67. وتأويل مشكل القرآن:
107، وفي بعضها (تداعت) بدل (تثنت).
(2) سورة عم آية: 10.
(3) سورة المؤمن آية: 19.
133

الثاني - قال قتادة: يعني الحلال الذي بينه الله في الكتاب، والابتغاء:
الطلب للبغية، وقوله " وكلوا واشربوا " إباحة للاكل والشرب " حتى يتبين " أي
يظهر، والتبين: تميز الشئ الذي يظهر للنفس على التحقيق " الخيط الأبيض من
الخيط الأسود " يعني بياض الفجر من سواد الليل. وقيل: خيط الفجر الثاني مما
كان في موضعه من الظلام. وقيل النهار من الليل، فأول النهار طلوع الفجر الثاني
لأنه أوسع ضياء. قال أبو داوود (1).
فلما أضاءت لنا سدفة * ولاح من الصبح خيط أنارا (2)
وروي عن حذيفة، والأعمش، وجماعة. أن الخيط الأبيض: هو ضوء
الشمس، وجعلوا أول النهار طلوع الشمس، كما أن آخر غروبها بلا خلاف في الغروب.
وأكثر المفسرين على القول الأول، وعليه جميع الفقهاء، لا خلاف فيه بين
الأمة اليوم.
اللغة:
والخيط في اللغة معروف يقال خاط يخيط خياطة، فهو يخيط، وخيطه
تخييطا. والخيط: القطيع من النعام. ونعامة خيطاء: قيل: خيطها طول قصبتها،
وعنقها. وقيل: اختلاط سوادها ببياضها، وكلاهما يحتمل، فالأول، لأنه كالخيط
الممدود. والثاني - لأنه كاختلاط خيوط بيض بسود. والمخيط الإبرة. ونحوها
مما يخاط به. والأبيض نقيض الأسود. والبياض ضد السواد يقال: أبيض، وابياض
بيضاضا وبيضه تبييضا، وتبيض تبيضا. وبيضة الطير، وبيضة الحديد، وبيضة
الاسلام مجتمعه، وابتاضوهم أي استأصلوهم، لأنهم اقتلعوا بيضهم وأصل الباب البياض.
واسود، واسواد اسودادا، وسوده تسويدا، وتسود تسودا، وساوده

(1) هو أبو داود: الايادي.
(2) اللسان (خيط) والأصمعيات: 28 ورواية الأصمعيات (خير أنارا) في المطبوعة
(غدوة) بدل (سدفة؟ ومعناهما متقارب، لان السدفة: ظلمة الليل في لغة نجد، والضوء في لغة قيس.
وهي أيضا اختلاط ضوء والظلمة جميعا.
134

سوادا: أي ساده سوادا، لان الخفاء فيه كخفاء الشخص في سواد الليل. وسواد
العراق: سمي به لكثرة الماء، والشجر الذي تسود به الأرض. وسواد كل شئ
شخصه. والأسود من الحبة يجمع أساود. وسويداء القلب، وسوداوه دمه الذي
فيه في قول: ابن دريد. وقيل حبة القلب، لأنه في سواد من الظلمة. وساد
سؤددا، فهو سيد، لأنه ملك السواد الأعظم، والمسود: الذي قد ساده غيره.
المعنى:
وقوله " من الفجر " يحتمل معنيين:
أحدهما - أن يكون بمعنى التبعيض، لان المعنى من الفجر، وليس الفجر كله.
هذا قول ابن دريد.
الثاني - بمعنى تبين الخيط، كأنه قال: الخيط الذي هو الفجر.
وقوله: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " قد بينا حقيقة الصيام فيما مضى.
والليل هو بعد غروب الشمس، وعلامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من
جانب المشرق، وإقبال السواد منه، وإلا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في
الأرض المبسوطة وعدم الجبال، والروابي، فقد دخل الليل.
وقوله تعالى: " ولا تباشروهن " قيل في معناه قولان هاهنا:
قال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغيرهم: أراد به الجماع.
وقال ابن زيد، ومالك: أراد الجماع. كلما كان دونه من قبلة، غيرها.
وهو مذهبنا.
وقوله تعالى: " وأنتم عاكفون في المساجد " فالاعتكاف - عندنا - هو
؟ في أحد المساجد الأربعة: المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وآله أو مسجد
الكوفة أو مسجد البصر، للعبادة من غير اشتغال بما يجوز تركه من أمور الدنيا.
وله شرائط - ذكرناها في كتب الفقه - وأصله اللزوم. قال الطرماح:
135

فبات بنات الليل حولي عكفا * عكوف البواكي بينهن صريع (1)
وقال الفرزدق:
ترى حولهن المعتفين كأنهم * على صنم في الجاهلية عكف (2)
اللغة:
وقوله تعالى: " تلك حدود الله ". فالحد على وجوه:
أحدها - المنع، يقال: حده عن كذا حدا أي منعه. والحد حد الدار.
والحد الفرض من حدود الله أي فرائضه، الحد الجلد للزاني، وغيره. والحد: حد
السيف، وما أشبهه. والحد في الحلق: الحدة. والحد: الفرق بين الشيئين. والحد
منتهى الشئ. وحد الشراب: صلابته. وإحداد المرأة على زوجها: امتناعها من
الزينة والطيب. وإحداد السيف: إشحاذه. وإحداد النظر إلى الشئ التحديق
إليه. والحديد معروف، وصانعه الحداد. والحداد السجان. والاستحداد حلق
الشئ بالحديد. وحاددته: عاصيته، ومنه قوله تعالى " ان الذين يحادون الله
ورسوله " (3) وأصل الباب المنع. والحد، نهاية الشئ التي تمنع أن يدخله
ما ليس منه، وأن يخرج عنه ما هو منه.
أحكام الاعتكاف:
ولا يجوز الاعتكاف إلا بصوم، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك ابن
أنس. وقال الشافعي يصح بلا صوم، وبه قال الحسن إلا أن يشرط. وعندنا

(1) ديوانه: 153، واللسان (بني) وروايته (تظل) بدل " فبات " و " قتيل "
بدل " صريع ". بنات الليل: الهموم. وقيل الأحلام. والأول؟ في هذا. كأنه يقول: ان
الهموم؟ علي. كتراكم النساء على القتيل.
(2) ديوانه: 561، والنقائض: 563. وفي المطبوعة " العقين " بدل " ملعتفين "
والمعتفون: الذين جاؤوا يطلبون الرزق، يصفهم: جمعا قد وقفوا ينتظرون الطعام والعطاء متلهفين.
وهو ليس بذم لهم بل مدح بالمعطي لهم.
(4) سورة المجادلة آية 5، 20.
136

لا يكون أقل من ثلاثة أيام، وبه قال أهل المدينة. وقال أهل العراق: الاعتكاف
جائز به كل مسجد يصلى فيه جماعة. وقال مالك: لا اعتكاف إلا في موضع يصلى
فيه الجمعة من المصر. وقال أهل العراق: المرأة تعتكف في مسجد بيتها. وقال
مالك: لا تعتكف إلا في مسجد جماعة. وقال الشافعي: المرأة والعبد يعتكفان،
وكذلك المسافر حيث شاءوا. وقد بينا ما عندنا في ذلك. ولا فرق بين الرجل والمرأة
فيه. وقال مالك: لا يكون الاعتكاف أقل من عشرة أيام. وعند أهل العراق
يكون يوما.
ومسائل الاعتكاف قد بيناها في النهاية، والمبسوط في الفقه، فلا نطول
بذكرها. والمختلف فيها ذكرناه في مسائل الخلاف.
سبب النزول:
وقيل أن هذه الآية نزلت في شأن أبي قيس بن صرمه، فكان يعمل في أرض
له، فأراد الاكل، فقالت امرأته: يصلح لك شيئا فغلبت عيناه، ثم قدمت إليه
الطعام، فلم يأكل، فلما أصبح لاقى جهدا، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك،
فنزلت هذه الآية.
وروي أن عمرا أراد أن يوقع زوجته في الليل، فقالت: إني نمت فظن
أنها تعتل عليه، فوقع عليها، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وآله بذلك من الغد، فنزلت الآية
فيهما.
المعنى:
وقوله تعالى: " كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون " يعني ما بين لهم من
الأدلة على ما أمرهم به، ونهاهم عنه، لكلي يتقوا معاصي، وتعدي حدوده التي
أمرهم الله بها، ونهاهم عنها، وأباحهم إياها. وفي ذلك دلالة على أنه تعالى: أراد
التقوى من جميع الناس: الذين بين لهم هذه الحدود. وروي عن أبي عبد الله (ع)
أنها نزلت في خوات من جبير مثل قصة أبي قيس بن صرمه. وأنه كان ذلك يوم
137

الخندق. وروي عن أبي جعفر (ع) حديث أبي قيس سواء.
قوله تعالى:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام
لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون (188) آية
المعنى:
قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أن يكون ذلك على الجهة الظلم، نحو الخيانة، والسرقة، والغصب،
ويكون التقدير لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل كأكل مال نفسة بالباطل،
ومثله " ولا تلمزوا أنفسكم " (1) ومعناه لا يلمز بعضكم بعضا. وقوله: " ولا تقتلوا
أنفسكم " (2) والمعنى لا يقتل بعضكم بعضا.
الثاني - لا تأكلوه على وجه الهزء واللعب، مثل ما يوجد في القمار والملاهي
ونحوها، لان كل ذلك من أكل المال بالباطل. وقال أبو جعفر (ع) " لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل " يعني باليمين الكاذبة يقتطعون بها الأموال، وقال أبو
عبد الله (ع): علم الله أنه سيكون في هذه الأمة حكام يحكمون بخلاف الحق،
فنهى الله المؤمنين أن يتحاكموا إليهم، وهم يعلمون أنهم لا يحكمون بالحق.
وقوله تعالى: " وتدلوا بها إلى الحكام " فالحكم هو الخبر الذي يفصل به
بين الخصمين؟ يمنع كل واحد من منازعة الآخر. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: إنه الوديعة وما تقوم به بينة.
الثاني - قال الجبائي: في مال اليتيم الذي في يد الأوصياء، لأنه يدفعه إلى

(1) سورة الحجرات آية: 11.
(2) سورة النساء آية: 28.
138

الحاكم إذا طولب به، ليقتطع بعض، ويقوم له في الظاهر حجة.
اللغة:
يقال أدلى فلان بالمال إلى الحاكم إذا دفعه إليه. وأدلى فلان بحقه وحجته:
إذا هو احتج بها وأحضرها، ودلوت الدلو في البئر أدلوها: إذا أرسلتها في البئر،
وأدليتها إدلاء: إذا انتزعتها من البئر، ومنه قوله تعالى: " فأدلى دلوه " (1) أي
انتزعها. وقال صاحب العين: أدليتها إذا أرسلتها أيضا. وأدلى الانسان شيئا في
مهوى، ويتدلى هو بنفسه. والدالية معروفة.
الاعراب:
وموضع " تدلو " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون جزما على النهى، وعطفا على قوله: " لا تأكلوا ".
والثاني - أن يكون نصبا على الظرف، ويكون نصبها باضمار أن كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأني مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم (2)
لا تجمع بينهما. والأول أجود.
المعنى:
وقيل في اشتقاق " تدلو " قولان: أحدهما - أن التعلق بسبب الحكم
كتعلق الدلو بالسبب الذي هو الحبل. والثاني - أنه يمضي فيه من غير تثبت، كمضى
الدلو في الارسال من غير تثبت. والباطل هو ما تعلق بالشئ على خلاف ما هو به،
خبرا كان أو اعتقادا أو تخيلا أو ظنا. والفريق: القطعة المعزولة من الشئ.
والاثم الفعل الذي يستحق به الذم.
وقوله: " وأنتم تعلمون " معناه إنكم تعلمون أن ذلك التفريق من المال

(1) سورة يوسف آية: 19.
(2) مر تخريجه في 1: 19.
139

ليس بحق لكم لأنه أشد في الزجر. وفي الآية دلالة على أن تفرقة الحاكم بشهادة
الزور غير جائزة، ولا يستباح به النكاح لاحد الشاهدين كما لا يحل ذلك في المال.
قوله تعالى:
يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج
وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى
وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189) آية
واحدة بلا خلاف.
القراءة:
البيوت والسيوح والغيوب والجيوب - بكسر أولها - شامي والكسائي،
والأعشى لا يكسرون، الغيوب، ويكسرها حمزة، ويحيى إلا الجيوب. ويكسرها
ابن كثير إلا الجيوب والغيوب. وابن فليح يكسرها كلها. وقالون يكسر منها
البيوت فقط. وأبو عمرو يضمها كلها.
اللغة:
الأهلة جمع هلال وسمي الهلال، لرفع الصوت بذكره عند رؤيته، ومنه
أهل بالحج: إذا رفع الصوت بالتلبية. واختلف أهل العلم إلى كم يسمى هلالا، فقال
قوم: يسمى ليلتين هلالا من الشهر. ومنهم من قال: يسمى هلالا ثلاث ليال، ثم
يسمى قمرا. وقال الأصمعي: يسمى هلالا حتى يحجر. تحجيره: أن يستدير
بخطة دقيقة. ومنهم من قال: يسمى هلالا حين يبهر ضوءه سواد الليل، فإذا غلب
ضوءه، سمي قمرا. وذلك لا يكون إلا في الليلة السابعة. وقال الزجاج: يسمى هلالا
لليلتين. واسم القمر الزبرقان، واسم دارته الهالة. والفخت اسم ضوءه، أو ظلمته
على خلاف فيه. واسم ظله السمر. ومنه قيل: سمار الذين يتحدثون بالليل. وإنما
140

اقتصر في جمعه على أهلة، وهو لأدنى العدد، دون الفعل الذي هو للجمع الكثير،
استثقالا له في التضعيف، كما قالوا، فيما ليس بمضعف: حمار وأحمرة وحمر.
المعنى:
فان قيل عما كان وقع السؤال من حال الأهلة قيل عن زيادتها ونقصانها،
وما وجه الحكمة في ذلك، فأجيب بأن مقاديرها تحتاج إليه الناس في صومهم،
وفطرهم، وحجهم وعدد نسائهم، ومحل ذنوبهم، وغير ذلك. وفيها دلالة واضحة
على أن الصوم لا يثبت بالعدد، وأنه يثبت بالهلال، لان العدد لو كان مراعى، لما
أحيل في مواقيت الناس في الحج على ذلك بل أحيل على العدد.
اللغة:
وقوله تعالى: " قل هي مواقيت " والميقات: هو مقدار من الزمان، جعل
علما لما يقدر من العمل، ومنه قوله تعالى: " إلى يوم الوقت المعلوم " (1) والتوقيت:
تقدير الوقت. وقت توقيتا، ومنه قوله تعالى: " وإذا الرسل أقتت " (2) وكلما
قدرت غاية، فهو موقت. والميقات: منتهى الوقت، ومنه قوله تعالى: " فتم ميقات
ربه " (3) فالآخرة ميقات الخلق. والاهلال: ميقات الشهر. وإنما لم يصرف
مواقيت، وصرف قوارير، لان قوارير فاصلة في رأس آية، فصرفت لتجري على
طريقة واحدة في الآيات، كالقوافي، وليس ذلك تنوين الصرف.
المعنى:
وقوله تعالى " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من
اتقى " قيل في معناه وجهان:
أحدهما - " ولكن البر من اتقى " كما قلنا في قوله " ولكن البر من
آمن بالله ".

(1) سورة الحجر آية: 38، وسورة ص آية 81.
(2) سورة المر؟ آية: 11.
(3) سورة الأعراف آية: 41.
141

والثاني - على وقوع المصدر موقع الصفة، كأنه قال: ولكن البار " من
آمن بالله ". قيل في معنى الآية قولان:
أحدهما - أنه كان قوم من الجاهلية إذا أحرموا، نقبوا في ظهر بيوتهم نقبا،
يدخلون منه، ويخرجون، فنهوا عن التدين بذلك، وأمروا أن يأتوا البيوت من
أبوابها. في قول ابن عباس، والبراء، وقتادة، وعطا. و (الثاني) - قال قوم،
واختاره الجبائي: إنه مثل ضربه الله لهم. " وأتوا البيوت من أبوا؟ " أي أتوا
البر من وجهه الذي أمر الله به، ورغب فيه، وهذا الوجه حسن.
وروى جابر عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في قوله: " وليس البر بأن
تأتوا البيوت " الآية، قال: يعني أن يأتي الامر من وجهه أي الأمور. وروى
أبو الجارود عن أبي جعفر (ع) مثل قول ابن عباس سواء. وقال قوم: أراد
بالبيوت النساء، لأن المرأة تسمى بيتا على ما بيناه فيما مضى، فكأنه نهى عن إتيان
النساء في أدبارها، وأباح في قبلهن. والأولان أقوى وأجود.
والباب: هو المدخل، تقول منه: بوب تبويبا إذا جعله أبوابا. والبواب:
الحاجب، لأنه يلزم الباب. والبابة القطعة من الشئ كالباب من الجملة.
فان قيل أي تعلق لقوله: " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها "
بسؤال القوم عن الأهلة؟ قلنا: لأنه لما بين ما فيه من وجه الحكمة، اقتضى
لتعلموا على أمور مقدره، ولتجري أموركم على استقامة فإنما البر أن تطيعوا
أمر الله.
ومن كسر (الباء) من البيوت، فلاستثقال الخروج من الضم إلى الياء. ومن
ضم غيوب وكسر البيوت، فلان الغين لما كان مستعليا، منع الكسر، كما منع
الإمالة.
وأما الحج، فهو قصد البيت الحرام، لأداء مناسك مخصوصة بها في وقت
مخصوص. والبر: النفع الحسن. والظهر: الصفيحة المقابلة لصفيحة الوجه.
وقوله: " واتقوا الله لعلكم تفلحون " يعني واتقوا ما نهاكم الله عنه،
142

وزهدكم فيه، لكي تفلحوا بالوصول إلى ثوابه الذي ضمنه للمتقين.
قوله تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله
لا يحب المعتدين (190) آية بلا خلاف.
المعنى:
القتال هو المقاتلة، وهو محاولة الفاعل لقتل من يحاول قتله، والتقاتل محاولة
كل واحد من المتعاديين قتل الاخر. والخطاب بقوله " وقاتلوا " متوجه إلى المؤمنين.
ولو قال: " تقاتلوا " لكان أمرا للفريقين. وذهب الحسن، وابن زيد، والربيع،
والجبائي: إلى أن هذه الآية منسوخة، لأنه قد وجب علينا قتال المشركين وإن
لم يقاتلونا بقوله " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (1) وقوله: " وقاتلوهم
حتى لا تكون فتنة " (2). وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز:
أنها غير منسوخة. وقال بعضهم: أمروا بقتال المقاتلين دون النساء. وقيل: إنهم
أمروا بقتال أهل مكة. والأولى حمل الآية على عمومها إلا من أخرجه الدليل.
وقوله " تعتدوا " قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - لا تعتدوا بالقتال بقتال
من لم تؤمروا بقتاله. الثاني - لا تعتدوا إلى النساء، والصبيان، ومن قد أعطيتموه
الأمان. الثالث - لا تعتدوا بالقتال على غير الذين. فان قيل: إذا كان الاعتداء
في قتال من لم يقاتلهم فكيف يجوز ان يؤمروا به فيما بعد؟ قيل: إنما كان اعتداء
من أجل أنه مجاوزة لما حده الله لهم مما فيه الصلاح للعباد، ولم يكن فيما بعد على ذلك،
فجاز الامر به.
وقوله: " في سبيل الله " يعنى دين الله، وهو الطريق الذي بينه للعباد،
ليسلكوه على ما أمرهم به ودعاهم إليه.

(1) سورة التوبة آية: 6.
(2) سورة البقرة آية: 193.
143

وقوله: " لا يحب المعتدين " معناه لا يريد ثوابهم، ولا مدحهم، كما يحب
ثواب المؤمنين. وقد بينا فيما مضى أن المحبة هي الإرادة. وإنما قلنا إنها من جنس
الإرادة، لان الكراهة تنافيها، ولا يصح اجتماعهما، ولأنها تتعلق بما يصح حدوثه
لا كالإرادة، فلا يصح أن يكون محبا للايمان كارها له، كما بينا في أن يكون
مريدا له وكارها. وتعلق المحبة بأن يؤمن، كتعلق الإرادة بأن يؤمن. وإنما
اعتيد في المحبة الحذف، ولم يعتد ذلك في الإرادة، فيقال: الله يحب المؤمن، ولا
يقال: الله يريد المؤمن. وقوله: " لا يحب المعتدين " ظاهره يقتضي أنه يسخط
عليهم، لأنه على وجه الذم لهم إذ لا يجوز أن يطلق على من لا ذنب له من
الأطفال، والمجانين.
والاعتداء مجاوزة الحق. وأصله المجاوزة، يقال: عدا إذا جاوز حده في
الاسراع.
وروي عن أئمتنا (ع). أن قوله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله " ناسخ
لقوله: " كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (1) وكذلك قوله:
" واقتلوهم حيث ثقفتموهم " (2) ناسخ لقوله " ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع
أذاهم " (3).
قوله تعالى:
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم
والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى
يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191)
آية واحدة بلا خلاف.

(1) سورة النساء آية: 90.
(2) سورة البقرة آية: 191.
(3) سورة الأحزاب آية: 48
144

القراءة:
قرأ حمزة، والكسائي، " ولا تقتلوهم " " حتى يقتلوكم " " فان قتلوكم " كله
بغير ألف. الباقون بألف في جميع ذلك.
المعنى:
والمعنى لا تبدؤهم بقتل ولا قتال حتى يبدؤكم. إلا أن القتل نقض بنية الحياة،
والقتال محاولة القتل ممن يحاول القتل.
وقوله: " واقتلوهم " أمر للمؤمنين بقتل الكفار " حيث ثقفتموهم ".
الاعراب:
ويجوز في حيث ثلاثة أوجه: ضم الثاء، وفتحها، وكسرها، فالضم لشبهها
بالغاية، نحو قبل وبعد، لأنه منع الإضافة إلى المفرد مع لزوم معنى الإضافة له،
فجرى لذلك مجرى قبل وبعد في البناء على الضم، ولا يجب مثل ذلك في (إذ) لأنها
مبنية على الوقف، كما أن (مذ) لا يجب فيها ما يجب في منذ. والفتح، لأجل الياء،
كما فتحت (أين، وكيف) والكسر فعلى أصل الحركة، لالتقاء الساكنين. وإنما
كتبت بغير ألف - في الثلاث والكلام (2) في المصحف للايجاز، كما كتبوا الرحمن بلا
ألف. وكذلك صالح وخالد، وما أشبهها، من حروف المد واللين، لقوتها على
التغيير.
اللغة:
وقوله " ثقفتموهم " تقول: ثقفته أثقفه ثقفا: إذا ظفرت به، ومنه قوله:
" فأما تثقفنهم في الحرب " (1) وثقفت الشئ ثقافة: إذا حذقته، ومنه اشتقاق
الثقافة بالسيف، وقد ثقف ثقافة فهو ثقف. والثقاف حديدة تكون مع القواس،
والرماح يقوم بها المعوج. وثقف الشئ ثقفا: إذا لزم، وهو ثقف إذا كان سريع

(1) سورة الأنفال آية: 58.
(2) هكذا في المطبوعة. وفي العبارة سقط.
145

التعلم. وثقفته تثقيفا: إذا قومته. وأصل الباب: التثقيف التقويم.
المعنى:
وقوله " والفتنة أشد من القتل " قال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع،
وابن زيد، وجميع المفسرين: إنها الكفر. وأصل الفتنة الاختبار، فكأنه قال:
والكفر الذي يكون عند الاختبار أعظم من القتل في الشهر الحرام ووجه قراءة من
قرأ " ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه " أنه جاء في كلام العرب إذا
قتل بعضهم، قالوا: قتلنا، فتقديره حتى يقتلوا بعضكم.
ومعنى قوله " وأخرجوهم من حيث أخرجوكم " أي أخرجوهم من مكة كما
أخرجوكم منها. وروى أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا
من الكفار في الشهر الحرام، فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله تعالى أن الفتنة في الدين
أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان محظورا لا يجوز.
قوله تعالى:
فان انتهوا فان الله غفور رحيم (192)
معنى قوله تعالى: " فان انتهوا " يعني عن كفرهم بالتوبة منه، في قول
مجاهد، وغيره من المفسرين. والانتهاء الامتناع يقال: نهى نهبا، وأنهى إنهاء،
وتناهى تناهيا، والنهي الزجر عن الفعل بصيغة (لا تفعل) والامر الدعاء إلى الفعل
بصيغة (افعل) مع اعتبار الرتبة. والنهي الغدير يكون له الحاجز يمنع الماء أن
يفيض، فالنهي بمنزلة المنع. ونهاية الشئ غايته. ونهية الوتد: الفرض، وهو الحز في
رأسه الذي يمنع الحبل أن ينسلخ، لأنه ينهاه عن ذلك. والنهى: جمع نهية. وهي
العقل. والتنهية وجمعها تناهي، وهي مواضع تنهبط. ويتناهى إليها ماء السماء.
والانهاء إبلاغ الشئ نهايته وفي الآية دلالة على أنه يقبل توبة القاتل عمدا،
لأنه بين أنه؟ توبة المشرك، وهو أعظم من القتل، ولا يحسن أن يقبل التوبة
من الأعظم، ولا يقبل من الأقل، فان قيل فما معنى جواب الشرط، والله غفور
146

رحيم وإن لم ينتهوا، الجواب: إن معناه فان الله غفور لهم رحيم بهم، ويجوز فان
الله يغفر لهم، لأنه غفور رحيم، واختصر الكلام لدلالة ما تقدم على أنه في ذكرهم
وإن الذي اقتضى انتهاءهم إنما هو ذكر المغفرة لهم، فكان الدلالة عليها بغير إفصاح
عنها أحسن لما في ذلك من الايجاز، والإحالة على الاستدلال لتمكين الاشعار لمتضمن
الكلام، والمغفرة: تغطيه الذنب بما يصير به بمنزلة غير الواقع في الحكم.
قوله تعالى:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فان انتهوا
فلا عدوان إلا على الظالمين (193) آية.
المعنى:
هذه الآية ناسخة للأولى التي تضمنت النهي عن القتال عند المسجد الحرام
حتى يبدءوا بالقتال فيه، لأنه أوجب قتالهم على كل حال حتى يدخلوا في الاسلام
في قول الجبائي، والحسن، وغيره، وعلى ما حكيناه عن ابن عباس، وعمر ابن
عبد العزيز: أن الأولى ليست منسوخة، فلا تكون هذه ناسخة بل تكون مؤكدة،
والفتنة الشرك في قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد، وهو
المروي عن أبي جعفر (ع). وإنما سمى الكفر فتنة، لان الكفر يؤدي إلى الهلاك
كما تؤدي الفتن إلى الهلاك، ولان الكفر إظهار الفساد عند الاختبار، والفتنة إنما
هي الاختبار. والدين هاهنا قيل في معناه قولان:
أحدهما - الاذعان لله بالطاعة كما قال الأعشى:
هو دان الرباب إذكر هو الدين * داركا بغزوة وصيال (1)

(1) ديوانه: 11، رقم القصيدة 1. قيل: انه قالها في مدح الأسود بن المنذر اللخمي
أخي النعمان بن المنذر لامه، وأم الأسود من تيم الرباب. وقيل: انه قالها في مدح المنذر بن
الأسود لما غز الحليفين، أسدا وذبيان، ثم أغار على - رمط الأعشى - بني ساعدة بن ضبة بن
ثعلبة وكان الأعشى غائبا، فلما قدم وجد الحي مباحا فأتاه، فأنشده، وسأله أن يهبه الاسرى، ففعل.
والرباب - بكسر الراء - بنو عبد مناة بن أد، وهم تيم وعدي وعوف وثور، اجتمعوا
فتحالفوا مع بني عمهم ضبة تيم بن أد، فجاءوا برب (تمر مطبوخ) فغمسوا أيديهم فيه،
فسموا الرباب.
وقوله: دان الرباب أي أذلهم وحملهم على الطاعة. وقوله: دراكا أي تتابعا.
147

والثاني - الاسلام دون الكفر. وأصل الدين العادة في قول الشاعر: (1)
تقول إذا درأت لها وضيني * أهذا دينه أبدا وديني (2)
وقال آخر:
كدينك من أم الحو يرث قبلها * وجارتها أم الرباب بما سل (3)
وقد استعمل بمعنى الطاعة في قوله تعالى: " ما كان ليأخذ أخاه في دين
الملك " (4) واستعمل بمعنى الاسلام، لان الشريعة فيه يجب أن تجري على عادة
قال الله تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " (5).
وقوله: " فان انتهوا " معناه امتنعوا من الكفر وأذعنوا بالاسلام، " فلا
عدوان إلا على الظالمين " أي فلا قتل عليهم، ولا قتل إلا على الكافرين المقيمين على
الكفر، وسمي القتل عدوانا مجازا من حيث كان عقوبة على العدوان، والظلم، كما
قال: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " (6) وكما قال " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (7)
وكما قال: " وإن عاقبتم فعاقبوا " (8) وحسن ذلك لازدواج الكلام، ومزاوجته
هاهنا على المعنى، لان تقديره " فان انتهوا " عن العدوان، " فلا عدوان إلا على
الظالمين ". فان قيل: أيجوز أن تقول لا ظلم إلا على الظالمين كما جاز " لا عدوان
إلا على الظالمين "؟ قلنا: على القياس لا يجوز، لان ذلك مجاز، والمجاز لا يقاس
عليه - عند المحصلين - لئلا تلتبس الحقيقة بالمجاز. وإنما جاز في المزاوجة، لان الكلام

(1) هو المثقب العبدي.
(2) اللسان (دين)، (درأ)، (وضن) وروايته (دأبه) بدل (دينه). ردأت
لها وضيني: أي وضعت عنها حملها، والوضين هو المنسوج من أي شئ كان.
(3) لم أجد هذا البيت فيما حضرني من المصادر.
(4) سورة يوسف آية: 76.
(5) سورة آل عمران آية: 19.
(6) سورة البقرة آية: 194.
(7) سورة الشورة آية: 40.
(8) سورة النحل آية: 126.
148

معه أبلغ، وأبلغ، كما قال عمرو بن شاس الأسدي:
جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم * قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل (1)
وأصل الظلم الانتقاص. من قوله تعالى " ولم تظلم منه شيئا " (2) وحقيقة
ما قدمنا ذكره من أنه ضرر محض لا نفع فيه يوفي عليه عاجلا ولا آجلا ولا هو
واقع على وجه المدافعة.
قوله تعالى:
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا
أن الله مع المتقين (194) آية واحدة بلا خلاف.
أشهر الحرم أربعة: رجب، وهو فرد وثلاثة أشهر سرد: ذو القعدة، وذو
الحجة، والمحرم. والمراد هاهنا: ذو القعدة، وهو شهر الصد عام الحديبية. وإنما
سمي الشهر حراما، لأنه كان يحرم فيه القتال، فلو أن الرجل يلقى قاتل أبيه أو
ابنه لم يعرض له بسبيل وسمي ذو القعدة، لقعودهم فيه عن القتال.
الاعراب:
والشهر مرتفع بالابتداء، وخبره بالشهر الحرام، وتقديره: قتال الشهر الحرام
أي في الشهر الحرام، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ويحتمل أن يكون
تقديره: الشهر الحرام على جهة العوض لما فات من الحج في السنة الأولى.
المعنى:
وقوله: " والحرمات قصاص " قيل في معناه قولان:
أحدهما - " الحرمات قصاص " بالمراغمة بدخول البيت في الشهر الحرام. قال

(1) تفسير الطبري 3: 573.
(2) سورة الكهف آية: 33.
149

مجاهد: لان قريشا فخرت بردها رسول الله صلى الله عليه وآله - يوم الحديبية - محرما - في ذي
القعدة - عن البلد الحرام، فأدخله الله عز وجل مكة في العام المقبل في ذي القعدة،
فقضى عمرته، وأقصه بما حيل بينه وبينه يوم الحديبية، وهو معنى قول قتادة،
والضحاك، والربيع، وابن زيد.
وروي عن ابن عباس، وأبي جعفر محمد بن علي (ع) مثله.
والقول الثاني - " والحرمات قصاص " بالقتال في الشهر الحرام أي لا يجوز
للمسلمين إلا قصاصا. وقال الحسن: إن مشركي العرب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله:
أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام، قال نعم، فأراد المشركين أن يغزوه في الشهر
الحرام، فيقاتلوه، فأنزل الله تعالى: " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص "
أي إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا، فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم.
وبه قال الزجاج، والجبائي.
وإنما جمع الحرمات لاحد أمرين: أحدهما - إنه يريد حرمة الشهر، وحرمة
البلد، وحرمة الاحرام.
الثاني - كل حرمة تستحل، فلا يجوز إلا على وجه المجازاة وفي الناس من
قال: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: " قاتلوا المشركين كافة " (1) وقال
آخرون ليست منسوخة، لأنه يجوز اجتماعه مع تلك الفريضة - وهو الأولى -
لأنه لا دلالة على نسخها.
والحرام: هو القبيح الممنوع من فعله. والحلال: المطلق المأذون فيه.
والقصاص الاخذ للمظلوم من الظالم، من أجل ظلمه إياه. فان قيل: كيف جاز
قوله: " إن الله لا يحب المعتدين " مع قوله " فاعتدوا عليه " (2) قلنا الثاني ليس
باعتداء على الحقيقة، وإنما هو على وجه المزاوجة، ومعناه المجازات على ما بينا.
والمعتدي مطلقا لا يكون إلا ظالما لضرر قبيح، وإذا كان مجازا فإنما يفعل ضررا

(1) سورة التوبة آية: 37.
(2) سورة البقرة آية: 194.
150

حسنا. فان قيل: كيف قال بمثل ما اعتدى عليكم، والأول جور، والثاني عدل؟
قلنا، لأنه مثله في الجنس وفي مقدار الاستحقاق، لأنه ضرر، كما أن الأول
ضرر، وهو على مقدار ما يوجبه الحق في كل جرم.
وقيل إن عدا، واعتدى لغتان بمعنى واحد، ومثله قرب واقترب، وجلب
واجتلب. وقال قوم: في افتعل مبالغة ليس في فعل.
ومعنى قوله: " واعلموا أن الله مع المتقين " يعني بالنصرة لهم، كأنه قال:
" إن الله مع المتقين " بالنصرة أو إن نصرة الله معهم. وأصل (مع) المصاحبة في
المكان أو الزمان.
قوله تعالى:
وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195) آية بلا خلاف.
المعنى:
أمر الله تعالى جميع المكلفين المتمكنين من الانفاق في سبيل الله: أن ينفقوا
في سبيله، وسبيل الله: هو كل طريق شرعه الله تعالى لعباده، يدخل فيه الجهاد،
والحج، وعمارة القناطر، والمساجد، ومعاونة المساكين، والأيتام، وغير ذلك،
والانفاق: هو إخراج الشئ عن ملك مالكه إلى ملك غيره، لأنه لو أخرجه إلى
هلاك لم يسم إنفاقا.
وقوله تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " معناه لا تطرحوا أنفسكم في
الهلاك، بأن تفعلوا ما يؤدي إليه. وحقيقة الالقاء تصير الشئ إلى جهة السفل.
وإنما يقال: ألقى عليه مسألة مجازا، كما يقال: طرح عليه مسألة.
الاعراب:
والباء في قول بأيديكم يحتمل وجهين: أحدهما - أن تكون زائدة كقولك
151

تعلقت زيدا، وتعلقت بزيد وجذبت الثوب، وجذبت بالثوب، وعلمته، وعلمت به.
قال الشاعر:
ولقد ملأت على نصيب جلده * بمساءة إن الصديق يعاتب (1)
والمراد ملأت جلده مساءة. والثاني - أن يكون على أصل الكلام من وجهين:
أحدهما - أن كل فعل متعد إذا كني عنه أو قدر على المصدر دخلته الباء،
كقولك ضربته ثم تكني عنه فتقول فعلت به. والآخر أن تقول: أوقعت الضرب به
فجاء على أصل الافعال المتعدية.
والوجه الاخر: أنه لما كان معناه: لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم، فدخلت الباء
ليدل على هذا المعنى، وهو خلاف أهلك نفسه بيد غيره.
المعنى:
وقيل في معنى الآية وجوه: أحدها - قال الحسن، وقتادة، ومجاهد،
والضحاك، وهو المروى عن حذيفة، وابن عباس: إن معناها " لا تلقوا بأيديكم
إلى التهلكة " بالامتناع من الانفاق في سبيل الله. الثاني - ما روي عن البراء ابن
عازب، وعبيدة السلماني: لا تركبوا المعاصي باليأس من المغفرة. الثالث - ما قال
البلخي، من أن معناها: لا تتقحموا الحرب من غير نكاية في العدو، ولا قدرة على
دفاعهم. والرابع - ما قاله الجبائي لا تسرفوا في الانفاق الذي يأتي على النفس.
والأولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك.
اللغة:
والتهلكة، والهلاك واحد. وقيل: التهلكة: ما أهلكهم الله عنده. وأصل
الهلاك الضياع، وهو مصدر ضاع الشئ بحيث لا يدري أين هو، ومنه يقال للكافر:
هالك، وللميت: هالك، وللمعذب: هالك. والهلوك: المهواة البعيدة، لان الذي
يهوي فيها هالك. والهلوك: الفاجرة. والهلوك: المتحيرة، تشبيها بالهلوك: الفاجرة

(1) لم أجد هذا البيت الا في مجمع البيان وروايته (يعاقب) بدل (يعاتب).
152

التي تمايل في مشيتها، تقول: هلك يهلك هلكا، وهلاكا، وأهلكه إهلاكا، وتهالك
تهالكا، واهتلك اهتلاكا: إذا ألقى نفسه في المهالك. واستهلكه استهلاكا، وانهلك
انهلاكا. إذا حمل نفسه على الامر الصعب. والهالكي: الحداد. وأصل ذلك أن
بني الهالك بن عمر، كانوا قيونا، فسمي بذلك كل قين: هالكيا. والتهلكة: كلما كان
عاقبته إلى الهلاك. والهالك: الفقير الذي بمضيعة.
والاحسان: هو الافضال إلى المحتاج، في قول زيد بن أسلم. وحد الاحسان
هو إيصال النفع الحسن إلى الغير، وليس المحسن من فعل الفعل الحسن، لان الله
تعالى يفعل العقاب وهو حسن، ولا يقال: إنه محسن به، لا يسمى مستوفي الدين
محسنا، وإن كان حسنا، فان أطلق ذلك في موضع، فعلى وجه المجاز، وإنما اعتبرنا
أن يكون النفع حسنا، لان من أوصل نفعا قبيحا إلى غيره لا يقال: إنه محسن
إليه. وقد بينا حقيقة المحبة، فيما مضى، فلا وجه لإعادته، ومحبة الله للمحسنين، إرادة
الثواب بهم والمنفعة لهم. وقال عكرمة: أحسنوا الظن بالله يراكم. وقال ابن زيد:
أحسنوا بالعود على المحتاج " إن الله يحب المحسنين " وروى عن أبي عبد الله (ع)
أنه قال: لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبل الله ما كان أحسن ولا وفق
لقوله " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " يعني
المقتصدين.
قوله تعالى:
وأتموا الحج والعمرة لله فان أحصر تم فما استيسر من
الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان
منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو
نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي
فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك
153

عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا
الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
وروي عن الشعبي: أنه قرأ " والعمرة لله " رفعا، وذهب إلي أنها ليست
واجبة، كما قال أهل العراق. وعندنا، وعند الشافعي: أنها واجبة، كوجوب الحج.
والقراء كلهم على النصب، والعمرة عطفا على قوله " وأتموا الحج " وتقديره،
وأتموا العمرة لله. وأمر الله تعالى جميع من توجه إليه وجوب الحج أن يتم الحج
والعمرة. وقيل في إتمام الحج والعمرة أقوال:
أحدها - أنه يجب أن يبلغ آخر أعمالهما بعد الدخول فيهما وهو قول مجاهد،
وأبي العباس المبرد، وأبي علي الجبائي.
والثاني - قال سعيد بن جبير، وعطا، والسدي: إن معناه إقامتهما إلى آخر
ما فيهما، لأنهما واجبان.
الثالث - قال طاووس: اتمامهما إفرادهما.
الرابع - قال قتادة: الاعتمار في غير أشهر الحج. وأصح الأقوال الأول.
والحج هو القصد إلى البيت الحرام، لأداء مناسك مخصوصة بها في أوقات
مخصوصة. ومناسك الحج تشتمل على المفروض، والمسمون. والمفروض يشتمل على
الركن، وغير الركن، فأركان الحج أولا: النية، والاحرام، والوقوف بعرفة،
والوقوف بالمشعر، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة. والفرائض التي ليست
بأركان: التلبية، وركعتا طواف الزيارة، وطواف النساء، وركعتا الطواف له.
والمسنونات: الجهر بالتلبية واستلام الأركان، وأيام منى، ورمى الجمار، والحلق أو
التقصير، والأضحية إن كان مفردا. وإن كان متمتعا فالهدي واجب عليه، وإلا
فالصوم الذي هو بدل عنه، وتفصيل ذلك ذكرناه في النهاية، والمبسوط، والجمل
والعقود، لا نطول بذكره. وفي هذه المناسك خلاف كثير - بين الفقهاء - ذكرناه
154

في مسائل الخلاف.
والعمرة واجبة كوجوب الحج، وبه قال الحسن، وابن عباس، وابن مسعود.
وابن عمر، وعطا، وابن جبير، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطا، والشافعي.
وقال إبراهيم النخعي، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأهل العراق: إنها مسنونة.
وعن ابن مسعود فيه خلاف، فمن قال: إنها غير واجبة قال: لان الله تعالى أمر
باتمام الحج والعمرة، ووجوب الاتمام لا يدل على أنه واجب قبل ذلك، كما أن
الحج المتطوع به يجب إتمامه وإن لم يجب الدخول فيه، قالوا: وإنما علينا وجوب
الحج بقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت " (1). وهذا ليس بصحيح،
لأنا قد بينا أن معنى أتموا الحج والعمرة أقيموهما، وهو المروي عن علي (ع) وعن
علي بن الحسين مثله، وبه قال مسروق، والسدي.
والعمرة هي الزيارة في اللغة. وفي الشرع عبارة عن زيارة البيت لأداء مناسك
مخصوصة أي وقت كان من أيام السنة. وأفعال العمرة الواجبة: النية، والاحرام،
والطواف، والصلاة عند المقام، والسعي بين الصفا والمروة، وطواف النساء. وفي
بعض ذلك خلاف ذكرناه في الخلاف.
وقوله " فان أحصرتم " فيه خلاف، قال قوم: فان منعكم خوف، أو عدو،
أو مرض، أو هلاك بوجه من الوجوه، فامتنعتم لذلك. وقال آخرون: إن منعكم
حابس قاهر. فالأول قول مجاهد، وقتادة، وعطا، وهو المروي عن ابن عباس.
وهو المروي في أخبارنا. والثاني ذهب إليه مالك بن أنس. فالأول أقوى لما روي
في أخبارنا، ولان الاحصار هو أن يجعل غيره بحيث يمتنع من الشئ. وحصره
منعه، ولهذا يقال: حصر العدو، ولا يقال: أحصر.
اللغة:
واختلف أهل اللغة في الفرق بين الاحصار، والحصر، فقال الكسائي،

(1) سورة آل عمران آية: 97.
155

وأبو عبيدة، وأكثر أهل اللغة: إن الاحصار المنع بالمرض، أو ذهاب النفقة.
والحصر بحبس العدو. وقال الفراء: يجوز كل واحد منهما مكان الاخر. وخالف
في ذلك أبو العباس، والزجاج، واحتج المبرد بنظائر ذلك. كقولهم حبسه أي جعله
في الحبس وأحبسه أي عرضه للحبس، وقتل: أوقع به القتل، وأقتله: عر؟ للقتل،
وقبره: دفنه في القبر، وأقبره: عرضه للدفن في القبر، فكذلك حصره: حبسه أي
أوقع به الحصر، وأحصره: عرضه للحصر. ويقال: أحصره احصارا: إذا منعه،
وحصره يحصره حصرا إذا حبسه، وحصر حصرا: إذا عيي في الكلام. وحاصره
محاصرتا: إذا ضيق عليه في القتال. والحصر الضيق. هذا حصر شديد. والحصير:
الذي لا؟ ح بسره، لأنه قد حبس نفسه عن البوح به. والحصير: الملك. والحصير:
المحبس، ومنه قوله تعالى: " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " " (1) والحصور:
الذي لا إربة له في النساء. والحصور: الغيوب المحجم عن الشئ. والحصر البخيل
لحبسه رفده، وأصل الباب: الحبس.
الاعراب:
وقوله " فما استيسر من الهدي " موضع (ما) رفع، كأنه قال: فعليه
" ما استيسر من الهدي ". ويجوز النصب وتقديره: فليهدي ما استيسر من الهدي.
والرفع أقوى لكثرة نظائره، كقوله " ففدية من سيام " وقوله " فعدة من أيام
أخر " (2) وقوله " فصيام ثلاثة أيام ".
المعنى:
وفي معنى " ما استيسر " خلاف، فروي عن علي (ع)، وابن عباس،
والحسن، وقتادة: أنه شاء. وروي عن ابن عمر، وعائشة: أنه ما كان من الإبل
والبقر دون غيره، ووجها التيسر على ناقة دون ناقة، وبقرة دون بقرة. والأول
هو المعمول عليه عندنا.

(1) سورة الإسراء آية: 8.
(2) سورة البقرة آية: 184، 185.
156

اللغة:
وفي اشتقاق الهدي، وأصله قولان:
أحدهما - أنه من الهدية، يقال منه: أهديت الهدية إهداء، وأهديت إلى
البيت الهدي إهداء، فعلى هذا يكون هديا لأجل التقرب به إلى الله باخلاص الطاعة
فيه، على ما أمر به.
الثاني - من هديته هدى: إذا سقته إلى طريق الرشاد، وواحد الهدي هدية،
وروى أبو عبيدة عن أبي عمرو: أنه لا يعرف له نظير إلا جدية السرج وجدي،
وقال المبرد: وهو مطرد في الأجناس، كتمرة وتمر، وشرية وشري، وهو الحنظل.
وقوله " ولا تحلقوا رؤوسكم " معناه لا تزيلوا شعور رؤوسكم: يقال حلق
يحلق حلقا، وحلق تحليقا، وانحلق انحلاقا. والحلق: مجرى الطعام، والشراب في
المري. والحلقة: حلقة القوم، وحلقة الحديد، والحلقة السلاح، ويقال أيضا
بالتخفيف. وحلق الطائر في الهواء إذا ارتفع، وهوى من حالق أي من علو إلى
سفل. وحلق ضرع الناقة إذا ارتفع لبنها. وحلاق المنية، وجاء بالحلق إذا جاء
بالمال الكثير. والملحق: محلق الشعر كالموسى. وحلوق الأرض مجاريها في أوديتها.
والمحلق: موضع حلق الرأس بمنى. وأصل الباب الاستمرار.
والرؤوس جمع رأس يقال: رأس يرأس رآسة، وترأس ترأسا، ورأسه
ترئيسا. والرأس أعلى كل شئ، الرواسي العظيم الرأس فوق قدره، وكلبة
رؤس: وهي التي تساور رأس الصيد. وسحابة رأيسة: وهي التي تتقدم السحاب.
ورجل مرءوس إذا أصابه البرسام في رأسه. ورأس فلان فلانا إذا ضربه على
رأسه. وأصل الباب الرأس.
وقوله: " حتى يبلغ الهدي محله " معناه حتى ينتهى إليه، يقال: بلغ يبلغ
بلوغا، وأبلغه إبلاغا، وبلغه تبليغا، وبالغ مبالغة، وتبالغ تبالغا، وتبلغ تبلغا،
وبلغ الرجل بلاغة إذا صار بليغا. والبلغة: القوت. وأصل الباب البلوغ، وهو
157

الانتهاء فمنه البلاغة، لأنها تبلغ بالمعنى إلى القلب.
المعنى
وقيل في محل الهدي قولان: أحدهما - ما روى عن ابن عباس، وابن مسعود،
والحسن، وعطا: أنه الحرم فإذا ذبح به يوم النحر أحل.
والثاني - قال مالك: إنه الموضع الذي صد فيه، وهو المكان الذي يحل نحره
فيه قال. لان النبي صلى الله عليه وآله نحر الهدي، وأمر أصحابه فنحروا بالحديبية. وعندنا:
أن الأول حكم المحصر بالمرض، والثاني حكم المحصور بالعدو، وروي أيضا أن محله
منى إن كان في الحج، وإن كان في العمرة فمكة.
وقوله تعالى: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه " فالأذى كلما
تأذيت به. ورجل آذ إذا كان شديد التأذي تقول: آذى يآذى أذى. وأصله الضرر
بالشئ، وروى أصحابنا أن هذه الآية نزلت في إنسان يعرف بكعب بن عجرة.
وروى أيضا ذلك أصحاب التأويل في أنه كان قد قمل رأسه فأنزل الله فيه هذا
الآية، لكنها محمولة على جميع الأذى.
وقوله " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فالذي رواه أصحابنا أن الصيام
ثلاثة أيام أو صدقة ستة مساكين. وروي عشرة مساكين. والنسك شاة. وفيه
خلاف بين المفسرين. وروي عن كعب بن عجرة الأنصاري، ومجاهد، وعلقمة،
وإبراهيم، والربيع، واختاره الجبائي: مثل ما قلناه: إن الصوم ثلاثة أيام والاطعام
لستة مساكين. وقال الحسن وعكرمة: صوم عشرة أيام أو إطعام عشرة مساكين
لكل مسكين نصف صاع بلا خلاف. ولم يختلفوا في النسك أنه شاة. والنسك: جمع
نسيكة، ويجمع أيضا نسائك، كصحيفة وصحائف وصحف.
وقوله " فإذا أمنتم " معناه أمنتم أن يحصر كم العدو أو أمنتم المرض " فمن
تمتع بالعمرة إلى الحج "، ففرض التمتع - عندنا - هو اللازم لكل من لم يكن من
حاضري المسجد الحرام، وحد حاضري المسجد الحرام: من كان على اثنى عشر ميلا
158

من كل جانب إلى مكة، ثمانية وأربعين ميلا، فما خرج عنه فليس من الحاضرين،
لا يجوز له مع الامكان غير التمتع، وعند الضرورة، يجوز له القران والافراد. ومن
كان من حاضري المسجد الحرام، لا يجوز له التمتع، وإنما فرضه القران أو الافراد
على ما نفسره في القران والافراد، وسياق المتمتع أن يحرم من الميقات في أشهر الحج
وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، ثم يخرج إلى مكة، فيطوف
بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقصر، ثم ينشئ إحراما آخر بالحج من
المسجد الحرام، ويخرج إلى عرفات، ويقف هناك، ويفيض إلى المشعر، ويغدوا منها
إلى منى، ويقضى مناسكه هناك، ويدخل في يومه إلى مكة، فيطوف بالبيت طواف
الزيارة، ويسعى بين الصفا والمروة، ويطوف طواف النساء، وقد أحل من كل شئ
ويعود إلى منى، فبيت ليالي بها، ويرمي الجمار في ثلاثة أيام - على ما شرحناه في
النهاية، والمبسوط - وفي بعض ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف وللمفسرين
في التمتع أربعة أقوال: فالأول رواه أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله أهل بعمرة
وحجة، وسموه قارنا، وأنكر ذلك ابن عمر، والثاني روى ابن عباس وابن عمر
وسعيد بن المسيب وعطا، واختاره الجبائي: وهو أن يعتمر في أشهر الحج ثم يأتي
مكة، فيطوف، ويسعى، ويقصر ثم يقيم حلالا إلى يوم التروية، أو يوم قبله،
فيهل فيه بالحج من مكة، ثم يحج. وهذا مثل ما قلناه سواء. وقال البلخي: إن
هذا الضرب كرهه عمر، ونهى عنه، وكرهه ابن مسعود. الثالث - هو الناسخ للحج
بالعمرة رواه جابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرهم
- وقد أهلوا بالحج، لا ينوون غيره - أن يعتمروا ثم يحلوا إلى وقت الحج. هذا
عندنا جائز أن يفعل. وروي عن أبي ذر: أنها كانت لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله خاصة.
وكذلك يقولون: إن عمرا أنكر هذه المتعة.
الرابع - قال ابن الزبير: إن المحصر إذا دخل مكة بعد فوت الحج، تمتع
بالعمرة، لأنه يحل بها إلى وقت الحج، وكذلك من اعتمر في غير أشهر الحج ثم
حج تلك السنة، فهو المتمتع، ولا هدي عليه. وهذا عندنا فاسد بما قدمناه.
159

وقوله تعالى: " فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجعتم " فالهدي واجب على المتمتع بلا خلاف، لظاهر التنزيل، على خلاف
فيه أنه نسك أو جبران، فعندنا أنه نسك، وفيه خلاف فإن لم يجد الهدي ولا
ثمنه، صام ثلاثة أيام في الحج، وعندنا أن وقت صوم الثلاثة أيام: يوم قبل التروية،
ويوم التروية، ويوم عرفة، فان صام في أول العشرة جاز ذلك رخصة. وإن صام
يوم التروية ويوم عرفة قضى يوما آخر بعد التشريق فان فاته يوم التروية صام بعد
القضاء من التشريق ثلاثة أيام متتابعات. وروي عن ابن عباس، وابن عمر،
والحسن، ومجاهد: أنه يجوز ما بين إحرامه في أشهر الحج إلى يوم عرفة. واستحبوا
أن يكون يوما قبل التروية، ويوم عرفة. ووقت صوم السبعة أيام إذا رجع إلى
أهله، وبه قال عطا، وقتادة. وقال مجاهد: إذا رجع عن حجه في طريقه. فأما
أيام التشريق، فلا يجوز صومها عندنا، وبه قال جماعة من المفسرين، واختاره الجبائي،
لنهي النبي صلى الله عليه وآله عن صوم أيام التشريق. وروي عن ابن عمر، وعائشة جواز ذلك.
وقوله: " تلك عشرة كاملة " اختلفوا في معناه، فقال الحسن، والجبائي،
وهو المروي عن أبي جعفر (ع) أن المعنى كاملة من الهدي أي إذا وقعت بدلا منه،
استكملت ثوابه.
الثاني - ما ذكره الزجاج، والبلخي أنه لإزالة الايهام لئلا يظن أن (الواو)
بمعنى (أو) فيكون كأنه فصيام ثلاثة أيام في الحج سبعة أيام إذا رجعتم، لأنه
إذا استعمل (أو) بمعنى (الواو) جاز أن يستعمل (الواو) بمعنى (أو) كما قال:
" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " والمراد " أو " فذكر ذلك
لارتفاع اللبس.
والثالث - قاله المبرد: إنه أعاد ذلك للتأكيد قال الشاعر:
ثلاث واثنتان فهن خمس * وسادسة تميل إلى شمام (1)

(1) في مجمع البيان نسبه إلى جرير ولم أجده في ديوانه. في المطبوعة " سمام " بدل " شمام "
" واثنان " بدل " اثنتان ".
160

اللغة:
وتقول: ثلثت القوم أثلثهم، فأنا ثالثهم، وربما قالوا: ثلثت الرجلين أي
صرت لهما ثالثا. والثلث جزء من ثلاثة. والمثلث: شكل على ثلاثة أضلاع. والمثلوث:
ما أخذ ثلثه. والثلاثاء: اليوم الثالث من الأحد. والثلاثي: ما نسب إلى ثلاثة
أشياء، وأصله الثلاثة من العدد.
وأهل الرجل: زوجته. والمتأهل: المتزوج. وأهل الرجل: أخص الناس
به. وأهل البيت: سكانه. وأهل الاسلام: من تدين به. وأهل القرآن: من
يقرأه، ويقوم بحقوقه. وأهلته لهذا الامر أي جعلته أهلا له. والأهلي: خلاف
البري. وقولهم مرحبا وأهلا أي اختصاصا بالتحية، والتكرمة.
المعنى:
وقد بينا أن (أهل حاضري المسجد الحرام) من كان من بينه وبينها إثنا عشر
ميلا من أربع جوانبها. وقال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: إنهم أهل الحرم،
فروي في أخبارنا أيضا ذلك. وقال مكحول: وعطا: من بين مكة، والمواقيت.
وقيل: ثم أهل الحرم، ومن قرب منزله منها، كأهل عرفة، ذهب إليه الزهري
ومالك.
اللغة:
وقوله تعالى: " واعلموا أن الله شديد العقاب " تقول: عقب الشئ يعقب
بمعنى خلف بعد الأول. وأعقب إعقابا، وتعقب الرأي تعقبا. " والعاقبة للمتقين " (1)
أي الآخرة. ونرد على أعقابنا أي نعقب بالشر بعد الخير. والعقبة: ركوب أعقبه
المشي. " له معقبات " (2): ملائكة الليل تخلف ملائكة النهار. وعقب الانسان:

(1) سورة الأعراف آية: 127.
(2) سورة الرعد آية: 12.
161

نسله، وعقبة، مؤخر قدمه. والعقبة: المصعد في الجبل. والعقب: الصعب. والعقاب:
الطائر. واليعقوب: ذكر القبج. " ولا معقب لحكمه " أي لا راد لقضائه. وأصل
الباب: العقب: الخلف بعد الأول.
قوله تعالى:
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا
فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا
فان خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (197) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو " فلا رفث ولا فسوق " بالرفع، " ولا جدال "
بالنصب. الباقون بالنصب فيهن تقدير الآية: أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف
المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. وأشهر الحج - عندنا - شوال، وذو القعدة،
وعشر من ذي الحجة، على ما روي عن أبي جعفر (ع) وبه قال ابن عباس، وابن
عمر، وإبراهيم، والشعبي، ومجاهد، والحسن، واختاره الجبائي. وقال عطا،
والربيع، وابن شهاب، وطاووس: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
وروي ذلك في أخبارنا، وإنما كانت هذه أشهر الحج، لان الاحرام بالحج لا يصح
أن يقع إلا فيها - بلا خلاف - وعندنا - أن الاحرام بالعمرة التي يتمتع بها لا يقع
أيضا إلا فيها. ومن قال: إن جميع ذي الحجة من أشهر الحج، قال: لان جميع
ذي الحجة يصح أن يقع فيه شئ من أفعال الحج، مثل صوم الثلاثة أيام، فإنه
يصح أن يقع في جميع ذي الحجة، وكذلك يصح أن يقع ذبح الهدي فيه. وقال
قوم: إن المعنى واحد في قول الفريقين. وقال آخرون: هو مختلف من حيث أن
الثاني معناه: أن العمرة لا ينبغي أن تكون في الأشهر الثلاثة على الكمال، لأنها
أشهر الحج، والأول على أنها لا ينبغي أن تكون في شهرين وعشر من الثالث،
162

فقد روي عن ابن عمر: ان تفصلوا بين الحج والعمرة، فتجعلوا العمرة في غير أشهر
الحج، أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته. وروي ذلك عن القاسم بن محمد عن ابن شهاب عن
عبد الله، وابن سيرين. وقد بينا مذهبنا في ذلك. فان قيل كيف جمع شهرين،
وعشرة أيام ثلاثة أشهر؟ قلنا: لأنه قد يضاف الفعل إلى الوقت وإن وقع في بعضه.
ويجوز أن يضاف الوقت إليه كذلك، كقولك: صليت صلاة يوم الجمعة، وصلاة يوم
العيد وإن كانت الصلاة في بعضه. ويقال أيضا: قدم زيد يوم كذا، وخرج يوم
كذا وإن كان قدومه أو خروجه في بعضه، فكذلك جاز أن يقال: شهر الحج ذو
الحجة، وإن كان في بعضه، وإنما يفرض فيهن الحج، بأن يحرم فيهن بالحج - بلا
خلاف - أو بالعمرة التي يتمتع بها بالحج - عندنا خاصة - وفي الاحرام بالحج وافقنا
فيه ابن عباس، والحسن، وقتادة. وقال ابن عمر، ومجاهد: إنما يفرض فيهن
بالتلبية. وقال بعض المتأخرين: يفرض بالعزم على أعمال الحج.
الاعراب:
ولا يجوز نصب أشهر - في العربية - على ما بيناه من المعنى من أن تقديره
أشهر " الحج أشهر معلومات " أو وقت " الحج أشهر معلومات " وقد أجازوا الحج
شهر ذي الحجة، لأنه معرفة كما تقول العرب: المسلمون جانب، والكفار جانب بالرفع،
فإذا أضافوا نصبوا، فقالوا: المسلمون جانب أرضهم، والكفار جانب بلادهم. وإنما
جاز ذلك، لان النكرة لما جاءت على شرط الخبر: في كونه نكرة من حيث كانت
الفائدة فيه، رفعت بأنها خبر الابتداء فلما صارت معرفة، والخبر يطلب النكرة
نصبت ليصح تقدير الاستقرار الذي هو نكرة كأنك قلت: الكفار مستقرون
جانب بلادهم، ففائدة الأول من جانب، وفائدة الثاني في مستقر.
المعنى:
وقوله تعالى: " فلا رفث " فالرفث هاهنا - عند أصحابنا - كناية عن الجماع
وهو قول ابن مسعود، وقتادة. وأصله الافحاش في النطق كما قال العجاج:
163

عن اللغا ورفث التكلم (1)
وقيل الرفث بالفرج: الجماع، وباللسان: المواعدة للجماع، وبالعين: الغمز
للجماع. وقال ابن عباس، وابن عمر وعطا: المراد هاهنا: المواعدة للجماع،
والتعريض للنساء به. وقال الحسن: الجماع، والتعرض له بمواعدة أو مداعبة
كله رفث.
وقوله تعالى: " ولا فسوق " روى أصحابنا: أنه أراد الكذب. والأولى
أن نحمله على جميع المعاصي التي نهي المحرم عنها، وبه قال ابن عمر. وقال الحسن:
المعاصي نحو القذف وشبهه، وقال ابن عباس ومجاهد وعطا: هو جميع المعاصي
مثل ما قلناه. وقال بعضهم لا يجوز أن يكون المراد إلا ما نهي عنه المحرم هاهنا،
مما هو حلال له في غير الاحرام، لاختصاصه بالنهي عنه وهذا غلط، لأنه
تخصيص للعموم بلا دليل، وقد يقول القائل: ينبغي أن تقيد لسانك في رمضان
لئلا يبطل صومك، فيخصه بالذكر لعظم حرمته.
وقوله: " ولا جدال في الحج " فالذي رواه أصحابنا: أنه قول: لا والله
وبلى والله صادقا، وكاذبا. وللمفسرين فيه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، وابن مسعود، والحسن: أنه لأمراء بالسباب
والأعصاب على جهة المحك، واللجاج.
الثاني - قال مجاهد والسدي: إنه لا جدال في أن الحج قد استدار (2)
في ذي الحجة، لأنهم كانوا ينسون الشهور فيقدمون ويؤخرون، فربما اتفق
في غيره.
اللغة:
وأما اشتقاقه في اللغة فالجدال والمجادلة، والمنازعة، والمشاجرة، والمخاصمة

(1) مر تخريجه في 2: 132.
(2) في المطبوعة (اسنداد) ومعنى اسندار: أي؟ معه كيف دار.
164

واحد، وتقول: جدلت الحبل أجدله وأجدله جدلا: إذا فتلته، وجادلت الرجل
مجادلة وجدالا: إذا خاصمته، وتجادلا تجادلا. وجدلته تجديلا: إذا ألقيته على
الأرض. وتجدل تجدلا وانجدل انجدالا. والجديل: زمام البعير. والجدول: نهر
صغير. والمجدل: القصر. والجدالة: الأرض ذات الرمل الرقيق. والأجدل:
الصقر، وكل مفتول: مجدول. وغلام جادل: إذا ترعرع واشتد. والجديلة:
شريجة الحمام. ورجل أجدل المنكب: فيه تطأطؤ، بخلاف الاشراف من المناكب.
وأصل الباب: الفتل، والجدال: القتال.
الاعراب:
ومن نصب (الثلاثة) أخرج اللفظ مخرج عموم النفي للمبالغة في معنى النفي.
ومن رفع بعضا ونصب بعضا، فلاختلاف المعنى، لان الأول على معنى النهي، والثاني
بمعنى الاخبار عن زمان الحج: قد استدار في ذي الحجة، فكان أحق بالنصب،
لعموم النفي. فأما الأول، فقد يقع من الخاطئ، فلا يصح فيه عموم النفي. هذا
قول النحويين. والصحيح أن الكل معناه النهي، وان خرج مخرج النفي، والاخبار.
والمراد به النهي بلا خلاف.
المعنى:
وقوله تعالى: " وما تفعلوا من خير يعلمه الله " معناه وما تفعلوا من خير
يجازكم الله العالم به، لان الله عالم على كل حال، إلا أنه جعل " يعلمه " في موضع يجازيه
للمبالغة في صفة العدل، لأنه يعاملكم معاملة من يعلمه إذا ظهر منكم، فيجازي به،
وذلك تأكيد أن الجزاء لا يكون إلا بالفعل دون ما يعلم أنه يكون منهم قبل أن
يفعلوه.
وقوله: " وتزودوا فان خير الزاد التقوى " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن، وقتادة، ومجاهد: أن قوما كانوا يرمون بازوادهم،
ويتسمون بالمتوكلة، فقيل لهم تزودوا من الطعام، ولا تلقوا كلكم على الناس،
165

وخير الزاد مع ذلك التقوى.
والثاني - " تزودوا " من الاعمال الصالحات " فان خير الزاد التقوى "،
فذكر ذلك في الحج، لأنه أحق شئ بالاستكثار من أعمال البر فيه، والزاد:
الطعام الذي يتخذ للسفر. والمزود: وعاء يجعل فيه الزاد. وكل من انتقل بخير من
عمل أو كسب، فقد تزود منه تزودا.
وقوله: " واتقون يا أولي الألباب " يعني يا ذوي العقول، لان اللب العقل،
وإنما سمي لبا لأنه أفضل ما في الانسان. وأفضل كل شئ لبه.
قوله تعالى:
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم
من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم
وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) آية واحدة بلا خلاف.
هذه الآية فيها تصريح بالاذن في التجارة، ونحوها في حال الاحرام، لأنهم
كانوا يتحرجون بذلك في صدر الاسلام على قول ابن عباس، وابن عمر،
ومجاهد، وعطا، والحسن، وقتادة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع).
اللغة والاعراب:
والجناح هو الجرح في الدين، وهو الميل عن الطريق المستقيم، وأصله الميل
- على ما مضى القول فيه -.
وقوله: " فإذا أفضتم من عرفات " يعني دفعتم من عرفه إلى المزدلفة عن
اجتماع، كفيض الاناء عن امتلائه، تقول: فاض الماء يفيض فيضا: إذا انصب عن
امتلاء، وأفاض إفاضة في الحديث: إذا اندفع فيه. واستفاض الخبر إذا شاع.
والإفاضة الضرب بالقداح. وفيض الصدر بما فيه: البوح به. والإفاضة: امتلاء الحوض
حتى يفيض. ورجل فياض: جواد. ودرع مفاضة، وفيوض إذا كانت واسعة (1).

(1) في المطبوعة " سا؟ " والصحيح ما أثبتناه.
166

وفيض البصرة: نهرها. وأصل لباب:؟: الانصباب عن الامنا
و " عرفات " صرفت وإن كان فيها التعريف، والتأنيث، لأنها على حكاية
الجمع، كما يجب أن يحكى المذكر إذا سمي به الجمع، ويجوز فيها ترك الصرف تشبيها
بالواحد فيسقط التنوين ويسقط الاعراب كما كان في الجمع كقول امرء القيس:
تنورتها من أذرعات وأهلها * بيثرب أدنى دارها نظر عالي (1)
والأول اختيار النحويين، وقد أجاز بعضهم فتح التاء بغير تنوين على قياس
طلحة، وأنشدوا البيت على ثلاثة أوجه (أذرعات) - منونا مكسورا - ومجرورا بلا
تنوين - ومفتوحا بلا تنوين - وأنكر الزجاج الوجه الثالث.
والمشعر هو معلم المتعبد. وقال المبرد: المشعر - بفتح الميم والعين - مكان
الشعور، كالمدخل لمكان الدخول. والمشعر - بكسر الميم - الحديدة التي يشعر بها
أي يعلم بها. فكسرت، لأنها آلة كالمخرز، والمقطع، والمخيط. وقال: الكسائي:
لا فرق بين الفتح والكسر.
المعنى:
و " المشعر الحرام " هو المزدلفة: وهو جمع بلا خلاف. وسميت عرفات
عرفات، لان إبراهيم (ع) عرفها بما تقدم له من النعت لها، والوصف، على ما روي
عن علي (ع) وابن عباس. وقال عطا، والسدي، وقد روي ذلك في أخبارنا:
أنها سميت بذلك، لان آدم وحواء اجتمعا فيه، فتعارفا بعد أن كانا افترقا. وقيل:
سميت عرفات لعلوه وارتفاعه، ومنه عرف الديك.
ووجه التشبيه في قوله " واذكروه كما هداكم " أن الذكر بالشكر، والثناء
يجب أن يكون بحسب الانعام، والهداية في العظمة لأنه يجب أن يكون الشكر

(1) ديوانه 140. وهو من قصيدته الرائعة المشهورة. والضمير في تنورتها عائد للمرأة
التي بذكرها، وتنور النار: رآها من بعيد، جعل المرأة تضئ له كما تضي. النار المشبوبة.
وأذرعات: بلد في الشام، ويثرب: مدينة الرسول " ص ".
يقول: لاح لي نورها وأنا في أذرعات وهي بيثرب ثم يقول: قرب مكانها مني نظر نظرته
نحو جو السماء.
167

كالنعمة في عظم المنزلة كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة، ولا يجوز
التسوية في الشكر بين من عظمت نعمته ومن صغرت.
الاعراب:
وقوله: " وإن كنتم من قبله من الضالين " معنى (إن) هاهنا المخففة من
الثقيلة بدلالة دخول لام الابتداء معها، وإذا خففت لم تعمل. وجار دخولها على
الاسم، والفعل، كقوله تعالى: " وإن كل لما جميع لدينا محضرون " (1). وأما
" كنتم " فلا موضع لها من الاعراب، لأنها بعد حرف غير عامل. وليس " لان "
موضع كما ليس لها موضع في الابتداء. وأنما هذه الواو عطف جملة على جملة.
وروى جابر عن أبي جعفر (ع) قال: " لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من
ربكم " معناه أن تطلبوا المغفرة.
قوله تعالى:
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله
إن الله غفور رحيم (199) آية بلا خلاف.
المعنى:
قيل في معنى هذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، وعائشة، وعطا، ومجاهد، والحسن، وقتادة،
والسدي، والربيع، وهو المروي عن أبي جعفر (ع): أنه أمر لقريش وخلفائهم،
لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة، ولا يفيضون منها، ويقولون: نحن أهل
حرم الله لا نخرج عنه، فكانوا يقفون بجمع ويفيضون منه، دون عرفة، فأمرهم
الله تعالى أن يفيضوا من عرفة بعد الوقوف بها.
والثاني - قال الضحاك، والجبائي وحكاه المبرد، لكنه اختار الأول، لأنه

(1) سورة يس آية 32.
168

خطاب لجميع الحاج أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم (ع) من المزدلفة. والأول
إجماع، وهذا شاذ، وليس لاحد أن يقول على الوجه الاخر: كيف يقال لإبراهيم
وحده الناس، وذلك أن هذا جائر كما قال: " الذين قال لهم الناس " (1) وإنما
كان واحدا بلا خلاف: وهو نعيم بن مسعود الأشجعي، وذلك مستعمل. وقيل
إن إبراهيم لما كان إماما، كان بمنزلة الأمة التي تتبع في سنة.
فان قيل: إذا كانت (ثم) للترتيب، فما معنى الترتيب هاهنا؟؟ لنا: الذي
رواه أصحابنا أن هاهنا تقديما، وتأخيرا. وتقديره " ليس عليكم جناح أن تبتغوا
فضلا من ربكم " " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " " فإذا أفضتم من عرفات
فاذكروا الله عند المشعر الحرام " " واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ". وقال قوم:
المعنى " ثم أفيضوا " من المزدلفة. والذي أجاب به المتأولون: أن قالوا: رتبت الإفاضة
بعد المعنى الذي دل الكلام الأول عليه، كأنه قيل: أحرموا بالحج على ما بين لكم
" ثم أفيضوا " يا معشر قريش " من حيث أفاض الناس " بعد الوقوف بعرفة. وهذا
قريب مما قلناه. وإنما عدل الذي تأوله على الإفاضة من المزدلفة، لأنه رآه بعد
قوله، فإذا أفضتم من عرفات، قال: فأمروا أن يفيضوا من المزدلفة بعد الوقوف
بها، كما أمروا في عرفة، وقد بينا ترتيب الكلام في التأويل المختار. والاستغفار هو
طلب المغفرة، كما أن الاستخبار: طلب السؤال. والمغفرة: التغطية للذنب بايجاب
المثوبة. وقيل في معنى الاستغفار قولان: أحدهما - الحض عليه في تلك المواطن
الشريفة، لأنها خليقة بالإجابة. الثاني - استغفروه لما سلف من مخالفتكم في الوقوف
والإفاضة، كما سنه الله تعالى للناس عامة. والفرق بين غفور وغافر أن في غفور
مبالغة لكثرة المغفرة، فأما غافر، فيستحق الصفة فيه بوقوع الغفران. والعفو هو
المغفرة. وقد فرق بينهما بأن العفو ترك العقاب على الذنب، والمغفرة تغطية الذنب
بايجاب المثوبة. ولذلك كثرت المغفرة في صفات الله تعالى، دون صفات العباد، فلا
يقال: استغفر السلطان كما يقال: استغفروا الله.

(1) سورة آل عمران آية 172.
169

قوله تعالى:
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم
أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له
في الآخرة من خلاق (200) آية بلا خلاف.
المعنى:
قوله تعالى: " فإذا قضيتم " معناه فرغتم منها. وأصل القضاء: فصل الامر
على أحكام. وقد يفصل بالفراغ منه كقضاء المناسك وقد يفصل بالعمل له على تمام
كقوله " فقضاهن سبع سماوات في يومين " (1) وقد يفصل بالاخبار على القطع
كقوله تعالى: " وقضينا إلى بني إسرائيل " (2) قد يفصل بالحكم كقضاء القاضي
على وجه الالزام بالقهر.
والمناسك المأمور بها هاهنا جميع أفعال الحج المتعبد بها في قول الحسن وغيره
من أهل العلم - وهو الصحيح - وقال مجاهد: هي الذبائح.
وقوله " فاذكروا الله " فالذكر هو العلم. وقيل: هو حضور المعنى للنفس بالقول
أو غيره مما هو كالعلة، لحضوره بها. وقيل: المراد به هاهنا التكبير أيام منى لأنه
الذكر الذي يختصه بالترغيب فيه على غيره من الأوقات. وقيل أيضا: إنه سائر
الدعاء لله تعالى في ذلك المواطن، لأنه أفضل من غيره - وهو الأقوى - لأنه أعم.
وقوله: " كذكركم آباءكم " معناه ما روي عن أبي جعفر " ع " أنهم كانوا
يجتمعون، يتفاخرون بالاباء، وبمآثرهم، ويبالغون فيه. وقوله " أو أشد ذكرا "
إنما شبه الأوجب بما هو دونه في الوجوب، لامرين: أحدهما - أنه خرج على
حال لأهل الجاهلية كانت معتادة: أن يذكروا آباءهم بأبلغ الذكر على وجه التفاخر،
فقيل: اذكروا الله كالذكر الذي كنتم تذكرون به آباءكم في المبالغة، أو أشد ذكرا

(1) سورة حم السجدة آية 12.
(2) سورة الإسراء آية: 4.
170

بما له عليكم من النعمة. هذا قول أنس، وأبي وائل، والحسن، وقتادة. والثاني -
قال عطا: أذكروه بالاستعانة به، كذكركم آباءكم: الصبي لأبيه إذا قال: يا أباه.
والأول هو المعتمد.
الاعراب:
وإنما نصب " ذكرا " ولم يخفض كما يخفض في قولهم هذا الذكر أشد ذكر،
لأنه فيه ضميرا منهم نظير قولك: هم أشد ذكرا، وفي أشد ضميرهم، ولو قلت مررت
به أشد ذكرا لكان منصوبا على الحال فأما الذكر، فعلى التمييز.
المعنى:
فان قيل الامر بالذكر هاهنا بعد قضاء المناسك أو معه؟ قيل: أجاز أبو علي
الوجهين، واستشهد بقولهم: إذا وقفت بعرفات فادع الله، وإذا حججت،
فطف بالبيت.
والخلاق: النصيب من الخير، وأصله التقدير، فهو النصيب من الخير على
وجه الاستحقاق.
قوله تعالى:
ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار (201) آية واحدة.
الاعراب:
" ربنا " منصوب، لأنه منادى وتقديره: يا ربنا. وإنما حذف حرف
النداء، لما كان أصله تنبيه المنادى، ليقبل عليك، وكان الله عز وجل لا يغيب عنه
شئ - تعالى عن ذلك -، سقط حرف النداء للاستغناء عنه. فأما يا الله اغفر لي، فيجوز
أن يخرج مخرج التنبيه للتأكيد: أن يقبل عليك برحمته، ولأنك تسأله سؤال
المحتاج أن ينبه على حالة، لان ذلك أبلغ في الدعاء، وأحسن في المعنى.
171

اللغة:
والفرق بين القول والكلام: أن القول يدل على الحكاية، وليس كذلك
الكلام، نحو قال: الحمد لله، فإذا أخبرت عنه بالكلام قلت تكلم بالحق، والحكاية
تكون على ثلاثة أوجه: حكاية على اللفظ والمعنى، وحكاية على اللفظ فقط،
وحكاية على المعنى فقط، فالأول نحو " أتوني أفرغ عليه قطرا " (1) إذا حكاه
من يعرف لفظه ومعناه. والثاني - إذا حكاه من يعرف لفظه دون معناه. الثالث -
نحو أن يقول: أتوني أفرغ عليه نحاسا، فيكون حكاه على معناه دون لفظه.
المعنى:
وقوله " آتنا " معناه: أعطنا، فالاتيان الاعطاء. وأصله الآتي، والمجئ،
فأتي إذا كان منه المجئ، فأتي إذا حمل غيره على المجئ، كما يقال: أتاه ما يحب،
وآتاه غيره ما يحب.
والحسنة التي سألوها قيل في معناها قولان:
أحدهما - قال قتادة، والجبائي، وأكثر المفسرين: إنه نعم الدنيا، ونعم
الآخرة.
الثاني - قال الحسن: العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة، وسميت نعمة الله
حسنة، لأنها مما تدعو إليه الحكمة. وقيل: الطاعة والعبادة حسنة، لأنها مما يدعوا
إليه العقل.
اللغة:
وقوله تعالى: " وقنا عذاب النار " فالوقاء: الحاجز الذي يسلم به من الضرر.
يقال وقاه يقيه وقاء، ووقاية. وتوقى هو توقية وأصل الوقاء الحجز بين الشيئين.
وأصل قنا: أوقنا مثل احملنا، فذهبت الواو لسقوطها في يقي، لوقوعها بين ياء
وكسرة ثم أتبع سائر تصاريف الفعل ما لزمته العلة، وسقط ألف الوصل للاستغناء

(1) سورة الكهف آية: 97.
172

عنها بتحرك ما بعدها، وحذفت الياء، للوقف الذي هو نظير الجزم.
والفائدة في الاخبار عنهم بهذا الدعاء، الاقتداء بهم فيه، لأنه لما حذر من
الدعاء الأول رغب في الثاني.
قوله تعالى:
أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202)
آية بلا خلاف.
الاعراب:
" أولئك " رفع بالابتداء وخبره لهم نصيب. ومعناه أولئك لهم نصيب من
كسبهم باستحقاقهم الثواب عليه.
اللغة:
والنصيب: الحظ، وجمعه أنصباء وأنصبة. وحد النصيب الجزء الذي يختص
به البعض من خير أو شر.
والكسب: الفعل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر. وتقول: نصب ينصب
نصبا، ونصب نصبا من التعب، وأنصبني هذا إنصابا. وانتصب الشئ انتصابا.
وناصبه العداوة مناصبة. والنصب إقامتك الشئ. والنصب: الرفع. ونصب القوم
السير: إذا رفعوه. وكل شئ رفعته، فقد نصبته، ومنه نصب الحرف، لان الصوت
يرفع فيه إلى الغار الاعلى. والنصب بتغير الحال من مرض أو تعب. والنصب: جمع
أنصاب وهي حجارة كانت تنصب في الجاهلية، ويطاف بها، ويتقرب عندها وهي التي
ذكرها الله تعالى في قوله: " وما ذبح على النصب " (1) وقال: " والأنصاب
والأزلام " (2). وأنصاب الحرم حدوده، وهي حجارة تنصب، ليعرف بها

(1) سورة المائدة آية: 4.
(2) سورة المائدة آية: 63.
173

الحرم. ونصاب السكين، وغيره معروف، وفلان في نصاب صدق: في حسب ثابت.
والنصبة: السارية. والمنصب الذي ينصب عليه القدور. وكل شئ استقبلت به شيئا،
فقد نصبته. وأصل الباب القيام.
وقوله تعالى: " والله سريع الحساب " يعني في العدل من غير حاجة إلى خط
ولا عقد، لأنه (عز وجل) عالم به. وإنما يحاسب العبد مظاهرة في العدل، وإحالة
على ما يوجبه الفعل من خير أو شر. والسرعة هو العمل القصير المدة. وتقول: سرع
سرعة، وأسرع في المشي إسراعا، وسارع إليه مسارعة، وتسرع تسرعا،
وتسارع تسارعا، وأقبل فلان في سرعان قومه أي في أوائلهم المتسرعين.
واليسروع: دويبة تكون في الرمل. وأصل الباب: السرعة.
وتقول من الحساب: حسب الحساب يحسبه حسبا، وحسب الشئ حسبانا،
وحاسبه محاسبة، وحسابا، وتحاسبوا تحاسبا، واحتسب احتسابا، وأحسبني من
العطاء إحسابا، وأي كفاني " وعطاء حسابا " (1) أي كافيا. والحسبان سهام صغار.
وقيل منه " ويرسل عليها حبسانا من السماء " (2). وقيل عذابا. والمحسبة وسادة
من أدم. والمحسبة غبرة مثل كدرة. وحسب الرجل مآثر آبائه. وأفعل ذلك
بحسب ما أوليتني. وحسبي أي يكفيني " ويرزق من يشاء بغير حساب " (3) أي
بغير تضييق " والشمس والقمر بحسبان " (4) أي قدر لهما مواقيت معلومة لا يعدونها.
والتحسيب: دفن الميت يجب الحجارة (5) وأصل الباب: الحساب، والحسبان:
الظن، لأنه كالحساب في الاعتداد به، والعمل به على بعض الوجوه. وروي عن
علي (ع) أنه قال: معناه إنه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة.
قوله تعالى:
واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا

(1) سورة النبأ آية: 36.
(2) سورة الكهف آية: 41.
(3) سورة البقرة آية: 112.
(4) سورة الرحمن آية: 5.
(5) هكذا في المطبوعة وفي لسان العرب (حسب) التحسيب دفن الميت في الحجارة
174

إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا
أنكم إليه تحشرون (203) آية بلا خلاف.
المعنى:
هذا أمر من الله تعالى للمكلفين أن يذكروا الله في الأيام المعدودات: وهي
أيام التشريق: ثلاثة أيام بعد النحر، وهو قول ابن عباس، والحسن ومالك. والأيام
المعلومات: عشر ذي الحجة، وهو قول ابن عباس أيضا، وذكر الفراء: أن المعلومات:
هي أيام التشريق، والمعدودات العشر. وفيه خلاف ذكرناه في اختلاف الفقهاء.
وسميت معدودات لأنها قلائل، كما قال: " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة " (1)
أي قليلة. والجمع بالألف والتاء يصلح للقليل والكثير، والقليل أغلب عليه. وأنكر
الزجاج ما يروي في قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى * وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (2)
من أنه عيب عليه، وزعم أن الخبر موضوع، وقال الألف والتاء يصلح
للكثير قال الله تعالى: " وهم في الغرفات آمنون " (3) وقال: " إن المتقين في جنات
وعيون " (4) وإنما احتمل هذا الجمع القليل والكثير، لان جمع السلامة على طريقة
واحدة لا يتميز فيه قليل من كثير، وكان القليل أغلب عليه، لشبهه بالتثنية.
والآية تدل على وجوب التكبير في هذه الأيام، وهو أن يقولوا: الله أكبر الله
أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وبه قال الحسن والجبائي،
وزاد أصحابنا على هذا القدر: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا،

(1) سورة يوسف آية: 20.
(2) ديوانه: 69. الجفنات جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة، والغر: البيض. وهذا البيت
قيل ة ان حسان قد فاز به في بعض السنين بسوق عكاظ وقد أعابته الخنساء في الجفنات لأنها
جمع قلة وفي الغر لأنه لا يدل على أن القصاعي ممتلاة طعاما، وعلى قوله: يقطرن، ولم يقل
يجر؟.
(3) سورة سبأ آية: 37.
(4) سورة الحجر آية: 45.
175

ورزقنا من بهيمة الأنعام. وأول التكبير - عندنا - لمن كان بمنى، عقيب الظهر من
يوم النحر إلى الفجر يوم الرابع من النحر: عقيب خمسة عشرة صلاة، وفي الأمصار
عقيب الظهر من يوم النحر إلى عقيب الفجر يوم الثاني من التشريق: عقيب عشر
صلوات، واختار الجبائي من صلاة الغداة من يوم عرفة إلى صلاة العصر آخر يوم
التشريق. وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.
وقوله تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ".
المعني في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من التشريق وإن أقام إلى النفر
الأخير، وهو اليوم الثالث من التشريق، كان أفضل، فان نفر في الأول، نفر بعد الزوال
إلى الغروب، فان غربت فليس له أن ينفر. وقال الحسن إنما له أن ينفر بعد الزوال
إلى وقت العصر، فان أدركته صلاة العصر، فليس له أن ينفر إلا يوم الثالث وليس
للامام أن ينفر في النفر الأول، وبه قال الحسن.
وقوله تعالى: " فلا إثم عليه " قيل فيه قولان: أحدهما - لا إثم عليه
لتكفير سيئاته بما كان من حجه المبرور وهو معنى قول ابن مسعود. الثاني - قال
الحسن: لا إثم عليه في تعجله ولا تأخره. وإنما نفى الاثم، لئلا يتوهم ذلك متوهم
في التعجل، وجاء في التأخر على مزاوجة الكلام كما تقول: إن أظهرت الصدقة
، فجائز. وإن أسررتها، فجائز، والاسرار أفضل.
وقوله تعالى: " لمن اتقى " قيل فيه قولان: أحدهما - لما قال " فلا إثم عليه "
دل على وعده بالثواب، فقيد ذلك بالتقوى لله تعالى، لئلا يتوهم أنه بالطاعة في النفر
فقط. والثاني - أنه لا إثم عليه في تعجله إذا لم يعمل لضرب من ضروب الفساد،
ولكن لاتباع إذن الله فيه. وقالوا: معنى تجديد الامر بالتقوى هاهنا التحذير
من الاتكال على ما سلف من أعمال البر في الحج، فبين أن عليهم مع ذلك ملازمة
التقوى، ومجانبة المعاصي.
وروى أصحابنا: أن قوله " لمن اتقى " متعلق بالتعجل في اليومين، وتقديره
" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " " لمن اتقى " الصيد إلى انقضاء النفر الأخير
176

وما بقي من إحرامه، ومن لم يتقها، فلا يجوز له النفر في الأول، وهو اختيار الفراء،
والمروي عن ابن عباس، وروي عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى " فمن تعجل
في يومين " أي من مات في هذين اليومين، فقد كفر عنه كل ذنب. ومن تأخر
أي أنسئ أجله، فلا إثم عليه بعدها إذا اتقى الكبائر.
الاعراب:
والعامل في اللام في قوله " لمن اتقى " قيل فيه قولان: أحدهما - ذلك " لمن اتقى "
فحذف ذلك لان الكلام الأول دل على وعد للعامل. والثاني - أن يكون العامل
معنى " لا إثم عليه "، لأنه قد تضمن معنى جعلناه " لمن اتقى ".
اللغة:
وقوله تعالى: " واتقوا الله " معناه اجتنبوا معاصي الله، " واعلموا أنكم
إليه تحشرون " أي تحققوا أنكم بعد موتكم تردون إلى الله، فيجازيكم على أعمالكم.
تقول: حشر يحشر حشرا، فالحشر: جمع القوم من كل ناحية إلى مكان.
والمحشر: مجتمعهم: هو المكان الذي يحشرون فيه، وحشرتهم السنة: إذا
أجحفت بهم، لأنها تضمهم من النواحي إلى المصر. وسهم حشر: خفيف لطيف،
لأنه ضامر باجتماعه. ومنه أذن حشره: لطيفة ضامرة. وحشرات الأرض: دوابها
الصغار، والواحدة حشرة، لاجتماعها من كل ناحية. ودابة حشور: إذا كان
ملززة الحلق شديدة. ورجل حشور: إذا كان عظيم البطن. وحشرت السنان،
فهو محشور: إذا رفقته وألطفته. وأصل الباب الاجتماع.
قوله تعالى:
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله
على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) آية واحدة.
قال الحسن: المعني بهذه الآية المنافق. وقال قوم: المعني: بها المرائي. وقيل:
177

إنها نزلت في الأخنس بن شريق ذكره السدي وغيره.
اللغة:
والاعجاب هو السرور بالشئ سرور العجب بما يستحسن. ومنه العجب بالنفس،
والسرور بها سرور العجب من الشئ استحسانا له، وذلك إذا تعجب من شدة
حسنه. وتقول: عجب عجبا، وتعجب تعجبا، وعجبه تعجيبا، وأعجبه إعجابا،
واستعجب استعجابا أي اشتد تعجبه. والعجاب: العجيب، وأعجبني هذا: إذا
كان حسنا جدا. والمعجب بنفسه أو بالشئ معروف. وقال الأزهري: العجب
كل شي غير مألوف، وعجب الذنب: العظم الذي ينبت عليه شعر الذنب في المعز،
ورأيت أعجوبة وأعاجيب. وأصل الباب العجب.
وقوله تعالى: " في الحياة الدنيا " أي وقت الحياة الدنيا فالحي هو من
لا يستحيل، وهو على ما هو عليه أن يكون عالما قادرا.
وقوله: " ويشهد الله على ما في قلبه " فأصل الاشهاد: هو الاقرار بالشئ
ليشهد به المقر عنده. والمراد في الآية: من يقر بالحق، ويقول: اللهم اشهد علي،
وضميره على خلافه.
وقوله تعالى: " وهو ألد الخصام " يقال لده يلده لدا: إذا غلبه في
الخصومة، ولده يلده: إذا أو جره في أحد خقي فمه. ولدت تلد لدا وهو شدة
الخحومة. وجانبا كل شئ لديداه، فمنه لديدي الوادي. ولديدي العنق:
صفحناه. ولده عن كذا: إذا حبسه. والتلدد: التلفت عن تحير وأصل الباب
اللديد: الجانب.
والخصام: هو المخاصمة. تقول: خاصمه يخاصمه مخاصمة، وخصاما،
وتخاصما، واختصما اختصاما، واستخصمهم استخصاما. والخصم طرف الرواية
الذي بحيال العزلاء (1) من مأخرها، وطرفها الاعلى وهو العصم. والاخصام من

(1) في المطبوعة " الدراية الذي بحبال العولاء " وهو تصحيف.
178

كل شئ جوانبه، كجوانب الخوالق الذي فيه العرى، يحمل به. وأصل الباب
الخصومة.
المنى:
ومعنى " ألد " في الآية: هو الشديد الجدل بالخصومة إلى ما يريد، قال
الشاعر:
ثم أردي وبهم من تردي * تلد أقران الخصوم اللد (1)
وقال الزجاج: الخصام جمع خصم. والمعنى هو أشد المخاصمين خصومة.
وقال غيره: هو مصدر. ومعنى الآية أنه تعالى وصف المنافقين، فقال: " ومن الناس
من يعجبك " يا محمد " قوله " في الظاهر، وباطنه بخلافه " ويشهد الله على ما في قلبه
وهو ألد الخصام " جدل مبطل.
ومن قرأ " ويشهد الله " - بفتح الياء - معناه أنه تعالى يشهد عليه بنفاقه،
وإظهاره خلاف ما يبطن. والقراءة العامة هي الأولى.
قوله تعالى:
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث
والنسل والله لا يحب الفساد (205) آية واحدة.
في قوله تعالى: " وإذا تولى " ضمير عمن تقدم ذكره وهو " من يعجبك
قوله في الحياة الدنيا " والتولي: هو الانحراف، والزوال عن الشئ إلى خلاف
جهته. والسعي هو الاسراع في المشي وقيل: إنه العمل، وقال الأعشى:
وسعى لكندة غير سعى مواكل * قيس فضر عدوها وبنى لها (2)

(1) معاني القرآن للفراء 1: 123 قدم البيت الثاني على الأول، واللسان " لدد "
ذكر البيت الثاني فقط. ورواية اللسان " ألد " بدل " تلد ". ورواية معاني القرآن:
ألد أقران الرجال اللد
وفي تفسير الطبري 4: 235 كالذي ذكره الشيخ سواء.
(2) ديوانه: 31. رقم القصيدة: 3.
179

أي عمل لها. وقوله: " في الأرض " دخلت الألف واللام في الأرض،
لتعريف الجنس، لان الأرض وإن كانت واحدة بعينها فلو خلق الله مثلها،
لكانت أرضا، كما أن الشمس، والقمر كذلك، وفارق ذلك زيدا وعمرا - في أسماء
الاعلام - وامتناع دخول الألف واللام عليهما، لان الله تعالى لو خلق مثل زيد
لم يجب أن يكون زيدا، على أن الأرضين السبعة كما قال تعالى: " خلق سبع
سماوات ومن الأرض مثلهن " (1) فعلى هذا لا يتوجه السؤال.
والافساد: هو عمل الضرر بغير استحقاق، ولا وجه من وجوه المصلحة.
والاهلاك: المعمل الذي ينفي الانتفاع.
وقوله: " ليفسد فيها " نصب باضمار (أن) ويجوز إظهارها، فتقول: لان
يفسد فيها، ولا يجوز إظهارها في قوله: " ما كان الله ليذر المؤمنين " (2).
وإنما جاز حذفها في " ليفسد " لدلالة الكلام عليها مع كونها في حروف الإضافة
حتى حذفت في قولهم: غلام زيد، وما أشبهه مع كثرته في الكلام، وجاز إظهارها،
لأنه الأصل من غير مانع في الاستعمال، وإنما امتنع في قوله: " ليذر " لما يرجع
إلى المعنى، لان معناه كمعنى (ما كان زيد ليفعل) أي ما كان فاعلا، فلما تضمن
غير المعنى الذي توجبه صورته لم يتصرف في لفظه، ولأنه لما كان محمولا على تأويل
معنى لم يذكر، حمل أيضا على تأويل لفظ لم يذكر. والفرق بين دخول اللام فيها أن
اللام دخلت في " ليفسد " على إضافة السعي إلى الفساد، على أصل الإضافة في
الكلام. ودخولها في " ليذر " فإنما هو لتأكيد النفي بتحقيق تعلقه بالخبر كما دخلت
الباء في (ليس زيد بقائم)، لأن النفي لما كان للخبر وولي حرف النفي الاسم،
دخلت الباء، لتدل على اتصاله في المعنى بحرف النفي.
اللغة:
والحرث: الزرع. والنسل: العقب من الولد. قال الضحاك: الحرث: كل

(1) سورة الطلاق آية: 12.
(2) سورة آل عمران آية: 179.
180

نبات، والنسل: كل ذات. ويقال: نسل ينسل نسولا: إذا خرج، فسقط. ومنه
نسل وبر البعير أو شعر الحمار أو ريش الطائر. النسالة: قطعة من الوبر، قال الله
تعالى: " إلى ربهم ينسلون " (1) أي يسرعون، لأنه إسراع الخروج بحدة.
والنسل: الولد، ما نسل بعضه من بعض. والناس نسل آدم، لخروجهم من ظهره.
والنسل والنسلان: عدو من عدو الذئب فيه اضطراب. والنسيلة: فتيلة السراج،
وأصل الباب النسول: الخروج. وحكى الزجاج: أن الحرث: الرجال، والنسل:
الأولاد. وذكر الأزهري: أن الحرث: النساء، والنسل الأولاد، لقوله تعالى:
" نساؤكم حرث لكم " (2).
المعنى:
وقوله تعالى: " والله لا يحب الفساد " يدل على فساد قول المجبرة: إن الله
تعالى يريد القبائح، لان الله تعالى نفى عن نفسه محبة الفساد. والمحبة هي الإرادة،
لان كل ما أحب الله أن يكون، فقد أراد أن يكون، وما لا يحب أن
يكون لا يريد أن يكون. ومعنى الآية: إذا خرج هذا المنافق من عندك يا محمد
غضبان، عمل في الأرض بما حرم الله عليه وحاول معصيته، وقطع الطريق، وأفسد
النسل، والحرث على عباده. " والله لا يحب الفساد ".
قوله تعالى:
وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم
ولبئس المهاد (206) آية بلا خلاف.
المعنى:
قيل في المعني بهذه الآية قولان: أحدهما - قال ابن عباس: إنه كل منافق.
والثاني - قال السدي: إنه الأخنس بن شريق، والاتقاء طلب السلامة بما يحجز

(1) سورة يس آية: 51.
(2) سورة البقرة آية 223.
181

من المخافة، واتقاء الله إنما هو اتقاء عذابه.
وقوله: " أخذته العزة " قيل في معناه قولان: أحدهما - قال الحسن أخذته
العزة إلى الاثم، كما تقول: أخذت فلانا (1) بأن يفعل: أي دعوته إلى أن
يفعل (2).
ومعنى قوله: " وإذا قيل له اتقى الله أخذته العزة بالاثم " هو الاشعار
بالدليل على نفاقه، لفضيحته بذلك عند المؤمنين - على ما قاله قتادة -، ويجوز أن
يكون الذم له على تلك الحال القبيحة.
وقوله: " ولبئس المهاد " الوطأ. فان قيل: كيف قيل لجهنم مهاد. قلنا
عنه جوابان:
أحدهما - قال الحسن: معناه القرار هاهنا، والقرار كالوطأ في الثبوت عليه.
الثاني - لأنها بدل من المهاد كما قال تعالى: " فبشرهم بعذاب أليم " (3) لأنه
موضع البشرى بالنعيم على جهة البدل منه.
اللغة:
والمهاد في اللغة:
الوطأ من كل شئ تقول: مهدت الفراش تمهيدا، وكل
شئ وطأته فقد مهدته، وتمهد الشئ: إذا يوطأ، وكذلك امتهدا امتهادا، ومهد
الصبي معروف، وجمع المهاد، مهد، وثلاثة أمهدة " والأرض مهادا " (4) لأجل
التوطأة للنوم، والقيام عليها، وأصل الباب التوطأة.
والاخذ: ضد الاعطاء. والعزة: القوة التي يمتنع بها من الذلة.
المعنى:
فمعنى الآية: أن هذا المنافق الذي نعته لك بأنه يعجبك قوله في الحياة الدنيا

(1) في المطبوعة " قد كنا " وهو تصحيف.
(2) ذكر قولا واحدا ولم يذكر الثاني وفي مجمع البيان ذكر القولين ونقل القول الثاني
عن الحسن، وأطلق هذا ولم يذكر قائله، راجع صفحة: 301 من مجمع البيان طبع صيدا.
(3) سورة آل عمران آية 21.
(4) سورة النبأ آية: 6.
182

" إذا قيل له اتق الله " في سعيك في الأرض بالفساد وإهلاك الحرث والنسل،
دخلته عزة وحمية، فقال تعالى: فكفاه عقوبة من ضلاله أن يصلى نار جهنم، فإنها
بئس المهاد لمن يصلاها.
وقوله تعالى:
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله
رؤوف بالعباد (207) آية بلا خلاف.
النزول:
قال قتادة: نزلت هذه الآية في المهاجرين والأنصار. وقال عكرمة: نزلت
في أبي ذر الغفاري: جندب بن السكن، وصهيب بن سهان، لان أهل أبي ذر
أخذوا أبا ذر، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وآله، فلما رجع مهاجرا عرضوا
له، وكان يمر الظهران، فانفلت أيضا منهم حتى قدم النبي صلى الله عليه وآله، فلما رجع
مهاجرا عرضوا له، فانقلت حتى نزل على النبي صلى الله عليه وآله. فأما صهيب، فإنه أخذه
المشركون من أهله فافتدى منهم بما له ثم خرج مهاجرا، فأدركه منقذ بن ظريف بن
خدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلى سبيله.
وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال: نزلت في علي (ع) حين بات على فراش
رسول الله صلى الله عليه وآله لما أرادت قريش قتله، حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وفات
المشركين أغراضهم، وبه قال عمر بن شبه.
المعنى:
وروي عن علي (ع)، وابن عباس: أن المراد بالآية: الامر بالمعروف،
والنهي عن المنكر. وقال الحسن: هي عامة في كل من يبيع نفسه لله بأن يقيم نفسه
في جهاد عدوه، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر وغير ذلك مما أمر الله به،
وتوعد على خلافه.
183

وقوله تعالى: " يشري نفسه " معناه يبيع نفسه، وقد بينا فيما مضى أن
الشراء يكون بمعنى البيع، كما قال: " وشروه بثمن بخس " (1) أي باعوه وقال
الشاعر: (2)
وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه (3)
أي بعت. والشراء استبدال العوض بالثمن. وشرى باع واشترى ابتاع.
وشرا هاهنا مجاز، لان أصله في الأثمان من العين، والورق، لذلك لا يقال:
باع متاعه إذا تصدق به، لان الأظهر إذا أطلق أنه باعه بالثمن.
وقوله تعالى: " ابتغاء مرضات الله " معناه طلب مرضات الله، ومثله " حذر
الموت " (4) قال الشاعر: (5)
وأغفر عوراء الكريم ادخاره * وأعرض عن شتم اللئيم تكرما (6)
ولا يجوز قياسا على ذلك فعله زيدا أي لزيد. ويجوز فعله خوفا، لان في
ذكر المصدر دليلا على العرض الداعي إلى الفعل، وليس كذلك ذكر زيد، والمرضاة
والرضى واحد وهو ضد السخط.
قوله تعالى: " والله رؤوف بالعباد " قد بينا فيما مضى معنى الرؤف. والخلاف
فيه، ومعناه ذو رحمة واسعة بعبده الذي شرى نفسه له في جهاد من جاهد في أمره
من أهل الشرك، والفسوق. وإنما ذكر الرؤوف بالعباد هنا للدلالة على أنه إنما رغب
العبد في بيع نفسه بالجهاد في نفسه رأفة به، وحسن نظر له، ليبتليه من الثواب
المستحق على عمله ما لا يجوز أن يصل إليه في جلالته إلا بتلك المنزلة.

(1) سورة يوسف آية: 20.
(2) هو يزيد بن مفرغ الحميري.
(3) مر تخريجه في 1: 348. وروايته هناك " من قبل " بدل " من بعد " والبيت
مروي بالوجهين.
(4) سورة البقرة آية: 19.
(5) هو حاتم.
(6) ديوانه: 24، ونوادر أبي زيد: 11، والخزانة 1: 491. وغيرها وفي
البيت اختلاف كثير في الرواية، والشاهد فيه عندهم نصب " ادخاره " على أنه مفعول له.
184

قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات
الشيطان إنه لكم عدو مبين (208) آية واحدة.
القراءة:
قرأ أهل الحجاز، والكسائي " السلم " - بفتح السين -. الباقون
- بكسرها -
اللغة:
قال الأخفش: السلم - بكسر السين -: الصلح، وبفتحها، وفتح اللام:
الاستسلام. وقال الزجاج: السلم جميع شرائعه. ويقال: السلم، والسلم معناهما
الاسلام، والصلح. وفيه ثلاث لغات: كسر السين، وفتحها مع تسكين اللام،
وفتحها. وقال أبو عبيدة: السلم - بكسر السين - والاسلام واحد، وهو في موضع
آخر المسالمة، والصلح.
المعنى:
وقال ابن عباس، والسدي، والضحاك، ومجاهد: معنى السلم هاهنا الاسلام، وبه
قال قتادة. وقال الربيع: معناه ادخلوا في الطاعة، وهو اختيار البلخي قال: لان الخطاب
للمؤمنين بقوله: " يا أيها الذين آمنوا " واختار الطبري الوجه الأول، والأمران
جميعا عندنا جائزان محتملان، وحملها على الطاعة أعم، ويدخل فيه ما رواه أصحابنا
من أن المراد به الدخول في الولاية، قال أبو علي: من قرأ بفتح السين، ذهب إلى أن
معناه: المسالمة، والصلح، وترك الحرب باعطاء الجزية. ومن كسرها، اختلفوا
منم من حمله على الاسلام، ومنهم من حمله على الصلح أيضا.
185

اللغة:
وقوله تعالى: " كافة " معناه جميعا، وهو نصب على الحال من ضمير المؤمنين.
وقيل من حال السلم، واشتقاقه في اللغة مما يكف الشئ في آخره، من ذلك كفة
القميص، يقال لحاشية القميص: كفة. وكل مستطيل، فحرفه كفة. ويقال في كل
مستدير: كفة، نحو كفة الميزان. وإنما سميت كفة الثوب، لأنها تمنعه أن ينتشر.
وأصل الكف: المنع، ومنه قيل لطرف اليد: كف، لأنها يكف بها عن سائر البدن:
وهي الراحة مع الأصابع، ومن هذا قيل: رجل مكفوف أي قد كف بصره أن
يبصر، وكف من الشئ يكف كفا: إذا انقبض عنه. وكل شئ جمعته، فقد
كففته. واستكف السائل: إذا بسط كفه يسأل. واستكف القوم بالشئ: إذا
أحدقوا به. وتكفف السائل: إذا مد كفه للسؤال. ولقيته كفة لكفة: إذا
لقيته مفاجأة. والمكفوف: الأعمى. والكفف: دارات الوسم. والكفة: ما يصاد
به الظباء: كالطوق.
المعنى:
فمعنى الآية على هذا: ابلغوا في الاسلام إلى حيث تنتهي شرائعه، فتكفوا
من أن تعدوا شرائعه. وادخلوا كلكم حتى يكف عن عدد واحد لم يدخل فيه.
وقيل: معنى الآية: أن قوما من اليهود أسلموا وأقاموا على تحريم السبت، وتحريم
لحمم الإبل، فأمرهم الله تعالى أن يدخلوا في جميع شرائع الاسلام. وقال بعض أهل
اللغة: جائز أن يكون أمرهم وهم مؤمنون أن يدخلوا في الايمان: أي يقيموا على
الايمان كما قال: " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " (1) وكلا القولين جائز.
وقوله " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " أي لا تتبعوا آثاره، لان ترككم
شيئا من شرائع الاسلام اتباع الشيطان. وخطوات: جمع خطوة وفيها ثلاث
لغات: خطوات - بضم الطاء، وفتحها، واسكانها.

(1) سورة النساء آية: 135.
186

وقوله تعالى: " إنه لكم عدو مبين " عداواته للمؤمنين. وإبانة عداوته لنا
هو أن ينسها لمن يراه من الملائكة، والجن، ونحن وإن لم نشاهده، فقد علمنا
معاداته لنا، ودعاءه إيانا إلى المعاصي، فجاز أن يسمى ذلك إبانة. وقال الجبائي:
أبان عداوته لادم والملائكة (ع)، فكان بذلك مبينا لعداوته إيانا.
قوله تعالى:
فان زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله
عزيز حكيم (209) آية واحدة.
المعنى واللغة::
أنزل الله تعالى هذه الآية، وقد علم أنه سيزل الزالون من الناس، فتقدم في
ذلك، وأوعد فيه، لكي تكون الحجة على خلقه. يقال: زل يزل زلا، وزللا،
ومزلا، وزلولا. ومعنى الآية " فان زللتم " بمعنى تنحيتم عن القصد، والشرائع،
وتركتم ما أنتم عليه من الدين " من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز "
في نعمته " حكيم " في أمره، لا تعجزونه، وحكيم فيما شرع لكم من دينه،
وفطركم عليه، وفيما يفعل بكم من عقوبة على معاصيكم إياه بعد إقامة الحجة عليكم.
وذكر جماعة من أهل التأويل: أن " البينات " هم محمد صلى الله عليه وآله والقرآن، ذهب إليه
السدي، وابن جريج، وغيرهما. وقيل: زل في الآية: مجاز تشبيها بمن زل عن
قصد الطريق، وحقيقته: عصيتم الله فيما أمركم به أو نهاكم عنه. والأولى أن يكون
ذلك حقيقة بالعرف.
وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة: أن الله يريد القبيح، لأنه لو
أراده لما صح وصفه بأنه حكيم. فان قيل: سواء زل العباد أو لم يزلوا، وجب أن
يعلم أن الله عزيز حكيم فما معنى الشرط؟ قيل، لان معنى " عزيز " هو القادر الذي
لا يجوز عليه المنع من عقابكم " حكيم " في عقوبته إياكم، فكأنه قال: فاعلموا أن
العقاب واقع بكم لا محالة، لأنه عزيز لا يجوز أن يحول بينه وبين عقوبتكم حائل،
187

ولم يمنعه مانع " حكيم " في عقوبته إياكم، وذلك أن حري لهم وصفه بأنه عزيز
أنه قدير لا يمنع، لأنه قادر لنفسه. و " حكيم " معناه عليم بتدبير الأمور.
ويقال: " حكيم " في أفعاله بمعنى محكم لها وأصل العزة الامتناع، ومنه أرض
عزاز: إذا كانت ممتنعة بالشدة وأصل الحكمة المنع من قول الشاعر:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم أن أغضبا (1)
ومنه حكمة الدابة
قوله تعالى:
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام
والملائكة وقضي الامر وإلى الله ترجع الأمور (210) آية
واحدة.
القراءة:
قرأ أبو جعفر " والملائكة " بالخفض. والباقون بضمها. وقرأ ابن عامر،
وحمزة، والكسائي " ترجع الأمور " بفتح التاء. الباقون بضمها.
المعنى:
الظلل: جمع ظلة. ومعنى الآية أن يأتيهم عذاب الله، وما توعدهم به على
معصيته، كما قال: " فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " (2) أي آتاهم خذلانه إياهم.
والمختار عند أهل اللغة الرفع في " الملائكة " عطفا على الله، كأنه قال: وتأتيهم
الملائكة. ومن كسر عطف على ظلل، وتقديره في ظلل من الغمام، وظلل من
الملائكة.
وقوله: " وقضى الامر " أي فزع لهم مما كانوا يوعدون به.

(1) قائله جرير، ديوانه 1: 23، واللسان " حكم ".
(2) سورة الحشر آية: 2.
188

وقوله: " والى الله ترجع الأمور " لا يدل على أن الأمور ليست إليه
الان وفي كل وقت. ومعنى الآية الاعلام في أمر الحساب، والثواب، والعقاب أي
إليه، فيعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، فلا حاكم سواه. ويحتمل أن يكون
المراد: أنه لا أحد ممن يملك في دار الدنيا إلا ويزول ملكه ذلك اليوم.
وشبهت الأهوال بالظلل من الغمام، كما قال: " موج كالظلل " (1) ومعنى
الآية: ما ينظرون - يعني المكذبين بآيات الله - محمدا وما جاء به من القرآن والآيات
إلا أن يأتيهم أمر الله وعذابه " في ظلل من الغمام والملائكة "، فهل بمعنى (ما)،
كما يقول القائل: هل يطالب بمثل هذا إلا متعنت أي ما يطالب. وينظرون - في
الآية - بمعنى ينتظرون. وقد يقال: أتى وجاء فيما لا يجوز عليه المجئ، والذهاب،
يقولون أتاني وعيد فلان، وكلام فلان، وكل ذلك لا يراد به الاتيان الحقيقي
قال الشاعر:
أتاني كلام من نصيب يقوله * وما خفت يا سلام أنك عائبي (2)
وقال آخر:
أتاني نصرهم وهم بعيد * بلادهم بلاد الخيزران (3)
فكأن المعنى في الآية: إن الناس في الدنيا يعتصم بعضهم ببعض، ويفزع
بعضهم إلى بعض في الكفر والعصيان، فإذا كان يوم القيامة انكشف الغطاء، وأيقن
الشاك، وأقر الجاحد، وعلم الجاهل، فلم يعصم أحد من الله أحدا، ولم يكن له من
دون الله ناصر، ولا من عذابه دافع، وعلم الجميع أن الامر كله لله.
قوله تعالى:
سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل
نعمة الله من بعد ما جاءته فان الله شديد العقاب (211) آية واحدة.

(1) سورة لقمان آية: 32.
(2) البيت في نوادر أبي زيد: 46، ومعاني القرآن للفراء 1: 146.
(3) البيت للنابغة الجعدي اللسان (خزر) في المطبوعة (بأرض) بدل (بلاد)
189

القراءة:
أهل الحجاز يقولون: سل بغير همز. وبعض بني تميم يقولون: اسأل بالهمز،
وبعضهم يقولون: اسل بالألف وطرح الهمز - والأولى أحسنها لأنها خط المصحف.
المعنى:
وفي الآية تنبيه وتقريع للكفار من بني إسرائيل، ونظيره قول الرجل في
صاحبه إذا فزعه وربحه وأراد أن يلزمه الحجة، ويبين عن كفرانه للنعمة ليوقع
به العقوبة - لمن بحضرته -: سله كم أعددت له وحذرته.
والآيات البينات ما ذكرها الله تعالى: من قلب عصا موسى حية، ويده البيضاء،
وفلقه البحر، وتغريق عدوهم من فرعون وأصحابه، وتظليله عليهم الغمام، وإنزال
المن والسلوى، وذلك من آيات الله التي أتي بها بني إسرائيل، فخالفوا جميع ذلك،
وقتلوا أنبياءه، ورسله، وبدلوا عهده، ووصيته إليهم.
وقوله: " ومن يبدل نعمة الله " معناه: يغير يعني بها الاسلام، وما فرض
فيه من شرائع دينه بعد ما عهد إليه وأمره به من الدخول في الاسلام، والعمل
بشرائعه، فيكفر به، فإنه يعاقبه بما أوعده على الكفر به من العقوبة " والله شديد
العقاب ". وقال الزجاج فيه حذف وتقديره شديد العقاب له، ويجوز أن يكون
معناه: شديد العقاب لكل من يستحقه، فيدخل فيه هذا المذكور، فأما أن يكون
على معنى شديد العقاب لغيره، فلا يجوز إذا لم يكن للمذكور مدخل فيه. وفي
الآية دلالة على فساد قول المجبرة: من أنه ليس لله على الكافر نعمة، لأنه حكم عليهم
بتبديل نعم الله، كما قال: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون " (1)
وقال: " بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " (2)

(1) سورة النحل آية: 83.
(2) سورة إبراهيم آية: 28.
190

قوله تعالى:
زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين
آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء
بغير حساب (212) آية واحدة.
المعنى:
إنما ترك التأنيث في قوله زين والفعل فيها مسند إلى الحياة وهي المرتفعة به،
لأنها لم يسم فاعلها لشيئين:
أحدهما - أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، وما لا يكون تأنيثه حقيقيا، جاز
تذكيره، كقوله تعالى: " فمن جاءه موعظة من ربه " (1) وقوله: " قد جاءكم
بصائر " (2) " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " (3).
والثاني - أنه لما فصل بين الفعل والفاعل بغيره، جاز ترك التأنيث، وقد ورد
ذلك في التأنيث الحقيقي، وهو قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، فإذا جاز ذلك في
التأنيث الحقيقي، ففيما ليس بحقيقي، أجوز، وقد قيل: إنما ترك التأنيث في هذا
الموضع، لأنه قصد بها المصادر، فترك لذلك التأنيث. وقيل في معنى تزيين الحياة
الدنيا قولان:
أحدهما - قال الحسن، والجبائي، وغيرهما - أن المزين لهم إبليس وجنوده،
لأنهم الذين يغوون، ويقوون دواعيه، ويحسنون فعل القبيح، والاخلال بالواجب
ويسوفون لهم التوبة، فأما الله تعالى، فلا يجوز أن يكون المزين له، لأنه زهد
فيها، فأعلم أنها متاع الغرور، وتوعد على ارتكاب القبائح فيها.
والقول الثاني - إن الله تعالى خلق فيها الأشياء المعجبة، فنظر إليها الذين
كفروا بأكثر من مقدارها، كما قال: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين

(1) سورة البقرة آية: 275.
(2) سورة الأنعام آية: 104.
(3) سورة هود آية: 67.
191

والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث " (1) وإنما
أراد بذلك ما جبل الخلق عليه من الميل إلى هذه الأشياء، لا أنه حسن جميعها، ولم
يقبح شيئا منها، وكلاهما جائزان حسنان.
والتزيين، والتحسين واحد، والزين: خلاف الشين، والزينة: اسم جامع
لكل ما يتزين به، وهذا أمر زاين له أي مزين له.
وقوله: " ويسخرون من الذين آمنوا " معناه: أن قوما من المشركين كانوا
يسخرون من قوم من المسلمين، لان حالهم في ذات اليد كانت قليلة، فأعلم الله تعالى:
أن الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة، لان المسلمين في عليين، والفجار في الجحيم،
كما قال تعالى: " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " (2) ثم
أخبر عن المؤمنين أنهم يضحكون منهم - في الآخرة -، فقال: " فاليوم الذين آمنوا
من الكفار يضحكون " (3).
وقوله: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " قيل فيه خمسة أقوال:
أحدها - أن معناه: أنه يعطيهم الكثير الواسع الذي لا يدخله الحساب من
كثرته.
الثاني - أنه ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه، ولا الكافر على قدر كفره في
الدنيا، ولكن الرزق في الآخرة على قدر العمل، وما يتفضل الله به، ويضاعف به
عن رجل على المؤمنين ما يشاء من فضله زيادة على كفايته.
الثالث - أنه يعطى عطاء لا يآخذه بذلك أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا
يطالب عليه بجزاء، ولا مكافاة، ولا يثبت ذكره مخافة الاعدام، والاقلال، لان
عطيته ليست من أصل ينقص، بل خزائنه لا تفنى، ولا تنفد (جل الله تعالى).
والرابع - قال قطرب معناه: أنه يعطي العدد من الشئ، لامما يضبط
بالحساب، ولا يأتي عليه العدد، لان ما يقدر عليه غير متناه، ولا محصور، فهو

(1) سورة آل عمران آية: 14
(2) سورة المطففين آية: 29.
(3) سورة المطففين آية: 34.
192

يعطى الشئ لا من عدد أكثر منه ولا ينقص منه كالمعطى من الآدميين الألف من
الألفين والعشرة من المأة.
والخامس - قال بعضهم: إنما عنى بذلك إعطاء أهل الجنة، لان الله تعالى
يعطيهم ما يتناهى، ولا يأتي عليه الحساب، فكل ذلك حسن جائز، وإنما قال:
" والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة " ولا فضل للكفار في الآخرة لامرين:
أحدهما - أن أحوالهم في الآخرة فوق حال هؤلاء الكفار في الدنيا.
والثاني - أن يكون محمولا على قوله تعالى " أصحاب الجنة يومئذ خير
مستقرا " (1) وكما قال حسان يعني رسول الله وأبا جهل.
فشر كما لخير كما الفداء (2)
ومعنى " يسخرون من الذين آمنوا " أي يهزؤون بهم في زهدهم في الدنيا،
لأنهم يوهمهم أنهم على حق، ويفهم عنهم أن اعتقادهم بخلاف ذلك.
قوله تعالى:
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا
فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات
بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (213) آية واحدة
بلا خلاف.
القراءة:
قرأ أبو جعفر المدني " ليحكم " - بضم الياء - الباقون بفتحها.

(1) سورة الفرقان آية: 24.
(2) انظر 1: 101 من هذا الكتاب
193

المعنى:
معنى قوله: " كان الناس أمة واحدة " أهل ملة واحدة كما قال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع (1)
أي ذو ملة ودين. وأصل الأمة الام من قولك: أم يؤم أما: إذا قصده.
وهي على أربعة أوجه:
فالأمة: الملة، والأمة: الجماعة، والأمة: المنفرد بالمقابلة، والأمة: القابلة.
واختلفوا في الدين الذي كانوا عليه، فقال ابن عباس، والحسن، واختاره
الجبائي: إنهم كانوا على الكفر. وقال قتادة، والضحاك: كانوا على الحق، فاختلفوا.
فان قيل: إذا كان الزمان لا يخلوا من حجة كيف يجوز أن يجتمعوا كلهم على الكفر،
قلنا: يجوز أن يقال ذلك على التغليب لان الحجة إذا كان واحدا أو جماعة يسيرة،
لا يظهرون خوفا وتقية، فيكون ظاهر الناس كلهم الكفر بالله، فلذلك جاز الاخبار
به على الغالب من الحال، ولا يعتد بالعدة القليلة.
وقوله: " وأنزل معهم الكتاب بالحق " قيل في معناه قولان:
أحدهما - بما فيه من البيان عن الحق من الباطل. الثاني - أن معناه: بأنه
حق للاستصلاح به على ما توجبه الحكمة فيه.
وقوله: " ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " فحقيقته، ليحكم منزل الكتاب،
لان الله هو الحاكم بما أنزل فيه، فهو مجاز - في قول الجبائي - قال: إلا أنه
جعل اللفظ على الكتاب تفخيما له، لما فيه من البيان. ويجوز أن يكون في يحكم
ضمير اسم الله، فيكون حقيقة. ومن ضم الياء قراءته لا شبهة فيها. والمعنى ليحكم
الناس أو العلماء بما فيه من الحق.
وقوله تعالى: " وما اختلف فيه " الهاء عائدة على الحق. وقيل على الكتاب.
والأول أصح، لان اختلافهم في الحق قبل إنزال الكتاب. فان قيل: إذا
كانوا مختلفين على إصابة بعضهم له، فكيف يكون الكفر عمهم به؟ قلنا: لا يمتنع

(1) ديوانه: 40، واللسان (أمم) من قصيدته في اعتذاره للنعمان.
194

أن يكون الكل كفارا، وبعضهم يكفر من جهة الغلو، وبعضهم من جهة التقصير
كما كفرت اليهود، والنصارى في عيسى (ع)، فقالت النصارى: هو رب،
فغالوا. وقصرت اليهود، فقالوا: كذاب متخرص. فان قيل: كيف يكون الكل
كفارا مع قوله: " فهدى الله الذين آمنوا "؟ قلنا: لا يمتنع أن يكونوا كلهم كانوا
كفارا، فلما بعث الله إليهم بالأنبياء مبشرين، ومنذرين اختلفوا، فآمن قوم، ولم
يؤمن آخرون.
وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال: كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة
الله، ولا مهتدين، ولا ضلالا، فبعث الله النبيين.
الاعراب:
وقوله تعالى: " بغيا بينهم " نصب على المفعول له، كأنه قال للبغي بينهم
- على قول الأخفش، والزجاج -. وقال بعضهم: الاستثناء متعلق بثلاثة أشياء،
كأنه قال: " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه "، وما اختلفوا فيه إلا من بعد
ما جاءتهم البينات، ما اختلفوا فيه إلا بغيا بينهم. إلا أنه حذف الثاني لدلالة الأول
عليه. قال الرماني: والصحيح الأول، لأنه لا يحكم بالحذف مع استقامة الكلام
من غير حذف إلا لعذر.
المعنى:
وقوله: " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه " معناه: هداهم
للحق، وهو الذي اختلفوا فيه. وقيل في معنى باذنه قولان:
أحدهما - بلطفه، ولا بد من محذوف على هذا التأويل، أي فاهتدوا باذنه،
لان الله عز وجل، لا يفعل الشئ باذن أحد يأذن له فيه، ولكن قد يجوز أن
يكون على جهة التفسير للهدى، كأنه قال: هداهم بأن لطف لهم، وهداهم بأن أذن
لهم. وقال الجبائي: لابد من أن يكون على حذف (فاهتدوا) باذنه.
والقول الثاني - هداهم بالحق بعلمه، والاذن بمعنى العلم معروف في اللغة قال
195

الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء (1)
أي أعلمتنا. وهو قول الزجاج، وغيره من أهل اللغة. فان قيل: إذا كانوا إنما هدوا للحق من الاختلاف فلم قيل: للاختلاف من الحق؟ قيل: لأنه لما
كانت العناية بذكر الاختلاف، كان أولى بالتقديم، ثم تفسيره ب‍ (من). وقال الفراء
هو من المقلوب نحو قول الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما * كان الزناء فريضة الرجم (2)
وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:
إن سراجا لكريم مفخرة * تحلى به العين إذا ما تجره (3)
وإنما يحلى هو بالعين. قال غيره إنما يجوز القلب في الشعر للضرورة. ووجه
الكلام على ما بيناه واضح. فان قيل: ما الهدى الذي اختص به من يشاء؟ قيل فيه
ثلاثة أقوال: قال الجبائي: اختص به المكلفين دون غيرهم ممن لا يحتمل التكليف،
وهو البيان، والدلالة والثاني - قال: ويجوز أن يكون هداهم على طريق الجنة،
ويكون للمؤمنين خاصة. وقال ابن الاخشاد، والبلخي: يجوزان يكون هداهم
باللطف، فيكون خاصا لمن علم من حاله أنه يصلح به. ولا يجوز أن يكون المراد
بالهداية هاهنا الارشاد إلى الدين، ونصب الدلالة عليه، لأنه تعالى لا يخص بذلك
قوما دون قوم، بل لا يصلح التكليف من دونه. وقد بين الله تعالى: أن اختلافهم
كان بعد أن جاءتهم البينات فعم بذلك جميعهم، فلو أراد الله بقوله " فهدى الله الذين
آمنوا " بالبينات، لكان متناقضا - اللهم - إلا أن يحمل ذلك على أنه أضاف إليهم
الهداية، من حيث كانوا هم المنتفعين بها، والمتبعين لها، فكأنهم كانوا هم المخصوصين
بها كما قال: " هدى للمتقين " (4)
وقوله تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر " (5)

(1) انظرا: 380 من هذا الكتاب.
(2) انظر 2: 79.
(3) انظر 2: 79.
(4) سورة البقرة آية: 2.
(5) سورة يس آية: 1.
196

" وإنما أنت منذر من يخشاها " (1) وإن كان منذرا لجميعهم،،
والذي يقوى ذلك قوله: " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " (2)
فبين أنه هداهم. وإنما لم يهتدوا، فكيف يجوز أن تحمل الهداية على نصب الدلالة،
وإقامة الحجة على قوم دون قوم. والفرق بين: هدى المؤمنين إلى الايمان، وبين
أنعم عليهم بالايمان، قال الجبائي: إن الهدى للايمان غير الايمان، والانعام
بالايمان هو نفس الايمان. والصحيح أنه هداه بالايمان يجري مجرى قوله: أنعم
عليه بالايمان لأنه يراد بذلك التمكين منه. والاقتدار عليه والدعاء إليه ولا يراد
به نفس الايمان.
وقوله: " والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم " أي إلى طريق الدين
الواضح.
واختلفوا في الأمة المعنية بهذه الآية، فقال ابن عباس، وقتادة: هم الذين
كانوا بين عاد، ونوح، وهم عشر فرق كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا
بعد ذلك. فالتقدير - على قول هؤلاء - كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله
النبيين. وقال مجاهد: المراد بالآية آدم، فبعث النبيين إلى ولده، لما اختلفوا. وقال
أبي بن كعب، والربيع: كان الناس أمة حين استخرجوا من ظهر آدم، فأقروا
له بالعبودية، واختلفوا فيما بعد، فبعث الله إليهم النبيين. وقال ابن عباس في رواية
أخرى: كانوا أمة واحدة على الكفر، فبعث الله النبيين. قال السدي: كانوا على
دين واحد من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين. وقال الربيع والطبري: الكتاب
الذي اختلفوا فيه التوراة. وقال آخرون كل كتاب أنزل الله مع النبيين.
قوله تعالى:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين
خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول

(1) سورة النازعات آية: 45.
(2) سورة حم السجدة آية: 17.
197

الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله
قريب (214) آية واحدة.
القراءة والنزول:
قرأ نافع " حتى يقول الرسول " بضم اللام. الباقون بنصبها.
ذكر السدي، وقتادة، وغيرهما من أهل التفسير: أن هذه الآية نزلت يوم
الخندق لما اشتدت المخافة، وحوصر المسلمون في المدينة، واستدعاهم الله إلى الصبر،
ووعدهم بالنصر.
الاعراب واللغة:
وقال الزجاج: معنى (أم) هاهنا بمعنى (بل). وقال غيره: هي بمعنى
الواو. وإنما حسن الابتداء ب‍ (أم) لاتصال الكلام بما تقدم، ولو لم يكن قبله
كلام، لما حسن. والفرق بين (أم حسبتم) وبين (أحسبتم) أن (أم) لا تكون
إلا متصلة لكلام، معادلة للألف، أو منقطعة، فالمعادلة نحو (أزيد في الدار أم
عمرو) فالمراد أيهما في الدار، والمنقطعة نحو قولهم: (إنها لابل أم شاء يا فتى)،
وأما الألف، فتكون مستأنفة. وإنما لم يجز في (أم) الاستئناف، لان فيها
معنى (بل) كأنه قيل: (بل حسبتم). وحسبت، وظننت وخلت نظائر.
وقوله تعالى: " ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " معناه ولما تمتحنوا،
وتبتلوا بمثل ما امتحنوا، فتصبروا كما صبروا. وهذا استدعاء إلى الصبر وبعده
الوعد بالنصر.
والمثل، والشبه واحد، يقال: مثل ومثل، مثل شبه وشبه. و " خلوا "
معناه مضوا.
وقوله: " مستهم " فالمس، واللمس واحد. والبأساء ضد النعماء، والضراء
ضد السراء.
وقوله: " زلزلوا " معناه هاهنا: أزعجوا بالمخافة من العدو. والزلزلة: شدة
198

الحركة. والزلزال: البلبلة المزعجة بشدة الحركة، والجمع زلازل، ويقال: زلزل
الأرض يزلزلها زلزالا، وتزلزل تزلزلا، مثل تدكدك تدكدكا، وأصله زل،
وإنما ضوعف، مثل صرصر، وصلصل.
وقوله: " حتى يقول الرسول " من نصب اللام، ذهب إلى تقدير: إلى أن
يقول الرسول، فيكون على معنى الاستقبال إذا قدرت معها (أن)، وهو يشبه
الحكاية، كأنك تقدر حالا، ثم أستأنف غيره فعلا، كما تستأنف عن حال كلامك.
ويوضح ذلك (كان زيد سيقول كذا وكذا). وإنما قدرت بكان زيد وقتا، ثم
يستأنف عنه فعلا، فكذلك " زلزلوا " قد دل على وقت، ثم استأنف بعده الفعل.
ومن رفع، فعلى الحال للفعل المذكور، والحال لكلام المتكلم، وذلك القول
قد يكون في حال الزلزلة. فأما الغاية فلا يكون إلا بعد تقضيها وإن كان متصلا بها،
والرفع يوجب التأدية بمعنى: أن الزلزلة أدت إلى قول الرسول. فأما النصب،
فيوجب الغاية، فقد حصل الفرق بين الرفع والنصب من ثلاث جهات:
الأول - أن أحدها على الحال، والاخر على الاستقبال. والثاني - أن
أحدها قد انقضى، والاخر لم ينقص. والثالث - أن أحدها على الغاية، والاخر
على التأدية. ومعنى الغاية في الآية أظهر، لان النص جاء عند قول الرسول، فلذلك
كان الاختيار في القراءة النصب.
المعنى:
فان قيل: ما معنى قول الرسول والمؤمنين: " متى نصر الله "؟ قلنا: قال قوم:
معناه الدعاء لله بالنصر، ولا يجوز أن يكون معناه الاستبطاء لنصر الله على كل حال
لان الرسول يعلم: أن الله لا يؤخره عن الوقت الذي توجبه الحكمة. وقال قوم:
معناه الاستبطاء لنصر الله. وذلك خطأ، لا يجوز مثله على الأنبياء (ع) إلا أن
يكون على الاستبطاء لنصره لما توجبه الحكمة من تأخره. والنصر ضد الخذلان.
والقريب ضد البعيد. والقرب والدنو واحد. ومن قال: إن ذلك على وجه الاستبطاء
قواه بما بعده من قوله " ألا إن نصر الله قريب ".
199

اللغة:
وأصل (لما) (لم) فزيد عليها (ما) فغيرت معناها، كما غيرت في (لو لما زيد
عليها (ما) إذا قلت: (لوما) فصارت بمعنى هلا. والفرق. بين (لم) و (لما) أن
(لما) يصح أن يوقف عليها، مثل قولك: أقدم زيد؟ فيقول: لما، ولا يجوز
(لم)، وفي (لما) توقع لأنها عقيبة (قد)، إذا انتظر قوم ركوب الأمير، قلت:
قد ركب، فان نفيت هذا قلت: لما يركب، وليس كذلك (لم)، ويجمعهما نفي
الماضي.
قوله تعالى:
يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير
فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما
تفعلوا من خير فان الله به عليم (215) آية واحدة.
المعنى:
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: أن الآية الأولى فيها دعاء إلى الصبر على
الجهاد في سبيل الله، وفي هذه بيان لوجه النفقة في سبيل الله، وكل ذلك دعاء إلى
فعل البر.
والنفقة: إخراج الشئ عن الملك ببيع، أو هبة، أو صلة، أو نحوها، وقد
غلب في العرف على إخراج ما كان من المال: من عين، أو ورق.
وقوله " يسألونك " خطاب للنبي (ص) بأن القوم يسألونه، والسؤال:
طلب الجواب بصيغة مخصوصة في الكلام.
وذكر السدي: أن هذه الآية منسوخة بفرض الزكاة. وقال الحسن: ليست
منسوخة، وهو الأقوى، لأنه لا دليل على نسخها.
والجواب المطابق لقوله: " يسألونك ماذا ينفقون " أن يقول: قل النفقة
200

التي هي خير، وإنما عدل عنه لحاجة السائل إلى البيان الذي يدل عليه، وعلى غيره،
وذلك يحسن من الحكماء إذا أرادوا تعليم غيرهم، وتبصيرهم أن يضمنوا الجواب مع
الدلالة على المسؤول عنه الدلالة على ما يحتاج إليه السائل في ذلك المعني مما أغفله
أو حذف السؤال عنه لبعض الأسباب المحسنة له. فأما الجدل الذي يضايق فيه
الخصم، فالأصل فيه التحقيق، بأن يكون الجواب على قدر السؤال من غير زيادة
ولا نقصان، ولا عدول عما يوجبه نفس السؤال، لان كل واحد من الخصمين قد
حل محل النظير للاخر.
ولا يجوز إعطاء الزكاة للوالدين، وكل من تلزمه نفقته - وبه قال الحسن -
. والآية عامة في الزكاة وفي التطوع - وبه قال الحسن - غير أنها فيمن تلزمه النفقة
عليه، خاصة بالنفقة.
الاعراب:
وموضع (ما) في قوله: " ماذا ينفقون " من الاعراب يحتمل وجهين:
الرفع، والنصب، الرفع على ما الذي ينفقون، فيكون المعني الذي، وينفقون صلة،
والنصب بمعنى أي شئ ينفقون، فيكون (ذا) و (ما) بمنزلة شئ واحد. والمساكين
جمع مسكين وهو المحتاج.
المعنى:
ومعنى قوله: " فان الله به عليم " اي ما تفعلوا من خير فان الله يجازي عليه
من غير أن يضيع منه شئ، لأنه عليم لا يخفى عليه شئ. قال مجاهد: معنى
" يسألونك ماذا ينفقون " إنهم سألوا مالهم في ذلك، فقال الله تعالى: " قل ما أنفقتم
من خير " الآية. وقال قتادة: أهمتهم النفقة، فسألوا عنها النبي صلى الله عليه وآله فأنزل الله
" قل ما أنفقتم من خير " الآية.
قوله تعالى:
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا
201

شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله
يعلم وأنتم لا تعلمون (216) آية واحدة.
المعنى:
معنى قوله تعالى: " كتب عليكم القتال " فرض عليكم القتال، وهذه الآية
دالة على وجوب الجهاد، وفرضه، وبه قال مكحول، وسعيد بن المسيب، وأكثر
المفسرين، غير أنه فرض على الكفاية. وحكي عن عطا: أن ذلك كان على الصحابة،
والصحيح الأول، لحصول الاجماع عليه اليوم، وقد انقرض خلاف عطا.
اللغة:
وقوله: " وهو كره لكم " يقال: كره كراهة، وأكرهه إكراها: إذا
أجبره، وتكره تكرها، واستكره استكراها، وكرهه تكريها. والكراهة:
المشقة التي يحمل عليها، والكره: المشقة من غير أن يحمل عليها. وقيل: هما لغتان،
مثل ضعف، وضعف. وجمل كره: شديد الرأس، لأنه لا ينقاد إلا على كره،
والكريهة: الشديد في الحرب، لأنه يدخل فيها على كره. وكراهية (1) الدهر:
نوازله، كرهت الامر كراهة وكراهية ومكرهة، وكره. إلي هذا الامر تكريها:
أي صيره إلي بحال كريهة. والكرهاء: صفحة الوجه، لان الكره يظهر فيها.
المعنى، واللغة، والاعراب:
فان قيل: كيف كره المؤمنون الجهاد، وهو طاعة لله؟ قيل عنه جوابان:
أحدهما - أنهم يكرهونه كراهية طباع. والثاني - أنه كره لكم قبل أن
يكتب عليكم، وعلى الوجه الأول يكون لفظ الكراهة مجازا، وعلى الثاني حقيقة.
وقوله: " عسى " معناه الطمع، والاشفاق من المخاطب، ولا يكون إلا مع
مثلة في الامر. وقيل: معناها هاهنا قد، وإنما قال: " عسى " وقال في موضع آخر:

(1) في المطبوعة (كراية).
202

" فهل عسيتم " فجمع، لأنه استغنى في الغائب عن الجمع كما استغني عن علامة الضمير
في اللفظ، وليس كذلك المخاطب، فجرى في كل غائب على التوحيد، لامتناعه من
من التصريف. وتقول: عسى أن يقوموا، فإذا قلت: عسيتم أن تقوموا جمعت.
وفي قوله " وهو كره لكم " حذف - في قول الزجاج وغيره - لان
تقديره وهو ذو كره لكم، ويجوز أن يكون معناه: وهو مكروه لكم، فوقع المصدر
موقع اسم المفعول، ومثله قولهم: رجل رضى بمعنى ذو رضى، ويجوز أن يكون
بمعنى مرضي.
وقوله: " وهو شر لكم " فالشر السوء، وهو ضد الخير، تقول: شر يشر
شرارة. شرار النار، وشررها لهبها، وشررت اللحم والثوت تشريرا: إذا
بسطته، ليجف، وكذلك أشررته إشرارا، وأشررت الكتاب: إذا أظهرته، وشرة
الشباب: نشاطه، وإنما قال الله تعالى: " والله يعلم "، تنبيها على أنه يعلم مصالحكم،
وما فيه منافعكم، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم.
والفرق بين الشهوة، والمحبة واضح، لان الصائم في شهر رمضان يشتهي
شرب الماء، ولا يكون مآخذا به، ولا يحبه كما لا يريده، ولو أراده وأحبه،
لكان مذموما، ويكون مفطرا - عند كثير من الفقهاء -.
وقوله: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " يدل على فساد قول المجبرة، لأنه
تعالى إنما رغبهم في الجهاد، لما علم من مصالحهم، ومنافعهم، فيدبرهم لذلك، لا لكفرهم
وفسادهم يتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير
وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه
أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم
حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن
203

دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة
وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) آية واحدة
بلا خلاف.
اختلفوا في: من السائل عن هذا السؤال: أهم أهل الشرك، أم أهل الاسلام،
فقال الحسن، وغيره: هم أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر
الحرام، وبه قال الجبائي، وأكثر المفسرين. وقال البلخي: هم أهل الاسلام،
سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه.
الاعراب:
وقوله تعالى: " قتال فيه " مجرور على البدل من الشهر، وهو من بدل
الاشتمال، ومثله قوله تعالى: " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود " (1)
وقال الأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته * تقضي لبانات ويسأم سائم (1)
والذي يشتمل عليه المعنى هو أحوال الشئ، وما كان منه بمنزلة أحواله مما
يغلب تعلق الفعل به، فلا يجوز رأيت زيدا لونه، لان لونه يجوز أن يرى كما يجوز
أن يرى نفسه، ويجوز سرق زيد ثوبه، لان تعلق السرقة إنما هي بالملك دون
النفس في غالب الامر، ويجوز أن تقول: رأيت زيدا مجيئه، ولا يجوز رأيت
زيدا إياه، لأنه يجري مجرى حاله.
وقوله تعالى: " وصد عن سبيل الله " رفع بالابتداء، وما بعده معطوف
عليه، وخبره " أكبر عند الله " هذا قول الزجاج. وقال أبو علي الفارسي: لا يخلو

(1) سورة البروج آية: 5.
(2) ديوانه: 77 رقم القصيدة: 9. يهجو بها يزيد بن مسهر الشيباني ومعنى البيت
يعلم من البيت قبله الذي هو مطلع القصيدة وهو:
هريرة ودعها وان لام لاثم * غداة غد أم أنت للبين واجم
وهريرة قد ذكرها في قصيدة قبل هذه.
204

أن يكون ارتفاع قوله: " وصد عن سبيل الله وكفر " من أن يكون بالعطف على
الخبر الذي هو " كبير " كأنه قال: قتال فيه كبير وصد وكفر: أي القتال، قد جمع
أنه كبير، وأنه صد، وكفر. ويكون مرتفعا بالابتداء، وخبره محذوف لدلالة
" كبير " المتقدم عليه، كأنه قال: والصد كبير، كقولك: زيد منطلق وعمرو، أو
يكون مرتفعا بالابتداء، والخبر المظهر، فيكون الصد ابتداء، وما بعد من قوله:
" وكفر به وإخراج أهله " مرتفع بالعطف على الابتداء، والخبر قوله: " أكبر
عند الله " قال: ولا يجوز الوجهان الأولان - وقد أجازهما الفراء - أما الوجه الأول،
فلان المعنى يصير: قل: قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير، والقتال وإن كان
كبيرا، ويمكن أن يكون صدا، لأنه ينفر الناس عنه، فلا يجوز أن يكون كفرا،
لان أحدا من المسلمين لم يقل ذلك، ولم يذهب إليه، فلا يجوز أن يكون خبر المبتدء
شيئا لا يكون المبتدأ. ويمنع من ذلك أيضا قوله بعد: " وإخراج أهله منه أكبر
عند الله " ومحال أن يكون إخراج أهله منه أكبر من الكفر، لأنه لا شئ أعظم
منه، ويمتنع الوجه الثاني أيضا، لان التقدير: فيه يكون قتال فيه كبير وكبير
الصد عن سبيل الله والكفر به، وكذلك مثل الفراء، وقدره، فإذا صار المعنى:
وإخراج أهل المسجد الحرام أكبر عند الله من الكفر، فيكون بعض خلال الكفر
أعظم منه كله، وإذا كان كذلك امتنع كما امتنع الأول وإذا امتنع هذان ثبت
الوجه الثالث، وهو أن يكون قوله " وصد عن سبيل الله " ابتداء " وكفر به
وإخراج أهله " معطوفا عليه " وأكبر " خبرا.
المعنى:
فيكون المعنى: " وصد عن سبيل الله " أي منعهم لكم أيها المسلمون عن
سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه - وأنتم ولاته، والذين هم أحق به
منهم - وكفر بالله أكبر من قتاله في الشهر الحرام. قال الرماني، الفراء: إن
التخلص من التأويل الثاني أن تقول: إخراج أهله منه أكبر من القتل فيه، لا من
الكفر، لان المعنى في إخراج أهله منه إخراج النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين عنه. قال:
205

وأما التأويل الأول، فلا يجوز إلا أن يجعل " كفر به " يعني بالمسجد الحرام،
انتهاك حرمته. وقال: والتأويل الأول أجود.
وهذا القتال في الشهر الحرام هو ما عابه المشركون على المسلمين، من قتل
عبد الله بن جحش، وأصحابه عمر بن الحضرمي، لما فصل من الطائف، في عير - في آخر
جمادى الاخر - وأخذهم العير، وهو أول من قتل من المشركين - فيما روي، وأول
فئ أصابه المسلمون.
وأما قوله تعالى: " والمسجد الحرام " فقال الفراء: إنه محمول على قوله:
يسألونك عن القتال، وعن المسجد الحرام هذا لفظه. قال أبو علي الفارسي: وهذا
أيضا يمتنع، لأنه لم يكن السؤال عن المسجد الحرام، وإنما السؤال عن قتال ابن
جحش الحضرمي وأصحابه الذين عابهم المشركون وعيروهم، فقالوا إنكم استحللتم
الشهر الحرام، وهو رجب بقتلهم فيه، فكان السؤال عن هذا، لاعن المسجد الحرام
وإذا لم يجز هذا الوجه، لم يجز حمله على المضمر المجرور، لان عطف المظهر على المضمر
غير جائز، لأنه ضعيف جدا، فيكون محمولا على الضمير في به، لان المعنى ليس
على كفر بالله أو بالنبي صلى الله عليه وآله، والمسجد، فثبت (1) أنه معطوف على (عن)
من قوله: " وصد عن سبيل الله والمسجد الحرام "، لان المشركين صد والمسلمين
عنه، كما قال: " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام "، (2)
فكما أن المسجد الحرام محمول في هذه الآية على (عن) المتصلة بالصد - بلا إشكال -
كذلك في هذه الآية، وهو قول أبي العباس، أيضا قال الرماني: ما ذكره الفراء،
واختاره الحسن ليس يمتنع، لان القوم لما استعظموا القتال في الشهر الحرام، وكان
القتال عند المسجد الحرام يجري مجراه في الاستعظام جمعوها لذلك في السؤال، وإن
كان القتال إنما وقع في الشهر الحرام خاصة، كأنهم قالوا: قد استحللت الشهر الحرام،
والمسجد الحرام. وظاهر الآية يدل على أن القتال في الشهر الحرام كان محرما لقوله:

(1) في المطبوعة " بيت ".
(2) سورة الحج آية: 25.
206

" قل قتال فيه كبير " وذلك لا يقال إلا فيما هو محرم، محظور.
اللغة:
والصد، والمنع، والصدف واحد. صد يصد صدودا إذا صدف عن الشئ
لعدوله عنه، وصددته عن الشئ، أصده صدا إذا عدلته عنه، ومنه قول تعالى:
" إذا قومك منه يصدون " (1) قرئ بالضم، والكسر. قال أبو عبيدة: يصدون
يعرضون، ويصدون: يضجون، وذلك لأنهم، يعدلون إلى الصحيح. والصديد:
الدم المختلط بالقيح يسيل من الجرح. والصدد: ما استقبلك وصار في قبالتك،
لأنه يعدل (2) إلى مواجهتك. والصدان: ناحيتا الشعب أو الوادي. والصداد:
ضرب من الجردان يعدل لشدة تحرزه. والصداد: الوزغ (3)، لأنه يعدل عنه
استقذارا له، وأصل الباب العدول.
المعنى:
وقوله " والفتنة أكبر من القتل " معناه الفتنة في الدين، وهي الكفر أعظم
من القتل في الشهر الحرام. وقال قتادة وغيره، واختاره الجبائي: إن القتال في
الشهر الحرام وعند المسجد الحرام منسوخ بقوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون
فتنة " (4) وبقوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (5) وقال عطا: هو
باق (6) على التحريم. وروى أصحابنا: أنه على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر
حرمة، فإنهم لا يبتدؤون فيه بالقتال، وكذلك في الحرم، وإنما أباح تعالى للنبي صلى الله عليه وآله
قتال أهل مكة وقت الفتح، ولذلك قال صلى الله عليه وآله: إن الله أحلها في هذه الساعة، ولا
يحلها لاحد بعدي إلى يوم القيامة. ومن لا يرى ذلك، فقد نسخ في جهته وجاز
قتاله أي وقت كان.

(1) سورة الزخرف آية: 57.
(2) في المطبوعة " بعدك ".
(3) في المطبوعة " الورع ".
(4) سورة البقرة آية: 193.
(5) سورة التوبة آية: 6.
(6) في المطبوعة " فاق ".
207

وقوله: " يردوكم " قال الجبائي: هو مجاز هاهنا، لان حقيقته: حتى
ترتدوا بالجاءهم إياكم إلى الارتداد، والأولى أن يكون حقيقة ذلك بالعرف.
اللغة:
وقوله تعالى: " ولا يزالون " فالزوال: العدول. ولا يزال موجودا، وما
زال: أي ما دام، وزال الشئ عن مكانه يزول زوالا، وأزلته عنه، وزلته، وزالت
الشمس زوالا، وزيالا، وزالت الخيل بركبانها زيالا، ورجل زول، وامرأة زولة،
وهو الظريف الركبين (1) وأصل الباب الزوال.
وقوله: " ومن يرتدد منكم عن دينه "، فهو على إظهار التضعيف، لسكون
الثاني. ويجوز " يرتد " - بفتح الدال - على التحريك، لالتقاء الساكنين،
والفتح أجود.
وقوله: " فأولئك حبطت أعمالهم " معناه: أنها صارت بمنزلة ما لم يكن،
لايقاعهم إياها على خلاف الوجه المأمور به، وليس المراد أنهم استحقوا عليها الثواب
ثم انحبطت، لان الاحباط - عندنا - باطل على هذا الوجه. ويقال: حبط عمل
الرجل يحبط حبطا وحبوطا، وأحبطه الله إحباطا، والحبط: فساد، يلحق الماشية
في بطونها، لاكل الحباط، وهو ضرب من الكلاء. يقال: حبطت الإبل تحبط
حبطا إذا أصابها ذلك.
وروي عن عطا عن ابن عباس: أن المسجد الحرام الحرم كله.
قوله تعالى:
إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله
أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم (218) آية واحدة
بلا خلاف.

(1) الركبين - بفتح الراء والباء - وأصل الفخذين.
208

النزول والاعراب:
ذكر جندب بن عبد الله، وعروة بن الزبير: أن هذه الآية نزلت في قصة
عبد الله بن جحش وأصحابه، لما قاتلوا في رجب، وقتل واقد التميمي بن الحضرمي،
ظن قوم أنهم إن سلموا من الاثم فليس لهم أجره، فأنزل الله الآية فيهم - بالوعد -.
وخبر " إن الذين آمنوا " الجملة التي هي قوله: " أولئك يرجون رحمة الله " أولئك
ابتداء، ويرجون خبره، والجملة خبر (إن).
اللغة:
وقوله: " والذين هاجروا " فالهجر ضد الوصل، تقول: هجره يهجره هجرا،
وهجرانا: إذا قطع مواصلته. والهجر: مالا ينبغي من الكلام، تقول: هجر المريض
يهجر هجرا، لأنه قال مالا ينبغي أن يهجر من الكلام، وما زال ذلك هجيراه أي
دأبه (1). والهاجرة: نصف النهار، وهجر القوم تهجيرا: إذا دخلوا في الهاجرة.
وسمي المهاجرون لهجرتهم قومهم، وأرضهم. وأهجرت الجارية إهجارا: إذا شبت
شبابا حسنا، فهي مهجرة، ويقال ذلك للناقة، والنخلة. والهجار: حبل يشد به
يد الفحل إلى إحدى رجليه، لأنه يهجر بذلك التصرف وأصل الباب الهجر: قطع
المواصلة.
وقوله تعالى: " وجاهدوا " تقول: جهدت الرجل جهدا: إذا حملته على
مشقة، وجاهدت العد ومجاهدة إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله. واجتهدت
رأي: إذا حملت نفسك على المشقة في بلوغ صواب الرأي. والجهاد: الأرض
الصلبة، وأصل الباب الجهد: الحمل على المشقة.
وقوله تعالى: " في سبيل الله " يعني قتال العدو، ويدخل في ذلك مجاهدة
النفس.
وقوله " أولئك يرجون " فالرجاء الامل، رجا يرجو رجاء، وترجى

(1) هجيراه - بكسر الهاء والجيم مع تشديد الجيم - في المطبوعة (أي داته).
209

ترجيا، وارتجى ارتجاء، والرجا - مقصورا - ناحية كل شئ، ويثنى رجوان
وجمعه أرجاء، ومنه أرجاء البئر نواحيه، وقوله تعالى " مالكم لا ترجون لله
وقارا (1) أي لا تخافون، قال أبو ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وخالفها في بيت نوب عواسل (2)
أي لم يخف، وذلك أن الرجاء للشئ الخوف من أن لا يكون، فلذلك سمي
الخوف باسم الرجاء، وأصل الباب الامل، وهو ضد اليأس.
المعنى:
وفي الآية دلالة على أن من مات مصرا على كبيرة لا يرجو رحمة الله لامرين:
أحدهما - أن ذلك دليل الخطاب، وذلك غير صحيح عند أكثر المحصلين.
والثاني - أنه قد يجتمع - عندنا - الايمان والهجرة والجهاد مع ارتكاب
الكبيرة، فلا يخرج من هذه صورته عن تناول الآية له، وإنما ذكر المؤمنين برجاء
الرحمة وإن كانت هي لهم لا محالة، لأنهم لا يدرون ما يكون منهم من الإقامة على
طاعة الله أو الانقلاب عنها إلى معصيته، لأنهم لا يدرون كيف تكون أحوالهم في
المستقبل. وقال الجبائي: لأنهم لا يعلمون أنهم أدوا كما يجب لله عليهم، لان هذا
العلم من الواجب، وهم لا يعلمونه إلا بعلم آخر، وكذلك سبيل العلم في أنهم
لا يعلمونه إلا بعلم غيره، وهذا يوجب أنهم لا يعلمون إذا كما يجب لله عليهم. وقال
ابن الاخشاد: لأنه لا يتفق للعبد التوبة من كل معصية، واستدل على ذلك باجماع الأمة
على أنه ليس لأحد غير النبي صلى الله عليه وآله. ومن شهد له عليه، فلا.
ويمكن في الآية وجه آخر - على مذهبنا - وهو أن يكون رجاءهم لرخصة
الله في غفران معاصيهم التي لم يتفق لهم التوبة عنها، واخترموا دونهم، فهم يرجون
أن يسقط الله عقابها عنهم تفضلا. فأما الوجه الأول، فإنما يصح على مذهب من

(1) سورة نوح آية: 13.
(2) اللسان (رجا)، (خلف) في المطبوعة (عوامل) بدل (عواسل) أي دخل عليها
وأخذ عسلها. ويروى " وحالفها " أي لزمها.
210

يجوز أن يكفر المؤمن بعد إيمانه أو يفعل في المستقبل كبيرة يحبط ثواب إيمانه،
وهذا لا يصح على مذهبنا في الموافات. وما قاله الجبائي يلزم عليه وجوب مالا نهاية
له، لأنه إذا وجب عليه أن يعلم أنه فعل ما وجب عليه بعلم آخر، وذلك العلم
مما وجب عليه أيضا فيجب ذلك بعلم آخر، وفي ذلك التسلسل.
وإنما ضم إلى صفة الايمان غيره في اعتبار الرجاء للرحمة ترغيبا في كل خصلة من تلك
الخصال، لأنها من علامات الفلاح. فأما الوعد، فعلى كل واحدة منها إذا سلمت
مما يبطلها. وقال الحسن: الرجاء، والطمع هاهنا على الايمان إذا سلم العمل. وذكر
الجبائي: أن هذه الآية تدل على أنه لا يجوز لاحد أن يشهد لنفسه بالجنة، لان
الرجاء لا يكون إلا مع الشك، وقد بين الله تعالى: أن صفة المؤمن الرجاء للرحمة،
لا القطع عليها لا محالة.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر في الأولى العذاب، ذكر
بعدها آية الرحمة، ليكون العبد بين الخوف والرجاء إذ ذلك أو كد في الاستدعاء،
وأحق بتدبير الحكماء.
وكتبت " رحمة الله " بالتاء في المصحف على الوصل، والاقيس بالهاء على
الوقف، كما كتب " يدع الداع " (1) و " يقضي بالحق " (2) " واضرب لهم
مثلا " (3) كل ذلك على الوقف.
قوله تعالى:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع
للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل
العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)

(1) سورة القمر آية 6.
(2) سورة المؤمن آية: 20.
(3) سورة الكهف آية: 32.
211

القراءة:
قرأ أهل الكوفة إلا عاصم " إثم كثير " بالثاء. الباقون بالباء، وقرأ أبو
عمرو وحده " قل العفو " بالرفع. الباقون بالنصب.
اللغة:
قال أكثر المفسرين: الخمر عصير العنب إذا اشتد. وقال جمهور أهل المدينة:
ما أسكر كثيره فهو خمر، وهو الظاهر في رواياتنا.
وأما اشتقاقه في اللغة: تقول خمرت لدابة أخمرها خمرا إذا سقيتها الخمر،
وخمرت العجين والطين أخمره خمرا: إذا تركته فلم تستعمله حتى يجود. وأخمر القوم
إخمارا: إذا تواروا في الشجر. ويقال لما سترك من شجر: خمرى (1)، مقصورا،
واختمرت المرأة، وخمرت إذا لبست الخمار: وهي المقنعة. وخامره الحزن مخامرة
إذا خالطه. وخمر الاناء وغيره تخمرا: إذا غطيته، واستخمرت فلانا: إذا استعبدته.
والخمار بخار يعقبه شرب الخمر. والمخامرة: المقاربة. والخمر: ما وارك من الشجر،
وغيره. والخمر: شبيه بالسجادة. والمخمرة من الغنم: سوداء ورأسها أبيض. ودخل
في خمار الناس: إذا دخل في جماعة، فخفي فيهم، وأصل الباب الستر.
والميسر: قال ابن عباس، وعبد الله بن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة،
وابن سيرين: هو القمار كله وهو الظاهر في رواياتنا.
واشتق الميسر من اليسر، وهو وجوب الشئ لصاحبه، من قولهم: يسر لي
هذا الشئ: إذا وجب لي، فهو تيسر لي يسرا، وميسرا، والياسر: الواجب بقداح
وجب لك أو غير ذلك. وقيل للمقامر: ياسر، ويسر، قال النابغة:
أو ياسر ذهب القداح بوفره * أسف تأكله الصديق مخلع (2)

(1) في المطبوعة (ضرأ) وهو تصحيف.
(2) لم أجد هذا البيت في شعر النابغة، وهو موجود في تفسير الطبري 4: 322.
الياسر: المقامر. القداح: تستعمل في لعب القمار الوفر: المال الكثير. مخلع: قد لعب في القمار
مرة بعد مرة. وكأنه يصف لاعب قمار قد خسر ماله الواسع وقد أسف عليه عندما رأى أصدقاءه
الذين يلعبون دائما قد أخذوه منه وتقاسموه.
212

يعنى القامر. وقيل أخذ من التجزءة، لان كل شئ جزأته، فقد يسرته،
والياسر: الجازر. والميسر: الجزور. وقيل الميسر مأخوذ من اليسر، وهو تسهل
الشئ، لأنهم - كانوا - مشتركون في الجزور، ليسهل أمرها إلا أنه المعنى الجهة: القمار.
المعنى:
وقوله: " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " فالنفع التي في الخمر: ما كانوا
يأخذونه في أثمانها، وربح تجارتها، وما فيها من اللذة بتناولها: أي فلا تغتروا بالنفع
فيها، فالضرر أكثر منه. وقال الحسن، وغيره: هذه الآية تدل على تحريم الخمر،
لأنه ذكر أن فيها إثما، وقد حرم الله الاثم بقوله: " قل إنما حرم ربي الفواحش
ما ظهر منها وما بطن والاثم " (1) على أنه قد وصفها بأن فيها إثما كبيرا والكبير
يحرم بلا خلاف.
وقال قوم: المعنى وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما. وقال
آخرون: المعنى إن الاثم بشرب هذه، والقمار بها أكبر وأعظم، لأنهم كانوا إذا
استكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضا. وقال قتادة: لا تدل الآية
على تحريمهما، وإنما تدل الآية التي في المائدة في قوله: " إنما الخمر والميسر " (2)
إلى آخرها. ووجهه قتادة على أنه قد يكثر فيهما " إثم كبير ".
وقوله: " يسألونك ماذا ينفقون " قال السدي: نسخته آية الزكاة. وقال
مجاهد: هو فرض ثابت. وقال قوم: هو أدب من الله ثابت غير منسوخ، وهو
الأقوى، لأنه لا دليل على نسخها.
و "؟ " هنا قيل في معناه ثلاثة أقوال:
قال ابن عباس، وقتادة: هو ما فضل عن الغنى.
وقال الحسن، وعطا: هو الوسط من غير إسراف ولا إقتار.
وقال مجاهد: هو الصدقة المفروضة.

(1) سورة الأعراف آية: 32.
(2) آية: 93.
213

وروي عن أبي جعفر (ع) أن العفو: ما فضل عن قوت السنة، فنسخ ذلك
بآية الزكاة. وروي عن أبي عبد الله (ع) أن العفو هاهنا: الوسط. والعفو مأخوذ
من الزيادة ومنه قوله: " حتى عفوا " (1) أي حتى زادوا على ما كانوا عليه من
العدد قال الشاعر:
ولكنا نعض السيف منها * باسبق عافيات الشحم كوم (2)
أي زايدات الشحم. وقال قوم: هو مأخوذ من الترك من قوله: " فمن عفي
له من أخيه شئ " (3) أي ترك له، فيكون العفو المتروك غنى عنه، ومن رفع معناه
ما الذي ينفقون، وفي الأول كأنه قال: أي شئ ينفقون، فقالوا: العفو. وإنما
وحد الكاف في كذلك، وإن كان الخطاب لجماعة، لاحد أمرين: أحدهما - في
تقدير كذلك أيها السائل. والثاني - أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله ويدخل فيه
الأمة، كما قال: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " (3)
وقوله: " لعلكم تتفكرون " أي لكي تتفكروا، وهي لام الغرض. وفي
ذلك دلالة على أن الله تعالى أراد منهم التفكر سواء تفكروا أو لم يتفكروا.
قوله تعالى:
في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح
لهم خير وإن تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من
المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220)
آية واحدة. والاعراب والمعنى:
العامل في الضرف من قوله: " في الدنيا والآخرة " يحتمل أمرين:

(1) سورة الأعراف آية: 94.
(2) قائله لبيد بن ربيعة، ديوانه: 19 رقم القصيدة: 3 في المطبوعة " يعض السيف منا "
وهو خطأ، لان هذا البيت من قصيدة يفتخر في كرمهم: يقول:
(3) سورة البقرة آية: 187.
(4) سورة الطلاق آية: 1.
214

أحدهما - " يبين " على قول الحسن. والثاني - " يتفكرون " في قول غيره.
وأجاز الزجاج الوجهين معا.
وكيفية فكرهم في الدنيا والآخرة، قال قتادة: يتفكرون في أن الدنيا دار
بلاء، وفناء، والآخرة دار جزاء وبقاء.
اللغة:
وقوله تعالى: " ويسألونك عن اليتامى "، فهو جمع يتيم، والفعل منه يتم
ييتم يتما، كقولك: نكر نكرا. وحكى الفراء: يتم ييتم يتما، كشغل شغلا.
وقوله: " وإن تخالطوهم " فالمخالطة: مجامعة يتعذر معها التمييز، كمخالطة
الخل للماء، والماء للماء وما أشبه ذلك، تقول: خلط يخلط خلطا، وخالطه خلاطا
ومخالطة، واختلاطا، وتخالطوا تخالطا، وخلطه تخليطا، وتخلط تخلطا. وأخلط
الفرس: إذا قصر في جريه. واستخلط الفحل: إذا خالط ثيله حياء الناقة (1)
. والخلاط: الجنون، لاختلاط الأمور على صاحبه. والخليطان: الشريكان، لاختلاط
أموالهما. والخليط: القوم أمرهم واحد والخلاط: داء في الجوف. ورجل خلط:
متحبب إلى الناس، لطلبه الاختلاط بهم.
المعنى:
ومعنى الآية الاذن لهم فيما كانوا متحرجون منه من مخالطة الأيتام في
الأموال: من المأكل، والمشرب والمسكن، ونحو ذلك، فأذن الله لهم في ذلك
إذا تحروا (2) الاصلاح بالتوفير على الأيتام - في قول الحسن، وغيره - وهو
المروي في أخبارنا.
الاعراب:
وقوله: " فاخوانكم " رفع على فهم (3) إخوانكم خالطموهم أو لم تخالطوهم،

(1) في المطبوعة " ثيله حال الناقة " وهو تصحيف.
(2) في المطبوعة " إذا انحروا " وهو تصحيف
(3) في المطبوعة " فهو ".
215

وقوله: " فان خفتم فرجالا أو ركبانا " (1) نصب على فصلوا (2) وهو حال
الصلاة خاصه لا حال معنى فأنتم رجال أو ركبان، كيف تصرفت الحال. ويجوز - في
العربية - فاخوانكم على النصب على تقدير: فاخوانكم تخالطون، والوجه الرفع،
لما بيناه.
اللغة:
وقوله: " ولو شاء الله لأعنتكم " معناه: التذكير بالنعمة في التوسعة على
ما توجبه الحكمة مع القدرة على التضييق الذي فيه أعظم المشقة، والاعنات: الحمل
على مشقة لا تطاق فعلا. وعنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر، وأعنته إعناتا إذا
عسفه (3) بالحمل على مكروه لا يطيقه. وعنت عنتا إذا اكتسب مأثما، وتعنته
تعنتا إذ لبس عليه في سؤاله له. والاكمة العنوت: هي الطويلة من الآكام، وأصل
الباب المشقة.
المعنى:
وقال البلخي: في هذه الآية دلالة على فساد قول من قال: إنه تعالى لا يقدر
على الظلم، لان الاعنات - بتكليف ما لا يجوز في الحكمة - مقدور له، إذ لو
يشاء لفعله.
وقال الجبائي: لو أعنتهم لكان جائزا حسنا، لكنه تعالى وسع على العباد،
لما في التوسعة من تعجيل النعمة. وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة (4)
في البدل، وتكليف ما لا يطاق، أما البدل، فلأنهم يذهبون إلى النهي عن الكفر
الموجود في حالة بأن يكون الايمان بدلا منه، وهذا أعظم ما يكون من الاعنات،
لأنه أمر له (5) بالمحال، وهو ليكن منك الايمان بدلا من الكفر الموجود في

(1) سورة البقرة آية: 239.
(2) في المطبوعة " فضلوا " بتشد الضاد.
(3) عسفه: ظلمه، والعسف الظلم.
(4) في المطبوعة " بطلان " سافطة.
(5) في المطبوعة " أمر " ساقطة.
216

الحال، وكذلك النهي فيما لم يكن منك ما هو كائن من الكفر الموجود في الحال كل
ذلك محال، وكذلك الامر بالايمان، من لم يقدر على الايمان، فإذا لم يفعله عذب
بأشد العذاب، وإذا لم يكلف من الممكن ما فيه مشقة وشدة، للمظاهرة على عباده
بالنعمة، لم يجز أن يكلف ما ليس على قدره، لأنه أسوء تناقض المظاهرة بالنعمة.
وقوله: " إن الله عزيز حكيم " أي يفعل بعزته ما يحب، لا يدفعه عنه دافع.
" حكيم " ذو حكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره.
قوله تعالى:
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير
من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا
ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك
يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة باذنه ويبين
آياته للناس لعلهم يتذكرون (221) آية واحدة.
اللغة:
نكح ينكح نكحا ونكاحا: إذا تزوج، وأنكح غيره إنكاحا: إذا زوجه
وتناكحوا تناكحا، وناكحه مناكحة قال الأعشى:
ولا تقربن جارة إن سرها * عليك حرام فانكحن أو تأبدا (1)
أي تعفف وأصل الباب التزويج.
المعنى:
وهذه الآية على عمومها - عندنا - في تحريم مناكحة الكفار، وليست
منسوخة ولا مخصوصة. وقال ابن عباس في رواية شهر بن حوشب عنه قال: فرق

(1) ديوانه: 137 رقم القصيدة 17. والتأبد: التعزب أبدا وهو الابتعاد عن النساء.
يقول: لا تتزوج جارتك وتزوج غيرها أو استعفف ولا تقترب من النساء.
217

عمر بين (1) طلحة وحذيفة وبين امرأتيهما اللتين كانتا عندهما (2) وقال غيره عن
ابن عباس، وإليه ذهب الحسن، ومجاهد والربيع: هي عامة إلا أنها نسخت بقوله:
" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب "، وقال قتادة، وسعيد بن جبير: هي على
الخصوص، وإنما اختير ما قلناه لأنه لا دليل على نسخها، ولا على خصوصها،
وسنبين وجه الآية في المائدة إذا انتهينا إليها.
فأما المجوسية، فلا يجوز نكاحها إجماعا. والذي لا يجوز: أن يتزوج مسلمة
إجماعا، وامراحا واجبارا (3).
وقوله " ولامة مؤمنة خير من مشركة " فالأمة: المملوكة. يقال أقرت
بالاموة أي بالعبودية وأميت فلانة، وتأميتها إذا جعلتها أمة قال الراجز:
يرضون بالتعبيد والتآمي (4)
وجمع أمة إماء وأآم وأصل الباب العبودية، وأصل أمة فعلة بدلالة قولهم
أماء وا آم في الجمع نحو أكمة وأكام واآكم. والفرق بين " ولو أعجبكم " وبين إن
أعجبكم: أن لو للماضي وإن للمستقبل وكلاهما يصح في معنى الآية، ولا يجوز نكاح
الوثنية إجماعا، لأنها تدعو إلى النار كما حكاه الله تعالى، وهذه العلة بعينها قائمة في
الذمية من اليهودية والنصارى، فيجب أن لا يجوز نكاحها. وفي الآية دلالة على
جواز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود الطول، لقوله " ولامة مؤمنة خير من مشركة "
فأما الآية التي في النساء، وهي قوله: " ومن لم يستطع منكم طولا " (5) فإنما هي
على التنزيه دون التحريم، ومتى أسلم الزوجان معا ثبتا على النكاح - بلا خلاف -
وبه قال الحسن. وإن أسلمت قبله طرفة عين، فقد وقعت الفرقة - عند الحسن،

(1) في المطبوعة " عمر بن طلحة " وهو تحريف.
(2) في المطبوعة " وحذيفة وامرأتهما اللتين كانتا عنهما أبين " وهو تحريف فاحش.
(3) هكذا في الأصل ولم أجد لها مخرجا مقطوعا به، ولعلها: اجماعا وقولا وأخبارا
أي اجماعا على الفتوى، وأقوال المفسرين والاخبار المأثورة.
(4) قائله رؤبة. اللسان " أما " في المطبوعة " ترضون " بدل " يرضون ".
(5) سورة النساء آية: 24.
218

وكثير من الفقهاء، وعندنا ينتظر عدتها فان أسلم الزوج بنينا أن الفرقة لم تحصل،
ورجعت إليه، وإن لم يسلم بنينا أن الفرقة وقعت حين الاسلام غير أنه لا يمكن من
الخلو بها. فان أسلم الزوج وكانت ذمية استباح وطؤها بلا خلاف. وإن كانت
وثنية انتظر إسلامها ما دامت في العدة، فان أسلمت ثبت عقده عليها، وإن لم تسلم
بانت منه.
فان قيل: كيف قيل للكافر الموحد مشرك: قيل فيه قولان:
أحدهما - أن كفره نعمة الله بمنزلة الاشراك في العبادة في عظم الجرم.
والاخر ذكره الزجاج - وهو الأقوى -، لأنه إذا كفر بالنبي صلى الله عليه وآله فقد
أشرك فيما لا يكون إلا من عند الله، وهو القرآن بزعمه أنه من عند غيره.
وقوله " باذنه " معناه أحد أمرين: أحدهما - باعلامه. والاخر - بأمره،
وهو قول الحسن، وأبي علي وغيرهما.
قوله تعالى:
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء
في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن
من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين
(222) آية واحدة.
القراءة:
قرأ أهل الكوفة إلا حفصا (حتى يطهرن) بتشديد الطاء والهاء. الباقون
بالتخفيف.
المعنى:
قيل: إنما سألوا عن المحيض، لأنهم كانوا على تجنب أمور: من مواكلة
الحائض، ومشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد، فاستعلموا ذلك،
219

أواجب هو أم لا؟ في قول قتادة، والربيع، والحسن، وقال مجاهد: كانوا على
استجازة إتيانهن في الادبار أيام الحيض، فلما سألوا عنه، بين تحريمه، والأول
- عندنا - أقوى.
اللغة:
والمحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا، فهي حائض. والمرة
حيضة (1) وجمعه حيض وحيضات. ونساء حيض. والمستحاضة: التي عليها الدم فلا
رواق (2) وأصل الباب الحيض: مجئ الدم لأنثى على عادة معروفة.
أحكام الحيض، والاستحاضة:
وصفة الحيض: هو الدم الغليظ الأسود الذي يخرج بحرارة. وأقل الحيض
ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وهو قول الحسن، وأهل العراق. وقال الشافعي،
وأكثر أهل المدينة: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما. وحكي أن
قوما قالوا: ليس له وقت محدود: إنما هو ما رأت دم الحيض. وأقل الطهر عشرة
أيام، وخالف الجميع وقالوا: خمسة عشر يوما. والاستحاضة: دم رقيق أصفر بارد.
وحكم الاستحاضة حكم الطهر في جميع الأحكام إلا في تجديد الوضوء - عند كل
صلاة - ووجوب الغسل عليها على بعض الوجوه - عندنا -.
وقوله: " أذى " معناه: قذر ونجس - في قول قتادة والسدي -.
وقوله: " فاعتزلوا النساء في المحيض " معناه: اجتنبوا الجماع في الفرج،
وبه قال ابن عباس، وعائشة، والحسن، وقتادة، ومجاهد. وما فوق المئزر أو دونه،
عن شريح، وسعيد بن المسيب. وعندنا: لا يحرم منها غير موضع الدم فقط. ومن
وطئ الحائض في أول الحيض، كان عليه دينار، وإن كان في وسطه، فنصف دينار،
وفي آخره ربع دينار. وقال ابن عباس: عليه دينار، ولم يفصل. وقال الحسن:
يلزمه رقبة أو بدنة أو عشرون صاعا.

(1) في المطبوعة " والمرأة حيضة " وهو تصحيف.
(2) هكذا في المطبوعة.
220

اللغة:
ويقال: عزله يعزله عزلا، واعتزل اعتزالا، وعزله تعزيلا. والاعزل: الذي
لا سلاح معه. وعزلا المزادة: مخرج الماء من أحد جوانبها، والجمع عزال. وكل
شئ نحيته عن موضع، فقد عزلته عنه، ومنه عزل الوالي. وأنت عن هذا بمعزل: أي
منتحى. والأعزل من السماكين: الذي نزل به القمر. والمعزال من الناس: الذي
لا ينزل مع القوم في السفر، لكنه ينزل ناحية، وأصل الباب الاعتزال، وهو التنحي
عن الشئ.
المعنى:
وقوله: " حتى يطهرن " بالتخفيف معناه: ينقطع الدم عنهن. وبالتشديد
معناه: يغتسلن - في قول الحسن، والفراء - وقال مجاهد، وطاووس: معنى تطهرن:
توضأن، وهو مذهبنا.
والفرق بين (طهرت) و (طهرت) أن فعل لا يتعدى، لان ما كان على
هذا البناء لا يتعدى، وليس كذلك فعل. ومن قرأ بالتشديد قال: كان أصله
" يتطهرن " فأدغمت التاء في الطاء.
وعندنا يجوز وطئ المرأة إذا انقطع دمها، وطهرت وإن لم تغتسل إذا غسلت
فرجها. وفيه خلاف، فمن قال: لا يجوز وطؤها إلا بعد الطهر من الدم، والاغتسال:
تعلق بالقراءة بالتشديد، فإنها تفيد الاغتسال، ومن قال: يجوز، تعلق بالقراءة
بالتخفيف وأنها لا تفيد الاغتسال. وهو الصحيح. ويمكن في قراءة التشديد أن
تحمل على أن المراد به توضأن على ما حكيناه عن طاووس، وغيره. ومن استعمل
قراءة التشديد يحتاج أن يحذف القراءة بالتخفيف أو يقدر محذوفا تقديره حتى
يطهرن ويتطهرن، وعلى ما قلناه لا يحتاج إليه.
وقوله: " فإذا تطهرن " معناه: اغتسلنا، وعلى ما قلناه: حتى يتوضأن.
وقوله: " فأتوهن من حيث أمركم الله " صورته صورة الامر، معناه
221

الإباحة، كقوله: " فإذا حللتم فاصطادوا " (1) " وإذا قضيت الصلاة فانتشروا " (2)
وقوله: " من حيث أمركم الله " معناه من حيث أمركم الله بتجنبه في حال الحيض،
وهو الفرج، على قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع. وقال السدي،
والضحاك: من قبل الطهر دون الحيض. وعن ابن الحنفية من قبل النكاح دون
الفجور، والأول أليق بالظاهر. ويحتمل أن يكون من حيث أباح الله لكم دون
ما حرمه عليكم من إتيانها وهي صائمة أو محرمة أو معتكفة، ذكره الزجاج. وقال
الفراء: لو أراد الفرج لقال في حيث، فلما قال: " من حيث " علمنا أنه أراد من
الجهة الذي أمركم الله بها.
وقال غيره: إنما قال: " من حيث " ولم يقل في حيث، لان (من) لابتداء
الغاية في الفعل، نحو قولك: اأت زيدا من مأتاه من الوجه الذي يؤتى منه.
وقوله: " يحب التوابين ويحب المتطهرين " قال عطا: المتطهرين بالماء. وقال
مجاهد: المتطهرين من الذنوب، والأول مروي في سبب نزول هذه الآية، والمعنى
يتناول الامرين. وإنما قال: " المتطهرين " ولم يقل المتطهرات، لان المؤنث يدخل
في المذكر، لتغليبه عليه.
قوله تعالى:
نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا
لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين
(223) آية واحدة بلا خلاف.
قيل في معنى قوله: " حرث لكم " قولان:
أحدهما - أن معناه: مزرع أولادكم، كأنه قيل: محترث لكم، في قول
ابن عباس، والسدي، وإنما الحرث: الزرع في الأصل.
والقول الثاني: نساؤكم ذو حرث لكم، فأتوا موضع حرثكم أنى شئتم،

(1) سورة المائدة آية: 3.
(4) سورة الجمعة آية: 10.
222

ذكره الزجاج. وقيل: الحرث كناية عن النكاح على وجه التشبيه.
وقوله: " أنى شئتم " معناه: من أين شئتم - في قول قتادة، والربيع
وقال مجاهد: معناه كيف شئتم. وقال الضحاك معناه متى شئتم، وهذا خطأ؟
جميع المفسرين، وأهل اللغة، لان (أنى) لا يكون إلا بمعنى من أين، كما قال:
" أنى لك هذا قالت هو من عند الله " (1). وقال بعضهم: معناه من أي وجه
واستشهد بقول الكميت بن زيد:
أنى ومن أين آبك الطرب * من حيث لاصبوة ولا ريب (2)
وهذا لا شاهد فيه، لأنه يجوز أن يكون أتى به، لاختلاف اللفضين، كما
يقولون: متى كان هذا وأي وقت كان، ويجوز أن يكون بمعنى كيف. وتأول
مالك، فقال: " أنى شئتم " تفيد جواز الاتيان في الدبر، ورواه عن نافع عن
أبي عمرو، وحكاه زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر، وروي من طرق جماعة عن
ابن عمر، وبه قال أكثر أصحابنا، وخالف في ذلك جميع الفقهاء، والمفسرين،
وقالوا: هذا لا يجوز من وجوه:
أحدها - أن الدبر ليس بحرث، لأنه لا يكون فيه الولد. وهذا ليس بشئ
لأنه لم يمتنع أن تسمى النساء حرثا، لأنه يكون منهن الولد، ثم يبيح الوطئ فيما
لا يكون منه الولد، يدل على ذلك أنه لا خلاف أنه يجوز الوطئ بين الفخذين وإن
لم يكن هناك ولد.
وثانيها - قالوا: قال الله: " فأتوهن من حيث أمركم الله " وهو الفرج،
والاجماع على أن الآية الثانية ليست بناسخة للأولى. وهذا أيضا لا دلالة فيه،
لان قوله: " من حيث أمركم الله " معناه: من حيث أباح الله لكم، أو من الجهة
التي شرعها لكم، على ما حكيناه عن الزجاج، ويدخل في ذلك الموضعان معا.

(1) سورة آل عمران آية: 37.
(2) الهاشميات: 41. قوله " آبك " معترضة بين كلامين، كما تقول: " ويحك " وهي
بمعنى ويلك. وقيل: أن آبك بمعنى راجعك الطرب.
223

وثالثها - قالوا: إن معناه: من أين شئتم: أي اأتوا الفرج من أين شئتم،
وليس في ذلك إباحة لغير الفرج. وهذا أيضا ضعيف، لأنا لا نسلم أن معناه الفرج،
بل عندنا معناه: اأتوا النساء، أو اأتوا الحرث من أين شئتم، ويدخل فيه
جميع ذلك.
ورابعها - قالوا: قوله في المحيض " قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض "
فإذا حرم للأذى في الدم، والأذى بالنجو أعظم منه. وهذا أيضا ليس بشئ، لان
هذا حمل الشئ على غيره من غير علة، على أنه لا يمتنع أن يكون المراد بقوله:
" قل هو أذى " غير النجاسة، بل المراد أن في ذلك مفسدة، ولا يجوز أن يحمل
على غيره إلا بدليل يوجب العلم على أن الأذى بمعنى النجاسة حاصل في البول، ودم
الاستحاضة ومع هذا، فليس بمنهي عن الوطئ في الفرج.
ويقال: أن هذه الآية نزلت ردا على اليهود، وأن الرجل إذا أتى المرأة
من خلف في قبلها خرج الولد أحول، فأكذبهم الله في ذلك، ذكره ابن عباس،
وجابر، ورواه أيضا أصحابنا. وقال الحسن: أنكر اليهود إتيان المرأة قائمة،
وباركة، فأنزل الله إباحته بعد أن يكون في الفرج، وهو السبب الذي روي، ولا يمنع
أن يكون ما ذكرناه مباحا، لان غاية ما في السبب أن تطابقه الآية، فأما أن
لا تتعداه، فلا يجب عند أكثر المحصلين (1).
وقوله: " وقدموا لأنفسكم " أي قدموا الأعمال الصالحة التي أمر الله بها
عباده، ورغبهم فيها، فتكون ذخرا عند الله.
ووجه اتصال قوله: " وقدموا لأنفسكم " بما قبله: أنه لما قدم الامر بعد
أشياء قيل: " قدموا لأنفسكم " بالطاعة فيما أمرتم به، واتقوا مجاوزة الحد فيما بين
لكم، وفي ذلك الحث على العمل بالواجب الذي عرفوه، والتحذير من مخالفة
ما ألزموه.
وقوله: " وبشر المؤمنين " فالبشارة: الدلالة على ما يظهر به السرور في

(1) في المطبوعة " المحطين ".
224

بشر الوجه.
وقوله: " أنكم ملاقوه " أي اتقوا من معاصيه التي نهاكم عنها، واتقوا
عذابه، واعلموا أنكم ملاقوا عذابه إن عصيتموه، وملاقوه ثوابه إن أطعتموه، وإنما
أضافه إليه على ضرب من المجاز، كما يقول القائل لغيره: ستلقى ما عملت، وإنما يريد
جزاء ما عملت، فيسمي الجزاء باسم الشئ.
قوله تعالى:
ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتصلحوا
بين الناس والله سميع عليم (224) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
قيل في معنى قوله: " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " ثلاثة أقوال:
أحدها - أن العرضة: علة، كأنه قال لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر،
والتقوى: من حيث تتعمدوا، لتعتلوا بها، وتقولوا: قد حلفنا بالله، ولم تحلفوا
به، هذا قول الحسن، وطاووس، وقتادة، وأصله - في هذا الوجه - الاعتراض به
بينكم وبين البر والتقوى، للامتناع منهما، لأنه قد يكون المعترض بين الشيئين
مانعا من وصول أحدهما إلى الاخر، فالعلة مانعة كهذا المعترض. وقيل: العرضة:
المعترض، قال الشاعر:
لا تجعليني عرضة اللوائم
الثاني - " عرضة ": حجة، كأنه قال لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع
" أن تبروا وتتقوا " بأن تكونوا قد سلف منكم يمين ثم يظهر أن غيرها خير منها،
فافعلوا الذي هو خير، ولا تحتجوا بما سلف من اليمين، وهو قول ابن عباس،
ومجاهد، والربيع، والأصل في هذا القول والأول واحد، لأنه منع من جهة
الاعتراض بعلة أو حجة. وقال بعضهم: إن أصل عرضة: قوة، فكأنه قيل: ولا
تجعلوا الحلف بالله قوة لايمانكم في ألا تبروا وأنشد لكعب بن زهير:
225

من كل نضاحة الذفرى إذا عرقت * عرضتها طامس الاعلام مجهول (1)
وعلى هذا يكون الأصل العرض، لان بالقوة يتصرف في العرض والطول،
فالقوة: عرضة لذلك.
الثالث - بمعنى: ولا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة في كل حق وباطل، لان
تبروا في الحلف بها، واتقوا المآثم فيها، وهو المروي عن عائشة، لأنها قالت:
لا تحلفوا به وإن بررتم، وبه قال الجبائي، وهو المروي عن أئمتنا (ع) وأصله على
هذا معترض بالبذل: لا تبذل يمينك في كل حق وباطل. فأما في الأصل، فمعترض
بالمنع أي لا يعترض بها مانعا من البر، والتقوى، فتقدير الأول: لا تجعل الله مانعا
من البر والتقوى باعتراضك به حالفا، وتقدير الثاني: لا تجعل الله مما تحلف به دائما
باعتراضك بالحلف في كل حق وباطل، لان تكون من البررة، والأتقياء.
اللغة:
واليمين، والقسم، والحلف واحد. واليمنية: ضرب من برود اليمن. وأخذ
يمنة، ويسرة. ويمن ييمن يمينا، فهو ميمون. ويمن، فهو ميمن: إذا أتى باليمن،
والبركة. وتيمن به تيمنا، وتيامن تيامنا. واليمين خلاف الشمال، وأصل الباب
اليمن، والبركة.
المعنى:
وقوله: " أن تبروا " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - " أن تبروا ": لان تبروا على معنى الاثبات.
الثاني - أن يكون على معنى لدفع أن تبروا، أو لترك أن تبروا - في قول

(1) ديوانه: 9، واللسان " عرض ". نضح الرجل بالعرق نضحا: نض به حتى
سال سيلا، ونضاحة: شديدة النضح. والذفرى: الموضع الذي يعرق خلف الاذن، وهو من كل
حيوان حتى الانسان وهو العظم الشاخص خلف الاذن. والطامس: الدارس الذي أمحي أثره. والاعلام:
أعلام الطريق. وأرض مجهولة إذا كان لا أعلام فيها ولا جبال. يقول: إذا نزلت هذه المجاهل،
عرقت حينئذ قوتها وشدتها وصبرها على العطش والسير في الملوات.
226

أبي العباس.
الثالث - على تقدير: ألا تبروا، وحذفت (لا) لأنه في معنى القسم كما
قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (1)
أي لا أبرح، هذا قول أبي عبيد، وأنكر أبو العباس هذا، لأنه لما كان
معه (أن)، بطل أن يكون جوابا للقسم، وإنما يجوز (والله أقم في القسم بمعنى
لا أقوم، لأنه لو كان إثباتا، لقال لأقومن، باللام والنون. والمعنى في قول أبي
العباس، وأبي عبيد واحد، والتقدير مختلف، فحمله أبو العباس على ماله نظير من
حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وأنكر قياسه على ما يشبهه.
الاعراب:
وفي موضع أن تبروا ثلاثة أقوال:
قال الخليل، والكسائي: موضعه الخفض بحذف اللام مع أن خاصة.
الثاني - قال سيبويه، وأكثر النحويين: إن موضعه النصب، لأنه لما حذف
المضاف وصل الفعل وهو القياس.
الثالث - قال قوم: موضعه الرفع على " أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين
الناس " أولى، وحذف، لأنه معلوم المعنى، أجاز ذلك الزجاج وإنما حذف اللام
جاز مع (أن)، ولم يجز مع المصدر، لان (أن) يصلح معها الماضي، والمستقبل، نحو
قولك جئتك أن ضربت زيدا، وجئتك أن تضرب زيدا، والمصدر ليس كذلك،
كقولك: جئتك لضرب زيد، فمعنى ذلك: أنه لما وصل بالفعل، احتمل الحذف كما
يحتمل (الذي) وإذا وصل بالفعل من حذف ضمير المفعول، ما لا يحتمله الألف واللام
إذا وصل بالاسم، نحو الذي ضربت زيد: يريد ضربته. فأما الضاربة أنا زيد،
فلا يحسن إلا بالهاء، وذلك لان الفعل أثقل، فهو بالحذف أولى. ويجوز أن

(1) ديوانه: 141.
227

يكون لما صلح للامرين كثير في الاستعمال، فكان بالحذف أولى مما قل منه.
وقال الزجاج إنما جاز حذف اللام مع (أن)، ولم يجز مع المصدر، لان (أن) إذا
وصلت، دل بما بعدها على الاستقبال، والمعنى تقول: جئتك أن ضربت زيدا،
وجئتك أن تضرب زيدا، فلذلك جاز حذف اللام، فإذا قلت: جئتك ضرب زيد،
لم يدل الضرب على مضي ولا استقبال.
المعنى:
فإذا حلف لا يعطي من معروفه، ثم رأى أن يره خيرا، أعطاه، ونقض
يمينه. وعندنا لا كفارة عليه، وإنما جاز ذلك، لأنه لا يخلو من أن يكون حلف
يمينا جائزة أو غيره جائزة، فان كانت جائزة، فهي مقيدة بأن لا يرى ما هو خير،
فليس في هذا مناقضة للجائزة، وأن كانت غير جائزة، فنقضها غير مكروه.
وقوله: " والله سميع عليم " معناه: أنه سميع ليمينه، عليم بنيته فيه، وفي
ذلك تذكير، وتحذير.
قوله تعالى:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم
بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (225) آية.
المعنى:
اختلفوا في يمين اللغو في هذه الآية، فقال ابن عباس، وعائشة، والشعبي:
هو ما يجري على عادة اللسان: من لا والله، وبلى والله من غير عقد على يمين يقتطع
بها مال، يظلم بها أحد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع). وقال
الحسن، ومجاهد، وإبراهيم: هي يمين الظان، وهو يرى أنه حلف، فلا إثم عليه،
ولا كفارة. روي أيضا عن ابن عباس، وطاووس: أنها يمين الغضبان، لا يؤاخذ
بالحنث فيها، وبه قال سعيد بن جبير، إلا أنه أوجب فيها الكفارة. وقال مسروق
228

كل يمين ليس له الوفاء بها، فهي لغو، ولا يجب فيها كفارة. وقال الضحاك: روي
أيضا عن ابن عباس: أن لغو اليمين ما يجب فيه الكفارة. وروي عن إبراهيم: أنها
يمين الناسي إذا حنث. وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل: أعمى الله بصري، أو
أهلك الله مالي، فيدعو على نفسه.
اللغة:
وأصل اللغو: هو الكلام الذي لا فائدة فيه، وكل يمين جرت مجرى مالا
فائدة فيه حتى صارت بمنزلة ما لم يقع، فهي لغو ولا شئ فيها، وهو اختيار
الرماني. تقول: لغا يلغو لغوا: إذا أتي بكلام. وألغى إلغاء: إذا أطرح الكلام،
لأنه لا فائدة فيه. وقوله: " والغوا فيه " معناه: ارفعوا الصوت بكلام
لا فائدة فيه. والحساب الذي يلغى: أي يطرح، لأنه بمنزلة كلام لا فائدة فيه.
ولاغية: كلمة قبيحة فاحشة، ومنه اللغا، لأنها كلام لا فائدة فيه عند غير أهله،
وهو مشتق من لغا الطائر، وهو منطقه، وقال ابن صغير المازني:
باكرتم بسباء جون ذارع * قبل الصباح وقبل لغو الطائر (1)
المعنى:
الايمان على ضربين: أحدهما لا كفارة فيها. والثاني - يجب فيها الكفارة،
فما لا كفارة فيه: هو اليمين على الماضي إذا كان كاذبا فيه، مثل أن يحلف أنه
ما فعل، وكان فعل أو (2) أن يحلف أنه فعل، وما كان فعل، فهاتان لا كفارة
فيهما - عندنا - وكذلك إذا حلف على مال، ليقتطعه كاذبا، فلا كفارة عليه،
ويلزمه الخروج مما حلف عليه، والتوبة، وهي اليمين الغموس، وفي هذه أيضا
خلاف، ومنها أن يحلف على أمر فعل، أو ترك، وكان خلاف ما حلف عليه أولى

(1) اللسان (لغا) في المطبوعة (بسبأ) بدل (بسباء) و (الصياح) بدل (الصباح)
و " رزاع " بدل " ذارع " وكل ذلك تحريف. باكرتم بسباء: أي بشرب الخمرة.
(2) في المطبوعة " أو " ساقطة.
229

من المقام عليه، فليخالف، ولا كفارة عليه - عندنا - وفيه خلاف عند أكثر الفقهاء.
وما فيه كفارة، فهو أن يحلف على أن يفعل، أو يترك وكان الوفاء به إما واجبا
أو ندبا أو كان فعله، وتركه سواء، فمتى خالف كان عليه الكفارة، وقد بينا أمثلة
ذلك في النهاية في الفقه. وقال الحسن: الايمان على ثلاثة أقسام: منها أن يحلف على
أمر، وهو يرى أنه على ما حلف، فهذا هو اللغو، لا عقوبة فيه، ولا كفارة.
ومنها: أن يحلف على أمر، وهو يعلم أنه كاذب، فهذا آثم فاجر عليه التوبة، ولا
كفارة عليه. ومنها أن يحلف: لا يفعل كذا، فيفعل، أو يحلف: ليفعلن، ولا
يفعل، ففي ذلك الكفارة. وكان يقول: إذا حلف على مملوك، أو على حر، فقال:
والله لتأكلن من هذا الطعام، فلم يأكل، فعليه الكفارة. وقال: اليمين على أربعة
أوجه - في قول أكثر الفقهاء: اثنتان: لا كفارة فيها، واثنتان: فيها الكفارة،
فالأول - قول الرجل: والله ما فعلت، وقد فعل، وقوله: والله لقد فعلت، وما
فعل، فهاتان لا كفارة فيهما، لأنه لا حنث فيهما. والثاني - قول الحالف: والله
لا فعلت، ثم يفعل. وقوله: والله لأفعلن، ثم لا يفعل، فهاتان فيهما الكفارة. وقد
بينا الخلاف في خلاف الفقهاء.
اللغة:
والفرق بين اللغا، واللغو، أن اللغا: الذكر بالكلام القبيح. لغيت الغي
لغا، قال العجاج:
ورب أسراب حجيج كظم * عن اللغا ورفث التكلم (1)
وجواب اليمين على أربعة أقسام: اللام، وما، وإن، ولا، نحو: والله
لآتينك، ووالله ما فعلت، ووالله إنه لكاذب، ووالله لا كلمته.
وقوله: " والله غفور حليم " فالحلم الامهال بتأخير العقاب (2) على الذنب،
تقول: حلم حلما، وتحلم تحلما، وحلمه تحليما. وحلم في نومه حلما: إذا رأى

(1) مر تخريجه في 2: 132.
(2) في المطبوعة " العقل ".
230

الأحلام، ومنه " أضغاث أحلام " (1). والحلم الرؤيا في النوم، ومنه الاحتلام.
والحلم: ما عظم من القردان، والواحد حلمة، لأنه كحلمة (2) الثدي، وحلمة
الثدي، لأنها تحلم المرتضع. والحلمة: شجرة السعدان، وهي من أفضل المرعى.
وتحلمت الضباب: إذا سمنت لأنه يكسبها دعة كدعة الحلم. والحلام: الجدي، وأصل
الباب الحلم: الأناة. وأما حلم الأديم إذا نغل (3) فلانه وقع فيه الحلم.
قوله تعالى:
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فان
فاءوا فان الله غفور رحيم (226) آية واحدة بلا خلاف.
اللغة:
قوله: " يؤلون " معناه: يحلفون - بلا خلاف بين أهل التأويل - وهو
المروي عن سعيد بن المسيب وهو مأخوذ من الالية قال الشاعر:
كفينا من تغيب من نزار * وأحنثنا إليه مقسمينا (4)
ويقال: إلى الرجل - من امرأته - يؤلي إيلاء، وأليه، وألوة، وهو الحلف
قال الأعشى:
إني أليت على حلفة * ولم أقلها سحر الساحر (5)
وجمع ألية: ألايا، وأليات، كعشية، وعشايا، وعشيات، فأما جمع ألوة،
فألايا، كركوبة وركائب، وجمع ألية: ألاء كصحيفة، وصحائف، ومنه اءتلى يأتلى

(1) سورة يوسف آية: 44.
(2) في المطبوعة " كجلمة ".
(3) حلم - بفتح الحاء وكسر اللام - ونغل الأديم: فسد في دباغته.
(4) تفسير الطبري 4: 456، وروايته " في تراب " بدل " من نزار " وفي مجمع
لبيان طبع صيدا 1: 332 " من نزار " كما ذكر الشيخ سواء. وقد اعترف محقق الطبري أنه
بدل " من " ب‍ " في " وكانت في المخطوطة والمطبوعة عنده " من ".
(5) ديوانه: 143 رقم القصيدة: 18 وروايته " ولم أقله عثر العاثر " بدل " ولم
قلها سحر الساحر ".
231

اءتلاء، وفي التنزيل " ولا يأتل أولوا الفضل منكم " (1)، وتقول: لا تألوا
أليا، وألو، نحو العتى، والعتو. وما ألوت جهدا، ولا ألوته نصحا، أو غشا،
ومنه قوله: " لا يألونكم خبالا " (2)، وقال الشاعر:
نحن فصلنا جهدنا لم نأتله
أي لم نقصر. وأصل الباب التقصير، فمنه لا يألوا جهدا، ومنه الآية:
اليمين، لأنها لنفي التقصير. وعود ألوة، وألوة: أجود العمود، لأنه خالص.
المعنى:
والايلاء في الآية: المراد به: اعتزل النساء، وترك؟ على وجه الاضرار
بهن، وكأنه قيل: " للذين يألون " أن يعتزلوا نساءهم " تربص أربعة أشهر " منهم،
واليمين التي يكون بها الرجل مؤليا: هي اليمين بالله عز وجل، أو بشئ من صفاته
التي لا يشركه فيها غيره، على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه، ويكون
الحلف على الامتناع من الجماع على جهة الغضب، والضرار، وهو المروي عن علي
(ع)، وابن عباس، والحسن. وقال إبراهيم، وابن سيرين، والشعبي: في الغضب.
وقال سعيد بن المسبب: هو في الجماع، وغيره من الضرار، ونحو الحلف ألا يكلمها.
اللغة:
والتربص بالشئ انتظارك به خيرا، أو شرا يحل، وتقول: تربصت بالشئ
تربصا، وربصت به ربصا، ومنه قوله: " فتربصوا به حتى حين " (3) و " نتربص
به ريب المنون " (4) قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها * تطلق يوما أو يموت حليلها (5)
ومالي على هذا الامر ربصة: أي تلبث، وأصله الانتظار.
وقوله: " فان فاءوا " معناه: فان رجعوا، ومنه قوله: " حتى تفئ إلى أمر

(1) سورة النور آية: 22.
(2) سورة آل عمران آية: 118.
(3) سورة المؤمن آية 25.
(4) سورة الطور آية: 30.
(5) اللسان (ربص) في المطبوعة (خليلها) بدل " حليلها ". والمعنى فيهما واحد.
232

الله " (1) أي ترجع من الخطأ إلى الصواب. والفرق بين الفئ والظل: ما قال
المبرد: إن الفئ ما نسخ الشمس، لأنه هو الراجع، وأما الظل: فما لا شمس فيه.
وكل فئ ظل، وليس كل ظل فئ، ولذلك أهل الجنة في ظل، لا في فئ، لأنه
لا شمس فيها، كما قال الله تعالى: " وظل ممدود " (2). وجمع الفئ أفياء، تقول:
فاء الفئ: إذا نحول عن جهة الغداة برجوع الشمس عنه. وتفيأت في الشجر،
وفيأت الشجرة. والفئ: غنائم المشركين، أفاء الله علينا فيهم، لأنه من رجع
الشئ إلى حقه، والفئ الرجوع عن الغضب. إن فلانا لسريع الفئ من غضبه.
المعنى:
فان قيل: ما الذي يكون المولى به فايئا؟ قيل - عندنا -: يكون فايئا بأن
يجامع، وبه قال ابن عباس، ومسروق، وسعيد بن المسيب. وقال الحسن، وإبراهيم،
وعلقمة: يكون فايئا بالعزم في حال العذر إلا أنه ينبغي أن يشهد على فيئه، وهذا
يكون - عندنا - للمضطر الذي لا يقدر على الجماع، ويجب على الفائ - عندنا -
الكفارة، وبه قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، ولا عقوبة عليه، وهو
المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع). وقال الحسن، وإبراهيم: لا كفارة
عليه، لقوله: " فان فاؤوا فان الله غفور رحيم ": أي لا يتبعه بكفارة، ولا
عقوبة.
الاعراب:
ويجوز في " تربص أربعة أشهر " ثلاثة أوجه: الجر بالإضافة، وعليه جميع
القراء. ويجوز النصب، والرفع في العربية " تربص أربعة أشهر " كما قال: " ألم
نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا " (3) أي يكفتهم (4) أحياء، وأمواتا،
و " تربص أربعة أشهر " كقوله: " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله " (5)

(1) سورة الحجرات آية: 9.
(2) سورة الواقعة آية: 30.
(3) سورة المرسلات آية: 25 - 26.
(4) في المطبوعة يكفيهم
(5) سورة النور آية: 6.
233

عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على اسلامكم بل الله يمن عليكم ان هداكم للايمان " (1)
أنعم عليكم. والمنة: القوة في القلب والمن: الذي يقع من السماء، والمن الذي يوزن
به، لأنه يقطع على مقدار مخصوص.
وقوله: " ولا أذى " فهو نحو قولهم أنت أبدا فقير، ومن أبلاني بك
وأراحني الله منك، وما أشبه ذلك مما يؤذي قلب المعطى وقوله " لهم أجرهم عند
ربهم " والاجر هو النفع المستحق بالعمل " ولا خوف عليهم " فالخوف يوقع الضرر
الذي لا يؤمن وقوعه.
" ولاهم يحزنون " فالحزن الغم الذي يغلظ على النفس. ومنه الحزن:
الأرض الغليظة. وقيل في معناه قولان:
أحدهما - لا خوف عليهم لفوت الاجر. والثاني - لا خوف عليهم لأهوال
الآخرة. وقيل أنه دليل على أن الوعد بشرط لأنه مغموم الكلام. لان تقديره
في المعنى ان لم يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى، فلهم من الاجر كذا، وليس في
الآية ما يدل على صحة القول بالاحباط أصلا، لان الوعد متى كان مشروطا بأن
لا يتبع بالمن والأذى فمتى اتبع بهما لم يحصل الشرط الذي يوجب استحقاق الثواب
فلم يحصل شئ أصلا ثم انحبط، وإنما كان فيه لبس لو ثبت استحقاقهم بنفس الانفاق
فإذا اتبع بالمن انحبط ذلك. وهذا ليس في الآية.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: المنان: بما يعطي لا يكلمه الله ولا ينظر
إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم. وقال الضحاك لان يمسك ماله خير له من أن ينفقه
ثم يتبعه منا وأذى.
قوله تعالى:
(قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله
غني حليم) (263) آية بلا خلاف.

(1) سورة الحجرات: 17.
234

أو طلق، فإن لم يفعل، حبسه حتى يطلق، ومثل هذا قال أهل المدينة غير أنهم قالوا:
متى امتنع من الطلاق والفيأة، طلق عنه الحاكم طلقة رجعية. وقال أهل العراق:
الايلاء: أن يحلف ألا يجامعها أربعة أشهر فصاعدا، فإذا مضت أربعة أشهر فلم
يقربها، بانت منه بتطليقة لا رجعة له عليها، وعليها عدة ثلاث حيض، يخطبها في
العدة، ولا يخطبها غيره، فان فاء قيل أربعة أشهر: أي إن جامع، كفر يمينه،
وهي امرأته. وقال الحسن، وقتادة وابن مسعود، وإبراهيم، وابن عباس،
وحماد: هو مضي أربعة أشهر قبل أن يفئ من غير عذر.
اللغة:
والعزم: هو العقد على فعل شئ في مستقبل الوقت. والعزم على الشئ هو
إرادته له: إذا كانت مقدمة للفعل بأكثر من وقت واحد، وتكون متعلقة بفعل
العازم، ولا يدخل بينهما، وبين الفعل سهو، ولا نسيان. يقال: عزم عزما: إذا
عقد على أن يفعل الشئ، واعتزم اعتزاما. وعزمت عليك لتفعلن: أي أقسمت.
وعزم الراقي: كأنه أقسم على الداء. ورجل ماضي العزم: حاد في أمره. وما لفلان
عزيمة: أي ما يثبت على أمر، لتلونه، ومنه قوله: " فاصبر كما صبر ألو العزم من
الرسل " (1). وعزائم القرآن التي تقرأ على ذوي الآفات، لما يرجى من البرء بها.
وأصل الباب العزم على العقد على الشئ.
والطلاق: حل عقدة النكاح بما يوجبه في الشريعة. تقول: طلقت تطلق
طلاقا، فهي طالق - بلا علامة التأنيث، حكاه الزجاج. وقال قوم: لأنه يختص
بالمؤنث. وقال الزجاج: هذا ليس بشئ، لان في الكلام شيئا كثيرا يشترك فيه
المؤنث، والمذكر - بلا علامة التأنيث - نحو قولهم: بعير ضامر، وناقة ضامر،
وبعير ساعل، وناقة ساعل. وزعم سيبويه، وأصحابه: أن هذا واقع على لفظ
التذكير صفة للمؤنث، لان المعنى: هي طالق حقيقة - عندهم - انه على جهة

(1) سورة الأحقاف آية: 35.
235

النسب، نحو قولهم: امرأة مذكار، ورجل مذكار، ورجل مئناث، وامرأة مئناث،
ومعناه: ذات ذكران، وذات إناث، وكذلك مطفل: ذات طفل، وكذلك طالق:
ذات طلاق. فان أجريته على الفعل قلت طالقة، قال الشاعر:
أيا جارتا بيني فإنك طالقه! * كذاك أمور الناس غاد وطارقه (1)
تقول: طلقها، وتطلق تطلقا، وأطلق إطلاقا، واستطلق استطلاقا،
وانطلق انطلاقا، وتطلقت المرأة عند الولادة، فهي مطلوقة إذا تمخضت. والطلق:
الشوط من الجري. والطلق: قيد من قدم أو عقب (2) تقيد به الإبل. ورجل
طلق الوجه: بهلول ضحاك. ويوم طلق إذا لم يكن فيه حر، ولا قر. والطليق:
الأسير يخلى عنه ورجل طلق اليدين: سمح بالعطاء. والطلق: الحبل الشديد الفتل،
يقوم قيام. وأصل الباب الانطلاق، والطلاق، لانطلاق المرأة فيه على عقدة
النكاح.
المعنى:
والطلاق بعد الايلاء، والايقاف يكون واحدة رجعية، وبه قال سعيد بن
المسيب، وابن عمر. وقال الحسن وابن مسعود، وابن عباس: تكون بائنة.
وقوله: " فان الله سميع عليم " فيه دلالة على الاخذ بالفئ أو الطلاق، لأنه بمعنى.
أن الله يسمع قوله، ويعلم ضميره. وقيل: بل هو راجع إلى يسمع الايلاء، ويعلم
بنيته، وكلاهما يحتمل في اللغة - على قول الزجاج - وحقيقة السميع: هو من كان
على صفة يجب لأجلها أن يدرك المسموعات إذا وجدت. وهو يرجع إلى كونه
حيا لا آفة به (3). والسامع: هو المدرك. والله تعالى يوصف بما لم يزل بأنه

(1) قائله الأعشى. ديوانه: 263 رقم القصيدة: 41 واللسان " طلق " قالها لامرأته
الهزانية حين فارقها بيني: فارقي. غاد: يأتي غدوة في الصباح. والطارق: الذي يطرق أي يأتي ليلا.
(2) هكذا في المطبوعة وفي اللسان (طلق) الطلق - بالتحريك - قيد من جلود، والطلق
- بالتحريك - قيد من أدم.
(3) في المطبوعة (لا حرية) بدل (حيا لا آفة به)
236

سميع، ولا يوصف فيما لم يزل بأنه سامع، وإنما يوصف بأنه سامع إذا وجدت
المسموعات. وإنما ذكر عقيب الأول " أن الله غفور رحيم " لأنه لما أخبر عن
المولى أنه يلزمه الفئ، أو الطلاق بين أنه إن فاء " فان الله غفور رحيم " بأن يقبل
رجوعه، ولا يتبعه بعقاب ما ارتكبه. وذكر هاهنا أنه " سميع عليم " لما أخبر
عنه بايقاع الطلاق، وكان ذلك مما يسمع، أخبر أنه لا يخفى عليه، وأنه يسمعه،
لأنه على صفة يوجب إدراكه لذلك، وأنه عالم ببيانه، فلا الذي ذكر في
الآية الأولى يليق بهذه الآية، ولا الذي ذكر هاهنا يليق هناك، وذلك من عظم
فصاحة القرآن، وجلالة مواقعه.
قوله تعالى:
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل
لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله
واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا
إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن
درجة والله عزيز حكيم (228) آية بلا خلاف.
المعنى:
القرؤ: الطهر - عندنا - وبه قال زيد بن ثابت، وعائشة، وابن عمر، وسالم،
وأهل الحجاز. وروي عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وبه قال أهل
العراق، ورواه عن علي (ع) أنه الحيض.
اللغة:
وأصل القرء يحتمل وجهين في اللغة:
أحدهما - الاجتماع، فمنه قرأت القران، لاجتماع حروفه، ومنه قولهم:
237

ما قرأت الناقة سلا قط: أي لم تجمع رحمها على ولد قط. قال عمرو بن كلثوم:
ذراعي عيطل أدماء بكر * هجان اللون لم تقرأ جنينا (1)
ومنه أقرأت النجوم: إذا اجتمعت في الأقول، فعلى هذا، يقال: أقرأت
المرأة: إذا حاضت، فهي مقرئ، في قول الأصمعي، والأخفش، والكسائي
والفراء، وأنشدوا له:
قروؤ كقروؤ الحائض
فتأويل ذلك: اجتماع الدم في الرحم. ويجئ على هذا الأصل أن يكون
القرأ: الطهر، لاجتماع الدم في جملة البدن، هذا قول الزجاج.
والوجه الثاني - أن يكون أصل القرء: وقت الفعل الذي يجرى على آخر عادة،
في قول أبي عمرو بن العلاء، وقال: هو يصلح للحيض، والطهر، يقال: هذا قارئ
الرياح أي وقت هبوبها قال الشاعر:
شنئت العقر عقر بني شليل * إذا هبت لقارئها الرياح (2)
أي لوقت شدة بردها، وقال آخر:
رجا أياس أن تؤوب ولا أذى * إياسا لقرؤ الغائبين يؤوب (3)
أي لحين الغائبين، فعلى هذا يكون القرؤ الحيض، لأنه وقت اجتماع الدم في
الرحم على العادة المعروفة فيه، ويكون الطهر، لأنه وقت ارتفاعه على عادة جارية
فيه، قال الأعشى في الطهر:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة * تشد لاقصاها عزيم عزائكا

(1) اللسان (عطل) (قرأ) وقد رواه الجوهري برواية أخرى وهي:
ذراعي عيطل أدماء بكر * تربعت الأماعز والمتونا
وفي المطبوعة " اللوم " بدل " اللون " وهو تصحيف، والعيطل: طويل العنق من الإبل
وغيرها. والادماء من الإبل البيضاء، وكذلك هجان اللون أي بيض اللون. ولم تقرأ جنينا: أي
لم تجمع رحمها على جنين، وهو الولد.
(2) قائله مالك ابن الحرث الهذلي، ديوان الهذليين 3: 83. واللسان (قرأ) شنئت:
أي كرهت، والعقر: اسم مكان. وشليل: هو جد جرير بن عبد الله البجلي.
(3) لم أجد هذا البيت فيما حضرني من المصادر.
238

مورثة مالا وفي الحمد رفعة * لما ضاع فيها من قروء نسائكا (1)
والذي ضاع هاهنا الأطهار، لأنه بعد غيبته، فيضيع بها طهر النساء، فلا
يطأهن، والوقت الجاري في الفعل على عادة راجع إلى معنى الاجتماع، وذلك،
لاجتماع الفعل مع الوقت الدائر، فالاجتماع أصل الباب. وأخذ القرؤ من الوقت
ردا له إلى فرع، وكلا الامرين يحتمل في اللغة.
المعنى،
ومن خفف الهمزة في " قروء " قال: قرؤ، ومثله " من يعمل سوءا " (2)
واستشهد أهل العراق بأشياء يقوى أن المراد الحيض، منها قوله (ع) في مستحاضة
سألته: دعي الصلاة أيام أقرائك. واستشهد أهل المدينة بقوله: " فطلقوهن
لعدتهن " (3) أي طهر لم يجامع فيه كما يقال لغرة الشهر، وتأوله غيرهم: لاستقبال
عدتهن، وهو الحيض.
فان قيل: لو كان المراد - في الأقراء في الآية - الأطهار، لوجب استيفاء
الثلاثة أطهار بكمالها، كما أن من كانت عدتها بالأشهر، وجب عليها ثلاثة أشهر على
الكمال، وقد أجمعنا على أنه - لو طلقها في آخر يوم الطهر الذي ما قربها فيه،
لا يلزمها أكثر من طهرين آخرين، وذلك دليل على فساد ما قلتموه! قلنا: تسمى
القرآن الكاملان، وبعض الثالث ثلاثة أقراء، كما تسمى - الشهران وبعض الثالث -: ثلاثة
أشهر قال الله تعالى: " الحج أشهر معلومات " (4) وإنما هي شوال، وذي القعدة،
وبعض من ذي الحجة. وروي عن عائشة أنها قالت: الأقراء الأطهار.
وقوله: " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قيل في معناه
ثلاثة أقوال: أحدها - قال إبراهيم: الحيض. وثانيها - قال قتادة: الحبل. وثالثها -

(1) ديوانه: 91 رقم القصيدة: 11 يمدح بها هوذة بن علي الحنفي، ومعنى البيتين:
لك في كل عام غزوة،؟ لها صبرك وجلدك، فتعود منها بالغنيمة والمجد الذي يعوضك عما عاينت
من العبد عن نسائك.
(2) سورة النساء آية: 109، 102.
(3) سورة الطلاق آية: 1
(4) سورة البقرة آية: 197.
239

قال ابن عمر، والحسن: هو الحبل، والحيض، وهو الأقوى لأنه أعم. وإنما لم
يحل لهن الكتمان، لظلم الزوج بمنعه المراجعة - في قول ابن عباس -. وقال قتادة:
لنسبة الولد إلى غيره، كفعل الجاهلية.
اللغة:
وإنما قال: " ثلاثة قروء " ولم يقل: ثلاثة أقرء على جمع القليل، لأنه
لما كانت كل مطلقة يلزمها هذا، دخله معنى الكثرة فأتى ببناء الكثرة، للاشعار بذلك،
فالقروء كثيرة إلا أنها ثلاثة في القسمة. ووجه آخر - أن بناء الكثير فيه أغلب في
الاستعمال، لأنه على قياس الباب في جمع فعل الكثير، فأما القليل، فقياسه، أفعل
دون أفعال، فصار بمنزلة مالا يعتد به فجاء مجئ قولهم: ثلاثة شسوع، فاستغني
فيه ببناء الكثير عن القليل. ووجه ثالث - أن يذهب مذهب الجنس نحو قولهم:
ثلاثة كلاب يعنون ثلاثة من الكلاب إذا أريد رفع الايهام.
المعنى:
والشرط بقوله: " إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر " معناه من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر، فهذه صفته فيما يلزمه، لا أنه يلزم المؤمن دون غيره. وخرج
ذلك مخرج التهديد. " وبعولتهن أحق بردهن " يعني أزواجهن أحق برجعتهن،
وذلك يختص بالرجعيات وإن كان أول الآية عاما في جميع المطلقات الرجعية والبائنة.
وسمي الزوج بعلا، لأنه عال على المرأة بملكه لزوجيتها.
اللغة:
تقول: بعل ييعل بعولة، وهو بعل. وقوله " أتدعون بعلا " (1) أي ربا،
لأنه بمعنى من سميتموه باستعلاء الربوبية تخرصا، وقيل أنه صنم. والبعل النخل
يشرب بعروقه، لأنه مستعل على شربه، وبعل الرجل بأمره إذا ضاق به ذرعا،

(1) سورة الصافات آية: 125.
240

لأنه علاه منه ما ضاق به صدره. وبعل الرجل في معنى بطر، لأنه استعلى معظما،
وكبرا، وامرأة بعلة: لا تحسن لبس الثياب، لان الحيرة تستعلي عليها، فتدهشها.
وبعل الرجل يبعل بعلا إذا دهش دهشا.
المعنى:
وقوله: " ولهن مثل الذي عليهن " قال الضحاك: لهن من حسن العشرة
بالمعروف على أزواجهن مثل ما عليهن من الطاعة فيما أوجبه الله عليهن لهم. وقال ابن
عباس: لهن على أزواجهن من التصنع والتزين مثل ما لأزواجهن عليهن. وقال
الطبري: لهن على أزواجهن ترك مضارتهن، كما أن عليهن لأزواجهن.
وقوله: " وللرجال عليهن درجة " قيل معناه: فضيلة منها الطاعة، ومنها
أن يملك التخلية، ومنها زيادة الميراث (على قسم) (1) المرأة، والجهاد. هذا
قول مجاهد، وقتادة. وقال ابن عباس: منزلة في الاخذ عليها بالفضل في المعاملة
حتى قال: ما أحب أن استوفي منها جميع حقي، ليكون لي عليها الفضيلة.
اللغة:
وتقول: رجل بين الرجولة أي القوة، وهو أرجلهما أي أقواهما، وفرس رجيل
قوي على المشي. والرجل معروفة، لقوتها على المشي. ورجل من جراد أي قطعة منه
تشبيها بالرجل، لأنها قطعة من الجملة. والراجل الذي يمشي على رجله. وارتجل
الكلام ارتجالا، لأنه قوي عليه من غير ركوب فكرة، ولا روية. وترجل النهار،
لأنه قوي ضياؤه بنزول الشمس إلى الأرض. ورجل شعره إذا طوله، لأنه قوي
بكثرته من غير أن يركب بعضه بعضا، فيقل في رأي العين. والمرجل معروف.
وأصل الباب: القوة.
والدرجة: المنزلة، تقول: درجت الشئ أدرجه درجا، وأدرجته إدراجا،
ودرج القوم قرنا بعد قرن أي فنوا. وأدرجه الله إدراجا، لأنه كطي الشئ

(1) ما بين القوسين من مجمع البيان، لان الجملة لا تتم بدونه.
241

بمنزلة بعد منزلة والدرج سفيط للطيب، لأنه بمنزلة ما يدرج فيه. ومدرجة
الطريق: قارعته. وأصل الباب الطي، فالدرجة منزلة من منازل الطي، ومنه الدرجة
التي يرتقى فيها.
المعنى:
وقيل إن في الآية نسخا، لان التي لم يدخل بها، لا عدة عليها بقوله:
" يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات " إلى قوله: " فما لكم عليهن من عدة
تعتدونها " (1) ولان الحامل عدتها وضع ما في بطنها بقوله " وأولات الأحمال
أجلهن أن يضعن حملهن ". (2)
قوله تعالى:
الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان
ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما
حدود الله فان خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما
افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله
فأولئك هم الظالمون (229) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ حمزة، وأبو جعفر " إلا أن يخافا " بضم الياء، والباقون بفتحها.
المعنى:
قيل في معنى قوله: " الطلاق مرتان " قولان:
أحدهما - ما قال ابن عباس، ومجاهد: إن معناه البيان عن تفصيل الطلاق في
السنة، وهو أنه أراد طلاقها فينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع،

(1) سورة الأحزاب آية: 49.
(2) سورة الطلاق آية: 4.
242

تطليقة واحدة، ثم يتركها حتى تخرج من العدة، أو حتى تحيض وتطهر، ثم يطلقها ثانية.
والثاني - ما قاله عروة، وقتادة: إن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي
يوجب البينونة، مما لا يوجبها. وفي الآية بيان أنه ليس بعد التطليقتين إلا الفرقة
البائنة. وقال الزجاج: في الآية حذف، لان التقدير: الطلاق الذي يملك فيه
الرجعة مرتان، بدلالة قوله: " فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ". والمرتان
معناه: دفعتان.
اللغة:
وتقول مر يمر مرا واستمر استمرارا، وأمره إمرارا وتمرر تمررا، ومرره
تمريرا. والمر: خلاف الحلو، ومنه المرارة، لان فيها المرة. والمرة مزاج من أمزجة
البدن. والمرة شدة الفتل، لاستمراره على إحكام. والمرير: الحبل المفتول. وفي
التنزيل " ذو مرة فاستوى " (1) أي ذو قوة وشدة. والمر الذي يعمل به في الطين
وأصل الباب المرور: خلاف الوقوف.
وقوله " فامساك بمعروف " رفع، ومعناه: فالواجب إمساك عليه، وكان
يجوز النصب على فليمسك إمساكا، والامساك خلاف الاطلاق. تقول أمسك
إمساكا، وتمسك تمسكا، وتماسك تماسكا، وامتسك امتساكا، ومسك تمسيكا،
واستمسك استمساكا. وفلان ممسك: أي بخيل، وما بفلان مسكة، ولا تمساك:
إذا لم يكن فيه خير، لأنه منحل عن ضبط شئ من أموره. والمسك: الاهاب،
لأنه يمسك البدن باحتوائه عليه. والمسك السواء (2)، وسمي باستمساكه في اليد.
المعنى:
وقوله: " معروف " أي على وجه جميل سائغ (3) في الشرع لاعلى وجه
الاضرار بهن.

(1) سورة النجم آية: 6.
(2) في مجمع البيان: السواد، وفي لسان العرب: السوار.
(3) في المطبوعة (سايع).
243

وقوله: " أو تسريح باحسان " قيل فيه قولان:
أحدهما - أنها الطلقة الثالثة، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أن رجلا سأله، فقال:
الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ فأجابه: أو تسريح باحسان. وقال السدي، والضحاك: هو
ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع).
اللغة:
والتسريح مأخوذ من السرح. وهو الانطلاق. تقول: سرح تسريحا،
وسرح الماشية في الرعي سرحا: إذا أطلقها ترعى: والسرحان: الذئب، لاتباعه
السرح. والسرحة: الشجرة المرتفعة، لانطلاقها في جهة الطول. والمسرح: المشط،
لاطلاق الشعر به. وسرحت الماشية: إذا انطلقت في المرعى. وسرحت العبد إذا
أعتقته. والسرح: الجراد، لانطلاقه في البلاد، والسريحة: القطعة من القد يشد
بها نقال الإبل، وكل شئ قددته مستطيلا، فهو سريح.
النزول:
وروي أن هذه الآية نزلت في ثابت بن قيس، وزوجته، وردت عليه
حديقته، وطلقها باذن النبي صلى الله عليه وآله رواه ابن جريج.
المعنى، والحجة، والاعراب:
وقوله: " إلا أن يخافا " معناه: إلا أن يظنا وقال الشاعر:
أتاني كلام عن نصيب بقوله * وما خفت يا سلام أنك عائبي (1)
يعني ما ظننت وأنشد الفراء:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة * تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلات فإنني * أخاف إذا ما مت ألا أذوقها (2)

(1) مر تخريجه في 2: 189. من هذا الكتاب.
(2) قائلهما أبو محجن الثقفي، ديوانه: 23، ومعاني القرآن للفراء 1: 146 وغيرها
كثير، وخبر أبي محجن في الخمر مشهور.
244

ومن ضم الياء، فتقديره: إلا أن يخافا على أن يقيما حدود الله. وقال
أبو عبيدة " إلا أن يخافا " معناه: يوقنا، " فان خفتم " معناه فان أيقنتم. وقال
أبو علي الفارسي: خاف فعل يتعدى إلى مفعول واحد، وذلك المفعول تارة يكون
(أن) وصلتها، وأخري غيرها، فأما تعديه إلى غير (أن) فنحو قوله: " تخافونهم
كخيفتكم أنفسكم " (1). وتعديته إلى (أن) كقوله: " تخافون أن يتخطفكم
الناس " (2) وقوله: " أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله " (3) فان عديته
إلى مفعول بأن ضعفت العين، أو اجتلبت حرف الجر كقولك: خوفت ضعف
الناس قولهم، وحرف الجر كقوله:
لو خافك الله عليه حرمه
ومن ذلك قوله: " إنما الشيطان يخوف أولياءه " (4) فيخوف قد حذف
معه مفعول يقتضيه تقديره يخوف المؤمنين بأولياءه، فحذف المفعول، والجار، فوصل
الفعل إلى المفعول الثاني، ألا ترى أنه لا يخوف أولياءه على حد قولك خوفت
اللص، وإنما يخوف غيرهم مما لا استنصار لديهم، ومثله فإذا خفت عليه بمنزلة المحذوف
من قوله: " أولياءه " فإذا كان تعدي هذا الفعل على ما وصفنا، فقول حمزة " إلا أن
يخافا "، مستقيم لأنه لما بني الفعل للمفعول به اسند الفعل إليه، فلم يبق شئ يتعدى
إليه، وأما (أن) من قوله: " ألا يقيما حدود الله "، فان الفعل يتعدى إليه
بالجار، كما تعدى بالجار في قوله:
لو خافك الله عليه حرمه
وموضع أن في الآية جر بالجار المقدر، على قول الخليل، والكسائي. ونصب،
في قول سيبويه، وأصحابه، لأنه لما حذف الجار، وصل الفعل إلى المفعول الثاني،
مثل استغفر الله ذنبا، وامرأتك الخير، فقوله مستقيم على ما رأيت. فان قال قائل:
لو كان يخافا كما قد أخبره، لكان ينبغي أن يكون فان خيفا! قيل لا يلزمه هذا
السؤال لامرين:

(1) سورة الروم آية: 28.
(2) سورة الأنفال آية: 26.
(3) سورة النور آية: 50.
(4) سورة آل عمران آية: 175.
245

أحدهما - أن يكون انصرف من الغيبة إلى الخطاب، كما قال: " الحمد الله " (1)
ثم قال: " إياك نعبد " (2)، وقال: " ما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك
هم؟ " (3) ونظائر ذلك كثيرة.
والاخر - أن يكون الخطاب في قوله: " فان خفتم " مصروفا إلى الولاة،
والفقهاء الذين يقومون بأمور الكافة، وجاز أن يكون الخطاب للكثرة في من جعله
انصرافا من الغيبة إلى الخطاب، لان ضمير الاثنين في " يخافا " ليس يراد به اثنان
مخصوصان، وإنما يراد كل من كان هذا شأنه، فهذا حكمه.
وأما من قرأ بالفتح، فالمعنى أنه إذا خاف: من كل واحد من الزوج والمرأة
" ألا يقيما حدود الله " حل الافتداء، ولا يحتاج في قولهم إلى تقدير الجار، لان
الفصل يقتضي مفعولا يتعدى إليه، كما اقتضى في قوله: " فلا تخافوهم وخافون " (4)
ولابد من تقدير الجار في قراءة من ضم الياء، لان الفعل قد استند إلى المفعول،
فلا يتعدى إلى المفعول الاخر إلا بالجار. قال أبو علي: فأما ما قاله الفراء في قول
حمزة " إلا أن يخافا " من أنه اعتبر قراءة عبد الله " إلا أن يخافوا " فلم ينصبه، لان
الخوف في قول عبد الله واقع على (أن). وفي قراءة حمزة على الرجل، والمرأة،
وحال الخوف التي معه.
المعنى:
" ألا يقيما حدود الله " قال ابن عباس وعروة والضحاك: هو نشوز المرأة بغضا
للزوج. وقال الشعبي هو نشوزها ونشوزه، والذي روي عن أبي عبد الله (ع)
أنه إذا خاف أن تعصي الله فيه بارتكاب محضور، واخلال بواجب، وألا تطيعه فيما
يجب عليها، فحينئذ يحل له أن يخلعها، ومثله روي عن الحسن. وقيل: إن الخوف
من الاخلال بالحقوق التي تجب لكل واحد منهما على صاحبه، وحسن العشرة
وجميل الصحبة.

(1) سورة الفاتحة آية: 1، 4.
(2) سورة الفاتحة آية: 1، 4.
(3) سورة الروم آية: 39.
(4) سورة آل عمران آية: 175.
246

فان قيل كيف قال: " فلا جناح عليهما "، وإنما الإباحة لاخذ الفدية!؟
لأنه لو خص بالذكر لأوهم أنها عاصية، وإن كانت الفدية له جائزة، فبين الاذن لهما
لئلا يوهم أنه كالزنا المحرم على الاخذ، والمعطي. وذكر الفراء وجهين:
أحدهما - أنه قال: هو كقوله " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " (1) وإنما
هو من الملح دون العذب، فجاز الاتساع، وهذا هو الذي يليق بمذهبنا، لان الذي
يبيح الخلع - عندنا - هو ما لولاه، لكانت المرأة به عاصية.
والوجه الثاني - على قوله صلى الله عليه وآله: إن أظهرت الصدقة، فحسن وإن أسررت
فحسن، وإنما على مزاوجة الكلام كقوله " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " (2)
والثاني ليس بعد، وإن الفدية الجائرة في الخلع - فعندنا - إن كان البغض منها،
وحدها وخاف منها العصيان، جاز أن يأخذ المهر فما زاد عليه، وإن كان منهما،
فيكون دون المهر. ورووا عن علي (ع) فقط، ولم يفصلوا، وبه قال الربيع، وعطا،
والزهري، والشعبي. وقال ابن عباس، وابن عمر، ورحا بن حوة، وإبراهيم،
ومجاهد: إنه يجوز الزيادة على المهر، والنقصان، ولم يفصلوا، والآية غير منسوخة
عند أكثر المفسرين، ابن عباس والحسن، وجميع أهل العلم إلا بكر بن عبد الله،
فإنه زعم أنها منسوخة بقوله " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " (3)
الآية. والخلع بالفدية على ثلاثة أوجه:
أحدها - أن تكون المرأة عجوزا وذميمة، فيضار بها ليفتدي بها، فهذا
لا يحل له الفدي، لقوله " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج " (4) الآية.
والثاني - أن يرى الرجل امرأته على فاحشة، فيضاربها لتفتدي بخلعها، فهذا
يجوز، وهو معنى قوله " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة " (5) والوجه الثالث:
" أن يخافا ألا يقيما حدود الله " لسوء خلق أو لقلة نفقة من غير ظلم، أو

(1) سورة الرحمن آية: 22.
(2) سورة البقرة آية: 194
(3) سورة النساء آية: 19
(4) سورة النساء آية: 19
(5) سورة النساء آية: 18.
247

نحو ذلك فيجوز الفدية لهما جميعا على ما فصلناه.
واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لا يقع،
لأنه قال: " مرتان " ثم ذكر الثالثة على الخلاف في أنها قوله: " أو تسريح
باحسان " أو قوله: " فان طلقتها " ومن طلق بلفظ واحد لا يكون أتى بالمرتين،
ولا بالثالثة كما أنه لو أوجب في اللعان أربع شهادات: ولو أتى بلفظ واحد لما وقع
موقعه. وكما لو رمى تسع حصيات في الجمار دفعة واحدة، لم يكن مجزيا له،
فكذلك الطلاق، ومتى ادعوا، في ذلك خبرا، فعليهم أن يذكروه ليتكلم عليه،
فأما مسائل الخلع، وفروعه، وشروطه فقد ذكرناها في النهاية، والمبسوط، فلا معنى
للتطويل بذكرها هاهنا لان المطلوب هاهنا معاني القرآن، وتأويله دون مسائل الفقه.
قوله تعالى:
فان طلقتها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا
غيره فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن
يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون
(230) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
قوله: " فان طلقها فلا تحل له من بعد " المعني فيه التطليقة الثالثة على
ما روي عن أبي جعفر (ع) وبه قال السدي، والضحاك، والزجاج، والجبائي،
والنظام. وقال مجاهد: هو تفسير لقوله: " أو تسريح باحسان " (1) فإنه التطليقة
الثالثة، وهو اختيار الطبري.
وصفة الزوج الذي تحل المرأة، للزوج الأول أن يكون بالغا، ويعقد
عليها عقدا صحيحا دائما ويذوق عسيلتها، بان يطأها وتذوق هي عسيلته - بلا

(1) سورة البقرة آية: 229.
248

خلاف بين أهل العلم - فلا يحل لاحد أن يتزوجها في العدة، وأما العقود الفاسدة أو
عقود الشبهة فإنها لا تحل للزوج الأول، ومتى وطأها بعقد صحيح في زمان يحرم عليه
وطؤها مثل أن تكون حائضا، أو محرمة، أو معتكفة، فإنها تحل للأول لان
الوطئ قد حصل في نكاح صحيح، وإنما حرم الوطئ لامر، ضار عليه، هذا
عند أكثر أهل العلم. وقال مالك: الوطئ في الحيض لا يحل للأول وإن وجب به المهر
كله، والعدة.
الاعراب:
وموضع (أن) في قوله: " فلا جناح عليهما أن يتراجعا " خفض، وتقديره
في أن يتراجعا - عند الخليل، والكسائي، والزجاج - وقال الفراء: موضعه النصب،
واختاره الزجاج، وباقي النحويين. وقال الفراء: الخفض لا أعرفه، وموضع (أن)
الثانية في قوله: " أن يقيما حدود الله " نصب - بلا خلاف ب‍ (ظنا)، وإنما جاز
حذف (في) من أن يتراجعا ولم يجز من التراجع، لأنه إنما جاز مع (أن) لطولها
بالصلة، كما جاز (الذي ضربت زيد)، لطول الذي بالصلة، ولم يجز في المصدر،
كما لم يجز في اسم الفاعل نحو (زيد ضارب عمرو) وتريد ضاربه.
المعنى:
وقوله: " فان طلقها " الثانية يعنى به الزوج الثاني. وذلك يدل على أن
الوطئ بعقد لا تحل للزوج الأول، لان الطلاق لا يلحق نكاح شبهة. والراجع
المذكور هاهنا، هو بعقد مستأنف، ومهر جديد، بلا خلاف.
القراءة:
وقول: " يبينها " قرأ المفضل عن عاصم بالنون على وجه الاخبار من الله عن
نفسه. الباقون بالياء، الكناية عن الله.
249

المعنى:
قوله: " لقوم يعلمون " إنما خص العلم بذكر البيان وإن كان بيانا لغيرهم،
لأنهم الذين ينتفعون ببيان الآيات، فصار غيرهم بمنزلة من لم يعتد به. ويجوز أيضا
أن يكونوا خصوا بالذكر تشريفا لهم، كما قال: " من كان عدوا لله وملائكته
ورسله وجبريل وميكال " (1).
والحدود: المراد بها ما تقدم بيانها من أحكام الطلاق، والايلاء، والخلع،
وغير ذلك.
وقوله: " إن ظنا أن يقيما حدود الله " لا يدل على وجوب الاجتهاد في
الشريعة، لأنه لا يمنع من تعلق أحكام كثيرة - في الشرع - في الظن، وإنما فيه
دلالة على، من قال: لا يجوز: أن يعمل في شئ من الدين إلا على اليقين، فأما
الظن، فلا يجوز أن يتعلق فيه شئ من الاحكام، فالآية تبطل قوله.
وقوله: " فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره " يدل على أن النكاح بغير ولي
جائز، وأن المرأة لها العقد على نفسها، لأنه أضاف العقد إليها دون وليها.
قوله تعالى:
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف
أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن
يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا
نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به
واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم (231) آية واحدة
بلا خلاف.
قوله: " فبلغن أجلهن " معناه: انقضى عدتهن بالأقراء، أو الأشهر،

(1) سورة البقرة آية: 98.
250

أو الوضع. والمعنى: إذا بلغن قرب انقضاء عدتهن، لان بعد انقضاء العدة ليس
له إمساكها، والامساك هاهنا المراجعة قيل انقضاء العدة، وبه قال ابن عباس،
والحسن، ومجاهد، وقتادة، وقد يقال لمن دنا من البلد: فلان قد بلغ البلد. والمراد
" بالمعروف " هذا الحق الذي يدعو إليه العقل، أو الشرع للمعرفة بصحته، بخلاف
المنكر الذي يزجر عنه العقل، أو السمع لاستحالة المعرفة بصحته، فما يجوز المعرفة
بصحته: معروف، وما لا يجوز المعروف بصحته منكر.
والمراد به هاهنا أن يمسكها على الوجه الذي أباحه الله له: من القيام بما يجب
لها من النفقة، وحسن العشرة، وغير ذلك، ولا يقصد الاضرار بها.
وقد بينا أن التسريح أصله إرسال الماشية في المرعى ومنه قوله: " حين تريحون
وحين تسرحون " (1).
وقوله: " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " معناه: لا تراجعوا هن لا لرغبة
فيهن بل لطلب الاضرار بهن إما في تطويل العدة، أو طلب المفاداة أو غير ذلك،
فان ذلك غير جائز.
وقوله: " ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه " فالظلم الضرر الذي ليس لأحد
أن يضر به.
وقوله: " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " يعني ما ذكره من الاحكام في الطلاق
بما يجوز فيه المراجعة، وما لهم على النساء من التربص حتى؟ أو رفعوه مما ليس
لهم عن ذلك (2) وروي عن أبي الدرداء وأبي موسى الأشعري: أنهم قالوا: كان
الرجل يطلق أو يعتق ثم يقول: إنما كنت لاعبا، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
من طلق لاعبا، أو أعتق لاعبا، فقد جاز عليه.
وقوله: " واعلموا أن الله بكل شئ عليم " معناه: التنبيه على أنه لا يسقط
الجزاء على عمل من أعمالهم، لخفائه عنه، لأنه " بكل شئ عليم " والأجل هو

(1) سورة النحل آية: 6.
(2) هكذا في المطبوعة، ولم نتمكن من تصحيحها بما يناسب، وهي كما ترى.
251

انقضاء مدة الانتظار. والامساك هاهنا: المنع من الذهاب والتسريح: الارسال
بتركهن بانقضاء العدة.
قوله تعالى:
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن
أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك
يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم
أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232) آية
واحدة بلا خلاف.
النزول:
قال قتادة، والحسن: إن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار حين عضل
أخته أن ترجع إلى الزوج الأول، فإنه طلقها، وخرجت من العدة ثم أرادا أن
يجتمعا بعقد آخر على نكاح آخر، فمنعها من ذلك، فنزلت فيه الآية. وقال
السدي: نزلت في جابر بن عبد الله عضل بنت عم له. والوجهان لا يصحان على
- مذهبنا -، لان عندنا أنه لا ولاية للأخ، ولا لابن العم عليها وإنما هي ولية
نفسها، فلا تأثير لعضلها.
المعنى:
والوجه في ذلك أن تحمل الآية على المطلقين، لأنه خطاب لهم بقوله " وإذا
طلقتم النساء " نكاية قال: " فلا تعضلوهن " بأن تراجعوهن عند قرب انقضاء
عدتهن، ولا رغبة لكم فيهن، وإنما تريدون الاضرار بهن، فان ذلك مما لا يسوغ
في الدين، والشرع، كما قال في الأولى: " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " ولا
يطعن على ذلك قوله: " أن ينكحن أزواجهن "، لان المعنى فيه من يصيروا
252

أزواجهن، كما أنهم لابد لهم من ذلك إذا حملوا على الزوج الأول، لان بعد
انقضاء العدة لا يكون زوجا، ويكون المراد من كان أزواجهن، فما لهم إلا مثل
ما عليهم. ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر، والحيلولة بينهن، وبين التزويج
دون ما يتعلق بالولاية، لان العضل هو الحبس.
اللغة:
وقيل: إن العضل مأخوذ من المنع. وقيل: إنه مأخوذ من الضيق، قال
أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي * يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا * وصاحبك الأدنى إذا الامر أعضلا (1)
وتقول: عضل المرأة يعضلها إذ منعها من التزويج ظلما. وفي بعض اللغات
يعضلها - بكسر الضاد - في المضارع. وأعضل الداء الأطباء إذا أعياهم أن يقوموا
به، لأنه امتنع عليهم بشدة، وهو داء عضال. والامر المعضل: الذي يغلب الناس،
لامتناعه بصعوبته. وعضلت عليه إذا ضيقت عليه بما يحول بينه، وبين، ما يريد
ظلما، لأنك منعته بالضيق عليه مما يريد. وعضلت المرأة بولدها إذا عسرت ولادتها
وكذلك أعضلت، وأعسرت، لان الولد امتنع من الخروج عسرا. وفلان عضلة
من العضل: أي داهية من الدواهي، لأنه امتنع بدهائه. وعضل الوادي بأهله:
إذا ضاق بأهله: وعضلة الساق: لحمة مكتنزة. وأصل الباب المنع. وقيل أصله
التضييق.
الاعراب، والمعنى:
موضع (أن) من قوله: " أن ينكحن أزواجهن " جر عند الخليل،
والكسائي، وتقديره: من أن، ونصب عند غيرهما بالفعل.
وقوله: " ذلك يوعظ به " إنما قال بلفظ التوحيد وإن كان الخطاب للجميع

(1) ديوانه رقم القصيدة: 31.
253

لاحد ثلاثة أوجه:
أحدها - أن (ذا) لما كان منها ما يستعمل الكاف معه كثيرا، صار بمنزلة
شئ واحد. ولا يجوز على ذلك (أيها القوم هذا غلامك). وقال الفراء: توهم أن
الكاف من (ذا)، وأنكر ذلك الزجاج، وقال: ليس في أفصح اللغات بناء على
توهم خطأ. والوجه ما قلناه من التشبيه مما جعلت الكلمتان فيه بمنزلة شئ واحد.
والوجه الثاني - على تقدير: ذلك أيها القبيل.
والوجه الثالث - أن يكون خطابا للرسول صلى الله عليه وآله.
وقوله: " والله يعلم " معناه أنه يعلم من مصالح العباد ما لا يعلمون.
وقوله " من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر " (من) في موضع رفع
ب‍ (يوعظ)، وإنما خص المؤمن بالوعظ لاحد ثلاثة أقوال:
أحدها - لأنهم المشفقون بالوعظ، فنسب إليهم، كما قال " هدى للمتقين " (1)
و " إنما أنت منذر من يخشاها " (2).
والثاني - لأنهم أولى بالاتعاض.
الثالث - إنما يلزمه الوعظ بعد قبوله الايمان واعترافه بالله تعالى.
قوله تعالى:
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن
أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها
ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فان أرادا
فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم
أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم

(1) سورة البقرة آية: 2.
(2) سورة النازعات آية: 45.
254

بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233)
آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن كثير، وأهل البصرة، وقتيبة: " لا تضار " - بتشديد الراء -
ورفعها. وقرأ أبو جعفر بتخفيفها وسكون. الباقون بتشديدها وفتحها. وقرأ ابن
كثير " ما آتيتم " قصرا، وكذلك " ما آتيتم من ربا " في الروم (1).
قوله: " يرضعن أولادهن حولين كاملين " في حكم الله الذي أوجبه على عباده،
فحذف للدلالة عليه.
الثاني - لأنه وقع موقع يرضعن، صرفا في الكلام مع رفع الاشكال. ولو
كان خبرا لكان كذبا، لوجود والوالدات يرضعن أولادهن أكثر من حولين،
وأقل منهما.
وفي الآية بيان لامرين: أحدهما مندوب، والثاني فرض، فالمندوب: هو
أن يجعل الرضاع تمام الحولين، هي التي تستحق المرضعة الاجر فيهما، لا تستحق
فيما زاد عليهما، وهو الذي بينه الله تعالى بقوله: " فان أرضعن لكم فآتوهن
أجورهن " (2)، فتثبت المدة التي تستحق بها الأجرة على ما أوجبه الله في
هذه الآية.
اللغة:
تقول: رضع يرضع، ورضع يرضع رضاعة، وأرضعته أمه إرضاعا،
وارتضاعا، واسترضع استرضاعا، وراضعه رضاعا، ومراضعة. ولئيم راضع، لأنه
يرضع لبن ناقته من لؤمه، لألا يسمع الضيف صوت الشخب. والرضعتان: الثنيتان:
مقدمتا الأسنان، لأنه يشرب عليهما اللبن. وأصل الباب الرضع: مص الثدي،

(1) سورة البقرة آية: 39، سورة الروم آية: 5.
(2) سورة الطلاق آية: 6.
255

لشرب اللبن منه. ومعنى " حولين " سنتان، وهو مأخوذ من الانقلاب في قولك:
حال الشئ عما كان عليه يحول، فالحول، لأنه انقلب عن الوقت الأول إلى الثاني،
ومنه الاستحالة في الكلام، لانقلابه عن الصواب. وقيل أخذ من الانتقال من
قولك: تحول عن المكان. وإنما قال: " كاملين " فان كانت التثنية تأتي على استيفاء
العدة، لرفع التوهم، وإنه على طريقة التغليب، كقولهم: سرنا يوم الجمعة. وإن كان
السير في بعضه. وقد يقال: أقمنا حولين، وإن كانت الإقامة في حولين، وبعض
آخر (1) فهو لرفع الايهام الذي يعرض في الكلام.
المعنى:
فان قيل: هل يلزم في كل مولود قيل: فيه خلاف: قال ابن عباس:
لا، لأنه يعتبر ذلك بقوله: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " (2) فان ولدت المرأة
لستة أشهر، فحولين كاملين، وإن ولدت لسبعة أشهر، فثلاثة وعشرون شهرا، وإن
ولدت لتسعة أشهر، فاحد وعشرين شهرا تطلب بذلك التكملة لثلاثين شهرا في الحمل
والفصال الذي سقط به الفرض، وعلى هذا تدل أخبارنا، لأنهم رووا: أن ما نقص
عن إحدى وعشرين شهرا فهو جور على الصبي. وقال الثوري: هو لازم في كل
ولد إذا اختلف والداه، رجعا إلى الحولين من غير نقصان، ولا زيادة، ولا يجوز لهما
غير ذلك، والرضاع بعد الحولين لاحكم له في التحريم - عندنا - وبه قال ابن
مسعود وابن عباس وابن عمرو أكثر العلماء، وروي عن عائشة أن رضاع الكثير
يؤثر. وقال أبو علي الجبائي لم يقم بهذا حجة ولا نزل له ظاهر القرآن.
وقوله: " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " معناه أنه يجب على
الأب إطعام أم الولد وكسوتها ما دامت في الرضاعة اللازمة إذا كانت مطلقة، وبه
قال الضحاك والثوري وأكثر المفسرين.

(1) هكذا في المطبوعة ولعل الأصح (حول وبعض من آخر).
(2) سورة الاحقاق آية: 15.
256

اللغة، والحجة:
يقال كساه يكسوه كسوة: إذا ألبسه الثياب واكتسى هو اكتساء: إذا
لبس، واكتست الأرض بالنبات إذا تغطت به، وكسوته مدحا أو ذما: إذا أثنيت
عليه أو ذممته. والكساء معروف، وأصل الباب الكسوة: اللباس.
وقوله: " لا تكلف نفس إلا وسعها " يدل على فساد قول المجبرة: في حسن
تكليف ما لا يطاق لأنه إذا لم يجز أن يكلف مع عدم الجدة لم يجز أن يكلف مع
عدم القدرة، لأنه إنما لم يحسن في الأول من حيث أنه لا طريق له إلى إداء ما كلفه
من غير جدة، فكذلك لا سبيل له إلى إداء ما كلف إلى الطاعة مع عدم القدرة، ولا
ينافي ذلك قوله: " فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (1) لأنه ليس المراد نفي القدرة
وإنما معناه: أنه يثقل عليهم كما يقول القائل: لا أستطيع أن أنظر إلى كذا معناه:
أنه يثقل علي، ويقال: كلف وجهه كلفا، وبخده كلف أي أثر، والكلف بالشئ
الايلاع به، لأنه لزوم يظهر أثره عليه، وكلف كلفا: إذا أحب. وتكلف الامر
تكلفا، تحمله. وكلفه تكليفا: ألزمه. وأصل الباب الكلف: ظهور الأثر.
وقوله: " لا تضار والدة بولدها " أصله تضارر - بكسر الراء الأولى - وقيل
- بفتحها - وأسكنت وأدغمت في الراء بعدها. ومن فتحها بالتقاء الساكنين، وهو
الأقوى فيما قبله فتحة أو ألف نحو عض (2) ولا تضار زيدا. وقال بعضهم: لا يجوز
ألا تضارر بفتح الراء الأولى، لان المولود لا يصح منه مضمارة، لان الأفصح لو
كان كذلك الكسر. قال الرماني: غلط في الاعتلالين أما الأول، فلانه ينقلب عليه
في تضار إذا المضارة من اثنين في الحقيقة، وإن لم يسم الفاعل. ولأنه إنما يرجع
ذلك إلى الزوج، والمرأة الأولى والولد. فأما الأفصح، فعلى خلاف ما ذكر،
لان الفتح لغة أهل الحجاز، وبني أسد، وكثير من العرب، وهو القياس، لأنه إذا
جاز مد بالضم للاتباع، كانت الفتحة بذلك أولى، لأنها أخف، ولأنه يجوز مد
بالفتح طلبا للخفة، فإذا اجتمع الاتباع والاستخفاف كان أولى، وقوله: إن

(1) سورة الاسرى آية 48:، وسورة الفرقان آية 9
(2) هكذا في المطبوعة
257

الفتحة في تضار: هي الفتحة في الراء الأولى، دعوى منه لا دليل عليها. ويدل على
صحة ما قلناه: قوله: " من يرتد منكم " (1) " ولا يضار كاتب " (2) كل
ذلك بالفتح دون الكسر.
المعنى:
وإنما قيل: " يضار " والفعل من واحد لأنه لما كان معناه المبالغة كان بمنزلته
من اثنين، وذلك لأنه يضره إن رجع عليه، منه ضرورة، فكأنه قيل: لا تضار
والدة من الزوج بولدها. ولو قيل في ولدها لجاز في المعنى، وكذلك فرض الوالد.
وعن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) أي لا يترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها
المرتضع " ولا مولود له بولده " يعني لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل، فيضر
ذلك بالأب وقيل: " لا تضار والدة بولدها " بأن ينزع الولد منها، ويسترضع
امرأة أخرى مع إجابتها إلى الرضاع بأجرة المثل " ولا مولود له " بولده أي لا تمتنع
هي من الارضاع إذا أعطيت أجرة مثلها، والأولى حمل الآية على عموم ذلك.
وقيل: معناه أن على الوالدة ألا تضار بولدها فيما يجب عليها من تعاهده، والقيام
بأمره، ورضاعه، وغذاءه. وعلى الوالد ألا يضار بولده فيما يجب عليه من النفقة
عليه، وعلى أمه، وفي حفظه، وتعاهده.
وقوله: " وعلى الوارث مثل ذلك " قال الحسن، وقتادة، والسدي: الوارث
للولد. وقال قبيضة بن ذؤيب: هو الوالد، والأول أقوى. فان قيل: أعلى كل
وارث له، أم على بعضهم؟ قيل: ذكر أبو علي الجبائي: أن على كل وارث نفقة
الرضاع الأقرب فالأقرب يؤخذ به. وأما نفقة ما بعد الرضاع، فاختلفوا، فعندنا
يلزم الوالدين - وإن عليا - النفقة على الولد وإن نزل، ولا يلزم غيرهم. وقال قوم:
يلزم العصبة دون الام، والاخوة من الام، ذهب إليه عمر، والحسن.
وقيل: على الوارث من الرجال، والنساء على قدر النصيب من الميراث،
ذكره قتادة، وعموم الآية يقتضيه، غير أنا خصصناه بدليل. وقال أبو حنيفة،

(1) سورة المائدة آية: 57.
(2) سورة البقرة آية: 282.
258

وأبو يوسف، ومحمد: على الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون من كان ذا رحم
ليس بمحرم، كابن العم وابن الأخت، فأوجبوا على ابن الأخت ولم يو؟ على
ابن العم وإن كان وارثه في تلك الحال، وكذلك العمة وابن العمة حكاه أبو
علي الجبائي، والبلخي. وقال سفيان " وعلى الوارث ": أي الباقي من أبويه، وهذا
مثل ما قلناه. وقد روي في أخبارنا: أن على الوارث كائنا من كان النفقة، وهو ظاهر
القرآن، وبه قال قتادة، وأحمد، وإسحاق، والحسن وإبراهيم.
اللغة:
والميراث: تركة الميت، تقول: ورث يرث إرثا، وأورثه ميراثا، وتوارثوا
توارثا، وورثه توريثا. وأورته الحي ضعفا. والتراث: الميراث. وورثت النار،
وأورثتها: إذا حركت جمرها، ليشتعل، لأنه تظهر فيه النار عن الأول، كظهور
الميراث في الثاني عن الأول.
المعنى:
وقوله: " مثل ذلك " يعنى من النفقة، وبه قال إبراهيم. وقال الضحاك:
من ترك المضارة. والمفهوم من الكلام، وعند أكثر العلماء: الأمران معا، وهو
أليق بالعموم.
وقوله: " فان أرادا فصالا " فالفصال: الفطام، لانفصال المولود عن الاغتذاء
بثدي أمه إلى غيره من الاغتذاء.
فان قيل: أي فصال ذاك أقبل الحولين أم بعدهما؟ قيل: فصال الحولين،
لان الفرض معلوم (1) إذا تنازعا رجعا إليه، فأما بعد الحولين، فلا يجب على واحد
منهما اتباع الاخر في دعائه. وبه قال مجاهد، وقتادة، وابن شهاب، وسفيان
وابن زيد. وروي عن ابن عباس: أنه إذا تراضيا على الفصال قبله أو بعده مضى،
فإن لم يتراضيا رجعا إلى الحولين.

(1) في المطبوعة (مغلوجة).
259

اللغة:
وأصل الباب الفرق، يقال: فصل يفصل فصلا، وفاصله مفاصلة، وتفاصلوا
تفاصلا، واستفصلوا استفصالا وانفصل انفصالا، وفصله تفصيلا، وتفصل تفصلا.
وفواصل القلادة: شذر بين نظم الذهب. والفصل: القضاء بين الحق، والباطل، وهو
الفيصل. وفصيلة الرجل بنو أبيه، لانفصالهم من أصل واحد. والفصيل: الواحد
من أولاد الإبل، لأنه فصل عن أمه والفصيل: حائط قصير دون السور.
المعنى:
وقوله: " فلا جناح عليهما " يعني لا حرج، على قول ابن عباس، وهو
مأخوذ من " جنحوا للسلم " (1) أي مالوا. والجناح: الميل عن الاستقامة.
وقوله: " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " معناه على قول مجاهد، والسدي:
أجر الام بمقدار ما أرضعت أجرة المثل. وقال سفيان: أجرة المسترضعة. وقال ابن
شهاب: سلمتم الاسترضاع. وقال ابن جريج: أجرة الام والنظير.
وقوله: " أن تسترضعوا أولادكم " معناه: لأولادكم، وحذفت اللام لدلالة
الاسترضاع عليه من حيث أنه لا يكون إلا للأولاد، ولا يجوز: دعوت زيدا،
تريد لزيد، لأنه يجوز أن يكون المدعو، والمدعو له، إذ معنى دعوت زيدا لعمرو،
خلاف دعوت زيدا فقط، فلا يجوز للالباس.
وفي الآية دلالة على أن الولادة لستة أشهر تصح، لأنه إذا ضم إلى الحولين
كان ثلاثين شهرا، وروي عن علي (ع) وابن عباس ذلك.
الاعراب:
ومن رفع " لا تضار " فعلا استئناف النفي. وقال الكسائي، والفراء: هو
منسوق على " لا تكلف ". قال الرماني هذا غلط، لان النسق ب‍ (لا) إنما هو
على إخراج الثاني مما دخل فيه الأول، نحو ضربت زيدا لا عمرا، فأما أن يقوم زيد

(1) سورة الأنفال آية: 62.
260

لا يقعد عمرو، فلا يجوز على النسق، ولكن يرفع على استئناف النفي ب‍ (لا)،
فكذلك " لا تضار " مستأنف في اللفظ متصل في المعنى، وقوله: " وان تصبروا
وتتقوا " (1) إنما جاز في موضع الجزم للاتباع، وليس ذلك في " لا تضار ".
اللغة:
والوسع: الطاقة مأخوذ من سعة المسلك إلى العرض، فيتمكن لذلك. ولو ضاق
لأعجز عنه، والسعة فيه بمنزلة القدرة، فلذلك قيل: الوسع بمعنى الطاقة.
وقوله: " وتشاور " فالتشاور مأخوذ من الشور، وهو اجتناء العسل،
تقول: شرت العسل، وأنا أشوره شورا، وأشيره إشارة: إذا اجتنيته من مكانه.
والمشورة: استخراج الرأي من المستشار، لأنه يجتني منه (2). وشاوره مشاورة،
وأشار عليه إشارة، واستشار استشارة. واستشار العسل: إذا اجتناه وأشار إلى
الشئ إشارة: إذا أومئ إليه، والمشيرة الإصبع الذي تسمى السبابة لأنه يشار بها
الشباب، وغيره. والشابة: الهيبة، واللباس الحسن لأنه مما يشاب إليه لحسنه
والتشوير: استخراج سير الدابة كالاحسان.
قوله تعالى:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما
فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234) آية
واحدة بلا خلاف.
المعنى:
هذه الآية ناسخة لقوله: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية

(1) سورة آل عمران آية: 120، 125،، 186.
(2) في المطبوعة (يخشى منه).
261

لأزواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج " (1) وإن كانت مقدمة عليه في التلاوة
وعدة كل متوفى عنها زوجها: أربعة أشهر وعشرا سواء كانت مدخولا بها، أو
غير مدخول، حرة كانت أو أمة، فان كانت حبلى، فعدتها أبعد الأجلين، من
وضع الحمل أو مضى الأربعة أشهر، وعشرة أيام، وهو المروى عن علي (ع)،
ووافقنا في الأمة الأصم، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وقالوا: عدتها نصف عدة
الحرة: شهران وخمسة أيام، وإليه ذهب قوم من أصحابنا، وقالوا في عدة الحامل:
إنها بوضع الحمل، وإن كان بعد على المغتسل، وروي ذلك عن عمر، وأبي مسعود
البدري، وأبي هريرة. وعندنا أن وضع الحمل يختص بعدة المطلقة. والذي يجب
على المعتدة في عدة الوفاة اجتنابه في قول ابن عباس،، وابن شهاب:
الزينة، والكحل بالإثمد، وترك النقلة عن المنزل. وقال الحسن في احدى الروايتين
عن ابن عباس: إن الواجب عليها الامتناع من الزواج لاغير. وعندنا أن جميع
ذلك واجب.
الاعراب:
وقوله: " والذين " رفع بالابتداء " ويتوفون منكم " في صلة الذين
" ويذرون أزواجا " عطف عليه، وخبر الذين قيل فيه أربعة أقوال:
أولها - أن تكون الجملة على تقدير " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا "
أزواجهم " يتربصن ".
الثاني - على تقدير " يتربصن " بعدهم أزواجهم.
الثالث - أن يكون الضمير في يتربصن لما عاد إلى مضاف في المعنى، كان
كان بمنزلة على تقدير " يتربصن " أزواجهم: هذا قول الزجاج والأول قول أبي
العباس، والثاني قول الأخفش ونظير قول الزجاج أن تقول: إذا مات، وخلف
ابنتين، يرثان الثلثين، المعنى يرث ابنتاه الثلثين.
الرابع - أن يعدل عن الاخبار عن الأزواج، لان المعنى عليه، والفايدة

(1) سورة البقرة آية: 240.
262

فيه ذهب إليه الكسائي، والفراء، وأنكر ذلك أبو العباس، والزجاج، لأنه
لا يكون مبتدأ لا خبر له، ولا خبر إلا عن مخبر عنه، وأنشد الفراء (1):
لعلي إن مالت بي الريح ميلة * على ابن أبي ديان أن يتندما (2)
المعنى لعل ابن أبي ديان أن يتندم، وهذا يجوز على حذف أن يتندم لأجلي
وقال أيضا:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف (3)
وقال أبو عبيدة: نظير الآية قول شداد بن عنتر:
فمن يك سائلا عنى فاني * وحروة لا ترود ولا نعار
حروة اسم فرسه وإنما حذف الخبر من الأول، لان خبر الثاني يدل عليه،
لأنه أراد فاني حاضر، وفرسي حاضرة، لا ترود، ولا نعار، فدل بقوله: لا ترود
ولا نعار: على أنها حاضرة بتوعد وتتهدد في قول أبي العباس.
وقوله: " يذرون " يتركون وترك ماضيه يترك تركا. وتقول ذره تركا
وكذلك يدع ليذر سواء، والعلة في ذلك أنهم كرهوا الواوات في أول الكلام
حتى أنهم لم يلحقوها، أو على جهة الزيادة أصلا، ففي رفض وذر: دليل على الكراهة
لها أصلية، وليس بعد الضعف إلا الاتباع فلما ضعفت أصلية امتنعت زيادة، فان
قيل كيف قال وعشرا بالتأنيث وإنما العدة على الأيام والليالي، ولذلك لم يجز أن
تقول: عندي عشر من الرجال والنساء. قيل لتغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعت
في التاريخ، وغيره، لان ابتداء شهور الأهلة الليالي منذ طلوع الهلال فلما كانت
الأوائل غلبت، لان الأوائل أقوى من الثواني وقال الشاعر:

(1) قائله ثابت قطنة التعكي، واسمه ثابت بن كعب، ذهبت عينه في الحرب فكان يحشوها
بقطنة، وهو شاعر فارسي من شعراء خراسان في عهد الدولة الأموية قال فيه حاجب الفيل:
لا يعرف الناس منه غير قطنته * وما سواها من الأنساب مجهول
(2) تاريخ الطبري 8: 160، ومعاني القرآن للفراء 1: 150 وهو من قصيدة
يرثي بها يزيد بن المهلب، لما قتل في سنة 102 في خروجه على يزيد بن عبد الملك بن مروان.
(3) مر تخريجه في 1: 172، 203.
263

أقامت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان النكير أن تضيف وتجأرا (1)
معنى تضيف تميل وحكى الفراء: صمنا عشرا من شهر رمضان ولو أضاف إلى
الأيام فقال عشرة أيام، لم يجز إلا التذكير، وإنما جاز في الأول لأنه بمعنى عشر
من رمضان وقع العمل في نهاره.
اللغة:
وقوله: " فإذا بلغن أجلهن " يقال: أجله تأجيلا: إذا أخره، والأجل
نقيض العاجل، وتأجل تأجلا واستأجله استئجالا، وأجلوا ما لهم يأجلونه أجلا:
إذا حبسوه في المرعى، لأنهم أخروه فيه والأجل: غاية الوقت في محل الدين
وغيره، لتأخره إلى ذلك الوقت وأجل الشئ يأجل وهو آجل نقيض العاجل. لتأخره
عن وقت غيره، وفعلته من أجل كذا أي لعاقبة كذا وهي متأخرة عن وقت الفعل
الذي دعت. إليه والأجل: القطيع من نفر الوحش، وجمعه آجال، وقد تأجل
الصوار أي صار قطيعا لتأخر بعضه عن بعض، وآجل عليهم شرا آجلا أي خبأه،
لأنه أعقبهم شرا، وهو متأخر عن وقت فعله. والآجلة الآخرة، والعاجلة
الدنيا. والمأجل شبه حوض واسع يؤجل فيه ماء البئر أياما، ثم يفجر في الزرع،
وهو بالفارسية: (كرجه) وذلك لتأخر الماء فيه.
وقوله: " والله بما تعملون خبير " فالخبير: العالم، لأنه عالم بمخبر الخبر.
والخبار: الأرض السهلة فيها حجارة، وأحفار. وأخبرت بالشئ إخبارا، لأنه
تسهيل لطريق العلم به، واستخبره استخبارا، وتخبر تخبرا، وخبره تخبيرا، وأخبره
إخبارا، وتخبر القوم: بينهم خبرة: إذا اشتروا شاة، فذبحوها، واقتسموا لحمها،
والشاة: خبيرة. والمخبرة: المزادة العظيمة. والخابرة: أن يزرع على النصف، أو
الثلث، أو نحوه. والأكار: الخبير. والمخابرة: المؤاكرة، وذلك لتسهيل الزراعة.
وأصل الباب السهولة.

(1) اللسان ضيف. قائله النابغة الجعدي. في المطبوعة (تجأوا) بدل (تجأرا) وهو تحريف.
264

المعنى:
وقوله: " فإذا بلغن أجلهن " أي انقضت هذه المدة، وهي الأربعة أشهر وعشرا
" فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " أي لا جناح عليكم أن تتركوهن
إذا انقضت هذه المدة أن يتزوجن، وأن يتزين زينة لا ينكر مثلها وهو معنى
قوله " بالمعروف ".
قوله تعالى:
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو
أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن
لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا
عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله
يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم
(235) آية في الكوفي.
المعنى:
قال ابن عباس: التعريض المباح في العدة هو قول الرجل: أريد التزويج،
وأحب امرأة من حالها، ومن أمرها، وشأنها، فيذكر بعض الصفة التي هي عليها،
هذا قول ابن عباس. وقال القاسم بن محمد، وعامر تقول: إنك لنافقة، وإنك
لعجبة جميلة، وإن قضى الله شيئا كان.
اللغة:
والخطبة: الذكر الذي يستدعي به إلى عقدة النكاح، والخطبة: الوعظ المنسق
على ضرب من التأليف. وقيل: الخطبة: ماله أول، وآخر، مثل الرسالة. والخطبة
265

للحال نحو الجلسة، والقعدة، تقول: خطب المرأة يخطبها خطبة، لأنه خاطب في
عقد النكاح. وخطب خطبة، لأنه خاطب بالزجر، والوعظ على ضرب من تأليف
اللفظ المخصوص. وخاطب مخاطبة، وخطابا، وتخاطبوا تخاطبا. والخطب: الامر
العظيم. والخطبان: الحنظل الذي تشتد خضرته حتى تستحيل إلى الغبرة، والصفرة.
وأصل الباب الخطاب.
والفرق بين التعريض، والكناية أن التعريض: تضمين الكلام دلالة على شئ
ليس فيه ذكر له، والكناية: العدول عن الذكر الأخص بالشئ إلى ذكر يدل عليه،
فالأول كقول القائل: ما أقبح البخل، يعرض بأن المخاطب بخيل، ولعن الله
الملحدين، يعرض له بالالحاد. والثاني كقولك: زيد ضربته، كنيت عنه بالهاء
الموجودة في (ضربته).
وقوله: " أو أكننتم في أنفسكم " فالاكنان: إسرار العزم على النكاح دون
إظهاره على قول ابن زيد، ومجاهد. وقال قوم: هو معنى التعريض بالخطبة إن
شئت أظهرته، وان شئت أضمرته. وتقول: كننت الشئ: إذا سترته، أكنه
كنا وكنونا وأكننته إكنانا إذا أضمرته، لأنك سترته في نفسك. واستكن
الرجل، وأكنن إذا صار في كن، لأنه صار فيما يستره. والكناية الجعبة غير
أنها صغيرة تتخذ للنبل. والكة: امرأة الابن أو ابن الأخ. والجمع كنائن. وسمي
الكانون كانونا، لأنه يحتاج إليه في وقت الاكتنان من البرد، ومنه قوله:
" كأنهن بيض مكنون " (1) " وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " (2)
وأصل الباب الكن: الستر.
والفرق بين الأكنان ولكن: أن الأكنان: الاضمار في النفس، ولا يقال
كننته في نفسي. وقيل: كننته معناه صنته كما قال: " كأنهن بيض مكنون ".

(1) سورة الصافات آية: 49.
(2) سورة النمل آية 74، وسورة القصص آية: 69.
266

المعنى:
وقوله: " لا تواعدوهن سرا " قال الحسن، وإبراهيم، وأبو مجيلة: السر
المنهي عنه هاهنا الزنا. وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والشعبي: هو العهد على
الامتناع من تزويج غيرك. وقال مجاهد: هو أن تقول لها لا تفوتيني بنفسك،
فاني ناكحك. وقال ابن زيد: هو اسرار عقدة النكاح في العدة.
اللغة:
والسر في اللغة على ثلاثة أوجه: الاخفاء في النفس، والشرف في الحسب،
يقال: فلان في سر قومه إذا كان في شرفهم، وصميمهم. والجماع في الفرج
قال الشاعر:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وألا يشهد السر أمثالي (1)
وقال رؤبة:
فعف عن أسرارها بعد العسق * ولم يضعها بين فرك وعشق (2)
العشق اللصوق وقال الحطيئة:
ويحرم سر جارتهم عليهم * ويأكل جارهم أنف القصاع (3)
وقوله: " إلا أن تقولوا قولا معروفا " يعنى التعريض الذي أباحه الله تعالى.
و (إلا) بمعنى (لكن) لان ما قبلها هو المنهي عنه، وما بعدها هو المأذون فيه.
وتقديره: ولكن قولوا قولا معروفا.
وقوله " ولا تعزموا عقدة النكاح: تقديره على عقدة النكاح، وحذفت على،

(1) قائله امرء القيس ديوانه: 159 وروايته (وألا يحسن السر) بدل (وألا يشهد السر).
(2) ديوانه: 104، واللسان " عسق "، " عشق "، " فرك "،
" سرر ". والاسرار جمع سر. والعسق مصدر " عسق به يعسق " لزمه وأولع به. والفرك
- بكسر الفاء وسكون الراء - بغضة الرجل امرأته أو بالعكس، وامرأة فارك، وفروك: تكره
زوجها وقد روى " العشق ".
(3) اللسان (أنف). أنف كل شئ: طرفه، وأوله.
267

لدلالة العزم عليها، لأنه لا يكون إلا على معزوم عليه، كما قيل: ضربه الظهر والبطن
أي على الظهر والبطن.
والعقد: الشد، تقول: عقد يعقد عقدا، وأعقدت العسل إعقادا، واعتقد
صحة الامر اعتقادا وتعاقدوا على الامر تعاقدا، وعاقدة معاقدة، وعقد كلامه
تعقيدا، وتعقد تعقدا، وانعقد انعقادا، وعقد العبد، لأنه كعقد الحبل في التوثيق.
والعقد: السمط من الجوهر. والعقد: الرمل للتداخل. وعقد اليمين: خلاف اللغو.
وناقة عاقد أي لاقح، لأنها تعقد بذنبها، فيظهر أنها قد لقحت.
المعنى:
وقوله: " حتى يبلغ الكتاب أجله " معناه انقضاء العدة بلا خلاف. والكتاب
الذي يبلغ أجله هو القرآن ومعناه: فرض الكتاب أجله. ويجوز أن يكون الكتاب نفسه
هو الفرض، ذكره الزجاج، ووجه ثالث أن يكون ذلك على وجه التشبيه بكتاب
الدين، ذكره الجبائي.
وقوله: " والله غفور حليم " قد بينا أن الحلم من الله هو إمهال العقوبة
المستحقة. وقال أبو علي الجبائي هو كل فعل يضاد حدوث العقوبة في الانسان،
وهو من الانسان ترك العقاب. والله تعالى لا يجوز عليه الترك، فهو ما وصفنا من
نعمه التي تضاد عقوبته.
قوله تعالى:
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو
تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر
قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين (236) آية بلا خلاف.
القراءة:
قرأ حمرة، والكسائي، وخلف " تماسوهن " بضم التاء وبألف هاهنا
268

موضعان، وموضع في الأحزاب، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر، وابن
ذكوان " قدره " بفتح الدال في الموضعين. الباقون باسكانها.
المعنى:
المفروض صداقها داخلة في دلالة الآية وإن لم يذكر، لان التقدير ما لم
تمسوهن ممن قد فرضتم لهن أو لم تفرضوا لهن فريضة، لان أو تنبئ عن ذلك،
لأنه لو كان على الجمع لكان بالواو.
والفريضة المذكورة في الآية: الصداق، بلا خلاف، لأنه بجب بالعقد
للمرأة، فهو فرض لوجوبه بالعقد.
ومتعة التي لم يدخل بها ولا يسمى لها صداق على قدر الرجل، والمرأة، قال
ابن عباس، والشعبي، والربيع: خادم أو كسوة أو رزق، وهو المروي عن
أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقيل مثل نصف صداق تلك المرأة المنكوحة، حكى
ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه. وفي وجوب المتعة لكل مطلقة خلاف. قال الحسن
وأبو العالية: المتعة لكل مطلقة إلا المختلعة، والمبارية، والملاعنة. وقال سعيد بن
المسيب: المتعة التي لم يسم لها صداق، خاصة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي
عبد الله (ع). وقد روي أيضا أنها لكل مطلقة، وذلك على وجه الاستحباب.
والمتعة للتي لم يدخل بها ولم يعرض لها يجبر عليها السلطان، وهو قول أهل العراق.
وقال أهل المدينة وشريح يؤمر لها، ولا يجبر عليها.
اللغة:
والموسع: الغني في سعة من ماله لعياله. والمقتر: الذي في ضيق لفقره، تقول:
أقتر الرجل إقتارا: إذا أقل، فهو مقتر أي مقل، وقترت الشئ أقتره قترا،
وأقترته إقتارا، وقترته تقتيرا: إذا ضيقت الانفاق منه. والقتار: دخان الشحم
على النار، ونحوه، لغلبته بالإضافة إلى بقيته. والقتر: الغبار. والقترة: ما يغشى الوجه
269

من غير الموت، والكرب، لأنه كالقتار أو كالغبار يغشى الوجه، وفي التنزيل
" ترهقها قترة " (1) والقتير: مسامير الدروع، لقلتها وصغرها. والقتير ابتداء
الشيب، لقلته. ويجوز أن يكون مشبها بالدخان أول ما يرتفع. والقترة ناموس
الصائد، لأنها كالقتار باخفائه إياها. ورجل قاتر: حسن الاخذ من ظهر البعير
لا يعقره لقلة ما يأخذ منه، وأصل الباب الاقلال. وابن قترة: حية خبيثة لا ينجو
سليمها.
المعنى:
والمتوفى عنها زوجها إذا لم يفرض لها صداق عليها العدة - بلا خلاف - ولها
الميراث إجماعا. وقال الحسن والضحاك وأكثر الفقهاء. لها صداق مثلها. وحكى
الجبائي عن بعض الفقهاء: أنه لا مهر لها، وهو الذي يليق بمذهبنا، ولا نص
لأصحابنا فيها.
الاعراب، والمعنى:
ويحتمل نصب " متاعا " وجهين: أحدهما - أن يكون حالا من قدره، لأنه
معرفة، والعامل فيه الظرف. والثاني - على المصدر، والعامل فيه " ومتعوهن ".
ويحتمل نصب حقا وجهين: أحدهما - أن يكون حالا من " بالمعروف حقا " والعامل فيه معنى عرف حقا. الثاني - على التأكيد، لجملة الخبر كأنه قيل: أخبركم
به حقا كأنه قيل: إيجابا " على المحسنين " وإنما خص التي لم يدخل بها بالذكر في
رفع الجناح دون المدخول بها بالذكر وإن كان حكمهما واحد الامرين: أحدهما - لإزالة
الشك في الحرج على هذا الطلاق. والثاني - لان له أن يطلق أي وقت شاء،
وليس كذلك حكم المدخول بها، لأنه يجب أن يطلقها للعدة.
" وقدره " على تقدير أعطوهن قدر الوسع كما يقال: أخذ صدقاتهن لكل
أربعين شاة بالرفع، والنصب. وقال الشاعر في تسكين الدال:

(1) سورة عبس آية: 41.
270

وما صب رجلي في حديد مجاشع * مع القدر إلا حاجة لي أريدها (1)
وقال آخر:
ألا يا لقومي للنوائب والقدر! * وللامر يأتي المرء من حيث لا يدري! (2)
قال أبو زيد: قدر القوم: أمرهم يقدرونه قدرا، وهذا قدر هذا أي مثله،
وقدر الله الرزق يقدره. وروى السكوني يقدره قدرا. وقدرت الشئ بالشئ أقدره
قدرا. وقدرت على الامر أقدر عليه قدرة، وقدورا، وقدارة. ونسأل الله خير
القدر. وقال أبو الصقر: هذا قدر هذا، وأحمل قدر ما تطيق. قال أبو الحسن:
هو القدر، والقدر. وخذ منه بقدر كذا، وقدر كذا: لغتان فيه وقوله:
" فسالت أودية بقدرها " وقدرها (3).
الحجة:
ومن قرأ " تمسوهن " بلا الف، فلقوله تعالى: " ولم يمسسني بشر " (4)
فإنه من جاء على (فعل)، وكذلك قوله: " لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان " (5)
ومن قرأ " تماسوهن بألف "، لان (فاعل)، و (فعل) قد يراد بكل واحد منهما
ما يراد بالاخر، نحو طابقت النعل وعاقبت اللص، ولا يلزم على ذلك في آية الظهار
" من قبل أن يتماسا " (6) لان المماسة محرمة في الظهار على كل واحد من الزوجين
للاخر، فلذلك لم يجز إلا " من قبل أن يتماسا ". وفي الآية دليل على أن العقد بغير
مهر صحيح، لأنه لو لم يصح لما جاز فيه الطلاق، ولا وجبت المتعة.

(1) قائله الفرزدق ديوانه: 215، واللسان (صبب)، و (قدر)، ومقاييس اللغة 5: 62
والأساس (صبب)، واصلاح المنطق: 109.
(2) البيت لهدبة بن خشرم. اللسان (قدر) في المطبوعة (بالقوم) بدل (لقومي)
و (للام) بدل (للامر).
(3) سورة الرعد آية: 19 وقد قرأت الآية " بقدرها " بفتح الدال، وبسكونها.
وخط المصحف بالسكون.
(4) سورة آل عمران آية: 47.
(5) سورة الرحمن آية: 74.
(6) سورة المجادلة آية: 3، 4.
271

قوله تعالى:
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم
لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا
الفضل بينكم أن الله بما تعملون بصير (237) آية واحدة
بلا خلاف.
روى سعيد بن المسيب: أن هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية الأولى.
قال البلخي: وهذا ليس بصحيح، لان الآية الأولى تضمنت حكم من لم يدخل بها،
ولم يسم لها مهرا إذا طلقها، وهذه تضمنت حكم التي فرض لها صداق إذا طلقت قبل
الدخول، وأحد الحكمين غير الاخر. والذي قاله سعيد بن المسيب متوجه على
ما قدمناه في الآية من أن دليلها يتناول التي فرض لها المهر. وإن حملنا قوله:
" ومتعوهن " على عمومه لزم أن تمتع كل مطلقة وإن سمي لها مهرا. وإن قلنا:
لا متعة للمفروض لها الصداق، فلا يلزم نسخ الآية أو تخصيصها إن نزلت معها.
وقال جميع أهل التأويل: إنه إذا طلق الرجل من سمي لها مهرا معلوما قبل أن يدخل
بها، فإنه يستقر لها نصف المهر، فان كانت ما قبضت شيئا وجب عليه تسليم نصف
المهر، وإن كانت قد سلمت جميع المهر، وجب عليها رد نصف المهر، ويستقر لها
النصف الآخر.
اللغة:
والنصف: هو سهم من اثنين، تقول: نصفه ينصفه، وانتصف انتصافا،
ونصفه تنصيفا، وأنصفه إنصافا، وتناصفوا تناصفا، وناصفه مناصفة، وتنصف
تنصفا. والنصف: المرأة بين المسنة والحدثة، لأنها على نصف المسنة. والناصف:
الخادم، هو ينصف الملوك أي يخدمهم، لأنه يعطيهم النصف من نفسه قسرا وذلا.
272

والانصاف، لأنه كالنصف في العدل. والنصيف: الخمار، لأنه كالنصف في أنه
وسط بين الصغير، والكبير، ويقال له: نصيفة. ومنتصف الطريق: وسطه. والمنصف
من الشراب الذي طبخ حتى ذهب نصفه. والنصيف: مكيال، لأنه على النصف
بالتعديل بين الكبير والصغير.
المعنى:
وقوله: " أن يعفون " معناه: أن يصح عفوها، من الحرار البالغات غير المولى
عليها، لفساد عقلها، فتترك ما يجب لها من نصف الصداق، وهو قول ابن عباس،
ومجاهد، وجميع أهل العلم.
وقوله: " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " قال مجاهد، والحسن، وعلقمة:
إنه الولي، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع)، غير أنه لا ولاية
لاحد - عندنا - إلا الأب أو الجد على البكر غير البالغ، فأما من عداها، فلا
ولاية له إلا بتولية منهما، روي عن علي (ع). وعن سعيد بن المسيب، وشريح،
وحماد، وإبراهيم، وأبي حذيفة، وابن شبرمة: أنه الزوج، وروي ذلك أيضا
في أخبارنا غير أن الأول أظهر، وهو المذهب، وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في
الخلاف، وقوينا ما أخبرناه هناك.
والألف واللام في قوله " عقدة النكاح " بدل من الإضافة، فمن جعل الزوج
قال: تقديره: الذي بيده عقدة نكاحه، ومن جعل الولي، قال: تقدير الذي بيده
عقدة نكاحها، ومثله قوله تعالى: " فان الجنة هي المأوى " (1) ومعناه: هي مأواه
وقراره وقال النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم * من الناس والأحلام غير عوازب (2)

(1) سورة النازعات آية: 41.
(2) ديوانه: 45 من قصيدته في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الأعرج الغساني
وذلك حين فر من النعمان بن المنذر إلى الشام. والضمير في " لهم " عائد إلى ملوك غسان من بني
جفنة. والشيمة: الخلق، والطبيعة.
273

معناه وأحلامهم غير عوازب. ومن جعل العفو للزوج قال: له أن يعفو عن
جميع نصفه. ومن جعله للولي: قال أصحابنا له أن يعفو عن بعضه، وليس له أن
يعفو عن جميعه، فان امتنعت المرأة من ذلك لم يكن لها ذلك إذا اقتضت المصلحة
ذلك، عن أبي عبد الله (ع). واختار الجبائي أن يكون المراد به الزوج، قال: لأنه
ليس للولي أن يهب مال المرأة، وقوله: " وأن تعفوا أقرب للتقوى " خطاب للزوج
والمرأة، قال لأنه ليس للولي أن يهب مال المرأة.
وقوله: " وأن تعفوا أقرب للتقوى " خطاب للزوج، والمرأة جميعا - في
قول ابن عباس - وقيل: للزوج وحده عن الشعبي، وإنما جمع لأنه لكل زوج
وقول ابن عباس أقوى لأنه العموم. وإنما كان العفو أقرب للتقوى من وجهين:
أحدهما - لاتقاء ظلم كل واحد صاحبه مما يجب من حقه.
الثاني - أنه أدعى إلى اتقاء معاصي الله، للرغبة فيما رغب فيه من العفو عماله.
الاعراب:
وقوله: " فنصف ما فرضتم " رفع على: عليكم نصف ما فرضتم، وكان يجوز أن
ينصب في العربية على فأدوا نصف ما فرضتم.
وقوله: " ولا تنسو الفضل بينكم " الواو مضمومة، لأنها واو الجمع،
وقياسها أن تكون مع ضم ما قبلها، فإذا لم يوصل إليه جعل الضم منها، وكان يجوز
فيها الكسر، ومثله " اشتروا الضلالة " (1) على ضعف فيه، وقد مضى ذكره.
المعنى:
والذي يوجب المهر كاملا الجماع، وهو المراد بالمسيس، وقال أهل العراق:
وهو الخلوة التامة إذا أغلق الباب وأرخى الستر، وقد روى ذلك أصحابنا غير أن هذا
يعبر في حق الثيب.

(1) سورة البقرة آية: 16، 175.
274

قوله تعالى:
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين
(238) آية.
اللغة:
الحفظ ضبط الشئ في النفس، ثم يشبه به ضبطه بالمنع من الذهاب. والحفظ
خلاف النسيان تقول: حفظ حفظا، وحافظ محافظة، وحافظا، واحتفظ به احتفاظا،
وتحفظ تحفظا، واستحفظ استحفاظا، وأحفظه إحفاظا: إذا أغضبه، لأنه حفظ
عليه ما يكرهه. ومنه الحفيظة: الحمية والحافظ: خلاف المضيع. والحفيظ: الموكل
بالشئ، لأنه وكل به ليحفظه وأهل الحفاظ: أهل الذمام، ومنه قوله: " فما أرسلناك عليهم
حفيظا " (1).
المعنى:
ومعنى الآية الحث على مراعاة الصلوات، ومواقيتهن، وألا يقع فيها تضييع وتفريط.
وقوله " والصلاة الوسطى " هي العصر فيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وعلي (ع)
وابن عباس، والحسن. وقال زيد بن ثابت، وابن عمر: إنها الظهر، وهو المروي
عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقال قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب، وقال جابر
ابن عبد الله هي الغداة. وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف. وروي عن
ابن عمر أنه قال: واحدة من الخمس غير متميزة. وقال الحسين بن علي المغربي:
المعني فيها صلاة الجماعة، لان الوسط العدل، فلما كانت صلاة الجماعة أفضلها خصت
بالذكر، وهذا وجه مليح غير أنه لم يذهب إليه أحد من المفسرين، فمن جعلها
العصر قال: لأنها بين صلاتي النهار، وصلاتي الليل، وإنما حض عليها، لأنها وقت
شغل الناس في غالب الامر، ومن قال: إنها الظهر قال: لأنها وسط النهار، وقيل:
هي أول صلاة فرضت، فلها بذلك فضل. ومن قال: هي المغرب قال: لأنها وسط
في الطول، والقصر من بين الصلوات، فهي أول صلاة الليل الذي رغب في الصلاة

(1) سورة النساء آية: 79، وسورة الشورى آية: 48.
275

فيه، وأما من قال هي الغداة قال: لأنها بين الظلام والضياء، وصلاة لا تجمع مع
غيرها. وقد جمع النبي صلى الله عليه وآله بين الظهر والعصر بعرفة، وجمع بين المغرب والعشاء
بالمزدلفة، فهذه متواخية وتلك مفردة.
وقوله: " وقوموا لله قانتين " قال ابن عباس، والحسن: معناه طائعين.
وقال عبد الله بن مسعود: ساكتين، لأنهم نهوا بذلك عن الكلام في الصلاة.
وقال مجاهد: معناه خاشعين فنهوا عن العبث، والتلفت في الصلاة. وقال ابن عباس
في رواية: داعين ولذلك قال هي صلاة الصبح، لأنه لا صلاة فرض فيها قنوت إلا
هي. وعن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) مثل ذلك إلا أنهما قالا: القنوت في كل ركعتين
قبل الركوع.
اللغة: والاعراب:
وأصل القنوت الدوام على أمر واحد. وقيل أصله الطاعة. وقيل أصله الدعاء
في حال القيام. وقال الرماني والوجه الأول أحسن بصرفه في الباب، لان المداوم
على الطاعة قانت، وقال المداوم في صلاته على السكوت إلا عن الذكر المشروع له،
وكذلك المداوم. ويقال: فلان يقنت عليه أي يدعوا عليه دائما.
والصلاة الوسطى محفوظة بالعطف على الصلوات وكان يجوز النصب على
" والصلاة الوسطى " فخصوها بالمحافظة. ومن حمل الصلاة الوسطى على صلاة الجماعة
جعل قوله: " على الصلوات " على عمومه. ومن حملها على واحدة من الصلوات
على الخلاف فيه اختلفوا، فمنهم من قال أراد بقوله " على الصلوات " ما عدا هذه
الصلاة وإلا كان يكون عطف الشئ على نفسه، ومنهم من قال لا يمتنع أن يريد
بالأول جميع الصلوات، وخص هذه بالذكر تعظيما لها وتأكيدا لفضلها.
قوله تعالى:
فان خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله
كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239) آية.
276

اللغة:
معنى قوله: " فرجالا " أي على أرجلكم، لان الراجل: هو الكائن على
رجله واقفا كان، أو ماشيا. وأحد الرجال: راجل وجمعه رجال، مثل تاجر وتجار،
وصاحب، وصحاب، وقائم، وقيام. وواحد الركبان: راكب، وجمعه ركبان،
وركاب، كفارس، وفرسان. وتقول: ركب يركب ركوبا، وأركبه إركابا،
وارتكب ارتكابا، وتراكب الشئ تراكبا، وتركب تركيبا، وركبة تركيبا، واستركب
استركابا وكل شئ علا شيئا، فقد ركبه. وركبه الدين، ونحوه. والركبة معروفة،
لروب البدن لها. وركبة البعير في يده. والركاب: المطي. وركاب السرج، لأنه
يركب. والركبان: أصلا الفخذين الذين عليهما لحم الفرج لركوبه إياهما. وفرس
أركب، والأنثى ركبى: إذا عظمت ركبتيهما وهو عيب. وأركب المهر: إذا
أمكن أن يركب. ورجل مركب: الذي يغزوا على فرس غيره. والراكبة: فسيلة
تتعلق بالنخلة لا تبلغ الأرض. وركبت الرجل أركبه ركبا: إذا ضربته بركبتك.
والركوب: كل دابة تركب، ومنه قوله: " فمنها ركوبهم " (1) وأصل الباب
الركوب: العلو على الشئ.
المعنى:
والعامل في قوله: " فرجالا " محذوف، وتقديره: فصلوا رجالا أو ركبانا.
وصلاة الخوف من العدو: ركعتان كيف توجه إنما يجعل السجود أخفض من
الركوع - في قول إبراهيم، والضحاك - فإن لم يستطع، فليكن بتكبيرتين. وروي
أن عليا (ع) صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالايماء وقيل بالتكبير. وإن النبي صلى الله عليه وآله
صلى يوم الأحزاب إيماء. وروي أنه قضاها بعد أن فاتت بالليل. وقال ابن عباس
والحسن: يجوز في صلاة الخوف ركعة واحدة. وقال الحسن، وقتادة، وابن زيد:
يجوز أن يصلي الخائف ماشيا. وقال أهل العراق: لا يصلي ماشيا، لان المشي

(1) سورة يس آية: 72.
277

عمل. والذي نقوله: إن الخائف إن صلى منفردا صلاة شدة الخوف صلى ركعتين
يومئ إيماء، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وإن لم يتمكن كبر عن كل ركعة
تكبيرة، وهكذا صلاة شدة الخوف إذا صلوها جماعة، وإن صلوا جماعة غير صلاة
شدة الخوف، فقد بينا الخلاف فيه وكيفية فعلها في خلاف الفقهاء.
والذكر في الآية قيل في معناه قولان:
أحدهما - أنه الصلاة، أي فصلوا صلاة الامن كما علمكم الله، هذا قول
الحسن، وابن زيد.
الثاني - اذكروه بالثناء عليه، والحمد له كما علمكم ما لم تعلموا من أمر دينكم،
وغير ذلك من أموركم. والأولى حمل الآية على عمومها في الامرين.
قوله تعالى:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية
لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فان خرجن فلا
جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز
حكيم (240) آية واحدة بلا خلاف.
قرأ نافع، وابن كثير، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم " وصية " بالرفع.
الباقون بالنصب.
المعنى:
هذه الآية منسوخة الحكم بالآية المتقدمة، وهي قوله: " والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " بلا خلاف في نسخ
العدة إلا أبا حذيفة، فإنه قال: العدة أربعة أشهر وعشرا، وما زاد إلى الحول
يثبت بالوصية والنفقة، فان امتنع الورثة من ذلك كان لها أن تتصرف في نفسها، فأما
حكم الوصية، فعندنا باق لم ينسخ وإن كان على وجه الاستحباب. وحكي عن ابن
278

عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد: أنها منسوخة بآية الميراث، وقد بينا فساد
قولهم: لا وصية لوارث. فأما آية الميراث، فلا تنافي الوصية، فلا يجوز أن تكون
ناسخة لها، وقد مضى الكلام في خبر الذين (1) في الآية المتقدمة، فلا وجه
لإعادته.
المعنى، والاعراب:
ومن نصب " وصية " فإنه يحتمل قوله: " وصية " أمرين:
أحدهما - فليوصوا وصيه لأزواجهم، فينصب على المصدر.
الثاني - كتب الله عليهم وصية لأزواجهم، فينصب على أنه مفعول به.
والمصدر المنصوب يدل على فعل الامر المأخوذ منه، أما دلالته على فعله، فلانه
مشتق منه، وأما دلالة نصبه على الامر منه، فلغلبة الباب في الامر، فأما دلالته
على كتب، فلان ما أمر الله به، فقد كتبه. والنصب يدل على الامر به. والرفع
يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها - فعليهم وصية لأزواجهم. الثاني - فلأزواجهم وصية
كما تقول: لزيد مال. الثالث - كتب عليهم وصية لأزواجهم. وقال بعضهم:
لا يجوز غير الرفع، لأنه، لا يمكن الوصية بعد الوفاة، لان الفرض كان لهن أوصى
أو لم يوص. وقال الرماني: وهذا غلط، لان المعنى والذين يحضرهم الوفاة منكم،
فلذلك قال: " يتوفون منكم " على لفظ الحاضر الذي يتطاول على نحو قولك: الذين
يصلون، فليعرضوا عن الذكر فيما يشغلهم. فأما قوله: الفرض كان لهم، فإن لم
يوصوا فقال قتادة والسدي: إنما كان لهن بالوصية على أنه لو كان على ما زعم،
لم ينكر أن يوجبه الله على الورثة إن فرط الزوج في الوصية.
وقوله: " متاعا إلى الحول " نصب، والعامل فيه أحد أمرين:
أحدهما - جعل الله لهن ذلك متاعا، لان ما قبله دل عليه.
والثاني - متعوهن متاعا. وقوله غير إخراج نصب بأحد الشيئين: أحدهما -
بأن يكون صفة لمتاع. والثاني - أن يكون مصدرا كأنه قيل: لا إخراجا. قال

(1) في تفسير آية: 234 وفي المطبوعة (جر الدين) وهو تصحيف.
279

الفراء: هو كقولك: جئتك عن رغبة إليك فكأنه قال: متعوهن مقاما في
مساكنهن، فيكون مصدرا وقع موقع الحال. ويجوز أن يكون بمعنى الإقامة في
مساكنهن. وقال الحسن، والسدي: قوله: " فان خرجن فلا جناح عليكم فيما
فعلن في أنفسهن بالمعروف " دليل على سقوط النفقة، والسكنى بالخروج، لأنه إنما
جعل لهن ذلك بالإقامة إلى الحول، فان خرجن قبله بطل الحق الذي وجب بالإقامة.
وإنما يحتاج إلى هذا التخريج من يوجب النفقة للمعتدة عن الوفاة. فأما من قال:
لا نفقة لها، ولا سكنى، فلا يحتاج إلى ذلك، وهو مذهبنا، لان المتوفى عنها
زوجها لا نفقة لها، وإذا قلنا القرآن لا ينسخ بالسنة، قلنا: النفقة هاهنا على وجه
الاستحباب أو أنها تثبت بالوصية، لأنا بينا أن الوصية غير منسوخة.
قوله تعالى:
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين (241)
آية بلا خلاف.
المعنى:
قال سعيد بن المسيب الآية منسوخة بقوله: " فنصف ما فرضتم " وعندنا
أنها مخصوصة بتلك إن نزلا معا. وإن كانت تلك متأخرة فالامر على ما قال سعيد
ابن المسيب: إنها منسوخة، لان عندنا لا تجب المتعة إلا للتي لم يدخل بها ولم يسم
لها مهر. وإن سمي لها مهر، فلما ما سمي وإن لم يدخل بها فان فرض لها مهرا كان لها
نصف مهرها، ولا متعة لها في الحالين، فلابد من تخصيص هذه الآية. وقال سعيد
ابن جبير وأبو العالية والزهري: المتعة واجبة لكل مطلقة، وبه قال أبو حنيفة. وقال
الحسن: هي للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها صداق مثل ما قلناه. وقال
عطا، ومجاهد: هي للمدخول بها، وحكى أبو علي: للمطلقة البائنة.
وإنما كرر ذكر المتعة هاهنا وقد تقدم ذكرها قبل هذه الآية، لأنه ذكر في
غيرها خاصا وذكر فيها عاما فدخل فيه الأمة، وغيرها، والمتعة في الموضع الذي يجب
280

على قدر الرجل بظاهر الآية، لأنه قال: " وعلى الموسع قدره ": مثلها وإن كان
فوق قدره حكاه البلخي.
وقوله: " بالمعروف " معناه بالمعروف صحته، لأنه عدل بين الافراط،
والتقصير. وقال الضحاك: على قدر الميسرة، وإنما خص المتاع بالمتقين وإن كان
واجبا على الفاسقين، تشريفا لهم بالذكر اختصاصا، وجعل غيرهم على وجه التبع،
كما قال: " هدى للمتقين " (1) وقيل: لأنه أخرج الكلام مخرج من لا يعتد
بغيرهم لاحتقارهم، وجلالة المتقين بالتقوى، ولأنه إذا وجب على المتقين، فهو واجب على جميع المتعبدين، لان التقوى واجب على المكلفين، وهذا إنما يدل على أنه
واجب بشريطة التقوى. فأما إذا وجب على التقي والفاجر، فالجواب هو الأول.
الاعراب:
وقوله: " حقا على المتقين " نصب على المصدر، وقع موقع الحال، والعامل
فيه " بالمعروف " كأنه قيل: عرف حقا، ويجوز أن يكون العامل فيه الظرف.
ويجوز أن يعمل فيه معنى الجملة، كأنه قيل: أحق ذلك حقا وكان يجوز أن يرفع
على أنه صفة لمتاع.
المعنى:
والمتاع: النفقة مقدار ما تقيم في العدة على قول الجبائي: وعلى ما قلناه قدر
ما يوصي به لها بالمعروف الذي لا يضر بباقي الورثة.
قوله تعالى:
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون (242) آية.
التشبيه بقوله: " كذلك يبين الله " وقع على البيان الذي تقدم في الاحكام
والحجاج والمواعظ والآداب وغير ذلك مما يحتاج الناس إلى عمله، والعمل عليه في

(1) سورة البقرة آية: 2.
281

أمر دينهم ودنياهم شبه البيان الذي يأتي بالبيان الماضي، والبيان: هو الأدلة التي
يفرق بها بين الحق، والباطل. وعبر عنه بأنه فعل يظهر به أمر على طريقة حسنة،
وليس كلما يظهر به غيره ما لا يأتيه. وقد يكون ذلك بكلام فاسد يفهم به المراد،
فلا يستحق صفة بيان. والآية هي العلامة فيما كان من الأمور العظيمة، لان في
الآية تفخيما ليس في العلامة. وقوله: " لعلكم تعقلون " معناه: لكي تعقلوا آيات
الله بالبيان عنها. والعقل مجموع علوم ضرورية يميز بها بين القبيح، والحسن،
ويمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب.
قوله تعالى:
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر
الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على
الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243) آية واحدة
بلا خلاف.
المعنى:
معنى " ألم تر " ألم تعلم، لان الرؤية مشتركة بين العلم - وهي رؤية القلب -
وبين رؤية القلب. وقيل في معنى قوله: " وهم ألوف " قولان:
أحدهما - أن معناه: الكثرة، فكأنه: وهم أكثر الناس، ذهب إليه ابن
عباس، والضحاك، والحسن. وقال ابن زيد: معناه هم مؤتلفوا القلوب، لم يخرجوا
عن تباغض. ومن قال: المراد به العدد الكثير، اختلفوا، فقال ابن عباس: كانوا
أربعين ألفا. وقال قوم: أربعة آلاف. وقال آخرون: ثمانية آلاف. وقال السدي:
بضعة وثلاثون ألفا. والذي يقضي به الظاهر: أنهم أكثر من عشرة آلاف، لان
بناء (فعول) للكثير، وهو ما زادا على العشرة. فأما ما نقص، فيقال فيه:
آلاف على وزن (أفعال) نحو عشرة آلاف ولا يقال: عشرة ألوف. وقال الحسن،
282

وأكثر المفسرين: كانوا فروا من الطاعون الذي وقع بأرضهم. وقال الضحاك:
فروا من الجهاد.
ومعنى الآية: الحض على الجهاد، بأنه لا ينفع - من الموت - فرار، ومن
أمر الله، لأنه يجوز أن يعجله على جهة العقاب، كما علجه لهؤلاء، للاعتبار. وفي
الآية دليل على من أنكر عذاب القبر والرجعة معا، لان الاحياء في القبر، وفي
الرجعة مثل إحياء هؤلاء الذين أحياهم للعبرة.
وقوله: " فقال لهم الله موتوا " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أن معناه أماتهم الله، كما يقال: قالت السماء، فهطلت، وقلت برأسي
كذا، وقلت بيدي، وذلك لما كان القول في الأكثر استفتاحا للفعل، كالقول
الذي هو تسمية، وما جرى مجراها مما كان يستفتح به الفعل، صار معنى قالت السماء،
فهطلت أي استفتحت الهطلان، وصار بمنزلة استفتاح الافعال فلذلك صارت أماتتهم
بمنزلة استفتاح الافعال.
الثاني - أن يكون أحياهم عند قول سمعته الملائكة بضرب من العبرة. ويجوز
- عندنا - أن يكونوا أحيوا في غير زمان نبي. وقالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون
ذلك إلا في زمان نبي، لان المعجزة لا يجوز ظهورها إلا للدلالة على صدق نبي،
تكون له آية. وقد بينا فساد ذلك في غير موضع، وأنه تجوز المعجزات على دين
من الصادقين: من الأئمة، والأولياء وإن لم يكونوا أنبياء. وروي عن ابن
عباس: أنه مر بهم نبي، فدعا الله تعالى، فأحياهم.
وقوله: " إن الله لذو فضل على الناس " إنما ذكر، واتصل بما تقدم، لأنه
لما ذكر النعمة عليهم بما آتاهم من الآية العظيمة في أنفسهم ليلزموا سبيل الهدى،
ويتجنبوا طرق الردى ذكر عند ذلك ماله على الناس من الانعام مع ما هم من الكفران.
قوله تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244) آية بلا خلاف.
283

المعنى:
قيل فيمن يتوجه إليه هذا الخطاب قولان:
أحدهما - أنه متوجه إلى الصحابة بعد ما ذكرهم بحال من فر من الموت، فلم
ينفعه الفرار، حضهم على الجهاد، لئلا يسلكوا سبيلهم في الفرار من الجهاد، كما فر
أولئك من الديار.
الثاني - الخطاب للذين جرى ذكرهم على تقدير، وقيل لهم: قاتلوا في سبيل
الله. والقول الأول أظهر، لان الكلام على وجهه، لا محذوف فيه.
وقوله: " واعلموا أن الله سميع عليم " معناه هاهنا: أنه " سميع " لما يقوله
المنافق " عليم " بما يحبه المنافق، فاحذروا حاله. وقيل: " سميع " لما يقوله المتعلل
" عليم " بما يضمر، فإياكم والتعلل بالباطل. وقيل: " سميع " لقولكم إن قلتم
كقول من قبلكم " عليم " بضمائركم.
وسبيل الله الذي أمر بالقتال فيها: قتل في دين الله، لا عزازه، والنصر له،
وقتل في طاعة الله، وقتل في جهاد أعداء المؤمنين.
اللغة:
والقتل: نقض البنية التي تحتاج إليها الحياة. والقتال: هو تعرض كل واحد
منهما للقتل. والفرق بين سميع وسامع: أن سامعا يقتضي وجوه السمع، وسميع
لا يدل عليه، وإنما معناه: أنه من كان على صفة لأجلها يسمع المسموعات إذا وجدت
ولذلك يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه سميع، ولا يوصف بأنه سامع إلا بعد وجود
المسموعات.
قوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له
أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون (245)
آية واحدة بلا خلاف.
284

القراءة:
قرأ أبو عمرو، ونافع، وحمزة، والكسائي " فيضاعفه " بالرفع. وقرأ عاصم
بالألف، والنصب. وقرأ ابن كثير " فيضعفه " بالتشديد، والرفع. وقرأ ابن عامر
بالتشديد والنصب.
المعنى، واللغة:
والقرض الذي دعا الله إليه قال ابن زيد هو الجهاد، وقال في البر من النفل.
والقرض: هو قطع جزء من المال بالاعطاء على أن يرد بدل منه. وقوله:
" يقرض الله " مجاز (1) في اللغة لان حقيقته أن يستعمل في الحاجة، وفى هذا
الموضع يستحيل ذلك، فلذلك كان مجازا، وقد يستعمل القرض في غير الحاجة قال
أمية بن أبي الصلت:
لا تخلطن خبيثات بطيبة * واخلع ثيابك منها وانح عريانا
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا * أو سيئا ومدينا كالذي دانا (2)
فهذا يبين أن القرض من غير عوز، وقال آخر:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه * إنما ليس الفتى غير الحمل (3)
والقرض القطع بالناب. قرض يقرض قرضا: إذا قطع الشئ بنابه، وقرض
تقريضا، وتقرض تقرضا، واقترض المال اقتراضا. والقرض ما أعطيته لتكافاه،
أو يرد بعينه. واقترض اقتراضا، واستقرض استقراضا، وتقارضا الثناء: إذا أثنى
كل واحد منهما على صاحبه، وكذلك قارضه الثناء. وانقرضوا انقراضا: إذا
هلكوا. والدنيا قروض: أي يتقارضا الناس من بينهم بالمكافأة. وقرض الشئ

(1) في المطبوعة (محله) وهو تحريف.
(2) اللسان (قرض) ذكر البيت الثاني فقط وروايته (أو مدينا مثل ما دانا)
بدل (ومدينا...).
(3) قائله؟. اللسان (قرض) ورويته (إنما يجزى الفتي ليس الجمل).
285

يقرضه قرضا. والشعر قريض. ومنه قوله: " تقرضهم ذات الشمال " (1) أي
تقطعهم بمرورها عليهم والمقراض: الجلم الصغير، وقراضات الثوب ما ينفيه الجلم.
الاعراب، واللغة:
وقوله: " فيضاعفه " من رفع عطفه على قوله: " يقرض " ومن نصب،
فعلى جواب الاستفهام بالفاء. والاختيار الرفع لان فيه معنى الجزاء، وجواب
الجزاء بالفاء لا يكون إلا رفعا " ويضاعفه " أكثر في الاستعمال، وإنما شدد أبو
عمرو " يضعف لها العذاب ضعفين " (2) ولم يشدد " فيضاعفه " لان المضاعفة
عنده لما لا يحد. والتضعيف للمحدود، وتقول: ضعفت القوم أضعفهم ضعفا: إذا
كثرتهم، فصرت مع أصحابك على الضعف منهم، وضعف الشئ: مثلاه في المقدار.
وأضعفت الشئ إضعافا، وضعفته تضعيفا، وضاعفته مضاعفة، وهو الزيادة على أصل
الشئ حتى يصير مثلين أو أكثر. وتضاعف الشئ تضاعفا وضعف ضعفا. والضعف
خلاف القوة، لأنه قطع القوة عن التمام. وضعف الشئ مثله في المقدار إذا زيد
عليه، فكل واحد منهما ضعف. والتضعيف: تكرير الخوف، واستضعفت الرجل
استضعافا، وأصل الباب الضعف. وهو زيادة المثل.
وقوله: " والله يقبض ويبسط " قال الحسن، وابن زيد في الرزق، وحكى
الزجاج: أنه يقبض الصدقات ويبسط الجزاء عليها عاجلا، وآجلا عليها.
والقبض خلاف البسط والقبض ضم الكف على الشئ قبضه قبضا وتقبض عنه
تقبضا: إذا اشمأزمنه: لأنه ضم نفسه عن الانبساط إليه. وانقبض انقباضا،
وقبضت الرجل تقبيضا: إذا أعطيته لانضمام كفه على ما أخذه. ورجل قبيض:
إذا كان منكمشا سريعا لتجمعه للاسراع. وراع قبضة: إذا كان لا يتفسح في رعيه،
لانقباضه. والتقبض: التشنج. وقبض الانسان: إذا مات. والملك قابض الأرواح.
والبسط خلاف القبض تقول: بسط يبسط بسطا، وانبسط انبساطا، وبسطه
تبسيطا، وتبسط تبسطا. والبساط - بكسر الباء - ما بسطته. والبساط - بفتح
الباء - الأرض الواسعة، وناقة بسط: معها ولدها لانبساطه. والبسطة: الفضيلة في

(1) سورة الكهف آية: 17.
(2) سورة الأحزاب آية: 30.
286

الجسم أو المال، ونحو ذلك " وزاده بسطة في العلم، والجسم " (1) وكتب (بصطة)
بالصاد، وبسطة بالسين، لان القلب على الساكن أقوى منه على المتحرك.
المعنى:
ومعنى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " التلطف في الاستدعاء إلى
أعمال البر والانفاق في سبيل الخير.
وجهلت اليهود لما نزلت هذه الآية، فقالوا الله يستقرض منا فنحن أغنياء
وهو فقير الينا! فأنزل الله تعالى " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن
أغنياء " (2) ذكره الحسن والهاء في قوله: " وإليه ترجعون " عائدة إلى الله.
ومعناه إلى الله ترجعون في الآخرة. وقيل إلى التراب الذي خلقكم منه ذكره قتادة.
قوله تعالى:
ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل من بعد موسى إذ
قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل
عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا
ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما
كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم
بالظالمين (246) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ نافع عسيتم بكسر السين. الباقون بفتحها.
اللغة:
الملا: الجماعة الاشراف من الناس وروي أن رجلا من الأنصار قال يوم

(1) سورة البقرة آية: 247.
(2) سورة آل عمران: 181.
287

بدر: إن قتلنا الاعجاز صلعا (1)، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أولئك الملا من قريش
لو رأيتهم في أنديتهم لهتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولاحتقرت فعالك عند
فعالهم. وتقول ملأت الا ناء أملاه ملاء إذا أترعته، لأنه يجتمع فيه ما لا يكون
معه مزيد عليه، وامتلأ امتلاء: إذا طفح، ومالأت الرجل: إذا عاونته ممالاة.
وتمالؤوا علي: إذا تعاونوا. وملوء الرجل ملاءة، فهو ملئ بالامر: إذا أمكنه
القيام به. ووعاء ملان والأنثى ملاى، والجمع: ملاء. والملا: الجماعة من الناس
يستجمعون للمشاورة. والجميع الاملاء قال الشاعر:
وقالت لنا الاملاء من كل معشر * وخير أقاويل الرجال سديدها
والاملاء: الريطة وأصل الباب الاملاء، وهو الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد،
ومنه شاب مالئ العين أي قد اجتمع له من الحسن في العين ما ليس عليه مزيد.
والملا: الخلق، لان جميع أفعال صاحبه تجرى عليه.
المعنى:
وقال السدي: إن النبي الذي قالت له بنوا إسرائيل ما حكاه يقال: شمعون
سمته أمه بذلك لان الله سمع دعاءها فيه. وقال قتادة: هو يوشع بن نون. وقال
وهب بن منية: هو شمويل، وهو المروي عن أبي جعفر (ع). وكان سبب سؤالهم
هذا استذلال الجبابرة لهم من الملوك الذين كانوا في زمانهم إياهم على قول وهب،
والربيع. وقال السدي: قتال العمالقة. وإنما سألوا ملكا، ليكون آمرا عليهم تنتظم
به كلمتهم، وتجتمع أمورهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم.
الاعراب، واللغة:
وأكثر النحويين على الجزم في " نقاتل " مع النون، وقالوا: لا يجوز غير

(1) هكذا في المطبوعة، وفي مجمع البيان (ان قتلنا عجايز صلعا). ورواه لسان العرب
في (صلع)، وقال: وفى حديث بدر ما قتلنا الا عجائز صلعا: أي مشايخ صلعا وفي (ملا) قال:
ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله سمع رجلا من الأنصار - وقد رجعوا من غزوة بدر - يقول: ما قتلنا
الا عجائز صلعا، فقال صلى الله عليه وآله: أولئك الملا من قريش لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك.
288

الجزم. وأجاز الزجاج الرفع على ضعف فيه على تقرير: فانا نقاتل في سبيل الله. ولو
كان بالتاء لجاز الرفع على أن يكون صفة للملك. والجزم على الجواب، كما قال " فهب لي
من لدنك وليا يرثني " (1) بالجزم، والرفع. ولو كان (نقاتل معه) لحسن الرفع
أيضا لعائد الذكر، ولا يجوز أن تقول: الذي مررت زيد، تريد: به. ودخلت
(أن) في قوله: " مالنا ألا نقاتل في سبيل الله "، وأسقطت في قوله: " وما لكم
لا تؤمنون بالله " (2) لاحد ثلاثة أشياء:
أولها - دخلت (أن) لتدل أن فيه معنى: ما منعنا من أن نقاتل، كما دخلت
الباء في خبر هل لما تضمنت معنى ما قال الفرزدق يهجو جريرا، ويذكر أن أباه
كان ينكح اتانا (3).
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت * الأهل أخو عيش لذيذ بدائم (4)
معنى اقلولى: علاها، ومعنى أقردت: ذلت.
وأما سقوطها في الموضع الاخر، فعلى الأصل كأنه قيل: ما لنا غير مقاتلين،
كما قال: " فما لهم عن التذكرة معرضين " (5) هذا قول الفراء.
الثاني - أن تكون (أن) زائدة في قول الأخفش، وهو ضعيف، لأنه
لا يجوز الحمل على الزيادة لا لضرورة.
الثالث - على حذف الواو كأنه قال: وما لنا ولان نقاتل، كما قالوا: إياك أن
تتكلم بمعنى إياك وأن تتكلم. قال الرماني: وهذا ليس بالوجه، لأنه لا يحكم أحد
بالحذف، ولا بالزيادة إلا عند الضرورة قال الشاعر:
فبح بالسرائر في أهلها * وأياك في غيرهم أن تبوحا (6)
فالآية مستغنية عن الواو مثل البيت سواء قال الشاعر:
فإياك المحاين أن تحينا

(1) سورة مريم آية: 4.
(2) سورة الحديد آية: 8.
(3) في المطبوعة " إناثا " بدل " اتانا ".
(4) ديوان جرير 2: 128.، واللسان " قرد " ورواية الديوان " ليس ذو " بدل
" هل أخو " ورواية اللسان " تقول " بدل " يقول ".
(5) سورة المدثر آية: 49
(6) معاني القرآن للفراء 1: 165
289

فإنما هو على احذر المحاين لا على إضمار (أن). وقال المبرد في (ما) وجه
آخر، وهو أن يكون جحدا، ويكون تقديره: مالنا ترك القتال. وعلى الوجه
الأول (ما) استفهام، وإنما جاز، مالك أن تقوم، ولم يجز مالك أن قمت، لان
المنع إنما يكون على الاستئناف، تقول: منعه أن يقوم، ولا يجوز أن يقوم منعه
أن قام، كذا قال الفراء في الكلام حذف، وتقديره: " وما لنا ألا نقاتل في سبيل
الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا " فسأل، فبعث، فوجب عليهم القتال " فلما
كتب " " تولوا "، وإنما وجب أن يكون محذوفا، لان الكلام لا يدل عليه إلا
من جهة الذكر له أو الحذف منه، فأما ما يدل عليه الكلام من غير جهة الذكر له،
أو الحذف منه، فليس بمحذوف نحو قد عرف زيد، فإنه يدل على أنه عرفه عارف،
وليس بمحذوف، لأنه لم يدل عليه من جهة الذكر له ولا الحذف منه.
وعسيتم - بكسر السين - لغة، والفتح أكثر. وقوله: " إلا قليلا " لا يجوز
فيه الرفع، لأنه استثناء بعد موجب، وكذلك قوله: " فشربوا منه إلا قليلا "
لا يجوز فيه الرفع.
قوله تعالى:
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا
قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم
يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده
بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله
واسع عليم (247) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
قال السدي، ووهب بن منبه: إنما أنكروا أن يكون طالوت ملكا، لأنه
لم يكن من سبط النبوة، ولا سبط المملكة بل كان من أجمل سبط في بني إسرائيل.
290

وقوله: " إن الله اصطفاه " معناه اختاره في قول ابن عباس، وابن زيد،
وأصله الصفوة من الأدناس.
وقوله: " وزاده بسطة في العلم والجسم " قيل في معناه قولان:
قال الحسن: زيادة في العلم وعظما في الجسم. وقال الجبائي: كان إذا قام
الرجل، فبسط يده رافعا لها نال رأسه.
اللغة:
يقال: جسم يجسم جسامة يعنى ضخم ضخامة. ورجل جسيم: عظيم الخلق.
وجسمه تجسيما، وتجسم تجسما. وهو أجسم منه أي أضخم. وأصل الباب الضخم.
والجسم: هو الذاهب في الجهات الثلاثة: الطول والعرض والعمق.
الاعراب والمعنى:
وإنما لم يصرف (طالوت)، وصرف (جاموس) إذا سميت به، وإن كانا
أعجميين - في قول الزجاج - لأنه لما كان يدخله الألف واللام نكر، نحو قولهم:
الجاموس. وكلما أعرب في حال تنكيره فإنه لا يعتد بالعجمة فيه، لأنه بمنزلة ما أصله
عربي فأما ما أعرب في حال تعريفه، فليس كذلك، لأنه لم يستعمل إلا على احدى
الحالين دون الأخرى، فنقل لذلك.
وقوله: " والله سميع عليم " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - واسع الفضل، فحذف، كما حذف في قولهم: فلان كبير أي كبير
القدر. الثاني - واسع بمعنى: موسع أي يوسع على من يشاء من نعمه، كما جاء
(أليم) بمعنى: مؤلم. والثالث - واسع بمعنى ذو سعة نحو " عيشة راضية " أي
ذات رضى، وهم ناصب أي ذو نصب. وتامر، ولابن، أي ذو تمر وذو لبن. يجئ
باب في فاعل بمعنى ذو كذا. وقوله: " عليم " أي عليم بمن ينبغي أن يؤتيه
الفضل إما للاستصلاح، وإما للامتحان. قال البلخي: وفي الآية دلالة على فساد
قول من قال بأن الإمامة وراثة، لان الله تعالى رد عليهم ما أنكروه من التعليل
291

عليهم من ليس من أهل النبوة، ولا المملكة، وبين أنه يجب بالعلم والفوة لا بالوراثة.
وقال أصحابنا فيها دلالة على أن من شرط الامام أن يكون أعلم رعيته وأفضلهم في
خصال الفضل، لان الله تعالى علل تقديمه عليهم بكونه أعلم وأقوى فلولا أنه
شرط وإلا لم يكن له معنى.
قوله تعالى:
وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت
فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل
هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم
مؤمنين (248) آية.
المعنى:
قال الحسن: وجه الآية في التابوت أن الملائكة كانت تحمله بين السماء والأرض
يرونه عيانا وقال ابن عباس ووهب: إن الله انتزعه من أيدي أعدائهم الذين نهبوه
منهم، فرد عليهم " تحمله الملائكة " وقيل: إن التابوت كان في أيدي أعداء بني
إسرائيل من العمالقة الذين غلبوهم عليه - على قول ابن عباس، ووهب -، وروي
ذلك عن أبي عبد الله (ع). وقال قتادة: كان في برية التيه: خلفه هناك يوشع
ابن نون. وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاث أذرع في
ذراعين. وروي عن علي (ع). أنه قال: السكينة التي كانت فيه ريح هفافة لها
وجه كوجه الانسان. وقال مجاهد لها رأس كرأس الهرة، وروي ذلك في أخبارنا.
وقال وهب: روح من الله تكلمهم بالبيان عند وقوع الاختلاف. وقال عطا: كان
فيه آية يسكنون إليها.
والسكينة مصدر وقع موقع الاسم نحو القضية والبقية والعزيمة وأخذ من معنى
السكون لان نفوسهم تسكن إليه والبقية التي ترك آل موسى، وآل هارون. قال
292

ابن عباس، وقتادة، والسدي: إنها عصا موسى ورصاص للألواح، وهو المروي
عن أبي جعفر. وقال أبو جعفر التابوت هو الذي وضعت أم موسى فيه موسى حين
ألقته في اليم. وأقوى هذه الأقوال أن يحمل على أنه كان فيه ما يسكنون إليه،
ويجوز أن يكون ذلك عصا موسى والرصاص، وغير ذلك مما اختلفوا فيه بعد أن
يكون فيه ما تسكن النفس إليه، لأنه تعالى بين أن فيه سكينة، وهي فعيلة من
السكون، ولا يقطع بشئ من ذلك إلا بدليل يوجب العلم. وقال الحسن: كان فيه
التوراة وشئ من ثياب موسى.
اللغة:
وفي التابوت لغتان فلغة جميع العرب إلا الأنصار: التابوت بالتاء. والأنصار
تقول: التابوه بالهاء. ويقال: بقي بقاء وأبقاه إبقاء واستبقاه استبقاء وتبقاه تبقيا
وتباقى تباقيا وباقاه مباقاة. ومنه بقايا الخراج. وأصل الباب البقاء: خلاف؟.
وقوله: " تحمله الملائكة " تقول: حمل يحمل حملا واحتمل احتمالا وتحامل تحاملا.
وتحمل تحملا وحمله تحميلا وحامله محاملة. وانحمل انحمالا واستحمل استحمالا.
والحمل من الضان: الخروف. والحمل: السحاب الكثير الماء. والحمل: ما في البطن.
والحمل: ما على الظهر. والحمالة علاقة السيف. والمحمل: الذي يوكبه الناس والحمالة
الدية، يتحملها قوم عن قوم والحميل: الكفيل، والحميل الغريب لأنه يحمل على القوم
وليس منهم. وحميل السيل: غثاؤه. وامرأة حامل: حبلى لحملها الولد. وحملت فلانا
على فلان: إذا حرشته عليه، لأنك حملته على مكروهه. والحمولة الإبل لأنها يحمل
عليها الأثقال. وأصل الباب الحمل: كون الشئ على الشئ وقوله: " إن كنتم
مؤمنين " معناه إن كنتم مصدقين ولا يجوز أن يكونوا على تثبيت الايمان لهم،
لأنهم كفروا حين ردوا على نبيهم. وقيل: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون.
قوله تعالى:
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر
293

فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا
من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم
فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم
بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من
فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
(249) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ " غرفة " - بالفتح - ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع. الباقون بالضم،
وهما لغتان.
اللغة:
قوله: " فلما فصل " معناه قطع، والفصل: القطع. يقال فصل اللحم عن
العظم أي قطعه فأبانه عنه، وفصل الصبي فصلا: إذا قطعه عن اللبن. وقول فصل أي
يفصل بين الحق والباطل. والجنود جمع جند قال السدي: كانوا ثمانين ألف مقاتل،
والأجناد جمع القلة. وجند الجنود تجنيدا أي جمعهم. والجند الأرض الغليظة وكل
صنف من الخلق: جند على حدة. وفي الحديث: الأرواح جنود مجندة. وأصل
الباب الجند: الغليظ من الأرض.
المعنى:
قوله: " إن الله مبتليكم بنهر " فمعنى الابتلاء هاهنا؟ الصادق من الكاذب
في قوله - على قول الحسن -. وقال وهب بن منية: السبب الذي لأجله ابتلوا
بالنهر شكايتهم قلة المياه، وخوف التلف من العطش. والنهر الذي ابتلوا به، قال ابن
عباس، والربيع، وقتادة: هو نهر بين الأردن، وفلسطين. وروي عن ابن عباس
294

أيضا أنه نهر فلسطين. وقوله: " فمن شرب منه " الهاء عائدة على النهر في اللفظ،
وهو في المعنى الماء.
وقوله: " فليس مني " معناه ليس على ديني، ولا من أهل ولايتي، فحذف
ودلت من عليه.
اللغة:
ويقال: طعم الماء كما يقال طعم الطعام وأنشدوا.
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا براد
والغرفة بالفتح المرة من الغرف. والغرفة بالضم ملء الكف من الماء، فالغرفة
اسم للماء المغروف والغرفة اسم للفعل. وقال بعضهم الاختيار الضم لأنه لو جاء على
معنى المرة، لكان اغترافة. وهذا ليس بشئ، لأنه إذا كان المعنى واحدا جاز
اغترافة، لأنه الأصل وجار غرفة، لأنه أخف، وكلاهما حسن. ويقال غرف يغرف
غرفا واغترف اغترافا والمغرفة الآلة التي يغرف بها. وغرف غروف أي كبير والغريف:
ماء في الأجمة، لأنه يغرف من بين القصب. ومزادة غرفية مدبوغة بالغرف: وهو
جنس من الدباغ. والغريف شجر مجتمع من أي شجر كان. والغرفة العلية. وأصل
الباب الغرف.
المعنى:
وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: من استكثر من ذلك الماء عطش،
ومن لم يشرب إلا غرفة روي. وقال الفراء، والحسن، وقتادة، والربيع: والذين
جازوا النهر مع طالوت كان عددهم مثل عدد أهل بدر، وهم ثلاثة وبضعة عشر، وهم
المؤمنون خاصة. وقال ابن عباس، والسدي: جاوزه الكافر، والمؤمن إلا أن
الكافرين انخزلوا عنهم، وبقى المؤمنون على عدد أهل بدر. وهذا قوي، لقوله تعالى:
" فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه "، فلما رأوا كثرة جنود جالوت قال الكفار
منهم " لا طاقة لنا اليوم بجالوت " وقال المؤمنون حينئذ الذين عدتهم عدة أهل
295

بدر " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " قال البلخي: ويجوز أن يكونوا
كلهم مؤمنين، غير أن بعضهم أشد إيقانا وأقوى اعتقادا، وهم الذين قالوا: " كم
من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ".
اللغة:
وتقول: جاز الشئ يجوزه: إذا قطعه. وأجازه إجازة: إذا استصوبه.
والشئ يجوز: إذا لم يمنع منه دليل. واجتاز فلان اجتيازا، واستجاز فعل كذا
استجازة. وتجوز في كلامه تجوزا. وتجاوز عن ذنبه تجاوزا. وجاوزه في الشئ
تجاوزه، وجوزه تجويزا. وجوز كل شئ وسطه بمجاز الطريق، وهو وسطه الذي
يجاز فيه. وقيل هذا اشتقاق الجوزاء، لأنها تعرض جوز السماء أي وسطها، وأما
الجوز المروف، ففارسي معرب. والجواز الصك للمسافر. والمجاز في الكلام، لأنه
خروج عن الأجل إلى ما يجوز في الاستعمال. وأصل الباب الجواز: المرور من غير
شئ يصد، ومنه التجاوز عن الذنب، لان المرور عليه بالصفح.
المعنى:
وقوله: " وقال الذين يظنون " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الذين يستيقنون، ذهب إليه السدي قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد
أي أيقنوا وقيل إنه استعارة فيما يكفي فيه الظن حتى يلزم العمل، فكيف
المعرفة، فجاء على وجه المبالغة في تأكد لزوم العمل.
الثاني - يحدثون نفوسهم وهو أصل الظن، لان حديث النفس بالشئ قد
يكون مع الشك ومع العلم إلا أنه قد على ركبت ما كان مع الشك.
الثالث - يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في تلك الواقعة.
وقوله: " كم من فئة " الفئة: الطائفة من الناس، والجمع: فئين وفئات. ولا
يجوز في عدة إلا عدات، لان نقض عدة من أوله. وليس كذلك فئة، وما نقص
296

من أوله يجري في الباب على اطراد بمنزلة غير المنقوص، فأما فئة ومئة. وثبة وعزة،
فان النقص فيه على غير اطراد، كما يكون في عدة، وصلة، وزنة، وصفة، وجهة.
وتقول فأوت رأسه بالسيف إفاءة وفأوا: إذا قطعته وانفاء الشئ إنفاء: إذا تقطع
وأصل الباب القطع، فمنه الفئة، لأنهم قطعة من الناس.
وقوله: " غلبت " تقول: غلب يغلب غلبا وغالبه مغالبة وتغالبوا تغالبا.
وتغلب تغلبا وغلبه تغليبا. وأشد أغلب: إذا كان غليظ العنق. ورجل أغلب
كذلك، لأنه من إمارة الغلب. واغلولب العشب إذا كثر لأنه غلب على غيره
بكثرته. وأصل الباب الغلب: القهر.
المعنى:
وقوله: " بإذن الله " معناه بنصر الله على قول الحسن، لان الله إذا أذن في
القتال نصر فيه على الوجه الذي أذن فيه ويجوز في (كم) الجر والنصب وإن كان
على معنى الخبر في قول الفراء. وفي الآية حذف لدلالة (1) ما بقي عليه وهو فأتاهم
التابوت بالصفة التي وعدوا بها، فصدقوا لان قوله " فصل طالوت بالجنود " بعد
تلك المنازعة منهم ينبئ أن الآية أتتهم، فانقادوا لأجلها.
قوله تعالى:
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا
صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (250)
آية بلا خلاف.
اللغة:
البروز الظهور للقتال، ومنه البراز، وهي الأرض:؟. وتقول: برز يبرز
بروزا، وبارزه مبارزة، وتبارز تبارزا، وبرز تبريزا، وتبرز تبرزا. ورجل

(1) في المطبوعة الاله
297

برز، وامرأة برزة أي ذو عفة وفضل، لظهور ذاك فيها. وا؟ الجموع التي تعد
للقتال واحدها جند، مأخوذ من الجند وهو الغلظ.
وقوله: " ربنا أفرغ " فالافراغ: صب السيال على جهة اخلاء المكان منه (1)
وأصله الخلو. وإنما قيل " أفرغ علينا صبرا " تشبيها بتفريغ الاناء من جهة أنه
نهاية ما توجبه الحكمة، كما أنه نهاية ما في الواحد من الآنية. وتقول فرغ يفرغ
فراغا، وأفرغ إفراغا، وفرغ تفريغا وتفرغ تفرغا، واستفرغ استفراغا،
وأفرغت افتراغا: إذا صببت عليك الماء. وقوله: " سنفرغ لكم أيها الثقلان " (2)
معناه سنعمد، لأنه عمل مجرد من غير شاغل، ومنه قوله: " وأصبح فؤاد أم
موسى فارغا " (3) أي خاليا من الصبر والفرغ مفرغ الدلو، وهو خرفة الذي يأخذ
الماء، لأنه يفرغ منه الماء " وأفرغ علينا صبرا " أي صب. ودرهم مفرغ أي
مصبوب في قالب. وضربة فريغة: واسعة. وفرغ الاناء، وفرغ الرجل من عمله.
وأصل الباب الفراغ الخلو.
وقوله: " وثبت أقدامنا " تثبيت الاقدام يكون بشيئين: أحدهما - بتقوية
قلوبهم. والثانية - بالقاء الرعب في قلوب أعدائهم حتى يظهر منهم الخور في قتالهم
وقيل باختلاف كلمتهم حتى يقع التخاذل منهم، وكذلك الصبر، لأنه من فعل العبد
كما أن الثبوت في الحرب من فعله، لأنه يجازى عليه، فأما النصر، ففعل الله تعالى،
والصبر: حبس النفس عما تنازع إليه من الفعل. وهاهنا حبسها عما تنازع إليه من
الفرار من القتال. والتثبيت تمكين الشئ في مكانه بلزومه إياه. وقد يقال ثبت
يثبت ثبوتا، وأثبته إثباتا وتثبت تثبتا، واستثبت استثباتا، وثبته تثبيتا. ورجل
ثبت المقام: إذا كان شجاعا لا يبرح موقفه، وطعنه فأثبت فيه الرمح أي نفذ فيه،
لأنه يلزم فيه. وأثبت حجته إذا أقامها. والقول الثابت الصحيح يلزم العمل عليه،
ومنه قوله: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " أي يؤدبهم به ليلزموا طريق

(1) في المطبوعة (على جهة الاخلار منه المكان).
(2) سورة الرحمن آية: 31.
(3) سورة القصص آية: 10.
298

الحق فيه. وفلان ثبت أي؟ مأمون فيما روى. وأثبت الحسنات في الدفتر، لأنك
ضبطه، وأصل الباب اللزوم.
وقوله: " فانصرنا " النصر: هو المعونة على العدو، ويكون ذلك بأشياء
منها بزيادة القوة، ومنها الرعب من الملاقاة، ومنها الاطلاع على العورة، ومنها تخيل
الكثرة، ومنها اختلاف الكلمة التي تقع بلطف في إعطاء النصر، والفرق بين النصر،
واللطف: أن كل نصر من الله، فهو لطف، وليس كل لطف نصرا، لان اللطف
يكون في إحدى طاعاته بدلا من معصيته، وقد يكون في فعل طاعة من النوافل فأما
العصمة فلا تكون إلا من معصية.
قوله تعالى:
فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك
والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251) آية.
القراءة:
قرأ نافع، وأبان عن عاصم " دفاع الله " الباقون " دفع " بلا ألف.
المعنى:
في الآية حذف وتقديره فاستجاب لهم ربهم، فهزموهم بنصره لهم، لان
ذكر الهزيمة (1) بعد سؤال النصرة دليل على أنه كان على معنى الإجابة.
اللغة:
والهزم: الدفع، تقول: هزم القوم في الحرب يهزمهم هزما: إذا دفعهم بالقتال
هربا منه، وانهزموا انهزاما، وتهزم السقاء: إذا يبس، فتصدع لاندفاع بعضه
على بعض، والاهتزام الذبح تقول العرب: اهتزموا شاتكم قبل أن تهزل فتهلك،

(1) في المطبوعة " الهزيمة ".
299

لدفع صاعها بتذكيتها. والهزمة: دفعك الشئ بقوة حتى تدخل عن موضعه في
الجسد، وزمزم هزمة، جبرئيل لإسماعيل (ع) والمهزم خشبة يحرك بها الجمر،
لأنها يرفع بها بعضه عن بعض، وهزمة الرعد صوته، وأصابتهم هازمة من هوازم
الدهر أي داهية كاسرة، لأنها كهازمة الجيش في البلية، وهزمت عليك أي عطفت
عليك.
المعنى:
فالأولى أن يكون القوم هزموهم حقيقة لأنهم سنوا الهزيمة بأن فعلوا
ما يلجئهم إليها وقال الجبائي: ذلك مجاز، لأنهم لم يفعلوا هزيمتهم، كما يقال: اخرجه
من منزله إذا ألجأه إلى الخروج، ولم يفعل خروجه، وهذا ليس بصحيح، لأنه
ليس معنى هزمه فعل هزيمته، ليكون إذا صرف عن ذلك إلى معنى غيره يكون
مجازا في العبارة بل معناه ما قلناه.
وقوله: " بإذن الله " يحتمل أمرين: أحدهما - بأمر الله. والثاني بعلم الله.
وقيل: إن سبب قتل داود جالوت كان أن جالوت طلب البراز، فخرج إليه
داود (ع) فرماه بحجر مقلاع فوقع بين عينيه خرج من قفاه، فأصاب جماعة
كثيرة من أهل عسكره فقتلهم، وانهزم القوم عن آخرهم، ذكر ذلك وهب بن منبه
وغيره من المفسرين.
وقوله: " وآتاه الله الملك والحكمة " قيل في معناه قولان: أحدهما - أنه
جمع له الملك والنبوة في حالة واحدة. والاخر - أنه اختصه من علم السمع بحكمة
لم يؤتها غيره.
وقوله: " وعلمه مما يشاء " معناه أنه علمه أمور الدين وما يشاء من أمور
الدنيا، منها صنعة الدرع وعمل السرد، ذكره الزجاج، والطبري. فان قيل:
ما الفائدة في قوله: " وعلمه مما يشاء " إذا كنا لا ندري ما الذي شاء من ذلك؟
قيل هو تعالى وإن لم يشرح لنا ما علمه فقد بين لنا أنه خصه من العلم بعد علم الدين
بما لم يؤته غيره، لان غيره من المؤمنين إنما نعلم ما دله الله عليه من أمر دينه
300

ودنياه، وكان داود مساويا لهم في ذلك إن لم يكن أكثرهم علما فيه، لأنه كان
مؤمنا مثلهم، وكان معهم في أمورهم، فلما بين لنا أنه " آتاه الله الملك والحكمة وعلمه
مما يشاء " بعد قتل جالوت، علمنا أنه كان خصه بما ذكره من الملك والحكمة،
وخصه منه بما لم يخص به أحدا سواه.
وقوله: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " قيل في معناه
ثلاثة أقوال:
أحدها - يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك، هذا قول علي (ع) وهو المروي
عن أبي جعفر محمد بن علي (ع)، وبه قال مجاهد. الثاني - يدفع باللطف للمؤمن
والرعب في قلب الفاجر. أن يعم الأرض الفساد. الثالث - قال الحسن، والبلخي:
يزغ الله بالسلطان فلا يزغ بالقرآن، لأنه يغنيه على دفع الأشرار عن ظلم الناس،
لأنه يريد منه المنع من الظلم والفساد، كان مؤمنا أو فاسقا.
اللغة:
وأصل الدفع: الصرف عن الشئ، دفع دفعا، ودافع مدافعة ودفاعا،
واندفع اندفاعا، وتدافع تدافعا، وتدفع تدفعا، ودفعه تدفيعا، واستدفع استدفاعا.
والضيف المدفع، لتدافع الحي به لاحتقاره. والدفاع السيل لتدافع بعضه على بعض.
والدفعة اندفاع الشئ جملة. ورجل مدفع أي عن نسبه.
الحجة:
وقال الحسن: لم يكن داود نبيا قبل قتله جالوت، لأنه لا يجوز أن يترأس
من ليس بنبي على نبي لأنه قلب ما يوجبه تدبير الحكماء، لان النبي يوثق بظاهره
وباطنه ولا يخبر إلا بالحق ولا يدعوا إلا إلى حق، وليس كذلك من ليس بنبي من
أهل العقل.
ومن قرأ " دفاع " بألف فوجهه: أن الله لما أعان أولياءه على مدافعة أعدائه
حتى هزموهم، حسن إضافة الدفاع إليه، لما كان من معونته، وإرادته له.
301

وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة: إنه ليس لله على الكافر نعمه، لأنه
قال: " إن الله لذو فضل على الناس " فعم الجميع بالنعمة ولم يخص، " ولكن أكثر
الناس لا يشكرون " ويفسد به أيضا قولهم: في الإرادة وأن جميع ما أعطى الله الكفار
إنما هو ليكفروا لا ليؤمنوا، وما روي أن طالوت هم بقتل داود لما رأى أن وجوه
الناس أقبلت عليه بقتله جالوت رواية شاذة، فان صحت دلت على أن طالوت لم يكن
نبيا، ولا إماما، لان النبي أو الامام لابد أن يكون معصوما.
قوله تعالى:
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (252).
الآيات المذكورة في هذه الآية المراد بها ما تقدم ذكره من إماتة ألوف من
الناس دفعة واحدة بخلاف ما جرت به العادة ثم أحياهم في مقدار ساعة، ومن تمليك
طالوت وقد كان من الخاملين الذين لا تنقاد لهم النفوس بما جعله له من الآية علما
على تمليكه، ومن نصرة أصحاب طالوت مع قلة عددهم، وضعفهم على جالوت
وجنوده مع قوتهم وكثرة عددهم وشدة بطشهم حتى قهروهم واستعلوا عليهم، وكل
ذلك مما لا يقدر عليه غير الله تعالى فهو دلالة عليه.
وقوله: " وانك لمن المرسلين " دليل على نبوته على وجوه: منها ما في
الاحياء بما تقدم من الدلالة على النبوة. ومنها أنه يجب التصديق بتلك الأمور
لنبوته (ع). ومنها أنه أوحي إليه به، كما أوحى إلى المرسلين، لأنه سنة الله عز
وجل في مثله. ومنها الاستدعاء إلى القيام بما أرسل به بعد قيام الحجة عليه. ومنها
أنه كما نصب تلك الآيات جعلك من المرسلين لما في ذلك من الحكمة التي تدعوا إلى
صلاح المكلفين. وإنما صارت الاخبار بذلك دلالة على النبوة من جهة أنها
أخبار عن عيون لم تشهدها ولا خالط أهل المعرفة بها، ومتى قال قائل: إنه أخذها
عن أهل العلم بالاخبار، فان قوله يبطل، لأنه لو كان كذلك لم يتكلم لخروجه
عن العادة كخروج أن يصير انسان من أعلم الناس بصناعة لم يشهدها ولا خالط
302

أهلها، ولان في أنبيائه تثبت معجزة من غير تلك الجهة، وهو المنع من الإزاحة مع
توفر الأسباب الداعية إلى الحديث به، ولا نشر له وهذا مما لا يقدر عليه إلا
الله تعالى.
اللغة:
والرسالة تحمل جملة من الكلام لها فائدة إلى المقصود بالدلالة. والحق هو
وقوع الشئ موقعه الذي هو له من غير تغيير عنه بما لا يجوز فيه. والتلاوة: ذكر
الكلمة بعد الكلمة من غير فاصلة، لان التالي للشئ يليه من غير فصل بغيره.
والأصل: التلو وهو ايقاع الشئ بعد الشئ الذي يليه.
قوله تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم
الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات
وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم
من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن
ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل
ما يريد (253) آية واحدة بلا خلاف.
إنما ذكر الله تعالى تفضيل بعضهم على بعض، لأمور: منها أن لا يغلط غالط
منهم، فيسوي بينهم في الفضل. كما استووا في الرسالة، وثانيها أن يبين أن تفضيل
محمد صلى الله عليه وآله كتفضيل من مضى من الأنبياء بعضهم على بعض. وثالثها - أن الفضيلة
قد تكون بعد إداء الفريضة. والمراد الفضيلة المذكورة هاهنا ما خص كل واحد منهم
من المنازل الجليلة التي هي أعلى من منزلة غيره، نحو كلامه لموسى بلا سفير، وإرساله
محمدا صلى الله عليه وآله إلى الكافة من الناس المكلفين والجن المتعدين، هذا قول مجاهد.
303

ويحتمل فضلناهم بأعمالهم التي استحقوا بها الفضيلة على غيرهم. والفرق بين الابتداء
بالفضيلة وبين المحاباة ان المحاباة اختصاص البعض بالنفع على ما توجبه الشهوة دون
الحكمة، وليس كذلك الابتداء بالفضيلة، لأنه قد يكون للمصلحة التي لولاها
لفسد التدبير وأدى إلى حرمان الثواب للجميع. فمن حسن النظر لهذا الانسان
تفضيل غيره عليه إذا كان في ذلك مصلحة له فهذا وجه تدعو إليه الحكمة وليس
كالوجه الأول الذي إنما تدعوا إليه الشهوة.
وقوله: " وأيدناه بروح القدس " معناه قويناه. والروح: جبريل. والقدس
الله - على قول الحسن - وقال ابن عباس: روح القدس: الاسم الذي كان يحيي به
الموتى. والضمير في قوله: " من بعدهم " عائد على الرسل. وقال قتادة، والربيع:
على عيسى وموسى (ع). وجاز بلفظ الجميع، لان ذكرهم قد يغني عن ذكر
المتبعين لهم. كما يقال: خرج الأمير فانكوا في العدو نكاية عظيمة.
وقوله: " ولو شاء الله ما اقتتلوا " إخبار عن قدرته على إلجائهم على الامتناع
من الاقتتال، أو أبان يمنعهم من ذاك. هذا قول الحسن وغيره. وجملته انه أخبر
انه قادر على أن يحول بينهم، وبين الاقتتال بالالجاء والاضطرار. ومثله " ولو شئنا
لآتينا كل نفس هداها " " ولو شاء ربك لامن من في الأرض كلهم جميعا " فان جميع
ذلك دلالة على قدرته عليهم. ولا يدل قوله " ولو شاء الله ما اقتتلوا " على أنه
قد شاء اقتتالهم، لأنه إذا احتمل الكلام وجهين: أحدهما - يجوز عليه والاخر
لا يجوز عليه، وجب حمله على ما يجوز عليه، دون ما لا يجوز عليه، فلذلك كان
تقدير الكلام ولو شاء الله امتناعهم بالالجاء ما اقتتلوا. ونظيره قول القائل ولو شاء
السلطان الأعظم، لم يشرب النصارى الخمر في سلطانه ولا نكحت المجوس الأمهات
والبنات وليس في ذلك دليل على أنه قد شاءه وإنما كرر قوله: " ولو شاء الله
ما اقتتلوا " لاختلاف المعنى: فمعنى الأول لو شاء الله ما اقتتلوا قتالهم، ويجوز أن
يكون لتأكيد البينة على هذا المعنى. وقال قوم: الأول معناه لو شاء الله ما اقتل
304

المحقون، والمبطلون بأن يحول. بينهم، وبينهم. والثاني لو شاء الله ما اقتتل المحقون
فيما بينهم والمبطلون فيما بينهم.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن
يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم
الظالمون (254) آية واحدة.
القراءة:
قرأ أبو عمرو وابن كثير " لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " بالنصب فيها
أجمع. الباقون بالضم.
المعنى:
قولة " يا أيها الذين آمنوا " خطاب للمؤمنين يأمرهم بالانفاق مما رزقهم.
والانفاق المأمور به على وجه الفرض هاهنا الزكاة وغيرها دون الفعل لان ظاهر الامر
الايجاب في قول الحسن. قال: لأنه مقرون بالوعيد. وقال ابن جريج: يدخل في
الخطاب الزكاة، والتطوع. وهو أقوى، لأنه أعم. وبه قال البلخي. وليس في
الآية وعيد على ترك النفقة. وإنما فيها إخبار عن عظم أهوال يوم القيامة وشدائدها.
وقوله: " من قبل أن يأتي يوم " يعنى يوم القيامة.
اللغة:
" لا بيع فيه " البيع هو استبدال المتاع بالثمن. تقول: باع يبيع بيعا، وابتاع ابتياعا،
واستباع استباعة، وبايعه مبايعة، وتبايعوا تبايعا، والبيع: نقيض الشراء والبيع
أيضا الشراء لأنه تارة عقد على الاستبدال بالثمن، وتارة على الاستبدال بالمتاع.
والبيعة الصفقة على ايجاب البيع. والبيعة الصفقة على ايجاب الطاعة. والبيعان البائع
305

والمشتري. والبيعة كنيسة النصارى وجمعها بيع.
وقوله: " لا خلة ". فالخلة خالص المودة. والخلل: الافراج بين الشيئين. وخللته بالخلال
أخله خلا: إذا صككته به واختلت حاله اختلالا، لانحرافه بالفقر. وتخلل الطرق تخللا
إذا قطع فرجة بعد فرجة. وأخل به إخلالا، وخاله يخاله مخالة: إذا صافاة المودة.
والخل معروف لتخلله بحدته، ولطفه فيما ينساب فيه. والخل: الرجل الخفيف
الجسم. والخل: الطريق في الرمل. والخل: عرق في العنق يتصل بالرأس. والخليل:
الخالص المودة من الخلة، لأنه من تخلل الاسرار بينهما. وقيل لأنه يمتنع من الشوب
- في المودة بالنقيصة - والخليل أيضا: المحتاج من الخلة. والخلة: جفن السيف.
وفي فلان خلة: أي خصلة. والخلة خلاف الحصن لأنه مرعى بتخلله الماشية للاعتداء
به. وخلل أصابعه تخليلا. وقوله تعالى: " فترى الودق يخرج من خلاله " (1)
وقوله: " فجاسوا خلال الديار " (2) والخلال: البلج. وأصل الباب: الخلل:
الانفراج.
المعنى:
وقوله: " ولا شفاعة " وإن كان على لفظ العموم فالمراد به الخصوص بلا
خلاف، لان عندنا قد تكون شفاعة في اسقاط الضرر. وعند مخالفينا في الوعيد
قد يكون في زيادة المنافع فقد أجمعنا على ثبوت شفاعة وإنما ننفي نحن الشفاعة قطعا
عن الكفار. ومخالفونا عن كل مرتكب كبيرة إذا لم يتب منها.
وقوله: " والكافرون هم الظالمون " إنما ذم الله تعالى الكافر بالظلم وإن كان
الكفر أعظم منه لامرين:
أحدهما - للدلالة على أن الكافر قد ضر نفسه بالخلود في النار، فقد ظلم نفسه.

(1) سورة النور آية: 43، وسورة الروم آية: 48.
(2) سورة الاسرى آية: 5.
306

والاخر - أنه لما نفى البيع في ذلك اليوم والخلة والشفاعة، قال وليس ذلك بظلم منا،
بل الكافرون هم الظالمون، لأنهم عملوا ما استحقوا به حرمان الثواب.
قوله تعالى:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا
نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده
إلا باذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون
بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا
يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم (255) آية واحدة (1).
الاعراب:
" الله " رفع بالابتداء " ولا إله إلا هو الحي القيوم " خبره. والكلام مخرجه مخرج
النفي أن يصح إله سوى الله. وحقيقة الاثبات الا له واحد هو الله. كأنه قيل الله
الا له دون غيره. وارتفع هو في لا إله إلا هو على أحد وجهين:
أحدهما - بالابتداء كأنه قال ما إله إلا الله.
والثاني - أن يكون بدلا كأنه قال ما إله ثابتا إلا الله. ويجوز في العربية لا إله
إلا الله بالنصب على الاستثناء. وفيه دلالة على الامر باخلاص العبادة لله تعالى.
اللغة، والمعنى
والحي هو من كان على صفة لا يستحيل معها كونه عالما قادرا، وان شئت قلت:
هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يدرك المدركات، إذا وجدت. والقيوم
أصله قيوم على وزن فيعول. إلا أن الياء الساكنة إذا كانت بعدها واو متحركة
قلبت ياء وأدغمت فيها قياسا مطردا. والقيام أصله قيوام على وزن فيعال.
وقيل في معنى القيوم، أربعة أقوال:

(1) وفي مجمع البيان والمصحف الهاشمي آيتان، وفي أكثر التفاسير آية واحدة.
307

أحدها - قال الحسن إنه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها
من حيث هو عالم لا يخفى عليه شئ منه.
الثاني - قال سعيد بن جبير: إن معناه الدائم الوجود.
الثالث - قال قتادة: معناه: القائم بتدبير خلقه.
الرابع - قال قوم: إن معناه العالم بالأمور من قولهم: فلان قيوم هذا
الكتاب أي هو عالم به. وكل هذه الوجوه تحتمل. وقال أمية بن أبي الصلت:
لم تخلق السماء والنجوم * والشمس معها قمر يقوم
قدره المهيمن القيوم * والحشر والجنة والجحيم
إلا لامر شأنه عظيم (1)
وقوله: " لا تأخذه سنة ولا نوم " فالسنة النوم بلا خلاف قال عدي
ابن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت * في عينه سنة وليس بنائم (2)
فالسنة الثقلة من النعاس، تقول: وسن فلان وسنا إذا أخذته سنة النعاس،
وقد علته وسنة، ورجل وسنان ووسن، وامرأته وسنانة، ووسنى، وأصل الباب:
النعاس. والنوم الاستثقال في النوم، تقول نام ينام نوما وأنامه إنامة، ونومه
تنويما وتناوم تناوما، واستنام إليه: إذا استأنس إليه، واطمأن إلى ناحيته، لان
حاله معه كحالة النائم في المكان أنسا به وأصل الباب النوم خلاف اليقظة.
وقوله: " ما في السماوات وما في الأرض " معناه أن أحدا ممن له شفاعة
لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله له في ذلك ويأمره به، فأما أن يبتدئ أحد بالشفاعة
من غير إذن، كما يكون فيما بيننا، فليس ذلك لاحد.

(1) ديوانه: 57، وتفسير أبي حيان 25: 277 ورواية أبي حيان (قمر يعوم)
بدل (قمر يقوم) وفي تفسير الطبري قد اجتهد محققه فأخطأ، لأنه أثبت (والجسر) بدل (والحشر)
راجع صفحة 388 من المجلد الخامس في تفسير الطبري.
(2) الشعر والشعراء: 602، واللسان " وسن "، "؟ ".
308

وقوله: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " قال: ابن جريج ومجاهد والسدي:
معناه ما مضى من الدنيا وما خلفهم من الآخرة.
وقوله: " ولا يحيطون بشئ من علمه " معناه من علومه، كقول القائل:
اللهم اغفر لنا علمك فينا، فإذا ظهرت آية يقولون قدرة الله أي مقدور الله وقوله:
" وسع كرسيه " قال ابن عباس كرسيه: علمه وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي
عبد الله (ع). وقال الحسن: الكرسي هو العرش. وقيل: هو سرير دون العرش
وقد روي ذلك عن أبي عبد الله (ع). وقيل: أصل ملكه. وكل ذلك محتمل.
أما العلم، فلانه يقال للعلماء الكراسي، لأنهم المعتمد كما يقال: هم أوتاد الأرض،
وهم الأصل الذي يعتمد عليه. ويقال لكل أصل يعتمد عليه. كرسي قال الشاعر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة * كراسي بالاحداث حين تنوب (1)
أي علماء بحوادث الأمور. وقال آخر:
نحن الكراسي ما تعد هوازن * أفعالنا في النائبات ولا أسد
وقال آخر:
مالي بأمرك كرسي كاتمه * وهل بكرسي علم الغيب مخلوق
وكل شئ تراكب فقد تكارس تكارسا، ومنه الكراسة لتراكب بعض
ورقها على بعض قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا * قال نعم أعرفه وأبلسا (2)
أي تكارس عليه التراب، فغطاه، والكرس البعر والبول: إذا تلبد بعضه
على بعض، والاكارس الجموع الكثيرة، لا واحد له، لأنه بكثرته بمنزلة ما تراكب
بعضه على بعض. ورجل كروس شديد الرأس، لأنه تضاعف القوى كتراكب
الشئ بعضه على بعض، والكرياس: كنيف في أعلى السطح بقناة إلى الأرض، لتراكب

(1) أساس البلاغة (كرس).
(2) ديوانه؟: 31، والكامل 1: 252، واللسان (بلس)، (كرس). يقال:
ابلس الرجل أي سكت عما في نفسه، وانكر وتحير، ولم ينطق. قد مر في 1: 153
309

بعض ابنيته على بعض، وسمي الكرسي بذلك، لتركيب بعضه على بعض. ويقال:
كرسي الملك من مكان كذا إلى مكان كذا أي ملكه تشبيها بالكرسي المعروف.
وكرس يكرس كرسا، وأكرس إكراسا، وتكارس تكارسا، وتكرس تكرسا،
وكرسه تكريسا، وأصل الباب الكرس: تراكب الشئ بعضه على بعض.
والوجه في خلق الكرسي إذا قلنا: أنه جسم هو أن الله تعبد تحمله الملائكة
والتعبد عنده كما تعبد البشر بزيادة، ولم يخلقه ليجلس عليه، كما تقول المجسمة.
واختاره الطبري، لأنه عز وجل يتعالى عن ذلك، لان ذلك من صفات الأجسام
ولو احتاج إلى الجلوس عليه، لكان جسما ومحدثا وقد ثبت قدمه.
وقوله: " ولا يؤوده حفظهما " أي لا يثقله، والهاء في يؤوده راجعة إلى الله
وقيل إنها عائدة إلى الكرسي. والاود مصدر، آده يؤوده أودا وأيادا إذا أثقله
وجهده، وأودت العود فأنا آوده أودا، فانآد ومعناه عجته فانعاج، لأنه اعتمد
عليه بالثقل حتى مال، والأود، والأوداء على وزن أعوج وعوجاء والمعنى واحد
والجمع الأود بوزن العوج وأصل الباب الثقل.
وقوله: " وهو العلي العظيم " فالعلى يعنى بالاقتدار ونفوذ السلطان. ويقال
علا بالاقتدار، ولا يقال رفيع، لان الرفعة من المكان، والعلو منقول إلى معنى
الاقتدار يوضح ذلك قولهم: علا قرنه بمعنى اقتدر ولا يقال ارتفع عليه بمعنى اقتدر
وكذلك استعلى عليه بالحجة، ولا يقال ارتفع عليه بالحجة. وتقول: علا يعلو علوا
وأعلى إعلاء وعلى تعلية واستعلى استعلاء. وتعلى تعليا. وتعالى تعاليا واعتلاه
اعتلاء، وعالى معالاة. والعلو - بضم العين وكسرها - نقيض السفل، والعلو التجبر،
ومنه قوله تعالى: " إن فرعون علا في الأرض " (1) أي تجبر، لأنه طلب
الاستعلاء على الناس بالسلطان والقهر. والله العالي والمتعالي أي القادر القاهر، لأنه
عال بالاقتدار، لأنه لا يعجزه شئ والعالية: القناة المستقيمة، لاستمرارها في جهة
العلو. وفلان من علية الناس أي من أشرافهم، لأنه علا بشرفه. والعلية: الغرفة

(1) سورة القصص آية: 4.
310

وأصل الباب العلو. والعظيم معناه عظيم الشأن بأنه قادر، ولا يعجزه شئ، وعالم
لا يخفى عليه شئ، فلا نهاية لمقدوره ومعلومه، وقال قوم: العظيم بمعنى المعظم كما
قالوا في الخمر العتيقة معتقة، والأول أقوى لان على هذا كان يجب ألا يوصف بأنه
عظيم فيما لم يزل وقد علمنا خلافه.
قوله تعالى:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر
بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام
لها والله سميع عليم (256) آية واحدة.
المعنى:
قيل في معنى قوله: " لا إكراه في الدين " أربعة أقوال: أولها - قال
الحسن وقتادة والضحاك: إنها في أهل الكتاب خاصة الذين يؤخذ منهم الجزية.
الثاني - قال السدي وابن زيد: إنها منسوخة بالآيات التي أمر فيها بالحرب نحو
قوله: " واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (1) وقوله: " فإذا لقيتم الذين
كفروا فضرب الرقاب " (2). والثالث - قال ابن عباس وسعيد بن جبير: إنها
نزلت في بعض أبناء الأنصار وكانوا يهودا فأريد إكراههم على الاسلام. الرابع -
قيل " لا إكراه في الدين " أي لا تقولوا لمن دخل فيه بعد حرب إنه دخل مكرها،
لأنه إذا رضي بعد الحرب، وصح اسلامه فليس بمكره، فان قيل كيف تقولون
" لا إكراه في الدين " وهم يقتلون عليه! قلنا المراد بذلك لا إكراه فيما هو دين
في الحقيقة، لان ذلك من أفعال القلوب إذا فعل لوجه بوجوبه، فأما ما يكره عليه
من إظهار الشهادتين، فليس بدين، كما أن من أكره على كلمة الكفر لم يكن كافرا.
وقوله: " قد تبين الرشد من الغي " معناه قد ظهر بكثرة الحجج، والآيات

(1) سورة النساء آية: 88.
(2) سورة محمد آية: 4
311

الدالة لانضمام ما أتى الرسول فيه إلى ما في الفعل منه والألف واللام في قوله " في
الدين " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون مثل قوله " فان الجنة هي المأوى " (1) بمعنى هي مأواه
فكذلك " لا إكراه في الدين " أي في دينه، لأنه قد تقدم ذكر الله كأنه قال:
" لا إكراه في دين " الله.
والثاني - لتعريف دين الاسلام.
اللغة، والمعنى:
والغي ضد الرشد، تقول غوى يغوي غيا وغواية: إذا سلك خلاف طريق
الرشد، وغوى: إذا خاب قال الشاعر:
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (2)
أي من يخب. وغوى الفصيل يغوي غيا: إذا قطع عن اللبن حتى يكاد يهلك
وقوله: " رب بما أغويتني " (3) يحتمل أمرين: أحدهما - خيبتني. الثاني -
بما حكمت بغوايتي، ومنه قوله: " أغويناهم كما غوينا تبر أنا إليك " (4) والأصل
الغي سلوك طريق الهلاك.
وقوله: " ومن يكفر بالطاغوت " قيل فيه خمسة أقوال: أحدها - ما روي
عن عمر، ومجاهد، وقتادة: أنه الشيطان الثاني - قال سعيد بن جبير: هو الكاهن.
الثالث - قال أبو العالية: هو الساحر. والرابع - قال قوم: هم مردة الجن والإنس.
الخامس - قال بعضهم: هي الأصنام. وأصل طاغوت من الطغيان، ووزنه فعلوت نحو
جبروت، وتقديره: طيغوت إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين، كما قيل صاعقة

(1) سورة النازعات آية: 41.
(2) قائله المرقش الأصغر وصدره:
من يلق خيرا يحمد الناس أمره
العقد الفريد 2: 176، 3: 77، 5: 339.
(3) سورة الحجر آية: 39
(4) سورة القصص آية: 36.
312

وصاعقة، ثم قلبت ألفا لوقوعها في موضع حركة، وانفتاح ما قلبها.
ومعنى (يؤمن بالله) يصدق بالله.
وقوله (فقد استمسك بالعروة الوثقى) فالعروة الوثقى الايمان بالله، عن
مجاهد، وجرى ذلك مجرى المثل لحسن البيان باخراج مالا يقع به الاحساس إلى
ما يقع به (1) والعروة: عروة الدلو ونحوه لأنها متعلقة، وعروت الرجل، أعروه
عروا: إذا ألممت به متعلقا بسبب منه، واعتراه (2) يعتريه: إذا تعلق به، وعرته الحمى
تعروه: إذا علقت به وعراه يعريه إذا اتخذ له عروة. وأصل الباب التعلق. وقال
الأزهري العروة: كل نبات له أصل ثابت، كالشيح والقيصوم، وغيره. شبهت
عرى الأشياء في لزومها.
وقوله: " لا انفصام لها " أي لا انقطاع لها - في قول السدي -. والانكسار،
والانفصام والانصداع والانقطاع نظائر. قال أعشى بني ثعلبة.
ومبسمها عن شتيت النبأت * غير أكس ولا منفصم (3)
وانفصم انفصاما: إذا انصدع، وفصمته تفصمه فصما: إذا صدعته من غير
أن تكسره، وأصل الباب: الفصم، كصدع الزجاج.
قوله تعالى:
(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى
الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (257) آية.
المعنى، واللغة:
معنى (ولي الذين آمنوا) نصيرهم، ومعينهم في كل ما بهم إليه الحاجة (4)،

(1) به ساقطة من المطبوعة.
(2) في المطبوعة اعتراءهم.
(3) ديوانه: 35 رقم القصيدة 4. الشتيت: المتفرق المفلج من الأسنان الكسس:
قصر الأسنان. في المطبوعة " عرائس " بدل " غير أكس " وروايته: (منقضم).
(4) هذا ما استنبطناه وفي المطبوعة (كلماتهم إليه الحاجة).
313

فيه صلاح لهم في دينهم ودنياهم وإنما يوصف بالولي من كان أولى بغيره
وأحق بتدبيره. ومنه الوالي، لأنه يلي القوم بالتدبير والامر، والنهي، ومنه
المولى من فوق، لأنه يلي أمر العبد بسد الخلة، وما به إليه الحاجة، ومنه المولى
من أسفل لأنه يلي أمر المالك بالطاعة، والمولى ابن العم لأنه يلي أمره بالنصرة
لتلك القرابة، وولي اليتيم لأنه يلي أمر ماله بالحفظ له والقيام عليه. والولي في
الدين وغير، لأنه يلي أمره بالنصرة والمعونة لما توجبه الحكمة، والمعاقدة لجميع
هذه المواضع الأولى والاحق ملحوظ فيه. وولى: إذا ادبر عن الشئ لأنه زال
عن أن يليه بوجهه واستولى على الشئ: إذا احتوى عليه، لأنه وليه بالقهر.
والله تعالى يتولى المؤمنين على ثلاثة أوجه: يتولاهم بالمعونة على إقامة الحجة،
ويتولاهم بالنصرة لهم في الحرب حتى يغلبوا، ويتولاهم بالمثوبة على الطاعة.
وقوله (يخرجهم من الظلمات إلى النور). ومعناه: من ظلمات الكفر
إلى نور الايمان، لأنه الكفر كالظلمة في المنع من إدراك الحق كما أن الظلمة مانعة
من إدراك البصر. وقال قتادة: يخرجهم من ظلمة الضلالة إلى نور الهدى، وهذا
قريب من الأول، ووجه إخراج الله تعالى المؤمنين من ظلمات الكفر والضلال
إلى نور الايمان باهدائهم إليه، ونصب الأدلة لهم، وترغيبهم فيه، وفعله بهم من
الألطاف ما يقوي دواعيهم إلى الايمان، فإذا اختاروا هم الايمان، فكأن الله
أخرجهم منها، ولم يجز أن يقال: إنه أخرج الكفار من الظلمات إلى النور من
حيث قدرهم على الايمان، ودعاهم إليه ورغبهم فيه، كما فعل بالمؤمنين، لأنهم
لم يختاروا الايمان، فلم يجز أن يقال: إنه أخرجهم منه لأنه توهم أنهم فعلوا
الايمان. وقوله: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى
الظلمات) إنما أضاف إخراجهم " من النور " الذي هو الايمان إلى الكفر إلى
الطاغوت، لما كان ذلك باغوائهم، ودعائهم، وإنما كفروا عند ذلك، فأضاف ذلك
إليهم، فهو عكس الأول. فان قيل: كيف " يخرجونهم من النور " وما دخلوا فيه؟
314

قلنا عنه جوابان:
أحدهما - إن ذلك يجري مجرى قولهم: أخرجني والدي من ميراثه. ولم
يدخل فيه، وإنما ذلك لأنه لو لم يفعل ما فعل، لدخل فيه، فهو لذلك بمنزلة الداخل
فيه الذي أخرج منه. قال الغنوي:
فان تكن الأيام أحسن مرة * إلي فقد عادت لهن ذنوب (1)
ولم يكن لها ذنوب قبل ذلك.
والوجه الثاني - قال مجاهد: إنه في قوم ارتدوا عن الاسلام، والأول
أليق بمذهبنا، لان عندنا لا يجوز أن يرتد المؤمن على الحقيقة، وإنما قال
" يخرجونهم " على لفظ الجمع. فإن كان الطاغوت واحدا لأنه في معنى جميع كما
قال العباس بن مرداس:
فقلنا: أسلموا انا أخوكم * فقد برئت من الإحن الصدور (2)
وإنما جاز ذلك في الخفض، لان كل واحد يقوم مقام الاخر فصار ذكر
واحد ينوب عن جميعه، فأما ما يميز بالخلقة وصار بمنزلة الأشياء المختلفة فقياسه
أن يجمع، كرجل ورجال. وإنما حسن في الطاغوت، لان جميعه يجري مجرى واحد
في الضلال.
وفي الآية دليل على فساد قول المجبرة في المخلوق، والإرادة، لأنه تعالى
نسب الاخراج من نور الهدى إلى ظلمة الكفر والضلال إلى الطاغوت منكرا لتلك
الحال، ولم يكن لينكر شيئا أراده ولا يغيب شيئا عنه فعله (تعالى الله) عن ذلك.
قوله تعالى:
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال

(1) قائله كعب الغنوي من قصيدة يرثي بها أخاه أبا المغوار العقد الفريد 3: 217.
وروايته " لقد " بدل " فقد ".
(2) سيرة ابن هشام 4: 95، واللسان " أخو " ومجاز القرآن 1. 97 من قصيدة
له في يوم حنين، وفي هزيمة هوزان يذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه. و؟؟
احنة: وهي الحقد.
315

إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فان
الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر
والله لا يهدي القوم الظالمين) (258) آية.
القراءة:
قرأ أهل المدينة " أنا أحيي وأميت " باثبات الألف إذا كان بعدها همزة
مضمومة أو مفتوحة. فإن كان بعدها همزة مكسورة حذفوها إجماعا.
المعنى:
قال مجاهد، وقتادة والربيع: إن المحاج لإبراهيم كان نمرود بن كنعان (1)
وهو أول من تجبر في الأرض بادعاء الربوبية. وقوله: (ألم تر إلى) دخلت إلى
الكلام للتعجب من حال الكافر المحاج بالباطل، كما يقولون: أما ترى إلى فلان
كيف يصنع، وفيه معنى هل رأيت كفلان في صنيعه كذا، وإنما دخلت (إلى)
لهذا المعنى من بين حروف الجر، لان إلى لما كانت نهاية صارت بمنزلة هل انتهت
رؤيتك إلى من هذه صفته لتدل على بعد وقوع مثله على التعجب منه، لان
التعجب إنما يكون مما استبهم شبيه بما لم يجز عادة به، وقد صارت إلى ههنا بمنزلة
كاف التشبيه من حروف الإضافة، لما بينا من العلة إذ كان ما ندر مثله كالذي يبعد
وقوعه.
وقوله: (أن آتاه الله الملك) معناه أعطاه والهاء في " آتاه " قال الحسن وأبو
علي: إنها كناية عن المحاج لإبراهيم. وقال أبو حذيفة والبلخي إنها عائدة إلى إبراهيم.
فان قيل: كيف يجوز أن يؤتي الله الكافر الملك؟ قيل: الملك على وجهين:
أحدهما - يكون بكثرة المال واتساع الحال، فهذا يجوز أن ينعم الله (عز
وجل) به على أحد من مؤمن وكافر، كما قال في قصة بني إسرائيل: " وجعلكم

(1) ابن كوش بن سام بن نوح. وقيل: انه نمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن
ارفخشذ بن سام بن نوح.
316

ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " (1).
والثاني - ملك بتمليك الأمر والنهي والتدبير لأمور الناس، فهذا لا يجوز
أن يجعله الله لأهل الضلال لما فيه من الاستفساد بنصب من هذا سبيله للناس،
لأنه لا يصح مع علمه بفساده إرادة الاستصلاح به كما يصح منا فيمن لا يعلم باطن
حاله ممن يؤمن علينا. ومن قال الهاء كناية عن إبراهيم (ع) لم يتوجه عليه السؤال،
لأنه تعالى لم يؤت الكافر الملك، وإنما آتى نبيا مرسلا.
وقوله (إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت) معناه يحيي الميت ويميت
الحي، فقال الكافر عند ذلك: أنا أحيي وأميت، يعنى أحييه بالتخلية من الحبس
ممن وجب عليه القتل وأميت بالقتل من شئت ممن هو حي، وهذا جهل منه،
لأنه اعتمد في المعارضة على العبارة فقط دون المعنى، عادلا عن وجه الحجة بفعل
الحياة للميت أو الموت للحي على سبيل الاختراع كما يفعله الله (تعالى) من إحياء
من قتل أو مات ودفن وذلك معجز لا يقدر عليه سواه، فقال إبراهيم (إن الله
يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) ولم يكن ذلك انتقالا من إبراهيم من
دليل إلى دليل آخر من وجهين:
أحدهما - أن ذلك يجوز من كل حكيم بعد تمام ما ابتداء به من الحجاج،
وعلامة تمامه ظهوره من غير اعتراض عليه بشبهة لها تأثير عند التأمل، والتدبر
لموقعها من الحجة المعتمد عليها.
الثاني - أن إبراهيم إنما قال ذلك ليتبين أن من شأن من يقدر على إحياء
الأموات وإماتة الاحياء، أن يقدر على الاتيان بالشمس من المشرق، فان كنت
قادرا على ذلك فأت بها من المغرب " فبهت الذي كفر " وإنما فعل ذلك، لأنه لو
تشاغل معه بأني أردت اختراع الحياة والموت من غير سبب ولا علاج لاشتبه على
كثير ممن حضر، فعدل إلى ما هو أوضح وأكشف، لان الأنبياء (ع) إنما
بعثوا للبيان والايضاح، وليس أمورهم مبنية على بناء الخصمين إذا تحاجا، وطلب

(1) سورة المائدة آية 22.
317

كل واحد غلبة خصمه، فلذلك فعل إبراهيم (ع) ما فعل وقد روي عن أبي
عبد الله (ع) أن إبراهيم قال له: أحيي من قتلته إن كنت صادقا، ثم استظهر
عليه بما قال.
اللغة:
والشمس معروفة وجمعها شموس، وقد شمس يومنا يشمس شموسا، فهو
شامس: إذا اشتدت شمسه، وكذلك أشمس. وشمس الفرس شماسا، فهو شموس،
إذا اشتد نفوره، لأنه كاشتداد الشمس في اليوم ما يكون من زيادة حرها،
وتوقدها. وشمس فلان إذا اشتدت عداوته. قال الشاعر:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم * وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا (1)
والشمس في القلادة وغيرها: دائرة مشرقة كالشمس. وشمس الشئ تشميسا
إذا ألقاه في الشمس، وتشمس تشمسا: إذا قعد في الشمس.
المعنى:
وقوله: (فبهت الذي كفر) معناه تحير عند الانقطاع بما بان من ظهور
الحجة. فان قيل هلا قال لإبراهيم. فليأت ربك بها من المغرب؟ قلنا عن ذلك جوابان:
أحدهما - أنه لما علم بما رأى من الآيات منه أنه لو اقترح ذلك لفعل الله ذلك
فتزداد نصيحته، عدل عن ذلك، ولو قال ذلك واقترح لاتى الله بالشمس من المغرب
تصديقا لإبراهيم (ع).
والجواب الثاني - أنه (تعالى) خذله عن التلبيس والشبهة.
اللغة:
وفي بهت ثلاث لغات: بهت على لفظ القرآن، وبهت وبهت على وزن ظرف
وحذر، وحكي بهت على وزن ذهب والبهت: الحيرة عند استيلاء الحجة، لأنها
كالحيرة للمواجهة بالكذب، لان تحير المكذب في مذهبه كتحير المكذوب عليه،

(1) قائله الأخطل. اللسان " شمس ".
318

ومنه قوله: (أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (1) كأنه قال أتأخذونه ادعاء للكذب
فيه. وفي إبراهيم خمس لغات إبراهيم، وابراهام، وابراهم، وابراهم، وابراهم
باسقاط الياء وتعاقب الحركات الثلاث عليه.
المعنى:
وقوله (والله لا يهدي القوم الظالمين) لا يعارض قوله: (وأما ثمود
فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (2) لان الهدى يتصرف على وجوه وأصله واحد
وهو الدلالة على الطريق المؤدي إلى البغية والله (تعالى) قد هدى جميع المكلفين
بأن دلهم على طريق الحق وخص المؤمنين في هدايته لهم بالمعونة على سلوك طريق
الحق، لأنه بمنزلة الدلالة على طريق الحق والله (تعالى) لا يهدي للمعونة على بلوغ
البغية في فساد القوم الظالمين. وفي الآية دلالة على فساد (3) قول من يقول:
المعارف ضرورة، لأنها لو كانت ضرورة لما حاج إبراهيم الكافر، ولاذكر له الدلالة
على إثبات الصانع، وفيها دلالة على فساد التقليد وحسن المحاجة والجدال، لأنه
لو كان ذلك غير جائز لما فعل إبراهيم (ع) ذلك.
قوله تعالى:
(أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى
يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت
قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام فانظر إلى
طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية
للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين
له قال اعلم أن الله على كل شئ قدير) (259) آية واحدة.

(1) النساء آية: 19.
(2) حم السجدة آية: 17.
(3) " على فساد " ساقطة من المطبوعة.
319

القراءة:
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب. والكسائي عن أبي بكر
(يتسن) بحذف الهاء وفي الوقف باثباتها بلا خلاف. قرأ ابن عامر وأهل الكوفة
(ننشزها) بالزاي الباقون بالراء. وقرأ حمزة والكسائي (قال اعلم) بهمزة موصولة
الباقون بقطعها.
الاعراب:
هذه الآية معطوفة على الآية الأولى وتقديره أرأيت ك‍ (الذي حاج إبراهيم
في ربه) وك‍ (الذي مر على قرية) وموضع الكاف نصب ب‍ (تر) ومعناه التعجب
منه لان كلما خرج في بابه يعظمه عن حد نظائره مما يتعجب منه نحو (ما أجهله)
أي قد خرج بعظم جهله عن حد نظائره، وكذلك لو قلت: هل رأيت كزيد
الجاهل، لدللت على مثل الأول في التعجب، لما بينا إلا أن (ما أفعله) صيغة
موضوعة للتعجب، وليس كذلك هل رأيت لأنها في الأصل للاستفهام،
ونحو قولك: هل رأيت في الدنانير مثل هذا الدينار فهذا استفهام محض لا تعجب فيه،
لان أمثاله كثير، فلم يخرج بعظم حاله عن حد نظائره، كما خرج الأول بعظم
جهله. وقيل: الكاف زائدة للتوكيد، كما زيدت في ليس كمثله شئ والأول الوجه،
لأنه لا يحكم بالزيادة إلا للضرورة.
المعنى:
وقال قتادة والربيع: الذي مر على قرية هو عزير، وروي ذلك عن أبي
عبد الله (ع). وقال وهب بن منبه: هو أرميا، وهو المروي عن أبي جعفر (ع). وقال
ابن إسحاق: هو الخضر، والقرية التي مر عليها. قال وهب بن منبه، وقتادة،
والربيع هي بيت المقدس لما خر به بخت نصر، وقال ابن زيد: هي القرية التي خرج
منها الألوف (حذر الموت). وقوله: (وهي خاوية) معناه خالية. وقال ابن
عباس، والربيع، والضحاك خراب. قال قوم: معناه وهي قائمة على أساسها وقد وقع
320

وقد وقع سقفها. وأصل الخواء (1) الخلاء قال الراجز:
يبدو خواء الأرض من خوليه (2)
والخواء: الفرجة بين الشيئين يخلو ما بينهما. وخوت الدار فهي خاوية.
تخوي خواء. إذا باد أهلها بخلوها منهم والخوى: الجوع، خوى يخوى خوى: يخلو
البطن من الغذاء. والتخوية التفريح بين العضدين والجبينين يخلو ما بينهما بتباعدهما.
والتخوية تمكين البعير لنفسه في بروكه، لأنه تفحصه الأرض بخلوها مما يمنع
من تمكنه. واخواء النجم: سقوطه من غير مطر بخلوه من المطر. خوى النجم
واخوى. وخوى المنزل إذا تهدم، لأنه بتهدمه يخلو من أهله وأصل الباب الخلو.
وقوله: (على عروشها) يعني على أبنيتها ومنه " وما كانوا يعرشون " (3)
أي يبنون. ومنه عريش مكة: أبنيتها وخيامها، وكل بناء: عرش، عرش يعرش
ويعرش عرشا: إذا بنى. والعرش البيت، وجمعه عروش لارتفاع أبنيته.
والعرش: السرير، لارتفاعه على غيره. وعرش الرجل: قوام أمره وعرش البيت:
سقفه، لارتفاعه. والتعريش جعل الخشب تحت الكرم ليمتد عليه. تقول:
عرشته تعريشا. وعرشته أعرشه عرشا. وذلك، لارتفاعه في امتداده على الخشب
الذي تعمده. والتعريش رفع الحمار رأسه شاحيا فاه على عانته، عرش بعانته
تعريشا. والعريش ظلة من شجر أو نحوه، لارتفاعه على ما يستره. وعرش البئر
طيها بالخشب بعد طيها بالحجارة. والعرشان من الفرس: آخر شعر العرف لارتفاع
العرف على العنق. وثل عرشه: إذا قتله. وأصل الباب: الارتفاع.
والقرية أصلها من قريت الماء: إذا جمعته، سميت بذلك لاجتماع الناس
فيها للإقامة بها.
المعنى:
وقوله " انى يحيى هذه الله بعد موتها " معناه كيف، وذلك يدل على أن

(1) في المطبوعة (الخوأ)
(2) في المطبوعة (خو)
(3) سورة الأعراف آية: 36:
321

" انى ". في قوله (فأتوا حرثكم أنى شئتم) (1) معناه كيف شئتم دون
ما قاله بعضهم من أن معناه حيث شئتم، لان معناه هاهنا لا يكون إلا على كيف.
ولقائل أن يقول: إن اللفظ مشترك. وإنما يستفاد بحسب مواضعه. وقال الزجاج:
معناه من أين في الموضعين.
وقوله (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) قال أبو علي لا يجوز أن يكون
الذي أماته ثم أحياه نبيا لان الله تعالى عجب منه ولولا ذلك، لجاز أن يكون
نبيا على أنه شك في ذلك قبل البلوغ لحال التكليف، ثم نبي في ما بعده، وعلى
هذا لا يمتنع أن يكون نبيا في ما تقدم. والأول أقوى، وأقرب. ويجوز
هذه الآية أن تكون في غير زمان نبي. وقال الجبائي: لا يجوز ذلك لان
المعجزات لا تجوز إلا للأنبياء لأنها دالة عليهم. فلو وقعت المعجزة في غير
زمن نبي لم يكن وقوعها دليلا على النبوة، وهذا ليس بصحيح - عندنا - لان
المعجزات تدل على صدق من ظهرت على يده، وربما كان نبيا وربما كان إماما
أو وليا لله، وما روي أن الحياة جعلت في عينيه أولا، ليرى كيف يحيي الله
الموتى لا يجوز، لان الرأي هو الانسان بكماله غير أنه يجوز أن يكون أول
ما نفخ فيه الروح عيناه، وتكون الحياة قد وجدت في جميع الروح، ولم
يحصل في البدن من الروح إلا ما في العينين دون ما في البدن.
اللغة، والمعنى:
وقوله: (مئة عام) معناه مئة سنة، والعام جمعه أعوام، وهو حول يأتي
بد شتوة وصيفة، لان فيه سبحا طويلا بما يكن من التصرف فيه. والعوم:
السباحة. عام في الماء يسوم عوما: إذا سبح. والسفينة تعوم في جريها.
والإبل تعوم في سيرها، لأنها تسبح في السير بجريها. والاعتيام: اصطفاء
خيار مال الرجل ليجري (2) في أحده له شيئا بعد شئ كالسابح في الماء الجاري

(1) سورة البقرة آية 205
(2) في المطبوعة (لا يجري)
322

واعتام الموت النفوس أولا أولا، لأنه يجري في أحدها حالا بعد حال
كجري السابح في الماء، وأصل الباب السبح.
وقوله: (ثم بعثه) يعني أحياه. وقوله: (كم لبثت) موضع نصب بلبثت،
كأنه قيل: أمائة سنة لبثت أو أقل أو أكثر؟ فقال (لبثت يوما أو بعض يوم)
لان الله تعالى أماته في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار، فقال:
" يوما " ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال " أو بعض يوم ". واللبث
المكث، لبث لبثا فهو لابث وتلبث تلبثا إذا تمكث ولبثه تلبيثا، وأصل
الباب المكث.
وقوله: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) معناه لم تغيره السنون.
وقيل: كان زاده عصيرا وتينا وعنبا، فوجد العصير حلوا، والتين، والعنب كما
جناه لم يتغير، أو هو مأخوذ من السنة، والأصل فيه على قولهم: سانيته
مساناة إذا عاملته سنة سنة أن يكون في الوصل لم يتسن، نحو لم يتعد، والأصل
الواو، بدليل قولهم سنوات فإذا وقف جاء بهاء السكت، ويجوز أن يكون على
قولهم: سانهة وسنهات، واكتريت مسانهة. والهاء على هذا أصلية مجزومة بلم،
ولا يجوز أن يكون من الاسن، لأنه لو كان منه لقيل لم يتأسن. قال الزجاج
لا يجوز أن يكون من قوله: " من حمأ مسنون " (1) لان معنى مسنون
منصوب على سنة الطريق قال الشاعر:
ليست بسنهاء ولا رجبية * ولكن عرايا في السنين الجوائح (2)
فجعل الهاء أصلية. والسنهاء: النخلة القديمة، لأنه قد مرت عليها سنون

(1) سورة الحجر آية:؟ 2، 28، 33
(2) قائله سويد بن الصامت الأنصاري وقيل أحيحة بن الجلاح. اللسان (عرا)،
(خور)، (رحب)، (قرح)، (سنه) وأمالي القالى 1: 21. الرجية - بضم الراء
وتشديد الجيم المفتوحة أو فتحها بغير تشديد -: نسبة شاذة إلى؟ - ضم فسكون -: البناء
تحت النخلة الكريمة لدعمها إذا خيف عليها لكثرة حملها والعرايا جمع عرية وهي التي يوهب
ثمرها في عامها. الجوائح: السنين المجدبة.
323

كثيرة. وإنما علم بأنه مات مائة سنة بشيئين:
أحدهما - باخبار من أراه المعجزة في نفسه وحماره وطعامه، وشرابه من
تقطع أوصاله، ثم اتصال بعضها إلى بعض حتى رجع إلى حاله التي كان عليها
في أول أمره.
والاخر - بالآيات الدالة على ذلك لما رجع إلى وطنه فرأى ولد ولده شيوخا
وقد كان خلف أباهم شبابا إلى غير ذلك من الأمور التي تغيرت، والأحوال
التي تقلبت مع تظاهر الاخبار عما يسأل عنه أنه كان في مائة سنة.
وقوله: (ولنجعلك آية للناس) قيل بعث وأولاد أولاده شيوخ.
وروي عن علي (ع) أن عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة.
فأماته الله مائة سنة، ثم بعثه فرجع إلى أهله ابن خمسين سنة وله ابن له مائة
سنة، فكان ابنه أكبر منه، وذلك من آيات الله. وقيل: لتتعظ أنت ويتعظ
الناس بك، فيكون الاعتبار عاما. ودخلت الواو في الكلام لاتصال اللام بفعل
محذوف كأنه قال: ولنجعله آية للناس. فعلنا ذاك، لان الواو لو سقطت اتصلت
اللام بالفعل المتقدم.
وقوله: (وانظر إلى حمارك) فالحمار يقال للوحشي والأهلي لان الحمرة
أغلب على الوحشي ثم صار لكل حمار تشبيها بالوحشي، والحمرة لون أحمر
تقول: احمر احمرارا واحمارا حميرارا والحمر: فرس هجين، لأنه كالحمار في التقصير،
وحمارة القيظ: شدة حره، وحمار السرج الذي يركبه السرج وحمر فو الفرس
يحمر حمرا إذا أنتن. والحمارة حجارة عريضة توضع على اللحد لركوب التراب
عليها كالحمار وجمعها حمائر. وما يخفى على الأسود والأحمر أي العرب والعجم،
لان السواد أغلب على لون العرب كما الحمرة أغلب على العجم. وموت أحمر:
شديد مشبه بحمرة النار في شدة الايقاد. وعبث حمر شديد، وأصل الباب
الحمرة. ومنه الحمرة طائر كالعصفور، لأنه تغلب عليه الحمرة.
وقوله: (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) فمن قرأ بالراء غير المعجمة
324

ذهب إلى النشور، وهو الحياة بعد الموت. نشر الميت: إذا عاش ونشره الله وأنشره:
إذا أحياه. ومنه قوله (ثم أنشأناه خلقا آخر) (1) وقوله: " ثم إذا شاء
أنشره " (2) والنشر خلاف الطي. يقال: نشرت الثوب وغيره أنشره نشرا
وانتشر انتشارا. والنشر إذاعة الحديث والنشر: الرائحة الطيبة، وربما قيل في
الخبيثة. والنشر نحت (3) العود بالمنشار. والنشر نبات الربيع. والنشر: اكتساء
البازي ريشا واسعا طويلا. والنشرة عن المريض الرقية حتى يفيق والتناشر: عرض
كتابة الغلمان على المعلم ينشرونه عليه أي يرونه إياه، وذلك لبسط الكتاب بين
يديه. وأصل الباب الانبساط. ومن قرأ بالزاء فمعناه يرفع بعضها إلى بعض وأصل
النشوز: الارتفاع فمنه النشز المرتفع من الأرض. ومنه نشوز المرأة رفعها عن طاعة
زوجها.
وقوله: (ثم نكسوها لحما) معناه نغطيها باللحم كما نغطي باللباس. وإنما
قيل ذلك لأجل التفصيل الذي كان عليه، فوصله الله عز وجل حتى صار كجزء.
منه قال الجعدي (4):
فالحمد لله إذ لم يأتني أجلي * حتى اكتسيت من الاسلام سربالا (5)
فجعل الاسلام غطاء للكفر كما يجعل غطاء للمعصية قوله (فلما تبين له) أي
ظهر. " قال اعلم " فمن قطع الهمزة جعل ذلك أخبارا عن نفسه ومن وصلها احتمل
أمرين:
أحدهما - أن يكون ذلك أمرا من الله له. والثاني - أن يكون تذكيرا
للنفس بالواجب وأخرجه مخرج الامر لها كأنه قال: يا أيها الانسان. وفي الآية
دليل على بطلان قول من قال: المعارف ضرورة، لأنه لما شك أراه الله الآيات التي

(1) سورة المؤمنون آية: 14.
(2) سورة عبس آية: 22.
(3) في المطبوعة (حث).
(4) هو النابغة الجعدي. وقيل: انه؟ بن ربيعة العامري وقيل: لقردة بن
فاثة السلولي.
(5) ديوان النابغة: 86.
325

استبصر بها ولو كان مضطرا إلى المعرفة بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز لم يحتج إلى
دليل يعلم به ما هو مضطر إليه وكان يقال: ان عند الموت لم تحصل له المعارف
الضرورية كما يحصل لمن لا يريد الله إعادته إلى التكليف فتكون الإماتة كالنوم.
والمعلوم خلافه.
قوله تعالى:
(وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن
إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم أدعهن يأتينك سعيا
واعلم أن الله عزيز حكيم) (260) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ حمزة وحده " فصرهن " بكسر الصاد. الباقون بضمها.
الاعراب:
العامل في قوله " وإذ " يحتمل أن يكون أحد شيئين: أحدهما - ما قال
الزجاج: واذكر إذ قال. والثاني - ألم تر إذ قال عطفا على " ألم تر إلى الذي حاج
إبراهيم في ربه ".
المعنى:
وقيل في سبب سؤال إبراهيم أن يريه كيف يحيي الموتى ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الحسن، وقتادة، والضحاك، وأبو عبد الله الصادق (ع):
أنه رأى جيفة قد مزقها السباع تأكل منها سباع البر وسباع الهواء ودواب البحر
فسأل الله (تعالى) أن يريه كيف يحييها وقال ابن إسحاق كان سبب ذلك منازعة نمرود
له في الاحياء، وتوعده إياه بالقتل إن لم يحيي الله الميت بحيث يشاهده، ولذلك قال
326

ليطمئن قلبي إلى أنه لا يقتلني الجبار، وقال قوم إنما سأل ذلك لقومه، كما سأل
موسى الرؤية، لقومه. وقال قوم: إنما سأله، لأنه أحب أن يعلم ذلك علم عيان
بعد أن كان عالما به من جهة الاستدلال. وهو أقوى الوجوه. وقال قوم: إنما
سأل ذلك، لأنه كان شاكا فيه. وروي فيه رواية، فهذا باطل، لأن الشك في أن
الله قادر على احياء الموتى كفر لا يجوز على الأنبياء، لأنه تعالى لا يجوز أن يبعث
إلى خلقه من هو جاهل بما يجوز عليه وما لا يجوز. والذي يبين ذلك أن الله تعالى
لما قال له " أولم تؤمن " فقرر أنه قال إبراهيم " بلى ولكن ليطمئن قلبي " فبين أنه
عارف بذلك مصدق به، وإنما سأل تخفيف المحنة بمقاساة الشبهات، ودفعها عن
النفس.
والألف في قوله " أولم تؤمن " ألف إيجاب قال الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح (1)
أي قد آمنت لا محالة، فلم تسأل ذا، فقال: " ليطمئن قلبي " وقوله: (ليطمئن قلبي)
معناه ليزداد يقينا إلى يقينه، وهو قول الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع،
ومجاهد، ولا يجوز " ليطمئن قلبي " بالعلم بعد الشك الذي قد اضطرب به لما بيناه، ولكن
يجوز أن يطلب علم البيان بعد علم الاستدلال. وقيل معناه " ليطمئن قلبي " بأن
لا يقتلني الجبار.
اللغة والمعنى:
ويقال: اطمأن يطمئن اطمئنانا: إذا تواطأ والمطمئن من الأرض ما انخفض
وتطامن، واطمأن إليه إذا وثق به، لسكون نفسه إليه، ولتوطي حاله بالأمانة
عنده، وأصل الباب التوطئة.
وقوله: (قال فخذ أربعة من الطير) قيل أنها الديك، والطاووس، والغراب،
والحمام. أمر أن يقطعها ويخلط ريشها بدمها، ويجعل على كل جبل منهن جزءا،

(1) مر تخريجه 1: 132 - 400.
327

هذا قول مجاهد، وابن جريج، وابن زيد، وابن إسحاق، والطير معروف يقال:
طار يطير طيرانا وأطاره إطارة وطيره تطييرا، وتطاير تطايرا وطايره مطايرة،
واستطار استطارة، فأما تطير تطيرا فمن الطيرة لأنه زجر الطير بما يكره، وتطاير
الشئ إذا تفرق في الهواء، وطائر الانسان: عمله الذي قلده من خير أو شر، لأنه
كطائر الزجر في البركة أو الشؤم قال الله (تعالى) (وكل إنسان ألزمناه طائره
في عنقه) (1) والمطير ضرب من الوشي لان عليه تماثيل الطيور. وفجر مستطير
أي منتشر في الأفق كانتشار الطيران. وغبار مستطار، كذا كلام العرب للفرق
وفرس مطار وهو الحديد الفؤاد لأنه طيار في جريه وأصل الباب الطيران.
وقوله (فصرهن) فمن قرأ بضم الصاد احتمل معنيين:
أحدهما - يقطعهن على قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد.
وقال توبة بن الحمير:
فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها * بنهضي وقد كان ارتقائي يصورها (2)
أي يقطعها.
والثاني - أن معناه أضممهن إليك على قول عطا وابن زيد من صاره يصوره
صورا: إذا أماله. قال المعلى (3) العبدي:
وجاءت خلعة دهس صفايا * يصور عنوقها أحوى زنيم (4)
معناه أن هذه الغنم يعطف عنوقها هذا التيس الأحوى، ومن قال بالكسر
احتمل ذلك أيضا الوجهين اللذين ذكرناهما في الضم وقال بعض بني سليم:

(1) سورة الاسرى آية: 13.
(2) بنهضي أي بنهوضي.
(3) هو المعلى بن جمال العبدي. في المطبوعة (المعلم) بدل (المعلى).
(4) اللسان: (ظأب) (ظاب) (صور) (دهس) (خلع) (صوع) (عشق)
(زنم) وفي بعض الروايات (يصوع) بدل (يصور). الخامة - بكسر الخاء وضمها -: خيار
المال. والدهس جمع دهساء وهي من المعزى السوداء المشربة حمرة لا تغلو. الأحوى من المعزى:
التيس الذي تضرب حمرته إلى السواد. والزنيم الذي له زنمتان في حلقه.
328

وفرع يصير الجيد وحف كأنه * على الليت قنوان الكروم الدوالح (1)
معناه يميل الجيد. وإذا كان بمعنى قطعهن فإليك من صلة خذ (2). وإذا كان
بمعنى أملهن يجوز أن يكون إلى متعلقا به (3). ويجوز أن يكون متعلقا بصرهن،
وهو الأقوى على قول سيبويه لأنه أقوى كذا قال أبو علي الفارسي وإذا كان بمعنى
أملهن إليك وقطعهن (ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ). والصور العطف يقال صاره
يصوره صورا إذا عطفه. قال الشاعر:
وما يقبل الاحياء من حب خندف * ولكن أطراف الرياح يصورها
والصور التقطيع. صاره يصوره. والصور: ميل لأنه انقطاع إلى الشئ
بالميل إليه ومنه الصورة لتقطيعها بالتأليف على بعض الأمثلة صور يصور تصويرا
وتصور تصورا والصوار: القطيع من بقر الوحش، لانقطاعه بالانفراد عن غيره.
والصور: النخل الصغار، والصور: قرن ينفخ فيه لاجتماع الصورة به. ويجوز
للانقطاع إليه بالدعاء إليه والصور: جمع صورة. والصوار. النفحة من المسك
وأصل الباب القطع. وقال الفراء: صاره يصيره بمعنى قطعه من المقلوب من صراه
يصرية وأنشد:
يقولون إن الشام يقتل أهله * فمن لي إذا لم آته بخلود
تعرب آبائي فهلا صراهم * من الموت أن لم يذهبوا وجدودي (4)
قال المبرد لا يجوز ذلك، لان سيبويه قال: إن كل واحد من اللفظين إذا
تصرف في بابه لم يكن أحدهما أصلا للاخر: نحو جذب يجذب جذبا، فهو جاذب،

(1) اللسان: (صير) ومعاني القرآن للفراء 1: 174. الفرع: الشعر التام. الوحف:
الأسود الحسن الكثير. الليت: العنق. قنوان جمع قنو - بكسر وسكون - عذق النخل بما فيه
من الرطب واستعاره هنا لعنا قيد العنب. والدوالح جمع دالح وهو المنقل بالحمل - هنا - وأصله في
ما يمشي. يقال بعير دالح.
(2) في المطبوعة (خذ) غير منقطة.
(3) في المطبوعة (عليه) بدل (به).
(4) في المطبوعة (فمن ان انه بخلود) و (يعرب) بدل (تعرب) اللسان: (عأم)
- ذكر البيت الأول فقط -. ومعاني القرآن للفراء 4: 174 تعرب القوم: سكنوا البادية.
329

وجبذ يجبذ جبذا فهو جابذ فلذلك لما تصرف صاره يصيره صيرا كما ينصرف صراه
يصريه صريا، لم يكن أحدهما أصلا للاخر، ولكن المقلوب نحو قسى لان بابه
على تأخير السين نحو قوس، واقواس وقويس.
المعنى:
وقوله (ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ) قال ابن عباس، والحسن
وقتادة: إنها كانت أربعة. وقال ابن جريج، والسدي: كانت سبعة. وقال مجاهد،
والضحاك كل جبل على العموم بحسب الامكان، كأنه قيل كل فرقة على جبل يمكنك
التفرقة عليه. ووري عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (عليهما السلام) (1) أنها كانت
عشرة. وفي رواية أخرى أنها كانت سبعة، والفرق بين الجزء والسهم أن السهم من
الجملة ما انقسمت عليه، وليس كذلك الجزء نحو الاثنين وهو سهم من العشرة
لأنها تنقسم عليه، وليس كذلك الثلاثة وهو جزء منها لأنه بعض لها فان قيل:
كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله (رب أرني أنظر
إليك). (2) قيل عنه جوابان:
أحدهما أنه سأل أية لا يصح معها بقاء التكليف من وقوع الضرورة التي
لا يعترضها الشكوك بوجه من الوجوه، وإبراهيم إنما سأل في شئ خاص يصح
معه التكليف.
والقول الاخر - أن الأحوال قد تختلف فيكون الأصلح الأصوب في بعض
الأوقات الإجابة، وفي وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. فان قيل: كيف قال:
(ثم أدعهن) ودعاء الجماد قبيح؟ قلنا إنما أراد بذلك الإشارة إليها والايماء لتقبل
عليه إذا أحياها الله. فأما من قال أنه جعل على كل جبل طيرا ثم دعاها فبعيد، لان
ذلك لا يفيد ما طلب، لأنه إنما طلب ما يعلم به كونه قادرا على إحياء الموتى، وليس
في مجئ طير حي بالايماء إليه ما يدل عليه. وفي الكلام حذف، فكأنه قال: فقطعهن

(1) في المطبوعة زيادة عنها في هذا الموضع.
(2) سورة الأعراف آية: 142.
330

واجعل على كل جبل منهن جزأ فان الله يحييهن، فإذا أحياهن فادعهن يأتينك سعيا،
فيكون الايماء إليها بعد أن صارت أحياء، لان الايماء إلى الجماد لا يحسن، فان
قيل: إذا أحياها الله كفى ذلك في باب الدلالة، فلا معنى لدعائها، لان دعاء البهائم
قبيح؟ قلنا: وجه الحسن في ذلك أنه يشير إليها، فسمي ذلك دعاء لتأتي إليه
فيتحقق كونها أحياء ويكون ذلك أبهر في باب الاعجاز. وقال الطبري معنى الدعاء
ههنا الاخبار عن تكوينها أحياء كما قال (كونوا قردة خاسئين) (1) وقوله:
(أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين).
اللغة:
والجبل وتد من أوتاد الأرض معروف. وجبل فلان على كذا أي طبع
عليه وأجبل القوم أجبالا: إذا صاروا في الجبال وتجبلوا إذا دخلوها، ورجل ذو
جبلة إذا كان غليظ الجسم، لأنه كالجبل في الغظ. والجبلة الأمة من الناس
وأجبل الحافر: إذا أفضى إلى صلابة لا يمكنه الحفر فيه، ومنه أجبل الشاعر إذا
صعب عليه القول، والجزء: بعض. الجزأ جزأته تجزئة إذا بعضته، والجزء
الاجتزاء بالرطب عن الماء جزأت الوحشية جزوء لاكتفائها بالجزء الذي في الرطب
منه والجزاء نصاب السكين وأصل الباب الجزء البعض.
قوله تعالى:
(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت
سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء
والله واسع عليم) (261) آية واحدة بلا خلاف.
هذه الآية متصلة بقوله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) وما بينهما
الاعتراض بالاستدعاء إلى الحق مما أمر الله بالحجج والعبر التي ذكرها من احياء

(1) سورة البقرة آية: 65.
331

الموتى لإبراهيم ومن حجاجه للذي ادعى أنه رب العباد إلى غير ذلك مما تقدم ذكره
مع البيان عنه وقال الربيع والسدي الآية تدل على أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة
مائة ضعف لقوله " سبع سنابل " فأما غيرها فبالحسنة عشرة. وقد بينا في ما تقدم
أبواب البر كلها من سبيل الله فيمكن أن يقال ذلك عام في جميع ذلك. والذي
ذكرناه مروي عن أبي عبد الله (ع) واختاره الجبائي: فان قيل هل رئي في سنبلة
مائة حبة حتى يضرب المثل بها؟ قيل عنه ثلاثة أجوبة: أولها - أن ذلك متصور
فشبه لذاك وإن لم ير كما قال امرؤ القيس: ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقال تعالى (طلعها كأنه رؤس الشياطين) (1)
الثاني - أنه قد رئي ذلك في سنبل الدخن. الثالث - أن السنبلة تنبت مائة
حبة فقيل فيها على ذلك المعنى - كما يقال - في هذه الحبة حب كثير والأول هو
الوجه. والوعد بالمضاعفة لمن أنفق في سبيل الله - في قول ابن عباس - وقال الضحاك
ولغيرهم من المطيعين. وقوله: " أنبتت " فالنبت الحشيش وكلما ينبت من الأرض
يقال فيه نبت نبتا. ونباتا. وأنبته الله إنباتا: ونبته تنبيتا قال (تعالى): (والله
أنبتكم من الأرض نباتا) (2) على تقدير فنبتم نباتا وانه لحسن النبت. والمنبت
الأصل. فلان في منبت صدق أي في أصل كريم، لأنه يخرج منه كما يخرج
النبات. والنبوت: شجر الخشخاش. وأنبت الغلام: إذا راهق واستبان شعر عانته.
والسنبلة على وزن فنعله لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل.
والأصل فيه الاسبال، وهو ارسال الستر ونحوه. فمنه أسبل الزرع، لأنه استرسل
بالسنبل كما يسترسل الستر في الاسبال فيطول، لأنه صار فيه حب مستور كما يستر
بالاسبال. فأما السبيل الطريق، فلانه يرسل فيه المار به.
والمائة: عدد معروف يجمع على مئات ومئين (3). ويقال أمأت
الغنم إذا بلغت مائة. وأمأيتها أنا أي وفيتها مائة. والمأي (4) النميمة بين القوم

(1) سورة الصافات آية: 65.
(2) سورة نوح آية: 17.
(3) في المطبوعة (ميين وميون).
(4) في المطبوعة (والثاني).
332

مأيت بينهم أمأي إذا دببت بينهم بالشر.
وقوله (واسع عليم) معناه واسع المقدرة لا يضيق عنه ما شاء من الزيادة
" عليم " بمن يستحق الزيادة - على قول ابن زيد - ويحتمل أن يكون المراد " واسع "
الرحمة لا يضيق عن مضاعفة " عليم " بما كان من النفقة.
وقوله تعالى:
(الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون
ما انفقوا منا ولا اذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم
ولاهم يحزنون) (262) آية بلا خلاف.
الاعراب:
" الذين " رفع بالابتداء. و " ينفقون " خبره و " أموالهم " نصب لأنه
مفعول به.
اللغة، والمعنى:
والانفاق إخراج الشئ عن الملك. وقوله " في سبيل الله " قال ابن زيد:
هو الجهاد. وقال الجبائي: أبواب البر كلها، وهو الصحيح عندنا. والمروي عن
أبي عبد الله (ع).
وقوله: " ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا " فالمن هو ذكر ما ينغص المعروف
كقول القائل: أحسنت إلى فلان ونعشته وأغنيته وما أشبه ذلك مما ينغص النعمة
وأصل المن: القطع ومنه قولهم: حبل منين أي ضعيف، لأنه مقطع ومنيته
أي قطعته ومنه قوله: " فلهم أجر غير ممنون " (1) أي غير مقطوع وسمي
ما يكدر النعمة والمعروف بأنه منة لأنه قطع الحق الذي يجب به. والمنة: النعمة
العظيمة سميت بذلك لأنها تجل عن قطع الحق بها لعظمها. ومنه قوله: " يمنون

(1) سورة التين آية: 6.
333

ومثله " فجزاء مثل ما قتل من النعم " (1). وإنما جعل اختصاص الايلاء بحال
الغضب، لان مدة التربص جعل فسحة للمرأة في التخلص من المضارة، فإذا لم يكن
ضرار لم يصح إيلاء. ومن لمن يخص بحال الغضب، حمله على عموم الايلاء، وهو
الأقوى. ومتى حلف بغير الله في الايلاء، فلا تنعقد يمينه، ولا يكون مؤليا.
وقال الجبائي: إذا حلف بما يلزمه فيه عزم، نحو الصدقة، أو الطلاق، أو العتاق،
فهو إيلاء، وإلا، فهو لغو، نحو قوله: وحياتك، وما أشبهه. وقال الشافعي:
لا إيلاء إلا بالله، كما قلناه. ومتى حلف ألا يجامع أقل من أربعة أشهر، لا يكون
مؤليا، لان الايلاء على أربعة أشهر، أو أكثر. ومتى حلف ألا يقر بها، وهي
مرضعة خوفا من أن تحبل، فيضر ذلك بولدها، لا يلزمه حكم الايلاء، وهو المروي
عن علي (ع)، وبه قال الحسن، وابن شهاب. ويجوز أن يكون في الآية تقديم،
وتأخير، ويكون تقديره " للذين يؤلون " " تربص أربعة أشهر " " من نسائهم ".
ويجوز أن يكون معناه: " للذين يؤلون من " أجل " نسائهم تربص أربعة أشهر "
كما تقول: غضبت لفلان: أي من أجل فلان. وإذا مضت أربعة أشهر لم تبن منه
إلا بطلاق، ويلزمه الحاكم، إما الرجوع والكفارة، وإما الطلاق، فان امتنع حبسه
حتى يفئ، أو يطلق. وفيه خلاف.
قوله تعالى:
وإن عزموا الطلاق فان الله سميع عليم (227) آية
واحدة.
المعنى:
عزيمة الطلاق في الحكم - عندنا - أن يعزم، ثم يتلفظ بالطلاق، ومتى لم
يتلفظ بالطلاق بعد مضي أربعة أشهر، فان المرأة لا تبين منه إلا أن تستدعي، فان
استدعت، ضرب الحاكم مدة أربعة أشهر ثم توقف بعد أربعة أشهر، فيقال له: فئ

(1) سورة المائدة آية: 98.
334

القول المعروف معناه ما كان حسنا جميلا لاوجه فيه من وجوه القبح، وهو
أن تقول للسائل قولا معروفا عليه حسنا من غير صدقة تعطيها إياه. وقال الحسن:
وهو قول حسن لاعتراف العقل به، وتقبله إياه دون إنكاره له. والمغفرة ههنا
قيل في معناها ثلاثة أقوال.
أولها - ستر الحلة على السائل. الثاني - قال الحسن: المغفرة له بالعفو
عن ظلمه. الثالث - قال الجبائي: معناه أي سلامته في المعصية لان حالها كحال
المغفرة في الأمان من العقوبة.
اللغة:
وقوله. " والله غني حليم " فالغني هو الحي الذي ليس بمحتاج، ومعناه
ههنا غني عن كل شئ من صدقة وغيرها. وإنما دعاكم إليها لينفعكم بها. وقال
الرماني: الغني الواسع الملك فالله غني لأنه مالك لجميع الأشياء لأنه قادر عليها
لا يتعذر عليه شئ منها. والغنى ضد الحاجة. تقول: غني يغنى غنى وأغناه
اغتناء واستغنى استغناء وغنى غناء وتغنى تغنيا. والغناء ممدود: الصوت الحسن.
ويقال فيه أغنية وأغاني والغنى: الكفاية للغنى به عن غيره. والمغنى المنزل غني
بالدار: إذا أقام بها ومنه قوله " كان لم تغن بالأمس " (1) والغانية: الشابة
المتزوجة لغناها بزوجها عن غيره. وهي أيضا العفيفة لغناها بعفتها. والغنية
الاستغناء. والحلم: الامهال بتأخير العقوبة للإنابة، ولو وقع موقع حليم حميد
أو عليم، لما حسن لأنه تعالى لما نهاهم أن يتبعوا الصدقة بالمن، بين أنهم إن خالفوا
ذلك فهو غني عن طاعتهم حليم. في أن لا يعاجلهم بالعقوبة.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي
ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل

(1) سورة يونس آية 24.
335

صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ
مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) (264) آية بلا خلاف.
المعنى:
ضرب الله (تعالى) هذه الآية مثلا لعمل المنافق والمنان جميعا، فإنهما إذا
فعلا فعلا لغير وجه الله أو قرنا الانفاق بالمن والأذى، فإنهما لا يستحقان عليه
ثوابا. وشبه ذلك بالصفا الذي أزال المطر ما عليه من التراب، فإنه لا يقدر أحد
على رد ذلك التراب عليه فكذلك إذا رفع المنان صدقته وقرن بها المن فقد أوقعها
على وجه لا طريق له إلى استدراكه، وتلافيه لوقوعه على الوجه الذي لا يستحق
عليه الثواب فان وجوه الافعال تابعة للحدوث، فإذا فاتت فلا طريق إلى تلافيها
وليس فيها ما يدل على أن الثواب الثابت المستقر يزول بالمن فيما بعد ولا بالرياء
الذي يحصل فميا يتجدد فليس في الآية ما يدل على ما قالوه.
وقوله: " رئاء الناس " إنما جمع بين همزتين ولم يجمع في ذوائب جمع ذؤابة،
لوقوع الألف في الجمع بين الهمزتين، فلم يجز ذؤائب (1)، فأما الواحد فاجتمع
لخفته وهما أيضا مفتوحان فهو أخف لها.
وقوله: (كالذي ينفق ما له رئاء الناس) يدخل فيه المؤمن والكافر إذا
أخرجا الانفاق للرياء. وقوله: " ولا يؤمن بالله واليوم الآخر " صفة للكافر خاصة
" مثله كمثل صفوان " يعني الحجارة الصلبة " عليه تراب ".
اللغة:
فالتراب والترب واحد يقال ترب الرجل إذا افتقر، لأنه لصق بالتراب للفقر ومنه
قوله: " مسكينا ذا متربة " (2) لأنه قعد على التراب للفقر وأترب الرجل إذا
استغنى لأنه كثر ماله حتى صار كالتراب. والترب الذي ينشأ معك. وقيل فيه

(1) في المطبوعة (فلم بحر ذوائب) والصحيح ما ذكرنا.
(2) سورة البلد آية: 16.
336

أقوال: منها للعبهم بالتراب إذ هم صبيان أقران. ومنها - لأنهم خرجوا إلى عفر
الترب في وقت من الزمان. ومنها - لأنهم على الاشتباه كالتراب. وقوله:
" عربا أترابا " (1) أي أشباه أمثال. والترائب (2) عظام الصدر واحدها تريبة.
قيل لأنها متشابهة كالاتراب أو كتشابه التراب. ومنه قوله: " من بين الصلب
والترائب " (3).
وقوله: (فأصابه وابل) فالوابل: المطر الشديد الوقع، يقال وبلت السماء
تبل وبلا: إذا اشتد وقع المطر.
وقوله: (فأخذناه أخذا وبيلا) (4) أي شديدا. ولو بيل: المرعى
الوخيم. والوبال: سوء العاقبة. والموبل: المغلظ القلب والوبيلة: الحزمة من
الحطب لأنها مشدودة. والوبيل: العصا الغليظة. والوابلة: طرد العضد في
الكتف. وأصل الباب الشدة. والصفوان واحده صفوانة مثل مرجان ومرجانة
وسعدان وسعدانه وقال الكسائي: جمع صفوان صفى. وأنكر ذلك المبرد وقال: إنما هو
صفاء وصفى مثل عصا وعصي وقفا وقفي وكذلك ذكران وصفوان - بكسر
الصاد - وإنما هو جمع صفا نحو خرب وخربان، وورل * وورلان. وقال معنى صفا
وصفوان واحد.
وقوله: (فتركه صلدا) فالصلد: الحجر الأملس الصلب قال الشاعر:
ولست بجلب جلب ريح وقرة * ولا بصفا صلد عن الخير معزل (5)
وقال رؤبة.

(1) سورة الواقعة آية: 37.
(2) في المطبوعة (التربية) * ورل: دابة على خلفة الضب الا أنه أعظم منه. والجمع اورال
وورلان وارئل.
(3) سورة الطارق آية: 7.
(4) سورة المزمل آية: 16.
(5) البيت لتأبط شرا. اللسان (جلب) وروايته (جلب ليل) بدل (جلب ريح) وفي
اللسان (عزل) كما هنا. الجلب بكسر الجيم أو ضمها مع سكون اللام -: السحاب المعترض تراه
كأنه جبل. ويقال هو السحاب الرقيق. والقرة - بكسر القاف - والقر - بضم القاف - البرد الشديد.
337

لما رأتني خلق المموه * براق أصلاد الجبين الأجله (1)
والصلد الذي لا ينبت شيئا من الأرض لأنه كالحجر الصلد، والصلد: البخيل
وصلد الزند صلودا إذا لم يور نارا وفرس صلود: إذا أبطأ عرقه. وقدر صلود
إذا أبطأ غليها. وأصل الباب ملاسة في صلابة ويقال صلد يصلد صلدا فهو صلد.
وقوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) معناه أنه لا يهديهم إلى طريق
الجنة على وجه الإنابة لهم ويحتمل لا يهديهم بمعنى لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال
المهتدين من المؤمنين، لان أعمالهم لا يقع على وجه بها المدح.
قوله تعالى:
(ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من
أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم
يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) (265) آية.
القراءة:
قرأ عاصم وابن عامر بربوة - بفتح الراء - الباقون بضمها. وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو ونافع (أكلها) باسكان الكاف الباقون بالتثقيل.
المعنى:
وهذا مثل ضربه الله لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله أي طلبا لرضاه. وقوله:
" وتثبيتا من أنفسهم " بقوة اليقين والبصيرة في الدين في قول ابن زيد، والسدي،
وأبي صالح والشعبي. الثاني - قال الحسن ومجاهد: معناه أنهم يتثبتون أين يضعون
صدقاتهم. الثالث - قال أبو علي: معناه توطينا لنفوسهم على الثبوت على طاعة الله
واعترض على قول مجاهد بأنه لم يقل تثبيتا. وهذا ليس بشئ لأنه لا يجوز أن
يقول القائل يثبتوا أنفسهم تثبيتا إذا كانوا كذلك فهم لا يتثبتون أين يضعون

(1) ديوانه: 165 من قصيدة مر الاستشهاد ببعض أبياتها في 1: 28 - 304.
338

الصدقات. وقوله: " كمثل جنة بربوة " إنما خصت بالربوة لأنها إذا كانت بربوة
فتثبتها أحسن وربيعها أكثر كما قال الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة * خضراء جاد عليها مسبل هطل (1)
فخص بها الحزن لها بيناه.
اللغة:
والربو: الزيادة يقال ربا الشئ يربو إذا زاد. وأصابه ربو: إذا أصابه
نفس في جوفه، لزيادة النفس على عادته. والربوة: العلو من الأرض لزيادته على غيره
بارتفاعه. والربا في المال: المعاملة على أن يأخذ أكثر مما يعطي للزيادة على ما يفرض
يقال ربا المال يربو ربا وأربى صاحبه فهو مرب. وأصل الباب الزيادة: وفي الربوة
ثلاث لغات - فتح الراء وضمها وكسرها -. وفيها أربع لغات أخر رباوة ورباوة
ورباوة وربا. فتلك سبع لغات.
المعنى واللغة:
وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن، ومجاهد، والسدي، والربيع:
الربوة والرابية المرتفع من الأرض " فأتت أكلها " فالفرق بين الاكل والاكل
ان الاكل بالفتح المصدر والاكل بالضم الطعام الذي يؤكل " ضعفين " يعني مثلين
في قول الزجاج لان ضعف الشئ مثله زائدا عليه وضعفاه مثلاه زائدين عليه.
وقال قوم: ضعف الشئ مثلاه. وقوله " فطل " قال الحسن والضحاك والربيع
وقتادة هو اللين من المطر. وإنما ذكر الطل ههنا لتشبيه أضعاف النفقة به كثرت
أو قلت: إذ كان خيرها لا يختلف على حال في قول الحسن وقتادة. وإنما قيل لما
مضى (فإن لم يصبها وابل فطل) لان فيه إضمار (كان) كأنه قيل: فان يكن لم
يصبها وابل، فطل. ومثله قد أعتقت عبدين فإن لم أعتق اثنين فواحدا بقيمتهما.

(1) ديوانه 57 رقم القصيدة 6. الرياض جمع روضة وهي البستان. والحزن ضد المنخفض
من الأرض. ورياض الحزن أطيب من رياض المنخفضات لان الريح تهب عليها فتهيج رائحتها.
مسبل أي منزل؟.
339

والمعنى ان أكن لم أعتق قال الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة * ولم تجدي من أن تقري بها بدا (1)
كأنه قال: أكن لم تلدني لئيمة. والطل المطر الصغار القطر يقال: أطلت
السماء فهي مطلة. وروضة طلة ندية. والطل: إبطال الذم بأن لا يثار بصاحبه. طل
دمه فهو مطلول لأنه بمنزلة ما جاء عليه الطل، وأذهبه كأنه قيل غسله. والطل
والطلل ما شخص من الدار، لأنه كموضع الندى بالطل لغمارة الناس له خلاف
المستوى، والقفر، لان الخصب حيث تكون الأبنية. وصار الطلل اسما لكل
شخص. والاطلال: الاشراف على الشئ والطل: الشحم، ما بالناقة طل أي ما بها
طرق. وطلة الرجل امرأته. وأصل الباب الطل المطر.
وقوله: (والله بما تعملون بصير) معناه عالم بأفعالكم، فيجازيكم بحسنها
وفي ذلك ترغيب وترهيب.
قوله تعالى:
(أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب
تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر
وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين
الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) (266) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
معنى قوله: (أيود أحدكم أن تكون له جنة) التقدير (على) مثل ضربه
الله في الحسرة بسلب النعمة فقيل هو مثل للمرائي في النفقة، لأنه ينتفع بها عاجلا
وتنقطع عنه آجلا في أحوج ما يكون إليه. هذا قول السدي وقال مجاهد: هو مثل
للمفرط في طاعة الله يملاذ الدنيا يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى. وقال ابن
عباس: هو مثل للذي يختم عمله بفساد.

(1) قائله زائدة بن صعصعة الفقعسي وقد مر في 1: 289 - 352.
340

اللغة:
وقوله. (أيود أحدكم أن تكون له جنة) فأتى بمستقبل ثم عطف عليه
بماض في قوله " وأصابه الكبر " قال الفراء يجوز ذلك في يود لأنها تلتقي مرة
ب‍ (أن) ومرة ب‍ (لو) فجاز أن يقدر أحداهما مكان الأخرى، لاتفاق المعنى،
فكأنه قال أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر. قال
الرماني وعندي أنه قد دل بأن على الاستقبال، وبتضمين الكلام معنى لو على
التمني، كأنه قيل أيحب ذلك متمنيا له. والتمني يقع على الماضي والمستقبل ألا ترى
أنه يصح أن يتمنى أن كان له ولد. ويصح أن يتمنى أن يكون له ولد. والمحبة
لا تقع إلا على المستقبل، لأنه لا يجوز أن يقال أحب أن كان لي ولد ويجوز أحب
أن يكون لي ولد. والفرق بين المودة والمحبة أن المودة قد تكون بمعنى التمني نحو
قولك: أود لو قدم زيد بمعنى أتمنى لو قدم، ولا يجوز أحب لو قدم. وقوله
أن تكون له جنة، فالجنة: البستان الكثيرة الشجر لان الشجر يجنه بكثرته فيه.
والنخل معروف. وقيل: إنه مأخوذ من نخل المنخل، لاستخلاصه كاستخلاص
اللباب بالنخل. والنخل والنخيل جمع نخلة. وهي شجرة التمر. وقوله: (كأنهم
أعجاز نخل خاوية (1) وقوله (كأنهم أعجاز نخل منقعر) (2) فذكر على اللفظ
وأنث على المعنى. والنخل نخل الدقيق نخلته نخلا. ومنه المنخل، لأنه آلة النخل
والنخالة معروفة والنخل نخل السماء بالثلج أو ما صغر من القطر والانتخال الاختيار
والتنخل (3): التخير وأصل الباب النخل: الدقيق. والعنب: ثمر الكرم معروف
ورجل عانب وعنب. والعناب معروف. والعناب ما تقطعه الخائنة مشبه بالعنب في
التعلق. ورجل عناب: عظيم الانف مشبه بعنقود العنب في التعلق والعظم. وأصل
الباب العنب. وقوله: " من تحتها الأنهار " وتحت نقيض فوق وفي الحديث

(1) سورة الحاقة آية: 7.
(2) سورة القمر آية 20.
(3) في المطبوعة: (التنخر).
341

" لا تقوم الساعة حتى يظهر التحوت " أي الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يشعر
بهم ذلا.
والأنهار جمع نهر وهو المجرى الواسع من مجاري الماء قال الشاعر:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها (1)
معناه وسعت فتقها كالنهر.
وقوله: (فيها من كل الثمرات) فالثمرة: طعام الناس من الشجر. وقوله:
(وأصابه الكبر) فالإصابة الوقوع على المقصود. والمراد ههنا: لحقه الكبر،
والكبر حال زائدة على مقدار آخر. والمراد ههنا: الشيخوخة. والفرق بين الكبير والكثير أن
الكثير مضمن بعدد وليس كذلك الكبير نحو دار واحدة كبيرة. ولا يجوز
كثيرة. والذرية: الولد من الناس. والضعفاء: جمع ضعيف، والضعف نقصان
القوة. وقوله: (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) فالعصر عصر الثوب ونحوه
من كل شئ رطب عصرته أعصره عصرا فهو معصور، وعصير. واعتصرته
اعتصارا، وتعصر تعصرا، وعتصره تعصيرا. وانعصر انعصارا. والعصر الدهر.
وفي التنزيل " والعصر إن الانسان لفي خسر " (2) والعصر العشي. ومنه صلاة
العصر لأنها تعصر أي تؤخر كما يؤخر الشئ بالتعصر فيه. والعصر النجاة من الحدب
ومنه قوله تعالى: (فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) (3) لأنه كعصر الثوب
في الخروج من حال إلى حال. والعصر: العطية. والاعتصار: الالتجاء. والمعتصر:
الملجأ. والأعصار: غبار يلتف بين السماء والأرض كالتفاف الثوب في العصير.
والمعصر فوق الكاعب. والمعصرات السحاب. ومنه قوله (وأنزلنا من المعصرات
ماء ثجاجا) (4) والعصرة: الدينة يقال هو لأموالنا عصرة: أي دينة. وأصل
الباب: عصر الثوب. والاحراق إحراق النار أحرقته بالنار فاحترق احتراقا وحرقته
تحريقا وتحرق تحرقا والحرق حك البعير أحد نابيه بالاخر يكون وعيدا وتهديدا

(1) انظر 1: 26، 2: 57.
(2) سورة العصر آية: 1 - 2.
(3) سورة يوسف آية: 49.
(4) سورة النبأ آية: 14.
342

من فحول الإبل، لالتهابه غضبا كالتهاب الاحراق. والحرق: حك الحديدة بالمبرد
حرقت الحديدة أحرقها حرقا: إذا بردتها للتفريق بالاحراق. والحرق: قطع
عصبة في الورك لا تلتئم كما لا يرجع ما أحرق، يقال حرق الورك فهو محروق والحرق:
الثوب يقع فيه الحرق من دق القصار لأنه كالاحراق بالنار في أنه لا يرجع إلى
الحال. ومنه ريش حرق لأنه كالمنقطع بالاحراق. والحراق: ما اقتبست به النار
للاحراق. والحرقة ما يجده من حدة لأنه كالاحراق بالنار. والحراقات: سفن
يتخذ منها مرامي نيران يرمى بها العدو في البحر وأصل الباب الاحراق. والفكر:
جولان القلب بالخواطر يقال: أفكر إفكارا وفكر تفكيرا وتفكر تفكرا ورجل
فكير كثير الفكر. وقوله: (فاحترقت) فالاحتراق: افتراق الاجزاء بالنار
والبيان: هو الدلالة على ما بيناه - في ما مضى - وقال الرماني: البيان اظهار المعنى
بما يتميز به من غيره على جهة الصواب. ولا يقال للحن من الكلام بيان وإن فهم
به المراد، لان البيان على الاطلاق ممدوح. واللحن عيب لكن يقال قد أبان عن
مراده مجازا.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما
أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم
بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) (267) آية.
المعنى:
هذا خطاب للمؤمنين دون سائر الناس وقال الحسن، وعلقمة: كل شئ
في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " فإنما أنزل بالمدينة وكلما فيه " يا أيها الناس "
أنزل بمكة وقوله: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) يدخل فيه الزكاة المفروضة
وغيرها من أنواع النفقة. وقال عبيدة السلماني، والحسن: هي مختصة بالزكاة.
وقال الجبائي: هي في المتطوع، لان الفرض من الصدقة له مقدار من القيمة إن
343

قصر كان دينا عليه إلى أن يؤديه على التمام. فأما إذا كان مال المزكي كله رديا فجاز
له أن يعطي منه ولا يدخل في ما نهي عنه، لان تقدير ما جعله الله للفقير في مال
الغني تقدير حصة الشريك، فليس لأحد الشريكين أن يأخذ الجيد ويعطي صاحبه
الردي لما فيه من الوكس فإذا استوى في الرداوة جاز له إعطاء الردي، لأنه حينئذ
لم يبخسه حقا هو له كما يبخسه في الأول وقوله: (ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون) روي عن علي (ع)، والبراء بن عازب، والحسن، وقتادة: أنها نزلت
لان بعضهم كان يأتي بالحشف فيدخله في تمر الصدقة فنزلت فيه الآية. قال ابن
زيد: الخبيث الحرام. والأول أقوى، لأنه قال: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم
وما أخرجنا لكم من الأرض) ثم قال: " ولا تيمموا الخبيث " يعني من الذي
كسبتم إذ أخرجه الله من الأرض. والحرام وإن كان خبيثا فليس من ذلك غير أنه
يمكن أن يراد به ذلك لأنه لا ينافي السبب. وروي عن أبي عبد الله (ع) أنها نزلت
في أقوام لهم أموال من ربا الجاهلية كانوا يتصدقون منها، فنهى الله عن ذلك وأمر
بالصدقة من الحلال. ويقوي الوجه الأول قوله: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا
فيه) والاغماض لا يكون في شئ ردي متسامح في أخذه دون ما هو حرام. وفي
الفقهاء. من استدل بهذه الآية على أن الرقبة الكافرة لا تجزي في الكفارة وضعفه
قوم وقالوا: العتق ليس بانفاق. والأولى أن يكون ذلك صحيحا لان الانفاق يقع
على كل ما يخرج لوجه الله عتقا كان أو غيره. اللغة والتيمم: التعمد تيممت الشئ تيمما.
ومنه قوله: (فتيمموا صعيدا طيبا) (1) أي تعمدوا، وقال خفاف:
فعمدا على عين تيممت مالكا (2)
وقال آخر:
يممته الرمح شزرا ثم قلت له * هذي المروءة لالعب الزحاليق (3)

(1) سورة النساء آية: 42، وسورة المائدة آية: 7.
(2) اللسان (عمد) وصدره:
ان تك خيلي قد أصيب صميمها
(3) قائله: عامر بن مالك. والزحاليف لغة في الزحاليق واحدها زحلوقة وهي أثر تزج
الصبيان من فوق طين أو رمل.
344

واليم: لجة البحر، لأنه يتعمد به البعيد من الأرض، ويم الرجل: إذا غرق
في البحر، ويم الساحل إذا طما عليه يم البحر فغلب عليه. واليمامة، واليمام: الحمام
الطورانية تتعمد إلى أو كارها بحسن هدايتها. وقال الخليل: أممته قصدت أمامه
ويممته: تعمدته من أي جهة كان. وقال غيره: هما سواء. والخبيث: الردئ من
كل شئ، خبث خبثا وتخبث تخبثا وتخابث تخابثا وخبثه تخبيثا. والخبثة: الريبة،
وخبث الفضة ما نقاه الكير لأنه ينفي الردئ وأصله الرداءة.
الاعراب واللغة:
وقوله: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) إنما فتحت (أن) في قول
الفراء من أجل (إلا) إذ وقعت عليها. وهي في موضع خفض في الأصل عنده
(إن) لان الكلام في معنى الجزاء وهو إن أغمضتم بعض الاغماض أخذتموه، ومثله
(إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) (1) وأنكر ذلك أبو العباس وقال: (أن)
هذه التي بمعنى المصدر مفتوحة على كل حال وذلك نحو أن تأتيني خير لك. وإنما
المعنى ولستم بآخذيه إلا لاغماضكم فيه. والاغماض في البيع الحط من الثمن لعيب
فيه، أغمض إغماضا وذلك لاخفاض بعض الثمن بالحط له. والغموض: الخفاء.
غمض يغمض غموضا فهو غامض. والتغميض إطباق الجفن وغمض العين. والغمض
المطمئن من الأرض حتى يغيب من فيه وأصل الباب: الخفاء.
المعنى:
وقيل في معنى (إلا أن تغمضوا فيه) قولان قال البراء بن عازب إلا أن
تتساهلوا فيه. وقال ابن عباس، والحسن وقتادة إلا أن تحطوا من الثمن فيه.
وقال الزجاج: ولستم بآخذيه إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة قال الطرماح
ابن حكيم:

(1) سورة البقرة آية: 229.
345

لم يفتنا بالوتر قوم وللضيم * رجال يرضون بالاغماض (1)
أي بالوكس قوله: (واعلموا ان الله غني حميد) ههنا معناه أنه غني
عن صدقاتكم وإنما دعاكم إليها لنفعكم، فأما " حميد " ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه مستحق للحمد على نعمه. الثاني - موجب للحمد على طاعته.
والثالث - قال الحسن: معناه مستحمدا إلى خلقه بما يعطون من؟ لعباده أي
مبتدع لهم إلى ما يوجب لهم الحمد. وحميد في هذا الموضع أليق من حليم كما أن
حليما أليق بالآية المتقدمة من حميد، لما بيناه وإنما قلنا ذلك لأنه لما أمرهم بالانفاق
من طيب ما كسبوه بين أنه غني عن ذلك وأنه يحمدهم على ما يفعلونه إذا فعلوه على
ما أمرهم به ومعناه أنه يجازيهم عليه.
قوله تعالى:
(الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم
مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) (268) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
معنى الآية الوعد من الشيطان أنكم متى أخرجتم من أموالكم الصدقة
وأديتم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم افتقرتم ويأمركم أيضا بالفحشاء من
المعاصي وترك طاعته. والله (تعالى) يعد بالمغفرة منه والستر عليكم، والصفح عن
العقوبة " وفضلا " يعني ويعدكم أن يخلف عليكم خيرا من صدقتكم ويتفضل عليكم
ويسبغ عليكم في أرزاقكم قال ابن عباس: اثنان من الله، واثنان من الشيطان.
فاللذان من الشيطان الوعد بالفقر والامر بالفحشاء. واللذان من الله المغفرة على
المعاصي والفضل في الرزق.

(1) ديوانه: 86 من قصيدة مجد بها قومه، وقبله:
اننا معشر شمائلنا الصبر إذا الخوف مال بالأخفض
نصر للذليل في ندرة الحي مرائي؟ للتأى المنهاض.
من يرم جمعهم يجدهم مراجيح حماة للعزل الاحرض
346

اللغة والمعنى:
والفقر: الحاجة وهو ضد الغنى يقال: أفقره الله إفقارا وافتقر افتقارا
وتفاقر تفاقرا، لان الفقر بمنزلة كسر الفقار في تعذر المراد. والفقار: عظام منتظمة
في النخاع تسمى خرز الظهر واحدها فقرة. والافقار: إعارة الدابة لتركب ثم
ترد. والافقار: دنو الصيد. والفاقرة الداهية، لأنها تكسر الفقار. ومنه قوله:
" تظن أن يفعل بها فاقرة " (1) وأصل الباب الفقار: خرز الظهر. وتقول وعدته
الخير، ووعدته بالخير والأصل فيه تعديته بغير حرف الإضافة إلا أنه كثر استعماله
في التعدي بحرف الإضافة حتى صار أصلا فيه لكثرته. وأمرته بالخير أكثر في
الكلام وإنما يجوز أمرته الخير في الشعر وقوله: (والله واسع عليم) حكى البلخي
أنه بغير واو في مصاحف أهل الشام ولم يقرأ به أحد فان صح فهو دلالة على نقصان
الحروف من كثير من القرآن على ما اختلفوا فيه. والفرق بين الوعد والوعيد أن
الوعيد في الشر خاصة، والوعد بالتقييد للخير والشر معا غير أنه إذا أطلق لم يكن إلا
في الخير، وكذلك إذا أبهم التقييد كقولك وعدته بأشياء لأنه بمنزلة المطلق. وحد
الوعد: هو الخبر بفعل الخير في المطلق. والوعيد: هو الخبر بفعل الشر. والامر
هو قول القائل لمن هو دونه: افعل، مع إرادة المأمور به، فان الضم إليه الزجر
عن الاخلال به كان مقتضيا للايجاب. وقال ابن مسعود للشيطان لمة وللملك لمة.
ومثله روي عن أبي عبد الله (ع) فلمة الشيطان وعده بالفقر وأمره بالفاحشة
ولمة الملك أمره بالانفاق ونهيه عن المعاصي. وقال أبو مسلم والأزهري الفحشاء
البخل والفاحش البخيل قال طرفة:
عقيلة مال الفاحش المتشدد (2)

(1) سورة القيامة آية: 25.
(2) هو طرفة بن العبد الكري معلقته، واللسان: (فحش) وصدره:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
347

وقال الحسين بن علي المغربي والذي يقوي قوله ما أنشده أبو حيرة الراحل
من طي:
؟ أخذ المجد كما أرادا * ليس بفحاش يضن الزادا
وقال الرماني: والله ما قالاه بعيد. والفحشاء المعاصي في أغلب الاستعمال
ومعنى البيت الذي أنشداه أن الفاحش هو سئ الرد بسؤاله وضيفانه وذلك من
البخل لا محالة قال كعب:
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته * ولا برم عند اللقاء هبوب (1)
فتلخيص معنى الآية أن الشيطان يحملكم على أن تؤدوا في الصدقة ردئ
المال يخوفكم الفقر باعطاء الجيد - والفقر والفقر لغتان - ويعدكم الفقر: معناه
بالفقر فحذف الباء وعدى الفعل فنصب قال:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به * فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وقوله: (والله واسع عليم) معناه واسع يعطي من سعة مقدوراته
" عليم " حيث يضع ذلك ويعلم الغيب والشهادة.
قوله تعالى:
(يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا
كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب (269) آية.
القراءة والمعنى:
قرأ يعقوب " ومن يؤت " - بكسر التاء - الباقون بالفتح قيل في معنى
الحكمة في الآية وجوه قال ابن عباس وابن مسعود: هو علم القرآن ناسخه
ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله. وقال ابن

(1) هكذا في المطبوعة. وفي أمالي القالي 2: 146: ولا ورع عند اللقاء هبوب وفي
مجمع البيان: عند اللقاب هبوب.
348

زيد: هو علم الدين. وقال السدي: هو النبوة. وقال مجاهد الإصابة. وقال إبراهيم
النخعي: الفهم. وقال الربيع: الخشية. وقال قوم: هو العلم الذي تعظم منفعته
وتحل فائدته وهو جميع ما قالوه. وقال قتادة: والضحاك، وفي رواية عن مجاهد:
هو القرآن، والفقه. وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) وإنما قيل للعلم: حكمة
لأنه يمتنع به من القبيح لما فيه من الدعاء إلى الحسن، والزجر عن القبيح. وقال
الجبائي: هو ما آتاه الله أنبياءه وأممهم من كتبه وآياته ودلالة التي يدلهم بها
على معرفتهم به وبدينه وذلك تفضل منه يؤتيه من يشاء. وقوله: (وما يذكر إلا
أولوا الألباب) وكل مكلف ذو لب لأنه إنما يطلق عليهم هذه الصفة لما فيها من
المدحة فلذلك عقد التذكر بهم وهم الذين يستعملون ما توجبه عقولهم من طاعة الله
في كل ما أمر به ودعا إليه و " يؤت " جزم ب‍ (من) والجواب " فقد أوتي خيرا كثيرا "
ومن قرأ يؤت بكسر التاء على ما روي عن يعقوب ذهب إلى أن معناه ومن يؤته
الحكمة، وإنما حذف الهاء في الصلة ويكون (من) على هذا المعنى " الذي " لا معنى
الجزاء.
قوله تعالى:
(وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه
وما للظالمين من أنصار) (270) آية بلا خلاف.
(ما) في قوله وما أنفقتم بمعنى الذي وما بعده صلتها والعائد إليها الهاء في
قوله: " فان الله يعلمه " لأنها لا يجوز أن تعود على النفقة، لأنها مؤنثة، ولا على
النفقة والنذر، لان ذلك يوجب التثنية. والمراد بالانفاق ههنا ما يخرجه في طاعة
الله: واجباتها ومندوباتها.
وقوله: (أو نذرتم من نذر) فالنذر هو عقد الشئ على النفس فعل شئ
من البر بشرط، ولا ينعقد ذلك إلا بقوله لله علي كذا، و لا يثبت بغير هذا
اللفظ. وأصل النذر الخوف لأنه يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير في الامر ومنه
349

نذر الدم: العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال الشاعر:
هم ينذرون دمي وأنذر إن لقيت بأن أشدا
ومنه الانذار الاعلام بموقع العدو، للخوف منه ليتقى يقال نذرت النذر
أنذره نذرا وجمعه نذور وقوله: (فان الله يعلمه) معناه يجازي عليه لأنه عالم
به، فدل بذكر العلم على تحقيق الجزاء إيجازا للكلام وقوله (وما للظالمين من
أنصار) وعيد للظالمين وهم الفاعلون لضرر يستحق عليه الذم. والمراد بالظالمين
ههنا الذين كانوا انفاقهم على غير الوجه المأذون لهم فيه من ربا أو ضرار أو شقاق
أو من مال مغصوب أو مأخوذ من غير وجهه. وسمي ذلك ظلما، لأنه وضع فيه
في غير موضعه، والأنصار جمع نصير مثل شريف وأشراف، وباب فعيل يجمع على
فعلاء مثل عليم وعلماء وكريم وكرماء، وقد ورد فيه فعال مثل نصير ونصار.
والنصير: هو المعين على العدو، فعلى هذا لا تدل الآية على أنه لا شفاعة لمرتكبي
الكبائر لان أحدا لا يقول أن لهم معينا على عدوهم بل إنما نقول لهم من يسأل في
بابهم على وجه التضرع ولا يسمى ذلك نصر على حال.
قوله تعالى:
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء
فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعلمونه خبير)
(171) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف فنعما - بفتح النون وكسر العين -
وقرأ ابن كثير، وورش، ويعقوب، وحفص، والأعشى والبرجمي - بكسر النون
والعين - وقرأ أهل المدينة - إلا ورشا - وأبو عمر، وأبو بكر - إلا الأعشى -
والبرجمي - بكسر النون وسكون العين - وكذلك في النساء في قوله: " نعما يعظكم
350

به " وقرأ ابن عامر وحفص " ويكفر " بالياء والرفع. وقرأ أهل المدينة، وحمزة
والكسائي وخلف عن أبي بكر بالنون والجزم. الباقون بالنون والرفع.
المعنى والاعراب:
قال أبو علي الفارسي: المعنى في قوله (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) إن
في نعم ضمير الفاعل و " ما " في موضع نصب وهي تفسير الفاعل المضمر قبل الذكر
والتقدير نعم شيئا ابدؤها. فالابداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف
وأقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات مقامه، فالخصوص بالمدح هو الابداء
بالصدقات لان الصدقات تدل على ذلك قوله: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء
فهو خير لكم) أي الاخفاء خير لكم. فكما أن هو ضمير الاخفاء وليس بالصدقات
كذلك ينبغي أن يكون ضمير الابداء مرادا وإنما كان الاخفاء - والله أعلم -
خيرا لأنه أبعد من أن يشوب الصدقة مراءاة للناس وتصنع لهم فيخلص لله
(تعالى) ولم يكن المسلمون إذ ذاك ممن يسبق إليهم؟ في منع واجب. والفرق
بين الصدقة والزكاة أن الزكاة لا تكون إلا فرضا والصدقات قد تكون فرضا،
وقد تكون نفلا. واختلفوا في الصدقة التي إخفاؤها أفضل. فقال ابن عباس،
وسفيان، واختاره الجبائي: انها صدقة التطوع، لأنها أبعد من الرياء فأما
الصدقة الواجبة فاظهارها عندهم أفضل لأنه أبعد من التهمة. وقال يزيد بن أبي
حبيب: الصدقات على أهل الكتاب إظهارها أولى، وهي على المسلمين إخفاؤها أفضل.
وقال الحسن، وقتادة: الاخفاء في كل صدقة من زكاة وغيرها أفضل، وهو
الأقوى لأنه عموم الآية وعليه تدل اخبارنا وقد روي عن أبي عبد الله (ع)
أن الاخفاء في النوافل أفضل. وقال أبو القاسم الابداء خير. والمفسرون على
خلافه.
351

اللغة:
والاخفاء: هو الستر تقول أخفيت الشئ أخفيه إخفاء: إذا سترته: والخفي
الاظهار خفيته أخفيه خفيا إذا أظهرته لأنه إظهار يخفى قال الشاعر:
فان تدفنوا الداء لا تخفه * وأن تبعثوا الحرب لا نقعد (1)
والخفاء: الغطاء والخوافي من ريش الطائر ما دون القوادم لأنها يخفى بها
والخفية عريش الأسد لأنه يختفي فيها تقول: اختفى اختفاء وخفى تخفية وتخفى
تخفيا واستخفى استخفاء وأصل الباب الستر. والابداء والاظهار والاعلان نظائر
والاخفاء والاسرار والاغماض نظائر. تقول بدا الشئ يبدو: إذا ظهر، وأبديته:
إذا أظهرته.
الاعراب والقراءة:
وضعف النحويون بأجمعهم قراءة أبي عمرو، وقالوا لا يجوز إسكان العين
مع الادغام وإنما هو إخفاء يظن السامع أنه إسكان. وإنما لم يجز الاسكان مع الادغام
لأنه جمع بين ساكنين في غير حروف المد واللين في نحو دابة وغير ذلك. وقد أنشد
سيبويه في الجمع بين ساكنين مثل اجتماعهما في نعما قول الشاعر:
كأنها بعد كلال الزاجر * ومسحه مر عقاب كاسر (2)
وأنكره أصحابه. ومن رفع يكفر عطفه على موضع (ما) بعد الفاء ومن
جزم فعلى موضع الفاء. ومثل الأول قوله: (ومن يضلل الله فلا هادي له
ويذرهم) ونظير الثاني " فأصدق وأكن " فمن اختار الجزم فلانه أبين في الاتصال بالجزاء
ومن رفع فلانه أشكل بما دخلت له الفاء إذ كانت إنما دخلت لاستقبال الكلام بعدها
وإن كان في معنى الجواب. ومن قرأ بالياء فمعناه " ويكفر الله " وقوله: " من

(1) قاله امرؤ القيس بن عابس الكندي. ديوان امر القيس: 343، واللسان (خفا) وروايته (فان تكتموا السر لا تخفه).
(2) اللسان (كسر) في المطبوعة (كأنه) بدل (كأنها) و (مر) ساقطة. وأنشده
سيبويه: ومسح مر عقاب كاسر.
352

سيئاتكم " دخلت من للتبعيض لأنه إنما يكفر بالطاعة - غير التوبة - الصغائر. هذا على
مذهب من يقول بالصغائر والاحباط. فأما على مذهبنا فإنما كان كذلك لان اسقاط
العقاب كله تفضل، فله أن يتفضل باسقاط بعضه دون بعض فلو لم يدخل من
لا فاداته يسقط جميع العقاب. وقال قوم من زائدة والذي ذكرناه أولى لأنه لا حاجة
بنا إلى الحكم بزيادتها مع امكان حملها على فائدة (والله بما تعملون خبير) معناه أنه
تعالى بما تعملونه في صدقاتكم من إخفائها وإعلانها عالم خبير به لا يخفى عليه شئ
من ذلك فيجازي على جميعه بحسبه. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لابن العاص " تعما
بالمال الصالح للرجل الصالح " فاختار أبو عبيد لأجل هذه الرواية قراءة أبي عمرو
وقال الزجاج هذه رواية غير مضبوطة ولا يجوز عند البصريين ذلك لأنه فيه جمعا
بين ساكنين من غير حرف مد ولين وفي نعم ثلاث لغات نعم ونعم ونعما.
قوله تعالى:
(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا
من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا
من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (272) آية واحدة.
المعنى:
قيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان: أحدهما - ما قاله ابن عباس
وسعيد بن جبير وقتادة ليس عليك هداهم بمنع المشركين الأقرباء من الصدقة ليدخلوا
في الاسلام فعلى هذا معناه الإباحة. الثاني - قال الحسن، أبو علي الجبائي،
والزجاج: " ليس عليك هداهم " بالحمل على النفقة في وجوه البر فعلى هذا معناه
التسلية والتقدير ليس عليك أن تعدي الناس إلى نيل الثواب، والجنة وإنما عليك
أن تهديم إلى الايمان بأن تدلهم عليه لأنه (عليه السلام) كان يغتم إذا لم يؤمنوا
353

ولم يقبلوا منه لعلمه بما يصيرون إليه من العقاب فسلاه الله بهذا القول. وإنه
لا ينبغي ترك مواساة ذوي القربى من أهل الشرك ليدخلوا في الاسلام فيكون ذلك
مبيحا للصدقة المندوبة عليهم. وقال ابن عباس، وابن الحنفية، وسعيد بن جبير:
نزلت هذه الآية لأنهم كانوا يتقون الصدقة على المشركين حتى نزلت " ليس عليك
هداهم " وقوله: " ولكن الله يهدي من يشاء " إنما علق الهداية بالمشيئة لمن
كان في المعلوم أنه يصلح باللطف وليس كل أحد يصلح به فلذلك جاء الاختصاص
بالمشيئة. وقال أبو علي الجبائي: الهداية في الآية هو إلى طريق الجنة وذلك يختص
بالمؤمنين المستحقين للثواب والأول اختيار البلخي وابن الاخشاد والزجاج وأكثر
أهل العلم.
وقوله: (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله)
؟ فلهذا يجب ألا تمنوا بالصدقة والانفاق: إذ كان لأنفسكم من حيث هو ذخر
لكم ولابتغاء وجه الله الذي هو يوفر به الجزاء لكم فهو من كل وجه عائد عليكم
وليس كتمليك الله لعباده إذ نفعه راجع عليهم كيف تصرفت الحال بهم، فلذلك
افترق ذكر العطية منه (تعالى)، والعطية من غيره. ومعنى قوله " إلا ابتغاء وجه
الله " إلا ابتغاء رضوان الله. واستدل بذلك على حسن باطن المعنيين بالآية.
وانهم كانوا ينفقونه لوجه الله خالصا. وقيل معناه وما تنفقون إلا ابتغاء وجه
الله، فكيف يضيع سعيكم وإنفاقكم. وقيل في ذكر الوجه قولان:
أحدهما - لتحقيق الإضافة إليه، لان ذكره يزيل الابهام انه له أو لغيره،
لأنك إذا اختصصت ذكر الوجه ومعناه التبيين، دل على أنك أردت الاختصاص
وإزالة الابهام، ورفع الاشتراك وحققت الإضافة.
والثاني - لأشرف الذكرين في الصفة لأنه إذا قلت: فعلته لوجه زيد فهو
أشرف في الذكر من فعلته (لزيد). لان وجه الشئ في الأصل أشرف ما فيه ثم كثر حتى
صار يدل على شرف الذكر في الصفة فقط من غير تحقيق وجه ألا ترى أنك تقول:
وجه هذا الامر كذا وهذا أوجه الرأي وهذا أوجه الدليل فلا تريد تحقيق الوجه
354

وإنما يريد أشرف ما فيه من أجل شدة ظهوره وشدة بيانه.
قوله تعالى:
(للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا
في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم
لا يسألون الناس الحافا وما تنفقوا من خير فان الله به عليم)
(273) آية واحدة.
قرأ حمزة وعاصم وابن عامر " يحسبهم " - بفتح السين - الباقون بكسرها.
قال مجاهد، والسدي: الفقراء مذكورون في الآية هم فقراء المهاجرين. وقال أبو
جعفر (ع) نزلت في أصحاب الصفة. والعامل في الفقراء محذوف وتقديره النفقة
للفقراء وقد تقدم ما يدل عليه. وقال بعضهم هو مردود على اللام الأولى في قوله:
(وما تنفقوا من خير فلا نفسكم) قال الرماني هذا لا يجوز لان بدل الشئ من غيره
لا يكون إلا والمعنى يشتمل عليه. وليس كذلك ذكر النفس ههنا، لان الانفاق
لها من حيث هو عائد عليها، وللفقراء من حيث هو. واصل إليهم وليس من
باب " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " لان الامر لازم للمستطيع
خاصة ولا يجوز أن يكون العامل فيه " تنفقوا " لأنه لا يفصل بين العامل والمعمول
فيه بما ليس منه كما لا يجوز كانت الحمى تأخذ.
اللغة:
وقوله: (الذين أحصروا) فالاحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو
حاجة أو مخافة والحصر هو منع الغير وليس كالأول، لأنه منع النفس. وقال قتادة
وابن زيد: منعوا أنفسهم من التصريف في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار.
وقال السدي: منعهم الكفار والخوف منهم، ولو كان الامر على ما ذكر لكان
355

حصروا لان الذي يمنعه العدو محصور والذي يمنع نفسه محصر، ويحسبهم - بفتح
السين وكسرها - لغتان ومعناه يظنهم ولا يعرف حالهم " أغنياء من التعفف "
وقوله: (لا يستطيعون ضربا في الأرض) ليس معناه أنهم لا يقدرون وإنما
معناه أنهم ألزموا أنفسهم أمر الجهاد فمنعهم ذلك من التصرف كقولك: أمرني
الوالي أن أقيم، فما أقدر أن أبرح معناه ألزمت نفسي طاعته لا أني لا أقدر عليه.
وتقول ضربت في الأرض ضربا ومضربا إذا سرت فيها وضرب الجرح إذا آلم
ضربانا وضربا، وضرب الفحل الناقة: إذا طرقها ضربا والضريب. الجليد تقول:
ضربت الأرض وجلدت. رواه الكسائي. وقوله: " تعرفهم بسيماهم " فالسيما
العلامة.
المعنى:
وقال مجاهد: معناه ههنا التخشع. وقال السدي، والربيع: علامة الفقر
وأصل سيما الارتفاع لأنها علامة رفعت للظهور. ومنه السؤم في البيع: وهو الزيادة
في مقدار الثمن، للارتفاع فيه عن الحد. ومنه سوم الخسف للتوقع فيه بتحميل
ما يشق. ومنه سوم الماشية إرسالها في المرعى. وقوله: " لا يسألون الناس إلحافا "
لا يدل على أنهم كانوا يسألون غير إلحاف - في قول الفراء، والزجاج، والبلخي،
والجبائي - وإنما هو كقولك ما رأيت مثله. وأنت لم ترد أن له مثلا ما رأيته
وإنما تريد أنه ليس له مثل فيرى. وقال الزجاج معناه لم يكن سؤال، فيكون
إلحاح كما قال امرؤ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره * إذا سافه العود النباطي جرجرا (1)
والمعنى لا منار به فيهتدى بها، وإنما وجهوه على ذلك، لان في الكلام

(1) ديوانه: 89. اللاحب: الطريق الواضح. والمنار: العلامة توضع لارشاد
المسافرين. سافه: شمه. العود: الجمل المسن الضخم. جرجر: رغا وضج. وقد مر صدره
في 1: 189 - 289 - 444. في المطبوعة وآمالي المرتضى 1: 228 الدبافي بدل (النباطي)
356

دليلا عليه، لأنه (تعالى) وصفهم بالتعفف والمعرفة بسيماهم دون الافصاح بسؤالهم
لأنهم لو أفصحوا به لم يحسبهم الجاهل أغنياء، لأنه إنما يجهل ما ينال بالاستدلال
وإنما جاز هذا الاختصاص بالذكر لان المعنى نفي صفة الذم عنهم. وقوله " إلحافا "
قال الزجاج هو مأخوذ من اللحاف لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال
اللحاف في التغطية وقال غيره: لأنه يلزم لزوم اللحاف في غير وقته. وفي الآية
دلالة على فساد قول المجبرة في الاستطاعة، لأنه تعالى إذا عذر من لا يستطيع
للمخافة كان من لا يستطيع لعدم القدرة أعذر. وقوله (وما تنفقوا من خير فان
الله به عليم) معناه يجازيكم عليه كما قال (وما تنفقوا من خير يعلمه الله).
قوله تعالى:
(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية
فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
(274) آية.
ذكر ابن عباس أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (ع) كانت معه
أربعة دراهم فانفقها على هذه الصفة بالليل والنهار. وفي السر والعلانية. وهو المروي
عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وروي عن أبي ذر (ره) والأوزاعي إنها نزلت في
النفقة على الخيل في سبيل انه. وقيل هي في كل من أنفق ماله في طاعة الله على هذه
الصفة وإذا قلنا أنها نزلت في علي (ع) فحكمها سار في كل من فعل مثل فعله.
وله فضل الاختصاص بالسبق إلى ذلك. ونزول الآية من جهته. وقيل في قسمة
الأموال في الانفاق على الليل والنهار والاسرار والاعلان أفضل من الانفاق
على غير ذلك الوجه قولان: قال ابن عباس: إن هذا كان يعمل به حتى نزل فرض
الزكاة في براءة. والثاني - ان الأفضل موافقة هذه الصفة التي وصفها الله. وهو
الأقوى لأنه الظاهر، وقال الرماني، ومن تابعه من المعتزلة لا يجب هذا الوعد
357

إذا ارتكب صاحبها الكبيرة من الجرم كما لا يجب إن أوتد عن الايمان إلى الكفر
وإنما يجب لمن أخلصها مما يفسق بها وهذا عندنا ليس بصحيح، لان القول
بالاحباط باطل ومفارقة الكبيرة بعد فعل الطاعة لا تحبط ثواب الطاعة بحال. وإنما
يستحق بمعصيته العقاب ولله فيه المشيئة، فأما الارتداد فعندنا أن المؤمن على
الحقيقة لا يجوز أن يقع منه كفر، ومتى وقع ممن كان على ظاهر الايمان ارتداد
علمنا أن ما كان يظهره لم يكن إيمانا على الحقيقة، وإنما قلنا ذلك لأنه لو كان
إيمانا لكان مستحقا به الثواب الدائم فإذا ارتد فيما بعد استحق بارتداده عقابا
دائما فيجتمع له استحقاق الثواب الدائم والعقاب الدائم وذلك خلاف الاجماع
وقوله: " الذين رفع بالابتداء " وما بعده صلة له وخبره " فلهم أجرهم عند ربهم "
وإنما دخل الفاء في خبر الذين لان فيها معنى الجزاء، لأنه يدل على أن الاجر
من أجل الانفاق في طاعة الله. ولا يجوز أن يقال زيد فله درهم لأنه ليس فيه
معنى الجزاء وإنما رفع (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ونصب " لا ريب فيه "
لأجل تكرير (لا) في جواب إذا قال الشاعر:
وما صرمتك حتى قلت معلنة * لا ناقة لي في هذا ولا جمل
فأما " لا ريب فيه "، فجواب (هل) من ريب فيه، فقيل لا ريب فيه
على عموم النفي كما أن السؤال على استغراق الجنس بمن فالاعتماد في أحدهما على
عموم النفي وفي الاخر على اشتمال النفي على شيئين قد توهم: إثبات أحدهما. والانفاق
إخراج ما كان من المال عن الملك ولهذا لا يصح في صفة الله (تعالى) الانفاق:
وهو موصوف بالاعطاء لعباده ما شاء من نعمه لان الاعطاء إيصال الشئ إلى
الاخذ له والسر: إخفاء الشئ في النفس فأما اخفاؤه في خباء، فليس بسر في
الحقيقة، ومنه السرار والمسارة لان كل واحد منهما يخفي الشئ عن غيره إلا
عن صاحبه، والعلانية، نقيض السر وهو إظهار الشئ وإبرازه من النفس.
358

قوله تعالى:
(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا
وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى
فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم
فيها خالدون (257) آية.
المعنى:
أصل الربا: الزيادة من قولهم ربا الشئ يربو ربوا إذا زاد. والربا: هو
الزيادة على رأس المال. في نسيئة أو مماثلة وذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة في
الأجل أو كاعطاء درهم بدرهمين أو دينار بدينارين، والمنصوص عن النبي صلى الله عليه وآله
تحريم التفاضل في ستة أشياء. الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر،
والملح. وقيل: الزبيب: فقال النبي صلى الله عليه وآله فيها مثلا بمثل يدا بيد من زاد أو
؟، فقد أربى. هذه الستة أشياء لا خلاف في حصول الربا فيها، وباقي الأشياء
عند الفقهاء مقيس عليها. وفيها خلاف بينهم، وعندنا أن الربا في كل ما يكال أو
يوزن إذا كان الجنس واحدا، منصوص عليه. والربا محرم متوعد عليه كبيرة بلا
خلاف، بهذه الآية، وبقوله: (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من
الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله) (1)
وقوله: (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) قال ابن عباس،
وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة: إن قيامهم على هذه الصفة يكون

(1) سورة البقرة آية: 78 - 79.
359

يوم القيامة: إذا قاموا من قبورهم، ويكون ذلك إمارة لأهل الموقف على أنهم
أكلة الربا. وقوله: " يتخبطه الشيطان " مثل عند أبي علي الجبائي لا حقيقة على
وجه التشبيه بحال من تغلب عليه المرة السوداء، فتضعف نفسه ويلج الشيطان
بإغوائه عليه فيقع عند تلك الحال ويحصل به الصراع من فعل الله. ونسب إلى
الشيطان مجازا لما كان عند وسوسته. وكان أبو الهذيل وابن الاخشاد يجيزان أن
يكون الصراع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض قالا. لأن الظاهر من
القران يشهد به، وليس في العقل ما يمنع منه وقال الجبائي: لا يجوز ذلك، لان
الشيطان خلق ضعيف لم يقدره الله على كيد البشر بالقتل والتخبيط ولو قوي على
ذلك لقتل المؤمنين الصالحين والداعين إلى الخير، لأنهم أعداؤه، ومن أشد
الأشياء عليه. وفي ذلك نظر وأصل الخبط: الضرب على غير استواء، خبطته
أخبطه خبطا. والخبط ضرب البعير الأرض بيديه والتخبط المس بالجنون أو
التخبيل، لأنه كالضرب على غير استواء في الادهاش. والخبطة البقية من طعام
أو ماء أو غيره لأنه كالصبة من الدلو وهي الخبطة به، والخبط: ورق تعلفه الإبل.
والخباط: داء كالجنون، لأنه اضطراب في العقل كالاضطراب في الضرب.
والخبطة كالزكمة، لأنها تضرب بالانحدار على اضطراب. والخباط سمة في الفخذ
لأنها تضرب فيه على اضطراب ومعنى قوله: (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل
الربا) إن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد مصيره على جهة الدين كالزيادة
عليه في ابتداء البيع وذلك خطأ، لان أحدهما محرم والاخر مباح، وهو أيضا
منفصل منه في العقد، لان الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الاخر لأجل
البيع. والفرق بين البيع والربا: أن البيع ببدل لان الثمن فيه بدل؟ ثمن. والربا
ليس كذلك وإنما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل أو زيادة في الجنس
(وقد أحل الله البيع وحرم الربا) وقوله: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله
ما سلف) قال أبو جعفر من أدرك الاسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية، وضع
الله عنه ما سلف. وقال السدي: له ما أكل، وليس عليه رد ما سلف، فأما ما لم
360

يقبض بعد، فلا يجوز له أخذه. وله رأس المال. وقال الطبري: الموعظة التذكير
والتخويف الذي ذكره الله وخوفهم به من آي القرآن وأوعدهم عليه إذا أكلوا
الربا من أنواع العقاب. وقوله: " وأمره إلى الله " معناه بعد مجئ الموعظة
والتحريم، وبعد انتهاء أكله إلى الله (تعالى) عصمته، وتوفيقه إن شاء عصمه
عن أكله وثبته في انتهائه عنه، وإن شاء خذله. ويحتمل أن يكون أراد، فله
ما سلف يعني من الربا المأخوذ دون العقاب الذي استحقه.
اللغة:
وقوله: (وأمره إلى الله) معناه في جواز العفو عنه إن لم يتب وكل شئ
قدمته امامك فهو سلف. والسلوف التقدم يقال: سلف يسلف سلوفا ومنه الأمم
السالفة أي الماضية. والسالفة أعلى العنق. والاسلاف الاعطاء قبل الاستحقاق تقول
أسلفت المال إسلافا، وسلافة الخمر: صفوها لأنه أول ما يخرج من عصيرها
والسلفة: جلد رقيق يجعل بطانة للخفاف. وسلف الرجل: المتزوج بأخت امرأته
والسلفة ما تدخره المرأة لتتحف به زائرا، وأصل الباب التقدم. وقوله: " ومن عاد "
فالعود هو الرجوع تقول عاد يعود عودا إذا رجع. وعيادة المريض: المصير إليه لتعرف
خبره. والعود: من عيدان الشجر، لأنه يعود إذا قطع ومنه العود الذي يتبخر به.
والعود: المسن من الإبل. والمعاد كل شئ إليه المصير. فالآخرة معاد الناس أي
مرجع. وقوله: " لرادك إلى معاد " (1) يعني مكة بأن يفتحها عليه.
والإعادة: فعل الشئ ثانية وهو المبدئ المعيد. والعادة تكرر الشئ مرة
بعد مرة. وتعود الخير عادة. والعيد كل يوم مجمع عظيم، لأنه يعود في السنة أو
في الأسبوع. والعائدة الصلة لأنها تعود بنفع على صاحبها وأصل الباب الرجوع.

(1) سورة القصص آية: 85.
361

تقول: عاد عودا واعتاد اعتيادا واستعاد استعادة وعود تعويدا، وتعود تعودا،
وعاود معاودة.
المعنى:
ومعنى الآية ومن عاد لا كل الربا بعد التحريم. وقال ما كان يقوله قبل
مجئ الموعظة من أن البيع مثل الربا (فإنك أصحاب النار هم فيها خالدون) لان
ذلك لا يصدر إلا من كافر، لان مستحل الربا كافر بالاجماع فلذلك توعده بعذاب
الأبد. والخلود والوعيد في الآية يتوجه إلى من أربى، وإن لم يأكله وإنما ذكر
الله الذين يأكلون الربا لأنها نزلت في قوم كانوا يأكلونه، فوصفهم بصفتهم وحكمها
سائر في جميع من أربى. والآية الأخرى التي ذكرناها وتبين معناها فيما بعد تبين
ما قلناه وعليه أيضا الاجماع وقيل في علة تحريم الربا أن فيه تعطيل المعايش والاجلاب
والمتاجر إذا وجد المربي من يعطيه دراهم وفضلا بدراهم. وقال أبو عبد الله (ع)
إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف فرضا أو رفدا
وأما ذكر الموعظة ههنا وأنها في قوله: (قد جاءتكم موعظة من ربكم) لامرين:
أحدهما - أن كل تأنيب ليس بحقيقي جاز فيه التذكير والتأنيث فجاء القرآن بالوجهين
معا. والثاني - أنه ذكر ههنا لوقوع الفصل بين الفعل والفاعل بالضمير وأنت في
الموضع الذي لم يفصل. والربا محرم في النقد والنسيئة بلا خلاف وكان بعض من
تقدم يقول لا ربا إلا في النسيئة والذي كان يربيه أهل الجاهلية أن يؤخروا الدين
عن محله إلى محل آخر بزيادة فيه وهذا حرام بلا خلاف. ومسائل البيع الصحيح
منها والفاسد وفروعها بيناها في النهاية والمبسوط وكذلك مسائل الصرف فلا نطول
بذكرها في هذا الكتاب.
قوله تعالى:
(يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار
362

أثيم) (276) آية واحدة
اللغة:
المحق: نقصان الشئ حالا بعد حال. محقه الله يمحقه محقا، فانمحق وامتحق
أي هلك وتلف بذهابه حالا بعد حال. والمحاق آخر الشهر لامحاق الهلال فيه.
والشئ محيق بمعنى ممحوق وأصل الباب المحق فان قيل بأي شئ " يمحق الله
الربا ويربي الصدقات؟ " قلنا: يمحقه بأن ينقصه حالا بعد حال. وقال البلخي محقه
في الدنيا بسقوط عدالته والحكم بفسقه وتسميته بالفسق.
المعنى:
وقوله (ويربي الصدقات) معناه يزيدها بما يثمر المال في نفسه وبالاجر عليه
وذلك بحسب الانتفاع بها وحسن النية فيها ووجه زيادته على المستحق بالعمل تفصل
بالوعد به وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله يقبل الصدقة، ولا يقبل منها إلا
الطيب ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة لتصير مثل
أحد، وذلك قوله: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) وقوله: (والله لا يحب
كل كفار أثيم) إنما لم يقل كل كافر مع دخول الكفار في الكافر لان كل كفار
كافر وليس كل كافر كفار للدلالة على أن مستحل الربا في قوله " إنما البيع مثل
الربا " مع أنه كافر كفار، ويجوز للدلالة على صفات الذم إذ قد يتوهم أن الكفار
من استكثر من كفر نعمة إنسان لا يبلغ به استحقاق العقاب ويجوز أن يكون
من باب الاختصاص لعظم المنزلة في الامر الذي تعلق به الذكر " والأثيم " هو
المتمادي في الاثم. والاثم: الفاعل للإثم وإنما قال لا يحبه ولم يقل يبغضه لأنه إذا
لم يحب المكلف فهو يبغضه فقولك لا يحبه الله من صفات الذم كما أن قولك لم ينصف
في المعاملة من صفات الذم.
كما أن قولك لم ينصف
في المعاملة من صفات الذم.
363

قوله تعالى:
(أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
(277) آية واحدة.
المعنى:
إن قيل: إذا كان الثواب يستحق بخلوص الايمان فلم يشرط غيره من الخصال؟
قلنا: لم يذكر ذلك ليكون شرطا في استحقاق الثواب على الايمان وإنما بين أن كل
خصلة من هذه الخصال يستحق به الثواب ونظير ذلك ما ذكره في آية الوعيد في
قوله: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا
بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد
فيه مهانا) (1) فإنما بين أن كل خصلة من هذه الخصال يستحق بها العقاب لان
من المعلوم أن من دعا مع الله إلها آخر لا يحتاج إلى شرط عمل آخر استحق العقاب
وإن كان الوعيد إنما يتوجه عليه بمجموع تلك الخصال لكان فيه تسهيل لكل
واحد منهما وليس التقييد في آيتي الوعيد يجري مجرى قوله: (والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) (2) من قبل أن هذا
معلق بحكم يجب بوجوبه ويرتفع بارتفاعه باجماع وليس كذلك ذكر هذه الخصال.
وهذه الآية تدل على أن أفعال الجوارح ليست من الايمان وإن الايمان هو
التصديق بما وجب لأنها لو كانت من الايمان، لكان قوله " إن الذين آمنوا " قد
اشتمل عليها فلا معنى لذكرها بواو العطف إذ لا يعطف الشئ على نفسه. فان
قيل ذلك يجري مجرى قوله: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) (3) وقوله:

(1) سورة الفرقان آية: 68.
(2) سورة النور آية: 4.
(3) سورة محمد آية: 1، وسورة النحل آية: 88.
364

(الذين كفروا وكذبوا بآياتنا) (1) قلنا والخلاف في هاتين كالخلاف في تلك
لأنا لا نقول إن التكذيب بالآيات هو الكفر نفسه وإنما نقول هو دلالة على الكفر
وكذلك الصد عن سبيل الله كما نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وآله فلان كافر يدل على
كفره. وإن لم يكن ذلك كفرا وقال قوم: من المرجئة إن الوعد بهذه الخصال
يدل على بطلان التحابط، لأنه تعالى ضمن الثواب بنفس فعل هذه الخصال، ولم
يشرط ألا يأتي بما يحبطها فان قيل لابد أن يكون ذلك مشروطا كما أن الوعيد على
الكفر لابد أن يكون مشروطا بارتفاع التوبة منه، لا؟ كل واحد من الامرين
إنما يستحق بخلوه مما ينافيه وإذا اتبع بكبيرة لم يخلص كما لم يخلص ما اتبع بتوبة.
قلنا: إنما شرطنا الوعيد على الكفر بعدم التوبة لمكان الاجماع، لا لان التوبة
تسقط العقاب على الكفر، وإنما وعد الله (تعالى) تفضلا باسقاط العقاب على
المعاصي بالتوبة منها، وليس مثل ذلك موجودا في آية الوعد لأنه ليس على شرط
انتفاء الكبيرة إجماع، والعمل هو التغيير للشئ بالاحداث له أو فيه فإذا قيل:
عمل فلان الصالحات كان معناه أحدثها وإذا قيل: عمل الموازين والخوض والسروج
والصفر وغير ذلك، كان المراد أنه أحدث فيها ما تتغير به صورتها.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن
كنتم مؤمنين) (278) آية واحدة.
النزول:
ذكر السدي وابن جريج وعكرمة أن هذه الآية نزلت في بقية من الربا كانت
للعباس ومسعود وعبد يأليل وحبيب وربيعة. وبني عمرو بن عمير وروي عن
أبي جعفر (ع) أن الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية وكان بقي له بقايا على

(1) سورة البقرة آية: 39، وسورة المائدة آية: 11، 89 وسورة الحج آية: 57
وسورة الحديد آية: 19، وسورة التغابن آية: 10.
365

ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت هذه الآية في المنع
من ذلك.
المعنى:
ومعنى " ذروا ما بقي من الربا " ظاهره تحريم ما بقي دينا من الربا وإيجاب أخذ
رأس المال دون الزيادة على جهة الربا. وقوله: " إن كنتم مؤمنين " قيل فيه
قولان: أحدهما - من كان مؤمنا فهذا حكمه. والثاني - إذ كنتم مؤمنين. والأول
هو الأقوى.
اللغة:
ومعنى " ذروا " اتركوا. ولم يستعمل منه وذر، ولا واذر لكراهة الواو
مبتدأة لأنها لم تزد أولا في كلامهم كزيادة أختيها الياء والهمزة. قال الخليل:
إذا التقت واوان في أول الكلمة أشبه بنباح الكلب فرفضوا ذلك إلا فيما هو
عارض لا يعتد به فاستعملوا يذر، لأنه لا تظهر فيه الواو، ومثله يدع. فأما
وعد فجاء على الأصل. فان قيل: لم جاز وصف المبهم بالوصول، ولم يحسن بالمضاف
فجاز أن يقول: " يا أيها الذين آمنوا " ولم يحسن (يا أيها غلام زيد) قلنا: لان
المبهم حقه أن يوصف بالجنس المعرف بالألف واللام، لأنه إذا عرض فيه تنكير
بطلت دلالته على الجنس، فاحتيج إلى وصفه بالجنس لذلك. فان قيل: هلا جاز
(يا أيها غلام الرجل) كما جاز (نعم غلام الرجل) إذ المضاف إلى الجنس يقوم مقام
الجنس. قيل: لأنه لا يجوز في الأسماء التامة أن تكون ثلاثة أسماء بمنزلة اسم
واحد منها. وقد جعل (يا أيها الرجل) بمنزلة اسمين ضم أحدهما إلى الاخر نحو
(حضرموت) ليكون بذلك أشد اتصالا بالموصوف من سائر الصفات، فلم يجز
في المضاف لما يجب له من شدة الاتصال وجاز في نعم، لأنه على الانفصال.
366

قوله تعالى:
(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم
فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) (279) آية.
القراءة:
قرأ " فآذنوا " من الرباعي ممدودة حمزة وعاصم: من آذنت أي أعلمت.
الباقون (فأذنوا).
المعنى:
والتقدير في قوله: " فإن لم تفعلوا " يعني ترك ما بقي من الربا أو تجنب ما بقي
من الربا، لان ما تقدم دل عليه. وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: من عامل
بالربا استتابه الامام فان تاب، وإلا قتله. وقال البلخي: لو اجتمع أهل قرية على
اظهار المعاملة بالربا، لكان على الامام محاربتهم، وإن كانوا محرمين له، ولو فعل
الواحد بعد الواحد، والأكثر منكر لفعله لم يقتل الواحد، لكن يقام عليه من
الحكم ما يستحقه. وعندنا أنه يؤدبه الامام ثلاث مرات بما يرتدع معه عن فعل
مثله فان عاد رابعا قتله.
اللغة:
ومعنى قوله: " فاذنوا " ممدودا: علموا غيركم. ومن قرأ بالقصر فهو من
أذنت به آذن اذنا إذا علمت به. وقوله: " بحرب من الله " فالحرب: القتال.
والحرب: الشدة. والحربة: التي يطعن بها من آلة الحرب. والتحريب: التحريش.
لأنه حمل على ما هو كالحرب من الأذى. والمحراب: مقام الامام، لأنه كموضع الحرب
في شدة التحفظ. والحربا: المسمار الذي يجمع حلقتي الدرع. والحربا: دويبة
367

أكبر من العطاءة، لأنه ينتصب على الشجرة كمصلوب أخذ من الحرب لشدة طلبه
للشمس تدور معها كيفما دارت. وأصل الباب الشدة. ومعنى قوله: (وإن
تبتم) يعني من الربا لان الكلام يدل عليه، فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون بأخذ
الزيادة على رأس المال ولا تظلمون بالنقصان. وروي في الشواذ " لا تظلمون ولا
تظلمون " والمعنى واحد وإنما فيه تقديم وتأخير وموضع (لا تظلمون) نصب على
الحال. وتقديره فلكم رؤس أموالكم غير ظالمين ولا مظلومين:
وقوله تعالى:
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وإن تصدقوا خير
لكم إن كنتم تعلمون) (280).
معنى قوله: " وإن كان ذو عسرة أي من غرمائكم إن كان معسرا. وارتفع
ذو عسرة لاحد وجهين:
أحدهما - حذف الخبر، وتقديره وإن كان ذو عسرة غريما لكم. الثاني -
أن تكون كان التامة المكتفية باسمها وتقديره وإن وقع ذو عسرة أو وجد ذو
عسرة وكان يجوز وإن كان ذا عسرة على تقدير وإن كان الذي عليه الدين ذا عسرة.
وروي ذلك في قراءة أبي. وقوله: (فنظرة) معناه فعليكم نظرة، وهل الانظار
واجب في كل دين أو في دين الربا فقط. قيل فيه ثلاثة أقوال:
أولها - قال شريح، وإبراهيم في دين الربا خاصة. والثاني - قال ابن عباس،
والضحاك، والحسن: في كل دين. وهو قول أبي جعفر، وأبي عبد الله (ع).
الثالث - بالآية يجب في دين الربا وبالقياس في كل دين، واستدل على أنه يجب
في كل دين بأنه لا يخلو أن يجب في ذمته أو في رقبته أو عين ماله، فلو كان في
رقبته لكان إذا مات بطل وجوبه، ولو كان في عين ماله كان إذا هلك بطل
وجوبه فصح أنه في ذمته، ولا سبيل له عليه في غير ذلك من حبس أو نحوه.
وقرأ نافع (ميسرة) - بضم السين - الباقون بفتحها، وهما لغتان:
368

ومعناه إلى أن يوسع عليه. وقال أبو جعفر (ع) إلى أن يبلغ خبره الامام
فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في معروف.
وقوله: (وإن تصدقوا خير لكم) معناه على المعسر بما عليه من الدين خير
لكم. وقيل إن معناه وإن تصدقوا بجميع المال على الفقراء. والأول أليق بما
تقدم. وروي عن ابن عباس. وعمر أن آخر ما نزل من القرآن آي الربا. وروي
عن مجاهد (ميسره) بالهاء في الوصل مضافا إلى الهاء. ولم يجز ذلك البصريون
لأنه ليس في الكلام مفعله. والاعسار الذي يجب فيه الانظار قال الجبائي: التعذر
بالاعدام أو بكساد المتاع ونحوه. وروي عن أبي عبد الله (ع) هو إذا لم يقدر
على ما يفضل عن قوته وقوة عياله على الاقتصاد. وروي عن عطا (فناظرة) وهو
شاذ، وهو مصدر نحو قوله: " ليس لوقعتها كاذبة " (1) " وتظن أن يفعل
بها فاقرة (2) وكذلك العاقبة والعافية:
قوله تعالى:
(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس
ما كسبت وهم لا يظلمون) (281) آية واحدة.
القراءة والنزول:
قرأ أبو عمرو. وحده (ترجعون) بفتح التاء الباقون بضمها. قال ابن
عباس وعطية والسدي: هذه الآية آخر ما نزلت من القرآن. وقال جبريل (ع)
ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة.
المعنى:
وقيل في معنى ترجعون فيه إلى الله قولان:
أحدهما - ترجعون فيه إلى جزاء الله. الثاني - ترجعون فيه إلى ملك الله

(1) سورة الواقعة آية: 2.
(2) سورة القيامة آية: 25.
369

لنفعكم وضركم دون غيره ممن كان ملكه إياه في دار الدنيا. وقوله (ثم توفى كل
نفس ما كسبت) قيل فيه وجهان: أحدهما - توفى جزاء ما كسبت من الاعمال.
الثاني - توفى بما كسبت من الثواب أو العقاب، لان الكسب على وجهين: كسب
العبد لفعله وكسبه لما ليس من فعله ككسبه المال وقوله: (وهم لا يظلمون)
معناه لا ينقصون ما يستحقونه من الثواب ولا يزداد عليهم فيما يستحقونه من
العقاب والآية تدل على أن الجزاء لا يكون إلا على الكسب لأنه لو كان خاصا
لجرى مجرى توفى كل نفس ما قالت وليس مفهومه كذلك لأنه عام فيما يجازي به
العبد وموضع " ثم توفى كل نفس ما كسبت " نصب بأنه عطف على صفة يوما إلا أنه
حذف منه فيه لدلالة الأول عليه.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب
كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا
يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع
أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء
أن تفضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا
ما دعوا ولا تساموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى اجله ذلكم
أقسط عند الله وأقوام للشهادة وأدنى الا ترتابوا إلا أن تكون
370

تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح الا تكتبوها
وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وان تفعلوا فإنه
فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) (282)
آية واحدة.
القراءة:
قرأ حمزة وحده " ان تضل إحداهما " بكسر الألف. الباقون بفتحها. وقرأ
ابن كثير، وأبو عمرو " فتذكر " بالتخفيف والنصب. وقرأ حمزة بالتشديد،
والرفع. وقرأ (تجارة حاضرة) بالنصب عاصم. الباقون بالرفع.
المعنى:
قوله: " إذا تداينتم " معناه تعاملتم بدين. وإنما قال: " بدين " وإن
كان تداينتم أفاده لامرين:
أحداهما - أنه على وجه التأكيد كما تقول ضربته ضربا. والثاني - أن
تداينتم يكون بمعنى تجازيتم من الدين الذي هو الجزاء فإذا قال: بدين اختص
بالدين خاصة " إلى أجل مسمى " معناه معلوم وقوله: " فاكتبوه " ظاهره الامر
بالكتابة. واختلفوا في مقتضاه، فقال أبو سعيد الخدري، والشعبي، والحسن:
هو مندوب إليه. وقال الربيع، وكعب: هو على الفرض. والأول أصح، لاجماع
أهل عصرنا على ذلك. ولقوله تعالى " فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أو تمن
أمانته " ومفهومه فان أمنه فيما له أن يأمنه. وقال ابن عباس: هذه الآية في السلم
خاصة. وقال غيره: حكمها في كل دين من سلم أو تأخير ثمن في بيع. وهو الأقوى
لآية العموم. فأما القرض فلا مدخل له فيه لأنه لا يجوز مؤجلا وقوله: (ولا يأب
371

كاتب) ظاهره النهي عن الامتناع من الكتابة، والنهي يقتضي تحريم الامتناع.
وقال عامر الشعبي هو فرض على الكفاية كالجهاد، وهو اختيار الرماني، والجبائي
وجوز الجبائي أن يأخذ الكاتب والشاهد الأجرة على ذلك. وعندنا لا يجوز ذلك. والورق
الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين. ويكون الكتاب في يده لأنه
له. وقال السدي واجب على الكاتب في حال فراغه. وقال مجاهد وعطا هو واجب
إذا أمر. وقال الضحاك نسختها قوله: " ولا يضار كاتب ولا شهيد ".
وقوله: (أن يكتب كما علمه الله فليكتب) يعني الكاتب (وليملل الذي
عليه الحق) أمر لمن عليه الحق بالاملال وهو والاملاء بمعنى تقول أمليت عليه
وأمللت عليه بمعنى واحد. وقوله: (وليتق الله ربه) معناه لا يملل إلا الحق الذي
عليه والاملال المراد به الندب لأنه لو أملا غيره وأشهد هو كان جائزا بلا خلاف.
وقوله: (ولا يبخس منه شيئا) أي لا ينقص منه شيئا والبخس النقص
ظلما. وقد بخسه حقه يبخسه بخسا إذا نقصه ظلما ومنه قوله تعالى " ولا تبخسوا
الناس أشياءهم " أي لا تنقصوهم ظالمين لهم ومنه قوله (وشروره بثمن بخس) أي ناقص
عن حقه والبخس فقأ العين لأنه إدخال نقص على صاحبها وتباخس القوم في البيع
إذا تعانبوا وقوله: (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) قال مجاهد السفيه: الجاهل.
وقال السدي الصغير وأصل السفه الخفة ومن ذلك قوله الشاعر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم (1)
أي استخفتها الرياح وقال الشاعر:
نخاف أن يسفه أحلامنا * فنحمل الدهر مع الخامل
أي تخف أحلامنا فالسفيه الجاهل، لأنه خفيف العقل بنقصه. وقوله:
" أو ضعيفا " قال مجاهد والشعبي: هو الأحمق. وقال الطبري: هو العاجز عن
الاملاء بالعي أو بالخرس " أو لا يستطيع أن يمل " قال ابن عباس: هو العي
الأخرس. وقيل: المجنون. والهاء في قوله " وليه " عائدة إلى السفيه - في قول

(1) اللسان (سفه).
372

الضحاك، وابن زيد - الذي يقوم مقامه. وقال الربيع: ترجع إلى ولي الحق.
والأول أقوى. وإذا أشهد الولي على نفسه فلا يلزمه المال في ذمته بل يلزم ذلك
في مال المولى عليه. وقوله: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " يعني من رجال
الأحرار المسلمين دون الكفار والعبيد - في قول مجاهد - والحرية ليست عندنا
شرطا في قبول الشهادة وإنما الاسلام شرط من العدالة. وبه قال شريح والبتى، وأبو
ثور، ومثله قوله: (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) (1)
وقوله: " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " يحتمل رفعه أربعة أوجه:
أحدها - فليكن رجل وامرأتان. الثاني - فليشهد رجل وامرأتان.
الثالث - فالشاهد رجل وامرأتان. الرابع - فرجل وامرأتان يشهدون وكل ذلك
حسن. وكان يجوز أن ينصب رجلا وامرأتين بمعنى واستشهدوا رجلا وامرأتين.
وقوله: " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " يحتمل وجهين:
أحدهما - قال الربيع والسدي والضحاك وأكثر المفسرين إنه من الذكر الذي
هو ضد النسيان. وقال سفيان بن عيينة: هو من الذكر. ومعناه أن تجعلها
كذكر من الرجال. ومعنى أن تضل لان تضل أو من أجل أن. فان قيل لم قال " إن
تضل " وإنما الاشهاد، للاذكار لا للضلال قيل عنه جوابان:
أحدهما - قال سيبويه أنه لما كان الضلال سبب الأذكار قدم لذلك وجاز
لتعلق كل واحد منهما بالاخر في حكم واحد فصار بمنزلة ما وقع الاشهاد للمرأتين
من أجل الضلال، كما وقع من أجل الأذكار وكثيرا في السبب والمسبب أن
يحمل كل واحد منهما على الاخر، ومثله أعددت الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه
وإنما أعددته في الحقيقة للدعم ولكن حمل عليه الميل لأنه سببه.
الثاني - قال الفراء إنه بمعنى الجزاء على أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت
إلا أنه لما قدمت (أن) اتصلت بما قبلها من العامل فانفتحت. ومثله يعجبني أن
سأل السائل فيعطى. وإنما يعجبك الاعطاء دون المسألة. ومثله قوله: " ولولا أن

(1) سورة النور آية: 32.
373

تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا " (1) ومعناه ولولا أن يقولوا
أن أصابهم مصيبة، وإنما قدم وأخر. قال الرماني قول سيبويه في هذا أقوى لما
في الثاني من الدعوى لاخراج الجزاء إلى المصدر لغير فائدة.
وأنكر بعضهم قراءة حمزة " إن تضل " - بكسر الهمزة - وقال الرماني:
لا معنى لهذا الانكار، لان عليها إجماع الأمة وتسليم القراءة بها ولها وجه صحيح
في العربية. وقال أبو علي الفارسي إن حمزة جعل إن للجزاء، والفاء في قوله
" فتذكر " جواب الجزاء، ويكون موضع جوابه رفعا بكونها وصفا للمنكرين
وهما المرأتان في الآي وقوله: (فرجل وامرأتان) خبر ابتداء محذوف، وتقديره
فمن يشهد رجل وامرأتان، وانفتحت اللام في هذه القراءة لالتقاء الساكنين،
وموضعهما الجزم ولو كسرت، لكان جائزا وقال قوم: غلط سفيان بن عيينة في
تأويله، لان إحداهما إذا نسيت لم تجعلها الأخرى ذكرا وهذا ليس بشئ، لان
المعنى تذكرها تصير معها بمنزلة الذكر لان بعدهما من النسيان إذا اجتمعا بمنزلة
بعد الذكر، فان قيل: فلم قال " فتذكر إحداهما الأخرى " فكرر لفظ إحداهما،
ولو قال فتذكرها الأخرى لقام مقامه مع اختصاره. قيل قال الحسين بن علي
المغربي: إن تضل إحداهما يعني إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى
المرأتين الأخرى، لئلا يتكرر لفظ إحداهما بلا معنى ويؤيد ذلك أنه يسمى ناسي
الشهادة ضالا. ويجوز أن يقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال تعالى: " قالوا
ضلوا عنا " (2) أي ضاعوا منا ويحتمل أن يكون إنما كرر لئلا يفصل بين الفعل
والفاعل بالمفعول فان ذلك مكروه غير جيد، فعلى هذا يكون إحداهما الفاعلة
والأخرى مفعولا بها. وقوله: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) قيل في معنى
ما دعوا إليه ثلاثة أقوال:
أحدها - لاثبات الشهادة في الكتاب وتحملها ذهب إليه ابن عباس، وقتادة،

(1) سورة القصص آية: 47.
(2) سورة الأعراف آية 36، وسورة المؤمن آية: 73.
374

والربيع. الثاني - قال مجاهد، وعامر، وعطا ذلك إذا دعوا لإقامتها. الثالث - في
رواية عن ابن عباس، والحسن، وأبي عبد الله (ع) لإقامتها وإثباتها. وهو أعم
فائدة. وقال الطبري: لا يجوز إلا إذا دعوا لإقامتها، لان قيل أن يشهدوا
لا يوصفون بأنهم شهداء. وهذا باطل لأنه تعالى قال: " واستشهدوا شهيدين من
رجالكم " فسماهما شاهدين قبل إقامة الشهادة.
اللغة:
وقوله: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) فالسأم:
الملل، سئم يسأم سأما إذا مل من الشئ وضجر منه قال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين حولا لا أبالك يسأم (1)
والصغير: خلاف الكبير صغر الشئ يصغر صغرا، وصغره تصغيرا
واستصغره استصغارا وتصاغر تصاغرا. وصغر يصغر صغرا وصغارا: إذا رضي
بالضيم، لأنه رضي باستصغاره. وتصاغرت إليه نفسه ذلا ومهانة. والاصغار
حنين الناقة الحفيض والاكبار حنينها الكبير. والهاء في قوله: " أجله " يحتمل
أن تكون عائدة إلى أجل الدين. وهو الأقوى. والثاني إلى أجل الشاهد. أي
الوقت الذي تجوز فيه الشهادة. وقوله: " ذلكم أقسط عند الله " معناه أعدل
والقسط: العدل تقول: أقسط إقساطا، فهو مقسط إذا عدل ومنه قوله: " إن
الله يحب المقسطين " والقسط: الحصة تقول أخذ فلان قسطه أي حصته. وقد
تقسطوا الشئ بينهم أي اقتسموه على القسط أي على العدل. وكل مقدار قسط
لأنه عدل غيره بالمساواة له. والقسوط: الجور لأنه عدول عن الحق قسط يقسط
قسطا، فهو قاسط إذا جاز عن الحق. وقوله تعالى: " وأما القاسطون فكانوا "
لجهنم حطبا " (2) والرجل القسطاء: التي في ساقها اعوجاج لعدوله عن الاستقامة.

(1) من معلقته الشهيرة: ديوانه 9.
(2) سورة الجن آية: 15.
375

المعنى:
وقوله: " وأقوم للشهادة " معناه أصح لها مأخوذ من الاستقامة. وقوله:
" وأدنى ألا ترتابوا " أي أقرب ألا تشكوا بأن ينكر من عليه الحق. وقيل:
بالا ترتابوا بالشاهد أن يضل، وقوله: " إلا أن تكون تجارة حاضرة " فمن رفع
احتمل رفعه أمرين:
أحدهما - أن تكون (كان) تامة بمعنى وقع، فيكون اسم كان، ويحتمل
أن تكون ناقصة ويكون اسمها والخبر تديرونها. ومن نصب معناه أن تكون
التبايع تجارة أو التجارة تجارة. وقوله: (واشهدوا إذا تبايعتم) قال الضحاك:
الاشهاد: فرض في التبايع وبه قال أصحاب الطاهر واختاره الطبري. وقال الحسن،
والشعبي ذو ندب. وهو الصحيح وبه قال جميع الفقهاء. وقوله " ولا يضار "
أصله يضار - بكسر الراء - عند الحسن، وقتادة، وعطا، وابن زيد، وقيل:
المضارة وهو أن يشهد الشاهد بما لم يستشهد فيه، ويكتب الكاتب بما لم يمل عليه.
ذهب إليه الحسن، وطاووس، وهو الأقوى. بدلالة قوله " وإن تفعلوا " يعني
المضارة " فإنه فسوق بكم " أي معصية في قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. ومن دعا
الشاهد وهو مشغول، فتأخر لا يكون فاسقا بلا خلاف. وقال ابن مسعود،
ومجاهد - بفتح الراء - ومعناه لا يدعى الكاتب، والشاهد، وهو مشغول على
وجه الاضرار به. ومعنى قوله: " صغيرا أو كبيرا " معناه هو في العادة صغير
جرت العادة بكتب مثله. ولا يريد بذلك ما قدره حبة أو قيراط، لان ذلك لم تجر
العادة بكتب مثله، والاشهاد عليه وليس في الآية ما يدل على أنه لا يجوز الحكم
بالشاهد واليمين، لان الحكم بالشاهد والمرأتين أو بالشاهدين لا يمنع من قيام الدلالة
على جواب الحكم بالشاهد مع اليمين. ولا يكون ذلك نسخا لذلك، لأنه ليس بمناف
للمذكور في الآية والحكم بالشاهد والمرأتين يختص بما يكون مالا أو المقصد به
المال فأما الحدود التي هي حق الله وحقوق الآدميين وما يوجب القصاص، فلا يحكم
376

فيها بشهادة رجل وامرأتين، وكذلك عندنا في الشاهد، واليمين حكم الشاهد
والمرأتين سواء. وقد بسطنا مسائل الشهادات، وفروعها، وما يقبل منها وما لا يقبل
وأحكام شهادة النساء والعبيد وغير ذلك في كتابينا النهاية، والمبسوط، فلا معنى
للتطويل بذكرها ههنا. وقوله: (واتقوا الله) معناه اتقوا معاصيه وعقابه
وقوله: " ويعلمكم الله " معناه يعلمكم ما فيه صلاح دينكم ودنياكم وما ينبغي
لكم فعله، وما يحرم عليكم. والله عليم بذلك وبما سواه من المعلومات فلذلك،
قال " بكل شئ عليم ".
الاعراب:
وقال أبو علي الفارسي " ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " لا يكون
متعلقا بقوله: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " " ان تضل إحداهما " ولكن
يتعلق بأن يفعل مضمر دل عليه هذا الكلام، لان قوله: " فإن لم يكونا رجلين
فرجل وامرأتان " يدل على قولك واستشهدوا رجلا وامرأتين، فتعلق (ان) إنما
هو بهذا الفعل المدلول عليه. قال ويجوز أن تتعلق (ان) بأحد ثلاثة أشياء.
أحدها - المضمر الذي دل عليه قوله: " واستشهدوا شهيدين ". الثاني -
الفعل الذي هو فليشهد رجل وامرأتان *. الثالث - الفعل الذي هو
خبر المبتدأ، وتقديره فرجل وامرأتان يشهدون، فيكون يشهدون
خبر المبتدأ. قال وقوله: " ممن ترضون من الشهداء " فيه ذكر يعود إلى الموصوفين
الذين هم " فرجل وامرأتان "، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المتقدم
ذكرهما لاختلاف إعراب الموصوفين ألا ترى أن شهيدين منصوبان، ورجل
وامرأتان اعرابهم الرفع، فإذا كان كذلك علمت أن الوصف الذي هو ظرف إنما
هو وصف لقوله: " فرجل وامرأتان " دون من تقدم ذكرهما من الشاهدين.
والشرط وجزاؤه وصف للمرأتين، لان الشرط، والجزاء جملة يوصف بها كما يوصل
بها في قوله: " الذين إن مكناهم... الآية " (1).

(1) سورة الحج آية 41.
377

اللغة:
وأما إحدى فهو مؤنث الواحد والواحد الذي مؤنثه إحدى إنما هو اسم
وليس. بوصف ولذلك جاء احدى على بناء لا يكون للصفات أبدا كما كان الذي هو
مذكره كذلك وقال أحمد بن يحيى قالوا: هو إحدى الأحد، وواحد الا حدين
وواحد الآحاد وأنشد:
عدوني الثعلب فيما عدوا * حتى استثاروا ني أحدى الأحد
ليثا هزبرا ذا سلاح معتدى (1)
المعنى:
وقوله: (الا أن تكون تجارة حاضرة) استثناء من جملة ما أمر الله بكتابته
والاشهاد عليه عند التبايع فاستثنى منه يدا بيد فإنه لا يحتاج إلى الكتابة ولا
الاشهاد عليه، والأول يحتاج إليه على خلاف، في كونه ندبا أو وجوبا كما ذكرناه.
وقيل في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الآية أربعة عشر حكما أولها قوله:
" يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " والثاني -
" وليكتب بينكم كاتب بالعدل " الثالث - " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله
والرابع - " وليملل الذي عليه الحق " وهو أقداره إذا أملاه. الخامس - " وليتق
الله ربه ولا يبخس منه شيئا ". أي لا يخون، ولا ينقصه. السادس - " فإن كان
الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو " أي لا يحسن " فليملل
وليه بالعدل " السابع - " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " والثامن - " فإن لم
يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل إحداهما فتذكر
إحداهما الأخرى " التاسع - " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " والعاشر - " ولا
تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " أي لا تضجروا. والحادي عشر -
" ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة

(1) هكذا في المطبوعة. ولم نجدها من مصادرنا - وهي كما ترى.
378

تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها " الثاني عشر - " واشهدوا إذا
تبايعتم " الثالث عشر - " ولا يضار كاتب ولا شهيد " الرابع عشر - " وإن
تفعلوا فإنه فسوق بكم " وقال قوم: فيها إحدى وعشرون حكما: " إذا تداينتم "
حكم " فاكتبوه " حكم " ولا يبخس " حكم " فإن كان الذي عليه الحق سفيها "
حكم " أو ضعيفا " حكم " أو لا يستطيع " حكم " فليملل وليه " حكم " بالعدل "
حكم " واستشهدوا شهيدين " حكم " فرجل وامرأتان " حكم " ممن ترضون
من الشهداء " حكم " ولا يأب الشهداء " حكم " ولا تسأموا " حكم " إلا أن
تكون تجارة حاضرة " حكم " واشهدوا إذا تبايعتم " حكم " ولا يضار كاتب "
حكم " ولا شهيد " حكم.
قوله تعالى:
(وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة
فان امن بعضكم بعضا فليؤد الذي أو تمن أمانته وليتق الله ربه
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون
عليم) (283) آية بلا خلاف.
القراءة واللغة:
قرأ أبو عمرو وابن كثير " فرهن " على وزن فعل. الباقون " فرهان "
على فعال. الرهن مصدر رهنت الشئ أرهنه رهنا وأرهنته إرهانا. والأول أفصح.
قال الشاعر في أرهنت:
فلما خشيت أظافيره * نجوت وأرهنته مالكا (1)
وقال الأزهري:
أرهنت في الشئ إذا سلفت فيه.

(1) قيل إن البيت لهمام بن مرة، وفي الصحاح لعبد الله بن همام السلولي. اللسان
رهن) وروايته (أظافيرهم) بدل (أظافيره). في المطبوعة (نحرت) بدل نجوت.
379

قال الشاعر:
عيدية أرهنت فيها الدنانير (1)
وأرهنته إرتهانا وتراهنوا تراهنا. وراهنه مراهنة واسترهنه استرهانا.
والانسان رهين عمله. وكل شئ يحتبس غيره فهو رهينة ومرتهنة. وأصل الباب الرهن:
حبس الشئ بما عليه وواحد الرهن رهان. وهو جمع الجمع نحو ثمار وثمر في قول
الكسائي، والفراء. وقال أبو عبيدة: واحده رهن نحو سقف وسقف. وقيل
لا يعرف في الأسماء فعل وفعل غير هذين. وزاد بعضهم قلب النخلة وقلب. فأما
(رهان) فهو جمع رهن، وهو على القياس؟ حو حبل وحبال، وفعل وفعال، وكبش
وكباش، وإنما اختار أبو عمرو: فرهن لأنه موافق لخط المصحف، ولغلبة
الاستعمال في الرهان في الخيل، واختاره الزجاج أيضا. ومن اختار (رهان)
فلا طراده في باب الجمع. وكل حسن. وارتفع (فرهن) بأنه خبر ابتداء محذوف
تقديره فالوثيقة رهن ويجوز فعليه رهن. ولو قرئ " فرهنا " بالنصب بمعنى فارتهنوا
رهنا جاز في العربية، ولكن لم يقرأ به أحد. وشاهد الرهن قول قعنب بن أم
صاحب:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن * وغلقت عندها من قبلك الرهن (2)
المعنى:
ومن شرط صحة الرهن أن يكون مقبوضا لقوله: " فرهان مقبوضة "
فإن لم يقبض لم ينعقد الرهن. ومسائل الرهن ذكرناها في النهاية والمبسوط مستوفاة
فلا فائدة للتطويل بذكرها ههنا. ويجوز أخذ الرهن في الحضر مع وجود الكاتب،
لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله اشترى طعاما نساء ورهن فيه درعا. وقوله (ع) لا يغلق
الرهن. معناه أن يقول الراهن إن جئتك بفكاكه إلى شهر وإلا فهو لك بالدين.
وهذا باطل بلا خلاف.

(1) اللسان (عود) وصدره: ظلت بحوب بها البلدان ناحية.
(2) اللسان (رهن).
380

وقوله: " ولا تكتموا الشهادة " يعني بعد تحملها " ومن يكتمها فإنه آثم
قلبه " إنما أضاف إلى القلب مجازا، لأنه محل الكتمان، وإلا فالاثم هو الحي.
وقوله: " فان أمن بعضكم بعضا " معناه ان أتمنه فلم يقبض منه رهنا " فليؤد
الذي أو تمن أمانته " يعني الذي عليه الدين " وليتق الله ربه " أن يظلمه أن يخونه
" والله بما تعملون عليم " بما تسرونه وتكتمونه.
ودل قوله: " فان أمن بعضكم بعضا) على أن الاشهاد والكتابة في المداينة
ليس بواجب، وإنما هو على جهة الاحتياط. وقد روي عن ابن عباس، ومجاهد،
وغيرهما (فإن لم تجدوا كتابا) يعني ما تكتبون فيه من طرس أو غيره. والمشهور
هو الأول الذي حكيناه عن قرأ أهل الأمصار، وحكي عن بعضهم أنه قرأ " فإنه
آثم قلبه " بالنصب فان صح فهو من قولهم: سفهت نفسك وأثمت قلبك.
قوله تعالى:
(لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم
أن تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله
على كل شئ قدير) (284) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ " فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " بالرفع عاصم، وابن عامر على
الاستئناف في قول المبرد. ويجوز أن يكون محمولا على تأويل " يحاسبكم " لأنه
لو دخلته الفاء كان رفعا، فيكون فيه على هذا معنى الجواب. وقرأ الباقون على
الجزم: عطفا على " يحاسبكم " وهو جواب الشرط، وكان يجوز أن يقرأ فيغفر
بالنصب على مصدر الفعل الأول وتقديره إن يكن محاسبة، فيغفر لمن يشاء.
وروي ذلك عن أبن عباس.
381

المعنى:
واللام في قوله: " لله " لام الملك ومعناه ان لله تصريف السماوات والأرض
وتدبيرهما لقدرته على ذلك وليس لاحد منعه منه وإنما ذكر قوله: (وان تبدوا
ما في أنفسكم أو تخفوه) لان المعنى فيه كتمان الشهادة. ويحتمل أن يريد جميع الأحكام
التي تقدمت في السورة. خوفهم الله من العمل بخلافها. وقال قوم هذه
الآية منسوخة بقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (1) ورووا في ذلك خبرا
ضعيفا، وهذا لا يجوز لامرين:
أحدهما - أن الاخبار التي لا تتضمن معنى الأمر والنهي والإباحة لا يجوز
نسخها، وهذا خبر محض خال من ذلك.
الثاني - لا يجوز تكليف نفس ما ليس في وسعها على وجه، فينسخ. ويجوز
أن تكون الآية الثانية بينت الأولى وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه،
فلم يضبط الرواية فيه، وظن أن ما يخطر للنفس أو تحدث نفسه به مما لا يتعلق
بتكليفه فان الله يؤاخذه به. والامر بخلاف ذلك، وإنما المراد بالآية ما يتناوله الأمر والنهي
من الاعتقادات والإرادات وغير ذلك مما هو مستور عنا. فأما مالا يدخل
في التكليف فخارج عنه لدلالة العقل. ولقوله (ع) تجوز لهذه الأمة عن نسيانها
وما حدثت به أنفسها. وقوله: (فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) معناه ممن
يستحق العقاب بأنه إن شاء عاقبة، وإن شاء عفا عنه. وذلك يقوي جواز العفو
عقلا، وإنما يقطع على عقاب بعض العصاة لدليل، وهم الكفار - عندنا - فأما من
عداهم فلا دليل يقطع به على أنهم معاقبون لا محالة. والآيات التي يستدلون بها
نبين الوجه فيها إذا انتهينا إليها إن شاء الله.
قوله تعالى:
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن

(1) سورة البقرة آية: 286.
382

بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (285) آية.
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي وخلف " وكتابه ": الباقون " وكتبه " على الجمع فمن
وحد احتمل وجهين:
أحدهما - أن يكون أراد به القران لاغير. والثاني - أن يكون أراد جنس
الكتاب، فيوافق قراءة من قرأ على الجمع في المعنى. وقرأ يعقوب " لا يفرق "
بالياء ردا على الرسول حسب. الباقون بالنون ردا على الرسول والمؤمنين وهذا
أليق بسياق الآية.
المعنى والاعراب:
وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله) معناه يقولون ذلك على الحكاية كما
قال " والملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا " (1) أي يقولون اخرجوا. والمعنى إنا
لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعض، كما فعل اليهود، والنصارى. وقوله: " سمعنا
وأطعنا " تقديره سمعنا قوله وأطعنا أمره وقبلنا ما سمعنا، لان من لا يقبل ما يسمع
يقال له أصم كما قال تعالى (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (2) وإنما حذف لدلالة
الكلام عليه لأنهم مدحوا به، وكان اعترافا منهم بما يلزمهم مثل ما قبله. وقوله:
" غفرانك " نصب على أنه نزل من الفعل المأخوذ منه كأنه قيل: اللهم اغفر لنا
غفرانك فاستغنى بالمصدر عن الفعل في الدعاء فصار بدلا منه معاقبا له. وقال بعضهم
معناه نسألك غفرانك والأول أقوى، لأنه على الفعل الذي أخذ منه أولى من حيث
كان يدل عليه بالتضمين نحو (حمدا وشكرا) أي أحمد حمدا، وأشكر شكرا.

(1) سورة الأنعام آية: 93.
(2) سورة البقرة آية: 171.
383

وأجاز الزجاج والفراء غفرانك بالرفع بمعنى غفرانك بغيتنا وأنشد الزجاج:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى * مصارع مظلوم مجرا ومسحبا
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ * يكن ما أساء النار في رأس كبكبا (1)
وقوله: (وإليك المصير) معناه وإلى جزائك المصير فجعل مصيرهم إلى جزائه
مصيرا إليه كقول إبراهيم: " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " (2) ومعناه إلى
ثواب ربي أو إلى ما أمرني به ربي.
قوله تعالى:
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما
حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف
عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين)
(286) آية.
المعنى:
في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة في تجويزهم تكليف الله
العبد مالا يطيقه لأنه صريح بأنه لا يكلفهم إلا ما يطيقونه لان الوسع هو ما يتسع
به قدرة الانسان وهو فرق المجهود واستفراغ القدرة. يقول القائل: ليس هذا

(1) البيتين للأعشى ديوانه 113 رقم القصيدة 14. واللسان (كبب) وفي الديوان
هكذا:
متى يغترب عن قومه لا يجد له * على من له رهط حواليه مغضبا
ويحطم بظلم لا يزال يرى له * مصارع مظلوم مجرا ومسحبا
وتدفن منه....
مجر ومسحب مصدر ميمي من جر وسحب. كبكب: جبل.
(2) سورة الصافات آية: 99.
384

في وسعي. أي لا أقدر عليه وإن قدرتي لا تتسع لذلك. ومن قال: معناه لا يكلف
الله نفسا إلا ما يحل لها من قولهم لا يسعك هذا أي لا يحل لك أن تفعله كان ذلك
خطأ، لان رجلا لو قال لعبده: أنا لا آمرك إلا بما أطلقت لك أن تفعله كان
ذلك خطأ وعيا، لان نفس أمره اطلاق. وكأنه قال: أنا لا أطلق لك إلا ما أطلق.
ولا آمرك إلا بما آمرك. وقوله: " لها ما كسبت " معناه لها ثواب ما كسبت من
الطاعات وعليها جزاء ما كسبت من المعاصي والقبائح. ويجوز أيضا أن يسمى الثواب
والعقاب كسبا من حيث حصلا بكسبه. وقوله: (لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)
إنما جاز الرغبة إليه تعالى في ذلك وإن علمنا أنه لا يؤاخذ بذلك، ولم يجز أن يقول:
لا تجر علينا لامرين أحدهما - أن قوله: لا تجر علينا يدل على تسخط الداعي،
وليس كذلك " لا تؤاخذنا إن نسينا " لان الانسان قد يتعرض للنسيان، فيقع
منه الفعل الذي فيه جناية على النفس، ويحسن الاعتذار بالنسيان، فيجري الدعاء
مجرى الاعتذار إذا قال العبد لسيده لا تؤاخذني بكذا فاني نسيت، فلحسن
الاعتذار حسن الدعاء به. والثاني - " إن نسينا ". بمعنى تركنا لشبهة دخلت
علينا.
والنسيان بمعنى الترك معروف. نحو قوله: " نسوا الله فنسيهم " (1) أي
تركوا عبادته، فترك ثوابهم. وقال الجبائي معناه ما تركناه لخطأ في التأويل
واعتقدنا صحته لشبهة وهو فاسد. فأما لا تجر علينا، فلا يقال إلا لمن اعتيد منه
الجور، ولا يجوز أن يؤاخذ أحد أحدا بما نسيه عند أكثر أهل العدل إلا
ما يحكى عن جعفر بن ميسر من أن الله تعالى يؤاخذ الأنبياء بما يفعلونه من الصغائر
على وجه السهو والنسيان لعظم اقدارهم. وقال كان يجوز أن يؤاخذ الله العبد بما
يفعله ناسيا أو ساهيا، ولكن تفضل بالعفو في قوله: (لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها) ذكر ذلك البلخي، وهذا غلط، لأنه كما لم يجز تكليف فعله ولا تركه لم

(1) سورة التوبة آية: 68.
385

يجز أن يؤاخذ به، ولا يشبه ذلك المتولد الذي لا يصح تكليفه بعد وجود سببه،
لأنه يجوز أن يتعمده بأن يتعمد سببه، وليس كذلك ما يفعله على جهة السهو
والنسيان.
اللغة، والمعنى:
وقوله: (ولا تحمل علينا إصرا) قيل في معنى الإصر قولان:
أحدهما - لا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به. ذهب إليه ابن عباس،
وقتادة ومجاهد.
الثاني - قال الربيع، ومالك: معناه لا تحمل علينا ثقلا والإصر في اللغة
الثقل قال النابغة:
يا مانع الضيم إن يغشى سراتهم * والحامل الإصر منهم بعد ما غرقوا (1)
وكلما عطفك على شئ، فهو إصر من عهد أو رحم، وجمعه إصار. تقول
أصره يا صره إصرا. والاسم الإصر قال الحطيئة:
عطفوا علي بغير * آصرة فقد عظم الأواصر (2)
وقال النابغة:
ايابن الحواضن والحاضنات أينقض أصرك حالا فحالا (3)
أي عهدك. والايصر: حبيل قصير يشد به أسفل الخباء إلى وتد لأنه
يعطف به. والآصرة: صلة الرحم للعطف بها والماصر حبل على طريق أو نهر تحبس
به السفن أو السابلة لتؤخذ منهم العشور وكلا آصر أي يحبس من ينتهي إليه
لكثرته. والآصار: كساء يحتش فيه الحشيش. وأصل الباب العطف، فالإصر:
الثقل لأنه يعطف حامله بثقله عليه. وقوله: (لا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قيل

(1) في المطبوعة (فيا مانع) بدل (يا مانع) و (والخامل) بدل (والحامل).
(2) اللسان (أصر).
(3) في المطبوعة (اننفض) بدل (أينقض).
386

فيه قولان:
أحدهما - ما يثقل علينا من نحو ما كلف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وبتيه
أربعين سنة وغير ذلك كما يقول القائل لا أطيق أنظر إلى فلان ولا أسمع كلامه.
الثاني - ما لا طاقة لنا به من العذاب في دار الدنيا. وقوله. (أنت مولانا)
معناه أنت ولينا أي أولى بالتصرف فينا، وقال الحسن هذا على وجه التعليم للدعاء،
ومعناه قولوا ربنا لا تؤاخذنا. والثاني - أنه على وجه الحكاية أي يقولون ربنا.
والفرق بين أخطأ وخطئ أن أخطأ قد يكون على وجه الاثم، وغير الاثم فأما
خطئ فاثم لا غير قال الشاعر:
والناس يلحون الأمير إذا هم * خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (1)

(1) قائله عبيدة بن الأبرص الأسدي. ديوانه: 54، وحماسة البحتري: 236،
واللسان (أمر) ورواية الديوان:
والناس؟ الأمير إذا غوي * خطب الصواب ولا؟ المرشد
387

سورة آل عمران
مائتا آية في الكوفي
روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وجميع المفسرين أن هذه السورة مدنية
وقيل إن من أولها إلى رأس نيف وستين آية نزلت في قصة وفد نجران لما جاءوا
يحاجون النبي صلى الله عليه وآله في قول ابن إسحاق والربيع.
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم (1) الله لا اله إلا هو الحي القيوم) (2) آيتان في
الكوفي وآية واحدة في ما عداه.
القراءة واللغة:
وقرأ أبو جعفر والأعشى والبرجمي (ألم) بسكون الميم (الله) بقطع الهمزة
وقرأ عمر بن الخطاب " الحي القيام " وهي لغة أهل الحجاز. ويقولون في الصواغ
صياغ. الباقون (قيوم) وإنما فتحت الميم من (ألم الله) لاحد أمرين:
أحدهما - استثقالا للكسر بعد الياء الساكنة، فصرف إلى الفتح، لأنه
أخف كما فعلوا في (كيف) (وأين). وقال الزجاج، والفراء: ألقي عليها حركة
الهمزة وهي الفتحة من قولك: الله. وقال المبرد: هذا لا يجوز لأنها ألف وصل
تسقط في الدرج، فلا يجوز ذلك كما لا يجوز في (إن الكافرون) الفتح على الفاء
388

حركة الهمزة. قال الفراء: والفرق بين ذلك وبين الهجاء أنه لما كان ينوي به الوقف
قوي بما بعده الاستيناف، فكانت الهمزة في حكم الثبات كما كانت في انصاف
البيوت. نحو قول الشاعر:
ولا يبادر في الشتاء وليدتي * القدر تنزلها بغير جعال (1)
وأجاز الأخفش الكسر، وخالفه الزجاج، وقال: لا يجوز لان قبل الهمزة
ياء ساكنة قبلها كسرة، فلم يجز غير الفتح، كما لا يجوز في كيف. ويمكن الفرق
بينهما بأن كيف موصولة وهذا مفصول جاز أن ينوي به الوقف. وقد بينا معنى
(الله) وهو أنه الذي تحق له العبادة.
اللغة والمعنى:
وقوله: (لا إله إلا هو) معناه لا تحق العبادة لسواه، وإنما كان كذلك
لأنه الذي يقدر على أصول النعم التي يستحق بها العبادة، ولان نعمة كل منعم
فرع على نعمه، فصار لا تحق العبادة لسواه. و (الحي) هو الذي لا يستحيل لما
هو عليه من الصفة كونه عالما قادرا. قال الرماني: والعالم: مدرك لمعلومه والمدرك:
هو المتبين للشئ على ما هو به من أي وجه صح تبيينه، فالرأي مدرك وكذلك
العالم إلا أنه قد كثرت صفة الادراك على ما طريقه الاحساس من العباد، وهذا
القول منه يدل على أنه كان يذهب مذهب البغداديين: في أن وصف القديم بأنه
مدرك يرجع إلى كونه عالما من أن يكون له صفة زائدة. وهذا بخلاف مذهب
شيخه أبي علي، والبصريين. " والقيوم " قيل في معناه قولان.
أحدهما - القائم بتدبير عباده في ما يضرهم وينفعهم، وهو قول مجاهد،
والربيع، والزجاج، بدلالة قوله " قائما بالقسط " (2) و " قائم على كل نفس
بما كسبت " (3).

(1) اللسان (جعل) في المطبوعة (وليدنا) بدل (وليدتي) الجعال، والجعالة - بضم
الجيم وكسره - ما تنزل به القدر من خرقة وغيرها، والجمع جعل مثل كتاب وكتب.
(2) سورة آل عمران آية: 18.
(3) سورة الرعد آية: 35.
389

الثاني - حكي عن محمد بن جعفر بن الزبير، واختاره الجبائي أنه الدائم.
وأصل الوصف بقيوم الاستقامة. فعلى قول مجاهد يكون لاستقامة التدبير، وعلى
القول الآخر لاستقامة الصفة بالوجود من حيث لا يجوز عليه التغيير بوجه من
الوجوه كما يجوز على ما يحول وينبدل. وتقول هذا معنى قائم في النفس أي
موجود على الاستقامة دون الاضطراب. وأصل " قيوم " قيووم على وزن فيعول
فقلبت الواو الأولى ياء، لان ما قبلها ياء ساكنة، وأدغمت نحو سيد وميت.
ولا يجوز أن يكون وزنه فعولا لأنه لو كان كذلك لكان قووما، فوصف الله تعالى
بالحي القيوم يتضمن أنه يستحق العبادة من حيث أن هذه الصفة دلت على أنه
القادر على ما يستحق به العبادة دون غيره، لان صفة قيوم صفة مبالغة لا تجوز
إلا الله على المعنيين معا من معنى الموجود أو (القائم على) عموم الخلق بالتدبير.
قوله تعالى:
(نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل
التوراة والإنجيل) (3) آية.
قيل في معنى قوله: " نزل عليك الكتاب بالحق " وجهان:
أحدهما - بالصدق في أخباره وجميع دلالاته التي تقوم مقام الخبر في تعلقها
بمدلولها على ما هو به، ففي جميع ذلك معنى التصديق.
والثاني - بالحق أي بما توجبه الحكمة من الانزال كما أتى بما يوجبه الحكم
من الارسال وهو حق من الوجهين. وقوله: (مصدقا لما بين يديه) نصب على
الحال ومعناه لما قبله من كتاب أو رسول في قول مجاهد وقتادة والربيع وجميع
المفسرين. وإنما قيل لما قبله لما بين يديه، لأنه ظاهر له كظهوره لما بين يديه.
وقيل في معنى " مصدقا " ههنا قولان:
أحدهما - " مصدقا لما بين يديه " وذلك لموافقته ما تقدم الخبر به وفيه آية
تدل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله من حيث لا يكون ذلك إلا من عند علام الغيوب.
390

الثاني - مصدقا أنه يخبر بصدق الأنبياء في ما أتوا به خلاف من يؤمن ببعض،
ويكفر ببعض. والتوراة مأخوذة من وريت بك زنادي إذا ظهر به الخبر كما يتقدح
بالزناد النار فالأصل الظهور، فهي تورية لظهور الحق. وقيل في وريها أقوال:
أحدها - قال البصريون تورية فوعلة فقلبت (الواو) الأولى (تاء) لئلا يجتمع
واوان أول الكلمة نحو حوقلة ودوخلة. والثاني - قال الكوفيون: تفعلة
على وزن تثقلة وتثقلة، وهو قليل جدا لا يكاد يعرف تفعلة في الكلام. الثالث -
قال بعضهم هو تفعلة إلا أنه صرف إلى الفتح استثقالا للكسر في المعتل وهو بناء
يكثر نحو توفية وتوقية وتوصية، وما أشبه ذلك. قال الزجاج: وهذا ردئ لأنه
يجئ منه في توفية توفاة وهذا لا يجوز. والإنجيل مأخوذ من النجل، وهو الأصل
وقال الزجاج وزنه أفعيل من النجل باجماع أهل اللغة فسمي إنجيلا لأنه أصل من
أصول العلم.
قوله تعالى:
(من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا
بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) (4).
المعنى:
قوله: " من قبل " أي من قبل إنزال الكتاب فلما قطعه عن الإضافة نبأه
على الضم. وقوله: " هدى للناس " أي بيانا ودلالة لهم، وفي ذلك دلالة على أن
الله تعالى هدى الكافر إلى الايمان، كما هدى المؤمن بقوله " للناس "، بخلاف ما تقوله
المجبرة: إن الله ما هدى الكافر، وموضع (هدى) نصب على الحال من الكتاب
وقوله: (وأنزل الفرقان) يعني به القرآن وإنما كرر ذلك لما اختلفت دلالات
صفاته وإن كانت لموصوف واحد لان لكل صفة منها فائدة غير الأخرى لان
الفرقان هو الذي يفرق به بين الحق والباطل فيما يحتاج إليه من أمور الدين في الحجج،
391

والاحكام، وذلك كله في القرآن وقيل أراد بالفرقان النصر ووصفه بالكتاب يفيد
ان من شأنه أن يكتب. وقد بينا لذلك نظائر في الشعر وغيره في ما تقدم. وقوله:
(إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد) قرن بالوعيد لما بين الله الحجج
الدالة على توحيده، وصفاته: أعقب ذلك بوعيد من يخالف في ذلك ويجحده
ليتكامل به التكليف. وقوله: (والله عزيز ذو انتقام) معناه أنه قادر لا يتمكن
أحد من منعه من عذاب من يريد عذابه لأنه " عزير ذو انتقام " وإنما كان منيعا
لأنه قادر لنفسه لا يعجزه شئ.
اللغة:
وأصل الاعزاز الامتناع، ومنه أرض عزاز ممتنعة السكون لصعوبتها، ومنه
قولهم من عز، بز: أي من غلب سلب لان الغالب يمتنع من الضيم، والنقمة،
العقوبة: نقم ينقم نقما ونقمة ويقال نقمت، ونقمت عليه أي أردت له عقوبة،
وانتقم منه انتقاما أي عاقبه عقابا وأصل الباب: العقوبة. ومنه النعمة خلاف
النقمة.
قوله تعالى:
(إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء) (5) آية.
المعنى:
لما ذكر الله تعالى الوعيد على الاخلال بمعرفته مع نصب الأدلة على توحيده
وصفاته اقتضى أن يذكر أنه لا يخفى عليه شئ في الأرض، ولا في السماء، فيكون
في ذلك تحذير من الاغترار بالاستسرار بمعصيته، لان المجازي لا تخفى عليه خافية،
فجرى ذلك موصولا بذكر التوحيد في أول السورة، لأنه من الصفات الدالة على
392

مالا تحق إلا له. فان قيل لم قال: (لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء)
ولم يقل لا يخفى عليه شئ على وجه من الوجوه إذ كان أشد مبالغة؟ قيل: ليعلمنا
أن الغرض علم ما يستسر به في الأرض أو في السماء. ولان الافصاح بذكر ذلك
أعظم في النفس وأهول في الصدر مع الدلالة على أنه عالم بكل شئ إلا أنه على
وجه التصرف في العبارة عن وجوه الدلالة. فان قيل: لم قال " لا يخفى عليه شئ "
ولم يقل عالم بكل شئ في الأرض والسماء؟ قيل لان الوصف بأنه " لا يخفى عليه
شئ " يدل على أنه يعلمه من كل وجه يصح أن يعلم منه مع ما فيه من التصرف
في العبارة، وإنما قلنا: لا يخفى عليه شئ من حيث كان عالما لنفسه. والعالم للنفس
يجب أن يعلم كل ما يصح أن يكون معلوما. وما يصح أن يكون معلوما لا نهاية له،
فوجب أن يكون عالما به وإنما يجوز أن يعلم الشئ من وجه دون وجه، ويخفى
عليه شئ من وجه دون وجه من كان عالما بعلم يستفيده: - العلم حالا بعد حال -. فأما
من كان عالما لنفسه، فلا يجوز أن يخفى عليه شئ بوجه من الوجوه.
قوله تعالى:
(هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا
هو العزيز الحكيم) (6) آية واحدة.
اللغة:
التصوير: جعل الشئ على صورة لم يكن عليها. والصورة: هيئة يكون
عليها الشئ بالتأليف. والفرق بين الصورة والصيغة أن الصيغة: عبارة عما وضع
في اللغة لتدل على أمر من الأمور، وليس كذلك الصورة، لان دلالتها على
جعل جاعل قياسية. والأرحام: جمع رحم وأصله. الرحمة، وذلك لأنها مما يتراحم
به ويتعاطف يقولون: وصلتك رحم. وأصل الصورة: الميل يقولون صاره
يصوره: إذا أماله، فهي صورة لأنها مائلة إلى بنية بالشبه لها.
393

المعنى:
وقوله (كيف يشاء) معناه كيف يريد والمشيئة هي الإرادة ومعنى
" يصوركم في الأرحام كيف يشاء " من ذكر أو أنثى أو أبيض أو أسود أو تام
أو ناقص إلى غير ذلك ما تختلف به الصور، وفيه حجة على النصارى في ادعائهم
إلهية المسيح وذلك أن الله تعالى صوره في الرحم كما شاء، فهو لذلك عبد مربوب
وقوله: (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) معناه أنه تعالى لما ذكر ما يدل عليه من
قوله: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) ذكر الدليل والمدلول عليه
وإنما ذكر " العزيز الحكيم " تحذيرا بعد ذكر الدليل ليعلم أنه عزيز لا يتهيأ لاحد
منعه من عقوبة من يريد عقابه حكيم في فعل العقاب وفي جميع أفعاله.
قوله تعالى:
(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم
الكتاب واخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون
ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر
إلا أولوا الألباب) (7).
المعنى:
قوله: (هو الذي أنزل عليك الكتاب) يعني القرآن (منه آيات محكمات)
هن أم الكتاب وأخر متشابهات) فالمحكم هو ما علم المراد بظاهره من غير قرينة
تقترن إليه ولا دلالة تدل على المراد به لوضوحه، نحو قوله: " إن الله لا يظلم
394

الناس شيئا " (1) وقوله: " لا يظلم مثقال ذرة " (2) لأنه لا يحتاج في معرفة
المراد به إلى دليل. والمتشابه: مالا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على
المراد منه. نحو قوله: " وأضله الله على علم " (3) فإنه يفارق قوله: " وأضلهم
السامري " (4) لان اضلال السامري قبيح وإضلال الله بمعنى حكمه بأن العبد
ضال ليس قبيح بل هو حسن. واختلف أهل التأويل في المحكم، والمتشابه على
خمسة أقوال:
فقال ابن عباس: المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ.
الثاني - قال مجاهد: المحكم ما لا يشتبه معناه، والمتشابه ما اشتبهت معانيه.
نحو قول: " وما يضل به إلا الفاسقين " (5) ونحو قوله: " والذين اهتدوا
زادهم هدى " (6).
الثالث - قال محمد بن جعفر بن الزبير، والجبائي: إن المحكم ما لا يحتمل إلا
وجها واحدا، والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا.
الرابع - قال ابن زيد: إن المحكم: هو الذي لم تتكرر ألفاظه. والمتشابه هو
المتكرر الألفاظ.
الخامس - ما روي عن جابر أن المحكم: ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه مالا
يعلم تعيين تأويله. نحو قوله: " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " (7).
وقوله: (هن أم الكتاب) معناه أصل الكتاب الذي يستدل به على
المتشابه، وغيره من أمور الدين. وقيل في توحيد أم الكتاب قولان: أحدهما -
أنه قدر تقدير الجواب على وجه الحكاية كأنه قيل: ما أم الكتاب؟ فقيل هن
أم الكتاب كما يقال: من نظير زيد؟ فيقال: نحن نظيره. الثاني - أن يكون ذلك

(1) سورة يونس آية: 44.
(2) سورة النساء آية: 39.
(3) سورة الجاثية آية: 22.
(4) سورة طه آية: 85.
(5) سورة البقرة آية: 26.
(6) سورة محمد آية: 7.
(7) سورة الأعراف آية: 186، وسورة النازعات آية: 42.
395

مثل قوله: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " (1) بمعنى الجميع آية ولو أريد أن
كل واحد منهما آية على التفصيل، لقيل آيتين. فان قيل: لم أنزل في القرآن
المتشابه؟ وهلا أنزله كله محكما! قيل للحث على النظر الذي يوجب العلم دون
الاتكال على الخبر من غير نظر، وذلك أنه لو لم يعلم بالنظر أن جميع ما يأتي به
الرسول حق يجوز أن يكون الخبر كذبا، وبطلت دلالة السمع، وفائدته، فلحاجة
العباد إلى ذلك من الوجه الذي بيناه، أنزل الله متشابها، ولولا ذلك لما بان منزلة
العلماء، وفضلهم على غيرهم، لأنه لو كان كله محكما لكان من يتكلم باللغة العربية
عالما به، ولا كان يشتبه على أحد المراد به فيتساوى الناس في علم ذلك، على أن
المصلحة معتبرة في انزال القرآن، فما أنزله متشابها لان المصلحة اقتضت ذلك، وما
أنزله محكما فلمثل ذلك. والمتشابه في القرآن يقع فيما اختلف الناس فيه من أمور
الدين: من ذلك قوله تعالى " ثم استوى على العرش " (2) فاحتمل في اللغة أن
يكون كاستواء الجالس على السرير واحتمل أن يكون بمعنى الاستيلاء نحو قول الشاعر:
ثم استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (3)
وأحد الوجهين لا يجوز عليه تعالى لقوله: " ليس كمثله شئ " (4)
وقوله " لم يكن له كفوا أحد ".
والاخر يجوز عليه، فهذا من المحكم الذي يرد إليه المتشابه. ومن ذلك قوله:
" ربنا لا تحملنا مالا طاقة لنا به " (5) فاحتمل ظاهره تكليف المشاق، واحتمل
تكليف مالا يطاق وأحدهما لا يجوز عليه تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " (6)

(1) سورة المؤمنون آية: 51.
(2) سورة الأعراف آية: 53، وسورة يونس آية: 3، وسورة الفرقان آية 59،
وسورة ألم السجدة آية: 4، وسورة الحديد آية: 4.
(3) مر تخريجه في 1: 125.
(4) سورة الشورى آية: 11.
(5) سورة البقرة آية: 286.
(6) سورة البقرة آية: 286، وسورة الطلاق آية: 7.
396

فرددنا إليه المتشابه ومن ذلك قوله: " قل كل من عند الله " (1) فرددناه إلى
المحكم الذي هو قوله: " ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون
على الله الكذب وهم يعلمون " (2) ومن ذلك قوله: " وما تشاؤون إلا أن
يشاء الله " (3) متشابه، وبين المراد بالمحكم الذي هو قوله: " وما الله يريد
ظلما للعالمين " (4) ومن ذلك اعتراض الملحدين في باب النبوة بما يوهم المناقضة
كقوله: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا
ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في
أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا
طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين) (5) فقال
اليومان والأربعة واليومان ثمانية ثم قال " هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة
أيام " فأوهموا أن ذلك مناقضة وليس الامر على ما ظنوه لان ذلك يجري مجرى
قول القائل: سرنا من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وسرنا إلى الكوفة في خمسة
عشر يوما فالعشرة داخلة في الخمسة عشر ولا يضاف فيقال: عشرة، وخمسة عشر
خمسة وعشرون يوما كان فيها السير، فكذلك خلق الله الأرض في يومين
وقضاهن سبع سماوات في يومين وتمم خلقهن في ستة أيام. وتقديره خلق الأرض
في يومين من غير تتميم وجعل فيها رواسي وما تم به خلقها في أربعة أيام فيها
اليومان الأولان كما يقال: جعل الدور في شهرين وفرغ منهن في أربعة أشهر. فيكون
المحكم قد أبان عن معناه أنه على جهة خلق الأرض في يومين من غير تتميم، وليس
على وجه التضاد على ما ظنوه.
فان قيل: كيف يكون المحكم حجة مع جواز تقييده بما في العقل؟ وفي
ذلك إمكان كل مبطل أن يدعيه فتذهب فائدة الاحتجاج بالمحكم؟ قلنا: لا يجب
ذلك من قبل أن التقييد بما في العقل إنما يجوز فيما كان ردا إلى تعارف من جهة

(1) سورة النساء آية: 77.
(2) سورة آل عمران آية: 78.
(3) سورة التكوير آية: 29، وسورة الدهر آية: 30.
(4) سورة آل عمران آية: 108.
(5) سورة حم السجدة آية: 9 - 12.
397

العقول دون مالا يتعارف في العقول بل يحتاج إلى مقدمات لا يتعارفها العقلاء
من أهل اللغة، والمراعى في ذلك أن يكون هناك تعارف من جهة العقل تقتضيه
الحكمة دون عادة أو تعارف شئ لان الحجة في الأول دون الثاني، ومن جهة
التباس ذلك دخل الغلط على كثير من الناس.
فان قيل: كيف عددتم من جملة المحكم قوله: " ليس كمثله شئ " مع
الاشتباه فيه بدخول الكاف؟ قلنا إنما قلنا إنه محكم لان مفهومه ليس مثله شئ
على وجه من الوجوه دون أن يكون عند أحد من أهل التأويل ليس مثل مثله شئ
فدخول الكاف وإن اشتبه على بعض الناس لم دخلت فلم يشتبه عليه المعنى الأول
الذي من أجله كان محكما. وقد حكينا فيما مضى عن المرتضى (ره) علي بن الحسين
الموسوي أنه قال: الكاف ليست زائدة وإنما نفى أن يكون لمثله مثل فإذا ثبت ذلك
علم أنه لامثل له، لأنه لو كان له مثل لكان له أمثال، فكان يكون لمثله مثل،
فإذا لم يكن له مثل مثل دل على أنه لامثل له غير أن هذا تدقيق في المعنى، فتصير
الآية على هذا متشابهة، لان ذلك معلوم بالأدلة. وقد يكون الشئ محكما من وجه
ومتشابها من وجه كما يكون معلوما من وجه، ومجهولا من وجه، فتصح الحجة
به من وجه المعلوم دون المجهول.
الاعراب:
و (أخر) لا ينصرف لأنه معدول عن الألف واللام وهو صفة. وقال الكسائي:
لأنه صفة. قال المبرد: هذا غلط، وقال (لبد) صفة وكذلك (حطم) وهما
منصرفان قال الله تعالى " أهلكت مالا لبدا " (1) وحكي عن أبي عبيدة أنه قال:
لم يصرفوا (أخر) لان واحده لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. قال المبرد: وهذا
غلط، لأنه يلزم أن لا يصرف غضابا وعطاشا، لان واحده غضبان وعطشان.
وهو لا ينصرف.

(1) سورة البلد آية: 6.
398

اللغة والمعنى:
وقوله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) يعني ميل يقال: أزاغه الله إزاغة
أي أماله إمالة قال تعالى " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (1) ومنه قوله: " لا تزغ
قلوبنا " (2) والتزايغ التمايل في الأسنان. والمعنى إن الذين في قلوبهم ميل عن
الحق اما بشك أو جهل فان كليهما زيغ " يتبعون ما تشابه منه " ومعناه يحتجون
به في باطلهم " ابتغاء الفتنة " ومعناه طلبا للفتنة " وابتغاء تأويله " والتأويل:
التفسير وأصله المرجع، والمصير من قولهم: آل أمره إلى كذا يؤول أولا إذا صار
إليه. وأولته تأويلا إذا صيرته إليه. وقوله: " وأحسن تأويلا " (3) قيل معناه أحسن
جزاء، لان أمر العباد يؤول إلى الجزاء. وأصل الباب: المصير " وما يعلم تأويله "
يعني تفسيره " إلا الله والراسخون في العلم " يعني الثابتون فيه تقول: رسخ
الشئ رسوخا إذا ثبت في موضعه. وأرسخته إرساخا، كما أن الخبر يرسخ في
الصحيفة، ورسخ الغدير إذا ذهب ماؤه، فنضب، لأنه ثبت وحده من غير
ماء، وأصل الباب الثبوت.
النزول:
وقال الربيع: نزلت هذه الآية في وفد نجران، لما حاجوا النبي صلى الله عليه وآله في
المسيح، فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه؟ فقال بلى، فقالوا: حسبنا،
فأنزل الله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) ثم أنزل
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (4)
وقال قتادة: بل كل من احتج بالمتشابه لباطله، داخل فيه، فمنهم الحرورية والسبابية،
وغيرهم.

(1) سورة الصف آية: 5.
(2) سورة آل عمران آية: 8.
(3) سورة النساء آية: 58، وسورة الاسرى آية: 35.
(4) سورة آل عمران آية: 59.
399

المعنى والاعراب اللغة:
وقوله: " ابتغاء الفتنة " قال السدي: الفتنة ههنا الشرك. وقال مجاهد:
اللبس. وقيل الضلال عن الحق، وهو أعم فائدة. وأصل الفتنة: التخليص من
قولهم فتنت الذهب بالنار: إذا أخلصته، فالذي يبتغي الفتنة، يبتغي التخليص
إلى الضلال بما يورده من الأشياء. وقوله: (وما يعلم تأويله إلا الله) قيل في
معناه قولان: أحدهما - ما يعلم تأويل جميع المتشابه " إلا الله "، لان فيه ما يعلم
الناس، وفيه مالا يعلمه الناس من نحو تعيين الصغيرة عند من قال بها، ووقت
الساعة، وما بيننا وبينها من المدة. هذا قول عائشة، والحسن، ومالك، واختاره
الجبائي، وأكثر المتأولين. وعندهم أن الوقف على قوله " إلا الله " ويكون قوله:
" والراسخون في العلم يقولون آمنا به " مستأنفا والتأويل على قولهم: معناه
المتأول، كما قال تعالى " هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله " يعني
الموعود به. والوجه الثاني - ما قاله ابن عباس، ومجاهد، والربيع " وما يعلم
تأويله إلا الله والراسخون في العلم " يعلمونه قائلين آمنا كما قال الشاعر:
والريح تبكي شجوة * والبرق يلمع في الغمامة
يعني والبرق أيضا يبكيه لامعا في غمامة. وقوله " (كل من عند ربنا)
حذف المضاف من " كل " عند البصريين، لأنه اسم دال على المضاف كثير في الكلام
فلا يجيزون " إنا كل فيها " على الصفة ويجيزه الكوفيون، لأنه إنما حذف عندهم
لدلالته على المضاف فقط اسما كان أو صفة. وإنما بني قبل على الغاية، ولم يبن كل،
وإن حذف من كل واحد منهما المضاف، لان قبل ظرف يعرف، وينكر، ففرق
بين ذلك بالبناء الذي يدل على تعريفه بالمضاف، والاعراب الذي يدل على تنكيره
بالانفصال، وليس كذلك كل لأنه معرفة في الافراد دون نكرة فأما (ليس غير)
فمشبه بحسب لما فيه من معنى الامر.
400

وقوله تعالى:
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك
رحمة إنك أنت الوهاب) (8) آية.
المعنى:
هذه حكاية عن الراسخين في العلم الذين ذكرهم في الآية الأولى، القائلين
" آمنا به كل من عند ربنا " القائلين " ربنا لا تزغ قلوبنا " وقيل في معنى
لا تزغ قلوبنا قولان:
أحدهما - " لا تزغ قلوبنا " عن الحق بمنع اللطف الذي يستحق معه أن
تنسب قلوبنا إلى الزيغ. والثاني - قال أبو علي معناه لا تزغ قلوبنا عن الثواب بعد
أن دعوتنا إليه ودللتنا عليه، ولا يجوز أن يكون المراد لا تزغ قلوبنا عن
الايمان، لأنه تعالى كما لا يأمر بالكفر كذلك لا يزيغ عن الايمان. فان قيل: هلا
جاز على هذا أن يقولوا: ربنا لا تظلمنا، ولا تجر علينا؟ قلنا لان في تجر علينا
تسخط السائل لاستعماله ممن جرت عادته بالجور، وليس كذلك " لا تزغ قلوبنا "
على معنى سؤال اللطف، وإن كان لا يجوز في حكمته تعالى منع اللطف. كما لا يجوز
فعل الجور وذلك بمنزلة سؤال الملائكة في قولهم " فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك
وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " (1) والله لا يجوز
عليه خلف الوعد، كما لا يجوز عليه فعل الجور يبين ذلك قوله: " فلما زاغوا
أزاغ الله قلوبهم " (2) ومعناه فلما مالوا عن الحق نسب الله قلوبهم إلى الزيغ، لما
كانت عليه. وإنما أضاف الزيغ إلى القلب، وإن كان المراد به الجملة لان القلب أشرف
الأعضاء، وهو محل السرور، والغم فلذلك خص بالذكر.

(1) سورة مؤمن آية: 7 - 8.
(2) سورة الصف آية: 5.
401

اللغة:
وقوله: (وهب لنا من لدنك رحمة) فالهبة مصدر وهبه يهبه هبة، فهو
واهب. والشئ موهوب وتواهب الناس بينهم تواهبا واستوهبه استيهابا. وأصل
الباب الهبة، وهي تمليك الشئ من غير مثامنة. والهبة والنحلة والصلة نظائر.
ومعنى من لدنك من عندك وفي لدن خمس لغات: لدن، ولدن - بضم اللام والدال -
ولدن - بفتح اللام وتسكين الدال، وكسر النون - ولد - بحذف النون -.
قوله تعالى:
(ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف
الميعاد) (9) آية بلا خلاف.
معنى الآية (ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) للجزاء " إن الله
لا يخلف الميعاد " في وعده ولا وعيد " فاغفر لنا " فان قيل هل في قوله: " إن الله
لا يخلف الميعاد " متصل بالدعاء على جهة الحكاية أو استئناف. قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أنه متصل بالدعاء، لان حمل الكلام على الاتصال إذا صح المعنى
أولى من حمله على الانفصال، لان الاتصال أقرب إلى التشاكل، وأبعد من التنافر.
الثاني - أنه على الاستئناف لأنه لو كان على الاتصال لقال انك لا تخلف الميعاد،
فاختار أبو علي الجبائي هذا الوجه، وأجاز الزجاج الامرين. وقد يجوز حمل الكلام
تارة على المخاطبة وتارة على الغيبة تصرفا في الكلام، كما قال: " حتى إذا كنتم في
الفلك وجرين بهم بريح طيبة " (1) والآية دالة على أنه لا يخلف وعده، ولا
وعيده، ولا ينافي ذلك ما يجوزه من العفو عن فساق أهل الملة، لان ما يجوز العفو
عنه ذا عفا كشف ذلك عندنا أنه ما عناه بالخطاب، وإنما الممنوع منه أن؟
بالخطاب وبأنه لا يعفو عنه ثم يعفو، فيكون ذلك خلفا في الوعيد وذلك لا يجوز
عليه تعالى.

(1) سورة يونس آية: 23.
402

والميعاد، والوعد إذا أطلقا تناولا الخير، والشر. يبين ذلك قوله (ونادى
أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد
ربكم حقا) (1) ولا يجوز أن يقال وعد بالخير فأما وعد بالشر، فيجوز. واللام
في قوله: " ليوم لا ريب فيه " معناه في يوم وإنما جاز ذلك لما دخل الكلام من
معنى اللام وتقديره جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه، فلما حذف لفظ الجزاء
دخلت على ما يليه فأغنيت عن في لان حروف الإضافة متآخية، لما يجمعها من
معنى الإضافة. وقد كان يجوز فتح أن في قوله: " إن الله لا يخلف " على تقدير
" جامع الناس ليوم لا ريب فيه " ل‍ " إن الله لا يخلف الميعاد " ولم يقرأ به.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من
الله شيئا وأولئك هم وقود النار) (10) آية واحدة بلا خلاف.
المعنى:
إن قيل كيف تتصل هذه الآية بما قبلها؟ قلنا: اتصال الوعيد بالدعاء،
للاخلاص منه خوفا من استحقاق المتوعد به، والفرق بين " لن تغني عنهم من الله "
وبين لن تغنيهم عن الله شيئا. أن لن تغنيهم عن الله لا يدل على الوعيد كما يدل
" لن تغني عنهم من الله " لان تقديره من عذاب الله. ومعنى من ههنا يحتمل
أمرين: قال أبو عبيدة معناها: عند. وقال المبرد: من ههنا على أصلها، لابتداء
الغاية. وتقديره " لن تغني عنهم " غناء ابتداء الشئ الذي خلقه، ولا يكون الغناء
إلا منه، فمن هذه تقع على ما هو أول الغناء وآخره والوقود: الحطب، والوقود
اللهب. وهو إيقاد النار. والغنى ضد الحاجة. وبمعنى " لن تغني عنهم من الله "
أنه إن يكون شئ تبقى الحاجة إلى الله تعالى بل الحاجة باقية على كل حال.

(1) سورة الأعراف آية: 43.
403

قوله تعالى:
(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا
فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب) (11) آية بلا خلاف.
اللغة:
الدأب: العادة، يقال دأب يدأب دأبا ودئابا إذا اعتاد الشئ وتمرن عليه.
قال امرؤ القيس:
كدأب من أم الحويرث قبلها * وجارتها أم الرباب بمأسل (1)
أي كعادتك من أم الحويرث.
المعنى:
ومعنى قوله: " كدأب آل فرعون " كعادتهم في التكذيب بالحق وقيل
في الكفر وقيل في قبح الفعل وقيل في تكذيب الرسل وكل ذلك متقارب في
المعنى. وقال قوم: معناه كدأب آل فرعون في عقاب الله إياهم على ما سلف من
ذنوبهم، ومعاصيهم، والكاف في قوله: " كدأب آل فرعون " متصلة بمحذوف.
وتقديره عادتهم كدأب آل فرعون. وموضع الكاف رفع لأنها في موضع خبر
الابتداء، ولا يجوز أن يعمل فيها كفروا، لان صلة الذي قد انقطعت بالخبر،
وهو " لن تغني عنهم أموالهم " ولا أولادهم ولكن يجوز نصبه ب‍ (وقود النار)،
لان فيه معنى الفعل على تقدير تتقد النار بأجسادهم كما تتقد بأجسام آل فرعون

(1) ديوانه: 125. معلقته المشهورة وقبله:
وان شفائي عبرة مهراقة * فهل عند رسم دارس من معول
مر في 2: 148 برواية: (كدينك) بدل (كدابك) وقد استشهد به الشيخ (قده
على أن الدين هو العادة.
404

فهذا تقديره في المعنى. وقوله: " فأخذهم الله بذنوبهم " بمعنى عاقبهم الله بذنوبهم
وسمى المعاقبة مؤاخذة لأنها أخذ بالذنب والاخذ بالذنب عقوبة والذنب والجرم
واحد تقول أذنب يذنب اذنابا فهو مذنب والذنب التلو للشئ ذنبه يذنبه ذنبا
إذا تلا والذنوب الدلو لأنها تالية للحبل في الجذب والذنوب النصيب لأنه كالدلو
في الانعام قال الشاعر:
لنا ذنوب ولكم ذنوب * فان أبيتم فلنا قليب (1)
والذنوب: الفرس الوافر شعر الذنب. وأصل الباب: التلو، فالذنب الجرم
لما يتلوه من استحقاق الذم كما قيل العقاب، لأنه يستحق عقيب الذنب.
قوله تعالى:
(قل للذين كفروا ستغلبون ويحشرون إلى جهنم وبئس
المهاد) (12) آية.
القراءة، والحجة:
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما سيغلبون، ويحشرون بالياء، فيهما: الباقون
بالتاء. من اختار التاء، فلقوله: " قد كان لكم آية في فئتين " فأجري جميعه
على الخطاب. ومن اختار الياء، فللتصرف في الكلام والانتقال من خطاب المواجه
إلى الخبر بلفظ الغائب. وقيل: إن الخطاب لليهود. والاخبار عن عبدة الأوثان
لان اليهود أظهروا، الشماتة بما كان من المشركين يوم أحد، فقيل لهم سيغلبون
يعني المشركين. وعلى هذا لا يجوز إلا بالياء. وقيل التاء في عموم الفريقين.
ومثله قال زيد المال ماله. وقال المال مالي. وقل له سنخرج وسيخرج. وكل ذلك
جائز حسن.

(1) اللسان: (ذنب). وروايته: (لها ذنوب) بدل (لنا ذنوب) و (القليب)
بدل (قليب).
405

النزول:
وقال ابن عباس، وقتادة وابن إسحاق: إن هذه الآية نزلت لما هلكت
قريش يوم بدر، فجمع النبي صلى الله عليه وآله اليهود بسوق قينقاع فدعاهم إلى الاسلام
وحذرهم مثل ما نزل بقريش من الانتقام، فقالوا: لسنا كقريش الاغمار الذين
لا يعرفون القتال، لئن حاربتنا لتعرفن البأس. فأنزل الله " قل للذين كفروا
سيغلبون ويحشرون " الآية
المعنى:
ومعنى " وبئس المهاد " قال مجاهد: بئس ما مهدوا، لأنفسهم. وقال الحسن:
معناه بئس القرار، وقيل بئس الفراش الممهد لهم، وقال البلخي: لا يجوز الوعد،
والوعيد بغير شرط، لان فيه بأسا من الايمان أو الكفر وذلك بمنزلة الصد عنه.
وتأول الآية على حذف الشرط، فكأنه قال: وبئس المهاد لمن مات على كفره غير
تائب منه. وقال الرماني: وهذا لا يصح من قبل أن السورة قد دلت على معنى
الوعد من غير شرط يوجب الشك، فلو كان في قطع الوعيد بأس بمنزلة الصد عن
الايمان لكان في قطع الوعد بأمان ما يوجب الاتكال عليه دون ما يلزم من
الاجتهاد. والذي يخرجه من ذلك أن العقاب من أجل الكفر كما أن الثواب من
أجل الايمان. وهذا ليس بشئ، لان للبلخي أن يشرط الوعد بالثواب بانتفاء
ما يبطله من الكبائر، كما أنه شرط الوعيد بالعقاب بانتفاء ما يزيله من التوبة،
فقد سوى بين الامرين. وقال البلخي والجبائي: قوله: " وبئس المهاد " مجاز
كما قيل للمرض: شر، وإن كان خيرا من جهة أنه حكمة، وصواب، فقيل لجهنم
" بئس المهاد " لعظيم الآلام، لان أصل نعم وبئس: الحمد، والذم إلا أنه كثر
استعماله في المنافع، والمضار حتى سقط عن اسم مجاز. وإن كان مغيرا عن أصله.
وفي الآية دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله لأنها تضمنت الخبر عما يكون من
406

غلبة المؤمنين للمشركين. وكان الامر على ما قال، ولا يكون ذلك على الاتفاق،
وكما؟ بين أخبارا كثيرة من الاستقبال، فكان كما قال، فكما أن كل واحد
منهما كان معجزا، لأنه من علام الغيوب اختص به الرسول ليبينه من سائر الناس
كذلك هذه الآية.
قوله تعالى:
(قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله
وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من
يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) (13) آية واحدة.
القراءة، والحجة:
قرأ أهل المدينة، وأبان عن عاصم، وابن شاهي عن حفص " ترونهم " بالتاء
الباقون بالياء. من قرأ بالياء، فلان الخطاب لليهود والخبر عن غيرهم ممن حضر
بدرا. ومن قرأ بالتاء وجه الخطاب إلى الجميع.
اللغة، والمعنى، والاعراب:
الآية: العلامة، والدلالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله. والفئة الفرقة من فأوت
رأسه بالسيف إذا فلقته. وقال ابن عباس: ههنا هم المؤمنون من أهل بدر ومشركوا
قريش، وبه قال الحسن، ومجاهد. وقوله: (فئة) يحتمل ثلاثة أوجه من
الاعراب: الرفع على الاستئناف بتقديرهم منهم فئة كذا، وأخرى كذا. ويجوز
الجر على البدل. ويجوز النصب على الحال كقول كثير:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة * ورجل رمى فيها الزمان فشلت (1)
أنشد بالرفع والجر وقال ابن مفرغ:

(1) ديوانه 1: 46، ومعاني القرآن للفراء 1: 192 وهو من قصيدته التائية
المشهورة في المطبوعة (هي) بدل (رمي).
407

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة * ورجل رماها صائب الحدثان
فأما التي صحت فأزد شنوءة * وأما التي شلت فأزد عمان (1)
وقال آخر:
إذا مت كان الناس نصفين شامت * وآخر مثن بالذي كنت أصنع
ولا يجوز أن تقول مررت بثلاثة صريع وجريح بالجر، لأنه لم يستوف العدة
ولكن يجوز بالرفع على تقدير منهم صريع ومنهم جريح. فان قلت: مررت بثلاثة
صريع، وجريح، وسليم، جاز فيه الرفع والجر، فان زدت فيه اقتتلوا جاز فيه
الأوجه الثلاثة. ولم يقرأ إلا بالرفع.
المعنى:
وقال ابن مسعود، والحسن: الفئة: المسلمة هي التي كانت ترى الكافرة
مثليهم. وقال السدي: رأى المشركون المسلمين مثل عددهم، لأنهم كانوا ثلاثمائة
وبضعة عشر فرأوهم أضعاف ذلك. وهذا يحتمل على قراءة من قرأ بالياء، فأما من
قرأ بالتاء، فلا يحتمل ذلك إلا أن يكون الخطاب لليهود الذين ما حضروا وهم
المعنيون بقوله: " مثل الذين كفروا " وهم يهود بني قينقاع فكأنه قيل لهم ترون
المشركين مثلي المسلمين مع أن الله ظفرهم بهم، فلا تغتروا بكثرتكم. واختار البلخي
هذا الوجه واختلفوا في عدة المشركين يوم بدر، فروي عن علي (ع) وابن
مسعود أنهم كانوا ألفا. وقال عروة بن الزبير، وقتادة، والربيع كانوا بين
تسعمائة إلى الألف وأما عدة المسلمين، فثلاثمائة وبضعة عشر في قول قتادة، والربيع،
وأكثر المفسرين. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). ومعنى " يرونهم

(1) الوحشيات لأبي تمام: 183، وخزانة الأدب 2: 378. وازد شنوءة: قبيلة
كانت مع أهل الشام في حرب صفين، وازد عمان: قبيلة كانت مع أهل العراق ورواية الشعر:
فكنتم كذي رجلين: رجل صحيحة * ورجل بها ريب من الحدثان
408

مثليهم " يحتمل وجوها أحدها - ما روي عن ابن مسعود، وغيره من أهل العلم
أن الله قلل المشركين يوم بدر في أعين المسلمين لتقوى قلوبهم فرأوهم مثلي عدتهم.
وقال الفراء يحتمل ثلاثة أمثالهم كما يقول القائل إلى الف واحناج إلى مثليه أي مضافا
إليه لا بمعنى بدلا منه، فكذلك ترونهم مثليهم مضافا إليهم فذلك ثلاثة أمثالهم،
وأنكر هذا الوجه الزجاج، لمخالفته لظاهر الكلام. وما جاء في الآية الأخرى
في الأنفال من تقليل الاعداد. فان قيل كيف يصح تقليل الاعداد مع حصول الرؤية
وارتفاع الموانع وهل هذا إلا ما تقوله المجبرة من أنه يجوز أن يكون بحضرتنا
أشياء تدرك بعضها دون بعض بحسب ما يفعل فينا من الادراك وهذا عندنا سفسطة تقليل
في المشاهدات؟ قلنا: يحتمل أن يكون التقليل في أعين المؤمنين بأن يظنونهم قليلي
العدد، لأنهم أدركوا بعضهم دون بعض، لان العلم بما يدركه الانسان جملة غير
العلم بما يدركه مفصلا، ولهذا: إذا رأينا جيشا كبيرا أو جمعا عظيما ندرك جميعهم،
ونتبين أطرافهم ومع هذا نشك في أعدادهم حتى يقع الخلف بين الناس في حزر
عددهم، فعلى هذا يكون تأويل الآية. وقد ذكر الفراء عن ابن عباس أنه قال: رأى
المسلمون المشركين مثليهم في الحزر بستمائة وكان المشركون سبعمائة وخمسين. فأما
قوله في الأنفال: " وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم " (3)
فلا ينافي هذا لأن هذه آية للمسلمين أخبرهم بها وتلك آية لأهل الكفر حجة عليهم.
على أنك تقول في الكلام إني لأرى كثيركم قليلا أي تهونون على لأني أرى
الثلاثة اثنين ذكره الفراء، وهو جيد. وقيل: الوجه في تقليل الكفار في أعين
المؤمنين أن يكون أقوى لقلوب المؤمنين، فلا يفزعوا، ولا يفشلوا، ويتجرأوا
على قتالهم. والوجه في تقليل المؤمنين في أعين الكفار إذا رأوهم قليلين استهانوا
بهم واستحقروهم فلم يأخذوا إهبتهم ولم يستعدوا كل الاستعداد فيظفر بهم
المؤمنون، وهو جيد أيضا. وقال البلخي إنما قال مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم
لأنه أقام الحجة عليهم بأنهم وإن كانوا ثلاثة أمثالهم فلم يخرجوا من أن يكونوا

(1) سورة الأنفال آية: 45.
409

مثليهم. والمعتمد ما قلناه أولا.
اللغة والمعنى:
وقوله: (والله يؤيد بنصره من يشاء) فالأيد القوة ومنه قوله: " داود
ذا الأيد " (1) وتقول: أدته أئيده أيدا، كقولك بعته أبيعه بيعا بمعنى قويته.
وأيدته أؤيده تأييدا. والنصر: المعونة على الاعداء، وهو على وجهين: نصر
بالغلبة، ونصر بالحجة، ولو هزم قوم من المؤمنين، لجاز أن يقال: هم المنصورون
بالحجة ومحمودوا العاقبة، وان سر عدوهم بظفر العاجل.
والآية التي ذكرها الله تعالى كانت في الفئتين من وجهين:
أحدهما - غلبة القليل العدد في نفسه للكثير في ذلك بخلاف ما تجري به
العادة بما أمدهم الله به من الملائكة وقوى به نفوسهم من تقليل العدة. والثاني -
بالوعد المتقدم بالغلبة لإحدى الطائفتين لا محالة. وقوله: (إن في ذلك لعبرة
لأولي الأبصار) معناه لأولي العقول، كما يقال له بصر بالأمور، وليس المراد
بالابصار الحواس التي يشترك فيها سائر الحيوان. والعبرة الآية تقول: اعتبرت
بالشئ عبرة واعتبارا والعبور: النفوذ عبرت النهر أعبره عبورا: إذا قطعته.
والمعبرة: السفينة التي يعبر فيها. والعبارة الكلام، يعبر بالمعنى إلى المخاطب، فالعبارة
تفسير الرؤيا. والتعبير وزن الدنانير، وغيرها. والعبرة: الدمعة من العين. وأصل
الباب العبور النفوذ.
قوله تعالى:
(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير
المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك

(1) سورة ص آية: 17.
410

متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) (14) آية واحدة
بلا خلاف.
المعنى، واللغة:
قيل في المزين لحب الشهوات ثلاثة أقوال: قال الحسن: زينه الشيطان،
لأنه لا أحد أشد ذما لها من خالقها. الثاني - ما قاله الزجاج: انه زينه الله بما جعل
في الطباع من المنازعة، كما قال تعالى " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " (1)
الثالث - ما قاله أبو علي أنه زين الله عز وجل ما يحسن منه، وزين الشيطان
ما يقبح منه.
والشهوات: جمع شهوة وهي توقان النفس إلى الشئ يقال: اشتهى يشتهي
شهوة، واشتهاء وشهاه تشهية، وتشهى تشهيا. والشهوة من فعل الله تعالى لا يقدر
عليها أحد من البشر، وهي ضرورية فينا، لأنه لا يمكننا دفعها عن أنفسنا.
والقناطير: جمع قنطار. واختلفوا في؟ القنطار، فقال معاذ بن جبل، وابن
عمر، وأبي بن كعب، وأبو هريرة: هو ألف ومأتا أوقية. وقال ابن عباس،
والحسن، والضحاك: هو ألف ومأتا مثقال. وروي عن الحسن أيضا أنه ألف
دينار أو اثنا عشر ألف درهم. وقال قتادة: ثمانون ألفا من الدراهم أو مائة رطل.
وقال مجاهد، وعطا: سبعون ألف؟. وقال أبو نضر هو ملئ مسك ثور
ذهبا. وبه قال الفراء: وهو المروي عن أبي جعفر. وقال الربيع وابن أنس: هو
المال؟. ومعنى المقنطرة: المضاعفة - على قول قتادة - وقال الفراء: هي تسعة
قناطير، وقيل هي كقولك دراهم مدر همة أي مجعولة كذلك. وقال السدي مضروبة
دراهم أو دنانير. والقنطرة: البناء المعقود للعبور والقنطر الداهية. وأصل الباب
القنطرة المعروفة. والقنطار لأنه مال عظيم كالقنطرة. والذهب، والفضة معروفان.

(1) سورة الكهف آية: 7.
411

وتقول فضضته تفضيضا. وفض الجمع يفضه فضا إذا فرقه. ومنه قوله: " لا نفضوا
من حو؟ " (1) وفضضت الخاتم كسرته ولا يفضض الله فاك أي لا يكسره.
وافتضضت الماء: إذا شربته. وأصل الباب التفرق.
والخيل: الأفراس سميت خيلا، لاختيالها في مشيها. والاختيال: من
التخيل، لأنه يتخيل به صاحبه في صورة من هو أعظم منه كبرا. والخيال
كالظل، لأنه يتخيل به صورة الشئ تقول: خلت زيدا أخال خيلانا إذا خشيته
لأنه يتخيل إلى النفس أنه هو. والاخيل: الشقراق وهو طائر الغالب عليه الخضرة
مشرب حمرة، لأنه يتخيل مرة أخضر ومرة أحمر. وأصل الباب التخيل: التشبه
بالشئ، ومنه أخال عليه الامر يخيل إذا اشتبه عليه، فهو مخيل.
وقوله: " المسومة " قيل في معناه أربعة أقوال قال سعيد بن جبير وابن
عباس والحسن والربيع هي الراعية وقال مجاهد وعكرمة والسدي: هي الحسنة،
وقال ابن عباس في رواية، وقتادة: المعلمة. وقال ابن زيد: هي المعدة للجهاد
فمن قال: هي الراعية، فمن قولهم: اسمت الماشية وسومتها إذا رعيتها. وسأمت،
فهي سائمة ذا كانت راعية، ومنه تسيمون: أي ترعون. ومن قال: الحسنة فمن
السيما مقصور. ويقال فيه سيميا أيضا وهو الحسن. قال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا * له سيمياء لا يشق على البصر
ومن قال المعلمة، فمن السيماء التي هي العلامة كقوله تعالى: " يعرف
المجرمون بسيماهم " ومن قال المعدة للجهاد، فهو راجع إلى العلامة لأنها معدة
بالعلامة وأصل الباب العلامة. وقوله: " والانعام " فهي الإبل، والبقر، والغنم
من الضان والمعز ولا يقال لجنس منها على الانفراد نعم إلا الإبل خاصة لأنه غلب
عليها في التفصيل والجملة. والحرث: الزرع. وقوله: (ذلك متاع الحياة الدنيا)
فالمتاع: ما يستنفع به مدة ثم يفنى. وقوله: (والله عنده حسن المآب) فالمآب:

(1) سورة آل عمران آية: 160.
412

المرجع من آب يؤوب أوبا وإيابا وأوبة، ومآبا إذا رجع وتأوب تأوبا: إذا ترجع
وأوبه تأويبا: إذا رجعه. وأصل الباب الاوب الرجوع.
قوله تعالى:
(قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من
الله والله بصير بالعباد) (15) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة والمعنى:
قرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر ورضوان - بضم الراء - الباقون
بكسرها فالضم لغة قيس، وتميم. والكسر لغة أهل الحجاز. قيل في آخر الاستفهام
بقوله أؤنبئكم قولان:
أحدهما - ان اخره عند قوله بخير من ذلكم، ثم استأنف للذين اتقوا.
الثاني - عند قوله: " عند ربهم " ثم استأنف جنات على تقدير الجواب، كأنه قيل:
ما هو ذلك الخير، فقيل هو جنات. ومثله: " قل أؤنبئكم بشر من ذلكم النار " (1)
أي هي النار، ويجوز في إعراب جنات في العربية الرفع، والجر، فالجر على أن
يكون في آخر الكلام عند ربهم. ولا يجوز الجر على الوجه الاخر للفصل باللام،
كما لا يجوز أمرت لك بألفين ولأخيك مأتين حتى تقول بمائتين ولو قدمت فقلت
ومأتين لأخيك جاز، ولا يجوز النصب في جنات على موضع الباء فيما لم يكن الباء
فيه زائدة كما لا يحسن مررت برجل زيدا ويحسن خشنت بصدره وصدر زيد،
لان الباء زائدة، ولا يجوز أن تكون زائدة في بخير لان نبأت لا يجوز الاقتصار
فيه على المفعول الثاني دون الثالث، لأنه بمعنى أعلمت، ولا يجوز أعلمت زيدا

(1) سورة الحج آية: 72.
413

أخاك حتى تقول خيرا من عمرو، أو نحوه. وقد تقدم تفسير الجنات والأنهار.
وقوله: (خالدين) نصب على الحال ومعنى تأويل قوله: " وأزواج مطهرة " فلا
معنى لإعادته. والرضا والمرضاة: معنى واحد. ومعنى قوله: " للذين اتقوا "
يعني ما حرم عليهم - في قول الحسن -. فان قيل ما تقولون أنتم لأنكم تقولون
إن من لا يتقي جميع ما حرم عليه إذا كان عارفا بالله ومصدقا لجميع ما وجب عليه
موعود له بالجنة؟ قلنا: نقول إن هذه الآية تدل على أن من اتقى جميع ما حرم
عليه، فله الجنة، وما وعد بها من غير أن يقترن بها شئ من استحقاق العقاب
قطعا. ومن ليس معه إلا التصديق بجميع ما وجب عليه وقد أخل بكثير من
الواجبات وارتكب كثيرا من المحظورات فانا نقطع على استحقاقه الثواب مع
استحقاقه للعقاب ونجوز فعل العقاب به ونجوز العفو عنه مع القطع على وجوب
الثواب له، ففارق المتقي على ما تراه.
قوله تعالى:
(الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا
عذاب النار) (16) آية بلا خلاف.
الاعراب:
موضع الذين يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب الجر. والرفع، والنصب.
فالجر للاتباع، للذين اتقوا والرفع على تقديرهم الذين يقولون. والنصب على المدح
وتقديره أعني.
اللغة:
وقوله: (فاغفر لنا ذنوبنا) فالمغفرة هي الستر للذنب برفع التبعة، والذنب،
والجرم بمعنى واحد وإنما الفرق بينهما من جهة الأصل، لان أصل الذنب الاتباع،
414

فالذنب ما يتبع عليه العبد من قبيح عمله كالتبعة والجرم أصله القطع، فالجرم القبيح
الذي ينقطع به عن الواجب، والفرق بين القول، والكلام أن القول فيه معنى
الحكاية وليس كذلك الكلام.
المعنى:
وقوله: (وقنا عذاب النار) قيل في معنى هذه المسألة قولان:
أحدهما - مسألة الله ما هو من حكمه نحو قوله: " فاغفر للذين تابوا "
والفائدة في هذا الدعاء التعبد بما فيه مصلحة للعباد. الثاني - مسألة الله عز وجل
ما لا يجوز أن يعطيه العبد إلا بعد المسألة لأنه لا يكون لطفا إلا بعد المسألة وعلى
مذهبنا وجه حسن السؤال إن العفو تفضل من الله لا يجب عند التوبة، ويجوز
أيضا العفو مع عدم التوبة، فيكون وجه السؤال " اغفر لنا ذنوبنا. وقنا عذاب
النار " ان منا مصرين ولم نتب.
قوله تعالى:
(الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين
بالاسحار) (17).
الاعراب، واللغة، والمعنى:
الصابرين نصب على المدح وكذلك باقي الصفات، ويجوز أن تكون جرا
صفات " للذين اتقوا " ومعنى الصابرين: الحابسين نفوسهم بمنعها عما حرم الله
(تعالى) عليها، فالصابر الممدوح: هو الحابس نفسه عن جميع معاصي الله،
والمقيم على ما أوجب عليه من العبادات، والصادقين هم المخبرون بالشئ على ما هو
به وهي أيضا صفة مدح " والقانتين " قال قتادة: هم المطيعون. وقال الزجاج: هم
الدائمون على العبادة، لان أصل القنوت الدوام. " والمنفقين ": الذين يخرجون
ما أوجب الله عليهم من الزكوات، وغيرها من الحقوق. ويدخل في؟ لك المتطوعون
415

بالانفاق فيما رغب الله في الانفاق فيه. " والمستغفرين بالاسحار " قال قتادة: هم
المصلون بالاسحار. وقال أنس بن مالك: هم الذين يسألون المغفرة، وهو الأظهر.
والأول جائز أيضا، لأنه قد تطلب المغفرة بالصلاة، كما تطلب بالدعاء.
اللغة:
والأسحار: جمع سحر، وهو الوقت الذي قبل طلوع الفجر. وأصله:
الخفاء، وسمي السحر، لخفاء الشخص فيه. ومنه السحر، لخفاء سببه. ومنه السحر
الرئة لخفاء موضعها. والمسحر الذي يأكل الطعام لخفاء مسالكه.
وروي عن أبي عبد الله أن من استغفر الله سبعين مرة في وقت السحر،
فهو من أهل هذه الآية.
قوله تعالى:
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم
قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18).
المعنى:
حقيقة الشهادة الاخبار بالشئ عن مشاهدة أو ما يقوم مقام الشهادة من
الدلالات الواضحة، والحجج اللائحة على وحدانيته من عجيب خلقه، ولطيف
حكمته في ما خلق. وقال أبو عبيدة: معنى " شهد الله " قضى الله " أنه لا إله
إلا هو والملائكة " شهود " وأولوا العلم " وحكى عمرو بن عبيد عن الحسن،
وروي ذلك في تفسيرنا أن في الآية تقديما، وتأخيرا. وتقديرها " شهد الله أنه
لا إله إلا هو قائما بالقسط " أي بالعدل، وشهد الملائكة أنه لا إله إلا هو قائما
بالقسط، وشهد أولوا العلم أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط. وأولوا العلم: هم
المؤمنون.
416

القراءة، والحجة، والاعراب:
وقرأ أبو المهلب عمر بن محارب بن دثار " شهداء لله " على وزن فعلاء جمع
شهيد، نصب على الحال برده على ما قبله من الكلام كأنه قال: الذين يقولون ربنا
إننا آمنا شهداء لله أنه لا إله إلا هو، وهي جائزة غير أنها شهادة لم يوافق عليها
أحد من قراء الأمصار، ذكر ذلك البلخي. و (إن) الأولى، والثانية تحتمل أربعة
أوجه من العربية، فتحهما جميعا وكسرها جميعا، وفتح الأولى وكسر الثانية،
وكسر الأولى وفتح الثانية. فمن فتحهما أوقع الشهادة على أن الثانية وحذف حرف
الإضافة من الأولى، وتقديره " شهد الله أنه لا إله إلا هو " " إن الدين عند
الله الاسلام " (1) وقال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون نصبها على البدل
من شيئين.
أحدهما - من قوله " إنه لا إله " وتقديره شهد الله " إن الدين عند الله
الاسلام " ويجوز بدل الشئ من الشئ وهو هو.
والثاني - أن يكون بدل الاشتمال، لان الاسلام يشتمل على التوحيد
والعدل وغير ذلك. ومن كسرهما اعترض بالأولى للتعظيم لله عز وجل به كما قيل
لبيك إن الحمد. وكسر الثانية على الحكاية، لان في معنى شهد معنى قال. وقال
المؤرخ: شهد بمعنى قال بلغة قيس عيلان.
الثالث - من فتح الأولى وكسر الثانية - وهو أجودها، وعليه أكثر القراء -
أوقع الشهادة على الأولى واستأنف الثانية وهو أحسن الوجوه وأظهرها.
الرابع - من كسر الأولى، فعلى الاعتراض، ثم فتح الثانية بايقاع الشهادة
عليها. وهو المروي عن ابن عباس، وقيل في نصب قائما قولان:
أحدهما - أنه حال من اسم الله على تقدير شهد الله قائما بالقسط.
الثاني - على الحال من هو وتقديره لا إله إلا هو قائما بالقسط. وقال مجاهد:

(1) سورة آل عمران آية: 19.
417

معنى قائما بالقسط أي قائما بالعدل كما تقول: قائما بالتدبير أي يجريه على الاستقامة
فكذلك يجري التدبير على الاستقامة والعدل في جميع الأمور.
قوله تعالى:
(إن؟ عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا
الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات
الله فان الله سريع الحساب) (19) آية.
القراءة، واللغة، والمعنى:
قرأ " أن الدين " بفتح الهمزة الكسائي وحكي ذلك عن ابن مسعود. الباقون
بكسرها وقد بينا الوجه فيه. معنى الدين ههنا الطاعة فمعناه ان الطاعة لله عز وجل
هي الاسلام. قال الأعشى:
هردان الرباب إذ كرهوا الدين * دراكا بغزوة وصيال (1)
ومعناه ذللهم للطاعة، إذ كرهوا الطاعة والدين الجزاء. من قولهم كما تدين
تدان أي كما تجزي تجزى. ومنه قوله: " مالك يوم الدين " أي يوم الجزاء،
وسميت الطاعة دينا، لأنها للجزاء. ومنه الدين، لأنه كالجزاء في وجوب القضاء.
والاسلام أصله السلم، فأسلم معناه دخل في السلم كقولهم أقحط بمعنى دخل القحط
وأربع دخل في الربيع، وأصل السلم السلامة، لأنه انقياد على السلامة، ويصلح
أن يكون أصله التسليم، لأنه تسليم، لامر الله، والتسليم من السلامة، لأنه
تأدية الشئ على السلامة من الفساد والنقصان، فالاسلام: هو تأدية الطاعات على
السلامة من الادغال، والاسلام، والايمان عندنا وعند المعتزلة بمعنى واحد غير
أن عندهم أن فعل الواجبات من أفعال الجوارح من الايمان (وعندنا أن أفعال

(1) انظر 2: 147.
418

الواجبات من أفعال الجوارح من الايمان) (1) وعندنا أن أفعال الواجبات من أفعال
القلوب - التي هي التصديق - من الايمان، فأما أفعال الجوارح، فليست من
الايمان، وإن كانت واجبة. وقد بينا ذلك في ما مضى وسنبينه إن شاء الله.
والاسلام:؟ الانقياد لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله من العبادات الشرعية
وترك النكير عليه، والاستسلام له، فإذا قلنا: دين المؤمن هو الايمان، وهو
الاسلام، فالاسلام هو الايمان. ونظير ذلك قولنا. الانسان، والانسان حيوان
على الصورة الانسانية، فالحيوان على الصورة الانسانية بشر.
وقوله: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) قال الربيع: المراد بالكتاب:
التوراة. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: هو الإنجيل. وقال الجبائي: خرج مخرج
الجنس، ومعناه كتب الله المتقدمة التي بين فيها الحلال والحرام.
والاختلاف ذهاب أحد النفيسين إلى خلاف ما ذهب إليه الاخر فهذا
الاختلاف في الأديان. فأما الاختلاف في الأجناس، فهو امتناع أحد الشيئين
أن يسد مسد الاخر فيما يرجع إلى ذاته. والبغي: طلب الاستعلاء بالظلم وأصله
من بغيت الحاجة إذا طلبتها، وليس في الآية ما يدل على أن الذين اختلفوا بغيا
كانوا معاندين، لان البغي قد يحمل على العدول عن طريق العلم، كما يحمل على
عناد أهل العلم. ولأنه قد يقع الخلف بينهم وإن كانوا بأجمعهم مبطلين، كاختلاف
اليهود والنصارى في المسيح، فنسبه النصارى إلى الإلهية، واليهود إلى الفرية.
الاعراب، والمعنى:
والعامل في " بغيا بينهم " يحتمل أمرين: أحدهما - (اختلف) هذا المذكور،
وتقديره: وما اختلف فيه بغيا بينهم إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءهم العلم، هذا
قول الأخفش وقال الزجاج: نصبه محذوف دل عليه اختلف المذكور، وتقديره
اختلفوا بغيا بينهم. وقوله: (ومن يكفر بآيات الله) معناه: من يجحد آيات الله

(1) ما بين القوسين زائد حسب ما؟.
419

يعني أدلته وبينا؟ " فان الله سريع الحساب " وفي الاخر سريع الحساب للجزاء.
قوله تعالى:
(فان حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل
للذين أوتو الكتاب والأميين أأسلمتم فان أسلموا فقد اهتدوا
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) (20) آية بلا خلاف.
المعنى:
المعني بقوله: " فان حاجوك " نصارى نجران - على قول جميع المفسرين -
فان قيل: لم قال: " ومن اتبعن " ولم يؤكد الضمير، فلم يقل: أسلمت أنا ولا
يجوز أن يقول القائل قمت وزيد إلا بعد أن يقول قمت أنا وزيد؟ قيل: إنما جاز
ههنا لطول الكلام، فصار طوله عوضا من تأكيد الضمير المتصل، ولو قال أسلمت
وزيد لم يجز حتى يقول: أسلمت أنا وزيد، فإذا قال: أسلمت اليوم بانشراح
صدري ومن جاء معي حسن. فان قيل ما الحجة في قوله: " فقل أسلمت وجهي
لله "؟ قلنا فيه وجهان:
أحدهما - أنه أراد إلزامهم على - ما أقروا به من أن الله خالقهم - اتباع
أمره في " ألا تعبدوا إلا إياه " (1) فلذلك قال: " أسلمت وجهي لله " أي
انقدت لامره في اخلاص التوحيد له.
الثاني - أنه ذكر الأصل الذي يلزم جميع المكلفين الاقرار به لأنه لا ينتقض
في ما يحتاج إلى العمل عليه في الدين الذي هو طريق النجاة من العذاب إلى النعيم،
ومعنى قوله: " وجهي " يريد نفسي وإنما أضاف الاسلام إلى الوجه، لأنه لما
كان وجه الشئ أشرف ما فيه ذكر بدلا منه ليدل على شرف الذكر. ومثله " كل
شئ هالك إلا وجهه " (2) أي إلا هو. وقوله: (وقل للذين أوتوا الكتاب)

(1) سورة الاسرى آية: 23.
(2) سورة القصص آية: 88.
420

يعني اليهود والنصارى، " والأميين " الذين لا كتاب لهم على قول ابن عباس
وغيره. من أهل التأويل، وهم مشركوا العرب، كما قال: " هو الذي بعث في
الأميين رسولا منهم " (1) وقال: " النبي الأمي " (2) أي الذي لا يكتب.
وإنما قيل لمن لا يكتب أمي، لأنه نسب إلى ما عليه الأمة في الخلقة لأنهم خلقوا
لا يكتبون شيئا. وإنما يستفيدون الكتابة.
وقوله: (ومن اتبعن) من حذف الياء اجتزاء بالكسرة وإنما حذفها
حمزة، والكسائي وعاصم، وحذف الياء في أواخر الآي أحسن لأنها تشبه
القوافي. ويجوز في وسط الآي أيضا وأحسنها ما كان قبلها نون مثل قوله: " ومن
اتبعن "، فإن لم يكن نون، فإنه يجوز أيضا نحو قولك هذا غلام، وما أشبه
ذلك. والأجود أن تقول هذا غلامي وإن شئت أسكنت الياء. وإن شئت فتحتها
وقوله: (أأسلمتم) أمر في صورة الاستفهام، وإنما كان كذلك، لأنه بمنزلة
طلب الفعل، والاستدعاء إليه فذكر ذلك للدلالة على أمرين من غير تصريح به ليقر
المأمور به بما يلزمه فيه، كما تقول لمن توصيه بما هو أعود عليه: أقبلت هذا.
ومعناه اقبل، ومثله قوله تعالى: " فهل أنتم منتهون " (3) معناه انتهوا، وأقروا
به. وتقول لغيرك: هل أنت كاف عنا. ومعناه اكفف. ويقول القائل لغيره:
أين أنت، ومعناه أثبت مكانك لا تبرح.
وقوله: (فان اسلموا فقد اهتدوا) معناه اهتدوا إلى طريق الحق " وان
تولوا " معناه كفروا، ولم يقبلوا واعرضوا عنه " فإنما عليك البلاغ " ومعناه
عليك البلاغ، فقط دون ألا يتولوا، لأنه ليس عليك ألا يتولوا. وقوله:
" والله بصير بالعباد " معناه ههنا لا يفوته شئ من أعمالهم التي يجازيهم بها، لأنه
بصير بهم أي عالم بهم وبسرائرهم وظواهر أعمالهم، لا يخفى عليه خافية. وقيل
معناه يعلم ما يكون منك في التبليغ، ومنهم في الايمان، والكفر.

(1) سورة الجمعة آية: 2.
(2) سورة الأعراف آية: 156، 157.
(3) سورة المائدة آية: 94.
421

قوله تعالى:
(إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق
ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب.
أليم " (21) آية واحدة.
القراءة:
قرأ حمزة ونصير " ويقاتلون الذين يأمرون " بألف لان في مصحف عبد الله
" وقاتلوا " والأجود ما عليه الجماعة.
المعنى:
وقوله: " إن الذين يكفرون " معناه يجحدون " آيات الله " يعني حججه
وبينا؟ " ويقتلون النبيين " روى أبو عبيدة بن الجراح قال: قلت يا رسول الله
أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى
عن منكر، ثم قرأ رسول الله " ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم
بعذاب أليم " ثم قال يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول
النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل
فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك
اليوم، وهم الذين ذكرهم الله. واستدل الرماني بذلك على جواز انكار المنكر مع
خوف القتل، وبالخبر الذي رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أفضل الجهاد
كلمة حق عند سلطان جائر يقتل عليها. وقال عمرو بن عبيد: لا نعلم عملا من أعمال
البشر أفضل من القيام بالقسط يقتل عليه. وهذا الذي ذكروه غير صحيح، لان
من شرط إنكار المنكر ألا يكون فيه مفسدة، وألا يؤدي إلى قتل المنكر، ومتى
أدى ذلك إلى قتله،؟ انتفي عنه الشرطان معا فيجب أن يكون قبيحا، والاخبار
422

التي رووها أخبار آحاد لا يعارض بها على أدلة العقول على أنه لا يمتنع أن يكون
الوجه فيها وفي قوله: " ويقتلون الذين يأمرون بالقسط " هو من غلب على ظنه
أن انكاره لا يؤدي إلى مفسدة فحسن منه ذلك بل وجب وإن تعقب - في ما بعد -
القتل، لأنه ليس من شرطه أن يعلم ذلك بل يكفي فيه غلبة الظن.
وقوله: (بغير حق) لا يدل على أن قتل النبيين يكون بحق بل المراد
بذلك أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق، كما قال: " ومن يدع مع الله إلها آخر
لا برهان له به " (1). والمعنى ان ذلك لا يكون عليه برهان كما قال امرؤ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره * إذا سافه العود الديا في جرجرا (2)
وتقول: لا خير عنده يرجى. وأنت تريد لا خير عنده أصلا. وكذلك أراد
امرؤ القيس أنه لا منار هناك، فيهتدى به قال أبو ذؤيب:
متفلق انشاؤها عن قاني * كالقرط صاو غيره لا يرضع
أي ليس له بقية لبن فيرضع، ومعنى صاو في البيت صوت يابس النخلة.
وقوله: (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) معناه الذين يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر. وقوله: " فبشرهم بعذاب أليم " إنما خاطبهم بذلك
وإن كان الخبر عن أسلافهم من حيث رضواهم بافعالهم، فاجملوا معهم على تقدير
فبشر أخلا؟ هم بأن العقاب لهم، وكأسلافهم. فان قيل لم جاز أن تقول إن الذي
يقوم، فيكرمك، ولم يجز ليت الذي يقوم فيكرمك؟ قلنا: لان دخول الفاء
لشبه الجزاء، لان الذي يحتاج إلى صلة فصلتها قامت مقام الشرط، فلذلك دخل الفاء
في الجواب كما دخل في جواب الشرط، وليت تبطل معنى الجزاء وليس كذلك أن
لأنها بمنزلة الابتداء.
قوله تعالى:
(أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما

(1) سورة المؤمنون آية: 118.
(2) مر تخريجه في 2: 356.
423

لهم من ناصرين) (22) آية بلا خلاف.
المعنى:
حبوط العمل - عندنا - هو إيقاعه على خلاف الوجه المأمور به، فإذا أوقعه
كذلك لم يستحق عليه الثواب، فجاز لذلك أن يقال: أحبط عمله، ومتى أوقعه
على الوجه المنهي عنه، استحق مع ذلك العقاب، وليس المراد بذلك بطلان ما يستحق
عليه من الحمد والثناء. ولا بطلان الثواب بما يستحق من العقاب، لان الثواب إذا
ثبت فلا يزول على وجه بما يستحق صاحبه من العقاب، لأنه لا تنافي بين المستحقين،
ولا تضاد. وأما حبوطها في الدنيا، فلأنهم لم ينالوا بها مدحا ولا ثناء.
وأصل الحبوط مأخوذ من قولهم: حبطت بطون الماشية: إذا فسدت من
مآكل الربيع. فعلى ما حررناه إنما تبطل الطاعة حتى تصير بمنزلة ما لم تفعل إذا
وقعت على خلاف الوجه المأمور به وعند المعتزلة، ومن خالفنا في ذلك أن أحدهما
يبطل صاحبه إذا كان ما يستحق عليه من الثواب أو العقاب أكثر مما يستحق على
الاخر فإنه يبطل الأقل على خلاف بينهم في أنه يتحبط على طريق الموازنة أو غير
الموازنة، قال الرماني: والفرق بين حبوط الفريضة وحبوط النافلة أن النافلة من
الفاسق لابد عليها من منفعة عاجلة، لان الله رغب فيها إن أقام على فسقه أو لم يقم.
والترغيب من الحكيم لا يكون إلا لمنفعة، فأما الفريضة من الفاسق، فلانتقاض
المضرة التي كان يستحقها على ترك المضرة، وهذا - على مذهبنا - لا يصح على
ما فصلناه، ولا على مذهب شيوخه، لان المستحق على النوافل لا يكون إلا ثوابا
والثواب لا يصح فعله في دار التكليف، فكيف يصح ما قاله. وقوله: (وما لهم
من ناصرين) يدل على أنه تعالى لا ينصر كافرا لأنه لو نصره، لكان أعظم ناصر
والله؟ عالي نفى على وجه العموم أن يكون لهم ناصر، ولان مفهوم الكلام أنه
لا ينفعهم نصر لكفرهم.
424

قوله تعالى:
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى
كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون)
(23) آية بلا خلاف.
المعنى:
معنى " ألم تر " ألم تعلم " إلى الذين أوتوا " معناه الذين أعطوا " نصيبا "
أي حظا وإنما قيل " أوتوا نصيبا " منه، لأنهم يعلمون بعض ما فيه " من الكتاب "
قال ابن عباس، والزجاج، والجبائي: إنه التوراة دعي إليها اليهود فأبوا لعلمهم
بلزوم الحجة عليهم بما فيه من الدلالة على نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وتصديقه. والثاني - قال
الحسن، وقتادة: دعوا إلى القرآن، لان ما فيه موافق ما في التوراة في أصول
الديانة وأركان الشريعة. وفي الصفة التي تقدمت البشارة بها.
والحكم الذي دعوا فيه إلى الكتاب يحتمل ثلاثة أشياء: أحدها - أن يكون
نبوة النبي صلى الله عليه وآله. والثاني - أن يكون أمر إبراهيم فان دينه الاسلام. والثالث -
أن يكون حدا من الحدود، لأنهم نازعوا في ذلك، وليس في القرآن دليل على
تعيين ذلك وإنما هو محتمل لكل واحد منها.
والفريق بين الدعاء إلى الشئ والامر به أن الامر له صيغة مخصوصة وفيه
زجر عن المخالفة عند من قال: إنه يقتضي الايجاب. والدعاء قد يكون بالخبر وغيره
من الدلالات على معنى الخبر وإنما دعوا إلى المحاكمة لتظهر الحجة فأنوا إلا المخالفة.
والحكم هو الخبر الذي يفصل الحق من الباطل بامتناعه من الالباس وهو مأخوذ
من الحكمة. وهو؟ الذي توجب صحته الحكمة. وإنما يقال حكم بالباطل لأنه
جعل موضع الحق باطلا بدلا منه. وقولهم ليس هذا حكم كذا معناه ليس هذا
حقه فإنما دعوا إلى كتاب الله ليفصل الحق من الباطل فيما اختلفوا فيه. ومعنى
425

قوله: (يتولى فريق منهم وهم معرضون) فالتولي عن الشئ هو الاعراض عنه،
فليس على وجه التكرار لان معناه يتولى عن الداعي، وهو معرض عما دعا إليه،
لأنه قد كان يمكنه أن يتولى عنه وهو متأمل لما دعا إليه، فلما لم يفعل كان العيب.
له ألزم والذم على ما فعل أعظم.
قوله تعالى:
(ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم
في دينهم ما كانوا يفترون) (24) آية بلا خلاف.
المعنى:
الأيام المعدودات قيل فيها قولان:
أحدهما - هي الأيام التي عبدوا فيها العجل وهي أربعون يوما. ذكره قتادة،
والربيع، والحسن إلا أن الحسن قال: سبعة أيام. والثاني - قال الجبائي: أرادوا
أياما منقطعة لانقضاء العذاب فيها وانقطاعه.
اللغة:
وقوله: (وغرهم في دينهم) فالغرور الأطماع في ما لا يصح. غره يغره
غرورا، فهو مغرور واعتره اغترارا. والغرور: الشيطان، لأنه يغر الناس. والغار:
الغافل، لأنه كالمغتر. والغرارة: الدنيا، لأنها تغر أهلها. والغر: الغمر الذي لم
يجرب الأمور، ومصدره الغرارة، لان من شأنه أن يقبل الغرور. والغرر: الخطر
الذي يقدم فيه على ما لا ينبغي، لأنه كحال الغرور في الطمع المذموم. والغرارة:
الوعاء، لأنها تغر بعظمها وخفاء ما فيها. والغر: آثار طي الثوب. أطوه على غره
أي على آثارطيه. والغرغرة: التغرغر في الحلق. والغرغرة: حكاية صوت الراعي.
والغر: زق الطائر فرخه. غره يغره غرا: إذا زقه وذلك، لأنه كالغرغرة في الحلق.
426

والغرة: الجبهة. وأصل الباب الغرور. الطماع في غير مطمع.
وقوله: (ما كانوا يفترون) فالافتراء: الكذب، وفرى فلان كذبا يفريه
فرية، والفري: الشق، فريت الأديم فريا، وفرية. مفرية: مشقوقة. وقد تفرو
بجورها أي تشق. والفري: الاصر العظيم، لأنه يشق على النفس. وأصل الباب:
الفري: الشق. ومنه الافتراء، لأنه يشق على النفس.
المعنى:
والافتراء الذي غرهم قيل فيه قولان: أحدهما - قوله: " نحن أبناء الله
وأحباؤه " في قول قتادة، وقال مجاهد غرهم قوله: (لن تمسنا النار إلا أياما
معدودات) وليس في الآية ما يدل على خلاف ما نذهب إليه من جواز العفو
واخراج المعاقبين من أهل الملة من النار من حيث أن الله ذم هؤلاء بأنه لا تمسهم النار
إلا أياما معدودات. وذلك انا لا نقول أن الأيام التي يعاقب فيها الفاسق بعدد أيام
عصيانه بل إنما نقول: إن عقاب من ثبت دوام ثوابه لا يكون إلا منقطعا وإن لم
يحط العلم مقداره. والله تعالى عاب أهل الكتاب بذلك من حيث قطعوا على ما قالوه
وحكموا به وذلك بخلاف ما قلناه.
قوله تعالى:
(فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه و؟ كل نفس
ما كسبت وهم لا يظلمون) (25) آية بلا خلاف.
" كيف " موضوعة للسؤال عن الحال. ومعناها ههنا التنبيه بصيغة السؤال
عن حال من يساق إلى النار. وفيه بلاغة، واختصار شديد، لان تقديره أي حال
يكون حال من اغتر بالدعاوي الباطلة حتى أداه ذلك إلى الخلود في العقوبة؟ ونظيره
قول القائل: أنا أكرمك وإن لم تجئني فكيف إذا جئتني؟ معناه فكيف إكرامي
لك إذا جئتني. والتقدير: كيف حالها إذا جمعناهم؟ لأنه خبر ابتداء محذوف.
427

وقوله: (ليوم لا ريب فيه) معناه لجزاء يوم. واللام يدل على هذا
التقدير. ولو قال: جمعناهم في يوم لما دل على ذلك. ومثله جئته ليوم الخميس أي
لما يكون في يوم الخميس. وقال الفراء. معناه في يوم.
وقوله: (ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) قيل في معناه قولان.
أحدهما " وفيت كل نفس ما كسبت " من ثواب أو عقاب. الثاني ما كسبت
من ثواب أو عقاب بمعنى اجتلبت بعملها من الثواب أو العقاب، كما تقول كسب
فلان المال بالتجارة والزراعة. فان قيل: كيف قال: " وفيت كل نفس ما كسبت "
وما كسبت، لا نهاية له، لأنه دائم وما لا نهاية له لا يصح فعله؟ قلنا: معناه
أنه توفى كل نفس ما كسبت حالا بعد حال، فأما أن يفعل جميع المستحق فمحال
لكن لا ينتهي إلى حد ينقطع ولا يفعل فيما بعده. " وهم لا يظلمون " معناه
لا يبخسون، فلا يبخس المحسن جزاء إحسانه، ولا يعاقب مسئ فوق جزائه.
وقوله تعالى:
(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع
الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير
إنك على كل شئ قدير) (26) آية واحدة.
اللغة:
قيل في زيادة الميم في اللهم قولان: أحدهما - قال الخليل: إنها عوض من ياء
التي هي أداة للنداء بدلالة أنه لا يجوز أن تقول غفر اللهم لي، ولا يجوز أيضا مع
(يا) في الكلام. والثاني - ما قاله الفراء: إنها الميم في قولك يا الله أ؟ بخير فألقيت
الهمزة وطرحت حركتها على ما قبلها. ومثله هلم وإنما هي هل أم، قال: وما قاله
الخليل لا يجوز لان الميم إنما تزاد مخففة في مثل فم وابنم، ولأنها قد اجتمعت مع
(يا) في قول الشاعر:
428

وما عليك أن تقولي كلما * سبحت أو صليت يا اللهما
أردد علينا شيخنا مسلما (1)
قال الرماني لا يفسد قول الخليل بما قاله، لأنها عوض من حرفين فشددت
كما قيل قمتن وضربتن لما كانت النون عوضا من حرفين في قمتم، وذهبتم، فأما
قمن وذهبن فعوض من حرف واحد، وأما البيت فإنما جاز فيه لضرورة الشعر،
وأما هل، فلا تدخل على (أم) بوجه من الوجوه. والأصل في (ها) أنها للتنبيه
دخلت على (لم) في قول الخليل.
الاعراب:
وقوله: (مالك الملك) أكثر النحويين على أنه منصوب بأنه منادى
مضاف وتقديره يا مالك الملك. وقال الزجاج: يحتمل هذا ويحتمل أيضا أن يكون
صفة من اللهم، لان اللهم منادى، والميم في آخره عوض من ياء في أوله ثم وصفه
بعد ذلك كما تقول يا زيد ذا الحجة.
المعنى:
ومعني الآية قيل فيه أربعة أقوال:
أحدها - أن الملك ههنا النبوة ذكره مجاهد. و (الثاني) قال الزجاج:
مالك العباد، وما ملكوا. و (الثالث) قال قوم: مالك أمر الدنيا والآخرة.
والرابع: انه أفاد صفة لا تجوز الاله من أنه مالك كل ملك.
وقوله: (تؤتي الملك من تشاء) تقديره من تشاء أن تؤتيه وتنزع الملك
ممن تشاء أن تنزعه، كما تقول: خذ ما شئت واترك ما شئت. ومعناه ما شئت
أن تتركه.

(1) اللسان (أله)، ومعاني القرآن للفراء 1: 203 وغيرهما من كتب اللغة والنحو
والأدب، وراتها مختلفة.
429

اللغة:
والنزع: قلع الشئ عن الشئ، نزع ينزع نزعا. ومنه قوله: " والنازعات
غرقا " قال أبو عبيدة هي النجوم تنزع أي تطلع والنزع الشبه للقوم نزع إلى
أخواله أي نزع إليهم بالشبه، فصار واحدا منهم بشبهه لهم. والنزاع: الحنين
إلى الشئ والمنازعة: الخصومة. والنزوع عن الشئ الترك له. والنزع: ذهاب
الشعر عن مقدم الرأس. والمنزعة: آلة النزع. وأصل الباب النزع: القلع.
المعنى:
وقال البلخي والجبائي لا يجوز أن يعطي الله الملك للفاسق لأنه تمليك الامر
العظيم من السياسة والتدبير مع المال الكثير، لقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) (1)
والملك من أعظم العهود، ولا ينافي ذلك قوله: (ألم تر إلى الذين حاج إبراهيم
في ربه أن آتاه الله الملك) (2) لامرين: أحدهما - قال مجاد الهاء كناية عن
إبراهيم والملك المراد به النبوة والتقدير أن آتى الله إبراهيم النبوة. والثاني - أن
يكون المراد بالملك المال دون السياسة، والتدبير فان قيل: ما الفرق بين تمليك
الكافر العبيد والإماء وبين تمليكه السياسة والتدبير: قيل: لان لا يجعل للجاهل أن
يسوس العالم، وهذا الذي ذكره البلخي؟ يستدل به على الامام يجب أن
يكون معصوما، ولا يكون في باطنه كافرا، ولا فاسقا.
فان قيل: إن ذلك عادة وجاز أن يكلفنا الله اختياره على ظاهر العدالة فإذ
أبان فسقه انخلعت إمامته وإنما لا يجوز أن يختار الله (تعالى) من في باطنه فاسق،
لأنه يعلم البواطن لما جاز منا أن نختاره؟ قلنا عن ذلك جوابان:
أحدهما - أن الامام - عندنا - الله (تعالى) يختاره، فوجب أن يكون

(1) سورة البقرة آية: 124.
(2) سورة البقرة آية: 258.
430

مأمون الباطن على ما قلتموه. وما الفرق بين أن يختار من في باطنه فاسق وبين أن
كلفنا ذلك مع علمه بأنا لا نختار إلا الفاسق.
والجواب الثاني - أنه إذا كانت علة الحاجة إلى الامام ارتفاع العصمة فلو
كان الامام غير معصوم لاحتاج إلى امام آخر وأدى ذلك إلى التسلسل
وذلك باطل.
وقوله: (بيدك الخير) معناه إنك قادر على الخير وإنما خص الخير بالذكر
وإن كان بيده كل شئ من خير أو شر، لان الغرض ترغيب العبد، وإنما يرغب
في الخير دون الشر، وقال الحسن، وقتادة: هذه الآية نزلت جوابا لما سأل الله
النبي صلى الله عليه وآله أن يجعل لامته ملك فارس والروم فأنزل الله الآية.
قوله تعالى:
(تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي
من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير
حساب) (27) آية بلا خلاف.
القراءة واللغة:
قرأ بتشديد الياء " من الميت " نافع وحمزة والكسائي وحفص الباقون
بالتخفيف.
الايلاج: الادخال يقال: أولجه ايلاجا، وولج ولوجا. ومنه قوله: " حتى
يلج الجمل في سم الخياط " (1) والوليجة بطانة الرجل لأنه يطلعه على داخل
أمره. ومنه قوله: (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (2)
والتولج كناس الظبي لأنه يدخله ليأوي إليه والولجة شئ يكون بين يدي فناء
القوم لأنه مدخل إلى أفنائهم وأصل الباب الدخول.

(1) سورة الأعراف آية: 29.
(2) سورة التوبة آية: 17.
431

المعنى:
قيل في معنى الآية قولان: أحدهما - ما روي عن ابن مسعود، وابن عباس،
ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، والضحاك، وابن زيد: انه يجعل ما نقص
من أحدهما زيادة في الاخر. وقال الجبائي: معناه يدخل أحدهما في الاخر باتيانه
بدلا منه في مكانه.
وقوله: (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) قيل في معناه
قولان:
أحدهما - يخرج الحي من النطفة، وهي ميتة، والنطفة من الحي وكذلك
الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، هذا قول عبد الله بن مسعود، ومجاهد،
والضحاك، والسدي، وقتادة، وابن زيد.
الثاني - ما قاله الحسن وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) أنه
إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. والفرق بين تخفيف الياء وتشديدها
أن الميت بالتخفيف الذي قد مات وبالتثقيل الذي لم يمت قال المبرد: ولا خلاف
بين علماء البصريين أنهما سواء وأنشد لابن الرعلاء الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الاحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا * كاسفا باله قليل الرخاء (1)
فجمع بين اللغتين وإنما كرر في عدة مواضع في القرآن لما فيه من عظم المنفعة
وجزيل الفائدة.
وقوله. (بغير حساب) قيل فيه ثلاثة أقوال: أولها - قال الحسن والربيع:
بغير نقصان، لأنه لا نهاية لما في مقدوره فما يوجد منه لا ينقصه، ولا هو على
حساب جزء من كذا وكذا جزءا منه، فهو بغير حساب التجزئة. الثاني بغير
حساب التقتير كما يقال فلان ينفق بغير حساب، لان من عادة المقتر ألا ينفق إلا

(1) اللسان (موت) وروايته (شقيا) بدل (كئيبا).
432

بحساب ذكره الزجاج. الثالث - ما قاله الجبائي: ان معناه بغير حساب الاستحقاق.
لأنه تفضل وذلك، لان النعيم منه بحساب ومنه بغير حساب فأما العقاب فجميعه
بحساب.
قوله تعالى:
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن
يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم
الله نفسه وإلى الله المصير) (28) آية واحدة.
القراءة، والحجة:
قال الفراء، والحسن، ومجاهد: " تقية " وبه قرأ يعقوب. الباقون " تقاة "
وأمال " تقاة " الكسائي. وقرأ حمزة، ونافع بين بين. الباقون بالتفخيم، وهو
الأجود، لان فيه حرفا مستعليا، وهو القاف. ومن أمال، ليؤذن أن الألف
منقلبة من الياء. معنى قوله: (يتخذ المؤمنون) نهي للمؤمنين أن يتخذوا
الكافرين أولياء يعني أنصارا، وكسر الذال لالتقاء الساكنين، ولو رفع، لكان
جائزا بمعنى لا ينبغي لهم أن يتخذوا.
المعنى:
وقوله: (من دون المؤمنين) من لابتداء الغاية. وتقديره الآية لا تجعلوا
ابتداء الولاية مكانا دون المؤمنين لان مكان المؤمن الاعلى ومكان الكافر الأدنى،
كما تقول زيد دونك ولست تريد أنه في موضع مسفل، وأنك في موضع مرتفع
لكن جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع والخيانة كالاستفال. وفي الآية دلالة على أنه
لا يجوز ملاطفة الكفار. قال ابن عباس: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا
الكفار قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم
433

خبالا) (1) وقال: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد
الله ورسوله) (2) وقال: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) (3)
وقال (واعرض عن الجاهلين) (4) وقال تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار
والمنافقين واغلظ عليهم) (5) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (6) وكل ذلك
يدل على أنه ينبغي أن يعاملوا بالغلظة والجفوة دون الملاطفة، والملاينة إلا ما وقع
من النادر لعارض من الامر.
النظم:
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه (تعالى) لما بين عظيم آياته بما في
مقدوراته مما لا يقدر عليه سواه، دل على أنه ينبغي أن تكون الرغبة في ما عنده
وعند أوليائه من المؤمنين دون أعدائه الكافرين، فنهى عن اتخاذهم أولياء دون
أهل التقوى الذين سلكوا طريق الهدى. والولي هو الأولى، وهو أيضا الذي
يلي أمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة. وتجري على وجهين:
أحدهما - المعين بالنصرة. والاخر - المعان فمن ذلك قوله: " الله ولي الذين
آمنوا " أي معينهم بنصرته، والمؤمن ولي الله أي معان بنصرة الله. وقوله:
" ومن يفعل ذلك " يعني من اتخذ الكافرين أولياء " فليس من الله في شئ " أي
ليس هو من أولياء الله الصالحين والله برئ منهم " إلا أن تتقوا منهم تقاة " فالتقية
الاظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس إذا كان ما يبطنه
هو الحق فإن كان ما يبطنه باطلا كان ذلك نفاقا.
اللغة:
وقوله: (تقاة) أصله وقاة فأبدلت الواو المضمومة تاء استثقالا لها، لأنهم

(1) سورة آل عمران آية: 118.
(2) سورة المجادلة آية: 22.
(3) سورة الأنعام آية 8.
(4) سورة الأعراف آية: 198.
(5) سورة التوبة آية: 74.
(6) سورة المائدة آية: 54.
434

يفرون منها إلى الهمزة تارة وإلى التاء أخرى فأما التاء فلقربها من الواو مع أنها
من حروف الزيادة. وأما الهمزة فلأنها نظيرتها في الطرف الآخر من مخارج
الحروف مع حسن زيادتها أولا، ووزن تقاة فعله مثل تودة، وتخمة ونكاة وهي
مصدر اتقى تقاة، وتقية، وتقوى، واتقاء.
حكم التقية:
والتقية - عندنا - واجبة عند الخوف على النفس وقد روي رخصة في جواز
الافصاح بالحق عندها. روى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال:
أفتشهد أني رسول الله؟ قال نعم، ثم دعا بالاخر فقال أتشهد أن محمدا رسول الله؟
قال: نعم، فقال له أفتشهد أني رسول الله؟ قال إني أصم - قالها ثلاثا كل ذلك
تقية - فتقول ذلك فضرب عنقه فبلغ ذلك (1) فقال أما هذا المقتول فمضى على
صدقه وتقيته وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الاخر فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه
فعلى هذا التقية رخصة والافصاح بالحق فضيلة. وظاهر أخبارنا يدل على أنها
واجبة، وخلافها خطأ.
وقوله (ويحذركم الله نفسه) يعني إياه فوضع نفسه مكان إياه، ونفسه
يعني عذابه، وأضافه إلى نفسه على وجه الاختصاص، والتحقيق كما لو حققه بصفة
بأن يقول يحذركم الله المجازي لكم. وقوله: (وإلى الله المصير) معناه إلى جزاء
الله المصير أي المرجع.
قوله تعالى:
(قل ان تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم
ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شئ قدير) (29)
آية واحدة.

(1) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله.
435

النظم:
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها. أنه لما تقدم النهي عن اتخاذ الكفار أولياء
خوفوا من الاعلان بخلاف الاظهار في ما نهوا عنه بأن الله (تعالى) يعلم الاسرار
كما يعلم الاعلان.
اللغة:
والصدر معروف. والصدر: أعلى مقدم كل شئ. والصدر: الانصراف
عن الماء بعد الري. تقول: صدرت الإبل عن الماء فهي صادرة. والمصدر: الحوض
الذي تصدر عنه الإبل. والتصدير: حزام الرجل لميله إلى الصدور. والصدار:
شبيه بالفقيرة تلبسها المرأة لأنه قصير يغطى الصدر وما حاذاه وكذلك الصدرة.
وأصل الباب الصدر المعروف.
وقوله: (يعلمه الله) جزم، لأنه جواب الشرط، وإن كان الله يعلمه كان
أو لم يكن، ومعناه يعلمه كائنا. ولا يصح وصفه بذلك قبل أن يكون. والمعني:
وما تفعلوا من خير يجاز الله عليه، لأنه يعلمه، فلا يذهب عليه شئ منه وإنما
قال: " ويعلم ما في السماوات وما في الأرض " ليذكر بمعلومات الله على التفصيل بعلم
الضمير وإنما رفعه على الاستئناف. وقوله: (والله على كل شئ قدير) معناه
التحذير من عقاب من لا يعجزه شئ أصلا من حيث أنه قادر على كل شئ يصح
أن يكون مقدورا له.
قوله تعالى:
(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما علمت
من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه
والله رؤوف بالعباد) (30) آية بلا خلاف.
436

الاعراب:
قيل في انتصاب يوم ثلاثة أوجه: أحدهما - أنه منصوب ب‍ (يحذركم) الله أي
يحذركم نفسه يوم تجد. الثاني - بالمصير وتقديره وإلى الله المصير يوم تجد. الثالث -
إذكر يوم تجد. وقوله: " وما عملت " معنى (ما) ههنا الذي لأنه عمل فيها
(تجد) وتكون في موضع نصب. ويحتمل أيضا أن تكون مع ما بعدها بمنزلة
المصدر، وتقديره: يوم تجد كل نفس عملها، بمعنى جزاء عملها. وقوله: " وما
عملت " يجوز أن تكون (ما) بمعنى الذي، ويقوي ذلك قوله: " تود " بالرفع
ويجوز أن يكون بمعنى الجزاء، وتود على هذا يحتمل أن يكون مفتوحا أو
مكسورا. والرفع جائز على ضعف.
المعنى:
ومعنى تجد النفس عملها يحتمل أمرين: أحدهما - جزاء عملها من الثواب
أو العقاب. الثاني - تجد بيان عملها بما ترى من صحائف الحسنات، والسيئات.
وحكم الآية جار على فريقين ولي الله وعدوه، فاحدها يرى حسناته، والاخر يرى
سيئاته. ويحتمل أيضا أن يكون متناولا لمن جمع بين الطاعة والمعصية، فان من
جمع بينها فإنه يرى استحقاقه للعقاب على معاصيه حاصلا، فإنه يود أيضا أنه لم
يكن فعلها. والآمد الغاية التي ينتهي إليها قال الطرماح:
كل حي مستكمل عدة العمر * ومرد إذا انقضى أمده
أي غاية أجله. فان قيل كيف يتصل التحذير بالرأفة؟ قيل: قال الحسن:
إن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه، وقد بينا أن معنى قوله " ويحذركم الله نفسه "
عذابه. وفسرنا معنى رؤوف في ما مضى. وإن معناه رحيم بعباده.
قوله تعالى:
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم
437

ذنوبكم والله غفور رحيم) (31) آية:
النزول:
قيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب، قالوا: نحن الذين
نحب ربنا فجعل الله تصديق ذلك اتباع رسله. هذا قول الحسن وابن جريج. وقال
محمد بن جعفر بن الزبير: إنها نزلت في وفد نجران من النصارى.
اللغة:
والمحبة: هي الإرادة إلا أنها تضاف إلى المراد تارة، وإلى متعلق المراد
أخرى نحو أن تقول: أحب زيدا وأحب إكرام زيد، ولا تقول في الإرادة ذلك
لأنك تقول: أريد إكرام زيد، ولا تقول أريد زيدا. وإنما كان كذلك لقوة
تصرف المحبة في موضع مثل الطباع الذي يجري مجرى الشهوة، فعو ملت تلك المعاملة
في الإضافة ومحبة الله للعبد هي ارادته لثوابه ومحبة العبد لله هي ارادته
لطاعاته.
القراءة، والحجة، والاعراب:
وقوله: (فاتبعوني) أثبتت الياء فيه بلا خلاف، لأنها في وسط آية
وحذفت من قوله: " فاتقوا الله وأطيعون " لأنها رأس آية نوي بها الوقف
لتشاكل رؤوس الآي، لان سبيل الفواصل سبيل القوافي. وقيل أحببت فلانا،
فهو محبوب، فجاء مفعول للاستغناء به عن حببت حتى صار ذلك مهملا، وقد جاء
على الأصل قول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره * مني بمنزلة المحب المكرم (1)
وقد حكى الزجاج عن الكسائي (حببت) من الثلاثي، وأجاز القراءة بفتح

(1) معلقته الشهيرة وغيرها.
438

التاء غير أنه قال هذه لغة قد ماتت. وقوله: (ويغفر لكم) لا يجوز في القياس
إدغام الراء في اللام كما جاز إدغام اللام في الراء في هل رأيت، لان الراء مكررة،
ولا يدغم الزائد في الناقص للاخلال به، وقياسها في ذلك قياس الضاد، لأنه يجوز
هل ضربت بالادغام ولا يجوز انقض له إلا بالاظهار لما في الضاد من الاستطالة، وقال
الزجاج: روي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام، وغلظ عليه لأنه خطأ فاحش
باجماع علماء النحويين: الموثوق بهم، وأجاز الفراء إدغامها في اللام كما يجوز إدغام
الياء في الميم.
قوله تعالى:
(قل أطيعوا الله والرسول فان تولوا فان الله لا يحب
الكافرين) (32) آية بلا خلاف.
قال محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت هذه الآية في وفد نجران، وفيها دلالة
على بطلان مذهب الجبرة، لأنه قال لا يحب الكافرين ومعنى لا يحبهم لا يريد
ثوابهم من أجل كفرهم، فاذن لا يريد كفرهم، لأنه لو أراده لم يكن نفي محبته
لكفرهم، والطاعة اتباع الداعي فيما دعا إليه بأمره أو إرادته، ولذلك قد يكون
الانسان مطيعا للشيطان فيما يدعوه إليه، وإن لم يقصد أن يطيعه، لأنه إذا مال
مع ما يجده في نفسه من الدعاء إلى المعصية، فقد أطاع الداعي إليها. فان قيل
ما الفرق بين الطاعة وموافقة الإرادة؟ قيل: موافقة الإرادة قد تكون طاعة، وقد
تكون غير طاعة إذا لم تقع موقع الداعي إلى الفعل نحو إرادتي، لان يتصدق
زيد بدرهم من غير أن يشعر بذلك، فلا يكون بفعله مطيعا لي ولو فعله من أجل
إرادتي لكان مطيعا وكذلك لو أحسن بدعائي إلى ذلك فمال معه. وقوله: (إن
الله لا يحب الكافرين) معناه أنه يبغضهم ولا يريد ثوابهم، فدل بالنفي على
الاثبات وكان ذلك أبلغ، لأنه لو قال إنه يبغضهم لجاز أن يتوهم أن يبغضهم من
وجه ويحبهم من وجه كما يعلم الشئ من وجه، ويجهل من وجه، فإذا قيل لا يعلمه
439

لم يحتمل الوجوه.
قوله تعالى:
(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران
على العالمين) (33) آية واحدة.
معنى اصطفى: اختار واجتبى وأصله من الصفوة، وهذا من حسن البيان
الذي يمثل فيه المعلوم بالمرئي وذلك أن الصافي هو النقي من شائب الكدر فيما يشاهد
فمثل به خلوص هؤلاء القوم من الفساد لما علم الله ذلك من حالهم لأنهم كخلوص
الصافي من شائب الأدناس. فان قيل: بماذا اختارهم أباختيار دينهم أو بغيره؟
قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - بمعنى أنه اختار دينهم واصطفاه، كما قال: " واسأل القرية " (1)
وهذا قول الفراء:
و (الثاني) قال الزجاج واختاره الجبائي. انه اختيارهم للنبوة على عالمي
زمانهم.
الثالث - قال البلخي: بالتفضيل على غيرهم بما رتبهم عليه من الأمور الجليلة،
لما في ذلك من المصلحة.
والاصطفاء هو الاختصاص بحال خالصة من الأدناس. ويقال ذلك على
وجهين. يقال: اصطفاه لنفسه أي جعله خالصا له يختص به. والثاني - اصطفاه على
غيره أي اختصه بالتفضيل على غيره وهو معنى الآية فان قيل: كيف يجوز اختصاصهم
بالتفضيل قبل العمل؟ قيل: إذا كان في المعلوم أن صلاح الخلق لا يتم إلا بتقديم
الاعلام لذلك بما قدم من البشارة بهم، والاخبار بما يكون من حسن أفعالهم
والتشويق إليهم بما يكون من جلالتهم إلى غيره من الآيات التي تشهد لهم،
والقوى في العقول والافهام التي كانت لهم، وجب في الحكمة تقديم ذلك لما فيه

(1) سورة يوسف آية: 82.
440

من حسن التدبير.
فان قيل: من آل إبراهيم؟ قيل: قال ابن عباس، والحسن: هم المؤمنون
الذين على دينه، فيكون بمعنى اختصهم بميرة كانت منهم على عالمي زمانهم. وقيل.
آل عمران هم آل إبراهيم كما قال: " ذرية بعضها من بعض " فهم موسى وهارون
ابنا عمران. وقال الحسن: آل عمران المسيح، لان أمه مريم بنت عمران. وفي
قراءة أهل البيت " وآل محمد على العالمين ". وقال أيضا: إن آل إبراهيم: هم
آل محمد الذين هم أهله. وقد بينا فيما مضى أن الال بمعنى الأهل. والآية تدل
على أن الذين اصطفاهم معصومون منزهون، لأنه لا يختار ولا يصطفي إلا من
كان كذلك، ويكون ظاهره وباطنه واحدا، فإذا يجب أن يختص الاصطفاء بآل
إبراهيم وآل عمران من كان مرضيا معصوما سواء كان نبيا أو إماما.
قوله تعالى:
(ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) (34).
اللغة، والاعراب:
وزن ذرية فعلية، مثل قمرية. ويحتمل أن يكون على وزن فعلولة. وأصله
ذرورة إلا أنه كره التضعيف، فقلبت الراء الأخيرة ياء، فصار ذروية وقلبت الواو
للياء التي بعدها ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى، فصار ذرية. قال الزجاج: والأول
أجود وأقيس. ويحتمل فصبها وجهين:
أحدهما - أن يكون حالا والعامل فيها اصطفى. والثاني - أن يكون على
البدل من مفعول اصطفى.
المعنى:
ومعنى قوله: (بعضها من بعض) أي في الاجتماع على الصواب. قال الحسن:
441

" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " (1) في الاجتماع على الهدى. وبه قال
قتادة. الثاني - قال الجبائي وغيره: إنه في التناسل إذ جميعهم ذرية آدم، ثم ذرية
نوح، ثم ذرية إبراهيم، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع)، لأنه قال الذين
اصطفاهم الله بعضهم من نسل بعض. وقوله: (والله سميع عليم) قيل فيه قولان:
أحدهما - أنه سميع لما تقوله الذرية عليم بما تضمره، فلذلك فضلها على غيرها لما في
معلومه من استقامتها في قولها، وفعلها. والثاني - سميع لما تقوله امرأة عمران من
قوله: " اني نذرت لك ما في بطني محررا " عليم بما تضمره ليدل على أنه لا يضيع
لها شئ من جزاء عملها ونبه بذلك على استحسان ذلك منها، لان قول القائل
قد علمت ما فعلت يجري في الوعد والوعيد معا على حد واحد.
قوله تعالى:
(إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني
محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) (35) آية واحدة
بلا خلاف.
الاعراب، والمعنى:
امرأة عمران المذكورة في الآية هي أم مريم بنت عمران أم المسيح، وقيل
أن اسمها كانت حنة. و (إذ) تدل على ما مضى. وقيل فيما يتعلق به (إذ) أربعة
أقوال:
أحدها - قال الأخفش والمبرد: أنه اذكر إذ قالت.
الثاني - قال الزجاج: انه متعلق باصطفى آل عمران إذا قالت.
الثالث - يتعلق بسميع عليم إذ قالت، فيعمل فيه معنى الصفتين على تقدير
مدرك لنيتها وقولها إذ قالت ذكره الرماني.
الرابع - قال أبو عبيدة: ان (إذ) زائدة، فلا موضع لها من الاعراب

(1) سورة التوبة آية: 72.
442

وهذا خطأ عند البصريين. وقوله: (نذرت لك ما في بطتي محررا) فالنذر قد
بيناه فيما مضى، وهو قول القائل: لله علي كذا وكذا. وقيل في معنى (محررا)
ثلاثة أقوال: أحدها - قال الشعبي: معناه مخلصا للعبادة. قال مجاهد: خادما
للبيعة. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: عتيقا من الدنيا لطاعة الله.
اللغة:
ومعنى (محرر) في اللغة يحتمل أمرين: أحدهما - معتق من الحرية.
تقول: حررته تحريرا: إذا أعتقته أي جعلته حرا. الثاني - من تحرير الكتاب
وهو اخلاصه من الضرر والفساد. وأصل الباب الحرارة، لان الحر يحمي في مواضع
الانفة. فالمحرر يخلص من الاضطراب كما يخلص حرارة النار الذهب ونحوه من
شائبة الفساد، وهو نصب على الحال من (ما) وتقديره نذرت لك الذي في بطني
محررا والعامل فيه نذرت.
وقوله: " فتقبل مني " فأصل التقبل المقابلة، وذلك للاعتداد بالشئ فيما
يقابل بالجزاء عليه. وتقبل الصنيع مشبه بتقبل الهدية من جهة أخذه دون رده.
وقوله (إنك أنت السميع العليم) معناه السميع لما أقول العليم بما أنوي،
فلهذا صحت الثقة لي.
قوله تعالى:
(فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما
وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها
بك وذريتها من الشيطان الرجيم) (36) آية بلا خلاف.
القراءة، والمعنى:
قرأ " والله أعلم بما وضعت " ابن عامر، وأبو عمرو عن عاصم، ويعقوب
443

بمعنى قولي. " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى " قيل: فيه قولان:
أحدهما - الاعتذار من العدول عن النذر، لأنها أنثى. الثاني - تقديم الذكر في السؤال
لها بأنها أنثى وذلك؟ عيب الأنثى؟، وهو إليها أسرع، وسعيها أضعف،
وعقلها أنقص فقدمت ذكر الأنثى ليصح القصد لها في السؤال على هذا الوجه.
وقوله: " وليس الذكر كالأنثى " اعتذار بأن الأنثى لا تصلح لما يصلح له
الذكر، وإنما كان يجوز لهم التحرير في الذكور دون الإناث، لأنها لا تصلح لما
يصلح له الذكر من التحرير لخدمة المسجد المقدس، لما يلحقها من الحيض والنفاس،
والصيانة عن التبرج للناس. وقال قتادة: لم يكن التحرير إلا للغلمان فيما جرت به
العادة. والهاء في قوله: " وضعتها " يحتمل أن يكون كناية عن (ما) في قوله " نذرت
لك ما في بطني " وجاز ذلك لوقوع (ما) على مؤنث. ويحتمل أن يكون كناية عن
معلوم قد دل عليه الكلام.
اللغة:
؟ أصل الوضع: الحط. وضعه يضعه وضعا. ووضعت بمعنى ولدت أي
وضعت الولد. ومنه الموضع: مكان الوضع. والتواضع: خلاف التكبر لأنه وضع
العبد من نفسه. والضعة: الخساسة لأنها تضع من قدر صاحبها. والوضيعة: ذهاب
شئ من رأس المال. والمواضعة: المواهبة في التباع لوضع ما ينفق عليه في ذلك.
والايضاع في السير: الرفق فيه لأنه حط عن شدة الاسراع. ومنه قوله تعالى:
" ولا وضعوا خلالكم " (1) وأصل الباب: الحط.
المعنى:
فان قيل هل يجوز أن تقول: والله أعلم بأن الجسم محدث من زيد العالم به،
كما قالت: " وانه أعلم بما وضعت "؟ قيل: لا يجوز لان علم كل واحد منهما
يجوز أن ينقلب عنه إلى خلافه، وليس كذلك بأنه يعلم الله، وأفعل من كذا
إنما يقال للمبالغة في الصفة. ومن ضم؟ جعل ذلك من كلام أم مريم على وجه

(1) سورة التوبة آية: 48.
444

التسبيح والانقطاع إليه تعالى كما يقول القائل: قد كان كذا وكذا، وأنت تعلم
لاعلى وجه الاعلام بل على ما قلناه. واسكان التاء أجود لامرين: أحدهما - أن
قولها " إني وضعتها أنثى " قد أغنى عن ذلك. والثاني - أنه كان يجب أن تقول
وأنت أعلم، لأنها تخاطب الله تعالى.
وقوله: " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " قيل في معناه
قولان: أحدهما - الاستعاذة من طعن الشيطان للطفل الذي له يستهل صارخا، فوقاها
الله عز وجل وولدها عيسى منه بحجاب على ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله
الثاني - قال الحسن انها استعاذت من إغواء الشيطان.
اللغة:
والرجيم بمعنى الموجود بالشبهة وأصل الرجم: الرمي بالحجارة رجم يرجم
رجما والرجم القذف بالغيب لأنه رمى العبد به. ومنه " لأرجمنك واهجرني مليا " (1)
والرجم الاخبار عن الظن لأنه رمى بالخبر لاعن يقين. ومنه " رجما بالغيب " (2)
والرجوم النجوم، لان من شأنها أن يرمى بها الشياطين ومنه قوله: " وجعلناها
رجوما للشياطين " (3). والرجام القبور التي عليها الحجارة. والمراجمة المباراة
في الكلام، والعمل له من كل واحد من النفيسين لرمي صاحبه بما يكيده وأصل الباب
الرمي.
قوله تعالى:
(فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى

(1) سورة مريم آية: 46.
(2) سورة الكهف آية: 23.
(3) سورة الملك آية: 5.
445

لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير
حساب) (27) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة، والمعنى، واللغة:
قرأ أهل الكوفة " كفلها " بالتشديد. الباقون بالتخفيف. والتخفيف أليق
بقوله " أيهم يكفل مريم " (1) وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر (زكريا) مقصورا.
الباقون بالمد. ونصب (زكرياء) مع المد أبو بكر. الباقون بالرفع.
قوله: " فتقبلها ربها بقبول حسن " معناه رضيها في النذر الذي نذرته
بالاخلاص للعبادة في بيت المقدس، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى. وإنما جاء
مصدر تقبلها على القبول دون التقبل، لان فيه معنى قبلها. وقال أبو عمرو:
لا نظير للقبول في المصادر، ففتح فاء الفعل والباب كله مضموم الفاء كالدخول،
والخروج، وقال سيبويه: جاءت خمسة مصادر على فعول: قبول، ووضوح،
وظهور، وولوغ، ووقود إلا أن الأكثر في وقود الضم إذا أريد المصدر.
وأجاز الزجاج في القبول الضم.
وقوله: " وأنبتها نباتا حسنا " معناه أنشأها إنشاء حسنا في عذابها
وحسن تربيتها. والكفل تضمن مؤنة الانسان كفلته أكفله كفلا فأنا كافل:
إذا تكلفت مؤنته. ومنه " وكفلها زكريا " ومن قرأ بالتثقيل فمعنا كفلها الله زكريا
والكفيل: الضامن. والكفل: مؤخر العجز. والكفل من الرجال الذي يكون في
مؤخر الحرب همته الفرار. والكفل النصيب.
ومنه قوله: (يؤتكم كفلين من رحمته) (2) وقوله: (ومن يشفع شفاعة
سيئة يكن له كفل منها) (3) وأصل الباب التأخر فمنه الكفالة الضمان. وفي زكريا
ثلاث لغات: المد، والقصر. وقد قرئ بهما وزكري بالياء المشددة وأحكامها مختلفة

(1) سورة آل عمران آية: 44.
(2) سورة الحديد آية: 28.
(3) سورة النساء آية: 84.
446

في الجمع. والتثنية، فمن مد قال في التثنية: زكريا وان. وفي الجمع زكريا وون.
ومن قصر قال في التثنية زكريان. وفي الجمع زكريون. والذي بالياء زكريان في
التثنية، وزكريون في الجمع، وزكرياء بالمد لا يجوز صرفه لان فيه ألفي التأنيث.
ومن قال: لأنه أعجمي معرفة يلزمه إذا نكر أن يصرفه، وهذا لا يجوز. وأما
زكري، فان ينصرف لأنه بناء النسب خرج إلى شبه العربي كما خرج مدائني إلى
شبه الواحد على قول المبرد. والمحراب: مقام الامام من المسجد وأصله أكرم موضع
في المجلس وأشرفه قال عدي بن زيد العبادي:
كدمي العجاج في المحاريب أو * كالبيض في الروض زهره مستنير (1)
وقيل هو المكان العالي ذكره الزجاج قال الشاعر:
ربة محراب إذا جئتها * لم ألقها أو أرتقي سلما (2)
وقوله: " وجد عندها رزقا "، فالرزق هو ما للانسان، الانتفاع به على
وجه ليس لأحد منعه.
المعنى:
وقيل إنه كان فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف في قول
ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن اسحق. وقال: تكلمت في المهد،
ولم تلقم ثديا قط، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة، وهذه تكرمة من الله تعالى
لها. وعندنا يجوز فعل ذلك بالأولياء والصالحين، وإن لم يكونوا أنبياء. ومن منع
منه قالوا فيه قولين: أحدهما - أن ذلك كان آية لدعوة زكريا لها بالرزق في الجلمة.
والثاني - قال قوم: هو تأسيس لنبوة المسيح، والأول قول الجبائي. واختار وجها
آخر أن يكون الله (تعالى) سخر لها بعض عباده أن يأتيها به بلطفه على مجرى

(1) ديوانه في شعراء الجاهلية: 455. يصف نساء يقول: هن كتماثيل العاج في
محاريب المعابد. والبيض: يعني بيض النعام. والروض جمع روضة وهي البستان.
(2) قائله وضاح اليمني اللسان (حرب). وقد استشهد به على أن المحراب صدر البيت،
وأكرم موضع فيه، والجمع المحاريب.
447

العادة، ولا يكون معجزا، وهذا خلاف جميع أقوال المفسرين، لأنهم كلهم قالوا
لما رأى زكريا ذلك قال: الذي يقدر على أن يأتي مريم بالرزق يقدر أن يخلق الولد
من امرأة عاقر، فهنالك سأله أن يرزقه ولدا. ويحتمل ايصال قوله: " إن الله
يرزق من يشاء بغير حساب " بما تقدم من وجهين: أحدهما - أن يكون حكاية
لقول مريم. والثاني - أن يكون استئنافا من الله الاخبار به. والأولى أن يكون
على الاستئناف، لأنه ليس من معنى الجواب عما سئلت عنه في شئ. وقال الحسن
هو على الحكاية. وقوله: " بغير حساب " معناه بغير حساب الاستحقاق على
العمل، لأنه تفضل يبتدئ الله به من يشاء من خلقه. ويحتمل أن يكون المراد
بغير تقتير كما يحسب الذي يخاف الاملاق. وقد بينا فيما مضى معنى (أنى) وأن معناه
من أين لك. وقال قوم معناه كيف لك. والأول أظهر.
قوله تعالى:
(هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك
ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) (38) آية واحدة.
اللغة والمعنى:
معنى هنالك: عند ذلك. والأصل فيه الطرف من المكان نحو رأيته هنا
وهناك، وهنالك، والفصل بينهما، القرب والبعد، فهنا للقريب وهنالك للبعيد،
وهناك لما بينهما. وقال الزجاج: ويستعمل في الحال كقوله من ههنا قلت: كذا
أي من هذا الوجه. وفيه معنى الإشارة كقولك: ذا، وذاك. وزيدت اللام
لتأكيد التعريف، لان الأصل في زيادتها التعريف إلا أنها كسرت لالتقاء
الساكنين كما كسرت في ذلك. ولا يجوز إعرابها، لان فيها معنى الحرف.
ومعنى الآية عند ذلك الذي رأى من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة
الشتاء في الصيف على خلاف ما جرت به العادة، طمع في رزق الولد من العاقر
448

على خلاف مجرى العادة، فسأل ذلك. وزكريا (ع) وإن كان عالما بأنه تعالى يقدر
على خلق الولد من العاقر، وإن لم تجربه العادة، فإنه كان يجوز ألا يفعل ذلك لبعض
التدبير، فلما رأى خرق العادة بخلق الفاكهة في غير وقتها قوي ظنه أنه يفعل ذلك:
إذا اقتضت المصلحة، وقوي في نفسه ما كان علمه، كما أن إبراهيم وإن كان عالما
بأنه (تعالى) يقدر على إحياء الميت سأل ذلك مشاهدة لتأكد معرفته ونزول
عنه خواطره. وقال الجبائي: إن الله تعالى كان أذن له في المسألة وجعل وقته الذي
أذن له فيه الوقت الذي رأى فيه المعجزة الظاهرة فلذلك دعا.
وقوله. (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) فالهبة تمليك الشئ من
غير ثمن تقول: وهب يهب، فهو واهب والشئ موهوب، وتواهبوا الامر بينهم
تواهبا، واستوهبه استيهابا. وقوله من لدنك معناه من عندك وإنما بني ولم يبن
عند، لأنه استبهم استبهام الحروف، لأنه لا يقع في جواب أين كما يقع عند
نحو قوله أين زيد فتقول عندك، ولا تقول لدنك. " ذرية " تقع على الجمع،
والواحد. وقيل أن المراد ههنا واحد لقوله " فهب لي من لدنك وليا " (1) وأما
بمعنى الجمع، فمثل قوله: " ذرية من حملنا من نوح " (2) وقوله: " طيبة "
قال السدي معناه مباركة. وإنما انث طيبة، وهو سأل ولدا ذكرا على تأنيث الذرية
كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى * وأنت خليفة ذاك بالكمال (3)
وقال آخر:
فما نزدري من حية جبلية * سكات إذا ما عاض ليس بأدردا (4)
فجمع التأنيث، والتذكير في بيت واحد مرة على اللفظ، ومرة على المعنى.

(1) سورة مريم آية: 4.
(2) سورة الإسراء آية: 3.
(3) اللسان: (خلف)، ومعاني القرآن للفراء 1: 208.
(4) اللسان: (سكت)، ومعاني القرآن للفراء 1: 208. الحية الجبلية لسعها أشد.
وحية سكوت وسكات - بضم السين -: إذا لم يشعر الملسوع بها حتى؟. والادرد: الذي
سقطت أسنانه، فلم؟ في فمه سن. يصف رجلا داهية شبهه بالحية الجبلية السكوت.
449

وإنما يجوز هذا في أسماء الأجناس دون الاعلام نحو طلحة، وحمزة، وعنترة،
لا يجوز أن تقول جاءت طلحة من قبل أن التذكير الحقيقي يغلب على تأنيت اللفظ
فأما قوله:
وعنترة الفيحاء جاءت ملاما * كأنك فند من عماية أسود
فإنما أراد شفة عنترة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقوله:
(إنك سميع الدعاء) معناه سامع الدعاء بمعنى قابل الدعاء. ومنه قول القائل: سمع
الله لمن حمده أي قبل الله دعاه وأصل السمع ادراك المسموع وإنما قيل للقابل سامع
لان من كان أهلا أن يسمع منه فهو أهل أن يقبل منه خلاف من لا يعتد بكلامه
فكلامه بمنزلة ما لم يسمع.
قوله تعالى:
(فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك
بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا و؟ من الصالحين)
(39) آية واحدة بلا خلاف.
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي وخلف " فناداه الملائكة " على التذكير، والإمالة. الباقون
على التأنيث، فالأول على المعنى، والثاني على اللفظ. وقرأ حمزة وابن عامر " إن الله "
بكسر الهمزة على الحكاية. الباقون بفتحها على اعمال المناداة، وتقديره نادته بأن
الله. وقرأ حمزة والكسائي " يبشرك " بفتح الياء وتخفيف الشين وضمها. الباقون
بضم الياء وتشديد الشين.
المعنى واللغة:
وقال السدي الذي نادى زكريا جبريل وحده، فعلى هذا يكون ذهب مذهب
450

الجمع كما يقولون ذهب في السفن وإنما خرج في سفينة وخرج على البغال وإنما
ركب بغلا واحدا. وقال غيره: ناداه جماعة من الملائكة كأنه قيل: النداء جاء من
قبل الملائكة وإنما جاز ذلك لعادة جارية نحو قولهم: ناداه أهل العسكر، وناداه
أهل البلد. وقوله: (وهو قائم يصلي) جملة في موضع الحال. وقوله: (إن الله
يبشرك) في بشره من البشرى ثلاث لغات: بشره يبشره وبشره يبشره بشرا،
وأبشره بشارا عن أبي العباس. وقرأ حميد " يبشرك " من أبشر، وكل ذلك
لظهور السرور في بشرة الوجه. وقيل إن؟ ثقل من البشارة، والمخفف من السرور،
والمعنيان متقاربان. وأنشد الأخفش:
وإذا لقيت الباهشين إلى الندى * غبرا أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وأبشر بما بشروا به * وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل (1)
قال الزجاج هذا على بشر يبشر إذا فرح. وأصل هذا كله أن بشرة
الانسان تنبسط عند السرور. وقوله: (بيحيى) قال قتادة سمى يحيى، لان الله
تعالى أحياه بالايمان سماه الله بهذا الاسم قبل مولده.
وقوله: (مصدقا) نصب على الحال من يحيى " بكلمة " يعني المسيح
(ع) في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي وجميع
أهل التأويل إلا ما حكي عن أبي عبيدة أنه قال " بكلمة " أي بكتاب الله كما
يقولون أنشدني فلان كلمة فلان أي قصيدته وإن طالت، وإنما سمي المسيح كلمة
الله لامرين:
أحدهما - أنه كان بكلمة الله من غير أب من ولد آدم.
والثاني - لان الناس يهتدون به في الدين كما يهتدون بكلام الله.
وقوله: (وسيدا) يعني مالكا لمن يجب عليه طاعته، ومن ذلك سيد الغلام

(1) قائله عبد قيس بن خفاف البرجمي. اللسان: (كرب)، (بشر)، (؟)،
معاني القرآن للفراء 1: 212 والبيتان من قصيدة ينصح بها ولده جبيل.؟ رواية المصادر
مختلفة. البهش: الفرح. بهش إلى الشئ: فرح به وأسرع إليه. الندى: الكرم. الممحل:
المجدب الضك: الضيق.
451

يعني مالكه، ولا يقال سيد الثوب بمعنى مالك الثوب، لأنه لا يتصور هناك
وجوب طاعته. وأصل السواد الشخص، فقيل سيد القوم بمعنى مالك السواد
الأعظم، وهو الشخص الذي تجب طاعته لمالكه، وهذا إذا قيل مضافا أو مقيدا
فأما إذا أطلق فلا ينبغي إلا لله تعالى، لأنه المالك لجميع الخلق. وقيل: معناه ههنا
وسيدا في العلم والعبادة في قول قتادة. وقال الجبائي: معناه وسيدا للمؤمنين بالرياسة
لهم. وقال الضحاك: سيدا في الحلم والتقى. وقيل سواد الانسان لشخصه، لأنه
يستر به لستر سواد الظلمة بتكائفه، وتسوله. " وحصورا " معناه الممتنع من الجماع.
ومنه قيل للذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة حصور قال الأخطل:
وشارب مربح بالكاس نادمني * لا بالحصور ولا فيها بسوار (1)
يعني معربد ويقال للذي يكتم سره حصور ويقال: حصر في قراءته إذا
امتنع بالانقطاع فيها. ومنه حصر العدو منعه الناس من التصرف. وقال عبد الله:
الحصور العنين. وقال سعيد بن المسيب إنما كان معه مثل هدب الثوب. وقال
الحسن، وقتادة هو الذي لا يأتي النساء، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع)، وقال
بعضهم هو الذي لا يبالي ألا يأتي النساء. وقوله: " ونبيا من الصالحين " (من)
ههنا لتبيين الصفة ليس المراد به التبعيض، لان النبي لا يكون إلا صالحا.
قوله تعالى:
(قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي
عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء) (40).

(1) ديوانه: 116، واللسان: (حصر)، (سأر)، (سور)، وطبقات فحول
الشعراء: 432، ومجاز القرآن 1: 92. المربح: المعطي الربح للتاجر.
ير؟ أنه؟ بثمن الخمر ولا؟ بما يبذل فيها. والسوار: الذي تسور الخمر في دماغه
؟ على رفاقه.
452

المعنى
إن قيل لم راجع هذه المراجعة مع ما بشره الله تعالى بأنه يهب له ذرية
طيبة، وبعد أن سأل ذلك؟ قيل: إنما راجع ليعرف على أي حال يكون ذلك
أيرده إلى حال الشباب وامرأته، أم مع الكبر، فقال الله (تعالى) " كذلك الله
يفعل ما يشاء " أي على هذه الحال، وتقديره كذلك الامر الذي أنت عليه
" يفعل الله ما يشاء " هذا قاله الحسن. وقيل في وجه آخر، وهو أنه قال على
وجه الاستعظام لمقدور الله والتعجب الذي يحدث للانسان عند ظهور آية عظيمة
من آيات الله، كما يقول القائل: كيف سمحت نفسك باخراج الملك النفيس من يدك
تعجبا من جوده، واعترافا بعظمه. وقال بعضهم: إن ذلك إنما كان للوسوسة التي
خالطت قلبه من قبل الشيطان حتى خيلت اليه أن النداء كان من غير الملائكة. وهذا
لا يجوز، لان النداء كان على وجه الاعجاز على عادة الملك فيما يأتي به من الوحي
عن الله، والأنبياء (ع) لا يجوز عليهم تلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم
طريق الافهام، فلا يعرفوا نداء ملك من نداء شيطان أو انسان.
اللغة:
والغلام: هو الشباب من الناس. يقال: غلام بين الغلومية والغلومة والغلمة.
والاغتلام: شدة طلب النكاح. والغيلم (1) منع الماء من الابار، لأنه طلب
الظهور. وغلم الأديم جعله في غلمة ليتفسخ عنه صوفه، لأنه طلب لتقطعه.
وقوله: (وقد بلغني الكبر) والمراد بلغت الكبر، لان الكبر بمنزلة الطالب له،
فهو يأتيه بحدوثه فيه. والانسان أيضا يأتيه بمرور السنين عليه، كما يقول القائل:
يقطعني الثوب وإنما هو يقطع الثوب. ولا يجوز أن يقول بلغني البلد بمعنى
بلغت البلد، لان البلد لا يأتيه أصلا. وقوله: (وامرأتي عاقر) فالعاقر من
النساء التي لا تلد. يقال: امرأة عاقر، ورجل عاقر. وقال عامر بن الطفيل:

(1) الضفدع. ذكر السلحفاة. الشباب الكثير الشعر.
453

لبئس الفتى ان كنت أعور عاقرا * جبانا فما عذري لدى كل محضر (1)
وذلك لأنه كالذي حدث به عقر يقعده عما يحاول من الامر. وعقر كل
شئ أصله. وعقر العاقر المصدر. والعقر دية فرج المرأة: إذا غصبت نفسها
وبيضة العقر آخر بيضة. والعقر: الجرح. والعقر: محلة القوم. والعاقر معروف.
والعقار الخمر. والمعاقرة إدمان شربها مع أهلها. وأصل الباب: العقر الذي هو أصل
كل شئ، فعقر العاقر لانقطاع أصل النسل.
قوله تعالى:
(قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة
أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) (41).
الآية: العلامة وإنما سأل العلامة، والآية لوقت الحمل الذي سأل ربه ليتعجل
السرور به في قول الحسن، فجعل الله تعالى آيته في امساك لسانه، فلم يقدر أن
يكلم الناس إلا إيماء من غير آفة حدثت في لسانه، كما يقال في مريم " ثلاث ليال
سويا " هذا قول الحسن، وقتادة، والربيع، وأكثر المفسرين.
اللغة:
وفي وزن " آية " ثلاثة أقوال:
أحدها - فعلة إلا أنه شذ من جهة إعلال العين مع كون اللام حرف؟.
وإنما القياس في مثله أعلال اللام نحو حياة ونواة. ونظيرها راية وطاية، وشذ
ذلك، للاشعار بقوة اعلال العين.
الثاني - فعلة آية إلا أنها قلبت كراهية التضعيف نحو طاي في طيي.

(1) ديوانه: 119 ومجاز القرآن 1: 92 في المطبوعة (اغدر) بدل (أعور).
وعامر بن الطفيل أحد العوران. ذهبت عينه يوم فيف الريح وأما عقمه، فقد قال: مالي ولد واني
؟ عاهر الذكر، واني لأعور البصر.
454

الثالث - فاعلة منقوصة وهذا ضعيف، لأنهم صغروها أيية ولو كانت فاعلة
لقالوا أوية إلا أنه يجوز على ترخيم التصغير نحو فطيمة. " والرمز " الايماء
بالشفتين. وقد يستعمل في الايماء بالحاجبين، والعينين واليدين. والأول أغلب
قال جؤية بن عائذ:
وكان تكلم الابطال رمزا * وغمغمة لهم مثل الهرير (1)
يقال منه: رمز يرمز رمزا. ويقال ارتمز: إذا تحرك. واصله الحركة.
المعنى، واللغة:
وقال مجاهد: الرمز تحريك الشفتين. وقال قتادة الرمز الإشارة. وقوله:
(واذكر ربك كثيرا) معناه أنه لما منع من كلام الناس عرف أنه لا يمنع من
الذكر لله والتسبيح له، وذلك أعظم الآية وأبين المعجزة. وقوله: (سبح)
معناه ههنا صل يقال فرغت من سبحتي أي من صلاتي. وأصل التسبيح التعظيم لله
وتنزيهه عما لا يليق به. والعشي من حين زوال الشمس إلى غروب الشمس في قول
مجاهد. قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى يستطيعه * ولا الغي من برد العشي تذوق
والعشاء من لدن غروب الشمس إلى أن يولي صدر الليل. والعشاء طعام العشي.
والعشا ضعف العين والتعاشي: التعامي، لابهام أنه بمنزلة من هو في ظلمة لا يبصر
وأصل الباب الظلمة. والابكار من حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى. وأصله
التعجيل بالشئ يقال: أبكر ابكارا وبكر يبكر بكورا. وقال عمر بن أبي ربيعة:
أمن آل نعم أنت عاد فمبكر (2)
وقال جرير:
ألا بكرت سلمى فجذ بكورها * وشق العصا بعد اجتماع أميرها (3)

(1) لم نجد هذا البيت. في المطبوعة (كأن) بدل (وكان) والصحيح ما ذكرناه.
(2) ديوانه مطلع قصيدته الرائية المشهورة وتتمه البيت: غداة غدأم رائح فمهجر.
(3) ديوانه: 136.؟ حكيم بن معية الربعي، وكان هجا جر؟، شق العصا: التفريق
455

ويقال في كل شئ تقدم: بكر ومنه الباكورة أول ما يجئ من الفاكهة.
وقوله تعالى:
(وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك
واصطفاك على نساء العالمين) (42) آية واحدة.
العامل في (إذ) يحتمل أن يكون أحد شيئين:
أحدهما - سميع عليم إذ قالت امرأة عمران. وإذ قالت الملائكة يكون؟
على (إذ) الأولى.
الثاني - اذكر إذ قالت، لان المخاطب في حال تذكير وتعريف. وقوله:
(اصطفاك على نساء العالمين) يحتمل وجهين: قال الحسن وابن جريج على عالمي
زمانها. وهو قول أبي جعفر (ع)، لان فاطمة سيدة نساء العالمين. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه قال: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين. وقال
أيضا (ع) حسبك من نساء العالمين بأربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون
وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله.
الثاني - ما قاله الزجاج، واختاره الجبائي: إن معناه اختارك على نساء
العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح عيسى (ع).
وقوله: (وطهرك) في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن، ومجاهد: طهرك من الكفر.
والثاني - ذكره الزجاج أن معناه طهرك من سائر الأدناس: الحيض،
والنفاس، وغيرهما. وإنما كرر لفظ اصطفاك، لان معنى الأول اصطفاك بالتفريغ
لعبادته بما لطف لك حتى انقطعت إلى طاعته وصرت متوفرة على اتباع مرضاته
ومعنى الثاني اصطفاك بالاختيار لولادة نبيه عيسى (ع) على قول الجبائي. وقال
أبو جعفر (ع) اصطفاها أولا من ذرية الأنبياء وطهرها من السفاح. والثاني -
456

اصطفاها لولادة عيسى (ع) من غير فحل. وفي ظهور الملائكة لمريم قالوا قولين:
أحدهما - أن ذلك معجزة لزكريا (ع)، لان مريم لم تكن نبية، لقول الله تعالى
" وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " (1). والثاني - أن يكون
ذلك برهانا لنبوة عيسى (ع) كما كان ظهور الشهب والغمامة وغير ذلك معجزة
للنبي صلى الله عليه وآله قبل بعثة، فالأول قول الجبائي، والثاني قول ابن الاخشاد.
ويجوز عندنا أن يكون ذلك معجزة لها وكرامة، وإن لم تكن نبية لان اظهار
المعجزات - عندنا - تجوز على يد الأولياء، والصالحين، لأنها إنما تدل على صدق
من ظهرت على يده سواء كان نبيا أو إماما أو صالحا، على أنه يحتمل أن يكون
الله تعالى قال ذلك لمريم على لسان زكريا (ع). وقد يقال: قال الله لها، وإن
كان بواسطة كما تقول: قال الله للخلق كذا وكذا وإن كان على لسان النبي صلى الله عليه وآله،
ولا يحتاج مع ذلك إلى ما قالوه.
قوله تعالى:
(يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)
(43) آية واحدة بلا خلاف.
قيل في معنى قوله: " اقنتي " ثلاثة أقوال:
أحدها - قال سعيد بن جبير أن معناه اخلصي لربك العبادة. الثاني - قال
قتادة معناه أديمي الطاعة. الثالث - قال مجاهد اطلبي القيام في الصلاة. وأصل
القنوت الدوام على الشئ. وقوله: (واسجدي) وأصل السجود الانخفاض
الشديد للخضوع قال الشاعر:
فكلتاهما خرت واسجد رأسها * كما سجدت نصرانة لم تحنف (2)
وكذلك القول في الركوع إلا أن السجود أشد انخفاضا. وقد بينا فيما

(1) سورة يوسف آية: 109 وسورة النحل آية: 43 وسورة الأنبياء آية: 7.
(2) مر تخريجه في 1: 281.
457

مضى حقيقته. وإنما قدم ذكر السجود في الآية على الركوع، لان؟ به التأخير
والتقدير اركعي واسجدي، لان الواو لا توجب الترتيب، لأنها نظيرة التثنية
إذا اتفقت الأسماء والصفات. تقول جاءني زيد وعمرو، ولو جمعت بينهما في الخبر
لقلت جاءني الزيدان. وقوله: (مع الراكعين) فيه قولان أحدهما - أن معناه
افعلى مثل فعلهم. الثاني - قال الجبائي: أي في صلاة الجماعة.
قوله تعالى:
(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ
يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون)
(44) آية.
المعنى، واللغة:
ذلك إشارة إلى الاخبار عما تقدم من القصص. وفيه احتجاج على المشركين،
من حيث أنه جاء بما لا يعلم إلا من أربعة أوجه: إما مشاهدة الحال، أو قراءة
الكتب، أو تعليم بعض العباد، أو بوحي من الله. وقد بطلت الأوجه الثلاثة
للعلم بأنها لم تكن حاصلة للنبي صلى الله عليه وآله. فصح أنه على الوجه الرابع: بوحي من الله
(تعالى). والايحاء: هو القاء المعنى إلى صاحبه فقوله: " نوحيه إليك " أي نلقي
معناه إليك. والايحاء: الارسال إلى الأنبياء تقول: أوحى الله إليه أي أرسل
إليه ملكا. والايحاء الالهام ومنه قوله تعالى " وأوحى ربك إلى النحل " (1)
أي ألهمها وقوله: " بأن ربك أوحى لها " (2) معناه ألقى إليها معنى ما أراد
فيها. قال العجاج:

(1) سورة؟ آية: 68.
(2) سورة الزلزال آية: 5.
458

أوحى لها القرار فاستقرت (1)
والايحاء الايماء قال الشاعر:
فأوحت إلينا والأنامل رسلها
ومنه قوله: " فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " (2) أي أشار إليهم،
والوحي: الكتاب. يقال: وحى يحي وحيا أي كتب، لان به يلقي المعنى إلى
صاحبه قال روبة:
لقدر كان وحاه الواحي
وقال:
في سور من ربنا موحية
وقال آخر:
من رسم آثار كوحي الواحي
وأصل الباب القاء المعنى إلى صاحبه. وقوله: " أوحيت إلى الحواريين " (3)
أي ألقى إليهم وألهمهم إلهاما. ومنه قوله: " وإن الشياطين ليوحون إلى
أوليائهم " (4) أي يلقون إليهم وقوله: " وأوحي إلي هذا القرآن " (5) أي
ألقي إلي. والغيب: خفاء الشئ عن الادراك. تقول غاب عني كذا يغيب غيبا
وغيابا. والغائب: نقيض الحاضر.
وقوله: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) قيل فيه
قولان:
أحدها - التعجب من حرصهم على كفالتها، لفضلها. ذكره قتادة، لأنه

(1) ديوانه: 5 واللسان (وحى) من رجز يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه، أوله:
الحمد لله الذي استقلت * باذنه السماء واطمأنت
باذنه الأرض وما تعتت * أوحى لها القرار فاستقرت
وشدها؟ الثبت * رب البلاد والعباد؟
وفي أحد روايتي اللسان (وحى لها)؟ (أوحى لها).
(2) سورة مريم آية: 11.
(3) سورة المائدة آية: 114.
(4) سورة الأنعام آية: 121.
(5) سورة الأنعام آية: 19.
459

قال: فشاح القوم عليها، فقال زكريا: أنا أولى، لان خالتها عندي. وقال القوم:
نحن أولى لأنها بنت إمامنا، لان عمران كان إمام الجماعة.
الثاني - التعجب من تدافعهم لكفالتها، لشدة الأزمة التي لحقتهم حتى وفق
لها خير الكفلاء بها زكريا (ع). وفي الآية حذف وتقديرها " إذ يلقون أقلامهم "
لينظروا " أيهم يكفل مريم " أي أيهم أحق بكفالتها. والأقلام معناها ههنا
القداح وذلك أنهم ألقوها تلقاء الجرية، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء مصعدة.
وانحدرت أقلام الباقين، فقرعهم زكريا في قول الربيع، وكان ذلك معجزة له (ع).
والقلم: الذي يكتب به. والقلم: الذي يجال بين القوم، كل إنسان وقلمه، وهو
القدح. والقلم: قص الظفر قلمته تقليما. ومقالم الرمح كعوبه. والقلامة هي المقلومة
عن طرف الظفر وأصل الباب قطع طرف الشئ.
وقوله: (وما كنت لديهم إذ يختصمون) فيه دلالة على أنهم قد بلغوا في
التشاح عليها إلى حد الخصومة، وفي وقت التشاح قولان:
أحدهما - حين ولادتها وحمل أمها إياها إلى الكنيسة تشاحوا في الذي يخصها
يحضنها ويكفل بتربيتها، وهو الأكثر. وقال بعضهم إنه كان ذلك بعد كبرها
وعجز زكريا عن تربيتها.
و (إذ) الأولى متعلقة بقوله: " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم "
والثانية بقوله: " يختصمون " على قول الزجاج.
قوله تعالى:
(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه سمه
المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45)
آية عند الجميع.
العامل في (إذ) يحتمل أمرين أحدهما - وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة.
الثاني - يختصمون " إذ قالت الملائكة ": " إن الله يبشرك " فالتبشير إخبار المرء بما يسر
460

من الامر سمي بذلك لظهور السرور في بشرة وجهه عند إخباره بما يسره، لان
أصله البشرة وهي ظاهر الجلد. وقوله: (بكلمة منه) هو المسيح سماه الله كلمة
على قول ابن عباس وقتادة وذلك يحتمل ثلاثة أوجه: سمي بذلك، لأنه كان بكلمة
الله من غير والد وهو قوله: " كن فيكون " (1). الثاني - لان الله تعالى
بشربه في الكتب السالفة، كما تقول: الذي يخبرنا بأمر يكون (إذا خرج موافقا
لامره) (2) قد جاء في قول لي وكلامي. فمن البشارة به في التوراة آتانا الله من
سببنا، فأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران. وساعير هو الموضع الذي بعث
منه المسيح (ع). الثالث - لان الله يهدي به كما يهدي بكلمته. والقول الثاني مما
قيل في الكلمة: أنها بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه: ولد اسمه المسيح والتأويل
الأول أقوى، لقوله: " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها
إلى مريم وروح منه " (3)، ولأنه معلوم من دين المسلمين أن كلمة الله
المسيح (ع) وإنما ذكر الضمير في اسمه وهو عائد إلى الكلمة، لأنه واقع على
مذكر، فإذا ذكر ذهب إلى المعنى، وإذا أنث ذهب إلى اللفظ. وقيل في تسمية
المسيح مسيحا: قولان:
أحدهما - قال الحسن، وسعيد: لأنه مسح بالبركة. وقال آخرون: لأنه
مسح بالتطهر من الذنوب. وقال الجبائي سمي بذلك، لأنه مسح بدهن زيت
بورك فيه. وكانت الأنبياء تتمسح به. فان قيل: يجب على ذلك أن يكون الأنبياء
كلهم يسمون مسيحا؟ قلنا: لا يمتنع أن يختص بذلك بعضهم، وإن كان المعنى في
الجميع حاصلا، كما قالوا في إبراهيم خليل الله. وأصله ممسوح عدل عن مفعول إلى
فعيل. وقوله: (وجيها) نصب على الحال. ومعنى الوجيه الكريم على من يسأله

(1) سورة البقرة آية: 118 وسورة آل عمران آية: 47 وسورة الانعام آية: 73
وسورة النحل: 40 وسورة مريم آية: 35 وسورة يس آية: 82 وسورة المؤمن آية: 68
(2) ما بين القوسين من مجمع البيان وكان في المطبوعة نقص في هذا الموضع كما أن الجملة
التي بعدها لا تقرأ.
(3) سورة آل عمران: 17
461

لأنه لا يرده لكرم وجهه عنده، خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد، يقال منه
وجه الرجل يوجه وجاهة، وله جاه عند الناس وجاهة أي منزلة رفيعة. قوله:
" ومن المقربين " معناه إلى ثواب الله وكرامته، وكذلك التقرب إلى الله إنما هو
التقرب إلى ثوابه وكرامته. وفي الآية دلالة على تكذيب اليهود في الفرية على أم
المسيح وتكذيب النصارى في ادعاء إلهيته على ما ذكره محمد بن جعفر بن
الزبير وغيره.
قوله تعالى:
(ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين) (46) آية.
الاعراب:
موضع " ويكلم الناس في المهد " نصب على الحال عطفا على (وجيها) ومكلما
وكذلك عطف عليه (وكهلا) بالنصب. ويجوز عطف الفاعل على الفعل لتقارب
معنيهما قال الشاعر:
بات يغشاها بعضب باتر * يقصد في أسوقها وجائر (1)
أي ويجوز وقال آخر:
يا ليتني علقت غير خارج * قبل الصباح ذات خلق بارج
أم صبي قد حبا أم دارج (2)
أي أو درج ويجوز في قوله: " وكهلا " أن يكون معطوفا على الظرف
من قوله: " في المهد ".
اللغة:
والمهد مضجع الصبي في رضاعه في قول ابن عباس، مأخوذ من التمهيد.

(1) معاني القرآن للفراء 1: 213 وأمالي ابن الشجري 2: 167 وخزانة الأدب
2: 345 واللسان (كهل) ورواية البيت مختلفة. فبعضها (بت أعشيها..).
(2) هكذا في المطبوعة ورواية اللسان (درج):
يا ليتني قد زرت غير خارج * أم صبي قد حبا ودارج
462

والكهل: من كان فوق حال الغلومة، ودون الشيخوخة. ومنه اكتهل النبت: إذا
طال، وقوي. ومنه الكاهل فوق الظهر إلى ما يلي العنق والمرأة كهلة. قال الراجز:
ولا أعود بعدها كريا * أمارس الكهلة والصبيا (1)
وقيل الكهولة بلوغ أربع وثلاثين سنة. وقال مجاهد: الكهل: الحليم
وأصل الباب العلو، فالكهل لعلو سنه، أو لعلو منزلته.
المعنى:
ووجه كلامه في المهد تبرئة لامه مما قذفت به، وجلالة له بالمعجزة التي ظهرت
فيه. فان قيل: فما معنى " وكهلا " وليس بمنكر الكلام من الكهل؟ قيل فيه
ثلاثة أوجه:
أحدها - يكلمهم كهلا بالوحي الذي يأتيه من قبل الله. الثاني - انه يبلغ
حال الكهل في السن، وفي ذلك أيضا إعجاز لكون المخبر على ما أخبر به. الثالث -
أن المراد به الرد على النصارى بما كان منه من التقلب في الأحوال، لأنه مناف لصفة
الاله. فان قيل كيف جحدت النصارى كلام المسيح في المهد وهو معجزة عظيمة؟
قلنا: لان في ذلك ابطال مذهبهم، لأنه قال: " إني عبد الله " (2) فاستمروا على تكذيب
من أخبر أنه شاهده كذلك. وفي ظهور المعجزة في تلك الحال قيل فيه قولان:
أحدهما - إنها كانت مقرونة بنبوة المسيح، لأنه كمل عقله في تلك الحال
حتى عرف الله بالاستدلال، ثم أوحى إليه بما تكلم به، هذا قول أبي على الجبائي.
وقال ابن الاخشاذ: إن كل ذلك كان على جهة التأسيس لنبوته، والتمكين لها
بما يكون دالا عليها، وبشارة متقدمة لها. ويجوز - عندنا - الوجهان. ويجوز

(1) قائله عذافر الفقيمي أمالي القالي 2: 215 وشرح أدب الكاتب لابن السيد: 217،
389، واللسان (كهل)، (كرا)، (شعفر)، (أمم) وغيرها كثير. كريا: مكاري وكان
عذافر يكرى إبله إلى مكة فاكر معة - رجل من أهل البصرة - بعيرا يركبه هو وزوجته وفي الطريق
قال بهما رحز طويل
(2) سورة مريم آية: 30.
463

أيضا أن يكون ذلك معجزة لمريم تدل على براءة ساحتها مما قذفت على ما بينا جوازه
فيما مضى.
قوله تعالى:
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك
الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) (47)
آية واحدة.
المعنى:
إن قيل كيف سألت مريم عن خلق الولد من غير مسيس مع أنها لا تنكر
ذلك في مقدور الله تعالى؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما - أنها استفهمت أيكون
ذلك، وهي على حالتها من غير بشر أم على مجرى العادة من بشر، كما يقول القائل:
كيف تبعث بفلان في هذا السفر، وليس معه ما يركبه معناه، لأنه قوي أم هناك
مركوب؟ الثاني - ان في البشرة: التعجب مما خرج عن المعتاد فتعجبت من عظم
قدرة الله كما يقول القائل عند الآية يراها: ما أعظم الله، وكما يقول القائل لغيره
كيف تهب ضيعتك، وهي أجل شئ لك. وليس يشك في هبته وإنما يتعجب من
جوده. وقوله: (قال كذلك الله) حكاية ما قال لها الملك. وقوله: " كن
فيكون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أنه على جهة المثل لان منزلة جميع ما يريد احداثه من جسم أو
عرض كثر ذلك أو قل، فإنما هو بمنزلة قول القائل: كن، في أنه يكون بغير
علاج، ولا معاناة، ولا تكلف سبب، ولا أداة، ولا شغل ببعض عن بعض،
ولا انتهاء فيه إلى حد لا يمكن ضعفه، ولا زيادة عليه.
الثاني - ان معناه أن الله تعالى جعل (كن) علامة للملائكة فيما يريد إحداثه
464

لما فيها من اللطف، والاعتبار. ويمكن الدلالة على الأمور المقدورة لله تعالى.
وقول من قال إن قوله: " كن " سبب للحوادث التي يفعلها الله تعالى فاسد من
وجوه:
أحدها - ان القادر بقدرة يقدر على أن يفعل من غير سبب، فالقادر للنفس
بذلك أولى. ومنها أن " كن " محدثة فلو احتاجت إلى " كن " أخرى لتسلسل،
وذلك فاسد. ولو استند ذلك إلى كن قديمة، لوجب قدم المكون، لأنه كان
يجب أن يكون عقيبه، لان الفاء توجب التعقيب وذلك يؤدي إلى قدم
المكونات.
ومنها أنه لو ولدت لولدت من فعلنا كالاعتماد. وإنما استعمل القديم لفظة
الامر فيما ليس بأمر هاهنا ليدل بذلك على أن فعله بمنزلة فعل المأمور في أنه
لا كلفة على الامر، فكذلك هذا لا كلفة على الفاعل، وذلك على عادة العرب
في جعلهم وقوع الشئ عقيب الإرادة بمنزلة الجواب عن السؤال قال الشاعر:
وقالت لنا العينان سمعا وطاعة * وحدرتا كالدر لما يثقب (1)
فجعل انحدار الدمع قولا على الوجه الذي بيناه. وقوله: (كن فيكون)
ههنا لا يجوز فيه إلا الرفع، لأنه لا يصلح أن يكون جوابا للام في كن لان
الجواب يجب بوجود الأول نحو اتني فأكرمك وقم فأقوم معك. ولا يجوز قم فيقوم،
لأنه بتقدير قم فإنك إن تقم يقم. وهذا لا معنى له، ولكن يجوز الرفع على
الاختيار انه سيقوم ويجوز في قوله: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له
كن فيكون " (2) النصب، لأنه معطوف على " أن نقول " كأنه قيل أن نقول
فيكون.
قوله تعالى:
(ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) (48).

(1) مر تخريجه في 1: 431.
(2) سورة النحل آية: 40
465

القراءة، والحجة:
قرأ أهل المدينة، وعاصم، ويعقوب " ويعلمه " بالياء الباقون بالنون. فمن
قرأ بالياء حمله على " يخلق ما يشاء " ويعلمه. ومن قرأ بالنون حمله على قوله:
" نوحيه إليك ". والنون أفخم في الاخبار، لان الياء حكاية عن الملك.
المعنى، والاعراب:
ومعنى قوله: " ويعلمه الكتاب " قال ابن جريج: الكتابة بيده. وقال أبو علي:
كتاب آخر غير التوراة، والإنجيل نحو الزبور أو غيره. فان قيل: لم أفرد التوراة
والإنجيل بالذكر مع دخولهما في الحكمة؟ قيل: إنما أفردهما بالذكر تنبيها على فضلهما
مع جلالة موقعهما كما قال: " وملائكته ورسله وجبريل وميكال " (1) وموضع
يعلمه من الاعراب يحتمل أن يكون نصبا بالعطف على وجيها. ويحتمل أن يكون
لا موضع له من الاعراب، لأنه عطف على جملة لا موضع لها، وهي قوله: " كذلك
الله يخلق ما يشاء ". وقال بعضهم: هو عطف على " نوحيه إليك " قال الرماني:
هذا لا يجوز، لأنه يخرجه من معنى البشارة به لمريم. وإنما هو محمول على مشاكلته
لا على جهة العطف عليه. وعد أهل الكوفة التوراة والإنجيل، ولم يعدوا رسولا
إلى بني إسرائيل لتنكب الاستئناف بأن المفتوحة. والاستئناف بذكر المنصوب
كثير في الكلام. وأما أهل المدينة فإنما طلبوا تمام صفة المسيح، لان تقديره ومعلما
كذا ورسولا إلى كذا.
قوله تعالى:
(ورسولا إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآية من ربكم
اني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا باذن

(1) سورة البقرة آية: 98.
466

الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما
تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن
كنتم مؤمنين (49) آية.
القراءة:
قرأ أهل المدينة ويعقوب " طائرا بأذن الله " الباقون. " طيرا " وهو
الأجود، لأنه اسم جنس وطائر صفه. وقرأ نافع وحده " إني أخلق " بكسر
الهمزة. الباقون بفتحها
الاعراب، والحجة:
يحتمل نصب قوله: " ورسولا " وجهين.
أحدهما - بتقدير ويجعله رسولا فحذف لدلالة الإشارة عليه. والثاني - أن
يكون نصبا على الحال عطفا على وجيها، لا أنه في ذلك الوقت يكون رسولا بمعنى
أنه يرسل رسولا. وقال الزجاج وجها ثالثا بمعنى يكلمهم رسولا في المهد ب‍ " أني
قد جئتكم بآية من ربكم " ولو قرئت (إني) بالكسر (قد جئتكم) كان صوابا.
والمعنى يقول " إني قد جئتكم بآية من ربكم " أي بعلامة تدل على ثبوت رسالتي.
وموضع " إني أخلق " يحتمل أن يكون خفضا ورفعا، فمن قرأ بالخفض فعلى البدل
من آية بمعنى جئتكم بأني أخلق لكم من الطين. والرفع أريد به الآية إني أخلق من
الطين. وجائز أن يكون (إني أخلق لكم) مخبرهم بهذه الآية ما هي أي أقول لكم
" إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ".
المعنى:
والمراد بالخلق التقدير دون الاحداث، يقال في التفسير أنه صنع من الطين
كهيئة الخفاش، ونفخ فيه فصار طائرا. وجاز أن يقول فيه للفظ الطين. وقال في
467

موضع آخر " فينفخ فيها فتكون طائرا باذني " (1) للفظ الهيئة.
اللغة:
والطين معروف. ومنه طنت الكتاب طينا أي جعلت عليه طينا، لأختمه.
وطينت البيت تطيينا. والطيانة: حرفة الطيان والطينة: قطعة من طين يختم بها
الصك ونحوه. والهيأة: الحال الظاهرة هاء فلان يهاء هيئة. ومن قرأ (هيئت)
معناه تهيأت لك فأما " هيت لك " فهلم لك والهيئ: الحسن الهيئة من كل شئ.
والمهايأة: أمر يتهايأ عليه القوم فيتراضون به. وقوله: " فانفخ فيه " النفخ معروف
تقول نفخ ينفخ نفخا، وانتفخ انتفاخا، ونفخه نفخا. والنفاخة للماء، والنفخة
نحو الورم في البطن. والنفخة: نفخة الصور يوم القيامة. والمنفاخ كير الحداد.
وأصل الباب نفخ الريح التي تخرج من الفم.
المعنى:
ومعنى " أنفخ فيه " يعني أنفخ فيه الروح وهو جسم رقيق كالريح، وهو
غير الحياة، لان الجسم إنما يحيا بما يفعله الله تعالى فيه من الحياة، لان الأجسام
كلها متماثلة يحيي الله منها ما يشاء. وإنما قيد قوله: " فيكون طيرا بأذن الله " ولم
يقيد قوله: " أخلق من الطين كهيئة الطير " بذكر إذن الله لينبه بذكر الاذن أنه
من فعل الله دون عيسى. وأما التصوير والنفخ، ففعله، لأنه مما يدخل تحت
مقدور القدر، وليس كذلك انقلاب الجماد حيوانا فإنه لا يقدر على ذلك أحد
سواه تعالى. وقوله: (وأحيي الموتى بأذن الله) على وجه المجاز إضافة إلى نفسه
وحقيقته ادعوا الله باحياء الموتى فيحييهم الله فيحيون باذنه.
اللغة والمعنى:
وقوله: " وأبرئ الأكمه " فالبرء والشفاء والعافية نظائر في اللغة.

(1) سورة المائدة آية: 113.
468

والأكمه الذي يولد أعمى في قول قتادة، وأبي علي وقال الحسن، والسدي: هو
الأعمى. والكمه عند العرب العمى كمه يكمه كمها قال سويد بن أبي كاهل:
كمهت عيناه حتى ابيضتا * فهو يلحي نفسه لما نزع (1)
والأبرص معروف. وقوله: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في
بيوتكم) أي أخبركم وأعلمكم بالذي تأكلونه، فتكون (ما) بمعنى الذي ويحتمل
أن تكون (ما) مع ما بعدها بمنزلة المصدر، ويكون تقديره أخبركم بأكلكم.
والأول أجود لقوله: " وما تدخرون " ويحتمل أن يكون المراد أيضا وادخاركم.
والاذخار الافتعال من الذخر ذخرت أذخر ذخرا وأذخرت اذخارا. وأصل الباب
الذخر، وهو خب ء الشئ لتأتيه. وإنما أبدلت الدال من الذال في " تدخرون "
لتعديل الحروف أو أبدلت الدال من الذال بوجهين الجهر واختلاف المخرج، فبدل
ذلك بالدال، لأنها موافقة للتاء بالمخرج والدال بالجهر، فلذلك كان الاختيار،
وكان يجوز تذخرون بالذال على الأصل ونظير ذلك في التعديل بين الحروف وازدجر،
فمن اضطر، واصطبر، لموافقة الطاء للضاد والضاد بالاستعلاء والاطباق، ولم يجز إدغام الزاي
في الدال، لأنها من حروف الصفير. ولكن يجوز مزجر. ولم يدغم الضاد في الطاء
لان فيها استطالة. والمجهور من الحروف: كل حرف أشبع الاعتماد عليه في موضعه
ومنع النفس أن يجري معه. والمهموس: كل حرف أضعف الاعتماد عليه في موضعه
وجرى معه النفس. وقوله: (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) وإن
كانت آية للجميع، لان معناه " إن كنتم مؤمنين " بالله إذ كان لا يصح العلم
بمدلول المعجزة إلا لمن آمن بالله، لان العلم بالمرسل قبل العلم بالرسول. وإنما يقال
هي آية للجميع بأن يقدموا قبل ذلك الاستدلال على التوحيد. وأيضا بأن من
استحق وصفه بأنه مؤمن علم أن ذلك من آيات الله عز وجل.

(1) اللسان (كمه) وروايته (لما) بدل (حتى) وكذلك رواية المفضليات: 405.
يلحى نفسه أي يلومها. لما نزع يعني لما ترك.
469

قوله تعالى:
(ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض
الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون)
(50) آية واحدة.
الاعراب:
ومصدقا نصب على الحال وتقديره قد جئتكم مصدقا، لان أول الكلام يدل
عليه ونظيره جئته بما يجب ومعرفا له، وليس عطفا على وجيها ولا رسولا لقوله
" لما بين يدي " ولم يقل لما بين يديه.
المعنى:
وقوله: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) فإنما أحل لهم لحوم الإبل
والثروب وأشياء من الطير والحيتان، مما كان محرما في شرع موسى (ع) ولم يحل
لهم جميع ما كان محرما عليهم من الظلم، والغصب، والكذب، والعبث وغير ذلك،
فلذلك قال " بعض الذي حرم عليكم " وبمثل هذا قال قتادة والربيع، وابن جريج ووهب
ابن منية، وأكثر المفسرين. وقال أبو عبيدة أراد كل الذي حرم عليكم واستشهد
على ذلك بقول لبيد:
تزاك أمكنة إذا لم أرضها * أو يعتلق بعض النفوس حمامها (1)
قال معناه أو يعتلق نفسي حمامها. وأنكر الزجاج تأويله. وقال: هو خطأ
من وجهين:
أحدهما - أن البعض لا يكون بمعنى الكل. والاخر - أنه لا يجوز تحليل

(1) اللسان (بعض) ذكر العجز فقط.
470

المحرمات أجمع، لأنه يدخل في ذلك الكذب، والظلم، والكفر قال: ومعنى البيت
أو يعتلق نفسي حمامها، كما يقول القائل: بعضنا يعرفك يريد أنا أعرفك، وهذا
أيضا إنما هو تبعيض صحيح. ووجه الآية ما ذكره أبو علي، وجماعة من المفسرين.
أن قوما من اليهود حرموا على نفوسهم أشياء ما حرمها الله عليهم، فجاء بتحليل
ذلك. قال الرماني: تأويل الآية على ما قالوه، لكنه لا يمتنع أن يوضع البعض في
موضع الكل إذا كانت هناك قرينة تدل عليه، كما يجوز وضع الكل في موضع
البعض بقرينة.
قوله: (ولأحل لكم) معطوف على معنى الكلام الأول، لان معناه جئتكم
لأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم، كما يقول القائل: جئته معتذرا
ولاجتلب عطفه. والاحلال هو الاطلاق في الفعل بتحسينه، والتحريم هو حظر
الفعل بتقبيحه. والفرق بين التصديق، والتقليد أن التصديق لا يكون إلا فيما
يبرهن عند صاحبه. والتقليد يكون فيما لم يتبرهن، ولهذا لم نكن مقلدين للنبي صلى الله عليه وآله
وإن كنا مصدقين له.
قوله تعالى:
(إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)
(51) آية.
قوله: (إن الله ربي وربكم) استئناف كلام، لأنه رأس آية، وعليه
جميع العلماء. وكان يجوز أن تفتح الهمزة على قوله: " وجئتكم " ب‍ " أن الله
ربي وربكم ". والفرق بين قوله " إن الله ربي وربكم " وقوله " ربنا " أن
الأول آكد في إقراره بالربوبية، لأنه ذكر على التفصيل، فهو أبعد من الغلط
في التأويل، لان لقائل أن يقول الذكر قد يجوز في الجملة على التغليب كما يغلب
التذكير على التأنيث في الجملة دون التفصيل.
والربوبية هي تنشئة الشئ حالا بعد حال حتى يبلغ حد الكمال في التربية.
471

فلما كان الله تعالى مالكا لانشاء العالم كان ربا، ولا تطلق هذه الصفة إلا عليه
تعالى، لان اطلاقها يقتضي الملك بجميع الخلق، فأما إجراؤها على غيره، فعلى وجه
التقييد، كقولك رب الدار، ورب الضيعة. وقالوا في وصف قوم من العلماء: هم
أرباب البيان يراد به شدة اقتدارهم عليه. وقوله: " هذا صراط مستقيم " فالاستقامة
استمرار الشئ في جهة واحدة، ونظيرها الاستواء: خلاف الاعوجاج، فلذلك
قيل للطريق المؤدي إلى المراد الموصل إلى الحق: طريق الاستقامة، لأنه يفضي
بصاحبه إلى غرضه، وقد استوفينا معناه في سورة الحمد. وقد يوصف الدليل بأنه
طريق مستقيم، لأنه يؤدي إلى الحق اليقين. وفي الآية حجة على النصارى بما قاله
المسيح مما يقرون به أنه في الإنجيل من نحو هذا الكلام، لان فيه أذهب إلى
إلهي، وإلهكم، كقوله ههنا: " إن الله ربي وربكم "
قوله تعالى:
(فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال
الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) (52) آية.
اللغة:
الاحساس هو الوجود بالحاسة، أحس يحس إحساسا. والحس القتل، لأنه يحس
بألمه، ومنه قوله: " إذ تحسونهم " باذنه " (1) والحس: العطف، لاحساس الرقة
على صاحبه. والأصل فيه إدراك الشئ من جهة الملابسة. ومعنى الآية: فلما علم
عيسى منهم الكفر، قال: " من أنصاري إلى الله ". والأنصار جمع نصير مثل
شريف وأشراف، وشهيد وأشهاد. وإنما لم يحمل على ناصر لأنه يجب أن يحمل
على نظيره من فعيل وأفعال.

(1) سورة آل عمران آية: 152.
472

المعنى:
وقوله: " من أنصاري إلى الله " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - من أعواني على هؤلاء الكفار إلى معونة الله أي مع معونة الله
في قول السدي، وابن جريج. وإنما جاز أن تكون (إلى) بمعنى (مع) لما دخل
الكلام من معنى الإضافة ومعنى المصاحبة، ونظيره (الذود إلى الذود إبل) أي مع
الذود. ومثله " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " (1) أي مع أموالكم،
وقولك: قدم زيد ومعه مال، فلا يجوز فيه إلى وكذلك قدم إلى أهله، لا يجوز فيه
مع، لاختلاف المعنى.
الثاني - قال الحسن من أنصاري في السبيل إلى الله، لأنه دعاهم إلى سبيل الله.
الثالث - قال الجبائي: من أنصاري لله، كما قال: " هل من شركائكم من
يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق " (2) ووجه ذلك أن العرض يصلح فيه اللام
على طريق العلة وإلى طريق النهاية. فان قيل عيسى إنما بعث بالوعظ دون الحرب
لم استنصر عليهم؟ قلنا: للحماية من الكافرين الذين أرادوا قتله عند اظهار الدعوة
- في قول الحسن ومجاهد - وقال آخرون: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين
من إقامة الحجة وإنما قاله ليتميز الموافق من المخالف. وقوله: (قال الحواريون)
اختلفوا في تسميتهم حواريين على ثلاثة أقوال قال سعيد بن جبير: سموا بذلك
لنقاء ثيابهم. الثاني - قال ابن جريج عن أبي أرطاء أنهم كانوا قصارين يبيضون
الثياب. الثالث - قال قتادة، والضحاك: لأنهم خاصة الأنبياء يذهب إلى نقاء
قلوبهم كنقاء الأبيض بالتحوير. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الزبير ابن
عمتي وحواري من أمتي.

(1) سورة النساء آية: 2.
(2) سورة يونس آية: 35.
473

اللغة:
وأصل الحواري الحور، وهو شدة البياض. ومنه الحواري من الطعام لشدة
بياضه. ومنه الأحور، والحوراء لنقاء بياض العين، ومنه الحواريات نساء
الأنصار لبياضهن. قال أبو جلدة اليشكري (1):
فقل للحواريات يبكين غيرنا * ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح (2)
وقال بعض بني كلاب:
ولكنه ألقى زمام قلوصه * ليحيا كريما أو يموت حواريا
أي ناصرا لرفاقه غير خاذل لهم. والمحور: الحديدة التي تدور عليها البكرة،
لأنها تنصقل حتى تبيض وحار يحور: إذا رجع، لانقلابه في الطريق الذي جاء
فيه كانقلاب المحور بالتحوير.
المعنى:
وفي الآية حجة على من زعم أن المسيح والذين آمنوا به، كانوا نصارى
فبين الله تعالى أنهم كانوا مسلمين كما بين ذلك في قصة إبراهيم (ع) حيث قال " ما كان
إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ".
قوله تعالى:
(ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين)
(53) آية واحدة بلا خلاف.

(1) هو أبو جلدة بن عبيد بن منفذ اليشكري من شعراء الدولة الأموية، وكان من
أخص الناس بالحجاج ثم فارقه وخرج مع ابن الأشعث، وصار من أشد الناس تحريضا على الحجاج.
(2) اللسان (حور)، والأغاني 11: 311 وحماسة بن الشجري: 65 وهو من
أبيات قالها في التحريض على قتال أهل الشام.
474

هذا حكاية لقول الحواريين حيث قالوا " آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ". قالوا
" ربنا " ومعناه يا ربنا ونصبه، لأنه نداء مضاف. " آمنا " أي صدقنا. وإنما لم
يقل رب العباد آمنا للاختصاص بما أنعم به عليهم من الايمان الذي أجابوا إليه
دون غيرهم ممن عدل عنه. وإنما قال " ربنا آمنا " على لفظ الخطاب ولم يعدل إلى
لفظ الغائب، فكان أبلغ في التعظيم، كما تقول السمع والطاعة للملك، فيكون أفخم
من أن يقال: لك أيها الملك، لان المشاهدة أغنت عن التصريح بالخطاب وصار
كالاستدلال له مع الغنى عنه وليس كذلك استعماله مع الحاجة إليه، لأنه لا يدل
على ابتداء له. فان قيل لم حذف (يا) من يا ربنا آمنا، ولم يحذف من " يا عبادي
لا خوف عليكم " (1)؟ قلنا حذف للاستغناء عن تنبيه المدعو، وليس كذلك
الثاني لأنه بشارة للعباد ينبغي أن يمد بها لان سماعها ما يسر. وقوله: (واتبعنا
الرسول) فالاتباع سلوك طريقة الداعي على الإجابة إلى ما دعا إليه، وليس كل
إجابة اتباعا، لان إجابة الدعاء يجوز على الله تعالى ولا يجوز عليه الاتباع. وقوله:
(فاكتبنا مع الشاهدين) قيل معناه قولان:
أحدهما - أثبت أسماءنا مع أسمائهم لنفوز بمثل ما فازوا، وننال من الكرامة
مثل ما نالوا، ونستمتع بالدخول في جملتهم والانضمام إليهم. الثاني - يصل ما بيننا
وبينهم بالخلة على التقوى، والمودة على سلوك طريق الهدى، وتجنب طريق الردى،
وعلى هذا يكونون فيه بمنزلة من كتب عليهم. وحقيقة الشاهد المخبر بالشئ عن
مشاهدة، وقد يتصرف فيه، فيقال: البرهان شاهد بحق أي هو بمنزلة المخبر به
عن مشاهدة. ويقال هذا شاهد أي معد للشهادة والمراد في الآية الشاهدين بالحق
المنكرين للباطل.
قوله تعالى:
(ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) (54) آية.

(1) سورة الزخرف آية 68.
475

المعنى:
قيل في معنى الآية قولان:
أحدهما - قال السدي مكروا بالمسيح بالحيلة عليه، لقتله " ومكر الله بردهم "
بالخيبة، لالقائه شبه المسيح على غيره. الثاني - " مكروا " باضمار الكفر " ومكر
الله " بمجازاتهم عليه بالعقوبة. والمكر، وإن كان قبيحا فإنما أضافه تعالى إلى
نفسه لمزاوجة الكلام، كما قال: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم " (1) وليس باعتداء وإنما هو جزاء، وهذا أحد وجوه البلاغة، لأنه
على أربعة أقسام:
أحدها - المزاوجة نحو " ومكروا ومكر الله ". والثاني - المجانسة نحو قوله:
" يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار " (2). الثالث - المطابقة نحو قوله:
" ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا " (3) بالنصب على مطابقة الجواب للسؤال.
والرابع - المقابلة نحو قوله: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ
باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة " (4) قال الشاعر:
واعلم وأيقن ان ملكك زائل * واعلم بأن كما تدين تدان (5)
أي كما تجزي تجزى. والأول ليس بجزاء وأصل المكر الالتفاف، فمنه
المكر ضروب من الشجر مثل الدعل ونحوه، لالتفافه. والممكورة من النساء الملتفة
والمكر طين أحمر شبيه بالمغرة. وثوب ممكور إذا صبغ بذلك الطين. والمكر الاحتيال

(1) سورة البقرة آية: 194.
(2) سورة النور آية: 37.
(3) سورة النحل آية: 30.
(4) سورة القيامة آية: 22 - 25.
(5) اللسان (زنا)، (دان) وجمهرة الأمثال للعسكري: 169 وغيرها وقد نسبه في
اللسان إلى خويلد بن نوفل الكلابي. وقيل: هو لبعض الكلابيين. وقيل: ليزيد بن الصعق
الكلابي. وقد مر البيت في 1: 36 وروايته هناك (بأنك ما تدين تدان).
وروايته اللسان:
يا حار أيقن أن ملكك زائل * واعلم بأن كما تدين تدان
وحار: ترخيم حارث. والمخاطب هنا الحارث بن أبي شمر الغساني وكان قد اغتصب ابنة
الشاعر فخاطبه في قصيدة منها هذا البيت.
476

على العبد، لالتفاف المكروه عليه. وحد المكر: خب ء يختدع به العبد
لايقاعه في الضر. والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون، لاظهار ما تعسر
من الفعل من غير قصد إلى الاضرار بالعبد. والمكر حيلة على العبد توقعه
في مثل الرهق.
قوله تعالى:
" إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك
من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى
يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون "
(55) آية.
الاعراب:
العامل في (إذ) يحتمل أحد أمرين.
أحدهما - قوله: " ومكروا ومكر الله " " إذ قال ". والاخر ذاك " إذ قال
يا عيسى " وعيسى في موضع الضم، لأنه منادا مفرد، ولكن لا يبين فيه لأنه
منقوص، وعيسى لا ينصرف لاجتماع العجمة والتعريف على قول الزجاج، لأنه
حمل الألف على حكم الملحق بمخرج ولم يحملها على التأنيث، فأما الألف في
زكريا، فلا يكون إلا للتأنيث، لأنه لا مثال له في الأصول. وإذا عرب جرى
على قياس كلامهم في أن الألف الزائدة لا تخلو أن تكون للتأنيث أو
للالحاق، فإذا بطل أحدهما صح أنها للاخر. وإنما وجب ذلك، لأنه يجري مجرى
الاعراب بالعوامل، فأما الاشتقاق، فلا يجب، لأنه تصريف من أصل المشتق،
وليس العربي بأصل للعجمي، وذلك نحو العيس وهو بياض الإبل والعوس وهو
السياسة لو كان عربيا، لصلح أخذه من أحد الأصلين. وإذا أخذ من أحدهما
477

امتنع من الاخر، فلذلك إذا أخذ من العجمي امتنع من العربي.
وقوله: (إني متوفيك) قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قابضك برفعك من الأرض إلى السماء من غير وفاة موت في قول
الحسن وابن جريج وابن زيد. الثاني - متوفيك وفاة نوم في قول ابن عباس ووهب
ابن منية. والثالث - ان فيه تقديما وتأخيرا، ومعناه إني رافعك، ومتوفيك فيما
بعد ذكره الفراء. وقوله: " ورافعك " قيل في معناه قولان:
أحدهما - رافعك في السماء فجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم واجراءه على طريق
التعظيم. والاخر - مصيرك إلى كرامتي كما يقال رفع إلى السلطان، ورفع الكتاب
إلى الديوان. وقال إبراهيم " إني ذاهب إلى ربي " (6). وإنما ذهب من العراق
إلى الشام. وإنما أراد إلى حيث أمرني ربي بالمضي إليه. وقوله: (ومطهرك)
قيل فيه قولان:
أحدهما - مطهرك باخراجك من بين الأرجاس، لان كونه في جملتهم بمنزلة
التنجيس له بهم، وإن كان عليه السلام طاهرا في كل حال، وإنما ذلك على ازالته
عن مجاورة الأنجاس. والثاني - قال أبو علي: تطهيره: منعه من كفر يفعلونه بالقتل
الذي كانوا هموا به لان ذلك نجس طهره الله منه. وقوله: (وجاعل الذين اتبعوك
فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة يحتمل أن يكون جعلهم فوقهم بالحجة والبرهان،
ويحتمل أن يكون ذلك بالعز والغلبة، وقال الحسن، وقتادة، والربيع: المعني
بهذه الآية أهل الايمان. وما جاء به دون الذين كذبوه أو كذبوا عليه. وقال
ابن زيد: المعني به النصارى، وهم فرق اليهود من حيث كانوا اليهود أذل منهم
إلى يوم القيامة، ولهذا زال الملك عنهم وإن كان ثابتا في النصارى في بلاد الروم
وغيرها، فهم أعز منهم وفوقهم. وقال الجبائي فيه دلالة على أنه لا يكون لليهود
مملكة إلى يوم القيامة كما للروم. والوجه الأول أقوى، لأنه أظهر إذا كان على جهة
478

الترغيب في الحق، وقوله: (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون)
وجه اتصاله بالكلام كأنه قال أما الدنيا فأنتم فيها على هذه الحال، وأما الآخرة،
فيقع فيها التوفية للحقوق على التمام والكمال. وإنما عدل عن الغيبة إلى الخطاب
في قوله: " ثم إلي مرجعكم " لتغلب الحاضر على الغائب لما دخل معه في المعنى كما
يقول بعض الملوك: قد بلغني عن أهل بلد كذا جميل، فأحسن إليكم معشر
الرعية.
وقوله تعالى:
(فاما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة
وما لهم من ناصرين) (56) آية واحدة بلا خلاف.
معنى قوله " فأما " تفصيل المجمل على قولك فيجازي العباد أما المؤمن فبالثواب
وأما الكافر فبالعقاب. وقوله: " فأعذبهم " فالعذاب: استمرار الآلام لان
أصله استمرار الشئ، فمنه العذوبة لاستمرار العذب في الحلق، ومنه العذبة
لاستمرارها بالحركة. وقوله " شديدا " فالشدة صعوبة بالانتقام. والقوة: عظم
القدرة، فالشدة نقيض الرخاوة. والقوة نقيض الضعف، فشدة العذاب قد تكون
بالتضعيف، وقد تكون بالتحبيس. وقوله: (في الدنيا والآخرة) فعذابهم في
الدنيا اذلالهم بالقتل، والأسر، والسبي، والخسف، والجزية، وكلما فعل على
وجه الذلة والإهانة. وفي الآخرة عذاب الأبد. والفرق بين الآخرة والانتهاء أن
الآخرة قد تكون بعد العمل، فأما الانتهاء فجزء منه لا يكون بعد كماله هذا إذا
أطلق فان أضيف فقيل آخر العمل فمعناه انتهاء العمل. وقوله: (وما لهم من
ناصرين) فالنصرة هي المعونة على العدو خاصة. والمعونة هي زيادة في القوة وقد
تكون على العدو، وغير العدو.
479

قوله تعالى:
(وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله
لا يحب الظالمين) (57) آية واحدة بلا خلاف.
قرأ " فيوفيهم " بالياء حفص ورويس. الباقون بالنون.
فان قيل: لم كرر الوعد ههنا وقد ذكر في غير هذا الموضع من القرآن؟
قلنا: ليس ذلك بتكرير في المعنى، لان معنى ذلك آمنوا بك يا عيسى وعملوا
الصالحات فيما دعوتهم إليه من الهدى، لأنه تفصيل ما أجمل في قوله: " ثم إلي
مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون " وقوله: " وعملوا الصالحات "
ليس بتقييد للوعد بكل واحدة من الخصلتين على اختلاف فائدة الصفتين، وفي
الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى يريد الظلم، لأنه قال:
" لا يحب الظالمين " وإذا لم يحب الظالم لم يحب فعل الظلم، لأنه إنما لم يجز محبة
الظالم لظلمه.
والمحبة هي الإرادة، وفي الآية دلالة على أنه لا يجازي المحسن بما يستحقه
المسئ ولا المسئ بما يستحقه المحسن، لان ذلك ظلم. ومعنى التوفية في الآية
مساواة مقدار الاستحقاق لان المقدار لا يخلو أن يكون مساويا أو زائدا أو
ناقصا، والزيادة على مقدار الاستحقاق لا يجوز أن يعطي ثواب العمل من ليس بعامل
لكن تجوز الزيادة على وجه التفضل، فأما التوفية، فواجبة في الحكمة والنقصان
لا يجوز، لأنه ظلم. وفي الآية دلالة على بطلان القول بالتحابط، لأنه تعالى
وعد بتوفية الأجور ولم يشرط الاحباط، فوجب حمل الكلام على ظاهره.
قوله تعالى:
" ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم " (58)
آية واحدة.
480

المعنى:
" ذلك " إشارة إلى الاخبار عن عيسى، وزكريا، ويحيى، عن الحواريين،
واليهود من بني إسرائيل، وهو في موضع نصب بما تقدم. و " نتلوه عليك " لما فيه من
الآية لمن تذكر في ذلك واعتبر به. والذكر وإن كان حكمة فإنما وصفه بأنه حكيم
من حيث لما كان ما فيه من الدلالة بمنزلة الناطق بالحكمة حسن وصفه بأنه حكيم
من هذه الجهة، كما وصفت الدلالة بأنها دليل لما فيها من البيان، وذلك لأنه
الناطق بالبيان.
الاعراب:
وموضع " نتلوه " من الاعراب يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون رفعا بأنه خبر ذلك، والثاني - ألا يكون له موضع، لأنه
صلة ذلك وتقديره: الذي نتلوه عليك من الآيات، ويكون موضع " من الآيات "
رفعا بأنه خبر ذلك. ذكره الزجاج وأنشدوا في مثله:
عدس ما للعباد عليك إمارة * أمنت وهذا تحملين طليق (1)
بمعنى والذي تحملين طليق.
المعنى:
وقيل في معنى قوله: " نتلوه عليك " قولان:
أحدهما - نكلمك به، ويكون وضع " نتلوه " موضع نكلم كما يقول القائل:
أنشأ زيد الكتاب وتلاوة عمرو، فالتلاوة تكون اظهار الكلام على جهة الحكاية
الثاني - " نتلوه عليك " بأمرنا جبريل أن يتلوه عليك على قول الجبائي، والذكر
حصول ما به يظهر المعنى للنفس ويكون كلاما وغير كلام من بيان أو خاطر على

(1) البيت مشهور في كتب النحو.
481

البال، وليس إذا ظهر الشئ للنفس دل على صحته، لان الضدين قد يظهران
ولا يجوز صحتهما معا.
قوله تعالى:
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال
له كن فيكون) (59) آية.
قال ابن عباس، والحسن وقتادة: هذه الآية نزلت في وفد نجران: السيد
والعاقب، قالا للنبي صلى الله عليه وآله هل رأيت ولدا من غير ذكر، فأنزل الله تعالى الآية.
والمثل ذكر سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول، فذكر الله آدم بأن أنشأه
من غير والد يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول في باب الامكان، والقدرة. وفي
ذلك دلالة على (بطلان قول) من حرم النظر، لان الله تعالى احتج به على المشركين
ولا يجوز أن يدلهم إلا بما فيه دليل فقياس خلق عيسى من غير ذكر كقياس خلق
آدم بل هو فيه أوجب، لأنه في آدم من غير أنثى، ولاذكر. ومعنى " خلقه "
أنشأه، ولا موضع له من الاعراب، لأنه لا يصلح أن يكون صفة لادم من حيث
هو نكرة، ولا يكون حالا له، لأنه ماض فهو متصل في المعنى غير متصل في اللفظ
من علامات الاتصال من الاعراب أو مرتبة كالصلة. وقوله: (كن فيكون) قد
بينا معناه فيما مضى وأنه اخبار عن سرعة الفعل وتيسره من غير مشقة ولا إبطاء.
وقيل إنه يفعله عند قوله: " كن " ويكون ذلك علامة للملائكة على ما يريد الله
إنشاءه. وقوله: " فيكون " رفع لا يجوز فيه النصب على جواب الامر في كن،
لان جواب الشرط غيره في نفسه أو معناه نحو اتني فأكرمك واتني فتحسن إلي، فهذا
يجوز، لان تقديره فإنك إن تأتني تحسن إلي، ولا يجوز تقدير (أن)، فيكون
بالنصب، لان تقدير كن فإنك أن تكن فهذا لا يصح، لان الجواب هو الشرط
على معناه، ولكن يجوز الرفع على فهو يكون.
482

قوله تعالى:
ألحق من ربك فلا تكن من الممترين) (60) آية.
الاعراب:
الحق رفع بأنه خبر ابتداء محذوف وتقديره ذلك الاخبار في أمر عيسى
الحق من ربك، فحذف، لتقدم ذكره وأغنى بشاهد الحال عن الإشارة إليه كما
تقول الهلال أي هذا الهلال.
المعنى واللغة:
وقوله: (فلا تكن من الممترين) يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به غيره، كما قال. " يا أيها
النبي إذا طلقتم النساء " (1). والاخر - " فلا تكن من الممترين " أيها السامع
للبرهان من المكلفين كائنا من كان.
والامتراء الشك، ومثله المرية وأصله الاستخراج مري الضرع يمريه مريا:
إذا استخرج اللبن منه يمسحه ليدر، وكذلك الريح تمري السحاب مريا. فالامتراء
شك كحال المستخرج لما لا يعرف. وإنما قال: " الحق من ربك " ولم يقتصر
على قوله: " ذلك الحق " " فلا تكن من الممترين " لان في هذه الآية دلالة على أنه
الحق، لأنه من ربك، ولو قال ذلك الحق " فلا تكن من الممترين " لان في هذه
الآية دلالة على أنه الحق، لأنه من ربك. ولو قال: ذلك الحق فلا تكن (2) لم يفد
هذه الفائدة. والفرق بين قوله: " فلا تكن من الممترين " وبين قوله: فلا تكن
ممتريا أن ذلك أبلغ في النهي، لأنه إشارة إلى قوم قد عرفت حالهم في
النقص والعيب.

(1) سورة الطلاق آية: 1.
(2) هكذا في المطبوعة وفيه تكرار كما ترى.
483

قوله تعالى:
(فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم
نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (61) آية بلا خلاف.
المعنى:
الهاء في قوله: " فيه " يحتمل أن تكون عائدة إلى أحد أمرين:
أحدهما - إلى عيسى في قوله: " إن مثل عيسى عند الله " في قول قتادة.
الثاني - أن تكون عائدة على الحق في قوله " الحق من ربك ". والذين دعاهم
النبي صلى الله عليه وآله في المباهلة نصارى نجران، ولما نزلت الآية أخذ النبي صلى الله عليه وآله بيد
على وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ثم دعا النصارى إلى المباهلة، فأحجموا
عنها، وأقروا بالذلة والجزية. ويقال: إن بعضهم قال لبعض إن باهلتموه اضطرم
انوادي نارا عليكم ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأصحابه: مثل ذلك. ولا خلاف بين أهل العلم
أنهم لم يجيبوا إلى المباهلة.
اللغة، والمعنى:
" وتعاوا " أصله من العلو، يقال منه تعاليت أتعالى تعاليا: إذا جئت
وأصله المجئ إلى الارتفاع إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجئ وصار
تعالى بمنزلة هلم. وقيل في معنى الابتهال قولان:
أحدهما - الالتعان بهله الله أي لعنه وعليه بهلة الله. الثاني " نبتهل " ندعوا
بهلاك الكاذب. وقال لبيد:
484

نظر الدهر إليهم فابتهل (1)
أي دعا عليهم بالهلاك كاللعن، وهو المباعدة من رحمة الله عقابا على معصيته
فلذلك لا يجوز أن يلعن من ليس بعاص من طفل أو بهيمة أو نحو ذلك، وقال
أبو بكر الرازي: الآية تدل على أن الحسن والحسين ابناه، وأن ولد البنت ابن علي
الحقيقة. وقال ابن أبي علان: فيها دلالة على أن الحسن والحسين كانا مكلفين في
تلك الحال، لان المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين.
واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن أمير المؤمنين (ع) كان أفضل الصحابة
من وجهين:
أحدهما - أن موضوع المباهلة ليتميز المحق من المبطل وذلك لا يصح أن
يفعل إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعا على صحة عقيدته أفضل الناس عند الله.
والثاني - أنه صلى الله عليه وآله جعله مثل نفسه بقوله: " وأنفسنا وأنفسكم " لأنه
أراد بقوله: " أبناءنا " الحسن والحسين (ع) بلا خلاف. وبقوله: " ونساءنا
ونساءكم " فاطمة (ع) وبقوله: " وأنفسنا " أراد به نفسه، ونفس علي (ع)
لأنه لم يحضر غيرهما بلا خلاف، وإذا جعله مثل نفسه، وجب ألا يدانيه أحد في
الفضل، ولا يقاربه. ومتى قيل لهم أنه أدخل في المباهلة الحسن والحسين (ع)
مع كونهما غير بالغين وغير مستحقين للثواب، وإن كانا مستحقين للثواب لم يكونا
أفضل الصحابة. قال لهم أصحابنا: إن الحسن والحسين (ع). كانا بالغين مكلفين،
لان البلوغ وكمال العقل لا يفتقر إلى شرط مخصوص، ولذلك تكلم عيسى في المهد
بما دل على كونه مكلفا عاقلا، وقد حكيت ذلك عن امام من أئمة المعتزلة مثل ذلك
وقالوا أيضا أعني أصحابنا: إنهما كانا أفضل الصحابة بعد أبيهما وجدهما، لان
كثرة الثواب ليس بموقوف على كثرة الافعال، فصغر سنهما لا يمنع من أن يكون

(1) ديوانه قصيدة 39 البيت 81، وأمالي الشريف المرتضى 1: 45 وأساس البلاغة
(بهل) وصدره:
في قروم سادة من قومه
485

معرفتهما وطاعتهما لله، وإقرارهما بالنبي صلى الله عليه وآله وقع على وجه يستحق به من الثواب
ما يزيد على ثواب كل من عاصر هما سوى جدهما وأبيهما. وقد فرغنا الكلام في ذلك
واستقصيناه في كتاب الإمامة.
قوله تعالى:
(إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا لله وإن الله
لهو العزيز الحكيم) (62) آية.
المعنى، واللغة:
إن قيل: لم قال: " إن هذا لهو القصص " مع قيام الحجة، وشهادة المعجزة
له؟ قلنا: معناه البيان عن أن مخالفتهم له بعد وضوح أمره يجري مجرى العناد
فيه، وكذلك قوله: " وما من إله إلا الله ". والقصص: الخبر الذي تتابع فيه
المعاني وأصله اتباع الأثر، وفلان يقص أثر فلان أي يتبعه. وقوله: (وما من
إله إلا الله) دخول (من) فيه تدل على عموم النفي لكل إله غير الله. ولو قال:
ما إله إلا الله لم يفد ذلك وإنما أفادت (من) هذا المعنى، لان أصلها لابتداء الغاية
فدلت على استغراق النفي من ابتداء الغاية إلى انتهائها. ويجوز جر اسم الله على
البدل من إله، لان ذلك لا يحسن في الكلام، لان (من) لا تدخل في الايجاب
وما بعد (إلا) هنا إيجاب، ولا تدخل أيضا على المعرفة للعموم، ولا يحسن إلا
رفعه على الموضع، كأنه قيل ما لكم إله إلا الله. وما لكم مستحق للعبادة إلا الله
قال الشاعر:
ابني لبيني لستم بيد * الأيد ليست لها عضد
أنشدوه بالجر، فعلى هذا يجوز ما جاءني من رجل إلا زيد، وليس هو وجه
الكلام، ولكنه يتبعه وإن لم يصلح إعادة العامل فيه، كما يقال: اختصم زيد
وعمرو، ولا يجوز واختصم عمرو، وقوله: " وإن الله لهو العزيز الحكيم " معناه
486

لا أحد يستحق إطلاق هذه الصفة إلا هو، فوصل ذلك بذكر التوحيد في الإلهية
لأنه حجة على صحته من حيث لو كان إله آخر، لبطل إطلاق هذه الصفة.
الاعراب:
وموضع هو من الاعراب يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون فصلا، وهو الذي تسمية الكوفيون عمادا، فلا يكون
له موضع من الاعراب، لأنه في حكم الحرف ويكون القصص خبر إن. والاخر -
أن يكون اسما موضعه رفع بالابتداء والقصص خبر إن والجملة خبر إن.
قوله تعالى:
(فان تولوا فان الله عليم بالمفسدين) (63)
اللغة والمعنى:
التولي عن الحق هو اعتقاد خلافه بعد ظهوره، لأنه كالادبار عنه بعد
الاقبال. وتولى عنه خلاف تولى إليه. والأصل واحد كما أن رغب عنه خلاف
رغب فيه. وهو الزوال بالوجه عن جهته إلى غيره، فأصل التولي كون الشئ يلي
غيره من غير فصل بينه وبينه، فقيل تولى عنه أي زال عن جهته. وقوله: (فان
الله عليم بالمفسدين) إنما خص المفسدين بأنه عليم بهم على جهة التهديد لهم، والوعد
بما يعلمه مما وقع من إفسادهم كما يقول القائل أنا أعلم بسر فلان، وما يجري إليه
من الفساد. والافساد إيقاع الشئ على خلاف ما توجبه الحكمة، وهو ضد
الاصلاح، لأنه ايقاع الشئ على مقدار ما توجبه الحكمة. والفرق بين الفساد،
والقبيح: أن الفساد تغيير عن المقدار الذي تدعو إليه الحكمة بدلالة أن نقيضه
الصلاح، فإذا قصر عن المقدار أو أفرط لم يصلح، فإذا كان على المقدار صلح،
وليس كذلك القبيح، لأنه ليس فيه معنى المقدار. وإنما القبيح ما تزجر عنه
الحكمة كما أن الحسن ما تدعو إليه الحكمة.
487

قوله تعالى:
(قل يا أيها الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا
نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من
دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (64) آية واحدة.
النزول:
قيل في من نزلت هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدهما - ذكره الحسن، والسدي، وابن زيد، ومحمد بن جعفر بن الزبير:
أنهم نصارى نجران. والثاني - قال قتادة، والربيع، وابن جريج: أنهم يهود
المدينة، وقد روى ذلك أصحابنا. ووجه هذا القول أنهم أطاعوا الأحبار طاعة
الأرباب، فسلكوا بهم طريق الضلال. ويدل على ذلك قوله: (عز وجل)
" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " (1) وروي عن أبي عبد الله (ع)
أنه قال ما عبدوهم من دون الله وإنما حرموا لهم حلالا وأحلوا لهم حراما، فكان
ذلك اتخاذ الأرباب من دون الله. الثالث - ذكره أبو علي الجبائي أنها في الفريقين
من أهل الكتاب على ظاهر الكلام.
المعنى، والاعراب، واللغة:
وقوله: (إلى كلمة سواء) فسواء اسم وليس بصفة وإنما جر سواء بتقدير
ذات سواء في قول الزجاج. وكان يجوز نصبه على المصدر، وموضع " أن لا "
خفض على البدل من (كلمة). وقال الرماني: إنما أجراه على الأول، وهو الثاني
ولا يجوز في مثل قولك مررت برجل سواء عليه الخير والشر غير الرفع لامرين:
أحدهما - أن رفع الثاني بتقدير محذوف، كأنه قال هي " ألا تعبد إلا

(1) سورة التوبة آية: 32.
488

الله "، فيكون سواء من صفة الكلمة في اللفظ، والمعنى. ويجوز أن يكون
موضعه خفضا على البدل من الكلمة، وتقديره تعالوا إلى ألا نعبد إلا الله، وكذلك
جاء مالا يصلح للأول على الاستئناف، نحو " الذي جعلناه للناس سواء العاكف
فيه والباد " (1) وكذلك " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين
آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم " (2). الثاني - أن يقع بمعنى المصدر
في موضع الصفة الجارية بتقدير (كلمة) مستوية " بيننا وبينكم " فيها الامتناع
من عبادة غير الله. وإنما جاز، لان لا نعت بغير معنى الكلمة، فصار بمنزلة
إضمار الكلمة. والفرق بين كلمة عدل وكلمة سواء (أن " كلمة سواء ") بمعنى
مستوية وأن عدل بمعنى عادلة فيما يكون منها، كما تقول رجل عدل أي عادل،
فاما كلمة مستوية فمستقيمة، كما يقال. الرجل مستو - في نفسه - غير مائل عن
جهته فلذلك فسر سواء على الوجهين، فكان يجوز في العربية الجزم في " ألا نعبد
إلا الله " على طريق النهي، كقولك اتني وقت يأتي الناس لاتجئ في غير ذلك
من الأوقات، ويجوز فيه الرفع أيضا بمعنى الحكاية على أن تقول " لا نعبد إلا
الله " وأجاز الفراء الجزم عطفا على موضع (أن) لأنها في موضع جواب الامر
على تقدير " تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئا " كما تقول: تعالوا لا نقل إلا خيرا، وهذا لا يجوز عند البصريين، لان
(أن) لا توافق معنى الجواب كالفاء في قوله: " فأصدق وأكن من الصالحين " (3)
كما توافقه " إذا " في قوله: " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم
يقنطون " (4) واللام في قوله: " فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون "
إنما اتصل بما قبله على تقدير: قابلوا إعراضهم عن الحق بخلافه للانكار عليهم
وتجديدا للاقرار به عند صدهم أي أقيموا على إسلامكم، وقولوا لهم: " اشهدوا
بأنا مسلمون " مقيمون على الاسلام.

(1) سورة الحج آية: 25.
(2) سورة الجاثية آية: 20.
(3) سورة المنافقين آية: 10.
(4) سورة الروم آية 36.
489

قوله تعالى:
(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت
التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) (65) آية واحدة.
النزول:
روي عن ابن عباس، والحسن، وقتادة والسدي أن أحبار اليهود ونصارى
نجران اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود:
ما كان إلا يهوديا. وقالت النصارى ما كان إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى هذه
الآية.
اللغة:
وقوله: " لم تحاجون " فالحجاج، والمحاجة واحد، وهو الجدال أما بحجة
أو شبهة، وقد يسمى الجدال بابهام الحجة حجاجا، وعلى ذلك كان أهل الكتاب
في ادعائهم لإبراهيم، لأنهم أو هموا صحة الدعوى من غير سلوك لطريق الهدى ولا
تعلق بما يظن به صحة المعنى. وأما الحجة فهو البيان الذي يشهد لصحة المقالة،
وهي والدلالة بمعنى واحد. والفرق بين الحجاج والجدال أن الحجاج يتضمن اما بحجة
أو شبهة أو ابهام في الحقيقة، لان أصله من الجدل، وهو شدة الفتل.
المعنى:
وقوله: (أفلا تعقلون) معناه أفلا تعقلون فساد هذه الدعوى إذ العقل
يمنع من الإقامة؟ دعوى بغير حجة، فكيف بما قد علم، وظهر فساده بالمناقضة.
وفي ذلك دلالة على أن العاقل لا يعذر في الإقامة على الدعوى من غير حجة، لما
فيه من البيان عن الفساد والانتقاض. ولان العقل طريق العلم، فكيف يضل عن
الرشد من قد جعل الله إليه السبيل!.
490

قوله تعالى:
(ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما
ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (66) آية واحدة.
القراءة:
قرأ أهل المدينة وأبو عمرو " ها أنتم " بتخفيف الهمزة حيث وقع الباقون
بتخفيفها (1) وكلهم أثبت الألف قبل الهمزة إلا ابن عامر عن قنبل فإنه حذفها.
المعنى واللغة:
" ها " للتنبيه وإنما نبههم على أنفسهم وإن كان الانسان لا ينبه على نفسه
وإنما ينبه على ما أغفله من حاله، لان المراد بذلك تنبيههم بذكر ما يعلمون على ما لا
يعلمون، فلذلك خرج التنبيه على النفس، والمراد على حال النفس. ولو جاء على
الأصل، لكان لابد من ذكر النفس للبيان، ففيه مع ذلك ايجاز. وقد كثر التنبيه
في هذه ولم يكثر في ها أنت، لان ذا مبهم من حيث يصلح لكل حاضر والمعنى فيه
على واحد بعينه مما يصلح له فقوى بالتنبيه، لتحريك النفس على طلبه بعينه، وليس
كذلك أنت، لأنه لا يصلح لكل حاضر في الجملة، وإنما هو للمخاطب. إن قيل أين
خبر أنتم في " ها أنتم "؟ قيل: يحتمل أمرين:
أحدهما - حاججتم على أن يكون " هؤلاء " تابعا عطف بيان.
والثاني - أن يكون الخبر " هؤلاء " على معنى هؤلاء بمعنى الذين وما بعده
صلة له. فان قيل: ما الذي حاجوا فيه مما لهم به علم؟ قلنا: أما الذي لهم به علم
فما وجدوه في كتبهم، لأنهم يعلمون أنهم وجدوه فيها وأما الذي ليس لهم به علم

(1) هكذا وجدناه في الأصل وهو كما ترى. وفي مجمع البيان. قرأ أهل الكوفة (ها أنتم)
بالمد والهمزة وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بغير مد ولا همزة الا بقدر خروج الألف الساكنة.
وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمزة.
491

فشأن إبراهيم على قول السدي وأبي علي. وقوله: " والله يعلم " يعني شأن إبراهيم
وكلما ليس عليه دليل، لأنه علام الغيوب العالم بغير تعليم " وأنتم لا تعلمون " ذلك،
فينبغي أن تلتمسوا حقه من باطله من جهة عالم به. قال أبو علي الفارسي: وجه
قراء؟ ابن كثير أنه أبدل من الهمزة هاء والتقدير أأنتم، فأبدل من همزة الاستفهام
هاء، وذلك جائز. قال: ولا يجوز على هذا أن تكون (ها) للتنبيه. وحذف
الألف منها في مثل هلم، لان الحذف إنما يجوز إذا كان فيها تضعيف.
قوله تعالى:
(ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا
مسلما وما كان من المشركين) (67) آية.
المعنى:
ذكر الحسن، وقتادة، وعامر، وهو المروي عن أبي جعفر (ع): أن
اليهود قالت: كان إبراهيم يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانيا، فأكذبهم الله
في ذلك بانزال هذه الآية. فان قيل: هل كان الله تعبد باليهودية والنصرانية ثم
نسخها أم لا؟ قلنا: كان الذي بعثه الله به شرع موسى ثم شرع عيسى ثم نسخهما
فأما اليهودية والنصرانية فصفتا ذم قد دل القرآن والاجماع على ذلك، لان موسى
لم يكن يهوديا، وعيسى لم يكن نصرانيا، لقوله تعالى: " ان الدين عند الله
الاسلام " واليهودية ملة محرفة عن شرع موسى وكذلك النصرانية محرفة عن
شرع عيسى. وقيل في أصل الصفة بيهود قولان:
أحدهما - أنهم ولد يهود. والاخر - أنه مأخوذ من هاد يهود إذا رجع.
وفي النصارى قولان:
أحدهما - أنه مأخوذ من ناصرة قرية بالشام. والاخر - أنه من نصر
المسيح. وكيف تصرفت الحال فقد صارتا صفتي ذم تجريان على فرقتين ضالتين.
492

فان قيل: إن كان إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، لان التوراة
والإنجيل أنزلا بعده، فيجب أن لا يكون مسلما، لان القرآن أيضا أنزل بعده؟
قلنا: لا يجب ذلك، لان التوراة والإنجيل أنزلا من بعده من غير أن يكون فيها
ذكر له بأنه يهوديا أو نصرانيا. والقرآن أنزل من بعده وفيه الذكر له بأنه
كان حنيفا مسلما. وقيل في معنى الحنيف قولان:
أحدهما - المستقيم الدين، لان الحنف هو الاستقامة في اللغة. وإنما سمي
من كان معوج الرجل أحنف على طريق التفاؤل كما قيل للضرير إنه بصير. والثاني -
إن الحنيف هو المائل إلى الحق في الدين فيكون مأخوذا من الحنف في القدم،
وهو الميل. فان قيل: هل كان إبراهيم على جميع ما نحن عليه الان من شرع
الاسلام؟ قلنا. هو (ع) كان مسلما، وإن كان على بعض شريعتنا، لان في
شرعنا تلاوة الكتاب في صلاتنا وما أنزل القرآن إلا على نبينا، وإنما قلنا: إنه
مسلم بإقامة بعض الشريعة، لان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كانوا مسلمين في الابتداء
قبل استكمال الشرع. وقد سماه الله تعالى مسلما، فلا مرية تبقى بعد ذلك.
قوله تعالى:
(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين
آمنوا والله ولي المؤمنين) (68) آية واحدة.
المعنى:
معنى قوله: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي " أي
أحقهم بنصرته بالمعونة أو الحجة، لان الذين اتبعوه في زمانه تولوه بالنصرة على
عدوه حتى ظهر أمره، وعلت كلمته. وسائر المؤمنين يتولونه بالحجة بما كان عليه
من الحق وتبرئته من كل عيب، فالله تعالى ولي المؤمنين، لأنه يوليهم النصرة،
والمؤمن ولي الله لهذا المعني بعينه. وقيل، لأنه يولي صفاته التعظيم. ويجوز،
493

لأنهم يتولون نصرة ما أمر به من الدين. وقيل والله ولي المؤمنين، لأنه يتولى
نصرهم. والمؤمنون أولياء الله، لأنهم يتولون نصر دينه الذي أمرهم به.
اللغة:
" وأولى " الذي هو بمعنى أفعل من غيره لا يجمع ولا يثنى، لأنه يتضمن
معنى الفعل والمصدر على تقدير يزيد فضله على فضله في أفضل منه. ومعنى قولنا:
هذا الفعل أولى من غيره أي بأن يفعل. وقولنا زيد أولى من غيره معناه: أنه
على حال هو بها أحق من غيره. وقوله: " للذين اتبعوه " فالاتباع جريان الثاني
على طريقة الأول من حيث هو عليه كالمدلول الذي يتبع الدليل في سلوك الطريق
أو في التصحيح، لأنه إن صح الدليل صح المدلول عليه لصحته، وكذلك المأموم
الذي يتبع الامام.
فان قيل: لم فصل ذكر النبي صلى الله عليه وآله من ذكر المؤمنين؟ قلنا: يحتمل أمرين:
أحدهما - أنه بمعنى والذين آمنوا به، فتقدم ذكره ليدخل في الولاية
ويعود إليه الكتابة. والثاني - أن اختصاصه بالذكر بالحال العليا في الفضل.
قوله تعالى:
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما
يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) (69).
اللغة:
معنى ودت: تمنت وإذا كانت بمعنى التمني، فهي تصلح للماضي والحاضر
والمستقبل فلذلك جاز ب‍ (لو) وليس كذلك المحبة والإرادة، لأنهما لا يتعلقان
إلا بالمستقبل فلا يجوز أن يكون بمعنى أرادت " لو يضلونكم " كما يجوز ودت
" لو يضلونكم "، لان الإرادة تجري مجرى الاستدعاء إلى الفعل أو مجرى العلة
494

في ترتيب الفعل، فأما التمني، فهو تقدير شئ في النفس يستمتع بتقريره. والفرق
بين ود لو يضله، وبين ود أن يضله: أن (أن) للاستقبال وليس كذلك (لو)
وقوله: (لو يضلونكم) فالاضلال: الاهلاك بالدخول في الضلال. وأصل الضلال
الهلاك من قوله: " أئذا ضللنا في الأرض " (1) أي هلكنا.
المعنى:
وقوله: (وما يضلون إلا أنفسهم) قيل فيه قولان:
أحدهما - أن المؤمنين لا يقبلون ما يدعونهم إليه من ترك الاسلام إلى غيره
من الأديان فيحصل عليهم حينئذ الاثم والوبال، والاستدعاء إلى الضلال.
والثاني - " وما يضلون إلا أنفسهم " بفعل الضلال كما يقال ما أهلك إلا
نفسه أي لا يعتد بهلاك غيره في عظم هلاكه.
اللغة:
والفرق بين أضله عن الطريق وبين أخرجه عن الطريق: أن أضله عنه يكون
بالاستدعاء إلى غيره دون فعل الضلال. وأخرجه عنه قد يكون بفعل الخروج منه.
والفرق بين الاضلال والاستدعاء إلى الضلال أن الاضلال لا يكون إلا إذا
قبل المدعو، فأما الاستدعاء إلى الضلال، فيكون، قبل المدعو أم لم يقبل. وحقيقة
الاضلال: الدعاء إلى الضلال الذي يقبله المدعو. وقال بعضهم: إنه لا يصح إضلال
أحد بغيره. وإنما يقال ذلك على وجه المجاز ذهب إلى أنه يفعل فعل الضلال في
غيره، لأنه لا يوصف بأنه مضل لغيره إلا إذا أضل المدعو باغوائه. قال الرماني:
وهذا غير صحيح، لأنه يذم بالاستدعاء إلى الضلال الذي يقبله المدعو أكثر مما
يذم بالاستدعاء إلى الضلال الذي لا يقبله المدعو، فلذلك فرق بين الاستدعاءين
فوصف أحدهما بالاضلال ولم يوصف الاخر.

(1) سورة ألم السجدة آية: 10.
495

قوله تعالى:
(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون)
(70) آية واحدة بلا خلاف.
اللغة:
قوله: " يا أهل " نصب، لأنه منادى مضاف. وقوله: " لم " أصله لما،
لأنها (ما) التي للاستفهام دخلت عليها اللام وإنما حذفت لاتصالها بحرف الإضافة
مع وقوعها ظرفا تدل عليها الفتحة. وكذلك قياسها مع سائر حروف الإضافة
مثل " فيم تبشرون " (1) " وعم يتساءلون " (2) وإنما حذفت الألف من
(ما) في الاستفهام، ولم تحذف من (ما) في الصلات لان الظرف أقوى على
التغيير من وسط الاسم كما يقوى على التغيير بالاعراب، والتنوين. والألف
في الصلة بمنزلة حرف في وسط الاسم، لأنه لا يتم إلا بصلته، وليس كذلك
الاستفهام، لان الألف فيه منتهى الاسم، و (لم) أصلها (لما) وهي مخالفة
عند البصريين ل‍ (كم) على ما قاله الكسائي أن أصلها كما، لان (كم) مخالفة
(لما) في اللفظ، والمعنى: أما في اللفظ، فلانه كان يجب أن تبقى الفتحة لتدل
على الألف، كما بقيت في (لم) ونحوه، والامر بخلافه. وأما في المعنى، فلان
(كم) سؤال عن العدد، و (ما) سؤال عن الجنس، فليست منها في شئ، ولا
لكاف التشبيه في (كم) معنى، ويلزمه في متى أن تكون أصلها (ما) إلا أنهم
زادوا التاء، لأنه تغيير من غير دليل، فإذا لم يمنع في أحدهما لم يمنع في الاخر.
وإنما بني على نظيره في حذف الألف، فلذلك يلزمه أن يبنى على نظيره في زيادة التاء
قبل الألف، نحو (رهبوتى خير من رحمونى) قال الزجاج: قول الكسائي في هذا
لا يعرج عليه.

(1) سورة الحجر آية: 54.
(2) سورة النبأ آية: 1.
496

المعنى:
وقوله: (لم تكفرون بآيات الله) معناه لم تجحدون آيات الله. " وأنتم
تشهدون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة
بها في قول قتادة والربيع والسدي.
والثاني - وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها. والشهادة
الخبر بالشئ عن مشاهدة: إما للخبر به، وإما لما يظهر به ظهوره بالمشاهدة. فإذا
شهد بالاقرار، فهو مشاهدة المخبر به، وإذا شهد بالملك، فهو يظهر به ظهوره
بالمشاهدة. وإنما قيل: شهد بالباطل، لأنه يخبر عن مشاهدة في دعواه. وقوله:
(وأنتم تشهدون) فيه حذف، وتقديره " وأنتم تشهدون " ما عليكم فيه الحجة
فحذف للايجاز مع الاستغناء عنه بالتوبيخ الذي تضمنه الكلام. والحجة في ذلك
من وجهين:
أحدهما - الاقرار بما فيه من البشارة من الكتاب. والثاني - الاقرار بمثله
من الآيات.
قوله تعالى:
(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق
وأنتم تعلمون) (71) آية بلا خلاف.
المعنى:
قيل في معنى قوله: " لم تلبسون الحق بالباطل " ثلاثة أقوال:
أحدها - بتحريف التوراة والإنجيل في قول الحسن وابن زيد.
الثاني - قال ابن عباس، وقتادة: باظهار الاسلام، وإبطان النفاق، وفي
قلوبهم من اليهودية والنصرانية مأمنا، لأنهم يداعوا إلى اظهار الاسلام في صدر
497

النهار والرجوع عنه في آخره لتشكيك الناس فيه.
الثالث - بالايمان بموسى، وعيسى، والكفر بمحمد صلى الله عليه وآله.
والحق الذي كتموه - في قول الحسن، وغيره من المفسرين -: هو
ما وجدوه من صفة النبي صلى الله عليه وآله والبشارة به في كتبهم على وجه العناد من علمائهم.
وقوله: (وأنتم تعلمون) فيه حذف وتقديره وأنتم تعلمون الحق، لان التقريع
قد دل على أنهم كتموا الحق وهم يعلمون أنه حق. ولو كتموه وهم لا يعلمون
أنه حق لم يلائم معنى التقريع الذي دل على أنهم كتموا الحق وهم يعلمون أنه حق
ولم يلائم معنى التقريع الذي دل عليه الكلام. وقيل أيضا: وأنتم تعلمون الأمور
التي يصح بها التكليف. والأول أصح، لما بيناه من الذم على الكتمان.
فان قيل: إذا كانوا يعلمون الحق في الدين، فقد صح كونهم معاندين
فلم ينكر مذهب أصحاب المعارف الذين يقولون أن كل كافر معاند؟ قلنا: هذا
في قوم مخصوصين يجوز على مثلهم الكتمان، فأما الخلق الكثير، فلا يصح ذلك
منهم، كما يجوز الكتمان على القليل، ولا يجوز على الكثير فيما طريقه الاخبار.
على أن في الآية ما يدل على فساد قول أصحاب المعارف. وهو الاخبار بأنهم
كتموا الحق الذي علموا، فلو اشترك الناس فيه، لما صح الكتمان كما لا يصح في ما
يعلمونه من المشاهدات والضروريات، لاشتراكهم في العلم به. وقوله: (وتكتمون
الحق) رفع، لأنه معطوف على قوله: " تلبسون " وكان يجوز النصب، فتقول:
وتكتموا الحق على الصرف، كما لو قلت لم تقوم وتقعد كان جائزا أي لم تجمع الفعلين
وأنت مستغن بأحدهما عن الاخر.
قوله تعالى:
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على
الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) (72) آية.
498

اللغة:
الطائفة الجماعة. وقيل في أصلها قولان:
أحدهما - أنه كالرفقة التي من شأنها أن تطوف البلاد في السفر الذي يقع
عليه الاجتماع. والاخر - أنها جماعة يستوي بها حلقة يطاف حولها. وإنما دخلت
هاء التأنيث فيها لمعنى المضاعفة اللازمة كما دخلت في الجماعة، لان في أصل التأنيث
معنى التضعيف من أجل انه مركب على التذكير.
المعنى:
وفي قوله: " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره "
ثلاثة أقوال:
أولها - أظهروا الايمان لهم في أول النهار وارجعوا عنه في آخره، فإنه
أحرى أن ينقلبوا عن دينهم.
الثاني - آمنوا بصلاتهم إلى بيت المقدس في أول النهار، واكفروا بصلاتهم
إلى الكعبة في آخره ليرجعوا بذلك عن دينهم.
الثالث - أظهروا الايمان في صدر النهار لما سلف لكم من الاقرار بصفة
محمد صلى الله عليه وآله، ثم ارجعوا في آخره لتوهموهم أنه كان وقع عليكم غلط في صفته.
والوجه الأول قول أكثر أهل العلم. ووجه النهار هو أوله عند جميع المفسرين،
كقتادة، والربيع، ومجاهد. وإنما سمي أول النهار بأنه وجهه لاحد أمرين:
أحدهما - لأنه أول ما يواجه منه كما يقال، لأول الثوب وجه الثوب. الثاني -
لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه قال ربيع ابن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك * فليأت نسوتنا بوجه نهار (1)

(1) اللسان (وجه) والأغاني 16: 27، ومجاز القرآن 1: 97، وحماسة أبي تمام
3: 26 وخزانة الأدب 3: 538 من أبيات قالها لما قتل حميمه مالك بن زهير، وقد استعد
لطلب ثاره وبعده:
يجد النساء حوسرا يندبنه * يبكين قبل تبلج الأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترا * فاليوم حين برزن للنظار
بخمشن حرات الوجوه على امرئ * سهل الخليقة طيب الاخبار
499

وقيل في معنى البيت: انه كان من عادتهم أن لا تنوح نساؤهم على قتلاهم
إلا بعد أن يؤخذ بثاره، فأراد الشاعر أن يبين أنهم أخذوا بثار مالك بأن النساء
ينحن عليه. ولذلك قال في البيت الذي بعده:
يجد النساء حواسرا يندبنه
وقوله: (لعلهم يرجعون) فيه حذف وتقديره: لعلهم يرجعون عن
دينهم في قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.
قوله تعالى:
" ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله
أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن
الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " (73) آية.
المعنى، والاعراب:
قال الحسن: القائلين " لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " هم يهود خيبر ليهود
المدينة. وقال قتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد: هم بعض اليهود لبعض.
وقيل في معنى الآية ستة أقوال:
أحدها - قال الحسن، ومجاهد: اعرض بقوله: " قل إن الهدى هدى الله "
وتقديره: " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " ولا تؤمنوا " أن يؤتى أحد مثل
ما أوتيتم " ولا تؤمنوا " أن يحاجوكم عند ربكم " لأنه لا حجة لهم. وقال أبو علي
الفارسي. وتقديره ولا تصدقوا ب‍ " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " " إلا لمن
تبع دينكم ".
500

الثاني - قال السدي، وابن جريج: هو على الاتصال بالهدى دون الاعتراض،
والمعنى " قل إن الهدى هدى الله أن " لا " يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " أيها
المسلمون، كقوله " يبين الله لكم أن تضلوا " (1) وأن لا " يحاجوكم عند
ربكم " لأنه لا حجة لهم.
الثالث - قال الكسائي، والفراء: " أو يحاجوكم عند ربكم " بمعنى حتى
" يحاجوكم عند ربكم " على التبعيد كما يقال لا تلتقي معه أو تقوم الساعة.
الرابع - قال أبو علي: " قل إن الهدى هدى الله " فلا تجحدوا " أن يؤتى
أحد مثل ما أوتيتم ".
الخامس - قال الزجاج: " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " لئلا تكون
طريقا لعبدة الأوثان إلى تصديقه.
السادس - " أو يحاجوكم عند ربكم " ان اعترفتم به، فيلزمكم العمل به منهم،
لاقراركم بصحته.
وفي دخول اللام في قوله: " إلا لمن " قيل فيه قولان:
أحدهما - أن تكون زائدة كاللام في قوله: " ردف لكم " (2) أي ردفكم
بمعنى لا تصدقوا إلا من تبع دينكم. قال المبرد: إنما يسوغ ذلك على تقدير المصدر
بعد تمام الكلام، فأما قام لزيد بمعنى قام زيد، فلا يجوز، لأنه لا يحمل على التأويل
إلا بعد التمام.
والقول الاخر - لا تعترفوا بالحق " إلا لمن تبع دينكم " فتدخل للتعدية،
وقال أبو علي الفارسي لا يجوز أن يتعلق اللام في قوله: " لمن تبع دينكم "
بقوله: " ولا تؤمنوا "، لأنه قد تعلق به حرف الجر في قوله: " بأن يؤتى "
كما لا يتعلق مفعولان بفعل واحد. فان قيل: لم جاز حذف (لا) من قوله تعالى " أن
يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " على قول من قال ذلك؟ قلنا: الدلالة عليها كالدلالة في

(1) سورة النساء آية: 175.
(2) سورة النمل آية: 72.
501

جواب القسم، نحو والله أقوم أي لا أقوم قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (1)
أي لا أبرح. والدليل عليه في الآية اتصاله بالعرض في اختصاص أهل
الايمان،، فلا يتبعه في المعنى إلا على " أن لا " " يؤتى أحد مثل ما أوتيتم "
وكذلك " يبين الله لكم أن تضلوا " (2) لان البيان لا يكون طريقا إلى الضلال.
وقال المبرد تقديره كراهة " أن تضلوا "، وكراهة " ان يؤتي أحد مثل ما أوتيتم "
فحمله على الأكثر، لان حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أكثر من حذف
(لا). وقوله: (والله واسع عليم) معناه واسع الرحمة عليم بالمصلحة، فمن صلح
له ذلك من غيركم فهو يؤتيه تفضلا عليه.
قوله تعالى:
" يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم " (74) آية.
اللغة:
الاختصاص: انفراد بعض الأشياء بمعنى دون غيره، كالانفراد بالملك أو الفعل
أو العلم أو السبب أو الطلب أو غير ذلك. ويصح الانفراد بالنفس وغير النفس،
وليس كذلك الاختصاص، لأنه نقيض الاشتراك. والانفراد نقيض الازدواج.
والفرق بين الاختصاص، والخاصة: أن الخاصة تحتمل الإضافة وغير الإضافة،
لأنها نقيض العامة، فأما الاختصاص، فلا يكون إلا على الإضافة، لأنه اختصاص
بكذا دون كذا.
المعنى:
وقيل في معنى الرحمة ههنا قولان:

(1) مر البيت في 2: 227.
(2) سورة النساء آية: 175.
502

أحدهما - قال الحسن، ومجاهد، والربيع، والجبائي: إنها السورة وقال ابن
جريج: هي القرآن، والاسلام. ووجه هذا القول أنه يختصهم بالاسلام بما لهم من
اللطف فيه. وفي الآية دلالة على أن النبوة ليست مستحقة بالافعال، لأنها لو
كانت جزاء، لما جاز أن يقول يختص بها من يشاء، كما لا يجوز أن يختص بعقابه
من يشاء من عباده. فان قيل اللطف مستحق، وهو يختص به من يشاء من عباده؟
قلنا: لأنه قد يكون لطفا على وجه الاختصاص دون الاشتراك وليس كذلك
الثواب.
اللغة:
وقوله: (والله ذو الفضل العظيم)، فالفضل الزيادة عن الاحسان وأصله
على الطلاق الزيادة يقال في بدنه فضل أي زيادة. والفاضل: الزائد على غيره في
خصال الخير، فأما التفضل، فزيادة النفع على مقدار الاستحقاق ثم كثر استعماله
حتى صار لكل نفع قصد به فاعله أن ينفع صاحبه.
وقوله تعالى:
" ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك
ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما
ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله
الكذب وهم يعلمون " (75) آية بلا خلاف.
القراءة، والحجة:
قرأ أبو عمرو " يؤده إليك " باسكان الهاء. الباقون باشباعها.
قال الزجاج: هذا غلط من الراوي كما غلط في " بارئكم " (4) باسكان

(1) سورة البقرة آية: 54.
503

الهمزة، وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة فيما رواه الضباط عنه كسيبويه وغيره.
وإنما لم يجز حذف الحركة، كما لم يجز في هذا غلام فاعلم، لأنه لما حذفت الياء
تركت الكسرة لتدل عليها.
المعنى، واللغة:
والقنطار: قد ذكرنا الخلاف في مقداره، فإنه على قول الحسن ألف ومأتا
مثقال. وفي قول أبي نضرة ملا مسك ثور ذهبا. وقيل سبعون ألفا عن مجاهد.
وعن أبي صالح أنه مئة رطل. والفرق بين " تأمنه بقنطار " وتأمنه على قنطار أن
معنى الباء الصاق الأمانة، ومعنى على استعلاء الأمانة، وهما يتعاقبان في هذا
الموضع، لتقارب المعنى، كما يقال: مررت به ومررت عليه. وقوله: (إلا ما دمت
عليه قائما) قيل في معناه قولان:
أحدهما - " إلا ما دمت عليه قائما " بالتقاضي والمطالبة في قول قتادة، ومجاهد
و (الثاني) قال السدي إلا ما دمت عليه قائما بالاجتماع معه، والملازمة. ومعناه
إلا ما دمت عليه قائما على رأسه.
ودمت ودمت لغتان مثل مت ومت لكن من كسر الدال والميم قال في
المستقبل: تدام وتمات، وهي لغة أزد السراة، ومن جاورهم.
وقوله: " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " قيل في معناه
قولان:
أحدهما - قال قتادة والسدي: قالت اليهود ليس علينا فيما أصبنا من أموال
العرب سبيل، لأنهم مشركون. و (الثاني) قال الحسن وابن جريج: لأنهم تحولوا
عن دينهم الذي عاملناهم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. وقوله: (وهم
يعلمون) معناه يعلمون هذا الكذب على الله تعالى، فيقدمون عليه، والحجة
قائمة عليهم فيه. وقال قوم: قوله: " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده
504

إليك " يعني النصارى، لأنهم لا يستحلون أموال من خالفهم، وعنى بقوله:
" ومنهم من إن تأمنه بدينار " اليهود لأنهم يستحلون مال كل من خالفهم في حل السبت.
وعلى هذا يسقط سؤال من يقول أي فائدة في ذكر ذلك، لان من المعلوم في كل
حال من كل أمة أن فيها من يؤدي الأمانة وفيها من لا يؤديها، فلا فائدة في ذلك؟
فان هذا ميز بين الفريقين. ومن قال بالأول يمكنه أن يقول فائدة الآية القطع على
أن فيهم هؤلاء، وهؤلاء وسائر الناس يجوز أن لا يكون فيهم إلا أحد الفريقين،
فلذلك فائدة بينة. ويمكن أيضا أن تكون الفائدة أن هؤلاء لا يؤدون الأمانة
لاستحلالهم ذلك بقوله: " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " وسائر
الفرق وإن كان منهم من لا يؤدي الأمانة، لا نعلم أنه يستحلها وذلك فائدة.
قوله تعالى:
(بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين)
(76) آية.
الهاء في قوله: " بعهده " يحتمل أن تكون عائدة على اسم الله في قوله:
" ويقولون على الله الكذب " ويحتمل أن تكون عائدة على (من) في قوله:
" بلى من أوفى بعهده " لان العهد يضاف إلى الفاعل، والمفعول. تقول هذا
عهد فلان الذي عهد إليه به، وهذا عهد فلان الذي عهده إلى غيره. ووفى وأوفى
لغتان، فأهل الحجاز يقولون أوفيت وأهل نجد يقولون وفيت. وقوله: " بلى "
يحتمل معنيين:
أحدهما - الاضراب عن الأول على وجه الانكار للأول وعلى هذا الوجه
" من أوفى بعهده " تكون مكتفية، نحو قولك: ما قدم فلان، فتقول بلى أي بلى قد
قدم. وقال الزجاج: بلى ههنا وقف تام لأنهم لما قالوا " ليس علينا في الأميين سبيل "
قيل " بلى " أي بلى عليهم سبيل.
والثاني - الاضراب عن الأول والاعتماد على البيان الثاني وعلى هذا الوجه
505

لا تكون مكتفية، نحوان تقول قد قدم زيد، حدسا لغوا من القول، بلى لو كان
متيقنا لعمل على قوله. فكذلك الآية تدل على ما تقدم على ادعائهم خلاف الصواب
في التقوى فقيل: " بلى " للاضراب عن الأول، والاعتماد على البيان الثاني.
والفرق بين بلى ونعم أن بلى جواب النفي، نحو قوله. " ألست بربكم قالوا
بلى " (1) فأما أزيد في الدار فجوابه، نعم، أو، لا. وإنما جاز إمالة بلى
لمشابهتها الاسم من وجهين:
أحدهما - أنه يوقف عليها في الجواب، كما يوقف على الاسم نحو من رأيت
من النساء، فيقول الحبلى، وكذلك إذا قال أليس زيد في الدار قلت بلى. ولأنها
على ثلاثة أحرف وهي أصل العدة التي يكون عليها الاسم ولذلك خالفت (لا) في
الإمالة.
وإنما قال " فان الله يحب المتقين " ولم يقل فان الله يحبه فيرد العامل إلى اللفظ،
لإبانة الصفة التي تجب بها محبة الله وإن كان فيه معنى فان الله يحبهم.
قوله تعالى:
(إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك
لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم
القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) (77) آية واحدة.
النزول:
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال مجاهد، وعامر الشعبي: إنها
نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته. وقال ابن جريج: إنها نزلت في
الأشعث بن قيس وخصم له في أرض قام ليحلف عند رسول الله، فنزلت الآية
فنكل الأشعث، واعترف بالحق، ورد الأرض. وقال عكرمة نزلت في جماعة من

(1) سورة الأعراف آية: 171.
506

اليهود: حي بن أحطب، وكعب بن الأشرف، وأبي رافع، وكنانة بن أبي
الحقيق. وقال الحسن كتبوا كتابا بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا
من أنه ليس علينا في الأميين سبيل
المعنى:
وعهد الله هو ما يلزم الوفاء به. ويستحق بنقضه الوعيد. وهو ما أخذه على
العبد وأوجبه عليه بما جعل في عقله من قبح تركه، وذلك في كل واجب عليه، فإنه
يلزم بنقضه الوعيد إلا أن يتوب أو يجتنب الكبيرة. والعهد: هو العقد الذي
تقدم به إلى العبد بما يجده في عقله من الزجر عن خلاف الحق، والدعاء إلى التمسك
به، والعمل عليه، وإنما وصف ما اشتروه من عرض الدنيا بأنه ثمن قليل مع ما قرن
به الوعيد لامرين:
أحدهما - لأنه قليل في جنب ما يؤدي إليه من العقاب والتنكيل. والثاني -
هو أنه مع كونه قليلا، الاقدام فيه على اليمين مع نقض العهد عظيم. وقوله:
" أولئك لا خلاق لهم " معناه لا نصيب وافر لهم. وقيل في أصل الخلاف قولان:
أحدهما - الخلق: التقدير، فيوافق معناه، لان النصيب: الوافر من الخير
بالتقدير لصاحبه يكون نصيبا له. والاخر - من الخلق، لأنه نصيب مما يوجبه
الخلق الكريم. وقوله: (ولا يكلمهم الله) قيل في معناه قولان:
أحدهما " لا يكلمهم " بما يسرهم بل بما يسوءهم وقت الحساب لهم، لان
الغرض إنما هو الوعيد، فلذلك تبعه معنى لا يكلمهم بما يسر مع أن ظاهر قوله:
" ثم أن علينا حسابهم " (1) أنه يكلمهم بما يسوءهم في محاسبته لهم، هذا
قول أبي علي. الثاني - لا يكلمهم أصلا، وتثبت المحاسبة بكلام الملائكة لهم (ع)
بأمر الله إياهم، فيكون على العادة في احتقار إنسان على أن يكلمه الملك لنقصان
المنزلة. وقوله:

(1) سورة الغاشية آية: 26.
507

(ولا ينظر إليهم) أي لا يرحمهم، كما يقول القائل لغيره: انظر إلي يريد ارحمني
وفي ذلك دلالة على أن النظر مع تعديته بحرف (إلى) لا يفيد الرؤية، لأنه لا يجوز
حملها في الآية على أنه لا يراهم بلا خلاف. وقوله: (ولا يزكيهم) معناه لا يحكم
بزكاتهم دون أن يكون معناه لا يفعل الايمان الذي هو الزكاء لهم، لأنهم في ذلك،
والمؤمنين سواء، فلو أوجب ما زعمت المجبرة، لكان لا يزكيهم، ولا يزكي المؤمنين
أيضا في الآخرة وذلك باطل.
قوله تعالى:
" وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من
الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو
من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " (78) آية.
اللغة، والمعنى، والاعراب:
" وان منهم " الكناية بالهاء والميم راجعة على أهل الكتاب في قوله: " من
أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار " في قول جميع المفسرين: الحسن وغيره.
وقوله: " يلوون ألسنتهم " قال مجاهد، وقتادة، وابن جريج، والربيع: معناه
يحرفونه بالتغيير والتبديل. وأصل اللي: الفتل من قولك لويت يده إذا فتلتها
قال الشاعر:
لوى يده الله الذي هو غالبه (1)
ومنه لويت العمود إذا ثنيته وقال الآخر:

(1) قائله فرعان بن الأعرف السعدي التميمي، في ولده منازل يدعو عليه. لان منازل
ضرب والده عندما تزوج على أمه. وصدره:
نحون مالي ظالما ولوى يدي!
وهو من أبيات يقولها في ابنه منازل لان منازل عق أباه وهو فرعان وضربه لأنه تزوج
على أمه امرأة شابة،؟ لامه ثم استاق مال أبيه واعتزل مع أمه فقال فيه الأبيات.
508

فلو كان في ليلي سدى من خصومة * للويت أعناق الخصوم الملاويا (1)
ومنه لويت الغريم ليا وليانا إذا مطلته حقه قال الشاعر:
تطيلين لياني وأنت ملية * وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا
فقيل لتحريف الكلام بقلبه عن وجهه: لي اللسان به، لأنه فتله عن
جهته. وقوله: (لفريقا) نصب بأنه اسم (ان) واللام لام التأكيد ويجوز
دخولها على اسم (ان) إذا كان مؤخرا، فان قدم لم يجز دخولها عليه، لا تقول:
ان لزيدا في الدار. وإنما امتنع ذلك لئلا يجتمع حرفا التأكيد، لان (ان) للتأكيد
واللام للتأكيد أيضا فلم يجز الجمع بينهما لئلا يتوهم اختلاف المعنى، كما لم يجز دخول
التعريف على التعريف، والتأنيث على التأنيث، فأما قولهم: جاءني القوم كلهم
أجمعون، فكل تأكيد للقوم وأجمعون تأكيد لكل. وقوله: (لتسحبوه من
الكتاب) معناه لتظنوه. والفرق بين حسبت وزعمت: أن زعمت يحتمل أن يكون
يقينا أو ظنا، وحسبت لا يحتمل اليقين أصلا. وقوله: (ألسنتهم) جمع لسان
على التذكير كحمار وأحمرة. ويقال ألسن على التأنيث كعناق وأعنق.
المعنى:
وقوله: " وما هو من عند الله " دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله
بخلاف ما تقوله المجبرة. ولا من فعله، لأنها لو كانت من فعله، لكانت من
عنده، وليس لهم أن يقولوا إنها من عنده خلقا وفعلا، وليست من عنده انزالا
ولا أمرا، وذلك أنها لو كانت من عنده فعلا أو خلقا، لكانت من عنده على
آكد الوجوه فلم يجز إطلاق النفي بأنها ليست من عند الله. وكما لا يجوز أن تكون
من عند الله من وجه من الوجوه، لاطلاق النفي بأنه ليس من عند الله، فوجب
العموم فيها باطلاق النفي.

(1) قائله مجنون بني عامر، ولم نجده في ديوانه، وهو في اللسان (شدا)، (شذا)،
(لوى) والأغاني 2. 23. وغيرها.
509

فان قيل: أليس الايمان عندكم من عنده، ومع ذلك ليس من عنده من كل
الوجوه، فهلا جاز مثل ذلك في تأويل الآية؟ قيل: لا يجوز ذلك، لأن اطلاق
النفي يوجب العموم، وليس كذلك اطلاق الاثبات ألا ترى أنك تقول: ما عندي
طعام، فإنما تنفي القليل، والكثير، وليس كذلك إذا قلت عندي طعام، لأنه
لا يجب أن يكون عندك جميع الطعام فبان الفرق بين النفي والاثبات.
قوله تعالى:
(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة
ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا
ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) (79)
آية واحدة.
القراءة والنزول:
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو " تعلمون " مخففا الباقون بالتشديد.
روي عن ابن عباس أنه قال: سبب نزول هذه الآية أن قوما من اليهود قالوا
للنبي صلى الله عليه وآله أتدعونا إلى عبادتك كما دعا المسيح النصارى فنزلت الآية.
اللغة، والمعنى:
وقوله: (لبشر) فإنه يقع على القليل والكثير وهو بمنزلة المصدر مثل الخلق
وغيره، تقول: هذا بشر وهؤلاء بشر كما تقول: هذا خلق وهؤلاء خلق. وإنما وقع
المصدر على القليل، والكثير، لأنه جنس الفعل كما وجب في أسماء الأجناس كالماء
والتراب ونحوه وقوله: " أن يؤتيه الله الكتاب " معناه أعطاه " الكتاب، والحكم
والنبوة "، أن " يقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله ولكن " يقول لهم:
510

" كونوا ربانيين ". وحذف يقول لدلالة الكلام عليه. ومعناه في قول الحسن:
علماء فقهاء. وقالوا سعيد بن جبير: حكماء أتقياء. وقال ابن أبي رزين: حكماء
علماء. وقال الزجاج: معناه معلمي الناس. وقال غيره: مدبري أمر الناس في الولاية
بالاصلاح.
اللغة:
وفي أصل رباني قولان:
أحدهما - الربان وهو الذي يرب أمر الناس بتدبيره له وإصلاحه إياه، يقال
رب أمره يربه ربابة، وهو ربان: إذا دبره، وأصلحه، ونظيره نعس ينعس، فهو
نعسان. وأكثر ما يجئ فعلان من فعل يفعل، نحو عطش يعطش، فهو عطشان
فيكون العالم ربانيا، لأنه بالعلم يدبر الامر ويصلحه الثاني - إنه مضاف إلى علم
الرب تعالى، وهو على الدين الذي أمر به إلا أنه غير في الإضافة، ليدل على هذا
المعنى، كما قيل: بحراني، وكما قيل للعظيم الرقبة: رقباني، وللعظيم اللحية: لحياني.
وكما قيل لصاحب القصب: قصباني، فكذلك صاحب علم الدين الذي أمر به
الرب رباني.
الحجة، والمعنى:
ومن قرأ بالتخفيف أراد بما كنتم تعلمونه أنتم. ومن قرأ بالتشديد أراد
تعلمونه، لسواكم. وقوله: " وبما كنتم تدرسون " يقوي قراءة من قرأبا بالتخفيف.
والتشديد أكثر فائدة، لأنه يفيد أنهم علماء، وأنهم يعلمون غيرهم. والتخفيف
لا يفيد أكثر من كونهم عالمين. وإنما دخلت الباء في قوله: " بما كنتم تعلمون "
لاحد ثلاثة أشياء:
أحدها - كونوا معلمي الناس بعلمكم، كما تقول: انفعوهم بما لكم.
الثاني - كونوا ممن يستحق أن يطلق عليه صفة عالم بعلمه على جهة المدح له
511

باخلاصه مما يحبطه.
الثالث - كونوا ربانيين في علمكم ودراستكم ووقعت الباء في موضع في.
قوله تعالى:
(ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم
بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) (80) آية.
القراءة، والحجة:
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر " ولا يأمركم " بنصب الراء. الباقون برفعها
فمن نصب عطف على ما عملت فيه (أن) على تقدير " ما كان لبشر أن يؤتيه الله "
كذا " ولا يأمركم " بكذا ومن رفع استأنف الكلام، لأنه بعد انقضاء الآية،
وتمامها.
المعنى:
وفي الآية دلالة على أن الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم ما ذكره دون أن
يكون ذلك اخبارا عن أنه لا يقع منهم، لأنها خرجت مخرج التنزيه للنبي عن ذلك
كما قال: " ما كان لله أن يتخذ من ولد " (1) ومعناه لا يجوز ذلك عليه،
وكذلك قوله: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " (2) يدل على أن
ذلك غير جائز عليه، ولو جاز أن يحمل على نفي الوقوع دون الامتناع، لجاز أن
يحمل على التحريم دون الانتفاء، لان اللفظ يصلح له، لولا ما قارنه من ظاهر التعظيم
للأنبياء، والتنزيه لهم عن الدعاء إلى الفساد أو اعتقاد الضلال، ويجب حمل الكلام
على ظاهر الحال إلا أن يكون هناك ما يقتضي صرفه عن ظاهره، على أنه لو حمل
على النفي لما كان فيه تكذيب للمخالف. والآية خرجت مخرج التكذيب لهم في

(1) سورة مريم آية: 35.
(2) سورة المؤمنون آية: 92.
512

دعواهم أن المسيح أمرهم بعبادته.
والألف في قوله: " أيأمركم " ألف انكار وأصلها الاستفهام. وإنما
استعملت في الانكار، لأنه مما لو أقر به المخاطب به، لظهرت صحته وبان
سقوطه، فلذلك جاء الكلام على السؤال، وإن لم يكن الغرض تعرف الجواب.
وإنما لم تجز العبادة إلا لله تعالى، لأنها تستحق بأصول النعم من خلق القدرة،
والحياة، والعقل، والشهوة، وغير ذلك مما لا يقدر عليه سواه. وليس في الآية
ما يدل على أن في أفعال الجوارح كفرا، لان قوله: " أيأمركم بالكفر "
معناه الامر باعتقاد أن الملائكة والنبيين أرباب، وذلك كفر لا محالة. ولم يجر في
الآية، لتوجيه العبادة إليهم ذكر، فأما من عند غير الله فانا نقطع على أن فيه
كفرا هو الجحد بالقلب، لان نفس هذا الفعل كفر، فسقطت شبهة المخالف.
قوله تعالى:
(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة
ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم
وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من
الشاهدين) (81).
القراءة، والمعنى:
قرأ نافع " لما آتيناكم " على الجمع. الباقون على التوحيد بالتاء. وقرأ
حمزة " لما " بكسر اللام. الباقون بفتحها. التقدير اذكروا " إذ أخذ الله ميثاق
النبيين " لان (إذ) لما مضى ومعنى أخذ الميثاق من النبيين بنصرة من لم يلقوه
ولم يدركوا زمانه هو أنهم ينصرونه بتصديقه عند قومهم، ويأمرونهم بالاقرار به،
كما قيل: إنما أخذ الله ميثاق النبيين الماضين بتصديق محمد صلى الله عليه وآله، هذا قول علي (ع)
513

وعبد الله بن عباس (ره)، وقتادة والسدي، وقال طاوس: أخذ الميثاق الأول
من الأنبياء لتؤمنن بالاخر. وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال تقديره: وإذ
أخذ الله ميثاق أمم النبيين بتصديق كل أمة نبيها، والعمل بما جاءهم به، وإنهم خالفوهم
فيما بعد، وما و؟ به وتركوا كثيرا من شريعته، وحرفوا كثيرا منه.
الاعراب، والحجة، والمعنى:
وقوله: (لما آتيتكم من كتاب) قيل في معنى (ما) في لما وجهان:
أحدهما - أنها بمعنى الذي وتقديره الذي آتيتكموه من كتاب، لتفعلن لأجله
كذا. الثاني - أنها بمعنى الجزاء، وتقديره، لان آتيكم شيئا " من كتاب،
وحكمة ثم جاءكم رسول "، " لتؤمنن به "، لأجله. وتقديره أي شئ آتيتكم. ومهما
آتيتكم. ويكفي جواب القسم من جواب الجزاء، كقوله: " لئن أشركت
ليحبطن عملك " (1) وفي معنى (من) قولان:
أحدهما - أنها للتبيين ل‍ (ما) كقولك ما عندك من ورق وعين.
الثاني - أن تكون زائدة، وتقديره الذي آتيتكم: كتاب وحكمة، فيكون
في موضع خبر (ما)، وأنكر هذا القول أكثر النحويين، لان (من) لا تزاد
إلا في غير الواجب من نحو النفي والاستفهام، والجزاء. والأول أصح، لأنه
لا يجوز أن يحكم بزيادة حرف أو لفظ مع إمكان حمله على فائدة. واللام في قوله:
" لما " لام الابتداء. واللام في قوله: " لتؤمنن به " لام القسم، كما تقول
لعبد الله: والله لتأتينه. وقال قوم: اللام الأول خلف من القسم يجاب بجوابه،
نحو لمن قدم ما أحسن، ولمن أتاك لاتيته، وأنكر هذا القائل أن تكون الثانية
تأكيدا للأولى، لوقوع (ما) و (لا) في جوابها، كما تقع في جواب القسم.
والقول الأول أصح، لان فيه افصاحا بالقسم، نحو لزيد والله ما ضربته والقول

(1) سورة الزمر آية: 65.
514

الثاني - صواب على تقدير آخر، وأن يكون اللام خلفا من القسم، كافيا منه،
فلا يحتاج إلى ذكره معه ومن ذكره معه لم يجعله خلفا منه، لأنه أضعف منه،
والخلف أقوى من الدال الذي ليس بخلف، لأنه بمنزلة الأصل الموضوع للمعنى
يفهم به من غير واسطة. ومن كسر اللام في قوله: " لما " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون على التقديم والتأخير. والثاني - بمعنى أخذ الله ميثاقهم
لذلك. وقال بعضهم: القراءة بالكسر لا تجوز، لأنه ليس كل شئ أوتي الكتاب.
وهذا غلط من وجهين:
أحدهما - أنه أوتي الكتاب لعلمه به مهتديا بما فيه، وان لم ينزل عليه.
والاخر - أنه يجوز ذلك على التغليب بالذكر في الجملة، لأنه بمنزلة من أوتي الكتاب
بما أوتي من الحكم والنبوة. فان قيل لم لا يجوز أن يكون (لما) آتيتكم من
كتاب وحكمة)، بمعنى لتبلغن ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم يحذف؟ قيل لأنه لا يجوز
الحذف في الكلام من غير دليل ينبئ عن المراد. ومن زعم أن الدليل على حذف الفعل
لام القسم، فقد غلط، لأنها لام الابتداء التي تدخل على الأسماء، نحو " لمن
تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين " (1).
المعنى واللغة:
وقيل في معنى قوله: " وأخذتم على ذلكم إصري " قولان:
أحدهما - وقبلتم على ذلك عهدي. والثاني - " وأخذتم على ذلكم إصري "
من المتبعين لكم كما يقال: أخذت بيعتي أي قبلتها، وأخذتها على غيرك بمعنى
عقدتها على غيرك. والإصر العقد، وجمعه اصار وأصله العقد ومنه المأصر، لأنه
عقد يحبس به عن النفوذ إلا باذن. ومنه الإصر الثقل، لأنه عقد يثقل القيام
به. ومنه قولهم مالك اصرة تأصرني عليك أي عاطفة تعطفني عليك من عقد جوار

(1) سورة الأعراف آية: 17.
515

أو نحوه. وقوله: (فاشهدوا) معناه فاشهدوا على أممكم بذلك " وأنا معكم من
الشاهدين " عليكم، وعليهم روي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام.
قوله تعالى:
(فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (82) آية.
المعنى:
التولي عن الايمان بالنبي صلى الله عليه وآله كفر - بلا خلاف - وإنما قال " فأولئك
هم الفاسقون " ولم يقل الكافرون، لان تقدير الكلام فأولئك هم الفاسقون في
كفرهم أي المتمردون فيه بخروجهم إلى الافحش منه، وذلك أن أصل الفسق
الخروج عن أمر الله إلى حال توبقه، فلذلك قيل للخارج عن أمر الله إلى أفحش
منازل الكفر، فاسق.
الاعراب:
وموضع (هم) من الاعراب يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون رفعا بأنه مبتدأ ثان والفاسقون خبره. والجملة خبر
أولئك. والاخر - أنه لا موضع له، لأنه فصل جاء ليؤذن أن الخبر معرفة أو
ما قارب المعرفة ويسمي الكوفيون ذلك عمادا. وقوله: (فمن تولى) وإن كان
شرطا وجزاء في المستقبل فان الماضي يدخل فيه من وجهين:
أحدهما - أن يكون تقديره فمن يصح أنه تولى، كما قال: " إن كان قميصه
قد من قبل فصدقت " (1) أي إن يصح أن " قميصه قد من قبل فصدقت "
والاخر مساواة الماضي للمستقبل، فيدخل في دلالته. وإنما جاز جواب الجزاء
بالفاء ولم يجز؟ (ثم)، لان الثاني يجب بوجوب الأول بلا فصل، فلذلك جاء

(1) سورة يوسف آية: 26
516

بالفاء دون (ثم)، لأنها للتراخي بين الشيئين، وذلك نحو قولك إن تأتني، فلك
درهم، فوجوب الدرهم بالاتيان عقيبه بلا فصل. وإنما جاز وقوع الماضي موقع
المستقبل في الجزاء ولم يجز في قام زيدا غدا، لان حرف الجزاء، لما كان يعمل في
الفعل قوي على نقله من الماضي إلى الاستقبال، وليس كذلك (غد) وما أشبهه
مما يدل على الاستقبال، لأنه نظير الفعل في الدلالة من غير عمل يوجب القوة،
فلذلك جرى على المناقضة.
قوله تعالى:
(أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السماوات والأرض
طوعا وكرها وإليه ترجعون) (83). آية.
القراءة، والحجة، والاعراب:
قرأ أهل البصرة، وحفص يبغون بالياء. الباقون بالتاء. وقرأ يعقوب
وحفص وإليه يرجعون بالياء. وكسر يعقوب الجيم، وفتح الياء. فمن قرأ بالياء
أراد الاخبار عن اليهود وغيرهم من المشركين والتاء لجميع المكلفين. ومن قرأ بالتاء
فيهما، فعلى الخطاب، فيهما. قوله: " أفغير دين الله " عطف جملة على جملة مثلها
لو قيل أو غير دين الله يبغون إلا أن الفاء رتبت. كأنه قيل أبعد تلك الآيات غير
دين الله تبغون أي تطلبون.
المعنى:
وقوله: (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) قيل في معناه
ستة أقوال:
أولها - قال ابن عباس: أسلم من في السماوات والأرض بالحالة الناطقة عنه
الدالة عليه عند أخذ الميثاق عليهم.
517

الثاني - قول أبي العالية، ومجاهد: ان معناه " أسلم " أي بالاقرار بالعبودية
وإن كان فيهم من أشرك في العبادة، كقوله: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن
الله " (1) وقوله: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " (2)
ومعناه ما ركب الله في عقول الخلائق من الدعاء إلى الاقرار بالربوبية ليتنبهوا
على ما فيه من الدلالة.
الثالث - قال الحسن: " وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها "
قال: أكره أقوام على الاسلام وجاء أقوام طائعين.
الرابع - قال قتادة: أسلم المؤمن طوعا، والكافر كرها عند موته، كما قال:
" فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " (3) واختاره البلخي. ومعناه التخويف
لهم من التأخر عما هذه سبيله.
الخامس - قال عامر، والشعبي والزجاج، والجبائي أن معنان: استسلم
بالانقياد والذلة، كما قال تعالى: " قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا
أسلمنا " (4) أي استسلمنا، ومعناه الاحتجاج به.
وسادسها - قال الفراء والأزهري إنما قال " طوعا وكرها " لان فيهم من
أسلم ابتداء رغبة في الاسلام، وفيهم من أسلم بعد أن قوتل وحورب، فسمي ذلك
كرها مجازا وإن كان الاسلام وقع عنده طوعا.
وقوله: " طوعا وكرها " نصب على أنه مصدر، وقع موقع الحال، وتقديره
طائعا أو كارها، كما تقول أتاني ركضا أي راكضا. ولا يجوز أن تقول أتاني
كلاما أي متكلما، لان الكلام ليس بضرب من الاتيان والركض ضرب منه.
قوله: " إليه ترجعون " معنا تردون إليه للجزاء فإياكم ومخالفة الاسلام
فيجازيكم بالعقاب. قال الله تعالى: " ومن يتبع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه
وهو في الآخرة من الخاسرين " (5).

(1) سورة الزخرف آية: 87.
(2) سورة لقمان آية: 25.
(3) سورة المؤمن آية: 85.
(4) سورة الحجرات آية: 14.
(5) سورة آل عمران آية: 85.
518

النزول:
وروي عن أبي عبد الله (ع) أنها نزلت في الحارث بن سويد بن الصامت.
وكان ارتد بعد قتله المحذر بن ديار البلوي غدرا في الاسلام، وهرب وحديثه
مشروح ثم ندم، فكاتب قومه سلوا رسول الله صلى الله عليه وآله هل لي توبة، فنزلت الآيات
إلى قوله: " إلا الذين تابوا "، فرجع فأسلم.
قوله تعالى:
(قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون
من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) (84) آية.
المعنى:
قيل في تأويل هذه الآية قولان:
أحدهما - أن معناها الانكار على الكفار ما ذهبوا إليه من الايمان ببعض
النبيين دون بعض، فأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله، والمؤمنين أن يقولوا: إنا نؤمن
بجميع النبيين، ولا نفرق بين أحد منهم. الثاني - أن معناها موافقة ما تقدم الوعد
به من إيمان النبي الأمي بجميع من تقدم من النبيين على التفصيل. وقال له في أول
الآية (قل) خطابا للنبي صلى الله عليه وآله فجرى الكلام على التوحيد، وما بعده على الجمع.
وقيل في ذلك قولان:
أحدهما أن المتكلم قد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع للتفخيم كما قال تعالى: " ولقد
خلقناكم ثم صورنا كم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم " (1). والثاني - أنه أراد
دخول الأمة في الخطاب الأول، والامر بالاقرار. ويجوز أن يقال: في الواحد

(1) سورة الأعراف آية: 10.
519

المتكلم، فعلنا ولا يجوز للواحد المخاطب فعلتم. والفرق بينهما: أن الكلام بالجملة
الواحدة يصح بجماعة مخاطبين، ولا يصح الكلام بالجملة الواحدة بجماعة متكلمين.
فلذلك جاز في فعلنا في الواحد للتفخيم، لأنه لا يصح أن يكون خطابا للجماعة
فلم يصرف عنهم. بغير قرينة لما يدخله من الالباس في مفهوم العبارة. وقوله:
" وما أنزل علينا " في الاخبار عن المسلمين إنما جاز ذلك، وإن كان قد أنزل على
النبي صلى الله عليه وآله، لان التقدير أنزل علينا على لسان نبينا كما تقول: أمرنا به ونهينا عنه
- على لسان نبينا -، ومثل ذلك ما قاله في سورة البقرة من قوله: " قولوا آمنا
بالله وما أنزل علينا " (1) وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون ذلك إلا إخبارا عن
النبي صلى الله عليه وآله الذي أنزل عليه، وهذا غلط، لان الآية الأخرى تشهد بخلافه. فان
قيل: ما معنى قوله: " ونحن له مسلمون " بعد الاقرار بالايمان على التفصيل؟
قيل: معناه ونحن له مستسلمون بالطاعة في جميع ما أمر به، ودعا إليه. ولان
أهل الملل المخالفة، تعترف بصفة مؤمن، وينتفي من صفة مسلم.
قوله تعالى:
" ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في
الآخرة من الخاسرين " (85) آية واحدة.
اللغة، والنزول، والمعنى:
الابتغاء: الطلب تقول: بغى فلان كذا أي طلبه، ومنه بغى فلان على
فلان: إذا طلب الاستعلاء عليه ظلما ومنه البغي: الفاجرة، لطلبها الزنى. ومنه
ينبغي كذا، لأنه حقيق بالطلب. والاسلام: هو الاستسلام لامر الله بطاعته
فيما دعا إليه، فكل ذلك اسلام، وان اختلفت فيه الشرائع، وتفرقت المذاهب،
لان مبتغيه دينا ناج، ومبتغي غيره دينا هالك. والايمان، والاسلام واحد.

(1) سورة البقرة آية: 136.
520

لان " من يبتغي غير الاسلام دينا " فهو مبطل، كما أن من يبتغي غير الايمان
دينا، فهو مبطل، وذلك كمن يبتغي غير عبادة الاله دينا، فهو كافر، ومن يبتغ
غير عبادة الخالق دينا، فهو كافر. والاله هو الخالق.
وقال عكرمة: إن قوما من اليهود قالوا: نحن المسلمون، فأنزل الله تعالى
" ولله على الناس حج البيت " (1) فأمرهم بالخروج إلى الحج الذي هو من فرض
الاسلام، فقعدوا عنه وبان انسلاخهم من الاسلام، لمخالفتهم له فأنزل الله تعالى
" ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين "
فالخسران ذهاب رأس المال. ويقال: خسر نفسه أي أهلك نفسه. وقيل خسر عمله
أي أبطل عمله بأن أوقعه على وجه يقبح لا يستحق عليه الثواب. وكل واحد منهما
خسر لذهاب رأس المال.
قوله تعالى:
(كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن
الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين
(86) آية.
النزول:
قال الحسن: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون
بالنبي صلى الله عليه وآله قبل مبعثه بما يجدونه في كتبهم من صفاته ودلائله، فلما بعثه الله
جحدوا ذلك، وأنكروه.. وقال مجاهد، والسدي: نزلت في رجل من الأنصار
يقال له الحارث بن سويد ارتد عن الاسلام، ثم تاب، وحسن إسلامه فقبل الله
إسلامه بقوله: " إلا الذين تابوا " فيما بعد تمام الآية. وكذلك رويناه عن
أبي عبد الله (ع) وقيل نزلت في قوم أرادوا من النبي صلى الله عليه وآله أن يحكم لهم بالاسلام،

(1) سورة آل عمران آية: 97.
521

وفي قلوبهم الكفر، فأطلعه الله على أسرارهم وما في ضمائرهم.
اللغة، والمعنى:
وقوله " كيف " أصلها للاستفهام، والمراد بها ههنا إنكار أن تقع هذه الهداية
من الله تعالى. وإنما دخل (كيف) معنى الانكار مع أن أصلها الاستفهام، لان
المسؤول يسأل عن أغراض مختلفة، فقد يسأل للتعجيز عن إقامة البرهان، وقد يسأل
للتوبيخ مما يظهر من معنى الجواب في السؤال، وقد يسأل لما يظهر فيه من
الانكار، فالأصل فيه الاستفهام، لكن من شأن العالم إذا أورد مثل هذا أن يصرف
إلى غير الاستعلام إلا أنه يراد من المسؤول طلب الجواب، فان قيل كيف خص
هؤلاء المذكورون بمجيئ البينات مع أنها قد جاءت كل مكلف للايمان قيل عنه
جوابان:
أحدهما - لان البينات التي جاءتهم هي ما في كتبهم من البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله.
الثاني - للتبعيد من حال الهداية والتفحيش لتجويزها في هذه الفرقة. وقوله:
" والله لا يهدي القوم الظالمين " فالهداية ههنا تحتمل ثلاثة أشياء.
أولها سلوك طريق أهل الحق المهتدين بهم في المدح لهم والثناء عليهم.
الثاني - في اللفظ الذي يصلح به من حسنت نيته. وكان الحق معتمده، وهو
أن يحكم لهم بالهداية.
الثالث - في ايجاب الجواب الذي يستحقه من خلصت طاعته، ولم يحبطهما
بسوء عمله. فان قيل كيف أطلق قوله: " والله لا يهدي القوم الظالمين " مع قوله
" فأما ثمود فهديناهم " قلنا: لأنه لا يستحق اطلاق الصفة بالهداية إلا على جهة
المدحة كقوله أولئك الذين هدى الله. فأما بالتقييد، فيجوز لكل مدلول إلى
طريق الحق اليقين.
وليس في الآية ما يدل على صحة الاحباط، للايمان ولا إحباط المستحق عليه
من الثواب، لأنه لم يجر لذلك ذكر. وقوله: (كفروا بعد ايمانهم) يعني بعد
522

إظهارهم الايمان وشهادتهم أن الرسول حق، وإن كانوا في باطنهم منافقين. وليس
فيها أنهم كانوا في باطنهم مؤمنين مستحقين للثواب، فزال ذلك بالكفر فلا متعلق
بذلك في صحة الاحباط.
قوله تعالى:
(أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين) (87) آية.
إن قيل: إذا كان لعن الملائكة والناس أجمعين تابعا للعن الله، فهلا اقتصر
عليه في الذكر؟ قيل الوجه في ذلك ان لا يوهم أن لعنهم لا يجوز إلا لله عز وجل
كما لا يجوز أن يعاقبهم إلا الله أو من يأمرهم بذلك. وليس في قوله: " والناس
أجمعين " دلالة على أنه يجوز للكافر أن يلعن نفسه، لان لعنه لنفسه دعاء عليها
بالابعاد من رحمة الله. وذلك يوجب رغبته فيما دعا به، ولا يجوز لاحد أن يرغب
في أن يعاقبه الله، لان ذلك ينافي الزجر به والتحذير منه. وأما رغبة المؤمن في
أن يعاقب الله الكافر فجائز حسن، لأنه لا ينافي زجره بل هو أبلغ في زجره،
فان قيل: لم قال: " والناس أجمعين " ومن وافق الكافر في مذهبه لا يرى امنه؟
قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها - إن له أن يلعنه، وإنما لا يفعله لجهله بأنه يستحق اللعن. ويصح
منه معرفة الله، ومعرفة استحقاق اللعن لكل كافر، فحينئذ يعلم أن له أن يلعنه
وإنما لا يصح أن يلعن الكافر مع اعتقاده أنه لا يستحق اللعن، لأنه لو صح ذلك
لأدى إلى أن يصح أن يلعن نفسه لمشاركته له فيما استحق به اللعن. وقد بينا
فساده.
والثاني - أن ذلك في الآخرة، لان بعضهم يلعن بعضا. وقد استقرت
عليهم لعنة الجميع، وإن كانت على التفريق.
والثالث - أن يحمل لفظ الناس على الخصوص، فيحمل على ثلاثة فصاعدا،
523

فلذلك قال: " أجمعين " وكان يجوز أن يرفع " والملائكة والناس أجمعين " لان
الأول تقديره عليهم أن يلعنهم الله، فيحمل الثاني على معنى الأول، كما قال
الشاعر:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا * أو عبد رب أخاعون بن مخراق (1)
والاتباع أجود ليكون الكلام على نسق واحد، وإنما ذكر وعيد الكفار
ههنا مع كونه مذكورا في مواضع كثيرة في القرآن، للتأكيد وتغليظا في الزجر
لأنه لما جرى ذكر الكافر عقب ذلك بلعنه، ووعيده، كما إذا جرى ذكر المؤمن
عقب ذلك بالرحمة ليكون أرغب له في فعل الطاعة والتمسك بالايمان.
قوله تعالى:
(خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون)
(88) آية.
اللغة:
الخلود في اللغة هو طول المكث، ولذلك يقال خلده في السجن وخلد
الكتاب في الديوان. وقيل للاثافي: خوالد ما دامت في موضعها، فإذا زالت
لا تسمى خوالد. والفرق؟ الخلود والدوام: أن الخلود يقتضي (في) كقولك خلد
في الحبس ولا يقتضي ذلك الدوام، ولذلك جاز وصفه تعالى بالدوام دون الخلود.
إلا أن خلود الكفار المراد به التأبيد بلا خلاف بين الأمة.
المعنى:
وقوله: " فيها " الهاء راجعة إلى اللعنة. ومعنى خلودهم فيها استحقاقهم
لها دائما مع ما توجبه من أليم العقاب، فأما من ليس بكافر من فساق أهل الصلاة

(1) مر تخريجه في 1: 207.
524

فلا يتوجه إليه الوعيد بالخلود، لأنه لا يستحق إلا عقابا منقطعا به مع ثبوت
استحقاقه للثواب الدائم، لأنه لو كان كذلك لأدى إلى اجتماع استحقاق الثواب
الدائم، والعقاب الدائم لشخص واحد. والاجماع بخلافه. والاحباط - عندنا -
باطل، فلا يمكن أن يقال يحبط أحدهما الاخر، وإنما حسن العقاب الدائم على
المعاصي المنقطعة، كما حسن الثواب الدائم على الطاعة المنقطعة، فلا يجوز أن يستحق
الدوام على الأصغر، ولا يستحق على الأكثر، فلما كانت نعم الله تعالى أعظم
النعم كانت معاصيه أعظم المعاصي، وكانت طاعته أصغر منها. وأيضا، فإنه يحسن
الذم للدائم على المعاصي المنقطعة فالعقاب يجري مجراه:
اللغة:
وقوله: (لا يخفف عنهم العذاب) فالتخفيف هو تغيير الشئ عن حال
الصعوبة إلى السهولة، وهو تسهيل لما فيه كلفة ومشقة وأصله من خفة الجسم ضد
ثقله. ومنه تخفيف المحنة معناه تسهيلها. وقوله: (ولا هم ينظرون) معناه
لا يمهلون وإنما نفى إنظارهم للإنابة لما علم من حالهم أنهم لا ينيبون كما قال: " ولو
ردوا لعادوا لما نهوا عنه " (1) على أن التبقية ليست واجبة. وإن علم أنه لو
بقاه لتاب وأناب عند أكثر المتكلمين. ومن قال: يجب تبقيته متى علم أنه لو بقاه
لامن، فجوابه هو الأول. وقيل في الفرق بين الانظار والامهال أن الانظار
تأخير العبد لينظر في أمره. والامهال تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عمله.
قوله تعالى:
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور
رحيم) (89) آية.

(1) سورة الأنعام آية: 28.
525

المعنى: إن قيل إذا كانت التوبة من الذنب لا تصلح إلا بعد فعله، فلم قال: " من
بعد ذلك "؟ قيل فائدته أنه يفيد معنى تابوا منه، لان توبتهم من غيره لا تنفع في
التخلص منه، كما لا تنفع التوبة من الكبير في التخلص من الصغير، فأما من قال:
إن التوبة من معصية لا تصح مع الإقامة على معصية أخرى، فإنه يقول ذلك على
وجه التأكيد، فان قيل: إذا كانت التوبة وحدها تسقط العقاب وتحصل الثواب
فلم شرط معها الاصلاح؟ قيل الوجه في ذلك إزالة الابهام لئلا يعتقد، أنه إذا حصل
الايمان، والتوبة من الكفر لا يضر معه شئ من أفعال القبائح، كقوله: " إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " (1) فذكر مع الايمان عمل
الصالحات، لإزالة الايهام بأن من كان مؤمنا في الحكم، لم يضره مع ذلك ما عمله
من المعاصي. وقبول التوبة واجب، لأنها طاعة واستحقاق الثواب بها ثابت عقلا،
فأما سقوط العقاب عندها، فإنما هو تفضل من الله، ولولا أن السمع ورد بذلك
وإلا، فلا دلالة في العقل على ذلك. وقوله: " فان الله غفور رحيم " دخلت؟
لشبهه بالجزاء، إذا كان الكلام قد تضمن معنى إن تابوا " فان الله غفور رحيم "
أي يغفر لهم وليست في موضع خبر الذين، لان الذين في موضع نصب بالاستثناء
من الجملة الأولى التي هي قوله: " أولئك عليهم لعنة الله... " الآية، وذكر
المغفرة في الآية دليل على أن اسقاط العقاب بالتوبة تفضل، لأنه لو كان واجبا لما
استحق بذلك الاثم بأنه غفور، لأنه لا يقال هو غفور إلا فيما له المؤاخذة، فأما
مالا يجوز المؤاخذة به فلا يجوز تعليقه بالمغفرة.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل

(1) سورة حم السجدة آية: 8.
526

توبتهم وأولئك هم الضالون) (90) آية بلا خلاف.
المعنى:
قيل في المعني بهذه الآية أربعة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس هي فرقة ارتدت ثم عزمت على إظهار التوبة على
جهة التورية، فاطلع الله نبيه على ذلك بانزال هذه الآية. وقال أبو العالية لم
تقبل توبتهم من ذنوب أصابوها مع الإقامة على كفرهم. وقال قتادة: هم اليهود
آمنوا بموسى وكفروا بعيسى " ثم ازدادوا كفرا " بمحمد صلى الله عليه وآله " فلن تقبل
توبتهم " عند حضور موتهم. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله
" فلن تقبل توبتهم " التي كانت في حال إيمانهم، فان قيل: لم لم تقبل التوبة من
هذه الفرقة؟ قيل: لأنها كفرت بعد إيمانهم ثم ازدادت كفرا إلى انقضاء أجلها،
فحصلت على ضلالتها، فلم تقبل منها التوبة الأولى في حال كفرها بعد إيمانها، ولا
التوبة الثانية في حال ايجابها. وقيل: إنما لم تقبل توبتهم، لأنهم لم يكونوا فيها
مخلصين بدلالة قوله: " وأولئك هم الضالون ". وقال الطبري: إنه لا يجوز تأويل
من قال لن تقبل توبتهم عند حضور موتهم. قال: لأنه لا خلاف بين الأمة أن
الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين في أن حكمه حكم المسلمين في وجوب الصلاة
عليه ومواريثه و؟ في مقام المسلمين واجراء جميع أحكام الاسلام عليه، ولو كان
إسلامه غير صحيح، لما جاز ذلك. وهذا الذي قاله ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع
أن نتعبد باجراء احكام الاسلام عليه وإن كان اسلامه على وجه من الالجاء
لا يثبت معه استحقاق الثواب عليه، كما أنا تعبدنا باجراء أحكام الاسلام على
المنافقين وإن كانوا كفارا. وإنما لم يجز قبول التوبة في حال الالجاء إليه، لان
فعل الملجأ كفعل المكره في سقوط الحمد والذم. وقد قال الله تعالى: " وليست التوبة
للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان " (1). وقال:

(1) سورة النساء آية: 17.
527

" فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين. فلم يك ينفعهم
إيمانهم لما رأوا بأسنا " (1) فأما إذا عاد في الذنب، فلا يعود إليه العقاب الذي
سقط بالتوبة، لأنه إذا تاب منه صار بمنزلة ما لم يعمله، فلا يجوز عقابه عليه كما
لا يجوز عقابه على ما لم يعمله سواء قلنا أن سقوط العقاب عند التوبة كان تفضلا
أو واجبا. وقد دل السمع على وجوب قبول التوبة وعليه إجماع الأمة. وقال
تعالى: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات " (2) وقال:
" غافر الذنب وقابل التوب " (3) وغير ذلك من الآي.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من
أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما
لهم من ناصرين) (91) آية.
اللغة:
المل ء أصله الملا، وهو تطفيح الاناء. ومنه الملا الاشراف، لأنهم يملأون
العين هيبة وجلالة. ومنه رجل ملئ بالامر، وهو أملا به من غيره. والملا اسم
للمقدار الذي يملا. والملا بفتح العين مصدر ملأت الاناء ملا. ومثله الرعي
بكسر الراء: النبات، وبفتح الراء مصدر رعيته. قال الزجاج: ومن قال: هما
سواء فقد غلط.
الاعراب:
وقوله: (ذهبا) نصب على التمييز. والتمييز على ضربين تمييز المقادير وتمييز
الاعداد وكله مستحق النصب لاشتغال العامل بالإضافة أو ما عاقبها من النون

(1) سورة المؤمن آية: 84 - 85.
(2) سورة الشورى آية: 25.
(3) سورة المؤمن آية: 3.
528

الزائدة، فجرى ذلك مجرى الحال في اشتغال العامل بصاحبها، ومجرى المفعول
في اشتغال العامل عنه بالفاعل. ومثل ذلك، عندي ملء زق عسلا وقدر نحي سمنا.
المعنى:
وقوله: (ولو افتدى به) فالفدية البدل من الشئ في إزالة الأذية. ومنه
قوله: " وفديناه بذبح عظيم " (1) لأنه بدل منه في إزالة الذبح عنه، ومنه
فداء الأسير بغيره، لأنه بدل منه في إزالة القتل والأسر عنه. وقيل في معنى
الافتداء ههنا قولان:
أحدهما - البيان عن أن ما كلفه في الدنيا يسير في جنب ما يبذله في الآخرة
من الفداء الكثير لو وجد إليه السبيل، قال قتادة يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له
أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، لكنت تفتدي به، فيقول: نعم، فيقال
لقد سئلت أيسر من ذلك، فلم تفعل.
والثاني - ما حكاه الزجاج أنه لو افتدى به في دار الدنيا مع الإقامة على
الكفر لم يقبل منه. وقيل في دخول الواو في قوله " ولو افتدى به " قولان قال:
قوم: هي زائدة أجاز ذلك الفراء. والمعنى لو افتدى به. قال الزجاج: وهذا
غلط، لان الكلام يجب حمله على فائدة إذا أمكن، ولا يحمل على الزيادة. والثاني -
أنها دخلت لتفصيل نفي القبول بعد الاجمال، وذلك أن قوله " فلن يقبل من أحدهم
ملء الأرض ذهبا " قدعم وجوه القبول بالنفي ثم أتى بالتفصيل، لئلا يتطرق عليه
سوء التأويل، ولو قيل: بغير واو لم يكن قد عم النفي وجوه القبول، فقد دخلت
الواو لهذه الفائدة من نفي التفصيل بعد الجملة، فأما الواو في قوله " وليكون من
الموقنين " فإنها عاطفة على محذوف في التقدير، والمعنى " وكذلك نري إبراهيم
ملكوت السماوات والأرض " ليعتبر " وليكون من الموقنين " (2).

(1) سورة الصافات آية: 7.
(2) سورة الأنعام آية: 75.
529

قوله تعالى:
(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ
فان الله به عليم) (92) آية واحدة.
المعنى:
قيل في معنى البر قولان:
أحدهما - البر من الله بالثواب في الجنة. الثاني - البر بفعل الخير الذي
يستحقون به الاجر. وقال السدي وعمرو بن ميمون: البر الجنة.
فان قيل: كيف قال " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " والفقير
لا يحب عليه الصدقة وينال الجنة، وان لم ينفق؟ قلنا: الكلام خرج مخرج الحث
على الصدقة إلا أنه على ما يصح ويجوز من إمكان النفقة، فهو مقيد بذلك في الجملة
إلا أنه أطلق الكلام للمبالغة في الترغيب فيه. ويجوز " لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون " في سبل الخير من الصدقة من وجوه الطاعة. وقال الحسن: هو الزكاة
الواجبة وما فرض تعالى في الأموال خاصة. والأولى أن تحمل الآية على الخصوص
بأن يقول: هي متوجهة إلى من يجب عليه إخراج شئ أوجبه الله عليه دون من
لم يجب عليه، ويكون ذلك أيضا مشروطا بأن لا يعفو الله عنه - على مذهبنا في
جواز العفو - أو يقول " لن تنالوا البر " الكامل الواقع على أشرف الوجوه
" حتى تنفقوا مما تحبون ". وقوله: (فان الله به عليم) إنما جاء على جهة جواب
الشرط وإن كان الله يعلمه على كل حال، لامرين:
530

أحدهما - لان فيه معنى الجزاء، فتقديره " وما تنفقوا من شئ فان الله؟
يجازيكم به قل أو كثر، لأنه عليم به لا يخفى عليه شئ منه.
الثاني - فإنه يعلمه الله موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية
أو قبحها.
اللغة:
والفرق بين البر، والخير: أن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى
ذلك، والخير يكون خيرا، وان وقع عن سهو. وضد البر العقوق. وضد الخير
الشر، فبذلك بين الفرق بينهما.
النظم:
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى " فلن
يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " وصل ذلك بقوله " لن تنالوا
البر حتى تنفقوا مما تحبون " لئلا يؤدي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة،
وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.
قوله تعالى:
(كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل
على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن
كنتم صادقين) (93) آية واحدة.
النظم:
وجه اتصال هذه الآية بما تقدم أنه تعالى، لما ذكر الانفاق مما يحب، ومن
جملة ما يحب الطعام، فذكر حكمه، وأنه كان مباحا حلالا " لبني إسرائيل
إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ".
531

النزول، والقصة، والمعنى:
وكان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وآله لحوم
الإبل، فبين الله تعالى أنها كانت محللة، لإبراهيم، وولده إلى أن حرمها إسرائيل
على نفسه، وحاجهم بالتوراة، فلم يجسروا على إحضار التوراة لعلمهم بصدق النبي صلى الله عليه وآله
فيما أخبر أنه فيها.
وكان إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نذر إن برأ من النساء
أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الإبل وألبانها، فلما برأ وفى لله
بنذره. وقال ابن عباس والحسن: إن إسرائيل أخذه وجع العرق الذي يقال له
النساء، فنذر إن شفاه الله يحرم العروق ولحم الإبل (على نفسه)، وهو أحب الطعام إليه.
فان قيل: كيف يجوز للانسان أن يحرم على نفسه شيئا، وهو لا يعلم ماله
فيه من المصلحة مما له فيه المفسدة؟ قلنا: يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك وأعلمه،
وكان الله أذن لإسرائيل في هذا النذر، فلذلك نذر. وفي الناس من استدل بهذه
الآية على أنه يجوز للنبي صلى الله عليه وآله أن يجتهد في الاحكام، لأنه إذا كان أعلم ورأيه
أفضل كان اجتهاده أحق وهذا الذي ذكروه إن جعل دليلا على أنه كان يجوز أن
يتعبد النبي بالاجتهاد، كان صحيحا "، وإن جعل دليلا على أنه كان متعبدا به،
فليس فيه دليل عليه، لأنا قد بينا أن إسرائيل ما حرم ذلك إلا بإذن الله، فمن أين
إن ذلك كان محرما له من طريق الاجتهاد، فأما من امتنع من جواز تعبد النبي صلى الله عليه وآله
بالاجتهاد، بأن ذلك يؤدي إلى جواز مخالفة أمته له إذا اداهم الاجتهاد إلى خلاف
اجتهاده فقد أبعد، لأنه لا يمتنع أن يجتهد النبي صلى الله عليه وآله الاجتهاد إلى خلاف
ما أدى اجتهاد الأمة إليه، فوجب اتباعه ولا يلتفت إلى اجتهاد من يخالفه، كما أن
الأمة يجوز أن تجمع على حد عن اجتهاد، وإن لم يجز مخالفتها فبطل قول الفريقين.
قوله تعالى:
" فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم
532

الظالمون " (94).
اللغة:
الافتراء: اقتراف الكذب وأصله قطع ما يقدر من الادم، يقال فرى الأديم
يفريه فريا: إذا قطعه، فقيل للكذب الفرية، لأنه يقطع به على التقدير من غير
تحقيق.
المعنى:
فان قيل: كيف قال: " افترى على الله الكذب " وعلى للاستعلاء، فما معناها
هاهنا؟ قلنا: معناها إضافته الكذب إليه من جهة أنه أمر بما لم يأمر به الله
فأوجب ما لم يوجبه، وكذب عليه بخلاف كذب له، لان كذب عليه يفيد أنه
كذب فيما يكرهه، وكذب له قد يجوز فيما يريده. فان قيل كيف قيد وعيد المفتري
على الله الكذب ب‍ " من بعد ذلك " وهو يستحق الوعيد بالكذب عليه على كل
حال؟ قلنا: المراد به البيان أنه يلزم من بعد إقامة الحجة على العبد فيه، لأنه لو
كذب على الله (عز وجل) فيما ليس بمحجوج فيه لجرى مجرى كذب الصبي الذي
لا يستحق الوعيد به. وإنما وصف المفتري على الله كذبا بأنه ظالم، من حيث كان
ظالما لنفسه، ولمن استدعى إلى مذهبه فيما يكذب به، لان ذلك الكذب يستحق به
العقاب.
والظلم والجور واحد وإن كان أصلهما مختلفا، لان أصل الظلم النقصان للحق.
والجور العدول عن الحق، ولذلك قيل في ضد الظلم الانصاف. وفي ضد الجور
العدل. والانصاف هو إعطاء الحق على التمام.
قوله تعالى:
(قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
533

المشركين) (95) آية.
المعنى:
معنى قوله: " قل صدق الله " البيان عن أن الخبر بأن " كل الطعام كان
حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " صدق، لان الله تعالى أخبر به.
وقوله: (فاتبعوا) فالاتباع إلحاق الثاني بالأول لما له به من التعلق فالقوة للأول،
والثاني يستمد منه، فهم يلحقون بإبراهيم (ع) لتمسكهم بملته والتابع ثان متدبر
بتدبير الأول متصرف بتصريفه في نفسه، والصحيح أن شريعة نبينا ناسخة
لشريعة كل من تقدم من الأنبياء، وأن نبينا لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم.
وإنما وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال الله تعالى " فاتبعوا ملة إبراهيم "
وإلا فالله هو الذي أوحى بها إليه وأوجبها عليه، وكانت شريعة له. فان قيل إذا
كانت الشرائع بحسب المصالح، فكيف رغب في شريعة الاسلام بأنها ملة إبراهيم؟
قلنا: لان المصالح إذا وافقت ما تميل إليه النفس ويتقبله العقل بغير كلفة كانت أحق
بالرغبة، كما أنها إذا وافقت الغنى بدلا من الفقر، كانت أعظم في النعمة، وكان
المشركون يميلون إلى اتباع ملة إبراهيم، فلذلك خوطبوا بذلك. والحنيف: المستقيم:
الدين الذي على شريعة إبراهيم في حجه ونسكه وطيب مأكله، وتلك الشريعة هي
الحنيفية. وأصل الحنف الاستقامة وإنما وصف المائل القدم بالأحنف تفاؤلا بها
وقيل أصله الميل وإنما قيل الحنيف بمعنى المائل إلى الحق فيما كان عليه إبراهيم
من الشرع.
قوله تعالى:
(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا؟ وهدى
للعالمين) (96) آية بلا خلاف.
534

المعنى، واللغة، والاعراب:
أول الشئ ابتداؤه، ويجوز أن يكون المبتدأ له آخر، ويجوز أن لا يكون
له آخر، لان الواحد أول العدد. ولا نهاية، لاخره، ونعيم أهل الجنة له أول،
ولا آخر له، فعلى هذا إنما كان أول بيت، لأنه لم يكن قبله بيت يحج إليه.
وروي عن علي (ع) أنه قال: أول بيت وضع للعبادة البيت الحرام. وقد
كانت قبله بيوت كثيرة. وقيل أول بيت رغب فيه، وطلب به البركة مكة. وقال
مجاهد: لم يوضع قبله بيت. وإنما دحيت الأرض من تحتها. وبه قال قتادة.
وروى أصحابنا: أن أول شئ خلق الله من الأرض موضع الكعبة، ثم دحيت
الأرض من تحتها. وبكة قيل معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة: بكة هو المسجد، ومكة الحرم
كله تدخل فيه البيوت، وهو قول أبي جعفر (ع) وقال أبو عبيدة: بكة هي بطن
مكة، وقال مجاهد: هي مكة.
وأصل بكة من البك، وهو الزحم تقول بكه يبكه بكا إذا زحمه وتباك الناس
بالموضع إذا ازدحموا، فبكة مزدحم الناس للطواف. وهو ما حول الكعبة من
داخل المسجد الحرام، ومنه البك: دق العنق، لأنه فكه بشدة زحمة، فقيل:
سميت بكة، لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم لم يمهلوا. وأما مكة،
فقال الزجاج يجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة. وأبدلت الميم من الباء،
كقولهم: ضربة لازب ولازم، ويجوز أن يكون من قولهم: امبك الفصيل ما في
ضرع الناقة إذا مص مصا شديدا حتى لا يبقى منه شيئا، فسميت مكة بذلك
لازدحام الناس فيه. قال والأول أحسن، ويقال مك المشاش مكا إذا تمشش بفيه.
ونصب قوله: " مباركا " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون حالا من الضمير الذي فيه. الثاني - على الظرف من بكة
على معنى الذي استقر ببكة مباركا. وعلى هذا القول لا يكون قد وضع قبله بيت
535

كما يجوز في التقدير الأول. وقوله: " وهدى للعالمين " معناه أنه دلالة لهم على
الله من حيث هو المدبر لهم بما لا يقدرون عليه من أمن الوحش فيه حتى يجتمع
الكلب والظبي، فلا يعدو عليه وحتى يأنس الطير فلا يمتنع منه كما يمتنع من غيره
إلى غير ذلك من الآثار والبينة فيه مع البركة التي يجدها من حج إليه مع ماله من
الثواب الجزيل عليه. وأصل البركة الثبوت من قولك برك بركا وبروكا إذا ثبت على
حاله، فالبركة ثبوت الخير بنموه وتزايده ومنه البركاء: الثبوت في الحرب. ومنه
البركة شبه حوض يمسك الماء، لثبوته فيه. ومنه قول الناس: تبارك الله، لثبوته
لم يزل، ولا يزال وحده، ومنه البرك الصدر، لثبوت الحفظ فيه.
وقوله تعالى:
(فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فان الله
غني عن العالمين) (97) آية.
القراءة:
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " حج البيت " بكسر الحاء. الباقون بفتحها
فمن فتح أراد المصدر الجاري على فعله، ومن كسر أراد الاسم
المعنى:
الآيات التي بمكة أشياء، منها ما قال مجاهد في مقام إبراهيم، وهو أثر قدميه
داخلة في حجر صلد بقدرة الله تعالى، ليكون ذلك علامة يهتدى بها، ودلالة
يرجع إليها مع غير ذلك من الآيات التي فيه من أمن الخائف، وإمحاق الجمار على كثرة
الرامي. وامتناع الطير من العلو عليه. واستشفاء المريض من ماء به. ومن تعجيل
العقوبة لمن انتهك فيه حرمة على عادة كانت جارية. ومن إهلاك أصحاب الفيل
536

لما قصدوا، لتخريبه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ " آية بينة مقام إبراهيم "
فجعل مقام إبراهيم هو الآية. والأول عليه القراء، والمفسرون. وقوله: " مقام
إبراهيم " رفع بأنه خبر ابتداء محذوف. وتقديره هي مقام إبراهيم وغير مقام
إبراهيم، وقيل التقدير منها مقام إبراهيم. وقوله: (ومن دخله كان آمنا) قيل
فيه قولان:
أحدهما - الدلالة على ما عطف عليه قلوب العرب في الجاهلية، من أمر من
جنى جناية، ثم لاذ بالحرم، ومن تبعة تلحقه أو مكروه ينزل به. فأما في الاسلام
فمن جنى فيه جناية أقيم عليه الحد إلا القاتل، فإنه يخرج منه، فيقتل في قول
الحسن، وقتادة. وعندنا أنه إذا قتل في الحرم قتل فيه.
الثاني - أنه خبر، والمراد به الامر، ومعناه أن من وجب عليه حد، فلاذ
بالحرم والتجأ إليه، فلا يبايع ولا يشاري ولا يعامل حتى يخرج من الحرم، فيقام
عليه الحد - في قول ابن عباس وابن عمر - وهو المروي عن أبي عبد الله وأبي
جعفر (ع) وأجمعت الصحابة على أن من كانت له جناية في غيره ثم عاذ به أنه
لا يؤاخذ بتلك الجناية فيه. وأجمعوا أيضا أن من أصاب الحد فيه أنه يقام عليه
الحد فيه. وإنما اختلفوا فيما به يخرج ليقام عليه الحد.
وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال: من دخله عارفا بجميع ما أوجب الله
عليه، كان آمنا في الآخرة من أليم العقاب الدائم
والسبيل الذي يلزم بها الحج، قال ابن عباس، وابن عمر: هي الزاد، والراحلة.
وقال ابن الزبير، والحسن: ما يبلغه كائنا ما كان. وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه
في الخلاف. وعندنا هو وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع إلى
كفاية عند العود إما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة
والسلامة وزوال الموانع وإمكان المسير.
وقوله: (ومن كفر) معناه من؟ فرض الحج فلم يره واجبا في قول
537

ابن عباس، والحسن، والضحاك. فأما من تركه وهو يعتقد فرضه، فإنه لا يكون
كافرا وإن كان عاصيا. وفي الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة إن الاستطاعة مع
الفعل، لان الله تعالى أوجب الحج على المستطيع. ومن لا يستطيع، فلا يجب عليه
وذلك لا يكون إلا قبل فعل الحج. وقال قوم: معنى " ومن كفر " يعني ترك
الحج والسبب في ذلك أنه لما نزل قوله: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا " (1)
قالت اليهود نحن المسلمون فأنزل الله هذه الآية فامرهم بالحج إن كانوا صادقين
فامتنعوا، فقال الله تعالى ومن ترك من هؤلاء فهو كافر، والله غني عن العالمين.
قوله تعالى:
(قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد
على ما تعلمون) (98) آية.
المعنى:
قوله: " يا أهل الكتاب " خطاب لليهود والنصارى. وإنما أجرى عليهم
أهل الكتاب مع أنهم لا يعملون به، ولم يجز ذلك في أهل القرآن حتى يقال،
فيمن لا يعمل بالقرآن أنه من أهل القرآن لامرين:
أحدهما - أن القرآن اسم خاص لكتاب الله، فأما الكتاب فيجوز أن يراد
به يا أهل الكتاب المحرف عن جهته، والاخر - الاحتجاج عليهم بالكتاب،
لاقرارهم به، كأنه قيل يا من يقر بأنه من أهل كتاب الله " لم تكفر بآيات الله "
وآيات الله المراد بها ههنا معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وآله التي كانت له، والعلامات التي
وافقت في صفته، مما تقدمت به البشارة، وخاطبهم الله في هذه بأن قال له " قل
لم تكفرون بآيات الله " على وجه التلطف في استدعائهم إلى الحق، وتوجيه الخطاب
إليهم. وقال في موضع آخر " يا أهل الكتاب لم تكفرون " (2) على وجه الإهانة

(1) سورة آل عمران آية: 85.
(2) سورة آل عمران آية: 70.
538

لهم لصدهم عن الحق بتوجيه الخطاب إلى غيرهم وإنما جاء لفظ التوبيخ في الآية
على لفظ الاستفهام، لأنه كسؤال التعجيز عن إقامة البرهان، فكذلك سؤال التوبيخ
سؤال تعجيز عن إقامة العذر كأنه قيل: هات العذر في ذلك إن أمكنك، كما قيل
له هات البرهان إن كنت محقا في قولك ومذهبك.
اللغة:
وأصل لم لما وحذفت الألف في الاستفهام منها، ولم تحذف في الخبر لأنها
في الاستفهام ظرف يقوى فيه التغيير قياسا على حروف الاعراب ونحوها، وأما
الخبر فإنها تقع وسطا إذا كانت موصولة، لان تمامها أخر صلتها والجزاء يجري مجرى
الصلة، لان (ما) فيه عاملة.
قوله تعالى:
(يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن
تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون) (99)
آية بلا خلاف.
المعنى:
قوله: " لم تصدون " معناه لم تمنعون، لان الصد المنع. وقيل في كيفية
صدهم عن سبيل الله قولان:
أحدهما - أنهم كانوا يغزون بين الأوس، والخزرج، بتذكيرهم الحروب
التي كانت بينهم حتى تدخلهم العصبية وحمية الجاهلية فينسلخون عن الدين - هذا
قول زيد بن أسلم - وقال الآية في اليهود خاصة. وقال الحسن الآية في اليهود
والنصارى معا ومعناها لم تصدون بالتكذيب بالنبي صلى الله عليه وآله وإن صفته ليست في
كتبهم ولا تقدمت البشارة به عندهم وقوله: " من آمن " موضعه النصب بأنه
539

مفعول تصدون. وقوله: (تبغونها عوجا) الكناية راجعة إلى السبيل، ومعناه
تطلبون لها عوجا يعني عدو لاعن طريق الحق، وهو الضلال كأنه قال تبغونها
ضلالا.
اللغة:
والعوج - بفتح العين، هو ميل كل شئ منتصب، نحو القناة والحائط،
وبكسر العين - إنما هو الميل عن الاستواء في طريق الدين، وفي القول، وفي
الأرض. ومنه قوله: " لا ترى فيها عوجا " (1) وقال عبد بني الحسحاس:
بغاك وما تبغيه حتى وجدته * كأنك قد واعدته أمس موعدا (2)
أي طلبك وما تطلبه هذا في بغيت الحاجة فأما بغى عليه، فمعناه تطاول
بظلمه له. وتقول: إبغني كذا بكسر الهمزة أي أطلبه لي. وإذا قلت: أبغني بفتح
الهمزة، فمعناه أعني على طلبه. ومثله إحملني وأحملني والمسنى وألمسني. واحلب لي
واحلبني أي أعني على الحلب. وأصل ذلك ابغ لي غير أنه حذفت اللام لكثرة
الاستعمال.
المعنى:
وقوله: (وأنتم شهداء) قيل فيه قولان:
أحدهما - " أنتم شهداء " على بطلان صدكم عن دين الله، وتكون الآية
مختصة بقوم معاندين، لأنهم جحدوا ما علموه ويجوز أن تكون في الجميع،
لا فرارهم بأنه لا يجوز الصد عن دين الله، فلذلك صح ما ألزموا.
الثاني - " وأنتم شهداء " أي عقلاء كما قال الله تعالى " أو القى السمع وهو
شهيد " (3) أي وهو عاقل، وذلك أنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل

(1) سورة طه آية: 107.
(2) ديوانه: 41 وروايته (الا) بدل (حتى) وقد ذكره ابن هشام في المغني 1:
111، وقال: الا بمعنى حتى.
(3) سورة ق آية: 37.
540

فيما يتعلق بالدين ويؤديه إليه.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا
الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) (100) آية.
النزول:
قال زيد بن أسلم والسدي أن هذه الآية نزلت في الأوس والخزرج؟
أغزى قوم من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم.
اللغة، والاعراب، والمعنى:
وقوله: " إن تطيعوا " فالطاعة موافقة الإرادة الجاذبة للفعل بالترغيب
فيه، والإجابة موافقة الإرادة الداعية إلى الفعل ولذلك يجوز أن يكون الله تعالى
مجيبا للعبد إذا فعل ما دعا العبد به، ولم يجز أن يكون مطيعا له. و (يا) حرف
النداء وأي هو المنادى. و (ها) للتنبيه وهو اسم مبهم يحتاج أن يوصف بالواحد
والجميع لشدة إبهامه من حيث، لا يوقف عليه دون ما يوضحه. ولم يجز مثل
ذلك في هذا، وإن كان اسما مبهما، لأنه يدخله التثنية، والجمع، نحو هؤلاء
وهذان وليس كذلك أي
فان قيل لم جاز صفة المبهم بالموصول ولم يجز بالمعطوف؟ قيل: لان الموصول
بمنزلة اسم واحد لنقصانه عن التمام إلا بصلته، فعومل لذلك معاملة المفرد، وليس
كذلك المعطوف، لأنه اسم تام، فلذلك لم يجز يا أيها الطويل والقصير على الصفة،
وجاز يا أيها الذي أكرم زيدا على الصفة، ويجوز يا أيها الطويل والقصير على أن
يكون القصير منادا أيضا ويجوز أن تقول يا هذا وتقف عليه. ولا يجوز أن
تقول يا أيها وتقف، وإن كانا مبهمين لا يحتاجان إلى صلة، لان أي وصلة إلى نداء
541

ما فيه الألف واللام، كما أن الذي وصلة إلى صفة المعرفة بالجملة، ولذلك جاز النصب
في يا هذا الكريم، ولم يجز في يا أيها الكريم. ومعنى الآية النهي عن طاعة الكفار
وبيان أن من أطاعهم يدعوه ذلك إلى الارتداد عن دينه بعد أن كان مؤمنا ورجوعه
كافرا.
قوله تعالى:
(وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله
ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) (101) آية.
النزول:
روي عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية أنه كانت بين الأوس،
والخزرج حرب في الجاهلية كل شهر، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى
غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح فنزلت هذه الآية وما بعدها. وقال الحسن
نزلت في مشركي العرب.
المعنى، واللغة:
" وكيف " موضوعة للاستفهام، ومعناها ههنا التعجب وإنما استعملت في
ذلك، لأنها طلب للجواب عما حمل على الفساد فيما لا يصح فيه الاعتذار. والتعجب
هو حدوث إدراك ما لم يكن يقدر لخفاء سببه، وخروجه عن العادة في مثله،
ولذلك لم يجز في صفة القديم، ولكن يجوز في وصف؟ تعجيب العباد من بعض
الأمور. وصيغة التعجب في اللغة ما أفعله، وأفعل به إلا أنه قد يجئ كلام متضمن
بمعنى التعجب، وإن لم يكن في الأصل مما وضع له. وقوله: (وفيكم رسوله)
خطاب للذين عاصروه، فأما اليوم، فقد قال الزجاج: يجوز أن يقال: فينا
رسول الله، ويراد به أن أثاره قائمة فينا، وأعلامه ظاهرة، وذلك بمنزلة لو كان
542

موجودا فينا. وقوله: (ومن يعتصم بالله) معناه يمتنع والعصم: المنع. تقول
عصمه يعصمه عصما، ومنه قوله: " لا عاصم اليوم من أمر الله " (1) أي لا مانع.
والعصم: الأوعال لامتناعها بالجبال. والمعصم لأنه يمتنع. والعصام: الحبل،
والسبب، لأنه يعتصم به.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا
وأنتم مسلمون) (102) آية بلا خلاف.
المعنى:
ذكر ابن عباس وطاوس أن هذه الآية محكمة غير منسوخة. وقال قتادة،
والربيع، والسدي، وابن زيد: هي منسوخة بقوله. " فاتقوا الله ما استطعتم " (2)
وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) لأنهم ذهبوا إلى أنه يدخل فيه
القيام بالقسط في حال الخوف، والامن، وأنكر أبو علي الجبائي نسخ الآية وذلك،
لان من اتقى جميع معاصيه، فقد اتقى الله حق تقاته. ومثل هذا لا يجوز أن
ينسخ، لأنه إباحة لبعض المعاصي. قال الرماني: والذي عندي أنه إذا وجه على
" اتقوا الله حق تقاته " بأن تقوموا له بالحق في الخوف والامن لم يدخل عليه
ما ذكره أبو علي. وهذا صحيح، لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن
يتقوا الله على كل حال ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس، كما قال: " إلا
من أكره وقلبه مطمئن الايمان " (3) وأنكر البلخي أيضا نسخ الآية وقال: لان
في ذلك ايجاب الامر بما لا يستطاع. قال الرماني: وهذا أيضا لا يلزم، لان
" وما استطعتم " إنما هو من غير تحمل مشقة بتحريم التقية.

(1) سورة هود آية: 43.
(2) سورة التغابن آية: 16.
(3) سورة النحل آية: 106.
543

وقيل في معنى قوله: " حق تقاته " قولان:
أحدهما - قال ابن مسعود، والحسن، وقتادة: إن يطاع فلا يعصى ويشكر
فلا يكفر ويذكر فلا ينسى، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع). وقال الجبائي:
هو أن يتقى جميع معاصيه. وظاهر الآية يقتضي أنه خطاب للمؤمنين خاصة،
ويجوز أن يحمل من جهة المعنى على جميع المكلفين على التغليب، لأنه معلوم أنه
يجب عليهم من ذلك مثل ما يجب على المؤمنين من اتقاء جميع معاصي الله.
اللغة:
وقوله: " تقاته " هو من وقيت. قال الزجاج: يجوز فيه ثلاثة أوجه
تقاة ووقاة واقاة وحمله على قياس وجوه وأجوه وإن كان هذا المثال لم يجئ منه
شئ على الأصل نحو تخمة ونكاة ونقاة غير أنه حمله على الأكثر من نظائره وجعل
اختصاص هذا البناء في الاستعمال، لا يمنع من حمله على نظيره في القياس، لان
بإزاء قوة الاستعمال قوة النظير في الباب.
المعنى، واللغة:
وقوله: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) معناه لا تتركوا الاسلام وإنما
قال: " فلا تموتن " بلفظ النهي عن الموت من حيث أن الموت لابد منه، فكأنه
قال كونوا على الاسلام، فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على الاسلام، فالنهي في
الحقيقة عن ترك الاسلام، لئلا يهلكوا بالاقتطاع عن التمكين منه بالموت إلا أنه
وضع كلام موضع كلام على جهة تصرف الابدال، لحسن الاستعارة، وزوال
اللبس، لأنه لما كان يمكنهم أن يفارقوه بالاسلام فترك الاسلام صار بمنزلة ما قد
دخل في إمكانهم. ومثله قولهم لا أراك ههنا أي لا تكونن ههنا، فان من كان
ههنا رأيته إلا أن هذا خرج مخرج النهي لغير المنهي عنه فتباعد عن الأصل،
فالأول أحسن. لأنه أعدل. وروي عن أبي عبد الله (ع) " وأنتم مسلمون "
544

بالتشديد، ومعناه إلا وأنتم مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله عليه وآله ومنقادون له.
قوله تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله
عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم
آياته لعلكم تهتدون) (103) آية.
المعنى، واللغة، والاعراب:
ومعنى قوله: " واعتصموا " امتنعوا بحبل الله واستمسكوا به أي بعهد الله،
لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر أو نحوها. ومنه الحبل
الأمان، لأنه سبب النجاة. ومنه قوله: " إلا بحبل من الله وحبل الناس " (1)
ومعناه بأمان، قال الأعشى:
وإذا تجوزها حبال قبيلة * أخذت من الأخرى إليك حبالها (2)
ومنه الحبل الحمل في البطن وأصله الحبل المفتول قال ذو الرمة:
هل حبل خرقاء بعد اليوم مرموم * أم هل لها آخر الأيام تكليم
وفي معنى قوله: " بحبل الله " قولان قال أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه كتاب الله. وبه قال ابن مسعود. وقتادة والسدي. وقال ابن زيد " حبل الله "
دين الله أي دين الاسلام. وقوله: " جميعا " منصوب على الحال. والمعنى اعتصموا
بحبل الله مجتمعين على الاعتصام به. وقوله: " ولا تفرقوا " أصله ولا تتفرقوا،

(1) سورة آل عمران آية: 112.
(2) ديوانه: 24 رقم القصيدة 3 في المطبوعة (أجوزها) بدل (تجوزها) وهو أيضا
في اللسان (حبل) ومشكل القرآن: 358 وغيرها كما أثبتناه. والبيت من قصيدته في قيس
ابن معد يكرب. يصف ناقة يقول: لا تحتاج إلى حث بل هي سريعة الجرى عارفة طرق القبائل.
545

فحذفت احدى التائين، لاجتماع المثلين. والمحذوفة الثانية، لان الأولى علامة
الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي وعلامة الجزم سقوط النون. وقال ابن مسعود
وقتادة: معناه ولا تفرقوا عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على
الطاعة. وقال الحسن: معناه ولا تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله. وقوله: (واذكروا نعمة
الله عليكم إذ كنتم أعداء) معناه ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي
تطاولت مئة وعشرين سنة إلى أن ألف بين قلوبهم بالاسلام، وزالت تلك الأحقاد،
هذا قول ابن إسحاق. وقال الحسن: هو ما كان من مشركي العرب من الطوائل.
وقوله: (وكنتم على شفا حفرة من النار) معنى الشفا الحرف، لان شفا الشئ
حرفه، ويثنى شفوان، لأنه من الواو، وجمعه اشفاء. ولا يجوز فيه الإمالة. وإنما
قال: " فأنقذكم منها " وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها من
حيث كانوا مستحقين لدخولها. وإنما أنقذهم النبي صلى الله عليه وآله بدعائهم إلى الاسلام،
ودخولهم فيه، فصاروا بمنزلة الخارج منها.
وأصل الأخ أن الأخ مقصده مقصد أخيه، وكذلك في الصداقة أن تكون
إرادة كل واحد منهما موافقة الاخر يقولون: يتوخى فلان شأن فلان أي يقصده
في سيره، ويقولون: خذ على هذا الوخي أي على هذا القصد. وقوله: (كذلك
يبين الله لكم آياته) الكاف في موضع نصب، والمعنى مثل البيان الذي تلي عليكم
" يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون " معناه لتهتدوا وتكونوا على رجاء هداية.
والهاء في قوله فأنقذكم منها كناية عن الحفرة فترك شفا، وردت الكناية على
الحفرة. ومثل ذلك قول العجاج.
طول الليالي أسرعت في نقضي * طوين طولي وطوين عرضي
فترك الطول وأخبر عن الليالي. فان قالوا إذا كان الله هو الذي ألف بين
قلوبهم وأنقذهم من النار، فقد صح أن أفعال الخلق فعل له وخلق من خلقه؟
قيل: لا يجب ذلك، لأنا نقول أن النبي صلى الله عليه وآله ألف بين قلوب العرب وأنقذهم من

(1) سورة البقرة آية: 2.
546

النار، ولا يجب من ذلك أن تكون أفعالهم أفعالا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا مشاركا لهم.
ومعنى ألف بين قلوبهم وأنقذهم من النار أنه دعاهم إلى الايمان وبين لهم وهداهم،
ورغبهم وحذرهم، فلما كان إسلامهم ونجاتهم بمعونته ودعائه، كان هو المؤلف
لقلوبهم، والمنقذ لهم من النار على هذا المعنى، لا أنه صنع أفعالهم، وأحدثها.
فان قيل: فقد فعل الله مثل ذلك بالكافرين هلا قلتم أنه ألف بينهم؟ قلنا: لا تقول
ذلك وإن كان فعل بهم في الابتداء مثل الذي فعل بالمؤمن، لأنه لم يوجد منهم
إيمان، فلا يجوز إطلاق ذلك عليهم، ولما وجد من المؤمن ذلك جاز إضافة ذلك إلى
الله تعالى وجرى ذلك مجرى قوله " هدى للمتقين " أنه أضيف إلى المتقين
من حيث اهتدوا به. وإن كان هداية للكافرين أيضا. ويجوز أن يقال: ألف الله
بين الكفار، فلم يأتلفوا وانقذهم، فلم يستنقذوا، فيقيد ذلك، كما قال: " وإما
ثمود، فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " (1) ولا يجوز أن يقال: هدى
الله ثمود ويسكت. ومثل ذلك لو أن إنسانا اعطى ولدين له مالا وأمرهما بالتجارة
وبين لهما وجوه المكاسب فكسب أحدهما ما لا واستغنى، وضيع الاخر، فافتقر
جاز أن يقال أن فلانا أغنى ولده الغني، ولا يجوز أن يقال اغنى ولده الفقير على
أنا لا نقول إن الله تعالى فعل بالكافر جميع ما فعل بالمؤمن، لان الذي سوى بينهما
ما يتعلق بإزاحة العلة في التكليف من الاقدار والاعلام والدلالة، وما به يتمكن
من فعل الايمان، فأما الألطاف التي يفعلها الله بالمؤمن بعد إيمانه التي علمها له بعد
الايمان ولم يعلمها للكافر، فلا نقول أنه فعل بالكافر مثلها، ولا يمتنع أن تكون
هذه الزيادة من الألطاف مشروطة بحال الايمان، فالاطلاق لا يصح على كل حال.
قوله تعالى:
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف

(1) سورة حم السجدة آية: 17.
547

وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (104) آية.
الاعراب، والمعنى:
قوله: " ولتكن " أمر واللام لام الامر وإنما سكنت مع الواو ولم يكن لام
الإضافة لان تسكين لام الامر يؤذن بعملها أنه الجزم، وليس كذلك لام الإضافة.
ولم يسكن مع ثم، لان ثم بمنزلة كلمة منفصلة. وقوله: (منكم أمة) " من " ههنا
للتبعيض على قول أكثر المفسرين، لان الامر بانكار المنكر، والامر بالمعروف
متوجه إلى فرقة منهم غير معينة، لأنه فرض على الكفاية فأي فرقة قامت به سقط
عن الباقين. وقال الزجاج التقدير " وليكن " جميعكم و (من) دخلت لتخص
المخاطبين من بين سائر الأجناس، كما قال: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " (1)
وقال الشاعر:
أخو رغائب يعطيها ويسلبها * يأبى الظلامة منه النوفل الزفر (2)
لأنه وصفه باعطاء الرغائب، والنوفل الكثير الاعطاء للنوافل. والزفر: الذي
يحمل الأثقال، فعلى هذا الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فرض الأعيان
لا يسقط بقيام البعض عن الباقين. وهو الذي اختاره الزجاج، وبه قال الجبائي،
واختاره.
اللغة:
والأمة في اللغة تنقسم خمسة أقسام:
أحدها - الجماعة. والثاني - القامة. والثالث - الاستقامة. والرابع - النعمة
والخامس القدوة. والأصل في ذلك كله القصد من قولهم: أمه يؤمه. أما إذا

(1) سورة الحج آية: 30.
(2) قائله أعشى باهلة اللسان (زفر) وأمالي الشريف المرتضى 2: 21 وهو من قصيدة
من المراثي المفضلة المشهورة بالبلاغة والبراعة وروايته (بسألها) بدل (يسلبها).
548

قصده، فالجماعة سميت أمة لاجتماعها على مقصد واحد. والأمة: القدوة، لأنه
تأتم به الجماعة. والأمة النعمة، لأنها المقصد الذي هو البغية. والأمة القامة،
لاستمرارها في العلو على مقصد واحد. والمعروف هو الفعل الحسن الذي له صفة
زائدة على حسنه. وربما كان واجبا أو ندبا، فإن كان واجبا فالامر به واجب.
وإن كان ندبا فالامر به ندب. والمنكر هو القبيح فالنهي عنه كله واجب.
والانكار هو إظهار كراهة الشئ لما فيه من وجه القبح، ونقيضه الاقرار وهو
إظهار تقبل الشئ من حيث هو صواب حسن.
المعنى:
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف وأكثر المتكلمين
يذهبون إلى أنه من فروض الكفايات. ومنهم من قال من فروض الأعيان، وهو
الصحيح على ما بيناه. واختلفوا، فقال جماعة ان طريق وجوب انكار المنكر
العقل، لأنه كما تجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهة.
وإلا كان تاركه بمنزلة الراضي به. وقال آخرون وهو الصحيح عندنا: إن طريق
وجوبه السمع وأجمعت الأمة على ذلك، ويكفي المكلف الدلالة على كراهته من
جهة الخير وما جرى مجراه وقد استوفينا ما يتعلق بذلك في شرح جمل العلم.
فان قيل هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح؟ قلنا: نعم إذا احتيج إليه بحسب
الامكان، لان الله تعالى قد أمر به، فإذا لم ينجح فيه الوعظ والتخويف، ولا
التناول باليد وجب حمل السلاح، لان الفريضة لا تسقط مع الامكان إلا بزوال
المنكر الذي لزم به الجهاد إلا أنه لا يجوز أن يقصد القتال إلا وغرضه إنكار المنكر.
وأكثر أصحابنا على أن هذا النوع من انكار المنكر لا يجوز الاقدام عليه إلا
باذن سلطان الوقت. ومن خالفنا جوز ذلك من غير الاذن مثل الدفاع عن النفس
سواء. وقال البلخي: إنما يجوز لسائر الناس ذلك إذا لم يكن إمام، ولا من نصبه،
فأما مع وجوده، فلا ينبغي، لاحد أن يفعل ذلك إلا عند الضرورة. وقوله:
549

(وأولئك هم المفلحون) معناه هم الفائزون بثواب الله، والخلاص من عقابه.
قوله تعالى:
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (105) آية.
المعنى:
قال الحسن، والربيع: المعنى بهذا التفرق في الآية اليهود والنصارى، فكأنه
قال يا أيها المؤمنون " لا تكونوا كالذين تفرقوا " يعني اليهود والنصارى. وقوله:
(من بعد ما جاءهم البينات) معناه من بعد ما نصبت لهم الأدلة ولا يدل ذلك على
عناد الجميع، لان قيام البينات إنما يعلم بها الحق إذا نظر فيها واستدل بها على الحق،
فان قيل إذا كان التفرق في الدين هو الاختلاف فيه، فلم ذكر الوصفان؟ قلنا: لان
معنى " تفرقوا " يعني بالعداوة واختلفوا في الديانة، فمعنى الصفة الأولى مخالف
لمعنى الصفة الثانية، وفيمن نفى القياس، والاجتهاد من استدل بهذه الآية على المنع
من الاختلاف جملة في الأصول والفروع، واعترض من خالف في ذلك بأن قال
لا يدل ذلك على فساد الاختلاف في مسائل الاجتهاد، كما لا يدل على فساد الاختلاف
في المسائل المنصوص عليها، كاختلاف حكم المسافر والمقيم في الصلاة والصيام، وغير
ذلك من الاحكام، لان جميعه مدلول على صحته إما بالنص عليه وإما بالرضى به،
وهذا ليس بشئ، لان لمن خالف في ذلك أن يقول: الظاهر يمنع من الاختلاف
على كل حال إلا ما أخرجه الدليل، وما ذكره أخرجناه بالاجماع فالأجود في الطعن
أن يقال: وقد دل الدليل على وجوب التعبد بالقياس والاجتهاد! قلنا: إن يخص
ذلك أيضا ويصير الكلام في صحة ذلك أو فساده، فالاستدلال بالآية إذا صحيح
على نفي الاجتهاد. وقوله: " جاءهم البينات " إنما حذفت منه علامة التأنيث إذا
تقدم، فكذلك لا يلحقه علامة التأنيث لشبهها علامة التثنية والجمع.
550

قوله تعالى:
(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فاما الذين اسودت
وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)
(106) آية بلا خلاف.
الاعراب:
العامل في قوله: " يوم " قوله " عظيم " وتقديره عظيم عذابهم يوم تبيض
وجوه. ولا يجوز أن يكون العامل فيه عذاب موصول، قد فصلت صفته بينه،
وبين معموله، لكن يجوز أن تعمل فيه الجملة، لأنها في معنى يعذبون يوم تبيض
وجوه، كما تقول المال لزيد يوم الجمعة فالعامل الفعل والجملة خلف منه.
المعنى:
والمعني بهذه الآية الذين كفروا بعد إيمانهم. وقيل فيهم أربعة أقوال:
أحدها - قال الحسن: الذين كفروا بعد اظهار الايمان بالنفاق.
الثاني - قال قتادة الذين كفروا بالارتداد.
الثالث - قال أبي بن كعب: إنهم جميع الكفار، لاعراضهم عما يوجبه
الاقرار بالتوحيد حين أشهدهم الله على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا.
الرابع - ذكره الزجاج وأبو علي الجبائي. الذين كفروا من أهل الكتاب
بالنبي صلى الله عليه وآله بعد إيمانهم به أي بنعته وصفته قبل مبعثه، وهذا الوجه، والوجه
الأول يليق بمذهبنا في الموافاة، فأما الارتداد عن الايمان الحقيقي، فلا يجوز
عندنا على ما مضى في غير موضع.
فان قيل إذا كان " الذين اسودت وجوههم " كفارا " والذين ابيضت
وجوههم " مؤمنين هلا دل ذلك على أنه لا واسطة بين الكفر، والايمان من
551

الفسق؟ قلنا: لا يجب ذلك، لان ذكر اسوداد الوجوه وابيضاضها لا يمنع أن
يكون هناك وجوه أخر مغبرة أو نحوها من الألوان أو يكون أدخلوا
في جملة الكفار الذين اسودت وجوههم على التغليب لأعظم الصفتين كما يغلب المذكر
على المؤنث، وليس ذكر اليوم بأنه تسود فيه وجوه وتبيض وجوه بمانع من أن
يكون فيه وجوه عليها الغبرة، كما أن القائل إذا قال هذا يوم يعفو فيه السلطان
عن قوم ويعاقب فيه قوما لا يدل على أنه ليس هناك من لا يستحق واحدا من
الامرين على أن الآية تدل على أن " الذين اسودت وجوههم " هم المرتدون، لأنه
قال " أكفرتم بعد إيمانكم " وليس كل الكفار هذه صورتهم، جاز لنا إثبات فاسقين
مثل ذلك، وليس قوله: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " يجري مجرى قوله:
" وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظلل وجهه مسودا " (1) لان ذاك إنما ذكر على وجه
المثل، كأنه قال حال الذي يبشر بالأنثى بمنزلة حالة من اسود وجهه، لما حدث فيه
من التغير: وإن لم يسود في الحقيقة. وعرفنا عن ذلك دليل، وليس في هذه
الآية ما يدلنا على العدول عن ظاهرها.
وجواب أما في قوله: " فأما الذين اسودت " محذوف وتقديره " فأما
الذين اسودت وجوههم " فيقال لهم " أكفرتم بعد ايمانكم " فحذف لدلالة اسوداد
الوجوه على حال التوبيخ حتى كأنه ناطق به، وقد يحذف القول في مواضع
كثيرة استغناء بما قبله من البيان، كقوله: " ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤسهم
عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا " (2) أي يقولون ربنا لدلالة تنكيس
الرأس من المجرم على سؤال الإقالة. وقيل في قوله تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم
القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا " (3) معناه يقول " ربنا تقبل منا "
ومثله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم " (4) أي يقولون
" سلام عليكم " ونظائر ذلك كثيرة جدا.

(1) سورة النحل آية: 68.
(2) سورة ألم السجدة آية: 12.
(3) سورة البقرة آية: 127.
(4) سورة الرعد آية: 25.
552

قوله تعالى:
(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها
خالدون (107).
إن قيل: لم ذكر تعالى حال الكافرين وحال المؤمنين ولم يذكر حال الفاسقين؟
قلنا: ليقابل اسوداد الوجوه لابيضاض الوجوه بالعلامتين، وحال الفاسقين موقوفة
على دلالة أخرى وآية أخرى. وقوله: " ففي رحمة الله " قيل في معناه قولان:
أحدهما - انهم في ثواب الله وان الرحمة هي الثواب.
والثاني - انهم في ثواب رحمة الله، فحذف، كما قال: " واسأل القرية " (5) ذكره
الزجاج. والأول أجود، لان الرحمة ههنا هي الثواب وإذا صح حمل الكلام على
ظاهره من غير حذف كان أولى من تقدير محذوف منه من غير ضرورة. والآية تدل
على أن ثواب الله تفضل، لان رحمة الله إنما هي نعمته، وكل نعمة فإنه يستحق بها
الشكر، وكل نعمة تفضل، ولو لم تكن تفضلا لم تكن نعمة. وقيل في وجه كونه
تفضلا قولان:
أحدهما - إنما كان تفضلا، لان السبب الذي هو التكليف تفضل.
والثاني - إنه تفضل لأنه بمنزلة ايجاز الوعد في أنه تفضل مستحق، لان
المبتدئ به قد كان له أن لا يفعله، فلما فعله وجب عليه الوفاء به، لأنه لا يجوز
الخلف، وهو مع ذلك تفضلا، لأنه جر إليه تفضل، واختار الرماني هذا الوجه.
وإنما كرر الظرف في قوله: " ففي رحمة الله هم فيها خالدون " لامرين:
أحدهما - للتأكيد، والثاني - للبيان عن صحة الصفتين أنهم في رحمة الله،
وانهم فيها خالدون، وكل واحدة قائمة بنفسها.

(1) سورة الصافات آية: 7.
553

قوله تعالى:
(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما
للعالمين) (108) آية بلا خلاف.
المعنى:
قال الفراء معنى " تلك آيات الله نتلوها عليك " أي مواعظه وحججه ومعنى
" نتلوها " أي نقرأها عليك. والفرق بين تلك، وهذه أن تلك إشارة إلى ما هو
بعيد فجازت الإشارة بها إليه لانقضاء الآية وصلح هذه لقربها في التلاوة، ولو
كانت بعيدة لم يصلح أحدهما مكان الاخر. وإنما قال " آيات الله نتلوها عليك بالحق "
فقيده (بالحق)، لأنه لما حقق الوعيد بأنه واقع لا محالة نفى عنه حال الظلم كعادة
أهل الخير، ليكون الانسان على بصيرة في سلوك الضلالة مع الهلاك أو الهدى مع
النجاة، ومعنى " نتلوها عليك بالحق " أي معاملتي حق، ويحتمل أن يكون المراد
" نتلوها " المعنى الحق، لان معنى التلاوة حق من حيث يتعلق معتقدها بالشئ
على ما هوبه.
اللغة، والمعنى:
والفرق بين تلوت عليه، وتلوت لديه أن عليه يدل على إقرار التلاوة، لان
معنى عليه استعلاء الشئ، فهي تنبئ عن استعلائه بالظهور للنفس، كما يظهر
لها بعلو الصوت وليس كذلك لديه، لان معناه عنده. وفي الآية دلالة على فساد
قول؟: أن الله تعالى يريد الظلم، لأنه لو أراد ظلم بعضهم لبعض، لكل قد
أراد ظلمهم وكذلك لو أراد ظلم الانسان لغيره، لجاز أن يريد أن يظلمه هو،
لأنه لا فرق بينها في القبح، ويدل أيضا على أنه لا يفعل ظلمهم، لأنه لا يفعل
ما لا يريده.
554

وقوله: (وما الله يريد ظلما للعالمين) فيه نفي لإرادة ظلمهم على كل حال
بخلاف ما يقولونه.
قوله تعالى:
(ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور)
(109) آية.
النظم:
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها، وجه اتصال الدليل بالمدلول عليه، لأنه
لما قال: " وما الله يريد ظلما للعالمين " وصله بذكر غناه عن الظلم إذ الغني عنه العالم
بقبحه، ومعناه لا يجوز وقوعه منه.
المعنى:
وقوله: (وإلى الله ترجع الأمور) لا يدل على أن الأمور كانت ذاهبة عنه،
لامرين:
أحدهما - لأنها بمنزلة الذاهبة بهلاكها وفنائها ثم اعادتها، لأنه تعالى يعيدها
للجزاء على الاعمال والعوض على الآلام.
والثاني - لأنه قد ملك العباد كثيرا من التدبير في الدنيا فيزول جميع ذلك
في الآخرة ويرجع إليه كله. وقوله: " ولله ما في السماوات " معناه ولله ملك ما في
السماوات. والملك: هو ماله أن يتصرف فيه. ولا يجوز أن يقول مكان ذلك ولله
خلق ما في السماوات، لان ذلك يدخل فيه معاصي العباد، والله تعالى منزه عنها
والآية خرجت مخرج التعظيم لله تعالى، وذكر عظيم المدح.
وفي وقوع المظهر بموقع المضمر في قوله: " وإلى الله ترجع الأمور " فيه
قولان:
555

أحدهما - ليكون كل واحد من الكلامين مكتفيا بنفسه.
والثاني - لان المظهر في اسم الله تعالى أ؟ في الذكر من المضمر وصفة ملكه
موضع تفخيم، وليس كقول الشاعر (1)
لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغنى والفقيرا (2)
لان البيت مفتقر إلى الضمير والآية مستغينة عنه وإنما احتاج البيت إليه،
لان الخبر الذي هو جملة لا يتصل بالمخبر عنه إلا بضمير يعود إليه. (وما) تقع
على ما يعقل وما لا يعقل إذا ذهب به مذهب الجنس، فما يعقل داخل فيه حقيقة
ولو قال بدلا منه ولله من في السماوات بلفظه (من) لما دخل فيه إلا العقلاء أو الكل
على جهة التغليب دون الحقيقة
قوله تعالى:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان
خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) (110) آية واحدة.
النظم:
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها اتصال المدح على الفعل الذي تقدم به الامر،
لأنه قد تقدم إيجاب الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر ثم مدح على قبوله والتمسك
به، ويجوز أيضا أن يكون اتصال التعظيم لله تعالى بمدح المطيعين له في الأشياء
التي؟، لأنهم بلطف الله تعالى أطاعوا.

(1) هو عدي بن زيد. وقيل إنه ينسب إلى ولده سوادة بن عدي. ونسبه بعضهم
لامية بن أبي الصلت.
(2) حماسة البحتري: 98 وشعراء الجاهلية: 468، وسيبويه 1: 30 وخزانة الأدب
1: 183، 3: 534، 4: 552 وأمالي بن الشجري 1: 243، 288 وشرح شواهد
المغني 296 وهو من أبيات متفرقة؟ هذه الكتب وغيرها من الحكم في التأمل في الحياة والموت.
556

المعنى:
وقوله: (كنتم خير أمة) إنما لم يقل أنتم لاحد أمور:
أحدها - قال الحسن أن ذلك لما قد كان في الكتب المتقدمة ما يسمع من
الخير في هذه الأمة من جهة البشارة. وقال نحن آخرها وأكرمها على الله. وكذلك
روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على
الله) فهو موافق لمعنى أنتم خير أمة إلا أنه ذكر " كنتم " لتقدم البشارة به،
ويكون التقدير " كنتم خير أمة " في الكتب الماضية فحققوا ذلك بالافعال الجميلة.
الثاني - أن كان زائدة ودخولها وخروجها بمعنى، إلا أن فيها تأكيد وقوع
الامر لا محالة، لأنه بمنزلة ما قد كان في الحقيقة، كما قال " واذكروا إذ أنتم
قليل " (1) وفي موضع آخر " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " (2) ونظيره
قوله: " وكان الله غفورا رحيما " لان مغفرته المستأنفة كالماضية في تحقيق الوقوع
لا محالة.
الثالث - أن (كان) تامة ههنا ومعناه حدثتم خير أمة ويكون خير أمة نصبا
على الحال.
والرابع " كنتم خير أمة " في اللوح المحفوظ.
والخامس - كنتم مذ أنتم ليدل على أنهم كذلك مذ أول أمرهم. واختلف
المفسرون في المعني بقوله: " كنتم خير أمة " فقال قوم: هم الذين هاجروا مع
النبي صلى الله عليه وآله ذكره ابن عباس، وعمر بن الخطاب، والسدي. وقال عكرمة: نزلت
في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل. وقال
الضحاك: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله خاصة. وقال مجاهد معناه " كنتم خير
أمة " إذا فعلتم، ما تضمنته الآية من الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والايمان بالله والعمل بما أوجبه. وقال الربيع: معناه " كنتم خير أمة "، لأنه لم

(1) سورة الأنفال آية: 26.
(2) سورة الأعراف آية: 85.
557

يكن أمة أكثر استجابة في الاسلام، من هذه الأمة. فان قيل: لم قيل للحسن
معروف مع أن القبيح أيضا يعرف أنه قبيح، ولا يجوز أن يطلق عليه اسم
معروف؟ قلنا: لان القبيح بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه. والحسن بمنزلة
النبيه الذي يعرف بجلالته وعلو قدره. ويعرف أيضا بالملابسة الظاهرة والمشاهدة
فأما القبيح، فلا يستحق هذه المنزلة. وقوله: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا
لهم) معناه لو صدقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وقوله: " منهم المؤمنون " يعني معترفون بما
دلت عليه كتبهم في صفة نبينا صلى الله عليه وآله، والبشارة به. وقيل: إنها تناولت من
آمن منهم كعبد الله بن سلام، وأخيه، وغيرهما. وقوله: (وأكثرهم الفاسقون)
يعني من لم يؤمن منهم، وإنما وصفهم بالفسق دون الكفر الذي هو أعظم، لان
الغرض الاشعار بأنهم خرجوا بالفسق عما يوجبه كتابهم من الاقرار بالحق في نبوة
النبي صلى الله عليه وآله. وأصل الفسق الخروج. ووجه آخر وهو أنهم في الكفار بمنزلة
الفساق في العصاة بخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي أشنع وأفظع من حال من
لم يقدم إليه ذكر فيه، وليس في الآية ما يدل على أن الاجماع حجة على ما بيناه في
أصول الفقه. وتلخيص الشافي، وجملته أن هذا الخطاب لا يجوز أن يكون المراد
به جميع الأمة، لان أكثرها بخلاف هذه الصفة بل فيها من يأمر بالمنكر وينهى عن
المعروف. ومتى كان المراد بها بعض الأمة، فنحن نقول إن في الأمة من هذه صفته،
وهو من دل الدليل على عصمته، فمن أين لو أنا، فرضنا فقدهم، لكان إجماعهم
حجة واستوفينا هناك ما تقتضيه الأسئلة والجوابات، فلا نطول بذكره ههنا.
قوله تعالى:
(لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم
لا ينصرون) (111) آية.
النظم:
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها اتصال البشارة بالغلبة بما تقدم من الامر
558

بالمحاربة، لأنه قد تقدم الامر بانكار المنكر، فالفريضة اللازمة إذ لم تترك إلا
بالمحاربة.
المعنى، والاعراب:
والأذى المذكور في الآية هو أن يسمعوا منهم كذبا على الله يدعونهم به
إلى الضلالة في قول الحسن، وقتادة يقول أهل الحجاز آذيتني إذا أسمعته كلاما
يثقل عليه. وقال البلخي، والطبري الاستثناء منقطع ههنا، لان الأذى ليس من
الضرر في شئ، وهذا ليس بصحيح، لأنه إذا أمكن حمله على الاستثناء الحقيقي
لم يجز حمله على المنقطع. والمعنى في الآية لن يضروكم إلا ضررا يسيرا، فالأذى
وقع موقع المصدر الأول. وإذا كان الأذى ضررا فالاستثناء متصل. والمنقطع
لا يكون فيه الثاني مخصصا للأول، كقولك ما في الدار أحد إلا حمارا، وكقولك
ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر. وقوله: (وإن يقاتلوكم) جزم، لأنه شرط
" ويولوكم " جزم لأنه جزاء. وقوله: (ثم لا ينصرون) رفع على الاستئناف،
ولم يعطف ليجري الثاني على مثال الأول، لان سبب التولية القتال. وليس كذلك
منع النصر، لان سببه الكفر. والرفع أشكل برؤوس الآي المتقدمة، وهو مع
ذلك عطف جملة على جملة وفي الآية دلالة على النبوة، لوقوع مخبرها على
ما تضمنته قبل وقوع مخبرها، لان يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير، وبني
قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوه صلى الله عليه وآله والمسلمين ما قاتلوهم قط إلا ولوا الادبار
منهزمين.
قوله تعالى:
(ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل
من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم
559

كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا
وكانوا يعتدون) (112) آية بلا خلاف.
المعنى، واللغة، والاعراب:
قال الحسن: المعني بقوله: " ضربت عليهم الذلة " اليهود أذلهم الله عز
وجل، فلا عزلهم ولا منعة، وأدركتهم هذه الأمة. وإن المجوس لتجبيهم الجزية
" وضربت " مأخوذ من الضرب، وإنما قيل ضربت، لأنها ثبتت عليهم كما ثبتت بالضرب
كما أخذت منه الضريبة، لأنها تثبت على صاحبها كما تثبت الضرب. وقوله: " أينما
ثقفوا " أي أينما وجدوا، يقال: يقفته أي وجدته، ولقيته. فان قيل: كيف
جاز عقابهم على ما لم يفعلوه من قتل الأنبياء. وإنما فعله أسلافهم دونهم. قلنا:
عنه جوابان:
أحدهما - أنهم عوقبوا على رضاهم بذلك. وأجرى عليهم صفة القتل لعظم
الجرم في رضاهم به، فكأنهم، فعلوه على نحو " يذبح أبناءهم " وإنما أمر به.
والثاني - أن تكون الصفة تعم الجميع، فيدخلوا في الجملة ويجري عليهم
الوصف على التغليب كما يغلب المذكر على المؤنث إذا اجتمعا، فكذلك غلب القاتل
على الراضي. وقوله: (إلا بحبل من الله) فالحبل هو العهد من الله، وعهد من
من الناس على وجه الذمة، وغيرها من وجوه الأمان في قول ابن عباس، والحسن
ومجاهد، وقتادة، والسدي، والربيع. وسمي العهد حبلا، لأنه يعقد به الأمان
كما يعقد بالحبل من حيث يلزم به الشئ كما يلزم بالحبل. وقال الأعشى:
فإذا تجوزها حبال قبيلة * أخذت من الأخرى إليك حبالها (1)
والعامل في الباء من قوله " إلا بحبل من الله " يحتمل أن يكون العامل
محذوفا والمعنى إلا أن تعتصموا بحبل من الله على قول الفراء وأنشد:

(1) ديوانه: 24 رقم القصيدة 3 انظر 2: 545 من هذا الكتاب فثم تخريج البيت.
560

رأتني بحبليها فصدت مخافة * وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق (1)
أراد رأتني أقبلت بحبليها فحذف العامل في الباء وقال آخر: (2)
قريب الخطو يحسب من رآني * ولست مقيدا أني بقيد (3)
قال الرماني، علي بن عيسى ما ذكره الفراء ضعيف من وجهين:
أحدهما - حذف الموصول وذلك لا يجوز عند البصريين في شئ من الكلام
لأنه إذا احتاج إلى صلة تبين عنه فالحاجة إلى البيان عنه بذكره أشد. وإنما يجوز
حذف الشئ للاستغناء بدلالة غيره عليه، فلو دل دليل عليه لحذف مع صلته، لأنه
معها بمنزلة شئ واحد. والوجه الاخر أن الكلام إذا صح معناه من غير حذف لم
يجز تأويله على الحذف. وقوله (إلا بحبل) قيل في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما - أنه منقطع، لان الدلالة لازمة لهم على كل حال، فيجري مجرى
قوله: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " (4) فعامل الاعراب موجود
والمعنى على الانقطاع. ومثله " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما " (5)

(1) قائله حميد بن ثور الهلالي ديوانه: 35، ومعاني القرآن للفراء 1: 230،
واللسان (نسع)، (فرق)، (حبل). ورواية الديوان:
فجئت بحبليها فردت مخافة * إلى النفس روعاء الجنان فروق
ورواية اللسان مختلفة ففي مادة (حبل) مثل التبيان وفي مادة (فرق):
رأتني مجليها فصدت مخافة * وفي الخيل روعاء الفؤاد فروق
وفي مادة (نسع):
رأتني بنسعيها فردت مخافتي * إلى الصدر روعاء الفؤاد فروق
(2) هو أبو الطمحان القينى، حنظلة بن الشرقي من بني كنانة بن ألقين وهو؟
المعمرين. وقيل إنه لعدي بن زيد. وقيل للسحاج بن سباع الضبي.
(3) كتاب المعمرين: 57 ومعاني القرآن للفراء 1: 230، والأغاني طبعة
دار؟ - بيروت - 2: 313، 316، وطبعة ليدن 12: 347 وحماسة البحتري: 202
وأمالي القالي 1: 110 وأمالي الشريف المرتضى 1: 46، 257 واللسان (ختل) وغيرها كثير.
(4) سورة النساء آية: 91.
(5) سورة الواقعة آية: 25. وكان في المطبوعة " لا يسمعون فيها لغوا الا قيلا سلاما "
والآيات التي يحتمل أن يستشهد بها الشيخ اثنتان الأولى هي التي أثبتناها، والثانية في سورة مريم
آية: 62 وهي " لا يسمعون فيها لغوا الا سلاما ". ولا يوجد في القرآن آية مطابقة لما في
المطبوعة الا بزيادة أو نقيصة.
561

وكل انقطاع فيه فإنما هو لإزالة الايهام الذي فيه يلحق الكلام فقوله: " لا يسمعون
فيها لغوا " قد يتوهم أنه من حيث لا يسمعون فيها كلاما، فقيل لذلك " إلا قيلا سلاما "
وكذلك " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا " قد يتوهم أنه لا يقتل مؤمن مؤمنا على
وجه، فقيل لذلك " إلا خطأ ". وكذلك " ضربت عليهم الذلة " قد يتوهم أنه
من غير جواز موادعة، فقيل إلا بحبل من الله.
الثاني - أن الاستثناء متصل، لان عز المسلمين عز لهم بالذمة، وهذا لا يخرجه
من الذلة في أنفسهم. وقوله: " وباؤا بغضب من الله " أي رجعوا بغضب الله
الذي هو عقابه ولعنه. وقوله: (وضربت عليهم المسكنة) قيل أريد بالمسكنة الذلة
لان المسكين لا يكون إلا ذليلا فسمي الذليل مسكينا. وقيل، لان اليهود أبدا
يتفاقرون وان كانوا أغنياء لما رماهم الله به من الذلة. وقد بينا فيما تقدم أن قوله:
" ويقتلون الأنبياء بغير حق " (1) لا يدل على أن قتلهم يكون بحق وإنما المراد أن
قتلهم لا يكون إلا بغير حق، كما قال " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له
به " والمراد ان ذلك لا يكون إلا بغير برهان وكقول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره (2)
ومعناه لا منار هناك فيهتدى به وقوله: (يعتدون) قد بينا فيما تقدم
معنى الاعتداء وهو أن معناه تجاوز الحد مأخوذ من العدوان.
قوله تعالى:
(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله
آناء الليل وهم يسجدون) (113) آية.

(1) سورة آل عمران آية 21 وسورة البقرة آية 61 ولكن هناك في الا؟
(النبيين) وفي هذه الآية (الأنبياء).
(2)؟ 2: 356
562

النزول:
قال ابن عباس، وقتادة، وابن جريج سبب نزول هذه الآية أنه لما أسلم
عبد الله بن سلام وجماعة معه قالت أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فأنزل
الله تعالى " ليسوا سواء " إلى قوله: " وأولئك من الصالحين ".
اللغة، والاعراب، والمعنى:
فان قيل لم ذكر مع سواء أحد الفريقين دون الاخر، ولا يجوز مثله أن
يقول سواء علي قيامك حتى يقول أم قعودك قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أنه محذوف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه، كما قال أبو ذؤبب:
عصاني إليها القلب إني لأمرها * مطيع فما أدري أرشد طلابها؟
ولم يقل أم غي، لان الكلام يدل عليه، لأنه كان يهواها فما يبالي أرشد
أم غي طلابها. وقال آخر:
أراك فلا أدري أهم هممته * وذو الهم قدما خاشع متضائل
ولم يقل أم غيره، لان حاله في التغير ينبئ أن الهم غيره أم غيره مما يجري
مجراه، وهذا قول الفراء، وضعفه الزجاج، وقال، ليس بنا حاجة إلى تقدير
محذوف، لان ذكر أهل الكتاب قد جرى في قوله: " يكفرون بآيات الله ويقتلون
الأنبياء " فتبين أن فيهم غير المؤمنين، فلا يحتاج أن يقدر وأمة غير قائمة.
الثاني - أن يكون ليسوا سواء منهم الجواد، والشجاع، فعلى القول الأول
يكون رفع أمة على معنى الفعل، وتقديره لا يستوي أمة هادية وأمة ضالة. وعلى
القول الثاني يكون رفعها بالابتداء. وقال الطبري لا يجوز الاقتصار في سواء على
أحد الذكرين دون الاخر. وإنما يجوز في ما أدري وما أبالي. قال الرماني: وهذا
غلط، لأنه ذهب عليه الفرق بين الاقتصار والحذف لان الحذف لابد فيه من
خلف يقوم مقامه. والاقتصار ليس كذلك، لأنه كالاقتصار على أحد المفعولين
563

في أعطيت، وحذفه في حسبت مرتجلا أي لنا. والخلف فيه دلالة الحال، فأما
أعطيت زيدا، فلا محذوف فيه، لأنه ليس معه خلف يقوم مقامه.
وقوله: (قائمة) فيه أربعة أقوال: قال الحسن وابن جريج معناه عادلة.
وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: معناه ثابتة على أمر الله. وقال السدي معناه
قائمة بطاعة الله وقال الأخفش، والزجاج: معناه ذو أمة مستقيمة، وهذا ضعيف
لأنه عدول عن الظاهر في أمة والحذف لا دلالة عليه. وقوله: (إناء الليل)
قيل في واحده قولان:
أحدهما - اني مثل نجي.
والثاني - اني مثل معي. وحكى الأخفش أنو، والجمع إناء. قال الشاعر:
حلو ومر كعطف القدح مرته * بكل اني حداه الليل ينتعل (1)
وروي ينتشر. وقال الحسن، والربيع، وعبد الله بن كثير معناه ساعات
الليل. وقال ابن مسعود يريد صلاة العتمة، لان أهل الكتاب لا يعلمونها، وقال
الثوري عن منصور هو الصلاة بين المغرب والعشاء. وقال السدي يعني جوف
الليل. وقوله: (وهم يسجدون) فيه قولان:
أحدهما - السجود المعروف في الصلاة.
الثاني - قال الفراء، والزجاج معناه يصلون. وبه قال البلخي، وغيره، لان
القراءة لا تكون في السجود، ولا في الركوع، وهذا ترك للظاهر، وعدول عنه.
ومعنى الآية يتلون آيات الله إناء الليل وهم مع ذلك يسجدون، فليست الواو حالا
وإنما هي عطف جملة على جملة، والضمير في قوله (ليسوا) عائد على أهل الكتاب،
لتقدم ذكرهم، وقال أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث. ومثله قوله:

(1) قائله؟ الهذلي وقد نسبه بعضهم إلى المنخل السعدي.
ديوان الهذليين 2: 35 ومجاز القرآن 1: 102 وسيرة بن هشام 2: 206 ورواية اللسان
(انى) والأزهري عن ابن الأنباري:
السالك الثغر مخشيا موارده * بكل اني؟ الليل ينتعل
وفي الديوان (حذاه) بدل (حداه) فقط
564

" عموا وصموا كثير منهم " (1) وقال الشاعر:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي * فاعرضن عني بالخدود النواضر (2)
قال الرماني، وهذا غلط، لأن هذه اللغة ردية في القياس والاستعمال أما
القياس، فلان الجمع عارض، والعارض لا يؤكد علامته، لأنه بمنزلة ما لا يعتد به،
في سائر أبواب العربية وليس كالثابت للزومه فتقدم له العلامة لتؤذن به قبل
ذكره ومع ذلك فجائز تركها فيه، فكيف بالعارض، ولزوم الفعل للفاعل يغني عن
التثنية والجمع فيه، فلا يدخل جمع على جمع كما لا يدخل تعريف على تعريف. وأما
الاستعمال، فلان أكثر العرب على خلافه.
قوله تعالى:
(يؤمنون بالله واليوم الآخر يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) (114)
آية واحدة.
المعنى:
هذه الآية فيها صفة الذين ذكرهم في الآية التي قبلها في قوله: " أمة قائمة
يتلون آيات الله إناء الليل وهم يسجدون " فأضاف إلى ذلك أنهم مع ذلك يصدقون
بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقد بينا أن الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، وأنه ليس طريق وجوبهما العقل، وإنما طريق
وجوبهما السمع، وعليه إجماع الأمة. وإنما الواجب بالعقل كراهة المنكر، فقط
غير أنه إذا ثبت بالسمع وجوبه، فعلينا إزالة المنكر بما يقدر عليه من الأمور الحسنة
دون القبيحة، لأنه لا يجوز إزالة قبيح بقبيح آخر، وليس لنا أن تترك أحدا

(1) سورة المائدة آية: 74.
(2) شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك 1: 399 وغيرها من كتب؟ كثير.
565

يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها سواء كانت المعصية من أفعال القلوب مثل
اظهار المذاهب الفاسدة أو من أفعال الجوارح، ثم ننظر، فان أمكننا إزالته
بالقول، فلا نزيد عليه، وإن لم يمكن إلا بالمنع من غير إضرار لم نزد عليه، فإن لم
يتم إلا بالدفع بالحرب، فعلناه على ما بيناه فيما تقدم، وإن كان عند أكثر أصحابنا
هذا الجنس موقوف على السلطان أو اذنه في ذلك. وانكار المذاهب الفاسدة،
لا يكون إلا بإقامة الحجج والبراهين والدعاء إلى الحق، وكذلك إنكار أهل الذمة
فأما الانكار باليد، فمقصور على من يفعل شيئا من معاصي الجوارح، أو يكون
باغيا على إمام الحق، فإنه يجب علينا قتاله ودفعه حتى يفئ إلى الحق، وسبيلهم
سبيل أهل الحرب، فان الانكار عليهم باليد والقتال حتى يرجعوا إلى الاسلام أو
يدخلوا في الذمة. وقوله: (ويسارعون في الخيرات) يحتمل أمرين:
أحدهما - أنهم يبادرون إليها خوف الفوات بالموت.
والثاني - يعملونها غير متثاقلين فيها لعلمهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها.
اللغة:
والفرق بين السرعة والعجلة ان السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه
وهي محمودة وضدها الابطاء وهو مذموم. والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن
يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها الأناة وهي محمودة.
قوله تعالى:
" وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين "
(115) آية بلا خلاف.
القراءة والحجة والاعراب:
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء فيهما. الباقون بالتاء إلا أبا عمرو، فإنه
566

كان يخبر، ووجه القراءة بالياء أن يكون كناية عمن تقدم ذكره من أهل الكتاب
ليكون الكلام على طريقة واحدة، ووجه التاء أن يخلطهم بغيرهم من المكلفين،
ويكون خطابا للجميع في أن حكمهم واحد.
وإنما جوزي ب‍ (ما) ولم يجاز ب‍ (كيف) لان (ما) أمكن من (كيف) لأنها
تكون معرفة ونكرة، لأنها للجنس و (كيف) لا تكون إلا نكرة، لأنها للحال
والحال لا تكون إلا نكرة، لأنها للفائدة
اللغة والمعنى:
وقوله: (فلن يكفروه) مجاز كما أن الصفة لله بأنه شاكر مجاز. وحقيقته
أنه يثيب على الطاعة ثواب الشاكر على النعمة، فلما استعير للثواب الشكر واستعبر
؟ قيضه من منع الثواب الكفر، لان الشكر في الأصل هو الاعتراف بالنعمة مع
ضرب من التعظيم، والكفر ستر النعمة من المنعم عليه بتضييع حقها. ومعنى الآية
فلن يمنعوا ثوابه، وسمي منع الجزاء كفرا، لأنه بمنزلة الجحد له بستر، لان
أصل الكفر الستر، ولذلك قيل لجاحد نعم الله ومن جرى مجراه في الامتناع من
القيام بحقها: كافر، فالكافر هو المضيع لحق نعمة الله بما يجري مجرى الجحود.
وقوله: (والله عليم بالمتقين) إنما خص المتقين بالذكر، لان الكلام اقتضى ذكر
جزاء المتقين، فدل على أنه لا يضيع شئ من عملهم، لان المجازي به عليم، وأنهم
أمر أمرهم الفجار تعويلا على ما ذكره في غيرها من أي الوعيد.
قوله تعالى:
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم
من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (116) آية.
المعنى:
لما ذكر تعالى أن عمل المتقين لن يضيع، وأنهم يجازون به، أستأنف حكم
567

الكافرين، وبين انه " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم " شيئا من الله وإنما
خص الأموال، والأولاد بالذكر في أنهم لا يغنون عن الكافر شيئا وإن كان
لا يغني عنهم غير هؤلاء أيضا شيئا، لأنهما معتمد ما يقع به الاعتداد، ومما يعول
عليه الانسان ويرجوه للشدائد ويفيد النفي العام، لأنه إذا لم يغن عنه من هو
حقيق بالغناء لمنع من لا يعجزه شئ فغناء من دونه أبعد.
اللغة:
وقوله: (وأولئك أصحاب النار) إنما سموا أصحاب النار، للزومهم فيها
كما يقال هؤلاء أصحاب الصحراء إذا كانوا ملازمين لها، وقد يقال أصحاب العقار
بمعنى ملاكه وأصحاب الرجل أتباعه وأعوانه وأصحاب العالم من يعني به الآخذون
عنه، والمتعلمون عنه، فالإضافة مختلفة. ومعنى " لن تغني عنهم " أي لن تدفع
عنهم ضرر الولاء النازل بهم ولو قيل أغناه كذا عن كذا أفاد أن أحد الشيئين
صار بدلا من الاخر في نفي الحاجة، والغنى الاختصاص بما ينفي الحاجة، فان
اختص بمال ينفي الحاجة، فذلك غنى. وكذلك الغنى بالجاه والأصحاب وغير
ذلك، فأما الغنى في صفت الله فاختصاصه بكونه قادرا على وجه لا يعجزه شئ،
وقولنا فيه: أنه غنى معناه أنه لا يجوز عليه الحاجة.
وأصل النار النور، وهو مصدر. والنار جنس تجري مجرى الوصف في
تضمنه معنى الأصل وزيادة عليه، لأنها جسم لطيف فيه حرارة ونور. ومنه
امرأة نوار أي نافرة عن الشر عفيفة، لأنها كالنار في الامتناع. ومنه المنار
الاعلام، لأنها كالنور في البيان. ومنه المنارة التي يسرج عليها.
قوله تعالى:
(مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر
أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن
568

أنفسهم يظلمون) (117) آية.
النزول:
قيل إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان، وأصحابه يوم بدر، لما تظاهروا
على النبي صلى الله عليه وآله في الانفاق. وقيل بل نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حروب
المشركين على وجه النفاق للمؤمنين.
المعنى:
والمثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما مشبه به، فلما كان إنفاق
المنافق والكافر ضائعا، ويستحق عليه العقاب والذم أشبه الحرث المهلك، فلذلك
ضرب به المثل. وفي الآية حذف، وتقديرها مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك
" ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم " فحذف الاهلاك لدلالة آخر الكلام
عليه وفيه تقدير آخر: مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، فيكون تشبيه ذلك الانفاق
بالمهلك من الحرث بالرياح.
اللغة:
والريح جمعه رياح ومنه الروح، لدخول الريح الطيبة على النفس، وكذلك
الارتياح. والتروح الراحة من التعب، لأنه بمنزلة الروح الذي يدخل على النفس
بزوال التعب. ومنه الاستراحة، والمراوحة، لأنها تجلب الريح. ومنه الروح،
لأنها كالريح في اللطافة ومنه الرائحة، لان الريح تحملها إلى الحس، ومنه الرواح، لأنه
رجوع كالريح، للاستراحة.
وقول: " فيها صر " قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي،
وابن زيد، والضحاك: هو البرد وأصله الصوت من الصرير. قال الزجاج: الصر
صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح ويجوز أن يكون الصر صوت الريح الباردة
569

الشديدة، وذلك من صفات الشمال، فإنها توصف بان لها قعقعة.
المعنى:
وقوله: (وما ظلمهم الله) نفي للظلم عن الله تعالى يعني في نفي استحقاقهم
للثواب، واستحقاقهم للعقاب، وإن ذلك ليس بظلم منه تعالى " ولكن أنفسهم
يظلمون " بذلك. وإنما وصفهم بأنهم ظلموا أنفسهم، لامرين:
أحدهما - أن ظلمهم اقتضى هلاك حرثهم عقوبة لهم، لأنه لو هلك على جهة
الابتلاء والمحنة لم يعتد بعاجل المضرة، للعوض الموفى عليه في العاقبة.
الثاني - أن يكونوا ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزرع أو في
غير وقت الزراعة، فجاءت الريح فأهلكته تأديبا من الله لهم في وضع الشئ غير
موضعه الذي هو حقه.
وقوله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم
خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي
صدروهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) (118)
آية بلا خلاف.
المعنى:
ذكر ابن عباس، والحسن: أن قوما من المؤمنين خافوا بعض المشركين في
اليهود، والمنافقين المودة لما كان بينهم في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك بهذه
الآية. والبطانة معناها ههنا خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويسمون دخلاء
أي لا تجعلوا من هذه صفته من غير المؤمنين.
570

اللغة، والاعراب
والبطن خلاف الظهر، فمنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، لأنها تلي بطنه.
وبطانة الرجل خاصته، لأنها بمنزلة ما يلي بطنه من ثيابه في القرب منه، ومنه البطنة
وهو امتلاء البطن بالطعام. والبطان حزام البعير، لأنه يلي بطنه.
وقوله: (من دونكم) (من) تحتمل وجهين:
أحدهما - أن تكون دخلت للتبعيض، والتقدير لا تتخذوا بعض المخالفين
في الدين بطانة.
والثاني - أن يكون دخولها لتبين الصفة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة من
المشركين. وهو أعم وأولى، لأنه لا يجوز أن يتخذ مؤمن كافرا بطانة على حال
وقال بعضهم إن (من) زائدة، وهذا ليس بجيد، لأنه لا يجوز أن يحكم بالزيادة
مع صحة حملها على الفائدة.
وقوله: (لا يألونكم خبالا) معناه لا يقصرون في أمركم خبالا من قولهم
ما ألوت في الحاجة جهدا، ولا أألو الامر ألوا أي لا أقصر جهدا. وقال الشاعر:
جهراء لا تألوا إذا هي أظهرت * بصرا ولا من علية تغنيني (1)
أي لا تقصر بصرا ولا تبصر، لأنها جهراء تطلب ذلك، فلا تجده.
ومنه الالية اليمين. ومنه قوله: " ولا يأتل أولو الفضل منكم " (2) معناه لا يقصر،
وقيل لا يحلف. والأصل التقصير والخبال معناه النكال. وأصله الفساد يقال في
قوائمه خبل، وخبال أي فساد من جهة الاضطراب. ومنه الخبل الجنون، لأنه
فساد العقل، ورجل مخبل الرأي أي فاسد الرأي. ومنه الاستخبال طلب إعادة
المال لفساد الزمان.

(1) قائله أبو العيال الهذلي. ديوان الهذليين 2. 263، واللسان (ألا) و (جهر)
وهو من شعر في؟ بينه وبين بدر بن عامر الهذلي. الجهراء: هي التي لا تصر في؟.
(2) سورة النور آية: 22.
571

المعنى:
وقوله: (ودوا) معناه أحبوا " ما عنتم " معناه إدخال المشقة عليكم.
وقال السدي: معناه " ودوا " ضلالكم عن دينكم، لان الحمل بالضلال مشقة.
وقبل معناه " ودوا " أن يفتنوكم في دينكم أي يحملونكم على المشقة ذكره ابن جريج.
اللغة:
وأصل العنت المشقة: عنت الرجل عنتا إذا دخلت عليه المشقة. ومنه أكمة
عنوت أي صعبة المسلك لمشقة السلوك فيها. وفلان يعنت فلانا أي يحمله على المشقة
الشديدة في ما يطالبه به. ومنه قوله تعالى: " ولو شاء الله لا عنتكم " (1).
الاعراب، والمعنى:
وموضع ودوا يحتمل أن يكون نصبا لأنه صفة لبطانة ويجوز أن يكون له
موضع من الاعراب، لأنه استئناف جملة. وقوله: (قد بدت البغضاء من
أفواههم) أي ظهر منها ما يدل على البغض " وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم
الآيات " يعني العلامات " إن كنتم تعقلون " يعني موضع نفعه لكم ومبلغ عائدته
عليكم. وقيل: معناه " إن كنتم تعقلون " الفصل بين ما يستحقه الولي والعدو.
قوله تعالى:
(ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب
كله وإذا لقوكم قارا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ
قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) (119) آية
بلا خلاف.

(1) سورة البقرة آية: 220.
572

المعنى، واللغة، والاعراب:
هذا خطاب للمؤمنين أعلمهم الله تعالى أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم
وأنهم هم يصحبون هؤلاء المنافقين بالبر والنصيحة، كما يفعله المحب، وإن المنافقين
على ضد ذلك، فأعلمهم الله ما يسره المنافقون في باطنهم، وذلك من آيات النبي صلى الله عليه وآله
قال الفراء: العرب إذا جاءت إلى اسم مكنى قد وصف بهذا، وهذان، وهؤلاء،
فرقوا بين (ها) وبين (ذا) فجعلوا المكنى منهما في جهة التقريب، لا غير يقولون:
أين أنت، فيقول القائل: هأنذا، ولا يكادون يقولون ها أنا. ومثله في
التثنية والجمع. ومثله قوله: " ها أنتم أولاء تحبونهم " وربما أعادوها فوصلوها
بذا، وهذان وهؤلاء، فيقولون ها أنت هذا قائما، وها أنتم هؤلاء. قال الله
تعالى: " ها أنتم هؤلاء جادلتم " (1) فإن كان الكلام على غير تقريب أو كان على
خبر يكتفي كل واحد منهما بصاحبه بلا فعل، والتقريب لابد فيه من فعل
لنقصانه وأحبوا أن يفرقوا بين معنى التقريب، وبين معنى الاسم الصحيح، قال
الأزهري: يحتمل أولا أن يكون منادى كأنه؟ ل يا أولاء. وقال نحاة البصريين (ها)
للتنبيه. وأنتم مبتدأ وأولاء خبره ويحبونهم حال. وقال الفراء: يحبونهم خبر.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون أولاء بمعنى الذين ويحبونهم صلة ويكون التقدير
الذين يحبونهم. ويجوز أن يكون حالا بمعنى " ها أنتم أولاء " محبين لهم. ويكون
" أنتم " مبتدأ وأولاء خبره. ويحبونهم حالا والمعنى انظروا إلى أنفسكم محبين لهم
ولا يجوز أن تقول: ها قومك أولاء، كما جاز " ها أنتم أولاء "، لان المضمر
أحق ب‍ (ها) التي للتنبيه، لأنه كالمبهم في عموم ما يصلح له. وليس كذلك الظاهر.
وقال؟: إنما ذاك على جهة التقريب في المضمر، والاعتماد على غيره في الخبر. قال
الحسن بن علي المغربي أولاء يعني به المنافقين، كما تقول ما أنت زيدا يحبه، ولا
يحبك. وهذا مليح غير أنه يحتاج أن يقدر عامل في أولاء ينصبه، يفسره قوله:

(1) سورة النساء آية: 108.
573

" يحبونهم " لأنه مشغول لا يعمل فيما قبله كقوله: " والقمر قدرناه " (1) في
من نصبه وأولاء للرجال، وللنساء أولات. وهو مبني على الكسر. وكان الأصل
السكون والألف قبلها ساكنة فحرك لالتقاء الساكنين على أصل الكسرة. وقوله:
(وتؤمنون بالكتاب كله) الكتاب واحد في موضع الجمع، لأنه أريد به الجنس،
كما يقال كثر الدرهم في أيدي الناس ويحتمل أن يكون مصدرا من قولك كتبت
كتابا. والمراد بالكتاب ههنا كتب الله التي أنزلها على أنبيائه وفي إفراده ضرب
من الايجاز، واشعار بالتفصيل في الاعتقاد، لأنهم يؤمنون بها في الجملة. والتفصيل
من حيث يؤمنون بما أنزل على إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسائر
الأنبياء. وقوله: " وإذا لقوكم قالوا آمنا " معناه إذا رأوكم قالوا صدقنا " وإذا
خلوا " مع أنفسهم " عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " فالعض بالأسنان. ومنه العض
علف الأمصار، لان له مضغة في العض يسمن عليها المال. ومنه رجل عض: لزاز
الخصم، لأنه يعض بالخصومة. وكذلك رجل عض فحاش، لأنه يعض بالفحش
والأنامل أطراف الأصابع في قول قتادة، والربيع، وأصلها النمل المعروف، فهو
مشبه به في الرقة، والتصرف بالحركة. ومنه رجل نمل أي نمام، لأنه ينقل الأحاديث
الكرهة كنقل النملة في الخفاء والكثرة. وواحد الأنامل أنملة. قال الزجاج ولم
يأت على هذا المثال ما يعني به الواحد إلا شذ، فأما الجمع، فكثير نحو أفلس وأكعب
وقوله: (قل موتوا بغيظكم) معناه الامر بالدعاء عليهم. وإن كان لفظه لفظ
الامر، كأنه قال قل: أماتكم الله بغيظكم وفيه معنى الذم لهم، لأنه لا يجوز
أن يدعا عليهم هذا الدعاء إلا وقد استحقوه بقبيح ما أتوه.
قوله تعالى:
(إن تمسسكم حسنة تسوءهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا
بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون

(1) سورة يس آية: 39.
574

محيط) (120) آية بلا خلاف.
قرأ عمرو، ونافع، وابن كثير " لا يضركم " خفيفة. الباقون مشددة
الراء. وهما لغتان ضاره يضيره، وضره يضره ضرا بمعنى واحد. قوله: " إن
تمسسكم " حسنة فالمراد بالحسنة ههنا ما أنعم الله عليهم به من الألفة والغلبة
باجتماع الكلمة، والمراد بالسيئة المحنة بإصابة العدو منهم لاختلاف الكلمة، وما
يؤدي إليه من الفرقة هذا قول الحسن، وقتادة والربيع وابن جريج.
وقوله: (وإن تصبروا وتتقوا) يعني تتقوا الله بامتناع معاصيه، وفعل
طاعاته " لا يضركم كيدهم " فالكيد المكر الذي يغتال به صاحبه من جهة حيلة
عليه ليقع في مكروه به، وأصله المشقة تقول: رأيت فلانا يكيد بنفسه أي يقاسي
المشقة في سياق المنية، ومنه المكايدة لايراد ما فيه المشقة. والمكيدة الحيلة لايقاع
ما فيه المشقة. وقوله: (لا يضركم) مبني على الضم نحو مذ ولو فتح أو كسر
لكان جائزا في العربية وزعم بعضهم أنه رفع على حذف الفاء بتقدير، فلا
يضركم وأنشد:
فإن كان لا يرضيك حتى تردني * إلى قطري لا أخالك راضيا (1)
وهذا ضعيف، لان الحذف إنما يجوز، لضرورة الشعر والقرآن لا يحمل
على ضرورة الشعر. وقوله: (إن الله بما تعملون محيط) معناه عالم به من جميع
جهاته مقتدر عليه.
قوله تعالى:
" وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله
سميع عليم " (121) آية.

(1) قائله سوار بن المضرب السعدي التميمي. نوادر أبي زيد: 54، ومعاني القرآن
للفراء 1: 32؟، وحماسة ابن الشجري: 54، 55.
575

المعنى، واللغة، والاعراب
قال ابن عباس، وقتادة والربيع، والسدي، وابن اسحق، وهو قول
أبي جعفر (ع): كان غدو النبي صلى الله عليه وآله مبوئا للمؤمنين يوم أحد، وقال الحسن
ومجاهد: كان يوم الأحزاب.
النبوئة اتخاذ المواضع لصاحبه وأصلها اتخاذ منزل تسكنه، تقول بوأته
منزله أبوئه تبوئة، ومنه المباءات المراح، لأنه رجوع إلى المستقر المتخذ وأبأت
الإبل أبيئها اباءة إذا رددتها إلى المباءة. ومنه بوأت بالذنب أي رجعت به محتملا له.
وقوله: " والله سميع عليم " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها انه تهدد والمراد " سميع " لما يقول المنافقون " عليم " بما
يضمرون.
الثاني - " سميع " لما يقوله النبي صلى الله عليه وآله للمؤمنين " عليم " بما؟
تزكية له صلى الله عليه وآله.
الثالث - " سميع " ما يقوله المشيرون عليك " عليم " بما يضمرونه، لأنهم
اختلفوا، فمنهم من أشار بالخروج، ومنهم من أشار بالمقام. وفيه تزكية للزاكي
وتهدد للغاوي. ومعنى " تبوئ المؤمنين " مثل تبوئ للمؤمنين حذف اللام، كما قال
" ردف لكم " (1) ويجوز ردفكم، فإذا عداه، فعناه رتب المؤمنين على
مواضعهم قدمة. وإذا لم يتعد فمعناه تتخذ لهم مواضع. ومثله قول الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست محصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل (2)
ومعناه من ذنب، والعامل في (إذ) محذوف، وتقديره واذكر إذ غدوت
من أهلك فحذف لدلالة الكلام عليه ولا يجوز أن يكون العامل غدوت، لأنه
مضاف إليه بمنزلة الصلة له.

(1) سورة النمل آية 72.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 233 وسيبويه 1: 17 والخزانة 1: 486 وهو من
أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها.
576

قوله تعالى:
(إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله
فليتوكل المؤمنون) (122) آية.
التقدير واذكر " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " وقال الزجاج العامل
في (إذ) " همت أن تفشلا " والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت. والطائفتان:
هما بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الأنصار في قول ابن عباس، وجابر بن عبد الله،
والحسن وقتادة، ومجاهد، والربيع، والسدي، وابن إسحاق، وابن زيد،
وأبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقال الجبائي: هما قوم من المهاجرين، والأنصار.
والفشل الجبن في قول ابن عباس تقول فشل يفشل فشلا. والجبن ليس من فعل
الانسان وتحقيقه على هذا همت بحال الفشل إلا أنه وضع كلام موضع كلام. وليس
في الآية أن همهما بالفشل كان معصية، لأنه قد يكون من غير عزم على حال الفشل
بل بحديث النفس به، ومن قال كان معصية قال هي صغيرة، لقوله " والله وليهما "
وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال فينا نزلت وما أحب أنها لم تكن، لقوله:
" والله وليهما " وكان سبب همهم بالفشل في قول السدي، وابن جريج أن عبد الله
ابن أبي بن سلول دعاهما إلى الرجوع إلى المدينة عن لقاء المشركين يوم أحد فهما
به ولم يفعلاه. وقال أبو علي: بل كان ذلك باختلافهم في الخروج إلى العدو أو
المقام حتى هموا بالفشل. والتاء مدغمة في الطاء في قوله: " إذ همت طائفتان "
لأنها من مخرجها فصارت بمنزلتها مع مثلها نحو همت تفعل ومثله " وقالت طائفة " (1)
ويجوز أيضا إدغام الطاء في التاء إلا انك تبقي الاطباق نحو " أحطت بما لم تحط " (2)
والأول أحسن.

(1) سورة الأحزاب آية: 13.
(2) سورة النمل آية: 22.
577

قوله تعالى:
" ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم
تشكرون " (123) آية.
النزول واللغة:
هذه الآية نزلت في وصف ما من الله تعالى على المؤمنين من النصر والامداد
بالملائكة وظفر المؤمنين بالمشركين مع قلة المؤمنين وقوة المشركين. فإنه روي عن
ابن عباس (ره) أنه قال كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلا والأنصار
مئتين وستة وثلاثين رجلا الجميع ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وكان المشركون نحوا
من ألف رجل.
وبدر ما بين مكة والمدينة وقال الشعبي سمي بدرا لان؟ ك ماء لرجل يسمى
بدرا، فسمي الموضع باسم صاحبه. وقال الواقدي عن شيوخه إنما هو اسم للموضع
كما يسمى كل بلد باسم يخصه من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه.
وقوله: (وأنتم أذلة) جملة في موضع الحال. والذلة الضعف عن المقاومة،
وضدها العزة، وهي القوة على الغلبة، ويقال للجمل المنقاد من غير صعوبة: ذلول
لانقياده انقياد الضعيف، فأما الذليل فإنما ينقاد على مشقة. ومنه تذليل الطريق،
ونحوه، وهو توطئة الأصل. وفيه الضعف عن المقاومة. وقوله: " أذلة " جمع ذليل
وفعيل قياسه أن يجمع على فعلاء إذا كان صفة، مثل ظريف وظرفاء، وكريم وكرماء،
وعليم وعلماء، وشريك وشركاء، فجمع على أفعلة كراهية التضعيف، فعدل إلى جمع
الأسماء نحو؟ وأقفزة، فقيل ذليل وأذلة وعزيز وأعزة.
المعنى:
ووصفهم الله بأنهم أذلة لأنهم كانوا ضعفاء قليلي العدد قليلي العدة. وروي
عن بعض السلف الصالح أنه قرأ " وأنتم ضعفاء " قال ولا يجوز وصفهم بأنهم أذلة،
578

وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله.
وكان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر أمير المؤمنين علي بن
طالب (ع). وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة. وقوله " فاتقوا الله " معناه
اتقوا معاصيه واعملوا بطاعته. ويجوز أن يكون المراد اتقوا عقاب الله بترك
المعاصي، والعمل بطاعته، لان أصل الاتقاء هو الحجز بين الشيئين بما يمنع من
وصول أحدهما إلى الاخر كما تقول اتقاه بالترس أو غيره، ووجه ادخال هذه الآية
وهي متعلقة بقصة بدر بين قصة أحد أن الله تعالى وعد المؤمنين النصر يوم أحد
إن صبروا وثبتوا أن يمدهم بالملائكة كما نصرهم يوم بدر، وأمدهم بالملائكة فلما لم
يصبروا وتركوا مراكزهم أصاب العدو منهم ما هو معروف.
قوله تعالى:
" إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة
آلاف من الملائكة منزلين " (124) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر وحده منزلين بتشديد الزاي الباقون بالتخفيف. التقدير
اذكروا " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم " وفيه إخبار أن
النبي صلى الله عليه وآله قال لقومه: ألن يكفيكم يوم بدر بأن أمدكم بثلاثة آلاف من الملائكة
منزلين، ثم قال " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم
بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " يعني يوم أحد. وقال ابن عباس، والحسن
وقتادة، ومالك بن ربيعة وغيرهم: ان الامداد بالملائكة كان يوم بدر. وقال
ابن عباس لم يقاتل الملائكة (ع) إلا يوم بدر، وكانوا في غيره من الأيام عدة ومددا.
وقال الحسن: كان جميعهم خمسة آلاف. وقال غيره: كانوا ثمانية آلاف.
اللغة:
وقوله: " ألن يكفيكم " فالكفاية مقدار يسد به الخلة تقول: كفاه يكفيه كفاية، فهو
كاف: إذا قام بالامر، واستكفيته أمرا فكفاني، واكتفى به اكتفاء.
579

وكفاك هذا الامر أي حسبك. والفرق بين الاكتفاء والاستغناء، أن الاكتفاء
هو الاقتصار على ما ينفي الحاجة والاستغناء الاتساع فيما ينفي الحاجة، فلذلك يوصف
تعالى بأنه غني بنفسه لاتساع مقدوره من حيث كان قادرا لنفسه لا يعجزه شئ.
وقوله: " أن يمدكم " فالامداد هو إعطاء الشئ حالا بعد حال. والمعني في الآية
ان الله أعطاهم القوة في أنفسهم ثم زادهم قوة بالملائكة والمد في السير هو الاستمرار
عليه. وامتد بهم السير: إذا طال، واستمر، ومددت الشئ إذا جذبته. والمد
زيادة الماء تقول: مد الماء وأمد الجرح وامددت العسكر. والمادة زيادة مستمرة،
والمدة أوقات مستمرة إلى غاية. والمداد ما يكتب به. والمد مكيال مقداره ربع
الصاع.
قوله تعالى:
(بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم
ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) (125) آية.
القراءة والمعنى:
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم " مسومين " بكسر الواو. الباقون
بفتحها. والقراءة بالكسر أقوى، لان الاخبار وردت بأنهم سوموا خيلهم بعلامة
جعلوها عليها. وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والضحاك: كانوا
علموا بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها. وروى هشام عن عروة قال: نزلت
الملائكة يوم بدر على خيل بلق وعليهم عمائم صفر. قال السدي، وغيره من أهل
التأويل: معنى " مسومين " معلمين.
اللغة، والمعنى:
ومن قرأ بالفتح أراد معنى مرسلين من الإبل السائمة يعني المرسلة في المرعي
580

والسيما العلامة قال الله تعالى " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " (1) فالتسويم
العلامة قال الشاعر:
مسومين بسيما النار أنفسهم * لا مهتدين ولا بالحق راضينا
وأصل الباب السوم في المرعى، وهو الاستمرار فيه فمنه السيماء، لأنهم كانوا
يعلمونها: إذا أرسلت في المرعى لئلا تختلط، ومنه السوم في البيع، ومنه سوم
الريح استمرارها في هبوبها. ومنه سوم الخسف، لأنه استمرار في إلزام الشر.
وقوله: " من فورهم " قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي
وابن زيد: معناه من وجههم. وقال مجاهد والضحاك وأبو صالح من غضبهم، فعلى
القول الأول إنما هو فور الانتداب لهم، وهو ابتداؤه، وعلى القول الثاني فور
الغضب، وهو غليانه.
وأصل الفور فور القدر، وهو غليانها عند شدة الحمى، فمنه فورة الغضب،
لأنه كفور القدر بالحمى، ومنه جاء فلان على الفور أي على أشد الحمى، لفعله قبل أن
تبرد نفسه. ومنه فارت العين بالماء أي جاشت به ومنه الفوارة، لأنها تفور بالماء
كما تفور القدر بما فيها. فان قيل: كيف قال في الآية الأولى ان الامداد بثلاثة
آلاف، وفي هذه بخمسة آلاف. وهذا ظاهر التناقض؟! قلنا: لا تناقض في ذلك
لان في الآية الأولى وعد الله المؤمنين على لسان نبيه بأن يمدهم بثلاثة آلاف
منزلين ثم قال " بلي إن تصبروا وتتقوا " يعني تصبروا على الجهاد، والقتال، وتتقوا
معاصي الله " ويأتوكم من فورهم " وهذا يعني ان رجعوا إليكم، لان الكفار
في غزاة أحد بعد انصرافهم ندموا لم لم يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع،
فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن يأمر أصحابه بالتهيؤ للرجوع إليهم. وقال لهم
" ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " (2) ثم قال إن صبرتم على الجهاد
وراجعتم الكفار، أمدكم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، فأخذوا في

(1) سورة الفتح آية: 29.
(2) سورة آل عمران آية: 140.
581

الجهاز فبلغ ذلك قريشا فخافوهم أن يكون قد التأم إليهم من كان تأخر عنهم وانضم
إليهم غيرهم، فدسوا نعيم بن مسعود الأشجعي حتى قصدهم بتعظيم أمر قريش
وأسرعوا. والقصة معروفة ولذلك قال قوم من المفسرين: ان جميعهم ثمانية الألف
وقال الحسن جميعهم خمسة آلاف منهم الثلاثة آلاف المنزلين على أن الظاهر يقتضي
أن الامداد بثلاثة آلاف كان يوم بدر، لان قوله: " إذ تقول للمؤمنين " متعلق
بقوله: " ولقد نصركم الله ببدر " " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم
ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " ثم استأنف حكم يوم أحد، فقال:
" بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم " يعني رجعوا عليكم بعد انصرافهم
أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. والقصة في ذلك معروفة على ما بيناه،
وعلى هذا لا تنافي بينهما، وهذا قول البلخي رواه عن عمرو بن دينار عن عكرمة
قال: لم يمدوا يوم أحد ولا بملك واحد. فان قيل لم لم يمدوا بالملائكة في سائر
الحروب؟ قلنا: ذلك تابع للمصلحة فإذا علم الله المصلحة في إمدادهم أمدهم.
قوله تعالى:
(وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما
النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) (126) آية.
الهاء في قوله: " وما جعله الله " عائدة على ذكر الامداد والوعد فيعود على
معلوم بالدلالة عليه غير مذكور باسمه لان يمدد يدل على الذكر للامداد ومثله " إذ عرض
عليه بالعشي الصافيات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت
بالحجاب " (1) أي الشمس. وقال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر * وأجن عورات الثغور وظلامها (2)
أي القت الشمس فرد الضمير إلى معلوم ليس بمذكور. وقال قوم: ان الضمير

(1) سورة ص آية: 32.
(2) دائرة المعارف لوجدي. وغيرها. الكافر: الليل والاجنان: الستر والثغر:
موضع المخافة.
582

راجع إلى الامداد نفسه. والأول أقوى لان البشرى في صفات الانزال وذلك يليق
بذكر الامداد. والفرق بين قوله: " ولتطمئن قلوبكم به " وقوله واطمئنانا لقلوبكم،
أن الوعد في أحدهما اطمئنان، وفي الاخر سببه الاطمئنان، فهو أشد في تحقيق
الكلام من أجل دخول اللام. وقوله: " وما النصر إلا من عند الله " معناه أن
الحاجة لازمة في المعونة وان أمدهم بالملائكة فإنهم لا يستغنون عن معونته طرفة
عين في تقوية قلوبهم وخذلان عدوهم بضعف قلوبهم إلى غير ذلك من الأمور التي
لأقوام لهم إلا بها ولا متكل لهم إلا عليها. فان قيل: كيف قال " وما النصر إلا من
عند الله " وقد ينصر المؤمنون بعضهم بعضا وبعض المشركين بعضا؟ قلنا: لان
نصر بعض المؤمنين بعضا من؟ الله لأنه بمعونته وحسن توفيقه، وأما نصر
المشركين بعضهم، لبعض، فلا يعتد به، لأنه بخذلان الله من حيث أن عاقبته
إلى شر مآل من العقاب الدائم. وقوله: " العزيز الحكيم " معناه ههنا العزيز في
انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين، الحكيم في تدبيره للعالمين ليعلمهم بأن حربهم
للمشركين يجري على اعزاز الدين، والحكمة في تدبير المكلفين ومعنى العزيز المنيع
باقتداره.
قوله تعالى:
(ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين)
(127) آية.
المعنى:
قوله: " ليقطع طرفا من الذين كفروا " يحتمل أن يتصل بثلاثة أشياء:
أحدها - " وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفا من الذين ".
الثاني - بقوله ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفا.
الثالث - ذلك التدبير ليقطع طرفا.
583

واليوم الذي قطع فيه الطرف من الذين كفروا: هو يوم بدر بقتل صناديدهم
ورؤسائهم وقادتهم إلى الكفر في قول الحسن، والربيع، وقتادة. وقال السدي:
هو يوم أحد قتل منهم ثمانية عشر رجلا. وإنما قال: " ليقطع طرفا " منهم ولم
يقل ليقطع وسطا منهم، لأنه لا يوصل إلى الوسط منهم إلا بعد قطع الطرف ومثله
" قاتلوا الذين يلونكم " (1) والمراد بالآية ليقطع قطعة منهم.
اللغة:
وقوله: " أو يكبتهم " فالكبت الخزي. ومعناه أو يخزيهم في قول الربيع،
وقتادة. وقال الخليل: الكبت صرع الشئ على وجهه كبتهم الله فانكبتوا.
وحقيقة الكبت شدة وهن يقع في القلب فربما صرع الانسان لوجهه للخور الذي
يدخله. وقوله: " فينقلبوا " أي فيرجعوا " خائبين " الخائب المنقطع عما أمل،
ولا تكون الخيبة إلا بعد الامل، لأنها امتناع نيل ما أمل. واليأس قد يكون
قبل الامل ويكون بعده. واليأس والرجاء نقيضان يتعاقبان كتعاقب الخيبة
والظفر، يقال: خاب يخيب خيبة وخيبه الله تخييبا. والخيبة حرمان المراد.
قوله تعالى:
(ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم
فإنهم ظالمون) (128) آية بلا خلاف.
القصة، والمعنى:
روي عن أنس بن مالك وابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع: انه لما
كان من المشركين يوم أحد من كسر رباعية النبي صلى الله عليه وآله وشجه حتى جرت الدماء
على وجهه، قال كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم، وهو مع ذلك حريص على

(1) سورة التوبة آية: 124.
584

دعائهم إلى ربهم، فنزلت هذه الآية، فأعلمه الله أنه ليس إليه فلاحهم وأنه ليس
إليه إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين. وكان الذي كسر رباعيته وشجه
في وجهه عتبة بن أبي وقاص، فدعا (ع) عليه الا يحول عليه الحول حتى يموت
كافرا، فمات كافرا قبل حول الحول. وقيل: انه هم بالدعاء عليهم، فنزلت الآية
تسكينا له، فكف عن ذلك. وقال أبو علي الجبائي: انه استأذن ربه يوم أحد في
الدعاء عليهم، فنزلت الآية، فلم يدع عليهم بعذاب الاستئصال وإنما لم يؤذن فيه
لما كان في المعلوم من توبة بعضهم، وإنابته، فلم يجز أن يقتطعوا عن التوبة بعذاب
الاستئصال. فان قيل كيف قال " ليس لك من الامر شئ " مع أن له أن يدعوهم
إلى الله ويؤدي إليهم ما أمره بتبليغه؟ قيل: لان معناه ليس لك من الامر شئ
في عقابهم أو استصلاحهم حتى تقع إنابتهم، فجاء الكلام على الايجاز، لان المعنى
مفهوم لدلالة الحال عليه وأيضا فإنه لا يعتد بما له في تدبيرهم مع تدبير الله لهم،
فكأنه قال ليس لك من الامر شئ على وجه من الوجوه.
وقوله: " أو يتوب عليهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أو يلطف لهم بما يقع معه توبتهم، فيتوب عليهم بلطفه لهم.
والاخر - أو يقبل توبتهم إذا تابوا، كما قال تعالى " غافر الذنب وقابل
التوب " (1) ولا تصح هذه الصفة إلا لله عز وجل، لأنه يملك الجزاء بالثواب،
والعقاب. فان قيل: كيف قال " أو يعذبهم " مع ما في المعلوم من أن بعضهم
يؤمن؟ قيل: لأنهم يستحقون ذلك باجرامهم بمعنى أنه لو فعل بهم لم يكن ظلما،
وإن كان لا يجوز أن يقع لوجه آخر يجري مجرى تبقيتهم لاستصلاح غيرهم. وقيل
في نصب " أو يتوب عليهم " وجهان:
أحدهما - أنه بالعطف على " ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم " " أو يتوب
عليهم أو يعذبهم " ويكون " ليس لك من الامر شئ " اعتراضا بين المعطوف
والمعطوف عليه كما تقول: ضربت زيدا فافهم ذاك وعمرا.

(1) سورة المؤمن آية: 3.
585

الثاني أن تكون أو بمعنى إلا أن، كأنه قال: ليس لك من الامر شئ "
إلا أن يتوب الله عليهم أو يعذبهم فيكون أمرك تابعا لامر الله برضاك بتدبيره
فيه قال امرؤ القيس:
فقلت له: لا تبك عينك إنما * نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (1)
أراد إلا أن نموت أو حتى نموت.
قوله تعالى:
(ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب
من يشاء والله غفور رحيم) (129) آية بلا خلاف.
عموم قوله: " ولله ما في السماوات وما في الأرض يقتضي أن له تعالى
ملك ما في السماوات، وما في الأرض، وأن له التصرف فيهما كيف شاء بلا دافع،
ولا مانع، غير أنه لابد من تخصيص هذا العموم من حيث أنه ينزه عن الصاحبة
والولد على كل وجه. وأوجه ما قلناه. وإنما ذكر لفظ (ما) لأنها أعم من (من)
لأنها تتناول ما يعقل، وما لا يعقل، لأنها تفيد الجنس ولو قال من في السماوات
ومن في الأرض لم يدخل فيه إلا العقلاء إلا أن يحمل على التغليب وذلك ليس
بحقيقة. وقوله: " يغفر لمن يشاء " دليل على أن حسن العفو عن مستحق العذاب،
وان لم يتب لأنه لم يشترط فيه التوبة. وقوله: " ويعذب من يشاء " يعني ممن
يستحق العذاب، لان من لا يستحق العذاب لا يشأ عذابه، لأنه ظلم يتعالى الله
عن ذلك وفي ذلك دلالة على جواز العفو بلا توبة، لأنه علق عذابه بمشيئته، فدل
على أنه لو لم يشأ، لكان له ذلك، ولا يلزم على ما قلناه الشك في جواز غفران
عقاب الكفار، لان ذلك أخرجناه من العموم بدلالة إجماع الأمة على أنه لا يغفر

(1) ديوانه: 89 يقول: انا نطلب الملك فان وصلنا إليه والا نبقي في طلبه حتى نموت.
دونه وهذا؟.
586

الشرك. وبقوله: " ان الله لا يغفر أن يشرك به " (1) ولولا ذلك لكنا نجوز
العفو عنهم أيضا ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما قال ليس لك من الامر
شئ عقب ذلك بأن الامر كله لله في السماوات والأرضين.
قوله تعالى:
" يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا
الله لعلكم تفلحون " (130) آية.
النظم، والمعنى:
لما ذكر الله تعالى أن له عذاب من يشاء، والعفو عمن يشاء، وصل ذلك
بالنهي عما لو فعلوه لاستحقوا عليه العقاب، وعذبوا عليه، وهو الربا، والربا
المنهي عنه قال عطا، ومجاهد: هو ربا الجاهلية، وهو الزيادة على أصل المال بالتأخير
عن الأجل الحال. ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة من جهة المضاعفة،
ووجه تحريم الربا هو المصلحة التي علمها الله تعالى. وقيل فيه وجوه على وجه
التقريب: منها للفصل بينه وبين البيع. ومنها - أنه مثال العدل يدعو إليه ويحض
عليه. ومنها - أنه يدعو إلى مكارم الأخلاق بالاقراض وانظار المعسر من غير زيادة.
وهذا الوجه روي عن أبي عبد الله (ع). وقوله: " أضعافا مضاعفة " قيل في
معناه ههنا قولان:
أحدهما - للمضاعفة بالتأخير أجلا بعد أجل كلما أخر عن أجل إلى غيره زيد
عليه زيادة على المال
الثاني - " أضعافا مضاعفة " أي يضاعفون في أموالكم. وقيل في تكرير
تحريم الربا ههنا مع ما تقدم في قوله: " وأحل الله البيع وحرم الربا " (2) وغير
ذلك قولان:

(1) سورة النساء آية: 47، 115.
(2) سورة البقرة آية: 275.
587

أحدهما - للتصريح بالنهي عنه بعد الاخبار بتحريمه لما في ذلك من تصريف
الخطر له وشدة التحرز منه.
الثاني - لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الذي يجري على الأضعاف المضاعفة.
وقوله: " واتقوا الله " معناه اتقوا معاصيه. وقيل: اتقوا عذابه بترك معاصيه
" لعلكم تفلحون "، لكي تنجحوا بادراك ما تأملونه، وتفوزوا بثواب الجنة، لان
(لعل) وإن كان للشك، فان ذلك لا يجوز على الله تعالى. وقد بينا لذلك نظائر
فيما مضى.
قوله تعالى:
(واتقوا النار التي أعدت للكافرين (131) وأطيعوا الله
والرسول لعلكم ترحمون) (132) آيتان بلا خلاف.
المعنى:
فان قيل كيف قال " واتقوا النار التي أعدت للكافرين " وعندكم يجوز
أن يدخلها الفساق أيضا. وعند المعتزلة كلهم يدخلها الفساق قطعا. وهلا قال: أعدت
للجميع؟ قلنا أما على ما نذهب إليه، ففائدة ذلك اعلامنا أنها أعدت للكافرين
قطعا. وذلك غير حاصل في الفساق، لأنا نجوز العفو عنهم. ومن قال أعدت للفساق
قال أضيفت إلى الكافرين، لأنهم أحق بها. وإن كان الجميع يستحقونها، لان
الكفر أعظم المعاصي فأعدت النار للكافرين. ويكون غيرهم من الفساق تبعا لهم
في دخولها. فان قيل: فعلى هذا هل يجوز أن يقال: ان النار أعدت لغير الكافرين
من الفاسقين؟ قلنا عن ذلك أجوبة:
أحدها - قال الحسن يجوز ذلك، لأنه من الخاص الذي معه دلالة على العام،
كما قال: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم
588

بعد إيمانكم " (1) وليس كل من دخل النار كفر بعد إيمانه. ومثله قوله: " كلما
القي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير " (2) وليس كل الكفار يقول
ذلك. ومنه قوله: " فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون. قالوا وهم
فيها يختصمون تالله ان كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين " (3) وليس
كل الكفار سووا الشياطين برب العالمين.
والثاني - أنه لا يقال أعدت لغيرهم من الفاسقين، لان اعدادها للكافرين
من حيث كان عقابهم هو المعتمد وعقاب الآخرين له تبع، كما قال: " وجنة
عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين " (4) ولا خلاف أنه يدخلها الأطفال
والمجانين إلا أنهم تبع للمتقين، لأنه لولاهم لم يدخلوها. ولا يقال: إن الجنة أعدت
لغير المتقين.
الثالث - أن تكون هذه النار نارا مخصوصة فيها الكفار خاصة دون الفساق
وإن كان هناك نار أخرى يدخلها الفساق، كما قال: " لا يصلاها إلا الأشقى الذي
كذب وتولى " (5) وكما قال: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " (6)
وهذا قول أبي علي. واستدل البلخي بهذه الآية على أن الربا كبيرة، لان تقديره
" واتقوا النار التي أعدت للكافرين " ان يأكلوا الربا، فيستحقونها. والاجماع
حاصل على أن الربا كبيرة، فلا يحتاج إلى هذا التأويل، لان الآية يمكن أن يقول
قائل: إنها بمعنى الزجر والتحذير عن الكفر، فقط
وقوله: " أعدت " فالاعداد هو تقديم عمل الشئ لغيره مما هو متأخر عنه
وقد قدم فعل النار ليصلاها الكفار. والاعداد والايجاد والتهيئة والتقدمة متقاربة
المعنى وقوله: " وأطيعوا الله والرسول ": أمر بالطاعة لله ورسوله. والوجه في
الامر بالطاعة لله ورسوله مع أن العقل دال عليه يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون ذلك تأكيدا لما في العقل، كما وردت نظائره، كقوله:

(1) سورة آل عمران آية: 106
(2) سورة الملك آية: 8.
(3) سورة الشعراء آية: 94 - 98
(4) سورة آل عمران آية: 133
(5) سورة الليل: 15 - 16
(6) سورة النساء آية: 144
589

" ليس كمثله شئ " (1) " ولا تدركه الابصار " (2) وغير ذلك.
والثاني - لاتصاله بأمر الربا الذي لا تجب الطاعة فيه إلا بالسمع، لأنه ليس
مما يجب تحريمه عقلا كما يجب تحريم الظلم بالعقل، فان قيل: إذا كانت طاعة الرسول
طاعة الله فما وجه التكرار؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - المقصود بها طاعة الرسول فيما دعا إليه مع القصد لطاعة الله تعالى.
الثاني - ليعلم أن من أطاعه فيما دعا إليه كمن أطاع الله، فيسارع إلى ذلك بأمر
الله. والطاعة موافقة الإرادة الداعية إلى الفعل بطريق الرغبة، والرهبة. ولذلك
صح أن يجيب الله تعالى عبده، وان لم يصح منه أن يطيعه، لان الإجابة إنما
هي موافقة الإرادة مع القصد إلى موافقتها على حد ما وقعت من المريد. وقوله:
" لعلكم ترحمون " يحتمل أمرين:
أحدهما - لترحموا. وقد بينا لذلك نظائر.
والثاني - ان معناه ينبغي للعباد أن يعملوا بطاعة الله على الرجاء للرحمة
بدخول الجنة، لئلا يزلوا فيستحقوا الاحباط والعقوبة أو يوقعوها على وجه
لا يستحق به الثواب، بل يستحق به العقاب. وفيها معنى الشك، لكنه للعباد
دون الله تعالى.
النظم:
وقيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان:
أحدهما - لاتصال الامر بالطاعة بالنهي عن أكل " الربا أضعافا مضاعفة "
كأنه قال وأطيعوا الله فيما نهاكم عنه من أكل الربا، وغيره لتكونوا على سبيل
الهدى.
الثاني - قال ابن إسحاق: انه معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وآله، بما
أمرهم به يوم أحد: من لزوم مراكزهم، فخالفوا واشتغلوا بالغنيمة إلا

(1) سورة الشورى آية: 11
(2) سورة الأنعام آية 103.
590

طائفة منهم قتلوا. وكان ذلك سبب هزيمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.
قوله تعالى:
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات
والأرض أعدت للمتقين) (133) آية.
قرأ نافع وابن عامر " سارعوا " بلا واو، والباقون بالواو، وكذلك هي
في مصاحف أهل الشام بلا واو. وفي مصاحف أهل العراق بالواو، والمعنى واحد،
وإنما الفرق بينهما استئناف الكلام إذا كان بلا واو، ووصلها بما تقدم إذا قرئ
بواو، لأنه يكون عطفا على ما تقدم. وفي هذه الآية الامر بالمبادرة إلى مغفرة
الله باجتناب معصيته وإلى الجنة التي عرضها السماوات والأرض بفعل طاعته.
واختلفوا في قوله " عرضها السماوات والأرض " فقال ابن عباس، والحسن:
معناه عرضها كعرض السماوات السبع، والأرضين السبع إذا ضم بعض ذلك إلى
بعض، واختاره الجبائي، والبلخي. وإنما ذكر العرض بالعظم دون الطول، لأنه
يدل على أن الطول أعظم، وليس كذلك لو ذكر الطول بدلا من العرض. ومثل
الآية قوله: " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " (1) ومعناه إلا كبعث
نفس واحدة. وقال الشاعر:
كأن عذيرهم بجنوب سلى * نعام قاق في بلد قفار (2)
أي عذير نعام وقال آخر:

(1) سورة لقمان آية: 28.
(2) قائله شفيق بن جزء بن زياح الباهلي وقد نسبه بعضهم لاعشي باهلة. ونسب أيضا
للنابغة خطا. اللسان (فوق) (سلل)، ومعجم البلدان (سلى)، والكامل للمبرد 2: 196.
وكان شفيق قد أغار على بني ضبة بروضة سلى، وروضة ساجر فهزم أهلهما. وهما روضتان لعكل.
وضبة وعدي وتيم وعكل حلفاء متجاورون فلما هزموا قال بهم شفيق أبيات منها هذا البيت.
والعذير: الحال المقاقات. صوت الطائر إذ كان مذعورا والقفار: المكان الذي ليس به انس
كأنه يقول هزمناهم شر؟ وكانت حالهم مثل حال الطائر الذي في أرض قفرة إذا أتاه الصياد
591

حسبت بغام راحلتي عناقا * وما هي ويب غيرك بالعناق (1)
أي صوت عناق. وقال أبو مسلم: معناه ثمنها لو بيعت كثمن السماوات
والأرض لو بيعا. كما يقال عرضت هذا المتاع للبيع. والمراد بذلك عظم مقدارها،
وجلالة قدرها، وانه لا يوازيها شئ وإن عظم، وهذا مليح غير أن فيه تعسفا
شديدا. فان قيل إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين تكون النار؟!
الجواب أنه روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه لما سئل عن ذلك، فقال: (سبحان الله إذا
جاء النهار فأين الليل) وهذه معارضة فيها إسقاط المسألة، لان القادر على أن
يذهب بالليل حيث شاء قادر على أن يذهب بالنهار حيث شاء
وروي أنه سئل عن ذلك ابن عباس، وغيره من الصحابة، فان قيل فان
الجنة في السماء، كيف يكون لها هذا العرض؟ قيل له يزاد فيها يوم القيامة. ذكره
أبو بكر أحمد بن علي على تسليم انها في السماء ويجوز أن تكون الجنة مخلوقة في
غير السماوات والأرض. وفي الناس من قال: ان الجنة والنار ما خلقتا بعد وإنما
بخلقهما الله على ما وصفه. وقال البلخي المراد بذلك وصفها بالسعة والعظم، كما يقول
القائل في دار واسعة هذه دنيا وغرضه بذلك وصفه لها بالكبر وقوله: " أعدت
للمتقين " معنى المتقين المطيعين لله ورسوله لاجتنابهم المعاصي وفعلهم الطاعات.
ويجوز لاحتجازهم بالطاعة من العقوبة. وإنما أضيفت إلى المتقين، لأنهم
المقصودون بها، وان دخلها الأطفال، والمجانين، فعلى وجه التبع، وكذلك حكم
الفساق لو عفي عنهم.
وفيمن تكلم في أصول الفقه من استدل بقوله: " وسارعوا إلى مغفرة "
على أن الامر يقتضي الفور دون التراخي، لأنه تعالى أمر بالمسارعة والمبادرة
إلى مغفرة وذلك يقتضي التعجيل. ومن خالف في تلك، قال: المسارعة إلى ما يقتضي

(1) قائله ذو الخرق الطهوري أو الطهوي انظر الاختلاف في اسمه في؟ والمختلف
119، وخزانة الأدب 1: 20، 21 ونوادر أبي زيد: 116، ومعاني القرآن للفراء 1:
61 - 62، واللسان (ويب)، (عنق)، (عقا)، (بغم) وغيرها وهو من أبيات يقولها
لذئب قد تبعه في طريقه والعناق هي أنثى المعز. والبغام صوت الظبية أو الناقة واستعاره هنا للمعز
592

الغفران واجبة وهي التوبة، ووجوبها على الفور. فمن أين أن جميع المأمورات
كذلك.
قوله تعالى:
(الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ
والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) (134) آية.
المعنى:
" الذين " في موضع الجر، لأنه صفة المتقين، فذكر الله صفاتهم التي تعلو
بها درجاتهم منها: أنهم يتقون عذاب الله بفعل طاعته، والانتهاء عن معصيته.
وانهم ينفقون في السراء، والضراء وقد بينا فيما تقدم معنى الانفاق. وقيل في
معنى السراء والضراء. قولان:
أحدهما - قال ابن عباس في اليسر، والعسر، فكأنه قال في السراء بكثرة
المال، والضراء بقلته.
الثاني - في حال السرور، وحال الاغتمام. أي لا يقطعهم شئ من ذلك عن
انفاقه في وجوه البر، فيدخل فيه اليسر والعسر. وإنما خصا بالذكر في التأويل
الأول، لان السرور بالمال يدعو إلى الظن به. كما يدعو ضيقه إلى التمسك به خوف
الفقر، لانفاقه. وقوله تعالى:
" والكاظمين الغيظ " أي المتجر عين له، فلا ينتقمون
ممن يدخل عليهم الضرر بل يصبرون على ذلك، ويتجرعونه.
اللغة:
وأصل الكظم شد رأس القربة عن ملئها. تقول: كظمت القربة إذا ملأتها
ماء ثم شددت رأسها. وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا حزنا. ومنه قوله:
" وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " (1) أي ممتلئ حزنا. وكذلك إذا

(1) سورة يوسف آية: 74.
593

امتلأ غضبا لم ينتقم، وكظم البعير، والناقة إذا لم تجر. والكظامة القناة التي
تجري تحت الأرض، سميت بذلك، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة. ويقال:
أخذ بكظمه أي بمجرى نفسه، لأنه موضع الامتلاء بالنفس. وكظامة الميزان
المسمار الذي يدور فيه اللسان، لأنه يشده ويعتمد عليه. والفرق بين الغيظ، والغضب
أن الغضب ضد الرضا، وهو إرادة العقاب المستحق بالمعاصي، ولعنه. وليس
كذلك الغيظ، لأنه هيجان الطبع بكره ما يكون من المعاصي، ولذلك يقال غضب
الله على الكفار، ولا يقال اغتاظ منهم.
المعنى:
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (ما من جرعة يتجرعها الرجل أو الانسان
أعظم أجرا من جرعة غيظ في الله) وفي الآية دلالة على جواز العفو عن المعاصي
وإن لم يتب، لأنها دلت على الترغيب في العفو من غير ايجاب له باجماع المسلمين.
وقوله " والله يحب المحسنين " معناه يريد إثابتهم وتنعيمهم. والمحسن يحتمل
أمرين:
أحدهما - من هو منعم على غيره على وجه عار من وجوه القبح. ويحتمل
أن يكون مشتقا من الأفعال الحسنة التي منها الاحسان إلى الغير، وغير ذلك من
وجوه الطاعات والقربات.
قوله تعالى:
(والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله
فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا
وهم يعلمون) (135) آية بلا خلاف.
الاعراب:
قوله: " والذين " يحتمل أن يكون موضعه جرا بالعطف على المتقين،
594

فيكون من صفتهم ما تضمنه على قول الحسن، ويحتمل أن يكون رفعا على
الاستئناف، ويكون عطف جملة على جملة، فيكون من صفة فرقة غير الأولى، ويجوز
أن يرجع إلى الأولى في الموضع على المدح.
المعنى:
وقوله: " إذا فعلوا فاحشة " يحتمل أن يكون أراد غير الظلم، ولذلك عطف
عليه بقوله: " أو ظلموا أنفسهم " حتى لا يكون تكرارا. وقال الرماني: أراد
بالفاحشة الكبيرة، وب‍ " ظلموا أنفسهم " الصغيرة. وقال مجاهد: هما ذنبان وأصل
الفاحشة الفحش، وهو الخروج إلى عظم القبح في العقل أو رأي العين فيه.
وكذلك قيل للطويل المفرط أنه الفاحش الطول، وأفحش فلان في كلامه إذا أفصح
بذكر الفحش. وقال جابر والسدي: الفاحشة ههنا: الزنا أو ما جرى مجراه من
الكبير. وقوله: " ذكروا الله " في معناه قولان:
أحدهما - ذكروا وعيد الله، فيكون من الذكر بعد النسيان. والمدح على
أنهم تعرضوا للذكر.
والاخر - انهم ذكروا الله بأن قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، فانا تبنا،
نادمين عليها مقلعين عنها وقال ابن مسعود، وعطا ابن أبي رياح: كانت بنو
إسرائيل إذا أذنب الواحد منهم ذنبا أصبح مكتوبا على بابه كفارة ذنبك اجدع
اذنك اجدع انفك، فسهل الله ذلك على هذه الأمة بأن جعل توبتها الاستغفار
بدلا منه منة منه تعالى. وقوله: (ومن يغفر الذنوب إلا الله) الرفع محمول على
المعنى. وتقديره: وهل يغفر الذنوب إلا الله أو هل رئي أحد يغفر الذنوب إلا الله.
فان قيل: كيف قال: " ومن يغفر الذنوب إلا الله " وقد يغفر بعضنا لبعض إساءته
إليه؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أنه أراد بذلك غفران الكبائر العظام، لان الإساءة من بعضنا
لبعض صغيرة بالإضافة إلى ما يستحق من جهته.
595

والثاني - أنه لا يغفر الذنب الذي يستحق عليه العقاب إلا الله تعالى.
وقوله: (ولم يصروا على ما فعلوا) فالاصرار هو المقام على الذنب من غير
اقلاع منه بالتوبة في قول قتادة. وقال الحسن: هو فعل الذنب من غير توبة
والأول أقوى، لأنه نقيض التوبة. وأصله الشد من الصرة والصر شدة البرد،
والاصرار إنما هو ارتباط الذنب بالإقامة عليه. وما قاله الحسن هو في حكم الاصرار.
وقوله: " وهم يعلمون " ههنا يحتمل أمرين:
أحدهما - وهم يعلمون الخطيئة ذاكرين لها غير ساهين، ولا ناسين. قال
الجبائي، والله عز وجل يغفر للعبد ما نسيه من ذنوبه، وان لم يتب منه بعينه، كما
يغفر له ما تاب منه، لأنه قد فعل في حال النسيان جميع ما عليه.
والثاني - وهم يعلمون الحجة في أنها خطيئة. وأما من اجتهد في الاحكام
فأخطأ على مذهب من يقول بالاجتهاد، فلا اثم عليه، وكذلك من تزوج بذات
محرم من الرضاع أو النسب وهو لا يعلم، أو غير ذلك، فلا إثم عليه بلا خلاف
لأنه لم يعلم ذلك، فاقدم عليه، ولا يلزم على ذلك أن يكون الكافر معذورا بكفره
إذا لم يعلمه قبيحا، لان الكافر له طريق إلى العلم به، وكذلك نقول: إن من
أسلم في دار الحرب، وخرج فاستحل في طريقه الخمر أو لحم الخنزير قبل أن يعلم
تحريمها من الشرع، فلا اثم عليه، لأنه في تلك الحال لا طريق له إلى العلم بقبحه.
قوله تعالى:
(أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) (136) آية واحدة.
قوله: " أولئك " إشارة إلى من تقدم وصفهم من المتقين الذين ينفقون
في السراء والضراء، ويكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، " وإذا فعلوا فاحشة
أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم "، فقال هؤلاء: " لهم جنات
596

تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " وقد مضى تفسير ذلك أجمع فيما مضى ثم قال.
" ونعم أجر العاملين " يعني ما وصفه من الجنات وأنواع الثواب، والغفرة بستر
الذنب حتى تصير كأنها لم تعمل في زوال العار بها والعقوبة بها، والله تعالى متفضل
بذلك لأنا بينا أن اسقاط العذاب (1) عند التوبة تفضل منه تعالى، فأما استحقاق
الثواب بالتوبة فواجب عقلا لا محالة، لأنه لو لم يكن مستحقا لذلك لقبح تكليفه
التوبة لما فيها من المشقة والكلفة.
قوله تعالى:
(قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا
كيف كان عاقبة المكذبين) (137) آية.
المعنى:
معنى قوله: " قد خلت من قبلكم سنن " أي سنن من الله تعالى في الأمم
السالفة ذ (2) كذبوا رسله وجحدوا نبوتهم بالاستئصال، والاجتياح، كعاد،
وثمود، وقوم صالح، وقوم لوط الذين أهلكهم الله بأنواع العذاب من
الاستئصال (3) فبقيت (4) لهم آثار في الديار فيها أعظم الاعتبار والاتعاظ
- على قول الحسن، وابن إسحاق - فأمر الله أن يسيروا في الأرض، ويتعرفوا
أخبارهم، وما نزل بهم ليتعظوا بذلك، وينتهوا عن مثل ما فعلوه. وقال الزجاج:
معناه " قد خلت من قبلكم " أهل " سنن " في الشر.
اللغة والمعنى:
والسنة: الطريقة المجعولة ليقتدى بها، فمن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله.

(1) في المخطوطة (أ): العقاب.
(2) في المطبوعة ومخطوطة (أ): (إذا).
(3) في المخطوطة (أ) ساقط سطر من هذا الموضع.
(4) في المطبوعة (وبقيت).
597

وقال لبيد:
من معشر سنت لهم آباؤهم * ولكل قوم سنة وإمامها (1)
وقال سليمان بن قتة: (2)
وإن الالى بالطف من آل هاشم * نأسوا فسنوا للكرام التأسيا (3)
سنة الله عز وجل الاهلاك للأمم الضالة بهذه المنزلة. وأصل السنة الاستمرار
في جهة. سن الماء سنا: إذا صبه حتى يفيض من الاناء. وسنه بالمسن إذا أمره عليه
لتحديده. وفلان مسنون الوجه أي مستطيله. وقوله: " من حمأ مسنون "
قيل معناه متغير، لاستمرار الزمان به حتى تغير. ومنه السن واحد الأسنان،
لاستمرارها على منهاج. والسنان، لاستمرار الطعن به. والسنن استمرار الطريق.
والخلو: الانفراد، فمنه الخلاء، لانفراد المكان. ومنه التخلية لانفراد الشئ بها
عن صاحبه. ومنه الخلية من النوق التي خلا ولدها بذبح أو موت، لانفرادها عنه.
والخلية من السفن التي تخلى تسير في نفسها. ومنه الخلا مقصور: الحشيش اختليته
إذا قطعته، لانفراده بالقطع. ومنه المخلاة. ومن ذلك المخالاة المخادعة، لانفراد
صاحبها بمن يخاليه يوهمه التخصص به، فمعنى " خلت " انفردت بالهلاك دون من
بقي. وقوله: (فانظر كيف كان عاقبة) فالعاقبة هو ما يؤدي إليها السبب المتقدم،
وليس كذلك الآخرة، لأنه قد كان يمكن أن تجعل هي الأولى في العدة للمكذبين
يريد به الجاحدين البعث، والنشور، والثواب، والعقاب الدافعين لمن يخبر بذلك
بالرد بالتكذيب، فجازاهم الله تعالى في الدنيا بعذاب الاستئصال، ولهم في الآخرة
عظيم النكال.

(1) البيت من معلقته الشهيرة البارعة يذكر بها قومه وفضلهم. يقول: هذه الصفات
الحميدة - التي تقدم وصفها - هي سنة آبائهم..
(2) (قتة) أمه وهو مولى لتيم قريش، وهو من التابعين. وزعم بعضهم أنه (سليمان
ابن ضبيب المحارمي) وهو خطأ.
(3) تاريخ الطبري 7: 184، وأنساب الأشراف 5: 339 وأمالي الشجري
1: 131، واللسان (أمي) وغيرها. وهذا البيت أنشده مصعب بن الزبير قبل مقتله
598

وقوله تعالى:
(هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) (138) آية اجماعا.
قال الحسن وقتادة: قوله: " هذا " إشارة إلى القرآن، ووصفه بأنه بيان،
لأنه دلالة للناس، وحجة لهم، والبيان هو الدلالة. وقال ابن إسحاق هو إشارة
إلى ما تقدم ذكره في قوله: " قد خلت من قبلكم سنن.. " الآية أي هذا الذي
عرفتكم بيان للناس، وهو اختيار البلخي، والطبري. والفرق بين البيان، والهدى
- على ما قاله الرماني - أن البيان إظهار المعنى للنفس كائنا ما كان. والهدى: بيان
لطريق الرشد، ليسلك دون طريق الغي. والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى
التمسك، بما فيه من الزجر عن القبيح، والدعاء إلى الجميل. وقيل الموعظة: هو
ما يدعو (1) بالرغبة، والرهبة إلى الحسنة بدلا من السيئة. والهدى المذكور في
الآية يحتمل معنيين:
أحدهما - أن يكون عبارة عن اللطف الذي يدعو إلى فعل الطاعة بدلا من
المعصية، لأنه بمنزلة الارشاد.
والاخر - الدلالة على طريق الرشد. وإنما أضيف إلى المتقين، وإن كان
هدى لجميع المكلفين، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم. ولا يجوز ان يقال: القرآن
هدى وموعظة للفاجرين إلا بتفسير وبيان، لان في (2) ذلك إيهاما، لانتفاعهم
به فان قيد بأنه دلالة لهم وداع لهم إلى فعل الطاعة، وذكر ما يزيل الايهام كان
جائزا. وينبغي أن يتبع في ذلك ما ورد به القرآن.
قوله تعالى:
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الا علون إن كنتم مؤمنين
(139) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام

(1) في المخطوطة أ (بالموعظة ما يدعو) باسقاط هو
(2) في المخطوطة (أ) لان ذلك باسقاط في.
599

نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله
لا يحب الظالمين) (140) آيتان.
القراءة، واللغة:
قرأ أهل الكوفة إلا حفصا " قرح " بضم القاف. الباقون بفتحها. والفرق
بينهما أن القرح - بفتح القاف - الجراح، والقرح - بالضم - ألم الجراح على قول
أكثر المفسرين. وقيل هما لغتان.
المعنى، والنزول:
وقال ابن عباس، والحسن، والربيع: القرح ما أصاب المسلمين يوم أحد
وأصاب المشركين يوم بدر. وقال الزهري، وقتادة، وابن أبي نجيح: هذه الآية
نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل، والجراح، وكان سبب نزول
الآية ما قدمنا ذكره من أن الله تعالى أراد أن يرعب الكفار، فأمر المسلمين أن
يتبعوا المشركين على ما بهم من الجراح، والألم وحثهم على ذلك ونهاهم عن الوهن
والحزن، ووعدهم بأنهم الأعلون إن تمسكوا بالايمان، لان المشركين كانوا هموا
بالعود إلى المدينة، والغارة فيها، فلما بلغهم عزيمة المسلمين على تتبعهم خافوهم.
وقال بعضهم لبعض يوشك أن يكون انضم إليهم من كان قعد عنهم، وأعانهم
أحلافهم من بني قريظة، والنضير فدسوا نعيم بن مسعود الأشجعي وبذلوا له
عشر قلائص على أن يثبط المسلمين عن تتبعهم، ويقول: إنهم تجمعوا وانضم إليهم
حلفاؤهم، وهم يريدونكم ولا طاقة لكم بهم، وأسرعوا المسير إلى مكة فأوحى الله
بذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وأعلمه ما قالوا لنعيم، فلما قال لهم ما قال، قال المسلمون:
" حسبنا الله ونعم الوكيل " وفيهم نزلت الآية (1) " الذين قال لهم الناس ان

(1) في المخطوطة (أ) زيادة: وهي قوله تعالى.
600

الناس قد جمعوا لكم " إلى قوله: " والله ذو فضل عظيم " (1) وما بعده. وإنما
قال: " إن كنتم مؤمنين " مع أنهم كانوا مؤمنين للبيان عن أن الايمان يوجب
تلك الحال، وتقديره إن من كان مؤمنا يجب عليه ألا يهن ولا يحزن، لثقته بالله.
يحتمل أيضا أن يكون معناه إن كنتم مصدقين بوعدي لكم بنصرتي إياكم حتى
تستعلوا على عدوكم، وتظفروا بهم.
اللغة، والاعراب، والمعنى:
والوهن الضعف، وهن يهن وهنا، فهو واهن: إذا ضعف. وأوهنه يوهنه
ايهانا. وتوهن توهنا، ووهنه توهينا. والوهن: ساعة تمضي من الليل. والواهن
عرق مستبطن حبل العاتق إلى الكتف.
وقوله: (وأنتم الأعلون) جملة في موضع الحال، كأنه قال لا تحزنوا عالين
أي منصورين على عدوكم، ويحتمل أن لا يكون لها موضع من الاعراب، لأنها
اعتراض بوعد مؤكد، وتقديره " ولا تهنوا ولا تحزنوا " " إن كنتم مؤمنين "
" وأنتم " مع ذلك " الأعلون ".
وأصل الأعلون الأعلوون، فحذفت احدى الواوين استثقالا، وهي الأصلية
وبقيت واو الجمع، لأنها لمعنى. فأما في التثنية فتقول: أنتما الأعليان، فتقلب الواو
ياء، ولا تحذفها، لأنه ليس هناك ضرورة.
وقوله: " ان يمسسكم " فالمس هو اللمس بعينه، وقيل الفرق بينهما أن
اللمس لصوق باحساس والمس لصوق فقط (2) وقال ابن عباس: معناه إن يصبكم (3).
وقوله: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) قال الحسن، وقتادة، والربيع،
والسدي، وابن إسحاق: يصرفها مرة لفرقة، ومرة عليها، والدولة: الكرة

(1) سورة آل عمران آية: 173.
(2) في المطبوعة الواو ساقطة.
(3) في المخطوطة أن التهكم.
601

لفرقة بنيل المحبة. وادال الله فلانا من فلان: إذا جعل الكرة له (1) عليه. وقال
الحجاج: إن الأرض ستدال منا كما ادلنا منها، " ونداولها " إنما هو بتخفيف
المحنة تارة وتشديدها أخرى بدليل " إن الله لا يحب الظالمين " ولو كانت المداولة
بالنصر لا محالة، للمؤمنين تارة وللكافرين تارة، لكان محبهم من حيث هو ناصر
لهم، والعامل في قوله، وليعلم الله يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون محذوفا يدل عليه أول الكلام، وتقديره وليعلم الله
الذين آمنوا نداولها.
الثاني - أن يعمل فيه " نداولها " الذي في اللفظ، وتقديره نداولها بين
الناس لضروب من التدبير " وليعلم الله الذين آمنوا " وخبر ليعلم يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون محذوفا وتقديره " وليعلم الله الذين آمنوا " متميزين
بالايمان من غيرهم، ولا يكون على هذا يعلم بمعنى يعرف، لأنه ليس المعنى على تعرف
الذوات بل المعنى على أن يعلم تميزها بالايمان.
والثاني - " وليعلم الله الذين آمنوا " بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم
أي يعاملهم معاملة من يريد أن يعرفهم الله بهذه الحال. وقال أبو علي: معناه
وليصبروا فعبر عن الصبر بالعلم. وقال البلخي " وليعلم الله " ايمانكم موجودا أي
تفعلونها، فيعلمه الله كذلك. ومعنى قوله: " ويتخذ منكم شهداء " فيه قولان:
أحدهما - قال الحسن، وقتادة، وابن إسحاق، ليكرم بالشهادة من قتل
يوم أحد.
الثاني - ويتخذ منكم شهداء على الناس بما يكون منهم من العصيان، لما لكم فيه
من التعظيم، والتبجيل - هذا قول البلخي والجبائي - والأول أقوى لأنه في ذكر
القتل، فان قيل لم جعل الله مداولة الأيام بين الناس، وهلا كانت ابدا لأولياء الله
دون أعدائه؟ قلنا ذلك تابع للمصلحة، وما تقتضيه الحكمة أن يكونوا تارة في

(1) في المخطوطة (الحكم له).
602

شدة وتارة في رخاء فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الطاعة، واحتقار الدنيا الفانية
المنتقلة من قوم إلى قوم حتى يصير الغني فقيرا، والفقير غنيا، والنبيه خاملا، والخامل
نبيها، فتقل حينئذ الرغبة فيها والحرص على جمعها، ويقوي الحرص على غيرها مما
نعيمه دائم، وسروره غير منقطع. وقوله: " والله لا يحب الظالمين " (1) معناه لا يريد
منافعهم، وعلى مذهبنا ينبغي أن يكون ذلك مخصوصا بالكفار، لأنهم إذا كانوا
مؤمنين، فلهم ثواب. والله تعالى لابد أن يريد فعل ذلك بهم ويحتمل أن يكون
المراد بذلك " لا يحب الظالمين " إذا كانوا مؤمنين محبة خالصة لا يشوبها إرادة
عقابهم، لان ذلك يختص من لا عقاب عليه.
انتهى المجلد الثاني ويليه المجلد الثالث
وأوله:
(وليمحص الله الذين آمنوا..) (141)

(1) وقوله ساقطة من المطبوعة.
603