الكتاب: التبيان
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ٤
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
ردمك:
ملاحظات:

التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 ه‍.
تحقيق وتصحيح
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد الرابع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما تفضل وأنعم وصلى الله على محمد وآله وسلم
وبعد لقد نفدت الطبعة الأولى من هذا السفر النفيس ورأينا الطلب لم
يزل كما هو فعزمنا على إعادته طبعة ثانية متكلين على الله تعالى وحده.
وسوف نعتني بضبط ما فاتنا من الأخطاء إن شاء الله تعالى. وعلينا أن
نبذل الجهد، وعلى الله التوفيق.
أحمد حبيب قصير العاملي
2

قوله تعالى:
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من
الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع
الشاهدين (86) آية، بلا خلاف.
هذا وصف للذين آمنوا من هؤلاء النصارى الذين ذكرهم الله أنهم
أقرب مودة للمؤمنين بأنهم إذا سمعوا ما أنزل الله من القرآن يتلى " ترى
أعينهم تفيض من الدمع " يعني من آمن من هؤلاء النصارى. قال الزجاج
وأبو علي: تقديره ومنهم إذا سمعوا ولم يذكر (منهم) لدلالة الكلام عليه
وما وصفهم به فيما بعده. وفيض العين من الدمع امتلاؤها منه سيلا ومنه
فيض النهر من الماء وفيض الاناء، وهو سيلانه عن شدة امتلاء، ومنه قول الشاعر:
ففاضت دموعي فظل الشؤون * إما وكيفا وإما انحدارا (1)
وخبر مستفيض أي شائع، وفاض صدر فلان بسره، وأفاض القوم من
عرفات إلى منى إذا دفعوا، وأفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه،
والدمع الماء الجاري من العين ويشبه به الصافي، فيقال دمعة. والمدامع مجاري
الدمع وشجة دامعة تسيل دما.
وقوله " مما عرفوا من الحق " أي مما علموه من صدق النبي وصحة
ما أتى به " يقولون ربنا " في موضع الحال، وتقديره قائلين " ربنا آمنا "
أي صدقنا بما أنزلت " فاكتبنا مع الشاهدين " قيل في معناه قولان:
أحدهما - فاجعلنا مع الشاهدين فيكون بمنزلة ما قد كتب ودون.
الثاني - فاكتبنا معهم في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ. و (الشاهدين)
قال ابن عباس وابن جريج: مع أمة محمد صلى الله عليه وآله الذين يشهدون بالحق من

(1) قائله الأعشى. ديوانه: 35.
3

قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " (1)
وقال الحسن: هم الذين يشهدون بالايمان. وقال أبو علي الذين يشهدون
بتصديق نبيك وكتابك.
قوله تعالى:
ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن
يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (87) آية بلا خلاف.
هذا إخبار عن هؤلاء الذين آمنوا من النصارى بأنهم قالوا: " ومالنا "
قال الزجاج: وهو جواب لمن قال لهم من قومهم معنفين لهم: لم آمنتم.
وقال غيره: قدروا في أنفسهم كأن سائلا يسألهم عنه، فأجابوا بذلك. وقوله
" لا نؤمن " في موضع نصب على الحال، وتقديره أي شئ لنا تاركين للايمان
أي في حال تركنا للايمان. والايمان هو التصديق عن ثقة، لان الصدق راجع
إلى طمأنينة القلب بما صدق به. والحق هو الشئ الذي من عمل عليه نجا،
ومن عمل على ضده من الباطل هلك. ومعنى (من) - هاهنا - قيل في معناه
قولان:
أحدهما - تبيين الإضافة التي تقوم مقام الصفة، كأنه قيل: والجائي
لنا الذي هو حق.
وقال آخرون: إنها للتبعيض لأنهم آمنوا بالذي جاءهم على التفصيل.
ووصف القرآن بأنه (جاء) مجاز، كما قيل: نزل، ومعناه نزل به الملك،
فكذلك جاء به الملك. ويقال: جاء بمعنى حدث نحو " جاءت سكرت
الموت " (2) وجاء البرد والحر.
وقوله " ونطمع " فالطمع تعلق النفس بما يقوى أن يكون من معنى

(1) سورة 2 البقرة آية 143
(2) سورة 50 ق آية 19.
4

المحبوب، ونظيره الامل والرجاء فالطمع يكون معه الخوف أو لا يكون.
" أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " معناه أن يدخلنا معهم الجنة. والصالح
هو الذي يعمل الصلاح في نفسه وإذا عمله في غيره فهو مصلح، فلذلك لم
يوصف الله تعالى بأنه صالح ووصف بأنه مصلح.
قوله تعالى:
فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (88) آية بلا خلاف.
معنى " فأثابهم الله " جازاهم الله بالنعيم على العمل كما أن العقاب
الجزاء بالعذاب على العمل وأصل الثواب الرجوع. ومنه قوله " هل ثوب
الكفار ما كانوا يفعلون " (1) أي هل رجع إليهم جزاء عملهم. وقوله " بما
قالوا " يعني قولهم " ربنا آمنا " وقوله " جنات تجري من تحتها الأنهار "
إنما ذكرها بلفظ الجمع وإن كانت هي جنة الخلد، لأنها جنة فيها جنات أي
بساتين، وتذكر بالجمع لتبين عن اختلاف صورها وأحوال أشجارها وأنهارها
ووجوه الاستمتاع بها، ووجه آخر: هو أن يكون جمعها مضافا إليهم كما
يقال لهم جنة الخلد إلا أنها مرة تذكر على طريق الجنس، ومرة على غير طريق
الجنس. وقوله " وذلك جزاء المحسنين " (ذلك) إشارة إلى الثواب.
والاحسان هو إيصال النفع الحسن إلى الغير، وضده الإساءة، وهي
إيصال الضرر القبيح إليه، وليس كل من كان من جهته إحسان فهو محسن
مطلقا، فالمحسن فاعل الاحسان الخالي مما يطلبه، كما أن المؤمن هو فاعل
الايمان الخالص مما يحبطه، وعندنا لا يحتاج إلى شرط خلوه مما يبطله،
لان الاحباط عندنا باطل، لكن يحتاج أن يشرط فيه أن يكون خاليا من وجوه

(1) سورة 83 المطففين آية 36:.
5

القبح. وقوله " وذلك جزاء المحسنين " وإن كان مطلقا فهو مقيد في المعنى
بالمحسنين الذين يجوز عليهم الوعد بالنفع، لأنه وعد به، ألا ترى أن الله
تعالى يفعل الاحسان وإن كان لا يصح عليه الثواب لأنه مضمن بمن يجوز
عليه المنافع والمضار فجزاؤه هذه المنافع العظام دون المضار، لأنه خرج مخرج
استدعاء العباد إلى فعل الاحسان.
قوله تعالى:
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم
(89) آية بلا خلاف.
لما كان أهل الكتاب فريقين أحدهما آمنوا، والثاني كفروا، وذكر
الوعد للمؤمنين منهم اقتضى أن يذكر الوعيد لمن كفر منهم وأطلق اللفظ
ليكون لهم ولكل من جرى مجراهم، وإنما شرط في الوعيد على الكفر
بالتكذيب بالآيات وإن كان كل واحد منهما يستحق به العقاب، لان صفة
الكفار من أهل الكتاب أنهم يكذبون بالآيات، فلم يصلح - هاهنا - لو
كذبوا لأنهم قد جمعوا الامرين، ولان دعوة الرسول صلى الله عليه وآله بوعيد الكفار
ظاهرة مع مجئ القرآن به في نحو قوله " ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء " (1) فلم يقع فيه اشكال لهذا. وقوله " أولئك "
يعني هؤلاء الكفار.
و " أصحاب الجحيم " يعني الملازمون لها، كقولك أصحاب الصحراء
وليس كمثل أصحاب الأموال، لان معنى ذلك ملاك الأموال. وليس من
شرط المكذب أن يكون عالما أن ما كذب به صحيح بل إذا اعتقد أن الخبر
كذب سمي مكذبا، وإن لم يعلم أنه كذب، وإنما يستحق الذم، لأنه جعل

(1) سورة 4 النساء آية 47، 115.
6

له طريق إلى أن يعلم صحة ما كذب به. و " الجحيم " النار الشديدة الايقاد
وهو اسم من أسماء جهنم ويقال: جحم فلان النار إذا شدد ايقادها، ويقال
أيضا لعين الأسد: جحمة لشدة ايقادها، ويقال ذلك للحرب أيضا قال الشاعر:
والحرب لا تبقى لجا * حمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصبار في * النجدات والفرس الوقاح (1)
قوله تعالى:
يا أيها الذين امنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (90) آية بلا خلاف.
هذا خطاب للمؤمنين خاصة نهاهم الله أن يحرموا طيبات ما أحل الله لهم.
والتحريم هو العقد على ما لا يجوز فعله للعبد، والتحليل حل ذلك العقد،
وذلك كتحريم السبت بالعقد على أهله، فلا يجوز لهم العمل فيه، وتحليله
تحليل ذلك العقد بأنه يجوز لهم الان العمل فيه. والطيبات اللذيذات التي
تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب. ويقال: طيب بمعنى حلال. وتقول:
يطيب له كذا أي يحل له، ولا يليق ذلك بهذا الموضوع، لأنه لا يقال:
لا تحرموا حلال ما أحل الله لكم.
والذي اقتضى ذكر النهي عن تحريم الطيبات - على ما قال ابن عباس
ومجاهد وأبو مالك وقتادة وإبراهيم - حال الرهبان الذين حرموا على أنفسهم
المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وحبسوا أنفسهم في الصوامع وساحوا في
الأرض، وحرموا النساء، فهم قوم من الصحابة أن يفعلوا مثل ذلك، فنهاهم
الله عن ذلك. وقال أبو علي: نهوا أن يحرموا الحلال من الرزق بما يخلطه
من الغصب. واختار الرماني الوجه الأول، لان أكثر المفسرين عليه.

(1) انظر 2: 438 من هذا الكتاب.
7

وقال السدي: نهاهم الله عما هم به عثمان بن مظعون من جب نفسه.
وقال عكرمة: هو ما همت به الجماعة: من تحريم النساء والطعام
واللباس والنوم.
وقال الحسن: لا تعتدوا إلى ما حرم عليكم وهو أعم فائدة. والاعتداء
مجاوزة حد الحكمة إلى ما نهى عنه الحكيم، وزجر عنه إما بالعقل أو السمع،
وهو تجاوز المرء ماله إلى ما ليس له. وقوله " إن الله لا يحب المعتدين "
معناه يبغضهم ويريد الانتقام منهم وإنما ذكره على وجه النفي لدلالة هذا
النفي على معنى الاثبات إذ ذكر في صفة المعتدين، وكأنه قيل يكفيهم في
الهلاك ألا يحبهم الله.
قوله تعالى:
وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم
به مؤمنون (91) آية اجماعا.
سبب نزول هذه الآية والتي قبلها على ما قال عكرمة وأبو قلابة وأبو
مالك وإبراهيم وقتادة والسدي وابن عباس والضحاك: إن جماعة من الصحابة
منهم علي (ع) وعثمان بن مظعون وابن مسعود وعبد الله بن عمر، هموا
بصيام الدهر وقيام الليل، واعتزال الناس وجب أنفسهم وتحريم الطيبات
عليهم. فروي أن عثمان بن مظعون قال أتيت النبي صلى الله عليه وآله فقلت: يا رسول الله
إئذن لي في الترهب فقال: (لا إنما رهبانية أمتي الجلوس في المسجد وانتظار
الصلاة بعد الصلاة) فقلت: يا رسول الله أتأذن لي في السياحة قال: (سياحة
أمتي الجهاد في سبيل الله) فقلت: يا رسول الله أتأذن لي في الاختصاء فقال:
(ليس منا من خصا واختصا إنما اختصاء أمتي الصوم).
وقوله " وكلوا " لفظه لفظ الامر والمراد به الإباحة أباح الله تعالى
8

للمؤمنين أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيبا، فالرزق هو ما للحي الانتفاع به
وليس لغيره منعه منه. وقال الرماني: الرزق هو العطاء الجاري في الحكم
ومن ذلك قيل: رزق السلطان الجند إذا جعل لهم عطاء جاريا في حكمه في
كل شهر أو في كل سنة. قال الرماني: وكلما خلقه الله في الأرض مما يملك،
فهو رزق للعباد في الجملة بدلالة قوله " هو الذي خلق لكم ما في الأرض
جميعا " (1) ولولا ذلك لجوزنا أن يكون منه ما ليس للانس إلا أنه وإن كان
رزقا لهم في الجملة فتفصيل قسمته على ما يصح ويجوز من الاملاك، ولا
يجوز أن يكون الرزق حراما، لان الله منع منه بالنهي، فاما البغاة فيرزقون
حراما إذا حكموا بأن المال للعبد، وهو مغصوب لا يحل، قال وما افترسه
السبع رزق له بشرط غلبته عليه كما أن غنيمة المشركين رزق لنا بشرط غلبتنا
عليها، لان المشرك يملك ما في يده، فإذا غلبنا عليه بطل ملكه، وصار رزقا
لنا في هذه الحال، قال: وقد أمرنا بأن نمنعه من الانسان مع الامكان، وأذن
لنا أن نمنعه من غيره من نحو الميتة والوحش إن شئنا ويسقط جميع ذلك في
حال التعذر علينا.
وعندي أنه لا يجب أن يطلق أن ما يغلب عليه السبع رزق له بل إنما
نقول: إن رزقه ما ليس لنا منعه منه فأما ما لنا منعه منه إما بأن يكون ملكا
لنا أو أذن لنا فيه، فلا يكون رزقا له بالاطلاق، وقد يسلط الله السبع على
بعض المشركين فيكون رزقا له وعقابا للمشرك، والأصل فيه قوله تعالى " وما
من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " (2) فمفهوم هذا أنه رزقه بشرط
الغلبة عليه.
فان قيل: إذا كان الرزق لا يكون إلا حلالا فلم قال: (حلالا)؟
قيل: ذكر ذلك على وجه التأكيد كما قال " وكلم الله موسى تكليما " (3)

(1) سورة 2 البقرة آية 29
(2) سورة 11 هود آية 6
(3) سورة 4 النساء آية 163.
9

وقد أطلق في موضع آخر على جهة المدح " ومما رزقناهم ينفقون " (1)
وقوله: " واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " استدعاء إلى التقوى
بألطف الاستدعاء وتقديره أيها المؤمنون بالله لا تضيعوا ايمانكم بالتقصير
في التقوى فيكون عليكم الحسرة العظمى واتقوا تحريم ما أحله الله لكم في
جميع معاصيه من أنتم به تؤمنون وهو الله تعالى.
وأصل الصفة التعريف ثم يخرج إلى غير ذلك من المدح والذم وغير
ذلك من المعاني التي تحسن في مخرج الصفة، فلذلك قال الذي " أنتم به
مؤمنون " وفي هاتين الآيتين دلالة على كراهة التخلي والتفرد والتوحش
والخروج عما عليه الجمهور في التأهل وطلب الولد وعمارة الأرض.
قوله تعالى:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم
بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط
ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا
أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (92)
آية بلا خلاف.
قرأ " عاقدتم " بالألف ابن عامر، و " عقدتم " بلا ألف مع تخفيف
القاف حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم. والباقون بالتشديد. ومنع
من القراءة بالتشديد الطبري، قال: لأنه لا يكون إلا مع تكرير اليمين
والمؤاخذة تلزم من غير تكرير بلا خلاف. وهذا ليس بصحيح لان تعقيد

(1) سورة 2 البقرة آية 3.
10

اليمين إن يعقدها بقلبه ولفظه ولو عقد عليها في أحدهما دون الاخر لم يكن
تعقيدا، وهو كالتعظيم الذي يكون تارة بالمضاعفة وتارة بعظم المنزلة. وقال
أبو علي الفارسي من شدد احتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون لتكثير الفعل لقوله " ولكن يؤاخذكم " مخاطبا
الكثرة، فهو مثل " وغلقت الأبواب " (1).
والاخر أن يكون (عقد) مثل (ضعف) لا يراد به التكثير، كما أن
(ضاعف) لا يراد به فعل من اثنين. وقال الحسين بن علي المغربي: في
التشديد فائدة، وهو أنه إذا كرر اليمين على محلوف واحد فإذا حنث لم
يلزمه إلا كفارة واحدة. وفي ذلك خلاف بين الفقهاء. والذي ذكره قوي.
ومن قرأ بالتخفيف جاز أن يريد به الكثير من الفعل والقليل إلا أن
فعل يختص بالكثير كما أن الركبة تختص بالحال التي يكون عليها الركوب،
وقالوا: عقدت الحبل والعهد واليمين عقدا ألا ترى أنها تتلقى بما يتلقى به
القسم، قال الشاعر:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم (2)
ويقال: أعقدت العسل فهو معقد وعقيد. وحكى أبو إسحاق عقدت
العسل. والأول أكثر.
فأما قراءة ابن عامر فيحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون عاقدتم يراد به عقدتم كما أن (عافاه الله) و (عاقبت)
(اللص) و (طارقت النعل) بمنزلة فعلت. ويحتمل أن يكون أراد فاعلت الذي
يقتضي فاعلين فصاعدا، كأنه قال يؤاخذكم بما عاقدتم عليه اليمين، ولما كان
عاقد في المعنى قريبا من عاهد؟؟ ب‍ (على) كما يعدى عاهد بها. قال الله
تعالى " ومن أوفي بما عاهد عليه الله " (3) والتقدير يؤاخذكم بالذي عاقدتم

(1) سورة 12 يوسف آية 23
(2) اللسان (عقد)
(3) سورة الفتح آية 10.
11

عليه، ثم قال: عاقدتموه الايمان فحذف الراجع. ويجوز أن يجعل (ما)
مع الفعل بمنزلة المصدر فيمن قرأ عقدتم بالتخفيف والتشديد، فلا يقتضي
راجعا كما لا يقتضيه في قوله " ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " (1).
وقيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس: إن القوم لما حرموا الطيبات من المآكل
والمناكح والملابس حلفوا على ذلك فنزلت الآية.
وقال ابن زيد نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته
عشاه فحلف لا يأكل من الطعام، وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل، وحلف
الضيف لا يأكل ان لم يأكلا، فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه، وأخبر
النبي صلى الله عليه وآله بذلك فقال له: أحسنت. ونزلت هذه الآية. واللغو في اللغة
هو ما لا يعتد به قال الشاعر:
أو مائة تجعل أولادها * لغوا وعرض المائة الجلمد (2)
أي الذي يعارضها في قوة الجلمد يعني بالمائة نوقا أي لا يعتد به
بأولادها. ولغو اليمين هو الحلف على وجه الغلط من غير قصد مثل قول
القائل: لا والله وبلى والله على سبق اللسان، هذا هو المروي عن أبي جعفر
وأبي عبد الله (ع) وهو قول أبي علي الجبائي. وقال الحسن وأبو مالك:
هو اليمين على ما يرى صاحبها أنه على ما حلف ولا كفارة في يمين اللغو عند
أكثر المفسرين والفقهاء. وروي عن إبراهيم أن فيها الكفارة بخلاف عنه.
بين الله تعالى بهذه الآية أنه لا يؤاخذ على لغو الايمان وأنه يؤاخذ
بما عقد عليه قلبه ونواه.
وقوله " فكفارته " (الهاء) يحتمل رجوعها إلى أحد ثلاثة أشياء.
أحدها - إلى (ما) من قوله بما عقدتم الايمان. الثاني - على اللغو.
الثالث - على حنث اليمين لأنه مدلول عليه. والأول هو الصحيح، وبه قال

(1) سورة البقرة آية 10
(2) اللسان (جلمد).
12

الحسن والشعبي وأبو مالك وعائشة. وقوله " إطعام عشرة مساكين " إنما
ذكر بلفظ المذكر تغليبا للتذكير في كلامهم لأنه لا خلاف أنه لو أطعم الإناث
لأجزاه، ويحتاج أن يعطي قدر ما يكفيهم. وقد حده أصحابنا أن يعطي كل
واحد مدين أو مدا، وقدره رطلان وربع منفردا، أو يجمعهم على ما هذا
قدره ليألكوه. ولا يجوز أن يعطي خمسة ما يكفي عشرة، وهو قول أبي
علي، وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.
وهل يجوز اعطاء القيمة؟ فيه خلاف، والظاهر يقتضي أنه لا يجزى
والروايات تدل على إجزائه، وهو قول أبي علي وأهل العراق. وإنما ذكر
الكفارة في الآية ولم يذكر التوبة، لان المعنى فكفارته الشرعية كذا. واما
العقاب فلانه يجوز أن تكون المعصية صغيرة أو كبيرة فلأجل ذلك لم يبين.
وعندنا أن حكم التوبة معلوم من الشرع، فلذلك لم يذكر.
وقوله " من أوسط ما تطعمون " قيل فيه قولان:
أحدهما - الخبز والأدم دون اللحم، لان أفضله الخبز واللحم والتمر،
وأوسطه الخبز والزيت أو السمن، وأدونه الخبز والملح. وبه قال ابن عمر
والأسود وعبيدة وشريح.
الثاني - قيل: أوسطه في المقدار إن كنت تشبع أهلك أو لا تشبعهم،
بحسب العسر واليسر، فبقدر ذلك - هذا قول ابن عباس والضحاك -
وعندنا يلزمه أن يطعم كل مسكين مدين، وبه قال علي (ع) وعمر وإبراهيم
وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد. وقال: يكفيه مد - ذهب إليه زيد
ابن ثابت والشافعي والطبري وغيرهم - وروي ذلك في أخبارنا.
وقوله " أو كسوتهم " فالذي رواه أصحابنا أنه ثوبان لكل واحد مئزر
وقميص، وعند الضرورة قميص، وقال الحسن ومجاهد وعطاء وطاوس
وإبراهيم: ثوب. وقوله " أو تحرير رقبة " فالرقبة التي تجزي في الكفارة
13

كل رقبة كانت سليمة من العاهة صغيرة كانت أو كبيرة مؤمنة كانت أو كافرة
والمؤمنة أفضل، لان الآية مطلقة مبهمة. وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.
وما قلناه قول أكثر المفسرين: الحسن وغيره، ومعنى فتحرير رقبة عتق رقبة.
وقيل: تحرير من الحرية أي جعلها حرة قال الفرزدق:
ابني عدانة انني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال (1)
أي أعتقتكم من ذل الهجاء ولزوم العار. وهذه الثلاثة أشياء مخير فيها
بلا خلاف وعندنا أنها واجبة على التخيير. وقال قوم إن الواجب منها
واحد لا بعينه. والكفارة قبل الحنث لا تجزي وفيه خلاف.
وقوله " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " يحتمل رفعه أن يكون بالابتداء
وخبره فكفارته، ويجوز أن يكون رفعا بالخبر، ويكون تقديره فكفارته
صيام. وحد من ليس بواجد هو (من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت
عياله يومه وليلته) وهو قول قتادة والشافعي. وصوم الثلاثة أيام متتابعة،
وبه قال ابن كعب وابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وسفيان وأكثر
الفقهاء. ويقويه أنه في قراءة ابن مسعود وأبي " صيام ثلاثة أيام متتابعات ".
وقال مالك والحسن: التتابع أفضل والتفريق يجوز. فاما إذا قال القائل:
إن فعلت كذا فلله علي أن أتصدق بمئة دينار، فان هذا نذر عندنا، وعند
أكثر الفقهاء، - يلزمه به مئة دينار. وقال أبو علي عليه كفارة يمين - لقوله
" ذلك كفارة أيمانكم " وهو عام في جميع الايمان. وهذا ليس بيمين عندنا
بل هو نذر يلزمه الوفاء به لقوله " أوفوا بالعقود " (2) واليمين على ثلاثة أقسام:
أحدها - عقدها طاعة وحلها معصية، فهذه يتعلق بحنثها كفارة بلا
خلاف كقوله: والله لا شربت خمرا، ولا قتلت نفسا.
الثاني - عقدها معصية وحلها طاعة كقوله: والله لا صليت ولا صمت،
فإذا جاء بالصلاة والصوم، فلا كفارة عليه - عندنا - وخالف جميع الفقهاء

(1) ديوانه: 726، والنقائض: 275
(2) سورة 6 الانعام آية 1.
14

في ذلك وأوجبوا عليها عليه الكفارة.
الثالث - أن يكون عقدها مباحا كقوله: والله لا لبست هذا الثوب
فمتى حنث تعلق به الكفارة بلا خلاف. وقوله " ذلك كفارة أيمانكم إذا
حلفتم " معناه حنثتم.
وقوله " واحفظوا ايمانكم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - احفظوها أن تحلفوا بها، ومعناه لا تحلفوا.
الثاني - احفظوها من الحنث، وهو الأقوى، لان الحلف مباح إلا
في معصية بلا خلاف - وإنما الواجب ترك الحنث، وذلك يدل على أن اليمين
في المعصية غير منعقدة، لأنها لو انعقدت للزم حفظها، وإذا لم تنعقد لم تلزمه
كفارة على ما بيناه.
وقوله " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون " معناه إن الله يبين
لكم آياته وفرائضه كما بين لكم أمر الكفارة لتشكروه على تبيينه لكم
أموركم ونعمه عليكم وتسهيله عليكم المخرج من الاثم بالكفارة. فأما إقسام
الايمان وما ينعقد منها وما لا ينعقد وشرائطها، فقد بيناها في كتب الفقه
مشروحة لا نطول بذكرها الكتاب.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم
تفلحون (93) آية بلا خلاف.
هذا خطاب للمؤمنين أخبرهم الله تعالى أن الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس، فالخمر عصير العنب المشتد، وهو العصير الذي يسكر
كثيرة وقليله. والخمر حرام وتسمى خمرا لأنها بالسكر تغطي على العقل،
15

والأصل في الباب التغطية من قول أهل اللغة خمرت الاناء إذا غطيته، ومنه
دخل في خمار الناس إذا خفي فيما بينهم بسترهم له والخمير العجين الذي
يغطى حتى يختمر، وخمار المرأة، لأنها تغطي رأسها به. وخامره الحزن إذا
خالطه منتشرا في قلبه واستخمرت فلانا أي استعبدته. والأصل فيه أمرته
أن يتخذ الخمر، ثم كثر حتى جرى في كل شئ يأمر به. وعلى هذا الاشتقاق
يجب أن يسمى النبيذ وكل مسكر على اختلاف أنواعه خمرا، لاشتراكها في
المعنى وان يجري عليها أجمع جميع أحكام الخمر.
و " الميسر " القمار كله مأخوذ من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على
القمار فيه والذي يدخل فيه ييسر والذي لا يدخل فيه برم. قال أبو جعفر (ع)
ويدخل فيه الشطرنج والنرد وغير ذلك حتى اللعب بالجوز. والأصل فيه
اليسر خلاف العسر وسميت اليد اليسرى تفاؤلا بتيسير العمل بها. وقيل:
بل لأنها تعين اليمنى فيكون العمل أيسر، وذهب يسرة خلاف يمنة.
" والأنصاب " الأصنام واحدها نصب. وقيل لها أنصاب، لأنها كانت
تنصب للعبادة وأصله الانتصاب: القيام، نصب ينصب نصبا. ومنه النصب
التعب عن العمل الذي ينتصب له، ونصاب السكين، لأنها تنصب فيه،
ومناصبة العدو: الانتصاب لعداوته قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا (1)
و " الأزلام " القداح، وهي سهام كانوا يجيلونها ويجعلون عليها علامات
(إفعل، ولا تفعل ونحو ذلك على ما يخرج من ذلك في سفر أو إقامة أو
غير ذلك من الأمور المهمة، وكانوا يجيلونها للقمار، واحدها زلم، وزلم.
وقال الأصمعي: كان الجزور يقسمونه على ثمانية وعشرين جزءا. وقال أبو
عمرو: كان عددها على عشرة. وقال أبو عبيدة: لا علم لي بمقدار عدتها،
وقد ذكرت أسماؤها مفصلا، وهي عشرة: ذوات الحظوظ منها سبعة

(1) ديوانه 46 وروايته (الأوثان) بدل (الشيطان).
16

وأسماؤها: الفذ، والتوءم والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل،
والمعلى. والاغفال التي لا حظوظ لها ثلاثة أسماؤها: السفيح، والمنيح،
والوغد. ذكر القتيبي ذلك.
وقوله " رجس " أي نجس " والرجز " العذاب. ومنه قوله " لئن
كشفت عنا الزجر " (1) أي العذاب وقوله " والرجز فاهجر " (2) يعني
الأوثان. ومعناه الرجس فاهجر، وأصل الرجز تتابع الحركات يقال ناقة
رجزاء إذا كانت ترتعد قوائمها في ناحية. وقال الزجاج: يقال: رجس يرجس
إذا عمل عملا قبيحا. والرجس بفتح الراء شدة الصوت، وسحاب الرجاس،
ورعد رجاس إذا كان شديد الصوت قال الشاعر:
وكل رجاس يسوق الرجسا (3)
وقوله " من عمل الشيطان " إنما نسبها إلى عمل الشيطان وهي أجسام
لما يأمر به فيها من الفساد فيأمر بالسكر ليزيل العقل، ويأمر بالقمار لاستعمال
الأخلاق الدنيئة ويأمر بعبادة الأوثان لما فيها من الكفر بالله العظيم، ويأمر
بالأزلام لما فيها من ضعف الرأي والاتكال على الاتفاق. وقوله " فاجتنبوا "
أمر بالاجتناب أي كونوا جانبا منه في ناحية " لعلكم تفلحون " ومعناه لكي
تفوزوا بالثواب.
وفي الآية دلالة على تحريم الخمر، وهذه الأشياء الأربعة من أربعة أوجه:
أحدها - أنه وصفها بأنها رجس وهي النجس والنجس محرم بلا
خلاف.
الثاني - نسبها إلى عمل الشيطان وذلك لا يكون الا محرما.
والثالث - أنه أمرنا باجتنابه. والامر يقتضي الايجاب.
الرابع - أنه جعل الفوز والفلاح باجتنابه.

(1) سورة 7 الأعراف آية 133
(2) سورة 74 المدثر آية 5
(3) اللسان (رجس).
17

والهاء في قوله " فاجتنبوه " راجعة إلى عمل الشيطان، وتقديره اجتنبوا
عمل الشيطان. قال ابن عباس: الرجس - هاهنا - معناه السخط. وقال
ابن زيد: هو الشر.
قوله تعالى:
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء
في الخمر، والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل
أنتم منتهون (94) آية بلا خلاف.
قيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - أنه لا حق سعد بن أبي وقاص رجلا من الأنصار، وقد كانا
شربا الخمر فضربه بلحي جمل ففزر أنف سعد بن أبي وقاص، فنزلت هذه الآية.
الثاني - أنه لما نزل قوله " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى " (1) قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية.
والشيطان إنما يريد إيقاع العداوة والبغضاء بينهم بالاغراء المزين لهم
ذلك حتى إذا سكروا زالت عقولهم وأقدموا من المكاره والقبائح على ما كانت
تمنعه منه عقولهم. وقال قتادة: كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر، ويبقى
حزينا سليبا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء.
وقوله " ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " أي يمنعكم من الذكر لله
بالتعظيم له والشكر له على آلائه، لما في ذلك من الدعاء إلى الصلاح واستقامة
الحال في الدين والدنيا بالرغبة فيما عنده، والتوسل إليه بالاجتهاد في طاعته
التي تجمع محاسن الافعال ومكارم الأخلاق.
وقوله " فهل أنتم منتهون "؟ صيغته صيغة الاستفهام ومعناه النهي،
وإنما جاز ذلك، لأنه إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب صار في منزلة من نهي عنه،

(1) سورة 4 النساء آية 42.
18

فإذا قيل له: أتفعله؟ بعد ما قد ظهر من أمره وصار في محل من عقد عليه
باقراره.
فان قيل: ما الفرق بين انتهوا عن شرب الخمر، وبين لا تشربوا الخمر،
قلنا: لأنه إذا قال: انتهوا دل ذلك على أنه مريد لامر ينافي شرب الخمر.
وصيغة النهي إنما تدل على كراهة الشرب، لأنه قد ينصرف عن الشرب إلى
أخذ أشياء مباحة، وليس كذلك المأمور به، لأنه لا ينصرف عنه إلا في محذور.
والمنهي عنه قد ينصرف عنه إلى غير مفروض.
قوله تعالى:
وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم
فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين (95) آية بلا خلاف.
لما أمر الله تعالى باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام أمر في
هذه الآية بطاعته في ذلك وغيره من أوامر الله تعالى. والطاعة هي امتثال
الامر، والانتهاء عن المنهي عنه، ولذلك يصح أن تكون الطاعة طاعة لاثنين
بأن يوافق أمرهما وإرادتهما.
وقوله " واحذروا " أمر منه تعالى بالحذر، وهو امتناع القادر من
الشئ لما فيه من الضرر. والخوف هو توقع الضرر الذي لا يؤمن كونه.
والجزع مفاجأة الضرر الذي يزعج النفس مثله. الفزع والرعب مثل الجزع.
وقوله " فان توليتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين " معناه
الوعيد والتهديد كأنه قال: فاعلموا أنكم قد حق لكم العقاب لتوليكم عما
أدى رسولنا من البلاغ المبين، يعني الأداء الظاهر الواضح، فوضح كلام
موضع كلام للايجاز ولو كان على صيغته من غير هذا التقدير لم يصح، لان
عليهم أن يعلموا ذلك تولوا أو لم يتولوا. و " ما " في قوله: " أنما " كافة
19

ل‍ " أن " عن عملها، وذلك أنها لما كانت من عوامل الأسماء خاصة ثم
احتيج إلى ادخالها على غيرها زيد عليها (ما) ليعلم تغيرها عن حالها فصارت
كافة لها.
قوله تعالى:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما
طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا
ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (96) آية.
قال ابن عباس وابن مالك والبراء بن عازب ومجاهد، وقتادة والضحاك:
إنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة كيف بمن مات من اخواننا وهو يشربها،
فأنزل الله الآية وبين أنه ليس عليهم في ذلك شئ إذا كانوا مؤمنين عاملين
للصالحات، ثم يتقون المعاصي وجميع ما حرم الله عليهم.
فان قيل لم كرر الاتقاء ثلاث مرات في الآية؟
قيل: الأول المراد به اتقاء المعاصي. الثاني - الاستمرار على الاتقاء.
والثالث - اتقاء مظالم العباد، وضم الاحسان إلى الاتقاء على وجه الندب
واعتبر أبو علي في الثالث الامرين.
وقوله " والله يحب المحسنين " أي يريد ثوابهم واجلالهم واكرامهم.
والاحسان النفع الحسن الواصل إلى الغير، ولا يقال لكل حسن إحسان،
لأنه لا يقال في العذاب بالنار أنه إحسان وإن كان حسنا. والصلاح استقامة
الحال وهو مما يفعله العبد، وقد يفعل الله تعالى له الصلاح في دينه باللطف
فيه. والايمان هو الاطمئنان إلى الصواب بفعله مع الثقة به وهو من أفعال
العباد. وعلى هذا يحمل قوله " وآمنوا " والأول على الايمان بالله الذي
هو التصديق. وروي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر في أيام عمر، فأراد
20

عمر أن يقيم عليه الحد فقال " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح
فيما طعموا " فأراد عمر أن يدرأ عنه الحد حين لم يعلم تحريمها. فقال
أمير المؤمنين (ع) أديروه على الصحابة، فإن لم يسمع أحدا منهم قرأ عليه
آية التحريم، فادرؤا عنه، وإن كان قد سمع فاستتيبوه، وأقيموا عليه الحد،
فإن لم يتب وجب عليه القتل.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد
تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن
اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (97) آية واحدة بلا خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين وقسم منه أنه يبلوهم بشئ من الصيد،
لان اللام في قوله: " ليبونكم " لام القسم والواو مفتوحة لالتقاء الساكنين
في قول بعضهم مثل (واو) اغزون. وأما واو " ليبونكم " قال سيبويه هي
مبنية على الفتح. وقال الزجاج: فتحت واو " ليبلونكم " لأنها حرف الاعراب
الذي تتعاقب عليه الحركات وضمت واو " لتبلون " لأنها واو الجمع، فصح
لالتقاء الساكنين نحو قوله " فلا تخشوا الناس واخشوني " (1) ومعنى
" ليبلونكم " ليختبرن طاعتكم من معصيتكم " بشئ من الصيد " وأصله
اظهار باطن الحال ومنه البلاء للنعمة لأنه يظهر به باطن حال المنعم عليه في
الشكر، والكفر. والبلاء النقمة، لأنه يظهر به ما يوجبه كفر النعمة. والبلى
الخلوقة لظهور تقادم العهد فيه.
وقوله " بشئ من الصيد " قيل في معنى (من) ثلاثة أوجه:
أحدها - صيد البر، دون البحر. والاخر صيد الاحرام دون الاحلال.

(1) سورة 5 المائدة آية 47.
21

الثالث - للتجنيس نحو اجتنبوا الرجس من الأوثان - في قول الزجاج -
وقوله " تناله أيديكم ورماحكم " يعني به فراخ الطيور وصغار الوحش في
قول ابن عباس ومجاهد، وزاد مجاهد: واليض. والذي تناله الرماح
الكبار من الصيد. قال أبو علي: معنى " تناله أيديكم ورماحكم " إن صيد
الحرم يقرب من الناس ولا ينفر منهم فيه كما ينفر في الحل، وذلك آية من آيات
الله. وقال الحسن ومجاهد: حرم الله بهذه الآية صيد البر كله. وقال أبو علي:
صيد الحرم هو المحرم بهذه الآية. وقال الزجاج: بين النبي صلى الله عليه وآله تحريم
صيد الحرم على المحرم وغيره بهذه الآية، وهذا صحيح. وصيد غير المحرم
إنما يحرم على المحرم دون المحل.
وقوله " ليعلم الله من يخافه بالغيب " معناه لعاملكم معاملة من يطلب
أن يعلم، مظاهرة في العدل. ووجه آخر - ليظهر المعلوم، والأول أحسن.
واختار البلخي الوجه الثاني، قال والله تعالى وإن كان عالما بما يفعلونه فيما
لم يزل، فإنه لا يجوز أن يثيبهم ولا يعاقبهم على ما يعلم منهم، وإنما يستحقون
ذلك إذا علمه واقعا منهم على وجه كلفهم، فإذا لابد من التكليف والابتلاء.
وقوله " من يخافه بالغيب " يعني من يخشى عقابه إذا توارى بحيث
لا يقع عليه الحس - في قول الحسن - تقول: غاب يغيب غيابا فهو غائب
عن الحس، منه الغيبة وهي الذكر بظهر الغيب بالقبيح. وقال قوم: معناه
من يخاف صيد الحرم في السر كما يخافه في العلانية، فلا يعرضون له على حال.
وقوله " فمن اعتدى بعد ذلك " يعني من تجاوز حد الله بمخالفة أمره وارتكاب
نهيه بالصيد في الحرم، وفي حال الاحرام " فله عذاب أليم " أي مؤلم. قال
البلخي: يجوز أن يكون ذلك في النار، ويجوز أن يكون غير ذلك من صنوف
الآلام والعقوبات، قال سليمان " لأعذبنه عذابا شديدا " (1) يعني الهدهد
ولم يرد عذاب النار.

(1) سورة 27 النحل آية 21.
22

قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن
قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به
ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو
عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد
فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام (98) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة ويعقوب " فجزاء " منونا " مثل " رفع. الباقون
بالإضافة. وقرأ ابن عامر وأهل المدينة " أو كفارة " بغير تنوين " طعام "
بالخفض. الباقون بالتنوين وأجمعوا على جمع مساكين. وقرأ بعضهم (أو
عدل ذلك بالكسر) قال الأخفش: وهو الوجه، لان العدل هو المثل. والعدل
مصدر عدلت هذا بهذا عدلا حسنا. والعدل أيضا المثل " ولا يقبل منها
عدل " (1) أي مثل. قال الفراء: العدل - بفتح العين - ما عدل الشئ من
غير جنسه - وبكسر العين - المثل، تقول: عندي غلام عادل غلامك
- بالكسر - لأنه من جنسه وان أردت قيمته دراهم، قلت: عندي عدل غلامك،
لأنها من غير جنسه. قال أبو علي الفارسي: حجة من رفع المثل أنه صفة للجزاء
والمعنى فعليه جزاء من النعم مماثل المقتول. والتقدير فعليه جزاء أي
فاللازم له أو فالواجب عليه جزاء من النعم مماثل ما قتل من الصيد. وقوله
" من النعم " على هذه القراءة صفة للنكرة التي هي (جزاء) وفيه ذكر،
ويكون مثل صفة للجزاء لان المعنى عليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد من
النعم. والمماثلة في القيمة أو الخلقة على اختلاف الفقهاء في ذلك. ولا ينبغي

(1) سورة 2 البقرة آية 123.
23

إضافة (جزاء) إلى المثل ألا ترى انه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة،
وإنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، ولا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم
يقتله. وإذا كان كذلك علمت أن الجزاء لا ينبغي أن يضاف إلى (مثل) ولا
يجوز أن يكون قوله " من النعم " على هذه القراءة متعلقا بالمصدر كما جاز
أن يكون الجار متعلقا به في قوله " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (1) ب‍ (مثلها)
لأنك قد وصفت الموصول، وإذا وصفته لم يجز أن تعلق به بعد الوصف
شيئا كما انك إذا عطفت عليه أو أكدته لم يجز أن تعلق به شيئا بعد العطف
عليه والتأكيد له. فأما في قراءة من أضاف الجزاء إلى المثل، فان قوله " من
النعم " يكون صفة للجزاء كما كان في قول من نون، ولم يضف صفة له.
ويجوز فيه وجه آخر لا يجوز في قول من نون ووصف: وهو أن
يقدره متعلقا بالمصدر. ولا يجوز على هذا القول أن يكون فيه ذكر كما
تضمن الذكر لما كان صفة. وإنما جاز تعلقه بالمصدر على قول من أضاف،
لأنك لم تصف الموصول كما وصفته في قول من نون، فيمتنع تعلقه به.
وأما من أضاف الجزاء إلى (مثل) فإنه وإن كان جزاء المقتول لا جزاء
مثله فإنهم مثل قد يقولون: أنا أكرم مثلك. يريدون أنا أكرمك، وكذلك إذا قال
(فجزاء مثل) فالمراد ما قتل، فإذا كان كذلك كانت الإضافة في المعنى
كغير الإضافة لان المعنى فعليه جزاء ما قتل. ولو قدرت الجزاء تقدير المصدر
وأضفته إلى المثل كما تضيف المصدر إلى المفعول به لكان في قول من جر
(مثلا) على الاتساع الذي وصفناه ألا ترى أن المعنى " فجزاء مثل " أي
يجازى مثل ما قتل، والواجب عليه في الحقيقة جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول.
خاطب الله بهذه الآية المؤمنين ونهاهم عن قتل الصيد وهم حرم وقوله
" وأنتم حرم " قيل فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وأنتم محرمون لحج أو عمرة.

(1) سورة 42 الشورى آية 40.
24

الثاني - وأنتم في الحرم. يقال: أحرمنا أي دخلنا في الحرم كما يقال
أنجدنا واتهمنا.
الثالث - وأنتم في الشهر الحرام. يقال أحرم إذا دخل في الشهر الحرام.
قال أبو علي: الآية تدل على تحريم قتل الصيد في حال الاحرام بالحج،
والعمرة وحين الكون في الحرم. وقال الرماني: يدل على الاحرام بالحج أو
العمرة فقط. والذي قاله أبو علي أعم فائدة، وأما القسم الثالث فلا خلاف
أنه غير مراد.
وقاتل الصيد إذا كان محرما لزمه الجزاء عامدا كان في القتل أو أخطأ
أو ناسيا لاحرامه أو ذاكرا. وبه قال مجاهد، والحسن - بخلاف عنه - وابن
جريج، وإبراهيم، وابن زيد، وأكثر الفقهاء، واختاره البلخي والجبائي.
وقال ابن عباس وعطاء والزهري واختاره الرماني: انه يلزمه إذا كان متعمدا
لقتله ذاكرا لاحرامه، وهو أشبه بالظاهر. والأول يشهد به روايات أصحابنا.
واختلفوا في مثل المقتول فقال الحسن وابن عباس والسدي ومجاهد
وعطاء والضحاك: هو أشبه الأشياء به من النعم: إن قتل نعامة فعليه بدنة،
حكم النبي صلى الله عليه وآله بذلك في البدنة. وان قتل أروى (1) فبقرة. وان قتل
غزالا أو أرنبا، فشاة. وهذا هو الذي تدل عليه روايات أصحابنا.
وقال قوم: يقوم الصيد بقيمة عادلة ثم يشترى بثمنه مثله من النعم ثم
يهدى إلى الكعبة، فإن لم يبلغ ثمن هدي كفر أو صام، وفيه خلاف بين الفقهاء
ذكرناه في الخلاف واختلف من قال بذلك في المكان الذي يقوم فيه الصيد،
فقال إبراهيم، والنخعي وحماد، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: يقوم
بالمكان الذي أصاب فيه إن كان بخراسان أو غيره. وقال ابن عامر والشعبي:
يقوم بمكة أو منى.

(1) " الأروى " إناث الوعل، وهو اسم جمعها وواحدها (أرية)
بضم الهمزة وسكون الراء وكسر الواو وفتح الياء المشددة.
25

وقوله: " يحكم به ذوا عدل منكم " يعني شاهدين عدلين فقيهين يحكمان
بأنه جزاء مثل ما قتل من الصيد.
وقوله: " هديا بالغ الكعبة " ف‍ (هديا) نصب على المصدر. ويحتمل
أن يكون نصبا على الحال، و (بالغ الكعبة) صفة له وتقديره يهديه هديا
يبلغ الكعبة وقوله " بالغ الكعبة " فهو وإن كان مضافا إلى المعرفة فالنية فيه
الانفصال، كما نقول هذا ضارب زيد، فيمن حذف النون ولم يكن قد فعل،
فإنه يكون نكرة، والهدي يجب أن يكون صحيحا بالصفة التي تجزي في
الأضحية، وهو قول أبي علي.
وقال الشافعي يجوز في الهدي ما لا يجوز في الأضحية. وان قتل طائرا
أو نحوه قال أبو علي عليه دم شاة. وعندنا فيه دم. وقال قوم يجوز ان
يهدي سخلة أو جديا. والنعم هي الإبل والبقر والغنم. وقوله " أو كفارة
طعام مسكين " فمن رفع (طعام مساكين) جعله عطفا على الكفارة عطف بيان
لان الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إلى الطعام، لأنها ليست للطعام
وإنما هي لقتل الصيد، فلذلك لم يضف الكفارة إلى الطعام. ومن أضافها
إلى الطعام، فلانه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء: الهدى، والطعام، والصيام
أجاز الإضافة لذلك، فكأنه قال: كفارة طعام لا كفارة هدي، ولا كفارة
صيام، فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء وقيل في معناه
قولان:
أحدهما - يقوم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاما في قول عطا.
وهو مذهبنا.
وقال قتادة: يقوم نفس الصيد المقتول حيا ثم يجعل طعاما.
وقوله: " أو عدل ذلك صياما " نصب صياما على التمييز وفي معناه
قولان:
أحدهما - لكل مد يقوم من الطعام يوم في قول عطاء. وقال غيره:
26

عن كل مدين يوم وهو مذهبنا. وقال سعيد بن جبير: يصوم ثلاثة أيام إلى
عشرة أيام.
وقوله " ليذوق وبال امره " يعني عقوبة ما فعله ونكاله. وقال المغربي:
الوبال من الطعام الوبيل الذي لا يستمري، أو لا يوافق، وهو قول الأزهري
قال كثير:
فقد أصبح الراضون إذ أنتم بها * مشوم البلاد يشتكون وبالها
وقوله: " عفا الله عما سلف " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن: عفا الله عما سلف من امر الجاهلية.
وقال آخرون: عما سلف من الدفعة الأولى في الاسلام.
وقوله: " ومن عاد فينتقم الله منه " اختلفوا في لزوم الجزاء بالمعاودة
على قولين:
أحدهما - قال عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير ومجاهد: يلزمه الجزاء
بالمعاودة وهو قول بعض أصحابنا.
الثاني - قال ابن عباس، وشريح، والحسن، وإبراهيم، بخلاف عنه:
لا جزاء عليه وينتقم الله منه، وهو الظاهر من مذهب أصحابنا، واختار
الرماني الأول. وبه قال أكثر الفقهاء، قال: لأنه لا ينافي الانتقام منه. واختلفوا
في (أو) في الآية هل هي على جهة التخيير أم لا؟ على قولين:
أحدهما - قال ابن عباس، والشعبي، وإبراهيم، والسدي وهو الظاهر
في رواياتنا انه ليس على التخيير لكن على الترتيب. وإنما دخلت (أو) لأنه
لا يخرج حكمه على أحد الثلاثة، على أنه إن لم يجد الجزاء فالاطعام وان لم
يجد الاطعام فالصيام. وفي رواية أخرى عن ابن عباس، وعطاء والحسن
وإبراهيم - على خلاف عنه - واختاره الجبائي، وهو قول بعض أصحابنا
انه على التخيير.
وقوله " والله عزيز ذو انتقام " معناه قادر لا يغالب " ذو انتقام " معناه
27

ينتقم ممن يتعدا أمره ويرتكب نهيه. وليس في الآية دليل على العمل بالقياس،
لان الرجوع إلى ذوي عدل في تقويم الجزاء مثل الرجوع إلى المقولين في
قيم المتلفات، ولا تعلق لذلك بالقياس.
قوله تعالى:
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه
تحشرون (99) آية بلا خلاف.
قال ابن عباس، وزيد بن ثابت، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب،
وقتادة، والسدي، ومجاهد: الذي أحل من هذه الآية من صيد البحر الطري
منه وأما العتيق فلا خلاف في كونه جلالا، وإذا حل صيد البحر حل صيد
الأنهار، لان العرب تسمى النهر بحرا. ومنه قوله " ظهر الفساد في البر
والبحر " (1) والأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا لكن إذا أطلق
دخل فيه الأنهار بلا خلاف.
وقوله " وطعامه " يعني طعام البحر وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال أبو بكر وعمر، وابن عباس وابن عمر، وقتادة هو
ما قذف به ميتا.
الثاني - في رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن
جبير وقتادة ومجاهد وإبراهيم بخلاف عنه انه المملوح، واختار الرماني الأول.
وقال لأنه بمنزلة ما صيد منه وما لم يصد منه فعلى هذا تصح الفائدة في الكلام
والذي يقتضيه ويليق بمذهبنا القول الثاني، فيكون قوله " صيد البحر "
المراد به ما أخذ طريا.

(1) سورة 30 الروم آية 41.
28

وقوله " وطعامه " ما كان منه مملوحا، لان ما يقذف به البحر ميتا
لا يجوز عندنا أكله لغير المحرم ولا للمحرم. وقال قوم معنى " وطعامه "
ما نبت بمائة من الزرع والثمار حكاه الزجاج.
وقوله " متاعا لكم وللسيارة " نصب متاعا على المصدر لان قوله " أحل
لكم " يدل على أنه قد متعهم متاعا وقال ابن عباس والحسن وقتادة معناه
منفعة للمقيم والمسافر.
وقوله " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " يقتضي ظاهره تحريم
الصيد في حال الاحرام وأكل ما صاده غيره، وبه قال علي (ع) وابن عباس
وابن عمر وسعيد بن جبير، وقال عمر وعثمان والحسن، لحم الصيد لا يحرم
على المحرم إذا صاده غيره، ومنهم من فرق بين ما صيد وهو محرم وبين ما صيد
قبل احرامه. وعندنا لا فرق بينهما والكل محرم، والصيد يعبر به عن
الاصطياد فيكون مصدرا ويعبر به عن المصيد، فيكون اسما. ويجب أن تحمل
الآية على تحرم الجميع. وقوله " واتقوا الله الذي إليه تحشرون " أمر منه تعالى
بان يتقي جميع معاصيه ويجتنب جميع محارمه من الصيد في الاحرام وغيره،
لان إليه الرجوع في الوقت الذي لا يملك أحد فيه الضرر والنفع سواه، وهو
يوم القيامة فيجازي كلا بعمله: المحسن على إحسانه والمسئ على إساءته.
قوله تعالى:
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر
الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في
السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شئ عليم (100) آية
بلا خلاف.
قرأ ابن عامر وحده " قيما للناس " بلا الف. الباقون قياما بالألف.
29

قال أبو علي الفارسي: قوله " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس "
تقديره جعل الله حج الكعبة أو نصب الكعبة قياما لمعايش الناس أو مكاسب
الناس، لأنه مصدر (قام) كأن المعنى قام بنصبه ذلك لهم، فاستتبت بذلك
معايشهم، واستقامت أحوالهم به فالقيام كالعياذ والعيال. وعلى هذا لحقته
تاء التأنيث في هذه المصادر فجاءت (فعالة) كالزيادة والسياسة والحياكة،
فكما جاءت هذه المصادر على (فعال) أو (فعالة) كذلك حكم القيام أن
يكون على (فعال).
ووجه قراءة ابن عامر أحد أمرين: إما أن يكون جعله مصدرا كالشبع
أو حذف الألف وهو يريدها كما يقصر الممدود، وهذا الوجه إنما يجوز في
الشعر دون الكلام. وإنما أعلوا الواو فقلبوها ياءا لاعتلال الفعل، ولم
يصححوها كما صحت في الحول والعوض، ألا ترى أنهم قالوا ديمة وديم،
وحيلة وحيل فأعلوها في المجموع لاعتلال آحادها، فاعلال المصدر لاعتلال
الفعل أولى.
والقوام هو العماد تقول: هو قوام الامر وملاكه، وهو ما يستقيم به
أمره وقلبت الواو ياءا لانكسار ما قبلها في مصدر (فعل، يفعل) وهو قام
بالامر قياما كقولك صام صياما. فأما صحة الواو فمن قاومه قواما مثل
حاوره حوارا قال الراجز:
قوام دنيا وقوام دين (1)
وتقدير الآية جعل الله حج الكعبة أو نصب الكعبة قياما لمعاش الناس
ومصالحهم.
وقوله " والشهر الحرام " معطوف على المفعول الأول ل‍ (جعل) كما
تقول ظننت زيدا منطلقا وعمرا أي فعل ذلك ليعلموا أن الله يعلم مصالح ما في
السماوات والأرض، وما يجري عليه شأنهم في معاشهم وغير ذلك مما يصلحهم

(1) مجاز القرآن 1 / 177.
30

" وأن الله بكل شئ عليم " بما يقيمهم، ويصلحهم عليه.
وقيل في قوله " قياما للناس " ان معناه أمنا لهم وقيل إنه مما ينبغي
أن يقيموا به. والأول أقوى. وقال قوم لما كان في المناسك زجرا عن القبيح
ودعا إلى الحق كان بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه. وقال سعيد بن
جبير " قياما للناس " صلاحا لهم. وقيل: يقوم به أبدانهم. وقيل " قياما "
يقومون به في متعبداتهم قال مجاهد وعكرمة: سميت الكعبة كعبة لتربيعها.
وقال أهل اللغة وإنما قيل كعبة البيت وأضيف لان كعبة تربع أعلاه
والكعوبة: النتوء، فقيل للتربيع كعبة لنتوء زوايا المربع. ومنه كعب ثدي
الجارية إذا نتأ ومنه كعب الانسان لنتوئه. وسميت الكعبة حراما لتحريم الله
إياها ان يصاد صيدها أن يخلى خلاءها أو يعضد شجرها. وقوله " والشهر
الحرام " قال الحسن: هي الأشهر الحرام الأربعة، فهذا على مخرج الواحد
مذهب الجنس. وهي واحد فرد، وثلاثة سرد، فالفرد رجب، والسرد
ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
و (القلائد) قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - ان الرجل من العرب كان ينتهي به الحال من الضرر والجوع
إلى أن يأكل العصب فيلقى الهدي مقلدا فلا يعرض له.
الثاني - أن من أراد الاحرام تقلد قلادة من شعر أو لحي الشجرة،
فتمنعه من الناس حتى يأتي أهله.
الثالث - قال الحسن: القلائد ان يقلد الإبل والبقر النعالا أو الخفاف،
تقور تقويرا، على ذلك مضت السنة، فهذا على صلاح التعبد بها، وهذا هو
المعتمد عليه عندنا.
فان قيل: ما معنى قوله " ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات
وما في الأرض " بعد قوله " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس "
وأي تعلق لها بذلك؟ وما في ذلك مما يدل على أنه بكل شئ عليم؟ قيل عن
31

ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها - أنه تعالى لما اخبر بما في هذه السورة من قصة موسى وعيسى
وقومهما وبالتوراة والإنجيل، وما فيهما من الاحكام واخبار الأمم وفصله،
وذلك كله مما لم يشاهده محمد صلى الله عليه وآله ولا قومه ولا أحد في عصره ولا وقفوا
على شئ من ذلك، قال ذلك لتعلموا أن الله تعالى لولا أنه بكل شئ عليم
لما جاز أن يخبركم عنهم، فاخباره بذلك يدل على أنه بكل شئ عليم. وأيضا
فان ما جعله الله من البلد الحرام والشهر الحرام من الآيات والأعاجيب دالا
على أنه تعالى لا يخف عليه شئ، لأنه جعل البيت الحرام والحرم أمنا، يأمن
فيه كل شئ ويسكن قلبه فالظبي يأنس بالسبع والذئب ما دام في الحرم،
فإذا خرج عن الحرم خاف وطلب السبع وهرب منه الظبي حتى يرجع إلى
الحرم، فإذا رجع إليه كف عنه السبع، وهذا من عظيم آيات الله وعجيب
دلائله، وكذلك الطير والحمامة تأنس بالانسان، فإذا خرج من الحرم خافه
ولم يدن من أحد حتى يعود إلى الحرم، والطير يستشفي بالبيت الحرام إذا
مرض يسقط علم؟؟ البيت استشفاء به، فإذا زال عنه المرض لم ير على
سطح البيت ولا محاذيه في الهواء إجلالا له وتعظيما، مع أمور كثيرة يطول
ذكرها، فيكون ما دبره الله من ذلك دالا على أنه عالم بمصالح الخلق وبكل
شئ. وأيضا فإنه أخبرهم بأنه قد علم قبل أن يخلقهم ما هم صائرون إليه
من القتال والغارة والسبي والسلب فجعل من سنن إبراهيم وإسماعيل ان من
دخل الحرم لم يقتل. وكذلك من عاذ بالبيت. وأن أشهر الحرم لا يجوز
فيها قتال وأن من أهدى أو قلد أمن على نفسه، وكل ذلك يدل على أن من
دبره عالم بالعواقب ولا يخفى عليه شئ من الأشياء على وجه من الوجوه.
قوله تعالى:
إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (101) آية
32

أمر الله تعالى أن يعلم المكلف أنه شديد العقاب، فالعلم ما اقتضى سكون
النفس، وان شئت قلت هو اعتقاد الشئ على ما هو به مع سكون النفس
إلى ما اعتقده، والأول أخص، ولا يجوز أن يحد العلم بأنه المعرفة، لان
المعرفة هي العلم، ولا يحد الشئ بنفسه. والعلم يتناول الشئ على ما هو
به وكذلك الرؤية. والفرق بينهما ان العلم يتعلق بالمعلوم على وجوه،
والرؤية لا تتعلق إلا على وجه واحد. والعلم محله القلب. والرؤية ليست
معنى على الحقيقة وإنما تثبت للرائي بكونه رائيا صفة. ومن قال هو معنى
قال محلها العين.
وفي الآية دلالة على أن المعرفة بالله وبصفاته ليست ضرورية، لأنها لو
كانت ضرورية لما أمرنا بها. وليس لاحد أن يقول إنما أمر على جهة التذكير،
والتنبيه، لان ذلك ترك للظاهر.
والعقاب هو الضرر المستحق على جهة الإهانة والمقارن بالاستخفاف،
ولو اقتصرت على أن تقول هو الضرر المستحق أو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة
لكان كافيا لان ما ليس بعقاب ليس بمستحق ولا يقارنه استخفاف وإهانة وإنما
سمي عقابا لأنه يستحق عقيب الذنب الواقع من صاحبه.
وقوله " وان الله غفور رحيم " منصوب ب‍ (إعلموا) وتقديره
واعلموا ان الله غفور رحيم، والمغفرة هي ستر الخطيئة برفع عقابها. وأصلها
الستر ومنه المغفرة وضم ذكر الرحمة إلى المغفرة لبيان سبوغ نعم الله تعالى،
وانه إذا أزال العقوبة بالتوبة أوجب الرحمة التي هي المغفرة. وذلك يدل على
أن الغفران عند التوبة غير واجب وأنه تفضل وإلا لم يكن كذلك.
قوله تعالى:
ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما
تكتمون (102) آية بلا خلاف.
33

لما أنذر تعالى في الآية الأولى شدة العقاب وبشر بالعفو والغفران ذكر
في هذه أنه ليس على الرسول إلا البلاغ. وأما القبول والامتثال فإنه متعلق
بالمكلفين المبعوث إليهم.
وأصل الرسول الاطلاق من قولهم أرسل الطير إرسالا إذا أطلقه ومنه
قولهم: ترسل في القراءة ترسلا إذا تثبت. واسترسل الشئ إذا تسلل
وانطلق. ورسله مراسلة، وتراسلوا تراسلا. والرسل اللبن لاسترساله
من الضرع. وفي الحديث (أعطي من رسلها) وقوله: " والمرسلات عرفا " (1)
قيل: هي الخيل. وقيل هي الرياح. والفرق بين الرسول والنبي أن النبي
لا يكون الا صاحب المعجز الذي ينبئ عن الله أي يخبر، والرسول إذا كان
رسول الله فهو بهذه الصفة، وقد يكون الرسول رسولا لغير الله، فلا يكون
بهذه الصفة. والانباء عن الشئ قد يكون من غير تحميل النبأ. والارسال
لا يكون الا بتحميل الرسالة. والبلاغ وصول المعنى إلى غيره، وهو هاهنا
وصول الانذار إلى نفوس المكلفين. وأصل البلاغ البلوغ تقول: بلغ يبلغ
بلوغا وأبلغه ابلاغا وتبلغ تبلغا وبالغ مبالغة وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة لأنها
إيصال المعنى إلى النفس في حسن صورة من اللفظ. وتبالغ الرجل إذا تعاطى
البلاغة وليس ببليغ، وفي هذا بلاغ أي كفاية لأنه يبلغ مقدار الحاجة.
" والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " معناه أنه لا يخفى عليه شئ من
أحوالكم التي تظهرونها أو تخفونها وتكتمونها وفي ذلك غاية التهديد والزجر. قوله تعالى:
قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة
الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون (103) آية
معنى قوله " لا يستوى " لا يتساوى. والاستواء على أربعة أقسام:

(1) سورة 77 المرسلات آية 1.
34

استواء في المقدار. واستواء في المكان. واستواء في الذهاب. واستواء في
الانفاق. والاستواء بمعنى الاستيلاء راجع إلى الاستواء في المكان، لأنه
تمكن واقتدار وقوله " الخبيث والطيب " قيل في معناهما قولان:
أحدهما - الحرام، والحلال في قول الحسن وأبي علي.
الثاني - قال السدي الكافر، والمؤمن. والخبيث الردي بالعاجلة
ويسوى بالأجلة. ومنه خبث الحديد، وهو رديئه بعد ما يخلص بالنار جيدة ففي
الخبيث امتزاج جيد بردئ ولذلك قال " ولو أعجبك كثرة الخبيث " والاعجاب
سرور بما يتعجب منه. والعجب والاعجاب والتعجب من أصل واحد. وعجب
يعجب عجبا والعجب مذموم، لأنه كبر يدخل النفس بحال يتعجب منها.
وعجب الذنب أصله عجوب الرمل أو آخره لانفراده عن جملته كانفراد
ما يتعجب منه.
ومعنى الآية أنه لا يتساوى الحرام والحلال وان أعجبك يا محمد
كثرة ما تراه من الحرام والمراد به أمته. وقوله " فاتقوا الله " معناه اجتنبوا
ما حرمه عليكم " يا اولي الألباب " يعني يا اولي العقول " لعلكم تفلحون "
معناه لتفلحوا وتفوزوا بالثواب العظيم الدائم.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم
تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله
عنها والله غفور حليم (104) قد سألها قوم من قبلكم ثم
أصبحوا بها كافرين (105) آيتان بلا خلاف.
قيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس وأنس وأبو هريرة والحسن وقتادة وطاوس
35

والسدي: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله رجل يقال اله عبد الله وكان يطعن في
نسبه فقال: يا رسول الله من أبي، فقال له حذافة. فنزلت الآية. وقال أبو
هريرة ومجاهد: نزلت حين سألوا عن أمر الحج لما انزل " ولله على الناس حج
البيت " فقالوا: في كل عام؟ قال: لا ولو قلت نعم لوجب. وقال قوم وقع
السؤال الأول والثاني في مجلس واحد، فخاطب الله تعالى بهذه الآية المؤمنين
ونهاهم عن مسألة الأشياء التي إذا أبديت وأظهرت ساءت وأحزنت من أظهرت له.
يقال بدا يبدو بدوا. وأبداه إبداء إذا أظهره وبدا له في الامر بدوا وبدا
وبداء إذا تغير رأيه، لأنه ظهر له. والبادية خلاف الحاضرة. والبدو خلاف
الحضر من الظهور. وقيل في وزن (أشياء) ثلاثة أقوال:
قال الكسائي: هو أفعال إلا أنه لم يصرف، لأنهم شبهوه بحمراء فالزمه
الزجاج ألا يصرف أسماء ولا انباء.
الثاني - قال الأخفش والفراء هي (فعلاء) كقولك هين وأهوناء فالزمه
المازني وقال: سله كيف يصغرها؟ فقال الأخفش (أشياء) فقال يجب ان يصغرها
شيئات كما يصغر أصدقاء في المؤنث صديقات في المذكر صد يقون. قال الزجاج
إنما قيل في هين: أهوناء لان هين أصله (هيين) على وزن فعيل فجمع على أفعلاء
كنصب وانصباء.
الثالث - قال الخليل وسيبويه: (افعاء) مقلوبة كما قلبوا (أنيق) عن
أنوق، وقسمي عن قؤوس.
وقوله " تسؤكم " معناه تحزنكم. وقوله " عفا الله عنها والله غفور
رحيم " قيل فيما يعود الضمير إليه في (عنها) قولان:
أحدهما - قال قوم على المسألة، لان قوله " لا تسألوا " دليل عليها
فيكون العفو عن مسألتهم التي سلفت منهم.
الثاني - على الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية، وما جرى
مجراها مما يسؤهم تشديد المحنة فيها.
36

وقوله " قد سألها قوم من قبلكم " قال ابن عباس: سأل قوم عيسى (ع)
إنزال المائدة ثم كفروا بها. وقال غيره: هو قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها
وكفروا بها. وقال السدي هذا حين سألوا أن يحول لهم الصفا ذهبا. وقال
أبو علي: إنما كانوا سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء يعني من آيات ونحوها
فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله قالوا: ليس الامر كذلك، فكفروا به
وقال الرماني: السؤال هو طلب الشئ اما بايجاده واما باحضاره واما
بالبيان عنه، والذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل عليه من أمر دين
أو دنيا. وما لا يجوز العمل عليه من أمر دين أو دنيا لا يجوز السؤال عنه
ولا يجوز أن يسأل الله تعالى شيئا إلا بشرط انتقاء وجود القبح عن الإجابة،
فعلى هذا لا يجوز أن يسأل الانسان: من أبي لان المصلحة اقتضت ان من ولد
على فراش انسان حكم بأنه ولده. وإن لم يكن مخلوقا من مائه، فالمسألة
بخلافه سفه لا يجوز.
قوله تعالى:
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيل ولا حام
ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم
لا يعقلون (106) آية بلا خلاف.
هذه الآية من الأدلة الواضحة على بطلان مذهب المجبرة من قولهم: من
أن الله تعالى هو الخالق للكفر والمعاصي وعبادة الأصنام وغيرها من القبائح،
لأنه تعالى نفى أن يكون هو الذي جعل البحيرة أو السائبة أو الوصيلة أو
الحام، وعندهم ان الله تعالى هو الجاعل له والخالق، تكذيبا لله تعالى وجرأة
عليه. ثم بين تعالى أن هؤلاء بهذا القول قد كفروا بالله وافتروا عليه بأن أضافوا
إليه ما ليس بفعل له، وذلك واضح لا إشكال فيه.
37

ومعنى " ما جعل الله من بحيرة " أي ما حرمها على ما حرمها أهل الجاهلية،
ولا أمر بها. و (البحيرة) هي الناقة التي تشق أذنها يقال بحرت الناقة أبحرها
بحرا، والناقة مبحورة، وبحيرة: إذا شققتها شقا واسعا، ومنه البحر لسعته.
وكانوا في الجاهلية إذا تنجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها
أي شقوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولم تطرد عن ماء، ولم تمنع من
رعي. وإذا لقيها لمعيي لم يركبها.
و (السائبة) المخلاة وهي المسيبة. وكانوا في الجاهلية إذا نذر إنسان
نذرا لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة،
فكانت كالبحيرة في التخلية، وكان إذا أعتق الانسان عبدا، فقال: هو سائبة لم
يكن بينهما عقل، ولا ولاء، ولا ميراث.
و (الوصيلة) الأنثى من الغنم إذا ولدت أنثى مع الذكر قالوا: أوصلت
أخاها فلم يذبحوه. وقال أهل اللغة: كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا
ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم، وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت
أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم.
و (الحام) الفحل من الإبل الذي قد حمى ظهره من أن يركب بتتابع
أولاد تكون من صلبه. وكانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن
قالوا: حمى ظهره فلا يحمل عليه شئ ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وقال محمد
ابن إسحاق: البحيرة بنت السائبة و (السائبة) هي الناقة إذا تابعت بين عشر
إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها
إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم يخلي سبيلها مع أمها فلم
يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها.
و (الوصيلة) هي الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن
ليس فيها ذكر جعلت وصيلة، وقالوا قد وصلت وكان ما ولدت بعد ذلك
للذكور دون الإناث.
38

وقوله " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب " إخبار منه تعالى؟
هؤلاء الذين كفروا يكذبون على الله بادعائهم أن هذه الأشياء من فعل الله أو
بأمره. وقوله " وأكثرهم لا يعقلون " خص الأكثر بأنهم لا يعقلون لأنهم أتباع،
فهم لا يعقلون أن ذلك كذب وافتراء كما يفعله الرؤساء - في قول قتادة
والشعبي - وقال أبو علي " أكثرهم لا يعقلون " ما أحل لهم وما حرم عليهم،
يعني أن المعاند هو الأقل منهم.
قوله تعالى:،
وإذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول قالوا
حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا
ولا يهتدون (107) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى عن الكفار الذين أخبر عنهم أنهم لا يعقلون، والذين جعلوا
البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، و " الذين يفترون على الله الكذب "
من كفار قريش وغيرهم من العرب بأنه " إذا قيل لهم تعالوا " أي هلموا " إلى
ما أنزل الله " من القرآن واتباع ما فيه، والاقرار بصحته " والى الرسول "
وتصديقه، والاقتداء به وبأفعاله " قالوا " في الجواب عن ذلك " حسبنا " أي
كفانا " ما وجدنا عليه آباءنا " يعني مذاهب آبائنا. ثم اخبر تعالى منكرا عليهم
فقال " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " أي إنهم يتبعون آباءهم
في ما كانوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان وإن كان آباؤهم لا يعلمون شيئا
من الدين ولا يهتدون إليه. وقيل في معنى (لا يهتدون قولان أحدهما - الذم
بأنهم ضلال. والثاني - أنهم لا يهتدون إلى طريق العلم بمنزلة العمي
عن الطريق.
وفي الآية دلالة على فساد التقليد، لان الله تعالى أنكر عليهم تقليد الاباء فدل
39

ذلك على أنه لا يجوز لاحد أن يعمل على شئ من أمر الدين إلا بحجة.
وفيها دلالة على وجوب المعرفة وأنها ليست ضرورية، لان الله تعالى بين
الحجاج عليهم في هذه الآية ليعرفوا صحة ما دعا الرسول إليه، ولو كانوا
يعرفون الأحق ضرورة لم يكونوا مقلدين لآبائهم وكان يجب أن يكون آباؤهم
أيضا عارفين ضرورة، ولو كانوا كذلك لما صح الاخبار عنهم بأنهم لا يعلمون
شيئا ولا يهتدون. وإنما نفى عنهم الاهتداء والعلم معا لان بينهما فرقا، وذلك
أن الاهتداء لا يكون إلا عن بيان وحجة. والعلم مطلق وقد يكون
الاهتداء ضرورة.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من
ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم
تعملون (108) آية واحدة بلا خلاف.
لما بين الله تعالى حكم الكفار الذين قلدوا آباءهم واسلافهم وركنوا إليهم
في أديانهم، ذكر في هذه الآية أن المكلف إنما يلزمه حكم نفسه وأنه لا يضره
ضلال من ضل إذا كان هو مهتديا، حتى يعلم بذلك أنه لا يلزمهم من ضلال
آبائهم شئ من الذم والعقاب.
و " أنفسكم " نصب على الاغراء كأنه قال: احفظوا أنفسكم أن تزلوا كما
زل غيركم. والعرب تغري ب‍ (عليك، واليك، ودونك، وعندك) فينصبون
الأسماء بها، ولم يغروا ب‍ (منك) كما أغروا ب‍ (إليك)، لان (إليك) أحق
بالتنبيه من (منك). والاغراء تنبيه على ما يجب أن يحذر، ولذلك لم يغروا
ب (فيك) ونحوها من حروف الإضافة. وحكى المغربي: أنه سمع من يغري
ب‍ (وراءك) و (قدامك).
40

وليس في الآية ما يدل على سقوط انكار المنكر. وإنما يجوز الاقتصار
على الاهتداء بأتباع أمر الله في حال التقية، هذا قول ابن مسعود، على أن
الانسان إنما يكون مهتديا إذا اتبع أمر الله في نفسه وفي غيره بالانكار عليه. وروي
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (إذا رأوا الناس منكرا فلم يغيروه عمهم الله بالعقاب)
وفي الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة في تعذيب الأطفال، لأنه لو كان
الامر على ما قالوه لم يأمن المؤمنون أن يؤخذوا بذنوب آبائهم، وقد بين الله
تعالى أن الامر بخلافه مؤكدا لما في العقل.
وقوله " إلى الله مرجعكم جميعا " معناه إليه تعالى مالكم في الوقت الذي
لا يملك أحد الضرر والنفع سواء بخلاف دار الدنيا التي مكن الله تعالى الخلق
من الضرر والنفع فيها. وقوله " فينبئكم " معناه يخبركم بأعمالكم التي
عملتموها في الدنيا من الطاعات والمعاصي، ويجازيكم بحسبها، وفي ذلك غاية
الزجر والتهديد.
وقوله " لا يضركم " يحتمل أن يكون جزما لأنه جواب الامر، وحرك الراء
لأنها ثقيلة وأولها ساكن، فلا يستقيم إسكان آخرها، فيلتقي ساكنان. قال
الأخفش: والأجود أن يكون رفعا على الابتداء، لأنه ليس بعلة لقوله
" عليكم أنفسكم " وإنما أخبر أنه لا يضرهم.
قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم
الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم
إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت
تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري
41

به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن
الآثمين (109) آية بلا خلاف.
ذكر الواقدي وأبو جعفر (ع) أن سبب نزول هذه الآية ما قال أسامة
بن زيد عن أبيه قال: كان تميم الداري وأخوه عدي نصرانيين وكان متجرهما
إلى مكة، فلما هاجر رسول الله (ع) إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى
عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا فخرج هو وتميم الداري وأخوه
عدي حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية فكتب وصية بيده
ودسها في متاعه وأوصى اليهما ودفع المال اليهما وقال أبلغنا هذا أهلي، فلما
مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما مناه ثم رجعا بالمال إلى الورثة، فلما فتش
القوم المال فقدوا بعض ما كان خرج به صاحبهم، ونظروا إلى الوصية فوجدوا
المال فيما تاما وكلموا تميما وصاحبه، فقالا: لاعلم لنا به وما دفعه الينا أبلغناه
كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " قيل في معنى الشهادة
- هاهنا - ثلاثة أقوال:
أحدها - الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام.
الثاني - شهادة الحضور لوصيين.
الثالث - شهادة أيمان بالله إذا ارتاب بالوصيين من قول القائل: أشهد
بالله اني لمن الصادقين. والأول أقوى وأليق بالقصة. وفي كيفية الشهادة
قيل قولان:
أحدهما - أن يقول صحيحا كان أو مريضا: إذا حضرني الموت فافعلوا
كذا وكذا. ذكره الزجاج.
الثاني - إذا حضرت أسباب الموت من المرض.
42

وقيل في رفع " شهادة " ثلاثة أقوال:
أحدها - أن يكون رفعا بالابتداء وتقديره شهادة بينكم: شهادة اثنين،
ويرتفع (اثنان) بأنه خبر الابتداء ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
قال أبو علي الفارسي: واتسع في (بين) وأضيف إليه المصدر، وذلك يدل
على قول من يقول: ان الظرف الذي يستعمل يجوز أن يستعمل اسما في غير
الشعر، كما قال تعالى " لقد تقطع بينكم " (1) فيمن رفع. وجاء في الشعر:
فصادف بين عينيه الجبوبا (2)
الثاني - على تقدير محذوف وهو عليكم شهادة بينكم أو مما فرض
عليكم شهادة بينكم، ويرتفع اثنان بالمصدر ارتفاع الفاعل بفعله.
والثالث - أن يكون الخبر " إذا حضر " فعلى هذا لا يجوز أن يرتفع
(اثنان) بالمصدر، لأنه خارج عن الصلة بكونه بعد الخبر، لكن على تقدير
ليشهد اثنان، ولا يجوز أن يتعلق إذا حضر بالوصية لامرين:
أحدهما - ان المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، لأنه لو عمل فيما
قبله للزم أن يقدر وقوعه في موضعه فإذا قدر ذلك لزم تقديم المضاف عليه
على المضاف، ومن ثم لم يجز (القتال زيدا) حين يأتي.
والاخر ان الوصية مصدر، فلا يتعلق به ما يتقدم عليه.
وقوله " إذا حضر أحدكم الموت " يعني قرب أحدكم من الموت كما قال
" حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان " (3) وقال " حتى إذا جاء
أحدكم الموت توفته رسلنا " (4) وقال " حتى إذا جاء أحدكم الموت قال رب

(1) 6 الانعام آية 94.
(2) قائله أبو خراش الهذلي. اللسان (بين) وصدره:
فلاقته ببلقعة براح
يصف عقابا. والجبوب - بفتح الجيم - وجه الأرض. والبلقع المكان
الخالي، وبراح صفة له. والشاهد ضم النون في (بين).
(3) سورة 4 النساء آية 17
(4) سورة 6 الانعام آية 61.
43

ارجعون " (3) وكل ذلك يريد به المقاربة. ولولا ذلك لما أسند إليه القول
بعد الموت.
وقوله " حين الوصية " فلا يجوز أن يحمل على الشهادة، لأنها إذا
عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه، ويمكن حمله على أحد
ثلاثة أشياء:
أحدها - أن تعلقه بالموت كان الموت في ذلك الحين بمعنى قرب منه.
الثاني - على حضر أي إذا حضر: هذا الحين.
الثالث - أن يحمله على البدل من (إذا) لان ذلك الزمان في المعنى هو
ذلك الزمان، فيبدله منه، ويكون بدل الشئ من الشئ إذا كان إياه. وقوله
" اثنان ذوا عدل منكم " خبر المبتدأ الذي هو (شهادة) وتقديره شهادة بينكم
شهادة اثنين على ما بيناه، لان الشهادة لا تكون إلا من اثنين وقوله " منكم "
صفة لقوله " اثنان " كما أن (ذوا عدل) صفة لهما، وفي الظرف ضمير وفي
معنى (منكم) قولان:
أحدهما - قال سعيد بن المسيب وعبيدة ويحيى بن يعمر ومجاهد
وقتادة وابن عباس: أي من المسلمين، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع).
الثاني - قال سعيد بن المسيب وعبيدة - في رواية أخرى - وعكرمة:
إنهما من حي الموصي والأول أظهر وأصح، وهو اختيار الرماني، لأنه لا حذف
فيه. وقوله " أو آخران من غيركم " تقديره أو شهادة آخرين من غيركم،
وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. و (من غيركم) صفة للآخرين.
وقيل في معنى " من غيركم " قولان:
أحدهما قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد
ابن جبير وشريح وإبراهيم وابن سيرين ومجاهد وابن زيد واختاره أبو علي
الجبائي، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) أنهما من غير أهل ملتكم.

(1) سورة 23 المؤمنون آية 100.
44

الثاني - قال عكرمة وعبيدة - بخلاف عنه - وابن شهاب والحسن:
يعني من غير عشيرتكم. قال الحسن لان عشيرة الموصي أعلم بأحواله من
غيرهم، وهو اختيار الزجاج. وقال: لأنه لا يجوز قبول شهادة الكفار مع
كفرهم وفسقهم وكذبهم على الله. ومعنى (أو) - هاهنا - للتفصيل لا للتخيير،
لان المنى أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم، وهو قول أبي عبيدة
وشريح ويحيى بن يعمر وابن عباس وإبراهيم وسعيد بن جبير والسدي،
وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقال قوم: هو بمعنى التخيير فيمن
ائتمنه الموصي من مؤمن أو كافر.
وقوله " ان أنتم ضربتم في الأرض " يعني ان أنتم سافرتم كما قال
" وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " (1).
وقوله " فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة " فيه
محذوف، وتقديره وقد اسنتم الوصية اليهما فارتاب الورثة بهما تحبسونهما.
وقوله " تحبسونهما " خطاب للورثة والهاء في (به) تعود إلى القسم بالله.
والصلاة المذكورة في هذه الآية قيل فيها ثلاثة أقوال:
أولها - قال شريح وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة، وهو قول أبي
جعفر (ع) أنها صلاة العصر.
الثاني - قال الحسن: هي الظهر أو العصر، وكل هذا لتعظيم حرمت
وقت الصلاة على غيره من الأوقات. وقيل: لكثرة اجتماع الناس كان بعد
صلاة العصر.
الثالث - قال: ابن عباس صلاة أهل دينهما يعني في الذميين لأنهم
لا يعظمون أوقات صلاتنا.
وقوله " فيقسمان بالله " الفاء دخلت لعطف جملة (ان ارتبتم) في قول
الآخرين الذين ليسا من أهل ملتنا أو من غير قبيلة الميت فغلب في ظنكم

(1) سورة 4 النساء آية 100.
45

خيانتهم، ولا خلاف أن الشاهد لا يلزمه اليمين إلا أن يكونا شاهدين على
وصية مستندة اليهما فيلزمهما اليمين لأنهما مدعيان. وقوله " لا نشتري
به ثمنا " لا نشتري جواب ما يقتضيه قوله " فيقسمان " لان (أقسم) ونحوه
يتلقى بما تتلقى به الايمان. ومعنى قوله " لا نشتري به ثمنا " لا نشتري
بتحريف شهادتنا ثمنا، فحذف المضاف وذكر الشهادة، لان الشهادة قول كما
قال " وإذا حضر القسمة أولوا القربى.. " ثم قال " فارزقوهم منه " (1)
لما كانت القسمة يراد بها المقسوم، ألا ترى ان القسمة التي هي افراد الأنصباء
لا يرزق منه. وإنما يرزق من التركة، وتقديره لا نشتري به ثمنا أي ذا ثمن،
ألا ترى أن الثمن لا يشترى، وإنما الذي يشترى المبيع دون ثمنه، وكذلك
قوله " اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا " (2) أي ذا ثمن. والمعنى انهم آثروا
الشئ القليل على الحق، فاعرضوا عنه وتركوه، ولا يكون (اشتروا) في
الآية بمعنى (باعوا) لان بيع الشئ اخراج وانفاذ له من البائع، وليس المعنى
- هاهنا - على الانفاذ وإنما هو على التمسك به، والايثار له على الحق.
وقوله " ولو كان ذا القربى " تقديره ولو كان المشهود له ذا قربى،
وخص ذو القربى لميل الناس إلى قراباتهم، ومن يناسبونه.
وقوله " ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين " معناه انا ان
كتمناها لمن الآثمين. وقال (شهادة الله) فأضاف الشهادة
إلى الله لامره بها وبإقامتها والنهي عن كتمانها في قوله " ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه " (3) وقوله " وأقيموا الشهادة لله " (4)
قوله تعالى:
فان عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما

(1) سورة 4 النساء آية 7
(2) سورة 9 التوبة آية 10
(3) سورة 2 البقرة آية 283
(4) سورة 65 الطلاق آية 2.
46

من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا
أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين (110)
آية بلا خلاف.
قرأ حفص والأعشى الا النفار والكسائي عن أبي بكر " استحق " بفتح
التاء والحاء. الباقون - بضم التاء وكسر الحاء - والابتداء على الأول
بكسر الهمزة. وقرأ حمزة وأبو بكر إلا الأعشى - في غير رواية النفار -
ويعقوب، وخلف (الأولين) بتشديد الواو، وكسر اللام وفتح النون على
الجمع. والباقون بسكون الواو، وفتح اللام وكسر النون على التثنية.
وقد ذكرنا سبب نزول الآية عمن رويناه عنه فذكروا أنها نزلت في أمر
رسول الله صلى الله عليه وآله ان يستحلفوهما (والله ما قبضنا له غير هذا ولا كتمناه)
ثم ظهر على إناء من فضة منقوش مذهب معهما، فقالوا: هذا عن متاعه،
فقالا: اشتريناه منه، فارتفعوا إلى رسول الله فنزلت قوله تعالى: " فان عثر
على أنهما استحقا اثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق. " فامر
رسول الله رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيبا، فحلف عبد الله
ابن عمر (1) والمطلب بن أبي وداعة (2) فاستحقا. ثم إن تميما أسلم وتابع
رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يقول: صدق الله، وبلغ رسول الله، أنا أخذت الاناء.
ومعنى (عثر) ظهر على، تقول: عثرت على خيانته وأعثرت غيري على
خيانته أي أطلعته. ومنه قوله " وكذلك أعثرنا عليهم " (3) أي أطلعنا عليهم
وأصله الوقوع بالشئ من قولهم: عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقع إصبعه

(1) وقد روي فقام عمر بن العاص ورجل آخر فحلفا..
(2) في بعض النسخ (ابن أبي رفاعة) بدل (ابن أبي وداعة).
(3) سورة 18 الكهف آية 21.
47

بشئ صدمته، وعثر الفرس عثارا قال الشاعر:
بذات لوث عفرناة إذا عثرت * فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا (4)
وأعثر الرجل يعثر عثرا إذا أطلع على أمر كان خافيا عنه، لأنه وقع عليه
بعد خفائه، والعثير الغبار الساطع، ولأنه يقع على الوجه وغيره، والعثير الأثر
الخفي، لأنه يوقع عليه من خفاء.
وقوله: " على أنهما " يعني على أن الوصيين المذكورين أولا في قوله
" اثنان " في قول سعيد بن جبير. وقال ابن عباس: على أن الشاهدين
استحقا اثما يعني خانا وظهر وعلم منهما ذلك " فآخران يقومان مقامهما "
يعني من الورثة - في قول سعيد بن جبير وغيره - و " من الذين استحق
عليهم والأوليان " قيل في قوله " الأوليان " ثلاثة أقوال:
أحدها - قال سعيد بن جبير وابن زيد: الأوليان بالميت. الثاني قال
ابن عباس وشريح: الأوليان بالشهادة وهي شهادة الايمان. الثالث قال
الزجاج: الأوليان أن يحلفا غيرهما وهما النصرانيان. ويقال هو الأولى
؟؟ ثم يحذف؟؟ فيقال: هو الأولى، وهذان الأوليان كما يقال هو
الأكبر بمعنى الكبير وهذان الأكبر ان. وفي رفع الأوليان ثلاثة أقوال:
أحدها - بأنه اسم ما لم يسم فاعله والمعنى استحق عليه اثم الأولين
أي استحق منهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
الثاني - بأنه بدل من الضمير " في يقومان " على معنى فليقم الأوليان
من الذين استحق عليه الوصية وهو اختيار الزجاج.
الثالث - بدل من قوله " آخران ". وزعم بعض الكوفيين انه لا يجوز
إبداله من " آخرين " لتأخر العطف في (فيقسمان)، لأنه يصير بمنزلة

(4) قائله الأعشى ديوانه: 3. (اللوث). القوة. و (عفرنات
- بفتح العين والفاء - يصف بها الناس بأنها شبه المجنونة في السير. و (التعس)
العثور. و (لعا) كلمة تقال للعاثر.
48

(مررت برجل قام زيد وقعد)
قال الرماني: يجوز على العطف بالفاء جملة
على جملة. وقال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء وقد
أخر. وتقديره فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله أو من أهل دينه يقومان
مقام الخائنين اللذين عثر عليهما كقولك: تميمي أنا. ويجوز أن يكون خبر
ابتداء محذوف، وتقديره فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان. واختار أبو
الحسن الأخفش أن يكون الأوليان صفة لقوله " فآخران " لأنه لما وصف
اختص. فوصف لأجل الاختصاص بما توصف به المعارف. واما الجمع فعلى
اتباع " الذين " وموضعه الجر وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم
الايصاء والاثم. وإنما قيل لهم الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر ألا
ترى أنه تقدم " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " وكذلك " اثنان ذوا عدل
منكم " ذكرا في اللفظ، قيل قوله " أو آخران من غيركم " وحجتهم في ذلك
أن قالوا: أرأيت إن كان الأوليان صغيرين أراد انهما إذا كانا صغيرين لم
يقوما مقام الكبيرين في الشهادة ولم يكونا لصغرهما أولى بالميت، وان كانا
لو كانا كبيرين كانا أولى به.
وإنما قال " استحقا اثما " لان آخذه إنما يأخذه آثم فسمي (اثما) كما
يسمى ما يؤخذ منك بغير حق مظلمة. قال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك
قهرا، وكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر. وقيل: معناه استحقا عذاب
إثم وحذف المضاف واقام المضاف إليه مقامه كما قال " اني أريد أن تبوء بإثمي
وإثمك " (1) بعقاب اثمي وعقاب اثمك. وقيل في معنى (عليهم)
ثلاثة أقوال:
أحدها - أن تكون (على) بمعنى (من) كأنه. قال من الذين استحق
منهم الاثم كما قال " إذا اكتالوا على الناس " (2) أي من الناس.
الثاني - أن يكون المعنى كما تقول: استحق على زيد مال بالشهادة أي

(1) سورة 5 المائدة آية 32
(2) سورة 83 المطففين آية 2.
49

لزمه ووجب عليه الخروج منه، لان الشاهدين لما عثر على خيانتهما استحق
عليهما ما ولياه من أمر الشهادة والقيام بها ووجب عليهما الخروج منها وترك
الولاية لها فصار اخراجهما منها مستحقا عليهما كما يستحق على المحكوم عليه
الخروج مما وجب عليه.
الثالث - أن يكون (على) بمنزلة (في) كأنه استحق فيهم، وقام
(على) مقام (في) كما قام (في) مقام (على) في قوله " ولأصلبنكم في جذوع
النخل " (3) والمعنى من الذين استحق عليهم بشهادة الآخرين اللذين هما
من غيرنا.
فان قيل: هل يجوز أن يسند (استحق فيه) إلى الأوليان؟
قلنا لا يجوز ذلك لان المستحق إنما يكون الوصية أو شئ منها، ولا
يجوز أن يستحق الأوليان وهما الأوليان بالميت، والأوليان بالميت لا يجوز
أن يستحقا فيسند (استحق) اليهما.
وقوله " فيقسمان بالله " أي يحلفان بالله. وقوله " لشهادتنا أحق من
شهادتهما " جواب القسم في قوله " فيقسمان بالله " وقوله " وما اعتدينا "
يعني فيما قلنا من أن شهادتنا أحق من شهادتهما " إنا إذا لمن الظالمين " تقديره
إنا ان اعتدينا لمن الظالمين لنفوسنا.
قال الزجاج: هذه الآية أصعب آية في القرآن اعرابا.
فان قيل: كيف يجوز أن يقف أولياء الميت على كذب الشاهدين أو
خيانتهما حتى حل لهما أن يحلفا؟
قيل: يجوز ذلك بوجوه: أحدها - أن يسمعا اقرارهما بالخيانة من
حيث لا يعلمان أو يشهد عندهم شهود عدول بأنهم سمعوهما يقر - ان بأنهما كذبا
أو خانا؟ أو تقوم البينة عندهما على أنه أوصى بغير ذلك أو على أن هذين لم
يحضرا الوصية أو يعرفان بغير ذلك من الأسباب.

(3) سورة 20 طه آية 71.
50

قوله تعالى:
ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن
ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم
الفاسقين (111) آية بلا خلاف.
قوله " ذلك أدنى " معناه ذلك الاحلاف والاقسام أو ذلك الحكم
أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أي حقا وصدقها، لان اليمين يردع
عن أمور كثيرة لا يرتدع عنها مع عدم اليمين.
واختلفوا في أن اليمين هل تجب على كل شاهدين أم لا؟
فقال ابن عباس: إنما هي على الكافر خاصة وهو الصحيح.
وقال غيره: هي على كل شاهدين وصيين إذا ارتيب بهما.
واختلفوا في نسخ حكم الآيتين المتقدمتين مع هذه على قولين:
فقال ابن عباس وإبراهيم وأبو علي الجبائي: هي منسوخة الحكم.
وقال الحسن وغيره: هي غير منسوخة. وهو الذي يقتضيه مذهبنا
واخبارنا. وقال البلخي: أكثر أهل العلم على أنه غير منسوخ، لأنه لم ينسخ
من سورة المائدة شئ، لأنها آخر ما نزلت. ووجه قول من قال: هي منسوخة
أن اليمين لا يجب اليوم على الشاهدين بالحقوق. وإنما كان قبل الامر
باشهاد العدول في قوله " واشهدوا ذوي عدل منكم " (1) فنسخت هذه
الآية ودلت على أن شهادة الذمي لا تقبل إلا على الذمي إذا ارتفعا إلى حكام
المسلمين لان الذمي ليس بعدل ولا ممن يرضى من الشهداء، وهو قول أبي
علي الجبائي. ومن ذهب إلى انها منسوخة جعلها بمعنى شهادة الايمان على
الوصيين فإذا ظهروا على خيانة منهما مما وجد في أيديهما صارا مدعيين وصار

(1) سورة 65 الطلاق آية 2.
51

الورثة في معنى المنكر فوجبت عليهما اليمين من حيث صارا مدعيين.
وقوله " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " يعني أهل الذمة يخافوا
أن ترد أيمان على أولياء الميت فيحلفوا على خيانتهم فيفتضحوا ويغرموا
وينكشف بذلك للناس بطلان شهادتهم ويسترد منهم ما أخذوه بغير حق،
حينئذ يؤدوا الشهادة على وجهها ويحذروا من الكذب.
وقوله " واتقوا الله واسمعوا " يعني اجتنبوا معاصيه واحذروا ان
تحلفوا ايمانا كاذبة أو تخونوا أمانة واسمعوا مواعظ الله " والله لا يهدي
القوم الفاسقين " يعني لا يهدي الفاسقين - الذين خرجوا من طاعة الله إلى
معصيته - إلى الجنة ء وقيل إن معنى " لا يهدي " لا يحكم للفاسقين بأنهم
مهتدين ولا يجري عليهم مثل هذه الصفة لأنها صفة مدح.
قوله تعالى:
يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم
لنا إنك أنت علام الغيوب (112) آية واحدة.
في ما ينتصب به قوله " يوم "؟ قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - انه انتصب بمحذوف تقديره احذروا " يوم يجمع الله الرسل "
الثاني - اذكروا يوم يجمع الله.
الثالث - قال الزجاج: ينتصب بقوله " اتقوا الله ". وقال المغربي:
يتعلق بقوله " لا يهدي القوم الفاسقين " إلى الجنة " يوم يجمع الله " ولا
يجوز أن ينتصب على الظرف بهذا الفعل، لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك
اليوم، لكن انتصب على أنه مفعول به. واليوم لا يتقى ولا يحذر، وإنما
يتقى ما يكون فيه من العقاب والمحاسبة والمناقشة كأنه قال اتقوا عقاب يوم،
وحذف المضاف واقام المضاف إليه مقامه.
52

وقوله " ماذا أجبتم " تقرير للرسل في صورة الاستفهام على وجه
التوبيخ للمنافقين عند اظهار فضيحتهم وهتك أستارهم على رؤوس الاشهاد.
وقول الرسل " لا علم لنا " قيل فيه ثلاثة أقوال:
أولها - قال الحسن والسدي ومجاهد أنهم قالوا ذلك لذهولهم من
هول ذلك المقام. فان قيل كيف يجوز ذهولهم مع أنهم آمنون لا يخافون؟
كما قال " لا يحزنهم الفزع الأكبر " (1) وقال " لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون " (2) قيل إن الفزع الأكبر دخول جهنم. وقوله " ولا خوف عليهم "
هو كقولك للمريض لا خوف عليك، ولا بأس عليك، مما يدل على النجاة
من تلك الحال، وخالف أبو علي في هذا ولم يجز الا ما نحكيه عنه.
الثاني - قال ابن عباس، ومجاهد - في رواية أخرى - ان معناه لا علم
لنا إلا ما علمتنا فحذف لدلالة الكلام عليه.
الثالث - قال الحسن في رواية أخرى وأبو علي الجبائي: ان معناه
لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا لان ذلك هو الذي يقع على الجزاء.
وقال بعضهم معناه لا علم لنا مع علمك أي ليس عندنا شئ مما نعلمه
الا وأنت عالم به وبكل ما غاب وحضر بدلالة قوله " إنك أنت علام الغيوب "
وقيل في معنى قوله " انك أنت علام الغيوب " أنه قال علام للبالغة
هاهنا لا للتكثير المعلوم.
قوله تعالى:
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك
وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد
وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتورية والإنجيل وإذ

(1) سورة 21 الأنبياء آية 103
(2) سورة 3 آل عمران آية 70.
53

تخلق من الطين كهيئة الطير باذني فتنفخ فيها فتكون طيرا
باذني وتبرئ الأكمه والأبرص باذني وإذ تخرج الموتى
باذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال
الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (113) آية بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي وخلف " ساحر " بألف هاهنا وفي أول سورة
يونس، وفي هود، وفي الصف. وأفقههم ابن عامر وعاصم في يونس.
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه من صفعة يوم القيامة كما أن ما قبله
من صفتها ومن خطاب الرسل بالمسألة والتذكير بالنعمة لتوبيخ من يستحق
التوبيخ من أممهم وتبشير من يستحق البشارة منهم.
العامل في (إذ) يحتمل أحد أمرين: أحدهما - الابتداء عطفا على قوله
" يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " قال وذلك " إذ قال " فيكون
موضعه رفعا كما يقول القائل كأنك بنا قد وردنا بلد كذا فصنعنا فيه وفعلنا
إذ صاح بك صائح فأجبته وتركتني.
الثاني - اذكر إذ قال الله. وقال بعضهم ان معناه ماذا أجبتم على عهد
عيسى. قال الرماني: هذا غلط، لأنه من صفة (يوم القيامة) وعندي لا يمتنع
أن يكون المراد بذلك اخبار النبي صلى الله عليه وآله إذ قال الله لعيسى بن مريم إذكر، أي
أخبر قومك ما أنعمت به عليك وعلى أمك، واشكر ذلك إذ أيدتك بروح
القدس. وروح القدس هو جبرائيل وحسن قوله " إذ قال " ولم يقل (يقول)
لأنه عطف على ما قبله لأنه قدم ذكر الوقت. وتأييد الله هو ما قواه به وأعانه
على أمور دينه، وعلى رفع ظلم اليهود والكافرين عنه. ووزن " أيدتك "
فعلتك من الأيد على وزن قربتك. وقال الزجاج: يجوز أن يكون فاعلتك
من الأيد. وقرأ مجاهد: أيدتك على وزن أفعلتك من الأيد. وروح القدس
54

جبرائيل قال الحسن والقدس هو الله.
وقوله " تكلم الناس في المهد " أي انك تكلم الناس في حال ما كنت
صبيا في المهد - والمهد حجر أمه، في قول الحسن - وفي حال ما كنت كهلا.
قال أبو علي فكان كلم الناس في هذين الوقتين بتبليغه إياهم ما أرسله الله به إلى
عباده، وما يدعوهم إليه من طاعة الله وتصديق رسله، لأنه كان بين لهم عند
كلامه في المهد " اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا
شقيا " (1) فبين لهم في هذا وفي وقت ما صار كهلا ان الله بعثه نبيا ولم يتكلم
أحد من الأنبياء في المهد سواه ولم يبعث أحد عندما ولد غيره، فذكره هذه
النعمة التي خصه بها ليشكره على ذلك.
ونصب قوله " كهلا " يحتمل أمرين:
أحدهما - على أن يكون عطفا على موضع تكلم أي أيدتك صغيرا وكهلا.
الثاني - أن يكون عطفا على موضع في المهد، أي وتكلمهم كهلا بالرسالة.
وقوله " وإذ علمتك الكتاب " يعني واذكر " إذ ". وقيل في معنى
(الكتاب) قولان:
أحدهما - انه أراد الخط الكتابة.
الثاني - الكتب فيكون على طريق الجنس ثم فصله بذكر التوراة
والإنجيل.
وقوله " والحكمة " يعني العلم بما في تلك الكتب.
وقوله " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير " أي واذكر ذلك أيضا كل
ذلك تذكير له بنعمه عليه والخلق هو الفعل المقدر على مقدار يعرفه الفاعل،
فعلى هذا جميع أفعاله تعالى توصف بأنها مخلوقة، لأنه ليس فيها شئ على
وجه السهو والغفلة، ولا على سبيل المجازفة. ومعنى ذلك أنه خلق من الطين
كهيئة الطير أي تصور الطين بصورة الطير الذي تريد. وسماه خلقا لأنه

(1) سورة 19 مريم آية 30 - 32.
55

كان يقدره.
وقوله " باذني " أي تفعل ذلك باذني وأمري.
وقوله " فتنفخ فيها فتكون طيرا باذني " معناه انه نفخ فيها الروح،
لان الروح جسم ويجوز أن ينفخها المسيح بأمر الله. والطير يؤنث ويذكر
فمن أنث أراد الجمع ومن ذكر فعلى اللفظ. والطير واحده طائر مثل ضائن
وضأن وراكب وركب. وقد قالوا (أطيار) مثل صاحب وأصحاب وشاهد
وأشهاد، ويمكن أن يكون (أطيار) جمع طير مثل ثبت واثبات وبيت وأبيات.
قال أبو علي وقد ينفخها في الجسم على ما أخبر الله به جبرائيل، وعلى
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه يبعث إليه ملكا عند تمام مئة وعشرين يوما فينفخ فيه
الروح ويكتب أجله ورزقه وشقي هو أم سعيد، وبين بقوله " فيكون طيرا
باذني " أنه إذا نفخ المسيح (ع) فيها الروح قلبها الله لحما ودما، وخلق فيها
الحياة فصارت طائرا بإذن الله وإرادته لا بفعل المسيح (ع) فلذلك قال " فيكون
طيرا باذني ".
وقوله " وتبرئ الأكمه والأبرص باذني " معناه إنك تدعوني حتى
أبرئ الأكمه، وهو الذي خلق أعمى. وقال الخليل: يكون الذي عمي بعد
إن كان بصيرا والأصل الأول. والأبرص معروف ونسب ذلك إلى المسيح
لما كان بدعائه وسؤاله.
وقوله " وإذ تخرج الموتى باذني " أي اذكر إذ تدعوني فأحيي الموتى
عند دعائك وأخرجهم من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء. وإنما نسبه إلى
عيسى لما بينا من أنه كان بدعائه.
وقوله " وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات " أي اذكر
إذ كففت هؤلاء عن قتلك وإذ أيدتك حين جئتهم بالبينات مع كفرهم وعتوهم
مع قولهم إن ما جئت به من الآيات سحر مبين. ويجوز أن يكون كفهم بألطافه
التي لا يقدر عليها غيره، ويجوز أن يكون كفهم بالمنع والقهر كما منع من أراد
56

قتل نبينا صلى الله عليه وآله وقيل لأنه ألقى شبهه على غيره حتى قتلوه ونجا.
ومن قرأ (ساحر) أراد أن عيسى ساحر مبين أي ظاهر بين. والسحر
هو الباطل المموه بالحق. وقوله في أول الآية " اذكر نعمتي عليك وعلى
والدتك " إي اخبر بها قومك الذين كذبوا عليك ليكون حجة عليهم، لأنهم
ادعوا عليه أنه إله وأنه لم يكن عبدا منعما عليه، ثم عدد النعم نعمة نعمة على
ما بينا. وقال الطبري: إنما عدد الله تعالى هذه النعم على عيسى (ع) حين
رفعه إليه فلذلك قال " إذ قال الله ".
قوله تعالى:
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا
واشهد بأننا مسلمون (114) آية.
التقدير واذكر إذ أوحيت إلى الحواريين. وفي معنى " أوحيت " قولان:
أحدهما - أن معناه ألهمتهم كما قال " وأوحى ربك إلى النحل " (1) أي ألهمها.
وقيل أمرتهم.
الثاني - ألقيت إليهم بالآيات التي أريتهم إياها كما قال الشاعر:
الحمد لله الذي استقلت * باذنه السماء واطمأنت
أوحى لها القرار فاستقرت (2)
أي القى إليها ويروى وحى لها. والفرق بين أوحى ووحى من وجهين:
أحدهما - أن أوحى بمعنى جعلها على صفة كقولك جعلها مستقرة، ووحى
جعل فيها معنى الصفة، لان أفعل أصله التعدية. وقال قوم: هما لغتان.
وقال البلخي معنى " أوحيت إلى الحواريين " أي أوحيت إليك أن تبلغهم أو
إلى رسول متقدم. وقوله (أوحيت إليهم) يعني أوحيت إلى الرسول الذي
جاءهم. وفي معنى الآية قولان:

(1) سورة 16 النحل آية 68
(2) انظر 2 / 59.
57

أحدهما - قال أبو علي اذكر نعمتي عليك إذ أوحيت إلى الحواريين
الذين هم أنصارك.
الثاني - اذكر نعمتي على الحواريين لما في ذلك من العلم بنعم الله خاصة
وعامة. وإنما حسن الحذف في التذكير بالنعمة للشهرة وعظم المنزلة باجلال
النعمة ولذلك يحسن الحذف في الافتخار كقول الأعشى:
إن محلا وان مرتحلا * وإن في السفر إذ مضوا مهلا (3)
أي لنا محلا. و (الحواريون) قال الحسن هم أنصار عيسى. وقيل:
هم وزراؤه على أمره. وقيل: هم خاصة الرجل وخلصائه. ومنه قول النبي
صلى الله عليه وآله للزبير أنه حواري، ومعناه خالصتي من الناس، والرفيق
الحواري، لأنه أخلص إليه من كل ما يشوبه، وأصله الخلوص، ومنه حار
يحور أي رجع إلى حال الخلوص، ثم كثر حتى قيل صار لكل راجع وقيل:
انهم كانوا قصارين.
قوله تعالى:
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك
أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم
مؤمنين (115) آية بلا خلاف.
قرأ الكسائي والأعشى إلا النفار " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بنصب
الباء. الباقون بالياء وضم الباء. وأدغم الكسائي اللام في التاء.
قيل في العامل في (إذ) قولان: أحدهما - أوحيت. الثاني - اذكر
إذ قال الحواريون. وكلاهما يحتمل.
وقيل في معنى قوله " هل يستطيع ربك " ثلاثة أقوال:

(3) ديوانه القصيدة: 35 صفحة 155.
58

أحدها. - هل يقدر وكان هذا في ابتداء أمرهم قبل أن تستحكم معرفتهم
بالله تعالى، وما يجوز عليه وما لا يجوز من الصفات، ولذلك أنكر عليهم
نبيهم، فقال " اتقوا الله ان كنتم مؤمنين "، لأنه لم يستكمل ايمانهم في
ذلك الوقت.
الثاني - هل يفعل ذلك قاله الحسن، كما يقول القائل: هل تستطيع
أن تنهض أي هل تفعل، لان المانع من جهة الحكمة أو الشهوة قد يجعل بمنزلة
المنافي للاستطاعة.
الثالث - هل يستجيب لك ربك. قال السدي هل يطيعك ربك ان
سألته، فهذا على معنى استطاع وأطاع كقولهم استجاب بمعنى أجاب، وإنما
حكى سيبويه استطاع بمعنى أطاع على زيادة السين. ومعنى قراءة الكسائي
" هل تستطيع " ان تستدعي إجابة ربك. وأصله هل تستدعي طاعته فيما
قبله من هذا - هذا قول الزجاج وفيه وجه آخر وهو هل تقدر أن تسأل ربك.
والفرق بين الاستطاعة والقدرة أن الاستطاعة انطياع الجوارح للفعل
والقدرة هي ما أوجبت كون القادر قادرا ولذلك يوصف تعالى بأنه قادر،
ولا يوصف بأنه مستطيع. والمائدة الخوان لأنها تميد بما عليها أي تحركه.
قال أبو عبيدة: هي (مفعولة) في المعنى ولفظها (فاعلة) كقوله " عيشة
راضية " (1) أي مرضية واصل المائدة الحركة من قولهم ماد يميد ميدا إذا
تحرك، عن الزجاج. ومنه المائد المدار به في البحر ما يميد ميدا. وماده
إذا أعطاه ومنه قول رؤبة:
نهدي رؤوس المترفين الأنداد * إلى أمير المؤمنين الممتاد (2)
أي المستعطي ومادهم يميدهم ميدا إذا أطعمهم على المائدة ثم كثر حتى

(1) سورة 69 الحاقة آية 21 وسورة 101 القارعة آية 7
(2) ديوانه: 40 ومجاز القرآن 1: 183، واللسان (ميد).
59

قيل لكل مطعم. وقوله " قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " معناه اتقوا معاصيه
وكثرة سؤال الآيات، لأنكم ان كنتم مؤمنين بالله وبصحة نبوة عيسى، فقد
أغناكم ما عرفتموه عن الآيات واتقوا سؤال نزول المائدة، فإنكم لا تعلمون
ما يفعل الله بكم عند هذا السؤال.
قوله تعالى:
قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد
صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (116) آية.
قبل في معنى (الإرادة) هاهنا قولان:
أحدهما - أن يكون بمعنى المحبة التي هي ميل الطباع.
الثاني - أن تكون الإرادة التي هي من أفعال القلوب، ويكون التقدير
فيه نريد بسؤالنا هذا، كأنهم قالوا: نريد السؤال من أجل هذا الذي ذكرنا،
وهذه الإرادة وان تقدمت المراد بأوقات لا توصف بأنها عزم، لأنها متعلقة
بفعل الغير وقوله " تطمئن قلوبنا " يجوز أن يكونوا قالوه وهم مستبصرون
في دينهم مؤمنون كما قال إبراهيم (ع) " أرني كيف تحيي الموتى قال أولم
تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " (1) تحقيقه لنزداد طمأنانية إلى ما نحن
عليه من المعرفة، وان كانت المعرفة لا تكون إلا مع الثقة التامة، فان الدلائل
كلما كثرت مكنت في النفس المعرفة.
وقوله " ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " يعني
الشاهدين له بتوحيده بالدليل الذي نراه في المائدة والشهادة لك بالنبوة من
جهة ذلك الدليل. والصدق هو الاخبار بالشئ على ما هو به والكذب هو
الاخبار بالشئ لا على ما هو به.

(1) سورة 2 البقرة آية 260.
60

قوله تعالى:
قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء
تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير
الرازقين (117) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى عن عيسى (ع) أنه سأل ربه أن ينزل عليه مائدة من السماء
تكون عيدا لهم لأولهم وآخرهم على ما يقترحه قومه. ورفع (تكون) لأنه
صفة للمائدة كما قال " فهب لي من لدنك وليا يرثني " (2) في قراءة من رفعه
لأنه جعله صفة. وفيه محذوف، لان تقديره عيدا لنا ولأولنا وآخرنا لتصح
الفائدة في تكرير اللام في أولنا وآخرنا، وقيل في معناه قولان:
أحدهما - نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا
- في قول السدي وقتادة وابن جريج - وهو قول أبي علي.
الثاني - يكون ذلك عائدة فضل من الله ونعمة منه تعالى. والأول هو
وجه الكلام. وقيل: إنها نزلت يوم الأحد. وقوله " وآية منك " فالآية
هي الدلالة العظيمة الشأن في إزعاج قلوب العباد إلى الاقرار بمدلولها،
والاعتراف بالحق الذي يشهد به ظاهرها، فهي دلالة على توحيدك وصحة
نبوة نبيك. وقيل في طعام المائدة ثلاثة أقوال:
أولها - قال ابن عباس وأبو عبد الرحمن: هو خبز وسمك، وهو
المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) قال عطية كانوا يجدون في السمك
طيب كل طعام.

(2) سورة 19 مريم آية 4 - 5.
61

الثاني - قال عمار بن ياسر: كان ثمرا من ثمار الجنة.
الثالث - قال زادان وأبو ميسرة: كان عليها من كل طعام إلا اللحم.
وقوله: " وارزقنا " قيل في معناه - هاهنا - قولان:
أحدهما - واجعل ذلك رزقا لنا.
الثاني - وارزقنا الشكر عليها - ذكرهما الجبائي - وإنما يكون
الشكر رزقا منه لنا لأنه لطف فيه ووفق له وإعانة عليه كما يكون المال رزقا
لنا إذا ملكنا إياه لا بخلقه له.
وفي الآية دلالة على أن العباد يرزق بعضهم بعضا بدلالة قوله " وأنت
خير الرازقين " لأنه لو لم يصح ذلك لم يجز (خير الرازقين) كما أنه لما لم
يجز أن يكونوا آلهة لم يصح أن يقول أنت خير الآلهة، وصح " أرحم
الراحمين " (2) و " أحكم الحاكمين " (3) و " أسرع الحاسبين " (4).
و " أحسن الخالقين " (5).
قوله تعالى:
قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فاني
أعذبه عذابا لا أعذ به أحدا من العالمين (118) آية بلا خلاف.
قرأ " منزلها " بالتشديد أهل المدينة وابن عامر، وعاصم. الباقون
بالتخفيف.

(2) سورة 7 الأعراف آية 150 وسورة 21 الأنبياء آية 83 وسورة 12
يوسف آية 64 و 92.
(3) سورة 11 هود آية 45 وسورة 95 التين آية 8.
(4) سورة 6 الانعام آية 62.
(5) سورة 23 المؤمنون آية 14 وسورة 37 الصافات آية 125.
62

من خفف طابق بينه وبين قوله " أنزل علينا " ومن ثقل، فلان نزل وأنزل
بمعنى قال تعالى " تبارك الذي نزل الفرقان " (1). وقال " الحمد لله الذي
أنزل على عبده الكتاب " (2) لما سئل الله عيسى (ع) أن ينزل عليه المائدة
تكون عيدا لأولهم وآخرهم، قال تعالى مجيبا له إلى ما التمسه " اني منزلها
عليكم " يعني المائدة " فمن يكفر بعد منكم " يعني بعد إنزالها عليكم " فاني
أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " وقيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال قتادة: مسخوا قردة وخنازير، وهو المروي عن أبي عبد الله
عليه السلام ولم يمسخ أحد خنازير سواهم.
الثاني - أنه أراد به من عالمي زمانهم.
الثالث - أنه أراد به جنسا من العذاب لا يعذب به أحدا غيرهم. وإنما
استحقوا هذا النوع من العذاب بعد نزول المائدة (3) لأنهم كفروا بعدما رؤا
الآية التي هي من أزجر الآيات عن الكفر لم يرها غيرهم بعد سؤالهم لها وتعلق
سببهم بها فاقتضت الحكمة اختصاصهم بضرب من العذاب عظيم الموقع.
كما اختصت آيتهم بضرب من الزجر في عظيم الموقع. وقال الحسن ومجاهد:
ان المائدة لم تنزل عليهم، لأنهم استعفوا من نزولها لما سمعوا الوعيد المقرون
بها. وقال قوم: هذا غلط من قائله، لأنه تعالى وعد بانزالها ولا خلاف
لقوله وأكثر أهل العلم على أنها أنزلت: منهم ابن عمر، وعمار بن ياسر وأبو
عبد الرحمن السلمي، وقتادة والسدي، وهو ظاهر القرآن. وأيضا فلا يجوز
أن يسأل نبي على رؤوس الملا آية لا يجاب إليها، لان ذلك ينفر عنه. وقال

(1) سورة 25 الفرقان آية 1
(2) سورة 18 الكهف آية 1
(3) يقصد بعد نزول المائدة على بني إسرائيل (الطعام) لا نزول
سورة المائدة.
63

الحسن: إنما كان الوعد من الله با نزال المائدة بشرط أن يكون بتقدير اني
منزلها عليكم ان تقبلتم الوعيد فيها " فمن يكفر بعد منكم.. " الآية،
وهذا الشرط الذي ذكره لا دليل عليه. والمطلق لا يحمل على المقيد الا بقرينة
وقال قوم: انها لو نزلت فكفروا لعذبوا وأنزل ذلك في القرآن ولو لم
يكفروا لكانت المائدة قائمة للمسلمين إلى يوم القيامة. وهذا ليس بصحيح
لأنه يجوز أن يكون عنى بالعذاب ما يفعله بالآخرة. ويجوز أن يكون عنى
عذاب الدنيا ولم يذكره، لأنه ليس بواجب أن يكون كل من اختصه بضرب
من العذاب لابد أن يخبرنا عنه في القرآن، لأنه يكون تجويز ذلك على منازل
عظيمة في الجملة أهول وأملا للصدر من ذكره بالتصريح على تفصيل أمره.
وأما بقاؤها إلى يوم القيامة فلا يلزم لان وجه السؤال أن يكون يوم نزولها
عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شريعتهم.
قوله تعالى:
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني
وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما
ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي
ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (119) آية بلا خلاف
قوله " وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات " أي اذكر
ويحتمل ثلاثة أوجه:
أولها - أن يكون معطوفا على ما قبله، كأنه قال " يوم يجمع الله الرسل
فيقول ماذا أجبتم " ثم قال: وذلك؟ يقول يا عيسى اذكر نعمتي وإذ يقول
له أأنت قلت للناس.
64

الثاني - قال البلخي: يمكن أن يكون لما رفع الله عيسى إليه قال له
ذلك، فيكون المقال ماضيا.
والثالث - ذكره أيضا البلخي أن (إذ) استعملت بمعنى) إذا فيصح
حينئذ أن يكون القول من الله يوم القيامة، ومثله " ولو ترى إذ فزعوا فلا
فوت " (1) كأنه قال إذ يفزعون، وقال " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون " (2)
كأنه قال إذا وقفوا لان هذا لم يقع بعد، وقال أبو النجم:
ثم جزاه الله عنا إذ جزا * جنات عدن في العلالي العلا (3)
والمعنى إذا جزى، وقال الأسود (أعشى بني نهشل)
فالان إذ هازلتهن قائما * يقلن ألا لم يذهب المرء مذهبا (4)
وقال أوس:
الحافظ الناس في تحوط إذا * لم يرسلوا تحت مائذ ربعا
وهبت الشامل البليل وإذ * بات كميع الفتاة ملتفعا (5)
يقال (إذا) و (إذ) بمعنى واحد، وقال بعض أهل اليمن:
وندمان يزيد الكأس طيبا * سقيت إذا تغورت النجوم (6)
فقال (إذا) والمعنى (إذ) لأنه إنما يخبر عما مضى. وقال أبو عبيدة
(إذ) صلة. والمعنى قال الله: يا عيسى. وقد بينا فساد هذا القول فيما مضى
فأما لفظ (قال) في معنى يقول فمستعمل كثيرا وإن كان مجازا، قال الله تعالى

(1) سورة 34 سبأ آية 51
(2) سورة 34 سبأ آية 31
(3) اللسان (إذ)، (طها). والأضداد لابن الأنباري: 102 وتفسير
القرطبي 6: 375 وتفسير الطبري 11: 235.
(4) ديوان الاعشيين / 293 والأضداد لابن الأنباري 101.
(5) اللسان (إذ).
(6) اللسان (ندم). قائله البرج بن مسهر اليمني.
65

" ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار " (1) والمراد ينادي. وقد استعمل
المستقبل بمعنى الماضي، قال زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب يرثيه بعد موته:
فإذا مررت بقبره فانحر به * خوص الركاب وكل طرف سابح
وانضج جوانب قبره بدمائها * فلقد يكون أخادم وذبائح (2)
فقال (يكون) ومعناه (كان) لدلالة الكلام عليه، لأنه في مرثية له
بعد موته. وقوله " يا عيسى بن مريم " يحتمل عيسى أن يكون منصوبا مثل
ما تقول: يا زيد بن عبد الله، وهو الأكثر في كلام العرب. وإنما يجوز ذلك
إذا وقع الابن بين علمين، فأما إذا قلت يا زيد ابن الرجل لم يجز في زيد إلا
الضم. ويحتمل أن يكون عيسى في موضع الضم ويكون نداء (ابن) كأنه
قال يا عيسى يا ابن مريم.
وقوله " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " تقريع في صورة
الاستفهام والمراد بذلك تقريع وتهديد من ادعى ذلك، لأنه تعالى كان عالما
بذلك هل كان أو لم يكن. ويحتمل وجها آخر - ذكره البلخي ان الله
تعالى أراد أن يعلم عيسى أن قومه اعتقدوا فيه وفي أمه أنهما إلهان كما أن
الواحد منا إذا أرسل رسولا إلى قوم أن يفعلوا فعلا فأدى الرسالة وانصرف
فخالفوا ذلك وعلم المرسل ولم يعلم الرسول جاز أن يقول المرسل للرسول:
أأنت أمرتهم بذلك؟ وغرضه أن يعلمه أنهم خالفوه. وإنما قال (إلهين) تغليبا
للذكر على الأنثى. والغرض بالكلام أن النصارى يعتقدون في المسيح أنه
صادق لا يكذب وأنه الذي أمرهم بأن يتخذوه وأمه إلهين، فإذا كذبهم الصادق
عندهم الذي ينسبون الامر به إليه كان ذلك آكد في الحجة عليهم وأبلغ في
التوبيخ لهم والتوبيخ ضرب من العقوبة. وقيل في قوله تعالى " الهين "

(1) سورة 7 الأعراف آية 43
(2) الأغاني 15: 308 ورواية البيت الأول:
فإذا مررت بقبره فاعقر به * كوم الهجان وكل طرف سابح.
66

ثلاجة أوجه:
أحدها - أنهم لما عظموهما تعظيم الآلهة أطلق ذلك عليهما كما قال
" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " (1) وإنما أراد تقريعهم
على معصيتهم.
والثاني - انهم جعلوه إلها وجعلوا مريم والدة له ميزوها من جميع
البشر تمييزا شابهت الإلهية وأطلق ذلك، لأنه مستخرج من قصدهم. وان
لم يكن صريح ألفاظهم، على طريقة الالزام لهم.
الثالث - انهم لما سموه إلها وعظموها هي، وكانا مجتمعين سماهما
إلهين على طريقة العرب كقولهم: القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر
وعمر قال الشاعر:
جزاني الزهدمان جزاء سوء * وكنت المرء يجزى بالكرامة (2)
يريد زهدما وقيسا ابني حزن القيسين، وهذا كثير، وذكر لي بعض
النصارى الذي قرأ كتب النصارى عن جاثليق لهم لم يكن في زمانة مثله:
أنه سأله عن هذا فقال: كنت شاكا في ذلك إلى أن قرأت في كتاب ذكره أن
فيما مضى كان قوم يقال لهم المريمية كانوا يعتقدون في مريم أنها آلهة، فعلى
هذا القول أقرب. وورد كما قلناه أفي الحكاية عن اليهود أنهم قالوا: عزير
ابن الله. وقد ذكرناه في سورة التوبة.
وقوله " سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " معناه أنزهك أن
يكون معك آلهة وأن يكون للأشياء إله غيرك، واعترف بأنه لم يكن لي أن
أقول هذا القول. وقوله " إن كنت قلته فقد علمته " أي لم أقله لأني لو
كنت قلته لما خفي عليك إذ كنت علام الغيوب. وقوله " تعلم ما في نفسي ولا
أعلم ما في نفسك " أي تعلم غيبي ولا أعلم غيبك، لان ما في نفس عيسى وما

(1) سورة 9 التوبة آية 33.
(2) اللسان (زهدم) نسبة إلى قيس بن زهير.
67

في قلبه هو ما يغيبه عن الخلق، وإنما يعلمه الله، وسمي ما يختص الله بعلمه
بأنه في نفسه على طريق الازدواج في الكلام كما قال " ومكروا ومكر الله " (1)
" والله يستهزئ بهم " (2) " ويخادعون الله وهو خادعهم " (3) " وجزاء
سيئة سيئة مثلها " (4) " وان عاقبتم فعاقبوا " (5) وكل ذلك وجه ازدواج
الكلام، ويقوى هذا التأويل قوله " إنك أنت علام الغيوب " لأنه علل أنه إنما
يعلم ما في نفس عيسى، لأنه علام الغيوب، وعيسى ليس كذلك، فلذلك لم
يعلم ما يختص الله بعلمه.
والنفس في اللغة على ضروب: أحدها - نفس الانسان التي بها حياته،
يقولون خرجت نفسه أي روحه وفي نفسي أن افعل أي في روعي. وثانيها أن
نفس الشئ ذات الشئ يقولون: قتل فلان نفسه أي ذاته، وعلى هذا حمل
قوله " ويحذركم الله نفسه " (6) أي ذاته وقيل عذابه. والنفس الهم بالشئ
كما يحكى أن سائلا سأل الحسن فقال: ان لي نفسين إحداهما تقول لي حج،
والاخر تزوج، فقال الحسن: النفس واحدة وإنما لك هما هم بكذا وهم بكذا
والنفس الآنفة كقولهم: ليس لفلان نفس أي لا أنفة له، والنفس الإرادة
يقولون نفس فلان في كذا أي ارادته قال الشاعر:
فنفساي نفس قالت ائت ابن بحدل * تجد فرجا من كل غمي تهابها
ونفس تقول أجهد نجاءك ولا تكن * كخاضبة لم يغن عنها خضابها (7)
والنفس أيضا العين التي تصيب الانسان يقال أصابت فلانا نفس أي عين
ومنه قوله صلى الله عليه وآله في رقيا (بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل عاهة فيك من
كل عين عاين ونفس نافس وحسد حاسد) وقال عبيد الله بن قيس الرقيات:

(1) سورة 3 آل عمران آية 54
(2) سورة 2 البقرة آية 15
(3) سورة 4 النساء آية 141
(3) سورة 42 الشورى آية 40
(5) سورة 16 النحل آية 126
(6) سورة 3 آل عمران آية 28، 30
(7) اللسان (نفس).
68

تنقي نفسها النفوس عليها * فعلى نحرها الرقى والتميم
وقال ابن الاعرابي: النفوس التي تصيب الناس بالنفس، والنفس أيضا
من الدباغ مقدار الدبغة.
قوله تعالى:
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت
الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد (120) آية بلا خلاف
هذا اخبار عن عيسى (ع) أنه يقول لله تعالى لله تعالى في جواب ما قرره عليه اني
لم أقل للناس الا ما أمرتني به، من الاقرار لك بالعبودية وأنك ربي وربهم
وإلهي وإلههم، وأمرتهم بأن يعبدوك وحدك ولا يشركوا معك في العبادة.
وقال: اني كنت شهيدا أي شاهدا عليهم ما دمت فيهم بما شاهدته منهم وعلمته
وبما بلغتهم من رسالتك التي حملتنيها وأمرتني بأدائها إليهم ما دمت حيا بينهم
" فلما توفيتني " أي قبضتني إليك وأمتني " كنت أنت الرقيب عليهم " والرقيب
هو الذي يشاهد القوم ويرقب ما يعملون ويعرف ذلك، ثم اعترف بأنه تعالى
" على كل شئ شهيد " لأنه عالم بجميع الأشياء لا يخفى عليه خافية ولا يغيب
عنه شئ فهو يشهد على العباد بكل ما يعملونه. وفي اخباره تعالى عن المسيح
أنه نفى القول الذي أدعوه عليه تأكيد لتبكيت النصارى وتكذيب لهم وتوبيخ
على ما ادعوه من ذلك عليه. قال الجبائي وفي الآية دلالة على أنه تعالى أمات
عيسى (ع) وتوفاه عندما رفعه، لأنه بين انه كان شهيدا عليهم. وتوفيه إياه
بعدان كان بينهم إنما كان عند رفعه إياه إلى السماء عندما أرادوا قتله. وعندي
أن الذي ذكره لا يدل على أنه أماته، لان التوفي هو القبض إليه ولا يستفاد
منه الموت الا بشاهد الحال. ولذلك قال تعالي " الله يتوفى الأنفس حين موتها
69

والتي لم تمت في منامها " (1) فبين انه يتوفى التي لم تمت فنفس التوفي لا يفيد
الموت بحال.
وقوله " أن اعبدوا الله " يجوز أن تكون (أن) بمعنى (أي) مفسرة في
قول سيبويه، كما قال " وانطلق الملا منهم أن أمشوا (2) أي أمشوا، لأنها
مفسرة لما قبلها. والمعنى ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله. ويجوز
أن تكون (أن) في موضع خفض على البدل من الهاء وتكون (أن) موصولة ب‍
(اعبدوا الله). ومعناه الا ما أمرتني به بأن يعبدوا الله، ويجوز أن تكون
موضعها نصبا على البدل من (ما) والمعنى ما قلت لهم شيئا الا أن اعبدوا الله،
أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله. وقوله " أن اعبدوا الله ربي وربكم " شاهد
بلفظ الإنجيل فإنه ذكر في الفصل الرابع من إنجيل لوقا، قال المسيح:، مكتوب
أن اسجد لله ربك وإياه وحده فأعبد، وهذا لفظه وهو صريح التوحيد.
قوله تعالى:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز
الحكيم (121) آية بلا خلاف.
ظاهر هذه الآية يدل على أن عيسى لم يكن أعلمه الله أن الشرك لا يغفر
على كل حال، فلذلك قال " ان تعذبهم فإنهم عبادك " الذين كفروا بك وجحدوا
إلهيتك وكذبوا رسلك " وان تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
وقال البلخي: ان عيسى (ع) أخبر أنه لا علم له بما صنعوا بعده من
الكفر به حتى قيل له: ماذا أجبت؟ قال لا علم لي، ثم قال: ان كانوا كفروا
فعذبتهم فهم عبادك وان كانوا ثبتوا على ما دعوتهم إليه أو تابوا من كفرهم

(1) سورة 39 الزمر آية 42.
(2) سورة 38 ص آية 6.
70

فغفرت لهم فأنت العزيز الحكيم.
ومن ذهب إلى أن قول الله " يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس " إخبار
عما مضى وأن الله قال ذلك عندما رفعه إليه، قال: إنما عنى عيسى ان تعذبهم
بمقامهم على معصيتك فإنهم عبادك وان تغفر لهم بتوبة تكون منهم، لان
القوم كانوا في الدنيا لان عيسى لم يشك في الآخرة أنهم مشركون. وقد
أنطقعت التوبة، وإنما قال ذلك في الدنيا وجعل قول الله تعالى " هذا يوم ينفع
الصادقين صدقهم " جوابا للرسل حين سألهم ماذا أجبتم " قالوا لا علم لنا "
فصدقهم الله في ذلك. ومثل ذلك قال عمرو ابن عبيد والجبائي والزجاج وكلهم
شرط التوبة. وهذا الذي ذكروه ترك للظاهر وزيادة شرط في ظاهرها ليس
عليه دليل. وقوله " ان الله لا يغفر ان يشرك به " (1) إنما هو اخبار لامة
نبينا بأن لا يغفر الشرك ولا نعلم أن مثل ذلك أخبر به الأمم الماضية فلا متعلق
بذلك. ويمكن أن يكون الوجه في الآية مع تسليم إن كان عارفا بأن الله
لا يغفر أن يشرك به وانه أراد بذلك تفويض الامر إلى مالكه وتسليمه إلى مدبره
والتبري من أن يكون له شئ من أمر قومه، كما يقول الواحد منا إذا تبرء من
تدبير أمر من الأمور ويريد تفويضه إلى غيره: هذا الامر لا مدخل لي فيه فان
شئت أن تفعله وان شئت ان تتركه مع علمه ان أحدهما لا يكون منه.
وقوله " فإنك أنت العزيز الحكيم " معناه انك القادر الذي لا يغالب
وأنت حكيم في جميع أفعالك فيما تفعله بعبادك و
وقيل معناه " انك أنت العزيز " القدير الذي لا يفوتك مذنب ولا يمتنع
من سطوتك مجرم " الحكيم " فلا تضع العقاب والعفو الا موضعهما. ولو
قال: الغفور الرحيم كافيه معنى الدعاء لهم والتذكير برحمته، على أن
العذاب والعفو قد يكونان غير صواب ولا حكمة فالاطلاق لا يدل على الحكمة
والحسن. والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على العذاب والرحمة إذا كانا

(1) سورة النساء آية 47، 151.
71

صوابين. وقال الحسين بن علي المغربي رأيت على باب بمصر في موضع يقال
له (بيطار بلال) معروف لوحا قديما من ساج عليه هذا العشر وفيه (فإنك
أنت الغفور الرحيم) وتأريخ الدار سنة سبعين من الهجرة أو نحوها ولعلها
باقية إلى اليوم.
فان قيل قول عيسى ان تعذبهم فأنهم عبادك يدل على أن الله تعالى له أن
يعاقب عبيده من غير جرم كان منهم لأنه علل حسن ذلك بكونهم عبيدا لا بكونهم
عصاة، وذلك خلاف ما تذهبون إليه؟ قلنا: لا يجوز ان يريد عيسى (ع) بكلامه
ما يدل على أن الفعل على كونه غير جائز عليه تعالى. ولا يحسن منه تعالى أيضا أن
يترك انكار ذلك فلما عملنا أن الله تعالى لا يجوز ان يعاقب خلقه من غير معصية
سبقت منهم من حيث كان ذلك ظلما محضا، علمنا أن عيسى أراد بقوله ذلك " ان
تعذبهم فإنهم عبادك " الجاحدون لك المتخذون معك إلها غيرك لان ما تقدم من
الكلام دل عليه فلم يحتج ان يذكره في اللفظ فبطل ما توهموه.
قوله تعالى:
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه
ذلك الفوز العظيم (122) لله ملك السماوات والأرض وما
فيهن وهو على كل شئ قدير (123) آيتان بلا خلاف.
قرأ " يوم ينفع " بفتح الميم نافع. الباقون بضمها.
من رفع (يوما) جعله خبر المبتدأ الذي هو (هذا) وأضاف (يوما) إلى
(ينفع). والجملة التي هي من المبتدأ والخبر في موضع نصب بأنه مفعول
القول، كما تقول: قال زيد عمر أخوك. ومن نصب احتمل أمرين:
72

أحدهما - أن يكون مفعول قال وتقديره قال الله هذا القصص، وهذا
الكلام " يوم ينفع الصادقين " فيوم ظرف للقول (وهذا) إشارة إلى ما تقدم
ذكره من قوله: " إذ قال الله يا عيسى بن مريم " وجاء على لفظ الماضي وإن كان
المراد به المستقبل، كما قال " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار " (1)
ونحو ذلك على ما بيناه. وليس ما بعد (قال) حكاية في هذا الوجه كما كان
إياها في الوجه الاخر.
ويجوز أن يكون المعنى على الحكاية وتقديره قال الله تعالى " هذا يوم
ينفع " أي هذا الذي اقتصصنا. به يقع أو يحدث يوم ينفع، ف‍ " يوم " خبر
المبتدأ الذي هو (هذا) الامر إشارة إلى حدث. وظروف الزمان تكون
اخبارا عن الاحداث. والجملة في موضع نصب بأنها في موضع مفعول، قال
الفراء: (يوم) منصوب لأنه مضاف إلى الفعل وهو في موضع رفع بمنزلة
(يومئذ) مبني على الفتح في كل حال، قال الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصبا * فقلت ألما تصح والشيب وازع (2)
قال الزجاج هذا خطأ عند البصريين، لأنهم لا يجيزون هذا يوم آتيتك،
يريدون هذا يوم اتيانك، لان (آتيتك) فعل مضارع فالإضافة إليه لا يزيل
الاعراب عن جهته، ولكنهم يجيزون (ذلك يوم يقع زيد أصدقه) لان الفعل
الماضي غير مضارع للمتمكن فهي إضافة إلى غير متمكن والى غير ما ضارع
المتمكن ويجوز (هذا يوم) منونا (ينفع الصادقين) على إضمار هذا يوم ينفع

(1) سورة الأعراف آية 43.
(2) قائله النابغة. ديوانه: 38 ومعاني القرآن 1: 327، وسيبويه 1: 369
فيه الصادقين صدقهم كقوله: " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا "
والمعني لا تجزي فيه، وقال الشاعر:.
73

وما الدهر الا تارتان فمنهما * أموت وأخرى ابتغي العيش أكدح (1)
والمعنى فمنهما تارة أموت فيها.
وقوله " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين " يعني يوم القيامة، ودل على
أن قول الله للمسيح " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله "
يكون يوم القيامة، ثم بين ان الصادقين ينفعهم صدقهم وهو ما صدقوا فيه في
دار التكليف، لان يوم القيامة لا تكليف فيه على أحد، ولا يخبر أحد فيه الا
بالصدق، ولا ينفع الكفار صدقهم الذي يقولونه يوم القيامة إذا أقروا على
أنفسهم بسوء أعمالهم، ثم بين ان " لهم جنات تجري من تحتها الأنهار "،
وأنهم " خالدون فيها أبدا " في نعيم مقيم لا يزول، وان الله قد " رضى عنهم
ورضوا " هم عن الله وبين ان ذلك " هو الفوز العظيم " وهو ما يحصلون فيه
من الثواب والنجاة من النار، ثم قال تعالى: " لله ملك السماوات والأرض وما
فيهن " يعني ان ملك السماوات والأرض وما بينهما له بالقدرة على التصرف
فيهما وفيما بينهما على وجه ليس لأحد منعه منه ولا معارضته فيه خاصة، ثم
بين انه تعالى: " على كل شئ قدير " مما كان ويكون مما يصح أن يكون
مقدورا له.

(1) قائله ابن مقبل. اللسان " كدح ".
74

6 - سورة الأنعام
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: ان سورة الأنعام مكية. وقال
يزيد بن رومان بعضها مكي وبعضها مدني. وقال شهر بن خوشب: هي
مكية إلا آيتين منها قوله تعالى: " قل تعالوا أتل عليكم ما حرم " والتي
بعدها. وروى عن ابن عباس أنه قال نزلت سورة الأنعام جملة بمكة معها
سبعون الف ملك محدقون حولها بالتسبيح والتهليل والتحميد وهي مئة
وخمس وستون آية كوفي وست في البصري وسبع في المدنيين. وروي عن
ابن عباس أيضا أنه قال هي مكية غير ست آيات منها فإنها مدنيات. " قل
تعالوا أتل " وآيتان بعدها وقوله " وما قدروا الله حق قدره " إلى آخرها
والآية التي بعدها " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي.. "
إلى آخرها. وروي عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما نزل
علي سورة من القرآن جملة غير سورة الأنعام وما جمعت الشياطين لسورة
من القرآن جمعها لها ولقد بعث بها إلي مع جبرائيل مع خمسين ملكا، أو
قال خمسين الف ملك - شك الواقدي - نزل بها وتحفها حتى أقر - ها
في صدري كما يقر الماء في الحوض وقد أعزني الله وإياكم بها عزا لا يذلنا
بعده ابدا فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه. وروي عن كعب
الأحبار أنه قال: افتتحت التوراة بالحمد لله الذي خلق السماوات والأرض
وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. وختمت بالحمد لله
الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك إلى آخر الآية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات
75

والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1)
آية في الكوفي والبصري، وآيتان في المدنيين، قوله " والنور " آخر آية
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن المستحق للحمد من خلق السماوات
والأرض وجعل الظلمات والنور أي خلقهما لما اشتملا عليه من عجائب الخلق
ومتقن الصنع. ثم عجب ممن جعل له شركاء مع ما تري في السماوات والأرض
من الدلالة على أنه الواحد الذي لا شريك له، وقد بينا فيما تقدم وجه دلالة
ذلك على أنه واحد ليس باثنين. وقوله " بربهم يعدلون " أي يجعلون له مثلا
يستحق العبادة مأخوذ من قولك: لا أعدل بفلان أحدا، أي لا نظير له عندي
ولا أحد يستحق ما يستحقه. قال الكسائي: يقال عدلت الشئ بالشئ أعدله
عدولا إذا ساويته، وعدل في الحكم يعدل عدلا. وقال الحسن ومجاهد:
معنى يعدلون يشركون.
وإنما ابتدأ تعالى هذه السورة بالحمد احتجاجا على مشركي العرب،
وعلى من كذب بالبعث والنشور فابتدأ، فقال " الحمد لله الذي خلق السماوات
والأرض " فذكر أعظم الأشياء المخلوقة، لان السماء بغير عمد ترونها، والأرض
غير مائدة بنا. ثم ذكر الظلمات والنور، وذكر الليل والنهار، وهما مما به قوام
الخلق. فأعلم الله تعالى أن هذه خلق له، وأن خالقها لا شئ مثله.
وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: ان الانعام نزلت جملة، وشيعها
سبعون الف ملك حين أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فعظموها، وبجلوها،
فان اسم الله تعالى فيها في سبعين موضعا. ولو يعلم الناس ما في قراءتها من
الفضل ما تركوها.
قوله تعالى:
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده
76

ثم أنتم تمترون (2) آية بلا خلاف.
معنى قوله " هو الذي خلقكم " أي أنشأكم، واخترعكم " من طين "
ومعناه خلق أباكم - الذي هو آدم وأنتم من ذريته، وهو بمنزلة الأصل
لنا - من طين، فلما كان أصلنا من الطين جاز ان يقول " خلقكم من طين ".
وقوله " ثم قضى " معناه حكم بذلك. والقضاء يكون حكما، ويكون
أمرا ويكون الاتمام والاكمال.
وقوله " أجلا وأجل مسمى عنده " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال أبو علي: كتب للمرء أجلا في الدنيا، وحكم بأنه أجل
لنا، وهو الأجل الذي يحيى فيه أهل الدنيا إلى أن يموتوا، وهو أوقات حياتهم،
لان أجل الحياة، هو وقت الحياة، وأجل الموت هو وقت الموت " وأجل مسمى
عنده " يعني آجالكم في الآخرة، وذلك أجل دائم ممدود لا آخر له، وإنما
قال له " مسمى عنده "، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، في السماء وهو
الموضع الذي لا يملك فيه الحكم على الخلق سواه.
وقال الزجاج: أحد الأجلين أجل الحياة، وهو الوقت الذي تحدث فيه
الحياة، ويحيون فيه " وأجل مسمى عنده " يعني أمر الساعة والبعث. وبه
قال الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. وقال بعضهم:
" قضى أجلا " يعني أجل من مضى من الخلق " وأجل مسمى عنده " أجل الباقين
والذي نقوله: " ان الأجل هو الوقت الذي تحدث فيه الحياة أو الموت
ولا يجوز أن يكون المقدر أجلا، كما لا يجوز أن يكون ملكا، فان سمي -
ما يعلم الله تعالى أنه لو لم يقتل فيه لعاش إليه - أجلا، كان ذلك مجازا، لان
الحي لا يعيش إليه. ولا يمتنع أن يعلم الله من حال المقتول أنه لو لم يقتله
القاتل لعاش إلى وقت آخر. وكذلك ما روي: أن الصدقة وصلة الرحم تزيد
في الأجل، وما روي في قصة قوم يونس وأن الله صرف عنهم العذاب، وزاد
77

في آجالهم، لا يمنع منه مانع، وإنما منع من التسمية لما قلناه.
وقوله: " ثم أنتم تمترون " خطاب للكفار الذين يشكون في البعث
والنشور. احتج الله بهذه الآية على الذين عدلوا به غيره، فأعلمهم انه خلقهم
من طين، ونقلهم من حال إلى حال، وقضى عليهم الموت، فهم يشاهدون ذلك،
ويقرون بأنه لا محيص منه. ثم عجبهم من امترائهم أي من شكهم في أنه
الواحد القهار على ما يشاء، وفي أنه لم يعبث بخلقهم وابقائهم وإماتتهم بعد
ذلك، وأنه لابد من جزاء المسيئ والمحسن، ومثله قوله: " يا أيها الناس ان كنتم في
ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم مضغة مخلقة
وغير مخلقة لنبين لكم " (1) ان الذي قدر على ذلك قادر على أن يبعثكم بعد
أن تكونوا ترابا.
وقوله " وأجل مسمى عنده " رفع على الابتداء وتم الكلام عند قوله:
" ثم قضى أجلا ".
قوله تعالى:
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم
ويعلم ما تكسبون (3) آية إجماعا.
قوله " وهو الله في السماوات وفي الأرض " يحتمل معنيين:
أحدهما - قال الزجاج والبلخي، وغيرهما: انه المعبود في السماوات
والأرض، والمتفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، لان حلوله فيهما أو
شئ منهما لا يجوز عليه. ولا يجوز أن تقول هو زيد في البيت، والدار،
وأنت تريد أنه يدبرهما الا أن يكون في الكلام ما يدل على أن المراد به التدبير
كقول القائل: فلان الخليفة في الشرق والغرب، لان المعنى في ذلك أنه
المدبر فيهما.

(1) سورة 22 الحج آية 5.
78

ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، كأنه قال: انه هو الله وهو في السماوات
وفي الأرض. ومثل ذلك قوله " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " (1)
والوجه الثاني - قال أبو علي: ان قوله " وهو الله " قد تم الكلام،
وقوله " في السماوات وفي الأرض " يكون متعلقا بقوله " يعلم سركم وجهركم "
في السماوات وفي الأرض لان الخلق إما أن يكونوا ملائكة فهم في السماء أو
البشر والجن، فهم في الأرض، فهو تعالى عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه خافية،
ويقويه قوله " ويعلم ما تكسبون " أي يعلم جميع ما تعملون من الخير والشر
فيجازيكم على حسب أعمالكم، ولا يخفى عليه شئ منها، وفي ذلك غاية
الزجر والتهديد.
وفي الآية دلالة على فساد قول من قال: إنه تعالى في مكان دون مكان تعالى
الله عن ذلك.
قوله تعالى:
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4)
آية بلا خلاف.
في هذه الآية اخبار من الله تعالى أنه لا يأتي هؤلاء الكفار - المذكورين
في أول الآية - من آيات من ربهم، وهي المعجزات التي يظهرها على رسوله
وآيات القرآن التي كان؟ لها على نبيه صلى الله عليه وآله " الا كانوا عنها معرضين "
لا يقبلونها، ولا يستدلون بها على ما دلهم الله عليه من توحيده وصدق رسوله
محمد صلى الله عليه وآله.
قوله تعالى:
فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا

(1) سورة 10 يونس آية 22.
79

به يستهزؤن (5) آية بلا خلاف.
في هذه الآية اخبار منه تعالى أن الكفار قد كذبوا بالحق الذي أتاهم به
محمد صلى الله عليه وآله لما جاءهم بالقرآن، وسائر أمور الدين، وانه سوف يأتيهم خبر
العذاب الذي ينزله بهم عقوبة على كفرهم، وهذا العذاب هو الذي كانوا به
يستهزؤن: بأخبار رسول الله إياهم به وبنزوله بهم.
فبين أن ذلك سيحل بهم وسيقفون على صحته. ودل ذلك على أنهم كانوا
يستهزؤن، وإن كان لم يذكره ههنا وذكره في موضع آخر. ومثل ذلك قول
القائل للجاني عليه: سيعلم عملك. وإنما يريد ستجازى على عملك.
وقال الزجاج: معنى " أنباء ما كانوا به يستهزؤن " أي تأويله. والمعنى
سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم.
قوله تعالى:
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض
ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار
تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشانا من بعدهم قرنا
آخرين (6) آية بلا خلاف.
قوله " ألم يروا " خطاب للغائب وتقديره ألم ير هؤلاء الكفار: ألم يعلموا
كم أهلكنا من قبلهم من قرن. ثم قال مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم "
فخاطب خطاب المواجه، فكأنه اخبر النبي صلى الله عليه وآله ثم خاطبه معهم، كما قال:
" حتى إذا كنتم في الفلك وجرينا بهم بربح طيبة " (1) فذكر لفظ الغائب بعد

(1) سورة 10 يونس آية 22.
80

خطاب المواجه. ومعنى " من قرن " من أمة. قال الحسن: القرن عشرون
سنة. وقال إبراهيم: أربعون سنة. وقال أبو ميسرة: هو عشر سنين. وحكى
الزجاج والفراء: أنه ثمانون سنة وقال قوم: هو سبعون سنة. وقال الزجاج:
عندي القرن هو أهل كل مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم،
قلت السنون أو كثرت، فيسمى ذلك قرنا، بدلالة قوله (ع): (خيركم
قرني) يعني أصحابي (ثم الذين يلونهم) يعني التابعين (ثم الذين يلونهم)
يعني تابعي التابعين. قال: وجائز أن يكون القرن جملة الأمة، وهؤلاء قرن فيها.
واشتقاق القرن من الاقتران. وكل طبقة مقترنين في وقت قرن، والذين
يأتوا بعدهم ذووا اقتران: قرن آخر.
وقوله " مكناهم في الأرض " معناه جعلناهم ملوكا وأغنياء تقول
مكنتك، ومكنت لك واحد.
وقوله " وأرسلنا عليهم السماء مدرارا " معناه أرسلنا عليهم مطرا كثيرا
من السماء يقول القائل أصابتنا هذه السماء، وما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم،
يعنون المطر. وقوله " مدرارا " يعني غزيرا دائما كثيرا. وهو قول ابن عباس
وأبي روق. و (مفعال) من ألفاظ المبالغة، يقال ديمة مدرارا إذا كان مطرها
غزيرا حادا، كقولهم امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور، ومئناث
في الإناث. ومفعال لا يؤنث، يقال: امرأة معطار ومئناث ومذكار، بغير هاء.
بين الله تعالى أن هؤلاء الذين آتاهم الله هذه المنافع وأجرى من تحتهم
الأنهار، ووسع عليهم، ومكنهم في الأرض، لما كفروا بنعم الله وارتكبوا
معاصيه أهلكهم الله بذنوبهم، وانه أنشأ قوما آخرين بعدهم. يقال: أنشأ
فلان يفعل كذا أي ابتدأ فيه.
وموضع (كم) نصب ب‍ (أهلكنا)، لان لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما
قبله، فلذلك لا يجوز أن يكون منصوبا ب‍ (يروا).
فان قيل: كيف قال: " أولم يروا) والقوم كانوا غير مقرين بما أخبروا
81

به من شأن الأمم قبلهم؟ قيل: كان الكثير منهم مقرا بذلك فإنه دعي بهذه الآية
إلى النظر والتدبر ليعرف بذلك ما عرفه غيره.
قوله تعالى:
ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال
الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لو نزل على نبيه كتابا يعني صحيفة
مكتوبة في قرطاس حتى يلمسوه بأيديهم ويدركوه بحواسهم، لأنهم سألوا
النبي صلى الله عليه وآله ان يأتيهم بكتاب يقرؤونه من الله إلى فلان بن فلان أن آمن بمحمد، وانه لو
أجابهم إلى ذلك لما آمنوا، ونسبوه إلى السحر لعظم عنادهم وقساوة قلوبهم
وعزمهم على أن لا يؤمنون على كل حال. وعرفه أن التماسهم هذه الآيات ضرب
من العنت ومتى فعلوا ذلك أصطلمهم واستأصلهم، وليس تقتضي المصلحة
ذلك، لما علم في بقائهم من مصلحة للمؤمنين، وعلمه بمن يخرج من أصلابهم من
المؤمنين وأن فيهم من يؤمن فيما بعد، فلا يجوز اخترام من هذه صفته - عند
أبي علي والبلخي.
وقوله " ان هذا الا سحر مبين " معناه ليس هذا الا سحر مبين. واحتج
أبو علي بهذه الآية على أنه متى كان في معلوم الله تعالى انه لو آتاهم الآيات
التي طلبوها لامنوا عندها وجب ان يفعلها بهم، قال: ولولا ذلك كذلك لم يحتج على
العباد في منعه إياهم الآيات التي طلبوها أي إنما منعتهم إياها لأنهم كانوا
لا يؤمنون، ولو آتاهم إياها لكانوا يقولون انها سحر مبين. وبهذا تبين بطلان
قول من قال اللطف ليس بواجب، وانه يجوز ان يمنعهم الله ما طلبوا وان
كانوا يؤمنون لو آتاهم ذلك ويكفرون لو منعهم إياه.
قوله تعالى:
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا
82

ملكا لقضي الامر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه
ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9).
آيتان بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا (لولا) ومعناه:
هلا " أنزل عليه " يعنون على محمد " ملك " يشاهدونه فيصدقه. ثم أخبر
عن عظم عنادهم انه لو أنزل عليهم الملك على ما اقترحوه لما آمنوا به، واقتضت
الحكمة استئصالهم وألا ينظرهم ولا يمهلهم. وذلك بخلاف ما علم الله تعالى
من المصلحة على ما بيناه.
ومعنى " لقضى الامر " أي أتم إهلاكهم وقضي على ضروب كلها ترجع
إلى معنى تمام الشئ وانقطاعه في قول الزجاج. فمنه " قضى أجلا وأجل
مسمى عنده " (1) معناه ثم ختم بذلك وأتمه، ومنه الامر كقوله " وقضى ربك
ألا تعبدوا إلا إياه " (2) الا أنه أمر قاطع ومنه الاعلام نحو قوله " وقضينا إلى
بني إسرائيل " (3) أي أعلمناهم إعلاما قاطعا. ومنه الفصل في الحكم نحو
قوله " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم " (4) أي لفصل
الحكم بينهم. ومنه قولهم قضى القاضي. ومن ذلك قضى فلان دينه، أي قطع
ما لغريمه عليه وأداه إليه وقطع ما بينه وبينه وكلما أحكم فقد قضي، تقول
قضيت هذا الثوب وهذه الدار، أي عملتها وأحكمت عملها، قال أبو ذؤيب
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع (5)
وقال مجاهد معنى " وقالوا لولا أنزل عليه ملك " يريدون في صورته.
قال الله تعالى " ولو أنزلنا ملكا " في صورته " لقضي الامر " أي لقامت الساعة أو

(1) سورة 6 الانعام آية 2
(2) سورة 17 الاسرى آية 23
(3) سورة 17 الاسرى آية 4
(4) سورة 42 الشورى آية 14
(5) مر تخريجه في 1 / 429.
83

وجب استئصالهم ثم قال " ولو جعلناه ملكا لجعلناه " في صورة رجل، لان
أبصار البشر لا تقدر على النظر إلى صورة ملك على هيئته للطف الملك وقلة
شعاع أبصارنا وكذلك كان جبرائيل (ع) يأتي النبي صلى الله عليه وآله في صورة دحية
الكلبي، وكذلك الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم في صورة الأضياف حتى
قدم إليهم عجلا جسدا، لأنه لم يعلم أنهم ملائكة، وكذلك لما تسور المحراب
على داود الملكان كانا في صورة رجلين يختصمان إليه. وقال بعضهم: المعنى لو
جعلنا مع النبي ملكا يشهد بتصديقه (لجعلناه رجلا) والأول أصح.
وقوله " وللبسنا عليهم ما يلبسون " يقال: لبست الامر على القوم ألبسه
إذا شبهته عليه، ولبست الثوب ألبسه، وكان رؤساء الكفار يلبسون على
ضعفائهم أمر النبي (ع)، فيقولون: هو بشر مثلكم، فقال الله تعالى " ولو
أنزلنا ملكا " فرأوا الملك رجلا ولم يعلمهم أنه ملك لكان يلحقهم من اللبس
ما يلحق ضعفائهم منهم. واللبوس ما يلبس من الثياب واللباس الذي قد
لبس واستعمل.
فان قيل: قوله: انه لو جعل الملك رجلا للبس عليهم يدل على أن له أن
يلبس بالاضلال والتلبيس؟
قلنا: ليس ذلك في ظاهره، لأنه لم يخبر أنه لبس عليهم وإنما قال لو جعلته
ملكا للبست ولم يجعله ملكا فإذا ما لبس، كما قال تعالى " لو أراد الله أن
يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء " (1) وليس يجوز عليه اتخاذ الولد
ولا الاصطفاء له بحال، فسقط ما قالوه.
قوله تعالى:
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين
سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن (10) آية بلا خلاف.

(1) سورة 39 الزمر آية 4.
84

لما أخبر الله تعالى أنه لو أنزل الآيات التي اقترحوها وامتنعوا عند ذلك
من الاقرار بالله وتصديق نبيه اقتضت المصلحة استئصالهم كما اقتضت المصلحة
استئصال من تقدم من الأمم الماضية عند نزول الآيات المقترحة، كما فعل بقوم
صالح وغيرهم من أمم الأنبياء، قال ذلك تسلية لنبيه (ع) من استمرارهم
على الكفر. ومعنى (الحيق) ما يشتمل على الانسان من مكروه فعله كما
قال: " ولا يحيق المكر السيئ الا بأهله " (1) أي لا ترجع عاقبة مكروهه الا
عليهم. والمعنى فحاق بالساخرين منهم: " ما كانوا به يستهزؤن " من وعيد
أنبيائهم بعاجل العقاب في الدنيا نحو ما نزل بقوم عاد وثمود وغيرهم من الأمم.
وقال أبو علي: حاق وحق بمعنى واحد. والمعنى انه لما نزل بهم العذاب
حق بذلك الخبر عندهم: الخبر الذي كان أخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله.
قوله تعالى:
قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة
المكذبين (11) آية بلا خلاف.
أمر الله تعالى في هذه الآية نبيه (ع) ان يأمر هؤلاء الكفار ان يسيروا
في الأرض لينظروا إلى آثار تلك الأمم فإنها مشهورة ومتواتر خبرها معلوم
مساكنها وأراد بذلك زجر هؤلاء الكفار عن تكذيب محمد (ع) والتحذير لهم
من أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بالمكذبين للرسل من قبلهم.
قوله تعالى:
قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على
نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب

(1) سورة 35 فاطر آية 43.
85

فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12)
وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم (13) آيتان
بلا خلاف.
أمر الله تعالى نبيه (ع) ان يقول لهؤلاء الكفار مقرعا لهم وموبخا على
كفرهم " لمن في السماوات والأرض " ثم امره (ع) ان يقول لهم ان ذلك
" لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم " واللام لام القسم وتقديره والله
ليجمعنكم ولذلك نصب (لام) ليجمعنكم، لان معنى كتب اليمين. وقال
الزجاج يجوز أن يكون (ليجمعنكم) بدلا من الرحمة مفسرا لها، لأنه لما
قال كتب على نفسه الرحمة فسر رحمته بأنه يمهلهم إلى يوم القيامة. وقال
الفراء: يجوز أن يكون قوله " كتب على نفسه الرحمة " غاية ثم استأنف قوله
" ليجمعنكم.. لا ريب فيه " تمام، ومعنى " كتب على نفسه الرحمة "
أي كتب على نفسه ألا يستأصلكم ولا يعجل عقوبتكم بل يعذر وينذر ويجمع
آخركم إلى أولكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة، وهو الذي لا ريب فيه.
وفي قوله " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " احتجاج على من أنكر البعث
والنشور فقال ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه كما تقول: جمعت هؤلاء
إلى هؤلاء، أي ضممت بينهم في الجمع. وقوله " الذين خسروا أنفسهم " قال
الأخفش (الذين) بدل من الكاف والميم. والمعنى ليجمعن هؤلاء المشركين
الذين خسروا أنفسهم إلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرون به. وقال
الزجاج: هو في موضع رفع على الابتداء وخبره " فهم لا يؤمنون " لان
(ليجمعنكم) مشتمل على سائر الخلق على الذين خسروا أنفسهم وغيرهم.
وقوله " وله ما سكن في الليل والنهار " أي ما اشتمل عليه الليل والنهار
فجعل الليل والنهار كالمسكن لما اشتملا عليه، لأنه ليس يخرج منهما شئ فجمع
86

كل الأشياء بهذا اللفظ القليل الحروف، وهذا من أفصح ما يكون من الكلام.
وقال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي * وان خلت ان المنتأى عنك واسع (1)
فجعل الليل مدركا إذ كان مشتملا عليه.
وفي هذه الآية وفي التي قبلها إحتجاج على الكفار الذين عبدوا من دون
الله تعالى، فقال تعالى: " قل لمن ما في السماوات والأرض "؟ وكانوا
لا يشركون بالله في خلق السماوات والأرض وما بينهما أحدا وإنما كانوا
يشركون في العبادة، ويقولون: آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، لا أنها تخلق
شيئا، ثم قال: " قل لله " فإنهم لا ينكرون ذلك، وهو كقوله " ولئن سألتهم
من خلقهم ليقولن الله " (2) فذكرهم ما هم به مقرون ليتنبهوا ويشهدوا بالحق
ويتركوا ما هم عليه، ومعنى " خسروا أنفسهم " أهلكوها باستحقاق المصير
إلى العذاب الأليم الدائم، الذي لا ينتفعون معه بنفوسهم إذ كانوا لا يؤمنون.
ومن أهلك نفسه فقد خسرها. وإنما قال " وله ما سكن في الليل والنهار "
لان في الحيوان ما يسكن في الليل، وفيه ما يسكن بالنهار وخص السكون
بالذكر، لان الساكن أكثر من المتحرك، ولان الآية العجيبة في قيام الساكن بلا
عمد أعظم.
قوله تعالى:
قل أغير الله أتخذ ولى فطر السماوات والأرض وهو يطعم
ولا يطعم قل أني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من
المشركين (14) آية بلا خلاف.
أجمع القراء على ضم الياء وفتح العين من قوله " ولا يطعم " وقرئ في الشواذ

(1) سمط اللآلي: 570
(2) سورة 43 الزخرف آية 87.
87

بفتح الياء العين معا. فمن ضم الياء أراد أن غيره لا يطعمه في مقابلة قوله:
" وهو يطعم ". ومن فتح الياء أراد أنه نفسه لا يطعم. والمعنى هو يرزق
الخلق ولا يرزقه أحد. والطعمة والطعم والاطعام الرزق، قال امرؤ القيس:
مطعم للصيد ليس له * غيرها كسب على كبره (1)
وقال علقمة بن عدي:
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة * أني توجه والمحروم محروم (2)
ألا ترى أنه وضع الحرمان في مقابلة الاطعام، كما يوضع أبدا مقابلا
للرزق. وقيل: إنه ذكر الاطعام، لان حاجة العباد إليه أشد، ولان نفيه عن
الله أدل على نفي شبهه بالمخلوقين، لان الاطعام لا يجوز الاعلى الأجسام.
والاختيار في " فاطر " الخفض لأنه من صفة (الله). والرفع، والنصب
جائزان على المدح. فمن رفع فعلى اضمار (هو)، وتقديره: هو فاطر
السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم. ومن نصب فعلى معنى: اذكروا
عني.
ومعنى: " فاطر السماوات والأرض " خالقهما، كما قال: " ومالي
لا أعبد الذي فطرني واليه ترجعون " (3) أي خلقني. قال ابن عباس: ما
كنت أدري ما معنى (فاطر) حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما:
أنا فطرتها أي ابتدأتها. وأصل الفطر الشق، ومنه قوله تعالى: " إذا السماء
انفطرت " (4) أي انشقت.
ومعني " فطر السماوات والأرض " خلقهما خلقا قاطعا. والانفطار، والفطور
تقطع وتشقق وفي الآية دلالة وحجة على الكفار، لان من خلق السماوات
والأرض وأنشأ ما فيها، وأحكم تدبيرهما، واطعم من فيهما هو الذي ليس كمثله شئ

(1) ديوانه: 104، واللسان (طعم).
(2) اللسان: الألف اللينة تفسير (أنى).
(3) سورة 36 يس آية 22 (4) سورة 82 الانفطار آية 1.
88

وان الخلق فقراء إليه وهو الغني القادر القاهر، فلا يجوز لمن عرف ذلك أو جعل
له السبيل إلى معرفته ان يعبد غيره.
وقوله " وأمرت أن أكون أول من أسلم " معناه أن أكون أول من خضع،
وآمن وعرف الحق من قومي، وأن اترك ما هم عليه من الشرك. ومثله قوله
" قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين " (3) بأنه لم يكن للرحمان ولد،
يعني من هذه الأمة، لأنه قد عبد الله النبيون والمؤمنون قبله، ومثله قوله
" سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين " (4) ممن سألك أن تريه نفسك -
بأنك لا ترى. وقول السحرة " إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا ان كنا
أول المؤمنين (5) بأن هذا ليس بسحر، وأنه الحق، أي أول المؤمنين من
السحرة، ومعنى الولي - هاهنا - الاله الذي أعبده ليتولاني، ويحفظني.
وقوله: " وأمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين " أي
أمرت بالامرين معا: أن أكون أول من أسلم من هذه الأمة، وألا أكون من
المشركين. والمعنى أمرت بذلك ونهيت عن الشرك، لان الامر لا يتناول ألا
يكون الشئ، لأنه لا يكون أمرا إلا بإرادة المأمور، والإرادة لا تتعلق بألا
يكون الشئ. وإنما المراد ما قلناه: أنه كره مني الشرك.
قوله تعالى:
قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15)
آية بلا خلاف.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بهذه الآية أن يقول لهؤلاء الكفار: إنه يخاف

(3) سورة 43 الزخرف آية 81
(4) سورة 7 الأعراف آية 142
(5) سورة 26 الشعراء آية 52.
89

- ان عصاه - عذابه وعقوبته في يوم عظيم وهو يوم القيامة. ومعنى العظيم
- هاهنا - أنه شديد على العباد، وعظيم في قلوبهم.
وفي الآية دلالة على أن من زعم أن من علم الله أنه لا يعصى فلا يجوز أن
يتوعده بالعذاب. وعلى من زعم أنه لا يجوز أن يقال فيما قد علم الله أنه
لا يكون أنه لو كان لوجب فيه كيت وكيت، لأنه كان المعلوم لله تعالى أن
النبي صلى الله عليه وآله لا يعصي معصية يستحق بها العقاب يوم القيامة، ومع هذا فقد
توعده به.
قوله تعالى:
من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16)
آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة الا حفصا، ويعقوب " من يصرف " بفتح الياء وكسر
الراء. الباقون بضم الياء وفتح الراء.
وفاعل (يصرف) هو الضمير العائد إلى " ربي " من قوله: " إني أخاف
ان عصيت ربي ". ويكون حذف الضمير العائد إلى العذاب، والمعنى من
يصرف الله عنه، وكذلك هو في قراءة أبي. قال أبو علي: وليس حذف
الضمير بالسهل لأنه ليس بمنزلة الضمير الذي يحذف من الصلة إذا عاد إلى
الموصول، نحو " أهذا الذي بعث الله رسولا " (1) و " سلام على عباده
الذين اصطفى الله " (2) أي بعثهم الله واصطفاهم، ولا يعود الضمير المحذوف
- هاهنا - إلى موصول ولا إلى (من) التي المجزاء، وإنما يرجع إلى العذاب
من قوله " ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم "، وليس هذا بمنزلة قوله
" والحافظين فروجهم " (3) لان هذا فعل واحد قد تكرر وعدي الأول فيهما

(1) سورة 25 الفرقان آية 41
(2) سورة 27 النسل آية 59
(3) سورة 33 الأحزاب آية 35.
90

إلى المفعول، فعلم بتقدير الأول أن الثاني بمنزلته.
والذي يحسن قراءة من قرأ " يصرف " بفتح الياء أن ما بعده من قوله
" فقد رحمه " فعل مسند إلى ضمير اسم الله. فقد اتفق الفعلان في الاسناد
إلى هذا الضمير، فيمن قرأ " يصرف " بفتح الياء. ويقويه أيضا أن الهاء
المحذوفة من (يصرفه) لما كان في حيز الجزاء، وكان ما في حيزه في أنه لا يتسلط
على الموصول، حسن حذف الهاء منه كما حسن حذفها من الصلة.
ومن ضم الياء فالمسند إليه الفعل المبني للمفعول ضمير العذاب المتقدم
ذكره، ويقوي ذلك قوله " ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم " (4) ألا ترى
أن الفعل بني للمفعول، وفيه ضمير العذاب. وقال الزجاج: التقدير من
يصرف الله عنه العذاب فيمن فتح الياء. ومن ضم الياء، فتقديره من يصرف
عنه العذاب.
قوله تعالى:
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك
بخير فهو على كل شئ قدير (17) وهو القاهر فوق عباده
وهو الحكيم الخبير (18) آيتان بلا خلاف.
معنى الآية الأولى أنه لا يملك النفع والضرر الا الله تعالى أو من يملكه
الله ذلك. فبين تعالى أنه مالك السوء من جهته " فلا كاشف له الا هو " ولا
يملك كشفه سواه مما يعبده المشركون ولا أحد سوى الله، وأنه إن ناله بخير
فهو على ذلك قادر. وقوله يمسسك بضر أو بخير، معناه يمسك ضره أو
خيره. فجعل المس لله على وجه المجاز، وهو في الحقيقة الخير والضر، وهو
مجاز في الخير والضر أيضا، لأنهما عرضان لا تصح عليهما المماسة. وأراد

(4) سورة 11 هود آية 8.
91

تعالى بذلك الترغيب في عبادته، وحده، وترك عبادة سواه، لأنه المالك للضر
والنفع دون غيره، وأنه القادر عليهما. والقاهر هو القادر على أن يقهر غيره.
فعلى هذا يصح وصفه فيما لم يزل بأنه قاهر. وفي الناس من قال: لا يسمى
قاهرا الا بعد أن يقهر غيره، فعلى هذا لا يوصف تعالى فيما لم يزل بذلك.
ومثل قوله " فوق عباده " قوله " يد الله فوق أيديهم " (1) والمراد أنه أقوى
منهم، وأنه مقتدر عليهم، لان الارتفاع في المكان لا يجوز عليه تعالى، لأنه من
صفات الأجسام. فإذا المراد بذلك أنه مستعل عليهم، مقتدر عليهم. وكل
شئ قهر شيئا فهو مستعل عليه، ولما كان العباد تحت تسخيره وتذليله وأمره
ونهيه، وصف بأنه فوقهم. وقوله " وهو الحكيم الخبير " معناه أنه مع قدرته
عليهم لا يفعل الا ما تقتضيه الحكمة، ولا يفعل ما فيه مفسدة، أو وجه قبح
لكونه عالما بقبح الأشياء وبأنه غني عنها.
قوله تعالى:
قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي
إلي هذا القرآن لا نذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن
مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني
برئ مما تشركون (19) آية بلا خلاف.
اختلفوا في الهمزتين إذا كانت الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة من
كلمة واحدة نحو (أئنك) و (أإذا) و (أإنا) و (أإفكا) فقرأ ابن عامر وأهل
الكوفة وروح بتحقيق الهمزتين حيث وقع إلا في قوله " أئنكم لتشهدون "

(1) سورة 48 الفتح آية 10.
92

هاهنا. وفي الأعراف " أئنكم لتأتون الرجال " (1) و " أإن لنا لأجرا " (2)
و (أإما) حيث وقع. و " أإنك لانت يوسف " (3) و " أإذا ما مت " (4) وفي
العنكبوت " أإنكم لتأتون الفاحشة " (5) و " أإنا لمغرمون " (6) في الواقعة.
والاستفهامين في الرعد. وبني إسرائيل. والمؤمن. والنحل. وسجدة لقمان.
والصافات. والواقعة. والنازعات. وسنذكر الخلاف فيها في مواضعها.
الباقون بتحقيق: الأولى وتليين الثانية. وفصل بينهما بألف أهل المدينة.
الا ورشا، وأبو عمرو، والحلواني عن هشام، وافقهم الداجوني عن هشام
على الفصل في قوله " أإنا لتاركوا آلهتنا ". و " أإذا متنا " في (ق). وأما
قوله " أئنكم ". هاهنا فقرأه ابن عامر وأهل الكوفة الا الكسائي عن
أبي بكر وروح بتحقيق الهمزتين إلا أن الحلواني عن هشام يفصل بينهما بألف
الباقون بتحقيق الأولى وتليين الثانية. وفصل بينهما بألف أهل المدينة الا
ورشا وأبو عمرو والكسائي عن أبي بكر. وقد روي عن الكسائي عن أبي بكر
أنه لا يفصل.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار " أي شئ أكبر
شهادة " لأنهم كانوا مقرين بأنه لا شئ أكبر شهادة من الله، وإذا أقروا بأنه
الله حينئذ أمره أن يقول لهم هو الشهيد بيني وبينكم على ما بلغتكم ونصحتكم
وقررت عندكم من أن إلهكم إله واحد، وعلى براءتي من شرككم.
والوقوف على قوله " قل الله " وقف تام.
وفي الآية دلالة على من قال: لا يوصف تعالى بأنه شئ. لأنه لو كان
كما قال لما كان للآية معنى كما أنه لا يجوز أن يقول القائل: أي الناس أصدق؟
فيجاب ب‍ (جبرائيل) لما لم يكن من جملة الناس بل كان من الملائكة.

(1) سورة 7 الأعراف آية 80
(2) سورة 7 الأعراف آية 112
(3) سورة 12 يوسف آية 90
(4) سورة 19 مريم آية 66
(5) سورة 29 العنكبوت آية 28
(6) سورة 56 الواقعة آية 66.
93

فان قيل قوله " أي شئ أكبر شهادة " تمام، وقوله " قل الله " ابتداء،
وليس بجواب، ولو كان جوابا كان ما بعده من قوله " شهيد بيني وبينكم "
لا ابتداء له ولا معنى له؟!
قيل: لسنا ننكر ذلك - الا أن هذا وإن كان هكذا لولا أنه متقررا عند
السائل والمسؤول - ان الله شهيد - ما كان للكلام معنى، ولكان قوله: " قل
أي شئ أكبر شهادة " لغوا وحشوا، وذلك منزه عن كلامه تعالى.
وقوله: " لا نذركم به ومن بلغ " وقف تام. أي من بلغه القرآن الذي
أنذرتكم به، فقد أنذرته كما أنذرتكم، وهو قول الحسن رواه عن
النبي صلى الله عليه وآله: أنه قال: (من بلغه أني أدعو إلى لا إله إلا الله، فقد بلغه).
يعني بلغته الحجة، وقامت عليه. وقال مجاهد: لأنذركم به " يعني أهل مكة
. " ومن بلغ " من أسلم من العجم وغيرهم.
وقوله " آلهة أخرى " ولم يقل اخر، لان الآلهة جمع والجمع يقع على
التأنيث، كما قال: " ولله الأسماء الحسنى " (1) و " قال فما بال القرون
الأولى " (2) ولم يقل الأول. والشاهد: هو المبين لدعوى المدعي. قال
الحسن: قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وآله: من يشهد لك؟ فنزلت هذه
الآية. وهي قوله: " وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به " أي اني أخوفكم
به، لان الانذار هو الاعلام على وجه التخويف. " ومن بلغ " يعني القرآن
و (من) في موضع نصب بالانذار. ثم قال موبخا " أئنكم لتشهدون ان مع
الله آلهة أخرى " ثم قال لنبيه: قل أنت يا محمد: لا أشهد بمثل ذلك بل اشهد أنه
إله واحد " واني برئ مما تشركون " بعبادته مع الله واتخاذه إلها.
قوله تعالى:
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم

(1) سورة 7 الأعراف آية 179
(2) سورة 20 طه آية 51.
94

الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20) آية بلا خلاف.
" الذين آتيناهم الكتاب " رفع بالابتداء. وقوله " يعرفونه " خبر.
وقوله " الذين خسروا أنفسهم " أيضا رفع، ويحتمل رفعه وجهين:
أحدهما - أن يكون نعتا ل‍ (الذين) الأولى - ويحتمل أن يكون رفعا
على الابتداء وخبره " فهم لا يؤمنون. فان حملته على النعت كان المعني به
أهل الكتاب وان حملته على الابتداء يتناول جميع الكفار.
وقال بعض المفسرين: ما من كافر الا وله منزلة في الجنة وأزواج فان
أسلم وسعد صار إلى منزله وأزواجه، وان كفر صار منزله وأزواجه إلى من
أسلم، فذلك قوله " الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون " (1) وقوله:
" الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " وهذه الآية لابد أن تكون
مخصوصة بجماعة من أهل الكتاب، وهم الذين عرفوا التوراة والإنجيل
فعرفوا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله بما كانوا عرفوه من صفاته المذكورة، ودلائله
الموجودة في هذين الكتابين كما عرفوا أبناءهم في أنها صحيحة لا مرية فيها ولم
يرد أنهم عرفوا بنبوته اضطرارا، كما عرفوا أبناءهم ضرورة على أن أحدا
لا يعرف أن من ولد على فراشه ابنه على الحقيقة، لأنه يجوز أن يكون من
غيره، وان حكم بأنه ولده لكونه مولودا على فراشه، فصار معرفتهم
بالنبي صلى الله عليه وآله آكد من معرفتهم بأبنائهم لهذا المعنى. ولم يكن جميع أهل
الكتاب كذلك، فلذلك خصصنا الآية.
فان قيل: كيف يصح - على مذهبكم في الموافاة - ان يكونوا عارفين
بالله، وبنبيه ثم يموتون على الكفر؟!
قلنا عنه جوابان:
أحدهما - ان لا يكونوا عارفين بذلك بل يكونوا معتقدين اعتقاد تقليد،

(1) سورة 23 المؤمنون آية 11.
95

ويعتقدون مع ذلك انهم عالمون به، فقال الله تعالى " يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم " في اعتقادهم، لا انهم يعرفونه على الحقيقة كما قال " ذق إنك أنت
العزيز الكريم " (1) يعني عند نفسك، وقومك.
الثاني - ان يكونوا عرفوا ذلك على وجه لا يستحق به الثواب، لأنهم
يكونون نظروا في الأدلة لا لوجه وجوب ذلك عليهم، فولد ذلك المعرفة لكن
لا يستحق بها الثواب. وقد بينا مثل ذلك في عدة مواضع فيما مضى (2)
فسقط السؤال.
وقوله " الذين خسروا أنفسهم " يعني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وآله على وجه
المعاندة " فهم لا يؤمنون " وخسرانهم أنفسهم اهلاكهم لها بهذا الكفر،
وتصييرهم لها إلى أن لا ينتفعون بها. ومن جعل نفسه بحيث لا ينتفع بها فقد
خسر نفسه.
قوله تعالى:
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه
لا يفلح الظالمون (21) آية.
أخبر الله تعالى ان من أفترى على الله الكذب فوصفه بخلاف صفاته،
وأخبر عنه بخلاف ما اخبر به عن نفسه، وعن أفعاله أنه لا أحد أظلم لنفسه منه
إذ كان بهذا الفعل قد أهلك نفسه وأوقعها في العذاب الدائم في النار. ثم أخبر
أن الظالم لا يفلح أي لا يفور برحمة الله وثوابه ورضوانه، ولا بالنجاة من
النار، لان الظلم - هاهنا هو الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وذلك لا يغفر
بلا خلاف.
قوله تعالى:
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين

(1) سورة 44 الدخان آية 49
(2) في 1 / 192 و 2 / 21 و 498.
96

شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22) آية.
قرأ يعقوب " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول " بالياء فيهما. الباقون
بالنون فيهما من قرأ بالياء رده إلى الله تعالى في قوله " على الله كذبا " وتقديره:
يوم يحشرهم الله فيقول. ومن قرأ بالنون ابتدأ، وتقدير الآية اذكر يوم نحشرهم
جميعا، يعني يوم القيامة، لأنهم يحشرون فيه جميعا من قبورهم إلى موضع
الحساب، وأنه يقول - للذين أشركوا بالله، وعبدوا معه إلها غيره - في هذا
اليوم: أين الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي؟! وأين شركائي في زعمكم؟!
وإنما يقول هذا توبيخا لهم وتبكيتا على ما كانوا يدعون أنهم يعبدونه من
الأصنام والأوثان، ويعتقدون أنها شركاء لله، وأنها تشفع لهم، يوم القيامة،
فإذا لم يجدوا لما كانوا يدعونه صحة، ولم ينتفعوا بهذه الأوثان ولا بعبادتهم،
فيعلمون أنهم كانوا كاذبين في أقوالهم.
قوله تعالى:
ثم لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23)
أنظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (24)
آيتان بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي والعليمي، ويعقوب " ثم لم يكن " بالياء. الباقون
بالتاء. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص الا ابن شاهين " فتنتهم " بالرفع.
الباقون بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي وخلف " والله ربنا " بنصب الباء.
الباقون بكسرها.
من قرأ بالتاء ورفع الفتنة أثبت علامة التأنيث. وتكون (أن) في موضع
نصب. وتقديره ثم لم تكن فتنتهم الا قولهم. وقد روى شبل عن ابن كثير
" تكن " بالتاء " فتنتهم " نصبا مثل قراءة نافع وأبي عمرو عن عاصم. ووجهه
97

انه أنث " ان قالوا " لما كان الفتنة في المعنى، كما قال " فله عشر أمثالها " (1)
فأنث لما كانت الأمثال في المعنى الحسنات. ومثله كثير في الشعر، قال أبو علي
والأول أجود من حيث كان الكلام محمولا على اللفظ. ويقوي قراءة من
قرأ: (فتنتهم) بالنصب أن قوله (ان قالوا) أن يكون الاسم دون الخبر أولى
لان (أن) إذا وصلت لم توصف، فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن
المضمر إذا كان مع المظهر كان (أن يكون) الاسم أحسن، كذلك إذا كانت
(أن) مع اسم غيرها كانت (أن يكون) الاسم أولى.
ومن قرأ (والله ربنا) - بكسر الباء - فعلى جعل الاسم المضاف وصفا
للمفرد، لان قوله (والله) جربوا ولا قسم. ولو أسقطت لقال: (الله) بالنصب
ومثله قولهم: رأيت زيدا صاحبنا وبكرا جارك، ويكون قوله " ما كنا
مشركين " جواب القسم.
ومن نصب الباء يحتمل أمرين:
أحدهما - أن ينصبه بفعل مقدر، وتقديره: أعني ربنا.
والثاني - على النداء. ويكون قد فصل بالاسم المنادى بين القسم
والمقسم عليه بالنداء، وذلك غير ممتنع، لان النداء كثير في الكلام. وقد حال
الفصل بين الفعل ومفعوله في قوله: " انك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في
الا حياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك " (2). والمعنى آتيتهم أموالا ليضلوا
ولا يؤمنوا وقد جاء الفصل بين الصلة والموصول، وهو أشدها قال الشاعر:
ذاك الذي وأبيك يعرف مالك * والحق يدفع ترهات الباطل (3)
وقال أبو عبيدة: من قرأ بالتاء المعجمة من فوقها ونصب " فتنتهم " أضمر
في (يكن) اسما مؤنثا ثم يجيئ بالتاء لذلك الاسم، وإنما جعله مؤنثا
لتأنيث (فتنة) قال لبيد:

(1) سورة 6 الانعام آية 160
(2) سورة 10 يونس آية 88
(3) اللسان (تره).
98

فمضى وقدمها وكانت عادة * منه إذا هي عودت أقدامها (2)
فأنث الاقدام لتأنيث (عادة). وقوله: " ثم لم تكن فتنتهم " أي لم
تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة الا قولهم.
ومعنى الآية: أنه تعالى لما ذكر قصص هؤلاء المشركين الذين كانوا مفتنين
بشركهم، أعلم النبي صلى الله عليه وآله أن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه لم يكن الا
أن تبرءوا منه، وقالوا انهم ما كانوا مشركين، كما يقول القائل إذا رأى إنسان
انسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فيقول له ما كانت محبتك لفلان
الا أن انتفيت منه.
فان قيل: كيف قالوا وحلفوا أنهم ما كانوا مشركين - وقد كانوا
مشركين - وهل هذا إلا كذب، والكذب قبيح ولا يجوز من أهل الآخرة أن
يفعلوا قبيحا، لأنهم ملجؤون إلى ترك القبيح، لأنهم أو صح لم يكونوا ملجئين
وكانوا مختارين، وجب أن يكونوا مزجورين عن فعل القبيح، وإلا أدى إلى
اغرائهم بالقبيح وذلك لا يجوز، ولو زجروا بالوعيد عن القبائح لكانوا مكلفين
ولوجب أن يتناولهم الوعد والوعيد، وذلك خلاف الاجماع، وقد وصفهم الله
تعالى أيضا بأنهم كذبوا على أنفسهم، فلا يمكن جحد أن يكونوا كاذبين، فكيف
يمكن أن يرفع ذلك؟ وما الوجه فيه؟
والجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها - ما قاله البلخي: إن القوم كذبوا على الحقيقة، لأنهم كانوا
يعتقدون أنهم على الحق، ولا يرون أنهم مشركون، كالنصارى ومن أشبههم،
فقالوا في الموقف ذلك. وقيل: ان يقع بهم العذاب فيعلموا بوقوعه أنهم كانوا
على باطل فيقولوا " والله ربنا ما كنا مشركين " وهم صادقون عند أنفسهم
وكذبهم الله في ذلك، لان الكذب هو الاخبار بالشئ لا على ما هو به، علم
المخبر بذلك أو لم يعلم، فلما كان قولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " كذبا في

(2) اللسان (قدم) وروايته (عردت) بدل (عودت).
99

الحقيقة جاز أن يقال لهم " أنظر كيف كذبوا على أنفسهم. قال البلخي:
ويدل على ذلك قوله " وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي ذهب عنهم وأغفلوه،
لأنهم لم يكونوا نظروا نظرا صحيحا ولم يجاروا في نظرهم الألف والعادة،
فيعلموا في هذا الوقت أن قولهم شرك، ولو صاروا إلى العذاب لعلموا أنهم
كانوا مشركين، واستغنوا بذلك، لكن هذا القول يكون عند الحشر. وقيل:
الجزاء بدلالة أول الآية. وقال مجاهد: قوله " أنظر كيف كذبوا على أنفسهم "
تكذيب من الله إياهم.
وقال الجبائي: قولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " اخبار منهم أنهم لم
يكونوا مشركين عند أنفسهم في دار الدنيا، لأنهم كانوا يظنون أنهم على الحق،
فقال الله تعالى مكذبا لهم " أنظر " يا محمد " كيف كذبوا على أنفسهم " في
دار الدنيا، لا أنهم كذبوا في الآخرة، لأنهم كانوا مشركين على الحقيقة، وان
اعتقدوا أنهم على الحق. وقوله: " وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي ضلت
عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويفترون الكذب بقولهم: إنها شفعاؤنا عند
الله غدا، فذهبت عنهم في الآخرة فلم يجدوها، ولم ينتفعوا بها.
وقال قوم: انه يجوز أن يكذبوا يوم القيامة للذهول والدهش،
لأنهم يصيرون كالصبيان الذين لا تمييز لهم ولا تحصيل معهم - اختاره أحمد
ابن علي بن الاخشاد. وأجاز النجار أن يكفروا في النار فضلا عن وقوعه قبل
دخولهم فيها، وهذا بعيد. والوجهان الأولان أقرب.
وقيل فيه وجه آخر، وهو أنهم أملوا أملا فخاب أملهم ولم يقع الامر على
ما أرادوا، لان من عادة الناس أنهم إذا عوقبوا بعقوبة فتكلموا واستعانوا
وصاحوا فان العذاب يسهل عليهم بعض السهولة، وظنوا أن عذاب الآخرة
كذلك، فقالوا: " والله ربنا ما كنا مشركين " وقالوا " ربنا ظلمنا أنفسنا " (1)

(1) سورة 7 الأعراف آية 22
(2) سورة 23 المؤمنون آية 107.
100

الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا " (3) فأملوا أن يخف عنهم العذاب بمثل
هذا الكلام على عادة الدنيا، فلم يخف ولم يكن لهم فيه راحة، فقال الله
" انظر كيف كذبوا على أنفسهم " أي خابوا فيما أملوا من سهولة العذاب وذلك
مشهور في كلام العرب، قال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة ما دام للسيف قائم (4)
وقال آخر:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها * بني شاب قرناها تصر وتحلب (5)
أي كذبكم أملكم. وقال أبو داود الأزدي:
قلت لما نصلا من فتنة * كذب العير وإن كان برح (6)
والمعنى أمل أنه يتخلص بشئ فكذبه أمله، لأنه ظن أنه إذا مر بارحا
وهو أن يأخذ في ناحية الشمال إلى ناحية اليمين لم يتهيأ لي طعنه، فلما قلب
رمحه وطعنه قال: كذب العير أي كذب أمله.
و (الفتنة) في الآية معناها المعذرة - في قول قتادة - لأنها اعتذار عن
الفتنة، فسميت بأسم الفتنة. وقال قوم: هي المحنة. وقال قوم: تقديره
عاقبة فتنتهم. وفتنتهم يجوز أن تكون بمعنى اغترارهم أي اغتروا بهذا الكذب
وظنوا أنه سينجيهم، وكذبوا على أنفسهم لما رجعت مضرته إليهم صار عليهم
وان قصدوا أن يكون نهم.
وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال المعارف ضرورية، لان الله تعالى
أخبر عنهم أنهم قالوا " والله ربنا ما كنا مشركين " فلا يخلو أن يكونوا صادقين
أو كاذبين، فان كانوا صادقين لأنهم كانوا عارفين في دار الدنيا فقد كذبهم الله
في ذلك بقوله " أنظر كيف كذبوا " وان كانوا كاذبين لأنهم كانوا عارفين،
فقد وقع منهم القبيح في الآخرة، وذلك لا يجوز. ومعنى الآية على ما بيناه

(3) سورة 41 حم السجدة آية 29
(4) مجمع البيان 2: 290
(5) قائله الأسدي. اللسان (قرن).
(6) اللسان (كذب).
101

من أنهم أخبروا أنهم لم يكونوا مشركين عند أنفسهم في دار الدنيا وان الله كذبهم
وأنهم كانوا كاذبين على الحقيقة وان اعتقدوا خلافه في الدنيا. فأما معارفهم
في الآخرة فضرورية عند البصريين، وعند البلخي ومن وافقه، حاصلة على وجه
هم ملجؤون إليها، فعلى الوجهين معا لا يجوز أن يقع منهم القبيح لا محالة.
قوله تعالى:
ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه
وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك
يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين (25)
آية بلا خلاف.
قال مجاهد قوله " ومنهم من يستمع إليك " يعني قريشا. وقال البلخي:
أي من أهل الكتاب والمشركين من يجالسك ويريد الاستماع منك والاصغاء
إليك " وجعلنا على قلوبهم أكنة " لأنهم لا يفقهوه، لألفهم الكفر وشدة عداوتهم
" حتى إذا جاؤوك يجادلونك " أي حتى إذا صار الامر إلى الجدال ظهروا
الكذب وعاندوا، فقالوا " ان هذا الا أساطير الأولين " أي ليس هذا إلا
أساطير الأولين. وقال قوم: نزلت في النظر بن الحارث بن كلدة. وقال
الضحاك: معنى أساطير الأولين أحاديث الأولين وكل شئ في القرآن أساطير،
فهو أحاديث.
و (الأكنة) جمع كنان - بكسر الكاف - وهو كالغطاء والأغطية " وفي
آذانهم وقرأ " أي ثقلا، والوقر بكسر الواو الحمل، يقال وقرت الاذن
لوقر قال الشاعر:
وكلام سيئ قد وقرت * أذني منه وما بي من صمم
ونخلة موقرة وموقر، ونخيل مواقير. قال يونس سألت رؤبة، فقال
102

وقرت أدنه - بضم الواو وكسر القاف - يوقر - بفتح الياء والقاف - إذا
كان فيها الوقر. وقال أبو زيد: سمعت العرب تقول: أذن موقرة - بضم الميم
وفتح القاف - ومن الحمل يقال: أوقرت الدابة فهي موقرة. ومن السمع
وقرت سمعه - بتشديد القاف - فهو موقر، قال الشاعر:
ولي هامة قد وقر الضرب سمعها (1)
وأساطير واحدها أسطورة، وإسطارة، مأخوذ من سطر الكتاب، قال الراجز:
اني وأسطار سطرن سطرا * لقائل يا نصر نصرا نصرا (2)
وأسطار جمع سطر. ومن قال في واحده: سطر، قال في الجمع أسطر،
وجمع الجمع أساطير، ومعناها الترهات البسابس يعني ليس له نظام. وقال
الأخفش: أساطير جمع لا واحد له، نحو (مذاكير وأبابيل) وقال بعضهم:
واحد الأبابيل إبيل - بتشديد الباء وكسر الألف -.
ومعنى قوله: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه " قد مضى نظائره.
في قوله: " وجعلنا قلوبهم قاسية " (3) أي منعناهم الألطاف التي تبسط المؤمنين
وتبعثهم على الازدياد من الطاعة، لان الله تعالى لما أزاح علتهم علله بالدعاء
والبيان والانذار والترغيب والترهيب فأبوا الا كفرا وعنادا وتمردا على الله
وإعراضا عنه وعما دعاهم إليه، فمنعهم الطافه عقوبة لهم حيث علم أنهم لا ينتفعون
بذلك ولا ينتهون إلى الحق، وألفوا الكفر وأحبوه حتى صاروا كالصم عن
الحق وصارت قلوبهم كأنها في أكنة فجاز أن يقال في اللغة جعل على قلوبهم
أكنة وفي آذانهم وقرا، كما يقول القائل لغيره أفسدت سيفك إذا ترك استعماله
حتى يصدي، وجعلت أظافيرك سلاحا إذا لم يقلمها. ويقال للرجل إذا آيس
من عبده أو ولده بعد الاجتهاد في تأديبه فخلاه وأقصاه قد جعلته بحيث لا يفلح

(1) تفسير الطبري 11: 306
(2) قائله رؤبة ملحقات ديوانه 174 واللسان والصحاح (نصر).
(3) سورة 5 المائدة آية 14.
103

أبدا وتركته أعمى أصما، وجعلته ثورا وحمارا، وإن كان لم يفعل به شيئا من
ذلك ولم يرده بل هو مهموم به محب لخلافه، ولا يجوز أن يكون المراد بذلك
أنه كلفهم ما لا يطيقونه، وذلك لا يليق بحكمته تعالى، ولكانوا غير ملومين في
ترك الايمان حيث لم يمكنوا منه، وكانوا ممنوعين منه، وكانت الحجة لهم
على الله تعالى دون أن تكون الحجة له، وذلك باطل، بل لله الحجة البالغة.
قوله " وان يروا كل آية لا يؤمنون بها " أي كل علامة ومعجزة تدلهم
على نبوة النبي صلى الله عليه وآله لا يؤمنون بها لعنادهم. قال الزجاج (أن يفقهوه) في
موضع نصب لأنه مفعول له، والمعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه
فلما حذفت اللام نصب الكراهة، ولما حذفت الكراهة أنتقل نصبها إلى (أن).
قال أبو علي: كانوا إذا سمعوا القرآن من النبي آذوه ورجموه وشغلوه عن
صلاته، فحال الله بينهم وبين استماع ذلك في تلك الحال التي كانوا عازمين فيها
على ما ذكرناه بأن ألقى عليهم النوم إذا قعدوا يرصدونه فكانوا ينامون فلا
يسمعون قراءته ولا يفقهون أنه قرآن، ولا يعرفون مكانه ليسلم النبي صلى الله عليه وآله
من شرهم وأذاهم فجعل منعه إياهم عن استماع القرآن، وعن التعرف لمكان
النبي صلى الله عليه وآله لئلا يرجموه ولا يؤذوه " أكنة أن يفقهوه " أنه قرآن وأن محمدا
هو الذي يقرأه. وبين أن كل آية يرددها عليهم النبي صلى الله عليه وآله من قبل الله
لا يؤمنون بها، فلهذا منعهم الله من استماع القرآن، لأنهم لم يكونوا يسمعونه
ليستدلوا به على توحيد الله وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وإنما كانوا يريدون
بذلك تعرف مكانه ليؤذوه ويرجموه، فلهذا منعهم الله من استماع القرآن وفهمه
ولو كانوا ممن يؤمن ويقبل ما يردد عليه من الآيات من قبل الله ويستدلوا بها
على نبوة محمد صلى الله عليه وآله ما كان الله يمنعهم من سماع ذلك وفهمه.
وقوله " حتى إذا جاؤوك يجادلونك " يعني أنهم إذا دخلوا إليه بالنهار
إنما يجيئون مجيئ مخاصمين مجادلين رادين مكذبين، ولم يكونوا يجيئون
مجيئ من يريد الرشاد والنظر في الدلالة الدالة على توحيد الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وآله
104

وكانوا يريدون ذلك بأن يقولوا هذا أساطير الأولين، يعنون إنه من كلام
الأولين وحوادثهم. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في بني إسرائيل: " وإذا
قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا.
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا " (1) فمعنى الآيتين واحد
وسبب نزولهما واحد، وإنما أنزلت هذه الآيات لئلا يمتنع النبي من قراءة
القرآن خوفا من أذى الكفار فيفوت المؤمنين سماعه فيغتمون لذلك وتفوتهم
مصلحته بل حثه الله على قراءته وضمن له المنع من أذاهم.
وقوله: " وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها "
كالتعليل لجعله قلوبهم في
أكنة، والوقر في آذانهم، فقال: إنما فعلت هذا لعلمي بأنهم لا يؤمنون وأنه
ليس في سماعهم ذلك الا تطرق الأذى به عليك منهم، وقولهم " ان هذا الا
أساطير الأولين ".
وتحتمل الآية وجها آخر وهو: أنه يعاقب الكفار الذين لا يؤمنون
بعقوبات يجعلها في قلوبهم من نحو الضيق الذي ذكر أنه يخلقه فيها، ويجعل
هذه العقوبات دلالة لمن شاهد قلوبهم واستماعهم من الملائكة، وشاهد منها
هذه العقوبات، على أنهم لا يؤمنون من غير أن يكون ذلك حائلا بينهم وبين
الايمان. ثم أخبر أنها بمنزلة الأكنة على قلوبهم عن فقه القرآن وبمنزلة الوقر
في الاذان على وجه التمثيل له بذلك تجوزا واستعارة. ووجه الشبه بينهما
أن من كانت في نفسه هذه العقوبات معلوم أنه لا يؤمن كما أن من على قلبه
أكنة لا يؤمن، وكما سمي الكفر عما، سماه باسم العمى على وجه التشبيه.
ويحتمل أيضا أن يكون الكفر الذي في قلوبهم من جحد توحيد الله
وجحد نبوة نبيه، سماه كنا تشبيها ومجازا، وإعراضهم عن تفهم القرآن
والاصغاء إليه على وجه الاستعارة وقرأ توسعا، لان مع الكفر والاعراض
لا يحصل الايمان والفهم كما أن مع الكن - والوقر لا يحصلان، ونسب هذا

(1) سورة 17 الاسراء آية 45 - 46.
105

الجعل إلى نفسه، لأنه الذي شبه أحدهما بالاخر وذلك سائغ في اللغة كما يقول
القائل لغيره - إذا أثنى على إنسان وذكر فضائله ومناقبه - جعلته فاضلا خيرا
عدلا، وإن كان لم يفعل به ذلك. وبالعكس من ذلك إذا ذكر مقابحه ومخازيه
وفسقه يحسن أن يقال له: جعلته فاسقا شريرا، وان لم يفعل في الحالين شيئا
من ذلك وكل ذلك مجاز. ومنه قولهم: جعل القاضي فلانا عدلا وجعله ثقة
وجعله ساقطا فاسقا، كل ذلك يراد به الحكم عليه بذلك والإبانة عن حاله كما
قال الشاعر.
جعلتني باخلا كلاب ورب معنى * اني لاسمح كفا منك في اللزب (1)
أي سمتني باخلا. وقوله " ومنهم من يستمع إليك.. " فكنى عنها
بلفظ الواحد حملا له على اللفظ، فلما قال " وجعلنا على قلوبهم أكنة " رده
إلى المعنى فعامله معاملة الجمع، لان لفظة (من) تقع على الواحد وعلى
الجمع حقيقة.
قوله تعالى:
وهم ينهون عنه وينؤون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما
يشعرون (26) آية بلا خلاف.
وقوله " وهم " كناية عن الكفار الذين تقدم ذكرهم عند أكثر المفسرين:
الجبائي والبلخي وغيرهم. وقال قوم: نزلت في أبي لهب، لأنه كان يتبعه في
المواسم فينهى الناس عن أذاه وينأى عن اتباعه. والأول أشبه بسياق الآية.
وقيل: نزلت في أبي طالب، وهذا باطل عندنا، لأنه دل الدليل على إيمانه بما
ثبت عنه من شعره المعروف وأقاويله المشهورة الدالة على اعترافه بالنبي صلى الله عليه وآله.
وقال مجاهد: نزلت في قريش.

(1) مجمع البيان 2: 286. و (كلاب) اسم قبيلة.
106

بين الله تعالى أن هؤلاء الكفار الذين ذكرهم كانوا ينهون عن اتباع القرآن،
وقبوله والتصديق بنبوة نبيه، ويبعدون عنه، لان معنى (ينأون) يبعدون إلى
حيث لا يسمعونه خوفا من أن يسبق إلى قلوبهم الايمان به والعلم بصحته.
وقوله " وان يهلكون الا أنفسهم " معناه ليس يهلكون إلا أنفسهم
" وما يشعرون " انهم ما يهلكون بنهيهم عن قبوله، وبعدهم عنه " الا أنفسهم "
لأنهم لا يعلمون اهلاكهم إياها بذلك وإهلاكهم إياها هو ما يستحقون به الصيرورة
إلى العذاب الأبدي في النار. وهل هناك هلاك أعظم من ذلك؟!. والنأي:
البعد " ينأون " أي يتباعدون عنه، تقول نأيت عن الشئ أنأى نأيا، إذا
بعدت عنه. والنؤي حاجز يجعل حول البيت من الخوف لان لا يدخله الماء
من خارج يحفر حفرة حول البيت فيجعل ترابها على شفير الحفيرة، فيمنع
التراب الماء أن يدخل من خارج، وهو مأخوذ من النأي، أي تباعد الماء
عن البيت.
وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال معرفة الله ضرورة، وأن من
لا يعرف الله ولا يعرف نبيه لا حجة عليه، لان الله بين أن هؤلاء الكفار قد
أهلكوا أنفسهم بنهيهم عن قبول القرآن وتباعدهم عنه وانهم لا يشعرون
ولا يعلمون باهلاكهم أنفسهم بذلك، فلو كان من لا يعرف الله ولا نبيه ولا دينه
لا حجة عليه، لكانوا هؤلاء معذورين ولم يكونوا هالكين وذلك خلاف ما نطق
به القرآن.
قوله تعالى:
ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب
بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27) آية بلا خلاف.
قرأ حمزة ويعقوب وحفص " ولا نكذب.. وتكون " بالنصب فيهما،
107

وافقهم ابن عامر في " ونكون " الباقون بالرفع فيهما، فمن قرأ بالرفع احتملت
قراءته أمرين:
أحدهما - أن يكون معطوفا على نرد، فيكون قوله: " نرد ولا نكذب
.. ونكون " داخلا في التمني ويكون قد تمني الرد وألا يكذب وأن يكون
من المؤمنين، وهو اختيار البلخي والجبائي والزجاج.
والثاني - أن يكون مقطوعا عن الأول، ويكون تقديره يا ليتنا نرد
ولا نكذب كما يقول القائل: دعني ولا أعود، أي فاني ممن لا يعود، فإنما
يسألك الترك، وقد أوجب على نفسه ألا يعود ترك أو لم يترك. ولم يقصد
أن يسأل أن يجمع له الترك وأن لا يعود. وهذا الوجه الذي اختاره أبو عمرو
في قراءة جميع ذلك بالرفع، فالأول الذي هو الرد داخل في التمني وما بعده
على نحو دعني، ولا أعود، فيكونون قد أخبروا على النيات أن لا يكذبوا
ويكونوا من المؤمنين.
واستدل أبو عمرو على خروجه من المتمني بقوله " وإنهم لكاذبون " فقال
ذلك يدل على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم، ولم يتمنوا، لان التمني لا يقع
فيه الكذب وإنما يقع في الخبر دون التمني.
ومن نصب " نكذب.. ونكون " أدخلهما في التمني، لان التمني
غير موجب، فهو كالاستفهام والأمر والنهي والعرض، في انتصاب ما بعد
ذلك كله من الافعال إذا دخلت عليها الفاء أو الواو على تقدير ذكر المصدر من
الفعل الأول، كأنه قال: يا ليتنا يكون لنا رد، وانتفاء للتكذيب وكون
من المؤمنين.
ومن نصب " ونكون " فحسب، ورفع " نرد ولا نكذب " يحتمل
أيضا وجهين:
أحدهما - أن يكون داخلا في التمني، فيكون في المعنى كالنصب.
والثاني - انه يخبر على النيات أن لا يكذب رد أولم يرد.
108

ومن نصب " ولا نكذب... ونكون " جعلهما جميعا داخلين في التمني
كما أن من رفع وعطفه على التمني كان كذلك. فان قيل: كيف يجوز أن
يتمنوا الرد إلى الدنيا وقد علموا عند ذلك انهم لا يردون؟
قيل عن ذلك أجوبة:
أحدها - قال البلخي: إنا لا نعلم أن أهل الآخرة يعرفون جميع أحكام
الآخرة، وإنما نقول: انهم يعرفون الله بصفاته معرفة لا يتخالجهم فيها الشك
لما يشاهدونه من الآيات والعلامات الملجئة لهم إلى المعارف. وأما التوجع
والتأوه التمني للخلاص والدعاء بالفرج يجوز أن يقع منهم وأن تدعوهم
أنفسهم إليه. وقال أبو علي الجبائي والزجاج: يجوز أن يقع منهم التمني
للرد، ولان يكونوا من المؤمنين، ولا مانع منه. وقال آخرون: التمني قد
يجوز لما يعلم أنه لا يكون ألا ترى أن المتمني يتمنى أن لا يكون فعل ما قد
فعله ومضى وقته، وهذا لا حيلة فيه، فعلى هذا قوله في الآية الثانية " وانهم
لكاذبون " يكون حكاية حال منهم في دار الدنيا، كما قال: " وكلبهم باسط
ذراعيه " (1) وكما قال " وان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة " (2) وإنما هو
حكاية للحالة الآتية.
وقوله " ولو ترى إذ وقفوا على النار " أمال في الموضعين أبو عمرو وغيره
وهي حسنة في أمثال ذلك، لان الراء بعده الألف مكسورة وهو حرف كأنه
مكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين، فحسن لذلك الإمالة. وقوله
" إذ وقفوا " يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها - أن يكون عاينوها ووردوها قبل أن يدخلوها. ويجوز أن
يكونوا أقيموا عليها نفسها.
والثاني - أن يكونوا عليها وهي تحتهم.
وثالثها - أن يكون معناه دخلوها فعرفوا مقدار عذابها كما يقول القائل:

(1) سورة 18 الكهف آية 18
(2) سورة 16 النحل آية 124.
109

قد وقفت على ما عند فلان، أي فهمته وتبينته. قال الكسائي: يقال: وقفت
الدابة وغيرها إذا حبستها - بغير ألف وهي لغة القرآن، وهو الأفصح،
وكذلك وقفت الأرض إذا جعلتها صدقة. وقال أبو عمرو ما سمعت أحدا من
العرب يقول: أوقفت الشئ بالألف الا أني لو رأيت رجلا بمكان، فقيل له
ما أوقفك هاهنا لرأيته حسنا.
وأستدل أبو علي بهذه الآية على أن القدرة قبل الفعل خلافا للمجبرة بأن
قال تمنوا الرد إلى دار الدنيا إلى مثل الحالة التي كانوا عليها، ولا يجوز من
عاقل أن يتمنى أن يرد إلى الدنيا ويخلق فيه القدرة الموجبة للكفر، لان ذلك
لا يخلصه من العذاب بل يؤديه إلى حالته التي كان عليها. وهذا ضعيف، لان
لقائل أن يقول: إنهم تمنوا الرد ورفع التكذيب وحصول الايمان بأن تحصل
لهم قدرة الايمان، ولا تحصل لهم قدرة التكذيب، وليس في الآية أنهم سألوا
الرد إلى الحالة التي كانوا عليها، فلا متعلق في ذلك. واستدل أيضا على أنه
إذا كان المعلوم من حال الكافر أنه يؤمن وجب تبقيته بأن قال: أخبر الله أنه
إنما لم يردهم لأنهم " لوردوا لعادوا لما نهوا عنه " وظاهر ذلك يقتضى أنه لو علم
أنه لو ردهم لامنوا، لوجب أن يردهم، وإذا وجب أن يردهم إذا علم أنهم
يؤمنون بأن يجب تبقيتهم إذا علم أنهم يؤمنون أولى. وهذا أيضا ضعيف.
لأن الظاهر أفاد أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وليس فيه أنهم لو ردوا
لامنوا أو ما حكمهم بل هو موقوف على الدلالة، لأنه دليل الخطاب على أن
غاية ما فيه أنه يفيد أنه لو علم من حالهم أنه متى ردهم آمنوا يردهم، فمن أين
أن ذلك واجب عليه؟! وهل هذا الا كقوله " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا "
في أنه لا خلاف بين أهل العدل أنه كان يجوز له أن يعذب وان لم يبعث رسولا
بأن لا تقتضي المصلحة بعثته ويقتصر بهم على التكليف العقلي، فإنهم متى عصوا
كان له أن يعذبهم فلا شبهة في الآية.
قوله تعالى:
بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا
110

عنه وإنهم لكاذبون آية (28).
قوله " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " معناه من عقاب الله فعرفوه
معرفة من كانوا يسترونه عنه. وقال قوم: بدا لبعضهم من بعض ما كان
علماؤهم يخفونه عن جهالهم وضعفائهم مما في كتبهم فبدا للضعفاء عنادهم.
وقيل: معناه بل بدا من أعمالهم ما كانوا يخفونه، فأظهره الله وشهدت به
جوارحهم. وقال الزجاج: ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفونه من
أمر البعث والنشور، لان المتصل بهذا قوله " وقالوا إن هي الا حياتنا الدنيا
نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " لنجزى على المعاصي.
وقوله: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " قال بعضهم: لو ردوا ولم
يعاينوا العذاب لعادوا كأنه ذهب إلى أنهم لم يشاهدوا ما يضطرهم إلى
الارتداع، وهذا ضعيف، لان هذا القول يكون منهم بعد أن يبعثوا ويعلموا
أمر القيامة ويعاينوا النار بدلالة قوله: " ولو ترى إذ وقفوا على النار " وهذه
الآيات كلها في المعاندين، لأنه قال في أولها " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم " ثم قال بعد ذلك " وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها " وقال
أبو علي الجبائي: الآية مخصوصة بالمنافقين وظهر لهم ما كانوا يخفونه من كفرهم
الذي كانوا يضمرونه. قال والآية الأولى وإن كان ظاهرها يقتضي جميع
الكفار والمنافقون داخلون فيهم فيجوز أن يخبر عنهم بهذا الحكم. قال:
ويحتمل أن يكون أراد بها الكافرين الذين كان النبي يخوفهم بالعذاب على
كفرهم فلم يؤمنوا بذلك لكن دخلهم الشك والخوف وأخفوه عن ضعفائهم
وعوامهم، فإذا كان يوم القيامة ظهر ذلك وان أخفوه في الدنيا فيتمنون حينئذ
الرد إلى حال الدنيا. وقيل: " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " معنى
" يخفون " يجدونه خافيا. ومعنى " بل بدا " ليس تمنيهم الرجعة واظهار الإنابة
حقا للايمان الصحيح، بل لما شاهدوه من العذاب الأليم.
111

وقوله " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " معناه إنهم لو ردوا إلى حال
التكليف والى مثل ما كانوا عليه في الدنيا من المهلة والتمكين من الايمان
والتوبة والقدرة على ذلك، لعادوا لمثل ما كانوا عليه من الكفر الذي نهوا عنه.
وقوله تعالى " وانهم لكاذبون " قد بينا ان المراد به الحكاية عن حالهم في الدنيا
وأنهم كانوا فيها كاذبين في كفرهم وتكذيبهم رسول الله والقرآن. وقال
البلخي هذا الكذب وقع منهم في الحال وان لم يعلموه كذبا، لأنهم أخبروا عن
عزمهم أنهم لو ردوا لكانوا مؤمنين. وقد علم الله أنهم لو عادوا إلى الدنيا
لعادوا إلى كفرهم، وكان إخبارهم بذلك كذبا، وان لم يعلموه كذلك، لان
مخبره على خلاف ما أخبروه وهذا الذي ذكروه ضعيف، لأنهم إذا أخبروا عن
عزمهم على الايمان ان ردوا أو كانوا عازمين عليه لا يكونون كاذبين، لان مخبر
خبرهم العزم، وهو على ما أخبروا فكيف يكذبون فيه، والأول أقوى.
فأما الكذب مع العلم بأنه ليس كذلك، فلا خلاف بين أبي علي وأبي القاسم
أنه لا يجوز أن يقع منهم في الآخرة، لان أهل الآخرة ملجؤون إلى ترك القبيح،
لأنهم لو لم يكونوا ملجئين لوجب أن يكونوا مزجورين من القبيح بالأمر والنهي
والثواب والعقاب، وذلك يوجب أن يكون ذاك التكليف، ولا خلاف أنه ليس
هناك تكليف. وإن لم يزجروا ولم يلجؤا إلى تركه كانوا مغريين بالقبيح وذلك
فاسد. فإذا لا يجوز أن يقع منهم القبيح بحال.
وقال بعض المفسرين سئل النبي صلى الله عليه وآله فقيل له: ما بال أهل النار عملوا
في عمر قصير بعمل أهل النار فخلدوا في النار؟ وأهل الجنة عملوا في عمر قصير
بعمل أهل الجنة فخلدوا في الجنة؟! فقال: (ان الفريقين كان كل واحد منهما
عازما على أنه لو عاش أبدا عمل بذلك).
قوله تعالى:
وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29)
112

ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى
وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (30) آيتان
بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن الكفار الذين ذكرهم في الآية الأولى،
وبين أنهم قالوا لما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله إلى الايمان والاقرار بالبعث والنشور
وخوفهم من العقاب في خلافه، وحذرهم عذاب الآخرة والحشر والحساب على
سبيل الانكار لقوله والتكذيب له " ما هي الا حياتنا الدنيا " وعنوا أنه لا حياة
لنا في الآخرة على ما ذكرت، وإنما هي هذه حياتنا التي حيينا بها في الدنيا
وانا لسنا بمبعوثين إلى الآخرة بعد الموت. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله فقال " ولو
ترى إذ وقفوا على ربهم " يعني على ما وعدهم ربهم من العذاب الذي يفعله
بالكفار في الآخرة والثواب الذي يفعله بالمؤمنين، وعرفوا صحة ما كان اخبرهم
به من الحشر والحساب. وقال لهم ربهم عند مشاهدتهم ووقوفهم عليه " أليس
هذا بالحق؟ قالوا بلى وربنا " مقرين بذلك مذعنين له وان كانوا قبل ذلك في
الدنيا ينكرونه، قال حينئذ " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " بذلك.
ويحتمل أن يكون معنى " إذ وقفوا على ربهم " أنهم حبسوا ينتظر بهم ما يأمر
كقول القائل: احبسه على أمره به. وقد ظن قوم من المشبهة أن قوله " إذ
وقفوا على ربهم " أنهم يشاهدونه، وهذا فاسد، لان المشاهدة لا تجوز الا
على الأجسام أو على ما هو حال في الأجسام، وقد ثبت حدوث ذلك أجمع،
فلا يجوز أن يكون تعالى بصفة ما هو محدث. وقد بينا أن المراد بذلك:
وقوفهم على عذاب ربهم وثوابه، وعلمهم بصدق ما أخبرهم به في دار الدنيا
دون أن يكون المراد به رؤيته تعالى ومشاهدته، فبطل ما ظنوه، وأيضا فلا
خلاف أن الكفار لا يرون الله، والآية مختصة بالكافرين فكيف يجوز أن يكون
113

المراد بها الرؤية! فلا بد للجمع من التأويل الذي بيناه. ويجوز أن يكون
المراد بذلك إذا عرفوا ربهم، لأنه سيعرفهم نفسه ضرورة في الآخرة، وتسمى
المعرفة بالشئ وقوفا عليه يقول القائل: وقفت على معنى كلامك، والمعنى
علمته، وإذا كان الكفار لا يعرفون الله في الدنيا وينكرونه، عرفهم الله نفسه
ضرورة، فذلك يكون وقوفهم عليه، فإذا عرفوه قال لهم " أليس هذا بالحق "
يعني ما وعدهم به، فيقولون " بلى " لأنهم شاهدوا العقاب والثواب ولم
يشكوا فيهما.
قوله تعالى:
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة
بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم
على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى أنه خسر هؤلاء الكفار " الذين كذبوا بلقاء الله " يعني
الذين كذبوا بما وعد الله به من الثواب والعقاب وجعل لقاءهم لذلك لقاء له
تعالى مجازا، كما يقول المسلمون لمن مات منهم: قد لقي الله وصار إليه. وإنما
يعنون: لقي ما يستحقه من الله وصار إلى الموضع الذي لا يملك الامر فيه
سواه، كما قال " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه
وأنتم تنظرون " (1) والموت لا يشاهد، وإنما أراد انكم كنتم تمنون الموت
من قبل ان تلقوا أسبابه، فقد رأيتم أسبابه وأنتم تنظرون، فجعل لقاء
أسبابه لقاء ه.
وقوله " حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة " كل شئ أتى فجأة، فقد بغت
يقال: قد بغته الامر يبغته بغتا وبغتة إذا أتاه فجأة قال الشاعر:

(1) سورة 3 آل عمران آية 143.
114

ولكنهم ماتوا ولم أخش بغتة * وافظع شئ حين يفجؤك البغت (2)
وقوله " قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها " قد علم أن الحسرة لا تدعى
وإنما دعاؤها تنبيه للمخاطبين. و (الحسرة) شدة الندم حتى يحسر النادم كما
يحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد. قال الزجاج: العرب إذا اجتهدت
في المبالغة في الاخبار عن أمر عظيم يقع فيه جعلته نداء، فلفظه لفظ ما ينبه،
والمنبه به غيره، كقوله " يا حسرة على العباد " (3) وقوله " يا حسرتي على ما
فرطت " (4) و " يا ويلتا أألد وأنا عجوز " (5) و " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا
هذا " (6)، فهذا أبلغ من أن يقول: أنا أتحسر على العباد وأبلغ من أن يقول:
الحسرة علينا في تفريطنا. قال سيبويه: إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت احضر
وتعال يا عجب، فإنه من أزمانك. وتأويل " يا حسرتنا " انتبهوا على أنا قد
خسرنا. وقوله " على ما فرطنا فيها " يعني قدمنا العجز. وقيل معناه ما ضيعنا
فيها يعني في الساعة. وإنما يحسروا على تفريطهم في الايمان والتأهب لكونها
بالأعمال الصالحة.
وقوله " وهم يحملون أوزارهم " يعني ثقل ذنوبهم، وهذا مثل جائزان
يكون جعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يتحمل، لان الثقل قد يستعمل
في الوزن وقد يستعمل في الحال تقول في الحال: قد ثقل علي خطاب فلان،
ومعناه كرهت خطابه كراهة اشتدت علي. ويحتمل أن يكون المراد بالأوزار
العقوبات التي استحقوها بالذنوب والعقوبات قد تسمى أوزارا، فبين أنه لثقلها
عليهم يحملونها على ظهورهم. وذلك يدل على عظمها. و (الوزر) الثقل في
اللغة اشتقاقه من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به. ومنه قيل: وزير،

(2) قائله: يزيد بن ضبة الثقفي. اللسان (بغت) ومجاز القرآن 1: 193
(3) سورة 36 يس آية 30
(4) سورة 39 الزمر آية 56
(5) سورة 11 هود آية 72
(6) سورة 36 يس آية 52.
115

كأنه يعتصم الملك به، ومنه قوله " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي " (3)
وقال " وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا " (4). وقوله " الا ساء ما يزرون "
يعني بئس الشئ شيئا يزرونه أي يحملونه، وقد بينا عمل (بئس، ونعم) فيما
مضى. ومثله " ساء مثلا القوم " (5) ومعناه ساء مثلا مثل القوم. وقال
بعضهم: معنى " يحملون أوزارهم على ظهورهم " وصف افتضاحهم في الموقف
بما يشاهدونه من حالهم وعجزهم عن عبور الصراط كما يعبره المخفون من
المؤمنين. ومعنى قوله " ألا ساء " ما ينالهم جزاء لذنوبهم واعمالهم الردية إذ
كان ذلك عذابا ونكالا.
وقوله " يزرون " من وزر يزر وزرا إذا أثم. وقيل أيضا، وزر، فهو موزور
إذا فعل به ذلك. ومنه الحديث في النساء يتبعن جنازة قتيل لهن (أرجعن
موزورات غير مأجورات) والعامة تقول مازورات.
قوله تعالى:
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين
يتقون أفلا تعقلون (32) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر " ولدار الآخرة " بلام واحدة مع تخفيف الدال. وخفض
(الآخرة) على الإضافة. الباقون بلامين وتشديد الدال وضم الآخرة. وقرأ
أهل المدينة وابن عامر وحفص ويعقوب " تعقلون " بالتاء هاهنا وفي (الأعراف
ويوسف) وافقهم يحيى والعليمي في (يوسف). ومن قرأ بلامين وشدد الدال
جعل (الآخرة) صفة ل‍ (وللدار)، وأجراها في الاعراب مجراها. واستدل
على كونها صفة (للدار) بقوله: " وللآخرة خير لك من الأولى " (6) فاقامتها
مقامها يدل على أنها هي وليس غيرها. فيجوز أن يضيف إليها، وقووا ذلك

(3) سورة 20 طه آية 29 - 30
(4) سورة 25 الفرقان آية 35
(5) سورة 7 الأعراف آية 176
(6) سورة 93 الضحى آية 4.
116

بقوله " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " (2) وقوله " تلك الدار الآخرة " (3)
ومن قرأ بلام واحدة وخفف الدال فإنه لم يجعل " الآخرة " صفة (للدار) لان
الشئ لا يضاف إلى نفسه لكنه جعلها صفة للساعة، وكأنه قال:
ولدار الساعة الآخرة، وجاز وصف الساعة ب‍ (الآخرة) كما
وصف اليوم بالاخر في قوله: " وارجوا اليوم الآخر " (4) وحسن
إضافة (الدار) إلى الآخرة ولم يقبح من حيث استقبح إقامة الصفة مقام
الموصوف، لان الآخرة صارت كالأبطح والأبرق، ألا ترى أنه قد جاء " وللآخرة
خير لك من الأولى (5) واستعملت استعمال الأسماء ولم تكن مثل الصفات
التي لم تستعمل استعمال الآخرة. ومثل (الآخرة) في أنها استعملت استعمال
الأسماء قولهم: الدنيا، لما استعملت استعمال الأسماء حسن أن لا تلحق لام
التعريف في نحو قول الشاعر: في سعي دنيا طال ما قد مدت
وقال الفراء: جعلت (الدار) هاهنا اسما و (الآخرة) صفتها، وأضيفت
في غير هذا الموضع. ومثله مما يضاف إلى مثله قوله: " حق اليقين " (6) والحق
هو اليقين، ومثله قولهم بارحة الأولى، ويوم الخميس، فيضاف الشئ إلى
نفسه إذا اختلف اللفظ، وإذا اتفق لم يجز ذلك، لا يقولون حق الحق ولا
يقين اليقين، لأنهم يتوهمون إذا اختلفا في اللفظ أنهما مختلفان في المعنى.
بين الله تعالى في هذه الآية أن ما يتمتع به في الدنيا بمنزلة اللعب واللهو،
اللذين لا عاقبة لهما في المنفعة ويقتضي زوالهما عن أهلها في أدنى مدة وأسرع
زمان، لأنه لاثبات لهما ولا بقاء، فأما الاعمال الصالحات، فهي من أعمال
الآخرة وليست بلهو ولا لعب. وبين ان الدار الآخرة وما فيها من أنواع النعيم
والجنان خير للذين يتقون معاصي الله، لأنها باقية دائمة لا يزول عنهم نعيمها

(2) سورة 29 العنكبوت آية 64، 36
(3) سورة 28 القصص آية 83
(4) سورة 29 العنكبوت آية 64، 36
(5) سورة 93 الضحى آية 4
(6) سورة 56 الواقعة آية 5.
117

ولا يذهب عنهم سرورها.
وقوله " أفلا تعقلون " أن ذلك كما وصفت لهم فيزهدوا في شهوات الدنيا
ويرغبوا في نعيم الآخرة بفعل ما يؤديهم إليه من الأعمال الصالحة.
ومن قرأ (يعقلون) بالياء، فلانه قد تقدم ذكر الغيبة في قوله " للذين
يتقون " والتقدير أفلا يعقل الذين يتقون ان الدار الآخرة خير لهم من هذه
الدار فيعملوا بما ينالون به من النعيم الدائم. ومن قرأ بالتاء قصد خطاب
جميع الخلق المواجهين به.
والعقل هو الامساك عن القبيح وقصر النفس وحبسها على الحسن والحجا
أيضا احتباس وتمكث، قال الشاعر:
فهن يعكفن به إذا حجا (1)
وانشد الأصمعي
حيث يحجا مطرق بالفالق (2)
حجا أقام بالمكاره، والحجا مصدر كالشبع، ومنه الحجيا اللغز للتمكث
الذي يلقى عليه حتى يستخرجها. قال أبو زيد: جمع حجى حجيات، فجاءت
الحجيا مصغرة كالثريا والجديا، والنهى يحتمل أن يكون جمعا بدلالة قوله
" لأولي النهى " (3) لأنه اضافه إلى الجمع. ويجوز أن يكون مفردا في موضع
الجمع، وهو في معنى ثبات، وحسن. ومنه النهي، والنهى والتنهية للمكان
الذي ينتهي إليه الماء فينتقع فيه لتسفله ويمنعه ارتفاع ما حوله من أن يسيح
فيذهب على وجه الأرض.
قوله تعالى:
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك

(1) قائله العجاج. اللسان (حجا) وعجزه (عكف النبيط يلعبون الفنزجا)
(2) قائله عمار بن أيمن الرياني. اللسان (حجا).
(3) سورة 20 طه آية 54، 128.
118

ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33) آية بلا خلاف.
قرأ نافع والكسائي والأعشى الا النفار " لا يكذبوك " بسكون الكاف
وتخفيف الدال، وهو المروي عن علي (ع) وعن أبي عبد الله (ع). الباقون
بفتح الكاف وتشديد الذال من التكذيب. وقرأ نافع " انه ليحزنك " بضم
الياء وكسر الزاي. الباقون بفتحها وضم الزاي. قال أبو علي الفارسي (فعل،
وفعلته) جاء في حروف، والاستعمال في (حزنته) أكثر من (أحزنته) فإلى
كثرة الاستعمال ذهب عامة القراء. وقال تعالى " اني ليحزنني أن تذهبوا
به " (1) ويقال حزن يحزن حزنا وحزنا، قال تعالى " ولا تحزن عليهم " (2)
ثم قال: " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (3) قال سيبويه: قالوا (حزن
الرجل، وحزنته) قال وزعم الخليل: أنك حيث قلت (حزنته) لم ترد ان تقول
جعلته حزينا كما أنك حيث قلت أدخلته أردت جعلته داخلا، ولكنك أردت ان
تقول جعلت فيه حزنا كما قلت كحلته أي جعلت فيه كحلا، ودهنته جعلت فيه
دهنا، ولم يرد ب‍ (فعلته) هذا تعدية قوله حزن، ولو أردت ذلك لقلت أحزنته
ومثل ذلك ستر الرجل وسترت عليه، فإذا أردت تغيير ستر الرجل قلت أسترت
كما تقول فزع وأفزعته.
وحجة نافع أنه أراد تغيير (حزن) فنقله بالهمزة. وقال الخليل: إذا أردت
تغيير (حزن) قلت (أحزنته) فدل ذلك على أن (أحزن) مستعمل وإن كان
(حزنته) أكثر. وحكى أبو زيد: أحزنني الامر احزانا، وهو يحزنني، ضموا
الياء. وقال سيبويه: قال بعض العرب: أفنيت الرجل وأحزنته وأرجعته
واعورت عينه، أي جعلته حزينا وفانيا، فغيروا ذلك كما فعلوا بالباب الأول.

(1) سورة 12 يوسف آية 13.
(2) سورة 15 الحجر آية 88 والنحل 16 آية 127 والنمل 27 آية 70
(3) سورة 2 البقرة آية 38، 62، 112، 262، 274، و 5 المائدة آية 72
و 6 الانعام آية 48 و 7 الأعراف آية 34 و 10 يونس آية 62 وغيرها.
119

وقوله " قد نعلم أنه " إنما كسرت الهمزة، لان في خبرها لاما للتأكيد.
لما علم الله تعالى أن النبي (ص) يحزنه تكذيب الكفار له وجحدهم نبوته
سلاه عن ذلك بأن قال " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون "
ومن قرأ بالتخفيف قال: معناه لا يلفونك كاذبا، كما يقولون: سألته فما
أبخلته، وقاتلته فما أجبنته أي ما وجدته بخيلا ولا جبانا. وقال أبو عبد الله (ع)
معنى " لا يكذبونك " لا يأتون بحق يبطلون به حقك. وقال الفراء: معنى
التخفيف لا يجعلونك كذابا، وإنما يريدون أن ما جئت به باطل، لأنهم لم يفتروا
عليك كذبا، فيكذبوا لأنهم لم يعرفوه (ص) وإنما قالوا: ان ما جئت به
باطل لا نعرفه من النبوة، فأما التكذيب بأن يقال له كذبت، وقال بعض أهل اللغة
: هذا المعنى لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يصدقوه ويكذبوا ما جاء به،
وهو ان الله أرسلني إليكم وأنزل علي هذا الكتاب وهو كلام ربي. ومن قرأ
بالتشديد احتمل وجوها:
أحدها - انهم لا يكذبونك بحجة يأتون بها أو برهان يدل على كذبك،
لان النبي صلى الله عليه وآله إذا كان صادقا فمحال أن يقوم على كذبه حجة، ولم يرد أنهم
لا يكذبونه سفها وجهلا به.
والثاني - أنه أراد فإنهم لا يكذبونك بل يكذبوني لأنا من كذب
النبي صلى الله عليه وآله فقد كذب الله، لان الله هو المصدق له كما يقول القائل لصاحبه:
فلان ليس يكذبك، وإنما يكذبني دونك، يريد ان تكذيبه إياك راجع إلى
تكذيبي، لأني أنا المخبر لك وأنت حال عني.
وثالثها - أن يكون أراد انهم لا ينسبونك إلى الكذب لأنك كنت معروفا
عندهم بالأمانة والصدق فإنه صلى الله عليه وآله كان يدعى فيهم الأمين قبل الوحي، وكان
معروفا بينهم بذلك لكنهم لما أتيتهم بالآيات جحدوها بقصدهم التكذيب بآيات
الله وجحدها لا لتكذيبك، قال أبو طالب:
ان ابن آمنة الأمين محمدا
120

ورابعها - أن تكون الآية مخصوصة بقوم معاندين كانوا عارفين بصدقه
ولكنهم يجحدونه عنادا وتمردا. وقال الحسن: معناه " نعلم أنه ليحزنك الذي
يقولون " انك ساحر وانك مجنون فإنهم لا يكذبونك، لان معرفة الله في قلوبهم
بأنه واحد " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ".
وخامسها - قال الزجاج: لا يكذبونك، لا يقدرون أن يقولوا لك فيما
أنبأت به بما في كتبهم كذبت. قال أبو علي: يجوز أن يكون المعنى - فيمن
ثقل - قلت له كذبت، مثل زنيته وفسقته إذا نسبته إلى الزنا والفسق. و (فعلت)
جاء على وجوه نحو خطأته أي نسبته إلى الخطأ، وسقيته ورعيته، أي قلت له
سقاك الله ورعاك، وقد جاء في هذا المعنى أفعلته، قالوا: أسقيته، أي قلت له
سقاك الله، قال الشاعر:
وأسقيته حتى كاد مما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه (1)
فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحدا، وان اختلف اللفظان،
كما تقول: قللت وكثرت وأقللت وأكثرت بمعنى واحد حكاه سيبويه، وقال
الكميت:
فطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا مسيئ ومذنب (2)
وحكى الكسائي عن العرب أكذبت الرجل إذا أخبرت انه جاء بكذب،
وكذبته إذا أخبرت انه كذاب بقوله كذبته إذا أخبرت انه جاء بكذب، كقولهم:
أكفرته إذا نسبوه إلى الكفر، وكذبته أخبرته أنه كذاب مثل فسقته إذا أخبرت
انه فاسق.
وقوله " ولكن الظالمين " يعني هؤلاء الكفار " بآيات الله " يعني القرآن
والمعجزات يجحدون ذلك بغير حجة، سفها وجهلا وعنادا.

(1) مقاييس اللغة 1: 172.
(2) قد مر هذا البيت في 1: 116.
121

قوله تعالى:
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا
حتى أتيم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ
المرسلين (34) آية بلا خلاف.
سلى الله تعالى بهذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله بان اخبر ان الكفار قد كذبوا رسلا من
قبلك، وصبر الرسل على تكذيبهم وعلى ما نالهم من أذاهم، وتكذيب الكفار
لهم، حتى إذا جاء نصر الله إياهم على المكذبين، فمنهم من نصرهم عليهم بالحرب
ومكنهم من الظفر بهم حتى قتلوهم، ومنهم من نصرهم عليهم بان أهلكهم
واستأصلهم كما أهلك عادا وثمودا وقوم نوح ولوط، وغيرهم.
فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله بالصبر على كفار قومه وأذاهم إلى أن يأتيه نصره
كما صبرت الأنبياء. وقوله " لا مبدل لكلمات الله " معناه لا أحد يقدر على
تكذيب خبر الله على الحقيقة، ولا على إخلاف وعده فان ما أخبر الله به ان
يفعل بالكفار، فلابد من كونه لا محالة، وما وعدك به من نصره فلابد من
حصوله، لأنه لا يجوز الكذب في اخباره، ولا الخلف في وعده. وقيل:
معناه انه لا مبطل لحججه وبراهينه ولا مفسد لأدلته.
وقوله " ولقد جاءك من نبأ المرسلين " معناه انه لا تبديل لخبر الله ولا خلف
لذلك ولا تكذيب، وان ما أخبر الله به ان ينزله بالكفار فإنه سيفعل بهم كما
فعل بأمم من تقدم من الأنبياء الذين أنزل الله عليهم العذاب واستأصلهم
بتكذيبهم أنبياءهم وعرفك أخبارهم على صحتها.
قوله تعالى:
وإن كان كبر عليك إعراضهم فان استطعت أن تبتغي
نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله
122

لجمعهم على؟؟ فلا تكونن من الجاهلين (35) آية بلا خلاف
خاطب الله تعالى بهذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله فقال له " إن كان كبر عليك " وعظم
عندك " اعراضهم " أي اعراض هؤلاء الكفار عما أتيتهم به من القرآن والمعجزات
وامتناعهم من اتباعك والتصديق لك وكنت حزينا لذلك " فان استطعت " وقدرت
أو تهيأ لك ان تبتغي نفقا ان تتخذ في جوف الأرض مسكنا وهو النفق " في
الأرض " إذا كان له منفذ " أو سلما في السماء " أو ان تصعد إلى السماء بسلم
" فتأتيهم بآية " يعني بآية تلجئهم إلى الايمان وتجمعهم عليه وعلى ترك الكفر
فافعل ذلك. وحذف فافعل لدلالة الكلام عليه، كما تقول: ان رأيت أن تقوم
ومعناه فقم، وان أراد غير ذلك لم يجز ان يسكت الا بعد ان يأتي بالجواب،
لأنه ان أراد ان أردت ان تقوم تصب خيرا فلابد من الجواب، ولم يرد بذلك
آية يؤمنون عندها مختارين، لأنه تعالى فعل بهم الآيات التي تزاح علتهم بها
ويتمكنون معها من فعل الايمان لأنه لو علم تعالى أنه إذا فعل بهم آية من الآيات
يؤمنون عندها مختارين وجب ان يفعلها بهم. وبين انه فعل بهم جميع ما لا ينافي
التكليف وهم لا يؤمنون كما قال " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " (1) الآية،
وكما قال " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما اتبعوا قبلتك " (2) وإنما
لم يفعل ما يلجئهم إلى الايمان، لان ذلك ينافي التكليف ويسقط استحقاق
الثواب الذي هو الغرض بالتكليف، وإنما أراد الله تعالى ان يبين لنبيه صلى الله عليه وآله
انه لا يستطيع هذا ولا يقدر عليه، فلا ينبغي ان يلزم نفسه الغم والجزع لكفرهم
واعراضهم عن الايمان والتصديق به، وجعل ذلك عزاء لنبيه صلى الله عليه وآله وتسلية له
ثم اخبر انه لو شاء ان يجمعهم على الايمان على وجه الالجاء لكان على
ذلك قادرا لكنه ينافي ذلك الغرض بالتكليف، وجرى ذلك مجرى قوله " ان

(1) سورة 6 الانعام آية 111
(2) سورة 2 البقرة آية 145.
123

نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " (3) فإنه أراد بذلك
الاخبار عن قدرته وانه لو شاء الجاءهم إلى الايمان لكان عليه قادرا. ولا يدل
ذلك على أنه لم يشأ منهم الايمان على وجه الاختيار منهم أو لم يشأ ان يفعل
ما يؤمنون عنده مختارين، لان الله تعالى قد شاء منهم الايمان على هذا الوجه
وإنما أفاد نفي المشيئة لما يلجئهم إلى الايمان، لأنه متى ألجأهم إليه لم يكن
ذلك ايمانا يستحق عليه الثواب، والغرض بالآية ان يبين تعالى ان الكفار لم
يغلبوا الله بكفرهم ولا قهروه بخلافه وانه لو أراد أن يحول بينهم وبينه لفعل،
لكنه يريد أن يكون ايمانهم على وجه يستحقون به الثواب، ولا ينافي التكليف.
وقوله " فلا تكونن من الجاهلين " إنما هو نهي محض عن الجهل ولا يدل
ذلك على أن الجهل كان جائزا منه صلى الله عليه وآله بل يفيد كونه قادرا عليه، لأنه تعالى
لا يأمر ولا ينهي الا بما يقدر المكلف عليه، ومثله قوله " لئن أشركت ليحبطن
عملك " (4) وإن كان الشرك لا يجوز عليه لكن لما كان قادرا عليه جاز أن ينهاه
عنه. والمراد هاهنا فلا تجزع ولا تحزن لكفرهم واعراضهم عن الايمان، وانهم
لم يجمعوا على التصديق بك فتكون في ذلك بمنزلة الجاهلين الذين لا يصبرن
على المصائب، ويأثمون لشدة الجزع.
والنفق: الطريق النافذ في الأرض والنافقاء ممدودا وجر حجر اليربوع
يحفره من باطن الأرض إلى جلدة الأرض فإذا بلغ الجلدة أرقها فإذا رابه ريب
وقع برأسه هذا المكان وخرج منه، ومنه سمي المنافق منافق لأنه أبطن غير ما
أظهر، والسلم مشتق من السلامة لأنه يسلمك إلى مصعدك.
قوله تعالى:
إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم
إليه يرجعون (36) آية بلا خلاف.

(3) سورة الشعراء آية 4
(4) سورة 39 الزمر آية 65.
124

الوقف عند قوله " الذين يسمعون " ومعنى الآية إنما يستجيب إلى
الايمان بالله وما أنزل إليك من يسمع كلامك ويصغي إليك، والى ما تقرأ عليه
من القرآن وما تبين له من الحجج والآيات ويفكر في ذلك لأنه لا يتبين الحق
من الباطل الا لمن تفكر فيه واستدل عليه بما يستمع أو يعرف من الآيات والأدلة
على صحته، وجعل من لم يتفكر ولم ينتفع بالآيات بمنزلة من لم يستمع كما
قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا * ولكن لا حياة لمن تنادي (1)
وكما جعله الشاعر بمنزلة الأصم في قوله:
أصم عما ساءه سميع (2)
وقوله " والموتى يبعثهم الله " معناه ان الذين لا يصغون إليك من هؤلاء
الكفار ولا يسمعون كلامك ان كلمتهم، ولا يسمعون ما تقرأه عليهم وتبينه لهم
من حجج الله وآياته، وينفرون عنه إذا كلمتهم بمنزلة الموتى، فكما ان الموتى
لا يستجيبون لمن يدعوهم إلى الحق والايمان، فكذلك هؤلاء الكفار لا يستجيبون
لك إذا دعوتهم إلى الايمان، فكما آيست ان يسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم
الله والى ان يرجعوا إليه، فكذلك فآيس من هؤلاء أن يسمعوا كلامك وأن
يستجيبوا لك. وبين أن الموتى إذا بعثهم الله بمعنى أحياهم انهم يرجعون بعد
الحشر والبعث إلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه عليهم غير الله تعالى،
ولا يملك محاسبتهم وضرهم ونفعهم غيره، فجعل رجوعهم إلى ذلك الموضع
رجوعا إلى الله وذلك مستعمل في اللغة:
وقال مجاهد: " إنما يستجيب الذين يسمعون " يعني المؤمنين يسمعون
الذكر " والموتى يبعثهم الله " يعني المشركين الصم يبعثهم الله فيحييهم من شركهم
حتى يؤمنوا " ثم الينا يرجعون " يوم القيامة.

(1) مر هذا البيت في 1: 64 وهو مشهور.
(2) انظر 2: 80.
125

قوله تعالى:
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن
ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون (37).
قرأ ابن كثير " ينزل " بالتخفيف. الباقون بالتشديد.
ومعنى " وقالوا " اخبار عما قاله الكفار من أنهم قالوا " لولا " ومعناه:
هلا " أنزل عليه آية " يعني الآية التي سألوها واقترحوا أن يأتيهم بها من جنس
ما شاءوا لما قالوا " فليأتنا بآية كما أرسل الأولون " (1) يعنون فلق البحر
واحياء الموتى. وإنما قالوا ذلك حين أيقنوا بالعجز عن معارضته فيما أتى به
من القرآن، فاستراحوا إلى أن يلتمسوا مثل آيات الأولين، فقال الله تعالى
" أو لم يكفهم أنا نزلنا عليك الكتاب " (2) وقال هاهنا قل يا محمد " ان الله
قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون " ما في إنزالها من وجوب
الاستئصال لهم إذا لم يؤمنوا عند نزولها. وما في الاقتصار بهم على ما أوتوا
من المصلحة لهم. وبين في آية أخرى انه لو أنزل عليهم ما أنزل لم يؤمنوا،
وهو قوله " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " إلى قوله: " ما كانوا ليؤمنوا الا
أن يشاء الله " (3) ان يكرههم. وقال " وما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن
كذب بها الأولون " (4) يعني الآيات التي اقترحوها إنما لم نأتهم بها، لأنا
لو أتيناهم بها ولم يؤمنوا وجب استئصالهم، كما وجب استئصال من تقدمهم
ممن كذب بآيات الله. وقال في سورة العنكبوت " وقالوا لا أنزل عليه آية من
ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم انا أنزلنا عليك
الكتاب " (5) الآية. فبين ان الآيات لا يقدر عليها الا الله، وقد أتاهم بما فيه

(1) سورة 21 الأنبياء آية 5.
(2) سورة 29 العنكبوت آية 51
(3) سورة 6 الانعام آية 111
(4) سورة 17 الاسرى آية 59
(5) سورة 29 العنكبوت آية 50 - 51.
126

كفاية وإزاحة لعلتهم وهو القرآن، وغيره مما شاهدوه ومن المعجزات والآيات،
ولا يلزم اظهار المعجزات بحسب اقتراح المقترحين، لأنه لو لزم ذلك لوجب
اظهارها في كل حال ولكل مكلف وذلك فاسد.
وقد طعن قوم من الملحدين، فقالوا: لو كان محمد قد أتى بآية لما
قالوا له " لولا أنزل عليه آية " ولما قال " ان الله قادر على أن ينزل آية ".
قيل: قيد بينا أنهم التمسوا آية مخصوصة وتلك لم يؤتوها وإن كان الله
تعالى قادرا عليها، وإنما لم يؤتوها لان المصلحة منعت من انزالها، وإنما اتى بالآيات
الاخر التي دلت على نبوته من القرآن وغيره على ما اقتضته المصلحة، ولذلك
قال فيما تلوناه " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب " فبين ان في انزال الكتاب
كفاية ودلالة على صدقه وانه لا يحتاج معه إلى أمر آخر فسقط ما قالوه.
قوله تعالى:
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم
أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون (38)
آية بلا خلاف.
الوقف عند قوله " أمم أمثالكم " وقف تام.
ابتدأ الله تعالى بهذه الآية فأخبر بشأن سائر الخلق. وبإزاحة علة عباده
المكلفين في البيان ليعجب عباده في الآية التي بينها من الكفار وذهابهم عن الله
تعالى فقال: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه " فجمع جميع
الخلق بهذين اللفظين، لان جميع الحيوان لا يخلو من أن يكون مما يطير بجناحيه
أو يدب " الا أمم أمثالكم " أي هم أجناس وأصناف كل صنف يشتمل على العدد
الكثير والأنواع المختلفة وان الله خالقها ورازقها، وانه يعدل عليها فيما يفعله،
كما خلقكم ورزقكم وعدل عليكم، وان جميعها دالة وشاهدة على مدبرها وخالقها
وأنتم بعد ذلك تموتون والى ربكم تحشرون. فبين بهذه العبارة أنه لا ينبغي
127

لهم ان يتعدوا في ظلم شئ منها، فان الله خالقها وهو الناهي عن ظلمها
والمنتصف لها.
وفي قوله: " يطير بجناحيه " أقوال: أحدها - ان قوله بجناحيه تأكيد
كما يقولون: رأيت بعيني، وسمعت باذني، وربما قالوا: رأت عيني وسمعت
اذني، كل ذلك تأكيد. وقال الفراء: معنى ذلك أنه أراد ما يطير بجناحيه دون
ما يطير بغير جناحين، لأنهم يقولون قد مر الفرس يطير طيرا وسارت السفينة
تطير تطيرا، فلو لم يقل (بجناحيه) لم يعلم أنه قصد إلى جنس ما يطير بجناحيه
دون سائر ما يطير بغير جناحين. وقال قوم: إنما قال " بجناحيه " لان السمك
عند أهل الطبع طائر في الماء، ولا أجنحة لها، وإنما خرج السمك عن الطائر،
لأنه من دواب البحر، وإنما أراد ما في الأرض وما في الجو، ولا حيوان موجود
غيرهما. وقال قوم: إنما قال ذلك ليدل على الفرق بين طيران الطيور بأجنحتها
وبين الطيران بالاسراع تقول: طرت في جناحين، إذا أسرعت، قال الشاعر:
فلو أنها تجري على الأرض أدركت * ولكنها تهفوا بتمثال طائر
وانشد سيبويه:
فطرت بمنصلي في يعملات * دوام الأيد يحبطن السريحا (1)
وقال المغربي: أراد ان يفرق بين الطائر الذي هو الفائز الفالج في القسم،
وقال مزاحم العقيلي:
وطير بمخراق أشم كأنه * سليل جياد لم تنله الزعانف (2)
أي فوزي واغنمي. وقوله: " ما فرطنا في الكتاب من شئ " قيل " ما فرطنا "
معناه ما تركنا. وقيل: ما قصرنا. وفي الكتاب قولان:
أحدهما - انه أراد الكتاب المحفوظ عنده من أجال الحيوان وأرزاقه
وآثاره ليعلم ابن آدم ان عمله أولى بالاحصاء والاستقصاء، ذكره الحسن.
الثاني - ما فرطنا في القرآن من شئ يحتاج إليه في أمور الدين والدنيا

(1) اللسان (طير).
(2) اللسان (طير).
128

الا وقد بيناه اما مجملا أو مفصلا، فما هو صريح يفيد لفظا، وما هو مجمل
بينه على لسان نبيه وأمر باتباعه في قوله " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا " (1) ودل بالقرآن على صدق نبوته ووجوب أتباعه، فإذا لا يبقى
أمر من أمور الدين والدنيا الا وهو في القرآن - وهذا الوجه اختاره الجبائي -
وقال البلخي: " ما فرطنا في الكتاب من شئ " أي لم ندع الاحتجاج بما يوضح
الحق ويدعو إلى الطاعة والمعرفة ويزجر عن الجهل والمعصية، وتصريف الأمثال
وذكر أحوال الملائكة وبني آدم وسائر الخلق من أصناف الحيوان. وكل جنس
من الحيوان أمة، لان الأمة الجماعة ويقال للصبيان: أمة وان لم يجب
عليهم التكليف.
وقوله تعالى: " ثم إلى ربهم يحشرون " معناه يحشرون إلى الله بعد موتهم
يوم القيامة كما يحشر العباد، فيعوض الله تعالى ما يستحق العوض وينتصف
لبعضها من بعض، فإذا عوضهما، قال قوم: انها تصير ترابا فحينئذ يتمنى
الكافر فيقول " يا ليتني كنت ترابا " (2) وقال قوم: يديم الله أعواضها ويخلقها
على أحسن ما يكون من الصور فيسر بها المثابون ويكون ذلك من جملة
ما ينعمون به، ذكره البلخي. وقال قوم: " يحشرون " معناه يموتون ويفنون
وهذا بعيد، لان الحشر في اللغة هو بعث من مكان إلى غيره، وهاهنا لا معنى
للحشر الذي هو الفناء وإنما معناه انهم يصيرون إلى ربهم ويبعثون إليه.
واستدل قوم من التناسخية بهذه الآية على أن البهائم والطيور مكلفة،
لأنه قال " أمم أمثالكم " وهذا باطل، لأنا قد بينا من أي وجه قال: انها " أمم
أمثالكم " ولو وجب حملها على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها ناسا
وفي مثل صورنا وأخلاقنا، فمتى قالوا لم يقل أمثالنا في كل شئ، قلنا: وكذلك
الامتحان والتكليف، على أنهم مقرون بان الأطفال غير مكلفين ولا ممتحنين،
فما يحملون به امتحان الصبيان بعينه نحمل بمثله امتحان البهائم، وكيف يصح

(1) سورة 59 الحشر آية 7
(2) سورة 78 النبأ آية 40.
129

تكليف البهائم والطيور وهي غير عاقلة. والتكليف لا يصح الا لعاقل، على أن
الصبيان أعقل من البهائم ومع هذا فليسوا مكلفين، فكيف يصح تكليف
البهائم؟! واما قوله " وان من أمة الا خلا فيها نذير " (1) فإنه مخصوص
بالمكلفين العقلاء من البشر والجن، والملائكة بدلالة أن الأطفال أمم وليس فيها
نذيره واستدل أبو القاسم البلخي بهذه الآية على أن العوض دائم بان قال:
بين الله تعالى انه يحشر الحيوان كلها ويعوضها، فلو كان العوض منقطعا لكان
إذا أماتها استحقت اعواضا أخر على الموت وذلك يتسلسل، فدل على أنه دائم
وهذا ليس بشئ، لأنه يجوز ان يميت الله الحيوان على وجه لا يدخل عليهم
الألم، فلا يستحقون عوضا ثانيا، فالأولى ان يقول: ان دام دام تفضلا
منه تعالى.
وقوله " ولا طائر " فإنه جر، عطف على دابة وتقديره ولا من طائر،
وكان يجوز ان يقرأ بالرفع حملا على المعنى، كما تقول: وما جاءني من رجل
ولا امرأة، وتقديره ما جاءني رجل ولا امرأة ومثله قوله " ولا أصغر من ذلك
ولا أكبر " (2) في موضع بالنصب وفى موضع آخر بالرفع على ما قلناه.
قوله تعالى:
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشاء الله
يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (39) آية بلا خلاف.
الوقف التام عند قوله " في الظلمات ". وقوله " صم وبكم في الظلمات "
يحتمل أمرين:
أحدهما - ان يراد ان هؤلاء الكفار الذين كذبوا بآيات الله صم وبكم
في الظلمات في الآخرة على الحقيقة عقوبة لهم على كفرهم، لأنه ذكرهم عند
ذكر الحشر.

(1) سورة 35 فاطر آية 24
(2) سورة 10 يونس آية 61 وسورة 34 سبأ آية 3.
130

والثاني - أن يكون عنى انهم صم وبكم في الظلمات في الدنيا، فمتى
أريد الأول كان ذلك حقيقة، لأنه تعالى لا يمتنع ان يجعلهم صما بكما في
الظلمات، ويضلهم بذلك عن الجنة وعن الصراط الذي يسلكه المؤمنون إليها
ويصيرهم إلى النار. وان أريد به الوجه الثاني، فإنه يكون مجازا وتوسعا.
وإنما شبههم بالصم والبكم الذين في الظلمات، لان المكذبين بآيات الله لا يهتدون
إلى شئ مما ناله المؤمنون من منافع الدين ولا يصلون إلى ذلك، كما أن الصم
البكم الذين في الظلمات لا يهتدون إلى شئ من منافع الدنيا ولا يصلون إليها،
فتشبيههم من هذا الوجه بالصم البكم.
وقال البلخي " صم وبكم في الظلمات " معناه في الجهل والشرك والكفر
وقوله " من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " لا يجوز
أن يكون على عمومه، لأنا قد علمنا أن الله تعالى لا يشاء ان يضل الأنبياء
والمؤمنين ولا يهدي الكافرين، لكن قد بين تعالى في موضع آخر من الذي يشاء
ان يضله، فقال " وما يضل به الا الفاسقين " (1) وقال " ويضل الله الظالمين
ويفعل الله ما يشاء " (2) وقال " والذين اهتدوا زادهم هدى " (3) وقال:
" يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " (4) وقال " والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا " (5).
وقوله " ومن يشأ الله يضلله " هاهنا يحتمل أمرين:
أحدهما - " من يشأ الله يضلله " أي من يشأ يخذله بأن يمنعه ألطافه
وفوائده، وذلك إذا واتر عليه الأدلة وأوضح له البراهين فأعرض عنها ولم
يمعن النظر فيها، فصار كالأصم الأعمى، فحينئذ يشاء أن يضله بان يخذله.
والثاني - من يشأ الله اضلاله عن طريق الجنة، ونيل ثوابها يضلله على

(1) سورة 2 البقرة آية 26
(2) سورة 14 إبراهيم آية 27
(3) سورة 47 محمد آية 17
(4) سورة 5 المائدة آية 18
(5) سورة 29 العنكبوت آية 69.
131

وجه العقوبة " ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " ومعناه من يشأ ان يرحمه
ويهديه إلى الجنة ونيل الثواب يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى
الجنة، ويعدل الكافرين عنه إلى النار ولا يلحق الاضلال الا الكفار والفساق
المستحقين للعقاب وكذلك لا يفعل الثواب والخلود في الجنة الا بالمؤمنين، لأنه
ثواب لا يستحقه سواهم.
قوله تعالى:
قل أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير
الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف
ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41) آيتان بلا خلاف
قرأ الكسائي وحده " أريتكم " وما جاء منه إذا كان استفهاما بحذف
الهمزة التي بعد الراء. والباقون باثباتها، وتخفيفها الا أهل المدينة، فإنهم
جعلوها بين بين، فإن كان غير استفهام اتفقوا على اثبات الهمزة وتخفيفها الا
ما رواه ورش في تحقيقها في ستة مواضع ذكرت في باب الهمزة في القراءات.
من حقق الهمزة، فلانه (فعلت) من الرؤية، فالهمزة عين الفعل، ومن خفف
فإنه جعلها بين بين، وهذا التخفيف على قياس التحقيق، ومن حذف الهمزة
فعلى غير مذهب التخفيف، لان التخفيف القياس فيها أن تجعل بين بين، كما
فعل نافع، وهذا حذف، كما قالوا، ويلمه، وكما أنشد أحمد بن يحيى:
ان لم أقاتل فالبسوني برقعا
وقال أبو الأسود:
يابا المغيرة رب أمر معضل
وذكر أن عيسى كذلك كان يقرأها ويقوي ذلك قول الراجز:
أريت ان جاءت به أملودا * مرجلا ويلبس البرودا
وقال الفراء: العرب لها في (أرأيت) لغتان:
132

أحدهما - ان يسأل الرجل الرجل أرأيت زيدا بعينك؟ فهذه مهموزة،
فإذا أوقعتها على الرجل منه قلت: أرأيتك على غير هذه الحال تريد هل رأيت
نفسك على غير هذه الحال ثم يثنى ويجمع، فتقول للرجلين أرايتماكما،
وللقوم أرأيتموكم، وللنسوة أرأيتنكن، وللمرأة أرأيتك بخفض التاء ولا يجوز
إلا ذلك.
والاخر - ان تقول أرأيتك. وأنت تريد اخبرني، فتهزمها وتنصب التاء
منها وتترك الهمز ان شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتترك التاء مفتوحة
للواحد، وللجمع مؤنثه ومذكره، تقول للمرأة: أرأيتك زيدا، وللنساء أرايتكن
زيدا ما فعل. وإنما تركت العرب التاء واحدة لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل
منها واقعا على نفسها، فاكتفوا بذكرها في الكاف ووجهوا التاء إلى المذكر
والتوحيد، إذا لم يكن الفعل واقعا على نفسها.
واختلفوا في هذه الكاف، فقال الفراء: موضعها نصب وتأويلها رفع،
مثل قولك: دونك زيدا، فموضع الكاف خفض، ومعناه الرفع، لان المعنى خذ
زيدا. قال الزجاج: هذا خطأ ولم يقله أحد قبله، قال: لان قولك أرايتك
زيدا ما شأنه يصير أرأيت قد تعدت إلى الكاف والى زيد، فنصب أرأيت اسمين
فيصير المعنى: أرأيت نفسك زيدا ما حاله. وهذا محال. قال والصحيح الذي
عليه النحويون ان الكاف لا موضع لها والمعنى أرأيت زيدا ما حاله، والكاف
زيادة في بيان الخطاب، وهو المعتمد عليه في الخطاب ولذلك تكون التاء مفتوحة
في خطاب المذكر والمؤنث والواحد والجمع. فنقول للرجل أرايتك زيدا ما حاله
بفتح التاء والكاف وللمرأة أرايتك بفتح التاء وكسر الكاف، لأنها صارت آخر
ما في الكلمة، وللاثنين أرايتكما، وللجمع أرايتكم، فتوحد التاء، فكما وجب
ان توحدها في التثنية والجمع، كذلك وجب ان تذكرها مع المؤنث، فان عديت
الفاعل إلى المفعول في هذا الباب صارت الكاف مفعوله تقول: رأيتني عالما
بفلان، فإذا سألت علي هذا الشرط قلت للرجل: أريتك عالما؟ وللاثنين أرأيتما كما
133

وللجمع أرأيتموكم، لان هذا في تأويل أرأيتم أنفسكم، وللمرأة أرأيتك،
وللثنتين أرايتماكما، وللجماعة أرايتنكن، فعلى هذا قياس هذين البابين.
قال أبو علي الفارسي: لا يخلو أن يكون الكاف للخطاب مجردا، ومعنى
الاسم مخلوعا منه أو يكون دالا على الاسم مع دلالته على الخطاب، والدليل
على أنه للخطاب مجردا من علامة الاسم أنه لو كان اسما وجب أن يكون الاسم
الذي بعده في نحو قوله " أرايتك هذا الذي كرمت علي " (1) وقولهم " أريتك
زيدا ما صنع هو الكاف في المعنى، ألا ترى ان (رأيت) يتعدى إلى مفعولين
يكون الأول منهما هو الثاني في المعنى وإذا لم يكن المفعول الذي بعده هو
الكاف في المعنى، وإنما هو غيره وجب ان يدل ذلك على أنه ليس باسم، وإذ
لم يكن اسما كان حرفا للخطاب مجردا من معنى الاسمية، كما أن الكاف في
(ذلك وهنالك) للخطاب ومثله التاء في (أنت) لأنه للخطاب معرى من معنى
الاسم فإذا ثبت انه للخطاب معرى من معنى الأسماء ثبت ان التاء لا يجوز أن
تكون بمعنى الخطاب ألا ترى أنه لا ينبغي ان يلحق الكلمة علامتان للخطاب،
كما لا يلحقها علامتان للتأنيث، ولا علامتان للاستفهام، فلما لم يجز ذلك أفردت
التاء في جميع الأحوال لما كان الفعل لابد له من فاعل وجعل في جميع الأحوال
على لفظ واحد، لان ما يلحق الكاف من معنى الخطاب يبين الفاعلين، لتخصيص
التأنيث من التذكير والتثنية من الجمع، فلو لحق علامة التأنيث والجمع التاء
لاجتمع علامتان للخطاب بما كان يلحق التاء وما يلحق الكاف وذلك يؤدي إلى
ما لا نظير له فرفض لذلك.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بهذه الآية ان يقول لهؤلاء الكفار الذين يعبدون
الأصنام " أرايتكم ان أتاكم عذاب الله " كما اتى الكافرين من قبلكم كعاد
وثمود، وغيرهم " أو اتتكم الساعة " وهي القيامة. قال الزجاج: الساعة اسم
للوقت الذي يصعق فيه العباد واسم للوقت الذي تبعث فيه، والمعنى أرأيتكم

(1) سورة 17 الاسرى آية 62.
134

الساعة التي وعدتم فيها بالبعث والفناء، لان قبل البعث يموت الخلق كلهم،
أتدعون فيها - لكشف ذلك عنكم - هذه الأوثان التي تعلمون أنها لا تقدر
أن تنفع أنفسها ولا غيرها؟! أو تدعون لكشف ذلك عنكم الله تعالى الذي هو
خالقكم ومالككم ومن يملك ضركم ونفعكم؟ ودلهم بذلك على أنه لا ينبغي لهم
ان يعبدوا ما لا يملك لهم نفعا ولا يقدر أن يدفع عنهم ضرا وان يعبدوا الله وحده
الذي هو خالقهم ومالكهم والقادر على نفعهم وضرهم.
وقوله " ان كنتم صادقين " يعني في أن هذه الأوثان آلهة لكم، فبين الله
لهم بذلك انها ليست آلهة وانهم في هذا القول غير صادقين.
وقوله " بل إياه تدعون " معنى (بل) استدراك وايجاب بعد نفي تقول
ما جاءني زيد بل عمرو. واعلمهم الله تعالى انهم لا يدعون في حال الشدائد الا
إياه، لأنه إذا لحقهم الشدائد والأهوال في البحار والبراري القفار، التجئوا
فيه إليه وتضرعوا لديه، كما قال " وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم
أحيط بهم دعوا الله مخلصين " (1) وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم
عبدوا الأصنام.
وقوله " فيكشف ما تدعون إليه ان شاء " معناه يكشف الضر الذي من
اجله دعوتم، وهو مجاز كقوله " واسأل القرية " ومعناه واسأل أهل القرية.
وقوله " وتنسون ما تشركون " معنى تنسون يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون بمعنى ما تشركون بالله.
الثاني - أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من نسيهم، وهذا الذي أحتج
الله به على الكفار دلالة على صحة الاحتجاج في الدين على كل من خالف الحق،
لأنه لو كان الاحتجاج لا يجوز ولا يفضي إلى الحق لما احتج به على عباده في
كتابه. وإنما قال: " ان شاء " لأنه ليس كلما يدعون لكشفه يكشفه عنهم بل يكشف
ما شاء من ذلك مما تقتضيه المصلحة وصواب التدبر، وتوجبه الحكمة.

(1) سورة 10 يونس آية 22.
135

والاستثناء راجع إلى العذاب دون الساعة، لأنها لا تكشف ولا محيص عنها.
قوله تعالى:
ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالباساء والضراء
لعلهم يتضرعون (42) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن
قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) آيتان
اعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بهذه الآية انه قد ارسل الرسل قبله إلى أقوام
بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم ليخضعوا ويذلوا
لامر الله لان القلوب تخشع والنفوس تضرع عندما يكون من أمر الله البأساء
والضراء. وقال قوم: البأساء الجوع، والضراء النقص في الأموال والأنفس.
والبأساء: من البأس والخوف والضراء من الضر، وقد يكون البأساء من
البؤس، فأعلمه الله انه ارسل إلى أمم واخذها بالبأساء والضراء، فلم تخشع ولم
تضرع. وقال: " لعلهم يتضرعون " ومعناه لكي يتضرعوا. وقيل: معناها
الترجي للعباد، كما قال: " لعله يتذكر أو يخشى " (1). قال سيبويه: المعنى
اذهبا أنتما على رجائكما، والله عالم بما يكون من وراء ذلك.
وقوله " فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا " معناه هلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا
" ولكن قست قلوبهم " أي أقاموا على كفرهم. قال الفراء كلما رأيت في
الكلام (لولا) ولم تر بعدها اسما، فهي بمعنى (هلا)، كقوله: " لولا أخرتني
إلى أجل قريب " (2) و " فلولا أن كنتم غير مدينين " (3) وإذا كان بعدها
اسم، فهي بمعنى (لو) التي تكون في جوابها اللام، و (لو ما) فيها ما في
(لولا) من الاستفهام والخبر.
وقد اخبر الله في هذه الآية ان الشيطان هو الذي يزين الكفر للكافر بخلاف

(1) سورة 20 طه آية 44.
(2) سورة 63 المنافقون آية 10
(3) سورة 56 الواقعة آية 86.
136

ما يقول المجبرة من أن الله هو المزين لهم ذلك، وفيها حجة على من قال: ان
الله لم يرد من الكافر الايمان، وانه ارسل الرسل بينة عليهم، وعلى من زعم أن
أخذه الكافرين بالبأساء والضراء في الدين ليس لما أراد من صلاحهم، لأنه بين
الله إنما فعل بهم ذلك ليتضرعوا، وهذه لام الغرض، لأن الشك لا يجوز عليه
تعالى " ويتضرعون " معناه يتذللون يقال ضرع فلان لفلان إذا بخع له وسأله
أن يعطيه، وفلان ضارع أي نحيف.
قوله تعالى:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى
إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فقطع
دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45) آيتان
قرأ ابن عامر وأبو جعفر، وورش " فتحنا " وفي الأعراف " لفتحنا " وفي
الأنبياء " فتحت " وفى القمر " ففتحنا أبواب السماء " بالتشديد فيهن، وافقهم
روح في الأنبياء والقمر. والباقون بالتخفيف فيهن.
ومن ثقل أراد التكثير، ومن خفف أراد الفعل مرة واحدة.
بين الله تعالى بهذه الآية ان هؤلاء الكفار لما لم ينتفعوا بالبأساء والضراء
على ما اقتضت مصلحتهم، ونسوها أي تركوها فصارت في حكم المنسي ابتليناهم
بالتوسعة في الرزق ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة، وينبهوا عليه، فيطيعوا ويرجعوا
عما هم عليه، فلما لم ينجع ذلك فيهم ولم يرتدعوا عن الفرح بما أوتوا، ولم
ينعظوا ولم ينفعهم الزجر بالضراء والسراء، ولا الترغيب بالتوسعة والرخاء
أحللنا بهم العقوبة بغتة أي مفاجأة من حيث لا يشعرون " فإذا هم مبلسون ".
قال الزجاج: (المبلس) الشديد الحسرة و (البائس) الحزين. وقال البلخي:
معنى مبلسون يعني: أذلة خاضعين. وقال الجبائي: معنى (مبلسون) آيسون،
وقال الفراء المبلس: المنقطع الحجة، قال رؤبة:
137

وحضرت يوم خميس الأخماس * وفى الوجوه صفرة وابلاس (1)
وقال مجاهد: الابلاس السكوت مع اكتآب.
وقوله " كل شئ " المراد به التكثير دون العموم، وهو مثل قوله " وأوتيت
من كل شئ " (2) وكقول القائل: أكلنا عنده كل شئ ورأينا منه كل خير،
وكما يقال هذا قول أهل العراق، وأهل الحجاز، ويراد به قول أكثرهم.
وقال تعالى: " ولقد أريناه آياتنا كلها " (3) وكل ذلك يراد به الخصوص،
وموضوعه التكثير، والتفخيم. وإذا علمنا في الجملة بالعقل ان هذه الآيات
مخصوصة، فلا ينبغي ان يعتقد فيها تخصيص شئ بعينه، وليس علينا أكثر
من أن نعتقد أنهم أو توا خيرا كثيرا، وفتح عليهم أبواب أشياء كثيرة كانت متغلقة
عليهم، وليس يلزمنا أكثر من ذلك.
فان قيل الذي يسبق إلى القلوب غير ما تأولتم عليه وهو ان الله إنما فتح
عليهم أبواب كل شئ ليفرحوا ويمرحوا ليستحقوا العقاب.
قلنا: الظاهر وإن كان كذلك انصرفنا عنه بدليل، كما انصرفنا عنه قوله:
" الرحمن على العرش أستوى " (4) وعن قوله " وجاء ربك " (5) وعن قوله:
" أأمنتم من في السماء " (6) فكما يجب ان نترك ظاهر هذه الآيات وإن كان
ظاهرها التشبيه فكذلك ترك ما ظاهره يوجب إضافة القبيح إليه، وينافى عدله
ويعدل إلى ما يليق بحكمته وعدله.
وقوله " فقطع دابر القوم الذين ظلموا " معناه أخذهم الذي يدبرهم
ويدبرهم، لغتان - بضم الباء وكسرها - وهو الذي يكون في أعقابهم.
وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: من الناس من لا يأتي الصلاة إلا
دبريا - بضم الدال - يعني في آخر الوقت، هذا قول أصحاب الحديث. وقال

(1) مجمع البيان 2: 300 واللسان (بلس).
(2) سورة 27 النمل آية 23.
(3) سورة 20 طه آية 56
(4) سورة 20 طه آية 5
(5) سورة 89 الفجر آية 22
(6) سورة 67 الملك آية 16، 17.
138

أبو زيد الادبريا بفتح الدال والباء. ثم حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل
ساقتهم وقطع دابرهم بقوله " والحمد لله رب العالمين " لأنه تعالى أرسل إليهم
وانظر هم بعد كفرهم وأخذهم بالبأساء والضراء، والنعمة والرخاء، فبالغ في الانذار
والامهال، فهو محمود على كل حال.
قوله تعالى:
قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على
قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أنظر كيف نصرف
الآيات ثم هم يصدفون (46) آية بلا خلاف.
روي عن ورش: " به انظر " بضم الهاء الباقون بكسرها.
قال أبو علي: من كسر الهاء حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو به انظر،
لالتقاء الساكنين والألف من (انظر). ومن قرأ بضم الهاء فهو على قول من
قال: " فخسفنا به وبدار هو " (1)، فحذف الواو لالتقاء الساكنين، كما
حذف الياء في (بهي) لذلك، فصار " به انظر " ومما يحسن هذا الوجه ان
الضمة فيه مثل الضمة في (ان اقتلوا) أو (انقص) ونحو ذلك.
وقوله: " أرأيتم ان أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم " ثم
قال: " يأتيكم به " قال أبو الحسن هو كناية عن السمع أو على ما أخذ منكم
وقال الفراء: الهاء كناية عن الهدى.
أمر الله تعالى نبيه (ع) ان يقول لهؤلاء الكفار " أرأيتم ان اخذ الله
سمعكم " أي أصمكم، " وأبصاركم " أي أعماكم، تقول العرب: أخذ الله
سمع فلان وبصره، أي أصمه وأعماه " وختم على قلوبكم " بأن سلب ما فيها
من العقول التي بها يتهيأ لكم ان تؤمنوا بربكم وتتوبوا من ذنوبكم ووسمها

(1) سورة 28 القصص آية 81.
139

بسمة من يكون خاتمة امره المصير إلى عذاب النار، فلو فعل بكم، هل من اله
غيره يأتيكم بهذا الذي سلبكم الله إياه؟! وهل يقدر على ذلك اله غير الله؟!
فبين بهذا انه كما لا يقدر على ذلك غير الله فكذلك يجب ان لا يعبدوا سواه:
القادر على جميع ذلك.
وقوله " انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون " تنبيه للعباد على هذه
الآية وعلى أمثالها من الآيات التي بين فيها انه لا يستحق العبادة سواه تعالى.
ثم بين انهم مع ظهور هذه الآيات يصدفون أي يعرضون عن تأملها، والتفكر
فيها. يقال: صدف عنه، إذا أعرض.
وفي الآية دليل على أن الله قد مكنهم من الاقبال على ما ورد عليهم من البيان
وانه لم يخلق فيهم الاعراض عنه ولا حملهم عليه، ولا اراده منهم ولا زينه لهم،
لأنه لو كان فعل شيئا من ذلك لم يكن لتعجيبه من ذلك معنى.
قوله تعالى:
قل أرأيتكم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك
إلا القوم الظالمون (47) آية.
أمر الله تعالى نبيه (ع) ان يخاطب كفار قومه، ويقول لهم أرأيتم " ان
أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة " والبغتة المفاجأة وهو ان يأتيهم العذاب، وهم
غافلون غير متوقعين لذلك " اوجهرة " أي وهم شاهدون له، ومعاينون
نزوله. وقال الحسن: (البغتة) ان يأتيهم ليلا و (جهرة) نهارا. ثم قال:
" هل يهلك " بهذا العذاب " الا القوم الظالمون " الكافرون الذين يكفرون
بالله ويفسدون في الأرض. وهل ينجو منه الا المؤمنون العابدون لربهم.
ومتى هلك فيهم أطفال أو قوم مؤمنون فإنما يهلكون امتحانا ويعوضهم الله على
ذلك أعواضا كثيرة، يصغر ذلك في جنبها، فجعل ذلك تحذيرا من المقام على
الكفر وترغيبا في الايمان والنجاة من العذاب.
140

قوله تعالى:
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (48) والذين كذبوا بآياتنا
يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون (49) آيتان بلا خلاف.
بين الله تعالى في هاتين الآيتين انه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كل
شئ يسألون عنه من الآيات أو يخترعونه بل إنما يرسلهم لما في ذلك من المصلحة
لهم ومنبهين على ما في عقولهم من توحيد الله، وعدله وحكمته مبشرين بثواب
الله لمن آمن به وعرفه، ومخوفين لمن أنكره وجحده. ثم اخبر ان المرسل إليهم
مختارون غير مجبرين ولا مضطرين ودل على أنه غير محدث لشئ من افعالهم
فيهم، وان الافعال لهم، هم يكتسبونها بما خلق الله فيهم من القدرة، وانه قد
هداهم، وبين لهم وبشرهم وانذرهم فمن آمن أثابه ومن عصاه عاقبه. ولو
كانوا مجبورين على المعاصي مخلوقا فيهم الكفر ولم يجعل فيهم القدرة على
الايمان لما كان للآية معنى.
قوله تعالى:
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول
لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي
الأعمى والبصير أفلا تتكفرون (50) آية بلا خلاف.
امر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وآله ان يقول لعباده: " لا أقول لكم عندي
خزائن الله " أغنيكم منها " ولا اعلم الغيب " الذي يختص بعلم الله تعالى
فأعرفكم مصالح دنياكم، وإنما اعلم قدر ما يعلمني الله من امر البعث والجنة
141

والنار، وغير ذلك، ولا ادعي اني ملك، لأني انسان تعرفون نسبي، لا أقدر
على ما يقدر عليه الملك، وما أتبع الا ما يوحي الله به إلي.
وبين لهم ان الملك من عند الله، والوحي هو البيان الذي ليس بايضاح
نحو الإشارة والدلالة، لان كلام الملك كان له على هذا الوجه. وإنما امره بأن
يقول ذلك لئلا يدعوا فيه ما ادعت النصارى في المسيح، ولئلا ينزلوه منزلة
خلاف ما يستحقه. ثم امره بأن يقول لهم: " هل يستوي الأعمى والبصير "
أي هل يستوي العارف بالله تعالى وبدينه العالم به مع الجاهل به وبدينه، فجعل
الأعمى مثلا للجاهل والبصير مثلا للعارف بالله ونبيه، هذا قول الحسن والجبائي.
وقال البلخي: معناه هل يستوي من صدق على نفسه واعترف بحاله التي
هو عليها من الحاجة والعبودية لخالقه، ومن ذهب عن البيان وعمي عن الحق
" أفلا تتفكرون " فتنصفوا من أنفسكم وتعملوا بالواجب عليكم من الاقرار
بوحدانيته تعالى ونفي الشركاء والتشبيه عنه، وهذا وإن كان لفظه لفظ الاستفهام
فالمراد به الاخبار أي انهما لا يستويان.
وقال مجاهد: الأعمى الضال والبصير المهتدي. ثم قال: " أفلا تتفكرون "
تنبيها لهم على الفكر في ما يدعوهم إلى معرفته ويدلهم عليه من آياته وأمثاله
التي بينها في كتابه، للفرق بين الحق والباطل، والكافر والمؤمن.
وقال الحسن: " لا أقول لكم عندي خزائن الله " يعني خزائن الغيب
الذي فيه العذاب لقولهم: ائتنا بعذاب الله، ولا اعلم الغيب متى يأتيكم العذاب
" ولا أقول لكم اني ملك " من ملائكة الله. وإنما أنا بشر تعرفون نسبي. ولكني
رسول الله يوحى إلي، ولا أتبع الا ما يوحى إلي ولا أؤدي الا ما يأمرني بأدائه
واستدل الجبائي والبلخي وغيرهما بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من
الأنبياء لأنه قال " ولا أقول لكم اني ملك " فلولا ان الملائكة أفضل وأعلى
منزلة ما جاز ذلك. وهذا ليس بشئ لان الفضل الذي هو كثرة الثواب لا معنى
له هاهنا، وإنما المراد " ولا أقول اني ملك " فأشاهد من امر الله وغيبته عن
142

العباد ما يشاهده الملائكة المقربون المختصون بملكوت السماوات وان لم يكن
في ذلك استحقاق ثواب زائد.
قوله تعالى:
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من
دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (51) آية بلا خلاف.
امر الله تعالى نبيه (ع) ان ينذر بهذه الآيات أي يخوف بها من هو مقر
بالبعث والنشور من المؤمنين، ومن يقر بذلك من الكفار ويعتقد انه لا معونة
عند الشركاء يومئذ، لان الامر هناك له تعالى وحده. وقد كان خلق من
مشركي العرب يعتقدون ذلك، فأمر الله ان يخص هؤلاء بالانذار، لان الحجة
لهم ألزم وان كانت لازمة للجميع.
وقوله: " يخافون ان يحشروا إلى ربهم " أي يعلمون ذلك، فهم خائفون
منه أي عاملون بما يؤديهم إلى السلام عنده.
وقال الفراء: يخافون الحشر إلى ربهم علما بأنه سيكون فلذلك فسره
المفسرون يخافون بمعنى يعلمون.
وقال الجبائي: امر الله ان يخوف بالعقاب من هو خائف، لأنه لما أعلمهم
ان الله يعذبهم بكفرهم إذا حشروا، كانوا يخافون الحشر لكونهم شاكين فيما
أخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله من الحشر والعذاب. وكانوا يخافون ذلك لشكهم
فيه، وان كانوا غير مؤمنين. والأول قول البلخي والزجاج.
وقوله: " ليس لهم من دونه ولي " أو من يدفع عنهم ما يريد الله إنزاله
بهم من عذابه، وعقوباته، ولا شفيع يشفع يدفع بشفاعته عنهم ما يريد الله
انزاله بهم من ذلك على ما قالت النصارى انهم أبناء الله وأحباؤه.
وقوله: " لعلهم يتقون " أي لكي يتقوا معاصيه. والهاء في قوله " به "
قال الزجاج: راجعة إلى القرآن. وقال الجبائي: راجعة إلى العذاب. وقال
143

البلخي: راجعة إلى الانذار.
قوله تعالى:
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون
وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من
شئ فتطردهم فتكون من الظالمين (52) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر " بالغدوة " هنا وفى الكهف - بضم الغين واسكانا الدال
واثبات واو بعدها. الباقون بفتح الغين والدال واثبات الف بعد الدال.
سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن مسعود وغيره: ان ملا من قريش -
وقال الفراء: من الكفار، منهم عيينة بن حصين الغزاي - دخلوا على النبي صلى الله عليه وآله
وعنده بلال وسلمان وصهيب وعمار، وغيرهم، فقال عيينة بن حصين يا رسول
الله لو نحيت هؤلاء عنك، لأتاك أشراف قومك، وأسلموا، وكان ذلك
خديعة منهم له وكان الله تعالى عالما ببواطنهم.
فأمر الله نبيه ان " لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " يعني انه
نهاه عن طردهم لأنهم يريدون باسلامهم ودعائهم وجه الله. قال الضحاك:
" يدعون ربهم بالغداة والعشي " يعني بذلك الصلاة المفروضة في هذين الوقتين
وقال إبراهيم هم أهل الذكر. وقال قوم: الدعاء هاهنا هو التحميد والتسبيح
وقوله: " يريدون وجهه " شهادة للمعنيين بالآية بالاخلاص وانهم يريدون
بعبادتهم الله خالصا.
وقال البلخي: قراءة ابن عامر غلط، لان العرب إذا أدخلت الألف واللام
قالوا: الغداة يقولون: رأيتك بالغداة، ولا يقولون بالغدوة، فإذا نزعوا الألف
واللام قالوا رأيتك غدوة. وإنما كتبت واو في المصحف، كما كتبوا الصلاة
والزكاة والحياة كذلك.
144

قال أبو علي الفارسي: الوجه الغداة، لأنها تستعمل نكرة وتتعرف باللام
فأما غدوة فمعرفة أبدا، وهو علم صيغ له. قال سيبويه: غدوة وبكرة جعل
كل واحد منهما اسما للجنس كما جعلوا أم حنين اسما لدابة معروفة، كذلك هذا
ووجه قراءة ابن عامر أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز ان تقول أتيتك
اليوم غدوة وبكرة، فجعلها بمنزلة ضحوة.
وقوله " فتطردهم " نصب الدال، لأنه جواب النفي في قوله: " ما عليك
من حسابهم " ونصب فيكون لأنه جواب لقوله: " ولا تطرد الذين..
فتكون من الظالمين.. ما عليك من حسابهم من شئ " قال قوم يعني من
حساب رزقهم في الدنيا ليس رزقهم في يدك ولا رزقك في أيديهم، بل الله
رازق الجميع.
وقال الجبائي وهو الأظهر: ما عليك من اعمالهم، ولا عليهم من أعمالك،
بل كل واحد يؤاخذ بعمله، ويجازي على فعله، لا على فعل غيره. وقوله
" فتطردهم فتكون من الظالمين " اخبار منه تعالى انه لو طرد كل هؤلاء تقريبا
إلى الكبراء منهم كان بذلك ظالما. والنبي صلى الله عليه وآله وان لم يقدم على القبيح جاز
ان ينهى عنه، لأنه قادر عليه وإن كان النهي والزجر يمتنع منه، كما قال تعالى
" لئن أشركت ليحبطن عملك " وإن كان الشرك مأمونا منه.
قوله تعالى:
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم
من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (53) آية بلا خلاف.
معنى الآية انه تعالى اخبر انه يمتحن (1) الفقراء بالأغنياء والأغنياء بالفقراء
فيختبر صبر الفقراء على ما يرون من حال الأغنياء، واعراضهم عنهم إلى طاعة
الرسل ويختبر شكر الأغنياء واقرارهم لمن يسبقهم من الفقراء، والموالي والعبيد

(1) في المخطوطة " ابتلى " بدل " يمتحن ".
145

إلى الايمان بالرياسة في الدين والتقدم فيه.
وقوله: " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " فليس المراد باللام لام
الغوص لان الله لو قصد ذلك لكان قد قصد بما فعل ان يقولوا هذا القول
فيكفروا به ويعصوا ويتعالى الله عن ذلك فكيف يقصده؟! وقد عابه من قولهم
وهو يعاقبهم عليه وعابهم به ولكن اللام لام العاقبة.
والمعنى اني فعلت ذلك بهم ليصبروا ويشكروا، فكان عاقبة أمرهم ان
قالوا " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " ومثله قوله: " فالتقطه آل فرعون ليكون
لهم عدوا وحزنا " (1) وقال الشاعر:
أم سماك فلا تجزعي * فللشكل ما تلد الوالداه (2)
والذي قال " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " هو عيينة بن حصين وأصحابه
وقال الزجاج: أي ليقول الكبراء " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " أي ليكون
ذلك آية بينة انهم اتبعوا الرسول وصبروا على الشدة في حال شديدة.
وقال الجبائي: معنى قوله " فتنا بعضهم ببعض " أي شددنا التكليف
على أشراف العرب وكبرائهم بأن أمرناهم بالايمان برسول الله وبتقديم هؤلاء
الضعفاء على نفوسهم لتقدمهم إياهم في الايمان، وكونهم أفضل عند الله. وهذا
أمر كان شاقا عليهم، فلذلك سماه الله فتنة.
وقوله " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " أي فعلنا هذا بهم ليقول
بعضهم لبعض على وجه الاستفهام منه لا على وجه الانكار " أهؤلاء من الله
عليهم من بيننا " يعني بالايمان إذ رأوا النبي صلى الله عليه وآله يقدم هؤلاء عليهم ويفضلهم
وليرضوا بذلك من فعل رسول الله، ولم يجعل هذه الفتنة والشدة في التكاليف
ليقولوا ذلك على وجه الانكار، لان إنكارهم ذلك كفر بالله ومعصية له والله
تعالى لا يريد ذلك ولا يرضاه، لأنه لو أراد ذلك منهم، وفعلوه كانوا مطيعين

(1) سورة 28 القصص آية 8
(2) مر هذا البيت في 3: 60 وسيأتي في 5: 43.
146

له لا عاصين وقد ثبت خلافه.
وقوله: " أليس الله بأعلم بالشاكرين " معناه ان الله تعالى أعلم بالشاكرين
له ولنعمه من خلقه فيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من الثواب والتعظيم
والاجلال.
والشاكرون المعنيون بالآية هم هؤلاء الضعفاء ويدخل معهم في ذلك سائر
المؤمنين.
فان قيل فعلى هذا الوجه الذي ذكرتموه قد وجد من الكفار القول على
ما أراده فيجب ان يكونوا مطيعين.
قلنا: ليس في الآية ذلك وأنهم على أي وجه قالوه على وجه الانكار أو
على وجه الاستفهام؟ وإنما بين انه فعل بهم ليقولوا ذلك على وجه الاستفهام
لا على وجه الانكار، فان كانوا قالوه على ما أراده الله فهم مطيعون وان قالوه
منكرين فهم عصاة، فلما علمنا أن الله تعالى ذمهم بهذا القول علمنا أنهم لم
يقولوه على وجه المراد منهم إنما قالوه على خلاف ما أريد منهم.
قوله تعالى:
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب
ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم
تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم (54) آية.
قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: " انه من عمل.. فإنه غفور رحيم "
بفتح الهمزة فيهما وافقهم أهل المدينة في الأولى منهما. الباقون بالكسر فيهما.
قال أبو علي الفارسي من كسر (أنه) الأولى جعلها تفسير للرحمة كما أن
قوله " لهم مغفرة واجر كريم " تفسير للوعد. واما كسر (إن) في قوله " فإنه
غفور رحيم " فلان ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن ثم حمل قوله " ومن عاد
147

فينتقم الله منه " (1) على إرادة المبتدأ بعد الفاء وحذفه.
ومن فتح (أن) في قوله " انه " فإنه جعل (ان) الأولى بدلا من الرحمة
كأنه قال كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من عمل منكم. واما فتحها بعد
الفاء فإنه غفور رحيم، فعلى انه أضمر له خبرا تقديره، فله انه غفور رحيم أي
فله غفرانه. أو اضمر مبتدأ تكون (أن) خبره، كأنه قال فأمره انه غفور رحيم
واما قراءة نافع: بفتح الأولى وكسر الثانية فالقول فيهما انه أبدل من
الرحمة واستأنف ما بعد الفاء. قال سيبويه: بلغنا ان الأعرج قرأ " انه من
عمل... فإنه غفور رحيم ". ونظيره قول ابن مقبل:
واني إذا ملت ركابي مناخها * فاني على حظي من الامر جامح
يريد ان قوله: (واني إذا ملت ركابي) محمول على ما قبله كما أن قوله
" انه من عمل " محمول على ما قبله. وقوله: فاني على حظي مستأنف مثل
قوله " فإنه غفور رحيم " مستأنف به منقطع عما قبله.
قال الفراء: واختاره الزجاج ويجوز ان يحمل (فإنه) على التكرار،
قال: لان الكتاب يحتاج إلى (ان) مرة واحدة ولكن الخبر هو موضعها فلما
دخلت في ابتداء الكلام أعيدت إلى موضعها، كما قال: " أيعدكم انكم إذا
متم وكنتم ترابا وعظاما انكم مخرجون " (2) فلما كان موضع (ان) أيعدكم انكم
مخرجون إذا متم دخلت في أول الكلام وآخره. ومثله " كتب عليه انه من
تولاه فإنه يضله " (3) ومثله " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فان له " (4)
قال ولك ان تكسر (ان) بعد الفاء في هذه الأحرف. قال أبو علي هذا غير
صحيح، لان (من) لا يخلو من أن تكون للجزاء الجازم الذي بني اللفظ عليه
أو تكون موصولة، ولا يجوز ان يقدر التكرير مع الموصولة فلو كانت موصولة

(1) سورة 5 المائدة آية 98.
(2) سورة 23 المؤمنون آية 35
(3) سورة 22 الحج آية 4
(4) سورة 9 التوبة آية 64.
148

لبقي المبتدأ بلا خبر، ولا يجوز ذلك في الجزء الجازم، لان الشرط يبقى بلا
جزاء على اثبات الفاء في قوله: (فان له) ويمتنع من أن يكون بدلا لأنه
لا يكون بين المبدل والمبدل منه الفاء العاطفة ولا التي للجزاء، فان قيل: هي
زائدة بقي الشرط بلا جزاء، فإذا بطل الا مران ثبت ما قدمناه.
واما من كسرهما فعلى مذهب الحكاية كأنه لما قال " كتب ربكم على نفسه
الرحمة " قال: " انه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه
غفور رحيم " بالكسر، ودخلت الفاء جوابا للجزاء.
هذه الآية متصلة بالأولى: نهى الله تعالى نبيه (ع) في الأولى عن أن
يطردهم. ثم امره في هذه الآية ان يقول لمن ورد عليه منهم أعني المؤمنين
المصدقين بآيات الله وحججه وبراهينه عربيا كان أو أعجميا ضعيفا كان أو
قويا - " سلام عليكم " فيبدأهم بالتحية، ويبشرهم بالرحمة ويقوي قلوبهم
ويعرفهم أن من أذنب منهم ثم تاب، فتوبته مقبولة كل ذلك خلافا على الكافرين
فيما أرادوه عليه من طردهم والغلظة عليهم.
وقال محمد بن يزيد: السلام في اللغة أربعة أشياء: أحدها - سلمت
سلاما مصدر. وثانيها - السلام جمع سلامة. وثالثها - السلام من أسماء
الله. ورابعها - السلام شجر.
ومعنى السلام الذي هو مصدر سلمت دعاء للانسان ان يسلم في دينه
ونفسه، ومعناه التخلص. والسلام الذي هو اسم الله معناه ذو السلام أي
الذي يملك السلام الذي هو تخليص من المكروه. والسلام الذي هو الشحر،
فهو شجر عظيم سمي بذلك لسلامته من الآفات. والسلام حجار صلبة
لسلامتها من الرخاوة ويسمى الصلح: السلام والسلم والسلم، لان معناه
السلامة من الشر. والسلام دلولها مروة واحدة نحو دلو السقائين. والسلم
السبب إلى لشئ. والسلم الذي يرتقى عليه لأنه يسلمك إلى حيث تريد وقوله
" من عمل منكم سوءا بجهالة " ليس المراد أنهم يجهلون أنه سوء، لأنه لو أتى
149

المسلم ما يجهل أنه سوء لكان كمن لم يتعمد سوءا. وتحتمل الآية أمرين:
أحدهما - انه عمله وهو جاهل بالمكروه فيه أي لم يعرف أن فيه مكروه.
والاخر - انه أقدم مع علمه ان عاقبته مكروهة فآثر العاجل، فجعل جاهلا
لأنه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعاقبة الدائمة
ويحتمل عندي أن يكون أراد " من عمل منكم سوءا بجهالة " بمعنى أنه
لا يعرفها سوءا، لكن لما كان له طريق إلى معرفته وجب عليه التوبة منه، فإذا
تاب قبل الله توبته.
فان قيل: قوله " وأصلح " هل فعل الصلاح شرط في قبول التوبة أولا؟
فإن لم يكن شرطا فلم علق الغفران بمجموعهما.
قيل: لا خلاف أن التوبة متى حصلت على شرائطها التي قدمنا ذكرها في
غير موضع، فإنه يقبل التوبة ويسقط العقاب، وان لم يعمل بعدها عملا صالحا
غير أنه إذا تاب وبقي بعد التوبة، فإن لم يعمل الصالح عاد إلى الاصرار، لأنه
لا يخلو في كل حال من واجب عليه أو ندب من تجديد معرفة الله ومعرفة نبيه،
وغير ذلك من المعارف وكثير من أفعال الجوارح، فاما ان قدرنا اختراعه عقيب
التوبة من غير فعل صلاح، فان الرحمة باسقاط العقاب تلحقه بلا خلاف.
قوله تعالى:
وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55).
آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة الا حفصا و " ليستبين " بالياء. الباقون بالتاء. وقرأ
أهل المدينة " سبيل " بالنصب. الباقون بالرفع.
من قرأ بالتاء ورفع السبيل، فلان السبيل يذكر ويؤنث، فالتذكير لغة
تميم، والتأنيث لغة أهل الحجاز فأنث - هاهنا - كما قال
150

" قل هذه سبيلي " (1).
ومن قرأ بالياء فإنه ذكر السبيل، لأنه الطريق. وهو يذكر، كما قال
" وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا " (2).
ومن قرأ بالتاء، ونصب (السبيل) أراد أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وآله
كأنه قال: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. والنبي صلى الله عليه وآله وإن كان
مستبينا لطريق المجرمين عالما به فيجوز أن يكون ذلك على وجه التأكيد، ولان
يستديم ذلك. ويحتمل أن يكون المراد به الأمة، فكأنه قال ليزداد استبانة،
ولم يحتج ان يقول: ولتستبين سبيل المؤمنين، لان سبيل المجرمين إذا بانت،
فقد بان معها سبيل المؤمنين، لأنها خلافها. ويجوز أن يكون المراد، ولتستبين
سبيل المجرمين ولتستبين سبيل المؤمنين، وحذف إحدى الجملتين لدلالة الكلام
عليه، كما قال " سرابيل تقيكم الحر " (3) ولم يقل تقيكم البرد، لان الساتر
يستر من الحر والبرد، لكن جرى ذكر الحر، لأنهم كانوا في مكانهم أكثر
معاناة له من البرد، وكذلك سبيل المجرمين، خص بالذكر، لان الكلام في
وصفهم، وترك ذكر المؤمنين لدلالة الكلام عليه. وهذه الآية معطوفة على
الآيات التي احتج الله بها على مشركي العرب، وغيرهم فلذلك قال " وكذلك "
أي كما قدمنا " نفصل الآيات " أي نميزها ونبينها ونشرحها لتلزمهم الحجة
و " لتستبين سبيل " من عاند بعد البيان أو ذهب عن فهم ذلك بالاعراض عنه
لمن أراد التفهم منهم، ومن المؤمنين ليجانبوها ويسلكوا غيرها.
قوله تعالى:
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل
لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56)

(1) سورة 12 يوسف آية 108
(2) سورة 7 الأعراف آية 145
(3) سورة 16 النحل آية 81.
151

روي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ " ضللت " بكسر اللام. والقراء كلهم
على فتحها، وهما لغتان. فمن كسر اللام فتح الضاد من " يضل ". ومن فتح
اللام كسر الضاد. فقال " يضل " وقال أبو عبيدة اللغة الغالبة بالفتح.
وروى أبو العالية أن النبي صلى الله عليه وآله قرأ هذه الآية عند الكعبة وأظهر لهم
المفارقة. وهذه الآية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وأمر له بأن يقول للكافرين:
ان الله قد نهاني أن اعبد هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله وتدعونها آلهة
وأنها تقربكم إلى الله زلفى، وأن يقول لهم اني لا أتبع أهواءكم في عبادة
الأوثان، واني لو فعلت ذلك لكنت قد ضللت عن الصواب، وبعدت عن الرشد
ولم أكن من المهتدين إلى الخير والصلاح. ومعناه معنى الشرط وتقديره قد
ضللت ان عبدتها. وقال الزجاج: " وما انا من المهتدين " أي وما أنا من
النبيين الذين سلكوا طريق الهدى.
قوله تعالى:
قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون
به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57)
آية بلا خلاف.
قرأ أهل الحجاز وعاصم " يقص الحق " من القصص وهو المروي عن
ابن عباس ومجاهد. الباقون - بالضاد - المعجمة من فوقها من القضاء. وكان
أبو عمرو يقوي القراءة بالضاد بقوله " وهو خير الفاصلين ". ويقول الفصل
في القضاء لا في القصص ويقوي ذلك بقوله " والله يقضى الحق وهو
يهدي السبيل ".
وحجة من قرأ بالصاد قوله: " نقص عليك أحسن القصص " (1) وقوله:
" ان هذا لهو القصص " (2). وأما الفصل الذي قوى به أبو عمرو قراءته فقد

(1) سورة 12 يوسف آية 3
(2) سورة 3 آل عمران آية 62.
152

جاء الفصل في القول كما جاء في الحكم والقضاء في نحو قوله " انه لقول
فصل " (3) وقال: " أحكمت آياته ثم " فصلت " (4) وقال " نفصل
الآيات " (5) وقال " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا
يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شى " (6) فذكر في القصص
انه تفصيل. والحق في قوله " يقض الحق " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون صفة لمصدر محذوف وتقديره يقضي القضاء الحق
أو يقص القصص الحق.
والثاني - أن يكون مفعولا به يعجل الحق كقول الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أن صنع السوابغ تبع (7)
أي صنعهما داود.
وفي هذه الآية أمر من الله لنبيه ان يقول للكفار انه على بينة من ربه،
أي على أمر بين من معرفة الله وصحة نبوته، لا متبع للهوى.
وقوله " وكذبتم به " الهاء راجعة إلى البيان، لان البينة والبيان واحد،
وتقديره وكذبتم بالبيان الذي هو القرآن. وقال قوم: بينة من ربي من نبوتي
" وكذبتم به " يعني بالله. وعلى الأول يكون تقديره كذبتم بما أتيتكم، لأنه
هو البيان.
وقوله: " ما عندي ما تستعجلون به " (ما) بمعنى ليس. والذي
استعجلوا به يحتمل أمرين:
أحدهما - العذاب، كما قال " ويستعجلونك بالعذاب " (8).
والثاني - أن يكونوا استعجلوا الآيات التي اقترحوها عليه فأعلمهم الله
أن ذلك عند الله وأن الحكم له تعالى " يقض الحق وهو خير الفاصلين " وكتبت

(3) سورة 86 الطارق آية 13
(4) سورة 11 هود آية 1
(5) سورة 10 يونس آية 24
(6) سورة 12 يوسف آية 111
(7) مر تخريجه في 1 / 429 وفي 4 / 88.
(8) سورة 22 الحج آية 47 وسورة 29 العنكبوت آية 53 - 54.
153

يقضى بغير ياء، لأنها أسقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين، كما كتبوا " سندع
الزبانية " (3) بغير واو.
ومن قرأ: بالصاد من القصص حمله على أن جميع ما أنبأ به وأمر به، فهو
من أقاصيص الحق.
وقال الحسن: (البنية) النبوة و (كذبتم به) بالنبوة التي جاءت من عند
الله و " ما تستعجلون به " من العذاب جواب لقولهم: " أتنا بعذاب الله " (4)
وفي قراءة ابن مسعود " يقص بالحق " ولم يقرأ به أحد.
وقوله " يقضى بالحق " يدل على بطلان قول من يقول: ان الظلم والجور
بقضاء الله، لان ذلك كله ليس بحق.
قوله تعالى:
قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الامر بيني وبينكم
والله أعلم بالظالمين (58) آية
امر الله تعالى نبيه ان يقول للكفار لو كان " عندي ما تستعجلون به " من
كون العذاب وانزاله بكم برأيي وإرادتي لفعلت ذلك بكم ولأنزلته عليكم
و " لقضي الامر بيني وبينكم " بذلك ولا نفصل ولا نقطع، ولكن ليس ذلك
إلي وإنما هو إلى الله " والله وأعلم بالظالمين " وبمن ينبغي امهاله منهم ومن
يجب معالجته بالعقوبة فهو يدبر ذلك بحسب ما يعلم من وجه الحكمة والصواب
قوله تعالى:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59) آية بلا خلاف
وهي تمام السبع المثاني.

(3) سورة 96 العلق آية 18.
(4) سورة 29 العنكبوت آية 29.
154

" مفاتح الغيب " معناه الأمور التي بها يستدل على الغائب فتعلم حقيقته،
يقال: فتحت على الرجل، أي عرفته أولا، ويستدل به على آخر، وجملة
يعرف بها التفصيل. ومنه قولهم أفتح علي أي عرفني. قال الزجاج: معناه
وعنده الوصلة إلى علم الغيب وكل ما لا يعلم إذا استعلم.
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا
الله: ان الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري
نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت.
ومعنى الآية أن الله تعالى عالم بكل شئ من مبتدءات الأمور وعواقبها فهو
يعجل ما تعجيله أصلح وأصوب، ويأخر ما تأخيره أصلح واصواب، وأنه الذي
يفتح باب العلم لمن يريد إعلامه شيئا من ذلك من أنبيائه وعباده، لأنه لا يعلم
الغيب سواه، فلا يتهيأ لاحد ان يعلم العباد ذلك، ولا أن يفتح لهم باب العلم
به الا الله، وبين أنه يعلم ما في البر والبحر من الحيوان والجماد. وبين أنه
ما تسقط من ورقة من شجرة الا يعلمها ولا حبة في جوف الأرض وفي ظلماتها
الا ويعلمها ولا رطب ولا يابس جميع أصناف الأجسام، لأنها أجمع لا تخلو
من احدى هاتين الصفتين.
وقوله: " وما تسقط من ورقة الا يعلمها " المعنى أنه يعلمها ساقطة وثابتة
كما تقول: ما يجيئك من أحد الا وأنا أعرفه، معناه الا وانا أعرف في حال
مجيئه. وقوله: " ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس " خبر على
تقدير (من). ويجوز الرفع فيها على معنى ولا تسقط ورقة ولا حبة. ويجوز
ان يرفعه على الابتداء ويقطعه عن الأول ويكون خبره " الا في كتاب مبين ".
وقوله: " في كتاب مبين " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون معناه في علم الله مبين.
وثانيهما - أن يكون " في كتاب مبين " أن يكون الله تعالى أثبت ذلك في
155

كتاب قبل أن يخلقه، كما قال " ما أصاب من مصيبة في الأرض، ولا في أنفسكم
الا في كتاب من قبل أن نبرأها " (1) ويكون الغرض بذلك اعلام الملائكة أنه
علام الغيوب ليدل على أنه عالم بالأشياء قبل كونها. ويجوز أن يكون المراد
بذلك أنه كتب جميع ما يكون ثم امتحن الملائكة بكتبه وتعبدهم باحصائه، كما
تعبد سائر خلقه بما يشاء مما فيه صلاحهم. وقال البلخي: " في كتاب مبين "
أي هو محفوظ غير منسي ولا مغفول كما يقول القائل لصاحبه: ما تصنعه
عندي مسطر مكتوب. وإنما يريد بذلك أنه حافظ له يريد مكافأته عليه،
قال الشاعر:
ان لسلمى عندنا ديوانا
ويجوز أن يكون المراد بذكر الورقة والحبة والرطب والياس التوكيد في
الزجر عن المعاصي والحث على البر والتخويف لخلقه بأنه إذا كانت هذه الأشياء
التي لا ثواب فيها ولا عقاب عليها محصاة عنده محفوظة مكتوبة، فأعمالكم
التي فيها الثواب والعقاب أولى، وهو قول الحسن. وقال مجاهد: البر القفار
والبحار كل قرية فيها ماء. وعن أبي عبد الله: الورقة السقط والحبة الولد.
وظلمات الأرض الأرحام والرطب ما يبقى ويحيا واليابس ما تغيض.
قوله تعالى:
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم
يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم
بما كنتم تعملون (60) آية بلا خلاف.
قوله: " وهو " كناية عن الله تعالى. و " الذي " صفة له " يتوفاكم
بالليل " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الجبائي: يقبضكم، وقال الزجاج: ينيمكم بالليل فيقبضكم

(1) سورة 57 الحديد آية 22.
156

الله إليه، كما قال: " الله يتوفى الأنفس حين موتها " (1).
وقال البلخي: " واختاره الحسين بن علي المغربي " يتوفاكم " بمعنى يحصيكم
عند منامكم واستقراركم، قال الشاعر:
ان بني الادرم ليسوا من أحد * ليسوا من قيس وليسوا من أسد
ولا توفاهم قريش في العدد (2)
معناه لا تحصيهم في العدد.
وقوله: " ويعلم ما جرحتم بالنهار " أي كسبتم، تقول فلان جارحة أهله
أي كاسبهم، ومنه قوله: " وما علمتم من الجوارح مكلبين " (3) أي من
الكواسب التي تكسب على أهلها، وهو قول مجاهد.
وقوله: " ثم يبعثكم فيه " أي في النهار، فجعل انتباههم من النوم بعثا
" ليقضى أجل مسمى " ليستوفى الأجل المسمى للحياة إلى حين الموت. ثم
" إليه مرجعكم " يعني يوم القيامة فيحشرهم الله إلى حيث لا يملك فيه الامر
سواه. " ثم ينبئكم " يعني يخبركم ويعلمكم " بما كنتم تعملون " في الدنيا
فيجازيكم على أعمالكم، وفيها دلالة على خزيهم وحاجتهم، واحتجاج عليهم
أنه لا يستحق العبادة سواه إذ هو الفاعل لجميع ما يستحق به العبادة مما عدده
والقادر عليه دون من يعبدونه من الأوثان والأصنام.
قوله تعالى:
وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء
أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61) ثم ردوا إلى
الله موليهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين (62) آيتان

(1) سورة 39 الزمر آية 42.
(2) مقاييس اللغة 3: 270 واللسان (وفي) وروايته " الادرد " مع حذف
البيت الثاني وجعل الثالث بعد الأول وكذلك في الطبري 11: 405.
(3) سورة 5 المائدة آية 5.
157

كلهم قرأ " توفته رسلنا " بالتاء الا حمزة فإنه قرأ " توفاه ". وحجة من
قرأ بالتاء قوله " كذبت رسل من قبلك " (1) وقوله " إذ جاءتهم الرسل من
بين أيديهم " (2) و " جاءتهم رسلهم بالبينات (3) و " قالت رسلهم " (4)
وحجة حمزة انه فعل متقدم مسند إلى مؤنث غير حقيقي. وإنما التأنيث للجمع،
فهو مثل قوله " وقال نسوة في المدينة " (5) وما أشبه ذلك مما يأتيه تأنيث
الجمع، قال وليس ذلك خلافا للمصحف، لان الألف الممالة تكتب ياء.
وقوله " وهو القاهر " معناه والله المتقدر المستعلي على عباده الذين هو
فوقهم لا على أنه في مكان مرتفع فوقهم وفوق مكانهم، لان ذلك لا يجوز عليه،
لأنه صفة للأجسام. ومثله في اللغة أمر فلان فوق أمر فلان، يراد به أنه أعلى
امرا، وانفذ قولا. ومثله قوله تعالى " يد الله فوق أيديهم " (6) والمراد أنه
أقوى واقدر منهم وانه القاهر لهم.
وقوله: " ويرسل عليكم حفظة " يعني يرسل عليكم ملائكة يحفظون
أعمالكم ويحصونها عليكم ويكتبونها ليعلموا بذلك أن عليهم رقيبا من عند الله
ومحصيا عليهم فينزجروا من عن المعاصي. وبين ان هؤلاء الحفظة هم شهداء عليكم
بهذه الاعمال يوم القيامة.
وقوله " حتى إذا جاء أحدكم الموت " يعني وقت الموت " توفته رسلنا "
يعني قبضت الملائكة روح المتوفى، وهم رسل الله الذين عنا هم الله بهذه الآية.
وقال الحسن: " توفته رسلنا " قال هو ملك الموت وأعوانه وأنهم لا يعلمون
آجال العباد حتى يأتيهم علم ذلك من قبل الله بقبض أرواح العباد. وقوله:

(1) سورة 6 الانعام آية 34
(2) سورة 41 حم السجدة آية 14
(3) سورة 7 الأعراف آية 100 ويونس 10 آية 13 وإبراهيم 14 آية 9
الروم 30 آية 9 وسورة 35 فاطر آية 25 والمؤمن 40 آية 83.
(4) سورة 14 إبراهيم آية 10
(5) سورة 12 يوسف آية 30
(6) سورة 48 الفتح آية 10.
158

" توفته رسلنا " أي تقبضه، والتوفى هو القبض على ما بيناه. ثم إن هؤلاء
الرسل " لا يفرطون " أي لا يقصرون - في قول الزجاج - ولا يغفلون، ولا
يتوانون. وقال الجبائي: لا يأخذون روحه قبل أجله ويبادرون إلى ما أمروا
به عن غير تقصير، ولا تفريط. والمعنى في التوفي ان يعلم العباد أنهم يحصون
إذا ماتوا فلا يرون أنهم يهملون إذا ماتوا وأن أحدا منهم لا يثبت ذكره
ليجزى بعمله.
ثم بين ان هؤلاء الذين تتوفاهم رسلنا يردون بعد الوفاة إلى الله فيردهم
إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه الا الله ولا يملك نفعهم ولا ضرهم
سواه فجعل ردهم إلى ذلك الموضع ردا إلى الله، وبين أنه هو " مولاهم الحق "
لأنه خالقهم ومالكهم، والقاهر عليهم القادر على نفعهم وضرهم، ولا يجوز ان
يوصف بهذه الصفة سواه، فلذلك كان مولاهم الحق. وقال البلخي: (الحق)
اسم من أسماء الله وهو خفض، لأنه نعت لله، ويجوز الرفع على معنى الله
مولاهم الحق، ويجوز ان ينصب على معنى يعني مولاهم، والقراءة بالخفض.
وقوله: " ألا له الحكم " معناه ألا يعلمون أو ألا يقرون ان الحكم يوم
القيامة هو له وحده؟، ولا يملك الحكم في ذلك اليوم سواه، كما قد يملك
الحكم في الدنيا غيره بتمليك الله إياه.
وقوله: " وهو أسرع الحاسبين " روي أنه تعالى يحاسب عباده على مقدار
حلب شاة، وذلك يدل على أنه لا يحتاج ان يكلفهم مشقة وآلة على ما يقوله
المشبهة، لأنه لو كان كذلك لا يحتاج ان يتطاول زمان محاسبته أو أنه يشغله
محاسبته عن محاسبة غيره. وروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قيل له كيف
يحاسب الله الخلق وهم لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم ولا يرونه
والمعنى في الآية أنه تعالى أحصى الحاسبين لما أحصى الملائكة وتوفوا من
الأنفس لا يخفى عليه من ذلك خافية ولا يحتاج في عده إلى فكر ونظر.
159

قوله تعالى:
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا
وخفية لئن أنجينا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل
الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64)
آيتان بلا خلاف.
قرأ يعقوب " قل من ينجيكم " مخففا. الباقون بالتشديد. وقرأ أبو
بكر " وخفية " بكسر الخاء - هاهنا -، وفي الأعراف. وقرأ أهل الكوفة
الا ابن شاهي " أنجانا " على لفظ الاخبار عن الواحد الغائب، وأماله حمزة
والكسائي وخلف. الباقون " أنجيتنا " على وجه الخطاب.
وقرأ أهل الكوفة الا العبسي وهشام وأبو جعفر " قل الله ينجيكم "
بالتشديد. الباقون بالتخفيف. يقال: نجا زيد ينجو، قال الشاعر:
* نجا سالم والنفس منه لشدقه * (1)
فإذا نقلت الفعل حسن ان تنقله بالهمزة فتقول انجيته، ويجوز أن ننقله
بتضعيف العين، فتقول نجيته، ومثله فرحته وأفرحته وعرضته وأعرضته،
قال الله تعالى " فأنجاه الله من النار " (2) " فأنجيناه والذين معه " (3) وقال
" ونجينا الذين " (4) فلما استوت اللغتان وجاء التنزيل بهما تساوت القراءتان.
ووجه قراءة من قرأ " لئن أنجانا " أنه حمله على الغيبة كقوله " تدعونه
... لئن أنجانا "، وكذلك ما بعده " قل الله ينجيكم " " قل هو القادر "
فهذا كله أسماء غيبة ف‍ (أنجانا) أولى من (أنجيتنا) لكونه على ما قبله، وما

(1) اللسان " نجا " نسبه إلى الهذلي وروايته:
نجا عامر والنفس منه بشدقه * ولم ينج الا جفن سيف ومئزرا
(2) سورة 29 العنكبوت آية 4
(3) سورة 7 الأعراف آية 63، 71
(4) سورة 41 حم السجدة آية 18.
160

بعده من لفظ الغيبة، وموضع (يدعونه) نصب على الحال، وتقديره قل من
ينجيكم داعين وقائلين " لئن أنجيتنا ". ومن قرأ من الكوفيين " لئن أنجانا "
طلب المشاكلة. ومن قرأ بالتاء واجه بالخطاب ولم يراع المشاكلة. ويقوي ذلك
قوله في أخرى " لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. قل الله ينجيكم "
فجاء أنجيتنا على الخطاب وبعده اسم غيبة.
وأما إمالة حمزة والكسائي فحسنة، لان هذا النحو من الفعل إذا كان
على أربعة أحرف استمرت فيه الإمالة، لانقلاب الألف ياء في المضارع.
ومن قرأ " خفية " بكسر الخاء، فلان أبا عبيدة قال " خفية " تخفون في
أنفسكم وخفي غيره خفية، وخفية لغتان، وحكي خفوة وخفوة بالواو، كما
قالوا حل حبوته وحبيته، ولا يقرأ بذلك. فأما قوله " تضرعا وخيفة " ففعلة من
الخوف. وانقلبت الواو، للكسرة. والمعنى ادعوا خائفين خافيين، قال الشاعر:
فلا تقعدن على زخة * وتضمر في القلب وجدا وخيفا (1)
يريد جمع خيفة.
أمر الله تعالى نبيه ان يخاطب الخلق ويقول لهم على وجه التقريع لمن يعبد
الأصنام منهم - " من ينجيكم من ظلمات البر والبحر " ومعناه شدائد البر
والبحر، تقول العرب لليوم الذي يلقى فيه الشدة: يوم مظلم حتى أنهم يقولون:
يوم ذو كواكب أي قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل، قال الشاعر:
ابني أسد هل تعلمون بلاءنا * إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
وقال آخر:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي * إذا كان يوم ذو كواكب أشهب (2)
فمعنا ظلمات البر والبحر شدائدهما. وقوله: " تدعونه... وخفية "
أي مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشئ والحاجة و " تدعونه...

(1) قائله صخر الغي. اللسان " زخخ ". الزخ والزخة " بتشديد الخاء ":
الحقد والغيظ.
(2) اللسان " شهب " أنشده سيبويه. في المطبوعة " أشنع " بدل (اشهب).
161

خفيه " أي تدعونه في أنفسكم بما تضمرون من حاجاتكم إليه كما تظهرون.
وقوله " لئن أنجيتنا من هذه " أي في شدة وقعوا فيها، يقولون " لئن
أنجيتنا من هذه " لنشكرنك، فأمر الله ان يسألهم على وجه التوبيخ لهم والتقرير
بأنه ينجيهم وأنه القادر على نفعهم وضرهم. ثم أعلمهم ان الله الذي أقروا بأنه
ينجيهم هو ينجيهم ثم هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها من صنعهم
وأنها لا تضر ولا تنفع وأنه تعالى على تعذيبهم قادر.
قوله تعالى:
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من
تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض
أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65) آية بلا خلاف
هذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار: ان الله قادر
على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم نحو الحجارة التي أمطرها على قوم لوط،
والطوفان الذي غرق به قوم نوح " أو من تحت أرجلكم " نحو الخسف الذي
نال قارون ومن خسف به " أو يلبسكم شيعا " معنى يلبسكم يخلط أمركم خلط
اضطراب، لا خلط اتفاق يقال: لبست عليه الامر ألبسه إذا لم تبينه، وخلطت
بعضه ببعض، ومنه قوله " وللبسنا عليهم ما يلبسون " (1) ويقال لبست
الثوب ألبسه. ومعنى " شيعا " أي يجعلكم فرقا لا تكونون شيعة واحدة
فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا وهو معنى قوله " ويذيق بعضكم بأس
بعض " وإنما يلبسهم الله شيعا بأن يكلهم إلى أنفسهم ولا يلطف لهم اللطف
الذي يؤمنون عنده ويخليهم من ألطافه بذنوبهم السالفة، فيلبس عند ذلك
عليهم أمرهم، فيختلفوا حتى يذوق بعضهم بأس بعض. ثم أكد الاحتجاج
عليهم، فقال: " انظر كيف نصرف الآيات " لتفقهوا.

(1) سورة 6 الانعام آية 9.
162

وقال الحسن: الآية متناولة، لأهل الكتابين في التهديد بالخسف،
وانزال العذاب " أو يلبسكم شيعا " يتناول أهل الصلاة. وقال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: (سألت ربي أن لا يظهر على أمتي أهل دين غيرهم فأعطاني،
وسألته ألا يهلكم جوعا فأعطاني، وسألته أن لا يجمعهم على ضلالة، فأعطاني،
وسألته أن لا يلبسهم شيعا، فمنعني ذلك).
وفي الآية دلالة على أنه تعالى أراد من الكفار الايمان، لأنه قال: فعلت
هذا بهم " لعلهم يفقهون " ومعناه لكي يفقهوا، لان معنى الشك لا يجوز عليه
تعالى. وإذا ثبت أنها دخلت للغرض ثبت أنه أراد ان يؤمنوا به ويوحدوه،
ويفقهوا أدلته ويعرفوها.
وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال معنى " عذابا من فوقكم " السلطان
الجائر " ومن تحت أرجلكم " السفلة، ومن لا خير فيه " أو يلبسكم شيعا "
قال: " العصبية " ويذيق بعضكم بأس بعض " قال سوء الجوار، ويكون معنى
البعث على هذا الوجه التمكين ورفع الحيلولة دون أن يفعل ذلك أو يأمر به،
يتعالى الله عن ذلك.
قوله تعالى:
وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66)
لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون (67).
آية في المدنيين والبصري وآيتان في الكوفي، آخر الأولى " بوكيل ".
قوله تعالى " وكذب به قومك " أي بما صرف من الآيات التي ذكرها في
الآية الأولى - في قول البلخي والجبائي - وقال الأزهري: الهاء راجعة إلى
القرآن. ثم أخبر تعالى، فقال " وهو الحق " وأمره أن يقول لقومه " لست
عليكم بوكيل " أي لم أؤمر بمنعكم من التكذيب بآيات الله وان أحفظكم من
ذلك وان أحول بينكم وبينه، لان الوكيل على الشئ هو القائم بحفظه،
والذي يدفع الضرر عنه.
163

وقال البلخي: هذه نزلت بمكة قبل أن يؤمر بالقتال، ثم امر فيما بعد
ذلك. وأمره ان يخبرهم ان " لكل نباء " يخبرهم به " مستقر " وهو وقته
الذي يعلمون فيه صحة ما وعدهم به وحقيقته، وذلك عند كون مخبره، اما
في الدنيا، واما في الآخرة " وسوف تعلمون " فيه تهديد لهم بكون ما أخبرهم
به من العذاب النازل بهم في الدنيا والآخرة، ووقت كون هذا العذاب هو
مستقر الخبر. وقال بعضهم: أنبأه الله بالوقت الذي يظفره فيه بهم. وقال
الزجاج يجوز أن يكون أراد وقت الاذن في محاربتهم حتى يدخلوا في الاسلام
أو يقبلوا الجزية ان كانوا أهل كتاب.
وقوله: " وكذب به قومك " المراد به الخصوص، لان في قومه جماعة
صدقوا به، وهو كما يقول القائل: هؤلاء عشيرتي، يشير إلى جماعة وان لم
يكونوا جميع عشيرته.
قوله تعالى:
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى
يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا
تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68) آية بلا خلاف
قرأ ابن عامر " وأم ينسينك " بتشديد السين. الباقون بالتخفيف.
خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بهذه الآية، فقال له " إذا رأيت " هؤلاء
الكفار " الذين يخوضون في آياتنا ". قال الحسن، وسعيد بن جبير: معنى
" يخوضون " يكذبون " بآياتنا " وديننا والخوض التخليط في المفاوضة على
سبيل العبث واللعب، وترك التفهم واليقين. ومثله قول القائل: تركت القوم
يخوضون، أي ليسوا على سداد، فهم يذهبون ويجيئون من غير تحقيق ولا
قصد للواجب - أمره حينئذ ان يعرض عنهم " حتى يخوضوا في حديث غيره "
لان من حاج من هذه حاله وأراد التبيين له فقد وضع الشئ في غير موضعه
164

وحط من قدر الدعاء، والبيان والحجاج. ثم قال له صلى الله عليه وآله ان أنساك الشيطان
ذلك " فلا تقعد بعد الذكرى " - والذكرى والذكر واحد - " مع القوم
الظالمين " يعني هؤلاء الذين يخوضون في ذكر الله وآياته. ثم رخص للمؤمنين
بقوله: " وما على الذين يتقون من حسابهم " (1) بأن يجالسوهم إذا كانوا
مظهرين للتكبر عليهم غير خائفين منهم، ولكن ذكرى يذكرونهم أي ينبهونهم
ان ذلك يسوءهم " لعلهم يتقون " ثم نسخ ذلك بقوله " وقد نزل عليكم في
الكتاب ان إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها " إلى قوله: " انكم إذا
مثلهم " (2) وبهذا قال سعيد بن جبير والسدي وجعفر بن مبشر، واختاره
البلخي وقال: في أول الاسلام كان ذلك يخص النبي صلى الله عليه وآله ورخص المؤمنين
فيه، ثم لما عز - الاسلام، وكثر المؤمنون نهوا عن مجالستهم ونسخت الآية.
واستدل الجبائي بهذه الآية على أنه لا يجوز على الأئمة المعصومين على
مذهبنا التقية. (وقال: لأنهم إذا كانوا الحجة كانوا مثل النبي، وكما لا يجوز
عليه التقية فكذا الامام - على مذهبكم -)!
وهذا ليس بصحيح، لأنا لا نجوز على الامام التقية فيما لا يعرف الا من
جهته، كالنبي وإنما يجوز التقية عليه فيما يكون عليه دلالة قاطعة موصلة إلى
العلم، لان المكلف علته مزاحة في تكليفه، وكذلك يجوز في النبي صلى الله عليه وآله أن
لا يبين في الحال، لامته ما يقوم منه بيان منه أو من الله أو عليه دلالة عقلية،
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله لعمر حين سأله عن الكلالة فقال (يكفيك آية الصيف)
وأحال آخر في تعرف الوضوء على الآية، فأما ما لا يعرف الا من جهته، فهو
والامام فيه سواء لا يجوز فيهما التقية في شئ من الاحكام.
واستدل الجبائي أيضا بالآية على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان
قال بخلاف ما يقوله الرافضة بزعمهم من أنه لا يجوز عليهم شئ من ذلك. وهذا
ليس بصحيح أيضا لأنا نقول إنما لا يجوز عليهم السهو والنسيان فيما يؤدونه
عن الله، فأما غير ذلك فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهو عنه مما لم يؤد ذلك إلى

(1) سورة 6 الانعام آية 69
(2) سورة 4 النساء آية 139.
165

الاخلال بكمال العقل، وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون
ويغشى عليهم، والنوم سهو وينسون كثيرا من متصرفاتهم أيضا وما جرى لهم
فيما مضى من الزمان، والذي ظنه فاسد.
وقال أيضا في الآية دلالة على وجوب انكار المنكر لأنه تعالى أمره
بالاعراض عنهم على وجه الانكار والازدراء لفعلهم وكل أحد يجب عليه ذلك
اقتداء بالنبي.
قوله تعالى:
وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن
ذكرى لعلهم يتقون (69) آية بلا خلاف.
لهذه الآية تأويلان:
أحدهما - قال الجبائي والزجاج وأكثر المفسرين ان المراد ليس على المتقين
من حساب الكافرين وما يخوض فيه المشركون، ولا من مكروه عاقبته شئ
" ولكن ذكرى " أي نهوا عن مجالستهم ليزدادوا تقى وأمروا ان يذكروهم
وينبهوهم على خطأهم لكي يتقي المشركون إذا رأوا أعراض هؤلاء المؤمنين
عنهم، وتركهم مجالستهم فلا يعودون لذلك.
والثاني - قال البلخي: ليس على المتقين من الحساب يوم القيامة مكروه
ولا تبعة ولكنه أعلمهم بأنهم محاسبون وحكم بذلك عليهم لكي يعلموا أن الله
يحاسبهم، فيتقوا فعلى الأول الهاء والميم كناية عن الكفار وعلى الثاني
عن المؤمنين.
و (ذكرى) يحتمل أن يكون في موضع رفع ونصب، فالنصب على
تقدير ذكرهم ذكرى والرفع على وجهين: أحدهما - ولكن عليكم ان تذكروهم،
كما قال: " ان عليك الا البلاغ " (1) والثاني - على تقدير ولكن الذي يأمرونهم

(1) سورة 42 الشورى آية 48.
166

به ذكرى ليتقوا عذاب الله.
وقال أبو جعفر (ع): لما نزلت " فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين "
قال المسلمون كيف نصنع إن كان كلما استهزء المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم
فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام، فأنزل الله تعالى " وما
على الذين يتقون من حسابهم من شئ " وأمرهم بتذكيرهم وتبصيرهم
ما استطاعوا.
قوله تعالى:
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم
الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل
عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا
لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون
(70) آية عند الجميع.
معنى قوله " ذر " دع يقال: وذر يذر مثل ودع يدع، فإذا أمرت منه
قلت: ذركما قال " ذرهم يأكلوا ".
وقوله " الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " يعني هؤلاء الكفار الذين
وصفهم انهم اتخذوا دين الله لعبا ولهوا، لأنه لا معنى لمحاجة من كانت هذه
سبيله، لأنه لاعب عابث، لا يصغي لما يقال له، فالمكلم له والمحتج عليه غير
منتفع ولا نافع. وقد قطع الله عذر هؤلاء الذين يذهبون مذهب اللعب بما
أدركوه بعقولهم، وما شاهدوه من آياته " وغرتهم الحياة الدنيا ". ثم امر
نبيه صلى الله عليه وآله ان يذكر به، يعني القرآن. وقيل الحساب، لكي لا تبسل نفس
بما كسبت أي تدفع إلى الهلكة على وجه الغفلة وتسلم لعملها غير قادرة على
167

التخلص، قال الشاعر في الغريب المضيف:
وابسالي بني بغير جرم * بعوناه ولا بدم مراق (1)
أي اسلامي إياهم. بعوناه اجترمناه، والبعو الجناية. وقيل: معنى
تبسل ترهن ويسلم لعمله. قال الأخفش: معنى " تبسل " تجازى من ابسل
ابسالا، ومنه قوله " أولئك الذين أبسلوا " (2) قال الكسائي: " تبسل
تجزى يعني في الكلام. وقال الفراء: معناه يسلم ويقال اعط الراقي بسلته أي
أجرته على رقيته. ويقال أسد باسل، معناه ان معه من الاقدام ما يستبسل له
قرنه، ويقال هذا بسل أي حرام، وهو بسل أي حلال. وهذا من الأضداد.
" شراب من حميم " قال الضحاك الحميم هو الماء الذي احمي حتى انتهى
غليانه.
وقوله: " وان تعدل كل عدل " قال بعضهم ان يفد كل فدية يريد ان
يجعلها عدلا لها من قوله " لا يقبل منها عدل " (3) وقال غيره معناه وان تقسط
كل قسط لا يقبل منها في ذلك اليوم لان التوبة إنما هي في الحياة الدنيا. ثم
أخبر تعالى انه ليس لهؤلاء الكفار " ولي ولا شفيع " أي لا ناصر لهم، ولا من
يسأل فيهم وأخبر أيضا أن هؤلاء في قوله " أولئك الذين أبسلوا " هم الذين
يجازون بما كسبوا وان لهم شرابا من حميم وعقابا أليما بما كانوا يكفرون،
نعوذ بالله منها. وقيل: ما من أمة الا ولهم عيد يلعبون فيه ويلهون، الا أمة
محمد فان أعيادهم صلاة وتكبير ودعاء وعبادة.
قوله تعالى:
قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا
ونرد على أعقابنا بعد إذ هدينا الله كالذي استهوته
الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى

(1) تفسير الطبري 11 / 445 ومجاز القرآن 1 / 149 واللسان " بعمل "
(2) سورة 6 الانعام آية 70
(3) سورة 2 البقرة آية 123.
168

الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب
العالمين (71) آية بلا خلاف.
قرأ حمزة " استهواه الشياطين " بألف ممالة، الباقون بالتاء المعجمة من
فوق قال أبو عبيدة " كالذي استهوته الشياطين " أي استمالت به، ذهبت به،
ومنه " فأزلهما الشيطان عنها " (1) وكذلك هوى وأهوى غيره، قال تعالى:
" والمؤتفكة أهوى " (2) يقال أهويته واستهويته، كما قال " فأزلهما الشيطان "
و " إنما استزلهما الشيطان " (3)، فكما أن أزله بمعنى استزله كذلك استهواه
بمنزلة أهواه، وكما أن معنى استجابه أجابه في قول الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب (4)
وقرأ حمزة هاهنا مثل قراءته " توفاه " وكلا المذهبين حسن.
وقوله: " استهواه " إنما هو من قولهم: هوى من حالق إذا تردى منه.
ويشبه به الذي زل عن الطريق المستقيم، كما أن زل إنما هو من العباد، والمكان
أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله والمؤمنين أن يقولوا لهؤلاء الذين يدعونهم إلى عبادة
الأوثان والأصنام " أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا " ان عبدناه، ولا يضرنا ان
تركنا عبادته " ونرد على أعقابنا " بعد الهدى والرشاد وبعد معرفتنا بالله وتصديق رسله
إلى الضلال، وذلك مثل يقال فيمن رجع عن خير إلى شر: رجع على عقبيه،
وكذلك إذا خاب من مطلبه، يقال رد على عقبيه، ويصير في الحيرة " كالذي
استهوته الشياطين في الأرض حيران " لا يهتدي إلى طريق، ولا معرفة " له
أصحاب يدعونه " إلى الطريق الواضح وهو الهدى ويقولون له " ائتنا "
ولا يقبل منهم، ولا يصير إليهم غير أنه لذهاب عقله من فعل الله، فيستولي
الشيطان حينئذ عليه، ولا يقبل من أحد لحيرته. شبه الله به الكافر الذي يرجع

(1) سورة 2 البقرة آية 36
(2) سورة 53 النجم آية 53
(3) سورة 3 آل عمران آية 155
(4) انظر / 131.
169

عن ايمانه وهداه إلى الضلال. قال ولا يقدر أحد من الشياطين على اذهاب عقل
أحد، لأنهم لو قدروا على ذلك لسلبوا عقول العلماء من حيث إنهم أعداؤهم،
فلما لم يقدروا على ذلك دل على أنه لا يقدر على ذلك الا الله.
ثم أمره الله أن يقول لهؤلاء الكفار " ان هدى الله
هو الهدى " أي دلالة الله لنا على توحيده وأمر دينه هو الهدى
الذي يؤدي المستدل به إلى الفلاح والرشاد في دينه وهو الذي يجب أن يعمل
عليه ويستدل به دون ما يدل عليه غيره من سوى أمور الدين. وقوله " وأمرنا
لنسلم لرب العالمين " معناه أمرنا أن نسلم أمورنا لله رب العالمين وان نفوضها إليه
ونتوكل عليه لا على غيره مما يعبده المشركون.
و " حيران " نصب الحال، وتقديره كالذي استهونه الشياطين في حال
حيرته. وقوله " له أصحاب يدعونه إلى الهدى " قيل: نزلت في عبد الرحمن
ابن أبي بكر، كان أبواه يدعوانه إلى الايمان ويقولان له " ائتنا "، أي تابعنا
في ايماننا " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " تقول العرب: أمرتك ان تفعل وأمرتك
لتفعل وأمرتك بأن تفعل، فمن قال: أمرتك بأن تفعل، فالباء للالصاق. والمعنى
وقع الامر بهذا الفعل. ومن قال أمرتك أن تفعل حذف الباء، ومن قال أمرتك
لتفعل المعنى أمرنا للاسلام. قال الزجاج: يكون اللام لام التعليل والتقدير
أمرنا كي نسلم قال الشاعر:
أريد لا نسي ذكرها فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل (1)
أي كي أنسى. وقال الطبري: معناه وأمرنا لنخضع له بالذلة والطاعة
ونخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة.
قوله تعالى:
وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون
(72) آية بلا خلاف.

(1) مر هذا البيت في 3 / 174 وهو في مجمع البيان 2 / 319.
170

تحتمل هذه الآية وجهين:
أحدهما - أن يكون التقدير أمرنا لان نسلم، ولان نقيم الصلاة.
والثاني - أن يكون محمولا على المعنى، لان معناه أمرنا بالاسلام،
وإقامة الصلاة، وموضع (أن) نصب، لان الباء لما أسقطت أفضى الفعل،
فنصب. ويحتمل أن يكون محمولا على قوله " يدعونه إلى الهدى ائتنا " وان
" أقيموا الصلاة " أي ويدعونه أن أقيموا الصلاة. وهذه الآية موصولة بالتي
قبلها أي " أمرنا لنسلم لرب العالمين " وقيل لنا " أقيموا الصلاة واتقوه " اي
اتقوا رب العالمين بأن تجتنبوا معاصيه وتتقوا عقابه. ثم بين أنه " هو الذي
إليه تحشرون " أن تجمعون إليه يوم القيامة فيجازي كل عامل منكم بعمله،
وتوفى كل نفس بما كسبت.
قوله تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول
كن فيكون. (*) قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في
الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير (72)
آيتان في البصري والمدنيين وآية في الكوفي.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام،
ويدعون المؤمنين إلى عبادتها " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " الذي خلق السماوات
والأرض بالحق، وفي معنى بالحق قولان:
أحدهما - قال الحسن والبلخي والجبائي والزجاج والطبري: ان معناه
خلقهما للحق لا للباطل. ومعناه خلقهما حقا وصوابا لا باطلا وخطأ، كما قال
تعالى: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا " (1) وأدخلت الباء

(1) سورة 38 ص آية 27.
171

والألف واللام كما أدخلت في نظائرها يقولون: فلان يقول بالحق، بمعنى أنه
يقول الحق، لا أن الحق معنى غير القول بل التقدير ان خلق الله السماوات
والأرض حكمة وصواب من حكم الله، وهو موصوف بالحكمة في خلقهما
وخلق ما سواهما من جميع خلقه لا أن هناك حقا سوى خلقهما خلقهما به، وذلك يدل
على بطلان ما يقوله المجبرة: ان هذا كله باطل وسفه، وما يخالف الحكمة هو من
فعل الله، تعالى الله عن ذلك.
والثاني - قال قوم: معنى ذلك أنه خلق السماوات والأرض بكلامه،
وهو قوله " ائتيا طوعا أو كرها " (2) قالوا: فالحق هو كلامه واستشهدوا على
ذلك بقوله " ويوم يقول كن فيكون قوله الحق " (3) أن الحق هو قوله
وكلامه. قالوا والله خالق الأشياء بكلامه، وذلك يوجب أن يكون كلامه قديما
غير مخلوق، وقد بينا فساد هذا الوجه فيما تقدم، والمعتمد الأول.
وقوله " ويوم يقول كن فيكون " نصب (يوم) على وجوه:
أحدها - على معنى واتقوا " يوم يقول كن فيكون " نسقا على الهاء
كما قال: " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا " (4).
والثاني - أن يكون على معنى واذكر يوم يقول كن فيكون لان بعده
" وإذ قال إبراهيم " والمعنى واذكر " يوم يقول كن فيكون " واذكر " إذ قال
إبراهيم " وهو الذي أختاره الزجاج.
والثالث - أن يكون معطوفا على " السماوات والأرض بالحق " وخلق
" يوم يقول كن فيكون ". فان قيل: ان يوم القيامة لم يخلق بعد؟ قيل:
ما أخبر الله بكونه فحقيقة واقع له محالة وقال قول: التمام عند قوله " كن "
وقوله " فيكون قوله الحق " ابتداء أي ما وعدوا به من الثواب وحذروا به من
العقاب كائن حق قوله بذلك.

(2) سورة 41 حم السجدة آية 11
(3) سورة 6 الانعام آية 73
(4) سورة 2 البقرة آية 48.
172

وقوله " كن فيكون " قال قوم هو خطاب للصور. والمعنى ويوم يقول
للصور كن فيكون. وقد بينا فيما مضى أن ذلك عبارة عن سرعة الفعل
وتيسيره وانه لا يتعذر عليه شئ بمنزلة أن يقول كن فيكون، لا أن هناك
أمر على الحقيقة وكيف يكون هناك أمر والامر لا يتوجه الا إلى الحي القادر؟!
والمعدومات والجمادات لا يحسن أمرها ولا خطابها. والغرض بالآية الدلالة
على سرعة أمر البعث والساعة، كأنه قال ويوم يقول للخلق: موتوا فيموتون
وانتشروا فينتشرون الا يتعذور عليه ولا يتأخر عن وقت ارادته. وقيل
" يوم يقول كن فيكون قوله الحق " أي يأمر فيقع امره. والحق من صفة
قوله. كما يقول القائل قد قلت، فكان قولك. والمعنى ليس انك قلت فكان الكلام.
وإنما المعنى انه كان ما دل عليه القول وعلى القول الأول يرفع (قوله)
بالابتداء و (الحق) خبر الابتداء. وحكي عن قوم من السلف " فيكون "
بالنصب باضمار (ان). وتقديره كن فأن يكون، وهذا ضعيف.
وقوله " وله الملك يوم ينفخ في الصور " يحتمل نصب " يوم ينفخ "
ثلاثة أوجه:
أحدها - أن يكون متعلقا ب‍ (له الملك) والتقدير له الملك يوم ينفخ في الصور
وإنما خص ذلك اليوم بأن الملك له كما خصه في قوله " لمن الملك اليوم لله
الواحد القهار ". وقرأ بعضهم " ينفخ " بفتح الياء. و " عالم الغيب
والشهادة " فاعل (ينفخ) وهو شاذ، روي عن ابن عباس ذلك، والوجه أنه لا يبقى
ملك من ملكه الله في الدنيا أو يغلب عليه بل ينفرد هو تعالى بالملك.
والثاني - أن يكون يوم ينفخ بيانا على قوله " يوم يقول كن فيكون "
الثالث - أن يكون منصوبا ب‍ (قوله الحق). والمعنى وقوله الحق
يوم ينفخ، الصور. والوجه في اختصاص ذلك اليوم بالذكر ما بيناه في
الوجه الأول، لان قوله حق في جميع الأوقات. وفي معنى الصور قولان:
أحدهما - ما عليه أكثر المفسرين من أنه اسم لقرن ينفخ فيه الملك
173

فيكون منه الصوت الذي يصعق له أهل السماوات وأهل الأرض، ثم ينفخ
فيه نفخة أخرى للنشور، وهو الذي اختاره البلخي والجبائي والزجاج
والطبري وأكثر المفسرين.
والثاني - أنه جمع صورة مثل قولهم سورة وسور اختاره أبو عبيدة.
وقرأ بعضهم في الشواذ في الصور بفتح الواو وذلك يقوى ما قاله أبو
عبيدة، ويكون تقديره يوم ينفخ في الأموات. ويقوي الأول قوله تعالى
" ونفخ في الصور فصعق من في السماوات " ثم قال " ثم نفخ فيه أخرى " (1)
ولم يقل فيها أخرى أو فيهن وذلك يدل على أنه واحد. وروى أبو سعيد
الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن وحنا
جنبيه وأصغا سمعه ينتظر ان يؤمر، فينفخ؟! قالوا: فكيف نقول يا رسول
الله؟ قال قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
والعرب تقول نفخ الصور ونفخ في الصور، قال الشاعر:
لولا ابن جعدة لم يفتح قهندركم * ولا خراسان حتى ينفخ الصور (1)
وروي عن ابن عباس ان الصور يعني به النفخة الأولى. ثم بين انه عالم
الغيب والشهادة اي ما يشاهده الخلق وما لا يشاهدونه وما يعلمونه ومالا
يعلمونه، ولا يخفى عليه شئ من ذلك. وبين انه الحكيم في أفعاله الخبير
العالم بعباده وبأفعالهم، ورفع عالم الغيب لأنه نعت للذي في قوله " وهو
الذي خلق السماوات والأرض بالحق عالم الغيب والشهادة " ويحتمل أن يكون
اسم ما لم يسم فاعله كما يقولون اكل طعامك عبد الله، فيظهر اسم
فاعل الاكل بعدان قد جرى الخبر بما لم يسم فاعله، والأول أجود، فأما من
فتح الياء في ينفخ فإنه جعل عالم الغيب فاعله مرتفعا به.
قوله تعالى:
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة

(1) سورة 39 الزمر آية 68.
174

إني أريك وقومك في ضلال مبين (74) آية بلا خلاف.
قرأ أكثر القراء (آزر) بنصب الراء. وقرأ أبو بريد المدني والحسن
البصري ويعقوب بالضم. فمن قرأ بالنصب جعل (آزر) في موضع خفض
بدلا من أبيه. ومن قرأ بالضم جعله منادى مفردا وتقديره يا آزر.
وقال الزجاج: لا خلاف بين أهل النسب ان اسم أبي إبراهيم تارخ والذي
في القرآن يدل على أن اسمه (آزر) وقيل (آزر) ذم في لغتهم كأنه قال:
وإذ قال إبراهيم لأبيه يا مخطئ أتتخذ أصناما فعلى هذا قال الزجاج الاختيار
الرفع. قال: ويجوز أن يكون وصفا له كأنه قال وإذ قال إبراهيم لأبيه
المخطئ. قال الزجاج: وقيل (آزر) اسم صنم، فموضعه نصب على اضمار
الفعل، كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر، وجعل (أصناما) بدلا
من آزر وأشباهه. فقال بعد أن قال أتتخذ آزر إلها أتتخذ أصناما آلهة.
والذي قاله الزجاج يقوي ما قاله أصحابنا، ان آزر كان جده لامه أو كان
عمه، لان أباه كان مؤمنا من حيث ثبت عندهم أن آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم
كلهم كانوا موحدين لم يكن فيهم كافر، وحجتهم في ذلك اجماع الفرقة
المحقة، وقد ثبت أن اجماعها حجة لدخول المعصوم فيها، ولا خلاف بينهم في
هذه المسألة. وأيضا روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: نقلني الله من أصلاب
الطاهرين إلى أرحام الطاهرات لم يدنسني بدنس الجاهلية، وهذا خبر
لا خلاف في صحته، فبين النبي صلى الله عليه وآله أن الله نقله من أصلاب الطاهرين فلو
كان فيهم كافر لما جاز وصفهم بأنهم طاهرون، لان الله وصف المشركين بأنهم
أنجاس، فقال " إنما المشركون نجس " (1) ولهم في ذلك أدلة لا نطول بذكرها
الكتاب لئلا يخرج عن الغرض.
واختلفوا في معنى (آزر) هل هو اسم أو صفة، فقال السدي ومحمد

(1) سورة 9 التوبة آية 29.
175

ابن إسحاق وسعيد بن عبد العزيز والجبائي والبلخي: انه اسم أبي إبراهيم،
وهو تارخ كما قيل ليعقوب: إسرائيل، قالوا: ويجوز أن يكون لقبا غلب
عليه. وقال مجاهد: ليس آزر أبا إبراهيم وإنما هو اسم صنم. وقال قوم
هو سب وعبث بكلامهم، ومعناه معوج. و (إذ) في الآية متعلقة بقوله
واذكر " إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة " والألف الف انكار
لا استفهام وإن كان قد خرج مخرج الاستفهام.
وقوله " اني أراك في ضلال مبين " يعني في ضلال عن الصواب وقوله
" مبين " يدل على أنه قال ذلك منكرا، والمبين هو البين الظاهر، والغرض
بالآية حث النبي صلى الله عليه وآله على محاجة قومه الذين يدعونه إلى عبادة الأصنام
والازدراء على فعلهم والاقتداء في ذلك بأبيه إبراهيم صلى الله عليه وآله وصبره على
محاجة قومه العابدين للأصنام ليتسلى بذلك ويقوي دواعيه إلى ذلك.
والأصنام جمع صنم وهو مثال من حجر أو خشب أومن غير ذلك في صورة
انسان وهو الوثن. وقد يقال للصورة المصورة على صورة الانسان في
الحائط وغيره صنم ووثن.
قوله تعالى:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون
من الموقنين (75) آية بلا خلاف.
معنى قوله " وكذلك نري إبراهيم ملكوت " أي مثل ما وصفنا من قصة
إبراهيم من قوله لأبيه ما قال نريه " ملكوت السماوات " أي انا كما أريناه
أن قومه في عبادة الأصنام ضالون كذلك نريه ملكوت السماوات والأرض
وقيل في معنى الملكوت أقوال: قال الزجاج، والفراء والبلخي والجبائي
والطبري وهو قول عكرمة: ان الملكوت بمنزلة الملك غير أن هذه اللفظة أبلغ
من الملك، لان الواو والتاء يزادان للمبالغة. ومثل الملكوت الرغبوت
176

والرهبوت ووزنه (فعلوت) وفى المثل (رهبوت خير من رغبوت) * ومن روى
(رهبوتي خير من رحموتي) معناه أن يكون له هيبة يرهب بها خير من
أن يرحم.
وقال مجاهد (ملكوت السماوات والأرض) ملكهما بالنبطية.
وقال الضحاك: يعني خلقهما، وبه قال ابن عباس، وقتادة. وروي عن
مجاهد أيضا أن معناه آيات السماوات والأرض. وروي عن مجاهد وابن
عباس أيضا أنه أراد بذلك ما أخبر الله عنه أنه أراه من النجوم والشمس
والقمر، حين خرج من المغارة، وبه قال قتادة. وقال الجبائي: المعنى انا كنا
نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض والحوادث الدالة على أن الله مالك
لها، ولكل شئ بنفسه، لا يملكه سواه، فأجرى الملكوت على المملوك الذي
هو في السماوات والأرض مجازا.
وقوله " وليكون من الموقنين " أي أريناه ملكوت السماوات ليستدل
به على الله وليكون من الموقنين أن الله هو خالق ذلك والمالك له. والموقن
هو العالم الذي يتيقن الشئ بعد أن لم يكن مثبتا، ولهذا لا يوصف تعالى
بأنه متيقن كما يوصف بأنه عالم، لأنه تعالى عالم بها فيما لم يزل،. وقال أبو
جعفر (ع): كشط الله له السماوات والأرض حتى رآهن وما عليهن من الملائكة وحملة
العرش، وذلك قوله: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ".
فان قيل كيف يجوز أن يرى ما تحت الأرضين والأرض حجاب لما تحتها
وكذلك السماء فوقها؟
قلنا: لا يمتنع أن يجعل الله تعالى منها خروقا ومنافذ ويقوي شعاعه حتى
ينفذ فيها فيرى ما فوقها وما تحتها ولا يمنع من ذلك مانع، ومثل هذا روي
عن مجاهد والسدي وسعيد بن جبير وسلمان.
قوله تعالى:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل
177

قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي
فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم
الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر
فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون (78) إني
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين (79) أربع آيات بلا خلاف.
قرأ ابن ذكوان، وحمزة والكسائي وخلف، ويحيى والكسائي عن أبي
بكر (رأى) بكسر الراء وإمالة والهمزة منه ومن قوله " رأى أيديهم " (1) في
هود، و " رآى قمصه " و " رأى برهان ربه " في يوسف (2) و " رأى
نارا " في طه (3) و " لقد رأى " في النجم (4) سبعة مواضع. وهو ما لم يقله
ساكن ولم يتصل بمكنى، وافقهم العليمي في " رأى كوكبا " حسب.
وقرأ أبو عمرو - بفتح الراء - وإمالة الهمزة فيهن. الباقون بفتح الراء
والهمزة. فأن لقي (رأى) ساكنا، وهو ستة مواضع هاهنا: " رأى القمر "
و " رأى الشمس " وفي النحل " وإذا رأى الذين أشركوا " (5) وفي الكهف
" ورأي المجرمون " (6) وفى الأحزاب " ولما رأى المؤمنون " (7) بكسر الراء
وكسر الهمزة فيهن حمزة وخلف وبصير وأبو بكر الا الأعشى. البرجمي.
الباقون بفتح الراء والهمزة فان اتصل رأى بمكنى نحو (رآه ورآك ورآها) فكسر

(1) سورة 11 هود آية 70
(2) آية 24 وآية 28.
(3) آية 10 (4) آية 18.
(5) آية 85، 86
(6) آية 54.
(7) آية 22.
178

الراء وامال الهمزة حيث وقع حمزة والكسائي وخلف ويحيى والكسائي عن
أبي بكر.
وقرأ أبو عمرو والداحوني عن ابن ذكوان - بفتح الراء وإمالة الهمزة - الباقون
بفتحهما. قال أبو علي الفارسي: وجه قراءة من لم يملها انه ترك الإمالة كما
تركوا الإمالة في قولهم: دعا، ورمى. فلما لم يمل الألف لم يمل الألف التي
قبلها، كما أمالها من يرى الإمالة ليميل الألف نحو الياء.
ومن قرأ بين الفتح والكسر كما قرأ نافع، فلا يخلو أن يريد الفتحتين اللتين
على الراء والهمزة، أو الفتحة التي على الهمزة وحدها، فإن كان يريد فتحة
الهمزة فإنما أمالها نحو الكسرة ليميل الألف التي في " رأى " نحو الياء كما أمال
الفتة التي عدل الدال من (هدى) والميم من (رمى). وإن كان يريد أنه أمال
الفتحتين جميعا التي على الراء والتي على الهمزة، فإمالة فتحة الهمزة على ما تقدم
ذكره، واما إمالة الفتحة التي على الراء فإنما أمالها لاتباعه إياها إمالة فتحة
الهمزة، كأنه امال الفتحة كما أمال الألف في قولك: رأيت عمادا، إذ الفتحة
الممالة بمنزلة الكسرة فكما أميلت الفتحة في قولك: من عامر، لكسرة الراء
كذلك أميلت فتحة الراء من (رأى) لإمالة الفتحة التي على الهمزة. والتقديم
والتأخير في ذلك سواء.
ومن كسر الراء والهمزة فالوجه فيه أنه كسر الراء من (رأى) لان المضارع
منه على (يفعل) وإذا كان المضارع منه على (يفعل) كان الماضي على (فعل)
ألا ترى ان المضارع في الامر العام إذا كان على (يفعل) كان الماضي على فعل.
وعلى هذا قالوا: إيت بيتنا، فكسروا حرف المضارعة. كما كسروا في نحو
يحيى، ويعلم، ويفهم. وكسروا الياء أيضا في هذه الحروف، فقالوا: إيتنا،
ولم يكسروها في (يعلم ويفهم) إذا كان الماضي على فعل فيما يترك كسر الراء
التي هي فاء، لأن العين همزة. وحروف الحلق إذا جاءت في كلمة على زنة
(فعل) كسرت فيها الفاء لكسر العين في الاسم والفعل، نحو قولهم: غير قعر،
179

ورجل حبر، وفحل، وفي الفعل نحو (شهد ولعب ونعم) فكسرة الياء على
هذا كسرة مخلصة محضة، وليست بفتحة ممالة، واما كسرة الهمزة فإنه يراد
به إمالة فتحتها إلى الكسرة، لتميل الألف نحو الياء.
ومن ترك الإمالة إذا لقيها ساكن، فإنهم كانوا يميلون الفتحة لميل الألف
نحو الياء، فلما سقطت الألف بطلت إمالتها بسقوطها، وبطلت بذلك إمالة الفتحة
نحو الكسرة لسقوط الألف التي كانت الفتحة الممالة لميلها نحو الياء في مثل
(رأى الشمس) و (رأى القمر) ونحوهما في جميع القرآن. ومن وافق في بعض
ذلك دون بعض أحب الاخذ باللبس.
ووجه قراءة أبي بكر وحمزة في (رأى الشمس) ورأي القمر) بكسر
الراء وفتح الهمزة في جميع القرآن، أن كسر الراء إنما هو للتنزيل الذي
ذكرناه، وهو معنى منفصل من إمالة فتحة الهمزة، ألا ترى انه يجوز ان يعمل
هذا المعنى من لا يرى الإمالة كما يجوز ان يعمله من يراها. وإذا كان كذلك
كان انفصال أحدهما من الاخر سائغا غير ممتنع. فأما رواية يحيى عن أبي بكر
- بكسر الراء والهمزة معا - فإنما يريد بكسرة الهمزة إمالة فتحتها، فوجه
كسر الراء قد ذكروا إمالة فتحها مع زوال ما كان يوجب إمالتها من حذف الألف،
فلان الألف محذوفة لالتقاء الساكنين. وما يحذف لالتقاء الساكنين ينزل تنزيل
المثبت. ألا ترى انهم أنشدوا:
ولا ذاكر الله الا قليلا (1)
فنصب الاسم بعد (ذاكر) وان كانت النون محذوفة لما كان الخذف
لالتقاء الساكنين. والحذف لذلك في تقدير الاثبات، من حيث كان التقاؤهما
غير لازم ولذلك لم تزد الألف في نحو (رمت المرأة) ويشهد لذلك أنهم قالوا:
شهد، فكسروا الفاء لكسر العين، ثم أسكنوا فقالوا - شهد، فأبقوا الكسرة
في الفاء مع زوال ما كان أصلها وانشد قول الأخطل:

(1) مر تخريجه في 2 / 72.
180

إذا غاب عنا غاب عنا فرأتنا * وان شهد أجدى فضله وجداوله (2)
وقالوا: صعق، ثم نسبوا إليه فقالوا: صعقي، فأقروا كسرة الفاء مع
زوال كسرة العين التي لها كسرت الفاء. وزعم أبو الحسن ان ذلك لغة مع ما فيه
من وجوه التلبيس وأنها قراءة.
يقال: جن عليه الليل، وجنة الليل، وأجنه، وأجن عليه، ومع حذف
" على " فأجنه بالألف أفصح من جنه الليل. وكل ذلك مسموع، فلغة أسد
جنه الليل، ولغة تميم أجنه، والمصدر من جن عليه جنا وجنونا وجنانا وأجن
إجنانا. ويقال: أتانا فلان في جن الليل. والجن مشتق من ذلك، لأنهم استجنوا
عن أعين الناس، فلا يرون، وكلما توارى عن أبصار الناس، فان العرب تقول:
قد جن. ومنه قول الهذلي:
وماء وردت قبيل الكرى * وقد جنه السدف الأدهم (3)
وقال عبيد:
وخرق تصيح الهام فيه مع الصدى * مخوف إذا ما جنه الليل مرهوب (4)
وتقول: أجننت الميت إذا واريته في اللحد وجننته وهو مثل جنون الليل
في معنى غطيته وسمي الترس مجنا لأنه يجن اي يغطي، وقال الشاعر:
فلما أجن الليل بتنا كأننا * على كثرة الاعداء محترسان
قوله " فلما جن عليه الليل " أي أظلم. وقوله " فلما أفل " معناه غاب
يقال: أفل يأفل أفولا، وتقول أين أفلت عنا، وأين غبت عنا، قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها * نجوم ولا بالآفات الد والك (5)

(1) ديوانه 64
(3) هكذا في المطبوعة والمخطوطتين وتفسير الطبري 11 / 479 وروي
" وماء وردت على خيفة " و " على جفنه " و " قبل الصباح ". ديوان
الهذليين 3: 56 واللسان " سدف " " جنن ".
(4) ديوانه 38 والطبري 11 / 479.
(5) ديوانه: 245 ومجاز القرآن 1 / 199 واللسان والتاج " دلك " -.
181

وقوله " رأى القمر بازغا " أي طالعا، يقال: بزغت الشمس بزوغا
إذا طلعت، وكذلك القمر، وقوله للشمس " هذا ربي " وهي مؤنثة معناه هذا
الشئ الطالع ربي أو على أنه حين ظهرت الشمس وقد كانوا يذكرون الرب في
كلامهم، فقال لهم هذا ربي؟!
وقيل في معنى هذه الآية وجوه أربعة:
الوجه الأول - ما قاله الجبائي: ان ما حكى الله عن إبراهيم في هذه
الآية كان قبل بلوغه، وقبل كمال عقله ولزوم التكليف له، غير أنه لمقاربته
كمال العقل خطرت له الخواطر وحركته الشبهات والدواعي على الفكر فيما
يشاهده من هذه الحوادث، فلما رأى الكوكب - وقيل: انه الزهرة - وبان نوره
مع تنبيهه بالخواطر على الفكر فيه وفي غيره ظن أنه ربه، وأنه هو المحدث لما شاهده
من الأجسام وغيرها " فلما أقل قال لا أحب الآفلين " لأنه صار منتقلا من حال
إلى حال وذلك مناف لصفات القديم " فلما رأى القمر بازغا " عند طلوعه رأى
كبره واشراق ما انبسط من نوره في الدنيا " قال هذا ربي " فلما راعاه وجده
يزول ويأفل، فصار عنده بحكم الكوكب الذي لا يجوز أن يكون بصفة الاله،
لتغيره وانتقاله من حال إلى حال، " فلما رأى الشمس بازغة " أي طالعة قد
ملأت الدنيا نورا ورأي عظمها وكبرها " قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت " وزالت
وغابت، فكانت شبيهة بالكوكب والقمر قال حينئذ لقومه " اني برئ مما
تشركون " فلما أكمل الله عقله ضبط بفكره النظر في حدوث الأجسام بأن
وجودها غير منفكة من المعاني المحدثة، وأنه لا بدلها من محدث، قال حينئذ
لقومه " اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض... " إلى آخرها.
والوجه الثاني - ما قاله البلخي وغيره: من أن هذا القول كان من إبراهيم
في زمان مهلة النظر، لان مهلة النظر مدة، الله العالم بمقدارها، وهي أكثر من

والطبري 11: 485 والأزمنة 49 وكتاب القرطين 1: 26. ويصف الإبل
بأنها مصابيح اي تصبح في مبركها فلا تقف في الطريق.
182

ساعة. وقال البلخي: وأقل من شهر، ولا يدري ما بينهما الا الله، فلما أكمل
الله عقله وخطر بباله ما يوجب عليه النظر وحركته الدواعي على الفكر والتأمل
له. قال ما حكاه الله، لان إبراهيم (ع) لم يخلق عارفا بالله، وإنما اكتسب
المعرفة لما أكمل الله عقله، وخوفه من ترك النظر بالخواطر، فلما رأى
الكوكب - وقيل هو الزهرة - رأى عظمها واشراقها وما هي عليه من عجيب
الخلق، وكان قومه يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها آلهة - قال هذا ربي؟!
على سبيل الفكر والتأمل لذلك، فلما غابت وأفلت، وعلم أن الأفول لا يجوز
على الله علم أنها محدثة متغيرة لتنقلها، وكذلك كانت حاله في رؤية القمر
والشمس، وأنه لما رأى أفولهما قطع على حدوثهما واستحالة إلهيتهما، وقال
في آخر كلامه " اني برئ مما تشركون اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفا وما أنا من المشركين " وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله
وعلمه بأن صفات المحدثين لا تجوز عليه.
فان قيل: كيف يجوز ان يقول: هذا ربي مخبرا، وهو يجوز أن يكون
مخبره لا على ما اخبر، لأنه غير عالم بذلك، وذلك قبيح في العقول، ومع
كمال عقله لابد أن يلزمه التحرز من الكذب؟!
قلنا عن ذلك جوابان:
أحدهما - أنه قال ذلك فارضا مقدرا، لا مخبرا بل على سبيل الفكر
والتأمل، كما يقول الواحد منا لغيره إذا كان ناظرا في شئ ومحتملا بين كونه
على إحدى صفتين: انا نفرضه على إحداهما لننظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه
من صحة أو فساد، ولا يكون بذلك مخبرا، ولهذا يصح من أحدنا إذا
نظر في حدوث الأجسام وقدمها ان يفرض كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه
ذلك الفرض من الفساد.
والثاني - انه اخبر عن ظنه وقد يجوز أن يكون المفكر المتأمل ظانا في
حال نظره وفكره ما لا أصل له ثم يرجع عنه بالأدلة والعلم ولا يكون ذلك
183

منه قبيحا.
فان قيل: ظاهر الآيات يدل على أن إبراهيم ما كان رأى هذه الكواكب
قبل ذلك، لان تعجبه منها تعجب من لم يكن رآها، فكيف يجوز أن يكون إلى
مدة كمال عقله لم يشاهد السماء وما فيها من النجوم؟!
قلنا: لا يمتنع أن يكون ما رأى السماء الا في ذلك الوقت، لأنه روي أن
أمه ولدته في مغارة لا يرى السماء، فلما قارب البلوغ وبلغ حد التكليف خرج
من المغارة ورأي السماء وفكر فيها. وقد يجوز أيضا أن يكون رآها غير أنه
لم يفكر فيها ولا نظر في دلائلها، لان الفكر لم يكن واجبا عليه، فلما كمل
عقله وحركته الخواطر فكر في الشئ الذي كان يراه قبل ذلك ولم يكن
مفكرا فيه.
والوجه الثالث - ان إبراهيم لم يقل ما تضمنته الآيات على وجه الشك
ولا في زمان مهلة النظر بل كان في تلك الحال عالما بالله وبما يجوز عليه، فإنه
لا يجوز أن يكون بصفة الكوكب، وإنما قال ذلك على سبيل الانكار على قومه
والتنبيه لهم على أن ما يغيب وينتقل من حال إلى حال لا يجوز أن يكون إلها
معبودا، لثبوت دلالة الحدث فيه. ويكون قوله " هذا ربي " محمولا على
أحد وجهين.
أحدهما - أي هو كذلك عندكم وعلى مذهبكم كما يقول أحدنا للمشبه
على وجه الانكار عليه: هذا ربي جسم يتحرك ويسكن وإن كان عالما
بفساد ذلك.
والثاني - أن يكون قال ذلك مستفهما وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء
عنه، كما قال الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا (1)
وقال آخر:

(1) ديوانه 41، وقد مر في 1: 403، 475.
184

لعمرك ما أدري وان كنت داريا * بسبع رمين الجمر أم بثمانيا (1)
وقال ابن أبي ربيعة:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا * عدد النجم والحصى والتراب (2)
وقال أوس بن حجر:
لعمرك ما أدري وان كنت داريا * شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر (3)
وإنما أراد أشعيب بن سهم أم شعيب بن منقر.
فان قيل: حذف حرف الاستفهام إنما يجوز إذا كان في الكلام عوضا منه
نحو (أم) للدلالة عليه، ولا يستعمل مع فقد العوض، وفى الأبيات عوض عن
حرف الاستفهام، وليس ذلك في الآية.
قلنا: قد يحذف حرف الاستفهام مع ثبوت العوض تارة وأخرى مع
فقده إذا زال اللبس، وبيت ابن أبي ربيعة ليس فيه عوض ولا فيه حرف
الاستفهام، وانشد الطبري:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع * فقلت وأنكرت الوجوه هم هم (4)
أي أهم هم؟، وروي عن ابن عباس في قوله " فلا اقتحم العقبة " أنه
قال معناه أفلا اقتحم العقبة، وحذف حرف الاستفهام. وإذا جاز ان يحذفوا
حرف الاستفهام لدلالة الخطاب جاز أن يحذفوه لدلالة العقل، لان دلالة العقل
أقوى من غيرها.
والوجه الرابع - أن إبراهيم قال ذلك على وجه المحاجة لقومه بالنظر كما
يقول القائل: إذا قلنا: ان لله ولدا لزمنا أن نقول له زوجة، وان يطأ النساء

(1) تفسير القرطبي 7 / 27.
(2) ديوانه: 117 " طبعة بيروت سنة 1311 ه‍ ".
(3) شواهد المغني: 15 والكامل للمبرد 1 / 384، 2 / 115 والبيان
والتبيين 4 / 40 وسيبويه 1 / 845 وتفسير الطبري 11 / 484 وغيرها.
(4) قائله أبو خراش الهذلي، ديوان الهذليين 2: 144 واللسان (رفأ)
(رفو) والقرطبي 7 / 26 و (رفوني) اي اسكنوني من الرعب.
185

وأشباه ذلك، وليس هذا على * وجه الاقرار والاخبار والاعتقاد بذلك، بل
على وجه المحاجة فيجعلها مذهبا ليرى خصمه المعتقد لها فسادها.
وكل هذه الآيات فيها تنبيه لمشركي العرب وزجر لهم عن عبادة الأصنام
وحث على الاخذ بدين إبراهيم أبيهم وسلوك سبيله في النظر والفكر والتدين،
لأنهم كانوا قوما يعظمون أسلافهم وآباءهم فأعلمهم الله تعالى ان اتباع الحق
من دين أبيهم الذي يقرون بفضله أوجب عليهم إن كان بهم تعظيم الاباء
والكراهة لمخالفتهم.
وفي الآية دلالة على أن معرفة الله ليست ضرورية، لأنها لو كانت ضرورية
لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال على ذلك، ولكان يقول لقومه: كيف تعبدون
الكواكب وأنتم تعلمون حدوثها وحدوث الأجسام ضرورة، وتعلمون ان لها
محدثا على صفات مخصوصة ضرورة، وما كان يحتاج إلى تكلف الاستدلال
والتنبيه على هذا.
وقوله " لئن لم يهدني ربي " معناه لئن لم يلطف بي ويسددني ويوفقني
لإصابة الحق في توحيده " لأكونن من القوم الضالين " الذين ضلوا عن الحق
وأخطأوا طريقه، فلم يصيبوا الهدى. وليس الهداية - ههنا - الأدلة، لان الأدلة
كانت سبقت حال زمان النظر، فان التكليف لا يحسن من دونها ولا يصح
مع فقدها.
وقوله في الشمس " هذا أكبر " يعني من الكواكب وحذف لدلالة
الكلام عليه. وقوله " اني وجهت وجهي " معناه أخلصت عبادتي وقصدت بها
إلى الله الذي خلق السماوات والأرض. وفيه اخبار عن إبراهيم واقرار منه
واعتراف بأنه (ع) خالف قومه أهل الشرك، ولم يأخذه في الله لومة لائم،
ولم يستوحش من قول الحق لقلة تابعيه. وقال لهم " اني برئ مما تشركون "
مع الله - الذي خلقني وخلقكم - في عبادته من آلهتكم بل " وجهت وجهي "
في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض الذي يبقى ولا يفني، الحي
186

الذي لا يموت. وأخبر انه يوجه عبادته ويخلصها له تعالى. والاستقامة في
ذلك لربه على ما يجب من التوحيد لا على الوجه الذي توجه له من حيث ليس
بحنيف. ومعنى الحنيف هو المائل إلى الاستقامة على وجه الرجوع فيه. وقوله
" وما أنا من المشركين " اني لست منكم، ولا ممن يدين بدينكم، ويتبع ملتكم
أيها المشركون.
قوله تعالى:
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا
أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع
ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون (80) آية عند الجيع
قرأ أهل المدينة وابن ذكوان " أتحاجوني " بتخفيف النون. الباقون
بتشديدها.
وقرأ الكسائي والعبسي " وقد هداني " بالإمالة. الباقون بالتفخيم.
قال أبو علي: من شدد فلا نظر في قوله. ومن خفف فإنه حذف النون
الثانية لالتقاء الساكنين. والتضعيف يكره، فيتوصل إلى ازالته تارة بالحذف
نحو علم أني فلان، وتارة بالابدال نحو لا املاه عني تفارقا، ونحو ديوان
وقيراط، فحذفوا الثانية منهما كراهية التضعيف. ولا يجوز أن يكون المحذوفة
الأولى، لان الاستثقال يقع بالتكرير في الامر الأعم وفي الأولى أيضا أنها
دلالة الاعراب ولذا حذفت الثانية كما حذف الشاعر في قوله:
ليتي أصادفه وافقد بعض مالي (1).
وقال بعضهم حذف هذه النون لغة غطفان. وحكى سيبويه هذه القراءة
مستشهدا بها في حذف النونات كراهية التضعيف. اما إمالة (هداني) فحسنة،

(1) قائله زيد الخيل، اللسان (ليت) وروايته.
كمنية جابر إذ قال ليتي * أصادفه وأتلف جل مالي.
187

لأنه من هدى يهدي، فهو من الياء. وإذا كانوا أما لوا (غزا، ودعا)، لأنه
قد يصير إلى الياء في غزي ودعي. فهذا لا اشكال في حسنه.
قوله " وحاجة قومه " يعني في وجوب عبادة الله وترك عبادة آلهتهم
وخوفوه من تركها وان لا يأمن ان تخبله آلهتهم من الأصنام وغيرها، فقال
لهم إبراهيم (ع) " أتحاجوني في الله وقد هداني " بأن وفقني لمعرفته ولطف
بي في العلم بتوحيده وترك الشرك واخلاص العبادة له " ولا أخاف ما تشركون
به " أي لا أخاف منه ضررا ان كفرت به ولا أرجو نفعا إن عبدته، لأنه بين صنم
قد كسر، فلم يدفع عن نفسه أو نجم دل أفوله على حدوثه، فكيف تحاجوني
وتدعونني إلى عبادة من لا يخاف ضرره ولا يرجا نفعه " الا أن يشاء ربي
شيئا " فيه قولان:
أحدهما - الا أن يقلبها الله، فيحييها ويقدرها فتضر وتنفع، فيكون
ضررها ونفعها إذ ذاك دليلا على حدوثها أيضا، وعلى توحيد الله وأنه المستحق
للعبادة دون غيره وانه لا شريك له في ملكه، ثم أثنى عليه تعالى فأخبر بأنه عالم
بكل شئ، وأمرهم بالتذكر والتدبر لما أورده عليهم مما لا يدفعونه ولا يقدرون
على انكاره ان انصفوا.
الثاني - قال الحسن: قوله: " ولا أخاف ما تشركون به " أي لا أخاف
الأوثان " الا أن يشاء ربي شيئا " استوجبه على الله تعالى، أو يشاء الله ان
يدخلني في ملتكم بالكفر. والأول هو الأجود.
(أتحاجوني) أصله (أتحاجونني) بنونين إحداهما للجمع والأخرى
لاسمه، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فشددت ومثله (تأمرونني) وقد
يخفف مثل هذا في بعض المواضع، قال الشاعر:
أبا لموت الذي لابد أني * ملاق لا أباك تخوفيني
فجاء بنون واحدة وخففها، والأول أجود وأكثر في العربية.
188

قوله تعالى:
وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم
بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق
بالا من إن كنتم تعلمون (81) آية بلا خلاف.
في هذه الآية احتجاج من إبراهيم (ع) على قومه وتأكيد لما قدم من
الحجاج لأنه قال لهم: وكيف تلزمونني ان أخاف ما أشركتم به من الأوثان
المخلوقة وقد تبين حالهم، وانهم لا يضرون ولا ينفعون، وأنتم لا تخافون من
هو القادر على الضر والنفع بل تتجرؤون عليه وتتقدمون بين يديه بأن تجعلوا
له شركاء في ملكه وتعبدونهم من دونه، فأي الفريقين أحق بالأمن: نحن
المؤمنون الذين عرفنا الله بأدلته ووجهنا العبادة نحوه؟ أم أنتم المشركون بعبادته
غيره من الأصنام والأوثان؟ ولو أطرحتم الميل والحمية والعصبية لما وجدتم
لهذا الحجاج مدفعا.
وقوله " ما لم ينزل به سلطانا " أي حجة لان السلطان هو الحجة في أكثر
القرآن، وذلك يدل على أن كل من قال قولا واعتقد مذهبا بغير حجة مبطل.
وقوله " ان كنتم تعلمون " معناه ان كنتم تستعملون عقولكم وعلومكم
وتحكمونها على ما تهوونه وتميل إليه أنفسكم.
وفي الآية دلالة على فساد قول من يقول بالتقليد وتحريم النظر والحجاج،
لان الله تعالى مدح إبراهيم لمحاجته لقومه وامر نبيه بالاقتداء به في ذلك فقال
" وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " (1). ثم قال بعد ذلك: " أولئك
الذين هدى الله فبهداهم اقتده " اي بأدلتهم اقتده.

(1) آية 83 من هذه السورة.
189

قوله تعالى:
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم
مهتدون (82) آية عند الجميع.
تحتمل هذه الآية أن تكون اخبارا عن الله تعالى دون الحكاية عن إبراهيم
بأنه قال تعالى: ان من عرف الله تعالى وصدق به وبما أوجب عليه ولم يخلط
ذلك بظلم، فان له الامن من الله بحصول الثواب والأمان من العقاب وهو
المحكوم له بالاهتداء - وهو قول ابن إسحاق وابن زيد والطبري والجبائي
وابن جريج - وقال البلخي: ان ذلك من قول إبراهيم، لأنه لما قطع خصمه
وألزمه الحجة أخبر ان الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإنهم الآمنون
المهتدون. قال: وكذلك يفعل من وضحت حجته وانقطع بعد البيان خصمه.
والظلم المذكور في الآية هو الشرك عند أكثر المفسرين: ابن عباس وسعيد
ابن المسيب وقتادة ومجاهد وحماد بن زيد وأبي بن كعب وسلمان (رحمة الله
عليه) قال أبي ألم تسمع قوله " ان الشرك لظلم عظيم " (1) وهو قول حذيفة.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال لما نزلت هذه الآية شق على الناس،
وقالوا يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه، فقال: انه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا
إلى ما قال العبد الصالح " يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم " (2).
وقال الجبائي والبلخي وأكثر المعتزلة: انه يدخل فيه كل كبيرة تحبط
ثواب الطاعة، قال فان من هذه صورته لا يكون آمنا ولا مهتديا. قال البلخي:
ولو كان الامر على ما قالوه انه يختص بالشرك لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة
إذا كان مؤمنا يكون آمنا وذلك خلاف القول بالارجاء.
وهذا الذي ذكروه خلاف أقاويل المفسرين من الصحابة والتابعين. وما

(1) سورة 31 لقمان آية 13.
(2) سورة 31 لقمان آية 13.
190

قاله البلخي لا يلزم لأنه قول بدليل الخطاب لان المشرك غير آمن بل هو مقطوع
على عقابه بظاهر الآية، ومرتكب الكبيرة غير آمن لأنه يجوز العفو، ويجوز
المؤاخذة وإن كان ذلك معلوما بدليل، وظاهر قوله " ولم يلبسوا ايمانهم بظلم "
وإن كان عاما في كل ظلم، فلنا ان نخصه بدليل أقوال المفسرين وغير ذلك من
الأدلة الدالة على أنه يجوز العفو من غير توبة. وروي عن علي (ع): أن
الآية مخصوصة بإبراهيم. وقال عكرمة مختصة بالمهاجرين. واما الظلم في
أصل اللغة فقد قال الأصمعي هو وضع الشئ في غير موضعه، قال الشاعر
يمدح قوما:
هرت الشقاشق ظلامون للجزر (1)
فوصفهم انهم ظلامون للجزر، لأنهم عرقبوها فوضعوا النحر في غير
موضعه، وكذلك الأرض المظلومة سميت بذلك لأنه صرف عنها المطر، ومنه
قول الشاعر:
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (2)
سماها مظلومة لأنهم كانوا في سفر فتحوضوا حوضا لم يحكموا صنعته
ولم يضعوه في موضعه.
قوله تعالى:
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من
نشاء إن ربك حكيم عليم (83) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة ويعقوب " درجات من نشاء " الباقون بالإضافة، من
أضاف ذهب إلى أن المرفوعة هي الدرجات لمن نشاء ومن نون أراد ان المرفوع
صاحب الدرجات، وتقديره نرفع من نشاء درجات، والدرجات معناها المراتب.

(1) مقاييس اللغة 3: 469 وصدره: (عاد الأذلة في دار وكان بها).
(2) اللسان " بين "، " ظلم ".
191

وفي أصل اللغة هي المراقي فشبه علو المنازل بها.
أخبر الله تعالى ان الحجج التي ذكرها إبراهيم لقومه آتاه الله إياها وأعطاها
إياه، بمعنى انه هداه لها فإنه احتج بها بأمر الله ورضيها منه وصوبه فيها،
ولهذا جعلها حجة على الكفار.
وقوله " نرفع درجات من نشاء " من المؤمنين الذين يؤمنون بالله ويطيعونه
ويبلغون من الايمان والدعاء إلى الله منزلة عظيمة وأعلا درجة ممن لم يبلغ من
الايمان مثل منزلتهم، وبين انه حكيم فيما يدبره من أمور عباده عليم بهم
وبأعمالهم، وفي ذلك دلالة على صحة المحاجة والمناظرة في الدين والدعاء إلى
توحيد الله والاحتجاج على الكافرين، لأنه تعالى مدح ذلك واستصوبه. ومن
حرم الحجاج فقد رد - صريح القرآن.
قوله تعالى:
ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل
ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون
وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى
والياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس
ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86) ومن آبائهم وذرياتهم
وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (87) ذلك
هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم
ما كانوا يعملون (88) أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم
والنبوة فان يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا
192

بها بكافرين (89) أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده قل
لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90) سبع آيات
قرأ حمزة والكسائي وخلف (اليسع) بتشديد اللام، وفتحها وسكون
الياء هاهنا، وفي (ص). الباقون بسكون اللام وفتح الياء. قال الزجاج
التشديد والتخفيف لغتان. وقال أبو علي الألف واللام ليستا للتعريف بل هما
زائدتان وكان الكسائي يستصوب القراءة بلامين ويخطئ من قرأ بغيرهما كأن
الاسم عنده (ليسع) ثم يدخل الألف واللام. قال ولو كانت (يسع) لم يجز
أن يدخل الألف واللام، كما لا يدخل في (يزيد) و (يحيى). قال الأصمعي
فقلت له، ف‍ (اليرصع) من الحجارة و (اليعمل) من الإبل و (اليحمد) حي
من اليمن، فكأنما ألقمته حجرا، وبعدها فانا قد سمعناهم يسمعون ب‍ (يسع)
ولم نرهم يسمعون ب‍ (ليسع). وقال الفراء: القراءة بالتشديد أشبه بالأسماء
العجمية التخفيف. قال لأنهم لا يكادون يدخلون الألف واللام في ما لا يجر مثل
(يزيد، ويعمر) الا في الشعر أنشدني بعضهم:
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كاهله (1)
قال وإنما أدخلوا الألف واللام في يزيد لدخولهما في الوليد، فإذا فعلوا
ذلك فقد أمسوا الحرف مدحا.
قوله (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) الهاء في (له) كناية عن إبراهيم (ع)
" كلا هدينا " نصب كلا ب‍ (هدينا) و (نوحا هدينا من قبل) معناه هديناه
قبل إبراهيم. وقوله (ومن ذريته داود وسليمان) تقديره وهدينا داود وسليمان

(1) معاني القرآن 1 / 342 وشواهد المغني 60 وخزانة الأدب 1 / 327
وتفسير الطبري 11 / 511، وأمالي ابن الشجري 1 / 154 و 2 / 252، 342. من
شعر يمدح به الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان.
193

نسقا على نوح. ويحتمل أن يكون قوله " ومن ذريته " الهاء راجعة إلى نوح
لان الأنبياء المذكورين كلهم من ذريته. قال الزجاج ويجوز أن يكون من
ذريته إبراهيم لان ذكرهما جميعا قد جرى، وأسماء الأنبياء التي جاءت بعد
قوله " ونوحا هدينا من قبل " نسق على (نوح) نصب كلها، ولو رفعت على
الابتداء كان صوابا. قال أبو علي الجبائي: الهاء لا يجوز أن تكون كناية عن
إبراهيم، لان فيمن عدد من الأنبياء لوطا وهو كان ابن أخته، وقيل ابن أخيه،
ولم يكن من ذريته.
وهذا الذي قاله ليس بشئ، لأنه لا يمنع أن يكون غلب الأكثر. وجميع من
ذكر من نسل إبراهيم، على أنه قال فيما روى عنه ابن مسعود أن الياس:
إدريس، وهو جد نوح، ولم يكن من ذريته، ومع هذا لم يطعن على قول
من قال: إنها كناية عن نوح. وقال ابن إسحاق: الياس هو ابن أخي موسى
ويجوز أن تكون الهاء كناية عن إبراهيم ويكون من سماهم إلى قوله " وكل
من الصالحين " من ذريته، ثم قال " وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا "
فعطفهم على قوله " ونوحا هدينا ".
وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله، لان
عيسى جعله الله من ذرية إبراهيم أو نوح، وإنما كانت أمه من ذريتهما،
والوجه في الآيات أن الله تعالى أخبر أنه رفع درجة إبراهيم بما جعل في ذريته
من الأنبياء وجزاه بما وصل إليه من السرور والابتهاج عندما أعلمه عن ذلك وبما
أبقى له من الذكر الرفيع في الاعقاب، والجزاء على الاحسان لذة وسرور من
أعظم السرور وأكثر اللذات إذا علم الانسان بأنه يكون من عقبة وولده
المنسوبين إليه أنبياء يدعون إلى الله ويجاهدون في سبيله ويكونون ملوكا
وخلفاء يطيعون الله ويحكمون بالحق في عباد الله.
ثم اخبر انه جزى نوحا بمثل ذلك على قيامه في الدعاء إليه والجهاد في
سبيله. والهداية في الآيات كلها هو الارشاد إلى الثواب دون الهداية التي هي
194

نصب الأدلة، لأنه تعالى قال في آخر الآيات: " وكذلك نجزي المحسنين "
فبين أن ذلك جزاء ولا يليق إلا بالثواب الذي يختص به المحسنون دون الهداية
التي هي الدلالة ويشترك فيها المؤمن والكافر، وهو قول أبي علي الجبائي
والبلخي.
وقوله: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " إشارة إلى
من تقدم ذكره من الأنبياء.
وقوله " فان يكفر بها هؤلاء " يعني الكفار الذين جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وآله
في ذلك الوقت، " فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " معنى (وكلنا بها)
اي وكلنا بمراعاة أو النبوة وتعظيمها والاخذ بهدي الأنبياء قوما ليسوا بها
بكافرين. وإنما أضاف ذلك إلى المؤمنين وإن كان قد فعل بالكافرين أيضا
إزاحة العلة في التكليف من حيث أن المؤمنين هم الذين قاموا بذلك وعملوا به
فأضافه إليهم، كما أضاف قوله " هدى للمتقين " وإن كان هداية لغيرهم.
وقيل في المعنيين بقوله " ليسوا بها بكافرين " ثلاثة أقوال: أحدها - انه
عنى بذلك الأنبياء الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي صلى الله عليه وآله في وقت
مبعثهم وهو قول الحسن والزجاج والطبري والجبائي. قال الزجاج لقوله
تعالى " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " وذلك إشارة إلى الأنبياء الذين
ذكرهم ووصفهم وامر النبي صلى الله عليه وآله بالاقتداء بهداهم.
والثاني - انه عنى به الملائكة، ذهب إليه أبو رجاء العطاردي.
وقال قوم عنى به من آمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في وقت مبعثه.
وقال الفراء والضحاك: قوله " فان يكفر بها هؤلاء " يعني أهل مكة
" فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " يعني أهل المدينة، والأول أقوى.
وفى الآية دلالة على أن الله تعالى يتوعد من يعلم أنه لا يشرك ولا يفسق
وان الوعد والوعيد قد يكونان بشرط.
وقوله: " أولئك الذين هدى الله " معناه أولئك الذين حكم الله لهم
195

بالهدى والرشاد، وزادهم هدى حين اهتدوا. والمراد به الأنبياء الذين تقدم
ذكرهم الثمانية عشر. وأمر النبي صلى الله عليه وآله بأن يسلك سبيلهم ويأخذ بهداهم في
تبليغ الرسالة والصبر على المحن وان يقول لقومه " لا أسألكم عليه اجرا "
يعني على الأداء والابلاغ، ولكنه يذكر به العالمين وينبههم على ما يلزمهم من
عبادة الله والقيام بشكره.
وقوله (فبهداهم اقتده) قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب والكسائي
عن أبي بكر بحذف الهاء في الوصل واثباتها في الوقف. الباقون باثباتها في
الوصل والوقف وسكونها، إلا ابن ذكوان فإنه كسرها، ووصلها بياء في
اللفظ وإلا هشاما فإنه كسرها من غير صلة بتاء، ولا خلاف في الوقف انها
بالهاء ساكنة.
قال أبو علي الفارسي الوجه الوقف بالهاء لاجتماع الكثرة، والجمهور
على إثباته، ولا ينبغي أن يوصل والهاء ثابتة، لأنه هذه الهاء في السكت
بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل
للابتداء بالساكن، فكما لا تثبت الهمزة في الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء.
قال أبو علي وقراءة ابن عامر بكسر الهاء وإشمام الهاء الكسرة من غير بلوغ
ياء ليس بغلط، ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق للوقف.
وحسن اضماره لذكر الفعل الدال عليه، ومثل ذلك قول الشاعر:
فجال على وحشية وتخاله * على ظهره سبأ حديدا يمانيا
كأنه قال تخال خيلا على ظهره سبأ حديدا، ومثل ذلك قول الشاعر:
هذا سراقة للقرآن يدرسه * والمرؤ عند الرشا أن يلقها ذئب (1)
فالهاء كناية عن المصدر، ويدل يدرسه على الدروس، ولا يجوز أن
يكون ضمير القرآن، لان الفعل قد تعدى إليه باللام، فلا يجوز أن يتعدى
إليه والى ضميره كما أنك إذا قلت أزيدا ضربته لم ينصب زيدا بضربت لتعديه

(1) اللسان " سرق ".
196

إلى الضمير، وقياسه إذا وقف عليه أن يقول اقتده فيكسر (هاء) الضمير،
كما تقول اشتره في الوقف. وفي الوصل اشتريه لنا يا هذا.
واستدل قوم بقوله (فبهداهم اقتده) على أن النبي صلى الله عليه وآله كان متعبدا
بشريعة من قبله من الأنبياء وهذا لا دلالة فيه، لان قوله (فبهداهم اقتده)
معناه فبأدلتهم اقتده. والدلالة ما أوجبت العلم ويجب الاقتاء بها، لكونها
موجبة للعلم لا غير ولذلك قال تعالى (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من
عباده) فنسب الهدى إلى نفسه، فعلم بذلك أنه أراد ما قلناه. وقوله (ولو
أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) يدل على أن الهدى في قوله (واجتبيناهم
وهديناهم) هداية الثواب على الأعمال الصالحة، لان الثواب على الاعمال
هو الذي ينحبط تارة ويثبت أخرى دون الهداية التي هي الأدلة الحاصلة
للمؤمن والكافر. وقوله (وكلا فضلنا على العالمين) يعني على عالمي زمانهم
الذين ليسوا أنبياء وإنما دخلت (من) في قوله " من آبائهم وذرياتهم " للتبعيض
كأنه قال: وبعض آبائهم وبعض ذرياتهم وبعض اخوانهم هديناهم ولو لم
تدخل (من) لاقتضى انه هدى جميعهم الهداية التي هي الثواب، والامر
بخلافه. وقوله " اجتبيناهم " معناه اخترناهم.
وقوله (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) لا يدل على صحة
ثواب طاعاتهم التي أشركوا في توجيهها إلى غير الله لأنهم أوقعوها على خلاف
الوجه الذي يستحق به الثواب، فأما ما تقدم فليس في الآية ما يقتضي بطلانه
غير أنا قد عملنا أنه إذا أشرك لا ثواب معه أصلا، لاجماع الأمة على أن المشرك
لا يستحق الثواب، فلو كان معه ثواب وقد ثبت أن الاحباط باطل، لكان
يؤدي إلى أن معه ثوابا وعقابا، لأنا قد بينا بطلان القول بالتحابط في غير
موضع وذلك خلاف الاجماع.
197

قوله تعالى:
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من
شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى
للناس تجعلونه قرا طيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم
ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم
يلعبون (91) آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو " تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا " بالتاء
فيهن. الباقون بالياء فيهن. ومن قرأ بالياء حمله على أنه للغيبة بدلالة قوله:
" وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما انزل الله على بشر من شئ قل من أنزل
الكتاب الذي جاء به موسى يجعلونه " فيحمله على الغيبة لان ما قبله غيبة.
ومن قرأ بالتاء حمله على الخطاب يعني قل لهم: " تجعلونه قراطيس تبدونها
وتخفون كثيرا " ويقوي القراءة بالتاء، قوله " وعلمتم ما لم تعلموا فجاء
على الخطاب، وكذلك ما قبله.
ومعنى " تجعلونه قراطيس " تجعلونه ذوي قراطيس اي تودعونه إياها
" وتخفون " أي تكتمونه، وموضع قوله " تبدونها وتخفون كثيرا " يحتمل
أمرين:
أحدهما - أن يكون صفة القراطيس، لان النكرة توصف بالجمل.
والاخر - أن نجعله حالا من ضمير الكتاب من قوله " تجعلونه قراطيس "
على أن تجعل القراطيس الكتاب في المعنى، لأنه مكتوب فيها.
روي أن سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وآله رأى حبرا من أحبار
اليهود سمينا يقال له: مالك بن الضيف، وقيل: فنحاص، فقال له النبي صلى الله عليه وآله
198

أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ فغضب، وقال: ما أنزل الله على
بشر من شئ، فلعنته اليهود وتبرأت منه، فنزلت هذه الآية، ذكر ذلك عكرمة
وقتادة، وقال محمد بن كعب القرطي: نزلت في جماعة من اليهود. وروي
مثل ذلك عن ابن عباس. وقال مجاهد نزلت في مشركي قريش، وروي ذلك
عن ابن عباس أيضا، وهو أشبه بسياق الآية، لأنهم الذين أنكروا أن يكون
الله أنزل كتابا على بشر، دون اليهود والنصارى.
ومعنى قوله " وما قدروا الله حق قدره " أي ما عرفوه حق معرفته وما
وصفوه بما هو أهل أن يوصف به " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ " أي ما أرسل الله رسولا، ولم ينزل على بشر من شئ، مع أن المصلحة والحكمة
يقتضيان ذلك ودلت المعجزات الباهرة على بعثة كثير منهم. ثم أمر الله نبيه
أن يقول لهم " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس "
فإنهم يقرون بذلك، وان الله أنزله وبعث موسى (ع) نبيا وإن لم يقروا بذلك
فقد خرجوا من اليهودية إلى قول من ينكر النبوات. والكلام على من انكر
ذلك أصلا مذكور في النبوات مستوفى لا نطول بذكره هاهنا.
وعلى ما قلناه: من أن الآية متوجهة إلى مشركي قريش من حيث أن الله
تعالى من أول السورة إلى هاهنا في الاخبار عن أوصاف المشركين وعن أحوالهم
وكذلك أول الآية في قوله " وما قدروا الله حق قدره " لأنهم كانوا لا يعتقدون
التوحيد ويعبدون مع الله الأصنام، وأهل الكتاب كانوا بخلاف ذلك، لأنهم
كانوا يعتقدون التوحيد فلا يليق بهم ذلك، وإن كان اليهود عندنا أيضا غير
عارفين بالله على وجه يستحقون به الثواب. والقول الاخر أيضا محتمل.
فعلى ما اخترنا يكون قوله " قل من انزل الكتاب " متوجها إلى اليهود
والنصارى، لأنهم المقرون بذلك دون قريش ومشركي العرب، ويجوز أن
يكون متناولا للمشركين أيضا، ويكون على وجه الاحتجاج عليهم، والتنبيه
لهم على ما ظهر من معجزات موسى وظهور نبوته، وهذا الذي اخترناه قول
199

مجاهد واختاره الطبري والجبائي.
وقوله " تجعلونه قراطيس " أي تقطعونه فتجعلونه كتبا متفرقة وصحفا
تبدون بعضها وتخفون بعضها، يعني ما في الكتب من صفات النبي صلى الله عليه وآله
والبشارة به. ثم عطف على ما ابتدأ به من وصف الكتاب الذي جاء به موسى وانه
نور وهدى، فقال " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " على لسان النبي
صلى الله عليه وآله، ثم أجاب عن الكلام الأول، فقال " قل الله " وهذا معروف في كلام
العرب، لان الانسان إذا أراد البيان والاحتجاج بما يعلم أن الخصم مقربه
ولا يستطيع دفعه ذكر ذلك. ثم تولى الجواب عنه بما قد علم أن لا جواب له غيره.
وقوله " ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " يقال مثل هذا لمن قامت عليه
الحجة الواضحة التي لا يمكنه دفعها، وليس على إباحة ترك الدعاء والانذار
بل على ضرب من الوعيد والتهديد، كأنه قال دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم.
ويجوز أن يكون أراد: دعهم فلا تقاتلهم، ولا تعمل على قهرهم على قبول
قولك إلى أن يؤذن لك في ذلك، فيكون إنما أباح ترك قتالهم لا ترك الدعاء
والتحذير وترك البيان والاحتجاج " ويلعبون " رفعه لأنه لم يجعله جوابا
لقوله " ذرهم " ولو جعله جوابا لجزمه، كما قال " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا " (1)
وكان ذلك جوابا وموضع " يلعبون " نصب على الحال، وتقديره ذرهم لاعبين
في خوضهم. وقال قوم: إن هذه الآية مدنية مع الآيتين اللتين ذكرناهما في أول
السورة، ويجوز أن يكون ذلك بمكة أيضا.
قوله تعالى:
وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر
أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم
على صلاتهم يحافظون (92) آية بلا خلاف.

(1) سورة 15 الحجر آية 3.
200

قرأ أبو بكر وحده " ولينذر " بالياء. الباقون بالتاء. من قرأ بالتاء،
فلقوله " إنما أنت منذر من يخشاها " (1) وقوله " وانذر به الذين يخافون " (2)
ومن قرأ بالياء جعل الكتاب هو المنذر، لان فيه إنذارا لأنه قد خوف به في
قوله " هذا بلاغ للناس ولينذروا به " (3) وقوله " إنما أنذركم بالوحي " (4)
فلا يمتنع أسناد الانذار إليه على وجه التوسع.
وقوله " وهذا كتاب " إشارة إلى القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله
فعطف هذه الآية على ذكره الكتاب الذي جاء به موسى (ع) فلما وصفه قال
تعالى " وهذا كتاب أنزلناه مبارك ". وانه مصدق لما بين يديه يعني ما مضى من
كتب الأنبياء كالتوراة والإنجيل وغيرهما، وبين انه إنما أنزله لتنذر به أهل مكة
وهي أم القرى، ومن حولها.
قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: أم القرى مكة، ومن حولها أهل الأرض
كلهم وإنما خص أهل مكة بذلك لأنها أعظم قدرا لان فيها الكعبة ولان الناس
يقصدونها بالحج والعمرة من جميع الآفاق. وإنذاره بالقرآن هو تخويفه إياهم
بألوان عذاب الله وعقابه ان أقاموا على كفرهم بالله ولم يؤمنوا به وبرسوله.
وقوله: " والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به " يعني بالقرآن. ويحتمل
أن يكون كناية عن محمد صلى الله عليه وآله لدلالة الكلام عليه، وهذا يقوي مذهبنا في أنه
لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجب الله عليه دون بعض. وبين انهم
" على صلاتهم " يعني على أوقات صلاتهم " يحافظون " بمعنى يراعون أوقاتها
ليؤدوها في الأوقات ويقوموا باتمام ركوعها وسجودها وجميع فرائضها.
وقيل سميت مكة أم القرى لأنها أول موضع سكن في الأرض، وقيل إن
الأرض كلها دحيت من تحتها فكانت اما لها. وقال الزجاج سميت بذلك لأنها
أعظم القرى شأنا.

(1) سورة النازعات آية 45
(2) سورة 6 الانعام آية 51
(3) سورة 14 إبراهيم آية 52
(4) سورة 21 الأنبياء آية 45.
201

قوله تعالى:
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم
يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ
الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا
أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على
الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93) آية بلا خلاف.
اختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية فقال أكثر المفسرين ان قوله " ومن
أظلم ممن افترى على الله كذبا " نزلت في مسيلمة الكذاب حيث ادعى النبوة.
وقال إنه يوحى إليه، وان قوله " من قال سأنزل مثل ما أنزل الله " نزلت في
عبد الله بن سعد ابن أبي سرح، فإنه كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وكان
إذا قال له: اكتب عليما حكيما، كتب غفورا رحيما. وإذا قال: اكتب غفورا
رحيما، كتب حكيما، وارتد ولحق بمكة. وقال إني انزل مثل ما أنزل الله،
ذهب إليه عكرمة وابن عباس ومجاهد والسدي والجبائي والفراء والزجاج
وغيرهم.
وقال قوم: نزلت في مسيلمة خاصة.
وقال آخرون: نزلت في ابن أبي سرح خاصة والأول هو المروى عن
أبي جعفر (ع).
وقال البلخي: قوله " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا وقال أوحي
إلي " هم الذين ادعوا النبوة بغير برهان وكذبوا على الله " ومن قال سأنزل مثل
ما انزل الله " هم الذين قالوا " لو نشاء لقلنا مثل هذا ان هذا الا أساطير
الأولين " (1) فادعوا بما لم يفعلوا واعرضوا وبذلوا الأنفس والأموال

(1) سورة 8 الأنفال آية 31.
202

واستعملوا في اطفاء نور من جاء بالكتاب سائر الحيل. ثم اخبر تعالى عن حال
من فعل ذلك، فقال: " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت " وحذف جواب
(لو) وتقديره: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت لرأيت عذابا عظيما
وكل من كان في شئ كثير يقال له: غمر فلانا ذلك. ويقال قد غمر فلانا الدين
معناه كثر، فصار فيما يعلم بمنزلة ما يبصر قد غمر وغطى من كثرته وقوله
" والملائكة باسطوا أيديهم " معناه باسطوا أيديهم بالعذاب وقيل بقبض أرواح
الكفار.
وقوله: " اخرجوا أنفسكم اليوم " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون تقديره يقولون: اخرجوا أنفسكم، كما تقول للذي
تعذبه لأزهقن نفسك ولأخرجن نفسك، فهم يقولون لهم اخرجوا أنفسكم
على معنى الوعيد والتهديد، كما يدفع الرجل في ظهر صاحبه ويكرهه على
المضي بأن يجره أو بغير ذلك، وهو في ذلك يقول امض الان لترى ما يحل بك.
والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شئ كثرته ومعظمه، وأصله الشئ الذي
يغمر الأشياء فيغطيها. وقال ابن عباس غمرات الموت سكراته، وبسط الملائكة
أيديها فهومدها، وقال ابن عباس أيضا: البسط الضرب، يضربون وجوههم
وأدبارهم وملك الموت يتوفاهم، وقال الضحاك: بسطها أيديها بالعذاب.
والثاني - أن يكون معناه خلصوا أنفسكم اي لستم تقدرون على الخلاص
" اليوم تجزون عذاب الهون " اي العذاب الذي يقع به الهوان الشديد،
والهون - بفتح الهاء وسكون الواو - من الرفق والدعة، كقوله " وعباد
الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " (1) وقال الشاعر:
هونا كما لا يرد الدهر ما فاتا * لا تهلكن أسفا في أثر من ماتا (2)

(1) سورة 25 الفرقان آية 63
(2) قائله ذوجدن الحميري. معجم البلدان (بينون واللسان (هون)
والأغاني 16 / 70 وسيرة ابن هشام 1 / 39 وتاريخ الطبري 2 / 180 وتفسير
الطبري 11 / 541 وغيرها.
203

وقد روي فتح الهاء في معنى الهوان، قال عامر بن جوين:
يهين النفوس وهون النفوس * عند الكريهة أغلى لها (3)
والمعروف ضم الهاء إذا كان بمعنى الهوان. قال ذو الإصبع العدواني:
اذهب إليك فما أمي براعية * ترعى المخاض ولا أغضي على الهون (4)
يعني على الهوان، وعن أبي جعفر (ع) عذاب الهون يعني العطش.
وقوله: " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " في موضع جر كأنه قال:
ومن أظلم ممن قال ذلك.
قوله تعالى:
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم
ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاء كم الذين
زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم
ما كنتم تزعمون (94) آية بلا خلاف.
قرأ أهل المدينة والكسائي وحفص " بينكم " بنصب النون. الباقون
برفعها. والبين مصدر بان يبين إذا فارق قال الشاعر:
بان الخليط برامتين فودعوا * أوكلما ظعنوا لبين تجرع (5)
وقال أبو زيد: بان الحي بينونة وبينا إذا ضعنوا، وتباينوا تباينا إذا كانوا جميعا
فتفرقوا، قال والبين ما ينتهي إليه بصرك من حائط أو غيره واستعمل هذا ا

(3) وقيل أنه للخنساء. ديوان الخنساء: 215 والأغاني 13 / 136
واللسان " هون " وروايتهم " يوم الكريهة أبقى لها " والطبري 11 / 542
(4) أمالي القالي 1 / 366 واللسان " هون " وشرح المفضليات: 323
وتفسير الطبري 11 / 542.
(5) لم أجده بهذه الرواية وفي اللسان (خلط) أبيات كثيرة تشبهه.
204

الاسم على ضربين: أحدهما - أن يكون اسما منصرفا كالافتراق. والاخر -
أن يكون ظرفا فمن رفعه رفع ما كان ظرفا استعمله اسما ويدل على جواز كونه
اسما قوله: " هذا فراق بيني وبينك " (6) وقوله " من بيننا وبينك حجاب " (7)
فلما استعمل اسما في هذه المواضع جاز ان يسند إليه الفعل الذي هو تقطع في
قراءة من رفع. ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا انه لا يخلو
من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر ولا يجوز
أن يكون الذي هو مصدر، لان التقدير يصير لقد تقطع افتراقكم، وهذا
خلاف المعنى المراد، لان المراد لقد تقطع وصلكم، وما كنتم تتألفون عليه.
فان قيل كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل واصله الافتراق والتباين
وعلى هذا قالوا: بان الخليط إذا فارق، وفي الحديث مابان من الحي فهو ميتة؟!.
قيل: انه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين نحو بيني وبينك شركة،
وبيني وبينه صداقة ورحم صار لذلك بمنزلة الوصلة وعلى خلاف الفرقة فلذلك
صار " لقد تقطع بينكم " بمعنى لقد تقطع وصلكم ومثل بين في أنه يجري في
الكلام ظرفا ثم يستعمل اسما بمعنى (وسط) ساكن العين ألا ترى أنهم يقولون:
جلست وسط القوم، فيجعلونه ظرفا لا يكون الا كذلك، وقد استعملوه اسما
كما قال الشاعر:
من وسط جمع بني قريظة بعدما * هتفت ربيعة يا بني خوءات
وحكى سيبويه: هو احمر بين العينين. واما من نصب بينكم ففيه وجهان:
أحدهما - انه اضمر الفاعل في الفعل ودل عليه ما تقدم من قوله: وما
نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء " لان هذا الكلام فيه
دلالة على التقاطع والتهاجر وذلك المضمر هو الأصل، كأنه قال لقد تقطع وصلكم بينكم
والثاني - أن يكون على مذهب أبي الحسن أن يكون لفظه منصوبا
ومعناه مرفوعا، فلما جرى في كلامهم منصوبا ظرفا تركوه على ما يكون عليه

(6) سورة 18 الكهف آية 79
(7) سورة 41 حم السجدة آية 5.
205

في أكثر الكلام وكذلك تقول في قوله " يوم القيامة يفصل بينكم " (1) وكذلك
قوله: " وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك " (2) فدون في موضع رفع عنده
وإن كان منصوب اللفظ، كما تقول منا الصالح ومنا الطالح فترفع.
وقال الزجاج: الرفع أجود وتقديره لقد تقطع وصلكم. والنصب جائز
على تقدير لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم.
وقال الفراء في قراءة عبد الله " لقد تقطع ما بينكم ": وهو وجه الكلام
إذا جعل الفعل ل‍ (بين) ترك نصبا في موضع رفع، لأنه صفة، فإذا قالوا هذا
دون من الرجال، فلم يضيفوه رفعوه في موضع الرفع. وكذلك تقول بين
الرجلين بين بعيد وبون بعيد إذا أفردته أجريته في العربية وأعطيته الاعراب.
قال مهلهل:
كأن رماحهم اشطان بئر * بعيد بين جاليها جرور (3)
فرفع بين حيث كانت اسما. وقال مجاهد: معنى تقطع بينكم اي تواصلكم،
وبه قال قتادة وابن عباس، فمعنى الآية الحكاية عن خطاب الله تعالى يوم القيامة
لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا مع الله أندادا وشركاء، وانه يقول لهم عند ورودهم:
" لقد جئتمونا فرادى " وهو جمع فرد، وفريد، وفرد، وفردان قال الأزهري
لا يجوز فرد على هذا المعنى. والعرب تقول: فرادى وفراد فلا يصرفونها
يشبهونها بثلاث ورباع قال الشاعر:
ترى النعرات الزرق تحت لبانه * فرادى ومثنى أضعفتها صواهله (4)
وقال نابغة بني ذبيان:

(1) سورة 60 الممتحنة آية 3
(2) سورة 72 الجن آية 11
(3) اللسان " بين " وأمالي القالي 2 / 132 وتفسير الطبري 11 / 549.
" الاشطان " الحبال المحكمة الفتل وجالي البئر جوانبها. و " جرور " صفة للبئر
البعيد القعر.
(4) مر تخريجه في 3 / 106 تعليقة 2.
206

من وحش وجرة موشي أكارعه * طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد (5)
وكان يونس يقول: فرادى جمع فرد كما قيل: توآم وتوءم. ومثل الفرادى
الردافى والعرابي، ورجل افرد وامرأة فرداء: إذا لم يكن لها أخ. وقد فرد
الرجل فهو يفرد فرودا يراد به تفرد فهو فارد.
فمعنى قوله " جئتمونا فرادى " اي وحدانا لا مال لكم ولا أثاث ولا
رقيق ولا شئ مما كان الله خولكم في الدنيا " كما خلقناكم أول مرة ".
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (يحشرون حفاة عراة عزلا) والعزل هم
الغلف. وروي ان عايشة قالت لرسول الله حين سمعت ذلك وا سوأتاه ينظر
بعضهم إلى سوءة بعض من الرجال والنساء، فقال رسول الله: " لكل امرئ
منهم يومئذ شأن يغنيه " (6) فيشغل بعضهم عن بعض.
قال الزجاج: يحتمل أن يكون المعنى كما بدأكم أول مرة، اي كان بعثكم
كخلقكم من غير كلفة ولا مشقة.
وقال الجبائي: معناه جئتم فرادى واحدا واحدا " كما خلقناكم أول مرة "
اي بلا ناصر ولا معين كما خلقكم في بطون أمهاتكم، ولا أحد معكم.
وقوله: " وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم " يعني ما ملكناكم في الدنيا
مما كنتم تتباهون به في الدنيا وهذا تعيير من الله لهم لمباهاتهم التي كانوا
يتباهون في الدنيا بأموالهم، يقال: خولته اي أعطيته. ويقال خال الرجل
يخال أشد الخيال بكسر الخاء وهو خائل ومنه قول أبي النجم:
اعطى فلم يبخل ولم يبخل * كوم الذرى من خول المخول (7)
" وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء " يقول تعالى

(5) ديوانه: 26 واللسان " فرد ". و (وجرة) اسم مكان بين مكة والبصرة
قال الأصمعي: هي أربعون ميلا ليس فيها منزل فهي مرتع للوحوش وقد
أكثر الشعراء ذكرها. و (موشى اكارعه) فيها سواد و (طاوي المصير) ضامر
البطن. و (المصير) جمع مصران.
(6) سورة 80 عبس آية 37.
(7) تفسير الطبري 11 / 545.
207

لهؤلاء الكفار: ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء الذين
كنتم تزعمون في الدنيا انهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة.
وقال عكرمة: ان الآية نزلت في النظر بن الحارث بن كلدة حيث قال
سوف يشفع في اللات والعزى، فنزلت الآية.
وقوله " لقد تقطع بينكم " اي وصلكم " وضل عنكم ما كنتم تزعمون "
اي جار عن طريقكم ما كنتم تزعمون من آلهتكم انه شريك لله تعالى وانه يشفع
لكم عند ربكم فلا شفيع لكم اليوم.
قوله تعالى:
إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج
الميت من الحي ذلكم الله فانى تؤفكون (95) آية بلا خلاف.
في هذه الآية تنبيه لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا مع الله آلهة عبدوها،
وحجة عليهم، وتعريف منه لهم خطأ ما هم عليه من عبادة الأصنام، بأن قال:
إن الذي له العبادة ومستحقها هو الله الذي فلق الحب، يعني شقه من كل ما
ينبت عن النبات، فأخرج منه الزروع على اختلافها، " والنوى " من كل ما
يغرس مما له نواة فأخرج منه الشجر، والحب هو جمع حبة، والنوى جمع
نواة وذلك لا يقدر عليه إلا الله تعالى القادر بنفسه، لان القادر بقدرة لا يقدر
على شق ذلك الا بآلة، ولا يقدر على انبات شئ واخراج شئ منهما، فعلم أنه
من فعل ذلك هو الله الذي لا يشبه شيئا من الأجسام، ولا يشبهه شئ،
القادر على اختراع الأعيان بلا معاناة ولا مزاولة.
ثم أخبر أنه " يخرج الحي من الميت " لان الله تعالى يخلق الحي من
النطفة، وهي موات، ويخلق النطفة، وهي موات من الحي، وهو قول الحسن
وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال الضحاك وابن عباس: معنى " فالق الحب
208

والنوى " خالقهما. وقال مجاهد وأبو مالك: هو الشق الذي في الحبة
والنوى. والأول أقوى الأقوال.
وقال قوم: أراد باخراج الحي من الميت إخراج السنبل وهي حي من
الحب وهو ميت، ومخرج الحب الميت من السنبل الحي، والشجر الحي من
النوى الميت، والنوى الميت من الشجر الحي. والعرب تسمي الشجر ما دام غضا قائما
بأنه حي، فإذا يبس أو قطع من أصله أو قلع سموه ميتا، ذهب إليه السدي والطبري
والجبائي. وما ذكرناه أولا قول ابن عباس، وهو الأقوى، لأنه الحقيقة.
وما ذكروه مجاز، وإن كان جائزا محتملا.
وقوله " ذلكم الله فأنى تؤفكون " معناه أن فاعل ذلك كله الله تعالى
فأنى وجوه الصد عن الحق أيها الجاهلون تصدون، وعن العذاب تصدفون،
أفلا تتدبرون، فتعلمون أنه لا ينبغي أن يجعل لمن أنعم عليكم - فخلق الحب
والنوى واخرج من الحي الميت، ومن الميت الحي، ومن الحب الزرع ومن
النوى الشجر - شريك في عبادته مالا يضر ولا ينفع ولا يسمع ولا يبصر
وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال: إن الله تعالى يحول بين العبد
وبين ما دعاه إليه إذ يخلق فيه ما نهاه عنه، لأنه قال: فانى تؤفكون، ولو كان
شيئا من ذلك لكان هو المؤفك لهم والصارف. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومعنى قوله " فاني تؤفكون " اي تصرفون عقولكم، وهو قول الحسن وغيره
والافك هو الكذب.
قوله تعالى:
فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا
ذلك تقدير العزيز العليم (96) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة " جعل الليل " على الفعل. الباقون " جاعل " على
الفاعل. من قرأ " جاعل " على وزن فاعل فلان قبله اسم فاعل، وهو قوله:
209

" فالق الحب والنوى... " و " فالق الاصباح " فقرأ " وجاعل الليل "
ليكون (فاعل) المعطوف على (فاعل) المعطوف عليه، فيكون متشاكلا،
لان من حكم الاسم ان يعطف على اسم مثله، لأنه به أشبه من الفعل بالاسم،
وهذه المشاكلة مراعاة في كلام العرب، ومثله " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " (1)
وقوله " يدخل من يشاء في رحمته والظالمين " (2) وقوله " وكلا ضربنا له
الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا " (3) نصبوا هذا كاله ليكون القارئ بنصبها كالعاطف
جملة من فعل وفاعل على جملة من فعل وفاعل، فكما أن الفعل أشبه من المبتدأ
بالفعل، كذلك الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم، ويقوي ذلك قول الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني * أحب إلي من لبس الشفوف (4)
ومن قرأ " وجعل " فلان اسم الفاعل الذي قبله بمعنى الماضي، فلما
كان (فاعل) بمعنى (فعل) في المعنى عطف عليه بالفعل لموافقته له في المعنى
ويدلك على أنه بمنزلة (فعل) أنه نزل منزلته فيما عطف عليه، وهو قوله
" والشمس والقمر حسبانا " ألا ترى أنه لما كان المعنى (فعل) حمل المعطوف
على ذلك فنصب الشمس والقمر على (فعل) لما كان فاعل كفعل. ويقوي ذلك
قولهم: هذا معطي زيد درهما أمس، فالدرهم محمولا على (اعطى)، لان
اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل عمل الفعل، فإذا جعل (معطي) بمنزلة
(أعطى) كذلك جعل (فالق) بمنزلة (فلق) لان اسم الفاعل لما مضى، فعطف
على (فعل) لما كان بمنزلته، ولا يجوز حمل (جاعل) على الليل، لان اسم
الفاعل إذا كان لما مضى لا يعمل عمل الفعل، وقد أجازه بعض الكوفيين.

(1) سورة 7 الأعراف آية 29
(2) سورة 76 الدهر آية 31
(3) سورة الفرقان آية 39
(4) حاشية الصبان على الأشموني 3 / 313 الشاهد 827 ويروى " ولبس "
بدل " للبس ".
210

معنى قوله " فالق الاصباح " أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل،
وذلك دال على القدرة العجيبة التي لا يقدر عليها غير الله، ويحتمل أن يكون
معناه خالقه على ما حكيناه عن الضحاك وذكره الزجاج، ورفع " فالق " لأنه
خبر عن الله تعالى بعد خبر كأنه قال " ان الله فالق الحب والنوى " فالق الاصباح.
ويحتمل أن يكون خبر ابتداء محذوف، فكأنه قال: هو فالق الاصباح.
والاصباح مصدر أصبحنا إصباحا، والمراد أصبح كل يوم، فهو في معنى
الاصباح. وروي عن الحسن أنه قرأ " فالق الاصباح " بفتح الألف وما قرأ
به غيره. ومعنى " وجاعل الليل سكنا " أي تسكنون فيه وتتودعون فيه،
وهو قول مجاهد والضحاك وقتادة وابن عباس وأكثر المفسرين. وروي عن
ابن عباس أن معناه، خالق الليل والنهار. وقوله " والشمس والقمر حسبانا "
نصبهما عطفا على موضع الليل، لان موضعه النصب بأنه مفعول جاعل.
واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس والسدي والربيع وقتادة، ومجاهد
والجبائي: إنهما يجريان في أفلاكهما بحساب، تقطع الشمس الفلك في سنة
ويقطعه القمر في شهر قدره الله تعالى به، فهو قوله " والشمس والقمر
بحسبان " (1) وقوله: " وكل في فلك يسبحون " (2)
وقال قتادة معناه انه جعل الشمس والقمر ضياء. والأول أجود لان الله
تعالى ذكر بمثل هذا من أياديه عند خلقه وعظيم سلطانه بفلقه الاصباح لهم
واخراج النبات والغراس من الحب والنوى، وعقب ذلك بذكر خلق النجوم
للاهتداء بها في البر والبحر، وكان وصفه اجراء الشمس والقمر بمنافعهم
أشبه، وأنها تجري بحسبان ما يحتاج الخلق إليه في معائشهم ومعاملاتهم: أما
الشمس فللزرع والحرث، واما القمر فللمواعيد وآجال الديون في المعاملات،
وفيها منافع لا يعرف تفصيلها الا الله تعالى، لأنه قال " فالق الاصباح " ذكر

(1) سورة 55 الرحمان آية 5.
(2) سورة 36 يس آية 40 وسورة 21 الأنبياء آية 33.
211

الضياء ولا معنى لتكريره دفعة ثانية. والحسبان جمع حساب على وزن شهبان
وشهاب. وقيل في هذا الموضع انه مصدر حسبت الحساب أحسبه حسابا.
وحكي عن بعض العرب على ذلك حسبان فلان وحسبته أي حسابه. والحسبان
- بكسر الحاء - جمع حسبانة، وهي وسادة صغيرة. ونصب حسبانا على تقدير
بحسبان، فلما حذف الباء نصبه. وقال قوم: هو نصب لقوله " وجعل ".
وقوله: " ذلك تقدير العزيز العليم " أي هذا الذي وصفه بأنه فعله من
فلقه الاصباح، وجعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، تقدير الذي عز
سلطانه فلا يقدر أحد أراده بسوء أو عقاب أو انتقام على الامتناع منه العليم
بمصالح خلقه وتدبيرهم، لا تقدير الأصنام والأوثاق التي لا تسمع ولا تبصر
ولا تفقه شيئا ولا تعقل.
قوله تعالى:
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات
البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون 97) آية
هذه الآية موصولة بالتي قبلها، ومعناهما متقارب، وهو أن الله تعالى
عدد نعمه على خلقه وأن من جملتها أنه جعل لهم النجوم بمعنى خلقها ليهتدوا
بها في أسفارهم في ظلمات البر والبحر، وأنه قد فصل آياته لقوم يعلمون.
وإنما أضاف الآيات إلى الذين يعلمون وان كانت آيات لغيرهم، لأنهم المنتفعون
بها، كما قال " هدى للمتقين " وليس في قوله إنه خلقها ليهتدوا بها في ظلمات
البر والبحر ما يدل على أنه لم يخلقها لغير ذلك. قال البلخي: بل يشهد أنه
خلقها لأمور جليلة عظيمة. ومن فكر في صغر الصغير منها وكبر الكبير،
واختلاف مواقعها ومجاريها وسيرها، وظهور منافع الشمس والقمر في نشؤ
الحيوان والنبات علم أن الامر كذلك. ولو لم يخلقها إلا للاهتداء لما كان
212

لخلقها صغارا وكبارا، ولاختلاف سيرها معنى. قال الحسين بن علي المغربي:
هذا من البلخي إشارة منه إلى دلالتها على الاحكام.
قوله تعالى:
وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر
ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98) آية بلا خلاف
قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وروح " فمستقر " بكسر القاف. الباقون
بفتحها.
قال أبو علي النحوي: قال سيبويه: قالوا: قر في مكانه واستقر، كما
قالوا: جلب وأجلب، يراد بهما شئ واحد، فكما بني هذا على (أفعلت)
بني هذا على (استفعلت) فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى القار، والخبر
مضمر، وتقديره منكم مستقر كقولك: بعضكم مسقر أي مستقر في الأرحام.
وقال " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق " (1) كما قال " وقد
خلقكم أطوارا " ا (2) ومن فتح فليس على أنه مفعول، لان استقر لا يتعدى،
وإذا لم يتعد لم يبن منه اسم مفعول، فإذا له يكن مفعولا كان اسم الفاعل
مكانه، فالمستقر بمنزلة المقر كما أن المستقر بمعنى القار، وعلى هذا، لا يجوز
أن يكون خبره المضمر (منكم) كما جاز في قول من كسر القاف، وإذا لم يجز
ذلك جعلت الخبر المضمر (لكم) وتقديره: لكم مقر، ومستودع، فان
استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول: استودعت زيدا ألفا وأودعت زيدا
ألفا، فاستودع مثل أودع، ومثل استجاب وأجاب، فالمستودع يجوز أن يكون
الانسان الذي استودع ذلك المكان، ويجوز أن يكون المكان نفسه. فمن
فتح القاف في (مستقر) جعل المستودع مكانا ليكون مثل المعطوف عليه أي
فلكم مكان استقرار ومكان استيداع. ومن كسر القاف، فالمعنى منكم

(1) سورة 39 الزمر آية 6
(2) سورة 71 نوح آية 14.
213

مستقر في الأرحام ومنكم مستقر في الأصلاب، فالمستودع اسم المفعول به
ليكون مثل المستقر في أنه اسم لغير المكان. قال الزجاج: ويحتمل أن يكون
مستقرا في الدنيا موجودا ومستودعا في الأصلاب لم يخلق بعد. ويحتمل
مستقر - بكسر القاف - في الاحياء، ومنكم مستودع في الثرى. ورفع
(مستقر ومستودع) على معنى فلكم مستقر ومستودع. ومن كسر فمعناه
فمنكم مستقر ومنكم مستودع. وقال الفراء: تقديره ثم مستقر ومستودع.
واختلف المفسرون في قوله " فمستقر ومستودع " فقال عبد الله بن مسعود:
المستقر ما في الرحم، والمستودع حيث يموت، وبه قال إبراهيم ومجاهد.
وقال سعيد ابن جبير: مستودع ما كان في أصلاب الرجال، فإذا قروا في أرحام
النساء وعلى ظهر الأرض وفى بطونها، فقد استقروا به. وقال ابن عباس،
وروي عن مجاهد - في رواية أخرى - المستقر الأرض، والمستودع عند ربك.
وروي عن ابن مسعود - في رواية - ان مستقرها في الآخرة ومستودعها في
الصلب. وقال عكرمة: مستقر في الآخرة ومستودع في صلب لم يخلق سيخلق.
وبه قال قتادة والضحاك والسدي وابن زيد. وقال الحسن: المستقر في القبر
والمستودع في الدنيا.
ومعنى الآية أن الله تعالى هو الذي أنشأ الخلق ابتداء من نفس واحدة
يعني آدم، منهم مستقر ومستودع، وإذا حمل على العموم، فإنه يتناول كل
أحد على تأويل من قال المستقر في القبر والمستودع في الحشر، وعلى تأويل
من قال المستودع من كان في الأصلاب والمستقر من كان في الأرحام، لان كل
الخلائق داخلون فيه، فالأولى حمل الآية على عمومها وهو اختيار الطبري.
وقوله " قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون " معناه قد بينا الحجج وميزنا
الآيات والأدلة والاعلام، وأحكمناها لقوم يفقهون مواقع الحجج ومواضع
العبر، ويعرفون الآيات والذكر، وهو قول قتادة والمفسرين.
214

قوله تعالى:
وهو الذي أنزل من السماء ماء فاخر جنا به نبات كل
شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن
النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون
والرمان مشتبها وغير متشابه أنظروا إلى ثمره إذا أثمر
وينعه إن في ذلكم لايات لقوم يؤمنون (99) آية.
روى الأعشى والبرجمي " وجنات " بالرفع. الباقون " جنات " على
النصب. وقرأ حمزة والكسائي وخلف " ثمره " و " كلوا من ثمره " وفي
(يس) " لتأكلوا من ثمره " بضم الثاء والميم فيهن. الباقون بفتحها. من
كسر التاء فلأنها تاء جمع المؤنث في موضع النصب عطفا على قوله " فأخرجنا به
نبات كل شئ " فأخرجنا به " جنات " ومن رفع عطفها على القنوان في الاعراب
وإن لم يكن من جنسها، كما قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا (1)
أي وحاملا رمحا. ومن قرأ " ثمره " بالفتح فيهما فوجهه ان سيبويه يرى أن
الثمر جمع ثمرة مثل بقرة وبقر وشجر وشجر وخرزة وخرز: ويقويه قوله أيضا
" ومن ثمرات النخيل والأعناب " (2) وقد كسر على (فعال) فقالوا: ثمار كما
قالوا أكمة واكام، وجذبة وجذاب ورقبة ورقاب. ومن جمعها احتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون جمع ثمرة على ثمر، مثل خشبة وخشب في قوله
" كأنهم خشب مسندة " (3) واكمة واكم في قول الشاعر:
ترى الاكم منه سجدا للحوافر (4)

(1) مر هذا البيت في 1: 6، 242، 3: 465
(2) سورة 16 النحل آية 67
(3) سورة 63 المنافقون آية 4
(4) انظر 1 / 11 تعليقة 5.
215

ومن المعتل ساحة وسوح، وقارة وقور، ولابة ولوب وناقة ونوق.
والثاني - أن يكون جمع ثمار على ثمر، فيكون ثمر جمع الجمع،
وجمعوه على (فعل) كما جمعوه على (فعايل) في قولهم جمال وجمايل.
ومعنى الآية أن الذي يستحق العبادة خالصة لا شريك له فيها سواه هو
الذي أنزل من السماء ماء. وأصل الماء ماه إلا أن الهمزة أبدلت من الهاء بدلالة
قولهم أمواه في الجمع ومويه في التصغير.
وقوله " فأخرجنا به نبات كل شئ " معناه أخرج بالماء الذي أنزله من
السماء من غذاء الانعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم
ما يتغذون به ويأكلونه فينبتون عليه وينمون، ويكون معنى قوله " فأخرجنا به
نبات كل شئ " أخرجنا به ما ينبت كل شئ وينمو عليه ويصلح. ويحتمل أن
يكون المراد أخرجنا به جميع أنواع النبات فيكون كل شئ هو أصناف
النبات. والأول أحسن.
وقوله " فأخرجنا به " يعني من الماء " خضرا " يعني أخضر رطبا من
الزرع. والخضر والأخضر واحد يقال: خضرت الأرض خضرا وخضارة.
والخضرة رطب البقول يقال: نخلة خضرة إذا كانت ترمي ببسرها أخضرا
قبل ان ينضج، وقد اختضر الرجل واغتضر إذا مات شابا مصححا، ويقال:
هو لك خضرا مضرا أي هنيئا مريئا.
وقوله " يخرج منه حبا متراكبا " يعني يخرج من الخضر حبا يعنى ما في
السنبل من الحنطة والشعير والأرز وغيرها من السنابل، لان حبها يركب بعضه بعضا.
وقوله " ومن النخل من طلعها " إنما خص الطلع بالذكر لما فيه من المنافع
العجيبة والأغذية الشريفة التي ليست في شئ من كمام الثمار.
قوله " قنوان دانية " تقديره ومن النخل من طلعها ما قنوانه دانية، ولذلك
رفع القنوان. والقنوان جمع قنو، كصنوان وصنو، وهو العذب، يقال
لواحده قنو وقنو، وقني ويثنى قنوان على لفظ الجمع وقنيان وإنما يميز بينهما
216

بأعراب النون، ويجمع قنوان وقنوان وفي الجمع القليل ثلاثة أقناء، فالقنوان
لغة أهل الحجاز، والقنوان لغة قيس قال امرؤ القيس:
فأتت اعياله وآدت أصوله * ومال بقنوان من البسر أحمر (1)
وقنيان وقنوان لغة تميم وقوله " دانية " معناه قريبة متهدلة، وهو قول
ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك. وقال الجبائي دانية أي متدانية في
حلوق النخل متكور بها.
وقوله " وجنات " يعني وأخرجنا به أيضا جنات من أعناب يعني بساتين
من أعناب.
وقوله " والزيتون والرمان " عطف الزيتون على الجنات على تقدير
وأخرجنا الزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه، قال قتادة متشابه ورقه مختلف
ثمره. ويحتمل أن يكون المراد مشتبها في الخلق مختلفا في الطعم. وقال
الجبائي مشتبها ما كان من جنس واحد، وغير متشابه إذا اختلف جنسه.
والمعنى وشجر الرمان والزيتون، فاكتفى بذكر ثمره عن ذكر شجره، كما قال
" واسأل القرية " فاكتفى بذكر القرية عن ذكر أهلها لدلالة الحال عليه.
وقوله " انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه " الثمر جمع ثمرة، وهو ما
انعقد على الشجر يقال: ثمر الثمر إذا نضج والمراد إذا أطلع ثمره.
وقوله " وينعه " قال بعضهم: إذا فتحت ياؤه فهو جمع يانع مثل صاحب
وصحب وتاجر وتجر. وقال آخرون: هو مصدر قولهم ينع الثمر فهو ينع ينعا.
ويحكى في مصدره ثلاث لغات ينع وينع وينع، وكذلك نضج ونضج
ونضج قال الشاعر:
في قباب حول دسكرة * حولها الزيتون قد ينعا (2)

(1) ديوانه 84 واللسان (قنا) والطبري 11 / 575 ورواية الديوان:
سواحق جبار أثيث فروعه * وعالين قنوانا من البسر أحمرا
(2) الحيوان للجاحظ 4 / 6 (طبع بيروت) والكامل للمبرد 1 / 226 ومجاز -.
217

وسمع أيضا أينعت الثمرة تونع إيناعا فمعنى " وينعه " نضجه وبلوغه
حين يبلغ وفي ينعه لغتان: فتح الياء وضمها، فالفتح لغة أهل الحجاز والضم
لغة نجد. وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك والطبري والزجاج
وغيرهم: معنى وينعه ونضجه.
وقوله " إن في ذلكم لايات لقوم يؤمنون " يعني في انزال الله الماء من
السماء الذي أخرج به نبات كل شئ، والخضر الذي أخرج منه الحب المتراكب
وسائر ما عدد في الآية " لايات " أي دلالات أيها الناس إذا نظرتم فيها أداكم
إلى التصديق بتوحيده وخلع الأنداد دونه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، لان
في ذلك بيانا وحججا وبرهانا لقوم يؤمنون، فتصدقون بوحدانية الله وقدرته
على ما يشاء. وإنما خص المؤمنين بالذكر، لأنهم المنتفعون بذلك والمعتبرون
به، كما قال " هدى للمتقين " وفي الآية دلالة على بطلان قول من يقول بالطبع،
لان من الماء الواحد والتربة الواحدة يخرج الله ثمارا مختلفة وأشجارا متباينة ولا
يقدر على ذلك غير الله تعالى.
قوله تعالى:
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين
وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون (100) آية بلا خلاف
قرأ أهل المدينة " خرقوا " بتشديد الراء. الباقون بتخفيفها، قال أبو
عبيدة " وخرقوا له بنين وبنات " أي جعلوا له وأشركوه. يقال: خرق واخترق
واختلق بمعنى، إذا افتعل وافترا وكذب، قال أحمد بن يحيى: خرق واخترق،
وقال أبو الحسن الخفيفة أحب إلي، لأنها أكثر.

(1) القرآن 1 / 202 واللسان والتاج (ينع)، (دسكر) وتفسير القرطبي 7 / 67 وقد
روى (قد وقعا) بدل (قد ينعا).
218

وقيل إن المعنى المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله، والنصارى
المسيح ابن الله واليهود عزير ابن الله ومن شدد كأنه ذهب إلى التكثير.
أخبر الله تعالى أن هؤلاء الكفار العادلين عن الحق المتخذين معه آلهة
جعلوا له أندادا وشركاء الجن، كما قال " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " (1)
وقال " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " (2) وقال " ويجعلون
لله البنات " (3) ووصفهم بالجن لخفائهم عن الابصار وقوله " وجعلوا لله شركاء
الجن " أراد به الكفار الذين جعلوا الملائكة بنات الله والنصارى الذين جعلوا
المسيح ابن الله، واليهود الذين جعلوا عزيرا ابن الله، ولذلك قال " وخرقوا
له بنين وبنات " ففصل أقوالهم.
وقيل إن معنى " شركاء الجن " في استعاذتهم بهم.
وقيل إن المعنى ان المجوس تنسب الشر إلى إبليس وتجعله بذلك شريكا.
والهاء والميم في قوله " وخلقهم " يحتمل أن تكون عائدة إلى الكفار
الذين جعلوا لله الجن شركاء. ويحتمل أن تكون عائدة على الجن، ويكون
المعنى " وجعلوا لله شركاء الجن " والله خلق الجن فكيف يكونون شركاء له.
وفي نصب الجن وجهان أحدهما - أن يكون تفسيرا للشركاء وبدلا منه.
والاخر - أن يكون مفعولا به ومعناه وجعلوا لله الجن شركاء وهو خالقهم.
وروي عن يحيى بن يعمر انه قرأ " وخلقهم " بسكون اللام بمعنى أن الجن
شركاء لله في خلقه إيانا، وهذه القراءة ضعيفة. والقراءة المعروفة أجود، لان
المعنى وخلقهم بمعنى أن الله خلقهم متفردا بخلقه إياهم.
وقوله " وخرقوا له بنين وبنات " معناه تخرصوا، وهو قول ابن عباس
ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم، فيتلخص الكلام أن هؤلاء الكفار
جعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياه مع أنه المتفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين

(1) سورة 37 الصافات آية 158
(2) سورة 43 الزخرف آية 17
(3) سورة 16 النحل آية 57.
219

ولا ظهير " وخرقوا له بنين وبنات " معناه تخرصوا له كذبا بنين وبنات " بغير
علم " أي بغير حجة. ويحتمل أن يكون معناه بغير علم منهم بما عليهم عاجلا
وآجلا ويحتمل أن يكون معناه بغير علم منهم بما قالوه على حقيقة ما يقولون، لكن
جهلا منهم بالله وبعظمته، لأنه لا ينبغي لمن كان إلها أن يكون له بنون وبنات
ولا صاحبة ولا أن يشركه في خلقه شريك، ثم نزه نفسه تعالى وأمرنا بتنزيهه
عما أضافوه إليه، وأنه يجل عن ذلك ويتعالى عنه، فقال " سبحانه وتعالى عما
يصفون " من ادعائهم له شركاء واختراقهم له بنين وبنات لان ذلك لا يليق
بصفته ولا بوحدانيته.
قوله تعالى:
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن
له صاحبه وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم (101)
آية بلا خلاف.
البديع هو المبدع وهي صفة معدولة عن (مفعل) إلى (فعيل) ولذلك
تعدى (فعيل) لأنه يعمل عمل ما عدل عنه، فإذا لم يكن معدولا للمبالغة لم
يتعد نحو طويل وقصير، وارتفع بديع، لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره
هو بديع السماوات والأرض. ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء وخبره (انى)
يكون له ولد).
والفرق بين الابتداع والاختراع فعل ما لم يسبق إلى مثله، والاختراع
فعل ما لم يوجد سبب له، ولذلك يقال: البدعة والسنة، فالبدعة احداث ما لم
يسبق إليه مما خالف السنة، ولا يوصف بالاختراع غير الله، لان حد ما
ابتدئ في غير محل القدرة عليه، ولا يقدر على ذلك الا القادر للنفس، لان
القادر بقدرة اما ان يفعل مباشرا وحده ما ابتدئ في محل القدرة عليه أو
متولد وحده ما وقع بحسب غيره، وهو على ضربين: أحدهما تولده في محل
القدرة عليه. والاخر انه يتعداه بسبب هو الاعتماد لا غير، ولا يقدر غير
220

الله على الاختراع أصلا. فاما الابتداع فقد يقع منه، لأنه قد يفعل فعلا لم
يسبق إليه. واما " بديع السماوات والأرض " فلا يوصف به غير الله لأنه
خالقهما على غير مثال سبق.
وقوله " اني يكون له ولد " معناه وكيف يكون له ولد. وقيل: معناه
من أين يكون له ولد؟ ولم تكن له صاحبة، فالولد هو الحيوان المتكون
من حيوان، فعلى هذا آدم ليس بولد، لأنه لم يتكون عن والد، والمسيح (ع)
ولد، لان مريم ولدته فهو متكون عنها، وان لم يكن عن ذكر، والصاحب
هو القرين اللازم، ولذلك يقال: أصحاب الصحراء وفي القرآن أصحاب
النار وأصحاب الجنة. ومعناه المقارنون لها. وقد يكون المقارن لما هو من
جنسه وما ليس من جنسه، فيوصف بأنه صاحب الا انه لابد من مشاكلته
ويقال: صاحب القرآن أي حافظه، وصاحب الدار مالكها.
وقوله: " وخلق كل شئ " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون أراد ب‍ (خلق) قدر، فعلى هذا تكون الآية
عامة، لأنه تعالى مقدر كل شئ.
ويحتمل أن يكون احدث كل شئ، فعلى هذا يكون مخصوصا، لأنه
لم يحدث أشياء كثيرة من مقدورات غيره، ما هو معدوم لم يوجد على مذهب
من يسميها أشياء. وكقديم آخر، لأنه يستحيل.
وقوله: " وهو بكل شئ عليم " عام، لان الله تعالى يعلم الأشياء كلها
قديمها ومحدثها، موجودها ومعدومها، لا تخفى عليه خافية.
قوله تعالى:
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه
وهو على كل شئ وكيل (102) آية بلا خلاف.
" ذلك " إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف الله بأنه " بديع السماوات
221

والأرض " وغير ذلك من صفاته تعالى. وإنما ادخل فيه الميم، لأنه خطاب
لجميع الخلق. " الله ربكم " صفة بعد صفة.
وقوله: " لا إله إلا هو " اخبار بأنه لا معبود سواه تحق له العبادة.
وبين انه " خالق كل شئ " من أصناف الخلق. وحذف اختصارا - في
المبالغة - لقيام الدلالة على أنه لا يدخل فيه ما لم يخلقه من أصناف الأشياء
من المعدوم، وافعال العباد والقبائح، ومثله في المبالغة قوله: " تدمر كل شئ
بأمر ربها " (1). وقوله: " وأوتيت من كل شئ " (2). ثم امر الخلق
بعبادة من كان خالق الأشياء كلها، والمنعم على خلقه بما يستحق به العبادة:
من خلق الحياة والقدرة والشهوة والبقاء، وغير ذلك. وأخبر انه تعالى
" على كل شئ وكيل " أي حافظ. والوكيل على الشئ هو الحافظ الذي
يحوطه ويدفع الضرر عنه. وإنما وصف بأنه وكيل مع أنه مالك الأشياء،
لأنه لما كانت منافعه لغيره لاستحالة المنافع عليه والمضار، صحة الصفة له من
هذه الجهة بأنه وكيل، وكان فيها تذكير بالنعمة مع كونه مالكا من جهة انه
قادر عليه له ان يصرف أتم التصريف مما يريده بمنزلة ما يريده الوكيل في أن
منافعه تعود على غيره، ولا يلزم على هذا ان يقال: هو وكيل على القبائح
والفواحش، لأنه يوهم انها عرض وإنما تدخل في الجملة على طريق التبع،
لأنه يجازي عليها بالعذاب المستحق بها.
ورفع " خالق كل شئ " بأنه خبر ابتداء محذوف كأنه قيل هو خالق
كل شئ، لأنه تقدم ذكره فاستغني عن ذكره. ولا يجوز رفعه على أن خبره
" فاعبدوه " لدخول الفاء. وكان يجوز نصبه على الحال لأنه نكرة اتصل
بمعرفة بعد التمام.

(1) سورة 46 الأحقاف آية 25
(2) سورة 27 النمل آية 23.
222

قوله تعالى:
لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف
الخبير (103) آية بلا خلاف.
في هذه الآية دلالة واضحة على أنه تعالى لا يرى بالابصار، لأنه تمدح
بنفي الادراك عن نفسه. وكلما كان نفيه مدحا غير متفضل به فاثباته لا يكون
الا نقصا، والنقص لا يليق به تعالى. فإذا ثبت انه لا يجوز ادراكه، ولا
رؤيته، وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء:
أحدها - انه تعالى تمدح بالآية.
والثاني - ان الادراك هو الرؤية.
والثالث - ان كلما كان نفيه مدحا لا يكون اثباته الا نقصا. والذي
يدل على تمدحه شيئان:
أحدهما - اجماع الأمة، فإنه لا خلاف بينهم في أنه تعالى تمدح بهذه
الآية، فقولنا: تمدح بنفي الادراك عن نفسه لاستحالته عليه. وقال المخالف:
تمدح لأنه قادر على منع الابصار من رؤيته، فالاجماع حاصل على أن
فيها مدحة.
والثاني - ان جميع الأوصاف التي وصف بها نفسه قبل هذه الآية
وبعدها مدحة، فلا يجوز ان يتخلل ذلك ما ليس بمدحة. والذي يدل على أن
الادراك يفيد الرؤية ان أهل اللغة لا يفرقون بين قولهم: أدركت ببصري
شخصا، وآنست، وأحسست ببصري. وانه يراد بذلك اجمع الرؤية. فلو
جاز الخلاف في الادراك، لجاز الخلاف فيما عداها من الاقسام.
فاما الادراك في اللغة، فقد يكون بمعنى اللحوق، كقولهم: ادراك
قتادة الحسن. ويكون بمعنى النضج، كقولهم أدركت الثمرة، وأدركت
القدر، وأدرك الغلام إذا بلغ حال الرجال. وأيضا فان الادراك إذا أضيف
223

إلى واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة. فيه ألا ترى انهم يقولون:
أدركته بأذني يريدون سمعته، وأدركته بأنفي يريدون شممته وأدركته بفمي
يريدون ذقته. وكذلك إذا قالوا: أدركته ببصري يريدون رأيته. واما
قولهم أدركت حرارة الميل ببصري فغير معروف ولا مسموع، ومع هذا ليس
بمطلق بل هو مقيد، لان قولهم حرارة الميل تقييد لان الحرارة تدرك بكل
محل فيه حياة، ولو قال أدركت الميل ببصري لما استفيد به الا الرؤية. وقولهم إن
الادراك هو الإحاطة باطل، لأنه لو كان كذلك لقالوا: أدرك الجراب
بالدقيق وأدرك الحب بالماء وأدرك السور بالمدينة لإحاطة جميع ذلك بما
فيه، والامر بخلاف ذلك. وقوله " حتى إذا أدركه الغرق " (1) فليس المراد
به الإحاطة بل المعنى حتى إذا لحقه الغرق، كما يقولون أدركت فلانا إذا
لحقته، ومثله " فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون " (2) أي
لملحقون، والذي يدل على أن المدح إذا كان متعلقا بنفي فاثباته لا يكون الا
نقصا، قوله " لا تأخذه سنة ولا نوم (3) وقوله " ما اتخذ الله من ولد وما
كان معه من إله " (4) لما كان مدحا متعلقا بنفي فلو ثبت في حال لكان نقصا.
فان قيل كيف يتمدح بنفي الرؤية ومع هذا يشاركه فيها ما ليس بممدوح
من المعدومات والضمائر.؟
قلنا: إنما كان ذلك مدحا بشرط كونه مدركا للابصار وبذلك يميز من
جميع الموجودات لأنه ليس في الموجودات ما يدرك ولا يدرك.
فان قيل: ولم إذا كان يدرك ولا يدرك يجب أن يكون ممدوحا؟
قلنا: قد ثبت ان الآية مدحة بما دللنا عليه، ولابد فيها من وجه مدحة
فلا يخلو من أحد وجهين: اما أن يكون وجه المدحة أنه يستحيل رؤيته مع
كونه رائيا أو ما قالوه من أنه يقدر على منع الابصار من رؤيته بأن لا يفعل

(1) سورة 10 يونس آية 90
(2) سورة 26 الشعراء آية 62
(3) سورة 2 البقرة آية 256.
(4) سورة 23 المؤمنون آية 92.
224

فيها الادراك، وما قالوه باطل لقيام الدلالة على أن الادراك ليس بمعنى
الإحاطة، فإذا بطل ذلك لم يبق الا ما قلناه، والا خرجت الآية من كونها مدحة.
وقد قيل: ان وجه المدحة في ذلك أن من حق المرئي أن يكون مقابلا أو
في حكم المقابل وذلك يدل على مدحته، وهذا دليل من أصل المسألة لا يمكن
أن يكون جوابا في الآية.
فان قيل: انه تعالى نفى أن تكون الابصار تدركه فمن أين ان المبصرين لا
يدركونه؟
قلنا: الابصار لا تدرك شيئا البتة فلا اختصاص لها به دون غيره، وأيضا
فان العادة ان يضاف الادراك إلى الابصار ويراد به ذووا الابصار، كما
يقولون: بطشت يدي وسمعت أذني وتكلم لساني ويراد به أجمع ذووا الجارحة
فان قيل: انه تعالى نفى أن جميع المبصرين لا يدركونه، فمن أين أن
البعض لا يدركونه وهم المؤمنون؟
قلنا: إذا كان تمدحه في استحالة الرؤية عليه لما قدمناه فلا اختصاص
لذلك براء دون رائي، ولك ان تستدل بأن تقول: هو تعالى نفى الادراك عن
نفسه نفيا عاما كما أنه أثبت لنفسه ذلك عاما فلو جاز ان يخص ذلك بوقت
دون وقت لجاز مثله في كونه مدركا. وإذا ثبت نفي ادراكه على كل حال فكل
من قال بذلك قال الرؤية مستحيلة عليه. ومن أجاز الرؤية لم ينفها نفيا عاما
فالقول بنفيها عموما مع جواز الروية عليه قول خارج عن الاجماع. فان
عورضت هذه الآية بقوله " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " (1) فانا نبين
انه لا تعارض بينهما وانه ليس في هذه الآية ما يدل على جواز الرؤية إذا
انتهينا إليها إن شاء الله.
وقوله " وهو اللطيف الخبير " قيل في معنى " اللطيف " قولان:
أحدهما - أنه اللاطف لعباده بسبوغ الانعام، غير أنه عدل من وزن

(1) سورة 75 القيامة آية 23.
225

(فاعل) إلى (فعيل) للمبالغة.
الثاني - أنه لطيف التدبير، وحذف لدلالة الكلام عليه.
والخبير هو العالم بالأشياء المتبين لها، وما ذكرناه من أن معنى الآية نفي
الرؤية عن نفسه على كل حال قول جماعة منهم عائشة، روى مسروق عن
عائشة انها قالت: من حدثك أن رسول الله رأى ربه فقد كذب " لا تدركه
الابصار وهو يدرك الابصار " و " ما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من
وراء حجاب (1) ولكن رأى جبرائيل في صورته مرتين. وفي رواية أخرى أن
مسروقا لما قال لها: هل رأى محمد ربه؟ قالت: سبحان الله، لقد وقف شعري
مما قلت، ثم قرأت الآية. وقال الشعبي قالت عائشة من قال: ان أحدا رأى
ربه فقد أعظم الفرية على الله، وقرأت الآية، وهو قول السدي وجماعة أهل
العدل من المفسرين كالحسن والبلخي والجبائي والرماني وغيرهم. وقال أهل
الحشو والمجبرة بجواز الرؤية على الله تعالى في الآخرة وتأولوا الآية
على الإحاطة وقد بينا فساد ذلك.
قوله تعالى:
قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن
عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ (104) آية بلا خلاف.
البصائر جمع بصيرة وهي الدلالة التي توجب العلم الذي يبصر به نفس الشئ
على ما هو به والمراد ههنا قد جاءكم القرآن الذي فيه الحجج والبراهين،
قال الشاعر:
جاؤوا بصائرهم على أكتافهم * وبصيرتي يعدو بها عتد وأي (2)

(1) سورة 42 الشورى آية 51
(2) اللسان (بصر)، (عتد)، (وأي) وتفسير الطبري 12 / 24 والبصيرة
الدم، والشاعر يعير أخوته لأبيه لعدم أخذهم بثأر أبيهم وقد أخذ هو بدم
أبيه ويروى (حملوا بصائرهم) و (راحوا بصائرهم). والعتد الحاضر المعد للكروب.
226

ونعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. وأما الابصار فهو الادراك ولذلك
يوصف تعالى بأنه مبصر كما يوصف بأنه مدرك ويسمى بأنه بصير، لأنه يجب
أن يدرك المبصرات إذا وجدت وإنما وصفت الدلالة بأنها جائية وإن كان لا يجوز
أن يقال جاءت الحركة، ولا جاء السكون ولا الاعتماد، وغير ذلك من
الاعراض لتفخيم شأن الدلالة حيث كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره
للنفس كما يقال جاءت العافية وانصرف المرض وأقبل السعد وأدبر النحس.
وقوله " فمن أبصر فلنفسه " يعني من تبين بهذه الحجج بأن نظر فيها
حتى أوجبت له " العلم وتبين بها، فمنفعة ذلك تعود عليه ولنفسه بما نظر. ومن
عمي فلم ينظر فيها وصدف عنها حتى جهل فعلى نفسه لان عقاب تفريطه لازم
له وحال به، فسمي العلم والتبيين إبصارا مجازا، وسمي الجهل عمى توسعا.
وفي ذلك دلالة على أن الخلق غير مجبرين بل هم مخيرون في أفعالهم.
ثم خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وأمره بأن يقول لهم " وما أنا عليكم
بحفيظ " يعني برقيب على أعمال العباد حتى يجازيهم بها، - في قول الحسن - بل
هو شهيد عليهم، لأنه يرجع إلى الحال الظاهرة التي تقع عليها المشاهدة. قال
الزجاج: هذا قبل أن يؤمر بالقتال. ثم أمر أن يمنعهم بالسيف عن عبادة الأوثان.
وهذه الآية فيها أمر من الله لنبيه أن يقول لهؤلاء الكفار: قد جاءكم
حجج من الله وهو ما ذكره في قوله " فالق الحب والنوى " (1) إلى هاهنا. وما
يبصرون به الهدى من الضلال، فمن نظر وعلم فلنفسه نفع، ومن جهل وعمي
فلنفسه ضر. ولست أمنعكم منه ولا أحول بينكم وما تحتاجون، وهو
قول قتادة وابن زيد.
قوله تعالى:
وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم
يعلمون (105) آية بلا خلاف.

(1) آية 95 من هذه السورة.
227

قرأ ابن كثير وأبو عمرو (دارست) بألف وفتح التاء. الباقون بلا الف
" درست " بفتح التاء، الا ابن عامر فإنه قرأ " درست " بسكون " التاء وفتح
السين بمعنى (انمحت) وذكر الأخفش (درست) وهو أشد مبالغة في الامحاء
وقيل (درست) على ما لم يسم فاعله. والمعاني متقاربة غير أن هذين لم يقرأ
بهما أحد من المعروفين. وفي قراءة عبد الله (درس) أي ليقولوا درس محمد.
قال أبو زيد: درست أدرس دراسة وهي القراءة. وإنما يقال ذلك إذا قرأت
على غيرك. قال الأصمعي أنشدني ابن ميادة:
يكفيك من بعض إزديار الآفاق * سمراء مما درس ابن مخراق (1)
يقال درس يدرس مثل داس يدوس. قال: وقال بعضهم: سمراء ناقته،
ودرسها رياضها قال ودرس السورة من هذا أي يدرسها لتخف على لسانه،
والدريس الثوب الخلق، وأصل الدرس استمرار التلاوة. وقال أبو علي
النحوي: من قرأ " دارست " معناه أهل الكتاب وذاكرتهم، قال وقد يحذف
الألف في مثل هذا في المصحف. قال ويقوي ذلك قوله " وقالوا أساطير الأولين
اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " (2) وقالوا " ان هذا الا افك افتراه
وأعانه عليه قوم آخرون (3) ومن قرأ (درست) قال لان أبيا وابن مسعود قرءا
به فأسندا الفعل فيه إلى الغيبة كما اسند إلى الخطاب ومعناه درست فتعلمت
من أهل الكتاب. وقال المغربي: درست معناه علمت كما قال " ودرسوا ما
فيه " (4) أي علموه فعلى هذا يكون اللام لام الغرض، كأنه قال فعلنا
ذلك ليقولوا علمت. ووجه قراءة ابن عامر انه ذهب إلى الدرس الذي هو
تعفية الأثر وإمحاء الرسم. واللام من قوله " وليقولوا درست " على ضربين:
من قال (درست) بلا الف، فالمعنى لكراهة أن يقولوا أو لئلا يقولوا:
درست، كما قال " يبين الله لكم أن تضلوا " (5) ومعناه لئلا تضلوا وكراهة

(1) اللسان " سمر "
(2) سورة 25 الفرقان آية 5
(3) سورة 25 الفرقان آية 4
(4) سورة 7 الأعراف آية 168
(5) سورة 4 النساء آية 175.
228

ان تضلوا، والمعنى اني فصلت الآيات وأحكمتها لئلا يقولوا: انها أخبار قد
تقدمت وطال العهد بها وباد من كان يعرفها، كما قالوا " أساطير الأولين " (6)
لان تلك الأخبار لا تخلو من خلل فإذا سلم الكتاب منه لم يكن لطاعن موضع طعن.
والثاني - ليقولوا (درست) ذلك بحضرتنا أي ليقروا بورود الآية عليهم
فتقوم الحجة عليهم.
وقال الزجاج: اللام لام العاقبة ومن قرأ (دارست) فاللام على قوله
كالتي في قوله " ليكون " لهم عدوا وحزنا " (7) ولم يلتقطوه لذلك لكن كان
عاقبته كذلك كما أنه تعالى لم يفصل الآيات ليقولوا دارست ودرست. لكن
لما قالوا ذلك أطلق ذلك عليه اتساعا.
وموضع الكاف في وكذلك نصب، لان المعنى نصرف الآيات في غير هذه
السورة مثل التصريف في هذه السورة، فهو في موضع صفة المصدر كأنه قال
تصريفا مثل هذا التصريف. قال الرماني: التصريف اجراء المعنى الدائر
في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة.
وقال الحسن ومجاهد والسدي وابن عباس وسعيد بن جبير (دارست)
أي ذاكرت أهل الكتابين وقارأتهم، وقوله " ولنبينه لقوم يعلمون " معناه
لنبين الذي هذه الآيات دالة عليه لقوم يعلمون ما نورده عليهم من هذه
الآيات، ويعقلون ذلك وهم الذين يلزمهم الاستدلال بذلك على الله وعلى
صحة دينه.
وقال قوم " ليقولوا درست " معناه التهديد كما يقول القائل: قل
لفلان: يوفينا حقنا وليصنع ما شاء، وقل للناس الحق وليقولوا ما شاؤوا أي
ذلك لا يضرك، ولان ضرره يعود عليهم من العقاب والذم.

(6) سورة 16 النحل آية 24
(7) سورة 28 القصص آية 8.
229

قوله تعالى:
اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن
المشركين (106) آية بلا خلاف.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه، والاتباع هو أن
يتصرف الثاني بتصريف الأول، والنبي صلى الله عليه وآله كان يتصرف في الدين بتصريف
الوحي فلذلك كان متبعا، وكذلك كل متدبر بتدبير غيره فهو متبع له والايحاء
هو القاء المعنى إلى النفس من جهة يخفى، وإنما أعاد قول " لا إله إلا هو "
لان المعنى أدعهم إلى أنه لا إله إلا هو، فعلى هذا ليس بتكرار، هذا قول
الحسن. وقال الجبائي: لأنه بمعنى الزمه وحده. وقال غيره: لان معناه اتبع
ما أوحي إليك من أنه لا إله إلا هو.
وقوله " واعرض عن المشركين " أمر للنبي صلى الله عليه وآله بالاعراض عن المشركين، ولا
ينافي ذلك أمره إياه بدعائهم إلى الحق وقتالهم على مخالفتهم لامرين:
أحدهما - أنه أمره بالاعراض عنهم على وجه الاستجهال لهم فيما اعتقدوه
من الاشراك بربهم.
الثاني - قال ابن عباس: نسخ ذلك بقوله " اقتلوا المشركين " (1) وأصل
الاعراض هو الانصراف بالوجه إلى جهة العرض. والعرض خلاف الطول،
ومنه (وأعرضت اليمامة). أي ظهرت كالظهور بالعرض ومنه العارضة لظهور
المساواة بها كالظهور بالعرض، والاعتراض المنع من الشئ بحاجز عنه عرضا
ومنه العرض الذي يظهر كالظهور بالعرض ثم لا يلبث. وحد أيضا بأنه ما
يظهر في الوجود ولا يكون له لبث كلبث الجواهر.

(1) سورة 9 التوبة آية 6.
230

قوله تعالى:
ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت
عليهم بوكيل (107) آية.
ان قيل: كيف قال تعالى " ولو شاء الله ما أشركوا " والمشيئة لا تتعلق
الا بفعل يصح حدوثه، ولا تتعلق بأن لا يكون الشئ؟!
قلنا: التقدير لو شاء الله ان يكونوا على غير الشرك قسرا ما أشركوا
فمتعلق المشيئة محذوف، فمراد هذه المشيئة حالهم التي تنافى الشرك قسرا
بالاقتطاع عن الشرك عجزا أو منعا أو الجاء. وإنما لا يشاء الله هذه الحال
لأنها تنافي التكليف. وإنما لم يمنع العاصي من المعصية لأنه إنما اتى بها من
قبل نفسه، والله تعالى فعل به جميع ما فعل بالمطيع من إزاحة العلة، فإذا لم
يطع وعصى كانت الحجة عليه. وربما كان في بقائه لطف للمؤمن فيجب تبقيته
وليس لاحد ان يقول الآية دالة على أنه تعالى لم يرد هدايتهم لأنه لو أراد ذلك
لاهتدوا، وذلك أنه لو لم يرد أن يهتدوا لم يكونوا عصاة بمخالفة
الاهتداء، لان المعاصي هو الذي خالف ما أريد منه ولما صح أمرهم أيضا
بالاهتداء.
والفرق بين الحفيظ والوكيل هو أن الحفيظ يحفظهم من أن يزلوا بمنعه لهم،
والوكيل القيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم حتى يلطف لهم في
تناول ما يجب عليهم، فليس بحفيظ في ذاك ولا وكيل في هذا، فذلك قال
تعالى: انه لم يجعل نبيه حفيظا ولا جعله وكيلا عليهم، بل الله تعالى هو
الرقيب الحافظ عليهم والمتكفل بأرزاقهم. وإنما النبي صلى الله عليه وآله مبلغ منذر
ومخوف. وقيل: ان ذلك كان بمكة قبل أن يؤمر بالقتال.
231

قوله تعالى:
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا
بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم
فينبئهم بما كانوا يعملون (108) آية بلا خلاف.
قرأ الحسن ويعقوب " عدوا " بضم العين والدال وتشديد الواو. والباقون
بفتح العين وبسكون الدال. وأصل ذلك من العدوان. و " عدوا " مخففا
و " عدوا " لغتان، يقال عدا علي عدوا وعدوانا وعداءا إذا ظلم مثل ضرب
ضربا. وعدا فلان على فلان أي ظلمه. والاعتداء افتعال من عدا.
فهي الله تعالى المؤمنين أن يسبوا الذين يدعون من دون الله. والسب
الذكر بالقبيح ومثله الشتم والذم وهو الطعن فيه بمعنى قبيح، كما يطعن فيه
بالسنان، وأصله السبب، فهو تسبب إلى ذكره بالعيب.
والمعنى في الآية لا تخرجوا في مجادلتهم ودعائهم إلى الايمان ومحاجتهم إلى أن
تسبوا ما يعبدونه من دون الله، فان ذلك ليس من الحجاج في شئ، وهو
أيضا يدعوهم إلى أن يعارضوكم ويسبوا الله بجهلهم وحميتهم، فأنتم اليوم
غير قادرين على معاقبتهم بما يستحقون، وهم أيضا لا يتقونكم، لان الدار
دارهم ولم يؤذن لكم في القتال.
وكان سبب نزول الآية - في قول الحسن - أن المسلمين كانوا يسبون
آلهة المشركين من الأوثان، فإذا سبوها يسب المشركون الله تعالى، فأنزل الله
تعالى الآية. وقال أبو جهل: والله يا محمد لتتركوا سب آلهتنا أو لنسبن
الهك الذي بعثك، فنزلت الآية. وفي ذلك دلالة على أن المحق يلزمه الكف
عن سب السفهاء الذين يسرعون إلى سبه مقابلة له، لأنه بمنزلة البعث على
المعصية والمفسدة فيها. وإنما قال " يدعون من دون الله " بمعنى يعبدون،
232

لان معناه يدعونه إلها فلما قال " من دون الله " وهو من صفة الكفار دل على
هذا المعنى فحذف اختصارا. وإنما قال " من دون الله " مع أنهم كانوا يشركون في
العبادة بين الله وبين الأصنام لامرين:
أحدهما - ان ما وجهوه من العبادة إلى الأوثان إنما هو عبادة لها لا لله،
وليس كالتوجه إلى القبلة عبادة لله.
والثاني - أن ذلك غير معتد به، لأنهم أوقعوا العبادة على خلاف الوجه
المأمور به فما أطاعوا الله بحال.
وقوله " كذلك زينا لكل أمة عملهم " قيل في معناه أربعة أقوال:
أحدها - قال الحسن والجبائي والطبري والرماني: انا كما أمرناكم
بحسن الدعاء إلى الله تعالى وتزيين الحق في قلوب المدعوين كذلك زينا للأمم
المتقدمين أعمالهم التي أمرناهم بها ودعوناهم إليها بأن رغبناهم في الثواب،
وحذرناهم من العقاب ويسمى ما يجب على الانسان أن يعمله بأنه عمله كما
يقول القائل لولده أو غلامه: اعمل عملك يريد به ما ينبغي له أن يفعله، لان
ما وجد وتقضى لا يصح الامر بأن يفعله.
الثاني - زينا الحجة الداعية إليها والشبهة التي من كمال العقل أن يكون
المكلف عليها، لأنه متى لم يفعل منى الشبهة لم يكن عاقلا.
الثالث - التزيين المراد به ميل الطبع إلى الشئ فهو إلى الحسن ليفعل والى
القبيح ليجتنب.
والرابع - ذكره البلخي أيضا، وهو أن المعنى ان الله زين لكل أمة
عملهم من تعظيم من خلقهم ورزقهم وانعم عليهم، والمحاماة عنه وعداوة من
عاداه طاعة له، فلما كان المشركون يظنون شركاءهم هم الذين يفعلون ذلك
أو أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، حاموا عنهم وتعصبوا لهم وعارضوا من
شتمهم بشتم من يعز عليهم، فهم لم يعدوا فيما صنعوا ما زينه الله لهم في
الحملة، لكن غلطوا فقصدوا بذلك من لم يجب ان يقصدوه فكفروا وضلوا.
233

وقوله " عدوا " نصب على المصدر، وقرئ " عدوا " والمعنى جماعة يعني أعداء
وعلى هذا يكون نصبا على الحال.
قوله تعالى:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن
بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت
لا يؤمنون (109) آية.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر الا يحيى ونصير وخلف " وما
يشعركم انها " بكسر الهمزة. الباقون بفتحها.
وقرأ ابن عامر وحمزة " لا تؤمنون " بالتاء. الباقون بالياء.
و (ما) في قوله " وما يشعركم " استفهام وفاعل (يشعركم) ضمير (ما) ولا
يجوز أن يكون نفيا، لان الفعل فيه يبقى بلا فاعل، ولا يجوز أن يكون
نصبا ويكون الفاعل ضمير اسم الله، لان التقدير يصير، وما يشعركم الله
انتفاء ايمانهم، وهذا ليس بصحيح، لان الله قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله
" ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة. " آية (111) فالمعنى وما يدريكم ايمانهم إذا جاءت
الآيات، فحذف المفعول، وتقديره وما يدريكم ايمانهم إذا جاءت أي هم لا
يؤمنون مع مجئ الآية. ومن كسر الألف فلانه استئناف على القطع بأنهم لا
يؤمنون، ولو فتحت ب‍ " يشعركم " كان عدوا لهم، ويجوز فتحها على وجهين:
الأول قال الخليل: بمعنى لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، كما يقول القائل: ائت
السوق انك تشتري لنا شيئا معناه لعلك، قال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك ان منيتي * إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد (1)
وقال درى بن الصمة:

(1) جمهرة اشعار العرب 103 واللسان (أنن) وتفسير الطبري 12 / 41.
234

ذريتي أطوف في البلاد لأنني * أرى ما ترين أو بخيلا مخلد (2)
وقال آخر:
هل أنتم عائجون بنا لأنا * نرى العرصات أو أثر الخيام (3)
وقال الفراء: انهم يقولون: لعلك، ولعنك، ورعنك، وعلك، ورأنك،
ولأنك بمعنى واحد. وقال أبو النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه * انا نغدى اليوم من شوائه (4)
الثاني - قال الفراء (لا) - ههنا - صلة كقوله " ما منعك أن لا تسجد إذ
أمرتك " (5) والتقدير وما يشعركم انها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على
هذا لو جاءت لم يؤمنوا ومثل زيادة (لا) قول الشاعر:
أبا جوده لا النجل واستعجلت به * نعم من فتى لا يمنع الجود فاعله
بنصب النجل وجره، فمن نصب جعلها زيادة، وتقديره أبا جوده النجل
ومن جره أضاف (لا) إلى النجل) ومثله قوله تعالى " وحرام على قرية أهلكناها
أنهم لا يرجعون " (6) وهو يحتمل أمرين:
أحدهما - أن تكون (لا) زائدة و (ان) في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ
الذي هو (حرام) وتقديره وحرام على قرية مهلكة رجوعهم، كما قال " فلا
يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون " (7).
والثاني - أن تكون (لا) غير زائدة بل تكون متصلة بأهلكنا، والتقدير
بأنهم لا يرجعون أي أهلكناهم بالاستئصال، لأنهم لا يرجعون إلى أهليهم

(2) تفسير الطبري 3 / 78 و 12 / 42 والشعر والشعراء 210، 211
ومجاز القرآن 6 / 55 واللسان (أنن)
(3) قائلة جرير، ومجمع البيان (صيدا) 2: 348 واللسان (أنن)
(4) المعاني الكبير لابن قتيبة 393 وخزانة الآداب 3 / 951 والطبري 12 / 43
(5) سورة 7 الأعراف آية 11
(6) سورة 21 الأنبياء آية 95
(7) سورة 36 يس آية 50.
235

للاستئصال الواقع بهم. وخبر الابتداء محذوف وتقديره حرام على قرية أهلكناها
بالاستئصال بقاؤهم أو حياتهم ونحو ذلك.
من قرأ (يؤمنون) بالياء فلان قوله " وأقسموا " إنما يراد به قوم مخصوصون
بدلالة " ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة.. " الآية (111)، وليس كل الناس بهذا
الوصف، فالمعنى وما يشعركم أيها المؤمنون لعلهم إذا جات الآيات التي
اقترحوها لم يؤمنوا.
ومن قرأ بالتاء فإنه انصرف من الغيبة إلى الخطاب، ويكون المراد
بالمخاطبين في " يؤمنون " هم القوم المقسمون الذين أخبر الله عنهم أنهم
لا يؤمنون، ومثله قوله " الحمد لله " ثم قال " إياك نعبد " ونحو ذلك مما
ينصرف فيه إلى خطاب بعد الغيبة.
وقوله " جهد أيمانهم " أي اجتهدوا في اليمين وبالغوا فيه. والآية
التي سألوا النبي صلى الله عليه وآله اظهارها قيل فيها قولان:
أحدهما - انهم سألوا تحول الصفا ذهبا.
الثاني - ما ذكره في موضع آخر من قوله " لن نؤمن لك حتى تفجر
لنا من الأرض ينبوعا " إلى قوله " كتابا نقرؤه " (1) والمعنى ان هؤلاء الكفار
أقسموا متحكمين على النبي صلى الله عليه وآله وبالغوا في أيمانهم أنهم إذا جاءتهم الآية
التي اقترحوها ليؤمنن بها أي عندها، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهم: إنما
الآيات عند الله.
فان قيل: كيف قال " الآيات عند الله " وذلك معلوم؟!
قيل: معناه من أجل أن الآيات عند الله، ليس لكم أن تتحكموا في
طلبها، لأنه لا يجوز أن يتخلف عنكم ولا عن غيركم ما فيه المصلحة في الدين
لأنه تعالى لا يخل بذلك.
قوله " وما يشعركم " فيه تنبيه على موضع الحجة عليهم من أنه ليس

(1) سورة 17 الاسرى آية 90 - 94.
236

لهم ان يدعوا ما لا سبيل لهم إلى علمه. وقال مجاهد وابن زيد: الخطاب
متوجه إلى المشركين وقال الفراء وغيره: هو متوجه إلى المؤمنين، لأنهم قالوا
ظنا منهم أنهم لو أجيبوا إلى الآيات لامنوا.
قوله تعالى:
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة
ونذرهم في طغيانهم يعملون (110) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى أنه يقلب الله أفئدة هؤلاء الكفار، وأبصارهم عقوبة
لهم وفي كيفية تقليبها قيل قولان:
قال أبو علي الجبائي: انه يقلبها في جهنم على لهب النار وحر الجمر،
وجمع بين صفتهم في الدنيا وصفتهم في الآخرة، كما قال " هل أتاك حديث
الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية " (1) لان قوله
" وجوه يومئذ خاشعة " يعني في الآخرة، و " عاملة ناصبة " في الدنيا.
الثاني - انه يقلبها بالحسرة التي تغم وتزعج النفس. وقوله " كما لم
يؤمنوا به أول مرة " قيل فيه قولان:
أحدهما - أول مرة أنزلت الآيات، فهم لا يؤمنون ثاني مرة بما
طلبوا من الآيات كما لم يؤمنوا أول مرة بما أنزل من الآيات، وهو قول ابن
عباس وابن زيد ومجاهد.
الثاني - روي أيضا عن ابن عباس يعني أول مرة في الدنيا وكذلك لو
أعيدوا ثانية، كما قال تعالى " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " (2)
والكاف في قوله " كما لم يؤمنوا به أول مرة " قيل فيه قولان:
أحدهما - انها دخلت على محذوف كأنه قيل: فلا يؤمنون به ثاني مرة
كما لم يؤمنوا به أول مرة.

(1) سورة 88 الغاشية آية 1 - 4
(2) سورة 6 الانعام آية 28.
237

والثاني - انها دخلت على معنى الجزاء كما قال " وجزاء سيئة سيئة
مثلها " (3). والهاء في قوله " به " يحتمل أن تكون عائدة على القرآن وما أنزل من
الآيات. ويحتمل أن تكون عائدة على النبي صلى الله عليه وآله. وقال بعضهم: انها
عائدة على التقليب، لأنه الحائل بينهم وبين الايمان.
وهذا خطأ لأنه لو حيل بينهم وبين الايمان لما كانوا مأمورين به، ولان
تقليب الابصار لا يمنع من الايمان كما لا يمنع الأعمى عماه من الايمان.
وقوله " ونذرهم في طغيانهم يعمهون " لا يدل على أنه تركهم فيه ليطغوا
لأنه إنما أراد انه خلى بينهم وبين اختيارهم وان لم يرد منهم الطغيان، كما أن
الأئمة والصالحين إذا خلوا بين اليهود والنصارى في دخولهم كنائسهم لا
يدل على أنهم خلوهم ليكفروا.
وقال الحسين بن علي المغربي قوله " ونقلب أفئدتهم وابصارهم " معناه
إنا نحيط علما بذات الصدور، وخائنة الأعين - وهو حشو بين الجملتين -
وهو ان يختبر قلوبهم فيجد باطنها بخلاف الظاهر.
قوله تعالى:
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى
وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء
الله ولكن أكثرهم يجهلون (111) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر ونافع وأبو جعفر " قبلا " بكسر القاف وفتح الباء.
الباقون بضمها، قال أبو زيد: يقال لقيت فلانا قبلا وقبلا وقبلا وقبيلا ومقابلة
كله بمعنى المواجهة فعلى هذا المعنى واحد في اختلاف القراءات.

(3) سورة 42 الشورى آية 40.
238

وقال أبو عبيدة " قبلا " أي معاينة، فعلى هذا من كسر القاف وفتح
الباء أراد معناه عيانا، ومن قرأ بالضم فيهما قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: معناه مقابلة.
الثاني - قال مجاهد وعبد الله بن زيد: معناه قبيلا قبيلا أي جماعة
جماعة فيكون جمع قبيل، وقبيل جمع قبيلة نحو سفين وسفينة ويجمع أيضا سفنا.
الثالث - قال الفراء انه جمع قبيل بمعنى كفيل نحو رغيف ورغف لقوله
" أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (1) " أي يضمنون ذلك.
قال أبو علي الفارسي: وهذا الوجه ضعيف لأنهم إذا لم يؤمنوا مع انزال
الملائكة عليهم وكلام الموتى لهم مع ظهوره وبهوره ومشاهدته والضرورة إليه،
فألا يؤمنوا بالمقالة التي هي قول لا يبهر ولا يضطر أجدر، اللهم الا ان يقال
موضع الآية الباهرة انه جمع القبيل الذي هو الكفيل هو حشر كل شئ،
وفي الأشياء المحشورة ما ينطق وما لا ينطق، فإذا نطق بالكفالة من لا ينطق
كان ذلك موضع بهر الآية وكان ذلك قويا. فاما إذا حملت قوله " قبلا "
على جمع القبيل الذي هو الصنف، فان موضع الآيات هو حشر جميع
الأشياء جنسا جنسا، وليس في العادة ان يحشر جميع الأشياء إلى موضع
واحد، فإذا اجتمعت كذلك كان ذلك باهرا وإذا حملت " قبلا " بمعنى مواجهة
فإنه يكون حالا من المفعول به، والمعنى حشرناه معاينة ومواجهة، فيكون في
معنى قراءة نافع " قبلا " أي معاينة. فأما قوله " العذاب قبلا " فمعناه
مواجهة أو جمع قبيل. والمعنى يأتيهم العذاب صنفا صنفا. وقيل فيمن نزلت
هذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس: نزلت في الكفار أهل الشقاء الذين علم الله
انهم لا يؤمنون على حال.
الثاني - قال ابن جريج: نزلت في المستهزئين الذين سألوا الآيات.

(1) سورة 17 الاسرى 92.
239

أخبر الله تعالى بهذه الآية عن هؤلاء الكفار الذين سألوا الآيات
وعلم من حالهم أنهم لا يؤمنون ولو فعل بهم ما فعل حتى لو أنزل عليهم
الملائكة وكلمهم الموتى بأن يحييهم الله حتى يكلموهم، وحشر عليهم كل
شئ قبلا، على المعنى الذي فسرناه من ظهور خرق العادة فيه والمعجزة الباهرة
فيه لم يؤمنوا لشدة عنادهم وعتوهم في كفرهم. ثم قال " الا ان يشاء الله "
ومعناه أحد أمرين:
أحدهما - قال الحسن: إلا أن يشاء الله أن يجبرهم على الايمان بأن
يمنعهم من اضداد الايمان كلها منهم الايمان.
الثاني - قال أبو علي الجبائي: الا ان يشاء الله ان يلجئهم بأن يخلق
فيهم العلم الضروري بأنهم ان راموا خلافه منعوا منه كما أن الانسان ملجأ إلى
ترك قتل بعض الملوك بمثل هذا العلم. وإنما قلنا: ذلك، لان الله تعالى قد
شاء منهم الايمان على وجه الاختيار، لأنه أمرهم به وكلفهم إياه، وذلك لا
يتم إلا بأن يشاء منهم الايمان، ولو أراد الله من الكفار الكفر للزم أن يكونوا
مطيعين إذا كفروا، لان الطاعة هي فعل ما أريد من المكلف. وللزم أيضا أن
يصح أن يأمرهم. ولجاز ان يأمرنا بأن نريد منهم الكفر كما أراد هو تعالى
وفي الآية دلالة على أن إرادة الله محدثة، لان الاستثناء يدل على ذلك
لأنها لو كانت قديمة لم يجز هذا الاستثناء، كما لا يجوز ان يقول القائل:
لا يدخل زيد الدار الا أن يقدر الله أو الا ان يعلم الله لحصول هذه
الصفات فيما لم يزل.
وقوله " ولكن أكثرهم يجهلون " إنما وصف أكثرهم بالجهل مع أن
الجهل يعمهم لان المعنى يجهلون انه لو أوتوا بكل آية ما آمنوا طوعا. وفي
الآية دلالة على أنه لو علم الله انه لو فعل بهم من الآيات ما اقترحوها لامنوا
أنه كان يفعل ذلك بهم وأنه يجب في حكمته ذلك، لأنه لو لم يجب ذلك لما
كان لهذا الاحتجاج معنى. وتعليله بأنه إنما لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنه لو
240

فعلها لم يؤمنوا، وذلك يبين أيضا فساد قول من يقول: يجوز أن يكون في
معلوم الله ما إذا فعله بالكافر آمن، لأنه لو كان ذلك معلوما لفعله ولامنوا
والامر بخلافه.
قوله تعالى:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك
ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) آية.
التشبيه في قوله " وكذلك " يحتمل أن يرجع إلى أحد أمرين:
أحدهما - أن يكون تقديره جعلنا لك عدوا كما جعلنا لمن قبلك من
الأنبياء.
الثاني - جعلنا تمكين من يعادي الأنبياء وتخليتنا بينهم وبين اختيارهم
كتمكين غيرهم من السفهاء. وإنما جعلهم أعداء على أحد معنيين:
أحدهما - بأن حكم بأنهم أعداء، وهو قول أبي علي.
الثاني - بأن خلى بينهم وبين اختيارهم ولم يمنعهم من العداوة.
ويجوز أن يكون المراد بذلك أن الله تعالى لما أنعم على أنبيائه بضروب
النعم وبعثهم إلى خلقه وشرفهم بذلك، حسدهم على ذلك خلق، وعادوهم
عليه، فجاز أن يقال على مجاز القول بأن الله جعل لهم أعداء كما يقول القائل
إذا أنعم على غيره بنعم جزيلة فحسده عليها قوم وعادوه لأجلها: جعلت لك
أعداء. وقيل المعنى أمرنا الأنبياء بمعاداتهم فكأنما جعلناهم أعداء الأنبياء.
وهذا القول من الله تعالى تسلية للنبي صلى الله عليه وآله في أنه أجراه مجرى غيره من
الأنبياء، ولا يجوز على قياس ذلك أن يقول: جعلنا للكافر كفرا، لان
فيه ايهاما.
وقوله " شياطين الإنس والجن " قيل في معناه قولان:
241

أحدهما - انه أراد مردة الكفار من الفريقين الإنس والجن، وهو قول
الحسن وقتادة ومجاهد.
الثاني - قال السدي وعكرمة: شياطين الانس الذين يغوونهم،
وشياطين الجن الذين هم من ولد إبليس. ويحتمل نصب (عدوا) وجهين:
أحدهما - على أنه مفعول (جعلنا) وشياطين الانس بدل منه.
الثاني - على أنه خبر (جعلنا) في الأصل ويكون هنا مفعول (جعلنا)
كأنه قال جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا.
وقوله " يوحي بعضهم إلى بعض " معناه يلقي إليه بكلام خفي، وهو
الدعاء والوسوسة. وقوله " زخرف القول " معناه هو المزين يقال زخرفه
زخرفة إذا زينه و " غرورا " نصب على المصدر.
ثم أخبر الله تعالى أنه لو شاء ربك أن يمنعهم من ذلك ويحول بينهم
وبينه لقدر على ذلك، لكن ذلك ينافي التكليف، ولو حال بينهم وبين لما فعلوه.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يتركهم وما يفترون أي وما يكذبون بأن يخلي بينهم
وبين ما يختارونه ولا يمنعهم منه بالقهر، فان الله تعالى سيجازيهم على ذلك.
وهو تهديد لهم كقوله " اعملوا ما شئتم " (1) " دون أن يكون ذلك أمرا واجبا
أو ندبا أو إباحة كما يقول القائل لصاحبه: دعني وإياه، ويريد بذلك التهديد لا غير.
وروي عن أبي جعفر عليه السلام في معنى قوله " يوحي بعضهم إلى
بعض " ان الشياطين يلقى بعضهم بعضا فيلقي إليه ما يغوي به الخلق، حتى
يتعلم بعضهم من بعض.
قوله تعالى:
ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه
وليقترفوا ما هم مقترفون (113) آية بلا خلاف.

(1) سورة 41 حم السجد (فصلت) آية 40
242

العامل في قوله " ولتصغى " قوله " يوحي " وهي لام الغرض وتقديره
يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغرونهم ولتصغى إليه أفئدة الذين لا
يؤمنون بالآخرة، وتكون الهاء في قوله " إليه " عائدة إلى القول المزخرف،
ولا يجوز أن يكون العامل فيها جعلنا، لان الله تعالى لا يجوز أن يريد منهم
أن تصغي قلوبهم إلى الكفر ووحي الشياطين، اللهم الا ان يجعلها لام العاقبة
كما قال " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " (2) غير أن هذا غير
معلوم أن كل من أرادوا منه الصغو صغى، ولم يصح ذلك أيضا في قوله
" وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون " لأنه غير معلوم حصول جميع ذلك.
وعلى ما قلناه يكون جميع ذلك معطوفا بعضه على بعض ويكون مرادا
كله للشياطين. وقال الجبائي: ان هذه لام الامر، والمراد بها التهديد، كما
قال " واستفزز " (3) وقال " اعملوا ما شئتم " (4) قال لان علامة النصب
والجزم تتفق في سقوط النون في قوله " وليرضوه وليقترفوا " وهذا غير
صحيح، لأنها لو كانت لام الامر لقال " ولتصغ " بحذف الألف وما قاله إنما
يمكن ان يقال في قوله " وليرضوه وليقترفوا " فأما في قوله " ولتصغى " فلا
يمكن، فبان بذلك أنها لام كي. وقال الزجاج والبلخي: اللام في " ولتصغى "
لام العاقبة وما بعده لام الامر الذي يراد به التهديد، وهذا جائز غير أن فيه
تعسفا. ومعنى (صغا) مال و " لتصغى " أي لتميل، وهو قول ابن عباس
وابن زيد، تقول: صغوت إليه أصغى صغوا وصغوا وصغيت أصغي بالياء
أيضا وأصغيت إليه اصغاء بمعنى قول الشاعر:
ترى السفيه به عن كل محكمة * زيغ وفيه إلى التشبيه اصغاء (5)
ويقال أصغيت الاناء إذا أملته لتجمع ما فيه فاصله الميل لغرض من
الاغراض.

(2) سورة 28 القصص آية 8
(3) سورة 17 الاسرى آية 64
(4) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 40
(5) اللسان (صغا) وتفسير القرطبي 7 / 69 وتفسير الطبري 12 / 58.
243

وقوله " وليقترفوا " عطف على " ولتصغى " والاقتراف اكتساب الاثم،
ومعناه وليكتسبوا الاثم - في قول ابن عباس وابن زيد والسدي - ويقال: خرج
يقترف لأهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الامر إذا واقعه وعمله
وقرفتني بما ادعيت علي أي رميتني بالريبة، وقرف القرحة أي أقشر منها،
واقترف كذبا قال رؤبة:
أعيا اقتراف الكذب المقروف * يقوي البغي وعفة العفيف (6)
وأصله اقتطاع قطعة من الشئ ولام كي تنصب باضمار (أن) مثل (حتى)
غير أنها قد تظهر مع اللام، ولا تظهر مع (حتى) لان (حتى) محمولة على
التأويل، ومعناها (إلى أن لما في (حتى) من الاشتراك. وليس في اللام
حمل على تأويل حرف آخر. وقال البلخي: الاقتراف الادعاء والتهمة، يقول
الرجل لغيره: أنت قرفتني أي نسبتني إلى التهم.
قوله تعالى:
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب
مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك
بالحق فلا تكونن من الممترين (114) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر وحفص " منزل " بتشديد الزاي. الباقون بالتخفيف
من شدد حمله على التكرير بدلالة قوله " تنزيل الكتاب من الله العزيز
الحكيم " (7).
ومن خفف فلقوله " انا أنزلناه في ليلة مباركة " (8) وما أشبهها.
امر الله تعالى نبيه أن يقول لهؤلاء الكفار الذين مضى ذكرهم " أفغير

(6) مجاز القرآن 1 / 205 وتفسير الطبري 12 / 59.
(7) سورة 39 الزمر آية 1، وسورة 45 الجاثية آية 1 وسورة 46
الأحقاف آية 2
(8) سورة 44 الدخان آية 3.
244

الله ابتغي حكما " أي أطلب سوى الله حاكما، ونصب أفغير الله بفعل مقدر
يفسره (أبتغي) تقديره أأبتغي غير الله أبتغي حكما، والحكم والحاكم بمعنى
واحد، الا ان الحكم هو من كان أهلا أن يتحاكم إليه فهو أمدح من الحاكم،
والحاكم جار على الفعل، وقد يحكم الحاكم بغير الحق، والحكم لا يقضي
الا بالحق لأنها صفة مدح وتعظيم.
والمعنى هل يجوز لاحد ان يعدل عن حكم الله رغبة عنه، لأنه لا يرضى به؟!
أو هل يجوز مع حكم الله حكم يساويه في حكمه؟!
وقوله " وهو الذي " يعني الله الذي " أنزل إليكم الكتاب مفصلا "
وإنما مدح الكتاب بأنه مفصل، لان التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط
المعمي للمعنى، وينفى أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد.
وإنما فصل القرآن بالآيات التي تفصل المعاني بعضها من بعض وتخليص
الدلائل في كل فن.
وقيل: معنى (مفصلا) أي بما يفصل بين الصادق والكاذب من أمور
الدين. وقيل: فصل فيه الحرام من الحلال، والكفر من الايمان، والهدى
من الضلال - في قول الحسن -.
وقوله " والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " لا
يجوز أن يكون على عمومه، لان كثيرا من أهل الكتاب، بل أكثرهم جهال
لا يعرفون. وقوله: أهل الكتاب، قد يستعمل تارة بمعنى العلم، وبمعنى
الاقرار أخرى، كما يقال للعلماء بالقرآن: أهل القرآن. ويقال لجميع
المسلمين أهل القرآن بمعنى أنهم مقرون به. وقوله " يعلمون أنه منزل من
ربك بالحق " قيل في معناه قولان:
أحدهما - يعلمون ان كل ما فيه بيان عن الشئ على ما هو به، فترغيبه،
وترهيبه، ووعده، ووعيده، وقصصه، وأمثاله، وغير ذلك مما فيه كله بهذه الصفة
والثاني - أن معنى " بالحق " البرهان الذي تقدم لهم حتى علموه به.
245

فان قيل كيف يصح على أصلكم في الموافاة ونفي الاحباط وصف الكفار
بأنهم يعلمون الحق وذلك مما يستحق به الثواب ولا خلاف أن الكافر لا
ثواب معه؟!.
قلنا عنه جوابان: أحدهما - أن تكون الآية مخصوصة بمن آمن منهم
في المستقبل، فانا نجوز أن يكونوا في الحال عالمين بالله وبأن القرآن حق ثم
يظهرون الاسلام فيما بعد فيتكامل الايمان، لان الايمان لا يحصل دفعة واحدة
بل يحصل جزءا فجزءا، لان أوله العلم بحدوث الأجسام، ثم إن لها محدثا،
ثم العلم بصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، ثم العلم بالثواب والعقاب وما
يتبعهما، وذلك يحصل في أوقات كثيرة. والثاني - أن يكونوا علموه على وجه لا يستحقون به الثواب لأنهم
يكونون نظروا في الأدلة لا لوجه وجوب ذلك عليهم، بل لغير ذلك فحصل
لهم العلم وان لم يستحقوا به ثوابا.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك أنهم يعلمون عند أنفسهم، لأنهم إذا كانوا
معتقدين بصحة التوراة وأنها من عند الله، وفيها دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله
وهم يدعون أن اعتقادهم علم، فهم إذا على قولهم عالمون بأن القرآن منزل
من ربك بالحق.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله " الذين آتيناهم الكتاب " المؤمنين
المسلمين دون أهل الكتاب، ويكون المراد بالكتاب القرآن لأنا قد بينا أن الله
سماه كتابا بقوله " الر كتاب أحكمت " (1) وبقوله " هو الذي انزل عليك
الكتاب " (2) فعلى هذا سقط السؤال، لأن هذه صفة المؤمنين المستحقين للثواب
وقوله " فلا تكونن من الممترين " معناه لا تكونن من الشاكين.
والامتراء الشك وكذلك المرية ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به الأمة.
وقيل المراد بذلك " فلا تكونن من الممترين " يا محمد في أنهم يعلمون أن
ذلك من ربك بالحق.

(1) سورة 11 هود آية 1
(2) سورة 3 آل عمران آية 7.
246

قوله تعالى:
وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته
وهو السميع العليم (115) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة ويعقوب " كلمة " على التوحيد. الباقون " كلمات " جمع
كلمة، والكلمة والكلمات ما ذكره الله من وعده ووعيده وثوابه وعقابه، فلا
تبديل فيه، ولا تغيير له كما قال " ما يبدل القول لدي " (3)، وقال " لا تبديل
لكلمات الله " (4) وكان التقدير، وتمت ذوات الكلمات، ولا يجوز أن يعني
بالكلمات الشرائع ههنا كما عنى بقوله " وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات
فأتمهن " (5) وقوله " وصدقت بكلمات ربها " (6) لأنه قال لا مبدل لكلماته.
والشرائع يدخلها النسخ. وقوله " صدقا وعدلا " مصدران ينتصبان في
موضع الحال من الكلمة وتقديره صادقة عادلة، وقال قوم: هما نصبا على
التمييز. فمن قرأ (كلمات) فلانه لما كان جمعا في المعنى جمعه. ومن أفرد فلان
الكلمة قد يعنى بها الكثرة، كما قالوا: قال زهير في كلمته، يعني في قصيدته
وقال قس في كلمته، يعني خطبته، فالمفرد يفع على الكثرة فأغنى عن الجمع
ومثله " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل " (7). وقيل إنه أراد
به بقوله " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا " (8) إلى آخر الآية فسمى هذا
القصص كلمة.
وقال مجاهد في قوله " كلمة التقوى " (9) قول لا إله إلا الله. ومعنى

(3) سورة 50 ق آية 29
(4) سورة 10 يونس آية 64
(5) سورة 2 البقرة آية 124
(6) سورة 66 التحريم آية 12
(7) سورة 7 الأعراف آية 136
(8) سورة 28 القصص آية 5
(9) سورة 48 الفتح آية 26.
247

" وتمت كلمات ربك " انها بتمامها موافقة لما توجبه المصلحة من غير زيادة ولا
نقصان. والتمام والكمال والاستيفاء نظائر. وان جميعه صدق ولا كذب فيه
كما يقال: كمل فلان إذا تمت محاسنه.
وفي الآية دلالة على أن كلام الله محدث، لأنه وصفه بالتمام والعدل
وذلك لا يكون الا حادثا. والتبديل وضع شئ مكان شئ، فلا أحد يقدر
ان يضع مكان كلمة الله يناقضها به. وقال قتادة: لا مبدل لها فيما حكم به
لأنه وان أمكن التغيير والتبديل في اللفظ كما بدل أهل الكتاب التوراة
والإنجيل، فإنه لا يعتد بذلك، لأنه لا يقلبه بحق ينقضه. ويجوز أن يكون
المراد بقوله " وتمت كلمات ربك " أنها أتتك شيئا بعد شئ حتى كملت.
وقوله " وهو السميع العليم " معناه أنه على صفة يجب ان يسمع
المسموعات إذا وجدت عالم بما يكون ظاهرا وباطنا، فلا يظن ظان أن شيئا من
ذلك يخفي عليه تعالى.
قوله تعالى:
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل
الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116)
آية بلا خلاف.
هذا خطاب من الله لنبيه ولجميع المؤمنين انه من يطع أكثر من في الأرض
من الكفار ويتبع ما يريدونه يضلوه عن سبيل الله، لأنه كان في ذلك الوقت
أكثر أهل الأرض كفارا. والطاعة هي امتثال الامر وإجابة ما أريد منه إذا
كان المريد فوقه، والفرق بينه وبين الإجابة أن الإجابة عامة في موافقة الإرادة
الواقعة موقع المسألة، ولا تكون إجابة الا بأن يفعل لموافقة الدعاء بالامر،
ومن أجله لا يراعي فيها الرتبة.
248

والفرق بين الأكثر والأعظم أن الأعظم قد يوصف به واحد، ولا يوصف
بالأكثر واحد بحال، ولهذا يقال في الله تعالى انه عظيم وأعظم من كل شئ،
ولا يقال أكثر وإنما يقال أكبر بمعنى أعظم.
وإنما قال: ان تطعهم يضلوك وان كانت البدأة بالاغواء منهم لامرين:
أحدهما - ان المطيع يبتدأ باستشعار الطاعة، فإذا كان من الداعي أمر
بشئ من الأشياء كان إطاعة وصدق بأنه مطيع.
والثاني - ان دعاءهم لا يوصف بأنه اضلال لمن دعوه الا بعد الإجابة
فكأنه قال: ان تجبهم تستحق الصفة بأنهم قد أضلوك، ثم أخبر تعالى عن
هؤلاء الكفار انهم لا يتبعون الا الظن الذي يخطئ ويصيب " وان هم الا
يخرصون " ومعناه وما هم الا كاذبين. والخرص الكذب يقال: خرص يخرص
خرصا وخروصا وتخرص تخرصا واخترص اختراصا وأصله القطع قال الشاعر:
ترى قصد المران تلقى كأنها تذرع خرصان بأيدي الشواطب (1)
يعني جريدا يقطع طويلا ويتخذ منه الحصر، وهو جمع الخرص. ومنه
خرص النخل يخرصه خرصا إذا جزره، والخريص الخليج ينقطع إليه الماء،
والخريص حبة القرط إذا كانت منفردة، والخرص العود، لانقطاعه عن
نظائره بطيب ريحه.
وقيل معنى " وان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " يعني
في أكل الميتة، لأنهم قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل
ربكم؟! فهذا إضلالهم. وقال بعضهم قوله " ان يتبعون الا الظن وان هم الا
يخرصون " مثل قوله " يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " (2)
يعني المتعمدين المتردين.
وفى الآية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف، وبطلان قولهم إن الله
تعالى لا يتوعد من لا يعلم الحق، لان الله بين في هذه الآية أنهم يتبعون الظن
ولا يعرفونه، وتوعدهم على ذلك. وذلك بخلاف مذهبهم.

(1) قائلة قيس بن الخطيم اللسان (شطب)
(2) سورة 6 الانعام آية 112.
249

قوله تعالى:
إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم
بالمهتدين (117) آية بلا خلاف.
خاطب الله تعالى بهذه الآية نبيه صلى الله عليه وآله وان عنى به جميع الأمة انه تعالى
" أعلم من يضل عن سبيله " بمعنى أعرف، والمعنى انه أعلم به ممن يعلمه،
لأنه يعلمه من وجوه تخفى على غيره، لأنه تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما
هو كائن إلى يوم القيامة، وعلى جميع الوجوه التي يصح ان تعلم الأشياء
عليها وليس كذلك غيره، لان غيره لا يعلم جميع الأشياء، وما يعلمه لا يعلمه
من جميع وجوهه. وأما من هو غير عالم أصلا، فلا يقال الله أعلم منه، لان
لفظة أعلم تقتضي الاشتراك في العلم وزيادة لمن وصف بأنه أعلم، وهذا لا
يصلح في من ليس بعالم أصلا الا مجازا، ولا يصح أن يقال: هو تعالى أعلم بأن
الجسم حادث من كل من يعلم كونه حادثا، لان هذا قد ذكر الوجه الذي يعلم
منه وهو انه حادث، فان أريد بذلك المبالغة في الصفة، وأن هذه الصفة فيه
أثبت من غيره فجاز أن يقال ذلك.
وذكروا في موضع (من) وجهين من الاعراب:
قال بعضهم: موضعه نصب على حذف الباء وتقديره أعلم بمن يضل
ليكون مقابلا لقوله " وهو أعلم بالمهتدين "
وقال الفراء والزجاج: موضعها الرفع لأنها بمعنى (أي) كقوله " لنعلم أي
الحزبين " (1) وصفة (أفعل) من كذا لا تتعدى لأنها غير جارية على الفعل، ولا
معدولة عن الجارية كعدل ضروب عن ضارب ومنحار عن ناحر. وقال قوم:
ان (اعلم) ههنا بمعنى يعلم كما قال حاتم الطائي:

(1) سورة 18 الكهف آية 12.
250

فخالفت طي من دوننا خلفا * والله أعلم ما كنا لهم خولا (2)
وقالت الخنساء:
القوم أعلم ان جفنته * تغدو غداة الريح أو تسري (3)
قال الرماني: هذا لا يجوز لأنه لا يطابق قوله " وهو أعلم بالمهتدين "
فمعنى الآية ان الله تعالى أعلم بمن يملك سبيل الضلال المؤدي إلى الهلاك
بالعقاب، ومن سلك سبيل الهدى المفضي به إلى النجاة والثواب.
قوله تعالى:
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (118)
آية بلا خلاف.
قيل في دخول الفاء في قوله " فكلوا " قولان:
أحدهما - انه جواب لقول المشركين لما قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم
ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فكأنه قيل: اعرضوا عن جهلكم فكلوا.
والثاني - أن يكون عطفا على ما دل عليه أول الكلام، كأنه قال: كونوا
على الهدى فكلوا مما ذكر اسم الله عليه.
وقوله " فكلوا "، وإن كان لفظه لفظ الامر، فالمراد به الإباحة، لان
الاكل ليس بواجب ولا مندوب، اللهم الا أن يكون في الاكل استعانة على
طاعة الله، فإنه يكون الاكل مرغبا فيه، وربما كان واجبا، فأما ما يمسك
الرمق فخارج عن ذلك، لأنه عند ذلك يكون الانسان ملجأ إلى تناوله. ومثل
هذه الآية في لفظ الامر والمراد به الإباحة قوله " وإذا حللتم فاصطادوا " (4)
وقوله " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " (5) والاصطياد والانتشار

(2) تفسير القرطبي 7 / 72 وتفسير الطبري 12 / 66
(3) ديوانها: 104 وتفسير الطبري 2 / 66
(4) سورة 5 المائدة آية 3
(5) سورة 63 الجمعة آية 10.
251

مباحان بلا خلاف.
وقوله " ما ذكر اسم الله عليه " فالذكر المسنون هو قول بسم الله.
وقيل كل اسم يختص الله تعالى به أو صفة مختصة كقوله بسم الله الرحمن
الرحيم أو بسم القدير أو بسم القادر لنفسه أو العالم لنفسه، وما يجري مجرى
ذلك. والأول مجمع على جوازه والظاهر يقتضي جوازه غيره، ولقوله " قل
ادعو لله أو ادعو الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى ". (6)
وقوله " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " خطاب للمؤمنين وفيه دلالة على
وجوب التسمية على الذبيحة، لأن الظاهر يقتضي أن ما لا يسمى عليه لا يجوز
أكله بدلالة قوله " ان كنتم بآياته مؤمنين " لان هذا يقتضي مخالفة المشركين في
أكلهم ما لم يذكر اسم الله عليه، فأما ما لم يذكر اسم الله عليه سهوا أو نسيانا
فإنه يجوز أكله على كل حال. والآية تدل على أن ذبائح الكفار لا يجوز
أكلها، لأنهم لا يسمون الله عليها. ومن سمى منهم لأنه لا يعتقد وجوب ذلك
بل يعتقد ان الذي يسميه هو الذي أبدى شرع موسى أو عيسى وكذب محمد
بن عبد الله، وذلك لا يكون الله، فإذا هم ذاكرون اسم شيطان والاسم إنما
يكون المسمى مخصوص بالقصد. وذلك مفتقر إلى معرفته واعتقاده، والكفار
على مذهبنا لا يعرفون الله تعالى، فكيف يصح منهم تسميته تعالى؟! وفي ذلك
دلالة واضحة على ما قلناه.
ومعنى قوله " ان كنتم بآياته مؤمنين " ان كنتم عرفتم الله وعرفتم رسوله
وصحة ما أتاكم به من عند الله، وهذا التحليل عام لجميع الخلق وان خص به
المؤمنين بقوله " ان كنتم بآياته مؤمنين " لان ما حلل الله للمؤمنين، فهو حلال
لجميع المكلفين وما حرم عليهم حرام على الجميع.
قوله تعالى:
ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد

(6) سورة 17 الاسرى آية 110.
252

فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا
ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119)
آية بلا خلاف.
قرأ نافع وحفص عن عاصم " وقد فصل لكم ما حرم " بفتح الفاء والصاد
والحاء والراء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر (فصل) و (حرم)
بضم الفاء والحاء. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر (فصل) بفتح الفاء و
(حرم) بضم الحاء. وقرأ أهل الكوفة (ليضلون) بضم الياء وكسر الضاد.
الباقون بفتح الياء.
من ضم الفاء والحاء، فلقوله " حرمت عليكم الميتة والدم... " الآية (1)
فهنا تفصيل هذا العام بقوله (حرم) وكذلك (فصل) لان هذا المفصل هو
ذلك المحرم الذي حل في هذه الآية.
ومن فتحهما فلقوله " أتل ما حرم ربكم " (2) وقوله " فصلنا الآيات " (3)
وكذلك قوله " الذين يشهدون أن الله حرم هذا " (4) ولأنه قال " وما لكم
أن لا تأكلوا مما ذكر أسم الله عليه وقد فصل " فينبغي أن يكون الفعل مبنيا
للفاعل لتقدم ذكر اسم الله.
ومن فتح الفاء وضم الحاء، فلقوله " فصلنا الآيات " وقوله " حرمت
عليكم الميتة والدم "
وقوله " ومالكم " خطاب للمؤمنين الذين ذكرهم في الآية الأولى ومعناه
لم لا تأكلوا، وقيل بينهما فرق، لان (لم لا تفعل) أعم من حيث إنه قد يكون
لحال يرجع، إليه وقد يكون لحال يرجع إلى غيره، فأما (مالك أن لا تفعل)

(1) سورة 5 المائدة آية 4
(2) سورة 6 الانعام آية 153
(3) سورة 6 الانعام آية 97، 98، 126
(4) سورة 6 الانعام آية 150.
253

فلحال يرجع إليه. وقيل في معنى (لا) في قوله (أن لا تأكلوا) قولان:
أحدهما - انها للجحد، وتقديره أي شئ لكم في أن لا تأكلوا، اختاره
الزجاج وغيره من البصريين.
والثاني - أن يكون صلة، والمعنى ما منعكم ان تأكلوا، لان (مالك ان
لا تفعل) (ومالك لا تفعل) بمعنى واحد. وقال قوم: معناه ليس لكم ان لا
تأكلوا مما أمرناكم بأكله على الوصف الذي أمرناكم بفعله، ويجوز
حذف (في) من " مالكم الا تأكلوا " ولا يجوز حذفها من ما لكم في ترك الأكل
لان (ان) تلزمها الصلة فهي أحق بالاستحقاق من المصدر، لان المصد - ر لا
تلزمه الصلد، كما حسن حذف الهاء من صلد (الذي) ولم يحسن من الصفة.
وقوله " وقد فصل لكم ما حرم عليكم " يعني ما ذكره في مواضع من
قوله " حرمت عليكم الميتة " (1) الآية وغيرها.
وقوله " الا ما اضطررتم إليه " معناه الا إذا خفتم على أنفسكم الهلاك
من الجوع وترك التناول، فحينئذ يجوز لكم تناول ما حرمه الله في قوله
" حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " (2) وما حرمه في هذه الآية.
واختلفوا في مقدار ما يسوغ له حينئذ تناوله، فعندنا لا يجوز له ان
يتناول الا ما يمسك الرمق. وفي الناس من قال: يجوز له أن يشبع منه إذا
اضطر إليه وان يحمل منها معه حتى يجد ما يأكله. وقال الجبائي: في الآية
دلالة على أن ما يكره عليه من أكل هذه الأجناس أنه يجوز له أكله، لان
المكره يخاف على نفسه مثل المضطر.
ومن قرأ " ليضلون " بفتح الياء ذهب إلى أن المعنى ليضلون بأهوائهم
أي يضلون باتباع أهوائهم، كما قال " واتبع هواه " (3) أي يضلون في
أنفسهم من غير أن يضلوا غيرهم من أتباعهم بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله

(1) سورة 5 المائدة آية 4
(2) سورة 5 المائدة آية 4
(3) سورة 7 الأعراف آية 175، وسورة 18 الكهف آية 28 وسورة 20 طه آية 16 وسورة 28 القصص آية 50.
254

عليه وغير ذلك.
ومن قرأ بضم الياء أراد انهم يضلون أشياعهم، فحذف المفعول به،
وحذف المفعول كثير، ويقوي ذلك قوله " وما أضلنا الا المجرمون " (4)
وقوله " ربنا هؤلاء أضلونا " (5).
وقوله " وان كثيرا " أوقع (ان) على النكرة، لان الكلام إذا طال
احتمل ودل بعضه على بعض.
قوله تعالى:
وذروا ظاهر الاثم وباطنه إن الذين يكسبون الا ثم
سيجزون بما كانوا يقترفون (120) آية بلا خلاف.
الواو في قوله " وذروا "، واو العطف ولا يستعمل " وذر " لما مضى
ولا " واذر " لاسم الفاعل واستغني عنه ب‍ (ترك) وإنما يستعمل منه يذر و
(ذر) وأمثاله ومثله (يدع) لم يستعمل منه (فعل) ولا فاعل) استغنوا أيضا
ب‍ (ترك) و (تارك) وأشعروا بذلك كراهية الواو في الابتداء حتى لم يزيدوها
هناك أصلا مع زيادتهم أخواتها. والظاهر هو الكائن على وجه يمكن ادراكه.
الباطن هو الكائن على وجه يتعذر ادراكه.
أمر الله تعالى في هذه الآية بترك الاثم مع قيام الدلالة على كونه اثما،
ونهى عن ارتكابه سرا وعلانية، وهو قول قتادة والربيع بن أنس ومجاهد،
لان الجاهلية كانت ترى ان الزنا إذا أظهر وأعلن كان فيه اثم، فإذا استسر
به صاحبه لم يكن اثما - ذكره الضحاك - وقال الجبائي الظاهر أفعال
الجوارح، والباطن أفعال القلوب. وقال غيره: الظاهر الطواف بالبيت عريانا
والباطن الزنا. والأول أعم على ما قلناه - ذكره ابن زيد - وقال قوم: ظاهر
الاثم الزنا، وباطنه اتخاذ الأخدان - ذكره السدي والضحاك - وقال سعيد

(4) سورة 26 الشعراء آية 99
(5) سورة الأعراف آية 37.
255

بن جبير ظاهر الاثم امرأة الأب وباطنه الزنا.
أمر الله تعالى باجتناب الاثم على كل حال، ثم أخبر أن الذين يكسبون
الاثم يعني المعاصي والقبائح وسيجازيهم الله يوم القيامة بما كانوا يرتكبونه.
وقد بينا أن معنى الاقتراف هو معنى الاكتساب. والكسب هو فعل ما يجتلب
به نفع إلى نفسه أو يدفع به ضرر، ولذلك يوصف الواحد منا بأنه مكتسب
ولا يوصف الله تعالى به، والكواسب الجوارح من الطير، لأنها تكسب ما
ينتفع به.
قوله تعالى:
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم
إنكم لمشركون (121) آية بلا خلاف.
نهى الله تعالى في هذه الآية عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وذلك
صريح في وجوب التسمية على الذبيحة، لأنها لو لم تكن واجبة، لكان ترك
التسمية غير محرم لها. فأما من ترك التسمية ناسيا، فمذهبنا أنه يجوز أن
تؤكل ذبيحته بعد أن يكون معتقدا لوجوبها.
وكان الحسن يقول: يجوز له أن يأكل منها. وقال ابن سيرين: لا
يجوز أن يأكل منها. وبه قال الجبائي.
فأما إذا تركها متعمدا فعندنا لا يجوز اكله بحال. وفيه خلاف بين الفقهاء
فقال قوم: إذا كان تارك التسمية متعمدا من المسلمين جاز أكل ذبيحته. وقال
آخرون لا يجوز أكلها كما قلنا.
وذلك يدل على أن ما يذبحه؟؟ الكتاب لا يجوز أكله، لأنهم لا
يعتقدون وجوب التسمية ولا يذكرونها، ومن ذكر اسم الله منهم فإنما يقصد
256

به اسم من أبدى شرعهم، ولم يبعث محمدا صلى الله عليه وآله، بل كذبه،
وذلك ليس هو الله، فلا يجوز اكل ذبيحتهم. ولأنهم لا يعرفون الله، فلا
يصح منهم القصد إلى ذكر اسمه.
فأما من عدا أهل الكتابين فلا خلاف في تحريم ما يذبحونه.
وليست الآية منسوخة ولا شئ منها، ومن ادعى نسخ شئ منها فعليه
الدلالة.
وقال الحسن وعكرمة: نسخ منها ذبائح الذين أوتوا الكتاب بقوله
" وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " (1) وعندنا ان ذلك مخصوص
بالحبوب دون الذبائح.
وقال قوم: ليس أهل الكتاب داخلين في جملة من يذكر اسم الله على
ذبيحته، وليس واحد من هؤلاء معنيا بالآية، فلا يحتاج إلى النسخ.
وقوله " وانه لفسق " يعني ما لم يذكر اسم الله عليه أي أكله فسق.
وحذف لدلالة الكلام عليه.
وقوله " وان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم " يعني بالشياطين
علماءهم ورؤساءهم المتمردين في كفرهم يوحون ويشيرون إلى أوليائهم الذين
اتبعوهم من الكفار بأن يجادلوا المسلمين في استحلال الميتة. وقال الحسن
يجادلونهم بقولهم: ان ما قتل الله أولى بأن يؤكل مما قتله الناس وقال
عكرمة: المراد بالشياطين مردة الكفار من مجوس فارس " إلى أوليائهم " من
مشركي قريش. وقال ابن عباس: المراد بالشياطين ههنا إبليس وجنوده بأن
يوسوسوا إليهم ويوحون إلى أهل الشرك بذلك، وبه قال قتادة. وقال قوم:
الذين جادلوا بذلك كانوا قوما من اليهود جادلوا رسول الله صلى الله عليه وآله بأن ما
قتله الله أولى بالاكل مما قتله الناس. ثم قال تعالى " وان أطعتموهم " أيها
المؤمنون فيما يقولونه من استحلال أكل الميتة وغيره " انكم لمشركون " لان
من استحل الميتة كافر بالاجماع. ومن اكلها محرما لها مختارا، فهو فاسق

(1) سورة 5 المائدة آية 6.
257

وهو قول الحسن وجماعة من المفسرين. والتقدير في قوله " انكم " فإنكم،
لان جواب الشرط لا يكون ب‍ (أن) بلا فاء. وإنما يكون ذلك جواب القسم.
واختلفوا في ما عناه الله تعالى بقوله " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه "
فقال عطاء: ذلك يختص بذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان كانت العرب
تذبحها وقريش. وقال ابن عباس ذلك الميتة. وقال قوم: عنى بذلك كل ذبيحة
لم يذكر اسم الله عليها. وهذا الوجه أقوى على ما بيناه. ومن حمل الآية على
الميتة فقد أبعد، لان أحدا من العرب ما كان يستحل الميتة. وإنما ذلك مذهب
قوم من المجوس، فالآية اما أن تكون مختصة بما كانت تذبح للأصنام على ما
قاله عطاء، أو عامة في كل ما لم يذكر اسم الله عليه الا ما أخرجه الدليل. وقد بينا ان
ذلك أعم وأولى بحمل الآية عليه.
قوله تعالى:
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي
به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها
كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (122) آية بلا خلاف.
قرأ أهل المدينة ويعقوب (ميتا) بالتشديد. الباقون بالتخفيف. قال أبو
عبيدة الميتة مخففة ومثقلة معناهما واحد، وإنما خفف استثقالا، قال ابن
الرعلاء الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الاحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا * كاسفا باله قليل الرجاء (1)
وقد وصف الله الكفار بأنهم أموات بقوله " أموات غير أحياء وما يشعرون
أيان يبعثون " (2) وكذلك " أو من كان ميتا فأحييناه " والمعنى من كان ميتا

(1) مر تخريجه في 2 / 432، 84 و 3 / 428
(2) سورة 16 النحل آية 21.
258

بالكفر فصار حيا بالاسلام بعد الكفر، كالمصر على كفره؟!
وقوله " وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يراد به النور المذكور في قوله يسعى " نورهم بين أيديهم " (3)
وقوله " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم " (4)
الثاني - أن يراد بالنور الاحكام التي يؤتاها المسلم باسلامه، لأنه إذا
جعل الكافر بكفره في الظلمات فالمؤمن بخلافه.
ومن خفف حذف الياء الثانية المنقلبة عن الواو، أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب
اختلفوا في من نزلت هذه الآية، فقال ابن عباس والحسن وغيرهما من
المفسرين: نزلت في كل مؤمن وكافر. وقال عكرمة: نزلت في عمار بن ياسر
وأبي جهل، وهو قوله أبي جعفر (ع). وقال الضحاك: نزلت في عمر بن الخطاب
وقال الزجاج: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل. والأول أعم فائدة، لأنه
يدخل فيه جميع ما قالوه.
بين الله تعالى أن " من كان ميتا " يعني كافرا " فأحييناه " يعني وفقناه
للايمان، فآمن أو صادفناه مؤمنا بأن آمن، لان الاحياء بعد الإماتة - ههنا - هو
الاخراج من الكفر إلى الايمان عند جميع أهل العلم: كابن عباس والحسن ومجاهد
والبلخي والجبائي وغيرهم.
وقوله " وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " يعني جعلنا له علماء، فسمى العلم
نورا وحياة، والجهل ظلمة وموتا، لان العلم يهتدى به إلى الرشاد، كما يهتدى
بالنور في الظلمات، وتدرك به الأمور كما تدرك بالحياة. والظلمة كالجهل
لأنه يؤدي إلى الحيرة والهلكة، والموت كالجهل في أنه لا تدرك به حقيقة.
وإنما قال " كمن مثله في الظلمات " ولم يقل كمن هو في الظلمات، لان التقدير
كمن مثله مثل من في الظلمات ويجوز أن يدل بأن مثله في الظلمات على أنه في
الظلمات الا انه يزيد فائدة أنه ممن يضرب به المثل في ذلك.

(3) سورة 57 الحديد آية 12 - 13.
(4) سورة 57 الحديد آية 12 - 13.
259

وقيل في المراد بالنور الذي يمشي به في الناس قولان:
أحدهما - قال الحسن: وهو القرآنا. وقال غيره: هو الايمان
الذي لطف له به.
ووجه التشبيه في قوله " كذلك زين للكافرين " أي زين لهؤلاء الكفر،
فعملوه كما زين لأولئك الايمان فعملوه، فشبهت حال هؤلاء في التزيين بحال
أولئك فيه، كما قال " كل حزب بما لديهم فرحون " (1) وإنما زين الله تعالى
الايمان عند المؤمنين، وزين الغواة من الشياطين وغيرهم الكفر عند الكافرين
وهو قول الحسن وأبي علي والرماني والبلخي وغيرهم.
وفي الآية دلالة على وجوب طلب العلم، لأنه تعالى رغب فيه بأن جعله
كالحياة في الادراك بها والنور في الاهتداء به.
قوله تعالى:
وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا
فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرن (123) آية بلا خلاف
معنى قوله " كذلك جعلنا " أي جعلنا ذا المكر من المجرمين، كما جعلنا ذا
النور من المؤمنين، فكلما فعلنا بهؤلاء فعلنا بأولئك الا أن أولئك اهتدوا بحسن
اختيارهم وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم، لان كل واحد منهما جعل بمعنى صار
به كذا الا أن الأول باللطف، والثاني بالتمكين من المكر، فصار كأنه جعل كذا.
وموضع الكاف في " وكذلك " نصب بالعطف على قوله " كذلك زين
للكافرين ما كانوا يعملون " والمعنى مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين
عملهم. ومثل ذلك " جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها " وإنما خص أكابر
المجرمين بهذا المعنى دون الأصاغر، لأنه أحسن في الاقتدار على الجميع، لان
الأكابر إذا كانوا في قبضة القادر فالأصاغر بذلك أجدر.

(1) سورة 23 المؤمنون آية 54 وسورة 30 الروم آية 32.
260

والأكابر جمع الأسماء، والكبر جمع الصفات تقول: كبير وأكابر ويجوز
أن يكون جمع أكبر على أكابر. وقد قالوا: الأكابرة والأصاغرة، كما قالوا:
الأساورة والأحامرة قال الشاعر:
ان الأحامرة الثلاثة أهلكت * مالي وكنت بهن قدما مولعا
الخمر واللحم السمين أحبه * والزعفران فقد أبيت مودعا (1)
وقوله " ليمكروا فيها " اللام لام العاقبة ويسمى لام الصيرورة، كما
قال " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وجزنا " (2) وقال الشاعر:
فاقسم لو قتلوا مالكا * لكنت لهم حية راصدة
وأم سماك فلا تجزعي * فللموت ما تلد الوالدة (3)
وليس المراد بها لام الغرض، لأنه تعالى لا يريد أن يمكروا، وقد قال
وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون " (4) وإرادة القبيح قبيحة. والتقدير وكذلك
جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليطيعوني ويمتثلوا أمري، وكان عاقبتهم أن
مكروا بالمؤمنين وخدعوهم، فقال الله تعالى " وما يمكرون الا بأنفسهم " لان
عقاب ذلك يحل بهم. والمكر هو فتل الشئ إلى خلاف الرشد على وجه الحيلة
في الامر. والمكر والختل والغدر نظائر. وأصل المكر القتل. ومنه جارية
ممكورة أي مفتولة البدن. ووجه مكر الانسان بنفسه أن وبال مكره يعود
عليه، كأنه قال وما يضرون بذلك المكر الا أنفسهم، وما يشعرون انهم يمكرون
بها، ولا يصح أن يمكر الانسان بنفسه على الحقيقة، لأنه لا يصح أن يخفي
عن نفسه معنى ما يحتال به عليها ويصح أن يخفي ذلك عن غيره.
وفائدة الآية ان أكابر المجرمين لم يمكروا بالمؤمنين على وجه المغالبة لله،
إذ كأنه جعلهم ليمكروا مبالغة في انتفاء صفة المغالبة.

(1) قائلة الأعشى. ديوان الاعشيين: 247 واللسان " حمر " وتفسير
الطبري 12 / 94 وفيه اختلاف كثير في الرواية، وقد أثبتنا ما في مخطوطة التبيان
(2) سورة 28 القصص آية 8
(3) مر تخريجه في 3 / 60 وسيأتي في 5 / 43
(4) سورة 51 الذاريات آية 56.
261

قوله تعالى:
وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي
رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين
أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124)
قرأ ابن كثير وحفص رسالته على التوحيد ونصب التاء. الباقون على
الجمع. ومن وحد، فلان الرسالة تدل على القلة والكثرة لكونها مصدرا.
ومن جمع، فلما تكرر من رسل الله وتحميله إياهم رسالة بعد أخرى
فاتى بلفظ الجمع.
أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار أنه إذا جاءتهم آية ودلالة من عند الله
تدل على توحيد الله وصدق أنبيائه ورسله " قالوا لن نؤمن " اي لا نصدق
بها " حتى نؤتي " أي نعطى آية مثل ما أعطي رسل الله حسدا منهم للأنبياء
(عليهم السلام). ثم أخبر تعالى على وجه الانكار عليهم بأنه تعالى أعلم منهم
ومن جميع الخلق حيث يجعل رسالاته، لان الرسالة تابعة للمصلحة، ولا يبعث
الله تعالى الا من يعلم أن مصلحة الخلق تتعلق ببعثه دون من لا يتعلق ذلك به.
ومن يعلم أنه يقوم بأعباء الرسالة دون من لا يقوم بها. وتوعدهم
فقال: " سيصيب الذين أجرموا " أي سينال الذين انقطعوا إلى القبيح وأقدموا
عليه " صغار عند الله " والصغار الذل الذي يصغر إلى الانسان نفسه يقال:
صغر يصغر صغارا وصغرا، وقيل في معنى الصغار عند الله ثلاثة أقوال:
أولها - صغار أي ذلة من عند الله، ولا يجوز على هذا أن يقال: زيد
عند عمر بمعنى من عنده، لان حذف (من) تلبيس - ههنا -.
الثاني - قال الفراء اكتسب من ترك اتباع الحق صغارا عند الله.
الثالث - قال الزجاج يعني صغار في الآخرة، وهو أقواها، لقوله
" وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " في دار الدنيا، و " عند الله " يتعلق بقوله
262

" سيصيب الذين أجرموا صغار " ويجوز أن يكون متعلقا ب‍ " صغار "، وتقديره
سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت لهم عند الله.
ومعنى الآية الانكار لما طلبوا الاحتجاج عليهم فيما جهلوا، والوعيد على
ما فعلوا.
وقوله " رسل الله " اللام مفخمة في (الله) ولا تفخم من قوله " الله أعلم "
لان ما وقع بعد فتح وضم صح تفخيمه، كقولك من الله، لأنه بمنزلة تفخيم
الألف مع هاتين الحركتين في نحو كامل وعالم وترك التفخيم في الثاني كما ترك
في الألف مع الكسرة في نحو عائد، وإنما فخمت اللام في تلك المواضع تعظيم
الاسم من غير اخلال بالخروج عن نظيره.
قوله تعالى:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد
أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء
كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)
آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير " ضيقا " بتخفيف الياء وسكونها - ههنا - وفي الفرقان.
الباقون بتشديدها وكسرها. وقرأ أهل المدينة وأبو بكر " حرجا " بكسر
الراء. الباقون بفتحها. وقرأ ابن كثير " يصعد " بتخفيف الصاد والعين
وسكون الصاد من غير الف، ورواه أبو بكر بتشديد الصاد وألف بعدها
وتخفيف العين. الباقون بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير الف.
قال أبو علي النحوي: الضيق والضيق مثل الميت والميت في أن معناهما
واحد. والياء والواو يشتركان في الحذف، وان لم تعل الياء بالقلب كما أعلت
الواو به فاتبعت الياء الواو في هذا، كما اتبعتها في قولهم أيسر، قالوا في أيسار
263

الجزور اتسر، فجعلت بمنزلة اتعد. وقال غيره: يجوز أن يكون من ضاق
الامر يضيق ضيقا. وقد قرأه من قرأ " ولا تك في ضيق ". ومن فتح الراء
من (حرج) جعلها وصفا للمصدر، لان المصادر قد توصف بمثل ذلك، كقولهم
رجل دنف أي ذو دنف ولا يكون كبطل لان اسم الفاعل في الأكثر من (فعل)
إنما يجئ على (فعل). ومن كسر الراء فهو مثل دنف، وفرق. قال أبو
زيد وحرج عليه السحور والسحر: إذا أصبح قبل أن يتسحر وحرج عليه
حرجا وهما واحد، وحرجت على المرأة الصلاة تحرج حرجا، وحرمت عليها
الصلاة تحرم حرما بمعنى واحد، ويقال حرج فلان يحرج إذا هاب ان يتقدم
على الامر أو قاتل فصبر وهو كاره.
وقال غيره: هما بمعنى واحد كالدنف والدنف، والوحد والوحد،
والفرد والفرد وقيل: الحرج الاثم والحرج الضيق الشديد.
ومن قرأ " يصعد " من الصعود، فالمعنى أنه في نفوره عن الاسلام،
وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يستطاع.
ومن قرأ " يصعد " بتشديد الصاد والعين بلا الف أراد يتصعد فادغم.
والمعنى كأنه يتكلف ما يثقل عليه. وكأنه تكلف شيئا بعد شئ كقولك يتصرف
ويتحرج وغير ذلك مما يتعاطى فيه الفعل شيئا بعد شئ ويصاعد مثل يصعد
ومثل ضاعف وضعف وناعم ونعم.
والضمير في قوله " يشرح صدره للاسلام " يحتمل أن يكون راجعا إلى
(من) وتقديره ان المهدي يشرح صدر نفسه، وهو جيد ويكون تقديره: من
أراد الله أن يثيبه ويهديه إلى طريق الجنة فليطعه. ومن أراد ان يعاقبه فليعصه
فالإرادة واقعة على فعل العبد بقلبه بالاحراج والضيق. ويقوي ذلك قوله
" من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من
شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله " (1) فان الطمأنينة إلى الايمان فعلهم

(1) سورة 16 النحل آية 106.
264

لا محالة، لأنه ايمان. ثم نسب تعالى شرح صدورهم بالكفر إليهم.
والثاني - أن يكون الضمير فيه عائدا أبدا إلى اسم الله تعالى وهو الأقوى
لقوله " أفمن شرح الله صدره للاسلام " وقوله " ألم نشرح لك صدرك " (2)
وكذلك يكون الضمير في قوله " يشرح صدره للاسلام " عائدا لاسم الله تعالى.
والمعنى ان الفعل مستند إلى اسم الله في اللفظ وفي المعنى للمشروح صدره،
وإنما نسبه إلى ضمير اسم الله لأنه بقدرته كان وتوفيقه، كما قال " وما رميت
إذ رميت ولكن الله رمى " (3) ويدل على أن المعنى لفاعل الايمان اسناد هذا
الفعل إلى الكافر في قوله " ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله "
فكما اسند الفعل إلى فاعل الكفر كذلك يكون اسناده في المعنى إلى فاعل
الايمان، ومعنى شرح الصدر اتساعه للايمان أو الكفر وانقياده له وسهولته
عليه، بدلالة وصف خلاف المؤمن بخلاف الشرح الذي هو اتساع.
وقوله " ومن يرد أن يضله " يعني يعاقبه أو يعدل به عن طريق الجنة
يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يفعل ما يعجز عنه ولا يستطيعه لثقله
عليه وتكاؤده عليه.
وقوله " يصعد " ويصاعد من المشقة وصعوبة الشئ. ومن ذلك قوله
" يسلكه عذابا صعدا " (4) وقوله " سأرهقه صعودا " (5) اي سأغشيه عذابا
صعودا أي شاقا. ومن ذلك قول عمر: ما يصعدني شئ كما يصعدني خطبة
النكاح أي ما يشق علي مشقتها، فكان معنى يصعد يتكلف مشقة في ارتقاء
صعودا. وعلى هذا قالوا: عقبة عنوت وعنتوت، وعقبة كؤد، ولا يكون
السماء في هذا الموضع - على هذا القول - هي المظلة للأرض لكن كما قال
سيبويه: القيدود الطويل في غير سمائه يريد في غير ارتفاع صعدا، ومثله " قد
نرى تقلب وجهك في السماء " (6) واما قوله " يجعل صدره ضيقا " حرجا "

(2) سورة 94 الانشراح آية 1
(3) سورة 8 الأنفال آية 17.
(4) سورة 72 الجن آية 17
(5) سورة 74 المدثر آية 17
(6) سورة 2 البقرة آية 144.
265

فإنه يحتمل أمرين:
أحدهما - التسمية كقوله " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن
إناثا " (7) اي سموهم بذلك فلذلك يسمى القلب ضيقا لمحاولته الايمان وحرجا عنه
والاخر - الحكم كقولهم اجعل البصرة بغداد، وجعلت حسني قبيحا
أي حكمت بذلك ولا يكون هذا من الجعل الذي يراد به الخلق ولا الذي
يراد به الالقاء كقولك جعلت متاعك بعضه على بعض. وقوله " ويجعل الخبيث
بعضه على بعض " (8)
وقيل في معنى الهداية والاضلال في الآية قولان:
أحدهما أنه يريد بالهدى تسهيل السبيل إلى الاسلام بالدلائل التي يشرح
بها الصدر، والاضلال تصعيب السبيل إليه بالدلائل التي يضيق بها الصدر،
لان حاله أوجبت تغليظ المحنة عليه من غير أن يكون هناك ما نع له ولا تدبير
غيره أولى منه، وإنما هو حض على الاجتهاد في طلب الحق حتى ينشرح بالدلائل
الصدر، ولا يضيق بدعائها إلى خلاف ما سبق من العقد، والهدى إلى ما طلبه
طالب الحق، والاضلال عما طلبه طالب تأكيد الكفر.
والثاني - ان يراد بالهداية الهداية إلى الثواب وبالاضلال الاضلال عن الثواب
والسلوك به إلى العقاب، ويكون التقدير من يرد الله أن يهديه للثواب في
الآخرة فيشرح صدره للاسلام في الدنيا بأن يفعل له اللطف الذي يختار عنده
الاسلام، ومن يرد أن يعاقبه ويعدل به عن الثواب إلى النار يجعل صدره
ضيقا حرجا بما سبق من سوء اختياره الكفر جزاء على فعله ويخذله ويخلي
بينه وبين ما يريده من الكفر أو يحكم على قلبه بالضيق والحرج، أو يسميه
بذلك على ما فسرناه. وهذا الاضلال لا يكون الا مستحقا كما أن تلك الهداية
لا تكون الا مستحقة، وقد سمى الله تعالى الثواب هداية في قوله " الحمد لله

(7) سورة 43 الزخرف آية 19
(8) سورة 8 الأنفال آية 38.
266

الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لول أن هدانا الله " (1) وقال " والذين قتلوا
في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم " (2) والهداية بعد
القتل إنما هي الثواب في الجنة، وقال تعالى " والذين اهتدوا زادهم هدى " (3)
وقال " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " (4) وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه " (5)
وقال " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " (6) وكل ذلك يراد به الثواب
وقد سمى العقاب ضلال في قوله " ويضل الله الظالمين " (7) وقوله " وما يضل
به الا الفاسقين " (8) وهذه الجملة معنى قول أبي علي الجبائي والبلخي، والأول
قول الرماني وقيل أيضا: إنما يشرح قلب المؤمن بالآيات والدلائل لكونه طالب
للحق، ولم يفعل ذلك بالكافر لكونه طالبا لتأكيد الكفر وفي هذا الوجه حض
على طلب الحق.
والحرج الضيق الشديد، وقال ابن عباس: أصله الحرجة، وهي الشجرة
الملتفة بالشجر حولها، فلا يصل إليها الراعي، فكذلك قلب هذا لا يصل إليه
خير - في قول عمر - وقال ابن عباس لا يصل إليه حكمة.
وقوله " كأنما يصعد في السماء " قيل في معناه قولان:
أحدهما - كأنما كلف الصعود إلى السماء بالدليل الذي يدعوه إلى
خلاف مذهبه. وقال سعيد بن جبير: كأنه لا يجد مسلكا الا صعدا.
والثاني - كأنما ينزع قلبه إلى السماء نبوا عن الحق بأن يتباعد في الهرب.
وفى معنى الرجس قولان:
أحدهما - قال مجاهد: كلما لا خير فيه. وقال ابن زيد وغيره من أهل
اللغة: هو العذاب. ويقال الرجس والنجس لما كان رجسا، ولقد رجس
رجاسة ونجس نجاسة. ووجه التشبيه في قوله " كذلك يجعل الله الرجس على

(1) سورة 7 الأعراف آية 42
(2) سورة 47 محمد آية 4 - 5
(3) سورة 47 محمد آية 17
(4) سورة 64 التغابن آية 11
(5) سورة 5 المائدة آية 18
(6) سورة 29 العنكبوت آية 69
(7) سورة 14 إبراهيم آية 27
(8) سورة 2 البقرة آية 26.
267

الذين لا يؤمنون " أنه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في
قلوب أولئك وان كل ذلك على وجه الاستحقاق. ولا يجوز أن يكون المراد
بالآية ان الله تعالى يجعل سبب الايمان الذي يكون به الايمان، وسبب
الكفر الذي يكون به الكفر، وانهما جميعا من فعل الله على ما يقوله المجبرة،
وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن حجة له على عباده، لا حجة للعباد عليه،
فلو كان كما قالوه لكانت الحجة عليه لاله على أنه لا يجوز أن يكون في كلام
الله تعالى مناقضة، وقد ذكره الله تعالى في مواضع أنه هدى للكفار نحو قوله
" وأما ثمود فهديناهم فاستحقوا العمى على الهدى " (1) وقال " وهديناه
النجدين فلا اقتحم العقبة " (2) وقال " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم
الهدى " (3) وقال " قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى
فعليها " (4) فبين بجميع ذلك أنه تعالى هدى الكفار كما هدى المؤمنين، فكيف
ينفي ذلك في موضع آخر، وهل ذلك الا مناقضة وكلام الله منزه عنها؟! ومتى
حملنا الآيات على ما قلناه ووفقنا بينها لم يؤد إلى المناقضة ولا التضاد، ويقوي
ذلك ان الله اخبر انه يجعل قلب الكافر ضيقا حرجا ونحن نجد كثيرا من الكفار
غير ضيقي الصدر بما هم فيه من الكفر بل هم في غاية السرور والفرح بذلك،
فكيف يقال إن الله تعالى ضيق صدورهم بالكفر؟! ولا يلزمنا ذلك إذا قلنا إن
الله يفعل ذلك بهم على وجه العقوبة لأنه تعالى إذا كان يفعل بهم ذلك عقوبة
يجوز أن يفعل بهم ذلك إذا أراد عقابهم لافي جميع الأحوال، ولا يلزم ان
يجدوا نفوسهم على ذلك في كل وقت. وأيضا فان سبب القبيح لا يكون الا
قبيحا فعلى هذا سبب الكفر يجب أن يكون قبيحا، لأنه موجب له لا يصلح
لضده من الايمان، لأنه لو صلح لذلك لم يكن سببا، والله تعالى لا يفعل

(1) سورة 41 حم السجدة آية 17
(2) سورة 90 البلد آية 10 - 11
(3) سورة 17 الاسرى آية 94 وسورة 18 الكهف آية 56
(4) سورة 6 الانعام آية 104.
268

القبيح. وإنما ذكر الله ضيق صدر الكافر، وهو مما يصح ان يدعا به إلى
الايمان في بعض الأحوال، كما يصح ان يدعا بانشراحه في غير تلك الحال.
ويقوي ما قلناه قوله " كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " وإنما
أريد بذلك ما يفعله بهم من العقاب والبراءة واللعنة والشتم والأسماء القبيحة
مع ما أعد لهم من العقاب. وقال الحسن: معناه أنه يكون مقبول الايمان
منشرح الصدر، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا، ومعناه انه
يثقل عليه ما يدعا إليه من الايمان كأنما يصعد إلى السماء، فبذلك صار ضيق
الصدر عن الايمان. " ويجعل الله الرجس " يعني رجاسة الكفر على
الذين لا يؤمنون.
ووجه آخر في الآية، وهو أن نحملها على التقديم والتأخير كأنه قال: من يشرح
الله صدره للاسلام يرد الله أن يهديه، ومن يجعل صدره ضيقا حرجا يرد الله
أن يضله.
ووجه آخر وهو أن يكون الله تعالى لما دعاهم إلى الايمان وأمرهم ففعلوه
انشرحت صدورهم، فنسب شرح ذلك إلى الله تعالى، ولما ضاقت صدور الكفار
عند دعاء الله وإقامة الحجج عليهم وأمره إياهم بذلك فضلوا عند ذلك، صح
ان ينسب اضلالهم إليه، كما يقولون: أضل فلان بعيره إذا ضل عنه، وهو
لم يرد ذلك.
واللام في قوله " للاسلام " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون الله تعالى هداه بالألطاف التي ينشرح بها صدره
للتمسك بالاسلام والاستبصار فيه، ولا يكون فعل ذلك بالكفار وان لم
يخل بينهم وبين الايمان ولا منعهم منه، لأنه تعالى قد اعطى الكافر الصحة
والسلامة والقوة، وجميع ما يتمكن به من فعل ما أمره به، وإنما لم يفعل
بهم اللطف الذي يؤمنون عنده، لأنهم لما عدلوا عن النظر في آيات الله وحججه
خرجوا من أن يكون لهم لطف يختارون عنده الايمان وصاروا مخذولين،
269

فخلى الله تعالى بينهم وبين اختيارهم، فعبر عن ذلك بأنه جعل صدر
الكافر ضيقا حرجا.
والثاني - أن يكون اللام بمعنى لأجل الشئ وبسببه كما يقول القائل: إنما
قلت هذا الكلام لزيد ولمراعاة عمرو، المعنى من أجله وبسببه، فيكون المعنى
انه شرح صدره من أجل الاسلام، لأنه فعل اسلاما استحق به شرح الصدر.
قوله تعالى:
وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم
يذكرون (126) لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم
بما كانوا يعملون (127) آيتان بلا خلاف.
الإشارة بقوله " وهذا صراط ربك مستقيما " يمكن أن تكون إلى أحد شيئين:
أحدهما - ما قال ابن عباس: انه راجع إلى الاسلام.
والثاني - أن تكون إشارة إلى البيان الذي في القرآن، وأضيف الصراط
إلى الله في قوله " صرط ربك مستقيما " لأنه لما كانت الإضافة فيه إنما هي
على أنه الذي نصبه ودل به، وغلب عليه الاستعمال. ولم يجز قياسا على ذلك
ان يقال: هذا طريق ربك، لأنه لم تجر العادة باستعماله كما أنهم استعملوا
قولهم: هذا في سبيل الله، ولم يقولوا في طريق الله، لما قلناه.
وقوله " مستقيما " نصب على الحال ومعناه الذي لا اعوجاج فيه.
فان قيل كيف يقال: انه مستقيم مع اختلاف وجوه الأدلة؟!
قلنا: لأنها مع اختلافها يؤدي كل واحد منها إلى الحق، وكأنها طريق
واحد لسلامة جميعها من التناقض والفساد، وكلها تؤدي من تمسك بها إلى الثواب
وقوله " قد فصلنا الآيات " أي بيناها " لقوم يذكرون " وإنما أعيد
ذكر تفصيل الآيات للاشعار بأن هذا الذي تقدم من الآيات التي فصلها الله عز
270

وجل للعباد. وقوله " يذكرون " أصله يتذكرون فقلبت التاء ذالا وأدغمت
الأولى في الثانية، ولم يجز قلب الذال إلى الدال كما جاز في " فهل من مدكر " (1)
لأنهم لما لم يجيزوا ادغام التاء في الدال، لأنها أفضل منها بالجهر، قلبت إلى
الدال لتعديل الحروف وليس كذلك ادغام التاء في الذال. وإنما خص الآيات
بقوم يتذكرون لأنهم المنتفعون بها وان كانت آيات لغيرهم، كما قال
" هدى للمتقين "
وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال: المعارف ضرورية لأنها لو كانت
ضرورية لم يكن لتفصيل الآيات ليتذكر بها فائدة.
وقوله " لهم دار السلام " هذه لام الإضافة وإنما فتحت مع المضمر
وكسرت مع الظاهر لامرين:
أحدهما - طلبا للتخفيف، لان الاضمار موضع تخفيف، وفتحت في
الاستغاثة في (يالبكر) تشبيها بالكناية، ولأنه موضع تخفيف بالترخيم
وحذف التنوين.
والثاني - أن أصلها الفتح، وإنما كسرت مع الظاهر للفرق بينها وبين
لام الابتداء.
وقيل في معنا " السلام " ههنا قولان:
أحدهما - قال الحسن والسدي: انه الله وداره الجنة.
والثاني - قال الزجاج والجبائي: انها دار السلامة الدائمة من كل آفة وبلية.
وقوله " عند ربهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - مضمون عند ربهم حتى يوصله إليهم.
الثاني - في الآخرة يعطيهم إياه.
وقوله " وهو وليهم " يعني الله. وفي معنى (الولي) قولان:
أحدهما - انه يتولى ايصال المنافع إليهم ودفع المضار عنهم.

(1) سورة 54 القمر آية 15، 17، 22، 32، 40، 51.
271

الثاني - ناصرهم على أعدائهم.
وقوله " بما كانوا يعملون " يعني جزاء باعمالهم، وهو وإن كان مطلقا
فالمراد بما كانوا يعملونه من الطاعات، لان من المعلوم ان ما لم يكن طاعة فلا
ثواب عليه. ويجوز أيضا أن يكون مقيدا لدلالة قوله " يذكرون " عليه.
والموعود بهذا الوعد المتذكر لايات الله بحقها، وهو العامل بها.
قوله تعالى:
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم
من الانس وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا
ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم
خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم (128)
آية بلا خلاف.
قرأ حفص وروح " ويوم يحشرهم " بالياء. الباقون بالنون.
من قرأ بالياء فلقوله " لهم دار السلام عند ربهم. ويوم يشحرهم "
والنون كالياء في المعنى، ويقوي النون قوله " وحشرناهم فلم نغادر منهم
أحدا " (1) وقوله " ونحشره يوم القيامة أعمى " (2) والذي يتعلق به
(اليوم) هذا القول المضمر. والمعنى ويوم نحشرهم جميعا نقول " يا معشر
الجن قد استكثرتم من الانس " أي قد استكثرتم ممن أضللتموه من الانس
بالاغواء والاضلال. قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد: معناه استكثرتم
من اغوائهم واضلالهم " وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض ".
وقيل في وجه الاستمتاع من بعضهم؟؟ قولان:

(1) سورة 18 الكهف آية 48
(2) سورة 20 طه آية 124.
272

أحدهما - بتزيين الأمور التي يهوونها حتى يسهل عليهم فعلها.
والثاني - قال الحسن وابن جريج والزجاج والفراء وغيرهم: انه إذا كان
الرجل أراد ان يسافر فيخاف سلوك طريق من الجن فيقول: أعوذ بسيد هذا
الوادي، ثم يسلك فلا يخاف، كما قال تعالى " وانه كان رجال من الانس
يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا " (3) ووجه استمتاع الجن بالانس
أنهم إذا اعتقدوا ان الانس يتعوذون بهم، ويعتقدون انهم ينفعونهم ويضرونهم
أو أنهم يقبلون منهم إذا أغووهم كان في ذلك تعظيم لهم وسرور ونفع، ذكر ذلك
الزجاج والبلخي والرماني. وقال البلخي: ويحتمل أن يكون قوله " استمتع
بعضنا ببعض " مقصورا على الانس، فكأن الانس استمتع بعضهم ببعض دون الجن.
وقوله " بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن والسدي: انه الموت.
الثاني - الحشر، لان كل واحد منهما اجل في الحكم، فالموت اجل
استدراك ما مضى، والحشر أجل الجزاء. وقال أبو علي: في الآية دلالة على أنه
لا اجل الا واحد، قال لأنه لو كان له اجلان فكان إذا اقتطع دونه بأنه قتل
ظلما لم يكن بلغ اجله، والآية تتضمن انهم اجمع يقولون: بلغنا أجلنا الذي
أجلت لنا. وقال الرماني وغيره من البغداديين: لا تدل على ذلك، بل لا يمتنع
أن يكون له أجلان: أحدهما ما يقع فيه الموت، والاخر ما يقع فيه الحشر،
وما كان يجوز أن يعيش إليه.
وقوله " قال النار مثواكم " جواب من الله تعالى لهم بأن النار مثواهم،
وهو المقام، يقال: ثوى يثوي ثواء، قال الشاعر:
لقد كان في حول ثواء ثويته * تقضي ليانات ويسأم سائم (4)
ومعنى الآية التقريع للغواة من الجن والإنس مع اعترافهم بالخطيئة في

(3) سورة 72 الجن آية 6
(4) قائله الأعشى ديوانه: 56 وسيبويه
1 / 123، وتأويل مشكل القرآن: 59.
273

وقت لا ينفعهم الندم على ما سلف، وخاصة إذا كان الجواب لهم بأن مثواهم
النار " خالدين فيها " أي مؤبدين فيها، وهو نصب على الحال.
وقوله " الا ما شاء الله " قيل في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال:
أحدها - " الا ما شاء الله " من الفائت قبل ذلك من الاستحقاق من وقت
الحشر إلى زمان المعاقبة، وتقديره: خالدين فيها على مقادير الاستحقاق الا
ما شاء الله من الفائت قبل ذلك، لان ما فات يجوز اسقاطه بالعفو عنه. والفائت
من الثواب لا يجوز تركه، لأنه بخس لحقه، ذكره الرماني والبلخي والطبري
والزجاج والجبائي.
الثاني - " الا ما شاء الله " من تجديد الخلود بعد احتراقهم وتصريفهم
في أنواع العذاب فيها، والتقدير خالدين فيها على صفة واحدة الا ما شاء الله
من هذه الأمور.
الثالث - ما حكي عن ابن عباس، حكاه الرماني والطبري عنه أنه قال:
هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار، فإنه ذهب إلى أن وعيدهم بالقطع
يدل عليه فيما بعد، وهو قوله " ان الله لا يغفر ان يشرك به " (1) وقال قوم:
معنى (ما) (من) وتقديره الا من شاء الله اخراجه من النار من المؤمنين الذين
له ثواب بعد استيفاء عقابهم.
وقوله " ان ربك حكيم عليم " أي هو حكيم فيما يفعله من جزائهم.
وعالم بذلك وبغيره من المعلومات لا يخفى عليه شئ منها.
قوله تعالى:
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا
يكسبون (129) آية بلا خلاف.
قيل في معنى قوله " نولي بعض الظالمين بعضا " قولان:

(1) سورة 4 النساء آية 47، 115.
274

أحدهما - انا نكل بعضهم إلى بعض في النصرة والمعونة في الحاجة، ولا
نحول بينهم.
الثاني - نجعل بعضهم يتولى القيام بأمر بعض.
وقيل في كيفية تولية الله الظالمين بعضهم بعضا أقوال:
أحدها - بأن حكم ان بعضهم يتولى بعضا فيما يعود عليه بالوبال من
الاعمال التي يتفقون عليها.
الثاني - بأن يخلي بينهم وبين ما يختارونه من غير نصرة لهم.
وثالثها - ما قال قتادة: انه من الموالاة والتتابع في النار، أي يدخل
بعضهم عقيب بعض.
ووجه التشبيه في قوله " وكذلك " قال الرماني: اي كذلك المهل بتخلية
بعضهم مع بعض للامتحان الذي معه يصح الجزاء على الاعمال، بجعل بعضهم
يتولى أمر بعض للعقاب الذي يجري على الاستحقاق. وقال الجبائي: المعنى
إنا كما وكلنا هؤلاء الظالمين من الجن والإنس بعضهم إلى بعض يوم القيامة
وتبرأنا منهم كذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض يوم القيامة ونكل الاتباع
إلى المتبوعين، ونقول للاتباع قولوا للمتبوعين حتى يخلصوكم من العذاب.
والغرض بذلك اعلامهم انه ليس لهم يوم القيامة ولي يدفع عنهم شيئا من
العذاب. وقال غيره: لما حكى الله تعالى ما يجري بين الجن والإنس من الخصام
والجدال في الآخرة، قال الله لهم: النار مثواكم. ثم قال " وكذلك نولي بعض
الظالمين بعضا " أي كما فعلنا بهؤلاء من الجمع بينهم في النار وتولية بعضهم
بعضا وجعل بعضهم أولى ببعض، نفعل مثله بالظالمين جزاء على أعمالهم.
والفرق بين (ذلك) و (ذاك) أن زيادة اللام في (ذلك) قامت مقام هاء
التنبيه التي تدخل في ذاك فتقول هذاك ولا تقول هذا لك. ولا يجوز إمالة
(ذلك) لان (ذا) بمنزلة الحرف، والأصل في الحروف ألا تمال، لان التصريف
إنما هو للأفعال والأسماء.
275

وقوله " بما كانوا يكسبون " معناه بما كانوا يكسبونه من المعاصي وان
ما يفعله بهم من العقاب جزاء على أعمالهم القبيحة.
قوله تعالى:
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون
عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا
على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم
كانوا كافرين (130) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى انه يخاطب الجن والإنس يوم القيامة بأن يقول " يا معشر
الجن والإنس " والمعشر الجماعة. والفرق بينه وبين المجمع: أن المعشر يقع
عليهم هذا الاسم مجتمعين كانوا أو مفترقين كالعشيرة، وليس كذلك المجمع،
لأنه مأخوذ من الجمع. والجن مشتق الاجتنان عن العيون وهو اسم علم
لجنس مما يعقل متميز عن جنس الانسان والملك. والانس هم البشر.
وقوله " ألم يأتكم رسل منكم " احتجاج عليهم بأن الله بعث إليهم الرسل
إعذارا وانذارا وتأكيدا للحجة عليهم، ولابد أن يكون خطابا لمن بعث الله إليهم
الرسل، فأما أول الرسل فلا يمكن ان يكونوا داخلين فيه، لأنه كان يؤدي إلى
ما لا نهاية لهم من الرسل وذلك محال.
وقوله " منكم " وإن كان خطابا لجميعهم، الرسل من الانس خاصة،
فإنه يحتمل أن يكون لتغليب أحدهما على الاخر، كما يغلب المذكر على المؤنث،
وكما قال " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " بعد قوله " مرج البحرين يلتقيان " (1)
وإنما يخرج اللؤلؤ من الملح دون العذب. وكقولهم أكلت خبزا ولبنا وإنما
شرب اللبن. وكما يقولون: في هذه الدار سرو، وإنما هو في بعضها. وهذا

(1) سورة 55 الرحمن آية 19.
276

قول أكثر المفسرين: منهم ابن جريج والفراء والزجاج والرماني والبلخي
والطبري. وروي عن ابن عباس أنه قال: هم رسل الانس إلى غيرهم من الجن
كما قال تعالى " ولوا إلى قومهم منذرين " (2). وقال الضحاك: ذلك يدل
على أنه تعالى ارسل سلا من الجن. وبه قال الطبري واختاره البلخي أيضا،
وهو الأقوى. وقال الجبائي والحسين بن علي المغربي: المعنى " ألم يأتكم "
يعني معشر المكلفين والمخلوقين " رسل منكم " يعني من المكلفين.
وهذا اخبار وحكاية عما يقال لهم في وقت حضورهم في الآخرة، وليس
بخطاب لهم في دار الدنيا، وهم غير حضور، فيكون قبيحا، بل هو حكاية
على ما قلناه.
وقوله " يقصون عليكم آياتي " مثل يتلون عليكم دلائلي وبيناتي
" وينذرونكم " يعني يخوفونكم " لقاء يومكم هذا " يعني لقاء ما تستحقونه
من العقاب في هذا اليوم وحصولكم فيه. ثم أخبر تعالى عنهم انهم يشهدون
على أنفسهم بالاعتراف بذلك والاقرار بأن الحياة الدنيا غرتهم، ويشهدون أيضا
بأنهم كانوا كافرين في دار الدنيا، فلذلك كرر الشهادة.
ومعنى غرتهم الحياة الدنيا أي غرتهم زينة الدنيا ولذتها وما يرون من
زخرفها وبهجتها.
واستدل بهذه الآية قوم على أن الله لا يجوز ان يعاقب الا بعد ان يرسل
الرسل، وان التكليف لا يصح من دون ذلك، وهذا ينتقض بما قلناه من أول
الرسل، وانه صح تكليفهم وان لم يكن لهم رسل، فالظاهر مخصوص بمن
علم الله ان الشرع مصلحة له، فان الله لا يعاقبهم الا بعد ان يرسل إليهم الرسل
ويقيم عليهم الحجة بتعريفهم مصالحهم، فإذا خالفوا بعد ذلك استحقوا العقاب.

(2) سورة 46 الأحقاف آية 29.
277

قوله تعالى:
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها
غافلون (131) آية بلا خلاف.
موضع (ذلك) من الاعراب يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون رفعا كأنه قال: الامر ذلك، لأنه لم يكن (ذلك)
إشارة إلى ما تقدم ذكره من العقاب والجواب بأن مثواهم النار.
والثاني - أن يكون نصبا، وتقديره فعلناه ذلك لهذا.
وإنما جازت الإشارة بذلك إلى غير حاضر لان ما مضى صفة حاضرة للنفس
فقام مقام حضوره، ويجوز الإشارة إلى هذا الذي تقدم ذكره.
وقوله " ان لم يكن " ف‍ (ان) هي المخففة من الثقيلة. والمعنى لأنه لم
يكن ومثلها التي في قول الشاعر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا * أن هالك كل من يحفي وينتعل (1)
ف‍ (أن) المفتوحة لابد فيها من إضمار الهاء، لأنه لا معنى لها في الابتداء
وإنما هي بمعنى المصدر المبني على غيره. والمكسورة لا تحتاج إلى ذلك، لأنها
يصح أن تكون حرفا من حروف الابتداء فلا تحتاج إلى اضمار.
وقوله " بظلم " قيل في معناه قولان:
أحدهما ما ذكره الفراء والجبائي: انه بظلم منه على غفلة من غير تنبيه
وتذكير ومثله قوله " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " (2).
الثاني - بظلم منهم حتى يبعث إليهم رسلا يزجرونهم ويذكرونهم على
وجه الاستظهار في الحجة دون أن يكون ذلك واجبا، لأنهم بما فعلوه من الظلم

(1) قائله الأعشى ديوانه: 45 القصيدة 6 وروايته:
في فتية كسيوف الهند قد علموا أن ليس يدفع عن ذوي الحيلة الحيل
(2) سورة 11 هود آية 118.
278

قد استحقوا العقاب.
ومن استدل بذلك على أنه لا يحسن العقاب الا بعد انفاذ الرسل، فقد
أجبنا عن قوله في الآية الأولى.
قوله تعالى:
ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما
يعملون (132) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر " عما تعملون " بالتاء. الباقون بالياء.
ومن قرأ بالياء حمله على الغيبة. ومن قرأ بالتاء حمله على الخطاب للمواجهة.
وفي الآية حذف وتقديرها، ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته منازل من عمله
حتى يجازيه ان خيرا فخيرا، وان شرا فشرا. وما تقدم من ذكر الغافلين يدل
على هذا الحذف.
و (قبل. وبعد) بنيتا عند حذف المضاف في مثل قوله " لله الامر من
قبل ومن بعد " (3) لأنهما في حال الاعراب لم يكونا على التمكن التام، لأنه
لا يدخلهما الرفع في تلك الحال، فلما انضاف إلى هذا النقصان من التمكن
بحذف المضاف إليه أخرجا إلى البنأ، وليس كذلك (كل) فاته متمكن على كل
حال ولذلك لم يبن.
و (الدرجات) يحتمل أمرين: أحدهما - الجزاء. والثاني - الاعمال
فإذا وجهت إلى الجزاء كان تقديره: ولكل درجات جزاء من اجل ما عملوا، وإذا
حمل على الاعمال كان تقديره: ولكل درجات أعمال من اعمالهم. وإنما مثل
الاعمال بالدرجات ليبين انه وان عم أحد قسميها صفة الحسن، وعم الاخر
صفة القبيح، فليست في المراتب سواء، وانه بحسب ذلك يقع الجزاء، فالأعظم
من العقاب للأعظم من المعاصي، والأعظم من الثواب للأعظم من الطاعات.

(3) سورة 30 الروم آية 4.
279

وقوله " وما ربك بغافل عما يعملون " إنما ذكره ليعلموا انه لا يفوته شئ
منهما ولا من مراتبهما حتى يجازي عليه بما يستحق من الجزاء، وفيه تنبيه
وتذكير للخلق في كل أمورهم.
والغفلة ذهاب المعنى عمن يصح ان يدركه. والغفلة عن المعنى والسهو
عنه والغروب عنه نظائر، وضد الغفلة اليقظة، وضد السهو الذكر، وضد
الغروب الحضور.
قوله تعالى:
وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف
من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين (133)
آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه الغني. والغني هو الحي الذي ليس
بمحتاج. والغني عن الشئ هو الذي يكون وجود الشئ وعدمه وصحته
وفساده عنده بمنزلة واحدة، في أنه لا يلحقه صفة نقص. و " ذو الرحمة " يعني
صاحب الرحمة، وهو تعالى بهذه الصفة لرحمته بعباده.
ثم اخبره عن قدرته وانه لو شاء ان يذهب الخلق بأن يميتهم ويهلكهم
ويستخلف من بعدهم ما يشاء بان ينشئ بعد هلاكهم كما أنشأهم في الأول
من ذرية من تقدمهم. وكذلك ينشئ قوما آخرين من نسلهم وذريتهم، والجواب
محذوف والكاف في (كما) في موضع نصب وتقديره ويستخلف من بعدكم
ما يشاء مثل ما أستخلفكم. وفي ذلك دلالة على أنه يصح القدرة على ما علم أنه
لا يكون لأنه بين انه لو شاء لذهب بهم وأتى بقوم آخرين ولم يفعل ذلك، فدل
ذلك على أنه يقدر على ما يعلم أنه لا يفعله.
و (من) في قوله " ويستخلف من بعدكم " للبدل كقولك: أعطيتك من
280

دينارك ثوبا اي مكان دينارك وبدله، ومعنى (من) في قوله " كما أنشأكم من
ذرية قوم آخرين " ابتداء الغاية لان التقدير، ان ابتداء غايتكم من قوم آخرين
وقيل في وزن " ذرية " ثلاثة أقوال: أولها - فعلية من الذر. الثاني - فعيلة
على وزن خليفة من ذرأ الخلق يذرأهم. الثالث - فعولة من (ذروة) الا أن
الهمزة أبدلت واوا، ثم قلبت ياء، فيكون بمنزلة علية من علوة. وقرئ في
الشواذ (ذرية) بكسر الذال وهما لغتان.
وأنشأ الله الخلق إذا خلقه وابتدأه وكل من ابتدأ شيئا فقد أنشأه. ومنه
قولهم: أنشأ فلان قصيدة، والنشأة الاحداث من الأولاد، واحدها ناشئ
مثل خادم وخدم، ويقال للجواري إنشاء، وللذكور نشاء، قال نصيب:
ولولا أن يقال صبا نصيب * لقلت بنفسي النشأ الصغار (1)
ويقال لهذا السحاب نشؤ حسن، وهو أول ظهوره في السماء.
قوله تعالى:
إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (134)
آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان الذي أوعد الخلق به من عقابه على معاصيه
والكفر به واقع بهم لان (ما) في قوله " إنما " بمعني الذي، وليست كافة
مثل قولك: إنما قام زيد، لان خبرها جاء بعدها، وهو قوله " لآت وهي في
موضع نصب، والجنس في موضع رفع، والكافة لا خبر لها، واللام في قوله
(للات) لام الابتداء ولا يجوز أن تكون لام القسم، لان لام القسم لا تدخل على
الأسماء ولا الافعال المضارعة الا أن تكون معها النون الثقيلة، ولا تعلق الفعل
في (قد علمت أن زيدا ليقومن).

(1) اللسان (نشأ) النشأ: الشباب أو الشابات.
281

ومعنى " توعدون " من الايعاد بالعقاب يقال: أوعدته أوعده إيعادا،
وقال الحسن: إنما توعدون من مجئ الساعة، لأنهم كانوا يكذبون بالبعث،
فعلى هذا يجوز أن يكون المصدر الوعد لاختلاط الخير والشر، فيكون على
التغليب إذ مجئ الساعة خير للمؤمنين وشر على الكافرين.
وقال الجبائي: ان معناه " ان ما توعدون " من الثواب والعقاب،
فان الله يأتي به.
وقوله " وما أنتم بمعجزين " أي لستم معجزين الله عن الاتيان بالبعث
والعقاب، وإنما قيل ذلك لان من يعبد الوثن يتوهم انه ينفعه في صرف
المكروه عنه جهلا منه ووضعا للامر في غير موضعه. وأيضا فإنهم يعملون
عمل من كان يفوته العقاب لتأخره عنه وطول السلامة بالامهال فيه.
قوله تعالى:
قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف
تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (135)
آية بلا خلاف.
قرأ أبو بكر " مكاناتكم " على الجمع. الباقون على التوحيد، وقرأ
حمزة والكسائي يكون بالياء. الباقون بالتاء المعجمة من فوق. ومن قرأ
بالياء فلان المصدر المؤنث يجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على المعنى. ومن
قرأ بالتاء فعلى اللفظ، فمما جاء منها على اللفظ قوله " فأخذتهم الصيحة " (1)
وقوله " قد جاءتكم موعظة من ربكم " (2) وعلى المعنى قوله " واخذ الذين

(1) سورة 15 الحجر آية 73، 83 وسورة 23 المؤمنون آية 41
(2) سورة 10 يونس آية 57.
282

ظلموا الصيحة " (3) وقوله " فمن جاءه موعظة " (4). ومن وحد " مكانتكم "
فلانه مصدر، والمصادر في الأكثر لا تجمع. ومن جمع فلأنها قد تجمع
كقولهم: الحلوم والأحلام.
قال أبو عبيدة " مكانتكم " أي على حيالكم. وقال أبو زيد: رجل
مكين عند السلطان من قوم مكناء، وقد مكن مكانة، كأنه قال: اعملوا
على قدر منزلتكم وتمكنكم من الدنيا، فإنكم لن تضرونا بذلك شيئا.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يخاطب المكلفين من قومه ويأمرهم بأن
يعملوا على مكانتهم، والمكانة الطريقة يقال: هو يعمل على مكانته ومكينته
أي طريقته وجهته. وقال ابن عباس والحسن: على ناحيتكم. وقال الجبائي:
على حالتكم. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المراد على تمكنكم، وهذا
وإن كان صيغته صيغة الامر فالمراد به التهديد كما قال " اعملوا ما شئتم " (5)
وإنما جاء التهديد بصيغة الامر لشدة التحذير، أي لو امر بهذا لكان يجوز قبول
أمره. ووجه آخر - هو ان التقدير " اعملوا على مكانتكم " ان رضيتم
بالعقاب أي انكم في منزلة من يؤمر به ان رضيتم بالعقاب، فهذا على التبعيد
أن يقيموا عليه، كالتبعيد أن يرضوا. ووجه ثالث هو ان الضرر يخص
المقيم على المنكر، لان غيره بمنزلة الامن في أنه لا يأمره بما يضره.
وقوله " اني عامل " إخبار من الرسول انه عامل بما امر الله تعالى به.
وقوله " فسوف تعلمون " فيه تهديد، ومعناه فسوف تعلمون جزاء
اعمالكم.
وقوله " من تكون " يحتمل موضع (من) أمرين من الاعراب:
أحدهما - الرفع وتقديره أينا يكون له عاقبة الدار.
والثاني - النصب بقوله " يعلمون " ويكون بمعنى الذي.

(3) سورة 11 هود آية 67
(4) سورة 2 البقرة آية 275
(5) سورة 41 حم السجدة آية 40.
283

وإنما قال: ان عاقبة الدار للمؤمنين دون الكافرين وإن كان الكفار
أيضا لهم عاقبة من حيث يصيرون إلى العقاب المؤبد وهي للمؤمنين من حيث
يصيرون إلى النعيم الدائم، كما يقول العرب: لهم الكرة، ولهم الحملة،
لأنه إذا فصل قيل: لهم وعلى أعدائهم.
وقوله " انه لا يفلح الظالمون " أي لا يفوز الظالمون بشئ من الثواب
والمنافع، وإنما لم يقل (الكافرون) وإن كان الكلام في ذكرهم لأنه أعم
وأكثر فائدة، ولأنه إذا لم يفلح الظالم، فالكافر بذلك أولى، على أن الكافر
يسمى ظالما فيجوز أن يكون عنى به انه لا يفلح الظالمون الذين هم الكافرون،
كما قال " والكافرون هم الظالمون " (6) وقال (ان الشرك لظلم عظيم " (7).
قوله تعالى:
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا
فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم
فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم
ساء ما يحكمون (136) آية بلا خلاف.
قرأ الكسائي " بزعمهم " بضم الزاي في الموضعين. الباقون بفتحها.
وفي الزعم ثلاث لغات: الفتح والضم، والكسر مثل فتك وفتك وفتك.
وقبل وقبل وقبل. وود وود وود. ولم يقرأ بالكسر أحد. فالفتح
لغة أهل الحجاز، والضم لغة تميم، والكسر لغة بعض بني قيس.
اخبر الله تعالى عن الكفار الذين تقدم وصفهم أنهم يجعلون شيئا من
أموالهم لله وشيئا لشركائهم تقربا اليهما، من جملة ما خلقه الله واخترعه، لان
الذرأ هو الخلق على وجه الاختراع، واصله الظهور، ومنه ملح ذرآني

(6) سورة 2 البقرة آية 254
(7) سورة 31 لقمان آية 13.
284

وذرآني، لظهور بياضة. والذرأة ظهور الشيب. قال الراجز:
وقد علتني ذرأة بادي بدي * وريثة تنهض في تشددي (1)
يقال: ذرأ الله الخلق يذرأهم ذرءا وذروا. ويقال: ذرئت لحيته ذرءا
إذا شابت. ومنه طعنه فأذراه - غير مهموز - إذا ألقاه، وذرت الريح
التراب تذروه ذروا إذا أبادته، وذروة كل شئ أعلاه. و (الحرث) الزرع
و (الحرث) الأرض التي تثار للزرع، ومنه حرثها يحرثها حرثا، ومنه قوله
" نساؤكم حرث لكم " (2) لأن المرأة للولد كالأرض للزرع و (الانعام)
المواشي من الإبل والبقر والغنم، مأخوذ من نعمة الوطئ، ولا يقال لذوات
الحافر: أنعام.
وإنما جعلوا الأوثان شركاءهم، لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم
ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.
وقوله " فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل
إلى شركائهم " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس وقتادة: انه إذا اختلط شئ مما جعلوه
لأوثانهم بشئ مما جعلوه لله ردوه إلى ما لأوثانهم، وإذا اختلط بشئ مما
جعلوه لله لم يردوه إلى ما لله.
الثاني - قال الحسن والسدي: كان إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا
بدله مما لله، ولا يفعلون مثل ذلك في ما لله (عز وجل).
الثالث - قال أبو علي: انهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة
على أوثانهم، ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه للأوثان.
وقوله " ساء ما يحكمون " فيه قولان: أحدهما - قال الزجاج
تقديره ساء الحكم حكمهم، فيكون على هذا موضع (ما) رفعا. وقال

(1) تفسير الطبري 12 / 17 واللسان والتاج (ذرأ) (بدا)
(2) سورة 2 البقرة آية 223.
285

الرماني: يجوز أن يكون موضع (ما) نصبا وتقديره ساء حكما حكمهم.
قوله تعالى:
وكذلك زين الكثير من المشركين قتل أولادهم
شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما
فعلوه فذرهم وما يفترون (137) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر وحده " زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم "
بضم الزاي، ونصب (الأولاد) وخفض " شركائهم ". الباقون بفتح الزاي،
" قتل " مفتوح اللام " أولادهم بجر الدال " شركاؤهم " بالرفع بالتزيين.
فوجه قراءة ابن عامر انه فرق بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول.
والتقدير: قتل شركائهم أولادهم، وشركاؤهم فاعل القتل، وإنما جربا لإضافة
ومن أضاف القتل إلى الأولاد في القراءة الأخرى يكون الأولاد في موضع
النصب، وهو مفعول به بالقتل وانشدوا فيه بيتا على الشذوذ أنشده بعض
الحجازيين ذكره أبو الحسن:
فزججتها بمزجة * زج القلوص أبي مزاده (1)
وذلك لا يجوز عند أكثر النحويين لان القراءة لا يجوز حملها على الشاذ
القبيح، ولأنه إذا ضعف الفصل بالظرف حتى لم يجز الا في ضرورة الشعر
كقول الشاعر:
كما خط الكتاب بكف يوما يهودي (2)
فان لا يجوز في المفعول به أجدر، ولم يكن بعد الضعف الا الامتناع.

(1) معاني القرآن 1 / 358 وتفسير الطبري 12 / 138 وخزانة الأدب 2 / 251
(2) قائله أبو حية النمري ألفية ابن عقيل 2 / 68 والقرطبي 7 / 111 وتمامه:
كما خط الكتاب بكف يوما * يهودي يقارب أو يزل.
286

وقيل إنما حمل ابن عامر على هذه القراءة انه وجد (شركائهم) في مصاحف
أهل الشام بالياء لا بالواو، وهذا يجوز فيه قتل أولادهم شركائهم على ايقاع
الشرك للأولاد يعني شركائهم في النعم وفي النسب وفي الأولاد، ولو قيل
أيضا زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم على ذكر الفاعل بعد
ما ذكر الفعل على طريقة ما لم يسم فاعله جاز كما قال الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة * ومختبط مما تطيح الطوائح (2)
أي ليبكه ضارع. ومثله " يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال " (3)
وتقديره كأنه لما قال " زين لكثير من المشركين قتل أولادهم " قال
قائل من زينه؟ قيل زينه شركاؤهم. وقال الفراء تكون " شركائهم " على
لغة من قال في عشاء عشاي كما قال الشاعر:
إذا الثريا طلعت عشايا * فبع لراعي غنم كسايا
وأبو العباس يأبى هذا البيت، ويقول الرواية الصحيحة بالهمزة.
ووجه التشبيه في قوله " وكذلك زين " أنه كما جعل أولئك في الآية
الأولى ما ليس لهم كذلك زين هؤلاء ما ليس لهم ان يزينوه. والشركاء
الذين زينوا قتل الأولاد قيل فيهم خمسة أقوال:
أحدها - قال الحسن ومجاهد والسدي: هم الشياطين زينوا لهم
وأد البنات أحياء خوف الفقر والعار.
والثاني - قال الفراء والزجاج: هم قوم كانوا يخدمون الأوثان.
والثالث - انهم الغواة من الناس.
والرابع - قيل: شركاؤهم في نعمهم.

(2) قائله نهشل بن حرى النهشلي، وقيل الحارث بن نهيك النهشلي. وقيل
ضرار النهشلي، وقيل مرزرد. وقيل المهلهل. وقيل غير ذلك. شواهد العيني
على الأشموني في حاشية الصبان 2 / 49 الشاهد 75 وغيره.
(3) سورة 24 النور آية 36.
287

والخامس - شركاؤهم في الاشراك.
وقوله " ليردوهم " فالارداء الاهلاك، تقول: أراده يرديه إرداء وردي
يردي ردى إذا هلك، وتردي ترديا، ومنه قوله " وما يغني عنه ماله إذا
تردى " (1) والمراد به الحجر يتردى من رأس جبل.
واللام في قوله " ليردوهم " قال قوم هي لام العاقبة، كما قال " فالتقطه
آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " (2) لأنهم لم يكونوا معاندين فيقصدوا
أن يردوهم ويلبسوا عليهم دينهم، هذا قول أبي علي. وقال غيره: يجوز
أن يكون فيهم المعاند، ويكون ذلك على التغليب.
وقوله " ولو شاء الله ما فعلوه " معناه لو شاء ان يضطرهم إلى تركه،
أو لو شاء ان يمنعهم منه لفعل، ولو فعل المنع والحيلولة لما فعلوه، لكن
ذلك ينافي التكليف. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله ان يذرهم اي يتركهم ولا يمنعهم
ويخلي بينهم وبين ما يكذبون وذلك غاية التهديد كما يقول القائل: دعني وإياه.
قوله تعالى:
وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من
نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون
اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (138)
آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار انهم " قالوا هذه انعام وحرث " يعني
الانعام والزرع الذي جعلوهما لآلهتهم وأوثانهم. وقوله " بزعمهم " يدل
على أنهم فعلوا ذلك بغير حجة بل بقولهم العاري عن برهان.
وقيل في الانعام الأولى قولان

(1) سورة 92 الليل آية 11
(2) سورة 28 القصص آية 8.
288

أحدهما - قال الجبائي: التي ذكرها أولا فهو ما جعلوه لأوثانهم كما
جعلوا الحرث للنفقة عليها في خدامها وما ينوب من أمرها. وقيل: قربانا
للأوثان. وأما الانعام التي ذكرت ثانيا، فهي السائبة والبحيرة والحام، وهو
الفحل الذي يخلونه ويقولون: حمى ظهره، وهو قول الحسن ومجاهد. وأما
التي ذكرت ثالثا - قيل فيه قولان: أحدهما التي إذا ولدوها أو ذبحوها أو
ركبوها لم يذكروا اسم الله عليها، وهو قول السدي وغيره.
والثاني قال أبو وائل * هي التي لا يحجون عليها.
وقوله " حجر " معناه حرام تقول: حجرت على فلان كذا أي منعته منه
بالتحريم، ومنه قوله " حجرا محجورا " (1) والحجر لامتناعه بالصلابة،
والحجر العقل للامتناع به من القبيح، قال المتلمس:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها * حجر حرام ألا تلك الدهاريس (2)
وقال رؤبة:
وجارة البيت لها حجري (3)
وقال الآخر:
فبت مرتفقا والعين ساهرة * كأن نومي علي الليل محجور (4)
وقيل: حجر وحرج مثل جذب وجبذ، وبه قرأ ابن عباس. وبضم الحاء
قراءة الحسن وقتادة. ويقال: حجر وحجر وحجر بمعنى المنع بالتحريم،
وحجر الانسان، وحجره بالكسر والفتح. وإنما أعيبوا بتحريم ظهور الانعام،

(1) سورة 25 الفرقان آية 22، 53
(2) قائله جرير بن عبد المسيح، وهو الملتمس. ديوانه القصيدة 4 ومجاز القرآن 1 / 207 واللسان (دهرس) ومعجم البلدان (نخلة القصوى) وتفسير الطبري 12 / 140 و " الدهاريس "
الدواهي
(3) وقيل إنه للعجاج. ديوان العجاج: 68 واللسان " حجر "
(4) نبسه ابن منظور في اللسان (رفق) إلى (أعشى بأهله). وهو في
الطبري 12 / 141 غير منسوب. ومعنى (مرتفقا) أي متكئا على يده.
289

والواجب تحريمها عقلا حتى يرد سمع بإباحته، لأنهم حرموا ذلك على وجه
الكذب على الله، وانه أوجب ذلك إذا كانت على صفة مخصوصة. وإنما أعيبوا
بأكلها بعد ذبحها، وهي حينئذ تجري مجرى الميتة، وذلك لا يعلم تحريمه عقلا،
لأنهم ادعوا انه على وجه التذكية افتراء على الله، فقصدوا به هذا القصد،
ولذلك أعيبوا بتملكها وان كانوا سبقوا إليها، وإنما وجب تحريم الانتفاع
باستهلال الانعام، لان الايلام لا يحسن الا مع تضمن العوض الموافي عليه،
وذلك مفتقر إلى السمع.
وقوله " افتراء " يعني كذبا، وفي نصبه قولان: أحدهما - قالوا:
افتراء على الله، الثاني - لا يذكرون اسم الله افتراء على الله، كأنه قيل: افتروا
بتركهم التسمية الذي أضافوه إلى الله افتراء عليه.
قوله تعالى:
وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا
ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء
سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139) آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير " وان يكن " بالياء " ميتة " رفع. وقرأ ابن عامر الا
الداحوني عن هشام، وأبو جعفر " تكن " بالتاء " ميتة " رفع. وقرأ أبو
بكر عن عاصم الا الكسائي " يكن " باليا " ميتة " نصب. الباقون بالتاء
" ميتة " نصب. وجه قراءة الأكثر ان يحمل على (ما) وتقديره وان يكن
ما في بطون الانعام ميتة. ووجه قراءة ابن عامر ان يضيف الفعل إلى الميتة
فيرتفع الميتة به، فلذلك أنث الفعل. ووجه قراءة أبي بكر ان ما في بطون
الانعام مؤنث، لأنها من الانعام. ويجوز أن يكون أراد أن تكون الأجنة ميتة.
ووجه قراءة ابن كثير ان يضيف الفعل إلى الميتة، لكن لما لم يكن تأنيث الميتة
290

تأنيث ذوات الفروج، وتقدم الفعل جاز ان يذكر، كما قال " فمن جاءه
موعظة " (1) و " أخذ الذين ظلموا الصيحة " (2) وتكون (كان) تامة، ومعناه
وان وقع ميتة.
اخبر الله تعالى في هذه الآية عن هؤلاء الكفار الذين ذكرهم أنهم " قالوا
ما في بطون هذه الانعام " التي تقدم ذكرها أحياء، فهو خالص لذكروهم،
ومحرم على أزواجهم الإناث وبناتهم. وقال بعضهم انه يختص بالزوجات،
والأولى عموم النساء تفضيلا للذكور على الإناث. وقيل إن الذكور كانوا
القوام بخدمة الأوثان.
والمراد بما في بطون الانعام قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال قتادة المراد به الألبان.
والثاني - قال مجاهد والسدي: انه الأجنة.
الثالث - ان المراد به الجميع، وهو أعم.
وقوله " خالصة لذكورنا " معناه لا يشركهم فيها أحد من الإناث وليس
المراد به تسوية تصفية شئ عن شئ كالذهب الخالص والفضة الخالصة، ومن ذلك
إخلاص التوحيد واخلاص العمل لله.
والهاء في قوله " خالصة " قيل فيها ثلاثة أقوال:
أحدها - أنها للمبالغة في الصفة كالعلامة والراوية
الثاني - على تأنيث المصدر كالعاقبة والعافية، ومنه قوله " بخالصة
ذكرى الدار " (3).
الثالث - لتأنيث ما في بطونها من الانعام. ويقال فلان خالصة فلان ومن
خلصائه. وحكى الزجاج والفراء: انه قرئ خالصة لذكورنا، والمعنى ما خلص
منها. وقيل أصل (الذكور) من الذكر سمي الذكر بذلك، لأنه أنبه واذكر

(1) سورة 2 البقرة آية 275
(2) سورة 11 هود آية 67
(3) سورة 38 ص آية 46.
291

من الأنثى.
وقوله " وان يكن ميتة " معناه إن كان جنين الانعام ميتة فالذكور والإناث
فيه سواء، فقال الله تعالى " سيجزيهم وصفهم " يعني سيجزيهم جزاء وصفهم،
وحذف المضاف واقام المضاف إليه مقامه.
وقوله " انه حكيم عليم " معناه انه تعالى حكيم فيما يفعل بهم من العقاب
آجلا، وفي امهالهم عاجلا " عليم " بما يفعلون لا يخفى عليه شئ منها.
وقوله " خالصة " رفع بأنه خبر الابتداء والمبتدأ قوله " ما في بطون "
ولا يجوز عند البصريين النصب، لان العامل فيه لا يتصرف، فلا يتقدم عليه،
وأجازه الفراء مع قوله إنهم لا يكادون يتكلمون به، لا يقولون زيد قائما فيها،
ولكنه قياس.
وقد عاب الله على الكفار في هذه الآية من أربعة أوجه:
أولها - ذبحهم الانعام بغير إذن الله.
وثانيها - أكلهم على ادعاء التذكية افتراء على الله.
وثالثها - تحليلهم للذكور وتحريمهم على الإناث تفرقة بين ما لا يفترق
الا بحكم من الله.
ورابعها - تسويتهم بينهم في الميتة من غير رجوع إلى سمع موثوق.
قوله تعالى:
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم
وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا
مهتدين (140) آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وابن عامر " قتلوا " بتشديد التاء. الباقون بالتخفيف.
من شدد حمله على التكرار، كقوله " جنات عدن مفتحة " (1). ومن خفف

(1) سورة 38 ص آية 50.
292

فلانه يدل على الكثرة.
اخبر الله تعالى ان هؤلاء الكفار الذين قتلوا أولادهم الإناث خوفا من
الفقر وهربا من العار قد خسروا، ومعناه هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك
عذاب الأبد. والخسران هلاك رأس المال.
وقوله " سفها بغير علم " نصب على أنه مفعول له ويجوز أن يكون نصبا
على المصدر، وتقديره سفهوا بما فعلوه سفها خوفا من الفقر وهربا من العار.
والسفه خفة الحلم بالعجلة إلى ما لا ينبغي ان يعجل إليه. واصله الخفة. وضد
السفيه الحليم. والفرق بين السفه والنزق ان السفه عجلة يدعو إليها الهوى،
والنزق عجلة من جهة حدة الطبع والغيظ.
وقوله " وحرموا ما رزقهم الله " يعني ما حرموه على نفوسهم من الحرث
بزعمهم انه حجر. وقال الحسن: انه راجع إلى الانعام. وقال الرماني: لا يجوز
ذلك لأنها محرمة عليهم بحجة العقل حتى يأتي بسمع. والقتل نقض البنية التي
تحتاج الحياة إليها والموت - عند من أثبته معنى ضد الحياة.
وقوله " افتراء على الله " يعني كذبا. ونصبه على المصدر والعامل فيه
قوله " وحرموا " لان ذلك قول منهم أضافوه إلى الله. ثم اخبر تعالى انهم
قد ضلوا بما فعلوه وجازوا عن طريق الحق وأنهم لم يكونوا مهتدين إلى طريق
الرشاد والحق.
قوله تعالى:
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات
والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها
وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر واتوا حقه يوم
حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141) آية بلا خلاف.
293

قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم (حصاده) - بفتح الحا - الباقون
بكسرها. وهم لغتان. وقال سيبويه: جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان
على مثال (فعال) نحو الضرام الجزاز، والجداد والقطاف والحصاد. وربما
دخلت اللغتان في بعض هذا، وكان فيه (فعال وفعال).
لما اخبر الله عن هؤلاء الكفار وعن عظيم ما ابتدعوه وافتروا به على الله
وشرعوا من الدين ما لم يأذن الله فيه، عقب ذلك البيان بأنه الخالق لجميع
الأشياء فلا يجوز إضافة شئ منها إلى الأوثان، ولا تحليله، ولا تحريمه الا
بأذنه، فقال " وهو الذي أنشأ جنات معروشات " والانشاء هو احداث الافعال
ابتداء لا على مثال سبق، وهو كالابتداع. والاختراع هو أحداث الافعال في الغير
من غير سبب، والخلق هو التقدير والترتيب. والجنات جمع جنة، وهي البساتين
التي يجنها الشجر من النخل وغيره. والروضة هي الخضرة بالنبات والزهور
المشرقة باختلاف الألوان الحسنة.
وقوله " معروشات وغير معروشات " قيل في معناه قولان:
أحدهما - ما قال ابن عباس والسدي: المعروشات هو ما عرش الناس
من الكروم ونحوها، وهو رفع بعض أغصانها على بعض " وغير معروشات "
ما يكون من قبل نفسه في البراري والجبال.
والثاني - قال أبو علي يعرشه أي يرفع له حظائر كالحائط. واصله الرفع
ومنه قوله تعالى " خاوية على عروشها " (1) يعني على أعاليها، وما ارتفع منها
لم يندك فيستوي " بالأرض، ومنه العرش للسرير لارتفاعه.
(ومعرشات) في موضع النصب، لأنها صفة ل‍ (جنات) والنخل والزرع
معناه وأنشأ النخل والزرع " مختلفا أكله " يعني طعمه، ونصب مختلفا على
الحال، وإنما نصبه على الحال، وهو يؤكل بعد ذلك بزمان، لامرين:
أحدهما - ان معناه مقدرا اختلاف أكله كقولهم: مررت برجل معه صقر

(1) سورة 2 البقرة آية 259 وسورة 18 الكهف آية 43 وسورة 22 الحج آية 45.
294

صايدا به غدا أي مقدرا الصيد به غدا.
الثاني - أن يكون معنى (أكله) ثمره الذي يصلح ان يؤكل منه.
" والزيتون والرمان " أي وأنشأ الزيتون والرمان. وإنما قرن الزيتون
إلى الرمان، لأنه لما ذكر الكرم والنخل والزرع اقتضى ذكر ما خرج عن ذلك،
فقرنا لفضلهما بعدما ذكره. وقيل: لأنهما يشتبهان باكتناف الأوراق في أغصانها
" متشابها وغير متشابه " معناه متماثلا وغير متماثل. وقيل " متشابها " في
النظر " وغير متشابه " في الطعم بل الطعم مختلف.
وقوله " كلوا من ثمره إذا أثمر " المراد به الإباحة لا الامر. وقال الجبائي
وجماعة: ان ذلك يدل على جواز الأكل من ثمره، وإن كان فيه حق للفقراء.
وقوله " وآتوا حقه يوم حصاده " أمر ايجاب بايتاء الحق يوم الحصاد
على طريق الجملة، والحق الذي يجب اخراجه يوم الحصاد فيه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن أسلم والحسن
وسعيد بن المسيب وطاووس وجابر بن عبد الله وبريد وقتادة والضحاك: انه
الزكاة العشر، أو نصف العشر.
الثاني - روي عن جعفر (ع) عن أبيه (ع) وعطاء ومجاهد وابن عامر
وسعيد بن جبير والربيع بن أنس: انه ما ينثر مما يعطي المساكين.
وروي أصحابنا أنه الضغث بعد الضغث والحفنة بعد الحفنة.
وقال إبراهيم والسدي: الآية منسوخة بفرض العشر ونصف العشر،
قالوا: لان الزكاة لا تخرج يوم الحصاد، وقالوا لأن هذه الآية مكية وفرض
الزكاة نزل بالمدينة. ولما روي بأن فرض الزكاة نسخ كل صدقة.
قال الرماني: وهذا غلط، لان يوم حصاده ظرف لحقه، وليس بظرف
الايتاء المأمور به.
وقوله " ولا تسرفوا " قيل في المخاطبين به ثلاثة أقوال:
أحدها - قال أبو العالية وابن جريح انه يتوجه إلى أرباب الأموال،
295

لأنهم كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة يسرفون فيه، فروي عن ثابت بن شماس
انه كان له خمس مئة رأس نخلا فصرمها وتصديق بها، ولم يترك لأهله منها شيئا
فنهى الله عن ذلك، وبين أنه مسرف، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله ابدأ بمن تعول.
الثاني - قال ابن زيد انه خطاب للسلطان.
الثالث - انه خطاب للجميع وهو أعم فائدة.
وقيل: ان السرف يكون في التقصير، كما يكون في الزيادة قال الشاعر:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية * ما في عطائهم من ولا سرف (1)
معناه ولا تقصير. وقيل ولا إفراط، لأنه لا يستكثر كثيرهم. والاسراف
هو مجاوزة حد الحق وهو افراط وغلو. وضده تقصير واقتار. ومسرف
صفة ذم في العادة.
وينبغي ان يؤدي الحق الذي في الغلات إلى امام المسلمين ليصرفه إلى
أهل الصدقات ولهم ان يخرجوه إلى المساكين إذا لم يأخذهم الامام بذلك فأما
مقدار ما يجب من الزكاة، والنصاب الذي يتعلق به وصفه الأرض الزكوية
فقد بيناه في كتب الفقه مستوفى لا نطول بذكره الكتاب.
قوله تعالى:
ومن الانعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (142)
آية بلا خلاف.
العامل في قوله " حمولة وفرشا " قوله " أنشأ " المتقدم، كأنه قال وأنشأ
لكم من الانعام " حمولة وفرشا ". وقيل في معنى: " حمولة وفرشا "

(1) قائله جرير ديوانه 389 وطبقات فحول الشعراء: 359 واللسان (هند)،
" سرف " وتفسير الطبري 7 / 579 و 12 / 177 وتفسير القرطبي 7 / 111،
وهنيدة: اسم لكل مئة من الإبل، وهو ممنوع من الصرف.
296

ثلاثة أقوال:
أحدها - ما روي عن ابن مسعود، وابن عباس في احدى والروايتين،
والحسن في رواية - ومجاهد: ان الحمولة كبارا الإبل، والفرش الصغار.
الثاني - ما روي عن الحسن - في رواية - وقتادة والربيع والسدي
والضحاك وابن زيد: ان الحمولة ما حمل من الإبل والبقر، والفرش الغنم.
الثالث - ما روي عن ابن عباس - في رواية - ان الحمولة كل ما حمل
من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، والفرش الغنم، كأنه ذهب إلى أنه
يدخل في الانعام ذو الحافر على الاتباع.
و (الحمولة) لا واحد لها من لفظها كالركوبة والجزورة. و (الحمولة)
بضم الحاء هي الأحمال، وهي الحمول. وإنما قيل للصغار: فرش، لامرين:
أحدهما - لاستواء أسنانها في الصغر والانحطاط، كاستواء ما يفترش.
الثاني - من الفرش وهي الأرض المستوية التي يتوطأها الناس.
وقال الجبائي: في التفسير، وأبو بكر الرازي في احكام القرآن: ان
الفرش ما يفترش من البسط، والزرابي. وهذا غلط قبيح جدا في اللغة.
وقوله " خطوات " يجوز فيه ثلاثة أوجه - بضم الخاء والطاء، وضم
الخاء وسكون الطاء، وضم الخاء وفتح الطاء - وفي معناه قولان:
أحدهما - ما يتخطى بكم الشيطان إليه من تحليل إلى تحريم، ومن
تحريم إلى تحليل.
الثاني - طرق الشيطان، فإنه لا يسعى الا في عصيان.
وقوله " انه " الهاء كناية عن الشيطان " لكم عدو مبين " فيه اخبار من
الله ان الشيطان عدو للبشر " مبين " أي ظاهر. وقيل في معنى " مبين " قولان:
أحدهما - أنه أبان عداوته لكم بما كان منه إلى أبيكم آدم حين اخرجه من الجنة
الثاني - بين العداوة أي لاظهاره ذلك في حزبه، وأوليائه من الشياطين
هذا قول الحسن.
297

قوله تعالى:
ثمانية أزواج من الضان اثنين ومن المعز اثنين
قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام
الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) آية بلا خلاف
قرأ ابن كثير الا ابن فليح وابن عامر الا الداحوني عن هشام وأهل البصرة
(المعز) بفتح العين. الباقون بسكونها. قال أبو علي من قرأ بالفتح أراد الجمع
بدلالة قوله " من الضأن اثنين " ولو كان واحدا لم يسغ فيه هذا، ونصب اثنين
على تقدير: وأنشأ ثمانية أزواج: أنشأ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ونظير
معز جمع ماعز خادم وخدم وطالب وطلب، وحارس وحرس، وقال أبو الحسن:
هو جمع على غير واحد، وكذلك المعزى، وحكى أبو زيد إمعوز وانشد:
* كالتيس في إمعوزه المربل *
وقالوا: المعيز كالكليب، ومن سكن العين، فهو أيضا جمع ماعز كصاحب
وصحب وتاجر وتجر وراكب وركب. وأبو الحسن: يرى هذا الجمع مستمرا،
ومن يرده في التصغير إلى الواحد، فيقول في تحقير ركب رويكبون، وفي تجر:
تويجرون، وسيبويه يراه اسما من أسماء الجمع، وانشد أبو عثمان حجة
لقول سيبويه:
بنيته بعصبة من ماليا * أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا (1)
- بالعين والغين - عن غير أبي علي فتحقيره له على لفظه من غير أن يرده

(1) البيت ل‍ (أحيحة بن الجلاح) وقد انشده أبو عثمان شاهدا على
البيت الذي يأتي بعده من أنه يقال في تصغير (ركب) ركيب - بضم الراء
وفتح الكاف وتسكين الياء.
298

إلى الواحد الذي هو فاعل - والحاق الواو والنون أو الياء والنون، يدل على
إنه اسم للجمع وأنشد أبو زيد:
وأين ركيب واضعون رحالهم * إلى أهل نار من أناس بأسود (2)
وقال أبو عثمان البقرة عند العرب نعجة، والظبية عندهم ماعزة، الدليل
على ذلك قول ذي الرمة:
إذا ما رآها راكب الضيف لم يزل * يرى نعجة في مرتع فيثيرها
مولعة خنساء ليست بنعجة * يدمن أجواف المياه وقيرها (3)
قوله لم يزل يرى نعجة يريد بقرة، ألا ترى أنه قال مولعة خنساء،
والخنس والتوليع إنما يكونان في البقر دون الظباء. وقوله ليست بنعجة معناه
انها ليست بنعجة أهلية، لأنه لا يخلو من أن يريد أنها ليست بنعجة أهليه، أو
ليست بنعجة، ولا يجوز ان يريد انها ليست بنعجة، لأنك ان حملته على هذا
فقد نفيت ما أوجبه من قوله: لم يزل يرى نعجة، وإذا لم يجز ذلك علمت أنه
أراد ليست بنعجة أهلية، والدليل على أن الظبية ماعزة قول أبي ذؤيب.
وعادية تلقى الثياب كأنها * تيوس ظباء محصها وانبتارها (4)
فقوله تيوس ظباء كقوله: تيوس معز، ولو كانت عندهم ضائنية لقال
كأنها كباش ظباء، والوقير الشاة يكون فيها كلب وحمار في قوله الأصمعي.
قوله " ثمانية أزواج " منصوب، لأنه بدل من " حمولة وفرشا " لدخوله
في الانشاء، وتقديره وأنشأ حمولة وفرشا ثمانية أزواج " من الضأن اثنين "
نصب (اثنين) بتقدير أنشأ من الضأن اثنين، ولو رفع على تقدير منها ماعز
اثنان كما تقول رأيت القوم منهم قائم وقاعد كان جائزا، وإنما أجمل ما فصله
في الاثنين للتقدير علي شئ منه، لأنه أشد في التوبيخ من أن يكون دفعة واحدة.
(2) انشده شاهدا على ما تقدم على أنه يقال في تصغير (راكب) ركيب،
وذلك يدل على أن ركبا مفرد، وليس جمعا لراكب
(3) اللسان (نعج) (4) اللسان " تيس "
299

وقوله " ثمانية أزواج " يريد ثمانية افراد، لان كل واحد من ذلك
يسمى زوجا، والأنثى زوج، وإنما سمي بذلك، لأنه لا يكون زوج الا ومعه
آخر له مثل اسمه، فلما دل على الاثنين من أقرب الوجوه، وقع على طريقه،
ومنه قول لبيد.
من كل محفوف يظل عصيه * زوج عليه كلة وقرامها (5)
ومثل ذلك قولهم: خصم للواحد والاثنين، وقوله " من الضأن اثنين "
يعني ذكر وأنثى، فالضأن الغنم ذوات الأصواف والأوبار، والمعز الغنم ذوات
الاشعار والأذناب القصار، وواحد الضأن ضائن، كقولهم تاجر وتجر في قول
الزجاج. والأنثى ضائنة. وقال غيره: هو جمع لا واحد له، ويجمع ضئين
كقولهم: عبد وعبيد، ويقال فيه (ضئين) كما يقولون في شعر شعير، وكذلك
ماعز ومعز، الا أنه يجوز فتحه لدخول حرف الحلق فيه ويجمع مواعز.
وروي عن أبي عبد الله (ع) ان المراد بقوله " من الضأن اثنين " أهلي
ووحشي وكذلك المعز والبقر " ومن الإبل اثنين " العرابي والبخاتي.
وإنما خص هذه الثمانية أزواج، لأنها جميع الانعام التي كانوا يحرمون
منها ما يحرمونه مما تقدم ذكره.
فان قيل: إذا كان ما حرموه معلوما فلم عدل بهم في السؤل إلى غيره؟
قيل على وجه المعارضة لهم على طريقة الحجاج أي انكم بمنزلة من قال
هذا، ولذلك وقع السؤال أعلى كذا أم كذا؟ وان لم يتقدم دعوى أن أحدهما
كذا، لأنهم في حكم هذا المدعى.
وقوله " آلذكرين حرم أم " منصوب ب‍ (حرم)، والمعنى في قوله
" آلذكرين حرم أم الأنثيين " اجاءكم التحريم فيما حرمتم من السائبة والبحيرة
والوصيلة والحام من الذكرين أم من الأنثيين، فالألف ألف استفهام والمراد به
التوبيخ، فلو قالوا من قبل الذكر حرم عليهم كل ذكر، ولو قالوا من قبل
(5) تفسير الطبري 11 / 143
300

الأنثى حرمت عليهم كل أنثى. ثم قال " اما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " فلو
قالوا ذلك حرم عليهم الذكر والأنثى، لان الرحم يشتمل عليهما، قال الحسن
معناه ما حملت الرحم.
وقوله " نبئوني " بعلم ان كنتم صادقين " في ذلك.
وقوله " آلذكرين " دخلت الف الاستفهام على الف الوصل لئلا يلتبس
بالخبر، ولو أسقطت جاز، لان (أم) تدخل على الاستفهام، وعلى هذا
أجاز سيبويه قول الشاعر أن يكون استفهاما:
فوالله ما أدري وان كنت داريا شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر (1)
أجاز تقديره أشعيب. و (ما) في قوله " أما اشتملت " في موضع نصب
عطفا على الأنثيين، وإنما قال: الأنثيين مثنى، لأنه أراد من الضأن والمعز.
قوله تعالى:
ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل الذكرين
حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم
كنتم شهداء إذ وصيكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على
الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم
الظالمين (144) آية بلا خلاف.
قوله " ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين " تفصيل لتمام الثمانية أزواج
التي أجملها في الآية الأولى. وقد بينا معنى قوله " آلذكرين حرم أم الأنثيين
اما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " واصل الاشتمال الشمول تقول: شملهم
الامر يشملهم شمولا فهو شامل، ومنه الشمال لشمولها على ظاهر الشئ

(1) مر تخريجه في 4 / 199.
301

وباطنه بقوتها ولطفها والشمول الخمر لاشتمالها على العقل. وقيل: لان لها
عصفة كعصفة الشمال.
وقوله " أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا " ف‍ (أم) معادلة لقوله
" آلذكرين " وإنما قال " أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا " لان طرق العلم
اما الدليل الذي يشترك العقل في ادراك الحق بها أو المشاهدة التي يختص بها
بعضهم دون بعض، فإذا لم يكن واحد من الامرين سقط المذهب.
والمعنى أعلمتم ذلك بالسمع والكتب المنزلة فأنتم لا تقرون بذلك أم
شافهكم الله به فعلتموه؟! فإذا لم يكن واحد منهما علم بطلان ما تذهبون إليه.
والوصية مقدمة مؤكدة فيما يفعل أو يترك، يقال: وصاه يوصيه توصية
وأوصاه يوصيه إيصاء، والوصي الموصى إليه.
وقوله " فمن أظلم ممن افترى على الله " يعني من أظلم لنفسه ممن يكذب
عليه فيضيف إليه تحريم ما لم يحرمه وتحليل ما لم يحلله " ليضل الناس بغير
علم " أي عمل القاصد إلى إضلالهم من اجل دعائه إلى ما يشك بصحته مما
لا يؤمن أن يكون فيه هلاكهم وان لم يقصد إضلالهم، فلذلك قال " ليضل
الناس بغير علم ".
ثم أخبر " ان الله لا يهدي " إلى الثواب " القوم الظالمين " لأنهم مستحقون
للعقاب الدائم بكفرهم وضلالهم.
قوله تعالى:
قل لا أجد في ما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن
يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا
أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك
غفور رحيم (145) آية بلا خلاف.
302

قرأ ابن كثير وحمزة " تكون " بالتاء " ميتة " بالنصب. وقرأ ابن عامر
بالتاء والرفع. الباقون بالياء والنصب.
من قرأ بالياء ونصب الميتة جعل في " تكون " ضميرا ونصب الميتة بأنه
خبر كان وتقديره: الا أن يكون ذلك أو الموجود ميتة.
ومن قرأ بالتاء ورفع الميتة رفعها ب‍ (يكون) ويكون من كان التامة
دون الناقصة التي تدخل على المبتدأ والخبر، وهذه القراءة ضعيفة، لان
ما بعده " أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " بالعطف عليه، فلو كان مرفوعا
لضعف ذلك.
ومن قرأ بالتاء ونصب الميتة جعل في (يكون) ضمير العين أو النفس،
وتقديره الا أن تكون النفس ميتة، ونصب الميتة بأنه خبر كان.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء الكفار انه لا يجد في ما أوحي
إليه شيئا محرما الا نحو ما ذكره في المائدة (1) كالمنخنقة والموقوذة والمتردية
والنطيحة، لان جميع ذلك يقع عليه السم الميتة، وفي حكمها، فبين هناك على
التفصيل، وههنا على الجملة وأجود من ذلك ان يقال: ان الله تعالى خص
هذه الثلاثة أشياء تعظيما لتحريمها وبين ما عداها في موضع آخر. وقيل:
انه خص هذه الأشياء بنص القرآن وما عداه بوحي غير القرآن. وقيل: ان
ما عداه حرم فيما بعد بالمدينة والسورة مكية.
والميتة عبارة عما كان فيه حياة فقدت من غير تذكية شرعية. والدم
المسفوح هو المصبوب، يقال: سفحت الدمع وغيره أسفحه سفحا إذا صببته،
ومنه السفاح الزنا، لصب الماء صب ما يسفح والسفح والصب والإراقة بمعنى
وإنما خص المسفوح بالذكر، لان ما يختلط بالدم منه مما لا يمكن تخليصه
منه معفو مباح، وهو قول أبي محلز، وعكرمة وقتادة.
وقوله " أو لحم خنزير " فإنه وان خص لحم الخنزير بالذكر، فان جميع

(1) آية 3 من سورة 5 المائدة 3 / 428.
303

ما يكون منه من الجلد والشعر والشحم وغير ذلك محرم.
وقوله " فإنه رجس " يعني ما تقدم ذكره، فلذلك كنا عنه بكناية المذكر،
والرجس العذاب أيضا.
وقوله " أو فسقا " عطف على قوله " أو لحم خنزير " فلذلك نصبه،
والمراد بالفسق " ما أهل لغير الله به " يعني " ما لم يذكر أسم الله عليه " أو
تذكر الأصنام والأوثان، وسمي ما ذكر عليه أسم الوثن: فسقا لخروجه عن
أمر الله.
وأصل الاهلال رفع الصوت بالشئ، ومنه أهل الصبي إذا صاح عند ولادته.
وقوله " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " قيل فيه قولان:
أحدهما - غير طالب بأكله التلذذ.
والثاني - غير قاصد لتحليل ما حرم الله. وروى أصحابنا في قوله
" غير باغ " ان معناه ان لا يكون خارجا على إمام عادل أي لا يعتدى بتجاوز
ذلك إلى ما حرمه الله. وروى أصحابنا ان المراد به قطاع الطريق، فإنهم غير
مرخصين بذلك على حال.
والضرورة التي تبيح أكل الميتة هي خوف التلف على النفس من الجوع.
وإنما قال عند التحليل للمضطر " ان ربك غفور رحيم " لأن هذه الرخصة
لأنه " غفور رحيم " أي حكم بالرخصة كما حكم بالمغفرة. وفي ذلك بيان عن
عظم موقع النعمة.
وقد استدل قوم بهذه الآية على إباحة ما عدا هذه الأشياء المذكورة.
وهذا ليس بصحيح، لان ههنا محرمات كثيرة غيرها كالسباع، وكل ذي ناب
وكل ذي مخلب، وغير ذلك. وكذلك أشياء كثيرة اختص أصحابنا بتحريمها،
كالجري والمار ما هي، وغير ذلك، فلا يمكن التعلق بذلك.
ويمكن ان يستدل بهذه الآية؟؟ حريم الانتفاع بجلد الميتة فإنه داخل
تحت قوله " أن يكون ميتة " ويقويه قوله (عليه السلام) لا ينتفع من الميتة
304

بأهاب ولا عصب. فأما دلالته على أن الشعر والصوف والريش منها والناب
والعظم محرم، فلا يدل عليه، لان ما لم تحله الحياة لا يسمى ميتة على ما مضى
القول فيه.
قوله تعالى:
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم
حرمنا عليه شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أوما
اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)
آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى انه حرم على اليهود في أيام موسى كل ذي ظفر.
واختلفوا في معنى " كل ذي ظفر " فقال ابن عباس وسعيد بن جبير
ومجاهد وقتادة والسدي: انه كل ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل، والنعام،
والإوز، والبط.
وقال أبو علي الجبائي: يدخل في ذلك جميع أنواع السباع والكلاب
والسنانير وسائر ما يصطاد بظفره من الطير.
وقال البلخي: هو كل ذي مخلب من الطائر، وكل ذي حافر من الدواب.
ويسمى الحافر ظفرا مجازا، كما قال الشاعر:
فما رقد الولدان حتى رأيته * على البكر يمريه بساق وحافر (1)
فجعل الحافر موضع القدم. وأخبر تعالى انه كان حرم عليهم شحوم
البقر والغنم من الثرب، وشحم الكلى، وغير ذلك مما في أجوافها، واستثنى
من ذلك بقوله " الا ما حملت ظهورها " ما حملته ظهورها فإنه لم يحرمه،
واستثنى أيضا ما على الحوايا من الشحم، فإنه لم يحرمه.

(1) قائله جبيها الأسدي. اللسان (حفر).
305

واختلفوا في معنى الحوايا، فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير
وقتادة ومجاهد والسدي: هي المباعر. وقال ابن زيد: هن بنات اللبن.
وقال الجبائي: الحوايا الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها.
وحوايا جمع حوية وحاوية. وقيل في واحده حاوياء - في قول الزجاج -
على وزن راضعات ورواضع، وضاربة وضوارب، ومن قال: حوية قال وزنه
فعائل مثل سفينة وسفائن في الصحيح، وهي ما يجري في البطن فاجتمع
واستدار، ويسمى بنات اللبن والمباعر والمرابض وما فيها الأمعاء بذلك.
واستثنى أيضا من جملة ما حرم " ما اختلط بعظم " وهو شحم الجنب
والالية، لأنه على العصص - في قول ابن جريج والسدي - وقال الجبائي:
الالية تدخل في ذلك، لأنها لم تستثن وما اعتد بعظم العصص.
وموضع (الحوايا) من الاعرا يحتمل أمرين:
أحدهما - قول أكثر أهل العلم: انه رفع عطفا على الظهور على تقدير:
وما حملت الحوايا.
الثاني - نصب عطفا على ما في قوله " الا ما حملت " فأما قوله " أو
ما اختلط بعظم " فيكون نسقا على ما حرم لا على الاستثناء. والتقدير - على هذا
القول - حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم الا ما حملت
الظهور، فإنه غير محرم. و (أو) دخلت على طريق الإباحة كقوله " ولا تطع
منهم آثما أو كفورا " (1) والمعنى إعص هذا وأعص هذا، فان جميعهم أهل
ان يعصى، ومثله جالس الحسن أو ابن سيرين اي جالس أيهما شئت.
وهذه الأشياء وإن كان الله تعالى حرمها على اليهود في شرع موسى،
فقد نسخ تحريمها على لسان محمد (صلى الله عليه وآله) وأباحها، وتدعي
النصارى ان ذلك نسخ في شرع عيسى (ع) ولسنا نعلم صحة ما يقولونه.
وقوله " ذلك جزيناهم ببغيهم " معناه انا حرمنا ذلك عليهم عقوبة لهم

(1) سورة 76 الدهر آية 24.
306

على بغيهم.
فان قيل: كيف يكون التكليف عقابا، وهو تابع للمصلحة، ومع ذلك
فهو تعريض للثواب؟؟
قلنا: إنما سماه عقوبة، لان عظيم ما أتوه من الاجرام والمعاصي اقتضى
تحريم ذلك وتغير المصلحة، وحصول اللطف فيه، فلذلك سماه عقوبة، ولولا
عظم جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك.
وقوله " وإنا لصادقون " يعني فيما أخبرنا به من تحريم ذلك على اليهود
فيما مضى. وان ذلك عقوبة لأوائلهم ومصلحة لمن بعدهم إلى وقت النسخ.
وحكي عن ابن علية أنه كان يقول: ان ما يذبحه اليهود لا يجوز أكل شحمه
وان جاز أكل لحمه، لان الشحوم كانت حراما عليهم. وعندنا ان ما يذبحه
اليهود لا يجوز استباحة شئ منه، وهم بمنزلة الميتة غير أن الذي ذكره غير
صحيح، لأنه يلزم عليه انه لو نحر اليهود جملا ان لا يجوز اكله، لأنه كان
حراما عليهم، وذلك باطل عنده.
قوله تعالى:
فان كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن
القوم المجرمين (147) آية بلا خلاف.
المعنى بقوله " فان كذبوك " قيل فيه قولان:
أحدهما - قال مجاهد والسدي: انهم اليهود، لأنهم زعموا أنهم حرموا
الثروب، لان إسرائيل حرمها على نفسه، فحرموها هم اتباعا له دون أن يكون
الله حرم ذلك على لسان موسى.
الثاني - انه يرجع إلى جميع المشركين في قول الجبائي وغيره على ظاهر
الآية، فقال الله لنبيه " فان كذبوك " يا محمد في اني حرمت ذلك على اليهود
على لسان موسى " فقل " لهم " ربكم ذو رحمة واسعة " واقتضى ذكر الرحمة
307

أحد أمرين:
الأول - انه برحمته أمهلهم مع تكذيبهم، بالمؤاخذة عاجلا - في قول
أبي علي الجبائي -.
الثاني - انه ذكر ذلك ترغيبا لهم في ترك التكذيب وتزهيدا في فعله وإنما
قابل بين لفظ الماضي في قوله " كذبوك " بالمستقبل في قوله " فقل " لتأكيد
وقوع القول بعد التكذيب إذ كونه جوابا يدل على ذلك. و (ذو) بمعنى
صاحب. والفرق بينهما ان أحدهما يصح ان يضاف إلى المضمر، ولا يصح
في الاخر، لان (ذو) وصلة إلى الصفة بالجنس، ولذلك جعل ناقصا لا يقوم
بنفسه دون المضاف إليه، والمضمر ليس بجنس ولا يصح ان يوصف به.
وقوله " لا يرد بأسه " معناه لا يمكن أحدا أن يرده عنهم، وهو أبلغ من
قوله بأسه نازل بالمجرمين، لأنه دل على هذا المعنى وعلى ان أحدا لا يمكنه
رده. وقوله " عن القوم المجرمين " معناه ان أحدا لا يتمكن من رد عقاب
الله عن العصاة المستحقين للعقاب مع أنه تعالى ذو رحمة واسعة.
قوله تعالى:
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا
ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى
ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون
إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بأن هؤلاء المشركين سيحتجون في إقامتهم
على شركهم، وعلى تحريمهم ما أحله الله من الانعام التي تقدم وصفها بأن
يقولوا: لو شاء الله ان لا نفعل نحن ذلك ولا نعتقده ولا آباؤنا، أو أراد منا
خلاف ذلك " ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا " شيئا من ذلك. فكذبهم
308

الله تعالى بذلك في قوله " كذلك كذب الذين من قبلهم " ومعناه مثل هذا
التكذيب الذي كان من هؤلاء - في أنه منكر - " كذب الذين من قبلهم "
وإنما قال كذلك لتقضي الخبر، ولو قال (كذا) لجاز، لأنه قريب بعد الأول،
و (كذلك) أحسن، لان ما فيه من تأكيد الإشارة تغني عن الصفة.
وحكي انه قرئ " كذب الذين " بالتخفيف، فمن خفف أراد ان هؤلاء
كاذبون كما كذب الذين من قبلهم على الله بمثله. ومن قرأ بالتشديد، فلأنهم
بهذا القول كذبوا رسول الله لأنهم قالوا له: ان الله أراد منا ذلك وشاءه،
ولو أراد غيره لما فعلناه، مكذبين للرسول (ص) كما كذب من تقدم أنبياءهم
فيما أتوا به من قبل الله.
ثم بين بقوله " قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا " أن ما قالوه باطل
وكذب على الله لأنه لو كان صحيحا لما رده عليهم.
ثم أكد تكذيبهم بقوله " ان تتبعون الا الظن " أي ليس يتبعون إلا ظنا
من غير علم " وان أنتم الا تخرصون " يعني تكذبون، والخرص الكذب
كقوله " قتل الخراصون " (1)
وفى هذه الآية أدل دلالة على أن الله تعالى لا يشاء المعاصي والكفر،
وتكذيب ظاهر لمن أضاف ذلك إلى الله مع قيام أدلة العقل على أنه تعالى لا يريد
القبيح، لان إرادة القبيح قبيحة، وهو لا يفعل القبيح، ولأن هذه صفة نقص،
فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقوله " حتى ذاقوا بأسنا " معناه حتى ذاقوا عذابنا، وأراد به حلول
العذاب بهم فجعل وجدانهم لذلك ذوقا مجازا. وجاز قوله " ما أشركنا ولا
آباؤنا " ولم يجز ان يقال: قمنا وزيد، لان العطف على المضمر المتصل
لا يحسن الا بفصل، فلما فصلت (لا) حسن، كما حسن: ما قد قمنا ولا زيد
كان كذلك، لان الضمير المتصل يغير له الفعل في (فعلت) فيصير كجزء منه.

(1) سورة 51 الذاريات آية 10.
309

فان قيل: إنما أنكر الله تعالى عليهم هذا القول، لأنهم جعلوا هذا القول
حجة في إقامتهم على شركهم، فأعلم الله عز وجل ان " كذلك كذب الذين من
قبلهم حتى ذاقوا بأسنا " ولم ينكر عليهم انهم قالوا الشرك بمشيئة الله، ولو
كان منكرا لذلك، لقال: كذلك كذب الذين - بتخفيف الذال -.
قلنا: لا يجوز ذلك، لأنه تعالى بين انهم كذبوا في هذا القول بقوله
" وان أنتم الا تخرصون " أي تكذبون، فاما كذبوا فقد حكينا أنه قرئ
- بالتخفيف - ومن شدد الذال، فلان تكذيب الصادق كذب، وهو يدل
على الامرين، فان قالوا: إنما عابهم، لأنهم كانوا متهزئين بهذا القول
لا معتقدين ولا متدينين. قلنا: المعروف من مذهبهم خلافه، لأنهم كانوا
يعتقدون ان جميع ما يفعلونه قربة إلى الله، وان الله تعالى إرادة وأخبر عنه،
فكيف يكونون متهزئين، على أن الهازئ بالشئ لا يسمى كاذبا، فكيف
سماهم الله كاذبين؟ على أنه إذا كان كل ما يجري بمشيئته فلا يجب ان ينكر
على أحد ما يعتقده، لأنه اعتقد ما شاء الله. ومن فعل ما شاء كان مطيعا له،
لان الطاعة هي امتثال الامر والمراد منه. وهذا باطل بالاجماع.
فان قيل: إنما عاب الله المشركين بهذه الآية، لأنهم قالوا ذلك حدسا
وظنا لاعن علم، وذلك لا يدل على أنهم غير صادقين، وقد يجوز أن يكون
الانسان صادقا فيما يخبر به ويكون قوله صادرا عن حدس وعن ظن.
قلنا: لو كان الامر على ما قلتم لما كانوا كاذبين إذا كان مخبر ما أخبروا
به على ما أخبروا، وقد كذبهم الله في اخبارهم بقوله " كذلك كذب الذين من
قبلهم " وبقوله " ان أنتم الا تخرصون " على أن من ظن شيئا فأخبر عنه
لا يوصف بأنه كاذب وإن كان على خلاف ما ظنه فكيف إذا كان على ما ظنه.
قوله تعالى:
قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهديكم أجمعين (149)
آية بلا خلاف.
310

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء الكفار الذين احتجوا بما
قالوه ان الله لو شاء منهم ذلك لما كان لله الحجة البالغة يعني الحجة التي احتج
بها على الكافرين في الآية الأولى، وجميع ما احتج به على عباده في صحة دينه
الذي كلفهم إياه. ومعنى (البالغة) التي تبلغ قطع عذر المحجوج وتزيل كل
لبس وشبهة عمن نظر فيها واستدل أيضا بها. وإنما كانت حجة الله صحيحة
بالغة، لأنه لا يحتج الا بالحق وما يؤدي إلى العلم. وقوله " ولو شاء لهداكم
أجمعين " يحتمل أمرين:
أحدهما - لو شاء لألجأ الجميع إلى الايمان غير أن ذلك ينافي التكليف.
الثاني - انه لو شاء لهداهم إلى نيل الثواب ودخول الجنة، وبين بذلك
قدرته على منافعهم ومضارهم. وبين انه لم يفعل ذلك، لأنه يوجب زوال
التكليف عنهم والله تعالى أراد بالتكليف تعريضهم للثواب الذي لا يحسن
الابتداء به، ولو كان الامر على ما قالته المجبرة من أن الله تعالى شاء منهم
الكفر لكانت الحجة للكفار على الله من حيث فعلوا ما شاء الله، وكان يجب ان يكونوا بذلك مطيعين له ولا تكون الحجة عليهم من حيث إنه خلق فيهم
الكفر وأراد منهم الكفر، فأي حجة مع ذلك.
قوله تعالى:
قل هلم شهداءكم الذي يشهدون أن الله حرم هذا فان
شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا
والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (150)
آية بلا خلاف.
معنى هذه الآية ان الحجاج بأن الطريق الموصل إلى صحة مذهبهم غير
منسد إذ لم يثبت من جهة حجة عقل ولا سمع. وما لم يصح ان يثبت من
311

أحد هذين الوجهين باطل لا محالة، لان ما لا يصح ان يعلم فاسد لا محالة.
امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء الكفار الذين تقدم وصفهم
" هلموا ومعناه هاتوا. وهلم كلمة موضوعة للجماعة بني مع (ها) فصار
بمنزلة الصوت نحو (صه) قال الا عشى:
وكان دعا قومه دعوة * هلم إلى أمركم قد صرم (1)
ومن قال: هلموا، فإنه لم يبنه مع (ها) بل قدره على الانفصال.
والأول أفصح، لأنها لغة القرآن، وهي لغة أهل الحجاز. وأهل نجد يقولون:
هلم وهلما وهلموا وهلمي وهلميا وهلمن، قال سيبويه أصله (ها) ضم
إليه (لم) فبني فقيل: هلم، وهات فصل ولم يتصل بما يبنى معه، فلذلك
لا بد ان يقال للجماعة: هاتوا. و (هلم) لفظ يتعدى تارة، وأخرى لا يتعدى،
فإذا كانت بمعنى (هاتوا) فإنها تتعدى مثل قوله " هلم شهداءكم " وإذا
كانت بمعنى (تعالوا) نحو " هلم الينا " (2) فإنها لا تتعدى ونظيره: عليك
زيدا يتعد إلى واحد، وعلي زيدا يتعدى إلى اثنين بمعنى أولني زيدا، ومثله
من الفعل: رجع ورجعته، ولا يجوز في (هلم) الضم والكسر، كما يجوز
في ورد: ورد. قال الزجاج: لأنها لا تتصرف على طريقة: فعل يفعل،
مع ما اتصلت بها من هاء.
ومعنى الآية هاتوا شهداءكم الذين يشهدون بصحة ما تدعون من أن
الله حرم هذا الذي ذكرتموه. وقوله " فان شهدوا فلا تشهد معهم " فان قيل
كيف دعاهم إلى الشهادة مع أنهم إذا شهدوا لم تقبل شهادتهم؟؟!
قلنا عنه جوابان أحدهما - قال أبو علي: لأنهم لم يشهدوا على الوجه
دعوا ان يشهدوا بينة عادلة تقوم بها الحجة.
الثاني - شهداء من غيرهم، ولن يجدوا ذلك، ولو وجدوه ما وجب

(1) ديوانه 34، ومجاز القرآن 1 / 208 وتفسير الطبري 12 / 150،
واللسان والتاج (ربع)
(2) سورة 33 الأحزاب آية 18.
312

قبول شهاداتهم، لأنها لا ترجع الا إلى دعوى مجردة. ولكن المذهب مع هذه
الحال أبعد عن الصواب، لأنهم لا يجدون من يشهد لهم. وهو قول الحسن.
وقوله " ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا " نهى من الله لنبيه والمراد
به أمته ان يعتقدوا مذهب من اعتقد مذهبه هوى، ويمكن اتخاذ المذهب هوى
من وجوه.
أحدها - هوى من سبق إليه فقلده فيه.
والثاني - ان يدخل عليه شبهة فيتخيله بصورة الصحيح مع أن في عقله
ما يمنع منه. ومنها - ان يقطع النظر دون غايته، للمشقة التي تلحقه فيعتقد
المذهب الفاسد. ومنها - أن يكون نشأ على شئ وألفه واعتاده فيصعب
عليه مفارقته. وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله.
وإنما قال " الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة " وكلهم
كفار ليفصل وجوه كفرهم، لان منه ما يكون مع الاقرار بالآخرة كحال أهل الكتاب
، ومنه ما يكون مع الانكار كحال عبدة الأوثان. وقوله " وهم بربهم
يعدلون " معناه يعدلون به عن الحق لاتخاذهم مع الله شركاء وإضافتهم إليه
ما لم يقله وافترائهم عليه.
وفي الآية دلالة على فساد التقليد لأنه لو كان التقليد جائزا لما طالب الله
الكفار بالحجة على صحة مذهبهم، ولما كان عجزهم عن الآيتان بها دلالة على
بطلان ما ذهبوا اليه.
قوله تعالى:
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا
وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن
نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن
313

ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصيكم
به لعلكم تعقلون (151) آية بلا خلاف.
لما حكى الله تعالى عن هؤلاء القوم انهم حرموا ما لم يحرمه الله وأحلوا
ما حرمه، قال لنبيه " قل " لهم " تعالوا " حتى أبين لكم ما حرمه الله.
و (تعالوا) معناه أدنوا، وهو مشتق من العلو، وتقديره كأن الداعي في
المكان العالي، وان كانا في مستوى من الأرض كما يقال للانسان: ارتفع
إلى صدر المجلس.
وقوله " أتل " مشتق من التلاوة مثل القراءة. والمتلو مثل المقروء،
فالمتلوا هو المقروء الأول، والتلاوة هي الثاني منه على طريق الإعادة، وهو
مثل الحكاية والمحكي. وقوله " أتل " مجزوم بأنه جواب الامر، وعلامة
الجزم فيه حذف الواو، ومن شأن الجازم أن يأخذ الحركة إذا كانت على
الحرف، فإن لم يكن هناك حركة أخذ نفس الحرف.
وقوله " ما حرم ربكم " (ما) في موضع نصب ب‍ (أتل) وهي بمعنى
الذي، وتقديره أتل الذي حرم ربكم عليكم: ان لا تشركوا به شيئا، ويجوز
أن يكون نصبا ب‍ (حرم) وتقديره أي شئ حرم ربكم، لان (أتلو)
بمنزلة أقول.
وقوله " ان لا تشركوا به شيئا " يحتمل موضع (ان) ثلاثة أوجه من الاعراب:
أحدها - الرفع على تقدير ذلك ان لا تشركوا به شيئا.
والثاني - النصب على تقدير أوصى ان لا تشركوا به شيئا.
وقيل فيه وجه رابع - أن يكون نصبا ب‍ (حرم) وتكون (لا) زائدة،
وتقديره حرم ربكم ان تشركوا به شيئا، كما قال " ما منعك ان لا تسجد " (1)
ونظائر ذلك قد قدمنا طرفا منها. وموضع تشركوا يحتمل أمرين، أحدهما -

(1) سورة 7 الأعراف آية 11.
314

النصب ب‍ (ان). الثاني - الجزم ب‍ (لا) على النهي.
وقال أبو جعفر عليه السلام: أدنى الشرك الرياء.
وقوله " وبالوالدين احسانا " العامل فيه (أمر) أي امر بالوالدين
إحسانا، وأوصى بالوالدين احسانا. ودليله من وجهين: أحدهما - ان في
(حرم كذا) معنى أوصى بتحريمه، وامر بتجنبه. الثاني " ذلكم وصاكم به "
وقوله " ولا تقتلوا أولادكم من املاق " عطف بالنهي على الخبر، لان
قوله " ولا تقتلوا " نهي، وقوله أوصى ألا تشركوا به شيئا، وأوصى بالوالدين
احسانا خبر، وجاز ذلك كما جاز في قوله " قل اني أمرت ان أكون أول من
أسلم ولا تكونن من المشركين (2) وقال الشاعر:
حج وأوصى بسليمى الاعبد * ان لا قرى ولا تكلم أحدا
ولا تمش بفضاء بعدا * ولا يزل شرابها مبردا (3)
والاملاق: الافلاس من المال والزاد يقال: أملق إملاقا ومنه الملق لأنه
اجتهاد في تقرب المفلس للطمع في العطية.
وقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جريج والضحاك: الاملاق الفقر،
نهاهم الله ان يقتلوا أولادهم خوفا من الفقر. وقال " نحن نرزقكم وإياهم "
وقوله " ولا تقربوا الفواحش " نهي عن الفواحش وهي القبائح. وقيل:
الفاحش العظيم القبح، والقبيح يقع على الصغير والكبير، لأنه يقال القرد
قبيح الصورة ولا يقال فاحش الصورة. وضد القبيح الحسن وليس كذلك
الفاحش. قال الرماني ويدخل في الآية النهي عن الصغير، لان قرب الفاحش
عمل الصغير من القبيح. وقوله " ما ظهر منها وما بطن " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس والضحاك والسدي: كانوا لا يرون بالزنا
بأسا سرا، ويمنعون منه علانية، فنهى الله عنه في الحالتين.

(2) سورة 6 الانعام آية 14
(3) مجاز القرآن 1 / 364 وتفسير الطبري 12 / 216.
315

الثاني - لئلا يظن ويتوهم ان الاستبطان جائز.
وقال أبو جعفر (عليه السلام) ما ظهر هو الزنا، وما بطن المخالة.
وقيل معناه ما علن وما خفي يعني من جميع أنواع الفواحش وهو أعم فائدة.
وقوله " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق " فالنفس المحرم
قتلها هي نفس المسلم والمعاهد دون الكافر الحربي، والحق الذي يستباح به
قتل النفس المحرمة ثلاثة أشياء: قود بالنفس الحرام، والزنا بعد احصان،
والكفر بعد الايمان.
وقوله " ذلكم وصاكم به " خطاب لجميع الخلق " لعلكم تعقلون "
معناه لكي تعقلوا عنه ما وصاكم به فتعملوا به.
قوله تعالى:
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نسفا إلا وسعها وإذا
قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصيكم
به لعلكم تذكرون (152) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة الا أبا بكر " تذكرون " بتخفيف الذال حيث وقع.
الباقون بالتشديد. قال سيبويه: ذكرته ذكرا مثل شربا، قال أبو علي:
(ذكر) فعل يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله " فاذكروني أذكركم " (1)
فإذا ضاعفت العين تعدى إلى مفعولين كقولك ذكرته أباه قال الشاعر:
يذكر نيك حنين العجول * ونوح الحمامة تدعو هديلا
فان نقله بالهمزة كان كنقله بالتشديد، وتقول: ذكرته فتذكر، لان
تذكر مطاوع (فعل) كما تفاعل مطاوع فاعل، قال تعالى " إذا مسهم طائف

(1) سورة 2 البقرة آية 152.
316

من الشيطان تذكروا " (2) وقد تعدى تفعلت قال الشاعر:
تذكرت أرضا بها أهلها * أخوا لها فيها وأعمامها
وأنشد أبو زيد:
تذكرت ليلى لات حين أذكارها * وقدحني الاضلال ضلا بتضلال
فقال أذكارها، كما قال " وتبتل إليه تبتيلا " (3) ونحو ذلك مما لا يحصى
مما لا يجئ المصدر على (فعلة)، وجاء المصدر على (فعلى) بألف التأنيث،
فقالوا ذكرى وقالوا في الجمع الذكر، فجعلوا بمنزلة (سدرة، وسدر)
وقالوا: الدكر بالدال غير المعجمة حكاه سيبويه، والمشهور بالذال.
فمن قرأ بتشديد الذال أراد يتذكرون ويأخذون به، ولا يطرحونه
وادغم التاء في الذال، والمعنى يتذكرون، كما قال " والنهار خلفة لمن أراد ان
يذكر " (4) أي يتفكر وقال " أولا يذكر الانسان " (5) معناه أولا يتفكر،
وقال " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا " (6) أي ليتفكروا فيه.
ومن قرأ - بتخفيف الذال - أراد لكي يذكروه ولا ينسوه فيعملوا به.
والقراءتان متقاربتان غير أن هذا حذف التاء الأولى، والأولون أدغموا التاء
في الذال. والمعنى فيها لعلكم تتذكرون.
هذه الآية عطف على ما حرم الله في الآية الأولى وأوصى به، فنهى في
هذه الآية ان تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن، والمراد بالقرب التصرف
فيه، وإنما خص اليتيم بذلك وإن كان واجبا في كل أحد، لان اليتيم لما كان
لا يدفع عن نفسه ولا له والد يدفع عنه، فكان الطمع في ما له أقوى تأكد
النهي في التصرف في ما له.
وقوله " الا بالتي هي أحسن " قيل في معناه ثلاثة أقوال:

(2) سورة 7 الأعراف آية 200
(3) سورة 73 المزمل آية 8
(4) سورة 25 الفرقان آية 62
(5) سورة 19 مريم آية 67
(6) سورة 25 الفرقان آية 50.
317

أحدها - حفظه عليه إلى أن يكبر فيسلم إليه.
وقيل معناه تثميره بالتجارة في قول مجاهد والضحاك والسدي.
والثالث - ما قاله ابن زيد: ان يأخذ القيم عليه بالمعروف دون الكسوة.
وقوله " حتى يبلغ أشده " اختلفوا في حد الأشد، فقال ربيعة وزيد بن
أسلم ومالك وعامر الشعبي: هو الحلم. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال
قوم: ثماني عشرة سنة. لأنه أكثر ما يقع عندهم البلوغ واستكمال العقل.
وقال قوم قوم: انه لاحد له وإنما المراد به حتى يكمل عقله ولا يكون
سفيها يحجر عليه. والمعنى حتى يبلغ أشده فيسلم إليه ماله أو يأذن في التصرف
في ماله، وحذف لدلالة الكلام عليه. هذا أقوى الوجوه.
وواحد الأشد قيل فيه قولان:
أحدهما - شد مثل أضر جمع ضر، وأشد جمع شد. والشد القوة،
وهو استحكام قوة شبابه وسنه، كما شد النهار ارتفاعه. وحكى الحسين بن علي
المغربي عن أبي اسامة أن واحدة شدة. مثل نعمة وانعم. وقال بعض
البصريين: الأشد واحد مثل الافك. ومن قال إن واحده شد استدل
بقول عنترة:
عهدي به شد النهار كأنما * خضب البنان ورأسه بالعظلم (1)
هكذا رواه المفضل الضبي. وقال الآخر:
يطيف به شد النهار ظعينه * طويلة انقاء اليدين سحوق (2)
وقوله " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " أمر من الله بتوفية كيل ما يكال
وتوفية وزن ما يوزن بالقسط يعني بالعدل * وفاء من غير بخس.
وقوله " لا نكلف نفسا الا وسعها " معناه هنا انه لما كانا لتعويل في
الوزن والكيل على التحديد من أقل القليل يتعذر، بين انه لا يلزم في ذلك
الاجتهاد في التحرز.

(1) ديوانه 27 وتفسير الطبري 12: 222
(2) تفسير الطبري 12: 222.
318

وقوله " وإذا قلتم فأعدلوا " يعني قولوا الحق. ولو كان على ذي قرابة
لكم. وإنما خص القول بالعدل دون الفعل، لان من جعل عادته العدل في
القول دعاه ذلك إلى العدل في الفعل، لان ذلك من آكد الدواعي إليه
والبواعث عليه.
وقوله " وبعهد الله أوفوا " قيل في معنى العهد هاهنا قولان:
أحدهما - كل ما أوجبه على العبد فقد عهد إليه بايجابه عليه وتقديم
القول فيه والدلالة عليه.
الثاني - قال أبو علي عهد الله الحلف بالله، فإذا حلف في غير معصية الله
وجب عليه الوفاء. وقوله " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " قيل في
معناه قولان:
أحدهما - لئلا تغفلوا عنه فتتركوا العمل به والقيام بما يلزم منه.
الثاني - لتتذكروا كل ما يلزمكم بتذكر هذا فتعملوا به.
قوله تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل
فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم به لعلكم تتقون (153)
آية بلا خلاف.
قرأ الكسائي وحمزة " وان هذا " بكسر الهمزة. الباقون بفتحها.
وكلهم شدد النون الا ابن عامر فإنه خففها. وكلهم سكن الياء من (صراطي)
الا ابن عامر فإنه فتحها. وبه قرأ يعقوب. وقرأ ابن كثير وابن عامر " سراطي "
بالسين. الباقون بالصاد الا حمزة، فإنه قرأ بين الصاد والزاي. وروى ابن
فليح والبزي الا القواس " فتفرق " بتشديد التاء. ووجهه ان أصله (فتتفرق)
فأدغم أحدهما في الأخرى.
ومن فتح (أن) احتمل ذلك وجهين:
319

أحدهما - أن يكون عطفا على " ان لا تشركوا ".
والثاني - ولان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه.
ومن كسر (ان) احتمل أيضا وجهين: أحدهما - عطفه على " أتل
ما حرم ربكم " واتل " ان هذا " بمعنى أقول. والثاني - استأنف الكلام.
ومن خفف (ان) فأن المخففة في قوله تتعلق بما تتعلق به المشددة.
وموضع (هذا) رفع بالابتداء وخبره (صراطي) وفي (ان) ضمير
القصة والشأن. وعلى هذه الشريطة تخفف، وليست المفتوحة كالمكسورة
إذا خففت. والفاء في قوله " فاتبعوه " على قول من كسر (ان) عاطفة جملة
على جملة. وعلى قول من فتح زائدة ونصب " مستقيما " على الحال. "
والفائدة ان هذا صراطي وهو مستقيم، فاجتمع له الأمران، ولو رفع مستقيم،
لما أفاد ذك.
وإنما سمى الله تعالى ان ما بينه وذكره من الواجب والمحرم صراط وطريق
لان امتثال ذلك على ما أمر به يؤدي إلى الثواب في الجنة، فهو طريق إليها،
والى النعيم فيها قوله " فاتبعوه " أمر من الله تعالى باتباع صراطه وما شرعه
للحق. وطريق اتباع الشرع - وفيه الحرام والحلال والمباح - هو اعتقاد
ذلك فيه، والعمل على ما ورد الشرع به فيفعل الواجب والندب، ويجتنب
القبيح، ويكون مخيرا في المباح. ولا يجب فعل جميعه، لان ذلك خلاف
الاتباع. وإنما قيل لاعتقاد صحة الشرع اتباع له، لأنه تعالى إذا حظر شيئا
أو حظر تركه كان حكمه، ووجب اتباعه في أنه محرم وواجب، وكذلك
الندب والمباح.
وقوله " ولا تتبعوا السبل " يعني سبل الشيطان واتباع أهل البدع من
اليهود والنصارى وغيرهم، فنهى تعالى عن اتباع ذلك فان اتباع غير سبيله
تصرف عن اتباع سبيله، ولا يمكن ان يجتمعا " ذلكم وصاكم به لعلكم
تتقون " معناه امركم به وأوصاكم بامتثاله لكي تتقوا عقابه باجتناب معاصيه.
320

وإنما اتى بلفظة (لعل) لان المعنى انكم تعاملون في التكليف والجزاء معاملة
الشك للمظافرة في العدل.
قوله تعالى:
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل
شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154) آية بلا خلاف
قيل في معنى قوله " ثم آتينا موسى الكتاب " مع أن كتاب موسى قبل
القرآن و (ثم) تقتضي التراخي قولان:
أحدهما - ان فيه خذفا، وتقديره: ثم أتل " آتينا موسى الكتاب "
وقال أبو مسلم عطفه على المنن التي امتن بها على إبراهيم من قوله " ووهبنا
له إسحاق " إلى قوله " إلى صراط مستقيم " واستحسنه المغربي.
وقوله " تماما على الذي أحسن " قيل فيه خمسة أقوال:
أحدها - قال الربيع والفراء: تماما على احسانه اي احسان موسى كأنه
قال ليكمل احسانه الذي يستحق به كمال ثوابه في الآخرة.
الثاني - قال مجاهد: تماما على المحسنين. وقيل في قراءة عبد الله
" تماما " على الذين أحسنوا " كأنه قيل اتماما للعنة على المحسنين الذين هو أحدهم.
الثالث قال ابن زيد: تماما على احسان الله إلى أنبيائه.
الرابع - قال الحسن وقتادة: لتمام كرامته في الجنة على احسانه في الدنيا.
الخامس - قال أبو علي: تماما على احسان الله إلى موسى بالنبوة،
وغيرها من الكرامة. وقال أبو مسلم تماما على الذي أحسن إبراهيم، فجعل
ما اعطى موسى منة على إبراهيم وإجابة لدعوته بما تقدم من احسانه وطاعته،
وذلك إذ يقول إبراهيم " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " (1).
وقوله " تماما على الذي " يقتضي مضاعفة (عليه). ولو قال: تماما،

(1) سورة 26 الشعراء آية 84.
321

لدل على نقصانه قبل تكميله. وقوله " أحسن " في موضع خفض عند الفراء،
زعم أن العرب تقول مررت بالذي خير منك، وبالذي أخيك. ولا يقولون:
بالذي قائم، لأنه نكرة وأنشد عن الكسائي:
ان الزبيري الذي مثل الحكم * مشى بأسلابك في أهل العلم (2)
قال الزجاج: أجمع البصريون على أنه لا يجوز ذلك، لان (الذي)
يقتضي صلة، ولا يصح ان يوصف الا بعد تمام وصلته.
وقوله " وهدى ورحمة " صفتان للكتاب الذي أنزله على موسى، ومعناه
حجة ورحمة " وتفصيلا لكل شئ " مثل ذلك. وقوله " لعلهم بلقاء ربهم
يؤمنون " معناه لكي يؤمنوا بجزاء ربهم، فسمى الجزاء لقاء الله تفخيما لشأنه
وتعظيما له مع الاختصار والايجاز. و (تماما) و (تفصيلا) نصب على أنه
مفعول له، وتقديره إنا فعلنا للتمام والتفصيل لكل ما شرعنا له. وروي في
الشواذ (أحسن) رفعا وتقديره على الذي هو أحسن.
قوله تعالى:
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم
ترحمون (155) آية بلا خلاف.
قوله " وهذا " إشارة إلى القرآن، وصفه بأنه كتاب أنزله الله وإنما
وصفه بأنه كتاب وان لم يكن قرآنا من اجل انه يكتب، لأنه لما كان التقييد
بالكتاب من أكثر ما يحتاج إليه في الدلائل والحكم، وصف بهذا الوصف.
لبيان انه مما ينبغي ان يكتب، لأنه اجل الحكم، وذكر في هذا الموضع بهذا
الذكر ليقابل ما تقدم من ذكر كتاب موسى (ع).
وقوله " مبارك " فالبركة ثبوت الخير بزيادته ونموه، واصله الثبوت،
ومنه (تبارك) أي تعالى بصفة اثبات لا أول له ولا آخر، وهذا تعظيم.

(2) معاني القرآن 1 / 365 وتفسير الطبري 12 / 234.
322

لا يستحقه غير الله تعالى. ورفعه بأنه صفة للكتاب، ولو نصب على الحال
كان جائزا غير أن الرفع يدل على لزوم الصفة للكتاب، والنصب يجوز أن يكون
لحالة عارضة في وقت الفعل.
وقوله " فاتبعوه " امر من الله باتباعه وتدبر وما فيه وامتثاله.
وقوله " واتقوا " أمر منه تعالى باتقاء معاصيه، وتجنب مخالفة كتابه.
وقوله " لعلكم ترحمون " أي لكي ترحموا، وإنما قال " اتقوا لعلكم
ترحمون " مع أنهم إذا اتقوا رحموا لا محالة لامرين:
أحدهما - اتقوا على رجاء الرحمة، لأنكم لا تدرون بما توافون في الآخرة.
الثاني - اتقوا لترحموا، ومعناه ليكن الغرض بالتقوى منكم طلب
ما عند الله من الرحمة والثواب.
قوله تعالى:
أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن
كنا عن دراستهم لغافلين (156) آية بلا خلاف.
العامل في (أن) قوله " أنزلناه " وتقديره لان لا تقولوا، فحذف (لا)
لظهور المعنى في أنه أنزله لئلا يكون لهم حجة بهذا، وحذف (لا) في قول
الفراء، وقال الزجاج: تقديره كراهة ان تقولوا، ولم يجز حذف (لا) ههنا،
وإذا كان يجوز حذف المضاف في غير (ان) فهو مع (أن) أجدر، لطولها
بالصلة، و (ان) إذا كانت بمعنى المصادر تعمل، ولا تعمل إذا كانت بمعنى
(أي) لأن هذه تختص بالفعل، والأخرى تدخل للتفسير، فتارة تفسير جملة
من ابتداء وخبر، وتارة جملة من فعل وفاعل.
وقوله " إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا " معنى (إنما) الاختصاص،
وإنما كان كذلك، لان (أن) كانت تحقيقا بتخصيص المعنى مما خالفه، فلما
صحبتها (ما) ممكنة لها ظهر هذا المعنى فيها.
323

والمعني " بالطائفتين من قبلنا " اليهود والنصارى - في قول ابن عباس
والحسن ومجاهد وابن جريج وقتادة والسدي - وإنما خصا بالذكر لشهرتهما
ولظهور أمرهما.
وقوله " وان كنا عن دراستهم لغافلين " اللام في قوله " لغافلين " لام
الابتداء، ولا يجوز ان يعمل ما قبلها فيما بعدها الا في باب (إن) خاصة
لأنها زحلقت معها عن الاسم إلى الخبر للفصل بين حرفين بمعنى واحد،
وتقدير الآية: انا أنزلنا الكتاب الذي هو القرآن لئلا يقولوا: إنما أنزل
الكتاب على اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا، ولو أريد مناما أريد ممن
قبلنا لأنزل الينا كتاب كما أنزل على من قبلنا " وان كنا عن دراستهم لغافلين "
وتقديره وان كنا غافلين عن تلاوة كتبهم يعني الطائفتين اللتين أنزل عليهم
الكتاب، لأنهم كانوا أهله دوننا.
قوله تعالى:
أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد
جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب
بآيات الله وصدف عنا سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا
سوء العذاب بما كانوا يصدفون (157) آية بلا خلاف.
هذه الآية عطف على ما قبلها والتقدير: انا أنزلنا القرآن المبارك لئلا
يقولوا: انه ما انزل علينا الكتاب، كما أنزل على من قبلنا، أو يقولوا: لو
أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم في المبادرة إلى قبوله والتمسك به، كما
يقول القائل: لو أتيت بدليل لقبلته منك. ومثل هذا يستبق إلى النفس.
وقوله " أهدى منهم " فلا دلالهم بالاذهان والافهام. وقد يكون العارف
بالشئ أهدى إليه من عارف آخر، بأن يعرفه من وجوه لا يعرفها الاخر، وبأن
324

يكون ما يعرفه به أثبت مما يعرفه به الاخر.
قال الرماني: والفرق بين الهداية والدلالة ان الهداية مضمنة بأنها نصبت
ليهتدي بها صاحبها، وليس كذلك الدلالة، قال: ولذلك كثر تصرفها في
القرآن، كما كثر تصرف الرحمة، لأنها على المحتاج. وهذا فرق غير صحيح
لان الدلالة أيضا لا تسمى دلالة الا إذا نصبت ليستدل بها، ولذلك لا يقال:
اللص دل على نفسه إذا فعل آثار أمكن ان يستدل بها على مكانه، ولم
يقصد ذلك.
وقوله " لو أنا " فتحت (ان) بعد (لو) مع أنه لا يقع فيه المصدر،
لان الفعل مقدر بعد (لو) كأنه قيل: لو وقع الينا أنا أنزل هذا الكتاب علينا،
الا أن هذا الفعل لا يظهر من اجل طول (ان) بالصلة، ولا يحذف مع المصدر
الا في الشعر قال الشاعر:
لو غيركم علق الزبير بحبله * أدى الجوار إلى بني العوام
فقال الله لهم " فقد جاءكم بينة من ربكم " يعني حجة واضحة " وهدى
ورحمة " وأدلة مؤدية إلى الحق، ورحمة منه تعالى وانعام " فمن أظلم ممن
كذب بآيات الله " يعني فمن أظلم لنفسه ممن كذب بآيات الله " وصدف
عنها " أي اعرض عنها غير مستدل بها ولا مفكر فيها. وهو قول ابن عباس
ومجاهد وقتادة والسدي.
فان قيل كيف قال " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله " بأن يجحدها،
ولو فرضنا انه ضم إلى ذلك قتل النفوس وانتهاك المحارم كان أظلم؟.
قلنا عنه جوابان:
أحدهما - للمبالغة لخروجه إلى المنزلة الداعية إلى كل ضرب من الفاحشة.
والاخر - انه لا خصلة ممن ظلم النفس أعظم من هذه الخصلة.
ثم قال تعالى " سنجزي الذين يصدفون " أي يعرضون " عن آياتنا
سوء العذاب " أي شديده " بما كانوا يصدفون " أي جزاء بما كانوا يعرضون
325

وهو ما أعد الله للكفار نعوذ بالله.
فان قيل: فهل للذين ماتوا قبل من خوطب بهذه الآية ان يقولوا هذا القول؟
قيل: لا، ليس له ذلك، لان عذره كان مقطوعا بعقله، وبما تقدم من
الاخبار والكتب وهؤلاء أيضا لو لم يأتهم الكتاب والرسول لم يكن لهم حجة،
لكن فعل الله تعالى ما علم أن المصلحة تعلقت به لهؤلاء، ولو علم ذلك فيمن
تقدم، لأنزل عليهم مثل ذلك، لكن لما لم ينزل عليهم علمنا أن ذلك لم يكن
من مصلحتهم.
قوله تعالى:
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي
بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل
انتظروا إنا منتظرون (158) آية.
قرأ حمزة والكسائي " يأتيهم الملائكة " بالياء. الباقون بالتاء.
وقد مضى الكلام في أمثال ذلك فيما مضى، فلا وجه للتطويل بإعادته.
قوله " هل ينظرون " ما ينتظرون، يعني هؤلاء الكفار الذين تقدم
ذكرهم. وقال أبو علي: معناه هل تنتظر أنت يا محمد وأصحابك الا هذا؟
وهم وان انتظروا غيره فذلك لا يعتد به في جنب ما تنتظرونه من الأشياء
المذكورة لعظم شأنها، وهو مثل قوله " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " (1)،
وتكلمت ولم تتكلم بما لا يعتد به.
وقوله " الا أن يأتيهم الملائكة " يعني لقبض أرواحهم. وقال مجاهد
وقتادة والسدي: تأتيهم الملائكة، لقبض أرواحهم " أو يأتي ربك " أي يوم

(1) سورة 8 الأنفال آية 17.
326

القيامة " أو يأتي بعض آيات ربك "، كطلوع الشمس من مغربها.
وقوله " أو يأتي ربك " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أو يأتي امر ربك بالعذاب. وحذف المضاف واقام المضاف
إليه مقامه، ومثله " وجاء ربك " (2) وقوله " ان الذين يؤذون الله ورسوله " (3)
يعني يؤذون أولياء الله.
الثاني - أو يأتي ربك بعظم آياته فيكون (يأتي) به على معنى الفعل
المعتدي، ومثل ذلك قول الناس: اتانا الروم يريدون أتانا حكم الروم وسيرتهم.
وقوله " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت
من قبل ". قيل في الآيات التي تحجب من قبول التوبة ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الحسن، وروي عن النبي (ص) أنه قال (بادروا بالاعمال
قبل ستة: طلوع الشمس من مغربها، والدابة، والدجال، والدخان، وخويصة
أحدكم - اي موته - وامر القيامة) يعني القيامة.
الثاني - قال ابن معسود: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة
الأرض، وهو قول أبي هريرة.
الثالث - طلوع الشمس من مغاربها رواها جماعة عن النبي (ص).
وقوله " أو كسبت في ايمانها خيرا " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - الابهام في أحد الامرين:
الثاني - التغليب، لان الأكثر ممن ينتفع بايمانه حينئذ من كان كسب
في ايمانه خيرا قبل.
الثالث - انه لا ينفعه ايمانه حينئذ وان اكتسب فيه خيرا الا أن يكون
ممن آمن قبل - في قول السدي - ومعنى كسب الخير في الايمان عمل
النوافل والاستكثار من عمل البر بعد أداء الفرائض. والأول عندي أقواها،

(2) سورة 89 الفجر آية 22
(3) سورة 33 الأحزاب آية 57.
327

لان المعنى انه لا ينفع نفسا ايمانها الا إذا كانت آمنت قبل، فإنها إذا آمنت قبل
نفعها ايمانها بانفراده أو إذا ضمت إلى ايمانها افعال الخير، فان ذلك ينفعها
أيضا، فإنه ازداد خيرا.
وقوله " قل انتظروا " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء الكفار:
انتظروا اتيان الملائكة وهذه الآيات، فانا منتظرون حصولها. ومعنى الآية
الحث على المبادرة إلى الايمان قبل الحال التي لا تقبل فيها التوبة، وهي ظهور
الآيات التي تقدم ذكرها، وفي ذلك غاية التهديد.
قوله تعالى:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما
أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159) آية.
قرأ حمزة والكسائي " فارقوا " بألف، وهو المروي عن علي (ع)
الباقون " فرقوا " بلا الف مع تشديد الراء. والمعنيان متقاربان، لان
القراءتين يؤلان إلى شئ واحد، لان جميع ذلك مخالف لما يوجبه دينهم، فهم
بتفريقه من جهة اكفار بعضهم بعضا على جهالة فيه مخالفون له، وهم بخروجهم
عنه إلى غيره مفارقون له مخالفون. وقيل في المعنيين بهذه الآية أربعة أقوال:
أحدها - قال مجاهد: هم اليهود، لأنهم كانوا يمالؤن عبدة الأوثان
على المسلمين.
الثاني - قال قتادة: هم اليهود والنصارى، لان بعض النصارى يكفر
بعضا وكذلك اليهود.
الثالث - قال الحسن هم جميع المشركين، لأنهم جميعا بهذه الصفة.
الرابع - قال أبو جعفر (ع): هم أهل الضلالة والبدع من هذه الأمة.
وهو قول أبي هريرة والمروي عن عائشة.
حذرهم الله تعالى من تفرق الكلمة ودعاهم إلى الاجتماع على ما تقوم عليه
328

الحجة. والدين الذي فارقوه: قيل فيه قولان:
الحجة. والدين الذي فارقوه. وقيل فيه قولان:
قال أبو علي وغيره: هو الدين الذي امر الله باتباعه وجعله دينا لهم.
الثاني - الدين الذي هم عليه، لانكار بعضهم بعضا بجهالة فيه.
ومعنى الشيع الفرق التي يمالئ بعضهم بعضا على امر واحد مع اختلافهم
في غيره، وقيل أصله الظهور من قولهم: شاع الخبر يشيع إذا ظهر. وقال
الزجاج: أصله الاتباع من قولك: شايعه على الامر إذا اتبعه.
وقوله " لست منهم في شئ " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله واعلام له انه ليس
منهم في شئ، وانه على المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من
مذاهبهم الفاسدة، وليس كذلك بعضهم مع بعض، لأنهم يجتمعون في معنى
من الباطل وان افترقوا في غيره، فليس منهم في شئ، لأنه برئ من جميعه
وقال الفراء: معناه النهي عن قتالهم، ثم نسخ بقوله " فاقتلوا الشركين " (1)
وهو قول السدي.
اخبر الله تعالى ان الذين فرقوا دينهم - وخالفوه وباينوه وصاروا فرقا
يمالئ بعضهم بعضا على أمر واحد مع اختلافهم في غيره - ليس النبي صلى الله عليه وآله منهم
في شئ وانه مباين لهم لفساد ما هم عليه. ثم قال " إنما أمرهم الله. ثم
ينبئهم بما كانوا يعملون " يعني ان الله تعالى هو الذي يخبرهم بأفعالهم
ويجازيهم عليها دون غيره يعني يوم القيامة.
قوله تعالى:
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى
إلا مثلها وهم لا يظلمون (160) آية بلا خلاف.
يجوز في قوله " فله عشر أمثالها " ثلاثة أوجه: الجربا لإضافة، وعليه
جميع القراء الا يعقوب. ورفع (أمثالها) مع التنوين على الصفة، وبه قرأ

(1) سورة 9 التوبة آية 6.
329

الحسن ويعقوب. ونصبه على التمييز، كما تقول عندي خمسة أترابا ذكر
ذلك الزجاج، والفراء.
ومعنى القراءة الأولى، فله عشر حسنات أمثالها، ويجوز في العربية
فله عشر مثلها، فيكون المثل في لفظ الواحد وفى معنى الجمع، كما قال
" انكم إذا مثلهم " (2). ومن قال: أمثالها فهو كقوله " لا يكونوا اما لكم " (3)
وإنما جاز في (مثل) التوحيد في معنى الجمع، لأنه على قدر ما يشبه به،
تقول: مررت بقوم مثلكم وبقوم أمثالكم. وقال الرماني: كلما لم يتميز
بالصورة فان جمعه يدل على الاختلاف، كقولك: رمال ومياه، فأما (رجال)
فلا يدل على الاختلاف، لأنه يتميز بالصورة، ويجوز أن يكون (المثل) في
موضع الجمع ولا يجوز مثل ذلك في (العدل) لان (المثل) لا يضاف إلى الجماعة
الاعلى معنى انه مثل لكل واحد منهم. وليس كذلك (العدل) لأنه يكون
لجماعتهم دون كل واحد منهم.
وقال أكثر أهل العدل ان الواحد من العشرة مستحق وتسعة تفضل.
وقال بعضهم: المعنى فله من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها، وهذا لا يجوز،
لأنه يقبح ان يعطي غير العامل مثل ثواب العامل كما يقبح ان يعطي الأطفال
مثل ثواب الأنبياء ومثل اجلالهم واكرامهم وان يرفع منزلتهم عليهم.
وإنما لم يتوعد على السيئة الا بمثلها، لان الزائد على ذلك ظلم. والله
يتعالى عن ذلك، وزيادة الثواب على الجزاء تفضل واحسان فجاز ان يزيد
عليه. قال الرماني: ولا يجوز على قياس عشرة أمثالها عشر صالحات بالإضافة
لان المعنى ظاهر في أن المراد عشر حسنات أمثالها، وقال غيره لان الصالحات
لا تعد، لأنها أسماء مشتقة. وإنما تعد الأسماء. و (المثل) اسم فلذلك جاز
العدد به، وقال الرماني: دخول الهاء في قوله (الحسنة) يدل على أن تلك
الحسنة ما هو مباح لا يستحق عليه المدح والثواب. ولو قيل: دخول الألف

(2) سورة 4 النساء آية 139
(3) سورة 47 محمد آية 38.
330

واللام فيها يدل على أن الحسنة هي المأمور بها، ودخلا للعهد، والله لا يأمر
بالمباح، لكان أقوى مما قاله، ويجوز أن يكون التفضل مثل الثواب في العدد
والكثرة، ويتميز منه الثواب بمقارنة التعظيم والتبجيل اللذين لولاهما لما حسن
التكليف. وإنما قلنا: يجوز ذلك لان وجه حسن ذلك: الاحسان والتفضل،
وذلك حاصل في كل قدر زائد. وفي الناس من منع من أن يساوي التفضل
الثواب في باب الكثرة. والصحيح ما قلناه أولا.
فان قيل: كيف تجمعون بين قوله " فله عشر أمثالها " وبين قوله " مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة
مئة حبة " (1) وقوله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا
كثيرة " (2) ولان المجازاة بدخول الجنة مثابا فيها على وجه التأبيد، لا نهاية
له، فكيف يكون ذلك عشر أمثالها، وهل هذا الا ظاهر التناقض؟؟!
قلنا: الجواب عن ذلك ما ذكره الزجاج وغيره: ان المعنى في ذلك ان جزاء
الله على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقيد في
النفوس، ويضاعف الله عن ذلك بما بين عشرة اضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى
أضعاف كثيرة، ففائدة ذلك أنه لا ينقص من الحسنة عن عشر أمثالها، وفيما
زاد على ذلك يزيد من يشاء من فضله واحسانه.
وقال قوم: المعنى من جاء بالحسنة فله عشر أمثال المستحق عليها، والمستحق
مقداره لا يعلمه الا الله وليس يريد بذلك عشر أمثالها في العدد، كما يقول
القائل للعامل الذي يعمل معه: لك من الاجر مثل ما عملت اي مثل ما تستحقه
بعملك.
وقال آخرون: المعنى في ذلك ان الحسنة لها مقدار من الثواب معلوم لله
تعالى فأخبر الله تعالى انه لا يقتصر بعباده على ذلك بل يضاعف لهم الثواب حتى
تبلغ ذلك ما أراد وعلم أنه أصلح لهم، ولم يرد العشرة بعينها لكن أراد الأضعاف

(1) سورة 2 البقرة آية 261
(2) سورة 2 البقرة آية 245.
331

كما يقول القائل: لئن أسديت إلي معروفا لأكافينك بعشرة أمثاله، وعشرة
اضعافه. وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشرة، وليس يريدون بذلك
العدد المعين لا أكثر منها، وإنما يريدون ما ذكرناه.
وقال قوم: عني بهذه الآية الاعراب، واما المهاجرون فحسناتهم سمع مئة،
ذهب إليه أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر.
وقال قوم: معنى " عشر أمثالها " لأنه كان يؤخذ منهم العشر في الزكاة،
وكانوا يصومون في كل شهر ثلاثة أيام والباقي لهم.
وقال قوم " من جاء بالحسنة " يعني الايمان، فله يعني للايمان عشر
أمثالها، وهو ما ذكره في قوله " ان المسلمين والمسلمات... " (1) إلى آخر
الآية. وهذان الوجهان قريبان، والمعتمد ما قدمناه من الوجوه.
وقال أكثر المفسرين: ان السيئة المذكورة في الآية هي الشرك، والحسنة
المذكورة فيها هي التوحيد واظهار الشهادتين.
فان قيل كيف يجوز الزيادة في نعم المثابين مع أن الثواب قد استغرق
جميع مناهم وما يحتملونه؟
قلنا عنه جوابان: أحدهما - انه ليس للمنية نهاية مما يحتمله من اللذات.
والثاني - ان يزاد في البنية والقوة مثل أن يزاد في قوة البصر حتى يرى الجزء
الذي لا يتجزء وان لم يزد في اخفاء الانسان.
قوله تعالى:
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم (161) دينا قيما ملة
إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (162) آيتان.
قرأ ابن عامر وأهل الكوفة " قيما " بكسر القاف وتخفيف الياء وفتحها.
الباقون بفتح القاف مع تشديد الياء.

(1) سورة 33 الأحزاب آية 35.
332

من قرأ بتشديد الياء فحجته قوله " وذلك دين القيمة " (1) كأنه قال دين
الملة القيمة، ويكون وصفا للدين إذا كان نكرة، كما كان وصفا للملة، لان
الملة هي الدين. قال أبو الحسن: قال أهل المدينة " دينا قيما " وهي حسنة،
ولم اسمعها من العرب. قال أبو الحسن: وهو في معنى المستقيم.
فأما من قرأ بالتخفيف، فإنه أراد المصدر، مثل الشبع، ولم يصحح
(عوض وحول). قال الزجاج: لأنه جاء على (فعل) معتل، وهو (قام)
والأصل (قوم، أقوم قوما) قال أبو علي: وكان القياس يقتضى ان يصحح،
لكنه شذ عن القياس، كما شذ (أشياء) ونحوه عن القياس نحو (ثيرة) في
جمع (ثور) ونحو (جياد) في جم‍ (جواد) وكان القياس الواو، كما قالوا:
طويل وطوال قال الأعشى:
جيادك فالصيف في نعمة تصان * الجلال وتعطى الشعيرا (2)
وقوله " دينا قيما " يحتمل نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها - أنه قال " انني هداني ربي إلى صراط مستقيم " واستغنى
بجري ذكر الفعل عن ذكره، فقال " دينا قيما " كما قال " اهدنا الصراط
المستقيم ".
والثاني - نصبه على تقدير عرفني، لان هدايتهم إليه تعريف لهم فحمله
على عرفني دينا قيما.
وقال الزجاج: معناه عرفني دينا قيما. ان شئت حملته على الاتباع كما
قال " اتبعوا ما أنزل " (3) وقال الفراء: هو نصب على المصدر، كأنه قال
هداني اهتداء، ووضع (دينا) موضعه.
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول للخلق وخاصة لهؤلاء الكفار " انني
هداني ربي " وقيل في معنى الهداية قولان:

(1) سورة 98 البينة آية 5
(2) ديوانه: 17
(3) سورة 2 البقرة آية 170.
333

أحدهما - قال أبو علي: أراد بالهداية الدلالة وأضافه إلى نفسه دونهم،
وإن كان قد هداهم أيضا، لأنه اهتدى دونهم.
وقال غيره: أراد به لطف لي ربي في الاهتداء.
و " إلى صراط مستقيم " قد فسرناه في غير موضع. وانه الطريق الموصل
إلى ثواب الله من غير اعوجاج، وإنما قال " إلى صراط مستقيم " - ههنا -
وقال في موضع آخر " ويهديك صراطا مستقيما " (4)، لأنه إذا ضمن معنى
النهاية دخلت (إلى) وإذا لم تضمن لم تدخل (إلى) وصار بمعنى عرفني.
والأول بمنزلة ارشدني، وإنما كرر (مستقيم، وقيم) للمبالغة، كأنه قال:
هو مستقيم على نهاية الاستقامة. وقوله " ملة إبراهيم فالملة الشريعة وهي
مأخوذة من الاملاء " كأنه ما يأتي به السمع ويورده الرسول من الشرائع
المتجددة فيمله على أمته ليكتب أو يحفظ.
فأما التوحيد والعدل فواجبان بالعقل، ولا يكون فيهما اختلاف.
والشرائع تختلف، ولهذا يجوز ان يقال ديني دين الملائكة. ولا يقال ملتي ملة
الملائكة. والملة دين، وليس كل دين ملة. وإنما وصف دين النبي صلى الله عليه وآله بأنه
ملة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب لجلالة إبراهيم في نفوسهم وغيرهم من أهل الأديان.
وقوله " حنيفا " معناه مخلصا لعبادة الله في قول الحسن. واصله الميل
من قولهم: رجل أحنف إذا كان مائل القدم باقبال كل واحدة منهما على الأخرى
من خلقة لا من عارض. وقال الزجاج: الحنيف هو المائل إلى الاسلام ميلا
لازما لا رجوع معه. وقال أبو علي: أصله الاستقامة. وإنما جاء أحنف)
على التفاؤل " وما كان من المشركين " يعني إبراهيم (ع) و " حنيفا " نصب
على الحال من (إبراهيم) و " ملة أبيكم " نصب على المصدر - في قول الفراء -
وقال الزجاج: هو بدل من قوله " دينا قيما ".

(4) سورة 48 الفتح آية 20.
334

قوله تعالى:
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا
شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (163) آية.
أسكن الياء من " محياي " أهل المدينة. قال أبو علي الفارسي: اسكان
الياء من (محياي) شاذ خارج عن القياس والاستعمال، فشذوذه عن القياس
ان فيه التقاء الساكنين، ولا يلتقيان على هذا الحد، وشذوذه عن الاستعمال
انك لا تجده في نظم ولا نثر الا شاذا. ووجهه ما حكى بعض البغداديين انه
سمع أو حكي له: التقت حلقتا البطان باسكان الألف مع سكون لام المعرفة،
وحكى غيره: له ثلثا المال وليس هذا مثل قوله " حتى إذا اداركوا فيها (1)
لان هذا في المنفصل مثل دأبه في المتصل. ومثل ما أجاز يونس من قوله:
اضربان زيدا، وسيبويه ينكر هذا من قول يونس. قال الرماني: ولو وصله
على نية الوقف جاز.
امره ان يقول لهؤلاء الكفار " ان صلاتي ونسكي " وقد فسرنا معنى
الصلاة فيما مضى.
وقيل في معنى و " نسكي " ثلاثة أقوال:
أحدها - قال سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك: ذبيحتي
في الحج والعمرة. وقال الحسن (نسكي) ديني. وقال الزجاج والجبائي
" نسكي " عبادتي. قال الزجاج: والأغلب عليه امر الذبح الذي يتقرب به
إلى الله. ويقولون: فلان ناسك بمعنى عابد. وإنما ضم الصلاة إلى أصل
الواجبات من التوحيد والعدل لان فيها التعظيم لله عند التكبير، وفيها تلاوة
القرآن التي تدعو إلى كل بر، وقرر فيها الركوع والسجود وهما خضوع لله.
وفيها التسبيح وهو تنزيه لله.

(1) سورة 7 الأعراف آية 37.
335

وقوله " ومحياي ومماتي " يقولون حيي يحيا حياة ومحيا، ومات يموت
موتا ومماتا. وإنما جعل للفعل الواحد مصادر في الثلاثي لقوته، ولأنه الأكثر
الأغلب. وإنما جمع بين صلاته وحياته، وأحدهما من فعله، والاخر من فعل
الله، لأنهما جميعا بتدبير الله تعالى وإن كان أحدهما من حيث ايجاده واعدامه
لما فيه من الصلاح. ووجه ضم الموت إلى أصل الواجب الرغبة إلى من يقدر
على كشفه إلى الحياة في النعيم الدائم بطاعته في أداء الواجبات.
وقوله " لا شريك له " فالشركة هي تلك؟؟، فلما كان عبدة الأوثان
جعلوا العبادة على هذه الصفة كانوا مشركين في عبادة الله، فأمر الله ان ينفي
عنه هذا الشرك ويقول " لا شريك له ". والمعنى لا يستحق العبادة سواه.
ثم امره بأن يقول اني أمرت بذلك يعني بنفي الاشراك مع الله وتوجيه العبادة إليه
تعالى وحده " وانا أول المسلمين " قال الحسن: معناه أول المسلمين من هذه
الأمة. وبه قال قتادة وبين ذلك لوجوب اتباعه صلى الله عليه وآله ولبيان فضل الاسلام
إذا كان أول مسارع إليه نبينا صلى الله عليه وآله ومعنى الآية وجوب نفي الشرك عن الله
ووجوب اعتقاد بطلانه واخلاص العبادة إليه تعالى.
قوله تعالى:
قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل
نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم
مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164) آية
امر الله تعالى نبيه ان يخاطب هؤلاء الكفار، ويفون على وجه الانكار
لفعلهم " أغير الله أبغي " أي أتخذ " ربا " معبودا؟! فالكلام خرج مخرج
الاستفهام، والمراد به الانكار، لأنه؟؟ لصاحبه الا بما هو قبيح، لان
تقديره أيجوز أن اطلب الضر والنفع بعبادتي ممن هو مربوب مثلي؟!
336

عادلا بذلك عن رب كل شئ وليس بمربوب؟! أم هذا قبيح في العقول؟ وهو
لازم لكم على عبادة الأوثان. والرب إذا أطلق أفاد المالك لتصريف الشئ
بأتم التصريف وإذا أضيف فقيل رب الدار، ورب الضيعة، فمعناه المالك
لتصريفه بأتم تصريف العباد واصله التربية وهي تنشئة الشئ حالا بعد حال حتى يصير
إلى الكمال. ثم صرف إلى معنى الملك لهذه الأحوال من الشئ وما جرى مجراها.
والفرق بين الرب والسيد، أن السيد هو المالك لتدبير السواد الأعظم، والرب
المالك لتدبير الشئ حتى يصير إلى الكمال مع اجرائه على تلك الحال.
وقوله " ولا تكسب كل نفس الا عليها " معناه لا يكون جزاء عمل كل نفس
الا عليها. ووجه اتصاله بما قبله أنه لا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه
من ذلك، لأنه ليس بعذر لي في اكتساب غيري له، لأنه " لا تزر وازرة وزر
أخرى " وقيل: ان الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وآله اتبعنا، وعلينا وزرك إن كان
خطأ، فأنزل الله الآية. وفيها دلالة على فساد قول المجبرة من وجهين:
أحدهما - ان قوله " ولا تزر وازرة وزر أخرى " يدل على أنه لا يعذب
الطفل بكفر أبيه.
والثاني - أنه لا يعذب أحدا بغير ذنب كان منه، لأنهما سواء في أن
كل منهما مستحق. وتقول: وزر يزر وزرا، ووزر، يوزر، فهو
موزور، وكله بمعنى الاثم. والوزر الملجأ. ومنه قوله " كلا لا وزر " (1)
فحال الموزور كحال الملتجئ من غير ملجأ. ومنه الوزير لان الملك يلتجئ إليه
في الأمور. وقيل: أصله الثقل، ومنه قوله " ووضعنا عنك وزرك " (2)
وكلاهما محتمل " ثم إلى ربكم مرجعكم " يعني مالككم ومصيركم إلى الله
في يوم لا يملك فيه الامر غيره تعالى.
وقوله " فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " معناه انه يخبركم بالحق فيما
اختلفتم فيه من الباطل، فيظهر المحسن من المسئ بما يزول معه الشك، والارتياب

(1) سورة 75 القيامة آية 11
(2) سورة 94 الانشراح آية 2.
337

ويقع معه الندامة في وقت قد فات فيه استدراك الخطيئة، فمعنى الآية الحجة
على أن كل شئ سوى الله فالله ربه من كل وجه يصح منه الربوبية، وفيها دلالة
على فساد قول المجبرة: ان الله يعذب على غير ذنب.
قوله تعالى:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق
بعض درجات ليبلوكم في ما آتيكم إن ربك سريع العقاب
وإنه لغفور رحيم (165) آية.
اخبر الله تعالى انه الذي جعل الخلق خلائف الأرض، ومعناه ان كل أهل
عصر يخلفون أهل العصر الذي قبله كلما مضى واحد خلفه آخر على انتظام
واتساق وذلك يدل على مدبر أجراه على هذه الصفة قال الشماخ:
تصيبهم وتخطيني المنايا * وأخلف في ربوع عن ربوع (3)
وواحد الخلائف خليفة، مثل صحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن،
ووصيفة ووصائف، هذا قول الحسن والسدي. وقال قوم: معناه انه جعلهم
خلفاء الجان قبل آدم. وقال آخرون معناه والمراد به أمة نبينا صلى الله عليه وآله لان الله
جعلهم خلفاء سائر الأمم.
وقوله " ورفع بعضكم فوق بعض درجات " وجه الحكمة في ذلك مع أنه
يخلقهم كذلك ابتداء من غير استحقاق بعمل يوجب التفاضل بينهم ما فيه من
الألطاف الداعية إلى الواجبات والصارفة عن القبائح، لان من كان غنيا في ماله
شريفا في نسبه قويا في جسمه ربما دعاه ذلك إلى طاعة من يملكها رغبة فيها.
والحال في أضدادها ربما كان دعته إلى طاعته رهبة منها ومن أمثالها ورجاء
أن ينقل عنها إلى حال جليلة يغتبط عليها وقال السدي: رفع بعضهم فوق

(3) ديوانه 58 واللسان (ربع) وتفسير الطبري 12 / 288.
338

بعض في الرزق وقوة الأجسام وحسن الصورة، وشرف الانسان. وغير ذلك
بحسب ما علم من مصالحهم. وقوله " درجات " يحتمل نصبه ثلاثة أشياء:
أحدها - ان يقع موقع المصدر كأنه قال رفعة فوق رفعة.
الثاني - إلى درجات، فحذفت (إلى) كما في قولهم: دخلت البيت،
وتقديره دخلت إلى البيت.
الثالث - أن يكون مفعولا من قولك: ارتفع درجة ورفعته درجة مثل
اكتسى ثوبا وكسوته ثوبا.
وقوله " ليبلوكم فيما آتاكم " معناه فعل بكم ذلك ليجزيكم فيما أعطاكم.
والقديم تعالى لا يبتلي خلقه ليعلم ما لم يكن عالما به، لأنه تعالى عالم بالأشياء
قبل كونها. وإنما قال ذلك، لأنه يعامل معاملة الذي يبلو، مظاهرة في العدل.
وانتفاء من الظلم.
وقوله " ان ربك سريع العقاب " إنما وصف نفسه بأنه سريع العقاب مع
وصفه تعالى بالامهال ومع أن عقابه في الآخرة من حيث كان كل آت قريبا،
فهو إذا سريع، كما قال " وما أمر الساعة الا كلمح البصر أو هو أقرب " (1)
وقد يكون سريع العقاب بمن استحقه في دار الدنيا، فيكون تحذير الواقع في
الخطيئة على هذه الجهة. وقيل معناه انه قادر على تعجيل العقاب، فاحذروا
معاجلته. وإنما قابل بين العقاب والغفران ولم يقابل بالثواب، لان ذلك ادعى
إلى الاقلاع عما يوجب العقاب، لأنه لو ذكر الثواب لجاز ان يتوهم انه لمن
لم يكن فيه عصيان.

(1) سورة 16 النحل آية 77.
339

7 - سورة الأعراف
قال قتادة سورة الأعراف مكية. وقال قوم: هي مكية إلا قوله " واسألهم
عن القرية " (1) إلى آخر السورة.
وقال قوم هي محكمة كلها. وقال آخرون حرفان منها منسوخان أحدهما
قوله " خذ العفو ") يريد من أموالهم وذلك قبل الزكاة. والاخر قوله
" واعرض عن الجاهلين " (3) نسخ بآية السيف (4).
وقال قوم ليس واحد منهما منسوخا بل لكل منهما موضع والسيف له
موضع. وهو الأقوى، لان النسخ يحتاج إلى دليل.
بسم الله الرحمن الرحيم.
المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه
لتنذر به وذكرى للمؤمنين (1) آيتان في الكوفي وآية فيما عداه
قد بينا في أول سورة البقرة اختلاف المفسرين في أوائل السور بالحروف
المقطعة، وقلنا: ان الأقوى من ذلك قول من قال: انها أسماء للسور، وهو
قول الحسن والبلخي والجبائي، وأكثر المحصلين. وروي عن ابن عباس أنه
قال: هي اختصار من كلام لا يفهمه الا النبي صلى الله عليه وآله قال الشاعر:

(1) آية 162
(2) آية 198.
(3) آية 198.
(4) يريد الآية 6 من سورة التوبة.
340

نادوهم أن الجموا ألا تا * قالوا جميعا كلهم ألافا (1)
يريد ألا تركبون قالوا فاركبوا. وبني قوله " المص " على السكون في
الوصل مع أن قبله ساكنا، لان حروف الهجاء توصل على نية الوقف، لأنه
يجزي على تفصيل الحروف، للفرق بينها وبين ما وصل للمعاني، وكأن مجموع
الحروف يدل على معنى واحد، ومتى سميت رجلا ب‍ (المص)، وجبت
الحكاية. فان سميته ب‍ (صاد) أو (قاف) لم يجب ذلك، لان صاد،
وقاف، لهما نظير في الأسماء المفردة، مثل، باب، وناب، ونار. وليس كذلك
(المص) لأنه بمنزلة الجملة، وليس له نظير في المفرد. وإنما عد الكوفيون
" المص " آية، ولم يعدوا صلى الله عليه وآله لان " المص " بمنزلة الجملة مع أن آخره على
ثلاثة أحرف بمنزلة المردف، فلما اجتمع هذان السببان، وكل واحد منهما
يقتضي عده عدوه. ولم يعدوا (المر) لان آخره لا يشبه المردف. ولم يعدوا
صلى الله عليه وآله لأنه بمنزلة اسم مفرد، وكذلك (ق) و (ن).
وإنما سميت السورة بالحروف المعجمة، ولم تسم بالأسماء المنقولة
لتضمنها معاني أخرى مضافة إلى التسمية، وهو أنها فاتحة لما هو منها، وأنها
فاصلة بينها وبين ما قبلها، ولأنه يأتي من التأليف بعدها ما هو معجز مع أنه
تأليف كتأليفها، فهذه المعاني من أسرارها.
وقيل في موضع (المص) من الاعراب قولان:
أولهما - انه رفع بالابتداء وخبره كتاب، أو أن يكون على هذه (المص)
في قول الفراء.
الثاني - لا موضع له، لأنه في موضع جملة على قول ابن عباس، كأنه
قال: أنا الله أعلم وافصل - اختاره الزجاج.
وقوله " كتاب انزل إليك " قيل في العامل في قوله " كتاب " ثلاثة أقوال:
أحدها - هذا كتاب، فحذف لأنها حال إشارة وتنبيه.

(1) مر في 1 / 470 وهو في تفسير القرطبي 1 / 135.
341

الثاني - " المص كتاب " على أنه اسم للسورة وكتاب خبره.
وقال الفراء: رفعه بحروف الهجاء، لأنها قبله، كأنك قلت الألف واللام
والميم والصاد، من الحروف المقطعة كتاب أنزل إليك مجموعا، فنابت (المص)
عن جميع حروف المعجم، كما تقول: أ، ب، ت، ث ثمانية وعشرون حرفا.
وكذلك تقول قرأت الحمد، فصار اسما لفاتحة الكتاب.
وقوله " فلا يكن في صدرك حرج " يحتمل دخول الفاء وجهين:
أحدهما - أن يكون عطفا وتقديره إذا كان أنزل إليك لتنذر به، فلا
يكن في صدرك حرج منه، فيكون محمولا على معنى إذا.
والثاني - ان النهي وإن كان متناولا للحرج، فالمعني به المخاطب، نهي
عن التعرض للحرج، وجاز ذلك لظهور المعنى ان الحرج لا ينهى، وكان مخرج
له برده إلى نهي المخاطب أبلغ، لما فيه من أن الحرج لو كان مما ينهي له لنهيناه
عنك، فأنته أنت عنه بترك التعرض له.
وقيل في معنى الحرج في الآية ثلاثة أقوال:
قال الحسن: معناه الضيق أي لا يضيق صدرك لتشعب الفكر بك خوفا
ألا تقوم، بحقه، وإنما أنزل إليك لتنذر به.
الثاني - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: ان معناه الشك ههنا
والمعنى لا تشك فيما يلزمك له فإنما أنزل إليك لتنذر به.
الثالث - قال الفراء: لا يضيق صدرك بأن يكذبوك، كما قال - عز
وجل - " فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ".
وقوله " لتنذر به " يعني لتخوف بالقرآن. وقال الفراء والزجاج وأكثر
أهل العلم: هو على التقديم والتأخير، وتقديره أنزل إليك لتنذر به وذكرى
للمؤمنين، والذكرى مصدر ذكر يذكر تذكيرا، فالذكرى اسم للتذكير وفيه
مبالغة، ومثله الرجعى، وقيل في موضعه ثلاثة أقوال:
أولها - النصب على أنزل، للانذار وذكرى، كما تقول جئتك للاحسان
وشوقا إليك.
342

الثاني - الرفع بتقدير وهو ذكرى.
الثالث - قال الزجاج: يجوز فيه الجر، لان المعنى، لان تنذر وذكرى.
قال الرماني: هذا ضعيف، لأنه لا يجوز ان يحمل الجر على التأويل، كما
لا يجوز مررت به وزيد.
قوله تعالى:
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء
قليلا ما تذكرون (2) آية
قرأ حمزة، والكسائي وحفص " تذكرون " بتخفيف الذال بتاء واحدة.
الباقون بالتشديد الا ابن عامر، فإنه قرأ يتذكرون بياء وتا، قال الزجاج:
التخفيف على حذف التاء الثانية كراهة اجتماع ثلاثة أحرف متقاربة، كما قالوا
استطاع يستطيع، فحذفوا إحدى الثلاثة المتقاربة دون الأول، لان الأول
بمعنى الاستقبال، لا يجوز حذفها، والثانية يدل عليها تشديد العين.
ومن قرأ بتشديد الذال، فأصله تتذكرون فأدغم التاء في الذال لقرب
مخرجهما، لان التاء مهموسة والذال مجهورة. والمجهورة أزيد صوتا وأقوى
من المهموس فحسن ادغام الأنقص في الأزيد. ولا يسوغ ادغام الأزيد في
الأنقص، ألا ترى ان الصاد وأختيها لم يدغمن في مقاربهن لما فيهن من
زيادة الصفير.
وقراءة ابن عامر بالياء والتاء: انه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله أي قليلا ما
يتذكرون هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب.
قوله " اتبعوا " خطاب من الله للمكلفين وأمر منه بأن يتبعوا ما أنزل
عليهم من القرآن. ويحتمل أن يكون المراد قل لهم يا محمد: اتبعوا ما أنزل
إليكم، لأنه قال قبل ذلك " لتنذر به " وكان الخطاب متوجها إليه. والاتباع
تصرف الثاني بتصريف الأول وتدبيره، فالأول امام والثاني مؤتم. والفرق
343

بين الاتباع والاتباع ان أحدهما يتعدى إلى مفعول، والثاني يتعدى إلى
مفعولين، تقول: اتبعت زيدا وأتبعت زيدا عمرا. ووجوب الاتباع فيما
أنزل الله يدخل فيه الواجب والندب والمباح، لأنه يجب ان يعتقد في كل جنس
ما أمر الله به، كما يجب ان يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه.
وقوله " ولا تتبعوا من دونه أولياء " نهي من الله ان يتبعوا من دون الله
ويتخذوا أولياء. وأولياء جمع ولي وهو ضد العدو، وهو يفيد الأولى ويفيد
الناصر وغير ذلك مما بيناه فيما مضى (1).
وقوله " قليلا ما تذكرون " معناه الاستبطاء في التذكر، وخرج مخرج
الخبر وفيه معنى الامر، ومعناه تذكروا كثيرا مما يلزمكم من أمر دينكم، وما
أوجبه الله عليكم. وأخبر انهم قليلا ما يتذكرون و (ما) زائدة، وتذكر
معناه أخذ في التذكر شيئا بعد شئ مثل تفقه وتعلم، ويقال: تقيس إذا
انتمى إلى قيس، ولم يكن منهم، لأنه يدخل نفسه فيهم شيئا بعد شئ.
قوله تعالى:
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون (3)
آية بلا خلاف.
(كم) لفظة موضوعة للتكثير و (رب) للتقليل. وإنما كان كذلك،
لان (رب) حرف، و (كم) اسم. والتقليل ضرب من النفي و (كم) تدخل
في الخبر بمعنى التكثير. فأما في الاستفهام، فلا، لان الاستفهام موكول إلى
بيان المجيب والخبر إلى بيان المخبر، وإنما دخلها التكثير، لان استبهام العدد
ان يظهر أو يضبط إنما يكون لكثرته في غالب الامر، ف‍ (كم) مبهمة
قال الفرزدق:

(1) سورة البقرة آية 257 في 2 / 313 - 314 وفي سورة المائدة آية 58،
في 3 / 549 وغيرهما كثير.
344

كم عمة لك يا جرير وخالة * فدعاء قد حلبت علي عشاري (2)
فدل ب‍ (كم) على كثرة العمات، وموضع (كم) في الآية رفع بالابتداء
وخبرها (أهلكناها) ولو جعلت في موضع نصب جاز، كقوله " أنأكل
شئ خلقناه بقدر " (3)، والأول أجود.
اخبر الله تعالى - على وجه الترهيب للكفار والايعاد لهم - أنه أهلك
كثيرا من القرى، يعني أهلها بما ارتكبوه من معاصيه، والكفر به، وانه أنزل
عليهم بأسه، يعني عذابه " بيانا " يعني في الليل " أو هم قائلون " يعني في
وقت القيلولة، وهو نصف النهار. وأصله الراحة، فمعنى أقلته البيع أرحته
منه باعفائي إياه من عقده، وقلت إذا استرحت إلى النوم، في وسط النهار:
القائلة. والاخذ بالشدة في وقت الراحة أعظم في العقوبة فلذلك خص
الوقتين بالذكر.
وقيل في دخول الفاء في قوله " فجاءها بأسنا بياتا " ثلاثة أقوال:
أحدها - أهلكناها في حكمنا " فجاءها بأسنا " وقد قيل: هو مثل زرني
واكرمني فان نفس الاكرام هي الزيارة، قال الرماني: وليس هذا مثل ذلك،
لان هذا إنما جاز لأنه قصد الزيارة. ثم الاكرام بها.
والثاني - قال قوم " أهلكناها فجاءها بأسنا " أي فكان صفة اهلاكنا
أن جاءهم بأسنا.
والثالث - أهلكناها فصح انه جاءها بأسنا. وقال الفراء الفاء بمعنى
الواو، وقال الرماني: هذا لا يجوز، لأنه نقل للحرف عن معناه بغير دليل.
وقال بعضهم: ان المعنى أهلكناها بخذلاننا لها عن الطاعة فجاءها بأسنا عقوبة
على المعصية، وهذا لا يجوز لأنه ليس من صفة الحكيم ان يمنع من طاعته
حتى تقع المعصية، ثم يعاقب عليها.

(2) ديوانه 451 وتفسير الطبري 12 / 300 وسيبويه 1 / 253، 293
(3) سورة 54 القمر آية 49.
345

وقوله " أو هم قائلون " قال الفراء: واو الحال مقدرة فيه، وتقديره
أو " وهم قائلون " وإنما حذفت استخفافا. وقال الزجاج وجميع البصريين
لا يحتاج إلى ذلك، لأنه يستغني برجوع الذكر عن الواو، كما يقال: جاءني
زيد راجلا أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى واو، لان
الذكر قد عاد على الأول.
فمعنى الآية ان الله أهلك أهل قريات كثيرة بتمردهم في المعاصي، وحذر
من أن يعمل مثل عملهم فينزل بالعامل مثل ما نزل بهم.
قول تعالى:
فما كان دعويهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا
ظالمين (4) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى انه لم يكن دعاء هؤلاء الذين أهلكهم عقوبة على معاصيهم
وكفرهم في الوقت الذي جاءهم بأس الله، وهو شدة عذابه، ومنه البؤس
شدة الكفر. والبئس الشجاع لشدة بأسه، وبئس من شدة الفساد الذي
يوجب الذم. " الا أن قالوا انا كنا ظالمين " يعني اعترافهم بذلك على نفوسهم واقرارهم
به، وكان هذا القول منهم عند معاينة البأس واليقين بأنه نازل بهم، ويجوز أن يكون
قالوه حين لابسهم طرف منه، لم يهلكوا منه، و (دعواهم) خبر كان
واسمها " ان قالوا " وهو بمعنى قولهم " وهما معرفتان يجوز ان يجعل كل
واحد منهما اسما والاخر خبرا، كما قال " ما كان حجتهم الا ان قالوا " (1)
بالرفع، والنصب، وإنما قد الخبر على الاسم، لان الثاني وقع موقع
الايجاب، والأول موقع النفي، والنفي أحق بالخبر.
والدعوى، والدعاء واحد. وفرق قوم بينهما بأن في الدعوى اشتراكا

(1) سورة 45 الجاثية آية 24.
346

بين الدعاء والادعاء المال وغيره، واصله الطلب قال الشاعر:
ولت ودعواها كثير صخبه (2)
أي دعاؤها، ويجوز ان يقال: اللهم أشركنا في دعوى المسلمين يريد
دعاء المسلمين حكاه سيبويه، قال الشاعر:
وان مذلت رجلي دعوتك اشتفي * بدعواك من مذل بها فيهون (3)
معنى مذلت اي خدرت.
قوله تعالى:
فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (5)
فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (6) آيتان بلا خلاف.
الفاء في قوله " فلنسئلن الذين " عطف جملة على جملة، وقد يكون
لهذا، وقد يكون لعطف مفرد على مفرد، وقد يكون للجواب. وإنما دخلت
الفاء وهي موجبة للتعقيب مع تراخي ما بين الأول والثاني، وذلك
يليق ب‍ (ثم) لتقريب ما بينهما، كما قال " اقتربت الساعة " (4)
وقال " وما أمر الساعة الا كلمح البصر أو هو أقرب " (5)
وقال " أو لم ير الانسان انا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم " (6) وبينهما بعد.
والنون في قوله " فلنسألن " نون التأكيد يتلقى بها القسم، وإنما بني

(2) اللسان (دعا)، وروايته " قالت " بدل (ولت) وفى رواية أخرى
(ولت ودعواها شديد صخبه).
(3) ديوانه 2 / 245 واللسان (مذل) وتفسير الطبري 12 / 304 ونهاية
الإرب 2 / 125. وكانوا يدعون ان الانسان إذا خدرت رجله ودعا باسم من
يحب زال الخدر
(4) سورة 54 القمر آية 1
(5) سورة 16 النحل آية 77
(6) سورة 36 يس آية 77.
347

المضارع مع نون التأكيد، لأنه إنما دخلت عليه طلبا للتصديق، كما أن الامر
طلب للفعل فأدخلت عليه نون التأكيد وتثبت مع الفعل، لأن هذه الزيادة التي
لا تكون للاسم باعدته كما باعدت الألف واللام مالا ينصرف من الفعل، فانصرف.
أقسم الله تعالى في هذه الآية انه يسأل المكلفين الذين ارسل إليهم رسله
واقسم أيضا انه ليسأل الصادقين المرسلين الذين بعثهم، فيسأل هؤلاء عن
الا بلاغ ويسأل أولئك عن الامتثال، وهو تعالى وإن كان عالما بما كان منهم،
فإنما أخرجه مخرج التهديد والزجر ليتأهب العباد ويحسنوا الاستعداد
لذلك السؤال.
وحقيقة السؤال طلب الجواب بأداته في الكلام، وحقيقة الاستخبار
طلب الخبر بأداته في الكلام.
وقوله " فلنقصن عليهم بعلم " قسم آخر، واخبار منه تعالى انه يقص
عليهم بما عملوه فإنه علم جميع ذلك. وإنما ذكره بنون الجمع لاحد أمرين:
أحدهما - ان هذا على كلام العظماء من الملوك لان أفعالهم تضاف
إلى أوليائهم.
والثاني - ان الملائكة تقص عليهم بأمر الله.
وقال ابن عباس نقص عليه بما نجده في كتاب عمله.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (ان الله يسأل كل أحد بكلامه له ليس
بينه وبينه ترجمان) والقص ما يتلو بعضه بعضا. ومنه المقص، لان قطعه
يتلو بعضه بعضا، ومنه القصة من الشعر، والقصة من الكتاب، ومنه القصاص
لأنه يتلو الجناية في الاستحقاق، ومنه المقاصة في الحق، لأنه يسقط ما له
قصاصا بما عليه. وإنما دخلت نون التأكيد مع لام القسم في المضارع دون
الماضي، لأنها تؤذن بطلب الفعل الذي تدخل فيه نحو (لأكرمن زيدا) فان
فيه طلب الاكرام بأداته، فالتصديق بالقسم، ولهذا ألزمت النون في طلب
الفعل من جهتين، وفتحت هذه النون ما قبلها في جمع المتكلم، ولم تفتحه في
348

الغائب، لان الضمة يجب ان تبقى لتدل على الواو المحذوفة في (ليقصن)
بالياء وليس كذلك المتكلم، لأنه لا واو فيه.
ومعنى قوله " بعلم " قيل فيه وجهان: أحدهما بأنا عالمون، والاخر
بمعلوم، كما قال " ولا يحيطون بشئ من علمه " (1) أي من معلومه، ووجه
المسألة له والقصص عليهم أنه سؤال توبيخ وتقريع للضالين، وسؤال تذكير
وتنبيه للمؤمنين، فبمقدار ما يغتم أولئك يسر هؤلاء. ثم يسأل الرسل لان
من الأمم من يجحد، فيقول ما جاءنا من بشير ولا نذير، ومنهم من يقول:
والله ربنا ما كنا مشركين.
فان قيل كيف يجمع بين قوله " ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " (2)
وقوله " فلنسألن الذين ارسل إليهم "؟
قلنا فيه قولان: أحدهما - انه نفى ان يسألهم سؤال استرشاد واستعلام
وإنما يسألهم سؤال توبيخ وتبكيت. الثاني - تنقطع المسألة عند حصولهم
في العقوبة، كما قال " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان " (3) وقال في
موضع آخر " وقفوهم انهم مسؤولون " (4) والوجه ما قلناه انه يسألهم سؤال
توبيخ قبل دخولهم في النار فإذا دخلوها انقطع سؤالهم. والسؤال في اللغة
على أربعة أقسام:
أحدها - سؤال استرشاد واستعلام، كقولك؟ أين زيد؟، ومن عندك؟
وهذا لا يجوز عليه تعالى.
والثاني - سؤال توبيخ وتقريع، وهو خبر في المعنى، كقولك ألم أحسن
إليك فكفرت نعمتني؟ ألم أعطيك فجحدك عطيتي؟!. ومنه قوله تعالى
" ألم أعهد إليكم " (5) وقوله " ألم يأتكم رسل " (6) وقوله " ألم تكن

(1) سورة 2 البقرة آية 256
(2) سورة 28 القصص آية 78.
(3) سورة 55 الرحمن آية 9
(4) سورة 37 الصفافات آية 24.
(5) سورة 36 يس آية 60
(6) سورة الأنعام آية 130 وسورة 39 الزمر آية 71.
349

آياتي تتلى عليكم " (7) وقال الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايا * واندى العالمين بطون راح (8)
ولو كان سائلا لما كان مادحا، وقال العجاج:
* اطربا وأنت قنسري * (9)
معنى قنسري كبير السن، وهذا توبيخ لنفسه أي كيف أطرب مع الكبر والشيب.
الثالث - سؤال التحضيض وفيه معنى (ألا) كقولك: هلا تقوم، وألا
تضرب زيدا أي قم واضرب زيدا.
والرابع - سؤال تقرير بالعجز والجهل، كقولك للرجل: هل تعلم الغيب؟
وهل تعرف ما يكون غدا؟ وهل تقدر ان تمشي على الماء؟ وكما قال الشاعر:
* وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر *
المعنى وليس يصلح العطار ما أفسد الدهر، فإذا ثبت ذلك فقوله " فيومئذ
لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان " (1) وقوله " ولا يسأل عن ذنوبهم
المجرمون " (2) المراد به لا يسألون سؤال استعلام واستخبار ليعلم ذلك من
قولهم، لأنه تعالى عالم بأعمالهم قبل خلقهم. واما قوله " فنسألن الذي ارسل
إليهم ولنسألن المرسلين " وقوله " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا
يعملون " (3) فهو مسألة توبيخ وتقريع، كقوله " ألم أعهد إليكم " (4).
وسؤاله للمرسلين ليس بتوبيخ ولا تقريع لكنه توبيخ للكفار وتقريع لهم
أيضا. واما قوله " فلا انساب بينهم يؤمئذ ولا يتسائلون " (5) فمعناه سؤال

(7) سورة 23 المؤمنون آية 106
(8) قائله حسان وقد مر في 1 / 61، 132، 400 و 2 / 327 وسيأتي في 5 / 319
(9) اللسان (قنسر).
(1) سورة 55 الرحمن آية 39
(2) سورة 28 القصص آية 78.
(3) سورة 15 الحجر آية 92
(4) سورة 36 يس آية 60
(5) سورة 23 المؤمنون آية 102.
350

تعاطي واستخبار عن الحال التي جهلها بعضهم لتشاغلهم عن ذلك، كما قال
" لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " (6) وقوله " واقبل بعضهم على بعض
يتساءلون " (7) فهو سؤال توبيخ وتقريع وتلاوم، كما قال " واقبل بعضهم
على بعض يتلاومون " (8) وكقوله " أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ
جاءكم " (9) وقوله " ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار " (10)
وهذا كثير في القرآن، وليس في شئ من ذلك تضاد بين المسألتين، ولا تنافي
بين الخبرين بل اثبات لسؤال عن شئ آخر ومثله قول الشاعر:
فأصبحت والليل لي ملبس * وأصبحت الأرض بحر اطما
فقوله: وأصبحت والليل لي ملبس لم يرد به الصبح، لأنه لو أراد لما
نفاه ب‍ (والليل لي ملبس) وإنما أراد أصبحت بمعنى أشعلت المصباح وهو
السراج أي أسرجت في ظلمة الليل، فلم يكن خبراه متضادين.
وقوله " وما كنا غائبين " فالغائب البعيد عن حضرة الشئ، ومعناه في
الآية انه لا يخفى عليه شئ وذلك يدل على أنه ليس بجسم، لأنه لو كان
جسما على العرش على ما يذهب إليه المجسمة لكان غائبا عما في الأرضين
السفلى، لان من كان دون هذا بكثير فهو غائب عنا.
قوله تعالى:
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم
المفلحون (7) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا
أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (8) آيتان

(6) سورة 80 عبس آية 37.
(7) سورة 37 الصافات آية 27، 50 وسورة 52 الطور آية 25.
(8) سورة 68 القلم آية 30
(9) سورة 34 سبأ آية 32
(10) سورة 38 ص آية 61.
351

ارتفع قوله " والوزن " بالابتداء، وخبره (الحق)، وهو الوجه المختار.
وقال الفراء: يجوز أن يكون خبره (يومئذ) وينصب (الحق) على المصدر.
وتقديره والوزن يومئذ - يعني في يوم القيامة - حقا، فينصب الحق وإن كان
فيه الألف واللام، كما قال " فالحق والحق أقول " (1) والوزن في اللغة
هو مقابلة أحد الشيئين بالاخر حتى يظهر مقداره، وقد استعمل في غير ذلك
تشبيها به، منها وزن الشعر بالعروض، ومنها قولهم: فلان يزن كلامه وزنا
قال الأخطل:
وإذا وضعت أباك في ميزانهم * رجحوا وشال أبوك في الميزان
وقيل في معنى الوزن في الآية أربعة أقوال:
قال الحسن: موازين الآخرة لها كفتان فالحسنات والسيئات توضعان
فيهما وتوزنان. ثم اختلفوا، فقال بعضهم: إنما توضع صحائف الاعمال
فتوزن، وهو قول عبد الله بن عمر. وقال أبو علي: إنما تتفضل كفة الحسنات
من كفة السيئات بعلامة يراها الناس يومئذ، وذهب عبيد بن عمير إلى أنه
يوزن الانسان فيؤتى بالرجل العظيم الجثة، فلا يزن جناح بعوضة. وقال
مجاهد: الوزن عبارة عن العدل في الآخرة وانه لا ظلم فيها على أحد، وهو
قول البلخي وهو أحسن الوجوه، وبعده قول الجبائي. ووجه حسن ذلك -
وإن كان الله تعالى عالما بمقادير المستحقات - ما فيه من المصلحة في دار
التكليف وحصول الترهيب به والتخويف.
وقوله " يومئذ " يجوز في (يومئذ) الاعراب والبناء، لان اضافته إلى
مبني إضافة غير محضة تقربه من الأسماء المركبة، واضافته إلى الجملة تقربه
من الإضافة الحقيقة. ونون يومئذ لأنه قد قطع عن الإضافة إذ شأن التنوين
ان يعاقبها، وقد قطع (إذ) في هذا الموضع عنها.
و (الحق) وضع الشئ موضعه على وجه تقتضيه الحكمة. وقد

(1) سورة 38 ص آية 84.
352

استعمل مصدرا على هذا المعنى وصفة، كما جرى ذلك في العدل، قال الله
تعالى " ذلك بأن الله هو الحق " (1) فجرى على طريق الوصف.
وقوله " فمن ثقلت موازينه " فالثقل عبارة عن الاعتماد اللازم سفلا
ونقيضه الخفة، وهي اعتماد لازم علوا، ومثلت الاعمال بهما لما ذكر من
المقارنة. والمعنى ان من كانت طاعاته أكثر، فهو من الفائزين بثواب الله.
ومن قلت طاعاته " فأولئك الذين خسروا أنفسهم " بأن استحقوا عذاب الأبد
جزاء على ما كانوا يظلمون أنفسهم بجحود آياتنا وحجتنا.
وقوله " موازينه " فالموازين جمع ميزان، وأصله من الواو، وقلبت ياء
لسكونها وانكسار ما قبلها. ولم يقلب في (خوان) لتحركها وأنها لم تجر على
فعل لها. والخسران ذهاب رأس المال، ومن أعظم رأس المال النفس، فإذا
أهلك نفسه بسوء عمله، فقد خسر نفسه. وظلمهم بآيات الله مثل كفرهم بها
وجحدهم إياها.
قوله تعالى:
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما
تشكرون (9) آية بلا خلاف.
روى خارجة عن نافع همز (معايش) وروي ذلك عن الأعمش، وعبد الرحمن
الأعرج. الباقون غير مهموز.
وعند جميع النحويين أن (معايش) لا يهمز، ومتى همز كان لحنا، لان
الياء فيها أصلية، لأنه من عاش يعيش، ولم يعرض فيها علة كما عرض في
(أوائل) وهي في مدينة) زائدة علة لا تدخلها الحركة كما لا تدخل الألف،
ومثله (مسألة، ومسائل، ومنارة ومنائر، ومقام ومقاوم) قال الشاعر:
واني لقوام مقاوم لم يكن * جرير ولا مولى جرير يقومها

(1) سورة 22 الحج آية 6، 62 وسورة 31 لقمان آية 30.
353

ووزنه (مفعلة) مثل مسورة ومساور، ومن همزها اعتقدها (فعلية)
على وزن (صحيفة) فجمعه أعلى (فعائل) مثل (صحائف) وذلك غلط، لان
الياء أصلها لقولهم عاش يعيش عيشا ومعيشة. قال أبو علي من همز (مدائن)
لم يجعله (مفعلة) ولكنه (فعيلة) بدلالة قولهم: مدني، ولا يجوز أن يكون
(مفعلة) من دان يدين، ومن أخذه من ذلك قال في الجمع مداين، بتصحيح
الياء. واعتل (معيشة) لأنه على وزن (يعيش) وزيادتها تختص بالاسم دون
الفعل، فلم يحتج إلى الفصل بين الاسم والفعل، كما احتيج إليه فيما كان
زيادته مشتركة، نحو الهمزة في (أجاد) و (هو أجود منك)، وموافقة الاسم
لبناء الفعل توجب في الاسم الاعتلال، ألا ترى انهم أعلوا (بابا) و (دارا)
لما كانا على وزن الفعل. وصححوا نحو (حول) و (غيبة) و (لومة) لما لم
تكن على مثال الفعل، ف‍ (معيشة) موافقة للفعل في البناء، مثل (يعيش) في
الزنة، وتكسيرها يزيل مشابهتها في البناء، فقد علمت بذلك زوال المعنى الموجب
للاعلال في الواحد وفى الجمع، فلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في
اللفظ، لان التكسير معنى لا يكون في الفعل، وإنما يختص الاسم به، فإذا
زالت مشابهة الفعل وجب تصحيحه.
ومن همز (مصايب) فإنه غلط، كما غلط من همز (معايش) ومثله جاء
في جمع (مسيل) أمسلة، جاء ذلك في الشعر لبني هذيل، فتوهموه (فعيلة)
وإنما هو (مفعلة) وحكى يعقوب: مسيل وميسل، فالميم على هذا فاء ومسيل
(فعيل)، وعلى الأول (مفعل) من سال.
قال الزجاج: من همز (مصايب) جعل الهمزة بدلا من الواو، كما قالوا:
أقب في (وقب) وهذا ان وقع في أول الكلام. وقد قالوا في (أدور) أدأر،
فهمزوه، فجاز على هذا ان يكونوا حملوا المكسورة على المضمومة.
ويقال: عاش فلان بمعنى حيي، وطيب العيش طيب الحياة، فلهذا كانت
المعيشة مضمنة بالحياة. وحد المعيشة الرماني: بأنها وصلة من جهة مكسب
354

المطعم والمشرب والملبس إلى ما فيه الحياة.
اخبر الله تعالى على وجه الامتنان على خلقه بأصناف نعمه انه مكن عباده
في الأرض بمعنى مكنهم من التصرف فيها، والتمكين اعطاء ما يصح معه الفعل
مع ارتفاع المنع، لان الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى آلة والى
سبب، كما يحتاج إلى رفع المنع، فالتمكين عبارة عن حصول جميع ذلك.
والأرض هذه الأرض المعروفة، وفى الأصل عبارة عن قرار يمكن أن
يتصرف عليه الحيوان، فعلى هذا لو خلق مثلها، لكانت أرضا حقيقة.
وقوله " وجعلنا لكم فيها معايش " فالجعل وجود ما به يكون الشئ
على خلاف ما كان، مثل ان تقول جعلت الساكن متحركا، لأنك فعلت فيه
الحركة، ونظيره التصيير والعمل،. وجعل الشئ أعم من حدوثه، لأنه قد
يكون بحدوث غيره فيه مما يتغير به.
وقوله " قليلا ما تشكرون " نصب قليلا ب‍ (تشكرون)، وتقديره
تشكرون قليلا. و (ما) زائدة. ويحتمل أن تكون مع ما بعدها بمنزلة
المصدر، وتقديره قليلا شكركم. والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من
التعظيم، والحمد مثله. وقيل: الفرق بينهما ان كل شكر حمد، وليس كل
حمد شكرا، لان الانسان يحمد على احسانه إلى نفسه، ولا يشكر عليه، كما أنه
يذم على إساءته إلى نفسه، ولا يجوز ان يكفر من اجل إساءته إلى نفسه.
قوله تعالى:
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا
لادم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (10)
آية بلا خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى لخلقه بأنه خلقهم. والخلق هو احداث الشئ
على تقدير تقتضيه الحكمة، لا زيادة على ما تقتضيه، فيخرج إلى الاسراف،
355

ولا ناقص عنه فيخرج إلى الاقتار. وقد استوفينا اختلاف الصور، والصورة
بنية مقومة على هيئة ظاهرة.
وقوله " ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم " فالسجود هو وضع الجبهة على
الأرض واصله الانخفاض من قول الشاعر:
ترى الاكم فيها سجدا للحوافر (1)
وقيل في معنى السجود لآدم قولان:
أحدهما - انه كان تكرمة لادم وعبادة لله، لان عبادة غير الله قبيحة لا يأمر
الله بها. وعند أصحابنا كان ذلك دلالة على تفصيل آدم على الملائكة على ما بينا
في سورة البقرة. (2) وقال أبو علي الجبائي: أمروا ان يجعلوه قبلة، وأنكر
ذلك أبو بكر بن أحمد بن علي الاخشاد بأن قال: هو تكرمة.، لان الله
تعالى امتن به على عباده، وذكرهم بالنعمة فيه. فان قيل كيف قال " ثم قلنا
للملائكة " مع أن القول للملائكة كان قبل خلقنا وتصويرنا؟
قلنا عن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها - قال الحسن وأبو علي الجبائي: المراد به خلقنا إياكم ثم صورنا
إياكم. ثم قلنا للملائكة، وهذا كما يذكر المخاطب ويراد به أسلافه، وذكرنا
لذلك نظائر فيما مضى، منها قوله " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم
الطور " (3) أي ميثاق اسلافكم. قال الزجاج المعنى ابتدأنا خلقكم بأن خلقنا
آدم، ثم صورناه، ثم قلنا.
الثاني - قال ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والضحاك والسدي:
ان المعنى خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره. ثم قلنا للملائكة.
الثالث - خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة، كما
تقول: اني راحل ثم اني معجل. وقال الأخفش (ثم) ههنا بمعنى الواو، كما

(1) مر في 1 / 263
(2) المجلد الأول صفحة 139.
(3) سورة 2 البقرة آية 63، 93
356

قال " ثم الله شهيد على ما تعملون " ومثله قوله " ثم كان من الذين آمنوا " (4)
على قول بعض المتأخرين معناه وكان من الذين آمنوا، ومثله " استغفروا
ربكم ثم توبوا إليه " (5) على بعض الأقوال معناه وتوبوا إليه، قال الزجاج
هذا خطأ عند جميع النحويين. وقال الشاعر:
سألت ربيعة من خيرها * اباثم اما فقالوا له (6)
معناه سألت أولا عن الأب ثم الام. وقال بعضهم: معناه خلقناكم في
ظهور آبائكم ثم صورناكم في بطون أمهاتكم. وقال قوم: في الآية تقديم
وتأخير، وتقديره خلقناكم بمعنى خلقنا أباكم أي قدرناكم. ثم قلنا للملائكة
اسجدوا. ثم صورناكم.
قوله تعالى:
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني
من نار وخلقته من طين (11) آية بلا خلاف.
هذا حكاية لما كان من خطاب الله لا بليس حين امتنع من السجود لآدم،
أنه قال له " ما منعك " بمعنى اي شئ منعك " ان لا تسجد " وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها - أن تكون (لا) صلة مؤكدة، كما قال " لئلا يعلم أهل الكتاب
" (7) ومعناه ليعلم، كقوله " لا أقسم بيوم القيامة " وكقوله " فلا
أقسم بمواقع النجوم " وكما قال الشاعر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به * نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله (8)
معناه أبى جوده البخل، وروى أبو عمرو بن العلا: أبى جوده لا البخل

(4) سورة 90 البلد آية 17.
(5) سورة 11 هود آية 3، 52، 90
(6) تفسير الطبري 12: 322.
(7) سورة 57 الحديد آية 29
(8) اللسان (نعم) وتفسير الطبري 21 / 224 وأمالي ابن الشجري 2 / 228، 221 وشرح شواهد المغني 217. وقد روي (فاعله) بدل (قاتله) وروي أيضا " قائله ".
357

بالجر، كأنه قال أبى جوده كلمة البخل، ورواه كذا عن العرب. وقال الزجاج:
فيه وجه ثالث لا البخل على النصب بدلا من (لا) كأنه قال أبى جوده ان يقول
(لا) فقال نعم. وهي حكاية في كل هذا.
الثاني - انه دخله معنى ما دعاك ان لا تسجد.
الثالث - معنى " ألا تسجد " ما الحال ان لا تسجد أو ما أحوك.
وقال الفراء لما تقدم الجحد في أول الكلام أكد بهذا، كما قال الشاعر:
ما ان رأينا مثلهن لمعشر * سود الرؤوس فوالج وفيول (9)
ف‍ (ما) للنفي وان) للنفي فجمع بينهما تأكيدا.
فان قيل كيف قال " ما منعك " ولم يكن ممنوعا؟!
قلنا: لان الصارف عن الشئ بمنزلة المانع منه، كما أن الداعي إليه
بمنزلة الحامل عليه.
وقوله " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " حكاية لجواب
إبليس حين ذمه تعالى على الامتناع من السجود، فأجاب بما قال، وهذا
الجواب غير مطابق لأنه كان يجب أن يقول معنى كذا، لان قوله " أنا خير منه "
جواب لمن يقول أيكما خير، ولكن فيه معنى الجواب، ويجري ذلك مجرى
أن يقول القائل لغيره: كيف كنت، فيقول أنا صالح، وكان يجب أن يقول
كنت صالحا لكنه جاز ذلك، لأنه أفاد انه صالح في الحال مع ما كان صالحا
فيما مضى. ووجه دخول الشبهة عليه في أنه خلقه من نار وخلق آدم من طين
أنه ظن أن النار إذا كانت أشرف لم يجز أن يسجد الأشرف للأدون، وهذا
خطأ، لان ذلك تابع لما يعلم الله من مصالح العباد، وما يتعلق به من اللطف

(9) معاني القرآن 1 / 176، 374 وتفسير الطبري 12 / 325. (الفوالج)
جمع (فالج) وهو الجمل ذو سنامين. و (الفيول) جمع (فيل). وكانت
هذه الجمال تجلب من السند، وهي البلاد التي فيها الفيلة.
358

لهم، ولم يكن ذلك استخفافا بهم بالاعمال.
وقد قال الجبائي: إن الطين خير من النار، لأنها أكثر منفعة للخلق من
حيث أن الأرض مستقر الخلق وفيها معايشهم، ومنها تخرج أنواع أرزاقهم
لان الخيرية في الأرض أو النار، إنما يراد بهما كثرة المنافع، دون كثرة الثواب،
لان الثواب لا يكون إلا للمكلف المأمور، وهذان جمادان.
وعلى ما يذهب إليه أصحابنا أن ذلك يدل على تفضيل آدم على الملائكة
وكان ذلك مستحقا، فلذلك أسجد الله الملائكة له.
فإن قيل: لم اعترض إبليس على الله مع علمه أنه لا يفعل إلا الحكمة؟
قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أنه اعترض كما يعترض السفيه على الحكيم الحليم في تدبيره من
غير فكر في العاقبة.
والثاني - أن يكون جهل هذا بشبهة دخلت عليه. وعلى ما نذهب إليه
من أنه لم يكن عرف الله قط سقطت الشبهة.
واستدل أيضا بهذه الآية على أن الجواهر متماثلة بأن قيل: لا شئ أبعد
إلى الحيوان من الجماد، فإذا جاز أن ينقلب الطين حيوانا وإنسانا جاز أن
ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر، لأنه لا فرق بينهما في العقل.
واستدل أيضا بهذه الآية على أن الامر من الله يقتضي الايجاب بأن الله
تعالى ذم إبليس على امتناعه من السجود حين أمره، فلو كان الامر يقتضي
الندب لما استحق العيب بالمخالفة وترك الامتثال، والامر بخلاف ذلك في الآية.
قوله تعالى:
قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك
من الصاغرين (12) آية
قوله " قال فاهبط منها " حكاية لقول الله تعالى لإبليس وأمره إياه أن
359

يهبط منها، وما بعد القول وإن كان استئنافا والفاء لا يستأنف بها وإنما يكون
كذلك، لان ما قيل له بعد جوابه الذي أجاب به، فهو حكاية ما كان من
الكلام له الثاني بعد الأول.
والهبوط والنزول واحد. وفرق بينهما بأن النزول يقتضي تنزله إلى
جهة السفل بمنزلة بعد منزلة، وليس كذلك الهبوط، لأنه كالانحدار
في المرور إلى جهة السفل، وكأن الانحدار دفعة واحدة، كما قال الشاعر:
كل بني حرة مصيرهم * قل وإن أكثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن * أمروا يوما فهم للفناء والفند (1)
وقيل في الضمير الذي في قوله " منها " قولان:
أحدهما - قال الحسن: إنه كناية عن السماء، لأنه كان في السماء
فاهبط منها.
الثاني - قال أبو علي: كناية عن الجنة.
فان قيل من أين علم إبليس أن الله تعالى قال له هذا القول؟
قلنا عنه جوابان: أحدهما - قال أبو علي: إنه قال له على لسان
بعض الملائكة.
الثاني - أنه رأى معجزة تدله على ذلك.
وقوله " فما يكون لك أن تتكبر فيها " معناه ليس لك أن تتكبر فيها،
والتكبر إظهار كبر النفس على جميع الأشياء، فهو في صفة العباد ذم، وفي
صفة الله مدح، كما قال تعالى " الجبار المتكبر " (2) فالجبار القاهر لجميع
الأشياء. والمتكبر الدال بذاته على أنه أكبر من جميع الأشياء. وقوله " فاخرج
إنك من الصاغرين " أمر من الله لإبليس بالخروج، لأنه من الصاغرين.
والصاغر هو الذليل بصغر القدر، صغر يصغر صغرا وصغارا، وتصاغرت إليه
نفسه ذلا ومهانة، والأصل الصغر.

(1) قائلة لبيد وقد مر في 1 / 73
(2) سورة 59 الحشر آية 23.
360

قوله تعالى:
قال أنظرني إلى يوم يبعثون (13) قال إنك من
المنظرين (14) آيتان.
في الآية الأولى حكاية عن إبليس أنه سأل الله تعالى أن ينظره. والانظار
الامهال إلى مدة فيها النظر في الامر طال أمر قصر. والانظار والامهال والتأخير
والتأجيل نظائر في اللغة، وبينها فرق. وضد الامهال الاعجال. وأصل الانظار
المقابلة، وهي المناظرة. و (الجبلان يتناظران) أي يتقابلان، ونظر إليه بعينه
أي قابله لينظر له ونظر إليه بيده، ليظهر له حال في اللين والخشونة أو
الحرارة والبرودة.
وقوله " إلى يوم يبعثون " مدة للانظار الذي طلبه. والبعث الاطلاق في
الامر، والانبعاث الانطلاق. والبعث والحشر والنشر والجمع نظائر.
ويجوز في " يوم يبعثون " ثلاثة أوجه من العربية: بالجر وترك التنوين
على الإضافة، والجر مع التنوين على الصفة. والفتح وترك التنوين على البناء.
وليس بالوجه، لان الفعل معرب.
والوجه في مسألة إبليس الانظار - مع علمه أنه مطرود ملعون مسخوط
عليه - علمه بأن الله يظاهر إلى عباده بالاحسان، ويعمهم بفضله وإنعامه، فلم
يصرف ارتكابه المعصية وإصراره على الخطيئة عن المسألة طامعا في الإجابة،
وعن انس من بلوغ المحبة.
وقيل في قوله " قال إنك من المنظرين " هل فيه إجابة إلى ما التمسه
أم لا؟
فقال السدي وغيره: إنه لم يجبه " إلى يوم يبعثون " لأنه يوم القيامة،
وهو يوم بعث لا يوم موت، ولكن انظر إلى يوم الوقت المعلوم، كما ذكره
في سورة أخرى (1). ويقوي ذلك قوله " إنك من المنظرين " وليس لاحد

(1) سورة 38 ص آية 79 - 81.
361

أن ينظر أحدا إلى يوم القيامة على هذا المعنى.
الثاني - أنه سأل تأخير الجزاء بالعقوبة إلى يوم يبعثون. لما خاف من
تعجيل العقوبة، فأنظر على هذا. وقال قوم: انظر إلى يوم القيامة، والأقوى
الوجه الثاني، لأنه لا يجوز أن يعلم الله أحدا من المكلفين الذين ليسوا
بمعصومين أنه يبقيهم إلى وقت معين، لأنه في ذلك إغراء له بالقبح من حيث
أنه يعلم أنه باق إلى ذلك الوقت فيرتكب القبيح، فإذا قارب الوقت جدد
التوبة فيسقط عنه العقاب.
وهل يجوز إجابة دعاء الكافر أم لا؟ فيه خلاف:
فذهب أبو علي إلى أنه لا يجوز، لما في ذلك في التعظيم والتبجيل لمجاب
الدعوة في مجرى العادة، ألا ترى أنه إذا قيل: فلان مجاب الدعوة دل ذلك
على أنه صالح المؤمنين. وأجاز ذلك أبو بكر بن الاخشاد على وجه
الاستصلاح. وكان يقول: بتفصيل ذلك بحسب الوجه الذي يقع عليه.
وكسرت " إن " لأنها حكاية بعد القول، وهي تكسر في هذا الموضع،
وفي الابتداء بها، وإذا كان في خبرها لام التأكيد. وإنما عملت (إن) لشبهها
بالفعل الماضي من حيث كانت على ثلاثة أحرف مفتوحة الاخر، فهي بمنزلة
(كان) إلا أنه خولف بعملها لأنها حرف.
قوله تعالى:
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (15)
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن
شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (16) آيتان بلا خلاف.
قوله " قال فبما " حكاية عن قول إبليس، لما لعنه الله، وطرده وحكى
سؤاله الانظار، وإجابة الله تعالى إلى شئ منه، قال حينئذ " فبما أغويتني "
أي فبالذي أغويتني. وقيل في معنى هذه الباء ثلاثة أقوال:
362

أحدهما - اني مع اغوائك إياي كما تقول بقيامك تناول هذا أي
مع قيامك.
الثاني - معناه اللام، والتقدير فلاغوائك إياي.
الثالث - أنها بمعنى القسم كقولك بالله لأفعلن.
وقيل في معنى أغويتني ثلاثة أقوال:
أحدها - قال أبو علي والبلخي: معناه بما خيبتني من جنتك، كما
قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يعولا يعدم على الغي لائما (1)
أي من يخب، وقال قوم: يجوز أن يكون أراد إنك امتحنتني بالسجود،
لادم فغويت عنده، فقال (أغويتني) كما قال " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " (2).
الثاني - قال ابن عباس وابن زيد: معناه حكمت بغوايتي كقولك:
أضللتني أي حكمت بضلالتي.
الثالث - أغويتني بمعنى أهلكتني بلعنك إياي، كما قال الشاعر:
معطفة الأثناء ليس فصيلها * برازئها درا ولا ميت غوى (3)
أي ولا ميت هلاكا بالقعود عن شرب اللبن. ومنه قوله " فسوف يلقون
غيا " (4) أي هلاكا. ويقولون: غوى الفصيل إذا أنفذ اللبن فمات. والمصدر
غوى مقصورا وقوله " لأقعدن لهم " جواب القسم. والقسم محذوف،
لان غرضه بالكلام التأكيد، وهو ضد قوله " ص والقرآن ذي الذكر " (5)

(1) مر هذا البيت في 2 / 312 وسيأتي في 5 / 548.
(2) سورة 9 التوبة آية 126.
(3) قائله (مدرج الريح الجرمي) واسمه (عامر بن المجنون)، الشعر
والشعراء: 713، والمعاني الكبير: 1047 والمخصص 7 / 41، 180 وتهذيب
اصلاح المنطق 2 / 54 واللسان (غوى) وتفسير الطبري 12 / 333.
(4) سورة 19 مريم آية 59.
(5) سورة 38 ص آية 2.
363

فإنه حذف الجواب، وهي القسم، لان الغرض تعظيم المقسم به.
وقعوده على الصراط معناه أنه يقعد على طريق الحق ليصد عنه بالاغواء
حتى يصرفه إلى طريق الباطل عداوة له وكيدا.
وقوله " صراطك " المستقيم " قيل في نصب (صراطك) أنه نصب على
الحذف دون الظرف، وتقديره على صراطك، كما قيل ضرب زيد الظهر
والبطن أي على الظهر والبطن قال الشاعر:
لدن بهز الكف يعسل متنه * فيه كما عسل الطريق الثعلب (6)
وقال آخر:
كأني إذا أسعى لا ظفر طائرا * مع النجم في جو السماء يصوب (7)
أي لا ظفر على طائر، وإغواء الله تعالى لإبليس لم يكن سببا لضلاله،
لأنه تعالى علم أنه لو لم يغوه لوقع منه مثل الضلال الذي وقع أو أعظم،
فأما قول من قال: إنه لو كان ما يفعل به الايمان هو ما يفعل به الكفر، لكان
قوله " بما أغويتني " وبما أصلحتني بمعنى واحد، فكلام غير صحيح، لان
صفة الآلة التي يقع بها الايمان خلاف صفتها إذا وقع بها الكفر. وإن كانت
واحدة كالسيف. ولا يجب من ذلك أن تكون صفتها واحدة من أجل أنها
واحدة بل لا يمتنع أنه متى استعمل آلة الايمان في الضلال سمي إغواء،
وإن استعمل في الايمان سمي هداية، وإن كان ما يصح به الايمان والكفر
والضلال واحدا.
وقوله " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم "
قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس وقتادة وإبراهيم بن الحكم والسدي وابن

(6) قائله ساعدة بن جؤية الهذلي ديوانه 1 / 190 وسيبويه 1 / 16، 190
وخزانة الأدب 1 / 474 وتفسير الطبري 12 / 337 وغيرها.
(7) تفسير الطبري 12 / 337.
364

جريج: من قبل دنياهم وآخرتهم. ومن جهة حسناتهم وسيئاتهم.
الثاني - قال مجاهد: من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون.
الثالث - قال البلخي وأبو علي: من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم بها.
وقال ابن عباس: ولم يقل من فوقهم، لان رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم،
ولم يقل من تحت أرجلهم، لان الاتيان منه موحش. وقال أبو جعفر (ع)
" ثم لآتينهم من بين أيديهم " معناه أهون عليهم أمر الآخرة، ومن خلفهم
آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم " وعن أيمانهم "
وأفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة " وعن شمائلهم " بتجيب
اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم.
وقال الزجاج: " من بين أيديهم " معناه أغوينهم حتى يكذبوا بالبعث
والنشور، " ومن خلفهم " حتى يجحدوا ما كان من أخبار الأمم الماضية
والأنبياء السالفة.
وإنما دخلت (من) في الخلف والقدام، و (عن) في اليمين والشمال،
لان في القدام والخلف معنى طلب النهاية، وفي اليمين والشمال الانحراف عن الجهة.
ودخول (ثم) في الكلام: بيان أن هذا المعنى يكون بعد القعود في طريقهم.
وقوله " ولا تجد أكثرهم شاكرين " إخبار من إبليس أن الله لا يجد أكثر
خلقه شاكرين. وقيل: يمكن أن يكون علم ذلك من أحد وجهين:
أحدهما - قال أبو علي: ذلك علمه من جهة الملائكة باخبار الله تعالى إياهم.
الثاني - قال الحسن: يجوز أن يكون أخبر عن ظنه ذلك، كما قال
تعالى " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " لأنه لما أغوى آدم فاستزله، قال ذرية
هذا أضعف منه، وظن أنهم سيجيبونه ويتابعونه.
قوله تعالى:
قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن
جهنم منكم أجمعين (17). آية بلا خلاف.
365

حكي عن عاصم في الشواذ " لمن تبعك " بكسر اللام، ويكون خبره
محذوفا وتقديره لمن تبعك النار، وليس بمعروف.
هذا خبر من الله تعالى أنه " قال أخرج منها " يعني من الجنة " مذؤما " قال ابن
عباس: معناه معيبا. وقال ابن زيد: مذموما، يقال: ذأمه يذأمه ذأما وذامه
يذيمه ذيما وذاما. وقيل الذأم والذيم أشد العيب. ومثله اللوم قال الشاعر:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة * فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها (1)
وأكثر الرواية ألومها. وقوله " مدحورا " فالدحر الدفع على وجه
الهوان والاذلال يقال: دحره يدحره دحرا ودحورا. وقيل الدحر الطرد - في
قول مجاهد والسدي -.
وقوله " لمن تبعك منهم " جواب القسم، وحذف جواب الجزاء في " لمن
تبعك " لان جواب القسم أولى بالذكر من حيث أنه في صدر الكلام، ولو
كان في حشو الكلام، لكان الجزاء أحق منه، كقولك: إن تأتني والله أكرمك،
ولا يجوز أن تكون (من) ههنا بمعنى الذي، لأنها لا تقلب الماضي إلى
الاستقبال، ويجوز أن تقول: والله لمن جاءك أضربه بمعنى لأضربه، ولم يجز
بمعنى لأضربنه، كما يجوز والله أضرب زيدا بمعنى لأضرب ولا يجوز بمعنى
لأضربن، لان الايجاب لابد فيه من نون التأكيد مع اللام على قول الزجاج.
وإنما قال " لأملأن جهنم منكم " بلفظ الجمع وإن كان المخاطب واحدا
على التغليب للخطاب على الغيبة، كما يغلب المذكر على المؤنث، وكما يغلب
الأخف على الأثقل في قولهم: سنة العمرين، لان المفرد أخف من المضاف، لان
المعنى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين، كما ذكره في موضع آخر.
وقوله " أجمعين " تأكيد لقوله " منكم " وهو وإن كان بلفظ الغائب
أكد به المخاطب، لأنه تابع للأول، فإن كان غائبا فهو غائب وإن كان مخاطبا،

(1) قائله (الحارث بن خالد المخزومي) الأغاني (دار الثقافة) 3 / 313
وتفسير الطبري 1 / 265 و 12 / 343.
366

فهو مخاطب وإن كان متكلما، فهو متكلم كقولك: نحن منطلق أجمعون
عامدون، لان الاتباع قد دل على ذلك.
قوله تعالى:
ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما
ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (18) اية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية خطاب الله تعالى لادم وأمره إياه أن يسكن هو
وزوجه حواء الجنة. واختلفوا في الجنة التي أسكن الله آدم فيها.
فقال قوم: إنها جنة الخلد، لان الجنة إذا أطلقت معرفة بالألف واللام
لا يعقل منها في العرف إلا جنة الخلد، كما أن السماوات والأرض إذا أطلق
لم يعقل منه إلا السماوات المخصوصة دون سقف البيت.
وقوله " وزوجك " إنما جاء به على لفظ التذكير، لان الإضافة أغنت
عن ذلك وأبانت عن المعنى، فكان الحذف أحسن، لأنه أوجز يقال: لصاحب
المنزل ساكن فيه، وإن كان يتحرك فيه أحيانا للتغليب، لان سكونه فيه أكثر،
بجلوسه ونومه في ليله. وغير ذلك من أوقاته، وأباح الله تعالى لهما أن يأكلا
من حيث شاءا، وأين شاءا ما شاءا، ونهاهما على وجه الندب ألا تقربا
هذه الشجرة.
وعندنا إن ذلك لم يكن محرما عليهما بل نهاهما نهي تنزيه دون حظر
وبالمخالفة فاتهما ثواب كثير، وإن لم يفعلا بذلك قبيحا، ولا أخلا بواجب.
ومن خالفنا قال أخطأ في ذلك على خلاف بينهم بأن ذلك صغيرة أو كبيرة.
ومن قال كانت صغيرة، منهم من قال: وقع ذلك منه سهوا ونسيانا. ومنهم
من قال: وقع ذلك تأويلا من حيث نهي عن جنس الشجر، فحمله على شجرة
بعينها، فأخطأ في التأويل. وقد بينا فساد ذلك فيما مضى (1).

(1) في المجلد الأول ص 160 - 164.
367

وقوله " فتكونا من الظالمين " يحتمل أن يكون نصبا على جواب النهي.
والثاني - أن يكون جزما عطفا على النهي، فكأنه قال لا تقربا هذه
الشجرة، ولا تكونا من الظالمين. ومعنى " الظالمين " على مذهبنا المراد به
الباخسين نفوسهم ثوابا كثيرا، والمفوتين نعيما عظيما. ومن قال: إنهما ارتكبا
قبيحا قال: ظلما أنفسهما بارتكاب القبيح. وعلى مذهب من يقول بأن ذلك
كانت صغيرة وقعت مكفرة لابد أن يحمل الظلم ههنا على نقصان الثواب
الذي انحبط بمقارنة الصغيرة له، فأبو علي: ذهب إلى أن ذلك وقع منه
نسيانا. وقال البلخي وقع منه تأويلا، لأنه نهي عن جنس الشجرة فتأوله
على شجرة بعينها، وهذا خطأ، لان ما يقطع سهوا أو نسيانا لا يحسن المؤاخذة
به. وأما الخطأ في التأويل فقد زاد من قال ذلك قبيحا آخر. أحدهما ارتكاب
المنهي. والثاني الخطأ في التأويل به.
قوله تعالى:
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من
سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا
ملكين أو تكونا من الخالدين (19) آية بلا خلاف.
قرأ يحيى بن كثير ويعلى بن حكيم " إلا أن تكونا ملكين " بكسر اللام
من قوله " هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " الباقون بفتح اللام.
أخبر الله تعالى أنه لما نهى آدم وزوجته عن أكل الشجرة وسوس لهما
الشيطان. والوسوسة الدعاء إلى أمر بضرب خفي كالهمهمة والخشخشة.
قال رؤبة مراجعة:
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق * سرا وقد أون تأوين العقق (1)

(1) ديوانه: 108 واللسان (؟؟) وهو من أرجوزة يصف بها صائدا
مختفيا يرتقب حمر الوحش.
368

وقال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت * كما استعان بريح عشرق زجل (2)
وقوله " ليبدي لهما " فالابداء الاظهار، وهو جعل الشئ على صفة
ما يصح أن يدرك، وضده الاخفاء وكل شئ أزيل عن الساتر فقد أبدي.
وقوله " ما ووري " فالمواراة جعل الشئ وراء ما يستره. ومثله المساترة،
وضده المكاشفة، ولم يهمز، لان الثانية مدة، ولولا ذلك لوجب الهمز.
وقيل للفرج سوأة، لأنه يسوء صاحبه إظهاره، وكلما قبح إظهاره
سوأة، والسوء من هذا المعنى. وإذا بالغوا قالوا: السوأة السوآء، ولم
يقصد آدم وحواء (عليهما السلام) بالتناول من الشجرة القبول من إبليس
والطاعة له بل إنما قصدا عند دعائه شهوة نفوسهما، ولو قصدا القبول منه
لكان ذلك قبيحا لا محالة. وقال الحسن لو قصدا ذلك لكانا كافرين.
وفرق بين وسوس إليه ووسوس له مثل قولك ألقى إليه المعنى،
ووسوس له معناه أوهمه النصيحة له. فان قيل كيف وصل إبليس إلى آدم
وحواء حتى وسوس لهما؟ وهو خارج الجنة، وهما في الجنة، وهما في السماء
وهو في الأرض؟ قلنا: فيه أقوال.
أحدها - قال الحسن: كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة
فوصلت وسوسته بالقوة التي خلقها الله له.
الثاني - قال أبو علي إنهما كانا يخرجان من السماء فبلغهما وهما هناك.
الثالث - قال أبو بكر بن الاخشيد إنه خاطبهما من باب الجنة وهما فيها.
وقوله " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين " فيه
قولان:
أحدهما - أن فيه حذفا وتقديره إلا أن تكونا ملكين ولستما ملكين.
ومعناه لئلا تكونا ملكين.

(2) ديوانه: 42 القصيدة 6.
369

الثاني - الا كراهة أن تكونا ملكين.
فإن قيل كيف يموه عليهما أن الاكل من الشجرة يوجب الانقلاب من
صورة البشرية إلى صورة الملائكة أو يوجب الخلود في الجنة؟!
قلنا: عن ذلك جوابان:
أحدهما - أنه أوهم أن ذلك في حكم الله في كل من أكل من تلك الشجرة.
الثاني - أنه أراد إلا أن تكونا بمنزلة الملائكة في علو المنزلة.
واستدل جماعة من المعتزلة بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من البشر،
والأنبياء منهم. وهذا ليس بشئ، لأنه لم يجر ههنا ذكر لكثرة الثواب وأن
الملائكة أكثر ثوابا من البشر بل كان قصد إبليس أن يقول لادم ما نهاك الله
عن أكل الشجرة إلا أن تكونا ملكين، فإن كنتما ملكين فقد نهاكما، وحيث
لستما من الملائكة فما نهاكما الله عن أكلها، وتلخيص الكلام أن المنهي من
أكل الشجرة هم الملائكة فقط، ومن ليس منهم فليس بمنهي، ولا تعلق لذلك
بكثرة الثواب ولا بقلته وعلى قول من كسر اللام لام متعلق في الآية ولا شبهة.
والشجرة التي نهي عنها آدم، قال قوم هي الكرمة، وقال آخرون هي
السنبلة. وقيل فيه أقوال غيرهما ذكرناها في سورة البقرة (1).
قوله تعالى:
وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (20) آية بلا خلاف.
المقاسمة لا تكون إلا بين اثنين، والقسم كان من إبليس لادم، لان آدم
مقسم له. وإنما قال وقاسمهما كما يقال: عاقبت اللص طارقت النبل وناولت
الرحل وعافاه الله، وكذلك قاسمته، لان في جميع ذلك معنى المقابلة، كأنه
قابله في المنازعة باليمين والمعاقبة مقابلة بالجزاء وكذلك المعافاة، وقال الهذلي:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم * ألذ من السلوى إذا ما نشورها (2)

(1) في تفسير آية 35 المجلد 1 / 158، 162
(2) ديوان الهذليين 1 / 158 وتفسير الطبري 12 / 350.
370

أي حالفها، وفي موضع آخر " قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله " (3)
أي تحالفوا - وسئل الحسن فقيل له: أليس الله خلق آدم ليكون خليفة في
الأرض قال: بلى، وقال وكان لابد له من أن يهبط الأرض، قال: لا والله،
ولكن لو هبط مطيعا لله كان خيرا له من أن يهبط عاصيا، ولم يعاتبه الله على
الهبوط، وإنما عاتبه على مخالفة الامر. وأصل القسم القسمة، قال أعشى
بني ثعلبة:
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما * باسحم داج عوض لا نتفرق (1)
والقسم تأكيد الخبر بطريقة والله، وبالله، وتالله.
اخبر الله تعالى في هذه الآية ان إبليس حلف، لادم وحواء انه لهما ناصح
في دعائهما إلى التناول من الشجرة ولذلك تأكدت الشبهة عندهما، وظنا ان
أحدا لا يقدم على اليمين بالله إلا صادقا، فكان ذلك داعيا لهما إلى تناول الشجرة.
ويجوز ان تقول: اني لك لناصح، ولا يجوز ان تقول: أنا لك لناصح،
لان لام الابتداء موضعها صدر الكلام لا تؤخر عنه الا في باب (ان) خاصة
لئلا يجتمع حرفا تأكيد في موضع واحد، فيوهم اختلاف المعنى، لان الأصل
في اجتماع الحرفين في موضع انه لا ينوب أحدهما عن الاخر، وتقدير الكلام،
وقاسمهما اني لكما ناصح، ثم فسر ذلك بقوله من الناصحين ليكون متعلقا
بقوله لمن الناصحين فقدم الصلة على الموصول، ومثله قوله " وانا على ذلكم
من الشاهدين " (2) وتقديره وأنا على ذلكم شاهد، وبينه بقوله من الشاهدين.
قوله تعالى:
فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا
يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن

(3) سورة النمل آية 49.
(1) ديوان: 150 واللسان (عوض)، (سحم) وتفسير الطبري 12 / 350
(2) سورة 21 الأنبياء آية 56.
371

تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (21)
اية بلا خلاف.
معنى قوله " فدلاهما " حطهما إلى الخطيئة بغرور، ومنه قولهم: فلان
يتدلى إلى الشر، لان الشر سافل والخير عال. وقيل: دلاهما من الجنة إلى
الأرض بغرور. الغرور إظهار النصح مع ابطان الغش، وأصله الغر: طي
الثوب يقال: اطوه على غره أي على كسر طيه، وقال الشاعر:
كأن غر متنه إذ نجنبه * سير صناع في خريز تكلبه (1)
فالغرور بمنزلة الغر لما فيه من اظهار حال واخفاء حال، ومنه الغرر لخفاء
ما لا يؤمن فيه. والغر الذي لم يجرب الأمور، لأنها تخفى عليه. والغرة
الاخذ على غفلة. والغرارة الوعاء، لأنها تخفي ما فيها. والأغر الأبيض لظهور
الثوب في غره، ومنه الغرة في الجبهة.
وقوله " فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما " أي ظهرت عورتاهما،
ولم يكن ذلك على وجه العقوبة، لان الأنبياء لا يستحقون العقوبة، وإنما كان
ذلك لتغير المصلحة، لأنهما لما تناولا من الشجرة اقتضت المصلحة اخراجهما من
الجنة ونزعهما لباسهما الذي كان عليهما، واهباطهما إلى الأرض، وتكليفهما فيها.
وقوله " وطفقا " قال ابن عباس: معنى طفق جعل يفعل، ومثله قولهم:
ظل يفعل واخذ يفعل وابتدأ يفعل، فقد يكون ذلك بأول الفعل وقد يكون
بالقصد إلى الفعل، ويقال: طفق يطفق وطفق يطفق طفقا.
وقوله " يخصفان عليهما من ورق الجنة " معناه يقطفان من ورق الجنة
ليستترا به، ويحوزان بعضه إلى بعض، ومنه المخصف: المثقب الذي يخصف
به النعل، والخصاف الذي يرفع النعل قال الشاعر:

(1) قائله (دكين بن رجاء الفقيمي) اللسان (كلب) و " غرمتنه " ما تثنى
من جلده و (سير صناع) أي سير متصنع به من كثر الخرز فيه.
372

واسعى للندى والثوب جرد * محاسرة وفى نعلي خصاف
يعني ترقيع، وقال الأعشى:
قالت أرى رجلا في كفه كتف * أو يخصف النعل لهفي آية صنعا (1)
ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله (خاصف النعل في الحجرة) يعني عليا (ع).
والاخصاف سرعة العدو، لأنه يقطعه بسرعة. والخصف ثياب غلاظ جدا، لأنه
يعسر قطعها لغلظها. وكان الحسن يقرأ " يخصفان " بمعنى يختصفان.
وقوله " من ورق الجنة " قيل: انه من ورق التين. واصل الورق ورق
الشجرة، ومنه الورق اسم الدراهم. والورقة سواد في غبرة كأنه كلون
الورق الذي بهذه الصفة، وحمامة ورقاء.
وفي ذلك دلالة على أن ستر العورة كان واجبا في ذلك الوقت.
وقوله " " وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة " حكاية عما قال
الله تعالى لادم وحواء - بعد ان بدت سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق
الشجر - أليس كنت نهيتكما عن تلكما الشجرة، وإنما قال " تلكما " لأنه
خاطب اثنين وأشار إلى الشجرة، فلذلك قال (تلكما) و " أقل لكما " عطف
على " أنهكما " فلذلك جزمه " ان الشيطان لكما عدو مبين " يعني ظاهر العداوة.
وقد بينا ان آدم لم يرتكب قبيحا وان ما توجه إليه بصورة النهي كان
المراد به ضربا من الكراهة دون الحظر، وإنما قلنا ذلك لقيام الدلالة على عصمتهما
من سائر القبائح صغائرها وكبائرها، فعلى هذا لا يحتاج ان نقول: انهما تأولا
فأخطئا، على ما قال البلخي والرماني، أو وقع منهما سهو أعلى ما قاله الجبائي:
قوله تعالى:
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن
من الخاسرين (22) آية بلا خلاف.

(1) ديوانه: 83 القصيدة 13.
373

في هذه الآية حكاية عما قال آدم وحواء (ع) لما عاتبهما الله ووبخهما على
ارتكابهما ما نهاهما عنه، واخبار عن اعترافهما على أنفسهما بأن قالا " ربنا
ظلمنا أنفسنا " ومعناه بخسناها الثواب بترك المندوب إليه. والظلم هو النقص.
وعلى مذهب من يقول إنهما فعلا صغيرة لابد ان يحمل قوله " ظلمنا
أنفسنا " على تنقيص الثواب، لان عندهم ان الصغيرة أنقصت ثواب طاعاتهم،
فكان ذلك ظلما للنفس، فأما من يقول: ان الصغيرة تقع مكفرة من غير أن
تنقص من ثواب فاعلها شئ، فلا يتصور معنى لقوله " ظلمنا أنفسنا " ولا
يثبت فيهما فائدة، لأنهما لم يستحقا عقابا بلا خلاف.
وصفة ظالم مفارقة لقولنا: ظلمنا، لان الظالم اسم ذم في أكثر التعارف،
وظلم قد يستعمل في غير المستحق للعقاب والذم، كما أن اسم (مؤمن) اسم
مدح لمستحق الثواب، وآمن يؤمن بخلاف ذلك عند القائلين بالوعيد.
وقوله " وان لم تغفر لنا " معناه ان لم تستر علينا، لان الغفر هو الستر
على ما بيناه فيما مضى، وعلى مذهب من يقول: ان معصيتهم كانت صغيرة
وقعت مكفرة لا معنى لقوله " وان لم تغفر لنا "، لان الغفران كائن لا محالة،
ولا يحسن المؤاخذة به.
وقوله " لنكونن من الخاسرين " المعنى ان لم تتفضل علينا بنعمك التي
تتم بها ما فوتناه نفوسنا من الثواب بضروب تفضلك لنكونن من جملة من
خسر، ولم يربح. والانسان يصح ان يظلم نفسه بأن يدخل عليها ضررا غير
مستحق، ولا يدفع عنها ضررا أعظم، ولا يجتلب منفعة توفي عليه. ولا يصح
أن يكون معاقبا لنفسه، ويجوز ان يأمر الله تعالى المكلف ان يضر بنفسه،
ولا يحسن ان يأمره ان يعاقب نفسه، لان امر الحكيم يدل على الترغيب في
الشئ، ولا يجوز أن يرغبه في عقابه، كما لا يجوز ان يرغبه في ذمه ولعنه.
374

قوله تعالى:
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر
ومتاع إلى حين (23) آية بلا خلاف.
اختلفوا في المعنى بهذه الآية، فقال السدي وأبو علي الجبائي وأبو بكر
ابن الاخشيد: ان المراد بالخطاب آدم وحواء وإبليس، جمع بينهم في الذكر،
وإن كان الخطاب لهم وقع في أوقات متفرقة، لان إبليس امر بالهبوط حين امتنع
من السجود، وآدم وحواء حين أكلا من الشجرة، وانتزع لباسهما. وقال
أبو صالح: الخطاب متوجه إلى آدم وحواء والحية. وقال الحسن - قولا
بعيدا من الصواب - وهو ان المراد به آدم وحواء والوسوسة، وهذا قول منعزب
عنه، لان الوسوسة لا تخاطب.
والهبوط هو النزول بسرعة، والبعض هو أحد قسمي العدة، وأحد
قسمي العشرة بعضها، واحد قسمي الاثنين بعضهما ولا بعض للواحد، لأنه
لا ينقسم. وقوله " بعضكم لبعض " أضاف (البعض) إلى جملة هو منها،
ولا يجوز ان يضاف (غير) إلى جملة هو منها، لان إضافة (غير) إلى الجملة
والتفصيل لصحة أن يكون لكل واحد غير، وليس كذلك بعض، لأنه لا يصح
أن يكون لكل واحد بعض فأضافته إلى الجملة فقط.
والعدو ضد الولي، ومن صفة العدو انه مراصد بالمكاره. ومن صفة
الولي انه مراصد بالمحاب. وقال الرماني: العدو هو النائي بنصرته في وقت
الحاجة إلى معونته، والولي هو الداني بنصرته في وقت الحاجة إلى معونته.
وقوله " ولكم في الأرض مستقر " فالمستقر قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال أبو العالية: هو موضع استقرار.
الثاني - انه الاستقرار بعينه، لان المصدر يجئ على وزن المفعول نحو
375

و " ندخلكم مدخلا كريما " (1) أي ادخالا كريما قال الشاعر:
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا * وانجو إذا غم الجبان من الكرب (2)
وقوله " ومتاع إلى حين " فالمتاع الانتفاع بما فيه عاجل استلذاذ، لان
المناظر الحسنة يستمتع بها لما فيها من عاجل اللذة. والحين الوقت، قصيرا كان
أو طويلا، الا انه قد استعمل على طول الوقت - ههنا - وليس بأصل فيه
كقول القائل: ما لقيته منذ حين قال الشاعر:
وما مزاحك بعد الحلم والدين * وقد علاك مشيب حين لا حين (3)
أي وقت لا وقت، وقال البلخي " إلى حين " معناه إلى القيامة.
قوله تعالى:
قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (24)
آية بلا خلاف.
قرأ ابن ذكوان وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب " تخرجون " بفتح
التاء وضم الراء. الباقون بضم التاء وفتح الراء. من قرأ بضم التاء، فلقوله
" انكم مخرجون " (4) وقوله " كذلك نخرج الموتى " (5). ومن فتح التاء،
فلا جماع الكل في قوله " ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون " (6)
بفتح التاء ولقوله " إلى ربهم ينسلون " (7) فأسند الفعل إليهم، ولأنه أشبه

(1) سورة 4 النساء آية 30
(2) قائله كعب بن مالك. اللسان (قتل).
(3) قائله جرير. ديوانه: 586 وسيبويه 1 / 358 ومجاز القرآن 1 / 212
وتفسير الطبري 12 / 359. ورواية الديوان وسيبويه (ما بال جهلك بعد
الحلم والدين).
(4) سورة 23 المؤمنون آية 35
(5) سورة 7 الأعراف آية 56.
(6) سورة 30 الروم آية 25
(7) سورة 36 يس آية 51.
376

بما قبله من قوله " فيها تحيون وفيها تموتون " (8) وكما قال " كما بدأكم
تعودون " (9) أضاف الفعل إليهم.
وفي الآية اخبار من الله تعالى وحكاية عما قاله لادم انكم تحيون في هذه
الأرض التي تهبطون إليها، وفيها تموتون، ومنها تخرجون، للبعث يوم القيامة.
قال الجبائي في الآية دلالة على أن الله (عز وجل) يخرج العباد يوم القيامة من
هذه الأرض التي حيوا فيها بعد موتهم، وانه يفنيها بعد ان يخرج العباد منها
في يوم الحشر، وإذا أراد افناءها زجرهم عنها زجرة فيصيرون إلى ارض أخرى
وهذا معنى قوله " فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة " (10).
قوله تعالى:
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا
ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (25)
آية بلا خلاف.
قرأ أهل المدينة، وابن عامر والكسائي " ولباس التقوى " بالنصب.
الباقون بالرفع، ومن نصب حمله على (انزل) من قوله " قد أنزلنا عليكم
لباسا، ولباس التقوى " وأنزلنا ههنا مثل قوله " وأنزلنا الحديد فيه بأس
شديد " (1) ومثل قوله " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " (2) أي
خلق. وإنما قال " أنزلنا عليكم لباسا " لاحد أمرين.
أحدهما - لأنه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء، في قول الحسن والجبائي.
الثاني - لان البركات تنسب إلى أنها تأتي من السماء كقوله " وأنزلنا

(8) سورة 7 الأعراف آية 24
(9) سورة 7 الأعراف آية 29.
(10) سورة 79 النازعات آية 14.
(1) سورة 57 الحديد آية 25
(2) سورة 39 الزمر آية 6.
377

الحديد فيه بأس شديد " (3) وقوله " ذلك " على هذا مبتدأ وخبره (خير)،
ومن رفع قطع اللباس من الأول واستأنف، فجعله مبتدأ وجعل قوله " ذلك "
صفة له أو بدلا أو عطف بيان. ومن قال " ذلك " لغو فقد أخطأ، لأنه يجوز
أن يكون على أحد ما قلناه، و (خير) خبر ل‍ (لباس) وتقديره لباس التقوى
خير لكم إذا أخذتم به وأقرب لكم إلى الله مما خلق لكم من اللباس والرياش
الذي يتجمل به، وأضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف في قوله " فأذاقها
الله لباس الجوع والخوف " (4) إلى (الجوع).
وهذه الآية خطاب من الله تعالى لأهل كل زمان من المكلفين على ما
يصح ويجوز من وصول ذلك إليهم، كما يوصي الانسان لولده وولد ولده
- وان نزلوا - بتقوى الله وايثار طاعته، ويجوز خطاب المعدوم بمعنى أن
يراد بالخطاب إذا كان المعلوم أنه سيوجد وتتكامل فيه شروط التكليف، ولا
يجوز أن يراد من لا يوجد لان ذلك عبث لا فائدة فيه.
واللباس كلما يصلح للبس من ثوب أو غيره من نحو الدرع، وما يغشى
به البيت من نطع أو كسوة. واصله المصدر تقول: لبسه يلبسه لبسا
ولباسا، ولبسا - بكسر اللام - قال الشاعر:
فلما كشفن اللبس عنه مسحنه * بأطراف طفل زان غيلا موشما (5)
الغيل الساعد، ووصفها بلطف الكف. (والريش): ما فيه الجمال،
ومنه ريش الطائر، وقيل أصله المصدر من راشه يريشه، وقد تريش فلان
أي صار له ما يعيش به، قال الشاعر أنشده سيبويه:
وريشي منكم وهو اي معكم * وإن كنت زيارتكم لماما (6)

(3) وسورة 57 الحديد آية 25
(4) سورة 16 النحل آية 112.
(5) قائله " حميد بن ثور الهلالي " ديوانه 14 ومعاني القرآن 1 / 375
وتفسير الطبري 12 / 364 واللسان (لبس)، (طفل).
(6) كتاب سيبويه 2 / 45 نسبه إلى الراعي.
378

وقال سعيد الجهني الرياش المعاش. وقال الزجاج: الريش اللباس
يقولون: أعطيت الرجل فريشته أي كسوته، وجمعه رياش.
قال مجاهد: وإنما ذكر اللباس - ههنا - لان المشركين كانوا يتعرون
في الطواف حتى تبدو سوآتهم باغواء الشياطين، كما أغوي أبويهم قبل هذا
الاغواء. وقوله " يواري سوآتكم " معناه يستر ما يسوءكم انكشافه من
الجسد، لان السوءة ما يسوء انكشافه من الجسد، والعورة ترجع إلى
النقيصة في الجسد قال الشاعر:
خرقوا جيب فتاتهم * لم يبالوا سوءة الرجله (7)
ولباس التقوى فيه خمسة أقوال:
أحدها - قال ابن عباس: هو العمل الصالح.
الثاني - قال قتادة والسدي وابن جريج هو الايمان.
الثالث - قال الحسن: هو الحياء الذي يكسبكم التقوى.
الرابع - قال الجبائي: هو الذي يقتصر عليه من أراد التواضع والنسك
في العبادة من لبس الصوف والخشن من الثياب.
الخامس - قال الرماني: هو العمل الذي يقي العقاب، وفيه الجمال
مثل جمال الناس من الثياب. وقال الحسين بن علي المغربي " لباس التقوى "
يعني الذي كان عليكما في الجنة خير لكم بدلالة قوله " ذلك " وهي للبعيد.
وقوله " ذلك من آيات الله " معناه إن الذي فعلناه بكم من حجج الله
التي دلتكم على توحيده من الله " لعلهم يذكرون " معناه لكي يتفكروا فيها
ويؤمنوا بالله وبرسوله.

(7) اللسان (رجل) والكامل للمبرد 1 / 165 وتفسير الطبري 12 / 361
وشرح الحماسة 1 / 117.
379

قوله تعالى:
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من
الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يريكم هو
وقبيلة من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين
لا يؤمنون (26) آية بلا خلاف.
هذا خطاب من الله لأولاد آدم العقلاء منهم المكلفين، فنهاهم أن يفتنوا
بفتنة الشيطان. والفتنة هي الاختبار والابتلاء وافتتان الشيطان يكون بالدعاء
إلى المعاصي من الجهة التي تميل إليها النفوس وما تشتهيه. وإنما جاز ان ينهي
الانسان بصيغة النهي للشيطان، لأنه أبلغ في التحذير من حيث يقتضي أنه
يطلبنا بالمكروه، ويقصدنا بالعداوة، فالنهي له يدخل فيه النهي لنا عن ترك
التحذير منه
وقوله " كما اخرج أبويكم من الجنة " يعني أغوى أبويكم آدم وحواء
حتى خرجا من الجنة، فنسب الاخراج إليه لما كان باغوائه، وجرى ذلك
مجرى ذم الله تعالى فرعون بأنه يذبح أبناءهم وإنما أمر بذلك، وتحقيق الذم
فيها راجع إلى فعل القتل المذموم، ولكنه يذكر بهذه الصفة لبيان منزلة فعله
في عظم الفاحشة.
وقوله " ينزع عنهما لباسهما " في موضع الحال من الشيطان، وتقديره
نازعا عنهما لباسهما لكي تبدو سوأتهما فيرياها، والنزع قلع الشئ من موضعه
الذي هو ملابس له ويقال: نزع من الامر ينزع نزوعا تشبيها بهذا، ونازعه
إذا حاول كل واحد منهما أن يزيل صاحبه عما هو عليه، وغرض الشيطان في أن
يريا سوآتهما هو ان يغمهما ذلك ويسوءهما ان تبدو لغيرهما، كما بدا لهما،
لان ذلك صفة كل من له مروءة. واللباس الذي ينزع عنهما قيل فيه ثلاثة
380

أقوال:
أحدها - قال ابن عباس: كان لباسهما الظفر.
وقال وهب بن منية كان لباسهما نورا.
وقال قوم هي ثياب من ثياب الجنة.
وقوله " إنه " يعني الشيطان " يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم "
وإنما كانوا يرونا ولا نراهم لان أبصارهم أحد من ابصارنا، وأكثر ضوءا من
أبصارنا، فأبصارنا قليلة الشعاع، ومع ذلك أجسامهم شفافة وأجسامنا كثيفة،
فصح أن يرونا ولا يصح منا أن نراهم، ولو تكثفوا لصح منا أيضا أن نراهم.
وقال أبو علي: في الآية دلالة على بطلان قول من يقول: إنه يرى الجن
من حيث أن الله عمم أن لا نراهم، قال: وإنما يجوز أن يروا في زمن الأنبياء
بأن يكثف الله أجسامهم.
وقال أبو الهذيل وأبو بكر بن الاخشيد: يجوز أن يمكنهم الله أن يتكثفوا
فيراهم حينئذ من يختص بخدمتهم.
وقبيل الشيطان، قال الحسن وابن زيد: هو نسله، وبه قال أبو علي،
واستدل على ذلك بقوله " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم
عدو " (1).
وقوله " إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " معناه إنا حكمنا
بذلك لأنهم يتناصرون على الباطل، ومثله قوله " وجعلوا الملائكة الذين هم
عباد الرحمن إناثا " (2) أي حكموا بذلك حكما باطلا.
و (حيث) في موضع خفض بحرف (من) غير أنها بنيت على الضم،
وأصلها أن تكون مرفوعة لأنها ليست لمكان بعينه، وان ما بعدها صلة لها
ليست بمضافة إليه. ومنهم من يقول (من حيث) خرجت - بالفتح - لالتقاء
الساكنين. ومنهم من يقول (حوث) ولا يقرأ بهما.

(1) سورة 18 الكهف آية 51.
(2) سورة 43 الزخرف آية 19.
381

قوله تعالى:
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمر نا بها
قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (27)
آية بلا خلاف.
الكناية في قوله " فعلوا فاحشة " كناية عن المشركين، الذين كانوا يبدون
سوآتهم في طوافهم: النساء والرجال الحمس خاصة، وله خبر طويل - في
قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والسدي، وقالت العامرية:
اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله (1)
قال الفراء: كانوا يعملون ستا من سور مقطعة يشدون على حقوهم
فسمي حوقا، وإن عمل من صوف سمي رهطا.
وقال الحسن وأبو علي: هي كناية عن عبدة الأوثان وفواحشهم الشرك
بالله والكفر بنعمه. والفاحشة ما عظم قبحه في قول الزجاج، يقال فحش
يفحش فحشا، ولا يقال في الصغيرة - عند من قال بها - فاحشة، وإن قيل
فيها: إنها قبيحة، كما لا يقال في القوم فاحش، وإن قيل: قبيح.
أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم " إذا فعلوا فاحشة " وارتكبوا
قبيحا اعتذروا لنفوسهم بأن قالوا: وجدنا آباءنا يفعلونها. قال الحسن:
وإنما دعاهم إلى هذا القول، لان أهل الجاهلية كانوا أهل اجبار، وقالوا:
لو كره الله ما نحن عليه من هذا الدين لنقلنا عنه، فهو قوله " والله أمرنا بها "
وقال غيره: إنهم توهموا أن آباءهم لم يفعلوا ذلك إلا وهو من قبل الله.
وإنما قال آباؤهم بسببه فحينئذ رد الله عليهم قولهم بأن قال " إن الله لا يأمر
بالفحشاء " ثم قال على وجه الانكار " أتقولون على الله ما لا تعلمون "؟!

(1) تفسير الطبري: 12 / 377، 389، 390، 391، 393 ومعاني
القرآن للفراء 1 / 377.
382

لأنهم ان قالوا لا، نقضوا مذهبهم، وإن قالوا: نعم، افتضحوا في قولهم
وقال الزجاج: معنى " أتقولون على الله " أتكذبون عليه؟!
وفي الآية حجة على أصحاب المعارف، وأهل التقليد، لأنه ذم الفريقين،
ولو كان الامر على ما يقولون لما توجه عليهما الذم!.
فإن قيل: إنما أنكر الله قولهم: إن الله أمرنا بها، ولا يدفع ذلك أن
يكون مريدا لها، لان الامر منفصل من الإرادة.
قلنا: الامر لا يكون أمرا إلا بإرادة المأمور به، فما أراده فقد رغب
فيه ودعا إليه فاشتركا في المعنى.
قوله تعالى:
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد
وادعوه مخلصين له الدين (28) كما بدأكم تعودون * فريقا
هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء
من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (29).
آيتان، تمام الأولى في الكوفي " تعودون " وفي البصري تمام الأولى
" مخلصين له الدين " وتمام الأخرى عند الجميع " مهتدون ".
لما أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا: إن الله أمرنا بما نفعله
ونعتقده من الفواحش، ورد عليهم بقوله " إن الله لا يأمر بالفحشاء " أمر
نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول " ان الله يأمر بالقسط " وهو العدل - في قول مجاهد
والسدي وأكثر المفسرين - وأصله العدول، فإذا كان إلى جهة الحق، فهو
عدل. ومنه قوله " إن الله يحب المقسطين " (1). وإذا كان إلى جهة الباطل،

(1) سورة 5 المائدة آية 45 وسورة 49 الحجرات آية 9 وسورة 60
الممتحنة آية 8.
383

فهو جور، ومنه قوله " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " (2). وأمرهم
أن يقيموا وجوههم عندكل مسجد وقيل فيه وجوه:
أحدها - قال مجاهد والسدي وابن زيد: معناه توجهوا إلى قبلة كل
مسجد في الصلاة على استقامة.
الثاني - قال الربيع: توجهوا بالاخلاص لله، لا للوثن ولا غيره. وقال
الفراء: معناه إذا دخل عليك وقت الصلاة في مسجد فصل فيه، ولا تقل آتى
مسجد قومي، وهو اختيار المغربي:
وقوله " وادعوه مخلصين له الدين " أمرهم بالدعاء والتضرع إليه تعالى
على وجه الاخلاص. وأصل الاخلاص إخراج كل شائب من الخبث، ومنه
إخلاص الدين لله (عز وجل) وهو توجيه العبادة إليه خالصا دون غيره.
وقوله " كما بدأكم تعودون " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وابن زيد: كما
خلقكم أو لا تعودون بعد الفتاء، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (يحشرون
عراة حفاة عزلا، كما بدأنا أول خلق نعيده. وعدا علينا انا كنا فاعلين).
الثاني - قال ابن عباس وجابر في رواية أنهم يبعثون على ما ماتوا عليه:
المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وإنما ذكر هذا القول، لاحد أمرين:
أحدهما - قال الزجاج: على وجه الحجاج عليهم، لأنهم كانوا لا يقرون
بالبعث.
الثاني - على وجه الامر بالاقرار به، كأنه قيل وأقروا أنه كما بدأكم
تعودون. والبدأ فعل الشئ أول مرة، والعود فعله ثاني مرة. قد يكون
فعل أول خصلة منه بدأ، كبدء الصلاة، وبدء القراءة، بدأهم وأبداهم لغتان.
وقوله " فريقا هدى " فالفريق جماعة انفصلت من جماعة، وذكر (فريق)
ههنا أحسن من ذكر (نفر وقوم أو نحوه) لما فيه من الاشعار بالمباينة ونصب

(2) سورة 72 الجن آية 15.
384

" فريقا هدى ". وقوله " وفريقا حق عليهم الضلالة " لتقابل فريقا هدى
بعطف فعل على فعل، وتقديره وفريقا أضل إلا أنه فسره ما بعده نظير قوله " يدخل
من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما " (1). وقال الفراء: نصب
فريقا على الحال، والعامل فيه (تعودون) فريقا، والثاني عطف عليه، ولو
رفع على تقدير أحدهما كذا، والاخر كذا، كان جائزا كما قال " قد كان
لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " (2) والهدي
والاضلال في الآية يحتمل أربعة أوجه:
أحدها - أنه حكم بأن هؤلاء مهتدون مدحا لهم، وحكم بأن أولئك
ضالون ذما لهم.
الثاني - الدلالة التي انشرح بها صدور هؤلاء للاهتداء، وضاقت بها
صدور أولئك لشدة محبتهم لما هم عليه من مذهبهم.
الثالث - هدى بأن لطف لهؤلاء بما اهتدوا عنده، وصار كالسبب
لضلال أولئك بتخيرهم لينتقلوا عن فاسد مذهبهم.
الرابع - أنه هدى هؤلاء إلى طريق الثواب. وأولئك لعمى والاضلال
عنه بالعقاب في النار.
وقوله " انهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله " اخبار منه تعالى انه
فعل بهم ما فعل من الضلال، لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله،
والاتخاذ الافتعال من الاخذ بمعنى اعداد الشئ لامر من الأمور، فلما أعدوا
الشياطين لنصرتهم، كانوا قد اتخذوهم أولياء باعدادهم.
وقوله " ويحسبون انهم مهتدون " يعني هؤلاء الكفار يظنون أنهم
مهتدون. والحسبان والظن واحد، وهو ما قوي عند الظان كون المظنون
على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على غيره، فبالقوة يتميز من اعتقاد التقليد
والتخمين، وبالتجويز يتميز من العلم، لان مع العلم القطع.

(1) سورة 76 الدهر آية 31.
(2) سورة 3 آل عمران آية 13.
385

قوله تعالى:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا
ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (30) آية بلا خلاف.
أمر الله تعالى في هذه الآية أولاد آدم الذكور منهم، - لان (بني)
جمع ابن، وإنما نصب لأنه نداء مضاف، والابن هو الولد الذكر، والبنت
الولد الأنثى - أمرهم الله بأن يأخذوا، ومعناه أن يتناولوا زينتهم. والزينة
هي اللبسة الحسنة، ويسمى ما يتزين به زينة، كالثياب الجميلة والحلية.
ونحو ذلك. وقوله " عند كل مسجد " روي عن أبي جعفر (ع) أنه قال في
الجمعات والأعياد. وقال ابن عباس وعطاء وإبراهيم والحسن وقتادة وسعيد
ابن جبير: كانوا يطوفون بالبيت عراة فنهاهم الله عن ذلك. وقال مجاهد:
ما وارى العورة، ولو عباءة. وقال الزجاج: هو أمر بالاستتار في الصلاة،
قال أبو علي: ولهذا صار التزين للأعياد، والجمع سنة.
وقيل في وجه شبهتهم في تعريهم في الطواف وإبداء السوأة وجهان:
أحدهما - أن الثياب قد دنستها المعاصي فيجردوا منها.
الثاني - تفألوا بالتعري من الذنوب.
وقوله " وكلوا واشربوا " صورته صورة الامر، ومعناه إباحة الأكل والشرب.
وقوله " ولا تسرفوا " نهي لم عن الاسراف، وهو الخروج عن حد
الاستواء في زيادة المقدار. وقيل: المراد الخروج عن الحلال إلى الحرام،
وقيل: الخروج مما ينفع إلى ما يضر، وقيل: الزيادة على الشبع فالاسراف
والاقتار مذمومان.
وقوله " إنه لا يحب المسرفين " معناه يبغض المسرفين، لأنه ذم لهم، ولو
كان بمعنى لا يحبهم ولا يبغضهم لم يكن ذما لهم ولا مدحا، وقال أبو علي:
386

من لا يحبه الله فهو يبغضه ويعاديه.
قوله تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيمة
كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون (31) آية بلا خلاف.
قرأ نافع وحده " خالصة يوم القيامة " بالرفع. الباقون بالنصب.
من رفعه جعله خبر المبتدأ الذي هو (هي) ويكون " للذين آمنوا "
تبيينا للخلوص، ولا شئ فيه على هذا. ومن قال هذا حلو حامض أمكن
أن يكون " للذين آمنوا " خبر أو (خالصة) خبرا آخر. ومن نصب (خالصة)
كان حالا مما في قوله " للذين آمنوا " ألا ترى أن فيه ذكرا يعود إلى المبتدأ
الذي هو (هي) فخالصة حال عن ذلك الذكر، والعامل في الحال ما في
اللام من معنى الفعل، و " هي " متعلقة بمحذوف يعود إليه الذكر الذي كأن
يكون في المحذوف، ولو ذكر ولم يحذف، وليس متعلقا بالخلوص، كما
تعلق به في قول من رفع. وتقديره هو للذين آمنوا في الحياة الدنيا لهم
خالصة، ذكره الفراء.
وحجة من رفع أن المعنى هي خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، وإن
شركهم فيها غيرهم من الكافرين في الدنيا.
ومن نصب فالمعنى عنده هي ثابتة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم
القيمة لهم وانتصابه على الحال أشبه بقوله " إن المتقين في جنات وعيون
آخذين " (1) ونحو ذلك مما انتصب الامر فيه على الابتداء وخبره، وما
يجري مجراه إذا كان فيه معنى (فعل).
لما أباح الله تعالى وحث على تناول الزينة في كل مسجد وندب إليه وأباح

(1) سورة 51 الذاريات آية 15.
387

الأكل والشرب، ونهى عن الاسراف، وهناك قوم يحرمون كثيرا من الأشياء من
هذا الجنس، قال الله تعالى منكرا ذلك " من حرم زينة الله التي أخرج
لعباده والطيبات من الرزق ". وقيل في معنى الطيبات قولان: أحدهما -
المستلذ من الرزق. الثاني - الحلال من الرزق، والأول أشبه بخلوصه
يوم القيامة. وإنما ذكر الطيبات من جملة ذلك - في قول ابن زيد والسدي -
لأنهم كانوا يحرمون البحائر والسوائب، وظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز
لاحد تجنب الزينة والملاذ الطيبة على وجه التحريم، وأما من اجتنبها على أن
غيرها أفضل منها فلا مانع منه.
ثم أخبر تعالى فقال (هي) يعني الطيبات " للذين آمنوا في الحياة الدنيا
خالصة يوم القيامة " وقيل في معنى " خالصة يوم القيمة " قولان:
أحدهما - قال ابن عباس والحسن والضحاك وابن جريج، وابن زيد:
هي خالصة للمؤمنين دون أعدائهم من المشركين.
وقال أبو علي: هي خالصة لهم من شائب مضرة تلحقهم.
وقال أبو علي الفارسي: لا يخلو قوله " في الحياة الدنيا " من أن يتعلق
ب‍ (حرم) أو ب‍ (زينة) أو ب‍ (أخرج) أو ب‍ " الطيبات " أو ب‍ " الرزق "
من قوله " من الرزق " أو بقوله " آمنوا " ولا يجوز أن يتعلق ب‍ (حرم)
فيكون التقدير قل من حرم في الحياة الدنيا، ويكون المعنى قل من حرم في
وقت الحياة الدنيا، ولا يجوز أن يتعلق ب‍ (زينة) لأنه مصدر أو جار مجراه،
ولما وصفها لم يجز أن يتعلق بها شئ بعد الوصف كما لا يتعلق به العطف عليه،
ويجوز أن يتعلق ب‍ (أخرج) لعباده في الحياة الدنيا.
فإن قيل: كيف يتعلق ب‍ (أخرج) وفيه فصل بين الصلة والموصول
بقوله " قل هي للذين آمنوا " وهو كلام مستأنف ليس في الصلة؟
قيل لا يمنع الفصل به، لأنه مما يسدد القصة، وقد قال " والذين
كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة " (1) فقوله " وترهقهم ذلة "

(1) سورة 10 يونس آية 27.
388

معطوف على كسبوا، فكذلك قوله " قل هي للذين آمنوا ".
ويجوز أن يتعلق ب‍ (الرزق) أيضا إن كان موصولا.
ويجوز أن يتعلق ب‍ (آمنوا) الذي هو صلة (الذين) أي آمنوا في
الحياة الدنيا، وكل ما ذكرناه من هذه الأشياء يجوز أن يتعلق به هذا الظرف.
وقوله " كذلك نفصل الآيات " أي كما نميز لكم الآيات وندلكم بها
على منافعكم وصلاح دينكم، كذلك نفصل الآيات لكل عاقل يعلم معناها
ودلالتها.
قوله تعالى:
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم
والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن
تقولوا على الله ما لا تعلمون (32) آية بلا خلاف. لما أنكر تعالى على من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق، وذكر أنه أباح ذلك للمؤمنين في دار الدنيا بين عقيب ذلك ما حرمه
عليهم، فقال " قل " يا محمد " إنما حرم ربي الفواحش " ومعناه لم يحرم
ربي إلا الفواحش، لأنا قد بينا أن (إنما) تدل على تحقيق ما ذكر، ونفي
ما لم يذكر.
والتحريم هو المنع من الفعل بإقامة الدليل على وجوب تجنبه، وضده
التحليل، وهو الاطلاق في الفعل بالبيان عن جواز تناوله. وأصل التحريم
المنع من قولهم: حرم فلان الرزق، فهو محروم حرمانا، وحرم الرجل إذا لج
في الشئ بالامتناع منه، وحرمه تحريما، وأحرم بالحج إحراما وتحرم بطعامه
تحرما، واستحرمت الشاة إذا طلبت الفحل، لأنها تتبعه كما تتبع الحرمة البعل،
والحرم مكة وما حولها مما هو معروف، وأشهر الحرم ذو القعدة وذو
389

الحجة والمحرم ورجب، والمحرم القرابة التي لا يحل تزوجها، وحريم الدار
ما كان من حقوقها، والمحرم السوط الذي لا يلين لأنه حرام أن يضرب به
حتى يلين.
والفواحش جمع فاحشة، وهي أقبح القبائح. وهي الكبائر.
وقوله " ما ظهر منها وبطن " يعني ما علن وما خفي.
وقد قدمنا اختلاف المفسرين في ذلك، وإنما ذكر مع الفواحش هذه
القبائح، وهي داخلة فيها لاحد أمرين:
أحدهما - للبيان عن التفصيل، كأنه قيل الفواحش التي منها الاثم،
ومنها البغي، ومنها الاشراك بالله.
والثاني - ان الفواحش - هاهنا - الزنا وهو الذي بطن، والتعري
في الطواف، وهو الذي ظهر - في قول مجاهد - وقال قوم: الاثم هو الخمر،
وما ظهر الزنا، وما بطن هو نكاح امرأة الأب، والاثم يعم جميع المعاصي،
وأنشد ابن الأنباري في أن الاثم هو الخمر:
شربت الاثم حتى ضل عقلي * كذاك الاثم يصنع بالعقول (1)
وقال الفراء: الاثم ما دون الحد، والبغي هو الاستطاعة على الناس،
وحده طلب الترأس بالقهر من غير حق. وأصل البغي الطلب، تقول: هذه
بغيتي أي طلبتي، وأبتغي كذا ابتغاء. وما تبغي؟ أي ما تطلب، وينبغي كذا
أي هو الأولى أن يطلب.
وقوله " ما لم ينزل به سلطانا " السلطان الحجة - في قول الحسن
وغيره - ومثله البرهان والبيان والفرقان، وحدودها تختلف، فالبيان إظهار
المعنى للنفس كاظهار نقيضه، والبرهان إظهار صحة المعنى وفساد نقيضه،
والفرقان إظهار تميز المعنى مما التبس به. والسلطان إظهار ما يتسلط به على
نقيض المعنى بالابطال.

(1) اللسان (أثم).
390

و " أن تقولوا على الله ما لا تعلمون " أي وحرم عليكم ذلك، وذلك
يدل على بطلان التقليد، لان المقلد لا يعلم صحة ما قلد فيه.
قوله تعالى:
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون (33) آية بلا خلاف.
قيل الفرق بين أن تقول: ولكل أمة أجل، وبين ولكل أحد أجل من
وجهين:
أحدهما - أن ذكر الأمة يقتضي تقارب أعمار أهل العصر.
والثاني - أنه يقتضي إهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم باتيان
الرسل.
والأمة الجماعة التي يعمها معنى. وأصله أمه يؤمه إذا قصده، فالأمة
الجماعة التي على مقصد واحد. والأجل الوقت المضروب لانقضاء المهل،
لان بين العقد الأول الذي يضرب لنفس الأجل، وبين الوقت الاخر مهلا،
مثل أجل الدين، وأجل الوعد، وأجل العمر.
وقال أبو علي الجبائي: في الآية دلالة على أن الأجل واحد، لأنه
لا يجوز أن يكون الظالم بقتل الانسان قد اقتطعه عن أجله. وقال أبو بكر
ابن الاخشيد: ليس الامر على ذلك لأنها قد دلت أنه غير هذا على الأجلين.
وقوله " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " معنى
لا يستأخرون، لا يتأخرون، وإنما قيل لا يستأخرون من أجل أنهم لا يطلبون
التأخر، فهو أبلغ في المعنى من لا يتأخرون، لان الاستئخار طلب التأخر
وقوله " ولا يستقدمون " معناه لا يتقدمون، والمعنى إذا قرب أجلهم
لا يطلبون التقدم ولا التأخر، لان بعد حضور الأجل ونزول الاملاك يستحيل
منهم طلب ذلك، كما يقال جاء الشتاء وجاء الصيف إذا قارب وقته لأنه
391

متوقع كتوقعه.
قوله تعالى:
يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي
فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون (34)
آية بلا خلاف.
هذا خطاب من الله تعالى لجميع بني آدم المكلفين منهم أنه يبعث إليهم
رسلا منهم يقصون عليهم آيات الله وحججه وبراهينه، وهو ما أنزله عليهم
من كتبه ونصب لهم من أدلته.
وقوله " إما " أصله (إن) حرف الشرط دخلت عليه (ما) ولدخولها
دخلت النون الثقيلة في (يأتينكم) ولو قال: إن يأتينكم، لم يجز، وإنما
كان كذلك، لان (ما) جعلته في حكم غير الواجب، لأنه ينزل منزلة ما هو
غير كائن حتى احتيج معه إلى القسم مع خفاء أمره من جهة المستقبل، ولم
يجز دخول النون على الواجب في مثل هو، هون، لأن هذه النون تؤذن بأن
ما دخلت عليه قد احتاج إلى التأكيد لخفاء أمره من جهة المستقبل. وانه غير
واجب لخفاء أمره من هاتين الجهتين، لأجله احتاج إلى نون التأكيد. وإنما
قال " رسل منكم " بلفظ الجمع، وإنما أتى هؤلاء رسول منهم لأنه على
تقدير يأتين لكل أمة، فصار كأنه خطاب لجميع المكلفين. وجواب (إن)
يحتمل أن يكون أحد أمرين:
أحدهما - أن يكون قوله " فمن اتقى " منكم " وأصلح " لان التفصيل
يقتضي منكم.
الثاني - أن يكون محذوفا يدل الكلام عليه كأنه قال فأطيعوهم.
وقوله " يقصون " فالقصص وصل الحديث بالحديث في وصل الحديث
الممتنع بحديث مثله.
392

وقوله " فمن اتقى وأصلح " معناه فمن اتقى منكم وأصلح " فلا خوف
عليهم ولا هم يحزنون " وظاهر الآية يدل على أن من اتقى معاصي الله واجتنبها،
وأصلح بأن فعل الصالحات، لا خوف عليهم في الآخرة - وهو قول الجبائي -
وقال أبو بكر بن الاخشيد: لا يدل على ذلك، لان الله تعالى قال في وصفه
يوم القيامة " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل
حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى " (1) وإنما هو كقول الطبيب
للمريض لا بأس عليك، ولا خوف عليك، ومعناه أن أمره يؤول إلى السلامة
والعافية. والأول أقوى، لأنه الظاهر غير أن ذلك يكون لمن اتقى جميع
معاصي الله، فأما من جمع بين الطاعات والمعاصي فان خوفه من عقاب الله على
معاصيه لا بد منه، لأنا لا نقطع على أن الله تعالى يغفر له لا محالة، ولا نقول
بالاحباط فنقول ثواب إيمانه أحبط عقاب معاصيه، فإذا اجتمعا فلا بد من
أن يخاف من وصول العقاب إليه. ومن قال لفظة " اتقى " لا تطلق إلا
للمؤمن من أهل الثواب، لأنها صفة مدح، فلابد من أن يكون مشروطا
بالخلوص مما يحبطه، فما ذكروه أولا صحيح نحن نعتبره، لان المتقي
لا يكون إلا مؤمنا مستحقا للثواب، غير أنه ليس من شرطه ألا يكون معه
شئ من العقاب، بل عندنا يجتمعان، فلا يستمر ما قالوه.
قوله تعالى:
والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون (35) آية
أخبر الله تعالى أن الذين كذبوا بحججه وبراهينه -، ولم يصدقوه،
واستكبروا عنها - انهم أصحاب النار الملازمون لها على وجه الخلود والتأبيد.
والتكذيب هو تنزيل الخبر على أنه كذب. والتصديق تنزيل الخبر على

(1) سورة 22 الحج آية 2.
393

انه صدق، فالتكذيب بآيات الله كفر، والتكذيب بالطاغوت إيمان، فذلك
توعذ على التكذيب بآيات الله بعقاب الأبد. والاستكبار طلب الترفع بالباطل،
ولفظة " مستكبر " صفة ذم في جميع الخلق، والخلود هو لزوم الشئ على
ما هو فيه. ومعنى " أخلد إلى الأرض " (1) لزوم الركون إليها. والصاحب
والقرين متقاربان غير أن القرين فيه معنى النظير، وليس ذلك في الصاحب
فلذلك قيل: أصحاب رسول الله، ولم يقل قرناؤه.
ولفظة (الذين) مبنية على هذه الصيغة في جميع الأحوال: الرفع،
والنصب، والجر، وإنما تثبت مع بعدها بالجمع عن الحرف، لان العلة التي
لها هي التي موجودة فيه، وهي نقصانه عن سائر الأسماء حتى تأتي صلته
فتتمه، وليس هذا كالشبيه العارض الذي يزول على وجه. فأما من قال:
الذون والذين فإنه اعتد بتبعيد الجمع، فجعله على طريقة المعرف، ولأن هذه
الطريقة لما لم تكن اعرابا تاما لم يمنعوه لما وقع بعده من شبه الحرف
بالجمع.
قوله تعالى:
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته
أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا
يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا
عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (36) آية بلا خلاف
قوله " فمن أظلم " صورته صورة الاستفهام، والمراد به الاخبار عن
عظم جرم من يفتري على الله كذبا أو يكذب بآيات الله، لا أنه أحد أظلم
لنفسه منه. وإنما أورد هذا الخبر بلفظ الاستفهام، لأنه أبلغ برد المخاطب

(1) سورة 7 الأعراف آية 175.
394

إلى نفسه في جوابه مع تحريك النفس له بطريق السؤال. وقد بينا فيما مضى
من الكتاب حقيقة الظلم، وأن أجود ما حدبه أن قيل: هو الضرر المحض
الذي لا نفع فيه يوفى عليه، ولا دفع ضرر أعظم من دفعه، لا عاجلا ولا
آجلا، ولا يكون مستحقا ولا واقعا على وجه المدافعة. وقد حد الرماني
الظلم بأنه الضرر القبيح من جهة بخس الحق به، وهذا ينتقض بالألم الذي
يدفع به ألم مثله، لما قلناه.
وقوله " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب " فالنيل هو وصول النفع
إلى العبد إذا أطلق، فان قيد وقع على الضرر، لان أصله الوصول إلى
الشئ من نلت النخلة أنالها نيلا، قال امرؤ القيس:
سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا * ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر (1)
والبخل منع النائل لمشقة الاعطاء.
وقيل في معنى " ينالهم نصيبهم من الكتاب " أقوال:
أحدها - قال الزجاج والفراء: هو ما ذكره الله تعالى من أنواع العذاب
للكفار مثل قوله " فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب
وتولى " (2) وقوله " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت
وجوههم أكفرتم بعد ايمانكم " (3) وغير ذلك مما كتب الله في اللوح المحفوظ.
الثاني - قال الربيع وابن زيد: من الرزق والعمر، والعمل: من الخير
والشر في الدنيا.
الثالث - قال مجاهد: جميع ما كتب لهم وعليهم، وهو قول عطية.
وقال بعضهم معناه ينالهم نصيبهم من خير أو شر في الدنيا، لأنه قال
" حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم " وهي الانتهاء. والأجوبة الأولى أقوى

(1) ديوانه: 86. من قصيدة يمدح بها سعد بن الصباب ويهجو
هانئ بن مسعود.
(2) سورة 92 الليل آية 14 - 16.
(3) سورة 3 آل عمران آية 106.
395

لان الاظهار فيما يقتضيه عظم الظلم في الفحش الوعيد والعذاب الأبدي.
وقال سيبويه والزجاج: لا تجوز إمالة (حتى) لأنها حرف لا يتصرف،
والإمالة ضرب من التصريف، وكذلك (إما، وأيا، والا، ولا). و (أينما)
كتبت بالياء مع امتناع إمالتها تشبيها ب‍ (حبلى) من جهة أن الألف رابعة،
ولم يجز مثل ذلك في (إلا) لان (إلا) تشبه إلى. ولا في (اما) التي
للتخيير، لأنها بمنزلة (إن ما) التي للجزاء..
وقوله " حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم " يعني الملائكة التي تنزل
عليهم لقبض أرواحهم. وقيل في معنى الوفاة - ههنا - قولان:
أحدهما - الحشر إلى النار يوم القيامة بعد الحشر الثاني، وفات الموت
الذي يوبخهم عنده الملائكة - في قول أبي علي - والوجه في مسألة الملك
لمن يتوفاه: التبكيت لمن لم يقم حجته، والبشارة لمن قام بحجته. وفي الاخبار
عن ذلك مصلحة السامع إذا تصور الحال فيه.
وقوله " قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله " حكاية سؤال الملائكة
لهم وتوبيخهم أن الذين كانوا يدعونهم من دون الله من الأوثان والأصنام لم
ينفعوهم في هذه الحال، بل ضروهم.
وقوله " قالوا ضلوا عنا " حكاية عن جواب الكفار للملائكة أنهم
يقولون: ضل من كنا ندعوه من دون الله عنا " وشهدوا على أنفسهم " يعني
الكفار أقروا على أنفسهم " أنهم كانوا كافرين " جاحدين بالله، وكافرين
لنعمه بعبادتهم الأنداد من دون الله.
قوله تعالى:
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس
في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا دار كوا فيها
جميعا قالت أخريهم لأوليهم ربنا هؤلاء أضلونا فاتهم عذابا
396

ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (37)
آية واحدة بلا خلاف.
هذا حكاية عن قول الله تعالى للكفار يوم القيامة وأمره لهم بالدخول
في جملة الأمم الذين تبعوا من قبلهم من جملة الجن والإنس وهم في النار.
ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعله إياهم في جملة أولئك في النار، من
غير أن يكون هناك قول، كما قال " كونوا قردة خاسئين " (1) والمراد أنه
جعلهم كذلك.
ومعنى الخلو انتفاء الشئ عن مكانه فكل ما انتفى من مكانه، فقد خلا
منه، وكذلك (خلت) بمعنى مضت، لأنها إذا مضت بالهلاك، فقد خلا
مكانها منها. والجن جنس من الحيوان مستترون عن أعين البشر لرقتهم، يغلب
عليهم التمرد في أفعالهم، لان الملك أيضا مستتر لكن غلب عليه أفعال الخير.
وعند قوم: أنهم أجمع رسل الله. والانس جنس من الحيوان يتميز بالصورة
الانسانية.
وقوله " كلما دخلت أمة لعنت أختها " يعني في دينها لا في نسبها، فأما
قوله " والى مدين أخاهم شعبيا " (2) يعني أنه منهم في النسب. وقوله
" حتى إذا اداركوا فيها جميعا " فوزن اداركوا (تفاعلوا) فأدغمت التاء في
الدال واجتلبت ألف الوصل ليمكن النطق بالساكن الذي بعده، ومعناه
تلاحقوا.
وقوله " قالت أخراهم لأولاهم " يعني الفرقة المتأخرة التابعة تقول للأمة
المتقدمة المتبوعة، وتشير إليها " هؤلاء أضلونا " عن طريق الحق وأغوونا

(1) سورة 2 البقرة آية 65 وسورة 7 الأعراف آية 165.
(2) سورة 7 الأعراف آية 84 وسورة هود آية 83 وسورة 29
العنكبوت آية 36.
397

" فآتهم عذابا ضعفا من النار " دعاء منهم عليهم أن يجعل عذابهم ضعفا،
فقال الله تعالى " لكل ضعف ولكن لا تعلمون " والضعف المثل الزائد على
مثله، فإذا قال القائل: أضعف هذا الدرهم معناه أجعل معه درهما آخر،
لا دينارا، وكذلك أضعف الاثنين أي اجعلهما أربعة. وحكي أن المضعف
في كلام العرب ما كان ضعفين، والمضاعف ما كان أكثر من ذلك. وروي
عن عبد الله بن مسعود أن الضعف أفاعي وحيات. واستعمل الضعف بمعنى
المثل، ومنه قوله " يضاعف لها العذاب ضعفين " 3) يعني مثلين.
وقرأ أبو بكر عن عاصم " ولكن لا يعلمون " بالياء. الباقون بالتاء.
ومن قرأ بالتاء، فتقديره لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منهم. ومن
قرأ بالياء تقديره لكن لا يعلم كل فريق ما على الاخر من العقاب.
قوله تعالى:
وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل
فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (38) آية بلا خلاف.
هذا حكاية عن جواب قول الأمة الأولى المتبوعة للأخرى التابعة حين سمعت
دعاءها عليهم بأن يؤتيهم ضعفا من العذاب " فما كان لكم علينا من فضل "
وقيل في معناه قولان:
أحدهما - ما كان لكم علينا من فضل في ترك الضلال، وهو قول أبي
مخلد والسدي. وقال الجبائي: لمساواتك لنا في الكفر.
الثاني - من فضل في التأويل فتطالبونا بتضييع حقه.
ولفظة (أفعل) على ثلاثة أوجه:
أحدها - ما فيه معنى يزيد كذا على كذا، فهذا لا يجوز فيه التأنيث
والتذكير والتثنية والجمع مضافا كان أو على طريقة (أفعل من كذا) كقولك

(3) سورة 33 الأحزاب آية 30.
398

أفضل من زيد وأفضل القوم لتضمنه معنى الفعل، والمصدر كقولك أفضل
القوم بمعنى يزيد فضله على فضلهم.
الثاني - ما لم يقصد فيه معنى يزيد كذا على كذا، فهذا يجوز فيه
كل ذلك كقولك: الأكبر والكبرى والأكابر.
الثالث - (أفعل) من الألوان والعيوب الظاهرة للحاسة، فهذا يجئ
على (أفعل، وفعلاء) وجمعه (فعل) نحو أحمر، وحمراء وحمر. وأعرج
وعرجاء وعرج.
وأما (أفعل) إذا كان اسم جنس، فإنه يثنى ويجمع ولا يؤنث، وكذلك
إذا كان علما نحو أفكل وأفاكل وأحمد وأحامد. فاما أبطح وأباطح وأجزع
وأجازع، فأجري هذا المجرى، لأنه استعمل على طريقة اسم الجنس وأصله
الوصف، ولا يجوز في (أفعل) الفعول إلا بالتعريف لايذان معنى (أفعل)
معنى أفعل من كذا، قال سيبويه: لا يجوز نسوة صغر ولا كبر حتى تعرفه
فتقول: النسوة الصغر والكبر.
قوله تعالى:
إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب
السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط
وكذلك نجزي المجرمين (39) آية بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي وخلف " لا يفتح " بالياء والتخفيف، وقرأ أبو
عمرو بالتاء والتخفيف. الباقون بالتاء، والتشديد. من شدد ذهب إلى
التكثير. والمعنى أنهم ليسوا كحال المؤمن في التفتيح مرة بعد أخرى. ومن
قرأ بالتاء، فلان الأبواب جماعة فأنث تأنيث الجماعة. ومن قرأ بالياء،
فلان التأنيث غير حقيقي، وذهب إلى معنى الجمع.
399

أخبر الله تعالى في هذه الآية " إن الذين كذبوا " بآيات الله وجحدوها،
واستكبروا عنها بمعنى طلبوا التكبر والترفع عن الانقياد لها " لا تفتح لهم
أبواب السماء " هوانا لهم واستخفافا، بهم فان فتحت فتحت عليهم بالعذاب. وقال
ابن عباس والسدي: لأنها تفتح لروح المؤمن، ولا تفتح لروح الكافر، وفي
رواية أخرى عن ابن عباس، ومجاهد، وإبراهيم: لا تفتح لدعائهم،
ولا أعمالهم.
وقال أبو جعفر (ع) أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء،
فتفتح لهم أبوابها. وأما الكافر، فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ السماء
نادى مناد: اهبطوا بعمله إلى سجين، وهو واد بحضر موت يقال له: برهوت.
وقال الحسن لا تفتح لدعائهم. وقال ابن جريج: لا تفتح لأرواحهم
ولا أعمالهم. وقال أبو علي: لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة، لان
الجنة في السماء.
ثم قال " ولا يدخلون الجنة " يعني هؤلاء المكذبين بآيات الله
والمستكبرين عنها سواء كانوا معاندين في ذلك أو غير عالمين بذلك. وإنما
تساويا في ذلك، لان من ليس بعالم قد أزيحت علته بإقامة الحجة، ونصب
الأدلة على تصديق آيات الله، وترك الاستكبار عنها.
وقوله " حتى يلج الجمل في سم الخياط " إنما علق الجائز، وهو دخولهم
الجنة بمحال، وهو دخول الجمل في سم الخياط، لأنه لا يكون، كما
قال الشاعر:
إذ شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب (1)
والاخر أنه مضمر بما لا يمكن من قلب الدليل، والجمل هو البعير
- ههنا - في قول عبد الله والحسن ومجاهد والسدي وعكرمة وأكثر المفسرين.
والسم الثقب. ومنه فيل: السم القاتل لاه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى

(1) تفسير الخازن 2 / 87.
400

يصل إلى القلب فتنتقض بنيته، وكل ثقب في البدن لطيف فهو سم وسم
بضم السين وفتحها وجمعه سموم، وقال الفرزدق:
فنفست عن سميه حتى ينفسا * وقلت له لا تخش شيئا ورائيا (2)
يعني بسميه ثقبي أنفه، ويجمع السم القاتل سماما. والخياط والمخيط
الإبرة. وقيل خياط ومخيط، كما قيل لحاف وملحف، وقناع ومقنع، وإزار
ومئزر، وقرام ومقرم - ذكره الفراء -.
قوله تعالى:
لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي
الظالمين (40) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى أن لهؤلاء الكفار الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها
لهم من جهنم مهاد، و (جهنم) في موضع جر ب‍ (من) لكن فتح لأنه
لا ينصرف لاجتماع التأنيث والتعريف فيه، واشتقاقه من الجهومة، وهي
الغلظ، رجل جهم الوجه غليظه، فسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب، نعوذ
بالله منها. والمهاد الوطأ الذي يفترش. ومنه مهد الصبي، ومهدت له لامر
إذا وطأته له، وإنما قيل: مهاد من جهنم أي موضع المهاد، كما قال تعالى
" فبشرهم بعذاب اليم " (3) وقال الحسن مهاد " فراش من نار، و " غواش "
ظلل منها.
وقوله " ومن فوقهم غواش " فالغواش لباس مجلل، ومنه غاشية السرج،
وفلان يغشى فلانا أي يأتيه ويلابسه. ومنه غشي المرض، والغشاوة التي
تكون على الولد. وقال محمد بن كعب: الغواشي هي اللحف، وهي أزر
الليل محشوة كانت أو غير محشوة، ذكره الأزهري، وروى الطبري مثله.

(2) تفسير الخازن 2 / 87.
(3) سورة 3 آل عمران آية 21 وسورة 9 التوبة آية 35 وسورة 84
الانشقاق آية 24.
401

وقيل في دخول التنوين على (غواش) مع أنه على (فواعل) وهو لا ينصرف
قولان:
أحدهما - قال سيبويه: إن التنوين عوض من الياء المحذوفة وليس
بتنوين الصرف.
الثاني - أنه تنوين الصرف عند حذف الياء لالتقاء الساكنين في التقدير.
وقوله " وكذلك نجزي الظالمين " أي مثل ما نجزي هؤلاء المكذبين
بآيات الله المستكبرين عنها نجزي كل ظالم وكل كافر. والوصف ب‍ (ظالم)
يقتضي لحوق الذم به في العرف.
قوله تعالى:
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون 41) آية.
لما أخبر الله تعالى بصفة المكذبين المستكبرين عن آياته، وما أعدلهم
من أنواع العذاب والخلود في النيران، أخبر بعده بما أعده للمؤمنين، العاملين
بالاعمال الصالحات، فقال " والذين آمنوا " يعني الذين صدقوا بآيات الله
واعترفوا بها، ولم يستكبروا عنها. ثم أضافوا إلى ذلك الاعمال الصالحات.
وهو ما أوجبه الله عليهم أو ندبهم إليه.
وقوله " لا نكلف نفسا إلا وسعها " فالتكليف من الله هو إرادة ما فيه
المشقة، وقال قوم: هو اعلام وجوب ما فيه المشقة أو ندبه. والإرادة شرط.
وقال قوم: التكليف هو تحميل ما يشق في الأمر والنهي، ومنه الكلفة،
وهي المشقة. وتكلف القول أي تحمل ما فيه المشقة حتى أتى على ما
ينافره العقل.
أخبر الله تعالى أنه لا يلزم نفسا إلا قدر طاقتها وما دونها، لان الوسع
دون الطاقة. وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة: من أن الله تعالى كلف
402

العبد ما لا قدرة له عليه ولا يطيقه.
وموضع " لا يكلف نفسا إلا وسعها " قيل فيه قولان:
أحدهما - أن يكون رفعا بأنه الخبر على حذف العائد، كأنه قيل:
منهم، ولا من غيرهم، وحذف لأنه معلوم.
والاخر - ألا يكون له موضع من الاعراب، لأنه اعتراض، والخبر
الجملة في (أولئك) لان قوله " والذين آمنوا " مبتدأ، وقوله " أولئك
أصحاب الجنة هم فيها خالدون " خبر بأن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ملازمون الجنة مخلدون لنعمتها.
قوله تعالى:
ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار
وقالوا الحمد لله الذي هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن
هدينا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة
أورثتموها بما كنتم تعملون (42) اية بلا خلاف.
نزع الغل في الجنة تصفية الطباع، وإسقاط الوساوس، وإعطاء كل
نفس مناها، ولا يتمنى أحد ما لغيره.
قرأ ابن عامر " ما كنا لنهتدي " بلا واو، وكذلك هي في مصاحف أهل
الشام. الباقون باثباتها. وجه الاستغناء عن الواو أن الجملة متصلة بما قبلها
فأغنى التباسها بها عن حرف العطف. ومثله " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم "
فاستغنى عن حرف العطف بالالتباس من احدى الجملتين بالأخرى. ومن
أثبت الواو فلعطفه جملة على جملة.
في هذه الآية إخبار عما يفعله بالمؤمنين في الجنة بعد أن يخلدهم فيها،
بأن ينزع ما في صدورهم من غل، فالنزع رفع الشئ عن مكانه المتمكن فيه،
403

إما بتحويله، وإما باعدامه. ومعنى نزع الغل - ههنا - إبطاله.
وقيل في ما ينزع الغل من قلوبهم قولان:
أحدهما - قال أبو علي: بلطف الله لهم في التوبة حتى تذهب صفة
العداوة.
الثاني - بخلوص المودة حتى يصير منافيا لغل الطباع.
والثاني أقوى، لان قوله " تجري من تحتهم الأنهار " حال لنزع الغل،
وكأنه قال: ونزعنا ما في صدورهم من غل في حال تجري من تحتهم الأنهار
وعلى الأولى يكون " تجري من تحتهم الأنهار " مستأنفا.
والغل: الحقد الذي ينقل بلطفه إلى صميم القلب، ومنه الغلول،
وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة، ومنه الغل الذي يجمع اليدين
والعنق بانغلاله فيها. والصدر: ما يصدر من جهته التدبير والرأي، ومنه
قيل للرئيس: صدر، وقيل صدر المجلس.
وقوله " تجري من تحتهم الأنهار " فالجريان انحدار المائع، فالماء
يجري، والدم يجري، وكذلك كل ما يصح أن يجري، فهو مائع، وجرى
الفرس في عدوه مشبه بجري الماء في لينه وسرعته.
وقوله " تجري من تحتهم الأنهار " فالنهر المجرى الواسع من مجاري
الماء، ومنه النهار لاتساع ضيائه، وانهار الدم لاتساع مخرجه.
وقوله " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن
هدانا الله " إخبار عن قول أهل الجنة واعترافهم بالشكر لله تعالى الذي
عرضهم له بتكليفه إياهم ما يستحقون به الثواب. وقيل: معنى " هدانا
لهذا " يعني لنزع الغل من صدورنا. وقيل: هدنا لثبات الايمان في قلوبنا.
وقيل: هدنا لجواز الصراط.
وقوله " لقد جاءت رسل ربنا بالحق " إقرار من أهل الجنة واعتراف
بأن ما جاءت به الرسل إليهم من جهة الله أنه حق لا شبهة فيه، ولا مرية
404

في صحته.
وقوله " ونودوا ان تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " فالنداء
الدعاء بطريقة يا فلان كأنه قيل لهم: أيها المؤمنون " أن تلكم الجنة
أورثتموها بما كنتم تعملون " جزاء لكم على ذلك، على وجه التهنئة لهم بها.
و (أن) مخففة من الثقيلة و (الهاء) مضمرة، والتقدير ونودوا بأنه
تلكم الجنة. وقال الزجاج " أن تلكم " تفسير للنداء، والمعنى قيل
لكم: تلكم الجنة. وإنما قال " تلكم " لأنهم وعدوا بها في الدنيا، وكأنه
قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها. ويجوز أن يكونوا عاينوها، فقيل لهم
- قبل أن يدخلوها - إشارة إليها " تلكم الجنة ".
ومن أدغم، فلان الثاء والتاء مهموستان متقاربتان فاستحسن الادغام.
ومن ترك الادغام في " أورثتموها " وهو ابن كثير، ونافع وعاصم وابن
عامر - فلتباين المخرجين، وأن الحرفين في حكم الانفصال، وإن كانا في كلمة
واحدة، كما لم يدغموا " ولو شاء الله ما اقتتلوا " (1) وإن كانا مثلين لا يلزمان
لان تاء (افتعل) قد يقع بعدها غير التاء، فكذلك أورث، قد يقع بعدها غير
التاء، فلا يجب الادغام.
واستدل الجبائي بذلك على أن الثواب يستحق بأعمال الطاعات، ولا يستحق
من جهة الأصلح، لان الله تعالى بين انهم أورثوها جزاء بما عملوه من طاعته
(عز وجل).
قوله تعالى:
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا
ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن

(1) سورة 2 البقرة آية 253.
405

مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين (43) آية
قرأ حمزة، والكسائي وابن كثير في رواية شبل (ان) مشددة النون.
الباقون خفيفة. وكذلك ابن كثير في رواية قنبل بتخفيف النون سكونها
ورفع (لعنة). الباقون بتشديد النون ونصب (لعنة). وقر أ الكسائي وحده
" قالوا نعم " بكسر العين. وفي الشعراء " قال نعم " وفي الصافات " قل
نعم " بفتح النون. قال أبو الحسن الأخفش: نعم ونعم لغتان، فالكسر لغة
كنانة وهذيل، والفتح لغة باقي العرب، وفي القراءة الفتح. وقال سيبويه
(نعم) عدة وتصديق فإذا استفهمت أجبت ب‍ (نعم). ولم يحك سيبويه
الكسر، ومعنى قوله: عدة وتصديق انه يستعمل عدة ويستعمل تصديقا،
ولا يريد أن العدة تجتمع مع التصديق ألا ترى انه إذا قال قائل: أتعطيني،
فقال: نعم، كان عدة، ولا تصديق في ذلك، وإذا قال: قد كان كذا وكذا،
فقلت نعم، فقد صدقته، ولا عدة في هذا.
وقوله " فأذن مؤذن " بمنزلة اعلم معلم، قال سيبويه: أذن اعلام
بصوت، فالتي تقع بعد العلم. و (أن) إنما هي المشددة أو المخفضة عنها
والتقدير اعلم معلم ان لعنة الله. ومن خفف (ان) كان على اضمار القصة
والحديث، فتقديره انه لعنة الله، ومثل ذلك قوله " وآخر دعواهم ان الحمد
لله رب العالمين " (1) والتقدير (انه) ولا تخفف (ان) الا مع اضمار الحديث
فالقصة تراد معها. ومن ثقل نصب ب‍ (ان) ما بعدها، كما ينصب بالمشددة
المكسورة. والمكسورة إذا خففت لا يكون ما بعدها على اضمار القصة
والحديث، كما تكون المفتوحة كذلك.
والفرق بينهما ان المفتوحة موصولة، والموصولة تقتضي صلتها، فصارت
لاقتضائها الصلة أشد اتصالا بما بعدها من المكسورة، فقدر بعدها الضمير
الذي هو من جملة صلتها، وليست المكسورة كذلك، لان (ان) المفتوحة

(1) سورة 10 يونس آية 10.
406

بمعنى المصدر، فلا بدلها من اسم وخبر، لأنها تلتغي بأن يكون دخولها
كخروجها، وليس كذلك (ان)، ومن المفتوحة قول الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا * ان هالك كل من يخفى وينتعل (2)
وأما قراءتهم في النور " ان غضب الله " (3) فان (ان) في موضع رفع
بأنه خبر المبتدأ، واما قراءة نافع " ان غضب الله " فحسن، وهو بمنزلة قوله
و " آخر دعواهم ان الحمد لله " (4) وليس لاحد ان يقول: هذا لا يستحسن
لان المخففة من الشديدة لا يقع بعدها الفعل حتى يقع عوض من حذف (ان)
ومن أنها تولى ما يليها من الفعل، يدل على ذلك " علم أن سيكون منكم " (5)
وقوله " لئلا يعلم أهل الكتاب ان لا يقدرون على شئ " (6) وذلك انهم
استجازوا ذلك وان لم يدخل معه شئ من هذه الحروف، لأنه دعاء، وليس
شئ من هذه الحروف يحتمل الدخول معه، ونظير هذا في أنه لما كان دعاء لم
يلزمه العوض قوله " نودي ان بورك من في النار ومن حولها " (7) فولي
قوله " بورك " (ان) وان لم يدخل معها عوض، كما لم يدخل في قراءة
نافع " ان غضب الله عليها " (8) والدعاء قد استجيز معه ما لم يستجز مع غيره
ألا ترى انهم قالوا: (اما ان جزاك الله خيرا من) حمله سيبويه على اضمار
القصة في (ان) المكسورة ولم يضمر القصة مع المكسورة الا في هذا الموضع.
وقوله " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار " معناه وقال أصحاب
الجنة يا أصحاب النار بعد دخول هؤلاء الجنة ودخول هؤلاء النار. والصاحب
هو المقارن للشئ على نية طول المدة، والصحبة والمقارنة نظائر، الا ان في
الصحبة الإرادة. ومنه قيل أصحاب الصحراء.

(2) ديوانه: 45 وتفسير الطبري 12 / 444 وغيرهما وسيأتي في 5 / 396
(3) سورة 24 النور آية 9
(4) سورة 10 يونس آية 10
(5) سورة 73 المزمل آية 20
(6) سورة 57 الحديد آية 29
(7) سورة 27 النمل آية 8
(8) سورة 24 النور آية 9.
407

وقوله " ان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " معناه وجدنا ما وعدنا الله
على لسان رسله من الثواب على الايمان وعمل الطاعات " فهل وجدتم ما وعدكم
ربكم " على ألسنتهم " حقا " جزاء على الكفر من العقاب وعلى معاصيه من
أليم العذاب، فأجابهم أهل النار: بأن " قالوا نعم " والغرض بهذا النداء
تبكيت الكفار وتوبيخهم، وان الله تعالى صدق فيما وعد به على لسان نبيه
ليحزن الكفار بذلك ويتحسروا عليه.
والوجدان على ضربين: أحدهما بمعنى العلم فهو يتعدى إلى مفعولين.
والاخر بمعنى الاحساس يتعدى إلى واحد. وإنما كان كذلك، لان الذي
بمعنى العلم يتعلق بمعنى الجملة، والذي يتعلق بالاحساس يتعلق بمعنى المفرد
من حيث إن الاحساس لا يتعلق بالشئ الا من وجه واحد.
وجواب الايجاب يكون (نعم) وجواب النفي (بلى)، لان (نعم)
تحقق معنى الخبر المذكورة في الاستفهام و (بلى) تحققه باسقاط حرف النفي.
وقوله " فأذن مؤذن بينهم " معناه نادى مناد نداء أسمع الفريقين " أن
لعنة الله على الظالمين " ولعنة الله غضبه وسخطه وعقوبته على من كفر به فيسر
بذلك أهل الجنة ويغتم أهل النار.
وقال الأخفش والزجاج: يجوز أن تكون (ان) بمعنى اي " قد وجدنا "
ولا يجب أن تكون (أن) بمعنى أي (قد وجدنا). ونادوهم مشرفين عليهم
من السماء في الجنة، لان الجنة في السماء، والنار في الأرض.
وقوله " وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " إنما أضافوا الوعد بالجنة إلى نفوسهم،
لان الكفار ما وعدهم الله بالجنة والثواب إلا بشرط أن يؤمنوا، فلما لم يؤمنوا
فكأنهم لم يوعدوا، وكذلك قوله " ما وعد ربكم " يعنون من العقاب لان
المؤمنين لما كانوا مطيعين مستحقين للثواب فكأنهم لم يوعدوا بالعقاب، وإنما
خص الكفار.
408

قوله تعالى:
الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة
كافرون (44) آية بلا خلاف.
" الذين " في موضع جر، لأنه صفة للظالمين، والتقدير ألا لعنة الله على
الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وذلك يبين ان المراد
بالظالمين الكفار، لان ما ذكرهم به من أوصاف الكفار.
والصد هو العدول عن الشئ عن قلى، والصد والاعراض بمعنى واحد، إلا أن
الصد يجوز ان يتعدى تقول: صده عن الحق يصده صدا، وصد هو
عنه أيضا، والاعراض لا يتعدى.
وقوله " عن سبيل الله " يعني الحق الذي دعا الله إليه ونصب عليه الأدلة
وبعث به رسله. وقيل: هو دين الله. وقيل: الطريق الذي دل الله على أنه
يؤدي إلى الجنة والمعنى متقارب.
وقوله " يبغونها عوجا " معنى يبغونها يطلبون لها العوج بالشبه التي
يلبسون بها ويوهمون انها تقدح فيها، وانها معوجة عن الحق بتناقضها.
و (العوج) بالكسر يكون في الطريق وفي الدين، وبالفتح يكون في الخلقة
كقولك: في ساقه عوج بفتح العين، قال الشاعر:
قفا نسأل منازل آل ليلى * على عوج إليها وانثناء (1)
بكسر العين، ويحتمل نصب عوجا أمرين:
أحدهما - أن يكون مفعولا به كقولك يبغون لها العوج.
الثاني - أن يكون نصبا على المصدر، وكأنه قال: يطلبونها هذا الضرب
من الطلب، كما تقول: رجع القهقرى أي هذا الضرب من الرجوع اي
طلب الاعوجاج.

(1) اللسان (عوج) وتفسير الطبري 12 / 448.
409

قوله تعالى:
وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم
ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم
يطمعون (45) آية بلا خلاف
قوله " وبينهما " يعني بين أصحاب الجنة وأصحاب النار " حجاب "
والحجاب هو الحاجز المانع من الادراك، ومنه قيل للضرير: محجوب،
وحاجب الأمير، وحاجب العين. وحجبه عنه أي منعه من الوصول إليه.
وقوله " وعلى الأعراف رجال " فالأعراف المكان المرتفع أخذ من عرف
الفرس ومنه عرف الديك، وكل مرتفع من الأرض يسمى عرفا، لأنه بظهوره
أعرف مما انخفض، قال الشماخ:
وظلت بأعراف تغالي كأنها * رماح نحاها وجهة الرمح راكز (1)
وقال آخر:
كل كناز لحمه نياف * كالعلم الموفى على الأعراف (2)
يعني بنشوز من الأرض، وقيل: هو سور بين الجنة والنار، كما قال
تعالى " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله
العذاب " (3) وهو قول مجاهد والسدي.
واختلفوا في الذين هم على الأعراف على أربعة أقوال:

(1) ديوانه: 53 ومجاز القرآن 1 / 215، وروايتهما (وظلت تغالي باليفاع
كأنها) وفي الطبري 12 / 449 مثل هنا تماما.
(2) مجاز القرآن 1 / 215 واللسان (نوف) والطبري 12 / 450.
(الكنار) المجتمع (والنياف) الطويل. و (العلم) الجبل.
(3) سورة 57 الحديد آية 13.
410

أحدها - أنهم فضلاء المؤمنين - في قول الحسن ومجاهد - قال أبو
علي الجبائي هم الشهداء، وهم عدول الآخرة، وقال أبو جعفر (ع) هم
الأئمة، ومنهم النبي صلى الله عليه وآله.
وقال أبو عبد الله (ع) الأعراف كثبان بين الجنة والنار، فيوقف عليها
كل نبي وكل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه، كما يوقف قائد الجيش
مع الضعفاء من جنده، وقد سبق المحسنون إلى الجنة، فيقول ذلك الخليفة
للمذنبين الواقفين معه انظروا إلى اخوانكم المحسنين، قد سبقوا إلى الجنة
فيسلم المذنبون عليهم. وذلك قوله " ونادوا أصحاب الجنة ان سلام عليكم ".
ثم اخبر تعالى " انهم لم يدخلوها وهم يطمعون " يعني هؤلاء المذنبين
لم يدخلوا الجنة، وهم يطمعون ان يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي والامام،
وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار، فيقولون " ربما لا تجعلنا فتنة للقوم
الظالمين ". ثم ينادي أصحاب الأعراف، وهم الأنبياء والخلفاء أهل النار
مقرعين لهم " ما أغنى عنكم جمعكم... أهؤلاء الذين أقسمتم " يعني
هؤلاء المستضعفين الذين كنتم تحتقرونهم وتستطيلون بدنياكم عليهم. ثم
يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر الله لهم بذلك " ادخلوا الجنة لا خوف
عليكم ولا أنتم تحزنون " (1).
ويؤكد ذلك ما رواه عمر بن شيبة وغيره: ان عليا (ع) قسيم الجنة
والنار، فروى بن شيبة بأسناده عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (يا علي كأني
بك يوم القيامة وبيدك عصا من عوسج تسوق قوما إلى الجنة وآخرين إلى النار).
الثاني - قال أبو مجلز: هم ملائكة يرون في صورة الرجال.
الثالث - قال حذيفة:، هم قوم تبطئ بهم صغائرهم إلى آخر الناس.
الرابع - قال الفراء والزجاج وغيرهما: هم قوم استوت حسناتهم
وسيئاتهم، فأدخلهم الله تعالى الجنة متفضلا عليهم. وطعن الرماني والجبائي

(1) سورة الأعراف آية 47 - 48.
411

على هذا الوجه بأن قالا: الاجماع منعقد على أنه لا يدخل الجنة من المكلفين
الا المطيع الله.
وهذا الذي ذكروه ليس بصحيح، لان هذا الاجماع دعوى ليس على
صحته دليل، بل من قال ما حكيناه لا يسلم ذلك، وأكثر المرجئة أيضا
لا يسلمون ذلك.
وقوله " يعرفون كلا بسيماهم " يعني هؤلاء الرجال الذين هم على
الأعراف يعرفون جميع الخلق بسيماهم أهل الجنة بسيما المطيعين وأهل النار
بسيما العصاة.
والسيماء العلامة، وهي في أهل النار سواد الوجوه ورزقة العيون، وفي
أهل الجنة بياض الوجوه وحسن العيون - في قول الحسن وغيره - وقيل في
وزن سيما قولان:
أحدهما - انه (فعلى) من سام إبله يسومها إذا أرسلها في المرعى، وهي
السائمة.
الثاني - ان وزنه وزن (فعلى)، وهو من وسمت، فقلبت الواو إلى
موضع العين، كما قالوا له جاه في الناس أي وجه، وقالوا: اضمحل واضمحل
وارض خامة أي وخيمة، وفيها ثلاث لغات القصر والمد. وسيماء، قال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا * له سيماء لا تشق على البصر (1)
على زنة (كبرياء). وقوله " ونادوا أصحاب الجنة " يعني هؤلاء الذين
على الأعراف ينادون يا أصحاب الجنة " سلام عليكم، لم يدخلوها وهم
يطمعون " قيل في الطامعين قولان:
أحدهما - قال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة انهم أصحاب
الأعراف. وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة الذين ما دخلوها بعد. والطمع -

(1) قائله سدير بن عنقاء الفزاري. الأغاني 17 / 117، والكامل 1 / 14
ومعجم الشعراء: 159، 323 وأمالي القالي 1 / 237 والحماسة 4 / 68.
412

ههنا - هو يقين بلا شك، لأنهم عالمون بذلك ضرورة. وهو مثل قول إبراهيم
" والذي أطمع ان يغفر لي خطيئتي يوم الدين " 2) ولم يكن إبراهيم (ع)
شاكا في ذلك بل كان عالما قاطعا، وإنما حسن ذلك لعظم شأن المتوقع في جلالة
النعمة به، وهو قول الحسن وأبي علي الجبائي وأكثر المفسرين.
قوله تعالى:
وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا
تجعلنا مع القوم الظالمين (46) آية بلا خلاف.
هذا اخبار من الله تعالى عن أحوال هؤلاء الذين على الأعراف انه إذا
صرف أبصارهم. والصرف هو العدول بالشئ من جهة إلى جهة. والتلقاء
جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، ولذلك كان ظرفا من ظروف المكان تقول: هو
تلقاك، كقولك هو حذاك. والابصار جمع بصر، وهو الحاسة التي يدرك بها
المبصر وقد يستعمل بمعنى المصدر، فيقال له: بصر بالأشياء أي علم بها، وهو
بصير بالأمور اي عالم. " وأصحاب النار " هم أهل النار وإنما يفيد " أصحاب "
انهم ملازمون لها. والأصل يقتضي المناسبة فيهم لسبب لازم، كالنسيب،
كما يقال أهل البلد.
وحد الرماني (النار) بأن يقال: جسم لطيف فيه الحرارة والضياء، وزيد
فيه ومن شأنه الاحراق.
وقوله " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " أي لا تجمعنا وإياهم في النار
وإنما حسنت المسألة مع علمهم الضروري بأن الله لا يفعل بهم ذلك، لما لهم في
ذلك من السرور بموقف الخاضع لله في دعائه الشاكر بخضوعه لربه، وكما
يجوز ان يريدوا من الله النعيم كذلك يجوز ان يسألوا السلامة من العذاب مع
العلم بهما. ونظير ذلك قوله تعالى " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه

(2) سورة 26 الشعراء آية 82.
413

نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا (1)
وإن كان النبي ومن معه من المؤمنين يعلمون ذلك.
قوله تعالى:
ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما
أغنى عنكم جمعكم وما كنتم وتستكبرون (47) آية بلا خلاف.
قوله " ونادى أصحاب الأعراف " معناه سينادي، وإنما جاز ان يذكر
الماضي بمعنى المستقبل، لامرين:
أحدهما - لتحقيق المعنى كأنه قد كان.
والثاني - على وجه الحكاية والحذف. التقدير إذا كان يوم القيامة
" نادى أصحاب الأعراف ".
ونادى معناه دعا، غير أن في (نادى) معنى امتداد الصوت ورفعه،
لأنه مشتق من النداء يقال: صوت نداء أي يمتد وينصرف خلاف الواقف،
وليس كذلك (دعا) لأنه قد يكون بعلامة كالإشارة من غير صوت ولا كلام،
ولكن إشارة تنبئ عن معنى يقال.
في هذه الآية اخبار وحكاية من الله تعالى ان أصحاب الأعراف ينادون
قوما يعرفونهم من الكفار بسيماهم من سواد الوجوه وزرقة العين وضروب من
تشويه الخلق يبينون به من أهل الجنة وغيرهم " ما أغنى عنكم جمعكم " معناه
ما نفعكم ذلك. وقيل في معنى (الجمع) قولان: أحدهما - جماعتكم التي
استندتم إليها. الثاني - جمعكم الأموال والعدد في الدنيا.
قوله " وما كنتم تستكبرون " معناه ولا نفعكم تكبركم وتجبركم في دار
الدنيا عن الانقياد لأنبياء الله واتباع امره.

(1) سورة 66 التحريم 8.
414

قوله تعالى:
أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا
خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (48) آية بلا خلاف.
قيل في القائل لهذا القول الذي هو " أهؤلاء الذين أقسمتم " قولان:
أحدهما - قال الحسن وأبو مجلز والجبائي وأكثر المفسرين: انهم
أصحاب الأعراف يقولون للكفار مشيرين إلى أهل الجنة " أهؤلاء الذين أقسمتم
لا ينالهم الله برحمة " وهذا يدل على أن الواقفين على الأعراف هم ذووا المنازل
الرفيعة والمراتب السنية.
الثاني - انه من قول الله تعالى في أصحاب الأعراف.
وقوله " أهؤلاء " مبتدأ وخبره " الذين أقسمتم " ولا يجوز أن يكون
(الذين) صفة لهؤلاء من وجهين: أحدهما - ان المبهم لا يوصف الا بالجنس.
والاخر - انه يبقى المبتدأ بلا خبر. ويجوز نصب (هؤلاء) بالفعل في " أهؤلاء
الذين " أقسمتم " ولا يجوز مع " الذين أقسمتم " لان ما بعد الموصول لا يعمل
فيما قبله، لأنه من تمام الاسم. والاقسام تأكيد الخبر تقول: والله وتالله،
للقطع عليه أو ليدخل في قسم ما يقطع به العمل عليه.
وقوله " لا ينالهم الله برحمة " فالنيل هو لحوق البر. واصله اللحوق،
تقول: نلت الحائط أناله نيلا إذا لحقته.
وقوله " ادخلوا الجنة " أمر بدخول الجنة للمؤمنين.
وقوله " لا خوف عليكم " فالخوف هو توقع المكروه، وضده الا من وهو
الثقة بانتفاء المكروه و " لا أنتم تحزنون " معناه ادخلوا الجنة، لا خائفين ولا
محزونين، وفائدة الآية تقريع الزارئين على ضعفاء المؤمنين حتى حلفوا أنهم
لا خير لهم عند الله، فقيل لهم " ادخلوا الجنة " على أكمل سرور وأتم كرامة.
415

قوله تعالى:
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء
أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (49)
آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية ان أصحاب النار يوم القيامة ينادون أصحاب الجنة
وأصحاب النار هم المخلدون في عذابها، لا جميع من فيها، لان فيها الزبانية
الموكلون بعذاب أهلها.
وإنما توعد الله بالعقاب بالنار دون اختراع لآلام أو غيره من الأسباب،
لأنه أهول في النفس وأعظم في الزجر، لما يتصور من الحال فيه، وما تقدم من
ادراك البصر له، وانهم يسألونهم ان يفيضوا عليهم شيئا من الماء. والإفاضة
اجراء المائع من عل، ومنه قولهم: أفاضوا في الحديث أي اخذوه بينهم من
أوله لأنه بمنزلة أعلاه. وأفاضوا من عرفات إلى مزدلفة معناه صاروا إليها.
قال الرماني: حد الماء جسم سيال يروي العطشان من غير غذاء الحيوان، وهو
جوهر عظيم الرطوبة يزيد على جميع المائعات في كثرة المنفعة.
وقوله " أو مما رزقكم الله " قال ابن زيد والسدي: طلبوا مع الماء شيئا
من الطعام. وقال أبو علي: طلبوا شيئا من نعيم الجنة، فأجابهم أهل الجنة
بتحريم المنع، لا تحريم العبادة، فقالوا: " ان الله حرمها على الكافرين " وإنما
جاز ان يطلبوا شيئا من نعيم الجنة مع اليأس منه، لأنهم لا يخلون من الكلام
به أو السكوت عنه، وكلاهما لا فرج لهم فيه. وإنما لم يدرك أهل الجنة -
مع خيريتهم - رقة على أهل النار، لان من الخيرية القسوة على أعداء الله وأعدائهم، وذلك من تهذيب طباعهم كما يبغض المسئ ويحب المحسن، وذلك
دلالة على أن الله تعالى بنى هذه الجملة بنية لا تستغني عن الغذاء، لان أهل
النار مع ما هم عليه من العذاب يطلبون الطعام والشراب.
416

قوله تعالى:
الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم
ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون (50)
آية بلا خلاف.
يحتمل قوله " الذين اتخذوا دينهم " أن يكون في موضع جز بأن يكون
صفة للكافرين، ويكون ذلك من قول أهل الجنة، وتقديره " إن الله حرمهما
على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ". ويحتمل أن يكون رفعا
بالابتداء ويكون إخبارا من الله تعالى على وجه الذم لهم.
و (اتخذوا) وزنه وزن (افتعلوا) والاتخاذ الافتعال، وهو أخذ الشئ
باعداد الامر من الأمور، فهؤلاء أعدوا الدين للهو واللعب. ومعنى الدين
- ههنا - ما أمرهم الله تعالى به ورغبهم فيه مما يستحق به الجزاء. واصل
الدين الجزاء، ومنه قوله " ملك يوم الدين " واللهو طلب صرف الهم بما لا يحسن
أن يطلب به، فهؤلاء طلبوا صرف الهم بالتهزئ بالدين وعيب المؤمنين، واللعب
طلب المدح بما لا يحسن ان يطلب به مثل حال الصبي في اللعب واشتقاقه من اللعاب
وهو المرور على غير استواء. وأصل اللهو الانصراف عن الشئ ومنه قوله
(إذا استأثر الله بشئ لاه عنه) أي انصرف عنه.
وقوله " وغرتهم الحياة الدنيا " فمعنى الغرور تزيين الباطل للوقوع
فيه، غره يغره غرورا. وإنما اغتروا هم بالدنيا في الحقيقة فصارت وكأنها
غرتهم. والدنيا هي النشأة الأولى. والآخرة النشأة الأخرى، وسميت الدنيا دنيا
لدنوها من الحال، وهما كرتان، فالكرة الأولى الدنيا، والكرة الثانية هي الآخرة.
وقوله " فاليوم ننساهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما - نتركهم من رحمتنا بأن نجعلهم في النار - في قول ابن عباس
417

والحسن ومجاهد والسدي - فسمى الجزاء على تركهم طاعة الله نسيانا، كما
قال " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (1) والجزاء ليس سيئة.
الثاني - أنه يعاملهم معاملة المنسيين في النار، لأنه لا يجاب لهم دعوة
ولا يرحم لهم عبرة - في قول الجبائي - " كما نسوا لقاء يومهم " معناه كما
تركوا الاستعداد للقاء يومهم، هذا على القول الأول. وعلى الثاني - كما
نسوا في أنهم لم يعملوا به مثل الناسين لذلك لا نجيب لهم دعوة، لأنهم نسوا.
وقوله " وما كانوا بآياتنا يجحدون " فالجحد إنكار معنى الخبر. واما
إنكار المنكر، فبكل ما يصرف عن فعله إلى تركه. و (ما) في الموضعين مع
ما بعدها بمنزلة المصدر، والتقدير كنسيانهم لقاء يومهم هذا، وكونهم
جاحدين لآياتنا.
قوله تعالى:
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم
يؤمنون (51) آية بلا خلاف.
هذا إخبار من الله تعالى أنه أتى هؤلاء الكفار بكتاب، المجئ نقل
الشئ إلى حضرة المذكور، جئته بكذا ضد ذهبت به عنه، لان ذلك نقل
إليه، وهذا نقل عنه. والكتاب المراد به القرآن. وأهل الكتاب صحيفة
فيها كتابة، والكتابة حروف مسطورة تدل بتأليفها على معان مفهومة.
وقوله " فصلناه " معناه ميزنا معانيه على وجه يزول معه اللبس،
والتفصيل والتبيين والتقسيم نظائر.
وقوله " على علم " معناه فصلناه، ونحن عالمون به، لأنه لما كانت
صفة (عالم) مأخوذة من العلم جاز أن يذكر ليدل به على العالم، كما أن
الوجود في صفة الموجود كذلك.

(1) سورة 42 الشورى آية 40.
418

وقوله " هدى ورحمة لقوم يؤمنون " إنما جعل القرآن نعمة على المؤمن
دون غيره مع أنه نعمة على جميع المكلفين من حيث أنهم عرضوا به للهداية،
غير أن المؤمن لما اهتدى به كانت النعمة بذلك عليه أعظم فأضيف إليه، وغير
المؤمن لم يتعرض للهداية فلم يهتد، فالمؤمنون على صفة زائدة.
وقوله " هدى ورحمة " يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب: النصب من
وجهين: الحال، والمفعول له، وبه القراءة. والرفع على الاستئناف، والجر
على البدل. وإنما لم يوصف القرآن بأنه هدى للكفار لئلا يتوهم أنهم اهتدوا
به وإن كان هداية لهم بمعنى أنه دلالة لهم وحجة.
قوله تعالى:
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين
نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء.
فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا
أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (52) آية بلا خلاف.
قوله " هل ينظرون " معناه هل ينتظرون. لان النظر قد يكون بمعنى
الانتظار، قال أبو علي: معناه هل ينتظر بهم أو هل ينتظر المؤمنون بهم
إلا ذلك. وإنما أضافة إليهم مجازا، لأنهم كانوا جاحدين لذلك غير متوقعين،
وإنما كان ينتظر بهم المؤمنون، لايمانهم بذلك واعترافهم به. والانتظار هو
الاقبال على ما يأتي بالتوقع له. وأصله الاقبال على الشئ بوجه من الوجوه.
وإنما قيل لهم: ينتظرون وإن كانوا جاحدين، لأنهم في منزلة المنتظر أي كأنهم
ينتظرون ذلك، لأنه يأتيهم لا محالة إتيان المنتظر.
والتأويل معناه ما يؤول إليه حال الشئ تقول: أوله تأويلا، وتأوله
تأولا، وآل إليه أمره يؤول أولا، وقيل " تأويله " عاقبته من الجزاء به - في
419

قول الحسن وقتادة ومجاهد - وقال أبو علي " تأويله " ما وعدوا به من
البعث والنشور والحساب والعقاب.
وقوله " يقول الذين نسوه من قبل " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال مجاهد: أعرضوا عنه فصار كالمنسي.
الثاني - قال الزجاج: يقول الذين تركوا العمل به.
وقوله " قد جاءت رسل ربنا بالحق " إخبار عن اعتراف الكفار الذين
أعرضوا عن حجج الله وبيناته والاقرار بتوحيده ونبوة أنبيائه، وإقرار منهم
بأن ما جاءت به الرسل كان حقا. والحق ما شهد بصحته العقل، وضده
الباطل، وهو ما يشهد بفساده العقل.
وقوله " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا " والشفيع هو السائل لصاحبه
اسقاط العقاب عن المشفع فيه، والعفو عن خطيئته فيتمنون ذلك مع يأسهم
منه - في قول أبي علي - وقوله " فيشفعوا لنا " في موضع نصب، لأنه
جواب التمني بالفاء " أو نرد " عطف بالرفع على تأويل هل يشفع لنا شافع
" أو نرد " ولو نصب " أو نرد " كان جائزا. ومعناه فيشفعوا لنا إلا أن
نرد، وما قرئ به.
وقوله " فنعمل غير الذي كنا نعمل " إخبار من الكفار وتمنيهم أن
يردوا إلى الدنيا حتى يعملوا غير ما عملوه من الكفر والضلال. فأخبر الله
تعالى عند ذلك، فقال " قد خسروا أنفسهم " أي أهلكوها بالكفر والمعاصي
" وضل عنهم ما كانوا يفترون ".
وفى الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة من وجهين:
أحدهما - أنهم كانوا قادرين على الايمان في الدنيا فلذلك طلبوا تلك
الحال، ولو لم يكونوا قادرين لما طلبوا الرد إلى الدنيا والى مثل حالهم الأولى.
والاخر - بطلان مذهب المجبرة في تكليف أهل الآخرة، قال أبو علي:
وهو مذهب الحسين النجار وهو خلاف القرآن والاجماع، ولو كانوا
420

مكلفين لما طلبوا الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا بل كانوا يؤمنون في الحال.
ومعنى " خسروا أنفسهم " أي منعوا من الانتفاع بها، ومن منع الانتفاع
بنفسه فقد خسرها " وضل عنهم ما كانوا يفترون " معناه ضل عنهم ما كانوا
يدعون أنهم شركاء لله وآلهة معه، وهذا كان افتراؤهم على الله.
قوله تعالى:
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام
ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق
والامر تبارك الله رب العالمين (53) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة الا حفصا ويعقوب " يغشي الليل " بالتشديد، وكذلك
في الرعد. وقرأ ابن عامر " والشمس والقمر والنجوم مسخرات " بالرفع
فيهن. الباقون بالنصب.
هذا خطاب من الله تعالى لجميع الخلق وإعلام لهم بأن ربهم الذي أحدثهم
وأنشأهم هو الله تعالى " الذي خلق " بمعنى اخترع " السماوات والأرض "
فابتدعهما وأوجدهما لا من شئ، ولا على مثال " في ستة أيام " وقيل: إن
هذه الستة أيام هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.
فاجتمع له الخلق في يوم الجمعة، فلذلك سميت: جمعة - في قول مجاهد -
و (السماوات) إنما جمعت بالواو، لأنه رد إلى أصله، لان أصله سماوة،
وليس مثل ذلك (قراءة) لان أصلها الهمزة، ولذلك قيل في الجمع قراءات.
والوجه في خلقه إياهما " في ستة أيام " مع أنه قادر على إنشائهما دفعة واحدة
قيل فيه وجوه:
أحدها - أن تدبير الحوادث على إنشاء شئ بعد شئ على ترتيب،
421

أدل على كون فاعله عالما قديرا يصرفه على اختياره ويجريه على مشيئته.
وقال أبو علي: ذلك لاعتبار الملائكة بخلق شئ بعد شئ. وقال الرماني:
يجوز أن يكون الاعتبار بتصور الحال في الاخبار، ومعناه إذا أخبر الله تعالى
بأنه " خلق السماوات والأرض في ستة أيام " كان فيه لطف للمكلفين،
وكان ذلك وجه حسنه.
وقوله " ثم استوى على العرش " قيل في معناه قولان:
أحدهما - أنه استولى كما قال البغيث:
ثم استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (1)
يريد بشر بن مروان.
الثاني - قال الحسن: استوى أمره. وقيل في معنى " ثم استوى " ثلاثة أقوال:
أحدها - قال أبو علي: ثم رفع العرش بأن استولى عليه ليرفع.
الثاني - ثم بين أنه مستوي على العرش.
الثالث - ثم صح الوصف بأنه مستوي على العرش، لأنه لم يكن
عرشا قبل وجوده.
وقوله " يغشى الليل النهار " معناه يجلل الليل النهار أي يدخل عليه.
وقال الأزهري: أقبل عليه. والاغشاء هو إلباس الشئ ما رق بما يجلله، ومنه
غاشية السرج، والغشاوة التي تخرج على الولد، وغشي على الرجل إذا غشيه
ما يزيل عقله من عارض علة.
ومن شدد العين، فلانه يدل على الكثرة. وغشى فعل يتعدى إلى مفعول
واحد، كقوله " وتغشى وجوههم النار " (2) فإذا نقلته بالهمزة أو التضعيف
تعدى إلى مفعولين، وقد ورد القرآن بهما قال الله تعالى " فأغشيناهم فهم

(1) مر هذا البيت في 1 / 125 و 2 / 396، وسيأتي في 5 / 386.
(2) سورة 14 إبراهيم آية 50.
422

لا يبصرون " (3) فالمفعول الثاني محذوف، وتقديره فأغشيناهم العمى،
وفقد الرؤية. وبالتضعيف نحو قوله " فغشاها ما غشى " (4) (ما) في
موضع نصب بأنه مفعول ثان.
ومن خفف، فلانه يحتمل القليل. والكثير، والليل هو الذي يلبس
النهار في هذا الموضع، لأنه منقول من غشي الليل النهار.
وقوله " يطلبه حثيثا " معناه أنه يستمر على منهاج واحد وطريقة واحدة
من غير فتور يوجب الاضطراب، كما يكون في السوق الحثيث.
وقيل: إن معنى الحثيث السريع بالسوق.
وقوله " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " عطف على " خلق
السماوات " كأنه قال وخلق " الشمس والقمر والنجوم مسخرات " وهي
نصب على الحال، ومن رفع استأنف وأخبر عنها بأنها مسخرة.
وقوله " ألا له الخلق والامر " إنما فصل الخلق من الامر، لان فائدتهما
مختلفة " لان له الخلق " يفيد أن له الاختراع، " وله الامر " معناه له أن
يأمر فيه بما أحب فأفاد الثاني ما لم يفده الأول.
فمن استدل بذلك على أن كلام الله قديم، فقد تجاهل لما بينا، ولو كان
معناهما واحدا لجاز أيضا مع اختلاف اللفظين، كما قالوا: كذب ومين
وأشباهه. وقوله " تبارك الله رب العالمين " معناه تبارك تعالى بالوحدانية
فيما لم يزل ولا يزال وأصله الثبات من قول الشاعر:
ولا ينجي من الغمرات إلا * براكاء القتال أو الفرار (1)
فهو بمعنى تعالى بدوام الثبات. ويحتمل تعالى بالبركة في ذكر اسمه.
وقيل في معنى (العرش) قولان:

(3) سورة 36 يس آية 9.
(4) سورة 53 النجم آية 54.
(1) قائله بشر بن أبي خازم. اللسان (برك). البراكاء: الثبات في
الحرب والمقاتلة بجد.
423

أحدهما - أنه سرير تعبد الله تعالى الملائكة بحمله.
وقيل: المراد به الملك.
قوله تعالى:
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (54) آية
قرأ أبو بكر " خفية " بكسر الخاء - ههنا - وفي الانعام. الباقون
بضمهما، وهما لغتان. أمر الله تعالى عباده المكلفين أن يدعوه والدعاء، طلب
الفعل بطريقة (اللهم افعل) وقد يجئ بطريقة غفر الله له، فهذه صيغة الخبر،
والأول صيغة الامر غير أنه إنما يسمى أمرا إذا كان المقول له دون القائل، وإن
كان فوقه سمي دعاء وطلبا. وأما قول القائل: يا لله يا رحمن يا رحيم يا غفور
يا قدير يا سميع وما أشبه ذلك من أسماء الله، فإنما هو على جهة النداء
ومعناه التعظيم.
وقوله " تضرعا " فالتضرع التذلل، وهو اظهار الذل الذي في النفس،
ومثله الخشع ومنه الطلب لامر من الأمور. وأصل التضرع الميل في الجهات
ذلا من قولهم: ضرع الرجل يضرع ضرعا إذا مال بأصبعه يمينا وشمالا،
ذلا وخوفا. ومنه ضرع. ومنه ضرع الشاة، لان اللبن يميل. ومنه المضارعة للمشابهة
لأنها تميل إلى شبهه بمعنى المقاربة، والضريع نبت لا يسمن ولا يغني من
جوع، لأنه يميل مع كل داء.
وقوله " وخفية " فالخفية خلاف العلانية. قال ابن عباس: الخفية هي
السر، وبه قال الحسن. وقال أبو علي: إنما ذاك لئلا يشوب الدعاء معنى
الرياء، وحد الاخفاء خلاف حد الاظهار، والاظهار اخراج الشئ إلى حيث
يقع عليه الادراك. والاخفاء إغماضه بحيث لا يقع عليه الادراك.
وقوله " إنه لا يحب المعتدين " فالمحبة من الله تعالى للعبد إرادة الثواب،
ولذلك يحب المؤمن ولا يحب الكافر، ويحب الصلاح ولا يحب الفساد.
424

والاعتداء تجاوز حد الحق أي لا تتجاوز واحد الحق في الدعاء فتطلبوا منازل
الأنبياء وما لا يجوز أن يعمل في الدنيا - في قول أبي مجلز - وقال ابن
جريج يكره الصياح في الدعاء و " تضرعا وخفية " مصدر ان في موضع الحال،
وتقديره ادعوا الله متضرعين في حال السر والعلانية. والخفية والاخفاء، والخيفة
والخوف والرهبة نظائر. والهمزة في الاخفاء منقلبة عن الياء بدلالة الخفية
والاخفاء، ضد الاعلان. ويقال أحفيت الشئ إذا أظهرته قال الشاعر:
يحفى التراب بأظلاف ثمانية (1)
قوله تعالى:
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا
إن رحمت الله قريب من المحسنين (55) آية بلا خلاف.
نهى الله تعالى في هذه الآية عن الفساد في الأرض وهو الاضرار بما تمنع
الحكمة منه يقال: أفسد الحر التفاحة إذا أخرجها إلى حال الضرر بالتغيير.
والاصلاح النفع بما تدعو إليه الحكمة ولذلك لم تكن الآلام في النار
إصلاحا لأهلها، لأنه لا نفع لهم فيها. وقال الحسن: إفساد الأرض بالقتل
للمؤمنين والاعتداء عليهم. وقيل: إفساد الأرض العمل فيها بمعاصي الله،
وإصلاحها العمل فيها بطاعة الله.
وقوله " وادعوه خوفا وطمعا " أمر من الله تعالى لهم أن يدعوه خوفا
وطمعا، وهما منصوبان على المصدر، وهما في موضع الحال. وتقديره ادعوا
ربكم خائفين من عقابه طامعين في ثوابه. والخوف هو الانزعاج بما لا يؤمن،
والامن سكون النفس إلى انتفاء المضار، والخوف يكون بالعصيان.
والامن بالايمان. والطمع توقع المحبوب، ونقيضه اليأس وهو القطع

(1) مر في 2 / 71 كاملا.
425

بانتفاء المحبوب.
وقوله " إن رحمة الله قريب من المحسنين " إخبار منه تعالى أن رحمته
قريبة واصلة إلى المحسن. والاحسان هو النفع الذي يستحق به الحمد.
والإساءة هي الضرر الذي يستحق به الذم. وقيل: المراد بالمحسنين من
تكون أفعاله كلها حسنة وهذا لا يقتضيه الظاهر، بل الذي يفيده أن رحمة
الله قريب إلى من فعل الاحسان، وليس فيها أنها لا تصل إلى من جمع بين
الحسن والقبيح بل ذلك موقوف على الدليل. وقال الفراء: إنما لم يؤنث
قوله " قريب " وهو وصف ل‍ (رحمة) لأنه ذهب مذهب المكان، وما يكون
كذلك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. ولو ذهب به مذهب النسب أنث وثني
وجمع قال عروة بن حزام:
عشية لا عفراء منك قريبة * فتدنوا ولا عفراء منك بعيد (1)
وقال الزجاج هذا غلط بل كل ما قرب من مكان أو نسب فهو جائز عليه
التأنيث والتذكير. وجعله الأخفش من باب الصيحة والصياح، لان الرحمة
والاحسان والانعام من الله واحد. وقال بعضهم المراد بالرحمة هاهنا المطر
فلذلك ذكر.
قوله تعالى:
وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا
أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا

(1) ديوانه: 48، ومعاني القرآن للفراء 1 / 381 وتفسير الطبري
12 / 488 والبكري في شرح الأمالي 401 وتفسير أبي حيان 4 / 313 وقد روي:
عشية لا عفراء منك بعيدة * فتسلو ولا عفراء منك قريب.
426

به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (56)
آية بلا خلاف.
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف " الريح " على التوحيد، ههنا
وفي النمل، والثاني من الروم وفي فاطر وقرأ عاصم " بشرا " بالباء وضمها
وسكون الشين. وقرأه نافع بالنون وضمها وضم الشين وهم أهل الحجاز
والبصرة، وكذلك الخلاف في الفرقان، والنمل.
قال أبو علي (الريح) اسم على وزن (فعل)، والعين منه واو فانقلبت
ياء في الواحد للكسرة وصحت في الجمع القليل، لأنه لا شئ يوجب الاعلال
ألا ترى أن الفتحة لا توجب اعلال هذه الواو في مثل يوم وقول وعون قال
ذو الرمة:
إذا هبت الأرواح من نحو جانب * به آل مي هاج شوقي هبوبها (1)
وليس ذلك كعيد وأعياد، لان هذا بدل لازم وليس البدل في الريح
كذلك. فاما في الجمع الكثير فرياح انقلبت الواو بالكسرة التي قبلها كما انقلبت في
نحو ديمة وديم، وحيلة وحيل، وفي رياح أجدر، لوقوع الألف بعدها، والألف
تشبه الياء، والياء إذا تأخرت عن الواو وجب فيها الاعلال فكذلك الألف
لشبهها بها، والريح على لفظ الواحد، ويجوز ان يراد بها الكثرة، لقولهم:
كثير الدرهم والدينار، وقوله " إن الانسان لفي خسر " ثم قال " إلا الذين
آمنوا " (2) فكذلك من قرأ " الريح بشرا " فأفرد، ووصفه بالجمع، فإنه
حملها على المعنى. وقد أجاز أبو الحسن ذلك وقال الشاعر:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا (3)

(1) تفسير ابن حيان 4: 316.
(2) سورة 103 العصر آية 2 - 3.
(3) قائله عنترة وتمام البيت:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة * سودا كخافية الغراب الاسحم.
427

ومن نصب جاء قوله على المعنى، لان المفرد يراد به الجمع، وهذا وجه
قراءة ابن كثير لأنه أفرد (الريح) ووصفه بالجمع، فلا يكون (الريح) على
هذا اسم جنس وقول من جمع الريح إذا وصفها بالجمع أحسن إذ الحمل على
المعنى أقل من الحمل على اللفظ، ويؤكد ذلك قوله " الرياح مبشرات " (4)
فلما وصفت بالجمع جمع الموصوف أيضا. فأما ما جاء في الحديث من أن
النبي صلى الله عليه وآله كان يقول إذا هبت ريح: (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا)
فلان عامة ما جاء بلفظ الرياح السقيا والرحمة، كقوله " وأرسلنا الرياح
لواقح " (5) وقوله " ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات " (6) وقوله " الله
الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء " (7). وما جاء بخلاف
ذلك جاء على الافراد كقوله " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " (8)
وقوله " وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر " (9) وقوله " بل هو ما استعجلتم
به ريح فيها عذاب اليم " (10).
قال أبو عبيدة " نشرا " أي متفرقة من كل جانب، وقال أبو زيد:
انشر الله الموتى إنشارا إذا بعثها وأنشر الله الريح مثل أحياها، فنشرت الجنوب
وأحييت، والدليل على ذلك قول المراد الفقسي:
وهبت له ريح الجنوب وأحييت * له ريدة يحيي المياه نسيمها (1)
والريدة والريدانة الريح، قال الشاعر:

(4) سورة 30 الروم آية 46.
(5) سورة 15 الحجر آية 22.
(6) سورة 30 الروم آية 46.
(7) سورة 30 الروم آية 48.
(8) سورة 51 الذاريات آية 41.
(9) سورة 69 الحاقة آية 6.
(10) سورة 46 الأحقاف آية 24.
(1) اللسان (ريد) وتفسير أبي حيان 4 / 316، ورواية اللسان (الممات)
بدل (المياه).
428

إني لأرجو أن تموت الريح * فأقعد اليوم واستريح (2)
ومن قرأ " نشرا " بضم النون والشين يحتمل ضربين: جمع ريح، ريح
نشور وريح ناشر، ويكون على معنى النسب فإذا جعله جمع نشور احتمل
أمرين: أحدهما - أن يكون النشور بمعنى المنشر كما أن الركوب بمنزلة
المركوب كان المعنى ريح أو رياح منشرة، ويجوز أن يكون نشرا جمع نشور
يريد به الفاعل مثل طهور ونحوه من الصفات. ويحتمل أن يكون نشر جمع
ناشر كشاهد وشهد ونازل ونزل وقايل وقيل، قال الأعشى:
إنا لأمثالكم يا قومنا قيل (3)
وقول ابن عامر (بشرا) يحتمل الوجهين: أن يكون جمع فعول وفاعل
فخفف العين، كما خفف في كتب ورسل، ويكون جمع فاعل كبارك وبرك
وغايظ وغيظ.
ومن فتح النون وسكون الشين فإنه يحتمل ضربين: أحدهما - أن يكون
المصدر حالا من الريح فذا جعلته حالا منها احتمل أمرين أحدهما - أن
يكون النشر الذي هو خلاف الطبي، كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية، ويجوز
على تأويل أبي عبيدة أن تكون متفرقة في وجوهها. والاخر - أن يكون
النشر الذي هو الحياة من قوله:
حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر (4)
فإذا حملته على ذلك - وهو الوجه - كان المصدر يراد به الفاعل،
كما تقول أتافا ركضا أي راكضا، ويجوز أن يكون المصدر يراد به المفعول
كأنه يرسل الرياح انشارا أي محياة فحذف الزوائد من المصدر، كما يقال

(2) اللسان (نشر) وتفسير أبي حيان 4 / 316.
(3) ديوانه: 47 قصيدة 6 وروايته (قتل) بدل (قيل) وصدره:
* كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم *
(4) تفسير أبي حيان 4 / 316 واللسان (نشر).
429

عمرك الله. وكما يقال: فان يهلك فذلك كان قدري أي تقديري. والضرب
الاخر - أن يكون " نشرا " على هذه القراءة ينصب انتصاب المصادر من
باب " صنع الله " (5) لأنه إذا قال يرسل الرياح دل هذا الكلام على تنشير
الريح نشرا.
وقراءة عاصم " بشرا " بالباء فهو جمع بشير وبشر من قوله " يرسل
الرياح مبشرات " (6) أي تبشر بالمطر والرحمة وجمع بشير) على (بشر)
ككتاب وكتب.
لما أخبر الله تعالى في الآية الأولى أنه الذي خلق السماوات والأرض
وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات، وأنه الذي يجلل الليل النهار،
عطف على ذلك بأن قال " وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته "
تعدادا لنعمه على خلقه. والارسال هو الاطلاق بتحميل معنى، كما تقول:
أرسلت فلانا أي حملته رسالة، فلما أطلق الله الرياح كان ذلك بمنزلة المطوي
في الامتناع من الادراك ثم صارت تدرك في الآفاق، كانت كنشر الثوب بعد
طيه في الادراك قال امرؤ القيس:
كان المدام وصوب الغمام * وريح الخزامي ونشر القطر (7)
وقال الفراء: النشر من الرياح: الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب،
والسحاب الغيم الجاري في السماء مشتقا من الاسحاب، يقال: سحبه سحبا
وأسحب إسحابا وتسحب تسحبا.
وقوله " بين يدي رحمته " معناه قدام رحمته، كما يقدم الشئ بين يدي

(5) سورة 27 النمل آية 88.
(6) سورة 30 الروم آية 46.
(7) ديوانه: 79 واللسان (نشر) وتفسير الطبري 12 / 490 يصف
صاحبته بأن ريح فمها ذا نكهة طيبة عند قيامها من النوم. والقطر: عود
طيب الرائحة.
430

الانسان، كما قال لما خلقت بيدي " (8) أي توليت خلقه، كما يقول الانسان:
عملت بيدي، والرحمة يراد بها - ههنا - الغيث.
وقوله " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " فلا قلال حمل الشئ بأسره حتى
يقل في طاقة الحامل له بقوة جسمه، يقال: استقل بحمله استقلالا. وأقله
إقلالا، والثقال جمع ثقيل والثقيل ما فيه الاعتماد الكثير سفلا. وقال قوم:
هو ما تجمع أجزاؤه كالذهب والحجر، وقد يكون بكثرة ما حمل كالسحاب
الذي يثقل بالماء.
وقوله " سقناه لبلد ميت " أي إلى بلد، فالسوق حث الشئ في السير
حتى يقع الاسراع فيه، ساقه يسوقه سوقا، واستاقه استياقا، وساوقه
مساوقة، وتساوقوا تساوقا، وتسوق تسوقا، وانساق انسياقا، وسوقه
تسويقا.
(والبلد الميت) هو الذي اندرست مشاربه وتعفت مزارعه.
وقوله " فأنزلنا به الماء " الهاء في (به) راجعة إلى البلد. ويحتمل أن
تكون راجعة إلى السحاب. وقوله " فأخرجنا به من الثواب " فالهاء في (به)
يحتمل أن تكون راجعة إلى البلد، ويكون التقدير أخرجنا بهذا البلد.
ويحتمل أن تكون راجعة إلى الماء، فكأنه قال فأخرجنا بهذا الماء من كل
الثمرات. ويحتمل أن تكون (من) للتبعيض. ويحتمل أن تكون لتبيين الجنس.
وقوله " كذلك نخرج الموتى " معناه كما أخرجنا الثمرات. كذلك
نخرج الموتى بعد موتها بأن نحييها " لعلكم تذكرون " معناه لكي تتذكروا،
وتتفكروا وتعتبروا بأن من قدر على انشاء الأشجار والثمار في البلد الذي لا ماء
فيه ولا زرع، فإنه يقدر على أن يحيي الأموات بأن يعيدها إلى ما كانت عليه
بأن يخلق فيها الحياة والقدرة.
واستدل البلخي بهذه الآية على أن كثيرا من الأشياء تكون بالطبع.

(8) سورة 38 ص آية 75.
431

قال: لان الله تعالى بين انه يخرج الثمرات بالماء الذي ينزله من السماء، قال:
ولا ينبغي أن ينكر ذلك وإنما ينكر قول من يقول بقدم الطبائع أو قول من
يقول: إن الجمادات تفعل. فأما من قال: إن الله تعالى يفعل هذه الأشياء
غير أنه يفعلها تارة مخترعة بلا وسائط وتارة بوسائط، فلا كراهة في ذلك
كما تقول في السبب والمسبب، وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأنه إن
أشار بالطبع إلى رطوبات مخصوصة ويبوسات مخصوصة، فلا خلاف في ذلك
غير أن هذه الأشياء لا تتولد عنها ذوات أخر، بل ما يحصل عندها الله تعالى
يفعلها مبتدأ، وليس كذلك السبب والمسبب، لان السبب الذي يفعل الفعل
بها وهو الاعتماد والمجاوزة يوجب التأليف، وما عدا ذلك فليس فيه شئ
تولد أصلا، وإن أراد بالطبع غير هذا المعقول فليس في الآية دلالة على
صحته بحال.
قوله تعالى:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج
إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون (57)
آية بلا خلاف.
قرأ أبو جعفر " نكدا " بفتح الكاف. الباقون بكسرها، والوجه في
ذلك أنهما لغتان. وحكى الزجاج (نكدا) بضم النون وسكون الكاف.
ولا يقرأ به. وقال الفراء: يقتضي القياس أيضا (نكدا) بضم الكاف،
وفتح النون، غير أني لم أسمعه مثل دنف ودنف وحذر وحذر، ويقظ
ويقظ ويقظ، بالفتح والضم والكسر.
قوله " والبلد الطيب " فالبلد هو الأرض التي تجمع الخلق الكثير،
وتنفصل بما لهم فيها من العمل، واا. والبلدة خلاف الفلاة، والصحراء،
وأما البادية فكالبلد للأعراب ونحوهم من الأكراد والأتراك. والطيب ما فيه
432

أسباب التلذذ، وضده الخبيث، وهو ما فيه أسباب النكرة. وقال ابن
عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي: هذا مثل، ضربه الله للمؤمنين فشبه
المؤمن - وما يفعله من الطاعات والافعال، والانتفاع بما أمره الله ونهاه
عنه - بالأرض العذبة التربة التي تخرج الثمرة الطيبة بما ينزله الله عليها من
الماء العذب، والكافر - وما يفعله من الكفر والمعاصي - بالأرض السبخة
الملحة التي لا ينتفع بنزول المطر عليها، فينزع عنها البركة.
وقوله " يخرج نباته باذن ربه " فالاخراج نقل الشئ من محيط به إلى
غيره، فهذا النبات كأنه كان في باطن الأرض فخرج منه، (والاذن) هو
الاطلاق في الفعل برفع المنعة فيه، فكذلك منزلة هذا البلد، كأنه قد أطلق
في اخراج النبت الكريم.
ووجه ضرب المثل بالأرض الطيبة والأرض الخبيثة مع أنهما من فعل الله
وكلاهما حكمة وصواب، والطاعات والمعاصي أحدهما بأمر الله والاخر بخلاف
أمره، هو أن الله تعالى لما جعل المنفعة بأحدهما والمضرة بالاخر مثل بذلك
الانتفاع بالعمل الصالح والاستضرار بالمعاصي والقبائح.
وقوله " والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " فالنكد العسر بشدته الممتنع
من إعطاء الخير على وجه البخل تقول: نكد ينكد نكدا، فهو نكد ونكد.
وقد نكد إذا سئل فبخل، ونكد ينكد نكدا، قال الشاعر:
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن * أعطيت أعطيت تافها نكدا (1)
وقال الآخر:
واعط ما أعطيته طيبا * لا خير في المنكود والناكد (2)
وقال السدي: النكد القليل الذي لا ينتفع به. وقوله " كذلك نصرف
الآيات لقوم يشكرون " فالتصريف توجيه الشئ في جهتين فصاعدا، فلما

(1) مجاز القرآن 1 / 217 واللسان (تفه) وتفسير الطبري 12 / 495.
(2) اللسان (نكد) وتفسير الطبري 12 / 495.
433

كان معنى الآية يوجه في الدلالات المختلفة كانت الآية متصرفة، فالنشأة الثانية
مصرفة بأنها كاحياء الأرض بالماء للبنات، وبأنها كالخارج من الأرض في
الاختلاف، فمنه طيب، ومنه خبيث، وبأنها في حال المؤمن المؤمن والكافر، كحال
الأرض في الطيب والخبث. والمعنى أنه تعالى يبين لهم آية بعد آية، وحجة
بعد أخرى، ويضرب مثلا بعد مثل " لقوم يشكرون " الله على إنعامه عليهم
هدايته إياهم لما فيه نجاتهم وتبصيرهم سبيل أهل الضلال وأمره إياهم تجنب
ذلك والعدول عنه.
قوله تعالى:
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم
من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (58)
آية واحدة بلا خلاف.
قرأ أبو جعفر والكسائي " من إله غيره " - بخفض الراء وكسر الهاء
ووصلها - بناء في اللفظ حيث وقع. الباقون بضم الراء وضم الهاء وإشباعها
بالواو، قال الكسائي تقديره ما لكم غيره من إله. في قراءة نافع.
قال أبو علي الفارسي: من جر جعل (غير) صفة ل‍ (إله) على اللفظ
وجعل (لكم) مستقرا أو غير مستقر، وأضمر الخبر، والخبر ما لكم في الوجود
أو في العالم ونحو ذلك لابد من هذا الاضمار إذا لم يجعل (لكم) مستقرا،
لان الصفة. والموصوف لا يستقل بهما الكلام.
ومن رفع حجته قوله " وما من إله إلا الله " (1) فكما أن قوله " إلا الله "
بدل من قوله " من إله " كذلك قوله " غيره " يكون بدلا من قوله " من إله "
و (غير) يكون بمنزلة الاسم الذي بعد (إلا)، وهذا الذي ذكرناه أولى

(1) سورة 3 آل عمران آية 62.
434

أن يحمل عليه من أن يجعل (غير) صفة ل‍ (إله) على الموضع. فان قلت
ما ينكر أن يكون " إلا الله " صفة ل‍ (إله)؟ قيل: إن (الا) بكونها
استثناء أعرف وأكثر من كونها صفة. وإنما جعلت صفة على التشبيه بغير،
فإذا كان الاستثناء أولى حملنا " هل من خالق غير الله " (2) على الاستثناء من
النفي في المعنى، لان قوله " هل من خالق غير الله " بمنزلة ما من خالق غير
الله، ولابد من اضمار الخبر، كأنه قال: ما من خالق للعالم غير الله، ويؤكد
ذلك قوله " لا إله الا الله " (3) فهذا استثناء من منفي مثل لا أجد في الدار
إلا زيدا.
فأما حمزة والكسائي فإنهما جعلا (غير) صفة لخالق وأضمرا الخبر، كما
تقدم. والباقون جعلوه استثناء بدلا من النفي، وهو أولى لما تقدم من
الاستشهاد عليه من قوله " وما من إله إلا الله " (4).
أخبر الله تعالى وأقسم على خبره - لان اللام في قوله " لقد " لام
القسم - بأنه أرسل نوحا (ع) إلى قومه وإرساله إياه هو تكليفه القيام
بالرسالة وهي منزلة جليلة شريفة يستحق بها الرسول بتقلبه إياها والقيام
بأعبائها أن يعظم أعلى تعظيم البشر، وأخبر أن نوحا قال لقومه " يا قوم
اعبدوا الله " والعبادة هي الخضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع يعظم به
من له أعظم النعم، فلذلك لا يستحق العبادة غير الله، وأخبر أنه أمرهم بأن
تكون عبادتهم لله وحده، لأنه لا إله لهم غيره، ولا معبود لهم سواه. وقال
لهم " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " يريد به يوم القيامة، والعذاب
هو الألم الجاري على استمرار، وقد يكون غير عقاب، إلا أن المراد به
- ههنا - العقاب. والعقاب الامل على ما كان من المعاصي. ولم يجعل خوفه
عليهم على وجه الشك، بل أخبرهم أن هذا العذاب سيحل بهم إن لم يقبلوا

(2) سورة 35 فاطر آية 3.
(3) سورة 37 الصفات آية 35. وسورة 47 محمد آية 19.
(4) سورة 3 آل عمران آية 62.
435

ما أتاهم به، لان الخوف قد يكون مع اليقين كما يكون مع الشك ألا ترى
أن الانسان يخاف من الموت، ولا يشك في كونه.
قوله تعالى:
قال الملا من قومه إنا لنريك في ضلال مبين (59)
آية بلا خلاف.
(قال) أصله (قول) فانقلبت الواو ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها.
أخبر الله تعالى عن الملا من قوم نوح. وقيل في معنى الملا قولان:
أحدهما - أنهم الجماعة من الرجال سموا بذلك لأنهم يملئون المحافل.
والثاني - أنهم الاشراف، وقيل: الرؤساء، لأنهم يملئون الصدر بعظم
شأنهم، ومنه قوله صلى الله عليه وآله أولئك الملا من قريش. والقوم يقال لمن يقوم بالامر،
ولا نسوة فيهم - على قول الفراء - وهو مأخوذ من القيام.
وإنما سموا بالمصدر، كما قال بعض العرب إذا أكلت طعاما أحببت نوما
وأبغضت قوما أي قياما.
وقوله " إنا لنراك " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - انه من رؤية القلب الذي هو العلم.
الثاني - من رؤية العين، كأنهم قالوا نراك بأبصارنا على هذه الحال.
الثالث - أنه من الرأي الذي هو غالب الظن وكأنه قال: إنا لنظنك.
وقوله " في ضلال مبين " أرادوا بالضلال ههنا العدول عن الصواب إلى
الخطأ فيما زعموا مخالفتهم إياه فيما دعاهم إليه من اخلاص العبادة لله تعالى.
و " مبين " أي بين ظاهر.
قوله تعالى:
قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب
العالمين (60) آية بلا خلاف.
436

في هذه الآية إخبار عما أجابهم به نوح (ع) وقال لهم " ليس بي ضلالة "
أي ليس بي عدول عن الحق، ويقال،: به ضلالة لان فيه معنى عرض به كما
يقال به جنة، ولا يجوز أن يقال: به معرفة، لأنها ليست مما تعرض بصاحبها،
ولكن يصح أن يقال: به جوع، وبه عطش، لأنه عارض به.
قوله " يا قوم " أصله يا قومي، فحذفت ياء الإضافة لقوة النداء على
التغيير، حتى يحذف للترخيم، فلما جاز أن يحذف في غيره للاجتزاء بالكسرة
منها، لزم أن يحذف فيه لاجتماع السببين فيه.
وقوله " ولكني رسول من رب العالمين " معنى (لكن) والاستدراك
الخفيفة يستدرك بها معنى المفرد. والمشددة يستدرك بها معنى الجملة،
فلذلك صارت من أخوات (إن). " ولكني " أصله (ولكنني) وحذفت
النون لاجتماع النونات، ويجوز الاتمام، لأنه الأصل، وكذلك (اني،
وكأني) فأما (ليتني) فلا يجوز فيه الا اثبات النون، لأنه لم يعرض فيه علة
الحذف. واما (لعلي) فيجوز فيه الوجهان، لان اللام قريبة من النون.
ومعنى (من) - ههنا - لابتداء الغاية، ومعناه أن الله تعالى هو الذي
ابتدأني بالرسالة، وكل مبتدئ بفعل فذلك الفعل منه. وأصل (من)
موضع ابتداء الغاية كقولك: خرجت من بغداد إلى الكوفة أي ابتداء خروجي
من بغداد.
قوله تعالى:
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا
تعلمون (61) آية بلا خلاف.
قرأ أبو عمرو وحده " أبلغكم " مخففة اللام. الباقون بتشديدها.
و (بلغ) فعل يتعدى إلى مفعول واحد تقول: بلغني خبركم، وبلغت
أرضكم، فإذا نقلته تعدى إلى مفعولين. والنقل يكون تارة بالهمزة وأخرى
437

بتضعيف العين، وقد ورد بهما التنزيل، قال الله تعالى " فان تولوا فقد
أبلغتكم " (1) فنقل بالهمزة، وقال " يا أيها الرسول بلغ " (2) فنقل بتضعيف
العين، فعلى هذين الوجهين اختلفوا في القراءة.
وفي الآية حكاية عن قول نوح (ع) لقومه أنه قال لهم بعد ما أنكر عليهم
أنه ليس به ضلالة، وانه رسول من عند الله، وأنه بلغهم ما حمله الله من
رسالات ربه. والابلاغ إيصال ما فيه بيان وافهام، ومنه البلاغة، وهي
إيصال المعنى إلى النفس بأحسن صورة من اللفظ. والبليغ الذي ينشئ
البلاغة، لا الذي يأتي بها على وجه الحكاية. والفرق بين الابلاغ والأداء
أن الأداء لما يسمع، وحسن الأداء للقراءة. والرسالات جمع رسالة، وهي
جملة من البيان يحملها القائم بها ليؤديها إلى غيره. وإنما جمع - ههنا -
(رسالات) وفي موضع آخر " رسالة " (3) على التوحيد، لأنه يشعر تارة
بالجملة وتارة بالتفصيل، فلما دعا إلى عبادة الله وطاعته واجتناب محارمه
والعمل بشريعته، كان هذا تفصيل رسالات الله تعالى. ورسالات الله حكم:
من ترغيب، وتحذير، ووعد، ووعيد، ومواعظ، ومزاجر، وحجج، وبراهين
وأحكام يعمل بها، وحدود ينتهى إليها.
وقوله " وانصح لكم " فالنصيحة اخلاص النية من شائب الفساد في
المعاملة. و (النصح) خلاف الغش في العمل، ولا يكون الغش إلا بسوء
النية. وقوله " وأعلم من الله ما لا تعلمون " فيه حث لهم على طلب العلم من
جهته، وتحذير من مخالفته، لما يعلم من العاقبة، فكأنه قال: أنا أعلم بحلول
العقاب بمخالفتكم وترك القبول مني " مالا تعلمون " أنتم، ويجوز أن يريد
" وأعلم من " توحيد الله وصفاته وحكمته " ما لا تعلمونه ". وفي ذلك
بطلان مذهب القائلين بأن معرفة الله ضرورة - وأن من لم يعرفه ضرورة فليس

(1) سورة 11 هود آية 57.
(2) سورة 5 المائدة آية 70.
(3) سورة 7 الأعراف آية 78.
438

بمكلف - لان نوحا (ع) بين أنه خاف عليهم مع أنه يعلم ما لا يعلمونه.
قوله تعالى:
أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم
لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (62) آية.
في هذه الآية تقريع من نوح (ع) لقومه على صورة الاستفهام بأنهم
عجبوا أن جاءهم ذكر من ربهم. وإنما دخل الاستفهام معنى التقريع، لان
المجيب لا يأتي الا بما يسوء من القبيح، فهو إنكار وتقريع، وقد يدخل
معنى التمني، لأنه بمنزلته في أنه طلب، لان يكون أمر، وإنما فتحت الواو
في قوله " أوعجبتم " لأنها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام، فالكلام
مستأنف من وجه، متصل من وجه، كما أن المبتدأ في خبر الأول بهذه الصفة.
والتعجب تغير النفس بما خفي سببه، وخرج عن العادة مثله، لأنه لا مثل له
في العادة. والذكر حضور المعنى للنفس، والذكر على وجهين: ذكر البيان
وذكر البرهان، فذكر البيان احضار المعنى للنفس، وذكر البرهان الشهادة
بالمعنى في النفس، وكلا الوجهين يحتمل في الآية.
وقوله " على رجل منكم " فالرجل هو إنسان خارج عن حد الصبي
من الذكران، وكل رجل انسان، وليس كل انسان رجلا، لأن المرأة انسان.
وقيل في دخول (على) في قوله " على رجل منكم " قولان:
أحدهما - أنه بمعنى مع رجل منكم، قال الفراء: كما تقول: جاءني
الخير على وجهك ومع وجهك.
الثاني - لان فيه معنى منزل " على رجل منكم ".
وقوله " لينذركم " فالانذار هو الاعلام بموضع المخافة، والتحذير
هو الزجر عن موضع المخافة. وقوله " ولتتقوا ولعلكم ترحمون " معناه إن
الله تعالى أرسل هذا الرسول مع هذا الذكر، وأراد انذاركم، وغرضه أن
439

تتقوا معاصيه لكي يرحمكم ويدخلكم الجنة ونعيم الأبد.
وفي ذلك دلالة على بطلان مذهب المجبرة: أن الله تعالى لم يرد منهم
أن يتقوا ولا أن يؤمنوا.
قوله تعالى:
فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين
كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (63) آية بلا خلاف.
هذا اخبار من الله تعالى عن قوم نوح أنه لم ينفع فيهم ذلك التخويف
ولا الوعظ والزجر، وأنهم كذبوه يعني نوحا. ومعناه أنهم نسبوا خبره
إلى الكذب، لان التكذيب نسبة الخبر إلى الكذب، والتصديق نسبة الخبر
إلى الصدق، وهذا مما يختلف فيه معنى (فعل، وفعل).
وقوله " فأنجيناه " إخبار من الله تعالى انه أنجا نوحا، والانجاء هو
التخليص من الهلكة، والاهلاك الايقاع فيها وهي المضرة الفادحة. " ومن
معه " يعني وأنجا من معه من المؤمنين به " في الفلك " وهي السفن ويقع على
الواحد والجمع بلفظ واحد، وأصله الدور مشتق من قولهم: فلك ثدي
الجارية، إذا استدار، ومنه الفلكة والفلك من هذا، لأنه يدور على الماء
كيف أداره صاحبه.
وقوله " وأغرقنا الذين كذبوا " والاغراق هو الغوص المتلف في الماء،
وأصله الغوص في الشئ، فمنه أغرق في النزع، ولا تغرق في هذا الامر.
وقوله " إنهم كانوا قوما عمين " فيه بيان أنه إنما أغرقهم وأهلكهم،
لأنهم كانوا عمين. والعمى الضلال عن طريق الهدى، فهم كالعمي في أنهم
لا يبصرون طريق الرشد، فهم عمي عن الحق.
440

قوله تعالى:
وإلي عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غيره أفلا تتقون (64) آية بلا خلاف.
انتصب قوله " أخاهم هودا " بقوله " أرسلنا " في أول الكلام وإن
تطاول ما بينهما، لان تفصيل القصص يقتضي ذلك، والتقدير وأرسلنا " إلى
عاد أخاهم هودا " ويجوز في مثله الرفع وتقديره، والى عاد أخوهم
هود مرسل.
و (الأخ) أحد الولدين لواحد. وإنما قال لهود (ع) أنه أخوهم،
لأنه كان من قبيلهم، وجاز ذلك على غير الاخوة في الدين، لأنه احتج عليهم
أن يكون رجلا منهم، لأنهم عنه أفهم واليه أسكن.
وصرف (هود) لخفته، كما صرفت جمل لخفتها، وهو أحق بالصرف،
لأنه أكثر في الاستعمال.
في هذه الآية إخبار من الله تعالى انه أرسل إلى قوم عاد هودا، وأنه قال
لهم " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " وقد فسرنا معنى ذلك أجمع وبينا
أيضا حقيقة العبادة، وأنه لا يستحقها غير الله، لأنها على أصول النعم،
والشكر قد يستحقه غير الله، لأنه يستحق بالنعمة وان قلت، وكذلك الطاعة
قد تجب لغير الله، فعلى هذا تكون عبادة اثنين شركا، ولا يكون طاعة اثنين
شركا، كما أن الشكر على النعمة لاثنين لا يكون كذلك إذا لم يكن واقعا على
وجه العبادة. وقوله " أفلا تتقون " معناه، فهلا تتقون، وهو بصورة
الاستفهام والمراد به حضهم على تقوى الله واتقاء معاصيه.
قوله تعالى:
قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنريك في سفاهة وإنا
441

لنظنك من الكاذبين (65) آية بلا خلاف.
في هذه الآية إخبار عما قالت الجماعة الكافرة من قوم هود له " انا لنراك
في سفاهة " والسفاهة خفة الحلم، كما قال الشاعر:
مبذرا وعاتب سيعى... (1)
أي سفيه، وثوب سفيه إذا كان خفيفا (وقال) المؤرج: السفاهة
الجنون بلغة حمير، وقوله " في سفاهة " معناه منغمس في السفاهة، فالسفاهة
بمعنى أنت سفيه، أقيم المصدر مقام اسم الفاعل، ولا يجوز قياسا على ذلك
أن يقال في إرادة بمعنى مريد، وكسرت (إن) لأنها وقعت بعد القول حكاية،
والحكاية تقتضي استئناف المحكي و (إن) إذا شددت عملت، ولا تعمل
إذا خففت، لأنها مشددة تشبه (كان) فلما خففت قل الشبه الا
ان يحمل على كان محذوفة، وليس قوة حملها عليها تامة كقوة حملها
محذوفة، وحذفت الهمزة في مضارع رأيت دون ماضيه، لاجتماع ثلاثة أشياء:
الزيادة في أوله، وكثرة الاستعمال لها، ولان فيما بقي دليل عليها، ولم يلزم
في نأيت تنأى مثل ذلك.
وقوله " وإنا لنضنك " ولم يقولوا نعلمك لامرين: أحدهما - قال
الحسن: لان تكذيبهم كان على الظن دون اليقين. وقال الرماني: معناه انك
تجري مجرى من أخبر عن غائب لا يعلم ممن هو منهم. الثاني - انهم أرادوا
بالظن العلم كما قال الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المشدد (2)
معناه أيقنوا. وفائدة الآية أن أمة هود جرت على طريقة أمة نوح في
الكفر بنبيها كأنهم قد تواصوا بالتكذيب بالحق ومعاندة أهله والرد لما أوتوا به

(1) هكذا في الأصل والكلامات غير منقطة، فلم اعرف له وجها
(2) مر هذا البيت في 1 / 205 و 2 / 296.
442

قوله تعالى:
قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (66)
آية بلا خلاف.
هذه الآية فيها إخبار عما قال هود (ع) لقومه مجيبا لهم حين قالوا له:
" إنا لنراك في سفاهة " وأنه قال " ليس بي سفاهة " وموضع (قوم) نصب،
لأنه نداء مضاف فلو وصفته لما جاز في صفته الا النصب، وإنما حذفت
بالإضافة، لان النداء أحق بالحذف الذي يكون في غيره لقوة اليقين فيه.
وقوله " ولكني رسول من رب العالمين " استدراك ب‍ (لكن) لان فيه
معنى ما دعاني إلى امركم السفه، ولكن دعاني إليه أني رسول من رب العالمين.
وقد بينا أن (من) ههنا بمعنى ابتداء الغاية، والتقدى المبتدئ بالرسالة رب
العالمين والمنتهى إليه الرسالة لامته، لأنه ارسل إليهم.
قوله تعالى:
أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين (67) آية
قد بينا معنى الابلاغ، وهو احضار الشئ غيره على وجه الانتهاء، ومنه
قوله " ثم ابلغه مأمنه " (1) وقد يكون احضارا لنفس البيان للأفهام والابلاغ
أشد اقتضاء للمنتهى إليه من الايصال، لأنه يقتضي بلوغ فهمه وعقله كالبلاغة
التي تصل إلى سويداء قلبه. ولا يجوز بدل " رسالات ربي " نبوات ربي،
لان النبوة تكليف القيام بالرسالة، فإنما يبلغ الرسالة ولا يبلغ التكليف.
وقوله " وأنا لكم ناصح أمين " معناه اني ناصح لكم فيما أدعوكم إليه
من طاعة الله واخلاص عبادته. وقيل: ان معناه اني كنت فيكم أمينا قبل النبوة

(1) سورة التوبة آية 7.
443

والنصح إخلاص المعاملة من شائب الفساد في النية. والأمين المأمون من أن
يكون منه تغيير له أو تبديل.
وفى الآية دلالة على أنه يجوز للانسان أن يزكي نفسه عند الحاجة إليه.
قوله تعالى:
أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم
لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم
في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون (68) آية
قد بينا معنى قوله " أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم
لينذركم " فلا معنى لإعادته. وإنما أنكر العجب مع أنه خفي بسببه، وخرج
عن العادة لظهور الدلائل فيه وقيام البراهين عليه من الارسال إليهم من تنبيههم
على ما أغفلوه وتعريفهم ما جهلوه. والفرق بين العجب والعجب، أن العجب
- بضم العين - عقد النفس على فضيلة لا ينبغي ان يعجب منها السبب لها،
وليس كذلك العجب - بفتح العين والجيم - لأنه قد يكون حسنا. وقد
قيل في المثل (لا خير فيمن لا يتعجب من العجب وأرذل منه المتعجب من
غير عجب).
وقوله " فاذكروا إذ جعلكم خلفاء
فخلفاء جمع خليفة، وهو الكائن
بدل غيره ليقوم بالامر مقامه في تدبيره. وخلفاء جمعه على التذكير مثل ظريف
وظرفاء، ولو جمعه على اللفظ لقال: خلائف نحو كريمة وكرائم، وورد ذلك
في القرآن، قال الله تعالى " هو الذي جعلكم خلائف " (1).
وقوله " من بعد قوم نوح " امتنان عليهم بما مكنهم في الأرض وجعلهم
بدل قوم نوح حين أهلكهم الله. وقوله " وزادكم في الخلق بسطة " قرئ

(1) سورة 35 فاطر آية 39.
444

بالسين والصاد وقيل في معناه قولان: أحدهما - قال ابن زيد: زادهم قوة.
وقال غيره: أراد به المرة من بسط اليدين إذا فتحت على أبعد أقطارها. وقال
الزجاج والرماني: كان أقصرهم طوله سبعين ذراعا وأطولهم مئة ذراع. وقال
قوم: كان أقصرهم اثني عشر ذراعا. وقال أبو جعفر (ع): كانوا كأنهم النخل
الطوال، وكان الرجل منهم ينحت الجبل بيده فيهدم منه قطعة. وقوله
" فاذكروا آلاء الله " قال الحسن وغيره: الآلاء النعم في واحدها لغات:
(ألا) مثل (معا) و (الا) مثل " قفا " و " إلي " مثل " حسي " و " إلى "
مثل " دمى " قال الشاعر:
أبيض لا يرهب الهزال ولا * يقطع رحما ولا يخون إلا (2)
إلا وألا رويا جميعا. وقوله " لعلكم تفلحون " معناه اذكروا نعم الله
واشكروه عليها لكي تفوزوا بثواب الجنة والنعيم الدائم الأبدي.
قوله تعالى:
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا
فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (69) آية بلا خلاف.
قيل في الفرق بين " قالوا " وتكلموا، أن القول مضمن بالحكاية من
حيث هو على صفة القول، وليس كذلك من حيث هو على صفة الكلام.
وفى الآية حكاية ما قال قوم هود، وهم قبيلة عاد لهود (ع) " أجئتنا "
ومعناه أتيتنا " لنعبد الله وحده " وتريد منا أن نوجه عبادتنا إلى الله وحده.
والمجئ والاتيان والاقبال واحد، وقال قوم المجئ إتيان من أي جهة كان،
والاتيان إقبال من قبل الوجه.
وقوله " ونذر " ومعناه ونترك، ولم تستعمل فيه (وذرنا) استغناء
بتركنا، ولا يلزم أن يستغنى بنترك عن نذر، لان نذر خفيفة، لان الواو

(2) قائله الأعشى ديوانه: 157 ولسان العرب (الا).
445

حذفت منه. " ما كان يعبد آباؤنا " تمام الحكاية عن الكفار أنهم قالوا:
كيف نترك ما كان يعبد آباؤنا؟! وأنهم قالوا " فأتنا بما تعدنا " من العذاب
" ان كنت صادقا " " من " جملة " الصادقين " وإنما لم يجب اتباع الاباء،
وان كانوا عقلاء ووجب اتباع العقلاء، لأنه إنما يجب اتباع العقلاء فيما علموه
بعقولهم ضرورة، فأما ما طريقه الدليل فإنه يجوز أن يغلطوا فيه فلا يجوز
حينئذ اتباعهم وان كانوا أباءا.
قوله تعالى:
قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني
في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان
فانتظروا إني معكم من المنتظرين (70) آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية عما قال هود لقومه جوابا عما قالوه في الآية
الأولى: أنه " قد وقع عليكم رجس وغضب " فالوقوع والسقوط والنزول
نظائر. والوقوع وجود الشئ نازلا بالحدوث، فقد يكون بحدوثه، وقد
يكون بحدوث غيره، كوقوع الحائط ونحوه. والرجس العذاب. وقيل:
الرجس والرجز واحد فقلبت الزاي سينا، كما قلبت السين تاء في قول الشاعر:
ألا لحى الله بني السعلات * عمرو بن يربوع لئام النات
ليسوا باعفاف ولا أكيات (1)
يريد الناس، وبريد أكياس. وقال رؤبة:
كم قد رأينا من عديد ميزي * حتى أقمنا كيده بالرجز (2)
حكى ذلك عن أبي عمرو بن العلا. وقال ابن عباس: الرجس السخط،

(1) تفسير الطبري 12: 522، ونوادر أبي زيد: 104، 147.
(2) ديوانه: 64 وتفسير الطبري 12: 522.
446

والغضب معنى يدعو إلى الانتقام دعاء الانتقاص الطباع لشدة الانكار، ونقيضه
الرضا، وهو معنى يدعو إلى الانعام دعاء ميل الطباع. ومثل الغضب السخط،
هذا قول الرماني. وقال غيره: الغضب هو إرادة العقاب بمستحقيه، ومثله
السخط. والرضا هو الإرادة إلا أنها لا توصف بذلك إلا إذا وقع مرادها
ولم يتعقبها كراهة، ولهذا جاز إطلاق ذلك على الله، ولو كان الامر على ما
قاله الرماني لما جاز أن يقال: إن الله غضب على الكفار، ولا أنه سخط عليهم.
وقوله " أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها
من سلطان " يعني ما أنزل الله بها من برهان، ولا نصب عليها حجة. والمعنى
أتنازعونني في أسماء سميتموها يعني تسميتهم ما يعبدون من دون الله آلهة،
ما أنزل الله عليكم بذلك حجة بما عبدتم، فالبينة عليكم بما ادعيتم وسميتم، وليس
علي ان آتيكم بالبينة على ما تعبدون من دون الله بل ذلك عليكم، وعلي أن
آتيكم بسلطان مبين أن الله تعالى هو المعبود وحده دون من سواه وأني رسوله.
وقوله " فانتظروا اني معكم من المنتظرين " قال الحسن: معناه انتظروا
عذاب الله فإنه نازل بكم، فاني معكم من المنتظرين لنزوله بكم، وهو قول
الجبائي وغيره من المفسرين.
قوله تعالى:
فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين
كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (71) آية بلا خلاف.
في هذه الآية إخبار من الله تعالى أنه أنجى هودا والذين آمنوا معه برحمة
منه، والانجاء التخليص من الهلاك، وأصله من النجوة وهي الارتفاع من
الأرض والنجاء السرعة في السير، لأنه ارتفاع فيه بالاسراع وإنما جاز أن
يقول: برحمة منا مع أن النجاة هي الرحمة، لأنه عقد معنى النجاة بالرحمة،
447

فصار كأنه يعمل بالقدرة.
وقوله " وقطعنا " فالقطع هو افراد الشئ عن غيره مما كان على تقدير
الاتصال به، فلما أفردوا بالهلاك عما كان على تقدير التبع لهم من نسلهم
وآثارهم من بعدهم كان قد قطع دابرهم. وقال الحسن: معناه قطعنا أصل
الذين كذبوا بديننا وما كانوا مؤمنين. وقال ابن زيد: قطعنا دابرهم معناه:
استأصلناهم عن آخرهم. والدابر الكائن خلف الشئ. ونقيضه القابل،
ويكون القابل الاخذ للشئ من قبل وجهه.
وقوله " وما كانوا مؤمنين " إنما أخبر بذلك عن حالهم مع أنه معلوم
منهم ذلك لبيان أن هذه الصفة لا تجوز أن تلحق المكذب بآيات الله الجاحد
لها وإن في نفيها عن المكلف ذما له.
قوله تعالى:
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من
إله غيره قد جاء تكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية
فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم
عذاب أليم (72) آية بلا خلاف.
هذه الآية عطف على ما تقدم، والتقدير وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا.
وثمود اسم قبيلة، وقد جاء مصروفا وغير مصروف، فمن صرفه، فعلى
أنه اسم لحي مذكر، ومن ترك صرفه، فعلى أنه اسم القبيلة، كما قال تعالى
" ألا إن ثمود كفروا ربهم الا بعدا لثمود " (1) صرف الأول ولم يصرف
الثاني. واختير ترك الصرف في موضع الجر، لأنه أخف.

(1) سورة 11 هود آية 68.
448

ويجوز في قوله " ما لكم من إله غيره " ثلاثة أوجه من العربية: الجر
على اللفظ، والرفع على الموضع، وقد قرئ بهما، وقد بيناه فيما مضى،
والنصب على الاستثناء والحال، ولم يقرأ به. ويجوز عند الفراء الفتح على
البناء، لأنه أجاز ما جاءني غيرك، ومنع منه الزجاج. وقال: إنما يجوز
ذلك إذا أضيف إلى غير متمكن إضافة غير حقيقية، كما قال الشاعر:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت * حمامة في غصون ذات أو قال (2)
وقوله " أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " قد بيناه فيما مضى.
وقوله " قد جاءتكم بينة من ربكم " فالبينة العلامة التي تفصل الحق
من الباطل من جهة شهادتها به. والبيان هو إظهار المعنى للنفس الذي يفصله
من غيره حتى يدركه على ما يقويه كما يظهر نقيضه، فهذا فرق بين البينة والبيان.
وقوله " هذه ناقة الله لكم آية " فالناقة الأنثى من الجمال والأصل فيها
التوطئة والتذليل من قولهم بعير منوق أي موطأ مذلل، وتنوق في العمل أي
جوده كالموطأ المذلل. والناق الحز بين ألية الابهام وطرفها، لأنه وطأبه
لقبض الكف وبسطها. وإنما قال " ناقة الله " لأنه لم يكن لها مالك سواه
تعالى. ونصب " آية " على الحال. والآية هي البينة العجيبة بظهور الشهادة
ولطف المنزلة. والآية والعبرة والدلالة والعلامة نظائر. والآية التي كانت
في الناقة خروجها من صخرة ملساء تمخضت بها كما تتمخض المرأة ثم انفلقت
عنها على الصفة التي طلبوها، وكان لها شرب يوم تشرب فيه ماء الوادي كله
وتسقيهم اللبن بدله، ولهم شرب يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم، في قول
أبي الطفيل، والسدي وابن إسحاق.
وقوله " فذروها " أي اتركوها " تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء "
يعني بعقر أو نحر " فيأخذكم عذاب أليم " أي ينالكم عذاب مؤلم.

(2) اللسان (وقل) وأو قال: جمع وقل، وهو ثمار شجر المقل.
449

قوله تعالى:
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض
تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا
آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (73) آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية لقول صالح (ع) لقومه بعد أن أمرهم بعبادة الله
وحده لا شريك له، ونهيه إياهم أن يمسوا الناقة بسوء، وحذرهم من المخالفة
التي يستحق بها العذاب المؤلم فقال - عاطفا على ذلك - و " اذكروا إذ
جعلكم خلفاء من بعد عاد " أي تفكروا فيما أنعم الله عليكم حيث جعلكم
بدل قوم عاد بعد أن أهلكهم وأورثكم ديارهم " وبوأكم في الأرض " أي
مكنكم من منازل تأوون إليها، يقال بوأته منزلا إذا مكنته منه ليأوى إليه.
وأصله من الرجوع من قوله " فباءوا بغضب على غضب " (1) وقوله " وباءوا
بغضب من الله " (2) أي رجعوا، قال الشاعر:
وبوأت في صميم معشرها * فتم في قومها مبوأها (3)
أي أنزلت ومكنت من الكرم في صميم النسب.
وقوله " تتخذون من سهولها " فالسهل ما ليس فيه مشقة على النفس
من عمل أو أرض، يقال: السهل والجبل، وأرض سهلة. وقوله " قصورا "
جمع قصر، وهو الدار الكبيرة بسور تكون به مقصورة. وأصله القصر
الذي هو الجعل على منزلة دون منزلة، فمنه القصير، لأنه قصر به على مقدار
دون ما هو أطول منه، والقصر الغاية، يقال: قصره الموت لأنه قصر عليه،
واقصر عن الامر أي كف عنه. والقصر العشي، ومنه القصار لأنه يقصر

(1) سورة 2 البقرة آية 90
(2) سورة 2 البقرة آية 61 وسورة 3 آل عمران آية 112
(3) اللسان (بوأ).
450

الثوب على النقاء دون ما هو عليه. والقصرة أصل العنق.
وقوله " وتنحتون الجبال بيوتا " فالجبل جسم عظيم بعيد الأقطار
عال في السماء، ويقال: جبل الانسان على كذا أي طبع عليه، لأنه يثبت عليه
لصوق الجبل، والمعنى انهم كانوا ينحتون في الجبال سقوفا كالأبنية، فلا
ينهدم، ولا يخرب، " فاذكروا آلاء الله " معناه تفكروا في نعمه المختلفة
كيف مكنكم من الانتفاع بالسهل والجبل " ولا تعثوا في الأرض مفسدين "
معناه لا تضطربوا في الأرض مفسدين يقال: عاث يعيث عيثا، وعثى يعثي
بمعنى واحد. ومفسدين نصب على الحال. ومعنى الآية التذكير بنعم الله
من التمكين في الأرض والتسخير حتى تبوأوا القصور وشيدوا المنازل والدور
مع طول الآمال وتبليغ الآجال.
قوله تعالى:
قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن
آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل
به مؤمنون (74) آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر " وقال الملا " بزيادة واو، وكذلك في مصاحف أهل
الشام الباقون بلا واو.
في هذه الآية حكاية عما قال الملا من قوم صالح، وهم جماعة من أشراف
قومه ورؤساء أمته " الذين استكبروا " أي طلبوا الكبر فوق القدر، لان
الاستكبار هو طلب الكبر فوق القدر، حتى يؤدي صاحبه إلى إنكار ما دعي
إليه من الحق، أنفة من اتباع الداعي إلى الحق " للذين استضعفوا "
فالاستضعاف طلب الضعف بالأحوال التي تقعد صاحبها عما كان يمكن غيره
من القيام بالامر، والأصل في باب (استفعل) الطلب منه.
451

وقوله " لمن آمن منهم " موضعه من الاعراب نصب على البدل من
اللام الأولى وهو بدل البعض من الكل إلا أنه أعيد فيه حرف الجر، كقولك
مررت بأخوتك بعضهم. وإنما فعل ذلك لئلا يظن أنهم كانوا مستضعفين غير
مؤمنين، لأنه قد يكون المستضعف مستضعفا في دينه، فلا يكون مؤمنا.
فأزال هذه الشبهة.
وقوله " أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه " حقيقة ويقينا أم لا تعلمون
ذلك؟ وغرضهم بذلك الاستبعاد، لان يكون صالح نبيا مرسلا من قبل الله.
وقوله " إنا بما ارسل به مؤمنون " جواب من هؤلاء المستضعفين لهم
انهم مؤمنون بالذي أرسل به صالح مصدقون. وقد بينا أن حد العلم هو
ما اقتضى سكون النفس. وحد الرماني - ههنا - العلم بأنه اعتقاد للشئ
على ما هو به عن ثقة من جهة ضرورة أو حجة، قال: والعالم هو المبين للشئ
بعلم أو ذات تنبئ عن العلم.
قوله تعالى:
قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون (75) آية
هذه الآية عما قال المستكبرون للذين آمنوا منهم حين سمعوا
منهم الايمان به والاعتراف بنبوته والتصديق لقوله " انا بالذي آمنتم به "
يعني صدقتم به " كافرون " أي جاحدون. والقول هو الكلام، ومنه المقول،
وهو اللسان، لان صاحبه يقول به. وتقول بمعنى كذب وقال الكذب.
والمقيال المخبر إلى نفسه بالقول امرا من خير أو شر. والقيل ملك دون الملك
الأعظم بلغة حمير، وجمعه أقيال، لأنه يقول عنه كالوزير.
قوله تعالى:
فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما
تعدنا إن كنت من المرسلين (76) آية بلا خلاف.
452

في هذه الآية إخبار من الله تعالى عما فعل المستكبرون من قوم صالح
وأنهم عقروا الناقة التي هي آية الله في الأرض، والعقر الجرح الذي يأتي
على أصل النفس، وهو من عقر الحوض وهو أصله، قال الشاعر:
بإزاء الحوض أو عقره (1)
ومنه العقار، لأنه اعتقار أصل مال، لان ثبوته كثبوت الأصل. ومنه
العاقر، لأنها قد حدث ما عقر الحال التي يجئ منها الولد فأبطل الأصل،
والمعاقرة على الشراب منه، لأنه كالأصل في الثبوت على تلك الحال.
وقوله " وعتوا عن أمر ربهم " أي تجاوزوا الحد في الفساد. وقيل:
العتو الغلو في الباطل - في قول مجاهد - ومنه جبار عات، والعاتي في
الكبر ومنه " وقد بلغت من الكبر عتيا " (2) أي بلغت حال العاتي كبرا،
والعتو عن الامر هو المخالفة إلا أن في العتو مخالفة على وجه التهاون به
والاستكبار عن قبوله.
وقوله " يا صالح ائتنا " إن وصلته همزته، وان ابتدأته لم تهمز بل
تقول: (إيتنا) وإنما كان كذلك، لان أصله (إئتنا) بهمزتين، فكره ذلك
فقلبوا الثانية ياء على ما قبلها، فإذا وصل سقطت ألف الوصل وظهرت همزة الأصل.
وقوله " بما تعدنا " فالوعد الخبر بخير أو شر بقرينة في الشر.
وقوله " إئتنا بما تعدنا " أي من الشر، لأنا قد علمنا ما توعدتنا عليه
فأت الان بالعذاب الذي خوفتنا منه، ومتى تجرد عن قرينة، فهو بالخير
أحق للفصل بين الوعد والوعيد.
قوله تعالى:
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (77) فتولى

(1) اللسان (عقر) وتمامه:
فرماها في فرائصها * بإزاء الحوض أو عقره
(2) سورة 19 مريم آية 7.
453

عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم
ولكن لا تحبون الناصحين (78) آيتان بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية بما حل بثمود من العذاب، فقال " فأخذتهم
الرجفة " وهي حركة القرار المزعجة لشدة الزعزعة تقول: رجف بهم السقف
رجوفا إذا اضطرب من فوقهم، وقال المجاهد والسدي: الرجفة الصيحة.
وقال آخرون: هي زلزلة أهلكوا بها، قال الأخطل:
اما تريني حناني الشيب من كبر * كالنشر أرجف والانسان مهدود (1)
وقوله " فأصبحوا في دارهم جاثمين " إنما قال دراهم على التوحيد
لامرين:
أحدهما - إن المعنى في بلدهم، وهو واحد.
والاخر - أن معناه في دورهم، وإنما وحد كما توحد أسماء الأجناس
كقوله " إن الانسان لفي خسر " (2) والاخذ نقل الشئ عن حاله إلى جهة
الناقل له، وضده الترك كأخذ الدينار وترك الدرهم. ومعنى " جاثمين "
باركين على ركبهم موتى، جثم يجثم جثوما إذا برك على ركبتيه. وقيل:
صاروا رمادا كالرماد الجاثم، لان الصاعقة أحرقتم، وقال جرير:
عرفت المنتأى وعرفت منها * مطايا القدر كالجدء الجثوم (2)
وقوله " فتولى عنهم " يعني أن صالحا تولى عن قومه، والتولي الذهاب
عن الشئ وهو الاعراض عنه، وإنما تولى، لأنه أقبل عليهم بالدعاء إلى
توحيد الله وطاعته، فلما خالفوا ونزل بهم العذاب تولى عنهم لليأس منهم
وتولاه بمعنى أولاه نصرته ومعونته، ومنه قولهم (تولاك الله بحفظه) وقوله

(1) ديوانه: 146 وتفسير الطبري 12 / 544.
(2) سورة 103 العصر آية 2.
(3) ديوانه: 507 ومجاز القرآن 1 / 218 وتفسير الطبري 12 / 546.
454

" ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا " (1) فهو مثل قوله " إن تنصروا
الله ينصركم " (2) أي إن تنصروا دين الله، وتولى عنه بمعنى أعرض عنه.
وقوله " وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة بي " إنما جاز أن يناديهم مع
كونهم جاثمين موتى لما في تذكر ما أصارهم إلى تلك الحال العظيمة التي
صاروا بها نكالا لكل من اعتبر بها وفكر فيها من الحكمة والموعظة الحسنة.
وقوله " ونصحت لكم " يقال: نصحته ونصحت له مثل شكرته وشكرت
له، ومعناه وكنت نصحت لكم " ولكن لا تحبون الناصحين " فمحبة الشئ
إرادة الحال الجليلة له عند المريد، فمن أحب الناصح قبل منه، لنهيه لهم
عن ركوب أهوائهم واتباع شهواتهم، وقد روي أنه لم يعذب أمة نبي قط
ونبيها فيها، فلذلك خرج، فأما إذا أهلك المؤمنون فيما بينهم، فان الله
سيعوضهم على ما يصيبهم من الآلام والغموم.
قوله تعالى:
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد
من العالمين (79) آية.
العامل في قوله " ولوطا " يحتمل أن يكون أحد أمرين:
أحدهما - أن يكون عطفا على ما مضى، فيكون تقديره وأرسلنا لوطا.
والثاني - أن يكون على تقدير واذكر لوطا إذ قال لقومه - في قول
الأخفش - ولا يجوز في قصة عاد وثمود إلا (وأرسلنا)، لان فيها ذكر إلى.
و (لوط) مصروف لخفته، لأنه على ثلاث أحرف ساكن الأوسط، ولا
ينصرف يعقوب، لأنه أعجمي معرفة.
واختلفوا في اشتقاق (لوط) فقال بعض أهل اللغة: إنه مشتق من
لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين وملسته به، ويقال: هذا (ألوط) بقلبي

(1) سورة 5 المائدة آية 59
(2) سورة 47 محمد آية 7.
455

أي ألصق، والليطة القشر للصوقه بما اتصل به، وقال الزجاج: هو اسم
غير مشتق، لان العجمي لا يشتق من العربي، وإنما قال ذلك لأنه لم يوجد
علما إلا في أسماء الأنبياء.
وقوله " أتأتون الفاحشة "؟! فالفاحشة هي السيئة العظيمة القبح.
وقوله " ما سبقكم بها من أحد " فالسبق وجود الشئ قبل غيره. وقيل:
ما ذكر على ذكر قبل قوم لوط، ذكره عمرو بن دينار، فلذلك قال " ما سبقكم بها
من أحد من العالمين " وبه قال أكثر المفسرين، قال البلخي: يحتمل أن يكون
أراد " ما سبقكم بها من أحد العالمين " يريد عالمي زمانهم، كما قال " واني
فضلتكم على العالمين " (1) قال: ويحتمل أن يكون ما سبقكم إلى ذلك أحد
على وجه القهر والمجاهرة به على ما كانوا يفعلونه. وقال بعضهم: العقل
كان يبيح ذلك وإنما منع منه السمع. قال البلخي: هذا خطأ، لأنه يؤدي
إلى انقطاع النسل، ولان الطباع مبنية على الاستنكاف من ذلك وأن يكون
الانسان مفعولا به، ولو كان الفاعل لذلك غير مقبح لما لحق المفعول به من
ذلك وصمة، كما أن المرأة المنكوحة بالعقد الصحيح لا يلحقها بذلك وصمة
ولا عيب بلا خلاف. قال: ومن حمل نفسه على استحسان ذلك وانه يجوز
أن يكون مفعولا به كان ماجنا ملوما عند جميع العقلاء.
قوله تعالى:
إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم
مسرفون (80) آية.
قرأ أهل المدينة وحفص ههنا " إنكم " على الخبر، وكذلك مذهبه في
قراءته ان يكتفي بالاستفهام الأول من الثاني في كل القرآن، وهو مذهب
الكسائي إلا في قصة لوط. الباقون بهمزتين الثانية مكسورة، وخففها ابن

(1) سورة 2 البقرة آية 47، 122.
456

عامر وأهل الكوفة إلا حفصا، والحلواني عن هشام يفصل بينهما بالألف،
وابن كثير وأبو عمرو وورش تحقق الأولى وتلين الثانية، وفصل بينهما بألف
أبو عمرو.
. وقال أبو علي: قوله " أتأتون الفاحشة... إنكم لتأتون الرجال "
كل واحد من الاستفهامين كلام مستقل بنفسه لا حاجة لواحد منهما إلى الاخر،
فإذا كان كذلك، فمن قرأ (أإنكم) على الاستفهام جعل ذلك تفسيرا للفاحشة،
كما أن قوله " للذكر مثل حظ الأنثيين " (1) تفسير للوصية. ومن قرأ على
الخبر استأنف، ومن أراد أن يلين همزة (إنكم) فإنه يجعلها بين بين، لان
ألف الاستفهام بمنزلة المنفصل، ولولا ذلك لوجب أن يقلب الثانية على ما
قبله ثم يحذف لالتقاء الساكنين.
ومعنى قوله " إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " قال الحسن:
إن قوم لوط كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم ولا ينكحون إلا الغرباء ولا
ينكح بعضهم بعضا. وقوله " شهوة من دون النساء " فالشهوة مطالبة النفس
بفعل ما فيه اللذة، وليست كالإرادة، لأنها قد تدعو إلى الفعل من جهة
الحكمة. والشهوة من فعل الله ضرورة فينا، والإرادة من فعلنا، تقول شهيت
أشهي شهوة، قال الشاعر:
وأشعث يشهى النوم قلت له ارتحل * إذا ما النجوم أعرضت واسبكرت
فقام يجر البرد لو أن نفسه * يقال له خذها بكفيك خرت (2)
وقوله " بل أنتم قوم مسرفون " معناه الاضراب عن الأول إلى جميع
المعايب من عبادة الأوثان وإتيان الذكران وترك ما قام به البرهان، وتقديره

(1) سورة 4 النساء آية 10.
(2) اللسان (شهى) وتفسير الطبري 12: 548 (يشهى النوم) بمعنى
يشتهى. و (اسبكرت) امتدت واستقامت وأسرعت في مسبحها ورواية
الطبري (واسبطرت) بدل (واسبكرت).
457

إنكم مستوفون لجميع المعائب إتيان الذكران وغيره، ويحتمل أن يكون بل
لاسرافكم لا تفلحون. والاسراف الخروج عن حد الحق إلى الفساد.
قوله تعالى:
وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم
إنهم أناس يتطهرون (81) آية بلا خلاف.
الوجه في قوله " جواب قومه " بالنصب أنه وقع الاسم بعد (إلا) موقع
الايجاب، وذلك أن ما قبلها إذا كان إيجابا كان ما بعدها نفيا، وإذا كان ما
قبلها نفيا كان ما بعدها ايجابا، والجواب خبر يقتضيه أول الكلام، والغالب
عليه جواب النداء والسؤال، ويكون على وجوه كجواب الجزاء وجواب
القسم وجواب (لو).
أخبر الله في هذه الآية بما أجاب به قوم لوط (ع) حين قال لهم " إنكم
لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين " كأنهم قالوا: بعضهم
لبعض " أخرجوهم " يعنون لوطا وأهله الذين آمنوا به. والاخراج نقل
الشئ عن محيط إلى غيره، كما أن الادخال النقل إلى محيط عن غيره. وقال
الزجاج والفراء: أرادوا اخرجوا لوطا وابنتيه.
وقوله " من قريتكم " فالقرية هي المدينة، كما قال أبو عمرو بن العلاء:
ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني رجلين من أهل المدن إلا
أنه صار بالعرف عبارة عن مجتمع الناس في منازل متجاوزة بقرب ضيعة
يأوى إليها للاكراء.
وقوله " إنهم أناس يتطهرون " قيل فيه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني يتطهرون عن اتيان
الرجال في الادبار فعابوهم بما يجب أن يمدحوا به.
الثاني - أنه أراد يتطهرون يتنزهون عن أفعالكم وطرائقكم.
458

قوله تعالى:
فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (82) وأمطرنا
عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (83) آيتان.
أخبر الله تعالى أنه أنجى لوطا ومن معه بمعنى أنه خلصه من الهلاك
" وأهله " يعني المختصين به. والاهل هو المختص بالشئ اختصاص القرابة،
ولذلك قيل: أهل البلد لأنهم بلزومهم سكناه قد صاروا على مثل لزوم
القرابة. وقوله " إلا امرأته " استثنى من جملة من أنجاه مع لوط من أهله
امرأته، لان امرأته أراد به زوجته ولا يقال: مرؤها بمعنى زوجها، لأنه صار
بمنزلة المالك لها. وليست بمنزلة المالكة له. وإنما تجري هذه الإضافة التي
بمعنى اللام على طريقة الملك. وقوله " كانت من الغابرين " يعني من الباقين
في عذاب الله - في قول الحسن وقتادة.
فان قيل: فعلى هذا يجب أن تكون امرأته ممن نجى لأنه تعالى قال
" كانت من الغابرين " أي الباقين.
قلنا: المعنى إنها من الباقين في عذاب الله، على ما حكيناه عن الحسن
وقتادة. وقال قوم: معناه إنها من الباقين قبل الهلاك والمعمرين الذين قد أتى
عليهم دهر طويل حتى هرمت فيمن هرم من الناس، وكانت ممن غبر الدهر
عليه قبل هلاك القوم. ثم هلكت فيمن هلك من قوم لوط.
وقيل: أراد بذلك من الباقين في عذاب الله، ذكر ذلك قتادة.
وإنما قلنا: إنها كانت من الهالكين، لقوله في سورة هود " إنه مصيبها
ما أصابهم " (1) ذكر ذلك البلخي والطبري، فالغابر الباقي. ويقال: غبر
يغبر غبورا وغبرا إذا بقي قال الأعشى:

(1) سورة 11 هود آية 81.
459

عض بما أبقى المواسي له * من أمه في الزمن الغابر (1)
وقال آخر:
وأبي الذي فتح البلاد بسيفه * فأذلها لبني أبان الغابر (2)
وقال الزجاج " من الغابرين " عن النجاة. ومنه الغبرة بقية أثر البياض
بعد الامتزاج بغيره من الألوان. وقال الرماني: هذا استثناء متصل، لأنه
يجوز أن يدخل الزوجة في الأهل على التغليب في الجملة دون التفصيل كما
قال " يا نوح إنه ليس من أهلك " (3) ومن أجل التغليب قال " من الغابرين "
ولم يقل من الغابرات. ويقوي في نفسي أنه استثناء منقطع، لان الزوجة
لا تدخل تحت قولنا: الأهل حقيقة، وقد بينا ذلك في سورة البقرة مستوفا.
وقوله " وأمطرنا عليهم مطرا " وأمطرها الله إمطارا. وقيل: أمطر عليهم
حجارة من سجيل، وهذا اخبار من الله تعالى عما أنزله الله بقوم لوط
من العذاب.
وقوله " فانظر كيف كان عاقبة المجرمين " أمر للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به
جميع المكلفين بأن يتفكروا في ذلك ويعلموا كيف كان عاقبة المجرمين، يعني
إلى ما صار إليه عاقبة هؤلاء العاصين. و (كيف) سؤال عن حال إلا أنها
تقع في التسوية، لان فيها ادعاء. وإذا قال القائل: كيف هو، معناه قد
علمت ما يطلبه الطالب كيف هو من حاله. والعاقبة آخر ما تؤدي إليه التأدية،
وأصله كون الشئ في أثر الشئ ومنه العقاب، لأنه يستحق عقيب الذنب.
ومنه العقاب لأنه يعقب على صيده لشدته، والعقب، لأنه عقب به بشدة
شيئا بعد شئ. والاجرام اقتراف السيئة، أجرم إجراما إذا أذنب والجرم

(1) ديوانه: 106 ومجاز القرآن 1 / 219 وتفسير الطبري 12 / 551
واللسان (غير).
(2) قائله يزيد بن الحكم بن أبي العاص خزانة الأدب 1 / 55 وتفسير
الطبري 12 / 552
(3) سورة 11 هود آية 46.
460

الذنب وأصله القطع فالمجرم منقطع عن الحسنة إلى السيئة، وفائدة الآية
الاخبار عن سوء عاقبة المجرمين بما أنزل عليهم عاجلا من عذاب الاستئصال
قبل عذاب الآخرة بالنيران.
قوله تعالى:
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من
إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (84) آية بلا خلاف.
هذه الآية عطف على ما تقدم والتقدير فيها فأرسلنا " إلى مدين " وهي
قبيلة، قال أبو إسحاق: أصله (مديان) وهو مديان بن إبراهيم وهؤلاء
ولده. و (مدين) لا ينصرف، لأنه معرب في حال تعريفه. والعلة المانعة
من الصرف هي العجمة والتعريف وقال الزجاج: لأنه اسم قبيلة وهو معرفة
وجائز أن يكون أعجميا.
وقوله " أخاهم شعيبا " نسب إليهم بالاخوة في النسب دون غيره. وقال
لهم " قد جاءتكم بينة من ربكم " يعني أتتكم حجة من الله تعالى ومعجزة
دالة على صدق قولي، وأخبر انه أمرهم بأن يوفوا الكيل والميزان. والايفاء
إتمام الشئ إلى حد الحق فيه، ومنه إيفاء العهد وهو اتمامه بالعمل به.
والكيل تقدير الشئ بالمكيال حتى يظهر مقداره منه. والوزن تقدير الشئ
بالميزان، والمساحة تقدير الشئ بالذراع أو ما زاد عليه أو نقص. " ولا
تبخسوا الناس أشياءهم " نهي من شعيب إياهم عن بخس الحقوق وتنقيصها
في الكيل والميزان وغيرهما، والبخس النقص عن الحد الذي يوجبه الحق
تقول: بخس يبخس بخسا فهو باخس. والبخص بالصاد فقأ العين. وقال
461

قتادة والسدي: البخس الظلم، ومنه المثل (تحسبها حمقاء وهي باخسة).
وقوله " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " يعني بعد أن أصلحها
الله بالأمر والنهي وبعثة الأنبياء وتعريف الخلق مصالحهم. والافساد اخراج
الشئ إلى حد لا ينتفع به بدلا عن حال ينتفع بها، وضده الاصلاح، والمعنى
لا تخرجوا إلى العمل في الأرض بالقبائح بعد أن أصلحها الله بالمحاسن.
وقوله " ذلكم " إشارة لقومه إلى ما أمرهم به ونهاهم عنه بأن امتثاله
والانتهاء إليه خير لهم وأعود عليهم إن كانوا مؤمنين مصدقين بالله، وإنما علق
خيريته بالايمان وإن كان هو خيرا على كل حال من حيث أن من لا يكون
مؤمنا بالله، وعارفا بنبيه لم يمكنه أن يعلم أن ذلك خير له، وكأنه قال لهم:
كونوا مؤمنين لتعلموا أن ذلك خير لكم. ويحتمل أن يكون المراد لا ينفعكم
ايفاء الكيل والميزان إلا بعد أن تكوا مؤمنين. قال الفراء: لم يكن لشعيب
آية على النبوة. قال الزجاج وغيره: هذا غلط، لأنه قال " قد جاءتكم بينة
من ربكم فأوفوا " فجاء بالفاء جوابا للجزاء، فكيف يقول " قد جاءتكم
بينة " ولم يكن له آية على النبوة، فإن كان مع النبوة آية فقد جاءهم بها
لأنه لو ادعى النبوة من غير آية لم يقبل منه. وآيات شعيب وإن لم يذكرها
الله في القرآن لا يجب أن يقال: لا آية له، لان نبينا صلى الله عليه وآله لم يذكر الله آياته
كلها في القرآن ولا أكثرها وإن كانت له آيات كثيرة، ولم يوجب ذلك نفيها.
قوله تعالى:
ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من
آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم
وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (85) آية بلا خلاف.
قيل في معنى قوله " ولا تقعدوا " بكل صراط توعدون قولان:
462

أحدهما - قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد: إنهم كانوا يقعدون على
طريق من قصد شعيبا للايمان به فيخوفونه بالقتل. وقال أبو هريرة: إنما
نهاهم عن قطع الطريق.
وقوله " بكل صراط توعدون " يجوز فيه تعاقب حروف الإضافة بأن
يقول: على كل صراط، وفي كل صراط، لان معاني هذه الحروف اجتمعت
فيه - ههنا - كما تقول: قعد له بكل مكان، وعلى كل مكان، وفى كل
مكان، لان الباء للالصاق وهو قد لاصق المكان، و (على) للاستعلاء، وهو
قد علا المكان، و (في) للمحل وهو قد حل المكان. ويقال: قعد عن الامر
بمعنى ترك العمل به كائنا ما كان، وقام به إذا عمل به كالقعود عن الواجب
ونحوه. ومعنى الايعاد الاخبار بالعذاب على صفة من الصفات، وهو الوعيد
والتهديد، فإذا ذكر المتعلق من الخير أو الشر قلت: وعدته كذا، كما قال
تعالى " النار وعدها الله الذين كفروا " (1) وإذا لم يذكر قيل في الخير وعدته،
وفى الشر أوعدته. وتقول: وعدته خيرا بلا باء وأوعدته بالشر باثبات الباء.
وقوله " وتصدون عن سبيل الله " فالصد هو الصرف عن الفعل بالاغواء
فيه، كما يصد الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة. تقول: صده عن الامر
يصده صدا، وهو كالمنع.
وقوله " من آمن به " (من) في موضع نصب، لأنه مفعول به، وتقديره
وتصدون المؤمنين بالله عن اتباع دينه، وهو سبيل الله.
وقوله " وتبغونها عوجا فالهاء راجعة إلى السبيل، ومعنى " تبغون "
تطلبون، والبغية الطلبة: بغاه يبغيه بغية. والمعنى - ههنا - وتبغون السبيل
عوجا عن الحق، وهو أن يقولوا: هذا كذب وباطل وما أشبه ذلك، وهو
قول قتادة. والعوج - بكسر العين - في الدين وكل ما لا يرى - وبفتح
العين - في العود وكل ما يرى كالحائط وغيره.

(1) سورة 22 الحج آية 72.
463

وقوله " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " قال الزجاج: يحتمل أشياء:
أحدها - اذكروا نعمة الله عليكم إذ كثر عددكم.
وثانيها - انه كثركم بالغنى بعد الفقر.
وثالثها - كثركم بالقدرة بعد الضعف، ووجهه أنهم كانوا فقراء وضعفاء،
فهم بمنزلة القليل في قلة الغناء.
وقوله " فانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " معناه فكروا فيما مضى من
إهلاك من تقدم بأنواع العذاب وانزال العقوبات بهم واستئصال شأفتهم
وما فعل الله بالمفسدين، وكيف كان عاقبتهم في ذلك وما حل - بهم من البوار.
قوله تعالى:
وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم
يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (86)
آية بلا خلاف.
الطائفة الجماعة من الناس، وهو من الطوف صفة غالبة أقيمت مقام
الموصوف مأخوذة من أنها تجتمع على الطواف، وقد يكون جماعة الكتب
والدور ونحو ذلك.
وقوله " وطائفة لم يؤمنوا " إنما جاز أن يخبر عمن لم يؤمن بأنهم
طائفة وإن كانوا هم الأكثر لتقابل قوله " طائفة منكم آمنوا " ولان من حق
الضد أن يأتي على حد ضده، كما تقول: ضربت زيدا وما ضربت زيدا،
وإنما ذكر طائفة، لأنه راجع إلى الرجال، وإن كان اللفظ مؤنثا فغلب فيه
المعنى في هذا الموضع ليدل على معنى التذكير، والمعنى إن شعيبا قال لقومه:
وإن انقسمتم قسمين، ففرقة آمنت وفرقة كفرت، فاصبروا حتى يحكم الله
بيننا، على وجه التهديد لهم والانكا؟؟ لي من خالف منهم، والصبر حبس
النفس عما تنازع إليه من الجزع وأصله الحبس، ومنه قوله (ع): (اقتلوا
464

القاتل واصبروا الصابر) ومنه قيل للسئ: صبر، لأنه يحبس النفس عن لفظه
ليداويه. والحكم المنع من الخروج عن الحق بدعاء الحكمة إليه من جهة
معروفة أو حجة، وأصله المنع قال الشاعر:
أبني حنيفة احكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم أن أغضبا (1)
وقوله " وهو خير الحاكمين " لأنه لا يجوز عليه الجور، ولا المحاباة في
الحكم، وإنما علق جواب الجزاء بالصبر، وهو لازم على كل حال، لان
المعنى فسيقع جزاء كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب، كأنه قال:
فأنتم مصبورون على حكم الله بذلك. قال البلخي: أمرهم في هذه الآية
بالكف عما كانوا يفعلون من الصد عن الدين والتوعد عليه، والكف عن ذلك
خير ورشد، ولم يأمرهم بالمقام على كفرهم والصبر. وفي ذلك دلالة على
أنه ليس كل أفعال الكافرين كفرا ومعصية، كما يذهب إليه بعض أهل النظر.
قوله تعالى:
قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب
والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو
كنا كارهين (87) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية عن الملا، وهم الجماعة الاشراف والرؤساء
من قوم شعيب الذين استكبروا، ومعناه امتنعوا من اتباع الحق أنفة عن
الداعي إليه أن يتبعوه فيه، وتكبروا عليه جهلا منهم بمنزلة الحق ومنزلة
الداعي إليه، إذ أنهم قالوا لشعيب وأقسموا " لنخرجنك يا شعيب والذين
آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " وقيل في معنى (لتعودن) قولان:
أحدهما - على توهمهم أنه كان فيها على دين قومه.

(1) مر هذا البيت في 1 / 142 و 2 / 188 وسيأتي في 5 / 512.
465

الثاني - أن الذين اتبعوا شعيبا قد كانوا فيها. وقال الزجاج: وجائز
أن يقال: قد عاد علي من فلان مكروه وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك
أي لحقني منه مكروه، ووجه هذا أنه قد كان قبل ذلك في قصده لي كأنه
قد أتى مرة بعد مرة. وقال الشاعر:
لئن كانت الأيام أحسن مرة * إلي فقد عادت لهن ذنوب (1)
والعود هو الرجوع، وهو مصير الشئ إلى الحال التي كان عليها قبل،
ومنه إعادة الخلق، وقوله تعالى " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " (2)
وتستعمل لفظة الإعادة في الفعل مرة ثانية حقيقة، وفى فعل مثله مجازا، وكلاهما
يسمى إعادة، لكن لما كان مثله كأنه هو في أنه يقوم مقامه جرت عليه الصفة
كقولك: أعدت الكتابة والقراءة ومعناه فعلت مثله.
وقوله " أولو كنا كارهين " حكاية لما قال شعيب لامته من أنه لا يعود
في ملتهم إلا أن يكون على وجه الاكراه منهم لذلك وأنهم يريدون أن يردوا
المؤمنين إلى مثل ما هم عليه من المعاصي مع كراهتهم لذلك ويقينهم لبطلانه،
فبين بهذا أنا مع كراهتنا لذلك مع ما عرفناه من بطلانه لا نرجع، وتقديره
أتعيدوننا في ملتكم وإن كرهناها؟! فأدخل ألف الاستفهام على (لو).
قوله تعالى:
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجينا
الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع
ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين
قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (88) آية بلا خلاف.
في هذه الآية اخبار من الله عما قال شعيب لقومه من أنه قد افترى هو

(1) مر تخريجه في 2 / 315.
(2) سورة 6 الانعام آية 28.
466

ومن آمن به على الله كذبا إن عاد في ملتهم بأن يحللوا ما يحللونه ويحرموا
ما يحرمونه وينسبونه إلى الله بعد إذ نجاهم الله منها.
والافتراء الكذب، ومنه الافتعال، والاختلاق وهو القطع بخبر مخبره
لا على ما هو به، مشتقا من فري الأديم تقول فريت الأديم أفريه فريا.
والملة الديانة التي تجتمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه
تكرر الامر من قولهم طريق مليل إذا تكرر سلوكه حتى توطأ، ومنه الملل وهو
تكرر الشئ على النفس حتى تضجر. والملة الرماد الحار يدفن فيه الخبز
حتى ينضج لتكرر الحمي عليها، ومنه المليلة من الحمى. والملة لتكرر العمل
فيها على ما تأتي به الشريعة.
وقوله " بعد إذ نجانا الله منها " بإقامة الدليل والحجج على بطلانها،
وعلمنا بذلك وانتهائنا عنها. وقوله " ربنا افتح " قال ابن عباس: ما كنت
أدري معنى قوله " ربنا إفتح " حتى سمعت بنت سيف بن ذي يزن تقول: تعال
حتى أفاتحك يعني أقاضيك.
وقوله " وما يكون لنا أن نعوذ فيها إلا أن يشاء الله ربنا " إخبار عن
قول شعيب لهم أنه ليس له أن يعود في ملتهم، ويرجع فيها إلا بعد مشيئة الله
ذلك. وقيل في معنى هذه المشيئة مع حصول العلم بأنه لا يشاء تعالى عبادة
الأصنام والأوثان ثلاثة أقوال:
أحدها - أن في ملتهم أشياء كان يجوز أن يتعبد الله بها، فلو شاءها
منهم لوجب عليهم الرجوع فيها.
الثاني - أنه إذا فعل ما شاء الله كان ذلك طاعة لله تعالى.
الثالث - أنه علق ما لا يكون بما علم أنه لا يكون على وجه التبعيد
كما قال الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب (1)

(1) مر في 4 / 430.
467

وكما قال تعالى " حتى يلج الجمل في سم الخياط " (2) وجه ذلك
- ههنا - أنه كما لا يشاء الله عبادة الأصنام والقبائح - لان ذلك لا يليق
بحكمته - فكذلك لا أعود في ملتكم. وقال قوم: فيه وجه رابع، وهو أن
الهاء في قوله " فيها " راجعة إلى القرية، وكأنه قال: وما يكون لنا أن نعود
في قريتكم غانمين لكم ظاهرين عليكم بعد إذ نجانا الله منها بخروجنا منها
سالمين إلا أن يشاء الله أن ينصرنا عليكم ويشاء منا الرجوع فيها.
وقوله " وسع ربنا كل شئ علما " نصب (علما) على التمييز.
وقيل في وجه اتصال ذلك بما قبله قولان:
أحدهما - أن الملة إنما يتعبد بها على حسب ما في معلومه من مصلحة
العباد بها، فهو تعالى لا يخفى عليه ذلك.
والثاني - أنه عالم بما يكون منا من عود أو ترك دوننا.
ثم حكى عن شعيب أنه قال لهم " على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين
قومنا بالحق " سؤال من شعيب ورغبة منه إليه تعالى أن يحكم بينه وبين
قومه بالحق، والفتح القضاء. ومعنى افتح إقض - في قول ابن عباس والحسن
وقتادة والسدي - والحاكم الفاتح والفتاح، وفاتحته في كذا قاضيته. وإنما
قيل ذلك، لأنه يفتح باب العلم الذي انغلق على غيره.
وقوله " بالحق " فيه وجهان:
أحدهما - سؤال الله ما يجوز عليه، كما قال في موضع آخر " رب
احكم بالحق " (3).
والاخر - ما ينكشف به لمخالفينا أنا على الحق من انزال العذاب عليهم،
وقال الفراء: أهل عمان يسمون الحاكم الفتاح، قال الشاعر:

(2) آية 39 من هذه السورة.
(3) سورة 21 الأنبياء آية 112.
468

ألا أبلغ بني عصم رسولا * فأني عن فتاحتكم غني (2)
أي قضائكم وحكمكم، وقال الجبائي: معنى " افتح بيننا وبين قومنا "
انزل بهم ما يستحقون من العقوبة لكفرهم بالله وظلمهم المؤمنين.
وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لأنه قال " وما يكون لنا أن
نعود فيها إلا أن يشاء الله " فعلم أن لهم الرجوع فيها إذا شاء الله، فإذا لم
يشأ لم يكن ذلك، فيجب على هذا إن كان الله يريد الكفر أن يكون للكافر
الرجوع في الكفر، وهذا لا يقوله أحد، فبطل ما قالوه. على أن الظاهر من
معنى الملة هو ما يعلم بالشرع، وذلك يجوز أن ينسخه الله فيريد منهم الرجوع
فيه، وليس لاحد أن يقول إن قوله " بعد إذ نجانا الله منها " لا يليق بما قلتم
وإنما يليق بما قالوه، وذلك أن قوله " بعد إذ نجانا الله منها " معناه على هذا
القول أزاله عنا ونسخه عنا، فان شاء أن يعيدنا ثانيا جاز لنا الرجوع فيها.
قوله تعالى:
وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم
شعيبا إنكم إذا لخاسرون (89) آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية ما قالت الجماعة الكافرة الجاحدة بآيات الله ولنبوة
شعيب للباقين منهم وأقسموا عليهم " لئن اتبعتم شعيبا " وانقدتم له ورجعتم
إلى أمره ونهيه لان الاتباع هو طلب الثاني موافقة الأول فيما دعا إليه تقول:
اتبعه اتباعا وتبعه تبعا، وهو متبع وتابع " إنكم إذا لخاسرون " وقوله
" إنكم " جواب القسم واللام في (لخاسرون) لام التأكيد في خبر (إن)
و (الخسران) ذهاب رأس المال، فكأنهم قالوا: لئن تبعتموه كنتم بمنزلة
من ذهب رأس ماله أو أعظم من ماله، لأنكم لا تنتفعون باتباعه فتخسرون
في اشتغالكم بما لا تنتفعون به وبانقضاء عمركم إذ لم تكسبوا فيه نفعا

(2) تفسير الطبري 12 / 564 وقد مر في 1 / 315، 345.
469

لأنفسكم. وقيل: معناه لها لكون، وقيل: لمفتونون.
و (إذا) من عوامل الافعال، وإنما دخلت - ههنا - على الاسم،
لأنها ملغاة، وإذا ألغيت من العمل صلح ذلك فيها، لأنها حينئذ تجري مجرى
الف الاستفهام في أنها لا تختص، لأنها لا تعمل.
وقوله " إنكم إذا لخاسرون " جواب القسم وقد سد مسد جواب
الشرط من قوله " لئن " ولا يجوز قياسا على ذلك إن أتاك زيد إنه لكريم،
لان جواب الشرط إنما هو بالفعل أو الفاء لترتب الثاني بعد الأول بلا فصل.
قوله تعالى:
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (90)
آية واحدة بلا خلاف.
قد مضى تفسير مثل هذه الآية فلا معنى لإعادته (1). والفاء في فأخذتهم
عطف على قوله " قال الملا " وفيها معنى الجواب كأنه قيل: كان جواب ما
ارتكبوا من عظيم الفساد أخذ الرجفة لهم بالعذاب وأخذ الرجفة إلحاقها بهم
مدمرة عليهم، ولا يقال أخذتهم الرحمة، لان العذاب لما كان يذهب بهم
اهلاكا، صلح فيه الاخذ ولا يصلح في النعيم.
والرجفة الزلزلة، وهي حركة تزلزل الاقدام وتوجب الهلاك لشدتها.
والاصباح الدخول في الصباح، والامساء الدخول في المساء ويستعمل على
وجهين: أحدهما - ما يحتاج إلى خبر. والاخر - مكتف بالاسم بمنزلة
(سواء) والجثوم البروك على الركبة، جثم يجثم جثوما، وقد جثم هذا
الامر على قلبي أي ثقل عليه لثبوته على تلك الحال.
قوله تعالى:
الذين كذبوا شعيبا كان لم يغنوا فيها الذين كذبوا

(1) في تفسير آية 77 من هذه السورة.
470

شعيبا كانوا هم الخاسرين (91) آية بلا خلاف.
" الذين " الأولى في موضع رفع بأنه مبتدأ وخبره " كان لم يغنوا فيها "
وهذه الآية إخبار من الله تعالى عن حال هؤلاء الكفار الذين كذبوا
شعيبا. وشبههم بمن لم يغن فيها، ومعنى " لم يغنوا " لم يقيموا إقامة
مستغن بها عن غيرها، والغاني النازل، والمغاني المنازل، وغنى بالمكان إذا
أقام به يغني غناء وغنيا، وقال النابغة:
غنيت بذلك إذ هم لك جيرة * منها بعطف رسالة وتودد (2)
وقال آخر:
ولقد تغنى بها جيرانك * الممسكوا منك بعهد الوصال (3)
وقال رؤبة:
وعهد مغني رمته بضلفعا (1)
وقال حاتم طي:
غنينا زمانا بالتصعلك * فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة * غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر (2)
ووجه التشبيه في قوله " كأن لم يغنوا فيها " أن حال المكذبين يشبه
حال من لم يكن قط في تلك الديار، لما أخذتهم الرجفة بالاهلاك، وهذا مما
يتحسر عليه الناس أعظم الحسرة كما قال الشاعر:
كأن لم يكن بين الجحون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر

(2) سيأتي هذا البيت في 5 / 417.
(3) قائله عبيدة بن الأبرص ديوانه: 58 ومختارات ابن الشجري 2 / 37
والخصائص لابن جني 2 / 255.
(1) ديوانه: 87 وتفسير الطبري 12 / 570.
(2) مجمع البيان 2 (صيدا) 450 واللسان (صعلك).
471

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر (1)
وإنما أعيد ذكر (الذين) دفعة ثانية من غير كناية لتغليظ الامر في
تكذيبهم شعيبا مع بيان أنهم الذين حصلوا على الخسران، لا من نسبوه إلى
ذلك من أهل الايمان.
و (هم) في قوله " هم الخاسرون " فصل، ويسميه الكوفيون عمادا،
وإنما دخل الفصل مع أن المضمر لا يوصف، لأنه يحتاج فيه إلى التوكيد
ليتمكن معناه في النفس، وان الذي بعده من المعرفة لا يخرجه ذلك من معنى
الخبر، وإن كان الأصل في الخبر النكرة.
وهذه الآية جواب لقولهم " لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون "
فبين الله في هذه الآية أن الخاسرين هم الذين كذبوه لا الذين اتبعوه
قوله تعالى:
فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت
لكم فكيف آسى على قوم كافرين (92) آية بلا خلاف.
هذا إخبار من الله تعالى عما فعل شعيب (ع) مع قومه لما أبلغهم رسالات
ربه تعالى، فلما لم يقبلوها وأقاموا على تكذيبه وجحد ما أتى به، أنه تولى
عنهم ومعناه أعرض عنهم إعراض آيس منهم، فنزل بهم العذاب " فتولى
عنهم " لأنه كان مقبلا عليهم بالوعظ والدعاء إلى الحق، فلما تمادوا في غيهم
وأخذهم الله ببأسه تولى عنهم، وإنما قال لمن هلك " لقد أبلغتكم رسالات
ربي " لان معناه إن ما نزل بكم من البلاء وإن كان عظيما، فهو حق، لأنه
بجنايتكم على أنفسكم، فلا ينبغي أن يحزن عليهم للأمور التي ذكرناها من
شأنهم. قال ابن إسحاق عزى نفسه عنهم بعد أن كان حزن عليهم.

(1) قيل: إنه لعمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو. وقيل: هو
للحارث الجرهمي اللسان (حجن).
472

وقوله " رسالات ربي " إنما أتى بلفظ الجمع ليدل على اختلاف معاني
الرسالة إذا جمعت، فهي تجري مجرى جمع الأجناس، كقولك تمور، وأما
ضربات فإنما يدل على عدد المرات.
وقوله " فكيف آسى " أحزن - في قول ابن عباس والحسن والسدي -
والأسى شدة الحزن يقال أسى يأسى أسى قال الشاعر:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى (1)
وقال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون لا تهلك أسى وتجمل (2)
وقوله فكيف " آسى " لفظه لفظ الاستفهام والمراد به النفي، وإنما
كان كذلك: لان جوابه في هذا الموضع لا يصح إلا بالنفي، كما يدخله معنى
الانكار لهذه العلة. قال العجاج:
أطربا وأنت قنسري (3)
أي لا يكون ذلك مع كبر السن، وهذا تسل من شعيب (ع) بما يذكر
من حاله معهم في مناصحته لهم وتأدية رسالة ربه إليهم، وأنه لا ينبغي أن
يأسى عليهم مع تمردهم في كفرهم وشدة طغيانهم، وانه لا حيلة في فلاحهم،
قال البلخي: وفي ذلك دلالة على أنه لا يجوز للمسلم ان يدعو للكافر بالخير
كما يقول: لعن الله فلانا وأخزاه ثم يقول هداه الله وأرشده ورحمه. وقال
أبو عبد الله البجلي: أبو جاد، وهواز، وحطي، وكلمون، وصعفص،
وقرشت: أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب
(كلمون) فقالت أخت كلمن تبكية:

(1) مر تخريجه في 3 / 578.
(2) ديوانه: 144 من معلقته الشهيرة التي مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
(3) مر تخريجه في 4 / 350.
473

كلمون هد ركني * هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه الحتف * نارا وسط ظله
جعلت نارا عليهم * دارهم كالمضمحلة (2)
قوله تعالى:
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء
والضراء لعلهم يضرعون (93) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لم يرسل رسولا إلى أهل قرية الا واخذ
أهلها بالباساء والضراء تغليظا في المحنة وتشديدا للتكليف ليلين قلوبهم،
ولكي يتضرعوا إلى ربهم في كشف ما نزل بهم في ذلك، وإنما يفعل بهم ذلك
لعلمه بما لهم فيه من الصلاح لكي يتضرعوا. والقرية أصلها الجمع من
قولهم: قريت الماء أقريه قريا إذا جمعته، فالقرية مجتمع الناس في المنازل
المتجاورة مما هو دون المدينة، وكذلك تسمى المدينة أيضا قرية. والنبي هو
الذي يؤدي عن الله تعالى بلا واسطة من البشر، وقيل: هو من كان ينبئ
بالوحي عن الله تعالى مما أنزله عليه.
وقيل: في معنى " البأساء والضراء " ثلاثة أقوال:
أحدها - ان البأساء ما نالهم من الشدة في أنفسم، والضراء ما نالهم
في أموالهم.
والثاني - ما قال الحسن: ان البأساء الجوع، والضراء الآلام من
الأمراض والشدائد التي تصيبهم.
الثالث - قال السدي: ان البأساء الجوع والضراء الفقر.
وقيل في معنى " لعلهم " قولان:
أحدهما - إنما عاملناهم معاملة الشاك في ايراد أسباب التضرع مظاهرة

(2) تفسير الطبري 12 / 568.
474

عليهم في الحجة.
الثاني - أن يكون (لعل) بمعنى اللام وتقديره ليضرعوا. واصل
" يضرعون " يتضرعون فأدغمت التاء في الضاد ولا يدغم الضاد في التاء،
لان في التاء استطالة، وإنما يدغم الناقص في الزائد، ولا يدغم الزائد في
الناقص لما في ذلك من الاخلال.
قوله تعالى:
ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس
آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون (94)
آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية انه بدل مكان السيئة الحسنة " وقالوا
قد مس آباءنا الضراء والسراء " ومعناه انه تعالى بعد ان يفعل بهم البأساء
والضراء ليتضرعوا يبدل مكان السيئة الحسنة. والتبديل وضع أحد الشيئين
مكان الاخر، فلما رفعت السيئة عنهم ووضعت الحسنة كانت مبدلة بها.
وقال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد: المراد بالسيئة والحسنة - ههنا -
الشدة والرخاء وهو ما يسوء صاحبه أو يحسن اثره عليه. وقال أبو علي:
جرى في هذا الموضع على سبيل المثل.
وقوله " حتى عفوا " قال ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد:
معناه حتى كثروا. وقال الحسن حتى سمنوا، وأصله الترك من قوله " فمن
عفي له من أخيه شئ " (1) أي ترك له، وعفوا تركوا حتى كثروا،
قال الشاعر:
ولكنا نعض السيف منها * بأسوق عافيات الشحم كوم (2)
وقوله " وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء " معناه ان الكفار قال

(1) سورة 2 البقرة آية 178
(2) مر تخريجه في 2 / 214.
475

بعضهم لبعض: ان هكذا عادة الدهر، فكونوا على ما أنتم عليه كما كان
آباؤكم فلم ينفكوا عن تلك الحال فينتقلوا.
وقوله " فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " اخبار من الله تعالى انه أخذ
من ذكره ممن لم يقبل مواعظ الله وخرج عن طاعته إلى عداوته " بغتة " يعني
فجاءة وهي الاخذ على غرة من غير تقدمة تؤذن بالنازلة تقول: بغته يبغته
بغتة كما قال الشاعر:
* وافظع شئ حين يفجؤك البغت * (3)
ومعنى الآية انه تعالى يدبر خلقه الذين يعملون بمعاصيه ان يأخذهم
تارة بالشدة وأخرى بالرخاء، فإذا فسدوا على الامرين جميعا اخذهم بغتة
ليكون ذلك أعظم في الحسرة، وأبلغ في باب العقوبة. ومعنى قوله " وهم
لا يشعرون " أي لم يشعروا بنزول العذاب الا بعد حلوله.
قوله تعالى:
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء
والأرض ولكن كذبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون (95)
آية بلا خلاف.
قرأ ابن عامر " لفتحنا " بتشديد التاء. الباقون بتخفيفها.
من شدد ذهب إلى التكثير، ومن خفف، فلانه يحتمل القلة والكثرة.
ومعنى (لو) امتناع الشئ لامتناع غيره، و (لولا) معناه امتناع
الشئ لوجود غيره. وقال الرماني: معنى (لو) تعليل الثاني بالأول الذي
يجب بوجوبه، وينتفي بانتفائه على طريقة إن كان، و (ان) فيها هذا المعنى
على طريقة يكون. والفرق بين (لو) و (ان) أن (ان) تعلق الثاني بالأول الذي يمكن
أن يكون ويمكن أن لا يكون كقولك ان آمن هذا الكافر استحق الثواب،

(3) مر تخريجه في 4 / 115.
476

وهذا مقدور وليس كذلك (لو) لأنها قد تدخل على ما لا يمكن أن يكون
كقولك: لو كان الجسم قديما لاستغنى عن صانع. وفتحت (أن) بعد (لو)
لأنها مبنية على شبه التعليل اللفظي لاختصاصه بالفعل الماضي، فكأنه قيل
لو كان أن أهل القرى آمنوا، وصارت (لو) خلفا منه. واما (لولا أنه
خارج لاتيته) فتشبه (لو) من جهة تعليق الثاني بالأول فأجريت مجراها.
يقول الله تعالى " لو أن أهل " هذه " القرى " التي أهلكناها: من
قوم لوط وصالح، وشعيب وغيرهم أقروا بوحدانيتي وصدقوا رسلي
" لفتحنا عليهم بركات " وهي الخيرات النامية، وأصله الثبوت فنمو الخير
يكون كناية عن ثبوته بدوامه، فبركات السماء بالقطر، وبركات الأرض
بالنبات والثمار، كما وعد نوح بذلك أمته، فقال " يرسل السماء عليكم
مدرارا... (1) " الآيات. وقيل بركات السماء إجابة الدعاء، وبركات
الأرض تيسير الحوائج " ولكن كذبوا " يعني كذبوا برسلي فأخذناهم بما
كانوا يكسبون من المعاصي ومخالفتي.
والكسب العمل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر عن النفس، وقد
يكسب الطاعة ويكسب المعصية إذا اجتلب النفع من وجه يقبح.
قال البلخي: وفى الآية دلالة على أن المقتول ظلما لو لم يقتل لم تجب
إماتته، لأنه تعالى قال " لو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات
من السماء والأرض " وهذا إنما يقوله لقوم أهلكهم ودمر عليهم، وقد كان
عالما بما ينزل بهم من الهلاك، فأخبر أنهم لو آمنوا لم يفعل بهم ذلك، ولعاشوا
حتى ينزل عليهم بركات من السماء فيتمتعوا بذلك.
قوله تعالى:
أفا من أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (96)

(1) سورة 11 هود آية 52 وسورة 71 نوح آية 11 وفى سورة 6 الانعام
آية 6 " وأرسلنا السماء عليهم مدرارا.. ".
477

أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (97)
آيتان.
قرأ أهل المدينة وابن عامر (أو) بسكون الواو الا ان ورشا على أصله
في القاء حركة الهمزة على الساكن فتصير قراءته مثل قراءة الباقين.
الألف في قوله " أفأمن أهل " ألف الانكار، أنكر عليهم ان يأمنوا،
وإنما دخل حرف الاستفهام معنى الانكار لظهور المعنى فيه، وان الجواب
عنه لا يكون الا بالنفي. والفاء في قوله " أفأمن " فاء العطف دخل عليها
حرف الاستفهام، وإنما جاز ذلك مع منافاة العطف للاستئناف، لأنهما إنما
يتنافيان في المفرد، لان الثاني إذا عمل فيه الأول كان من الكلام الأول،
والاستئناف قد أخرجه عن أن يكون منه. واما في عطف جملة على جملة
فيصح، لأنه على استئناف جملة بعد جملة.
و (الامن) سكون النفس إلى الحال المنافية لانزعاجها. والامن والثقة
والطمئنية نظائر في اللغة، وضد الامن الخوف، وضد الثقة الريبة، وضد
الطمأنينة الانزعاج. والامن الثقة بالسلامة من الخوف. والبأس العذاب،
والبؤس الفقر والأصل الشدة، ورجل بئس شديد في القتال، ومنه قولهم:
بئس الرجل زيد، معناه شديد الفساد. والنوم نقيض اليقظة. والنوم سهو
يغمر القلب ويغشي العين ويضعف الحس وينافي العلم. نام الرجل ينام نوما
وهو حسن النيمة إذا كان حسن هيئة النوم، ورجل نومة - بسكون الواو -
إذا كان خسيسا لا يؤبه به - ذكره الزجاج - ورجل نومة - بفتح الواو -
كثير النوم، والنيم: فرو النوم، لأنه يغشي كما يغشي النوم أو لأنه من
شأنه أن ينام فيه.
ومعنى الآية الإبانة عما يجب أن يكون عليه العبد من الحذر لبأس الله
وسطوته، بالمسارعة إلى طاعته واتباع مرضاته. والمعني بقوله " أهل القرى "
478

هم أهل القرى الظالم أهلها، والمقيمون على معاصي الله في كل وقت وكل
أوان، وان نزلت بسبب أهل القرى الظالم أهلها المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وآله.
وقوله " أو أمن أهل القرى " إنما قال - ههنا - بالواو، وفي الآية
الأولى بالفاء، لان الفاء تدل على أن الثاني أدى إليه الأول، كأنه قيل:
أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله من أجل ما هم عليه من تضييع امر الله، لأنه يشبه
الجواب، وليس كذلك الواو بل هي لمجرد العطف، وإنما دخلت ألف
الاستفهام عليها للانكار على ما بيناه، والواو مفتوحة في " أو أمن " لأنها
واو العطف دخل عليها حرف الاستفهام، وإنما فتحت لأنها أخف الحركات،
ولمثل ذلك فتحت ألف الاستفهام وكسرت باء الإضافة ولامها، لأنهما حرفان
لازمان لعمل الجر. ومن قرأ هذه القراءة قال لأنها أشبه بما قبلها وما
بعدها، لأنه قال قبلها " أفأمن " وقال بعدها " أولم يهد " ومن سكن الواو
أراد الاضراب عن الأول من غير أن يبطل الأول، لكن كقوله " ألم. تنزيل
الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه " (1) فجاء هذا على
معنى أمنوا هذه الضروب من معاقبتهم والاخذ لهم. وان شئت جعلته مثل
(أو) التي في قولك ضربت زيدا أو عمرا، كأنك أردت أفأمنوا احدى
هذه العقوبات، و (أو) حرف يستعمل على ضربين:
أحدهما - بمعنى أحد الشيئين، كقولك: جاءني زيد أو عمرو، كما
تقول: جاءني أحدهما، ومن ذلك قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، لأنه مخير
في مجالسة أيهما شاء.
والثاني - أن يكون بمعنى الاضراب بعد الخبر كقولك: انا أخرج
ثم تقول: أو أقيم، فتضرب عن الخروج وتثبت الإقامة، كأنك قلت: لا
بل أقيم. ومن ثم قال سيبويه في قوله " ولا تطع منهم آثما أو كفورا " (2)
لو قلت ولا تطع كفورا انقلب المعنى، وإنما كان ينقلب المعنى لأنه لو كان

(1) سورة 32 ألم السجد آية 1 - 3
(2) سورة 76 الدهر آية 24.
479

للاضراب لجاز ان يطيع الاثم، وذلك خلاف المراد، لان الغرض لا تطع هذا
الضرب، ولا تطع هؤلاء.
و (الضحى) صدر النهار في وقت انبساط الشمس واصله الظهور من
قولهم: ضحا الشمس يضحو ضحوا إذا ظهر، وفعل ذلك الامر ضاحية إذا
فعله ظاهرا والا ضحية من هذا، لأنها تذبح عند الضحى يوم العيد،
قال رؤبة:
* هابي العشي ديسق ضحاؤه * (1)
وقال آخر:
* عليه من نسج الضحى شفوف * (2)
فشبه السراب بالسور البيض. (واللعب) هو العمل للذة لا يراعى فيه
الحكمة كعمل الصبي، لأنه لا يعرف الحكيم ولا الحكمة، وإنما يعمل للذة،
واصله الذهاب على غير استقامة، كلعاب الصبي إذا سال على فيه، وإنما
خص وقت الضحى بهذا الذكر، لأنهم بمنزلة لا يجوز لهم ان يأمنوا ليلا
ولا نهارا - في قول الحسن - ولأنه ابتداء الدخول في الاستمتاع. ومعنى
الآية البيان عن وجوب الاخذ بالجرم في كل ما لا يؤمنون معه هلاك النفس،
لانكار الله عليهم ان يكونوا على حال الا من وقد ضيعوا الواجب من الامر
قوله تعالى:
أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (98)
آية بلا خلاف.
إنما دخلت الفاء في " أفأمنوا " بعد الواو في " أو أمن " لان فيها معنى
(بعد) كأنه قيل أبعد هذا كله أمنوا مكر الله. ثم صار الفاء في " فلا يأمن
مكر الله " كأنها جواب لمن قال قد أمنوا، والمكر اخذ العبد بالضر من حيث

(1) اللسان (ضحا).
(2) اللسان (ضحا).
480

لا يشعر الا أنه قد كثر استعماله في الحيلة عليه، قال الخليل: المكر الاحتيال
باظهار خلاف الاضمار، وإنما جاز إضافة المكر إلى الله لما في ذلك من المبالغة
من جهة انه قد صار العذاب كالمكر على الحقيقة، لأنه اخذ للعبد بالضر من
حيث لا يشعر، واصل المكر الالتفات، فمنه ساق ممكورة أي ملتفة حسنة
قال ذو الرمة:
عجزاء ممكورة خمصانة قلق * عنها الوشاح وثم الجسم والعصب (1)
والمكور شجر ملتف قال الراجز:
* يستن في علقي وفي مكور * (2)
ورجل ممكور قصير ملتف الخلقة ذكره الخليل في هذا الباب تقول:
مكر يمكر مكرا إذا التف تدبيره على مكروه لصاحبه.
وقوله " فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون " إنما ارتفع ما بعد
(الا) لان الرافع مفرغ له فارتفع لأنه فاعل، وكلما فرغ الفعل لما بعد (الا)
فهي فيه ملغاة، وكل ما شغل بغيره فهي فيه مسلطة، لان الاسم لا يتصل على
ذلك الوجه الا بها. وإنما قال " فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون " مع أن
الأنبياء المعصومين يأمنون ذلك لامرين:
أحدهما - انهم لا يأمنون عقاب الله للعاصين، ولذلك سلموا مواقعة الذنوب
الثاني - " فلا يأمن مكر الله " من المذنبين " الا القوم الخاسرون ".
ومعنى الآية الإبانة عما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب
الله، ليسارع إلى طاعته واجتناب معاصيه، ولا يستشعر الامن من ذلك،
فيكون قد خسر في دنياه وآخرته بالتهالك في القبائح.
قوله تعالى:
أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء

(1) مقاييس اللغة 4 / 233 وسيأتي في 5 / 128 من هذا الكتاب.
(2) قائله العجاج. اللسان مكر)، (علق).
481

أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون (99) آية.
قيل في فاعل " يهد " من جهة الاعراب قولان:
أحدهما - انه مضمر كأنه قيل: أولم يهد الله لهم، وقوي ذلك
بقراءة من قرأ بالنون على ما ذكره الزجاج.
الثاني - أو لم يهد لهم مشيؤنا، لان " أن لو نشاء " في موضعه
والتقدير أو لم يكن هاديا لهم استئصالنا لمن أهلكناه.
وقيل في معنى الهداية - ههنا - قولان:
أحدهما - قال ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد: يهدي لهم
يبين لهم.
الثاني - أن الهداية الدلالة المؤدية إلى البغية، والمعنى أولم نبين للذين
متعناهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها. وجعلنا آباءهم المالكين.
لها بعدهم، انا لو شئنا أصبناهم بعقاب ذنوبهم وأهلكناهم بالعذاب كما
أهلكنا الأمم الماضية قبلهم.
وقوله " للذين يرثون الأرض من بعد أهلها " فالإرث ترك الماضي
للباقي ما يصير له بعده، وحقيقة ذلك في الأعيان التي يصح فيها الانتقال،
وقد استعمل على وجه المجاز في الاعراض، فقيل: العلماء ورثة الأنبياء لأنهم
تعلموا منهم، وقاموا بما أدوه إليهم.
وقوله " ان لو نشاء أصبناهم بذنوبهم " الإصابة ايقاع الشئ بالغرض
المنصوب، وضده الخطأ وهو ايقاع الشئ بخلاف الغرض المطلوب.
وقوله " ونطبع على قلوبهم " قيل في معنى الطبع - ههنا - قولان:
أحدهما - الحكم بأن المذموم كالممنوع من الايمان لا يفلح، وهو
أبلغ الذم.
الثاني - انه علامة وسمة في القلب من نكتة سوداء ان صاحبه لا يفلح
482

تعرفه الملائكة.
وحكي عن البكرية في تأويل هذه الآية ان معنى الآية لو نشاء طبعنا
على قلوبهم، وانكر أبو علي ذلك، وقال: هذا غلط لان معنى قوله: اني
لو شئت أصبتهم بعقاب ذنوبهم وأهلكتهم كما أهلكت الأمم قبلهم بعقوبة
ذنوبهم، فلا يجوز ان يعني اني لو شئت أهلكتهم فلا يتهيأ لهم ان يسمعوا
بعد اهلاكهم، لان من المعلوم للعقلاء أجمع ان الموتى لا يسمعون، ولا
يقبلون الايمان.
وقوله " ونطبع على قلوبهم " إنما هو استئناف وخبر منه أنه يفعل
ذلك، ولم يرد أني لو شئت لطبعت لأنه بين في هذه الآية وغيرها انه مطبع
على قلوب الكافرين، كقوله " بل طبع الله عليها " يعني على القلوب " بكفرهم
فلا يؤمنون الا قليلا " (1) أي الا قليلا منهم، لان أهل الطبع قد يؤمن
بعضهم، وهو خلاف قول الحسن، فان تأويله عنده الا ايمانا قليلا. وقال
الزجاج: هو على الاستئناف، لأنه لو كان محمولا على أصبنا لكان وجه
الكلام ولطبعنا، وهو قول الفراء.
وقوله " فهم لا يسمعون " أي لا يقبلون الايمان مع هدايتنا لهم وتخويفنا
إياهم. وفائدة الآية الانكار على الجهال تركهم الاعتبار بمن مضى من الأمم
قبلهم، وانه قد طبع على قلوب من لا يفلح منهم عيبا، وذما لهم.
وقال البلخي: شبه الله تعالى الكفر بالصدى الذي يركب المرآة والسيف
لأنه يذهب عن القلوب بحلاوة الايمان ونور الاسلام، كما يذهب الصدى
بنور السيف، وصفاء المرآة، ولما صاروا عند امر الله لهم بالايمان إلى الكفر
جاز ان يضيف الطبع إلى نفسه، كما قال " زادتهم رجسا إلى رجسهم " (2)
وان كانت السورة لم تزدهم ذلك.

(1) سورة 4 النساء آية 154
(2) سورة 9 التوبة 126.
483

قوله تعالى:
تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم
بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع
الله على قلوب الكافرين (100) آية بلا خلاف.
اخبر الله تعالى عن أهل القرى التي ذكرها وقص خبرها وأشار ب‍ (تلك)
إليها، لأنه خاطب النبي صلى الله عليه وآله. وقوله " نقص عليك من أنبائها " يعني
قصص انباء القرى ما فيه من الاعتبار بما كانوا عليه من الاغترار بطول
الامهال مع اسباغ النعم وتظاهر المنن حتى توهموا أنهم على صواب فيما
دعاهم إليه الشيطان من قبح الطغيان.
والقصص اتباع الحديث، ويقال فلان يقص الأثر أي يتبعه ومنه
" قالت لأخته قصيه " (1) أي اتبعي اثره، ومنه المقص لأنه يتبع في القطع
أثر القطع. و (النبأ) هو الخبر الا ان النبأ خبر عن امر عظيم الشأن وأخذ
منه اسم نبي، ويقال: أنبأ بكذا بمعنى اخبر به.
وقوله " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات " يعني أتتهم رسلهم بالآيات
والدلالات، وإنما أضاف الرسل إليهم مع أنهم رسل الله، لان الاختصاص
فيها على طريقة الملك إذ المرسل مالك لرسالته، وقد ملك العباد الانتفاع بها
والاهتداء بما فيها من البيان والبرهان.
وقوله " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " قيل في معناه قولان:
أحدهما - انه بمنزلة قوله " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " في قول
مجاهد أي انا لم نهلكهم الا وفى معلومنا أنهم لا يؤمنون.
الثاني - ان عتوهم في كفرهم وتمردهم فيه يحملهم على أن لا يتركوه

(1) سورة 28 القصص آية 11.
484

إلى الايمان - في قول الحسن والجبائي - فالآية على هذا مخصوصة بمن
علم من حاله انه لا يؤمن. وقال الأخفش " بما كذبوا " معناه بتكذيبهم فجعل
(ما) مصدرية. والمعنى لم يكونوا ليؤمنوا بالتكذيب.
وقوله " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " وجه التشبيه فيه أن
دلالته على أنهم لا يؤمنون ذما بأنهم لا يفلحون كالطبع على قلوب الكافرين
الذين في مثل صفتهم في المعلوم.
قوله تعالى:
وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم
لفاسقين (101) آية بلا خلاف.
معنى قوله " وما وجدنا " أي ما أدركنا، لان الوجدان والالفاء والادراك
والمصادفة نظائر. وقوله " لأكثرهم من عهد " فالعهد العقد الذي تقدم
لتوطين النفس على أداء الحق، وإذا أخذ على الانسان العهد فنقضه، قيل
ليس عليه عهد أي كأنه لم يعهد إليه، فلما كان الله تعالى اخذ عليهم العهد بما
جعله في عقولهم من وجوب شكر المنعم والقيام بحق المنعم، وطاعة المالك
المحسن في اجتناب القبائح إلى المحاسن فألقوا ذلك لم يكن لهم عهد وكأنه
قال وما وجدنا لأكثرهم من طاعة لأنبيائهم - وقيل العهد ما عهد إليهم مع
الأنبياء ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وهو قول الحسن وأبي علي. والمعنى
في النفي يؤول إلى أنه لم يكن لأكثرهم عهد فيوجد.
وقوله " من عهد " قيل في دخول (من) ههنا قولان:
أحدهما - انها للتبعيض لأنه إذا لم يوجد بعض العهد فلم يوجد الجميع
لأنه لو وجد جميعه لكان قد وجد بعضه.
الثاني - انها دخلت على ابتداء الجنس إلى النهاية. وقوله " وان
وجدنا أكثرهم لفاسقين " معنى (ان) هي المخففة جاز الغاؤها من العمل وان
485

يليها الفعل، لأنها حينئذ قد صارت حرفا من حروف الابتداء. واللام في
قوله " لفاسقين " لام الابتداء التي تكسر لها (ان) وإنما جاز ان يعمل
ما قبلها فيما بعدها، لأنها مزحلقة عن موضعها إذ لها صدر الكلام ولكن كره
الجمع بينها وبين (ان) فأخرت.
وقال قوم: المعنى وما وجدنا أكثرهم الا فسقة. فان قيل: كيف قال
" أكثرهم لفاسقين " وهم كلهم فاسقون؟
قيل يجوز أن يكون الرجل عدلا في دينه غير متهتك ولا مرتكب لما
يعتقد قبحه وتحريمه، فيكون تأويل الآية وما وجدنا أكثرهم - مع كفره -
الا فاسقا في دينه غير لازم لشريعته خائنا للعهد قليل الوفاء، وإن كان ذلك
واجب عليه في دينه.
وفيها دلالة على أنه يكون في الكفار من يفي بعهده ووعده وبعيد عن
الخلف وإن كان كافرا. وكذلك قد يكون منهم المتدين الذي لا يرى أن يأتي
ما هو فسق في دينه كالغصب والظلم، فأخبر تعالى انهم مع كفرهم كانوا
لا وفاء لهم ولا يدينون بمذهبهم بل كانوا يفعلون ما هو فسق عندهم، وذلك
يدل على صح قول من يقول تجوز شهادة أهل الذمة في بعض المواضع.
قوله تعالى:
ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه
فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (102) آية
أخبر الله تعالى في هذه الآية انه بعد ارسال من ذكر قصته من الأنبياء،
وكفر قومهم، وانزال عذابه بهم. فالهاء والميم يجوز أن يكون كناية عن
الأنبياء الذين جرى ذكرهم، ويحتمل أن يكون كناية عن الأمم التي - قد
تقدم ذكرهم واهلاكهم - بعث إليهم موسى وأرسله إليهم. والبعث الارسال
وهو في الأصل النقل باعتماد يوجب الاسراع إلى الشئ، فمنه قوله " انظرني
486

إلى يوم يبعثون " (1) أي من القبور، ومنه قوله " ثم بعثناكم من بعد
موتكم " (2) أي نقلناكم إلى حال الحياة، وكذلك نقلنا موسى عن حاله
بالارسال إلى فرعون وملائه " بآياتنا " يعني بحججنا وبراهيننا. وقوله
" فظلموا بها " معناه ظلموا أنفسم بجحدها، لان الظلم بالشئ على وجوه:
منها السبب والآلة والجهة، نحو ظلم بالسيف الذي قتل به الناس، وظلم
بذنبه له، وظلم بغصبه المال، وظلم بجحده الحق. وقيل " ظلموا بها " أي
جعلوا بدل الايمان الكفر بها، لان الظلم وضع الشئ في غير موضعه الذي
هو حقه.
وقوله " فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " معنى النظر هو محاولة التصور
للشئ بالفكر فيه، وهو طلب ادراك المعنى بالتأويل له. وقيل: هو تحديق
القلب إلى المعنى لادراكه، وكأنه قيل فانظر - يعني بالقلب - كيف كان
عاقبتهم، وموضع (كيف) نصب لأنه خبر (كان) وتقديره انظر أي شئ
كان عاقبة المفسدين.
قوله تعالى:
وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين (103).
آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية لما قال موسى (ع) لفرعون ونداؤه له: اني رسول
من قبل رب العالمين مبعوث إليك والى قومك و (من) في قوله " من رب
العالمين " لابتداء الغاية، لان المرسل المبتدئ بالرسالة وانتهاؤها المرسل إليه.
و (موسى) على وزن (مفعل) والميم في موسى زائدة لكثرة زيادتها أولا

(1) سورة 7 الأعراف آية 13 وسورة 15 الحجر آية 36 وسورة 38 ص آية 79
(2) سورة 2 البقرة آية 56.
487

كالهمزة التي صارت أغلب من زيادة الألف أخيرا. و (أفعى) على وزن
(أفعل) لهذه العلة. و (موسى) اسم لا ينصرف، لأنه أعجمي ومعرفة،
وموسى الحديد عربي ان سميت به رجلا لم تصرفه، لأنه مؤنث ومعرفة على
أكثر من ثلاثة أحرف، كما لو سميته ب‍ (عناق) لم تصرفه. ولو سميته
(فقد) صرفته. و (فرعون) على وزن " فعلون " ومثله برذون، فالواو
زائدة، لأنها جاءت مع سلامة الأصول الثلاثة، والنون زائدة للزومها.
و (فرعون) لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة، وعرف في حال تعريفه لأنه نقل
من الاسم العلم، ولو عرب في حال تنكيره لا ينصرف كما ينصرف (بأقرب)
اسم رجل.
قوله تعالى:
حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة
من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (104) آية بلا خلاف.
قرأ نافع وحده " حقيق علي " بتشديد الياء. الباقون بتخفيف الياء.
فمن قرأ بالتشديد قال تقديره: واجب علي ان لا أقول. ومن خفف
فعلى تقدير: حريص على أن لا أقول، قال أبو علي قوله " حقيق " يحتمل وجهين:
أحدهما - ان (حق) الذي هو (فعل) قد تعدى ب‍ " على " قال
الله " فحق علينا قول ربنا " (1) وقال " فحق عليها القول " (2) فحقيق يصل
ب‍ (على) من هذا الوجه.
والثاني - ان حقيقا بمعنى واجب، فكما ان واجب يتعدى ب (على)
كذلك تعدى حقيق بها.
ومن لم يشدد أجاز تعديه ب‍ (على) من الوجهين اللذين ذكرناهما،

(1) سورة 37 الصافات آية 31
(2) سورة 17 الاسرى آية 16.
488

وقد قالوا: هو حقيق بكذا، فيجوز على هذا أن تكون (على) بمعنى الباء
فتوضع (على) موضع الباء، قال أبو الحسن: كما قال " ولا تقعدوا بكل
صراط توعدون " (3) والمعنى (على) قال أبو علي: والأول أحسنها، لان
أبا الحسن قال: لان (على) بمعنى الباء ليس بمقيس ألا ترى انك لو قلت
ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز، وقال: وجاز في الآية لان القراءة وردت
به، وتقدير " حقيق على أن لا أقول " حقيق بأن لا أقول قال الفراء: العرب
تقول: رميت على القوس وبالقوس وجئت على حال حسنة وبحال حسنة،
ومعناهما متقارب، لأنه مستقل على القول بالنظر حتى يؤديه على الحق فيه.
والحق أيضا منعقد بالقول فيه لا ينفك.
وقوله " الا الحق " نصب بأنه مفعول القول على غير الحكاية بل على معنى
الترجمة عن المعنى دون حكاية اللفظ.
وقوله " قد جئتكم ببينة من ربكم " خطاب من موسى لقومه أنه قد
جاء قومه بدلائل من ربه عز وجل. وقوله " فأرسل معي بني إسرائيل "
خطاب من موسى لفرعون، وأمره إياه أن يخلي عن بني إسرائيل من اعتقاله،
لأنه كان قد اعتقلهم للاستخدام في الاعمال الشاقة من نحو ضرب اللبن ونقل
التراب وما أشبه ذلك.
ومعنى الآية البيان عن وجوب اتباع موسى (ع) لمكان الأدلة التي
تشهد بصدقه، وبأنه لا يقول على الله الا الحق ولا يدعو الا إلى الرشد.
قوله تعالى:
قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين (105)
آية بلا خلاف.
هذا حكاية عما قال فرعون لموسى (ع) من أنه إن كان معك حجة
(3) سورة 7 الأعراف آية 85
489

ودلالة تشهد لك على ما تقول " فات بها " أي هات بها " ان كنت " صادقا
" من الصادقين " على طريق اليأس منه بذلك وجهله بصحته وامكانه.
واختلف النحويون - ههنا - في نقل (ان) الماضي إلى الاستقبال.
فقال أبو عباس لم تنقله هنا من أجل قوة (كان) لأنها أم الافعال، ولم
يجزه من غيرها، وقال ابن السراج: المعنى ان تكن جئت بآية أي ان يصح
ذلك، لأنه إذا أمكن ان يجري الحرف على أصله لم يجز اخراجه، وإنما
جاز نقل (ان) الماضي إلى المستقبل للبيان عن قوتها في النقل إذ كانت تنقل
الفعل نقلين إلى الشرط والاستقبال، كما أن (لم) تنقله إلى النفي والماضي.
وضمير المخاطب في " كنت " يرجع إلى المكنى، ولا يجوز مثل ذلك في
(الذي) لان (الذي) غائب فحقه أن يعود إليه ضمير الغائب، وقد أجازوه
- إذا تقدمت كناية المتكلم كما في قول الشاعر:
وان الذي قتلت بكرا بالقنا * وتركت تغلب غير ذات سنام (1)
فعلى هذا لا يجوز أتيت الذي ضربك عمرو، والوجه ضربه. وإنما
جاز وقوع الامر في جواب الشرط، لان فيه معنى: ان كنت جئت بآية فاني
ألزمك أن تأتي بها، فقد عاد إلى أنه يجب الثاني بوجوب الأول. ولا يجوز
مثل ذلك في الاستفهام، لأنه لم يقع معرفة غيره، ولو اتسع فيه جاز، مثل
أن تقول: إن كان عندك دليل فما هو؟، ولا يجوز: ان قدم زيد، فأعمرو
أقدمه؟ لان الألف لها صدر الكلام.
قوله تعالى:
فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (106) ونزع يده فإذا
هي بيضاء للناظرين (107) آيتان بلا خلاف.

(1) مجمع البيان 3 / 456.
490

هذا اخبار من الله تعالى عن القاء موسى عصاه، والعصا عود كالقضيب
يابس وأصله الامتناع بيبسه يقال: عصى يعصي إذا أمتنع قال الشاعر:
تصف السيوف وغيركم يعصي بها * يا بن القيون وذاك فعل الصيقل (1)
وقيل: عصى بالسيف إذا أخذه أخذه العصا، ويقال لمن استقر بعد
تنقل: ألقي عصاه، قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما فر عينا بالإياب المسافر (2)
والعصى من بنات الواو، والمعصية من بنات الياء قال الشاعر:
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه * على عصويها سابري مشبرق (3)
وتقول عصى يعصي فهو عاص مثل رمى يرمي واصل ألقى من اللقاء
الذي هو الاتصال، فألقى عصاه أي أزال اتصالها عما كان، ومنه التقاء الحدين
يعني اتصالهما، والملاقاة كالمماسة، وزيدت ألف ألقي لتدل على هذا المعنى
وإنما صارت الياء ألفا في ألقي، لأنها في موضع حركة قبلها فتحة، ولذلك
رجعت إلى أصلها في ألقيت. وإنما وجب هذا، لأنه بمنزلة التضعيف في
موضع يقوى فيه التغيير مع نقل الحركة في حروف العلة.
وقوله " فإذا هي ثعبان " فالثعبان هو الحية الضخمة الطويلة. وقال
الفراء: الثعبان أعظم الحيات، وهو الذكر، وهو مشتق من ثعبت الماء أثعبه
ثعبا إذا فجرته. والمثعب موضع انفجار الماء، فسمي الثعبان، لأنه يجري
كعنق الماء عند الانفجار قال الشاعر:
* على نهج كثعبان العرين *
وقيل: إن ذلك الثعبان فتح فاه، وجعل فيه فرعون بين نابيه فارتاع

(1) قائله جرير، ديوانه: 175 واللسان والتاج (عصا).
(2) اللسان والتاج (عصا) وقال ابن بري: هذا البيت لابن عبد ربه السلمي.
(3) قائله ذو الرمة ديوانه 76، واللسان (عصا) ومجمع البيان 2 / 456.
491

فرعون واستغاث بموسى أن يأخذ، ففعل - في قول ابن عباس والسدي
وسفيان - ومعنى " مبين " أي بين أنه حية لا لبس فيه.
وقوله " ونزع يده " فالنزع هو إزالة الشئ عن مكانه الملابس له
المتمكن فيه كنزع الرداء عن الانسان، والنزع والقلع والجذب نظائر، واليد
معروفة وهي الجارحة المخصوصة، واليد النعمة، لأنها بمنزلة ما اشتدت
بالجارحة، وقد يكون اليد بمعنى تحقيق الإضافة في الفعل، لأنه بمنزلة ما
عمل باليد التي هي جارحة.
وقوله " فإذا هي بيضاء للناظرين " معنى (إذا) - هنا - المفاجأة.
وهي بخلاف (إذا) التي للجزاء، قال الزجاج هي من ظروف المكان مثل
(ثم، وهناك)، والمعنى بيضاء المناظرين هناك، والبيضاء ضد السوداء وهو
أن يكون به المحل أبيض، وكان موسى (ع) أسمر شديد السمرة. وقيل:
أخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء " من غير سوء " (1) يعني برص. ثم
أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول - في قول ابن عباس ومجاهد والسدي -
وقال أبو علي: كان فيها من النور والشعاع ما لم يشاهد مثله في يد أحد
والناظر هو الطالب لرؤية الشئ ببصره لان النظر هو تطلب الادراك للمعنى
بحاسة من الحواس، أو وجه من الوجوه.
قوله تعالى:
قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم (108)

(1) سورة 20 طه آية 22 وسورة 27 النمل آية 12 وسورة 28
القصص آية 38.
492

يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (109) آيتان
هذا حكاية ما قال أشراف قوم فرعون، أن موسى ساحر عليهم بالسحر،
وإنما قيل للاشراف الملا لامرين: أحدهما - قال الزجاج: لأنهم مليئون بما
يحتاج إليه منهم. الثاني - لأنه يملا الصدر هيبتهم، فالملا جعل الوعاء على
كل ما يحتمل مما يلقى فيه كامتلاء المكيال ونحوه. ويقال: الخلاء والملا
على وجه التقابل، وقوم فرعون هم الجماعة الذين كانوا يقومون بأمره
ومعاونته ونصرته، ولهذا لا يضاف القوم إلى الله، فلا يقال: يا قوم الله كما يقال
يا عباد الله، والسحر لطف الحيلة في إظهار أعجوبة توهم المعجزة وقال
الأزهري السحر صرف الشئ عن حقيقته إلى غيره، والساحر إنما يكفر بادعاء
المعجزة، لأنه لا يمكن مع ذلك علم النبوة.
وأصل السحر خفاء الامر، ومنه خيط السحارة، لخفاء الامر فيها، ومنه
قوله تعالى " إنما أنت من المسحرين " (1) أي الذين يعدون لخفاء الامر في
العدو، والسحر العدو، والسحر آخر الليل لخفاء الشخص ببقية ظلمته، والسحور
طعام السحر، والسحر الرئة وما تعلق بها لخفاء أمرها في انتفاخها تارة
وضمورها أخرى، قال ذو الرومة:
وساحرة الشراب من الموامي * يرقص في نواشرها الاروم (2)
ويقال: سحر الأرض المطر إذا جادها فقطع نباتها من أصوله بقلب الأرض
ظهرا لبطن، سحرها سحرا والأرض مسحورة، فشبه سحر الساحر بذلك
بتخييله إلى من سحره أنه يرى الشئ بخلاف ما هو به.

(1) سورة 26 الشعراء آية 153، 185.
(2) ديوانه: 591 واللسان (أرم) وتفسير الطبري 13 / 19 وروايته:
وساحرة السراب من الموامي * ترقص في عساقفها الاروم.
493

ومعنى قوله تعالى " يريد أن يخرجكم من أرضكم " بإزالة ملككم
بتقوية أعدائكم عليكم. وقوله " من أرضكم " فالأرض المستقر الذي يمكن
الحيوان التصرف فيه عليه. وجملة الأرض التي جعلها الله قرارا للعباد فإذا
أضيفت، فقيل أرض بني فلان، فمعناه مستقرهم خاصة.
وقوله " فماذا تأمرون " موضع (ما) يحتمل أن يكون رفعا، ويكون
المعنى فما الذي تأمرون، ويجوز أن يكون نصبا بمعنى فبأي شئ تأمرون،
ويجعل (ما) مع (ذا) بمنزلة اسم واحد، وفي الجواب يتبين الاعراب،
ويحتمل أن يكون قوله " فماذا تأمرون " من كلام الملا بتقدير أن يكون قال
بعضهم لبعض: ماذا تأمرون، ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك لفرعون على
خطاب الملوك، ويحتمل أن يكون من كلام فرعون والتقدير قال فرعون:
فماذا تأمرون خطابا لقومه، فعلى هذا تقول قلت لجاريتك قومي أنا قائمة،
وتقديره قالت: أنا قائمة، وهو قول الفراء وأبي علي الجبائي، وأنشد الفراء
قول عنترة، وزعم أن فيه معنى الحكاية:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما * والناذرين إذا لقيتهما دمي (1)
لان المعنى قالا إذا لقينا عنترة لنقتلنه.
قوله تعالى:
قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين (110)
يأتوك بكل ساحر عليم (111) آيتان بلا خلاف.
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما " سحار " بتشديد الحاء وألف بعدها.
الباقون (ساحر) بألف قبل الحاء على وزن (فاعل) وقرأ عاصم إلا يحيى
وحمزة " أرجه " بسكون الهاء من غير همزة. وقرأ أهل البصرة والداحوني

(1) ديوانه: 31 ومعاني القرآن للفراء 1 / 387.
494

عن هشام ويحيى بالهمزة، وضم الهاء من غير اشباع. وقرأ ابن كثير
والحلواني عن هشام كذلك إلا أنهما وصلا الهاء بواو في اللفظ، وروى ابن
ذكوان بالهمز وكسر الهاء من غير اشباع. وقرأ أبو جعفر من طريق بن
العلاف وقالون والمسيبي بكسر الهاء من غير اشباع، وبغير همز. الباقون
وهم الكسائي وخلف وإسماعيل وورش، وأبو جعفر من طريق النهر واني
بكسر الهاء ووصلها بياء في اللفظ من غير همز، وكذلك اختلافهم في الشعراء.
والهمزة لغة قيس وغيرهم، وترك الهمزة لغة تميم وأسد يقولون:
أرجيت الامر، وقال أبو زيد: أرجيت الامر إرجاء إذا أخرته. وقوله تعالى
" أرجيه " أفعله من هذا، ولابد من ضم الهاء مع الهمزة، لا يجوز غيره،
والا يبلغ الواو أحسن، لان الهاء خفية فلو بلغ بها الواو لكان كأنه قد جمع
بين ساكنين، ألا ترى أمن قال: رده يا فتى بضم الدال إذا وصل بالهاء في
ضمير المؤنث، قال ردها ففتح، كما تقول رد لخفاء الهاء، وكذلك " أرجهه "
لا ينبغي أن يبلغ بها الواو فيصير كأنه جمع بين ساكنين، ومن ألحق الواو
فلان الهاء محركة ولم يلتق ساكنان لان الهاء فاصل، قال (أرجيهوا) كما
يقال (أضربهو) فلو كان الياء حرف لين، لكان وصلها بالواو أقبح نحو
(عليهو) لاجتماع حروف متقاربة مع أن الهاء ليست بحاجز قوي في الفصل،
واجتماع المتقاربة كاجتماع الأمثال.
قال أبو علي الفارسي: من وصل الهاء ب‍ (يا)، فلان هذه الهاء توصل
في الادراج بواو، أو ياء، نحو (بهي) أو (بهو) و (ضربهو) ولا تقول
في الوصل (به) ولا (به) ولا (ضربه) حتى تشبع فتقول " بهو " ما علم
(بهي) الا في ضرورة الشعر كقوله:
وماله من مجلد يلبد
وقال: ومن كسر الهاء مع الهمز، فقد غلط وإنما يجوز إذا كان قبله ياء
فقال " أرجيه " بكسر الهاء، ولم يستقم، لأن هذه الياء في تقدير الهمزة،
495

فكما لم يدغم الواو إذا خففت الهمزة لان الواو في تقدير الهمزة كذلك
لا يحسن تحريك الهاء بالضم مع الياء، المنقلبة عن الهمزة، وقياس من قال
(رويا) فادغم أن يحرك الياء أيضا بالضم، وعلى هذا المسلك من قال (يتيهم
إذا كسر الهاء مع قلب الهمزة ياء، قال: ومعنى " أرجه " أخره، وقال قتادة:
معناه إحبسه، يقال أرجأت الامر إرجاء ومنه قولهم: المرجئة، وهم الذين
يجيزون الغفران لمرتكبي الكبائر من غير توبة.
قال الرماني: لا وجه لقراءة حمزة عند البصريين في القياس، ولا
الاستعمال على لغة من همز، وقال الزجاج إسكان هاء الضمير لا يجوز عند
حذاق النحويين، وأجاز الفراء ذلك، قال يقولون: هذه طلحة أقبلت،
وأنشد قول الراجز:
أنحى علي الدهر رجلا ويدا * يقسم لا يصلح إلا أفسدا
فيصلح اليوم يفسده غدا (1)
وزعم أن اسكان هاء التأنيث جائز وأنشد
لما رأى أن لا دعه ولا شبع * مالي إلى؟؟ حقف فاضطجع (2)
وقال الآخر:
لست لزعبلة إن لم أغير * بكلتي إن لم أساو بالطول (3)
كلتي معناه طريقتي، و (الطول) جمع امرأة طولى، قال الزجاج: هذا

(1) قائله دويد بن زيد بن نهد القضاعي وهو أحد المعمرين أنظر طبقات
فحول الشعراء: 180 والمعمرين: 20 ومعاني القرآن للفراء 1 / 388 وتفسير
الطبري 13 / 21 وأمال الشريف المرتضى 1 / 137.
(2) اللسان (ضجع) وتفسير الطبري 13 / 21 ومعاني القرآن للفراء
1 / 388 وهو يصف ذئبا قد قطع أمله من أن ينال الظبي، ولم يجد ما يشبعه
فلما يئس أضطجع بقرب شجرة.
(3) معاني القرآن 1 / 388.
496

الشعر الذي أنشده الفراء لا يعرف، ولا وجه له، وإنما لم يلين أبو عمرو
الهمزة الساكنة على أصله في تخفيف الهمزة لان سكونه علامة للجزم، فلا
يترك همزه، لان التسكين عارض وكذلك " مؤصدة " لا يترك همزه، لأنه
يخرج من لغة إلى لغة.
والأخ هو من النسب بولادة الأدنى من أب أو أم أو منهما ويقال الأخ
الشقيق ويسمى الصديق الأخ تشبيها بالنسيب فأما الموافق في الدين فإنه أخ
بحكم الله في قوله " إنما المؤمنون أخوة " (4).
ومعنى الآية أن قوم فرعون أشاروا عليه بأن يؤخر موسى وأخاه إلى
أن يرسل في بلاد مملكته حاشرين، وقال ابن عباس: هم الشرط، وقال مجاهد
والسدي: يحشرون من يعلمونه من السحرة والعالمين بالسحر ليقابل بينهم
وبين موسى جهلا منهم بأن ذلك ليس بسحر، ومثله في عظم الاعجاز لا تتم
فيه الحيلة، لان السحر هو كل أمر يوهموه على من يراه، ولا حقيقة له،
وإنما يشتبه ذلك على الجهال والأغبياء دون العقلاء المحصلين.
وقوله " يأتوك بكل ساحر عليم " (يأتوك) جزم، لأنه جواب الامر،
والمعنى إن ترسل يأتوك، وحجة من قال " ساحر " قوله " ما جئتم به "
السحر " 1) والفاعل من السحر ساحر، ويقويه قوله " فألقى السحرة "
ساجدين " (2) والسحرة جمع ساحر، ولأنه قال " سحروا أعين الناس " (3)
واسم الفاعل ساحر، ومن قرأ " سحار " فلانه وصف ب‍ (عليم)، ووصفه
به يدل على تناهيه فيه وحذقه، فحسن لذلك أن يذكر بالاسم الدال على المبالغة.
والاتيان هو الانتقال إلى مطلوب، ومثله المجئ أتى يأتي إتيانا وأتي
يؤتى إيتاء إذا أعطي، وإنما دخلت (كل) وهي للعموم على واحد، لأنه في
معنى الجمع، كأنه قال بكل السحرة إذا أفردوا ساحرا ساحرا. والفرق بينه وبين

(4) سورة 48 الحجرات آية 10.
(1) سورة 10 يونس آية 81.
(2) سورة 26 الشعراء آية 46.
(3) سورة 7 الأعراف آية 115.
497

كل السحرة أنه إذا قيل بكل السحرة، فالمعنى المطلوب للجميع، وإذا قيل:
بكل ساحر، فالمعنى المطلوب لكل واحد منهم، ويبين ذلك قول القائل: لكل
ساحر درهم، ولكل السحرة درهم، فان الأول يفيد أن لكل واحد درهما،
والثاني أن الجميع لهم درهم.
والباء في قوله " بكل " قيل فيه قولان:
أحدهما - انه للتعدية كما يعدى بالألف، ومنه ذهبت به وأذهبته
وأتيت به وأتيته.
الثاني - أنها بمعنى (مع) أي يأتون ومعهم كل ساحر عليم.
قوله تعالى:
وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن
الغالبين (112) قال نعم وإنكم لمن المقربين (113) آيتان
قرأ أهل الحجاز وحفص " إن لنا لأجرا " بهمزة واحدة على الخبر،
وقرأ بهمزتين مخففتين ابن عامر وأهل الكوفة إلا حفصا وروح، إلا أن
الحلواني عن هشام يفصل بينهما بألف، وأبو عمرو ورويس لا يفصل. قال
أبو علي: الاستفهام في هذا الموضع أشبه، لأنهم يستفهمون عن الاجر،
وليس يقطعون أن لهم الاجر، ويقوي ذلك إجماعهم في الشعراء، وربما
حذفت همزة الاستفهام، قال الحسن قوله تعالى " وتلك نعمة تمنها علي أن
عبدت بني إسرائيل " (1) إن من الناس من يذهب إلى أنه على الاستفهام
وقد جاء ذلك في الشعر:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن * أورث ذودا شصائصا نبلا (2)

(1) سورة 26 الشعراء آية 22.
(2) اللسان (نبل) يقول أأفرح بصغار الإبل التي ورثتها، وقد
رزئت بالكرام؟.
498

وهذا أقبح من قوله:
وأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر * أتوني فقالوا من ربيعة أم مضر (3)
لان (أم) تدل على الهمزة. وفى الكلام حذف، لان التقدير فأرسل
فرعون في المدائن حاشرين يحشرون السحرة، فحشروهم " فجاء السحرة فرعون
قالوا: ان لنا لأجرا " أي ان لنا ثوابا على غلبتنا موسى عندك " ان كنا نحن "
يا فرعون " الغالبين "، وهو قول ابن عباس والسدي.
وتقول: جئته وجئت إليه، فإذا قلت: جئت إليه، ففيه معنى الغاية
لدخول (إلى) فيه وجئته معناه قصدته بمجيئي، وإذا لم يعده لم يكن فيه
دلالة على القصد كما تقول: جاء المطر.
وقوله " وجاء السحرة فرعون قالوا " إنما لم يقل: فقالوا حتى يتصل
الثاني بالأول، لان معناه لما جاؤوا قالوا، فلم يصلح دخول الفاء على هذا
الوجه، وإنما قالوا: أئن، لنا لأجرا، ولم يقولوا: لنا أجر، لان أحدهما
سؤال عن تحقيق الاجر وتأكيده، كما لو قال أبا لله لنا أجر، وليس كذلك
الوجه الاخر.
وقوله " إن كنا نحن " موضع (نحن) يحتمل وجهين:
أحدهما - أن يكون رفعا ويكون تأكيدا للضمير المتصل في كنا.
والثاني - لا موضع له، لأنه فصل بين الخبر والاسم.
والاجر الجزاء بالخير، والجزاء قد يكون بالشر بحسب العمل وبحسب
ما يقتضيه العدل. والغلبة ابطال المقاومة بالقوة، ومن هذا قيل في صفة الله
(عز وجل) القاهر الغالب، لأنه القادر الذي لا يعجزه شئ.
وقوله " قال نعم " حكاية عن قول فرعون مجيبا لهم عما سألوه من أن
لهم أجرا أو لا؟ بأن قال نعم لكم الاجر، و (نعم) حرف جواب مع أنه

(3) قائله عمران بن حطان، يقوله في قوم نزل بهم متنكرا، وهو يشكر
صنيعهم، انظر الكامل 7 / 187 والخصائص لابن جني 2 / 281.
499

يجوز الوقف عليها، لأنها في الايجاب نظيرة (لا) في النفي، وإنما جاز
الوقف عليها، لأنها جواب لكلام يستغني بدلالته عما يتصل بها.
وقوله " قال " أصله (قول) فانقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها
وإنما قلبوها مع خفة الفتحة لتجري على (قلت وتقول) في الاعلال مع أن
الألف الساكنة أخف من الواو المتحركة، وان كانت بالفتحة. والواو في قوله
تعالى " وانكم " واو العطف كأنه قال: لكم ذاك، وانكم لمن المقربين، وهو
في مخرج الكلام، كأنه معطوف على حرف. وكسرت الف " إنكم " لأنها
في موضع استئناف بالوعد، ولم تكسر لدخول اللام في الخبر، لأنه لو لم يكن اللام
لكانت مكسورة. ومثل هذا قوله تعالى " وما أرسلنا قبلك من المرسلين
إلا أنهم ليأكلون الطعام " (1) ومعنى " من المقربين " انكم من المقربين إلى
مراتب الجلالة التي يكون فيها الخاصة، ولا يتخطى فيها العامة.
وفي الآية دليل لقوم فرعون على حاجته وذلته لو استدلوا وأحسنوا
النظر لنفوسهم، لأنه لم يحتج إلى السحرة الا لذلة وعجز، وكذلك في طلب
السحرة الاجر دليل على عجزهم عما كانوا يدعون من القدرة على قلب الأعيان،
لأنهم لو كانوا قادرين على ذلك لاستغنوا عن طلب الاجر من فرعون، ولقلبوا
الصخر ذهبا ولقلبوا فرعون كلبا واستولوا على ملكه.
قال ابن إسحاق: وكان السحرة خمسة عشر ألفا. وقال ابن المكندر:
كانوا ثمانين ألفا، وقال كعب الأحبار: كانوا اثنى عشر ألفا. وقال عكرمة:
كانوا سبعين ألفا ذكره الطبري.
قوله تعالى:
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (114)
قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا

(1) سورة 25 الفرقان آية 20.
500

بسحر عظيم (115) آيتان بلا خلاف.
هذا حكاية قول السحرة أنهم قالوا لموسى اختر أحد شيئين إما أن تلقي
أنت عصاك أو نحن نلقي عصينا، وإنما دخلت (أن) في قوله " إما أن تلقي "
ولم تدخل في " إما يعذبهم وإما يتوب عليهم " (2) لان فيه معنى الامر كأنهم
قالوا: اختر إما أن تلقي أي إما القاؤك وإما القاؤنا، ومثله " اما أن تعذب
واما أن تتخذ فيهم حسنا " (3) فموضع (ان) نصب، ويجوز أيضا أن يكون
التقدير إما إلقاؤك مبدوء به وإما القاؤنا، ويجوز أن تقول: يا زيد اما أن
تقوم أو تقعد، ولا يجوز أن تقول يا زيد ان تقوم أو تقعد، لان (إما) يبتدأ
بالمعنى فيها أي بمعنى التخيير، فلذلك تدل على معنى اختر، وليس كذا (أو)
وقد يقع موقع (اما) وليس بجيد، كما قال الشاعر:
فقلت لهن امشين إما نلاقه * كما قال أو تشفى النفوس فنعذرا (4)
وقال ذو الرمة:
فكيف بنفس كلما قلت أشرفت * على البرء من حوصاء هيض اندمالها
تهاض بدار قد تقادم عهدها * واما بأموات ألم خيالها (5)

(2) سورة 9 التوبة آية 107.
(3) سورة 18 الكهف آية 87.
(4) معاني القرآن للفراء 1 / 390.
(5) هذان البيتان للفرزدق. ديوانه 2 / 618 ومجاز القرآن 1 / 390.
وهما مطلع قصيدة له يمدح بها ابن عبد الملك، ويهجو الحجاج بن يوسف.
وقد تكون نسبتهما الذي الرمة - هنا - خطأ من الناسخ.
موضع (اما) موضع (أو). والالقاء ارسال المعتمد إلى جهة السفل،
ومثله الطرح، وضده الامساك. وقول القائل: إلق علي مسألة إلى هذا
يرجع، وإنما قال " واما أن نكون نحن الملقين " ولم يقل واما أن نلقي،
لأنه ليس المعنى على ليكن القاء أحدنا فقط، فيجئ على التقابل، وإنما هو.
501

على أن يلقي أحدنا فيبطل ما أتى به الاخر.
وقوله " ألقوا " حكاية عن قول موسى (ع) للسحرة (ألقوا) أنتم
" فلما ألقوا سحروا أعين الناس " قال البلخي: معناه غشوا أعين الناس،
وقال: السحر هو الخفة، والافراط فيها حتى تخيل بها الأشياء عن الحقيقة
والاحتيال بما يخفى على كثير من الناس كتغييرهم الطرجهالة والحيلة
فيها ان يجعل (الطر جهالة) طاقين ويرقق بغاية الترقيق، ويجعل بين الطبقتين
زيبق، فإذا وضعت في الشمس حمي الزيبق فسار بالطر جهالة، لان من طبع
الزيبق إذا حمي ان يتحرك ويفارق مكانه.
وقال قوم: معناه خيلوا إلى أعين الناس بما فعلوه من لتخييل والخدع
أنها تسعى، كما قال تعالى " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (6) " وقال
الرماني: معنى سحر العين قلبها عن صحة إدراكها بما يتخيل من الأمور
المموهة لها بلطف الحيلة التي تجري مجرى الخفة والشعبذة مما لا يرجع إلى
حقيقة، والمحدث لهذا التخيل هو الله تعالى عندما أظهروا من تلك المخاريق
وإنما نسب إليهم لأنهم لو لم يعرضوا بما يعملونه لم يقع، كما لو جعل أحد
طفلا تحت البرد، فمات، فهو القاتل له في الحكم، والله تعالى أماته، وإنما
جاز من موسى (ع) أن يأمرهم بالقاء السحر وهو كفر لامرين:
أحدهما - إن كنتم محقين فالقوا.
الثاني - ألقوا على ما يصح ويجوز، لا على ما يفسد ويستحيل.
وقال الجبائي: هذا على وجه الزجر لهم والتهديد، وليس بأمر.
وقوله " فلما ألقوا سحروا أعين الناس " والفرق بين (لما) و (إذا) هو
الفرق بين (لو) و (أن) في أن أحدهما للماضي والاخر للمستقبل، وكل هذه
الأربعة تعليق أول بثان، الا ان (لو) على طريقة الشك، و (لما) يقين.
وقوله " واسترهبوهم " معناه طلبوا منهم الرهبة، وهو خلاف الارهاب،

(6) سورة 20 طه آية 66.
502

لأنه جعل الرهبة للذي يرهب، والعظيم ما يملا الصدر بهوله، ووصف السحر
بأنه عظيم لبعد مرام الحيلة فيه، وشدة التمويه به، فهو لذلك عظيم الشأن
عند من يراه من الناس، ولأنه على ما ذكرناه من الخلاف في عدة السحرة من
سبعين ألفا أو ثمانين ألفا كان مع كل واحد حبل وعصا، فلما ألقوها وخيل
إلى الناس أنها تسعى استعظموا ذلك وخافوه، فلذلك وصفه الله بأنه
سحر عظيم.
و (إما) إذا كانت للتخيير، فأهل الحجاز ومن جاورهم من قيس وبعض
تميم يكسرونها وينصبها قيس وأسد و (أما) إذا كانت منصوبة فهي التي
يقتضي أن يكون في جوابها الفاء.
قوله تعالى:
وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (116)
فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (117) آيتان بلا خلاف.
قرأ حفص عن عاصم " تلقف " خفيفة. الباقون بتشديد القاف، وقرأ
ابن كثير فإذا هي " تلقف " بتشديد التاء والقاف في رواية البزي عنه إلا
النقاش، وابن فليح.
والوحي هو القاء المعنى إلى النفس من جهة تخفى، ولذلك لم يشعر به
إلا موسى (ع) حتى امتثل ما أمر به فإذا العصا حية تسعى.
وفي هذه الآية إخبار من الله تعالى أنه أوحى إلى موسى (ع) حين ألقى
السحرة سحرهم وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم: أن
ألق عصاك ف‍ (أن) يحتمل أمرين:
أحدهما - أن تكون مع ما بعدها من الفعل بمنزلة المصدر، وتقديره
أوحينا إلى موسى بالالقاء.
الثاني - أن تكون (أن) بمعني أي لأنه تفسير ما أوحي إليه.
503

" فإذا هي تلقف ما يأفكون " معنى تلقف تبتلع تناولا بفيها بسرعة منها،
فهي تلتقمه استراطا حالا فحالا قال الشاعر:
وأنت عصى موسى التي لم تزل * تلقف ما يأفكه الساحر (1)
يقال: لقفته ألقفه لقفا ولقفانا، ولقفته ألقفه وتلقفته تلقفا إذا أخذته
في الهواء. ومن قرأ بتشديد التاء قال: أصله تتلقف فادغم احدى التائين في
الأخرى بعد أن سكن الثانية. ومن خفف القاف أخذه من لقفته. ومن شددها
قال: هو من تلقف.
وقوله " ما يأفكون " فالإفك هو قلب الشئ عن وجهه، ومنه
" المؤتفكات " (2) المنقلبات. والافك الكذب لأنه قلب المعنى عن جهة
الصواب. وقال مجاهد: " ما يأفكون " أي يكذبون. وفي الآية حذف،
وتقديره فألقى عصاه فصارت حية " فإذا هي تلقف ما يأفكون " والمعنى إنها
تلقف المأفوك الذي حل فيه الافك، وعلى هذا يحمل قوله تعالى " والله خلقكم
وما تعملون " (3) ومعناه وما تعملون فيه.
وقوله " فوقع الحق " معناه ظهر الحق - في قول الحسن ومجاهد -
وأصل الوقوع السقوط كسقوط الحائط والطائر تقول: وقع يقع وقعا
ووقوعا وأوقعه ايقاعا، ووقع توقيعا وتوقع توقعا وأوقعه مواقعة، والميقعة
المطرقة. والواقعة النازلة من السماء، والوقائع الحروب. قال الرماني:
الوقوع ظهور الشئ بوجوده نازلا إلى مستقره. و (الحق) كون الشئ
في موضعه الذي اقتضته الحكمة. والحق موافق لداعي الحكمة، ولذلك
يقال وقع الشئ في حقه. و (الباطل) الكائن بحيث يؤدي إلى الهلاك،
وهو نقيض الحق، فالحق كون الشئ بحيث يؤدي إلى النجاة. والعمل

(1) تفسير الطبري 7 / 260 والفتح القدير (تفسير الشوكاني) 2 / 221
وروايتهما (تلقم) بدل (تلقف) وهو في مجمع البيان 2 / 460 (تلقف).
(2) سورة 52 النجم آية 53.
(3) سورة 37 الصافات آية 96.
504

تصيير الشئ على خلاف ما كان اما بايجاده أو بايجاد معنى فيه ومثله التغيير.
و (ما) في قوله " ما كانوا يعملون " يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون بمعنى المصدر، والتقدير وبطل عملهم.
والثاني - أن يكون بمعنى الذي وتقديره وبطل الحبال والعصي التي
عملوا بها السحر. و (ما) إذا كانت بمعنى المصدر لا تعمل عمل (إن) إذا كانت
بمعنى المصدر، لامرين: أحدهما - أن (ما) اسم، والاسم لا يعمل في
الفعل. والاخر - أن تنقل الفعل نقلين إلى المصدر والاستقبال تقول:
يعجبني ما تصنع، ويعجبني أن تصنع الخير.
قوله تعالى:
فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (118) وألقي السحرة
ساجدين (119) قالوا آمنا برب العالمين (120) رب موسى
وهارون (121) أربع آيات.
أخبر الله تعالى أنه لما القى موسى عصاه وصارت حية، وتلقفت ما أفكت
السحرة: أن السحرة " غلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين " والغلبة الظفر
بالبغية من العدو، وفي حال المنازعة تقول: غلب يغلب غلبة، فهو غالب وذاك
مغلوب أي مقهور، وغالبه مغالبة وتغالبا تغالبا وغلب تغليبا. ومعنى (هنالك)
أي عند ذلك الجمع، فهو ظرف مبهم كما أن (ذا) مبهم وفيه معنى الإشارة.
وقيل: هنا وهنا لك وهناك، مثل ذا وذاك وذلك. وإنما دخلت اللام في
(هنالك) لتدل على بعد المكان المشار إليه، كما دخلت في (ذلك) لبعد
المشار إليه، ف‍ (هنا) لما بعد قليلا، وهنالك لما كان أشد بعدا. وإنما دخل
كاف المخاطبة مع بعد الإشارة ليشعر بتأكيد معنى الإشارة إلى المخاطب ليتنبه
على بعد المشار إليه من المكان، والبعيد أحق بعلامة التنبيه من القريب.
وقوله " وانقلبوا صاغرين " أي رجعوا أذلاء، والصاغر الذليل،
505

والصغر والصغار الذلة، يقال: صغر الرجل يصغر صغرا وصغارا إذا ذل،
وأصله صغر القدر.
وقوله تعالى " وألقى السحرة ساجدين " إنما جاء على ما لم يسم فاعله
لامرين:
أحدهما - أنه بمعنى ألقاهم ما رأوا من عظيم آيات الله بأن دعاهم إلى
السجود لله والخضوع له.
الثاني - أنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين، فكأن ملقيا ألقاهم،
ولم يكن ذلك على وجه الاضطرار إلى الايمان، لأنه لو كان كذلك لما مدحوا
عليه بل علموا ذلك بدليل، وهو عجزهم من ذلك مع تأتي سائر أنواع السحر
منهم. والالقاء اطلاق الشئ إلى جهة السفل ونقيضه الامساك، ومثله
الاسقاط والطرح. ومعنى الآية البيان عن حال من تيقن البرهان، فظهر منه
الاذعان للحق والخضوع بالسجود لله تعالى، ولم يكن ممن تعامى عن الصواب
وتعاشى عن طريق الرشاد.
وقوله تعالى " قالوا آمنا برب العالمين " حكاية لما قالت السحرة عند
تبينهم الحق ووقوعهم للسجود لله تعالى واعترافهم بأنهم آمنوا برب العالمين
الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وخلق موسى وهارون، والقول
كلام يدل على الحكاية، ولو قيل: (تكلموا) لم يقتض حكاية كلامهم على
صورته، فإذا قيل: (قالوا) اقتضى حكاية كلامهم. والايمان هو التصديق
الذي يؤمن من العقاب، وهو التصديق بما أوجب الله عليهم. وقال الرماني:
يجوز أن يقال لله أنه لم يزل ربا ولا مربوب، كما جاز لم يزل سميعا ولا
مسموع، لأنه صفة غير جارية على الفعل كما تجري صفة مالك على ملك
يملك، فالمقدور هو المملوك. وأصل الصفة ب‍ (رب) التربية وهي تنشئة
الشئ، حالا بعد حال حتى يصير إلى حال التمام والكمال، ومنه رب النعمة
يربها ربا إذا تممها، وربي الطفل تربية، والله تعالى رب العالمين المالك لهم
ولتدبيرهم.
506

و (العالم) كل أمة من الحيوان وجمعة العالمون على تغليب ما يعقل،
وهو مأخوذ من العلم، لكنه كثر في استعمال أهل النظر على أنه لجميع ما
أحاط به الفلك من الأجسام المتصرفة في الأحوال، وقال قوم (عالم) لا يقع
إلا لجماعة العقلاء. وقد بينا ذلك في فاتحة الكتاب.
وقوله " رب موسى وهارون " إنما خص موسى وهارون بالذكر بعد
دخولهما في الجملة من " آمنا برب العالمين " لامرين:
أحدهما - أن فيه معنى الذي دعا إلى الايمان موسى وهارون.
الثاني - خصا بالذكر لشرف ذكرهما على غيرهما على طريق المدحة
لهما والتعظيم. والرب بالاطلاق لا يطلق إلا على الله تعالى، لأنه يقتضي
أنه رب كل شئ يصح ملكه، وفي الناس يقال: رب الدار ورب الفرس،
ومثله (خالق) لا يطلق إلا فيه تعالى، وفى غيره يقيد، يقال خالق الأديم.
قال الرماني: وإنما جاز نبيان في وقت ولم يجز إمامان في وقت، لان
الامام لما كان يقام بالاجتهاد كانت إمامة الواحد أبعد من المناقشة واختلاف
الكلمة وأقرب إلى الألفة ورجوع التدبير إلى رضا الجميع.
وهذا الذي ذكره غير صحيح، لان العقل غير دال على أن الامام يجب
أن يكون واحدا كما أنه غير دال على أنه يجب أن يكون النبي واحدا، وإنما
علم بالشرع أنه لا يكون الامام في العصر الواحد إلا واحدا كما علمنا أنه لم
يكن في عصر النبي صلى الله عليه وآله نبي آخر، واستوى الأمران في هذا الباب.
قوله تعالى:
قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر
مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون (122)
لا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم
أجمعين (123) آيتان بلا خلاف.
507

قرأ حفص وورش ورويس " آمنتم " على الخبر. الباقون بهمزتين على
الاستفهام. وحقق الهمزتين أهل الكوفة إلا حفصا وروحا. الباقون بتحقيق
الأولى وتليين الثانية إلا أن قنبلا في غير رواية ابن السائب يقلب همزة
الاستفهام واوا إذا اتصلت بنون فرعون، ولم يفصل أحد بين الهمزتين بألف،
قال أبو علي: قياس قول أبي عمرو ومذهبه أن يفصل بين الهمزتين بألف كما
يفصل بين النونات في (اخشينان) إلا أنه يشبه أن يكون ترك القياس، وقوله
هنا لما كان يلزم منه اجتماع المتشابهات فترك الألف التي تدخل بين الهمزتين،
وخفف الهمزة الثانية التي هي همزة (افعل) من (آمن) فأما رواية أبي
الاخريط عن ابن كثير بابدال الهمزة واوا، فإنه أبدل من ألف الاستفهام واوا،
لانضمام ما قبلها وهي النون المضمومة في (فرعون) وهذا في المنفصل مثل
المتصل من نوره، فقوله (نوأ) على وزن (نود) وفى رواية قنبل عن القواس
مثل رواية البزي عن أبي الاخريط غير أنه يهمز بعد الواو، قال أبو علي: من
همز بعد الواو، لأن هذه (الواو) هي منقلبة عن همزة الاستفهام، وبعد
همزة الاستفهام همزة (أفعلتم) فخففها، ولم يخففها كما خفف في القول
الأول، ووجهه ان الأولى لما زالت عن لفظ الهمزة وانقلبت واوا حقق الهمزة
بعدها، لأنه لم يجتمع همزتان. ووجه القول الأول أن (الواو) لما كان
انقلابها عن الهمزة تخفيفا قياس، كان في حكم الهمزة فلم يحقق معها الثانية
كما لا تحقق مع الهمزة نفسها، لان الواو في حكمها، كما كانت في حكمها
في (رويا) في تخفيف (رؤيا) فلم يدغموها في الياء، كما لم يدغم الهمزة فيها.
ومن قرأ على الخبر فوجهه أنه يخبرهم بايمانهم على جهة التقريع لهم
بايمانهم، والانكار عليهم. ووجه الاستفهام أنه استفهام على وجه التوبيخ
والتقريع، والانكار عليهم. وحمزة والكسائي قرءا بهمزتين الثانية ممدودة،
لان الهمزة الثانية تتصل بها الألف المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء في (آمن).
في هذه الآية حكاية لما قال فرعون للسحرة حين آمنوا بموسى وصدقوه
508

لظهور الحق، فقال لهم " آمنتم به؟ " وإنما قال لهم ذلك، لأنه توهم أن
الاقدام على خلاف الملك بما عمل قبل الاذن فيه منكر يقتضي سطوة الملك
بصاحبه والتنكيل به، وعندنا أن فرعون لم يعرف الله قط معرفة يستحق بها
الثواب. وقال الرماني: لا يمتنع أن يكون عارفا بالله، وإنما قال هذا القول
تمويها على قومه وللتحذير من مثل حال السحرة الذين أقدموا على المخالفة
له في الايمان بموسى (ع).
وقوله تعالى " إن هذا لمكر مكر تموه في المدينة " معناه تواطأتم على
هذا الامر لتستولوا على العباد والبلاد، فتخرجوا من المدينة أهلها وتتغلبوا
عليها، والمكر قيل الاغترار بالحيلة إلى خلاف جهة الاستقامة وأصله الفتل والالتفاف
كما قال ذو الرمة.
عجزاء ممكورة خمصانة قلق * عنها الوشاح وثم الجسم والعصب (1)
والمكر والخدع نظائر في اللغة، وقوله " فسوف تعلمون " تهديد من
فرعون لهم وتخويف من مخالفته، وإنما هدد فرعون ب‍ (سوف تعلم)، لان
فيه معنى أقدمت بالجهل على سبب الشر، فسوف تعلم حين يظهر مسببه الذي
أدى إليه كيف كانت منزلته، فهو أبلغ من الافصاح به.
وقوله " لأقطعن أيديكم " فالتقطيع تكثير القطع ونظيره التفصيل
والتفريق، ونقيضه التوصيل تقول: قطع قطعا وأقطع اقطاعا، وقطع تقطيعا
وتقطع تقطعا واقتطع اقتطاعا وتقاطع تقاطعا واستقطع واستقطاعا وقاطع مقاطعة
وانقطع انقطاعا. والأيدي جمع يد، وهي الجارحة المخصوصة، واليد النعمة،
لأنها تسدي إلى صاحبها باليد. والأرجل جمع رجل وهي الجارحة التي يمشي
بها من يمين وشمال. والراجل خلاف الراكب وترجل الانسان إذا نزل عن
دابته واقفا على رجله، ورجله غيره، وارتجل القول ارتجالا إذا كان فيه
كالراجل الذي لم يستعن بركوب غيره. ورجل الشعر إذا سرحه حاطا له

(1) سيأتي في 5 / 128 وهو في مقاييس اللغة 4 / 233.
509

عن ركوب بعضه بعضا.
و (التقطيع من خلاف) هو قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، وهو
قول الحسن، وقال غيره: وكذلك يكون قطع اليد اليسرى مع الرجل اليمنى.
وقوله " ثم لأصلبنكم أجمعين " القراء كلهم على ضم الهمزة، وتشديد
اللام من (أصلبكم) وذكر الفراء " ولأصلبنكم " بفتح الهمزة وكسر اللام
من الصلب، وهو الشد على الخشبة أو ما جرى مجراها من الأشخاص البارزة،
وهو مشتق من صلابة الشد، يقال: صلب صلابة وصلبه تصليبا وتصلب تصلبا.
وقال ابن عباس: أول من صلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف
فرعون.
قوله تعالى:
قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (124) آية إجماعا.
وهذا إخبار عن جواب السحرة حين آمنوا، وتوعد فرعون إياهم بقطع
الأيدي والأرجل والصلب بأنهم " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون " أي راجعون
وغرضهم بهذا التسلي في الصبر على الشدة، لما عليه من المثوبة، مع مقابلة
وعيده بوعيد هو أشد عليه هو عقاب الله.
وأصل (إنا) إننا وحذفت احدى النونين لكثرة النونات، فإذا قيل
إننا، فلانه الأصل وإذا قيل (إنا) فللاستخفاف مع كراهة التضعيف،
والانقلاب إلى الله هو الانقلاب إلى جزائه والمصير إليه، إلا أنه فخم بالإضافة
إلى الله لعظم شأنه، والانقلاب مصير الشئ على نقيض ما كان عليه مما يتغير
به، وإذا صار إلى الآخرة بعد الدنيا فانقلب إليها، وإذا كان على خلق فتركه إلى
ضده فقد انقلب إليه.
قوله تعالى:
وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ
510

علينا صبرا وتوفنا مسلمين (125) آية بلا خلاف.
في هذه الآية إخبار عما قالت السحرة حين آمنوا وتوعدهم فرعون بأنواع
العذاب بأنهم قالوا له: إنا راجعون إلى الله، وقالوا له أيضا: ليس تنقم
منا إلا إيماننا بالله وتصديقنا بآياته التي جاءتنا. والنقمة الاخذ بالعقوبة:
نقم ينقم، ونقم ينقم، واللغة الأولى أفصح وانتقم انتقاما ونقمة،
فالنقمة ضد النعمة.
والفرق بين النقمة والإساءة ان النقمة قد تكون بحق، جزاء على كفر
النعمة، ولذلك يقال انتقم الله من فلان نقمة عاجلة، والإساءة لا تكون الا
قبيحة، لأنه ليس لأحد أن يسئ في فعله، والمسئ مذموم على إساءته.
وقوله تعالى " ربنا أفرغ علينا صبرا " حكاية عن قول هؤلاء السحرة
الذين آمنوا، وأنهم بعد أن قالوا لفرعون ما قالوه، سألوا الله تعالى أن يفرغ
عليهم صبرا، ومعناه أن يفعل بهم من اللطف ما يصبرون معه على عذاب
فرعون ويتشجعوا عليه، ولا يفزعوا منه.
والافراغ صب ما في الاناء أجمع، حتى يخلو، مشتقا من الفراغ،
والفراغ نقيض الشغل، وقيل: أفرغ عليه الصبر تشبيها بافراغ الاناء، كما
يقال صب عليه العذاب صبا، والصبر هو حبس النفس عن إظهار الجزع،
صبر يصبر صبرا والصبر على الحق عز، كما أن الصبر على الباطل ذل.
والصبر في الجملة محمود، قال الله تعالى " واصبر على ما أصابك ان ذلك
من عزم الأمور ".
وقوله تعالى " وتوفنا مسلمين " رغبة منهم إلى الله تعالى وسؤالهم إياه
بأن يقبضهم إليه ويميتهم في حال السلامة.
قوله تعالى:
وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا
511

في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي
نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (126) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الحجاز " سنقتل أبناءهم " بالتخفيف. الباقون بالتثقيل، فمن
ثقل ذهب إلى التكثير، ومن خفف، فلاحتماله التكثير والتقليل.
في هذه الآية إخبار عن إنكار قوم فرعون وأشرافهم ورؤسائهم على فرعون
تركه موسى وقومه ليفسدوا في الأرض على اعتقادهم، وإنما أنكروا على
فرعون ذلك مع عبادتهم له، لأنه جرى على خلاف عادة الملوك في السطوة
بمن خالف عليهم وشق العصا في ملكهم. وكان ذلك بلطف من الله تعالى وحسن
دفاعه عن موسى. وعنوا بالافساد في الأرض دعاء الخلق إلى مخالفة فرعون
في عبادته وتجهيله إياه في ديانته لما يتفق عليه من ذلك مما لا قبل له به مما
فيه انتقاض أمره وبطلان ملكه.
وقوله تعالى " ويذرك وآلهتك " معناه قال الحسن: إنه كان يعبد
الأصنام، فعلى هذا كان يعبد ويعبد، كما حكى الله تعالى عنه من قوله " أنا
ربكم الاعلى " 2) وقال السدي: كان يعبد ما يستحسن من البقر، وعلى
ذلك أخرج السامري " عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى " (3)
وقال الزجاج: إنما كانت له أصنام يعبدها قومه تقربا إليه. وقرأ ابن عباس
" ويذرك وإلهتك " بمعنى وعبادتك. وقال كان فرعون يعبد ولا يعبد،
وقال بعضهم (إلاهتك) إنما هو تأنيث إله وجمعه آلهتك كما قال الشاعر،
وهو عتيبة بن شهاب اليربوعي.
تروحنا من اللعباء قصرا * فأعجلنا الاهة ان تؤوبا (5)

(2) سورة 79 سورة النازعات آية 24.
(3) سورة 20 طه آية 88.
(5) انظر إلى معجم ما استعجم: 110، ومعجم البلدان (اللعباء) ولسان
العرب " لعب " " أله " وتفسير الطبري 13 / 40 وغيرها. و " اللعباء "
اسم مكان. و " قصرا " أي عشيا. وروي " عصرا " و " إلاهة ": الشمس
512

يعني الشمس، فأدخل التاء في هذا كما أدخلوا في قولهم: ولدتي
وكوكبتي وهالتي وهو أهلة ذاك، كما قال الراجز:
يا مضر الحمراء أنت أسرتي * وأنت ملجاتي وأنت ظهرتي (6)
وقوله تعالى " سنقتل أبناءهم " إنما تهددهم بقتل أبنائهم مع أن
موسى هو الذي دعاهم إلى الله دونهم من حيث أنه لم يطمع فيه، لما رأى
من قوة أمره وعلو شأنه فعدل إلى ضعفاء بني إسرائيل بقتل أبنائهم ليوهم
انه يتم له ذلك فيهم.
وقوله تعالى " ونستحيي نساءهم " معناه نستبقي من تولد من بناتهم
للمهنة والخدمة من غير أن يكون لهم نجدة ولا عندهم منعة.
ونصب قوله " ويذرك " لاحد وجهين: أحدهما - الصرف، والاخر
العطف. والصرف على أن يكون تقديره ليفسدوا في الأرض إلى أن يذرك
وآلهتك، والعطف على ليفسدوا ويذرك. وقرأ الحسن " ويذرك " بالرفع
عطفا على أتذر، ويجوز فيه الاستئناف، وهو يذرك.
قوله تعالى:
قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله
يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (127) آية بلا خلاف
هذا حكاية من الله تعالى عما قال موسى لقومه حين تهددهم فرعون
بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، وانه أمرهم ان يستعينوا بالله والاستعانة
طلب المعونة، وقد يسأل السائل المعونة لغيره يقول: اللهم أعنه على أمره
الا ان الغالب على الاستعانة طلب المعونة لنفس الطالب.
وقوله " واصبروا " أمر من موسى إياهم بالصبر وهو حبس النفس

(6) لم أعرف قائله. وهو في تفسير الطبري 13 / 41.
513

عما يؤدي إلى ترك الحق مع تجرع مرارة ذلك الحبس ونقيضه الجزع
قال الشاعر:
فان تصبرا فالصبر خير مغبة * وان تجزعا فالامر ما تريان (1)
وقوله " ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده " اخبار عما قال
موسى لقومه من أن الأرض كلها ملك لله يورثها من يشاء من عباده، والإرث
جعل الشئ للخلف بعد السلف، والأغلب أن يكون ذلك في الأموال، وقد
يستعمل في غيرها مجازا كقولهم: العلماء ورثة الأنبياء، وقولهم ما ورث
والد ولدا أجل من أدب حسن.
ومعنى " يورثها من يشاء من عباده " قيل في معناه قولان:
أحدهما - التسلية لهم بأنها لا تبقي على أحد لأنها تنقل من قوم إلى
قوم اما محنة أو عقوبة.
الثاني - الأطماع في أن يورثهم الله ارض فرعون وقومه.
والمشيئة هي الإرادة وهي ما أثرت في وقوع الفعل على وجه دون وجه
من حسن أو قبح أو غيرهما من الوجوه.
وقوله تعالى " والعاقبة للمتقين " فالعاقبة ما تؤدي إليه التأدية من
خير أو شر الا انه إذا قيل: العاقبة له فهو في الخير، فإذا قيل: العاقبة عليه
فهو في الشر مثل الدائرة له وعليه وقال ابن عباس: لما آمنت السحرة اتبع
موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل.
قوله تعالى:
قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال
عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر
كيف تعملون (128) آية بلا خلاف.

(1) مر في 1 / 202.
514

هذا اخبار من الله تعالى عن ما قال قوم موسى لموسى بأنا أوذينا من
قبل أن تأتينا بالرسالة. والأذى ضرر لا يبلغ بصاحبه ان يأتي على نفسه،
تقول: آذاه يؤذيه اذى وتأذى به تأذيا، ومثله آلمه يؤلمه ايلاما وتألم به
تألما. والأذى الذي كان بهم قيل: هو استعباد فرعون إياهم وقتل أبنائهم
واستحياء نسائهم للاستخدام. والذي كان بعد مجئ موسى الوعيد لهم
بتجديد ذلك العذاب من فرعون والتوعيد عليه، وكان هذا على سبيل
الاستبطاء منهم لما وعدهم فجدد الوعد لهم وحققه، وقال الحسن: كان
يأخذ منهم الجزية.
قوله " قال عسى ربكم ان يهلك عدوكم " قال سيبويه: لعل وعسى
طمع واشفاق، وقال الحسن (عسى) من الله واجبة، وبه قال الزجاج.
وقال أبو علي الفارسي (عسى) ههنا يقين.
وقوله " ويستخلفكم في الأرض " قال أبو علي: استخلفوا في مصر
بعد موت موسى (ع) في التيه. ثم فتح الله لهم بيت المقدس مع يوشع بن
نون. ثم فتح الله لهم مصر وغيرها في زمن داود وسليمان، فملكوها في
ذلك الزمان على ما وعدوا به من الاستخلاف.
وقوله تعالى " فينظروا كيف تعملون " قيل: ان معنى ينظر - ههنا -
يعلم، وقيل يرى وكلا منهما مجاز لان النظر هو الطلب لما يدرك وهذا
لا يجوز عليه تعالى، ولكنه جاء على قوله " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين
منكم والصابرين " (1) وفائدة الآية تسلية موسى (ع) لقومه بما وعدهم
عن الله من اهلاك فرعون وقومه وجعل قومه بدلا منهم ليعملوا بطاعته.
قوله تعالى:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات

(1) سورة 47 محمد آية 31.
515

لعلهم يذكرون (129) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية، واقسم عليه بأنه اخذ آل فرعون بالسنين
وهي الأعوام المقحطة، واللام في قوله " لقد " لام القسم، (وقد) معناه
الاخبار عن متوقع وهي تقرب الماضي من الحال، لأنه إذا توقع كون أمر
فقيل قد كان، دل على قربه من الحال. والال خاصة الرجل الذين يؤول
أمرهم إليه، ولذلك يقال: أهل البلد، ولا يقال: آل البلد، لان في الأهل
معنى القرب في نسب أو مكان، وليس كذلك الال.
ومعنى " أخذناهم بالسنين " أخذناهم بالجدوب، والعرب تقول:
أخذتهم السنة إذا كانت قحطة يقال أسنت القوم إذا أجدبوا، وإنما قيل
للمجدبة: السنة ولم يقل للخصبة، لأنها نادرة في الانفراد بالجدب، والنادر
أحق بالافراد بالذكر، لانفراده بالمعنى الذي ندر به. وقال الفراء: معنى
بالسنين بالجدوبة تقول العرب (وجدنا البلاد سنين) أي جدوبا، قال الشاعر:
وأموال اللئام بكل أرض * تجحفها الجوائح والسنون
وقال آخر:
كأن الناس إذ فقدوا عليا * نعام جال في بلد سنينا
أي في بلد جدوب وأهل الحجاز وعلياء قيس يقولون: هن السنون،
فيجعلونها بالواو في الرفع، وبالياء في الخفض والنصب على هجائين، وبعض
تميم يقول هي السنين، فإذا ألقوا الألف واللام لم يجروها، فقالوا قد مضت
له سنون كثيرة، وكنت عندهم بضع سنين، وبنو عامر، فإنهم يجرونها في
النصب والجر والرفع فيقولون: أقمت عنده سنينا كثيرة. وقال الكسائي:
على هجائين هي اللغة الغالبة في كلام العرب: السنون، والسنين وينصبون
النون على كل حال مثل نون الجمع في الموضعين، وعليه اجماع القراء، قال:
وبعض العرب يجعلها على هجاء واحد، ويلزم النون؟ اعراب بجعلها كأنها من
516

نفس الكلمة، وأنشد:
سنيني كلها واسيت حربا * أقاس مع الصلادمة الذكور
وأنشد:
ولقد ولدت بنين صدق سادة * ولانت بعد الله كنت السيدا
فأثبت النون في بنين وهي مضافة.
وقوله تعالى " ونقص من الثمرات " أي وأخذناهم مع القحط وجدب
الأرض بنقصان من الثمار.
وقوله تعالى " لعلهم يذكرون " معناه لكي يتفكروا في ذلك ويرجعوا إلى
الحق وإنما قال " لعلهم " وهي موضوعة للشك، وهو لا يجوز في كلام الله
لأنهم عوملوا معاملة الشاك مظاهرة في القول كما جاء الابتلاء والاختيار مثل
ذلك. والآية تدل على بطلان مذهب المجبرة من أن الله تعالى يريد الكفر
المعاصي، لأنه بين أنه فعل بهم ذلك لكي يذكروا،، ويرجعوا فقد أراد منهم
الأذكار، فكأنه قال من أجل أن يذكروا، وليس كذلك إذا كلفهم من أجل
الثواب، لان إرادة المريد لما يكون من فعله في المستأنف عزم، وذلك لا يجوز
عليه تعالى، وليس كذلك إرادته لفعل غيره، قال مجاهد: السنين الحاجة،
ونقص من الثمرات دون ذلك، وقال قتادة: كان السنين بباديتهم، " ونقص
من الثمرات " كان في أمصارهم وقراهم. وقال كعب: يأتي على الناس زمان
لا تحمل النخلة الا تمرة.
قوله تعالى:
فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة
يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن
أكثرهم لا يعلمون (130) آية بلا خلاف.
المراد بالحسنة - ههنا - النعمة من الخصب والسعة في الرزق والعافية
517

والسلامة. و (السيئة) النقمة من الجدب وضيق الرزق والمرض والبلاء،
وفيه ضرب من المجاز، لان حقيقة الحسنة ما حسن من الفعل في العقل،
والسيئة ما قبح من الفعل، وإنما شبه هذا بذلك، لتقبل العقل لهذا كتقبل
الطبع لذلك. وقال قوم: هو مشترك لظهور العلم في ذلك في الناس جميعا
على منزلة سواء.
أخبر الله تعالى عن قوم فرعون أنه إذا جاءهم الخصب والسعة والنعمة
من الله " قالوا لنا هذه " والمعنى إنا نستحق ذلك على العادة الجارية لنا من
نعمنا وسعة أرزاقنا في بلادنا، ولم يعلموا أنه من الله فيشكروه عليه ويؤدوا
حق النعمة، لئلا يسلبهم الله إياها.
وقوله " وإن تصبهم سيئة " يعني جدب وقحط وبلاء " يطيروا بموسى
ومن معه " والمعنى إنهم تشاءموا بهم، وهو قول الحسن ومجاهد، وابن
زيد، لان العرب كانت تزجر الطير، فتتشاءم بالبارح وهو الذي يأتي من
جهة الشمال، وتتبرك بالسانح، وهو الذي يأتي من جهة اليمين، قال الشاعر:
زجرت لها طير الشمال فإن يكن * هواك الذي يهوى يصبك اجتنابها (1)
وقال آخر:
فقلت غراب لا اغتراب من النوى * وبان لبين ذي العيافة والزجر
وأصل الطائر النصيب، يقال: طار له من القسم كذا وكذا، وأنشد
ابن الاعرابي:
واني لست منك ولست مني * إذا ما طار من مالي الثمين
أي أخذت الزوجة ثمنها من ميراثه.
وقوله تعالى " ألا إنما طائرهم عند الله " معناه إن الله هو الذي يأتي
بطائر البركة وطائر الشؤم، من الخير والشر والنفع والضر، فلو عقلوا طلبوا الخير
من جهته، والسلامة من الشر من قبله.

(1) اللسان (طير) وروايته (لهم) بدل (لها).
518

وموضع (إذا) نصب بأنها ظرف للقول، ولا يجوز أن يعمل فيها الفعل
الذي يليها، لأنها مضافة إليه، ولو جازيت بها جاز عمله فيها، وقال الأزهري
والزجاج: معنى " إنما طائرهم عند الله " شؤمهم الذي وعدوا به من العقاب
عند الله يفعله بهم يوم القيامة، وقال ابن عباس معناه إن مصائبهم عند الله.
قوله تعالى:
وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك
بمؤمنين (131) آية بلا خلاف.
" مهما " أي شئ، وقال الخليل: أصلها (ما) إلا أنهم أدخلوا عليها
(ما) كما يدخلونها على حروف الجزاء، فيقولون (ماما) و (متى ما)
و (إذا ما) فغيروا ألفها بأن أبدلوها هاء، لئلا يتوهم التكرير وصار (ما)
فيها مبالغة في معنى العموم، وقال غيره: أصلها (مه) بمعنى أكفف دخلت
على (ما) التي للجزاء.
والفرق بين (ما) و (مهما) أن (مهما) خالصة للجزاء وفي (ما)
اشتراك، لأنها قد تكون استفهاما تارة، وبمعنى الذي أخرى، وتارة بمعنى
الجزاء، وإن كان الأصل في (مهما) (ما)، لان (ما) يجازى به من الأسماء
ما قد لا يستعمل في الجزاء، والتركيب ظاهر فيها لفظا ومعنى.
وقوله تعالى " تأتنا " في موضع جزم، وعلامة الجزم فيه حذف الياء،
وإنما حذف الحرف للجزم، لأنه من حروف المد واللين، وهي مجانسة لحركات
الاعراب، ومن شأن الجازم أن يحذف ما يصادفه من الحركة، فإن لم يصادف
حركة عمل في نفس الحرف، لئلا يتعطل عن العمل.
في هذه الآية إخبار من الله تعالى، وحكاية ما قال قوم فرعون لموسى (ع)
بأنهم قالوا له: أي شئ تأتينا به من المعجزات وتسحرنا بها، فانا لا نصدقك
عليه، ولا نؤمن بك. و (الآية) هي المعجزة الدالة على نبوته، وهو كل
ما يعجز الخلق عن معارضته ومقاومته، كما لا يمكن مقاومة الشبهة للحجة،
519

وكما لا يمكن أن يقاوم الجهل للعلم، والسراب للماء، وان توهم ذلك قبل
النظر والاعتبار، ويخيل قيل الاستدلال الذي يزول معه الالتباس، وقد بينا
حقيقة السحر فيما مضى، وقد يسمى السحر ما لا يعرف سببه وإن لم يكن
محظورا، كما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (إن من البيان لسحرا) وكما
قال الشاعر:
وحديثها السحر الحلال لو أنه * لم يجز قتل المسلم المتحرز
وذلك مجاز وتشبيه دون أن يكون حقيقة.
قوله تعالى:
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم
آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (132) آية
أخبر الله تعالى أنه لما قال فرعون وقومه ما قالوا - من أنهم لا يؤمنون،
وان أتى بجميع الآيات، فإنهم لا يصدقونه على نبوته - أنه أرسل عليهم
الطوفان، وهو السيل الذي يعم بتفريقه الأرض، وهو مأخوذ من الطوف
فيها، وقيل: هو مصدر كالرجحان والنقصان. وقال الأخفش: واحده
طوفانة، وأما المفسرون فإنهم اختلفوا في معناه، فقال ابن عباس في بعض
الروايات عنه: إنه الغرق. وقال مجاهد: هو الموت. وفي رواية أخرى عن
ابن عباس أنه كان أمرا من الله تعالى طاف بهم، وقال تعالي في قصة نوح
" فأخذهم الطوفان وهم ظالمون " (1) وقال الحسن بن عرفطة:
غير الجدة من آياتها * خرق الريح بطوفان المطر (2)
وقال الراعي:

(1) سورة 29 العنكبوت آية 14.
(2) نوادر أبي زيد: 77 واللسان (طوف) وتفسير الطبري
13 / 53 وغيرها، ويروي: * خرق الريح وطوفان المطرف.
520

تضحى إذا العيس أدركنا نكائثها * خرقاء يعتادها الطوفان والزؤد (3)
الزؤد الفزع، وقال أبو النجم:
قد مد طوفان فبث مددا * شهرا شآبيب وشهرا بردا (4)
وقال أبو عبيدة: الطوفان من السيل البعاق، ومن الموت الذريع.
وقوله تعالى " والقمل " فاختلفوا في معناه، فقال ابن عباس - في رواية
عنه - وقتادة ومجاهد: إنه بنات الجراد، وهو الدبا صغار الجراد الذي
لا أجنحة له. وفي رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد: أنه السوس الذي
يقع في الحنطة. وقال ابن زيد هو البراغيث. وقال أبو عبيدة: هو الحمنان
واحده حمنة. وقيل: حمنانة وهو كبار القردان. وقال الحسن وسعيد بن
جبير: هو دواب صغار سود واحدته قملة، قال الأعشى:
قوم تعالج قملا أبناؤهم * وسلاسلا أجدا وبابا مؤصدا (5)
وقوله " والضفادع " فهو جمع ضفدع، فهو ضرب من الحيوان يكون
في الماء له نقيق واصطخاب، وهو معروف. وقيل: إنه كان يوجد في فرشهم
وأبنيتهم ويدخل في ثيابهم، فيشتد أذاهم به.
و (الدم) معروف وقد حده الرماني: بأنه جسم مائع أحمر مسترق
عرض له الجمود كهذا الذي يجري في العروق. وقيل: إن مياههم كانت
عذبة طيبة فانقلبت دما، فكان الإسرائيلي إذا أغترف صار ماء، وإذا اغترف
القبطي كان دما، حتى أن المرأة القبطية تقول للمرأة الإسرائيلية مجي من فيك

(3) اللسان (نكث) (زأد) وتفسير الطبري 13 / 53. (النكائث)
آخر ما عند العيس من قوة على السير، و (الزؤد) الفزع. وخرقاء صفة
للناقة التي لا تتعهد مواضع قوائمها لحدة فيها.
(4) تفسير الطبري 13 / 54.
(5) ديوانه: 154 واللسان (قمل) وتفسير الطبري 13 / 56 وهو من
قصيدته التي قالها لكسرى.
521

في فنمي فإذا فعلت ذلك تحول دما، وقال زيد بن أسلم: الذي سلط الله
عليهم، كان الرعاف.
وقوله " آيات مفصلات " نصب على الحال، قال مجاهد: معجزات
مبينات ظاهرات وأدلة واضحات. وقال غيره: لأنها كانت تجئ شيئا بعد
شئ، وقيل: إنها كانت تمكث من السبت إلى السبت، ثم ترفع شهرا - في
قول ابن جريج.
قوله " فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " معناه إنهم مع مشاهدتهم
لهذه الآيات العظيمة والمعجزات الظاهرة، أنفوا من الحق وتكبروا عن الاذعان
والانقياد له، وكانوا قوما عصاة مرتكبين للأجرام والآثام.
قوله تعالى:
ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما
عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن
معك بني إسرائيل (133) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل
هم بالغوه إذا هم ينكثون (134) آيتان.
(لما) للماضي مثل (لو). و (إذا) للمستقبل مثل (أن) وإن دخلت
على الماضي.
أخبر الله تعالى عن هؤلاء القوم أنه حين وقع عليهم الرجز... وهو
العذاب - في قول الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وفي قول سعيد بن جبير:
هو الطاعون وقال قوم هو الثلج ولم يكن وقع قبل ذلك، وأصل الرجز
الميل عن الحق، ومنه قوله تعالى " والرجز فاهجر " (1) يعني عبادة الوثن،
والعذاب رجز، لأنه عقوبة على الميل عن الحق، ومنه الرجازة ما يعدل به
الحمل إذا مال، والرجازة أيضا صوف أحمر يزين به الهودج، لأنه كالرجازة

(1) سورة 74 المدثر آية 5.
522

التي هي تقويم له إذا مال والرجز: رعدة في رجل الناقة لداء يلحقها يعدل
بها عن حق سيرها، والرجز ضرب من الشعر أخذ من رجز الناقة، لأنه متحرك
وساكن ثم متحرك وساكن في كل أجزائه، فهو كالرعدة في رجل الناقة، يتحرك
بها، ثم يسكن، ثم يستمر على ذلك.
وقوله " قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك " حكاية لمسألة قوم
فرعون لموسى أن يدعو الله لهم بما عهد عند موسى، والعهد التقدم في الامر
فمنه العهد الوصية، والعهود الوثائق والشروط. والعهد مطر بعد مطر
قد عهد قبله. المعاهد المعاقد على الذمة، والتعاهد التقدم في تفقد الشئ
وكذلك العهد وقيل في معنى " بما عهد عندك " قولان:
أحدهما - بما تقدم إليك به وعلمك أن تدعوه به فإنه يجيبك كما أجابك
في آياتك.
الثاني - بما عهد عندك من العهد على معنى القسم.
وقوله " فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه " فيه إخبار من الله
تعالى أنه لما كشف عنهم العذاب عند ذلك وأخرهم إلى أجل هم بالغوه يعني
أجل الموت " إذا هم ينكثون " وانهم عند ذلك نكثوا ما قالوه ولم يفوا
بشئ منه.
والعامل في (إذا) " ينكثون "، وليست (إذا) هذه (إذا) المضافة
إلى جملة، بل هي بمنزلة - هناك - وهي المكتفية بالاسم، ولو قال (إذا
النكث) صح الكلام، كما تقول: خرجت فإذا زيد. ومعنى (إذا) المفاجأة
وفيه وقوع خلاف المتوقع منهم، لأنه أتى منهم نقض العهد بدلا من الوفاء،
فكأنه فاجأ الرأي عجب من نكثهم، والبلوغ منتهى المرور، ومثله الوصول،
غير أن في الوصول معنى الاتصال، وليس كذلك البلوغ. والانتهاء نقيض
الابتداء في كل شئ، وإن لم يكن فيه معنى المرور. والنكث نقض العهد
الذي يلزم الوفاء به. ومثله الغدر، إلا أن (الغدر) فيما عقد من الايمان
على النفس، ولذلك جاء في نقض الغزل في قوله تعالى " كالتي نقضت غزلها
523

من بعد قوة أنكاثا " (1) وأصله النكاثة وهي تشعيب الشئ من حبل أو غيره.
وانتكث الشئ إذا تشعب والنكيثة نقض العهد، وجواب (لما) (إذا) ومثله
قوله " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون " (2) ولا يجوز
أن يجاب بعد (إذ)، لأنها لوقت الماضي والجواب بعد الأول، يقتضي
الاستقبال، ولذلك صلحت فيه الفاء ولم يصلح الواو، وحرف الجزاء يقلب
الفعل دون الوقت.
قوله تعالى:
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا
وكانوا عنه غافلين (135) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه بعد أن أظهر الآيات التي مضى ذكرها
وفزع قوم فرعون إلى موسى ليسأل الله أن يرفع عنهم العذاب، فإنهم إذا رفع
عنهم ذلك آمنوا، ففعل موسى، ورفع الله عنهم ذلك، ولم يؤمنوا ونكثوا
ما عهدوا به من القول وأنه انتقم منهم، ومعناه سلب نعمهم بانزال العذاب
عليهم وحلول العقاب بهم.
وقوله " فأغرقناهم في اليم " فالاغراق في الامر أو النزع، فهو مشبه
بالاغراق في الماء. و " اليم " البحر في قول الحسن وجميع أهل العلم -
قال ذو الرمة:
دوية ودجى ليل كأنهما * يم تواطن في حافاته الروم (3)
وقال الراجز: كبازخ اليم سقاه اليم (4)

(1) سورة 16 النحل آية 92.
(2) سورة 30 الروم آية 36.
(3) ديوانه: 576 وتفسير الطبري 13 / 74.
(4) قائله العجاج ديوانه: 63 ومجاز القرآن 1 / 277 وتفسير الطبري 13 / 75.
524

وقوله تعالى " بأنهم كذبوا بآياتنا " معناه إنا فعلنا بهم ذلك جزاء بما
كذبوا من آيات الله وحججه وبراهينه الدالة على نبوة موسى وصدقه " وكانوا
عنها غافلين " معناه أنهم أنزل عليهم العذاب وكانوا غافلين عن نزول ذلك بهم.
والغفلة حال تعتري النفس تنافى الفطنة واليقظة تقول: غفل يغفل غفولا،
وغفلا وغفلة، وتغافل تغافلا وأغفل الامر إغفالا، واستغفله استغفالا، واغتفله
اغتفالا وتغفل تغفلا، وغفله تغفيلا وهو مغفل.
فإن قيل كيف جاء الوعيد على الغفلة، وليست من فعل البشر؟!
قلنا عنه ثلاثة أجوبة: أحدها - أنهم تعرضوا لها حتى صاروا، لا يفطنون بها.
الثاني - أن الوعيد على الاعراض عن الآيات حتى صاروا كالغافلين عنها.
الثالث - أن المعنى وكانوا عن النعمة غافلين ودل عليه (انتقمنا).
قوله تعالى:
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض
ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على
بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه
وما كانوا يعرشون (136).
آية في الكوفي والبصري، وفي المدنيين آيتان آخر الأولى " بني إسرائيل "
قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم " يعرشون " بضم الراء. الباقون
بكسرها، وهما لغتان فصيحتان: الكسر والضم، والكسر أفصح.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه أورث الأرض مشارقها ومغاربها الذين
استضعفوا في يدي فرعون وقومه. وإنما أورثهم بأن أهلك من كان فيها ومكن
هؤلاء، وحكم بأن لهم أن يتصرفوا فيها على ما أباحه الله تعالى لهم.
والاستضعاف طلب الضعف بالاستطالة والقهر. وقد استعمل استضعفته بمعنى
525

وجدته ضعيفا بامتحاني إياه، كأنه قال طلبت حال ضعفه بمحنته، فوجدته
ضعيفا. وقوله " باركنا فيها " يعني باخراج الزروع والثمار وسائر صنوف
النبات والأشجار إلى غير ذلك من العيون والأنهار وضروب المنافع العباد.
وقيل " باركنا فيها " بالخصب الذي حصل فيها.
ومشارق الأرض ومغاربها يريد جهات المشرق بها والمغرب. وقال الحسن
هي أرض الشام ومصر. وقال قتادة هي أرض الشام. وقال أبو علي: هي
أرض مصر. وقال الزجاج: كان من بني إسرائيل داود وسليمان ملكا
جميع الأرض.
وقوله " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل " يعني صح كلامه
بانجاز الوعد الذي تقدم باهلاك عدوهم، واستخلافهم في الأرض، وإنما كان
الانجاز تمام للكلام لتمام النعمة به. وقيل كلمته الحسنى هي قوله تعالى
" ونريد أن نمن على الذي استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم
الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما
كانوا يحذرون ". وإنما قيل الحسنى، وإن كانت كلمات الله كلها حسنة،
لأنه وعد بما يحبون.
وانتصب قوله تعالى " مشارق والأرض ومغاربها " لاحد أمرين:
أحدهما - بأنه مفعول (أورثنا) كقولك: أورثه المال.
الثاني - بأنه ظرف كأنه قال: أورثتهم الأرض التي باركنا فيها في مشارقها
ومغاربها، والأول أظهر.
وقوله " ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه " معناه أهلكنا ما كان عمله
فرعون وقومه مما كانوا يستعبدونهم ويسعون في افساد أمر موسى ويستعينون.
به في أمرهم " وما كانوا يعرشون " معناه ما كانوا يبنونه من الأبنية والقصور
- في قول ابن عباس ومجاهد. وقال الحسن: هو تعريش الكرم. وقال
أبو علي: تعريش الشجر والأبنية. وأصل التعريش الرفع، قال أبو عبيدة
526

" يعوشون " معناه يبنون، و (العرش) في هذا الموضع البناء، يقال: عروش
مكة أي بناؤها، وقال أبو الحسن: هما لغتان، ومثله نبطش ونبطش
ونحشر ونحشر، في أمثال ذلك.
قوله تعالى:
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على
أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم
قوم تجهلون (137) آية بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي وخلف يعكفون - بكسر الكاف - الباقون بضمها
وهما لغتان، ومثله يفسقون - بكسر السين - والضم، في أمثال ذلك.
المجاوزة الاخراج عن الحد يقال: جاوز الوادي جوازا إذا قطعه وخلفه
وراءه وتقول: جاز يجوز جوازا، وأجازه إجازة، وجاوزه مجاوزة، وتجاوز
تجاوزا، واجتاز اجتيازا، وتجوز تجوزا، وجوزه تجويزا، واستجاز
استجازة. والبحر الواسع العظيم السعة من مستقر الماء مما هو أعظم من كل
نهر، وأصله السعة، ومنه البحيرة التي يبحر أذنها أي توسع شقتها، وتبحر
في العلم: إذا اتسع فيه، وقوي تصرفه به.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه حين أجاز قوم موسى وقطع بهم البحر
وأنجاهم من العدو وأغرق عدوهم فرعون وقومه، وأنهم بلغوا إلى قوم عاكفين
على أصنام لهم - ومعنى (العكوف) اللزوم للامر بالاقبال عليه والمراعاة
له تقول: عكف عكوفا واعتكف اعتكافا، ومنه الاعتكاف لزوم المسجد
للعبادة فيه، وعكف عليه أي واظب عليه - وأنه لما رأى قوم موسى أولئك
العاكفين على أصنامهم والملازمين لها دعاهم جبلتهم إلى التشبيه بعبادة الأوثان،
لما في طبع الانسان من الحكاية - أن قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
527

وفي طبع كل حيوان الحكاية، وأقوى الحيوان طبعا في الحكاية القرد، وله
حكايات عجيبة، وهذا الطلب منهم يدل على جهل عظيم من بني إسرائيل بعد
ما رأوا الآيات التي توالت على فرعون وقومه حتى غرقهم الله في البحر بكفرهم
بعد ما نجا بني إسرائيل، فلم يردعهم ذلك عن أن قالوا لموسى (ع) " اجعل
لنا إلها كما لهم آلهة " وتوهمهم أنه يجوز عبادة غير الله، وإن اعتقدوا أنه
لا يشبه الأشياء ولا تشبهه، ولا يدل طلبهم ذلك على أنهم مشبهة، لما قلنا ه.
وقوله تعالى " إنكم قوم تجهلون " حكاية عما أجابهم به موسى (ع)
فقال لهم: إنكم قوم تجهلون من المستحق للعبادة وما الذي يجوز أن يتقرب
به إلى الله تعالى، ويحتمل أن يكون أراد تجهلون من صفات الله ما يجوز
عليه وما لا يجوز.
قوله تعالى:
إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون (138)
آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية عما قال موسى (ع) لقومه حين سألوه أن يجعل لهم
إلها بعد أن قال لهم " إنكم قوم تجهلون " ما يجوز أن يعبد وما لا يجوز
وأنه أخبرهم " أن هؤلاء متبر ما هم فيه " يشير فيه إلى العابد والمعبود من
الأصنام ومعناه مهلك، فالمتبر المهلك المدمر عليه، والتبار الهلاك، ومنه
قوله تعالى " ولا تزد الظالمين إلا تبارا " (1) ومنه التبر للذهب سمي بذلك
لامرين: أحدهما - أن معدنه مهلكة، وقال الزجاج: يقال لكل إناء متكسر
متبر، وكسارته تبره.
وقوله تعالى " وباطل ما كانوا يعملون " فالبطلان انتفاء المعنى بعدمه،

(1) سورة 71 نوح آية 28.
528

وبأنه لا يصح في عدم ولا وجود. والمعنى في بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم
بنفع ولا يدفع ضرر، فكأنه بمنزلة ما لم يكن من هذا الوجه، والعمل إحداث
ما به يكون الشئ على نقيض ما كان، وهو على ضربين: أحدهما - إحداث
المعمول. والاخر - إحداث ما يتغير به.
و (هؤلاء) أصله أولاء أدخلت عليه (هاء) التنبيه، وهو مبني لتضمنه
معنى الإشارة المعرفة، وهو مع ذلك مستبهم استبهام الحروف، إذ هو مفتقر
في البيان عن معناه إلى غيره.
قوله تعالى:
قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين (139) آية
في هذه الآية إخبار أيضا عما قال موسى لقومه بعد إزرائه على الأصنام
وعلى من كان يعبدها وأن ما يفعلونه باطل مهلك: أأطلب غير الله لكم إلها؟!
قاله على وجه الانكار عليهم وإن كان بلفظ الاستفهام، فنصب " أغير الله "
على أنه مفعول به، ونصب (إلها) على أحد شيئين:
أحدهما - كأنه قال أأطلب لكم غير الله تعالى معبودا؟!.
والثاني - أن يكون نصب إلها على أنه مفعول به، ونصب (غير) على
الحال التي لو تأخرت كانت صفة.
و (بغى) يتعدى إلى مفعولين، وطلب يتعدى إلى مفعول واحد، لان
معنى بغي أعطى: بغاه الخير أعطاه الخير، وليس كذلك طلب، لأنه غير مضمن
بالمطلوب، وقد يجوز أن يكون بمعنى أبغي لكم.
وقوله " وهو فضلكم على العالمين " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الحسن وأبو علي وغيرهما: يريد على عالمي زمانهم.
الثاني - معناه خصكم بفضائل من النعم بالآيات التي آتاكم، وارسال
529

موسى وهارون، وهما رجلان منكم، ومن إهلاك عدوكم بالتغريق في البحر،
ونجاتكم. وكل ذلك بمرءى و؟؟ منكم. والفرق بين التعظيم والتفضيل
أن التفضيل يدل على فضل في النفس، وهو زيادة على غيره، وليس كذلك
التعظيم، ولذلك جاز وصف الله تعالى بالتعظيم ولم يجز بالتفضيل.
قوله تعالى:
وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم
عظيم (140) آية.
قرأ ابن عامر (نجيناكم) على لفظ الماضي. الباقون " أنجيناكم " وقرأ
نافع وحده " يقتلون " بالتخفيف. الباقون بالتشديد. من شدد أراد
التكثير. ومن خفف، فلانه يحتمل القلة والكثرة.
وقد مضى تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة (1) فلا وجه المتطويل
بتفسيرها، وإنما نذكر جملها، فنقول: هذا خطاب لبقية بني إسرائيل الذين
كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله فقال لهم على وجه الامتنان عليهم بما أنعم على
آبائهم وأسلافهم واذكروا " إذ أنجيناكم " من آل فرعون بمعنى خلصناكم
لان النجاة الخلاص مما يخاف إلى رفعة من الحال، وأصله الارتفاع، فمنه
النجا أي الارتفاع في السير، ومنه قوله " ننجيك ببدنك " (2) أي نلقيك على
نجوة من الأرض، والنجو كناية عن الحدث، لأنه كان يلقى بارتفاع من
الأرض للابعاد به، وقد كان أيضا يطلب به الانخفاض للابعاد به.
والفرق بين (أنجيناكم) وبين (نجيناكم) أن ألف (أنجيناكم) للتعدية

(1) في تفسير آية 49 - 50 من سورة 2 البقرة، المجلد الأول ص
217 - 231.
(2) سورة 10 يونس آية 92.
530

وتشديد (نجيناكم) يحتمل التعدية، ويحتمل التكثير.
وقوله تعالى " يسومونكم " معناه يولونكم اكراها ويحملونكم اذلالا " سوء
العذاب، وأصل السوم مجاوزة الحد فمنه السوم في البيع، وهو تجاوز الحد
في السعر إلى الزيادة، والسائمة من الإبل الراعية، لأنها تجاوزت حد الانبات
للرعي، ومنه فلان سيم الخسف أي ألزمه إكراها، و (السوء) مأخوذ من أنه
يسوء النفس لنافرية لها. " يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم " معناه إن
فرعون كان يقتل من تولد من بني إسرائيل ذكرا ويستبقي الانات للاستخدام.
وقوله تعالى " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " فالمراد بالبلاء ههنا النعمة
وقد يكون بمعنى النقمة، وأصله المحنة، فتارة تكون المحنة بالنعمة، وأخرى
بالنقمة، وبالخير تارة وبالشر أخرى.
قوله تعالى:
وواعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه
أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح
ولا تتبع سبيل المفسدين (141) آية بلا خلاف.
قيل في فائدة قوله " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر " ولم
يقل أربعين ليلة أقوال:
أحدها - أنه أراد شهرا وعشرة أيام متوالية. وقيل: إنه ذو العقدة
وعشر من ذي الحجة. ولو قال أربعين ليلة لم يعلم أنه كان الابتداء أول الشهر
، ولا أن الأيام كانت متوالية، ولا أن الشهر شهر بعينه، هذا قول الفراء،
وهو معنى قول مجاهد وابن جريج ومسروق وابن عباس، وأكثر المفسرين.
الثاني - أن المعنى وعدناه ثلاثين ليلة يصوم فيها ويتفرد للعبادة بها.
ثم أتمت بعشر إلى وقت المناجاة. وقيل في العشر نزلت التوراة فلذلك
أفردت بالذكر.
531

الثالث - قال أبو جعفر (ع) كان أول ما قال لهم: إني أتأخر عنكم
ثلاثين يوما، ليسهل عليهم، ثم زاد عليهم عشرا، وليس في ذلك كذب، لأنه
إذا تأخر عنهم أربعين ليلة، فقد تأخر ثلاثين قبلها. وقال الحسن كان الموعد
أربعين ليلة في أصل الوعد، فقال في البقرة " واعدنا موسى أربعين ليلة " (1)
وفصله - ههنا - على وجه التأكيد فقال ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر.
وقوله تعالى " فتم ميقات ربه أربعين ليلة " ومعناه فتم الميقات أربعين
ليلة، وإنما قال ذلك مع أن ما تقدم دل على هذا العدد، لأنه لو لم يورد
الجملة بعد التفصيل وهو الذي يسميه الكتاب الفذلكة، لظن قوله " وأتممناها
بعشر " أي كملنا الثلاثين بعشر حتى كملت ثلاثين، كما يقال: تممت العشرة
بدرهمين وسلمتها إليه.
وقيل في معنى قوله تعالى " واعدنا موسى ثلاثين ليلة " ينفرد فيها للعبادة
في المكان الذي وقت له ثم أتم الأربعين.
والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الاعمال
والوقت وقت الشئ قدره مقدر أو لم يقدره، ولذلك قيل: مواقيت الحج
وهي المواضع التي قدرت للاحرام بها.
وقوله تعالى " وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا
تتبع سبيل المفسدين " الذين يفسدون في الأرض، وإنما أمره بذلك مع أنه
نبي مرسل، لان الرياسة كانت لموسى (ع) على هارون وجميع أمته، ولم
يكن يجوز أن يقول هارون لموسى مثل ذلك. وقال أبو علي: السبعون
الذين اختارهم موسى الميقات كانوا معه في هذا الخروج، وسمعوا كلام الله
لموسى (ع) وكانوا شهدوا له بذلك.
وقوله " هارون " في موضع جر، لأنه بدل من قوله (لأخيه) وإنما
فتح لأنه لا ينصرف، ولو رفع على النداء كان جائزا ولم يقرأ به أحد.

(1) سورة 2 البقرة آية 51.
532

قوله تعالى:
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر
إليك قال لن تريني ولكن انظر إلى الجبل وإنا وخر
مكانه فسوف تريني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ول أ
موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك فان استقر
المؤمنين (142) آية بلا خلاف.
قرأ أهل الحجاز إلا عاصما " دكاء " بالمد والهمزة من غير تنوين - ههنا
وفى الكهف - وافقهم عاصم في الكهف. الباقون " دكا " منونة مقصورة
في الموضعين، قال أبو زيد: يقال: دككت على الميت التراب أدكه دكا: إذا
دفنته وأهلت عليه، وهما بمعنى واحد، ودككت الركية دكا إذا دفنته، ودك
الرجل فهو مدكوك إذا مرض، وقال أبو عبيدة " جعله دكا أي مندكا،
والدك والدكة مصدره، وناقة دكاء ذاهبة السنام والدك المستوي، وانشد
للأغلب: هل غير عاد دك عادا فانهدم
وقال أبو الحسن: لما قال " جعله دكا " فكأنه قال: دكه أي أراد جعله
ذا دك، ويقال: دكاء جعلوها مثل الناقة الدكاء التي لا سنام لها. قال أبو
علي الفارسي: المضاف محذوف - على تقدير في قول أبي الحسن، وفي التنزيل
" وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة " (1) وقال " كلا إذا دكت
الأرض دكا دكا " (2) وقال الرماني: معنى دكا مستويا بالأرض، يقال: دكه
يدكه دكا إذا سحقه سحقا، ومنه الدكة. واندك السنام إذا لصق بالظهر.
وقال الزجاج: دكا يعني مدقوقا مع الأرض، والدكاء والدكاوات الروابي

(1) سورة 69 الحاقة آية 14
(2) سورة 89 الفجر آية 21.
533

التي مع الأرض ناشزة عنها لا تبلغ أن تكون جبلا. وقيل: إيه سباخ في
الأرض - في قول الحسن وسفيان وأبي بكر الهذلي. وقال ابن عباس:
صار ترابا، وقال حميد:
يدك أركان الجبال هزمه * يخطر بالبيض الرقال بهمه (3)
وقيل في معنى قراءة من قرأها ممدودة قولان:
أحدهما - انه شبه الجبل بالناقة التي لا سنام لها، فيقال لها: دكاء
فكأنه قال فجعله مثل دكاء.
الثاني - فجعله أرضا دكاء.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن موسى (ع) لما جاء إلى ميقات ربه وهو
الموضع الذي وقته له، وكلمه الله تعالى فيه سأل الله تعالى أن يريه لينظر إليه.
واختلف المفسرون في وجه مسألة موسى (ع) ذلك مع أن الرؤية بالحاسة
لا تجوز عليه تعالى على ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه سأل الرؤية لقومه حين، قالوا له " لن نؤمن لك حتى
نرى الله جهرة " (4) بدلالة قوله " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " (5).
فإن قيل على هذا ينبغي أن يجوزوا أن يسأل الله تعالى هل هو جسم
أم لا أو يسأله الصعود والنزول، وغير ذلك مما لا يجوز عليه؟!
قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أنه يجوز ذلك إذا علم أن في ورود الجواب من جهة الله
مصلحة، وأنه أقرب إلى زوال الشبهة عن القوم بأن ذلك لا يجوز عليه تعالى،
كما جاز ذلك في مسألة الرؤية. وقال الجبائي: إنهم سألوا الله تعالى قبل ذلك
هل يجوز عليه تعالى النوم أم لا؟ وقالوا له: سل الله أن يبين لنا ذلك، فسأل
الله تعالى ذلك، فأمره بأن يأخذ قد حين يملا أحدهما ماء، والاخر دهنا، ففعل

(3) تفسير الطبري 13 / 100.
(4) سورة 2 البقرة آية 55.
(5) سورة 7 الأعراف آية 154.
534

وألقى عليه النعاس، فضرب أحدهما على الاخر فانكسرا، فأوحى الله تعالى
إليه أن لو جاز عليه تعالى النوم لاضطراب أمر العالم، كما اضطرب القدحان
في مدة حتى تكسرا.
الثاني - عن هذا السؤال أنه إنما يجوز أن يسأل الله ما يمكن أن يعلم
صحته بالسمع، وما يكون الشك فيه لا يمنع من العلم بصحة السمع، وإنما
يمنع من ذلك سؤال الرؤية التي تقتضي الجسمية والتشبيه، لأن الشك في
الرؤية التي لا تقتصي التشبيه مثل الشك في رؤية الضمائر والاعتقادات،
وما لا يجوز عليه الرؤية، وليس كذلك الشك في كونه جسما أو ما يتبع كونه
جسما من الصعود والنزول، لان مع الشك في كونه جسما، لا يصح العلم
بصحة السمع من حيث أن الجسم لا يجوز أن يكون غنيا ولا عالما بجميع
المعلومات، وكلاهما لابد فيه من العلم بصحة السمع، فلذلك جاز أن يسأل
الرؤية التي لا توجب التشبيه ولم يجز أن يسأل كونه جسما، وما أشبهه.
والجواب الثاني - في أصل المسألة: أنه سأل العلم الضروري الذي
يحصل في الآخرة، ولا يكون في الدنيا ليزول عنه الخواطر والشبهات، والرؤية
تكون بمعنى العلم، كما تكون الادراك بالبصر، كما قال " ألم تر كيف فعل
ربك بأصحاب الفيل " (1) وأمثاله. وللأنبياء أن يسألوا ما يزول عنهم
الوساوس والخواطر، كما سأل إبراهيم ربه " فقال رب أرني كيف تحيي
الموتى " (2) غير أنه سأل ما يطمئن قلبه إلى ذلك وتزول عنه الخواطر
والوساوس، فبين الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدنيا.
الثالث - أنه سأل آية من آيات الساعة التي يعلم معها العلم الذي
لا يختلج فيه الشك كما يعلم في الآخرة وهذا قريب من الثاني.
وقال الحسن والربيع والسدي: إنه سأل الرؤية بالبصر على غير وجه
التشبيه.

(1) سورة 105 الفيل آية 1.
(2) سورة 2 البقرة آية 260.
535

وقوله " لن تراني " جواب من الله تعالى لموسى أنه لا يراه على الوجه
الذي سأله، وذلك دليل على أنه لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، لان (لن)
تنفي على وجه التأييد، كما قال " ولن يتمنوه أبدا " (1) وهذا إنما يمكن
أن يعتمده من قال بالجواب الأول، فأما من قال: انه سأل العلم الضروري
أو علما من أعلام الساعة لا يمكنه أن يعتمده، لان ذلك يحصل في الآخرة،
فيجري ذلك مجرى اختصاص الرؤية بالبصر على مذهب المخالف بحال الدنيا.
وقوله تعالى " فإن استقر مكانه فسوف تراني " معناه إن استقر الجبل
في حال ما جعله دكا متقطعا فسوف تراني، فلما كان ذلك محالا لان الشئ
لا يكون متحركا ساكنا في حال واحدة، كانت الرؤية المتعلقة بذلك محالة،
لأنه لا يعلق بالمحال إلا المحال.
وقوله " فلما تجلى ربه للجبل " معناه ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل
لحاضري الجبل بأن " جعله دكا ". وقيل: إن الله تعالى أبرز من ملكوته
ما تدكدك به إذ في حكمه أن الدنيا لا تقوم لما يبرز من الملكوت الذي في
السماوات، كما قيل: إنه ابرز الخنصر من العرش، ويجوز أن يكون المراد
" فلما تجلى ربه " لأهل الجبل، كما قال " واسأل القرية " (2) والتجلي هو
الظهور، ويكون ذلك تارة بالرؤية، وأخرى بالدلالة، قال الشاعر:
تجلى لنا بالمشرفية والقنا * وقد كان عن وقع الأسنة نائيا
وإنما أراد الشاعر أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبر لذلك وأن تدبيره
صواب، فقال تجلى أي علم، ولم ير بالابصار، ولا أدرك بالحواس، لأنه
كان عن وقع الأسنة نائيا، ولكن استدل عليه بحسن تدبيره.
وقال قوم: معناه فلما تجلى بالجبل لموسى قالوا: وحروف الصفات
تتعاقب فيكون (اللام) بمعنى (الباء). وقال قوم: لو أراد موسى الرؤية
بالبصر لقال أرينك أو أرني نفسك، ولا يجوز غير ذلك في اللغة.

(1) سورة 62 الجمعة آية 6.
(2) سورة 12 يوسف آية 82.
536

وقوله " وخر موسى صعقا " قيل في معنى ذلك قولان:
أحدهما - قال ابن عباس والحسن وابن زيد وأبو علي الجبائي: إنه
وقع مغشيا عليه من غير أن يكون قد مات بدلالة قوله " فلما أفاق " ولا يقال
للميت إذا عاش أفاق، وإنما يقال: عاش أو حيي، وقال قتادة: معناه مات.
وقوله " قال سبحانك تبت إليك " قيل في معنى توبته ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه تاب، لأنه سأل قبل أن يؤذن له في المسألة، وليس
للأنبياء ذلك.
الثاني - أنه تاب من صغيرة ذكرها.
الثالث - أنه قال ذلك على وجه الانقطاع إليه والرجوع إلى طاعته، وإن
كان لم يعص، وهذا هو المعتمد عندنا دون الأولين، على أنه يقال لمن جوز
الرؤية على الله تعالى إذا كان موسى (ع) إنما سأل ما يجوز عليه فمن أي شئ
تاب؟ فلابد لهم من مثل ما قلناه من الأجوبة.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون تجويز الرؤية صغيرا مع أنه جهل بالله
على مذهب من قال إنه كان ذلك صغيرة؟!
قيل: لأنه إذا لم تكن الرؤية المطلوبة على وجه التشبيه جرى مجرى
تجويزه أن تكون هذه الحركة من مقدورات الله في أنه لا يخرجه من أن
يكون عارفا به تعالى، وإنما شك في الرؤية والحركة.
وقوله " وأنا أول المؤمنين " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الجبائي: أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك شئ من خلقك
فأنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية.
الثاني - قال مجاهد: وأنا أول المؤمنين من بني إسرائيل.
قوله تعالى:
قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي
فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين (143) آية بلا خلاف.
537

قرأ أهل الحجاز، وروح " برسالتي " على التوحيد. الباقون " برسالاتي "
على الجمع. والرسالة تجري مجرى المصدر فتفرد في موضع الجمع، وإن لم
يكن المصدر من (أرسل) يدلك على أنه جار مجراه قول الأعشى:
ففادك بالخيل أرض العدو * وجذعانها كلقيطة العجم (1)
فاعماله إياها إعمال المصدر بذلك على أنه يجري مجراه، والمصدر قد
يقع لفظ الواحد فيه والمراد به الكثرة، وكان المعنى على الجمع لأنه مرسل
لضروب من الرسالة، والمصادر قد تجمع مثل الحلوم والألباب. وقال تعالى
" إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " (2) فجمع الأصوات لما أريد بها أجناس
مختلفة صوت الحمار بعضها، فأفرد صوت الحمار، وإن كان المراد به الكثرة،
لأنه صوت واحد.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه نادى موسى (ع) وقال له " يا موسى إني
اصطفيتك " ومعنى الاصطفاء استخلاص الصفوة لما لها من الفضيلة. والفضائل
على وجوه كثيرة: أجلها قبول الأخلاق الكريمة والافعال الجميلة، ولهذا
المعنى اصطفي موسى (ع) حتى استحق الرسالة، وأن يكلم بتلقين الحكمة.
وقوله تعالى " برسالاتي وبكلامي " فيه بيان ما به اصطفاه وهو أن جعله
نبيا وخصه بكلامه بلا واسطة، وهما نعمتان عظيمتان منه تعالى عليه، فلذلك
امتن بهما عليه، وإنما صار في كلام الجليل نعمة على المكلم، لأنه كلمه بتعليم
الحكمة من غير واسطة بينه وبين موسى، ومن أخذ العلم عن العالم المعظم
كان أجل رتبة، ولو كلم إنسانا بالانتهار والاستخفاف، لكان نقمة عليه بالضد
من تلك الحال.
وقوله تعالى " فخذ ما آتيتك " معناه تناول ما أعطيتك " وكن من
الشاكرين " يعني من المعترفين بنعمتي، والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع
القيام بحقها على حسب مرتبتها، فإذا كانت من أعظم النعم، وجب أن تقابل

(1) ديوانه: 30 القصيدة 3.
(2) سورة 31 لقمان آية 19.
538

بأعظم الشكر، وهو شكر العباد لله وحده على وجه الاخلاص له.
قوله تعالى:
وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل
شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم
دار الفاسقين (144) آية بلا خلاف.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه كتب لموسى (ع) في الألواح من كل شئ
موعظة وتفصيلا لكل شئ، وقال الجبائي: المكتوب في الألواح التوراة،
فيها اخبار الأمم الماضية، وفصل فيها الحرام والحلال. و (الألواح) جمع
لوح، وقال الزجاج: كانا لوحين فجمع، قال: ويجوز أن تكون ألواحا
جماعة، واللوح صفيحة مهيأه للكتابة فيها، وقد يقال لوح فضة تشبيها
باللوح من الخشب، ومثله لو عمل من حجر، وقال الحسن: وكانت الألواح
من خشب نزلت من السماء، ومعنى كتبنا له من كل شئ كتبنا إليه كل ما في
شرعه من حلال وحرام، وحسن وقبيح، وواجب وندب، وغير ذلك مما
يحتاجون إلى معرفته. وقيل: كتب له التوراة فيها من كل شئ من
الحكم والعبر.
وأصل اللوح اللمع يقال: لاح الامر يلوح، لوحا إذا لمع وتلالا.
والتلويح تضمير، ولوحه السفر والعطش إذا غيره تغييرا تبين عليه أثره،
لان حاله يلوح بما نزل به، واللوح الهواء، لأنه كاللامع في هبوبه، واللوح
مأخوذ من أن المعاني تلوح بالكتابة فيه. و (الموعظة) التحذير بما يزجر عن
القبيح وتبصر مواقع الخوف تقول: وعظه يعظه وعظا وموعظة، واتعظ
اتعاظا إذا قيل الوعظ.
وقوله " وتفصيلا لكل شئ " يعني تمييزا لكل ما يحتاجون إليه.
وقوله " فخذها بقوة " قيل: معناه بجد واجتهاد. وقيل: بصحة عزيمة،
539

ولو أخذه بضعف نية لاداه إلى فتور العمل به.
وقوله " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " معناه يأخذوا بأحسن المحاسن،
وهي الفرائض والنوافل، وأدونها في الحسن المباح، لأنه لا يستحق عليه
حمد ولا ثواب. وقال الجبائي: أحسنها الناسخ دون المنسوخ المنهي عنه،
لان العمل بهذا المنسوخ قبيح. وقال الزجاج: يأخذوا بأحسنها معناه بما هو
حسن دون ما هو قبيح، وهذا تأويل بعيد، لأنه لا يقال في الحسن أنه أحسن
من القبيح. ويجوز أن يكون المراد بأحسنها حسنها، كما قال تعالى " وهو
أهون عليه " (1) ومعناه؟؟. ويحتمل أن يكون أراد بأحسنها إلى ما دونه
من الحسن، ألا ترى أن استيفاء الدين حسن وتركه أحسن، وأما القصاص
في الجنايات فحسن والعفو أحسن ويكون ذلك على وجه الندب.
وقوله عز وجل " سأوريكم دار الفاسقين " قال الحسن ومجاهد والجبائي:
يعني به جهنم، والمراد به فليكن منكم على ذكر لتحذروا أن تكونوا منهم،
وقال قتادة: هي منازلهم أي لتعتبروا بها وبما صاروا إليه من النكال فيها.
قوله تعالى:
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد
لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم
كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (145) آية بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي وخلف " الرشد " بفتح الراء والشين. الباقون
بضم الراء وسكون الشين. وفرق بينهما أبو عمرو بن العلاء، فقال: الرشد
- بضم الراء - الصلاح، كقوله " فإن آنستم منهم رشدا " (2) أي صلاحا،
لدفعه إليهم، والرشد الاستقامة في الدين، كقوله " على أن تعلمني مما علمت

(1) سورة 30 الروم آية 27.
(2) سورة 4 النساء آية 5.
540

رشدا " (3) وقال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، مثل الحزن والحزن،
والسقم والسقم، والرشد سلوك طريق الحق تقول: رشد يرشد رشدا،
ورشد يرشد رشدا، وأرشده ارشادا، واسترشد استرشادا، وضده الغي: غوي
يغوى غيا وغواية، وأغواه إغواء، واستغواه استغواء.
وقال الجبائي والرماني: معنا " سأصرف عن آياتي " أي سأصرف عن
آياتي من العز والكرامة بالدلالة التي كسبت الرفعة في الدنيا والآخرة،
ويجوز أن يكون معناه أي احكم عليهم بالانصراف واسميهم بأنهم منصرفون
عنها، لأنهم قد انصرفوا عنها، كما قال " ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم " (4).
ويحتمل أن يكون المراد اني سأصرفهم عن التوراة والقرآن، وما أوحى
الله من كتبه بمعنى أمنعهم من إفساده وتغييره وإبطاله، لأنه قال في أو - ل الآية
" وكتبنا له في الألواح " إلى قوله تعالى " سأصرف عن آياتي " ويجوز أن يكون
المراد " سأريهم آياتي " فينصرفون عنها وهم الذين يتكبرون في
الأرض بغير الحق، كما يقول القائل: سأحير فلانا أي اسأله عن شئ فيتحير
عند مسألتي، وسأنجل فلانا أي أسأله ما ينجل عنده، وكذلك يقال: سأقطع
فلانا بكلامي، والمراد انه سينقطع عند كلامي، وكل ذلك واضح بحمد الله.
ويجوز أن يكون المراد انهم لما عاندوا وتمردوا بعد لزوم الحجة عليهم
وحضروا للتلبيس والشغب على ما حكاه الله عنهم انهم قالوا " لا تسمعوا
لهذا القرآن والغوا فيه " (5) صرفهم الله بلطفه عن الحضور كما كانوا
يحضرونه، ويحتمل أن يكون المراد سأصرف عن جزاء آياتي.
ومن زعم أنه بمعنى سأصرف عن الايمان بآياتي فقد أخطأ، لأنه تعالى
لا يأمر بالايمان ثم يمنع منه، لان حكمته تمنع من ذلك.
والصرف نقل الشئ إلى خلاف جهته، يقال: صرفه يصرفه صرفا،

(3) سورة 18 الكهف آية 67.
(4) سورة 9 التوبة آية 128.
(5) سورة 41 حم السجدة آية 26.
541

وصرفه تصريفا، وتصرف تصرفا، وصارفه مصارفة، انصرف انصرافا.
وقوله تعالى " الذين يتكبرون في الأرض " والتكبر اظهار كبر النفس
على غيرها، وصفة متكبر صفة ذم في جميع البشر، وهو مدح في صفات الله تعالى،
لأنه يستحق اظهار الكبر على كل شئ سواه، لان ذلك حق، وهذا المعنى في
صفة غيره باطل، فمعنى الآية الاخبار من الله انه يصرف عن ثواب آياته
" الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها " يعني
الذين إذا شاهدوا الحجج والبراهين لا ينقادون لها، ولا يصدقون بها
" وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا " ومعناه انهم متى رأوا سبيل
الصلاح عدلوا عنه، ولم يتخذوه طريقا لهم بمعنى انهم لا يعملون بذلك " وان
يروا سبيل الغي.. " يعني وان يروا ضد الرشد من الكفر والضلال
سلكوه وارتكبوا معصية الله في ذلك.
وقوله تعالى " ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا " يحتمل ذلك أن يكون في
موضع رفع أي أمرهم ذلك، ويحتمل أن يكون نصبا أي فعلنا بهم ذلك، لأنهم
تكبروا وكذبوا، ومعناه: أفعل ذلك بهم، يعني صرفي لهم عن ثواب الآيات
الجزيل والمنزلة الجليلة.
ومن قال من المجبرة: ان الله تعالى يصرفه عن الايمان قوله باطل، لأنه
تعالى لا يجوز ان يصرف أحدا عن الايمان، لأنه لو صرفه عنه ثم أمره به
لكان كلفه ما لا يطيقه، وذلك لا يجوز عليه تعالى. وأيضا فان الله تعالى بين
انه يصرفهم عن ذلك في المستقبل، جزاء لهم على كفرهم الذي كفروا، فكيف
يكون ذلك صرفا عن الايمان!
وقيل: إن معنى الآية أي سأصرف عن آياتي، ولا أظهرها لهم كما
أظهرتها للمؤمنين، ويريد بذلك المعجزات الباهرات، لعلمي بأن إظهارها مفسدة
لهم يزدادون عندها كفرا، تبين ذلك في قوله تعالى " وان يروا سبيل الرشد
لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ".
542

وقيل: معناه سأصرف عن إبطالها والطعن فيها بما أظهره من حججها،
كما يقال: سأمنعك من فلان أي من أذاه، ذكره البلخي.
قوله تعالى:
والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل
يجزون إلا ما كانوا يعملون (146) آية بلا خلاف.
هذا إخبار من الله تعالى أن الذين كذبوا بآياته، جحدوا البعث
والنشور في الآخرة. وهي الكرة الثانية، لأنه حقيق على من عرف النشأة
الأولى ألا ينكر النشأة الأخرى، لان الذي قدر على الأولى، فهو على الثانية
أقدر، كما أن من بنى دارا ابتداء، فهو على اعادتها أقدر.
وأصل اللقاء التقاء الحدين. ثم يحمل على الادراك، فيقال لما أدركه:
لقيه، فهؤلاء، كذبوا بادراك الآخرة استبعادا لكونها.
وقوله " حبطت أعمالهم " إخبار من الله تعالى أن من كذب بآياته
وجحد البعث والنشور تنحبط أعماله، لأنها تقع على خلاف الوجه الذي
يستحق بها المدح والثواب فيصير وجودها وعدمها سواء، والحبوط سقوط
العمل حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل.
وأصل الاحباط الفساد مشتق من الحبط، وهو داء يأخذ البعير في
بطنه من فساد الكلأ عليه، يقال: حبطت الإبل تحبط: إذا أصابها ذلك،
وإذا عمل الانسان عملا على خلاف الوجه الذي أمر به يقال: أحبطه،
بمنزلة من يعمل شيئا ثم يفسده.
وقوله " هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " أي به، وصورته صورة
الاستفهام والمراد به الانكار والتوبيخ، والمعنى ليس يجزون إلا ما كانوا
يعملون إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.
543

قوله تعالى:
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار
ألم يروا انه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا
ظالمين (147) أية بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي " من حليهم " - بكسر الحاء واللام - الباقون
بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء، وقرأ يعقوب بفتح الحاء، وسكون
اللام، وتخفيف الياء، فوجه قراءة يعقوب أن (الحلي) اسم جنس يقع على
القليل والكثير. ومن قرأ بضم الحاء، فلانه جمع (حلي) نحو ثدي
وثدي، وإنما جمعه لأنه أضافه إلى جمع.
ومن قرأ بكسر الحاء أتبع الكسرة الكسرة، وكره الخروج من الضمة
إلى الكسرة، واجراه مجرى (قسي) جمع (قوس).
أخبر الله تعالى عن قوم موسى أنهم اتخذوا من بعد مفارقة موسى لهم
ومضيه إلى ميقات ربه من حليهم، ومعنى الاتخاذ الاعداد، وهو (افتعال)
من الاخذ وأصله يتخذ إلا أن الياء تقلب في (إفتعل) وتدغم لأنها في موضع
ثقيل في كلمة واحدة، ولا يجوز في مثل (أحسن نوما) الادغام، والاتخاذ
اجتباء الشئ لامر من الأمور، فهؤلاء اتخذوا العجل للعبادة، والحلي ما أتخذ
للزينة من الذهب والفضة، يقال: حلي بعيني يحلا، وحلا في فمي يحلو
حلاوة، وحليت الرجل تحلية إذا وضعته بما يرى منه. وقد تحلى بكذا أي
تحسن به، والعجل ولد البقرة القريب العهد بالولادة، وهو العجول أيضا،
وإنما أخذ من تعجيل أمره لصغره.
وقيل: إنهم عملوا العجل من الذهب، وقوله " جسدا له خوار "
فالجسد جسم الحيوان مثل البدن، وهو روح وجسد، والروح ما لطف،
544

والجسد ما غلظ، والجسم يقع على جسد الحيوان وغيره من الجمادات،
والخوار صوت الثور، وهو صوت غليظ كالجؤار، وبناء (فعال) يدل على
الآفة نحو الصراخ، والعوار والسكات والعطاش والنباح. وفي كيفية خوار
العجل مع أنه مصوغ من الذهب خلاف، فقال الحسن: قبض السامري قبضة
من تراب من أثر فرس جبرائيل (ع) يوم قطع البحر فقذف ذلك التراب في
فم العجل، فتحول لحما ودما، وكان ذلك معتادا غير خارق للعادة، وجاز أن
يفعل الله لمجرى العادة. وقال الجبائي والبلخي: إنما احتال بادخال الريح
فيه حتى سمع له كالخوار، كما قد يحتال قوم اليوم كذلك.
ثم أخبر تعالى فقال " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا " على
وجه الانكار عليهم والتعجب من جهلهم وبعد تصورهم، فقال: كيف يعبدون
هذا العجل، وهم يشاهدونه، ولا يكلمهم ولا يتأتى منه ذلك، ولا يهديهم
إلى سبيل خير. ثم قال " اتخذوه " إلها " وكانوا ظالمين " في اتخاذهم له إلها
واضعين للعبادة في غير موضعها.
والحلي الذي صاغ السامري منه العجل كانوا أصابوه من حلي آل فرعون
قذفه البحر، فقال السامري ل‍ (هارون): إن هذا حرام كله وينبغي أن نحرقه
كله أو نصرفه في وجه المصلحة، فأمر هارون بجمع ذلك كله، وأخذه السامري
لأنه كان مطاعا فيهم، فصاغه عجلا وكان صائغا، وطرحه في النار وطرح
معه التراب الذي معه.
قوله تعالى:
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا
ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين (148) آية.
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما " لئن لم ترحمنا " بالتاء " ربنا " بالنصب
على النداء. الباقون بالياء " ربنا " بالرفع على الخبر.
545

ومعنى قوله " سقط في أيديهم " وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان
من يده فيه، يقال: ذلك للنادم عندما يجده مما كان خفي عليه، ويقال أيضا:
سقط في يديه أي صار الذي كان يضربه في يديه.
ومعنى قوله " ورأوا " علموا " أنهم قد ضلوا " وتبينوا بطلان ما كانوا
عليه من عبادة العجل والكفر والضلال، لان ما تعلق به الرؤية، لا يجوز أن
يكون مدركا بالبصر، وهو معنى الجملة، وإنما يصح أن يعلم وأن يدخل
على الجملة، وهي في تقدير المفرد، ومتى ظهر فساد الاعتقاد، فلا بد أن يندم
صاحبه عليه، لأنه لا معنى للإقامة عليه مع توافر الدواعي إلى خلافه، كما أنه
لا معنى أن يكذب على نفسه مع علمه بكذبه، غير أنه مع ظهور الضلالة لهم
لم يكونوا ملجئين إلى الندم، لان الالجاء يقع إما بالعلم بالمنع أو تخوف من
المضرة العاجلة أو النفع العظيم العاجل الذي مثله يلجئ، ولم يكن القوم على
واحد من الامرين، لأنهم كانوا مكلفين للندم.
وفي الآية دلالة على بطلان قول من يقول لا محجوج الا عارف، لان الله
وصفهم بأنهم سقط في أيديهم عندما رأوا من ضلالهم، فدل على أنهم كانوا
محجوجين في ترك الضلال الذي إن لم يغفر لهم هلكوا.
وقوله " لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا " أخبار عما قال القوم حين تبينوا
ضلالهم وسقط في أيديهم والتجائهم إلى الله واعترافهم بأنه ان لم يغفر لهم
ربهم ويتغمدهم بمغفرته يكونوا من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم
بما يستحقونه من العقاب الدائم.
وقال الحسن: كلهم عبدوا العجل إلا هارون بدلالة قول موسى " رب
اغفر لي ولأخي " (1) ولو كان هناك مؤمن غيرهما لدعا له، وقال الجبائي:
إنما عبد بعضهم بدلالة ما ورد من الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله فيما روي عنه
في هذا المعنى.

(1) آية 150 من سورة الأعراف.
546

قوله تعالى:
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني
من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس
أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا
يقتلوني فلا تشمت بي الاعداء ولا تجعلني مع القوم
الظالمين (149) آية بلا خلاف.
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر " ابن أم " بكسر الميم.
الباقون بالفتح والقراء كلهم على " تشمت " بضم التاء. وقرأ حميد الأعرج،
ومجاهد " لا تشمت " بفتح التاء. واللغة الفصيحة بضم التاء من (أشمت)
وقد ذكر: شمت يشمت، وأشمت يشمت.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن موسى حين رجع من مناجاة ربه رجع
غضبان آسفا، لما رأى من عكوف قومه على عبادة العجل. والغضب معنى
يدعو إلى الانتقام على ما سلف وهو يضاد الرضا، يقال: غضب غضبا وأغضبه
إغضابا وغاضبه مغاضبة وتغضب تغضبا، والأسف الغضب الذي فيه تأسف
على فوت ما سلف. وقال ابن عباس: أسفا يعني حزينا، وقال أبو الدرداء:
معناه شديد الغضب بدلالة قوله تعالى " فلما آسفونا انتقمنا " (1) ومعناه
أغضبونا كغضب المتحسر في الشدة، وهو مجاز في الصفة.
وقوله تعالى " بئس ما خلفتموني من بعدي " معناه بئس ما عملتم خلفي،
يقال: خلفه بما يكره وخلفه بما يحب إذا عمل خلفه ذلك العمل يقال: خلف
خلفا، وأخلف إخلافا، وخالفه مخالفة، واختلف اختلافا، واستخلف استخلافا

(1) سورة 43 الزخرف آية 55.
547

وتخلف تخلفا، وخلف تخليفا، وتخالفا تخالفا.
وقوله " أعجلتم أمر ربكم " قال الجبائي معناه أعجلتم منه ما وعدكم
من ثوابه ورحمته، فلما لم تروه فعل بكم ذلك كفرتم، واستبدلتم به عبادة
العجل، والعجلة التقدم بالشئ، قبل وقته، والسرعة عمله في أول وقته،
ولذلك صارت العجلة مذمومة، والسرعة محمودة ويقال: عجلته أي سبقته
وأعجلته استحثثته.
وقوله " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " قيل في معناه قولان:
أحدهما - قال الجبائي: إنما هو كقبض الرجل منا على لحيته وعضه
على شفته أو إبهامه، فأجرى موسى هارون مجرى نفسه، فقبض على لحيته،
كما يقبض على لحية نفسه اختصاصا. وقال أبو بكر بن الاخشيد: إن هذا
أمر يتغير بالعادة ويجوز أن تكون العادة في ذلك الوقت أنه إذا أراد الانسان
أن يعاتب غيره لا على وجه الهوان أخذ بلحيته وجره إليه ثم تغيرت العادة
الان وقال: إنما أخذ برأسه ليسر إليه شيئا أراده. وقال " يا بن أم " حكاية عما
قال هارون لموسى حين أخذ برأسه خوفا من أن يدخل الشبهة على جهال قومه،
فيظنون أن موسى فعل ذلك على وجه الاستخفاف به والانكار عليه " يا بن أم
إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ".
ومن فتح ميم (أم) تحتمل قراءته أمرين:
أحدهما - أنه بني لكثرة اصطحاب هذين حتى صار بمنزلة اسم واحد
مع قوة النداء على التغيير نحو خمسة عشر.
الثاني - أنه على حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة، كما قال الشاعر:
يا بنية عما لا تلومي واهجعي (1)
والقياس يا بن أمي، ومن كسر الميم إضافة إلى نفسه بعد أن جعله اسما
واحدا، ومن العرب من يثبت الياء كما قال الشاعر:

(1) سيأتي في 5: 561 من هذا الكتاب وهو في اللسان (عم).
548

يا بن أمي ويا شقيق نفسي * أنت خليتني لدهر شديد (2)
وقال الآخر:
يا بن أمي ولو شهدتك إذ * تدعو تميما وأنت غير مجاب (3)
وقال الحسن: كان أخاه لأبيه وأمه، والعرب تقول ذلك على وجه
الاستعطاف بالرحم.
وقوله " فلا تشمت بي الاعداء " فالشماتة سرور العدو بسوء العاقبة
تقول: شمت به شماتة وأشمته إشماتا إذا عرضته لتلك الحال.
وقوله " وألقى الألواح " يعني رماها. وقال مجاهد: كانت من زمرد
أخضر. وقال سعيد بن جبير: كانت من ياقوت أحمر، وقال أبو العالية:
كانت من زبر جد، وقال الحسن: كانت من خشب.
وقوله " ولا تجعلني مع القوم الظالمين " سؤال من هارون لموسى ألا
يشمت به عدوه ولا يجعله في جملة القوم الظالمين لبراءة ساحته مما فعل قومه،
فلما ظهر لموسى براءة ساحة هارون بأن له عذرا، عذره في المقام بينهم من
خوفه على نفسه قال عند ذلك " رب اغفر لي ولأخي ".
قوله تعالى:
قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا لي رحمتك وأنت أرحم
الراحمين (150) آية بلا خلاف.
في هذه الآية حكاية عن دعاء موسى (ع) ربه عز وجل - حين تبين له

(2) قائله أبو زبيد آمالي الزبيدي 9 وجمهر اشعار العرب 139 واللسان
(شقق) وتفسير الطبري 13 / 129 وقد روي (كنود) بدل (شديد).
(3) قائله غلفاء ابن الحارث، وهو معد يكرب بن الحارث بن عمرو بن
حجر آكل المرارة الكندي وهو عم امرئ القيس، وسمي (غلفاء) لأنه كان
يغلف رأسه بالمسك. أنظر الأغاني 12 / 213 وتفسير الطبري 13 / 130.
549

ما نبهه عليه هارون من خوف التهمة، ودخول الشبهة عليهم بجره رأسه
إليه - بأن يغفر له ولأخيه، وأن يدخلهما رحمته، والمقتضي لهذا الدعاء
بالمغفرة قيل فيه قولان:
أحدهما - ما أظهره من الموجدة على هارون وهو برئ مما يوجب
العتب عليه، لأنه لم يكن منه تقصير في الانكار على من عبد العجل، لأنه بلغ
معهم من الانكار إلى أن هموا بقتله لشدة إنكاره، ولذلك قال " إن القوم
استضعفوني وكادوا يقتلونني ".
والثاني - قال أبو علي: إنه بين بذلك لبني إسرائيل أنه لم يأخذ برأسه
على جهة الغضب عليه، وإنما فعل ذلك كما يفعله الانسان بنفسه عند شدة
غضبه على غيره، ولم يكن منه في تلك الحال معصية.
وكان هذا الدعاء من موسى انقطاعا منه إلى الله تعالى، وتقربا إليه لا أنه
كان وقع منه أو من أخيه قبيح صغير أو كبير يحتاج أن يستغفر منه، ومن
قال: إنه استغفر من صغيرة كانت منه أو من أخيه، فقد أخطأ. ويقال له:
الصغيرة على مذهبكم تقع مكفرة محبطة، فلا معنى لسؤال المغفرة لها. وقد
بينا في غير موضع أن الأنبياء (ع) لا يجوز عليهم شئ من القبائح لا كبيرها ولا
صغيرها لان ذلك يؤدي إلى التنفير عن قبول قولهم، والأنبياء منزهون عما
ينفر عنهم على كل حال.
وقوله " وأنت أرحم الراحمين " اعتراف من موسى بأن الله تعالى أرحم
الراحمين واعترافه بذلك دليل على قوة طمعه في نجاح طلبته، ولان من هو
أرحم الراحمين يؤمل الرحمة من جهته ومن هو أجود الأجودين يؤمل الجود
من قبله.
قوله تعالى:
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في
الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين (151) آية بلا خلاف
550

في هذه الآية حذف، وتقديره إن الذين اتخذوا العجل إلها ومعبودا
سينالهم غضب، فحذف لدلالة الكلام عليه، وقوله في موضع آخر " فأخرج
لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي " (1).
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الذين اتخذوا العجل إلها وعبدوه من
دون الله سينالهم غضب، ومعناه فسيلحقهم، والنول اللحوق وأصله مد اليد
إلى الشئ الذي يبلغه، ومنه قولهم: نولك أن تفعل كذا أي ينبغي أن تفعله
فإنه يلحقك خيره ونواله. وتقول: ناوله مناولة، وتناول تناولا، وأناله إنالة.
وقوله " غضب من ربهم " يعني عقاب من الله تعالى وإنما ذكر الغضب
مع الوعيد بالنار لأنه أبلغ في الزجر عن القبيح، كما أن إرادة الحسنة في الدعاء
إليها والترغيب فيها أبلغ من الاقتصار على الوعد بها.
وقوله " وذلة في الحياة الدنيا " بمعنى صغر النفس والإهانة، يقال:
ذل يذل ذلة، أذله إذلالا، وتذلل تذللا، وذلله تذليلا، واستذله استذلالا.
وقيل المراد به ما يؤخذ منهم من الجزية على وجه الصغار.
وقوله " وكذلك نجزي المفترين " إخبار منه تعالى أنه مثل هذا الوعيد
والعذاب والغضب يجزي الكاذبين والمتخرصين عليه، وإنما كان عبادة غير
الله كفرا لأنه تضييع لحق نعمة الله كتضييعه بالجحد للنعمة في عظم المنزلة،
وذلك لما ينطوي عليه من تسوية من أنعم بأجل النعمة بمن لم ينعم، وفى ذلك
إبطال لحق النعمة.
قوله تعالى:
والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك
من بعدها لغفور رحيم (152) آية بلا خلاف.
لما توعد الله تعالى الذين عبدوا مع الله غيره وعطف على وعيدهم توعيد

(1) سورة 20 طه آية 88.
551

المفترين عليه والمتخرصين في دينه ما لم يأمر الله به، عطف على ذلك، فقال
" والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا " وهي جمع سيئة وهي
الخصلة التي تسوء صاحبها عاقبتها، وهي نقيض الحسنة، كما أن الإساءة
نقيض الاحسان " ثم تابوا من بعدها وآمنوا " يعني رجعوا إلى الله تعالى بعد
فعلهم السيئة وندموا عليها وعزموا على أن لا يعودوا إلى مثلها في القبح،
وآمنوا بما أوجب الله عليهم أجمع " إن ربك " يا محمد " من بعدها " يعني
من بعد السيئة " لغفور رحيم " يعني يغفرها لهم ويسترها عليهم، لرحمته
بعباده.
وقد بينا فيما مضى أن التوبة التي أجمعوا على سقوط العقاب عندها هي
الندم على القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، وفي غيرها
خلاف، يقال: تاب يتوب توبة و (تاب الله عليه) بمعنى وفقه المتوبة على
الدعاء له، و (تاب عليه) أيضا: بمعنى قبل توبته، والتوبة طاعة يستحق
بها الثواب بلا خلاف ويسقط العقاب عندها بلا خلاف، إلا أن عندنا يسقط
ذلك تفضلا من الله تعالى بورود السمع بذلك وعند المعتزلة العقل يوجب ذلك.
فإن قيل كيف قال " تابوا من بعدها وآمنوا " والتوبة هي إيمان؟
قلنا عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها - تابوا من بعد المعصية وآمنوا بتلك التوبة.
الثاني - استأنفوا عمل الايمان.
الثالث - آمنوا بأن الله قابل التوبة. وقيل: إن الآية نزلت فيمن تاب
من الذين كانوا عبدوا العجل، فإنهم تابوا وندموا، وأكثرهم تعبدهم الله
بأن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضا، واستسلموا لذلك، فقتل في يوم واحد
سبعون ألفا ثم رفع عنهم ذلك وقبل توبتهم.
قوله تعالى:
ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها
552

هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون (153) آية بلا خلاف.
معنى قوله " ولما سكت " سكن، وسمي ذلك سكوتا وإن كان الغضب
لا يتكلم، لأنه لما كان بفورته دالا على ما في النفس من المغضوب عليه كان
بمنزلة الناطق بذلك، فإذا سكنت تلك الفورة كان بمنزلة الساكت عما كان
متكلما به والسكوت في هذا الموضع أحسن من السكون، لتضمنه معنى
سكوته عن المعاتبة لأخيه، مع سكون غضبه. والسكوت هو الامساك عن
الكلام بهيئة منافية لسببه، وهو تسكين آلة الكلام.
وإنما قيل: سكت الغضب وسكت الحزن على طريق المجاز إلا أنه في
شئ يظهر أثره، فيكون بمنزلة الناطق به، قال أبو النجم:
وهمت الأفعى بأن تسيحا * وسكت المكاء أن يصيحا (1)
فإن قيل: كيف جاز أن يستفزه غضب الحمية عن غضب الحكمة؟
قلنا: ليس كذلك، ولكن غضب الحكمة صحبه غضب الحمية لما توجبه
الحكمة. وسكون الغضب عن موسى (ع) لا يدل على أن قومه كانوا تابوا
من عبادة العجل، لأنه يحتمل أن تكون زالت فورة الغضب ولم يزل الغضب،
لأنه لم يخلص توبتهم بعد.
ويحتمل أن يكون زال غضبه لتوبتهم من كفرهم، وإذا احتمل الأمران
لم يحكم بأحدهما إلا بدليل.
وقوله تعالى " أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم
يرهبون " معناه أنه لما سكن غضبه رجع فأخذ الألواح التي كان ألقاها، وكان
الألواح مكتوبا فيها ما هو هدى وحجة وبيان ورحمة للذين هم لربهم يرهبون
بمعنى يخافون عقابه، ويجوز أن يقال: لربهم يرهبون، ولا يجوز يرهبون
لربهم، لأنه إذا تقدم المفعول ضعف عمل الفعل فيه فصار بمنزلة ما لا يتعدى
في دخول اللام عليه تقدم أو تأخر، كما قال تعالى " ردف لكم " (2).

(1) تفسير الطبري 13 / 138.
(2) سورة 27 النمل آية 72.
553

وفي الآية دلالة على أنه يجوز إلقاء التوراة للغضب الذي يظهر بالقائها
ثم أخذها، للحكمة التي فيها من غير أن يكون إلقاؤها رغبة عنها.
قوله تعالى:
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم
الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا
بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء
وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير
الغافرين (154) آية بلا خلاف.
الاختيار هو إرادة ما هو خير يقال: خيره بين أمرين فاختار أحدهما:
والاختيار والايثار بمعنى واحد.
أخبر الله تعالى أن موسى (ع) اختار من قومه سبعين رجلا وحذف
(من) لدلالة الفعل عليه مع ايجاز اللفظ قال الشاعر:
ومنا الذي اختير الرجال سماحة * وجودا إذا هب الرياح والزعازع (3)
وقال غيلان:
وأنت الذي اخترت المذاهب كلها * بوهبين إذ ردت علي الأباعر
وقال آخر:
فقلت له اخترها قلوصا سمينة * ونابا عليها مثل نابك في الحيا (4)
يريد أختر منها، وقال العجاج:

(3) قائله الفرزدق. ديوانه: 516 والنقائض 696 وسيبويه 1 / 18
واللسان (خير) وتفسير الطبري 13 / 155 والكامل للمبرد 1 / 21.
(4) قائله الراعي النميري. طبقات فحول الشعراء: 450 ومعاني القرآن
1 / 395 وشرح الحماسة 4 / 37 وتفسير الطبري 13 / 146.
554

تحت الذي اختار له الله الشجر (5)
وإنما اختار اخراجهم للميقات. والميقات المذكور - ههنا - هو الميقات
المذكور أولا، لأنه في سؤال الرؤية، وقد ذكر أولا ودل عليه ثانيا. وقيل
هو غيره، لأنه كان في التوبة من عبادة العجل.
وقوله " فلما أخذتهم الرجفة " قيل في السبب الذي، لأجله أخذتهم
الرجفة قولان:
أحدهما - لأنهم سألوا الرؤية في قول ابن إسحاق.
الثاني - قال ابن عباس: لأنهم لم ينهوا عن عبادة العجل. وقد بينا
معنى الرجفة فيما مضى، وأنها الزلزلة العظيمة والحركة الشديدة.
وقوله " قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي " حكاية عما قال
موسى لله تعالى، وأنه ناداه، وقال يا رب لو شئت أهلكتني وإياهم من قبل
هذا الموقف.
وقوله " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " معناه النفي، وإن كان بصورة
الانكار كما تقول (أتشتمني وأسكت عنك) أي لا يكون ذلك، والمعنى
إنك لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، فبهذا نسألك رفع المحنة بالاهلاك عنا.
وقوله " إن هي الا فتنتك " معناه إن الرجفة إلا اختبارك وابتلاؤك
ومحنتك أي تشديدك تشديد التبعد علينا بالصبر على ما أنزلته بنا من هذه
الرجفة والصاعقة اللتين جعلتهما عقابا لمن سأل الرؤية وزجرا لهم ولغيرهم،
ومثله قوله " أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين " (1) يعني بذلك
الأمراض والاسقام التي شدد الله بها التعبد على عباده، فسمى ذلك فتنة من
حيث يشدد الصبر عليها، ومثله " ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا

(5) ديوانه: 15 ومجاز القرآن 1 / 229 ومعاني القرآن 1 / 395 واللسان
(خير) وتفسير الطبري 13 / 147.
(1) سورة 9 التوبة آية 127.
555

آمنا وهم لا يفتنون " (2) ومعناه لا ينالهم شدائد الدنيا والأمراض وغيرها،
ويحتمل أن يكون المراد بذلك ان هي الا عذابك وقد سمى الله تعالى العذاب فتنة
في قوله " يوم هم على النار يفتنون " (3) أي يعذبون، فكأنه قال ليس هذا
الاهلاك إلا عذابك لهم بما فعلوه من الكفر وعبادة العجل، وسؤالهم الرؤية،
وغير ذلك.
والسبعون الذين كانوا معه وإن لم يعبدوا العجل، فقد كانوا سألوا
موسى أن يسأل الله تعالى ان يريه نفسه، ليخبروا بذلك أمته ويشهدوا له بأن
الله كلمه، فإن بني إسرائيل قالوا لموسى: لا نصدقك على قولك إن الله كلمك
من الشجرة، فاختار السبعين حتى سمعوا كلام الله، وشهدوا له بذلك عند
قومه، فسألوا أن يسأل الله الرؤية أيضا ليشهدوا له، فلذلك استحقوا الاهلاك
ولم يثبت أن السبعين كانوا معصومين، ولا أنهم كانوا أنبياء، فينتفى عنهم ذلك.
وقيل المراد بقوله " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " أي أتميتنا بالرجفة
التي تميتهم بها، وإن لم يكن ذلك عقوبة لنا. والهلاك الموت، لقوله " إن
أمرؤ هلك " (4) والفتنة الكشف والاختبار، قال المسيب بن علس:
إذ تستبيك بأصلتي ناعم * قامت لتفتنه بغير قناع
أي لتكشفه وتبرزه. وقوله " تضل بها من تشاء " معناه تضل بترك
الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك. ودخول جنتك،
وتهدي بالرضا بها والصبر عليها من تشاء، وإنما نسب الضلال إلى الله لأنهم
ضلوا عند أمره وامتحانه، كما أضيفت زيادة الرجس إلى السورة في قوله
" فزادتهم رجسا إلى رجسهم " (5) وإن كانوا هم الذين ازدادوا عندها.
والمعنى تختبر بالمحنة من تشاء لينتقل صاحبه عن الضلالة، وتهدي من تشاء

(2) سورة العنكبوت آية 1 - 2
(3) سورة 51 الذاريات آية 13 (4) سورة 4 النساء آية 175.
(5) سورة 9 التوبة 126.
556

معناه تبصره بدلالة المحنة ليثبت صاحبها على الهداية من تشاء.
وقوله " أنت ولينا ". معناه أنت ناصرنا وأولى بنا " فاغفر لنا " سؤال
منه المغفرة له ولقومه. وقوله " وارحمنا وأنت خير الغافرين " إخبار من
موسى بأن الله خير الساترين على عباده والمتجاوزين لهم عن جرمهم.
قوله تعالى:
واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا
إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ
فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم
بآياتنا يؤمنون (155) آية بلا خلاف.
هذا تمام الاخبار عما قال موسى وقومه الذين كانوا معه، وأنهم سألوا
الله تعالى المغفرة وأن يكتب لهم في هذه الدنيا حسنة وهي النعمة، وإنما سميت
النعمة حسنة وإن كانت الحسنة اسم الطاعة لله لامرين:
أحدهما أن النعمة تتقبلها النفس كما يتقبل العقل الحسنة التي هي الطاعة.
والاخر - أن النعمة ثمرة الطاعة لله عز وجل، وإنما سألوا أن يكتب
لهم، ولم يسألوا أن يجعل لهم، لان ما كتب من النعمة أثبت لا سيما إذا
كانت الكتابة خبرا بدوام النعمة، ويقال كتب له الرزق في الديوان، فيدل
على ثبوته على مرور الأزمان. " وفي الآخرة " معناه واكتب لنا في الآخرة
أيضا النعمة التي هي الثواب " إنا هدنا إليك " قال ابن عباس معناه تبنا إليك،
وبه قال سعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة ومجاهد. وأصله الرجوع من هاد
يهود، فهو هايد إذا رجع، فمعناه رجعنا بتوبتنا إليك، والتهويد الترفق في
السير والتفريج والتمكث. وقال أبو وجرة: - هدنا - بكسر الهاء من هاد
يهيد، وهو شاذ، وثوب مهود أي مرقع ذكره الجبائي، وليس اليهود
557

مشتقا منه، بل إنما قيل يهودي، لأنه نسب إلى يهوذا، لكن العرب غيرته
في النسب.
وقوله " قال عذابي أصيب به من أشاء " حكاية عما أجابهم الله به من
أن عذابه يصيب به من يشاؤه ممن استحقه بعصيانه. وقيل: إنما علقه بالمشيئة
ولم يعلقه بالمعصية لامرين:
أحدهما - الاشعار بأن وقوعه بالمشيئة له، دون المعصية.
الثاني - انه لا يشأ ذلك إلا على المعصية، فأيهما ذكر دل على الاخر
وعندنا أنه علقه بالمشيئة، لأنه كان يجوز الغفران عقلا بلا توبة.
وقوله " ورحمتي وسعت كل شئ " معناه إني أقدر أن أنعم على كل
شئ يصح الانعام عليه، وقيل: المعنى إنها تسع كل شئ إن دخلوها، فلو
دخل الجميع فيها لو سمعتهم الا أن فيهم من يمتنع منها بالضلال بأن لا يدخل
معه فيها، وقال ابن عباس: وهي خاصة في المؤمنين، وقال الحسن وقتادة
هي عامة للبر والفاجر - في الدنيا - خاصة. وفي الآخرة للبر.
وقوله " فسأكتبها للذين يتقون " معناه إن الرحمة في الآخرة مكتوبة
للذين يتقون معاصيه ويحذرون عقابه " ويؤتون الزكاة " قيل في معناه
- ههنا - قولان:
أحدهما - يخرجون زكاة أموالهم، فذكره، لأنه من أشق فرائضهم.
الثاني - يطيعون الله ورسوله في قول ابن عباس والحسن ذهبا إلى ما
يزكي النفس ويطهرها من الاعمال، والذين هم بآياتنا يؤمنون يعني أكتبها
للذين يصدقون بآيات الله وحججه وبيناته، وليس إذا كتب الرحمة للذين
يتقون منع أن يغفر للعصاة والفساق بلا توبة، لان الذي تفيده الآية القطع
على وصول الرحمة إلى المتقين، والفساق ليس ذلك بمقطوع لهم وإن كان
مجوزا.
558

قوله تعالى:
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا
عندهم في التورية والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن
المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع
عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به
وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم
المفلحون (156) آية بلا خلاف.
قرأ " إصارهم " ابن عامر وحده على الجميع. الباقون " إصرهم "
على التوحيد. ومن وحد فلان (الإصر) مصدر يقع على الكثير والقليل
بدلالة قوله تعالى " أصرهم " فأضافه إلى الكثرة. وقال " لا تحمل علينا
إصرا " (1) ومن جمع أراد ضروبا من الماصر مختلفة، فلذلك جمع.
قوله " الذين " في موضع جر، لأنه صفة ل‍ (الذين) في الآية الأولى
بعد صفة في قوله " فسأكتبها للذين يتقون " فذكر أن من تمام صفاتهم اتباعهم
للرسول " النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل "
يعني محمدا (صلى الله عليه وآله).
و (الأمي) الذي لا يكتب. وقيل: إنه منسوب إلى الأمة. والمعنى
أنه على جبلة الأمة قبل استفادة الكتابة. وقيل: إنه منسوب إلى الام،
ومعناه أنه على ما ولدته أمه قبل تعلم الكتابة. وعن أبي جعفر الباقر (ع) أنه
منسوب إلى مكة، وهي أم القرى. وقيل: إنه نسب إلى العرب، لأنها لم
تكن تحسن الكتابة.
ومعنى " يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " أنهم يجدون

(1) سورة 2 البقرة آية 286.
559

نعته وصفته، ولأنه مكتوب في التوراة (أتانا الله من سينا وأشرف من ساعير،
واستعلن من جبال فاران) وفيها سأقيم لهم نبيا من إخوتهم مثلك واجعل
كلامي في فمه فيقول لهم كلما أوصيه به) وفيها، (وأما ابن الأمة فقد باركت
عليه جدا جدا وسيلد اثني عشر عظيما وأؤخره لامه عظيمة).
وفي الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع منها (يعطيكم فارقليط آخر
يكون معكم آخر الدهر كله) وفيها أنه (إذا جاء فند أهل العلم) وفيها
(أنه يدبركم بجميع الخلق، ويخبركم بالأمور المزمعة ويمدحني ويشهد لي).
وقوله تعالى " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر " صفة للنبي صلى الله عليه وآله
الأمي، وهو في موضع الحال، وتقديره آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر،
وسمي الحق (معروفا) والباطل (منكرا) لان الحق يعرف صحته العقل إذ
الاعتماد في المعرفة على الصحة، وينكر الباطل بمعنى ينكر صحته.
وقوله " ويحل لهم الطيبات " معناه يبيح لهم المستلذات الحسنة التي
كانت حراما عليهم، ويحرم عليهم الخبائث يعني القبائح، وما يعافي الأنفس.
وقوله " ويضع عنهم إصرهم " يعني الثقل بأمور محرمة وفي تكليفها
مشقة، كتحريم العروق والغدد وتحريم السبت، وكانت كالأغلال في أعناقهم،
كما يقولون هذا طوق في عنقك. وقيل: ما امتحن به بنو إسرائيل من قبل
نفوسهم، وقرض ما يصيبه البول من أجسادهم والتزام للمكاره في كل شئ
يخالفون الله فيه.
وقوله " فالذين آمنوا به " يعني صدقوا بهذا النبي " وعزروه " يعني
عظموه بمنعهم كل من أراد كيده، وأصله المنع، ومنه تعزير الجاني وهو
منعه بتأديبه من العود، وقال قوم: عزرته معناه رددته، وقال آخرون: معناه
أعنته. وقال بعضهم معناه نصرته. وقال آخرون: منعته ونصرته.
وقوله " واتبعوا النور الذي أنزل معه " يعني القرآن سماه نورا لأنه
يهتدى به كما يهتدى بالنور. وأخبر عنهم بأن من فعل ما قلناه فأولئك هم
المفلحون الفائزون بثواب ربهم
560