الكتاب: الحاشية على الكشاف
المؤلف: الشريف الجرجاني
الجزء:
الوفاة: ٥٣١
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٥ - ١٩٦٦ م
المطبعة:
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ، عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاهم - خلفاء
ردمك:
ملاحظات:

الحاشية على كتاب الكشاف
السيد الشريف علي بن محمد بن علي السيد زين الدين أبى الحسن الحسيني الجرجاني
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاهم - خلفاء
1

الطبعة الأخيرة
1385 ه‍ = 1966 م
حقوق الطبع محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم
قال جار الله العلامة، أحسن الله إكرامه في دار المقامة: " الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما)
دل بلامي الجنس والملك على اختصاص الحمد به تعالى، ثم وصفه بإنزال القرآن وتنزيله، وما أردفهما به رعاية
لبراعة الاستهلال، وتنبيها على أنه نعمة جزيلة تستحق أن يحمد عليها، وذكر للقرآن أو صافا كمالية تناسب إعجازه
الذي سيصرح به، ويشد من أعضاد كونه نعمة محمودا عليها ولما كانت هذه الصفات تدل على حدوثه كما
هو مذهبه، وكان معتنيا بإظهاره ومفتخرا به، أشار إليه بجملة اعتراضية، ونبه أن الحدوث إنما لزمه لتنزه ذاته
سبحانه عن الشركة في صفة القدم لا لنقصان فيه، وهذه جمل من مقاصده سترد عليك تفاصيلها وبالله التوفيق.
(قوله أنزل) يروى أنه وقع في أم النسخ خلق مكان أنزل ثم غيره المصنف، فإن صح ذلك فالتغيير لفوائد:
الأولى: أن الخلق إذا نسب إلى ما هو جنس القول فقد يراد به معنى الاختلاق، يقال خلق هذا الكلام واختلقه:
أي افتراه، فلا يحسن استعماله في هذا المقام وإن أريد به معنى آخر. الثانية: أن كون القرآن حادثا أمر شنيع عند
الخصم، فأراد أن يكتمه أولا ثم أن يظهره بعد سوق مقدمات مسلمة عنده ومستلزمة للحدوث في نفس الأمر،
فإن ذلك أقوى في استدراجه إلى التسليم من حيث لا يشعر به. الثالثة: الاحتراز عن التكرار، إذ قد حكم فيما بعد
بحدوثه. الرابعة: أن الإنزال أدخل في كون القرآن نعمة علينا وأقرب إلينا لتأخره عن الخلق. الخامسة: أن الحمد
على إنزاله وارد فيه دون الحمد على خلقه. السادسة: أن " أنزل " أحسن التئاما مع نزل لما بينهما من الصنعة الاشتقاقية.
السابعة: أن في الجمع بين الإنزال والتنزيل إشارة إلى كيفية النزول على ما روى من أن القرآن أنزل جملة من اللوح
المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأمر السفرة الكرام بانتساخه، ثم نزل إلى الأرض نجوما في ثلاث وعشرين سنة، وذلك
3

أن الإنزال وإن كان مطلقا لكنه إذا قوبل بالتنزيل الدال هاهنا على التدريج فيما بين أجزاء القرآن، إما لدلالته على
التكثير، وإما لما قيد به من التنجيم تبادر منه الإنزال دفعة.
فإن قلت: الموصوف بالحركة حقيقة هو المتحيز بالذات من الجواهر الأفراد وما يتركب منها دون الأعراض،
فإنه يمتنع فيها ذلك سواء كانت أجزاؤها مجتمعة كاللون أن سيالة كالصوت الذي هو جنس الكلام، فكيف
يتصور إنزال القرآن وتنزيله مع أنهما تحريك من علو إلى أسفل.
قلت: ذلك مبنى على متعارف أهل اللغة، حيث يصفون الكلام بما يوصف به مبلغه فيقولون: نزل إلينا من
القصر حكم الأمير، وكلامه على سبيل الإسناد المجازى، وصاحب الكشف جعل وصفه بالتنزيل من هذا القبيل،
وحمل الإنزال على إظهاره في اللوح المحفوظ، زاعما أن للقرآن حركة معنوية وهى الظهور بعد الكمون لازمانا بل
ذاتا، وأن تلك الحركة من الأعلى رتبة وشرفا، لأن علو مرتبة واجب الوجود تعالى والقلم الأعلى على اللوح لا يخفى،
وتفسيره كلامه على ما نقل عنه: أن القرآن كان كامنا في العلم الإلهي ثم أضهره الله تعالى بواسطة القلم الذي هو العقل
الأول في اللوح المحفوظ الذي هو نفس الكل، وهذا الظهور ليس بزماني لأن الزمان مقدار حركة الفلك الأعظم
وهو متأخر عما ذكر بمراتب. ويرد عليه أنه مبنى على قواعد الفلسفة، وأن كونه في علم الله لابد أن يكون أزليا،
فإذا لم يتأخر الظهور في اللوح عن الكمون زمانا بل ذاتا كان أزليا، إذ لو كان حادثا لكان متأخرا زمانا اتفاقا،
فيلزم قدم اللوح والقلم وذلك باطل قطعا. والقرآن في اللغة مصدر بمعنى الجمع، يقال قرأت الشئ قرآنا: أي
جمعته وبمعنى القراءة يقال: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا، ثم نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وآله
، المنقول عنه تواترا فيما بين الدفتين وهو المراد ههنا، وقد يطلق على القدر المشترك بينه وبين بعض
أجزائه الذي له نوع اختصاص به، وما يقال من أن إثبات القرآن لما كان بالشرع وقد دل الشرع على اتصافه
بصفات توجب حدوثه، وكان مقصود المصنف تفسير ذلك الحادث، صدر كتابه ببعض تلك الصفات مراعاة
لبراعة الاستهلال ودلالة على ما هو أشهر مقاصد المعتزلة في علم الكلام، أعني مسألة حدوث القرآن فليس بشئ.
أما أولا فلأن القرآن عند المصنف هو هذه العبارات المنظومة، وهى معجزة اتفاقا، ومن شرط المعجزة أن تكون
صادرة من الله تعالى، لأنها تصديق فعلى منه يجرى مجرى التصديق القولي كما بين في موضعه، فهذه المعجزة مالم
تعلم أنها من الله تعالى تصديقا لمدعى الرسالة لم تثبت النبوة التي يتفرع عليها الشرع فكيف يجوز إثباتها به. وتفصيله
أن وجود العبارات معلوم بحسب السمع وإعجازها، إما بالذوق السليقي أو المكتسب، وإما بالاستدلال كما ستعرفه،
وإذا علم إعجازها علم أنها ليست بكلام البشر، وأنها كلام خالق القوى والقدر كما نص عليه العلامة فيما بعد،
فتكون هي معجزة من عند الله دالة على صدق مدعى النبوة، فالعلم بثبوت الشرع يتوقف على العلم بثوبتها وإعجازها
وكونها من الله، فلا يصح إثبات شئ من ذلك بالشرع، لا يقال نحن نثبت الشرع بمعجزة أخرى ثم نثبت به القرآن
أو نثبته ببعض القرآن ثم نثبت به البعض الآخر. لأنا نقول: الأول باطل محض، لأنه بناء للشئ على ما هو دونه،
فإن القرآن أبهر المعجزات وأظهر الدلائل، والثاني تحكم بحت، والتشبث بأمثال ذلك كتمسك الغريق بما لا يجديه
نفعا، إذ لا يشتبه على أحد أن المعجزة لأن نثبت بها الشرع لا لأن تثبت بالشرع، نعم إثبات القرآن بمعنى الكلام
4

النفسي عند القائل به إنما هو بالشرع، وأما ثانيا فلأن اتصاف القرآن بما ذكر من التأليف والتنظيم والتنجيم مثلا أمر
ظاهر مكشوف ليس مما يستفاد من دلالة الشرع عليه.
واعلم أن للمعتزلة على حدوث القرآن دليلا عقليا هو تركبه من أجزاء يمتنع اجتماعها في الوجود كما سيأتيك
تقريره، ودليلا سمعيا كقوله تعالى - ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث - فالأولى استدلال على حدوثه بما علم اتصافه
به عقلا، والثاني استدلال بما ورد في الشرع ودل على حدوثه لا على اتصافه بما يوجب حدوثه كما توهمه هذا القائل.
فإن قيل: إذا كان القرآن عندهم حادثا لم يكن قائما بالله لتعاليه عن قيام الحوادث بذاته فلا يكون كلاما له.
قلنا: إنهم يجوزون قيام كلام الله بغيره ويقولون هو متكلم، بمعنى أنه موجد للكلام لا أنه محل له. ويرد عليه أن
المتكلم على قاعدة اللغة في المشتقات كالمتحرك والأسود من قام به الكلام لا من أوجده، ومن ههنا ينتظم برهان
على إثبات الكلام النفسي. والكلام في اللغة اسم جنس يقع على القليل والكثير. وعرفه بعض الأصوليين بأنه
المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة، وقد يزاد قيدان آخران فيقال: المتواضع عليها إذا صدرت عن واجد قادر،
ويطلق في عرف النحاة على ما يفيد فائدة تامة، والمراد ههنا المعنى الأول الذي باعتباره يوصف صاحبه بأنه متكلم
ويقابل الأعجم والأخرس و (كلاما مؤلفا) إما حال موطئة كما صرح به الزمخشري في قوله - إنا أنزلناه قرآنا
عربيا - وإما حال مؤكدة تقرر ما تضمنه القرآن خصوصا على زعمه، ولابد في مجئ المؤكدة بعد الجملة الفعلية
كقوله تعالى - قائما بالقسط - على ما صرح به أيضا، وأما النصب على البدلية أو على المدح ففيه فوات الملاءمة مع
ما يناظره في القرينة الأخرى، أعني منجما فإنه حال قطعا. والتأليف جمع أشياء متناسبة كما يرشد إليه اشتقاقه من
الألفة، والمراد به مطلق التركيب من المفردات والجمل. والتنظيم فوق التأليف لأنه من نظم اللؤلؤ ونحوه، فيراعى
فيها مع المناسبة الجنسية وضع أنيق وترتيب بهيج، والمراد جودة التركيب وحسنه برعاية مقتضى الحال والتطبيق
على الأعراض، فهو من باب عالم نحرير، والأشبه أن يراد بالتأليف فيما بين المفردات لتحصيل جملة مفيدة والتنظيم
فيما بين الجمل، إذ قد يحتاج ههنا إلى مزيد تأنق فيكون من قبيل التأسيس بخلاف الأول، ويتضمن أيضا مشابهة
ظاهرة بين آحاد الجمل المتناسبة التي يستقل كل منها بفائدة معتد بها وبين فرائد اللآلئ المتناسقة (قوله بحسب
المصالح) أي بقدرها وعددها، يقال ليكن عملك بحسب ذلك: أي على قدره وعدده، والسين فيه مفتوحة وربما
سكنت في ضرورة الشعر، والظرف أعني " بحسب " متعلق بقوله منجما أي موزعا مفرقا بعدد المصالح،
والنجم في الأصل الكوكب، ثم نقل إلى الوقت المضروب المعين إذ يتعرفون الأوقات بالنجوم، فقيل نجوم
الكتابة للأوقات المعينة لأداء حصصها، ثم استعمل في تلك الحصص المؤداة في تلك الأوقات، ثم اشتق العفل
فقيل نجم الكتابة أو الدية: أي وزعها حصصها وأداها دفعات (قوله وجعله بالتحميد) أي جعله مفتتحا بالسورة
المشتملة على التحميد، ولذلك سميت السورة فاتحة الكتاب، وجعله (مختتما) بالسورة المشتملة على الاستعاذة
فكانت خاتمة الكتاب قياسا على فاتحته، ولم يرد أن لفظ التحميد أول جزء منه ليدل على أن التسمية ليست جزءا من
سورة الحمد، ولا أن لفظ الاستعاذة آخر جزء منه ليحتاج في توجيهه إلى أن ما بعد الاستعاذة إلى آخر السورة
متعلق بها فهو من تتمتها، وفى نسبة الجعل إلى الله سبحانه إشارة إلى أن ترتيب القرآن في المصحف على هذا الوجه
5

المطابق لما في اللوح المحفوظ كان بأمر من الله وتعليم الرسول (قوله وأوحاه) تقول: ويحث إليه كلاما وأوحيت:
إذا كلمته بكلام تخفيه عن غيره (قوله على قسمين) ظرف مستقر وقع حالا عن المفعول، و (قوله متشابها ومحكما)
معا بدل عن الحال: أي أوحاه متشابها ومحكما، وجوز النصب على التمييز من قسمين: لنوع إيهام فيه، أو على
المدح، واستعماله منكرا أكثر، أو على أنه حال من المستتر في علي قسمين، وفيه بعد لأن تقييد كونه على قسمين
بأنه في حال كونه قسمين مخصوصين مما لا يرتضيه ذوق سليم، أو على أنه حال أخرى مرادفة للأولى. ولا يخفى أن
الإبدال أوقع في المعنى من جعل الأولى مقصودة بذاتها، أو على أنه بدل من محل المجرور، فإنه منصوب المحل
بإيصال الجار معنى الفعل إليه، كما عطف على محله في قولك: مررت بزيد وعمرا: أي جاوزت زيدا وعمرا،
وفيه ضعف ظاهر، إذ ليس لتقدير الناصب ههنا ظهور كما في المثال المذكور. ومنهم من قدر الكلام في الوجه
الأخير هكذا أوحاه على متشابه ومحكم. واعترض عليه بأن هذا التقدير إنما هو على الإبدال من لفظ المجرور لو
كان صحيحا لا على الإبدال من محله. فأجاب بأن المنصوب المحل هو المجرور وحده، فالتابع للمحل بمنزلة الواقع
بعد حرف الجر، أو لا ترى أن معنى قوله * يذهبن في نجد وغورا غائرا * في غور، وهو مردود بأن التابع المنصوب
لفظا لما هو منصوب محلا يحتاج إلى تقدير عامل ينصب المتبوع أولا ثم ينصب التابع إما بانسحاب أو بتقدير مثله،
فالتابع للمنصوب بمنزلة متبوعه من حيث هو منصوب لامن حيث هو مجرور، فلا مجال لاعتبار الجار في التابع
المذكور من حيث هو كذلك. وأما أن قوله غورا معناه في غور فلأنه ظرف لابد فيه بحسب المعنى من تقدير في،
سواء كان معطوفا على محل المجرور كما في البيت، أو على منصوب لفظا كما لو قيل: يذهبن نجدا وغورا غائرا.
وقد فسر في آل عمران المحكم بما أحكمت عبارته بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه، والمتشابه بما تكون عبارته
مشتبهة محتملة، فقوله والاشتباه عطف تفسيره كما تشعر به عبارته في تفسير المتشابه، فالمحكم عنده ما ليس فيه
اشتباه والتباس: أي هو المتضح المعنى، والمتشابه خلافه فيندرج في المحكم النص والظاهر، وفى المتشابه المجمل
والمؤول كما هو المصطلح عليه في أصول الشافعية، ولتقابلهما يشملان جميع أقسام النظم المذكور في أصول
الحنفية (وفصله سورا وسوره آيات، وميز بينهن بفصول وغايات) سورا إما حال أو مفعول ثان على التضمين:
أي جعله سورا أو تمييزا: أي فصل سوره، وسيرد عليك في الكتاب معنى السورة في تفسير قوله - فأتوا بسورة
من مثله - وهناك تذكر ما قيل في معنى الآية والضمير في بينهن للسور والآيات معا. وأراد بالفصول أواخر الآي
لأنها تسمى فواصل، وبالغايات أو اخر السور، والمعنى أوقع التمييز بين السور بعضها مع بعض بالغايات، وبين الآيات
بعضها مع بعض بالفصول. وقل يقال الضمير للآيات وحدها وأراد بالفصول الوقوف وبالغايات فواصل الآي.
فإن قلت: مساق الكلام يقتضى أن يكون لما وصف به الله تعالى كالإنزال والتنزيل ولما وصف به القرآن من
التأليف والتنظيم مدخل في اقتضاء الحمد فما وجهه؟:
قلت: لما كان القرآن مرشدا للعباد إلى مصالح المعاش والمعاد كان إنزاله عليهم نعمة جزيلة وكونه مؤلفا منظما
من مفردات وجمل على أحسن وجوه البلاغة وسيلة إلى أن تدرك منه مقاصد دينية ودنيوية على أبلغ وجه وأكمله فيوجب
زيادة في تلك النعمة، وتمزيله منجما على حسب الحوادث فيه تسهيل ضبط الأحكام والوقوف على دقائق نظم الآيات.
وفى الافتتاح بالتحميد تنبيه للتالي على أن يحمد الله على نعمة التوفيق استجلابا للمزيد واستدامة للعتيد، وفى الاختتام
6

بالاستعاذة حث لمن ختم القرآن على أن يستعيذ بر به من وسوسة الشيطان ونفخه، وإشارة لطيفة إلى أن العود إلى
بدئه أحمد. وأما إيجاده محكما متشابها ففي المحكم سهولة الاطلاع على المقصود مع طمأنينة قلب وثلج صدر، وفى
المتشابه فوائد أشار إليها العلامة يعنى المصنف: منها ما في تقادح العلماء، وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى
المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات. وأما تفصيله سورا وسوره آيات فسيأتي في الكتاب أن فيه تنشيط
القارئ واغتباط الحافظ وتلاحق الأشكال والنظائر إلى غير ذلك (قوله وما هي إلا صفات مبتدأ مبتدع وسمات منشأ
مخترع) أشار به إلى أن هذه الصفات المذكورة للقرآن من كونه مؤلفا منظما، وكونه منزلا منجما، وصيرورته
مفتتحا ومختتما، وانقسامه إلى متشابه ومحكم، وكونه مميزا مفصلا تدل على حدوثه لاستلزامه تركيبه من أجزاء يمتنع
اجتماعها في الوجود، فالمتأخر عند وجود المتقدم معدوم، والمتقدم عند وجود المتأخر منتف، وكل واحد منهما
حادث، لأن العدم ينافي القدم سابقا ولاحقا: وأيضا المتأخر مسبوق بعدمه المقارن لوجود المتقدم فهو حادث
قطعا، والمتقدم لا يتقدمه إلا بزمان قليل، فيكون حادثا أيضا، وكذا المركب منهما. لا يقال الاستدلال بهذا الطريق
يكفيه تركبه من الحروف والكلمات الممتنعة الاجتماع كما هو المشهور في الكتب الكلامية، فأي فائدة لسائر
الأوصاف. لأنا نقول: قد سبق أن هذه الصفات كلها مسرودة، لكونها أوصافا كمالية للقرآن، مناسبة للإعجاز
مقتضية للحمد عليه، فليس إثبات حدوث مقصود بالذات، ولذلك جعله جملة معترضة فلا استدراك، على أن
الاستظهار في إثباته مطلوب عنده، فكأنه قال: لا يجتمع من القرآن مفرد مع مفرد، ولا جملة مع جملة، ولا ما نزل
في حادثة مع ما نزل في أخرى، ولا فاتحة مع خاتمة، ولا متشابه مع محكم ولا سورة مع سورة، ولا آية مع
آية، وفى ذلك مع رعاية تلك المقاصد مبالغة في ذكر الصفات المستلزمة للتحري، كما بالغ في اقتضائها الحدوث
بقوله " وما هي " الخ. وقد وجه الكلام بأن دلالة الإنزال على الحدوث من حيث إن الحركة المكانية مختصة بالأجسام
وما يحل فيها وهى حادثة اتفاقا، وأما دلالة سائر الأوصاف من حيث إنها مستلزمة للتركيب المستلزم للإمكان
الذي يلزمه الحدوث بناء على امتناع تعدد القديم، ورد عليه بأن الخصم لا يساعده على أن كل ممكن حادث،
ويجوز تعدد القدماء. ثم إن الاستدلال بهذه الصفات إنما هو على حدوث العبارات المنظومة رداء على الحنابلة ومن
يحذو حذوهم حيث زعموا أنها قديمة قائمة بذاته، لا على القائلين بالكلام النفسي لاعترافهم بحدوث هذه العبارات
ويسمونها كلاما لفظيا لكنهم يدعون أن هناك كلاما نفسيا قديما قائما به تعالى، ولا خفاء أن الصفات التي استدل
بها على الحدوث مخصوصة بالقرآن اللفظي، ولا دلالة لها على انتفاء القرآن بمعنى الكلام النفسي، ومن حكم بأن
قوله " وما هي إلا صفات " من قصر الصفة على الموصوف، فقد نظر إلى حاصل المعنى كأنه قال: محصول كلامه
أن هذه الصفات مختصة بالحادث لا توجد في غيره، وكل ما يصوف بها كان حادثا، فالرد عليه بأنه من قصر
الموصوف على الصفة دون العكس قصور على ظاهر مفهوم العبارة " المبتدأ " ماله بدء زمان: أي أول زمان وجود
و " المبتدع " ما أخرج عن العدم بديعا أي ممتازا بنوع حكمة فيه. و " المنشأ " المحدث من النش ء، وهو الظهور
والارتفاع " و " المخترع " ما روى تأنق وتعمل في إخراجه من العدم مأخوذ من الخرج بمعنى الشق، وإذا استعمل
بالنسبة إليه تعالى ما يدل على تكلف وطلب يراد به ما يلزمه من كمال الصنع وجودة المصنوع لأنه تعالى منزه عن
التروي والاعتمال (قوله فسبحان من استأثر بالأولية والقدم ووسم كل شئ سواه بالحدوث عن العدم) هذه
7

الفاء فصيحة من باب: فقد جئنا من خراسانا: أي إذا كان القرآن من علو شأنه ورفعة مكانه وكونه أقرب الأشياء
إليه تعالى محدثا، فليتعجب المتعجبون من تفرده تعالى بصفة القدم ووسم جميع ما عداه بنقيصة سبق العدم، أو إذا
كان كذلك فأنزهه عن كل وصمة وأبرئه عن كل نقيصة، وفيه رمز كما مر إلى أن الحدوث إنما لزم القرآن
لاقتضاء ذاته تعالى التنزه عن الشركة في صفة القدم لا لنقصانه في نفسه، بل هو كامل في بابه كما نبه عليه حيث
أردف المبتدأ بالمبتدع، والمنشأ بالمخترع، و " الاستئثار " التفرد والاستبداد. و " الأولية " السبق على ما سواه.
و (القدم) على المسبوقية بالعدم، وهما متلازمان وجودا لا مفهوما، فإن ما كان سابقا على جميع ما عداه كان قديما
إذ لو كان حادثا لم يكن سابقا مطلقا لوجود القديم، وما كان قديما كان سابقا على جميع ما سواه لامتناع تعدد
القدماء المتغايرة. ولما كان القدم هو المقصود جعل الأولية توطئة له ترقيا في الكلام. و " الشئ " في اللغة كما
صرح به في سورة البقرة والأنعام يقع على المحال والمستقيم والجرم والعرض، فيختص هاهنا بالموجود بقرينة
الحدوث عن العدم كما خص بالمستقيم في قوله تعالى - والله على كل شئ قدير - بقرينة القدرة، وأما الشئ بالمعنى
المذكور في علم الكلام، فمما لا يلتفت إليه في أمثال هذا المقام وفى دعوى استئثار الذات بالقدم واتسام كل
موجود سواه بالحدوث زيادة مبالغة في حدوث القرآن، ورد على مثبتي صفات زائدة على ذاته تعالى قديمة.
والمراد بالسبق والقدم والحدوث ما هو بحسب الزمان، لأنه المتبادر عند الإطلاق، فقوله " بالحدوث عن العدم "
تنصيص على المراد بعد ظهوره ورعاية للسجع (قوله أنشأه كتابا) هو مع ما في حيزه بدل من أنزل، وما عطف
عليه رجع به إلى ما كان فيه من بيان اتصاف القرآن بصفات الكمال بعد ما وقع في البيت من إثبات الحدوث وما تبعه
من تنزيه الله تعالى، وقصد في هذا البد أن اتصافه بتلك الأوصاف الجليلة من التأليف والتنظيم والتنجيم والافتتاح
والاختتام والتفصيل والتمييز إنما كان ليكون نظمه في إفادة معناه كاملا بسطوع تبيانه، ومعناه وافيا بما قصد به
من الغرض بقطعية برهانه، واشتماله على بينات المنقول وحجج المعقول، وتباعده عن شوائب العوج، وكونه
مفتاحا لمنافع الدارين، ومصداقا لسائر الكتب المنزلة قبله، بل ليكون نظمه البليغ في إفادة ذلك المعنى الوفى بالغا
حد الإعجاز، ويقترن بذلك وعد كونه تبيانا لكل شئ بالإيجاز، وإنما قال أنشأه: أي أحدثه ابتهاجا بما أثبته
من معتقده، وإن كان المقصود الأصلي هو القيود المذكورة لاكونه محدثا، وهذه المنصوبات: أعني كتابا
ووحيا وقرآنا ومفتاحا ومصداقا، أحوال مترادفة أو مفاعيل ثانية بأن يضمن أنشأ معنى جعل وصير، والمراد
إنشاؤه على هذا الوجه لأنقله من وجه آخر إليه، وفى ترك العطف إشارة إلى أن كل واحدة منها صفة كمال على
حدة (قوله معجزا) إما أن ينخرط معها في سلكها، وإما أن يكون بدلا منها بأسرها، كأه قال أنشأه معجزا.
يقال سطح الصبح يسطع سطوعا: إذا ارتفع، شبه تبيان القرآن بتباشير الصبح المرتفعة في الوضوح والانجلاء،
وأثبت له السطوح تخييلا، وعبر عن الدلائل النقلية بالبينات لظهورها، وعن العقلية بالحجج، إذ بها الغلبة على
المخالف مطلقا، وقدم الأولى لأنها أكثر في القرآن وللترقي ورعاية السجع. وقيل ما يثبت به الدعوى يسمى بينة من
حيث إفادته للبيان، وحجة من حيث يغلب به على الخصم، فالعاطف بينهما حينئذ قد توسط بين صفات ذات
واحدة، والقرآن مفتاح ينفتح به باب الشريعة المشتملة على كل خير وسعادة في الآخرة والأولى، ومصداق
8

الشئ ما يصدقه وبين صدقه كأنه آلة لصدقه، والقرآن بإعجازه مستغن في صدقه عن شهادة غيره، وبتصديقه
لما تقدمه من الكتب السماوية شاهد صدق لها ومصداقها (بين يديه) حقيقة في المكان ثم اشتهر للزمان المتقدم
مستعارا (قوله دون كل معجز) ظرف مستقر وقع حالا من المستكن في باقيان: أن متجاوزا في البقاء سائر
المعجزات، وكذا قوله من بين مستقر وقع حالا من المستتر في دائرا: أي منفردا في الدوران من بين سائر الكتب
الإلهية، إذ لم يعهد جريان باقي الكتب على ألسنة أرباب اللغات المتخالفة في الدهور المتطاولة (قوله وجه الزمان)
استعارة بالكناية وتخييل، شبه الزمان لظهور بعض الأشياء الموجودة فيه دون بعض بشئ له ظاهر يبدو ما عليه
وباطن يستتر ما فيه، فأثبت له الوجه من قولهم وجه الأرض لظاهرها فإنه شائع الاستعمال فيه، وجعل القرآن
موضوعا عليه مبالغة في ظهوره. وقد تخيل بعضهم أن الوجه إما تخييل وإما مستعار للظاهر المكشوف من الزمان،
وذهب عليه أن الزمان لا ينقسم إلى ظاهر مكشوف وإلى باطن مستور، فإذا جعل الوجه بمعنى الظاهر كان تخييلا
لا قسيما له (قوله أفحم به) إما صفة ثالثة لمعجزا عدل فيها إلى الجملة الفعلية لملاحظة الحدوث وجاز وصفه لكونه
بمنزلة الاسم كالممكن ونظائره، وإما استئناف بيان لإجازه على سبيل الإجمال كأنه قيل: لم قلت إنه معجز وبم
عرفت ذلك؟ فأجاب بأنه أفحم: أي أسكت، ثم ترقى فقال أبكم، وأخذه من بكم قياسا إذ لم يشتهر فعل بنى منه
سوى ما نقله في الأساس من قوله: تكلم فلان فتبكم عليه: إذا أرتج عليه، وقد يجعل استعماله إياه بمنزلة
روايته له فإنه ثقة في اللغة (المعارضة) أن يأتي إلى صاحبه بمثل ما أتى به و (العرب العرباء) هم الخلص منهم كالعرب
العاربة، أخذ من لفظه فأكد به كقولك: ظل ظليل، وليل أليل. وفائدة لفظة به بعد أفحم وأبكم الإشعار بأن
إعجاز القرآن كما هو المختار المشار إليه بسياق كلامه إنما هو بكلام بلاغته، لا بالصرفة كما يتوهم من إسناد الإفحام
والإبكام إليه تعالى لولا تقييدهما بالظرف، والتحدي طلب المعارضة وأصله في الحاديين، يقال خطيب مصقع:
أي بليغ مجهر بخطبته، إما من صقع الديك إذا صاح، وإما من الصقع بمعنى الجانب، لأنه يأخذ في كل جانب من
الكلام، وإما من صقعه إذا ضرب صوقعته: أي وسط رأسه كما يأتي في قراعة من قرء - من الصواقع حذر الموت -
(فلم يتصد) يتعلق بأفحم ولم ينهض بأبكم، وتلخيص معناه أنه طولب بمعارضته فصحاء العرب فأفحمهم، فلم
يتعرض للإتيان بما يساوى القرآن أو يقاربه واحد منهم، وتحدى به بلغاؤهم فأبكمهم به، فلم يقم بمقدار أقصر
سورة ناهض منهم. ففي الكلام ترق حيث نسب الإفحام إلى فصحائهم وأظهر عجزهم عن مجموعه، ثم نسب
الإبكام إلى بلغائهم وبين قصورهم عن أقصر سورة (على أنهم) حال من البلغاء لأنه فاعل في المعنى: أي لم ينهض
بلغاؤهم على أنهم كانوا، فالضمير لهم أو من البلغاء والفصحاء معا فالضمير لهما جميعا، فالعامل في الحال على
الوجهين معنى النفي: أي تركوا التصدي والنهوض حال كونهم كذا، لا المنفى لفساد المعنى، وجدوى هذه الحال
إزالة ما عسى أن يتوهم من أنهم ربما كانوا قليلين يمكن أن يغلب عليهم واحد من جنسهم فلا يثبت الإعجاز لعجزهم
وكلمة على في " على أنهم " تدل على رسوخهم في صفة الكثرة واستقرارهم واستعلائهم عليا، فما قيل من أنها بمعنى
9

مع فهو حاصل المعنى، وسيأتيك في نظيرتها زيادة تحقيق لها، و (البطحاء) مسيل واسع فيه دقاق الحصى، و (الدهناء)
بالمد وقد تقصر أرض ببلاد تميم ذات رمال كثيرة، و (لم ينبض) أي لم يتحرك عطف على لم يتصد مع ما عطف عليه
والضمير في (منهم) للفصحاء والبلغاء مضافين إلى العرب العرباء كأنه قيل: ولم ينبض من فصحائهم وبلغائهم،
فيظهر رجوع الظمائر في قوله " مع اشتهارهم " وما بعده إلى العرب العرباء مطلقا على ما ينبغي من غير تفكيك بينها
في النظم، و (العصبية) المحاماة وإضافة العرق لأدنى ملابسة: أي العرق الذي يتحرك عندها، وجاز أن يكون
عرق العصبية استعارة مكنية وتخييلا ولم ينبض ترشيحا (مع اشتهارهم) حال من الضمير المجرور في منهم، وفائدتها
دفع ما ربما يتخيل فيهم من المساهلة في تلك المعارضة والمحاماة (المضادة) المعاداة (والمضارة) الضرار، و (الشراشر)
الأثقال واحدة شرشرة، يقال ألقى عليه شراشره: أي ثقله وجملته حرصا ومحبة (المعازة) بالزاي المعجمة المغالبة،
وبالراء المهملة المضارة، من قولهم فلان يعر قومه: أي يدخل عليهم مكروها، أراد أنهم كانوا أعلاما في المغالبة
والعصبية، يتحركون في المحاماة حرصا بالكلية، ثم لم يتحرك في معارضة القرآن أضعف عضو منهم لتناهى عجزهم
في هذه القضية، وإنما تنجلى هذه النكتة على تقدير الإضافة لأدنى ملابسة لا على التخييل، لأن العرق حينئذ
للعصبية لا لهم (دون المناضلة) أي قدام المراماة والمدافعة وفى أدنى مكان منها، و (الحسب) ما يحسبه الإنسان:
أي يعده من مفاخر نفسه أو آبائه، و (الخطط) عظائم الأمور وشدائدها جمع خطة بالضم، و (الشطط) مجاوزة الحد،
و (المفخرة) بفتح الخاء وضمها وكسرها كل خصلة يفتخر بها، و (المأثرة) بالضم والفتح المكرمة لأنها تؤثر:
أي تذكر، والشرطيتان أعني إن أتاهم وإن رماهم بيان وتحقيق لما تقدمهما من الإفراط في المضادة وإلقاء الشراشر
على المعازة ولقاء الخطط في المحافظة على الأحساب والذب عنها وركوب الشطط في كل مرام، ولفظة أحد بمعنى
الواحد من العدد، وجاز أن يكون اسما لمن يصلح أن يخاطب به مطلقا إذا أول الكلام بالنفي: أي ما أتاهم أن
بمفخرة إلا أتوه بمفاخر، إذ لا يستعمل في الإثبات إلا مع لفظة كل (قوله وقد جرد) جملة معترضة ذيل بها الكلام
تقريرا وتأكيدا لجميع ما تقدم من أفحم إلى هذا المقام وفائدتها نفى أن يتوهم أنهم أهملوا في المعارضة طريقتهم
المعهودة قلة مبالاة بها، إذ لا يتصور إهمالهم فيها مع إلجائهم عليها وقيل جملة حالية وعاملها إما فحم: أي
أسكتهم عن المعارضة قاسرا لهم عليها بتجريد السيف عقيب الحجة، وإما لم يتصد: أي لم يتعرضوا لها حال كونهم
مقسورين عليها، وفيه بحث لأن قوله " فلم يعارضوا " معطوف على " قد جرد " فهو حينئذ من تتمة الحال وتقييد
الإفحام وترك التصدي بعدم المعارضة مما لا طائل فيه، وتجريد الحجة: تعريتها عن ملابس الشبهات، وتجريد
السيف: انتضاؤه وتعريته عن عمده، فأريد به القدر المشترك بينهما، وأسند إلى الله مجازا لأنه الآمر به. وقيل
تجريد الحجة منسوب إلى الله حقيقة، ويضمن في المعطوف فعل مثله ويسند إليه مجازا. وجاز أن يراد بالتجريد
الإظهار مجازا ويسند إلى الله حقيقة: أي أظهر الحجة على لسان رسوله والسيف على يده: أي يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
، و (أولا) نصب على ظرفية بمعنى قبل: أي أبدأ بهذا أول، فيضم على الغاية كقوله افعله قبل
10

وأما الذي مؤنثه الأولى فغير منصرف (إلا السيف وحده) من قبيل وضع المظهر موضع المضمر زيادة تصوير
لمتعلق المعارضة، وأما قوله (على أن السيف) فليس من هذا القبيل إذ المراد به الجنس لا السيف الذي جرد.
الظرف حال يبين أن معارضتهم بالسيف مع الخلو عن الحجة مما لا يعتد بها، وقد أحاطوا بذلك علما، والعامل
فيها لم يعارضوا بعد انتقاض النفي: أي عارضوا بالسيف وحده عالمين بهذه القضية مستعلين عليها: شبه حالهم في
العلم بها وإتقانها بحال من اعتلى الشئ وركبه، فاستعير لها كلمة على، هذا ما وعدناك تحقيقه، والقاضب: القاطع
(والمخراق) منديل يلف ليضرب به عند اللعب (وإمضاء الحجة حد السيف) تقوية شأنه وترجيح جانبه كأنها
تجعل حده: أي غراره قاضبا: أي قاطعا، ولا يخفى على كل ذي مسكة أنهم إذا آثروا المحاربة بالسيف والسنان
وبذل الأرواح على المقاولة باللسان مع علمهم بأنهم ليسوا في ذلك على شئ، فقد شاهدوا عجزهم عن المعارضة
بالمرة وأحاطوا به علما، فلذلك قرعة عليهم قائلا (فما أعرضوا الخ) (زخر البحر) أي ماج وامتلأ (وطم) أي غلب
وعلا، يقال جاء السيل فطم على الركية: أي دفنها وسواها (والكواكب) الأول جمع كوكب الماء وهو مجتمعه
والثاني جمع كوكب السماء. مثل أولا حالهم في تلاشى شبههم واضمحلال مزخرفاتهم لظهور المعجزة الباهرة والحجة
البالغة الظاهرة بحال كواكب المياه وغدر انها في اندراسها بزخر البحر الخضم وطمه عليها، وثانيا بحال الكواكب
حين أشرقت عليها الشمس وطمست أنوارها ومحت آثارها. وقد يقال أستعير البحر والشمس لبلاغة القرآن والكواكب
بالمعنيين لبلاغاتهم، ثم رشحت باستعارة الزخر والإشراق لظهورها، واستعارة الطم والطمس لغلبتها عليها، وهو
تكلف مستغنى عنه (قوله والصلاة) معطوف على التحمد الذي بناه على الإنزال والايحاء، ولما قصد زيادة
الملاءمة بينهما قال (خير من أوحى إليه) دون أرسل، وليس في أوحى ضمير راجع إلى القرآن لفساد المعنى، بلى
الظرف قائم مقام فاعله. فضله أولا على الأنبياء ثم وصفه بما هو منشأ كل سعادة وكمال، ثم كناه وسماه استلذاذا
وتبكرا، ثم ذكر نسبة العالي إلى هاشم، ثم شرع في حسبه فذكر علو شأنه وظهور سلطانه، وقدم فيه الجد الأعلى
وهو لؤي على الأدنى وهو قصي، لأن رفعة القطر ونفاذ الأمر في أعلى القبائل أدل على عظم المكانة. ثم عقب
بذكر باقي أحسابه من كونه مثبتا بالعصمة مؤيدا بالحكمة: أي العلم المشفوع بالعمل واشتهار فضائله وكونه نبينا
أميا مبشرا به في الكتاب السابقة (اللواء) العلم (وذي اللواء المرفوع في بنى لؤي) كناية عن سيادته عليهم وكونه
مطاعا فيهم (ذي الفرع) أي ذي العلو والرفعة من قولهم فرعت القوم: علوتهم بالشرف أو بالجمال، و (المنيف
المشرف العالي من أناف على كذا أشرف عليه، ويجوز أن يراد بالفرع الغصن، فشبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء مستظل بها، فذي استعارة مكنية، والفرع تخييل، والمنيف
ترشيح. وأن يراد به السيد يقال هو فرع قومه: أي سيدهم فيكون تجريدا مبالغة في سيادته. وقد يقال الفرع مستعار
لأولاده، إشارة إلى شرف فروعه كأصوله أو للنبي، وذي الفرع صفة لؤي، وذي اللواء صفة هاشم، ولا
11

يخفى بعدهما (الغرة) البياض في جبهة الفرس يقال شدخت الغرة اتسعت (والتحجيل) البياض في قوائمه يقال فرس
محجل، وقد حجلت قوائمه تجيلا، وهو أعني الغرة والتحجيل مستعاران ههنا للشرف والكمال، كما أن
الشدوخ والوضوح مستعاران لاشتهارهما، فقد أشير إلى اشتهار جميع أنواع فضائله وكمالاته من قرنه إلى قدمه،
وتستعمل الغرة وحدها في الشرف مستعارا مشهور، يقال رجل أغر: أي شريف، وفى الاشتهار وفى الامتياز
مجازا مرسلا كقوله * مبارك الاسم أغر اللقب * أي مشهور اللقب دون التحجيل وحده. وأما قوله عليه الصلاة
والسلام " أن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " فالظاهر منه
أن المراد الأنوار المتلألئة من آثار الوضوء على تلك المواضع، وقد يحمل على امتيازهم واشتهارهم بين الأمم في ذلك
اليوم بسبب هذه العبادة، و (الأمي من لا يكتب منسوب إلى أمة العرب المشهورين فيما بين الأمم بعدم الخط
والكتابة أو إلى أم القرى لأن أهلها كانوا شهر بذلك، أو إلى الأم: أي كما ولدته أمه، وكونه عليه الصلاة
والسلام أميا صفة مدح له تشهد بنبوته وتنفى ارتياب المبطلين، حيث أتى بالعلوم الجمة والحكم الوافرة وأخبار
القرون الخالية بلا تعلم خط واستفادة من كتاب، وقد طابق بين الأمي والمكتوب: أي ليس بكاتب بل هو
مكتوب (قوله وعلى آله) أراد أهل بيته لتبادره عند الإطلاق، و (الأطهار) جمع طهر بمعنى طاهر كعدل
بمعنى عادل، فإن فاعلا لا يجمع على أفعال كما نص عليه الجوهري (من الأختان والأصهار) في الصحاح أن
الختن عند العامة: زوج الابنة، وعند العرب: كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ. والصهر أهل بيت
المرأة، وأراد الزمخشري بالأختان متعارف العامة، وبالأصهار حقيقته، وتقديم الأختان للسجع، ومن للتبعيض
لأن الخلفاء الراشدين كانوا بعض أصهاره وأختانه، وجاز أن تجعل للبيان لأن أقل الجمع عنده اثنان (وعلى جميع
المهاجرين والأنصار) أي على جميع الصحابة، كما يقال الله خالق السماوات والأرض: أي خالق كل شئ،
وفى تخصيص الخلفاء من بينهم وتقديمهم عليهم تنويه بشأنهم (قوله اعلم أن متن كل علم) شرع في فن آخر من
الكلام فلذلك فصله عما تقدمه، وإنما صدره بالأمر مؤكدا بأن حثا على التشمر لتحقيقه، فإنه أساس لما هو
بصدده من انحصار بيان تفاوت الرتب في النكت. والمتن هو الظهر، وهو قوام البدن ينبنى علها سائر أعضائه،
فاستعير لأصل العلم وهو أمهات مسائله، إذ يتقوم بها نكته ولطائفه. والعمود: الخشبة التي في وسط الخيمة يستند
إليها قيامها، فاستعير لعمدة الصناعة لأنه يتفرع عليها شعبها ودقائبها. والعالم إن لم يتعلق بكيفية عمل كان المقصود
في نفسه ويسمى علما، وإن كان متعلقا بها كان المقصود منه ذلك العمل، ويسمى صناعة في عرف الخاصة
وينقسم إلى قسمين: ما يمكن حصوله بمجرد النظر والاستدلال كالطب مثلا، وما لا يمكن حصوله إلا بمزاولة
العمل كالخياطة. وهذا القسم يخص باسم الصناعة في عرف العامة. والوجه في التسمية على العرفين أن حقيقة
الصناعة صفة نفسانية راسخة يقتدر بها على استعمال موضوعات ما نحو غرض من الأغراض على وجه البصيرة
بحسب الإمكان كما يشعر به كلام المصنف حيث قال: كل عامل لا يسمى صانعا ولا كل عمل يسمى صناعة
حتى يتمكن فيه ويتدرب، ولا شك أن العمل المقصود من العلم لا يتم كماله إلا بأن يتمرن صاحبه في ذلك العلم
ويصير العمل ملكة له، ولما كان علم التفسير مشتملا على المعارف الإلهية والأحكام العملية جاز أن يطلق عليه كل
12

من هذين الاسمين، وإطلاق العلم أولى لأنه الأكثر والأشهر والأشرف. ثم الظاهر أن المراد بالصناعة ههنا
متعارف العامة، وأن ذكر الصناعات لمشابهتها العلوم في أن تفاضل مراتب أصحابها بحسب الدقائق دون الأصول.
فإن قلت: علم الكلام لا تعلق له بكيفية عمل فكيف سماه صناعة؟ قلت: ذلك على سبيل التشبيه لأنه لدقته وغموضه
لا يتحصل إلا بمناظرات متعاقبة ومراجعات متطاولة ولذلك سمى كلاما فله نوع تعلق بالعمل. وقد يقال: كل علم
مارسه الرجل حتى نسب إليه وصار كالحرفة له يسمى صناعة سواء أكن متعلقا بالعمل أولا (طبقات العلماء)
درجاتهم (فيه) أي في متن العلوم (وأقدام الصناع) منازلهم (فيه) أي في عمود الصناعات، وقد أشار بتخصيص
كل من الطبقات والأقدام بموضعه إلى إنافة العلوم على الصناعات، واقتصر في طبقات العلماء على التداني،
وردد في أقدام الصناع بين التقارب والتساوي بناء على استبعاد التساوي في قواعد العلوم دون الصناعات.
لا يقال قوله طبقات العلماء مع ما في حيزه مغير عن المعطوف عليه وحده، أعني متن، وقوله " وأقدام الصناع " مع
ما في حيزه خبر عن المعطوف وحده أعني عمود كل صناعة، فكيف جاز عطف أحد الخبرين على الآخر. لنا نقول:
قد صرح النحاة بأن الخبر إذا تعدد لتعدد المخبر عنه حقيقة وإن كان متحدا لفظا لا يستعمل الخبران بغير عطف
كقوله: يداك يد خيرها يرتجى * وأخرى لأعدائها غائظه
فإذا كان المخبر عنه متعددا حقيقة ولفظ معطوفا بعضه على بعض كان العطف في الخبر أولى ليكون على وتيرة
المخبر عنه، والسر في العطف أن مآل المعنى وإن كان إلى التوزيع إلا أن القصد بحسب الظاهر لأمن الإلباس إلى
ربط المجموع بالمجموع، فلا بد من أداة الجمع، كأنه قيل: مراتب العلماء والصناع في أصول العلوم والصناعات
متقاربة، وقد توهم أنه نظير قولك: زيد وعمرو قام أبوه وذهب أخوه، على أن يكون أحد الضميرين لزيد
والآخر لعمرو، وأنه لابد في مثله من اعتبار تقديم وتأخير وهو منظور فيه، لأنه إذا اعتبر تقديم خبر المعطوف
عليه على المعطوف لم يبق للواو في خبر المعطوف وجه، وجعله لتأكيد لصوق الخبر بالمخبر عنه قصور وعجز. ثم
إن المثال المشبه به إنما يصح إذا لم يكن القياس في اختصاص كل خبر بما هوله، ويكون حينئذ محمولا على ما قدرناه
من ربط المجموع بالمجموع اعتمادا على فهم السامع (إن سبق هو مع ما عطف عليه بيان وتأكيد للتداني والتقارب
المذكورين، واختار صيغة الماضي لأن المعنى على المضي أوقع. كأنه قيل إن كان سبق، ويشهد له قوله تباينت
وتحاكت، واستعملت إن دون إذ لأن الشك في السبق أقرب إلى قلة التفاوت وثبوت التضارب، وذكر الخطأ
والمسافة تشبيها للسبق في المراتب العقلية بالسبق في المسافات الحسية تصويرا له وتمكينا في الأذهان، ولا شبهة في أن
الخط أنسب بالأقدام والمسافة بالطبقات، إلا أنه لاحظ جانب المعنى فقط (قوله وإنما الذي) هذا الخ معطوف
على اعلم، وما في حيزه عطف قصة على قصة لا يلاحظ فيه مناسبة لخصوص جملة مع أخرى، ولك أن تقول:
كلمة اعلم، حث على التوجه نحو الخير الذي هو المقصود، فهو عطف بحسب المعنى على ذلك المقصود مجردا عن
هذه الكلمة، كأنه قال: إن متن كل علم وعمود كل صناعة ليس فيه تفاوت يعتد به وإنما الذي تباينت، وهذا
أدق وأحسن. وقد يتخيل أن الهمزة مفتوحة عطفا على ما بعد اعلم، وفيه وجوه من المبالغة التخصيص، فإنه
بالقياس إلى القواعد والأصول وقد علم انتفاء التباين فيهما، ودلالة إنما على ظهور الحصر وإيراد المبتدأ موصولا
13

تشتمل صلته على ما يشوق إلى الخبر تشويقا تاما، وإيراد الخبر بينهما وتعقيبه بالتفسير (تحاكت) أي تصاكت
كناية عن شدة السعي وفرط المجاهدة في المسابقة. وقيل كناية عن تحاثي المتناظرين للمباحثة وبعده ظاهر. وقوله
(حتى انتهى الأمر) أي في التباين والتفاضل غاية لقوله تباينت وما عطف عليه، أو لقوله عظم التفاوت والتفاضل
وحده. وقوله (إلى أن عد) ناظر إلى قوله البحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا * لدى المجد حتى عد ألف بواحد
وفى عد ألف بواحد مبالغة ليست في عكسه حيث جعل الواحد أصلا قوبل به الألف، مع أن لفظ العد بالكثير
أولى (المحاسن) جمع حسن على غير القياس كأنه قيل محسن (والنكتة) من النكت كالنقطة من النقط، ونكت
الكلام أسراره ولطائفه لحصولها بالفكرة التي لا يخلو صاحبها عن نكت في الأرض بنحو الأصبع، بل لحصولها
بالحالة الفكرية الشبيهة بالنكت (والفقر) جمع فقرة بسكون القاف، وهى في الأصل حلى يصاغ من ذهب على
هيئة فقار الظهر، يستعار أولا لدقائق المعاني الشبيهة بذلك المصوغ، وثانيا لما هو في النثر بمنزلة البيت، إذ لا يخلو
عن دقيق معنى غالبا عبر عن دقائق العلوم والصناعات بعبارات مختلفة نظرا إلى جهات متفاوتة، فسماها أولا
بمحاسن النكت والفقر، وثانيا بلطائف معان، وثالثا بغوامض أسرار. ونكر الأخيرين قصدا إلى التفنن بإيراد
طريقين التعريف والتنكير، وأيضا المنكر بالوصف أولى، وكرر الجار أعني كلمة من تنزيلا لتغاير الجهات
منزلة تغاير الذوات. وقوله (لا يكشف) تأكيد وتقرير لمعنى الأصحاب، ومفعوله محذوف: أي لا يكشف الأستار
(عنها) أي عن غوامض الأسرار، ومن ههنا يعلم أن مؤدى تلك العبارات ذات واحدة وإلا اختل نظام الكلام
(من الخاصة) صفة مقدر هو فاعل: أي لا يكشف عنها أحد من الخاصة، و (أوحدهم) بدل منه وقد يجعل هو
فاعلا من الخاصة حالا منه قدمت مرجعا للضمير، وفيه أن الأوحدي المضاف إلى ضمير الخاصة لا محالة يكون
بينهم، فلا فائدة في هذه الحال سوى تأكيد نسبته إليهم، ويا ء النسبة في الأوحدي للمبالغة كالأحمري منسوب
إلى اللفظ تنبيها على أنه عريق في معنى الواحدة يستحق أن يعبر عنه بالأوحد وينسب إليه (واسطتهم) أي خيرهم
وأفضلهم من واسطة القلادة لأجود جوهرة في وسطها (وفصهم) أي مختارهم من فص الخاتم عقب الأوحدي
بالأخص والواسطة بالفص لشدة ملاءمة بينهما، وأعاد كلمة إلا في الأخيرين إشارة إلى أنه باعتبار اتصافه بهما
كأنه شخص آخر يستحق أن يستثنى مرة أخرى مبالغة في إثبات الحكم له من جهات متعددة، أو إلى أنه قصد
استثناء آخر فلم يجد غيره، فاستثناء بحسب صفة أخرى تأكيدا لنفى الحكم عن غيره. وقيل الإعادة لعدم مجانستهما
للأولين فلا يحسن انخراطهما في سلكهما، وهو قصور على ملاحظة اللفظ، والضمير في (عامتهم) للخاصة أي
أكثر الخاصة عماة، والعمى يستعمل في البصر يقال رجل أعمى وقوم عمى، وفى البصيرة يقال رجل عمى القلب
وقوم عمون، فإن حمل على الأول كان مستعار العمى البصر والأحداق ترشيحا، وإن حمل على الثاني كان
الأحداق مستعارا للبصائر، وإنما عدل عن قياس الجمع إلى عماة جمع عام لمشاكلة عناة، وضمير (حقائقها)
14

الغوامض الأسرار، و (بأحدافهم) متعلق بإدراك: أي لا يظهر لهم ظهور المحسوس، و (عناة) جمع عان وهو
الأسير: أي هم أسراء في يد التقليد لا خلاص لهم أصلا، وكانت عادة العرب في إطلاق أسراهم جز نواصيهم
إهانة وإذلالا. وقوله (ثم إن أملأ العلوم) عطف على اعلم مع ما عطف عليه، وفيه مبالغات من وجوه لتقرير
ما يدعيه في ذهن السامع ونفى الشبهة عنه التأكيد بأن وإيراد المسند إليه مبهما مشوقا إلى المسند مع الإطناب فيه
وتوصيف المسند إجمالا بما يزيده فخامة ويجل موقعه في الأذهان وإرادفه بتفصيله مبسوطا ومشروحا، وفائدة
لفظ ثم التنبيه على أنه ينبغي أن يتئد السامع في تحقيق ما قدمناه من أن التفاوت بنكت العلوم لا بأصولها حتى يصير
منه على ثقة وطمأنينة، ثم يتحقق أن أشمل العلوم على النكت واللطائف على التفسير، فيكون الاختلاف بين
مراتب المفسرين أكثر (أملأ) أفعل من ملئ بالكسر: أي امتلأ فهو ملآن على ما ذكره في المقدمة: أي أشد
العلوم امتلاء، وأخذه من ملؤ بالضم: أي غنى بعيد لاستلزامه تشبيه النكت بالأموال، وكذا أخذه من ملأ
بالفتح على أنه للمفعول لأنه قليل، وأما كونه بمعنى الفاعل: أي أملأ العلوم للقرائح بما يغمرها فلا منع منه، لأن
ملأت الإناء من الماء وبالماء كلاهما صحيح، لأن المل ء يبتدئ منه وهو آلة له ولعله أظهر، وذلك لأن ملأ
بالفتح أشهر استعمالا من ملئ بالكسر، وإن جعل العلوم ظرفا لدقائقها على خلاف ما هو المعتاد من أن المظروف
ليس جزءا من الظرف، وأن الغمر الذي هو ترشيح الاستعارة حيث كان منسوبا إلى القرائح، فالظاهر أن الامتلاء
منسوب إليها أيضا فإنها تمتلئ أولا ثم تصير مغمورة: أي مستورة، وأن لطائف العلوم تحيى القلوب، فهي
بالقياس إليها أشبه بالماء منها بالقياس إلى العلوم (والقريحة) الطبيعة وهى في الأصل أول ماء يستخرج من البئر
لحصوله بالكدح والتأثير، وأطلقت على ما يقع في القلب بغتة بعد سابقة طلب، ثم نقلت منه إلى محله أعني القلب
(وأنهض) أفعل من نهض بالأمر قام به (يبهر) يغلب، و (القوارح) الكوامل الثوابت جمع قارح، وهو من ذي
الحافر: أي ما تكامل سنه وبلغ أشده (يلطف مسلكها) أي يدق طريق الوصول إليها فلا تسلك إلا بفكرة صائبة
(والسلك) الخيط ودقته كناية عن لطافة الجواهر المنظومة فلا يدرك إلا ببصيرة ثاقبة، جمع بين غرابة النكت
ولطف المسلك إشارة إلى معنى قوله من محاسن النكت، ومن لطائف معان، وجعل قوله (ومستودعات أسرار)
بإزاء قوله " ومن غوامض أسرار " (التفسير) علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث دلالته على
مراده، وينقسم إلى تفسير وهو مالا يدرك إلا بالنقل كأسباب النزول والقصص فهو ما يتعلق بالرواية، وإلى تأويل
وهو ما يمكن إداركه بالقواعد العربية وهو ما يتعلق بالدراية، فالقول في الأول بلا نقل خطأ، وكذا القول في الثاني
بمجرد التشهي وإن أصاب فيهما، وأما استنباط المعاني على قوانين اللغة فمما يعد فضلا وكمالا (لا يتم) أي لا يكمل
ولا يصلح (لتعاطيه) لتناوله (كما ذكر) نصب على المصدر: أي أذكر لك عدم صلاحية كل ذي علم لتعاطيه
كل ذي علم إشارة إلى أن الجاحظ ذكرا مثل ذكره، ولا نقل هاهنا لكلام الجاحظ أصلا بل لما ادعى إجمالا أنه
لا يتم لتعاطيه كل إلى أن الجاحظ ذكر هذا المعنى في كتابه تأييدا لما ادعاه. ثم فصل كلامه المجمل بقوله (فالفقيه الخ)
وهذا الفاء أعدل شاهد لما ذكرناه عند من له دربة بأساليب الكلام وذكر بعض من أثق به أنه رأى كتاب نظم القرآن
فلم يكن شئ من هذه العبارات فيه، وعلى هذا فقد سقط مؤنة تعيين منتهى كلامه وتوجيه ما قيل فيه (برز عليه) أي
15

فاق، و (الأقران) الأكفاء جمع قرن بالكسر، وفى المغرب أن اشتقاق الفتوى من الفتى لأنه جواب في حادثة
أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل، يعنى أنه يلاحظ في الفتوى ما ينبئ عنه الفتى من الحدوث والقوة (بز)
غلب، و (القصص) بكسر القاف جمع قصة، و (ابن القرية) بكسر القاف وتشديد الراء المكسورة أحد فصحاء
العرب واسمه أيوب، والقرية اسم أمه، وهى في الأصل حويصلة الطائر كان من الحفاظ، نقل الكتب القديمة إلى
العربية، قتله الحجاج فقال عند القتل: لكل جواد كبوة، ولكل شجاع نبوة، ولكل حكيم هفوة، فصارت
أمثالا (الحسن البصري) هو المكنى أبا سعيد من أكابر التابعين، لقى عليا عليه السلام في المدينة، وكان مشهورا
بالحكم والمواعظ، فإذا أطلق الحسن في الكتاب فهو المراد، قدم المصنف كلمة من على أفعل التفضيل في موضعين
محافظة على السجع، و (أنحى) من نحا ينحو إذا نظر في علم النحو وتكلم فيه، ومنه النحاة جمع ناح (واللحى)
منبت اللحية، عبر بعلك اللغات عن ضبطها وإتقانها ودل على سهولة مأخذها: أي يكفي فيها تحريك اللحيين
باستعمال اللسان، و (لا يتصدى) خبر لقوله " فالفقيه " وما عطف عليه، وهذه الشروط: أعني قوله " وإن
برز " وأخواته وقعت أحوالا، وقد جردت عن معنى الشرط فلا تحتاج إلى تقدير جزاء، فإن جوز انتصاب الحال
من المبتدأ بمعنى انتساب الخبر إليه في حال كونه كذا، فكل واحد من الفقيه وما عطف عليه صاحب الحال التي
تليه، وإلا فصاحب الحال هو أحد بحسب تفصيل معناه: أي لا يتصدى منهم الفقيه مبرزا على أقرانه وكذا، وإبراز
الحال في صورة الشرط إيذان بأن هذه الأمور غير واقعة بل مفروضة، كأنه قيل مفروضا تبريزه على أقرانه وغلبته
على أهل زمانه، وفى التقييد بأهل الدنيا إشعار بعظم التفاوت في صناعة الكلام، و (تلك الطرائق) إشارة إلى قوله
مسلكها، و (تلك الحقائق) إلى قوله مستودعات أسرار، يقال غاص في الماء على اللؤلؤ: أي حصله واستعلى عليه
(إلا رجل) مستثنى من أحد فهو في المعنى استثناء من كل ذي علم (برع) بالضم والفتح فاق، والباء في قوله
(مختصين بالقرآن) إن كانت داخلة على المقصور عليه كما هو أصل اللغة: فالمعنى أن استعمالهما في القرآن أكثر
وكأنهما دونا لمعرفة أسرار بلاغته ودلائل إعجازه فهما للقرآن لا لغيره، وإن جعلت داخلة على المقصور كما هو
المشهور في الاستعمال فالمعنى: أن الاطلاع على فرائده والكشف عن وجوه خرائده لا يحصل إلا بهما فهو لهما
لا لغيرهما (تمهل) أي اتأد من المهل بسكون الهاء، أو سبق من المهل بفتحها (والارتياد) من راد الكلأ، وارتداه
إذا طلبه (آونة وأزمنة) جمعا أوان وزمان للتكرير: أي أوانا بعد أوان وزمانا بعد زمان كقوله تعالى - أولئك
عليهم صلوات من ربهم - أي صلاة بعد صلاة كما يجئ، ولا نظر إلى كونهما جمعا قلة إذ لا يناسب المقام أصلا
(التنقير) عن الأمر البحث عنه (ومظنة الشئ) مألفه الذي يظن كونه فيه، ومظان العلمين تراكيب البلغاء،
والقرآن حجة الله على خلقه ومعجزة لرسوله في إثبات نبوته، فيستحق أن يعتنى بشأنه وتتحمل المشاق في معرفة
16

لطائفة واستيضاح إعجازه بعد أن يكون ظرف لبرع وما عطف عليه (بخط) مفعول آخذا، يقال: خذ
الحطام، وخذ بالحطام، ترك العطف بنى الإخبار يكون تنبيها على أن كل واحد منها أمر مستند بنفسه يستأهل أن
يثبت استقلالا (قد رجع) بيان لقوله (طويل المراجعات) أي رجع زمانا طويلا في التعلم (ورجع إليه) في التعليم
(ورد) على غيره في المناظرات (ورد عليه، فارسا في علم الإعراب) تخصيص للنحو من بين سائر العلوم: أي
يكون مع أخذه منها بخط وافر كاملا في علم الإعراب فإنه العمدة في هذا الباب (مقدما) في معرفة كتاب سيبويه
على حملته فإنه أحسن كتاب وضع فيه، قال السيرافي: ما سبقه بمثله من قبله ولا لحقه من بعده (وكان) عطف
على قد برع (مع ذلك) أي مع ما ذكر من براعته في العلمين بعد كونه كذا وكذا (مسترسل الطبيعة) أي سلس
الطبيعة في الحركات الفكرية نحو دقائق العلوم سهل القبول لها لانقيادها من قولهم بعير رسل بفتح الراء: سهل
السير، وناقة رسلة، فيها لين (مشتعل القريحة) في استجلاء الدقائق وانتقادها عند الوصول إليها، وقوله
(وقادها) دفع لتوهم الخمود كناب العرفج بعد سرعة الاشتعال، كما أن منقادها دفع لتخييل الضعف من الاسترسال،
وقد يقال: حاصله أن له طبيعة كالماء في السلاسة والقبول، وكالنار في النفوذ والتوقد (اللمحة) الإشارة الخفية
(والرمز) الإيماء بالشفتين والحاجبين (والكزازة) الانقباض واليبس، يقال رجل كز، وقوم كز بالضم وفرس
كزة، إذا كان في عود ها يبس عن الانعطاف (والجاسي) الصلب من جسأت يده من العمل: أي صلبت (الجافي)
النابي من الجفاء وهو الغلظة في العشرة وترك الرفق في المعاملة والكلام. أثبت أولا سلاسة الطبيعة وصفاءها وجودة
القريحة وذكاءها بحسب الفطرة، ثم نفى أضدادها مبالغة في إثباتها. ثم شرع بقوله (متصرفا) في الصفات العملية
المتفرعة على تلك الغرائز الخلقية. ولا شبهة في أن ذلك ترتيب أنيق لا فتور فيه ولا إلباس، فمن لا يعجبه مثل هذا
التركيب فليتهم نفسه (والدربة) العادة والتجربة (أساليب الكلام) فنونه (والمرتاض) ما تمت رياضته (والريض)
ما كان أهلا لها ولم يرض بعد. وقوله (غير ريض) دفع لتوهم التجوز في المرتاض (بنات الفكر) أما المقدمات
وتلقيحها ترتيبها على وجه يؤدى إلى المطلوب. وأما النتائج كما اشتهر في الاستعمال أو يراد استخراج نتيجة من
أخرى دلالة على قوة الفطانة وكمال الرياضة، أو يراد التلقيح لأجلها، و (قد علم) بيان وتقرير لقوله مرتاضا
بتلقيح بنات الفكر: أي قد علم كيف يرتب أجزاء الكلام، ويؤلف بينها وكيف ينظم أفرادها، ويرصف في نظمها،
أي علم كيفية التلقيح في المقدمات وأجزائها (الترصيف) الضم والإحكام (طالما) تأكيد لقوله قد علم، وكلمة
" ما " في طالما وقلما إما مصدرية: أي طال اندفاعه، وإما كافة تكفهما عن طلب الفاعل لفظا وتهيئهما لوقوع
الفعل بعدها، ويؤيده أنها كتبت موصولة كما في إنما، وجاز الفصل بينها وبين الفعل قال: الكميت:
وقد طال ما يا آل مروان أنتم * (ولقد رأيت) هو إلى آخر الخطبة معطوف على قوله ثم إن أملأ العلوم،
17

عطفا لقصة على قصة علم التفسير: أي كان طبقات المفسرين في غاية التباين لكثرة نكته وتوقف إدراكها على
شرائط قلما تجتمع في واحد، وكنت أنا في أعلى طبقة منها قادرا على كشف سرائر هذا الفن وفوائده، ووجدت
الناس محتاجين إلى ذلك غاية الاحتياج، ملحين على في وضع هذا الباب، فتصديت لوضع هذا الكتاب، فأتمه
الله على يدي في أدنى مدة، واللام في لقد جواب قسم مقدر دفعا لما عسى يختلج في وهم من له ريبة في صدقه،
وتوحيد الضمير في رأيت لأن الراية له خاصة، وجمعه في (إخواننا) لإرادة أنهم أخوة للطائفة العدلية عامة،
وبيان الأخوة الذي هو جمع قلة بالأفاضل الذي هو جمع كثرة تنبيه على أنهم وإن قلوا صورة فهم الكثيرون حقيقة
أي شرفا وفضيلة، وذكر (الفئة الناجية) إشارة إلى أنهم الذين حكم في الحديث بنجاتهم. وقوله (في الدين) ظرف
لإخواننا لتضمنه معنى الموافقة والمعاونة (الجامعين) صفة لأفاضل (وعلم العربية) يتناول أقسامها من اللغة وغيرها
(والأصول الدينية) علم الكلام والشرطية أعني (كلما رجعوا) مفعول ثان لرأيت. وفى هذا التعميم مبالغة (بعض
الحقائق) أي بعض حقائقها أو بعض ما عندي منها (أفاضوا) أي شرعوا دفعة في استحسان ما أبرزته لهم، وفى
التعجب منى (استطيروا) استغزوا كأنهم حملوا على الطيران (شوقا) مفعول له لا تمييز، إذ لا معنى لقولك استطير
شوقه (أطراف) المدينة نواحيها وسوادها فاستعيرت لجوانب لكلام: أي يضم أشياء كثيرة من ذلك: أي من
جنس ما أبرزت لهم، وقد يقال: أراد ضم ذلك المبرز المتفرق (حتى اجتمعوا) أي أدى تعجبهم وشوقهم إلى
الاجتماع (والاقتراح) السؤال من غير روية ويدل على كمال الشغف (والإملاء) متعد، فإما أن يقدر مفعوله:
أي أملى كتابا في الكشف، أو نزل منزلة اللازم: أي أفعل الإملاء في الكشف (حقائق التنزيل) معانيه التي
ينساق إليها بلا صرف عن ظاهره، وتأويله أن يصرف إلى خلاف ظاهره لأمارة تدل عليه (وعيون الأقاويل) خيارها
عطف على حقائل التنزيل أي الكشف عن الحقائق بإبرازها وعن العيون بتفصيلها وتوجيهها أو عطف على
الكشف. والأقاويل جمع أقوال جمع قول، والظرف أعني (في وجوه) متعلق بالأقاويل، وما أحسن هذه العيون
في الوجوه (فاستعفيت) أي طلبت الإعفاء، يقال أعفني من الخروج معك، أي دعني منه (استشفعه) واستشفع
به: أي سأله أن يكون شفيعا له، وعطف علماء العدل على عظماء الدين من قبيل عطف الصفات، وأراد بعظماء
الدين الزهاد والعباد. والمعتزلة سموا أنفسهم أهل العدل لأنهم أوجبوا على الله تعالى ما هو عدل عنهم من ثواب
المطيع وعقاب العاصي وتيسير أسباب الطاعات وزواجر المعاصي ورعاية ما هو الأصلح للعباد، ولم يجوزوا شيئا
مما يعد ظلما وأهل التوحيد إذ لم يثبتوا له تعالى صفات قديمة زائدة على ذاته لاستلزامه تعدد القدماء المنافى للتوحيد
(والذي حداني) مبتدأ خبره: ما أرى عليه، وهو جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، أعني فأبوا فأمليت.
وفائدتها تأكيد حقيقة الاقتراح والاستشفاع وإظهار أن استعفاءه لم يكن عن قصور بل عن استقصاره من يستضئ
بنوده؟. حداني ساقني، وعدى بعلى لتضمين معنى الحمل والبعث (على علمي) حال من المفعول وقد سبق لك
18

جلية حالها، كلمة (ما) موصولة، والجملة الآتية صلتها: أي طلبوا الأمر الذي يجب على صاحبه الإجابة إليه (لأن
الخوض) تعليل لتخصيص الوجوب وإشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان من فروض الكفايات إلا أن صار عليه
كفرض العين إذ كان متعينا له في زمانه (ما أرى) إما موصوفة: أي شئ أرى عليه، و (من رثاثة) بيان لما
وصفة أخرى لها وإما موصولة، ومن رثاثة بيان للضمير في عليه، وحال منه للموصولة إذ لا ينتصب حال من
خبر المبتدأ، وقيل المعنى: لا يساعد على جعله حالا من ضمير عليه، فإما لأن المعنى: ما أرى الزمان على رثاثة
حاله، وهو مردود بأن المبين ليس في حكم الساقط بالمرة، وهذا ممنوع في البدل فكيف في البيان، وإما لأن تقييد
الرؤية بحال كونه رثاثة لا فائدة فيه، وجوابه أن ما يرى عليه الزمان يتناول بمفهومه مالا يكون رثاثة، كما أن
الرجس يتناول بمفهومه مالا يكون وثنا، فكما أن من الأوثان حال من الرجس مقيدة للعامل يكون الرجس وثنا
كذلك من رثاثة حال من الضمير في عليه مقيدة للرؤية بكون المرئي رثاثة وهى البذاذة، يقال ثوب رث: أي خلق
(والركاكة) الضعف، قال رحمه الله: الركة والرقة من باب واحد، إلا أن الركة غلبت في ذم المعاني والأقوال،
يقال معنى ركيك، وقول ركيك، واستعيرت لذم الأعيان. ورجل ركيك: أي ضعيف لاعتلاله (قوله أدنى
عدد هذا العلم) هو اللغة والصرف والنحو مما يتوصل به إلى المعاني الوضعية (فضلا) مصدر يتوسط بين أدنى وأعلى
للتنبيه بنفي الأدنى واستبعاده عن الوقوع على نفى الأعلى واستحالة: أي عده محالا عرفا فيقع بعد نفى إما صريح
كقولك فلان لا يعطى الدرهم فضلا عن أن يعطى الدينار، فإعطاء الدرهم منفى عنه ومستبعد، فكيف يتصور منه
إعطاء الدينار. وإما ضمني كقوله وتقاصر هممهم الخ، يعنى أن هممهم تقاصرت عن بلوغ أدنى عدد هذا العلم
وصار منفيا مستبعدا عنهم، فكيف يترقى إلى ما ذكر من الكلام المؤسس، وهو مصدر قولك فضل عن المال
كذا: إذا ذهب أكثره وبقى أقله. ولما اشتمل على معنى الذهاب والبقاء ومعنى الكثرة والقلة نظر بعضهم إلى معنى
الذهاب والبقاء فقال: تقدير الكلام في المثال الأول فضل عدم إعطاء الدرهم عن الدينار: أي ذهب إعطاء
الدينار بالكلية وبقى عدم إعطاء الدرهم، وفى المثال الثاني فضل تقاصر الهمم عن بلوغ أدنى العدد عن الترقي بالمرة:
أي ذهب الترقي بالمسرة وبقى التقاصر، فالباقي هو نفى الأدنى المذكور قبل فضل، والذاهب نفس الأعلى المذكور
بعده، وحينئذ يفوت شيئا من أصل الاستعمال: الأول كون الباقي من جنس الذاهب، إذ ليس انتفاء الأدنى
من جنس الأعلى الثاني كون الباقي أقل من الذاهب، إذ لا معنى لكون انتفاء الأدنى أقل من نفس الأعلى. فإن
قلت: المفهوم من فضلا حينئذ أن ما بعده ذاهب متف بتمامه، وأما أنه أدخل في الانتفاء وأقوى فيه مما نفى قبله كما
هو المقصود فلا. قلت: قد يفهم ذلك من كونه أعلى وأدنى، إذ الأعلى أولى بالانتفاء من الأدنى. ونظر آخرون
إلى معنى القلة والكثرة فقالوا: التقدير في المثال الأول فضل عدم إعطاء الدرهم عن عدم إعطاء الدينار: أي
العدم الأول قليل بالقياس إلى العدم الثاني. فإن الأول عدم ممكن ويستبعد وقوعه. والثاني عدم مستحيل فهو أكثر
قوة وأرسخ من الأول. وفى المثال الثاني فضل تقاصر الهمم عن الأدنى عن تقاصرها عن الترقي: أي التقاصر
الأول قليل بالقياس إلى الثاني، فإن التقاصر عن الترقي واجبي، وعلى هذا التوجيه يفوت من أصل الاستعمال
معنى الذهاب والبقاء، ويلزم أن لا تكون كلمة عن صلة له بحسب معناه المراد، بل بحسب أصله، ويحتاج إلى
19

تقدير النفي فيما بعد فضلا. ولبعضهم توجيه ثالث مبنى على اعتبار ورود النفي على الأدنى بعد توسط فضلا بينه
وبين الأعلى، كأنه قيل: يعطى الدرهم فضلا عن الدينار: أي فضل إعطاء الدرهم عن إعطاء الدينار على معنى:
ذهب إعطاء الدينار وبقى من جنسه بقية هي إعطاء الدرهم. ثم أورد النفي على البقية، وإذا انتفت بقية الشئ كان
ما عداها أقدم منها في الانتفاء. ويرجع حاصل المعنى إلى أن إعطاء الدينار انتفى أولا ثم تبعه في الانتفاء إعطاء الدرهم
وهكذا بلوغ الهمم إلى أدنى العدد بقية من جنس الترقي، فإذا تقاصرت عن البلوغ كان تقاصرها عن الترقي مقدما
عليه. وناصب فضلا محذوف وجوبا لجريه مجرى تتمة الأول بمنزلة لا سيما، ولا محل لذلك المحذوف من الإعراب
وإن زعم بعضهم أنه حال، ولا يلتبس عليك أن فاعل ذلك الفعل المحذوف هو الأدنى على الوجه الأخير، ونفيه
على الوجهين الأولين (إلى الكلام المؤسس) أي إلى إدراكه بتحصيل عدده، ويريد به كلامه في الكشف عن
حقائق التنزيل لأنه بصدد إبداء عذر الاستعفاء عن إملائه، وأيضا قوله (وطائفة من الكلام) يرشد إليه، فمن
قال: المراد به القرآن فقدسها (في الفواتح) أي الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل أراد الفاتحة وصيغة الجمع
تعظيم لها وهو بعيد جدا، والأولى أن يراد فاتحة الكتاب مع فواتح السور (وكان) أي المملى (حاولت به) قصدت
بذلك المبسوط (منارا) علما (ينتحونه) يقصدونه و (يحتذونه) يقتدون به ويقيسون عليه (صمم العزم) أي
خلص عن التردد وصار ماضيا لا فتور فيه. يقال صمم السيف: إذا مضى في العظم وقطعه، وصمم فلان على
أمره: أي مضى على رأيه فيه (وجدت) جواب لما (في مجتازى) إما مصدر فيتعلق به الجار: أي في اجتيازي
بكل بلد، وإما مكان فيتعلق الجار بوجدت (والمسكة) مقدار ما يتمسك به من عقل أو علم أو قوة، والضمير
في أهلها للبلد بتأويل البلدة، ولقد تفنن بإراءة معنى واحد في صور مختلفة، فوحد الضمير مذكرا في قوله فيه
نظرا إلى لفظ من، وجمعه في (قليل ما هم) نظرا إلى معناه، وأفراد قليل مع أنه خبر لقوله (هم) قدم عليه اهتماما به
بناء على أنه صفة لمقدر لفظه مفرد ومعناه جمع مثل فوج أو حزب. وقال (عطشى الأكباد) لأنهم جماعة واستعمل
جمع السلامة والتكسير (التطلع) التشوف (والإيناس) الإبصار (العطف) الجانب وهز العطف كناية عن
السرور، لأن الفرحان يتحرك جانباه نشاطا، و (من) للتبعيض، ومن (عطفى) مفعول هز: أي حصل في
بعض الارتياح لأن تمامه كان باستدعاء الشريف. وقد يقال هز العطف كناية عن إزالة الغفلة، فإن الغافل ينبه
بتحريك جانبه والمقام ناب عنه (إذا) للمفاجأة: أي فاجأت زمان أنا ملتبس (بالشعبة) فإذا مفعول به لفاجأت
وهو جواب لما (السنية) الرفيعة (والدوحة) الشجرة العظيمة (والأمير) بدل من الشعبة أو بيان، وبه خرج
الكلام عن الاستعارة إلى التشبيه كقوله تعالى - من الفجر - (والنكتة) كل نقطة من بياض في سواد أو عكسه
20

(والشامة) الخال يقال هو النكتة والشامة في قومه: أي العلم المشار إليه (أعطش الناس) قيل حال، وإنما يصح
عند من يجعل إضافته لفظية ولم يذهب إليه المصنف، فالأولى أن يكون مفعولا لما دل عليه المفاجأة من معنى
وجدت، وهذا جائز عند الكوفية مطلقا. وعند البصرية في مثل هذا المحل لتقدم قوله وجدت (المشاده) المشاغل
وقياس واحده مشده بضم الميم وكسر الدال من أشده، كما أن المشاغل جمع مشغل من أشغله، وهو لغة ضعيفة في
شغله إلا أن مشدها لم يستعمل أصلا، وإنما المستعمل شده الرجل: أي شغل أو دهش فهو مشدوه، وجاز أن
يكون من الثلاثي جمع مشده بفتح الميم والدال: أي مقمن الشده، فإن المشاغل مقامن الحيرة والدهش، كما
يقال: الولد مجبنة مبخلة: أي مخلقة ومقمنة لذلك (الفيفاء) الصحراء الملساء والمهمه) المفازة البعيدة والجمع
الفيافي والمهامه (وفد) فلان على الأمير: أي ورد عليه رسولا في خطب من تهنئة ونحوها، جمع الضمير في (علينا)
تعظيما لتناسب لفظه الوفادة، والقول بأنه للتواضع والإشارة إلى أن وفادته لا تكون على وحدى بل مع إخواني من
الأفاضل يدفعه قوله ليتوصل إلى هذا الغرض فإنه منحصر فيه كما مر، والقصد إلى جعل الإخوان شفعاء عنده
لا يلأم المقام (فقلت) عطف على جواب لما أعني وجدت (على المستعفى) أراد نفسه والتفت لأن الحيل والعلل
يناسبان وصف الاستعفاء لا ذات المتكلم، يقال عيى بالأمر: إذا لم يهتد لوجهه، فمعنى عيت به العلل أنها لم تهتد
إليه ليمكن له التمسك بها، وهذا أبلغ من أن يقال عيى بالعلل: أي لم يهتد إليها كأن عدم الاهتداء سرى منه إليها،
وقد تجعل الباء للتعدية: أي أعجزته العلل فلم يجد ما يتعلل به وحينئذ تفوت تلك المبالغة، والاستعمال المشهور:
أعني كون الباء صلة للفعل (ورأيتني) معطوف على قلت وبيان لسبب العدول عن طريقة المملى والأخذ في طريقة
أخصر منها (أخذت منى السن) أثرت في وأخذت من قواي ونقصت منها (الشن) القربة البالية، وتقعقع الشن:
تصويته ليبسه، أراد استيلاء اليبس على جلده لكبر سنه (ناهزت) شارفت وقاربت، و (العشر) المسماة (بدقاقة
الرقاب) ما بين الستين إلى السبعين، وقد حكم سيد البرايا بأنها معترك المنايا (فأخذت) عطف على رأيتني (مع ضمان)
حال من أخذت: أي مقارنا لضماني وكفالتي بذلك دفعا لما يتوهم في الاختصار من فوت الفوائد (السرائر) جمع
سريرة بمعنى السر (سدد أي وفق للسداد وهو الصواب من لاقول والعمل (ففرغ منه (أي من الكتاب لدلالة
السياق عليه بل لكونه مذكورا معنى، لأن قوله طريقة أخصر عبارة عنه، ولم يصرح بإسناده الفراغ إلى نفسه
تنبيها على أن الفراغ منه في مثل ذلك الزمان لا يتصور من إنسان، بل هو محض موهبة من عند الله المنان (مدة خلافة
أبى بكر رضي الله عنه) سنتان وأربعة أشهر أو ثلاثة أشهر وتسع ليال: أي كان يقدر تمامه في أكثر من مدة خلافة
الأربعة، فاتفق في مدة خلافة أقلهم مدة (وما هي) أي الفراغ في تلك المدة القليلة، وتأنيث الضمير باعتبار الخبر
21

الذي هو (آية) وقوله (من آيات هذا البيت المحرم) ناظر إلى قوله تعالى - فيه آيات بينات - (ما تعبت فيه منه)
الضمير الأول لما، والثاني للكتاب، فتجعل من بيانية لا تبعيضية لأنه تعب في مجموعه لا في بعضه فقط. وقيل
بالعكس: أي ما تبعت منه في تصنيف الكتاب. وقيل الأول لله تعالى، والثاني لما: أي ما تعبت فيه: أي في
ذات الله ومرضاته كقوله تعالى - جاهدوا فينا - وقيل بالعكس، فيكون منه صفة لسببا فلما قدمت صارت حالا:
أي يجعل المتعوب فيه وهو الكتاب سببا من الله تعالى. وقد يقال الأول للحرم، والثاني لما: أي ما تعبت منه في
الحرم، والباء في (بيميني) بمعنى في: أي يسعى بين يدي وفى يميني، وهو مقتبس من قوله تعالى - يسعى نورهم
بين أيديهم وبأيمانهم - (ونعم المسؤول) عطف على أسأل الله، فإما أن يجعل أسأل الله إنشاء للسؤال، أو يقدر
القول في نعم: أي وأقول نعم والمخصوص بالمدح محذوف: أي نعم المسؤول: أي المدعو هو: أي الله تعالى، أو
نعم المطلوب هو: أي الجعل المذكور.
سورة فاتحة الكتاب
فاتحة الشئ أوله، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب، ثم أطلقت على أول
الشئ تسمية للمفعول بالمصدر، لأن الفتح يتعلق به أولا وبواسطته يتعلق بالمجموع، فهو المفتوح الأول. وقيل
الفاتحة صفة، ثم جعلت اسما لأول الشئ إذ به يتعلق الفتح بمجموعه، فهو كالباعث على الفتح، وأدخل التاء
علامة للنقل من الوصفية إلى الاسمية كما في النطيحة، وهذا هو الوجه لأن فاعلة في المصادر قليلة، وقس على
الفاتحة حال الخاتمة (قوله الكتاب) كالقرآن يطلق على مجموع المنزل المكتوب في المصحف وعلى القدر المشترك
بينه وبين أجزائه المخصوصة، ومعنى فاتحة الكتاب أوله، ثم صارت بالغلبة علما لسورة الحمد، وقد تطلق عليها
الفاتحة وحدها، فإما أن يكون علما آخر بالغلبة أيضا لكون اللام لازمة، وإما أن يكون اختصارا لفاتحة الكتاب
واللام كالخلف عن الإضافة إلى الكتاب مع لمح الوصفية الأصلية. قال صاحب الكشف رحمه الله تعالى: وهذه
الإضافة بمعنى من لأن أول الشئ بعضه. ورد عليه بأن البعض قد يطلق على ما هو فرد الشئ كما يقال: زيد
بعض الإنسان، وعلى ما هو جزء له كما يقال: اليد بعض زيد. وإضافة الأول إلى الشئ بمعنى من دون الثاني،
ومن ثمة اشترط في الإضافة بمعنى من كون المضاف إليه جنسا للمضاف صادقا عليه، وجعل من بيانية كخاتم
فضة. فإن قلت: لعله يجعل الكتاب بمعنى القدر المشترك الصادق على سورة الحمد وغيرها: أي فاتحة هي الكتاب
قلت: يأباه أن كونها فاتحة وأولا بالقياس إلى مجموع المنزل لا القدر المشترك. فإن قلت: جوز العلامة في سورة
لقمان الإضافة بمعنى من التبعيضية وجعلها قسيم الإضافة بمعنى من البيانية حيث قال: معنى إضافة اللهو إلى
الحديث التبيين، وهى الإضافة بمعنى من كقولك: باب ساج، والمعنى: من يشترى اللهو من الحديث، واللهو
22

يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث، والمراد بالحديث المنكر كما جاء في الحديث " الحديث
في المسجد يأكل الحسنات " ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية كأنه قيل: ومن الناس من يشترى
بعض الحديث الذي اللهو منه، فنقول على التقدير الثاني: إن أريد بالحديث مطلقه كان جنسا للهو صادقا عليه،
كما أن الحديث المنكر يصدق عليه، وكانت الإضافة بيانية كما في باب ساج، فلم يجز جعلها مقابلة إياها، وإن
أريد بالحديث العموم والاستغراق فقد ثبت إضافة الجزء إلى الكل بمعنى من التبعيضية، وإن كانت غير مشهورة.
قلت: الظاهر أن المراد مطلق الحديث، لكنه دقق النظر في إضافة الشئ إلى ما هو صادق عليه، فما كان فيه
المضاف إليه يحسن جعله بيانا وتمييزا للمضاف كالساج للباب، وكالحديث المنكر للهو جعلها بيانية، وما لم يحسن
ذلك فيه كالحديث المطلق للهو جعلها تبعيضية ميلا إلى جانب المعنى (قوله مكية) ذكر المصنف في سورة الفلق
أن أكثر المفسرين على أن الفاتحة أول سورة نزلت ثم القلم فتكون مكية، وأما أنها نزلت مرة أخرى بالمدينة حين
حولت القبلة كما نزلت بمكة حين افترضت الصلاة فهو قول البعض. وقد يتوهم أنها مدنية فقط. ويرده اتفاق
الأكثر على أنها متقدمة في النزول على سورة القلم وإن كان صدر القلم أول منزل، وسيأتيك تحقيقه عن كثب.
ولما كان تسمية هذه السورة بفاتحة الكتاب وسورة الحمد ظاهره، وكذا تسميتها بسورة الشفاء والشافية، إذ قد
ورد أنها شفاء من كل داء لم يتعرض لها، وأما تسميتها بأم القرآن وسورة الكنز والوافية فلا اشتمالها على أصول معاني
القرآن وهى ثلاثة: الأول الثناء على الله بما هو أهله. الثاني تعبد العباد وتكليفهم بالأمر والنهى. الثالث الوعد
والوعيد بالترغيب والترهيب. أما الثناء أعني إجراء صفات الكمال على الله تعالى فظاهر، وأما العبادة ففي قوله تعالى
- إياك نعبد - فإن العبادة قيام العبد بحق العبودية وما تعبد به من امتثال أوامر المولى ونواهيه أو في قوله - الصراط
المستقيم - إذ أريد به ملة الإسلام المشتملة على الأحكام، أو في قوله - الحمد لله - لأنه لتعليم العباد، فمآل معناه
قولوا: الحمد لله، والأمر بالشئ إيجابا يستلزم النهى عن ضده. وأما الوعد والوعيد ففي قوله - أنعمت عليهم
والمغضوب عليهم - أو في قوله - يوم الدين - أي الجزاء فإنه يتناول الثواب والعقاب، والوجه في انحصار مقاصد
الكتاب المجيد في الأصول الثلاثة أن القرآن أنزل إرشادا للعباد إلى معرفة المبدأ والمعاد، ليؤدوا حق المبدئ بامتثال
ما أمر ونهى، ويدخروا بذلك للمعاد مثوبة كبرى. وبعبارة أخرى أنزل القرآن كافلا بسعادة الإنسان، وذلك
بأن يعرف مولاه ويتوصل إليه بما يقربه منه ويتنصل عما يبعده عنه، ولابد في التوصل من باعث هو الوعد،
وفى التنصل من زاجر هو الوعيد، ولولا هما لاستولى الكسل الطبيعي على النفوس، وتسلط عليها دواعي الهوى،
وحجبت عن حضرة النور بظلمات بعضها فوق بعض، وقد يظن أن هاهنا مقصدا رابعا هو الدعاء والسؤال في
قوله - أهدانا - ويجاب بأنه متفرع على ما ذكر، فإن المعتد به من الدعاء ما كان في أمر الآخرة، وأداء الطاعة وترك
المعصية. لا يقال كثير من السور تشتمل على هذه المعاني ولم تسم أم القرآن. لأنا نقول: لما كانت هذه السورة
متقدمة على سائر السور وضعا بل نزولا على قول الأكثر، وكانت مشتملة على تلك المعاني مجملة على أحسن
ترتيب، ثم صارت مفصلة في السور الباقية، فنزلت منها منزلة مكة من سائر القرى حيث مهدت أرضها أولا،
23

ثم دحيت الأرض من تحتها، فكما أن مكة أم القرى كذلك الفاتحة أم القرآن، على أن ما ذكرناه وجه التسمية ولا
يجب اطراده (الثاني) جمع مثنى على صيغة المفعول من التثنية بمعنى مردد ومكرر، ويجوز أن يكون جمع مثنى
مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة، كذا في سورة الزمر، وقال في سورة الحجر: واحدها مثناة، ففي
بعض النسخ على صيغة المفعول من التثنية كما في الوجه الأول في الزمر، وفى أكثرها بفتح الميم مفعلة من الثنى كما
في الوجه الثاني فيها، وسميت الآيات السبع التي هي الفاتحة بالمثاني لأنها تثنى في كل ركعة: أي صلاة تسمية للكل
باسم الجزء، وقد صرح بذلك في سورة الحجر وقال: المثاني من التثنية وهى التكرير، لأن الفاتحة مما يتكرر
قراءتها في الصلاة وغيرها، وهذه العبارة أعني لأنها تثنى في كل ركعة وردت في صحاح الجوهري أيضا، ولعل
فائدة المجاز المبالغة في أن كل صلاة فعلة واحدة كركعة، وقد تعددت الفاتحة فيها فيتضح تكررها زيادة إيضاح
وربما يقال إنها تتكرر في كل ركعة بالقياس إلى أخرى، ففي الثانية بوقوعها مرة في الأولى، وفى الأولى عند انضمام
الثانية إليها، ولا يرد على الوجهين التنفل بركعة واحدة إذ ليس من مذهب المصنف، فإن قلت: هل يمكن لمن
جوز التنفل بها أن يعلل التسمية بأنها تثنى في كل ركعة على أحد التأويلين؟ قلت: نعم على أن يجعل عاما مخصوصا،
فإن تكررها في أكثر الصلوات والركعات كاف في تسميتها بالمثاني، وأما صلاة الجنازة فلا يرد على أحد في
هذه العبارة لأنها لا تسمى ركعة صلا. قال رحمة الله تعالى: والأشبه أن يراد ببيان محل التكرير على معنى أن الفاتحة
لها تكرر بحسب الركعة لا بحسب أركانها كالطمأنينة، ولا بحسب كل ركعتين كالتشهد في الرباعية، ولا بحسب
كل الصلاة كالتسليم، فإن تعددت الركعة تكررت الفاتحة وإلا فلا، كأنه قيل لأنها تثنى باعتبار تعدد الركعة،
ويتج عليه أن هذا المعنى وإن كان واضحا في نفسه إلا أن دلالة هذه العبارة عليه في غاية الخفاء كما لا يخفى. الياء
في قوله (بقراءتها) للسببية: أي قراءتها في الصلاة سبب لفضيلتها على مذهب أبي حنيفة، وسبب لإجزائها على
مذهب الشافعي، فقد توقفت فضيلة الصلاة أو إجزاؤها عليها توقف المسبب على السبب، فسميت سورة الصلاة
لهذه العلاقة. وقد يتوهم أن يقال لأنها لا تكون فاضلة أو مجزئة إلا بقراءتها فيها لتفيد ما قصده من توقف
الفضيلة أو الإجزاء على الفاتحة بيانا للمذهبين. وجوابه: أن التوقف مفهوم من السببية فلا حاجة إلى القصر في
العبارة - لا يقال: لعل هناك سببا آخر. لأنا نقول: الأصل عدمه، وهذا القدر واف بتأدية المقصود في متعارف
أهل اللغة. (قوله من عد أنعمت عليهم) آية أراد صراط الذين أنعمت عليهم إلا أنه اختصر لظهور أن الصلة دون
الموصول والمضاف إليه بدون المضاف لا يعد لأن الكل في حكم كلمة واحدة (قوله قراء المدينة) أجمعت الأمة
على أن التسمية في سورة النمل بعض آية منها فهي من القرآن قطعا. واختلفوا في التسمية في أوائل السور، فقال
بعضهم: إنها آية من كل سورة وهى من أوائلها مائة وثلاث عشرة آية من القرآن، وهو سعيد بن جبير والزهري
24

وعطاء وابن المبارك وعليه الشافعي وأصحابه. وقال آخرون: إنها ليست من القرآن أصلا، وهو مذهب ابن مسعود
ومذهب مالك والمشهور من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وأتباعه. وذهب المتأخرون من علماء الحنفية إلى أن
الصحيح من المذهب أنها آية واحدة من القرآن ليست جزء الشئ من السور، بل أنزلت للفصل بينها تبركا بها،
فنشأ من ذلك اختلاف آخر وهو أنها آيات بعدد كل سورة مصدرة بها، أو آية واحدة منفردة عنها. ونقل بعض
الناس أنها بعض آية من واحدة من تلك السور. والمصنف لم ينقل إلا الخلاف الأول ولم يعتد بما عداه. ويدل على
ذلك أمران: الأول أنه نسب القول الأول إلى قراء المدينة والبصرة والشام وفقهائها، ومذهبهم أنها ليست من
القرآن أصلا حتى قال مالك: لا ينبغي أن تقرأ في الصلاة لا جهرا ولا سرا. الثاني أنه قال: وإنما كتبت للفصل
والتبرك ولم يقل إنها نزلت، ويؤيد ذلك أنه شبه إثباتها في أوائل السور بذكرها في أول كل أمر ذي بال، فتعين
أن يكون قوله: على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، محمول على المشهور من مذهب أبي
حنيفة، أعني أنها ليست من القرآن وإن كان بحسب المفهوم متناولا أيضا لما اختاره المتأخرون من الحنفية
وعولوا عليه في الفتوى، وكان حق العبارة أن يقول: على أن التسمية ليست من القرآن، لكن عدل عنه لفائدتين:
الأولى أن يرد النفي في هذا القول على ما هو مذهب المخالف لإظهار التقابل. الثانية أن يرد على من قال إنها آية
منفردة عن السور بناء على ما قدمه من أن القرآن مفصل سورا وسوره آيات: أي إذا أكنت آية من القرآن كانت من
سوره قطعا، وإذا تحققت ما تلوناه انكشف لك أمور: الأول أن تفريع ترك الجهر بالتسمية على القول بأن ها ليست
بآية من الفاتحة ولا من غيرها منتظم، لأن حاصله أنها ليست من القرآن على رأيهم، فلا يجهر بها عندهم، ولا يتوجه
عليه أنه لا يلزم مما ذكر أن لا يجهر بها لجواز أن تكون آية منفردة أو بعض آية من كل سورة. وقد دفعه بعض بأن
قوله: ولذلك لا يجهر بها عندهم، ليس في معرض الاستدلال، بل إخبار لما بنوا عليه ترك الجهر، وهو
مدفوع بأن السؤال أيضا إخبار بأن ذلك البناء منهم غير منتظم كما انتظم بناء الشافعية الجهر بها على كونها آية من كل
سورة. الثاني أن الاستدلال بإثبات السلف إياها في المصحف بخطه على أنها من كل سورة صحيح. ولا يرد عليه أن
ذلك إنما يدل على كونها من القرآن لا على أنها من كل سورة لما مر من جواز كونها آية على حدة أو بعض آية،
لما عرفت من أنه لم يعتد بهذين الخلافين، فإذا كانت من القرآن كانت آية من كل سورة. الثالث أن التمسك بقول
ابن عباس في إثبات ذلك المدعى تام لما أشرنا إليه، ولا يتجه عليه أنه إنما يدل على أنها ليست آية واحدة، وأما
على أنها آية من كل سورة فلا، إلا أن يلتجأ إلى أن التسمية مائة وثلاث عشرة آية لامن السور مما لم يذهب إليه أحد.
واعلم أن الباء في قوله بالابتداء ليست صلة للتبرك لأن المتبرك به نفس التسمية لا الابتداء به. وإنما هي بيان للتبرك:
أي التبرك بالتسمية بأن يبتدئ بها. وأما أنه قال أولا بالابتداء بها فجعل الابتداء متعلقا بالتسمية، وثانيا كما بدئ
25

بذكرها فجعله متعلقا بذكر التسمية، فلا يقتضى فرقا يعتد به في المعنى (قوله مع توصيتهم بتجريد القرآن) اعترض
عليه بأنه أثبت في المصحف أسماء السور وأعداد الآي. وأجيب بأن من فعل ذلك فقد ميزه وأثبته بلون آخر (قوله
وأربع عشرة آية) الظاهر ثلاث عشرة لخلو براءة عن التسمية. وأجيب بوجوه: الأول أنه اعتقد وجود التسمية
في براءة، ويؤيده أنه سأل عثمان رضي الله عنه عن ترك التسمية فيها كما نقله المصنف هناك. الثاني أنه اعتبر بنزول
الفاتحة مرتين ففيهما تسميتان هما آيتان. ويرد عليه أن الفاتحة حينئذ أربع عشرة، وقد مر أنها سبع آيات اتفاقا.
الثالث أنه أراد ترك التسمية مطلقا فيتناول ما في أثناء سورة النمل، وهى وإن كانت بعض الآية يتضمن تركها،
واعترض عليه بأن النزاع بين الأئمة إنما وقع في التسمية في أوائل السور، فالظاهر أن كلامه رضي الله عنه كان
فيها. الرابع أنه أراد إلحاق المعدوم بالمتروك تغليبا وتوبيخا. ويتجه عليه أن جعله من باب التغليب يسقط الاستدلال
به على المطلوب لجواز أن يكون التغليب في أكثر من سورة واحدة. ورد أيضا بأن عكسه: أعني إلحاق المتروك
بالمعدوم أدخل في التغليظ والتوبيخ، وفيه بحث لأن تغليب المعدوم على المتروك يوجب فوات نسبة الفعل إلى
التارك صريحا، إذ يصير حينئذ نظم الكلام هكذا من تركها فقد عدم مائة وأربع عشرة آية، ولا شك أن التصريح
بنسبة الفعل القبيح إليه أبلغ في ذمه وأقوى في زجره من أن يجعل سببا للفعل في الجملة، ولا مجال لاعتبار الإعدام
بأن يقال فقد أعدم مائة وأربع عشرة آية، إذ ليس منه إعدام أصلا فكيف يتصور التغليب (قوله بم تعلقت الباء)
الأدوات التي تفضى بمعاني الأفعال إلى ما بعدها فروع لها ومتعلقة بها، وكذلك المعمول من حيث هو معمول فرع
على عامله ومتعلق به فلذلك قال: بم تعلقت الباء، وتراهم يقولون: أحوال متعلقات الفعل بكسر اللام، وإذا
نظر إلى جانب المعنى قيل: تعلق الفعل بكذا، إما بنفسه أو بواسطة حرف (قوله أقرأ أو أتلو) تنبيه على أن المعتبر
خصوص المعنى دون اللفظ (قوله لأن الذي يتلو التسمية مقروء) بيان للقرينة المعينة، فإن حرف الجر وإن اقتضى
فعلا يجر معناه إلى مجروره، لكن لا تتخطى دلالته مطلق الفعل، فاحتيج في تعيينه إلى قرينة أخرى، ولقد بالغ
في تقرير الجواب حيث بين أولا حال المسؤول عنه، ثم زاده بيانا بالكشف عن حال مثالين كثيري الوقوع
مشاركين له في خصوص الجار والمجرور واعتبار التقديم. ثم أشار إلى ضابطه لنوع المسؤول عنه، ثم أورد نظيره
26

من جنسه في حذف متعلق الجار، إما مخالفا له في خصوص الجار والمجرور معا كالأول والرابع، أو في المجرور
فقط كالثاني والثالث، وليس في شئ من هذه النظائر الجنسية تقديم الجار والمجرور على ما يتعلق به، وقدم النظير
من التنزيل لأنه أقوى وعقبه بما هو أقرب منه في القوة، فالأقرب كقول العرب عامة وقول بعض الأعراب
خاصة وقول الشاعر المعين. فإن قيل: الأنسب أن يقول الذي يتلو التسمية قراءة لأن المقصود افتتاح القراءة
بالتسمية كما دل عليه قوله: وكل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله. أجيب بأن المقصود من تلو المقروء تلو القراءة
لاستلزامه إياه، وإنما ترك ذكره ودل عليه رعاية للمجانسة بين التالي والمتلو إذا أمكنت. وبيانه أن المراد بالتسمية
هي هذه العبارة المخصوصة التي عدت آية لا المعنى المصدري، ويتلوها هاهنا شيئا: أحدهما من جنسها ويتلوا
ذكره ذكرها وهو المقروء: أعني الحمد لله مثلا. والثاني من غير جنسها ويتلو وجود ذكرها وهو القراءة، وتلو
كل واحد منهما يستلزم تلو الآخر، فصرح بتلو الأول ليفهم الثاني مع المحافظة على التجانس، وإنما قلنا هاهنا
إذا أمكنت الرعاية لأن تسمية الذابح مثلا لا يتلوها إلا الذبح فإنه يتبع وجوده ذكرها، وأما المذبوح فلا يتبع
ذكرها لا في الوجود ولا في الذكر، فلا يستقيم أن يقال، الذي يتلو التسمية مذبوح (قوله كان مضمرا ما جعلت
التسمية مبدأ له) التسمية جعلت مبدأ للفعل الحقيقي: أعني الحدث كالقراءة والحلول والارتحال، وليس الإضمار
متعلقا به بل بالفعل النحوي الدال عليه، ففي الكلام إضمار: أي كان مضمرا لفظ ما جعل. وزعم بعض النحويين
أن تقدير الابتداء أولى فيقال مثلا: بسم الله أبتدئ القراءة أو الحلول أو الارتحال، واستشهد لذلك بوجهين
الأول أن الابتداء أعم من خصوصيات تلك الأفعال، فهو بالتقدير أولى، ألا ترى أن النحاة يقدرون متعلق
الظرف المستقر فعلا عاما كالحصول والكون. الثاني أن فعل الابتداء مستقل بما قصد بالتسمية من وقوعها مبتدأ
بها، فتقديره أوقع في المعنى. قال: ولا يرد علينا قوله تعالى - اقرأ بسم ربك - لأن الأهم هناك فعل القراءة لا الابتداء
بها، فلذلك صرح بها وقدمت ابتداء بالأهم كما في البسملة. وأجاب غيره بأن تقديره خصوصيات الأفعال أمس
بالمقام وأوفى بتأدية المرام، فإنك إذا قدرت أقرأ دل على تلبس القراءة كلها بالتسمية على وجه التبرك أو الاستعانة،
وإن قدرت أبتدئ القراءة أفاد تلبس ابتداء القراءة بها، والاستشهاد بقول النحويين لا يجديه نفعا فإن ما ذكروه
27

تمثيل وتقريب، فإنك إذا قلت: زيد على الفرس أو من العلماء أو في البصرة، كان المقدر راكب ومعدود
ومقيم. وأما قوله، الغرض وقوع التسمية مبتدأ بها فمسلم، لأنه حاصل بأن يبتدئ بها في أوائل الأفعال سواء قدر
لفظ الابتداء أو ألفاظ خصوص تلك الأفعال، وبذلك خرج الجواب عن قوله لا الابتداء بها كما في البسملة.
قال الفاضل اليمنى تقوية للمجيب: النحويون يقدرون في الظرف المستقر فعلا عاما إذا لم توجد قرينة الخصوص
وأما إذا وجدت فلابد من تقديره لأنه أكثر فائدة. وأقول: تحقيقه أن هذا القسم من الظرف إنما سمى مستقرا لأنه
استقر فيه معنى عامله وفهم منه، فإن لم يفهم منه سوى الأفعال العامة كان المقدر منها، وإن فهم منها شئ من
خصوص الأفعال كان المقدر بحسب المعنى فعلا خاصا كما في الأمثلة السابقة، ولذلك لا يخرجها عن كونها ظرفا
مستقرا، لأن معنى ذلك الخاص استقر فيها أيضا. وجاز تقدير الفعل العام لتوجيه الإعراب فقط. ولما كان
تقدير الأفعال العامة مطردا بخلاف الخاصة فلا يستقيم إلا مع قيام قرينة الخصوص نظروا ضابطا اعتبره النحاة،
وفسروا المستقر بما عامله محذوف وعام. هذا وقد يتوهم من قوله فيما بعد فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص
اسم الله تعالى بالابتداء أن المقدر هو أبتدئ، فكأنه جوز كل واحد من التقديرين، وليرد عليك هناك ما يزيل
عنك الشبهة، و (العرب) هو هؤلاء الصنف المقابل للعجم، والأعراب منهم سكان البادية خاصة، والنسب إلى
الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له (أعرس) بأهله إذا بنى بها وكذا إذا غشيها، و (الرفاء) بالمد الالتئام وحسن
المعاشرة من رفأت الثوب: أصلحت ما وهى منه وربما ترك همزه. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قولهم
بالرفاء والبنين لأنه من شعار الجاهلية (ومنه) فصله إما لأن الجار لم يقع في الابتداء كما في سائر الأمثلة، وإما لأنه
نظم (إلى الطعام) أي هلموا إليه، والبيت للفرزدق، وقيل (1) لشهر بن الحارث الضبي وقبله:
أتوا ناري فقلت منون أنتم * فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
قال الجوهر قولهم: عم صباحا كلمة تحية كأنه محذوف من نعم ينعم بالكسر فيهما، وهى لغة شاذة في نعم ينعم
بالضم فيهما نعومة: أي صار ناعما لينا، ويقال أنعم الله صباحك من النعومة. ونقل عن الأزهري أنه من الوعامة
بمعنى السهولة. وعن يونس أنه من وعمت الدار أعمها: إذا قلت لها أنعمي، و (فريق) فاعل، و (منهم) حال
من الفاعل، و (الإنس) بفتح الهمزة والنون رواية الجوهري وبكسر الهمزة وسكون النون رواية غيره

(1) الذي في الأشموني أنه لتأبط شرا، ويقال لشمر الغساني. وفى الشواهد لسمير بدل شهر وحرره، ا ه‍ مصححه.
28

(قوله لم قدرت المحذوف متأخرا) هذا السؤال لا يختص بتسمية القارئ بل يتناول تسمية القارئ والمسافر والذابح،
وكل فاعل جعلت التسمية مبدأ لفعله فإنه قد صرح بتأخير المقدر في كلام المسافر، وأشار إلى ذلك في كلام لغيره (قوله
لأن الأهم من الفعل والمتعلق به) من هذه تبعيضية والمعطوف في حكم الانسحاب: أي الذي هو أهم من صاحبه
من هذين، فاللام في الأهم قائمة مقام من التفضيلية (قوله لأنهم كانوا يبدؤون) بيان لوجه الاهتمام إذ لا يكفي أن
يقال قدم للاهتمام، بل لابد أن يبين ما يقتضى الاهتمام بذكره والاعتناء بشأنه كما نص عليه الشيخ عبد القاهر
رحمه الله تعالى: أي كان الشمركون يبدؤون في أفعالهم بأسماء آلهتهم، فيقولون عند الشروع باسم اللات وباسم
العزى، وكان التقديم منهم لمجرد الاهتمام الناشئ من قصد التبرك والتعظيم لا للاختصاص، إذ لم يكونوا ينفون
التبرك به تعالى، بل كانوا يتبركون به أيضا، فوجب على الموحد أن يقصد بعبارته قطع شركة الأصنام كي
لا يتوهم منه تجويز الابتداء باسمها فيكون قصر إفراد (قوله معنى اختصاص اسم الله تعالى) أقحم لفظ معنى واضافه
إلى الاختصاص مبالغة في بيان المقصود: أي أن يقصد الموحد معنى هو اختصاص اسم الله تعالى، وأيضا كأنه
تنصيص على أن المقصود الدلالة على الاختصاص لا على فعل الاختصاص بأن يبتدأ به لا بغيره. فإن قلت: قوله
اختصاص اسم الله بالابتداء يدل على أن المقدر أبتدئ، وأن يكون معنى قوله وذلك بتقديمه وتأخيره الفعل أن
اختصاص اسم الله يحصل بتقديمه وتأخير الفعل الذي هو أبتدئ، لأن اختصاص اسمه بالابتداء إنما يحصل بذلك
لا بتقديم اسم الله تعالى وتأخير الفعل الذي هو أقرأ، إذ به يحصل اختصاص اسمه بالقراءة لا بالابتداء، فحينئذ
لا يكون جوابه مطابقا لسؤاله لأنه سأل عن سبب تقير أقرأ متأخرا. وأجاب بما لا يقتضى إلا تقدير أبتدئ متأخرا.
قلت: أراد بالابتداء الفعل الذي يبتدأ به ويشرع فيه كالقراءة ونحوها لا مفهومه الحقيقي، ولذلك قال وتأخير
الفعل، ولم يقل تأخير الابتداء وبهذا القدر يتسق نظم الكلام. فإن المشرك لما كان يبتدئ في أفعاله المخصوصة
باسم آلهته وجب على الموحد أن يبتدئ في أفعاله المخصوصة باسم الله تعالى، ويدل أيضا على اختصاص اسم الله
بتلك الأفعال ردا على المشرك وإظهار للتوحيد، فيتطابق الجواب والسؤال. والباء في قوله بالابتداء داخلة على
المقصور لا على المقصور عليه، وتوضيحه أن الاختصاص وكذا التخصيص والخصوص يقتضى بحسب مفهومه
الأصلي أن تدخل الباء على المقصور عليه فيه فيقال: اختص الجود بزيد: أي صار مقصورا على زيد لا يتجاوزه إلى غيره.
ومنه قوله وأما الله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره. وقوله بعد الدلالة على اختصاص الحمدية:
أي بالله، وهذا عربي إلا أن الأكثر في الاستعمال إدخال الباء على المقصور، وذلك لأن تخصيص شئ بآخر
في قوة تمييز الآخر به، واستعمل فيه مجازا مشهورا، فمعنى اختصاص اسم بفعل يميزه من الأسماء وإفراده عنها
بذلك، وهو حاصل معنى قصر ذلك الفعل عليه، وقس عليه قوله واختص بواو: أي ميز المندوب عن المنادى
29

بهذه الكلمة فتكون هي مقصورة عليه، وقولهم في إياك نعبد: نخصك بالعبادة: أي نميزك أو نفردك من بين
المعبودين بالعبادة له لا بغيره. وقوله - يختص برحمته من يشاء - أي يميزه عن غيره بها، فالرحمة مقصورة على من يشاء
دون العكس (قوله كما فعل) أي تقديم الاسم وتأخير الفعل (قوله والدليل عليه) أي على تقديم اسم الله وتأخير
الفعل في هذا الموضع لقصد معنى الاختصاص، بين أولا أن المقام يناسب التقديم والتأخير ليتأدى ما يجب على
الموحدين من الدلالة على الاختصاص، واستشهد ثانيا بجملة اسمية شاركت المبحوث عنه في معناه وخبرها ذلك
الظرف المخصوص، وقد قدم فيها الخبر لإفادة الاختصاص: أي إجراؤها مجراها ومرساها بسم الله لا بهبوب الرياح
وإلقاء المرساة كما يتوهمه أهل العرف، فدل على أن المتعلق في المبحوث عنه مقدم على الفعل أيضا لإفادة الاختصاص
فالاستدلال بوقوع تقديم الظرف في أحد المتناظرين على تقديره في الآخر وإن افترقا في أن الظرف في المستشهد به
مستقر قطعا وفى المستشهد عليه مستقر على وجه ولغو على آخر فإنه غير قادح. وأما دلالة التقديم على الاختصاص
فبالفحوى وحكم الذوق، وهذا الاستشهاد إنما يتم إذا جعل باسم الله تعالى خبرا لمجراها وهو الراجح، لا متعلقا
باركبوا (قوله فقد قال) نبه بالفاء على أن السؤال ناشئ عما قبله ومسبب عنه: أي لما وجب أن يقصد الموحد
معنى اختصاص اسم الله بفعل القراءة وغيرها وهو بتقديم اسم الله عليها، فكيف أخره في قوله - اقرأ باسم ربك -
حتى فات ذلك الواجب (قوله لأنها أول سورة نزلت) أي إلى قوله - ما لم يعلم - كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة
وقرره الأئمة في مسألة تأخير البيان، ولا ينافي ذلك قول الأكثرين إن أول سورة نزلت هي الفاتحة لأن الخلاف
في السورة بتمامها (قوله فكان الأمر بالقراءة أهم) يريد أن كون اسم الله هاهنا أهم إنما نشأ من قصد معنى الاختصاص
لاقتضاء المقام إياه، كأن الموحد يقول: باسم الله لا باسم غيره، دفعا لما عسى يتخالج في وهم المخاطب من
الشريك، فسوق الكلام على أن القراءة أمر مسلم، والمقصود بيان ما يبتدأ به فيها من الأسامي، وأما هناك فالمطلوب
أصل القراءة فإنها غير معلومة الوجوب لأنها أول سورة نزلت لا تخصيصها، فإن المخاطب ليس مما يتوهم فيه تجويز
الشركة، فكان الفعل: أي الأمر بالقراءة أهم فقدم لذلك ولرعاية الأصل الذي هو تقديم العامل. لا يقال: اسم
الله أهم عند المؤمن على كل حال. لأنا نقول: اسم الله من حيث أنه اسمه يتعلق به اهتمام وعناية، وقد يعرض له
بحسب المقامات عناية أخرى كما إذا قصد الاختصاص، فإذا اجتمعت العنايتان قدم كما في التسمية، وإذا
انفردت الأولى عن الثانية، فإن لم يعارضها ما هو أولى بالاعتبار قدم أيضا، وإلا فلا. وفى قوله - اقرأ باسم ربك -
عارضها العناية بالقراءة، فكانت أولى بالاعتبار ليتحصل ما هو المقصود من طلب أصل القراءة، ولو قدم اسم الله
تعالى لفات الغرض الأصلي، وأفاد أن المطلوب كون القراءة مفتتحة باسم الله تعالى لا باسم الأصنام، ولا يخفى
بعده عن هذا المقام. قال المصنف: معناه مفتتحا باسم ربك: أي قل باسم الله ثم اقرأ، فالفعل وإن قدم في هذه
العبارة لكن طلب بها قراءة مصدرة باسم الله تعالى كما هو المقصود. والحاصل أن القراء يجب تصديرها باسم الله
30

تعالى ردا على المخالف، وأما طالب القراءة المصدرة به ففيه تفصيل، فإن كانت القراءة مقصودة أصالة وقيدها
تبعا كما في - اقرأ باسم ربك - لم يجز تقديم الاسم، وإن عكس الأمر وجب التقديم (قوله ما معنى تعلق اسم الله
تعالى) جعل المتعلق بالفعل هاهنا المجرور وحده، وفى قوله بم تعلقت الباء الجار وحده، وفى قوله لأن الأهم من
الفعل والمتعلق به مجموع الجار والمجرور، وذلك لأن الجار أداة لإفضاء معنى الفعل والمجرور معمول له بواسطة
الجار، فكل واحد منهما متعلق به كما مر فكذا المجموع. وأما وجه تخصيص كل بموضعه فهو أن الباء سواء
دخلت على اسم الله تعالى أو على غيره تقتضى معنى الفعل، فالعمدة في سؤال طلب المتعلق هو الباء. ولما لم يكن
معنى تعلق اسم الله بالقراءة بوساطة الباء ظاهرا كان منشأ السؤال هو المجرور، والمتقدم على الفعل هو مجموع الجار
والمجرور وهو المتعلق في المشهور، والقول بأن الأمر في ذلك سهل لأن المقصود واحد عجز وقصور (قوله حتى
يصدر) غاية للنفي للا للمنفى: أي عدم مجيئه معتدا به ينتهى عند التصدير بذكر اسم الله، وقوله لقوله عليه الصلاة والسلام
دليل لذلك النفي المغيا فإنه يدل على أنه إذا لم يبدأ فيه باسم الله كان أبتر مقطوع الذنب ناقصا؟ وإذا بدئ به لم يكن
ناقصا، وزاد المصنف لفظ ذكر حيث قال: حتى يصدر بذلك اسم الله تصريحا بالمراد، فإن تصدير الفعل باسم
الله لا يكون إلا بذكر اسم الله، ويقع على وجهين: أحدهما أن يذكر اسم خاص من أسمائه تعالى كلفظ الله مثلا.
والثاني أن يذكر لفظ دال على اسمه، فإن لفظ اسم مضاف إلى الله يراد به اسمه تعالى فقد ذكر هاهنا أيضا اسمه
لكن لا بخصوصه بل بلفظ دال عليه مطلقا، فيستفاد أن التبرك أو الاستعانة بجميع أسمائه، وأما الباء فهي وسيلة
إلى ذكره على وجه يؤذن بجعله مبدأ للفعل، فهي من تتمة ذكره على الوجه المطلوب، فاندفع ما يتوهم من أن
الابتداء بالتسمية ليس ابتداء باسم الله لأن الباء واسم ليس شئ منهما اسما لله. فإن قلت: ما فائدة اسم، وهلا قيل
بالله الرحمن الرحيم؟ قلت: فائدته الفرق بين التيمن واليمين، وذلك لأن التيمن باسم بالله لا بذاته، وكذا اسمه يجعل
آلة للفعل لا ذاته؟ بخلاف اليمين فإن الحلف به لا بأسمائه التي هي ألفاظ (البال) الحال والشأن، وأمر ذو بال: أي
31

شريف يهتم به، والبال أيضا القلب كأن الأمر يملك قلب صاحبه لاشتغاله به، وقد شبه بذى قلب على الاستعارة
المكنية، وفى هذا الوصف فائدتان: الأولى رعاية تعظيم اسم الله تعالى إذ قد يبتدأ به في الأمور المعتد بها. والثانية
التيسير على الناس في محقرات الأمور (قوله كلا فعل) قيل كلمة لا هذه اسم بمعنى غير إلا أن إعرابها ظهر فيما
بعدها لكونه على صورة الحرف كما في إلا بمعنى غير (قوله على معنى متبركا بسم الله) لم يرد أن الباء صلة التبرك
ليكون الظرف لغوا، بل أراد التلبس على وجه التبرك وقد سبق تحقيقه (قوله أعرب وأحسن) أما أنه أعرب:
أي أدخل في لغة العرب وأفصح وأبين، فلأن باء المصاحبة والملابسة أكثر استعمالا من باء الاستعانة لا سيما في
المعاني وما يجرى مجراها من الأقوال، وأما أنه أحسن: أي أوفق لمقتضى المقام فلوجوه: الأول أن التبرك باسم الله
تأدب معه وتعظيم له، بخلاف جعله آلة فإنها مبتذلة وغير مقصودة بذاتها. الثاني أن ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم
كان على وجه التبرك بها، فينبغي أن يرد عليهم في ذلك. الثالث أن الباء إذا حملت على المصاحبة والمعية كانت
أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله منها إذا جعلت داخلة على الآلة. الرابع أن التبرك باسم الله تعالى معنى
مكشوف يفهمه كل أحد ممن يبتدئ به في أموره. والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق.
الخامس أن كون اسم الله تعالى آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه يتوسل إليه ببركة، فقد رجع بالآخرة إلى التبرك
وليس في اعتباره زيادة معنى يعتد به. وقد يقال جعله آلة مشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل، ويشتمل على
جعل الموجود لفوت كماله بمنزلة المعدوم، ومثله يعد من محسنات الكلام (قوله فكيف قال الله تعالى) تفريع على
الوجه المختار وإن كان السؤال متوجها على الوجهين (قوله كيف يتبركون) أي بأي عبارة يتبركون؟ فلا يرد أن
ذلك تنعيم للتبرك باسمه لا تعليم لكيفيته (قوله من حق حروف المعاني) أراد بها ما يقابل الأسماء والأفعال فإنها
موضوعة للمعاني، وأما الألفاظ المبسوطة التي يتركب منها الكلم فتسمى حروف المباني (قوله التي هي أخت
السكون) لما كان البناء لا يختلف بتعاقب العوامل كان الأصل فيه السكون لخفته، فإن الدائم بالخفيف أولى،
وأيضا لما كان مقابلا للإعراب الذي أصله أن يكون وجوديا لكونه أثر العامل وعلما للمعاني كان أصله أن يكون
عدميا، وقد امتنع البناء على السكون في حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد من حيث أنها كلم برأسها
مظنة لوقوعها في ابتداء الكلام، وقد رفضوا الابتداء بالسكن، فحقها أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون
في الخفة وإن كانت الكسرة أختا له المخرج، لأنها أدوات كثيرة الدوران على الألسنة فاستحقت الأخف، إلا
أن لام الإضافة إذا دخلت على المظهر بنيت على الكسر فصلا بينها وبين لام الابتداء، سيما فيما لا يظهر فيه إعراب
32

فأجريت لام الابتداء على الأصل وكسرت لام الإضافة لتوافق حركة العامل أثره، وإذا أدخلت على المضمر كانت
مفتوحة لأن الفرق حاصل بجوهر المدخول عليه، فإن لام الابتداء لا تدخل إلا على المرفوع، وكذا باء الإضافة
بنيت على الكسر (لأنها لازمة للحرفية والجر) أي غير مفارقة لهما،، بمعنى أنها لا توجد بدونهما، يقال لزم
فلان بيته: إذا لم يفارقه ولم يوجد في غيره، ومنه قولهم أم المتصلة لازمة لهمزة الاستفهام، وكل واحدة من الحرفية
والجر يناسب الكسر، أما الجر فلموافقة حركة الباء أثرها، وأما الحرفية فلاقتضائها السكون الذي هو عدم الحركة:
والكسر بمنزلة العدم لقلته إذ لا يوجد في الأفعال ولا في غير المنصرف من الأسماء ولا في الحروف إلا على الندرة
كجير فقيل هما وجهان، ونقض الأول بواو العطف وفائه اللازمتين للحرفية، والثاني بكاف التشبيه اللازمة للجر،
وقيل المجموع دليل واحد فاندفعا وبقى النقض بواو القسم وتائه، وأجيب بأن عملهما بنيابة الباء فكأن الجر ليس
أثرا لهما. لا يقال اعتبار الحرفية احترازا عن كاف التشبيه مستدرك لأن الكاف إذا كانت اسما لا تعمل جرا في المضاف
إليه، فإن العامل فيه هو الحرف المقدر على ما ذكره في المفصل، لأنا نقول: احترز عنها دفعا للانتقاض بها على
مذهب من جعل المضاف عاملا، ومن الناس من دفع النقض بواو القسم وتائه بأن اعتبار خصوصية القسم ليس
بلازم، فالواو إن لزمت الحرفية لا تلزم الجر وقد تكون عاطفة، والتاء لا تلزم شيئا منهما لأنها قد تكون اسما كضمير
الخطاب، فورد عليه أن الكاف أيضا لا يعتبر فيها خصوصية التشبيه، ولم تكن لازمة للجر أيضا كضمير المخاطب،
فيلغو قيد لزوم الحرفية لأنه احتراز عن الكاف اتفاقا فالتجأ إلى أن قال وكلام الزجاج أن الباء بنيت على السكر فصلا
بين ما يجر وقد يكون اسما كالكاف وما يجر وما يكن إلا حرفا كالباء، ويشبه أن يكون هذا مراد المصنف،
وفيه بعد لأن القوم اعتبروا خصوصيات المعاني فقالوا كاف التشبيه إما حرف وإما اسم بمعنى مثل، ولم يلتفتوا إلى
مجرد صورة الكاف، ولم يقولوا أيضا إنها تكون ضميرا أو حرف خطاب. وقول المصنف نحو كاف التشبيه ولام
الابتداء الخ يدل على اعتبار خصوصيات المعاني، وكيف لا وبذلك يظهر تعدد اللامين وكون إحداهما مفتوحة
والأخرى مكسورة (قوله أحد الأسماء العشرة) في المفصل أحد عشر، فإما أن لا يعتد بأيم الله لأنه منقوص أيمن وإما
بابنم لأنه مزيد ابن، والأول أولى لأن المنقوص قد يوزن أصله فيقال أيم أفعل كأيمن، وكأنه هو بخلاف
المزيد إذ لا يوزن ابنم بوزن ابن أصلا (قوله بنوا أوائلها) أي بنوها لذلك تحقيقا واستعمالا، وإن كان يعتبر
تحريك أوائلها تقديرا وقياسا كما قال أصله سمو وكما يقال أصل ابنو بنو، ولعل الحكمة في وضعها كذلك التفنن
في الوضع وطلبا للخفة فيها لكثرة استعمالا في الدرج. وقوله لئلا يقع تعليل للزيادة مطلقا، وأما خصوصية الهمزة
فلينجبر بقوتها وكونها من أقصى المخارج ضعفها بسكون أوائلها وضعفها (قوله إذا كان دأبهم) التعليل بذلك دون
الامتناع إشارة إلى جواز الابتداء بالساكن وهو الحق، ومن قال بامتناعه لا يسمع منه إلا حكايته عن لسان.
33

نعم يمتنع الابتداء بالمدات إلا أن ذلك لذواتها لا لسكونها، وإذا استقريت لغة العجم وجدت فيها الابتداء بالساكن
المدغم، وقد يستدل على الجواز بأنه لو لم يجز لكان التلفظ بالحرف المبتدأ به موقوفا على التلفظ بالحركة فيدور لأن
الحركة موقوفة على الحرف في التلفظ توقف العارض على المعروض. ويجاب بأن امتناع الابتداء بالساكن يستلزم
امتناع انفكاك الحركة عن الحرف المبتدأ به، وأما توقفه على الحركة فلا لجواز أن تكون الحركة تابعة غير منفكة.
واعلم أن الحركة والسكون بالمعنى المشهور مختصان بالأجسام، وأن المراد بحركة الحرف كونه بحيث يمكن أن
يتلفظ بعده بإحدى المدات الثلاث، وسكونه كونه بحيث لا يمكن فيه ذلك (قوله لسلامة لغتهم ولوضعها) نشر
لما سبق فالأول علة للابتداء بالمتحرك دون الساكن، إذ في الابتداء بالساكن (لكنة) وعى في اللسان (وبشاعة)
أي أخذ في الحلق أو كراهة في السمع، يقال شئ بشيع: أي كريه الطعم يأخذ في الحلق، أو كراهة من السامع
لسماعه. والثاني علة للوقف على الساكن لأن الوقف كالفراغ من البناء، وإنما يكون بما لا قلق فيه ولا اضطراب،
فغاية الإحكام والرصانة تقتضى أن لا يوقف على المتحرك لأن الحركة تقلق الحرف وتزعجه من مخرجه كما يشهد لها
الوجدان. وقيل الثاني أيضا علة لتخصيص الابتداء بالمتحرك، فإن الابتداء للكلام كالأس للبناء، فكما أن البناء
الحاذق لا يبنى إلا على أساس محكم، كذلك المتكلم إذا أراد إحكام كلامه ورصانته لا يبنيه إلا على متحرك ليقويه
بالحركة الوجودية دون الساكن لتطرق الضعف إليه لسكونه العدمي، وأما الوقف على الساكن فلأنه ضد للابتداء،
فجعل علامته ضد العلامة (قوله من لم يزدها) أي في الابتداء، واستغنى عن الهمزة بتحريك الساكن في
الابتداء، وجعل الدرج تابعا له فحرك فيه أيضا كما في المستشهد به، وإذا ثبت التحريك في الدرج مع الاستغناء
عنه كان في الابتداء أولى، فتارة يحرك بالكسر لأنه الأصل في تحريك الساكن ولأنه حركة أصله الذي هو سمو
بكسر السين، وتارة يحرك بالضم لأنه أقوى ولأنه أيضا حركة أصلة الذي هو سمو بضم السين. قال ابن الأنباري:
في الاسم خمس لغات: اسم، واسم بكسر الهمزة وضمها، وسم، وسم بكسر السين وضمها، وسمى على وزن
هدى (قوله باسم الذي) قال رحمه الله: هو لرؤبة وبعده:
أرسل فيها بازلا يقرمه * فهو بها ينحو طريقا يعلمه
وجعل الفاضل اليمنى هذا البيت مقدما على قوله باسم الذي، وأياما كان فالباء تتعلق بأرسل: أي باسمه أرسل
الراعي في الإبل بازلا يقرمه: أي يتركه عن الاستعمال بالركوب والحمل ليتقوى للفحلية، فالجملة صفة بازلا،
وقد يجعل حالا من المرسل لأن الوصف بصيغة الماضي أولى، فهو: أي النازل يقصد بتلك الإبل طريقا يعلمه
لاعتياده بتلك الفعلة (قوله وأصله سمو) كسرا وضما فأريد تخفيفه في طرفيه لكثرة استعماله فحذف آخره ولم يحذف
أوله تفاديا عن الإجحاف فحذفت حركته (قوله بدليل تصريفه) يرد به على الكوفية حيث زعموا أنه من الأسماء
المحذوفة الفاء وأصله وسم، ولو صح لكان جمعه أوساما وتصغيره وسيما، والفعل المأخوذ منه وسمت، فقد تبين
34

من ذلك أن الاسم يوافق السمو في التركيب، ولما لم يكن كافيا اشتقاقه منه بل لابد معه من التناسب في المعنى
أشار إليه بقوله (لأن التسمية تنويه) يقال ناه ينوه ارتفع، ونوهته رفعته (والإشادة) رفع الصوت بالشئ،
وأشاد بذكره: رفع قدره، وفى التسمية رفع للمسمى عن حضيض الخفاء إلى منصة الظهور ليتحلى بأعين البصائر
وإعلاء قدره حيث جعل معتدا به ونصب علامة بإزائه (ومنه) أي ومن أن التسمية تنويه بالمسمى (والنبز بمعنى
النبر) بالراء المهملة ومنه المنبر، وأما القشر الأعلى من النخلة فهو النبز بالزاي المعجمة وكسر النون (قوله فلم
حذفت) وأراد أن وضع الخط على حكم الابتداء دون الدرج، إذ الأصل في كل كلمة أن تكتب على صورة
لفظها بتقدير الابتداء والوقف عليها، فكان يجب أن تكتب الهمزة ههنا لثبوتها في الابتداء كما كتبت في باسم
ربك، وعبر عنها بالألف إذ هي هنا على صورته في الخط. فإن قلت: الجواب ليس إلا أن حذفت الألف في
الخط لكثرة الاستعمال فباقي الكلام مستدرك. قلت: بين في الجواب أن وضع الخط على الابتداء دون الدرج
تصريحا بالمقدمة التي طواها في السؤال، ولابد منها ليتضح تفريعه بالفاء عما قبله، وذكر حديث التعويض
وتأييده بقول أعدل بنى مروان إشارة إلى أن الأصل أيضا مرعى بقدر الإمكان جمعا بين قاعدة الخط والاستعمال،
ثم إن في تطويل الباء وإظهار السين وتدوير الميم تحسينا للخط محافظة على تفخيم الاسم نظرا إلى جلالة ما أريد به
من أسماء الله المعظمة بكبرياء مسماها والموجود في النسخ المعتبرة السينات جعل كل سنة سينة مجازا مبالغة في إظهارها
كأنه قال: اجعل كل سنة بمنزلة سينة في الظهور. قال: وهذه أصح رواية ودراية ردا على من قال: السينات
أصح رواية، والسنات بدلها أصح دراية (قوله أصله الإله) أما ثبوت الهمزة في إله أصله فلوجودها في تصاريفه،
وأما كونه على الصيغة المخصوصة أعني الإله فلاستعمالها في معناه، كما في قوله: معاذ الإله، وتمامه:
* ولا دمية ولا عقيلة ربرب * الدمية بالضم: الصورة المنقوشة من العاج ونحوه، وعقيلة كل شئ
أكرمه، والربرب: السرب من بقر الوحش استعاذ بالله من تشبيه الحبيبة بهذا الأشياء التي جرت عادة الشعراء على
تشبيه المحبوبة بها. ولما اشتملت الاستعاذة على معنى النفي أتى بلا تأكيدا له كقوله * أبى الله أن أسموا بأم ولا أب *
وذكر الجوهري أن سيبويه جوز أن يكون أصله لاها من لاه يليه إذا استتر، ثم أدخلت عليه الألف واللام
فجرى مجرى الاسم العلم كالقياس والحسن، إلا أنه يخالف الأعلام من حيث كان غير صفة، وقولهم: يا الله
بقطع الهمزة إنما جاز لأنه ينوى به الوقف على حرف النداء تفخيما للاسم، ويضعفه استعمال إله بمعنى المعبود
وإطلاق الإله على الله سبحانه (قوله ونظيره) أي في ثبوت الهمزة في أصله (الناس وأصله الأناس) أما ثبوت
الهمزة في أصله فلدورانها في وجوه تصريفه، وأما صيغة الأناس فلكونها بمعناه. وقيل لما كان الإله والناس مع
35

اللام قليلين في الاستعمال أو رد لكل استشهادا على أنه مستعمل في الجملة (قوله فحذفت الهمزة) من إله حذفا
من غير قياس ويدل عليه وجوب الإدغام والتعويض فإن المحذوف قياسا في حكم المثبت، وقوله لا مأبوك نادر.
واختار أبو البقاء أنه على قياس التخفيف، فلزوم الحذف والتعوض مع وجوب الإدغام من خواص هذا الاسم
التي يمتاز بها عن نظائره امتياز مسماه عن سائر الموجودات بما لا يوجد إلا فيه (قوله وعوض عنها لام التعريف
أي الألف واللام معا كما هو مذهب الخليل، وحينئذ يظهر قطع الهمزة لأنها جزء العوض من الحرف الأصلي أو
اللام الساكنة وحدها، إلا أن همزة الوصل لما اجتلبت للنطق باللام جرت ههنا مجرى الحركة، فلما عوضت
اللام من حرف متحرك كان للهمزة مدخل ما في التعويض فلذلك جاز قطعها. وإنما اختص القطع بالنداء إذ هناك
يتمحص الحرف للعوضية، ولا يحظ معها شائبة تعريف أصلا حذرا من اجتماع أداتين للتعريف. وأما في غير
النداء فيجرى الحرف على أصله، ويدل على أن قطعها في الندا - لكونها عوضا لا لمجرد لزومها وصيرورتها جزاء
أنهم لما جمعوا بينها وبين النداء في نحويا التي على الشذوذ لم يجوزوا قطعها، وإن كانت جزءا من الكلمة مضمحلا
عنها معنى التعريف، وذلك لأن المحافظة على الأصل واجبة مالم يعارضه موجب أقوى كالتعويض فميا نحن فيه،
وتوهم أبو علي في الإغفال أن اللام في الناس أيضا عوض من الهمزة إذ لا يجتمعان في الأناس إلا ضرورة، ورد
بكثرة استعمال ناس كثيرا منكرا دون لاه وبامتناع يا الناس دون يا الله (قوله والإله من أسماء الأجناس) اعلم أن
العقلاء كما تاهوا في ذات الله وصفاته لاحتجابها بأنوار العظمة وأستار الجبروت كذلك تحيروا في لفظ الله،
كأنه انعكس إليه من مسماه أشعة من تلك الأنوار قهرت أعين المستبصرين عن إدراكه، فاختلفوا أسرياني هو
أم عربي اسم أو صفة، مشتق ومم اشتقاقه وما أصله، أو غير مشتق، علم أو غير علم؟. واختار العلامة أنه عربي
وأنه كان في الأصل اسم جنس ثم صار علما لذات المعبود بالحق وأصله الإله، وأنه مشتق من أله بمعنى تحير
(قوله اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل) لم يرد أنه مرادف للمعبود ليكون صفة مثله فينافى ما اختاره من أنه
اسم غير صفة، وسيأتيك تحقيقه هناك (ثم غلب على المعبود بحق) أي على الذات المخصوصة فصار علما له بالغلبة
منصرفا إليه عند الإطلاق كسائر الأعلام الغالبة، ثم أريد تأكيد الاختصاص بالتغيير فحذف الهمزة وصار الله
بحذف الهمزة مختصا بالمعبود بالحق، فإله قبل حذف الهمزة وبعده علم لتلك الذات المعينة، إلا أنه قبل الحذف
أطلق على غيره إطلاق النجم على غير الثريا، وبعده لم يطلق على غيره أصلا. قال الفاضل اليمنى: جعل الله مختصا
بخلاف الإله مع أنه غالب، والغالب أيضا مختص بناء على أن الإله في أصل وضعه قبل غلبته كان يستعمل في المعبود
مطلقا فأما الله فلم يستعمل إلا في المعبود بحق وزعم بعضهم أن المراد بغلبته على المعبود بحق أنه غلب على هذا المفهوم
الذي هو أخص من معناه الأصلي، وأراد باختصاصه بالمعبود بالحق أنه اختص بذاته تعالى علما، واستشهد
36

لذلك بتنكير حق في الأول وتعريفه في الثاني، قال: وأما تشبيه الإله بالنجم وغيره من الأعلام فليس في العلمية
بل في مجرد الغلبة سواء انتهت إلى حد العلمية أم لا. ألا ترى أن السنة ليست علما شخصيا ولا جنسيا إذ لا ضرورة
تدعو إلى علميته؟ وجوابه: أن الإله يتبادر منه الفرد المعين عند إطلاقه تبادر الثريا من النجم، فلذلك شبهه به
أولا، فجعل أحدهما علما دون الآخر تحكم. وأما السنة فقيها مانع مخصوص يخرجها عما يقتضيه ظاهر التشبيه من
كونها علما. إذ لا يفهم منا معنى شخصي لنجعلها من أعلام الأشخاص، ولا ضرورة في جعلها علما جنسيا،
وأما استشهاده بتنكير الحق وتعريفه فلا يجديه نفعا، لإن المتعلق بتعين ذات المعبود هو تعريفه، ولا مدخل
لتعريف الحق وتنكيره في ذلك كقولك: الذي عليك حق، أو عليك الحق، على أنه المقصود من قوله على كل
معبود هو الذات المعبودة لا المفهوم، فاللام في المعبود بحق تكون إشارة إلى بعض تلك الذوات المعبودة، وأما
الحق فقد أريد به مفهومه المقابل للباطل، ولا تعدد فيه فلا حاجة إلى تعريفه، فذكره ثانيا منكرا أيضا كقوله تعالى
- وهو الذي في السماء إله وفى الأرض إله - وإنما عرفه ثالثا مع جواز تنكيره تفننا في العبارة، وكان الثالث أولى
لتقدم ذكره مرتين ولو عرف الأول وقال على كل معبود بالحق أو بالباطل لم يتغير المقصود من المعبود (قوله
ومن هذا الاسم) أي الإله، قد اشتهر أن الاله فعال بمعنى المألوه: أي المعبود مشتق من الإلاهة بمعنى العبادة
واختار المصنف أن الإلاهة وتصاريفها من نحو تأله: أي تعبد، وآله بالفتح: أي عبد، واستأله استعبد مشتقة
من الإله وإن كان اسم عين، فإن الاشتقاق قد يكون من الأعيان، وجعل الإله مشتقا من أله بالكسر إذا تحير
ودهش، واعترض عليه أولا بأنه تحكم لجواز العكس. وأجيب بأن اللفظين إذا توافقا في التركيب وكان أحدهما
أشهر في المعنى المشترك بينهما كان أولى بأن يكون مشتقا منه، ولا شك أن الإله بمعنى العبادة أشهر من الإلاهة
ومتصرفاتها، وأن أله في معنى التحير أشهر من الإله، ولذلك احتيج إلى بيان اشتماله على معنى الحيرة، ولا يقدح
فيما ذكرنا كون أله بمعنى عبد أشهر وأكثر استعمالا من أله بمعنى تحير. وقد يجاب بأن المصنف ربما لاح له بنقل
أو تتبع أن إلهة لم يوجد في اللغة الأصلية واستعمالات الأقدمين، بخلاف الإله فلم يجوز اشتقاقه منها، ويدفعه
قراءة ابن عباس - ويذرك وإلهتك - وثانيا أن اشتقاق الفعل من الأعيان على خلاف القياس سيما في الثلاثي المجرد
فإنه نادر كقولهم: أبل أبالة على وزن شكس شكاسة: إذا تأنق في رعيه الإبل وأحسن القيام بمصالحها. وثالثا أن
معنى المشتق منه يجب أن يعتبر في المشتق وليس معنى الإله. أي المعبود موجودا في الإلهة: أي العبادة بل
الأمر بالعكس. وأجيب بأن معنى العبادة خدمة الإله. كما أن أبل بمعنى خدم الإبل. وربما يقال: لا يجب أن
يوجد معنى المشتق منه بتمامه في المشتق وإلا امتنع اشتقاق الاسم كضارب من الفعل كضرب. وفيه بحث لأن الظاهر
في الاشتقاق الصغير أن يعتبر في المشتق معنى أصله بتمامه وبذلك يرجح اشتقاق الفعل من المصدر على عكسه،
ومعنى قولهم ضارب مشتق من ضرب أنه مشتق من مصدره، وإنما اختاروا صيغة الماضي على المصدر تنبيها على
الحروف المعتبرة في الاشتقاق، إذ بعض المصادر كالخروج والقبول تشتمل على حروف لا تعتبر فيه (قوله بل
اسم) أورد كلمة الإضراب ردعا للسائل عن شكه في مبحث هو معترك الأنظار كأنه قال: أعرض عن التردد.
37

وأجزم بأنه اسم، وقوله (غير صفة) مبالغة في تعيين المراد دفعا لأن يتوهم من الاسم ما يقابل الفعل ويعم الصفة.
فإن قلت: ذكر أولا أن الإله بمعنى المعبود فيكون صفة فكيف قطع بنفي الوصفية هاهنا؟ قلت: لم يذكر أنه
بمعناه بل قال (هو اسم يقع على المعبود) ولا يلزم من ذلك كونه صفة كما أن الكتاب اسم يقع على المكتوب وليس
بصفة. وبيانه أن الاسم قد يوضع لذات مبهمة باعتبار معنى معين يقوم به فيتركب مدلوله من ذات مبهم لم يلاحظ
معه خصوصيته أصلا ومن صفة معينة فيصح إطلاقه على كل متصف بتلك الصفة ومثل ذلك يسمى صفة، وذلك
المعنى المعتبر فيه يسمى مصححا للإطلاق كالمعبود مثلا ويلتزم ذكر موصوف معه لفظا أو تقديرا تعيينا للذات
التي قام بها المعنى. وقد يوضع لذات معينة ولا يلاحظ معها شئ من المعاني القائمة بها فيكون اسما لا يشتبه بالصفة
قطعا كفرس وإبل، وقد يوضع لها ويلاحظ في الوضع معنى له نوع تعلق بها، وذلك على قسمين: الأول أن يكون
ذلك المعنى خارجا عن الموضوع له وسببا باعثا لتعيين الاسم بإزائه كأحمر إذا جعل علما لولد فيه حمرة، وكالدابة
إذا جعلت اسما لذوات الأربع في أنفسها وجعلها دبيبها سببا للوضع لجزءا من مفهوم اللفظ. الثاني أن يكون ذلك
المعنى داخلا في الموضوع له فيتركب من ذات معينة ومعنى مخصوص كأسماء الآلة والمكان والزمان، وكالدابة إذا
جعلت اسما لذوات الأربع مع دبيبها، وهذان القسمان أيضا من الأسماء، والمعنى المعتبر فيهما مرجح للتسمية لا مصحح
للإطلاق، ولا يطردان في كل ما يوجد فيه ذلك المعنى ولا يقعان صفة لشئ، ولكنهما بما يشتبهان بالصفات،
والقسم الأخير أشد التباسا لإن المعنى المعتبر في الوضع داخل في مفهوم كل منهما، ومعيار الفرق أنهما يوصفان
ولا يوصف بهما على عكس الصفات، وحيث وجد في الاستعمال إله واحد ولم يوجد شئ له مع كثرة دورانه
على الألسنة عرف أنه من الأسماء دون الصفات وهكذا حكم كتاب وإمام وسائر ما اعتبر فيه المعاني مع خصوصية
ما للذات (قوله فلو جعلتها كلها صفات) اعترض عليه تارة بأن الكلام في إله بدليل قوله: لا تقول شئ إله
وتقول إله واحد، ومن الجائز أن يكون إله صفة ويكون الله اسما لذاته، فلا يلزم بقاء صفاته غير جارية به على
موصوف، وأخرى بأنه لم يجوز أن يوضع لذاته باعتبار قيام معان بها ألفاظ، ولا يوضع لخصوصية الذات
اسم ولا استحالة في ذلك، إنما المستحيل أن توجد صفات في نفس الأمر ولا يكون هناك ذات موصوفة بها.
وأجيب عن الأول بأن لفظ الله هو الإله بحذف الهمزة، فإن كان الإله صفة كان الله أيضا صفة وإن عرض له
الاسمية لصيرورته علما. والمقصود أن إلها لو كان صفة لم يكن لله تعالى في أصل الوضع اسم تجرى عليه صفاته. وفيه
نظر لأن إلها لو كان اسما لم يكن لله أيضا في أصل الوضع اسم تجرى عليه صفاته فإن إلها ليس في أصل
وضعه اسما له بل للمعبود مطلقا فالمحذور مشترك، وعن الثاني بأن المراد من الاستحالة مخالفة القاعدة المعلومة من اللغة فإن
الاستقراء دال على أن كل حقيقة تتوجه الأذهان إلى فهمها وتفهيمها فيما بين أهل اللغة قد وضع لها اسم يجرى عليه
صفاتها وأحكامها، وإلى ذلك أشار بعض العلماء حيث قال إذا كان الله صفة وسائر أسمائه صفات يلزم أن
38

العرب لم تبق شيئا من الأشياء المعتبرة إلا سمته ولم تسم خالق الأشياء ومبدعها هذا محال وفيه بحث، لأنه إن أراد أن
الله اسم لذاته تعالى لا يقصد به معنى الصفة حال إطلاقه عليه كما هو الظاهر من عبارته، فقد تم كلامه، ولا يجديكم نفعا
لجواز أن يكون صفة في أصله ثم صار علما وإن أراد أنه اسم في أصله فإثباته مشكل لما عرفت من أن إلها إذا جعل
اسما فليس موضوعا بإزاء ذاته تعالى، فلو كان الاختصاص العارض للاسم العام كافيا في تسميته تعالى في اللغة كان
الاختصاص العارض للصفة كافيا فيها. لا يقال الاسم قبل الاختصاص أمكن أن يطلق عليه فتجرى عليه صفاته،
بخلاف الصفة قبل اختصاصها فتبقى الصفات حينئذ غير جارية على الموصوف. لأنا نقول: لو كفى في إجراء الصفات التعبير
عنه باسم عام فليعبر عنه باسم آخر كلفظ الشئ مثلا، ولا مخلص لمن يزعم أنه اسم في أصله إلا أن يقول
لابد لجنس المعبود من اسم تجرى عليه صفاته فإنه معنى متعارف وليس له اسم سوى إله. ولك أن تقول الضمير
في قوله " اسم هو أو صفة " راجع إلى الله، إلا أنه بين أسميته في الدليل الأول بنفي الوصفية عن أصله، وفى الدليل
الثاني بنفي الوصفية عنه حال إطلاقه عليه تعالى سواء كان اسما في أصله أو صفة فيندع الإشكال بحذافيره، وعلى
هذا الأنسب أن تكون الإشارة في قوله " ومن هذا الاسم اشتق " وقوله " هل لهذا الاسم اشتقاق " راجع إلى الله
تعالى كما أن الضمير في قوله " هل تفخم لامه " راجع إليه (قوله هل لهذا الاسم) أي الإله أو الله (اشتقاق) من
شئ فإنه المتبادر من العبارة. وأيضا قد فرغ من بيان كونه مشتقا منه فلم يبق إلا كونه مشتقا. فإن قلت: لم يذكر
في الجواب إلا إثبات الاشتقاق بين الإله وآله ولم يعين مشتقا ولا مشتقا منه. قلت: اعتمد على مفهوم السؤال
وسياق الكلام، وأيضا لما بين أن الإله يتضمن معنى أله فقد أذن بأن الإله مشتق من أله فان المشتق هو الذي
يعتبر فيه معنى المشتق منه مع خصوصيته دون العكس (قوله معنى الاشتقاق) قال رحمه الله تعالى: عدل عن الجواب
الظاهر وهو نعم إشارة إلى أن المبحث محل اختلاف لا يتهذب إلا بالتلخيص ليتميز الحق عن الباطل ولم يرد بما ذكره
تحديد الاشتقاق حتى ينقض بمثل نصر وأعان، بل أراد أن الإشراك في المعنى كاف في إثبات اشتقاق الإله من أله
لتوافقهما تركيبا. وقيل أراد تحديده واستغنى عن قيد التناسب في التركيب لشهرته. وقد يقال الصيغتان هما
اللفظتان المختلفتان وزنا ففيه دلالة على تعدد الوزون، فلعل اختياره على الكلمتين أو اللفظتين إشعار باتحاد التركيب
كأنه قال: أن ينتظم اللفظتين المتخالفتين وزنا المتوافقتين تركيبا. والقول بأن الصيغة مجرد الهيئة العارضة لجوهر
الحروف فالمعنى: أن ينتظم الصورتين اللتين لهما مادة واحدة مردود بقوله صيغة هذا الاسم وصيغة قولهم إله
لأن معنى التحير والدهشة ليس مدلولا لصورتهما العارضة لمادتهما (قوله ومن أخواته جملة اعتراضية أشار بهم
إلى الاشتقاق الأكبر في أثناء بيان الاشتقاق الصغير فإن الهمزة والعين يتقاربان مخرجا والهمزة والدال يتشاركان
في صفة الجهر. لا يقال: اشتقاق الإله من أله أيضا اشتقاق أكبر لأن همزة أله منقلبة عن الواو كما نص عليه الجوهري
والهمزة تشارك الواو في الجهر. فقوله هل لهذا الاسم اشتقاق سؤال عن الاشتقاق الأكبر والجواب مطابق له
ولذلك قال: ومن أخواته. لأنا نقول: الاشتقاق إذا أطلق يتبادر منه الصغير. والنزاع بين أئمة اللغة إنما وقع
39

في أن الإله مشتق اشتقاقا صغيرا أولا. فلا مجال لحمل كلام المصنف على غيره، كيف وقد جعل بيان الاشتقاق الأكبر
اعتراضا لا مقصودا من الكلام. وأما قول الجوهري فمعارض بقول غيره من الأئمة ولو سلم فلتكن همزة الإله
واوا وإن جعلها الجوهري أصلا (قوله في معرفة المعبود) أي الذي يعبد فاتخذ الناس آلهة وزعم كل أن الحق ما هو
عليه (فكثر الضلال) في الأفكار (وفشا الباطل) أي في الاعتقاد (وقل النظر الصحيح) وما يؤدى إليه من الحق،
وإن جعلت الإشارة في السؤال راجعة إلى الله فالمعنى أن الأوهام تتحير في معرفة ذاته وما يجوز عليه من أفعاله
وصفاته. فإن قلت: هل يقصد بلفظ الله حال إطلاقه عليه الدلالة على معنى الحيرة؟ قالت: لا لأنه علم فلا يقصد
به إلا الذات (قوله هل تفخم لامه) أي لام الله دون الإله. فإن قلت: الضمير في السؤال الأول والإشارة
في الثاني إن أرجع إلى الإله ورجع الضمير في الثالث إلى غيره تفكك نظم الكلام. قلت: لفظ الله هو الإله
بحذف الهمزة. فالمعنى على ذلك التقدير: هل يفخم لام الإله بعد حذف همزته إذ لا يتصور تفخيمها قبله. وأريد
بالتفخيم ههنا ضد الترقيق وهو التغليظ. وقد يطلق على ما يقابل الإمالة وعلى إمالة الألف نحو مخرج الواو كالصلاة
والزكاة (قوله قلت نعم) اعترض عليه بأنه على جريان التفخيم في اللام مطلقا ولا تفخيم بعد الكسرة اتفاقا
لاستثقال علو التفخيم بعد الكسرة. وأجيب بأن السؤال عن جريانه على سنن الاستقامة أو تولده من تحريفات
العامة لاعن محله لشهرته. فأجاب بصحته وأنه سنة: أي طريقة مسلوكة ثم بين أنها قديمة (قوله وعلى ذلك العرب
كلهم) أي الذين شاهدناهم أو نقل إلينا كلامهم. وإطباقهم على التفخيم دليل على أنهم وجدوا عليه آباءهم الأقدمين
فهم على آثارهم مقتدون (قوله كابرا عن كابر) قيل جملة وقعت حالا فنصب صدرها كقولهم بايعته يدا بيد. وكلمته
فاه إلى في. قال الشاعر.
فتذكروها آخرا عن أول * وتوارثوا كابرا عن كابر
وقيل مفعول ثان كقولك: ورثت زيدا مالا: أي ورثوه من كابر بعد كابر كقوله - طبقا عن طبق - أي بعد طبق
واعترض عليه بفوات المقصود: أعني وصف كل واحد من الوارث والموروث منه بالكبر. ورد بأن ذلك إنما
يقصد في الكبر بمعنى العز والشرف. وأما في كبر السن فلا. ولعله المقصود ههنا. ويؤيده ما نقله من أنه قد يقال:
ورثوه صاغرا عن كابر. على أن الغرض الأصلي بيان القدم وجعله مفعولا ثانيا أدل عليه كما يقال: ورثوه من
أب بعد أب. وقيل كابرا مفرد وقع حالا كما أن صاغرا كذلك: أي ورثوه كابرين عن كابرين أو صاغرين
عن كابرين. والإفراد لكونه بمعنى جمعا كابرا أو صاغرا كما في قوله تعالى - سامرا تهجرون - أي جمعا سامرا. ويرد
عليه أن هذه العبارة كما لا تختلف جمعا وإفرادا كذلك لا تختلف تأنيثا وتثنية فيقال: ورثته كابرا عن كابر. وتوارثاه
كابرا عن كابر وجوز في صاغرا أن يكون تمييزا: أي ورثه صاغرهم عن كابرهم. وجاز أن يكون مثل كابرا صدرا
40

للجملة الحالية، والكابر بمعنى الكبير كالصاغر بمعنى الصغير قال الجوهري: قولهم كابرا عن كابر: أي كبيرا منهم
عن كبير. وفى الأساس أنه من كبرته أي غلبته في الكبر فأنا كابر (قوله والرحمن فعلان من رحم) فان قلت: الرحمن
صفة مشبهة فلا تشتق إلا من فعل لازم فكيف اشتق من رحم وهو متعد؟ وكذا القول في رب وملك حيث عدا
صفة مشبهة، وأما الرحيم فإن جعل صيغة مبالغة كما نص عليه سيبويه في قولهم هو رحيم فلانا فلا إشكال فيه، وإن
جعل صفة مشبهة كما يشعر به تمثيله بمريض وسقيم توجه عليه السؤال أيضا. قلت: الفعل المتعدى قد يجعل لازما
بمنزلة الغرائز فينقل إلى فعل بضم العين ثم يشتق منه الصفة المشبهة، وهذا طمرد في باب المدح والذم نص عليه في
تصريف المفتاح، وذكره المصنف في الفائق في رفيع وفقير، ألا ترى إلى قوله تعالى - رفيع الدرجات - معناه:
رفيع درجاته لا رافع للدرجات (قوله وفى الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم) تلك المبالغة إما بحسب شمول
الرحمن للدارين واختصاص الرحيم بالدنيا كما في الأثر الذي رواه، وإما بحسب كثرة أفراد المرحومين وقلتها كما ورد
يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وإما بحسب جلالة النعم ودقتها كما اختاره في التسمية، والمدعى أن في الرحمن مبالغة
في الرحمة ليست في الرحيم فيقصد به رحمة زائدة بوجه ما، فلا ينافيه ما يروى من قولهم يا رحمن الدنيا والآخرة
ورحيمهما لجواز أن يراد بهما ههنا جلائل النعم ودقائقها (قوله ويقولون) استدل أولا بالمأثور عن السلف
فجاء بصيغة الماضي، وهو استدلال بالاستعمال، وثانيا بالقول الدائر فيما بين العلماء فعبر عنه بالمضارع، وهو
استدلال بالقياس، واستشهد ثالثا بما ذكره الزجاج في نظير الرحمن تمثيلا لتلك القاعدة المذكورة وإيماء إلى قياس
الرحمن عليه في مطلق الأبلغية، ونقضت القاعدة بمثل حذر فإنه أبلغ من حاذر. وأجيب بأن الشرط في ذلك بعد
تلاقى الكلمتين في الاشتقاق اتحادهما في النوع كصد وصديان وغرث وغرثان وفرح وفرحان، فاندفع النقض
لأن حذرا وحاذر مختلفان نوعا. وقد يجاب بأن القاعدة أكثرية لا كلية فلا نقض، وبأن حذرا إنما كان أبلغ
لإلحاقه في الثبوت بالأمور الجلية كشره وفهم وفطن، وذلك لا ينافي كون حاذر أبلغ بوجه آخر فجاز أن يدل على
41

زيادة الحذر وإن لم يدل على ثبوته ولزومه (قوله وهو من الصفات الغالية) أي تقديرا، إذ مقتضى القياس استعماله
في غيره تعالى لأن معناه البالغ في الرحمة، وحيث اختص به ولم يستعمل في غيره فكأنه غلب عليه من بيان ما اقتضى
القياس إطلاقه عليه، وكذلك غلبة الدبران والعيوق تقديرية أيضا إذا لم يستعملا في غير هذين الكوكبين أصلا،
لكن لما اعتبر فيهما معنى الدبور والعوق كان مقتضى القياس أن يستعملا في غيرهما أيضا، وحيث اختصابهما
علمين لهما فكأنهما غلبا عليهما بخلاف الصعق فإن غلبته تحقيقية، ومن هنا: أي من أجل انقسام الغلبة إلى التقديرية
والتحقيقية تراهم يقولون: الغلبة إما بالنظر إلى القياس والاستدلال، وإما بالنظر إلى الواقع والاستعمال. فان
قلت: الرحمن صفة إذ يوصف به ولا يوصف، ولأن المفهوم منه بليغ الرحمة، وقد اختص به تعالى معرفا
ومنكرا وليس بعلم قطعا، فكيف شبهه بالأعلام التي يلزمها اللام؟ قلت: أراد بالتشبيه الاشتراك في مطلق الغلبة
والاختصاص سواء كانت تقديرية أو تحقيقية مع اللام أو بدونها على وجه العلمية أو الوصفية (قوله كما أن الله
تعالى من الأسماء الغالبة) يعنى تقديرا فلا ينافي قوله وأما الله تختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره تعالى، قال
وكفاك دليلا على ذلك أنه جعل الرحمن من الصفات الغالبة، وحكم بأنه لم يستعمل في غير الله تعالى، يريد كما أن
غلبة الرحمن تقديرية غير منافية لعدم استعماله في غيره تعالى: كذلك غلبة الله تقديرية إذ أصله الإله، فاقتضى
القياس صحة إطلاقه على غيره كأصله إلا أنه لم يطلق إلا عليه تعالى. وقد يقال هذه الكلمة من أول وضعها إلى أن
صارت علما اسم واحد فأوردت في مقابلة الرحمن وحكم عليها بالغلبة التحقيقية في الجملة وذلك لاتصافها بها في بعض
أطوارها أعني قبل حذف الهمزة وأما الحكم بالاختصاص وعدم الإطلاق على غيره تعالى فإنما هو على هذه الكلمة
مقيدة بحذف الهمزة في مقابلتها مقيدة بوجودها، ولذلك قال: وأما الله بحذف الهمزة (قوله وأنت غيث الورى)
أوله * سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا * ويروى الأكثرين ندى (فباب من تعنتهم في كفرهم) حيث
بالغوا فيه حتى خرجوا عن طريقة اللغة أيضا، والتعنت: تطلب الايقاع في أمر شاق، فإما أن يراد إيقاع بعضهم
بعضا في أمر شاق أو إيقاع كل واحد نفسه (قوله كيف تقول الله رحمن) أوقعه في التركيب وجرده عن اللام
ليستحق الإعراب ويظهر حكم الانصراف وعدمه (قوله أقيسه على أخواته من باب) أي من فعل بالكسر، فإن كان
42

فعلان من ذلك فإنه غير منصرف. فإن قلت: هذا منقوض بندمان فإنه فعلان من ندم وهو منصرف لمجئ ندمانة
قلت: المأخوذ من ندم بمعنى النادم غير منصرف كسكران ومؤنثه ندمي كسكرى وأما الذي هو منصرف ومؤنثه
ندمانة فهو من المنادمة في الشراب بمعنى النديم، فلا يوجد فعلان من فعل بالكسر إلا غير منصرف، وما ذكره
المرزوقي من أن الصفة من خشى بالكسر خشيان وخشيانة معارض بقول الجوهري إن الصفة منه خشيان وخشيا
وهو أرجح قياسا على الصفات المأخوذة من هذا الباب. على أنه لو صح كان نادرا فلا يلحق به الرحمن في الصرف
بل بالأعم الأغلب في منعه، وإنما قال في الجواب " أقيسه على أخواته " لأن وجود علة منع صرفه إنما تظهر بذلك
كما ستعرفه إن شاك الله تعالى (قوله قد شرط) يريد أن فعلان إذا كان صفة فشرطه في منع صرفه أن يكون مؤنثه
فعلى، وقد انتفى هذا الشرط في رحمن لاختصاصه بالله تعالى فوجب أن لا يمنع صرفه، والجواب أن هذا الشرط إنما
43

اعتبر ليتحقق انتفاء فعلانة إذ بانتفائها تتحقق مضارعتهما لألفى التأنيث والاختصاص العارض، كما منع وجود
فعلى منع وجود فعلانة، فإن نظر إلى انتفاء فعلى وجب أن لا يمنع صرفه، لأن وجود فعلى هو الشرط ومناط الحكم
في الظاهر، وإن نظر إلى انتفاء فعلانة وجب أن يمنع صرفه لأن انتفاءها وهو مناط الحكم في الحقيقة إلا أنه لخلفائه
جعل وجود فعلى أمارة عليه ومناط لحكمه، فاعتبار الاختصاص يوجب أن يكون ممنوعا من الصرف غير ممنوع
منه وهو محال، فوجب أن لا يعتبر امتناع التأنيث: أي انتفاء فعلانة وانتفاء فعلى بسبب الاختصاص العارض وأن
يرجع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص ويتعرف حالها قبله وذلك بالقياس على نظائرها من بابها: أي فعل
بالكسر، فإذا كانت كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فعلى فيها علم أن هذه الكلمة أيضا في أصلها مما يتحقق
فيها وجود فعلى فيمنع من الصرف أيضا. وقيل المراد ببابه فعلان صفة مطلقا، وحينئذ يقال: فعلان الذي مؤنثه
فعلى أكثر من فعلان الذي مؤنثه فعلانة، والفرد إنما يلحق بالأعم الأكثر، ومن الناس من قرر الجواب بأن وجود
فعلى شرط لعدم الانصراف ووجود فعلانة شرط للانصراف، فإن المتفق على صرفه ما يكون مؤنثه فعلانة، قال
فحينئذ لا عبرة بانتفاء الشرط للاختصاص العارض، لأن معنى الاشتراط أنه إذا أطلق اللفظ على مؤنثه، فإن كان
على فعلى ففعلان غير منصرف، وإن كان على فعلانة فمنصرف، وههنا لما لم يطلق على مؤنث لم يعلم أن مؤنثه
فعلانة لينصرف أو فعلى فيمنع، فوجب الرجوع إلى الأصل وهو الإلحاق بأخواته، وهذا فاسد بوجهين: الأول
أنه يلزم منه استدراك التعرض لانتفاء فعلانة إذ يكفيه أن يقول لا عبرة بانتفاء الشرط الذي هو وجود فعلى بسبب
الاختصاص، لأن معنى الاشتراط أنه إذا أطلق على مؤنث كان على فعلى، وحيث لم يطلق ههنا على مؤنث لم يعلم
أن الشرط حاصل أو ليس بحاصل، فوجب أن يرجع إلى الأصل الثاني أن عدم العبرة بانتفاء الشرط لما علل بقوله
لأن معنى الاشتراط إلى آخر ما ذكره كان الحاصل منه عدم انتفاء الشرط لأنه جعل من الاشتراط الإطلاق، ولو
سلم فاللازم من كلامه عدم العلم بانتفاء الشرط لا أنه غير معتبر، لأن عدم الاعتبار بالشئ فرع لتحققه، وقد
تقرر الجواب بأن هناك مذهبين: اشتراط وجود فعلى، واشتراط انتفاء فعلانة ولا ترجيح لأحدهما على الآخر،
فوجب أن لا يعتبر انتفاء التأنيث لأجل الاختصاص وإلا يلزم أن لا يحكم بالصرف ولا يمنعه تفاديا عن التحكم،
فتعين الرجوع إلى الأصل. وقد يقال حال الاختصاص وجد الشرط على مذهب وانتفى على آخر فتعارضا وتساقطا
فيصار إلى ما قبل الاختصاص (قوله ومعناها العطف والحنو) أراد الميل النفساني: أي الشفقة والرقة وهى من
44

الكيفيات التابعة للمزاج والله تعالى منزه عنها. وقيل أراد الميل الجسماني: أي الانعطاف والانحناء، وليس بصحيح
فإنه ليس معنى الرحمة وإن كان مشابها لمعناها ومسببا عنه ومدلولها لبعض ما يلاقيها في الاشتقاق كالرحم، أولا ترى
أنه جعل الإنعام مسببا عن رقة لا عن الانحناء (قوله هو مجاز عن إنعامه) أي مجاز مرسل، فإن الرحمة والرقة سبب
للإنعام كما بينه، ولو جعل مجازا مرسلا عن إرادة الإنعام لجاز، فإن الرحمة سبب للإرادة أولا، وبواسطة الإرادة
للإنعام ثانيا، ويجوز أن يجعل استعارة على سبيل التمثيل كما اختاره في الغضب، وقد يتوهم أنه جعل الرحمة مجازا
عن الإنعام والغضب عن إرادة الانتقام إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه، فهو للإنعام فاعل وللانتقام مريد،
وإن كانت إرادته مفضية إلى فعله قطعا، وسيرد عليك تفصيل الكلام وتحقيقه هناك بعون الله وتوفيقه (الفظاظة)
الغلظة (عنف) بضم النون مخففة من العنف وهو ضد الرفق، يقال عنف عليه وعنف به، وقد يوجد في بعض
النسخ: بالتشديد من التعنيف وهو التعيير واللوم فيحتاج إلى تضمين معنى العنف: أي عيرهم عنيفا بهم (قوله
فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين) تفريع على ما ذكر من أن الرحمن أبلغ في المعنى من الرحيم، وكلمة من هذه
تبعيضية، والتفصيلية مقدرة: أي ما هو أبلغ من صاحبه من هذين الوصفين، وتلخيص الجواب أن الأبلغ
إذا كان أخص مما دونه ومشتملا على مفهومه تعين هناك طريقة الترقي، إذ لو قدم الأبلغ كان ذكر الآخر عاريا
عن الفائدة كما في الأمثلة المذكورة، فإن النحرير يشتمل على مفهوم العالم وزيادة، وكذا الباسل والقناص
بالقياس إلى الشجاع والجواد. وأما إذا لم يكن الأبلغ مشتملا على مفهوم الأدنى كالرحمن والرحيم إذا أريد بالأول
جلائل النعم وبالثاني دقائقها جاز سلوك كل واحد من طريقي التتميم والترقي نظرا إلى مقتضى الحال. ولما كان
الملتقت إليه بالقصد الأول في مقام العظمة والكبرياء جلائل النعم وعظائمها دون لطائفها ودقائقها قدم الرحمن
وأردف بالرحيم كالتتمة تنبيها على أن الكل منه، وأن عنايته شاملة لذوات الوجود كيلا يتوهم أن محقرات الأمور
لا تلقيق بذاته فيحتشم عنه من سؤالها، وقيل الرحمن ناسب اسمه العلم من جهة الاختصاص والدلالة على زيادة المعنى
فكان تقديمه أولى. وقيل تأخير الرحيم للترقي فإنه أبلغ من الرحمن، فإن فعيلا للأمور الغريزية كشريف وكريم
45

وفعلان للأمور العارضة كسكران وغضبان، وأبطل بأن ذلك من باب فعل بالضم لامن صيغة فعيل (قوله الحمد
والمدح أخوان) أي هما مترادفان ويدل على ذلك أنه قال في الفائق: الحمد هو المدح والوصف بالجميل، وأنه
جعل ههنا نقيص المدح: أي الوصف بالجميل، ويقابله الذم وقد يخص بعد المآثر ويقابله حينئذ الهجو: أي عد
المثالب والكلام في المعنى الأول. وقيل أراد أنهما أخوان في الاشتقاق الكبير ويشهد له وجهان: الأول أن الشائع
في كتب المصنف استعمال الأخوة فيما بين لفظتين يتلاقيان في الاشتقاق الكبير أو الأكبر، أما الكبير فبأن يشتركا
في الحروف الأصول من غير ترتيب مع اتحاد في المعنى أو تناسب فيه كالجذب والجبذ وكالحمد والمدح، وأما الأكبر
فبأن يشتركا في أكثر تلك الحروف فقط ويتناسبا في الباقي مع الاتحاد أو التناسب في المعنى كأله ودله وكالفلق
والفلج الثاني أن الحمد مخصوص بالجميل الاختياري والمدح يعمه وغيره. يقال مدحت اللؤلؤة على صفائها،
ولا يقال حمدتها، فاختير ههنا الحمد على المدح ليشعر بالاختيار، وعلى الشكر ليناول الفضائل والفواضل.
ورد الأول بأن ما ذكرناه من الدليلين أوجب حمل الأخوة ههنا على الترادف والثاني بأن المصنف
صرح في تفسير قوله تعالى - ولكن الله حبب إليكم الإيمان - بأن المدح لا يكون بفعل الغير، وتأول المدح بالجمال
وحسن الوجه، فالمدح عنده أيضا مخصوص بالاختياري، وإنما ترك قيد الاختياري في تفسير معنى الحمد إما
اعتمادا على الأمثلة فإنها اختيارية، وإما أنه أراد بالجميل الفعل الجميل وهو بالاختيار، فقوله من نعمة: أي
إنعاما بنعمة. واعلم أن الحمد إذا خص بالأفعال الاختيارية يلزم أن لا يحمده الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم
والقدرة والإرادة سواء جعلت عين ذاته أو زائدة عليها بل على إنعاماته الصادرة عنه باختياره، اللهم إلا أن تجعل
تلك الصفات لكون ذاته كافية فيها بمنزلة أفعال اختيارية يستقل بها فاعلها (قوله وهو الثناء) أي الحمد لأنه المقصود
بالتفسير، والثناء هو الذكر بالخير، عقبه بالنداء وهو رفع الصوت إظهارا لما ادعاه من اختصاصه باللسان وكونه
أشيع وأدل (قوله وأما الشكر) لما فسر الحمد وكان الشكر قريبا منه في المعنى وقرينا له في الاستعمال كان هناك
مظنة أن يقع في ذهن السامع أن الشكر ماذا؟ هل هو هذا المعنى أو شئ آخر يقرب منه؟ فأورد كلمة أما تفصيلا
46

للمجمل الواقع في ذنه وإزالته للتردد. والشكر إما بالقلب بأن يعتقد اتصاف المنعم بصفات الكمال وأنه ولى النعمة
وإما باللسان بأن يثنى عليه بلسانه، وإما بالجوارح بأن يدئب نفسه في طاعته وانقياده. وقوله " أفادتكم النعماء "
استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة، وبيان ذلك أنه جعله بإزاء النعم جزاء لها متفرعا
عليها، وكل ما هو جزاء النعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة، ومن لم يتنبه لذلك زعم أن المقصود مجرد التمثيل
لجميع شعب الشكر لا الاستشهاد على أن لفظ الشكر يطلق عليها فإنه غير مذكور ههنا. فإن قلت: الشاعر جعل
المجموع بإزاء النعمة فالشكر يجب أن يطلق عليه، وأن على كل واحد من الثلاثة فلا. قلت: لا شبهة في أن الشكر
يطلق على فعل اللسان اتفاقا، وإنما الاشتباه في إطلاقه على فعل القلب والجوارح حتى توهم كثير من الناس أن
الشكر في اللغة فعل اللسان وحده، ولما جمع الشاعر الأول مع الأخيرين وجعلها ثلاثة علم أن كل واحد شكر
للنعمة على حدة كأنه أراد أن نعماكم كثرت عندي وعظمت فاقتضت استيفاء أنواع الشكر، وبالغ في ذلك
حتى جعل مواردها واقعة في مقابلة النعماء ملا لأصحابها مستفادا منها كأنه قال: يدي ولساني وقلبي لكم، فليس
في القلب إلا نصحكم ومحبتكم، ولا في اللسان إلا ثناؤكم ومحمدتكم، ولا في اليد والجوارح إلا مكافأتكم وخدمتكم
وفى وصف الضمير بالمحجب إشارة إلى أنهم ملكوا ظاهره وباطنه (قوله فهو إحدى شعب الشكر) أي باعتبار
المورد وإن كان الشكر باعتبار المتعلق إحدى شعب الحمد، وعبر عن الأقسام بالشعب لأنها متعبة عن مقسمها
(قوله ما شكر الله عبد لم يحمده) فإنه إذا لم يعترف بإنعام المولى ولم يثن عليه بما يدل على تعظيمه وإكرامه لم يظهر
منه شكر ظهورا كاملا، وإن اعتقد وعمل فلم يعد شاكرا لأن حقيقة الشكر إظهار النعمة والكشف عنها، كما أن
كفرانها إخفاؤها وسترها، والاعتقاد أمر خفى في نفسه، وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف
ما قصد به فإنك إذا قمت تعظيما لأحد احتمل القيام أمرا آخر إذ لم يتعين للتعظيم بخلاف النطق فإنه ظاهر في نفسه ومعين
لما أريد به وضعا (قوله وأما النطق فهو الذي يفصح عن كل خفى) ولاخفاء فيه (ويجلى عن كل مشتبه) فلا احتمال
له بل هو ظاهر في نفسه ومعين لما أريد به وضعا كما أن الرأس أظهر الأعضاء وأعلاها وهو أصل لها وعمدة لبقائها
كذلك الحمد أظهر أنواع الشكر وأشهرها وأشملها على حقيقة الشكر والإبانة عن النعمة حتى لو فقد كان ما عداه
بمنزلة العدم (قوله وارتفاع الحمد بالابتداء) ربما يتوهم أن المجرور معمول للمصدر واللام لتقويته كما في قولك:
47

أعجبني الحمد لله فذكر ارتفاعه بالابتداء مع ظهوره ليتبين أن الظرف ههنا مستقر وقع خبرا له وليربط به بيان
أصله أعني النصب. واعلم أن الجار والمجرور مطلقا يسمى ظرفا، لأن كثيرا من المجرورات ظروف زمانية
أو مكانية، فأطلق اسم الأخص على الأعم. وقيل سمى بذلك لأن معنى الاستقرار يعرض له، فإن تقدير الكلام
الحمد مستقر لله، وكل ما يستقر به غيره فهو ظرف له. قال المصنف: ولأن الحمد لما اختص بالله صار كأنه
مستقر وكل مستقر ظرف، وأنت تعلم أن اعتبار عروض معنى الاستقرار في مثل قولك: رميت عن القوس
مستبعد جدا فيحتاج إلى تسمية الأعم بالأخص (قوله وأصله النصب) المصادر أحداث متعلقة بمحالها كأنها
تقتضى أن يدل على نسبتها إليها، والأصل في بيان النسب والتعلقات هو الأفعال فهذه مناسبة تستدى أن تلاحظ
مع المصادر أفعالها الناصبة لها، وقد تأيدت هذه المناسبة في مصادر مخصوصة بكثرة استعمالها منصوبة بأفعال
مضمرة، فلذلك حكم بأن أصله النصب وأيده بأنه قراءة بعضهم، وإنما قال (في معنى الإخبار) لأن بعضها في
معنى الإنشاء كقوله: سبحان الله ومعاذ الله، ولذلك فصلهما. وقيل لأن المصدر فيهما معرفة، أو لأنه غير متصرف
أي لا يستعمل إلا منصوبا (قوله ينزلونها) بيان وتأكيد لقوله تنصبها: أي ينزلون تلك المصادر (منزلة أفعالها)
لفظا (ويسدون بها مسد أفعالها) معنى فقد استوفت الأفعال حقوقها في اللفظ والمعنى، فلا يستعملون المصادر
مع أفعالها، أو لا يستعملون أفعالها معها، ويجعلون استعمال أحدهما مع الآخر كاستعمال الشريعة المنسوخة في أنه
خروج عن طريقة مسلوكة إلى طريقة مهجورة يستنكرها المتدين بعقائد أهل اللغة في قواعدها (قوله والعدل بها)
أي العدول بتلك المصادر (قوله رفع السلام الثاني) أي حكى رفعه في القرآن (للدلالة) على ذلك، وأما رفع
إبراهيم عليه السلام فلتكون تحيته أحسن من تحيتهم لا للدلالة عليه (دون تجدده) لما كان الرفع دالا على الثبوت
مجردا عن قيد التجدد والحدوث ناسب أن يقصد به الثبات والدوام بمعونة المقام، بخلاف النصب المستلزم لتقدير
الفعل الدال بوضعه على الحدوث والتقضي (قوله والمعنى نحمد الله حمدا) أراد به أن أصل المعنى ذلك: أي الفعل
المقدر حال كون حمدا منصوبا هو المضارع لدلالته على الحال الذي هو أهم الأزمنة وأولاها ببيان ما هو واقع فيها
ولإنبائه عن الاستمرار في الجملة مع نون الحكاية لما مر من أنه مقول على ألسنة العباد، ولم يرد معناه حال كونه مرفوعا
وإلا لفاتت نكتة العدول إلى الرفع لأن المضارع لا يقيد الاستمرار تجدديا في بعض المواضع والمقصود بالعدول استمرار
ثبوتي ولذلك قال أولا على إثبات المعنى واستمراره، وقال ثانيا على معنى إثبات السلام، وأيضا لو أفاد الفعل المقدر
ما يستفاد من الرفع لم يكن للعدول معنى (قوله ولذلك) استدلال بقوله تعالى - إياك نعبد وإياك نستعين -
48

على ما ذكره من أن أصل معنى الكلام وتقديره نحمد الله حمدا. وقوله (لأنه الخ) بيان لوجه دلالته عليه،
وقد يقال: الأول تعليل للمبين بمطابقة البيان بحسب العلم والثاني تعليل للبيان بمطابقة المبين بحسب المقصود
فلا دور (قوله كأنه قيل كيف تحمدونه) هذا السؤال عن كيفية الحمد لاعن ما هيته، فصح أن يجاب
بالعبادة المشتملة على الحمد وعلى غيره لأن ضم غيره إليه نوع بيان لكيفيته: أي حال حمدنا أنا نجمعه بسائر عبادات
الجوارح والاستعانة في المهمات ونخص مجموعها بك. وقيل صح كون العبادة بيانا للحمد مع اختصاصه باللسان
من حيث أن أقصى غاية الخضوع يقتضى اعترافا تاما بالانعام ووصفا للمنعم بصفات الجلال والإكرام، وذلك
أبلغ حمد وأكمله، غاية ما في الباب أن الجواب يشتمل على زيادة في البيان. قال رحمه الله تعالى: كان حق الجواب
إياك نحمد: أي حال حمدنا أنا لا نشرك فيه غيرك، فعدل عنه تنبيها على أن الحمد أصل العبادة ورأسها كما مر، فإن
حقيقة العبادة شكر المنعم الحقيقي: أي إظهار انقياده بقدر الإمكان. قال: وجعل: إياك نعبد " بيانا استئناس بتقدير
الأصل في الحمد لله وتطبيق لقراءة النصب بأن الفعل المحذوف في الرفع يلحظ في الجملة حيث بين بالجملة الفعلية،
والأرجح إن يجعل استئنافا جوابا لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها أزلا وأبدا
كأن سائلا يقول: ما شأنكم مع هذا الموصوف وكيف توجهكم إليه. فأجيب بحصر العبادة والاستعانة فيه. وقيل
لما قطع حديث الغيبة إلى الخطاب ترك العاطف لافتراق الحالتين (قوله ما معنى التعريف فيه) ذكر أولا معنى
الحمد وإعرابه وما يتعلق بهما، ثم شرع في معنى اللام الداخلة عليه وبينه بطريق السؤال والجواب بناء على أنه
مقصد في نفسه يستحق أن يتوجه نحوه ويلخص على حدة، وقال ما معنى التعريف فيه ولم يقل ما معنى اللام
تنبيها على أن اللام للتعريف اتفاقا وإن وقع اشتباه في معنى التعريف، وقال في الجواب (هو نحو التعريف
في: أرسلها العراك) في قول لبيد:
فأرسلها العراك ولم يذدها * ولم يشفق على نغص الدخال
فشبه بمثال من المصادر مشهور بعيد عن توهم الاستغراق، ثم أشار إلى أن القدر المشترك بينهما مسمى بتعريف الجنس،
ثم فصل معنى القدر المشترك على وجه اتضع به حال كل منهما بخصوصه وعرف به أيضا معنى تعريف الجنس
مطلقا معرى عما يمتاز به أحدهما عن الآخر، وفاعل أرسل ضمير راجع إلى العير ومفعوله راجع إلى الأتن،
والعراك إما حال: أي أرسلها معتركة، وإما مصدر وناصبه حال: أي تعترك العراك، يقال أورد إبله العراك إذا
أوردها الماء جميعا دفعة ونغض البعير بالكسر نغصا: إذا لم يتم شربه، والدخال في الورد أن يشرب البعير مرة
ثم يرد من العطن إلى الحوض فيدخل بين بعيرين عطشانين ليشرب مرة أخرى (قوله ومعناه الإشارة) فيه تصريح
49

بأن معنى تعريف الجنس الإشارة إلى حضور الماهية في الذهن وتميزها هناك عن سائر الماهيات، فإن المنكر وإن
دل على ماهية معقولة متميزة في الذهن في الذهن حاضرة عنده إلى أنه لا إشارة فيه إلى تعينها وحضورها، فإذا عرف بلام
الجنس فقد أشير إلى ذلك. والفرق بين حضورها وتعينها في الذهن وبين الإشارة إلى تعينها وحضورها هناك
مما لا يخفى، وتوهم كثير من الناس أن معنى تعريف الجنس هو الاستغراق وبطلانه ظاهر، لأن معنى التعريف
الإشارة إلى المعرفة والحضور، وليس هذا من الإحاطة والاستغراق في شئ، وكفالك شاهدا على ذلك استغراق
نحو: لارجل، و: تمرة خير من جرادة، فقد تحقق الاستغراق في النفي والإثبات، وليس معه تعريف أصلا. فإن
قلت: المصنف قد حمل المعرف بلام الجنس في مواضع من هذا الكتاب على الشمول والإحاطة وهو معنى
الاستغراق بعينه، فكيف جعله ههنا وهما؟ قلت: الوهم كون الاستغراق معنى تعريف الجنس لا كونه مستفادا
من المعرف باللام بمعونة المقام، فقوله يتوهمه: أي يتوهم أنه معنى تعريف الجنس بدليل قوله ما معنى التعريف
فيه. وقوله ومعناه الإشارة وتحقيق الكلام أن معنى التعريف مطلقا هو الإشارة إلى أن مدلول اللفظ معهود: أي
معلوم متعين حاضر في ذهن السامع يرشدك إلى ذلك ما فسر به المصنف تعريف الجنس ههنا وما صرح به الشيخ
ابن الحاجب في الإيضاح من أن زيدا موضوع لمعهود بين المتكلم والمخاطب، ومن أن غلام زيد لمعهود بينهما
بحسب تلك النسبة المخصوصة، وقول الأدباء المعرفة ما يعرفه مخاطبك والنكرة مالا يعرفه، وإجماعهم على أن الصلة
يجب أن تكون جملة معلومة الانتساب للسامع، وإذا استقريت كلامهم وتحققت محصوله استوثقت بما ذكرناه،
وقد صرح به بعض الفضلاء حيث قال: التعريف يقصد به معين عند السامع من حيث هو معين كأنه إشارة إليه
بذلك الاعتبار، وأما النكرة فيقصد بها التفات النفس إلى المعين من حيث ذاته ولا يلاحظ فيها تعينه وإن كان معينا
في نفسه، لكن بين مصاحبة التعيين وملاحظته فرق جلى، ومعهد في تصوير ذلك مقدمة هي أن فهم المعاني من
الألفاظ بمعونة الوضع والعلم به، فلا بد أن تكون المعاني متصورة ممتازة بعضها عن بعض عند السامع، فإذا دل
باسم على معنى فلا يخلو إما أن يكون ذلك الاعتبار: أي كون المعنى معينا عند السامع متميزا في ذهنه ملحوظا
أولا، فالأول يسمى معرفة، والثاني نكرة، ثم الإشارة إلى تعيين المعنى وحضوره إن كانت بجوهر اللفظ تسمى
علما، إما جنسيا إن كان المعهود الحاضر جنسا وماهية كأسامة، وإما شخصيا إن كان فردا منها كزيد أو أكثر
50

كابانين، وإلا فلابد من خارج عنه يشار به إلى ذلك مثل الإشارة في أسماء الإشارة، وكقرينة التكلم والخطاب
والغيبة في الضمائر، وكالنسبة المعلومة حلية في الموصولات والمضاف إلى المعارف، وكحرف اللام والنداء في
المعرفات بهما، فاللام إذا دخلت على اسم فإما أن يشار بها إلى حصة معينة من مسماه، فردا كان أو أفرادا، مذكورة
تحقيقا أو تقديرا، وتسمى لام العهد ونظيره العلم الشخصي، وإما أن يشار بها إلى مسماه ويسمى لام الجنس،
وحينئذ إما أن يقصد المسمى من حيث هو كما في التعريفات ونحو قولنا: الرجل خير من المرأة، وتسمى لام
الحقيقة والطبيعة ونظيره العلم الجنسي، وإما أن يقصد المسمى من حيث هو موجود في ضمن الإفراد بقرينة الأحكام
الجارية عليه الثابتة له في ضمنها، فإما في جميعها كما في المقام الخطابي بعلة إيهام أن القصد إلى بعضها دون بعض
ترجيح لأحد المتساويين على الآخر وتسمى لام الاستغراق، ونظيره كلمة كل مضافة إلى النكرة، وإما في ضمن
بعضها كما في المقام الاستدلال كقولك: ادخل السوق حيث لاعهد، وتسمى لام العهد الذهني، ومؤداه مؤدى
النكرة ولذلك تجرى عليه أحكامها، وظهر أن اللام أيضا لتعريف الجنس أو لتعريف العهد كما ذكر في المفصل،
وأن الاستغراق ليس معنى تعريف الجنس وإن كان مستفادا من التعريف الجنسي في المواضع الخطابية بقرائن
الأحوال. وما نقل عن المصنف من أن اللام لا تفيد سوى التعريف والإشارة والاسم لا يدل إلا على مسماه، فإذا
لا يكون ثمة استغراق أراد به أن ليس ثمة استغراق هو مدلول الاسم أو اللام، لا أنه لا استفادة له من الأمور
الخارجية واقتضاء المقام. فإن قلت: اسم الجنس إن كان موضوعا للماهية من حيث هي فكيف يستعمل في فرد
معين كما في العهد الخارجي أو غير معين كما في العهد الذهني أو في جميع الأفراد كما في الاستغراق، وإن كان
موضوعا لفرد منتشر منها أشكل استعماله في الماهية وفرد معين منها وجميع أفرادها. قلت: أما على الأول وهو
المختار فلا إشكال في الاستغراق والعهد الذهني لما عرفت من أن الاسم فيهما مستعمل في طبيعة الجنس فقط، وإنما
يفهم فرد غير معين أو جميع الأفراد من أمور خارجة. وأما المعهود الخارجي فالظاهر أن الاسم مستعمل فيه وأن له
وضعا آخر بإزاء خصوصية كل معهود ومثله يسمى وضعا عاما. وأما على الثاني فالحال في الخارجي على ما ذكرنا،
وكذا في الاستغراق فإن الفرد المنتشر كالماهية يصدق على كل فرد منها. وأما استعماله في الماهية فإما مجازا أو
هناك وضع آخر بإزائها. فإن قلت: هلا جعلت العهد الخارجي كالذهني والاستغراق راجعا إلى الجنس؟
قلت: لأن معنى معرفة الجنس غير كافية في تعين شئ من أفراده، بل يحتاج فيه إلى معرفة أخرى. وهذا الكلام
وقع في البيت فلنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: المصنف جعل الحمد محمولا على الجنس دون الاستغراق لأنه اقتصر
ههنا على ذكر جنس الحمد وامتيازه من بين أجناس الأفعال ولم يتعرض لشموله وإحاطته لأفراده، ولأنه قال
فيما بعد بعد الدلالة على اختصاص الحمد به ولم يقل على اختصاص المحامد، والتمسك في ذلك بقوله والاستغراق
الخ لا يجدى نفعا لجواز أن يكون الاستغراق معنى التعريف مع أنه مستفاد من المعرف بمعونة المقام كما نبهناك
عليه، والاستغراق الذي يتوهمه الخ وهم قد كشفنا عنه غطاءه فقيل اختياره الجنس على الاستغراق مبنى على خلق
الأعمال على طريقة الاعتزال، فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم كانت المحامد عليها راجعة إليهم، فلا يصح
51

جعل المحامد كلها مختصة به تعالى، وفساده ظاهر لأن اختصاص الجنس به تعالى مستلزم اختصاص أفراده أيضا،
إذا لو وجد فرد منه لغيره لثبت الجنس له في ضمنه، وقيل مبنى على أن هذه المصادر نائبة مناب أفعالها سادة مسدها
والأفعال لا تعد ودلالتها على الحقيقة إلى الاستغراق. ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة المقام واقتضاء
الحال. وقيل إنما اختاره بناء على أن الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال لا سيما في المصادر وعند
خفاء قرائن الاستغراق، وهو أيضا مردود لأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الاستغراق وهو
الشائع في الاستعمال سواء كان هناك مصدرا أو غيره، وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والإحاطة من مقام
تخصيص الحمد بالله تعالى تعظيما له وتمجيدا. فقرينة الاستغراق فيما نحن فيه كنار على علم، والحق أن السبب في
الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في
تأدية المقصود الذي هو ثبوت الحمد لله تعالى وانتفاؤه عن غيره إلى أن يلاحظ الشمول والإحاطة ويستعان فيه بأن
خارج عن اللفظ، بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص جميع الأفراد ثابتا بطريق برهاني أقوى من إثباته ابتداء.
فإن قلت: فكيف صح على مذهبه تخصيص جنس الحمد بالله تعالى؟ قلت: صح ذلك بناء على أن أفعالهم الحسنة
التي يستحقون بها الحمد عندهم إنما هي بتمكين الله تعالى وإقداره عليها، فمن هذا الوجه يمكنه جعل الحمد راجعا
إليه تعالى أيضا، وقد أشار إلى ذلك حيث قال في سورة التغابن: قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك
والحمد بالله تعالى، ثم قال: وأما حمد غيره فاعتداد بأن نعم الله تعالى جرت على يديه، ولا يرد على ذلك أفعالهم
القبيحة التي يستحقون بها الذم أيضا بإقدار الله تعالى وتمكينه، فتكون المذمة أيضا راجعة إليه لما تبين في علم
الكلام أن إقدار المختار على الأفعال الحسنة حسن وعلى القبيحة ليس بقبيح. وربما يجاب بأن يجعل الجنس في المقام
الخطابي منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة من باب - ذلك الكتاب - وحاتم الجواد. قيل ومن ههنا يظهر أن الحمل
على الجنس دون الاستغراق محافظة على مذهبه، وفيه نظر لجواز الحمل على الاستغراق دون الجنس أيضا بتنزيل
محامد غيره تعالى منزلة العدم بالقياس إلى محامده، فلا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في أنهما ينافيان
ظاهرا طريقة الاعتزال، وأن منافاتهما تندفع بأحد الوجهين المذكورين (قوله والذي جسرهما) قيل فيه جسارة
لإشعاره بأن قراءتهما نشأت عن متابعة أحكام اللغة بلا رواية والسلف مبرؤون عنها، فإن قراءتهم مأخوذة
بخصوصياتها عن روايات وصلت إليهم، لكن المصنف لا يتحاشى عن أمصال ذلك بناء على ما روى من الإذن
بقراءة القرآن بسبع لغات، فلا يجب النقل في خصوصية كل قراءة، على أنه لا يبالي من إسناد القراءة المتواترة
إلى صورة الكتابة في المصحف، فإسناد غيرها إلى قاعدة اللغة أولى (قوله وأشف القراءتين) أي أفضلهما،
والشف من الأضداد يطلق على الزيادة والنقصان، والحركة الإعرابية مع طريانها أقوى من الحركة البنائية مع
دوامها، لأن الإعرابية موضوعة علما لمعان مقصودة يتميز بها بعضها عن بعض، فالاخلال بها يؤدى إلى التباس
52

المعاني فيفوت ما هو الغرض الأصلي من وضع الألفاظ وهيئاتها أعني الإبانة عما في الضمير (قوله ومنه قول صفوان
وهو صفان بن أمية بن خلف الجمحي هرب يوم الفتح ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهد معه حنيفا
وهو كافر. قال الصغاني: أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله من غنائم حنين ما استكثره وقال: لا يطيب به إلا
قلب نبي فآمن، ولما انهزم المسلمون يوم حنين في أول القتال استبشر أو سفيان بن حرب وقال: غلبت والله
هوازن، إذن لا يردهم شئ إلا البحر، فرد عليه صفوان قائلا: بفيك الكثكث، لأن يربني الخ. الخ. الكثكث بكسر
الكافين وفتحهما وضمهما دقاق الحجارة والتراب، ومعنى يربني: يكون مالكا لي، يقال ربه: كان مالكا له
كقولك ساده: كان سيدا له. صفوان أراد برجل من قريش محمدا صلى الله عليه وآله، وبرجل من هوازن
كان رئيسهم مالك بن عوف (قوله فهو رب) يشعر بأنه صفة مشبهة من فعل متعد إلا أنه أراد أخذها منه بعد
جعله لازما بالنقل إلى فعل بالضم كما سلف. قيل ولما كان مجئ الصفة على فعل من باب فعل يفعل بفتح العين
في الماضي وضمها في المضارع عربيا استشهد له بمثاله. يقال نم الحديث ينمه بالضم والكسر فهو نم ولابد فيه
من النقل أيضا وكأن في ترك المفعول نوع إشارة إليه (قوله ويجوز) عطف على قوله الرب المالك: أي الرب
بمعنى المالك، إما على أنه صفة مشبهة، وإما على أنه وصف بالمصدر (قوله ولم يطلقوا الرب) أي ولم يستعملوا
لفظ رب في غير الله تعالى مجردا عن الإضافة، ولو استعمل كان نادرا كقول الحرث بن حلزة:
وهو الرب والشهيد على يو * م الحيارين والبلاء بلاء
وأما لفظ الأرباب فحيث لم يطلق على الله وحده جاز تقييده بالإضافة وإطلاقه كما يقال رب الأرباب، وقال
تعالى - أأرباب متفرقون - (قوله بما دل عليه الحمد) لم يجعل المصدر عاملا فيه لقلة إعمال المصدر المحلى باللام
ولأنه يلزم الفصل بينه وبين معموله بالخبر، وإنما قال نحمد الله رب العالمين لأن الرب في المعنى صفة لابد لها من
موصوف، فأشار إلى أن العامل فيهما واحدا (قوله العالم) يريد كما أن الطابع والخاتم مع اشتقاقهما من الطبع
53

والختم اسمان لما يطبع ويختم به كذلك العالم مع اشتقاقه من العلم اسم لذوي العلم: أي هو اسم يطلق على كل جنس
من أجناس ذوي العلم لا على فرد منهم، فيقال عالم الملك وعالم الإنس وعالم الجن، ولا يقال عالم زيد مثلا. وقيل
هو اسم يطلق على كل جنس ما يعلم به الخالق، أعني ما سوى الله سبحانه وتعالى، فيقال أيضا عالم الأفلاك وعالم
العناصر وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الأعراض إلى غير ذلك فهو اسم للقدر المشترك بين أجناس دون العلم
وأجناس ما يعلم به الخالق فيصح إطلاقه على كل أحد منها وعلى مجموعها أيضا، ولم يرد أنه اسم لمجموع ذوي
العلم أو لمجموع ما يعلم به الخالق من حيث هو مجموع وإلا استحال جمعه إذ لا تعدد في شئ من المجموعين، ويدل
على ذلك شيئان: الأول أنه سأل عن فائدة الجمع فقال: لم جمع، ولو قصد به اسم المجموع لسأل عن صحته وقال
كيف جمع. الثاني قوله ليشمل فإنه تصريح بإسناده الشمول إلى الجمع، فلا يكون العالم اسما للمجموع وإلا لم يكن
للجمع مدخل في الشمول أصلا. وحاصل الجواب أن الإفراد وإن كان أصلا وأحق إلا أنه لو أفرد معرفا باللام
لربما توهم أن القصد إلى استغراق أفراد جنس واحد مما سمى به أو إلى الحقيقة: أي القدر المشترك بين الأجناس،
فلما جمع وأشير بصيغة الجمع إلى تعدد الأجناس واستغراق أفرادها بالتعريف زال التوهم بلا شبهة وفهم المقصود بلا
مرية. فإن قلت: العالم لا يطلق على واحد من أفراد الجنس المسمى به كزيد مثلا فإذا عرف باللام امتنع استغراقه
لأفراد جنس واحد، فإن اللفظ المفرد لا يستغرق إلا أفرادا يطلق على كل واحد منها، وكذا إذا جمع وعرف لم
يتناول إلا الأجناس التي يطلق عليها دون أفرادها. قلت: لما كان العالم مطلقا على الجنس بأسره كما نبهناك عليه
ينزل منزلة الجمع، ومن ثمة قيل هو جمع لا واحد له من لفظه، وكما أن الجمع إذا عرف استغرق آحاد مفردة كما
سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى وإن لم يكن صادقا عليها كقوله تعالى - والله يحب المحسنين - أي كل محسن، وكقولك:
لا أشترى العبيد: أي كل واحد منهم، كذلك العالم ينزل منزلة الجمع المعرف فيشمل جميع أفراد الجنس المسمى به
54

وإن لم يكن مطلقا عليها كأنها آحاد مفردة المقدر، وعلى هذا فالعالمون بمنزلة جمع الجمع، فكما أن لفظ الأقاويل
يتناول كل واحد من آحاد الأقوال، كذلك العالمون يتناول كل واحد من آحاد الأجناس، فقوله يشمل كل
جنس: أي أفراد كل جنس من الأجناس المسماة به، ومن الناس من حل كلامه على شمول الأجناس أنفسهما توهما
من ظاهر العبارة ولم يرتض إرادة شمول أفرادها بناء على أن العالم لا يطلق عليها، فقرر الجواب بأنه لو أفرد لتبادر
منه هذا العالم المشاهد بشهادة العرف فجمع ليشمل كل جنس سمى بالعالم وهما مدخولان: أما الأول فلأن المقام
يقتضى ملاحظة شمول آحاد الأشياء المخلوقة كلها، ويشهد بذلك قوله ههنا مالكا للعالمين لا يخرج منهم شئ عن
ملكوته، وقوله في تفسير - وما الله يريد ظلما للعالمين - نكر ظلما وجمع العالمين، على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد
من خلقه، وقد بينا لك آنفا وجه شمولها. وأما الثاني فلأن المقابل للعالم المشاهد العالم الغائب، فإذا كان الإفراد
موهما أن المقصود هو الأول فقط ناسب أن يثنى ليتناولهما معا فإن لكل مندرج فيهما. وربما يقال تلخيص الجواب
أنه لما قصد ههنا شمول الأجناس وشمول أفرادها مبالغة اختير لفظ ينبئ عن تناول المتعدد بوجهين فالجمعية
لشمول الأجناس بمساعدة التعريف، والتعريف لشمول الأفراد بمعونة المقام، فالمعنى: رب كل جنس من
الأجناس ورب كل فرد منه، وقيل في توجيه نظم القرآن إن التعريف للاستغراق والجمع للدلالة على أن العالم
أجناس مختلفة كما قيل في جمع السماوات وتوحيد الأرض. وبيان المناسبة أن الحقائق المختلفة إذا اشتركت في
مفهوم اسم، فهي من حيث اختلافها تقتضى أن يعبر عن كل واحد بلفظ على حدة،، ومن حيث اشتراكها في
ذلك المفهوم تقتضى أن يعبر عن الكل بلفظ واحد فروعي الجهتان بصيغة الجمع فإنها لفظة واحدة صورة
وألفاظ متعددة معنى، ولو أفرد وقيل رب العالم لم يعلم أن الربوبية شاملة لأجناس مختلفة. ومن أراد الاستقصاء
في مباحث استغراق المفرد والجمع منكرا أو معرفا فعليه بكتابنا المسمى بالمصباح في شرح المفتاح. لا يقال قد اشتهر
في كلامهم أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فما منشؤه وما الحق فيه. لأنا نقول: أما منشؤه فهو أن
المفرد إذا عم استغراق أفراد مدلوله، أعني الآحاد فلا يخرج عنه شئ من تلك الآحاد، فعلى هذا القياس إذا عم
الجمع ينبغي أن يستغرق أفراد مدلوله أعني الجموع، وذلك لا ينافي أن يخرج منه واحد مطلقا على كل قول أو
اثنان على قول، ومن هنا قال ابن عباس: الكتاب أكبر من الكتب، وبينه المصنف بأنه إذا أريد بالواحد الجنس
والجنسية قائمة في وجدان الجنس كلها لم يخرج منه شئ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه معنى الجنسية من
الجموع، وإذا كان معنى الجمع المستغرق كل جمع جمع فلو أثبت له حكم فهم إثباته للمجموع، فإن كان من
الأحكام التي يستلزم ثبوتها لكل فرد منهم فهم ثبوته للآحاد وإلا كانت باقية على الاحتمال، وأما الحق فهو أن هذا
55

المعنى يقتضى تكرارا في مفهوم الجمع المستغرق، فإن مراتب الجموع متفاوتة يتدرج بعضها تحت بعض، فالثلاثة
تكون معتبرة فيه بنفسها، وفى الأربعة والخمسة وما فوقهما، بل نقول الكل من حيث هو كل جمع من الجموع
فيندرج فيه مع اشتماله على سائر الجموع، والظاهر أنه غير مقصود. وأما قولهم لارجال فلم يقصد به نفى كل
جماعة بل نفى مفهوم المركب من الجنس والجمعية، فيلزم منه انتفاء ما صدق عليه هذا المفهوم من الجموع دون
الآحاد، كما أن لارجل لم يقصد به إلا نفى الجنس ولزم منه نفى ما صدق عليه من الآحاد، فليس العموم مقصودا
منهما ابتداء بل هو لازم لما قصد بهما من مفهومهما وما لزم من مفهوم المفرد أشمل مما لزم من مفهوم الجمع،
فالحكم بأن استغراق المفرد أشمل إنما يصح ههنا بناء على الوجه الذي قررناه. وأما الجموع المعرفة فتستعمل على
وجهين: أحدهما أن يراد بها الكل من حيث هو فيكون الحكم مستندا إليه دون كل واحد كقولك: للرجال
عندي درهم، فإن اللازم درهم واحد بخلاف قولك لكل رجل عندي درهم، والثاني وهو الأكثر والأشهر
استعمالا أن يراد بها كل واحد من أفرادها، فيكون الحكم مستندا إلى كل فرد سواء كان إثباتا كقوله تعالى - والله
يحب المحسنين - أي كل محسن، أو نفيا كقولك: لا أشترى العبيد: أي لا هذا ولا ذاك، ولما استفيد منها
انتساب الأحكام إلى كل فرد كما في المفردات المستغرقة حكم بعض الأصوليين بأن الجمع المعرف بلام الجنس بطل
عنه الجمعية وصار للجنسية. لا يقال فلا فائدة حينئذ لصيغة الجمع. لأنا نقول: صيغة الجمع أظهر في قصد الإفراد
وأولى بالشمول والإحاطة كما يظهر من المباحث السابقة (قوله فهو اسم) إشارة بالفاء إلى تسببه عما تقدم من أنه
اسم لذوي العلم أو لكل ما علم به الخالق، فعلى الأول ينتفى شرط واحد أعني كونه صفة أو ما في حكمها من
الأعلام، فإن العلم يؤول بالمسمى بهذا الاسم لتتجانس مسمياته فيصح جمعه، وعلى الثاني ينتفى الشرطان معا.
وقدم السؤال الأول لأنه سؤال عن فائدة الجمع مطلقا سواء كان مصححا كالعالمين أو مكسرا كالعوالم، ولا
نظر فيه إلى خصوصية جمع التصحيح، ولذلك أطلق وقال لم جمع. والثاني سؤال عن وجه صحة خصوصية الجمع
بالواو والنون، وبيان فائدة المطلق مقدم على وجه صحة المقيد، ومن لم يهتد لذلك زعم أن الأول قدم على الثاني مع
أن طلب فائدة الجمع متأخر عن صحته اهتماما بشأن الفوائد والمعانى (قوله ساغ ذلك) أي هو اسم شابه الصفة في
دلالته على الذات باعتبار معنى هو كونه يعلم أو يعلم به، فساغ لذلك لذلك جمعه بالواو والنون مع شذوذه. أما على
المعنى الأول فعلى الحقيقة لاختصاصه بأولى العلم، وأما على الثاني فعلى تغليب العقلاء على غيرهم (قوله قرأ
أبو حنيفة) هي قراءة حسنة تحتمل معنى المالك والملك وملك هو المختار، أما أولا فلأنه قراءة أهل الحرمين وهم
أولى الناس بأن يقرءوا القرآن غضا طربا كما أنزل الله، أو قراؤهم الأعلون رواية وفصاحة وقد وافقهم قارئ
البصرة والشأم وحمزة من الكوفة. وأما ثانيا فلقوله تعالى - لمن الملك اليوم - فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة
والقرآن يتعاضد بعضه ببعض وتتناسب معانيه في المواد. وأما ثالثا فلقوله - ملك الناس - ففي خاتمة الكتاب لما
56

تدرج من وصفه تعالى بالربوبية إلى وصفه بالملكية ناسب أن تكون فاتحته كذلك. وأما رابعا فلأن الملك بالضم
يعم والملك بالكسر يخص، وذلك لأن ما تحت حياطة الملك من حيث إنه ملك أكثر مما تحت حياطة المالك من
حيث إنه مالك، فإن الشخص يوصف بالمالكية بالنظر إلى أقل قليل، ولا يوصف بالملكية إلا نظرا إلى أكثر
كثير، وأيضا الملك أقدر على ما يريد في متصرفاته وأكثر تصرفا فيها وسياسة لها وأقوى تمكنا منها واستيلاء عليها
من المالك في مملوكاته، ولا يقدح في الأول أنه يقال مالك الدواب والأنعام ولا يقال ملكهما لأن ذلك ليس من
حيث من حياطته قاصرة عنها، بل من حيث إن الملك إنما يضاف عرفا إلى ما ينفذ فيه التصرف بالأمر والنهى، ولا
في الثاني أن المالك له التصرف في مملوكه بالبيع وأمثاله، وليس ذلك للملك في رعاياه لأن الكلام في الموضوع
اللغوي دون العرفي الفقهي، فللملك أن يتصرف فيهم بما شاء. وأما كون التصرف حقا أو ليس بحق فمما لا يعتبر
في الملك ولا في المالك لغة بل شرعا (قوله ويوم الدين يوم الجزاء) قيل في اختيار يوم الدين على يوم القيامة وعلى
سائر الأسامي رعاية للفاصلة وإفادة للعموم، فإن الجزاء يتناول جميع أحوال الآخرة إلى السرمد (قوله كما تدين
تدان) أي كما تفعل تجازى (دناهم كما دانوا) أي جزيناهم بمثل ما ابتدأونا به (قوله ما هذه الإضافة) أراد إضافة
مالك ولذلك قال: هي إضافة اسم الفاعل وفرع عليه قوله فإضافة اسم الفاعل، وأما إضافة ملك فلا إشكال فيها
لأنها إضافة المشبهة إلى غير معمولها كما في رب العالمين فتكون حقيقية. لا يقال ما أضيف له مفعول به في المعنى
فتكون لفظية، لأنا نقول: الصفة المشبهة لا تعمل النصب أبدا، ألا ترى إلى قولهم وإضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها
في تمثيل الإضافة اللفظية، ولا يرد على ذلك هو رحيم فلانا وجليس زيدا، لأن الأول صيغة مبالغة كما مر،
والثاني بمعنى مجالس وإلا لم يكن متعديا. وأما أن الصفة المشبهة لا تشتق إلا من فعل لازم والملك والرب مشتقان من
متعد، فجوابه ما عرفت من أن المتعدى يجعل لازما بالنقل ثم يشتق منه الصفة، والإضافة فيهما كما في قولك ملك
العصر وكريم الدهر وحسن البلد فتكون حقيقية قطعا (قوله مجرى مجرى المفعول به) الأول صيغة مفعول من
الإجراء وقعت حالا من الظرف. والثاني يروى بالضم والفتح إما مصدر أو مكان، والاتساع في الظرف أن
لا يقدر معه في توسعا فينصب نصب المفعول به كقوله: ويوم شهدناه، أو يضاف إليه على وتيرته كمالك يوم
الدين وسارق الليلة، حيث جعل اليوم مملوكا والليلة مسروقة. وأما مكر الليل والنهار فإن جعلا ممكورا بهما كما
يقتضيه سياق كلامه في المفصل كان مثالا لما نحن فيه من إجراء الظرف مجرى المفعول به وإن كان بواسطة حرف
جر، وإن جعلا ما كرين كان تشبيها في إعطاء الظرف حكم غيره والإضافة في الكل بمعنى اللام، ولم يعتد
57

المصنف بالإضافة بمعنى في وإن كانت رافعة مؤنة الاتساع وما يتبعه من الإشكال، إما لأن إجراء الظرف مجرى
المفعول به قد تحقق في الضمائر بلا خلاف فصورة الإضافة لما احتملت وجهين كانت محمولة على ما تحقق فلا
إضافة عنده بمعنى في، وإما لأن الاتساع يستلزم فخامة في المعنى، فكان بالاعتبار عند أرباب البيان أولى، وأما
النحوي فقد اعتد بها لقصور نظره في تصحيح العبارة على ظاهرها. وأهل الدار منصوب بسارق لاعتماده على
حرف النداء كقولك: يا ضاربا زيدا ويا طالعا جبلا، وتحقيقه أن النداء يناسب الذات فاقتضى تقدير موصوف:
أي يا شخصا ضاربا (قوله والمعنى على الظرفية) يريد أن الظرف وإن قطع في الصورة عن تقدير في وأوقع موقع
المفعول به إلا أن المعنى المقصود الذي سيق الكلام لأجله على الظرفية، لأن كونه مالكا ليوم الدين كناية عن
كونه مالكا فيه الأمر كله، فإن تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه، وقوله لمن الملك استشهاد
على إرادة العموم المناسب لمقام العظمة والكبرياء فإن معناه أن لا تصرف أصلا في ذلك اليوم إلا له فلا ملك ولا مالك
يومئذ إلا هو. ومن قال إن الإضافة في مالك يوم الدين مجاز حكمي، ثم زعم أن المفعول به محذوف عام شهد
لعمومه الحذف بلا قرينة خصوص، ورد عليه أن هذا المحذوف مقدر في حكم الملفوظ فلا مجاز حكميا حينئذ كما
في اسأل القرية إذا كان الأهل مقدار (قوله فإضافة اسم الفاعل) أي إذا كان الظرف متسعا فيه جاريا مجرى
المفعول به كانت إضافة اسم الفاعل إليه غير حقيقية فلا يتعرف بها المضاف فلا يسوغ وقوعه صفة لله تعالى. أجاب
بأن إضافة اسم الفاعل إنما تكون غير حقيقية إذا أريد به الحال والاستقبال ليكون عاملا وفى تقدير الانفصال.
وأما إذا قصد به الماضي أو الاستمرار فإضافته حقيقية كإضافة الاسم الذي لا يدل على زمان أصلا ولا ينصب
مفعولا به قطعا كمولى العبيد. وأورد المضاف إليه في مثال الماضي مفردا لكفايته فيه، وقيد بأمس تحقيقا للمضى
وإشارة إلى جواز عمله في الظروف حال كون إضافته حقيقية، وفى مثال المستمر جمعا لأنه أنسب بالاستمرار وأظهر
في تصوره. واعترض عليه بأنه ذكر في قوله تعالى - جاعل الليل سكنا - أن جاعلا دل على جعل مستمر في
الأزمنة المختلفة، ومع ذلك جعله عاملا في المضاف إليه ناصبا له حيث جوز عطف - والشمس والقمر - في قراءة
النصب على محل الليل، وفيه تصريح بأن اسم الفاعل إذا أريد به الاستمرار كان عاملا فتكون إضافته غير حقيقية
وهذا مناف لما ذكره ههنا. وأجيب بأن الزمان المستمر يشتمل على الماضي وعلى الحال والاستقبال، فجاز أن
يعتبر جانب الماضي فلا يكون الاسم عاملا وكانت إضافته حقيقية، وأن يعتبر جانب الحال والاستقبال فكان
الاسم عاملا وإضافته غير حقيقية، وكل واحد من الاعتبارين يتعين بحسب اقضاء المقامات وقرائن الأحوال،
وأجيب أيضا بأنه لا منافاة بين أن يكون المستمر عاملا وإضافته حقيقية. ووجه بأن المستمر لما احتوى على الماضي
ومقابليه روعي الجهتان معا فجعلت الإضافة حقيقية نظرا إلى الأولى، واسم الفاعل عاملا نظرا إلى الثانية، فجعل
58

إضافته حقيقية مع أنه عامل، فلا منافاة بين كلاميه، وفيه نظر لأن مدار الإضافة في كونها معنوية ولفظية على
كون الصفة عاملة وغير عاملة كما هو المشهور، ويمكن أن يقال الاستمرار في مالك يوم الدين ثبوتي، وفى جاعل
الليل تجددي بتعاقب أفراده، وكان الثاني عاملا وإضافته لفظية لورود المضارع بمعناه دون الأول، وسنزيدك هنالك
تبيانا لهذا المعنى إن شاء الله تعالى (قوله وهذا هو المعنى في مالك يوم الدين) أي المقصود منه الزمان المستمر لا الحال
أو الاستقبال والحصر بالقياس إليهما فلا ينافي تجويز الماضي. وجاز أن يجعل بالقياس إلى الكل إشارة إلى أنه
المختار الذي لا يلتفت معه إلى غيره، ثم كأنه تنزل عن ذلك وجوز قصد الماضي. فإن قيل: إذا لم يكن يوم الدين
وما فيه مستمرا في جميع الأزمنة لم يكن هو مالكا له على الاستمار، وأجيب بأنه مالك للأشياء كلها أزلا وأبدا ولا
يتغير بوجودها وعدمها إلا تعلق ملكه بها كما قيل في التكوين. ويرد عليه أن الماضي لا يحتاج إلى أن يؤول
ويجعل من قبيل ونادى. وقد يجاب بأن معنى الاستمرار هو الثبوت من غير أن يعتبر معه حدوث في أحد الأزمنة
وذلك ممكن في المستقبل كأنه قيل: هو ثابت المالكية في يوم الدين، وإذا لم يعتبر في مفهومه الحدوث لم يكن
عاملا لانتفاء مشابهة الفعل، ويدفعه أن الاستمرار صريح في الدوام. والأولى أن يوم الدين لتحقق وقوعه وبقائه
أبدا جعل كأنه متحقق مستمرا لأنه لم يصرح بذلك اعتمادا على ما ذكره من التأويل في الماضي، وهو أن يجعل
المستقبل المتحقق وقوعه بمنزلة الماضي الواقع مبالغة في تحقق وقوعه فيستعمل فيه اسم الفاعل على أنه ماضي ادعاء
وإن كان مستقبلا حقيقة ومثله لا يعمل كالماضي حقيقة فإضافته معنوية، واستدل على إرادة الماضي المؤول
بقراءة أبي حنيفة رحمه الله فإنها بمعنى الماضي مؤولا، وأنه قصد بالاستدلال نوع تقوية له لا اختياره على
الاستمرار. لا يقال الحكم بكون الظرف متسعا فيه قائما مقام المفعول به حكم بكون اسم الفاعل عاملا فيه ناصبا له،
فكيف يتصور أن إضافته إليه حقيقية وهل هذا لا تناقض؟ لأنا نقول: لا تناقض لأنه إنما حكم بكونه مفعولا به
من حيث المعنى لا من حيث الإعراب: أي يتعلق المالك به تعلق المملوكة حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة
لعمل فيه، ألا ترى أنك تقول في مالك عبيده أمس أنه مضاف إلى المفعول وتريد أنه كذلك معنى لا أنه منصوب
محلا لأن شرط العمل مفقود (قوله وهذه الأوصاف) يعنى لما دل بلامي التعريف والاختصاص على أن جنس
الحمد مختص به تعالى، وحق له إجراء تلك الصفات العظام ليكون حجة واضحة على انحصار الحمد فيه واستحقاقه
إياه، فذكر أولا ما يتعلق بالابتداء من كونه ربا: أي مالكا للأشياء كلها لا يخرج شئ من الأشياء عن ملكوته:
أي سلطنته الشاملة ومن ربوبيته الكاملة يتصرف فيها بمواجب حكمته على وفق مشيئته ويربيها: أي يرقيها في
مدارج الكمال على مقتضى عنايته بإفاضة الوجود وإعداد الأسباب الكاملة. وثانيا ما يتعلق بالبقاء من إسباغه عليها
59

نعما ظاهرة وباطنة جليلة ودقيقة. وثالثا ما يتعلق بالإعادة من كونه مالكا للأمر كله يوم الجزاء، كأنه قيل:
الحمد لله الذي منه الابتداء وإليه الانتهاء وبه البقاء فهو الحقيق بالثناء. وظهر بذلك أن هذه الأوصاف ليست
أجنبية فاصلة بين الحمد وما بين به من العبادة. وقوله هذه الأوصاف مبتدأ خبره دليل، ولم يؤنثه لأنه صار في
عداد الأسماء وإفراده إشارة إلى أن المجموع دليل واحد، فلا يتوهم شائبة اشتراك أصلا في استحقاق الحمد.
وكرر من في قوله ومن كونه منعما ومن كونه مالكا تنبيها على الشروع في وصف آخر وقيل تكريرها إشعار
باستقلال كل وصف بكونه دليلا على حدة وقوله بعد الدلالة ظرف لأجريت، فوجب أن يكون قوله من كونه
ربا الخ بيانا المستتر في أجريت لا لقوله هذه الأوصاف لئلا يقع فصل بين أجزاء الصلة بغيرها. فإن قلت:
اختار أولا ملكا على مالك فالأنسب أن يقول ههنا ومن كونه ملكا للأمر كله في العاقبة. قلت: النظر ههنا إلى
مآل المعنى، فكونه مالكا للأمور كلها يوم الدين في قوة كونه ملكا فيه، كما أن كونه مالكا للعالمين في قوة كونه
ملكا لهم، ولذا قال: لا يخرج منهم شئ من ملكوته، وما تقدم من اختياره إنما كان نظرا إلى اللفظ وإلى محض
المفهوم (قوله وأنه به حقيق) قيل الضمير الأول للحمد، والثاني لله تعالى كما يشعر به قوله على اختصاص الحمد
به: أي الحمد حقيق بالله لا بغيره، ويفهم من كون الحمد حقيقا به كونه حقيقا بالحمد، ولذلك قال: لم يكن
أحد أحق منه، على معنى أنه أحق من كل أحد، فإن قولك: ليس أحد أفضل من زيد وإن دل على نفى الأفضل
فقط لغة، إلا أن نفى المساوى مفهوم منه أيضا عرفا، فإن قلت: المناسب لكون الحمد حقيقا به دون غيره وما
يفهم منه أن يقول: لم يكن أحد غيره حقيقا بالحمد لأن قوله أحق يدل على أن غيره حقيق في الجملة. قلت:
أشار أولا إلى انحصار الحمد فيه سبحانه واستحقاقه إياه، ثم نبه على أن ذلك ادعائي على سابق من التأويل إيماء إلى
مذهبه، وقيل الضمير الأول لله والثاني للمحمد، ويوافقه قوله وكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع وقوله حقيق
بالثناء. ورد بأن تقديم الظرف يستلزم قصره تعالى على الحمد. وأجيب بأن تقديمه لمحض الاهتمام بما يتعلق به
الاستحقاق (قوله إيا ضمير منفصل) قال الزجاج: ومتابعوه إيا اسم مظهر مبهم مضاف إلى المضمرات الواقعة
بعده من الكاف ونحوه إضافة العام إلى الخاص فإنه مبهم يتعين بالمضاف إليه كأن إياك بمعنى نفسك. استدلوا على
ذلك بإضافته إلى المظهر في قوله وإيا الشواب. وقال الخليل: إنه ضمير مضاف إلى ما بعده من الأسماء، واستشهد
على كونه مضافا بإضافته إلى المظهر فيما حكاه عن بعض العرب واستضعف بأن الضمير لا يضاف. وذهب بعض
الكوفيين وابن كيسان من البصرية إلى أن الكاف وأخواته هي الضمائر التي كانت متصلة وإيا دعامة لها لتصير
منفصلة بسببها، وقال قوم من الكوفة: إياك بكماله هو الضمير، وزيف بأن ليس في الأسماء المضمرة ولا المظهرة
60

ما يختلف آخره كافا وهاء وياء. وذهب الأخفش وجمهور المحققين إلى أن إيا ضمير منفصل، واللواحق التي
تلحقه حروف تدل على أحوال المرجوع إليه. قال الشيخ ابن الحاجب: والدليل على ذلك أنها ألفاظ اتصلت بما
لفظه واحد ويتعين بها ما يرجع إليه. فوجب أن تكون حروفا كاللواحق بأن في أنت أنتما أنتم فإنها حروف مبينة
لأحوال المرجوع إليه فجعلها مقيسا عليها في انتفاء الإعراب المحلى، ولم يعتد بما نقل عن مذهب الفراء بأن الضمير
هو أنت بكماله، ولا بما قاله بعضهم من أن اللواحق هي الضمائر التي كانت موضوعة متصلة وأن دعامة لها دعمت
حين أريد انفصالها لتستقل لفظا (قوله كما لا محل للكاف) الكاف أخواتها في أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم بمعنى
طلب الإخبار حروف إجماعا تدل على أحوال المخاطب ويتعين بها ما أريد بالتاء، فكانت أولى بجعلها مقيسا عليها
في انتفاء الإعراب محلا من اللواحق بأن. قال المصنف: لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها
علما وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، وهذا يدل على أنها من رؤية البصر، وذكر في سورة القلم
ما يدل على أنها من رؤية القلب، وأياما كأن فالاستفهام مستعمل في معنى الأمر (قوله فإياه وإيا الشواب) بالغ
في التحذير وأدخل إيا على الشواب لأنه يوهم أن كلا منهما يحذر من الآخر: أي عليه أن يقي نفسه عن التعرض
للشواب ويقيهن عن التعرض له وعليهن مثل ذلك. وإنما قال فشئ شاذ ولم يقل فشاذ زيادة استحقار له واستضعاف
مبالغة في أنه لا معول عليه أصلا، ولا يستدل به على أنه مظهر مضاف إلى المضمرات، ولا على أنه مضمر مضاف
إلى ما بعده كما مر من مذهبي الزجاج والخليل (قوله كقوله تعالى: قل أفغير الله) قيل الهمزة في الآيتين للإنكار،
فلو أفاد التقديم الاختصاص لدلت الأولى على إنكار اختصاص غير الله بالعبادة والأمر بها، والثانية على إنكار
اختصاص غيره باتخاذه ربا، فلا يفهم منهما إنكار الشركة بل جوازها، لأن الإنكار في حكم النفي يتوجه إلى القيد
ويفيد ثبوت أصل الحكم، فإذا دخل على الأمر بعبادة الغير مقيدة بالاختصاص دل على أن المنكر قيد الاختصاص
دون أصل العبادة والأمر بها. وأجيب بأن ذلك إنما يلزم إذا اعتبر التقديم أولا ودخول الهمزة ثانيا ليكون الإنكار
واردا على الاختصاص، وأما إذا عكس كان الاختصاص واردا على الإنكار وأفاد الكلام أن إنكار العبادة والأمر بها
مخصوص بغيره تعالى وقد تعين هذا المعنى بقرينة المقام. أولا يرى أن قوله تعالى - لو يطيعكم - محمول على استمرار
الامتناع لا على امتناع الاستمرار كما صرح به في المفتاح، وأن قوله - وما هم بمؤمنين - يفيد تأكيد النفي لانفى
التأكيد، وأن قولك: ما أنا قلت هذا، يدل على معنى لم أقله وقاله غيره، لا على معنى لم أقله وحده بل قلته أنا
وغيري، الضابط أن النفي وما في حكمه إذا كان مع قيد في الكلام يجعل تارة قيدا للمنفى فيرد النفي على المقيد
ويتبادر منه عرفا انتفاء القيد وثبوت أصله، وأخرى قيدا للنفي ويتعين كل واحد من الاعتبارين بقرينة تشهد له
61

(قوله والمعنى نخصك بالعبادة) وقد سبق في تحقيقه ما فيه غنية عن إعادته (قوله قال طفيل الغنوي: فهياك)
قال رحمه الله تعالى: هكذا رواية الكشاف. وفى الحماسة لمضرس بن ربعي:
فإياك والأمر الذي إن توسعت * موارده ضاقت عليك المصادر
وقيل البيت الذي رواه المصنف من قصيدة مطلعها:
تحمل من وادى أشيقر حاضره * وألوى بعامي الخيام أعاصره
والموارد مواضع الورود والدخول، والمصادر مواضع الصدور والرجوع: أي احذر أن تلابس أمرا إن توسعت
مداخلة ضاقت عليك مخارجه، والمقصود الحث على التدبر في عواقب الأمور قبل الشروع فيها (قوله أقصى غاية
الخضوع) للخضوع حدود ونهايات، ولفظ الغاية شملها لكونه اسم جنس مضافا فصح إضافة أقصى إليها كأنه
قال أقصى غاياته. قال الراغب: العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل (قوله لأنه مولى أعظم
النعم فكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع) بيان لوجه استعمال العبادة في الخضوع لله تعالى لا لحصر استعمالها فيه،
كأنه جعل مقتضى الاستعمال ظاهر الانتفاء عن غيره فلم يتعرض للحصر لا في المقتضى ولا في الاستعمال، فبطل
ما يقال من أن الصواب أن يقال وكان هو الحقيق (قوله هذا سمى الالتفات) لما كان السؤال عن فائدة العدول
مشتملا على نوع استبعاد واستنكار له لمخالفته مقتضى الظاهر الذي تتسارع الطباع إلى قبوله وتتباعد عما يخالفه،
أزال الاستعباد أولا بأنه فن من فنون البلاغة مشهور فيما بين علماء البيان له اسم مخصوص وأنواع كثيرة وأمثلة غير
محصورة. وثانيا بأنه عادة مألوفة للعرب العرباء قد تعودوا بها في أساليب كلامهم. وأشار في ضمنه إلى فائدة
عامة للالتفات من جهة المتكلم وهى التصرف والافتنان في وجوه الكلام وإظهار القدرة عليها والتمكن منها،
وعقبها بفائدة أخرى له عامة أيضا من جهة السامع وهى تطرية نشاطه في سماع الكلام واستدرار إصغائه إليه بحسن
الإيقاظ، ثم ذكر أن له بحسب مواقعه فوائد مخصوصة وبين الفائدة المختصة بهذا الموضع فكأنه قال: ليس العدول
من طريق إلى آخر بمستبعد بل هو مشهور ومعتاد، وله فوائد عامة وخاصة، فكان الجواب منطبقا على السؤال
حق الانطباق. وأشار بقوله هذا يسمى الالتفات إلى ما يفهم من الكلام السابق من مطلق العدول الواقع بين الطرق
الثلاثة، وصرح من أنواعه الستة الحاصلة من ضرب الثلاثة في اثنين بثلاثة: أولها ما يندرج فيه المسؤول عنه أعني
62

الانتفال من الغيبة إلى الخطاب ولذلك لم يذكر له مثالا. وثانيها ما يشارك الأول في طرفيه على التبادل. وثالثها
ما يشاركه في الطرف الأول. وأشار بقوله (وقد التفت امرؤ القيس) إلى نوع رابع هو الانتقال من التكلم إلى
الخطاب في ليلك واقتصر على هذه الأربعة لأنها أكثر الأنواع وأشهرها وأراد بعلم البيان ههنا كما في خطبة المفصل
العلوم الثلاثة. قال بعض الأفاضل: يبحث عن الالتفات في كل واحد منها. أما في علم المعاني فباعتبار كونه على
خلاف مقتضى الظاهر. وأما في البيان فباعتبار أنه إيراد لمعنى واحد في طرق مختلفة الدلالة عليه جلاء وخلفاء
وبهذين الاعتبارين يفيد الكلام حسنا ذاتيا للبلاغة. وأما في البديع فمن حيث إن فيه جمعا بين صور متقابلة في معنى
واحد فكان من المحسنات المعنوية، ويؤيده أن صاحب المفتاح ورده تارة في المعاني وأخرى في البديع، وفى عده
خلاف مقتضى الظاهر كناية إيماء إلى أنه من البيان أيضا (قوله ثلاث النفاتات في ثلاثة أبيات) يجرى مجرى النص
على أن في كل بيت منها التفاتا، فيكون ليلك التفاتا من التكلم إلى الخطاب، فتعين أن الالتفات عنده مخالفة الظاهر
في التعبير عن الشئ بالعدول عن إحدى الطرق الثلاث إلى أخرى منها، إما تحقيقا وإما تقديرا كما اختاره الإمام
السكاكي، ومنهم من اشترط في الالتفات سبق التعبير بالطريق المعدول عنه وحاول تطبيق كلام المصنف عليه،
فزعم أن الالتفات الأول في بات من الخطاب إلى الغيبة، والثاني في ذلك من الغيبة إلى الخطاب، والثالث في
جاءني من الخطاب إلى التكلم. ورد بأن حرف الخطاب جار على أصله من كونه لمن يتلقى عنه الكلام لا أنه
خاطب به نفسه، ولذلك لم يعد السكاكي في الأبيات الثلاثة أربع التفاتات. وربما قيل إن في جاءني التفاتين نظرا
إلى الغيبة والخطاب السابقين وفساده ظاهر، واعلم أن قوله تطاول ليلك إن حمل على الالتفات لم يكن تجريدا وإن
عد تجريدا كقوله * وهل تطيق وداعا أيها الرجل * لم يكن التفاتا لأن مبنى التجريد على مغايرة المنتزع
للمنتزع منه ليترتب عليه ما قصد به من المبالغة في الوصف ومدار الالتفات على اتحاد المعنى ليحصل ما أريد به من
إيراد المعنى في صورة أخرى غير ما يستحقه بحسب ظاهره. ويؤيد ذلك ما نقله الفاضل اليمنى من أن أبا على وابن
جنى وابن الأثير حكموا بأن ليلك تجريد وليس بالتفات، فمن ادعى أن أحد أقسام التجريد أعني مخاطبة الإنسان
نفسه التفات وأنه لا منافاة بينهما فقد سها. والأثمد بفتح الهمزة وضم الميم اسم الموضع وبكسرهما كذلك على
ما نقله رحمه الله تعالى. ولا ينافي ذلك كونه اسما لحجر يكتحل به. والخلي الخالي من الهم والظرف: أعني له حال
من ليلة إذ لا معنى لتعلقه بيات. العائر بمعنى العوار وهو القذى الرطب الذي تلفظه العين عند الوجع، وبمعنى
63

الرمد أيضا قال رحمه الله تعالى: يطلق العائر على ما به العوار فيحتاج حينئذ إلى تقدير: أي ذي الجفن العائر.
والأرمد صفة ذي. والنبأ هو خبر قتل أبى الأسود لأن القصيدة مرثيته. وقوله ولأن الكلام ظرف مستقر عطف
على مثله: أعني على عادة: أي وذلك كائن على عادة وكائن لأن الكلام (قوله ومما اختص به) إشارة إلى أن
الفائدة المختصة به لا تنحصر فيما ذكره بل هناك فوائد جمة. وفى المفتاح إن فائدة الالتفات التنبيه على أن القراءة
إنما تكون معتدا بها إذا كانت صادرة عن قلب حاضر وتأمل وافر بحيث يجد القارئ من نفسه في أول قراءته
محركا نحو الإقبال على منعمه الذي أجرى حمده على لسان، ثم يزداد قوة ذلك المحرك بحسب إجراء تلك الصفات
العظام حتى إذا آل الأمر إلى خاتمتها أوجب إقباله عليه وخطابه إياه بحصر العبادة والاستعانة فيه فتنطبق قراءته على
المنزل. ومن فوائده الإيذان بأن الحمد والثناء ينبغي أن يكون على وجه يوجب ترقى الحامد من حضيض بعد
الحجاب والمغايبة إلى ذروة قرب المشاهدة والمخاطبة. ومنها الإشارة إلى أن العبادة المستطابة والاستعانة المستجابة
إنما تكون في مقام الإحسان الذي هو أن تعبد ربك كأنك تراه وتخاطبه (قوله لما ذكر الحقيق بالحمد) حاصله أنه
لو قيل إياه نعبد وإياه نستعين كما يقتضيه مساق الكلام بظاهره لم يكن فيه دلالة على أن العبادة له والاستعانة به
لأجل اتصافه بتلك الصفات المجراة عليه، وتميزه به عن غيره لأن ذلك الضمير راجع إلى ذاته بمقتضى وصفه،
وليس فيه ملاحظة لصفاته وإن كان متصفا بها، فالحكم متعلق بالذات فلا يفهم منه سببه عرفا. وإذا قيل إياك
بدل إياه فقد نزل الغائب بواسطة أوصافه المذكورة الموجبة لتميزه وانكشافه حتى صار كأنه يتبدل خفاء غيبته
بجلاء حضوره منزلة المخاطب في التمييز والظهور، ثم أطلق عليه ما هو موضوع للمخاطب ففي إطلاقه عليه ملاحظة
لأوصافه التي جعلته كالمخاطب فصار الحكم مرتبا على الوصف المناسب بمنزلة أن يقال: أيها الموصوف المتميز
نعبدك ونستعينك، فيتبادر منه في المتعارف أن العبادة والاستعانة لتميزه بتلك الصفات، ونظير إياك ههنا اسم
الإشارة في قوله - أولئك على هدى من ربهم - وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. ومعنى قوله (فخوطب) أريد
خطابه فقيل، أو تقول هو مجمل عقب بتفصيله وتقديم (إياك) في قوله (إياك يا من هذه صفاته نخص) لموافقة
المنزل ونخص تصريح بفائدة التقديم فيه وقوله (لا نعبد غيرك ونستعينه) تأكيد له ولو جعل تقديم إياك في هذه
العبارة للتخصيص أفاد أنا نخصك ولا نخص غيرك، وهو فاسد من وجهين: الأول أن هذا ليس معنى إياك نعبد.
64

الثاني أنه لا يوافقه قوله لا نعبد غيرك. فإن قلت: قوله ليكون الخطاب أدل تصريح بأن الغيبة لها دلالة ما على ذلك،
وما قدرتموه من وجه الدلالة ينافي دلالتها. قلت: ضمير الغائب لجريانه على أصله ورجوعه إلى الذات ليس فيه
ما يقتضى فهم الصفات، لكن لتقدم ذكرها ربما يفهم معه لابه، وهذا القدر كافي لإشعاره بالعلية في الجملة.
ولما كان صفاته تعالى عين ذاته أو مستندة إليها وحدها وكانت أفعاله متفرعة عن صفاته الذاتية كان استحقاقه
العبادة لصفاته وأفعاله راجعا إلى الاستحقاق الذاتي (قوله لم قرنت الاستعانة بالعبادة) أراد لأي مناسبة وتعلق جمع
بينهما، فأجاب بأن العبادة أمر يتقرب به العباد إلى ربهم، والاستعانة طلب ما يحتاجون إليه من جهته: أي من
جهة الرب وهو إعانته إياهم في حوائجهم ومهماتهم. ولا يخفى أن تقربهم إليه وطلبهم منه المعونة في مهماتهم
متناسبان غاية التناسب فقرن أحدهما بالآخر، فالوجه في تفريع السؤال حينئذ أن العبادة لما كانت تقربهم إلى
مولاهم بأفعالهم والاستعانة طلب لفعل المولى كان تقديما على العبادة أولى فلم قدمت عليها؟ والجواب: أن
الاستعانة طلب الحاجة والعبادة وسيلة إليها، فقدم الوسيلة على مجرى العادة ليستحقوا الإجابة. وقيل الضمير في
قوله من جهته راجع إلى ما يتقرب به على معنى أن الإعانة تطلب ويحتاج إليها من جهة العبادة ولأجل تحصيلها
فيظهر على هذا التقرير تفريع السؤال، لأن طلب ما يحتاج إليه في حصول العبادة ينبغي أن يقدم عليها وبطلانه من
وجوه: الأول أن قوله ليتناول كل مستعان فيه ينافيه. الثاني أنه يجعل هذا الوجه راجعا إلى الأحسن الذي سيذكره
وقد جعله المصنف مقابلا له. الثالث أن الجواب لا يطابقه، فإن العبادة حينئذ مقصودة بذاتها والإعانة وسيلة إليها
على عكس ما ذكره في الجواب، فينبغي حينئذ أن يجاب بأن الإعانة مطلوبة لتكميل العبادة بازديادها أو بثباتها،
يدل على ذلك جعل " اهدنا " بيانا لها وطلب ما يزاد به الشئ أو يستمر متأخر عنه، ولو جعلت الإعانة مطلوبة لتحصيل
العبادة ابتداء. وأجيب على هذا التقرير بأن تقديم المقصود على طلب وسيلة تحصيله للاهتمام لكان له وجه وجيه.
65

واختار الفاضل اليمنى أن الضمير للرب كما هو الحق، لكنه وجه التفريع بأن الاستعانة لما كانت شاملة لكل
مستعان فيه دخلت فيه الاستعانة على العبادات دخولا أوليا فكانت الإعانة أمرا مطلوبا محتاجا إليه في أداء العبادات
كما في سائر المهمات. فالأولى أن يقدم طلبها على العبادة، وفيه نظر لأن الحكم يتناول الاستعانة كل مستعان فيه
متأخر عن هذا السؤال، فكيف يبتنى تفريعه عليه، وأيضا إذا كانت الإعانة على تحصيل العبادة أو تكميلها داخلة
في المطلوب لم تكن العبادة وسيلة إليه مطلقا بل هي مقصودة بالقياس إلى بعضه، وهو الإعانة على العبادة تحصيلا
أو تكميلا ووسيلة إلى بعضه، وهو الإعانة فيما عداها وذلك خلاف المفهوم من قوله لأن تقديم الوسيلة الخ.
لا يقال: العبادة متعددة أنواعا وأشخاصا فجاز أن يكون بعضها وسيلة إلى الإعانة على بعض. لأنا نقول: لا اختصاص
لقوله نعبد ونستعين ببعض العبادات دون بعض، بل هما مطلقان نسبتهما إلى الكل على السوية، والذي يلوح من
كلامه أنه أراد بالمهمات في قوله وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات مالا يتناوله غاية الخضوع: أي العبادة،
فإنه المتبادر من العبارة والمناسب للعرف العام، وحينئذ يستقيم تفريع السؤال كما وجهنا أولا. ويظهر صحة الجواب
مطلقا ويراد بإطلاق الاستعانة تناولها لكل مستعان فيه من تلك المهمات (قوله لم أطلقت) أي لم ترك تقييدها بما
تقتضيه من المفعول بواسطة حرف الجر؟ أجاب بأن حذف المفعول لإفادة العموم بناء على أن الحمل على بعض دون
بعض ترجيح بلا مرجح، وهكذا معنى قوله وأطلق الأنعام ليشمل كل الإنعام فالعموم مستفاد من الإطلاق
بمعونة المقام، فمن شنع عليه بأنه لم يفرق بين المطلق والعام نقد تخلف بمنازل عن إدراك المرام (قوله كل مستعان فيه)
أي مستعان عليه يقال أعانه على كذا وأعانه في كذا ومحصولهما واحد (قوله والأحسن الخ) عطف بحسب المعنى
على جمع ما سبق من كلامه الدال على أن الاستعانة متعلقة بالمهمات وعامة فيها كأنه قال: هي مطلقة في المهمات
غير مقيدة بالعبادة، والأحسن أنها مقيدة بها، وإنما أطلقت وحذف مفعولها لفظ لمجرد الاختصار مع وجود
القرينة الدالة على تقييدها بالعبادة وهو اقترانها بها مع ظهور احتياجها إلى الإعانة عليها (به وبتوفيقه) من باب
أعجبني زيد وكرمه (قوله لتلاؤم الكلام) أي لتناسب الجمل الواقعة فيه وانتظام بعضها مع بعض حيث دل إياك
نستعين على طلب الإعانة على العبادة، فصار اهدنا بيانا للإعانة المطلوبة، فانتظمت الجمل الثلاث انتظاما تاما
لمزيد ارتباط بينها. وربما يقال: إياك نعبد بيان للحمد أو استئناف نشأ من إجراء الأوصاف على المحمود، فكانت
الجمل الأربع التي في الفاتحة متلاصقة متلاحقة والأخذ بالحجزة وهى معقد الإزار وموضع التكة من السراويل
عبارة عن شدة الاتصال، وإذا جعلت الاستعانة عامة لم يكن اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة ولا المعونة مخصوصة
بالعبادة، فلم يكن الاتصال بين الجمل بتلك المثابة (قوله هدى أصله أن يتعدى) فيه إشعار بأن لافرق بين المتعدى
66

بنفسه والمتعدى بالحرف، لكنه فرق بين هداه لكذا وإلى كذا، إنما يقال إذا لم يكن فيه ذلك فيصل بالهداية إليه،
وهداه كذا لمن يكون فيه فيزداد أو يثبت ولم لا يكون فيه فيصل. وقد يقال: لا نزاع في الاستعمالات الثلاثة.
ومنهم من فرق بأن ما تعدى بنفسه معناه الإيصال إلى المطلوب ولا يكون إلا فعل الله فلا يسند إلا إليه كقوله تعالى
- لنهدينهم سبلنا - وما تعدى بالحرف معناه الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب فيسند تارة إلى القرآن كقوله - يهدى
للتي هي أقوم - وتارة إلى النبي صلى الله عليه وآله كقوله - وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم - (قوله ومعنى طلب
الهداية) أي طلبهم الهداية ففاعل المصدر محذوف وهم مهتدون حال منه. وتقرير الإشكال أن من خصص الحمد
بالله تعالى وأجرى عليه تلك الصفات المشتملة على أحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وحصر العبادة والاستعانة فيه كان
مهتديا فكيف يطلب الهداية وما هو إلا طلب لتحصيل الحاصل. والجواب أن الحاصل أصل الاهتداء والمطلوب
زيادته أو الاهتداء والمطلوب الثبات عليه. فإن قلت: المؤمنون وإن كانوا مهتدين في اعتقادهم وعبادتهم إلا أن
عبادتهم ليست مقصودة بذاتها، بل هي وسيلة إلى مطالبهم الحقيقية التي هي السعادات الأبدية، ولما لم تكن كافية
في حصول تلك المطالب بل لابد معها من الاستعانة بهداية الله إليها قالوا: اهدنا الصراط المستقيم، طلبا للهداية
إليها، فلا حاجة إلى شئ من التأويلين. قلت: لما حمل المصنف الصراط المستقيم على ملة الإسلام احتاج إلى أحدهما
على أن طلب الهداية إلى تلك المطالب راجع إلى طلب زيادة الهدى، فإن حمل الهدى على التثبيت كان مجازا، ولو
حمل على زيادته، فإن جعل مفهوم الزيادة داخلا في المعنى المستعمل فيه كان مجازا أيضا، وإن جعل خارجا عنه
مدلولا عليه بالقرائن كان حقيقة لأن الهداية الزائدة هداية، وما ذكره في قوله - يا أيها الناس اعبدوا ربكم - من
أن الازدياد من العبادة عبادة فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز فمبنى على هذا الوجه الأخير. وفى قوله (بمنح
الألطاف) وهى المصالح التي عندها يضيع المكلف أو تكون أقرب إلى الطاعة ولا تفضى إلى الإلجاء والقسر رد
على من قال هداية الله لعباده إيجاده الاهتداء فيهم، وأريد ههنا إيجاد زيادته أو الثبات عليه (قوله زادهم هدى
استشهاد معنوي حيث صرح فيه بزيادة الهدى بعد إثبات الاهتداء (قوله لنهدينهم سبلنا) نظير لاهدنا، فإنه لما
أثبت لهم المجاهدة بصيغة الماضي وجعل ضمير الذات ظرفا لها مبالغة في إخلاصهم دل على ثبوت الهداية فحمل على
الزيادة، وكما أيد الوجه الأول بنظائر الآية أشار إلى تأييد الثاني بالنقل عن الصحابة (قوله لأن كل واحد منهما
طلب وإنما يتفاوتان في الرتبة) إشارة إلى أن تلك الصيغة موضوعة لطلب الفعل مطلقا لكنه من الأعلى أمر ومن
الأدنى دعاء ومن المساوى التماس، واللفظ في الأحوال كلها. مستعمل في معناه الحقيقي، واعتبر أبو الحسين في
الأمر الاستعلاء وفى الدعاء التضرع وفى الالتماس عدمهما وهو أولى (قوله وقرأ عبد الله) هو إذا أطلق أريد به
67

ابن مسعود، كما أن الحسن إذا أطلق أريد به الحسن البصري (قوله لأنه يسترط السابلة) أي يبتلعهم، والسابلة:
أبناء السبيل المختلفة في الطرقات. قال الراغب: سمى بالسراط بناء على توهم أنه يبتلع سالكه أو يبتلعه سالكه، يقال
أكلته المفازة: إذا أضمرته أو أهلكته، وأكل المفازة: إذا قطعها، وكذلك يسمى باللقم لأنه يلتقمهم أو يلتقمونه
(قوله لأجل الطاء) فإنها مجهورة مستعلية والسين مهموسة منخفضة واجتماعهما لا يخلو عن ثقل فأبدلت صادا لأنها
تناسب الطاء في الاستعلاء والسين في الهمس، وقد تشم الصاد صوت الزاي لتكتسى بذلك نوع جهر فيزيد قربها
من الطاء قوله كما قال للذين استضعفوا) استدل بتكرير العامل: أعني اللام ههنا لفظا على أن البدل في حكم
التكرير. واعترض عليه بجواز أن يكون مجموع الجار والمجرور بدلا عن مجموع الجار والمجرور، فلا تكرير
للعامل حينئذ لأنه الفعل حينئذ. وأجيب بأن إبدال المفرد من المفرد أكثر فكان أولى. ورد بأن الحمل عليه مستلزم
تكرير العامل لفظا وهو أقل قليل بل جميع صوره متنازع فيه، ونحن نقول: لما اعتبر في البدل أن يكون مقصودا
بالنسبة وقد علم أن حروف الجر أدوات لإفضاء معاني الأفعال إلى ما بعدها تبين أن اللام ليست جزءا من
المنسوب إليه فلا تكون جزءا من البدل (قوله ما فائدة البدل وهلا قيل) هذا سؤال، واحد: أي ما فائدة جعل
" صراط الذين أنعمت عليهم " بدلا وتابعا، وهلا ذكر استقلالا وأصالة مع أنه المقصود حقيقة؟ والجواب أن له
فائدتين: إحداهما التأكيد بذكر الصراط مرتين وتكرير العامل، وبالتكرير يمتاز عن التأكيد وعطف البيان على
المختار، وبكونه مقصودا بالنسبة يمتاز عنهما مطلقا. والثانية الإيضاح بتفسير المبهم بقوله (والإشعار) بالرفع
عطف على التأكيد، وقد يروى مجرورا بخط المصنف، فالفائدة على هذا هي التأكيد من الوجوه الثلاثة. فإن
ذكر الشئ مبهما ثم مفسرا يفيد تقريره وتأكيده (قوله ليكون ذلك شهادة) متعلق بالتأكيد والإشعار معا: أي
أكد بوجهين وأشعر بكذا ليكون الكلام المشتمل عليها شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على وجه أبلغ وآكد
من أن يوصف صراطهم بالاستقامة. أما أولا فبتثنيته ذكره ليتمكن المشهود له في ذهن السامع، وأشار إليه في
المثال بقوله لأنك ثنيت ذكره، وذلك لأن المراد بأكرم الناس وأفضلهم هو الذات كما أريدت بفلان، وأما
68

الأكرم والأفضل التابعان لفلان فأريد بهما مفهومهما لا الذات. وأما ثانيا فبالتفصيل بعد الإجمال فإنه أوقع في
البيان وأقوى في الشهادة، وأشار إليه بقوله (مجملا أولا ومفصلا ثانيا) وتقدير الكلام ثنيت ذكره فذكرته أولا
مجملا وثانيا مفصلا، وأما ثالثا فبتكرير العامل تقديرا، وله مع إفادة تأكيد النسبة فائدة أخرى تقوى أركان
الشهادة المذكورة وقد فصلها بقوله: وأوقعت فلانا إلى آخر الكلام، يعنى وأوقعته تفسيرا وإيضاحا مع قصد
تكرير العامل كما مر، فإن جعله علما وكونه مشخصا معينا لما ذكر إنما يترتب على تقدير العامل المؤذن باستئناف
القصد كأنه قيل: هل أدلك على زيد؟ فينبغي أن يكون علما في الكرم والفضل (غير مدافع ولا منازع) ليكون
أوفى بتأدية ما هو المقصود، أعني كونه أكرم وأفضل فيستحق أن يستأنف القصد إليه، وقد يتوهم من ظاهر
عبارته أن قوله ليكون متعلق بالإشعار وحده، ووجوه الأغلبية راجعة إلى كونه بيانا وتفسيرا فيلزم أن يشاركه فيه
عطف البيان مع أن اقتضاءه تعيين فلان وتشخيصه بلا مدافعة لا يخلو عن منازعة. وقوله غير مدافع نصب على
الحال، إما من الضمير المجرور في الظرف، وإما من المرفوع المستكن في المعين (قوله وأطلق الإنعام) أي لم يقيده
بمفعوله الذي يتعدى إليه بالباء ليستغرق بمعونة المقام كل إنعام بنعمه. ولما كان هذا الشمول ادعائيا قال (لأن من
أنعم الله عليه الخ) فإن نعمة الإسلام لاشتمالها على سعادة النشأتين هي النعمة كل النعمة، فمن فاز بها فقد أنعم الله
عليه بالنعم (قوله على معنى أن المنعم عليهم) أي إذا جعل غير المغضوب عليهم بدلا أريد بالثاني أيضا الذات مع
قصد تكرير العامل وتفسير المبهم فيوجد فيه تلك المبالغات. فالبدل في الآية أوقع من الصفة، قال رحمه الله:
قوله هم الذين سلموا نظيرا قوله فهو المشخص المعين (قوله على معنى أنهم جمعوا) لأن النعمة المطلقة أثبتت لهم
بطرق الصلة والسلامة بطريق الصفة، ويفهم من ذلك أنهم جمعوا بينهما. وقوله وهى نعمة الإيمان مع قوله سابقا
بنعمة الإسلام يدل على أن الإيمان متحد بالإسلام ومشتمل على الأعمال كما هو مذهب الاعتزال، وحينئذ كان
69

الوصف بالسلامة عن الغضب والضلال بعد إثبات الإيمان تأكيدا لا تقييدا، اللهم إلا إذا حمل الإيمان على مجرد
التصديق إما وحده أو مع الإقرار كما ذهب إليه غيره (قوله لا توقيت فيه) أي لا تعيين، يقال وقت: إذا حدد
وعين، فإن تعيين الحوادث بالأوقات: أي لم يرد بالذين أنعمت عليهم قوم بأعيانهم فإن الموصول في حكم المعرف
باللام، فإذا أريد به الجنس من حيث وجوده في ضمن بعض أفراده لا بعينه كان في المعنى كالنكرة وهو المسمى
بالمعهود الذهني، فتارة ينظر إلى معناه فيعامل معاملة النكرة كالوصف بالنكرة وبالجملة، وأخرى إلى لفظه
فيوصف بالمعرفة ويجعل مبتدأ وذا حال. فإن قلت: ذكر أولا أنهم المؤمنون مطلقا ثم نقل أنهم أصحاب موسى
صلى الله عليه وسلم قبل تحريف التوراة وتغيير أحكامها أو الأنبياء فهو على الأخيرين عهد خارجي تقديري
فيكون معينا، وعلى الأول مستغرق للكل، وهو أيضا أمر معين لا تعدد فيه أصلا فليس هناك معنى لا توقيت فيه.
قلت: يحتمل أن يريد بالمؤمنين طائفة منهم لا بأعيانهم، فإذا حمل على الاستغراق كما هو الظاهر من السياق تعين أن
ما في الجواب وجه رابع هو العهد الذهني كما يدل عليه تشبيه بقول الشاعر، وقيل الكل لكثرته لا يحيط العلم
بحصره فأشبه المنكر فعومل معاملته، وهذا مع أنه إحداث قول بلا ثبت في الاستعمال يدفعه ذلك التشبيه دفعا
ظاهرا (قوله على اللئيم) لم يرد الكل إذ لا مرور عليه، ولا فرد معين إذ لا دلالة عليه ولقصوره عن إفادة ما هو
المقصود من وصفه بكمال الحلم وقوة الأناة ولا الحقيقة من حيث هي إذ لا يناسبها المرور، بل هي باعتبار وجودها
في ضمن فرد بعينه أي على لئيم. والجملة صفة له لا حال منه، فإن المعنى ليس على تقييد المرور بحال السب بل
على أن له مرورا مستمرا في أوقات متعاقبة على لئيم من لالئمام اتخذ سبه دأبا ومع ذلك يعرض عنه صفحا، فإنه
أدل على إغضائه عن السفهاء وإعراضه عن الجاهلين وتمامه * فمضيت ثمت قلت لا يعنيني * أي فأمضى ثم
أقول على قصد الاستمرار كما في قوله ولقد أمر، وإنما عدل إلى صيغة الماضي تحقيقا لاتصافه بالحلم والإغضاء
وثمة حرف عطف لحقتها التاء، قيل وذلك مخصوص بعطف الجمل. ومعنى ثم التراخي في الرتبة: أي قضيت
ولم أشتغل بمكافأته وترقيب إلى مرتبة أعلى. وقلت: لا يعنيني بالسب فكأنه ينسى نفسه تلك الحالة ويصورها
بصورة أخرى تكرما، وذلك غاية التؤدة والوقار والتباعد عن لحقوق العار (قوله ولأن المغضوب عليهم) عطف
بحسب المعنى على ما تقدم: أي صح ذلك لأن الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه، ولأن المغضوب عليهم أجاب
أولا بأن الموصوف نكرة معنى. وثانيا بأن الصفة معرفة، فعلى الأول يجب أن يحمل المغضوب عليهم، والضالين
على اليهود والنصارى كما سينقله ليبقى غير على إبهامه نكرة مثل موصوفه فيظهر التشبيه باللئيم يسبني، وعلى الثاني
يجب أن يحمل على مطلق المغضوب عليهم والضالين ليكون المضاف مشتهرا بمغايرة المضاف إليه فيتعرف غير،
ويكون الموصوف حينئذ محمولا على الوجه الثلاثة المذكورة أولا فيتوافقان تعريفا لفظا ومعنى. وجاز أيضا أن
يراد بالموصوف مالا توقيت فيه على ما مر، ويوصف بالمعرفة نظرا إلى لفظة وبعض المتضلعين بكشفه عن أسرار
الكتاب طرا وإحاطته بما فيه خبرا تحير في تحقيق المقام فتشبث بأذيال قائلا: إن حاصل الجواب أنا
70

لا نسلم أن الموصوف معرفة، ولو سلم فلا نسلم أن الصفة نكرة. فما قيل من أن المضاف إذا كان مما اشتهر مبغايرة
المضاف إليه كان معرفة قطعا فلا يكون كقوله على اللئيم يسبني خارج عن قانون التوجيه، نع م يتجه أن الموصول
ههنا لم يرد به بعض مبهم ليصح وصفه بالنكرة كاللئيم بل أريد به العموم. وأنت خيبر بأن إفساده الكلام المصنف
بما سلمه أكثر من إصلاحه إياه بما دفعه، وقد حققناه بما لا غبار عليه. هذا، وأما إذا قرئ غير بالنصب على الحال
فلا بد أن يكون نكرة كما أشرنا إليه، وجعله بمعنى مغايرا لتكون إضافته لفظية كما يشهد له إدخال اللام عليه في
عبارة كثير من العلماء مما لا يرتضيه الأدباء ولم يرد شاهد له في كلام يستشهد به (قوله وهى قراءة رسول الله صلى
الله عليه وسلم) قيل أي عادته قبل العرضة الأخيرة، وإلا فكل القراءات قراءته، وقيل كل واحدة من السبع
المتواترة تنسب إلى واحد من الأئمة لاشتهاره بها وتفرده ليها بأحكام خاصة في الأداء، وأما غيرها فإذا ظهر فيها أمر
الرواية ولم يشتهر بها أحد تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله، ولا يلزم من ذلك اعتياده بها وهذا أولى (قوله وذو
الحال الضمير في عليهم والعامل) في الحال هو (أنعمت) لا يقايل: فقد اختلف العالم في الحال وذي الحال، لأن
العامل في الأول هو الفعل، وفى الثاني هو الجار. لأنا نقول: العامل فيهما هو الفعل لأن حرف الجر أداة توصل
معنى الفعل إلى مجروره، والمجرور ههنا وحده منصوب المحل بالفعل، وبهذا الاعتبار وقع ذا حال، وهكذا
نقول المرفوع المحل في عليهم الثانية هو المجرور لا مجموع الجار والمجرور، واليرد الإشكال بأن المجموع ليس باسم
والإسناد إليه من خواصه، والقول بأن الجار والمجرور في محل النصب أو الرفع مساهدلة في العبارة اتكالا على
ما تقرر من القواعد، فإن قلت: محل المستقر متعلق بمجموعه الواقع موقع عامله فإن الواقع خبر المبتدأ في قولنا
زيد في الدار هو مجموع في الدار لا الدار وحدها. قلت: لا نزاع في ذلك لوقوع موقع عامله الذي هو
حاصل إنما الكلام في النصب أو في الرفع الذي أوجبه معنى الفعل الذي أوصله حرف الجر إلى ما بعده، وكالنصب
اللازم من تعلق الحصول بالدار بواسطة الجار، والرفع الذي اقتضاه تعلق المغضوب بالضمير بواسطة على فإنهما
للمجرور وحده (قوله هو إرادة الانتقام) لما امتنع وصفه تعالى بحقيقة الغضب كما في الرحمة لأنها من الأعراض
71

النفسانية المستحملة عليه سبحانه وجب صرف الكلام عن ظاهره، وذلك من وجوه: الأول أن يجعل الرحمة مجازا عن
إرادة الإنعام، والغضب عن إرادة الانتقام من باب إطلاق السبب على مسببه القريب. الثاني أن يجعلا مجازين عن
الإنعام والانتقام إطلاقا لاسم السبب على المسبب البعيد فإنهما مسببان عن الإرادة المسببة عنهما. الثالث أن يحمل
الكلام على الاستعارة التمثيلية، والمصنف اختار في الرحمة الوجه الثاني حيث قال: هو مجاز عن إنعامه وبين العلاقة
السببية بقوله لأن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم بمعروفه وإنعامه، وأشار في الغضب إلى التمثيل وهو
أن يشبه حال الله تعالى مع العصاة في عصيانهم إياه وإرادته الانتقام منهم وإنزال العقوبة بهم بحال الملك إذا غضب
على من عصاه وأراد أن ينتقم منهم وإنزال العقوبة بهم، ويشهد لقصد التمثيل أنه أشار إلى علاقة المشابهة حيث قال:
وأن يفعل بهم ما يفعله الملك، أي مثل ما يفلعه الملك إذا غضب على من تحت يده واعتبر التركيب فقال: هو
إرادة الانتقام وإنزال العقوبة برفع اللام كما في النسخ المعول عليها، فيكون قوله وأن يفعلل مرفوع المحل أيضا،
ويعلم من جريان التمثيل ههنا جريانه في الرحمة أيضا كما يعلم من جعلها مجازا عن الإنعام جواز كون الغضب مجازا
عن الانتقام، ومن زعم أن اللام مجرورة وأن المصنف جعل الغضب مجازا عن الإرادة دون الانتقام مع جعله
الرحمة مجازا عن الإنعام دون إرادته إشارة إلى سبق رحمته على غضبه كما مر تقريره فقد خالف تلك النسخ ولزمه أن
لا يكون لقوله وإنزال العقوبة بهم فائدة، إذ ليس في الانتقام اشتباه ليعطف عليه ما يفسره وأن يكون التعرض
للتشبيه مستدركا، بل الواجب حينئذ أن يقول: إن الملك إذا غضب على من تحت يده أراد أن ينتقم منهم. على أن
تلك النكتة تخييلية لا تحقيقية، فإن إرادة الله تعالى إذا تعلقت بأفعاله أفضت إليها اتفاقا، والظاهر أن المصنف لم
يلتفت في شئ منهما إلى المجاز عن الإرادة، لأن الوصف بالإنعام والانتقام أقوى في الترغيب والترهيب من
الوصف بإرادتهما: قال ابن جنى: لما ذكر النعمة صرح بالخطاب تقربا بذكر نعمته وإسنادها إليه، ولما ذكر
الغضب زوى عنه إسناده تأدبا: أي أنت ولى الإنعام وهو الغائض من جنابك، وهؤلاء يستحقون أن يغضب
عليهم (قوله محلها الرفع على الفاعلية) مفعول مالم يسم فاعله فاعل عنده وهو مذهب عبد القاهر وقدماء البصرة.
قال أبو البقاء: لا ضمير في المغضوب عليهم لقيام الجر والمجرور مقام الفاعل ولذلك لم يجمع كما جمع ولا الضالين
(قوله لم دخلت لا) يعنى أن لا المسماة بالمزيد عند البصريين إنما تقع بعد بعد الواو العاطفة في سياق النفي للتأكيد
والتصريح بتعلق النفي بكل من المعطوف والمعطوف عليه كيلا يتوهم أن المنفى هو المجموع من حيث هو مجموع،
72

فيجوز حينئذ ثبوت أحدهما وليس ههنا نفى ليصح دخول لا، فالسؤال عن وجه الصحة كما يدل عليه جوابه
لا عن الفائدة كما توهمه اللام كأنه قال: لأي سبب ومصحح دخلت لا؟ والجواب أن كلمة غير تتضمن معنى
النفي فجاز وقوع لافى سياقها. فإن قلت: كلمة " لا " في قوله لا المغضوب عليهم ليست عاطفة إذا لم يرد اهدنا صراط
الذين أنعمت عليهم لا صراط المغضوب عليهم، بل أريد وصف المنعم عليهم بمغايرة المغضوب عليهم فلا وجه لها
سوى أن تكون بمعنى غير، فلا فائدة حينئذ لتبديل غير بها في تصوير معنى النفي وتحقيقه. قلت: لفظة " لا " في
أصلها موضوعة للنفي، واشتهرت بهذا أعني كأنها علم له فهي وإن جعلت بمعنى غير أظهر دلالة على النفي وأرسخ
قدما فيه (قوله وتقول أنا زيدا غير ضارب) استدلال على أن غيرا في حكم لا حيث جوز فيه تقديم معمول
ما أضيف إليه بناء على أنه منزلة لا فكأنه لا إضافة ههنا، ولم يجوز ذلك في مثل لأن الإضافة فيه ليست في حكم
العدم، وإذا منعت من تقديم المضاف إليه على المضاف كانت لتقديم معموله على المضاف أمنع، فإن المعمول
لا يقع إلا حيث يصح ن يقع عامله فيه. وتلخيص الكلام أن غيرا وضعت للمغايرة وهى مستلزمة للنفي، فتارة يراد
بها إثبات المغايرة كما في الآية فتكون إثباتا في حكم النفي لتضمنه إياه فيجوز تأكيده بلا، وأخرى يراد بها النفي
كقولك أنا غير ضارب زيدا: أي لست ضاربا له لا أنه مغاير لشخص ضارب له فيكون نفيا صريحا، والإضافة
بمنزلة العدم في المعنى، فيجوز تقديم المعمول أيضا ولذلك قال في الأول: كأنه قيل لا المغضوب عليهم، وفى
الثاني لأنه بمنزلة قولك أنا زيدا لا ضارب. فإن قيل: صرح السخاوي بأن " لا " في مثل قولك أنا لا ضارب زيدا
اسم بمعنى غير، إلا أنه لما كان على صورة الحرف أجرى إعرابه على ما بعده كما في لا تقول جئت بلا شئ ورأيت
لا راكبا، قال الله تعالى - لافارض ولا بكر - ولا بارد ولا كريم - فوجب أن يمتنع تقديم المعمول فيه أيضا
أجيب أولا بمنع الاسمية، وثانيا بجواز التقديم نظرا إلى صورة الحرفية المقتضية لانتفاء الإضافة المانعة من التقديم.
لا يقال: هناك مانع آخر وهو أن ما في حيز النفي يمتنع أن يتقدم عليه. لأنا نقول: إنما يمتنع ذلك إذا كان النفي
بما وإن فإنهما لما دخلا على الاسم والفعل أشبها الاستفهام فلم يجز تقديم ما في حيزهما عليهما، بخلاف لم ولن فإنهما
اختصا بالفعل وعملا فيه وصارا كالجزء منه، فجاز أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما. وأما كلمة لا فإنما جاز التقديم
معها وإن دخلت على القبيلين لأنها حرف يتصرف فيها حيث عمل ما قبلها فيما بعدها كقولك جئت بلا شئ وأريد
أن لا تخرج، فجاز أيضا إعمال ما بعدها فيما قبلها بخلاف ما إذا لا يتخطاها العالم أصلا، والكوفيون جوزوا
تقديم ما في حيزها عليها قياسا على أخواتها (قوله لغة من جد في الهرب) حيث هرب من التقاء الساكنين على حده
مع كونه مغتفرا، ومن لغته النقر في الوقت على النقر (قوله آمين صوت) أي لفظ إنما اختاره إما لقرب أسماء
الأفعال من الأصوات ولذلك جمعهما في المفصل في فصل واحد، وإما لأن هم يعبرون عن أسماء لا يعرف لها تصرف
73

واشتقاق بالصوت كأنها لقصورها عن مرتبة أخواتها انحطت درجتها عن درجة الاسمية بل عن اللفظية واستحقت أن
يعبر عنها بالصوت الذي هو أعم (قوله سمى به الفعل الذي هو استجب) إشارة إلى أن أسماء الأفعال موضوعة
بإزاء الأفعال كاستجب وأسرع وأمهل وأقبل من حيث يراد بها معانيها لامن حيث يراد بها أنفسها. فإذا قلت
آمين فهم منه لفظ استجب أو ما يرادفه مقصودا به طلب الاستجابة كما في قولك اللهم استجب، لا مقصودا نفسه
كما في قولك استجب صيغة أمر، وبذلك صح كونها اسما وإن استفدنا منها معاني الأعمال لأن مدلولاتها التي
وضعت هي لها ألفاظ ولم يعتبر معها اقترانها بزمان. وأما المعاني المقترنة بالزمان فهي مدلولة لتلك الألفاظ فتنتقل من
الأسماء إليها بواسطتها، وهذا تأويل مناسب لتسميتها بأسماء الأفعال. وقال بعض النحويين: إنها في الحقيقة أسماء
للمصادر السادة مسد أفعالها فصه معناه سكوتك بالنصب: أي اسكت سكوتك فهي بمعنى المصادر لا الأفعال
ومن ثم كانت أسماء، والقول بأنها أسماء الأفعال مفيدة لمعانيها قصر للمسافة. وقد نص الزجاج على أن كلمة آمين
موضوعة موضوع الاستجابة كصه موضوع موضع السكوت إلا أن بناءها على هذا القول لا يتضح إيضاحها على
القول الأول. وذكر بعض المحققين من النحاة أن الذي حملهم على أن قالوا هذه الكلمات ليست بأفعال مع تأديتها
معانيها بل أسماء لها وارتكبوا تأويلا في تصحيحه أمر لفظي هو أن صيغتها مخالفة لصيغ الأفعال فإنها لا تتصرف فيها
تصرفها وتدخل اللام في بعضها والتنوين في بعض. وقل بعضهم أن آمين كلمة أعجمية على وزن قابيل وهابيل
وجوز أن يكون أصلها القصر فتكون عربية مصدرا على وزون النذير والنكير، ثم جعلت است فعل. ومن الشارحين
من تصدى لبيان مدلالات أسماء الأفعال فقال: وتحقيق ذلك أن كل لفظ وضع لمعنى اسما كان أو فعلا أو حرفا
فله اسم علم هو نفس ذلك اللفظ من حيث دلالته على ذلك الاسم أو الفعل أو الحرف، ألا ترى أنك تقول في قولنا
خرج زيد من البصرة، خرج فعل ماض وزيد اسم ومن حرف جر، فتجعل كل واحد من الثلاثة محكوما عليه.
قال: لكن هذا وضع غير قصدي لا يصير به اللفظ مشتركا ولا يفهم منه بذلك معنى مسماه. وقد اتفق أنه وضع
لبعض الأفعال أسماء غير ألفاظها تطلق ويراد بها الأفعال من حيث دلالتها على معانيها كما مر وسموها أسماء الأفعال
وفيه نظر لأن دلالة الألفاظ على نفسها ليست مستندة إلى وضع أصلا لوجودها في المهملات بلا تفاوت، وجعلها
محكوما عليها لا يقتضى كونها أسماء لأن الكلمات بأسرها متساوية الأقدام في جواز الإخبار عن ألفاظها، بل هو
جار في الألفاظ المهملة كقولك حسن مركب من حروف ثلاثة، ودعوى أن الواضع وضع المهملات بإزاء
نفسها وضعا قصديا أو غير قصدي وأنها أسماء بهذا الاعتبار خروج عن الإنصاف ومكابرة في قواعد اللغة، على
إن إثبات وضع غير قصدي أمر لا يساعده نقل ولا عقل، وإنما ارتكبه تفصيا عن إلزام الاشتراك في جميع الكلم.
والتحقيق أنه إذا أريد الحكم على لفظ بلفظ مخصوصة فإن تلفظ به لم يحتج هنالك إلى وضع ولا إلى دال على
المحكوم عليه للاستغناء بذاته عما يدل، فتشارك الألفاظ كلها في صحة الحكم عليها عند التلفظ بها أنفسها، وإنما
يحتاج إلى ذلك إذا لم يكن المحكوم عليه لفظا أو كان ولم يلتفظ به نفسه، فينصب هناك ما يدل عليه ليتوجه الحكم
إليه وما وقع في عبارة بعضهم من أن ضرب ومن وأخواتهما أسماء لألفاظها الدالة على معانيها وإعلام لها فكلام
74

تقريبي، قالوا بذلك لقيامها مقام الأسماء الأعلام في تحصيل المرام، وسيأتيك تتمة لذلك في تفسير قوله - وإذا
قيل لهم لا تفسدوا - إن شاء الله (قوله ويرحم الله عبدا قال آمينا) أوله * يا رب لا تسلبني حبها أبدا * روى
أن قيس بن الملوح لما قدم مكة قال له أبوه: تعلق بأستار الكعبة وقل: اللهم ارحمني من ليلى وحبها، فقال:
اللهم من على بليلى وقربها، فضربه أبوه فأنشأ يقول: يا رب البيت (قوله وقال آمين فزاد الله الخ) أوله
* تباعد عنى فطحل إذ دعوته * وروى الزجاج إذ لقيته، وروى سألته وفطحل على وزن جعفر اسم
رجل، وحق آمين أن تؤخر عن الدعاء، أعني قوله فزاد الله، لأن طلب الاستجابة إنما يكون بعده إلا أنه قدم
اهتماما بالإجابة (قوله كالختم على الكتاب) لأنه يمنع الدعاء عن فساده الذي هو الخيبة، كما أن الختم يمنع الكتاب
عن فساده الذي هو ظهوره على غير من كتب إليه (قوله لا يقولها) أي كلمة آمين (الإمام) أن ثها بتأويل الكلمة
أو اللفظة لأنه الداعي: أي بقوله اهدنا (قوله ورفع بها صوته) قيل كان رفعه تعليما لأصحابه ثم إنه خاف فخافتوا
(قوله ألا أخبرك) هذا حديث صحيح وقول بعض المحدثين إن من الموضوع الأحاديث المروية عن أبي بن كعب
في فضائل السور أراد به أكثرها اه‍. قال الصغاني: وضعها رجل من عبادان، واعتذر بأن الناس لما اشتغلوا
بالأشعار وفقه أبي حنيفة وغير ذلك ونبذوا القرآن وراء ظهورهم أردت أن أرغبهم فيه، وأكثر المفسرين أوردوا
الفضائل في أوائل السور ترغيبا، والمصنف أخرها نظرا إلى أنها أوصاف فحقها أن تتأخر عن موصوفاتها (قوله لم
تنزل) أنث الفعل المسند إلى المثل لاكتسابه التأنيث مما أضيف إليه، أو لأنه أريد به سورة أخرى تماثلها في الفضيلة.
قيل لم يذكر الزبور إما لأنه لم يكن حينئذ متلوا كتلاوة الكتب الثلاثة، وإما لأنه تابع للتوراة (قوله قلت بلى
الذي يقتضيه سياق الحديث أن يقال: قال أبى في جوابه: بلى فاحتيج إلى تقدير أي، وعن أبي أنه قال: قلت بلى
فكأنه لما ذكر أنه روى عنه صلى الله عليه وآله كذا سأل سائل ما روى عن أبي، فأجاب بأنه روى عنه أنه قال:
قلت: لكنه اختصر في العبارة ولا يكفي تقدير قال وحده كما توهم إذ يصير المعنى قال أبى في جواب رسول الله صلى الله عليه وآله،
قلت: بلى وفساده بين وقوله صلى الله عليه وآله: " إنها السبع المثاني " إشارة إلى تفسير
قوله تعالى - ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن - (قوله في الكتاب) بضم الكاف وتشديد التاء يطلق على
75

الكتبة وعلى المكتب أيضا وهو المراد ههنا وخطأ المبرد إطلاقه على المكتب ورد بنقل الليث إياه فإما أن يكون حقيقة
بالاشتراك وإما مجازا لأنه موضع الكتاب بمعنى الكتبة جمع كاتب.
سورة البقرة
(قوله يتهجى بها) التهجي: تعداد الحروف بأساميها يقال: هجوت الحروف وهجيتها وتهجيتها ناقصة
ومهموزة: أي عددتها بأساميها وفى الأساس ومن المجاز يهجوه أي يعدد معايبه. قال رحمه الله: الباء في بها
لتضمن معنى الإتيان: أي يؤتى بها مهجوة قيل عليه إنه سهو لأن المهجوة هي المسميات لا الأسما، فالباء للصلة
والآلة أي الألفاظ التي يعدد بها على حذف المفعول بلا واسطية أعني الحروف وإقامة الجار والمجرور مقام الفاعل
كما في قولك: الخشب الذي يضرب به وفيه بحث لأن التهجي لو كان بمعنى عد الحروف مطلقا لكان الباء صلة
وآلة على قياس قولك: عددت الحروف بأساميها لكنه عد الحروف بأساميها لكنه عد الحروف بأساميها، فإن الحروف إذا عددت ملفوظة
بأنفسها لم يكن ذلك تهيجا كما دل عليه قوله فيما سيجئ إن شاء الله تعالى. وأن اللافظ بها غير متهجاة لا يخطى
بطائل، وعلى هذا فقولك تهجيت الحروف معناه عددتها بأساميها، فلا تتعلق به الباء صلة وآلة ولا يقال تهجيتها
بأساميها إلا أن المصنف جرد التهجي علن التقييد بالأسماء وجعله بمعنى عد الحروف مطلقا أو ضمن معناه الإتيان:
أي أتيت بأسماء الحروف متهجيا إياها وكلاهما خلاف الأصل فجاز الحمل على الثاني وإن كان الأول أظهر. وأما
قوله: مهجوة فمعناه مهجوة مسمياتها، ويشبه قوله المصنف والسبب في أن قصرت متهجاة إذا حمل على أن المعنى
قصرت الأسماء متهجي مسمياتها ومع هذا الاحتمال لا وجه للجزم بكونه سهوا لا يقال ربما يجعل تهجيت الحروف
بأساميها من قبيل أبصرته بعيني فلا حاجة إلى ما ذكرتم من التجريد والتضمين، أنا نقول: هذا على تقدير صحته
محالف للظاهر أيضا بعيد عن مناسبة المقام فلا حجر معه أيضا عن ارتكاب التضمين (قوله المبسوطة) أي المتفرقة
76

المنثورة التي تجمع وينتظم ويتركب منها الكلم (قوله تسمى به ضه) أي تذكر به من قولك: سميت زيدا باسمه إذا
ذكرته به. وأما التسمية في قوله: روعيت في هذه التسمية فمعناه وضع الاسم لمسماه لا يقال: كيف يصح ذلك
وهذه التسمية إشارة إلى مصدر سمى. لأنا نقول: كلا، بل هي إشارة إلى ما دل عليه قوله: أسماء مسمياتها
الحروف لأن المقصود بيان رعاية تلك اللطيفة في أسماء الحروف مطلقا لا في أسماء هذه الحروف المخصوصة،
ولفظة ضه بغير إفصاح الهاء في التلظ، وإنما كتبت الهاء على تقدير الوقف، كما هو قاعدة الخط والضمير في
تهجيته راجع إلى ضرب أي تهجيت حروفه (قوله وهى أن المسميات) لاخفاء في أن اللطيفة هي الدلالة على
المسمى بجعله صدر الاسم إلا أنه أدرج في تفسيرها بيان إمكانها بأن المسميات ألفاظ كأساميها، فإن المسمى لو لم
يكن لفظا لم يمكن جعله جزءا من اسمه وبأنها أقل من عدد حروف الأسماء، إذ لو كان المسمى مساويا لاسمه
لاتحدا ولم يمكن جعله صدر الاسم كما إذا كان أزيد منه، وبهذا القدر ظهر إمكانها. وأما أن المسميات حروف
وجدان واقعة في أدنى درجات الألفاظ وأن الأسامي مرتقية إلى أعدل أوزان الكلمات المشتملة على الابتداء
والوسط والانتهاء، فبيان للواقع لا مدخل له في بيان الإمكان، فإن الاسم لو كان على حرفين مثلا أو المسمى
أزيد من حرف واحد لأمكن جعل المسمى صدر الاسم: أي أوله وإنما قال مرتق إلى الثلاثة ولم يقل ثلاثا تلويحا
إلى ما ذكرناه. وقيل لأنه لم يتبين بعد أن مثلوا ريا أثلاثي أم لا، وهو سهو لأن المحكوم عليه لما كان شاملا لجميع
الأسامي وقد حكم بأن عدد حروف كل واحد منها مرتق إلى الثلاثة كان هذا جزما بكون الكل ثلاثيا كما لو قال
ثلاثة يقال اتجه له رأى إذا سنح وظهر (قوله فلم يغفلوها) أي لم يجعلوا تلك التسمية غفلا عن سمة الدلالة على
المسمى من قولهم غنم أغفال لا سمة عليها، وأغفلتها إذا لم تسمها أولم يتركوا تلك الطريقة غير مسلوكة، إذ تلك الدلالة
غير مرعية من أغفلت الشئ إذا تركته، وإنما جعلوا المسمى صدرا ليكون هو أول ما يقرع السمع من الاسم
(قوله إلا الألف) هي تطلق على الساكنة التي هي المدة كأوسط حروف، قال: وبهذا الاعتبار استثناها،
وتطلق على المتحركة التي هي الهمزة وبهذا الاعتبار شاركت سائر الأسماء في، كونها مصدرة بالمسمى، ولم يستثن
الهمزة مع خلوها من تصدير المسمى لأنها اسم مستحدث كما نص عليه ابن جنى والكلام في الأسماء الأصلية (قوله
ومما يضاهيها) أي يشابه أسماء الحروف في إيداع اللفظ دلالته على معناه زائدة على ما يقتضيه الوضع ناشئة عن
77

مناسبة الاسم للمسمى باشتماله عليه أو على بعض حروفه (قوله كأسماء الأعداد) خصه بالذكر لمشاركتها أسماء
الحروف في كثرة استعمالها غير مركبة ثم عمم الحكم في الأسماء كلها (قوله فإذا وليتها العوامل) أي قارنتها وتعلقت
بها سواء تقدمت عليها أو تأخرت عنها (قوله إلى تأدية ذاته) أي مدلوله الإفرادي مجردا عن المعاني الطارئة، فإن
الألفاظ المفردة تؤدى معانيها إلى ذهن السامع بإحضارها فيه إن سبق منه إداركها لعلمه بالوضع (قوله شئ من
تأثيراتها) من إما تبعيضية فالمصدر بمعنى المفعول: أي أثر من آثارها، وإما ابتدائية: أي أثر ناشئ من تأثيراتها
(قوله إغفالا عن سمة الإعراب) أي خالية عنها جمع غفل، يقال أرض غفل: ليس بها أثر ناشئ من تأثيراتها
(قوله إغفالا عن سمة الإعراب) أي خالية عنها جمع غفل، يقال أرض غفل: ليس بها أثر عمارة، وفلاة غفل:
لاعلم بها، ودابة غفل: لا سمة عليها (قوله ركبت شططا) أي تجازا عن حد اللغة وبعدا عنه (قوله كما وقع)
ما كافة وفاعل وقع ضمير يرجع إلى أن ها حروف والتشبيه في مضمون الجملتين، وقد تجعل ما موصولة أو
موصوفة: أي هلا زعمت بها معما مثل الزعم الذي وقع أو مثل زعم وقع (قوله قد استوضحت) ذكر لا استيضاح
وعبر عن الدليل الذي أسند إليه علمه بالبرهان ووصفه بالنير، وأكد كونها أسماء بقوله غير حروف مبالغة في
تيقنه بذلك وزوال الشبهة عنه بالكلية، ثم رتب عليه قوله فعلمت، وأيده بأنهم قد تسامحوا مثل هذا التسامح في
مواضع أخر فاستعملوا الحرف في معنى الكلمة إطلاقا للخاص على العام، ولعل فائدة التسامح في أسماء الحروف
رعاية الموافقة بين الاسم والمسمى في التعبير عنها بالحرف وإن اختلف معناه فيهما، ويجوز أن يكون من باب
إطلاق اسم المدلول على الدال، وأما في الظروف ونحوها من أسماء الإشارة وغيرها فللتنبيه على نوع قصور فيها
عن مرتبة الأسماء الكاملة ومشابهتها للحروف (قوله وذلك) إشارة إلى البرهان النير، استدل على اسمية هذه الألفاظ
بصدق حد الاسم عليها دون حد الحرف وبوجود علاقات الاسم فيها. ولما كان المقصود قطع توهم حرصيتها
للاشتباه حكم هناك بأنها أسماء غير حروف، واقتصر ههنا في الحد على التصريح بما يميزها عن الحروف: أعني
الاستقلال، ولم يصرح فيه بعدم الاقتران الذي يميزه عن الفعل بل رمز إليه سابقا بقوله لافصل فيما يرجع إلى
78

التسمية بين الدلالتين وأورد في العلامات ما هي خاصة للاسم إما مطلقا أو بالإضافة إلى الحرف (قوله ولأنها
إلى قوله (والإسناد) طف على ما تقدم بحسب المعنى: أي هي أسماء لصدق حد الاسم عليها ولأنها متصرف فيها
أو عطف على قوله إن قولك ألف بناء على أن ذلك إشارة إلى أنها أسماء: أي كونها أسماء ثابت لأن قولك ولأن ها
(قوله وبالتفخيم) اعترض عليه بأنه إن أراد به ما يقابل الإمالة عما يدل عليه ذكره عقييها فهو ليس مختص بالاسم
لا مطلقا ولا بالإضافة إلى الحرف، بل يجرى في أخواته أيضا فلا استدلال به أصلا، وإن أراد إمالة الألف
نحو مخرج الواو فهي إنما تجرى في الألف المنقلبة عنها. وأجيب بجريانها في غير المنقلبة عن الواو أيضا كما سيجئ
في كهيعص من أن الحسن قرأ بضم الهاء والياء إذ بهذا الضم لا تنقلب الألف واوا بل يميل إليه هكذا قيل. والحق
أن جريانها في غير المنقلبة عنها لم يثبت، وأما الضم المنقول عن الحسن فدلالته على قلب الألف واوا أظهر من
دلالته على إمالتها إلى الواو كما في الصلاة والزكاة. ويمكن أن يقال أراد بالتفخيم ضد الإمالة وإنما ذكره معها
تحقيقا لشأنها وأيضا لها كيلا يتوهم من كثرة إمالتها أن هذه الألفاظ في وضعها على صورة الإمالة وإردافه الحد
بالعلامة وتعديده علامات مخصوصة تفصيلا وتعقيبه إياه إجمالا بذكر جميع ما يثبت للأسماء المتصرفة من الخواص
كالنسبة والتثنية ودخول الجر إنارة للبرهان فإنها براهين متعاضدة (قوله ثم إني عثرت) أشار بثم إلى الترقي من مقام
الاستدلال على كونها أسماء بالحد والعلامات إلى التمسك بالنص الوارد فيه من مقدم أصحاب العربية برواية من هو
أعلى كعبا فيها كأنه قال: هناك نص يستغنى معه عن مؤنة ذلك البرهان وإن كان نيرا، ومن قال البرهان النير
صدق حد الاسم عليها ووجود علامات فيها وتصريح الأئمة الموثوق بهم بأنها أسماء فقد وقع عن درك لطائف
افتنانه في عبارته على مراحل. وفى لفظ الجانب تعظيم للخيل كما أن في لفظ النص تعظيما لكلامه إشارة إلى علو
درجته في الكشف عن المطلوب (قوله وذكر أبو علي) كما أتبع الحد بالعلامة أتبع كلام الخليل بكلام أبى على
79

وكتاب الحجة كتاب له في توجيه القراءات وحججها وعللها (قوله قال) أي أبو علي (فإذا كانوا) أي العرب
ومن في قوله من الحروف إن كانت بيانية كان المعنى أنهم أمالوا الحروف مع أنها من شأنها أن لا تمال، وأراد
بإمالة الحروف تعلق الإمالة بها في الجملة كإمالتم يا في النداء، وإن كانت تبعيضية كانت ما عبارة عن حرف
النداء في يا زيد، والمعنى أنهم أمالوا هذه الكلمة التي هي بعض الحروف وحقها أن لا تمال: أي لكونها بعض
الحروف، فإن الإمالة لا تجرى في الحروف إلا نادرا على التشبيه والإلحاق بغيره (قوله الاسم الذي هو ياسين)
أي الذي هو " يا " من ياسين فإنه المقصود كما صرح به المصنف في قوله ياسين وإمالة يا فقدحكم أبو علي أن يا اسم،
ثم عمم الحكم فقال: ألا ترى أن هذه الحروف: أي ياسين وأخواتهما أسماء فعبر عنها بالحروف وصرح بأنها أسماء
فعلم أن إطلاق الحروف عليها تسامح على أحد الوجهين كما مر. قال بعض الشارحين: الاستشهاد في قوله أسماء،
لا في قوله الاسم الذي هو ياسين، إذ ربما يتوهم أنه أراد به أن مجموع ياسين اسم للسوة، لكن يعلم بالتأمل أنه
لو أراد به ذلك لم يبق لقوله ألا ترى إلى قوله لما يلفظ بها معنى، وأنت تعلم أن التوهم الذي يدفعه أول الكلام
وآخره لا عبرة به فلا يقدح في الاستشهاد؟ قال أيضا: وكان الأولى أن يقول: الاسم الذي هو يا وكأنه حاول أن
يصحح الإمالة على تقدير كون الفواتح أسماء السور، فإن يا حينئذ جزء من الاسم، وقد عرفت أن ذلك التقدير
مناف لقوله ألا ترى كما اعترف به هذا القائل، فلا وجه لاعتباره لا وحده ولا مع غيره (قوله لما يلفظ بها) أي
للحروف الملفوظة، يقال لفظ القول ولفظ به كلاهما بمعنى واحد، فالضمير في بها راجع إلى ما والظرف قائم
مقام الفاعل، وما يلفظ بها كناية عن حروف المباني، فإنها هي الملفوظة حقيقة في تراكيب الكلام ومفرداته، لأن
التلفظ بزيد مثلا تلفظ بحروفه على وضع معين وهيئة مخصوصة. وقيل في يلفظ ضمير ما وضمير بها لهذه الحروف
أي ما يصير ملفوظا بهذه الحروف أعني مسمياتها التي يعبر عنها بتلك الأسامي، ولا يجوز رجوعه إلى ما لفساد
المعنى، إذ ليست هذه الألفاظ أسماء لما يلفظ بها في الجملة بل للملفوظات بعينها، وفيه مخالفة الاستعمال المشهور
من أن الباء صلة وأن الملفوظ به بمعنى الملفوظ وارتكاب معنى ركيك وهو جعل ألفاظ مخصوصة ملفوظة
بألفاظ أخر هي أسماؤها ومنشؤه الغفول عن وجه الكناية (قوله من أي قبيل هي) أجمل في السؤال أولا ثم فصل
بقوله أمعربة أم مبنية، وأتى في الجواب بحرف الإضراب تنبيها على أنه بحث فيه دقة وغموض وشائبة ريبة، وقد
سبق منا كلام في نظيره. لا يقال: قد علم أن هذه الأسماء إذا وليتها العوامل أدركها الإعراب فقد علم أنها معربة،
فالسؤال مستدرك. لأنا نقول: المعرب يطلق على معنيين: أحدهما مفعول من أعربت الكلمة، والثاني ما يقابل
المبنى اصطلاحا. والذي علم من قوله أدركها الإعراب أنها إذا دخلت عليها العوامل كانت معربة بالمعنى الأول،
والمقصود من السؤال والجواب أنها حال كونها معددة مفردة ساكنة الأعجاز معربة بالمعنى الثاني والعلم بالأول
لا يستلزم العلم بالثاني، كيف وقد ذهب ابن الحاجب إلى أن هذه الأسماء وغيرها مبنية قبل التركيب، على أنه لو
80

استلزم لم يكن استدراك أيضا إذ قد بينه قصدا بعد ما علم ضمنا وقرن بها احتجاجا يزيل منها شبهة البناء. واعلم أن
المصنف وجمهور المحققين من النحاة حصروا سبب بناء الأسماء في منسبة مالا تمكن له، وسموا الأسماء الخالية عن
تلك المناسبة معربة، وجعلوا سكون أعجازها قبل التركيب وقفا لأبناء. قالوا: والدليل على أن سكونها وقف
أن العرب جوزت في الأسماء قبل التركيب التقاء الساكنين على طريقة الوقف فقالوا زيد عمر، وصاد قاف، ولو
كان سكونها بناء لما جمعوا بينهما كما في سائر الأسماء المبنية نحو كيف وأخواتها. فإن قلت: ربما عددت الأسماء
ساكنة الأع جاز متصلا بعضها ببعض فلا يكون هناك وقف. قلت. هي قبل التركيب في حكم الوقف سواء
كانت متفاصلة أو متواصلة، فإن الوقف قطع الكلمة عما بعدها إما لضرورة التنفس أو لتحسين اللفظ أو لعدم
ما يوجب الوصلة من التركيب وليس فيها قبله ما يوجب الوصلة، فالمتواصلة منها في نية الوقف فتكون ساكنة،
بخلاف كيف وأين وحيث وجير إذا عددت وصلا فإن حركاتها لكونها لازمة لا تزول إلا بوجود الوقف حقيقة.
ونقل عن ابن مالك أنه قال: رأى من جعل الاسم قبل التركيب معربا حكما لا يبعد عن الصواب، إذ لو كان
مبنيا لم يسكن وصلا في التعديد إذ لم يرد مبنى كذلك، فهؤلاء قد اكتفوا في كون الاسم معربا اصطلاحا بمجرد
انتفاء المانع من قبول الإعراب ولم يشترطوا وجود مقتضيه، وعرفوا المعرب بما يختلف آخره باختلاف العوامل في
أوله وأرادوا ما يمكن فيه الاختلاف على قانون اللغة سواء اتصف به بالفعل أو كان من شأنه ذلك إما قريبا كما
إذا وقع في التركيب ولم يعرب، وإما بعيدا كما إذا وقع في التعديد. ومن اشترط في المعرب وجود المقتضى فقد
اعتبر الاتصاف بالفعل والقريب منه ولا مشاحة في الاصطلاحات، إلا أن ما آثره المصنف أولى لأن المذهب
الآخر يحتاج فيه إلى الفرق بين سببي البناء أعني عدم المقتضى ووجود المانع بتجويز التقاء الساكنين مع الأول
دون الثاني وهو تحكم لجواز عكسه. وقد يدفع بأن تلك الأسماء قد استمر لها السكون قبل التركيب فأشبهت
الموقوف فاغتفر فيها ما جاز فيه. لا يقال: البناء للمناسبة عارض بعد التركيب كالإعراب وكان بالحركة أولى
تنبيها على تخالفهما كتخالف الإعراب والبناء. لأنا نقول: المناسبة حاصلة قبل التركيب أيضا. قال رحمه الله تعالى
ومما يؤيد مذهب الجمهور أنك لا تفرق بين زيد وعمرو وبين هؤلاء وأين في إيجاب السكون قبل التركيب، ولا
شك أن سكون الأخيرين وقف لأنهما مبنيان على الحركة، فكذا سكون الأولين. لا يقال: هما قبل التركيب
مبنيان على السكون لعدم المقتضى للإعراب وبعده على الحركة لوجود المانع. لأنا نقول: قد عرفت أن وجود
المانع: أي المناسبة مع مبنى الأصل مستمر وسبب مستقل، فإسناد البناء إليه في وقت دون وقت آخر ترجيح بلا
مرجج. والقول بأن البناء لمانع إنما يعتبر مع وجود المقتضى لا يناسب مقتضى عرف اللغة، وسيأتي زيادة تأييد
في آل عمران إن شاء الله تعالى (قوله لحذى بهذا) قيل المشهور في كتب اللغة: حذوف النعل بالنعل: إذا قدرتها
بها، فينبغي أن يقال حذيت بكيف وأين وهؤلاء حذوا بإدخال الباء عليها لأنها مقدر بها. واختار بعضهم أنه من
باب القلب وأخدل الباء في المقدر أمنا من اللبس فانقلب الضمير المستتر بارزا وسقط الباء وأضيف المصدر
إلى المقدر بها، ومال جماعة إلى أن الفعل المتعدى نزل منزلة اللازم ثم عدى بالباء وكأنه قيل قدرت تقدير كيف:
81

والثاني أضعف من الأول. وقيل هو من قولهم: حذا الولد حذوا والده: إذا اتبع أثره وسار سيرته، على أن حذوا
إما ظرف: أي سلك طريقته، وإما مصدر مضاف إلى المفعول: أي اتبع والده اتباعا، وإما مفعول به: أي
اتبع سيرته كقوله تعالى - اتبعوا ملة إبراهيم - والباء للتعدية: أي لجعلت تابعة لكيف سالكة مسلكها في البناء على
الحركة. والأظهر أن يقال بالتضمين: أي لذهب بها محذو كيف: أي مقدرة تقديرها، ومن نظائره
ما يقولون لا محذو بها حذوان (قوله فلم لفظ بها المتهجى) يريد أن ما ذكرتم من أنها أسماء معربة وأن سكون أعجازها
وقف ينافي كونها مقصورة تارة وممدودة أخرى، فإن ذلك يخى أن طريقة هذه الألفاظ في قصرها ومدها
طريقة قولك لا مقصورة حرف وممدودة اسم فتكون حالة التهجي حروفا، وإنما قال: يخيل لأن المشاركة في بعض
الأحوال تتصور مع المخالفة في الحقيقة، ولأن هذه المخالفة مختصة ببعض تلك الأسماء (قوله كتبت لا) من ذلك
قوله:
كأنك في الكتاب وجدت لاء * محرمة عليك فلا تحل
وقوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وآله:
ما قال لا قط إلا في تشهده * لولا التشهد لم تسمع له لاء
فالممدود اسم للمقصور وليس من قبيل كون اللفظ علما لنفسه، بل من باب اشتمال الاسم على المسمى كأسماء
الحروف، وفى قوله فإذا جعلتها اسما مددت إشارة إلى أن المقصورة ليست اسما سواء أريد بها لفظها كما في قوله:
" ما قال لا " " أو معناها، وفى ذلك تقوية لما شيدنا أركانه فليكن على ذكرك (قوله متهجاة) أي متهجى مسمياتها
فحذف المضاف واستتر المضاف إليه في الصفة من تهجيت الحروف: عددتها بأسمائها وقد ذكرناه. وقيل أي
معددة تعديدا غير مركبة تركيبا أو المراد متهجى بها فحذف الجار واستكن الضمير (قوله أن حال التهجي خليقة
بالأخف) لأن التهجي إنما يكون غالبا لتعليم المبتدى، ولأن واستعمال هذه الأسماء في التهجي أكثر فناسب الأخف
الأوجز: أي المقصور، وإنما وقعت في الفواتح مقصورة لأنها على نمط التعدية أو مأخوذة منه (قوله قد تبين أنها
أسماء) حقق أولا معاني هذه الألفاظ لغة وما يتعلق بها، ثم شرع يبين وجه وقوعها على هذه الصورة أي على
صورة الهجاء والتعديد فواتح للسور من القرآن، وإنما كرر ذكر ما تبين تلخيصا لما تقرر وضبط المحصول ما قرر
(قوله لحروف المعجم) قال الجوهري: العجم النقط بالسواد وغيره مثل التاء عليها نقطتان، تقول أعجمت الحرف
82

وعجمته مشددا، ولا تقول عجمته مخففا. ومنه حروف المعجم وهى الحروف المقطعة التي يخص أكثرها بالنقط
من بين سائر حروف الأمم ومعناه حروف الخط المعجم، كما تقول مسجد الجامع وصلاة الأولى. وناس
يجعلون المعجم مصدرا بمعنى الإعجام كالمدخل والمخرج: أي من شأن هذه الحروف أن تعجيم: أي تنقط. ونقل
الأزهري عن الليث أن لا حروف المقطعة سميت معجمة لأن ها أعجمية: أي لا بيان لها وإن كانت أصلا للكم كلها.
وأما كتاب معجم فمعناه منقط لتبين عجمته، فتكون الهمزة للسلب ولا اعتماد على ما نقله. وقيل حقيقة، أعجمت
الحرف: أزلت عجمته بنقطه، فالمعنى حروف الإعجام: أي إزالة العجمة (قوله وقد ترجم) أي لقب وسمى،
وأصل الترجمة تفسير لسان بلسان آخر (كسره على ذكرها) أي رتبه وجعله مشتملا عليها، يقال كسر الطائر
جناحيه: أي ضمها للوقوع (في حد مالا ينصرف) أي في بحثه وبيانه وكثيرا ما يستعمله سيبويه بهذا المعنى (قوله
وهى في ذلك) ى في كونها أسماء السور، وإنما اعتبر هذا القيد لأنها من حيث هي أسماء للحروف مفردات يتأتى
الإعراب في كل واحد منها (قوله أن تفتح نونها) فتصير طاسين بمنزلة اسم واحد كهابيل ثم تركب مع اسم آخر
وهو ميم ونظيره دارا بجرد علم بلدة بفارس فإنه معرب دارا بكرد فهو مركب من كلمتين: إحداهما دارا اسم
ملك بناها، والثانية بكر. وقيل هو معرب دار أب كرد فتكون ثلاث كلمات في العجمية لإن دارا أب معناه:
دارا أب، سمى بذلك لأنه وجد في الماء وصار بالعلمية اسما واحدا فضمت إليه كلمة أخرى وجعلت كبعلبك،
وعلى هذا تتأكد المشابهة بينه وبين طاسين ميم فإنه في التحقيق مركب من ثلاث كلمات، وقد وجد في نسخة
المصنف در ابجرد بلا ألف بعد الدال وأنه سهو من طغيان القلم، وإلا فات المقصود من إثبات موازن له في كلامهم
(قوله وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمر ان الإعراب والحكاية) قيل الحكاية في الأعلام إنما تجرى في الجمل
كتأبط شرا لرعاية صورها المنبئة عن أسباب نقلت لأجلها، وفى الألفاظ التي وقعت أعلاما لأنفسها كقولك
ضرب فعل ماض وكم للتكثير ومن حرف جر لحفظ المجانسة مع المسمى والإشعار بأنها ليست منقولة عن الأصل
بالكلية، وأما في غيرهما فلا وجه للحكاية سواء كان مفردا أو مركبا إضافيا أو مزجيا. أو لا ترى أن ضرب مجردا
عن الضمير إذا سمى به رجل لم يكن محكيا؟ وما نحن فيه من هذا القبيل فينبغي أن يتعين فيه الإعراب ولا تسوغ فيه
الحكاية. وأما النوع الأول فلما لم يمكن فيه الإعراب أصلا وجب أن يحكى ضرورة ولا ضرورة في النوع الثاني
83

وهكذا تقول في النوع الأول. وأجيب بأن أسماء الحروف كثر استعمالها معدودة ساكنة الأعجاز موقوفة حتى
صارت هذه الحالة كأن ها أصل فيها وما عداها عارض لها فلما جعلت أسماء للسور جوزت حكايتها على تلك
الهيئة الراسخة فيها تنبيها على أن فيها شملة من ملاحظة الأصل لأن مسمياتها مركبة من مدلولاتها الأصلية أعني الحروف
المبسوطة، والمقصود من التسمية بها الإيقاظ وقرع العصا، فتجوز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء حال كونها
أعلاما للسور، فلو سمى مثلا رجل بصاد أو سورة بالفاتحة لم تجز الحكاية. قال رحمه الله تعالى: ومما شهد لهذه
الأسماء بصحة الحكاية أسماء الأصوات المحكية، فإنها لما غلب استعمالها مفردة حكيت على حالها من حركة أو
سكون إذا وقعت مركبة، إلا أن تلك مبنية وهذه موقوفة، وفيه بحث، لأن غاق إذا جعل علما لشخص كان
معربا لا محكيا. وأما في قولك: غاق حكاية صوت الغراب فقد أريد به لفظه فلذلك حكى بناؤه (قوله محمد بن
طلحة) هو طلحة بن عبيد الله القرشي يتصل نسبه بالأب السابع من آباء النبي صلى الله عليه وآله، أعني مرتين
كعب لقب بالسجاد، أمره أبوه يوم الجمل أن يتقدم للقتال فنثل درعه بين رجليه، وكلما حمل عليه رجل قال:
نشدتك بحم يريد بما في حمعسق من قوله تعالى - قل لا أسألكم عليه أجرا إلى المودة في القربى - ويظهر من ذلك أنه
من القرابة الذين وجبت محبتهم وكف الأذى عنهم، وقيل كان شعار حزب الحق في ذلك اليوم حم لتلك الآية،
وكان محمد يدعى بذلك أنه ليس من حزب المخالفين، فلما قتله العنسي أنشأ مفتخرا:
وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الكرى فميا ترى العين مسلم
شككت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شئ غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يظلم
يذكرني حاميم البيت. ويروى أن عليا رضي الله عنه لما رآه بين القتلى استرجع وقال: إن كان لشابا صالحا،
ثم قعد كئيبا: أي رب أشعث، وشككت: أي شققت. وقوله على غير شئ يتعلق بشككت: أي خرقت
جيب قميصه بلا سبب، وغير أن نصب على الاستثناء من شئ لعمومه بالنفي، وجاز أن يجعل بدلا عن محله:
أي لم يوجد شئ من الأسباب غير هذا إلا أنه فتح للبناء والرمح شاجر: أي طاعن: أي ذو طعن من شجرته
بالرمح طعنته، وقيل أي مختلف، من شجر الرمح اختلف، والتشاجر التخاصم، وكل شئ دخل بعضه في
بعض فقد تشاجر. ومعنى قوله: فهلا تلا حاميم، على الأول أنه تلاها بعد تقدمي إليه لطعنه، وعلى الثاني هلا تلاها
قبل تقدمه إلى الحرب وتردد الرماح وعمل بها ليرتدع عن محاربة العترة الطاهرة فسلم إذ ذاك عن طعني. وقوله يظلم
84

أي يجاوز بظلمه، فإن عدم اتباع الحق ظلم (قوله أن تجئ بالقول) أي باللفظ مفردا كان أو مركبا وقد مثل بها
وكثر الأمثلة تقريرا للحكاية وأنها باب مطرد في نوعي الجمل والمفردات معلوم من اللغة بالاستقراء، فأمكن
إجزاؤها في أسماء الحروف إذا جعلت أعلاما للسور وإن لم تكن مسموعة فيها بخصوصها (قوله دعني من تمرتان)
في جواب: ألك تمرتان؟ أو أيكفيك تمرتان؟ أو ما أشبههما، ومعناه: دعني من هذا الحديث، ولو قيل من
تمرتين لم يؤد هذا المعنى (قوله أحق الخيل بالكرض المعار) هذه جملة محكية وقعت مفعول وجدنا الأول. وقيل
هي من باب الإلغاء مع كون الفعل مقدما أو بتقدير اللام المعلقة أو ضمير الشأن. ورد بشذوذها وبأن تقييد
الوجدان بالظرف، أعني في كتاب بنى تميم يدفعها، فإن المكتوب فهي هو العبارة، وإن كانت لأداء المعنى فهو
قرينة للحكاية. والمعار بالعين المهملة من عار الفرس: إذا ذهب يمينا وشمالا مرحا ونشاطا وأعاره صاحبه،
والموجود في كتاب بنى تميم:
أعيروا خيلكم ثم اركضوها * أحق الخيل بالركض المعار
وإنما كان أحق لأنه إذا أعير تهيأ وارتاح للعدو. وقيل أبو عبيدة: ومن الناس من يعتقد أنه من العارية وهو خطأ.
روى المغار بالغين المعجمة وفسر بالمضمر من أغرت الحبل: فتلته فتلا محكما، فقيل صدره على هذه الرواية
أغيروا بالغين المعجمة أيضا. وقيل بالمهملة كما في الأولى على معنى ضمروها بترديدها من عار يعير: إذا ذهب
وجاء (قوله سمعت الناس ينتجعون غيثا) جملة من مبتدأ وخبر وقعت مفعول سمعت فحكيت على حالها: أي
سمعت هذا الحديث كأنه يقول: أطبق الناس على انتجاع الغيث واشتهروا به وأخبر عنهم بذلك فسمعته فخالفتهم
واخترت الممدوح بدلا عنه، فالحكاية أبلغ من أن ينصب الناس على أن من قبيل سمعت زيدا يقول بناء على
تضمين الانتجاع معنى القول: أي يسألون ويطلبون منه لفوات الاشتهار واستفاضة الأخبار بسمعتهم، وربما
يقال: إدراك العين وإن كان ادعاء أقوى من إدراك الخبر، والنجعة بالضم: طلب الكلأ في موضع، يقال:
انتجعت فلانا، إذ أتيته تطلب معروفه. وصيدح علم ناقته. وبلال هو ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري
قاضى البصرة ممدوح ذي الرمة كان جوادا فياضا (قوله تنادوا بالرحيل) الرحيل مرفوع بالابتداء وخبره غدا: أي
حاصل فيه كقولك الصلح يوم الجمعة: أي تنادوا بهذه الجملة. وروى منصوبا على أنه مصدر: أي ارحلوا
الرحيل، أو مفعول به: أي الزموه، فحكى الرفع والنصب بعد الباء. وأما إذا روى مجرورا فلا حكاية فيه
(قوله وفى ترحالهم نفسي) أي هلاكها فجعل ترحالهم ظراف له مبالغة. وقيل جعل نفسه وروحه في ترحالهم فإذا
85

ارتحلوا وفارقوا فارقته. وقيل أراد بنفسه محبوبه (قوله لامن أين يا فتى) أي لا تسألني هذا السؤال فإن هناك ما هو
أهم منه، فحكى كلام السائل وأدخل عليه لا، ولولا الحكاية لم يكن لدخولها وجه صحة (قوله فما وجه) جاء
بالفاء لإنكار ما علم سابقا من أن النوع الثاني جاز فيه الإعراب والحكاية يعنى أين الإعراب في هذه القراءة ولا
عامل يقتضيه؟ وأين الحكاية وحقها السكون ولا سكون ههنا؟ فهي تدل على أنها مبنية محذو بها حذو أين وكيف
في بنائها على الفتح. أجاب أولا بالإعراب وتقدير العامل مع منع الصرف، وثانيا بالحكاية إلا أنها حركت للجد
في الهرب من التقاء الساكنين وإن كان مغتفرا في الوقف اغتفاره إذا كان على حده، فقوله ويجوز أن يقال مقابل
لقوله الأوجه أن يقال ذاك نصب وليس بفتح، وإنما جعله أوجه لأن الجد في الهرب لغة قليلة، وأيضا تحريك
الساكن بالكسر أولى. وقيل السؤال نشأ من قوله بل هي أسماء معربة: أي كيف تكون كذلك وقد برزت هذه
الفواتح في صورة المبنى حيث حركت فتحا بلا توين وفيه بعد عن سياق الكلام (قوله هلا زعمت) أراد أن
86

هناك وجها آخر في الإعراب فهلا ادعيته ولم تركته مع رجحانه على ما ذكرته، فإن الأقسام بالسور فتخيما لها وإن
لم ين راجحا فلا أقل من المساواة (قوله ألا رب من قلبي له الله ناصح) وتمامه * ومن قلبه لي في الظباء السوانح
هو في الحقيقة من عطف الصفة على الصفة: أي رب شخص قلبي له ناصح، وقلبه لي في الظباء السوانح. وإذا
أعاد الموصوف مبالغة في اتصافه بكل واحدة من الصفتين استقلالا كأنه يستحق أنه يذكر ذاته مع كل منهما،
ونظيره تكرير الموصول في قوله:
أما والذي أبكى وأضحك والذي * أمات وأحيا والذي أمره الأمر
والمعنى: قلبي ناصح له يحبه ويألفه، وقلبه نافر عنى نفور الظباء اللاتي تعرض وتمر مستوحشة، من سنح لي
سانح: أي عرض. وقيل معناه: وقلبه أيضا ناصح لي كالسانح من الظباء فإن العرب تتمين به: وهو ما يمر من
مياسرك إلى ميامنك، كما تتشاءم بالبارح: وهو ما يمر من ميامنك إل يميا سرك لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى ينحرف،
وهذا معنى ما يقال: السانح ما ولاك ميامنه من ظبى أو غيره، والبارح ما ولاك مياسره. وفى المثل: من لي بالسانح
بعد البارح، نقل الأزهري عن شمر أن العرب قد تتشأم بالسانح والسنيح بمعناه، وأنشد لعمرو بن قميئة:
* وأشأم طير الزاجرين سنيحها * قال رحمه الله تعالى: كأن السبب في ذلك اختلاف تفسير السانح حيث
قال: شمر هو ما ولاك مياسره، فينبغي أن تتيمن بالبارح إلا أنه لم ينقل، فرجع المعنى حينئذ إلى أن قلبه ليس
بناصح لي (قوله فذاك أمانة الله الثريد) أوله * إذا ما الخبز تأدمه بلحم * أي الخبز المأدوم باللحم هو
الحقيق بأنه يسمى ثريد لا متعارف الجمهور من الخبز المكسور في المرقة ونحوها (قوله قلت أن القرآن) تلخيص
الجواب أن هذه الفواتح إن جعلت مقسما بها منصوبة بنزع الخافض واتصال الفعل إلهيا. فالواو في القرآن بعد
صاد وقاف، وفى القلم بعد نون إما أن تكون للقسم أو للعطف، لا سبيل إلى الأول لاستلزامه الجمع بين قسمين
على مقسم عليه واحد، ولا إلى الثاني للمخالفة في الإعراب، لكن المصنف بنى الجواب على أن الواو للقسم فجزم
بأنه يلزم اجتماع قسمين على شئ واحد وقال هو مستكره. ونقل عن الخليل نصا على استكراهه مع الإشارة إلى
وجهيه ثم تعرض لإبطال العطف (قوله قال الخليل) لما حكم أن الواوين الأخيرين ليستا للقسم بل للعطف سأله
87

سيبويه عن ذلك فقال: إذا كانت الأولى بمنزلة الباء والتاء فلم لا تكون الأخريان كذلك؟ فأجاب عنه. واستدل
على أنهما للعطف بوجهين: الأول قوله إنما أقسم بهذه الأشياء الخ، فقيل معناه أن المقسم عليه الذي هو جواب
القسم إذا كان شيئا واحدا والمقس به أشياء متعددة كان المقصود هناك قسما واحدا تشترك فيه تلك الأشياء،
وحينئذ لابد من أداة التشريك ليفهم المقصود على ما هو عليه، ولو كان القسم متعددا يستقل كل واحد بجوابه
لجاز أن لا يدل على تشريك أصلا كما في قوله: بالله لأفعلن بالله لأخرجن، أما إذا اتحد المقسم عليه كقوله:
وحقك وحق زيد لأفعلن، فلا يقوى أن تجعل الواو الأخيرة للقسم دون العطف، بل يستكره وذلك لقصور
العبارة عما قصد من وحدة القسم واشتراكه بين المتعدد الذي وقع مقسما به بل لإيهامها خلافه من تعدد القسم
واقتضاء كل واحد جوابا برأسه لكنه لا يمتنع، وإنما لم يمتنع لجواز أن يفهم المقصود بشواهد القرائن. وقيل
معناه أنه أقسم بهذه الأشياء على شئ واحد، فلو جعل الواوان الأخيرتان للقسم كان كل واحد قسما مستقلا
بقصد مستأنف يقتضى ارتباط الجواب به ارتباط الجزاء بشرطه، فيلزم الانتقال من كلام إلى آخر قبل إتمامه،
فإن القسم الأول إنما يتم بالمقسم عليه، وقد فصل بينهما بالقسم الثاني فاقتضى القياس امتناع، إلا أن الثاني لما كان
متوجها إلى ما توجه إليه الأل لم يكن أجنبيا عنه من كل وجه فلم يمتنع الانتقال إلهي والفصل به بين الأول وجوابه،
بل كان ضعيفا مستكرها، ولو كان القسم الأول مقتضيا لجوابه مستوفيا حقه الذي هو المقسم عليه لم يكن هناك
انتقال وفصل، وجاز استعمال القسم الثاني على أنه كلام آخر عقيب تمام الأول كما في صورة تعدد المقسم عليه.
لا يقال: إذا اجتمع القسم والشرط على جواب واحد جعل ذلك الجواب لأحدهما لفظا ومعنى وللآخر معنى
فقط، واعتمد في ذلك على القرينة ولم يستكره أصلا مع أن العبارة قاصرة في بعضها عن تأدية ما أريد بها من
اشتراك الجواب بينهما، والفصل واقع بين أحدهما وجزائه فليكن الحال في اجتماع القسمين على هذا المنوال. لأنا
نقول: ثم ضرورة هي اختلاف القسم والشرط وتنافى جوابيهما في الأحكام اللفظية دعت إلى ارتكاب ما ذكر،
ولا ضرورة في القسم المذكور فيستقبح فيه العدول عن الظاهر المستحسن، أعني جعل الواو عاطفة ليكون
المجموع قسما واحدا على مقسم عليه واحد سواء اعتبر العطف أولا وتعلق الأقسام ثانيا أو بالعكس الثاني وحده من
قصور الدلالة عن المرام، ولافصل بين أجزاء الكلام، وبذلك يندفع أيضا ما ورد على المعنى الثاني وحده من
حذف جواب القسم الأول، فإنه أيضا عدول عن الظاهر بلا ضرورة تدعو إليه: الوجه الثاني في أن الواوين
88

للعطف لا للقسم. تقريره أن ثم والفاء قد يقعان موقع الواو في مثل هذا التركيب، أعني أن يكون المقسم عليه متحدا
مع تعدد في المقسم بن كقولك: وحياتي ثم حياتك لأفعلن، وقوله تعالى - الصافات صفا فالزاجرات زجرا - ولا
يتفاوت المعنى إلا بما يفيده هذان الحرفان من التراخي والتعقيب الزائدين على معنى الواو، فكما أن ثم والفاء للعطف
والتشريك دون القسم كذلك الواو. فإن قلت: المقصود من نقله كلام الخليل أن يستدل على أن الجمع بين
قسمين على مقسم عليه واحد مستكره وقد تم بالوجه الأول فلا فائدة في نقل الثاني إذ لاتعلق له بحديث الاستكراه.
قلت: هو تتميم لما نقله عنه أولا، وفيه تمهيد لذكر العطف كأنه قال: لو كانت تلك الفواتح مقسما بها منصوبة
لكانت الواو بعدها للعطف قياسا على النظائر، لكنه متعذر للمخالفة في الإعراب: وأيضا لظهور العطف مدخل
في استقباح تعدد القسم على شئ واحد كما عرفت. لا يقال: التخالف في الإعراب لا يمنع العطف لجواز أن
يكون على توهم الجر في المعطوف عليه إضمار الجار كقولك: لست مدرك ما مضى ولا سابق. لأنا نقول: هذا
التوهم إنما يعتبر فيما كثر وجوده كالباء في خبر ليس. وأما إضمار الجار في القسم فقليل جدا، فلا عبرة بتوهمه بل
هو أشد استكراها. وقد يجاب بأن الجار في البيت مفروض لا مقدر، وحين فرض فرض عاملا في المعطوف عليه
وفيما نحن بصدده مقدر وقد عزل عن العمل في الأقرب فلا يحسن إعماله في الأبعد. واعترض على قول الخليل
بأن الواو في - والنهار إذا تجلى - إن كانت عاطفة لزم العطف على معمولي عاملين مختلفين، فإن الليل مجرور بواو
القسم، وإذا يغشى منصوب بفعله وقد عطف النهار، وإذا تجلى عليه بعاطف واحد. وأجاب عنه المصنف بأن
واو القسم يطرح معها إبراز الفعل اطراحا كليا، بخلاف الباء حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فالواو نائبة مناب
الفعل والباء معا وسدت مسدهما فصارت كأنها هي العاملة جرا ونصبا في الليل والظرف، فالعطف حينئذ على
معمولي عامل واحد كقولك: ضرب زيد عمرا وبكر خالدا. ورد بعدم اطراده فيما إذا صرح بالفعل مع الباء
كقوله تعالى - فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس - فإن الصبح معطوف على
الليل المجرور بالباء، وإذا تنفس معطوف على إذا عسعس المنصوب بالفعل، وههنا إشكال آخر وهو تقييد القسم
بالظرف مع أنه مطلق، إذ ليس المعنى في القسمين على أنه أقسم بالليل وقت غشيانه أو عسعسته والصبح وقت
تنفسه، وهو لازم سواء جعل الظرف مفعولا لفعل القسم أو الواو القائمة مقامه وجعل الظرف حالا كما اختاره ابن
الحاجب لا يدفعه فإن الحال قيد للفعل أيضا. والأولى أن يجعل إذا اسما بدلا: أي أقسم بالليل بوقت غشيانه
وبالنهار بوقت تجليه وبالصبح بوقت تنفسه، أو يجعل ظرفا ويقدر مضاف قبل الليل: أي وعظمته الليل وقت
غشيانه، فالمضاف المقدر هو العامل خفضا ونصبا فيندفع الإشكالان معا، وتقدير الغشيان وإن كان دافعا لهما
إلا أنه لا يجدي طائلا بحسب المعنى (قوله والواو الأخيرة واو قسم) جملة حالية عاملها تقول، وقوله (لا يجوز إلا
مستكرها) بيان وتأكيد لقوله لا يقوى. وقوله هذا فصل بين كلامي الخليل والمصنف معناه: مضى هذا أو خذ
هذا أو هذا كما ذكرت. وجعلته إشارة إلى الواو صفة لها أو بدلا منها يؤدى إلى ترك الفصل الذي هو أليق بسياق
89

كلامه، على أن الأنسب حينئذ أن يقال هذه ليناسب قوله الواو الأخيرة (قوله فقدرها مجرورة) أي إذا
كان المانع من كون تلك الفواتح مقسما بها جعلها منصوبة إذ بذلك يخالف إعرابها إعراب ما بعدها، فامتنع العطف
ولزم الجمع بين القسمين على مقسم عليه واحد، إذ بامتناع العطف يتعين القسم المستكره فأزال هذا المانع، وقدرها
مجرورة بإضمار الجر واجعل الواو للعطف حتى يتم لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه بضم التاء على التكلم كما في
النسخ المعول عليها فما أشرت إليه عبارة عن كونها مقسما بها منصوبة فإنه الذي أشار إليه السائل ولام على تركه
ذكره بقوله هلا زعمت ونحوه عبارة عن كونها مقسما بها مجرورة، يعنى إذا لم يتم لك المصير إلى ما طلبنا منك أولا
لمانع في طريقه فاختر طريقة أخرى ليتم لك المصير إلى نظيره المشارك له فيما هو المقصود الأصلي، أعني كونها
مقسما بها، فإن هذا النظير أيضا وجه من الإعراب مغاير لكونها منصوبة بتقدير أذكر. وقرأ بعض المتأخرين
بفتح التاء على الخطاب كما وقع في بعض النسخ، وفسر ما أشرت إليه بعدم الجميع بين القسمين وهو منظور فيه.
أما أولا فلأن المفهوم من قوله حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه أن هناك مطلوبا لم يستتب المصير إليه
لمانع. وإذا اختير ما ذكره ههنا زال المانع واستتب له المصير إلى ما هو نحوه وقائم مقامه. وعدم الجمع بين
القسمين ليس أمرا مطلوبا بهذه الصفة عرض له مانع من المصير إليه، بل هو عدم مانع في طريق المطلوب، وهذا
مما لا يشتبه على من له في معرفة التراكيب ونقد المعاني قدم راسخ وضرس قاطع. وأما ثانيا فلأن لفظة نحو لايبقى
لها على هذا التفسير معنى أصلا كما لا يخفى على من له أدنى مسكة، وحملها على الكناية كما في مثلك لا يبخل مما
لا يلتفت إليه. وأما ثالثا فلأن قوله ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما ينافيه، فإن المروى عنه
لا يعضده عدم الجمع بين القسمين بل لاتعلق له بذلك إنما يعضد كونها مقسما بها. لا يقال: لعله يحمل لفظة نحو
على العطف كما يظهر من كلام غيره. لأن ا نقول: فحينئذ يصير المعنى واجعل الواو للعطف حتى يتم لك المصير
إلى العطف، وذلك مما يعد لغوا. وأيضا يدفعه الوجه الأول لأن العطف ليس مطلوبا ههنا بل وسيلة إليه وكذا
الوجه الثالث، فإن قول ابن عباس أقسم الله بهذه الحروف لا يتعلق بالعطف وتأييده أصلا على أن لفظة نحو إنما
تطلق على المشابه، والعطف مستلزم لعدم الجمع بين القسمين ههنا لا مشابه له (قوله بإضمار الباء) خصها
بالإضمار دون الواو والتاء لأصالتها في القسم وكثرة استعمالها فيه. وقوله لا يحذفها إشارة إلى أن المضمر يبقى أثره
دون المحذوف، وقال هناك: وإنما نصب نصب قولهم نعم الله لأفعلن، وقال ههنا فقد جاء عنهم: الله لأفعلن
مجرورا تنبيها على كثرة النصب بحذف الجار وقلة الجر بإضماره (قوله لاه أبوك) أصله لله أبوك أضمرت الجارة
وحذفت الزائدة المدغمة في الأصلية لئلا يلزم الابتداء بالساكن. وقيل حذفت الأصلية لأن الزائدة مجتلبة لمعنى
فهي بالإبقاء أولى، وربما يقال حذفت الزائدة والأصلية معا وفتحت الجارة، وحينئذ لا تكون نظيرا لما نحن فيه.
90

ومعنى لله أبوك مدح وتعجب: أي هو لعظمته وغرابة شأنه مختص بالله الذي توجد بكمال قدرته عظائم الأمور
العجيبة الشأن (قوله يستتب) أي يت من التباب وهو الهلاك فإنه يتبع التمام ويردفه فكأن ماتم بطلبه، ومنه:
* إذا تم أمر بدا نقصه * (قوله أقسم الله بهذه الحروف) قال الفاضل اليمنى: وذلك لشرفها لأنها مباني
كتب الله وأسمائه. ويرد عليه أنه يستلزم أن يكون لهذه الأسماء حال كونها مسرودة على نمط التعديد: أي مرادا
بها حروف المباني محلى من الإعراب، وقد نص المصنف على خلافه، فالصواب عنده أن يحمل على الإقسام بهذه
الكلمات حال كونها أعلاما للسور (قوله فما وجه قراءة بعضهم) أي ما ذكرته في قراءة الفتح من إضمار الجار مع
كون الفواتح غير مصروفة لا يتأتى في قراءة الكسر، ولا يمكن أيضا جعلها مصروفة لسكون وسطها وإلا لكانت
منونة فما وجهها. أجاب بأن وجهها ما ذكرناه على سبيل الاحتمال في قراءة الفتح من التحريك للجد في الهرب من
التقاء الساكنين، فإنه متعين في هذه القراءة لا وجه لها غيره (قوله والذي يبسط من عذر المحرك) أي فتحا
وكسرا، وفى ذكر هذا البسط نوع تقوية لهذا الوجه، أعني التحريك للجد في الهرب كيلا يتمسك بقراءة الكسر
بل بالفتح أيضا، على أن الأسماء قبل التركيب مبنية، إذ لو كانت موقوفة لما حركت هذه الفواتح لالتقاء
الساكنين فإنه مغتفر في الوقف سائغ. وحاصل الاعتذار أن هذه الأسماء كثر استعمالا غير مركبة موقوفة ساكنة
الإعجاز كأنها موضوعة على حالة لا تختلف، فأشبهت بذلك تلك المبنيات التي يجتمع في آخرها ساكنها لو بقيت
على السكون فعوملت معاملتها، فتارة حركت بالفتح طلبا للخفة كالآن، وتارة حركت بالكسر على ما هو الأصل
في تحريك الساكن كهؤلاء (قوله هل تسوغ لي في المحكية) في ذكر التسويغ إشعار بضعف إرادة معنى القسم
91

في الفواتح ومن ثم قال: هذا لا يبعد عن الصواب وإن أيده بالأثر وقوله لا عليك أيضا. والمراد بالمعربة ههنا
ما أدركه الإعراب كصاد وقاف ونون مفتوحات إذا قدرت مجرورة بإضمار الباء وبالمحكية ما يقابلها فيندرج فيها
ما لا يتأتى فيه الإعراب كالمر، فإنه محكى على السكون وجوبا وما يتأتى فيه ذلك، لكنه لم يعرب بل حكى على
الحالة الوقفية سواء لم يغير عن سكونه كحم، أو غير بالتحريك للجد في الهرب كصاد وقاف ونون في قراءة
الكسر مطلقا وفى قراءة الفتح على وجه. والضابط أن المحكية ما سكن آخره أو تحرك لالتقاء الساكن، فمن فسرها
بما ذكرت على طريق الحكاية من غير حركة في الآخر فقد زالت قدمه (قوله لا عليك في ذلك) أي لا بأس عليك
في حمل المحكية على إرادة معنى القسم منها. وقوله وأن تقدر عطف على قوله ذلك، يعنى إذا كان بعد المحكية
مجرور مع الواو كقوله - حم والكتاب المبين - وجعلتها مقسما بها فقدرها مجرورة المحل بإضمار حرف القسم لا منصوبة
بحذفه، وإلا أمتع العطف للتخالف ولزم الجمع بين القسمين على شئ واحد. وأما إذا لم يكن بعدها مجرور مع
الواو كقوله صلى الله عليه وآله " حم لا ينصرون " فلك إذا جعلتها مقسما بها أن تحكم لها بالنصب والجر جميعا على
حذف الجار وإيصال الفعل وإضماره، إذ لا محذور في النصب حينئذ بل هو أولى لكثرته. قال رحمه الله تعالى: هذا
التسويغ يختص بما يكون بعده قسم أولا ما يصلح أن يكون جوابا للقسم. وأما نحو - ألم ذلك الكتاب - والم الله - فلا
تسويغ فيه. ومنهم من عمل على حذف جواب القسم نحو إنه لمعجز، لكن اللفظ لما لم يكن صريحا في القسم ليجعل
دليلا على اقتضاء الجواب كان حذفه ضعيفا جدا، والتعويل في ذلك على أن كثيرا من الفواتح قد عطف عليه
قسم أو ذكر معه ما يصلح أن يكون جوابا لا يدفع ضعفه بل يصححه في الجملة. وتمسك المصنف في تجويز
النصب والجر معا بقول النبي صلى الله عليه وآله " حم لا ينصرون " دون نظم القرآن من نحو: ألم ذلك الكتاب
الخ، لا يخلو من إيماء إلى ما اختاره رحمه الله: أي التخصيص. وذكر في الفائق أن " حم لا ينصرون " كان شعار القوم
يوم الأحزاب وفى ذلك إشارة إلى أن السور المصدر بها لفخامه شأنها حقيقة باستنزال نصرة المؤمنين وفل شوكة
الكفار. قال وحم إما منصوب بفعل مضمر: أي قولوا حم ولا ينصرون استئناف كأنه قيل ماذا يكون إذا قلنا
هذه الكلمة) فقال لا ينصرون. وإما قسم على حذف المضاف: أي ورب حم أو منزل حم. ولا ينصرون جواب
القسم ولم يتعرض في الكشاف لتقدير المضاف إلا لا احتياج إليه لأن القسم بالفواتح أنفسها. وزعم بعضهم أن
حم من أسماء تعالى: أن اللهم لا ينصرون، وتمسك بما ورد في المروى عن علي عليه السلام: يا كهيعيعص يا حم
92

عسق. قال رحمه الله تعالى: هو وجه مستقل في الفواتح كلها لكنه ضعيف، لأن أسماء تعالى تدل على معنى تعظيم
وتنزيه وما أشبه ذلك علم ذلك بالاستقرار، والفواتح لا تدل على شئ منها، وأما الدعاء فعلى تأويل يا رب أو
يا منزل كما مر (قول فما معنى تسمية السور) أي قد تحقق بما ذكرت وفصلت أنها أسماء السور، فبين لا وجه
تسميتها بهذه الألفاظ دون غيرها مع تساويها فيما يقصد بالأعلام من الدلالة على المسمى. والجواب أن الوجه في
ذلك الإشعار بأن القرآن ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ على قانون لغتهم
فيكون فيه إيماء إلى الإعجاز والتحدي على سبيل الإيقاظ. ووجه الإشعار أن الأولى في الأعلام المنقولة أن تراعى
فيما إذا أمكنت مناسبة بين معانيها الأصلية والعلمية عند التسمية، وربما تلاحظ تلك المناسبة حال الإطلاق بحسب
المقامات. ولما كانت السور كلها مركبة من حروف مخصوصة لها أسماء في لغة العرب وجعلت تلك الأسماء أعلاما
للسور كان ذلك لتركيبها من تلك الحروف على قاعدة اللغة التي هذه الأسماء منها، فإذا أطلقت عليها لو حظ هذا
المعنى لاقتضاء المقام إياه. ولما كان القرآن نوعا واحدا من لغة واحدة كان الإشعار بكون بعض سوره كلما
عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ إشعار بأن مجموعه كذلك، وإنما قال كأن ولم يجزم لأن
رعاية المناسبة في الأعلام غير واجبة واقتصر على ذكر الإشعار بأن الفرقان عربي واستشهد له، ولم يذكر الإيماء
إلى الإيقاظ اعتمادا على ما سنفصله من الوجه الثاني، فإن ما قصد فيه أصالة يقصد في الأول تبعا كما نبهناك عليه،
ومن ثم توهم أنه أراد مجرد الدلالة على كونه عربيا (قوله فما بالها) أراد أن هذه الألفاظ التي جعلت أعلاما للسور
هي أسامي الحروف لا نفس الحروف، وقياس الخط أن يكتب كل لفظ على صورته فلماذا خولف القياس ولم
93

تكتب هذه الألفاظ على صورها في أنفسها بل كتبت على صور الحروف. وقوله لا على صور أساميها أصله
لا على صورها، على أن الضمير لهذه الألفاظ كما في فما بالها موضع الأسامي موضع ذلك الضمير، وأضيف إلى
ضمير الحروف تصريحا بأن هذه الألفاظ أسامي الحروف فحقها أن تكتب على صور الأسامي. والجواب بوجوه
ثلاثة: أن الكلم كلها مركبة من ذوات الحروف لامن أسامئها، وذلك يقتضى كثرة وقوع صور الحروف
في الخط واعتياد الكاتب بها دون صور أساميها، وانضم إلى ذلك أنها استمرت العادة بأنه إذا أريد أن يؤمر بتصوير
ذوات الحروف تتهجى: أي بعدد تلك الحروف بأساميها فيقال له مثلا اكتب ألف أبا تا فيكتب هكذا أب ت
فتقع في التلفظ الأسماء وفى الكتابة الحروف أنفسها فتكتب، فكأنه لما قيل لكاتب الفواتح اكتب ألف لام ميم
مثلا عمل على تلك الطريقة المألوفة فصور ذوات الحروف على ما هو قاعدة التأليف، وعلى هذا ضمير تهجيت
راجع إلى الحروف، وقد بتوهم رجوعه إلى الكم: أي عددت حروفها بأسمائها، والمعنى: أنه إذا أريد أن يؤمر
بتصوير الكلم بتهجي حروفها على الترتيب فيقال في الأمر بتصوير ضرب مثلا اكتب ضاد راء باء فيكتب هكذا
ضرب، وفيه أنه لا تصح حينئذ دعوى استمرار العادة بذلك، فإن التلفظ بأنفس الكلم في الأمر بكتابتها أكثر من
أن تتهجى حروفها (قوله ومتى قيل للكاتب) عطف يجرى مجرى التفسير لقوله متى تهجيت وكيت وكيت كتابة
عن الحروف، وإن يلفظ متعلق باستمرت وعمل جواب لما وهو مسند إلى الظرف الذي بعده والشاكلة الطريق
والجهة (قوله وأيضا) إشارة إلى الوجه الثاني، وحاصله أنه اختير في كتابة الفواتح ما هو أخف وأخصر، أعني
صور الحروف أمنا من الإلباس إذا لا شبهة أن المتلفظ في أوائل تلك السور هي الأسامي دون الحروف، والسبب
في عدم الاشتباه أمور: الأول شهرة أمر الفواتح بإقامة ألسن العرب والعجم لها. الثاني أن التلفظ في الفواتح
بالحروف أنفسها لابأاميها عار عن الفائدة، فإن حروف المباني لا معاني لها أصلا بخلاف أسمائها. لا يقال: ربما
يعتبر من تلك الحروف في الفواتح ألفاظ مستعملة كألم في ألم وحم في حم. لأنا نقول: المقصود الأمن من وقوع
الليس بذات الحروف لتقاربهما أي الحروف وأساميها إلا بكلم مركب منها فإنه مستبعد جدا، ولو حمل على
الأمن من الإلباس مطلقا لقيل التلفظ بالفواتح لا على وجه تعديد حروفها المكتوبة بأساميها لا يشتمل على كبير
فائدة، إذ لا يحصل منها ألفاظ تفيد بنفسها معاني يعتد بها. الثالث أن بعض الفواتح مفرد لا يخطر ببال أحد غير
مورده، وهو أن يتلفظ باسم الحروف كصاد وقاف ونون. ولما كانت الفواتح من باب واحد لم يبق اشتباه
أيضا في الباقي، وإنما خص المفردات بعدم الإخطار، إذ لا يتوهم منها ألفاظ موضوعة لمعنى كما في بعض المركبات،
ولو كانت ق مثلا أمرا من الوقاية لكتبت بالهاء، فقوله وإقامة عطف على شهرة تجرى مجرى التفسير لها (قوله وإن
اللافظ بها وإن بعضها) عطف على اسم إن، ويجوز عطف أن المفتوحة مع ما في حيزها على اسم إن المكسورة وإن لم
94

يجز أن تقع اسما لها بلا فصل وضمير بها راجع إلى الفواتح المصورة بصور الحروف وغير متهجاة حال منها: أي
غير معددة حروفها المكتوبة بأسمائها، وذلك بأن يؤتى بالحروف أنفسها (قوله لا يحلى بطائل: أي لم يسنفد منه كبير
فائدة، ولا يتكلم به إلا مع الجحد: أي النفي. وقوله لا يخطر بضم الياء وكسر الطاء وفاعله ضمير راجع إلى
مفرد فالجملة صفة له أو إلى بعضها فالجملة خبر ثان، وضمير هو ومورده للبعض، وضمير عليه لما، وأمنت
خبر لقوله فإن شهرة وما عطف عليه (قوله وقد اتفقت) إشارة إلى الوجه الثالث: أي لا يحتاج في كتبة الفواتح
إلى اعتذار، فإن خط المصحف خالف القياس في مواضع كثيرة، وليس في ذلك مضرة لحصول المقصود من
الكتابة وهو استقامة الألفاظ وبقاؤها محفوظة على حالها. والخط تصوير اللفظ بحروف هجائه، وقد عرفت أن
الهجاء في أصله تعديد الحروف بأساميها، لكنه استعمله في تصوير الحروف ههنا وعطفه على الخط كأنه تفسير
له على معنى علم تصوير الألفاظ وتصوير الحروف. وقوله سنة: أي طريقة مسلوكة لا تخالف. وقد حكم مالك
رحمه الله تعالى بحرمة المخالفة فيما يقصد به البقاء كالمصحاف. وأما ما لا يقصد به إلا التفهيم كألواح الصبيان وما
يجرى مجراها فيجوز أن تكتب على قانون الخط (قوله بكتاب الكتاب) أي كتاب الكتابة. قال الفاضل اليمنى:
وفى بعض النسخ الكتاب بالتشديد، وخط المصحف وخط العروض مبتدأ خبره خطان لا يقاسان قدم عليه تشويقا،
ولو جعل خطان لا يقاسان مبتدأ خبره محذوف: أي ههنا أو لنا كان أقعد في المعنى. فإن قلت: لماذا خص سؤال
كتابة الفواتح على صور الحروف بتقدير كونها أسماء السور؟ قلت: لأنه إذا أريد بها تعديد الحروف للايقاظ
أو للإغراب لم يستبعد كتابتها على صورها، فإن المعتاد في التهجي أن تكتب ذوات الحروف ويتلفظ بأسمائها كما
عرفت في الوجه الأول من الجواب (قوله هكذا) قيل صفة مصدر محذوف: أي ورود أهكذا ومسرودة حال.
95

والأولى أنه حال: أي كائنة التي وردت عليها ومسرودة بدل منها أو بيان لها، وكالإيقاظ خبر ليكون،
وقرع العصا كناية عن التنبيه. أصله أن عامر بن الظرب العدواني كان أحد فرسان العرب وحكمائهم لا يعدل
بفهمه فهم، فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئا، فقال لبنيه: قد كبرت سنى وعرض لي سهو، فإذا
رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي العصا، فقيل إن العصا قرعت لذي الحلم (قوله وكالتحريك)
عطف على الإيقاظ على معنى أنه قصد بورودها هكذا إيقاظهم وإزالة نومهم وغفلتهم عن حال القرآن وتحريكهم
للنظر فيما يؤدى إلى معرفة أنه كلام الله تعالى (قوله وقد عجزوا) حال إما من الضمير المجرور في عليهم أو من
المرفوع المستكن في المتلو (قوله عن آخرهم) صفة مصدر محذوف: أي عجزا صادرا عن آخرهم، وهو عبارة
عن الشمول والاستيعاب، فإن العجز ذا صدر عن الآخر فقد صدر أو لاعن الأول. وقيل معناه عجزا متجاوزا
عن آخرهم، فيدل على شموله إياهم وتجاوزه عنهم، فهو أبلغ من أن يقال عجزوا كلهم. ورد بأن التجاوز بمعنى
التعدي والمجاوزة يتعدى بنفسه، والذي يتعدى بعن معناه العفو. ويمكن أن يدفع بتضمينه معنى التباعد بمعونة
المقام إذ لا مجال لقصد. وقيل يتعدى بكلمة عن أيضا لورود استعماله عمن يوثق به. وقيل عجزا صادرا
عن آخرهم إلى أولهم. ورد بأن مقابل إلى هو من لا عن (قوله ليؤديهم) تعليل للتحريك (والمقدرة) بضم الدال
وفتحها وكسرها القدرة (ودونه) أي دون هذا المتلو في أدنى مكان منه، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى
(والمعجزة) بفتح الجيم وكسرها العجز (وبعد المراجعات) ظرف ليأتوا (وهم أمراء الكلام) حال من المضاف
إليه في معجزتهم والعامل هو المضاف: أي عجزوا وهم على صفة تنافى عجزهم وذلك له مدخل في الاستيقان لامن
فاعل يأت وا لفساد المعنى. ويجوز أن يجعل حالا من الفاعل المقدر للمراجعات فإنه يؤكد عجزهم، وأما كونه حالا
من الضمير المجرور في مقدرتهم ومعجزتهم على أن العامل هو الفعل المنفى فإنما يصح لو جاز حذف المضاف
وإقامة المضاف إليه مقامه كما في - ملة إبراهيم حنيفا -. وأما تقدير تساقطوا: أي عن القدرة وظهورا أي في العجز
فتكلف جدا (قوله وزعماء الحوار) أي رؤساء المكالمة والمحاورة (قوله وهم الحراص) وصفهم بكمال الإرادة بعد
وصفهم بكمال القدرة فيكرر المسند إليه تنبيها على أنه صفة أخرى تستحق أن تلاحظ معها الذات وتثبت لها
استقلالا (والتساجل) التفاخر بأن يصنع مثل صنعه وأصله من السجل: أي الدلو والمغالبة في ملئه (واقتضاب
الكلام ارتجاله (والمتهالك) على الشئ المبالغ في الحرص عليه كأنه يظهر من نفسه هلاكه فيه، وذلك بيان لمزيد
96

اهتمامهم بالنظر، يقال افتن الرجل في حديثه وفى خطبته: إذا جاء بالأفانين (والقصيد) جمع القصيدة من
الشعر كالسفين والسفينة. وفى الأساس أصله من القصيد وهو المخ المتكسر الذي يتقصد: أي يتكسر لسمنه إذا
استخرج من قصبته فنقلوه إليه وسموه به كما أستعير السمين للجزال من الكلام والغث للرديئ منه. وقيل هو فعيل
بمعنى مفعول فإن الشاعر يقصده لينقحه ويحرره (والرجز) ضرب من الشعر سمى به لتقارب أجزائه وقلة حروفه
وتصور اضطراب في اللسان عند إنشاد من الرجز، وهو داء يصيب الإبل في أعجازها، فإذا سارت الناقة
ارتعشت فخذاها ساعة ثم تنبسط، يقال رجز البعير بالكسر رجزا فهو أرجز وناقة رجزا (قوله ولم يبلغ) أي
هذا المتلو عطف على لم يتساقط، وقوله من الجزالة إما تعليل للبلوغ: أي من أجلها، وإما حال من المبالغ وهى
المراتب التي يبلغ إليها، وأياما كان فهو إشارة إلى أن إعجاز القرآن ببلاغته وجزالة معناه وفخامته وحسن نظمه
وعبارته (وبزت) أي غلبت (قوله وشق الغبار) كناية عن الوصول والسبق، هو من قول قصير لحذيفة فاركب
العصا فإنه لا يشق غباره، إلا أن قصيرا كنى عن السبق بعدم شق الغبار وهو ظاهر بنفسه، المصنف رحمه الله
تعالى كنى عنه بشقه وإنما يظهر بمعونة المقام (والمطامح) من طمح بصره إلى الشئ: ارتفع، وطمح إليه ببصره:
إذا رفعه لينظر إليه. ولا يخفى أن تجاوز القرآن الحد الخارج وقوعه ورواء المطامح أدل على إعجاز من بلوغه
تلك المبالغ (قوله إلا لأنه) استثناء من قوله لم يتساقط وما عطف عليه من المنفيان: أي لم يكن سقوط المقدرة ولا
ظهور المعجزة ولا بلوغ المتلو غاية الجزالة ولا تجاوزه الحد الخارج من قوى أرباب الفصاحة ولا وقوعه وراء
ما ترتفع إليه أعين أرباب البلاغة لشئ من الأشياء إلا لأنه (قوله وهذا القول) قال رحمه الله تعالى: جعل اسم
الإشارة مبتدء ووصفه بالقول واستعمل لفظ القوة ثم لفظ الخلافة المنبئة عن كونه مخلقوا للقبول، ونكر الخبر
أعني بمنزل دلالة على أنه أرجح من الأول، وذلك من وجوه: الأول أنه أوفق بلطائف القرآن ورموز إشاراته،
وأليق بأساليبه ووجوه اختصاراته. الثاني أن الأصل عدم النقل. الثالث أن المقصود من الإعلام تمييز مسمياتها
وأكثر الفواتح تشترك فيها عدة من السور كألم والر. الرابع أن التسمية بأسماء مسرودة على وجه التعديد لم توجد في
كلامهم، وما ذكره سيبويه مجرد قياس. الخامس أن ارتكاب الحكاية فيها بعد وقوعها في التركيب المقتضى
للإعراب مخالف للظاهر، وما ذكر في توجيهها مجوزا لها في الجملة. هذا وقد رجح الأول على الثاني بأن العلمية
أكثر فائدة إذ يستفاد معها الإيقاظ أيضا كما مر، وبأن اختيارها موافقة للجمهور. والجواب عن الأول أن
الإيقاظ مع العلمية تبع غير لازم وههنا على تقدير التعديد مقصود أصالة. وعن الثاني أن قولهم مؤول بما سيأتي
على أن المتبع هو الدليل لا كثرة القائلين. وأما الوجه الثالث فهو قريب من الثاني وقد يعد من توابعه وفوائده،
وإجراؤه في الأول لا يخلو عن تكلف (قوله من القوة) إما حال من المجرور مع تقدمها عليه، وإما صفة لمحذوف
97

يفسره قوله بمنزل (قوله لم تتجاوز) بتذكير الفعل على أن ما سموا فاعله ومجموع اسمين مفعوله، ويروى بتأنيثه
على معنى لم تتجاوز العرب فميا سموا به مجموعهما (قوله حقيقة) احتراز عما سيأتي من القول بأنها أسماء السور
مجازا: أي يطلق عليها أنها أسماء لها على سبيل المجاز لمشابهتها الأعلام فيما يقصد بها من إفادتها التمييز (قوله إلى
ما ليس في لغة العرب) أي من التسمية بثلاثة أسماء كألم، وبأربعة كالمر وبخمسة كحمعسق (قوله ويؤدى
أيضا) محذور آخر لازم للوجه الأول على ما توهم أن لجزء لا يغاير كله وإلا غاير جميع أجزائه فكان مغايرا لنفسه،
وكون الاسم متحدا مع المسمى باطل لأن الشئ لا يكون علامة موضوعة لنفسه (قوله فإن اعترضت عليه) أي
على ناصر الوجه الثاني بأن ه: أي بأن القول بكونها أسماء للسور مقول على وجه الدهر: أي مشهور فيما بين الناس
وقد مر نظيره في الخطبة لا سبيل إلى رده لشهرته وقربه من الإجماع (قوله سوى ما يذهب إليه) من كونها أسماء
لها حقيقة وتذهب على الخطاب، وفى بعض النسخ بالغيبة على صيغة ما لم يسم فاعله (قوله على طريقة حضرموت)
أي على وجه التركيب المزجي بحيث يصير المجموع اسما واحدا يصح أن يجرى الإعراب على آخره (قوله غير
مركبة) أي غير مجعولة اسما واحدا على الطريقة المذكورة وهو نصب على الحال، و (منصورة) بدل منه أو بيان
له، وتقدير الكلام: فأما التسمية بها أي بثلاثة أسماء فصاعدا حال كونها غير مركبة وقيل مفعول وتقديره فأما
إذا جعلت غير مركبة وفيه بعد بحسب المعنى (قوله وناهيك بتسوية سيبويه) أي حسبك وكافيك بتسوية وهو
اسم فاعل من النهى كأنه ينهاك عن تطلب دليل سوه، يقال زيد ناهيك من رجل: أي هو ينهاك عن غيره بجده
98

وغنائه عن طلب غيره ودخول الباء إلى مآل المعنى كأنه قيل اكتف بتسويته (قوله دلالة قاطعة) نصب على
التمييز من ناهيك (قوله والمؤلف غير المفرد) أي هما متغايران صفة وذاتا، فلا يلزم من تسمية المؤلف بالمفرد اتحاد
الاسم مع المسمى كما لا يلزم ذلك من عكسها في أسماء الحروف، والشبهة مندفعة لأن مغايرة الشئ لآخر لا تستلزم
مغايرته لكل جزء منه حتى يلزم ذلك المحذور، وأما أن الجزء قد يطلق على العين فهو اصطلاح مخالف للعرف
واللغة، والكلام ههنا ليس مبنيا على الاصطلاح. لا يقال: جزء الشئ متقدم عليه واسمه متأخر عنه فلا يكون جزء
لشئ اسما له وإلا لكان متقدما عليه ومتأخرا عنه. لأنا نقول: ذات الجزء متقدم على ذات الكل في الوجود
العيني والعلمي، وأما ذات الاسم فيلا يجب تأخره عن ذات المسمى في شئ منهما بل ربما كان جزءا للمسمى كما
في الفواتح فيجب تقدمه، وربما كان بخلافه كما في أسماء الحروف فيجب تأخره عنها، وربما لما يكن شيئا منهما
فلا يوصف بالتقدم والتأخر بالقياس إلى مسماه، نعم وصف الاسمية متأخر عن ذات المسمى مطلقا. فإن قيل
وقوعها أجزاء للسور من حيث إنها أسماء لها فإذا كانت الاسمية متأخرة يلزم تأخر الجزء أيضا. قلنا: يلزم من ذلك
تأخر وصف الجزئية عن ذات الكل ولا محذور فيه (قوله ليكون أول ما يقرع الأسماع) أي من السور المصدرة
بها مستقلا بوجه من الإغراب: أي مستبدا به غير محتاج فيه إلى ما بعده من الكلام، يقال أغرب الرجل: إذا جاء
بشئ غريب (قوله وتقدمة من دلائل الإعجاز) أي أمارته إشارة إلى أن المقصود نم الإغراب في أوائل السور
أن تكون دليلا على إعجاز ما يرد بعدها ومقدمة منبهة عليه، فالفواتح على الوجه الثاني قصد بها التنبيه على أن هذا
المتلو: أي القرآن لتركبه من الحروف التي يتركب منها كلامهم على قواعدهم ليس إعجازه ببلاغته الفائقة إلا
لكونه من الله. وعلى الوجه الثالث قصد هبا التنبيه على أنها لاستقلالها بوجه من الإغراب في الافتتاح من حيث
صدورها عمن تستبعد منه أمارة على أن الكلام الوارد بعدها معجز بالنسبة إلى حال من ظهر على لسانه فيكون
تكلمه بها يستغرب منه دلالة على كونه تكلمه بما بعد منه معجزا، فالوجهان حينئذ مدارهما على ما ذكر من قوله
تعالى - فأتوا بسورة من مثله - من أن الضمير لما نزلنا أو لعبدنا. وقد يجعل الإعجاز المشار إليه بالإغراب إعجاز
المنزل، أما مطلقا أو في نفسه، فقد لو حظ ههنا حال المتكلم المنزل عليه في إغراب الفواتح كما لو حظ هناك حالة
إعجاز ما نزل عليه، والأول أحسن أو نسب. واعترض صاحب التقريب بأن النطق بأسامي الحروف لا إغراب
فيه لأنه يمكن تعلمه ولو بسماع من صبي في أقصر مدة، فليس في النطق بها إغراب وتقدمة لأمارة إعجازه.
وأجيب بأنه وإن كان في نفسه ممكنا إلا أن صدوره عمن اشتهر أنه لم يتعلم شيئا قط بل نشأ بين قوم أميين ولم يخالط
99

أحدا ممن قرأ وخط مستغرب قطعا. وقيل إن قوله واعلم الخ من تتمة هذا الوجه، وجواب لهذا السؤال بأن
المستغرب هو النطق بأسامي الحروف مرعيا فيها تلك اللطائف التي لا يمكن رعايتها من أمي إلا بوحي لا مجرد التلفظ
بها. ورد بأن صريح كلام المصنف دل على أن المستغرب هو النطق بأسامي الحروف مطلقا إلا النطق بالأسامي
المخصوصة مع الاشتهار بعدم الاقتباس. وأيضا المقصود بيان الفائدة في كل فاتحة وتلك الرعاية إنما هي في الفواتح
بأسرها، وأيضا لا يفهمها منها إلا ما هر في أوصاف الحروف وأحوالها بعد تأمل بليغ، وربما لم يفطن لها قبل
المصنف أحد من حذاق العلماء المتبحرين فيما يتعلق بالحروف فضلا عن أن يفطن لها غيرهم، فكيف يكون أول
ما يقرع أسماع المخاطبين بها مستقلا بوجه من الإغراب وتقدمة من دلائل الإعجاز. وأيضا جعل المصنف نتيجة
ما فصله بقوله اعلم الخ أن الله تعالى عدد على العرب الألفاظ التي تركب منها كلامهم تبكيتا لهم وإلزاما للحجة
عليهم بأن المتحدى به مؤلف منها لا من غيرها، فليس إعجازه إلا لكونه من الله تعالى يدل على أنه مزيد تحقيق
وتفصيل للوجه الثاني المختار عنده وإن أمكن أن يجعل تأييد الاختيار التسمية بهذه الألفاظ المخصوصة وتقوية
للإغراب في النطق الثاني المختار عنده وإن أمكن أن يجعل تأييد الاختيار التسمية بهذه الألفاظ المخصوصة وتقوية
للإغراب في النطق بها وحدها نظرا إلى جميعها. وبالجملة دعوى اختصاصه بالوجه الثالث لا وجه لها (قوله وأهل
الكتاب) أراد به أهل الكتابة (قوله كما قال تعالى) استشهاد معنوي يدل على أن كونه أيا لا يتلو ولا يكتب ينفى
الارتياب ويقلعه من أصله إذ لا يتصور منه الإتيان بمثل القرآن، ولو كان يتلو كتابا ويخطه بيمينه لكان للمبطل في
ارتيابه شبهة يتعلل بها، وكذا أسماء الحروف يستغرب من الأمي التكلم بها لامن غيره (قوله في أن ذلك) يتعلق
بقوله فكان حكم النطق بذلك حكم الأقاصيص: أي كحكمها في أن ذلك الخ وهو وجه التشبيه. وقوله وبمنزلة
أن يتكلم عطف على حكم الأقاصيص: أي كان النطق بذلك بمنزلة أن يتكلم بالرطانة: أي العجمية بفتح الراء
وكسرها. وقيل عطف على حاصل مندرج فيه وجه الشبه (قوله أربعة عشر سواء) جعل أسامي الحروف
100

ثمانية وعشرين مع أن الحروف تسعة وعشرون كما صرح به بناء على أن الألف اسم يتناول المدة والهمزة ومن ثمة قيل
إن الألف إما ساكنة أو متحركة، وألف الوصل تسقط في الدرج والألف واللام للتعريف، وقد مر قول
المصنف في باسم الله. فإن قلت: فلم حذف الألف في الخط ونبهناك أنهم استحدثوا اسم الهمزة تمييزا للمتحركة
عن الساكنة، ولذلك لم تذكر الهمزة في التهجي بل اقتصر على الألف ولم تستثن عن حكم تصدير الاسم بالمسمى
فأربعة عشر نصف الأسامي تحقيقا، وإنما قال سواء: أي وجدتها نصفها مستويا بلا زيادة عليه ولا نقصان عنه
دفعا لتوهم كون الأسماء على عدد المسميات. وقيل الأسماء أيضا تسعة وعشرون، إلا أنه أراد نصفها تقريبا
لامتناع اعتبار الكسر كما في المستعلية وحروف للقلقلة. وسواء صفة لأربعة عشر تأكيدا لا حالا مؤكدة من
نصف الأسامي ولا من ضمير وجدتها أي مستوية أو مساوية للنصف لا زائدة ولا ناقصة وضعفه لا يخفى. وقال
رحمه الله تعالى: الهمزة والألف حرف واحد عند الفقهاء وحرفان في عرف العامة. فحيث قال: نصف الأسامي
أربعة عشر بناه على الأول، وحيث أظهر المناسبة بين أعداد السور والحروف بناه على الثاني، فنبه على النظرين
في ضمن ذكر فائدتين، ولا خفاء في أنه تأويل لا ضرورة في ارتكابه، فإن قلت: قوله إلا الألف فإنهم
استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكنا، دل على اختصاص الألف بالمدة فإنها الساكنة أبدا، وأن
الهمزة مغايرة لمسماها. قلت: قد مر هناك أن استثناء الألف إنما هو باعتبار أحد مسمييها فقط، أعني الساكنة،
وأما ههنا فقد اعتبرت من حيث إنها اسم لهما مشترك بينهما (قوله ثم إذا نظرت) أي بعد أن عرفت أن المورد
101

في الفواتح نصف الأسامي على عدد الحروف إذا نظرت في هذا النصف وجدته مشتملا على أنصاف أسماء أجناس
الحروف، إما تحقيقا كما في المهموسة فإنها عشرة مجموعة في قوله ستشحنك خصفه وقد عد منها خمسة، وكما في
المجهورة التي هي ما عداها فإن أسماء حروفها ثمانية عشر وإن كانت هي تسعة عشر وقد ذكر منها تسعة، وكما
في الشديدة المجموعة ثمانية في أجدك قطبت وقد أورد منها أربعة، وكما في الرخوة المفسرة بما يقابل الشديدة فإن
أسماء حروفها عشرون إن اختص الألف بالهمزة ليختص بالشديدة كما يظهر من كلامه وقد ذكر منها عشرة،
وكما في المطبقة المنحصرة في أربعة وقد عد منها اثنان، وكما في المنفتحة وهى التي تقابلها فإن أسماءها أربعة وعشرون
والمورد منها اثنا عشر. وإما تقريبا كما في المستعلية فإنها سبعة لا نصف لها صحيحا فاقتصر منها على ثلاثة، وتدورك
هذا النقصان في أسماء المنخفضة التي تقابلها فذكر منها أحد عشر وترك عشرة، وكما في حروف القلقلة المجتمعة
في قد طبج والمذكور منها اثنان، ثم أراد بأجناس الحروف أكثرها لأن المذكور في حروف الذلاقة ستة
مجموعة في قولك مر بنقل، وقد ذكر من هذا أربعة فعد الأكثر منها ونقص من المصمتة المقابلة لها، فجئ من
أسمائها بعشرة من اثنين وعشرين، وحروف الصفير ثلاثة ذكر منها اثنان الصاد والسين، وقد ذكر أيضا مالا
عدد لصنفه كالمتكرر والمنحرف. قال رحمه الله تعالى: فلذا كان الملغى مكثورا بالمذكور لفظا ومعنى. وربما
يقال: من الأجناس المهتوت، أعني التاء لضعفها وخفائها فلم تذكر أصلا، ومنها الهاوي كالألف بمعنى المدة
ولم تذكر على توجيه المصنف. لا يقال، ما ذكرتم من الأوصاف اصطلاحات استحدثها أرباب العربية حين
دونوها فكيف يقصد حال نزول القرآن المتقدم عليها؟ لأنا نقول: المستحدث هو الأسامي والعبارات لا المعاني
المراد بها وهى المقصودة ههنا. وإنما حملنا أنصاف الأجناس على أنصاف أسمائها لأنها أنسب بما ذكر أنه يشتمل
عليها، أعني نصف الأسامي الذي هو المراد بقوله هذه الأربعة عشر، ولو حملت على أنصاف الأجناس أنفسها
لم يصح النصف تحقيقا في متقابلين معا. مثلا إذا صح في المهموسة لم يصح في المهجورة، وإنما جعل الرخوة ههنا
متناولة لما سماها في المفصل بما بين الشديدة والرخوة. أعني حروف " لم يرو عنا " محافظة على النصف، إذ لو
خصت الرخوة بما عداها لم يصح ذكر النصف في شئ منهما، ولذلك أيضا حمل الألف على الهمزة وحدها حيث
عدها في الشديدة المشتملة على الهمزة دون الرخوة المتناولة للمدة، ودعوى أن اسم الألف أشهر في الهمزة غير
102

مسموعة (قوله ثم إذا استقريت) بين أولا أنه ذكر نصف الأسامي في سور على عدد الحروف، وفى ذلك إشارة
إلى مجموع الحروف مع اختصار واعتدال. وثانيا أن ما ذكر مشتمل على أنصاف أجناس الحروف، وفيه تقوية
لتلك الإشارة على أنه مقصود في نفسه لتكون إعانة على الإيقاظ وأمارة والإعجاز نتيجة منه. وثالثا أن المذكور
من هذه الأجناس أكثر في تراكيب الكلم مما ألغى منها، فصار المذكور لذلك معظم ما تركب منها كلامهم وجله
منزل منزلة كله (قوله مكثورة) أي مغلوبة في الكثرة من كاثرته فكثرته أكثره: أي غلبته في الكثرة (قوله وقد
علمت) أي هو معلوم لك والجملة حال وعاملها رأيت. وقد اعترض بينهما بقوله فسبحان (قوله فكأن الله)
فائدة متعلقة بجميع الفواتح من حيث هي متفرعة عما تقدم من ذكر الحروف المشتملة على أنصاف الأجناس
النازلة منزلة كلها، ولم يجزم بها للاحتمال والتأدب، وأراد بالألفاظ التي منها تراكيب كلامهم حروف التهجي
بأسرها وتعديدها ذكرها بأساميها، إلا أن نصف الأسامي ههنا قائم مقام جميعها (قوله إلى ما ذكرت) أي في الوجه
الثاني يقال بكته بالحجة: أي غلبه بها (قوله والتزام الحجة إياهم) يعنى أن المتلو كلام الله (قوله لما تكاثر) أي
لما كان وقوع الألف واللام في تراكيب الكلم من بين الحروف الغالبة على غيرها في الاستعمال أكثر من وقوع
ما عداهما فيها جاءتا مكررتين في معظم هذه الفواتح: أي في عدد كثير منها وهو ثلاث عشرة كما فصلها ولم يرد
بمعظمها أكثرها لأن المجموع تسع وعشرون. فإن قيل: كرر الميم في سبع عشرة منها. قلنا أريد تكريرهما مجتمعتين
كما في تراكيب الكلم، وليس في الفواتح حرفان كررا كذلك مثلهما. وحيث نسب تكريرهما إلى مجموع المعظم
لا إلى كل واحد منه فلا حاجة فيه إلى تأويل كما في تكرير الفاتحة في كل ركعة من الصلاة (قوله وهى فواتح)
103

الضمير للمعظم أنثه نظرا إلى الخبر أو إلى أن معنى المعظم فواتح كثيرة، ولقد راعى في عد الأسامي الأربعة عشر
ترتيب السور الواقعة هي فيها كما مر، وأما ههنا فقد عقب الزهراوين بأربع سور توافقهما في الفاتحة وعقب الأعراف
بالرعد لاشتراكهما في الزيادة على ألم بحرف واحد، ثم لاحظ ترتيب المصحف إلا أنه قدم إبراهيم على هود ويوسف
فإن كان ذلك لفضله فالأولى أن يقدم على يونس أيضا (قوله فهلا عددت ومالها جاءت) سؤال واحد فرعه على
الوجه الثاني الذي استحسنه أولا واختاره آخرا كما يدل عليه جوابه، يعنى أن المقصود بالفواتح الإيقاظ والتحريك
للنظر فهلا ذكرت مجتمعة فإنه واف بالغرض في أول القرآن فإنه أولى من غيره، وأي فائدة في تفريقها على
السور، وإن أريد تفريعه على ما ذكر في مجموع الفواتح بأن يقال لما كان ذكر نصف الأسامي عدا لجميع
الحروف تبكيتا وإلزاما، فهلا عددت الحروف بأسرها بنصف أساميها مجتمعة في أوله؟ لم ينطبق عليه الجواب لأن
التنبيه المستفاد من عد جميع الحروف بنصف الأسامي لم يتكرر، وإنما المتكرر التنبيه الحاصل بعد شئ من جنس
الحروف، فإنه أيضا يدل على أن المتحدى به مؤلف منها: أي من الحروف لاغير، وإن كان عد الجميع أدل
على ذلك اللهم إلا أن يؤول بأنه إنما اختير التفريق ليتكرر أحد التنبيهين في مواضع متعددة ففي ذلك رعاية لهما
على أحسن وجه (قوله وتجديده) عطف على إعادة والضمير للتنبيه (قوله أوصل) أي أشد اتصالا إلى الغرض
وهو ما نبه عليه من أن المتحدى به كذا وما يتوصل بعاليه، وأقر: أي أشد إقرارا أي تقريرا وتثبيتا له: أي للغرض
وكلاهما اسم تفضيل بنى من المزيد والضمير في ذكره راجع إلى التنبيه (قوله وكذلك مذهب كل تكرير) أي
تكرير سائر المعاني كإعادة التنبيه مع طلب التمكن، إما مع اتحاد اللفظ كالم في سورها و - ويل يومئذ للمكذبين -
وإما بدونه كص وحم والقصص المكررة بعبارات مختلفة. ولك أن تورد السؤال على الوجه الثالث وتقول: لما
كان تصدير السور بهذه الألفاظ يوجب الإغراب فهلا عددت مجتمعة؟ وتجيب عنه بأن إعادة الإغراب وتكرير
أمارة الإعجاز أوفى بالمطلوب، ولا ورود للسؤال على الوجه الأول فإن المقصود الأصلي هناك الدلالة على
مسميات مخصوصة بأسماء هي أجزاؤها، وأما الإيقاظ فربما يقصد تبعا (قوله فهلا جاءت ولم اختلفت) هذان
سؤالان، أي هلا كانت الفواتح على طريقة واحدة مع أن ما قصد بها من إعادة التنبيه وتجديده حاصل بذلك،
104

وأيضا لم كان اختلافها على الكيفية المخصوصة فالضميران في جاءت وحروفها للفواتح بأجمعها (قوله فوردت
الخ) تفصيل لاختلاف أعداد حروفها المعددة بها. وقيل الضميران للصور المكتوبة في الفواتح فإن الحروف
الملفوظ في ص مثلا ثلاثة وهو سهو. وقيل هما لذوات الحروف المعتدة بأساميها وفى إضافة الحروف إلى ضميرها
نوع سماجة (قوله وكما أن أبنية كلماتهم) جواب عن السؤال الثاني والمعنى على التوزيع: أي بعض الأبنية على
حرف واحد وبعضها على حرفين كما في الحروف وغير المتمكنة من الأسماء وهكذا يرتقى إلى خمسة أحرف أصول
وينتهى بها (قوله لم تتجاوز) أي الأبنية ذلك: أي كونها على خمسة أحرف، والجملة حال من ضمير الأبنية في
الظرف، وجوز أن تكون خبرا آخر لأن، ولا يخفى عليك ورود السؤالين على الوجه الأول والثالث وتطبيق
الجواب عليهما (قوله فما وجه) أي عرفتنا الوجه في مجيئها مفرقة على السور متفاوتة في أعداد الحروف، فعرفنا وجه
اختصاص كل سورة بفاتحتها المختصة بها واختصاص السورة بفاتحتها على الإطلاق، إذ لا يوجد فيها فاتحة أخرى،
واختصاص الفاتحة بسورتها إما على الإطلاق وإما بالإضافة إلى بعض السور، والسؤال يعم الأوجه الثلاثة. وقوله
إذا كان الغرض هو التنبيه جواب على الوجه الثاني المرضى عنده وفى قوله كما إذا سمى الرجل تقوية له وإشارة إلى
الجواب على الوجه الأول، ويعرف منهما بالمقايسة الجواب على الوجه الثالث (قوله أية) هي مجردة عن معنى
الاستفهام وقعت ظرفا لحاصل وتنوينها عوض عن المضاف إليه، والجملة أعني سلك صفة لها: أي التمييز حاصل
في أية طريقة سلكها الرجل، ولا يقدح في ذلك عروض الاشتباه لأجل الاشتراك في الأعلام كما في بعض الفواتح
أيضا، إذ قد يزال بالقرائن وقيل التمييز عن الكل حاصل بالنظر إلى الوضع العلمي قبل اعتبار الاشتراك. ورد بأن
العرض تمييزه حال إطلاقه عليه وليس بحاصل، نعم إن كان الواضع متعددا كان العذر واضحا بخلاف ما إذا كان
واحدا كما في الفواتح قوله ولذلك لا يقال) ذكر حديث الأعلام وأردفه بذكر الأجناس وأورد لها أمثلة من
الأجرام والأعراض زيادة تأييد لما هو فيه (قوله ما بالهم) أي القراء أو العلماء على الإطلاق، ومعنى عدوا: أي
105

وحد هذا العدد فيما بينهم لامن كل واحد منهم فلا ينافي قوله ومن عداهم لم يعدوا شيئا منا آية (قوله هذا مذهب
الكوفيين) قيل هذه رواية المصنف، والذي يعلم من كتاب المرشد أن الفواتح بأسرها آيات عندهم في السور كلها
بلا فرق بينها. وفى بعض الحواشي اعترض على قوله أما ألم فآية حيث وقعت بأنها في آل عمران ليست آية عندهم،
والوجه في الترتيب في ذكر الفواتح أنه ابتدأ بألم وأتبعها بما زيد فيه عليها حرف واحد ثم بما يخالفها في حرف واحد،
أعني الر، ثم بما يوافقها في عدد الحروف فقط، أعني طسم، ثم ذكر ما هو على حرفين وقدم يس لمشاركتها طه
في كونها آية، ثم انتقل إلى لي ما هو على خمسة أحرف وقدم حم عسق لمناسبته الحواميم، ثم ذكر ما هو على حرف واحد
(قوله والمر لم تعد آية) قيل صوابه أن يقول ليست بآية فإن أجيب بأنه أراد أن ينبه على أن قياسها على المص يقتضى
أن تكون آية لكنه خولف ولم تعد آية، رد بقوله ثلاثتها لم تعد آية إذ لم يخالف فيها قياس، والظاهر أنه تفنن في
العبارة وتصريح بأنه المراد في النفي والإثبات في هذه الأحكام كما يدل عليه قوله ما بالهم عدوا وقوله لم يعدوا وقوله
فكيف عد وهو استنكار واستبعاد، لأن يعد آية ما هو في حكم كلمة واحدة كحم وطس، وأجاب بما هو كلمة
واحدة وقد عد آية اتفاقا (قوله وقف التمام) الوقف على مالا يفيد معنى مستقلا قبيح وعلى ما يفيده حسن، فإن
استقل ما بعده أيضا سمى تاما وإلا سمى كافيا وحسنا غير تام، فالوقف على بسم قبيح، وعلى الله تعالى أو الرحمن
كاف، وعلى الرحيم تام. واشترط بعضهم في الكافي أن يتعلق بالموقوف عليه ما بعده تعلقا إعرابيا وسيأتي ما فيه
(قوله أو جعلت) عطف على لم تجعل ومقابل له على معنى إذا جعلت أسماء للسور وجعلت مع ذلك أخبار مبتدأ
محذوف، وإنما قال وحدها احترازا عما إذا جعل ما بعدها أيضا خبرا لذلك الابتداء أو بدلا منها، فإن الوقف حينئذ
غير تام لأن ما بعدها غير مستقل، وأما إذا جعلت وحدها كذلك كان كل من الموقوف عليه وما بعده مستقلا،
كما إذا جعلت بمنزلة الأصوات، فقد أشار في التمثيل إلى اعتبار الاستقلال فيها بعد الموقوف عليه وقف تام وإن
لم يصرح به أولا. فإن قلت: كيف حصر استقلالها فيما إذا نطق بها أو جعلت وحدها أخبارا مع أنها إذا قدرت
منصوبة بنحو أذكر أو قسما محذوف الجواب كانت مستقلة أيضا والوقف عليها تاما. قلت: لاحصر هنا بل
أورد على كل واحد من تقديري جعلها أسماء وعدمه مثالا، ولو سلم كان الحصر بالقياس إلى ما يذهب إليه
106

المصنف من الوجوه فيما سيأتي وما ذكرتم ليس من مذهبه للاستقلال وإن جوزه (قوله هل لهذه الفواتح محل من
الإعراب) قيل السؤال مستدرك إذ قد علم مما سبق إعرابها لفظا فإنه جوز في ص وق ون فيمن قرأها مفتوحات أن
تكون معربة لفظا، إما منصوبة بفعل مضمر وإما مجرورة على إضمار حرف القسم، أو محلا حيث سوغ إرادة
معنى القسم في المحكية أيضا فعلم أن لها محلا من الإعراب، إما نصب وإما جرا، ثم ذكر أن الفواتح تجعل أخبارا
لمبتدأ محذوف فعلم أنها مرفوعة محلا. وأجيب بأن ما تقدم من بيان إعرابها كان على تقدير كونها أسماء للسور، وهذا
سؤال عن حالها مطلقا ولذلك قال في الجواب: ومن لم يجعلها الخ، فلا استدراك ولا حاجة إلى أن يقال، إنما
كرر هذا السؤال وأجاب عنه وإن كان معلوما ليبنى عليه السؤال المتعقب له وهو قوله ما محلها (قوله لأنها عنده
كسائر الأسماء الأعلام) يعنى قد وقعت في التركيب وامتنع ظهور إعرابها حيث كانت محكية على وقفها إما
ساكنة أو متحركة للجد في الهرب، فلا بد أن يكون مقدرا في محلها، وأما إذا ظهر الإعراب فلا حاجة إلى محل
(قوله أما الرفع فعلى الابتداء) يتناول المبتدأ والخبر فإن العامل فيهما عنده هو الابتداء (قوله وأما النصب والجر فلما
مر من صحة القسم بها) فيه تفصيل سبق تقريره في بحث التسويغ، ثم إن الأوجه الثلاثة جارية بلا ضعف في كل
فاتحة تصلح في الظاهر أن تكون قسما. أما الرفع والجر فمطلقا، وأما النصب فبشرط أن لا يلزم اجتماع قسمين كما
أشرنا إليه آنفا، وأما في غيرها فلا يجرى النصب بالقسم بل بفعل مضمر ولا الجر مطلقا إلا على وجه ضعيف،
وهو أن يقدر جواب القسم من نحو أنه لمعجز وما شاكله، فإما أن يريد جريان كل واحد في كل فإنه كثيرا ما يذكر
في هذا الكتاب الوجه الراجح والمرجوح معا من غير تفرقة بينهما اعتمادا على فهم الشارع فيه، وإما أن يريد
التوزيع على معنى أن بعضا من الفواتح تجرى فيه الأوجه كلها والباقي منها يجرى فيه بعضها، ويتكل في ذلك أيضا
على ما ذكر وإن كان المتبادر من العبارة هو الأول (قوله ومن لم يجعلها) عطف على قوله نعم لها محل فيمن جعلها
أسماء للسور وتتمة للجواب عن قوله هل لهذه الفواتح محل من الإعراب والفاصل بينهما ليس أجنبيا بل هو تفصيل
107

للمعطوف عليه فلا إشكال (قوله كما لا محل للجمل المبتدأة) أي التي وقعت في ابتداء الكلام فلم تقع موقع مفرد
ليطرأ عليها ما يقتضى إعرابا في محلها (قوله وللمفردات المعددة) أي الواردة على نمط التعديد فلم تقع في تركيب
ليعتور عليها ما يوجب إعرابها لفظا أو محلا. والحاصل أن هذه الألفاظ إذا سردت على طريقة التهجي لم يكن لها
إعراب أصلا لفقد المقتضى والعامل. قيل إنما أورد مثالين على أن ما انتفى إعرابه لفقد مقتضيه قسمان: مفرد
وجملة. مع رعاية المناسبة، فإن بعض الفواتح كالجملة في تعدد كلماته، وبعضها كالمفرد في أنه كلمة واحدة
(قوله إلى ما ليس ببعيد) هو ما دل عليه ألم، أعني السورة أو المنزل المؤلف من هذه الحروف على الوجهين الأولين
وأما الوجه الثالث فكأنه من تتمة الثاني، يريد أن ألم ذكر آنفا فمدلوله ليس ببعيد فكيف صح أن يشار إليه بما
وضع للبعيد؟ أجاب أولا بأنه إشارة إليه لكنه في حكم البعيد من وجهين: أحدهما أنه تقتضى ذكره والمقتضى
بمنزلة المتباعد، وأشار بقوله وهذا في كل كلام إلى أنه مطرد في العرف: أي جعل المقتضى في حكم المتباعد
والإشارة إليه بلفظ البعيد جاء في كل كلام. وثانيهما أنه لما وصل الخ وأشار أيضا إلى اطراده عرفا بقوله كما
تقول واعترض عليه بأنه قبل الوصول إلى المرسل إليه كان كذلك. وأجيب بأنه لم يرد بالمرسل إليه النبي صلى الله عليه
وآله بل من وصل إليه اللفظ حال إيجاده كالسامع لكلامك، وفيه بحث لأنه خلاف الظاهر ولا يفهم من العبادة.
وأيضا إن أراد باللفظ الذي وصل إلى السامع لفظ ألم فذلك ليس إشارة إليه بل إلى ما دل به عليه، وإن أراد جميع
السورة أو المنزل فقبل أن يصل إليه هذا كان لفظ ذلك على حاله، والصواب أن المتكلم إذا ألف كلاما ليلقيه
على غيره ويوصله إليه ربما لاحظ في تركيبه وصوله إليه وبنى كلامه عليه. وأجاب ثانيا بأن ذلك ليس إشارة إلى
ألم بل إلى الكتاب الموعود على لسان موسى وعيسى عليهما السلام. وقيل بقوله: سنلقى عليك قولا ثقيلا، وفيه أن
الأنسب حينئذ أن يقول الذي وعد به، وههنا أبحاث: الأول قال بعضهم: السؤال مخصوص بما إذا كان ألم اسما
للسورة وقد عرفت عمومه، ويؤيده قول المصنف فيما بعد: أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، وقوله:
أي هو يعنى المؤلف من هذه الحروف. نعم ربما يقال لما كان مجموع المنزل مرموزا إليه لا مصرحا به كالسورة
نزل لذلك أيضا منزلة البعيد. الثاني قوله ولأنه لما وصل عطف على قوله وقعت الإشارة إذ معناه لأنه وقعت
بقرينة قوله لم صحت. وأما قوله وقيل فعطف على قلت. ولما لم يكن مختارا عنده أخره وإن اقتضى ترتيب البحث
تقديمه بأن يقال: ليس ذلك إشارة إلى ألم وإن سلم فهو في حكم البعيد الثالث ذكر الإمام السكاكي أن المشار إليه
108

باسم الإشارة إما مدرك بالبصر أو منزل منزلته وتحقيقه على ما فصل في بعض شروح الكافية من أن المعتبر في أسماء
الإشارة هو الإشارة الحسية، فالأصل فيها أن يشار بها إلى محسوس مشاهد قريب أو بعيد، فإن أشير بها إلى
ما يستحيل إحساسه نحو ذلكم الله أو إلى محسوس غير مشاهد نحو تلك الجنة فلتصييره كالمشاهد، فإن كل غائب
عينا كان أو معنى إذا ذكر جاز أن يشار إليه بلفظ البعيد نظرا إلى أن المذكور غائب تقول جاءني رجل فقال ذلك
الرجل وتضاربوا ضربا شديدا فهالني ذلك الضرب، وجاز على قلة أن يشار إليه بلفظ القريب نظرا إلى قرب
ذكره فتقول هذا الرجل وهذا الضرب وكذلك يجوز لك في القول المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ البعيد لأنه
زال سماعه فصار في حكم البعيد كقولك بالله الطالب الغالب وذلك قسم عظيم لأفعلن كذا، والأغلب في مثله أن
يؤتى بالقريب فيقال وهذا قسم، وبالجملة لما كان اسم الإشارة موضوعا للمشار إليه إشارة موضوعا للمشار إليه إشارة حسية فاستعماله فيما
لا تدركه الإشارة كالشخص البعيد مثلا مجاز بأن تجعل الإشارة العقلية كالحسية لما بينهما من المناسبة، إذا عرفت
هذا فتقول لفظ ذلك إن كان إشارة إلى ألم، فمدلوله سواء كان اسما للسورة أو رمزا إلى المنزل ليس مدركا بالبصر
بل منزل منزلته، فإن نظر إلى ابتداء نزوله كان كمعنى حاضر جعل كالمشاهد لذكره وفى حكم البعيد لزوال ذكره
وتقضيه، وإن نظر إلى أنه لم ينزل بتمامه كان كمعنى غائب صير مشاهدا بعيدا لما ذكر، وجاز أن تعلل مشاهدته
بالذكر وبعده بتقدير وصوله إلى المرسل إليه ووقوعه بذلك في حد البعيد من المرسل، وإن كان إشارة إلى الكتاب
الموعود فهو لبعد ذكره بمنزلته مشاهد بعيد. وقيل إنما صحت الإشارة إليه مع أنه ليس بمحسوس لأنه جعل
كالمحسوس إشارة إلى صدق الوعد والقول بأنه لا حاجة إلى تأويل، لإن المحققين على أن المشار إليه إذا كان
مذكورا مع اسم الإشارة صفة له لم يلزم أن يكون محسوسا غلط منشؤه أن من نقلنا كلامه في تحقيق أسماء الإشارة
ذكر في موضع آخر أن اسم الإشارة مبهم الذات، وإنما تتعين الذات المشار إليها إما بالإشارة الحسية أو بالصفة،
وأراد أن إزالة الإبهام إما بالإشارة الحسية وحدها أو بالصفة معها، يدل على ذلك أنه صرح في كلامه المنقول آنفا
بأن المذكور في حد اسم الإشارة هو الإشارة الحسية فقط، وأنه موضوع لما يشار إليه إشارة حسية، واستعماله
في غيره مجاز، نعم دعوى أن لفظ ذلك شاع استعماله فيما هو من المعاني والمعقولات مع ذلك التأويل مستقيمة.
الرابع أن المصنف لم يذهب إلى أن ذلك للتعظيم إشارة إلى بعد درجته في الهداية كما اختير في المفتاح، لأن ما ذكره
أشهر في العرف وأجرى في الموارد وأقرب إلى الحقيقة، بل ربما يتخيل أنه صار فيه حقيقة عرفية. الخامس ذكر
بعض الأفاضل أن الكتاب الموعود إن أريد به ما وعدوا به في التوراة والإنجيل، أعني القرآن لم يصح أن يكون
ذلك الكتاب خبرا لألم أنه جزء القرآن لا هو، إلا أن يراد أبا لم القرآن كله بناء على أنه جزؤه، أو يجعل موعودا في
ضمن كله، وإذا حمل على الموعود الآخر صح ذلك فيه وإن أريد ما وعد به النبي صلى الله عليه وآله جاز أن يكون
خبرا له. السادس أنه إذا ذكر لفظ مفرد أو مركب وزال سماعه جاز أن يشار بلفظ القريب والبعيد إلى كل واحد
109

من اللفظ والمعنى بلا تفاوت بينهما في ذلك (قوله لم ذكر اسم الإشارة) هذا السؤال إنما يتوجه إذا كان ألم اسما
للسورة فلذلك صرح به. فإن قلت: ألم علم لمنزل مخصوص وليس هناك تأنيث لا في لفظه ولا في معناه فحقه أن
يشار إليه بمذكر، وأما أن لفظ السورة يطلق عليه فلا يقتضى تأنيثه نعم لو عبر عنه بالسورة كان مؤنثا كما إذا عبر
عن زيد بالنسمة. قلت: لما اشتهر في المتعارف التعبير عن ذلك المنزل بالسورة واستمر ذلك حتى كان حقه أن
يعبر عنه بها فيقال سورة البقرة مثلا وقصد بوضع العلم تميزه عن سائر السور، كان اعتبار كونه سورة ملحوظا في
وضعه له، وكان قوله ألم في قوة قوله هذه السورة فحقه أن يؤنث، وأما أعلام الأمكنة والقبائل فحيث عبر عن
مدلولاتها تارة بألفاظ مذكرة وأخرى بألفاظ مؤنثة ولم يستمر فيها شئ من ذلك جاز تأنيثها وتذكيرها، وهذا
اعتبار مناسب لأنظارهم في أحوال الألفاظ (قوله فإن جعلته) أي إن كان الكتاب خبر ذلك كان ذلك في معنى
الكتاب ومسماه مسمى الكتاب: أي يصدقان على شئ واحد وإن تغاير مفهوما، فجاز إجراء حكم الكتاب الذي
هو الخبر على ذلك الذي هو المبتدأ في التذكير كما أجرى حكم الخبر على المبتدأ في التأنيث في قولهم: من كانت
أمك حيث أنث الضمير الراجع إلى من وهو مذكر نظرا إلى الخبر، أعني أمك، واعترض بأن من إذا أريد به
مؤنث جاز تذكير ضميره وتأنيثه للفظه ومعناه سواء كان هناك خبر مؤنث أولا. وأجيب بأنه تمثيل لا استدلال،
ولا تنافى بين الاعتبارين اجتماعا وانفرادا. وقيل ما ذكره المصنف ههنا هو بعينه تأنيث من نظر إلى ما هو عبارة عنه،
وهو مردود بأن ما ذكره أخص منه، وقيل الحمل على اللفظ أكثر فاعتبر الخبر وهو ضعيف لجواز أن يكون هذا
من قبيل الأقل (قوله وإن جعلته) أي إن جعلت الكتاب صفة لذلك كان هو إشارة إلى الكتاب صريحا لا ضمنا كما في
الوجه الأول، فالواجب أن يطابقه في تذكيره وإن كان المجموع عبارة عن مؤنث. وأما أن السورة صريحا
إشارة إليه (قوله نبئت نعمى) أورد المصراع الأول لأن الاستشهاد بالثاني إنما يتم به، ونعم بضم النون اسم امرأة
110

صرف لأنه ثلاثي ساكن الوسط كدعد. ويروى نعمى على وزن حبلى وذكر اسم الإشارة لأن المعنى لذلك الإنسان
أو الشخص، وإلى هذا التأويل أشار المصنف بقوله هند ذلك الإنسان الخ. وقيل ذكر لأنه إشارة إلى العاتب
الزاري على معنى النسب كما تقول هند لابن: أي ذات لبن، يقال عتب عليه إذا غصب وزرى عليه إذا عابه،
وقوله على الهجران ظرف لعاتبة، وجوز أن يكون حالا من نعمى أو من ضميرها في عاتبة، وقبله:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار * ماذا تحيون من نؤى وأحجار
لقد أراني ونعمى لاهين بها * والدهر والعيش لم يهمم بأمرار
العوج عطف زمام البعير ليقف. وقوله ماذا تحيون كأنه يرد به على نفسه قوله فحيوا، ويروى بائتين بها (قوله
والجملة خبر المبتدأ الأول) والعائد فيها هو اسم الإشارة القائم مقام الضمير (قوله ومعناه أن ذلك هو الكتاب)
أدخل ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر إيذانا بأن التركيب يفيد الحصر بناء على أن اللام للجنس حيث لاعهد،
ووصف الكتاب بالكامل تنبيها على أن المقصود من حصر الجنس حصر الكمال وإلا لم يكن الحصر صحيحا، وقال
كأن ما عداه تصريحا بما يتضمنه حصر الكمال فيه من إثبات النقصان لما يقابله من الكتب تأكيدا، وفى لفظ كأن
نوع تأدب مع سائر كتب الله تعالى. وقيل هو إشارة إلى أن الحصر على وجه المبالغة دون الحقيقة وليس بشئ فإنه
لو جزم بنقصان ما عداه لكان الأمر كذلك. ولما فرغ من بيان المعنى المقصود الذي هو حصر الكمال إثباتا ونفيا
شرع في وجه إفادة حصر الجنس إياه بقوله وإنه الذي معطوفا على قوله إن ذلك، يريد أنه لكماله في بابه ونقصان
ما سواه من جنس هو الذي يستحق أن يسمى كتابا كأنه الجنس كله وما عداه خارج عنه. ثم مثل له مثالا مشهورا
في العرف أعني قوله هو الرجل، وأردفه بما صرح فيه بحصر كل الجنس في الكامل، أعني قوله هم القوم كل
القوم إزالة لما عسى يتخالج في الأوهام من استبعاد حصر الجنس في بعض أفراده وأوله:
* وإن الذي حانت بفلج دماؤهم * أراد الذين حانت من الحين مفتوح الحاء بمعنى الهلاك: أي هلكت
دماؤهم وأريقت بفلج وهو موضع قريب من البصرة، وقيل من الحينونة، والمعنى: حال سفك دمائهم (قوله
يستأهل) أي يستحق، قال في الأساس: استأهل فلان لكذا: أي هو أهل له، وأهل الحجاز يستعملونه استعمالا
واسعا. وفى الصحاح ودرة الغواص في أوهام الخواص أن المستأهل من يأخذ الإهالة أو يأكلها. فإن قلت: إذا
111

كان ألم اسما للسورة وذلك إشارة إليها كان حصر الكمال فيها إثباتا للنقصان في سائر الصور فإنها المقابلة لها لا الكتب
المتقدمة. قلت: هذا إنما يلزم إذا لو حظ في الحصر السورة من حيث خصوصها، وأما إذا لو حظت من حيث
أنها قرآن فلا، لأن مقابلها من هذه الحيثية هو الكتب المتقدمة لا سائر السور، وأيضا يجوز أن يراد باسم السورة
القرآن كله مجازا (قوله وأن يكون الكتاب صفة) أي لذلك فيكون حينئذ ذلك الكتاب على هذا التقدير خبرا مفردا
والكلام جملة واحدة ومعناه ما ذكره وقد سبق تحقيقه، وجعل اللام في الكتاب للعهد على تقدير كونه صفة لذلك
لأنه المتبادر عند الإشارة إليه، وأيضا لا فائدة في الإخبار عن السورة لصدق جنس الكتاب عليها، وإن قصد
الحصر كان اسم الإشارة لغوا. وأما أن ذلك الكتاب بدل من ألم على تقدير كونه مبتدأ وما بعده خبره فلم يلتفت
إليه، إذا لم يقع الإبدال فيه موقعه لا في المعهود ولا في الجنس بشهادة الفطرة السليمة (قوله على ن الكتاب صفة)
أي لذلك سواء كان خبرا ثانيا أو بدلا من الخبر الأول، أعني ألم، وأما إذا جعل ذلك مبتدأ والكتاب خبره والجملة
خبرا بعد خبر أو بدلا من الخبر المفرد فلذلك غير ما ذكره المصنف، لأن الخبر الثاني أو البدل هو مجموع الجملة
لا ذلك وحده والمقدر خلافه. فإن قلت: كيف صح الإخبار عن هذه بالم. قلت: صح ذلك على معنى أن هذه
السورة هي السورة المشهورة فضلا وكمالا وبلاغة وهداية أو على أنها مسماة بهذا الاسم (قوله أي ذلك الكتاب
المنزل) يريد أن ذلك إشارة إلى ما رمز إليه بتعديد هذه الأحرف، وكذا قوله يعنى هو المؤلف من هذه الحروف
إشارة إلى أن الضمير المقدر راجع إلى ذلك المرموز إليه، وهذا ظاهر في الوجه الثاني، أعني قرع العصا. وأما
إذا قصد بذكر الحروف الإعراب كان دلالتها على المنزل المؤلف منها تبعا لا قصدا فيصح بذلك رجوع الإشارة
والضمير إليه وفيه خفاء (قوله وتأليف هذا ظاهر) فإنك إذا جعلت ألم اسما للسورة فهو مبتدأ بتقدير مضاف: أي
تنزيل ألم تنزيل الكتاب، أو هو خبر مبتدأ محذوف: أي هذه ألم، وإن جعلته تعديدا فتنزيل الكتاب إما خبر
مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره لا ريب فيه، أو هو اعتراض والخبر هدى للمتقين، وإنما جعله ظاهرا للإحاطة
بالوجوه السابقة في القراءة المشهورة. وقيل لقلتها بالقياس عليها (قوله والريب مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة)
هو في أصله كذلك إلا أنه استعمل في هذه الموضع ونظائره بمعنى الريبة والشك، ولو أريد ههنا معناه الأصلي لقيل
لا ريب له كما يقال لأضرب لزيد (قوله وحقيقة الريبة يريد أن الريبة وإن اشتهرت في معنى الشك إلا أن حقيقتها
112

ومعناها الأصلي قلق النفس واضطرابها (قوله ومنه) أي ومما ورد فيه الريبة على حقيقتها استشهد بقوله صلى الله
عليه وآله فإن الشك ريبة، على أن الريبة غير الشك وإلا لم يكن في الكلام فائدة ويجعلها مقابلة للطمأنينة على أنها
القلق. ومعنى الحديث: دع ما يريبك: أي يقلقك ذاهبا إلى ما يطمئن به قلبك، فإن كون الشئ في نفسه مشكوكا
فيه غير صحيح مما تقلق له النفس الزكية وتضطرب معه، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له: أي إذا وجدت نفسك
مضطربة في أمر فدعه، وإذا وجدتها مطمئنة فيه فاستمسك به، لأن اضطراب قلب المؤمن في شئ علامة كونه
باطلا محلا لأن يشك فيه، وطمأنينته فيه علامة كونه حقا وصدقا. وقيل معناه: دع ما تشك فيه إلى ما تعمله،
فإن العمل بالمشكوك فيه يقتضى قلقا وترددا وفى ذلك مشقة، بخلاف العمل بالمعلوم فإنه يقتضى سكونا وراحة،
والأول أقوى، وعبارة الكتاب محمولة عليه. واعلم أن الحديث من رواية الترمذي والنسائي وفيها: فإن الكذب
ريبة، فتوهم بعضهم أن ما ذكره المصنف لا يصح رواية لذلك ولا دراية، لأن الريبة هي الشك بعينه فلا فائدة في
الإخبار بها عنه. وأجاب بأن صحة إحدى الروايتين لا ينافي صحة الأخرى، وأما فائدة الإخبار فقد حققها العلامة
بما لا مزيد عليه (قوله ويشخص بالقلوب) أي يقلقها، من شخص به إذا ورد عليه أمر يقلقه كأنه يجعله شاخصا
بصره فلا يطرق من حيرته. وقيل أي يذهب بالقلوب، يقال شخص من بلد إلى بلد: أي ذهب، فالباء للتعدية
(قوله بظبى حاقف) هو الذي تثنى وانحنى في نومه (لا ير به) أي لا يقلقه ولا يزعجه بالتعرض له روى أنه صلى
الله عليه وآله مر هو وأصحابه بظبى حاقف في ظل شجر وهم محرمون فقال: يا فلان قف ههنا حتى يمر الناس
لا ير به أحد بشئ " (قوله كيف نفى الريب) أي الشك كما مر على سبيل الاستغراق، فإن معنى لا ريب فيه:
لاشك فيه من أحد (قوله ما نفى أن أحدا لا يرتاب فيه) الظاهر يرتاب بدون لا، لإن وجودها يفسد المعنى، لأن
نفى نفى الريب إثبات له، فقيل هي زائدة، وقيل نفى مسند إلى مستتر راجع إلى الريب كما يدل عليه السؤال، وحرف
الجر محذوف: أي ما نفى الريب لأن أحدا، أو على معنى أن أحدا لا يرتاب فيه. ورد بأن النفي حينئذ يتوجه إلى العلة
أو التفسير فلا يقابله قوله وإنما المنفى كونه متعلقا للريب، بل الواجب أن يقال: وإنما نفى الريب لكذا أو على معنى
كذا، وقيل النفي بمعنى الإتيان بالخبر منفيا: أي ما أتى بأن أحدا لا يرتاب فيه منفيا: أي ليست الجملة المأتي بها
منفية هي هذه، ومحصوله أن ليس المنفى الارتياب فتصح المقابلة، إلا أن في الكلام في استعمال النفي بهذا المعنى
على أن الحكم بزيادة لا أقل منه تكلفا (قوله وإنما المنفى) جمع بين تعريف المسند إليه وكلمة إنما للمبالغة في الحصر:
أي ليس المنفي ههنا إلا كون القرآن محلا صالحا في نفسه لتعلق الريب به ومظنة له: أي هو في نفسه بحيث لا ينبغي
113

أن يرتاب فيه، بل هو لوضوح الدلالة وسطوح البرهان على كونه حقا منزلا من عند تعالى يجب على كل أحد
أن يكون منه على يقين، وهذا معنى صحيح صادق لا يقدح في صدقه ارتياب جميع الناس فيه فضلا عن ارتياب
بعضهم. وفى اختيار إنما إشعار بأن كون المنفى ما ذكره أمر مكشوف يتبادر من العبارة، فإنك تقول بعد تلخيص
الحق في المسألة بعد تردد المخاطب، وهذا مما لاشك فيه ولا يشتبه على أحد أنك تريد بذلك كونها يقينية في نفسها
لا ينبغي أن يتعلق شك بها لا أن أحدا لا يشك فيها، وكذلك إذا قلت لمن ينكر أمرا: هذا لا إنكار فيه، أو ليس
هذا محلا للإنكار، أردت أنه ليس خليقا بالإنكار ومظنة لصلوحه ولا ينبغي أن يرتاب فيه، وبهذا التحقيق يندفع
ما يقال من أن القرآن مئنة للريب فكيف ينفى كونه مظنة له (قوله أن يقع فيه) الضمير للارتياب الذي دل عليه
مرتاب: أي لا ينبغي لصاحب ارتياب أن يقع فيه. وقيل للقرآن على معنى أن يطعن فهي من قولهم وقع في فلان: إذا
اغتابه وطعن فيه. ورد بأن المفهوم حينئذ أن الطعن من المرتاب مم لا ينبغي لا ما هو المقصود: أعني أن ارتيابه مما
لا ينبغي إلا أن يجعل الارتياب طعنا وأنه بمحل عنه غنى (قوله ألا ترى) استشهاد على أن المنفى ليس هو الارتياب بل
كونه متعلقا للريب بالمعنى المذكور (قوله فما أبعد) ما فيه نافية لا تعجيبة: أي لم يبعد وجود الريب منهم ولم ينفه عنهم
بل أرشدهم إلى ما يزيل ريبهم ويوصلهم إلى أن يتحققوا أن القرآن مما لا ينبغي أن يرتاب فيه (قوله فهلا قدم) لما بين
أن المقصود بالنفي ههنا ليس هو الريب بل كونه متعلقا له، توهم أن النفي لم يتوجه إلى أصل الريب بل إلى متعلقه
الذي هو الظرف، فكان ذكره أهم فهلا قدم. أجاب بأن النفي متوجه إلى الريب لا إلى متعلقه، لكن لم يقصد بنفي
الريب عنه أنه لم يرتب فيه أحد، بل قصد إثبات أنه حق وصدق، وأن الريب فيه غير واقع موقعه، ومن المعلوم
أن هذا القصد لا يقتضى تقديم الظرف على أن ثم مانعا عنه وهو أنه لو قدم لأفاد معنى بعيدا عن المراد وهو أن الريب
ثابت في كتاب آخر لافى هذا الكتاب، وهذا المعنى وإن فرض استقامته لا يناسب المقام، إذ المقصود أن القرآن
حق لا مجال فيه للريبة ردا لما يزعمه المشركون، لا أن الريب منفى عنه وثابت في غيره إذا لم يكن هناك منازعة في
ذلك. وفى المفتاح امتنع تقديم الظرف لدلالته على أن ريبا في سائر كتب الله وأنه باطل، ولاخفاء في أنه توجيه آخر
(قوله في إيلاء الريب حرف النفي) أي جعله بحيث يلي حرف النفي: أي يقرب منه ويعقبه بلا فصل، وعلى هذا
فقوله ولو أولى الظرف بالرفع، ويحتمل النصب على معنى ولو جعل حرف النفي بحيث يلي الظرف: أي يقرب منه
ويتقدمه بلا فاصل (قوله أن كتابا آخر فيه الريب لا فيه) هذه عبارة جزلة لا غبار عليها، فالريب مبتدأ قدم عليه
114

خبره للتخصيص. وقوله لا فيه عطف على ذلك الخبر المقدم وتصريح بما يتضمنه التخصيص من النفي تأكيدا له
والمجموع خبر لأن وقد روعي فيها لطيفة هي أن التخصيص يتألف من إثبات ونفى فيصرح إما بهما أو بأحدهما على
ما يقتضيه الحال، ونظم التنزيل على تقدير التقديم، أعني لا فيه ريب يقتضى تخصيصا صرح فيه بالنفي وحده، لكن
بعده عن المرام ونبوه عن مناسبة المقام إنما هو للارتياب في غيره، فلذلك اختار العلامة التصريح به مع المحافظة
على طريق التقديم واستبقاء الظرف على صورته، واستدرك بالعطف ما فاته من كون النفي مصرحا به في ذلك النظم،
وقيل حق العبارة أن كتابا آخر فيه الريب لا إياه: أي القرآن، أو أن في كتاب آخر الريب لا فيه وكلاهما مردود.
أما الثاني فلفوات بقاء الظرف على هيئته في النظم المقدر. وأما الأول فلأن قوله فيه الريب إن كان جملة مفيدة للحصر
كما بيناه كان المعنى: أن الريب مخصوص بكتاب آخر لا بالقرآن، وأنه فاسد، وإن كان محمولا على أن الريب
فاعل للظرف لم يوافق النظم في إفادة التخصيص بالتقديم، وكان تعريف الريب مستدركا، وكأن هذا القائل توهم
في عبارة الكتاب أن الظرف خبر إن والريب فاعله فلم يجز عنده أن يعطف عليه قوله لا فيه لخلوه عن ضمير
المخبر عنه فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير (قوله لا فيها غول) إن نظر إلى حاصل المعنى كان قاصرا لصفة
الاغتيال على خمور الدنيا، وإن روعي القاعدة القائلة إن تقديم المسند يفيد حصر المسند إليه عد قصرا للموصوف
على الصفة: أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعداه إلى عدم الحصول فيما يقابلها، أو عدم
الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزها إلى الحصول في هذه الخمور. وبالجملة تجعل حرف النفي جزءا من
المسند أو المسند إليه، وقس على ذلك نظائره (قوله أبو الشعثاء) هو تابعي مشهور اسمه سليم بن أسود المحاربي
(قوله أن المشهورة توجب الاستغراق وهذه تجوزه) بيان ذلك أن المشهورة لنفى الجنس: أي الحقيقة ويلزمه نفى
أفرادها بأسرها، إذ لو ثبت شئ منها كانت الحقيقة ثابتة في ضمنه ولا تحتمل معنى آخر فهي نص في الاستغراق
توجبه، فإذا قيل لارجل في الدار بالفتح لم يصح بل رجلان أو رجلان، وغير المشهورة مجوزة للاستغراق على
معنى أنها ظاهرة فيه ومحتملة لمعنى آخر. أما الأول فلأن المتبادر من النكرة المنونة فرد لا بعينه وهو مساوق للحقيقة،
فإذا نفى استلزم نفى جميع الأفراد. وأما الثاني فلأنه قد يقصد بذلك نفى الوحدة المنفردة: أي المجردة عن العدد فيقال
لارجل في الدار بل رجال: أي الجنس موصوف بالتعدد لا بالوحدة، وأما إذا زدت من الاستغراقية وقلت
لا من رجل زال ذلك الاحتمال وصار نصا في الاستغراق كالمبنى، إلا أن المفهوم المبنى نفى الحقيقة، ومفهوم لامن
رجل نفى فرد لا بعينه حتى إذا فسرت الأول بالفارسية قلت نيس مردار سرار، والثاني قلت نيست هيج مردى
روس: أي وأما لارجل بالرفع فمعناه نيست مردى. وقيل استغراق المبنى لتضمنه معنى من مقدرة فيجب أن
لا يفترقا مفهوما. لا يقال: صحة الاستثناء من لا رجل ولا من رجل يقدح في نصوصيتها، لأنا نقول: لاقدح
لجريانه في الألفاظ الناصبة اتفاقا كأسماء العدد وقد حقق في موضعه (قوله هو المشهور) قيل على هذا يكون
115

الكتاب نفسه هدى وعلى الآخر ظرفا له والأول أبلغ، فالمشهور أولى (قوله من أن ينوى خبرا) وذلك ليكون
الموقوف عليه مفيدا معنى تاما وإلا كان الوقف قبيحا ناقصا (قوله بدليل وقوع الضلالة في مقابلته) استدل على
أن الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية: أي المطلوب لا مطلق الدلالة على ما يوصل إليها بوجوه ثلاثة: الأول أنه
يقابل الضلالة استعمالا كما في الآيتين، ولا شك أن الخيبة وعدم الوصول إلى المطلوب معتبر في مفهوم الضلالة،
فلو لم يعتبر الوصول إليه في مفهوم الهدى لم يصح التقابل. واعترض بأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى
اللازم بمعنى الاهتداء، إما مجازا وإما اشتراكا. قال في الصحاح: هدى واهتدى بمعنى، والكلام في المتعدى
ومقابله الإضلال والاستدلال به لا يتم، إذ ربما يفسر بالدلالة على مالا يوصل إلى المرام لا يجعله ضالا: أي غير
واصل، وأجيب بأنه لافرق إلا باللزوم والتعدي لأنه مطاوعه فلا يخالفه إلا بأنه تأثير ومطاوعة تأثيره، وإذا اعتبر
الوصول في اللازم كان معتبرا في المتعدى أيضا، وأما الضمير في مقابلته الراجع إلى اللازم فسبيله الاستخدام.
ويرد عليه أن التمسك بالمطاوعة وجه مستقل، وذكر المقابلة حينئذ يكون مستدركا لأن اعتبار الوصول في الاهتداء
مستغن عن الدليل. الثاني أنه يقال في موضع المدح فلان مهدى كما يقال فلان مهتد، ولا مدح إلا بالوصول إلى
الكمال المطلوب. ونوقش بأن استعداد الكمال والتمكن من الوصول إليه أيضا فضيلة يستحق عليها المدح، وبأن
المهدى في مقام المدح يراد به المنتفع بالهدى مجازا، فإن من لم ينتفع بالهدى كان في حقه كأنه معدوم، إذ لا اعتداد
بالوسيلة عند فقدان المقصود. وأجيب عن الأول بأن التمكن مع عدم الوصول نقيصة يذم عليها، وعن الثاني بأن
الأصل في الإطلاق الحقيقة، فلما استعمل المهدى هناك في الواصل كان حقيقة فيه. الثالث أن اهتدى مطاوع
هدى، يقال هديته فاهتدى، والمطاوعة عبارة عن حصول الأثر في المفعول بسبب تعلق الفعل المتعدى به، فلا
يكون المطاوع مخالفا لأصله إلا في أنه تأثر وأصله تأثير، فإن المنكسر مثلا فيه حالة يسمى تحصيلها كسرا وقبولها
انكسارا، فلو لم يكن في الهدى إيصال إلى المطلوب لم يكن في الاهتداء وصول إليه ونقض بنحو أمرته فلم يأتمر
وعلمته فلم يتعلم. ورد بأن حقيقة الائتمار صيرورته مأمورا، وهو بهذا المعنى مطاوع للأمر، ثم استعمل في
الامتثال مجازا حتى صار حقيقة عرفية، وليس هذا بمعنى الامتثال مطاوعا للأمر وإن كان مرتبا عليه في الجملة
على صورة المطاوعة. قال الفاضل اليمنى: هو مطاوع له لكنه نادر، ولا يلحق به غيره بل بالأعم الأغلب، فأما
علمته في المثال المذكور فلم يرد به ما هو حقيقته: أي حصلت فيه العلم بل أريد به معناه المجازى: أي وجهت نحوه
116

ما يفضى إلى العلم غالبا، وليس التعلم مطاوعا إلا لمعناه الحقيقي. قال رحمه الله: وبذلك يندفع ما يقال إن المتأثر إن
كان مختارا لم يجب أن يكون مطاوعا موافقا لأصله وإن لم يكن مختارا وجب، نعم قد كثر في قسم المختار استعمال
الأصل في معناه مجازا، أعني توجيه ما يقضى إلى الفعل غالبا. وقيل في جواب النقض بالائتمار أن قضية الأمر لغة
أن لا يثبت إلا بالامتثال، لكن منع من ذلك لزوم الخبر وسقوط الاختبار فيتخلف عنه لمانع مخصوص، وفيه
أن هذا المانع موجود في الاهتداء فيتخلف عن الهدى، وعورضت الوجوه الثلاثة بقوله تعالى - وأما ثمود فهديناهم -
وأجيب بأنه مجاز عن إزاحة العلل وإفاضة أسباب الاهتداء بقرينة قوله تعالى - فاستحبوا العمى على الهدى - أي آثروه
عليه ولولاها لتبادر منه الإيصال. ورد بأن الأصل الحقيقة. ودفع بأنه لولا تلك القرينة وما أشبهها تبادر منه غير
ذلك المعنى وهو كونه غير مجاز فيه، هذا وأما قوله ويقال مهدى وقوله ولأن اهتدى فمعطوفان على قوله بدليل
وقوع الضلالة بحسب المعنى: أي لأن الضلالة واقعة في مقابلته ولأنه يقال ولأن اهتدى (قوله فلم قيل) الفاء
مؤذنة بالاستنكار: أي ما ذكرتم في تفسير الهدى يقتضى أن يكون هدى للمتقين دالا على تحصيل الحاصل، كأنه
قيل دلالة موصلة إلى المطلوب للمتقين الواصلين إليه، ولو فسر الهدى بالدلالة على ما يوصل إليه كان هناك
محذور آخر، وهو أن تعلقه بالمتقين عار من الفائدة، فإن من اهتدى إلى المقصود كانت دلالته على ما يوصل إليه
لغوا قوله هو كقولك) يعنى أريد بالهدى زيادة الهدى إلى مطالب أخرى غير حاصلة والتثبت على ما كان حاصلا
كما في قوله تعالى - اهدنا - أو أريد بالمتقين المشارفون للتقوى، والأول هو المختار الملائم لنظم القرآن، وستأتى
إشارة إليه فقدمه لذلك ولئلا يفصل به بين الثاني الثاني وما يتفرع عليه من السؤال الآتي. لا يقال: قد سبق أن الهدى
في التثبت مجازا قطعا وفى الزيادة حقيقة أو مجاز فكيف جمع بينهما ههنا؟ لأنا نقول: لم يرد أن اللفظ مستعمل فيهما معا
بل في الزيادة فقط، والتثبت لازم تبعا وإن صلح أن يجعل مقصودا بنفسه ويستعمل اللفظ فيه وحده. فإن قلت:
نحو قولك أعزك الله وأكرمك يحتاج إلى التأويل المذكور، فإنه طلب مختص بالاستقبال، ولو لم يؤول لزم طلب
تحصيل الحاصل، وأما - هدى للمتقين - فلا حاجة فيه إلى التأويل أصلا، إذ لا دلالة على زمان قطعا بل معناه
هدى للمتقين المهتدين بذلك الهدى فلا إشكال. ألا ترى أنك إذا قلت: السلاح عصمة للمعتصم على معنى أنه
117

سبب لها لم يفهم أن هناك عصمة أخرى مغايرة لما كان عليه الشخص المعتصم بها معتصما؟ قلت: إنك إذا عبرت عن
شئ بما فيه معنى وصفية وعلقت به المعنى المصدري في صيغة فعل أو غيرها فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشئ
موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه. مثلا إذا قلت: ضربت مضر وبالتبادر إلى الفهم في ذلك
العرف أنه موصوف بالمضروبية قبل زمان تعلق ضربك به لا بسبب ضربك إياه، والسر في ذلك أنك في بيان تعلق
ضربك به تلاحظه على ما هو عليه في زمان التعلق وتعبر عنه بما هو مسلم له، ويستحق أن تعبر به عنه وإن لم يتعلق به
ضربك اسما كان أو صفة فإذا عبرت عنه بالمضروب كانت مضروبيته صفة مسلمة له مأخوذة على أنها حقه وإن
لم تضربه، ولا شك أن مضروبيته بهذا الضرب صفة متفرعة على ما أنت متصد مسلمة له مأخوذة على أنها حقه وإن
لم تضربه، ولا شك أن مضروبيته بهذا الضرب صفة متفرعة على ما أنت متصد لبيان ثبوته في ذلك الزمان، فلا
تكون مسلمة فيه مستحقة له، فإذا أردت أنه مضروب بضربك هذا كان مخالفا للظاهر ومجاز باعتبار المآل،
فقولك هدى لزيد أو للضال: أو إضلال لبكر أو لمهتد جاز على ظاهره، بخلاف قولك هدى للمهتدى وإضلال
للضال. وأما حديث العصمة فلا يجديك منفعة إذ لم يرد معناه المصدري المتضمن للتجدد والحدوث بل أريد
الحاصل بالمصدر، وهو معنى مستقر ثابت يضاف إلى المعتصم وينسب إليه باللام، على أن الظرف مستقر: أي
عصمة كائنة للمعتصم وإن جعلت مصدرا، واللام لتقوية العمل كما هو الظاهر من " هدى للمتقين "، احتيج هناك
أيضا إلى أحد التأويلين، وقس على ذلك نحو قولك صحة للصحيح ومرض للمريض وعكسهما. فإن قلت:
متعلقات الأفعال وأطراف النسب هل حقها على الإطلاق أن يعبر عنها حال التكلم بما تستحق أن يعبر عنها به حال
التعلق والنسبة لاحال الحكم حتى لو خولف ذلك كان مجازا. قلت: لا، فإن قولت عصرت هذا الخل في السنة
الماضية مشيرا إلى خل بين يديك ليس فيه مجاز مع أنه لم يكن خلا زمان العصر، وقولك سأشرب هذا الخل مشيرا
إلى عصير عندك مجاز باعتبار المآل وإن كان خلا حال الشرب، فمن قال: المعتبر في المجاز بحسب الصيرورة
والمشارفة هو حال النسبة لا حال الحكم فقدسها، بل الواجب في ذلك أن يرجع إلى وضع الكلام وطريقته،
فتارة يعتبر زمان النسبة كما في الأمثلة المتقدمة، وتارة يعتبر زمان إثباتها كما في هذين المثالين. ثم المجاز بحسب
المآل قد يكون بطريق المشارفة كما في " من قتل قتيلا " ويمرض المريض وتل الضالة، فإنه قتيل ومريض حقيقة
عقيب تعلق القتل والمرض به بلا تراح، وكذلك حال الضالة وقد يكون بطريق الصيرورة مجردة عن المشارفة كما
في قوله - ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا - فإن الاتصاف بالفجور والكفر متراخ عن تعلق الولادة بالمولود فلذلك فصله
عما تقدمه بقوله ومنه (قوله فهلا قيل) سؤال تفريع على الوجه الثاني: أي إذا أريد بالمتقين ما ذكرتم فهلا جئ
118

بما هو حقيقة في المراد، وأي فائدة في العدول إلى المجاز. وأجاب بأن هناك فائدتين: الأولى الاختصار الذي هو
من باب إيجاز القصر. الثانية تصدير السورة الكريمة المعظمة بذكر أسماء أولياء الله تعالى رعاية لحسن المطلع (قوله
على الطريقة التي ذكرنا) أراد طريقة المشارفة المصرحة فيما تقدم إلا أن المناسب لقوله علم أن مصيرهم إلى الهدى وما
يتلوه أن يكتفى بمطلق الصيرورة، فكأنه أشار به إلى ذلك واختار المشارفة لكونها أوفق للصفات المتعقبة للمتقين
(قوله وأيضا فقد جعل) عطف على قوله فاختصر، ولابد من تقدير أي وأيضا إذا كان كذا فقد جعل أو ونقول
أيضا فقد جعل ذلك الإجراء المؤدى إلى الاختصار سلما إلى فائدة أخرى فهي أعلى منه، وتلخيصه فقد أجرى
الكلام على تلك الطريقة للاختصار والتصدير. وقيل هو عطف بحسب المعنى على قوله لأن الضالين بناء على أن
ذلك التقسيم المذكور له مدخل في تفريع الاختصار التصدير، ولفظ ذلك حينئذ إشارة إلى ترك الضالين إلى
المتقين، وأما عطفه على فقيل فيقتضى اندراجه في تفصيل الاختصار (قوله أولى الزهراوين) أي المنيرتين من
قوله صلى الله عليه وآله " اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران " لحديث قال: سميتا بذلك لأنهما زهراوين في الأعجاز،
وسميت بالبقرة سنام القرآن لأنها أعظم سورة منه وأرفعها كما أن السنام أعظم أعضاء الإبل وأعلاها، وسميت أيضا
أول المثاني: أي السبع الطوال التي تثنى فيها صفات المؤمنين والكفار والوعد والوعيد وغيرها وهى البقرة
والأعراف وما بينهما ويونس، ولا يصح حمل الثاني ههنا على مجموع القرآن والفاتحة كما لا يخفى، وذكر لفظ أول
على معنى مثنى هو أول المثاني (قوله بذكر أولياء الله) أي بذكر اسمهم وهو لفظ المتقين الذي أبد مكان لفظ
الضالين الصائرين إلى التقوى مع اتحاد المراد منهما. وقد غلط من زعم أن المصنف جعل هؤلاء أولياء الله نظرا إلى
ظاهر لفظ المتقين، وإلا فالضال وإن كان مصيره إلى التقوى لا يكون وليا لله تعالى إلا على القول بأن السعيد من
سعد في بطن أمه والشقى من شقى في بطن أمه وهى مسألة موافاة الأشعري (قوله من وجأها) أي من أجل وجع
في حافرها، يقال وجى الفرس بالكسر: إذا وجد وجعا في حافره، والضمائر في قوله أصابه إلى قوله يؤلمه إما
للفرس وإما لواحد من الفرس أو الدابة إلا ضمير يصيبه فإنه للحافر، وفى قوله أدنى شئ إشارة إلى فرط الصيانة
(قوله من فعل أو ترك) اعترض بأن صوابه وترك لأن ما يستحق به عام متناوم لهما معا. والجواب أنه مطلق
مفسر بأحدهما إلا أنه لوقوعه مع تفسيره بعد ما يتضمن نفيا أفاد استغراقا
أنه قيل لا يفعل ما يستحق به العقوبة من
119

فعل وترك (قوله واختلف في الصغائر) هل يعتبر اجتنابها في المنفى؟ فقيل نعم لأن فرط الصيانة يقتضى ذلك،
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم وآله " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مم به بأس " فحينئذ
يفسر المتقى بما ذكر. وقيل الصحيح أنه: أي المتقى لا يتناول الصغائر: أي لا يعتبر في مفهومه اجتنابها، وعلى هذا
يفسر بتفسير آخر، ويقال هو من يجتنب الكبائر ولا يقدح في ذلك أن الإصرار على الصغائر سلب العدالة فكيف
بالتقوى لأن الإصرار عليها كبيرة اتفاقا، وليس بداخل تحت التكفير فإن الاجتناب عنه داخل في الاجتناب عن
الكبائر. وقد يقال: الاختلاف في أن ما يستحق به العقوبة هل يتناول الصغائر أم لا؟ فمن قال يتناولها تشبث بأن
احتياجها إلى التكفير دل على كونها سببا لاستحقاق العقوبة، ومن قال لا يتناولها تشبث بأنه لما وقعت مكفرة
لم يظهر للاستحقاق بها أثر، فكأنه لا استحقاق فلا يندرج فيما يستحق به العقوبة عند الإطلاق (قوله وقيل يطلق)
ليس هذا قولا آخر مقابلا لما تقدم، بل هو نقل كلام يتضمن نوع بيان حال اسم المتقى ويشير إلى الفرق بينه وبين
اسم المؤمن إذا اشترط دخول الأعمال في الإيمان، وأما إذا لم يشترط الفرق أظهر من ذلك (قوله أو خبر مع
لا ريب فيه لذلك) أورد المعية في كون كل منهما خبرا له على حدة (قوله والعامل فيه معنى الإشارة) كأنه قيل
أشير إلى الكتاب حال كونه هاديا، فالعامل في الحال وصاحبها واحد لأن المنصوب المحل بالفعل المذكور هو
المجرور وحده على ما حقق، وهو بهذا الاعتبار وقع ذا حال، قال المصنف في قوله تعالى - هذا بعلى شيخا - العامل
في شيخا ما في حرف التنبيه أو اسم الإشارة من معنى الفعل، فاعترض عليه بلزوم اختلاف العامل لأن صاحب
الحال مفعول للابتداء، فأجاب بأن التقدير أنبه أو أشير إليه شيخا، فذو الحال هو ذلك الضمير المنصوب محلا
بالفعل الناصب للحال فاتحد العامل فيهما، وقصد بذلك التقدير إبراز معنى الفعل الذي يتضمنه حرف التنبيه أو
اسم الإشارة: أي معنى هذا بعلى أنبه على بعلى أو أشير إليه، ولم يرد أن هناك فعلا محذوفا كما ظن بعضهم.
واعترض بأن العامل في ليس ما فيها من معنى الفعل (قوهل أو الظرف) بالرفع أي العامل في الحال الظرف أعني فيه،
ويروى مجرورا أي معنى الظرف، وذو الحال هو الضمير المجرور لأنه مفعول معنى الضمير المستتر في الظرف
120

الراجع إلى الريب لفساد المعنى. وقيل الأول: أي كونه حالا من المجرور أيضا ليس بسديد من جهة المعنى، إلا
أن غرضه بيان وجوه الإعراب بحسب ما يحتمله ظاهر اللفظ وأنه باطل، إذ لا وجه لبيان محتملات الألفاظ مع
قطع النظر عن سداد المعنى، بل المراد أن العامل في الحال هو حاصل معنى الظرف، أعني انتفاء حصول الريب
كأنه قيل: لم يحصل فيه الريب حال كونه هاديا، على أنه قيد للنفي لا للمنفى حتى يرد أن القيد والمقيد متنافيان ظاهرا
وأن النفي حينئذ متوجه إلى القيد فيفسد المعنى (قوله والذي هو أرسخ عرفا في البلاغة) أي أدخل فيها وذلك لاشتماله
على ما هو مدار البلاغة ومنبعها من رعاية جانب المعنى وفخامته واعتبار الدلالات العقلية والروابط المعنوية، وفيما
عداه من الوجوه روعي جانب الألفاظ وارتباط بعضها ببعض ارتباطا صوريا مع سداد المعنى وصحته في الجملة
(قوله أن يضرب) أي يعرض عن هذه المحال يريد عن اعتبار مجموعها لا عن كل واحد منها، فإن بعضها أعني
كون ألم خبر مبتدأ محذوف، وكون ذلك مبتدأ خبره الكتاب، وكون هدى في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ
محذوف، وكون فيه خبر لا ريب مقرر على حاله في هذا الوجه المختار. وقوله صفحا إما ظرف: أي في صفح
وجانب، وإما مصدر: أي إعراضا. قال رحمه الله تعالى: في الكلام إشارة إلى أن الواجب على مفسر كلام الله
تعالى أن يلتفت لفن المعاني ويحافظ عليها ويجعل الألفاظ تبعا لها (قوله جملة برأسها) أي مع قطع النظر عما بعدها
(قوله مستقلة بنفسها) أي غير محتاجة إلى غيرها في إفادة ما أريد بها من الإيفاظ أو تقدمة الإعجاز فنزلت لذلك
منزلة جملة لا محل لها، فكان ذلك الكتاب جملة ثانية على هذا التقدير أيضا (قوله مفصل البلاغة) بالنصب: أي
جعل ترتيبها مصيبا إياه فالباء للتعدية وقد ترتفع على أنها للسببية والآلة (قوله هكذا) مفعول مطلق: أي هذا النوع
من التناسق (قوله وذلك) أي المجئ فيها غير متعاطفة (لمجيئها متآخية) متناسبة غاية التناسب، وقوله (آخذا بعضها
بعنق بعض) تأكيدا للتآخي وأقوى في الدلالة على كمال الاتصال مما تقدم من أخذ بعض الكلام بحجزة بعض (قوله
وهلم جرا) أي تعال على هينة وسهولة وهو من أمثال العرب، وأصله من الجر في السوق وهو أن تترك الإبل ترعى
في مسيرها، وجرا مصدر وقع حالا: أي جارا أو منجرا. وقيل منصوب على المصدرية لأن في هلم معنى جر وهم
معطوف على مقدر: أي فاحكم باتحاد الجملة الثانية بالأولى وهلم جرا إلى ما بعدها (قوله بيان ذلك) أي بيان
121

مجيئها متآخية متحدة كل لاحقة منها بسابقتها (قوله على أنه الكلام المتحدى به) أي على أن المنزل هو الكلام الذي
يحق أن يتحدى به وذلك على تقدير التعديد إيقاظا أو تقدمة ظاهر، وإما على تقدير العلمية فلما مر من أن التسمية
بهذه الألفاظ خاصة فيها إشعار بأن الفرقان ليس إلا كلمات عربية معروفة التركيب من مسمياتها. وقيل الإخبار عن
اسم الإشارة بأنه القرآن يقتضى ذلك (قوله المنعوت بغاية الكمال) أي في نظمه ومعناه بحيث لا يستحق غيره أن
يسمى كتابا، وفى ذلك تقرير وتحقيق لجهة التحدي وأنه الحقيق بأن يتحدى به (قوله وتسجيلا بكماله) أي حكما
مقطوعا بذلك، فيكون لا ريب فيه تأكيدا لذلك الكتاب، كما أن هدى للمتقين تأكيدا للأريب فيه، وكل
واحدة من هذه الجمل الثلاث مؤكدة ومقررة معنى ما اتصلت به لفظا فلا مجال للعاطف بينها. فإن قلت: إذا
كان ألم مفردات معددة لم يصح أن يعطف عليها جملة ذلك الكتاب وإن لم يؤكد ما أريد بها فلا فائدة لبيان التقرير
على هذا التقدير. قلت: فائدته الإشارة إلى أنه لو عبر عما أريد بها بجملة لم يصح العطف أيضا، وجعل صاحب
المفتاح لا ريب فيه تأكيدا لذلك الكتاب نفيا لتوهم المجازفة فيما بولغ فيه من وصف الكتاب بغاية الكمال حيث
جعل المبتدأ ذلك وعرف الخبر ثم قال " هدى للمتقين " تقريرا وتأكيدا لمجموع ذلك الكتاب لا ريب فيه وتحقيقه يعلم
من هناك (قوله ثم لم تخل) عطف على قوله قد أصيب، ومن قال هو عطف على جئ بها متناسقة فقد أصيب، وذلك
لأن جئ بها واقع في حيز تعليل إصابة مفصل البلاغة بترتيب تلك الجمل بعضها مع بعض وعدم خلو كل واحدة
في نفسها عن نكتة لا مدخل له في تلك الإصابة، وأيضا قوله (بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق) أي المعجب
(ونظمت هذا النظم السرى) أي الحسن، ينادى على فساد جعل عدم الخلو جزءا من علة إصابة الترتيب المفصل
وموجب حسن النظم، وأيضا إذا جعل جزءا من علتها فلا وجه للعطف بثم ولا فائدة للفظ بعد. وأما على الوجه
الذي ذكرناه فكأنه قيل: تلك الإصابة كافية في حسن الكلام وعلو درجته. ثم إن جاوزتها وطلبت وجها آخر
لزيادة حسنه ورونقه لاحظت عدم الخلو، فقوله بعد ليس ظرفا للخلو ولا لعدمه بل لما دل عليه سياق الكلام من
اعتبار عدم الخلو بعد اعتبار ذلك الترتيب. وقوله كل واحدة لشمول النفي: أي لم يجد واحدة منها خالية من
نكتة ذات جزالة بل اشتمل عليها كل منها (قوله ففي الأولى الحذف) أي حذف المبتدأ الذي هو هذه (الرمز إلى
الغرض) وهو أن المتحدى به معجز من الله تعالى (قوله ما في تقديم الريب على الظرف) وهو أنه يفيد نفى الريب
122

عنه بالكلية من غير تعرض لوجود ريب في غيره (قوله وإيراده منكرا) لأنه يدل على أن هدى لا يكتنه كنهه
(قوله إما موصول وإما منقطع) جعل المنصوب على المدح والمرفوع به موصولا كالصفة المجرورة يدل على أنهما
تابعان حقيقة وإن خرجا عن التبعية صورة، وجعل المستأنف منقطعا يدل على أنه ليس تابعا حقيقة كالمخصوص
بالمدح، وبيان ذلك أن الصفة إذا قطعت عن إعراب موصوفها مدحا أو ذما لم يتغير في المعنى ما قصد بها من إجرائها
على موصوفها. وأما المستأنف فقد قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما قبله وإن فهم ذلك ضمنا فليس هو جاريا
عليه في المعنى حقيقة بل كالجاري عليه كذلك لما سيجئ. قال أبو علي: إذا ذكرت صفات المدح أو الذم
وخولف في بعضها الإعراب فقد خولف للافتنان ويسمى نحو ذلك قطعا فقد صرح بأن الكل صفات وإنما سمى
قطعا نظرا إلى اللفظ فلا ينافي جعله موصولا نظرا إلى المعنى. فإن قلت: تغيير الإعراب نصبا أو رفعا من أي وجه
يدل على ما قصد به من مدح أو ذم أو غيرهما. قلت: من حيث إن تغير المألوف يدل على زيادة ترغيب في
إسماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه سيما مع التزام حذف الفعل أو المبتدأ، وذلك لما يقصد به مما يناسبه ويليق بالمقام
من المدح أو الذم أو نحو ذلك ويتعين بمعونة المقام. وذكر ابن مالك أنه التزم حذف الفعل في المنصوب إشعارا بأنه
لإنشاء المدح كالمنادى، وحذف المبتدأ في المرفوع إجراء للوجهين على سنن واحد (قوله أعني الذين أو هم الذين)
نشر لما تقدم (قوله حسنا غير تام) قد عرفت أن التام هو الوقف على مستقل يكون ما بعده أيضا مستقلا، وأن
الحسن هو الوقف على مستقل سواء استقل ما بعده أولا، وحيث كان المخصوص بالمدح تابعا حقيقة لم يكن مستقلا
كيف وقد نبهوا على شدة اتصاله وعدم استقلاله بالتزام حذف الفعل والمبتدأ ليكون في صورة متعلق بما قبله،
فالوقف على المتقين حينئذ حسن غير تام، ومن اشترط في ذلك أن يكون لما بعد الموقوف عليه تعلق إعرابي به.
قال: المخصوص وصف في المعنى لما قبله فكأنه تابع له في الإعراب (قوله كان وقفا تاما) لأن المستأنف كلام مفيد
مستقل وإن كان مرتبطا بما قبله ارتباطا معنويا مانعا لصلوحية أن يعطف عليه قوله - إن الذين كفروا - وسيأتيك
تحقيقه هناك (قوله ما هذه الصفة) أجمل في الاستفهام ثم فصل مبالغة وتنبيها على أن هذه الصفة لها شأن وأنها تحتمل
وجوها ههنا وقدم الكاشفة ترجيحا لها وإن كانت المخصصة أدور في الاستعمال، وغير الأسلوب في المادحة
بقوله أم جاءت لقلتها كما يقال في النحو، ويقد يجئ لمجرد الثناء ولذلك أشار إلى مثالها، وقوله (أواردة) خبر
123

مبتدأ محذوف على معنى أهي واردة، وقيل بدل من ما الاستفهامية وإنما تصح إذا جعلت ما خبرا مقدما إذ لو
كانت مبتدأ لم يجز أن تعطف أم جاءت على واردة فإن الفعل لا يعطف على ما هو بدل من المحكوم عليه، وبيانا،
إما مفعول له ليكون واردة بمعنى مورودة، وإما حال، ويؤيده أن قوله تفيد حال والضمير في فائدتها عائد إلى
الواردة بيانا كما تشعر به عبارة المفتاح أو إلى المتقين بتأويل الكلمة أو اللفظة، وهذا أولى لأن معنى قوله بيانا
وكشفا للمتقين أنها لا تفيد غير فائدة لفظ المتقين بل تفصل مفهوما، والذي يقابل ذلك أنها تفيد غير فائدتها،
وأيضا قوله فيما بعد وتكون صفة برأسها معناه أنها صفة مخصصة مفيدة غير ما أفاده موصوفها لا أنها مفيدة غير
فائدة الكشف كما قيل (قوله أم جاءت على سبيل المدح والثنا) قال رحمه الله تعالى: الفرق بين المدح صفة وبين
المدح اختصاصا من وجهين: الأول أن المقصود الأصلي من الأول إظهار كمال الممدوح والاستلذاذ بذكره،
وربما تضمن تخصيص بعض صفاته بالذكر إشارة إلى إنافتها على سائر الصفات المسكوت عنها، ومن الثاني إظهار
أن تلك الصفة أقوى باستقلال المدح من سائر الصفات الكمالية، إما مطلقا أو بحسب ذلك المقام حقيقة، أو ادعاء
الثاني أن الوصف في الأول أصلى والمدح تبع، وفى الثاني بالعكس (قوله تمجيدا) مفعول له إما على أنه فعل
للصفات مجازا وإما على أن الجارية يدل على معنى المجراة (قوله يحتمل أن ترد على طريق البيان والكشف) يعنى أن
المتقى في الشريعة كما مر من يقي نفسه ما يستحق به العقوبة من فعل سيئة أو ترك حسنة ومحصله أنه الذي يفعل
الحسنات ويترك السيئات، فحال المتقين مؤسسة على هذين الأمرين وهذه الصفة، أعني الذين يؤمنون بالغيب
الخ مشتملة عليهما، فهي كاشفة لموصوفها على وجه لطيف، وهو أنه عدل على تلك العبارة الجامعة إلى المنزل
لفوائد: الأولى: إن الحسنات أساسا وعمدة، وإن واحدة منها وهى الصلاة تستتبع ترك السيئات. الثانية: انقسام
الحسنات إلى قلبية وقالبية ومالية. الثالثة: التنبيه بترتيب ذكرها على تفاصيلها. الرابعة: أنه اقتصر من
القلبية بالإيمان ومن الآخرين بالصلاة والصدقة إيماء إلى أنها أصول وما عداها منطوى تحتها. وفى قوله أساس الحسنات ومنصبها:
أي الأصل الذي نصبت هي فيه. وقوله إما العبادات البدنية والمالية دلالة على تفضيل الإيمان عليهما من جهتين:
الأولى أنه أصل للحسنات كلها وهما لبعضها. الثانية أنه أساس لها لا توجد حسنة بدونه كما لا يوجد بناء دون أساسه
بخلاف الصلاة للعبادات البدنية والصدقة للمالية فإنهما ليستا شرطين لصحتهما وإن كانتا أصلين لهما فجعلتا بمنزلة
الأم إذ قد يستغنى عنها بعد الولاة (قوله وهما العيار) أي الشاهد يريد أن من أتى بهما كان آتيا بغيرهما ولم يقل
وهما العياران نظرا إلى أصله فإنه مصدر عايرت المكاييل والموازين إذا قايستها، ثم نقل إلى الآلة أعني ما يقايس به
ويعابر، ثم أطلق على الدليل الذي يعرف به صحة الشئ‌من فساده تشبيها له بتلك الآلة. فإن قلت: هما عيار على
البدنية والمالية فما الشاهد على حسنات القلب؟ قلت: الإيمان فإنه مع كونه أصلا للكل له مزيد مجانسة معها
(قوله عماد الدين) حيث قال في حديث طويل " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة " وقال " الصلاة عماد الدين، فمن
124

أقامها " الحديث، وإذا كان ترك الصلاة فاصلا بين الكفر والإسلام لقوله صلى الله عليه وآله " من تركها متعمدا
فقد كفر " كان الإتيان بها عمدة في الإسلام، وإذا كان ترك الزكاة سببا للوعيد مع الإشراك كان إيتاؤها عدة
صالحة في تحصيل النجاة وأما حديث " سنة الزكاة فطرة الإسلام " فقد ضعفه الصغاني (قوله بهذه المثابة) إشارة
إلى كون الصلاة عمادا وعمدة في الدين وكون الزكاة قنطرة وعمدة فيه (قوله كان من شأنهما) أي من شأن كل
واحدة منهما استجرار ما يجانسها ويناسبها مزيد مناسبة في البدنية والمالية، فاستدل بالأحاديث والآية الكريمة
على كونهما آمين مستتبعين لما عداهما ويلزم كونهما عيارا عليه، والمقصود إنما يتم به فلذلك قال ومن ثمة: أي ومن
أجل أنهما مستتبعان سائر العبادات، وأشار إلى كونهما عيارا بقوله كالعنوان وهو ظاهر الكتاب الذي يدل على
باطنه إجمالا (قوله والذي) عطف على ما هو وعدم توقف الأخوات في الاقتران راجع إلى أداء معنى الاستجرار
والاستتباع. وقوله (أن يقترن) صح مع الياء وتشديد النون بإدغام لام الكلمة في نون الضمير (قوله مع ما في
ذلك) أي في ذكر هاتين العبادتين وجعلهما دليلا فائدتان الاختصار والإفصاح عن فضلهما بأنهما أصلان يتبعهما
ما سواهما فلا يحتاج إلى ذكره معهما، وعلى هذا فسائر العبادات وترك السيئات مفهومة تبعا لا أنهما داخلان فيما
استعمل فيه اللفظ: وزعم بعضهم أن الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كناية عن فعل جميع الحسنات
وترك جميع السيئات، وعلى هذا تكون الطاعات بأسرها مذكورة بلفظ بعضها، فلا ينحصر المذكور فيما هو
عنوان لها وهو خلاف المتبادر من عبارة الكتاب، ولا حاجة إليه فإن المعاني المقصودة تبعا لم تستعمل فيها الألفاظ
وليست أجزاء لما استعملت هي فيها (قوله وأما الترك فكذلك) أي فقد انطوى فيما ذكر (قوله ويراد بالمتقين) قيل
هذا معنى لغوى لأن التقوى في اللغة هو الاحتراز. وقيل المراد ههنا احتراز خاص فلا يكون حقيقة لغوية.
وبالجملة لفظ المتقى يطلق على مجتنب المعاصي سواء أتى بالطاعات أولا، وعلى هذا فالصفة مخصصة لموصوفها دالة
على بعض أحواله الخارجة عنه كزيد العالم، واعترض بأن اجتناب المعاصي كلها مستلزم للإتيان بالطاعات. فإن
ترك الطاعة معصية لقوله تعالى - لا يعصون الله ما أمرهم - فلا تكون الصفة مخصصة. وأجيب بأنه أريد بالمعصية
ههنا ما تعلق به نهى صريح وترك المأمور به منهى عنه ضمنا وبأن المعصية فعل ما نهى عنه، والترك ليس بفعل فلا
125

يندرج فيها (قوله إظهار لإنافتها) أي لعلوها وزيادتها، وذلك لما مر من أن تخصيصها بالذكر في مقام المدح من
بين ما يشتم عليه هذا الاسم يدل على أنها أشرف مما عداها وأولى بأن يمدح بها، وليس ههنا ملاحظة استجلابها
لما سواها كما في الأول، فلذلك بالغ هناك بذكر الإفصاح والفضل، وأورد ههنا الإظهار والإنافة فتأمل.
والحاصل أن المتقى إن حمل على المعنى الشرعي فإن جعل خطابا لمن عرف تفصيله كانت الصفة ما دحة وإلا فكاشفة،
وإن حمل على مجتنب المعاصي كانت مخصصة. قال رحمه الله تعالى: وحيث كان الاستئناف أرجح عنده فلا فائدة
في الترجيح بين هذه الأقسام والتفريع عليها. واعلم أن المتقين إن حمل على المشارفين لم يحسن أن يجعل الذين
يؤمنون بالغيب صفة ولا مخصوصا بالمدح نصبا أو رفعا ولا استئنافا أيضا، لأن الضالين الصائرين إلى التقوى ليسوا
متصفين بشئ مما ذكر، وحمل الكل على الاستقبال والمشارفة يأباه مساق الكلام عند من له ذوق سليم، وهذا
ما وعدناك في ترجيح تأويل الهدى بالزيادة والثبات (قوله والإيمان أفعال من الأمن) يتعدى إلى مفعول واحد
تقول أمنته فإذا عدى بالهمزة يتعدى إلى مفعولين تقول آمننيه غيري ثم استعمل في التصديق فقيل مجازا لغويا،
وإليه أشار بقوله (وحقيقته) أي حقيقة آمن بمعنى صدق يعنى أن الإيمان حقيقة في جعل الشخص آمنا، ثم أطلق
على التصديق لاستلزامه إياه فإنك إذا صدقته فقد آمنته التكذيب. وقيل حقيقة لغوية كما يشعر به كلامه في
الأساس، وما ذكره من أن حقيقته كذا بيان للمعنى الحقيقي الأصلي الذي وضع اللفظ له أولا في اللغة، ثم وضع
ثانيا فيها لمعنى آخر يناسبه، وكذا دأبه في تحقيق الأوضاع الأصلية وبيان مناسبات المعاني اللغوية بعضها لبعض مع
كون اللفظ حقيقة لغوية في كل منها (قوله وأما تعديته) الإيمان بمعنى التصديق يتعدى بنفسه فإذا عدى بالباء
كان لتضمينه معنى الاعتراف والإقرار، فإنك إذا صدقت شيئا فقد اعترفت به. والتضمين أن يقصد بلفظ فعل
معناه الحقيقي ويلاحظ معه معنى فعل آخر يناسبه ويدل عليه بذكر شئ من متعلقاته كقولك: أحمد إليك فلانا
لاحظت فيه مع الحمد معنى الإنهاء ودللت عليه بذكر صلته، أعني إلى أي أنهى حمد إليك. وفائدة التضمين
إعطاء مجموع المعنيين، فالفعلان مقصودان معا قصدا وتبعا. قال المصنف: من شأنهم أنهم يضمنون الفعل معنى
فعل آخر فيجرونه مجراه، فيقولون هيجني شوقا معدى إلى مفعولين بنفسه وإن كان هو يتعدى إلى الثاني بإلى،
يقال هيجه إلى كذا لتضمنه معنى ذكر. وقال ابن جنى: لو جمعت تضمينات العرب لاجتمعت مجلدات. فإن
قلت: اللفظ إذا كان مستعملا في المعنيين معا كان جمعا بين الحقيقة والمجاز وإن كان مستعملا في أحدهما فلم
يقصد به الآخر فلا تضمين. قلت: هو مستعمل في معناه الحقيقي فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل
عليه ذكر ما هو من متعلقاته، فتارة يجعل المذكور أصلا في الكلام والمحذوف حالا كما في قوله تعالى - ولتكبروا
الله على ما هداكم - كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، وتارة يعكس فيجعل المحذوف أصلا
أي يعترفون به مؤمنين، وإلا لم يكن تضمينا بل مجازا عن الاعتراف. فإن قلت: إذا كان المعنى الآخر مدلولا
126

عليه بلفظ محذوف لم يكن في ضمن المذكور فكيف قيل إنه مضمن إياه؟ قلت: لما كان مناسبة المعنى للمذكور
بمعونة ذكر صلته قرينة على اعتباره جعل كأنه في ضمنه، ومن ثم كان جعله حالا وتبعا للمذكور أولى من عكسه
وقيل ذكر صلة المتروك يدل على أنه المقصود أصالة. ورد بأنه يدل على أنه مراد في الجملة إذ لولاه لم يكن مرادا أصلا.
وربما يقال أريد كلا المعنيين معا في التضمين بلفظ واحد على أنه كناية، إذ يراد بها معناها الأصلي ليتوسل بفهمه
إلى ما هو المقصود الأصلي الحقيقي، فلا حاجة إلى تقدير إلا لتصوير المعنى وإبرازه فينقلب الحال، وفيه ضعف
لأن المكنى به في الكناية قد لا يقصد ثبوته، وفى التضمين يجب أن يقصد ثبوت كل واحد من المضمن والمضمن
فيه. ولو قيل أريد بلفظ المذكور معناه قصدا وما يناسبه تبعا له وجعل ذكر صلته دليلا على أنه مقصود منه
كذلك فلا يكون اللفظ مستعملا إلا في معناه حقيقة ولم يكن هناك محذوف لم يكن بعيدا بل كان أقرب إلى مفهوم
التضمين (قوله وأما ما حكى أبو زيد) يريد أن الإيمان مستعمل بمعنى الوثوق مأخوذا من الأمن على أن الهمزة
للصيرورة فإن من وثق بشئ صار ذا أمن به، وفسر الأمن بالسكون والطمأنينة فإن الآمن يجدهما من نفسه كما
أن الخائف يجد قلقا واضطرابا. وأشار بقوله: حكى أبو زيد إلى قلة استعماله في هذا المعنى وكونه مجازا فيه كما
أشار إلى كثرة استعماله في التصديق بقوله ثم يقال، فيكون قوله فحقيقته صرت ذا أمن به مجرى على ظاهره،
والظرف أعني به مستقر صفة لأمن بخلاف به في قولك وثقت به فإن الباء صلة للوثوق. ولما ذكر أن الإيمان
بمعنى التصديق يتعدى بنفسه كان مظنة لأن يتردد في حال الباء التي تستعمل معه ففصله وحققه بقوله وأما تعديته،
ولما بين أن حقيقة الإيمان بذلك المعنى ما هي اقتضى أن يعقبه ببيان حقيقته بمعنى الوثوق (قوله ما آمنت أن أجد
صحابة) أي رفقا وهذا كلام يقوله من نوى سفرا ثم تأخر عنه لهذا العذر (قوله ويجوز أن لا يكون) عطف بحسب
المعنى على قوله وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب كأنه قال: ويحسن أن يكون بالغيب صلة للإيمان إما
أصالة أو تضمينا، ويجوز أن لا يكون صلة له (قوله وحقيقته ملتبسين بالغيب) يريد أن ما ذكره أولا حاصل معناه
وحقيقته هذا (قوله أن أصحاب عبد الله) قد مر أنه إذا أطلق يراد به ابن مسعود، فالأنسب أن يقال فقال عبد الله،
وكأنه أراد مزيد توضيح واحتراز عن تكرير اللفظ (قوله من إيمان بغيب) أي ملتبس بغيب عن المؤمن به وهو
إيمان من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله غائبا عنه ولم يره، ولما استشهد بالآية دل على أنها محمولة على هذا المعنى
(قوله فما المراد) تفريع على ما جوزه من كون الباء صلة وغير صلة عنده فإنه مما يحرك للسؤال عن معنى الغيب وأنه
127

هل يتحد فيها أو يختلف (قوله تسمى المطمئن من الأرض) يروى بفتح الهمزة على أنه مكان وبكسرها على أنه
صفة والتذكير باعتبار الموضع (قوله الخمصة) أراد بها الحفرة في موضع الكلية وأصلها الجوعة (قوله وإما أن
يكون) أي لأن يكون عطف على إما تسمية على معنى أن الغيب إذا جعل بمعنى الغائب، فإما لتسمية الفاعل
بالمصدر وإما لكونه فيعلا بمعنى الفاعل (قوله والمراد منه) أي من الغيب بمعنى الغائب سواء كان مصدرا أو مخففا
من فيعل (قوله ما أعلمناه) بفتح الميم: أي جعلنا اللطيف الخبير عالمين به وهو إشارة إلى الدليل السمعي، كما أن
قوله أو نصب لنا دليلا إشارة إلى الدليل العقلي. وقد يقال: أراد بالأول ما نص عليه نفسه، وبالثاني ما نصب عليه
دليلا عقليا أو سمعيا يتوصل منه إليه (قوله ولهذا) أي ولأن المراد بالغيب ما ذكر وإنما لم يجز الإطلاق في غيره تعالى
لأنه يتبادر منه تعلق علمه به ابتداء فيكون تناقضا. وأما إذا قيد وقيل أعلمه الله تعالى الغيب أو أطلعه عليه فلا
محذور فيه (قوله وذلك) أي وذلك الخفي (قوله وما يتعلق بها) أي بالثبوت كأحوال المعجزات فهو مع ما قبله
مثال لما نصب لنا عليه دليلا عقليا، وما بعده مثال لما أعلمناه بدليل نقلي، وقد فسر ما يتعلق بالنبوات بالشرائع
والأحكام فيتعلق بما بعده. والأولى أن يفسر بهما معا ويترك التخصيص في الأمثلة فإن بعض الصفات قد تعلم
بالسمع فقط (قوله وغير ذلك) أي من الصراط وتطاير الكتب والميزان ونظائرها (قوله وإن جعلته حالا) قيل
الفرق بين جعله صلة وجعله حالا أن الإيمان على الأول إما مضمن فيه معنى الاعتراف أو مجاز عن الوثوق
والغيبة في المعنى صفة للمؤمن به: أي يؤمنون بما هو غائب عنهم، وعلى الثاني بمعنى التصديق بلا تضمين، والغيبة
في المعنى صفة للمؤمن والمؤمن به محذوف للتعميم: أي يؤمنون حال الغيبة كما يؤمنون في الحضور لا كالذين نافقوا
(قوله ما الإيمان) سؤال عن الإيمان الشرعي إذ قد فرغ من بيان معناه اللغوي ولذلك قيده بالصحيح: أي المعتبر شرعا
128

فاحترز به عن إيمان الفاسق (قوله أن يعتقد الحق) أي يجزم به ويذعن له بقلبه وهذا هو المسمى بالتصديق الذي
اكتفى به الأشعري وأتباعه في الإيمان وجعلوا الإقرار منشأ لإجراء الأحكام، واعتبرت الحنفية معه الإقرار
وزادت المعتزلة العمل (قوله ومن أخل بالشهادة) أي من ترك الشهادة وما يقوم مقامها كالإشارة في الأخرس
مثلا عامدا متمكنا سواء كان معتقدا أولا فهو كافر: أي ما حض مجاهر بكفره، بخلاف المنافق فإنه خلط صورة
الإيمان بحقيقة الكفر. وأما الفاسق: أي مرتكب الكبيرة بلا توبة فله عندهم مرتبة بين المرتبتين، والسلف الصالحون
قد أطبقوا على أنه مؤمن كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فما نقل عنهم من أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار
باللسان وعمل بالأركان محمول على الإيمان الكامل (قوله ومعنى إقامة الصلاة) ذكر لإقامة الصلاة معاني أربعة،
فعلى الأولين يقيمون استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل (قوله من أقام العود) القيام في أصل اللغة هو
الانتصاب والإقامة أفعال منه والهمزة للتعدية فمعنى أقام الشئ جعله قائما: أي منتصبا. ثم قيل أقام العود: إذا
قومه: أي سواه وأزال اعوجاجه فصار قويما يشبه القائم، ثم استعيرت الإقامة من تسوية الأجسام فإنه حقيقة فيها
لتسوية المعاني كتعديل أركان الصلاة على ما هو حقها لا من تحصيل هيئة القيام فيها مراعاة لزيادة المناسبة بين المعاني
(قوله من قامت السوق) نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن الحال والظهور التام فاستعمل القيام فيه
والإقامة في إنفاقها: أي جعلها نافقة، ثم استعيرت منه للمداومة على الشئ فإن كلا منهما يجعل متعلقه مرغوبا
إليه متنافسا فيه. واعترض بأن هذه المشابهة خفية جدا، وأيضا الأصل أعني أقام السوق مجاز فالتجوز منه
129

ضعيف. وأجيب عن الأول بأنه مجاز مرسل لعلاقة اللزوم، فإن الانفاق يستلزم المداومة عادة. ورد بأن الإنفاق
لا يلزم المداومة ولا يستلزمها أيضا، هو خلاف كلام المصنف. وعن الثاني بأنه صار بمنزلة الحقيقة (قوله
أقامت غزالة) هي اسم امرأة شبيب الخارجي لما قتل الحجاج زوجها حاربته سنة كاملة (سوق الضراب) أي
سوق المضاربة بالسيوف على التخييل أو التشبيه (والعراقان) الكوفة والبصرة (والقميط) كناية عن التمام كأنه
شد بالقماط وعزل جانبا (قوله قام بالأمر) يقال قام بالأمر إذا اجتهد في تحصيله وتجلد فيه بلا توان وحقيقته قام
ملتبسا بالأمر، والقيام له يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التجلد والتشمر، فأطلق القيام على لازمه، ومنه قامت
الحرب على ساقها إذا التحمت واشتدت كأنها قامت وتشمرت لسلب الأرواح ولتخريب الأبدان. واعترض
بأن الإقامة إذا كانت مأخوذة من ذلك كان معناها على قياس التعدية جعل الصلاة متجلدة متشمرة لا كون المصلى
مشمرا في أدائها بلا فتور عنها كما ذكره، وأيضا لا يصح ذلك المعنى إلا إذا وصفت الصلاة بما هو لفاعلها على
قياس باب جد جده ولا يخفى بعده. لا يقال: الباء في قام بالأمر للتعدية فالمستعمل بمعنى التجلد والاجتهاد هو
الإقامة في الحقيقة. لأنا نقول: هي للملابسة كما أشرنا إليه يدل عليه قولهم تقاعد عن الأمر في ضده وأن القيام
يناسب التشمير لا الإقامة، كما أن القعود يلائم الكسل لا الإقعاد (قوله لأن القيام بعض أركانها) إن أراد أن القيام
يطلق على الصلاة لكونه بعض أركانها، ثم توجد منه الإقامة، ورد عليه أن الهمزة إن جعلت للتعدية كان معناها
جعل الصلاة مصلية إن كانت الصلاة مفعولا به أو جعل نفسه مصليا إن كانت مفعولا مطلقا. وإن جعلت
للصيرورة كان معنى أقام صار ذا صلاة، فلا يصح ذكر الصلاة معه إلا يجعلها مفعولا مطلقا. والكل بعيد. وإن
أراد أن القيام لما كان ركنا منها كانت الإقامة التي هي فعله ركنا لها أيضا اتجه عليه أن الركن فعل القيام في المصلى
بمعنى تحصيل هيئة القيام فيه حال الصلاة لا تحصيلها في الصلاة وجعلها قائمة. فإن تجوز عن هذا المعنى كان
يقيمون وحده بمعنى يصلون فتكون الصلاة مفعولا مطلقا وهو مستبعد. لا يقال: أراد أن القيام لما كان جزءا منها
كان إيجاده: أي الإقامة جزأ من إيجادها الذي هو أداؤها، لأن إيجاد الجزء جزء لإيجاد الكل جاز أن يعبر عنه
بها، لأنا نقول: المحذور لازم، فإن معنى يقيمون حينئذ يؤدون الصلاة، فيحتاج في ذكر الصلاة معه إلى تأويل
بعيد. قال رحمه الله تعالى: الإقامة قد تستعمل بمعنى جعل الشئ قائما في الخارج: أي حاصلا فيه، فإن القيام
بمعنى الحصول سائغ الاستعمال منه القيوم فإنه القائم بنفسه المقيم لغيره. ومنه القوام وهو ما يقام به الشئ: أي
130

يحصل ومنه وأقيموا الصلاة من الإقامة بهذا المعنى: أي حصلوها وائتوا بها على الوجه المجزى شرعا وهو معنى
الأداء وما نحن فيه، أعني يقيمون الصلاة لما كان في معرض المدح بلا دلالة على إيجاب كان حمله على تعديل
أركانها كما ذكره المصنف أولى فإنه المناسب لترتيب الهدى الكامل والفلاح الشامل، ومن جعله بمعنى يؤدون
الصلاة فوجهه ما لخصناه لا ما ذهب إليه المصنف. وأما المعنيان الأخيران أعني المداومة والتجلد فلا يخلو وجه
تخريجهما عن خدشة (قوله لوجود التسبيح) أي إذا جاز التعبير عن الصلاة بالتسبيح لوجوده فيها وإن لم يكن ركنا
منها فلأن يعبر عنها بما هو ركن لها أولى (قوله على لفظ المفخم) التفخيم ههنا إمالة الألف نحو مخرج الواو لا ما هو
ضد الإمالة أو ضد الترقيق (قوله وحقيقة صلى) يريد أن صلى مأخوذ من الصلاة على معنى حرك الصلوين وهما
العظمان الناتئات في أعلى الفخذين، يقال ضرب الفرس صلويه بذنبه: أي ما عن يمينه وشماله، ثم استعمل بمعنى
فعل الهيأت المخصوصة مجازا لغويا لأن المصلى يحرك صلويه في ركوعه وسجوده. ثم استعيرت منه للدعاء تشبيها
للداعي بالمصلى في خضوعه وخشوعه. وفيه ضعف من وجهين: الأول أن الاشتقاق مما ليس بحدث قليل. الثاني
أن الصلاة بمعنى الدعاء سائغ في أشعار الجاهلية، ولم يرو عنهم إطلاقها على ذات الأركان بل ما كانوا يعرفونها
فأنى لهم التجوز عنها. فالأولى ما ذهب إليه الجمهور من أن الصلاة حقيقة في الدعاء مجاز لغوى في الهيئات المخصوصة
المشتملة عليه، وفى هذا المقام كلام مشهور في أصول الفقه. فإن قلت: إذا ثبت صلى بمعنى تحريك العضوين
كان الأنسب أن يؤخذ منه لفظ الصلاة بمعنى الهيئة ثم يشتق منها صلى بمعنى أحدثها فلم عكس المصنف؟ قلت:
لأن المناسبة بين تحريك العضو وإحداث الهيئة أقوى منها بين تحريكه ونفس الهيئة، ولذلك أيضا جعل الزكاة من
زكى الشرعي المأخوذ من زكى اللغوي على أن قوله الصلاة من صلى قد يراد به أنها من جنسه: أي أنهما قد
يتلاقيان في الاشتقاق بلا تعيين للمشتق منه فجاز أن يكون صلى مشتقا منها (قوله كفر اليهودي) أي حرك
الكافرتين وهما الأليتان، وأما الكاذتان فهما اللحمتان المكتنزتان بين الورك والفخذ في أعلى الفخذين في موضع
الكي من جاعرتي الحمار. وقيل الكافرة لحم ظاهر العجز أسفل من الجاعرة ويقرب منه ما قاله الجوهري من أن
الكاذة ما نتأ من اللحم في أعلى الفخذ، والمصنف لم يفرق بين الكاذتين والكافرتين ولا بعد فيه لعلاقة الجزئية.
قال رحمه الله تعالى: استعمال التكفير في الخضوع والانقياد مشهور، قال جرير * فضعوا السلاح وكفروا تكفيرا *
أي اخضعوا وانقادوا، وفى الحديث " فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان " أي تذل وتفزع بالطاعة، فالأوضح أن
يشتق من الكفر من باب قردت البعين فهو بمعنى إزالته لأن الخضوع باب من الشكر، أو من الكفر بمعنى الستر
131

فإنه يستر مقابحه عند من خضع له (قوله وإسناد الرزق) لا خلاف بين الجماعة والمعتزلة في أن المراد بما رزقناهم
هو الحلال، إلا أن الجماعة لما سموا الحرام رزقا وأسندوا الأشياء كلها إلى الله تعالى تمسكوا في ذلك بأن المدح إنما
يكون بالإنفاق من الحلال وبأن الاتصاف بالتقوى يقتضيه أيضا، وبأن الإسناد إلى الله تعالى عند الإطلاق منصرف
إلى ما هو أفضل وأكمل. وأما المعتزلة فلا يسمون الحرام رزقا لأنه ليس برزق لغة، ولا يجوزون إسناده إلى الله
تعالى لتعاليه عن القبائح، فلفظ الرزق وإسناده إلى الله تعالى دليلان لهم على أن المنفق ههنا هو الحلال الطلق: أي
الخالص الطيب. والمصنف تمسك بالإسناد فقط نظرا إلى أن الرزق لغة يتناول الحرام أيضا وتخصيصه بما عداه
عندهم عرف شرعي، ولهذا قال يسمى رزقا منه، وربما يقال بنى الكلام على الفرض: أي لو فرض أنه يسمى
رزقا شرعا أو لغة فالإسناد إلى الله تعالى يخرجه قطعا. واعلم أن الرزق لغة هو إخراج حظ إلى آخر لينتفع به، ثم
شاع استعماله عرفا وشرعا على إعطاء الله تعالى الحيوان ما ينتفع به ويستعمل بمعنى المرزوق، فتارة يراد به ما أعطاه
الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه، وبهذا المعنى يمكن أن ينفق بعضه أو كله، وأخرى يراد به ما هو لقوامه
وبقائه خاصة فلا يتصور فيه إنفاق على غيره (قوله وكفا) عطف تفسيري لقوله صيانة قد يتوهم أن الكف للباقين
والصيانة للماضين، أو الكف في الاستقبال والصيانة في الماضي: أي أدخل من التبعيضية للدلالة على كونهم
مصونين عن رذيلة الإسراف (قوله وقدم مفعول الفعل) سمى الجار والمجرور مفعول الفعل على الإطلاق تنبيها على
أنه مفعول به في المعنى: أي بعض ما رزقناهم ينفقون، ولذلك قال: ويخصون بعض المال الحلال. وأما بحسب
اللفظ فيقدر هنالك موصوف: أي شيئا مما رزقناهم، وأما كونه أهم فلقصد معنى الاختصاص مع رعاية
الفاصلة. فإن قلت: إدخال من التبعيضية يغنى عن التقديم للتخصيص، فإن إنفاق البعض يتبادر منه عدم الشمول
ومن ثم كان فيه صيانة وكف. قلت: قد يجوز معه الشمول على أنه محتمل مرجوح، فإذا قدم زال احتماله
بالكلية، يدلك على ذلك تأملك في الفرق بين قولك أنفق زيد بعض ماله، وقولك بعض ماله أنفق (قوله وجائز
أن يراد به) أي ببعض المال الذي خص بالتصدق أو بقوله مما رزقناهم (قوله بأخت الزكاة وشقيقتها) أي من
132

حيث أنهما أمان لسائر العبادات البدنية والمالية، ومن حيث أنهما يذكران في القرآن معا نحو - أقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة -. وأما قولهم باب الصلاة وباب الزكاة وفلان يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة فمتفرع على استعمال القرآن فلا
يستشهد به ههنا. فإن قلت: تخصيص الزكاة بالإنفاق نفى لما يقابلها من التطوع وصدقة الفطر والمقام يأباه.
قلت: لما عبر عنها ببعض ما رزقنا كانت بهذا الاعتبار مقابلة لجميع المال، فالنفي موجه نحوه حفظا عن منقصة
التبذير (قوله لمجيئه) أي اللفظ وهو مما رزقناهم مطلقا: أي غير مقيد بما يعين الزكاة وغيرها، وقوله يصلح صفة
لمطلقا، وقد مر وجه الصلوح غير مرة. فإن قلت: الاقتران بالصلاة قرينة للزكاة. قلت: مقام المدح قرينة
لقصد الإطلاق والعموم (قوله أخوان) أي بينهما الاشتقاق الأكبر لاشتراكهما في أصل المعنى، وأكثر
الحروف الأصول مع التوافق في الباقي (ويعقوب) حيث أطلق في كتب اللغة يريد به ابن السكيت صاحب
إصلاح المنطق (قوله مم فاؤه نون وعينه فاء) نحو نفر ونفى ونفد ونفع ونفض ونفث وأمثالها (قوله كما يوسط
بين الصفات) أشار بتكرير الأمثلة لتوسط العاطف بين الصفات أن عطف بعض الصفات على بعض كثير في
الكلام بناء على تغاير المفهومات وإن كانت متحدة في الذات، وقد يكون بالواو وقد يكون بغيرها على ما يقصد
فيها من معاني الحروف العاطفة (القرم) هو السيد وأصله الفحل المكرم الذي لا يحمل عليه (والهمام) هو العظيم
الهمة وهو من أسماء الملوك (وليث الكتيبة) أي الجيش مؤول بمعنى الصفة (والمزدحم) موضع الازدحام وهو
المعركة (قوله يا لهف زيابة) هو من الحماسة والشعر لابن زيابة أي يا حسرة أبى من أجل الحرث فيما حصل له من
مراده واتصف به من الأوصاف المتعاقبة قيل تهكم به، لأن الحرث توعد ابن زيابة بالقتل ثم نكص عن جزائه.
وقيل هو على ظاهره. والصابح هو المغير صباحا وعطف عليه بالفاء نظرا إلى الترتيب في الاتصاف: أي الذي
صبح فغنم فآب سالما وبعده:
والله لو لاقيته وحده * لآب سيفانا مع الغالب
أراد معي لكنه التفت ادعاء لظهور أن الغلبة له، وقد يغلط فيه فيقال زيابة هو الشاعر يتلهف لأجل الحرث وسلبه،
133

أو زيابة اسم أبى المهجو أو الممدوح والحرث اسمه (قوله وأضرابه) أي أمثاله، قال المصنف: أكثر الناس على أن
جمع ضرب بفتح الضاد، وعندي بكسرها فعل بمعنى مفعول كالطحن وهو الذي يضرب به المثل، ولابد أن
يكون المضروب به مثلا مماثلا للمضروب فيه ويعضده مثله وشبه (قوله من الذين آمنوا) أي بالقرآن من أهل
الكتاب، فإن جعل متعلقا بجميع المعطوف والمعطوف عليه كانت من بيانية، وإن خص بالمعطوف كانت
تبعيضية، والأول أوقع في المعنى (قوله فاشتمل) عطف على آمنوا: أي الذين آمنوا منهم بالقرآن مع كونهم
مؤمنين بكتابهم اشتمل إيمانهم بذلك (على كل وحى) سابق ولا حق بصفة الإنفراد: أي آمنوا بكل على انفراده
استقلالا لاتبعا، كالذين آمنوا من غيرهم فإن إيمانهم بالكتب السابقة في ضمن إيمانهم بالقرآن (وأيقنوا) عطف
على آمنوا، وفى قوله آمنوا وأيقنوا إيذان بأنهما الأصل، وإنما عدل في النظم إلى المضارع للاستمرار، وكذا
الحال في يؤمنون ويقيمون وينفقون إن حمل لفظ المتقين على الحقيقة (قوله إيقانا زال معه ما كانوا عليه) قيد
الإيقان بوصف يخصصه بهم كما أشار إلى اختصاص الإيمان أيضا ليظهر بذلك كله وجه حمل الكلام على مؤمني
أهل الكتاب (قوله واجتماعهم) يروى مجرورا عطفا على ما بعد من في قوله من أنه لا يدخل الجنة، ومرفوعا عطفا
على ما كانوا، وقوله ثم افتراقهم بالجر والرفع عطف على اجتماعهم، والمعنى: زال عنهم اجتماعهم المستعقب
للافتراق، فالزوال متوجه نحو القيد الذي هو استعقاب الافتراق: أي صاروا مجتمعين متفقين على الإعادة وجريان
التلذذ على طريقة الحياة الدنيا، وإنما ذكر الاجتماع مع أنه لم يزل تنبيها على استبعاد ذلك الافتراق بعد الاجتماع على
إعادة الأرواح إلى الأجساد، ولذلك فسر النشأة الآخرة بإعادة الأرواح إلى الأجساد وقال (ودفعه آخرون
فزعموا) قال الفاضل اليمنى: أشار أولا إلى زوال ما كانوا عليه من محض الباطل، وثانيا إلى زوال خلطهم الحق
بالباطل أعني الاجتماع بما بعده (قوله واختلافهم) عطف على اجتماعهم في وجهيه لا على ما بعد ثم، وإلا فات
المقصود: أعني النصوصية على زوال الاختلاف، فإن انتفاء الاجتماع المستعقب للافتراق في الكيفية والاختلاف
في الكمية ربما كان بزوال أحدهما دون الآخر، ولا ضرورة في جعله قيدا للاجتماع كما في الافتراق، وقد يقال
الافتراق المذكور مستبعد جدا بعد ذلك الاجتماع دون الاختلاف فلا يحسن إدراجه في حيز الاستبعاد. وأيضا
الافتراق ضد الاجتماع فيحسن إيراد ثم بينهما، وليس الاختلاف كذلك (والأرواح) جمع ريح فإن أصله واو
134

يقال عبق به الطيب بالكسر: إذا لصق به ولزمه (قوله فيكون) عطف على أن يراد (قوله ويحتمل أن يراد وصف
الأولين) فإن قلت: الإيمان بالكتب المنزلة يندرج تحت الإيمان بالغيب فلم خص بالذكر؟ قلت:: للاعتناء
بشأنه كأنه العمدة. فإن قلت: لم أعيد الموصول ولم يكتف بعطف الصلات؟ قلت: للدلالة على استقلال هذه
الصفات واستدعائها أن يذكر معها موصوفها كأن الموصوف بها مغاير للموصوف بما تقدم. وأما فائدة العطف
بين الموصولات مع اتحاد الذات فما أشار إليه من معنى الجمع بين تلك الصفات، وهذه كما في العطف بالواو في
سائر الصفات. قال رحمه الله تعالى: هذا الاحتمال أرجح من الأول لأن الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وآله
وما أنزل من قبله مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب. فإن قلت: إيمان غيرهم
بما أنزل من قبله في ضمن إيمانهم بما أنزل إليه، وقد أفرد بالذكر في الآية فدل على الإيمان بكل واحد منهما
استقلالا وذلك مختص بهم. قلت: لا دلالة للإفراد على الاسقتلال. ألا ترى إلى قوله تعالى - قولوا آمنا بالله وما
أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم - الآية، كيف أفرد بالذكر فيه الكتب المنزلة من قبل وأمر بالإيمان بها والإقرار به
ولم يقصد الإيمان بها على الانفراد. وأيضا ما ذكره في تقديم بالآخرة وبناء يوقنون على هم إنما يقع موقعه إذا عم
المؤمنين وإلا لأوهم نفيه عن الطائفة الأولى. وأيضا أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين يجمع ما أنزل من قبل استقلالا
فإن اليهود ما آمنوا بالإنجيل، وأجيب من ذلك بأن اشتمال إيمانهم على كل وحى بالنظر إلى المجموع بمعنى أن إيمان
اليهود اشتمل على القرآن والتوراة، وإيمان النصارى على القرآن والإنجيل، وهو ضعيف لأن المفهوم المتبادر من
أمثال هذه المواضع ثبوت الحكم لكل واحد لا للمجموع من حيث هو هذا، والحمل على بعض المنزل يخالف
الظاهر ويوجب فك النظم. وأيضا الصفات السابقة ثابتة لمؤمني أهل الكتاب فتخصيصها بمن عداهم تحكم وجعل
الكلام من عطف الخاص على العام لا يلائم المقام. وأما ما يقال من أن الأصل في العطف المغايرة بالذات فتفصيله أن
أداة العطف إن توسطت بين الذوات اقتضت تغايرا بالذات وإن توسطت بين الصفات اقتضت تغايرا في المفهوم،
وكذلك الحكم في التأكيد والبدل ونحوهما. وإن وقعت فيما يحتملهما احتمالا على سواء كان الحمل على التغاير
بالذات أولى فلا يحكم في مثل زيد عالم وعاقل بأن الحمل على تغاير الذات أظهر. وقد ترجح ههنا الصفة لأن
وضع الذي ليكون صفة مع أن ما تقدم من الوجوه يشهد لها (قوله وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين)
وكان المعنى للترجيح على تقسيم المتقين إليهما، وهذا العطف صحيح سواء جعل " الذين يؤمنون بالغيب " موصولا بما
قبله أو منقطعا عنه، وأما العطف على المتقين فإنما يصح على تقدير الوصل فقط. قال رحمه الله: والأول
أرجح، إذ لا وجه لإخراجهم عن المتقين مع اتصافهم بالتقوى، إلا أن يراد المشارفون فيتعين العطف على
135

المتقين لبعد الحمل على المشارفة في المعطوف، وإذا اتحد الموصولان ذاتا فإن جعل الموصول الأول استئنافا وجب
أن يعطف الثاني عليه، وإن جعل صفة أو مدحا كان ذلك أولى إلا أن الكشف قدتم بالمعطوف عليه فليتأمل (قوله
واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب) لم يرد أن الإيمان بتفاصيل المترقب واجب حال كونه مترقبا،
فإن ذلك إنما يكون عند نزوله وتحققه، بل أراد وجوب الإيمان بأن كل ما سينزل فهو حق، ولا خفاء في أنهم
إذا وصفوا بالإيمان بما يجب أن يؤمن به وجب أن يشار إلى اشتمال إيمانهم على كله (قوله المراد المنزل كله) وذلك
لأنه المطابق لمقتضى الحال، ولما تبين في السؤال وهو المناسب لما سيأتي من ترتيب الهدى الكامل والفلاح الشامل،
ويؤيده أيضا أن ما أنزل إليك قوبل بما أنزل من قبلك، وإنما يقابل مجموع ما أنزل إليه لا بعضه، وكذا قوله تعالى
- يؤمنون - فإنه بدلالته على الاستمرار يدل على عدم الاقتصار على ما تحقق نزوله في الماضي كأنه قال: يجددون
الإيمان شيئا فشيئا على حسب تجدد الإنزال. وأما التعبير عن الماضي والمترقب بصيغة الماضي فله وجهان: أحدهما
تغليب ما وجد نزوله على مالم يوجد. الثاني تشبيه مجموع المنزل بما نزل في تحقق النزول، وذلك لأن بعضه نازل
وبعضه منتظر سينزل قطعا. وقد أورد على الوجهين لزوم الجميع بين الحقيقة والمجاز إذ ليس هناك معنى ثالث
يعمهما معا حتى يعد من عموم المجاز. وأجيب بأن الجمع إنما يلزم إذا كان كل واحد منهما مرادا باللفظ وههنا
أريد به معنى واحد تركب من المعنى الحقيقي والمجازى، ولم يستعمل اللفظ في واحد منهما بل في المجموع مجازا،
ولا يلزم جريان ذلك في جميع المعاني الحقيقية والمجازية لجواز أن لا يكون هناك ارتباط يجعلهما معنى واحدا عرفا
يقصد إليه بإرادة واحدة في استعمالات الألفاظ (قوله ويدل عليه) أي على ما ذكر من الوجهين فإن المراد بقوله
كتابا هو المجموع لأنه المتبادر عند الإطلاق خصوصا إذا قيد بكونه منزلا من بعد كتاب موسى لا بعضه. ولا
القدر المشترك بينه وبين كله، وقد عبر عن إنزاله بلفظ الماضي مع أن بعضه كان حينئذ مترقبا فوجب أن يؤول
بأحد التأويلين. وأما قوله سمعنا فالظاهر فيه تغليب المسموع على ما لم يسمع في إيقاع السماع عليه. ولما ذكر أن
المراد بما أنزل إليك هو المنزل كله وبين وجهه واستشهد في ذلك بما ورد في التنزيل مما هو أظهر منه في الحمل على
الكل واستدعاء التأويل أورد له تفسيرا مما يتعارفه أهل اللغة ولا يشتبه على أحد تناوله للماضي والآتي معا، إلا أن
حمله على التغليب أولى من حمله على التشبيه في التحقيق، هذا وقد اعترض على قوله أنا وأنت فعلنا فإن الضمير في
136

في فعلنا موضوع للمتكلم مع غيره وقد استعمل في معناه فلا تغليب. وأجيب بأن ذلك إذا لم يعبر عن غيره بطريق
الخطاب أو الغيبة. وأما إذا عبر عنه بأحدها فحقه إن يجرى على تلك الطريقة لا أن يجعل تابعا للمتكلم، وقوله
ولأنه معطوف على تغليبا والضمير راجع إلى المنزل كله وكذلك المستتر في جعل. وأما المجرور في نظيره فعائد إلى
ما أنزل. وقوله لكونه معقودا تعلل لعدم إرادة الماضي فقط وإشارة إلى أن المترقب ارتبط بالماضي بحيث صار
معنى واحدا تعلق به الفعل المذكور كما أو مأنا إليه (قوله وفى تقديم الآخرة) يريد أن هناك تقديمين: الأول تقديم
الظرف الذي هو بالآخرة ويفيد تخصيص إيقانهم بالآخرة: أي إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى
خلاف حقيقتها، وفى ذلك تعريض بأن ما عليه مقابلوهم ليس من حقيقة الآخرة في شئ، كأنه قال: يوقنون
بالآخرة لا بغيرها كأهل الكتاب. الثاني تقديم المسند إلى، أعني الضمير الذي بنى عليه الفعل، ويفيد أيضا أن
اختصاص الإيقان بالآخرة مقصور عليهم لا يتجاوزهم إلى الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب. وفيه تعريض بأن
اعتقادهم الذي يزعمون أنه إيقان بالآخرة ليس إيقانا أصلا بل هو جهل محض، كما أن معتقدهم خيال باطل، وإنما
الايقان ما عليه المؤمنون، كما أن الآخرة هي التي يعتقدونها، فقوله بأهل الكتاب توطئة لما بعده، أعني بما
كانوا، وإن قولهم عطف عليه على طريقة قولك أعجبني زيد وكرمه، والكلام على النشر المرتب: أي في تقديم
الآخرة تعريض بما كانوا عليه وفى بناء يوقنون على هم تعريض بأن قولهم ليس بصادر (قوله وأن اليقين)
معطوف على أن قولهم وتتمة له باعتبار ما يفيده من نفى اليقين عما عليه أهل الكتاب، وبهذا الاعتبار صح وقوع
مجموع المعطوف والمعطوف عليه معمولا للتعريض. وأما إثبات اليقين بما عليه من آمن فمصرح به، ومن ثمة توهم
أنه معطوف على تعريض أي وفى بناء يوقنون تعريض بأن قولهم وتصريح بأن اليقين. ورد بأن البناء لا مدخل له
في ذلك التصريح إذ لو قيل يوقنون لكان التصريح باقيا على حاله (قوله بانتفاء الشك والشبهة) قيل أراد أن العلم
الذي من شأنه أن يتطرق إليه الشك والشبهة إذا انتفيا عنه كان إيقانا، ولذلك لا يوصف هب العلم القديم ولا
الضروري، فلا يقال تيقنت أن الكل أعظم من الجزء (قوله الذي هو نقيض الأول) صفة كاشفة: أي الآخر
الذي معناه الأخير المقابل للأول، وهو اسم فاعل من أخر بمعنى تأخر، إلا أنه لم يستعمل، وكذلك الآخر بفتح
الخاء أفعل تفضيل منه (قوله من الصفات الغالبة) قال المصنف رحمه الله: الغلبة قد تكون في الأسماء كالبيت على
137

الكعبة والكتاب على كتاب سيبويه، وفى الصفات كالرحمن والرب من دون إضافة على الله تعالى، وفى المعاني
كالخوض على الشروع في الباطل خاصة، والآخرة صفة غالبة على تلك الدار والدنيا على هذه، ثم إنهما مع
كونهما من الصفات الغالبة قد جريا مجرى الأسماء، إذ قد غلب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما كأنهما ليسا من
الصفات (قوله لحب) يروى بفتح الحاء وضمها وأصله حبب على وزن شرف: أي صار محبوبا فأدغم الباء
بالإسكان أو بنقل ضمها إلى الحاء، يقال حب إلى فلان وبفلان على زيادة الباء: أي ما أحبه إلى، واللام جواب
قسم محذوف، ولم يؤت بقد مع أنه ماض مثبت لإجرائه مجرى فعل المدح كقولك: والله لنعم الرجل زيد (قوله
المؤقدان) أراد إيقاد نار القرى فإنه المتبادر في استعمالات العرب خصوصا في مقام المدح، وصفهما بالكرم
وكنى عنه بإيقاد النار وبالاشتهار به وكنى عنه بإضاءة الوقود، وقد صحح الوقود ههنا بضم الواو وهو مصدر،
وأما بفتحها فهو اسم لما يتوقد به، والشعر لجرير على ما في الحواشي ومؤسى وجعدة ابناه، وقيل لأبى حية
النميري. قال الفاضلي اليمنى: روى عن سيبويه قلب الواو همزة في المؤقدان ومؤسى (قوله الجملة في محل الرفع)
هذا مذكور فيما تقدم، وإنما كرره ليربط به قوله وإلا فلا محل لها: أي وإن لم يكن الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ
بل موصولا بالمتقين صفة أو مدحا منصوبا أو مرفوعا فلا محل لتلك الجملة، يعنى على ما سبق من جعل والذين
يوقنون معطوفا على المتقين أو على الذين يؤمنون بالغيب وأما إذا أجرى الموصول الأول على المتقين وجعل الثاني
مرفوعا على الابتداء مخبرا عنه بأولئك فلها محل أيضا كما سيأتي. قال رحمه الله تعالى: وفى هذا الإطلاق تعريض
بأن الوجه الآتي مرجوح كما سينكشف لك عن قريب (قوله إذا نويت) استعمل في هذا الوجه إذا وفيما يقابله أن
إشعارا برجحانه وأن الثاني مجرد احتمال، وذلك أن السؤال والجواب على الأول يقعان على ما ينبغي، فإنه إذا قيل
هدى للمتقين فدل باللام الجارة على اختصاصهم بكون الكتاب هدى لهم اتجه أن يقال ما بال المتقين مخصوصين
بذلك وهل هم أحقاء به، فمآل السؤال إلى كونهم مستحقين لما ثبت لهم من الاختصاص، والجواب مشتمل على
هذا الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه بذكر صفات مختصة بهم استحقوا بها اختصاص الهدى، وزيد فيه ضم
نتيجة الهدى إليه وهى الفلاح تقوية للمبالغة التي تضمنها قوله هدى وسلوكا للأسلوب الحكيم. وأما على الثاني فلا
وجه للسؤال لأن الأوصاف التي أجريت عليهم مقتضية لذلك الاختصاص اقتضاء ظاهرا، لكن السائل قد غفل
عن اقتضائها فسأل، ولذلك أجاب بإعادة الدعوى بعينها تنبيها على أن التأمل فيها يغنيه عن مؤنة السؤال، لكن
138

غير وجه النسبة بين الهدى والمتقين، وزيد التصريح بالنتيجة احترازا عن بشاعة التكرار (قوله فوقع) عطف على
اتجه وإنما قال: كأنه جواب إذ ليس هناك سؤال بل اتجاه سؤال يجعل لذلك كأنه مقدر (قوله بصفة المتقين)
أراد بها جميع ما ذكر من أحوالهم وجعل علة لاستحقاقهم وفى قوله خصائصهم إشارة إلى أن كل واحدة من تلك
الأحوال مما تصلح أن تكون سببا فكيف إذا اجتمعت (قوله استوجبوا) أي استحقوا أما عنده فمبعنى أنه يجب
على الله تعالى بموجب حكمته وجوبا عقليا، وأما عند أهل السنة فبمعنى أن ذلك يلائم مجارى العادات (قوله أي
الذين هؤلاء عقائدهم) أن الذين كملوا اعتقادا وعملا أحقاء أن يختصوا بالهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة، فيعلم
من الجواب أنهم يستحقون الاختصاص، وأن السبب في ذلك تلك الأوصاف المخصوصة بهم التي رتب عليها
الحكم، واستغنى عن تأكيد النسبة ببيان علتها وقيل المقصود من السؤال هو السبب فقط. أي ما هو سبب
اختصاصهم واستحقاقهم إياه، لكنه بين في الجواب مرتبا عليه مسببه، فإن ذلك أوصل إلى معرفة السبب، فمن ثمة
لم يحتج إلى تأكيد الجملة، وربما يقال قصد مجموع الأمرين: أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا
كذلك، وقس على ما ذكرنا حال قولك أحب رسول الله الأنصار (قوله وإن جعلته) عطف على إذا نويت: أي
جعلت الذين يؤمنون تابعا إما صفة أو مدحا نصبا أو رفعا (قوله غير مستبعد) إشارة إلى سقوط السؤال، وأنه
نشأ من استبعاد السائل كون تلك الصفات علة لاستيجاب الاختصاص وليس لك مستبعدا. فإن قلت: صفة
التقوى كافية في الاستحقاق والسببية، وكيف لا وتلك الأوصاف بيان وتفسير للمتقين، فيكون السؤال على
الوجه الأول أيضا ساقطا. قلت: إن سلم كونها بيانا كان المفهوم من المتقين معنى مجملا يتجه معه السؤال، وأما
إذا فصلت بتلك المعاني ولخصت فالسؤال ساقط كما لا يخفى (قوله دون الناس) إشارة إلى الاختصاص الحاصل
من ترتب الحكم على الوصف لأن المعنى كما سيأتي تحقيقه أولئك الموصوفون بتلك الصفات على هدى، وإذا كان
الحكم مرتبا مسببا عن الوصف انتفى بانتفائه. فإن قلت: فعلى الوجه الأول يلزم التكرار في ذكر الأوصاف.
قلت: لابعد في أن تذكر الصفات ملخصة، ثم يشار إليها مجملة ليتعلق بها العلم من وجهين ثم يربط بها ما هو
مسبب عنها فإن ذلك أوفى بتأدية الغرض، وأنت خبير بتطبيق مثال الأنصار على هذا الوجه أيضا، فإن المطلوب
بالسؤال فيه إما الحكم وإما السبب أو هما معا على قياس ما تقدم (قوله أن هذا النوع من الاستئناف) يريد به
139

ما اشتمل على إعادة ذكر ما استؤنف عنه الحديث جوابا عن سؤال استحقاقه لما نسب إليه، فإذا قيل أحسنت إلى
زيد اتجه أن يقال: هل هو حقيق بذلك. فإن أجيب بذكر اسمه فقد ترك تأكيد الجملة جريا على خلاف مقتضى
الظاهر لنكتة، وإن أجيب بذكر صفته فقد أفاد الحكم المطلوب مع بيان سببه القائم مقام تأكيده. وقيل أراد بهذا
النوع ما يكون مشتملا على تلك الإعادة جوابا للسؤال عن سبب الحكم فيخرج مالا يكون جوابا عن السبب أو
يكون جوابا عنه، ولا يشتمل على إعادة الذكر كقوله سهر دائم، ثم إن إعادة الذكر تدل إجمالا على أن هناك
سببا، فكان الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ لاشتماله على تفصيل السبب وتلخيصه، وفيه بحث لأنه إذا قيل ما سبب
الإحسان إليه واستحقاقه إياه كان طلبا لمعرفة (1) سبب معين بعد أن عرف أن له سببا في الجملة، فلا يصح أن
يجاب إلا بما يفيد تصوير سبب مخصوص، ومن ههنا يعلم امتناع الحمل على السؤال عن الحكم مشفوعا بسببه تبعا
له. ومعنى قوله بإعادة اسمه وبإعادة صفته أنه يعاد ذكر من استؤنف عنه الحديث إما باسمه أو بصفته، فالمعاد هو
ذكره فلا يرد أن الصفة غير مذكورة أولا فكيف تعاد، والمقصود من هذا التقسيم أن الاستئناف الذي في التنزيل
سواء وقع على الذين يؤمنون بالغيب أو على أولئك وارد على هذا الوجه الأحسن الذي هو إعادة الصفة وإن كان
الأول أرجح بما لخصناه، وقد يتوهم أنه على الثاني من إعادة الاسم ولذلك كان مرجوحا وهو مدفوع بقوله.
وأجيب بأن أولئك الموصوفين وقوله وفى اسم الإشارة (قوله نعم على أن يجعل اختصاصهم) الموصول الثاني إن
اتحد بالأول ذاتا فحقه أن يجرى على ما جرى عليه الأول، فإن قطع عن ذلك وجعل مبتدأ فإما أن يجعل الاختصاص
الحاصل من تعليق الحكم بالوصف المناسب الذي يتضمنه المبتدأ تعريضا بما ذكر أولا، فعلى الثاني قطع عما هو
حقه وامتنع فائدة الاستئناف أيضا بلا داع يدعو إلى ذلك مع أنه نوع تكرار لما تقدم، وعلى الأول كان التعريض
فائدة مطلوبة يرتكب لها خلاف الظاهر، ووجه أنه لما عبر عن المؤمنين بأنهم جامعون في الإيمان بين ما أنزل
على محمد صلى الله عليه وآله وما أنزل من قبله قابلهم بهذا الاعتبار من انفرد بأحدهما: أع نى كفار أهل الكتاب،
فعرض بأن ظنهم بكونهم على الهدى ظن كاذب وأن طمعهم في نيل الفلاح طمع فارغ، ومعنى الكلام حينئذ
أن الكتاب هدى للذين آمنوا به والذين لم يؤمنوا به ليسوا على هدى وإن ظنوه، ولا فلاح لهم وإن طمعوا فيه.
فالجملتان بحسب المعنى وإن توافقتا الظرف وتقابلتا في الإيمان إثباتا وسلبا ليستا على حد يحسن العطف بينهما كل

(1) قوله كان طلبا لمعرفة الخ) في بعض النسخ: كان ذلك طلبا لتصور سبب مخصوص بعد العلم بأن هناك سببا في الجملة فلا يصح في جوابه
أن يقال زيد حقيق بالاحسان إذا لا يفهم منه سبب مخصوص أصلا ومعنى قوله الخ كتبه مصححه.
140

الحسن، فإن الأولى في وصف الكتاب بكمال الهداية للمؤمنين، والثانية لسلب الاهتداء عن طائفة أخرى لم
يؤمنون به. قويل المعنى على التعريض أن الكتاب هدى للمتقين وليس هدى لمن عداهم، فالمعطوف والمعطوف عليه
متناسبان غاية التناسب. وفيه نظر لأن سلب كونه هدى لغيرهم ليس صفة كمال له فلا يلائم تلك الأوصاف
الفاضلة التي يشد بعضها بعضا، بخلاف سلب الهداية عمن لم يؤمنوا به فإن فيه إشارة إلى كماله، وإن اختلف
الموصولان ذاتا كان الأولى بالثاني أن يعطف على الأول تقسيما للمتقين، فإذا جعل مبتدأ فإن لم يجعل الاختصاص
تعريضا فقد ترك ما هو أولى بلا سبب وفات نكتة السؤال المقدر، وكان التخصيص المستفاد من المعطوف منافيا
في الظاهر لما استفيد من المعطوف عليه من التخصيص، وإن جعل تعريضا كان وجهه ههنا أظهر مما مر، ولم يكن
التخصيص في المعطوف مقصودا بل وسيلة إلى التعريض، وتعين أن يكون بالقياس إلى المعرض بهم والحال في
العطف كما سلف (قوله وفى اسم الإشارة) توهم بعضهم أن الإيذان المذكور مختص بما إذا وقع الاستثناف على
أولئك وهو باطل، والصواب كما أشرنا إليه أنه جار على جميع الأوجه الثلاثة، وذلك لما عرفت من أن أسماء
الإشارة حقها أن يشار بها إلى محسوس مشاهد وإلى ما ينزل منزلته في تميزه وظهوره، ولما كانت الصفات المجراة
على المتقين مميزة لهم جاعلة إياهم كأنهم حاضرون مشاهدون وضع أولئك موضع المضمر إشارة إليهم من حيث
أنهم موصوفون بها كأنه قيل أولئك المتميزون بتلك الصفات، فصار الكلام من ترتيب الحكم على الأوصاف
المناسبة ومفيدا للعلية، بخلاف المضمر فإنه راجع إلى الذات وليس فيه ملاحظة أوصافها وإن كانت متصفة بها
في نفسها، فلا ترتيب هنالك على وصف مناسب، فإن قلت: قد تقدم منك في توجيه قوله فيكون الخطاب أدل
على أن العبادة له بذلك التمييز ما يدل على أن في المضمر إيذانا في الجملة وسياق كلامه ههنا ينافيه. قلت: إذا حمل
التنوين في إيذان على التعظيم زالت المنافاة (قوله فالمذكورون قبله) أدخل الفاء في خبر إن المفتوحة على معنى
السببية بحسب الإخبار، وإنما قال أهل لاكتسابه لأن الهدى والفلاح نتيجة الكسب (قوله ولله صعلوك) أوله:
لحا الله صعلوكا مناه وهمه * من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
ينام الضحى حتى إذا ليله أتى * تنبه مسلوب الفؤاد مورما
ولله صعلوك ياسور همه * ويمضى على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة * ولا شبعة إن نالها عد مغنما
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت * تيمم كبراهن ثمة صمما
يرى رمحه أو نبله ومجنه * وذا شطب عضب الضريبة مخذما
وأحناه سرج فاتر ولجامه * عتاد أخي هيجا وطرفا مسوما
141

ويغشى إذا ما كان يوم كريهة * صدور العوالي وهو مختضب دما
إذا الحرب أبدت ناجذيها وشموت * وولى هذان القوم أقبل معما
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه * وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
يقال لحاء الله: أي قبحه ولعنه، والصعلوك الفقير، وصعاليك العرب متلصصون، والبوس بالفتح ما يلبس،
ولله كذا كلمة تعجب ومدح تقال عند استغراب الشئ واستعظامه: أي هو صنعه ومخصوص به إذ له القدرة على
خلق أمثاله، والمساورة المواثبة، والهم القصد والعزيمة. وقوله على الأحداث متعلق بيمضى: أي لاتشغله
الأحداث والدهر عن الإقدام على ما هو المرام، وفتى إما بدل من صعلوك أو صفة له أو مخصوص بالمدح نصبا
أو رفعا وإضافته إلى طلبات إشارة إلى علو همته، والخمص الجوع، والترحة الشدة، وشبعة مفعول عد، أعرضت:
أي استبانت وظهرت، وثم للتراخي في الرتبة بين القصد والتصميم، وعطف النبل على الرمح بأو إذ قلما يجمع
بينهما، ومجنه معطوف على مدلول ما تقدم: أعني أحدهما، وشطب السيف بضم الشين وفتح الطاء وضمها أيضا
طرائقه التي في متنه جمع شطبة، والعضب القاطع، والضريبة المضروب بالسيف، وإنما دخلت التاء وإن كان
بمعنى مفعول لأنه في عداد الأسماء كالنطيحة، والمخذوم بالخاء والذال المجمتين القاطع، ويروى بالحاء المهملة من
الجذم وهو القطع السريع، والإحناء جمع حنو بالكسر وهو ما فيه اعوجاج من السرج، والقتب ومنعرج الجبل
وغيرها، وسرج قاتر بالقاف: واق لا يعقر ظهر الفرس، وعتاد ثاني مفعولي يرى وأولهما رمحه، وما عطف
عليه، ولقد طبق المفصل في إفراده العتاد لإن الكل عتاد واحد، وفى إضافته إلى أخي الهجاء دون نفسه، وفى جعله
الطرف بالكسر وهو الكريم من الخيل عتادا على حدة، فإن قوله وطرفا معطوف على أول المفعولين: أعني رمحه،
وما عطف عليه، والمسوم المعلم تشهيرا بعتقه من لأسومة وهى العلامة أو المسيب للسوم فلا يركب إلا في الحرب،
والهدان بالكسر الأحمق الثقيل، وحسنى مصدر بمعنى حسن، ويروى فحسن ثنائه على النداء (قوله ومعنى
الاستعلاء) يريد أن كلمة على هذه استعارة تبعية شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن
والاستقرار، فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء كما شبه استعلاء المصلوب على الذجع باستقرار المظروف في
الظرف بجامع الثبات، فاستعير له الحرف الموضوع للظرفية في قوله تعالى - ولأصلبنكم في جذوع النخل - وإنما
قال: ومعنى الاستعلاء دون معنى على لأن الاستعارة في الحروف تقع أولا في متعلق معناها كلاستعلاء والظرفية
والابتداء مثلا، ثم يسرى إليها بتبعيته كما حقق في موضعه، وقوله مثل: أي تصوير، فإن المقصود من الاستعارة
تصوير المشبه بصورة المشبه به إبراز لوجه البه في جانب المشبه بصورته في جانب المشبه به مبالغة في شأنه كأنه
هو، فإنك إذا قلت: رأيت أسدا يرمى فقد صورته في شجاعته بصورة الأسد وجرأته، وإنما قدم ههنا وجه
الشبه: أعني التمكن والاستقرار على تصوير المشبه الذي هو التمسك لأنه المقصود الأصلي بالقياس إليه. وزعم
142

بعض الناس أن الاستعارة ههنا تبعية تمثيلية، قال: أما كونها تبعية لجريانها أولا في متعلق معنى الحرف وتبعيتها
في الحرف، وأما كونها تمثيلية فلكون كل من طرفي التشبيه حالة منزعة من عدة أمور، فاعترض عليه بأن انتزاع
كل من طرفي التشبيه من أمور عدة يستلزم تركبه من معان متعددة ولا شك أن متعلق معنى الحرف هو الاستعلاء
وأنه من المعاني المفردة كالضرب وأمثاله، فلا يكون مشبها به في التشبيه الذي يركب طرفاه، نعم ربما يعتبر هنالك
معه شئ آخر ليحصل معهما مجموع هو المشبه به، وإذا لم يكن معنى الاستعلاء مشبها به في ذلك التشبيه سواء كان
جزءا منه أولا فكيف يسرى التشبيه والاستعارة منه إلى معنى الحرف. ومحصله أن كون على استعارة تبعية يستلزم
كون معنى الاستعلاء مشبها به، وأن تركب الطرفين يستلزم أن لا يكون مشبها في فلا يجتمعان، فإذا جعلت على
تبعية لم تكن تمثيلية مركبة الطرفين بل كانت استعارة في المفرد كما بينا. وأجيب عنه بأن انتزاع كل من طرفي
التشبيه من عدة أمور لا يوجب تركبه في نفسه بل يقتضى تعددا في مأخذه. ورد بأن المشبه مثلا إذا كان متزعا من
أشياء متعددة، فإما أن ينتزع بتمامه من كل واحد منها وذلك باطل لأنه إذا أخذ بتمامه من كل واحد منها كان
أخذه مرة ثانية من واحد آخر لغوابل تحصيلا للحاصل، وإما أن ينتزع من كل واحد منها بعض منه فيكون مركبا
بالضرورة، وإما أن لا يكون هنالك لا هذا ولا ذاك، وهو أيضا باطل إذا لا معنى حينئذ لانتزاعه من تلك الأمور
المتعددة أصلا، فتتعين القسم الثاني ولزم المطلوب. على أن هذا الزاعم قد صرح في تفسير قوله تعالى - كمثل الذي
استوقد نارا - بأنه لا معنى لتشبيه المركب بالمركب إلا أن ينتزع كيفية من أمور عدة وتشبه بكيفية أخرى مثلها،
فيقع في كل واحد من الطرفين أمور متعددة. وأيضا قد اتفقوا على أن وجه التشبيه في التمثيل يجب أن يكون
مركبا، وما ذك إلا لكونه منتزعا من متعدد، وأمثال ذلك مما لا يلتبس على ذي فطنة ناقدة وفكرة صائبة، وكأنه
بك قد تطلعت نوازغ من قلبك إلى ما يشفى غليل صدرك من تحقيق المقام الذي زلت فيه الأقدام فنقول وبالله
التوفيق: اعلم أن قوله: على هدى يحتمل وجوها ثلاثة: الأول ما مر من تشبيه تمسكهم بالهدى باستعلاء الراكب.
الثاني أن تشبيه هيئة منتزعة من المتقى والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه
فيكون هناك استعارة تمثيلية مركب كل من طرفيها لكنه لمى صرح من الألفاظ التي هي بإزاء المشبه به إلا بكلمة
على، فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تبع له يلاحظ معه في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تكن مقدرة
في نظم الكلام، فليس حينئذ في علي استعارة أصلا بل هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ
كلها. الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية وتجعل على قرينة لها على عكس الأول كما
اختاره الإمام السكاكي، وحينئذ فمن اعتبر في طرفي التشبيه تلك الهيئة الوحدانية وحكم بأن الاستعارة تبعية فقد
اشتبه عليه الوجه الأول بالثاني، وقد تمادى في ذلك من ادع تكرره في الكشاف وهو برئ منه وتوهم أن عبارة
المفتاح في تقرير الاستعارة التبعية في لعل بينة في اجتماع التبعية والتمثيلية فيما ادعاه، وليس فيها إلا أنه شبه حال
المكلف بحاله المرتجى، والحال أعم من المفرد والمركب كما لا يخفى. فإن: نعم لكن الحق استلزام
التمثيل تركب طرفيه، فإن المتبادر من قولهم التمثيل ما وجهه منتزع من عدة أمور انتزاع وجهه من عدة أمور في
كل من الطرفين، وإن مكن أن يراد انتزاعه من أمور هي أجزاؤه كما في الهيئة المنتزعة التي تجعل مشبهة أو مشبها به
لا يقال: تركب طرفيه واجب بحسب المعنى وأما بحسب اللفظ فلا، إذ ربما يطلق لفظ واحد على قصة كقوله
143

تعالى - مثلهم كمثل الذي استوقد نارا - لأنا نقول: المراد بكون المعنى مفردا أن يلاحظ ملاحظة واحدة في ضمن
لفظ واحد، سواء لم يكن له أجزاء أو كانت له أجزاء متعددة لو حظت دفعة إجمالا، ويكون المعنى مركبا أن
يلتفت إلى أشياء عدة كل على حدة، ثم يضم بعضها إلى بعض وتصير هيئة وحدانية، وكل معنى ذي أجزاء عبر
عنه بلفظ واحد لم تكن تفاصيلها محلوظة ولم تعد مركبا. وأما التشبيه بالمثل فلا يغنى عنك شياء فإن الحالة المختصگ
المشبهة إنما تفهم من ألفاظ مقدرة: أي مثلهم بما ذكر من إظهار الإيمان وإبطال الكفر وما يترتب عليه من الخداع
المستتبع للمنافع، كما أن الحالة المشبهة بها تفهم من جميع الألفاظ المذكورة ههنا (قوله ونحوه هو على الحق)
تجرى فيه الوجوه الثلاثة (قوله وقد صرحوا بذلك) لما ذكر أن كلمة على مستعارة للتمسك بالهدى لزم من ذلك
تشبيه الهدى ونظائره بالمركوب، وربما تبادر إلى بعض الأوهام استبعاده، فأزاله بأن هذا التشبيه فيما ذكرناه ضمني
غير مقصود من الكلام، وقد صرحوا به في مواضع أخر وجعلوه مقصودا منه. أما في صورة التشبيه كما في قولهم
جعل الغواية مركبا، فإنه في قوة قولك الغواية مركب: أي كالمركب. وأما في صورة الاستعارة كما في قولهم
اقتعد غارب الهوى، فقد شبه الهوى بالمطية على طريقة الاستعارة المكنية ورمز لها بإثبات الغارب ورشح بذكر
الاقتعاد. وأما قولهم متطي الجهل، فإن جعل بمنزلة قولك ركب مطية الجهل كان استعارة بالكناية كغارب الهوى
وإن جعل في قوة قولك اتخذ الجهل مطية كان تشبيها كالأول، وأيا ما كان فتشبيه الجهل بالمطية مقصود من
الكلام وهو المراد بكونه مصرحا به. وقيل امتطى هو استعارة تبعية شبه اتصافه بالجهل واستقراره عليه بامتطاء
المطية، واستعير اسم المشبه به للمشبه وسرت الاستعارة إلى الفعل، وذكر المفعول: أي الجهل قرينة لها. ويرد
عليه أنه لافرق حينئذ بينه وبين قوله على هدى في أن تشبيه الهدى والجهل بالمركوب ليس مقصودا منهما،
والتشبيه المقصود مستفاد من الاستعارة التبعية، فجعله في أحدهما مصرحا به دون الآخر تحكم، والفرق بأن معنى
الاستعلاء خارج عن معنى الحرف ومعنى المصدر داخل في الفعل غير صحيح، وعلى تقدير صحته فالظاهر أنه
لا يوجب الاختلاف المذكور، وقد يتوهم أن لفظ ذلك في قوله وقد صرحوا بذلك إشارة إلى التشبيه المدلول عليه
بقوله شبهت: أعني التشبيه المقصود بالاستعارة في علي، وهو بعيد إذ لا ينطبق عليه شئ من الأمثلة. وقيل إشارة
إلى إرادتهم معنى الاستعلاء والركوب وهذا أبعد (قوله أي منحوه) زاد حرف التفسير بين المبتدأ والخبر تأكيدا
للاتحاد وزيادة في البيان، والمقصود أن من ابتدائية ومن ربهم صفة لهدى وتفسيره باللطف والتوفيق رعاية لمذهبه.
وأما عند الجماعة فهو خلق الاهتداء فيهم، والتوفيق هو اللطف الداعي إلى أعمال الخير، كما أن العصمة هي
اللطف الزاجر عن أعمال الشر (قوله إلى الأفضل فالأفضل) قيل هذه الفاء للتعقيب على سبيل الاستمرار، والمعنى:
أنه إذا ساعدهم اللطف على عمل فأقدموا عليه استنزلوا لطفا آخر أكمل من الأول فيحدثوا به عملا أفضل، وهكذا
144

كل لطف يدعو إلى عمل يستجلب لطفا فلا يزالون يترقون في الأعمال الفاضلة (قوله الهذلي) هو أبو خراش يرثى خالد
ابن زهير، ولا زائدة في أول القسم كما في - فلا أقسم - ولقد وقعت جواب القسم، والخطاب للطير على طريقة
الالتفات، وتنكير لحم للتعظيم: أي على لحم أي لحم، استعظم لحم خالد لعظمه فاستعظم الطير الواقعة عليه وأباها
حيث أقسم به، ولا حاجة إلى ما توهم من أن أبى ههنا جمع على الشذوذ نظرا إلى كثرة الطير، وقيل الأب مقحم
أريد به خالد نفيه وأضيف إليه لوقوعها عليه وملابسته إياها كما تقول أبو الثريد وأبو تراب، والمربة اللازمة
بالمكان، من أرب بالمكان أقام به ولزمه، وعن المصنف أنه كان يقول: ما أفصحك يا بيت المربة (قوله وبغير غنة)
المشهور عند القراء أنه لا غنة مع اللام والراء، وقد وردت عنهم في بعض الروايات الغنة معهما على تفصيل يقرب
مما ذكره المصنف، وأما بحسب العربية فلا نزاع في جوازها (قوله كما ثبتت) في موضع المصدر لقوله ثابتة،
كأنه قيل تنبيه على نهم ثابت لهم الأثرة بالفلاح كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى، فإن جعلت الفاء زائدة لم يمتنع إعمال
ما بعدها فيما قبلهما، وإن جعلت دالة على أن الأثرة بالهدى سبب الأثرة الأخرى احتيج في الظاهر إلى تقدير ثابتة بلا
فاء كما صورنا (والأثرة) بفتح الهمزة والثاء: التقدم والاستبداد، يقال استأثر بالشئ: استبد به، وقوله (في
تمييزهم) إما متعلق بجعلت أو بالظرف الذي وقع موقع المفعول الثاني، أعني بالمثابة: أي المنزلة، وسيأتي بيان
أصلها في قوله تعالى - مثابة للناس - والحاصل أن تكرير أولئك أفاد اختصاصهم بكل واحد منهما على حدة ليكون
كل منهما مميزا لهم عمن عداهم، ولو لم يتكرر لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيكون هو المميز لا كل واحدة
(على حيالها) حيال الشئ وحواله وحوله بمعنى، فمعنى كفت مميزة على حيالها أنها مستقلة في ذلك مع ما حولها وفى
حيزها بلا احتياج إلى خارج (قوله قد اختلف الخبران ههنا) أي على هدى والمفلحون، يريد أنهما مع تناسبهما
معنيان متمايزان تعقلا وهو ظاهر ووجود فإن الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى وإثبات كل منهما أمر مقصود في
نفسه، فالجملتان المشتملتان عليهما المتحدتان في المخبر عنه متوسطتان بين كمالي الاتصال والانقطاع، فلذلك
أدخل العاطف بينهما، وأما الخبران أعني كالأنعام والغالون فهما وإن اختلفا مفهوما قد اتحدا مقصودا، إذ
لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة، فكأن الجملة الثانية ههنا المشاركة للأولى في المحكوم عليه مؤكدة لها
145

فلا مجال للعطف بينهما (قوله وفائدته) يريد أن لضمير الفصل فوائد: الأولى الدلالة على أن ما ورد بعده خبر لما
قبله لانعت له ولذلك سمى فصلا. الثانية توكيد الحكم للدلالة على ربط المسند إليه. وقيل توكيد المحكوم
عليه لأنه راجع إليه فهو تكرير له. الثالثة الدلالة على حصر المسند في المسند إليه فعلا كان أو اسما، معرفا كان أو
منكرا، فإن قولك زيد هو أفضل من عمرو: معناه بالفارسية زيد أو ست كمه أفضلست از عمرو. ومنهم من استشهد
على إفادته الحصر بالاستعمال في مثل - إن الله هو الرزاق - وكنت أنت الرقيب - ثم قال: وهذا إنما يتم إذا استفيد منه
التخصيص فيما كان الخبر فيه نكرة، وإلا فتعريف الخبر باللام الجنسية هو المفيد لحصره على المبتدأ وإن لم يكن
هناك فصل كقولك زيد الأمير (قوله أو هو مبتدأ) قسيم لقوله هم فصل، قيل هذا جار على تقديري العهد
والجنس، وأما كونه فصلا فمخصوص بالجنس (قوله على أن المتقين هم الناس الذين الخ) فاللام في المفلحون
حينئذ لتعريف العهد الخارجي، ولا حاجة إلى اعتبار قصر كما إذا قلت الزيدون هم المنطلقون إشارة إلى المعهودين
بالانطلاق إلا أن تجعل كلمة هم فصلا فتقصد إلى قصر المسند على المسند إلى إفرادا دفعا لما عسى أن يتوهم من
تناول المعهودين بالفلاح في الآخرة غير المتقين أيضا (قوله فقيل زيد التائب) اعترض عليه بأنه غير مستقيم،
فإنك قد عرفت أن إنسانا قد تاب فأنت بسؤلك عنه طالب تعيينه بأن تحكم عليه بأنه زيد مثلا. فالجواب المطابق
التائب زيد حتى لو اقتصر على ذكر زيد كان خبرا لمبتدأ محذوف لا مبتدأ خبره محذوف. وأجيب بأن الضمير في
قولك من هو راجع إلى التائب: أي من التائب، فمن مبتدأ والتائب خبره كما هو مذهب سيبويه. والمعنى:
أزيد التائب أم عمرو أم غيرهما؟ فالمطلوب بهذا السؤال أن يحكم بالتائب على خصوصية ما من تلك الخصوصيات،
فالصحيح ما ذكره العلامة ليكون الجواب مطابقا للسؤال والمثال موافقا النظم التنزيل في كون الخبر معرفا بلام العهد،
نعم إن جعل كلمة من خبرا مقدما كان الحق ما ذكره المعترض إلا أنه يفوت موافقة المثال للمقصود. والعجب أن
هذه مع شدة وضوحه قد خفى على كثير من الأذهان، وأعجب منه أن بعضهم نبه على ما قررناه ولم يتنبه له وزعم
أن دعوى رعاية المطابقة منقوضة بأن من قام جملة اسمية. وقد يجاب بجملة فعلية كقوله تعالى - قل يحييها الذي
أنشأها أول مرة - في جواب - من يحيى العظام - وقوله تعالى - ليقولن خلقهن العزيز العليم - في جواب من خلق
السماوات والأرض - ولم يدر أن المحكوم عليه حقيقة في زيد قام هو زيد قدم أو أخر، فالسائل بمن قام طالب
الحكم بالقيام على زيد أو عمرو، فإذا أجيب بقام زيد طابق سؤاله في المعنى، وإن خالفه في اللفظ بكونه جملة
فعلية لسر يطلعك عليه إذا حان وقته، بخلاف زيد التائب فإن التقديم فيه يوجب اختلاف المحكوم عليه، فتفوت
المطابقة المعنوية التي تحت المحافظة عليها كما في قولك أخوك زيد وزيد أخوك. ثم إن هذا الزاعم بتحيره في توجيه هذا
المقام ذكر أن للشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز كلاما يؤيد أوله كلام المصنف وآخره كلام المعترض. وهذا
146

أيضا خبط آخر، فإن محصل ما أورده الشيخ هناك أنك عهدت إنسانا بانطلاق وجوزت أن يكون زيدا أو
غيره، فإذا قيل زيد المنطق أو المنطق زيد كان بيانا لإيجاد زيد مع الشخص المعهود لا بيانا
لانطلاقه فإنه معلوم،
ولم يرد أن تقديم زيد على المنطق وتأخيره عنه يجوزان معا في حالة واحدة، بل أراد أن كل واحد منهما إنما هو
بحسب ما يقتضيه مقالك وحالك من طلب الحكم على هذا بذاك وعلى ذاك بهذا، إلا أنه لم يتعرض ههنا لتعينه،
وقوله في آخر كلامه: وإذا قيل المنطلق زيد، فالمعنى على أنك رأيت إنسانا ينطلق بالبعد عنك فلم تعلم أزيد هو
أم عمرو فقال صاحبك المنطق زيد، أي هذا الشخص الذي تراه من بعيد هو زيد، ليس فيه إشارة إلى تقدير
السؤال من المخاطب، بل قوله أزيد هو أم عمرو بيان في الجملة باتحاد زيد بذات الشخص المعهود، وأمثال هذه
المباحث لاتزلزل من له قدم راسخ في قواعد المعاني واستخراج نكتها مؤسسة على تلك المباني (قوله أو على نهم
الذين إن حصلت) إشارة إلى المعنى الثاني لتعريف المفلحين وهو تعريف الجنس المسمى بتعيين الحقيقة، إلا أن
الخبر المعرف بلام الجنس قد يقصد به تارة حصره على المبتدأ إما حقيقة أو ادعاء نحو: زيد الأمير إذا انحصرت
الإمارة فيه أو كان كاملا فيه، كأنه قيل: زيد كل الأمير وجميع أفراده، فيظهر الوجه في إفادة الجنس الحصر،
وقد يقصد به أخرى لأن المبتدأ هو عين ذلك الجنس ومتحد به، لا أن ذلك الجنس مفهوم آخر مغاير له فيحصر
في المبتدأ بحيث لا يوجد في غيره كما في الحصر الحقيقي، أو كامل فيه بحيث لا يعتد به في غيره كما في الحصر
الادعائي، فهذا معنى آخر للخبر المعرف بلام الجنس غير الحصر، وهذا هو الذي ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز.
وملخص ما أورد فيها أن الخبر المعرف باللام قد يراد به العهد كما في قولك: زيد المنطق، لمن يعلم أنه كان انطلاق
ولم يعلم أنه لمن كان، وقد يراد به حصر مفهومه في المبتدأ على أنه لم يحصل لغيره أصلا أو على الكمال كما في قولك:
زيد الشجاع، وقد يراد به ظهور اتصاف المبتدأ بهذه الصفة كما في قوله: ووالدك لعبد: أي ظاهر اتصافه
بالعبدية، وقد يراد به معنى آخر دقيق يكون المتأمل عنده كما يقال تعرف وتنكر كقولك: هو البطل المحامي،
فإنك لا تريد به عهدا ولا حصر جنس ولا ظهور اتصاف، بل تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل
المحامي، وهل تصورت حقيقته ما هي، فإن كنت قتلته علما وأحطت به خبرا فعليك بفلان واشدد به يديك فهو
ضالتك وعنده بغيتك، وطريقته طريقة قولك هل سمعت بالأسد، وهل تعرف ما هو؟ فإن كنت تعرفه فزيد هو هو
بعينه لا حقيقة له وراءه، ثم إن دعوى كون زيد حقيقة الأسد مثلا إنما يتأتى إذا تصورت تلك الحقيقة في الوهم
بصورة تناسب تلك الدعوى فإنها لو تركت على حالها لم يكن ادعاء إيجاد زيد بها مستحسنا مقبولا، فلذلك قال
الشيخ بعد توضيح هذا المعنى وتكثير أمثلته: هذا كله على معنى الوهم والتقدير، وأن تصور في ا
اخطاره شيئا لم يره
ولم يعلمه، ثم تجريه مجرى ما علمه وليس شئ بأغلب على هذا لأضرب الموهوم من لاذى، فإنه يجئ كثيرا على
أنك تقدر شيئا في وهمك ثم تعبر عنه بالذي كقوله:
أخوك الذي إن تدعه لملمة * يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب
فتخيل من ذلك بعض الناس أن تعريف الخبر في هذا المعنى ليس تعريف الجنس وقال: أطبق الناظرون في هذا
147

الكتاب على أنه يريد بذلك تعريف الجنس، وينبغي أن تعلم أنه إشارة إلى معنى آخر لتعريف الخبر وهو فاسد،
إذ قد ثبت لك أنه تعريف جنس اعتبر معه تصوير الحقيقة بصورة وهمية توصلا إلى دعوى الاتحاد بينهما وبين
ما أخبر عنها، فهو من فروع الجنس كالحمل على الكمال، وكيف لا والتعريف باللام منحصر في العهد والجنس.
فإن قلت: ظهور الاتصاف بمضمون الخبر ليس شيئا منهما. قلت: هو راجع إلى الجنس أيضا كأنه بعد ما جعل
خبرا عرف باللام إشارة إلى حضور الجنس في الأذهان من حيث إنها صفة للمخبر عنه، وهذا معنى ظهور اتصافه
به، وقد اختار العلامة في تعريف المفلحون ذلك المعنى على حصر الجنس لأنه أدق وأبلغ، فقوله (ما هم) مفعول
ثان لتحققوا، ومثله لا يسمى تعليقا لوجود العمل في المفعول الأول أدق وأبلغ، فقوله (ما هم) مفعول
ثان لتحققوا، ومثله لا يسمى تعليقا لوجود العمل في المفعول الأول، وقوله (وتصوروا بصورتهم الحقيقية)
إشارة إلى تصوير حقيقة المفلحين بالصورة التي حقها أن يكونوا عليها، قولوه (فهم هم) فيه إشارة إلى الاتحاد،
والضمير الأول للمتقين والثاني للمفلحين، وقوله (لا يعدون تلك الحقيقة) تأكيد للاتحاد لا تصوير بيان لحصر
المبتدأ في الخبر كما ظن حيث قيل إذا جعل اللام للعهد أريد قصر الفلاح عليهم، وإذا جعلت للجنس أريد قصرهم
على صفة الفلاح، فإنه مخالف للقاعدة المقرورة من أن تعريف الخبر بلام الجنس يفيد قصره على المبتدأ لا عكسه،
وإن أشعر به كلامه في الفائق حيث قال: معنى قوله إن الله هو الدهر: أن الله هو الجالب للحوادث لاغير
الجالب. وذهب رحمه الله تعالى إلى أن الحصر على الوجهين للمسند على المسند إليه، أو على العهد قصر إفراد، أو على
الجنس قصر قلب الخ وما حققناه هو المعول عليه. فإن قلت: إذا ادعى أن المتقين عين حقيقة المفلحين فلا
يتصور هناك حصر أصلا فكيف استعمل فيه ضمير الفصل؟ قلت: قد جرد لتمييز الخبر عن النعت وتأكيد
الحكم إما معا أو لأحدهما، وكذا إذا أريد حصر المبتدأ على الخبر وتسوط بينهما كقولك الكرم هو التقوى، أي
لا كرم إلا التقوى وأما إذا كان الخبر المعرف مفيدا لحصر الجنس في المبتدأ كان الفصل مؤكدا كقولك زيد
هو الأمير (قوله فانظر كيف) لما كان النظر وسيلة إلى العلم كان متضمنا لمعناه فجاز إيقاعه على الاستفهام معلقا
عنه، وقوله عزو من قائل كقولك عز قائلا هو تمييز عن النسبة أي عز قائليه أو حال على أن المراد بقاقئل هو الجنس أي
عز قائلا من القائلين (قوله على طرق شتى) متعلق بكرر، أما التنبيه بذكر اسم الإشارة وتكريره فلما عرفت من أنه
بمنزلة إعادة الوصف وتعليق الحكم به وأن تكريره يدل عليه اختصاص كل واحد من الهدى والفلاح بهم،
وإما بتعريف المفلحين فعلى العهد ظاهر سواء اعتبر فيه حصر أولا. وأما على الجنس فلأن المقصود هو الاتحاد
بتلك الحقيقة وذلك أبلغ من الاختصاص، وأما بتوسط الفصل فمن حيث دلالته على الحصر أو تأكيد الحكم
(قوله ينبطك الخ) يشير إلى أن أصحاب الكبائر لا يفوزون بالشفاعة والنجاة من العقوبة ودخول الجنة وأنهم
148

مخلدون في النار تعريض بأهل السنة حيث يطمعون في ذلك. والجواب أن المقصود اختصاصهم بالكامل من
الهدى والفلاح، فلا يلزم من ذلك أن لا يكون لغيرهم هدى ولا فلاح أصلا (قوله استفلحي) فهو من كنايات
الطلاق: أي فوزي واستقلي بأمرك (قوله على معنى الشق) يقال فلحت الأرض: أي شققت والحديد بالحديد
يفلح: أي يشق ويقطع، ومنه الفلاحة بمعنى الحراثة (قوله فلق) شق، وفلذ قطع، وفلى فرق الشعر لطلب القمل
(قوله قفى على أثره) يقال قفيته به وقفيت به على أثره: أي أتبعته إياه، وفى قوله سواء عليهم وجود الكتاب
وعدمه إشارة إلى التناسب بين القصتين الذي حسن به تعقيب إحداهما بالأخرى زيادة حسن وإن لم يصلح مصححا
له عطف بينهما (قوله فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب) أما التباين في الأول فلأن الغرض من الأولى
بيان بلوغ الكتاب غاية الكمال في الهداية تقريرا لكونه يقينا لا مجال فيه للشك، وتحقيقا لكونه ذلك الكتاب الكامل
في جنسه المتحدى بإعجازه، ومن الثانية بيان إصرار الكفار على ما هم عليه من الكفر والضلال وأنه لا يجدى عليهم
الإلطاف والإنذار. وأما التباين في الثاني: أي الأسلوب وهو الفن والطريق فلأن طريق الأداء في الأولى إن يحكم
على الكتاب مع حذفه لفظ بما جعل الملقون قيدا لما حكم به عليه، وفى الثانية أن يحكم على الكفار قصدا مع
ذكرهم لفظا، وصدرت بأن إشعارا بالانقطاع والشروع في فن آخر. لا يقال الجملتان مسوقتان لبيان حال
الكتاب، فالأولى لبيان أنه هدى للمتقين، والثانية لبيان أنه ليس هدى لأضدادهم فيهما على حد يحسن العطف
بينهما. لأنا نقول: قد عرفت أن الذي سيقت له الثانية هو الحكم على الكفار بالإصرار، وأن وجوده الإنذار وعدمه
سواء عليهم، وأما أن الكتاب بحيث لا يجديهم فمعلوم تبعا لا قصدا، ولو كان مقصودا لم يحسن العطف أيضا لأن
الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سيق له الكلام في هذا المقام من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع
(قوله فهو في الحقيقة كالجاري عليه) يعنى أنه وإن كان في صورة كلام مستقل منقطع عما قبله حيث جعل مبتدأ
149

لفظا مخبرا عنه بأولئك لكنه مرتبط به ارتباطا معنويا صار به من تتمة ما قبله متصلا به اتصال التابع بمتبوعه، فكما
لا يصح العطف على تقدير كونه موصولا إما صفة مجرورة أو مخصوصا منصوبا أو مرفوعا لم يصح أيضا على تقدير
كونه منقطعا، وإنما قال كالجاري عليه إشارة إلى الفرق بين المستأنف والمخصوص نصبا أو رفعا، فإن المخصوص
وإن لم يكن جاريا على متبوعه صورة فهو جار عليه حقيقة، فإنه مسوق لإثبات مفهومه للمنعوت الذي قطع هو
عن إعرابه، بخلاف المستأنف الذي سيق للحكم عليه بالهدى والفلاح، وإنما يفهم ثبوته للمتقين ضمنا، فهو
كالجاري في الاتصال وعدم الاستقلال، وذلك لأنه مبنى على السؤال المبنى على ما نشأ منه، فهو من مستتبعاته،
فإذا لم يصلح لذلك ما هو من توابعه وروادفه لم يصلح هو لذلك. فإن قلت: يرد عليه الوجه الأخير وهو أن يجعل
والذين يؤمنون مبتدأ خبره أولئك على هدى فإنها حينئذ جملة مستقلة في وصف المؤمنين جاءت معطوفة على
ما تقدمها، فليعطف عليها جملة وصف الكافرين كما في الآيات الأخر. قلت: يندفع بأنه بنى الكلام ههنا على
الوجه المرضى وما ذكرته وجه ضعيف كما لوح إليه، بل ربما يستدل بهذا البناء على ضعفه. وأيضا قد عرفت أن
هذه الجملة محمولة على التعريض وأن معناها على ما حققنا يناسب وصف الكتاب بالكمال ولذلك جاز عطفها على
سابقتها. وأما جملة إن الذين كفروا فلا مدخل لها في ذلك، فلا وجه للعطف فيها. هذا وقد زعم بعضهم أن خلاصة
الجواب المذكور في الكتاب إن الذين يؤمنون بالغيب إلى ساقته استئناف وقع جوابا عن سؤال، وأن قوله إن
الذين كفروا لا يصلح أن يكون جوابا عن ذلك السؤال فامتنع العطف لذلك، ورد أنه مع كونه غير كلام
المصنف غير مستقيم، فإنه إذا قيل ما بال المتقين مخصوصين بكون الكتاب هدى لهم دون من عداهم حسن غاية
الحسن أن يقال لأن الموصوفين بتلك الصفات أحقاء بذلك، والكفار المصرين لا ينتفعون به، بل مستو عليهم
وجود الكتاب وعدمه، فإن هذا المعطوف يؤكد اختصاصهم بالنفي عن غيرهم، وتوهم آخرون في الآية أنه
ترك العطف في الآية لأنه استئناف آخر كأنه قيل ثانيا ما بال غيرهم لم يهتدوا به، فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال
استعدادهم لم تنجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان. ورد بإنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية
لذلك السؤال لم يبق لهذا السؤال وجه. وقيل ترك العطف لغاية الاتحاد والاتصال، وهو أيضا مردود بأن شرح
تمرد الكفار لا يؤكد كون الكتاب كاملا في الهداية (قوله والتعريف في الذين كفروا) وذلك أن تعريف الذي
من بين الموصولات كتعريف ذي اللام في كونه للعهد تارة والجنس أخرى، سواء جعلت من المعرف باللام كما
ذهب إليه شر ذمة من النحاة، أولا كما عليه المحققون. والوجه في العهد أن هؤلاء أعلام الكفر والمشهورون به
فهم لذلك كالحاظرين في الأذهان، فإذا أطلق اللفظ التفت إليهم، وإذا حمل على الجنس يعم الكفار، إلا أن
الإخبار عنهم بما يدل على الإصرار دل على أن المراد هم المصرون فقط، فيكون اللفظ عاما مقصورا على بعض
أفراده بقرينة الخبر. لا يقال: المصنف لم يذهب إلى أن الجمع المحلى بلام الجنس للاستغراق، بل هو عنده للإطلاق
150

الصالح للكل والبعض حيث صرح في قوله تعالى - إذا طلقتم النساء - أنه لا عموم ولا خصوص في النساء ولكنه اسمه
جنس، وفى قوله تعالى - والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - بأن اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله
وبعضه، فجاء في أحدا ما صلح له: يعنى في ذوات الأقراء كالاسم المشترك. لأنا نقول: هو لا يمنع صلوحه
للعموم بل يمنع ظهوره فيه كما هو مذهب أصحاب الأصول، فذهب ههنا المصنف إلى أن هذا الصالح للعموم
مستعمل فيه ومقصور على البعض بواسطة القرينة، وفيه أنه تطويل للمسافة بلا طائل. وقيل المختار عنده أن مثل
هذا الجمع للعموم، وأما كونه للاطلاق فشئ ذكره في بعض المواضع من هذا الكتاب، وهو مردود بالنص
المنقول منه، وأما تفسيره للجمع المعرف باللام بمعنى الاستغراق فذلك لاستفادته منها بمعونة المقام لا لظهورها فيه،
ولا معونة للمقام ههنا، فالصحيح أنه أراد كونه مطلقا في تناول الجنس صالحا بحسب مفهومه لا أن يراد به كله
وبعضه، لكن الخبر دل على تقييد، فقوله متناولا كل من صمم وغيرهم لم يرد به الشمول بل التناول بحسب
الإطلاق نظرا إلى اللفظ وحده، وإذا اعتبرت القرينة معه دل على تناوله له بحسب الإرادة للمصرين فقط، ومعنى
لا يرعوى: لا ينزجر ولا يمتنع (قوله كما يوصف بالمصادر) أي كما تجرى المصادر على ما اتصف بها كذلك سواء
يجرى على ما يتصف بالاستواء: أي يجعل له وصفا معنويا إما نعتا تحويل كما في كلمة - سواء - و - أربعة أيام سواء -
بالجر والمشهور هو النصب، وأما غيره كما في هذه الآية فإن سواء ههنا في موقع مستو، إما خبرا عما قبله ومسندا
إلى ما بعده كما يسند الفعل إلى فاعله فيجب حينئذ توحيده، وإما خبرا عما بعده فيكون ترك تثنيته لجهة المصدر
وكأنه نبه على ذلك حيث قال أولا مستو عليهم، وثانيا سواء عليهم. واختار بعضهم الوجه الثاني لأنه اسم غير
صفة، فالأصل فيه أن لا يعمل. وأيضا المقصود من الوصف بالمصادر المبالغة في باين محالها كأنها صارت غير ما قام
بها، فمعنى قولنا زيد عدل أنه عين العدل كأنه تجسم منه، وإذا أولت بمعنى اسم الفاعل كمستو مثلا فإن ذلك
المقصود، وكذا إن حملت على حذف المضاف (قوله الفعل أبدا خبر) لما حكم بأن قوله تعالى " أأنذرتهم أم لم
تنذرهم " مرتفع المحل، إما على الفاعلية، أعلى الابتداء مع تقدم الخبر توجه عليه أسئلة: الأول أن الفعل كيف
وقع مخبرا عنه ومسندا إليه. الثاني أن ما ذكرته يبطل تصدر الاستفهام. الثالث أن الهمزة وأم موضوعتان لأحد
الأمرين وما يسند إليه سواء يجب أن يكون متعددا، فصرح بالسؤال الأول وأجاب عنه وعقبه بما هو جواب عن
151

الأخيرين (قوله فكيف صح الإخبار عنه) أي عن الفعل، قيل المخبر عنه ههنا هو الجملة لا الفعل وحده، فقد
جعل الفعل مع فاعله المضمر فعلا وهو شائع في عباراتهم، ولا حاجة إلى ذلك لأن الإخبار فيما نحن فيه إنما هو عن
الفعل، وأما فاعله فهو قيد للمخبر عنه لا جزء منه (قوله المهجور فيه جانب اللفظ) فإن الفعل إذا نظر إلى لفظه
واعتبر معناه على ما يقتضيه ظاهره امتنع الإخبار عنه لكنه هجر ههنا مقتضى لفظه وأول بمعنى مصدر مضاف إلى
فاعله فلذلك صح أن يخبر عنه. وقوله (مع المعاني) من قبيل التضمين: أي يميلون دائرين معها ولا يلتفتون إلى
ما تقتضيه ظواهر ألفاظها (قوله من ذلك قولهم) فإنه إن أجرى على ظاهره لزم عطف الاسم وهو تشرب بالنصب
على الفعل، بل عطف مفرد على جملة لا محل لها من الإعراب، فهو من قبيل ما هجر فيه جانب لفظه إلى جانب
معناه من حيث أنه أول لا تأكل السمك بما فيه اسم يصلح لأن يعطف عليه أن تشرب: أي لا يكن منك أكل
السمك وشرب اللبن، لا من حيث إنه جعل لا تأكل في تأويل المصدر على قياس قوله " أم لم تنذرهم " فإن الفرق بين.
فإن قلت: هذه الواو بمعنى مع إذ المنهى عنه هو الجمع، فلو جعل ما بعد مفعولا معه كما في قولك ما صنعت
وإياك لاستغني عن التأويل. قلت: بل يحتاج إليه أيضا لأن ما بعد الواو لا يصلح لمصاحبة معمول لا تأكل، بل
لمصحابة معمول فعل يمال إليه: أي لا يكن منك أكل السمك مع شرب اللبن (قوله والهمزة وأم) هذا مع كونه
تفسير المعنى الآية يتضمن فائدتين: الأولى تأكيد الجواب عن السؤال الأول، وذلك لأن تجريد الهمزة وأختها لما
ذكره من معنى الاستواء فيه هجر عن جانب اللفظ. الثانية دفع السؤالين الباقين، تقريره أن هاتين الكلمتين قد
انسلخ عنهما ههنا معنى الاستفهام بالمرة حتى زال عنهما الدلالة على حد الأمرين وصارتا لمجرد معنى الاستواء، فإن
اللفظ الحاصل لمعنيين قد يجرد لأحدهما ويستعمل فيه وحده، كما في صيغة النداء فإنها كانت للاختصاص الندائي
فجردت لمطلق الاختصاص، وفى هذه الآية كما خولف لفظ الفعل وأريد به الحدث مضافا إلى فاعله فصح
الإخبار عنه، كذلك خولف لفظتا الهمزة وأم فجردتا عن معنى الاستفهام لمعنى الاستواء، فبطل اقتضاء صدر
الكلام وزال كونهما لأحد الأمرين. لا يقال: فعلى ما ذكرتم يئول المعنى إلى أن المستويين سواء وأنه تكرار بلا
حاصل. لأنا نقول: بل المعنى أن المستويين في صحة الوقوع مستويان في عدم النفع، وتحريره أن هاتين الكلمتين
يدلان على الاستفهام واستواء الأمرين في العلم بالوقوف وبصحته أيضا، فنقلتا إلى مجرد استوائهما في صحة الوقوع
من غير استفهام واعتبار علم وأخبر عنهما بسواء على أنه مقيد بعدم النفع أو بما يجرى مجراه مما يناسب المقام (قوله
ومعنى الاستواء) أراد به أن هذا معناهما في أصلهما ليظهر تضمنهما للاستواء فيصح الحكم بتجريدهما لا أن
152

الاستواء في علم المستفهم مقصود منهما، كيف وهما بعد التجريد لا يقعان المستفهم. وقيل أراد به أن
الاستواء الذي جردتا له هو استواؤهما في علم المستفهم عند استعمالهما في الاستفهام، وههنا قد ذهب الاستفهام
ونفى الاستواء في العلم، وهذا أقرب إلى الحقيقة وأليق بقولهم جردتا لمعنى الاستواء منسلخا عنهما معنى الاستفهام،
لاقتضائه أن يكون المراد بهما هو الاستواء الذي كان مع الاستفهام، وإلا لم يكن تجريدا عن مجرد الاستفهام،
فالمستفاد منهما هو الاستواء في علم المستفهم والمستفاد من سواء هو الاستواء فيما سيق له الكلام، كأنه قيل:
المستويان في علمك مستويان في عدم الجدوى، وهذا ما نقل عن المصنف من أن معناه، ما استوى فيه علمك حتى
اشتغلت به مستو في عدم التأثير، كأنه سأل ربه أأنظرتهم أم لا؟ فقيل له ذلك، ومحصول هذا المنقول أن هناك
سؤالا مقدرا أوقع هذا الكلام عقيبه فأشير إلى الاستواء في علم ذلك المستفهم. وحكى بعض المحققين عن أبي على
أن الفعلين مع الحرفين في تأويل اسمين بينهما واو العطف، لأن ما بعد كلمتي الاستفهام مثل قولك أقمت أم
قعدت متساويان في علم المستفهم، فإذا قيل سواء على أقمت فقد أقيمتا مع ما بعدهما مقام المستويين
وهما قيامك وقعودك، كما أقيم لفظ النداء مقام الاختصاص، وعلى هذا يكون الواقع موقع الفاعل أو المبتدأ
مجموع الفعلين مع الحرفين، ثم اختار أن سواء في مثله خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمران سواء على، ثم بين
الأمرين بقوله أقمت أم قعدت، وهذان الفعلان في معنى الشرط، والجملة الاسمية السابقة دالة على جوابه: أي
إن قمت أو قعدت فالأمر ان سواء على: ألا ترى أن الماضي المذكور في مثله يفيد معنى المستقبل وما ذاك إلا
لتضمنه معنى الشرط، ولذلك استهجن الأخفش على ما حكى عنه أبو علي في الحجة أن يقع بعدهما الابتدائية وأما
قوله تعالى - سواء عليكم أدعوتموهم أو أنتم صامتون - فلتقدم الفعلية وإلا لم يجز، واستقبح أيضا وقوع المضارع
بعدهما وذلك لأن إفادة الماضي معنى الاستقبال أدل على إرادة معنى الشرط، ويؤيده أن ما جاء في التنزيل من
هذا القبيل جاء على صيغة الماضي، وإنما أفادت الهمزة فائدة إن الشرطية لأن كلمة إن تستعمل في الأغلب في أمر
مفروض مجهول الوقوع، وكذلك حرف الاستفهام يستعمل فيما لم يتيقن حصوله فجاز مقامها مجردة عن
153

معنى الاستفهام، وكذا أم جردت عن معناها وجعلت بمعنى أو لأنها مثلها في إفادة أحد الشيئين، قال: ويرشدك
إلى أن سواء ساد مسد جواب الشرط لاخبر مقدم أن معنى سواء على أقمت أم قعدت، ولا أبالى أقمت أم
قعدت، واحد في الحقيقة، ولا أبالى ليس خبرا للمبتدأ بل المعنى: إن قمت أو قعدت فلا أبالى بهما، وكذا
يرشدك إليه قوله:
سيان عندي إن بروا وإن فجروا * فليس يجرى على أمثالهم قلم
وقبله: أدرت في هذه الدنيا وساكنها * طرفي فأبصرت دارا ما بها إرم
الواجدون غنى والعامدون نهى * ليس الذي وجدوا مثل الذي عدموا
ليسوا وإن وجدوا عيشا سوى نعم * ليس الذي وجدوا مثل الذي عدموا
وإنما خص استعمال الهمزة وأم في هذا المعنى بما بعد سواء ولا أبالى وما يجرى مجراهاما، لأن المراد التسوية في الشرط
بين أمرين، فاشترط فيما يقع موقع الجزاء أن يشتمل على معنى الاستواء قضاء لحق المناسبة، ولهذا وجب تكرير
الشرط، ولم يصح لا أبالى أقام زيد، فعلى ما اختاره هذا الفاضل تكون الجملة الشرطية خبر إن، والمعنى: إن
الذين كفروا إن أنذرتهم أو لم تنذرهم فهما سواء عليهم (قوله بعلم غير معين) صح بكسر الياء في نسخة المصنف
على صيغة اسم الفاعل: أي بعلم لا يفيد التعيين فيكون الأمران مستويين في العلم بهما والمستفهم طالب لتعيين أحدهما
(قوله والتخفيف أعرب) أي أفصح وأدخل في العربية من تحقيق الهمزتين وهو جملة معترضة، وقوله وبتخفيف
الثانية شروع في بيان ما ذكر أنه أعرب (قوله وبحذف حرف الاستفهام) هذه وما بعدها من الشواذ، والباقية
من السبع المتواترة، وإنما جعل المحذوف همزة الاستفهام لكثرة حذفها كما في بيت الكتاب:
* بسبع المتواترة، وإنما جعل المحذوف همزة الاستفهام لكثرة حذفها كما في بيت الكتاب:
* بسبع رمين لجمر أم بثمان * دون همزة الأفعال (قوله وإلقاء حركته) المتبادر من هذه العبارة أنه أراد إلقاء
حركة ذلك المحذوف، أعني حرف الاستفهام، فتصير القراءة عليهم أنذرتهم بحركة الميم والهمزة جميعا، وهى مع
كونها غير مروية عن أحد مخالفة للقياس وموجبة للثقل فلذلك قيل: إن الضمير إنما هو راجع إلى الحرف الذي
بعد حرف الاستفهام فتكون القراءة عليهم أنذرتهم بفتح الميم مع سكون النون بلا همزة أصلا، ويشهد له قوله،
كما قرئ قد أفلح (قوله هو لا حن خارج خروجين) اعتذر عن الأول بأن من قلب الهمزة ألفا أشبع الألف مقدارا
زائدا على المعتاد ليكون ذلك فاصلا بين الساكنين، كما ذكر في قراءة من قرأ محياي بسكون الياء وصلا، وعن
الثاني بأن المتحركة قد تقلب ألفا على الشذوذ وكقول حسان * سألت هذيل رسول الله فاحشة * وقول
الفرزدق: * فارعى فزارة لأهناك المرتع * والشاذ لا يكون خارجا عن كلام العرب، وهذه القراءة من
154

قبيل الأداء، ورواية المصريين عن روش؟؟ وغيرهم يروون عنه التسهيل بين بين كالقياس فلا يكون الطعن فيها
طعنا فيما هو في السبع المتواترة على أن المصنف لا يبالي بذلك أيضا (قوله جملة مؤكدة للجملة قبلها) جعل لا يؤمنون
تأكيدا وبيانا للاستواء في عدم الإجداء أولى من أن يجعل خبرا وما قبله اعتراضا، لأن ما تقدمه أقوى وأظهر منه
في إفادة ما سيق له الكلام، فبالحري أن تكون عمدة فيه لا معترضة مستغنى عنها، فإن جعل لا يؤمنون خبرا كان له
محل من الإعراب، وكذا إن جعل بيانا للجملة قبله إن أجرى مجرى التوابع، هذا إذا كان ما قبله جملة وإن قدر أنه
اسم فاعل مع فاعله تعين أن يكون لا يؤمنون تقريرا وبيانا لمضمونه لأن الاعتراض عنده لا يكون إلا جملة لا محل لها
(قوله أخوان) أي متشاركان في العين واللام ومتناسبان في المعنى كما بينه بقوله لأن الاستيثاق الخ، وقد أشار في
السؤال إلى اندراج الأسماع في حكم الختم الختم كما سيصرح به ويؤيده، وفى قوله لاختم ولا تغشية ثم على الحقيقة رد
على من زعم ذلك من أصحاب الظاهر، وأراد بباب المجاز ما يكون علاقته المشابهة لا ما يتناول المرسل، وذلك
لينحصر في هذين النوعين كما يقتضيه ظاهر عبارته وبالاستعارة المجاز المبنى على المبالغة في تشبيه مفرد بمفرد،
وبالتمثيل ما ينبئ من المجاز على تشبيه هيئة متزعة من أمور عدة تهيئة مثلها وتسمى مجازا مركبا، وأجزاء هذا
المركب وإن كان لها مدخل في انتزاع وجه الشبه إلا أنه ليس في شئ منها على انفراده تجوز باعتبار هذا المجاز
المتعلق بمجموعها، بل هي باقية على حالها من كونها حقيقة أو مجازا كما حقق في موضعه، فظهر أن المجاز المبنى
على التشبيه ينقسم عند المصنف إلى هذين القسمين القسمين كما ذكر في الإيضاح، ويوافقه كلام الشيخ عبد القاهر وكثير
من القدماء، وقد تقرر في هذا الكتاب الفرق بينهما حيث قال في قوله تعالى - واعتصموا بحبل الله جميعا - يجوز
أن يكون تمثيلا وأن يكون استعارة، وجعل السكاكي التمثيل بالمعنى المذكور نوعا من الاستعارة التي أراد بها
المجاز الذي مبناه على المشابهة، وميزه عن النوع الآخر بأن سماه استعارة تمثيلية، ولا مناقشة في الاصطلاحات
لكن يجب التنبيه عليها كيلا يغلط في المعاني باختلافها (قوله أما الاستعارة فأن تجعل) حاصل ما ذكره في الاستعارة
155

أن لفظ الختم أستعير من ضرب الخاتم على نحو الأولى هيئة في القلب والسمع مانعة من خلوص الحق
إليهما، كما يمنع نقش الختام على تلك الظروف من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها، فتكون استعارة محسوس
لمعقول بجامع عقلي هو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه وحقه أن يقبله، ثم اشتق من الختم المستعار صيغة
الماضي، ففي ختم استعارة تصريحية تبعية، وقوله (من قبل إعراضهم واستكبارهم) إشارة إلى الهيئة الحادثة في
القلوب المانعة من أن ينفذ فيها الحق ويخلص إلى ضمائرها، ففيه تنبيه على المشبه وعلى وجه التشبيه، كما أن قوله
(لأنها تمجه وتنبو) إيماء إليهما، لإن مج الأسماع للحق ونبوها عن الإصغاء إليه وكراهتها لاستماعه يدل على عدم
نفوذه فيها لأجل هيئة حادثة فيها مانعة من النفوذ، ويلزم من التشبيه الذي تتضمنه هذه الاستعارة تشبيه القلوب
والأسماع بالأواني لكنه تابع لذلك التشبيه، ولا يمكن أن يقصد ابتداء، فبطل ما توهم من أن القلوب والأسماع
استعارة بالكناية والختم تخييل، وكيف لا وسيرد عليك أن رد التبعية في أمثال هذه السور إلى المكنية كما ذهب إليه
السكاكي مما لايستحسن أصلا ومن ههنا يعلم أن قوله (فأن تجعل قلوبهم وسماعهم كأنها مستوثق منها بالختم)
لا يدل على أن المقصود تشبيه القلوب والأسماع كما يتناول إليه الوهم، بل هو بمنزلة أن يقال تجعل الحال لكونها
دالة على كذا كأنها ناطقة به، مع أن المراد تشبيه دلالتها بالنطق لاتشبيهها بالناطق، وأن لفظ الغشاوة أستعير من
معناه الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضيه لعدم اجتلائا آيات الله ودلائله فهو استعارة مصرح بها أصلية من
محسوس لمعقول، والجامع ما ذكر في تلك التبعية، ودعوى كون الأبصار استعارة مكنى باطلة أيضا لما مر.
ألا ترى أنه حكم بأن الختم والتغشية من باب المجاز، ومحصول ما قرره في التمثيل أن تشبه حال قلوبهم وأسماعهم
وأبصارهم مع لهيئة الحادثة فيها المانعة من الانتفاع بها في الأغراض الدينية التي خلقت هذه الآلات لأجلها بحال
أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع عن ذلك بالختم والتغطية، ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على
المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا من عدة أمور، والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض
مانع تمكن فيه كالمانع الأصلي، وهو أمر عقلي متنزع من تلك العدة فتكون الاستعارة حينئذ تمثيلية، وليس
للإسناد إلى الخاتم والمغشى في هاتين الجملتين الاسمية والفعلية مدخل في هذا القبيل، كما لا مدخل له في أراك
تقدم رجلا وتؤخر أخرى. فإن قيل: إذا أستعير اللفظ من حالة مركبة لأخرى مثلها وجب أن يكون ذلك
اللفظ مركبا قطعا، إذ لا يراد بالمعنى المركب ههنا ما له أجزاء في نفسه بل ما دل عليه بلفظ مركب، فإن معنى كل
واحد من الأسد والجبل والأرض من المعاني المفردة التي تلاحظ ملاحظة واحدة بألفاظ مفردة وإن كانت مشتملة
على أجزاء متكثرة، وإذا قصد تلك الأجزاء بألفاظ متعددة متألفة كانت معاني مركبة بلا شبهة، وعلى هذا كيف
156

يمكن حمل الآية على التمثيل وليس فيها اللفظ مركب مستعار من المشبه به للمشبه، بل هنا لفظان مفردان صالحات
للاستعارة فقط. قلنا: إذا حمل ما نحن فيه عن الاستعارة كان المستعار لفظ مفردا كما مر تحقيقه، وإذا حمل على
التمثيل كان المستعار لفظا مركبا بعضه ملفوظ وبعضه منوى في الإرادة، وسنطلعك على أن ملاحظة المعاني قصدا
إما بألفاظ مذكورة في نظم الكلام أو منوية بلا ذكر ولا تقدير فيه، وإنما صرح بالختم وحده وبالغشاوة
وحدها لأنهما الأصل في تلك الحالة المركبة فتلاحظ باقي الأجزاء قصدا بألفاظ متخلية، إذ لابد في التركيب من
ملاحظات قصدية متعلقة بتلك الأجزاء، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتخيل ألفاظ بإزائها كما يقتضيه جريان العادة
ويشهد به رجوعك إلى وجدانك. ومن فوائد هذه الطريقة جواز الحمل على كل واحد من الاستعارة والتمثيل،
فعلى الأول يكون التجوز في لفظي ختم وغشاوة، وعلى الثاني لا تجوز فيهما بل في المجموع المركب منهما ومن
المنوى معهما (قوله وقد جعل بعض المازنيين) هذا بحسب ظاهره تأييد للاستعارة، فإنه لما جاز أن يستعار
الختم للحبسة التي لايفوت معها بالكلية ما هو المقصود، أعني النطق، كان استعارته لتلك الهيئات المانعة عن
المقصاد بالمرة أولى بالجواز، لكن تأخيره عن التمثيل يقتضى أن يؤيده أيضا فيقال حينئذ لا يقتصر في التشبيه على
مجرد معنى الحبسة كما في الاستعارة بل يعتبر معه حالة مخصوصة مركبة من أمور متعددة على قياس ما مر تجويزه،
وفى البيت الثاني نوع إشعار باعتبار التركيب (قوله فلم أسند) تفريع هذا السؤال على ما تقدم مبنى على قاعدة
الاعتزال: أي إذا كان الختم مستعار الإحداث الهيئة المانعة، أو تمثيلا لحالة مشتعملة لم يجز إسناده إليه تعالى:
157

إذ يلزم منه على التقديرين أن يكون سبحانه ماعنا من قبلو الحق بختم القلوب ومن التوصل إليه بختم الأسماع،
وكلاهما قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى بدليل عقلي، هو أنه تعالى مستغن عن القبيح وعالم بقبحه وبغناه عنه،
فيمتنع الصدور لحمته لا لخروجه عن قدرته، وبدلائل سمعية نطق بها لا تنزيل، فإن نفى الظلم عنه ليس إلا قبحه
فيعم القبائح كلها. ومن المعلوم أنه إذا لم يكن آمرا بالفحشاء لم يكن فاعلا لها أصلا. وأما على قاعدة أهل الحق فلا
قبيح بالنسبة إلى تعالى، بل الأفعال كلها بالسنبة إليه على سواء، ولا يتصور في أفعاله ظلم لأن الكل منه وبه وإليه،
فله أن يتصرف في الأشياء كلها كما يشاء، وإنما يوصف بالقبح والظلم ونظائرهما أفعال العباد باعتبار كسبهم هلا
وقيامها بهم، لا باعتبار إيجاد الله إياها فيهم كما حقق في الكتب الكلامية (قوله القصد إلى صفة القلوب) أجاب
عن السؤال المذكور بأجوبة خمسة: الأول أن الإسناد إليه تعالى كناية عن فرط تمكن هذه الصفة إلى هي الهيئة
الحادثة المانعة وثبات رسوخا في قلوبههم وأسماعهم، فإن كونها كذلك يستلزم كونها مخلوقة لله تعالى صادرة
عنه فذكر اللازم ليتصور وينتقل منه إلى الملزوم الذي هو المقصود فيصدق به. ألا تراهم يقولون: فلا مجبول
على كذا، ولا يعنون به تحقق خلقه عليه بل ثباته وتمكنه فيه، ولما لم يمكن إرادة الحقيقة في إسناد ختم إلى الله تعالى
على مذهبه وجب أن يعده مجازا متفرعا عن الكناية، فقد ذكر في قوله تعالى - ولا ينظر إليهم - أن أصله فيمن
يجوز عليه النظر الكناية ثم جاء فيمن لا يجوز عليه مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه
النظر، فظهر بما قرره هناك أنه إذا أمكن المعنى الأصلي كان كناية، وإذا لم يمكن كان مجازا مبنيا على تلك الكناية
وحينئذ يجوز إطلاق الكناية عليه نظرا إلى أنه أصله كان كناية في معنى، ثم انقلب فيه مجازا والتغاير اعتباري.
ومن ثم تراه جعل بسط اليد وغلها في سورة المائدة مجازين عن الجود والبلخ، وجعلهما في طه من الكنايات
كالاستواء على العرش، فلا منافاة بين قوليه ولا حاجة في دفعهما إلى ما قيل من أنه قد يشترط في الكناية إمكان
المعنى الأصلي وقد لا يشترط، وسيأتيك هناك مزيد تفصيل لذلك، هذا وقد سبق إلى بعض الأوهام من قوله بأنها
158

كالمختوم عليها. كأنها مستوثق منها بالختم أن المشبه به في الاستعارة المذكورة هو الختم المبنى للمفعول لا المبنى
للفاعل، ولذلك قيل المشبه عدم نفوذ الحق في القلوب والأسماع لا إحداث الهيئة المانعة فيها، وفساده ظاهر
لأنه إذا أستعير المصدر المبنى للمفعول اشتق منه فعل مبنى له كما يشتق من المصدر المبنى للفاعل فعل مبنى له،
فكان ينبغي أن يقال ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وأيضا كون الشئ مختوما عليه مستلزم لعدم النفوذ فيه
استلزاما ظاهرا، فيكون إطلاقه عليه من باب المجاز المرسل وجعله من قبيل الاستعارة تعسف. نعم قد يشبه كون
القلب مثلا قد أحدث فيه هيئة مانعة من أن ينفذ فيه الحق بكون لا شئ مختوما عليه، وتنقيح المقام أن المشابهة
التامة إنما هي بين النقش الحاصل في الختم والهيئة المانعة الحادثة في القلوب والأسماع من حيث أن كلا منهما مانع
من النفوذ، وحينئذ جاز أن يشبه إحداث هذه الهيئة بإحداث ذلك النقش ويبنى منه الفعل للفاعل، وأن يشبه كون
القلب محدثا فيه هذه الهيئة بكون الشئ محدثا فيه ذلك النقش، ويبنى منه الفعل للمفعول. وأما عدم النفوذ فهو
من تتمة وجه الشبه لامشبه ولا مشبه به، والمقصود بالصفة التي نبه بالإسناد إلى الله تعالى على ثبات قدمها وتمكنها
هو هذه الهيئة الحادثة في القلب لا إحداطها ولا كونها محدثة فيه، فتبصر واستكشف بما قررناه حال قوله - وعلى
أبصارهم غشاوة، ولا تكن من الغافلين (قوله ما خيل إليك) وهو أنه تعالى يمنع من قبول الحق والتوصل إليه:
يعنى أن الآية مسوقة لاستقباح حالهم واستحقاقهم العذاب العظيم فلا مجال لذلك التخييل. الجواب الثاني بغير
المدعى، وهو أن لا يحمل الختم على الاستعارة ولا على التمثيل المذكور بل على تمثيل آخر يكون وجها ثالثا
في الآية، وهو أن يشبه حال قلوبهم فيما كانت عيه من التجافي والنبو عن الحق بحال قلوب محقق ختم الله عليها
159

كقلوب الأغنام أو البهائم، أو بحال قلوب مقدر ختمه تعالى عليها، ثم تستعار الجملة: أعني ختم الله على القلوب
كما هي: أي مأخوذة بتمامها المشتمل على إسنادها من المشبه به للمشبه، إما على سبيل التمثيل الحقيقي أو التخييلى،
فيكون المسند إلى الله تعالى إسنادا حقيقيا ختم تلك القلوب المحققة أو المقدرة حتى لا تعي شيئا ولا قبح فيه أصلا،
سواء كان ختما حقيقيا أو مجازيا كما هو الظاهر، لاختم قلوب الكفار لأن الإسناد إليه تعالى داخل في المشبه به،
فلا مدخل له تعالى في تجافى قلوبهم ونبوها، كما لا مدخل للمتردد الذي خاطبته بقولك: أراك تقدم رجلا وتؤخر
أخرى، في تقديم الرجل وتأخيرها، إذ كل منهما داخل في المشبه به على ما ترى، وإن فرض أنه عبر عنهما أو عن
أحدهما بلفظ مجازى كالختم في الآية الكريمة إذا حمل على المجاز الذي هو المختار كما مر. وفى الصحاح العنقاء:
الداهية، وأصلها طائر عظيم معروف الاسم مجهول الجسم. ونقل الأزهري عن المنذري عن المفضل أنه قال
ابن الكلبي: إنها طائرة عظيمة طويلة العنق كانت تنتاب جبل دمخ من أراضي أصحاب أصحاب الرس وتنقض على الطير
فتأكلها، فجاعت يوما فانقضت على صبي فذهبت به فسميت بعنقاء مغرب، بضم الميم لأنها تغرب بكل
ما أخذته، وحذفت التاء من مغرب على طريقة قولهم لحية ناصل، ثم انقضت على جارية قد ترعرعت فطارت بها،
فشكوا إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليه فهلكت، فضربتها العرب مثلا في أشعارها، وهذا أقرب ما قيل فيها.
160

وذكر المصنف نحوا منه في سورة الفرقان. وقال الليث: إنها اسم ملك، والتأنيث عنده باعتبار اللفظ، وعن أبي
زيدا أنها أكمة فوق جبل شاهق، وذكر بعضهم أنها طائرة أغربت في البلاد فنأت فلم تر بعد ذلك. وهذا المعنى
يلائم طول الغيبة وما تقدم يناسب الإهلاك الكلى. وفى الحواشي يقال ثلة أغتام كثلة أغنام. الأغتام جمع غتم جمع
أغتم وهو الجاهل الذي لا يفهم شيئا. قيل ونظيره الأعزال جمع عزل جمع أعزل وفى الأساس رجل أغتم وقوم غنتم
وأغتام من الغتمة وهى العجمة في المنطق. وذكر المصنف في سورة النبأ عن بعضهم أن ألفاظا جمع لف جمع لفاء،
واختاره وادعى أنه ليس واجدا له نظيرا، وعلى هذا فالوجه أن يجعل أغتام عنده مما لا واحد له من لفظه دفعا
للتنافي بين قوليه، ونبه بقوله هي في خلوها عن الفطن كقلوب البهائم على أنها ليست قلوب من يجرى عليه تكليف
وقوله وليس له عز وجل فعل في تجافيها معطوف على قوله فكذلك مثلث أن يجعل الختم على
طريق الاستعارة أو التمثيل السابق كما ادعاه أولا، ويجعل إسناده إلى الله تعالى مجازا من باب إسناد الفعل إلى
المسبب له، فالخاتم في الحقيقة هو الشيطان أو الكافر نفسه، إلا أنه سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند
إليه الفعل كما أسند إلى الأمير في قولهم: بنى الأمير المدينة، وفى قوله (أن يستعار الإسناد) إشارة إلى أن الموصوف
بالمجاز العقلي هو الإسناد لا الكلام المشتمل عليه، ولفظ اسم في قوله (إلى اسم الله) مقحم للتأديب، والمبالغة في
كون إسناد الختم إليه مجازا صرفا حتى كأنه مسند إلى اسمه لا إليه (قوله وهو) أي الختم أو إسناده ثابت (لغيره)
تعالى في حال كونه (حقيقة) وقد صرح باعتبار المجاز العقلي في الفعل وحده، واقتصر من ملابسات الفعل على
ما يصلح لإسناده إليه، فلم يذكر المفعول معه والحال والتمييز، وأراد بالفعل الحدث وبالفاعل ما كان الفعل وصفا
قائما به سواء كان حقيقيا أو اعتباريا صادرا عنه أو عن غيره، فالضارب مثلا فاعل دون المضروب للفعل المبنى
للفاعل، لأن الضاربية صفة قائمة به، والمضروب فاعل دون الضارب للفعل المبنى للمفعول، لأن المضروبية
وصف قائم به، وإسناد ضرب إلى الأول حقيقة وإلى الثاني مجاز، وإسناد ضرب بالعكس وتسمية المجاز العقلي
بالاستعارة إنما هي على سبيل التشبيه بالاستعارة الاصطلاحية كما أشار إليه بقوله (وذلك) أي إسناد الفعل إلى هذه
الأشياء (لمضاهاتا الخ) فالمستعار ههنا معنى وهنالك لفظ، ومن ثمة جعلهما متقابلين في قوله تعالى - إن الذين
لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم - حيث قال له طريقان في علم البيان: أحدهما أن يكون من المجاز الذي يسمى
استعارة، والثاني أن يكون من المجاز الحكمي. والقول بأن السكاكي حمل كلام المصنف ههنا على الاستعارة
المكنية فارتكب لذلك رد المجاز العقلي إليها مما لايلفتت إليه. وفى تقييده المضاهاة بقوله (في ملابسة الفعل) إشعار
بأن المشابهة يجب أن تكون من هذه الجهة، وفيه كلام سيأتيك عن كثب (والمفعم) المملوء وهو الوادي فقد بنى
للمفعول وأسند إلى الفاعل الذي هو السيل على كعس ما تقدم، يقال ذال: أي هان، وأذاله أهانه (وذيل ذائل)
161

أي هوان شديد، وهذا أظهر في التمثيل من شعر شاعر، لأن المتبادر من الشعر هو الكلام المنظوم لا المعنى
المصدري (قوله وناقة ضبوث) وهى التي يشك في سمنها فتضبث: أي تجس باليد، فلما كان فيها ما يحمل الرائي
على جسمها جعلت كأنها تضيث نفسها، ومنه ناقة حلوب وماء شروب وطريق ركوب، والمقصود من جعلها
مجازا عقليا إبقاء فعول على ما هو المتعارف من كونه بمعنى الفاعل دون المفعول (قوله إذا رد عافى القدر من
يستعيرها) أوله * فلا تسأليني واسألى عن خليقتي * أي اسأل عن طبيعتى وخلقى أيام الجدب، وذلك أن
العافي بقية المرقة في القدر يرد معها إذا استعيرت، إما بمعنى السائل كأنها تسإل صاحبها أن يعطيها صاحب القدر،
وإما لأنها خير نام جهة القدر من عفا النبات إذا نما وكثر، وإما لأنها شئ يسير عافى الأثر فقيل كانوا في السنة
الجدبة لايستعيرونها تفاديا عن إعطاء العفاى، فهو سبب مانع للمستعير من الاستعارة، فنسب الرد إليه كما ينسب
الفعل إلى سببه، وقيل كانوا إذا استعاروا في القحط قدرا ردوها معها شيئا مما طبخ فيها، وعلى هذا يكون عافى
القدر مفعولا أسكن يه الياء حال النصب كما في " أعط القوس باربها " وجاز تقديمه على الفاعل مع انتفاء
الإعراب اللفظي لوجود القرينة المعنوية، بل وجب ذلك لاشتعمال الفاعل على ضمير راجع إلى متعلق المفعول،
ولم يستحسنه المصنف فاختار التجوز، إذ لا ظهور للقرينة المعنوية مع جوازه وإسكان المنصوب أيضا قليل مخالف
للأصل. الجواب الرابع أن الختم عبارة عن ترك القسر والإلجاء إلى الإيمان فيجوز إسناده إلى الله تعالى حقيقة
وتحريره أن الختم على القلوب يستلزم ترك القسر والإلجاء إلى الإيمان، فمعنى ختم الله على قلوبهم: أنه لم يقسرهم
عليه، وليس هذا: أعني ترك القسر مقصودا في نفسه بل لينتقل منه إلى أن مقتضى حالهم الإلجاء لولا ابتناء
التكليف على الاختيار، وينتقل من هذا المقتضى إلى أن الآيات والنذر لاتغنى عنهم وإن الألطاف لا تجدى عليهم
وينتقل من عدم الإغناء والإجداء إلى تناهيهم في الإصرار على الضلال، فأطلق الختم على ترك القسر مجازا مرسلا
ثم كنى به عن ذلك التناهي فيكون هذا وجها مستقلا في الآية كالجواب الثاني، هذا ما يقتضيه ظاهر قوله عبر عن
ترك القسر والإلجاء بالختم إشعار بأنهم الخ ومنهم من قال: حاصله أن الختم المستعار لما مر جعل مجازا عن ذلك
162

الترك بعلاقة اللزوم فهو مجاز بمرتبتين، ولا يجوز إن يستعار الختم من معناه الأصلي لترك القسر المشابه له في المنع
عن وصول الحق في شأن هؤلاء خاصة، لأن الختم إحداث مانع مخصوص، وترك القسر ترك رفع مانع معقول،
واستعارة الإحداث للعدم بعيد، على أن معنى المنع في ترك القسر غير ظاهر إلا بعد سبق العلم بحالهم والآية لبيانها،
وقد مر تفسير الألطاف وهى إما مقربة أو محصلة، فإن حصلت الطاعة سميت توفيقا، وإن حصلت ترك المعصية
سميت عصمة. وقوله إن أعطوها شرط دل ما قبله على جزائه، وقوله عبر جواب لما كانوا، وهى أي التعبير
بالختم عن ترك القسر لذلك الإشعار هي الغاية، والتأنيث باعتبار الخبر، والاستشراء المبالغة في اللجاج، يقال
شرى الفرس في لجامه والبعير في زمانه: أي مده وجذبه. الجواب الخامس أن يكون ما نحن فيه حكاية لما كان
الكفرة يقولونه لاعبارتهم، فإن كون القلوب في أكنة هو معنى الختم عليها، كما أن يكون ما نحن فيه حكاية لماكان
الكفرة يقولونه لا بعبارتهم، فإن كون القلوب في أكنة هو معنى الختم عليها، كما أن ثبوت الوقر في الآذان ختم
عليها، وثبوت الحجاب تغشية للأبصار، وكون هذه الحكاية على سبيل التهكم بهم مما يعرف بالذوف السليم والإسناد
إلى الله تعالى حينئذ حقيقة، لأنهم يجوزون إسناد القبيح إلى الله تعالى، وأما الختم فيجوز أن يكون حقيقة وأن
يكون مجازا فإنه ذكر في قوله تعالى - وقالوا قلوبنا غلف - أنهم أرادوا أنها في أغطية جبلية وفطرية، وفى قوله
- وقالوا قلوبنا في أكنة - الآية أنها تمثيلاث لنبو قلوبهم عن الحق، فإن جعل الختم حقيقة كان هذا وجها مستقلا،
وإن جعل مجازا كما هو الأولى كان راجعا إلى ما تقدم، وقد غير أسلوب الكلام في الوجه الرابع حيث لم يقل
ويجوز بناء على طول مباحث الإسناد المجازى فصرح بكونه وجها رابعا، واعترض على الوجه الثالث باقتضائه
صحة إسناد جميع أنواع الكفر والمعاصي، بل جميع أفعال الأجسام إلى الله سبحانه لأنها بإقداره وتمكينه، وعلى
الرابع بإنه لا قرينة عليه أصلا، بل جميع أفعال الأجسام إلى الله تقرير ما تقدم من حال
الكفار وتأكيده سواء جعل استئنفا أولا (قوله ونظيره في الحكاية والتهكم قوله لم يكن) إذ قد حكى فيه على
سبيل التهكم معنى ما كانوا يقولون قبل البعثة بعبارة أخرى كما فصله هناك (قوله اللفظ يحتمل) وذلك لأن الواو
الأولى إما لعطف الظرف على ظرف قبله، والثانية لعطف الجملة الاسمية على الفعلية أو الأمر بالعكس. قيل لما
163

كان إدارك القلب والسمع من جميع الجوانب جعل المانع فيهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، ولما كان
إدراك البصر من جهة المقابلة فقط خص المانع فيه بالغشاء المتوسط بين الرائي والمرئي (قوله كان أدل على شدة
الختم في الموضعين) وذلك لأن ملاحظة الجار في كل منهما تقتضى أن يلاحظ مع كل واحد معنى الفعل المعدى،
فكأن الفعل مذكور مرتين (قوله يفعلون ذلك) إشارة إلى أن جواز مطرد إذا أمن اللبس، وكذا الحال في
المصادر عنه لمح الأصل، وأما المرجح فالاختصار والتفنن بتوحيد السمع وجمع أخويه مع إشارة لطيفة إلى أن
مدركاته نوع واحد ومدركاتهما أنواع مختلفة، وما قيل من أن دلالة وحدته على وحدة متعلقه لا تعلم من أي
الدلالات هي مدفوع بأنها من الدلالات الالتزامية التي يكتفى فيها بأي لزوم كان ولو بحسب الاعتقاد في اعتبارات
البلغاء (قوله يدل عليه) أن على أن توحيد السمع لمح الأصل جمع الأذن من الأمن من اللبس (قوله أي وعلى
حواس سمعهم) فيكون السمع حينئذ بمعنى المصدر، وفيما سبق من الوجهين كان بمعنى القوة السامعة (قوله نور
العين) هو القوة التي بها الإبصار كما أن نور القلب هو القوة التي بها التعقل والافتكار، ولفظ كأن في قوله
وكأنهما ليس للتشبيه بل للظن والتخمين الذي كثر استعماله فيه، والمراد بالجوهر الجسم اللطيف النوراني لا ما هو
قائم بذاته ذهابا إلى جعل القوى من قبيل الصور دون الأعراض (قوله بالكسر والنصب) لابد في النصب مطلقا
من تقدير فعل كجعل أو أحدث على طريقة قوله * علفتها تبنا وماء باردا * والعشاء مصدر الأعشى،
وهو من لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار، ولعل المعنى حينئذ: أنهم يبصرون الأشياء إبصار غفلة لاإبصار عبرة
(قوله ويدل عليه) أي على أن العذاب فيه معنى الإمساك والقمع (قوهل على القلب) أي على جعل العين موضع
الفاء والفاء موضع العين، يقال رفت الشئ يرفته: أي فته بيده كما يفت المدر والعظم البالي، فعلى هذا فوزن
فرات عفال (قوله ثم اتسع فيه) أي في العذاب بالتعميم دون النكال، يقال فدحنى الشئ: أي أثقلنى فهو
164

فادح، والمراد بالنقيض ههنا ما يدفع به الشئ عرفا، فإذا قيل هذا كبير أو عظيم دفع الأول بأنه صغير والثاني بأنه
حقير، ولما كان الحقير دون الصغير كان العظيم فوق الكبير. ألا ترى جريان العادة بأن الأخس يقابل بالأشرف
والخسيس بالشريف، فما يتوهم من أن نقيض الأخص أعم مما لا يلتفت إليه في أمثال هذه المباحث، والتنكير في
غشاوة عنده للنوعية وفسره بنوع غير متعارف. وقال عطاء: التعامى دون العمى تنبيها على أن ذلك من سوء
اختيارهم وشآمة إصرارهمه على إنكارهم. وقيل هو للتعظيم: أي غشاوة أي غشاوة، وما ذكره أنسب بقوله
عذاب، لأن حمل تنكيره على التنويع أظهر لاستفادة التعظيم من صريح وصفه الدال عليه بجوهره وصيغته مع
تنكيره أيضا (قوله ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا) هذا إنما يظهر إذا جعل التعريف في الذين كفروا
للعهد مرادا به ناس هم أعلام الكفر. وأما إذا حمل على الجنس سواء جعل عاما خص بالخبر أو مطلقا قيد به على
ما مر ففيه إشكال لتناوله المصرين من الماحضين والمنافقين معا. وأجيب بأنه لما أفرد المنافقين وفصل أحوالهم بما
لا مزيد عليه، علم أن المقصود الأصلي بذكر ذلك الحكم المشترك بينهما الماحضون فقط. وقد يجاب بأنه لا دلالة
لقوله ثم ثنى بالذين محضوا على اختصاص الذكر بهم فلا بأس بتناوله لغيرهم. ورد بأن المتبادر من سوق كلامه
الاختصاص فاحتيج إلى ذلك التأويل قطعا (قوله نعى عليهم فيها خبثهم) أي دعارتهم وعدم طيبهم بذكر ادعائهم
حيازة الإيمان من جانبي المبدأ والمعاد، ومكرهم: أي دهاءهم بقوله - يخادعون الله - وفضحهم بقوله - وما هم
بمؤمنين - وما يخدعون، وفى قلوبهم مرض، واستجهلهم بما يشعرون ولا يشعرون ولا يعلمون، وتهكم بفعلهم
حيث قال - اشتروا الضلالة بالهدى - (قوله وقصة المنافقين عن آخرها) أي ليس هذا من عطف جملة على جملة
لتطلب بينهما المناسبة المصحة لعطف الثانية على الأولى بل من عطف مجموع جمل متعددة مسوقة لغرض على
165

مجموع جمل أخرى مسوقة لغرض آخر، فيشترط فيه التناسب بين الغرضين دون آحادا الجمل الواقعة في المجموعين
وهذا أصل عظيم في باب العطف لم يتنبه له كثيروه فاستشكل عليهم الأمر في مواضع شتى (قوله كما قيل لوقة
في ألوقة) الألوقة الزبدة بالرطب، وقيل الزبدة وحدها، يقال لوق الطعام: إذا أصلح بالزبد، وهذا يدل على
أن اللقوة لغة أخرى كما نقل في الصحاح عن أبي عبيدة عن ابن الكلبي، إلا أن المصنف جعل لوق الطعام مأخوذا
من لوقه تخفيف ألوقة (قوله كاللازم) سواء كان قياسيا أو غيره كما في لفظة الله لكن الحذف ههنا في المنكر
شاهد للثاني (قوله وسموا لظهورهم) هذا هو المختار بدليل المقابل، وقيل اشتقاقه من الأنس ضد الوحشة لأن
الإنسان مدني بالطبع (قوله لأن الزنة على الأصول) هذا في المحذوف إذ المقصود بالزنة فيه التنبيه على الحرف الأصلي
والزائد،، وكيفية التدرج إلى حصول الصيغة بالتصرف، وقد يقصد على قلة بيان الحال فيقال وزن قاض فاع،
وأما في المقلوب فالزنة على الفروع فيقال أيس مثلا وزنه عفل، إذ يعرف به الأصلي من الزائد مع كيفية التغيير،
ولو روعي فيه الأصل لالتبس الحال (قوهل وهو) أي أناس (من أسماء الجمع كرخال) هي بضم الراء اسم جمع
وبكسرها جمع رخل على وزن نمر وهى الأنثى من ولد الضأن، وقد يعد ما هو بالضم جمعا نظرا إلى المعنى، أو إلى
أن الضمة بدل من الكسرة للدلالة على القوة، كما أبدلت لذلك من الفتحة في سكارى وغيارى (قوله وأما نويس)
هذا دفع لما يتوهم من أنا ناسا مأخوذ من النوس وهو الحركة بدليل تصغيره على نويس، ثم إن نويسا إن جعل
مصغر أناس فلا شبهة في كونه على خلاف مكبره، وإن جعل مصغر ناس فقد قيل معنى كونه على خلافه أنه على
خلاف أصل مكبره، إذ لو كان على وفقه لقيل أنيس بتشديد الياء، فلا ينافي ما في المفصل من أن ما حذف منه
شئ إن بقى على ما يتأتى منه مثال المصغر لم يرد إلى إصهل فيقال فيميت وهاروناس: مييت وهوى رونويس، فظهر
أنه مع كونه على قياس مكبره مخالف لقياس أصله الذي هو أنس. وقيل ليست المخالفة كئنة في عدم الرد لصحة
بناء التصغير، بل في قلب ألفه واو لأنها ثالثة تحقيقا، وإنما تقلب الألف إليها إذا كانت ثانية زائدة أو أصلية
منقلبة عن الواو والياء. ورد بأنها ثانية صورة، وقلبها واوا أولى كي لا يجتمع يا آن فلا مخالفة وأنيسيان تصغير
إنسان وقياسه أنيسين كسريحين ورويحل تصغير رجل وقياسه رجيل فكان واحد منهما مخالف للقياس ولمكبره،
وإذا جاز مخالفتهما معا كان مخالفة المكبر وحدها في نويس أولى بالجواز هكذا قيل وليس بشئ إذ لا معنى
لمخالفة المصغر مكبره إلا كونه على خلاف قياس سه، فلا ألولوية من هذه الجهة بل من حيث إن المخالفة فيهما مع
166

المكبر نفسه، وفى نويس مع أصله كما أحاط به علمك (قوله ولام التعريف فيه) أي في الناس (للجنس) فإن
قيل لا فائدة في الإخبار بأن من يقول كذا وكذا من الناس، أجيب بأن فائدته التنبيه على أن الصفات المذكورة
تنافى الإنسانية، فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من الناس ويتعجب منه، ورد بأن مثل هذا التكريب قد يأتي
في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار ولا يقصد فيها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا كقوله
تعالى - من المؤمنين رجال صدقوا - فالأولى أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ على معنى، وبعض الناس أو
بعض منهم من اتصف بما ذكر فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف، ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه
مبتدأ يرشدك إلى ذلك قول الحماسي:
منهم ليوث لا ترام وبعضهم * مما قشت وضم حبل الحاطب
حيث قابل لفظ منهم بما هو مبتدأ أعني لفظة بعضهم، وقد يقع الظرف موضع المبتدأ مع تقدير الموصوف كقوله
تعالى - ومنا دون ذلك - وما منا إلا له مقام معلوم - فالقوم قد روى الموصوف في الظرف الثاني وجعلوه مبتدأ
والظرف الأول خبرا، وعكسه أولى بحسب المعنى: أي جمع منا دون ذلك، وما أحد منا إلا له مقام معلوم، لكن
وقوع الاستعمال على أن من الناس رجالا كذا وكذا دون رجال يشهد لههم (قوله والإشارة إلى الذين كفروا)
يعنى على تقدير كونه محمولا على الجنس مرادا به المصرون مطلقا، وفى ذلك مزيد تقبيح للقسم الأخير وتذكير
لذم الأولين، كأنه قيل: ومن هؤلاء المصرين على الكفر الذين عرفت حالهم القوم الذين من شأنهم في التصميم
على النفاق كيت وكيت، ولما كان المعهود ههنا مذكورا بلفظ آخر أشار إلى ذلك كقوله (ونظير موقعه) أي
موقع الناس (موقع القوم) وجعل من موصوفة مع الجنس موصولة مع العهد رعاية للمناسبة والاستعمال، أما
المناسبة فلأن الجنس مبهم لا توقيت فيه، فناسب أن يعبر عن بعضه بما هو نكرة، والمعهود معين فناسب أن يعبر
عن بعضه بمعرفة. وأما الاستعمال فكما في الآيتين المذكورتين لما أريد بالمؤمنين الجنس عبر عن بعضهم بالنكرة،
وأريد بالضمير جماعة معينة من المنافقين عبر عن بعضهم بالمعرفة. قيل والسر في ذلك أنك إذا قلت: من
هذا الجنس طائفة شأنها كذا، كان التقييد بالجنس مفيدا، بلاخف ما إذا قلت: من هذا الجنس الطائفة
الفاعلة كذا لأن من عرفهم كونهم من الجنس أولا. وإذا قلت: من هؤلاء الذي فعل كذا؟ كان حسنا؟
إذ فيه زيادة تعريف له، ولا يحسن كل الحسن أن يقال: فاعل كذا لأنه عرفهم كلهم إلا إذا كان في تنكيره
167

غرض كستر عليه أو تجهيل وكلامنا الآن في الأصل (قوله كيف يجعلون) هذا سؤال على جواز كون اللام في
الناس للعهد، أي كيف يجعل أهل التصميم على النفاق (بعض أولئك) الكفرة المصرين الذين وصفوا بالختم على
قلوبهم (والمنافقون) المذكورون (غي المختوم على قلوبهم) أي غير من أخبر عنهم فيما تقدم بالختم الأنهم الذين
محضوا الكفر ظاهرا وباطنا كما دل عليه قوله ثم ثنى. والجواب أن الكفر على سبيل التصميم والإصرار بالختم
والتغشية (جمع الفريقين) أي الماحضين المصرين والمنافقين المصممين (معا وصيرهم جنسا واحدا) هو الكافر
الذي لا يرعوى عن كفره أصلا، لكن المنافقين امتازوا عن الماحضين (بزيادة زادوها على الكفر) الإصرارى،
وبذلك لا يخرجون عن ذلك الجنس الجامع بينهما. والحاصل أن المراد بالذين كفروا على تقدير الجنس هم المصرون
مطلقا، فيندرج فيه المنافقون المصممون، وما ذكره من أنه ثتى بذكر المحاضين محمول كما مر على أن المنافقين
لما إفردوا بذكر ما هو كاف في بيان أحوالهم كان المقصود بالذات في ذلك الحكم المشترك بيان حال الماحضين،
لا على أن الماحضين هم المرادون به مطلقا. وبما قررناه صح جعلهم بعض أولئك واستقام قوله ثم ثنى بلا إشكال.
لا يقال: فعل يهذا لأي كون المنافق الذي لايصر على نفاقه داخلا في أحكام هذه الآيات. لأنا نقول: لا بأس به
كما في عدم دخول الماحض الذي لا يصر على كفره فيما تقدم، وعدم دخول صاحب الكبيرة في المتقين مع كونه
من المؤمنين عند الجمهور. فالمذكور من الأقسام الثلاثة للمكلفين رؤساؤها وأعلامها. ومنهم من قرر قرر السؤال
بأن من المنافقين من يخلص الإيمان، فلا يصح جعل كلهم بعضا من الكفرة الذين ختم على قلوبهم. وأجاب بأن
الكافر جنس يندرج فيه أنواع متمايزة بخصوصيات. وإذا كان اللام في الناس للعهد كان إشارة إلى ذلك الجنس
مطلقا لا إلى المصرين الذين دل الإخبار بالاستواء على أنهم هم المرادون فقط، ولا إلى الخلص الذين كفروا ظاهرا
وباطنا. ثم قال: وأما الجواب بحمل المنافقين أيضا على المصممين بدليل ما في الآيات من التشديدات والحكم
بالصمم والبكر والعمى وتصريح المصنف فيما مر بأنهم من أهل التصميم على النفاق، وفيما سيأتي بأنهم من أهل
الطبع، فهم بعض من الكفرة المختوم على قلوبهم واشتراؤهم الضلالة بالهدى يتوقف على تمكنهم منه بحسب الفطرة،
ولاينافى الختم العارض بتقديرهم ففيه أنه لا يوافق تقرير الكتاب، وكلاهما مردودان. أما جوابه فلأن لام
العهد بعد ذكر المعهود إنما تكون إشارة إلى ما أريد به في نظم الكلام لا إلى ما يعمه وغيره. وأما دعواه عدم
الموافقة فلما أشرنا إليه من أن الكفر المذكور في تقرر المصنف أريد به الكفر الذي أصر عليه اعتمادا على ما علم مما
سلف (قوله قلت اختصاصهما بالذكر كشف) هذه نكتة متعلقة بحكاية مقالهتم: أي حكى كلامهم على
ما قالوه وكشف بذلك عن إفراطهم. والدعارة: الفسق والفساد، من دعر العود دعرا أي كثر دخانه، يقال فلان
168

داعر في كل فتنة ناعر (قوله كانوا يهودا) أي يهوديين، يقال يهودي ويهودي كزنجى وزنج، وأما يهود مفردا
فهو علم جرى في كلامهم مجرى القبيلة دون الحي، قال الشاعر:
فرت يهود وأسلمت جيرانها * صمى لما فعلت يهود صمام
(قوله وكفرا موجها) أي ذو وجهين كل كفر له وجه من قولهم كساء موجه له وجهان (قوله وأيضا فقد أوهموا)
أي وإذا قالوا ذلك وخصوهما بالذكر فقد أو هموا بأنهم آمنوا بالمبدأ والمعاد على ما ينبغي، ويندرج فيه الإيمان كله
وهذه نكتة متعلقة بمقالاتهم لا بحكايتها (قوله الأول في ذكر شأن الفعل) أي في بيان أنه متحقق صادر عنهم
(والثاني في ذكر شأن الفاعل) أي في بيان أنه بحيث لم يصدر عنه ذلك الفعل، وسواء قصد بذلك اختصاصه بنفي
الفعل كما سيأتي في قوله تعالى - وما أنت علينا بعزيز - أو لم يقصد، فإنه لا يطابق رد دعواهم، بل المطابق له أن
يقال وما آمنوا. والجواب أن العدول إلى الاسمية لسلوك طريق الكناية في رد دعواهم الكاذبة، فإن انخراطهم في
سلك المؤمنين وكونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم أعدل شاهد على
انتفاء ملزومه، ففيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في نفى الملزوم ابتداء، وكيف لا وقد بولغ في نفى اللازم بالدلالة
على دوامه المسلتزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضا، فليس في هذه الاسمية تقديم
لقصد الاختصاص أصلا، ولا يجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا أو ليس كذا قطعا، بل المقصود بها
ما ذكرناه من سلوك طريق هو أبلغ وأقوى في رد تلك الدعوى، ونظيرها في سلوك هذه الطريقة قوله تعالى - وما
هم بخارجين منها - (قوله فلم جاء) أي إذا أريد بهذه الاسمية إنكار ما ادعوه في تلك الفعلية كان الأول تطابقهما
169

في تقييد الإيمان. أجاب بأنه قصد الاختصار أو زيد في الجواب ما ذكره، واللام في قوله (لتأخره) متعلقة بيراد
إشارة إلى تعليل تسمية الوقت الذي لا انقطاع له باليوم الآخر، وقس عليها اللام الأخرى (قوله أن يوهم صاحبه
خلاف ما يريد به من المكروه) يعنى ويصيبه به كما يدل عيله تفسيره لأصله الذي أخذ هو منه، ويؤيده أيضا قوله
مخدوعا ومصابا بالمكروه من وجه خفى. يقال: وهمت الشئ أهمه: إذا ذهب إليه وهمك وأوهمته غيري (قوله
كيف ذلك ومخادعة الله تعالى) يريد أن صيغة المخادعة تقتضى صدور الفعل من كل وادح من الجانبين متعلقا
بالآخر، وخدع المنافقين الله تعالى وهو أن يوقعوا في علمه خلاف ما يريدون به من المكروه ويصيبوه به مما
لاخفاء في استحالته، وخدع الله تعالى إياهم بأن يوقع في أوهامهم خلاف ما يريد بهم من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به
قبيح على مذهبه، وإذا زيد كما قيل في تفسير الخدع مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة امتنع صدوره عنه
تعالى مطلقا. وأيضا من المعلوم أن حاله تعالى مع المنافقين لم يكن حقيقة هذا المعنى المذكور، وأن المؤمنين وإن
170

جاز أن ينخدعوا بما رأوا منهم من غير أن يرجع إليهم في ذلك نقصان لم يجز أن يقصدوا خدعهم، فإنه غير
مستحسن بل مستهجن يذم به (قوله واستمطروا) أي استسقطوا واطلبوا العطاء، وتمام البيت:
* إن الكريم إذا خادعته انخدعا * وقد يروى بالفاء هكذا:
لاخير في الخب لا ترجى نوافله * فاستمطروا من قريش كل منخدع
تخال فيه إذا خاتلته بلها * عن ماله وهو وافى العقل والورع
وفى هذه الرواية دلالة واضحة على أن الخداع الذي يمدح به هو التخادع، أعني إظهار الانخداع تكرما لا ما ينشأ
من البله وسذاجة الصدر فإنه منقصة. ومن ثم قيل في حق الفاروق رضي الله عنه: كان أعقل من أن يخدع
وأورع من أن يخدع. وفى الرواية الأولى دلالة على ذلك لكن مع دقة وخفاء. وصدر قول ذي الرمة:
* تلك الفتاة التي علقتها عرضا * يقال علق بالمرأة أي أحبها، وكذا علقها على صيغة المبنى للمفعول، ومعنى
عرضا: من غير قصدا وروية بل بانخداع كما هو دأب الحليم والمسلم، ويختلب: أي يخدع. والوجه في تعليل
محبة العشيقة بالحلم والإسلام أنهما يدلان على رقة القلب التي بها يتأثر البال من الجمال سريعا، وقد أدمج في ذا
اتصافه بهدين الوصفين (قوله يتظاهرون بالإيمان) أي يظهرونه مع إبطال الكفر، فهذا فعل صادر عنهم بالقياس
إلى الله تعالى والمؤمنين، شبه الخدع بحسب الصورة، وكذا الحال في صنع الله والمؤمنين معهم. والحاصل أن
بينهم من الجانبين معاملة شبيهة بالمخادعة، فقوله يخادعون استعارة تبعية، وليس في هذا الجواب اعتبار هيئة
مركبة من الجانبين وما يجرى بينهما بهيئة أخرى مركبة من الخداع والمخدوع والخدع ليحمل الكلام على
171

الاستعارة التمثيلية على قياس ما مر تحقيقه في - ختم الله على قلوبهم - فلا تغفل. والجواب الثاني أن المخادعة محمولة على
حقيقتها لكنها ترجمة عن معتقدهم الباطل وظنهم الفاسد، كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون الله وأنه يخدهم. وقد
أشار بقوله ولا أن لذاته تعلقا بكل معلوم إلى مذهبه: أي هو عالم بالذات لا بعلم قائم بذاته (قوله أن يذكر الله
تعالى ويراد الرسول) لم يرد أن لفظ الله تعالى أطلق على رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه لا يطلق على غيره تعالى
لا حقيقة ولا مجازا، بل أراد أن هناك نسبة إبقاعية من قبيل المجاز العقلي كما فصله في المثال الذي أورده. وملخص
الجواب الرابع أن ذكر الله تعالى ليس لتعليق الخدع به بل لمجرد التوطئة، وفائدتها ههنا التنبيه على قوة اختصاص
المؤمنين بالله تعالى وقربهم منه، حتى كان الفعل المتعلق به دونه يصح أن يتعلق به أيضا، وكذا الحال في أعجبني
زيد وكرمه، فإن ذكر زيد توطئة وتنبيه على أن الكرم قد شاع عنه وتمكن بحيث يصح أن يسند إليه أيضا
الإعجاب الذي هو للكرم لا لزيد، ومثل هذا العطف يسمى جاريا مجرى التفسير، وأما قولك أعجبني زيد
كرمه على الإبدال فليس في تلك المرتبة من إفادة التلبيس بينهما لدلالته على أن المقصود بالنسبة هو الثاني فقط،
وإنما ذكر الأول سلوكا لطريقة الإجمال والتفصيل، وفى صورة العطف قد دل بحسب الظاهر على قصد النسبة
إليهما معا فيكون أدل على قوة التمكن (قوله ومثله والله ورسوله أحق أن يرضوه) فإنه وحد فيه الضمير للدلالة
على أن المقصود إرضاء الرسول، وأن ذكر الله تعالى للإشعار بأن الرسول من الله تعالى بمنزلة عظيمة واختصاص
قوى حتى سرى الإرضاء منه إليه، وكذا الحال في الإيذا فإنهم لا يؤذون الله حقيقة بل الرسول وحده. وأما قوله
علمت زيدا فاضلا فهو نظير لما نحن فيه من حيث إن المقصود الأصلي هو الثاني بناء على أن مناط الفائدة ومصب
الغرض هو الخبر، إذ منه ينتزع الحكم بالنسبة وإن لم يكن الأول ملغى بالكلية، فلا يرد أن العلم متعلق بالنسبة
القائمة بالطرفين فهما مقصودان معا تباعا لها، فلا يكون ذكر زيد توطئة وتمهيدا لذكر فضله، وإنما قال: كأنه قيل
172

علمت فضل زيد نظرا إلى مآل المعنى، وأن المعلوم مضمون الخبر لا إلى أن المعنى هو ذلك بعينه، كيف وعلم
النسبة يعدى في الاستعمال إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما. ولا يذهب عليك أن الجواب الثالث والرابع
مبنيان على أن خادع بمعنى خدع، إذ لا خدع من الرسول صلى الله عليه وآله والمؤمنين كما تقدم، ولا مجال أيضا
مع اتحاد اللفظ أن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازا (قوله إلا أنه أخرج في زنة فاعلت)
قال المصنف: ونظيره فلان يخاشى الله: أي يخشاه خشية عظيمة (والمباراة) المعارضة وأن يفعل مثل فعل صاحبه
ليغلبه، وحينئذ الداعي الداعي إلى الفعل ويجئ أبلغ وأحكم. وإذا قرئ يخدعون توجه السؤال بأن خدعهم الله تعالى
محال ويتأتى فيه الإجوبة الأربعة بلا خفاء، وجعل يخادعون بيانا ليقول أولى من جعله مستأنفا، لأنه إيضاح لما
سبق وتصريح بأن قولهم كان مجرد خداع، وأيضا ليست المخادعة المخادعة أمرا مطلوبا لذاته فلا يكون الجواب به شافيا بل
يحتاج إلى سؤال آخر كما ذكره (قوله وما رفقهم) أي نفعهم يقال ماء رفق ومرت رفق: أي سهل المطلب،
وارتفقت به: انتفعت به واسترفقته فأرفقنى بكذا نفعني به (قوله عم كانوا يخادعون) أي عن أي غرض من
الأغراض صدر خداعهم ولأى سبب كانوا يخدعون. والجواب أن لهم في ذلك أغراضا: دفع المضرة عن أنفسهم،
وجذب المنفعة لها، وإيصال المضرة إلى المؤمنين (قوله يطرقون) يقال طرقه طروقا: أتاه ليلا، وطرقه الزمان
بنوائبه: أصابه بها، والمنابذة: إظهار العداوة كأن كلا من المتعاديين المتظاهرين ينبذ إلى صاحبه ما في قلبه من
العداوة أو ينبذ عهده إليه (قوله فلو أظهر) شرط حذف جوابه قد أصاب محزه من المبالغة، والضمير المستتر في
الفعل لله تعالى، والبارز في عليهم إما للمؤمنين: أي لو أظهر الله نفاقهم على المؤمنين وهو أبلغ من أن يقال أظهر
لهم لدلالته على ظهور مكشوف مستقل لا مدفع له، وإما للمنافقين: أي لو أطلع الله المؤمنين على نفاقهم بتضمين
الإظهار معنى الاطلاع (قوله بخداعهم عنها) أي بصدور خداعهم عن تلك الأغراض كقوله يخادعونهم عن
أغراض لهم على تضمين الخداع معنى الصدور، والمقصود الحقيقي بهذا السؤال طلب فائدة الخداع من الجانب
الآخر، كما أن ما سبق كان طلبا لفائدة من جانب المنافقين، إلا أنه فرعه على بيان ما راموه من الأغراض
173

(قوله من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد) من جملة تلك المصالح أن الستر عليهم يوهم المخالفين الكفار أنهم
من أعوان المسلمين فيه فيحملون ذلك على أن يستشعروا الخوف ويجبونوا عن قتال المؤمنين لكثرة عددهم، ومنها أنهم
إذا خاشنوا من يصحبهم ويظهر أنه منهم كان ذلك سببا لنفرة غيرهم عن الإسلام ومصاحبتهم. ومنها أن ملاينتهم
وحسن معاشرتهم ربما أدت إلى استمالة قلوب جماعة أخرى تتقوى بهم كلمة الله العليا (قوهل ما المراد بقوله وما
يخادعون) أي هلى أريد به المخادعة الأولى التمعلقة بالله والمؤمنين أو مخادعة أخرى. فأجاب أولا بأنه يجوز أن يراد
به الأولى وإشار إلى تطبيقه على الوجه الأول من الوجو الأربعة المذكورة هناك. وتلخيصه أن المخادعة مستعارة
للمعاملة الجارية فيما بينهم وبين الله تعالى والمؤمنين المشبهة بمعاملة المتخادعين، فقصرت هذه المعاملة ههنا على
أنفسهم بعد تعليقها بما علقت به سابقا بناء على أن ضررها عائد إليهم لايعدوهم ونظيره (فلان يضار فلانا وما
يضار إلا نفسه) ومثل هذا الاستعمال شائع في اللغات كلها جار في باب المفاعلة وغيهرا، فتكون العبارة الدالة
على حصر تلك المعاملة مجازا أو كناية عن انحصار ضررها فهيم، أو يجعل لفظ الخداع المستعار مجازا مرسلا عن
ضرره في المرتبة الثانية. ويمكن أن يقال: لما انحصرت نتيجة تلك المعاملة فيهم جاز أن يدعى أن نفس تلك المعاملة
مقصورة عليهم، ويكون حينئذ انحصار ضررها فيهم مفهوما تبعا لا قصدا، فلا حاجة إلى تجوز أو كناية، ولعل
في قوله (أي دائرة الضرار راعجة إليه وغير متخطية إياه) نوع إشارة إلى ما ذكرناه، ولك أن تطبقه على الوجوه
الثلاثة الباقية. وثانيا بأنه يجوز أن يراد به مخادعة أخرى، إما جارية فيما يبن اثنين، أو مقصترة على واحد.
فالأولى أن يراد به المخادعة الحقيقة الجارية فيما بينهم وبين أنفهسم، فإنهم في ذلك: أي في خداعهم لله والمؤمنين
على تلك الوجوه الأربعة يخدعون أنفسهم، فيمنونها الأباطيل والأكاذيب من أنه سيتفرع على هذا الخداع أمور
مهمة وأغراض مطلوبة وهى تنخدع بذلك وتطمئن، وكذلك أنفسهم تخدعهم حيث تمنيهم وتحدثهم بالأمانى
والأطماع الفارغة. ومن البين أن حقيقة المخادعة تقتضى فاعلين مختارين يقصد كل كل منهما إصابة الآخر بمكروه،
فلا تتصور هذه الحقيقة بين المنافقين وأنفسهم سواء أريد هبا ذواتهم أو دواعيهم، ومن ثمة قيل: يريد بذلك إن
الإبهام يعتبر في هذا المعنى ولا يكون لفظ الخداع مجازا عن ضرره كما مر. والثانية أن يراد بالمخادعة الخدع فلا
يحتاج حينئذ إلى اعتبار الخدع من جانب الأنفس. والقول بأن الأولى مبنية على التجريد من الجانبين والثانية عليه
174

من جانب واحد تكلف بارد (قوله على لفظ ما لم يسم فاعله) فينصب أنفسهم حينئذ على نزع الخافض، يقال
خدعت زيدا نفسه: أي عن نفسه على طريقة - واختار موسى قومه - أو على التمييز إن جوز كونه معرفة (قوله
ثم قيل للقلب) بمعنى العضو الصنوبري (نفس لأن النفس) أي الذات (به) أي قوامها بذلك العضو (ألا ترى
إلى قولهم المرء بأصغريه) أي بقلبه ولسانه (وكذلك) أي قيل النفس للقلب (بمعنى الروح) إذ جاء النفس بهذا
المعنى أيضا، والمتبادر من كلامه أن لفظ النفس حقيقة في الذات مجاز فيما عداه، وذلك ظاهرا في العدم والماء
والرأي الذي سيذكره. ومعنى (عين الرجل) أصابته العين (وصدر الرجل) أصيب صدره (وقولهم) مبتدأ خبره
(كأنهم أرادوا) والعائد محذوف أي أرادوا به (وإذا تردد) ظرف لقولهم (والهاجس) ما يخطر في النفس ويدور
من هجس إذا خطر، وإطلاق النفس على الرأي والداعي من قبيل تسمية المسبب باسم السبب أو استعارة مبنية على
المشابهة. والثاني أنسب بهذا المقام وأظهر بحسب المعنى (قوله والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم) وحينئذ يتعين أن
يراد بحصر خداعهم في ذواتهم قصر ضرره عليهم كما ذكره في الجواب الأول عن السؤال عن المراد بقوله وما
" يخادعون إلا أنفسهم " (قوله ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم) ذكر القلوب تمهيدا لذكر الدواعي والآراء
لا أنه وجه آخر، وإذا أريد بالأنفس الدواعي تعين الجوابان الأخيران وكان اعتبار المشابهة أولا كما لا يخفى،
فبيان أن المراد بالأنفس أحد هذين المعنيين تتمة للأجوبة الثلاثة (قوله كالذي لا حس له) ففي " لا يشعرون " إشعار
بانحطاطهم عن مرتبة البهائم حيث لا يدركون أجل المعلومات فيكون أبلغ وأليق بالمقام من لا يعلمون. وأشار
بقوله والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس إلى المعنى الأول من معاني خداعهم لأنفسهم فتدبر (قوله
واستعمال المرض) أي المرض في اللغة قد يستعمل في القلب على سبيل الحقيقة بأن يراد به الألم وكونه مرضا حقيقة
175

مما لا شبهة فيه عند أهل اللغة، وقد يستعمل على سبيل المجاز. وأما في الآية فالمراد به المعنى المجازى الذي هو آفة في
الإدراك كسوء الاعتقاد والكفر، أو الهيئة الباعثة على ارتكاب الرذائل كالغل والحسد والبغض، أو المانعة عن
اكتساب الفضائل كالضعف والجبن والخور، فقوله أو يراد مرفوع عطفا على قوله والمراد ههنا الخ، وأما جعله
منصوبا عطفا على أن يستعار فلا وجه له أصلا لأن هذا أيضا من قبيل الاستعارة، وإنما لم يقل أو من الضعف كما
يقتضيه أسلوب كلامه، بل ذكر الإرادة لطول الفعل، وأوردها بصيغة الفعل حطا لها عن إرادة الأولين،
وصرح بالتداخل لأن ذلك قد حدث في قلوبهم بعد ظهور الإسلام وقوة المسلمين كما بينه. وقوله (لأن صدورهم)
تعليل لثبوت الغل والحسد والبغضاء في قلوبهم المفهوم من معنى الكلام (والغل) الغش (والحنق) الغيظ
ونصبهما على التمييز أظهر (ويبغضهونهم) معطوف على خبر أن بحسب المعنى كأنه قيل: لأنهم كانت صدورهم
تغلى ويبغضهونهم (ويتحرقون) من حرق الأسنان: أي سحق بعضها ببعض حتى سمع لها صريف، وهو كناية عن
شدة الغيظ لا من تحرق احترق، وإن اشتهر أن الحسد كالنار والحاسد في الاعتراق لأن استعماله يغلى يمنع
هذا المعنى وحسد مفعول لأجله لاتمييز (قوله مما كان من ابن أبي) وهو " أن النبي صلى الله عليه وآله) أردف
أسامة على حماره يعود سعد بن عبادة قبل وقعة بدر، فمر على مجلس فيه عبد الله بن أبي قبل إسلامه وأخلاط من
المسلمين والمشركين واليهود، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه برادئه وقال: لاتغبروا علينا،
فسلم رسول الله صلى الله عليه وآله ونزل ودعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله مقالة آذى بها
رسول الله صلى الله عليه وآله ونزل ودعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله مقالة آذى بها
رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما دخل على سعد بن عبادة قال: يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو الحباب؟ يريد
ابن أبي، فقال: يا رسول الله أعف عنه ". ومقصود المصنف من الإشارة إلى هذا القصة إثبات الحسد والبغضاء
للمنافقين ببيان رسوخ السبب والمادة فيهم قبل إظهارهم الإسلام، فلا يقدح في ذلك اشتمالها على أن ابن أبي كان
مجاهرا بالكفر، وعلى تصريح الرواة بأنها كانت قبل إسلامه، وحمل إشارته على قصة أخرى مستبعد جدا
176

(قوله ولقد اصطلح) عطف على جواب القسم، وقيل حال فترك اللام أولى، والمراد بهذه البحيرة المدينة، يقال هذه
بحيرتنا: أي أرضنا وبلدتنا، وأصل التركيب يدل على السعة (والعصابة) العمامة. عصبه: أي عممه، ولما كان
العمائم تيجان العرب جعل التعصيب كناية عن التسويد. وقيل كانوا إذا أرادوا أن يملكوا رجلا توجوه، فإن لم
يجدوا تاجا عصبوه بعصابة مرصعة بجواهر (قوله شرق بذلك) أي لم يقدر على إساغته والصبر عليه لتعاظمه، بل
اعترض في حلقه كالماء المعترض في حلق الشارب، وقوله (لأن قلوبهم) علة لتداخل الضعف والجبن قلوبهم،
كما أن قوله إما لقوة طمعهم وإما لجراءتهم علة كون قلوبهم قوية، وقد شبه الدولة في نفوذ أمرها وتمشيته بالريح
وهبوبها فاستعيرت لها (فضعفت جبنا) أي ضعفت لأجله. واعلم أن قوله تعالى - في قلوبهم مرض - جملة مستأنفة
لبيان موجب خداعهم وما هم فيه من النفاق (قوله ومعنى زيادة الله تعالى) دل كلامه على أن قوله تعالى - فزادهم -
إخبار (قوله إسنادا) مصدر لمحذوف: أي فأسنده الله إلى نفسه إسنادا للفعل إلى المسبب له فهو إسناد مجازى سواء
فسر المرض بالكفر أو الحسد والغل، أو الضعف والخور كما صرح به عبارته، وإن جاز إسناده المعنى الإخير إلى
الله تعالى حقيقة على راية أيضا، والزيادة تستعمل لازما ومتعديا، والمشهور في الازدياد اللزوم، لكن قوله
ما ازدادوه يدل على أنه قد تعدى إلى مفعول واحد، وعلى هذا فالأنسب أن يكون المنصوب في قوله: فازدادوا
كفرا، وازدادوا حسدا، وازدادت قلوبهم ضعفا مفعولا، وإن جعل تمييزا كان فاعلا في الحقيقة للازدياد
اللازم (قوله ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع) أي الختم فلا يراد بها ازديادهم في تلك الأمراض كما مر في
الوجه الأول، بل يراد أن الله تعالى طبع على قلوبهم وختم عليها، فلا يدخل عليها ما يزيل عنه تلك الأمراض،
فزيادة المرض تكون مجازا عن الطبع والإسناد إلى الله تعالى، كما في - ختم الله - وتنكير مرضا على الوجهين لكونه
مغايرا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه، ولك أن تقول: المراد بالمرض الثاني هو الطبع: أي زادهم الله
طبعا، وأن يحمل كلامه على إرادة هذا المعنى بتقدير مضاف: أي زيادة الطبع ولعل هذا أقرب (قوله وقرأ
أبو عمرو) هذه القراءة ليست من المتواترة. قال ابن جنى: لا يجوز أن يكون مرض بالسكون تخفيف مرض، لأن
177

المفتوح لا يخفف إلا شاذا بخلاف المضموم والمكسور بل يجب أن يكون لغة أخرى فيه (قوله تحية بينهم) وصدر
البيت * وخيل قد دلفت لها بخيل * وأراد بالخيل الفرسان يقال دلف الكتيبة تقدمها، ودلف الشيخ إذا قارب
الخطو، وكلا المعنيين حسن ههنا، والباء للتعدية (قوله وهذا على طريقة جد جده) أي على طريقة الإسناد
المجازى، ولم يرد أنه من قبيل الإسناد إلى المصدر الذي أسند إليه ما لفاعله كما في المثال بعينه بل هو قريب منه كما ترى
والذي هو من قبيله أمل أليم ووجع وجيع، وسينكشف لك أن الإسناد المجازى لا ينحصر فيما مر ذكره من مصدر
الفعل ونظائره، وإنما اقتصر على ذكر المجاز العقلي ردا لما يقال أن الأليم بمعنى المؤلم كالسميع بمعنى المسمع فإنه
ليس بثبت، وسيصرح بذلك في قوله تعالى - بديع السماوات - (قوله والألم في الحقيقة للمؤلم) على صيغة المفعول
(قوله والمراد بكذبهم) أشار بذلك إلى أن لفظ ما مصدرية، وأما كلمة كان فللدلالة على الاستمرار في الأزمنة
وقولهم أمنا إخبارا بإحداثهم الإيمان فيما مضى، ولو جعل إنشاء للإيمان كان متضمنا للإخبار بصدوره عنهم (قوله
وفيه) أي وفى جعل عذابهم مسببا لكذبهم (رمز) أي إشارة خفية إلى قبح الكذب حيث خص بالذكر من بين
جهات استحقاقهم إياه مع كثرتها، وفيه تخييل أن لحوق ذلك العذاب بهم إنما كان لأجل كذبهم نظرا إلى ظاهر
العبارة المقتصرة على ذكره، واختار لفظ التخييل بناء على أن السامع يعلم أن ذلك اللحوق لجهات كثيرة، وأن
الاقتصار على ما ذكره رمز إلى سماجته وتنفير عن ارتكابه (قوله والكذب الإخبار أي الإعلام بالشئ كزيد
مثلا على خلاف ما هو متلبس به من ثبوت القيام له أو انتفائه عنه، أو الإعلام بالشئ الذي هو النسبة على خلاف
الوجه الذي هي متلبسة به من كونها ثابتة أو منفية، ومباحث قبحه عقلا أو شرعا مستقصاة في موضعها (قوله
ثلاث كذبات) هي قوله إني سقيم، وأراد به سأسقم، وقد علمه بأمارة من النجوم، أو إني سقيم الآن بسبب غيظي
وحنقى من اتخاذكم آلهة، وقوله - بل فعله كبيرهم - المراد به أنه إذا لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه وغيره فكيف
يصلح إلها؟ أو أن تعظيمه كان هو الحامل له على كسرها. وقوله لمللك الشام إن سارة أختي، ومراده الأخوة في
الدين، وقيل كذباته الثلاث قوله في الكواكب: هذا ربى ثلاث مرات، وقصد به الحكاية أو الفرض أو
التقدير ليرشدهم إلى عدم صلاحية الإلهية، وسيأتيك تحقيق التعريض إن شاء الله تعالى، فهذه الإخبارات صادقة
178

لكنها في صورة الكذب فسميت كذبات (قوله هو مبالغة في كذب) أي هو يدل على قوة الكذب وعظمه،
كما أن بين يدل على كمال ظهور الشئ واتضاحه، وقلص يدل على شدة قلوص الثوب وانضمام بعضه إلى بعض،
فكأنه قيل يكذبون كذبا عظيما (قوله أو بمعنى الكثرة) عطف على مبالغة: أي أو من كذب الذي هو بمعنى الكثرة
في الفاعل، وأما كذب الوحشي فهو مجاز مأخوذ من كذب الذي بمعنى التعدية، كأنه يكذب رأيه وظنه فيقف
لينظر ما وراءه، ولما كثر استعماله في هذا المعنى وكان حال المنافق شبيهة به جاز أن يستعار لها وإن كان ما تقدم
أولى، والمذبذب: المتردد بين أمرين، وعار: ذهب في الأرض، والعائرة: الناقة تخرج من الإبل إلى أخرى
لضربها الفحل (قوله بين الغنمين) أي القطيعين) أي القطيعين (قوله والأول أوجه) وذلك لقربه وإفادته تسبب الفساد للعذاب
فيدل على قبحه ووجوب الاحتراز عنه كالكذب، ولخلوه عن تخلل البيان أو الاستئناف وما يتعلق به بين أجزاء
الصلة، وقد يرجح الثاني بكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف
استقلالا وقصدا، ودلالتها على أن لحوق العذاب الأليم بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم،
فما ظنك بسائرها، وأما عطفه على الجملة الاسمية: أعني قوله - ومن الناس من يقول - فليس مما يعتد به، وإن
توهم كونه أوفى بتأدية هذه المعاني وذلك بعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان
أحوالهم، إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم كما تشهد بسلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام
(قوله والفساد في الأرض هيج الحروب) يقال هاج الشئ هيجا وهياجا وهيجانا: أي ثار، وهاجه غيره
يتعدى ولا يتعدى، والمراد بقوله هيج الحروب هو اللازم لأن المتعدى إفساد لافساد، وقوله (لأن في ذلك
فساد ما في الأرض) توجيه لإطلاق الفساد على هيج الحروب والفتن، وقد سميت حرب الفساد بذلك لأنهم مثلوا
فيها أنواع المثل، فجدعوا الأنوف وصلموا الآذان إلى غير ذلك. ما يله: أي مال إليه وأحبه، ومالأه: أي عاونه
(قوله وكان فساد المنافقين) أي الفساد الناشئ من جهتهم لإفسادتهم في أنفسهم، والأولى أن يقول إفسادهم لأن
مما يلتهم إلى الكفار وممالأتهم بإفشاء الأسرار إفساد. ولما كان حقيقة الإفساد جعل الشئ فاسدا ولم يكن صنعهم
179

كذلك جعل الكلام من قبيل المجاز باعتبار المآل: أي لا يفعلوا ما يؤدى إلى الفساد. وقد يقال: ما كانوا فيه كان عين
الفساد في أنفسهم، ومعنى لا تفسدوا: لاتأتوا بالفساد ولا تفعلوا، فلا حاجة إلى المجاز وليس بشئ، إذ ليس
إتيان الشخص بفساد نفسه حقيقة الإفساد وفائدة في الأرض التنبيه على أن صنيعهم يؤدى إلى الفساد عام فيها:
أعني هيج الحروب والفتن المؤدى إلى انتفاء الاستقامة عن أحوال الناس في دينهم ودنياهم كما صرح به في تفسير
الفساد في الأرض، وإنما لم يحمل إفسادهم على تحريف الكتاب وتغيير الملة ودعوة الكفار في السر إلى تكذيب
المسلمين كما حمله غيره، لأنه لا ظهور حينئذ لتلك الفائدة (قوله خلصت لهم وتحضت من غير شائبة) أراد أنه
من قبيل قصر الإفراد، فإنهم لما نهوا عن الإفساد وتوهموا أنه قد حكم عليهم بأنهم يخلطونه بالإصلاح فأجابوا
بأنهم مقصورون على محض الإصلاح لا يشوبه شئ من وجوه الإفساد والفساد. واختاروا انما تنبيها على أن ذلك
مكشوف لاسترة علهى فلا ينبغي أن يشك فيه (قوله وألا مركبة) ذهب إلى أن لفظة ألا مركبة، وكذا أختها
إما مركبة من همزة الاستفهام التي للإنكار وحرف النفي لإفادة التنبيه على تحقيق ما بعدها، فإن إنكار النفي تحقيق
للإثبات لكنهما بعد التركيب صارتا كلمتي تنبيه يدخلان على ما لا يجوز أن يدخل عليه حرف النفي كقولك ألا،
وإما أن زيدا عالم. وذهب الأكثرون إلى أنهما لاتركيب فيهما (قوله بنحو ما يتلقى به القسم) كإن واللام وحرف
النفي وطليعة الجيش ما يتقدمه وآخر المصراع الأول * ويحيى العظام البيض وهى رميم * وجواب القسم
هو قوله:
لقد كنت أختر الجوى طاوى الحشا * محاذرة من أن يقال لئيم
وجواب القسم في قوله:
أما والذي أبكى وأضحك والذي * أمات وأحيا والذي أمره الأمر
وقوله: لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى * أليفين منها لايروعهما الذعر
(قوله رد الله تعالى ما ادعوه) أي لما بالغوا في كونهم مصلحين بولغ في كونهم مفسدين من جهات متعددة
الاستئناف فإنه يفيد زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع لوروده عليه بعد السؤال والطلب وما في كل واحدة من
180

كلمتي ألا، وإن من تأكيد الحكم وتحقيقه. وقوله لا يشعرون لدلالته على أن كونهم مفسدين قد ظهر ظهور
المحسوس لكن لأحسن لهم ليدركوه. وأما وجه المبالغة في تعريف الخبر وتوسيط الفصل فقد قيل الأول يفيد
حصر المسند إليه على المسند، والثاني يفيد تأكيد هذا الحصر، وهذا وإن كان مناسبا لرد دعواهم الكاذبة،
فإنهم لما قصروا أنفسهم على الإصلاح قصر إفراد ناسب في ردهم أن يقصروا على الإفساد قصر قلب: أي هم
مقصورون على الإفساد لاحظ لهم في الإصلاح، لكن يرد عليه أن تعريف الخبر بلام الجنس يفيد حصره في المبتدأ
كما هو المذكور في المفتاح والمشهور في الاستعمال، وإن ضمير الفصل يفيد هذا الحصر أيضا أو يؤكده. وقد
أجيب بما يدل عليه كلامه في الفائق من أن تعريف المسند يفيد حصر المسند إليه فيه حيث قال: معنى إن الله تعالى
هو الدهر هو الجالب للحوادث لا غير الجالب، كما أشرنا إليه فيما سبق، فيكون الفصل حينئذ مؤكدا لهذا الحصر
ولا يخفى عليك ضعفه، وقيل المبالغة في تعريف المفسدين على قياس ما مر في المفلحين: أي إن حصلت صفة المفسدين
وتحققوا ما هم وتصورا بصورتهم الحقيقية، فالمنافقون هم هم لا يعدون تلك الحقيقة، فيكون الفصل مؤكد
لنسبة الاتحاد الذي هو أقوى من القصر في إفادة المقصود (قوله أتوهم في النصيحة) أي المؤمنون نصحوا المنافقين
أولا بترك الرذائل، وثانيا باكتساب الفضائل، فدل هذا الكلام على أن القائل الآمر بالإيمان هم المؤمنون لابعض
المنافقين لبعض فيما بينهم كما ذكر في بعض كتب التفاسير، وحينئذ يجب أن يحمل قولهم - أنؤمن كما آمن السفهاء -
على أنه كان مقولا فيما بينهم لامقولا في وجوه المؤمنين كيلا يلزم كونهم مجاهرين بالكفر لا منافقين، وإن كان
قوله فكان من جوابهم أن سفهوهم: أي نسبوهم إلى السفاهة، وجهلوهم: أي نسبوهم إلى الجهل لما في السفه من
الجهل يوهم أنه كان في مواجهتهم (قوله أن يسند قيل إلى لا تفسدوا وآمنوا) يريد أنه مسند إليهما لا إلى ضمير
مصدره إذ لا طائل تحته، ولا إلى الظرف: أعني لهم لأن القول متعد مفعوله المقول، فإذا وجد في الكلام أسند
الفعل إليه وأطلق الفعل على الجملة الفعلية التي فاعلها مضمر اعتبارا للجزء الأول، مع أن الجملة مطلقا تشارك
الفعل في عدم صحة الإسناد إليه لأنه من خواص الاسم اتفاقا. والجواب أن الذي يمتنع هو إسناد الفعل إلى معنى
الفعل بمعنى إذا كان معبرا عنه بمجرد لفظه على قياس إسناده إلى معنى الاسم معبرا عنه بلفظه وحده في مثل قام زيد،
وهذا الذي نحن فيه، فيه إسناد للفعل إلى لفظ الفعل بل الجملة كأنه قيل وإذا قيل هذا القول وهذا الكلام،
وتحقيقه ما مر من أن الألفاظ سواء كانت مهملة أو مستعملة مفردة أو مركبة متساوية الأقدام في صحة الإسناد إلى
181

أنفسها، سواء كانت مجردة عن ملاحظة معانيها كما في قولك ألف ضرب من ثلاثة أحرف، أو مأخوذة معها كما
قيل في لا تفسدوها وآمنوا، إذ المسند إليه لفظه باعتبار الدلالة على المعنى، وليس هذه الصحة باعتبار أن تلك
الألفاظ إذا ذكرت وأريد بها أنفسها صارت أسماء كما توهم، لأن المهمل لا يصير اسما بالإخبار عن لفظه، وكذلك
الجمل التي صارت مخبرا عنها باعتبار ألفاظها في أنفسها كما في قولك زيد قائم مركب من لفظين، أو مع ملاحظة
معنها كما عرفت. فإن قلت: قد صرحوا بأن المبتدأ لا يكون إلا اسما. قلت: ذلك لأنهم اعتبروا وضع الألفاظ
بإزاء المعاني المستفادة منها في التراكيب، فبينوا أحوال الألفاظ في تلك التراكيب في تلك التراكيب لاأحوالها في أنفسها بل تعرف
هذه بالمقايسة تبعا، فلفظ ضرب لما وضع لمعناه صار فعلا، فبين حاله بأنه إذا كان مستعملا في ذلك المعنى لم
يصح الإخبار عنه، وكذا لفظ من بخلاف لفظ زيد، وإذا لم تستعمل في معانيها جاز الإخبار عنها كلها (قوله
زعموا مطية الكذب) قيل معناه أن الكلام المصدر بالزعم وما يشتق منه غير موثوق به لأن الزعم هو القول بلا
تثبت وتبين. وقد يقال: معناه أن الكذاب مسند كذبه إلى غير معين، ويقول زعموا كذا وكذا لئلا يظهر
اختراعه الكذب ويروجه، فلفظ زعموا مطية للكذب يتوصل بها إليه، ولفظ ما في " كما " إن كانت كافة للكاف عن
العمل مصححة لدخولها على الجملة كان التشبيه بين مضموني الجملتين: أي حققوا إيمانكم كما تحقق إيمانهم،
وإن كانت مصدرية فالمعنى آمنوا إيمانا مشابها لايإناهم (قوله أوهم ناس معهودون) وذلك لأنهم مقابلوهم في
الإيمان ومبغضون عندهم فهم نصب أعينهم، وأم عبد الله بن سلام وأشياعه فهم مع تلك المقابلة من أبناء جنسهم
وكانوا أصحابهم وقد غاظهم إيمانهم فهم حاضرون في أذهانهم (قوله كما آمن الناس) أي كما آمن الكاملون في
الإنسانية وهم الجامعون لما يعد من خواص الإنسان وفضائله، فهم لذلك يستحقون أن يحصر فيهم الجنس كأنهم
الجنس كله فهذا الحصر بالنظر إلى كمالهم، وإذا لو حظ أن غير المؤمنين كالبهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل
بل أدنى مرتبة منها فلا يندرجون في الناس بل كان منحصرا في المؤمنين كان هذا حصرا بالنظر إلى نقصان من عداهم
وقصورهم عن رتبة الإنسانية، ومعنى الإنكار في أنؤمن أن ذلك لا يكون أصلا (قوله مشار بها إلى الناس) أي
اللام في السفهاء للعهد والمعهود هو الناس سواء أريد به المعهودون أو الجنس كماسبق، ولما كان المعهود هنا
مذكورا بلفظ آخر أورد له مثالا، يقال سعى به إلى الوالي: أي وشى به إليه، والتعبير عن زيد بالسفيه إما لجعل
السعاية سفها وإما لشهرته بذلك. وفى الآية يجعل الإيمان سفها أو يجعل المؤمنون مشهورين به عندهم
182

قوله وينطوى تحته) أي تحت لفظ السفهاء المراد به الجنس الجاري: أي الذين جرى ذكرهم بلفظ الناس مرادا به العهد
أو الجنس باعتبار كمال المؤمنين ونقصان غيرهم، وقوله على زعمهم متعلق بينطوى، والضمير للمنافقين، وذلك
لأن الذين جرى ذكرهم أعرق الناس في السفه عند المنافقين فكانوا بالانطواء أولى واستركوا عقولهم: أي عدوها
ركيكة ضعيفة، والمراجيح كأنه جميع مرجاح، يقال رجل راجح العقل وقوم مراجيح الحلم (قوله كان سفيها)
إما لكون ركوب متن الباطل سفها، وإما لأنه لو لم يكن سفيها لم يركبه، يقال وسطت القوم أسطهم سطة: أي
توسطتهم وفلان وسيط قومه: إذا كان أوسطهم نسبا وأرفعهم محلا (قوله فدعوهم) أي دعوا المؤمنين مطلقا سفهاء تحقيرا
لشأنهم ولا يشتبه عليك أن هذا وما قبله يجريان على تقديري كون اللام في السفهاء للجنس والعهد الذي أشير به إلى
الناس مرادا به الجنس على وجهيه، أو المعهود الذي هوالنبى صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وأما قوله أو
أرادوا بالسفهاء عبد الله بن سلام وإشياعه فتخص بالعهد: أعني بكون اللام في السفهاء مشارا بها إلى الناس
المراد به هؤلاء فقط، وإنما عطف بأولأن معنى كلامه أنهم أرادوا بالسفهاء جميع المؤمنين. وسموهم بذلك اعتقادا
لأحد الوجهين، أو أرادوا به بعضهم، وسموهم بذلك تجلدا وتوقيا مع علمهم أنهم من السفه بمعزل (قوله وفت
في أعضاده) أي كسر قوته وفرق عنه أعوانه، والسخافة الرقة، يقال ثوب سخيف: أي غير صفيق، والحلم بالكسر
الأناة، والسفه ضده، وأصله الحركة والخفة، والتفصيل من الفاصلة كالتقفية من القافية، وفصلت الآية بكذا:
أي جعلت هذا فاصلتها (قوله وما كان قائما) هو عطف تفسيري على قوله جاهليتهم وليس مبتدأ خبره فهو
كالمحسوس، بل ما بعد هذه الفاء نتيجة لما تقدم. تغاور القوم: أي أغار بعضهم على بعض وتناحروا في القتال:
أي تشاجروا فيه حرصا عليه. وقوله ولأنه عطف على لأن أمر الديانية، فهو جهل: أي يتضمنه كأنه هو (قوله
مساق هذه الآية) يريد أنه إذا نظر إلى جزاء الشرطية الأولى، أعني " قالوا آمنا " توهم أن هناك تكرارا وإذا لو حظ
183

أنه مقيد بلقائهم المؤمنين، وإن الشرطية الثانية معطوفة على الأولى لا على أن كلا منهما شرطية مستقلة كالشرطيتين
السابقين، بل على أنهما بمنزلة كلام واحد ظهر أن هذه الآية سيقت لبيان معاملتهم مع المؤمنين أو أهل دينهم،
كما أن صدر القصة مسوق لبيان نفاقهم فاضمحل ذلك التوهم. والتكذيب تكلف الكذب. وقوله (فإذا فارقوهم)
عطف على ما تؤول به المصادر المؤكدة: أي من أن يكذبوا لهم واستهزأوا بهم ولا قوهم بوجوه المصادقين
وأوهموهم أنهم معهم فإذا فارقوهم، والشاطر هو الذي أعيا أهله خبثا، وصدقوهم ما في قلوبهم من صدقه
الحديث. وفى الأمثال: صدقني سن بكره (قوله يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته) حق العبارة وتقول على الخطاب
فإن الفعل المسند إلى ضمير المتكلم إذا فسر بأي وجب أن يتطابقا في الإسناد إلى المتكلم لأن الثاني تفسير للأول،
وجاز حينئذ في صدر الكلام تقول على لفظ الخطاب، ويقال على البناء للمفعول، وإذا جئ بكلمة إذا في مقام
التفسير لذلك الفعل كان صدر الكلام في موضع الجزاء، فالواجب حينئذ أن يكون هو وما بعد إذا بصيغة
الخطاب: أي إذا استقبلته تقول لقيته، ولا يستقيم إذا استقبلته يقال إلا بتعسف هو تقدير كون القائل نفس
المخاطب، وملاقى بتشديد الياء ومراوقى بتخفيفها: أي رواق بيتي إلى رواق بيته وهو ما بين يدي البيت (قوله
ومعناه وإذا أنهوا السخرية) أشار إلى أن استعمال خلا بهذا المعنى مع إلى بناء على تضمين معنى الإنهاء كما في أحمده
وأذمعه إليك: أي أنهى حمده وذمه، وهذا بيان لحاصل المعنى، وأما تقدير الكلام فهو هكذا: وإذا خلوا
أي سخروا منهين إليهم وأحمده وأذمه منهيا إليك، وقد فصل لك هذا فيما سلف (والتمرد) العتو والاعتياد به.
184

وقوله من أسمائه الباطل نوع تقوية للاشتقاق الثاني (قوله لم كانت مخاطبتهم) يعنى أنهم لماذا خاطبوا المؤمنين المنكرين
لإيمانهم بجملة فعلية مجردة عن التأكيد وخاطبوا شياطينهم الذين لا ينكرون مقالتهم بجملة اسمية مؤكدة والقياس
عكس ذلك (قوله ليس جديرا بأقوى الكلامين وأوكدهما) قيل معناه ليس جديرا بالكلام القوى والوكيد فضلا
عن الأوكد والأقوى أو أراد بهما القوى الوكيد كما يشعر به قوله فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد ومحصول
ما أجاب به أنهم اختاروا في الخطاب الأول الفعلية لأنهم بصدد الإخبار بحدوث الإيمان منهم وتركوا التأكيد
لعدم الباعث عليه من بواطنهم أو لعدم رواجه عنهم ولم يختاروا فيه الجملة الاسمية المؤكدة نحو - إنا مؤمنون - وإلا
استفيد من الكلام (ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم) أي هم سابقون في الإيمان مستمرون
عليه تحقيقا فلا ينبغي أن يشك فيه شاك مع أنهم لا يدعون ذلك (إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه وإما لأنه
لا يروج عنهم) على لفظ التأكيد بأداته والمبالغة بإيراد الكلام جملة اسمية يقال أخذته أريحية إذا ارتاح للندى:
أي مال إليه وأحبه وأقام فلان بين أظهر قومه (وظهرانيهم) أي بينهم وفائدة إقحام الأظهر الدلالة على أن إقامته
فيهم على سبيل الاستظهار بهم وأما ظهرانيهم ففيه زيادة الألف والنون في ظهر عند التثنية مبالغة كما زيدتا في
النسبة كنفسانى للرجل الغيور وربانى وحقانى وكان معنى التثنية أن ظهرا منهم قدامه وآخر وراءه. فهو مكنوف من
جانبيه هذا أصله ثم استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا وإن لم يكن مكنوفا (قوله ألا ترى إلى حكاية الله تعالى)
يريد أن التأكيد في قولهم - ربنا إننا آمنا - بكلمة إن، وإيراد الجملة الاسمية المفيدة للتقوى إنما كان لصدق رغبتهم فيه
وكونه رائجا متقبلا منهم (وأما مخاطبة إخوانهم) هو مبتدأ خبره جملة فهم على صدق رغبة والعائد محذوف: أي
فهم فيما أخبروا به فيها، وهذا الظرف أعني فيما أخبر وإن تعلق بالظرف الذي هو قوله على صدق فقد تقدم
معمول الظرف عليه وإن كان متعلقا بصدق رغبة وجب أن يقدر مثله سابقا أي فهم على صدق رغبة فيما
185

أخبروا فيكون المذكور ردا لا على المقدر (قوله وما قالوه من ذلك) أي من الثبات والقرار والبعد فكان أي
ما قالوه أو ما أخبروا به إخوانهم أو مخاطبتهم إياهم على تأويل خطابهم (مظنة الشئ) موضعه ومألفه الذي يظن
كونه فيه ومئنته: موضعه الذي يتحقق وجوده فيه مفعلة مشتقة من لفظة إن بعد ما جعلت اسما أو متضمنة
حروفها تنبيها على اشتمالها على معناها كأنه قيل مخلقة لأن تستعمل فيه إن، وقد اتضح بما تقرر أن عدم التأكيد في
الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بشد أعضاده أو لعدم رواجه عند السامع وأن تأكيده قد يكون لاعتنائه
بشأنه أو لقبوله ورواجه عند مخاطبه (قوله هو تأكيد) لا شبهة في أن معنى قولهم " إنا معكم " هو الثبات على اليهودية
وليس " إنما نحن مستهزؤن " بظاهر في كونه تقريرا وتأكيدا لهذا المعنى فاعتبر منه لازما يؤكده وهو أنه رد ونفى
للإسلام فيكون مقررا للثبات عليها لأن رفع نقيض الشئ تأكيد لشأنه وقد عكس صاحب المفتاح فاعتبر
لازم الأول حيث قال معنى إنا معكم أي قلوبا وإنا نوهم أصحاب محمد الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم
تأكيد لذلك اللازم وما ذكره المصنف أولى كما لا يخفى (قوله أو بدل) بيانه أنهم قصدوا تصلبهم في دينهم
وكان في الكلام الأول نوع قصور عن إفادته إذا كانوا في الظاهر يوافقون المؤمنين في بعض الأمور فاستأنفوا
القصد إلى ذلك بأنهم يعظمون كفرهم بتحقير الإسلام وأهله فهم أرسخ قدما فيه من شياطينهم والحمل على
الاستئناف أوجه لكثرة الفائدة وقوة المحرك للسؤال وهذه الوجوه الثلاثة بيان لترك العاطف بين الجملتين في
كلامهم، وأما تركه في حكايته فللموافقة فيما هو بمنزلة كلام واحد واللغوب التعب والإعياء ولغبت بالفتح
(قوله معناه إنزل الهوان والحقارة بهم) فيكون من قبيل المجاز المرسل لعلاقة السببية في التصور والمسببية في الوجود
والفائدة المخصوصة بهذا المجاز التنبيه على أن مذهبهم حقيق بأن يسخر منه ويسخر بهم لأجله وفى قوله غرضه
الذي يرميه أي يقصده لطافة إلا أن غرض المستهزئ هو الخفة لا طلبها والباء في (بمن يهزأ) تتعلق بمعنى الإلصاق
المفهوم من الكلام إذ المستعمل زرى عليه أي عيب عليه وأزرى به: أي تهاون به وازدراه أي حقره قال
أبو عمر والزارى على الإنسان من لا يعده شيئا وينكر عليه فعله (قوله وقد كثر التهكم) أي قد كثر في كلام الله
186

تعالى التهكم بالكفرة، وكما أريد به تحقير شأنهم والدلالة على جدارة مذاهبهم بالسخرية والضحك لا حقيقة التهكم،
كذلك أطلق ههنا لفظ الاستهزاء وأريد به ذلك المعنى وتلك الدلالة لا حقيقة الاستهزاء (قوله أن يراد به ما مر في
يخادعون الله) فيكون حينوذ استعارة مبنية على المشابهة في الصورة (وهو) أي الظاهر أو الإجراء (مبطن) من
بطنت الثوب جعلت له بطانة (قوله وقيل سمى جزاء الاستهزاء باسمه) وذلك لما بين الفعل وجزائه من ملابسة
قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة ههنا (قوله هو استئناف في غاية الجزالة) أي ليس ترك العطف فيه
لدفع توهم كونه معطوفا على " إنا معكم " فيندرج في مقول المنافقين، أو على قالوا فيتقيد بالظرف: يعنى إذا خلوا
بل هو لكونه استئنافا، وإنما كان في غاية الجزالة والفخامة لدلالته على أنهم بالغوا في استهزائهم مبالغة تامة ظهر بها
شناعة ما ارتكبوا وتعاظم على الأسماع على وجه يحرك السامع أن يقول هؤلاء الذين هذا شأنهم ما مصير أمرهم
وعقبى حالهم، وكيف معاملة الله تعالى والمؤمنين إياهم؟ ثم إن هذا الاستئناف لم يصدر إلا بذكر الله تعالى وحده
لفائدتين: الأولى التنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم، وذلك
لصدوره عمن يضمحل عملهم وقدرتهم في جنب علمه وقدرته. والثانية لدلالة على أنه تعالى يكفي مؤنة عباده
المؤمنين وينتقم لهم ولا يحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم. وفى هاتين الفائدتين زيادة تأييد لجزالة
الاستئناف وفخامته، والضمير في قوله (وفيه) في الموضعين راجع إلى قوله تعالى - الله يستهزئ بهم - وإنما أورد
صيغة الحصر في تقرير أبلغية الاستهزاء مع أنه لا حاجة إليها تنبيها على ما هو مدلول الكلام، فإن بناء الفعل على
المبتدأ مطلقا يدل عنده على الاختصاص كما صرح به في مواضع من هذا الكتاب (قوله ليس استهزاؤهم إليه) أي
حال كونه منسوبا إليه و (لما ينزل بهم) متعلق بيستهزئ في قوله - هو الذي يستهزئ - وقوله (من النكال ويحل
بهم من الهوان والذل) إشارة إلى معنى الاستهزاء الثالث والأول، ودل بقوله (ولا يحوج المؤمنين) على أن الحصر
بالقياس إليهم: أي هو المستهزئ دون المؤمنين. لا يقال: الاستهزاء بمعنى السخرية لا يتصور منه تعالى، وبالمعنى
187

المراد: أعني إنزال النكال والذل لا يتصور من المؤمنين، فكيف يتصور الحصر الذي ذكرتموه؟ لأنا نقول:
معنى هذا الحصر أنه تعالى يتولى الاستهزاء بالمعنى الذي يليق به، ولا يتولاه المؤمنون بالمعنى الذي يليق بهم ويماثل
استهزاء المنافقين، وفى بيانه أولا ما أريد بالاستهزاء، وقوله آخرا (أن يعارضوهم باستهزاء مثله) أي في كونه
سخرية واستخفافا تصريح بما ذكرناه على أنه إذا أريد بالاستهزاء جزاؤه أمكن صدوره عنهما، فيكون المعنى هو
الذي بتولى جزاء استهزائهم دون المؤمنين فلا إشكال حينئذ (قوله يفيد حدوث الاستهزاء) أما إفادته الحدوث
والتجدد فلكونه فعلا، وأما كون ذلك وقتا بعد وقت فلأن المضارع لما كان دالا على الزمان المستقبل الذي ينقلب
حالا شيئا بعد شئ على الاستمرار ناسب أن يقصد به إذا وقع موقع غيره أن معنى مصدره المقارن لذلك الزمان
يحدث على منواله مستمرا استمرارا تجدديا لا ثبوتيا كما في الجملة الاسمية. استشعر فلان خوفا: إذا أضمره، وفاعل
أن ينزل مستتر: أي ينزل فيهم شئ مما يفضحهم (قوله كفاك دليلا) يريد أن القراءة بضم الياء هنا وفى نظيره
دليل واضح على أن المفتوح الياء من المدد إذا لم يستعمل أمد من المد على أن المأخوذ من المد بمعنى الإمهال في العمر
إنما يستعمل باللام، وحمله على الحذف والإيصال مخالف للأصل فلا يرتكب إلا بدليل (قوله فكيف جاز) يعنى
188

أن إيلاء المدد في الطغيان من الأفعال القبيحة التي تسند إلى الشياطين، فلا يجوز إسناده إلى الله تعالى. وأجاب أولا
بأنهم لما أصروا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافه فتزايد الرين: أي الدنس في قلوبهم، فسمى ذلك
التزايد: أي ما تزايد من الرين مددا في الطغيان، وأسند إيلاؤه إلى الله نعالى، ففي المسند مجاز لغوى، وفى الإسناد
مجاز عقلي لأنه إسناد الفعل إلى المسبب له، وفاعله في الحقيقة هم الكفرة. وثانيا بأنه أريد بالمد في الطغيان ترك القسر
والإلجاء إلى الإيمان على ما سبق تقريره، وهو فعل الله تعالى، فإسناده إليه حقيقة وإن كان المسند مجازا. وثالثا بأن
المراد منه معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان، لكن أسند إليه تعالى مجازا على مذهبه لأنه بتمكينه وإقداره، وقد يتوهم
أن إيقاع المد عليهم تجوز لازم على كل مذهب لأن حقيقته أن يوقع على الطغيان ونحوه مما وقع الزيادة فيه. ويدفع
بأن المفهوم من مد طغيانهم ومدهم في الطغيان واحد (قوله وإلا) أي وإن لم يطابق اللفظ المعنى ولم يشهد بصحته
(كان) المعنى أي نسبته (منه) أي من اللفظ (بمنزلة نسبة الأروى) وهو اسم جنس الأروية: أعني الأنثى من
الوعول ولا تسكن إلا الجبل (من النعام) الذي لا يسكن إلا السهل، وهما مثل لغاية التباعد والتباين كالضب
والنون (تعاهد) الشئ تحفظ به وتعهد أفصح منه (قوله وماوقع) أي وبقاء ما وقع به التحدي وسليما حال من
الموصول وقوله (من تعاهد النظم) متعلق بمعنى البعد المستفاد من قوله على مراحل (قوله ويعضده ما قلناه) من أن
يمدهم من المدد دون المد (قول الحسن) لأن التمادي في الضلالة يناسب تزايد الرين والظلمة لا امتداد العمر والإمهال
(وأن هؤلاء) بفتح الهمزة معطوف على قول الحسن: أي ويضده هذا أيضا، لأن الطبع على القلوب يناسب
ذلك التزايد لا طول العمر، وكسرة الهمزة على أنه من تتمة قوله وهم، واللقيان هو اللقاء، والغنيان هو الغنى.
يقال غنيت المرأة بزوجها غنيانا: أي استغنت به، وقيل هو مصدر قولك غنى بالمكان: إذا أقام (قوله فيها) أي
189

في إضافة الطغيان إليهم، ولم يرد بما ذكره أن هذه الإضافة تدل بالوضع على أن الطغيان بإيجاد العبد لا بإيجاد الله
تعالى وإرادته ليرد عليه أن الأمور المخلوقة لله تعالى بمشيئته اتفاقا إذا قامت بالعباد كالحسن والقبح والبياض والسواد
تضاف إليهم إضافة حقيقية لا مجازية لأدنى ملابسة، فلا دلالة لإضافة الطغيان إليهم على إيجادهم إياه، بل أراد به
كما ينبهك عليه قوله: أي نكتة في إضافته إليهم أن في هذه الإضافة إشارة لطيفة إلى أن الطغيان والتمادي في
الضلالة من الأفعال التي اكتسبوها باختيارهم استقلالا، وأن الله تعالى برئ منه فليس يتعلق به لا خلقا ولا إرادة
فحقه أن يضاف إليهم لا إليه إشعار بهذا الاختصاص لا بالاختصاص باعتبار المحلية والاتصاف، فإنه معلوم من
تماديهم في الطغيان فلا حاجة فيه إلى الإضافة، فلولا حملها على قصد ذلك الإشعار لخلت عن الفائدة، ومثل ذلك
معتبر في الإشارات الخطابية عند أرباب البلاغة. وقوله ردا مفعول له بمعنى الكلام: أي أضيف الطغيان إليهم
ليفيد كذا ردا ونفيا (قوله من يلحد في صفاته) أي يميل عن الحق ويزعم أنه تعالى مريد للكفر والمعاصي وموجد
لها ثم يعاقب عليها. والجواب أن أمثال هذه الخطابيات لا تعارض البراهين الدالة على أنه تعالى لا خالق سواه، وأنه
لا يقع إلا ما أراده الله تعالى. وأول البيت * ومهمه أطرافه في مهمه * أي رب مفازة لا تنتهي سعة بل
أطرافها من جوانبها في مفازة أخرى. أعمى الهدى: أي خفى المنار بالقياس إلى من لا دراية له بالمسالك، جعل خفاء
العلم عمى له بطريق الاستعارة. وقيل أعمى صفة من عمى عليه الأمر التبس: أي ملتبس الهداية إلى طرقها على من
يجهل ويتحير فيها. وقد يقال أعمى فعل ماض: أي أخفى طرق الاهتداء (والعمه) جمع عامه (قوله ومعنى اشتراء
الضلالة بالهدى) قيل إن قوله - أولئك الذين اشتروا الضلالة - الآية تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ، والمد
190

في الطغيان على سبيل الاستئناف، أو جملة مقررة لقوله - ويمدهم في طغيانهم يعمهون - (الجملة) مجتمع شعر
الرأس (والأزعر) القليل الشعر (والدردر) مغارز أسنان الصبى. قيل والمراد به ههنا أصول الأسنان التي تناثرت
رؤسها (والعمر) عطف بيان للطويل الذي هو صفة له في المعنى، والحيدر القصير. والمراد بالمسلم الذي اشترى
النصرانية بالإسلام جبلة بن الأيهم من ملوك غسان، فإنه وفد بمكة على عمر رضي الله عنه وأسلم، ثم إنه ارتد ولحق
بقيصر وتنصر وقصته مشهورة في العرب (قوله وإعراضه) أي إعراض الهدى لهم، من أعرضك الصيد: إذا أمكنك
من عرضه: أي جانبه والجواب الأول أنهم لما كانوا متمكنين منه تمكنا تاما بعد التكليف به وتيسير أسبابه أستعير
ثبوته لهم لتمكنهم، فإن العبارة تدل على ثبوت الهدى لهم والمراد تمكنهم. وأما الحمل على جعل الهدى مجازا عن
تمكنه فما يأباه ظاهر كلامه. والجواب الثاني أن المراد بالهدى الفطرة التي جبلوا عليها، وقد كانوا على هذا الهدى
بلا شبهة، ثم استبدلوا به الضلالة فلا مجاز في ثبوت الهدى لهم بل في لفظة الهدى إن لم تكن الفطرة مندرجة في
حقيقته. و الدرص بالكسر: ولد الفأرة واليربوع ونظائرهما (ونفقه) أي جحره، وهو مثل يضرب لمن ينسى
الحجة عند الحاجة، وقد مر أن الشف من الأضداد يطلق على الزيادة والنقصان (قوله كيف أسند الخسران) قيل
حقه أن يقول: كيف أسند الربح، وذلك أن النفي لا مدخل له في الإسناد العقلي، فالفعل إذا أسند إلى غير فاعله
لملابسة بينهما كالنوم إلى الليل كان مجازا عقليا سواء كان الإسناد مثبتا أو منفيا، فقولك نام ليلى أو ما نام ليلى
191

كلاهما مجازان، لأن النوم قد أسند فيهما إلى غير ما هو له، إما بطريق الإثبات وإما بطريق النفي، وليس بشئ
لأن نسبة الفعل قد تكون ثبوتية وقد تكون سلبية، وكل واحدة منهما تعتبر في نفسها. ألا ترى أنك إذا قلت:
ما ربحت التجارة بل التاجر لم يكن هناك مجاز أصلا؟ فعلى هذا فحقه أن يقول: كيف أسند عدم الربح إلى التجارة؟
إلا أنه عدل عنه تنبيها على أن عدم الربح ههنا جعل كناية عن الخسران وإن كان أعم منه ثم أسند، وأشار بذلك
إلى أنه لو اقتصر ههنا على انتفاء الربح لكان منسوبا إلى ما هو محله حقيقة فلا مجاز. نعم إذا كنى به عن الخسران
وأسند إلى التجارة كان مجازا، وفائدة هذه الكناية التصريح بانتفاء مقصود التجارة وهو الربح مع حصول ضده
الخسران، بخلاف ما لو قيل فخسرت تجارتهم، وكذا الحال فيما إذا قلت: ما صام نهاره بمعنى أفطر، وما نام ليله
بمعنى سهر، فإنه يكون من قبيل المجاز وإن قصدت بهما نفى الصوم عن النهار والنوم عن الليل فقط كما في قولك:
ما صام النهار وما نام الليل لم يكن منه قطعا، والضابط أن الفعل إذا نفى عن غير فاعله وقصد مجرد نفيه عنه كان
حقيقة، وإذا أول ذلك النفي بفعل آخر ثابت للفاعل دونه كان مجازا، فتدبر والله الموفق (قوله وهو أن يسند
الفعل) هذا التفسير للإسناد المجازى بما هو أعم مما سبق، إذ قد اشترط المصنف هناك مضاهاة الفاعل المجازى للفاعل
الحقيقي في ملابسة الفعل، واقتصر ههنا على تلبسه به مطلقا، ولك أن تحمله على التقييد اعتمادا على ما سلف وتقول:
التجارة سبب يفضى إلى كل واحد من الربح والخسران، والأولى إجراؤه على ظاهره، فإن التلبس بالذي هو له
في الحقيقة مصحح للإسناد كما في قولهم: قال الملك كذا ورسم كذا، وإنما القائل والراسم بعض خاصته على ما مر
(قوله نعم إذا دلت الحال) أي إذا قامت القرينة على أنهما رأس المال جاز أن يسند إليهما إسنادا مجازيا ولا جواز
بدونها، فإن الشرط في المجاز لغويا كان أو عقليا قيام القرينة لا وجود السماع في أفراده. وفيه رد على علي بن
عيسى الربعي حيث حكم بعدم صحتهما لوقوع الالتباس بالإسناد الحقيقي. وفى قوله (هب) إشارة إلى نوع
استبعاد في حمل الاشتراء على الاستبدال المذكور بواسطة ما قارنه من ذكر الربح والتجارة (قوله من الصنعة
البديعة) أي الغريبة المستحسنة (وهى) أي تلك الصنعة والديباجتان الخدان. ورونق السيف: ماؤه وحسنه،
192

ومنه رونق الضحى. والترشيح أن ترشح الأم ولدها باللبن القليل تجعله في فيه شيئا بعد شئ حتى يقوى على
المص، يقال فلان يرشح للوزارة: أي يربى ويؤهل لها، وقيل أصله ترشيح الظبية ولدها، وهو أن تعوده المشي،
ورشح الغزال: إذا مشى ونزا فهو راشح. وترشيح المجاز في الاصطلاح أن تقرنه بصفة أو تقريع كلام يلائم
معناه الحقيقي، وهو في الاستعارة كثير، وقد يوجد في المجاز المرسل كما يقال لفلان يد طولى: أي قدرة كاملة.
ثم إن ترشيح الاستعارة إنما يتصور بعد تمامها بقرينتها، ولا شبهة أن التخييل في المكنية قرينة لها فلا يكون ترشيحا
مع كونه ملائما للمستعار منه، بل ما زاد عليه من ملائماته يعد ترشيحا لها (قوله وذلك نحو قول العرب) دل هذا
الكلام على تصريحه أن المجاز المرشح إنما هو في هذه العبارة، ولا حاجة إلى أن يقال: رأيت حمارا كأن أذني قلبه
خطلاوان، فيجعل الحمار استعارة، وإثبات الأذن والخطل ترشيحا، يقال أذن خطلاء: أي مسترخية طويلة،
وتحقيق ما صرح به أنهم استعاروا الحمار للبليد لا صريحا بل كناية حيث أثبتوا له بعض ما هو من لوازم الحمار
وهو المشهور به: أعني الأذنين، ثم قرن بها ما يلائم أذن الحمار وهو الاسترخاء، فحق ظاهر الكلام أن يقال
كأن أذنيه مطلاوان، إلا أنهم أقحموا لفظ القلب لأنه محل الذكاء والبلادة، فمنه نشأ التشابه بينهما. وأيضا لو
قيل أذنيه لربما سبق الوهم إلى الأذنين الثابتتين له حقيقة، فظهر أن الاستعارة لفظ الحمار الذي سكت عنه، وأن
التخييل الذي هو من تتمتها إثبات الأذنين، والترشيح والخطل، وليس لك أن تجعل قلبه مشبها بالحمار وإثبات
الأذنين والخطل تخييلا وترشيحا كما يتوهم إذ لا حسن فيه، ولا أن تجعل القلب عبارة عن البليد لأن إضافته إليه
تبعده. وقوله (روما) تعليل للترشيح، وقوله (فادعوا لقلبه أذنين) من تتمة (جعلوه كالحمار) كما أن قوله
(وادعوا لهما الخطل) من تتمة (ثم رشحوا) فالكلام على طريقة اللف والنشر. وقوله (ليمثلوا البلادة) علة
للدعاء الخطل. فإن قلت: لفظة كأن أبية عن الحمل على الاستعارة قلت: هي ههنا ليست للتشبيه كما في
قولك كأن زيدا راكب على أنها لم تدخل فيما هو استعارة تدل على جعل البليد حمارا بل فيما هو ترشيح: أعني إثبات
الخطل، ونظيره من الاستعارة المصرحة أن يقال: جاوزت بحرا كأنه متلاطم الأمواج. وتحقيقه أن إثبات الملائمات
كما يكون بطريق الجزم فقد يكون بطريق الظن والتشبيه. وقيل حرف التشبيه في مثل هذا المقام للتحقيق المؤكد
وفيه بعد (قوله ولما رأيت النسر) استعار لفظ النسر للشيب ولفظ (ابن دأية) وهو الغراب للشعر الأسود،
ورشح الاستعارة بذكر التعشيش وهو أخذ العش، وذكر الوكر وهو موضع الطائر الذي يأخذه للتفريخ.
واعلم أن الترشيح قد يكون باقيا على حقيقته تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها كقولك رأيت أسدا وافى البراثن؟؟،
فإنك لا تريد به إلا زيادة تصوير للشجاع، وأنه أسد كامل من غير أن تذهب بلفظ البراثن؟؟ إلى معنى آخر وقد
يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له، كما في البيت فإنه أستعير لفظ الوكرين من معناه الحقيقي
للرأس واللحية أو للفودين: أعني جانبي الرأس. ولفظ التعشيش للحلول والنزول فيهما مع كونهما مستعارين
193

ترشيحا لتينك الاستعارتين لا باعتبار المعنى المقصود بهما: بل باعتبار لفظهما ومعناهما الأصل، يقال عز: أي
غلب، وجاش: اضطرب. وقوله لما شبه الشيب بالنسر يدلك على فساد ما توهم من أن قوله جعلوه كالحمار
تصريح بأنه تشبيه كما تقتضيه لفظة كأن فتأمل (قوله فتاكهم) الفتاك جمع فاتك: وهو الجرئ بلا مبالاة،
والمقصود بنفي عملها بأخلاق الكرام أنها تجاوزت حد الإدلال والكريم لا يدل إلا إدلالا لطيفا. قصع اليربوع:
أي دخل في قاصعائه. وقصع الشيطان في قفاه ساء خلف وغضب، و نفق اليربوع: أي خرج من نافقائه،
وتنفقته: أي أخرجته منها، استعار التقصيع أولا لجردها وإساءة خلقها، ثم ضم إليه التنفق مستعارا للاجتهاد في
إزالة غضبها وإماطة ما يسوء من خلقها، ثم جعل التؤام مستعارا لسبب قوى يتوصل به إلى تلك الإزالة، فهاتان
الاستعارتان تابعتان للأولى ومرشحتان لها باعتبار لفظهما، و أصل المعنى كما سلف آنفا، إلا أن ههنا شيئا وهو
أنه لولا استعارة التقصيع أولا لم تصح استعارة التنفق، وأما الحبل التؤام فظاهر أنه من تتمة الثاني وتابع له (قوله
تمثيلا لخسارهم) أي المقصود الأصلي من الترشيح في الآية تصوير ما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسارة التجارة
كأنه هو بعينه، مبالغة في تخسيرهم بهذا الاستبدال ووقوعهم به في حقيقة الخسارة الذي يتحاشى عنه أولو
الأبصار لا تصوير الاستبدال بصورة التجارة، فإنه وسيلة إلى ذلك المقصود (قوله ما معنى قوله فما ربحت) يريد
أنه عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم ورتبا معا بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى فما وجه الجمع
بينهما مع ذلك الترتيب، على أن عدم الاهتداء قد فهم من استبدال الضلالة بالهدى فيكون تكرارا لما مضى.
والجواب أن رأس مالهم هو الهدى، فلما استبدلوا به ما يضادوه ولا يجامعه أصلا انتفى رأس المال بالكلية (وحين لم
يبق في أيديهم إلا) ذلك الضد أعني (الضلالة) وصفوا بانتفاء الربح والخسارة (لأن الضال) في دينه (خاسر
دامر) أي هالك، وإن أصاب فوائد دنيوية، ولأن من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالربح، بل بانتفائه
أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال وترتب على ذلك إضاعة الربح، وأما قوله (وما كانوا مهتدين) فليس
معناه عدم اهتدائهم في الدين فيكون تكرارا لما سبق بل لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم
لطرق التجارة كما يهتدى إليه التجار البصراء بالأمور التي يربح فيها ويخسر فهذا راجع إلى الترشيح، لكن عطفه
194

على اشتراء الضلالة بالهدى أولى كما يرشدك إليه تأملك (قوله لما جاء) أي لما بين بقوله - ومن الناس من يقول آمنا -
إلى ههنا حقيقة صفة المنافقين، أراد أن يكشف عنها كشفا تاما ويبرزها في معرض المحسوس المشاهد فعقبها
بضرب المثل مبالغة في البيان والأمثال جمع مثل والمراد ههنا ما هو أعم من القول السائر الذي سيذكر كما في
قوله تعالى - وتلك الأمثال نضربها للناس - وقول المصنف: ومن سور الإنجيل سورة الأمثال والمثل جمع المثال
فإنه يجمع على أمثلة ومثل يقال بكته بالحجة أي غلبه وقمعه أي قهره وأذله (والسورة) الحدة والوثبة
(ثم قيل) أي ثم نقل من معناه اللغوي إلى معنى آخر عرفي يتفرع عليه معنى ثالث مجازى كما سيذكره والسائر
هو الفاشي، ويعتبر فيه مع الفشو أن يكون تشبيها تمثيليا على سبيل الاستعارة وإنما سمى مثلا لأنه جعل مضربه
وهو ما يضرب فيه ثانيا مثلا لمورده وهو ما ورد فيه أولا (قوله ومن ثمة حوفظ عليه وحمى من التغيير) فإنه
لو غير لربما انتفى الدلالة على ذلك الغرابة والأظهر كما في المفتاح أن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة
فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به فإن وقع تغيير لم يكن مثلا بل مأخوذا منه وإشارة إليه كما في قولك
الصيف ضيعت اللبن بالتذكير (قوله ما معنى مثلهم) يريد قد ذكرت للمثل معنى لغويا ومعنى عرفيا وشئ
منهما لا يناسب المقام فما المعنى المراد بالمثلين حتى شبه أحدهما بالآخر فقوله (وما مثل المنافقين) عطف تفسيري،
وقيل سأل أولا عن معنى المثل ومفهومه وثانيا عن الأمر الذي يصدق عليه ذلك المفهوم في جانبي المشبه والمشبه
به وأجاب بما يفيد الأول صريحا والثاني ضمنا وما ذكرناه ألصق بعبارة الكتاب وقوله (إذا كان لها شأن
وفيها غرابة) إشارة إلى العلاقة المجوزة للاستعارة وهى الاشتراك في الغرابة وعظم الشأن وكلمة إذا ظرف لقوله
أستعير وقد تجردت عن الشرطية لمعنى الوقت فيصح وقوعها معمولا لماض محقق كما هو حق كلمة إذ وقيل
لفظة كان لقوة دلالتها على المضي لا تنقلب إلى الاستقبال بدخول إن التي هي أعرق الكلمات في الشرطية فضلا
195

عن دخول إذا فلا حاجة إلى التجريد كأنه قيل لما كانت كذا أستعير لها لفظ المثل من المعنى المصطلح (قوله ثم
أخذ في بيان عجائبها) أي بقوله تجرى الخ وقوله في الخير والشر متعلق بقالوا لا بمثله (قوله كيف مثلت الجماعة
بالواحد) قيل لا وجه لهذا السؤال بعد التصريح بأن المقصود تشبيه الحال بالحال وأجيب بأن الأصل يقتضى
رعاية المطابقة بين الحالتين في كونهما للواحد أو الجماعة فإن المماثلة حينئذ أقوى والتشبيه أقرب إلى القبول
فذكروا أولا أن تلك المطابقة التي هي أولى مرعية ههنا. وثانيا أن ترك ذلك الأولى جائز وشائع في الاستعمال
لحصول المقصود بلا اختلال نعم إذا قصد تشبيه الذات بالذات وجب تلك الرعاية ولا يجوز إهمالها كي لا يلزم
ههنا تشبيه ذوات الجماعة أعني المنافقين بذات الواحد الذي هو المستوقد فإنه مردود قطعا بخلاف قول
الشاعر: الناس ألف منهم كواحد * وواحد كالألف إن أمر عنى
وأشار بكلمة على في قوله على أن المنافقين إلى أن الجواب الثاني إما علاوة وإما معول عليه وذكر في الجواب
الأول المشتمل على كون المشبه به جماعة أيضا وجوها ثلاثة الأول أن الذي وضع موضع الذين بطريق الحذف
والتخفيف والذي جوز ذلك مع أنه لا يجوز وضع القائم موضع القائمين بهذا الطريق ولا وضع نحو القائم من
الصفات المفردة موضع جموعها بحذف علاماتها أمران أولهما راجع إلى ذي العلامة فإن لفظ الذي يستحق
التخفيف لما ذكره ولذلك خفف من وجوه كثيرة وكذا جمعه جرى فيه هذا النوع من التخفيف وثانيهما راجع
إلى العلامة وهو أن الياء والنون في الذين ليستا كالياء والنون في جموع السلامة في قوة الدلالة على الجمعية حتى
يمتنع حذفهما (ألا ترى) أنه لم يختلف في حالات الإعراب و (أن سائر الموصولات) كمن وما اتحد فيها (لفظ الجمع)
والواحد فهذه علامة لزيادة الدلالة وشئ من هذين الأمرين لا يوجد في الصفات ويرد على هذا الوجه من
الجواب أن الذي حينئذ جمع مخفف فيجب أن يجمع ضميره في استوقد كما في - الذي خاضوا - ويجاب بأنه وإن
كان جمعا حقيقة إلا أنه مفرد صورة فجاز إفراد ضميره نظرا إلى صورته فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن يجوز
مررت بالرجال القائم بتوحيد الضمير الراجع إلى اللام لكونه في صورة المفرد بل مخفف الذين كالذي بعينه
إذا جعل اللام موصولا برأسه كان ذلك أولى بالجواز قلنا: القياس يقتضى ذلك إلا أنه في صورة لام التعريف
196

وقريب منه في المعنى، حتى ذهب المازني إلى أنه حرف تعريف فلذلك أجرى مجراه في وجوب مطابقة الصفة التي
بعده للموصوف به، بخلاف الذي فإنه ليس كذلك فجاز توحيد ضميره نظار إلى لفظه. والوجه الثاني من الجواب
الأول أنه قصد بالذي استوقد جنس المستوقدين فلا يختص بالواحد حتى يلزم المحذور. والوجه الثالث منه أن
يقدر موصوفه لفظا مفردا معناه الجماعة كلفظ الجمع أو الفوج أو نحوه، فقوله أو قصد أو أريد معطوفان على
وضع، ولا يخفى عليك أن كون الشئ وصلة يناسبه التخفيف، لأن الوسيلة إذا كانت أخف كان الوصول بها إلى
الغرض أسرع، وقوله وتكاثر عطف على لكونه ولم يعد اللام فيه لقوة تقاربهما في المعنى كما ينبئ عنه قوله إلى
وصف كل معرفة بخلاف كونه مستطالا بصلته، يقال نهكته الحمى بالكسر: نقصت لحمه وأضنته، والمتبادر
من قوله أحدهما أن الذي لكونه وصلة الخ هو أنه بكماله اسم موضوع معرفة يتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل
كما ذهب إليه كثير من المحققين. وظاهر ما ذكره في المفصل بل صريحه يدل على أن اللام في الذي حرف تعريف
وأن هذه اللام هي بعينها اللام التي تعدت إلى الموصولات إلا أنها حينئذ اسم لا حرف لكونها بمنزلة الذي لكونها
تخفيفا له قال في الصحاح الذي اسم مبهم للمذكر معرفة وأصله لذي فأدخلت عليه الألف واللام ولا ينزعان عنه
وجمهور النحاة على أن اللام التي تعد في الموصولات ليست منقوصة من الذي بل هي اسم برأسه إلا أنها لما أشبهت
حرف التعريف في الصورة التزم أن يكون مدخولها اسما مسبوكا من الجملة الفعلية، فهي اسم في صورة الحرف
وصلتها فعل في صورة الاسم، فلذلك كان إعرابها ظاهرا في صلتها لا مقدرا في محلها، والموجود في النسخ
المعول عليها (وذواتهم) بالكسر، وفى الصحاح أنها كمسلمات وليست التاء فيها أصلية، ألا ترى أنك إذا وقفت
على الواحد قلت ذاه بالهاء ويوجد في بعض النسخ بالفتح، والوجه فيه مع بعده أن التاء فيه ليست كالتاء في بنت
ألا ترى أنهم جوزوا إطلاقه على الله تعالى فقالوا ذات الله وصفاته وذات قديمة مع تحاشيهم عن إطلاق نحو علامة
عليه وأيضا نسبوا إليه مع التاء فقالوا الصفات الذاتية فكان التاء أصلية لا علامة الجمع، على أن صاحب الكواشي
نقل عن يونس الفتح في نحو بنات نصبا (قوله والنار جوهر لطيف) عين أولا ما يطلق عليه لفظ النار في متعارف
اللغة، ولا شبهة في أن مجموع ما ذكر معتبر فيه، فلا معنى للمناقشة بأن كرة الأثير شفافة لا ضوء لها، ولا بأن
الإحراق قد يتخلف عنها، وإطلاق كل واحد من الضوء والنور على الآخر مشهور فيما بين الجمهور، فلا ينافي
الفرق المأخوذ من استعمال البلغاء ما ذكر والمأخوذ من اصطلاح الحكماء وهو أن الضوء ما يكون للشئ لذاته
197

كما للشمس والنور ما يكون من غيره كما للقمر ثم حكم بأن اشتقاقها من نار ينور نورا ونوارا وبأن اشتقاق النور
منها بناء على المناسبة اللغوية فإن الحركة والاضطراب يوجدان فيها أولا وبالذات وفى نورها ثانيا وبالعرض
فما حكم به أولى من جعل النار مشتقة من النور المشتق من نار وأضاء في الآية إما متعد فيكون قوله ما حوله مفعولا
به أي جعلت النار ما حول المستوقد مضيئا وإما لازم فيكون مسندا إلى ما حوله أي صارت الأماكن
والأشياء التي حوله مضيئة بالنار أو إلى ضمير النار وحينئذ إما أن تكون كلمة ما مزيدة وحوله ظرفا لغوا
لأضاءت أو موصولة وقعت عبارة عن الأمكنة فتكون مع صلتها مفعولا فيه لأضاءت وكان ينبغي أن يصرح
على الأخير بكلمة في لأن حذفها من لفظ مكان إنما كان لكثرة استعماله ولاكثرة في الموصول الذي عبر به عن
الأمكنة فيحمل على أنه من قبيل * عسل الطريق الثعلب (قوله ويجعل إشراق ضوء النار) كأن سائلا يقول:
إذا استتر في الفعل ضمير النار وجب أن توجد النار حول المستوقد حتى يتصور إضاءتها وإشراقها فيه أجاب
بأن النار وإن لم توجد فيما حوله فقد وجد ضوءها فيه، فجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها
فيه فأسند إليها إسناد للفعل إلى المسبب كما في بنى الأمير. فإن النار سبب لإشراق ضوئها حول المستوقد ومآله
ما اشتهر في العرف من أن الضوء ينتشر من المضئ إلى مقابلاته فيجعلها مستضيئة (وحوله نصب على الظرف)
إما لغو على تقدير زيادة ما كما مر وإما مستقر كما في سائر التقادير (وتأليفه) أي تأليف حروف حول هذه
الترتيب (للدوران والإطافة؟؟؟) يقال طاف وأطاف واستطاف بمعنى وقيل للعام حول لأنه يدور ومنه حال الشئ
واستحال أي تغير وحال الإنسان وهى عوارضه التي تتحول عليه والحوالة وهو أسهم من أحال عليه بدينه
(قوله أين جواب لما) لا يخفى أن إذهاب النور يناسب الاستيقان فالظاهر أن يجعل - ذهب الله بنورهم - جواب لما
إلا أن فيه مانعا لفظيا هو توحيد الضمير في استوقد وحوله وجمعه في بنورهم ومعنويا وهو أن المستوقد لم يفعل
ما يستحق به إذهاب النور بخلاف المنافق فجعله جوابا يحتاج إلى تأويل كما سيأتي فلذلك سأل وجوز أن يكون
الجواب محذوفا ثم لا بد للحذف من قرينة تجوزه ومن داع يرجحه على الإثبات الذي هو الأصيل فأشار
إلى الأول بقوله (وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام) أي لطوله يقال استطال: أي طال، واستطاله أي عده
طويلا ومنه قوله ولكونه مستطالا بصلته وأورد عليه أولا أنه لا أستطالة ههنا بخلاف قوله - فلما ذهبوا به -.
وأجيب بأن المراد لولا حذف ذلك الجواب المحذوف لطال الكلام. وثانيا أن عد الاستطالة في المرجح أولى من
عدها في المجوز ودفعه بأنه حاول أن يذكر في كل منهما أمرين ليس بشئ وقوله (للدال عليه) أي على
198

المحذوف أو على الحذف تعليل لأمن الإلباس وذلك الدال هو أن كلمة لما تقتضى جوابا في ذهب الله بنورهم
مانع فإن سياق الكلام في التمثيل لذم المنافقين بأنهم بعد انتفاعهم بضياء كلمة الإسلام واقعون في ظلمة النفاق
التي ترمى بهم إلى ظلمة العقاب السرمدية فلا بد من اعتبار الخمود ليصح التشبيه ويحصل الغرض وإلى الثاني
بقوله وكان الحذف أولى، إذ فيه فائدتان الايجاز والمبالغة في سوء حال المستوقد بإبهام أن الجواب مما تقصر العبارة
عنه. ولم يرد بما أشار إلى تقديره أن الجواب مقتصر عليه، بل نبه به على أنه من جنسه، وجمع الضمائر في بقوا
وما بعده نطرا إلى أن إيقاد النار في الأغلب إنما يكون للجماعة وإشارة إلى أن حمل الذي استوقد على الجمع أولى
لما نبهت عليه (قوله وكان الحذف) عطف على إنما جاز لا على جواز يرشدك إليه سلامة الفطرة (والإعراب)
الإفصاح والكشف أبلغ من اللفظ أي من التلفظ فإنه أنسب بالحذف (والكدح) جهد النفس في العمل مستفاد
من سين استوقد هذا وقد قيل جعل ذهب الله جوابا أولى لعدم الاستطالة ولأن كونه من تتمة التمثيل الأول
يوجب مطابقته للتمثيل الثاني لاشتماله على مبالغات ومن دأب البليغ أن يبالغ في المشبه به ليلزم منه المبالغة في
المشبه ضمنا والحمل على الاستئناف ضعيف لأن السبب في تشبيه حالهم قد علم مما سبق فلا معنى للسؤال عن
وجه الشبه أو تعيين المشبه وجعله بدلا من جملة التمثيل يدل على أن المذكور لفظا أو في بتأدية الغرض مما حذف
لقصور العبارة عنه وهو باطل نعم لو قيل ذهب الله ابتداء كلام لبيان حال المشبه لم يكن بعيدا ولعل ما ذكره
المصنف من نكتة الحذف ليس إيثار له بل إيناسا به وإزالة لاستبعاده فالوجه هو الأول وسيرد عليك من كلامه
ما يشعر به وأجيب بأن الحذف لما كان أبلغ كانت المبالغة في المشبه أكثر والتطابق بين التمثيلين أوفر وأيضا
إذهاب النور وتركهم في ظلمات يدل على أنه كان لهم نور فزال وصاروا متحيرين خابطين فتكون المبالغة في
الطرفين معا أما في المشبه به فبالحذف وأما في المشبه فباللفظ وهذا أوفى بتأدية الغرض الذي هو بيان حال
المنافقين (قوله كلاما مستأنفا) أي جوابا للسؤال عن وجه الشبه فإن مشاركة حال المنافق لحال المستوقد في
المعاني المذكورة ليست بظاهرة وقد عرفت ما فيه (قوله بحال المستوقد الذي طفئت ناره) فيه تنبيه على أن
الشرطية أعني فلما أضاءت مع جوابه المحذوف معطوفة على الصلة فيكون المستوقد موصوفا بمضمون ذلك
الجواب وقوله (على سبيل البيان) إشارة إلى أن الأول ليس في حكم الساقط الذي صرف عنه القصد (قوله
قد رجع الضمير في هذا الوجه) أراد به الوجه الثاني وهو أن يجعل جواب لما محذوفا وذهب الله استئنافا
أو بدلا بناء على قربه وسوق الكلام فيه وأراد بالوجه الثاني ما ذكره أولا فإنه إذا ابتدأ بالوجه الأخير كان أول
الوجهين ثابتا له والمقصود بيان إزالة المانع اللفظي وخص توحيد الضمير فيما حوله بالذكر لأنه أقرب إلى
199

ضمير الجمع وبارز مثله بخلاف ضمير استوقد، كما أن المقصود بقوله (فما معنى إسناد الفعل) بيان إزالة المانع
المعنوي، أجاب أولا بأن الإسناد حينئذ مجازى من قبيل الإسناد إلى المسبب، وفائدة الإسناد إليه تعالى المبالغة
في إذهاب النور. وثانيا بأن المراد مستوقد نارا لا يرضاها الله تعالى فلا يكون إطفاؤها قبيحا ثم إن هذه النار إما أن
تكون مجازية وإما حقيقية. فإن قيل: المنافق مستوقد نار الفتنة والعداوة مع ما ذكر من الإضاءة فلا معنى للتشبيه
قلنا: هذا المستوقد أعم منه (قوله وتلك النار متقاصرة مدة اشتعالها الخ) أشار به إلى معنى ذهاب الله بنورهم إذا
حملت النار على المجازية، ولما أستعير لفظ النار للفتنة رشحت بالإضاءة التي تلائم معناه الحقيقي (قوله لقوله فلما
أضاءت) أي ليتناسب أول الكلام واخره والسؤال فيه مختص بما إذا كان ذهب الله جواب لما وإجراؤه على التقدير
الاخر تكلف (قوله وكيف جمعها) كرر لفظ كيف إشعارا باستقلال كل واحد في تأدية المقصود (قوله فلم وصفت
بالإضاءة) تفريع على ما ذكره من أن الإضاءة تدل على الزيادة: أي لماذا وصفت بالإضاءة التي هي أقوى من
الإنارة مع أن المقصود الإزالة بالكلية التي تناسب القلة والضعف؟ أجاب بأنه دل في الكلام على قوة الظهور
وسرعة الخمود تنبيها على مزيد الحيرة والخيبة إشعارا بالبطلان، إذ قد تقرر في الأذهان قوة أمر الباطل في بدء
الحال واضمحلاله سريعا في المآل، ومن ثمة قيل (للباطل صولة) أي ظهور بقوة (ثم يضمحل) بسرعة (والعرفج)
نبت يشتعل قويا ويخمد سريعا، و (والنزوة) الطفرة (والطامح) من طمح الفرس أكب رأسه في عدوه رافعا بصره
فهو طماح، والمراد من تعدى طوره لما أوتى من رتبة لا يستحقها. وفى الصحاح رجل طماح: أي شره، من
200

طمحت المرأة: تطلعت إلى الرجال (قوله فهو أبلغ من الإذهاب) لما فيه من الأخذ والإمساك، فإن الباء وإن
كانت للتعدية كالهمزة إلا أن فيها معنى المصاحبة واللصوق (قوله ترك ظبى ظله) أي كناسه الذي يستظل فيه من
شدة الحر وهو مثل في الترك الكلى، فإن الظبي إذا نفر من مكان لم يعد إليه أصلا، وذلك في الصغير أقوى
لنفرته طبعا وعدم تهديه إلى المنزل وقلة إلفه به وتمثل المزعج في خياله، فلذلك صغره، واخر البيت قوله
* يقضمن حسن بنانه والمعصم * ويروى * ما بين قلة رأسه والمعصم * (جزر السباع) اللحم الذي تأكله لأنها
تجزره بأنيابها جزر القصاب بالحديد فعل بمعنى مفعول (النوش) التناول السهل (والقضم) الأكل بمقدم الأسنان
يقال قضمه بالكسر (والمعصم) موضع السوار من الساعد (ومنه) أي ومن القبيل الثاني، أعني ما ضمن معنى
صير، وإنما فصله لأن البيت نص في المعدى إلى مفعولين لأن جزر السباع معرفة لا يحتمل الحال بخلاف ما في
الآية، إذ يجوز أن يكون ترك فيها بمعنى خلى، وفى ظلمات ولا يبصرون حالين مترادفين أو متداخلين (والظلمة
عدم النور) ليس هذا تكرارا لما تقدم إذ قصد به ههنا تفسيرها، وما ذكره أولا بطريق جملة حالية قصد به تحقيق
أن ذهاب النور أبلغ من ذهاب الضوء، وهى عند بعضهم عدم النور عما من شأنه النور، وعند بعض المتكلمين
هي عرض ينافي النور، فهي على هذا وجودية وعلى الأولين عدمية، وعلى التقادير يصح ما مر من أن النور
نقيض لها: أي مناف للظلمة (لأنها) أي الظلمة (تسد البصر وتمنع الرؤية) وهذا ما يعتقده الجمهور وهو المناسب
لحالهم، فلا يتجه أن العدم لا يكون مانعا وتوحيد الظلمة في الآية ظاهر، وأما جمعها فباعتبار انضمام ظلمة الليل
إلى ظلمتى الغمام وتطبيقه مثلا (قوله كأن الفعل غير متعد أصلا) أي نزل منزلة اللازم وقطع النظر عن المتروك وقصد
إلى نفس الفعل كأنه قيل ليس لهم إبصار، وهو أبلغ من أن يقدر المفعول: أي لا يبصرون شيئا لأن الأول يستلزم
الثاني دون العكس. وأشار بقوله نحو يعمهون إلى أنه صار بمنزلة مالا يتعدى في أصله. وإنما قال في قوله ويذرهم
في طغيانهم لأنه يوافق قوله تركهم في ظلمات لا يبصرون في المعنى. بخلاف قوله ويمدهم في طغيانهم يعمهون
201

(قوله فيم شبهت) هذا سؤال عن وجه الشبه كأنه قيل: في أي معنى قصد اشتراك طرفي التشبيه: أعني حال المنافقين
وحال المستوقد. وقيل سؤال عن تعيين المشبه: أي في أي حال من الأحوال الكثيرة للمنافقين وقع التشبيه بحال
المستوقد؟ وعبارة الكتاب أبية عنه إذ بصير معناه حينئذ: في أي حال شبهت حالهم بحال المستوقد (في أنهم) أي
المنافقين أو المستوقد والمنافقين معا، وفى قوله (غب الإضاءة) أي بعدها وعلى أثرها إشارة إلى أن وجه الشبه
مركب في نفسه ملتئم من عدة معان على وجه يؤذن بتركب طرفيه أيضا، وقوله (وتورطوا في حيرة) معطوف
على خبطوا في ظلمة تفسير له، وفيه تنبيه على أن المقصود من الإضاءة ما يقابل الوقوع في الحيرة، فكأنه قال:
وجه الشبه هو أنهم عقيب حصول تباشير المقصود وقوة الرجاء وقعوا في حيرة الحرمان والخيبة، وهذا معنى
يشترك فيه المشبه والمشبه به قطعا، إلا أنه راعى موافقة نظم الآية فعبر عن الجزء الأول بالإضاءة وعن الثاني بالخبط
في الظلمة مع تفسيره بما يعلم منه وجه الشبه المشترك بين الطرفين كما نبهت عليه، فسقط ما يقال إن الإضاءة وكذا
الوقوع في الظلمة إن حملت على الحقيقة اختصت بالمستوقد وإن حملت على المجاز اختصت بالمنافق. فإن قلت: كما
أن الإضاءة الحقيقية مفقودة في حال المنافق، كذلك الخبط في الظلمة الحقيقية، فلماذا خص السؤال بالإضاءة؟
قلت: إطلاق الظلمة على الكفر مجاز مشهور، ألا ترى إلى قوله (إلا حائر خابط في ظلماء الكفر) وقد وجد
في المنافق الظلمة ببعض معانيها بخلاف الإضاءة إذ لم يوجد فيه معناها الحقيقي ولم يظهر لها معنى مجازى فاحتيج إلى
السؤال. وأجاب بأن المراد من الاستضاءة هو الانتفاع بإجرائهم الكلمة على ألسنتهم من حيث متاركتهم عن المحاربة
وإعطاؤهم الخظوظ من المغانم إلى غير ذلك، وأراد أن تقع الكلمة ههنا قائمة مقام الإضاءة في المستوقد، وليس
شئ منهما بخصوصه معتبرا في التشبيه، بل ما يلزمهما من ظهور أوائل المقصود ومخايل جمال المحبوب، وكذا
الحال في ظلمتى المستوقد والمنافق، فإن المعتبر فيه ما يلزمهما من الحيرة والحرمان كما عرفت، وقوله (وراء
استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق) ناظر إلى معنى قوله غب الإضاءة خبطوا في ظلمة. وفيه أيضا إشارة
إلى تركب وجه الشبه وأنه منتزع من أمور متعددة في المشبه. وأما انتزاعه من متعدد في المشبه به فمما لا شبهة فيه،
فقد أشار إلى أنه من التشبيهات المركبة كما هو المختار عنده في التمثيلين على ما سيأتي، ولا يخلو كلامه من تلويح إلى
جواز التفريق في هذا التشبيه، فإن قوله المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع يفهم منه جواز تشبيه الأجزاء
بالأجزاء. وتلخيص ما قررناه أنه اعتبر في المستوقد السعي في إيقاد النار والكدح في إحيائها وحصول طرف من
الإضاءة المطلوبة وزوالها بإطفاء النار بغتة كما تدل عليه كلمة فلما، واعتبر في المنافق القصد إلى ادعاء الإيمان
وإجراء الكلمة على اللسان وحصول منافع الأمن والأمان وانتفاء ذلك دفعة بالموت ووقوعهم في ظلمات متراكمة
فإن لوحظ في كل واحد من الجانبين هيئة وحدانية ملتئمة من تلك المعاني المتعددة كان تشبيها مركبا ووجهه
202

ما ذكر، وإن قصد تشبيه كل واحد من تلك المعاني المتعددة بما يناظره كان تشبيها مفرقا، ولا يحتاج وجهه إلى
بيان، وفى قوله (ظلمة النفاق الخ) تنبيه على توجيه الجمع في ظلمات نظرا إلى حال المنافق، وقد مر توجيهه نظرا
إلى حال المستوقد. فإن قيل: ظلمة النفاق مجامعة للاستضاءة بنور هذه الكلمة لا متعقبة. قلنا: نعم إلا أنها تمحضت
بعد الانتفاع، فلذلك حكم بتعقبها منضمة إلى ظلمتين أخريين (قوله ويجوز أن يشبه) هذا وجه ثان، في بيان
وجه الشبه ولا يخالف الأول تركيبا وتفريقا إلا فيما هو بإزاء ذهاب الله بنور المستوقد فالتورط حينئذ هو الوقوع
في حيرة الفضوح والخيبة، وهو أعني قوله ويجوز عطف على ما تقدم بحسب المعنى كأنه قيل: شبه بذهاب الله
بنورهم إماتته إياهم ظالمي أنفسهم، ويجوز أن يشبه وفيه نوع تصريح بالتفريق (قوله والأوجه) هذا وجه ثالث،
ويجرى في هذا التفريق والتركيب كالأولين إلا أن المشبه بالإذهاب ههنا هو أن الله تعالى خذلهم في نفاقهم فطبع
على قلوبهم فوقعوا في حيرة الغشاوة والبعد عن نور الإيمان. وإنما جعله أوجه لأن ما ذكره بعده من خواص أهل
الطبع. ومحصول الوجه الأول أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله تعالى بالموت فوقعوا
في تلك الظلمات، ومحصول الثاني أنهم استضاءوا بها مدة، ثم اطلع الله على أسرارهم فوقعوا في ظلمات انكشاف
الأسرار والافتضاح والاتسام بسمة النفاق. ومحصول الثالث أنهم انتفعوا بها فخذلهم الله تعالى حتى صاروا مطبوعين
واقعين في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض. وهذه الأوجه كلها تدل على تقدير كون التمثيل متعلقا بجميع ما علم
من أحوال المنافقين في الآية السابقة، وتفصيل لقوله في أنهم غب الإضاءة الخ. ثم إنه أشار إلى وجه رابع على
تقدير تعلقه بقوله " اشتروا الضلالة بالهدى " فقال: وفى الآية تفسير اخر، وبينه على التفريق بيانا واضحا، وسيأتيك
في التمثيل الثاني باعتبار التركيب فيه، وقد جعل في هذا التفسير قوله ذهب الله جواب لما حيث عده من أحوال
المستوقد، وكذا في قوله ويجوز أن يشبه بذهاب الله بنور المستوقد، وقوله (والأوجه أن يراد الطبع) إذ مال
معناه أن يشبه الطبع بذلك الذهاب، وكذا الحال في الوجه الأول لأن السؤال عن وجه الشبه إنما يتوجه على تقدير
كون ذهب جواب لما إذ على تقدير كونه استئنافا أو بدلا يكون هو بيانا لوجه الشبه (قوله وتنكير النار للتعظيم)
أي في هذا التفسير تعظيما للهدى المشبه بها أو مطلقا لما سيأتي من قوله كما نكرت النار في التمثيل الأول (قوله كانت
حواسهم) هذا شروع في تفسير قوله صم بكم عمى، وهو من أحوال المنافقين سواء جعل ذهب الله جوابا للما
أولا، ومعنى (إيفت) أصيبت بآفة، يقال: أيف الشئ فهو مؤف (والمشاعر) جمع مشعر إما بكسر الميم الة
203

أو بفتحها موضعا، ولا فرق بين البنا والبنا ضما وكسرا كمفرديهما على وزن غرفة وحرفة، وقد يفرق بأن المضموم
مستعمل في المكارم والمعانى والمكسور في الأبنية (بنيت): أي تلك المشاعر (عليها) أي تلك البنا وقد عد آلة
النطق من الحواس والمشاعر تغليبا (أذنوا) أصغوا إليه واستمعوا، و (أصم) أفعل صفة ضمن معنى الذهول والإعراض
فعدى بعن (سميع) أي لما سره وأسمع أفعل تفضيل، و (أصممت عمرا وأعميته) أي وجدته أصم وأعمى (قوله
كيف طريقته) يريد أن قولك جعلوا كأنما إيفت مشاعرهم يدل على ابتناء هذا الكلام على التشبيه الذي له أساليب
في علم البيان، فبين لنا أنه على أي أسلوب منها، فذكر أنه من أسلوب حمل المشبه به على المشبه مع حذف الأدلة
ووجه الشبه. ولما لم يتبين بعد أن ما في الآية تشبيه أو استعارة أورد جريان الاستعارة في الأسماء والصفات والأفعال
فعلم منه أن التشبيه الذي هو مبنى الاستعارة جار فيها، ألا ترى أن كل ما تجرى فيه الاستعارة يجرى فيه التشبيه
كليا ولا ينعكس كليا، وإنما لم يذكر الحروف وإن جرى فيها الاستعارة تبعا كما في الصفات والأفعال، لأن هذه
الطريقة وهى أن يكون المشبه به مذكورا بلفظ الحروف محمولا على المشبه لا يتصور فيها (قوله دجا الإسلام) أي
قوى وكثف كجسم له ظل (قوله وأضاء الحق) أي ظهر ظهورا تاما كالشمس (قوله على تسميته تشبيها بليغا)
حيث حمل المشبه به على المشبه كأنه هو بعينه (لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون) إذ تقدير الآية هم صم فالمستعار
له مذكور بلفظه تقديرا مع لفظ المستعار منه، فيكون لفظ المستعار منه مستعملا في معناه الحقيقي، كما أن لفظ
المستعار له كذلك فلا استعارة هناك حقيقة، بل (الاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له) فلا يكون لفظه
في نظم الكلام المشتمل على لفظ المستعار منه مذكورا ولا مقدرا، بل يكون معناه مرادا بلفظ المستعار منه فقد
أستعير حينئذ لفظ المشبه به للمشبه، وما قررنا شامل للاستعارة المصرحة نحو رأيت أسدا يرمى، والمكنية في نحو
أظفار المنية على رأى المصنف، لأن المستعار ههنا عنده هو السبع الذي سكت عنه، ودل عليه بذكر بعض روادفه
فلا يكون لفظ المستعار له مذكورا أصلا في الكلام المشتمل على ذكر المستعار بل مطويا معه كما إذا قلت أظفار
السبع وأردت به المنية، وسنكشف لك مباحث الاستعارة بالكناية وما يتعلق بها في قوله تعالى - ينقضون عهد الله
من بعد ميثاقه - (قوله ويجعل الكلام خلوا) أي خاليا (عنه) أي عن ذكر المستعار له (صالحا لأن يراد به) أي
204

بالكلام بل بلفظ المشبه به المذكور فيه معناه الحقيقي الذي هو (المنقول عنه) ومعناه المجازى الذي هو (المنقول
إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام) أي لولا دلالة القرينة الحالية أو المغالبة الدالة على تعيين المعنى المجازى
بحسب الإرادة. واعترض عليه بأنه إذا عدمت القرينة لم يصلح اللفظ للمعنى المجازى. وأجيب بأنه صالح
في نفسه مع قطع النظر عن عدمها. ورد بأن صلاحية المعنيين ثابتة له في نفس الأمر أيضا مع وجودها إذا قطع النظر
عنها، فلا معنى لاشتراط عدمها في هذه الصلاحية. ثم الظاهر أن خلو الكلام المشتمل على ذكر اللفظ المستعار
منه عن ذكر المستعار له معه مصحح لصلاحية المستعار لأن يراد به المعنى المجازى، إذ لو اشتمل على ذكره أيضا
لتعين المعنى الحقيقي كما أرشدت إليه، فلا يكون صالحا للمعنى المجازى وأن عدم قرينة المجاز مصحح لصلاح أن
يراد به معناه الأصلي، إذ مع وجودها يتعين المعنى المجازى فلا يكون صالحا للمعنى الحقيقي، فالخلو المذكور شرط
لصلاح إرادة المعنى المنقول إليه، وعدم تلك القرينة شرط لصلوح إرادة المعنى المنقول عنه، فيكون المجموع
متعلقا لصلاحية المعنيين على التوزيع، ولو قدم ذكر المنقول إليه لا تصل كل شرط بما هو معتبر فيه وكان أولى.
هذا، وقد يقال كون الكلام مع القرينة صلحا لإرادة المعنى المجازى مبنى على ادعاء دخول المشبه في جنس
المشبه به حتى كأنه من أفراده، فيصلح له لفظه كما يصلح لأفراده الحقيقية، واشتراط نفى القرينة إنما هو لصلوح
إرادة المعنى الحقيقي. ويزد عليه أنه يلزم أن لا يكون للخلو عن ذكر المستعار له مدخل في الصلاحية المذكورة
إلا أن يجعل عبارة عن ذلك الادعاء، ولا خفاء في بعده عن الأفهام جدا (قوله كقول زهير) هذا مما يدل عليه
فحوى الكلام وهو شاكي السلاح: أي حديده، من الشوكة وهى شدة البأس وحدة السلاح وأصله شائك
فقلبت العين إلى موضع اللام، وقد تحذف ويقال زيد شاك السلاح برفع الكاف (والمقذف) هو المكتنز اللحم كأنه
قذف باللحم أو الذي رمى به كثيرا في الوقائع (واللبد) جمع لبدة وهى ما يلبد من الشعر على رقبة الأسد وتقليم
الأظفار كناية عن الضعف، يقال فلان مقاوم الأظفار: أي ضعيف (ومن ثم) أي ومن أجل أن بناء الاستعارة
على طي ذكر المستعار له (ترى المفلقين) أي الاتين بالعجائب من الفلق وهو الأمر العجيب (يتناسون) في الاستعارة
(التشبيه) ويسوقون الكلام فيها مساقه إذا أريد بالمستعار معناه الحقيقي لا معناه المجازى المشبه بالحقيقى، فإنه إذا
طوى ذكره بالكلية ظهر أمر التناسي، بخلاف ما إذا كان مذكورا في الجملة فإنه مذكور للتشبيه، على أنهم قد
يتناسون أيضا مع التصريح بذكر طرفيه كقوله:
هي الشمس مسكنها في السماء * فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود * ولن تستطيع إليك النزولا
لما أخبر عنها بأنها الشمس جعلها كأنها عينها، فلو ذكر أداة التشبيه أو وجهه لم يحسن منه هذا التناسي كما لا يخفى
205

(قوله ويصعد) استعار الصعود للعلو في المرتبة وبنى عليه ما يبنى على العلو في المكان من ظن الجهول بأن له حاجة
في السماء، قيل الصعود أيضا مبنى على ما تقدم من قوله:
فما زال يقرع تلك العلى * مع النجم مرتديا بالغمام
فإنه استعار للترقي في المعاني فروع المنابر والجبال: بنى على ذلك حديث الصعود وما بعده (قوله ولبعضهم)
أراد به نفسه، استعار (الغيث) للجواد (والليث) للشجاع وبنى على الأول (المسبل) أي الهطال، وعلى الثاني
(المشبل) أي ذا الشبل وهو الولد، وبنى عليهما النهى عن أن يظن في سرباله: أي درعه أو ثوبه رجلا لتناسى
التشبيه، وادعاء أنه حقيقة الغيث والليث كما في كل استعارة مرشحة. فإن قيل: قد ذكر ههنا المشبه، أعني
الضمير في سرباله فلا يكون استعارة. وأجيب بأن المراد من طي المشبه أن لا يكون مذكورا على وجه ينبئ عن
التشبيه، وهو أن يكون بين طرفيه جمل أو ما هو في معناه وذلك لا ينافي ذكره على وجه اخر، ألا ترى أنهم اتفقوا
على أن القمر في قوله * قد زر أزراره على القمر * استعارة ولا شبهة في أن الضمير في قوله (ففيه) راجع إلى
السربال دون الشخص (أسد على) جاز تعلق الظرف به لملاحظة ما يلزمه من الجرأة لا أنه يستعمل في معنى مجترئ
أو صائل وإلا كان مجازا مرسلا، وفات معنى التشبيه بالكلية كما في قولك زيد شجاع أو مجترئ، وكذلك الحال
في (نعامة) يلاحظ معها معنى الجبن والفرار، وما قيل من أن أسدا في زيد أسد مستعمل في المشبه: أي المجترئ،
فيكون استعارة مردود بأن هذا المجموع ليس مشبها بالأسد، فإن الشجاعة خارجة عن الطرفين اتفاقا، فالحق
أن أسدا مستعمل هناك في معناه الحقيقي، وقد حمل على زيد بناء على دعوى كونه من أفراده فلا يظهر حينئذ تقدير
الأداة لفوات المبالغة، فإنك إذا قلت: زيد كالأسد فقد جعلت مشابهته للأسد مقصودا بالإثبات، وإذا قلت زيد
أسد كان مقصودك حمله عليه لا مشابهته إياه كما في سائر أفراده، ثم إنه قد يلاحظ على سبيل التبعية لمعناه الحقيقي
ما يلزمه من الجراءة والصولة وغيرهما من المعاني الملازمة فيعمل في الظرف باعتبار ذلك المعنى التابع، وقد يرفع
به الفاعل أيضا كما في قولك رأيت رجلا أسدا أبوه، إما لقصد معنى المشابهة أولا باعتبار اللازم، سواء جعل تابعا
أو مستعملا فيه اللفظ (والفتخاء) المسترخية الجناحين، وهى صفة لازمة للنعامة، والبيت لعمران بن حطان
مفتى الخوارج وزاهدها، وبعده:
هلا برزت إلى غزالة في الوغى * بل كان قلبك في جناحي طائر
وقد مر ذكر غزالة امرأة شبيب الخارجي. قال ابن دريد: هذه المرأة دخلت الكوفة في ثلاثين فارسا وفيها
206

ثلاثون ألف مقاتل، فصلت الفجر وقرأت البقرة. وبقى ههنا بحث وهو أنه لا نزاع في أن تقدير الآية هم صم لكن
مع ذلك ليس المستعار له مذكورا ههنا لأنه أحوال مشاعر المنافقين وحواسهم لا ذواتهم كما دل عليه قوله كانت
حواسهم سليمة الخ، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرح بها، فلا ينبغي أن يختلف فيها لأنه أستعير مصادرها
لتلك الأحوال، ثم اشتقت هي منها، فإما أن يجاب بأنها صارت في عداد الأسماء فينافيه قوله إلا أن هذا في الصفات
وذاك في الأسماء، أو بأن قوله هم صم في قوة قولنا حال أسماعهم صمم مثلا، وهو أيضا بمحل مستغنى عنه،
فإن قولك لقيت صما استعارة قطعا مع أن تقديره أشخاصا صما، وهو في قوة الحمل. وغاية ما يتكلف له أن
يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم، فكان القصد إلى إثبات
هذه الفروع أقوى وأبلغ، كأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين، فحمل الآية على التشبيه رعاية للمبالغة
في إثبات الآفة، وإليه الإشارة بقوله جعلت كأنها إيفت مشاعرهم، وإلا فمقتضى ظاهر الصناعة الحمل على
الاستعارة بتبعية المصادر (قوله ومعنى لا يرجعون) هذا المعنى إنما هو على التفسير الأخير، وقد اكتفى بتقدير
إحدى الصلتين لأن الأخرى منه معلومة (تسجيلا) مفعولا له لقال مقدرا قبله، وقوله (أو أراد) يعم التفاسير،
ويدل على أن لا يرجعون من قبيل التشبيه كقوله صم (قوله ثم ثنى) معطوف على قوله عقبها بضرب المثل. والغب
في الورد والزيادة، والمعنى أن يحصل ذلك يوما دون يوم واستعمله ههنا بمعنى عقيب: أي إيضاحا عقيب إيضاح
وعلى أثره (قوله وكما يجب) أصل الكلام أن يقال ويجب (على البليغ) أن يفصل ويشبع في مواردهما كما يجب
عليه (أن يجمل ويوجز) في مظانهما إلا أنه قدم المشبه به: أعني كما يجب فصار مقارنا للعاطف، ثم كرره بقوله
(كذلك) لطول الكلام ووضع في المشبه لفظ الواجب مكان يجب عليه مبالغة فصار هو عاملا في المصدر:
أعني كما يجب، وزيد الفاء في كذلك كأن المشبه به المقدم نزل منزلة الشرط، وقيل إذا وجب ذلك فقد وجب هذا
أيضا، والواو في قوله (وكما) لعطف ما بعدها على ما بعد ثم، والحكم بأن هذا الواو للاستئناف وأن الكاف في
كما مرفوع المحل على الابتداء، وكلمة ما موصولة، ولذلك دخلت الفاء في الخبر ظاهر البطلان، وقوله (أنشد
الجاحظ) استشهاد معنوي يصف قوما بالبلاغة وأنهم يطنبون تارة ويوجزون أخرى كلا في موقعه، يقال رمى
بالشئ: إذا ألقاه (وحى الملاحظ) نصب على المصدر: أي وتارة يوحون: أي يأتون بكلام سريع خفى،
207

كمال من يلاحظ حبيبه: أي ينظر إليه بمؤخر عينيه خوفا من الرقباء وكلمة " لا " في قول (ولا الظلمات ولا النور
ولا الظل) مذكرة للنفي مؤكدة له كما في قولك ما جاءني زيد ولا عمرو، وأما التي في قوله تعالى - ولا النور
ولا الحرور ولا الأموات - فليست كذلك، إذ لا يصح أن يقدر بعدها ذلك الفعل المنفى: أعني يستوى لأن فاعله
مجموع هذين المتقابلين لا كل واحد منهما فهي زائدة محضة. وقد يقال قصد نفى الاستواء من كل منهما مقيسا إلى
الاخر كأنه قيل: ولا يستوى الظلمات مع النور ولا النور مع الظلمات (قوله ألا ترى) يروى بغير واو فيكون
كالبيان لما تقدم وضعفه ظاهر. والأولى العطف نظرا إلى جانب المعنى: أي ألا ترى إلى ما ثنى في التنزيل، وألا
ترى إلى قول ذي الرمة لتعلم كيف صنع في قصيدته حيث قال (أذاك أم نمش) وقد يقال أذاك في عبارة المصنف
مفعول (صنع) أي كيف صنع هذين التمثيلين (والنمش) بفتح الميم نقط بيض وسود وثور نمش القوائم بكسرها
أي فيها خطوط سود، وقوله (بالوشى) إما ظرف مستقر وقع صفة لنمش: أعني لموصوفه المذكور (وأكرعه)
فاعل له، وإما لغو وأكرعه فاعل نمش: أي منتقش بالوشى أكرعه وبعده * مسفع الخد غاد ناشط شبب * ثم قال
بعد أبيات:
أذاك أم خاضب بالسني مرتعه * أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب
(والمسفع) الأسود من السفعة وهى سواد في احتراق (والغادى) الذاهب (والناشط) هو الذي يخرج من أرض
إلى أخرى فرحا ونشاطا. وفى الصحاح قال الأصمعي (الشبب) هو المسن، من ثيران الوحش الذي انتهى أسنانه،
وقال أبو عبيدة: هو الذي انتهى شبابا. وفى المجمل هو الفتى من ثيران الوحش، والمقصود واحد وهو ما تكامل
سنه وبلغ غاية قوته (والخاضب) هو الظليم: أي الذكر من النعام إذا أكل الربيع احمرت ساقاه أو اصفرتا،
والسى المستوى من الأرض، وهو ههنا علم أرض بعينها، شبه أولا ناقته بحمار الوحش ثم قال: أذاك الحمار
الذي مضى ذكره في الأبيات السابقة يشبه ناقتي أم ثور وحشى، وأذاك الثور الوحشي يشبهها أم نعام ذكر له
أفراخ ثلاثون، دخل في المساء وهو منقلب إليها وهو أسرع ما يكون، وإنما أدخل همزة الاستفهام مع عديلتها
بين هذه التشبيهات دلالة على تحيره في وصف هذه الناقة وسرعة سيرها كأنه يسأل عن ذلك. وقيل دلالة على التسوية
فذاك الأول إشارة إلى الحمار، والثاني إلى الثور والنمش، وهو مبتدأ خبره محذوف كما أشرنا إليه، ولا يجوز أن
يجعل خبر مبتدأ محذوف: أي أناقتى ذاك، لأن معادل النمش الحمار لا الناقة، كما أن معادل الظليم هو النمش
دونها (قوله وإظهاره الإيمان بالإضاءة) اعتراض عليه بأنه يخالف ما تقدم من أن المشبه بالإضاءة هو الانتفاع
208

بالكلمة المجراة على ألسنتهم، ولا يناسب ما تأخر من أن المشبه بانطفاء النار هو انقطاع الانتفاع، بل يناسب أن
يقال شبه انقطاع الإظهار بالانطفاء. وأجيب عن الأول بأن المرد ههنا الإضاءة المتعدية، وثمة الإضاءة اللازمة
وعنهما معا فإنه أراد بإظهار الإيمان أثره: أعني الانتفاع به، فمعنى كلامه أنه شبه المنافق: أي نفاقه وإظهار الإيمان
بالمستوقد: أي باستيقاده، وشبه أثر الأول: أي الانتفاع بأثر الثاني: أي الإضاءة، وشبه انقطاع الانتفاع
بانقطاع الإضاءة، ويؤيد هذا الجواب أن تشبيه ذات المنافقين بذات المستوقد ليس مقصودا في الآية قطعا والحمل
على مجرد التوطئة بعيد جدا، وحينئذ تقول للمستوقد استيقاد واستضاءة وخمود نار وللمنافق إظهار الإيمان والانتفاع
به، وانقطاعه إما بالموت أو بالفضوح كما مر أو بالطبع إذا حمل الانتفاع على التأثر من الكلمة، فيكون هذا التفريق
والتشبيه شاملا للوجوه الثلاثة المذكورة قبل التفسير الاخر الذي بين تفريقه هناك (قوله لأن القلوب تحيا به) وأيضا
هو مع كونه سبب النجاة موجب لهلاك هؤلاء الذين لا بسوه خداعا، كما أن الصيب مع كونه رحمة سبب لهلاك
طائفة مخصوصين (قوله وما يتعلق به) ذكر جماعة من الثقات أن الرواية بصيغة المبنى للمفعول، فالضمير المجرور
للموصول: أي وشبه ما يتمسك به من شبه الكفار لدفع الإسلام بالظلمات فإنها سبب الحيرة مثلها، وأيدها
بعضهم بالدراية لان التصريح بتعلق الشبه بدين الإسلام يشعر بأنه في نفسه مما ينبغي أن تتطرق إليه الشبهات، وهذا
وإن لم يقدح في حقيقته لكنه يدل على نقصان في ظهوره، أوزعم بعض الناس أنه يفوت حينئذ بيان تعلق الشبهات
بالدين على ما يعطيه الظرف في قوله فيه ظلمات، وأن هذه الرواية تغيير وتحريف للرواية الأخرى الصحيحة قال
فلا رواية ولا دراية. والجواب أن الشبه إذا تمسك بها دفعا للإسلام كان تعلقها به من هذه الجهة ظاهرا فلا حاجة
إلى التصريح به، وإن تلك الرواية قد صححها من هو أعلى كعبا منه (قوله وما فيه) أي في دين الإسلام: يعنى
أن كل واحد من الوعد والوعيد شبه بكل من الرعدو البرق لاشتمال كل واحد منهما على خوف وطمع، فمن حيث
تضمنهما للطمع شبه بهما الوعد، ومن حيث تضمنهما للخوف شبه بهما الوعيد، وليس الكلام على اللف كما ظن
ولذلك قال في السؤال وبالرعد والبرق بدون الباء (قوله والمعنى أو كمثل ذوي صيب) صرح بلفظ المثل تنبيها على
أن ذكره لا ينافي التفريق في التشبيه، لأن كل واحد من الأمور المذكورة في جانب المشبه به حال من أحواله
فيصدق عليه المثل، وقس على ذلك الأحوال المطوية في المشبه. وما يقال من أن لفظ المثل في جانب المشبه دال
على المشبهات إجمالا ولا تكون مطوية كما ذكره مردود بأن التشبيه المفرق هنا إنما هو بين خصوصيات أحوال المنافقين
المعلومة فيما سبق وبين خصوصيات أحوال المستوقد وأصحاب الصيب المفهومة من العبارات المذكورة في جانب
المشبه به فتقدير الكلام: مثلهم فيما علم سابقا من أحوالهم المخصوصة كمثل المستوقد أعني أحواله المخصوصة
المذكورة معه أو كمثل ذوي الصيب، فالأشياء المشبه بها مذكورة بخصوصياتها دون الأحوال المشبهة فإنها مطوية
قطعا اعتمادا على ما سبق. فإن قيل: أين للمنافقين دين تحيا به القلوب حتى يشبه بالصيب. أجيب: بأنهم متلبسون
209

بدين الإسلام الذي فيه حياة القلوب لكن على وجه النفاق، فيكابدون لذكل أفزاعا وبلايا فما لهم بالنسبة إليه كحال
القوم بالقياس إلى الصيب، وإليه الإشارة بقوله (والمراد كمثل قوم أصابتهم السماء على هذه الصفة) وهى أن
أصابهم مطر هطال فيه ظلمات شديدة ورعد قاصف وبرق خاطف وصواعق مهلكة (فلقوا) من الخوف والمشقة
والدهشة (مالقوا) (قوله فإن قلت: هذا) أي تشبيه أحوال المنافقين بأحوال المستوقد أو أحوال ذوي الصيب
على التفريق (تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات) مع أن الأمور المشبه بها مذكورة صريحا (وهلا صرح)
بذكرها أيضا (قوله وما يستوى الأعمى) فيه نشر على خلاف ترتيب اللف حيث شبه المؤمن الصالح بالبصير
والمسئ بالأعمى (وفى قول امرئ القيس) نشر على ترتيبه، و (رطبا ويابسا) حال من القلوب: أي رطبا بعضها
ويابسا بعضها والعامل فيها (كأن) وكذا (لدى وكرها) حال منها شبه رطب القلوب بالعناب ويابسها بالحشف وهو
أردأ التمر اليابس البالي، يصف عقابا كثيرة الاصطياد فإنها لا تأكل قلب الطير (قوله فقد جاء مطويا ذكره على
سنن الاستعارة) يريد أن طريق الاستعارة أن يطوى ذكر المشبه قطعا ويجعل الكلام خلوا عنه فلا يكون مذكورا
لفظا ولا مقدرا في نظم الكلام، وأما التشبيه فقد يطوى فيه ذكره أيضا كذلك. والفرق بينهما حينئذ من وجهين:
الأول أن المتروك في التشبيه منوى مراد، وفى الاستعارة منسى بالكلية، ومن ههنا ينكشف لك ما قررناه
في الاستعارة التمثيلية في نحو - ختم الله على قلوبهم - من أن المعاني قد يقصد إليها بألفاظ منوية غير مقدرة في نظم العبارة
فتبصر. الثاني وهو العمدة أن لفظ المشبه به في التشبيه مستعمل في معناه الحقيقي، وفى الاستعارة مستعمل في معنى
المشبه، حتى لو أقيم اسم المشبه مقامه صح المرام، ولا يفوت إلا المبالغة المستفادة من التشبيه والاستعارة، ومن
البين أن قوله (وما يستوى البحران) من قبيل التشبيه إذ لم يرد بالبحرين إلا معناه الحقيقي، يدل على ذلك قوله
هذا عذب فرات سائغ شرابه - إلى قوله - وترى الفلك فيه مواخر - إذ المقصود تشبيه الإسلام والكفر بهذين
البحرين الموصوفين: أي لا يستوى الإسلام والكفر اللذان هما كالبحرين المذكورين، ومن زعم أنه من قبيل
الاستعارة فقد خالف ما تقتضيه سلامة الفطرة، وكذا الحال في قوله (ضرب الله مثلا) إذ معناه: أن الله تعالى
جعل عبدا مشتركا بين متشاكسين مثلا لعابد الصنم، وجعل عبدا خالصا لمالك واحد مثلا للموحد، فكل واحد
من رجلا ورجلا مستعمل في معناه الحقيقي لا في المشرك والموحد كما لا يخفى على ذي إدراك، فذكر المشبه في الآيتين
مطوى. فإن قلت: كيف يقدر فيهما. قلت: هو منوى في الإرادة فلا حاجة إلى تقديره، وإذا قدر فربما انتظم
210

مع المذكور بلا تغيير كما في الآية الثانية وكالآية التي نحن فيها، وربما لا ينتظم معه إلا بتغيير نظامه كقوله تعالى -
وما يستوى البحران - (قوله والصحيح الذي عليه علماء البيان) هو عطف على قوله لقائل أن يقول: وليس تتمة
للجواب بل مزيد تحقيق للمقام. ويظهر منه أن التفريق الذي ذكره في التمثيلين احتمال لفظي قد يذهب إليه أهل
الظاهر من النحاة. وأما عند الطائفة الذين يحافظون على جزالة المعاني فلا مساغ له، وذلك لأنه يحصل في النفس
من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها فإنك إذا تصورت حال من أخذتهم السماء في ليلة تتكاثف
ظلماتها بتراكم السحب وانتساج قطراتها وتواتر فيها الرعود الهائلة والبروق المخيفة والصواعق المختلفة المهلكة وهم
في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك إلى معرفة حال المنافقين على وجه
يتقاصر عنه تشبيهك الدين بالصيب والشبهات بالظلمات إلى آخر ما عرفته هناك. ولعبد القاهر كلام مشهور
في أن اعتبار التركيب في قول الشاعر وكأن أجرام النجوم لوامعا * در نثرن على بساط أزرق
أحق وأولى وإن صح التشبيه بين مفرداته. وقال السكاكي كلما كان التركيب خياليا كان أو عقليا من أمور
أكثر كان حاله في البعد والقرابة أقوى وأيضا في تشبيه للمفردات وطى ذكر المشبهات تكلف ظاهر وأيضا في
لفظ المثل نوع إنباء عن التركيب إذ المتبادر منه القصة التي هي في غرابتها كالمثل السائر وهى في الهيئة المركبة
دون كل واحد من مفرداتها وقد يقال أيضا نظم الكلام في التمثيلين يدل على ارتباط المعاني بعضها ببعض فإن
الفاء وكلمة لما يدلان على اعتبار التأليف وقوله فيه ظلمات صفة لصيب ويجاب عنه بأن المفرقات المشبهة بنظائرها
قد يعتبر الارتباط فيما بينها فلا دلالة على التركيب (قوله لا يتخطونه) تأكيد للصلة، و (لا يتكلف) خبر آخر
لأن والعاتد محذوف: أي فيهما أو تقرير للخبر الأول والضمير في (شبهه) راجع إلى شئ وفى (به) إلى واحد
وقوله (لم يأخذ هذا بججزة ذاك) إشارة إلى أنه لم يعتبر التأليف بين تلك الأشياء على وجه بحيث يصير الكل أمرا
واحدا ملحوظا في نفسه ملاحظة واحدة بلا تفصيل بين أجزائه فلا ينافي اعتبار الارتباط بينها على وجه آخر كما
مر (قوله وتشبه) عطف على (تأخذ) مع ما عطف عليه بالفاء أعني (فتشبهها) وأراد بالكيفية هيئة مركبة من
أمور متعددة وفى قوله (حتى عادت شيئا واحدا) تصريح بأن كل واحد من تلك الأشياء ينبغي أن يلاحظ قصدا
ويضم إلى صاحبه بحيث يقع على مجموعها ملاحظة واحدة فيصير بذلك شيئا واحدا ولا يتصور القصد إليها
كذلك إلا بألفاظ مذكورة أو مقدرة أو منوية ألا ترى أن المفكر يناجى نفسه بألفاظ متخيلة وإذا فرض أن
لفظا واحدا وضع لمعنى مركب ولوحظ به ذلك المعنى قصدا وشبه بمعنى آخر مثله لم يكن ذلك من التشبيه المركب
211

في شئ وإن لوحظ أجزاؤه مفصلة في ضمن الألفاظ المتعددة وألف منها هيئة وحدانية وشبهت بأخرى مثلها
كان تشبيها مركبا قطعا فانكشف لك أن التشبيه المركب يجب أن يكون لفظه مركبا على أحد الأنحاء المذكورة
وقد بينا في شرح المفتاح أن التشبيه التمثيلى والاستعارة المبنية عليه يجب تركبهما قطعا وأن ما توهمه جماعة من
المنتمين إلى هذه الصناعة خيالات فاسدة (لا يشعر) مؤكد ومقرر لتساوى الحالين عنده، و (ذلك) إشارة إلى
المذكور الذي هو حمل الأسفار وحمل ما عداها وقيل حال من فاعل (يحمل) ويرده أن تساوى الحالتين
معطوف على جهله فيقع الفصل بين أجزاء الصلة بأجنبي (بدفيه) أي بجنبيه و (قلة بقاء) مبتدأ خبره (كقلة
بقاء الخضر) والجملة خبر المبتدأ الذي هو المراد. ومصيره اسم مفعول معطوف على (منوط) أي غير مجعول
شيئا واحدا، وقوله (فلا) جواب (أما) أي فلا يثبت وقد يقال في الكلام اختصار بحذف أما في أحد التفصيلين
أي أما أن يراد تشبيه المركب بالمركب فمتحقق وأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد فلا يتحقق ويدفع لزوم ذلك
بجواز السكوت على قوله أما زيد فقائم (فكذلك) الفاء جواب لشرط مقدر وذلك إشارة إلى التشبيه السابق
وكذلك مصدر لشبهت أي إذا عرفت ما ذكرنا قبل ذلك التشبيه المتقدم (شبهت حيرتهم) والمراد الحيرة الخاصة
الناشئة من وقوعهم في الضلالة التي استبدلوها بالهدى وقد اعتبر التركيب في التفسير الآخر كما أشرنا إليه (قوله
وكذلك) أي ومثل من طفئت ناره من أخذته السماء في أنه شبهت بما يكابده أيضا حيرة المنافقين وشدة الأمر
عليهم (قوله الذي كنت تقدره) أي تفرضه وتعتبره لأن المقدر المقابل للملفوظ هو المضاف لا حذفه وقيل
تساهل في العبارة وأراد المضاف المحذوف (وهو) أي ذلك المقدر أو المضاف وقوله (هل تقدر مثله)
ظاهر في تقدير كمثل ذوي صيب إلا أن تمسكه بطلب الضمير مرجوعا إليه لا يقضى إلا بتقدير ذوي. وأما تقدير
مثل فلأن المقصود تشبيه صفة المنافقين بصفة ذوي صيب وتقديره أوفى في تأدية هذا المعنى وأشده ملاءمة مع
المعطوف عليه وهو كمثل الذي استوقد - ومع المشبه وهو مثلهم وإن صح أن يقال أو كذوي صيب على طريقة
قوله تعالى - إنما مثل الحياة الدنيا كماء - ومنهم من جعل تقديره المثل أمرا مسلما يقتضيه العطف على السابق ثم
بنى عليه تقدير ذوي لأن إضافة القصة إلى كل واحد من الأجزاء التي لها مدخل فيها صحيحة لكن إضافتها إلى
أصحابها حقيقة وإلى الباقي مجاز ألا ترى إلى ما ذكره المصنف في قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل
الله كمثل حبة - من أنه لا بد من حذف المضاف: أي مثل نفقتهم أوكمثل باذر حبة. ورد عليه بأن كلامه صريح
212

في انحصار ما يقتضى تقدير ذوي في طلب الضمير ما يرجع إليه وهو مردود بأن ذلك الحصر إنما هو بالقياس
إلى التشبيه كما يدل عليه تعليله، وكأنه قال: لا يقتضيه التشبيه بل الضمير فلا ينافي أن يكون هناك مقتض اخر،
والمستتر في قوله (ما يرجع) عائد إلى الراجع، والهمزة وأم في (أولى أم لم يل) للتسوية أي ليس بضار على وجود
الولي وعدمه، أو المعنى: إن ولى أو لم يل فلا على وقد سبق تحقيقه (في هذا) أي في أن ما يلي الكاف ليس
مشبها به، وإنما كان بينا في هذا المعنى لأن تشبيه الناس بالديار مما لا يصح أصلا، بخلاف تشبيه الحياة بالماء وأيضا
ربما يقدر مضاف: أي كمثل ماء بقرينة ذكره في المشبه، شبه لبيد حال الناس في وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم
ورحيلهم عنها بحال أهل الديار في الحلول وسرعة الارتحال، فهي يوم حلولهم عامرة وبالغد خالية بائرة (وأهلها)
مبتدأ خبره (بها) و (يوم حلوها) ظرف لهذا الخبر و (بلاقع) خبر مبتدأ محذوف: أي وهى بلاقع (غدوا)
أي غدا، والجملتان معا حال من الديار، والعامل فيها معنى التشبيه: أي يشبهون الديار حال كونها كذا وكذا
(قوله أوفى أصلها) دل كلامه على أن أو موضوعة في أصلها للتساوى في الشك، فلذلك اشتهرت بأنها كلمة الشك
فتكون مخصوصة بالخبر (ثم استعيرت للتساوى في غير الشك) فاستعملت في غير الخبر بالمعنى المجازى فقط
كالتساوى في استصواب المجالسة ووجوب العصيان وغيرهما، وفى الخبر بكلا المعنيين: أعني الحقيقي الذي هو
الشك والمجازى كالتساوى في الاستقلال يوجه التمثيل في هذه الآية فيستفاد صحة التشبيه بكل واحدة من هاتين
القصتين وبهما معا، ولو عطف بالواو ربما أوهم صحة التشبيه بمجموعهما لا بكل واحدة منهما. وذكر في المفصل
أن كلمة أو لأحد الأمرين مطلقا، ولا شك أن هذا معنى يعم مواردها من الإنشاءات والإخبارات كلها، وأما الشك
والتشكيك والإبهام والتخيير والإباحة فليس شئ منها داخلا في مفهومها بل مستفاد من مواقعها في الكلام،
وما اختاره في الكشاف مبنى على تبادر الشك منها في الخبر، وإنما قال (في وجوب عصيانهما) بناء على أن النهى
عن الإطاعة ماله الأمر بالعصيان، فيكون المفعول متعلقا بالنفي كأنه قيل: اعص هذا أو ذاك فإنهما يتساويان
213

في وجوب العصيان. وذهب بعضهم إلى أن كلمة أو ههنا على بابها أعني أنها لأحد الأمرين، وإنما جاء التعميم في عدم
الإطاعة من النهى الذي فيه معنى النفي، إذ المعنى قبل وجود النهى تطيع اثما أو كفورا: أي واحدا منهما فإذا
نهى صار المعنى: لا تطع واحدا منهما فيعم. وقيل هي بمعنى الواو. ويرده ما ذكره في سورة الإنسان من أنه
لو قيل لاتطعهما لجاز أن يطيع أحدهما، وإذا قيل لاتطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما ناه عن طاعتهما
جميعا، كما يعلم من تحريم التأفيف تحريم الضرب. وحاصله أن العطف بالواو يفيد النهى عن الجميع دون كل واحد
وبأو يفيد النهى عن كل واحد منفردا صريحا ومعا بطريق الأولى (ويقال للسحاب صيب) أي على أنه صفة له
(أيضا) وأول البيت * عفا آية نسج الجنوب مع الصبا * أي محا اثار المنزل هبوبهما، شبه اختلافهما بنسج الحائك
الثوب فجعل إحداهما بمنزلة السدى والأخرى بمنزلة اللحمة (وأسحم) أي سحاب أسود (دان) قريب من الأرض
(صادق الوعد) أي غير خلب (صيب) هطال، وهذه الأوصاف ظاهرة الثبوت في السحاب دون المطر بل الدنو
وصدق الرعد كأنهما نصان فيه، وإنما كان (الصيب أبلغ) لكونه من صيغ الصفة المشبهة (موج مكفوف) أي
ممنوع من أن يسيل، وقد روى أنه صلى الله عليه وآله قال " أتدرون ما فوقكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال:
فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف " (والدليل عليه) أي على أن كل أفق من افاقها سماء (قوله ومن بعد
أرض) أوله: * فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها * أوه كلمة توجع تستعمل مع اللام ومن: أي
توجعت لذكر الحبيبة ومن بعد ما بيني وبينها من قطع أرض وقطع سماء تقابل تلك البقعة الأرضية فنكرهما إذ
لا يتصور بينهما بعد جميع الأرض والسماء، ولما صح إطلاقها على كل ناحية وأفق منها جئ بها معرفة باللام
لتفيد العموم، ويدل على أنه غمام مطبق اخذ بأفاق السماء، ولو نكرت لجاز أن يكون الصيب من بعض الآفاق
(قوله كما جاء) يعنى لما كان في صيب مبالغات (من جهة التركيب) أي مادته الأولى: أعني الحروف، فإن الصاد
من المستعلية والياء مشددة والباء من الشديدة. ومادته الثانية أعني الصوب فإنه نزول له وقع وتأثير (ومن جهة
البناء) أي الصورة، فإن فيعلا من الصيغ الدالة على الثبوت و (من جهة التنكير) العارض لأنه للتعظيم والتهويل
كتنكير النار في التمثيل الأول، بولغ فيه أيضا باعتباره ما يجاوزه فجئ بالسماء معرفة دلالة على ما ذكره من التطبيق
(قوله وفيه) يريد أنه أدمج في ذكر السماء نكتة أخرى مبنية على القول بأن السحاب إما من السماء أو من البحر،
214

إذ لا قائل بأن بعضه من هذا وبعضه من ذاك (قوله بالظرف على الاتفاق) أي يجوز ذلك بالاتفاق لا أنه يجب،
بخلاف ما إذا لم يعتمد الظرف فإن سيبويه لا يجوز إعماله، يقال انتفض من الرعدة وانتفض الفرس (حدتها) أي
ساقتها، وقوله (من الارتعاد) أي الرعد مشتق من الارتعاد، فإن المصنف قد يرد المجرد إلى المزيد إذا كان المزيد
أعرف بالمعنى الذي اعتبر في الاشتقاق كالقدير من التقدير والوجه من المواجهة. وقيل كلمة من هذه إتصالية أي
هما من جنس واحد يجمعهما الاشتقاق من الرعدة، وكذا الحال في قوله من برق الشئ بريقا (قوله فما ظلماته)
هذه إضافة لأدنى ملابسة لا أنها بمعنى في (قوله فإذا كان أسحم) هذه الفاء جواب أما وكلمة إذا شرطية جزاؤها
فظلمتا: أي إذا كان السحاب أسود مطبقا فهي: أي ظلمات ظلمتا سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل فقوله
مضمومة حال من ظلمتا نظرا إلى المعنى كأنه قيل إذا كان كذا ثبتت فيه الظلمتان منضمة إليهما ظلمة ثالثة، وإنما لم
يقل وظلمة الليل لأنها ليست في السحاب، بل الأمر بالعكس، لكنها باعتبار انضمامها إليهما تجعل في السحاب
إما تغليبا وإما على أن كلمة " في " مستعارة للملابسة التي تعم الكل، ولهذا أيضا قال في المطر مع ظلمة الليل، والذي
استفيد منه ظلمته هو قوله تعالى - كلما أضاء لهم مشوا فيه - (قوله فظلمة تكاثفه) لأن تقارب القطرات تقتضى
قلة الهواء المتخلل المثير (وظلمة إظلال غمامه) بكسر الهمزة (قوله كيف يكون) يعنى أن ظرفية السحاب للرعد
والبرق ظاهرة دون ظرفية المطر لهما أجاب بأنهما لما كانا في محل يتصل به هو أعلاه ومصبه: أعني السحاب
جعلا كأنهما فيه بناء على استعارة كلمة في للملابسة الشبيهة بملابسة الظرفية كما شبهت بها ملابسة الشخص للبلد فاستعمل
فيها كلمتها. وقيل أراد أن المطر كما ينزل من أسفل السحاب ينزل من أعلاه أيضا فهو شامل للفضاء الذي فيه الغيم
فهما في جزء من المطر متصل بالسحاب، كما أن الشخص في جزء من البلد فهذا أقرب إلى المثال والأول إلى عبارة
الكتاب (قوله يا عارضا) بعده: لو شئت عدت بلاد نجد عودة * فحللت بين عقيقه وزروده
(العارض) السحاب يعرض في الجو. تلفع بكذا تلحف به، استعار التلفح بالبرود لتكاثفه وتراكمه، ورشحها
215

بالاختيال: أي التبختر الذي هو من عادة المتنعمين بلبسها، وقيل شبه السحاب لتكاثفه بمن لبس برودا كثيرة وأثبت
له البرود تخييلا والتلفع والاختيال ترشيحا، وقوله (وكما قيل) عطف على أخذا بحسب المعنى: أي للأخذ بالأبلغ
وللمناسبة أو على قوله كقول البحتري (قوله أن يراد العينان) أراد بالعين ما يقابل الحدث الذي هو المعنى المصدري
لا ما يقابل المعنى، فإن الرعد بمعنى الصوت من قبيل المعاني دون الذوات والبرق إن كان ضوءا قائما بالسحاب فهو
أيضا معنى، وإن كان نارا كان ذاتا (و) لفظ (الحدثان) يروى بكسر النون على صيغة التثنية وهذا أنسب بقوله
العيان وبالرفع على أنه اسم المصدر (والإرعاد والإبراق) من أرعدت السماء وأبرقت: إذا صارت ذات رعد
وبرق، لا من أرعد القوم وأبرقوا: إذا أصابهم رعد وبرق (والقاصف) شديد الصوت من القصف وهو الكسر،
وقيل القصف هو الصوت القوى (قوله يسقون) هو من قصيدة مطلعها * أسألت رسم الدار أم لم تسأل * وفيها:
لله در عصابة نادمتهم * يوما بجلق في الزمان الأول يصف معاشرته مع الملوك الغسانيين. وبردى:
نهر بدمشق والبريص شعبة منه. والتصفيق: التحويل من إناء إلى اخر للتصفية (والرحيق) الشراب الخالص الذي
لا غش فيه (والسلسل) السهل الانحدار: أي يسقون من ورد البريص نازلا عليهم وضيفا لهم ماء بردى مصفقا
ملتبسا بالرحيق: أي ممزوجا بالخمر الصافية السائغة، فتذكير الضمير في (يصفق) لرجوعه إلى الماء المحذوف،
ولو روعي حال اللفظ القائم مقامه لأنث لأن ألف بردى للتأنيث، كما أن جمعه في - أوهم قائلون - لرجوعه إلى أهل
القرية وفى (يجعلون) لعوده إلى ذوي الصيب، ولو اعتبر حال المذكور الذي قام مقامه لأفرد في الأول مؤنثا
وفى الثاني مذكرا (قوله على ما يؤذن بالشدة) أي على الوجه الذي يؤذن بها وهو التنكير (قوله فكيف حالهم
مع مثل ذلك الرعد) لا يقال: الجواب: لا يطابق هذا السؤال لأن يبين حالهم مع الصواعق دون الرعد. لأنا
نقول: لما كانت الصاعقة قصفة رعد: أي شدة صوت تنقض معها شقة من نار كان الجواب مطابقا له، فكأنه
216

قيل: يجعلون أصابعهم في أذانهم من شدة صوت الرعد وانقضاض قطعة نار معها (قوله من الاتساعات في اللغة)
فالقرينة في أصابعهم عقلية وفى أيديكم لفظية: أعني المرافق وفى أيديهما شرعية (والسباحة) صيغة مبالغة من سبح
بمعنى سبح ولا خفاء أن هذه الكنايات لا تناسب هذه القصة والعيمة شدة شهوة اللبن ولفظة من في أمثال
ذلك ابتدائية على سبيل العلية فيكون ما بعدها أمرا باعثا على الفعل الذي قبلها فيقال مثلا قعد من الجبن
ولا يكون غرضا مطلوبا منه إلا إذا صرح بما يدل على التعليل ظاهرا كقولك ضربته من أجل التأديب بخلاف اللام
فإنها وحدها تستعمل في كل منهما (قوله إلا أتت عليه) أي غلبت عليه وأهلكته (قوله فأحرقت نحو النصف)
فإن أراد نصفها طولا فذلك يدل على شدة الحدة، وقوله (ثم طفئت) أي بسرعة عطف على أحرقت وثم للاستبعاد،
وإن أراد عرضا كان دالا على تلك الشدة وثم طفئت عطف على (سقطت) ودال على سرعة الخمود (قوله وخر
موسى صعقا) أي مغشيا عليه غشية كالموت واعتبر فيه معنى الهلاك على سبيل الاستعارة فلذلك فصله (قوله
سواء في التصرف) أي مستاويان في أنه يتصرف في كل منهما ويشتق منه ألفاظ كثيرة فلا ينافيه اختلاف عدد
تلك الألفاظ يقال صعقه على رأسه وصقع رأسه أي ضرب صوقعته وهو موضع البياض في وسط الرأس
217

وقوله (على رأسه) مبالغة في الإيضاح كسفك دمه (وصقع الديك) أي صاح والمصقع بكسر الميم المجهر بكسرها
وهو الذي من عادته أن يجهر بكلامه (وبناؤها) يعنى أن الصاعقة في أصلها إما صفة وإما مصدر، وأما الان فهو
اسم لقصفة الرعد المذكورة، وعلى التقادير فجمعها على صواعق جار على القياس (قوله على أنه مفعول له) أي
ليجعل المعلل بقوله من الصواعق وكلاهما باعث ليس بغرض (قوله وأغفر) أي أستر. (والعوراء) الكلمة القبيحة
(وادخاره) مفعول له معرف بالإضافة كحذر الموت وتمامه * وأعرض عن شتم اللئيم تكرما * (قوله والموت
فساد بنية الحيوان) فعلى هذا يكون أمرا عدميا، وقيل عرض مانع من الإحساس معاقب للحياة: أي لا يجامعها
بل يعاقبها فيكون أمرا وجوديا، واستدل عليه بقوله تعالى - خلق الموت والحياة - وأجيب بأن المقصود من الخلق
هو التقدير (قوله وإحاطة الله تعالى بالكافرين مجاز) فإن شبه شمول قدرته تعالى إياهم بإحاطته المحيط بما أحاط به
في امتناع الفوات كان هناك استعارة تبعية في الصفة سارية إليها من مصدرها، وإن شبه حاله تعالى معهم بحال
المحيط مع المحاط: أي شبه هيئة منتزعة من عدة أمور بأخرى مثلها كأن هناك استعارة تمثيلية لا تصرف في شئ
من ألفاظ مفرداتها إلا أنه لم يصرح ههنا إلا بلفظ ما هو العمدة في الهيئة المشبه بها أعني الإحاطة،
والبواقي من
الألفاظ منوية في الإرادة على ما مر تحقيقه في نظائره، ومن زعم أن كون هذه الاستعارة تبعية لا ينافي كونها
تمثيلية لما في الطرفين من اعتبار التركيب إن أراد به أن معنى الإحاطة مركب فبطلانه ظاهر لأنها كالضرب مدلولها
مفرد، وإن أراد اعتبار هيئة من مدلولها مع غيره لم يكن مدلول الإحاطة حينئذ مشبها به فكيف تسرى منه استعارة
إلى الوصف المشتق منها، ومن ههنا ينكشف لك أن الاستعارة التمثيلية لا تكون تبعية أصلا كما نبهت عليه غير مرة
في - أولئك على هدى من ربهم - والضمير المجرور في (المحاط به) عائد إلى اللام، والظرف مرفوع محلا على أنه
فاعل، وفى المحيط راجع إلى المحاط، والظرف منصوب المحل على المفعولية (قوله وهذه الجملة اعتراض) وقعت
218

مع واو تسمى اعتراضية في اخر الكلام الذي هو الاستئناف الأول، فإن كل واحد من يجعلون ويكاد، وكلما
استئناف مستقل. ونكتة هذه الجملة الاعتراضية التنبيه على أن الحذر من الموت لا يفيد، وفائدة وضع الكافرين
موضع الضمير الدلالة على أن أصحاب الصيب كفار ليظهر استحقاقهم شدة الأمر عليهم على طريقة قوله تعالى
- أصابت حرث قوم ظلموا - فإن الإهلاك الناشئ عن السخط أشد. ومنهم من جعل هذه المعترضة من أحوال
المشبه على أن المراد بالكافرين المنافقون دل بها على أنهم لا مدفع لهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة وإنما وسطت
بين أحوال المشبه به مع أن القياس تقديمها أو تأخيرها نبيها على شدة الاتصال بين المشبه والمشبه به ودلالة على فرط
الاهتما بشأن المشبه (قوله والفتح أفصح) في الصحاح: الخطف الاستلاب، يقال خطفه بالكسر وهى اللغة الجيدة،
وفيه لغة أخرى حكاها الأخفش بفتح العين في الماضي وكسرها في الغابر (وأصله يختطف) نقلت حركة التاء إلى الخاء
ثم أدغمت في الطاء فيقال يخطف، وقد تحذف حركتها للإدغام فتحرك الخاء بالكسر إما لالتقاء الساكنين وإما
لمتابعة الطاء فيقال يخطف، وحينئذ قد يجعل حرف المضارعة تابعا للخاء ومنه القراءة المروية، فقوله على اتباع
الياء الخاء: يعنى ومع اتباع الخاء للطاء أو تحريكها بالكسر لا لتقاء الساكنين (قوله من قوله ويتخطف الناس
من حولهم) أشار به إلى أنه متعد (قوله وهذا تمثيل) لم يدر أن قوله كلما أضاء تمثيل مستقل بل أراد أنه من جملة
أحوال ذوي الصيب، وقد بولغ بذلك في شدة الحال عليهم وبين فرط تحيرهم دلالة على شدة الحال على
المنافقين وتناهى حيرتهم بطريق التشبيه (قوله وما هم فيه) عطف على شدت كأنه تفسير لها، وقوله إذا صادفوا
بيان لغاية التحير (قوله والخفقة) من خفقة البرق خفقا: أي لمع والفرصة الشرب والنوبة، يقال وجد فلان
فرصة أي نهزة، وجاءت فرصتك من البئر: أي نوبتك. والنهر: التناول باليد والنهوض للتناول، والنهزة:
الشئ الذي هو معرض لك كالغنيمة، والانتهاز كالافتراص يتعدى إلى مفعول واحد، فقوله فرصة حال من
موصوف الخفقة، وقيل مفعول ثان بتضمين الانتهاز معنى الاتخاذ، وقيل تلك الخفقة مصدر بتأويل الزمان:
وفرصة مفعول: أي انتهزوا في وقت تلك الخفقة فرصة، وإنما قال خطوات يسيرة لأن زمان الخفقة قصير جدا
(قوله فأصمهم) جعلهم صما وأعماهم جعلهم عميا (قوله أخذوه) أي ذلك الملك ومشوا فيه، وقوله في مطرح
219

نوره يشير إلى أن الضمير على هذا التقدير راجع إلى البرق بتقدير المضاف وفاعل اشتد هو المشي وفاعل ازداد
هو الاشتداد (قوله ما همهم به معقود) لا ينافيه ما تقدم من قوله والجهل بما يأتون وما يذرون لأنه كناية عن شدة
الأمر تأكيدا لغاية الحيرة، فلا ينافي عقد الهم، ولأن معناه لا يعلمون كيف يأتون ما يأتون وكيف يذرون
ما يذرون مع كوتهم حراصا على المشي (قوله وهو الظاهر) لكثرة استعماله وإن كان ههنا مجارا عن خفية البرق
واستتاره، لأن المتعدى لم يوجد في استعمال من يستشهد بكلامه، ولم يذكره الثقات من نقلة اللغة إلا القليل. قال
الأزهري: كل واحد من أضاء وأظلم يكون لازما ومتعديا. ونقل عن الليث أنه يقال: أظلم فلان علينا البيت
إذا أسمعك ما تكره من ظلم الليل بالكسر نقله الجوهري والأزهرى عن الفراء (قوله وتشهد له) رد هذه الشهادة
بجواز كونه لازما ومسندا إلى الظرف. وأجيب بأن عليهم مقابل لهم في أضاء لهم، فإن جعلا مستقرين لم يصلح
عليهم أن يقوم مقام الفاعل أصلا، وإن جعلا صلتين للفعلين على تضمينهما معنى النفع والضرر صلح لأن يقوم
مقام فاعل المضمن دون المضمن فيه، وعلى تقدير صلوحه لذلك فعطف إذا أظلم على كلما أضاء على معنى كونهما
جوابا للسؤال عما يصنعون في تارتى خفوق البرق وخفيته يقتضى أن يكون أظلم مسندا إلى ضمير البرق كأضاء
على معنى كلما نفعهم البرق بإضاءته افترصوا، وإذا أضرهم لإظلامه واختفائه دهشوا. وقد يجاب أيضا بأن
بناء الفعل للمفعول من المتعدى بنفسه أكثر فالحمل عليه أولى (قوله هما أظلما) قبل هذا البيت:
أحاولت إرشادي فعقلي مرشدى * أم استمت تأديبي فدهري مؤدبي
وقوله هما راجع إلى العقل والدهر، وقيل إلى ارشاد العاذلة وتأديبها. والإستيام: التطلب، افتعال من السوم.
وأراد بحاليه ما يتواتر عليه من المتقابلين كالخير والشر والغنى والفقر والصحة والمرض والعسر واليسر والمقصود
التعميم، وإنما أسند الإظلام إلى العقل لأن العيش لا يطيب لعاقل، وإلى الدهر لأنه يعادى كل فاضل (قوله أجليا)
أي كاشفا ظلاميهما، وقوله عن وجه أمرد أشيب من قبيل التجريد: أي عن وجهي وأنا شاب في السن وشيخ
أشيب في تجربة الأمور وعرفانها، أو أشيب في غير أوانه لمقاساة الشدائد، والهمزة في أجليا للإنكار: أي
ما كان ينبغي أن تتجشمى في الإرشاد والتأديب والفاء تعليل لمحذوف: أي لا تحاولى شيئا منهما فإن في العقل والدهر
كفاية منهما، ولو روى بالواو الحالية لم يحتج إلى تقدير فليتأمل (قوله وإن كان محدثا) الشعراء على أربع طبقات:
الجاهليون كامرئ القيس وطرفة وزهير. والمخضرمون الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كحسان ولبيد،
220

والمتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق وجرير وذي الرمة وهؤلاء كلهم يستشهد بكلامهم في اللغة، والمحدثون
من أهل الإسلام الذين نشأوا بعد الصدر الأول من المسلمين كأبي تمام والبحتري وأبى الطيب ولا استشهاد
بأشعارهم إلا بالوجه الذي ذكره وهو أن يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. واعترض عليه بأن قبول الرواية مبنى على
الضبط والوثوق واعتبار القول والاستشهاد به مبنى على معرفة الأوضاع اللغوية والإحاطة بقوانينها. ومن البين
أن إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية، فلا يلزم من تصديق العلماء إياه فيما جمعه من الحماسة من أشعار من
يستشهد بأقوالهم أن يكون جميع ما في شعره مسموعا منهم أو مستنبطا من القوانين المأخوذة من استعمالاتهم.
وأجيب بأنه صرح أولا بكونه من علماء العربية، ثم أشار إلى أنه ثقة باقتناع العلماء في الاستدلال بالأبيات بثبوتها
في الحماسة فإنه يدل على وثوقهم بروايته كأنه أراد دفع أن يقال كونه من علماء العربية ليس كافيا في جعل
ما يقوله بمنزلة ما يرويه، بل لابد من اجتماع العلم مع العدالة، نعم إن كان مقصوده بتنوير الاستدلال على علمه
بالعربية وإتقانه فيها وكونه ثقة فيما يستعمله كان الاعتراض واردا قطعا (قوله قاموا وقلوا) بدليل وقوعه في مقابلة
مشوا (ومنه قامت السوق إذا ركدت) أي كسدت وسكنت،، وقد مر استعماله بمعنى نفقت مأخوذا من القيام
بمعنى الانتصاب، فهو من الأضداد (قوله ولقد تكاثر هذا الحذف) أي حذف المفعول في شاء وأراد ومتصرفاتهما
إذا وقعت في حيز الشروط لدلالة الجواب على ذلك المحذوف معنى مع وقوعه في محله لفظا، ولأن في ذلك نوعا
من التفسير بعد الإبهام (قوله إلا في الشئ المستغرب) فإنه لا يكتفى فيه بدلالة الجواب عليه بل يصرح به اعتناء
بتعيينه ودفعا لذهاب الوهم إلى غيره بناء على استبعاد تعلق الفعل به واستغرابه. ألا ترى أنك إذا قلت لو شئت
لبكيت دما جاز أن يتوهم أن قصدك إلى تعليق المشيئة ببكاء الدمع على مجرى العادة، وأن ما ذكرته من بكاء الدم
واقع بدله من غير قصد إليه، كأنك قلت: لو شئت أن أبكى دمعا بكيت دما، إلا أنك اعتمدت في حذف المفعول
بذكر البكاء في الجواب وفى تعيين متعلقه بالمعتاد، فهذا وإن كان مرجوحا لأن تقييد البكاء في الجواب بالدم
يدل دلالة ظاهرة على أنه المراد لكنه محتمل، فإذا أبرز المفعول زال الاحتمال وصار الكلام نصا فيما قصد به. فمن
قال: إن قولك لو شئت بكيت دما لا يحتمل سوى لو شئت أن أبكى دما لبكيته فقد كابر، وتعدية البكاء إلى
الدم وضميره لتضمينه معنى الصب وقولك بكيت الرجل وعلى الرجل بمعنى واحد (قوله وأراد ولو شاء الله
لذهب) معطوف على قوله والمعنى ولو شاء الله أن يذهب، وفى قوله (بقصيف الرعد) أي شدة صوته،
221

وقوله (بوميض البرق) أي لمعانه إشارة إلى أن جملة ولو شاء الله عطف على مجموع الجمل الاستئنافية: أعني
يجعلون وما بعده نظرا إلى محصول معناها، فإن الأول متعلق بالرعد وشدة صوته والآخرين بالبرق وقوة ضوئه.
وقيل غرضه من هذا التقدير بيان ربطها المعنوي بتلك الجمل، وأما عطفها فعلى قوله كلما أضاء لهم مشوا فيه،
وكلمة لو ههنا مستعملة لربط جوابها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الاخر فهي بمنزلة إن.
وقد يقال إنها باقية على أصلها وقصد بها التنبيه على أن مشقتهم بسبب الرعد والبرق وصلت غايتها وقاربت إزالة
الحواس بحيث لو تعلق بها المشيئة لزالت بلا حاجة إلى زيادة قصيف الرعد وضوء البرق كما ذكره أولا (قوله في
ساقة الباب) أي في اخره، وإنما ترجمه بباب مجارى أواخر الكلم من العربية لأنه يذكر فيه أحوال التذكير
والتأنيث، وعلاماتهما تظهر في أواخر الكلم من العربية، والاستشهاد بقوله ألا ترى أن الشئ يقع على كل
ما أخبر عنه، وإنما جعل التأنيث خارجا من التذكير: أي متفرعا عنه بناء على أن لفظ الشئ كالعمدة في الألفاظ
لتناوله كل ما يفهم ويخبر عنه وهو مذكر، أو على أن وقوعه على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو
أم أنثى دل على أنهم اعتبروا جهة الذكورة في كل معنى ورجحوها على الأنوثة، وقوله (وهو أعم العام) من
كلام المصنف ومعطوف على قوله والشئ ما صح أن يعلم ويخبر عنه. والمقصود أن لفظ الشئ وما يقوم مقامه
أشد عموما من كل عام كما أن لفظ الله أشد خصوصا من كل خاص بحيث لا يحتمل الشركة بوجه ولا يجوز إطلاقه
على غيره تعالى أصلا (قوله والمحال) يريد أنه يتناوله بحسب مفهومه لغة، وأما ما ذكر في علم الكلام من أن المحال
222

ليس بشئ اتفاقا وأن النزاع في المعدوم الممكن هل هو شئ أم لا فذلك في الشيئية بمعنى التحقق منفكا عن
صفة الوجود لا في إطلاق لفظ الشئ على مفهومه فإنه من المباحث اللغوية المستندة إلى النقل والسماع لا من
المسائل الكلامية المبنية على الأنظار الدقيقة (قوله فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر) يريد أنه عام
مخصوص بقرينة الفعل، وكذلك الواجب لذاته مستثنى عند ذكره أيضا. ومن ثم قيل أراد بالمستحيل في السؤال
والجواب ما يستحيل تعلق القدرة به في نفسه فيتناول الممتنع والواجب معا وبالمستقيم ما يقابله فيخرجان عنه (قوله
ونظيره) أي في التخصيص بقرينة العقل فإن الشخص لا يكون أميرا على نفسه (قوله فمختلف فيه) أي هل يمكن
أن تتعلق قدرتان معا بمقدور أو لا، فإن أمكن كان مقدور غيره تعالى مقدورا له أيضا وداخلا في حكم الآية،
وإن لم يكن كان في حكم المستحيل خارجا عن شمول قدرته إياه، والمسألة مستقصاة في مواضعها (قوله من
التقدير) قد مر أنه يجعل المجرد مأخوذا من المزيد إذا كان أعرف بالمعنى المشترك ترجيحا لجانب المعنى على اللفظ
وقيل أراد أنهما يتلاقيان في الاشتقاق من ق در لكنه عدل إلى لفظ التقدير لاشتهاره بالمعنى المقصود دون لفظ
القدرة (قوله مما يسعدها) قيل لفظ من هذه بيان لما اختصت، والضمير المنصوب عائد إلى كل فرقة، فورد
عليه أن ما ذكره لفرقة المؤمنين هو المسعد والمحظى، ولفرقتى الكفار والمنافقين هو المشقى والمردى، فالواجب أن
يعطف بأو ويقال أو يشقيها أو يرديها. وأجيب بأنه إذا عرف من الكلام المذكور مسعد فرقة صريحا علم أن
ما يقابله مشتق لها ضمنا وبالعكس، فقد ذكر لكل فرقة مسعداتها ومشقياتها. ورد بأن الاختصاص لا معنى له
حينئذ، فإن المقابل لما اختص بكل فرقة ليس مخصوصا بها. فالصواب أن تجعل من تبعيضية: أي من الأمور التي
تسعد الفرق وتشقيها على سبيل التوزيع، فإن بعض تلك الأمور مسعد ومحظ لكل من اتصف بها، وبعضها مشق
ومرد كذلك، وقد اختص كل فرقة بطائفة منها (قوله أقبل عليهم بالخطاب) ابتداء هذا الخطاب من قوله يا أيها
223

الناس فإن المنادى مخاطب بمنزلة ضمير المخاطب وإن كان لفظه في الأصل للغيبة، وفى قوله عن ثالث لكما
إشارة إلى حضور ذلك الثالث عندكما ليكون سامعا لطريقى الغيبة والخطاب معا لتظهر فائدة الالتفات على ما ذكره
(قوله نبهته بالتفاتك) جواب إذا قلت، وأوجدته من وجدت الضالة وأوجدتها غيري: أي جعلته واجدا أمرا
(هازا) أي محركا (من طبعه) نحو الإصغاء والقبول للنصيحة (لا يجده) أي ذلك الهاز (إذا استمررت على لفظ
الغيبة) وقلت مثلا: من حق فلان أن يلزم الطريقة الحميدة، فذكر أولا فائدة خصوصية الالتفات من الغيبة إلى
الخطاب في هذا المقام، وثانيا فائدة الالتفات مطلقا بقوله وهكذا الافتنان (وبلغنا) عطف بحسب المعنى على قوله
(لما عدد الله الخ) أي الظاهر أن الخطاب عام للفرق كلها، وبلغنا ما يدل على اختصاصه بمشركى مكة. واستشكل
هذا بأن سورة البقرة مدنية فكيف تكون هذه الآية منها مكية؟ وأيضا لا يلزم من كونها مكية أن يكون الخطاب
مختصا بمشركيها، بل يجوز أن يعم غيرهم من المؤمنين وسائر الكفار، فلا يصح تفريع الاختصاص بهم على كونها
مكية. ودفع بأن كون السورة مدنية لا ينافي كون هذه الآية مكية مخصوصة بمشركيها حملا لقوله " اعبدوا " على ما هو
المتبادر منه: أعني الأمر لإحداث أصل العبادة، وبأن معنى ما نقله أن كل حكم وخطاب نزل فيه يا أيها الناس
فهو مكي: أي متعلق بمشركى مكة، سواء كان نزوله بها أو بالمدينة فيتم ما ذكره (قوله صوت) أي لفظ أو
كلمة وهو خبر اخر أو بدل من حرف وكأن في التعبير عنه بالصوت بعد التصريح بكونه حرفا إشارة إلى أنه في
أصله كان صوتا يصدر عنهم طبعا عند القصد إلى النداء كلفظة أح عند التوجع، ثم وضعوه له كما في بعض أسماء
الأفعال، والباء في به للالة وفى بمن يناديه صلة (يهتف) يقال هتف بالرجل هتافا: أي صاح به (قوله فذاك
للتأكيد المؤذن) يعنى أن تأكيد طلب الإقبال والمبالغة مع الاستغناء عنه نظرا إلى حال المخاطب (القريب المفاطن)
يؤذن الاعتناء بشأن الخطاب، كأنه أريد مزيد توجهه إليه وتلقيه له وأن لا يبقى هناك توهم ذهو له عنه (قوله فما بال
الداعي أي ما ذكرته من المعاني لا يتصور ههنا، فما الوجه فيه؟ وقوله (وأسمع به) صيغة تعجب معطوفة على
224

(أقرب) بتقدير القول على المشهور، والجملة حال: أي فما باله ينادى الله بيا والحال أنه ليس ببعيد ولا مما يتوهم فيه
ذهول، وليس أيضا بعد النداء خطاب يعتنى به جدا. ويوجد في بعض النسخ أسمع وأبصر على صيغة أفعل
التفضيل. والجواب أن القريب كما ينزل منزلة البعيد لمعنى فيه كما عرفت فقد ينزل أيضا منزلته لمعنى راجع إلى
المتكلم، وهو أن لا يرى نفسه أهلا لقربها من المنادى تحقيرا لها. يقال استقصره عده مقصرا واستبعده عده بعيدا
(وما يقر به) عطف على مظان، وقوله هضما: أي كسرا، وما عطف عليه مفعول له للاستقصار، والاستبعاد إما
معا وإما على نشر غير مرتب. فإن قيل: كان الواجب عليه أن يعد هذا المعنى في المعاني السالفة. أجيب بأنه لما لم
يكثر كثرة تلك المعاني ولم يحسن أيضا إلا في ندائه الله تعالى أفرده عنها في جواب سؤال تقريرا له وتوضيحا، وقوله
(مع فرط التهالك) حال من الضمير في (منه) أي المتضرع إلى الله تعالى يستعمل نداء البعيد إشارة إلى بعده عن
مرتبة المدعو وإلى شدة حرصه على استجابة دعائه (قوله والإذن) أي الاستماع لندائه كالاعتناء التام بشأن الخطاب
الذي يتلوه فيما سبق، ولا يخفى عليك أن الداعي لله لا يقصد بندائه طلب إقباله عليه ولا مزيد التفاته إليه، بل
يقصد به توجه قلبه إلى ربه وجواره لديه وتضرعه بين يديه لينال بذلك ما يقر به إليه ويسعده في داريه (قول وأي
وصلة) لما استكرهوا اجتماع آلتي التعريف تعذر عليهم نداء المعرف باللام فتوصلوا إليه باسم مبهم يحتاج إلى
ما يزيل إبهامه، فجعلوه منادى في الصورة وأجروا عليه تابعا له، والمقصود بالنداء: أي المعرف بالنداء الذي يزيل
إبهامه ويمتاز به ذات المنادى، والتزموا رفعه تنبيها على أنه المقصود بذلك، ثم ذلك الاسم المبهم هو: أي مقطوع
الإضافة واسم الإشارة إذ كل منهما مبهم يجب إزالة إبهامه وضعا إلا أن أيا أدخل في الإبهام، فإن اسم الإشارة إذا
وقع منادى قد يكتفى في إزالة إبهامه بالإشارة الحسية فيستغنى عن الصفة فيقال يا هذا بخلاف أي إذ لا بد له في النداء
من وصف تتعين به ذاته، وهو اسم الجنس لأنه يدل على الحقيقة المعينة أو ما يجرى مجراه، وهو على أقسام:
الذي ومتصرفاته، واسم الإشارة موصوفا بذى اللام نحو ياأيهذا الرجل، وأسماء الأعلام مثناة ومجموعة، فأي في
النداء لا تكون إلا وصلة لذي اللام أو لاسم الإشارة مردوفا بذى اللام. وقوله (حتى يضح) من الوضوح أي
يتضح (المقصود بالنداء) وتتعين ذاته، والفائدة الأولى معاضدة كلمة التنبيه حرف النداء ومكانفته: أي معاونتها
إياه لتقاربهما في المعنى، فإن حرف النداء فيه إيقاظ للمنادى وإعلام بأنه المدعو، وحرف التنبيه يقوى ذلك
الإيقاظ. والثانية (وقوع كلمة التنبيه عوضا) فإن أيا حقه أن لا يخلو عن المضاف إليه أو تنوين يقوم مقامه نحو
225

- أياما تدعوا - وأية سلكوا، ولا مجال للتنوين هنا لسبب البناء، ولأنه يقع عوضا عن مضاف إليه معين كقوله تعالى
- ورفعنا بعضهم فوق بعض - والقصد ههنا إلى الإبهام، فجعل كلمة التنبيه المناسب للنداء عوضا عن المضاف إليه
(قوله ما لم يكثر في غيره) منصوب على المصدر وما موصولة أو موصوفة وعبارة عن الكثرة، فإن جعل المستتر
في يكثر راجعا إلى النداء كان العائد محذوفا: أي كثرة لم يكثرها أو الكثرة التي لم يكثرها في غيره، وإن جعل راجعا
إلى ما فالإسناد إلى ذلك المستتر يكون مجازا. وقد يقال هو مجرور على الإبدال من تلك الطريقة كأنه قيل على
الطريقة التي لم تكثر تلك الطريقة في غير كتاب الله تعالى، وفيه أن قوله على هذه الطريقة متعلق بالنداء كما هو
الظاهر، وقوله ما لم يكثر متعلق بكثر قطعا فلا يصح حينئذ الإبدال (قوله لاستقاله بأوجه من التوكيد) هي
تكرار الذكر والإيضاح بعد الإبهام واختيار لفظ البعيد وتأكيد معناه بحرف التنبيه، وقوله (لأن كل ما نادى الله
تعالى له) تعليل للكثرة المعللة بالاستقلال: أي كثر ذلك النداء تلك الكثرة المعللة بالاستقلال المذكور لاقتضاء
المقام إياه، وقوله (أمور عظام) خبر أن (قوله أن ينادوا بالاكد الأبلغ) وذلك ليستيقظوا عن رقدة غفلتهم
ويتنبهوا لما نودوا لأجله، وهذا المعنى راجع إلى ما ذكره بقوله ثم استعمل في مناداة من سها وغفل (قوله لا يخلو)
أراد أنه لا يصح توجه الخطاب إلى جميع الفرق كما ذكرته ولا إلى كفار مكة كما رويته عن علقمة، وذلك لأن
العبادة أعمال الجوارح لتبادرها عنها عند الإطلاق، فلا يؤمر بها المؤمنون لأنهم عابدون فيلزم أن يكون طلبا
لتحصيل الحاصل، ولا الكافرون لأنه يمتنع منهم العبادة لانتفاء شرطها وهو معرفة الله تعالى والإقرار به، فيلزم
التكليف بالمحال (قوله فلو أنى فعلت الخ) هو لأبى تمام وقبله:
نعمة الله فيك لا أسأل الله * إليها نعمى سوى أن تدوما
يعنى أن نعمة الله فيك شاملة لجميع أنواع النعم، فلا أسأل الله إلا دوامها احترازا عن طلب الحاصل. وقد يتوهم
أنه لا بد في قوله كنت كمن تسأله من تقدير مضاف: أي كسائل من تسأله وإلا لكان تشبيها للسائل بالمسؤول،
226

والظاهر أنه من قبيل التمثيل كقوله: وما الناس إلا كالديار الخ، فلا حاجة إلى ذلك. فإن قيل الأمر متعلق
بالمستقبل وليس المؤمن ملتبسا بالعبادات المستقبلة أصلا فليس أمره بهما طلبا للحاصل، بل هو كقولك للمؤمن
صل فلا اتجاه للسؤال. قلنا المتبادر من إطلاق اعبدوا إحداث أصل العبادة وهو حاصل، فالسؤال متجه كما إذا
أمرت من صلى لإحداث أصل الصلاة، وأما إذا أمرته بصلاة معينة فلا. والجواب أن المطلوب من المؤمنين
ليس إيقاع أصل العبادة في المستقبل بل ازديادهم فيها واستمرارهم عليها في الاستقبال، وليس ذلك حاصلا قطعا فلا
إشكال، وإن المطلوب من الكفار أصل العبادة على معنى أنهم أمروا أن يأتوا بها بعد تحصيل شرائطها، فإن الأمر
بالشئ أمر بما لا يتم إلا به كأنه قيل لهم: حصلوا أولا شرطها ثم ائتوا بها، ولا استحالة في ذلك وإنما المستحيل أن
يؤمروا بإيقاع العبادة حال انتفاء شرائطها كما تقرر في موضعه. وما يقال من أن التصديق أصل العبادات كلها،
فلو وجب بوجوبها لانقلب الأصل تبعا فجوابه أن الأصالة بحسب الصحة لا تنافى التعبية في الوجوب على أنه
قد أوجب أيضا استقلالا بدلائل أخر والجمع بينهما آكد في إيجابه (قوله على أن مشركي مكة) أي يجوز تخصيص
الخطاب بمشركيها لأن شرط العبادة حاصل لهم. واعترض عليه بأن مجرد معرفة الله تعالى والإقرار به ليس كافيا في
صحة العبادة، بل لا بد من التصديق بالنبوة والاعتراف بها وهو منتف عنهم. وأجيب بأنه أراد أن هذا القدر من
الشرط حاصل لهم فليضموا إليه ما بقى ثم ليعبدوا، وهذا بالحقيقة رجوع إلى الجواب الأول ومجرد فرق بين كفار
مكة وغيرهم، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن العبادة شاملة لأفعال القلب والجوارح، وقرر السؤال في المؤمنين
بأن التصديق حاصل لهم فكيف يؤمرون به، وفى الكفار بأن تصديقهم بالسمعيات كأحوال المعاد يتوقف على
تصديقهم بالعقليات على قاعدة الاعتزال كالمعرفة والإقرار، وليست هذه العقليات حاصلة لهم فكيف يؤمرون
بتلك السمعيات. ثم أجاب عن هذا أولا باندراجها تحت الأمر بالسمعيات، وثانيا بأن العقليات حاصلة لكفار
مكة. ويرد عليه أنه لا يلائمه قوله في السؤال وأما الكفار الخ (قوله متناولا شيئين معا) يريد أن صيغة اعبدوا موضوعة لطلب
العبادة، فإذا كانت موضوعة لطلب ازديادها أيضا كان استعماله فيهما إعمالا للمشترك في كلا معنييه وإلا كان جمعا
بين الحقيقة والمجاز. ولا يصح شئ منهما عند الجمهور. وأجاب بأن ازدياد العبادة عبادة، والمراد أن اعبدوا
مستعمل في طلب العبادة في المستقبل لكن تلك العبادة من المؤمنين زيادة في عبادتهم ومن الكافرين ابتداء
عبادة، وليس شئ من مفهومي الزيادة والابتداء داخلا في مفهوم اعبدوا بل خارج يفهم من القرائن، فلا جمع
بين معنيين أصلا بل استعمل اللفظ المشترك في القدر المشترك بينهما (قوله فالمراد به اسم يشترك فيه) أي في مفهومه
227

اشتراكا معنويا إذ كانوا يستعملون الرب في الله تعالى وفى ألهتهم بمعنى المالك والسيد وقيل اشتراكا لفظيا وأياما
كان فالصفة موضحة تميز ما قصد به بالموصوف عما يشاركه في الاسم على أحد الوجهين (قوله فالمراد به ربكم
على الحقيقة) أي الله تعالى فإنه الذي اعتقد جميع الفرق ربوبيته واعترفوا بها والصفة حينئذ ملاحة لعدم الاشتباه
في الرب المضاف إلى الكل وقوله على الحقيقة إشارة إلى أن ربوبيته تعالى ثابتة في الواقع بخلاف الأصنام فإنها
أرباب بحسب اعتقادهم، لا إلى أن لفظ الرب مجاز فيها (قوله ولا يمتنع هذا الوجه) وذلك لأن المشركين كانوا
يعتقدون أنه تعالى رب الأرباب وأن آلهتهم شفعاء عنده فلا يبعد في خطابهم أن يراد بالرب الذي أضيف إليهم
ما جعلوه أصلا في الربوبية (قوله إلا أن الوجه الأول أوضح) أي بالنظر إلى حالهم فإن استعمال الرب في غير
الله سبحانه كان شائعا فيما بينهم موجبا للاحتمال ولذلك عقبت السحرة قولهم - آمنا برب العالمين رب موسى
وهارون - دفعا له (قوله وأصح) أي بالنظر إلى أن الأصل في الصفة هو التوضيح والتخصيص فلا يعدل عنه
ما أمكن (قوله قراءة مشكلة) لأن الموصول الثاني مع صلته مفرد فلا يصلح أن يكون صلة للأول وقوله على
إشكالها تنبيه على أن ما ذكره لا يحسم مادة الإشكال لأن التأكيد إن حمل على المصطلح فإن كان لفظيا وجب أن
يكون بإعادة اللفظ الأول كما في المثالين وإن كان معنويا كان بألفاظ مخصوصة مع أن النحاة قد نصوا على امتناع
تأكيد الموصول قبل تمامه بصلته وإن حمل على غير المصطلح احتيج إلى بيان وجه اجتماع الموصولين وغاية
ما يتمحل فيه أنه تأكيد لفظي إلا أنه عدل عن اللفظ الأول إلى ما هو بمعناه احتراز عن بشاعة التكرار كما هو
مذهب الأخفش في: ما إن زيد قائم ومحتمل في قوله * فصيروا مثل كعصف مأكول * وإن كان المشهور في أمثال
ذلك الحكم بالزيادة دون التأكيد ومن ثم قيل الأولى أن يجعل كلمة من زائدة على مذهب الكسائي أو موصول
بالظرف خبرا لمبتدأ محذوف أي الذين هم أشخاص وأناس ثابتون قبلكم وفيه تفخيم لشأنهم بالإبهام وإيذان
بأن خلقهم أدخل في القدرة أو موصولة بالظرف كذلك أي الذين هم الذين قبلكم وقد نقل عن المصنف ههنا
سؤال بأن الموصول بدون الصلة لا يفيد شيئا فكيف يجوز تأكيده وجواب بأن الموصول وحده يفيد أمرا مبهما
كاسم الإشارة ولهذا رجع الضمير إليه في قولك الذي قام مع أنه لا يرجع إلى غير المفيد وأورد عليه أن التأكيد
اللفظي يجرى في الحروف ففي الأسماء الموصولة أولى وأجيب بأن وجه الاستبعاد أن الموصول لا يتم جزءا
إلا بصلة وعائد فهو وحده بمنزلة الزاي من زيد بخلاف الحروف وأنت خبير بأن جعل الموصولات في الإفادة
والاستقلال دون الحروف خروج عن الإنصاف (قوله كما أقحم جرير) الإقحام أن يدخل شئ في آخر بشدة
228

وعنف فههنا أقحم تيم الثاني بين المضاف وهو تيم الأول والمضاف إليه وهو عدى وإنما جاز حذف التنوين
من الثاني وإن لم يكن مضافا لأن التأكيد اللفظي في الأغلب حكمه حكم الأول وحركته إعرابية كانت أو بنائية
فكما حذف التنوين من الأول حذف من الثاني وجاز الفصل به في السعة بين الأول وما أضيف إليه وإن لم
يجز ذلك إلا في الضرورة وبالظرف خاصة لأنه لما كرر الأول بلفظه وحركته فكأنه هو بعينه فلا فصل ألا ترى
أنك تقول أن إن زيدا قائم مع امتناع الفصل بين إن واسمها إلا بالظرف وكذلك تقول لا لا رجل في الدار مع أن
النكرة المفصولة عن لا يجب رفعها نحو لا فيها غول - (قوله وكإقحامهم) ذهب الخليل وسيبويه وجمهور النحاة إلى
أن لا أبالك مضاف حقيقة باعتبار المعنى وإن هذه اللام الظاهرة تأكيد للقدرة التي كانت الإضافة بمعناها
فيكون الفصل بها بين المضاف والمضاف إليه كلا فصل على قياس يا تيم تيم عدى واعترض عليهم بأنه لو كان
مضافا حقيقة لكان معرفة فوجب رفعه وتكريره وتقدير الخبر أيضا ودفع بأن العرب قصدوا نصب هذا المعرف
بلا من غير تكرير تخفيفا ففصلوا بينهما لفظا حتى يصير المضاف كأنه ليس بمضاف فلا يستنكر نصبه وترك تكريره
لوروده على صورة النكرة وأما الخبر فمقدر عاما. أي لا أبالك موجود فإن قيل قد اتفقوا على أن لا أبالك بمعنى
لا أبالك والثاني نكرة اتفاقا فكذا الأول أجيب بأنهم اتفقوا على أن فحوى الجملتين سواء لا على أن لا أبالك ولا أب لك
بمعنى واحد وقد تنفق الجملتان في المقصود مع أن المسند إليه في إحداهما معرفة وفى الأخرى نكرة كما في قولك
لا كان أبوك موجودا ولا كان لك أب (قوله ولعل للترجي أو الإشفاق) أي هي موضوعة لإنشاء توقع أمر
إما مرغوب ويسمى ترجيا ومرهوب ويسمى إشفاقا ثم كل واحد منهما يكون من المتكلم كما في المثالين الأولين
وهو الأصل لأن معاني الإنشاءات قائمة به ويكون من المخاطب، وهو أيضا كثير لتنزيله منزلة المتكلم في التلبس
التام بالكلام كما في المثال الثالث والرابع ولما لم يكن الإشفاق من قرب الساعة ظاهرا استشهد له بالآية وقد
يكون من غيرهما ممن له نوع تعلق بالكلام كأنها جردت لمطلع التوقع كما في قوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى
إليك على أحد الوجهين وهو أنك قد بلغت من التهالك على إيمانهم مبلغا يرجون أن ترك بعض ما يوحى
(قوله وقد جاءت) عطف على قوله ولعل الترجي أو الإشفاق أي أنها قد إستعملت في مواضع من القرآن
للإطماع أي الإيقاع في الطمع وذلك لقرب الطمع من الرجاء فكان الإطماع هو الترجية ولم يرد أنها في تلك
المواضع مستعملة في حقيقة الإطماع كما في قولك تعالى إلى لعلى أكرمك بل أراد أنها هناك للتحقيق إلا أنه
أبرز في صورة الإطماع إما لإظهار أنه لا فرق بين إطماعه في شئ وبين جزمه بإعطائه فإن غاية الجود وكمال
229

الكرم يقتضى إظهار ذلك وأما السلوك طريقة الملوك والعظماء في إظهار الكبرياء وقلة الاعتداد بالأشياء وإما
للتنبيه على أن من حق العباد أن لا يتكلوا على حسن العبادة والاجتهاد بل يكونوا على حذر بين الخوف والرجاء
وهذا محصول ما تلخص من كلامه ثم نقول إن قوله لأنه إطماع تعليل لقوله قال من قال وذلك أن ابن
الأنباري وجماعة من الأدباء ذهبوا إلى أن لعل قد تجئ بمعنى كي حتى حملوها على التعليل في كل موضع امتنع فيه
الترجي سواء كان من قبيل الإطماع نحو - لعلكم تفلحون - أو لا نحو - لعلكم تشكرون - و - لعلكم تتقون - فأشار المصنف
إلى توجيه ما قالوه بأنهم لم يريدوا به أنها بمعنى كي حقيقة لأن أئمة اللغة لم يذكروا في بيان معناها الحقيقي سوى
ما ألقاه إليك من الترجي والإشفاق ولو وردت بمعنى كي لجاز أن يقع بدلها في ذلك قولك دخلت على المريض كي
أعوده ولا يقول به أحد، بل أرادوا أن ما بعدها إذا صدرت على سبيل الإطماع من الكريم متحقق عقيب ما قبلها
كتحقق الغاية عقيب ما هي سبب له فكأنها بمعنى كي ولا يخفى أن هذا التوجيه إنما يجرى في لعل الإطماعية
دون غيرها وقيل مقصوده أن يرد عليهم بما قررناه ويشير إلى منشأ توهمهم وهو أن ما بعدها متحقق الوقوع كما
مر وصالح لأن يعلل به ما قبلها وفيه أيضا أن هذا التوهم عام ومنشؤه خاص وقوله وأيضا فمن ديدن عطف
بحسب المعنى على قوله لأنه إطماع فإنه وإن ذكر تعليلا لقول ذلك القائل إلا أنه يتضمن بيان نكتة للتعبير عن
التحقيق بحرف الإطماع فكأنه قيل وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن لأن إطماعه كوعده
المحتوم وفاؤه به وللجرى على ديدن الملوك وقوله أو تجئ؟؟ عطف على قد جاءت وبيان لنكتة أخرى هي علة
ثالثة لذلك التعبير إلا أنه كرر المعلل لتعدد ذكره وعدل إلى صيغة المضارع لعلة هذه النكتة في الموارد بالقياس
إلى أختيها وقد يتوهم من عبارته أن لعل قد جاءت للإطماع مع التحقيق وقد تجئ للإطماع بدون التحقيق
وفساده ظاهر (قوله ما معناها) أي من المعاني التي ذكرتها وما موقعها يعنى أحقيقة هي أم مجاز؟ فأجاب
بأنها ليست مستعملة في شئ من تلك المعاني إذ لا يتصور ههنا الرجاء من المتكلم لاستلزام عدم العلم بعواقب
الأمور ولا من المخاطبين لأنهم لا شعور لهم حال خلقهم بالتقوى حتى يرجوها ولا مجال للإشفاق قطعا ولا
230

للإطماع أصلا لأنه إنما يكون فيما يتوقعه المخاطب من المتكلم ويرغب فيه وليست التقوى كذلك فإنها من أفعالهم
وشاقة عليهم (قوله ولكن لعل واقعة في الآية موقع المجاز) الذي هو استعارة لا موقع الحقيقة وقد يتوهم من
هذه العبارة أنها حقيقة في جميع المعاني السابقة (قوله فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا) يفهم من هذا مشابهتهم
للمرجو منهم ومشابهته تعالى للراجى وإن هنالك حالة شبيهة بالرجاء وهى إرادته تعالى منهم التقوى فإما أن تعبير
هذه الإرادة وحدها ويستعار لها الكلمة الموضوعة للترجي بالجامع الذي سيفصله فيكون في لعل استعارة تبعية
حرفية وإما أن يلاحظ هيئة مركبة من الراجي والمرجو منه ورجائه فيكون هناك استعارة تمثيلية قد صرح من
ألفاظها بما هو العمدة في حصول الهيئة بلا مجاز حينئذ في لعل كما أوضحناه فيما سبق من نظائرها وكلام الكشاف
محمول على الأول كما دل عليه حكمه بأن لعل في الآية مجاز إلا أنه راعى الأدب فلم يصرح بنسبة التشبيه إليه تعالى
ولا إلى إرادته بل صرح بالمشابهة بين العباد والمرجو منهم ليفهم ضمنا مشابهة إرادته للترجي يشهد به قوله
في آلم السجدة ولعل من الله إرادته ويؤيده قوله ههنا شبه بالاختيار بناء أمرهم على الاختيار وأيضا ليس تظهر
المشابهة بين الإرادة والترجي إلا باعتبار حال متعلقهما أعني المكلف والمترجى منه فذكر التشبيه بين حاليهما
لتظهر تلك المشابهة في أن متعلق كل من الإرادة والترجي يترجح أي يتردد بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان
ما لجانب الفعل، فإنه تعالى لما وضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الطاعة كما هو مذهب الاعتزال، ونصب
لهم أدلة عقلية ونقلية داعية إليها ووعد وأوعد وألطف بما لا يحصى كثرة لم يبق للمصنف عذر وصار حاله في رجحان
اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجى منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه مع تمكنه مع خلافه
وصار إرادة الله لعبادته واتقائه بمنزلة الترجي فيما ذكرناه وقد استقصينا في شرح المفتاح الكلام في الاستعارة
التبعية في أمثال هذا المقام يقال تعبده اتخذه عبدا يمتثل أوامره ونواهيه (قوله وركب فيهم العقول) الداعية إلى
الطاعات والشهوات الباعثة على المعاصي (قوله وأزاح العلة) أي أزالها فلم يبق لهم عذر من الأعذار التي من شأنها
أن يتمسك بها (والنجدان) طريقا الخير والشر والترجيح التردد والتميل وهو وجه الشبه كما عرفت وإنما قال
ومصداقه لأن نسبة الابتلاء إليه تعالى مصرح بها فلا بد من حمله على المجاز المبنى على التشبيه لا يقال يجوز حمل
لعل على الترجي من العباد متعلقا باعبدوا أي اعبدوه راجين وصولكم إلى التقوى التي هي أعلى مراتب العبادة
أو بخلقكم على أنه حال مقدرة أي خلقكم مقدرا رجاءكم للتقوى فالتقدير منه تعالى حال الخلق الرجاء من العباد
بعد حين كما في قوله تعالى - وبشرناه بإسحاق نبيا - أي مقدرا نبوته. لأنا نقول بنى المصنف كلامه على تقدير
231

تعلقه بالأقرب الذي هو خلقكم لأن تعلقه باعبدوا يستلزم توسط الحال من فاعله بين وصفى مفعوله فإن الذي
جعل لكم الأرض فراشا صفة لربكم بحسب المعنى حقيقة وإن جعل منصوبا أو مرفوعا على المدح والتعظيم
وأيضا لا طائل في تقييد العبادة برجاء التقوى لأن رجاء الشئ ينافي حصوله حال الرجاء بل المناسب تقييدها
بنفس التقوى أي اعبدوه متقين أو عطفها عليها أي اعبدوه واتقوه ولا مساغ للحمل على رجاء ثواب
التقوى لإخراجه الكلام عن سننه كما لا يخفى وأما تقدير الرجاء ففيه أن المقدر حال الخلق هو التقوى لا رجاؤها
كما يدل عليه قوله تعالى - وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وأيضا كثير من الناس لا يرجون التقوى ولا
يخطرونها بالبال فكيف يقيد الخلق بتقدير رجائها (قوله فلم قصره عليهم) حيث لم يقل لعلكم وأياهم ليتجاوب
طرفا النظم أي ليتناسبا كأن كلا منهما يجيب الآخر والمراد تلاؤم أول الكلام وآخره إذ معناه حينئذ اشتغلوا
بالأمر الذي خلقتم لأجله مع الاشتمال على الصيغة البديعية وما في النظم يوهم أن المعنى اشتغلوا بما خلقتم لغيره
وهو متنافر وحاصل الجواب أن الملاءمة حاصلة بحسب المعنى مع مبالغة تامة في إلزام العبادة كما صورها في المثال
فإن الأخذ بالأشق الأصعب يسهل الشاق الصعب ويعين على تحصيله فإن قيل قوله للاستيلاء على أقصى غايات
العبادة يدل على أنه جعل لعل للتعليل بمعنى كي وكذلك قوله فيما بعد أي خلقكم لكي تتقوا يدل على ذلك
فيكون إثباتا لما نفاه أولا قلنا قد بين أنها مستعارة للإرادة فإما أن يجعل مفعولا لأجله: أي خلقكم لإرادة
التقوى فيكون التعليل مستفادا من كيفية ربطها بالسابق أو يجعل حالا فيكون ما ذكره محصول المعنى فإن
خلقهم في حال إرادة التقوى منهم في معنى خلقهم لأجل التقوى وقس على ذلك ما يرد عليك في الكشاف من
تفسير لعل بالإرادة أو بمعنى كي ولما لم يصح عند الأشاعرة استعارة لعل لإرادة الله تعالى لاستلزامها وقوع
المراد ولا للتعليل عند من ينفى تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مطلقا وجب أن يجعل مجازا عن الطلب الذي يغاير
الإرادة ولا يستلزم حصول المطلوب أو عن ترتب الغاية على ما هي ثمرة له فإن أفعاله تعالى يتفرع عليها حكم
232

ومصالح متقنة هي ثمراتها وإن لم تكن عللا غائية لها بحيث لولاها لم يقدم الفاعل عليها كما حقق في موضعه ومن
أهل السنة من وافق المعتزلة في التعليل بالغرض الراجع منفعته إلى العباد وادعى أنه مذهب الفقهاء والتحقيق ما سبق
(قوله من موجبات عبادته) فيه إشارة إلى أن موجبها لا ينحصر فيما ذكر ويدل على إيجابها ترتيب الحكم عليها
مع مناسبتها لتعليل العبادة بها (قوله خلقهم أحياء قادرين) وذلك لأن من كان مخاطبا مخلوقا للاتقاء لا يكون إلا حيا
فاهما قادرا على ما خلق لأجله وأولا ظرف لقدم (قوله لأنه سابقة أصول النعم) يريد السبق بحسب كونها نعما
واصله إليهم لا في وجودها بنفسها فإن وجود الأرض مثلا وإن كان متقدما على وجودهم إلا أن كونها نعمة
في حقهم متأخر عن خلقهم على وجه يتمكنون به من الانتفاع بها، والتاء في سابقة نظرا إلى أنه نعمة وقيل كالتاء
في مقدمة وإنما حصر السبب فيه بناء على أنه العمدة في التمكن من الأفعال كأن ما عداه من أسبابها وشرائطها
لا يعتد بها مقيسة إليه وأشار بقوله وهى بمنزلة عرصة المسكن مع قوله هي كالقبة إلى أنهم إلى وجود الأرض
أحوج فكان ذكرها أهم وأقدم وقوله (ثم ما سواه) معطوف على مفعول قدم بتقدير فعل أخر أي ثم ذكر
ما سواه وهيأه فهو من قبيل * علفتها تبنا وماء باردا * (والمقلة) الأرض (والمظلة) السماء وقوله (من الحيوان)
متعلق بالمنتج ومن ألوان الثمار بيان لأشياء النسل ورزقا لبنى آدم مفعول له للإخراج وقوله ليكون متعلق
بمعنى قدم أي ذكر هذا الموجبات على هذا الترتيب ليكون لهم ذلك المذكور يقال تسلق الجدار إذا تسوره
وعلاه وقوله (الموصل إلى التوحيد) إشارة إلى معنى: فلا تجعلوا لله أندادا وقوله (والاعتراف) أي
بكونه منعما عليهم رمزا إلى معنى اعبدوا وقوله ونعمة عطف على معتبرا ويتفكرون عطف على يتعرفونها
من تعرفت الشئ طلبته حتى عرفته وقوله في خلق أنفسهم الخ كأنه واقع موقع الضمير أي ويتفكرون
فيها ولقد فصل بقوله يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر أي بالشكر اللازم ما رمز إليه فقط الاعتراف وبقوله
ويتفكرون ما أشار إليه بذكر التوحيد إلا أنه في الإجمال قدم ما هو الأصل أعني توحيده تعالى وفى التفصيل
رجع إلى تعلم التنزيل (قوله فيتيقنوا عند ذلك) عطف على قوله ليكون لهم (قوله وصفا) أي موضحا أو مادحا
كالذي خلقكم وقوله أو على المدح معطوف على وصفا أي في محل النصب على الوصفية أو على المدح بتقدير
233

أخص أو أمدح وأراد بقوله رفعا على الابتداء أنه خبر مرفوع بالابتداء على سبيل المدح كما تحققته في الذين
يؤمنون بالغيب والطراف ما كان من الأديم والقبة ما كان مستديرا والخباء كالخيمة من الصوف والوبر
دون الشعر وتكون على عمودين أو ثلاثة فقط والبيت أعم من الكل وقد فسرت بتفاسير أخر وبنى على
امرأته كناية عن الدخول بها لاستلزامه نصب الحباء عليها في عادتهم (قوله ما معنى إخراج الثمرات بالماء) يريد أن
السبب في الخروج قدرته تعالى ومشيئته لا الماء فكيف دخل باء السببية عليه وأجاب بأنه تعالى (جعل الماء
سببا في خروجها ومادة لها) مع كونه قادرا على خلقها بلا سبب ومادة إلا أن له تعالى في الإنشاء الأشياء من
موادها تدريجا حكما ليست في إنشائها دفعة وبغتة، وقوله مدرجا حال من فاعل الإنشاء فإنه مراد معنى وحكما
اسم لكن وضمير فيها الأشياء المخلوقة كذلك وعبرا مفعول يجدد (قوله ومن في من الثمرات للتبعيض) لوجوه الأول
شهادة نظائرها الواردة في هذا المعنى فإن كلمة من في الآية الأولى ليست بيانية إذ لا مبهم هناك ولا ابتدائية وإلا
لزم عدم ذكر المخرج ولا زائدة في الإثبات فهي تبعيضية والتنكير في الثانية يدل على البعضية لتبادرها منه
سيما في جموع القلة الثاني أن ما قبله وما بعده أعني (ماء ورزقا) محمولان على البعض فليكن هو موافقا لهما
الثالث أن المطابق لصحة المعنى وسداده في الواقع هو البعض فإن الله سبحانه لم ينزل من السماء كل الماء بل
بعضه إذ رب ماء هو بعد في السماء ولم يخرج بالماء المنزل منها كل الثمرات بل بعضها فكم من ثمرة هي بعد
غير مخرجة ولم يجعل المخرج كل الرزق بل بعضه وقد يتوهم أن قوله ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات أراد به أن
بعضها مخرج بماء الأنهار والعيون دون المطر فيكون منافيا لما ذكره في الزمر من أن جميع مياه الأرض هو من
234

السماء، وفساده ظاهر بما قررناه (قوله كقولك أنفقت من الدراهم ألفا) هذا إذا أردت به ألفا هو الدراهم، ويحتمل
التبعيض أيضا (قوله فيم انتصب رزقا) بنى تفريعه على احتمال كلمة من للتبعيض والبيان (قوله كان انتصابه بأنه
مفعول له) وذلك لأن من الثمرات على تقدير التبعيض مفعول به لا على أن من اسم بمعنى بعض كما قيل، بل على أن
تقديره شيئا من الثمرات. وما يقال من أن معناه فأخرج بعض الثمرات فهو حاصل المعنى، وحينئذ يكون (رزقا) بمعناه
المصدري مفعولا له (ولكم) ظرفا لغوا مفعولا به لرزقا: أي أخرج بعض الثمرات لأجل أن يرزقكم، وذكر
في سورة إبراهيم أنه يجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقا حالا من المفعول: أي مرزوقا أو نصبا
على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق، ففي التبعيض وجوه ثلاثة، والأظهر ما ذكره ههنا، إذ لا حاجة به
إلى تأويل (قوله وإن كانت مبينة كان) أي رزقا (مفعولا لأخرج) على أن المراد به العين، ويكون لكم ظرفا
مستقرا صفة له، ومن الثمرات بيانا له مقدم عليه فصار حالا منه، أي أخرج مرزوقا لكم هو الثمرات (قوله فالثمر
المخرج بماء السماء كثير جم) هذا توجيه للسؤال على تقدير البيان، ويعلم منه وروده على التبعيض أيضا بطريق
الأولى، فإن المخرج بماء السماء إذا كان كثيرا جدا كان ما هو بعض منه كثيرا قطعا. والجواب من وجهين:
الأول أن الثمرات ههنا جمع للثمرة التي يراد بها الكثرة كالثمار لا الواحدة فيكون أبلغ، ولا أقل من المساواة. الثاني
أنها جمع قلة وقعت موقع جمع الكثرة كجنات في قوله تعالى - كم تركوا من جنات وعيون - وقد يقع أيضا جمع
الكثرة موضع جمع القلة كما في ثلاثة قروء، يقال تعاوروا الشئ إذا تداولوه. والمشهور أن الفرق بين الجمعين
في القلة والكثرة إنما هو إذا كانا منكرين، وأما إذا عرفا بلام الجنس في مقام المبالغة فكل منهما للاستغراق بلا
فرق (والحويدرة) تصغير الحادرة تعظيما وتهويلا فكلمته قصيدته المشهورة التي مستهلها:
بكرت سمية غدوة فتمتع * وغدت غدو مفارق لم يربع
وإنما سميت بالكلمة لشدة ارتباط بعضها ببعض كأجزاء الكلمة الواحدة، وقوله فتمتع تهكم: أي اجزع غاية
235

الجزع إذ لا تمتع بعد ذلك، ولم يربع: أي لم يتوقف وأصله لم يأخذ موضعا ربعا (قوله بم تعلق فلا تجعلوا) أي
بأي معنى من المعاني السابقة يتعلق وعلى مضمون أيها يترتب ويتفرع (قوله أن يتعلق بالأمر) أي يكون نهيا
متفرعا على مضمون ذلك الأمر كأنه قيل: إذا استحق ربكم الذي خلقكم العبادة منكم وكنتم مأمورين بها لا تشركوا
به أحدا لتكون عبادتكم مبنية على ما هو أصل العبادة وأساسها أعني توحيده تعالى، وأن لا تجعلوا له ندا أصلا.
وقيل هو نهى معطوف على الأمر. ورد بأن الأولى حينئذ العطف بالواو كقوله تعالى - اعبدوا الله ولا تشركوا به
شيئا - وقد يجعل نفيا منصوبا بإضمار أن على جواب الأمر كما في زرني فأكرمك، وليس بشئ لأن الشرط في ذلك
كون الأول سببا للثاني، والعبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو مبناها وأصلها (قوله انتصاب فأطلع) أي على
تشبيه لعل بليت. ويرد عليه أن ذلك إنما يجوز إذا كان في الترجي شائبة من التمني لبعد المرجو من الوقوع، وقد
مر أن لعل ههنا مستعارة للإرادة التي ترجح فيه وجود المراد بإعداد الأسباب وإزاحة الأعذار، فمن أين المشابهة.
ويجاب بأن النصب ههنا للنظر إلى أنهم في صورة المرجو منهم، فالمعنى: خلقكم في صورة من يرجى منه الاتقاء:
أي الخوف من العقاب ليتسبب من ذلك ألا تشركوا، فقوله (لكي تتقوا) بيان لحاصل المعنى وأخذ بزبدة
ما سبق من استعارة لعل لا حكم بأنها معنى كي على ما مر وقوله (وتخافوا عقابه) عطف على تتقوا تفسير له،
وقوله (فلا تشبهوه بخلقه) إشارة إلى معنى فلا تجعلوا لله أندادا وترتبه ما تعلق به، وفى هذا النصب تنبيه على
تقصيرهم كأن المراد الراجح صار مستبعدا عنهم كالمتمنى ونظيره في اعتبار الصورة ورعاية التنبيه قولك لمن همك
همه ليتك تحدثني فتفرج عنى بالنصب، فإنه ليس بمتمنى حقيقة لكن أجرى عليه حكمه ونبه به على تقصيره في
التحديث (قوله أو بالذي جعل لكم إذا رفعته على الابتداء) أي جعلته مرفوعا مدحا على أنه خبر لمبتدأ محذوف
كما سبق ذكره، فيكون نهيا مترتبا على ما تتضمنه هذه الجملة: أي هو الذي خصكم بدلائل التوحيد فلا تشركوا
به. وأما إذا نصبته على الاختصاص فلا يتأتى ترتيبه عليه إذ لا معنى لقولك أعني الذي جعل لكم كذا وكذا
فلا تشركوا وكذا الحال إذا جعل وصفا بل هو أظهر ومن حكم بأنه لا يريد الرفع على المدح لأنه يساوى
النصب في كونه من تتمة اعبدوا فيكون الترتيب والاستعقاب منه لا من تتمته بل أراد وجها آخر فقد خالف
ظاهر كلامه والقول بأن مراده إن الذي جعل مبتدأ خبره فلا تجعلوا بتقدير القول والفاء لتضمن المبتدأ معنى
الشرط مما يأباه صريح كلامه مع كونه في نفسه ضعيفا جدا و (المناوي) من ناوأت الرجل منأواة ونواء إذا
236

عاديته وأصله الهمزة وقد تترك (قوله أتيما تجعلون) الجعل ههنا بمعنى التصيير القولي والاعتقادى من قبيل - وجعلوا
الملائكة - ومعنى (إلى) منسوبا إلى كهو حال من تيما، وقيل من (ندا) وفيه أن ندا في حكم خبر المبتدأ فلا يكون
ذا حال. والنديد المثل: أي لا يصلحون مثلا لذي حسب فكيف بمثلى المشهور بالأحساب (قوله وما كانوا
يزعمون أنها تخالف الله وتناويه) بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده فلا تصلح تسميتها أندادا له (قوله أشبهت حالهم)
وذلك لأن ما صدر عنهم من التقرب والتعظيم والتسمية المذكورة إنما تليق بمن يعتقد فيها أنها آلهة مثله قادرة على
مخالفته ومضادته، وفى ذكر مشابهة حالهم بحال المعتقدين إشارة إلى أن هناك استعارة تمثيلية وليست تهكمية
اصطلاحية إذ ليس فيها استعارة أحد الضدين للاخر بل أحد المتشابهين لصاحبه، لكن المقصود منها التهكم بهم
بتنزيلهم منزلة من أشبهت حالهم حاله، وقوله (بأن جعلوا أندادا؟) متعلقا بشنع: أي شنع عليهم، واستفظع شأنهم
بذكر أنهم جعلوا (وقط) مستعمل ههنا للمستقبل بل للزمان المستمر مجازا لأنه لنفى الماضي وضعا (قوله وفى
ذلك قال) أي في المعنى المذكور الذي هو التشنيع واستفظاع الشأن، ولم يرد (بألف رب) خصوص العدد بل
الكثرة تنبيها على أنه إذا ترك التوحيد الثابت بالقاطع فلا فرق بين اثنين ونهاية العدد (قوله أدين) أطيع من دان له:
أي انقاد له وأطاعه ودين الملك وملك مدين (قوله إذا تقسمت الأمور) أي إذا جعل أمور الديانة أقساما وأخذ
كل قسمه (قوله وحالكم وصفتكم) يشير إلى أن هذه الجملة وقعت حالا من الفاعل (ولا يصطلى بنارهم) كناية
عن رفعة شأنهم: أي لا تنال نارهم ليصطلى بها كما أن لا يشق غباره كناية عن السبق، وقيل معناه: لا يطاق
اصطلاؤها لغاية قوتها وشدتها، وأصله في الشجاع لاقرن له ثم عم في كل أوحدى في شأنه (قوله ومفعول
تعلمون متروك) أي هذا الفعل منزل منزلة اللازم وقد قصد به إثبات حقيقته للفاعل في مقام المبالغة ولهذا قال
237

(وأنتم من أهل العلم والمعرفة) ثم قال (أي أنتم العرافون) (قوله ويجوز أن يقدر) أي يجوز أن يحمل على حذف
المفعول لوجود القرينة المقالية أو الحالية فيكون حينئذ مقدرا لا متروكا، ولمالم يكن تقديره على الوجه الثالث ظاهرا
استشهد له بقوله (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ) (قوله لما احتج) جوابه عطف أي أثبت
الوحدانية وأبطل الشرك (وعلم الطريق إلى إثبات ذلك) وهو النظر فيما يدل عليه من الأنفس والآفاق: أعني
خلقهم وخلق الأرض والسماء وما بينهما (وعرفهم أن الإشراك مكابرة) ودفع لمقتضى العقل والمعرفة بقوله وأنتم
تعلمون على الوجه الأول وعلى سائر الوجوه أيضا، يقال كابر عقله: أي غالبه بالكبر وخالف مقتضاه عناد
(قوله وغطى) أي ألقى الغطاء عليه وأصله غطاه، والعائد إلى الموصول محذوف: أي ما أنعم به عليه أو مستتر
بحذف الجار واتصال الفعل، وقد سلك المصنف في تقرير بيان النبوة ما سلكه من التفصيل في تقرير بيان الوحدانية
فما هو الحجة في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام هو القرآن (وما يدحض الشبهة) فيه عجزهم عن الإتيان بما يوازى
أقصر سورة منه (وأراهم كيفية التعرف) إظهارا لطريق النظر في كون القرآن معجزا نازلا من عند الله، وقوله
(بإرشادهم) متعلق بأراهم، و (قوله يحزروا) أي يقدروا من حزره قدره (قوله ويذوقوا) أي يجربوا من
ذاقه جربه (قوله وأهل جلدته) أي كلهم من جلدة واحدة: أي هم قوم واحد (وهو من محازه) جمع محز من
الحز بمعنى القطع، فاللفظ أو المعنى إذا ورد في موضعه اللائق به يشبه بالسيف المستعمل في المفصل. ويقال
أصاب المحز: أي هذا المقام من المواضع التي تناسب اعتبار التدريج في النزول، واستعمال لفظ التنزيل لمكان
التحدي، وذلك أنهم كانوا يطعنون في القرآن ويرتابون فيه من حيث أنه كان مدرجا على قانون الخطابة والشعر
ويقولون: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، فقيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي نزل تدريجا فهاتوا أنتم بنجم
من نجومه وسورة من سوره فإنه أيسر عليكم من أن تنزل الجملة دفعة واحدة، ويتحدى بمجموعه فقد جعل
ما اتخذوه ريبة فادحة وسيلة إلى كونه حقا لا يحوم حول حماه شك تقوية للتحدى ودفعا لما في صدورهم من الشبهة
238

وهذه غاية الإلزام والتبكيت (قوله من عند الله) خبر كان و (مخالفا) خبر آخر و (هكذا) حال من فاعل لم
ينزل على أنه قيد للمنفى لا للنفي و (نجوما) بدل من الحال، و (سورة بعد سورة) وما عطف عليه بيانا لنجوما
و (على حسب) متعلق بمعنى نجوما: أي متفرقا منجما (على حسب النوازل) أي على قدرها وعددها (والكفاء)
مصدر بمعنى المكافأة أي وعلى مماثلة (الحوادث) وقد يستعمل بمعنى المكافى وهو الذي يساوى الشئ حتى
يكون مثلا له (وعلى سنن) عطف على حسب، و (مفرقا) حال من الموصول أعني ما يوجد والعامل فيها
المصدر و (حينا فحينا) أي موزعا على الأحيان (قوله وشيئا فشيئا) أي متفرق الأجزاء والثاني عطف على الأول
وكلاهما بيان لفرقا وقوله (حسب ما يعن) أي بقدر ما يبدو ويظهر لهم وعلى عدده وهو منصوب بنزع الخافض
وسينه مفتوحة قال الجوهري وبما يسكن في ضرورة الشعر وروى أن نسخة المصنف كانت بسكونها، قيل
وهكذا حالها في كل موضع لا يكون هناك حرف جر وقد يجعل من قبيل رجل حسبك أي محبسك وكافيك
فيكون حالا وفيه أن هذا المعنى لا يناسب المقام (قوله لا يلقى الناظم) تأكيد وتقرير لقوله من وجوده ما يوجد
منهم الخ (فقيل) عطف على كانوا يقولون (والمهل) بالتحريك التؤدة (وهات) الشئ أعطنيه وهلم زيدا أحضره
وقوله (أو آيات شتى مفتريات) إشارة إلى أن التحدي بمقدار سورة لا بخصوصها (قوله والسورة الطائفة) يريد
بذلك تفسير سورة القرآن لأن مطلق السورة قد يكون من الإنجيل كما مر ومن سائر كتب الله كما سيأتي والمراد
(بالمترجمة) المسماة الملقبة باسم مخصوص كسورة الفاتحة وسورة الإخلاص وبه خرج الآيات المتعددة من سورة
واحدة أو سور متفرقة. ونقض هذا التفسير بآية الكرسي. وأجيب بأنه مجرد إضافة لم يصل إلى حد التسمية
والتلقيب، وأراد بقوله (أقلها ثلاث آيات) أن جنس تلك الطائفة المسماة بالسورة يتفاوت قلة وكثرة في أفرادها
وغاية قلتها ثلاث آيات، وبهذا ينكشف المقصود زيادة انكشاف، فلا يرد أن هذا القيد يوجب أن لا يصدق
التفسير على شئ من السور، وبه يعلم أيضا أن تلك الآية على تقدير كونها مسماة بذلك الاسم خارجة عن السور
(قوله أن تسمى بسورة المدينة وهى حائطها) إلا أنها تجمع على سور بسكون الواو، وسورة القرآن تجمع على
سور بفتحها (كالبلد المسور) أورد عليه أن هذه المشابهة تقتضى أن تسمى تلك الطائفة مسورة: تشبيها لها بالبلد
239

المسورة لا سورة تشبيها لها بحائطها كما ذكره. وأجيب بأن السورة أطلقت على ذي السورة كما أطلق الحائط على
المحوط، ثم نقل عنه إلى الطائفة المذكورة من القرآن، فههنا نقل مترتب على مجاز، وفى الوجه الثاني نقل فقط،
وقد يقال في الأول أيضا نقل من المعنى الحقيقي الذي هو الحائط، إلا أنه لوحظ فيه: أولا التشبيه في المحاط،
فنزل الآيات والجمل التي هي من أجزاء السورة منزلة المحلات والبيوت في البلد، ولولا هذا التنزيل لم يصح هذا
التشبيه. وفى الثاني لوحظ التشبيه أولا في المحيط وهو ظاهر. ورد بأنه مخالف لما في تقرير الكتاب لأن المعتبر
فيه كون السورة محاطة: أي محدودة محوزة لا كونها محيطة بأجزائها، بل ما ذكرتم هو بعينه الوجه الثاني، إلا أنه
أبدل فيه فنون العلم وأجناس الفوائد بالآيات والجمل (وحراب) في النسخ المعول عليها بالراء المهملة وفى بعضها
بالزاي (وقد) بالدال المهملة وقد تظن بالمعجمة وهما رجلان من بنى أسد (ليس غرابها بمطار) أي هي مجد
كامل ثابت، يقال أرض لا يطير غرابها: أي مخصبة كثيرة الثمار. وقيل كناية عن رفعة الشأن: أي لا يصل إليها الغراب
حتى يطار: أي لا غراب هناك ولا إطارة، أولا تصل الإشارة إلى غرابها حتى يطار مع أنه يطير بأدنى ريبة.
ثم إن الرتبة إن جعلت حسية فلأن السور كمنازل يترقى فيها القارئ، ويقف عند بعضها أو لأنها في أنفسها منازل
منفصل بعضها من بعض متفاوتة في الطول والقصر والتوسط، وإن جعلت معنوية فلتفاوت رفعة شأنها وجلالة
محلها في الدين كل واحدة منها رتبة من تلك الرتب (قوله وإن جعلت واوها منقلبة عن الهمزة) فيه ضعف من
حيث اللفظ، إذ لم تستعمل مهموزة في السبعة ولا في الشاذة المنقولة في كتاب مشهور، وإن أشعر به كلام الأزهري
حيث قال: وأكثر القراء على ترك الهمزة في لفظ السورة، ومن حيث المعنى أيضا لأنها اسم ينبئ عن قلة وحقارة.
وأيضا استعماله فيما فضل بعد ذهاب الأكثر، ولا ذهاب ههنا إلا تقديرا باعتبار النظر إليها نفسها، قيل فهذه ستة
أوجه فتأمل (قوله واشتمل) أي الجنس على أصناف مندرجة تحت أنواعه المنطوية فيه (قوله بيانا واحدا) أي
شيئا واحدا بلا فصل وتمييز، وفى حديث عمر رضي الله عنه " لئن عشت إلى قابل لألحقن آخر الناس بأولهم حتى
يكونوا بيانا واحدا " وكأن هذه الكلمة يمانية على وزن فعلان أو فعال، والضميران في كان ومنه راجعان إلى
حال القارئ: أي كان حاله على هذا وهو الختم، ثم الأخذ أكثر تنشيطا له منه: أي من حاله لو استمر.
240

هما للقارئ: أي كان هو على تقدير الختم، ثم الأخذ أشد تنشيطا لنفسه منه على تقدير الاستمرار، أو أشد نشاطا
للأخذ في الآخر، لكن لا يلائمه إن عطف عليه (وأهز لعطفه وأبعث على الدرس) وقيل هما للختم وليس بشئ
إذ لاختم على تقدير الاستمرار. وقيل للقراءة المستفادة من القارئ، والتذكير بتأويل أن يقرأ: أي كان قراءته أنشط
له من قراءته لو استمر (والبريد) معرب بريده دم، وهو في الأصل البغل الذي كان يحذف ذنبه ويرتب في السكة
وهى الموضع الذي يسكنه الفيوج المرتبون، ثم أطلق على المسافة التي بين السكتين وهى فرسخان (قوله نفس
ذلك منه) أي فرج عنه بعض الكربة (قوله حذق السورة) أتمها وقطعها من حذق السكين الشئ قطعه (قوله جد
فينا) أي عظم في أعيننا وكون التفصيل سبب تلاحق الأشكال من حيث إنه يورد في كل منها الأمور المتلائمة
فتتلاحظ حينئذ المعاني ويتجاوب أطراف النظم وجوانبه (إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع) منها ما يتصور في
الكاتب من أمثال ما يذكر في القارئ والحافظ، ومنها أن تلك السور متخالفة المقادير فهي كأنواع من جواهر
نفيسة متفاوتة الأحجام، وفى ذلك نوع زينة يخلو عنه ما ليس كذلك (قوله والضمير لما نزلنا أو لعبدنا) فعلى
الأول تكون من بيانية لأن السورة المفروضة التي تعلق بها الأمر التعجيزي مثل المنزل في حسن النظم وغرابة الشأن
فالعجز عن الإتيان بالمثل الذي هو المأتي به، وإن جعلت تبعيضية أو همت أن للمنزل مثلا عجزوا عن الإتيان
ببعضه كأنه قيل: فأتوا ببعض ما هو مثل للمنزل، فالمماثلة المصرح بها ليست من تتمة المعجوز عنه حتى يفهم
أنها منشأ العجز وعلى الثاني تكون من ابتدائية، فإن السورة مبتدأة ناشئة من مثل العبد (قوله ويجوز أن يتعلق
بقوله فأتوا والضمير للعبد) أورد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون الضمير حينئذ لما نزلنا؟؟ أيضا كما جاز ذلك على تقدير
كون الظرف صفة للسورة. وأجيب بوجهين: الأول إن فأتوا أمر قصد به تعجيزهم باعتبار المأتي به، فلو
تعلق به قوله من مثله وكان الضمير للمنزل تبادر منه أن له مثلا محققا، وأن عجزهم إنما هو عن الإتيان بشئ
منه على قياس ما أوضحناه آنفا وهو فاسد، بخلاف ما إذا رجع الضمير إلى العبد فإن له مثلا في البشرية والعربية
241

والأمية فلا محذور. الثاني أن كلمة من على هذا التقدير ليست بيانية إذ لا مبهم هناك وأيضا هي مستقر أبدا فلا
تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية، وإلا كان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في قولك: أخذت من الدراهم، ولا معنى
لإتيان البعض، بل المقصود الإتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود من كيف وقد صرح بالمأتى به
أعني بسورة فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لأن جعل المتكلم مبدأ للإتيان بالكلام
منه معنى حسن مقبول، بخلاف جعل الكلام مبدأ للإتيان بما هو بعض منه. ألا ترى أنك إذا قلت: ائت من
زيد بشعر، كان القصد إلى معنى الابتداء: أعني ابتداء الإتيان بذلك الشعر من زيد مستحسنا فيه، بخلاف ما إذا
قلت: ائت من الدراهم بدرهم، فإنه لا يحسن فيه قصد الابتداء ولا ترتضيه فطرة سليمة. وإن فرض صحة ما قيل
في النحو من أن جميع معانيها راجعة إليه. ولا نعنى بالمبدأ الفاعل ليتوجه أن المتكلم مبدأ للكلام نفسه لا للإتيان بالكلام
منه، بل ما يعد عرفا مبدأ من حيث يعتبر أنه اتصل به أمر له امتداد حقيقة أو توهما (قوله معناه فأتوا بسورة
مما هو على صفته) الظاهر أن من هذه بيانية لتكون الممائلة صفة للمأتى به: أعني السورة لا تبعيضية كما سلف
تقريره (قوله ولا قصد إلى مثل ونظير) أي لم يقصد هناك إلى مثل محقق معين، كما يقال ائتني بفتوى من مثل
أبي حنيفة ويراد أبو يوسف، بل قصد بالمثل إما كون الصورة المأتي بها فرضا ممائلة للمنزل في غرابة البيان وعلو الشأن،
وإما كون من يأتي بها مثل محمد في كونه بشرا عربيا أو أميا لم يقرأ ولم يأخذ من العلماء ومثله صلى الله عليه وآله وسلم
فيما ذكروا إن كان موجودا محققا إلا أنه لم يقصد به واحد بعينه، بل قصد به من هو على صفته أياما كان، وإنما
جعل ما نحن فيه من قبيل قول القبعثري في أنه لم يقصد به إلى معين موصوف بأنه مثل له لا في أن لفظ مثل هناك
مقحم وكناية، إذ لا مجال لشئ منهما في الآية. أراد الحجاج بالأدهم القيد، وحمله الخارجي على الفرس الذي
في لونه سواد، ونبه على ذلك بعطف الأشهب عليه وهو الذي خالط لونه بياض، فأبرز وعيده في معرض الوعد
ويروى أنه قال: إنه لحديد، فقال لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا، فحمل الحديد أيضا على خلاف
ما أراده، فسحره بحسن الكلام حتى اختار الإنعام على الانتقام (قوله ورد الضمير إلى المنزل أوجه) لما ذكره من
الوجوه الأربعة: الأول الموافقة مع النظائر لأن المماثلة فيها صفة للمأتى به، فكذا ههنا إذا جعل الظرف صفة
للسورة والضمير عائدا إلى المنزل، ومن بيانية كما عرفت. الثاني المحافظة على حسن الترتيب: أعني ربط آخر
242

الكلام بأوله، فإن ترتب الجزاء ههنا على شرطه إنما بحسن كل الحسن إذا كان الضمير للمنزل فإنه الذي سيق له
الكلام أولا وفرض فيه الارتياب قصدا. وأما ذكر العبد فقد وقع تبعا، وصح بذلك رجوع الضمير إليه في
الجملة، ولو كان الكلام مسوقا له كما ذكره كان عود الضمير إليه أولى على عكس ما في التنزيل، وأيضا في عود
الضمير إلى العبد ترك التصريح بأن السورة المأتي بها ينبغي أن تمائل المنزل نظما وأسلوبا، مع أن ذلك هو العمدة
في التحدي. نعم يفهم هذا من مساق الكلام بمعونة المقام، ولذا قال بنحو ما أتى به هذا الواحد. الثالث المبالغة
في التحدي كما قررها. الرابع الملاءمة لقوله: وادعوا شهداءكم أما إذا أريد به دعاء الشهداء للاستعانة بهم في المعارضة
إما حقيقة كما في وجه الأخير من الوجوه الستة الآتية، وإما تهكما كما في الوجهين الأولين، فلأنه إنما يلائم الأمر
بالإتيان بسورة من مثل القرآن، لا الأمر بالإتيان بسورة من واحد عربي، إذ لا معنى للاستمداد بطائفة فيما هو
فعل واحد، كيف ولو أستعين بالشهداء في ذلك لم يكن المأتي به ما كان مطلوبا منهم. وأما إذا أريد به دعاؤهم
لشهدائهم ليشهدوا لهم بأن ما يدعونه حق كما في الوجوه الباقية، فلأن إضافة الشهداء إليهم إنما تقع موقعها إذا كان
الإتيان بالمثل منهم لا من واحد وإلا كانوا شهداء له، فحقهم أن يضافوا إليه وإن كان للإضافة إليهم وجه صحة،
وأيضا رجوع الضمير إلى العبد ربما أوهم أن دعاء الشهداء ليشهدوا بأن ذلك الواحد مثل له، لا بأن ما أتى به مثل
للمنزل، وهذا الإيهام يخل بمتانة المعنى وفخامته. ولما ترجح عود الضمير إلى المنزل بهذه الوجوه ترجح بها أيضا
كون الظرف صفة للسورة، لأنه إذا تعلق بفأتوا عاد الضمير إلى العبد وحده كما حققته. ثم الظاهر في العبارة أنه
إذا قصد إتيان مثل العبد بسورة أن يقال فليأت واحد آخر مثله بسورة، لكنه عدل إلى أمرهم بأن يأتوا من ذلك
الواحد بسورة ترغيبا لهم في طلب ذلك الواحد وحثهم إياه على ذلك وتهيئتهم له ما يحتاج إليه من أسبابه ووسائله،
وفيه من المبالغة ما ليس في أمر واحد غير معين بذلك الإتيان (قوله جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة)
في الصحاح الشهادة الخبر القاطع تقول منه: شهد الرجل على كذا وشهد له بكذا: أي أدى ما عنده من الشهادة
فهو شاهد، ويقال شهده شهودا: أي حضره فهو شاهد، والشهيد الشاهد (قوله ومعنى دون) هو في أصله
للتفاوت في الأمكنة، يقال لمن هو أنزل مكانا من الآخر: هو دون ذلك، فهو ظرف مكان مثل عند، إلا أنه
243

ينبئ عن دنو أكثر وانحطاط قليل، فأشار إلى الثاني بقوله (إذا كان أحط منه قليلا) يعنى في المكان الأول إلى
بقوله (أدنى مكان من الشئ) ونبه به أيضا على أن دون يشتمل على معنى الدنو لتوافقهما في الحروف الأصول
وإن تخالفا في ترتيبها، وليس أحدهما قلبا للآخر لاستوائهما في التصرف، وكذلك جميع ما أخذ منه يشتمل على
معنى الدنو كدون الكتب وكالدون بمعنى الحقير، فإن الدنو شاع استعماله في الحقارة. وأما الدنئ فليس مأخوذا
من شئ منهما لأنه مهموز الأصل من الدناءة، وقوله (يقال هذا دون ذاك) بيان لاستعمال دون بمعنى أدنى
مكان: أعني المعنى الحقيقي الأصلي، وقيل هو إشارة إلى أنه يستعمل في انحطاط محسوس لا يكون في ظرف كقصر
القامة مثلا فهذا أول توسع فيه ثم أستعير منه للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب المحسوسة وشاع استعماله
فيها أكثر من استعماله في الأصل ثم اتسع في هذا المستعار (فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد) وإن لم يكن هناك
تفاوت وانحطاط فهو في هذا المعنى مجاز في المرتبة الثانية على ما وجهناه وفى المرتبة الثالثة على هذا القول وبالجملة
هو بهذا المعنى قريب من أن يكون بمعنى غير كأنه أداة استثناء وقوله (واستعير) عطف على قوله ومعنى دون
أدنى مكان من الشئ أو على يقال هذا دون ذاك لا على قوله فاختصر (قوله واتسع) عطف على واستعير (قول
من قال) هو علي رضي الله عنه قاله لمن مدحه في وجهه نفاقا والمراءاة من الرياء و (الولاية) بالفتح مصدر
الولي وبالكسر مصدر الوالي (قوله يا نفس) آخره * ولا للسع بنات الدهر من راق * أراد ببناته حوادثه المتوادة
منه وقوله أي لا يتجاوزوا وإذا تجاوزت بيان لحاصل المعنى فإن دون في الموضعين ظرف مستقر وقع حالا
(قوله ومن دون الله متعلق بادعوا) ذكر وجوها ستة ففي ثلاثة منها يتعلق من دون الله بشهداءكم وفى ثلاثة
أخرى يتعلق بادعوا. أما الثلاثة الأولى ففي الأولين منها أريد بالشهداء الأصنام أي ادعوها للاستعانة بها والأمر
فيهما للتهكم بهم حيث أمروا بأن يستظهروا بالجماد في معارضة القرآن الذي أخرس بفصاحته كل منطيق؟؟ وإنما
عبر عن الأصنام بالشهداء توشيحا لمعنى التهكم بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله بمكان وأنها تنفعهم بشهادتها
لهم أنهم على الحق كأنه قيل هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوها لهذه العظيمة التي دهمتكم والفرق بينهما أن
دون على الوجه الثاني مستعمل بمعنى قدام الشئ وبين يديه مستعارا من معناه الحقيقي الذي يناسبه يعنى أدنى
مكان من الشئ وهو ظرف لغو معمول لشهداء إذ تكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى اعتماد ولا إلى تقدير
ليشهدوا أي ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله. وكلمة من ههنا تبعيضية لما سيأتي في الأعراف من أنهم
قالوا جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض
244

الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل وقد يقال كلمة من الداخلة على دون جميع مواضعها بمعنى
في كما في سائر الظروف غير المتصرفة أي التي تكون منصوبة على الظرفية أبدا ولا تنجز إلا بمن خاصة وعلى
الوجه الأول هو مستعمل بمعنى التجاوز على أنه ظرف مستقر وقع حالا والعامل فيها كما صرحت به عبارته
ما دل عليه شهداءكم أي الذين اتخذتموهم آلهة متجاوزين الله في اتخاذها كذلك وزعمتم أنهم شهداؤكم يوم القيامة
وكلمة من حينئذ للابتداء فإن الاتخاذ ابتداء من التجاوز وما توهم من أن المعنى ادعوا أصنامكم الذين
تزعمون أنهم يشهدون يوم القيامة لا الله فلا يخفى فساده وفى الوجه الثالث منها أريد بالشهداء مداره القوم
ورؤساء البلاغة أي ادعوهم ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثل القرآن وإنما قدر المضاف إلى الله تعالى على هذا الوجه
رعاية للمقابلة فإن أولياء الله يقابلون أولياء الأصنام كما أن ذكر الله يقابل ذكر الأصنام والمقصود بهذا الأمر
إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت أي تركنا إلزامكم بشهداء لا ميل لهم إلى أحد الجانبين كما هو العادة
واكتفينا بشهدائكم المعروفين بالذب عنكم في مهماتكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم وفيه أن الأمر في الأعجاز
قد بلغ من الظهور مالا يمكن معه الإخفاء، والظرف مستقر: أي الذين يشهدون لكم متجاوزين في ذلك أولياء الله
ومن ابتدائية ومحصله شهداء مغايرين أولياءه (قوله وتعليقه بالدعاء في هذا الوجه) أي إذا حمل الشهداء على المداره
وقدر ذلك المضاف جاز أن يكون من دون الله متعلقا بادعوا، وهذا هو الوجه الأول من الثلاثة الأخيرة. والمعنى
ادعوا أولياءكم متجاوزين في الدعاء أولياء الله فإنهم لا يشهدون لكم، وإن شهدوا عليكم لربما خالجت صدوركم
ريبة، فالظرف مستقر ومن للابتداء والأمر للإرجاء، وإنما لم يجوز تعلقه بالدعاء في الوجهين الأولين لفساد
المعنى فإن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما، ولو قيل ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به
فإنه القادر عليه، لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان ليبين العجز، فإن إخراج الله عن الدعاء لا مدخل له في
التهكم أصلا. وكذا لا معنى لأن يقال: أدعوها بين يدي الله: أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي هي
في الدنيا، ولم يجوز أيضا كون الشهيد بمعنى الحاضر إذا كان الجار والمجرور متعلقا بالشهداء. أما على الثاني
فإذ لا معنى لقولك ادعوا من يحضركم بين يدي الله. وأما على الأول والثالث فلأنه تعالى والمؤمنين حاضرون فلا يصح
إخراجهم عن حكم الحضور (قوله وإن علقته بالدعاء) هذا هو الوجه الثاني من الثلاثة الأخيرة (أي ادعوا
شهداءكم) من الناس فصححوا بهم دعواكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء: أي لاتدعوه ولا تستشهدوا به: أي
245

لا تقتصروا على أن تقولوا (الله يشهد بأنا صادقون) فيما ادعيناه (كما يقوله العاجر عن إقامة البينة) والأمر حينئذ
لبيان انقطاعهم بالكلية، وأنه لم يبق لهم متشبث سوى الاستشهاد به تعالى (قوله أو ادعوا) هذا هو الوجه السادس
والأرجح الذي يشهد له قوله تعالى - قل لئن اجتمعت الإنس والجن - الآية: أي ادعوا كل من يحضركم إلا الله
لأنه القادر عليه، والأمر فيه لتعجيزهم وإرشادهم إلى ما يستيقنون به معجزتهم بلا ريبة، ومن في هذين الوجهين
ابتدائية أيضا (قوله تريك القذى) آخره * إذا ذاقها من ذاقها يتمطق * يصف الزجاجة بغاية الصفاء وأنها تريك
القذى قدامها، والحال أنها قدام القذى، والضمير في ذاقها لها باعتبار باقيها على قياس قولك شربت كأسا، يقال
ذاق فتمطق: أي صم شفتيه وألصق لسانه بالحنك الأعلى مع صوت، والمداره جمع مدره وهو لسان القوم والمتكلم
عنهم، واصله مدرأ، لأنه لفصاحته يدرأ الخصم، والمشاهد مواضع الحضور جمع مشهد، وناقلته الحديث إذا
حدثته وحدثك، وناقل الشاعر الشاعر. إذا ناقضه، والأنفة الاستنكاف. انخزل الشئ انقطع. وقوله وهو
بينكم وبين أعناق رواحلكم مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام من حديث طويل " والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم
من عنق راحلته " وهو مثل في القرب (قوله لما أرشدهم إلى الجهة) أي إلى الطريقة (التي منها يتعرفون) أي
يتطلبون المعرفة حتى يصلوا إليها (قوله وما جاء به) عطف على النبي من قبيل أعجبني زيد وكرمه: أي يتعرفون
أمر ما جاء به (قوله وامتياز حقه من باطله) أي امتياز كونه حقا من كونه باطلا. وقيل المراد بباطله الباطل الذي
ينسبه إليه الكفرة من كونه شاعرا أو ساحرا أو مجنونا، فلا يرد أن أمره فيما جاء به حق كله. فلا معنى لباطله:
والصحيح أن قوله قال لهم الخ، بيان لمآل المعنى وتنبيه على أن فاتقوا النار كما سيصرح به كناية عن التصديق وترك
العناد، وقد يتوهم أن مراده أن الله سبحانه رتب على ذلك الإرشاد تكميلا له شرطيتين: إحداهما محذوفة الجزاء،
والأخرى محذوفة الشرط. فقوله فإذا لم تعارضوه إلى قوله معجوز عنه إشارة إلى معنى قوله فإن لم تفعلوا، وقوله
فقد صرح الحق عن محضه: أي انكشف عن خالصه جواب لهذا الشرط محذوف، وقوله فآمنوا وخافوا إشارة
إلى معنى قوله فاتقوا، وهو جزاء لشرط مقدر: أي وإذا صرح عن محضه فآمنوا، وقد أظهر معنى هذا المقدر
حيث قال: وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار، وليس بشئ لأن فاتقوا جواب،
فإن لم تفعلوا كما دل عليه قوله فيما بعد ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله، وفى قوله فإذا
246

لم تعارضوه، وما عطف عليه إيماء إلى أن كلمة إن في الآية وقعت موقع إذا لما سيجئ، وأنها للاستمرار دون
مجرد الاستقبال (وفيه) أي في قوله - فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا - دليلان على إثبات النبوة صحة كون المتحدى به معجزا
والإخبار اعتراض على الأول بأن عجز طائفة مخصوصة لا يدل على إعجازه. وأجيب بأن تلك الطائفة مع تكاثر عددهم
وتهالكهم على المغالبة كانوا في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة، فلما عجزوا عن ذلك علم عادة أنه معجوز عنه أبد
الدهر، إذ لا يتصور زيادة على ما كانوا عليه من عدد المعارضة وأسبابها. وعلى الثاني بأن صدق الإخبار إنما يعلم
بعد انقراض الأعصار كلهم. وأجيب بأنه خطاب مشافهة فيختص بالموجودين، فإذا انقرضوا ولم يفعلوا تبين
صدقه وكان معجزة، وكذا قبل انقراضهم للقطع بأن قدرتهم لا تزيد بعد ذلك الزمان الذي تحدوا فيه (قوله على
حسب حسبانهم) حيث قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وقوله (وإن العجز) عطف على حسبانهم، وإنما جعل
العجز مشبها بما يشك فيه لا مشكوكا فيه لأن قوله فإن لم تفعلوا ورد عقيب وإن كنتم في ريب قبل أن يتأملوا في
حالهم أيقدرون على مثله أم لا، فلا يكون هناك شك حقيقة، إذ لا يتصور حصوله إلا بعد حضور طرفي
النسبة والتأمل فيها، لكنهم لما كانوا متكلين على فصاحتهم واقتدارهم على أفانين الكلام كان عجزهم بالقياس إلى
ظاهر حالهم كالمشكوك فيه لديهم، وفى ذلك رمز إلى أنهم لو تأملوا لم يشكوا فيه بل قطعوا به (قوله يقاويه) أي
يغالبه في القوة. يقال أبقى عليه: إذا رحمه وهى البقيا والبقوى، وقوله تهكما به تعليل ليقول والضمير لمن يقاويه،
وتوجيه التهكم أنه أبرزه في معرض من يشك هو في الغلبة عليه مع ظهور بطلانه فقد وصفه بالقوة استهزاء به
(قوله لم عبر) فيه سؤالان: أي لماذا يصح أن يعبر عن الإتيان بالفعل:، وأي فائدة في ترك لفظه إلى لفظ الفعل
والجواب أن وجه الصحة هو أن الإتيان فعل من الأفعال: وأن الفائدة إيجاز القصر حيث وقع الفعل وحده
موقع الإتيان مع ما يتعلق به كما صوره. وأما قوله جار مجرى الكناية، فقد قيل أراد بالكناية الضمير، فإنه يسمى
بها لخفاء في دلالته على ما أريد به. ومعنى جريانه مجراها: أنه إذا ذكر شئ أولا ثم أريد إعادته فحقه أن يعبر
عنه بالضمير الذي مبناه على الاختصار ودفع التكرار، لكن التعبير عن الشئ بالضمير مختص بالأسماء، فلما
قصد ههنا إعادة فعل مخصوص عبر عنه بالفعل الذي أفاد الاختصار ودفع التكرار فهو في الأفعال بمنزلة الضمير
247

في الأسماء وقيل أراد بها ما يقابل المجاز في علم البيان إذ قد أطلق ههنا اللازم أعني الفعل وأريد به الملزوم
أعني الإتيان بالسورة وأورد عليه أنه حينئذ كناية لا جار مجراها، واعتذر بأن الملازمة ليست متساوية لأن الفعل
أعم مطلقا وحصول الانتقال منه بمعونة المقام فلذلك حكم بجريانه مجراها وفيه أنه لا يقدح في كونه كناية حقيقة
كما إذا جعل الفعل مطلقا كناية عنه مقيدا بمفعول مخصوص وأيضا قوله يغنيك عن طول المكنى عنه يؤيد الوجه
الأول إذ ليس مبنى هذه الكناية على الوجازة إلا أن يقال المراد بها المعنيان معا ثم إنه أوضح وجود الاختصار
فيما إذا ذكر أفعال متعددة مقيدة بكيفيات وقيود مخصوصة وعقبه بإيضاحه فيما نحن فيه فإن قيل جاز أن
يحذف متعلق الإتيان إذ يجعل هو مطلقا كناية عنه مقيدا بما تعلق به فلا استطالة ودفع الأول بأن إيجاز القصر
أبلغ والثاني بأن الاحتراز عن التكرار أولى (قوله ما أثبته عنه) أي جعلته نائبا عنه مأخوذ من ناب منابه: أي قام
مقامه وفى الأساس أنبته منابى واستنبته والمشهور في كتب اللغة أناب إليه بمعنى أقبل عليه والجملة الاعتراضية
لا محل لها من الإعراب لعدم وقوعها موقع ما تستحقه من المفردات والواو الداخلة عليها تسمى واو اعتراضية
ليست حالية ولا عاطفة وقد تدخل عليها فاء اعتراضية أيضا (قوله فإن أنكر) أي أنكر عليك إخبارك بعدم
الإقامة وادعى أنك كاذب فيه، فلن لدفع الإنكار وفى قوله (كما تفعل في أنا مقيم وإني مقيم) دلالة على أن
الثاني كلام مع المنكر لا السائل كما توهم وإن جاز استعماله معه (قوله لا أن) فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال
وسقطت الألف للساكنين وقد استعمل نادرا كما في قوله:
يرجى المرء ما لا أن يلاقى * وتعرض دون أقربه خطوب
(مقتضب) أي مرتجل غير مأخوذ من شئ (قوله من أين لك) أي من أين علمت أن القرآن لم يعارض حتى تعلم
أن قوله ولن تفعلوا (إخبار بالغيب على ما هو به فيكون معجرة) ولا يخفى أن ورود هذا السؤال على إعجاز
القرآن أظهر. والجواب أنه لو عورض بشئ لم يمتنع أي لم ينتف (أن يتواصفه الناس) بل وجب ذلك لتوفر
الداوعى فحين لم ينقل علم بعد انقراض عصر المخاطبين ثبوت الإعجاز وصحة الإخبار به وقد سبق منا تتمة
الكلام في العلم بهما قبل انقراضه أيضا فتذكر (قوله ما معنى اشتراطه) وجه ذلك بأن اتقاء النار واجب مطلقا
248

لا يتوقف على شرط ولا يتقيد بأمر، فما معنى تعليقه بانتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ وقد يوجه بأن الشرط حقه أن
يكون سببا للجزاء وملزوما له، وليس عدم الإتيان بما ذكر سببا للاتقاء ولا ملزوما له، فكيف صح وقوعه
جزاء له؟ وتقرير الجواب أن اتقاء النار ههنا وقع كناية عن ترك العناد وإنكار النبوة، ولا خفاء في كونه مشروطا
بعدم الإتيان بالسورة واستبانة العجز عنه وكونه مسببا ولازما له. وقوله إنهم إذا لم يأتوا إلى ساقته ليس إشارة
كما يتوهم إلى أن هناك شرطيتين على ما مر تقريرهما، كيف وسبب السبب سبب يربط به المسبب بلا حذف
وإضمار، بل هو بيان لحاصل المعنى وإظهار لوجه الارتباط والسببية، يرشدك إلى ذلك قوله فقيل لهم إن استبنتم العجز
فاتركوا العناد (قوله من حيث إنه) أي ترك العناد (من نتائجه) أي نتائج اتقاء النار ولوازمه. وقد أورد عليه
أنه إذا كان ترك العناد لازما كان إطلاق الاتقاء عليه تعبيرا بالملزوم عن اللازم، فيكون مجازا لا كناية لابتنائها على
عكس ذلك كما صرح به في المفتاح؟ وأجيب بأن معيار الفرق بينهما عند المصنف منافاة إرادة المعنى الحقيقي
وعدمها كما ستعرفه في مواضع من كتابه هذا، وما اختاره السكاكي ممالا معول عليه. ألا ترى أنه قد اضطر إلى
أن المجاز قد يكون بإطلاق اللازم على الملزوم كما في: أمطرت السماء نباتا: أي غيثا، وقد يكون بإطلاق الملزوم
على اللازم نحو: رعينا الغيث، لكنه ادعى أن ذلك إنما يكون في اللازم المساوى فيرجع بالآخرة إلى إطلاق الملزوم
على اللازم، وهذا مع كونه تكلفا مستغنى عنه جار في الكناية، إذ لا يتصور الانتقال من اللازم الأعم مالم يصر
مساويا ولو بقرينة حالية فيعود ملزوما. وبالجملة لابد أن يكون المعنى الأصلي فيهما بحيث ينتقل منه الذهن إلى معنى
المراد، فيكون الانتقال في كل منهما بهذا الاعتبار من الملزوم إلى لازمه في الذهن ولو بحسب القرائن كما ذكره
بعضهم، إلا أنهم لما أرادوا باللازم ههنا ما هو تابع لغيره ورديف له، ولذلك عبر عنه العلامة باللصيق والضميم،
وبالملزوم ما هو متبوع ومردوف، وكان أكثر الانتقالات من الروادف على طريقة الكناية اختير في المفتاح ذلك
التعسف الذي لا طائل تحته (وهو) أي وضع " فاتقوا النار " موضع فاتركوا العناد (من باب الكناية التي هي شعبة
من شعب البلاغة) أي فن من فنونها وأبلغ من التصريح كما بين في موضعه، فهذه فائدة عامة (وفائدته) الخاصة
(الإيجاز) فقيل من حيث أن تلك الوسائط التي صرح بها في توجيه ارتباط الجزاء بالشرط مرادة بحسب المعنى
249

وإن لم تكن مقدرة في العبارة كما عرفته. ويرد عليه أنه لو قيل فاتركوا العناد لكانت تلك الوسائط مرادة أيضا،
فلا إيجاز بسبب الكناية. وقيل من حيث إنه أريد بهذه الكناية مجموع المعنيين: أعني اتقاء النار وترك العناد معا،
يشمل الإيجاز حينئذ كل كناية أريد بها معنياها جميعا (قوله وتهويل شأن العناد) هذه فائدة أخرى خاصة، فإنه
إذا أنيب اتقاء النار مناب ترك العناد وأبرز ترك العناد في صورة اتقاء النار ففي ذلك تهويل لشأنه وتخويف تام منه
فالضمير في منابه وإبرازه لترك العناد وفى صورته لاتقاء النار وفى عبارة الكتاب اختصار (قوله مشيعا ذلك) أي
لما هول شأن العناد بما ذكر شيع ذلك التهويل بتهويل صفة النار بأن وقود الناس والحجارة تربية لما قصد من
التخويف والزجر عن العناد (قوله ثم قال) أي سيبويه (والوقود) بالضم في المصدر (أكثر) منه بالفتح وأما
الحطب فبالفتح وحده ونظيره الطهور والوضوء. وقراءة عيسى بن عمر بالضم تحتمل وجهين: أن يكون المصدر
مستعملا بمعنى المفعول مجازا لغويا، فأريد بالوقود ما يتوقد به كما يراد بفخر قومه ما يفتخرون به (ويزين بلده)
ما يتزين به بلده وأن يكون على حقيقته والمجاز في إسناد الناس وحمله عليه (كما في قولك حياة الصباح السليط)
أي الزيت الجيد، فقد جعلت السليط الذي به قوام حياته عينها ومحمولا عليها، وإنما قال (فكأن نفس السليط
حياته) مع أن السليط وقع في تلك العبارة خبرا عن الحياة بناء على أنه الذي وقع التصرف فيه حيث لم يقل بالسليط
فكان بيان حاله أهم. وأما قوله: أي ليست حياته إلا به فإشارة إلى نكتة جعل قوام الشئ نفس ذلك الشئ،
لا إلى الاختصاص المستفاد من التركيب على هذا التقدير ليتجه أن الوجه الآخر بل القراءة المشهورة أيضا تدل على
الاختصاص كما سيومى إليه بقوله (لا تتقد إلا بالناس والحجارة) وذكر في سورة التحريم. وقرئ " وقودها " بالضم
أي ذو وقودها. وقال الشيخ عبد القاهر في قولها * فإنما هي إقبال وإدبار * لا مجاز في شئ من الطرفين وإنما المجاز
في الإسناد حيث جعلت كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار. ولو حمل على أن المراد ذات إقبال وإدبار لكان كلاما
عاميا مرذولا، ولقلة هذا النوع من الإسناد المجازى وخفائه تحير جماعة في الفرق بين الوجهين فقالوا: الفرق
بأن الثاني يفيد الحصر دون الأول أو بان الوقود في الأول جعل نفس الناس والحجارة، وفى الثاني مغايرا لهما
حاصلا وكلاهما ظاهر البطلان (قوله أو سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم) اعترض عليه أولا بأن السماع منه
عليه الصلاة والسلام، وكذا سماع الآية التي في سورة التحريم لا يفيدهم العلم إذا لا يعتقدون الحقية. وأجيب بأن إدراكهم
الحاصل بالسماع كاف في ذلك، ولا حاجة إلى أن يجزموا به. وثانيا بأن الصفة كالصلة يجب أن تكون معلومة
250

الانتساب إلى الموصوف، ومن ثم اشتهر أن الصفات قبل العلم بها أخبار، والأخبار بعد العلم بها صفات، فيعود
السؤال بعينه في قوله " نارا وقودها الناس والحجارة ". وأجيب بأن الصلة والصفة يجب كونهما معلومين للمخاطب
لا لكل سامع، وما في التحريم خطاب للمؤمنين، وهم قد علموا ذلك بسماعهم من النبي صلى الله عليه وعلى
آله، ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه نارا موصوفة بتلك الجملة فجعلت صلة فيما خوطبوا به (قوله
فلم جاءت) يعنى أن (النار) في الآيتين متحدة (ومتصفة بهذه الجملة) كما علم من كلامك، فلم اختلف حالها
فيهما تنكيرا وتعريفا؟ أجاب بأن تلك الآية التي في التحريم (نزلت بمكة) فعرف الكفار منها نارا منكرة (موصوفة
بهذه الصفة ثم نزلت هذه) الآية التي في البقرة مشتملة على ذكرها معرفة لكونها معهودة (مشارا بها إلى ما عرفوه
أولا) ويرد عليه أن سورة التحريم مدنية اتفاقا، وأيضا قد صحح الإسناد الدال على أن هذه الآية مكية وتلك
مدنية على عكس ما ذكر ههنا، وأيضا انتساب تلك الجملة إلى المنكر إذا كان على ما مر معلوما للمخاطبين:
أعني المؤمنين لسماعهم منه عليه الصلاة والسلام كان ذلك المنكر معهودا باعتبار هذا الانتساب فحقه أن يعرف. ويجاب
عن الأول بأن تلك الآية وحدها من التحريم جاز أن تكون مكية، وتصريحه بذلك يدل على عدم الاتفاق على
كون جميع آيات تلك السورة نازلة بالمدينة وفيه بعد. وعن الثاني بأنه صحح إسناد ذلك القول إلى علقمة ولم يتخذه
مذهبا لنفسه. وعن الثالث بالتعين إرادة التهويل بالتنكير والإشارة إلى الحضور في الأذهان بالتعريف لكنه
لا يطابق كلامه، ولعله لا يشترط العلم في صفات النكرات حتى يلزم كونها معهودة. وتحقيقه أنك إذا قلت؟
جاءني رجل عالم، فقد قيدت أولا مفهوم الرجل بمفهوم العالم، وقصدت ثانيا بهذا المقيد إلى فرد لا بعينه من الأفراد،
التي يصدق هو عليها، وإذا قلت جاءني الرجل العالم فقد أردت بلفظ الرجل فردا معينا باعتبار ما من أفراده،
وأوردت العالم تمييزا له عن معين آخر، وهذا معنى ما قيل من أن الوصف في النكرة للتخصيص وفى المعرفة للتمييز
فليس المنكر الموصوف معهودا باعتبار انتساب صفته إليه بخلاف المعرف الموصوف، فتأمل والله الموفق (قوله
ما معنى وقودها الناس والحجارة) أي ما المقصود من وصف النار بهذه الجملة (قوله لا تتقد إلا بالناس والحجارة)
استفاد هذا الحصر من أن المضاف قد يقصد به الجنس وقد يقصد به العهد كالمعرف باللام كما سيأتي في الكتاب،
فإذا قصد به الجنس كما في " وقودها الناس " أفاد حصر الجنس في الجزء الآخر مقدما كان أو مؤخرا، على طريقة
قولك: المنطلق زيد وزيد المنطلق، فإن المناسب قصر العام على الخاص، ومن ذلك قولك: الناس العلماء، والعلماء
الناس، فإن المقصود منهما حصر الناس من العلماء، وإذا لم يظهر جنسية أحد الطرفين هناك، فإن تعين أحد
251

الحصرين باقتضاء المقام حمل عليه وإلا روعي التقديم فكان المقدم محصورا فيما تأخر عنه كما في قولك: العلماء الخاشعون
والخاشعون العلماء (قوله وشدة ذكائها) أي توقدها واشتعالها، والذي ذكره الجوهري والأزهرى هو المقصود،
يقال ذكت النار تذكو ذكا: أي اشتعلت، وقد وقع في نسخ الأساس بالمد، فإن صح فقد بطل قول المطرزي
صوابه ذكاها مقصورا (قوله يدل على ذلك) أي يدل على أن نار الجحيم نيران شتى (تنكير النار) في الآيتين،
لأن من المعلوم أن المتوعد بها نار الجحيم، وقد نكرت فيهما موصوفة بصفتين متخالفتين، فدل هذا أعني تنكيرها
مع اختلاف الصفة بظاهره على تنوعها وامتياز بعضها عن بعض وإن احتمل أن يكون ذلك للتهويل أو امتيازها
عن نيران الدنيا. والأولى في الاستدلال على تنوعها أن يقال: إن قوله تعالى - لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب
وتولى - دل على اختصاصها بالكافر المعاند، فلا بد أن يكون لسائر الكفرة والفساق نار أخرى (قوله بمكانهم)
أي منزلتهم، وقيل لفظ مكان مقحم (قوله وإغراقا في تحسيرهم) هو في نسخ الرواية بالحاء المهملة من الحسرة،
وفى بعض النسخ بالمعجمة من الخسار، يقال أغرق الرامي النزع: إذا بالغ فيه، وأغرق الكأس: أي ملأها.
ومنه الاعتراف في القول، وهو المبالغة فيه (قوله وتخصيص بغير دليل) أراد بالتخصيص تقييد المطلق إذ لا عموم
في الحجارة ههنا بل أريد بها الجنس. وقد دلت الآية الأخرى على أن الوقود والحجارة ههنا الأصنام، فلذلك
حكم بأن هذا المعنى هو الصحيح الواقع المشهود له بمعانى التنزيل، وقد ذكر في سورة التحريم هذا القول مرويا
عن ابن عباس ولم يعقبه برد كأنه اكتى بما أورد ههنا، وكم له من نظائر في هذا الكتاب، وقوله (أعدت للكافرين)
قيل هذه الجملة صلة بعد صلة بلا عاطف بينهما على قياس ما يقع في الأخبار والصفات، وقيل عطف بترك
العاطف كما سيأتيك ذكره في الكشاف، وقيل استئناف، وهو وإن لم يحسن ههنا موقعه لكن يؤيده أن عطف
252

عليه " وبشر " على لفظ المبنى للمفعول (قوله فلما ذكر الكفار و أعمالهم) هي اتخاذ الأنداد والارتياب في المنزل وما
يتبع ذلك من المفاسد، والضمير البارز في (قفاه) لذكر الكفار، وفى قوله (جمعوا بين التصديق و الأعمال الصالحة)
إشارة إلى أن المراد بالإيمان في نظم الآية مجرد التصديق لا ما سبق ذكره من المعنى الشرعي الذي به النجاة ليظهر
حينئذ العطف المشعر بكون العمل غير داخل فيه، وقد أدرج ترك المعاصي في الأعمال الصالحة. وفيه تكلف،
والضمير في حموها للتصديق، والأعمال والإحباط بالكبائر إشارة إلى مذهبه، وقوله (بالثواب) متعلق بالبشارة
(قوله وهذا الوجه أحسن) لكونه مجازا (و أجزل لكونه يؤذن) بما ذكره، وقد يجعل هذا المذكورين تعليلا للأمر
معا (قوله محقوق الخ) يقال حققت بأن تفعل كذا وأنت محقوق به: أي جعلت حقيقا به، وهو من باب فعلته
ففعل بالضم على قياس قولك قبح وقبحه الله. قال في الأساس: أنت حقيق بكذا من حقق بالضم مقدرا، كما
أن فقيرا من فقر وشديدا من شدد مقدرين، وليس حقيق فعيلا بمعنى مفعول إذ يقال هذه امرأة حقيقة بالحضانة
(قوله إنما المعتمد بالعطف هو جملة) العطف قد يكون بين المفردات وما في حكمها من الجمل التي لها محل من الإعراب
وقد يكون بين الجمل التي لا محل لها، وقد يكون كما مر بين قصتين بأن يعطف مجموع جمل متعددة مسوقة لمقصود
على مجموع جمل أخرى مسوقة لمقصود آخر، فيعتبر حينئذ التناسب بين القصتين دون آحاد الجمل الواقعة فيهما،
ونظير ذلك في المفردات ما قيل من أن الواو المتوسطة في قوله تعالى - هو الأول والآخر والظاهر والباطن -
ليست كالمتقدمة والمتأخرة، إذ هي لعطف مجموع الصفتين الآخرتين المتقابلين على مجموع الصفتين الأوليين
المتقابلتين، ولو اعتبر عطف الظاهر وحده على إحدى السابقتين لم يكن هناك تناسب. ثم إن السكاكي لم يتعرض
في كتابه لعطف القصة على القصة أصلا، فالجامدون على كلامه تحيروا في هذا المقام وزعموا أن ما ذكر أولا
في الكشاف من قبيل عطف الجملة على الجملة الأخرى، فلا بد من تضمين الخبر معنى الطلب أو بالعكس،
وما ذكر فيه ثانيا من عطف المفرد على المفرد وهو عطف الفعل وحده على الفعل وحده، وعبارة العلامة صريحة
في أن المعطوف ههنا مجموع وصف ثواب المؤمنين كما فصل في قوله " وبشر " إلى " خالدون " وقد عطف على مجموع
وصف عقاب الكافرين كما فصل في قوله تعالى - وإن كنتم في ريب إلى - أعدت للكافرين - فلا حاجة حينئذ
253

في صحة العطف إلى جملة إنشائية سابقة، ولو كان المعطوف الأمر: يعنى الجملة الأمرية التي هي " بشر " لاحتيج إلى
أن يطلب ما يشاكله من أمر أو نهى حتى يصح عطفه عليه، وأما توهم العطف بين الفعلين وحدهما فلا مساغ له
فيما نحن فيه أصلا، وهذا وجه وجيه لا غبار عليه وإنما الاشتباه في المثال، فإن قولك (زيد يعاقب بالقيد والإرهاق)
مشتمل على جملتين كبرى وصغرى وقولك (وبشر عمرا بالعفو والإطلاق) جملة واحدة، فليس ههنا قضيتان
عطف إحداهما على الأخرى، بل جملة واحدة عطفت في الظاهر على ما ليس يصح عطفها عليه من إحدى الأولتين.
والجواب أنه أشار بما ذكره إلى قضيتين متقابلتين فكأنه قال: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق فما أسوأ حاله وما
أخسره فقد ابتلى ببلية كبرى وأحاطت به سيئاته إلى غير ذلك مما يناسبه وبشر عمرا بالعفو والإطلاق فما أحسن
حاله وما أنجاه وأريحه إلى أشياء أخر تليق بتلك البشارة يقال أرهقه عسرا إذا أصابه به وغشاه وفى قوله
(ولك أن تقول هو معطوف) إشارة إلى أن فيه ضعفا وذلك من وجهين أحدهما أن " فاتقوا " جواب للشرط فإن
عطف بشر عليه كان التقدير فإن لم تفعلوا فبشر الذين آمنوا ولا ارتباط بينهما واعتذر عنه تارة بأن تبشير
المصدقين كإنذار المنكرين مترتب على عدم معارضة الكفرة إذ حينئذ يثبت كون القرآن معجزا ويتحقق صدق
النبي صلى الله عليه وآله فيكون تصديقه سببا للبشارة ونيل الثواب كما أن إنكاره سبب للإنذار وإصابة للعقاب
وأخرى بأن مآل المعنى فاتقوا النار واتقوا ما يغيظكم من حسن حال أعدائكم فأقيم وبشر مقامه تنبيها على أنه
مقصود في نفسه أيضا لا لمجرد غيظهم فقط وهذا القدر من الربط المعنوي كاف في عطفه على ذلك الجزاء وإن لم
يكف في جعله جزاء ابتداء والثاني أن عطف الأمر لمخاطب على الأمر لمخاطب آخر إنما؟؟ يحسن إذا صرح بالنداء
كما في المثال الذي أورده وأما بدون التصريح به فقد منعه النحاة ولهذين الإشكالين اختير في المفتاح أنه عطف
على قل مقدرا قيل يا أيها الناس أي قل كذا وكذا وبشر المؤمنين ويرد عليه أن قوله وإن كنتم في ريب مما
نزلنا على عبدنا - لا يصلح أن يكون مقولا للنبي صلى الله على وسلم وآله إلا أن يتعسف ويقال أجرى ذلك على
طريقة كلام الآمر وقصد به أن يذكره عليه الصلاة والسلام بعبارة نفسه كأن يقول وإن كنتم في ريب مما نزله الله
واختار صاحب الإيضاح أنه عطف على مقدر بعد أعدت أي فأنذر الذين كفروا بتلك النار وبشر الذين آمنوا،
وهو نظير ما ذكره المصنف في - واهجرنى مليا - أي فاحذرنى واهجرنى، وهذا أحسن ما قيل ههنا بعد ما عول
عليه في الكتاب (قوله عطفا على أعدت) كأنه قال أعدت النار للكفار، وأعدت الجنة للمؤمنين الأخيار
وقوله (فرادى) إشارة إلى أنهم لو بشروه ما عتقوا كلهم (قوله لأنهم جميعا أخبروه) وذلك لأن الإخبار في
المتعارف أن تذكر الجملة الخبرية ويراد بها معناها سواء أفادت العلم أولا وإن كان في أصل اللغة بمعنى الإعلام
254

(قوله فمن العكس في الكلام) أي من قبيل استعارة أحد الضدين للآخر تهكما واستهزاء قوله (الزائد في غيظ
المستهزإ به) مأخوذ من زاد المتعدى إذ يقال زاد في ماله بمعنى زاد شيئا فيه قال بشر بن أبي خازم الأسدي:
غضبت تميم أن يقتل عامر * يوم النسار فأعتبوا؟؟ بالصيلم
والنسار بكسر النون ماء لبنى عامر كان عنده وقعة لبنى أسد على عامر أي غضبت تميم من قتل بنى عامر
في ذلك الموضع فأعتبوا أي أزيل عتبهم بالصيلم أي السيف القاطع من الصلم وهو القطع مع استئصال
ومنه سميت الداهية صيلما (قوله في جريها مجرى الاسم) حيث تستعمل بلا قصد إلى موصوف و (تأتيني) خبر
تنفك وبظهر الغيب متعلق به أي تأتيني متلبسة بالغيب فأقحم الظهر مبالغة فيه حيث جعل له ظهر يستند
إليه ويتقوى به لما خلق النعمان بن المنذر على أوس بن حارثة بن لأم الطائي طائفة من سادات العرب وضمنوا
للحطيئة مائة بعير ليهجوه فقال: كيف أهجوا شخصا منه كل ما في بيتي حتى شسع نعلى وأنشأ كيف الهجاء (قوله
والصالحات كل ما استقام) أي صلح لترتب الثواب عليه والمراد تفسير جمع الصالحات بمجموع المستقيم الصالح
لما ذكر ومن ثمة عطف الكتاب والسنة على العقل بالواو لأن مجموعها دليل المجموع (إذا دخلت على المفرد)
يعنى أن المفرد المحلى بلام الجنس مطلق (يصلح أن يراد به الجنس إلى أن يحاط به) أي يراد كل واحد منه بحيث
لا يخرج عنه شئ من آحاده (وأن يراد به بعضه إلى الواحد) لأن معناه الأصلي أعني الجنسية المطلقة باق مع
إرادته وكذلك الجمع المعرف بها مطلق صالح لأن يراد به جميع الجنس أي كل واحد من أفراده (وأن يراد به
بعضه) لكن (لا إلى الواحد) إذ لا يبقى مع إرادته معناه الأصلي أعني الجنسية مع الجمعية وفى كلامه دلالة
ظاهرة على جواز إرادة البعض إلى الاثنين لبقاء معنى الجمعية حينئذ على مذهبه فمراده (بجمل الجنس) ما فيه تعدد
وقد يقال أراد بجمله الثلاثة وما فوقها كما هو المشهور فيكون قوله لا إلى الواحد رعاية للمقابلة مع ما ذكره في المفرد
ثم إن الاستغراق في المفرد إنما هو بتناول كل واحد من أفراده فالحكم المنسوب إليه يكون منسوبا إلى كل واحد منها
وأما الجمع فعلى قياسه على المفرد ينبغي أن يكون استغراقه بتناوله كل جماعة لأنها آحاد مدلوله ومن ههنا يقال
الكتاب أكثر من الكتب، والملك أكثر من الملائكة كما يجئ فإذا نسب إليه حكم كان منسوبا إلى كل جمع جمع،
فإن اقتضى ذلك ثبوته لكل فرد فرد حمل عليه كقولك جاءني الرجال وإلا فلا كقوله: وهن العظام ويرد عليه
255

اعتبار التكرار في مفهومه بتداخل مراتب الجموع بعضها في بعض وأن لا يصح استثناء فرد أو فردين منه في
الحكم الثاني والصواب كما دل عليه عبارة الكتاب أن استغراقه كاستغراق المفرد في تناول كل واحد واحد وإن
شئت الإحاطة بتفاصيل الكلام في هذا المقام فعليك بالمصباح في شرح المفتاح (قوله فما المراد) يريد قد ذكرت
أن الجمع المعرف باللام يصلح أن يراد به الجنس كله وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد، فما المراد بالصالحات
إذ لا يجوز أن يراد بها جنس الجمع مطلقا وإلا كفى الأقل وهو ثلاثة من الأعمال أو اثنان منها، ولا أن يراد الجنس
كله إذ يمتنع أن يأتي بذلك كل أحد، وإن قصد التوزيع عاد المحذور، وهو أن يكفي من كل أحد ثلاثة أعمال
أو اثنان، بل أقل بناء على انقسام الآحاد على الآحاد. والجواب أن ليس المراد الأقل ولا الكل على ما ذكر بل
ما بينهما: أعني جميع ما يجب على كل مكلف بالنظر إلى حاله، فيختلف باختلاف أحوال المكلفين من الغنى
والفقر والإقامة والسفر والصحة والمرض إلى غير ذلك، فيجب الزكاة والحج أو إتمام الصلاة أو تنجيز الصوم
على واحد دون اخر، فمعنى قوله عملوا الصالحات أن كل واحد عمل جميع ما يجب عليه من الأعمال على حسب
حاله، وفى ذلك شائبة توزيع، والقرينة على قصد هذا المعنى اختلاف أحوالهم في التكليف، وقوله (الصحيحة
المستقيمة) إشارة إلى معنى الصالحة (والمواجب) جميع موجب بفتح الميم وكسر الجيم، وهو موضع الوجوب،
والإضافة إلى التكليف للملابسة إذا أريد مواضع لزوم التكليف، قال زهير:
كأن عيني في غربى مقتلة * من النواضح (تسقى جنة سحقا)
بالغ في تذراف الدموع من عينيه حيث اختار الغرب وهى الدلو العظيمة وثناها تنبيها على دوام الانسكاب لتعاقبهما
في المجئ والذهاب، إذ لا يزال يصب واحدة ويرس أخرى، وذكر المقتلة وهى المذللة التي تخرج الدلو ملآى
ووصفها بكونها من النواضح المتمرنة على هذا العمل، وأورد الجنة الدالة على الكثرة والالتفاف والنخل المفتقر
إلى الماء الكثير خصوصا إذا كانت سحقا: أي طوالا صاعدة في الهواء وهو جمع سحوق وهو الطويل منها، فقد
أطلق ههنا الجنة على النخيل، ولا ينافي ذلك قوله الجنة البستان الخ، إذ لا يعلم منه أنها نفس الأشجار أو الأرض
التي هي فيها أو مجموعها، وكأن الظاهر أن يقول: كأن عيني غربا مقتلة لكنه أتى بكلمة " في " كأنه يدعى أن
ما ينصب من الغربين منصب من عينيه (قوله وكأنها) أي الجنة معنى البستان المذكور (سميت بالجنة التي هي المرة)
والاستدلال بسكنى آدم وحواء الجنة ظاهر، إذ المتبادر منها دار الثواب، وأما بمجيئها (في القرآن على
نهج الأسماء الغالبة) فلأنه علم بالاستقرار أن مثل هذه الأسماء إنما يكون لموجودات محققة لا لأمور مقروضة مقدرة
إلا نادرا كالساعة، وفى تشبيهها (بالنبي والرسول) إشارة إلى أنها بالغلبة لم تصر علما، ألا ترى أنها تعرف تارة
256

وتنكر أخرى، وتجمع في حالتيهاو تجرى على أسماء الإشارة صفة لها نحو ذلك الجنة، ومعنى لحوقها بالأعلام
أنها عند الإطلاق تنصرف إلى المعين، وإن كان مفهومها في نفسه كليا، وكذا الحال في النبي والرسول إذ المتبادر
منهما عند الإطلاق محمد صلى الله عليه وآله مع بقائهما على مفهومهما الأصلي، وقد مر أن الكتاب مع اللام صار
علما بالغلبة، ففي عرف الأصول لكتاب الله، وفى عرف العربية لكتاب سيبويه (قوله الجنة اسم لدار الثواب
كلها) أي اسم للقدر المشترك بين مجموع دار الثواب وأجزائها فينطلق عليها كلها (قوله وفيها جنان على مراتب
متفاوتة بحسب الاستحقاقات) فلكل طبقة من العاملين جنات متعددة واقعة في مرتبة واحدة فجمعها لتعددها
وتنكيرها لتنوعها،، ولا نزاع في إحباط الإيمان والعمل الصالح بالكفر والموت عليه بل في إحباطهما بالإقدام
على الكبائر بلا توبة، وقد جعل الزمخشري ترك المعصية داخلا فيما أوجده المكلف (قوله فهلا شرط) أي ما ذكرناه
شرط في استحقاق الثواب فهلا ذكر ذلك الشرط في نظم الآية. والجواب أنه تعالى جعل الثواب مستحقا بالإيمان
والعمل الصالح حيث دل عليه ترتبه عليهما الدال على العلية وجعل (البشارة مختصة بمن يتولاهما) حيث رتبها على
المتصف بهما فتنتفى عن غيره، وقد نصب لنا دليلا عقليا ونقليا على أن بقاء الاستحقاق بالإحسان يتوقف على
عدم طرو ما يفسده ويخرجه عن كونه إحسانا، فلا حاجة إلى اشتراط حفظهما من الإحباط والهدم لأنه معلوم،
فيكون كالداخل تحت الذكر، وقوله (كان اشتراط) جواب لما جعل (قوله كما ترى الأشجار الثابتة) الظاهر
أن يقال كما ترى الأنهار الجارية تحت الأشجار الثابتة على شواطئها، لكنه نبه بعبارته هذه على أنه قصد تشبيه
الهيئة المركبة بالهيئة المركبة فلم يلزمه ذلك، وما ذكره من كون جرى الماء في مكان أسفل من الشجر هو المعتاد،
فإن أريد بالجنة الأشجار كما في قوله: جنة سحقا فذاك، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف: أي من
تحت أشجارها، وكذا الحال في خلاف المعتاد الذي نقله عن مسروق، و (الأخدود) الشق المستطيل في الأرض
257

وقوله (آنق شئ) أي أعجبه، يقال راقه أعجبه وأبهجه وبهجه سره، ورجل أريحى: واسع الخلق منبسط
للمعروف وفيه أريحية: أي خفة وحركة للندى (والتمثال) الصورة المنقوشة (قوله لما جاء الله تعالى) جواب
لولا فيكون هذا النفي منتفيا، ويؤول المعنى إلى أن الماء الجاري لما كان من النعمة العظمى جاء الله بذكر الجنات
وحينئذ تكون كلمة إلا في قيل له إلا مشفوعا كما وقعت في نسخ معتبرة، ونقلت أيضا عن خط المصنف مفسدة
للمعنى، إذ يلزم مجئ ذكرها مقرونا بكل حال سوى كونه مشفوعا بذكر الأنهار فهي زائدة وقعت سهوا من
الناسخ ومنشؤه العفول عن كون لما جاء واقعا في جواب لولا،، وليس يمكن تصحيحها بجعل كلمة " ما " زائدة
كما توهم، إذ يصير المعنى انتفاء هذا المجموع: أعني أن يجئ ذكرها مقرونا بكل حال سوى تلك المشفوعية
ولا فائدة فيه. وقد يتكلف لتوجيهها بتضمين الذكر معنى النفي كما في نشدتك بالله إلا فعلت، وكما ذكره العلامة
في قوله تعالى - لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم - في الوجه الأخير: أي لما جاء الله تعالى بأن لا يذكر الجنات
إلا مشفوعا، ولا خفاء في كونه تعسفا فالصواب إسقاط كلمة إلا كما في بعض النسخ، وما قيل من أن اللازم حينئذ
أنه تعالى جاء بذكرها مشفوعا فلا دلالة على لزوم المشفوعية ولم يتم المقصود إلا بلزومها مدفوع بأن ما جعله حالا
من الذكرين أعني قوله (مسوقين على قران) أي نمط (واحد الخ) يدل على ذلك اللزوم. لا يقال: إذا جعلت
الاستثناء راجعا إلى النفي والمجهوع واقعا جواب لولا زال الإشكال. لأنا نقول: فالواقع في الجواب على هذا
التقدير معنى قولنا ما جاء بذكرها على حال من الأحوال إلا على حال المشفوعية، وانتفاء هذا المعنى قد يكون
بذكرها على حال أخرى فقط دون كونه مشفوعا. وروى أن في نسخة زين المشايخ البتة مشفوعا مكان إلا مشفوعا
وإنما يحسن ويدل على اللزوم المطلوب إذا جعل كلمة البتة متعلقة بمشفوعا أو بالمجئ مثبتا بناء على تجويز استعمالها
في الإثبات، إذ لو تعلقت بالنفي رجع المعنى إلى أن انتفاء مجئ ذكرها مشفوعا انتفاء قطعيا منتف، فجاز أن
يكون انتفاء ذلك الانتفاء بزوال قطعيته، فلا تلزم إلا المشفوعية في الجملة فلا جدوى لتلك اللفظة أصلا (قوله
واللغة العالية) أي الفصحى المشهورة التي تتكلم بها الأعلون في الفصاحة (النهر بفتح الهاء) وهو اسم جنس وقد
يراد به معنى الجمع كما في قوله - في جنات ونهر - (قوله ومدار التركيب على السعة) يقال أنهرت الطعنة وسعتها وأنهرت
الدم أسلته بكثرة، واستنهر الشئ اتسع، والمنهرة فضاء بين أفنية القوم يلقون فيها كناستهم، وكل كثير جرى
فقد نهر واستنهر (قوله يطؤهم الطريق) من قبيل الإسناد إلى المكان، أي يطؤهم السابلة في الطريق وهو كناية
عن جودهم وأنهم مقصد الأدانى والأقاصى، وجعل اليومين مصيدين إسناد مجازى إلى الزمان، والمعنى صيد
258

الوحش على هذا الفرس في يومين (قوله وأما تعريف الأنهار) جوز فيه أن يكون تعريفا جنسيا قصد به الإشارة
إلى جنس جمع النهر بلا قصد إلى العموم والاستغراق، وأورد له نظائر من المفردات، وقوله (في علم المخاطب)
إشارة إلى ما سبق من معنى تعريف لام الجنس في الحمد، وأن يكون تعريفا لاميا هو عوض عن تعريف الإضافة
وهذا معنى كون اللام بدلا من الإضافة لكنه مذهب كوفي مرجوح، وقد منعه المصنف حيث قال: والمعنى فإن
الجحيم مأواه كما تقول للرجل غض الطرف تريد طرفك، وليس الألف واللام بدلا من الإضافة، ولكن لما علم
أن الطاغي هو صاحب المأوى وأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة، ودخول حرف التعريف في المأوى
والطرف للتعريف لأنهما معروفان، وقد ذكر نحوا من هذا في قوله تعالى - واشتعل الرأس شيبا - فوجب أن يوؤل
كلامه هنا بأنه أراد الاستغناء عن الإضافة لحصولها بالقرينة لا بإدخال اللام ثم أدخل اللام لأن المراد معين، لكنه يجوز
بإطلاق التعويض، ولا شبهة أن اللام على هذا الوجه للعهد الخارجي التقديري. وجوز أيضا أن تكون للعهد
الخارجي التحقيقي إشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى - فيها أنهار من ماء غير آسن - الآية، وهذا مع توقفه على سبق
ذكر المنكر على المعرف فيه بعد لا يخفى، وقوله (كلما رزقوا لا يخلو من أن يكون صفة ثانية) وقد ترك العاطف
بينهما لما أحاط به علمك فيما سبق (أو خبر مبتدأ محذوف) والتقدير: هم أوهى. واعترض بأنه يعود الكلام إلى تلك
الجملة المحذوفة المبتدأ، فإن جعلت صفة أو استئنافا كان تقدير الضمير مستدركا، وإن جعلت ابتداء كلام
لا تكون صفة ولا استئنافا فلتكن كذلك بلا حذف. وقد يقال بتقدير هي يظهر معنى الوصفية، وبتقديرهم
يتقوى شأن الاستئناف، وقوله (إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا) هو حاصل مقالتهم المتكررة كما يقتضيه كلما
فإنها تدل على المشابهة التامة بينهما كما سيصرح به (قوله ما موقع من ثمرة) قد يتوهم أن حرفى الجر في منها ومن ثمرة
يتعلقان برزقوا وهما بمعنى واحد، وذلك غير جائز عند النحاة، إذ من قواعدهم أنه لا يتعلق بفعل واحد حرفا جر
259

يتحدان في المعنى إلا على قصد الإبدال والتبعية، ولا مجال له في الآية الكريمة، فلذلك سأل المصنف عن موقع
من ثمرة. وأجاب من وجهين وبالغ في تقرير الأول حيث أورد له مثالا، وصرح بأن من الأولى والثانية كلتيهما
لابتداء الغاية، إلا أن الأولى متعلقة بالرزق مطلقا، والثانية بالرزق مقيدا بكونه من الجنات، فليس ذلك مما
منعوه أصلا. ولما كان هذا المعنى الذي ذكره دقيقا لطيفا خفيا كشف عنه غطاءه بقوله (وتنزيله) أي حط هذا
الكلام من درجته التي هو فيها إلى مرتبة غير الأولى ليظهر بذلك معنى الابتداءين وتغاير الفعلين المطلق والمقيد
(تنزيل أن تقول الخ) فإنه قد اعتبر ههنا الفعل أولا مطلقا ثم قيد بقيد يقتضيه سؤال مذكور، ثم قيد بذلك
الفعل المقيد به بقيد آخر يقتضيه سؤال آخر فهو تنزيل لقولك: رزقني فلان من بستانه من الرمان، فاتضح بهذا
الاعتبار إيضاحا تاما أن كل واحد من الفعل المطلق والمقيد بالقيد الأول يصح ابتداؤه من المقيد الذي تعلق به،
ولم يقصد بما أورده أن في الآية سؤالا وجوابا، بل أراد إبراز المعنى وتصحيح الابتداءين على وجه لا تتعلق به شبهة.
ولما طال البيان حرره وأخذ زبدته، وهى أن الفعل المطلق: أعني رزقوا جعل مبتدأ من الجنات وبعد تقييده
بالابتداء منها جعل مبتدأ من الثمرة، وقد حكم بجمل الثمرة على النوع كما أشار إليه سابقا حيث قال: من أي ثمرة
كانت من تفاحها أو رمانها؟ ولم يجوز حملها على هذا التفسير على الفرد كتفاحة واحدة مثلا، لأن ابتداء الرزق
من البستان من فرد يقتضى أن يكون المرزوق قطعة منه لا جميعه ليصح الابتداء وهو ركيك جدا، ثم إن كلا
الظرفين على هذا الوجه لغو كما قرره بلا اشتباه، وقوله رزقا: أي مرزوقا ثاني مفعولي رزقوا. وأما على الوجه
الثاني وهو أن يكون من ثمرة بيانا للمرزوق الذي هو المفعول الثاني فالظرف الأول لغو والثاني مستقر وقع حالا من
رزقا، و الثمرة يجوز حملها على النوع والجنات على الواحدة، ولم يلتفت إلى جعل من الثانية ههنا تبعيضية وإلا كان من
ثمرة في موضع المفعول لرزقوا فيكون انتصاب رزقا على أنه مصدر لا يفيد إلا التأكيد وذلك لأن جعل من ثمرة
على هذا التقدير صف، أي مرزوقا كائنا بعض ثمرة تقدمت فصارت حالا لا يخلو عن تكلف، وأيضا الأصل
في من الابتداء والتبيين فلا يعدل عنهما إلا لداع إليه كما في قوله تعالى - فأخرج به من الثمرات رزقا لكم - فإن
تعريف الجمع وتنكير رزقا يناسب التبعيض، وفي قوله (على منهاج قولك رأيت منك أسدا) دلالة صريحة على
260

أن من التجريدية بيانية وحينئذ تفوت المبالغة المقصودة بالتجريد لأن الإجمال والتفصيل يفيد المبالغة في التفسير
لا الصفة التي قصد بالتجريد بلوغها الغاية في الكمال والصحيح أنها ابتدائية أي رأيت أسدا كائنا منتزعا منك
التجريد بأن ينتزع من المخاطب أسد ومن الثمرة رزق لم يأت بشئ يعتد به ألا ترى أنه جعل البيانية قسيمة
للابتدائية وأنه لا قرينة على انتزاع الرزق من الثمرة هي في نفسها رزق.
انتهى ما وجد من حاشية الشريف رحمه الله تعالى على الكشاف ولله المشيئة والمنة والصلاة على محمد شمس فلك
السنة، وعلى آله نجوم الدجنة وسلم.
261