الكتاب: تفسير القرآن الكريم
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨ - ١٣٧٦ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

تفسير القرآن الكريم
مفتاح أحسن الخزائن الإلهية
تأليف
العلامة المحقق آية الله المجاهد الشهيد السعيد
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
الجزء الأول
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
تعريف الكتاب 1

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: تفسير القرآن الكريم (ج 1) *
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 14000 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
تعريف الكتاب 2

بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الكتاب 3

روحي وأرواح العالمين لك الفداء
يا أبا عبد الله ويا سيد الشهداء
فيا رب إن كان فيما أسطره وأضبطه حول الكتاب الإلهي
شئ لي يسمى بالجزاء والثواب،
فنهديه إليه
ونرجو من حضرته التفضل علي بقبوله والمنة على المفتاق
المفتقر إلى شفاعته بعدم رده،
والله المستعان.
تعريف الكتاب 5

مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن الكريم هو الفرقان المستقيم والذكر الحكيم والكتاب
العظيم والقسطاس القويم، وهو كتاب الهداية لسعادة البشر، يشتمل على
القوانين التي يحتاجها في حياته الفردية والاجتماعية والسياسية،
والروحية والمادية. وهو الكتاب المعجز والمعجون الملكوتي
الباهر، والموسوعة الربانية المليئة بالعجائب والمحاسن، والدستور
السماوي الخالد، الموافق لجميع الأعصار والأمصار، الهادي إلى أعلى
طريقة وأحسن أسلوب وسلوك في الحياة، وهو نور من الضلالة بجميع
مراتبها، فهو كتاب من عند الله يحتوي على الحقائق الاعتقادية والأخلاقية
والأفعال التي يجب الأخذ بها، وهو يشتمل على جميع أسباب الهداية، وهو
رسالة الله تعالى إلى عباده أوحاها إلى خير خلقه وخاتم النبيين
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو معجزة الإسلام الخالدة وهو أحسن الخزائن الإلهية.
هذه شذرات من كلمات العلامة الشهيد (قدس سره) في حق القرآن العظيم
وردت في تفسيره هذا الذي نحن بصدد التقديم له.
مقدمة التحقيق 7

والقرآن الكريم هو الكتاب الذي أنزله الله تبارك وتعالى على
رسوله الأكرم خير خلقه وخاتم النبيين محمد صلوات الله عليه وآله،
التدبر والتفكر فيه عبادة من أفضل العبادات وأجلها، دعا إليها ربنا تبارك
وتعالى في كتابه العزيز: * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *.
والقرآن هو الثقل الأكبر الذي قرنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل بيته
الطاهرين (عليهم السلام) وهم الثقل الأصغر، وهذان الثقلان خلفهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في أمته ليكونا سببا للهداية والنجاة ما إن تمسكوا بهما، فهل أخذت الأمة
بوصية نبيها واستمسكت بخليفتيه فيها؟!
أما الثقل الأصغر أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم فقد تركوا
أحاديثهم ولم يقتفوا آثارهم وتخلفوا عنهم ولم يأخذوا منهم قولا ولا عملا ولا
عقيدة.
وأما القرآن العظيم حبل الله المتين الممدود من السماء إلى
الأرض فقد هجروه أيضا كما قال تعالى على لسان نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم):
* (يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) * فقد تركوا هدايته وتعاليمه،
ولم يتدبروا آياته ولم يتأملوا في معانيه ولم يتخلقوا بأخلاقه، واكتفوا
بقراءته بصوت حسن والتغني به بلحن جميل، كما أوضح ذلك إمام الأمة
الراحل (قدس سره) في مقدمة وصيته، وقد ذكر (قدس سره): أن الثقلين متلازمان لا يمكن
التمسك بأحدهما دون الآخر وأن ترك أحدهما معناه تركهما معا.
هذا، كما أن كثيرا من علماء الأمة قضوا أعمارهم بالبحث والتدقيق
ببحوث جانبية بعيدة عن مقاصد القرآن العظيم، ولا تخدم أهدافه
السماوية العالية، واشتغلوا بمواضيع قليلة الجدوى في فهم الكتاب
مقدمة التحقيق 8

العزيز، بل وخاضوا فيما ليس له ارتباط في تفسير القرآن الكريم إلا من
بعيد، تضخيما لتفاسيرهم وتكثيرا لأجزائه، وتحميلا لكتاب الله ما لا يتحمله
بعيدا عن مقاصده ومراداته، إعلاء لشأنهم وإظهارا لعلومهم، فشطوا عن الحق
وعن أهداف القرآن العظيم في هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى
النور.
إن واجب المفسر لكتاب الله تعالى هو أن يستنطق آياته ويستنبط
معانيه، ويغوص إلى أعماقه مستهديا بالقرآن العظيم وقرنائه، باحثا عن
علومه وأنواره، ناشرا لمقاصده وأهدافه، مبينا لمرامه ومراده، كاشفا عن
غوامضه وأسراره، سابرا لأعماقه وأغواره، وذلك بحسب قدرته وعون الله
له وتوفيقه.
وحين يبتعد المفسر عن أهداف القرآن الكريم ويملأ تفسيره ببحوث
قليلة الجدوى وأفكار لا ربط لها بمعاني القرآن السامية يصبح تفسيره
موجبا للظلمة والحجاب مانعا للنور والهداية، فأين هذا التفسير من
القرآن الذي انزل هدى للناس ونورا من الظلمات؟!
فالتفسير علم عظيم مشتمل على علوم وفنون كثيرة، ومستلزم لمقومات
عديدة يجب على المفسر أن يتوفر عليها، وإلا فلا يقترب من هذا الحصن
المنيع، وليدعه لأهله العلماء الربانيين والأولياء العرفاء الذين تسبق
أعمالهم أقوالهم والذين أتعبوا لله أبدانهم، وأسهروا في طلب العلم لياليهم
وقضوا فيه أعمارهم.
وهذا التفسير الماثل بين يديك، من التفاسير النادرة الحاوية على
الفوائد العظيمة، والعلوم الكثيرة، والنكات العلمية المتنوعة،
مقدمة التحقيق 9

والمواعظ الدينية النافعة، والأخلاق الإسلامية الرفيعة، مما يحيي
القلوب ويزيد المؤمن إيمانا واطمئنانا ويشرح الصدور ويملؤها هداية
ونورا.
ولا عجب حيث إن مؤلفه جامع للمعقول والمنقول، عارف بالعلوم
العربية من لغة وصرف ونحو وبلاغة وغيرها، ملم بالكلام والحكمة
والعرفان، وهو بعد ذلك فقيه أصولي بارع، وقد أخذ على نفسه مع توسعه
في تفسيره أن يتجنب البحوث التي لا طائل تحتها ولا تمت إلى أهداف
القرآن بصلة، ولا يجتني منها القارئ هداية ولا يكتسب منها نورا، وأن
يهذب كتابه هذا عن الآراء السقيمة والوجوه الباردة الخالية عن النفع
والفائدة.
وقد اهتدى صاحب هذا التفسير بالسنة المطهرة والأحاديث
الشريفة في تفسيره هذا، كما عزز آراءه بالدليل والبرهان، حيث إن
السنة المطهرة قرينة القرآن الكريم، والعقل الرشيد مؤيد لهما وهاد
إليهما، فهي جميعا متطابقة. وبهذا استطاع هذا المفسر العلامة أن يغور في
فهم القرآن الكريم بدقة وعمق، ويكشف عن أسرار الآيات الشريفة.
وقد تميز هذا التفسير فوق ذلك بتدقيقه في كلمات القرآن كلمة
كلمة، مناقشا للغويين في آرائهم، كاشفا عن مواطن خطئها، مبديا لرأيه في
قبالهم عن علم واجتهاد وتحقيق، وقد استفاد من ذلك كثيرا في تفسيره من
خلال تأمله في دقائق الألفاظ وتراكيب الكلام.
هذا، وقد كتب الشهيد العلامة تفسيره هذا الفريد في أسلوبه
وطريقته الوحيد في شموليته واستيعابه في النجف الأشرف حين أقصي
مقدمة التحقيق 10

عن وطنه مع والده الحكيم العارف العلامة المحقق البارع المجاهد
الكبير الإمام الخميني العظيم قدس سره الشريف، وذلك أثناء تدريسه
تفسير القرآن الكريم.
ولم تتسع مهلة الحياة للعلامة الشهيد لإتمام تفسيره هذا، ومع أنه
سيخرج للملأ العلمي - بإذن الله - في خمسة مجلدات، إلا أنه لم يتجاوز
الآية السادسة والأربعين من سورة البقرة ابتداء من سورة الفاتحة.
وقد تم طبع هذا الكتاب من قبل بجهد تلميذه حجة الإسلام
والمسلمين السيد محمد السجادي شكر الله سعيه.
وحين أشرفت على الحلول الذكرى السنوية العشرون لاستشهاد
العلامة المصنف (قدس سره)، سعت مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
باهتمام بالغ إلى تصحيحه وتحقيقه وطبعه مع ثلاثة وعشرين مجلدا آخر
من تراثه الغزير في الفقه والأصول والفلسفة.
منهجنا في تحقيق الكتاب
1 - تصحيح الكتاب: تمت مقابلة المطبوع من هذا التفسير على
النسخة الأصلية التي بخط المصنف (رحمه الله) والمودعة في مكتبة آية الله
العظمى المرعشي النجفي (قدس سره) بقم المقدسة، وقد قمنا بتصحيح المطبوع
على هذه النسخة الخطية، ولا يفوتنا أن نسجل شكرنا للقائمين على إدارة
هذه المكتبة على اهتمامهم بالأمر وتسهيلهم لنا مراجعة النسخة الأصلية
كلما احتجنا إلى ذلك، وحيث إن هذه النسخة الأصلية قد فقد منها بعض
مقدمة التحقيق 11

الصفحات التي أضافها المصنف تتميما لكثير من أبحاثه، فقد أثبتنا هذه
الإضافات كما في الطبعة الأولى، إلا بعض التصحيحات القياسية التي
أجريناها عليها.
كما هناك بعض الصفحات الساقطة من الطبعة الأولى أضفناها إلى
طبعتنا هذه، وبعض الصفحات تغيرت مواضعها في الطبعة الأولى، أعدناها
في طبعتنا هذه إلى موضعها الصحيح بحسب نسخة المؤلف. والمراجع
للنسخة الخطية يجد إضافات للمصنف (رحمه الله) قد تبلغ أحيانا عدة
صفحات، يكون موضعها في وسط إحدى الصفحات أو في ذيلها، وهذا الأمر
يجعل في ربط المطالب وترتيبها صعوبة ملحوظة.
2 - وضع العناوين: وضع المصنف الشهيد (قدس سره) عناوين في أعلى
الصفحات من نسخته ترتبط بالفكرة التي تناولتها كل صفحة، وقد أثبتنا
تلك العناوين في مواضعها الصحيحة. هذا بالنسبة إلى أكثر الجزء
الأول، أما الصفحات التي خلت من العناوين سواء من الجزء الأول أو
باقي الأجزاء، فقد أضفنا إليها عناوين مناسبة بحسب الحاجة.
3 - تقويم النص: نظرا لكثرة تصانيف الشهيد العلامة (قدس سره) في ذلك
العمر القصير الملئ بالأحداث الأليمة من سجن وتشريد وملاحقة
ومضايقات كثيرة، وكما كان قلمه سيالا يفيض بدون توقف - لتصحيح أو تعديل
في عباراته - حفاظا على سلسلة أفكاره. لهذه الأسباب مجتمعة لم يتسع
الوقت للمصنف الشهيد (قدس سره) لأن يعيد النظر فيما كتب، فكانت كتبه في
الحقيقة مسودات لم يجدد فيها نظره الشريف، ولذا تجد بعض الجمل غير
الفصيحة أو بعض الكلمات الفارسية، أو العجمة في تركيب بعض
مقدمة التحقيق 12

الجمل وفي بعض الضمائر، فتركنا ذلك على حاله، إلا بعضا مما دعت
الضرورة إليه، حفظا للأمانة وتأدية لها كما هي عليه.
4 - التخريجات وتوثيق النقول: لقد قمنا بتخريج أكثر النصوص التي
أوردها المصنف في كتابه هذا سواء كانت آيات أو روايات أو أقوالا، بحسب
المصادر المتوفرة لدينا وبحسب الفرصة المتاحة لنا، وحيث إن تحقيق
الكتاب - مقابلة وتصحيحا وتقويما وتخريجا - يحتاج إلى وقت وافر
ومجال واسع لم يتح لنا، بل تم كل ذلك في سرعة وعجالة، فقد فاتنا العثور
على بعض المصادر التي رجع إليها المصنف (رحمه الله)، كما توفرت للمصنف في
النجف الأشرف بعض المراجع غير المتوفرة لدينا. وهذا هو عذرنا الذي
نقدمه للقراء الكرام، ليصفحوا عما يجدونه من نقص أو خطأ في التحقيق
والكمال لأهله. والله ولي التوفيق هو حسبنا ونعم الوكيل.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة
مقدمة التحقيق 13

بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد: فهذا تفسير القرآن الكريم والفرقان
المستقيم والذكر الحكيم والكتاب العظيم.
1

المقدمة
هنا مسألتان:
المسألة الأولى
ما هي حقيقة علم التفسير؟
قال ابن حيان (1): " لم أقف لأحد من علماء التفسير على رسم له.
فنقول: التفسير في اللغة الإبانة والكشف، قاله ابن دريد... إلى أن قال:
وأما الرسم في الاصطلاح، فنقول: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية
النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها
التي عليها حالة التركيب مع تتمات لذلك " (2). انتهى.
والذي تقرر: أن لكل علم موضوعا، وربما يكون موضوع العلم عين
موضوع مسائله، وما هو موضوع علم التفسير في هذه المسألة هو القرآن
بمجموعه، وموضوع مسائله أجزاؤه كعلم الجغرافيا.

1 - قد عبر المصنف (قدس سره) عن محمد بن يوسف الأندلسي صاحب كتاب " البحر المحيط "
بابن حيان كثيرا وبأبي حيان أحيانا.
2 - البحر المحيط 1: 13 - 14.
3

وأما تعريفه: فهو العلم بالمرادات والمقاصد الكامنة فيه
بالإحاطة بها بقدر الطاقة البشرية، والإحاطة المطلقة غير ممكنة
حتى لمن نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وما جعله رسما له يرجع إلى انحلال علم التفسير إلى العلوم
المختلفة، وعدم كونه علما مستقلا قبال سائر العلوم المدونة.
وأما عوارضه الذاتية: فهي ما تعرض لموضوعات مسائله من غير
واسطة تورث مجازيتها. واتضح من تعريفه ما هو حقيقتها.
وأما غايته: فهو الوصول إلى درجة العقول في النيل بالأصول
النازلة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وشرافته - بعد بعض العلوم - أكثر من سائر الفنون لشرافة موضوعه.
وله مبادئ تصورية وتصديقية من العلوم الأدبية الراجعة إلى
فهم المفردات والمركبات.
وحيث إن المحرر في محله: أن وحدة العلوم اعتبارية، وليست طبيعية
ولا تأليفية، وهي تابعة لوحدة الموضوع (1)، فعلم التفسير: تارة يكون
موضوعه مطلق الكتب السماوية، وأخرى يكون كتابا خاصا، والذي هو
موضوع علم التفسير في هذه الأمة هو القرآن العظيم والكتاب الكريم،
فيشبه علم الطب في السعة والضيق بحسب سعة الموضوع وضيقه.
وغير خفي: أن مسائل هذا العلم ليست من القضايا الحقيقية، بل هي
دائرة بين القضايا الخارجية والشخصية.

1 - انظر تحريرات في الأصول 1: 43.
4

ونحن قد بسطنا البحث حول هذه المسائل في موسوعتنا الأصولية (1)،
ولمكان أن المفسر لابد أن لا يتجاوز عن مقصوده، ولا ينظر في بعض الفنون -
التي من المبادئ التصورية أو التصديقية لهذا العلم الشريف - نظرا
ينتهي إليه مرامه، أشرنا إلى هذا النموذج الإجمالي، ونعتذر.
وإن شئت قلت: إن علم التفسير علم طويل سلمه، سميكة أفلاكه
وأنجمه، بعيد الغور، غريب الطور، ذو سبل فجاج، متفنن الطرق في
الاستقامة والاعوجاج، قلما اهتدى إلى أغواره إلا واحد بعد واحد، لأن كلام
الكبرياء أجل من أن يكون شريعة لكل وارد، وقليل من الناس وصلوا إلى
أسراره وهم مع ذلك ينادون من مكان بعيد، إذ موضوع هذا العلم - وهو
القرآن - ليس له حد يقف إليه الأفهام، وليس كغيره من كلام الأنام، وإنما
هو مقال الملك العلام ذو عبارات للعلماء وإشارات وحقائق للأولياء ولطائف
للأنبياء، بل هو بحر لجي في قعره درر، وفي ظاهره خبر، والناس في التقاط
درره والوصول إلى خبره على مراتب متفاوتة.
ومن أجل ذلك جاءت التفاسير مختلفة حسب اختلاف أهلها: فمنها ما
يغلب عليه العربية والعلوم الأدبية من الإعراب والبيان، ومنها ما يغلب
عليه المجادلات الكلامية مما ظنوها من الحكمة والبرهان، ومنها ما
يغلب عليه القصص والسير، ومنها ما يغلب عليه نقل الأحاديث والخبر،
ومنها ما يغلب عليه التأويلات البعيدة وبيانات غريبة عجيبة، لأنهم لم
يأخذوا التفاسير من مشكاة النبوة والولاية.

1 - انظر المصدر السابق 1: 7.
5

فالتفسير الجامع لمجامع العلوم والأحكام، والكافل للحقائق
والدقائق، والشامل للإشارات والعبارات، والحاوي لاس مطالب
الحكمة والعرفان، لم يتيسر لأحد من العلماء والحكماء، ولا يمكن ذلك
إلا لمن خص بهبة من الله تبارك وتعالى ووراثة من الأنبياء، وأخذ العلم
من مشكاة الأولياء، واقتبس قوة قدسية ونورا من الله في قوالب إنسية.
ولنعم ما قيل بالفارسية:
جمع صورت با چنين معنى ژرف * نيست ممكن جز ز سلطان شگرف (1)
وقال الوالد المحقق العارف برموز الكتاب وبعض أسراره:
" إن تفسير القرآن لا يتيسر إلا لله تعالى، لأنه علمه النازل،
ولا يمكن الإحاطة به ".
المسألة الثانية
ما هو سبب تسمية هذا المؤلف القيم
بالقرآن وغيره من الأسماء المذكورة له؟
أسماؤه المعروفة أربعة:
1 - القرآن: كما في قوله في سورة الزخرف * (إنا جعلناه قرآنا
عربيا) * (2)، وفي موضع آخر من البقرة: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه

1 - مثنوى معنوي، دفتر سوم، بيت 1393.
2 - الزخرف (43): 3.
6

القرآن) * (1)، وهذا يدل دون الأول، لأنه أريد هناك معناه اللغوي.
ولعله سمي بذلك لقوله تعالى في بدو الوحي والنزول: * (إقرأ باسم
ربك الذي خلق) * (2)، والمسمى هو هذا المؤلف الذي بين أيدي المسلمين.
فيكون بالوضع التعيني كسائر الأسماء الموضوعة للمعاني الكلية.
ونظيره كلمة " سلطان "، فإنه مصدر أو اسم مصدر يطلق على الذات،
فالقرآن يطلق على ذات هذا السفر القيم، نظير إطلاق الماء على الكل
والجزء.
2 - الفرقان: كما في قوله تعالى: * (تبارك الذي نزل الفرقان على
عبده) * (3).
3 - الكتاب: كما في آيات (4).
4 - الذكر: كما في قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (5) وغيرها.
ولكن هذه الثلاثة مشتركة بينه وبين سائر الكتب السماوية، ففي
قوله تعالى: * (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) * (6)، وفي
موضع من سورة الأنبياء: * (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا

1 - البقرة (2): 185.
2 - العلق (96): 1.
3 - الفرقان (25): 1.
4 - الآيات فيه كثيرة. انظر البقرة (2): 2، وآل عمران (3): 3، والعنكبوت (29): 51،
والأحقاف (46): 2.
5 - الحجر (15): 9.
6 - البقرة (2): 53.
7

للمتقين) * (1).
فعلى هذا يختص الاسم بالقرآن ولذلك اشتهر به، وما وجدت في
الكتاب العزيز إطلاقه على سائر الكتب.
وأما وجه التسمية والإطلاق فهو معلوم لا يحتاج إلى الإطالة
المنهي عنها والإطناب المزعج.
وسيظهر وجوه توصيفه في خلال الآيات الشريفة - إن شاء الله
تعالى - بأوصاف مختلفة وعناوين شتى، فعلى هذا تزداد أسمائه وألقابه
إلى العشرات على ما ضبطه بعض المفسرين (2)، ولا تنحصر بالأربعة،
وغير خفي أن الخلط بين ما هو في حكم العلم وغيره، غير جائز.
وما هو العلم لهذا الكتاب هو القرآن برفض خصوصية المعنى،
بخلاف سائر الألقاب.

1 - الأنبياء (21): 48.
2 - الإتقان في علوم القرآن 1: 178، روح المعاني 1: 33 - 37.
8

سورة الفاتحة
المباحث هنا: منها ما يتعلق بمجموع
السورة، ومنها ما يتعلق بمجموع الآية،
ومنها ما يتعلق بالكلمات والجمل.
9

المبحث الأول
ما يتعلق بمجموعها
وهو مشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في معنى السورة
وسيوافيك البحث حولها عند قوله تعالى: * (فأتوا بسورة من
مثله) * (1) وقوله تعالى: * (سورة أنزلناها) * (2).
المسألة الثانية: هل هذه أولى سورة نزلت، أم غيرها؟
الأقوال في أول ما انزل أربعة:
1 - إقرأ باسم ربك (3)، وهو المروي عن عائشة وعن مجاهد

1 - البقرة (2): 23.
2 - النور (24): 1.
3 - العلق (96): 1.
11

وعطاء (1) وابن يسار (2)، وهو قول أكثر المفسرين.
2 - سورة المدثر، وهو قول سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن
عبد الله، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث (3).
3 - سورة الفاتحة بتمامها، وهو قول جماعة قليلين، ونسب ذلك في
" الكشاف " إلى الأكثر (4)، وهو محل منع، ولكنه يساعده الاعتبار، لأن
الصلاة كانت بالفاتحة عند الفرض وهو بمكة، ولأنها من الابتداء كانت
مسماة بالفاتحة وبها فتح الوحي، وهو المراد من السبع المثاني على ما
اشتهر في قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * (5)
وهو مكي، فإذا كانت هي مكية، فهي أول ما نزلت، للإجماع المركب، ولكنه
كما ترى.
4 - التفصيل: أول الآيات من " إقرأ "، وأول السور الفاتحة بتمامها.
وفي المسألة بعض الأقوال الأخر.
والذي هو الأظهر - حسب نصوصنا (6) - هو الأول، ولا ينافيه كون
الفاتحة مكية، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأما ما قيل استدلالا على أولية الفاتحة نزولا: بأنها صورة إجمالية

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 24.
2 - راجع البحر المحيط 8: 792.
3 - صحيح البخاري 6: 547، الإتقان في علوم القرآن 1: 92.
4 - الكشاف 4: 775.
5 - الحجر (15): 87.
6 - تفسير نور الثقلين 5: 609.
12

من الكتاب العزيز، ونموذج من هذا البحر المحيط، فلها الإحاطة التامة
على ما فيه من التوحيد والقصص والأحكام وغيرها، فهو مما لا يبالي به
العاقل، ولا يركن إليه اللبيب، بداهة أن التاريخ لا يصطاد بالذوق
والاستحسان.
ويعارضه ما أفيد من: أن سؤاله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما يقرأ بعد الأمر بالقراءة -
على ما في الكتب (1) - شاهد على عدم انسه بالوحي وعدم سبقه (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالبارقة الإلهية. والله العالم.
نعم شهادة فضلاء الإسلام - كابن النديم، في كتابه " نور العلوم "
المعروف ب‍ " الفهرست "، ناقلا حديثا مسندا عن محمد بن نعمان بن بشير (2)،
وهو موجود في " البخاري " (3) و " مسلم " (4) وسائر ما قيل ومضى تورث الظن
بل الاطمئنان بأولية " إقرأ " إلى قوله تعالى: * (علم الإنسان ما لم يعلم) * (5).
وقال أبو عبيدة في " فضائل القرآن ": حدثنا عبد الرحمن... إلى أن
قال: إن أول ما انزل * (إقرأ باسم ربك) * (6) و * (ن * والقلم) * (7). انتهى.
وهو وحيد بهذا الذيل كما ترى.

1 - الدر المنثور 6: 368، الإتقان في علوم القرآن 1: 92.
2 - الفهرست، ابن النديم: 28.
3 - راجع صحيح البخاري 1: 59.
4 - راجع صحيح مسلم 1: 188.
5 - العلق (96): 5.
6 - العلق (96): 1.
7 - انظر الإتقان في علوم القرآن 1: 92.
13

المسألة الثالثة
هل هي مكية أو مدنية، أو مكية ومدنية؟
بعد الاتفاق على نزولها بتمامها في إحداهما، ولم يقطع في التنزيل.
أقول: وليعلم أن المفسرين اختلفوا في المكي والمدني من
السور (1):
فقيل: المكي ما نزل في شأن أهل مكة، والمدني غيره.
وقيل: ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة.
والجمهور على أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها.
وعلى جميع التقادير، هي مكية، وهو مختار أكثر أهل الفضل، وهو
المحكي عن ابن عباس وقتادة ورفيع أبي العالية وغيرهم (2).
وعن أبي هريرة ومجاهد وعطاء والزهري: أنها مدنية (3).
وقيل: هي مكية ومدنية، وهو مختار النسفي وغيره (4). وحكاه
الثعلبي عمن تقدم عليه: نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، ثم نزلت
بالمدينة حين حولت القبلة إلى الكعبة.
ويقال: عن أبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في

1 - انظر المصدر السابق 1: 36 - 45.
2 - المصدر السابق 1: 46.
3 - المصدر السابق 1: 46، الدر المنثور 1: 3.
4 - التفسير الكبير 1: 178، البحر المحيط 1: 16.
14

تفسيره: أن نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة (1).
وهذان القولان بلا حجة وبرهان، ومجرد الإمكان غير كاف.
وحيث اتفقوا على أن قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * (2)
مكي، ويكون المراد منه هذه السورة، فهي مكية.
ويشكل ذلك من ناحيتين:
الأولى: قال ابن عباس: أوتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعا من المثاني، قال:
السبع الطول (ذكره النسائي) (3)، وهي من البقرة إلى الأعراف ست،
واختلفوا في السابعة (4)، فقيل: يونس، وقيل: الأنفال والتوبة، وهو قول
مجاهد وسعيد بن جبير. وفي شعر الأعشى:
وادرسوا هذي المثاني والطوال
وأما رواياتنا، ففيها ما يعين أن المراد منه هي الفاتحة، فعن
" التهذيب " بإسناده عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، قال: " سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثاني والقرآن العظيم، أهي الفاتحة؟ قال: نعم ".
الحديث (5)، ومثلها مرفوعة ابن يونس (6) وخبر أبي بكر الحضرمي (7).

1 - الإتقان في علوم القرآن 1: 47، نقل عن تفسير السمرقندي.
2 - الحجر (15): 87.
3 - سنن النسائي 2: 140.
4 - انظر الإتقان في علوم القرآن 1: 220.
5 - تهذيب الأحكام 2: 289 / 13.
6 - تفسير العياشي 1: 19.
7 - المصدر السابق 1: 21.
15

الثانية: أن دلالة الآية الكريمة الشريفة على أنها نزلت قبل نزول
هذه الآية، مبنية على اعتبار الزمان في الفعل الماضي، ولا سيما في
الأفعال المستعملة في حقه تعالى.
ولكن مع ذلك كله، مقتضى مفروضية الصلاة في مكة، و " لا صلاة إلا
بفاتحة الكتاب " - كما في روايات الخاصة والعامة (1) - وسائر ما أشير
إليه، أنها إلى المكية أقرب.
وقيل: المرسوم في عناوين المصاحف أنها مدنية، فالسيرة العملية
حجة على مدنيتها. وهو محل منع، لأن المرسوم فيما عندي أنها مكية،
فراجع. مع أن من الممكن اشتباه الكاتب الأول في ذلك، ولصيانة الكتاب
عن أيدي التصرف اقتصروا عليه، كما ترى في الأغلاط الخطية الآتي بحثها.
وغير خفي: أن سورة الحجر مكية بالاتفاق إلا آية * (لقد آتيناك سبعا
من المثاني) * (2) وإلا قوله تعالى: * (كما أنزلنا على المقتسمين) * (3).
هذا، والذي يظهر من تتبع الآثار ومراجعة الأخبار: أن الصلاة كانت
مفروضة في مكة (4)، بل كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي قبل البعثة - كما في

1 - عوالي اللآلي 1: 196، 2: 218، 3: 82. مستدرك الوسائل 1: 274، كتاب الصلاة،
الباب 1، الحديث 5. سنن ابن ماجة 1: 273، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، الباب 11،
الحديث 837. صحيح مسلم 1: 375، كتاب الصلاة، الباب 11، الحديث 34.
2 - الحجر (15): 87.
3 - الحجر (15): 90.
4 - راجع على سبيل المثال وسائل الشيعة 4: 16، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض،
الباب 2، الحديث 10.
16

سيرته (1) -، وقد وردت في أحاديثنا وأحاديث العامة ما يدل على أن
" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وقضية إطلاق هذه الأخبار وتلك التعابير:
أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يصلي بغيرها، لظهور الروايات في تقوم طبيعة الصلاة
بها مطلقا، فصلاته قبل البعثة كانت معها، فهي أول ما نزل. والله
الموفق، فليتأمل.
بحث وتحصيل
الذي يساعد عليه الاعتبار في ميزان المكي والمدني ما عليه
الأكثر، وهو: أن ما نزل في مكة ونواحيها قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل
بالمدينة بعد الهجرة وإن نزل بغيرها فهو مدني، ولذلك تكون سورة النصر
مدنية مع أنها نزلت بمنى في حجة الوداع. وغير خفي أن عهد نزول القرآن
ينقسم إلى زمانين متمايزين:
الأول: مدة مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وهي اثنتا عشرة سنة وخمسة
أشهر وثلاثة عشر يوما، وقيل: من يوم 17 رمضان سنة 41 - يوم الفرقان -
إلى أول يوم من ربيع الأول سنة 54 من ميلاده.
الثاني: زمان نزوله بعد الهجرة إلى المدينة، فالمدني نحو 1130.
قال أبو الحسن ابن الحصار في كتابه " الناسخ والمنسوخ ":
المدني بالاتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة، وما عدا
ذلك مكي بالاتفاق، وهي: 1 - البقرة 2 - آل عمران 3 - النساء 4 - المائدة

1 - راجع السيرة النبوية، ابن هشام 1: 260.
17

5 - الأنفال 6 - التوبة 7 - النور 8 - الأحزاب 9 - محمد 10 - الفتح
11 - الحجرات 12 - الحديد 13 - المجادلة 14 - الحشر 15 - الممتحنة
16 - الجمعة 17 - المنافقون 18 - الطلاق 19 - التحريم 20 - إذا جاء
نصر الله (1).
ووافقه على جميعها في ذلك أبو بكر ابن الأنباري (المتوفى 328)،
ومحمد بن القاسم إلا في الأنفال، وأبو عبيدة القاسم بن سلام (المتوفى
334) في " فضائل القرآن " إلا في الحجرات والجمعة والمنافقون،
وصاحب الفهرست محمد بن إسحاق (المتوفى 385) برواية محمد بن
نعمان بن بشير المذكورة في " أول ما نزل من القرآن " إلا في الأحزاب.
فالمتفق عليه بين هؤلاء الأربعة - الذين اشتهر صيتهم بين الأفاضل
والأعلام - خمسة عشر سورة مما ذكره أبو الحسن في كتابه " الناسخ
والمنسوخ ". والمختلف فيه خمسة: الأنفال، خالف فيها ابن الأنباري،
والحجرات والجمعة والمنافقون، خالف فيها أبو عبيدة، والأحزاب،
خالف فيها صاحب الفهرست.

1 - الإتقان في علوم القرآن 1: 44.
18

المسألة الرابعة
إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي قبل البعثة
أو بعدها وقبل نزولها، فماذا كان يقرأ في صلاته؟
لا شبهة في أن الصلاة كانت مخترعة قبل الإسلام، * (وأوصاني
بالصلاة والزكاة) * (1)، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما قيل - كان يصلي في المسجد
الحرام في ابتداء البعثة بل وقبلها. فإن كان بعد البعثة وبعد تشريعها،
فالجواب واضح. وإن كان قبلها، أو قلنا بأنها مدنية، أو مكية ولكنها نزلت
بعد تشريع الصلاة، فربما يشكل. ولكن التاريخ قاطع بأن نزولها لم يكن بعد
تشريعها. نعم لا يمكن الإحاطة العلمية بسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والذي يمكن أن يقال: إنه كان يصلي من غير الفاتحة، لأنها ليست
ركنا، وأدلتها لا تفيد بطلانها بدونها على الإطلاق، كما هو الظاهر.
أو يقال: بنزولها عليه قبل البعثة أو بعدها وقبل أن يأمر بإبلاغها إلى
الأمة الإسلامية، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان قبل البعثة على دين اليهود
والنصارى، فربما كان نبيا ثم صار رسولا.
قال ابن عطية: ظن بعض العلماء أن جبرئيل (عليه السلام) لم ينزل بسورة
الحمد، لما رواه مسلم عن ابن عباس، قال: " بينما قاعد عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
سمع نقيضا (هو الصوت) من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء

1 - مريم (19): 31.
19

فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض
لم ينزل قط إلا اليوم فسلم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك:
فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته " (1).
انتهى.
والذي يصطاد منه: أن هذه المسألة، ليست حديثة، فلعل الملك
كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ذلك، وكان يأخذ عنه المعارف قبل البعثة،
وكان عارفا بأحكامه الفردية، فيقرأ القرآن قبل أن يقضى إليه وحيه
بتوسط جبرئيل بعنوان الرسالة.
وربما يشهد لذلك قوله تعالى في سورة طه: * (ولا تعجل بالقرآن من
قبل أن يقضى إليك وحيه) * (2).
أو أن القرآن حسب قوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (3) وقوله
تعالى: * (في ليلة مباركة) * (4) وقوله تعالى * (شهر رمضان الذي انزل فيه
القرآن) * (5) - ولو كان بمعنى بعض القرآن لما كان له اختصاص بالذكر
وشرف - فهو يوحى بصورة وحدانية مرة، وأخرى بصورة مفصلة نجوما
وتدريجا، * (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) * (6)، وربما كان ذلك الإجمال -

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 116.
2 - طه (20): 114.
3 - القدر (97): 1.
4 - الدخان (44): 3.
5 - البقرة (2): 185.
6 - هود (11): 1.
20

حسب ما يظهر من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة - يوحى إليه قبلها، فكان
عارفا بحقائقه وبواطنه أو بألفاظه على نعت الإجمال والاندماج.
المسألة الخامسة
حول ألقاب هذه السورة عددا وعلة
وهي عشرة: الفاتحة، الحمد، أم الكتاب، والسبع من المثاني،
والسبع، والمثاني، والوافية، والكافية، والأساس، وأم القرآن.
وهنا أخريات غير معروفة: الشفاء، والشكر، والدعاء، وتعليم
المسألة والصلاة.
ووجه الكل معروف ومذكور في المفصلات (1).
مسألتان:
الأولى: في وجه التسمية بالفاتحة
لا وجه لتسميتها بالفاتحة إلا باعتبار افتتاح الكتاب التدويني بها،
وهذا هو الحادث المتأخر عن عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وما قيل: إن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر عثمان أن يضعها أول المصحف الشريف، غير ثابت عن
الكتب المعتبرة.

1 - انظر التفسير الكبير 1: 173 - 177، والإتقان في علوم القرآن 1: 187 - 191،
والجامع لأحكام القرآن 1: 111 - 113، وروح المعاني 1: 33 - 37.
21

والذي هو الأنسب كونها افتتاح التنزيل، وهو خلاف ما تقرر.
وقد اشتهر في المآثير توصيفها بالفاتحة، وإليها تنصرف هذه
اللفظة عند الإطلاق حتى في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما ترى فيما يتعلق
بأحكامها.
وقيل: لأنها مفتاح الكتاب التكويني الذي هو جملة ما سوى الله
بحقيقتها التي هي كلام الله تعالى الحقيقي، وهو مقام التسمية، وأصل
جملة ما عداه تعالى.
ولعلها سميت بها لافتتاح الصلاة بها، وكانت الصلاة مفروضة من
ابتداء البعثة، فاشتهرت بها (1). وهذا هو الأقرب ولا مبعد له.
الثانية: في وجه التسمية بالسبع المثاني
أما كلمة المثاني، فهو جمع مثنى، وهو المعدول عن اثنين اثنين. هذا
حسب اللغة.
ويؤيده ما في العياشي عن يونس بن عبد الرحمن، عمن رفعه، قال:
" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) *؟
قال: هي سورة الحمد، وهي سبع آيات، منها * (بسم الله الرحمن الرحيم) *،
وإنما سميت المثاني، لأنها تثنى في الركعتين " (2).

1 - تفسير بيان السعادة 1: 23.
2 - تفسير العياشي 1: 19.
22

وقيل: هو من الثناء، لأن السورة ثناؤه تعالى (1).
والظاهر: أن المثاني اسم جمع لا مفرد له، وهي المعاطف من كل
شئ، كما في اللغة، ولأجل أنها مشتملة على أسباب عطف الناس إلى
نفسها وأصل الكتاب وأساس الديانة، يناسب تسميتها بالمثاني.
وقيل: سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة، فلم تنزل على أحد قبلها
ذخرا لها (2).
وقال السيوطي في " الإتقان ": وقد وقفت للفاتحة على نيف وعشرين
اسما، وذلك يدل على شرفها (3). انتهى.
فكما أن من شرفه تعالى الأسماء الكثيرة، كذلك من شرافتها كثرتها.
المسألة السادسة
عن عدد آيها وكلماتها وحروفها
أما الأول: فهي بإجماع أهل الفن سبعة (4)، إجماعا مركبا، لاختلافهم
في البسملة، أنها من السورة، أم هي من القرآن وليست منها. ومن أخرجها
منها اعتبر الآية الأخيرة آيتين، * (صراط الذين أنعمت عليهم) * آية، * (غير
المغضوب عليهم ولا الضالين) * آية أخرى هي سابعة.

1 - انظر الإتقان في علوم القرآن 1: 190، وتفسير بيان السعادة 1: 23، وروح
المعاني 1: 36.
2 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 112.
3 - الإتقان في علوم القرآن 1: 187.
4 - انظر المصدر السابق 1: 234.
23

فما عن الحسين بن الجعفي: أنها ست، وعن عمرو بن عبيد: أنها ثمان،
مخالف للإجماع وللأخبار من الطريقين.
لولا النصوص المستفيضة الصريحة كان لإبداع الشبهة وجه:
فيقال: إن البسملة من القرآن وليست من السورة، وإن السور كلها
مصدرة بها تيمنا وتبركا، ولو كانت منها كان ينبغي أن تكون سورة العلق هكذا:
" إقرأ بسم الله الرحمن الرحيم "، كما لا يخفى.
والاستدلالات الكثيرة على أنها من الحمد، تفيد كونها من الكتاب،
وهذا ما هو أكثر دورا في كتبهم: أنه مكتوب في المصاحف بالخط الذي
كتب به المصحف، مع تجنبهم إثبات الأعشار والأخماس كذلك.
وعن ابن عباس: " من تركها فقد ترك مائة وأربعة عشر آية من كتاب
الله " (1). فتأمل.
ويؤيد ذلك: أن مالكا وغيره من علماء المدينة، والأوزاعي وجماعة
من علماء الشام، وأبا عمرو ويعقوب من قراء البصرة، وهو الصحيح من
مذهب أبي حنيفة، يرون أنها آية من القرآن، أنزلت لبيان رؤوس السور
والفصل بينها.
وعن عبد الله بن مسعود: أنها ليست من القرآن أصلا (2)، وهو رأي بعض
الحنفية، مستدلين بحديث أنس، قال: " صليت خلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه

1 - الكشاف 1: 1.
2 - انظر التفسير الكبير 1: 218، والإتقان في علوم القرآن 1: 270.
24

الثلاثة وقد تركوها في قراءتهم " (1).
ولا يخفى ما في الاستدلال، لأن عدم وجوبها في الصلاة لا يدل على
عدم كونها من الفاتحة، فضلا عن عدم كونها من الكتاب، وما دل على أن
الصلاة مشروطة بالفاتحة قابل للتخصيص.
وغير خفي: أن عمرو بن عبيد، جعل * (إياك نعبد) * آية، وإذن يمكن
جعلها تسع آيات، بناء على تقسيط الآية الأخيرة.
وسيأتي زيادة توضيح ينفعك في البحث عن جزئية البسملة إن شاء
الله تعالى.
المسألة السابعة
الأخبار في الحث على قراءتها وفضيلتها
1 - " ثواب الأعمال " بإسناده عن الصادق (عليه السلام): " اسم الله الأعظم مقطع
في أم الكتاب " (2).
2 - " الخصال " عنه (عليه السلام): " رن إبليس أربع رنات: أولهن يوم لعن،
وحين اهبط إلى الأرض، وحين بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على حين فترة من الرسل،
وحين أنزلت أم الكتاب " (3).
3 - وعن جابر، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث عنه تعالى: " وأعطيت أمتك

1 - صحيح البخاري 1: 187 كتاب الصلاة، الباب 13، الحديث 52.
2 - ثواب الأعمال: 233.
3 - الخصال 1: 291 / 141.
25

كنزا من كنوز عرشي، فاتحة الكتاب " (1).
4 - وعن الحسن بن علي (عليهما السلام)، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعد قصة - قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قرأ سورة فاتحة الكتاب، أعطاه الله تعالى بعدد كل آية نزلت من السماء،
ثواب تلاوتها " (2).
وقد وردت في خواصها آثار وحكايات عديدة، فمن الآثار:
ما عن الكافي، مسندا عن عبد الله الفضل النوفلي رفعه، قال: " ما
قرئت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن " (3).
وفيه مسندا عن سلمة بن محرز، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " من لم
يبرئه الحمد، لم يبرئه شئ " (4).
وعنه في الصحيح، عن معاوية بن عمار، عن الصادق (عليه السلام)، قال: " لو
قرئت الحمد على ميت سبعين مرة، ثم ردت فيه الروح، ما كان ذلك عجبا " (5).
ولو قيل: الوجدان يقضي بخلافه، فكيف يجمع بينه وبين ما وصل
إلينا من الآثار والأخبار ما لا يحصى.
قلنا: هذه القضايا المستعملة في هذه المواقف كلها - في الاصطلاح
- طبيعية مهملة، لا حقيقية عامة. فإذا قيل: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء

1 - الخصال 2: 495 / 1.
2 - الخصال 2: 398 / 36.
3 - الكافي 2: 456 / 15.
4 - الكافي 2: 458 / 22.
5 - الكافي 2: 456 / 16.
26

والمنكر) * (1)، ليس معناه أن كل صلاة تكون كذلك، ضرورة أن آيات الكتاب
العزيز ليست نازلة لإخلال النظام البشري، وإيجاد الهرج والمرج، وإبراز
المعجزات وخارق العادات على الدوام، بل لها شروط خاصة، كما هو
المحرر عند أهله.
المسألة الثامنة
في أحكامها
قال الإمامية: الفاتحة واجبة في الصلاة وشرط فيها، وتتعين في كل
صلاة ثنائية وفي الأوليين في غيرها (2)، ويجوز قراءتها في الأخيرتين، وهي
من السنة، كما في أخبارنا (3)، فلا تبطل الصلاة بتركها السهوي، بل
والجهلي.
واختلفت آراؤهم في جواز القراءة وعدمه للمأموم، اختلافا شديدا (4)،
فعن الدروس: ليست في الفقه مسألة مثلها في الخلاف (5).
ويجهر بها في المغرب والعشاء والصبح ويوم الجمعة ندبا، إلا في
صلاة الجمعة.

1 - العنكبوت (29): 45.
2 - الانتصار، السيد المرتضى: 41، المسألة 10. الخلاف، الشيخ الطوسي 1: 327، مسألة
80، تذكرة الفقهاء 1: 114.
3 - وسائل الشيعة 4: 781، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 42، الحديث 6.
4 - جواهر الكلام 9: 331 - 319.
5 - لم يوجد في الدروس الشرعية، والتعبير من الشهيد الثاني، روض الجنان: 373.
27

وقال الحنفية: " أي شئ قرأ أجزأه، لأن الفاتحة كسائر السور في
جميع الأحكام، فكذا الصلاة ".
وقال الشافعي في " الام ": " فواجب على من صلى منفردا أو إماما أن يقرأ
بأم القرآن في كل ركعة، لا يجزيه غيرها ". وبذلك قال الحنبلي
والمالكي.
وقالوا: فلو تركها سهوا فعليه أن يأتي بالركعة التي تركها فيها (1).
وهذا هو المعروف عن الآخرين.
ويدل عليه - مضافا إلى الاتفاق - الأخبار والأحاديث من طرق
الخاصة والعامة، البالغة حد الاستفاضة قطعا، بل هي متواترة، لبلوغها
في كتب العامة إلى قريب من ثلاثين رواية.
ومن أحكامها: أن من تركها بزعم الجماعة تبطل صلاته، لحكومة
قوله: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " على قاعدة " لا تعاد ".
وقال في " التذكرة ": " وعند بعض علمائنا أنها ركن، لو أخل بها سهوا
بطلت صلاته، وهو قول الشافعي في الجديد " (2). انتهى.
والمشهور بين الأصحاب عدم البطلان، إما لأجل قصور دلالته على
دخالتها في الاسم حتى ادعاء، أو لأن الأدلة الخاصة الناظرة إلى أن
بطلانها منحصرة بما إذا تركها عمدا.
ومنها: استحباب التحميد بقوله: " الحمد لله رب العالمين " بعد

1 - تذكرة الفقهاء 1: 114، الفقه على المذاهب الأربعة 1: 229 - 230.
2 - تذكرة الفقهاء 1: 117.
28

الفراغ منها في الصلاة، منفردا كان أو جماعة، إماما كان أو مأموما،
للنصوص الخاصة (1).
وأما أصحاب السنة فأجمعوا على استحباب التأمين لقارئ القرآن
وفي الصلاة (2)، واختلفوا في استحباب الجهر والإخفات، وفي استحبابه
للمأمومين، أو لهم وللإمام. وقد استندوا إلى روايات رواها أبو هريرة وأبو
موسى الأشعري ووائل بن حجر، أخرج الأول الأمهات (3)، والثاني أخرجه
مسلم (4)، والثالث أخرجه أبو داود (5) والدارقطني (6). ويشهد لذلك، السيرة
الإسلامية.
فما في " التذكرة " من انفراد أبي هريرة بنقله (7)، غير صواب. فلولا
النصوص الخاصة التي نهت عنه وأبطلت الصلاة معه، كان لتجويزه
وجه قوي، لاشتهاره بين المسلمين بجميع طوائفهم، فيكون هذه السيرة
متصلة إلى عصره (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا.
وربما يظهر أن ما هو المنهي عنه في أخبارنا هي كلمة " الآمين "
المشددة، كقوله تعالى: * (ولا آمين البيت) * (8)، لقوله (عليه السلام) - على ما فيها -:

1 - وسائل الشيعة 4: 752، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 17.
2 - الفقه على المذاهب الأربعة 1: 250.
3 - صحيح مسلم 1: 192 / 72، صحيح بخاري 1: 369 / 739.
4 - صحيح مسلم 1: 189، كتاب الصلاة، الباب 16، الحديث 62.
5 - سنن أبي داود 1: 309 / 932.
6 - سنن الدارقطني 1: 334 / 5.
7 - تذكرة الفقهاء 1: 118.
8 - المائدة (5): 2.
29

" إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الآدميين والتأمين من كلامهم " (1)،
وذلك لأن " آمين " على وزن فاعيل، ليس بعربي، كما صرح به الزوزني في
شرح القصيدة، وما هو العربي هو الفعيل، لا فاعيل، كهابيل وقابيل. وأما ما
في القرطبي من أنه كياسين (2)، فمن عجيب التوزين، لأن ياسين مركبة،
فلا تخلط.
فالأصل هو الفعيل، وهو بمعنى الدعاء، كما عن أكثر أهل العلم،
ومعناه: " اللهم استجب لنا "، وقيل: " فليكن كذلك " - قاله الجوهري (3) -،
وبالأول قال جمع من اللغويين أيضا.
وفي المروي عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال:
" سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما معنى آمين؟ قال: رب افعل ".
وقال الترمذي: معناه: " لا تخيب رجاءنا " (4)، فعلى هذا يجوز ذلك، لأنه
دعاء، وليس من كلام الآدميين.
ومما يشهد لذلك: أن قول التشديد، نسب إلى الصادق (عليه السلام) في
المحكي عن أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري وأبي الحسن
والحسين بن الفضل، وهو - بناء على التشديد - من أم إذا قصد، أي نحن
قاصدون نحوك، ومنه قوله تعالى: * (ولا آمين البيت الحرام) * (5). انتهى.

1 - تذكرة الفقهاء 1: 118.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 128.
3 - الصحاح 5: 2072.
4 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 128.
5 - المصدر السابق 1: 128 - 129.
30

فيكون على هذا " آمين " جمع الآم، أي القاصد، وكأنهم كانوا يريدون
به ما يرجع إلى استلزامه كونه من كلام الآدميين، كما سيظهر وجهه.
وقيل: قال قوم: هو اسم من أسماء الله تعالى، روي عن جعفر بن
محمد (عليهما السلام) ومجاهد وهلال بن يساف، وهو في المروي عن عباس،
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، على ما هو المحكي عن ابن العربي (1).
وقيل: هو معرب " همين " الفارسية. وقيل: هو معرب كلمة فرنجية
تقرب منه معنى.
ويظهر من اللغة: أن " أمين " - كفعيل - هو الأصل، و " آمين " إشباع
" أمين "، والإشباع جائز، وهذا هو الأقوى حسب الجمع بين الأدلة.
ولك أن تقول: تحت النهي عنه والمنع منه وبطلان الصلاة معه سر
وهو: أن الواجب في الصلاة هي القراءة، والقراءة متقومة بقصد
الحكاية، فلا دعاء حين قراءة الفاتحة حتى يلحقه الدعاء بالاستجابة،
فهي كلمة لغو في الصلاة تورث بطلانها، وتصبح من كلام الآدمي.
اللهم إلا أن يقال بجواز الجمع بين قصد الحكاية والقراءة وقصد
الإنشاء وإن كانا متنافيين. أو يقال بعدم الحاجة إلى قصد الحكاية
والقراءة، بل الواجب هو الإتيان بفاتحة الكتاب في الصلاة، كما هو
المستفاد من جمع من أخبارها (2).

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 128.
2 - راجع وسائل الشيعة 4: 732 - 735، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 1 و 2.
31

وربما يقال (1): إن طلب الهداية عند قراءة قوله - عز من قائل -:
* (إهدنا الصراط المستقيم) * ونحوه في غيره، يستلزم المحذور العقلي، وهو
تعدد المحكي مع وحدة الحاكي، لأن القراءة هي الحكاية عن اللفظ
باللفظ المماثل، والإنشاء قصد ثبوت المعنى باللفظ، ولا يمكن استعمال
اللفظ في اللفظ وفي المعنى.
وتوهم: أن المعنى يقصد من اللفظ الذي هو المعنى، كما في أسماء
الأفعال عند جمع، فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد،
بل اللفظ الصادر من القارئ يستعمل أولا في اللفظ، والمعنى - وهو
اللفظ الثاني - يراد منه المعنى الإنشائي.
غير صحيح.
بل أوضح استحالة من الأول، ضرورة أن الاستعمال إما بمعنى الإعلام
والتفهيم، أو بمعنى إيجاد المعنى باللفظ وإخطاره، أو بمعنى إفناء اللفظ في
المعنى، والكل هنا غير متصور، لأن تلك الألفاظ الفانية قبل هذا الاستعمال
لا تليق بذلك.
اللهم إلا أن يقال: إن الاستعمال هو الاستثمار والانتفاع من علق اللفظ
والعلاقات الاعتبارية الثابتة بين الألفاظ والمعاني، فلا مانع من استفادة
المتكلم من الألفاظ السابقة التي وجدت في كلام الغير أو في كلام نفسه.
وهذا هو أحد الوجوه في معنى الاستخدام، فإن اللفظ الذي له معنيان، قد
اطلق أولا وأريد منه معنى، ثم بعد إرجاع الضمير يراد من ذلك اللفظ - وهو

1 - تفسير التبيان 1: 46، انظر جواهر الكلام 10: 7.
32

المرجع - المعنى الثاني.
والذي هو الحق في المسألة: أن ما هو الواجب تارة يكون عنوان
الفاتحة، وأخرى عنوان قراءة الفاتحة. فإن قلنا بالأول، فلا نزاع في أنها لا
تتقوم بقصد الحكاية، فيجوز الاقتباس بها للمعاني المقصودة، وتصح
الصلاة.
وإن كان العنوان الثاني - كما هو قضية الجمع بين الأدلة، من قولهم:
" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " ومن قولهم: " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " بناء
على انطباقه عليها، أو الأدلة السمعية والأحاديث الآمرة بالقراءة في
الصلاة - ففيه الخلاف بين الأعلام، فالمشهور عنهم عدم جواز الإنشاء
لعدم إمكان الجمع بين اللحاظين، فلابد من قصد الحكاية حتى يحصل
عنوان القراءة.
والذي يظهر لنا هو الثاني، لأن الجمع المذكور - كما تحرر في الأصول
- ممكن، مع عدم تقوم صدق القراءة بالحكاية، لأن معنى القراءة أعم مما
توهم، وذلك لقوله تعالى: * (بسم الله الرحمن الرحيم * إقرأ باسم
ربك) * (1). وإذا كانت الفاتحة محتاجة في كونها من القرآن إلى قصد
القرآنية، كان للتوهم المذكور ولما اشتهر وجه، ولكن القرآن يوجد وإن
قصد غيره، لأنه موضوع لهذه التراكيب المخصوصة، والمؤلف من
النسب والإضافات على هيئات خاصة. ولو كان ما يترنم به العبد غير قرآن
عند عدم قصد القرآنية، يلزم كونه مماثلا للكتاب، مع أن العبد عاجز عن

1 - العلق (96): 1.
33

إيجاد مماثله ومعجز بقوله تعالى * (فأتوا بسورة من مثله) * (1).
ولذلك صار الاقتباس من اللطائف الكلامية، وهو تضمين الكلام
بالقرآن أو حديث سيد الأنام (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو كان قصد شعر الشاعر، دخيلا في
كونه شعره، يلزم أن يكون جميع أفراد الإنسان شعراء، مع أن الضرورة
قاضية بأن من أظهر مرامه بشعر المتنبي وامرئ القيس، لا يكون شاعرا،
وما ترنم به هو شعرهما لا شعر الآخرين. بل لو فرضنا نسيانه الفاتحة،
ولكنه أتى بها من تلقاء نفسه، كفى وإن كان من مصاديق توارد الخاطر،
حسب ما اصطلح عليه في علم البديع.
المسألة التاسعة
في كونها من القرآن
أجمعت الأمة على أنها من القرآن، وربما يشكل لعدم إثباتها في
مصحف ابن مسعود، فلما لم تثبت دل على أنها ليست منه، كالمعوذتين عنده.
وأجيب عنه: بأنه بعد ما سئل عن ذلك وعن علة خلو مصحفه عنها؟
قال: لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة، واختصرت بإسقاطها، ووثقت بحفظ
المسلمين لها (2). انتهى.
وكأنه أراد من ذلك أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل

1 - البقرة (2): 23.
2 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 114 - 115 حول الإشكال والجواب المنقول عن ابن
الأنباري.
34

السورة التالية بعدها، وربما يشعر بهذه المقالة قوله تعالى: * (ولقد
آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * (1) لظهور العطف في المغايرة.
فعلى ما تحرر وتقرر يصعب الأمر جدا، لأنا إن قلنا: إن النقل المتواتر
كان حاصلا في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن، فحينئذ
كان ابن مسعود عالما بذلك، فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل.
وإن قلنا: إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلا في ذلك
الزمان، فهذا يقتضي أن يقال: إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل، وذلك
يخرج القرآن عن كونه حجة يقينية، ولذلك يتقوى أن النسبة كاذبة جدا.
ولك دعوى أن عدم حجية سورة من الكتاب قطعية، لا تستلزم عدم
حجية سائر السور.
أو يقال: لا حاجة إلى كونها حجة قطعية، بل يكفي كونها حجة
عقلائية، لما تقرر عندنا أن احتمال التحريف المضر غير قابل لدفعه ثبوتا،
ولكنه ساقط إثباتا ومتروك شرعا، فالكتاب حجة عقلائية قوية قريبة من
القطعية. فما توهمه الفخر في المقام غير تام (2).

1 - الحجر (15): 87.
2 - التفسير الكبير 1: 218.
35

المسألة العاشرة
نزولها جمعا ومفرقا
السور مختلفة في النزول مفرقا وجمعا. أما السور المنزلة مفرقة
فهي كثيرة، وأما التي نزلت جمعا فهي سورة الفاتحة والإخلاص والكوثر
وغيرها (1)، وقد عرفت من السمرقندي دعوى نزولها مفرقا، جمعا بين كونها
مدنية ومكية.

1 - انظر الإتقان في علوم القرآن 1: 136.
36

المبحث الثاني
حول كلمة البسملة الشريفة * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
وهي الآية الأولى وهنا مسائل:
المسألة الأولى
عما كان يبتدأ به قبل الإسلام في المكاتيب
قال السيوطي في " الأوائل ": أول من كتب بمكة ب‍ " باسمك اللهم "
أمية بن أبي الصلت إلى أن جاء الإسلام، فكتب * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * (1).
وفي " أدب الكتاب " لمحمد بن يحيى الصولي قال: " سأل ابن عائشة
عبيد الله بن محمد بن حفص عن ابتداء الكتاب ب‍ * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * فقال: حدثني أبي: أن قريشا كانت تكتب في جاهليتها ب‍ " اسمك
اللهم " وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك، ثم نزلت سورة هود، وفيها * (بسم الله

1 - محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر: 41.
37

مجراها ومرساها) * (1) فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يكتب في صدر كتبه: " بسم
الله "، ثم نزلت في سورة بني إسرائيل: * (قل ادعوا الله...) * (2) فكتب " بسم الله
الرحمن " ثم نزلت في سورة النمل: * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن
الرحيم) *، فجعل ذلك في صدر الكتب إلى الساعة، وكتب * (بسم الله
الرحمن الرحيم) * في أول كل سورة من القرآن " (3). انتهى.
ولكن يعارضها مكاتبة الحديبية، ففي " الوثائق السياسية " لحيدر
آبادي: " باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل ابن
عمرو " (4). انتهى. ولعله لعدم اتفاقهم على غير ذلك، كما لا يخفى. وفي بعض
التواريخ: " ولما كتب علي (عليه السلام) في صلح الحديبية بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
* (بسم الله الرحمن الرحيم) *، قال سهيل بن عمرو: ما ندري ولكن اكتب ما
نعرف: باسمك اللهم " (5).
وفي المروي عن الشعبي والأعمش: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكتب:
" باسمك اللهم " حتى أمر أن يكتب: " بسم الله " فكتبها، فلما نزلت * (قل ادعوا
الله أو ادعوا الرحمن) * كتب: " بسم الله الرحمن "، فلما نزلت * (إنه من
سليمان...) * (6) كتبها.

1 - هود (11): 41.
2 - الإسراء (17): 110.
3 - أدب الكتاب، محمد بن يحيى الصولي: 31 - 32.
4 - لم نعثر على الكتاب.
5 - تاريخ الطبري 2: 634، الجامع لأحكام القرآن 1: 104.
6 - النمل (27): 30.
38

وفي سنن أبي داود: " قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة:
إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكتب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * حتى نزلت سورة
النمل ". انتهى (1).
ويرد هذا أو ذاك ما في " الوثائق السياسية " من مكاتيبه (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وفي مجموعها الابتداء بها، وفي بعضها لا يبتدأ بشئ، وفيها صورة تلك
المكاتيب المحفوظة في المخازن والمتاحف التي دعا فيها الملوك
والسلاطين إلى الإسلام، وغيرها، فراجع.
المسألة الثانية
عما ابتدأ به سائر الكتب السماوية أوائل الفصول والسور
اعلم أني قد تفحصت في جميع الكتب السماوية - أي كتب العهد
القديم والعهد الجديد - الموجودة بين يدي، فما وجدت فيها شيئا يبتدأ به
في أوائل السور والفصول والإصحاحات، بل الكل مشترك في الابتداء
بالمقصود من غير أن يبتدأ باسم الله تعالى.
فيحدث مشكل في الباب، وهو أن مقتضى الأحاديث الآتية أن جميع
الكتب السماوية كانت مصدرة بالبسملة، فيعلم من ذلك أن هذه الكتب
الموجودة محرفة أشد التحريف، أو تكون البسملة في صدر سائر
الكتب خارجة عن الكتاب، فما كانت تكتب.
ولو كانت البسملة معروفة بين علماء اليهود والنصارى - عبرانية

1 - سنن أبي داود 1: 269 / 787.
39

أو عربية - لكانت تشتهر قبل نزول القرآن، فعليه يشكل الاعتماد على هذه
الأخبار، مع أنها غير نقية الأسناد، فإن فرات بن الأحنف ضعيف بن ضعيف -
كما قيل (1) - ولا يظهر من تفسير العياشي أنه يروي عن صفوان الجمال بلا
واسطة شفاها، أو كان عنده كتابه (2).
المسألة الثالثة
عن معهودية هذه الكلمة الشريفة قبل نزول
القرآن، بلسان عبري أو عربي أو غيرهما
المعروف عن التاريخ المزبور في المسألة الأولى أنها ما كانت
معهودة قبل الإسلام، وفي " الكافي " مسندا عن فرات بن الأحنف، عن أبي
جعفر (عليه السلام) أنه قال: " أول كل كتاب نزل من السماء * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * (3) " الحديث.
وعن العياشي، عن صفوان، عن الصادق (عليه السلام): " ما أنزل الله من السماء
كتابا إلا وفاتحته * (بسم الله الرحمن الرحيم) *، وإنما كان يعرف انقضاء
السورة بنزول * (بسم الله الرحمن الرحيم) * ابتداء للأخرى " (4).

1 - هذا سهو صدر من قلمه الشريف فإن التوصيف المذكور جاء في ابنه محمد بن فرات،
والأمر سهل بعد ضعف فرات، انظر تنقيح المقال 2: 3 / 9413.
2 - انظر تفسير العياشي 1: 19 ويأتي الحديث بعد أسطر.
3 - الكافي 3: 212 / 3.
4 - تفسير العياشي 1: 19.
40

وفي ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن موسى، عن أبيه، عن آبائه،
عن أميرا لمؤمنين (عليهم السلام) أنه قال: " * (بسم الله الرحمن الرحيم) * آية من
فاتحة الكتاب... - إلى أن قال -: وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز
العرش، وإن الله - عز وجل - خص محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وشرفه بها، ولم يشرك معه
فيها أحدا من أنبيائه، ما خلا سليمان، فإنه أعطاه منها * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * وحكى عن بلقيس حين قالت: * (إني القي إلي كتاب كريم * إنه من
سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * (1) " (2)، الحديث. نوع
معارضة مع ما سبق.
ووجه الجمع: أن النازل على سليمان عربي وعلى غيره غير عربي،
أو أن سليمان كان له أن يبتدئ بها في مكاتيبه دون غيره.
وربما يشكل الخبران الأولان بما مر في المسألة الثانية، من خلو
الكتب السماوية منها.

1 - النمل (27): 29 و 30.
2 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 302 / 60.
41

المسألة الرابعة
حول أحكامها
وهي كثيرة:
الحكم الأول: هل هي من القرآن؟
يرى عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا، وهو رأي بعض الحنفية.
ومن أدلتهم على ذلك: حديث أنس، قال: " صليت خلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والخلفاء الثلاثة، وكانوا يستفتحون ب‍ * (الحمد لله رب العالمين) *، لا
يذكرونها في أول قراءة ولا آخرها " (1).
وقد مضى شطر من البحث حول ذلك في مسألة عدد آيات سورة
الفاتحة، ويكفي ردا عليه إجماع المسلمين على خلافه.
وفي دلالة الرواية على أنها ليست من القرآن منع، لأن عدم وجوبها في
القراءة تخصيصا بالسيرة العملية للمطلقات الدالة على أن " لا صلاة إلا
بفاتحة الكتاب "، ممكن كما أنها لمكان عدم كونها من الفاتحة لا تقرأ على
فرض صحة النسبة، وهي واضحة البطلان، لأن ظاهر قوله: " كانوا "
اعتيادهم على تركها، ولو كان هذا كالنار على المنار، لما كان وجه لاختلاف
فقهاء الإسلام، وذهاب الأكثر إلى وجوب قراءتها والكثير إلى أنها من
الفاتحة. وهذا أنس يروي عنه مسلم في صحيحه قال: قال رسول

1 - صحيح مسلم 1: 187 / 52.
42

الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنزلت علي سورة، فقرأ: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * " (1)،
فكيف يجمع بين روايتيه؟!
ويظهر من " التبيان " أن المسألة كانت مورد الكلام، فقال: " ومن
قال: إنها ليست من القرآن قال: إن الله أدب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلمه تقديم ذكر
اسم الله أمام جميع أفعاله وأقواله، ليقتدي به جميع الخلق في صدور
رسالاتهم وأمام حوائجهم.
قالوا: والدليل على أنها ليست من القرآن: أنها لو كانت من نفس
الحمد، لوجب أن يكون قبلها مثلها، لتكون إحداهما افتتاحا للسورة حسب
الواجب في سائر السور... " (2) انتهى.
فيعلم من ذلك أن الرأي المزبور ما كان نادرا.
وأنت خبير بما فيه من عجب الدلالة وسقوط الاستدلال، والذي ظهر
لي أن مؤلف " التبيان " شيخنا الطوسي (قدس سره) خلط بين هذه المسألة
والمسألة الآتية، وظن أن جماعة أنكروا كونها من القرآن، وإذا راجعت
تفسير الطبري ترى أن عبارته في الاستدلال مأخوذة منه، وهو من
المخالفين في المسألة الآتية دون هذه المسألة، وسيأتي في ذيل
المسألة الآتية حديث ابن عباس، الظاهر في أنها ليست من الكتاب، مع
جوابه.

1 - صحيح مسلم 1: 187 / 53.
2 - تفسير التبيان 1: 24.
43

الحكم الثاني: هل هي من الفاتحة؟
اتفق المسلمون على أنها من سورة النمل، وعلى أنها من سورة
الفاتحة علماء السلف من أهل مكة فقهاؤهم وقراؤهم ومنهم ابن كثير،
وأهل الكوفة ومنهم عاصم والكسائي من القراء، وبعض الصحابة
والتابعين من أهل المدينة، والشافعي في الجديد وأتباعه والثوري
وأحمد في أحد قوليه، ومن المروي عنهم ذلك: من الصحابة ابن عباس
وابن عمر وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن
المبارك.
وقيل: إن قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاءها على أن التسمية
ليست منها، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، وهو مذهب أبي حنيفة
ومن تابعه (1)، ومالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعي وغيره من علماء
الشام، وأبو عمرو ويعقوب من قراء البصرة، وعن حمزة من قراء الكوفة.
وروي عن أحمد أنها آية من الفاتحة دون غيرها (2).
وهذا هو رأي الإمامية وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وهو
قضية رواياتهم المتكاثرة عنهم (عليهم السلام) (3)، وهو مقتضى الأخبار من طرق أهل
الجماعة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيها الصحاح والحسان - على ما

1 - الكشاف 1: 1.
2 - انظر التفسير الكبير 1: 203، وروح المعاني 1: 37.
3 - تفسير العياشي 1: 19 - 22، تفسير البرهان 1: 42.
44

اصطلحوا عليه - وهي كثيرة محكية عن جماعة، كأم سلمة وجابر وعمار
وطلحة وبريدة وابن عمر وأبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وابن عباس
ومحمد بن كعب القرضي (1).
ومن غرائب الاستدلال ما اشتهر في كتب الخاصة والعامة بأن
المسلمين اتفقوا على رسمها من أول الأمر إلى الآن عدا سورة البراءة، مع
الأمر بتجريد القرآن من كل ما ليس منه، ومن ثم لم يكتبوا " آمين " آخر
الفاتحة (2). فإنه دليل على أنها من الكتاب، ولا يستدل به على الجزئية
لأية سورة كانت.
هذا، مع أن جماعة من القراء تركوا الفصل بين السور بالتسمية،
وفيهم حمزة وخلف ويعقوب واليزيدي (3).
وغير خفي أن المسألة خلافية، واستدل لكل من القولين بأدلة
استحسانية وروائية (4)، ولو أغمضنا النظر عما يدل على جزئيتها من
الصحيح في مذهبنا، كان وجه الشبهة قويا جدا، لقصور الأدلة عن إثباتها
من الفاتحة، وللخلط بين هذه المسألة والمسألة السابقة توهم تمامية
الاستدلالات، ولولا خوف الإطالة المنهي عنها والمملة لسردت جملة
منها، وهي مزبورة في أساطير الأولين.
وبالجملة: إن أحطت خبرا بهذه النكتة تقدر على تمييز الصحيح من

1 - الدر المنثور 1: 7 - 8، شعب الإيمان، البيهقي 2: 434 - 441.
2 - الكشاف 1: 1، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 5.
3 - راجع مجمع البيان 1: 18.
4 - التفسير الكبير 1: 196 - 202.
45

الدليل عن السقيم، وما هو المهم من بينها الأخبار المستدل بها على
جزئيتها.
أحاديثنا
فمن طريقنا ما أخرجه الطوسي (قدس سره) بإسناده المعتبر عن الخزاز، عن
ابن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثاني والقرآن العظيم،
أهي الفاتحة؟ قال: " نعم ". قلت: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * من السبع
المثاني؟ قال: " نعم هي أفضلهن " (1).
وما أخرجه الصدوق في سند معتبر عن ابن أذينة، وفيه: " فمن أجل
ذلك جعل * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في أول كل سورة " (2).
ولعمري إن الخبر المعتبر الظاهر في المراد ينحصر بالأول. وما
أورده " الوسائل " - في الباب الحادي عشر - من الأخبار (3) أكثرها تدل
على أنها من الكتاب، أو على وجوب قراءتها مثلا مع السورة. نعم روايتان
اخريان تدلان على أنها منها، إلا أنهما غير نقيتي السند (4) إن لم نقل بأن سند
الشيخ إلى الخزاز فيه العباس وهو مشترك إلا أن ظاهره هو ابن
المعروف. والله العالم.

1 - تهذيب الأحكام 2: 289 / 13.
2 - علل الشرائع 2: 315 / 1.
3 - وسائل الشيعة 4: 745، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 11.
4 - أمالي، الصدوق: 175، مجلس 33، الحديث 1 و 2. وسائل الشيعة 4: 747، كتاب
الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 11، الحديث 9 و 10.
46

أحاديث الجماعة
ومن طريقهم ما يدل صريحا على الجزئية ما أخرجه الدارقطني
عن أبي هريرة (1)، ومسلم عن أنس (2)، والبيهقي عن ابن عباس (3)، وهكذا ابن
خزيمة (4)، و " مستدرك " الحاكم عن سعيد بن جبير (5)، وفي الكل ما يدل
على أنها من الفاتحة.
أما الروايات الأخر المستدل بها على الجزئية، فهي تدل على أنها
من الكتاب والقرآن. وهذا الخلط بين المسألتين خفي على أعلام
المفسرين - من الخاصة والعامة - إلى عصرنا هذا، مع أن ما يدل على
أنه من الكتاب يشعر بنفي جزئيتها للفاتحة، كما لا يخفى.
أحاديث يستدل بها على أنها ليست منها
أما من طريقنا فلم نجد إلا ما رواه العياشي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا جابر،
ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه؟ فقال جابر: بلى، بأبي أنت
وأمي يا رسول الله علمنيها. قال: فعلمه الحمد لله أم الكتاب " (6) الحديث.

1 - سنن الدارقطني 1: 306 / 17 و 36.
2 - صحيح مسلم 1: 380 / 53.
3 - السنن الكبرى 2: 45 / 5.
4 - صحيح ابن خزيمة 1: 248 / 493.
5 - راجع المستدرك، الحاكم النيسابوري 2: 257.
6 - راجع تفسير العياشي 1: 20 / 9، وسائل الشيعة 4: 874 كتاب الصلاة، أبواب قراءة
القرآن، الباب 37، الحديث 8.
47

فإنه ظاهر في أن الفاتحة تبتدأ من التحميد.
ومثله ما رواه محمد بن سنان فيه عن الكاظم، عن أبيه، أنه قال
لأبي حنيفة: " ما سورة أولها تحميد، وأوسطها إخلاص، وآخرها دعاء؟ " فبقي
متحيرا، ثم قال: لا أدري. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " سورة الحمد " (1).
وأما من طرق أهل السنة فقال القرطبي: " والأخبار الصحاح التي
لا مطعن فيها، دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها، إلا
في النمل وحدها " (2)، فأخرج بعد ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة، وما رواه
أبو داود عن الصحابة:
فالأول: حديث قسمة الفاتحة، وأنت خبير بقصور دلالته، لأن تمام
الفاتحة بالبسملة، فالتقسيم الوارد على الفاتحة لا يرد عليها، مع أن
عدم ورود القسمة عليها لا يدل على أنها ليست منها، واشتماله على أن
آيات الفاتحة السبعة باعتبار انقسام الأخيرة إلى آيتين، من موضوعات
الحديث.
والثاني: حديث الصلاة خلف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الثلاثة،
وقد مر أنه أيضا لا يدل على عدم جزئيتها للفاتحة، لأن عدم وجوب قراءتها
يجتمع مع كونها جزءا منها.
وما أخرجه الجريري عن الحسن: " لم تنزل * (بسم الله الرحمن

1 - تفسير العياشي 1: 19 / 2.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 94.
48

الرحيم) * في شئ من القرآن إلا في طس " (1) يدل على أنها ليست من
الكتاب فيكون من أدلة البحث السابق، وقد مر ما يتعلق به.
فبالجملة: يصح أن يدعى: أن أحسن أدلة نفي الجزئية هو الحديث
الأول، وهو ينتهي إلى أبي هريرة الذي قالوا في حقه: إن عمر شهد عليه
بأنه عدو الله وعدو المسلمين، وحكم عليه بالخيانة، وأوجب عليه
عشرة آلاف دينار ألزمه بها بعد ولاية البحرين (2). وهل على مثله
يسكن ويركن؟!
وأما ما اشتهر بينهم من: أن القرآن لا يثبت إلا بالنقل المتواتر
القطعي الاضطراري، ولا يثبت بالنظر والاستدلال، فهو لا يناقض مسألتنا
هذه، وهي جزئية البسملة للفاتحة، فالاستدلال المزبور ساقط جدا.
ومثله الاستدلال بسيرة المسلمين على جزئيتها لها، لأنهم كانوا
يقرؤونها في أوائل السور في مرأى ومسمع من الرسول الأعظم، فكان عليه
التذكير بذلك، لأن في تركه القبح، فيستنتج من ذلك أنها من القرآن، مع أن
المستدل استدل بها للجزئية، ولكن رجع في دليله على أمر آخر، فتدبر جيدا.
وبعدما أحطت خبرا بما أسلفنا، فلا حاجة إلى تضعيف سند الروايتين
من طريقنا، أو المناقشة في دلالتهما، بعد قوة دليل الجزئية إلى حد لا
يقاومها مثل ذلك.
نعم أخرج المستدرك عن ابن عباس قال: سألت علي بن أبي

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 95.
2 - انظر معجم البلدان 1: 348، تنقيح المقال 2: 165.
49

طالب (عليه السلام): لم لم تكتب في براءة * (بسم الله الرحمن الرحيم) *؟ قال: " لأنها
أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فليس فيها أمان " (1).
وهذا يشعر بأنها ليست منها، ولكن كان رأيهم على كتابتها في مبدأ
السور، وظاهره أنها ليست من القرآن، وكانوا يكتبونها كما تكتب في أول
المكاتيب، وهو غير قابل للتصديق.
تنبيه
ربما يوهم أنها ليست من السور مطلقا، وذلك لعدم معهودية عدها من
آيات السور في القرآن الموجود بين أيدي المسلمين كافة، ويشرعون في
تعداد الآيات من بعدها، ويأخذون في ذكر الأرقام في القرآن المرسوم فيه
الأرقام أيضا بعد البسملة، فيعلم منه أنه كان من الأول يعتقدون أنها ليست
من السورة، وإلا لحسبوها منها (2).
وفيه: أنه تأييد، ولا دلالة فيه بعد ما مر من الأدلة على أنها منها.
ومما يشهد على ما احتملناه: أن في القرآن أغلاطا إملائية ربما تبلغ أكثر من
مائة، وما ذلك إلا لبنائهم على التحفظ على ما صنعه الأولون وهم جاهلون،
ولا عبرة بما صنعوا.

1 - المستدرك، الحاكم النيسابوري 2: 330.
2 - انظر التفسير الكبير 1: 203، ونقل الإتقان في علوم القرآن 1: 267 هذا القول عن
المالكية وغيرهم.
50

الحكم الثالث: هل هي من سائر السور؟
الظاهر ثبوت الملازمة بين المسألة السابقة وهذه المسألة
قولا، فإن من اعتبرها جزء الفاتحة أطلق بالنسبة إلى غيرها، ومن منع
جزئيتها بالنسبة إليها أيضا أطلق المنع.
نعم في خصوص الفرض الأول حكي عن ابن الجنيد التفصيل بينها
وبين سائر السور، وعن المخالفين (1) أحمد وحمزة من قراء الكوفة، بل
قيل عن الشافعي: إنه تردد في هذه المسألة وأتى بالقولين المخالفين.
وأما في الفرض الثاني فلا يوجد من فصل فيه، فيقول بجزئيتها في سائر
السور دون الفاتحة.
وقد استدل بروايات وأحاديث، أهمها سندا ودلالة ما رواه الصدوق
بإسناده عن جماعة - ومنهم عمر بن أذينة - عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث
طويل معراجية - وفيه: " فلما بلغ * (ولا الضالين) * قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): والحمد
لله رب العالمين شكرا، فقال العزيز الجبار: قطعت ذكري فسم باسمي، فمن
أجل ذلك جعل * (بسم الله الرحمن الرحيم) * بعد الحمد في استقبال السورة
الأخرى، فقال له: اقرأ * (قل هو الله أحد) *... " (2) الحديث.
فما هو الحجر الأساسي هو الاتفاق المحكي والإجماعات الكثيرة
عن العامة والخاصة.

1 - التفسير الكبير 1: 203.
2 - علل الشرائع 2: 315 / 1.
51

ومن أحاديث العامة ما يدل على أنها ليست من سائر السور، بناء على
ثبوت الإجماع المركب على أنها إذا لم تكن من بعض منها فليست من
الاخريات:
" مستدرك الحاكم " (1) و " صحيح الترمذي " في باب ما جاء في فضل
سورة الملك، و " كنز العمال " في فضائل السور والآيات، أخرجا عن
أبي هريرة: " أن سورة الملك ثلاثون آية " (2)، فلو كانت هي منها لزادت
عليها بآية.
وفي رواية أخرى عنه: " أن سورة الكوثر ثلاث آيات ".
ولكنها معارضة بما أخرجه مسلم عن أنس، قال: " بينا رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما
أضحكك يا رسول الله؟ قال: " نزلت علي آنفا سورة، فقرأ: * (بسم الله
الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر...) * (3) " (4) الحديث.
وأما الرواية الأولى فهي هكذا: قال أبو هريرة: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن
سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى أخرجته من النار
يوم القيامة، وأدخلته الجنة، وهي سورة تبارك ". أخرجها الترمذي، وقال: " هو
حديث حسن " (5). انتهى.

1 - المستدرك، الحاكم النيسابوري 1: 565.
2 - كنز العمال 1: 583 / 2646.
3 - الكوثر (108): 1.
4 - صحيح مسلم 1: 187 / 53.
5 - سنن الترمذي 4: 238 / 3053.
52

ويكفي في كذبه - كما هو دأبه - أن سورة الفجر وسورة السجدة -
أيضا - ثلاثون آية، فراجع.
ثم إن في أحاديثنا ما يظهر منه عدم وجوب البسملة مع السورة،
وهي مذكورة في الباب الثاني عشر من أبواب القراءة من " الوسائل " (1)،
ولكنها لا تدل على عدم الجزئية، لأن عدم الوجوب أعم من ذلك، مع أنها
عندنا محمولة على التقية، وهي تستلزم اشتهار فتوى العامة على عدم
الوجوب في الصلاة، وهو - أيضا - لا يدل على عدم الجزئية عندهم.
وما يدل من رواياتنا على الوجوب (2) فهو - أيضا - أعم من الجزئية،
مع أن في دلالتها على الوجوب إشكالا، لاحتمال كون النظر إلى
الترخيص بالإتيان، لما كان ذلك ممنوعا - على الكراهة - عند مالك
وبعض آخر.
إن قلت: إذا لم يكن واجبا فهو يلازم عدم الجزئية، وهكذا في عكسه،
لأن اعتبار الجزئية متقوم بوجوب القراءة مع السورة وعدمه.
قلت: كلا، فإن للجزئية آثارا اخر غير ذلك:
1 - إذا كانت جزء التوحيد والحمد فلا يجوز عندنا العدول بعدما
قرأها.
2 - إذا كانت من السورة فتعد آية منها، فلا يجوز العدول إذا بلغ إلى

1 - وسائل الشيعة 4: 748 - 749 كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 12،
الحديث 2 و 3 و 4 و 5.
2 - وسائل الشيعة 4: 745 كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 11.
53

النصف باعتبارها في سائر السور.
3 - إذا كانت آية منها فلابد - على المعروف بين أصحابنا - من قصدها
مع تلك السورة، أي قصد بسملة السورة الخاصة، وإلا فيجوز بلا قصد.
4 - إذا كانت منها يجوز الركوع بعدها في صلاة الآيات.
5 - إذا كانت منها فلا يشرع للجنب قراءتها عن سور العزائم، وهكذا
تعد من السبع المكروه على الجنب قراءة الأكثر منها... وغير ذلك.
وبالجملة: فذلكة البحث أن هذه المسألة من أمهات المسائل
الفقهية، حتى أفرد فيها الرسائل جمع، وقد بلغت الأقوال - على ما قيل -
إلى عشرة (1)، ولكنه خلط بين الأقوال والاحتمالات، والأمر سهل. كما لم
يذكر في طيها قول من يرى أنها ليست من القرآن رأسا:
الأول: أنها ليست آية من السور رأسا وأصلا.
الثاني: أنها آية من جميع السور إلا براءة.
الثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها.
الرابع: أنها بعض آية منها فقط.
الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا وللفصل بينها.
السادس: أنه يجوز جعلها آية منها وغير آية، لتكرر نزولها
بالوصفين.
السابع: أنها بعض من جميع السور.
الثامن: أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور.

1 - روح المعاني 1: 37.
54

التاسع: عكسه.
العاشر: أنها آيات فذة وإن أنزلت مرارا، والمحكي عن الشهاب لبيان
القول العاشر: أنها آية فذة. ولكنه عين القول الخامس، كما أن القول
العاشر قرينة على أن الخامس هو أنها آية واحدة نزلت مرة، وجئ بها في
أوائل السور، كما نجئ بها لسائر الأفعال والأقوال.
الحكم الرابع: جواز كتبها في أول كل كتاب
يجوز كتبها في أول كل كتاب ولو كان ديوان شعر، وروى مجالد عن
الشعبي: قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر * (بسم الله الرحمن الرحيم) * (1).
وقال الزهري: مضت السنة ألا يكتب في الشعر * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * (2).
وأول من ذهب إلى كتابته في أول كتب الشعر ودواوينه سعيد بن
جبير، وتابعه عليه الآخرون (3). قال أبو بكر الخطيب: وهو الذي نختاره (4).
وفي " الكافي " عن الصادق (عليه السلام): " لا تكتب * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
لفلان، ولا بأس أن تكتب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * على ظهر الكتاب " (5).

1 - الدر المنثور 1: 10، الجامع لأحكام القرآن 1: 97.
2 - الدر المنثور 1: 10.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 97.
4 - انظر الدر المنثور 1: 10.
5 - الكافي 2: 494 / 3.
55

الحكم الخامس: تعلق البسملة بالسور
قد أشرنا في السابق: أن البسملة من كل سورة لا تقع إلا مع قصد
تلك السورة، وهذا هو رأي أصحابنا إلا جماعة من المتأخرين، وهو
التحقيق عندنا، وتفصيله يطلب من موسوعتنا في الفقه.
وقد يقال: إن البسملة من كل سورة متعلقة بتلك السورة، ولها تفسير
لا ينطبق إلا على تلك السورة (1).
وقد ذكر الأستاذ الوالد المحقق - مد ظله - في بعض تآليفه القيمة (2)
عن بعض المشايخ العظام: أن من جملة الكتب التفسيرية ما عمل فيه
ذلك، وادعى المفسر في خلال الكتاب أن هذا الضوء من التفسير قد
تعلمه من الخضر (عليه السلام)، وهو قال: إنه قد تعلم من علي بن الحسين (عليهما السلام).
وقد كنت في سالف الزمان فاحصا عنه حتى وجدت في بعض
مكاتب الأصدقاء تفسيرا تصدى صاحبه لذلك، ولكنه ما كان عيانه
كسماعه، وهو - على ما ببالي - من علماء أوائل القرن التاسع، وقد طبع.
الحكم السادس: استحباب تجويد كتابة البسملة
" أصول الكافي " بسنده عن الصادق (عليه السلام): " اكتب * (بسم الله الرحمن

1 - انظر روح المعاني 1: 47.
2 - انظر آداب الصلاة: 242، والظاهر أن التعبير من استفادات المصنف (قدس سره) من والده
المعظم (قدس سره).
56

الرحيم) * من أجود كتابك، ولا تمد الباء حتى تمد السين " (1). وقضية ذلك
استحباب تجويد كتابة البسملة وكراهة مد البسملة، ولا يختص هذا
ببسملة الفاتحة، وهكذا بعض ما سبق.
الحكم السابع: استحباب الابتداء بالبسملة
ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل كالأكل والشرب
والنحر والجماع والطهارة وركوب البحر وغير ذلك من الأفعال، حتى ورد
عن ابن بابويه، عن " التفسير المنسوب إلى الإمام (عليه السلام) " في حديث طويل:
" فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم * (بسم الله الرحمن الرحيم) * " (2)،
وفي التفسير المزبور، قال: قال الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: " أما علمت
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حدثني عن الله - عز وجل - أنه قال: كل أمر ذي بال لم
يذكر فيه اسم الله فهو أبتر " (3)، و " الكافي " مسندا عن الباقر (عليه السلام): " لا تدعها
ولو كان بعده شعر " (4).
ومن العجيب أن العامة مع قولهم باستحباب ذلك عند كل فعل، تركها
في الفريضة بعضهم، كما لك وأصحابه، وفي السورة بعض آخر كأبي حنيفة (5).

1 - الكافي 2: 493 / 2.
2 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 28 / 9، التوحيد: 232 / 5.
3 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 25 / 7.
4 - الكافي 2: 493 / 1.
5 - الجامع لأحكام القرآن 1: 96.
57

إن قلت: كيف يجمع بين قوله تعالى: * (إذا قرأت القرآن فاستعذ
بالله) * (1) وبين عموم هذا الحديث، فإنه يلزم أن يبدأ أولا بالبسملة ثم
التعويذ والاستعاذة، مع أن البسملة من القرآن، ولا يخرج من القرآنية
بعدم قصدها بعد ما حررناه.
قلت: " الكافي " مسندا عن فرات بن أحنف، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال
في حديث: " فإذا قرأت: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فلا تبالي ألا
تستعيذ " (2) الحديث. وعلى هذا، استحباب التسمية قبل الاستعاذة غير
ثابت، لأن الابتداء بقراءتها يستلزم عدم الحاجة إلى الاستعاذة، فيلزم سقوط
أمر القرآن، وهو غير جائز.
الحكم الثامن: الجهر بالبسملة
قد ثبت في حديث معتبر عن ابن أذينة قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام):
* (بسم الله الرحمن الرحيم) * أحق ما اجهر به، وهي الآية التي قال الله
- عز وجل -: * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم
نفورا) * (3) " (4).
وفي تفسير العياشي عن أبي حمزة، عن جعفر (عليه السلام) قال: " كان رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجهر ب‍ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * ويرفع صوته بها، فإذا سمع

1 - النحل (16): 98.
2 - الكافي 3: 313 / 3.
3 - الإسراء (17): 46.
4 - تفسير القمي 1: 28.
58

المشركون ولوا مدبرين، فأنزل الله * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا
على أدبارهم نفورا) * (1) " (2).
ومن العجيب ما أفتى به أبو حنيفة من إيجاب الإسرار بها في
الجهرية والإخفاتية، وبه قال الثوري، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود
وعمار وابن الزبير، وهو قول الحكم وحماد، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو
عبيد، وروي ذلك عن الأوزاعي أيضا، وحكاه أبو عمر بن عبد البر في
" الاستذكار " (3).
ولأجل اشتهار هذه الفتوى قيل: إن الجهر بها في الإخفاتية للمأموم
مشكل، لأن المطلقات من أحاديثنا ناظرة إلى رأيهم، فيشكل انعقاد الإطلاق
لها بالنسبة إلى الجهرية.
وهم قد احتجوا بما رواه أنس (4)، وقد مر: أن رواياته مضطربة في هذه
المسألة، فقد احتج من أنكر أنها من القرآن أو الفاتحة أو بعدم وجوبها في
الفريضة بروايته، ومن أثبت وجوبها فيها - أيضا - بروايته.
وقيل: هذا الرأي هو الجامع بين الآثار وسبب الاتفاق بين الأخبار،
ويخرج به عن الخلاف في قراءة البسملة (5).
وهو غريب، فإنه كيف يخرج به وقد أفتى رئيسهم - مالك -

1 - الإسراء (17): 46.
2 - تفسير العياشي 1: 20 / 6.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 96، وانظر التفسير الكبير 1: 203.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 96.
5 - نفس المصدر.
59

بكراهة قراءتها (1).
ومن العجيب والغريب ما أخرجوه عن سعيد بن جبير، قال: " كان
المشركون يحضرون بالمسجد، فإذا قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): * (بسم الله
الرحمن الرحيم) * قالوا: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - وهو مسيلمة
الكذاب - فأمر أن يخافت ب‍ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * ونزل * (ولا تجهر
بصلاتك ولا تخافت بها) * (2) ". وقال الترمذي الحكيم أبو عبد الله: فبقي ذلك
إلى يومنا هذا على ذلك الرسم (3). انتهى.
وهذا الحديث يشهد على أن أنسا ظن أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقرأ وكان (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقرأ، فكيف يصح قول من يدعي استحباب الإسرار، أو إيجاب الإسرار، أو
يدعي أنها ليست من الفاتحة إذا كانت الآية الشريفة نازلة في مسألة
الإخفات بالبسملة.
الحكم التاسع: فضل البسملة
أخرج العياشي عن سليمان الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام)
يقول: " إذا أتى أحدكم أهله فليكن قبل ذلك ملاطفة... " - إلى أن قال -: فقال
له رجل في المجلس: فإن قرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * أو يجزيه؟

1 - الفقه على المذاهب الأربعة 1: 257.
2 - الإسراء (17): 110.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 96.
60

فقال: " وأي آية أعظم في كتاب الله؟ " فقال: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * (1).
وأخرج عن خالد بن المختار، قال: سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام)
يقول: " ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله، فزعموا أنها
بدعة إذا أظهروها، وهي * (بسم الله الرحمن الرحيم) * " (2) وقد أخرج
" الكافي " مسندا عن الباقر (عليه السلام): " سرقوا أكرم آية من كتاب الله * (بسم الله
الرحمن الرحيم) * وينبغي الإتيان بها عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير
ليبارك فيه " (3).
ومن هذه الأحاديث وما يقرب منها (4) الناطقة بأن البسملة أقرب
إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها، ومن ناظر العين إلى
بياضها، مع كثرتها بالطرق المختلفة في " الكافي " و " التهذيب " وغيرهما،
يعلم أن البسملة أعظم الآيات وأكرمها.
وفيها تعريض بالعامة الذين اعتقدوا أنها لا تقرأ، أو لا تكون من
القرآن، أو غير ذلك، كما عرفت تفصيله، ومنها يعلم أن جماعة منهم كانوا
ينكرون كونها من كتاب الله، أو كانوا لا يقرؤونها في الصلوات حسب ما وصل
إلينا من آرائهم أيضا.
بقي شئ وهو: معنى هذه الأحاديث الشريفة، فسيأتي ذيل مباحث

1 - تفسير العياشي 1: 21 / 14.
2 - تفسير العياشي 1: 21 - 22 / 14.
3 - تفسير العياشي 1: 19 / 4، تفسير الصافي 1: 52.
4 - تفسير العياشي 1: 21 / 13، تهذيب الأحكام 2: 289 / 1157 و 1159، وسائل
الشيعة 4: 745 كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 11، الحديث 2 و 3 و 11.
61

تتعلق بكلمة " بسم الله " إن شاء الله تعالى.
المسألة الخامسة
فيما ورد من الآثار الناطقة بفضلها
وهي تشتمل على خصوصيات اخر نشير إلى جملة منها:
1 - عن " الكافي " مسندا عن الصادق (عليه السلام): " لا تكتب * (بسم الله
الرحمن الرحيم) * لفلان، ولا بأس أن تكتب على ظهر الكتاب لفلان " (1).
2 - عنه مسندا عن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)
" احتجبوا من الناس كلهم ب‍ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وب‍ * (قل هو الله
أحد) * إقرأها عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، ومن فوقك
ومن تحتك، فإذا دخلت على سلطان جائر فاقرأها حين تنظر إليه ثلاث مرات،
واعقد بيدك اليسرى، ثم لا تفارقها حتى تخرج من عنده " (2).
3 - وعنه عن الصادق (عليه السلام) في حديث: " ولربما ترك بعض شيعتنا في
افتتاح أمره * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فيمتحنه الله - عز وجل - بمكره،
لينتبه على شكر الله - تبارك وتعالى - والثناء عليه، ويمحق عنه وصمة
تقصيره عند تركه قول: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * " (3).
4 - في " التهذيب " مسندا عنه، عن أبيه قال: " * (بسم الله الرحمن

1 - الكافي 2: 494 / 3.
2 - الكافي 2: 457 / 20.
3 - التوحيد: 231 / 5.
62

الرحيم) * أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها " (1).
5 - " مهج الدعوات " عنه (عليه السلام) أنه قال: " * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * اسم الله الأكبر، - أو قال -: الأعظم " (2)، وبرواية ابن عباس
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " * (بسم الله الرحمن الرحيم) * اسم من أسماء الله الأكبر، وما
بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها " (3).
6 - قال سعيد بن أبي سكينة: بلغني أن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) نظر
إلى رجل يكتب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقال له: " جودها، إن رجلا
جودها فغفر الله له " (4). هذا ما أخرجه كتب العامة، وهكذا ما بعده.
7 - وقال أيضا: " وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه * (بسم الله
الرحمن الرحيم) * فقبله ووضعه على عينيه، فغفر له " (5)، ومن هذا المعنى
قصة بشر الحافي.
8 - أخرج النسائي عن أبي المليح، عمن ردف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا عثرت بك الدابة فلا تقل " تعس الشيطان "، فإنه
يتعاظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: " بقوته صنعته "، ولكن قل: * (بسم الله
الرحمن الرحيم) *، فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب " (6).

1 - تهذيب الأحكام 2: 289 / 1159.
2 - مهج الدعوات: 316.
3 - مهج الدعوات: 319.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 91.
5 - نفس المصدر.
6 - الجامع لأحكام القرآن 1: 91 - 92، وانظر سنن أبي داود 2: 473، والمستدرك،
الحاكم النيسابوري 4: 293، ولم نجد في النسائي.
63

9 - وفي رواياتنا ورواياتهم عن علي بن الحسين وغيره (عليهم السلام) في تفسير
قوله تعالى: * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم
نفورا) * (1) قال: " معناه * (بسم الله الرحمن الرحيم) * " (2).
10 - أخرج وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال:
" من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية التسعة عشر، فليقرأ * (بسم الله
الرحمن الرحيم) *، ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل
واحد " (3). فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين
قال الله فيهم * (عليها تسعة عشر) * (4)، هم يقولون في كل أفعالهم: * (بسم الله
الرحمن الرحيم) *، فمن هنا لك هي قوتهم وببسم الله استضلعوا.
المسألة السادسة
حول كلمة " البسملة "
قد تعارف استعمال كلمة " البسملة " بين المفسرين وغيرهم، وهي لا
توجد في رواياتنا وروايات أهل السنة حسب ما تفحصت عنها، فهل يجوز
أم لا؟ وجهان لا يبعد الأول.
وعن الماوردي: " ويقال لمن قال: " بسم الله " مبسمل، وهي لغة مولدة،
وقد جاءت في الشعر:

1 - الإسراء (17): 46.
2 - تفسير العياشي 1: 20 / 6 و 2: 295 / 85 و 86 و 87، كنز العمال 2: 454.
3 - الدر المنثور 1: 9، الجامع لأحكام القرآن 1: 92.
4 - المدثر (74): 30.
64

لقد بسملت ليلى غداة لقيتها * فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل " (1)
وظاهره والآخرين على أنه مخفف بسم الله، أو مصدر جعلي، والذي
هو الأقرب أنه مخفف * (بسم الله الرحمن الرحيم) *. فما عن ابن السكيت
والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة: " بسمل الرجل، إذا قال: " بسم
الله " أو " قد أكثرت البسملة، أي قول: بسم الله " (2)، غير صواب، إلا أن
يريدوا منه * (بسم الله الرحمن الرحيم) *، بل هي نظير الحوقلة و
الحوللة والبسملة والحمدلة، مصادر جعلية، أو تخفيف في اللفظ، بل
قيل: حيفل إذا قال: حي على الفلاح، وحيصل وجعفل إذا قال: حي على
الصلاة، وجعلت فداك، وطبقل ودمعز إذا قال: أطال الله بقاك، وأدام الله عزك.
فبالجملة: نظير ذلك في الكتاب قوله تعالى: * (القناطير المقنطرة) * (3)،
وفي الحديث قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " جنود مجندة " (4) من المصادر الاتخاذية لغرض.
وهي سماعية أو يجوز ذلك إذا حسن الاستعمال، فلا يقف على ما
اقتصروا عليه، فإن كل شئ في طريق الاستكمال والكمال.
وغير خفي أنها تارة تستعمل مصدرا، ويتخذ منه الفعل، كما إذا قال: قد
أكثرت البسملة، وأخرى تستعمل رمزا وتخفيفا إذا قيل: البسملة آية من
الكتاب والفاتحة.

1 - تفسير الماوردي 1: 50.
2 - انظر تاج العروس 7: 228.
3 - آل عمران (3): 14.
4 - عوالي اللآلي 1: 288 / 142، صحيح مسلم 2: 545 / 159 و 160، وراجع بحار
الأنوار 58: 31 و 63 و 64 و 79 و 135 و 139.
65

المبحث الثالث
حول ما يتعلق بالكلمات والجمل الناقصة
وهنا يقع الكلام في نواح شتى:
الناحية الأولى في * (بسم الله) *
67

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
مبدأ اشتقاق " اسم "
" اسم " على وزن " افع "، والذاهب منه الواو، وهو بكسر همزة
الوصل وضمها، والسم والسمى بتثليث السين مأخوذ من السمو عند
البصريين (1). وقال أحمد بن يحيى: من ضم الألف أخذه من " سموت
السمو "، ومن كسر أخذه من " سميت السمى ". ويقال: سم وسم، وفي الشعر:
والله أسماك سما مباركا * آثرك الله به إيثاركا (2)
وقد أنحاها بعض إلى ثمانية عشر لغة، ونظمها وقال:

1 - راجع البحر المحيط 1: 14، وروح المعاني 1: 49.
2 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 100، ولسان العرب 14: 401.
69

للإسم عشر لغات مع ثمانية * بنقل جدي شيخ الناس أكملها
سم سمات سمى واسم وزد سمة * كذا سماء بتثليث لأولها (1)
واختلفوا - بعد ما اتفقوا على أنه من السمو بمعنى العلو والرفعة
والارتفاع - في وجه الإطلاق والاستعمال.
فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.
وقيل: لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره.
وقيل: لأنه علا بقوته على الفعل والحرف، فلذلك سمي بالاسم
لقوته عليهما في الكلام.
ويشهد لذلك: أن تصغيره سمي، وجمعه الأسماء، والنسبة إليه
اسمي وسموي، وعند التعدية والتحول في الأبواب الأخر سميت وأسميت...
وهكذا، والجمع والنسبة والتصغير يردن الأشياء إلى أصولها (2).
وقد يستعمل بقطع الهمزة في الشعر وهو جائز في غيره قضاء لحق
الضرورة.
وما ورد في اللغة - كما في " الأقرب " - اسم الشئ علامته، وناقلا
إياه في مادة السمو (3)، إما اشتباه، أو لغة خاصة، أو يكون تأييدا للمذهب

1 - انظر روح المعاني 1: 49.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 101.
3 - أقرب الموارد 1: 546.
70

الآتي. وقد يجمع الأسماء على أسام، وهو خلط، بل اسم يجمع على جموع
كثيرة أسام وأسماوات وأسامي بالتخفيف والتشديد.
وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة، وهي العلامة، فأصله
" وسم " (1). والأول يناسب الاشتقاقات اللغوية، والثاني يناسب معناه، فإن
اسم الشئ علامته حتى قيل: إن الوضع هي العلامة (2).
ويشهد لذلك ما عن " المعاني " و " العيون " عن الرضا (عليه السلام) عن * (بسم
الله) *... أي أسم على نفسي سمة من سمات الله - عز وجل -، وهي العبادة.
قال: قلت: ما السمة؟ قال: هي العلامة " (3).
وحيث إن المحرز في علم الأصول أن علم الصرف لا يكون من
العلوم الواقعية، بل هو نوع من الذوقيات النفسانية والاستحسانات
المحافلية، لا يعتمد عليه في الأصول والفروع، فإن أهل البادية
يستعملون، وأهل القرى يفسرون، ويتخذون المسالك والسبل بالتخيلات
الباردة.
فعلى هذا لا يكون الاسم مشتقا من السمو، ولا من الوسم، بل هو لغة
خاصة استعملت بمعنى العلامة، كما عرفت من " أقرب الموارد " أيضا آنفا.
ومما يشهد للمختار إطلاق الاسم على ما يقابل الفعل والحرف تارة،

1 - انظر البحر المحيط 1: 14، تاج العروس 10: 183، روح المعاني 1: 49.
2 - نهاية الدراية 1: 44 - 48، مناهج الوصول 1: 57.
3 - معاني الأخبار: 3 / 1 باب آخر في معنى بسم الله، انظر عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1:
203 / 19.
71

وعلى الأعم أخرى، وذلك في قوله تعالى: * (علم آدم الأسماء كلها) * (1) وفي
قوله تعالى: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) * (2). وأيضا تارة
يطلق على ما يقابل اللقب والكنية، وأخرى على الأعم، كما في قوله
تعالى: * (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق) * (3). فتأمل.
المسألة الثانية
معنى " اسم "
إن الاسم يطلق على الألفاظ الموضوعة، ويحمل عليها، ويقال: زيد
اسم، والشجر اسم، والكتاب اسم، ويطلق على الذات والأعيان
الخارجية، كما في قوله تعالى: * (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح
عيسى ابن مريم) * (4)، وإذا كان هي الكلمة، وكانت الكلمة تنقسم إلى
الاسم والفعل والحرف، فلا محالة يطلق عليه الاسم دون الفعل والحرف،
فعيسى كلمة الله واسم، وهكذا في قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها ثم
عرضهم على الملائكة) * (5)، فإن المعروض على الملائكة هي المسميات
بالضرورة، فلابد وأن يستعمل الاسم في المعنى الأعم من الألفاظ
الموضوعة ومن المسميات، فما هو معنى الاسم أمر جامع بين تلك الألفاظ

1 - البقرة (2): 31.
2 - النجم (53): 23.
3 - الحجرات (49): 11.
4 - آل عمران (3): 45.
5 - البقرة (2): 31.
72

والمسميات.
فما في بعض كتب تفسير أهل العصر من أن قول بعض الباحثين في
الفلسفة: إن الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين،
وهي عندهم أسماء مترادفة، ليس من اللغة في شئ، ولا هو من الفلسفة
النافعة، بل من الفلسفة الضارة، وإن قال الآلوسي بعد نقله عن ابن فورك
والسهيلي: " وهما ممن يعض عليه بالنواجذ ".
قال: بل لا ينبغي أن يذكر هذا القول إلا لأجل النهي عن إضاعة
الوقت في قراءة ما بني عليه من السفسطة في إثبات قول القائلين: إن
الاسم عين المسمى، وقد كتبوا لغوا كثيرا في هذه المسألة (1). انتهى.
ناش عن قلة الباع وعدم الاطلاع، لأن الاسم يطلق باعتبارات:
الأول: اعتبار كونه اسما ومرآة للمسمى، وبهذا الاعتبار لا يكون له
نفسية، ولا وجود مغاير للمسمى، بل يكون وجوده دقيقة من وجوده،
ونفسيته نفسية المسمى، ولذلك لا يكون الحكم في الكلام إلا على
المسمى، ولا يكون النظر إلا إلى المسمى، فإن قولك: " جاء زيد " لا يكون
النظر فيه ولا الحكم إلا على المسمى.
والثاني: اعتبار كونه موجودا مغايرا للمسمى، منظورا إليه ومحكوما
عليه، وبهذا الاعتبار يكون كالمسمى أمرا موجودا مستقلا محكوما عليه
مغايرا له، وبهذا الاعتبار يعد الاسم مسمى، وله أسماء كثيرة، مثل قولك: زيد
لفظ مركب من ثلاثة أحرف، واسم وكلمة وموضوع ودال، ولا يكون - وقتئذ -

1 - تفسير المنار 1: 40 - 41.
73

مرآة وحاكيا وفانيا، ولا دالا على شئ آخر.
والثالث: على العين الخارجية والأعيان والذوات الآفاقية. وهذا
الاعتبار في طول الاعتبار الأول بالقياس إلى المبدأ الأعلى، وهذا هو
المراد من اتحاد الاسم والمسمى، لا أن الاسم في اعتبار واحد عين
المسمى. بل الاسم بالمعنى المتبادر منه أولا هي الألفاظ بما لها من
المعاني، وتلك الألفاظ - أيضا - من الأمور التكوينية، ومن الأعيان النفس
الأمرية غير القارة، وبالمعنى المتباعد عنه الأذهان العامية ثانيا هي
الوجودات والآيات، فلفظة " الاسم " موضوع للمعنى الأعم بالاشتراك
المعنوي، لا اللفظي حتى يتوهم الاستخدام في قوله تعالى: * (وعلم آدم
الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة) * (1)، بل المستعمل فيه هنا الأمر
الجامع، ولكنه يراد منها في الابتداء - لقرينة ضمير " كلها " - الألفاظ بما لها
من المعاني والأعيان العلمية، وفي الجملة الثانية طائفة أخرى من
الموضوع له، لقرينة ضمير " عرضهم " الذي هو لذوات العقول والأعيان
الخارجية والعينية، وسيأتي زيادة توضيح في بحث كيفية إضافة الاسم
إلى كلمة " الله " إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة
عينية الاسم والمسمى
اعلم أن المتكلمين اختلفوا في أن الاسم هل هو عين المسمى أو

1 - البقرة (2): 31.
74

غيره؟ فذهب أكثر الأشاعرة إلى الأول (1)، والإمامية والمعتزلة إلى
الثاني (2).
وقد وردت في أحاديثنا ما ينفي القول بالعينية (3). وتفصيل هذا
البحث في سورة البقرة.
والذي يجب التنبيه عليه: هو أن من يريد إثبات العينية لا يريد إثبات
اتحاد المعنى الحادث المسموع، واتحاد الكيف السمعي مع القديم
الذاتي الأزلي، بل هو يريد - على ما في " شرح المقاصد " - أمرا آخر (4)،
فراجع وتدبر.
وللقول بالعينية تفسير آخر خارج عن أفكار المتكلمين - فضلا عن
الأشاعرة - وهو مبتن على أن المعلول ربط إلى العلة، والموجودات
الكثيرة بالكثرة التخيلية روابط محضة ليست ذواتا حذاء الذات
الأحدية المطلقة، بل هي شأن الباري - عز اسمه - فلا بينونة بينهما
بينونة عزلة، حتى لا يتصور فيه نحو من الاتحاد الغير المنجر إلى
الإلحاد، فإذا كانت الحقائق الوجودية مرائي صفاته تعالى - التي هي
عين ذاته تعالى - فهي محكومة بالاتحاد نحوا من الاتحاد الخارج عن

1 - انظر التفسير الكبير 1: 108، الجامع لأحكام القرآن 1: 101 - 102، شرح
المقاصد 4: 337، شرح المواقف 8: 207 - 208.
2 - انظر شرح المواقف 8: 208.
3 - انظر الكافي 1: 88 / 4، والتوحيد: 58 / 16 و 142 / 7 و 192 / 6 و 220 / 13
و 417 / 1.
4 - شرح المقاصد 4: 337.
75

أفهام أهل العلم والسوق، ولذلك نفي في المآثير مثل ذلك.
تذنيب
يكفيك في ترخيص إطلاق الاسم على الذوات والأعيان - مضافا إلى
ما أصفيناكم بالبرهان والوجدان - ما ورد عن أهل بيت الوحي والقرآن في
" الكافي " عن ابن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: * (ولله
الأسماء الحسنى فادعوه بها) * (1) قال: " نحن والله الأسماء الحسنى التي لا
يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا " (2)، فكما أن الاسم يدل على المسمى
ويكون علامة له، كذلك هم (عليهم السلام) أدلاء على الله وأسمائه، ولذلك نفي
العينية بين الأسماء والذات فالألفاظ أسماء الأسماء أو إن شئت قلت:
الألفاظ الموضوعة أسماء أسماء الأسماء، ومسميات تلك الألفاظ أسماء
الأسماء، وهم (عليهم السلام) أسماء الله ومسميات لسائر الموجودات.
المسألة الرابعة
حول محتملات كلمة " الله " من حيث الاشتقاق
القول الأول: " الله " غير مشتق عند الأكثرين.

1 - الأعراف (7): 180.
2 - انظر الكافي 1: 111 / 4.
76

القول الثاني: إنه مشتق ومادته لاه يليه: ارتفع، ولذلك سميت
الشمس إلاهة بكسر الهمزة وفتحها.
القول الثالث: إن مادته لاه يلوه: احتجب واستتر.
القول الرابع: إن مادته أله: فزع، قاله ابن إسحاق، أو أله: تحير، قاله
أبو عمر، وآله: عبد، قاله النضر، أو أله سكن قاله المبرد.
وقيل على هذه الأقاويل حذفت الهمزة اعتباطا، كما في كلمة " ناس "،
فإن أصله أناس، أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام، وقيل: هذان القولان
شاذان.
القول الخامس: إن مادته وله - أي طرب - وأبدلت الهمزة فيه من الواو
نحو أشاح، قاله الخليل والقناد، وهو بعيد وضعيف.
القول السادس: إن أصله " لاها " بالسريانية، فعرب. قال الشاعر:
كحلفة من أبي رياح * يسمعها لاهه الكبار (1)
قال أبو يزيد البلخي وهو أعجمي، فإن اليهود والنصارى يقولون:
لاها، وأخذت العرب هذه اللفظة وغيرتها فقالوا: الله (2).
فما ترى في بعض كتب التفسير - ك‍ " التبيان " ومن يحذو حذوه - من
التمسك بالشعر المزبور في غير المورد المذكور (3)، لا يخلو عن تأسف.
وحيث إن أدنى المناسبة كافية في العلمية يشكل تعيين إحدى محتملات

1 - البيت للأعشى، انظر مجمع البيان 1: 19.
2 - انظر البحر المحيط 1: 14 - 15.
3 - تفسير التبيان 1: 27، وراجع أنوار التنزيل وأسرار لتأويل 1: 6، ومجمع البيان 1: 19.
77

المسألة، وقد بلغت الآراء إلى حد يشكل الإحصاء.
ومنها وهو القول السابع: أن أصله الهاء - أي الضمير الغائب -
كناية عن عدم إمكان اعتبار الاسم لجنابه تعالى في الظاهر، فأثبتوه في نظر
عقولهم، فأشاروا إليه بحرف الكناية، ثم زيدت فيه لام الملك، إذ قد
علموا أنه مالك الأشياء، فصار " له "، ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما
وتفخيما (1).
وحيث إن هذه الكلمة الشريفة تنفرد بأحكام ذكرت في علم
النحو، وهي متخالفة مع القواعد المحررة، تحيرت فيه العقول، إيماء
إلى أن العقول القدسية إذا تحيرت في ما هو وجوده اللفظي، فكيف
التحير في وجوده العيني.
وما هو الأقرب إلى الاعتبار ما قد عرفت منا في كلمة " الاسم " من أنه
ليس مشتقا بالاشتقاق الصغير حتى يتفحص عن مادته، لأن الاشتقاقات
الصحيحة ما كانت هيئتها موضوعة بوضع على حدة وضعا نوعيا، والمواد
أيضا موضوعة على حدة بالوضع النوعي. وهذه الكلمة ليست هيئتها
موضوعة على حذاء وضع المادة، بل وضعها شخصي، فالفحص عن الأصل
في الاشتقاقات الكبيرة غلط، وغير راجع إلى محصل.
ولا منع من دعوى: أن الابتداء في الاستعمال كان أحد الوجوه
المزبورة، ثم صارت بالتحول هكذا. مثلا ما رواه سيبويه عن الخليل أن

1 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 103، وروح المعاني 1: 53.
78

أصله إلاه مثل فعال، فأدخلت الألف والام بدلا عن الهمزة (1)، قريب فلابد من
كونه في الأصل اسما يطلق عليه تعالى بعنوان جنسي وبمفهوم كلي، ثم صار
علما شخصيا مثلا.
ومن المشكلات وأحكامه الخاصة: أن قضية القواعد الأدبية جواز
دخول التنوين عليه بعدما صار علما، وإذا كانت الألف واللام زائدة فلابد من
حذفها عند دخول حرف النداء عليه، فإن حروف النداء لا تجتمع مع الألف
واللام، ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن ويا الرحيم، ولذلك قال جماعة -
ومنهم الشافعي وأبو المبالي والخطابي والغزالي والمفضل - بأن الألف
واللام داخلة في بنية الاسم (2)، غافلين عن أن مقتضى ذلك دخول التنوين
عليه، وهو ممتنع.
فهمزة الله إن كان وصلا فلابد من حذفها في النداء، وإن كان قطعا فلابد
وأن لا ينحذف في قولك " قال الله تعالى " وأن يدخل عليه التنوين أيضا،
فكأنه جمع بين حكم الأصل والفرع. كما في جملة تنسب إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحب كريمتاه لم يكتب بعد العصر "، فإن اللازم أن يقال:
" كريمتيه " جرا، فإذا قيل: إن كلمة " كريمتان " موضوعة بالوضع
الشخصي، كما في " الأجدان والجديدان " بالنسبة إلى الليل والنهار،
فلابد من انحفاظ النون لدى الإضافة إلى الضمير، ولا يعامل معها معاملة
إضافة التثنية بحذف نونها، فكأنه جمع بين حكم المبدأ والمنتهى، لأن

1 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 102.
2 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 103، والبحر المحيط 1: 15.
79

مبدأ الخلائق ومنتهاها محفوظ الوجود في ذاته، الذي هي كل الكمالات
على نعت البساطة والإجمال في عين الكشف والتفصيل.
ولعمري إنه يناسب إفراد رسالة في خصوصيات هذه الكلمة، كما
ستقف عليه، ولكن خوف الإطالة يمنع عن الغور فيها، ويكفينا بعد ذلك ما
رواه " الكافي " بسند معتبر عن هشام بن الحكم: أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)
عن أسماء الله واشتقاقها. " الله " مما هو مشتق؟ فقال: " يا هشام " الله " مشتق
من " أله " وآله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى " (1) الحديث، وعليه
دخلت عليها الألف واللام وهي للغلبة، إذ " إلاه " يطلق على المعبود بحق أو
باطل، و " الله " لا يطلق إلا على المعبود بحق، فصار كالنجم للثريا.
وربما يظهر من مضعف الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى بن
جعفر (عليهما السلام): أنه مشتق من " ولى " قال: سئل عن معنى " الله " فقال: " استولى
على ما دق وجل " (2)، فكأنه أريد إثبات أن هذا الحكم من آثار كونه الله،
فيكون اللفظ مشتقا من الاستيلاء بالتصحيف وقد حكى عن " القاموس ": أن
الأقوال في مبدأ اشتقاقه عشرون (3)، وعن " الجالوس ": أنه بالغ إلى
ثلاثين (4) والله هو العالم.

1 - الكافي 1: 89 / 2.
2 - الكافي 1: 89 / 3، التوحيد 230 / 4، معاني الأخبار 4 / 1.
3 - راجع القاموس المحيط 1: 1603.
4 - انظر تاج العروس 9: 374.
80

المسألة الخامسة
حول الموضوع له لكلمة " الله " الشريفة
إنه هل يكون موضوعا له تعالى بالوضع الخاص والموضوع له
الخاص، فهو علم، لا كأعلام الأشخاص، فإنها - على ما تقرر منا في الأصول -
ليست موضوعاتها خاصة، بل الموضوع له فيها كلي منحصر بالفرد (1) وإلا
يلزم كون قضية " زيد موجود " قضية ضرورية مع أنها ممكنة، وقضية " زيد
معدوم " غلطا ومجازا، ويلزم عدم صحة قولك " زيد إما موجود أو معدوم ".
فهذا اللفظ الشريف موضوع للذات الأحدية الجمعية الخارجية، حتى
تكون القضية التي موضوعها " الله " قضية ضرورية ذاتية أزلية، على ما
تقرر في الكتب العقلية.
أم هو كأعلام الأشخاص موضوع للكلي المنحصر بالفرد، وهو
الواجب بالذات بالوضع التعيني بكثرة الاستعمال، أو الذات
المستجمعة لكافة الصفات الكمالية والجمالية والجلالية، كما
يظهر من بعض. وهذا نوع بديع من أقسام الموضوع له، وليس من أنواعها
المعروفة، وقد تعرضنا في الأصول إلى أن أقسام الوضع والموضوع له
تبلغ عشرين، وليست منحصرة بالثلاثة أو الأربعة.
وهنا احتمال ثالث وهو أنه موضوع لتلك الحقيقة الخارجية بما لها
من الكمالات النفس الأمرية والصفات الجمالية والجلالية، بحيث لو
فرض خلو الذات عنها لما كانت هي موضوعة لها.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 74.
81

ربما يؤيد الأول: التبادر، وأن كلمة " الله " لا تقع وصفا لموصوف، وأن
كلمة الإخلاص كلمة توحيد، فتدل على الذات الخارجية وأن حكمة
الوضع تقتضي جعل الوضع للذات المقدسة، وإلا يلزم خلوها عن لفظ
يخصه.
ولا يخفى ما فيه من الفساد والضعف، فإن الموضوع إذا كان عنوانا
لا ينطبق إلا على المصداق الواحد - وهو الواجب الوجود - فكل واحد
من هذه اللوازم المزبورة يحصل، ولذلك إذا قيل: ليس في الدار غير زيد،
فقد شهد بأن زيدا وحده في الدار، مع أنه موضوع لمعنى كلي، كما عرفت منا.
وهكذا سائر ما أفاده بعض المشتغلين بتحصيل التفسير (1).
مع ما قيل بأن كلمة " الله " وقعت صفة في قوله تعالى: * (العزيز
الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * (2).
وغير خفي: أن كلمة الإخلاص توحيد إذا قصد المتكلم من المستثنى
اللفظة الشريفة فانية في معناها، فيكون قاصد المعنى، وإلا فلو استثنى
اللفظ فلا يكون توحيدا. وإذا كان مع قصد المعنى توحيدا، فلا منع من كونها
موضوعة للذات الواجب الوجود مع اعتقاده وحدة المصداق، فما أفاده
الفخر في المقام كله خال عن التحصيل (3).
وربما يؤيد الثاني: أن الأعراب كانوا يعبدون غير الله، ويشركون في

1 - انظر التفسير الكبير 1: 157، وروح المعاني 1: 54، والأحسن جعل هذه العبارة بعد
ما يأتي: " خال عن التحصيل ".
2 - إبراهيم (14): 2.
3 - التفسير الكبير 1: 156.
82

عبادته تعالى، مع اعتقادهم بالتوحيد الذاتي والصفاتي، فإذا ورد: " قولوا
لا إله إلا الله تفلحوا " فهو يشهد على أن " الله " قد استثني من مفهوم الإله،
فيكون الاستثناء متصلا لا منقطعا. وهذا دليل على أن في مفهوم كلمة " الله "
اخذت فيه العبودية، لعدم سبق عبادتهم لذاته تعالى قبل الإسلام، فيعلم
منه أن الموضوع له كلي لا ينطبق إلا عليه تعالى.
مع أنه لو فرضنا وجودا يماثل وجوده تعالى صفة وخصوصية، يصح
أن يطلق عليه كلمة " الله ".
ومع أن من يقول في تخيله الباطل: " الله معدوم " لا يكون غالطا في
الكلام ومجازا في الإسناد، بل تكون قضية كاذبة، كما إذا قال: زيد معدوم،
مع أنه موجود، فإنه قضية كاذبة، لا قضية غلط أو مجاز.
ومع أن إسراء الوضع إلى الحقيقة المجهولة من جميع الجهات -
بحيث يكون هو الموضوع له - غير ممكن، أو يحتاج إلى مؤونة زائدة
ولحاظ خاص، وإلا فالوضع نوعا يحصل من كثرة الاستعمالات، والاستعمالات
الرائجة تكون في المعاني الكلية، لأن الأغراض تتعلق بها.
ولكن - بعد اللتيا والتي - إن الأعلام الشخصية تثنى وتجمع ويتسم بها
غير واحد، والألفاظ الموضوعة للواحد الذي لا مصداق كثير لها تجمع
كالأرض والشمس باعتبار القطعات مثلا، وكلمة " الله " لها خصوصية
أخرى غير سائر الخصوصيات، وهي أنها موضوعة لما لا يقبل التكرر
والتعدد، ولا يتسم بها غيره تعالى وتقدس.
والذي هو المهم من الأدلة في المسألة: أن مفهوم الموجودية لا يؤخذ
من مفهوم كلمة " الله "، ولو كانت هي العلم لحقيقة الوجود التي هي نفس
83

الخارجية، كان ينبغي أن يتبادر منه ذلك، فيكون مرادفا له، كما يكون عين
تلك الحقيقة.
وهذا البرهان خارج عن أفق اللغة، والأولى دعوى التحير في
مسمى هذه اللفظة الشريفة، كما تحيرت العقول في جميع خصوصياتها
الاسمية والمسمائية.
وربما يستشم من قوله تعالى: * (وهو الله في السماوات وفي
الأرض) * (1) أن الموضوع كلمة " هو " بما لها من المرجع، وهو الذات
الأحدية، والمحمول كلمة " الله "، ولا يناسب حمل الاسم الشخصي على
المسمى، فيعلم منه أن مفاد كلمة " الله " معنى كلي لا يكون له إلا مصداق
واحد، وأرادت الآية الشريفة إثبات أن مصداق الواجب بالذات والذات
المستجمعة للكمالات والصفات هو، لا غيره.
كما يستشم من قوله تعالى: * (رب السماوات والأرض وما بينهما
فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) * (2) أن الآية في مقام نفي الاشتراك
في الاسم، وهذا لا يصح إلا بالنسبة إلى كلمة " الله "، وإلا فسائر الأسماء
يطلق على غير الله تعالى، حتى كان مسيلمة الكذاب اسمه رحمان
اليمامة.
وأما إرادة نفي المشاركة في الكمالات والصفات - لا في الأسماء -
وإن كان بحسب المعنى أنسب، إلا أنه أشبه بقوله تعالى: * (يا زكريا إنا

1 - الأنعام (6): 3.
2 - مريم (19): 65.
84

نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) * (1)، ولم تستعمل هذه
اللفظة إلا في هاتين الآيتين. والله العالم.
وفي " تفسير الصافي " رواية تدل على أن المراد من السمي، هو
المشارك في الاسم (2).
ومما يؤيد أن الموضوع له كلي لا ينطبق إلا على واحد: قوله تعالى:
* (هل من خالق غير الله) * (3)، بناء على كون الغير وصفا لا حرف الاستثناء،
وقوله تعالى: * (ما لكم من إله غيره) * (4)، بناء على رجوع الضمير إلى
لفظة " إله ".
والالتزام بأن في لفظة الله ليست إلا لمعنى واحد، وهو يقع وصفا، ولا
يأتي لسائر المعاني المذكورة في الكتب الأدبية، قريب، وسيمر عليك تحقيقه.
وغير خفي: أن ما اشتهر من أن كلمة " الله " موضوعة للذات
المستجمعة لجميع الصفات والكمالات، يناقض ما اشتهر عنهم أيضا من
أنها كلمة صارت علما بالغلبة، ومأخوذة من أحد المشتقات السابقة،
ضرورة أن معنى ذلك اختصاص اللفظة بالذات الموصوفة بتلك الصفة
التي هي مبدأ اشتقاقها.
وهذا يؤيد: أن كلمة " الله " كانت قبل الإسلام موضوعة لتلك الذات
ولمن خلق الأرض والسماوات، المنعوت بنعوت الربوبية، والموصوف

1 - مريم (19): 7.
2 - تفسير الصافي 3: 288، ذيل سورة مريم (19): 65، انظر التوحيد: 264 / 5.
3 - فاطر (35): 3.
4 - هود (11): 50 و 61 و 84.
85

المنفرد بالوجود الواجبي الحقيقي. ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة
الزخرف: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * (1) وأمثال هذه الآية كثيرة،
وهكذا في سورة الأنعام: * (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) * (2).
أو يؤيد مقالة ابن العربي محيي الدين: " إنها اسم للذات الإلهية من
حيث هي هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها لصفات، ولا باعتبار لا
اتصافها " (3). انتهى.
وفي مسلك آخر (4) يشرح هذا المعنى: أنها علم للذات بعنوان مقام
ظهوره الذي هو فعله ومشيته، فإن الذات غيب مطلق لا اسم له ولا رسم
له، وإن الصفات ليست له إلا باعتبار ظهوره ومشيته، ولمشيته اعتباران:
اعتبار وجهها إلى مقام الغيب، واعتبار وجهها إلى مقام الخلق، وتسمى
بالاعتبار الأول " عرشا "، وبالاعتبار الثاني " كرسيا "، وبهذين العنوانين يسمى
الحق الأول بالله وبالرفيع والعلي، وتوصف بالرفعة، وهو رفيع
الدرجات ذو العرش، وباعتبار هذين العنوانين قال تعالى: * (الرحمن على
العرش استوى) * (5) وقال: * (وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده
حفظهما وهو العلي العظيم) * (6).

1 - الزخرف (43): 87.
2 - الأنعام (6): 136.
3 - تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1: 7.
4 - تفسير بيان السعادة 1: 27 - 28.
5 - طه (20): 5.
6 - البقرة (2): 255.
86

الخط
هنا مسائل ثلاث:
المسألة الأولى
في حذف همزة " بسم الله "
كانوا يكتبون قبل الإسلام وبعده هكذا: " باسمك اللهم " محافظين على
الهمزة في الكتابة، وبعد ظهور الإسلام والانقلاب فيما يكتب في مبادئ
المكاتيب، كتبوا هكذا: " بسم الله " حاذفين الهمزة في مثله، وفي قوله
تعالى: * (بسم الله مجراها ومرساها) * (1)، ويظهرونها في سائر الاستعمالات
في الكتاب العزيز، وهي كثيرة. منها قوله تعالى: * (فسبح باسم ربك
العظيم) * الحاقة (2) والواقعة في موضعين (3).
ولا يمكن احتمال الغلط في الكتابة في خصوص هذه اللفظة، وإن
احتملنا ذلك في سائر الأغلاط الكتابية الكثيرة الموجودة في القرآن،

1 - هود (11): 41.
2 - الحاقة (69): 52.
3 - الواقعة (56): 74 و 96.
87

وربما تبلغ أكثر من خمسين موردا، وأنهيناها في بعض المخطوطات إلى أكثر
منها ظاهرا، لأن احتمال اشتباه الكاتب أو عدم اطلاعه على رسم الخطوط
في الابتداء قريب. وقد بنى الطبقات اللاحقة على صيانة تلك الأغلاط،
لشدة اهتمامهم بحفظ الكتاب العزيز عن الحوادث والتغيرات، وعن
معرضية القرآن العظيم لوصمة اتهام التحريف، فبادروا إلى تلك
الكتابة عالمين بأنها خارجة عن قانون رسم الخط.
ومن الأغلاط الكتبية الواضحة: كتابة " أيها " بصورة " أيه " في
قوله تعالى: * (سنفرغ لكم أيه الثقلان) * في سورة الرحمن (1)، وهكذا في
موضع آخر أو موضعين آخرين (2). ومنها: كتابة " يا بن أم " على هذه الصورة:
" يبنؤم " (3) ومنها غير ذلك.
ولم يظهر لي حتى الآن سبب هذا الرسم والانقلاب، وهل هو كان لأجل
إضافة الاسم إلى كلمة " الله "، ولذلك في موضع تلك الإضافة تحذف
الهمزة ولا تكتب.
وقال في " التبيان ": " وحذفت هنا وحدها في الخط لكثرة الاستعمال،
ولا تحذف في قوله تعالى: * (إقرأ باسم ربك) *، وقوله: * (فسبح باسم ربك) *
وما أشبه ذلك، لقلة استعمالها هناك " (4). انتهى.

1 - الرحمن (55): 31.
2 - النور (24): 31 " وتوبوا إلى الله جميعا ايه المؤمنون لعلكم تفلحون ". الزخرف (43):
49 " وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا... ".
3 - طه (20): 94.
4 - تفسير التبيان 1: 25.
88

وهذا منقوض بما مر: * (بسم الله مجراها ومرساها) *، وربما عرفت في
" باسمك اللهم "، فإنه بعد نزول آية * (بسم الله الرحمن الرحيم) * كتبت
هكذا، لا بعد الاستعمال الكثير.
ومن ذلك يظهر ضعف مقالة يحيى بن وثاب والكسائي وسعيد
الأخفش في المقام، وهي كثرة الاستعمال بعد دعوى الاتفاق على حذف
الهمزة في الكتابة، وكأنه لا يجوز إظهارها في الكتب (1). والله العالم.
وأيضا يظهر ضعف ما عن الخليل: إنما حذفت الألف في قوله: * (بسم
الله) * وذلك لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن،
فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط، وإنما لم
تسقط في قوله: * (إقرأ باسم ربك) * لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا
الموضع، كما في * (بسم الله) * لأنه يمكن حذف الباء من * (إقرأ باسم
ربك) * مع بقاء المعنى صحيحا، أما لو حذفت من * (بسم الله) * لم يصح
المعنى فظهر الفرق (2). انتهى.
فلو تم ذلك، فما يقول في قوله تعالى: * (بسم الله مجراها
ومرساها) * (3)؟! فإنه يتم المعنى بدون الباء كما لا يخفى. ومثله قوله
تعالى: * (لكنا هو الله ربي) * (4)، فإن الأصل هكذا " لكن أنا "، فحذفت
الهمزة في القراءة وفي الخط، وبقي الألف للدلالة على حذفه.

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 99.
2 - التفسير الكبير 1: 106.
3 - هود (11): 41.
4 - الكهف (18): 38.
89

المسألة الثانية
في حذف الألف من " الله "
القواعد الخطية وقانون الرسم، تقتضي في كتابة اللفظة
الشريفة إظهار الألف، فيكتب هكذا " اللاه "، ولكنه حذف لئلا يشتبه بخط
" اللاه " اسم الفاعل من " لها يلهو ". وقيل: طرحت تخفيفا. وقيل: هي لغة،
فاستعملت في الخط (1).
ولك أن تقول: هذا شاهد على أنها ليست مشتقة من شئ، بل هي كلمة
مستقلة هكذا تقرأ، أي بالألف، وقد تقرأ بدونه كما في الرجز والشعر، واتبع
الكاتبون القراءة الثانية في رسم الخط والكتابة، ولو كان البناء على
التخفيف، كان ينبغي أن يكتب باللام الواحد المشدد، كما قيل في
" الذين " و " الليل " فإن في التثنية تكتب هكذا " اللذين ". ولا يخفى أن
كلمة " ليل " في القرآن، مختلفة الرسم ولا قاعدة كلية فيها.
ومن العجيب أن الكلمة الشريفة تكتب باللامين وهكذا كل كلمة
مشابهة لها. وهكذا إذا دخلت عليها اللام الجار، تحذف الهمزة ولا تكتب
اللام، فيكون هكذا " لله "، مع أن القاعدة تقتضي أن تكتب هكذا " لله "،
فلمراعاة حسن الخط صارت كذلك.
وقيل: إنما حذفوا الألف قبل الهاء في قولنا: " الله "، لكراهتهم اجتماع

1 - راجع البحر المحيط 1: 15.
90

الحروف المتشابهة بالصورة عند الكتابة، وهو مثل كراهتهم اجتماع
الحروف المتماثلة في اللفظ عند القراءة.
وغير خفي أنه لا يحذف الألف في الخط في كتابة " اللاه " اسم الفاعل
بمعنى اللاهي من اللهو، فلا يتم التعليل. فما تخيله الفخر (1)، غير مرضي.
كما أن تخيله أن الهمزة من أقصى الحلق والهاء من أقصى الحلق،
إشارة إلى سير العبد من قوس النزول إلى منتهى إليه القوس
الصعودي (2)، في غير محله، لأنها ليست من أقصى الحلق، فلا ينبغي له
التدخل فيما ليس أهلا له حتى لا يقع فيما لا يناسبه.
المسألة الثالثة
في مد الباء
قد مضى في أحاديثنا عن " الكافي " مسندا عن الصادق (عليه السلام) في
حديث: " ولا تمد الباء حتى ترفع السين " (3)، وحكي عن عمر بن عبد العزيز
أنه قال لكاتبه: " طول الباء، وأظهر السينات، ودور الميم " (4)، وعن بعض
آخر: " إنما طولت الباء عوضا عن حذف الهمزة " (5).
ولعل معنى الحديث الشريف يكون ذلك، أي لا يجوز مد الباء وقت

1 - التفسير الكبير 1: 107.
2 - نفس المصدر.
3 - الكافي 2: 494 / 2.
4 - انظر التفسير الكبير 1: 106، والكشاف 1: 5، وروح المعاني 1: 51.
5 - انظر التفسير الكبير 1: 105، وروح المعاني 1: 51.
91

رفع السين، واشرب في كلمة " حتى " معنى الزمان، أي يكتب هكذا " بسم "
فإن رفع السين إظهاره بالتضريس، أو يكتب هكذا " بسم " فإنه يعد المد
سينا غير مضرس، وأما المد والتضريس فلا يجوز، للزوم تكرار السين، وهو
هكذا " بسم "، خلافا لما يظهر من ابن عبد العزيز، حيث أمر على خلاف ذلك
وقال: " طول الباء، وأظهر السين وضرسها " غافلا عن الإشكال المذكور فهو
لأئمتنا (عليهم السلام)، فجئني بمثلهم.
إن قلت: لا يتعارف في الخط العربي سين غير مضرس. قلت: ربما
يكون هذا شاهدا على تعارفه في بعض أنواع الخطوط من الثلث أو الرقاع.
فلو سلمنا ذلك يصير المعنى: إن المد غير جائز قبل التضريس. نعم
بعد التضريس يجوز هكذا " بسم ". والله العالم.
92

النحو والإعراب
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
عن متعلق الباء
اعلم أن الباء تأتي لمعان: الاستعانة، والإلصاق، والقسم، والسبب،
والحال، والظرفية، والنقل.
وأمثلتها هكذا:
ذبحت بالسكين، مسحت برأسي، * (فبظلم من الذين هادوا) *، بالله
أفعل كذا، جاء زيد بثيابه، زيد بالبصرة، والنقل: قمت بزيد.
وتأتي زائدة للتوكيد: * (كفى بالله شهيدا) *. وتأتي لمعان اخر: البدل،
والمقابلة، والمجاوزة، والاستعلاء، وغير ذلك. هذا ما عند النحاة.
والذي يظهر: أن بعضا منها مع بعض مختلف المعنى، مثلا: * (ذهب الله
بنورهم) *، وقولهم: كتبت بالقلم، فإنهما لا يمكن إرجاعهما إلى واحد، وهكذا
القسم، ولكن كثير من هذه الموارد المزبورة في الكتب الأدبية، ترجع
إلى معنى واحد، وإنما التشتت جاء من اختلاف لواحق الكلام به.
93

ثم إن أصل احتياج الجار والمجرور - لكونه جملة ناقصة لا يصح
السكوت عليها - إلى متعلق مذكور أو محذوف، متقدم أو متأخر، فعل أو
مشتق اسمي، مما لابد منه ولا محيص عنه.
فأما إذا كان مذكورا فلا يختلف فيه اثنان، وإذا كان محذوفا، ربما تبلغ
الأقوال إلى عشرين أو أكثر ولك أن تعد هذه الأقوال، احتمالات المسألة،
ولا معنى لتعيين المحذوف معينا بعد إمكان كونه كثيرا، حسب اختلاف
موارد الاستعمال ومقاصد الكلام مع القرائن المختلفة، ومع ذلك لا بأس
بالإشارة الإجمالية إلى اختلاف الأفاضل والمفسرين:
فعن الفراء: " ابدأ بسم الله " بالأمر. وعن الزجاج: " ابتدأت بسم الله "،
فتكون الجملة في موضع نصب. وعن آخر: " ابتدائي بسم الله "، فيكون في
موضع رفع. وعن رابع: " ابتدائي مستقر وثابت بسم الله "، فيكون في موضع
النصب، ونسب ذلك إلى نحاة أهل البصرة. وعن خامس منهم: " ابتدائي بسم
الله موجود وثابت "، فيكون في موضع النصب بالمصدر وهو ابتدائي (1). وعن
سادس: " ابدأ أو اقرأ أو شبهه، أو قولوا بسم الله " هكذا في " التبيان " (2).
وقيل: لا يجوز تقدير جملة ابتدائي، لصيرورة الباء للصلة، فيحتاج
إلى الخبر، هكذا في " المجمع " (3) وفيه: أن ذلك تابع لقصد المتكلم.
وقيل: إن المحذوف جملة - فعلية كانت أو اسمية - تكون متأخرة،

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 99.
2 - تفسير التبيان 1: 25.
3 - مجمع البيان 1: 20.
94

لأنه - مضافا إلى مناسبة كرامة الاسم الشريف بعدم تقديم شئ عليه -
يناسب المتعارف من الاستعمال، فإن المسافر إذا حل وارتحل فقال: " بسم
الله " كان المعنى: بسم الله أحل وأرتحل، وكذا الذابح وكل فاعل يبدأ في
فعله " بسم الله "، كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له، وإنما قدر
المحذوف متأخرا لأن الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به، وكانوا
يبدؤون بأسماء آلهتهم، فيقولون: " باسم اللات والعزى "، فوجب أن يقصد
الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء والتقديم وتأخير الفعل.
وربما يؤيد حسن تقديم المحذوف قوله تعالى: * (إقرأ باسم
ربك) * (1)، (2).
ولك دعوى: أن هذه الكلمة الشريفة، خارجة عن قانون لزوم
الحاجة إلى المتعلق، بل سيقت للتبرك بها في ابتداء الأفعال والأقوال
ولحسن الطالع ولجلب نظر الملائكة المقدسين إلى العمل الذي ابتدئ
به وتكلم به، فيكون المحذوف - في الحقيقة - الفعل أو مادة من المواد
الاشتقاقية مع حرف الصلة، سواء كان الباء أو غيره من سائر الحروف،
فيقول مثلا مع * (بسم الله الرحمن الرحيم) *: أفعل وأصنع كذا، فتكون الباء
منسلخة عن المعنى الأصلي.
وبعبارة أخرى: الابتداء بهذه الكلمة الشريفة كالابتداء بكلمة " الله "
من غير إدخال شئ عليه، فهو سيق لمجرد التذكر والتيمن والتبرك الذي

1 - العلق (96): 1.
2 - الكشاف 1: 2 - 3.
95

قد وردت الآيات الكثيرة الآمرة بذكره تعالى ولذلك ترى أنها تقرأ مع كل
سورة، ومن تلك السور ما صدرت بالأوامر مثل سورة المزمل وغيرها، بل لا
يتناسب مع كثير من السور، كالدهر والمائدة والأعلى والحج وغيرها، مما
يناسبها في عدم المناسبة بين الابتداء بالبسملة الشريفة مع أحد
العناوين المزبورة.
اللهم إلا أن يقال: بأن البسملة في كل سورة متعلقة بتلك السورة،
فلا يجب انتظام المعنى المقدر في جميع السور، كما توهمه بعض
المفسرين.
ويمكن أن يقال: إن المحذوف هو مادة الاسم، وهو المناسب لدلالة
المذكور عليه، ولما عرفت عن " المعاني " و " العيون " عن الرضا (عليه السلام) عن
* (بسم الله) *: " يعني أسم على نفسي بسمة من سمات الله " (1) الحديث.
وغير خفي: أن الباء من الحروف، وجميع الحروف قابلة - على
مسلك - لأن تلاحظ بالعناوين الاسمية، ولذلك عبروا عنها في مقام تفسيرها:
بأن الباء للاستعانة والإلصاق و " من " للابتداء و " إلى " للانتهاء.
فعلى هذا، ما اشتهر من أن الباء متعلق بمحذوف، وهي الاستعانة،
غلط، لعدم إمكان تعلق الباء الحرفي الموضوع للاستعانة بالمعنى
الاسمي، وهو الاستعانة، بل الحرفي من كل يتعلق بالاسمي الآخر، فقولهم: إن
الباء للابتداء في الأصل فالمحذوف هي مادة الابتداء، أو للإلصاق
والاستعانة في الأصل فالمحذوف كذا، غلط ظاهر، ضرورة عدم إمكان

1 - معاني الأخبار: 3، باب معنى بسم الله، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 203 / 19.
96

تصحيح قولهم: " أستعين ببسم الله " على أن تكون الباء للاستعانة، بل الباء
إذا كان المقدر مادة الاستعانة لمعنى آخر من الصلة والإلصاق، وهكذا إذا
قيل: " ابتدأت ببسم الله ".
وأيضا إن مقصود المفسرين من تعلق " بسم الله " بمادة من المواد -
سواء كانت القراءة أو الاستعانة - ليس أن المقروء والمستعان به هي
الكلمة المبتدأ بها والجملة الناقصة التصورية، بل هي مقدمة لما هو
المقروء الحقيقي المقصود بالأصالة في القراءة، وهي جملة: * (الحمد لله
رب العالمين) *، فما ترى في بعض التفاسير الحديثة، من الغلط الواضح.
وما قيل: إن المحذوف يتعين في مادة الابتداء، لامتناع الاستعانة في
حقه تعالى، في نهاية السقوط، للزوم استعانته بالمخلوق في قوله
تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، بل يلزم عبادته للمخلوق في الجملة
الأولى، لأنهما جملتان من القرآن، والقرآن نازل من الله تعالى، فما هو
الجواب هنا، هو الجواب هناك، فإنه تعالى لا ينشئ في هذه الحوادث
والكلمات المعاني التي ينشئها الآخرون حين قراءة الكتاب.
وهنا قول سابع وهو: كون الباء للقسم من الرب والمربوب (1)، وبه
يجمع بين المتشتتات، فهو قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة يقسم
لعباده: إن هذا الذي وصفت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أفي
لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. وأيضا يكون
قسما من العبد على صدق لهجته، وتوافق الجملة اللفظية مع الذهنية،

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 91.
97

وهما مع القلبية والروحية، وكان في ما اثر عن الرضا (عليه السلام) (1) إشارة إلى
أن قارئ * (بسم الله) * والقائل به، ينبغي أن يجتهد حتى يجد عين هذا القول
أنموذجا من صفات الله في وجوده، وفي قوله (عليه السلام): " وهي العبادة " إشارة إلى
أن العبد حين هذا القول، ينبغي أن يخرج من أنانيته التي هي خروج من
العبادة والعبودية، ويخرج من مالكيته واختياره، ويدخل تحت أمر ربه،
ويجد ذلك من نفسه حتى تكون منه هذه الكلمة صادقة، ولا يكون هو
كاذبا بينه وبين الله، سواء أريد بكلمة * (بسم الله) * إنشاء الاتصاف بسمة من
سمات الله أو الإخبار به.
والمسلك السابع: هو أن قضية الأصل عدم التقدير، إذا أمكن تعلق
الجار والمجرور بالمذكور، وقد اختار أرباب العرفان والشهود وأصحاب
الإيقان والتوحيد: أن بسملة الحمد متعلقة بقوله: * (الحمد لله رب
العالمين) *، وبيان ذلك يأتي في تفسير قوله تعالى: * (الحمد لله رب
العالمين) *.
ومسلكهم هذا أيضا قريب من أفق علم النحو والإعراب، فكأنه يقول:
حمدت أو أحمد الله تعالى حمدا يليق به باستعانة اسم الله الرحمن
الرحيم، فما يتعلق به هو الفعل المتخذ من الحمد المصدري أو الاسم
المصدري، أو متعلق بنفس المصدر.
فالأولى كون الباء للاستعانة، فإن الحامد في توجيه حمده إلى الله
تعالى، يطلب الاستعانة بمعناها الحرفي من اسم الله الرحمن الرحيم، كما

1 - معاني الأخبار 3، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 203 / 19، التوحيد 229 / 1.
98

يطلب الاستعانة بمعناها الاسمي، عند قوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *.
أو للتعليل لمفاد الجملة الثانية، أي إن علة انحصار المحامد برب
العالمين - وإن كل محمدة ترجع إلى تلك الهوية المطلقة * (ما أصابك
من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * (1).
اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست * يقين كردى كه دين در بت پرستى است
هو كون الاسم الله الرحمن الرحيم، فإن كلمة " الله " موضوعة
للذات بما لها من الكمالات والأسماء، فإن هذه الكلمة هي أم الأسماء،
وعندها يعتدل آثارها وخواصها، ولذلك مظهر هذا الاسم الأعظم مجمع جميع
الكمالات على حد الاستواء والعدالة، من غير إفراط وتفريط في ناحية من
النواحي الكثيرة في الأسماء الإلهية - البالغة حسب بعض المسموعات
أربعة آلاف، ثلاثة آلاف منها مرسومة، والألف الأخرى غير مسموعة -
المنطوية في الاسم المستأثر للذات.
أو أن * (الحمد لله رب العالمين) * باقتضاء الاسم الذي هو الله
الرحمن الرحيم.
وعلى مسلكنا يصير المعنى هكذا، أي إن الحمد لله رب العالمين
باقتضاء اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم، فإن لله تعالى علما وأسماء،
فالله علم، والرحمن الرحيم من الأسماء، ولذلك يأتيك: أن الإضافة ليست
بيانية، بل هي معنوية في إضافة اسم إلى الله، وبيانية في إضافة اسم الله

1 - النساء (4): 79.
99

إلى الرحمن الرحيم، لما سيظهر: أن إعراب الرحمن على إضافة اسم
المضاف إلى الله إلى الرحمن، أو يكون الرحمن وصف الاسم، لا وصف
الله في * (بسم الله الرحمن الرحيم) *، أي بسم الله الذي هو الرحمن
الرحيم بما لهما من المعنى، وكأن معنيي " الرحمن الرحيم " داخلان في
الموضوع له للاسم، لما عرفت من أن الاسم موضوع للألفاظ الموضوعة،
لا مطلق اللفظ ولو كان مهملا.
وبهذا التقريب يمكن حل الشبهة الماضية من لزوم الجمع بين
اللحاظين المتنافيين في البسملة، بأن معنى الرحمن الرحيم يراد من
الاسم، لا من الرحمن الرحيم، حتى تكون في طول إرادة معنى الاسم فيلزم
الإشكال الآخر الماضي تفصيله.
إضافة وإبانة
قد اشتهر أن خفض الاسم في بسم الله، أوجب رفعه في * (تبارك اسم
ربك ذي الجلال والإكرام) * (1) وهذا هو أحد المسالك السبعة السابقة،
وكنا قد اخترعناه في هذا المضمار، وهو: أن هذه الكلمة سيقت للتبرك، ولا
تكون جملة ناقصة أدبية حتى تحتاج إلى المتعلق، فتكون به كاملة، بل
هذا كقول الناس: " الله " في بعض الأحيان، فإن نفس تذكر الله بإمراره على
اللسان بوجوده اللفظي وذكره القلبي، صيانة عن الخطأ والزلل، ويعبر
عنه في هذا العصر بوجه آخر " تيتر "، فإن الجملة التي تقع بعنوان " تيتر "

1 - الرحمن (55): 78.
100

ليست متعلقا لأمر حتى تكمل به، بل هي برنامج المقالة التي أريد طرحها
وذكرها، فهذه البسملة مضافا إلى كونها للتبرك لاشتمالها على أسماء الله
تعالى، تعد تيترا للفاتحة والكتاب، لأن اشتمالها على كلمة " الله " الجامع
لجميع مقتضيات الأسماء والصفات على نعت الاعتدال والاستواء - ففيها
صفات الجلال والجمال - كاف لكونها تيتر الكتاب والسورة، فليست
الباء جارة ومستعملة في معناها الحرفي المحتاج إلى المتعلق.
وأما خفضه فهو لأجل اقترانه بالكلمة الشريفة، فإن في قبال
الكامل على الإطلاق والمتكبر بالاستحقاق، لابد من الخضوع والخشوع،
ولكن تحت هذا الاندكاك والفناء، هو البقاء والرفعة في * (تبارك اسم
ربك) *، وفي قوله تعالى: * (عليه الله) * (1) بالرفع هو السر الآخر، وهو
كسر الأنانية والإنية، فإن الهاء إنيته وصورته الكسرة والخفض، إلا
أن لإجلال الكلمة الشريفة رفض صورته وهويته، قياما بالوظيفة المقدسة،
وهو تفخيم الاسم الشريف في التلفظ. والله العالم بحقائق الأمور.
المسألة الثانية
حول إضافة الاسم إلى كلمة " الله " الشريفة
فهل هي إضافة معنوية كإضافة " غلام " إلى " زيد "، أو هي إضافة
بيانية كإضافة الموصوف إلى الصفة كجرد قطيفة؟
قيل بالأول، معللا بأن الإضافة البيانية تستلزم كون المستعان به أو

1 - الفتح (48): 10.
101

المبتدأ به نفس ألفاظ " الله " " الرحمن " " الرحيم ".
ويضاف إلى ذلك: أن المراد إن كان المجموع منها فهي ليست من
الأسماء، وإن كان الآحاد فلابد من العاطف.
وهذا التعليل عليل، لأن المستعان به هي اللفظة بما لها من المعنى
وهي لفظة " الله "، فما هو المستعان به حقيقة هو الله، فإذا كانت لفظة " الله "
مستعملة في معناها الحقيقي فانية في الذات، فلا يلزم الاستعانة بالألفاظ،
وإلا يلزم الاستعانة بالألفاظ ولو كانت الإضافة معنوية، لأن الظاهر أن
المستعان به هو مسمى الاسم وهو لفظة " الله " الشريفة.
فالذي عندنا: أن الالتزام بالإضافة البيانية ممكن، بدعوى: أن
المستعان به هي اللفظة الشريفة بما لها من المعنى، فيكون الاسم اسم
الاسم، لأن الاسم استعمل في معناه وهي الكلمة الموضوعة، وتلك
الكلمة استعملت في معناه وهي الذات الأحدية، فيكون الأول طريقا إلى
الثاني، وهو الله، وتلك الكلمة طريق إلى الذات المسماة، فالأول طريق
إلى الطريق.
إلا أن هنا شبهة معنوية: وهي أن الجمع بين النظر الاسمي والحرفي
غير ممكن ذاتا، أو غير ممكن إثباتا لطائفة أو لعموم عائلة البشر، فإذن كيف
يمكن جعل الاسم إلى كلمة " الله " طريقا وكلمة " الله " طريقا إلى الذات
مع أن الطريق الأول يستلزم كون كلمة " الله " منظورا إليه نظرة استقلالية،
والطريق الثاني يستلزم إفناء اللفظ في المعنى والتغافل عنه حين
الاستعمال. وهذه الشبهة تأتي على القول الآخر في نوع الإضافة، من غير
فرق بين إرادة كلمة " الله " من الاسم كما هو في التفاسير، حيث جعلوا
102

" الرحمن الرحيم " من تبعات الكلمة الشريفة، أو إرادة الرحمن
الرحيم من الاسم كما هو المحرر عندنا، وسيأتي البحث حول إعراب
" الرحمن الرحيم ".
وبالجملة: كيف يمكن الالتزام بأن الموحد يستعين أو يقتصر على
الابتداء بالألفاظ - التي هي الأصوات - من غير نظر إلى أنها ذوات معان؟
وإذا لم يكن كذلك فكيف يمكن الجمع بين النظرين الآلي والاستقلالي؟
ولعمري إن هذه الشبهة ربما أوقعت الأشاعرة في الهلكة السوداء
والبئر الظلماء، حتى أصبحوا مشركين أو ذاهلة عقولهم عن الدين، وقالوا
فرارا عنها: إن الاسم عين المسمى (1)، فما هو المبتدأ به والمستعان به هو
المسمى للاتحاد بينه وبين الاسم، ولا سيما بعد ما رأوا أن القرآن ناطق
هكذا: * (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) * (2)، فلو كان الاسم والمسمى
متعددا لما كان وجه لقوله: * (تبارك اسم...) *.
والذي يراه العقل السليم والقلب المستقيم: أنه إذا لم يحصل
التمكن من الدفاع عن هذه العويصة وتلك المشكلة والمعضلة، لما
جاز دعوى اتحاد الاسم والمسمى، ضرورة أن الأسماء كثيرة والمسمى
واحد، فكيف يعقل التوحيد بينهما، كما في معتبر هشام بن الحكم، عن
الصادق (عليه السلام) في دفع ما قالوه؟! (3)

1 - التفسير الكبير 1: 108، شرح المقاصد 4: 337، شرح المواقف 8: 207 - 208.
2 - الرحمن (55): 78.
3 - الكافي 1: 89 / 2.
103

والجواب: إن الناس مختلفون في النظر إلى الأسماء: فناظر ينظر
إليها مستقلات في أنفسها، وناظر ينظر إليها غافلين عنها، ذاهلين عن
وجوداتها، وناظر يجمع بين النظرين، ويكون النظر إلى الأسماء تبعا للنظر
إلى المسمى، وناظر ينعكس، وناظر يشرك في النظرين.
فالثاني هم الجماعة المتوغلون في التوحيد، والبالغون مرتبة
التجريد، والواصلون إلى عين الحقيقة، والضالون فيها غير الجامعين
بين الشريعة والحقيقة.
والأول هم المشتغلون بشعوب الكثرات، والمغضوب عليهم في
النشآت، والقاطنون في أرض الطبيعة، والواطنون في دار الظلمة
والجهالة.
والثالث هم الكاملون الجامعون بين الغيب والشهادة،
والواصلون إلى حقيقة السفرة الرابعة، والمنعم عليهم بالهداية
والاستقامة.
والرابع هم الكفار المتوصلون إلى الوسائط الخلقية بالأصنام
والأوثان، ساهين عن حقيقة الآية الشريفة: * (إن هي إلا أسماء سميتموها
أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) * (1).
والخامس هم المشركون والوثنيون الجامعون بين البالي
والداني، وبين الرب والمربوب، الظالمون في حق الرب بتنزيله عن
مقامه الأرفع، وفي حق المربوب بترقيته إلى ما لا يليق به، فإن الكل ظلم

1 - النجم (53): 23.
104

وتعد وإفراط وجهالة.
فإذا قال العبد: * (بسم الله) *، فهو يجمع بين المسمى والاسم ومسمى
مسمى الاسم في النظر، فيكون النظر الاستقلالي إلى تلك الحقيقة
الموصوفة بالوحدة الذاتية الأزلية الحقيقية الأصيلة، والنظر التبعي
إلى الاسم وهو " الله "، وإلى اسم الاسم وهو " بسم ". والله الهادي إلى
دار الصواب.
وهذا الجمع جائز عقلا وواقع كثيرا، والذي لا يمكن هو الجمع بين
النظر الاستقلالي والآلي بأن يكون الشئ الواحد مورد النظرين،
وأما هنا فذاته المقدسة مورد النظر الاستقلالي، والأسماء مورد النظر
الآلي.
فما المحصول من هذه الإطالة؟
إن ما يظهر من أرباب الإيقان وأصحاب الكشف والبرهان، من اختيار
الإضافة البيانية قائلين:
إن التقدير هكذا: بالاسم الله الرحمن الرحيم، أحمد الله الرب
للعالمين، وأحصر الحمد به، فيكون المعنى - حسب ما يأتي برهانه في
مباحث المجلد الثانية -: الحمد لله رب العالمين، بسم الله الرحمن
الرحيم، فيكون الباء للتعليل، أي بعلة أن الاسم الله والرحمن والرحيم،
ينحصر الحمد بذاته المقدسة الربوبية.
ولذلك ذكرنا: أن الكلمة الشريفة هي علم للذات الإلهية الربوبية،
لا للذات بما هي هي، فإنها اعتبار لا اسم لها ولا رسم لها:
105

عنقا شكار كس نشود دام باز گير * كه اينجا هزار باد بدست است دام را (1)
مما لا معين له.
اللهم إلا أن يقال: لأجل اقتضاء الاسم الذي هو " الله "، ينحصر الحمد
به، ولا يشاركه في كمال غيره إلا الكمال المجازي والتوهمي، كما لا
يشارك السفينة في الحركة الأينية جالسها إلا في الحركة المجازية
والتوهمية الخيالية، وإلا فهي مسلوبة عنه على نعت الحقيقة، فإن
الماهيات لا تنقلب بالوجودات إلى غيرها، فما هو جهة ذاتياتها باق حتى
بعد استنارتها بنور الوجود، لأن الانقلاب يستلزم تعدد الوجوب الذاتي،
والبقاء على حالها الأولية يستلزم الإسناد المجازي، لا باقتضاء اسم الله،
وهو الرحمن الرحيم.
ولكنه عندنا غير واصل إلى ميقات التحقيق ولا نائل نصاب
التدقيق، لما سيظهر أن الرحمة الرحمانية والرحيمية، مستوعبة لجميع
العوالم الغيبية والشهودية من قضها إلى قضيضها، حتى قد تبين لنا: أن
نيران الجحيم من شعب الرحمة، وخلق الشيطان الرجيم من تبعات
الرحمة والنعمة، أفلا تنظرون إلى قوله - تعالى وتقدس - * (يرسل
عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما

1 - ديوان حافظ شيرازي، مطلعه:
صوفي بياكه آينه صافيست جام
را * تا بنگرى صفاى مى لعل فأم را
106

تكذبان) * (1) كيف عد إرسال النار من الآلاء، فالجار والمجرور متعلق
بالجملة الثانية، والإضافة معنوية لا بيانية. نعم إضافة " اسم " المضاف
إلى " الله " إلى " الرحمن " بيانية إن أمكن مثل هذه الإضافة، كما سيأتي.
المسألة الثالثة
حول ما يقال في زيادة اسم في * (بسم الله) *
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: إن " اسم " صلة زائدة، واستشهد بقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فذكر " اسم " زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما (2).
وقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه (3).
وقال الأخفش: زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد
التبرك، لأن أصل الكلام بالله (4).
ولك أن تقول: إن العرب كانوا قبل الإسلام يبدؤون أعمالهم بأسماء

1 - الرحمن (55): 35 - 36.
2 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 98.
3 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 99.
4 - نفس المصدر.
107

آلهتهم، فيقولون: " باسم اللات والعزى "، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم،
فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا مرضاة لملك أو أمير يقول: أعمله باسم فلان،
أي إن ذلك العمل لا وجود له لولا ذلك الأمير والملك، فيكون الاسم زيادة،
من باب تعارف الاستعمال، ولا يكون يراد منه شئ، بل توطئة للمقصود،
فيكون جر الكلمة الشريفة بالباء، لا بإضافة الاسم إليها، فإن في مثل
هذه الإضافة ليس مورد الحكم في الأدب والإعراب.
ويشهد لزيادتها قوله تعالى: * (سبح اسم ربك الأعلى) * (1)، وقوله
تعالى: * (فسبح باسم ربك العظيم) * (2)، وقوله تعالى: * (واذكر اسم
ربك) * (3)، وقوله تعالى: * (تبارك اسم ربك) * (4) وهكذا، فإن المسبح هي
الذات المسماة، لا الاسم. وإرجاع الآية إلى تركيب آخر - كما صنعه
بعضهم في بعض منها - غير وجيه، لأنه خروج عن الحد فقوله تعالى:
* (سبح اسم ربك الأعلى) * ليس سبح ربك ذاكرا اسمه الأعلى، وقوله تعالى:
* (سبح باسم ربك) * أي: سبح ناطقا باسمه العظيم، فإنه وإن كان بحسب
المعنى كذلك، ولكنه ليس مفاد هذه الجملة حسب التركيب الأدبي،
فالأولى دعوى: أن كلمة " اسم " زيادة جئ بها لما تعارف ذلك.
ويدل على ذلك: ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم في
مستدركه وابن حبان في صحيحه، عن عقبة بن عامر، قال: لما نزلت * (فسبح

1 - الأعلى (87): 1.
2 - الواقعة (56): 74 و 96.
3 - المزمل (73): 8.
4 - الرحمن (55): 78.
108

باسم ربك العظيم) * قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اجعلوها في ركوعكم "، ولما
نزلت * (سبح اسم ربك الأعلى) * قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " اجعلوها في سجودكم " (1).
فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصحيح الترمذي، عن
حذيفة، قال: صليت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يقول في ركوعه: " سبحان ربي
العظيم "، وفي سجوده: " سبحان ربى الأعلى " (2) فالاسم زائد في هذه
المواقف، فكيف لا وهو، لا يتبارك ولا يسبح وغير ذلك، فإنه كفر وإلحاد.
ولأجل أمثال هذه المأثورات والآيات، قالوا باتحاد الاسم والمسمى
والتسمية (3)، وقال الآخرون: باتحاد الاسم والمسمى، دون التسمية (4).
والمذهب المنصور: عدم الاتحاد الحقيقي بين الاسم والمسمى. نعم،
لمكان حمل الاسم على المسمى - والحمل يقتضي التوحد - لابد من اختيار
نحو من الاتحاد الاعتباري، حتى قيل: إن الوضع هو جعل الهوهوية بين
اللفظ والمعنى (5).
والقارئ العزيز - بعد الاطلاع على ما أسسناه في هذا المضمار - في
فسحة من هذه التحليلات الباردة والاستدلالات الكاسدة، فقد أحاط خبرا

1 - مسند أحمد 4: 155، سنن أبي داود 1: 292 / 869، سنن ابن ماجة 1: 282 /
887، المستدرك، الحاكم النيسابوري 2: 477، صحيح ابن حبان 3: 283 / 1889،
وانظر الدر المنثور 6: 168.
2 - مسند أحمد 5: 382 / 1، سنن أبي داود 1: 293 / 874، سنن النسائي 2: 190،
سنن ابن ماجة 1: 287 / 888، سنن الترمذي 1: 164 / 261، السنن الكبرى 2: 310.
3 - انظر شرح المواقف 8: 207.
4 - شرح المقاصد 4: 337، شرح المواقف 8: 207.
5 - راجع منتهى الأصول 1: 15.
109

بأن كلمة الاسم ليست زائدة. بل هي سيقت لإفادة أن التمسك به، هي
المسماة بما لها من المعنى على الوجه السابق، مع أن في قوله تعالى:
* (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * (1) وقوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر
اسم الله عليه) * (2) يفيد أن ذكر كلمة " الله " غير لازم بالخصوص، بل يكفي
كل ما كان اسما لله تعالى، ومن تلك الأسماء نفس الكلمة الشريفة، فلو
كانت كلمة اسم زائدة، لكان اللازم الاقتصار على ذكر كلمة " الله "
الشريفة، مع أن الضرورة قاضية بخلاف ذلك، فإذا قيل: سبح اسم ربك،
يعني يجب تسبيح الرب والحق بما لهما من المعنى، لا بما هما مورد النظر
الاستقلالي.
فالخلط بين النظرات في المسألة أوقع المشتبهين فيما وقعوا فيه،
وأوقع الآخرين في عدم تمكنهم من دفع الشبهات حق الدفع. والخلط بين
ما هو المقصود في قوله تعالى: * (واذكر اسم ربك) * (3) وبين ما يقول
الذاكر بالحمل الشائع أوجب هذه التخيلات، فإن الاسم في الآية
الشريفة حكاية عن أسماء الله تعالى، والأمر فيها بعث نحو ذكره تعالى،
ولا يعقل الذكر إلا بذكر الأسماء بما لها من المعاني، غافلين في مقام
الاستعمال عن القوالب، ومتوجهين إلى المعاني والحقائق.

1 - الأنعام (6): 118.
2 - الأنعام (6): 121.
3 - المزمل (73): 8، الإنسان (76): 25.
110

المعاني وعلم البلاغة
حسب القواعد النحوية يجوز التقدير مقدما ومؤخرا، ولا يختلف
بين كون المقدر فعلا ماضيا أو مضارعا أو جملة ناقصة اسمية، وأما حسب
البلاغة ومقتضى رعاية الأدب البالي، فإن العبد ينبغي أن يكون في مقام
الحصر وقصر الابتداء والاستعانة وغيرهما من الأمور الممكنة في حضرته
الربوبية، فيكون المحذوف المقدر مؤخرا.
وأيضا يليق بجنابه الإلهي وبالعبد في مقام الخضوع والخشوع، أن
يعرب عما في ضميره بالمفاهيم الاشتقاقية، الكاشفة عن مزايلته معها في
الاعتبار واتحادها معها في الخارج، وأن الابتداء والاستعانة - مثلا - متحد
معه، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم مبتدئ ومستعين، وغير ذلك مما يمكن
من الاحتمالات الكثيرة السابق ذكرها.
وإن شئت قلت: العبد ينظر إلى حاله، فإن كان في حال متعارف
للناس فهو بالخيار في التقدير، وإن كان في مقام الجذبة والفناء والعشق،
فلابد من مراعاة الأدب اللائق بالمعشوق، فيكون المقدر والمحذوف
مختلفا حسب حالات العباد في المعارف والتوحيد.
111

القراءة
وفيها مسائل:
المسألة الأولى
في قراءة الباء
قرؤوا الباء بالكسر.
قيل: لتكون حركته تناسب عملها (1). وفيه: أن عمله الجر لا الكسر.
وقيل: لما كان الباء لا تدخل إلا على الأسماء، خصت بالخفض الذي
لا يكون إلا في الأسماء (2). وفيه: أن الخفض هو الجر لا الكسر.
وقيل: يفرق بينها وبين ما يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول
امرئ القيس:
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا
أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله (3).

1 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 99، ومجمع البيان 1: 20.
2 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 99.
3 - المصدر السابق 1: 100.
112

وبالجملة: أساس الشبهة: أن الأصل فيها السكون، لأنه الأصل في
المبنيات، فحرك لامتناع الابتداء بالساكن، ولا وجه لتحركه بالكسر،
ولذلك قال أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي: إنهم لو فتحوا أو ضموا
لجاز، لأن الفرض التوصل إلى الابتداء، فبأي حركة توصل إليه جاز.
وبعض العرب يفتح هذه الباء، وهي لغة ضعيفة على ما في " مجمع
البيان " (1).
والذي يظهر لنا: أن السيرة القطعية والقراءة المحكية على كسر
الباء في البسملة، ولم يعهد بغير الكسر في غيرها، مع أن من الممكن كون
الباء مبنيا على الكسر ك‍ " حيث "، فإنها وردت على ضم الثاء والفتح
والكسر، ففي المبنيات يوجد البناء على الحركات كثيرا.
وما اشتهر من بنائها على السكون حسب الأصل، غير موافق للاستقراء.
وما عليه النحاة من أن الكاف تجئ اسما بمعنى مثل (2)، غير صحيح،
بل هو حرف مطلقا، بل " مثل " من الحروف، حسب ما حققناه في المعاني
الحرفية، فإنه غير مستقل بالمفهومية، ولا يوجد إلا بين الأمرين،
والتفصيل في مقام آخر.

1 - مجمع البيان 1: 20.
2 - مغني اللبيب: 93.
113

المسألة الثانية
عن جواز إظهار الهمزة في القراءة، وعن إظهار
اللامين في كلمة " الله "، وعن حذف الألف الآخر من " الله "
أما جواز إظهار الهمزة فيقرأ: باسم الله الرحمن الرحيم، فهو حسب
القواعد جائز، لأن همزة الوصل لا يجب حذفها في القراءة، كما لا تحذف
في الكتابة.
ولو قيل: يلزم الوقف على الحركة، وهي حركة الباء، وهو غير
جائز، مثلا: في قوله: * (وإياك نستعين) * يجوز وصل النون وضمها بحذف
همزة " إهدنا " في القراءة، ولكن لا يجوز إظهار ضم النون مع إظهار الهمزة،
فهنا لا يجوز ذلك، لأن إظهار حركة الباء كالوقف على الحركة، ومعه لا
يصح إظهار الهمزة.
قلنا: أولا - حسب ما تقرر منا - إنه يجوز الوقف على الحركة، ولا
ينبغي الخلط بين المسائل التجويدية والمسائل الشرعية، فإن الواجب
قراءة الكتاب على الوجه الصحيح عند العرب، ولا تجب مراعاة
الكمالات والمحسنات المقررة في علم التجويد، فإنه ربما يورث
الملال، بل والخلل في القراءة، للخروج عما تعارف بينهم.
وربما يظهر عن بعض الأعلام أن حديث علم التجويد من الاختراعات
المتأخرة، عن طائفة خاصة كانوا يطلبون به المعاش، وهي في الحقيقة
دكة أسست على الباطل والعاطل، ولا واقعية له. والله العالم.
114

وثانيا: ليس هذا من الوقف على الحركة، فإن الباء على أي تقدير
يقرأ مكسورا، بخلاف النون من * (إياك نستعين) *، فلا ينبغي الشبهة من هذه
الجهة، فهو كإظهار كسرة النون من قوله: * (مالك يوم الدين) * وإظهار
همزة * (إياك نعبد) *.
ولكن من الممكن دعوى ممنوعية إظهارها هنا لوجهين:
أحدهما: أن هذا النحو من القراءة، وهذه الكيفية قد بلغت إلينا، وجواز
التعدي عنه مع اتفاق القراء مشكل، ولا سيما في الصلاة، ولأجل مثل هذه
السيرة قيل بعدم جواز قراءة " ملك " في * (مالك يوم الدين) * في الصلاة.
ثانيهما: أن حذف الهمزة في الكتابة، دليل على وجوب حذفها في
القراءة، وإلا يلزم الزيادة في القرآن، وهو غير جائز، ففي خصوص ذلك لا
يجوز الإظهار، بخلاف غيره في سائر الموارد، فإنه هناك يجوز الإظهار،
لجواز التوافق بين القراءة والكتابة، نعم من يعتقد أنها ليست من القرآن
يرخص له الإظهار.
المسألة الثالثة
عن الوقف بين الكلمات وإظهار اللامين
أما الوقف بين المضاف والمضاف إليه فهو غير جائز، حتى على
القول بزيادة " اسم " بين الجار والكلمة الشريفة، لأنه بحسب اللفظ
مضاف. وهذا هو الوقف الناقص الذي يعد قبيحا، بخلاف الوقف على المضاف
إليه في البسملة، فإنه يعد كافيا وجائزا. وهكذا على الوصف وهو الرحمن،
وأما على الوصف الثاني، فيعد وقفا كاملا، وربما يجب في بعض الأحيان.
115

وأما إظهار اللامين، فلا يقاس بإظهار المتجانسين في الكلمتين، فإنه
يمكن تجويزه هناك، كما في قوله تعالى: * (فما ربحت تجارتهم) * (1) * (وما
بكم من نعمة) * (2) * (ما لهم من الله) * (3)، بدعوى: أن الإدغام ليس واجبا وما
اشتهر من الإدغام في حروف " يرملون " مما لا أصل صحيح له.
ولكنه واجب في الكلمة الواحدة، لدعوى الضرورة عليه، فإذا
اجتمع اللام الساكن واللام الأصلي المتحرك، ادغم الساكن في
المتحرك، فدعواها في الكلمتين غير مسموعة دونها. وهذا أيضا محل
المناقشة.
اللهم إلا أن يقال: بأنه يصير غلطا في الكلام ولحنا في اللغة. نعم في
خصوص الفاتحة أو الكتاب العزيز، يمكن استثناء ممنوعية الإظهار
لاتفاق القراء عليه، وهو كاشف عن أن قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره كانت على
هذا المنهاج والمنوال. والله العالم.
المسألة الرابعة
عن حذف الألف الآخر من " الله "
جواز إظهار الألف الآخر من " الله " مما لا شبهة تعتريه وإن لا يكون
مكتوبا. وأما وجوبه فهو محل المناقشة.

1 - البقرة (2): 16.
2 - النحل (16): 53.
3 - يونس (10): 27.
116

ظاهر القوم وجوبه، لأنه يعلل وجه عدم كتابته بما سلف، فكان
ظهوره في القراءة مفروغ عنه، وحذفه من الكلمة كان مصب البحث، وما
وجدنا من تعرض لهذه المسألة ولكثير من المسائل في هذه الأساطير.
وعلى كل تقدير دعوى البطلان مشكلة جدا، لما يستمع أحيانا عن
بعض الناس استعمالها بدون الألف تخفيفا، ولا سيما مع الاشتباه في القراءة
باللاه اسم الفاعل من اللهو، فربما يجب فرارا من الالتباس.
المسألة الخامسة
عن تفخيم اللام وترقيقها
تفخم لامه إذا كان قبلها فتحة أو ضمة، وترقق إذا كان قبلها كسرة،
ومنهم من يرققها بكل حال، ومنهم من يفخم بكل حال (1)، ونسب إلى
الجمهور الأول، ليكون الفرق بين ذكره وذكر اللات (2).
والفخر ادعى: أن القراء أطبقوا على ترك تغليظ اللام في قوله:
* (بسم الله) * وفي قوله * (الحمد لله) * للعلة السابقة (3).
والمراد من التغليظ والتفخيم ليس التشديد حتى يشكل الأمر، فإن
التشديد الحادث من الإدغام واجب - على إشكال مضى منا - والتغليظ أشد
منه، وهو أمر جائز ومستحسن، كما يظهر منهم.

1 - روح المعاني 1: 55.
2 - انظر التفسير الكبير 1: 103 - 104.
3 - المصدر السابق 1: 104.
117

المسألة السادسة
الوقف على " الهاء "
قد عرفت: أن الوقف على الهاء جائز، ويعد من الوقف الكامل
حسب الاصطلاح، ولا سيما إذا قلنا بأن الرحمن ليس وصفا، بل هو لقب وبدل
واسم بعد الاسم، فإن الوقف أولى بالجواز. وأما إظهار حركة الهاء فهو
داخل في كبرى المسألة الماضية.
وميض:
لأرباب الإشارات والمجاهدات هاهنا دقيقة: إن لام التعريف ولام
الأصل من لفظة " الله " اجتمعا، فادغم أحدهما في الثاني، فسقط لام
التعريف، وبقى لام الأصل، وهو كالتنبيه على أن المعرفة إذا حصلت إلى
حضرة المعروف سقطت وبطلت، وبقي المعروف الأزلي كما كان، من غير
زيادة ونقصان (1). انتهى.
ولا يخفى ما فيه، فإن الإدغام هو إيلاج أحد اللامين في الآخر، ولذلك
يشدد، لا حذف لام التعريف. والعجب من الفخر كيف نقل وسكت؟!

1 - نفس المصدر.
118

علم الأسماء والعرفان
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى
اعتبارات حقيقة الوجود
قد تقرر في علم الأسماء وبلغ نصاب التحقيق وميقات البرهان
والتدقيق (1):
أن لحقيقة الوجود اعتبارات من اللابشرط، والبشرط لا، والبشرط
شئ، كما هي ثابتة في الماهيات، ولكن الاختلاف في أنحاء الموضوعات،
فإذا أطلقت حقيقة الوجود واخذت بشرط أن لا يكون معها شئ، فهي
المسماة عندنا بالمرتبة الأحدية الذاتية المستهلكة فيها جميع الأسماء
والصفات، وتسمى مقام جمع الجمع وحقيقة الحقائق والعماء المطلق.
وإذا اخذت بشرط شئ، فإما أن تؤخذ بلحاظ جميع الأعيان اللازمة
لها، من الكلية والجزئية وبلحاظ جميع الصفات والأسماء الملزومات

1 - انظر شرح فصوص الحكم، القيصري: 11.
119

لتلك الحقيقة، فهي المسماة بمقام الواحدية ومقام الجمع، وبلحاظ ظهور
الأعيان في المرتبة العلمية تبعا لظهور الصفات، تسمى هذه المرتبة
مقام الربوبية الجمعية.
وإذا أطلقت واخذت لا بشرط شئ آخر ولا بشرط لا شئ، فهي عندنا
هي الهوية السارية والجارية في جميع الأعيان الثابتة والماهيات
الإمكانية.
وإذا أطلقت واخذت بلحاظ كليات الأشياء فقط، فهي الاسم الرحمن،
وهو رب العقل الأول، وهو أم الكتاب والقلم الأعلى ولوح القضاء عند
أرباب العرفان.
وإذا اخذت بلحاظ الكليات المفصلة، الصائرة جزئيات في العلم،
الثابتة في الحضرة الربوبية من غير احتجابها عن كلياتها، فهي مرتبة
الاسم الرحيم، وهو رب النفس الكلية المسماة بلوح القدر، وهو اللوح
المحفوظ والكتاب المبين.
وهنا اعتبارات اخر حسب مراتب الأعيان العلمية في المظاهر
العينية، ومراتب التكوين إلى منتهى إليه قوس النزول، ثم يرجع إلى
منتهى إليه قوس الصعود، ولكل واحد من الأسماء الإلهية اعتبار خاص
به، ينمو مسماه في النشآت الغيبية والشهادية على ما يتخيله النفوس
القدسية. وتفصيل ذلك في الكتب الاخر المعدة لذلك.
وما هو الاسم الجامع هو الرحمن، والأجمع منه الكلمة الشريفة
" الله "، فإن مواليد الأسماء والمسميات ترجع إلى هذه الام الأولى، وتحت
سيطرة هذا الاسم " الله " يكون مقتضيات جميع الأسماء على حد سواء، بخلاف
120

مظاهر سائر الأسماء، وما هو المظهر له حضرة الكون الجامع والإنسان
الأول الكلي، المسمى بذي المقام الرفيع متخذا ذلك عن رفيع الدرجات.
وسيظهر وجه اتباع " الرحمن " عن " الله " في البسملة من هذه
الطريقة الغراء والمسلك الشريف الأحلى. وهذا هو الاسم الأعظم
الإجمالي.
المسألة الثانية
حول بعض الأحاديث
قد أخرج الصدوق بسنده عن الحسن بن علي بن محمد (عليهم السلام) - في
حديث طويل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) -: قال له رجل: فما تفسير قوله:
" الله "؟ قال: " هو الذي يتأله إليه - عند الحوائج والشدائد - كل مخلوق عند
انقطاع الرجاء من جميع من هو دونه، وتقطع الأسباب من كل من سواه، وذلك
كل مترئس في هذه الدنيا ومتعظم فيها وإن عظم غناؤه وطغيانه، وكثرت
حوائج من دونه إليه، فإنهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها... فينقطع إلى الله
عند ضرورته وفاقته " (1) الحديث.
ويشبه ذلك ما ورد في معناه: " الله المعبود الذي يأله إليه الخلق
ويؤله إليه " (2).
وعن الباقر (عليه السلام): " الله معناه المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته

1 - التوحيد: 231 / 5.
2 - التوحيد: 89 / 2.
121

والإحاطة بكيفيته " (1).
وفي جملة ما رواه في التوحيد عنه (عليه السلام) لتفسير الإله: " هو الذي
أله الخلق عن إدراك ماهيته وكيفيته بحس أو بوهم، لا بل هو مبدع الأوهام
وخالق الحواس " (2).
وقد مر في معتبر هشام: " الله مشتق من أله، وإله يقتضي مألوها " (3).
وفي حديث آخر في تفسيره: " إن له معنى الربوبية، إذا لا مربوب،
وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه " (4).
يتوجه الإنسان البصير من هذه الجمل إلى معان:
1 - أن اللفظة مشتقة من أله، فيسقط سائر الاحتمالات.
2 - وأن الموضوع له كلي لا ينطبق إلا على واحد، وهو خالق
السماوات والأرض.
3 - وأن معنى الألوهية من الصفات الذاتية، إذ هو الإله قبل خلق
المألوه.
4 - وأن المشتق منه هو الإله بمعنى التحير حتى يناسب كونه ذاتا
تحير فيها العقول، فهي متحيرة. وإليه يشير ما في الدعاء عن علي بن
الحسين (عليه السلام): " رب زدني فيك تحيرا " (5)، ويناسب كون مقابله المألوه، وهو

1 - نفس المصدر.
2 - التوحيد: 92 / 6.
3 - الكافي 1: 89 / 2.
4 - التوحيد: 38 / 2.
5 - راجع التجليات الإلهية: 91، وشرح منازل السائرين: 31.
122

المتحير بالكسر.
وأنت بعد ما سمعت منا تجد طريقا تجمع به بين هذه المداليل، وبين
ما مضى من أن كلمة الله، تعريب " لاها "، وأن الاشتقاق المراد في الرواية
هو الاشتقاق الكبير، وإلا يلزم كون الهيئة ذات وضع على حدة، والمادة
كذلك، مع أن هيئة " الله " ليست ذات وضع نوعي، بل الكلمة ذات وضع
شخصي بالضرورة.
ومن أن الموضوع له جزئي خارجي، هي الذات الملحوظ معها
بعض الاعتبارات، وإلا فالذات المطلقة بالإطلاق على الإطلاق المقسمي،
لا اسم له ولا رسم، ولا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر بقلب أحد، لا
كلي. وأن الرواية في مقام إفادة خاصية المسمى، لا الاسم والتسمية.
وأما أن الألوهية من الأوصاف الذاتية، فهو لا ينافي اقتضاء الإله
مألوها، فإن الألوهية من الاعتبارات الزائدة على الذات الأحدية الغيبية
الذاتية، وعلى ما لا رسم له ولا اسم عليه، ولكنها عين الذات
المستجمعة فيها الصفات المسماة بالمرتبة الواحدية، كما عرفت،
وعند ذلك تكون تلك الصفة ذات الملازمات، من الأعيان الثابتة، وهي
مألوهها في النشأة العلمية ولا مألوه، وهو الإله بلحاظ النشأة الغيبية
وظهورها في الأعيان الخارجية، كما لا يخفى على اولي البصائر
والدرجات.
123

الحكمة والفلسفة
المسألة الأولى
في وجودات الأشياء
لكل أمر وجودات أربعة وللأعيان خمسة:
1 - وجود خارجي، كوجود الشمس - مثلا - في السماء الرابعة
على ما تخيله القدماء.
2 - وجود طبعي ذهني، كوجودها في الأذهان.
شمس در خارج اگر چه هست فرد * مثل أو هم ميتوان تصوير كرد
3 - وجود لفظي وظهور في عالم الألفاظ.
4 - وجود كتبي.
وكل منهما وضعي بالمواضعة والمجاعلة، لا بالطبع، كنقش
الشمس في الألواح.
5 - المثال والتمثال التجسمي، كصورة الأسد والشمس
124

المصنوعة بالأحجار والأخشاب، وهذا أقوى من الأخيرين.
وما اشتهر من الوجودات الأربعة لكل موجود وأمر، باعتبار المراتب
الإجمالية وإلا فلكل مرتبة مراتب:
ففي العيني كالطبيعي والمثالي والنفسي والعقلي.
وفي الذهني الكون في الأذهان البالية، والكون في الأذهان
السافلة. وفي الكون في أذهان الآدميين، الكون في العاقلة، وفي
الوهم، والخيال، والحس المشترك (1).
وغير خفي: أن ما ذكره شركاؤنا في الفلسفة (2) خال عن التحصيل،
لتداخل أقسام ومراتب العيني مع الذهني، مع أن الوهم والخيال عرضيان،
أحدهما للمعاني والآخر للصور. والأمر سهل.
وفي اللفظي اللغات المختلفة العرضية، وهي واضحة، والطولية
بوجه، كالحروف المقطعات بالنسبة إلى المركبات، كالألف للذات
الأقدس، والباء للعقل الأول، والسين للإنسان، أو ما يأتيك من ذي قبل من
الرموز والإشارة الواردة في الأخبار حول كلمة * (بسم الله) *، من كون
الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم مجد الله أو ملكه (3)، والنقطة
تحت الباء هي الولاية الكلية الظلية للولاية الكلية الإلهية
الذاتية الأصيلة (4).

1 - اللآلي المنتظمة: 11 - 12، انظر الجوهر النضيد: 36، وكشف المراد: 73.
2 - الشفاء (قسم المنطق) 1: 1 - 7، النجاة (قسم المنطق): 17، التحصيل: 38 - 39.
3 - الكافي 1: 89 / 1، التوحيد: 230 / 1 و 2، معاني الأخبار: 3 / 1 و 2.
4 - إشارة إلى ما نسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنا النقطة التي تحت الباء "، انظر مشارق
أنوار اليقين: 21، وينابيع المودة: 69.
125

وفي الكتبي أطوار الخطوط المختلفة العرضية، وهي واضحة،
والطولية بالوجه المشار إليه آنفا.
نيست در لوح دلم جز الف قامت يار * چه كنم حرف دگر ياد نداد استادم (1)
المسألة الثانية
عدم وجود ذهني للحق تعالى
وإذا أحطت خبرا بما تلوناه عليك فاعلم: أن الحق عز اسمه وجل
سلطانه، له الوجود العيني واللفظي والكتبي، ولكنه لا يوجد له
الوجود الذهني، لأنه منزه عن الماهية حتى توجد في الأذهان.
للشئ غير الكون في الأعيان * كون بنفسه لدى الأذهان (2)
فوجوده الكتبي واللفظي منه تعالى يصير محاطا، لأنه بالمواضعة
والمجاعلة - كما عرفت -، دون الخارجي، لأنه عين الخارجية وذاته
الخارج، فكيف يعقل تحققه في الذهن للزوم الخلف والانقلاب.
وربما قيل: بأن النفس وما فوقها إنيات صرفة (3)، لا ماهية لها،

1 - ديوان حافظ: 355.
2 - شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 27.
3 - القائل هو شيخ الإشراق في آخر التلويحات على ما أسنده إليه صاحب الأسفار
(الأسفار 1: 43)، والظاهر أنه من مباحث الطبيعيات للتلويحات غير المطبوعة.
126

فلا وجود لها في الذهن. نعم لوجوداتها الكتبية واللفظية وجودات ذهنية،
ولكنها ليست وجودا وظهورا للمسمى، بل هي للأسماء، كما لا يخفى.
وأما العنقاء، فلها الوجودات الثلاثة، دون الوجود الخارجي،
ووجودها الذهني هي المخلوقة بالخيال، لا موجودة فيه تبعا للعيني فإذا
لم يكن له الوجود العيني، لا يكون له الماهية الأصيلة الواقعية، لأنها
من تبعات تلك الحقيقة وترسم في النفس لأجلها.
عنقا بخود وجود ندارد عبث مجوى * عنقا كسى است كز سرنام ونشان گذشت
وأما تفصيل البراهين على أنه تعالى لا ماهية له، ففي ما حررناه في
فن المعقول، يسمى ب‍ " القواعد الحكمية ".
وإجماله: أن الماهيات تعتبر من ظهور الوجود ومن الحدود، وتكون
كسراب بقيعة يحسبها الظمآن ماء، ووجوده الأزلي لا حد له، إذ لا جنس له
ولا فصل له، فلا يمكن تحديده بالأجزاء العقلية ولا بالخارجية الأصلية
ولا بالتبعية، كتحديد الجواهر، بالمادة والصورة، والأعراض، بالمادة
والصورة التبعيتين.
نعم قد يعتبر مفهوم الواجب بالذات العالم القادر على الإطلاق ماهية
له تعالى، ولكنه مجرد وهم لا أساس علمي له، كما لا يخفى على أهله.
ومن هنا يظهر: أن الاسم لو كان عين المسمى لكان يلزم أن يصير هو
تعالى محاطا، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وأما فيما يطلق الاسم مرآة للمعنى فلا يحكم عليه بالمحاطية، لأنه
في هذه اللحظة مغفول عنه، ولو توجه إليه يخرج عن المرآتية
127

والفناء وعن حقيقة الاسمية، وهي الاضمحلال في المسمى وإن كان
بحسب الثبوت والواقع تحت ظل نفس المستعملين.
المسألة الثالثة
حول الوجود اللائق بحضرته الربوبية
اختلفت مسالك أهل الله والعرفان، وأهل الحكمة والبرهان، وأهل
الأخذ بظواهر الكتاب والقرآن من متكلمي العامة والخاصة في أن
الوجود الذي يليق بالله تعالى، ويكون هذه الكلمة الشريفة حاكية
عنه، هو الوجود الإطلاقي الذاتي اللا بشرط المقسمي - وهذا هو رأي
أرباب الكشف واليقين وأصحاب الإيمان والعرفان - أو هو الوجود
الخاص اللا بشرط القسمي، المنحاز عن سائر الوجودات بالتشكيك أو
بالتباين، على اختلاف مذاهب المشائين والإشراقيين وأصحاب الحكمة
المتبالية وأرباب الكلام.
فقالت الطائفة الأولى (1): الوجود هو الحق من حيث هو، وهذا غير
اعتبار الوجود الخارجي والذهني، إذ كل منهما نوع من أنواع ذلك الوجود،
فهو من حيث هو هو لا بشرط شئ، غير مقيد بالإطلاق والتقييد، ولا هو
كلي ولا جزئي، ولا عام ولا خاص، ولا واحد بالوحدة الزائدة على ذاته ولا
كثير، بل هذه الأشياء لوازم تلك الذات بحسب مراتبه ومقاماته المنبه

1 - انظر شرح فصوص الحكم، القيصري: 5.
128

عليها قوله تعالى: * (رفيع الدرجات ذو العرش) * (1)، فيصير معنونا بأحد
العناوين المزبورة، مع عدم التجافي عن مقامه المنيع ومنزله الرفيع، فهو
ليس بجوهر ولا عرض ولا بأمر اعتباري كما يقوله الظالمون، لعدم تقومه
بالاعتبار ولا بالمعتبرين، كما ورد: " كان الله ولم يكن معه شئ " (2)، فلا يكون
معنى " الله " وهذه الكلمة الشريفة إلا تلك الحقيقة، التي تكون تلك
العناوين اعتبارات زائدة في الوجود وداخلة في سلطانه. وهذه الحقيقة
أعم الأشياء، وليس من صفاته أنه لا بشرط، بل ما هو اللا بشرط وجود
خاص، لا تلك الحقيقة المطلقة، وهو الظل المشار إليه - مثلا - في
الكتاب العزيز: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * (3).
ولهذا المسلك الظاهر فساده محمل صحيح راق، ولذلك تراهم
يعتبرون الوجود الآخر، وهو الظل للوجود الأصيل (4)، فلا يكون الوجودات
المقيدة - كوجود زيد - هو الوجود الواجبي الأزلي الذاتي، بل الوجودات
المقيدة هي الوجودات الخاصة المضافة، وحصص تلك الظلة،
وسنشير إليه إن شاء الله.
وقالت الطائفة الثانية، أي المشاؤون (5): إن الوجود اللائق بجنابه

1 - غافر (40): 15.
2 - التوحيد: 67 / 20.
3 - الفرقان (25): 45.
4 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 7.
5 - التحصيل: 281 - 285، شرح الإشارات 3: 32 - 35، كشف المراد: 63، شرح
المنظومة (قسم الفلسفة): 24.
129

تعالى، يباين سائر الوجودات تباينا ذاتيا، ووجودات المباليل غير ذاك
الوجود وفي مقابله، بحيث يحكم عليه بالأحكام الاستقلالية، وهذا غير
صحيح، لا لما قيل: إن مفهوم الوجود الواحد لا ينتزع عن المتباينات (1)،
ضرورة أن الوحدة السنخية - كوحدة الماء - مورد تسالم الكل، ولا
يريدون أن نسبة الوجود إلى الوجود، كنسبة البقر إلى الفرس. ولكنها
خالية عن التحقيق، لما ثبت أن الوجودات المباليل ليست مستقلات في
قبال الوجود الواجبي، وإلا يلزم تعدد الوجوب، وإذا كانت هي الفقراء
والروابط فليست مستقلات، وإذا كانت غير مستقلات بذواتها ونفس الارتباط
إلى ربها، لا يحمل على موضوعاتها على حسب الحقيقة، بل نسبتها إلى
الماهيات كنسبة حركة السفينة إلى الجالس فيها.
وقالت طائفة راقية من المشائين، وفيهم شريكنا في الرئاسة أبو علي
ابن سينا، قال في " المباحثات ": إن الوجود في ذوات الماهيات لا يختلف
بالنوع، بل إن كان اختلاف فيه فبالتأكد والضعف، وإنما يختلف الماهيات
بالنوع، وما فيها من الوجود غير مختلف النوع (2).
وقال في " التعليقات ": الوجود المستفاد من الغير كونه متعلقا
بالغير هو مقوم له، كما أن الاستغناء عن الغير مقوم لواجب الوجود بذاته
والمقوم للشئ لا يجوز أن يفارقه إذ هو ذاتي له (3). انتهى.

1 - شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 24.
2 - المباحثات: 41.
3 - التعليقات: 178.
130

والذي يكشف عن هذه المقالات: أنه في موقف إثبات أن جميع
الوجودات الإمكانية والإنيات الارتباطية التعلقية، اعتبارات وشؤون
للوجود الواجبي وأشعة وظلال للنور القيومي، لا استقلال لها بحسب
الهوية لا يمكن لحاظها ذواتا مستقلة منفصلة، وإنيات مقابلة لتلك
الحقيقة والإنية، بل التبعية والظلية والتعلق عين حقائقها، وليست هي
ذواتا مرتبطة، بل هي نفس الربط إلى العلة، ولا غيرها، ولا شؤون تلك
الحقيقة وحيثياتها وأطوارها ولمعاتها وظلال ضوئها وتجليات ذاتها (1).
كل ما في الكون وهم أو خيال * أو عكوس في المرايا أو ظلال (2)
وهذه الطريقة هي مسلك أرباب الحكمة المتبالية، ورئيسهم
صدر المتألهين الشيرازي (قدس سره)، الذي لا يماثله مماثل في نشأته العلمية
وتفكيره العرفاني ومذاقه البرهاني.
بعد ما تبين هذه السبل والمسالك واختلافات عبائرهم فليعلم:
أن من المتصوفة من يريد إثبات الوحدة الشخصية الإطلاقية
لحقيقة الوجود وهو عين الوجود الواجبي، وتكون الماهيات إضافات
إلى تلك الحقيقة حسب مراتبها، فيكون هذه الحقيقة - بمراتبها القديمة
الذاتية والأزلية - واجب الوجود بالذات، فلا وجود للآخر، لا ظلا ولا
استقلالا، وهذا هو وحدة الوجود والموجود وكثرة العناوين العقلية

1 - انظر الأسفار 1: 47.
2 - البيت مطلع غزل للعارف عبد الرحمن الجامي في ديوانه.
131

والوهمية والخيالية (1).
وقد مثلنا لهم: بأن النظر إلى حقيقة الماء في الأواني المختلفة،
يؤدي إلى وحدة الماء وحدة سنخية لا شخصية، وتلك الكثرة المترائية
في هذه الحقيقة، نشأت من كثرة الأواني والحوائل، فلو فرضنا انعدام
الحائل بين الماء الموجود في الكوز والماء الموجود في الإناء الآخر،
لسال كل واحد منهما إلى طرف الآخر، ولا تبقى الاثنينية في البين
بالضرورة، ويعدان ماء واحدا وهكذا، فإذا كانت حقيقة الوجود مشتبكة
باشتباكات الموضوعات، فإن كان تلك الموضوعات متمكنة وقادرة على
إيجاد الفصل والبينونة الحقيقية في تلك الحقيقة، تحصل كثرة الوجود
واقعا، وتحصل الوجودات المتعددة ثبوتا وحقيقة، ولكنها قاصرة عن إيجاد
الخلل في تلك الحقيقة، لأنها ليست شيئا ذات تحصل، بل نسبتها إلى تلك
الحقيقة نسبة الحكم إلى الموضوع والعرض إلى الجوهر، فهل يعقل
أن يوجد العرض قسمة فكية في الجسم. نعم هو يورث القسمة
الوهمية، كما إذا كان الجسم أبلق بحسب اللون.
فإذا تبين: أن الوجود الواجبي هو تلك الحقيقة، وهذا هو اللائق
بحضرته الربوبية ولا شئ وراء ذلك، بل لك إنكار كونها ذات مراتب، حتى
لا يعقل المرتبة الدانية والبالية إلا بالتشكيك الخاص، وهو لا يحصل
إلا بالفناء والفقر، وهما يستلزمان العلية، والعلية تستلزم المغايرة في
وجه، لعدم إمكان اعتبار العلية بين الشئ ونفسه، ولا تكون الوحدة -

1 - انظر الأسفار 1: 71، وشوارق الإلهام 1: 41.
132

حينئذ - شخصية إطلاقية، بل هي وحدة سنخية مختلفة إطلاقا وحملا.
وما أشبه هذه المقالة بمقالة أهل الكشف، ولكنهم أيضا مختلفون
في مدارج الكشف والشهود. وما ذكرناه عنهم كان من القشريين منهم.
وهنا تمثيل آخر: إذا حبست رجلا محبوسا مسجونا لا يعرف الشمس
من القمر ولا الليل من النهار ولا الظل من الضوء فحصل بينه وبين
إظلال الطيور في جو السماء ثقبة يمكن أن يرى تلك الإظلال، فإذا سئل
عنه فلا يجيب إلا بجواب يرجع إلى اعتقاده أن هذه الأظلة حقائق خارجية
مشغولة بالحركة والسير. والله العالم.
وربما قيل: إلى هذه المرتبة من التوحيد يشير قوله تعالى: * (هو
معكم) * (1) فلو كانت المعية ثابتة لظله الشريف، لما صحت الآية في
ظاهرها اللغوي من أن المشار إليه هي الذات الأحدية، وأنها مع
الماهيات والمخاطبين، لا الأمر الآخر الذي اعتقده أرباب العرفان
والبرهان، خلافا للقرآن مثلا وقوله تعالى: * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا
هو رابعهم) * (2)، فإن الثلاثة هي الأظلة، والرابع هو الوجود، والأظلة هي
الماهيات.
وغير خفي: أن ما نسب إلى أهل المعرفة من أصالة الماهية -
جعلا لا تحققا - يناسب هذه البارقة الملكوتية، لأن ما هو الموجود
بالذات هو الوجود، وما هو الموجود المتوهم هي الماهيات ولا أمر

1 - الحديد (57): 4.
2 - المجادلة (58): 7.
133

ثالث في البين يكون مجعولا وموجودا حقيقة، حتى الظل المنبسط على
رؤوس الماهيات الإمكانية، كما عرفت سابقا من أرباب الفلسفة
والبرهان دون الشهود والوجدان.
والإنصاف أن الاعتقاد بذلك المنهج في غاية الإشكال، وخروج عن
طور الشرائع، حسب ما يظهر منها لأهلها وإن كان موافقا لعدة آيات مضت
الإشارة إلى بعضها.
ومنها قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * (1)، وإذا لم يكن
هو نوره الحسي فهو نوره الحقيقي وما هو به تقوم السماوات والأرض،
هي الحقيقة الظلية، لا الأصيلة، فإنها لا تباشر الماهيات ولا تسافح
الأنواع والعناوين.
ولذلك أفاد الوالد الكامل الجامع بين شتات العلوم العقلية
والنقلية، والراحل بقدميه العلمية والعملية إلى قصوى مدارج العلوم
النظرية والتطبيقية، وإلى نهاية مباحث العلوم المتعارفة المتشتتة،
في حواشيه على " مصباح الانس في شرح مفتاح غيب الجمع بين الشاهد
والمشهود ": أن الوجود هو الأصل جعلا وتحققا، وأن الماهيات تظهر بتلك
الحقيقة الظلية والحق المخلوق به، ولكنها لمكان أنها من الروابط
المطلقة في ذاتها، وليست إلا معنى اندكاكيا وحرفيا ونفس التدلي بالذات
الحي القيومي، لا يمكن أن ينظر إليها وفيها، ولا يثبت لها حكم اسمي، لأن
كل ما نشاهده بوجه اسمي، فهو غيره، لأنه بحقيقته مرهون الغفلة وعدم

1 - النور (24): 35.
134

الشهود، فإذا ينتسب جميع الأحكام الثابتة للحق الأول إلى الحق
المخلوق به الذي هي حقيقة الولاية الأحمدية المحمدية
والمحمودية العلوية، وهي الظل المنبسط على رؤوس الماهيات
الإمكانية، وهي حثيثية خالقيته تعالى، فإنه بها يصير خالقا، ويوصف
الأوصاف البارزة الإلهية والربوبية، وهو الفيض المقدس التابع للفيض
الأقدس (1). فكأنه - مد ظله - جمع بين شتات المسالك بتقريب ذكرناه
وفصلناه، فليتدبر.
المسألة الرابعة
نكتة في تعلق الباء بجملة فعلية أو اسمية
بناء على تعلق * (بسم الله) * بجملة فعلية أو اسمية، دالة على أن
العبد يستعين بالأسماء الشريفة في أفعاله، كما هو رأي أكثر المفسرين في
خصوص البسملة من الفاتحة، فيمكن أن يقال: بأن في ذلك ردا على
المفوضة والمجبرة القائلين بأن أفعال العبد مفوضة إليه، ولا مدخلية
لله تعالى فيها، والقائلين بأن العباد مجبورون فيها كالأفعال الطبعية، فهي
تستند إليه تعالى كاستناد خلق السماوات والأرض (2).
وبطلان مقالة الفريقين محرر في " القواعد الحكمية "، وقد ذكرنا
هناك أن مسألة القدرية والمجبرة من المسائل العقلية الشاملة لجميع

1 - راجع التعليقات على مصباح الانس: 287 - 288.
2 - انظر شرح المقاصد 4: 223، شرح المواقف 8: 145، كشف المراد: 308.
135

الأفعال، الصادرة عن المكلفين وغيرهم من الوسائط والعلل، ولا يختص
بأفعال العباد، خلافا لما يستظهر من بعض عبائرهم وتقرر: أن الأمر بين
الأمرين لا جبر ولا تفويض، بل أمر متوسط بينهما لا يصل إلى الإلحاد
والكفر، فيكون الحق جل اسمه نازلا عن مقامه الربوبي، ولا يصل إلى
الشرك والوثنية، فيكون الحق معزولا، بل يداه مبسوطتان يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد.
فعلى هذا يكون الكتاب من الابتداء ناظرا إلى الرد عليهم بأن العبد
يستعين، فالاستعانة فعله، وهو تعالى يعينه، وإليه يرجع قوله: " بحول
الله وقوته أقوم وأقعد " (1) فإن الفعل مستند إليه، إلا أن الاستناد إلى
العلة الحقيقية أتم وأقوى، وهذا ليس معناه سلب اختيار العبد في أفعاله،
كما توهم جماعة الأشعريين.
وربما يأتي في أثناء المباحث آيات تشير إلى هذه البارقة
الملكوتية، وإذا كان هناك مناسبة نذكر بعض مهمات المسألة. والله
العالم بالحقائق.

1 - الفقيه 1: 319 / 944.
136

الفقه
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حرمة مس الكلمة الشريفة " الله "
يحرم مس الكلمة الشريفة " الله " على الجنب عند علمائنا وعليه
الإجماع في " الغنية " (1) وهو المحكي عن ظاهر " المنتهى " (2)، ولم يذكره
الصدوق في " الهداية "، ولا نقل عن غيره ممن تقدم على الشيخين، وقال
في " مفتاح الكرامة ": لعلهم يحكمون بعدم المنع (3)، كما لعله يلوح من
عبارة " المعتبر " (4)، لأنه بعد الحكم بالحرمة طعن في الرواية، وفي
" المجمع " للأردبيلي (قدس سره): أن الحكم غير واضح الدليل (5)، وأفتى في

1 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 488.
2 - منتهى المطلب 1: 87.
3 - مفتاح الكرامة 1: 325.
4 - المعتبر: 50 / السطر 2.
5 - مجمع الفائدة والبرهان 1: 134.
137

" المستند " بالجواز، وقال: صرح به بعض الأجلة، واستظهر الحكم من
الأردبيلي و " المدارك " (1) و " الكفاية " (2)، وربما يستظهر منه أنه أراد سائر
الأسماء، لا الكلمة الشريفة، فراجع (3).
ولكن ظاهر " مفتاح الكرامة " أن هذه المسألة خلافية، وهو - أي
الجواز - مذهب العامة ظاهرا، لعدم تعرضهم للمنع على ما تفحصت عنه،
بل داود حكم بجواز مس الكتاب الشريف، خلافا لسائر المذاهب، ووفاقا
لما نسب إلى الشيخ في بعض كتبه.
ويدل عليه - مضافا إلى معروفية حكم المسألة في الأذهان في
جميع الطبقات، وأنه يستلزم الهتك والوهن - معتبر عمار بن موسى
الساباطي المذكور في " التهذيبين "، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: " لا يمس
الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله، ولا يستنجي وعليه خاتم فيه اسم
الله، ولا يجامع وهو عليه، ولا يدخل المخرج وهو عليه " (4).
وظاهره النهي عن مس الجسم الذي فيه ذلك، فضلا عن مس نفس
الخط والنقش، ولذلك ترى في المتون الفقهية - كالمبسوط (5) إلى
القواعد (6) وغيرها - المنع عن مس ما عليه اسم الله تعالى، ولذلك يحمل

1 - مدارك الأحكام 1: 279 - 280.
2 - كفاية الأحكام، السبزواري: 3 سطر 15.
3 - مستند الشيعة 1: 119.
4 - تهذيب الأحكام 1: 31 / 21، الاستبصار 1: 48 / 1.
5 - المبسوط 1: 29.
6 - قواعد الأحكام: 13.
138

الخبر - خصوصا مع رعاية ذيله - على الكراهة، وإن لم يثبت ذيله في
جميع النسخ، ولكن يعلم من الرواية أن الحكم بالنسبة إلى مس الاسم،
كان مفروغا عنه. والله العالم.
وثبوت الحكم للمحدث بالأصغر محل إشكال، ولكنه - أيضا - لا
يحتاج إلى الدليل، وإن لم يكن بذاك الوضوح.
وجواز المس للمتيمم - أيضا - محل الكلام، وإن لا يبعد على ما
يقتضيه أدلة الترابية من ترتيب جميع الآثار، حتى قيل: إنها رافعة للحدث
صغيرا أو كبيرا (1).
ومما عرفت من الرواية، يظهر كراهة الاستنجاء باليد التي فيها
الخاتم المنقوش باسم الله، ولذلك ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) الأمر
بالتحويل (2).
والمراد من اسم الله إن كان الإضافة بيانية، هي الكلمة الشريفة،
وإن كانت معنوية هي سائر الأسماء، دون الكلمة الشريفة، فيكون الحكم
ثابتا هنا بالأولوية.
ويمكن دعوى كون الإضافة، معنوية وبيانية، باستعمال الإضافة في
المعنيين، بناء على جواز ذلك عقلا، ولكنه - لو صح حتى في مثلها - غير
مأنوس في هذه المواقف.

1 - تذكرة الفقهاء 1: 66، ومختلف الشيعة 1: 55، وجامع المقاصد 1: 514، ومفاتيح
الشرائع 1: 65، والحدائق الناظرة 4: 416، وجواهر الكلام 5: 260 - 261.
2 - الكافي 6: 474 / 9، الخصال 2: 742 حديث أربعمائة، وسائل الشيعة 1: 233 كتاب
الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 17، الحديث 4.
139

ثم إن في المسألة بعض روايات توهم دلالتها على جواز مس
الكلمة الشريفة.
ومنها: ما أخرجه " التهذيبان " بسند معتبر عن إسحاق بن عمار، عن
أبي إبراهيم (عليه السلام)، قال: سألته عن الجنب والطامث يمسان بأيديهما الدراهم
البيض؟ قال: " لا بأس به " (1)، ومثله غيره.
والعجب أن الرواية - مع كونها ناظرة إلى مس الجسم الذي فيه
النقش لا نفسه - قيل بدلالتها على جواز المس (2)، وهل يمكن لك تصديق
ذلك؟ وفي بعضها المروي في " المعتبر " عن " جامع " البزنطي، عن محمد بن
مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته، هل يمس الرجل الدرهم الأبيض
وهو جنب؟ فقال: " والله لأوتي بالدرهم، فاخذه وإني لجنب " (3) بناء على كون
نقش الدراهم البيض اسم الله، كما هو صريح ما أخرجه " المعتبر " عن
كتاب الحسن بن محبوب، عن خالد، عن أبي الربيع، عن أبي عبد الله (عليه السلام)
في الجنب يمس الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله؟ فقال: " لا بأس به
ربما فعلت ذلك " (4).
فعلى هذا لا وجه لتوهم: دلالة هذه الطائفة على خلاف ما هو
المفروض المسلم، حتى يستند الإشكال إليها.
نعم يمكن الشبهة في المسألة: بأن ظاهر المجمعين استنادهم إلى

1 - تهذيب الأحكام 1: 126 / 31، الاستبصار 1: 113 / 2.
2 - تعليقة لآقا جمال الخوانساري على شرح اللمعة: 46.
3 - المعتبر 1: 188.
4 - نفس المصدر.
140

أمثال هذه الروايات، وهي غير نقية، فلا يثبت الحكم في أصل المسألة.
والأظهر: أن مستند هذه الشائعات ليس فتاوى فقهائنا الأسلاف، فليتدبر.
المسألة الثانية
فروع حول مس الكلمة الشريفة
هل يختص حرمة المس بها عندما يطلق عليه تعالى، أم لو أريد
منه المعنى الآخر يحرم - أيضا - كما في تسمية زيد بعبد الله، فإنه يجرد عن
معناها الإضافي، ويكون كالدال من زيد، ويصير من أجزاء الكلمة
الواحدة، أو هل يختص الحكم بالصورة الأولى والثانية، ويجوز المس
إذا أريد منها شخص اللفظة عند الإطلاق، كما في قولنا: " الله لفظ موضوع
مفرد " أو يختص الحكم بالصور الثلاثة، ويجوز مس الكلمة إذا كانت
موضوعة لغيره تعالى، بناء على جوازها، أو ولو قلنا بعدم الجواز، ولكن
صنع ذلك أحد، عصيانا وطغيانا، كما في كلمة " الرحمن " الموضوعة
كرحمان اليمامة الآتي بحثه.
ثم إنه هل يجوز مس الألواح المطبوعة عليها الكلمة الشريفة
بشكل أجوف؟ فهل يختص الحكم بوجودها الكتبي، أم لا يجوز مس ما في
جوف اللوحة من الوجود التوهمي؟ والمرسوم بترسيم الخطوط في
الأطراف، أو - مثلا - إذا كتب الكلمة الشريفة هكذا: " الله "، فهل يجوز
مس الجوف، بتوهم أنه ليس منها، أو لا يجوز، لأنه من تبعات تلك اللفظة،
أو لا يجوز، لما أن ما في الجوف كتابة توهمية، فإن هذا الشكل مشتمل على
141

الكلمة الشريفة مرتين:
أحدهما بالأسود، والآخر بالأبيض، كما لا يخفى؟
وغير خفي: أن المسألة مورد الابتلاء في أيامنا لتعارف صنعة
الكهربائيين ذلك.
ثم إنه هل يجوز للمحدث أن يكتب الكلمة الشريفة بإصبعه لأنه
ليس مسا، أو لا يجوز، لأنه ما دام لم يحصل المس لا يحصل الامتداد
الخطي؟ وهكذا، فإن المسائل كثيرة، فإن كان المستند حرمة الهتك
والتوهين، فلا يفرق في الصور الكثيرة، وإن كان عنوان المس والدليل
اللبي أو اللفظي متكفل بتحريمه، فيشكل في كثير منها.
وربما يتخيل: أن جواز مس الكلمة الشريفة وعدمه، مبني على أنها
اسم خاص للذات الأحدية، أو اسم للكلي الذي لا ينطبق إلا عليه، فيكون
هذا البحث من ثمرات تلك المسألة.
وأنت خبير: بأن الدليل اللبي واللفظي، قائم وناهض على المنع عن
مس ما فيه هذه اللفظة الشريفة، سواء كانت موضوعة بالوضع
الخاص أو الكلي، حسب ما اصطلحنا عليه في الأصول، وذكرنا هناك: أن
أقسام الوضع تبلغ عشرين أو أكثر، فراجع هناك (1).
وغير خفي: أن مس هذه الكلمة الشريفة لغير أهله في البسملة،
يستتبع العقابين، لأنه مصداق العنوانين: أحدهما مس الاسم الشريف،
والثاني مس القرآن المنيف، وبين العنوانين عموم من وجه، لا بأس بالالتزام

1 - انظر تحريرات في الأصول 1: 73، ولم يزد على ستة عشر قسما.
142

بالتكليفين النفسيين، حسب ما تحرر منا في الأصول (1)، فليتدبر جيدا.
المسألة الثالثة
عن جواز تسمية غيره تعالى به
وقد يستشعر المنع من قوله تعالى: * (فاعبده واصطبر لعبادته هل
تعلم له سميا) * (2)، لظهوره في عدم شركة أحد معه في ذلك.
ويؤيد هذا: ما ورد عن طريقنا من أنه لا يوجد رجل يسمى بها، ويشترك
معه في الاسم، هكذا في " الصافي " (3). وهذا هو المفروغ عنه عند
الأصحاب رحمهم الله، ولذلك لا يوجد مماثل له في ذلك حسب التاريخ.
ويمكن استشعار المنع من الأدلة الظاهرة في أن كلمة " الرحمن "
لفظ خاص لمعنى عام، كما يأتي تفصيله، فإن معنى تلك الروايات اختصاصه
تعالى به تسمية، فاختصاص هذه الكلمة الشريفة به أولى بذلك.
وفي رواية مفصلة أخرجها ابن بابويه، بإسناده عن الحسن بن علي بن
محمد (عليهم السلام)، وفيها قال (عليه السلام): " إن قولك: الله، أعظم اسم من أسماء الله عز وجل،
وهو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمى به غير الله، ولم يتسم به مخلوق " (4).
وربما يتوهم: أن الشركة في الاسم نوع هتك وتجاوز، فلا تجوز.

1 - تحريرات في الأصول 4: 201.
2 - مريم (19): 65.
3 - تفسير الصافي 1: 68.
4 - التوحيد: 231 / 5.
143

ولك دعوى: دلالة بعض الأحاديث الشريفة الاخر، المتكفلة بتفسير
كلمة " الله " الشريفة بما لا يناسب المخلوق (1)، فكأن من يوضع له هذه
الكلمة، لابد من أن يصلح له ما يختص به. والله العالم بحقائق الأمور.
ومن العجب عدم ورود النهي الصريح في ذلك، ولعله لعدم ابتلاء
أحد بمثله، لمفروغية المسألة حكما، ولوضوحها منعا، ويمكن الشبهة
في جميع ما أشير إليه من الأدلة والاستحسانات، كما لا يخفى.
ثم إنها تقع جزء الكلمة في التسمية، كيد الله، فإنها تسقط إضافتها
عن معناها الإضافي، فيصير اللفظة موضوعة لزيد مثلا، وهذا غير ممنوع
قطعا، بل هو المأمور به في الجملة.

1 - انظر معاني الأخبار: 4 / 1 و 2، التوحيد: 89 / 2.
144

علم الحروف والأعداد
هنا مقامات:
المقام الأول
في سر الحروف والأعداد
اعلم أن علم الحروف والأعداد من العلوم الشريفة، وهو يتكفل
العلوم الغريبة، ولها مبادئ علمية وحسابات دقيقة، وله أرباب وأصحاب
يشتغلون به في الأزمنة الطويلة، وفيه كتب كثيرة مطبوعة وغير مطبوعة،
ومنه يشتق علم الجفر والرمل، ولا شبهة في أن الجفر من العلوم
الشريفة، وقد وردت فيه آثار وأخبار (1).
وقال العلامة المجلسي (قدس سره): إنه كان يصر شديدا أن يتعلم الجفر
الجامع، عن شيخه وملاذه البهائي (قدس سره)، وهو يأبى أن يعلمه، وآخر الأمر
مات ولم يتمكن من إرضائه، ولكنه نقل عنه (قدس سره) أنه قال: إن لي الجفر

1 - الكافي 1: 185، باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة، بصائر الدرجات: 170 -
181.
145

الجامع على وجه التمكن من إخراج " قواعد الأحكام " للعلامة (قدس سره).
ومعنى هذه العبارة واضح عند أهله، وإجماله: أن له إمكان القبض
والبسط والتكسير والرد حسب القواعد المحررة، بحيث إذا سئل عنه، ما
قواعد العلامة؟ يجيب بجميع القواعد من أولها إلى آخرها.
ولست أنا أهلا لذلك، ولكن كان بعض أصدقائي المتوفى في الشهر
الماضي عام 1389، العلامة الشيخ زين العابدين، المعروف بالإمام
الأبهري، من أكابر هذا الفن، وقد سافرت في سالف الأيام إلى بلدته،
ووجدت عنده بعض مخطوطاته التي إذا كان صرف عمره الشريف في
تأليف العلوم الظاهرة، ربما بلغت مصنفاته - حسب ما قال - بمقدار مصنفات
المجلسي (قدس سره).
فبالجملة: قد رأيت في محله، تقاسيم الحروف إلى أقسام عديدة:
نارية ونورية ومائية وترابية وهوائية، وفي هذه التقاسيم لطائف وذوقيات
وخواص وآثار، وعليها مباني الطلسمات والمخططات، وإليك نبذة منها
إجمالا:
تنقسم باعتبار إلى الحروف الأبجدي والأبتثي والأهطمي والأيقفي
وغير ذلك.
أما الأبجدي فاعلم أن في رواية عن ابن عباس: أن أول كتاب أنزله الله
تعالى من السماء، أبو جاد (1).

1 - محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر: 26.
146

وتوهم السيوطي: أنه عربي لا يجوز أن يكون إلا عربيا (1)، وهو غلط.
قال ابن عباس في معناه: أبى جد، أي أبى آدم (عليه السلام) من النهي بسبب
نسيانه، وجد في أكل الشجرة. هوز، أي نزل من السماء إلى الأرض.
حطي، أي حطت عنه ذنوبه بالتوبة. كلمن، أي أكل من الشجرة ومن عليه
ربه بالتوبة. سعفص، أي أخرجه ربه من نعيم الجنة إلى كدر الدنيا.
قرشت، أي أقر بالذنب وسلم من العقوبة (2). انتهى.
وقيل: أول من وضع الكتاب العربي جماعة، تسمى أبجد وهوز
وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، وكانوا ملوكا، فسمي الهجاء بأسمائهم (3).
ويؤيد ذلك ما قاله المسعودي في تاريخه: كان أبجد ملكا مكرما
بالحجاز، وكان هوز وحطي، ملكين بأرض الطائف ونجد، وكان كلمن
وسعفص وقرشت ملوكا بمصر، وكان آل مرامر بن مرة من العرب العاربة،
وقد كان يسمي كل واحد من أولاده بكلمة من أبجد، وهم ثمانية، ولأجل ذلك
جعل جماعة هذه الكلمات عربية، وبعضهم جعلها عجمية (4).
وقيل: كلمات أبجد - أي المركبات الأبجدية - أسماء ملوك أصحاب
الأيكة من العمالقة، وقيل: من غيرها، وتكون تلك الحروف رموزا إلى
المعاني العجيبة والدقيقة، وقد ورد في الخبر - كما يأتي تفصيله -:
" خذوا معنى أبجد، ففيه عجائب كثيرة: الف، آلاء الله، باء بهجة الله، جيم

1 - محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر: 26.
2 - المصدر السابق: 26 - 27.
3 - المصدر السابق: 26.
4 - انظر المصدر السابق.
147

مجد الله، دال دين الله، هاء هاوية، واو ويل، زاء زاوية في النار "، وهذه
ليست من العجائب، بل العجائب هي العلوم المبتنية عليها، وأعظمها علم
الجفر، وأهمها الجفر الجامع الوارد في الخبر القطعي: " عندنا الجفر
الجامع ومصحف فاطمة " (1).
وأما الأبتثي فهو تركيب آخر متخذ عما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
" شمس المعارف "، قال: لما سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حروف المعجم قال:
" هي أ ب ت ث وهي عربية، وفيها أسرار جميع الكتب والصحف المنزلة " (2)
لأنه بها يمكن كشف جميع الكتب السماوية قبل نزولها.
ولذلك ورد: أنه كان يقرأ الآيات قبل نزولها. والله العالم.
وفي تركيب الأبتثي الألف التي هي حرف الذات الأقدس تعالى، هي
الأول وهي الآخر من الياء، وهما تسمى الهمزة لقبولهما الحركة، وهي من
حروف اللين، المتقوم بها جميع بنية التراكيب باختلاف الأشكال
والقوالب، فهو مثاله تعالى في تقويم الحروف.
وأما الأهطمي فهو التركيب المنسوب إلى الفهلويين وكثير من
أرباب الحكم، الذي يكون من الحلق إلى الشفة، إشارة إلى نزول
الوجود من الأعلى إلى الأدنى، ومن المبدأ في قوس النزول إلى حاشية
الوجود، وهي الهيولي والشفة، ثم منه يصعد، وهكذا.
وهذا هو تركيب الحروف بحيل أربع على ترتيب العناصر الأربعة:

1 - الكافي 1: 186 / 1، بصائر الدرجات: 170 - 181.
2 - شمس المعارف الكبرى: 304.
148

فالحروف النارية تركيبها هكذا: " أهطمفشذ "، والهوائية هكذا:
" بوينصقض "، والمائية هكذا: " جزكس قثظ "، والترابية هكذا:
" و ح ل غ ر خ غ " وإعراب الأولى الفتح، والثانية الضم، والثالثة
الكسر، والرابعة الجزم.
وأما الأيقفي وهو تركيب الحروف بحيث يكون ما يكتب برقم واحد من
الأرقام الهندية، متصلا واحدا والجملة واحدة، مثلا: الألف والياء. قيل:
وهذا هو ما اصطلح عليه بشماء الحكيم، وهو اصطلاح يشمل الأعداد لجمع
كل كلمة منه على مراتب الأعداد من الآحاد والعشرات والمئات والألوف،
والقاف والغين تكتبان هكذا: ايقغ، والباء والراء، والكاف تكتب هكذا:
" بكر "، وهكذا إلى آخر ما تحرر في الكتب المفصلة وأساطير الأولين.
ثم إنها تنقسم باعتبار آخر: إلى المنقوطة وغير المنقوطة المعبر
عنها بالناطق والصامت، وكل قسم منها أربعة عشر حرفا على عدد
المعصومين (عليهم السلام).
وباعتبار ثالث: إلى المفردة والمثاني والمثالث، باعتبار وجود
الشريك وعدمه، وباعتبار وحدة النقطة وكثرتها.
وبعبارة أخرى: ما لا شريك له في الحروف المقطعة يسمى مفردة،
وهي الألف والكاف واللام والميم والنون، وهكذا، وما لها شريك واحد
يسمى بالمثاني، كالدال والذال إلى الفاء والقاف، وما له الشريك - أي
في الكتب والرسم - اثنان يقال له: المثالث، كالباء إلى الخاء
المعجمة في الترتيب الأبتثي، وهو المتعارف عليه اليوم بين الناس.
وغير خفي: أن هنا اعتبارا آخر في التسمية وهو أن ما له النقطة
149

الواحدة يقال له: المفردة، والمنقوطة بالنقطتين تسمى بالمثاني،
وبالثلاثة بالمثالث.
وقيل في الاعتبار الأول: ينقسم إلى المحكمات والمتشابهات،
فالمحكمات ما لا تشابه له في الخط، والمتشابهات ما له مشابه واحد
أو أكثر مأخوذين من قوله تعالى: * (منه آيات محكمات واخر
متشابهات) * (1).
وينقسم بالاعتبار الثالث من الانقسامات الرئيسة: إلى الملفوظي
والمسروري والملبوبي.
والملفوظي هو الحرف الذي يتلفظ في اسمه بثلاثة أحرف،
ولا يكون أوله عين آخره كالألف والجيم والسين والشين وغيرها.
والمسروري مثله، إلا أن أوله عين آخره، كالنون والميم والواو،
" نمو " " منو "، وتسمى بالحروف المستديرة أيضا.
وأما الملبوبي فهي الحروف التي يتلفظ في اسمها بحرفين، كالباء
والتاء ونحوهما، وتسمى أيضا بالحروف القلبية، وتركيبها هكذا: " حظير "
" ثبت " " خفطز ".
وينقسم رابعة: إلى المفاصلة والمواصلة.
والأولى: هي الحروف التي لا تتصل بما بعدها وإن تتصل بما قبلها،
كالألف ونحوه، وهي ستة تركيبها: " أو ذر زد "، والستة الأيام التي خلق الله
السماوات والأرض فيها، والخمسة الطيبة مع الرب الغفور، كما يكتب

1 - آل عمران (3): 7.
150

عندنا بصورة ستة، وخامسه إلى النورانية والظلمانية، وسادسه إلى
المدغم فيها اللام التعريف، كالدال وهو الدائم، وإلى المظهرة، وهي
كالألف وهو الأحد، وهؤلاء أربعة عشر بعدد المعصومين عليهم الصلاة
والسلام أيضا، وبعدد أربعة عشر من منازل القمر التي هي ظاهرة، وفوق
الأرض أبدا، والأربعة العشر التي هي مخفية، وتحت الأرض دائما.
وهذه مختصرة قدمناها لمقصود منا يأتي في سائر المقامات، وتفصيلها
يطلب من محالها.
ومن العجيب ما صدر عن " تفسير المنار "، حيث قال: " والفاتحة
مشتملة على مجمل ما في القرآن، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت
فيه، ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف، كقولهم: إن
أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار
البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها، فإن هذا لم يثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأصحابه، ولا هو معقول في نفسه، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين
ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان " (1) انتهى.
والعذر عنه جهله بالمعارف الإلهية والرموز الخفية على
الخواص، فضلا عنه، وهو من العوام لدى اولي البصائر والأبصار، كيف وقد
ثقل على الناس ما أتى به المولوي في القرن الثامن:
ما رميت إذ رميت فتنه أي * صد هزاران خوشه اندر حفنة أي

1 - تفسير المنار 1: 35.
151

آفتابى در يكى ذره نهان * ناگهان آن ذره بگشايد دهان
ذره ذره گردد أفلاك وزمين * پيش آن خورشيد چون جست از كمين (1)
ولو كان يسمع ذلك ويخطر بباله مثله لكذبه ولأهانه، لعدم معقولية
مثله، واليوم - بحمد الله وله الشكر - تبين حديث القنبلة الذرية
ومسألة تفكيك البروتون والنترون وقصة القنبلة الهيدروجينية، وغير
ذلك من الأسرار الكامنة تحت الطبائع الظاهرة.
فيكون هذا النظام الشمسي في كل ذرة موجودا بوجه يناسبه،
وسنورد في الباب الأخبار الواردة عن أئمة الكتاب وأرواح الأصحاب
وأهل البيت الذين أمرنا أن نأخذ العلوم عنهم ونأتي أبوابهم، وهؤلاء
المحجوبون عن العترة الطاهرة والأئمة الباهرة - عليهم صلوات الله
تعالى - قد أصبحوا على شفا حفرة من النار وأبطلوا عمرهم فيما لا يعني -
والله يعصمنا من الزلل والخطأ - ولمثل هذا الحجاب الكبير وقعوا في
حيص بيص، ولم يتمكنوا من درك الحقائق والمعاجز والعلوم السرية
والغريبة التي تكون عندنا وعند أهل البيت (عليهم السلام)، كيف وقد سمعت عن
شيخنا البهائي ما قاله، أفهل يمكن تكذيبه، أو يمكن للجهلة تصديقه،
والله من ورائهم محيط.

1 - مثنوى معنوي: دفتر 6، بيت 81 - 4579.
152

ثم اعلم: هنا إجمال ما في أساطير الأولين (1): إن الألف أول الحروف،
ومن الحروف النورانية، وأول العدد، وهو أول مرتبة لانقسام الحروف
على العناصر، وقد أجمعوا - على ما قيل - على أن حرف الألف ناري ذو بسط
كبير وصغير، فبسطه الكبير ألف ولام، وبسطه الصغير هكذا: " ألف "، وإن
بسطه العددي موافق لبسطه الحرفي، لأنه " ا ل ف "، والعددي " ا ح د "،
ولهذين العددين بسطان، ولكل واحد من هذه البسوط خواص وآثار وأسرار،
وقد جعل له - لأجل أنه الأول في الحروف والأعداد - القوة الأزلية، فصار
أول الأيام " الأحد " موافقة ومناسبة للطبع والشرف. ولهذا الحرف شكلان
لا يختلفان، وشكله العربي والهندي واحد.
والسر في كونه ناريا: كون القلم، لما أمره الله تعالى أن يكتب ما هو
الكائن إلى يوم القيامة، وضع رأسه على اللوح، فساح منه نقطة من
النور، ثم ساح منه الألف، وهو ابتداء الاسم الشريف " الله "، فمن كتبه على
صحيفة من ذهب، أو كاغذ مصبوغ بالزعفران يوم الأحد في شرف الشمس،
وضمخه بالبالية وحمله معه، أذهب الله عنه الحمى إن شاء الله
وهابه كل من رآه إن شاء الله، وله خواص اخر مذكورة في المفصلات.
وقيل: هذه صفته وصورته عند الكتب " ااا ااا "، وإذا نظرت إليها امرأة
وقت الطلق وضعت. ومن وضع بسطه الأول مكسرا في ثلث في إناء من
نحاس، ومحاه بماء ورد وسقاه لمن به روع، سكن (2). وغير ذلك من الآثار

1 - انظر شمس المعارف الكبرى: 36.
2 - المصدر السابق.
153

وصورة كتبه مختلفة حسب اختلاف الخواص والآثار.
ثم اعلم بعد ذلك: أن الألف - على ما تقرر عند أهله - أس الحكم
وأساس الكلم، وهو زبدة العالم والغاية القصوى، بل هو المرجع، وهو
الأمة، وله أعمال كثيرة بغير خلوة واستخدام معها، والملك الموكل عليه
" طهطائيل " الرئيس الأكبر، وله من الخواص ما لا تحصى.
ولعل إلى هذه العوالم والآثار، تشير الكلمة المعروفة عن الأئمة
المعصومين - صلوات الله عليهم أجمعين -: " الألف آلاء الله " (1) فإن الظاهر
منه ليس أن أول الآلاء الألف، فيكون إشارة إلى تلك اللفظة، بل في نفس
الألف آلاء الله، فيكون مؤيدا لما تقرر عنه.
وهل الحروف والأعداد من الآثار العجيبة المترتبة على حروفها
وأشكالها وأعدادها وأوفاقها؟
ولنا أن نسأل عما ورد عن ابن عباس أنه قال: أخذ بيدي علي (عليه السلام)،
وخرجنا إلى البقيع في أول الليل، وقال لي: " اقرأ يا بن عباس ". فقال:
فقرأت: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فأخذ يتكلم في الباء ومقتضاها إلى
طلوع الفجر (2)، وأنه هل كان البحث حول الباء، أم كان البحث حول
المسائل الاخر الأجنبية عنه والبعيدة منه، أم يختص تلك المباحث
بالباء أم يشترك معه سائر الحروف فيها، فتكون ذات آثار؟ ولولا خوف
الخروج عن وضع الكتاب لسردت جملة منها، ونذكر في طي الكتاب

1 - التوحيد: 230 / 1 و 233 / 1 و 237 / 2.
2 - ينابيع المودة: 69، شمس المعارف الكبرى: 55.
154

بعض الآثار والأوفاق والطلسمات للمناسبات.
وقيل: إذا كتب حرف الألف عددها الأصلي (111)، وربطت مع اسمك
واسم من تريد، وحملتها معك، فإن الله يعطفه عليك بعونه تعالى، ويسهل لك
الأمور الصعبة، وإذا كتبت الألف مع اسم الطالب والمطلوب، وربط
الاسمان مع الحرف يوم الأحد ساعة الشمس، ويحملها فإنه يرى منه ما
يريد من الألفة والمحبة والقبول، وإذا كتب حرف الألف على خاتم ذهب
والقمر في الحوت ونجمته بإضمار الأحرف الآتية ودعوته، وكتب اسم
صاحب الحرف، كان مقبولا لكل من حمله من جميع الأكابر، وهذه صورته
على الوجه الأخير إن شاء الله تعالى (1):
41 - 34 - 36
39 - 27 - 35
38 - 33 - 40
ثم اعلم: أن حرف الباء - حسب ما تقرر - حالته: بارد يابس، هو أول
مراتب عنصر الأرض، لا يليق به غير يوم السبت، وزحل كوكبه،
والرصاص معدنه، فله شكلان: فشكله العربي هكذا " ب "، والهندي
" 2 ". والباء سطيح الألف، كما أن الألف قائم بالباء، وله خواص وآثار كثيرة
على اختلاف كتابة الأشكال، مذكورة في المفصلات، وله بسط صغير وكبير،
فبسطه الصغير هكذا " ب "، وبسطه الكبير " ب اا ل ف "، وله بسط عددي
وحرفي، وبسط نهاية الحروف.

1 - شمس المعارف الكبرى: 398.
155

واختلفت آراء أهل الفنون في الخصوصيات المذكورة، وهذا
الاختلاف ناشئ من عظمة تأثير هذا الحرف بأشكاله، وكأنه ذو آثار في
مختلف الأوفاق والأرقام، ولا يتمكن من تنظيمها، ولعل إليه يرجع ما كان بين
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبين ابن عباس في البقيع في خصوص حرف الباء،
حسب الرواية السابقة. والله العالم.
ولبقراط الحكيم كلام في خصوصها، وينتهي إلى أنه: إن جعلت هذا
الحرف وبسطته بمركبه العددي، ثم أخذت أعداد ذلك المركب وقد اخذ
بسطه، وتنزله في مثلث على قليل من طين لم تمسسه النار، ثم استخرج
منها مستنقطاتها، وأقسم على ذلك الملك على " 7 " ورماها في بئر ذهب
ماؤه... إلى آخر كلامه (1).
وبالجملة: هو باطن الألف، وقيل: هو سر الوجود، وتصريفها قائم إلى
يوم القيامة، وإشارة إلى جميع العوالم، علويها وسفليها، وقد شرف الله
حرف الباء، وجعلها أول البسملة وأول صحيفة آدم وللمسميات (2).
وقد اعتقد بعض سلاك هذه الطريقة: أن الله تبارك وتعالى لما أنزل
القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال له جبرائيل: إقرأ يا محمد باسم ربك، فكانت
الباء مضمرة الذات والصفات، تضمر الذات بسر التجلي، وتضمر
الصفات بسر الأفعال، ولما خلق الله الباء خلق معها (24) ملكا، تحت يد كل
ملك ما شاء الله من الملائكة يسبحون الله تعالى، ولأجل ذلك كانت مفتاحا

1 - انظر شمس المعارف الكبرى: 306.
2 - شمس المعارف الكبرى: 400.
156

لكنوز الكتب، وفيها سر البسط، وهي من أشكال الألف.
ولو كنت تكتب هذا الحرف بعددها الأصلي، وكتبت معها الأسماء التي
أولها الباء، وحملها من تعسر عليه، يسر الله تعالى - إن شاء الله - عليه.
ولها خادم وخلوة واسم الملك الموكل عليها " مهيائيل "، فإذا أردت
استخدامه، فاكتب الحرف وضعه في رأسك بعد الرياضة، واتل الدعوة
والقسم دبر كل صلاة (38) مرة، واتل العزيمة والرياضة أربعين يوما، فإن
الملك ليحضر بعونه تعالى ويقضي الحاجة بإذنه المبارك، ومهما أردته
تبخر وتقول: " أجب يا خادم حرف الباء " فإنه يحضر. هكذا أفيد.
وقيل: هذه صورته (1):
ب - د - و - ح
و - ح - ب - د
ح - و - د - ب
دب ح و
ثم اعلم: أن السين من الحروف الرطبة المعتدلة والناطقة
الترابية، ومن كسر مركبة الحرفي في مربع (4) في (4) ونظرت إليه
المرأة وهي تطلق، تضع حالا. وله الآثار والخواص الكثيرة حسب اختلاف
الكتابات المزبورة في المفصلة.
وطريق استخدامه: أن تدخل الخلوة، وتلو القسم (90) مرة، فإنه -
على ما قيل - يهبط نوره كالشمس، فيقضي بإذنه تعالى حاجتك، وتكون

1 - المصدر السابق: 401.
157

الصورة مكتوبة في الخلوة، وخادمه " طهقيائيل " يحضر حرفه، فيما تريد
وتشتهي بإذن الملك الوهاب. وهذه صورته.
وله دعوة خاصة مذكورة في المفصلات (1)، ولكل واحد من هذه
الدعوات إضمار يطول البحث بذكره.
س - س
س - س
س - س
س - س
وقد يتكفل المباحث الآتية بسر سائر الحروف والأسماء وخواصها،
مع رعاية الإجمال، حذرا من الخروج عن حد الكتاب.
المقام الثاني
في سرد طائفة من الروايات
والأخبار الواردة في خصوص هذه المسألة
ونذكر في طيها بعض ما يفيد المعنى العام، ويورث الاطمئنان بصحتها
وإن كانت في المسائل الأخرى:

1 - المصدر السابق: 409.
158

1 - أخرج الكليني بإسناده عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن تفسير * (بسم الله الرحمن الرحيم) *؟ قال: " الباء بهاء الله،
والسين سناء الله، والميم مجد الله " (1).
2 - وأخرج علي بن إبراهيم بأسناد مختلفة عن مفضل بن عمر، عن أبي
جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) تارة، وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أخرى،
والحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ثالثة، قال: سألته عن
تفسير * (بسم الله الرحمن الرحيم) *؟ قال: " الباء بهاء الله، والسين سناء الله،
والميم ملك الله " (2) الحديث.
وفي موضع آخر قال الصدوق: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن
الوليد، قال: حدثنا محمد بن الحسين الصفار، عن العباس بن معروف، عن
صفوان بن يحيى، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن * (بسم الله
الرحمن الرحيم) *؟ فقال: " الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله.
قال: قلت: الله؟ قال: الألف آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا، واللام إلزام
الله خلقه على ولايتنا. قلت: فالهاء؟ فقال: هوان لمن خالف محمدا وآل محمد
صلوات الله عليهم أجمعين " (3) الحديث.
فاعلم: أنه كيف صار التطابق والوفاق بين مفادها وما أخرجه
صاحب " تفسير التذكير "، على ما حكاه العلامة الشيخ علاء الدين في

1 - الكافي 1: 89 / 1.
2 - تفسير القمي 1: 28.
3 - التوحيد: 230 / 3، معاني الأخبار: 3 / 2.
159

" محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر "، كما أشير إليه في كتب الأخبار: " خذوا
معنى " أبجد " ففيه عجائب كثيرة: الف آلاء الله، باء بهجة الله، جيم مجد الله،
دال دين الله، هاء هاوية... " (1). وقد مضى بتفصيله في المقام الأول: " فالهاء
هاوية، وهي لأعدائنا أهل البيت (عليهم السلام) ".
ومن كان له إلمام بعلم الرجال، يعلم صحة السند المزبور، ولا
يتردد في إرسال مثل صفوان في خصوص هذه الرواية، المؤيدة بكثرتها
بالطرق الاخر.
3 - أخرج العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان، عنه (عليه السلام) في
تفسير * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقال: " الباء بهاء الله، والسين سناء الله،
والميم مجد الله ". وقال: رووا غيره عنه: " ملك الله " (2) الحديث.
4 - أخرج الصدوق في كتاب " التوحيد " عن الصادق (عليه السلام) عن * (بسم
الله الرحمن الرحيم) *، فقال: " الباء بهاء الله، والسين سناء الله،
والميم مجد الله " (3).
وفي خبر آخر: " والميم ملك الله " (4).
وهكذا فيه ما رواه علي بن إبراهيم في تفسير " الله " (5).
5 - في " المجمع " عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " خرجت الموجودات من باء

1 - محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر: 27.
2 - تفسير العياشي 1: 22 / 18 و 19.
3 - التوحيد: 230 / 2.
4 - التوحيد: 230 / 3.
5 - تفسير القمي 1: 28.
160

* (بسم الله الرحمن الرحيم) * " (1). وعن علي (عليه السلام): " أنا نقطة تحت الباء " (2).
6 - " عوالي اللآلي " عنه (عليه السلام): " لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من باء
* (بسم الله الرحمن الرحيم) * " (3).
7 - كتاب " غرر الحكم " عن علي (عليه السلام): " أنا النقطة، أنا الخط، أنا
الخط، أنا النقطة، أنا النقطة والخط " (4).
8 - أخرج الصدوق بإسناده في " التوحيد " عن الرضا (عليه السلام): " أن أول
ما خلق الله عز وجل، ليعرف به خلقه الكتابة حروف المعجم... - إلى أن قال -:
ولقد حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في " ا ب ت ث "
أنه قال: الألف آلاء الله، والباء بهجة الله... - إلى أن قال -: س ش فالسين
سناء الله... - إلى أن قال -: م ن فالميم ملك الله يوم الدين يوم لا مالك
غيره... " (5). الحديث.
9 - ما أخرجه أيضا عن الكاظم (عليه السلام): " أنه قال علي بن أبي طالب في
جواب اليهودي والسائل عن الفائدة في حروف الهجاء، بعد أمره رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إياه بجوابه: ما من حرف إلا وهو اسم من أسماء الله عز وجل... -
إلى أن قال -: وأما الميم فمالك الملك " (6) الحديث.

1 - لم نجد هذا الحديث.
2 - مشارق أنوار اليقين: 21، ينابيع المودة: 69.
3 - عوالي اللآلي 4: 102 / 150، مناقب آل أبي طالب 2: 43.
4 - مناقب آل أبي طالب 2: 49.
5 - التوحيد: 232 / 1.
6 - التوحيد: 235 / 2.
161

10 - وفيه أيضا بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنه سأل عثمان بن
عفان، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير " أبجد "، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعلموا
تفسير " أبجد "، فإن فيه الأعاجيب كلها، وويل لعالم جهل تفسيره. فقيل: يا
رسول الله ما تفسير أبجد؟ فقال: أما الألف فآلاء الله، حرف من أسمائه، وأما
الباء فبهجة الله... - إلى أن قال -: وأما الميم فملك الله الذي لا يزول، ودوام
الله الذي لا يفنى " (1).
11 - وما رواه فيه في تفسير الصمد، أنه قال: " وأما الميم فدليل على
ملكه، وأنه الملك الحق، لم يزل ولا يزال ولا يزول " (2).
12 - وقد وردت في أذيال الحروف المقطعة القرآنية ما يتعجب
منه الإنسان أكثر من التعجب من خلق السماوات والأرض، فإن الأسرار
المكنونة فيها أكثر وأوفر من أسرار عالم الشهادة، فإن فيها سر الغيب
والذات والشهادة والصفات، وفيه كل الشئ وكل الشئ في كل
الشئ.
ولو شئنا نقل جميع ما ورد عن الأئمة المعصومين - عليهم صلوات
المصلين - وما نسب إليهم (عليهم السلام) لخرجنا عن الوظيفة في هذه الوجيزة،
وسيظهر في طي المباحث حول الحروف والأعداد في المواقف المناسبة،
ما يزيدك علما وحكمة، فانتظر.
13 - قال المجلسي عليه الرحمة: إنه قد روت العامة في " ألم "

1 - التوحيد: 237 / 2.
2 - التوحيد: 92 / 6.
162

عن ابن عباس: " أن الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه، والبهاء
الحسن والسناء - بالمد - الرفعة والمجد والكرم والشرف " هكذا في
" مرآة العقول " (1).
14 - قد روى القرطبي عن عثمان بن عفان: أنه سئل رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير * (بسم الله الرحمن الرحيم) *؟ فقال: " أما الباء فبلاء
الله وروحه ونضرته وبهاؤه، وأما السين فسناء الله، وأما الميم فملك الله،
وأما الله فلا إله غيره، وأما الرحمن... " (2).
وفيه أيضا: وروي عن كعب الأحبار أنه قال: " الباء بهاؤه، والسين
سناؤه، فلا شئ أعلى منه، والميم ملكه، وهو على كل شئ قدير، فلا شئ
يعازه " (3).
وقيل: " إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه... - إلى أن قال -:
والراء مفتاح اسمه الرزاق، والحاء مفتاح اسمه حليم، والنون مفتاح
اسمه نور " (4). انتهى.
15 - في كتاب التجارة من " الوسائل "، الباب 103 من أبواب ما
يكتسب به، عن " معاني الأخبار " و " الأمالي " عن محمد بن الحسن، عن
الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب وأحمد بن الفضال جميعا
عن ابن أسباط عن الحسن بن زيد عن محمد بن سلام عن ابن نباته، قال: قال

1 - مرآة العقول 2: 37 / 1.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 107.
3 - المصدر السابق.
4 - المصدر السابق.
163

أمير المؤمنين عليه أفضل صلاة المصلين: سأل عثمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن تفسير أبجد، فقال رسول الله: " تعلموا تفسير أبجد فإن فيها الأعاجيب، ويل
لعالم جهل تفسيره ". فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير " أبجد "، فقال:
" أما الألف فآلاء الله حرف بحرف من أسمائه. وأما الباء فبهجة الله.
وأما الجيم فجنة الله وجلالة الله وجماله، وأما الدال فدين الله.
وأما " هوز ": فالهاء هاء الهاوية فويل لمن هو حي في النار. وأما الواو
فويل لأهل النار. وأما الزاء فزاوية في النار، فنعوذ بالله مما في الزاوية، يعني
زوايا جهنم.
وأما " حطي ": فالحاء حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر
وما نزل به جبرئيل مع الملائكة إلى مطلع الفجر. وأما الطاء فطوبى لهم
وحسن مآب، وهي شجرة غرسها الله ونفخ فيها من روحه، وإن أغصانها لترى
من وراء سور الجنة، تنبت بالحلي والحلل متدلية على أفواههم. وأما الياء فيد
الله فوق خلقه باسطة، سبحانه وتعالى عما يشركون.
وأما " كلمن ": فالكاف من كلام الله، لا تبديل لكلمات الله، ولن تجد
من دونه ملتحدا. وأما اللام أهل الجنة بينهم في الزيارة والتحية والسلام،
وتلاوم أهل النار فيما بينهم. وأما الميم فملك الله الذي لا يزول ودوامه الذي
لا يفنى. وأما النون فنون * (والقلم وما يسطرون) * (1) والقلم قلم من نور
وكتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون، وكفى بالله شهيدا.
وأما " سعفص ": فالصاد صاع بصاع وفص بفص، يعني الجزاء بالجزاء،

1 - القلم (68): 1.
164

كما تدين تدان إن الله لا يريد ظلما للعباد.
وأما " قرشت ": يعني قرشهم وحشرهم ونشرهم يوم القيامة، فقضى
بينهم بالحق وهم لا يظلمون ".
ورواه في " معاني الأخبار " بإسناد آخر (1).
المقام الثالث
في ذكر ما قيل في هذه الروايات
حسب اختلاف أنظار الباحثين وتشتت آراء الفضلاء البارعين في
هذه المواقف والمحال.
فقد يقال - بعد الفراغ عن أن اشتقاق باء البسملة من باء البهاء
والبهجة -: ليس من الاشتقاق الصغير المتعارف في علم الصرف، بل ولا
من الاشتقاق الكبير المتراءى أحيانا في اللغات حسب اختلاف الألسنة
والملل، بل هو نوع آخر من الاشتقاق هو الاشتقاق الأكبر.
إن معنى الاشتقاق في حقائق الأسماء الإلهية على نوعين: إما ظاهر من
شأنه الظهور، أو خفي من شأنه الخفاء بنفسه وإن ظهر في آثاره، والثاني
أقرب إلى الحق، لكونه مثالا للحق في غيبة الذات، وظهوره بالآثار فهي
الرابطة بين الظهور والبطون، وذاته الخفية من طرف الحق وأثره من
طرف الخلق، فهو آية الحق في الظهور والبطون، فالمطابق له في

1 - وسائل الشيعة 12: 246 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 105، الحديث 11،
معاني الأخبار: 46 / 2، الأمالي، الصدوق: 317 / 2، التوحيد: 237 / 2.
165

الألفاظ هو الألف، الذي أول الحروف من حيث أولية خفائه من أوائل
أسماء الله سبحانه وغيرها كالبسملة لفظا وظهوره كتبا إلا في البسملة،
حيث ابدل إظهاره بتطويل الباء لما ذكروه في موضعه، ونسبة الكتابة إلى
اللفظ نسبة الجسد إلى الروح، فهو خفي روحا وظاهر قشرا، ومن حيث
استقامته التي هي الأصل في أشكال الحروف، ككون " الصراط
المستقيم " هو صفة فعل الحق * (إن ربي على صراط مستقيم) *، ومن حيث
اشتقاق سائر الحروف منه كتبا، فهو كالركن من الدائرة، كتوسط الصراط
المستقيم بين السبل * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا
السبل) * (1) ولأن مخرجه أقرب إلى القلب الذي هو المبدأ الأول في
عالم الإنسان، فهو أول الحروف مخرجا، وأبعدها ظهورا، وأكثرها امتدادا،
لجريانه من قريب السرة إلى الفم، فهو يمر على وسط المخارج
كالصراط المستقيم إلى غير ذلك، فهو الآلاء بمعنى النعم الباطنية
الخفية.
والأول على أقسام ثلاثة: إما يكون ظاهرا بالمرآتية المحضة للحق،
بحيث يكون فاني الهوية في جنب الحق والاسم المكنون المخزون عنده
سبحانه، وإما يكون ظاهرا بنفسه وهويته أيضا، وإما يكون ظاهرا بنفسه في
مظاهره، ومظهرا لها:
والأول: مرآة ظهر بالمرآتية، وخفي بنفسه كالمرآة الصافية التي
لا تظهر بصفات نفسها للأبصار، وإنما شأنه إظهار الشئ.

1 - الأنعام (6): 153.
166

والثاني: مرآة يتعلق بها بنفسها الإدراك، وتظهر فيها الصورة على ما هي
عليه، كأكثر المرائي الصافية.
والثالث: مرآة ضعف مرآتيته في ظهور نفسه ومظهر هويته في
صفاته المنايرة، كما هو مرآة له، فصار مبدأ لظهور الكثرة وخفاء الوحدة
الحقيقية التي هي مرآة له. ومن البين سبق الأول على الثاني، وسبقه
على الثالث.
فالأول: هو الباء يتلو الألف مرتبة، ولا يفارقه كتبا إلا بانحراف
طرفيه وبقاء الباقي بعد الانبساط، وهو بهاء الحق ومرآة حسنه، ليس لها
صفة وراء إظهار حسن الحق، إذ الحق هو الحق المطلق والجميل
المطلق، فمرآته مرآة الحسن والبهاء وهو حقيقة الاسم الحاكي عن
صفاته الذاتية، وهو متصف بصفة الفناء، فهو خال عن نفسه بخلاف
الثاني، وعن سائر الأشياء بخلاف الثالث، ومعطل عما سوى شأن
المرآتية، فيوافقه المعنى الثاني للبهاء، وهو مظهر الفخر الذاتي،
فيوافقه المعنى الثالث، وهو أصل مقام الانس المنبعث عن الوصل، إذ لا
وصل إلا بالفناء والبقاء، فيوافقه الرابع الذي للباء ممدودا، فهو مبدأ
البهجة والسرور بالحق، الذي هو السرور الحق والبهجة الحقة، إذ
لا سرور للعارف إلا بذلك وغيره باطل عاطل.
والثاني: هو السين الذي هو الباء بزيادة التصرف في وسطه
وحبله كالطرفين، فصار له أضراس ثلاثة: وهي سناء الحق، وضوء برقه،
ونوره الظاهر بنورانية الحاكي عن مبدأ وجوده، كما أن سناء البرق ظاهر
بنفسه، ويكون شعاعا للبرق، ودالا عليه، بحيث لا يكاد يفارق أحد
167

اللحاظين الآخر عند إدراكه، ولمعان وظهور البرق لأمر مغاير له منفصل
عنه، كذا سناء الله ظاهر بنفسه وهويته، مظهر للحق وآية له، لا يغلب أحد
اللحاظين الآخر، وهو لمعان وظهور لفعل الحق والمرتبتين المتقدمتين
عليه، فكانت السابقة برقا لا يظهر بهويته للأبصار بنفسه، واللاحقة
ضوءه الذي ظهر بنفسه، وأظهر البرق بظهوره، فكأنه عبد قائم بصفة
العبودية المقتضي لملاحظة السابق عليه، فان عن نفسه باق بربه، وهذا
السناء أرفع من جميع الإبداعات الظاهرة، فهو رفعة الحق ومظهرها، فيصح
أخذه بالمعنى الثاني.
والثالث: فهو الميم المستدير الحاكي عن معنى دائرة الإمكان،
ويقابل الألف من حيث إنه صفة الاستقامة المتقابلة للاستدارة، من حيث
إنه آخر المخارج نزولا، فيقابل مخرج الألف وهو ملكه ومجده وعلوه على
الأشياء، وهذا المعنى يقتضي ظهور الأشياء بصفة المقهورية والمملوكية،
حتى يظهر الحق فيها بصفة الملكية والمالكية والعلو، فهو البرزخ
الحاكي عن الواجب بهذه الصفات وعن الممكنات بتلك، والجامع لحقائق
الأسماء الإضافية، وقد انضم إلى جهته التي إلى الحق، وجهته في
نفسه جهته إلى الخلق، وباعتبارها ظهر أعيانها بصفاتها، فشهدت لخالقها
بأضدادها، وهو مقام الربوبية الفعلية التي تقتضي وجود المربوب.
وغير خفي: أن الغرض من هذا البيان ليس حصر حقائق الأسماء في
الحروف الأربعة، بل يشبه أن يكون هي أصول الحقائق أو الأولى من كل
نوع من الأنواع ما عدا الألف، إذ هو الأخير من مقام الغيب وقبله الألف،
المشار إليه بلام ألف لا، وقبله النقطة، ويشهد لكثرة الأسماء وتقدم
168

البهاء عليها دعاء السحر المعروف، الوارد في سحور شهر رمضان، حيث
قدم على الأسماء الكثيرة.
وقد يقال في تحقيق ما نسب إلى أمير المؤمنين وإمام الموحدين -
عليه آلاف التحية من المصلين - بعدما ورد: أن القرآن في باء * (بسم
الله) *: " أنا نقطة تحت الباء " (1):
اعلم - هداك الله يا حبيبي - أن من جملة المقامات التي حصلت
للسالكين - السائرين إلى الله وملكوته بقدم العبودية واليقين - أنهم
يرون بالمشاهدة العيانية كل القرآن، بل جميع الصحف المنزلة في
نقطة تحت الباء من * (بسم الله) * بل يرون جميع الموجودات في تلك
النقطة الواحدة، وقد تبين في محله بالبرهان الحكمي: أن بسيط
الحقيقة كل الأشياء، وبه صرح معلم المشائين في غير موضع من كتابه (2).
ونحن نمثل لك في هذا المعنى مثالا من المحسوس يقربك إلى فهمه
من وجه، فإنك إذا قلت: " لله ما في السماوات والأرض " فقد جمعت جميع
الموجودات في كلمة واحدة، وإذا حاولت ذكرها بالتفصيل لافتقرت إلى
مجلدات كثيرة، ثم قس على نسبة اللفظ إلى اللفظ نسبة المعنى إلى
المعنى، على أن فسحة عالم المعاني والتفاوت بين أقسامها وأفرادها،
لا يقاس بفسحة عالم الألفاظ والتفاوت، ولو اتفق لأحد أن يخرج من هذا
الوجود المجازي الحسي إلى أن تحقق بالوجود العقلي، واتصل بدائرة

1 - راجع ينابيع المودة: 69.
2 - انظر اثولوجيا: 134.
169

الملكوت السبحاني، حتى يشاهد معنى * (إنه بكل شئ محيط) * (1)، ويرى
ذاته محاطا بها مقهورة تحت كبريائه تعالى، فحينئذ يشاهد وجوده تحت
نقطة باء السببية لمسبب الأسباب، ويعاين عند ذلك تلك الباء التي في
* (بسم الله) *، حيثما تجلت له عظمتها وجلالة قدرها ورفعة سر معناها،
هيهات نحن وأمثالنا لا نشاهد من القرآن إلا سوادا، لكوننا في عالم
الظلمة والسواد، وما حدث فيه من مد هذا المداد، أعني مادة الأبعاد
والأجساد وهيولى الأضداد والأعداد، والمدرك لا يدرك شيئا إلا بما في قوة
إدراكه دائما يكون من جنس مدركاته، بل هي عينها كما تحرر في محله،
فالحس لا ينال إلا المحسوس، ولا الخيال إلا المتخيل، ولا العقل إلا
المعقول، فلا يدرك النور إلا النور * (ومن لم يجعل الله له نورا فما
له من نور) *.
فنحن بسواد هذه العين لا نشاهد إلا سواد أرقام ومدار نقوش الكتاب،
فإذا خرجنا عن هذا الوجود المجازي والقرية الظالم أهلها، مهاجرا
إلى الله ورسوله في قطع المنازل التي بيننا وبين المطلب، وأدركنا
الموت عن هذه النشآت والأطوار، التي بعضها صور حسية أو خيالية أو
وهمية أو عقلية، وقطعنا النظر عن الجميع ومحونا بوجودنا في وجود كلام
الله، ثم أحيانا الله بعد موتنا، وخرجنا من المحو إلى الصحو، ومن الفناء
إلى البقاء، ومن الموت إلى الحياة حياة ثابتة باقية ببقاء الله، فما نرى
بعد ذلك من القرآن سوادا أصلا، إلا البياض الخالص والنور الصرف

1 - فصلت (41): 54.
170

الذي لا يشوبه ظلمة، واليقين المحض الذي لا يعتريه شك، وتحققنا
بقوله تعالى: * (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) * (1) وبقوله:
* (علمناه من لدنا علما) * (2).
وعند ذلك نقرأ الآيات من نسخة الأصل، وهو الإمام المبين والذكر
الحكيم ومن عنده علم الكتاب، وهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام): لقوله
تعالى: * (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) * (3)، ولهذا نطق بما نطق من
قوله (عليه السلام): " أنا نقطة تحت الباء " (4)، وقوله (عليه السلام) مشيرا إلى صدره: " إن هاهنا
لعلما جما " (5)، (6).
ولك أن تقول وجها آخر قريبا من أفق الناس وأفهام الاناس وهو: أن
الظاهر من كثير من الأخبار: أن للحروف المفردة أوضاعا ومعاني متعددة
لا يعرفها إلا حجج الله تعالى، وهذه إحدى جهات علومهم واستنباطهم من
القرآن، فعليه يمكن أن يكون هذا مبنيا على الاشتقاق الكبير والمناسبة
الذاتية بين الألفاظ ومعانيها، فالباء لما كانت مشتركة بين المعنى الحرفي
وبين البهاء، فلابد من مناسبة بين معانيها، وكذا الاسم والسناء لما اشتركا في
السين فلذا اشتركا في معنى العلو والرفعة، وكذلك الاسم لما اشترك في

1 - الشورى (42): 52.
2 - الكهف (18): 65.
3 - الزخرف (43): 4.
4 - ينابيع المودة: 69.
5 - راجع نهج البلاغة، صبحي الصالح: 495، الحكمة 147.
6 - هذا القول من أوله إلى هنا قول صدر المتألهين، انظر الأسفار 7: 32 - 34.
171

معنى المجد والملك، فلابد من مناسبة بين معانيها. وهذا باب واسع في
اللغة يظهر ذلك للمتتبع بعد تتبع المعاني والمباني.
فالمراد من قوله (عليه السلام): " فالسين سناء الله " أن هذا الاسم في الاسم
مناط لحصول هذا المعنى فيه، وكذا البواقي. والتأمل في ذلك يكسر سورة
الاستبعاد عن ظاهر هذا الكلام.
وربما يقال: لما كان تفسيره بحسب معنى حرف الإضافة ولفظ الاسم،
غير محتاج إلى البيان للعارف باللغة، أجاب (عليه السلام) بالتفسير بحسب
المدلولات البعيدة، أو لأنه لما صار مستعملا للتبرك مخرجا عن المدلول
الأول، ففسره بغيره مما لوحظ في التبرك.
والمراد بهذا التفسير: إما أن هذه الحروف، لما كانت أوائل هذه
الألفاظ الدالة على هذه الصفات، اخذت للتبرك، أو أن هذه الحروف لها
دلالة على هذه المعاني، إما على أن للحروف مناسبة مع المعاني بها
وضعت لها، وهي أوائل هذه الألفاظ، فهي أشد حروفها مناسبة وأقواها دلالة
على معانيه، أو لأن الباء لما دلت على الارتباط والانضياف، ومناط الارتباط
والانضياف إلى شئ وجدان حسن مطلوب للطالب، ففيها دلالة على حسن
وبهاء مطلوب لكل طالب، وبحسبها فسرت ببهاء الله، ولما كان الاسم من
السمو الدال على الرفعة والعلو والكرم والشرف، فكل من الحرفين
بالانضمام إلى الآخر دال على ذلك المطلوب، فنسبت الدلالة على السناء
- بحسب المناسبة - إلى السين، وفسرها بسناء الله، والمراد على المجد
أو الملك بحسبها إلى الميم، وفسرها بالمجد أو الملك على الرواية
172

الأخرى (1). انتهى ما أردنا نقله عن جملة الأخبار وبعض الأعيان من العلماء
بالله. والله ولي التوفيق.
المقام الرابع
بعض الرموز المستورة تحت الباء ونقطتها
اعلم أن جميع ما قيل حسب أطوار الأفهام يصح في تلك المرتبة وتيك
المنزلة، وذلك لأن للقرآن مراتب كمراتب الوجود، فمرتبة منه هو
الوجود الخارجي الواجبي، لأنه علمه تعالى، وعلمه عين ذاته الأزلية
القديمة، فهو تعالى والقرآن في تلك المرتبة واحد، وهذا معنى قول من
يقول: القرآن قديم، ومرتبة منه الوجود الخارجي الإمكاني، إلى أن تصل
في التحرف والتنزل إلى مرتبة العرض غير القار، وهو الصوت أو
الكيف المخصوص، فإذا فسر بالمعنى المناسب له، فهو لا ينافي التفسير
الآخر، لاختلاف مراتب المفسرين طولا أو عرضا، وهو تختلف مراتبه طولا
وعرضا كالوجود، إلا أن أنحاء التشكيك مختلفة ومتشتتة، حسب ما
تحرر في محله.
ثم إن هنا طائفة من الأخبار يظهر منها: أن الوجود ظهر من باء * (بسم
الله) *، كما حكي عن محيي الدين العربي: " أن ب‍ * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * ظهر الوجود، وبالنقطة تميز العابد عن المعبود (2)، وطائفة

1 - مرآة العقول 2: 37 - 38.
2 - الفتوحات المكية 1: 102، انظر مشارق أنوار اليقين: 38، حيث يستفاد منه أن العبارة
رواية عن المعصوم (عليه السلام).
173

أخرى مشتملة على بيان الرموز والإشارات.
أما الأولى: فربما تكون ناظرة إلى أن كيفية نزول الوجود ليس مثل
كيفية نزول سائر الأشياء، بل هو في النزول يشبه نزول النور من الشمس
في وجه تخيلي، وهو أن المنزلة الأولى من النور الساطع، هي تمام
الأنوار اللاحقة عليها والمتأخرة عنها، فإذا صدر النور الأول، يصح أن
يقال: بالنور الأول صدر الوجود كله والأنوار كلها، لانطواء ما دونها فيه،
فإذا تكلم الحق - جل اسمه - في خلق السماوات والأرض والملكوت
الأدنى والأعلى، فلابد أن يتكلم باسمه الشريف، كما أمر عباده بذلك. فبمجرد
ظهوره بالكلام الوجودي المناسب له لا يبقى الوجود المتأخر، بل يوجد
كل المتأخرات بأول الظهور وبأول التجلي، وهو التجلي الذي في كلامه
المسموع والمقروء يكون الباء، فالباء في الكلام النفسي والذهني
والعقلي - حسب اختلاف آفاق الموجودات المتوسطة، كجبرئيل وغيره -
هو الباء في المتجلي الأول العيني، فإذا تجلى فبأول تجلياته القيومية
صدر كل شئ، وجف القلم بما هو كائن، فعلى هذا يصح أن يقال: بالباء
ظهر الوجود.
وحيث إن الوجود لا امتياز له - لأن صرف الشئ لا يتكرر -
فالامتياز بالأمر الآخر، وهو الماهية أو الإمكان الفقري، وبمثابة ذلك
الباء، فإنها لا تمتاز عن التاء والثاء إلا بالنقطة، فبها ظهر الوجود،
وبالنقطة تميز العابد عن المعبود، وإذا نظرنا إلى الوجود فلا يحكم عليه
174

إلا بالوجوب، وإذا اعتبر فيه التنازل والتشكيك يحصل العنوان المقابل
للوجود، وهو الإمكان الفقري أو العقل والماهية أو النور المضاف، فكل
ذلك هي حقيقة الإنسانية التي عبر عنها الأمير (عليه السلام): ب‍ " أنا نقطة تحت الباء "
حسب ما نسب إليه. والله العالم.
وأما الثانية: فقد تقرر في محله: أن كل شئ في كل شئ، وقد ذكرنا
في تباليقنا على الإلهيات من الأسفار (1): أن هناك ثلاث قواعد:
الأولى: قاعدة الكل في الكل، وهي قاعدة طبيعية.
والثانية: قاعدة كل شئ فيه معنى كل شئ، وهي قاعدة تستعمل في
علم الأسماء والعرفان.
والثالثة: قاعدة كل شئ في كل شئ، وهي قاعدة تستعمل في
الفلسفة العليا.
والنظر في الثانية إلى أن جميع الأشياء بقضها وقضيضها ومن
صدرها إلى ذيلها، مظهر جميع الأسماء، ولا يشذ عن الوجودات الخارجية
اسم من الأسماء، وكل الأشياء على العموم الاستغراقي مستجمع لمقتضيات
جميع الأسماء الإلهية، وإنما الاختلاف في الظهور والبطون.
وهذه القاعدة مبرهنة في الفلسفة العليا بالقاعدة الثالثة وهو:
أن بعد القول بأن الوجود أصيل، وهو أصل كل كمال وجمال، وأن التشكيك
فيه خاصي، فلا يكون في الوجود مرتبة إلا وهو جامع لجميع الكمالات

1 - انظر تعليقات المصنف (قدس سره) على الأسفار الأربعة ذيل 6: 174، الفصل الثاني في إثبات
علمه بذاته.
175

على نعت الضعف، لا الفقدان، وإلا يلزم أن لا يكون التشكيك خاصيا.
فعلى هذا الأصل المسلم عند أهله، وعلى تلك القاعدة المحررة في
محله، جميع الموجودات مظهر جميع الأسماء والصفات، وفيه جميع
التجليات.
بل عن الوالد الخريت في هذا الميدان - مد ظله -: أن الأسماء المستأثرة
أيضا ذات تجليات، إلا أنها بنحو الخفاء الذاتي، كما هو في الحق بنحو
الاختفاء الأبدي (1).
ومن تلك الموجودات الباء والألف والسين والميم... وهكذا، فكما
أن الأئمة الحق والأفراد الكاملين من البشر، مظهر جميع الأسماء
والصفات الكاملة، ولكنهم في مرحلة الظهور يوصفون بالاسم الخاص:
الصادق والكاظم والرضا والجواد والعابد... وهكذا، كذلك سائر
الوجودات في كل مرحلة ومرتبة، فالباء والألف والسين والميم واللام
والهاء، مظاهر الأسماء الجمالية والجلالية، فبعض منها مظهر الجمال
بغلبة الرحمة، وبعض منها مظهر الجلال بغلبة القهر، وبعض منها يستوي
فيه المظاهر والظهورات، وهكذا في نفس الأسماء الإلهية والوجودات
التي هي الأسماء حقيقة، فإذا قيل: " الباء بهجة الله "، فهو لأجل غلبة اسم
البهجة فيه، وظهور بائها في الباء الذي هو من الموجودات ومظهر كل
شئ، وهكذا سائر الحروف، ومن تلك التقاريب في الطائفتين من الأخبار،

1 - تعليقات الإمام الخميني (قدس سره) على مصباح الانس: 218، تعليقات الإمام الخميني (قدس سره) على
شرح فصوص الحكم: 26.
176

يظهر معنى ما نسب إليه (عليه السلام): " أنا النقطة، أنا الخط، أنا الخط، أنا النقطة، أنا
النقطة والخط " (1).
وإن شئت قلت: هي إشارة إلى القاعدة الأخرى المحررة في
الفلسفة العليا أيضا، وهي قاعدة الوحدة في الكثرة والكثرة في
الوحدة، فإن الخط هي الكثرة الحاصلة من تجليات النقطة، والنقطة
هي الخط في مرحلة البساطة والوحدة، وهو (عليه السلام) حافظ مراتب الوحدة
والكثرة، لا تشغله الدنيا عن الآخرة ولا الآخرة عن الدنيا، لا تنثلم وحدته
بتوجيه النظر إلى الكثرات في مختلف النشآت، ولا يسهو عن أحكام تلك
التجليات المتشتتة مع توغله في الوحدة. فافهم واغتنم.
تكملة: بحث عن أسرار حروف البسملة
الحروف الملفوظة لهذه ثمانية عشر، والمكتوبة تسعة عشر، وإذا
انفصلت الكلمات وكتبت مفصلة تصير إلى اثنين وعشرين:
فالثمانية عشر إشارة إجمالية إلى العوالم الكثيرة، البالغة
كناية إلى ثمانية عشر ألف عالم، إذ قد عرفت أن الألف هو العدد التام
المشتمل على مراتب الأعداد والكلمات، فهي أم المراتب برمتها، فعبر عنها
عن أمهات العوالم في الغيب والشهادة، وهي عالم الجبروت وعالم
الملكوت والعرش والكرسي والسماوات السبع والعناصر الأربعة
والمواليد الثلاث.

1 - مناقب آل أبي طالب 2: 49.
177

وأما التسعة عشر فهي إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه وإن
كان داخلا في الحيوان الذي من المواليد الثلاث، إلا أنه باعتبار
جامعيته للكل وحصره للوجود عالم آخر، كالخيط بالنسبة إلى الدرر
المنظومة به، والألفات المحتجبة الثلاثة التي متمم الاثنين والعشرين،
إشارة إلى العالم الإلهي الحق باعتبار الذات والصفات والأفعال، فهي
ثلاثة عوالم عند التفصيل، وفي اعتبار عالم واحد.
وقيل: هو هكذا عند التحقيق، والثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور
تلك العوالم على المظهر الأعظمي الإنساني (1).
وقيل: لاحتجاب العالم الإلهي حين سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ألف
الباء: أين ذهبت؟ قال: " سرقها الشيطان "، وأمر بتطويل باء * (بسم الله) *
تعويضا عن ألفها، إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة
الانتشارية، وظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا أهلها، ولهذا
نكرت في الوضع، فالذات محجوبة بالصفات، والصفات بالأفعال،
والأفعال بالأكوان والآثار، فمن تجلت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان
توكل، ومن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلم، ومن
تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة، فصار موحدا
مطلقا فاعلا ما فعل وقارئا ما قرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * (2).
وقيل: إن الألف المحذوفة قراءة وكتبا إشارة إلى القائم الغائب،

1 - انظر تفسير القرآن الكريم المنسوب إلى محيي الدين ابن عربي 1: 8 - 9.
2 - المصدر السابق 1: 9.
178

الذي به قوام الوجود في الصعود، فالألف هو المقوم للحروف غائب في
ابتداء الكتاب الإلهي مشيرا إلى غياب القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
علم الأوفاق
اعلم أن الاسم " الله " عند هؤلاء الأعلام، هو الاسم الأعظم، وعليه
دعوى الاتفاق، وله من العدد 67 لفظا و 99 رقما، وأما أسماء حروفه 26
تشير إلى اسمين جليلين، وهما علي قديم. ومن كتب في شرق الشمس على
جسم شريف احترق به كل شيطان مريد، وإذا أمسكه معه في يوم شديد
البرد وأكثر من ذلك لا يحس بألم البرد الشديد، وإذا تختم به صاحب
الحمى البلغمية ذهبت لوقتها، وإذا نقش مربعه على رق والشمس في
الأسد، وحمله بعد ذكره 317 مرة، فلا يضع يده على ماء إلا غار بإذن الله
تعالى، بشرط أن يكون صاحب حال مع الله تعالى، ومن عرف قدره استغنى
به عن كل ما سواه، لأنه اسم الله تعالى الأعظم الذي إذا دعي به أجاب،
وإذا سئل به أعطى ومن ثم كانت قواه الظاهرة تشير إلى قولك: مجيب، وهو
- على ما قيل (1) - أول الأسماء المظهرة، والجامع لحقائقها، والمشتمل على
دقائقها ورقائقها، وله مخمس جليل القدر من رسمه وحمله لم يعسر عليه
أمر من الأمور، وبه تسهل الشدائد، وهو ذكر أكابر المؤلهين من أهل
الخلوات، يصلح ذكرا لمن كان اسمه محمدا، فليكثر من ذكره يقول: الله الله،
لما نسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم): " الله الله ربي لا أشرك به شيئا " يصلح أيضا لمن كان

1 - شمس المعارف الكبرى: 17.
179

اسمه عبد الله. وهذه صورته (1).
1 - 14 - 23 - 15 - 18
15 - 8 - 16 - 4 - 12
19 - 2 - 15 - 24 - 60
13 - 23 - 9 - 17 - 5
7 - 20 - 3 - 7 - 21

1 - صورة أكثر الأسماء في هذا التفسير غير موسومة في المخطوط بل رسماها من كتاب
شمس المعارف الكبرى. انظر شمس المعارف الكبرى: 161.
180

الناحية الثانية
حول قوله تعالى: * (الرحمن الرحيم) *
181

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
في عربية " الرحمن "
اتفقوا: على أن " الرحيم " من المشتقات، والكلمة عربية.
واختلفوا في أن " رحمان " عربي أو عبري، فالمشهور على الأول،
ويأتي تفصيله، وقيل: إنها كلمة عبرانية، وأصلها " الرخمان " بالخاء قاله
ثعلب والمبرد وأبو إسحاق الزجاج في " معاني القرآن " وأحمد بن يحيى (1).
ويظهر عن " تاج العروس " أن الأزهري حكى عن أبي العباس في
قوله تعالى: * (الرحمن الرحيم) * قال: جمع بينهما لأن الرحمن عبراني
والرحيم عربي، وأن ما هو العبراني بالحاء (2). ولكنه مخدوش وغير ثابت،
فما هو المعروف عنهم أنه بالخاء عبراني، ثم عرب فصارت بالحاء.

1 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 104، وتفسير التبيان 1: 29، ومجمع البيان 1: 91،
والبحر المحيط 1: 15.
2 - تاج العروس 8: 307.
183

وأما شعر جرير:
ومسحكم صلبهم رخمان قربانا
فهو لا يشهد على هذه المسألة، كما سيظهر وجهه.
والذي هو المقطوع به - حسب اللغة والاستعمال - أن هذه الكلمة
كانت معهودة في الاستعمالات العربية، وقد حكي عن بعض شعراء السلف
وجودها في أشعارهم (1)، وهذا لا ينافي كون " الرخمان " - بالخاء - عبرانيا،
فإنه كثيرا ما يتفق اشتراك الملل المختلفة في اللغة الواحدة من غير
أخذ واحد منهم عن الآخر، ولسنا منكرين وجود كلمات غير عربية في
الكتاب العزيز، كما أنكره جمع، كالشافعي وابن جرير وأبي عبيدة
والقاضي أبي بكر وابن فارس، حتى قيل: هو مختار الأكثر (2)، بل ننكر
عبرانية كلمة " الرحمن " في البسملة وفي سائر موارد الكتاب.
فبالجملة: لا شاهد على تلك المقالة، ولو أقيمت الأدلة على أنها
ليست مشتقة - كما هو مختار جمع - فهي لا تستدعي عبرانيتها، لإمكان
التفكيك، ولا يظهر من الذين ينكرون اشتقاقها أن يريدوا إثبات عبرانيتها، كما
أن الفرار من التكرار لا يورث هذا المختار. فما عن أبي العباس، غير
مقبول جدا، ولا أعرفه، فإنه كنية مشتركة بين جماعة كثيرة.
ويمكن الاستدلال لعدم معهودية هذه الكلمة في عصر القرآن بين
الأعراب في تلك الأمصار بقوله تعالى في سورة الفرقان: * (وإذا قيل لهم

1 - انظر مجمع البيان 1: 20.
2 - الإتقان في علوم القرآن 1: 136.
184

اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد...) * (1).
فإن السؤال - وخصوصا بكلمة الموصول لغير ذوي العقول - يشهد
على أن المخاطبين في مكة المكرمة كانوا لا يعرفون هذه الكلمة.
وأما ما قاله ابن الحصار، وكأنه (رحمه الله) لم يقرأ الآية الأخرى * (وهم
يكفرون بالرحمن) * (2)، فهو غريب، لأنه في سورة الرعد، وهي مدنية، ولا
منع من اشتهارها بعد الاستعمال في السورة المكية، وقد استعملت ستة
عشر مرة في سورة مريم وهي مكية.
والذي هو الجواب: أن كلمة " الرحمن " كانت في الجاهلية معهودة
بين الشعراء، وقد اشتهر مسيلمة بالرحمن، وكانت تسمي بها، فلا يمكن أن
يكون الاستفهام في الآية على معناه الحقيقي، والظاهر أنه في مقام أن
الناس في هذا الموقف من الرذالة، فإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، قالوا:
وما الرحمن؟ وإلا فلا واقعية لهذه القصة، ولا يكون من يسأل عن ذلك بين
المشركين أو الكافرين.
ومن تلك الأشعار ما حكي عن سلامة بن جندل الطهوري:
عجلتم عليه قد عجلنا عليكم * وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وعن الشنفري:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها * ألا ضرب الرحمن ربي يمينها (3)

1 - الفرقان (25): 60.
2 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 104.
3 - مجمع البيان 1: 20.
185

وقد مضى أن مسيلمة كان يسمى برحمان قبل الإسلام، فإذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم)
- كما في بعض الأخبار عن طرق العامة - يقرأ جهرا البسملة، يقولون: هو
ينادي مسيلمة فأخفت (1). والله العالم.
ولو قيل: عبرانيتها لا تنافي هذه الاستدلالات، لأن هذه الكلمة من
أصلها عبرانية، وانتقلت إلى العربية قبل الإسلام.
قلنا: نعم، إلا أن ثبوت أخذ العرب عنها، يحتاج إلى الدليل، ولا دليل
على دخول الكلمات العبرانية في العربية، فتأمل. وللمسألة مقام آخر.
المسألة الثانية
حول أن " الرحمن " من المشتقات
بناء على كونها عربية، فهل هي من المشتقات أم من الجوامد؟
فالمشهور على الأول، وذهب جمع إلى الثاني (2)، وذلك لوجوه:
الأول: أنه من الأسماء المختصة به سبحانه.
الثاني: أنه لو كان مشتقا فمادته الرحمة، فحينئذ تحتاج إلى
المفعول به، فيجوز أن يقال: الله رحمن بعباده وبالمؤمنين، كما يقال:
* (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (3).
الثالث: أصل بناء فعلان من الأفعال اللازمة، كعطشان وغضبان

1 - الدر المنثور 1: 11.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 103.
3 - التوبة (9): 128.
186

وندمان وسكران، وبه صرح ابن حيان (1)، فلو كان " رحمن " مشتقا، يلزم
خلاف الأصل.
اللهم إلا أن يقال: بأنه مشتق من الرحيم، كما يأتي بيانه، ولكنه مما
لا يمكن الالتزام به حسب الصناعات اللغوية.
أقول: يتوجه على الأول بأن " الرحمن " علم لله تعالى ولقب له عز
اسمه بالغلبة، كعلمية العلامة لحسن بن يوسف، والمحقق لجعفر بن
الحسين، فإن الكلمتين من المشتقات وصارتا علما بالغلبة، فلهما الوضع
الآخر المسمى بالوضع التعيني.
ولذلك نقول: إن " الرحمن " العلمي غير " الرحمن " الوصفي،
وما كان علما يمكن أن يكون مأخوذا عن أصل عبراني، وما هو الوصف
عربي أصيل.
وعلى الثاني: بأن عدم مأنوسية ذكر المتعلق له لأجل انس الذهن
باستعمالاتها العلمية، فإنها في الكتاب تستعمل نوعا في موضع استعمال
كلمة " الله "، وقلما يطلق ويراد منه المعنى الوصفي المحتاج إلى
المعمول، وإلا فلا منع من أن يقال: هو بالمؤمنين رحمن رحيم حسب
الصناعة.
والعجب من الآلوسي حيث توهم إضافتها إلى المفعول به في
الجملة المعروفة: " رحمان الدنيا والآخرة " (2).

1 - البحر المحيط 1: 15.
2 - روح المعاني 1: 56.
187

اللهم إلا أن يقال: بأن الدنيا والآخرة ليستا ظرف مكان وزمان، بل
الدنيا والآخرة كل والأفراد والأشياء من أجزائهما، فحينئذ يصح ما ذكرناه
فظرفية الدنيا والآخرة اعتبارية، لا واقعية كظرفية الخارج والذهن في
قولنا: زيد في الخارج أو في الذهن، فإن الحقيقة هو أن زيدا خارجي
وذهني، ومن مراتب الخارج والذهن.
وعلى الثالث أولا: أن الاستثناء في القواعد الأدبية كثير، فقد تقرر في
النحو أن أوزان الصفة المشبهة سبعة أو أحد عشر، وهي الأكثر تداولا،
وإلا فربما تبلغ إلى سبعين، وليس فيها وزن الفاعل، ولكن يستثنى منه في
الأفعال اللازم كطاهر وظاهر، فإنهما ليسا اسمي فاعل، لأنه من المتعدي،
وقد ينعكس ويجئ من المتعدي على وزن فعيل كسفير وغيره.
وثانيا: من المحتمل أن يكون " الرحمن " مأخوذا من الرحمة،
مدعيا أن الرحمة من الصفات الذاتية الملازمة لعين الذات، ولا تحتاج
في هذا اللحاظ إلى المتعلق والطرف، وهو المرحوم، كما تقرر في علم
الأسماء أن من الأسماء ما يشترك بين أسماء الذات والصفات والأفعال، وقد
مثل ابن العربي تارة بكلمة " رب "، وأخرى بكلمة " صالح " (1)، والتفصيل
في مقام آخر.
فالرحمن من الرحمة اللازمة ادعاء، ولذلك لا يحتاج إلى
المفعول، وبني على فعلان. وبذلك تنحل الشبهتان كما لا يخفى.
فالمحصول مما قدمناه للحد: أن " الرحمن " تارة يطلق ويكون علما

1 - مصباح الانس: 284، شرح فصوص الحكم، القيصري: 14.
188

مسلوبا عنه الوصفية، كقوله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا
الرحمن) * (1)، وأخرى يطلق ويراد منه المعنى الوصفي، كقوله تعالى:
* (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) * (2)، ولمكان كثرة إطلاقه
على الذات حتى صار علما، لها لا يتصل بالمرحوم، ولا يؤنس منه ذلك.
وعلى كل تقدير: هو في الأصل من المشتقات حسب ما يتراءى منه
بدوا، وإن كانت الشبهة التي ذكرناها - بإضافة سائر ما قيل - قوية جدا،
ولأجلها يأتي أن دعوى اشتقاقها من " الرحيم " قريبة جدا.
وربما يتأيد ذلك: بأن الرحمة - حسب اللغة والتبادر - معناها
الرقة والتعطف واللينة، وهذه المفاهيم بما لها من لوازم المادة
والانفعال، لا تناسب ذاته تعالى، والاستعمال المجازي على خلاف الأصل.
وما في " القاموس ": الرحمة المغفرة (3)، أو في " الراغب ": أن
الرحمة في الحق هو الإحسان المجرد، دون الرقة (4)، فرار عن الإشكال
العقلي، وتدخل فيما لا ينبغي أن يتدخل فيه اللغوي، وتفسير بجزء المعنى.
ولكنك تعلم: أن هذا البحث يأتي في " رحيم " الذي هو المشتق
عن الرحمة بالاتفاق، فلابد من حلها، والبحث عنها يأتي بعد ذلك إن شاء
الله تعالى.

1 - الإسراء (17): 110.
2 - البقرة (2): 163.
3 - القاموس المحيط 4: 119.
4 - المفردات في غريب القرآن: 191.
189

المسألة الثالثة
في أن مادة " الرحمن " هي الرحمة أو الرحم
بناء على القول باشتقاقها، فهل تكون مادتها " الرحمة " كما هو
المعروف عنهم، أو مادتها " الرحم "، وهذا مما لا يقول به أحد بحسب اللغة
والتبادر، ولكن قد وردت في بعض المآثير ما يؤيد ذلك أو صريح فيه:
1 - " معاني الأخبار " عن الصادق (عليه السلام): " إن رحم الأئمة من آل محمد
تتعلق بالعرش يوم القيامة، وتتعلق بها أرحام المؤمنين، تقول: يا رب صل من
وصلنا، واقطع من قطعنا، قال: ويقول الله: أنا الرحمن وأنت الرحم، شققت
اسمك من اسمي، فمن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته، ولذلك قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الرحم شجنة من الله عز وجل " (1).
قال الجزري: الرحم شجنة من الرحمن، أي قرابة مشبكة
كإشباك العروق، شبه بذلك مجازا، وأصل الشجنة - بالضم والكسر -
شعبة من غصن من غصون الشجرة (2).
2 - وفي تفسير ينسب إلى الإمام (عليه السلام): " الرحمن مشتق من الرحم رحم
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكل مؤمن ومؤمنة من شيعتنا من رحم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن
إعظامهم من إعظام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)... " (3) إلى آخره.

1 - معاني الأخبار: 302 / 1.
2 - النهاية، ابن الأثير 2: 447.
3 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 37.
190

3 - في " تاج العروس " وعلى هذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاكرا عن ربه: " أنه
لما خلق الرحم، قال: أنا الرحمن وأنت الرحم، شققت اسمك من اسمي، فمن
وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته... " - إلى أن قال -: كما أن لفظ الرحم
من الرحمة، فمعناه الموجود في الناس من المعنى الموجود لله تعالى،
فتناسب معناهما تناسب لفظيهما. انتهى ما حكاه عن الراغب.
4 - وفي " تاج العروس " قال: وفي الحديث القدسي قال الله تعالى
لما خلق الرحم: " أنا الرحمن وأنت الرحم شققت اسمك من اسمي... " (1)
إلى آخره.
أقول: يمكن أن يتوهم بأن الرحم لما جاء بمعنى القرابة، وأنه
تعالى قال: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * (2) فهو تعالى رحمن بهذا
المعنى، وعليه تكون رحمن من المشتقات، وترفع الشبهات السابقة،
لاختصاصها بما إذا كانت مشتقة من الرحمة المتعدية.
ويمكن أن يقال: إن كلمة " رحمن " بمعنى ذي الرحم، ويكون الخلق
عيال الله ورحمه في الاعتبار والخيال. والله العالم.
المسألة الرابعة
في أن " رحمن " صفة مشبهة لا صيغة مبالغة
بناء على الاشتقاق وكونها من الرحم، فهي صفة مشبهة بلا شبهة،

1 - تاج العروس 8: 307.
2 - ق (50): 16.
191

كما هو قضية الأصل في فعلان، ولو كانت من الرحمة حال ادعاء أنها صفة
لازمة الذات، وليست متعدية، فهي - أيضا - صفة مشبهة:
لأنها من لازم لحاضر * كظاهر القلب جميل الظاهر
ولما أن صيغ المبالغة محصورة في الخمسة عشر (1)، وهي ليست
منها وإن كان الحصر إضافيا بالنسبة إلى الأوزان الغالبة، كما أن صيغ
الصفة المشبهة محصورة في الإحدى عشرة، وهي معدودة منها.
وهكذا لو كانت من رحم - بالضم - كما في بعض التفاسير (2).
وإذا كانت مأخوذة من الرحمة حال تعديها، فهل هي صفة مشبهة
حفظا على الأصل في الهيئة، أو صيغة مبالغة حفظا على أصل المادة إذا
كانت متعدية، فلا يناسب الصفة المشبهة؟ فيقع التعارض بين مقتضى
الأصلين في الهيئة والمادة، ولا شبهة في تعين الثاني، لأن اقتضاء
التعدية أقوى، بل لا معنى بعد ذلك لكونها صفة مشبهة، كما لا يخفى.
والمشهور بين المفسرين هو البناء على المبالغة، واختار جمع
خلافها (3).
والذي هو التحقيق الحقيق بالتصديق ما أسمعناكم، ولكن قد يشكل
تصوير المبالغة في حقه تعالى، لأن معنى المبالغة مشرب بالكذب،
ولا يتصور الكذب في حقه تعالى.

1 - راجع مقدمة المنجد، ذكر فيه خمسة عشر وزنا للمبالغة.
2 - تفسير بيان السعادة 1: 28.
3 - انظر النهر الماد من البحر، أبو حيان، ضمن البحر المحيط 1: 15.
192

نعم إذا كانت الصفة صفة الفعل، فبالغ في جعلها صفة الذات، فهو
ممكن، ولكنه غير لائق بجنابه تعالى.
مثلا: صفة الرحمانية والرحيمية من أوصاف الأفعال، لاحتياجها
إلى المرحوم الممتاز في الوجود، بخلاف العالم، فإنه يحتاج إلى
المعلوم، ولكنه ليس ممتازا في الوجود، فإذا أطلقت على ذاته تعالى
بدعوى أنها عين الذات الأحدية القديمة، تكون من المبالغة.
ثم إن الظاهر في كتب اللغة والاستعمالات: أن الرحمة إذا أضيفت
إلى القلب وأمثال ذلك يكون لازما، فيقال: فلان رحيم قلبه، وهذا هو معنى
تفسيرها بالرقة والانعطاف وإذا أضيفت إلى الذات والشخص فيقال: رحم
الله زيدا، فلابد وأن تكون صفة الفعل، فيكون متعديا.
والعجب أن اللغة لا تتعرض لهذا الأمر، ويظهر من التفسير فيها:
أنه فعل لازم، ومن استعماله متعديا ومجئ اسم الفاعل والمفعول منه أنه
فعل متعد، ولا يبعد كون تعديته بالحرف المحذوف في بعض المقامات،
وبالمذكور في الكتاب العزيز كثيرا: * (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * (1)
* (وكان بالمؤمنين رحيما) * (2) * (إنه كان بكم رحيما) * (3) فعلى هذا تكون
الرحمة من الأفعال اللازمة، فرحمن صفة مشبهة بالضرورة.

1 - البقرة (2): 143.
2 - الأحزاب (33): 43.
3 - الإسراء (17): 66.
193

المسألة الخامسة
في أن " رحيم " صفة مشبهة
لا خلاف في أن رحيم عربي مشتق من الرحمة، وإنما الخلاف في
أنها مشتقة من الرحمة اللازمة أو المتعدية، وهذا هو منشأ الاختلاف
في أنها صفة مشبهة أو صيغة مبالغة.
وحيث إن فعيل من أوزان المبالغة والصفات المشبهة، فلا يلزم
خلاف الأصل في جانب الهيئة إلا أن مقتضى ما تحرر منا من لزوم الرحمة
وتفسيرها بالمغفرة لو صح أيضا شاهد عليه، لأن الغفران لازم ويتعدى
باللام، وقوله تعالى: * (غافر الذنب) * (1) مثل قول الناس: جاءني زيد، فإن
الاستعمال لا يورث شيئا بعد اقترانه بالقرائن الدالة على لزومه، ولذلك
يقال في المفعول: المغفور له، وفي الدعاء: " اللهم اغفر للمؤمنين
والمؤمنات " (2) هو كونها صفة مشبهة، وفي ذلك يرتفع الإشكال المختص
بصيغة المبالغة في حقه تعالى الماضي تفصيله.
هذا مع أن أكثر استعمالات فعيل يورث كونها الأصل في الصفة
المشبهة، وقلما يتفق أن تأتي للمبالغة، وقد مثل له في الصرف برحيم
وعظيم (3)، ولا يخفى ما في الأول على ما عرفت تفصيله، وفي الثاني أيضا،

1 - غافر (40): 3.
2 - الكافي 2: 385 / 23.
3 - راجع مقدمة المنجد: أمثلة المبالغة.
194

لعدم الدليل على أنه للمبالغة بعد كون العظمة من الأفعال اللازمة، فإن
ما هو السبب لجعلها مبالغة اقتضاء مادتها ذلك، لأن الصفة المشبهة
لا تأتي من المتعدي. نعم في مثل عليم يمكن دعوى أنها مبالغة، لأن العلم
متعد، مع أنك قد عرفت سابقا - وصرح به في اللغة -: أن فعيل تأتي بمعنى
فاعل، كسفير، فتكون عليم بمعنى عالم، ويشهد له قوله تعالى: * (وفوق كل
ذي علم عليم) * (1)، فإنه ليس في مقام المبالغة، كما لا يخفى.
فكون فعيل للمبالغة غير ثابت بعد، فيسقط جميع ما قيل في المقام
حول هذه الهيئة وهيئة فعلان. ونشكر الله تعالى على ذلك الإنعام.
ذنابة
قيل: " رحمن " غير منصرف عند من زعم أن الشرط انتفاء " فعلانة "،
إذ لا يستعمل رحمانة، وهكذا من زعم أن الشرط وجود " فعلى " لانتفائه.
وربما قيل: يكفي للمنع الألف والنون الزائدتان. وتوهم انصرافه لقول
الشاعر في مسيلمة:
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا * فباب من تعنتهم في كفرهم (2)

1 - يوسف (12): 76.
2 - انظر الكشاف 1: 7 - 8.
195

المسألة السادسة
حول ما قيل في مجازية إطلاق
" الرحمن " و " الرحيم " عليه تعالى
في بعض التفاسير يوجد: أن الرحمة معنى يلم بالقلب، فيبعث
صاحبه، ويحمله على الإحسان إلى غيره، وهو محال على الله تعالى
بالمعنى المعروف عند البشر، لأنه في البشر ألم في النفس شفاؤه
الإحسان، وهو تعالى منزه عن الآلام والانفعالات، فالمعنى المقصود
بالنسبة إليه من الرحمة أثرها، وهو الإحسان (1). انتهى.
وفي الآخر يوجد: أن أصل الرحم هو العطف الحاصل للراحم نحو
المرحوم، المنبعث عن ملاحظة حاجته وضره المقتضي لإصلاح شأنه
وجبر كسره، وحينئذ فلا بعد في أن يقال: إن إطلاق الرحم على الله سبحانه
على نحو الحقيقة اللغوية، وإن الحكم بالمجازية ناشئ من عدم تجريد
أصل المعنى من الأغشية اللازمة له بحسب الموارد المحسوسة،
كملازمة الانكسار والانفعال للرحمن فينا، بحيث لا يكاد يوجد إلا منبعثا عنه،
وليس إطلاق الرحمن على الله سبحانه مقصورا على اعتبار أخذ الغاية
والأثر، وإلغاء المبادئ التي هي المعاني الأصلية، كما يظهر منهم، بل
لأفعال الله تعالى مبادئ وجودية عينية على التحقيق، وهي حقيقة معاني

1 - تفسير المنار 1: 46.
196

الألفاظ، فإطلاق الرحم والرضا والغضب وأشباهها، ليس باعتبار تحقق
الآثار فقط مجردة عن المبادئ، بل باعتبار مبادئ تلك الأفعال التي هي
الأصل لها، فحقيقة الرحمة هو المعنى الذي باعتباره يرحم الممكنات،
وإليه يشير ما في " المجمع " عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن لله عز وجل مائة
رحمة، أنزل الله منها واحدة إلى الأرض، فقسمها بين خلقه بها
يتعاطفون " (1) الحديث.
فإطلاق " الرحمن " و " الرحيم " عليه تعالى، باعتبار كونه ذا
الرحمة الواسعة والمبدأ لها والجاعل إياها، وقيامها به قيام صدور لا
حلول، كما يوصف الإنسان بصفات الأفعال الصادرة منه (2). انتهى ما أردنا
نقله بإجماله مع تصرف ما في عبائره.
أقول: تارة يطلق الرحيم بالإضافة إلى القلب ومثله، فلا يراد منه
إلا الرقة والتعطف، وأخرى يطلق ويراد منه الغفران والمغفرة، فهل هنا
معنى واحد مركب موضوع له الرحمة، وهي رقة القلب الباعثة إلى
المغفرة والإغماض، أو هنا معنيان أحدهما غير الآخر؟
فإن قلنا بالأول فلابد من الالتزام بالمجازية، وإن قلنا بالثاني فلا.
وقضية صراحة كلمات اللغويين هو الثاني، فإذا قلنا: هو الرحيم، فليس
معناه أنه الرقيق وذو الانعطاف، بل معناه أنه الغافر، ولا يستلزم الغفران
انفعال الذات من الأفعال حتى يمتنع في حقه تعالى.

1 - مجمع البيان 1: 21.
2 - تفسير سورة البقرة والحمد، الشيخ محمد حسين الأصفهاني: 115 - 116.
197

والذي يظهر: أن تفسير الرحمة بالمغفرة مأخوذ من انتسابها إليه
تعالى، وإلا فلو قلنا بأن زيدا رحيم بعبده، فلا يتبادر منه إلا المعنى
الانفعالي، فعلى هذا يشكل تصحيح اللغة في هذه الاستعمالات.
وأما ما عرفت آنفا - وهو المعروف في الكتب العرفانية - وإجماله:
أن الألفاظ موضوعة للمعاني العامة من جهتها الكمالية، وليست حيثيات
النقص داخلة في الموضوع له، فإذا قلنا بأن معنى العلم هو حصول صورة
الشئ عند النفس، فلا يراد منه إلا جهة الكمالية، وهو انكشاف هذا
الشئ بتلك الصورة من غير نظر إلى الخصوصيات الانفعالية، فلو كان
موجود عالما بالشئ لا بالنحو المزبور، فهو يكون عالما حقيقة لا
مجازا، وهكذا في سائر اللغات، فمجرد كون الواضع نوع الإنسان، وأنه
مشوب الذهن بالماديات وأطوارها، لا يستلزم تحدد حدود الموضوع له،
ولا انحصار اللغة بالمصاديق التي احتاج البشر السابق إلى استعمالها
فيها، بل الموضوع له عام وأعم، ولا يدخل في حده جهات النقص والعدمية.
فهذا هو مرام جمع من شركائنا في مسالكهم العرفانية، وبذلك ينفتح
باب التأويل في الكتاب العزيز، ويكون جميع ما ورد تأويلا له موافقا للغة
وحقيقة من الحقائق اللفظية.
ثم أقول: إن الإنسان الخبير والمطلع البصير، الغير الخالط بين
المراتب وشتات المسائل، الحافظ في كل مقام حد ذلك المقام والرتبة،
لابد وأن لا يخلط بين المباحث اللغوية والأوضاع وبين المسائل
العرفانية والفلسفية، فإن الخلط بينهما كثيرا يؤدي إلى المفاسد
العجيبة، نظير الخلط الشائع بين أبناء العلوم الاعتبارية، بين المسائل
198

العقلية ومباحث القانون والأحكام التشريعية والاعتبارية، فكما أن هناك
استلزم ذلك الغلط أغلاطا غير عزيزة، كذلك فيما نحن فيه.
ومن العجيب ما قيل في تحرير الكبرى المزبورة من: أنه لو سئل
الواضع: هل وضعت لفظة كذا لمعنى كذا، مثل لفظة " الميزان " لما هو
المتعارف في الوزن، أو لكل ما يوزن به الشئ؟ لأجاب بالثاني، وهذا
شاهد على عموم الموضوع له.
وأنت خبير: بأن الوضع ليس إلا اعتبار أو علقة حصلت من الاستعمال
والاعتبار، فإذا اعتبر الواضع في بدو الأمر الميزان لما يوزن به في عصره
حسب المتعارف، فلا يكون اللفظ إلا دالا عليه، ومجرد تمايله إلى الأعم
وجوابه بالعموم لا يكفي لتوسع نطاق الموضوع له.
فعلى ما تقرر: إطلاق الرحمن عليه تعالى حقيقة إن كان مشتقا من
الرحيم، على ما عرفت منا تقريبه وإلا فإطلاقه وإطلاق الرحيم عليه
تعالى من المجاز، والالتزام بالاستعمالات المجازية في الكتاب
والسنة، ليس من الأمر الغريب ولا من العزيز.
نعم لا بأس بالالتزام: بأن كثرة استعماله في حقه تعالى في الكتاب
والسنة وغيرهما، بلغت إلى حد الوضع الثانوي، وهو التعيني، فيكون
حقيقة ثانوية.
وغير خفي: أن معنى مجازية إطلاقهما عليه تعالى - بحسب اللغة
والوضع - ليس معناه أن حقيقة الرحمة التي وسعت كل شئ، ليست
مستندة إليه تعالى بحسب الخارج وفي الأعيان، فإن مسألة الحقائق
الحكمية غير مسألة الحقائق اللغوية.
199

وقد قيل: إن الحقائق الحكمية لا تقتنص من الإطلاقات العرفية إلا
أن بعد المسائل الربوبية واصطعاب فهم البحوث الإلهية والمطالب
الراجعة إلى ما وراء الطبيعة على الأفهام السوقية والعقول العادية،
وشدة البينونة بين نطاق فلك الإلهيات بالمعنى الأخص والأعم، ونطاق فلك
اللغات والتبادرات، تقتضي كون الألفاظ قاصرة عن الدلالة الوضعية
اللغوية على تلك المعاني الآفاقية، فلابد أن يتشبث بأذيال الاستعارات
والكنايات والمجازات، لإفهام تلك الخيالات الراقية والمدارك الروحانية.
نعم دعوى: أن الواضع هو الله تعالى أو الأنبياء والرسل أو
الملائكة المقدسة - لتثبيت هذه المقالة - ممكنة، إلا أنها غير وجيهة
حسب ما تقرر في الأصول (1)، وكان الوالد المحقق - مد ظله - في بعض
كتبه العقلية والأخلاقية مصرا على تثبيت تلك المقالة، وفاقا لأرباب
العرفان والسلوك وأصحاب الإيقان والشهود (2)، ولا أظن التزامه بذلك في
محله، وهو العلوم الاعتبارية كالفقه والأصول، فالحق أحق أن يتبع من
عقول الرجال.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 65.
2 - وقد خالف هذا القول في آداب الصلاة: 249.
200

النحو والإعراب
اتفقوا على أن " الرحمن " مكسور، وما وجدت خلافا في ذلك ولا
احتمال الخلاف. وهكذا " الرحيم ".
واختلفوا في وجه الإعراب بالكسرة:
فالمشهور عنهم أنهما وصفان لله تعالى.
ولازم ذلك الالتزام بحذف حرف العاطف، لأن قضية القواعد عطف
الوصف الثاني بالواو، لأنه إذا لم يكن توكيدا ولا بدلا ولا نعتا للنعت الأول،
فيكون نعتا للمنعوت، فيحتاج إلى العاطف:
يتبع في الإعراب الأسماء الأول * نعت وتوكيد وعطف وبدل (1)
وبالجملة: مع حذف حرف العطف، تكون الجملة ظاهرة في أن
الثاني نعت النعت لا نعت المنعوت، وإذا كان المقصود الثاني فلابد من
إتيانه بحرف العاطف، فتأمل.
ويتوجه عليهم ثانيا: لزوم تكرار التوصيف بهما، وهذا خارج عن حد

1 - الألفية، ابن مالك: مبحث النعت، البيت 1.
201

الفصاحة، وليس هذا من قبيل التكرار في سورة الرحمن وأمثالهما.
وثالثا: أن أكثر موارد استعمالات " الرحمن " في الكتاب في
العلمية، لا الوصفية.
وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل، لأنه علم وإن كان مشتقا، لأنه مثل
" الدبران " المشتق من " دبر "، وقد صيغ للعلمية، وإذا ثبتت علميته امتنع
كونه نعتا (1).
ويتوجه عليه: أن للبدلية ميزانا، وهو هنا غير موجود، فإن بدل الكل
عن الكل: إما في مورد يشبه عطف البيان، وهذا في " الله " غير صحيح،
لأنه أعرف، أو في مورد يكون الإسناد إلى غير ما هو له، كقوله: " زيد أبوه
قائم "، وهذا هنا أيضا غير جائز، بل ربما يشكل تصوير البدل عن الكل،
لأنه هو في حكم عطف البيان. هذا هو المذهب الثاني في المسألة.
المسلك الثالث: ما عرفت منا سابقا، وهو أن " الرحمن " عطف البيان
للاسم دون الله، والقارئ يقرأ: بسم الله الذي هو الرحمن الرحيم أبتدئ أو
أقرأ أو أستعين أو أحمد أو اسمي أو غير ذلك.
فما هو المتوجه إليه قلبا هو اسم الله بالحمل الشائع، وهو الرحمن لا
الله، بل لما عرفت أن الإضافة تكون معنوية لا بيانية، وإلا فيلزم أن يكون
المستعان به والمبتدأ به - مثلا - نفس الاسم بماله من المعنى، وهذا
خلاف المرتكز، مع أنه كان يستلزم شبهة عقلية مضت، فما هو المستعان
به بالحمل الشائع هو الرحمن الرحيم، اللذان هما من أمهات الأسماء

1 - البحر المحيط 1: 16.
202

الإلهية السبعة، واسم الله هو المستعان به بحسب اللفظ، لا الواقع.
وربما يقال: جعلهما صفتين للاسم أولى من جعلهما صفتين لله، للزوم
التأكيد على الثاني مع ما بعده، دون الأول، ولأن المنظور الاتسام باسم
يكون به قوام الفعل المبتدأ به، وينتهي الفعل إليه، وهذا معنى كون
الاسم متصفا بصفة الرحمانية والرحيمية (1). انتهى.
وأنت خبير بما فيه، ضرورة أن الاسم المذكور في اللفظ، ليس من
الأعيان الاسمية في الاعتبار وإن كان منها بحسب الواقع، فما هو المراد من
الاسم ما هو معنى الاسم بالحمل الشائع، وهو الرحمن، فلا يكون وصفا له،
بل هو من قبيل عطف البيان، فلا تخلط.
المسلك الرابع: أن المتبادر من " الرحمن " عند العرب: أنه اللفظ
الموضوع للذات بما لها من إشراب معنى الرحمة فيه، كما قيل في الله، وقد
مضى، وكانت تطلقه على مسيلمة الكذاب، فهو أقرب إلى كونه الاسم
الثاني المسمى اصطلاحا باللقب، فيضاف إليه الاسم الأول لفظا.
قال ابن مالك:
وإن يكونا مفردين فأضف * حتما وإلا أتبع الذي ردف (2)
والمراد هو كون الاسم واللقب مفردين، كقولهم: " سعيد كرز ".
وهذا المسلك لا ينافي المسلك الثالث، فإنه بحسب اللفظ مكسور
بالإضافة، وبحسب المعنى عطف بيان للاسم، ولا يعتبر في كونه عطف بيان

1 - تفسير بيان السعادة 1: 28.
2 - الألفية، ابن مالك: مبحث علم، البيت 4.
203

أن يكون وصفا، وفيه معنى الوصفية قبال العلمية، وبذلك تنحل الشبهة،
ويتعين ما اخترعناه في المسألة.
المسلك الخامس: هو أن يستند إعرابه إلى إضافة الاسم المضاف
إلى الله إليه، فيكون الاسم مضافا مرتين أحدهما إضافته إلى الله، ثم بعد
تلك الإضافة يضاف إلى الرحمن، وتكون الإضافة الأولى معنوية
والثانية بيانية، وهذه أحد الاحتمالات المذكورة في الفقه في ذيل قول
الصادق (عليه السلام) في صحيحة أبي ولاد - عند تضمين قيمة المغصوب -: " قيمة
بغل يوم خالفته " (1) بإضافة القيمة أولا إلى بغل، وثانيا إلى يوم (2). وهذا
الأمر يظهر من الأمثلة الفارسية، كقولنا: " غلام زيد عالم آمد " فإن الغلام
أضيف إلى زيد، ثم إلى عالم، فيما أريد توصيف الغلام لا زيد، فلا تخلط.
ثم إن الاحتمالات في إعراب " الرحيم " كثيرة، والظاهر منها أنه
صفة " الرحمن "، وكونه صفة الاسم و " الله " يتم على بعض المسالك
السابقة.
ومن الممكن قطع " الرحمن الرحيم " من التوصيف، وإعرابه
بالضم خبرا عن المبتدأ المحذوف.
وهنا مسلك آخر واحتمال سادس في إعراب " الرحمن " وهو: أنه مجرور
بالباء مع حذف الحرف العاطف، وهو من المتعارف نثرا وشعرا، فيكون

1 - الكافي 5: 291 / 6، تهذيب الأحكام 7: 215 / 25، وسائل الشيعة 13: 255 كتاب
الإجارة، الباب 17، الحديث 1.
2 - المكاسب، المحقق الأنصاري: 110 / السطر 14.
204

هكذا: بسم الله وبالرحمن وبالرحيم، أو باسم الله وبالرحمن الرحيم،
فيكون " الرحمن " مبنيا على العلمية، وحذف الجار فتوى أصحابنا.
وهنا قول آخر وهو: أن معنى " الرحيم "، أي بالرحيم وصلتم إلى الله
وإلى الرحمن، فالرحيم نعت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد نعته تعالى بذلك، فقال:
* (رؤوف رحيم) *، فعليه يكون الرحيم مجرورا بالباء المحذوف (1).
وفساد الاستدلال واضح، مع عدم مناسبة ذلك مع قراءته (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه
الآية في مقام الامتثال والتذلل.

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 106.
205

الخط
قضية القاعدة تطابق المكتوب مع الملفوظ، حتى لا يلزم الغلط
ولا تلزم اللغوية، ولذلك ذكرنا عند بعض الأصحاب: أن ما توهمه أدباء
الفرس من الزيادات الخطية في رسم الخط العجمي في مثل " خواهش
وخواهر وخواست " غير واقع في محله، لأن هذه الزيادات يلفظ بها وتقرأ
في بعض القرى والقصبات من لواء فارس في إيران، بل في بلدة شيراز يكون
الأمر كذلك. نعم لا يقرأ في نوع البلاد الاخر، فليست الزيادة من أول الأمر
حتى يشكل علينا حله.
وأما كتابة واو مع " عمرو " فهي تسمى واو الفارقة، للفرق بينه وبين
" عمر "، ولذلك لا تكتب حال النصب، لوجود الألف.
وأما في كلمة " الرحمن " فالذي ظهر لي بعد الغور: أن هذه
الكلمة فيما كانت تطلق على غير الله تعالى ك‍ " رحمان اليمامة "، تكتب
بالألف، وإذا أريد منها الله تبارك وتعالى حذف عنها الألف، كما حذف الألف
الثاني من " الله " إيماء إلى غيبوبة الذات وعدم ظهور لها في جميع
206

المراتب، بل المظاهر كلها مظاهر الذات في الاعتبارات الاخر الذي تحرر
إجمالها ولذلك ورد: أن الألف إيماء إلى الذات (1).
" عنقا شكار كس نشود دام بازگير "

1 - التوحيد: 235 / 2.
207

علم المعاني
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى
حول ذكر " الرحمن " و " الرحيم " معا
قد تقرر فيه: أن من اللطائف الكلامية التوكيد، وهو على أنحاء:
فقد يكون بتكرار اللفظ الواحد، وأخرى بتكرار اللفظين المترادفين،
وثالثة بالحروف، كقوله تعالى: * (كفى بالله شهيدا) * (1)، وقوله تعالى:
* (وما هم بضارين به من أحد) * (2)، وفي الدعاء: " حتى لا يستخفي بشئ من
الحق مخافة أحد من الخلق " (3).
فالرحيم توكيد النعت السابق، وهذا ما يناسبه تعالى فإنه
بالرحمة أعرف وأشهر من الغضب وأمثاله، حتى ورد: " قد سبقت رحمته

1 - النساء (4): 79 و 166، يونس (10): 29، الرعد (13): 43، الإسراء (17): 96،
الفتح (48): 28.
2 - البقرة (2): 102.
3 - بحار الأنوار 88: 6.
208

غضبه " (1)، فالتكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل أمر سائغ، وهو واقع في
أبلغ الكلام عندما يريد إظهار ذلك القصد منه، وهذا في الجمل التامة
أيضا جائز، كما في سورة الرحمن وسورة القمر وسورة المرسلات.
ومن العجيب - وإن كان منه ليس بعجيب - أن " المنار " توهم: أنه
عند التأمل ليست الآية متكررة، فإن معناها في سورة الرحمن عند ذكر
كل نعمة: أفبهذه النعمة تكذبان؟! وهكذا كل ما جاء في القرآن بهذا
النحو (2). انتهى.
وأنت خبير: بأن تطبيق المعنى الكلي على المورد خارج عن حدود
الاستعمال، وإلا يلزم المجازية، فالآلاء في السورة لم تستعمل إلا في معنى
واحد. هذا أولا.
وثانيا: جملة * (ربكما تكذبان) * مكررة، ولا يأتي فيه ما تخيله.
وثالثا: في سورة القمر قد تكررت آية: * (فكيف كان عذابي ونذر) *
وآية * (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) * (3)، ولا تتحملان إلا معنى
واحدا والعذر عنه أنه لم يكن من أهل العلوم الاعتبارية الصناعية
كالأصول.
فما ذهب إليه الجلال في تفسيره من التأكيد (4)، وتبعه الصبان

1 - الكافي 2: 384 / 20 فيه " سبقت رحمتك غضبك "، علم اليقين 1: 57، في دعاء
الجوشن الكبير: الفقرة 20 " يامن سبقت رحمته غضبه ".
2 - تفسير المنار 1: 47.
3 - القمر (54): 17.
4 - انظر تفسير الجلالين: 2، ذيل الفاتحة: 3.
209

وغيره، لا يرد بهذا، وبما في تفسير ابن حيان وغيره من: أن من ذهب إلى أنهما
بمعنى واحد وليسا توكيدا، أراد إثبات اختصاص كل واحد منهما بشئ، مثل
اختصاص الأول بالرحمة الدنيوية والثاني بالأخروية (1)، ضرورة أن هذا
يستلزم المجازية، بل الغلط، فإن ما هو الموضوع له إن كان واحدا
واستعمل في غيره، فهو من المجاز والغلط، فإذا استعملا في معناهما فيحصل
التأكيد قهرا وطبعا.
فبالجملة: إذا التزمنا بأن معنى الرحمن والرحيم واحد، ولا تفاوت
بينهما مادة وهيئة، فالاختلاف في الأمور الأخر لا يقتضي الخروج عن
التأكيد، بل لو كان الكلمة الثانية أعم من الأولى أو أخص، يقع التأكيد
بالنسبة إلى الحدود المشتركة، فلو فرضنا أن الرحيم خاص
بالمؤمنين أو بالإنسان، والرحمن عام لجميع مراتب الوجود، حتى نقيضه
وهو العدم، يحصل التأكيد في الجملة، فليتأمل.
والذي يتوجه عليه: أن وحدة المعنى غير ثابتة، إما لأجل أن الرحمن
لقب عبراني، أو هو مشتق من الرحم، أو اعتبر علما واسما بالغلبة. وقد
استقرب الاحتمال الثاني والثالث، فيسقط احتمال التأكيد بالمرة.
وربما يستظهر: أن الرحمن الرحيم كندمان ونديم لكثرة الاستعمال
معا في الكتاب العزيز صارا لفظة واحدة مفيدة لمعنى واحد بكيفية واحدة
مع شمول واحد، ومع كل شئ بلا تجاف وبلا قصور (2).

1 - البحر المحيط 1: 17.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 105، البحر المحيط 1: 16.
210

وأنت خبير بما فيه، ولا يوجد هذا الاحتمال في كتاب أحد. نعم قال
الجوهري: " هما اسمان مشتقان من الرحمة، ونظيرهما ندمان ونديم، وهما
بمعنى واحد، ويجوز تكرار الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد،
كما يقال: جاد مجد " (1). انتهى.
وهذا هو ما سبق، وقوله: جاد مجد، محذوف عاطفه، ويكون الثاني
وصف المنعوت لا النعت، وفي الرحيم - أيضا - كذلك، كما مر، وأما تأييد
وحدة المعنى بذلك فهو في محله، ولكنه لا يثبت حسب الصناعة، كما
لا يخفى.
ومما ذكرناه في السابق من أن " الرحمن " هو عطف بيان للاسم، سواء
كان علما أو صفة، يظهر: أن التوكيد غير صحيح هنا، ومن الممكن توهم
كون " الرحمن " وصف الاسم، و " الرحيم " وصف الله، فلا يلزم التكرار
المستلزم للتأكيد. وحيث اخترنا أن الرحمن هو المستعان به، أو هو
بالحمل الشائع يبتدأ به، وعطف تفسيري للاسم، يكون الرحيم وصف
الرحمن من غير تأكيد، لكونه نعت النعت، لا نعت المنعوت، وقد تقرر: أن
التأكيد متقدم، يكون الثاني نعت المنعوت لا النعت، فلا تخلط.
المسألة الثانية
الصنعة الكلامية في تقديم " الرحمن " على " الرحيم "
بناء على اختلافهما في المفاد، فإن كانا مختلفين في ذلك بحسب

1 - الصحاح 5: 1929.
211

المادة، فلا يحتاج التقديم والتأخير إلى اللطيفة الكلامية، لأن كل ذلك
يحتاج إلى المرجع، كما هو الظاهر وإن يمكن أن يقال: بأن " الرحمن " من
الرحم صفة مشبهة، وهي من اللوازم الذاتية وإن لم تكن عين الذات إلا
في جنابه تعالى ولذلك قدم على " الرحيم "، لكونه بمعنى الراحم صفة
فعل، أو بمعنى الرقيق، وهو صفة ادعائية لا واقعية، لكونه ملازما لنواقص
المادة.
وإن كانا مختلفين بحسب الهيئة في المفاد، فإما يكونان صفة
مشبهة، أو صيغة مبالغة، أو الأولى صفة مشبهة والثانية صيغة
مبالغة، أو الثانية بمعنى الفاعل، فإن كل ذلك صحيح ومساعد للاعتبار، إلا
أن يتوهم أن الأولى صيغة مبالغة والثانية صفة الفعل.
وحيث عرفت منا: أن " الرحمن " صفة مشبهة واقعية أو ادعائية
فلابد من تقدمه على الرحيم الذي هو بمعنى الفاعل محذوف المتعلق،
أي: باسم الله الذي هو الرحمن الملازم رحمته لذاته، والرحيم الذي
يترشح رحمته إلى غيره، ويكون بالناس وبالمؤمنين رؤوفا رحيما، كما
ورد في الكتاب العزيز (1).
وقد يتوهم: أن " الرحمن " تدل على أصل الصفة، و " الرحيم " على
استمرارها، أو هو على اشتدادها كيفا، و " الرحيم " على تعددها كما.
ولكنه فاسد، لأن الهيئة لم توضع إلا للمبالغة - في الكيف كان أو
في الكم - أو للصفة المشبهة، وليس هذا التفصيل إلا من باب ضم الذوق

1 - البقرة (2): 143، النحل (16): 7، الحج (22): 65، الحديد (57): 9.
212

التخيلي إلى اللغة والوضع، وهو غير صحيح.
أو يتخيل: أن الرحمة الرحمانية ذاتية والرحمة الرحيمية
فعلية، فإن ذلك ليس بحسب اللغة والواقع، فإن الرحمة في الكل معنى
واحد، وإن كانت صفة الذات فهما من أسماء الذات، وإلا فهما من أسماء
الأفعال. نعم يتم ذلك على الوجه الذي مر، وهو الادعاء، فليس هذا وجها
آخر للتقديم والتأخير.
وهنا وجه آخر سيأتي تفصيله، وإجماله: أن " الرحمن " صفة ذاتية
عامة، و " الرحيم " وصف فعلي خاص، فيذكر الخاص بعد العام، كما في
قوله تعالى: * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) * (1).

1 - الرحمن (55): 68.
213

التجويد والقراءة
وفيها مسائل:
المسألة الأولى
حول إظهار همزتهما
هل يجوز الوقف وإظهار همزة " الرحمن "، أو الوقف عليه وإظهار
همزة " الرحيم " أم لا؟
ظاهرهم الجواز، لأنه من الوقف الكافي، وقد مر البحث حوله
عند الكلام عن قراءة * (بسم الله) *، وربما يشير الوقف على الموصوف
والوصف الأول والوصف الثاني إلى اختلاف نظام الجملة، ويصير
الكلام أحيانا غلطا، أو غير بليغ وفصيح، وخارجا عن المتعارف، فإنه في
هذه الصورة لا يجوز البدار إليه، فتأمل جدا.
214

المسألة الثانية
في إدغام لام التعريف في الراء
لا خلاف بين القراء في لزوم إدغام لام التعريف في اللام، وهذا -
على ما قيل - في ثلاثة عشر حرفا: الصاد والضاد والسين والشين
والطاء والظاء والدال والذال والراء والزاء والتاء والثاء والنون، ولا
خلاف بينهم في عدم جواز ذلك في سائر الحروف.
وأما ما قاله الفخر من الامتناع (1) فهو باطل، وما قاله - أيضا - من:
أن العلة الموجبة لجواز هذا الإدغام قرب المخرج، والموجبة للامتناع
في هذا بعد المخرج، في غير محله، كما يظهر بالتأمل. بل العلة كيفية
تقاطع المقفويين عند إخراج الهواء وإيجاد الكلمات، فإنه في بعض منها
يستحسن الإدغام ويسهل دون بعض.
ثم إن ممنوعية ذلك - أي الإظهار - غير مبرهنة، فليتدبر.
المسألة الثالثة
في إمالة لفظ " الرحمن "
أجمعوا على أنه لا يمال لفظ " الرحمن "، وعن سيبويه جواز
إمالته (2). وقيل: علة الجواز انكسار النون بعد الألف.

1 - التفسير الكبير 1: 105.
2 - التفسير الكبير 1: 105.
215

المسألة الرابعة
في اتصال البسملة بما بعدها
قال في " الفتوحات ": إذا قرأت فاتحة الكتاب فصل بسملتها معها في
نفس واحد من غير قطع.
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حالفا عن جبرائيل، حالفا عن ميكائيل، حالفا عن
إسرافيل، قال الله تعالى: " يا إسرافيل بعزتي وجلالي وجودي وكرمي، من قرأ
* (بسم الله الرحمن الرحيم) * متصلة بفاتحة الكتاب مرة واحدة، فاشهدوا
علي أني قد غفرت له، وقبلت منه الحسنات، وتجاوزت له عن السيئات، ولا
أحرق لسانه بالنار، وأجيره من عذاب القبر وعذاب النار وعذاب يوم القيامة
والفزع الأكبر " (1). انتهى.
وفي دلالته على ما تخيله إشكال، فإن من المحتمل قويا كون
الرواية ناظرة إلى قراءة البسملة مع السورة، خلافا لما عن جماعة من
العامة يتركونها، وقد سرقوا أعظم آية من الكتاب، كما مر تفصيله.
وقوله: " مرة واحدة " ناظر إلى أن تكراره حسن، ولكن لا يترك بالمرة.
وعلى تقدير دلالته عليه فالاتصال بالوجهين: أحدهما حذف همزة
الحمد، وثانيهما إظهارها، بل لا يبعد جواز إظهارها مع إظهار إعراب الرحيم،
لأن نوع ما قالوه في علم التجويد غير راجع إلى محصل، ولا يمكن

1 - لم نقف على موضعه في الفتوحات بعجالة.
216

الاستدلال عليه.
وأما ما روي عن أم سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الرحيم الحمد يسكن
الميم ويقف عليها، ويبتدأ بألف مقطوعة " (1)، فهو يؤيد ما أضمرناه، وبه قرأ
قوم من الكوفيين.
فما عن قراءة المشهور من حذف الألف وخفض الميم، غير واجب.
ومن العجب ما حكي عن الكسائي عن بعض العرب: أنها تقرأ
" الرحيم الحمد " بفتح الميم وصلة الألف، وكأنه سكنت الميم وقطعت
الألف، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت (2).
وعن ابن عطية: ولم ترو هذه قراءة عن أحد فيما علمت. وهذا نظر
يحيى بن زيد في قوله تعالى: * (ألم * الله) * (3) (4).
المسألة الخامسة
في إعراب " الرحمن "
هل يجوز قراءة " الرحمن " بالرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أو
مفعولا لفعل محذوف أم لا؟
فيه وجهان: من عدم الدليل على وجوب الاقتصار على ما يقرؤه

1 - المستدرك، الحاكم النيسابوري 2: 231 - 232 / 5 و 6، الجامع لأحكام القرآن 1:
107.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 107، البحر المحيط 1: 18.
3 - آل عمران (3): 1 و 2.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 107.
217

الناس، ولصدق القراءة والقرآن عليه. ومن أن السيرة الالتزامية ناهضة
على الاقتصار مع قيام الدليل الخاص على لزوم الاقتصار على قراءة الناس،
فقد ورد: " إقرؤوا كما يقرأ الناس " (1).
فمجرد إمكان تصحيح الجملة بالتقدير والحذف لا يكفي، بل لابد
من كونها صحيحة حسب القواعد الأولية وإلا فقلما يتفق أن لا يتمكن نحوي
من تصحيح كلام ملحون.
فبالجملة: إذا كان الكلام خارجا عن حد المتعارف بحيث يعد ملحونا
عند العامة، فالاجتزاء به مشكل جدا.

1 - الكافي 2: 462 / 23، وسائل الشيعة 4: 821 كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة،
الباب 74، الحديث 1.
218

الفقه
هنا مسائل:
المسألة الأولى
حول مس " الرحمن "
في جواز مس " الرحمن " وعدمه قولان (1) أو احتمالان، ربما ينشئان
من أنه الاسم والعلم الشخصي وعدمه. فمن قال: هو العلم الشخصي،
فلا يجوز ذلك، سواء قصد حين الكتب معناه أم لم يقصد، لأنه بعدم القصد
لا يخرج عن العلمية والاسمية إلا إذا كانت علما للآخر، وهو غير معهود في
هذه العصور.
ومن قال: بأنه وصف ونعت، فلا يجوز حين ما قصد به الله تعالى، وإلا
فهو كغيره من الأسماء والصفات.
والمسألة من هذه الجهة تطلب من محلها لخروجها عما يرتبط
بالتفسير وبالكتاب العزيز.

1 - لاحظ جواهر الكلام 3: 48.
219

وبالجملة: حيث قد عرفت منا أن " الرحمن " صارت علما بالغلبة، أو
كانت علما بالعبري وصارت معربا في العربي، فلا يجوز مسها بناء على عدم
جواز مس اسم الله، على ما عرفت سابقا تفصيل البحث في مسائل * (بسم
الله) *، ف‍ " الرحمن " و " الله " مشتركان في هذه الجهة.
وأما " الرحمن " في البسملة، فإن قلنا بأنه علم ولقب فلا يجوز مسه
من ناحيتين: إحداهما لأجل أنه مس اسم الله، ثانيهما لأجل أنه مس
الكتاب والمصحف.
وإن قلنا بأنه نعت فعدم الجواز ينحصر بالثاني.
وغير خفي: أن مقتضى ما تحرر منا في السابق أن ما هو المنهي عنه
على الجنب هو مس اسم الله، وحيث تكون إضافة الاسم إليه تعالى
معنوية، فلا يشمل هذا المضاف نفس المضاف إليه، للزوم كونها إضافة
بيانية، فلابد من استفادة الحكم في خصوص كلمة " الله " من طريق
الأولوية، وإن شئت جعلتها إضافة بيانية، فحينئذ يشكل تحريم مس سائر
الأسماء الشخصية والصفات الاختصاصية.
والإنصاف: أن الأدلة اللفظية قاصرة عن إثبات تحريم المس على
الجنب والمحدث بالأصغر والحائض لاضطراب أدلته كما مر تفصيله،
وحيث إن المسألة ما كانت معنونة قبل الشيخين، فلا إجماع مفيد فيها.
وتوهم تحريمه من باب الهتك فاسد كبرويا وصغرويا.
220

المسألة الثانية
حكم تسمية الغير ب‍ " الرحمن "
في جواز أن يسمى به غير الله تعالى وعدمه وجهان: من عدم الدليل
الخاص على التحريم، ومن استنكار المسلمين ذلك وامتناعهم عنه، مع ما
ورد عن " أمالي الصدوق (رحمه الله) " عن الصادق (عليه السلام): " الرحمن اسم خاص بصفة
عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة " (1).
وفي " تاج العروس " قال أبو الحسن: ولا يجوز أن يقال: " رحمن " إلا
لله عز وجل (2). وفيه أيضا قال الجوهري: إلا أن " الرحمن " اسم مخصص
بالله لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا ترى أنه قال: * (قل ادعوا الله أو ادعوا
الرحمن) *، فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره، وكان مسيلمة
الكذاب يقال له: رحمان اليمامة (3). انتهى. وغير خفي ما في استدلاله.
ونظيره في الضعف ما مر من قوله تعالى: * (هل تعلم له سميا) * (4)،
فإنه لو سلمنا أن يكون المراد منه هو الشريك في الاسم، ولكنه لا يدل
على الممنوعية الشرعية. وتوهم الممنوعية لأجل أنه دخول في سلطان

1 - لم يوجد في الأمالي بل الحديث مذكور في المصباح، الكفعمي: 317، ومجمع
البيان 1: 21.
2 - تاج العروس 8: 307.
3 - الصحاح 5: 1929.
4 - مريم (19): 65.
221

الرب، وهو هتك، في غير محله.
نعم لا يبعد ظهور حديث " الأمالي " (1) في أن الخصوصية مفروغ عنها
في كلامه (عليه السلام)، ويكون ناظرا إلى ممنوعية الاشتراك في الاسم، وإلا فبحسب
التكوين يمكن ذلك، فلا تكون الجملة إخبارية حتى يلزم الكذب - نعوذ
بالله - إذا سمي به غيره، بل هي جملة إنشائية أو في حكم الإنشاء، ومن
الممكن دعوى أنها إخبارية، ومجرد إمكان التسمية لا يستلزم كذب
المفاد، فلا يتفق بعد ذلك كما لم يتفق إلى الآن. هذا، مع أن الرواية غير
ظاهر السند، فراجع.
ثم اعلم أن هذه المسألة ليست معنونة بالفقه، إلا أن بعضا من
المفسرين كالقرطبي (2) نسبها إلى أكثر العلماء، ومنعوا جواز تسمية غيره
به، معللا بقوله تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * (3) وبقوله
تعالى: * (وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة
يعبدون) * (4).
ولا يخفى سخافة الاستدلال، فإنهما دليلان على أنه علم شخصي له
تعالى مثلا، وأين هذا من ممنوعية تسمية الغير به؟!

1 - مر الحديث وهو من " المصباح " للكفعمي.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 106.
3 - الإسراء (17): 110.
4 - الزخرف (43): 45.
222

المسألة الثالثة
حكم كتابة " الرحمن " بالألف
قد مضى تحقيق أن كلمة " الرحمن " كانت تكتب بدون ألف، وهذا
الأمر كان من ابتداء نزول البسملة، فإن في جميع المخطوطات المطبوعة
- من الكتاب والسنة وبعض المناشير - كتبت بدونه، ولعل ذلك كان لأجل
إيجاد الميز بين اسم الله وغيره كما مر، فبناء على هذا هل يجوز تغير ذلك
فيكتب بالألف، لأنه الصحيح، ضرورة أن المكتوب لابد وأن يطابق
الملفوظ أم لا يجوز شرعا، بل لابد من المحافظة على الغلط المزبور، كما
كانوا يواظبون عليه ومصرين عليه؟ وجهان.
وغير خفي: أن الأغلاط الكتبية المخالفة لقواعد الرسم والخط،
كثيرة في الكتاب العزيز، كما فصلناه سابقا، وننبه عليه تحت كل كلمة
تأتي بإذن الله إن شاء الله تعالى.
لا شبهة في أن شبهة الوجوب منتفية، لما علم من السيرة جواز
كتابتها بالألف، فلو قلنا بوجوب تصحيح الأغلاط الإملائية أو الكتبية في
الكتاب العزيز، فلا سبيل إلى إيجابه هنا في خصوص الرحمن.
وربما يشكل كونه غلطا: بأن مثل إبراهيم وإسماعيل يكتبان على نحوين،
فيكون هذا مثله.
ولكنه مدفوع: بأن إسماعيل وإبراهيم يقرآن بدون الألف في العبراني،
فلا تلزم الغلطية بخلاف " الرحمن ". نعم لو قلنا بأن " الرحمن " أصله
223

" الرخمن " كما مضى شرحه، و " الرخمن " يقرأ بدون الألف، فشابه
المنقول إليه المنقول عنه في الكتابة فهو، وإلا فلا يتم القياس.
ومن الممكن دعوى: أن " الرحمن " في الكتاب العزيز استعمل علما
نوعا، وللإيماء إلى العدول من الوصفية إلى العلمية كتبت بدون الألف.
والله العالم.
والذي هو التحقيق في هذا الفرع الفقهي: لزوم المحافظة على
المكتوب الأولي، حذرا عن وقوع سائر التصرفات في الكتاب من أنواع
التحريف وغيره، ولعل الكاتب من الأول كتب غلطا فاستحفظ عليه، إرشادا
إلى التزام الأمة الإسلامية على هذه الشدة من الحفظ عن التصرفات
حتى اليسيرة، فتبصر.
224

الحكمة والفلسفة
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى
في اتصافه تعالى بالرحمة
اعلم أن المقرر في محله: أنه تعالى صرف الوجود، والمحرر في
مقامه أن صرف الوجود (1) صرف كل كمال وجمال، ولا يكون لسائر
الكمالات أصل آخر وراء أصل الوجود، وجميع الأسماء والصفات
الكمالية في جميع النشآت يرجع إلى ذلك الجامع الشامخ، وإلا يلزم
التركيب من الوجود والعدم الذي هو شر التراكيب، ويلزم النقصان
وإمكان الاستكمال وتصوير الأتم، الذي كل واحد منها يكفي برهانا على هذا
الرأي الساطع والفكر الثاقب، ولا نحتاج إلى إطالة الكلام في المقام
بذكر البراهين تفصيلا.
فبالجملة: كل شئ ثبت أنه كمال الوجود بما هو الوجود، هو ثابت

1 - انظر الأسفار 2: 368 - 372، و 6: 100 - 118.
225

له تعالى بنحو الأعلى والأشرف، فهو صرف النور والعلم والقدرة
والحياة... وهكذا، ومن ذلك الرحمة فإنه تعالى صرف الرحمة
والرأفة، لأن الرحمة هي الوجود، لا الأمر الآخر، لأنها هي التي وسعت
كل شئ حتى نقيضه، وهل يعقل أن تكون رحمته واسعة كل شئ،
ولا يكون هو تعالى موصوفا بها؟! فهل يمكن للعقل ترخيص ذلك، فيعطي كل
شئ رحمة، وهو لا يكون موصوفا به؟!
فإذا كان هو تعالى كذلك، وكان معنى الرحمة هو الوجود، فهو
تعالى نفس الرحمة، لأنه تعالى نفس الوجود وصرف التحقق
والواقعية، ولا نبالي بأن نقول:
إن مفهوم الرحمة غير مفهوم الوجود في عالم المفهومية كالقدرة
والعلم، لكنهما متساوقان في حقه تعالى، أي لا يصدق أحدهما إلا ويصدق
الآخر، وإن كان وجه الصدق مختلفا بحسب الاعتبار.
ومن هنا تندفع شبهة وهمية في المقام: وهي أنه كيف يمكن توصيفه
تعالى بها، بأن يكون ذلك صفة ذاتية له، لا بأن يكون الرحمة صادرة
عنه، فإنه يمكن توصيفه بها لأجل صدورها منه، كما يقال لزيد: إنه تأمر
لابن باعتبار التمر واللبن، كذلك هو " الرحمن والرحيم " باعتبار صدور
الرحمة منه تعالى، لا باعتبار ذاتية الرحمة له تعالى وعينيتها معه في
الذات كسائر الصفات الذاتية.
وجه الاندفاع: أن الرحمة بمعنى الغفران غير الرحمة الواسعة
كل شئ، فإنها ليست هي الغفران، وما لا يمكن هو الأول دون الثاني، لأن
الرحمة الواسعة كل شئ، لا يتصور لها معنى إلا ما هو قوام كل شئ وما
226

به يخرج الأشياء من العدم، فإذا كانت تلك الرحمة تسع كل شئ، فهو
تعالى مخزن هذه الرحمة الواسعة، ومعدن تلك النعمة الوازعة، وهو
الوجود، وما يشابه ذلك من العناوين الأخر الحاكية عن تلك الواقعية.
إن قلت: الرحمة هي رقة القلب أو الغفران وما شابه ذلك، وأين
هذا من ذاك؟!
قلت: نعم، إلا أن المقرر في السابق هو أن هذه الألفاظ القاصرة
بحسب الدلالة، كافية لإفادة المعاني الراقية الألوهية على الكناية
والتوسع، فإذا قيل: " وبرحمتك التي وسعت كل شئ " (1) ينتقل المخاطب
والسامع إلى أن رأفته ورقته وغفرانه وسع كل شئ، إلا أن رأفة كل
شئ بحسبه وعلى الوجه المناسب معه، فهو تعالى إذا قيل: غافر كل
شئ، فلابد وأن يراد من الغفران هو التجاوز عن السيئة، ويراد من
السيئة خطيئة العدم، فإنه من الخطيئات أيضا.
فبالجملة: فهم ذلك من ذاك موكول إلى عقول البشر، وكيفية إدراكهم
للحقائق ما يليق بحضرته الربوبية، من غير لزوم كون الاستعمالات حقيقة،
كما عرفت تفصيله، ومن غير الالتزام بأنه تعالى لا يوصف بذلك ولا بما هو
المكنى عنه، بل هو تعالى يوصف بالرحمة التي لازم رقة القلب في
الخلق، من غير نظر إلى إثبات الرقة له تعالى، حتى يكون من الأوصاف
الانفعالية الناقصة التي يتنزه عنها هو تعالى وتقدس، فلا تخلط وكن على
بصيرة من أمرك.

1 - دعاء كميل بن زياد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انظر مصباح المتهجد: 744.
227

فما تخيله الوالد المحقق - مد ظله - من المقالة الأولى (1)، وما
توهمه صدر المتألهين في " شرح أصول الكافي " من: " أنه تعالى إذا
وصف بالرحمة والرأفة، كان اتصافه بهما على وجه أعلى وأشرف، وكان
باعتبار المظاهر والآثار، وكذا نسبة الغضب إليه تعالى باعتبار ما يصدر
عنه في حقه تعالى " (2) انتهى. كلاهما في غير محله. نعم ربما يستظهر من
قوله: " على وجه أعلى وأشرف " ما أردنا إثباته لولا تذييله بقوله:
" وكان... "، والأمر بعد ذلك سهل.
المسألة الثانية
رجوع أقسام الرحمة إلى القوابل
قضية القواعد الحكمية والبراهين القطعية: أن الله تعالى هو
المفيض على الإطلاق، وفيضه مطلق، ولا خصوصية من ناحية الفاعل في
التحديد والتضييق، ضرورة أن منع الفيض بالنسبة إلى طائفة من
الماهيات في الوجود، كمنعه بالنسبة إلى الأخرى في كمال الوجود،
فكما أن ذاك غير جائز لرجوعه إلى الجهل أو البخل أو العجز، وتعالى
عنها وتقدس، كذلك هذا أيضا غير صحيح. فالخصوصيات المانعة عن تجلي
الفيوضات الإلهية ناشئة من قبل القوابل والمادة وتبعاتهما، فهو تعالى
رحمن ورحيم، ولا خصوصية لرحمته الرحمانية ولا الرحيمية من تلك

1 - آداب الصلاة، الإمام الخميني (قدس سره): 248 - 251.
2 - شرح أصول الكافي، صدر المتألهين: 289.
228

الناحية المقدسة.
نعم تحصل الخصوصية في ناحية القوابل، فتمنع عن قبول الرحمة
التي نعبر عنها بكمال الوجود كمالا ثانيا وثالثا، وهكذا إلى أن يصل
الموجود في قوس الصعود إلى أرقى الكمالات الإمكانية، حتى تصل
إلى مقام لا يبقى معه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صديق ولا شهيد، وتلتحق
عينه الثابتة بالحضرة الإلهية، ويكون باقيا في السفر الرابع ببقاء الله،
بعد الفناء في الله تبارك وتعالى وتقدس.
فعلى ما تقرر عندنا - في كتابنا الموسوم ب‍ " القواعد الحكمية " -
لا يتم ما اشتهر من تقسيم الرحمة إلى الأقسام، على وجه يتبادر منه أن
تلك القسمة حصلت من ناحية الفياض على الإطلاق.
وأما ما في بعض رواياتنا فسيأتي تحصيلها في محله إن شاء الله.
وغير خفي: أن هذه المسألة لا تنافي كون القوابل متعددة بفيضه
الأقدس، كما اشتهر: أن القوابل تتقدر بفيضه الأقدس، وتظهر بفيضه
المقدس، لأن الأول بالقياس إلى الثاني كالموضوع بالقياس إلى
الحكم والموضوع، لا يكون محدد الحكم، بل هو شخصه، فافهم واغتنم.
229

علم الأسماء والعرفان
اعلم أن الرحمة تنقسم باعتبار إلى الرحمة الذاتية والفعلية،
وباعتبار آخر إلى الرحمة العامة والخاصة. واشتهر أن الرحمة
الرحمانية ذاتية عامة، والرحمة الرحيمية فعلية خاصة، وهذه
الرحمة رشحة من رشحات تلك الرحمة الذاتية العامة، وهذه
القسمة - كما عرفت - تكون من ناحية ملاحظة القوابل واختلافها في
الكمالات، فما هو الكمال المشترك فيه جميع الأشياء هي الرحمة
العامة الناشئة عن ذاته تعالى، وأنه تعالى يوصف بمثلها، لأنه منبع كل
شرف ووجود، وما هو المشترك فيه طائفة من الأشياء - كالإنسان مثلا - هي
الرحمة الخاصة الفعلية لحصول ذلك الكمال من ظهوره تعالى على
الظهور الأول، وتكون تلك الرحمة بالنسبة إلى الأشياء الاخر أخص
وأخص الخواص، حتى تنحصر في مظهر خاص، وهو النبي الأعظم الأكرم،
فيكون وجوده مجمع الظهورات الكثيرة الغير المتناهية بالقوة.
230

با صد هزار جلوه برون آمدى كه من * با صد هزار ديده تماشا كنم تورا (1)
فعلى ما تقرر: يكون " الرحمن " و " الرحيم " من الأسماء الإلهية
الذاتية ومن أمهات الأسماء، لانطواء نوع الأسماء الجمالية في هذا الاسم
العظيم، وقد حكي عن ابن العربي: أن اسم الله الأعظم هو الرحمن (2)،
ولكنه محمول على إرادته من الأعظم النبي، وإلا فهو خلاف ما هو المقرر
في علم الأسماء.
وهكذا ما في مقدمات " الفصوص " من: أن الاسم الجامع هو الله
والرحمن، فإن الاسم الأعظم ما هو يستوي فيه جميع الكمالات، ولا يتمايل
إلى وجهة خاصة من الجمال أو الجلال، ويعتدل فيه القوى، ولا يكون
تحت اسم آخر، وهو في الألفاظ كلمة " الله "، وفي المسميات التي هي
الأسماء حقيقة الحقيقة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه أعرب الأشياء عنه تعالى،
كما لا يخفى.
وقد مضى فيما سبق: أن الوجود حقيقة إذا اخذت بشرط كليات الأشياء
فقط، فهي مرتبة الاسم " الرحمن " ورب العقل الأول، المسمى بلوح
القضاء وأم الكتاب والقلم الأعلى، وإذا اخذت بشرط أن يكون الكليات

1 - البيت للفروغي البسطامي ومطلعه:
كي رفته أي ز دل كه تمنا كنم تو را * كي بوده أي نهفته كه پيدا كنم تو را
2 - لم نقف عليه في كتب ابن العربي بل الموجود أن الاسم الأعظم هو الله، لكن انظر
تفسير القرآن الكريم، ابن العربي 1: 7، فلعله منشأ الخطأ في النسبة.
231

فيها جزئيات مفصلة ثابتة، من غير احتجابها عن كلياتها، فهي مرتبة الاسم
" الرحيم " رب النفس الكلية، المسماة بلوح القدر، وهو اللوح
المحفوظ والكتاب المبين.
وجعل بعض الأعيان المرتبة الإلهية هي بعينها مرتبة العقل الأول،
باعتبار جامعية الاسم " الرحمن " لجميع الأسماء، كجامعية الاسم " الله " لها.
هذا وإن كان له وجه من حق، لكن كون الرحمن تحت إحاطة اسم
الله يقضي بتغاير المرتبتين، ولولا وجه المغايرة بينهما ما كان تابعا للاسم
" الله " في * (بسم الله الرحمن الرحيم) *، فافهم.
وسيأتي عند قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء) * (1) ما هو حقيقة تلك
الأسماء، وما هي التقاسيم الواردة عليها في الكتب الاصطلاحية.
ومما يشهد لما ذكرناه قولهم في ديباجة " الفصوص ": " إن العرش
مظهر الرحمن ومستواه، والكرسي مظهر الرحيم " (2) انتهى.
إن قلت: فما رأيكم بالنسبة إلى المآثير المتضمنة لانقسام
الرحمة إلى العموم والخصوص، وقد رواها وأخرجها علي بن إبراهيم
بأسناد مختلفة، وفيها الصحيح عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وقد مضى
صدره، وفي ذيله: " والرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة " (3).
وأخرج الكليني عن عبد الله بن سنان، قال: " سألت أبا عبد الله... - إلى

1 - البقرة (2): 31.
2 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 14.
3 - تفسير القمي 1: 28.
232

أن قال -: والرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة " (1).
وعن " الأمالي " عن الصادق (عليه السلام): " الرحمن اسم خاص بصفة عامة،
والرحيم اسم عام بصفة خاصة " (2).
قلت: أولا: قضية الكتاب العزيز شمول رحمته الرحيمية للناس،
قال الله تعالى: * (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * (3) * (ويعذب المنافقين إن
شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما) * (4).
فربما يشكل الجمع بين الكتاب والسنة، فيقدم الأول على الثاني.
ولكنه ممنوع:
أولا: بأن من المحتمل إرادة اختصاص الرحيم في البسملة
بالمؤمنين، أي كان المحذوف كلمة " بالمؤمنين "، أي رحيم بالمؤمنين.
وثانيا: إذا كانت الرحمة متفاوتة، فما في الكتاب هي الرحمة
المتوسطة، وما في البسملة هي الخاصة، فلا تهافت.
وثانيا: لا تدل هذه الأخبار على أن الخصوصية جاءت من قبل العلة
والفاعل، فهو تعالى رحيم بالمؤمنين، ومفيض لكمال وجودهم، إلا أن
الجهة التي تورث ذلك، وتقتضي انسحاب تلك الرحمة، هي القابلية
الخاصة في المرحوم، فإذا كان الإمكان الاستعدادي حاصلا في موجود،
فيخرج من القوة إلى كمال الوجود، ويسير إلى الكمالات الثانوية،

1 - الكافي 1: 89 / 1.
2 - قد مر عدم كونه من الأمالي، انظر مجمع البيان 1: 21.
3 - البقرة (2): 143.
4 - الأحزاب (33): 24.
233

وهذا هو الإيمان.
فالصور المفاضة من الحي القيوم، لا تنطبع على المواد الخالية
عن الكمالات السابقة، التي تحصل من الاستعدادات الخاصة، بل هي تنطبع
في المواد المتصورة بصورة كمالية، فتلك الصور تختص بتلك المواد
وتكون خاصة بهم لأجل الخصوصية في المحل، فافهم وتأمل جيدا.
وثالثا: قضية بعض الأدعية اختصاص " الرحمن " بالدنيا،
و " الرحيم " بالآخرة، فيحصل التنافي بينهما لا العموم والخصوص، بل
قضية بعض الأدعية المأثورة عن " الصحيفة السجادية " (1)، وعن
" مستدرك " الحاكم (2): " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما " فلا يختص بطائفة
دون طائفة.
والذي هو الحق: أن الرحمة الرحمانية لما كانت غير مضافة إلى
المفعول به نوعا، تكون عامة، لا لأجل ما اشتهر عنهم من: أن حذف
المتعلق دليل العموم، فإنه واضح الفساد هنا، ضرورة أن ذلك في موقف
يمكن ويصح الإتيان بالمتعلق، فيترك لإفادة العموم، لا في مثل هذه الكلمة
التي لم يعهد استعماله مع المتعلق. والعجب من غفلة أبناء التفسير،
والتمسك بذلك لإفادة العموم.
بل لأجل أنها صفة ذاتية على الوجه الذي مضى تحقيقه،
والرحمة الرحيمية تتعلق بالغير، فتارة يذكر الغير، فيكون مخصوصا

1 - الصحيفة السجادية: دعاء 54.
2 - المستدرك، الحاكم النيسابوري 1: 515.
234

به، وأخرى لا يذكر، فيكون حذف المتعلق دليل العموم، فيصح أن يقال:
رحيم بالإنسان، أو رحيم بالمؤمن، أو رحيم على الإطلاق... وهكذا، ولأجل
ذلك اختلفت التعابير، واجتمعت في المعنى والحقيقة.
ومما ذكرناه يظهر مواقع الخلل في كلمات القوم في هذه المواقف،
ولا حاجة لنا إلى ذكرها، ولكن لا بأس بالإشارة الإجمالية إلى بعض ما
قيل في المقام، ويظهر ضعفه من غير لزوم التأمل التام:
وهو أن الرحمة الرحمانية لا تختص بشئ دون شئ وبحال دون
حال، بخلاف الرحيمية فإنها تختص بالإنسان ومن كان مثله سالكا إلى
الرحمن، وبحال كونه على رضاه ومن جهة كونه على رضاه. وأما غير
الإنسان فإن العناصر والمواليد لا توصف بالرحمة الرحيمية، ولا
بالغضب الذي هو ضدها، والأرواح البالية توصف بهما، ولا تمايز بينهما
هناك، والأرواح الخبيثة قد يجوز أن تشملهم الرحمة الرحيمية، إلا أن
الأغلب شمول الغضب إياهم، وذلك لأن الرحمانية عبارة عن إفاضة
الوجود على الأشياء وإبقائها، وإكمالها بالكمالات اللائقة بفطرتها. وهذا
عام لجميع الأشياء، ولذلك ورد أن * (الرحمن على العرش استوى) * (1)،
وفسروه باستواء نسبته إلى الجليل والحقير (2)، وورد: " يا رحمن الدنيا
والآخرة " (3).

1 - طه (20): 5.
2 - بحار الأنوار 95: 75، كتاب أعمال السنين والشهور والأيام، الباب 5.
3 - الصحيفة السجادية، دعاء 54.
235

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أن الرحمن الذي يرحم ببسط الرزق علينا،
أو العاطف على خلقه بالرزق، لا يقطع عنهم مواد رزقه وإن انقطعوا عن
طاعته " (1)، ومن المعلوم أن رزق الأعيان الثابتة إفاضة الوجود عليها،
ورزق الموجود إفاضة ما به قوام بقاء وجوده، وأما الرحمة الرحيمية:
فهي عبارة عن إفاضة الكمالات الاختيارية المرضية على المختارين من
الإنس والجن، ولذلك ورد: " أنه الرحيم بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم
طاعاته، وبعباده الكافرين في الرفق في دعائهم إلى موافقته " (2)، فتعلق هذه
الرحمة بالكافرين، إنما هو من جهة بقاء فطرتهم واقتضائها فعلية مرضية
اختيارية من الفعليات المرضية، تقتضي تلك الفعلية الرفق بهم
ودعاءهم إلى الدين والمداراة لهم في الدنيا والنصيحة لهم في أمر
العقبى وفي آخر الخبر المزبور روي عنه (عليه السلام): " أنه الرحيم بنا في أدياننا
ودنيانا وآخرتنا، خفف علينا الدين وجعله سهلا خفيفا، وهو يرحمنا بتمييزنا من
أعدائه " (3)، فالرحيمية بمعنى الرضا مقابل الغضب، كالصورة للرحمة
الرحمانية، وهي مادة للرضا والغضب، فإن الرحمة الرحمانية قد تصير
في بعض الموجودين - وهم المختارون العاصون - غضبا، وفي الآخرين
رضا، وهم المطيعون، وما هو الرحمة السابقة على الغضب هي
الرحمانية إذا كان الغضب ينتهي إلى عدم الإيجاد، أو هي الرحيمية إذا

1 - التوحيد: 232 / 5، تفسير الصافي 1: 19.
2 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 34، تفسير الصافي 1: 19.
3 - التوحيد: 232 / 5، تفسير الصافي 1: 19.
236

كان الغضب ينتهي إلى الكفر والإلحاد، فافهم وكن على بصيرة.
تذنيب وتنبيه: حول كون " الرحمن " و " الرحيم " من أمهات الأسماء
قيل: إن لله تعالى ثلاثة آلاف اسم: ألف عرفها الملائكة لا غير،
وألف عرفها الأنبياء لا غير، وثلاثمائة في التوراة، وثلاثمائة في الإنجيل،
وثلاثمائة في الزبور، وتسعة وتسعون في القرآن، وواحد استأثر الله به،
ثم هذه الثلاثة آلاف في هذه الثلاثة: " الله والرحمن والرحيم " فمن
علمها وذكرها فكأنما ذكر الله بكل أسمائه (1).
وغير خفي: أن قضية هذه الرواية والمقالة أن هذه الثلاثة من
أمهات الأسماء العرضية، وتكون هذه الثلاثة من الأسماء المحيطة،
وتكون الأسماء الاخر في ظلها وتحت تربيتها، وهذا خلاف ما تقرر في علم
الأسماء من أن الأمهات أربعة في لحاظ، وسبعة في لحاظ آخر، والأربعة
هي: " الظاهر والباطن والأول والآخر "، وفي اعتبار أم الأمهات الطولية
والعرضية هو الله تعالى لما كان تحته جميع الكمالات والصفات (2)،
ولذلك اشتهر: أنها موضوعة للذات المستجمعة للكمالات والأوصاف،
ف‍ - " الرحمن والرحيم " ليسا من الأسماء الامهاتية العرضية، بل " الرحيم "
تحت ظل الرحمن من غير كون الظلية والأصلية من الاعتبارات المائية
من قبل العلة الحقيقية وذاته تعالى على الوجه المقرر في السابق.

1 - انظر عوالي اللآلي 4: 106 / 157.
2 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 13 - 14.
237

إشراق وإنارة: حول كونهما من أسماء الذات والصفات والأفعال
اعلم أن الأسماء تنقسم في نوع من الأقسام إلى أسماء الذات
والصفات والأفعال، وإن كان كلها في وجه أسماء الذات، ولكن باعتبار
ظهور الذات فيها تسمى أسماء الذات، وبظهور الصفات فيها تسمى أسماء
الصفات، وبظهور الأفعال فيها تسمى أسماء الفعل (1)، ويأتي في باب الأسماء
المعلمة ب‍ " آدم " تفصيلات حول هذه المسائل.
وبالجملة: قد ذكر الشيخ في تقسيماته: أن " الرحمن " و " الرحيم "
من أسماء الصفات (2)، وعندي أنهما باعتبار من تلك الأسماء وباعتبار من
أسماء الأفعال، فإذا اعتبرت سعة الرحمة إلى أصل الوجود، تكون
الأعيان الثابتة مستجلية بالرحمة الذاتية والفيض الأول الأقدس،
ومتحلية بحلية العلم الإلهي، فهما من أسماء الصفات، وباعتبار ظهور
الأعيان العلمية في الأعيان بالفيض المقدس تكونان من أسماء الأفعال.
وإن شئت قلت: هما باعتبار الفيض الأقدس من أسماء الذات،
وباعتبار الفيض المقدس والوجود المنبسط من أسماء الصفات، وباعتبار
كمال الوجود من أسماء الأفعال، فافهم واغتنم.

1 - المصدر السابق: 14.
2 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 14، مصباح الانس: 113.
238

الأخلاق والآداب والنصيحة
اعلم: أن في رواياتنا رواية تشتمل على أصول الأخلاقيات، فضائلها
ورذائلها، وهي ما رواه الكليني، وأخرجه في جامعه الكبير " الكافي "، عن
عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن سماعة بن
مهران، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، وعنده جماعة من مواليه، فجرى
ذكر العقل والجهل، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " اعرفوا العقل وجنده والجهل
وجنده تهتدوا ". قال سماعة: فقلت: جعلت فداك لا نعرف إلا ما عرفتنا. فقال
أبو عبد الله (عليه السلام): " إن الله خلق العقل، وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين
العرش من نوره، فقال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فأقبل، فقال الله تعالى:
خلقتك خلقا عظيما وكرمتك على جميع خلقي. قال: ثم خلق الجهل من البحر
الأجاج ظلمانيا، فقال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فلم يقبل، فقال له:
استكبرت، فلعنه. ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جندا، فلما رأى الجهل ما أكرم
الله به العقل وما أعطاه، أضمر له العداوة، فقال الجهل: يا رب هذا خلق مثلي
خلقته وكرمته وقويته، وأنا ضده ولا قوة لي به، فأعطني من الجند مثلما
أعطيته. فقال: نعم فإن عصيت بعد ذلك، أخرجتك وجندك من رحمتي. قال: قد
239

رضيت، فأعطاه خمسة وسبعين جندا، فكان مما أعطي العقل من الخمسة
والسبعين الجند الخير هو وزير العقل، وجعل ضده الشر، وهو وزير الجهل... -
إلى أن قال -: والرحمة وضدها الغضب... " (1) الخبر.
وربما يمكن المناقشة في سنده من ناحيتين، إلا أن الظاهر اعتباره
حسب ما تقرر منا في " القواعد الرجالية "، مع أن متانة المتن وكونه في
" الكافي " من المؤيدات على صحة الرواية وصدورها. والله العالم.
ثم اعلم: أن البحث حول الرحمة التي هي من جنود العقل،
والغضب الذي هو من جنود الجهل، يحتاج إلى البسط في الكلام
لا يسعه المقام، ولكن لما كان أساس الكتاب الإلهي لهداية عائلة البشر
إلى الكمالات الأخلاقية والأوصاف الإلهية، فلابد من الإشارة إلى مسائل
ومباحث إجمالية:
اعلم: أن الرحمة والرأفة والعطف من جلوات الأسماء
الجمالية الإلهية، وقد بسطها وأعطاها الله تعالى الحيوان للمحافظة
على الأنواع الحيوانية، والإنسان للمحافظة على النظام الخاص البشري،
وهذه الرحمة من جلوات الرحمة الرحمانية، وتسمى بالرحمة
الرحيمية في وجه، ويشترك فيها سائر الخلائق المجردة البرزخية
والغيبية حفظا لما هو تحت سلطانه. وأنت خبير: بأن هذه الرحمة لو لم
تكن في الحيوان والإنسان، لا يبقى الحيوان والإنسان، ولكانت الحياة
الفردية والاجتماعية فشلة، ولاضمحلت النظامات الاجتماعية.

1 - الكافي 1: 16 / 14.
240

وبالجملة: لا يبقى منها عين ولا أثر. فإن الحيوان لأجل تلك الرحمة
الموجودة في وجوده يتمكن من تربية أولاده، ويتحمل الزحمات
والمضادات الوجودية والمشقات الكثيرة، فبتلك الرأفة والعطف
تنجذب القلوب نحو الأولاد في الحيوان والإنسان، ولأجل هذه المحبة
والعشق الذي هو من تجليات تلك الرحمة، يتهيأ لدفع المزاحمات
الوجودية والأعداء وغير ذلك.
وهذه الرحمة والرأفة هي التي تبعث الأنبياء والروحانيين
والعلماء والزعماء إلى تحمل المشاق وتقبل المصائب في هداية البشر
والإنسان إلى الحقائق، وفي إخراجهم من الظلمات إلى النور.
فبالجملة: هذه البارقة الإلهية - التي وجدت في الحيوان عموما
وفي الإنسان خصوصا - مدار المجتمعات الصغيرة والكبيرة، وأساس
النظامات البلدية والقطرية والمملكتية وغير ذلك.
فإذا كان الإنسان يجد في نفسه تلك الرحمة بالنسبة إلى أفراد
نوعه وعائلته، فكيف برب العالمين الذي هو نفس حقيقة الرحمة؟!
ومن تلك الرحمة خلق الخلائق وهيأ لهم الأسباب للراحة والاستراحة،
وأوجد من تلك البارقة الملكوتية وأودع منها في النفوس الحيوانية
والبشرية، متمنيا أن يصرفها الناس في محالها، وتكون في ظلها هذه
الخلائق في الفرح والعيش.
فهل يجوز لك أن لا تكون رحمانا ورحيما بالخلق، الذي هو إما نظير
241

لك في الدين أو شبيه لك في المخلوقية (1)، وهل يجوز لك أن تبيت ببطنة
وحولك أكباد تحن إلى القد، كلا وحاشا ما هكذا الظن بكم! فكونوا مماثلين
للرسول الأعظم الإلهي، فقد قال الله: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز
عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (2)، وقد وصفه في
الكتاب العزيز بأنه رحمة للعالمين (3).
وغير خفي: أن من تجليات تلك الرحمة الإلهية ما هو في صورة
الغضب والانتقام، وهو في الدنيا كجعل القوانين النظامية السياسية،
ولذلك قال: * (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) * (4)، وفي الآخرة
كجعل النار والميزان لتخليص الأفراد الأراذل من الخبائث والأنجاس
النفسانية، فإنها من قبيل رفقاء السوء وجلساء الذموم في تنفر الطباع
عنها والاشمئزاز منها، وقد مر جملة من البحث حول هذه المسألة، وقد عد
ذلك من الآلاء على احتمال في سورة الرحمن * (يرسل عليكما شواظ من نار
ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (5) ولعل هذا هو معنى قولهم:
" سبقت رحمته غضبه " فإن غضبه من تجليات الرحمة الإطلاقية الذاتية.
فعلى هذا يا عزيزي ويا أيها القارئ الكريم عليك بالجد والاجتهاد في
الاتصاف بهذه الصفة الربوبية بالنسبة إلى جميع الخلائق، ولا سيما

1 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: 590، رسالة 53.
2 - التوبة (9): 128.
3 - الأنبياء (21): 107.
4 - البقرة (2): 179.
5 - الرحمن (55): 35 - 36.
242

المؤمنين، وتدبر في الحضرة الربوبية وما يصنع بالعباد من العطوفة
والرأفة ومن اللطف والمحبة، مع تلك القدرة وذلك الغضب الذي
لا تقوم له السماوات والأرض فضلا عنك أيها الضعيف المسجون في
الدنيا والمحبوس في الطبيعة، عليك أن تجتهد في اكتساب الأخلاق
الفاضلة، والتخلق بالفضائل النفسانية والتشبه بالإنسان الكامل،
فتكون رحمة لعالمك إن لم تتمكن من أن تكون رحمة للعالمين، فتدبر
فيما حكى القرآن عن حدود رأفة الرسول الإلهي الأعظم في سورة
الشعراء: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * (1) وفي سورة الكهف:
* (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) * (2).
سبحان الله ما أعظم شأنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه يتأسف على حال الكفار
والجاحدين، ولقد بلغت مودته ومحبته في إيصال العباد إلى الدار الآخرة
وإلى السعادة العظمى إلى حد أخذ رب العالمين في تسليته وتسكينه
عما يقع في قلبه الشريف، حذرا عن هلاكه وخوفا من تقطع قلبه وروحه.
فيا أيها الأخ الكريم والعبد الأثيم، إن اتصفت بالرحمة الإلهية
وتصورت بصورة تلك البارقة الملكوتية، فمرحبا بك ونعيما لك. وإن
تمثلت بمثال الرحمة المحمدية، وتنورت بنور وجوده الذي هو رحمة
للعالمين، فبشرى لك وإذا كنت عاجزا عن ذاك وذا، فلا أقل من الاجتهاد في
سبيل الشركة مع المؤمنين السابقين، المحشورين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

1 - الشعراء (26): 3.
2 - الكهف (18): 6.
243

والأمير (عليه السلام) الذين وصفهم الله تعالى في الكتاب في سورة الفتح: * (محمد
رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) * (1).
وقد ورد في الآثار المرتضوية والأخبار الجعفرية الأحاديث
الكثيرة المتضمنة لهذه الصفة، ولا بأس بالإشارة إلى بعض منها:
1 - قد أخرج الكليني بإسناده عن الصادق (عليه السلام) أنه يقول لأصحابه:
" اتقوا الله وكونوا اخوة بررة، متحابين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا
وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه " (2).
2 - وبإسناده عنه (عليه السلام) قال: " يحق على المسلمين الاجتهاد في
التواصل، والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم
على بعض حتى تكونوا كما أمر الله عز وجل: * (رحماء بينهم) * (3) متراحمين،
مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (4).
3 - وعن " مجالس " الطوسي - قدس سره القدوسي - عن علي (عليه السلام)
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل رحيم يحب كل رحيم " (5).
4 - وعن العلامة الحلي في " المستدرك " في " الرسالة
السعدية " عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " والذي نفس محمد بيده لا يضع الله الرحمة

1 - الفتح (48): 29.
2 - الكافي 2: 140 / 1.
3 - الفتح (48): 29.
4 - الكافي 2: 140 / 4.
5 - الأمالي، الشيخ الطوسي: 516 / 1129.
244

إلا على رحيم ". قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم؟ قال: " ليس الذي يرحم نفسه
وأهله خاصة ولكن الذي يرحم المسلمين " وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " قال تعالى: إن كنتم
تريدون رحمتي فارحموا " (1).
5 - وعن " الجعفريات " عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من لا يرحم الناس،
لا يرحمه الله " (2).
6 - وعن " عوالي اللآلي " عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " الراحمون يرحمهم الرحمن،
ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء " (3).
فالملاطفة من جنود الرحمن ولا تختص بكون طرفها الإنسان أو
الحيوان، بل تشمل كل شئ حتى النباتات.
فيا قرة عيني المحترم ويا رفيقي وصديقي أفلا تتدبر في الكتاب
العزيز، حيث كرر البسملة فيها، واستدركها في سورة النمل، لما فات في
سورة التوبة، فهل تحتمل أن لا يكون في هذا التكرير غرض أعلى ومقصد
أجلى، وهو سوق البشر إلى اتباع هذه الجلوات، وبعث الناس إلى جعل
هذا البرنامج دستور عمله ووجهة فكره، فكن في دنياك باذلا عمرك في نجاة
عائلتك من تبعات أعمالهم، وجنبهم عما يتوجه إليهم من العقوبات

1 - الرسالة السعدية: 165، مستدرك الوسائل 2: 95 كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة،
الباب 107، الحديث 3.
2 - الجعفريات: 167، مستدرك الوسائل 2: 95 كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة،
الباب 107، الحديث 4.
3 - عوالي اللآلي 1: 361 / 42، مستدرك الوسائل 2: 95 كتاب الحج، أبواب أحكام
العشرة، الباب 107، الحديث 8.
245

الشديدة والعذاب الأليم في البرازخ والقيامة، ولا تكن كالمعطلين
الوجود والبهيمة أو أضل، فاهتم في أمر أخيك المسلم، ولا تكن من
الغافلين عن أمر بديع:
وهو أن أرباب الرحمة وأصحاب الرأفة والعطوفة، ربما يصدر
منهم الخشونة والغضب، ولكنه - أيضا - رحمة بالنسبة إلى النوع،
وغضب بالنسبة إلى الفرد، خير بالقياس إلى النظام الكلي، وشر
بالقياس إلى الآحاد الفانية في الاجتماع، وربما يكون رحمة بالنسبة
إليهم. وأيضا لما أشير إليه: أن في ذلك نجاة من البلاء العظيم، وهو الابتلاء
بالنار وتبعات الأفعال والصفات في النشآت الآتية.
فيا عزيزي ويا محبوبي كفاك هذا نصحا، وكفى هذا الفقير المفتاق إلى
رحمة ربه ذكرا، فنرجو الله تعالى أن يوفقنا لمرضاته، ويهدينا إلى
السعادة الأبدية، فإنه خير موفق ومعين.
ثم إن البحث عن ضد الرحمة، وهو الغضب والقسوة، سيأتي في
محله إن شاء الله تعالى، ولا يجوز الخروج عما هو المربوط بالمسألة
فإنه من الإطالة المنهي عنها.
بحث وإرشاد
قد تقرر عند أهل الذوق والتحقيق: أن جميع الصفات الكمالية
داخلة في الفطرة وتعد من الفطريات، ويكون في الإنسان فطرة العشق
بالكمال على الإطلاق وفطرة الزجر عن النقص، والرحمة من الصفات
246

المحمودة في هذه الطينة والطبيعة، وتحتاج في خروجها من القوة
والفطرة الإجمالية إلى الفعلية التفصيلية، وربما تصير الفطرة لأجل
الكدورات الملتحقة والعلل السابقة - وهي الأرحام الخبيثة،
والأصلاب غير الشامخة - محجوبة ومبغوضة ومبعدة ومسفرة، فإياك وهذا،
وعليك بذاك.
247

علم العروض
المعروف المشهور في كتب التراجم وتاريخ العلوم: أن الخليل بن
أحمد بن عمرو ابن تميم الفراهيدي الحميري الأديب النحوي الشاعر
العروضي، وضعه وصنعه، وقد أنهى البحور إلى اثني عشر بحرا، وصارت
بعد ذلك أكثر من ذلك (1)، وتفصيله في مقام آخر. وقد تولد - حسب ضبط ابن
النديم - سنة 96، وتوفي بالبصرة سنة سبعين ومائة (2)، وفي هذا وذاك
خلاف كثير مضبوط في كتب الرجال والتراجم.
وبالجملة: إن * (بسم الله الرحمن الرحيم) * صاحبة الوزن
العروضي والبحر الثلاثي: " مستفعل مستفعل مستفعل " وقد قال النظامي
الشاعر المعروف، أبو محمد الحكيم المشهور، المتوفى بعد سنة 584:
بسم الله الرحمن الرحيم * هست كليد در گنج حكيم (3)
ثم إن من المحرر في علم الموسيقى: امتناع قراءة كل شعر موزون في
جميع أنواع الأصوات المعروف ب‍ " نوت "، أو صعوبة ذلك جدا، وقد سمعت
من بعض أهل الفن يقول في مقام إعجاز الكتاب الإلهي: أن هذه النسخة
الإلهية قابلة لأن يتغنى بها جميع طبقات الأصوات والألحان. وهو العالم.
وقد فرغنا عن مباحث البسملة ليلة الثلاثاء 14 من شهر صفر
1390 وأنا ابن أربعين.

1 - الوافي بالوفيات 13: 385، روضات الجنات 3: 289، رياض العلماء 2: 249.
2 - الفهرست، ابن النديم: 48.
3 - نظامي گنجوى، مخزن الأسرار.
248

علم الأوفاق
أما اسمه تعالى " رحمن " فله مربع 5 × 5، وله من العدد 99، وهو
زوج فرد ناقص أجزاؤه 37 تشير إلى اسمه تعالى " مبقي ". هذا من حيث
رقمه.
وأما من حيث لفظه فله من العدد 39، وهو عدد فرد ناقص أجزاؤه
47 تشير إلى اسمه تعالى " الإله "، وأما أسماء حروفه فهي 49 تشير إلى
اسمين جليلين، وهما " مبدع فاطر ".
وفي رواية عن الخضر - على نبينا وآله وعليه السلام - أنه قال:
" من صلى عصر الجمعة واستقبل القبلة وقال: يا الله يا رحمن إلى أن تغيب
الشمس، لم يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه " (1). وإذا نقش مربعه بسر الله
دخل في شرف زحل، فصاحبه - كما قيل - لا يزال يتقلب في رضوان الله
تعالى، ولا يراه أحد إلا رق له، وتتوالى عليه النعم، ومن وضعه في ماء
وسقى منه صاحب الحمى الحارة ذهبت عنه لوقتها، ومن أكثر من ذكره نظر

1 - شمس المعارف الكبرى: 161.
249

الله له بعين الرحمة، ويصلح ذكرا لمن كان اسمه عبد الرحمن.
وتلك الصورة هي هذه:
ر - ح - م - ا - ن
4 - 38 - 198 - 11 - 38
9 - 210 - 2 - 51 - 196
49 - 99 - 7 - 31 - 5
37 - 3 - 52 - 29 - 6
وأما اسمه الآخر الجليل قدره " الرحيم " فله المربع 4 × 4، وله
من العدد 258، وهو زوج فرد مستطيل مركب يثني " اللطيف "، ويثلث
" البديع "، ويسدس " الأول " وهو عدد زائد أجزاؤه 219 تشير إلى اسمه
الكريم، وأما أسماء حروفه 313 تشير إلى اسمه تعالى " يا بصير " بياء
النداء.
وقيل: إن " الرحمن والرحيم " أذكار شريفة للمضطرين، وأمان
للخائفين، ولا ينقشهما أحد في خاتم يوم الجمعة آخر النهار وتختم به، إلا
كان ملطوفا به في سائر حركاته وأحواله (1)، وإذا كتبه بسر الله دخل، ومن
أكثر من ذكره كان مجاب الدعوة، وهو أمان من سطوات الدهر، والوقت
اللائق به شرف القمر، وهو نافع لجميع الحميات الحارة، ويكتب معه

1 - شمس المعارف الكبرى: 161.
250

أيضا: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء) * (1).
ويصلح ذكرا لمن كان اسمه إبراهيم، ويضاف إليه اسمه المطهر.
وهذه هي الصورة (2):
ر - ح - ى - م
110 - 39 - 31 - 31
38 - 8 - 2 - 202
9 - 33 - 37 - 9

1 - الإسراء (17): 82.
2 - انظر شمس المعارف الكبرى: 161 - 162.
251

علم الحروف والأعداد
قد مر أن لهذه العلوم شأنا راسخا عند أهله، وشرافة خاصة لدى
أربابه، وبغضا وعنادا بارزا وظاهرا عند جهلته. والأمر سهل.
اعلم: أن المروي أن الكتب المنزلة من السماء إلى الأرض مائة
وأربعة: صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون، وصحف موسى قبل
التوراة عشرة، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقيل أكثر من ذلك لما
كان لنوح أيضا كتب، وجميعا في الفرقان، ومعانيها في الفاتحة، ومعاني
الفاتحة في البسملة، ومعاني البسملة مجموعة في بائها، ومعناها: بي
كان ما كان، وبي يكون ما يكون.
فهنا طور آخر من البحث: أن حروف البسملة تسعة عشر حرفا،
على عدد الملائكة الموكلين بالنار، عافانا الله منها (1). وقد أشير إلى هذا
البحث طي بعض المباحث السابقة، وفي ذلك خواص وآثار كثيرة مذكورة
في المطولات. وعددها 786، ومن قرأها بهذا المقدار ستة أيام متوالية

1 - شمس المعارف الكبرى: 33.
252

على نية أمر، كان له كل ذلك، من جلب خير ودفع شر وغيرهما إن شاء الله
تعالى.
وقيل: إذا تليت على قدح من الماء عددها وسقيت لمن شاء، أحبه
حبا شديدا (1). وفي ذلك البركات الاخر إن شاء الله تعالى، ومربعه الوفقي
لمن يريد قمع كل جبار، فليكتب وفق * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في قطعة
رصاص، ويضع اسم من يريد في الوفق، ويبخره بالحلتيت والثوم الأحمر،
ويدفنه قريبا من نار دائمة الوقود، وإياك أن تلحق النار الرصاص، فإن
المعمول - على ما قيل - يهلك وأنت المطالب به بين يدي الله تعالى.
وهذه صورته (2):
بسم - الله - الرحمن - الرحيم - فلان
الله - الرحمن - الرحيم - فلان - بسم
الرحمن - الرحيم - فلان - بسم - الله
الرحيم - فلان - بسم - الله - الرحمن
فلان - بسم - الله - الرحمن - الرحيم
وهنا طور آخر من الكلام وهو: أن هذه التسعة عشر ولها جدول آخر
بتوفيق عددي، وليكن على ذكر من أن تلك الحروف عشرة غير مكررة

1 - المصدر السابق: 37.
2 - المصدر السابق: 39.
253

وتسعة مكررة، وهي هذه: " ب س م ا ل ل ه - ا ل ر ح م ا ن - ا ل ر ح ى م "،
فتكرر فيها الميم ثلاث مرات، واللام أربع مرات، والراء مرتين، والباء لم
تكرر والسين والهاء فالمكرر تسعة أحرف، وهي هذه: " ا ل ر ح م ا ن "
وتكرر الميم والألف واللام والراء.
254

التفسير والتأويل
على المسالك والمشارب المختلفة
على المشرب الأخباري يفسر هكذا
أسم على نفسي بسمة من سمات الله عز وجل، وهي العبادة الذي هو
* (الرحمن الرحيم) * في خبر (1).
وبعبارة أخرى: أقرأ وأعمل بهذا الاسم الله الموصوف بالرحمن
والرحيم، كما في خبر آخر (2).
وفي ثالث: * (بسم الله) * الذي هو إله كل شئ، و * (الرحمن) *
بجميع خلقه، و * (الرحيم) * بالمؤمنين خاصة (3).

1 - معاني الأخبار: 3 / 1، باب في معنى بسم الله، التوحيد: 229 / 1.
2 - تفسير الصافي 1: 19.
3 - معاني الأخبار: 3 / 1، التوحيد: 230 / 2.
255

وعلى المشرب الأدبي هكذا
أبتدئ أو أستعين أو ابتدائي واستعانتي ب‍ * (بسم الله) * الذي هو
* (الرحمن الرحيم) *.
وفي تعبير آخر: ب‍ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * أقرأ وأعمل وأبتدئ
وأستعين على أن يكون الوصفان لله تعالى والمحذوف متأخر.
وفي ثالث: ب‍ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * ابتدائي وقراءتي.
وفي رابع: أتبرك وأتيمن ب‍ * (بسم الله الرحمن الرحيم) * في افتتاح
عملي وقراءتي، وأنه لله تعالى وبأمره، ولاحظ لغيره فيه.
وفي خامس: أن يعتبر الوصفين للاسم، ويكون من عطف البيان،
فيتبرك بالاسم الذي هو * (الرحمن الرحيم) *، فيجعل الرحمة بأقسامها
وأنحائها مورد توجهات القلب وتوجيهات النفس.
وعلى المشرب العرفاني هكذا
* (الحمد لله رب العالمين) *، * (بسم الله الرحمن الرحيم) *، فقدمت
عليه تيمنا واحتراما وافتتاحا وإفادة للحصر، أي لأجل الاسم " الله " ينحصر
الحمد به تعالى.
وفي تعبير آخر: لمسببية اسم الله وهو * (الرحمن الرحيم) *، انحصر
الحمد في ذاته ولذاته تعالى.
وعلى المشرب الآخر: بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو اسم الله الرحمن وهو
256

الرحيم (1) - كما في القرآن: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (2) - أتوكل في
أموري، أو أستعين، وهكذا، فيكون المراد من اسم الله ما هو الأليق بالاسمية
والمعربية، وهو وجوده (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه الاسم الأعظم والمعرب الأتم
والمظهر الأجلى، و * (الرحمن) * من تبعات الله، و * (الرحيم) * من تبعات
الاسم، ولذلك حذفت الواو.
وفي تعبير آخر: أتوكل في أموري * (بسم الله الرحمن) * وب‍ * (الرحيم) *
وهو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي ثالث: أي ب‍ * (الرحيم) * وصلتم إلى الله وإلى * (الرحمن) *،
ف‍ * (الرحيم) * نعت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد نعته تعالى بذلك في الكتاب كما
مضى، فيصير المعنى: أي وصلتم إلي باتباعه، وبما جاء به وصلتم إلى
ثوابي وكرامتي والنظر في وجهي. وهذا التعبير الأخير وجدناه في
القرطبي (3).
وعلى مشرب آخر هكذا
إن العبد الحقيقي يتعبد بالقرآن وقراءته، ولا يستخدمه في إفادة
مرامه ومقصده، فإن ما أمر به هي القراءة، وهي لا تكون إلا بتذكر الألفاظ،
حكاية عن الألفاظ الشخصية الصادرة عن مبدأ الوحي والتنزيل،

1 - انظر تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1: 7.
2 - التوبة (9): 128.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 106.
257

فلا تكون البسملة متعلقة بشئ، لا في كلام الخالق، لأنه لا معنى لأن
يتشبث بالغير، ولا في كلام المخلوق، لأنه لا يستعمل القرآن في إظهار
مرامه ومقصده، بل يتلفظ بألفاظها حتى يتعين بها.
وإن شئت فسم هذا مشرب الفقيه، فإنه يعتبر صدق القراءة في
الصلاة، بل وفي قراءة الكتاب، فلا معنى لتعلقها بشئ، كما لا يخفى.
وعلى مشرب ومسلك آخر هكذا
وفيه - كما مر - رد على المفوضة والمجبرة، أن القدرة التي
أنشأت بها العمل هي من الله تعالى، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي، بل
هو باسمه تعالى، فإنني أستمد القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على
عمله.
فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب العزيز: أن جميع ما جاء
في القرآن من الأحكام والشرائع والأخلاق والآداب والمواعظ، هو لله ومن
الله ليس لأحد فيه شئ، وكأنه قال: إقرأ يا محمد هذه السورة * (بسم الله
الرحمن الرحيم) * أي على أنها من الله لا منك، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها
إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وكذلك كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرؤها
عليهم * (بسم الله) * لا باسمه، أي إنها من الله لا منه، فإنما هو مبلغ عنه
تعالى كما جاء في قوله تعالى: * (وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن
أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من
258

المنذرين) * (1).
وبالجملة: هذا النحو من الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات
وأقربه إليكم اليوم ما ترونه في المحاكم النظامية، حيث يبتدئون
الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان فلان ابن الخديو فلان، تعظيما له
وتفخيما وإشعارا بأن مثله مورد النظر وينظر إلى عملي وقراءتي. والله
العالم.

1 - النمل (27): 91 - 92.
259

الناحية الثالثة
حول * (الحمد لله رب العالمين) *
والكلام في ذلك يقع في موقفين:
الموقف الأول
حول قوله تعالى: * (الحمد لله) *
261

اللغة والصرف
وهنا فوائد:
الفائدة الأولى
فيما اشتهر عنهم حول " أل "
فالمعروف عنهم أنه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون اسما موصولا بمعنى الذي وفروعه، وهي الداخلة
على أسماء الفاعلين والمفعولين، نحو " إن المسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات ".
وقيل: هي هنا - أيضا - حرف تعريف، وقيل: موصول حرفي.
ثانيها: أن تكون حرف تعريف، وهي نوعان: عهدية وجنسية، وكل
منهما ثلاثة أقسام:
فالعهدية تأتي على أنحاء، والجنسية إما لاستغراق الأفراد، وهي
التي يخلفها لفظة " كل " حقيقة، نحو: * (وخلق الإنسان ضعيفا) *، ومن دلائلها:
صحة الاستثناء منه، كقوله تبالي: * (إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا) *
وهكذا، وتوصيفه بالجمع، كقوله تعالى: * (أو الطفل الذين لم يظهروا على
263

عورات النساء) *، أو لتعريف الماهية والجنس.
ثالثها: أن تكون زائدة، وهي نوعان: لازمة كالتي في الموصولات
وغيرها مما ذكر في المفصلات، وغير لازمة كالواقعة في الحال، كقوله
تعالى: * (ليخرجن الأعز منها الأذل) * بناء على قراءة الياء مفتوحا، أي ذليلا.
أقول: النزاع في أن " ال " حرف تعريف أو اللام فقط من اللغو
المنهي عنه.
وأما النزاع في مفادها وأقسام معانيها ففيه فوائد، كما تحرر في
الأصول (1).
والذي هو التحقيق: أن " ال " موضوعة للإشارة فقط إلى المعهود أو
إلى الحاضر، فإن قلنا بأن الموضوع له خاص فلابد من الالتزام بتعدد
الوضع، لعدم وجود الجامع بين المعاني الحرفية، وإن قلنا بأن الموضوع
له عام فلا يتعدد الوضع حينئذ.
والمختار في محله: أن هذه الألفاظ في مقام الوضع موضوعة للمعنى
الكلي، ولكن المعنى الكلي الموضوع له يتحقق في الخارج، لأنه من
الكلي الطبيعي لا العقلي، فيكون المستعمل فيه الجزئي عين الموضوع
له في ظرف الاستعمال، وتفصيله في مقامه (2).
وأما كونها بمعنى " الذي " فهو لا أساس له، بل هو في قولنا:
" الضارب زيدا " ليس إلا للعهد أو للجنس بالمعنى الذي يأتي تحقيقه.

1 - راجع تحريرات في الأصول 5: 210.
2 - تحريرات في الأصول 1: 79.
264

وأما الضمير الراجع إليه، فالمرجع نفس المشتق مما فيه الذات
المبهمة، ولذلك يفسر قولهم: الضارب زيدا جاءني، بأن الذي ضرب زيدا
جاءني، فالذي هو الموصول والذات المبهمة المأخوذة في المشتق،
وليس يدل " أل " على شئ، فالفرق بين قولنا: ضارب زيد جاءني هو وقولنا:
الضارب زيدا جاءني هو، ليس إلا في إفادة التعريف أو الجنس، ولذلك
يصح إرجاع الضمير إلى " ضارب " في المثال الأول بالضرورة.
وأما كونها بمعنى الجنس، فإن أريد منه أنه يفيد معنى الجنس، وهو
مفهوم اسمي، فلابد وأن يكون من المعاني الاسمية، فإن قولهم: " الرجل خير
من المرأة " يفسر بأن جنس الرجل خير، وهم غير ملتزمين بذلك، مع أنه
بعد التفسير، نسأل عن " أل " الداخلة على الرجل في المثال المزبور:
هل هي أيضا للجنس أو لشئ آخر لا سبيل إلى الثاني، كما هو الظاهر، ولا
إلى الأول للزوم التكرار، فيعلم من ذلك أن " أل " لا تدل على الجنس، بل
الجنسية مفاد المدخول، وذلك لأن الرجل: إما يراد منه العهد
والمصداق العيني، فيأتي مع " أل " لإفادة ذلك، وإما يراد منه مصداقه
النكرة المنتشرة، فيؤتى بدون " أل " فيدخله التنكير، وهو يفيد حسب
التبادر مصداقه النكرة وإن كان التنوين ذا معان اخر، وإذا لم يكن يراد منه
مصداقه المعروف ولا المنكر، فلابد أن يراد منه نفس الطبيعة والجنس،
فتدخله " أل "، لأنه بدونه لابد أن يقرأ بالتنوين، وهو خلاف المقصود
والغرض من الكلام، ف‍ " أل " هذه ليست إلا للزينة، ولأنه لو لم تكن في
الكلام يلزم خلاف الغرض، للزوم إدخال التنوين، فلا تغفل.
ثم اعلم: أنه لو كانت " أل " لإفادة أن الحكم للطبيعة على الإطلاق،
265

ومدخولها يدل على الطبيعة المهملة، يلزم كون التقييد مجازا، لأن دلالة
" أل " على الإطلاق وضعية، بل يلزم عدم كون الجمع بين المطلق والمقيد
عقلائيا، وتكون - حينئذ - النسبة بينهما المناقضة والتضاد، من غير إمكان
الجمع بينهما عرفا وعقلائيا، فإذا ورد " أكرم العالم " فالمدخول يدل على
نفس الطبيعة وجئ ب‍ " أل " لما عرفت، وليس هو " أل " التعريف - أي
تعريف الطبيعة - حتى تكون سارية في الأفراد، للزوم ما أشير إليه آنفا.
وأما صحة الاستثناء والتوصيف فهو من قبيل الاستثناء من كلمة
" من " الموصول، وإرجاع ضمير الجمع إليه مع أنه لا يدل على الجمع إلا
على البدل.
فبالجملة: ما اشتهر من أنها تأتي للاستغراق الحقيقي أو المجازي فهو
في غير محله، بل هي لا تدل على الإطلاق ولا الاستغراق بالضرورة.
والعجب من السيوطي (1) وأمثاله - وإن ليس منهم بعجيب، لأنهم القشريون
في العلوم الأدبية، فضلا عن العلوم الحقيقية - والاستثناء والتوصيف
يجتمعان مع كون المدخول مفاده نفس الطبيعة من غير كون " أل " تفيد ذلك.
بل التحقيق: أن " أل " في الجمع المحلى به كقوله تعالى: * (أوفوا
بالعقود) * (2)، لا يدل على الاستغراق بل المتكلم لابد وأن يكون ذا غرض في
إتيانه وترك التنوين، فإذا كان يرى أن التنوين يورث التنكير وخلاف

1 - الإتقان في علوم القرآن 2: 185 - 186، البهجة المرضية، السيوطي، المعرف بأداة
التعريف.
2 - المائدة (5): 1.
266

العقود، فيأتي الجمع محلى باللام حذرا عن مناقضة المطلوب.
وأما لو دلت الألف واللام على الاستغراق لكان يلزم المجاز عند
التخصيص، بل يلزم المحذور السابق أيضا، ولذلك تقرر لنا في الأصول: أن
إفادة العموم تحتاج إلى مقدمات الحكمة، ولولاها لما كان مجرد التحلي
باللام كافيا (1)، فلا تخلط.
فبالجملة: لا تأتي الألف واللام إلا للإشارة إلى المعنى الخاص، وأما
كونها قابلة للإشارة بها إلى الطبيعة في قولنا: الرجل خير من المرأة، فهو
غير صحيح، لأن معنى الجملة المزبورة يصير هكذا: هذا الرجل خير، وهو
يورث المصداق لا الطبيعة.
إذا عرفت ذلك يتبين لك: أن " أل " في قوله تعالى: * (الحمد لله) * ليس
للعهد، فلا يفيد شيئا، ويكون المراد من " الحمد " نفس الطبيعة، وأما أنها
مطلقة أو مهملة فهو بحث آخر يحتاج إلى بيان آخر في المباحث الآتية.
ومن الممكن دعوى: أنه للعهد في الادعاء والاعتبار، وكأنه للعهد
المفروض، أي إشارة إلى الحمد الكامل التام الجامع المانع، لأنه
المناسب للانتساب إلى الحضرة الربوبية.
الفائدة الثانية
إن الحمد مصدر ومعناه غير الشكر والثناء والمدح
في " تاج العروس ": " الحمد نقيض الذم، وقال اللحياني: الحمد

1 - لاحظ تحريرات في الأصول 5: 201.
267

الشكر، فلم يفرق بينهما. وقال ثعلب: الحمد يكون عن يد وعن غير يد،
والشكر لا يكون إلا عن يد. وقال الأخفش: الحمد لله الثناء. وقال الأزهري:
الشكر لا يكون إلا ثناء ليد، والحمد قد يكون شكرا للصنيعة، ويكون ابتداء
للثناء على الرجل، فحمد الله الثناء عليه.
وقد أكثر العلماء في شرحهما وبيانهما ومالهما وما بينهما من النسب،
وما فيهما من الفرق من جهة المتعلق أو المدلول وغير ذلك، ليس هذا
محله " (1) انتهى.
وقيل: الحمد - لغة - هو المدح على فعل حسن صدر عن فاعله
باختياره، سواء اسراه إلى الحامد أو إلى غيره، والمدح يعم هذا وغيره،
فيقال: مدح المال، ومدح الجمال، ومدح الرياض، واشتهر المدح على
اللؤلؤ وصفائه.
والثناء يستعمل في المدح والذم على السواء، فيقال: أثنى عليه
شرا، كما يقال: أثنى عليه خيرا.
والشكر هو الاعتراف بالفضل إزاء نعمة صدرت من المشكور
بالقلب أو باللسان أو باليد أو غيرها من الأعضاء، كما قال شاعرهم:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا
أقول: أولا: إن الحمد هو مصدر، وقال في " الأقرب ": يقال: رجل حمد
ومنزل حمد، هو من باب الوصف بالمصدر، وهي حمدة: أي محمودة (2).

1 - تاج العروس 2: 339.
2 - أقرب الموارد 1: 228، تاج العروس 2: 339.
268

ولا أجد من كتب اللغة ما يقرب كونه اسم مصدر، إلا قولهم: الحمد خلاف
الذم أو نقيضه (1)، وإذا راجعنا الذم فهو يفيد بأنه مصدر. وأما تبادر اسم
المصدر منه في بعض الأحيان والاستعمالات، فلا يثبت كونه من أصل لغوي،
فإرادة ما يحمد عليه من الحمد والثناء والمدح، لا يخلو من نوع مجاز
وتوسع في الاستعمال، فمعنى الحمد لكذا كمعنى الضرب لزيد في كونهما
معنى مصدريا.
وثانيا: المدح يقابله الذم والهجاء، والشكر يقابله الكفران * (لئن
شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) * (2) والثناء لا يستعمل في
الأعم حسب ما تفحصنا عنه في اللغة، فما في المراغي (3) وتبعه عمياء
المنار (4)، غير راجع إلى محصل - والله العالم - على أن المتبادر منه
خلاف ما نسبوه إليه.
وكأن المدح والثناء لا يقعان عليه تعالى، كما لا يحمد الله خلقه،
ولكنه يوصف بالشكر، فإنه رحيم شكور. ومن المتوهم اختصاص الحمد
به تعالى من العبد، واشتراك الشكر بينهما، واختصاص العبد بالمدح
دونه تعالى.
فبالجملة: الترادف قريب في اللغات، ولا سيما في اللغة العربية،
لاختلاط الأقوام، ولكن مع ذلك يخطر بالبال اختلافها في بعض

1 - نفس المصدر.
2 - إبراهيم (14): 7.
3 - تفسير المراغي 1: 29.
4 - تفسير المنار 1: 49.
269

الخصوصيات، فكأن الحمد والمدح اختلفا في التقديم والتأخير في
الحروف إشارة إلى وحدة المعنى واختلاف جهة الاستعمال، فالعبد
لا يحمد ويمدح، وهو تعالى لا يمدح فيحمد، فما قاله ابن الأنباري (1)، ليس
من الأدب واللغة، نعم هو من الذوق، فلا تخلط.
ومن غريب الاستدلال ما في كتب التفسير للخاصة والعامة: بأن
الشكر والحمد واحد، لصحة قولنا: الحمد لله شكرا، نصبا على كونه
مفعولا مطلقا نوعيا (2).
وغير خفي: أن ذلك يصح إذا كان الشكر أخص منه فلا يدل على
الاتحاد في المعنى. هذا ومع أن كونه مفعولا نوعيا محل مناقشة، لإمكان
كونه مفعولا له، مع أن صحة هذا الاستعمال غير واضحة وإن صرح به
بعض المفسرين (3)، ولكنه غير كاف.
وأما توهم: أن الحمد يقابل اللوم، كما في بعض التفاسير، ويستدل
له بقول الشاعر:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى * معي وإذا ما لمته لمته وحدي (4)
فهو من الواضح فساده، فإن اللوم والملامة أجنبي عن هذه الأمور، مع
أن المدح غير الحمد كما مر.

1 - انظر البحر المحيط 1: 18.
2 - مجمع البيان 1: 21، آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 54، تفسير التبيان 1: 31،
الجامع لأحكام القرآن 1: 133.
3 - انظر تفسير آلاء الرحمن 1: 54، والجامع لأحكام القرآن 1: 133.
4 - البيت لأبي تمام الطائي.
270

ومما يخطر بالبال اختصاص استعمال الحمد بجنابه تعالى،
والكتب وإن كانت فارغة عن ذلك، ولكن المتبادر من موارد الاستعمال أن
هذه الكلمة كأنما فيها شائبة العبودية، ولذا كثيرا يستعمله العباد في ذكر
ثنائه تعالى وشكره، بخلاف سائر الألفاظ. وصح أن يقال في أفق الشرع:
" من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق " (1)، ولا يصح في مثل الحمد،
ولعله لما أشير إليه من اشتماله على نوع من العبودية، أي في مقام
العبودية.
وقال ابن حيان: " الحمد، الثناء على الجميل من نعمه أو غيرها
باللسان وحده، ونقيضه الذم، وليس مقلوب مدح، خلافا لابن الأنباري...
والحمد والشكر بمعنى واحد، أو الحمد أعم، والشكر ثناء على الله تعالى
بأفعاله، والحمد ثناء بأوصافه. ثلاثة أقوال، أصحها أنه أعم، فالحامد
قسمان: شاكر، ومثن بالصفات " (2) انتهى.
وأنت بعدما عرفت منا تقدر على نقد ما أفاده.
الفائدة الثالثة
في معنى اللام
اعلم أن اللام تأتي للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق،
وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ، وللتعجب، وللتبيين، وللصيرورة، وللظرفية بمعنى

1 - انظر بحار الأنوار 68: 44 / 44، سنن أبي داود 2: 671، علم اليقين 1: 126.
2 - البحر المحيط 1: 18.
271

" في " أو " عند " أو " بعد "، وللانتهاء، وللاستعلاء، وللتأكيد والتقوية.
وفي عبارة أخرى: اللام أربعة أقسام: جارة، وناصبة، وجازمة،
ومهملة غير عاملة (1).
وعندي في كثير مما أفادوه نظر، لرجوع نوع المعاني إلى معنى واحد،
وتختلف الخصوصيات من قبل موارد الاستعمالات.
وعلى كل تقدير: فهل اللام في المقام للملك والاختصاص
والاستحقاق؟
والتحقيق أن الكل واحد، لأنه إذا قلنا: بأن الدار لزيد يعتبر منه
الملكية، وإذا قلنا: بأن الجل للفرس يعتبر منه الاختصاص، وإذا قلنا:
الحمد لله يعتبر منه الاستحقاق أو الملكية الحقيقية لا الاعتبارية، أو
بمعنى " عند "، أي الحمد وما يحمد عليه عند الله، لا عند الآخرين، أو يفصل،
فإن كان الحمد مصدرا فهو بمعنى التحقيق واللياقة، وإن كان بمعنى ما
يحمد عليه فهو بمعنى الملك وشبهه؟
والذي هو الأوفق: أنه بمعنى الملك، كما هو الأصل في معناه، وليس
المراد منه هو مفهوم الملكية الخاصة، بل هي الملكية الأعم من
الاختصاص وغيره.
ويستظهر أصليته في الملك من ابن مالك حيث قال:

1 - البحر المحيط 1: 18.
272

اللام للملك ومعنى في وعن * ب‍ " عن " تجاوزا عنى من قد فطن (1)
وأيضا معناه هنا هو الملكية الحقيقية لا الاعتبارية، وليس هذه
الملكية من مقولة الملك المصطلح عليها في الكتب العقلية،
ولكنها قريب منه، وهذه الملكية الحقيقية خارجة عن المقولات،
والاعتبارية أيضا خارجة، ولكنها اعتبار المقولة حسب ما تحرر منا في
الأصول (2).
وليعلم أن المعاني الحرفية المفسرة بالمعاني الاسمية متعلقة في
الحقيقة بتلك المعاني الاسمية، فكل ما كان منها قابلا لأن يذكر ويتعلق بها
تلك المعاني الحرفية، فهي بهذا المعنى، مثلا اللام من الحروف ومن
معانيها الاسمية في مقام التفسير هو الملك، فإذا قلنا: الحمد ملك لله
تعالى، فهو صحيح، وأما إذا قلنا: اللام بمعنى الاستحقاق والاختصاص
فلا يتم قولنا: الحمد مستحق لله، أو استحقاق له تعالى، ولا يستقيم قولنا:
الحمد مخصوص لله... وهكذا. فيعلم من ذلك أن اللام هنا بمعنى الملك في
التفسير الاسمي، فافهم واغتنم.
وهذا يستقيم على أن يكون الحمد بمعنى ما يحمد عليه، وإذا كان معناه
المصدر فإن أريد إثبات أن الحامد هو الله تعالى، ولا يليق لغيره أن يحمده،

-
الألفية، ابن مالك، مبحث حروف الجر، البيت 9، والبيت هكذا:
" واللام للملك وشبهه وفي * تعدية أيضا وتعليل قفي "
والمؤلف (قدس سره) كتب المصرع الثاني من البيت العاشر بدله.
2 - انظر تحريرات في الأصول 2: 244.
273

للسنخية المعتبرة بين الحامد والمحمود والعابد والمعبود، وفي ذلك
كمال البلاغة وكمال المبالغة، لما فيه من نفي الشأن عن الغير للقيام
بوظيفة التحميد، أي حمد الله وتحميده حق لله لا لغيره، فيكون اللام
للمعنى الآخر، لما لا يعتبر الملكية الحقيقية في هذه الصورة.
وإن أريد إثبات أن حمد الناس وتحميدهم لله، فيكون اللام للغاية،
كما إذا قيل: إكرام الناس لله، مع الفرق بين المثال والممثل له، بأن فيما
نحن فيه ما هو طرف الحمد هو الله تعالى، ويكون الحمد لله، وما هو
طرف الإكرام هو الناس، والله تبالي غاية الإكرام. والله البالم بحقائق الأمور.
الفائدة الرابعة
حول المصدر واسم المصدر
إن الأصل في المصدر أن لا يجمع، وقد جمع " حمد " على " أحمد "،
حكاه ابن الأعرابي. وكأن جامعه لاحظ أنواعه، أو يكون الجمع بلحاظ
كونه بمعنى ما يحمد عليه، قال الشاعر:
وأبلج محمود الثناء خصصته * بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي (1)
ومن الممكن دعوى: أن بناء العرب في باب اسم المصدر على إرادته
من المصدر، لعدم لفظ خاص موضوع له إلا في بعض المواد، ولذلك اشتهر:
أنه لا يكون لاسم المصدر - في علم الصرف المتكفل ببناء الهيئات -
هيئة خاصة، فلابد من دعوى: أن المصدر تارة يطلق ويراد منه معناه

1 - البيت لابن الأعرابي.
274

الواقعي، وأخرى يطلق ويراد منه معناه الحاصل من المصدر الخالي عن
شوب الذات، فإن المصدر فيه شوب الذات، ولذلك إذا قلنا: الضرب لزيد،
يكون معناه أن صدوره منه له، وإذا أريد منه المعنى الحاصل منه، يكون
معناه أعم من صدوره منه أو وقوعه عليه، فالمعنى الخاص يستفاد من القرينة.
فعليه يمكن دعوى: أن الحمد لله معناه أن الاسم المصدر له تعالى،
ولكنه للقرينة العقلية القطعية يثبت صدوره من الغير بالنسبة إليه،
أو صدوره من نفسه بالنسبة إليه، دون صدور منه بالنسبة إلى غيره.
تذنيب: في توضيح حقيقة المصدر واسم المصدر
لا بأس بالتمثيل باللغة الفارسية، فإنها في هذه المسألة أوضح
سبيلا وأسهل نيلا، مثلا: يجئ اسم المصدر من: گفتن ورفتن وكردن وديدن:
گفتار ورفتار وكردار وديدار، ومن بخشيدن: بخشش، ومن كتك زدن: كتك...
وهكذا، ولذلك يصح أن يقال: كتك خوردن، وكتك زدن، وبخشش نمودن،
وبخشش شدن، وفيما نحن فيه إن فسر الحمد ب‍ " ستايش كردن " - كما هو
الظاهر - فاسم المصدر هو ستايش، ومن پرستيدن: پرستش، ومن نيايش
كردن: نيايش... وهكذا، فإذا قلنا: الحمد لله، فيمكن أن يراد منه أن ستايش
له تعالى، ولكنه أعم من صدوره منه ووقوعه على نفسه، أو صدوره من
غيره ووقوعه عليه، أو صدوره منه ووقوعه على غيره. وحيث إن المعنى
الثالث غير جائز ذاتا، أو لا يكون هو المراد هنا، يتعين أحد الأولين وقضية
ما مر منا - من دعوى: أن العبد عاجز عن تحميده، والتحميد لائق بجنابه
275

وحقيق بحضرته، وفي ذلك أيضا تحميد وتجليل وتسبيح عن إمكان قيام الغير
بذلك - تعين الأول.
فعلى هذا سواء أريد من الحمد معناه المصدري أو الاسم المصدري،
تكون النتيجة واحدة، وقال الشاعر:
ما وحد الواحد من واحد * إذ كل من وحده جاحد (1)
وذلك لأن السنخية معتبرة بين الموحد ومن يوحد، ولا وحدة حقيقة
للممكن حتى يقوم بالتوحيد، وهكذا تعتبر السنخية بين الحامد
والمحمود، فمن يليق بالتحميد نفس ذاته المقدسة، فليلاحظ.

1 - البيت لخواجة عبد الله الأنصاري في منازل السائرين.
276

الإعراب والنحو
إن قرأناه على الرفع فيكون المبتدأ وخبره محذوفين تعلق بهما الجار
والمجرور والظرف مستقر، أي الحمد يكون لله، أو ثابت له تعالى
ومستقر له، أو يثبت لله ويستقر له، ويمكن جعله ظرفا لغوا، أي الحمد
اعتبر وأنشئ لله، أي ملكا له تعالى، والمتعين هو الأول.
وإن قرأناه على النصب فقيل: لابد من عامل تقديره: أحمد الله، أو
حمدت الله، لتخصيص الحمد بتخصيص فاعله، وأشعر بالتجدد. ويكون في
حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها وأقيمت مقامها، وذلك في
الأخبار نحو شكرا لا كفرا. وقدر بعضهم العامل للنصب فعلا غير مشتق من
الحمد، أي أقول: الحمد لله، أو الزموا الحمد لله، كما حذفوه من نحو
" اللهم ضبعا وذئبا ".
وقال ابن حيان: " والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه، وفي قراءة
النصب اللام للتبين " (1). انتهى.

1 - البحر المحيط 1: 19.
277

أقول: هذا غير معقول، لأن النصب لابد وأن يستند إلى عامل مذكور
أو محذوف أو عامل معنوي، كالابتداء - مثلا - في المبتدأ. فإذا قيام المصدر
مقام فعله لا يكفي لنصبه، فإن نفس القيام لا يقتضي النصب. فما اشتهر غير
راجع إلى محصل.
فالحمد لله، على النصب معناه: أحمد الحمد لله، وهذا بحسب
الدقة غير صحيح، لأن الحمد لا يحمد، ولكنه من قبيل قولهم: " كل ذنب
أذنبته وكل خطيئة أخطأتها "، فإن المتكلم يريد الاستغفار من كل ذنب
ارتكبه، ولا يعقل أن يجعل الذنب هو، فأخذ مادة الذنب في الفعل لا تدل
على شئ، والهيئة تدل على الصدور، أي كل ذنب وخطيئة أصدرته
وأوجدته، فأحمد الحمد لله، أو أوجد الحمد لله، واخصص الحمد لله...
وهكذا مما يناسب مقصوده.
وإذا قرأناه على الجر والكسر فهو لأجل اتباع الدال اللام في
حركتها (1) وهذا هو الاكتساب من المجاورة، كما قيل في قوله تعالى:
* (وجعلنا من الماء كل شئ حي) * (2) فإن قضية القواعد احتياج الفعل هنا
إلى مفعولين، فلو كان " حي " صفة لشئ، يلزم كون " جعل " بمعنى خلق،
ويصير من أقسام الجعل البسيط، وهو خلاف الأصل فيه، فالمعنى هكذا:
جعلنا من الماء كل شئ حيا، ولكنه مجرور بالمجاورة فتأمل.

1 - انظر الكشاف 1: 10، والبحر المحيط 1: 18، والجامع لأحكام القرآن 1: 136.
2 - الأنبياء (21): 30.
278

القراءة
أجمع السبعة على قراءته بالرفع، هكذا حكي الإجماع في كتب
كثيرة (1)، وقيل: في رواية شاذة كسر الدال واللام (2). وفي أخرى - وهو
المحكي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج - فتح الدال وكسر
اللام (3). وفي ثالثة بضم الدال واللام، اتباع اللام عن الدال، لعدم ثبوت
حركة لها في ذاتها (4). ويظهر من أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني في
كتابه المسمى ب‍ " تحفة الأقران فيما قرئ بالتثليث من حروف القرآن ": أن
الحمد قرئ بالتثليث، ولا يكون من القراءة الشاذة (5).
وهنا بعض تخيلات باردة حول حركات الدال واللام تصدى لها
" مجمع البيان " والقرطبي وذكراها، ولا ينبغي صرف الوقت فيها (6).

1 - انظر مجمع البيان 1: 21، الجامع لأحكام القرآن 1: 135، تفسير التبيان 1: 30، البحر
المحيط 1: 18.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 136، البحر المحيط 1: 18.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 135، البحر المحيط 1: 18.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 136، البحر المحيط 1: 18.
5 - تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن: 81 - 85.
6 - راجع مجمع البيان 1: 21، والجامع لأحكام القرآن 1: 135 - 136.
279

علم المعاني والبلاغة
المبحث الأول
هل هذه الجملة إخبارية أو إنشائية؟
فإن كانت إخبارية عن الأمر الواقعي، وهو مالكيته تعالى للحمد،
فلا يكون من الجمل المتقرب بها العبد في مقام العبودية، وعلى هذا تكون
هي إنشائية لما أنها نزلت في هذا الموقف، أم الإخبارية والإنشائية تابعة
لقصد المستعملين، فمنهم من يستعمله إخبارا عن اختصاصه بذلك، ومنهم من
ينشئ ذلك في مقام العبودية.
وأما في مقام التنزيل فربما كانت فارغة عنهما عندما يذكرها جبريل،
وأن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ربما في مقام القراءة استعملها في أحد المعنيين
الإخباري والإنشائي.
وربما يستظهر من بعض تعابيرهم: أنها جملة إخبارية، ولم يتعرض -
على ما تفحصت - جماعة المفسرين لهذه المسألة، حتى الفخر الباحث
عن أنواع المباحث المرتبطة وغير المرتبطة.
280

وربما يمكن أن يتخيل التفصيل: فإن كان هي مقالة رب العالمين في
توصيفه بذلك - كما وصف نفسه في مواقف كثيرة - فهي ظاهرة في
الإخبارية، وإن كانت مقالة السالكين في مقام العبودية والتقرب، فهي
ظاهرة في الإنشائية، ولا يكون النظر إلى أن الأمر كذلك بحسب الواقع، كما
في قوله تعالى: * (إياك نعبد) * مع أنه يعبد الأصنام والأشخاص، ويكون
مشركا في كثير من الأمور.
والذي هو الحق: أنها جملة إخيارية عن الأمر الواقعي الذي يأتي
تحقيقه، ولا تنافي بينها وبين كونها مفيدة للإنشاء والتقرب والعبودية، فإن
ذكر جميل المحبوب على نعت الواقع في مقام الانس والخلوة، هو عين
التقرب به بذلك والتدلي بشأنه، فهي جملة إخبارية على كل حال، ولكن
ربما تستعمل في مقام العبودية والشكر، فيعتبر منها الإنشاء، وهو تحميد
المحمود بذكر محامده التي هي نفس الواقعية، وربما تستعمل في مقام
إفادة مفاده الإخباري من غير نظر إلى تلك الجهة.
المبحث الثاني
حول إفادة حصر الحمد به تعالى
هل هذه الجملة تفيد حصر الحمد به تعالى أم لا؟ فيه وجهان.
والذي سلكه الأصحاب لاستفادة الحصر أمور:
أحدها: أن الألف واللام جئ بهما للاستغراق، فلابد من الاستيعاب،
فيكون كل حمد له تعالى.
281

وفيه أولا: أن دلالة الألف واللام عليه فيما كان المدخول مفردا،
محل منع، بل فيما كان المدخول جمعا محل إشكال كما مضى، ضرورة أن
الحمد لا يدل إلا على نفس طبيعة الحمد، والألف واللام الداخلة عليها
لا تفيد شيئا، كما عرفت فيما سبق، ولو كانت له دلالة فهي لا تزيد على أكثر
من كون الحمد - بجنسه وطبعه وطبيعته - له تعالى، من غير نظر إلى
الأفراد والمصاديق.
وثانيا: قد تقرر في الأصول: أن العموم والإطلاق - في جهة
الحاجة إلى مقدمات الحكمة لاستفادة العموم والإطلاق - متساويان،
والمسألة وإن كانت خلافية، إلا أن الأظهر أن مقدمات الحكمة المحتاج
إليها دائمة الحصول، كما في النكرة في سياق النفي. والتفصيل في محله.
ثانيها: أن مقتضى مقدمات الحكمة - ومنها كون المتكلم في مقام
بيان مرامه ومقصوده - كون الحمد بجميعه لله تعالى، ولا يكون لغيره شئ
منه، فإذا قيل: المال لزيد، وكان في مقام إفادة أن ما هو لزيد هو المال،
فيكون هذا مفيدا للحصر.
وأنت خبير: بالفرق بين كون هذه الجملة مفيدة حصر المال بزيد،
وبين كونها تفيد أن زيدا لا يكون له شئ غير المال، والمقدمات السابقة -
المعبر عنها في الأصول بمقدمات الحكمة، ومقدمات الفرار من الإهمال
والإجمال - لا تفيد إلا أن لله تعالى لا يكون إلا الحمد، وهذا ليس هو
مقصودنا، بل المقصود إفادة حصر الحمد به تعالى، وأنه لا يكون لغيره
حمد أو ما يستحق به الحمد.
ثالثها: ظهور اللام في الملكية يورث الحصر.
282

وفيه: أن هذا غير كاف، للحاجة إلى إرادة مطلق الحمد حتى يثبت
له تعالى.
والذي هو التحقيق: أن قولنا: الحمد لله، وملك له تعالى، بعد إرادة
إثبات نفس الطبيعة ملكا له وتحت ظله وسلطانه، يفيد الحصر بدلالة
عقلية لا لفظية، فإن ألفاظها قاصرة عن إفادة الحصر. نعم لو كان هكذا: لله
الحمد، كان لدعوى: أن هيئة الجملة وضعت لإفادته، لتقديم ما حقه
التأخير، وجه قريب.
والعجب من الفخر وغيره، حيث توهموا: أن عدوله تعالى عن قوله
- مثلا -: حمدت الله، وأحمد الله - وهكذا ما شابهه - إلى قوله تعالى:
* (الحمد لله) * دليل على أن الجملة الاسمية تدل على الحصر (1).
وهذا شنيع، فإن المحرر في محله: أن ما حقه التأخير إذا قدم يدل
على الحصر، بخلاف هذه الجملة، فإنه يمكن أن تكون في مقام حصر ملك
الله بالحمد لا العكس.
نعم يمكن أن يقال: إن الألف واللام للعهد الادعائي، وما هو مورد
الدعوى هو الحمد كله، فكل حمد يقع في العالم على الجميل الاختياري
فهو له تعالى، لأن الجميل الاختياري جميله تعالى واختيارية تعالى، كما
يأتي في ذيل بحث الحكمة والفلسفة من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
فبالجملة: لابد لإثبات حصر الحمد به تعالى، أو حصر ما يحمد
عليه به تعالى، من التمسك بأمر آخر خارج عن أفق أذهان العامة وهو:

1 - التفسير الكبير 1: 219.
283

أن ما يكون سببا للحمد وموجبا لاستحقاق التحميد والثناء، هو لله تعالى،
فإذا كان هو له تعالى فملزومه - وهو الحمد والمدح والثناء - له تعالى.
وأما هذه الجملة، فدلالتها على حصر اللازم به تعالى، أو حصر
ما هو ملازم للحمد به تعالى، غير واضحة دلالة وضعية، وأما دلالة عقلية
بمقدمات الحكمة، وأن الحامد في مقام إفادة الحصر في ثنائه تعالى
وحمده، فهي غير بعيدة، فيكون معناها: كل شئ يوجد في الخارج ويصدق
عليه الحمد فهو له تعالى، فإذا كان الحمد لكل جميل اختياري في غيره
تعالى، له تعالى أيضا، فلا يثبت به أن كل كمال له تعالى، لأن من
الكمالات ما لا تكون من الجميل الاختياري.
فما ترى في " تفسير الميزان " لأستاذنا العلامة - مد ظله - غير
وجيه، فإنه في مقام إفادة أن الآية الشريفة تدل على الحصر المزبور،
ولكنه استدل بأمر آخر خارج عن مفادها، ولا بأس بنقله مع رعاية
الاختصار، قال: واللام فيه للجنس والاستغراق والمال واحد، وذلك أن الله
تعالى يقول: * (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ) *، فأفاد مخلوقية كل شئ
له تعالى، وقال: * (الذي أحسن كل شئ خلقه) * فأثبت حسن كل شئ هو
مخلوقه، فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس، فلا خلق إلا وهو حسن
جميل واختياري له تعالى، فإنه قال: * (هو الله الواحد القهار) *، فلا يكون
خلق شئ بقهر قاهر فهو باختياره، فما من شئ إلا وهو فعل جميل اختياري
له تعالى. انتهى ما أردنا نقله (1).

1 - تفسير الميزان 1: 19.
284

فهل هذا - على تقدير سلامته عن جميع المحذورات - يتم، بأن يكون
ذلك مما يدل عليه قوله تعالى: * (الحمد لله) * فإن حصر الحمد به تعالى
- مع كونه على الجميل الاختياري - يستلزم كون كل جميل فعله تعالى،
ومن ذاك الجميل على الإطلاق إذا كان اختياريا لكل موجود.
وأما صحة حمد الله تعالى على جميع أفعاله، لأنه فعله الاختياري،
فهو خارج عما نحن بصدد إثباته، فافهم ولا تكن من الخالطين.
ثم إن قضية ما مر منا: هو أن الحمد فيه شائبة العبودية، ولذلك
لا يحسن حمد الغير، وقلما يتفق استعماله في غيره تعالى، بخلاف الشكر
والثناء والمدح، فعليه لا يثبت بالآية الكريمة أن جمال كل جميل
اختياري له تعالى، لأنه ليس ما اشتهر بصحيح، وهو أن الحمد هو الثناء
على الجميل الاختياري، بل الحمد هو الثناء في مقام العبودية. والله
العالم بحقائق الأمور.
ومن الفخر يظهر التمسك في مورد آخر وفي مقام غير هذا المقام
بقول مشهور: " من لم يحمد المخلوق لم يحمد الخالق " (1).
وأنت خبير: بأن ما هو في رواياتنا هو أنه: " من لم يشكر المخلوق لم
يشكر الخالق " (2).
وفي " إعجاز القرآن " للباقلاني ناسبا إلى أمير المؤمنين عليه
الصلاة والسلام: " وسأل علي (عليه السلام) بعض كبراء فارس عن أحمد ملوكهم

1 - التفسير الكبير 1: 219 و 221.
2 - انظر بحار الأنوار 68: 44 / 44، وسنن أبي داود 2: 671، وعلم اليقين 1: 126.
285

عندهم؟ فقال: لأردشير فضيلة السبق، غير أن أحمدهم أنو شيروان ". انتهى
موضع الحاجة (1).
فيمكن أن يتوهم من هذا جواز استعماله بالنسبة إلى الآخر، ولكنك
تدري بأن بمثل ذلك لا يثبت المدعى ولا ينتقض معهودنا.
فبالجملة: تحصل إلى هنا أن الظاهر من السورة وهذه الآية: أن
المتكلم - سواء كان هو تعالى، فيمدح نفسه ويثني عليه، أو كان الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم الله إياه، أو غيرهما من القارئين - في مقام تحميده
تعالى وتجليله وتوصيفه، فيكون في مقام إفادة المدح التام، وهو لا يناسب
إلا أن يثبت: أن كل شئ صدق عليه أنه الحمد ثابت له تعالى وملكه،
تقدس وتنزه عن ذلك.
ومن الممكن دعوى: أن الابتداء بالنكرة غير جائز، فلو كانت الجملة
مفادها مهملة وجزئية، لكان يلزم الابتداء بها، فلابد من كون اللام لتعريف
الجنس، وتعريفه ليس إلا بإرادة الطبيعة على إرسالها وإطلاقها، فيشمل
جميع المحامد بأنحائها وأنواعها وجميع وجوداتها بمراتبها.
إن قلت: الألفاظ الموضوعة للطبائع: إما وضعت لها، فلا معنى لكونها
مهملة، بل في كل مورد هي مطلقة، وإن كانت موضوعة للطبيعة المهملة
المبهمة، فلا يمكن التعريف لتوغلها في التنكير، فما معنى الكلمة
المشهورة في الأصول: أن الإطلاق يحتاج إلى مقدمات الحكمة، فإنه مما
لا يرجع إلى محصل.

1 - إعجاز القرآن، المطبوع في حاشية الإتقان في علوم القرآن 1: 107.
286

قلت: اللفظ في مقام الوضع موضوع لنفس الطبيعة، مثلا: لفظ
" البيع " موضوع لنفس طبيعة البيع، من غير نظر إلى الخصوصيات
اللاحقة، فيكون هو صادقا على جميع الأفراد على البدل، ومقتضى مقدمات
الحكمة الجارية في وضع الواضع، أن ما هو موضوع له هو نفس
الطبيعة، ولا مدخلية لشئ آخر في دلالة لفظ " البيع " عليها، ولكنه ربما
تجعل الطبيعة موضوعا للحكم القانوني مثلا، ويكون المقنن والمشرع في
مقام إفادة أن ما هو موضوع الحكم نفس الطبيعة لا غير، فيستفاد من
الإطلاق والإرادة الاستعمالية أن المراد الجدي أيضا موافق لسعة الإرادة
الاستعمالية، وربما يكون المتكلم في مقام إفادة أن الطبيعة تمام المراد
الجدي فإنه في هذه الصورة أيضا استعمل اللفظ في معناه اللغوي، ولكنه
ليس موافقا للإرادة الجدية، فلا ينبغي الخلط بين مقام الاستعمال ومقام إفادة
المراد الجدي، فليتأمل جيدا.
وبعبارة أخرى: إذا قال المتكلم: الرجل خير من المرأة، فإنه لم
يستعمل اللفظ إلا في معناه - وهي الطبيعة - إلا أن الطبيعة كما تصدق مع
واحد تصدق مع كثير، فإن كان في مقام إفادة أن كل شئ صدق عليه الرجل
هو خير منها، فهو يفيد الإطلاق في الموضوع للقضية، وإن كان في مقام إفادة
أمر مجمل، فتكون القضية صادقة إذا كانت الأفراد غالبا أحسن منها وخيرا
منها من غير لزوم المجاز.
287

المبحث الثالث
روايات من طريقنا يستدل بها على الإطلاق
قد وردت روايات من طريقنا تدل أو يستشعر منها الإطلاق، وهو يلازم
الحصر قضاء لحق اللام الظاهرة في الملكية:
فمنها: ما أخرجه الكليني بإسناده عن ميسر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
قال: " شكر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب
العالمين " (1).
ومنها: ما أخرجه الشيخ الفاضل صاحب " كشف الغمة " عن
الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال الصادق (عليه السلام): " فقد أبي بغلة له، فقال: لئن
ردها الله تعالى لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن اتي بها بسرجها
ولجامها، فلما استوى عليها وضم إليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء، وقال:
الحمد لله ولم يزد، ثم قال: ما تركت ولا بقيت شيئا، جعلت كل أنواع المحامد
لله عز وجل، فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت ".
ثم قال علي بن عيسى: " صدق وبر (عليه السلام)، فإن الألف واللام في قوله
تعالى: * (الحمد لله) * يستغرق الجنس " (2).
وأنت أحطت خبرا بما في ذيله من كلام الأربلي، ولكن الرواية

1 - الكافي 2: 78 / 10.
2 - كشف الغمة 2: 118.
288

ظاهرة في أن لفظة " الحمد " لا تدل على الاستغراق، وإلا لما صح أن
يقول (عليه السلام): " جعلت جميع أنواع... " إلى آخره، فيعلم من ذلك أنه تابع لإرادة
المتكلم، فتدل الرواية على الحصر وعلى وجه الحصر روحي وأرواح
العالمين لتراب أقدامهم الفداء.
ومنها: غير ذلك مما هو مسطور في كتب الأخبار والروايات.
289

الحكمة والفلسفة
وهنا أنظار:
النظر الأول
دلالة الآية على أن العالم فعله تعالى
إن الآية الكريمة الشريفة تدل على مسألة عقلية غامضة راقية،
مبرهنة بالبراهين الساطعة اللامعة في الكتب العقلية وفي قواعدنا
الحكمية وهي:
أن كل شئ لابس الوجود وتنور بنور تلك الحقيقة، وكان له كمال
الوجود وجمال تلك البارقة والرقيقة، فمن هو سببه وعلته، ومن هو
مفيضه ومعطيه، ومن إليه يرجع في سلاسله، وإليه يستند في علله، هو
الواجب الواحد بالذات القاهر، ولو كان شيئا مستقلا في الأفعال والإيجاد،
فلابد وأن يرجع استقلاله في الإيجاد إلى استقلاله في الوجود، وهو
الشرك والخلف، * (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ) * (1) * (والله خلقكم وما

1 - غافر (40): 62.
290

تعملون) * (1).
فإذا كانت الآية الشريفة مفيدة حصر الحمد به تعالى، ويكون
الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري، فهي تستلزم كون سبب الحمد
منحصرا في حضرته الربوبية. وهذا غير ما سلف، فإن فيما مضى إثبات أن
جميع العالم فعله تعالى، فيكون حمد كل شئ على فعله حمدا له أيضا،
ولكنا هنا في مقام تحريم حمد الغير وحصر الحمد به تعالى، بدعوى: أن
كل كمال وجمال في العالم يحصل لكل موجود بإرادته تعالى ومشيته،
فلا يكون ذلك بالاختيار الذي يصحح توجيه الحمد إليه، وإن لم يكن
خارجا عن الاختيار بوجه يستلزم الجبر، وهذا هو حقيقة الحصر، وإلا لما
كان للحصر بالتقريب الذي مر في ذيل المسائل السابقة، وجه محصل،
فإن جواز حمد الله على فعل كل أحد، وجواز حمد كل أحد على فعله،
لا يجتمعان، مع كون المرام والمقصود حصر الحمد فيه تعالى وتقدس.
إن قلت: كيف يمكن سلب الحمد بالنسبة إلى أفعال العباد
الجميلة الاختيارية، مع أنها جميلة حصلت باختيارهم، فلابد من ترخيص
توجيه الحمد إليهم والمنع عنه يلازم منع اختياريتها، فيكون جمال
أفعالهم كجمال الطبائع.
قلت: إن نظرنا إلى ظاهر الحال وصورة الأمر، فالحق كما أفيد، وإذا
نظرنا إلى أن الممكن الذي لا حيثية لذاته ولا غناء في ماهيته ووجوده،
ولا كمال له إلا وهو إفاضة من الغيب بتقدير اختياره، فكيف يمكن نسبة

1 - الصافات (37): 96.
291

الجمال والكمال إليه، فإنه بالاختيار لا يتمكن من تحصيل ما لا يعطيه
الله تعالى وإن يحصل له ما يعطيه بالاختيار، ولكنه ليس هو الاختيار
المأخوذ في تعريف الحمد حسب العقل النظري، لا السوقي والعامي،
أفما قرأت الكتاب العزيز * (ما أصابك من حسنة فمن الله) * (1) فإذا كانت كل
حسنة من الله تبالي، فكيف يكون له الجميل المصحح لتوجيه الحمد إليه.
ثم إن ما نظرنا إليه يتم سواء قلنا: إن الحمد الثابت له تعالى معناه
المصدري، أو الاسم المصدري، أو معناه المصدري المنتسب إلى فاعل
ما، أو إلى مفعول ما، كالحامدية والمحمودية أو بمعنى ما يحمد عليه وما
هو سبب الحمد وعلته، فإن أردنا إثبات حصر معناه المصدري في حقه
تعالى، وأنه تعالى يليق بأن يكون حامدا لنفسه دون غيره، فلابد وأن يكون
لادعاء سلب لياقة العباد، وهذا الادعاء لا يتم إلا لأجل أن غيره تعالى
لا شئ له ولا حيثية له حذاء الحق الأول وإزاء الرب المطلق، فتصير
النتيجة ذلك، وهكذا فيما أريد حصر معناه الاسم المصدري فيه أو غيره.
نعم فيما إذا أريد من الحمد ما يحمد عليه، فهو أصرح في المعنى
المقصود هنا.
وما في " بيان السعادة " من: أن النظر إلى أن الحامد لابد وأن
يكون إنسانا عقلانيا، وحمده كان حمدا قلبيا، وهكذا (2)، غير تمام، لظهور
السلب والإثبات في أن الحمد لله تعالى، ولا يكون لغيره لياقة التحميد،

1 - النساء (4): 79.
2 - تفسير بيان السعادة 1: 29.
292

لا أن غيره لابد وأن يكون كذا وكذا حتى يليق، فإنه مناف للحصر، فإن معنى
الحصر ينحل إلى السلب والإيجاب وسلبه مطلق، وقضية الحصر هو
انسلاب كل أحد عن اللياقة والشأنية لتحميده، فلا تخلط.
فقوله: * (الحمد لله) * أي كل شئ صدق عليه أنه حمد، فهو له
تعالى، وليس الحمد لغيره تعالى، ولازم كون الحمد بأجمعه لله أن يكون
كل فعل جميل اختياري لله تعالى، ولازم الثاني أنه لا فعل جميل اختياري
لغيره تعالى، وحيث لا يمكن سلب اختيارية فعل الغير عن الغير، فلابد من
سلب كونه بجميله اختياريا، فإن جميل كل شئ يرجع إلى جمال
المعشوق والمعبود، فالسلب يرجع إلى المقيد، لا كل واحد من القيدين،
ولله الحمد على ما ألهمناه واختار لنا من ملكوته ومن المن والسلوى.
النظر الثاني
دلالة الآية على أن كمال الموجودات له تعالى
إن الآية الكريمة الشريفة، كما تدل على أن جميل كل فعل اختياري لله
تعالى، تدل على أن كمال سائر الموجودات أيضا له تعالى.
وأما قصور دلالتها ابتداء على العموم فهو واضح، لما أن الحمد هو
الشكر والثناء على الجميل الاختياري، ولازم كونه له أن جميل كل فعل
اختياري له، وأما جميل سائر الأشياء فهي قاصرة عن الدلالة عليه، كما
لا يخفى.
نعم لو قلنا بأعمية الحمد وشموله للمدح - كما عن بعض كتب
293

اللغة (1) - فيصح أن يقال: " حمدت اللؤلؤ على صفائه، والزبرجد على
جماله وكماله "، فوجه الدلالة واضح بعد اتضاح ذلك في السابق.
ولو قلنا بأخصيته - كما هو المتبادر عرفا - بل ولو قلنا بأخصيته مما
سبق، واختصاصه بالشكر الخاص المشتمل على نحو من العبودية،
فيمكن دعوى الأولوية القطعية - والاتفاق بين الملل - على أن جميل
أفعال العباد إذا كان له تعالى، فجميل غيره مورد الاتفاق، وذلك لأن ما هو
مصب النفي والإثبات - ومحط الخلاف بين الأقوام والأعلام - هي أفعال العباد.
فتحصل حتى الآن: أن لهذه الجملة الصغيرة حجما كبيرا غير متناه
دلالة ومعنى، وفي غاية الرقاء والعلو إفادة وإنارة، كيف لا؟! وهو من تحميد
الله تبالي لنفسه في سورة شاملة لما في جميع القرآن من المحامد والأثنية.
إن قلت: نعم، ولكنها في مقام الثناء والإنشاء، وهو أعم من الواقعية
والتكوين.
قلت: قد مضى أنها جملة إخبارية في مقام المدح والتحميد، فيكون
مدلولها الإخباري موافقا للواقع، ويتذكره العبد، إبرازا لما في قلبه من حبه
تعالى، وعشقه لحضرته وعلاقته بجمال جميله وكمال حقيقته، وإظهارا
للخضوع والخشوع مبتهلا إليه تعالى.
ويمكن دعوى: إلغاء الخصوصية، فإنه إذا ثبت في مورد أن جميل
فعل العبد له تعالى، يثبت عموم المدعى، لعدم القول بالتفصيل. والله
العالم بحقائق الأمور.

1 - راجع المصباح المنير 1: 149.
294

النظر الثالث
دلالة الآية على أن الحمد ملكه ملكا حقيقيا
إن هذه الآية تدل على أن الحمد مع لوازمه ملكه تعالى ملكا حقيقيا،
لا اعتباريا وادعائيا.
وذلك لأن ظهور اللام في الملك مما لا يكاد ينكر بدوا، فإذا لا معنى
لكونه ملكا ادعائيا، بل هو ظاهر في الملكية الواقعية - اعتبارية كانت أو
حقيقية - وحيث لا سبيل إلى اعتبار الملكية الاعتبارية له تعالى قبال
سائر الملاك، فيكون الحق مالكا للدار وزيد مالكا لها أيضا في عرض
واحد أو في طول، لو أمكن تصوير ذاك وذلك على خلاف محرر في الكتب
الفقهية والأصولية. وذكرنا في محله إمكان ذلك الاعتبار إذا كان موضوعا
للأغراض العقلائية، ولا يكفي غرض واحد لعاقل، بل لابد وأن يكون مورد
اعتبار العقلاء كسائر الملكيات الاعتبارية، وحيث لا يتصور لدى العقلاء ما
يقتضي ذلك، فهو ظاهر في الملكية الحقيقية، بخلاف قوله تعالى: * (فأن
لله خمسه) * (1)، فإن اللام هناك ربما تكون ظاهرة في إفادة نحو إضافة أعم
من الملكية والأولوية بالتصرف.
فالآية الكريمة الشريفة تدل: على أن جميل جميع الأفعال
والجواهر وجميع الموجودات بكمالاتها، تحت سلطانه تعالى وتحت

1 - الأنفال (8): 41.
295

قدرته واختياره، وأنها ملكه تعالى، فيكون مالك السماوات والأرض
وجميع السماويات والأرضيات والحوادث والأحداث والأعراض، فتدل
على نفوذ قدرته ونفوذ علمه واختياره وإرادته وغير ذلك مما هو المبرهن
في الإلهيات بالمعنى الأخص.
وقد خالفنا جماعة من الإمامية والطوائف الاخر في كيفية تصوير
ذلك، فلم يصدقونا في هذه المراحل، ولكنك بعد التدبر فيما سطرناه حول
الآية الكريمة الشريفة، يظهر لك عموم ما ذكرناه في قواعدنا الحكمية،
من غير حاجة إلى البراهين العقلية والأدلة الأخرى النقلية.
وغير خفي: أن المناقشة في بعض ما أسمعناكم ممكنة، إلا أنها
خارجة عن المرتكز العقلائي. نعم لو ثبت عند أحد امتناع تلك المسائل
العقلية، فله العدول عن الآية الشريفة وصرفها إلى غير ما هو الظاهر
منها المتفق عليه المفسرون نتيجة، وإن اختلفوا في مقدمات المسألة كثيرا.
إن قلت: إن كان المراد من الحمد ما يحمد عليه، فهو المناسب
لكونه ملكا له تعالى، وأما الحمد بالمعنى الحدثي فهو لا يناسب ذلك.
قلت: أولا: إن الحدث والجوهر مشتركان في انتسابهما إلى عللهما
القريبة وإلى علة العلل، ولا فرق بين صفاء اللؤلؤ المستند إلى العلل
الطبيعية وهكذا نبات الشجر، وبين أفعال الحيوانات والإنسان.
وثانيا: إن من الممكن دعوى: أن النظر إلى اعتبار ملكية الحدث
له تعالى، داع إلى إثبات ملكية ما يورث الحمد له تعالى حقيقة
وتكوينا.
ومما ذكرناه في هذه النظرات والأنظار يظهر: أن أغلب المفسرين لم
296

يصلوا إلى مغزى مفاد الحصر والمقصود من الحصر، وإذا كان ذلك خافيا
على بعض الخواص منهم - كالمنار والميزان - فغيرهم أولى بذلك.
النظر الرابع
دلالة الآية على الجبر الذي يقول به الأشاعرة
وغاية تقريبها:
إن انحصار الحمد - الذي هو الثناء على الجميل الاختياري - فيه
تعالى، يلازم حصر الجميل الاختياري فيه تعالى، ومنع صحة حمد غيره
تعالى، فإذا لم يصح حمد غيره تعالى يعلم أنه لا يكون ذا جميل اختياري، بل
الجميل الصادر منه باختيار الغير، وهو الله تعالى.
وأما غير الجميل الصادر منه من السيئات والشرور غير ذات
الجمال، فهو وإن لا يستفاد منه كونها بإرادته تعالى واختياره، إلا أن إثبات
لا اختيارية العباد بالنسبة إلى الأفعال الجميلة الحسنة، يستلزم
إثبات ذلك على الإطلاق، لعدم القول بالفصل.
أو يقال: إن كل فعل يصدر من العبد، وكل ماهية توجد بإيجاد العبد
توهما أو إيجاد الله تعالى واقعا، ذو جنبتين: جنبة كمال وجمال وشرف وعزة
وخير، وجنبة نقص وسوء وخسة وذلة وشر، ولا يوجد شئ يسمى شرا
مطلقا، بل الشرور أعدام في الواقع لا تنالها يد الجعل والتكوين، فلا يكون
ما يصدر من العبد سيئا على الإطلاق، بل فيه جهة حسن هو منه تعالى،
وجهة شر هو من الواسطة، فإذا يكون جميع الأفعال بما فيها الحسنات لله
297

تعالى، لأنه يصح أن يحمد على الفعل الذي فيه الجهتان، وإذا كان
الحمد منحصرا فيه تعالى فلا فعل اختياري للعبد مطلقا، لأن فعله السيئ
أيضا يستند إليه تعالى، لما فيه من الحسن المستند إليه تعالى،
ولا يعقل تجزئة الواحد إلى كثير، حتى يقال بأن السوء الصادر منه فعلان
حسن وسيئ، بل هو واحد يختلف جهتا حسنه وسوئه باللحاظ، فلا تخلط
وكن على بصيرة.
أقول: ربما يتوهم أن المراد من الحصر أن الحمد لا يستحقه غيره،
ولا حق لأحد على الآخر أن يحمده، فما هو منحصر فيه تعالى هو استحقاق
الحمد، وهذا لا ينافي جواز حمد غيره مما يصدر منه الفعل الجميل
الاختياري.
وأما ما ورد في الشرع من جواز حمد الغير وشكره، فهو يرجع إلى
امتثال أمر الرب عز وجل، فيكون في الحقيقة لأجل استحقاقه الامتثال (1).
وأنت خبير بما فيه من الضعف والنقود، ضرورة أن اللام متعلق
بالمحذوف، وقد مضى أنه من مادة الملك، فيكون المعنى: أن الحمد
ملكه تعالى، وملك له تعالى من غير نظر إلى حصر استحقاق الحمد فيه
تعالى، مع أن العقلاء بناؤهم على استحقاق المنعم الحمد من غير استناد
فيه إلى الشرع.
فالجواب ما مر منا وهو: أن نفي الجميل الاختياري بلحاظ أن الجميل
من قبل الله تعالى، ولكن العبد باختياره يجلب ذلك الجميل، فلا يستحق

1 - تفسير الشيخ محمد حسين الأصفهاني: 127 - 132.
298

- بحسب إدراك العقل - أحد الحمد لأجل أنه لا يصدر منه الجميل
الاختياري، فإن جميله لله تعالى، وهو قد تصدى لتعينه في لباس الكثرة،
وفي الحد الخاص، وفي الكثرة الأزمانية والمادية.
وأما توهم: دلالة الآية الكريمة الشريفة على الاختيار، وعلى
مسلك العدلية في باب الأفعال، لأجل أن الحمد مرفوع لقيامه مقام الفعل
المحذوف، وهو في الأصل كان هكذا: حمدت الله، فيكون استناد الفعل إلى
العبد دليلا على أنه فاعل، وجعل الحمد بكليته لله تعالى، دليل على أن
الله تعالى دخيل في كل فعل، فلا جبر ولا تفويض، فيكون أمرا بين الأمرين.
فهو في غير محله، وذلك لأن التركيب المزبور باطل، وقد فرغنا في
محله عن وجهه. هذا أولا.
وثانيا: الأشعري لا ينكر في الظاهر صدور الفعل من العبد (1)، ولذلك
ينكر الحسن والقبح العقليين، لا العرفيين والعقلائيين (2)، فله أن
يقول: بأن تصدي العبد في الظاهر للحمد، هو في الحقيقة باختيار الله
وإرادته وقدرته، فهو من ظهور حمده لنفسه.
فما يستظهر من الفخر (3) وغيره في هذه المسائل - مع أنه وأمثاله
ليسوا أهلا لهذه المسائل على الشأن اللائق بها - كله خال عن التحصيل
ونحمد الله تعالى على ما يوفقنا هذه الورطة، ويؤيدنا على فهم مغزى

1 - شرح المقاصد 4: 223، شرح المواقف 8: 146.
2 - شرح المقاصد 4: 282، شرح المواقف 8: 181.
3 - التفسير الكبير 1: 218 - 228.
299

كلامه حسب التجليات المتحددة بالتحددات الخاصة، وهو المعين.
النظر الخامس
دلالة الآية على التفويض
وذلك لأن حصر الحمد - وهو الثناء على الجميل الاختياري -
يقتضي كون جميع أفعاله تعالى جميلة، فلو كانت أفعال العباد مستندة إليه
تعالى استقلالا - كما عليه الجبرية - أو اشتراكا - كما عليه الإمامية -
لكان يستند إليه تعالى سوء الأفعال، وهو ليس بجميل حتى ينحصر الحمد
في حقه تعالى، فعندنا هو تعالى مستحق لأعظم المحامد والمدائح.
وأنت خبير بما فيه، مما لا يتم أصل تقريب الاستدلال في صورته، لأن
معنى حصر الحمد فيه تعالى: أن كل محمود له تعالى، وأما أنه تعالى
كل ما يصدر عنه محمود، فهو لا يدل عليه، فلا ينبغي توهم دلالة الآية على
مذهب القدرية.
ثم إن الظاهر من قوله تعالى: * (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا
في أنفسكم إلا في كتاب) * (1)، وفي الآية الأخرى: * (إلا بإذن الله) * (2)، وفي
ثالثة: * (من قبل أن نبرأها) * (3) ومن قوله تعالى: * (قل كل من عند الله) * (4)

1 - الحديد (57): 22.
2 - التغابن (64): 11.
3 - الحديد (57): 22.
4 - النساء (4): 78.
300

بعد قوله: * (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) * (1) أن جميع الموجودات
وتوابعها المنجعلة بالعرض - وهي الأسواء والسيئات والشرور - يستند
إليه تعالى في وجه، فما توهموه غير موافق للعقل والنقل.
النظر السادس
حول حقيقة الحمد في الخالق والمخلوق
اعلم أن الحمد بالحمل الأولي هو إظهار هذا المفهوم في قالب
لفظي، وأحسنه قوله: * (الحمد لله) * كما أثنى به على نفسه في الكتاب
الإلهي في مواقف عديدة، وكان الأنبياء والأولياء يحمدونه تعالى بذلك، كما
يأتي في تاريخ هذه الجملة وسابقتها قبل الإسلام.
والحمد بالحمل الشائع وهو الحمد الفعلي وهو المخلوق قد
يكون بإتيان الأعمال الصالحة من العبادات والخيرات وإيصال القوى
الكامنة إلى الغايات، ابتغاء لمرضاته، فيستعمل الحامد كل عضو فيما
خلق لأجله على الوجه المشروع، حتى يحصل الوفاق بين مقالته
وأعماله، وهذا هو الحمد الفعلي بالمعنى الأخص المسمى بالعملي
عندنا، وقد يكون حاليا وقلبيا، وهو المسمى بالتخلق بأخلاق الله والتعين
بالأوصاف الكمالية والجمالية وحب المعروف وبغض المنكر،
وبالجملة: الجهاد مع النفس، وهو الجهاد الأكبر.
وأما الحمد في الخالق: فهو إظهار الصفات والكمالات، وهذا هو

1 - النساء (4): 79.
301

حقيقة الحمد في عرف المكاشفين وأرباب اليقين، والإظهار القولي حمد
المحجوبين وأرباب السجن والحس، والإظهار الفعلي من الله تعالى
وحمده ذاته تبارك وتقدس، هو أجمل مراتب الحمد، وهو بسطه الوجود
على كافة الممكنات، وعلى وجه لا يعد ولا يحصى، وقد وضع عليها موائد
كرمه التي لا تتناهى. وبذلك قد كشف عن صفات كماله ونعوت جلاله،
وأظهرها بدلالات عقلية تفصيلية غير متناهية، فإن كل ذرة من الذرات تدل
عليها، وهذه الدلالات لا يكون قالبها الألفاظ والأوضاع الاعتبارية، ولذلك
صار أقوى وأتم، فجميع الموجودات حمد الله تعالى، أي كما أن الألفاظ
الصادرة من أرباب القول حمد الله بالحمل الأولي أو الشائع، كذلك
الأعيان الثابتة - المتحلية بحلية الفيض المقدس، والوجود المنبسط،
والنور الساطع، والظل البارع - حمده تعالى، فإن حمد كل موجود
بحسبه، والقاصر يتوهم: أن حمد الله تعالى لفظي، فإنه لو كان كذلك لما
صح قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما نسب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا أحصي ثناء عليك أنت كما
أثنيت على نفسك " (1)، فإنه يعلم أن حمد الله نفسه أمر آخر وراء إمكان
البشر والرسول الأعظم.
وفي اعتبار آخر: جميع الموجودات في نظامه الجملي حمد واحد،
لما قد اشتهر: أن الجميع بمنزلة الإنسان الكبير الواحد له وحدة ظلية
حقيقية حقة، وله صورة واحدة، وهي الحقيقة التامة المحمدية، فيصح

1 - الكافي 3: 324 / 12، عوالي اللآلي 1: 389 / 21، مسند أحمد 1: 96 و 118
و 150، سنن ابن ماجة 2: 1263 / 3841، سنن الترمذي 5: 187 / 3562 - 3563.
302

أن يقال: هي صورة الختمية المحمدية الواصلة إلى المقام المحمود
المدعو في قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (1)، فذاته
المقدسة الظلية، أقصى مراتب الحمد التي حمد الله تعالى بها ذاته،
وقيل: لذلك خص بلواء الحمد وسمي بالحماد والأحمد والمحمد
والمحمود (2). والله العالم.
إلهام وإيحاء
أشرنا طي بعض المباحث السابقة: إلى أن حمده تعالى وتقدس
أيضا يعتبر قلبيا، ضرورة أن جميع الموجودات بأسرها مسبوقة الوجود
بالوجود العلمي، وأن الأعيان الثابتة العينية لها الظهور الإجمالي
العلمي، وذلك الوجود المبسوط عليها هو المسمى بفيضه الأقدس، فهي
مظاهره تعالى وحمده وثناؤه، وبها يظهر كماله الأقصى ونعته غير المتناهي.
وفي اعتبار آخر: هو ذاته بذاته ظاهرة لا تحتاج إلى مظهر وإظهار،
وهو ذاته بذاته حمده " عميت عين لا تراك عليها رقيبا " حيث قال سيد
الشهداء - سلام الله عليه - قبل ذلك على ما في الدعاء: " أيكون لغيرك من
الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟! " (3).
روحي وأرواح العالمين لك الفداء يا أبا عبد الله ويا سيد الشهداء،

1 - الإسراء (17): 79.
2 - انظر تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين: 73 - 74.
3 - إقبال الأعمال، سيد بن طاووس: 349.
303

فيارب إن كان فيما أسطره وأضبطه حول الكتاب الإلهي، شئ لي يسمى
بالجزاء والثواب، فنهديه إليه، ونرجو من حضرته التفضل علي بقبوله
والمنة على المفتاق المفتقر إلى شفاعته بعدم رده، والله المستعان.
النظر السابع
حول الحمد القولي لكافة الموجودات
إلى أن الحمد اللساني لا يختص بالإنسان، ومن الممكن دعوى: أن
القرآن كتاب الهداية لجميع الموجودات حسب إمكاناتها واستعداداتها،
فيكون قوله: * (الحمد لله) * تعليما لكافة الخلائق كيفية تحميده - تعالى
وتقدس - لسانا، ولا سيما إذا قلنا: بأن تقدير الآية هكذا: " قولوا بسم الله الرحمن
الرحيم الحمد لله " فيكون الخطاب إلى كل من يتمكن من القول والنطق.
اعلم أن المشهور عند أهل الفلسفة العليا: أن النطق فصل أخير
للإنسان، وعند أرباب البحث والتحقيق: أن الفصل الأخير أنحاء
الوجودات، والفصول الاشتقاقية لوازم تلك الفصول الحقيقية، وليست
هذه الفصول مندرجة تحت إحدى المقولات (1)، فيكون النطق الكيفي -
أي الذي من الكيفيات المسموعة - خاصة الإنسان، وعند أصحاب
الكشف والإيقان وذوي الألباب والعرفان: أن النطق الكيفي يشترك فيه
كافة الموجودات، إلا أنها محجوبة عن ذوي الحجب والواطنين في
الأرض السفلى، ومكشوفة لدى أرباب البصائر، ومسموعة بتلك الأذان

1 - الأسفار 2: 35 - 37.
304

عند رفض الجلباب البشري والخروج عن أكدار المادة وظلمات
الطبيعة، وللعارف الكامل الكاشف عن الحقائق، إظهار تلك الأقوال
والسبحات والتحميدات حتى للأجانب والمحجوبين، كما في قصة تسبيح
الحصاة في كف النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)، وإلى هذه المقالة البارقة
الملكوتية تشير الآيات الإلهية الآتية:
1 - * (أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ) * (2) فتأمل.
2 - * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * (3)
على القراءة المشهورة بالتاء.
3 - * (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير
صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون) * (4).
والروايات الكثيرة الناطقة: بأن الطيور ذات أذكار، وتشير إلى
تلك الأذكار (5)، ومما يشهد على أن الأشياء ذات أقوال ونطق قوله تعالى:
* (قالتا أتينا طائعين) * (6) وقوله تعالى: * (قالت نملة يا أيها النمل) * (7)،
والحمل على المجاز والكناية وإن كان يمكن، إلا أنه خلاف الظاهر، بعد
اقتضاء التحقيق ومساعدة الكشف والوحي له، فلا تخلط.

1 - مناقب آل أبي طالب 1: 90، إثبات الهداة 2: 45 - 46.
2 - فصلت (41): 21.
3 - الإسراء (17): 44.
4 - النور (24): 41.
5 - بحار الأنوار 61: 27 - 29، كتاب السماء والعالم، باب عموم أحوال الحيوان وأصنافها.
6 - فصلت (41): 11.
7 - النمل (27): 18.
305

علم الأسماء والعرفان
إن من المحرر في محله: أن الله تعالى هو الاسم المعتدل بين
الأسماء، وهو ينطوي على جميع مقتضيات الأسماء على وجه الاستواء،
ويكون مظهره أيضا أعدل الموجودات، وفيه جميع الأوصاف على حد
الاعتدال والاستواء، وأن هذا الاسم يعرب عن كون الذات جامعة لجميع
الصفات والكمالات، لا أنها جامعة لأعلى الأوصاف وأرفع الكمالات، بل
هو يقتضي كون كل كمال وجمال داخلا في إحاطة وجود مسماه وواردا في
مصبه وموقفه. وهذا - أيضا - من غير فرق بين أنحاء الكمالات الثابتة
لأنواع الموجودات، الراقية المجردة والنازلة المادية. فعلى هذا
يختص الحمد بالله تعالى، ووجه الاختصاص اقتضاء الاسم الشريف،
فإتيان كلمة " الله " الشريفة هنا للإيماء إلى هذه الموهبة العظمى وتلك
الدقيقة العليا.
ثم إن توحيد الحمد بحصره فيه تعالى يستلزم توحيد الأفعال،
ضرورة أن الحمد بوحدته الجنسية له تعالى، وتكثر تلك الوحدة بتكثر
أسبابه، فإذا كانت الأسباب راجعة إلى الوحدة فهو واحد، وذاك أيضا واحد
306

حقيقة، فلا تكثر في تلك الوحدة.
وتوحيد الأفعال يستتبع توحيد الصفات والذات، من غير انثلام في
أوصافه الجميلة، ومن غير لزوم إنكار الكثرة في التجليات الأسمائية
وغيرها.
ثم إن حمد الإنسان رب العالمين بالقول وبالذكر القلبي
والحالي، وأما حمده تعالى نفسه فهو ظهور الكمالات وحصول الغايات
من الأشياء، هكذا أفاده ابن العربي (1).
وبتوضيح منا: أن ظهوره تعالى وتجليه الأول، حمده القلبي
والباطني، وظهوره الثانوي وتجليه بالفيض المقدس، حمده الخارجي
واللساني، وأما حصول الغايات ووصول الأشياء إلى منتهاها فهو دائمي،
ولا يكون من الحمد إلا في وجه يأتي بيانه وتفصيله، كما لا يخفى.
كشف وإجمال
قد وقع في تعابير أهل المعرفة والعرفان وأصحاب الشهود والإيقان
- في مقام التحميد والاعتراف بالتعظيم والإجلال - جملة أشكل على
المتأخرين حلها، وهي قولهم: " الحمد لك بالألسنة الخمسة " (2).
والذي يظهر لي - وفي نفسي أنه من إفادات العارف الكامل والدي

1 - تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1: 9 - 10.
2 - مصباح الانس: 2 / السطر 8.
307

المحقق مد ظله (1) -: إن المراد من الخمسة هي:
1 - لسان الذات من حيث هي.
2 - ولسان الأحدية الغيبية.
3 - ولسان الواحدية الجمعية.
4 - ولسان الأعيان الثابتة.
5 - ولسان الكون الجامع، وهو الإنسان الأكبر الأجمل، وهي
الحقيقة المحمدية البيضاء بالأصالة والعلوية العليا بالتبع والتطفل.
والله من وراء الحجاب، وإليه الإنابة وعليه التوكل والتكلان.

1 - تعليقات الإمام الخميني (قدس سره) على مصباح الانس: 210، آداب الصلاة: 255.
308

علم الكلام
وهنا مسألتان بل مسائل:
المسألة الأولى
هل الشكر والتحميد واجب أم لا؟
أو يقال هل الشكر والتحميد حسن أو قبيح؟ فإن كان حسنا تصل
النوبة إلى وجوبه وأولويته، ثم بعدما ثبت وجوبه تصل النوبة إلى أنه
واجب بالعقل أو بالنقل، فهاهنا ثلاث مسائل:
الأولى: قد اشتهر عند كافة أرباب العقول حسنه الذاتي (1).
وربما يشكل ذلك، لأن نفس الشكر بعنوانه مع قطع النظر عن أمر
خارج عنه بالخصوص - وهو كونه حمد الله تعالى، أو حمد الخلق -
لا يوصف بالحسن، بل يوصف بالقبح، لما فيه من التذلل والتخضع الذي
يأبى عنه العقل، إلا لما يترتب عليه من الآثار المطلوبة.
بل المقرر عندنا: أن عبادة الغير - ومنها الحمد أيضا - قبيحة في

1 - كشف المراد: 409.
309

حد ذاتها، وإذا لوحظت مع قطع النظر عن الآثار المرغوب فيها، فإذا نظر
العقل إلى أن الإنسان موجود بالقوة، ولابد من الخروج عنها إلى
الفعلية، ولابد وأن تكون هذه الحركة إلى الكمالات الممكنة، وإذا
توجه إلى أن تلك الكمالات لا تحصل إلا بالحمد والتعبد والتحميد
والشكر وغيرها، يدرك لزوم ذلك للتوقف، وإلا فلو كانت العبودية مستلزمة
للنقص، وللحركة إلى الضعف فرضا، لما كان يدرك لزومها.
فمن ذلك يعلم: أن هذه الأمور ليست ممدوحة بالذات، بل هي
ممدوحة ومطلوبة بالغير، كمطلوبية مقدمات الواجب والمطلوب
النفسي، وهذا هو سر كون الإنسان مظهر واجب الوجود، فإنه لكونه مظهر
هذا الوجوب وذاك الموجود، يتأبى عن عبادة الغير والخضوع له، ويتأبى
عن تحميد الغير والشكر له، وإذا كان يرى أن التعين باسم الوجوب
والتلبس بلباس الأبدية، لا يمكن إلا بالتشبث بأذيال هذه المسائل، فيدرك
لزوم القيام بهذه الوسائل والمعدات والعلل، ولو كان يدرك أن الوصول
إلى تلك الغاية القصوى، رهين بهذه الأمور والأسباب خالصة عن جميع
الشوائب والأوهام لاهتم حتى يتمكن من ذلك، فينادي بأعلى صوته: أنه
يعبد الله لا خوفا من النار، ولا طمعا في الجنة، بل يعبده إدراكا لاستحقاقه
العبودية، فتأمل.
المسألة الثانية
في وجوب الشكر والحمد
وجوب الشكر والحمد مورد الاتفاق في الكتب الكلامية، وفي
310

مباحث التقليد من الكتب الفقهية، وهو عندنا محل الكلام، وذلك لأنه إن
أريد من الوجوب الوجوب النفسي المستلزم للعقاب، فهو غير صحيح،
لأن العقل لا يتمكن من إدراك ما يستتبع العقاب.
وإن أريد منه الوجوب الشرطي - أي أن الوصول إلى مدارج
الكمالات والتعين بالصفات والملكات الحسنة - متوقف على ذلك، فهو
في محله، لما نجد بالوجدان أن الاستكمالات لا تمكن إلا بمثله.
ثم إن الشكر والحمد: تارة أريد منه التحميد باللسان فهو ما
عرفت حكمه.
وأخرى: أريد منه القيام بالوظائف الإلهية - من إتيان الواجبات
وترك المحرمات - فهو أيضا من الواجبات الشرطية، أي أن المكلف إذا
كان يريد النجاة من تبعات أعماله من العقاب، ويريد استجلاب الثواب،
فعليه بهذا الفعل وذاك الترك. ولقد فصلنا البحث حول هذه المسألة في
تقاريرنا الفقهية (1).
وما اشتهر من وجوب التقليد فهو أيضا يرجع إلى ذلك، أي أن وجوبه
شرطي وتعليقي، أي أن العقل يدرك الملازمة بين النجاة من النار والفوز
بالجنة وبين القيام بالوظائف الشرعية، أما إلزام العبد بذلك فهو ليس
من شأنه.
كما أن درك لزوم دفع الضرر ولا بدية ذلك فهو - أيضا - مما لا أساس
له. نعم ربما تكون الفطرة قائمة على الفرار مما لا يلائم الطبع، وهذا غير

1 - مباحث الاجتهاد والتقليد من التحريرات في الفقه للمصنف (قدس سره) مفقودة.
311

إدراك العقل لزوم ذلك، كما أن تشخيص ما لا يلائم وما يلائم خارج عن حدود
وظيفته، إلا في الأمور المتعارفة الواضحة والوجدانية في هذه النشأة.
فبالجملة: أصل الوجوب الأعم من الشرطي والنفسي مما لا شبهة
فيه عندنا، ولا سبيل للعقل إلى ذلك.
المسألة الثالثة
هل الآية الشريفة - قوله تعالى: * (الحمد لله) * -
تدل على أن الوجوب المزبور عقلي أو شرعي؟
فمن الناس من قال: إنه شرعي، مستدلين ببعض الآيات والآثار، ومنهم
من اعتقد أنه عقلي، مستدلين بقوله تعالى: * (الحمد لله) * وتقريبه: أن الآية
تدل على أن الحمد حقه وملكه على الإطلاق، وهذا يدل على ثبوت هذا
الاستحقاق قبل مجئ الشرع (1). انتهى.
وهذا من غرائب الاستدلالات، وذلك لأن العقل إن كان يدرك ذلك
فلا يحتاج إلى الاستدلال بالآية، وإن كان لا يدرك هذا الاستحقاق فهو من
الدليل الشرعي لا العقلي، فكأن المستدل استدل بالدليل اللفظي
والشرعي على أن الدليل على المسألة عقلي، وهذا لا يخلو من أضحوكة،
والأمر سهل.
ويمكن أن يقال: بأن الآية تدل على أن حمد الغير غير جائز، لأنه

1 - التفسير الكبير 1: 227.
312

تصرف في مال الغير بدون إذنه، فلو أذن أن يحمد أحد فيجوز ذلك، فإذا كان
حمد الغير محرما، لأنه من التصرف في حق الغير، فيجب رد الحمد إلى
مالكه ومستحقه، لأنه لابد منه، وإلا فهو من الغصب المحرم، فحمد الله
واجب شرعا، وحمد الغير حرام شرعا، بمعنى أن رد حق الغير إلى صاحبه
واجب، والتصرف في ملك الغير حرام.
وغير خفي: أن هذا التقريب من نوع الاستدلال الفقهي، ولمكان
سخافته ذكرناه هنا، وما فتحنا عنوانا خاصا لمبحث الفقه ومسائله، وإن
مسألة جواز الإنشاء في الصلاة قد مضت، وذكرنا في محله إمكان الجمع
بين القرآنية وبين الدعاء والإنشائية (1).
نعم بناء على اعتبار صدق قراءة القرآن والفاتحة فيشكل، لاحتياج
القراءة إلى لحاظ الألفاظ النازلة، فيكون النظر إلى تلك الجمل
والألفاظ اسميا، والإنشاء والدعاء إلى الغفلة، فيكون النظر حرفيا،
والجمع بينهما غير ممكن لمتعارف القراء.
وينحل الإشكال: تارة بإنكار كبرى المسألة، وهي اعتبار صدق
القراءة، وثانيا بإنكار صغراها لصدقها، وثالثا بأنه يحكي ألفاظ القرآن بما
لها من المعاني، فيكون المعاني مرادة في الرتبة الثانية، فلاحظ وتدبر
جيدا.
فما اشتهر من منع ذلك فقها، غير راجع إلى محصل جدا.

1 - انظر المبحث الأول (ما يتعلق بمجموع السورة)، ذيل المسألة الثامنة.
313

تأريخه وفضائله
فهنا فائدتان:
الفائدة الأولى
سابقة " الحمد لله "
أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله: " الحمد لله "، وآخر كلمة يذكرها
أهل الجنة هو قولنا: " الحمد لله ".
أما الأول: فلما قيل: لما بلغ الروح إلى سرته عطس، فقال: " الحمد
لله رب العالمين ".
وأما الثاني: فهو قوله تعالى: * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب
العالمين) * (1)، (2).
ويظهر من الكتاب العزيز: أن لهذه الكلمة سابقة في الأمم
السالفة، قال تعالى في سورة المؤمنون: * (فقل الحمد لله الذي نجانا من

1 - يونس (10): 10.
2 - التفسير الكبير 1: 225.
314

القوم الظالمين) * (1)، وحكاية عن إبراهيم: * (الحمد لله الذي وهب لي على
الكبر) * (2)، وقال في قصة داود وسليمان: * (وقالا الحمد لله الذي فضلنا على
كثير من عباده المؤمنين) * (3)، وقال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): * (وقل الحمد لله الذي لم
يتخذ ولدا) * (4)، وهي الكلمة الباقية الخالدة التي يترنم بها أهل
الجنة: * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) * (5) * (وآخر دعواهم أن الحمد
لله رب العالمين) * (6).
الفائدة الثانية
في فضائل " الحمد لله "
في " الكافي " عن الصادق (عليه السلام): " من قال أربع مرات إذا أصبح:
* (الحمد لله رب العالمين) *، فقد أدى شكر يومه، ومن قالها إذا أمسى فقد
أدى شكر ليلته " (7).
ومنه عنه (عليه السلام)، " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذا أصبح، قال * (الحمد لله
رب العالمين) * كثيرا على كل حال ثلاثمائة وستين مرة، وإذا أمسى

1 - المؤمنون (23): 28.
2 - إبراهيم (14): 39.
3 - النمل (27): 15.
4 - الإسراء (17): 111.
5 - فاطر (35): 34.
6 - يونس (10): 10.
7 - الكافي 2: 503 / 5.
315

قال: مثل ذلك " (1).
ومنه عن علي (عليه السلام): " من قال إذا عطس: * (الحمد لله رب العالمين) *
على كل حال، لم يجد وجع الاذنين والأضراس " (2).
وفي " الخصال " عن الصادق (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أربع من
كن فيه كان في نور الله الأعظم... - إلى قوله -: ومن إذا أصاب خيرا، قال:
* (الحمد لله رب العالمين) * (3).
وأخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما
أنعم الله على عبد نعمة فقال: * (الحمد لله) * إلا كان الذي أعطاه
أفضل مما أخذه " (4).
وعن نوادر الأصول عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي، ثم قال: * (الحمد لله) *، لكانت
الحمد أفضل من ذلك " (5).
وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله
تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض " (6).

1 - الكافي 2: 503 / 4.
2 - الكافي 2: 655 - 656 / 15.
3 - الخصال 1: 222 / 49.
4 - سنن ابن ماجة 2: 1250.
5 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 131.
6 - صحيح مسلم 1: 124 / 1.
316

وربما يوجد في أخبارنا ما يؤيد المضمون الأخير (1).
تذنيب: في أن كلمة التوحيد أفضل أم هذه الكلمة
ثم إن جماعة اختلفوا في فضل " الحمد لله " و " لا إله إلا الله ":
فقالت طائفة: قوله: * (الحمد لله رب العالمين) * أفضل، لأن في
ضمنه التوحيد الذي هو " لا إله إلا الله ".
وقالت طائفة أخرى: " لا إله إلا الله " أفضل لأنها تدفع الكفر
والإشراك، ولأنها الأبرأ والأبعد من الرياء، ولما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أفضل ما قلت أنا
والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له " (2).
والذي هو المرجع في هذه المسألة ما ورد عن الأئمة
المعصومين (عليهم السلام) (3)، والظاهر أنها تدل على أفضلية كلمة التوحيد، وما
وجدت ذكر ثواب معين على خصوص " الحمد لله رب العالمين "، إلا أنه
يكفي لكمال فضله ما مر وما رواه " الفقيه " ابن بابويه القمي عن الرضا (عليه السلام)
أنه قال: " أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجورا... - إلى أن
قال -: وذلك أن قوله عز وجل: * (الحمد لله) * إنما هو أداء لما أوجب الله
عز وجل على خلقه من الشكر، والشكر لما وفق عبده من الخير " (4).

1 - انظر الكافي 2: 367 / 3، والأمالي، الشيخ المفيد: المجلس 29، الحديث 2.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 132.
3 - راجع الكافي 2: 366 - 367 / 1 - 5، والتوحيد: 18 - 30 / 1 - 3 و 12 - 16
و 48 و 19 و 21 و 23 و 33 و 34.
4 - الفقيه 1: 203 / 12، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 107 / 1.
317

علم الفقه والآداب
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى
هل يجوز حمد غيره تعالى أم لا؟
فيه وجهان: ينشئان من أن حقيقة الحمد إن كانت لا تقع إلا لله تعالى
فيجوز، وما يتخيل العبد من وقوعه لغيره تعالى لا يستلزم ذلك بالضرورة،
لأن الواقعيات محفوظة لا تتبدل بالاعتبار والتخيل.
ومن أنه وإن كان بحسب الواقع لا يقع للغير، إلا أن اللازم مراعاة
الظاهر، فعلى كل مكلف توجيه الحمد إليه تعالى في مقام الإنشاء
واللفظ. وهذا نظير ما قد قيل: إن العبادة لا تقع إلا لله تعالى:
اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست * يقين كردى كه دين دربت پرستى است (1)
وإليه يرجع قول من قال: إن القضاء في قوله تعالى: * (وقضى ربك

1 - راجع مثنوى " گلشن راز "، الشبستري.
318

ألا تعبدوا إلا إياه) * (1) من القضاء التكويني (2)، ولكن مع ذلك لا يجوز
توجيهها إلى غيره تعالى وتقدس حسب الضرورة من الشرائع الإلهية.
فعلى هذا إن كان معنى الحمد فيه العبودية، فلا يجوز عبادة غير الله،
وإن كان معناه قريبا من الشكر فتجوز، لما ورد من الحث على شكر
المخلوق في الأحاديث الكثيرة حتى ورد في نوادر " الفقيه ": " من لم
يشكر المخلوق لم يشكر الخالق " (3).
وما نقله الفخر الرازي من " أن من لم يحمد المخلوق لم يحمد
الخالق " (4)، غير موجود في جوامعنا ظاهرا، ولعله اشتباه منه، فليراجع.
وقد مر كيفية استشمام ممنوعية حمد الغير من قوله تعالى: * (الحمد
لله) *، وهنا تقريب آخر:
وهو أن يدعى: أن الآية بصدد حصر الحمد في مقام الإنشاء فيه
تعالى، أي حمد الناس لابد وأن ينحصر بالله تعالى، فلا يحمدون غيره،
فيكون فيه إثبات ونفي: أما الإثبات فهو أن الحمد لله تعالى، وأما النفي
فهو أن هذا المعنى الإنشائي المبرز في مقام الشكر والعبودية لا يجوز
للغير. وأنت خبير بما فيه، فلا تذهل.
وقال القرطبي: أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه وافتتح كتابه

1 - الإسراء (17): 23.
2 - راجع تفسير بيان السعادة 2: 437.
3 - الفقيه 4: 272 / 8، فيه " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ".
4 - التفسير الكبير 1: 218 و 221، ولفظ ما نقله الرازي: " من لم يحمد الناس لم يحمد
الله ".
319

بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره، بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان
نبيه (عليه السلام): * (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) * (1).
وقال (عليه السلام): " احثوا في وجوه المداحين التراب "، ورواه المقداد (2). انتهى.
وقال الفخر: أما الحمد، فإنه مأمور به مطلقا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من لم
يحمد الناس لم يحمد الله " (3). انتهى.
وقد عرفت أن الحمد على المشرب الأعلى والمسلك الأحلى، لا يقع
لغير الله ثبوتا وتكوينا، فلا يعقل حمد الغير.
وأما في مقام الإظهار والإبراز: فإن قلنا: بأن فيه إشراب العبودية
فلا يجوز، لأنه من الشرك في العبادة، وإن كان مجرد الثناء والشكر فيجوز.
وأما القول الأول: " احثوا... " على فرض صحة سنده فمعناه النهي عن
المدح المتعارف في الأعصار المتجاوز فيه عن الواقعيات، ويكون
المدح لأجل الأجرة والدنيا، لا في مقابل الإنعام والإفضال السابق عليه،
فإذا لم يتجاوز عن الصدق فلا يشمله الحديث.
وأما القول الثاني: " من لم يحمد... " فهو غير ثابت اعتباره ولعله
مأخوذ - كما مر - من المتن الموجود عندنا: " من لم يشكر المخلوق لم
يشكر الخالق "، ولو ثبت فالمراد منه الصنف الخاص منه، وهو الشكر أو
الحمد الغير المشتمل على العبودية، كحمد الله تعالى، فلا تخلط.

1 - النجم (53): 32.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 135.
3 - التفسير الكبير 1: 218.
320

المسألة الثانية
هل يجوز إنشاء الحمد والشكر والثناء بقوله
تعالى: * (الحمد لله) * في الصلاة أم لا؟
فيه وجهان بل قولان، وقد مر منا تفصيل هذه المسألة، وذكرنا - في
ذيل بحوث كلامية - ما هو الحق، وكان ينبغي أن نذكره هنا، والأمر سهل.
المسألة الثالثة
استحباب ذكره عند العطاس
يستحب للعاطس ولمن سمع عطسة الغير - وإن كان في الصلاة - أن
يقول: " الحمد لله " أو يقول: " الحمد لله وصلى الله على محمد وآله " بعد أن
يضع إصبعه على أنفه.
وقد أودع " الوسائل " روايات هذه المسألة في باب الثاني والستين
من أبواب العشرة من كتاب الحج، وفيها ما أخرجه الكليني بإسناده عن
صالح بن أبي حماد، قال: " سألت العالم (عليه السلام) عن العطسة، وما العلة في الحمد
لله عليها؟ فقال: إن لله نعماء على عبده في صحة بدنه وسلامة جوارحه، وإن
العبد ينسى ذكر الله عز وجل على ذلك، وإذا نسي أمر الله الريح فتجاز في
بدنه، ثم يخرجها من أنفه، فيحمد الله على ذلك، فيكون حمده على ذلك شكرا
321

لما نسي " (1).
وبإسناده الآخر عن مسمع بن عبد الملك، قال: " عطس أبو عبد الله (عليه السلام)
فقال: * (الحمد لله رب العالمين) * ثم جعل إصبعه على أنفه، فقال: رغم أنفي لله
رغما داخرا " (2).
وبإسناده الآخر عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا عطس المرء المسلم ثم سكت لعلة تكون به، قالت
الملائكة عنه: * (الحمد لله رب العالمين) * فإن قال: * (الحمد لله رب
العالمين) * قالت الملائكة: يغفر الله لك " (3).
وبإسناده الآخر عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه قال: عطس رجل
عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: الحمد لله، فلم يسمته أبو جعفر (عليه السلام)، " وقال نقصنا
حقنا، وقال: إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
محمد وأهل بيته ". قال: فقال الرجل، فسمته أبو جعفر (عليه السلام) (4).

1 - الكافي 2: 478 / 6، وسائل الشيعة 8: 463 كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة،
الباب 62، الحديث 1.
2 - الكافي 2: 479 / 14، وسائل الشيعة 8: 463 كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة،
الباب 62، الحديث 3.
3 - الكافي 2: 480 / 19، وسائل الشيعة 8: 464، كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة،
الباب 62، الحديث 6.
4 - الكافي 2: 479 / 9، وسائل الشيعة 8: 464 كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة،
الباب 63، الحديث 1.
322

المسألة الرابعة
استحباب التحميد على الإسلام والعافية
يستحب التحميد على الإسلام والعافية عند رؤية الكافر والمبتلى
من غير أن يسمع المبتلى.
قد أخرج الصدوق في " ثواب الأعمال " بإسناده عن مسعدة بن صدقة،
عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام): " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى يهوديا أو
نصرانيا أو مجوسيا أو واحدا على غير ملة الإسلام، فقال: الحمد لله الذي
فضلني عليك بالإسلام دينا، وبالقرآن كتابا، وبمحمد نبيا، وبعلي إماما،
وبالمؤمنين إخوانا، وبالكعبة قبلة، لم يجمع الله بينه وبينه في النار أبدا " (1).
وبإسناده عن العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " من نظر
إلى ذي عاهة، أو من قد مثل به، أو صاحب بلاء، فليقل سرا في نفسه من غير
أن يسمعه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، ولو شاء فعل ذلك في، ثلاث
مرات، فإنه لا يصيبه ذلك البلاء أبدا " (2).
وقد ورد في الباب السابق رواية هي هكذا:
الكليني بإسناده عن ابن فضال، عن بعض أصحابه، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: " في وجع الأضراس ووجع الآذان، إذا سمعتم من يعطس

1 - ثواب الأعمال: 63.
2 - الأمالي، الصدوق: 267 / 12، بحار الأنوار 90: 217 / 2.
323

فابدؤوه بالحمد " (1).
فإن كان المراد منه مندوبية التحميد عند سماع العطاس، فيكون
دليلا على بعض ما مر في المسألة الثالثة.
وإن كان المراد منه المعنى الآخر، أي مندوبية النيابة عنه في
التحميد، لأنه يتمكن من ذلك، فاستحباب التحميد عند سماع العطاس
يحتاج إلى دليل آخر، فافهم وتدبر.

1 - الكافي 2: 480 / 16.
324

الأخلاق والموعظة الحسنة
اعلم يا أخي ويا صديقي العزيز الكريم: أنه بعد الاطلاع على ما سطرناه
في هذه الصحف، وبعد الاتصاف بما في العلوم والرسوم العادية، عليك
أن تجتهد فيما هو المقصود الأعلى والغاية القصوى والمسلك الأحلى
والمشرب الأشهى، وهو صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني
برفض الرذائل وكدورات المادة والمدة، وجلب الفضائل بالسعي فيما هو
دستور الشرع الإسلامي والمذهب الإيماني، والجد في العمل بتعاليم الله
وقوانينه العملية الجوارحية والجوانحية، فإذا شهدت أن الله تبارك
وتعالى قد أنعم عليك النعم الظاهرة والباطنة، وأعطيت الآلاء الكثيرة
الخفية والجلية، وهيأ لك أسباب الرقاء والوصول إلى دار البقاء بإبلاغ
الكتب السماوية وإرسال الرسل الملكوتية وأعد لك ما تحتاج إليه في
المعيشة الدنيوية بالنظام التام وفوق التمام، فعليك أن توجه إليه
حمدك وأن تقطعه عن الغير، وتنقطع إليه انقطاعا كليا تاما، فتكون في جميع
اللحظات والحركات والساعات والآنات، متوجها إلى حضرته حامدا
325

شاكرا، مثنيا مادحا بجميع الأعضاء والأفعال، وتطبيق جميع الحركات على
النظام الشرعي الذي جاء به النبي الأكرم والرسول الختمي
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهل وجدانك يقتضي أن تعصيه وتخالفه بما أنعم عليك من القوى،
ففي محضره الربوبي هل ترضى أن تصرف قدرته وإرادته وحكمته فيما
لا يرضى به وينهى عنه؟! نعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
فلا تكن أيها العزيز قانعا بهذه الاصطلاحات الباردة وتلك التخيلات
التي ربما تكون باطلة وعاطلة، بل عليك صرف عمرك الشريف في حمده
القلبي واللساني والحالي والفعلي، فتكون بحسب القلب حامدا إياه،
وراضيا بما يصنعه، ومسلما لأمره، محبا لمعروفه مبغضا لمنكره، فتجاهد
الجهاد الأكبر، فتكون شهيدا أو في حكم الشهيد ثوابا، فيشملك الروايات
الواردة في ثواب الشهداء (1)، فإذا كنت هكذا، وصرت من أهل الحال،
لتستحق المواهب الإلهية والواردات القلبية، وترث الجنة التي يرثها
عباده الصالحون بسبب العمل الصالح وتزكية القلوب القاسية،
وعلامة ذلك الشوق إلى الإنابة والتوبة، فإنها أول قدم العبد في
الدخول إلى دار الرب، والوصول إلى حلاوة القرب، فيا الله انزع ما في
قلوبنا من غل، حتى نكون صالحين للجلوس على مأدبتك، وأذقنا اللهم طعم
عفوك وحلاوة مغفرتك ورحمتك، حتى نخرج عن غياهب الذل وعن جلباب

1 - راجع وسائل الشيعة 11: 9 - 10، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 1،
الحديث 19 - 23.
326

الكفر والنفاق، وإليك يا رب المشتكى.
وقد حكي عن بعض أهل السير: أن الحمد على ثلاثة أوجه: أولها إذا
أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك، والثاني أن ترضى بما أعطاك، والثالث
ألا تعصيه ما دامت قوته في جسدك.
وعن السقطي في ذكر أن للحمد موضعا خاصا، وإلا لم يحصل
المقصود، أنه قيل له: كيف يجب الإتيان بالطاعة؟ قال: أنا منذ ثلاثين
سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة: الحمد لله، فقيل كيف ذلك؟ قال وقع
حريق في بغداد، واحترقت الدكاكين والدور، فأخبروني: أن دكاني لم
يحترق، فقلت: الحمد لله، وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق
دكاكين الناس، وكان حق الدين ولمروة أن لا أفرح بذلك (1). انتهى.
ولست أبحث عن صحة هذه المقالة وعدمها، ولكن أجد في نفسي أن
الإنسان ذو نفس خداعة مكارة دقيقة رفيقة مع الشيطان الرجيم، وتكون
غاية همها سوق الإنسان إلى ذلك الرفيق الخبيث، فكثيرا ما يشهد الإنسان
مأدبة جامعة لشتات الأغذية، فيأكل ولا يذكر الله تعالى حتى مرة واحدة،
وإذا اتفق له في يوم ما لا يرضي به شهوته وطمعه لقلته ورداءته، يذكر الله
تعالى على هذه المائدة، ويحمده كثيرا، غافلا عن أن هذا التحميد والشكر
مشتمل على نوع من الكفر والإلحاد وعدم الرضا بما أعطاه الله تبارك
وتعالى، ويريد أن يطفئ نار غضبه الباطني بالحمد اللساني، فنعوذ به

1 - التفسير الكبير 1: 224.
327

تعالى من شر الأعداء.
ثم إن هنا مباحث قيمة ودقائق عرفانية عملية وأخلاقية، تكون
أنسب مع الشكر الذي عد من جنود العقل في الحديث السابق ذكره (1)،
فنذكرها عند البحث عنه. والله خير موفق ومعين.

1 - الكافي 1: 16 / 14.
328

علم الحروف والأعداد والأوفاق
نقل القرطبي عن الصادق عليه الصلاة والسلام - في قوله:
* (الحمد لله) * -: " من حمد بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد، لأن الحمد حاء
وميم ودال، فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الديمومية،
فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد
لله " (1)، انتهى.
وإجمال هذا المجمل: أن الإحاطة العرفانية بالذات الوحدانية هو
العرفان بالقدم، فإذا عرفه بالقدم والبقاء، وأن كل ما في الوجود - وما
تحت هذا العنوان - تحت ظله، فقد عرفه حقيقة، فإذا لا حقيقة للحمد إلا
عرفانه القلبي فإنه الحمد الأخص، الذي لا يناله إلا الأوحدي.
ثم اعلم أن طريق استكشاف تلك البارقة، وسبيل عرفان أن الحاء
تنتهي إلى الوحدانية، والميم إلى الملك، والدال إلى الديمومية
حسب الحساب، لا يمكن أن ينال إلا بعد الاطلاع على رموز الأسماء الإلهية

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 134.
329

بالارتياضات النفسانية.
فاعلم أن الحاء من أسرار الحياة (1)، وعددها (8)، لأنها من نسبة
الكرسي، وهو في أول الدرجة من الفلك، ولها الخواص الكثيرة،
والملك الموكل عليها - على ما قيل - " طفيائيل "، فاكتب الحرف، وادخل
الخلوة، واقرأ الأسماء، فتقول: يا حرف الحاء إلا ما أجبت وأجلبت لي
الملك " طفيائيل "، فيحضر بعون الله وقوته وإذنه، ويقضي حاجتك إن شاء
الله تعالى، ولتكن حاجتك الاطلاع على الوحدانية اطلاعا عرفانيا.
وقيل: يقرأ ويريد منه دبر كل صلاة (18) مرة.
وهنا بعض الطلسمات والتركيبات المذكورة في المفصلات، وتحت
ذلك سر الأحدية والواحدية والمحبة الذاتية.
واعلم أن الميم ثلاث عوالم (2): الملك والملكوت والجبروت ولها
الخواص الكثيرة، ومنها: أنه إذا كتب أربعين مرة - ومعه يكتب * (محمد
رسول الله...) * إلى آخر الآية - العدد المذكور، وحملها الإنسان، فتح الله
له الأمور الخفية، ووفقه للكشف عن عالم الملك والملكوت. وهذا هو
معنى " أن الميم ملك الله ".
والملك الموكل عليه " مهيائيل "، فإذا أردت إحضار الميم بإحضار
الملك، فله خلوة تدخلها، وتكتب الميم في الحائط، وتتكلم عليه
بالدعوة أربعين مرة، فإن الملك - بعون الله - يحضر، ويقضي حاجتك إن شاء

1 - انظر شمس المعارف الكبرى: 404 - 405.
2 - المصدر السابق: 408.
330

الله تعالى. والاستخدام يمكن بتلاوة الدعوة دبر كل صلاة أربعين مرة وأنت
تقول: " أجب يا خادم حرف الميم، وأعطني من روحانيتك روحا يخدمني فيما
أريد "، وتلك الدعوة والدعاء مسطور في المفصلات، ولتكن دعوتك
الإحاطة العرفانية بالملك.
واعلم أن الدال - على ما قيل (1) - من الحروف الباردة الرطبة، ربما
استكملت به الطبائع الأربعة واعتدلت، ولها الخواص والآثار.
ومنها: أنها إذا كتبت مع اسم أول الدال ك‍ " ديان " و " دائم " في لوح
مربع، وحمله إنسان، وكتب في كل ناحية من الوفق أربع دالات، فإنه محبة
عظيمة.
فبالجملة: حرف الدال من أسرار الديمومية، وهي مغناطيس
القلوب في المحبة، وله الخلوة الجليلة، وخادمه " شلهائيل "، فإذا
أردت استخدامه فتربص (28) يوما، وامكث في الخلوة (14) يوما، وتتلو
الدعوة دبر كل صلاة، فإنه يحضر بعون الملك الوهاب، ويخاطبك - إن شاء
الله - بما تريد وتشتهي، وهي صورته في الأوفاق، وتلك الدعوة بصيغتها
مسطورة في المفصلات.
نقل وإيقاظ
في بعض التفاسير عن علي (عليه السلام) لما حكي عن عهد موسى (عليه السلام) أن
شرح كتابه كان أربعين جملا: أنه (عليه السلام) قال: " لو أذن الله ورسوله لأشرع في

1 - انظر شمس المعارف الكبرى: 402.
331

شرح ألف الفاتحة حتى تبلغ مثل ذلك، يعني أربعين وقرا أو جملا " (1).
وعنه (عليه السلام) أنه قال لابن عباس: " إذا صليت العشاء الآخرة فألحقني إلى
الجبان. قال: فصليت ولحقته وكانت ليلة مقمرة. قال: فقال لي: ما تفسير الألف
من الحمد؟ قال: فما علمت حرفا فيها أجيبه، قال: فتكلم في تفسيرها ساعة
تامة. قال: ثم قال لي: ما تفسير اللام من الحمد؟ قلت: لا أعلم، فتكلم في
تفسيرها ساعة، ثم قال: ما تفسير الحاء من الحمد؟ قال: فقلت: لا أعلم، فتكلم
في تفسيرها ساعة تامة. قال: ثم قال: ما تفسير الميم من الحمد؟ إلى أن قال: ما
تفسير الدال؟ قلت: لا أدري، فتكلم فيها إلى أن برق عمود الفجر، فقال لي: قم
يا أبا العباس إلى منزلك، فتأهب لفرضك. قال أبو العباس، عبد الله بن العباس:
فقمت وقد وعيت كل ما قال، ثم تفكرت فإذا علمي بالقرآن في علم علي (عليه السلام)
كالقرارة في المثعنجر " (2).

1 - بحار الأنوار 89: 104 / 83.
2 - نفس المصدر.
332

الموقف الثاني
حول قوله تعالى: * (رب العالمين) *
333

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " رب "
رب الشئ يرب ربا، جمعه وملكه، والقوم سامهم وكان فوقهم،
والنعمة زادها، والأمر أصلحه وأتمه، والدهن طيبه وأجاده، ورب الصبي
حتى أدرك، ورببته - بالكسر - لغة، وربب الصبي تربيبا وتربة، رباه حتى
أدرك. الرب من أسمائه تعالى والسيد والمطاع والمصلح. انتهى ما
أوردناه من " الأقرب " (1).
وفي " تاج العروس " و " القاموس ": الرب هو الله عز وجل، وهو رب
كل شئ، أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، وهو
رب الأرباب ومالك الملوك والأملاك. قال أبو منصور: والرب يطلق في
اللغة على المالك والسيد والمدبر والمربي والمتمم، وباللام لا يطلق

1 - أقرب الموارد 1: 381.
335

لغير الله عز وجل، إلا بالإضافة... إلى أن قال: وقد قالوه في الجاهلية
للملك، قال الحرث بن حلزة:
وهو الرب والشهيد على يو * م الحيارين والبلاء بلاء (1)
انتهى.
وفي الشعر غلط تعرض له " اللسان " و " الكشاف "، فراجع (2).
والرب إذا كان من التربية فهو إنشاء الشئ حالا فحالا إلى حد
التمام.
وقيل: " لان يربني رجل من قريش، أحب إلي من أن يربني رجل من
هوازن، فالرب مصدر مستعار للفاعل ". انتهى ما أردنا نقله عن " مفردات
الراغب " (3).
ومما حصلناه يظهر: أنه كلمة مشتركة بين المصدر والصفة بناء
على كونه على وزن " حسن " أو اسم الفاعل إن كان أصله " راب " فحذفت
الألف، والثاني حسب القواعد أقوى، لأن الصفة المشبهة لا تؤخذ من
المتعدي، قال ابن مالك:
وصوغها من لازم لحاضر * كطاهر القلب جميل الظاهر (4)
فهو نظير البار والبر، فالبر والرب متعاكسان مادة ومتشابهان هيئة،
وإن كان يمكن دعوى أن مادة " البر " لازمة، كما لا يخفى.

1 - تاج العروس 1: 260، القاموس المحيط 1: 72 - 73.
2 - لسان العرب 5: 94، ونسب إلى صاحب الكشاف في حاشية تاج العروس 1: 260.
3 - المفردات في غريب القرآن: 184.
4 - الألفية، ابن مالك: الصفة المشبهة، البيت 2.
336

تنبيه: هل معاني " رب " ترجع إلى واحد؟
قد ذكروا للرب معاني كثيرة، وقد استدلوا بالأشعار في مقام الاستعمال،
والدقة تقتضي كونه في جميع تلك الموارد بمعنى واحد، فإذا أريد منه
السيد والمطاع والمالك والمصلح والمتمم، فهو ليس ذا معان كثيرة،
لاشتراك الكل في أمر واحد، وهو مفاد صيغ الرب والتربية، فبهذه
الملاحظة اطلق على الآخرين مما فيهم التربية، كما لا يخفى.
إن قلت: قال ابن حيان: الرب السيد والمالك والثابت والمعبود
والمصلح، وزاد بعضهم: بمعنى الصاحب مستدلا بقوله:
قد ناله رب الكلاب بكفه * بيض رهاف ريشهن مقزع
وبعضهم: بمعنى الخالق (1)، ولو أمكن إرجاع الخالق إلى ما مر،
وإنكار دلالة الشعر على أنه بمعنى الصاحب - كما هو الظاهر - لما يمكن
إرجاع معناه الثابت والمعبود إلى معنى واحد، ولو أمكن دعوى أن المعبود
اطلق عليه الرب، لما فيه من التربية، لا يتم ذلك في الثابت قطعا.
قلت: نعم ولسنا بصدد إرجاع الكثرات إلى الواحد، وذلك لصراحة
كتب اللغة في أن الرب المتعدي بالباء بمعنى لزم، أي رب بالمكان يعني
لزم به، ولكن النظر كان إلى تنبيه أهله: بأن الإطلاقات المذكورة في
الأشعار والآثار لا تفي باستكشاف المعاني الكثيرة.
فبالجملة: الرب لغة هو إخراج الشئ من النقص إلى الكمال،

1 - البحر المحيط 1: 18.
337

حسب التفاهم العرفي والتبادر عند الإطلاق.
إرشاد: هل " رب " صفة مشبهة؟
ربما يمكن دعوى: أن الرب ليست صفة مشبهة، ولا مخففا عن
الفاعل، بل إطلاقه على الذوات في مقام المبالغة كالعدل (1).
وفيه: مضافا إلى أن للعدل إطلاقين: أحدهما المبالغة، والثاني أنه
صيغة الصفة المشبهة، أن التبادر يكذبه، واللغة صريحة على ضده.
وبالجملة: مجرد كونه مصدرا، ومجرد صحة استعماله في مقام المبالغة،
غير كاف لإنكار كونه من الصفات الجارية على الذوات، كما لا يخفى.
إيقاظ: مصدر " رب "
رب مصدره رب، وليست التربية منه، فإنها من ربى، فإذا تعدى
بالتشديد صار تربية كتذكية. وقد اشتبه هذا الأمر على مثل " الراغب " و
" روح المعاني " وغيرهما (2).
ولكن الذي يظهر: أن معنى الخروج التدريجي من القوة إلى
الفعل، داخل في كل واحد من المادتين، لما عرفت أن معنى ربب الصبي
رباه حتى أدرك، والرب من رب، وهو بمعنى إجادة الدهن وتطييبه. ولعمري
إن إنكار أن المتفاهم العرفي والمتبادر منه ذلك من المجازفة في القول.

1 - انظر روح المعاني 1: 73.
2 - المفردات في غريب القرآن: 184، روح المعاني 1: 73، مجمع البيان 1: 22.
338

وغير خفي: أن مصدر باب التفعيل يأتي على أوزان كثيرة: فعال ككلام،
وفعال ككذاب، وتفعيل وتفعلة، وهنا وزن آخر له، وهو تفعل، أي ربب يربب
تربيا بفتح الباء، ويقرأ مكسورا بمناسبة الياء.
توضيح وتوجيه: حول معنى " رب "
لا معنى لكون الرب في الآية بمعنى الثابت للإضافة، ولا لكونه
بمعنى المعبود والسيد وأمثالهما، لأن الظاهر أنها أضيفت إلى المفعول،
لا الظرف وما يشبه ذلك، وقد مر شطر من البحث حول " الرحمن
الرحيم " فما ورد: " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما " من اعتبار مفعوليتهما،
فالرب في الآية الشريفة هو المصلح والمتمم والمربي، وأمثال ذلك مما
يرجع إلى معنى واحد عند الدقة بلا شبهة.
بحث واستئناف
مقتضى ما ذكرناه: أن معنى الرب يتضمن الإخراج التدريجي من
النقص إلى الكمال المناسب للمربوب ماديا كان أو معنويا، ولكن الرجوع
إلى الكتاب في موارد الاستعمال يورث الإشكال في ذلك، فمنه قوله
تعالى: * (رب العزة عما يصفون) * (1)، ومنه قوله تعالى: * (رب العرش) * (2)،
فإن العزة والعرش لا يكونان ناقصين حتى يحتاجان إلى المدبر والمخرج

1 - الصافات (37): 180.
2 - الأنبياء (21): 22.
339

من القوة إلى الفعل. اللهم إلا أن يقال: بأن العزة لا اعتبار لها إلا قائمة
بالعزيز، فأضيف إليها الرب لتلك الجهة، وهكذا في ناحية العرش،
فتأمل جيدا.
المسألة الثانية
معنى كلمة " العالم "
العالم الخلق كله، وقيل: ما حواه بطن الفلك، وكل صنف من أصناف
عالم، وقيل: يختص بمن يعقل، " الأقرب " (1) وفي " المنجد ": العلم
العالم (2)، وفي " التاج ":
قال الأزهري: هو اسم بني على مثال فاعل كخاتم وطابق ودافق. انتهى.
وحكى بعضهم الكسر نقله شيخنا. وكان العجاج يهمزه... إلى أن قال: وهو
في الأصل اسم لما يعلم به، كالخاتم لما يختم به، فالعالم آلة للدلالة على
موجده، ولهذا أحالنا عليه في معرفة وحدانيته، فقال: * (أولم ينظروا في
ملكوت السماوات والأرض) *... إلى أن قال: وقال شيخنا: سمي الخلق
عالما، لأنه علامة على الصانع، وتغليبا لذوي العلم، وعلى كل مشتق من
العلم لا العلامة (3). انتهى. وما ذكره مأخوذ من المفردات (4).
وقيل: يطلق على كل جزء من أجزاء العالم لما أنه يدل على خالقه،

1 - أقرب الموارد 2: 824.
2 - المنجد: 527.
3 - تاج العروس 8: 407.
4 - راجع المفردات في غريب القرآن: 345.
340

وبه يعلم صانعه.
وأنت خبير بما فيه، وضرورة الوجدان تكذبه، ولا ينبغي الخلط بين
اللغة وبين العلل المذكورة في الكتب المتأخرة.
ولنا أن نستكشف من جمعه على " العوالم " وغيرها، أنه ليس
موضوعا لما سواه تعالى، كما يظهر من " القاموس " وغيره (1)، حتى يلزم
المجازية ونحتاج إلى المؤونة الزائدة، كما في جمع الأرض والشمس،
مع أن من جمعهما أيضا، كان ينبغي لأهله أن يستكشف تعددهما، كما ثبت
اليوم وصرح به الكتاب عند قوله: * (ومن الأرض مثلهن) * (2).
فالذي يظهر: أن العالم إما موضوع لمعنى يقرب من معنى المحيط،
فيقال: عالم الخلق، أي محيطه، وعالم الآخرة والدنيا، أي محيطهما،
ويناسب ذلك الاستعمال الرائج اليوم كقولهم: عالم الإنسانية، وفي عالم
الفلسفة والعرفان، أو في عالم الذوق والشعر، أو في عالم الفسق
والفجور... وهكذا.
أو هو موضوع لكل مركب اعتباري أو تأليفي أو طبيعي ذي أجزاء
مرتبطة ملتئمة، فيكون هذا الكتاب عالم، وهذا الدار عالم.
أو يقال: إن العالم له هيئة ومادة، وهيئته تدل على أمر، ومادته على
أمر آخر، كسائر المشتقات التي لها أوضاع نوعية، أما هيئته فتدل على ما

1 - القاموس المحيط 1472، الصحاح 4: 1991، المصباح المنير 2: 427، أقرب الموارد
2: 824.
2 - الطلاق (65): 12.
341

مر من الآلة كالقالب، ومادته إما هو العلم أو العلامة، لا سبيل إلى
الأول، لشهادة الوجدان على أن كل ما يمكن أن يكون آلة للدرك، لا يعد
عالما، فيتعين في الثاني، أي كل ما هو علامة الشئ يعد عالما، وإطلاقه
على كل موجود أو جميع العوالم، باعتبار أن كل موجود فيه علامة الرب
أو له العلامة على الرب الودود، ولكثرة استعماله في هذه الموارد -
ولا سيما في الكتاب - كأنه صار موضوعا لمعنى أخص، أو صارت الكلمة
ذات وضع شخصي بهيئتها ومادتها معا.
والذي هو الإنصاف: أن العالم ولو كان بحسب التخيل ذا مادة وهيئة
موضوعتين، ولكنه ذو وضع شخصي كخاتم، والظاهر تعين الاحتمال الأول
حسب المتبادر، فيقال: العالم الربوبي وعالم الوجود، وكأنه لا يفهم منه
شئ إلا عند الإضافة.
نعم ربما يطلق ويراد منه ما في المحيط والمنطقة، فإذا قيل: رب
عالم الوجود، أو رب العوالم، فهو باعتبار المحاط، ولو كان العالم
موضوعا لما يعلم به، لكان يطلق على الأحجار الموضوعة على حدود
المسافات، وهذا مما لا ينبغي ارتضاؤه.
إيقاظ: في جامدية " العالم "
المعروف عنهم: أنه إما مأخوذ من العلم أو العلامة (1)، والظاهر

1 - مجمع البيان 1: 22، الجامع لأحكام القرآن 1: 139، تفسير التبيان 1: 32، البحر
المحيط 1: 18، أقرب الموارد 2: 824، تاج العروس 8: 407.
342

عندنا أنه ولو كان بحسب الأصل كذلك، ولكنه في هذه الأعصار ليس من
المشتقات الاصطلاحية حتى يكون لمادته وضع ولهيئته وضع آخر، بل هذه
الكلمة من الجوامد، ويتبادر منها ما ذكرناه.
تأييدات نقلية
1 - في رواية لا يبعد اعتبارها في " تفسير البرهان " عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن لله عز وجل ألف عالم، كل عالم منهم أكثر من سبع
سماوات وسبع أرضين، ما يرى كل عالم منهم أن لله عالما غير عالمهم " (1).
فإن هذه الإضافة لا تصح إلا على مسلكنا، كما أن المراد من العالم
في قوله (عليه السلام): " كل عالم " هو المعنى المناسب لما أفيد، فلا تذهل. ومثلها
روايات أخر في الاشتمال على تلك الإضافة.
2 - ما ورد في توضيح الآية الشريفة: * (إن الله اصطفاك وطهرك
على نساء العالمين) * (2): " إن مريم سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء
العالمين " (3)، وهكذا فافهم وتدبر.
تنبيه
قال ابن حيان: العالم لا مفرد له كالأنام، واشتقاقه من العلم أو

1 - تفسير البرهان 1: 48 / 13.
2 - آل عمران (3): 42.
3 - تفسير نور الثقلين 1: 336 - 338.
343

العلامة، ومدلوله كل ذي روح، قاله ابن عباس، أو الناس قاله البجلي،
أو الإنس والجن والملائكة، قاله أيضا ابن عباس، أو الإنس والجن
والملائكة والشياطين، قاله أبو عبيدة والفراء، أو الثقلان قاله ابن
عطية، أو بنو آدم قاله أبو معاذ، أو أهل الجنة والنار، قاله الصادق عليه
الصلاة والسلام، أو المرتزقون قاله عبد الرحمن بن زيد، أو كل مصنوع
قاله الحسن وقتادة، أو الروحانيون قاله بعضهم (1). انتهى موضع الحاجة.
أقول: أولا: لا معنى للمفرد له، لأنه موضوع للعام المجموعي، لا
الاستغراقي حتى يعتبر له المفرد.
وثانيا: قد مر إنكار اشتقاقه الفعلي في الاستعمال، وإن كان من
المشتقات فرضا، مع أنه ليس وزن الفاعل من الأوزان الصرفية
المضبوطة في الصرف للآلة.
وثالثا: لا ينبغي الخلط بين معناه الموضوع له والمراد من
" العالمين " في الآية، وما استقصاه كله راجع إلى مفاد الآية الكريمة
الشريفة.
رابعا: معناه بالضرورة ليس أحد المذكورات، حسب التبادر
ونصوص أهل اللغة، كما عرفت.
وما روي عن الصادق (عليه السلام): تارة بأن " العالمين " هو الناس فقط (2)،

1 - البحر المحيط 1: 18.
2 - تفسير القمي 1: 28، تاج العروس 8: 407.
344

وأخرى أهل الجنة والنار (1)، متعارضان لأعمية الثاني من الأول، لاشتمال
الجن، أو تكون النسبة عموما من وجه، بناء على كون جماعة من الناس
في موقف ثالث خارج عن الجنة والنار، وسيأتي تحقيق المراد في مقام
آخر إن شاء الله تعالى.
ثم إن " العالمين " جمع العالم فلابد وأن يعتبر له أقل الجمع، وهي
الثلاثة، فتفسيرها بطائفتين غير جائز، وباعتبار الآحاد يحتاج إلى
المؤونة الزائدة، وحيث هو الجمع المحلى باللام فيشمل جميع العوالم
المناسبة للربوبية، كما سيظهر تحقيقه.
المسألة الثالثة
حول كلمة " العالمين "
قال ابن مالك:
أولو وعالمون عليونا * وأرضون شذ والسنونا (2)
وذلك لأن معنى العالم أمر غير ذي عقل، ولو كان يطلق على ذوي
العقول لكان ينبغي أن يقال: إذا جمع على " العوالم " فمفرده ما لا يعقل،
وهكذا فيما يجمع على " علالم "، وإذا جمع على " العالمين " فيراد منه ما
يعقل، فتكون هيئة الجمع قرينة صارفة.
وغير خفي: أن ما قيل واشتهر: بأنه كلمة واحدة جمع هكذا ناشئ عن

1 - البحر المحيط 1: 18.
2 - الألفية، ابن مالك: المعرب والمبني، البيت 23.
345

قلة الاطلاع كما عرفت، مع أن شعر ابن مالك غير حاو على جميع تلك
الألفاظ، فإن منها " ياسم "، والعجب من " الأقرب " حيث توهم انحصاره بها،
فليراجع (1).
ثم إن قضية الاشتراك المعنوي في إطلاق لفظة " العالم " على جميع
العوالم والأفراد فرضا، هو كون الموضوع ما لا يعقل، لأن الجامع بين ما
لا يعقل وما يعقل غير ما يعقل، ولا شبهة في الحاجة إلى لحاظ ذلك الجامع
في الاشتراك المعنوي، فمن نسبة الشذوذ إلى الجمع المزبور نستكشف
أن معنى العالم ليس قابلا للانطباق على الآحاد، وإلا كان يتعين - مع الإمكان -
حمله على كون المراد طائفة من الآحاد الذين من ذوي العقول، ولا شاهد
من الاستعمال المعتبر على أنه جمع وأريد منه الأعم، ولعل ما نسب إلى
الصادق (عليه السلام) كان مبناه هذا، فيكون قهرا منحصرا بذوي العقول، وهم أهل
الجنة والنار، فتدبر جيدا.
فبالجملة: تحصل أن العالم - حسب اللغة والتبادر والجمع الشاذ
- معناه المجموعة الاعتبارية، وهي تختلف نطاقا في السعة والضيق،
وتتبع حدود اعتبار المعتبر والمستعمل، فلا يكون جمع العالم شاذا كما
توهمه ابن حيان لما يجمع القوم والرهط أيضا، وتلك الهيئة هي المعنى
المحيط بالأجزاء، ولا يعتبر كون تلك الأجزاء في هذه المجموعة واقعية
خارجية، بل يكفي المجموعة المؤلفة والاعتبارية، أو اعتبار الأجزاء إذا
لم يكن ذا أجزاء واقعا، فافهم واغتنم جيدا.

1 - أقرب الموارد 2: 824.
346

القراءة والإعراب
إجماع القراء السبعة على الجر، لكونه نعتا، وعن زيد بن علي
وطائفة بالنصب (1) بإضمار فعل أو على النداء، فيكون على المدح، وهي -
على ما قيل - فصيحة لولا خفض الصفات بعدها، لأنهم نصوا على أنه لا
اتباع بعد القطع في المنعوت، إلا أن زيد بن علي (عليه السلام) قرأ الثلاثة بالنصب،
فلا يكون ضعفا بعد تلك القوة فرضا، مع أن " الرحمن " عند الأعلم علم،
فلا يكون ضعفا أيضا من تلك الناحية، لأنه عند ذلك يصير بدلا لا نعتا، وفي
قول، قراءته بالرفع على القطع، فيكون خبرا لمبتدأ محذوف هو وهو.
والنصب على الحالية ممكن لإرجاعه إلى النكرة، أي الحمد
لله ربا للعالمين، كما يقال جاءني زيد وحده، أي منفردا. قال ابن مالك:
والحال إن عرف لفظا فاعتقد * تنكيره معنى كوحدك اجتهد (2)
أي منفردا.

1 - البحر المحيط 1: 19.
2 - الألفية، ابن مالك: الحال، البيت 5.
347

واحتمال كون " رب " فعلا ماضيا محكي عن بعض، ولكنه خلاف
القواعد، ومخالف لما يتبادر منه في الآية.
ثم اعلم: أن هذه الإضافة - حسب الاصطلاح - لفظية، لأنه من إضافة
المشتق إلى معموله، وقد مر أن الرب وإن كان بحسب الهيئة كصعب
صفة مشبهة، إلا أنه إما بمعنى الفاعل، كنصير بمعنى ناصر، وأما سميع
وبصير وإن كانا من المادة المتعدية إلا أن اعتبارهما من اللازم، ولا يكونان
بمعنى السامع والباصر، فإن ترجمة " السميع والبصير " بالفارسية: شنوا
وبينا، وترجمة السامع والباصر: شنونده وبيننده، ومثلهما النصير، فإنه
معناه بالفارسية: ياور، ومعنى الناصر: يارى كننده، أو اسم الفاعل مخففا
كالبار والبر بناء على كون البر بمعنى من يصدر منه البر بالكسر، وأما لو
أريد منه، من يقوم به الفعل الحسن في الاعتبار، كما في الفارسية نيكو
كار، فإنه لازم غير ما إذا قيل، نيكوئى كننده أو مصدر بمعنى الفاعل.
وعلى أي تقدير: هو من إضافة العامل إلى مفعوله، واحتمال كونه
من إضافة لعامل إلى الظرف، فيكون تقديره هكذا: رب وسيد في العالمين -
مثلا - فهو مبني على أن يراد من الرب السيد، وقد مر أن السيد ليس من
معانيه المطابقية، بل تلك المعاني مصاديق المعنى الواحد.
فعلى هذا تحصل: أن الرب يمكن أن يترجم بالفارسية به
" پروردگار "، فتكون الإضافة إلى غير المعمول، ويمكن أن يترجم به
" پرورش دهنده "، فتكون الإضافة لفظية، فتأمل.
348

علم المعاني والأصول والبلاغة
اعلم قد تقرر في هذين العلمين: أن الجمع المحلى باللام يفيد
العموم (1)، واختلفوا في أن العموم مستند إلى الألف واللام لأجل أنه
موضوع للاستغراق، أو مستند إليه لأجل أنه يفيد التعريف، فيكون
الاستغراق مستندا إلى معروفية المدخول. والثاني عندنا أوفق بالاعتبار.
وإذا كان معنى هيئة الجمع الثلاثة في جمع السالم، والعشرة في
جمع الكثرة - كما قيل على ما ببالي - فالألف واللام يفيدان التعريف، ولو
لم يستغرق المجموع يلزم عدم معروفية الداخل والخارج، وهو يلازم
التنكير لا التعريف، كما هو الظاهر. هذا هو المعروف عندنا في محله.
وربما يخطر بالبال شبهة لابد من حلها أو العدول عما قلنا، وهي أن
التخصيص لا شبهة في جوازه، كما أن التحقيق أن العام المخصص
لا يكون من المجاز في الاستعمال، ويصح الاستناد إليه فيما عدا مورد
التخصيص، لا لأجل أقرب المجازات، بل لأجل أن الاستعمال الحقيقي باق

1 - راجع كفاية الأصول: 245.
349

على حاله، على ما تقرر في علم الأصول تفصيله (1)، فلو كانت الألف واللام
موضوعتين لإفادة الاستغراق ليلزم المجازية في مورد التخصيص، لعدم
الاستغراق الحقيقي بالضرورة، وهذا نظير ما إذا استعمل كلمة " قوم " في قسم
من الجماعة، أو من قبيل استعمال الكلمة الموضوعة للكل في طائفة
من الأجزاء.
فعليه يعلم: أن الجمع المحلى باللام يورث الاستغراق، عند عدم
القرينة الخارجية متصلة كانت أو منفصلة، وهذا معنى أنه موضوع
للاستغراق الإضافي، فنحتاج في فهم الاستغراق الحقيقي إلى مقدمات
الحكمة، وإلى كون المتكلم في مقام إفادة الاستغراق، وإلا فلا يستفاد منه
ذلك، فيكون الألف واللام للزينة، أو لعدم توغل المدخول في النكرة
بدخول التنوين عليه، لعدم إمكان اجتماعهما حسب المتعارف في
الاستعمالات. ولأجل هذه الشبهة وما يقرب منها، ذهب بعض فضلائنا في
الأصول إلى احتياج العمومات كالإطلاقات إلى مقدمات الحكمة (2).
ويؤيد ذلك: ما ورد من العمومات التي لا يكون المراد منها إلا معنى
إضافيا، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: * (وإسماعيل واليسع ويونس
ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) * (3) وقوله تعالى: * (واذكروا نعمتي التي
أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * (4).

1 - انظر تحريرات في الأصول 5: 216.
2 - أجود التقريرات 1: 440.
3 - الأنعام (6): 86.
4 - البقرة (2): 47 و 122.
350

وغير ذلك مما هو الكثير في الكتاب، ولم يرد منه العموم
الاستغراقي قطعا، فعلى هذا نحتاج إلى ضم المقدمة العقلية الخارجية
في فهم العموم والاستغراق، فما في كتب التفسير من استفادة الاستغراق هنا
ممنوع إلا بانضمام تلك المقدمة إلى ذلك.
أقول: يمكن دفع هذه الشبهة بأن يقال: كما في الاستعمالات
الكنائية ليست الألفاظ مستعملة في المعنى المكنى عنه بالضرورة، لأن
المعنى المكنى عنه تصوري، وتلك الألفاظ الكثيرة استعملت في المعاني
التصديقية، كقولنا في مقام التكنية عن التحير والتردد: " يقدم رجلا
ويؤخر أخرى "، كذلك جميع الألفاظ في مقام الاستعمال، لا تستعمل إلا في
المعاني الموضوع لها، إلا أن المتكلم ذو حالتين:
الأولى: ما يريد منها بالإرادة الجدية تلك المعاني الموضوع لها،
فيكون بين الإرادتين الاستعمالية والجدية اتحادا خارجا.
الثانية: ما لا يريد من تلك الألفاظ معانيها الموضوعة لها، كلا كما في
الكناية، أو بعضا كما في العمومات المخصصة والمطلقات المقيدة،
فالتخصيص والتقييد من باب واحد وعلى نسق فارد، في عدم لزوم
المجازية بالنسبة إلى العام والمطلق.
وهنا بعض مطالب أخرى ومباحث ودقائق قيمة، تطلب من تحريراتنا
الأصولية وموسوعتنا الكبيرة في الأصول (1).
ولكن مع أن الشبهة قابلة للذب، ولكن الوجدان حاكم بأن

1 - انظر تحريرات في الأصول 1: 141.
351

للعمومات مصبا خاصا، ويكون الاستغراق بالنسبة إلى تلك المواقف
والموارد، ولابد في الاستغراق من مقدمات الحكمة والأمور الخارجة
العقلية حتى يثبت العموم الواقعي، ولو سلمنا ذلك في مثل أداة العموم،
ك‍ " كل " وما شابهه في إفادة العموم الاستغراقي أو البدلي - كما لا يبعد -
لا نسلم ذلك في المحلى باللام، لا لكثرة استعماله في الكتاب إضافيا، لما
عرفت ضعفه، بل لعدم ثبوت إفادته العموم لغة.
ومما ذكرناه يظهر ضعف ما في تفسير " العالمين " هنا: من حصر ذلك في
بعض العوالم، لما أنها حسب الكتاب استعملت في الأخص، ضرورة أن
الإرادة الجدية للأخص في مورد لا تستلزم كون سائر الموارد مستعملة
فيه بالضرورة، فلولا القرينة - المتصلة أو المنفصلة - لكان اللفظ
قابلا لإفادة الاستغراق، إلا أن ذلك هل يستند إلى الوضع أو إلى مقدمات
الحكمة؟ فيه خلاف، وعلى كل هنا تكون المقدمات كاملة وموجودة،
فيكون - حسب الظهور الأولي - المراد أعم، فيشمل جميع العوالم
الممكنة فيها الربوبية والاخراج من القوة إلى الفعل، فبمقتضى هذه
القرينة المتصلة، لابد وأن يكون المراد أخص بمقدار اقتضاء دائرة هذه
القرينة، لا أزيد ولا أنقص. وبما حصلناه يسقط جميع الأقوال في هذه
المرحلة، مع أنها بلغت إلى أزيد من العشرة، كما عرفت.
إن قلت: في " تفسير ابن إبراهيم القمي " مسندا عن ابن عباس، في قوله
تعالى: * (رب العالمين) * قال: إن الله عز وجل خلق ثلاثمائة عالم وبضعة
عشر عالما خلف قاف وخلف البحار السبعة، لم يعصوا الله طرفة عين قط،
ولم يعرفوا آدم ولا ولده، وكل عالم منهم يزيد على ثلاثمائة وثلاثة عشر
352

مثل آدم وما ولد، فذلك قوله: * (إلا أن يشاء الله رب العالمين) * (1)، (2)، فلو
كانت العوالم المزبورة هي الموجودات المصاحبة مع المادة القابلة،
والخارجة من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال، لكان ينبغي
صدور العصيان منهم، فمنه يعلم أن " الرب " لا قرينية له على تخصيص
" العالمين " بتلك الموجودات.
قلت: وفي " الخصال " عن الصادق (عليه السلام): " إن لله عز وجل اثني عشر
ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين، ما يرى عالم
منهم أن لله عز وجل عالما غيرهم، وأنا الحجة عليهم " (3).
وفي " البصائر " عن الحسن بن علي: " أن لله عز وجل مدينتين:
إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب، عليهما سوران من حديد وعلى كل
مدينة ألف ألف مصراع من ذهب، وفيها ألف لغة تتكلم كل لغة بخلاف لغة
صاحبه، وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما، وما عليهما حجة غيري
وغير الحسين أخي " (4).
وهاتان تدلان - بعد كون الأعداد في الكل محمولة على بيان الكثرة
كما هو المتعارف - أن تلك العوالم كانت ذات حجج، ولا تحتاج إلى
الحجة إلا إذا كانت فيهم قوة الخلاف، فمن الممكن كون تلك العوالم
صاحبة القوة المادية الخارجة من النقص إلى الكمال، ومع ذلك

1 - تفسير القمي 2: 409.
2 - التكوير (81): 29.
3 - الخصال 2: 781 / 14.
4 - بصائر الدرجات: 514 / 11.
353

تكون التربية بحيث لا يعصون الله طرفة عين. والله العالم.
ثم إن هاهنا روايات نستكشف منها عموم المراد من " العالمين " (1)
والأمر - بعدما أحطت به خبرا منا واضح - لا يحتاج إلى نقلها وبيان ضعف ما
في بعض الكتاب وبعض من الأسناد الموجودة، فليتدبر جيدا.
فبالجملة: لا دليل قطعي على أن المراد من " العالمين " إذا كان أضيف
إليه كلمة الرب، هو جميع العوالم الغيبية والشهودية، حتى يقال
باعتبار شمولها لعالم الذات، وباعتبار آخر لعالم الصفات وهكذا، بل
قضية ما سلف إلى هنا أن " العالمين " في هذه الآية هي العوالم
المناسبة لإضافة كلمة " الرب " إليها، فتكون منحصرة بتلك العوالم،
ويكون ربها ومربيها ومكملها، ومخرجها من ظلمات المادة وكدورات
الطبيعة والنقصان إلى أحسن الأحوال وأعز الكمال، هو الله البارئ، مع
حفظ المرتبة، بحيث لا يلزم إشكال. وسيظهر في المباحث المناسبة ما هو
حقيقة المقال، وما يمكن أن يخطر ببال. والله خير موفق وإليه الابتهال.

1 - راجع تفسير نور الثقلين 1: 16 - 17 / 70 - 73، وتفسير البرهان 1: 46 - 49.
354

علم الأسماء والعرفان
اعلم أن من المحرر في محله: أن الاسم ينقسم باعتبار إلى أسماء
الذات والصفات والأفعال، وإن كان كلها أسماء الذات في اعتبار آخر، ولكن
باعتبار ظهور الذات وظهور الصفات وظهور الأفعال تسمى أسماء الذات
والصفات والأفعال، ومن الأسماء ما يكون مجمع الاعتبارين لاختلاف اعتبار
معناها، لما فيه ما يدل على تلك الظهورات الثلاثة، وقد عدوا منها الاسم
" الرب "، فإنه بمعنى الثابت للذات، وبمعنى المالك للصفات، وبمعنى
المصلح للفعل (1).
وقد صرح بذلك بعض مشايخنا، وهو المروي عن شيخ هذه الطريقة (2)،
وقد عد في رسالة تسمى ب‍ " إنشاء الدوائر " الرب من أسماء الذات،
وجعله الثاني، حيث شرع في عدها هكذا: الله، الرب، الملك، القدوس،

1 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 14.
2 - مصباح الانس: 113.
355

السلام... إلى آخر ما ذكره هناك (1)، وسيظهر تفصيله عند قوله تعالى:
* (وعلم آدم الأسماء) * إن شاء الله.
ثم إنه على مذاق أخذ الرب بمعان مختلفة، من الممكن دعوى
استعماله في تلك المعاني كلا، فيكون من استعمال الواحد في الكثير
وتختلف - حينئذ - اضافته، فإنه على تقدير يكون المقدر اللام، أي رب
للعالمين، وعلى تقدير يكون المقدر " في "، أي رب في العالمين، وعلى
الأول يمكن أن يراد منه المصلح والمالك والمعبود، وعلى الثاني
الثابت والسيد والمعبود... وهكذا.
وعلى مذاق أن " العالم " من العلامة أو من العلم، قابل للصدق على
الفرد والكلي والكل والجزء وهكذا، فلك أن تقول: العالم كل ما سوى
الله تعالى، لأنه يعلم به الله تعالى من حيث أسماؤه وصفاته، وكل فرد من
أفراد العالم يعلم به اسم من أسمائه تعالى، لكونه مظهرا لذلك الاسم،
فأجناسه وأنواعه مظاهر للأسماء الكلية، وأشخاصه وجزئياته مظاهر
للأسماء الجزئية، فالعقل الأول - لاشتماله على كليات الحقائق وصورها
إجمالا - عالم كلي مظهر اسم الرحمن، والنفس الكلية - لاشتمالها على
جميع الجزئيات التي اشتمل عليها العقل الأول تفصيلا - عالم كل مظهر اسم
" الرحيم "، والإنسان الكامل الجامع للمرتبتين - الإجمالي من حيث
روحه، والتفصيلي من حيث مرتبة قلبه - عالم كل مظهر للاسم الجامع
للأسماء والصفات، وهو الاسم " الله ".

1 - إنشاء الدوائر: 28 - 30.
356

ولما كان كل فرد من الأفراد مظهرا للاسم الخاص، كانت العوالم غير
متناهية في هذا الوجه، ولكن الحضرات الكلية الإلهية خمسة، فيكون
العوالم الكلية خمسة:
الأول: حضرة الغيب المطلق وعالمها عالم الأعيان الثابتة في
الحضرة العلمية، ويسمى الغيب، وعالمها عالم الأمر والربوبية والعقل.
الثاني: حضرة الشهادة وعالمها عالم الحضرات الأعيان الثابتة
العينية، وعالم الشهادة، وهو عالم الملك والشهادة المطلقة في مقابل
الغيب المطلق.
الثالث: حضرة الغيب المضاف، وهو الأقرب إلى حضرة الغيب
المطلق، وهي صورة مجردة عقلية، وعالمها عالم الأشباه والأنوار، وعالم
الجبروت، وعالم النفوس الكلية والعقول المجردة.
الرابع: حضرة الشهادة المضافة، وهي أقرب إلى عالم الشهادة
المطلقة، وهي الصورة المثالية المناسبة لتلك الشهادة، وعالم
المثال والملكوت والخيال المطلق والمنفصل، وفي اعتبار عالم المثل
المعلقة.
الخامس: الحضرة الجامعة للأربعة مظهرا، وعالمها عالم الإنسان
والكون الجامع لجميع الأكوان والعوالم وما فيها، فكل عالم متأخر مظهر
العالم المتقدم، فعالم الناسوت مظهر عالم الملكوت، وهو مظهر الجبروت،
وهو مظهر اللاهوت، وهو مظهر الهاهوت، أي الواحدية الجمعية مظهر
357

الأحدية الذاتية (1)، وهناك عالم آخر لا رسم له ولا اسم ولا يشار إليه
حتى بهو، وفي كونها ذات مظهر، خلاف، المعروف عدمه (2)، وارتضى الوالد
المحقق - مد ظله - أن له مظهرا لا من سنخ الظاهر، فلا يشار إليه (3). والله
العالم.
إيقاظ وتذكرة: في معنى " العالم "
قد ارتضى بعض أهل المعرفة هناك طريقة أخرى في معنى العالم
وتقسيمه: وهي أن العالم هو الظل الثاني، أي العالم ذات الفاعل،
والفاعل ظله، والقابل ظل المعلوم، فيكون العالم هو الظل الثاني،
ولذلك يقال للإنسان الكامل: ظل الله، أو لمن يتوهم فيه كمال الجمال،
كالملوك: ظل الله، فهو ليس إلا الحق الظاهر بصور الممكنات، أي لظهوره
بتلك التعينات سمي باسم السوى والغير باعتبار إضافته إلى الممكنات،
إذ لا وجود للممكن إلا مجرد هذه النسبة، وإلا فالوجود عين الحق،
والحق هوية العالم وروحه، وهذه التعينات في الوجود الواحد أحكام
اسمه الظاهر، الذي هو مجلي لاسمه الباطن.
ولهذا قيل: العالم غيب لم يظهر قط، والحق تعالى هو الظاهر ما غاب

1 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 27 - 28.
2 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 119، مصباح الانس: 14.
3 - تعليقات الإمام الخميني (قدس سره) على مصباح الانس: 218، تعليقات الإمام الخميني (قدس سره) على
شرح فصوص الحكم: 26.
358

قط، وأهل الظاهر على عكس ذلك.
وقيل: كل هؤلاء عبيد السوء فندعو الله تعالى أن يشفي عباده من هذا
الداء ومن تلك الداهية العظمى.
بحث وإرشاد: حول كون " رب " من الأسماء المختصة
قد اشتملت كتب اللغة والتفاسير على أن " الرب " من الأسماء
المختصة، ولا يجوز إطلاقه على غيره تعالى إلا في صورة الإضافة، فهو
الحد الوسط بين كلمتي " الله " و " الرحمن " وبين سائر الأسماء، كما
لا يخفى (1).
ودعوى ممنوعية ذلك فقها غير ممكنة، لعدم الدليل الشرعي عليه،
وتفيد عمومات الحل والبراءة جوازه، مضافا إلى ورود ذلك في بعض
الأدعية: " يا رب الأرباب " (2)، فما اشتهر من عدم إطلاقه عند الإطلاق على
غيره تعالى، مخدوش بذلك جدا، وعدم اشتهار تسمية غيره تعالى به ككثير
من الأسماء لا يورث منع الإطلاق.
ثم إن المراد من هذا الدعاء " يا رب الأرباب "، كما يمكن أن يكون
أرباب الظاهر كرب الدار والبستان، يمكن أن يراد الوسائط التكوينية

1 - المفردات في غريب القرآن: 184، لسان العرب 1: 399، تاج العروس 1: 261،
الكشاف 1: 10، مجمع البيان 1: 22، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 7.
2 - بحار الأنوار 84: 110 / 6 و 88: 78 و 92: 94 و 95: 370 و 89: 268 و 83:
232.
359

كربات الأنواع وأربابها المشتهرة في الكتب العقلية، وقد بسطنا القول في
ذلك، وأثبتنا امتناع هؤلاء الأفراد العقلية بعون الملك العلام.
نقل وتوضيح: تطبيق العالم الكبير على العالم الصغير
في بعض المآثير: العالم عالمان، صغير وكبير (1)، ويؤيد ذلك ما نسب
إلى أمير المؤمنين (عليه السلام):
أتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر (2)
وقد ذكر العرفاء الشامخون في تطبيق الكبير على الصغير كلمات
جمة، لا يهمنا نقل خصوصياتها.
وإجماله: أن هذا العالم الكبير إنسان واحد بالعدد، باعتبار
النفس والعقل الكليين اللذين هما من عالم الوحدة، وباعتبار سريان
الوحدة الحقة الظلية إلى أجزائه، وهو عين الهوية، ولا سيما باعتبار
تدليه جمعا إلى وجهة الله تعالى وتعلقه بالحق المتعال، تكون
السماوات كلها أحياء عقلاء، مسبحين بحمد ربهم لا يسأمون، ومتواجدين في
عشق جماله لا يفترون، وذلك لمكان النفوس المتعلقة بها وعقولها
المشبهة بها.
ويؤيد ذلك ما في بعض الآثار النبوية: " أطت السماء وحق لها أن

1 - راجع المفردات في غريب القرآن: 345.
2 - ديوان منسوب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): 57 قافية الراء.
360

تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد " (1)، فإن الإنسان الكبير
ذو العقل والنفس كالصغير، والشمس قلب له، كما أن القلب الصنوبري
في الإنسان الصغير أشرف الأعضاء وله الرئاسة، كذلك الشمس في
الإنسان الكبير سيد الكواكب من الرئيسة والمرؤوسة، وتلك المادة
العنصرية الأرضية والسماوية في جنب تلك العوالم الروحانية،
كحجر المثانة (2).
وهذا التطبيق في الجسمانيات بلحاظ هذه المنظومة، ولكن في
الروحانيات تكون جميع العوالم بالنسبة إلى الإنسان الكامل صغيرة،
ولذلك قيل:
وفيك انطوى العالم الأكبر
فإن الانطواء دليل أكبرية الإنسان، والأكبرية دليل على أن هذا العالم
صغير بالنسبة إلى سائر المنظومات الشمسية والمجرات السماوية.
وغير خفي: أن كل إنسان فيه قوة كل كمال وجمال، فيكون التطبيق
بالقوة، بالنسبة إلى الكاملين يكون التطبيق بالفعل، وإلى بعض ما
شرحناه - من أعظمية الإنسان الصغير جسما من العالم الكبير معنى
وإحاطة - يشير ما ورد في رواياتنا حول بيان حدود أئمتنا (عليهم السلام) وجودا وسعة

1 - الدر المنثور 5: 273، علم اليقين 1: 259، عوالي اللآلي 4: 107 / 160، مسند
أحمد 5: 173، سنن الترمذي 3: 381 / 2414.
2 - شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 151.
361

وكمالا (1)، وقد أشير إلى بعض تلك الحدود الروايات السابقة، وكفى في
ذلك ما يقول خادمهم البسطامي: " لو أن العرش وما حواه ألف مرة وقع في
زاوية قلب العارف لما ملأه " (2)، ومن شاء فليرجع إلى محالها.

1 - الكافي 1: 111 - 113 / 3 - 5 و 7 و 10.
2 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 77، الأسفار 8: 311.
362

الحكمة والفلسفة
وهنا مباحث:
المبحث الأول
حول حصر الربوبية فيه تعالى
ظاهر الآية الشريفة انحصار وصف الربوبية فيه تعالى وتقدس،
وإذا كان المراد من " العالمين " جميع العوالم القابلة للتربية، فيكون
ربوبيتها منحصرة في ذاته تعالى، ومعنى الحصر هنا أمران:
أحدهما: أن جميع تلك العوالم تحت ربوبيته، بحيث لا يكون لواحد
منها رب آخر مستقل في الربوبية.
ثانيهما: أنه لا يوصف بالربوبية حقيقة أحد، لا مستقلا ولا تبعا،
وإفاضته بمعنى أن يستند إليه الربوبية حقيقة.
فإن كان معنى الربوبية: هي تهيئة أسباب الوصول إلى الكمال،
مع ترتب الغاية عليه والإيصال إليها وإلى الغايات المسانخة
المطلوبة، فهي قابلة عقلا للمنع وللحصر فيه تعالى، فإن حصول الغايات
بتهيئة الأسباب الظاهرية بيد القدير العليم، وبمجرد تحقق المعدات
363

لا يحصل النتيجة المرغوب فيها إلا بإرادته تبارك وتعالى، حسب ما برهن
عليه في محله (1)، حتى في قياس الاستنتاج، فإن المقدمات ليست علة
تامة، كما توهمه المفوضة (2)، وليست خارجة عن الدخالة الناقصة
والعلل الإعدادية، كما تخيله الأشاعرة (3)، بل هي إعداد لصورة النتيجة.
وإن كان معنى الربوبية هي تهيئة الأسباب الممكنة للوصول، وإن لم
تكن بالغة إلى حد النصاب التحقيقي حتى يحصل الكمال المطلوب،
فنفي ذلك وإثباته للحق الأول خلاف ما تحرر في محله، ضرورة أن الأسباب
والحركات الجزئية الخارجية - من المربين والمعلمين، ومن الطبائع
والأسباب الطبيعية كالحرارة ونحوها - علل إعدادية حاملة للإمكانات
الاستعدادية، فلأجل ذلك يدور الأمر بين الأمرين. أما إنكار كون الآية في
مقام حصر الربوبية المطلقة في جنابه تعالى، بل في مقام نفي استقلال
الغير في عالم من العوالم استقلالا ذاتيا، أي يكون هو إله ذاك العالم
والسبب الاستقلالي لإصلاح حاله، فلا يدل إلا على وحدة إله العالم ورب
العالم، من غير كونه منافيا لكون الغير مربيا، لا يستند إليه تعالى في
وجوده، لا في التربية التي هي فعله، أو إنكار إعدادية الغير في التربية
والاحتمال الأول غير صحيح، لأن الظاهر من الآية الكريمة حصر
الربوبية للعالم فيه، أي لأجل عموم المتعلق يستكشف انحصار المضاف

1 - الأسفار 2: 216 و 6: 369.
2 - انظر شرح المقاصد 1: 237، وشرح المواقف 1: 243، وكشف المراد: 240.
3 - شرح المقاصد 1: 237، شرح المواقف 1: 241 - 242، وانظر كشف المراد: 240.
364

إلى ذلك العام فيه تبارك وتعالى، فهو الرب في جميع العوالم، ويكون
الأمر بيده، فيسقط قول التفويضي: بأن الأمور مفوضة، وتكون الفواعل
الاختيارية، تامة الاختيار في الفاعلية، لأن معنى ذلك أن الإنسان رب
نفسه، بل الأب رب الابن ورب التلامذة، وهكذا، وهو خلاف الآية. بل
حسب ما تحرر في قواعدنا الحكمية، وصرح به الوالد المحقق - مد
ظله - في رسالته الموسوعة في الجبر والتفويض والطلب والإرادة: أن
النزاع بين المعتزلي والأشعري عقلي، يشمل جميع الفواعل الاختيارية
وغير الاختيارية (1)، ومن يريد إثبات استقلال العباد في أفعالهم، فعليه
إثبات استقلال سائر العلل في ذلك، قضاء لحق بعض الأدلة القائمة عليه.
إن الآية تنفي هذه المقالة وتورث أن الأشياء لا علية لها في
التربية والربوبية.
وغير خفي: أن معنى الرب في سعة عجيبة يشمل جميع الأشياء،
ويكون مقتضى انحصاره فيه تعالى سقوط جميع الموجودات عن كونها
علة تامة لشئ في هذه النشأة، وهي نشأة التربية والإخراج من القوة
إلى الفعل.
ويبقى - حينئذ - الاحتمال الثاني - وهو نفي الاعدادية للغير - فيكون
الآية دليلا على مقالة الأشعري، وسيظهر ذلك في البحث الآتي إن شاء
الله تعالى.

1 - رسالة الطلب والإرادة، الإمام الخميني (قدس سره): 53 - 54.
365

إشراق وإيماء
إذا كان العالم هو المعنى الظرفي، أي ظرف اعتباري لما فيه، ولذلك
يستعمل مع " في "، فيقال: زيد في العالم، وهذه الأشياء في العالم السفلي،
وأولئك الملكوتيون في العوالم العليا، فاستناد الربوبية إليها مجازي،
لعدم معقولية العالم لكونه مربوبا، فإنه هيئة اعتبارية إحاطية على كافة
الخلق أو كل شئ، لما أن لكل شئ عالما هو فيه، ويتحد معه في
الاعتبار.
وبعبارة أخرى: لا خارجية للعالم إلا تبعا تخيليا، ف‍ " هو رب العالمين "
نوع من المدح، وغير موافق للواقع والتحقيق، فيتكلم العبد بذلك في مقام
الخضوع والخشوع. فتصير النتيجة أن الآية لا تدل على خلاف مسلك
التفويض، ولا يسقط قوله بها.
المبحث الثاني
حول نفي العلية الإعدادية بالآية
مقتضى ظهور الآية في انحصار الربوبية للعالمين فيه تعالى، أن
العلل الإعدادية - أيضا - تستند إليه تعالى، فتكون النتيجة والمقدمات
بإرادته وقدرته، فيثبت بذلك مقالة الأشعري وهو الجبر وانتفاء الوسائط
في الدخالة والعلية الإعدادية، وقد مر: أن الربوبية هي تهيئة الأسباب
للانتهاء إلى الغاية المطلوبة، وأما ترتب تلك الغاية فهو ليس داخلا في
366

معنى الرب، ولذلك يقال: إن زيدا - مثلا - ما قصر في تربية ابنه، ولكنه ما
كان قابلا لذلك.
ويؤيد ذلك - في نفي إعدادية أفعال الغير، فضلا عن الاستقلال
والإفاضة - قوله تعالى: * (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) * (1)، مع أن
الزارع هو الفلاح الذي يبسط الزرع، ولذلك اشتهر: أن الزرع للزارع ولو
كان غاصبا، ولو كان الزارع هو الله تعالى لكان الزرع له، فليتأمل جدا.
والذي هو التحقيق: أن الإعدادية - أيضا - ذات جهتين: جهة كمال
وجهة نقص، وليست العلل الإعدادية إلا معاليل فعلية للعلل الحقيقية،
وتكون إعداديتها باعتبار المعلول الآخر المتأخر المترتب عليه، فتلك
الصورة المعدة مفاضة من الغيب أيضا، وإذا كانت إرادة الفاعل وفاعلية
سائر الفواعل فانية في تلك الإرادة، وظل تلك الفاعلية، يصح أن يقال
بانحصار الربوبية الحقيقية في حضرته الربوبية تعالى وتقدس.
وإن شئت قلت: إذا انضم الوجدان إلى هذه الآية الكريمة، يحصل
المذهب الوسط والطريقة العليا، فإن الوجدان حاكم بأن هذه العلل لها
الدخالة في الربوبية، وهي العلل للتربية، والبرهان والقرآن يناديان
بأن الواجب عز اسمه باسط اليد، وغلت أيدي من يقول بخلافه.
فإذا لابد من الجمع بين هذه الشواهد، فتصير النتيجة أمرا بين
الأمرين، نفي استقلالية الفواعل وإثبات تبعيتها في العوامل، وهو الحد
المتوسط والصراط المستقيم.

1 - الواقعة (55): 64.
367

المبحث الثالث
في كونه تعالى علة مبقية
قد تقرر في قواعدنا الحكمية: أن الممكنات كما تفتقر إلى العلة
المحدثة، مفتقرة إلى العلة المبقية حال بقائها، فإذا كان معنى الرب هو
تبليغ الشئ إلى كماله اللائق به شيئا فشيئا وحالا فحالا، وكان هو
تعالى رب العالمين، يثبت أنه تعالى هو العلة المبقية، وإذا كان هو
السبب المبقي فلا خلاف في أنه السبب الموجد، فيعلم من ذلك وحدة
السببين الموجد والمبقي، كما تحرر: أن ما يستند إليه الممكن في أصل
وجوده حدوثا يستند إلى شخصه بقاء، وأن السبب الموجد عين السبب
المبقي (1).
وقيل: ليس فيه دليل على ذلك، إذ الشئ التدريجي لما كان حصوله
على هذا الوجه، فجميع زمان وجوده هو بعينه زمان حدوثه، فالنامي -
مثلا - زمان نموه من أول نشوه إلى منتهى كماله المقداري، هو زمان حدوث
مقداره الحاصل له شيئا فشيئا، وذلك مثل فعل الصلاة، فإن زمانه من لدن
أول تكبيرة الافتتاح إلى آخر تسليمة الاختتام، كله وقت الحدوث، لا
وقت البقاء (2). انتهى.

1 - الشفاء (قسم الإلهيات): 261 - 268، التحصيل: 524 - 527، الأسفار 1: 219 - 221
و 2: 214 - 216.
2 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 78.
368

أقول: هذا غير صحيح، لأن لازم ذلك إنكار البقاء لكل شئ بناء على
ثبوت الحركة الجوهرية، ويلزم أن يكون كل آن آن الحدوث، فكيف
يتصور الموضوع الباقي في الحركة؟! فما في تفسير صدر المتألهين (قدس سره)
لا يخلو عن غرابة.
وحل المشكلة: أن ما يتدرج في الخارج نحو وجوده التدريجي قابل
للقسمة الوهمية، وبلحاظ هذه القسمة يقال: كل مرتبة منه حادثة،
وهذا الموجود دائما حال الحدوث، ولكن تلك الشخصية المتدرجة
باقية بشخصها، ومتدرجة في ما لا يكون مقوم شخصيتها، ولذلك يقال:
بالوجدان الصلاة قد وجدت، وهي باقية إلى زمان الختم بالسلام، وفي
هذه الإشارة يكون المشار إليه نفس الطبيعة الإجمالية، مع قطع النظر
عن الأجزاء التفصيلية.
إن قلت: ربما تكون ربوبيته تعالى كربوبية الأنبياء والرسل
والمعلمين والآباء، من غير كونها علة مبقية.
قلت: هذا خلاف العموم المستفاد من إضافة الرب إلى العالمين،
فلو كان في زاوية من زوايا العالم العلة المبقية إلى الكمال الممكن
غيره تعالى، فالآية تنفي ذلك.
المبحث الرابع
حول استفادة تدريجية العالم من الآية
قيل: إن الآية تدل على أن العالم التدريجي الحصول متدرج في
369

التكوين، ونحن قد أثبتنا في العلوم البرهانية، حدوث العالم بإقامة
البراهين القطعية عليه، وعلى أن جواهر العالم والصور الطبيعية
للأجرام السماوية والاسطقسية، كلها تدريجي الكون سيالة الحصول
غير قارة الوجود، كالحركة المتصلة ومقدارها من الزمان (1). انتهى.
ويتوجه عليه: أن الآية لا تدل على ذلك، بل الآية تدل على أن كل ما
أمكن أن يتربى فمربيه رب العالمين، وأما أن كل موجود في هذا العالم
يتدرج من النقص إلى الكمال، فهو يطلب من مقام آخر.
وبعبارة أخرى: كما أن معنى الرب، يستلزم كون المراد من العالمين
عالم الماديات العلوية أو السفلية، ولا يشمل المجردات المحضة
التي لا تتدرج في الوجود، ولا تتحرك نحو الكمال، بل هي الإبداعيات
المفارقة للمواد والأزمان، كذلك هو يستلزم اختصاص الربوبية بما يمكن
أن يطرأه التدرج، كما في المقولات الأربع العرضية، وأما في مقولة
الجوهر فلا يمكن مثلا، فلا تشملها الآية الكريمة الشريفة، فما في كلمات
الصدر المتقدم وصاحب الحكمة المتبالية، لا يخلو عن تأسف.
نعم يمكن دعوى: أن قضية العموم خروج جميع العوالم من النقص
إلى الكمال، وجميع الأشياء من القوة إلى الفعل قضاء لحق عمومية
ربوبيته، ولكن قد خرجنا عن هذا العموم، لقيام القرينة العقلية في
الإبداعيات، فيبقى الباقي تحته، فإن البرهان على امتناع الحركة
الجوهرية، فتكون تلك أيضا خارجة، وإلا فقضية الكتاب خروج جميع

1 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 81.
370

مراتب العالمين من النقص إلى الكمال، وشمول ربوبيته تعالى لتلك
الأشياء، جوهرية كانت أو عرضية، فافهم واغتنم وتأمل جدا.
المبحث الخامس
حول استفادة كونه تعالى ربا للعالمين بلا واسطة
ربما يستظهر من الآية الكريمة الشريفة أنه تعالى رب
العالمين بلا واسطة، وهذا يستلزم شبهات عقلية:
وأهمها: أنه كيف يعقل للقديم الواجب من جميع الجهات، المتعالي
الذات عن كافة الموجودات، مباشرة الحركة المستلزمة لوقوعها على
المباشر، فإنه لا يعقل أن يوجد شئ حركة بالمباشرة ولا يخلو عن تلك
الحركة الشخصية أو نوع آخر منها، وجميع الحركات في حقه تعالى
ممتنع قطعا.
وبعبارة أخرى: الطبيعة أو الجسم المتحرك في الأعراض، سبب
مباشر لتلك الحركات، وتقوم تلك الحركات به قياما حلوليا، لكونه
موضوعا لها، وصدوريا باعتبار كونه علة قريبة لتلك الحركة، وكل ذلك في
حقه تعالى ممتنع، لعدم مزاولته مع المادة المتحركة، ولا مع الجسم، ولا
غير ذلك بالضرورة، ولو كانت الربوبية بالإرادة، فكيف يتصور حصول
الحركة والخروج من القوة إلى الفعل، مع عدم تجدد في الإرادة ولا في
المريد، مع أننا إذا أردنا حركة شئ عرضيا كالحركة الوضعية أو
الأينية، فلابد وأن يحصل فينا تلك الحركة حتى يحصل للآخر، فلابد من
371

تصوير وقوع الحركة من المحرك على وجه لا يوصف المحرك
بالحركة، لا ذاتا، ولا صفة، ولا إرادة، وهكذا، وعند ذلك كيف يكون هو رب
العالمين، لما أن حقيقة الربوبية متوقفة على إخراج الشئ إلى ما
يليق به حالا فحالا، كما عرفت في مباحث اللغة والصرف.
أقول: لا شبهة في أن العاشق يتحرك - بحسب الوجدان - في العشق
المجازي نحو المعشوق، وهو نائم في بلده وغافل عن عشاقه ومجانينه،
فهل هذه الحركة الموجودة في العاشق بالعشق المتعلق بالصورة
المعشوقة بالذات، وبالمعشوق الخارجي بالعرض، لا تكون تستند مجازا
إلى المعشوق، فيقال: إنه يحركه ومحركه وإن الحركة مستندة إليه،
لكونها تنتهي بالوصول إليه، فهي الغاية لها والغاية لأمدها، فلو كان -
حسب المكاشفة والبرهان - جميع الأشياء عاشقا لجماله وكماله
بالعشق الذاتي والشوق الطبيعي، ومتحركا نحو ذلك الوجود الكامل
على الإطلاق بالمحبة والعلقة الإدراكية وغير الإدراكية، فيكون متحركا
ومتوجها إلى الكمال وخارجا من القوة والنقص إلى الفعلية المحضة
والكمال الإلهي، فيحصل فيه من تلك الحركة ما هو المطلوب الأعلى
والمحبوب الأحلى، وكانت تلك الركيزة وهذه الخاصة الطبيعية
والإدراكية، من عنايته تعالى وحكمته الكامنة في الطبائع والأشياء، فهل
عند ذلك لا يوصف هو تعالى بربوبية العالمين؟! كلا وحاشا، والحمد لله
تعالى.
وإن شئت قلت: إن خروج الشئ من القوة إلى الفعل: تارة يكون
بمخرج طبيعي وفاعل مزاول للمادة، كإخراج شئ من قوة الحركة الأينية
372

إلى فعليتها، وأخرى يكون بمخرج إلهي، فإن كان على الثاني، وكان
الخروج تحت إرادته القديمة الأزلية فيما لا يزال على العلية
والمعلولية وعلى النظام الأتم، فيكون المراد بتلك الإرادة تابعا لكيفية
الإرادة، فإن كانت الإرادة تعلقت بوجود الشئ إبداعا فيما لا يزال، فيصير ذلك
الشئ موجودا في ظرفه فيما لا يزال، إلا أن هذا خارج عن النظام الرباني،
فإن الموجودات في عمود الزمان كلها - حسب الاصطلاح - من الكائنات
المسبوقة بالمادة والمدة وليست إبداعية، وإن كانت تعلقت بذلك الوجود
حسب النظام الرباني والخروج من القوة إلى الفعل، فيصير ذلك حسب
كيفية الإرادة، من غير خلل في أركانها أو تجاف في ذاته تعالى، ومن غير
لزوم التبدل في نفس الإرادة، بل لو تخلف المراد عن تلك الإرادة للزم
الاختلال في صفته تعالى، المورث للاختلال في الذات، لمكان الاتحاد.
فعلى هذا هو تعالى رب العالمين، لأنه لا يعقل الخروج من القوة
إلى الفعل إلا بنفوذ إرادته وسعة قدرته.
وهذا الذي ذكرناه مجمل من المسائل الكثيرة الربوبية
والطبيعية، المحررة في محالها البالغة إلى نصاب التحقيق وميقات
التدقيق، وتفصيله على وجه النشر في كتب إمام الفن، صاحب
" الحكمة المتعالية "، وإجماله على سبيل النظام العلمي المتين في
قواعدنا الحكمية.
وبالجملة: هذه النشأة معدة، وفيها الصور المفارقة عن المواد فيها
الواصلة إلى الأسماء والربات المناسبة معها والمقامات المهيأة لهم،
والحركة الموجودة في مجموع هذا العالم لو كانت مستندة إلى نفسها،
373

للزم اتحاد المحرك والمتحرك، فتكون مستندة إلى ما وراءه.
وإذا كانت هي مستندة إليه تعالى: فتارة يكون مباشرته تعالى
كمزاولة المربية الجالسة بجانب المهد، فهو يستلزم وقوع تلك
الحركة في يدها، ومن يدها تسري إلى نفسها، وأخرى تكون بالوجه
المشار إليه. فافهم وكن من الشاكرين.
المبحث السادس
المناسبة بين الاستدلال بوحدة العالم
على وحدة إله العالم وهذه الآية
قد اشتهر بين أبناء الفلسفة العليا الاستدلال لوحدة إله العالم
بوحدة العالم (1)، وهذا لا يناسبه الآية الكريمة الشريفة الصريحة في
تعدد العالم، ولا المآثير والأخبار الواردة عن الأئمة المعصومين - عليهم
صلوات المصلين - الصريحة في أن لله تعالى ألف ألف عالم (2)، فكيف
الجمع بين ذاك وبين هذه الأمور؟
أقول: استدلوا على وحدة إله العالم حتى قيل:
فبالنظام الجملي العالم * شخص من الحيوان لا، بل آدم
لكن لا رأس له كالإنسان البشري، ولا ذنب كالحيوان العنصري،

1 - الأسفار 6: 92 - 100، شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 150 - 153.
2 - انظر الخصال 2: 796 / 54، تفسير القمي 2: 409.
374

كما ليس له تشه ولا غضب لبراءة السماوات منها، وليس من شرط
الحيوانية والإنسانية المطلقتين هذه، بل الحياة ودرك الكليات، وهما
حاصلان له باعتبار اشتماله على النفوس والعقول، وحينئذ فمع تعدد إله
العالم، تتوارد العلل المستقلة على المعلول المشخص من الإنسان
الكبير الشخصي الذي قد انفعل وتأثر. وهذا محال، فتعدد الإله محال (1).
وأنت خبير: بأن في هذا التقريب قصورا لا ينتهي إلى التحقيق، لأنه
لا يفيد إلا الوحدة الاعتبارية فلا يكشف عن وحدة الإله.
وقيل: إن مجموع العالم شخص واحد له وحدة طبيعية، وليست
وحدته كوحدة أشياء متغايرة، اتفق أن صارت بالاجتماع والانضمام كشئ
واحد، مثل اجتماع البيت من اللبنات واجتماع العسكر من الأفراد، وذلك
لأن بين أجزاء العالم علاقة ذاتية، لأنها حاصلة على الترتيب العلي
والمعلولي، وهي مترتبة بالأشرف فالأشرف إلى الأحسن فالأحسن، ومن
الأعلى فالأعلى إلى الأدنى فالأدنى، وكل جمعية تقع على هذا الوجه
تكون الوحدة فيها وحدة ذاتية، وذلك لما عرفت أن العلة تمام المعلول،
والأشرف تمام الذي دونه في الشرف، والشئ الذي يكون مع تمامه هو
أولى به أن يكون مع نفسه، فيكون واحدا بوحدته.
وبالجملة: صرح صاحب " الحكمة المتعالية ": بأن العالم واحد
شخصي بالبرهان عندنا وعند الحكيم أرسطو، حيث قال: بأن العالم حيوان
واحد مطلب " ما هو " و " لم هو " فيه واحد، فمن علم أنه ما هو علم أنه لم هو،

1 - انظر شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 153.
375

فإذا كان كذلك ولا شبهة أن العلة الغائية لجملة العالم - المسمى عند
العرفاء بالإنسان الكبير - هو الحق الأول جل ذكره، فيكون هو الجواب
عن السؤال عن مطلب " لم هو " (1). انتهى ما أردنا نقله.
وغير خفي: أنه (قدس سره) ما عقد فصلا في كتابه الكبير لإثبات وحدة إله
العالم (2)، وإن أصر في موضع آخر على وحدة العالم وحدة شخصية. وأنت
خبير بأنه لو كان يتم هذا البرهان في حد ذاته، لكان يمكن الجمع بين ذلك
وبين تلك الأدلة، بحملها على الكثرة الاعتبارية، لما قد مضى من أن لفظة
" العالم " موضوعة لشئ يكون سعة مصداقه وضيقه تابعين لاعتبار
المستعمل، فيصح إطلاقه وإرادة ما سواه تعالى، بل قد مضى أن من العوالم
عالم السرمد وعالم الهاهوت، وهي وعاء الذات في وجه تخيلي ترشيحي،
ولكن ما راموه بنبال أفكارهم القديمة - الغير المشفوعة بالكشفيات
العرفانية، وغير المصحوبة مع أرباب الوحي والتنزيل - غير موافق
للذوق السليم والعقل المستقيم، من غير احتياج في مسألة من المسائل
الإلهية والطبيعية إلى إثبات تلك الوحدة الطبيعية الوهمية التخيلية،
الفاقدة لأول مرتبة التحقيق، فضلا عن أعلاه، وذلك لما تقرر في هذه
الأعصار من أجنبية هذه الزاوية من المنظومة الشمسية عن الزوايا
البعيدة عنا بما لا يحيط به علماء السلف، حتى تكون الجواذب المدعاة
بين الأشياء منقطعة، وإن لم يثبت عندنا قانون الجاذبة بعد، بل أقمنا بعضا من

1 - انظر الأسفار 7: 113.
2 - بل قد عقد فصلا، انظر الأسفار 6: 92.
376

البراهين على عدم وجوده في بعض المحافل العلمية، فكيف يكون بين
هذه الأمور المتفرقة المتنائية غير المترابطة لشدة البعد، وحدة طبيعية
ذاتية؟! ضرورة أنها وحدة كوحدة الإنسان، وهي ليست وحدة مساوقة
للوحدة الواقعية، بل هي وحدة تأليفية، ومع ذلك لا توجد تلك الوحدة في
هذه النشأة. نعم كانوا يتخيلون الهيئة " البطلميوسية " المحدودة بالأفلاك
التسعة، فأقاموا على وحدة الإله بتلك الوحدة برهانا، ولو كانوا يأتون
أبواب البركات والخيرات والأئمة المعصومين - عليهم صلاة رب
الراقصات - لما خفي عليهم هذه المسائل والمباحث، وإليك نبذة يسيرة
من المآثير، حتى يتضح لك حقيقة الحال على الوجه الأعلى والأحسن:
1 - علي بن إبراهيم القمي الكوفي (رحمه الله) عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)
قال: سمعته يقول: " إن الله خلق هذا النطاق زبرجدة خضراء، فمنها اخضرت
السماء. قلت: وما النطاق؟ قال: الحجاب لله عز وجل، وراء ذلك سبعون ألف
عالم أكثر من عدة الجن والإنس " (1).
2 - وبإسناد آخر عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " من وراء شمسكم هذه
أربعون عين شمس، ما بين عين شمس إلى عين شمس أربعون عاما فيها خلق
كثير، ما يعملون أن الله خلق آدم أو لم يخلق، وإن من وراء قمركم هذا أربعين
قرصا، بين القرص إلى القرص أربعون عاما، فيها خلق كثير لا يعلمون أن الله
خلق آدم أو لم يخلقه " (2)، الحديث.

1 - بصائر الدرجات: 512 / 7، تفسير البرهان 1: 47 / 9، بحار الأنوار 54: 330 / 15.
2 - بصائر الدرجات: 513 / 9، تفسير البرهان 1: 47 / 12، بحار الأنوار 27: 45 - 46 / 6.
377

3 - محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن
سعيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن أبان بن تغلب، قال: كنت عند
أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه رجل من أهل اليمن، فقال له: " يا أخا اليمن
عندكم علماء؟ قال: نعم. قال: فما بلغ من علم عالمكم؟ قال: يسير في ليلة
واحدة مسيرة شهرين يزجر الطير ويقفوا الآثار. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): عالم
المدينة أعلم من عالمكم. قال: فما بلغ من علم عالم المدينة؟ قال: يسير في
ساعة من النهار مسيرة الشمس سنة، حتى يقطع ألف عالم مثل عالمكم هذا،
ما يعلمون أن الله خلق آدم ولا إبليس. قال: فيعرفونكم؟ قال: نعم، ما افترض
الله عليهم إلا ولايتنا والبراءة من عدونا " (1).
4 - وغير ذلك مما هو مسطور في كتاب " الكافي " وغيره، ومن
شاء فليراجع (2).
فعلى ما تقرر تكون الآية الشريفة وهذه الأحاديث المنيفة، دليلا
ظاهرا على عدم توحد العالم وحدة حقيقية، خلافا لما هو المعروف عن
أبناء البرهان، فافهم ولا تكن من الهالكين.
المبحث السابع
الجمع بين ربوبيته والشقاوة الفعلية في العالم
قضية الآية الشريفة أن جميع آحاد الأشياء القابلة للربوبية،

1 - بصائر الدرجات: 421 / 15، تفسير البرهان 1: 48 - 49 / 16.
2 - راجع بحار الأنوار 27: 41.
378

ولتعلق إرادته تعالى به تعلقا ربوبيا، فيكون كل ممكن خارجا من القوة
إلى الفعلية بربوبيته، فيلزم كون الأشياء والأشخاص المتربية في
الشقاوة والمتحركة في الظلمات، من ربوبيته تعالى وعموم تربيته، وهذا
- مضافا إلى تنزهه تعالى عن ذلك - يستلزم كون الشقاوة الفعلية من
ناحيته المقدسة، وهذا في وجه هو الجبر، لأن سبب سوء الاختيار هي
الشقاوة، وهي تحصل من ربوبيته تعالى.
وإن قلنا بأن خروجها من النقص إلى الكمال من شؤون تربيته دون
العكس، فيلزم عدم نفوذ إرادته، وهو أفحش فسادا، لقوله تعالى: * (يضل
من يشاء ويهدي من يشاء) * (1).
والذي به انحلت المعضلة في الكتب العقلية: أن نفوذ قدرته
وإرادته مما لا شبهة فيه، وعموم الحركات مستند إليه تعالى وتقدس في
أية زاوية وقعت في العالم، وأن الشقاوة والسعادة بذرتان أنشئتا في
الأصلاب والأرحام، بسوء اختيار الآباء والأمهات وانحرافهم الاختياري عن
جادة الاعتدال والشرائع، وأنهما ليستا ذاتيتين إيساغوجيين ومن الكليات
الخمس، ولا ذاتيين في باب البرهان حسب ما تبين في المنطق اصطلاحا،
بل هما من خواص ولوازم الوجود، ولا يخرج السعيد عن الاختيار حتى
لا يكون فيما يصدر منه مورد التحسين، ولا الشقي عن الإرادة والاختيار
حتى لا يكون مورد التقبيح.
مع أن هذه الآية الكريمة ظاهرة وناظرة - عند بعض - في أن

1 - فاطر (35): 8.
379

الحركات المنتهية إلى السعادة مورد ربوبيته تعالى، لأنه هو معنى
الرب، وليس الإخراج من الكمال إلى النقص ومن القوة إلى فعلية
ظلمانية من الربوبية، فالآية لا تورث توهم دلالتها على ما أشير إليه.
والحق: أن معنى التربية والربوبية ليس إلا تهيئة أسباب الوصول
إلى الكمال، وأما بلوغه إليه خارجا فهو خارج، لما يمكن استناد عدم
البلوغ إلى قصور الماهيات وعدم قابلية المحال، فهو تعالى تصدى
لتربية العالمين من ناحية اقتضاء اسمه الخاص، وهو الرب، وأما
الخواص وآثار سائر أسمائه تعالى - كالمضل والضار وغيرهما -
فلا ينبغي خلطها مع آثار غيرها.
وللمسألة طور آخر من البحث، ربما يأتي في مطاوي المباحث
الآتية في هذا الكتاب - إن شاء الله تعالى وتقدس -.
ومن الممكن أن يقال: إن الحق الأول المتصدي لتربية العوالم،
ولإخراج العالمين من النقص إلى الكمال، يكون نظره التربية حسب
النظام الأتم، ولا معنى للغايات الخاصة بكل موجود، ولا للأغراض
المخصوصة بكل متحرك المتوهمة عندنا، في أن تكون الحركة نحوها
والتربية لأجلها، بل غاية التربية، وهي غاية الغايات في مقام الظهور
هي النظام، فلو انتهى موجود في التربية إلى الشقاوة والضلالة، فهي
بالقياس إلى حاله الفردية ليس من التربية، وأما بالقياس إلى اقتنائه
في النظام الجملي، الذي هو تابع النظام الرباني، الذي هو ظل النظام
الإلهي، فهو من التربية، ويحصل به ما هو الغاية القصوى التي يمكن أن
يعلل به فعل الله تبارك وتعالى، فلا تكن من الخالطين.
380

ويحتاج كل قارئ لهذه المسائل المعنونة هنا إلى مقامات اخر، حتى
يمكن من درك حقيقة علم التفسير، فإنه علم في لحاظ اعتباري لا واقعية
له، وفي لحاظ فيه كل العلوم فانية، ويشتمل ويحتوي على جميع المسائل
الفكرية، فليغتنم.
المبحث الثامن
حول قبول المجردات للتربية
مقتضى عموم تربيته للعالمين أن كل ما في العالم قابل للتربية،
فيكون جميع الموجودات الأمرية والخلقية، وتمام الأشياء الإبداعية
والاختراعية والكائنة، ممكنة الخروج من القوة إلى الفعلية، وهذا
ينافي ما برهن عليه في الكتب العقلية (1)، بل وفي طائفة من الآثار
العلوية (2) من: أن طائفة من الموجودات والمجردات الإبداعية، سواء
كانت مجردات صرفة عقلية، أو مجردات عن المواد دون مقارناتها
كالمقدار ونحوه، والاختراعية التي هي صاحبة المواد الأثيرية - حسب
ما توهموه - ليست قابلة لذلك، بل الحركة مخصوصة بالعناصر لما فيها
من المواد الحاملة للإمكان الاستعدادي والقوي المنتظرة.
فبالجملة: لا وجه لأن يستكشف من مفهوم الرب خروج هذه

1 - انظر الأسفار 3: 59 - 60 و 7: 148 و 262 - 274، والقبسات: 380 - 390.
2 - مناقب آل أبي طالب 2: 49، تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام): الباب 93، الحديث 54، بحار
الأنوار 40: 165.
381

الطائفة عن الآية، بل الوجه استفادة خروجها أيضا من القوة إلى الفعل
واندراجها في ذيل الكريمة.
قلت: نعم لو كانت المسألة غير مبرهنة في محلها، كان الأمر كما
تحرر، ويكفي للتخصيص حكم العقل، بل وما في المآثير من النقل، مثل
هذه الجملة المعروفة من " نهج البلاغة ": " منهم سجود لا يركعون،
وركوع لا ينتصبون " (1) فليتدبر جيدا.
وأما الاستكمال بمعنى التجليات الفعلية والجلوات الذاتية، فهي
ليست من الاستكمال الاصطلاحي، وإلا يلزم استكماله تعالى أيضا، لما له
الجلوات والاستكمالات. وما ورد من: أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون علما ليلة
الجمعة، فهو يشتمل على رموز ودقائق ومن شاء فليراجع " الكافي " (2).
وفي تلك الأخبار ما يصرح بأنهم فيها مسرورون، والسرور والبهجة
هي التجليات الحاصلة لهم، فلا تخلط.

1 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: الخطبة 1.
2 - الكافي 1: 253 - 254، باب في أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون في ليلة الجمعة.
382

الفقه
مسألة: حكم جواز التعدي من القراءات السبع
قد أشير سابقا إلى مسألة جواز التعدي من القراءات السبع
المشهورة إلى غيرها وعدمه أو التفصيل بين ما كان متعارفا بين الناس
وعدمه، سواء كان منها أو لم يكن، أو التفصيل بين ما كان قراءة أهل البيت
والأئمة (عليهم السلام) وعدمه، وسواء كان منها أو لم يكن، أو المدار على صدق
قراءة القرآن، فينسحب ذيل البحث إلى أن القرآن هي الحقيقة المقروة
على الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي كانت إحدى القراءات قهرا، اللهم إلا أن
يقال بتكراره نزولا، أم القرآن كسائر العناوين له العرض الوسيع في
الصدق، ولا يختلف باختلاف الكلمات في الإعراب صدق تلك الحقيقة.
وحيث إن هذه المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل في البحث فقها،
ونحتاج إليها في جميع السور، ولا يمكن تكرار البحث، فعلينا أن نذكر
حكمها في المقدمات التي نتعرض لها في مدخل الكتاب إن شاء الله
تعالى.
383

مسألة: حكم إطلاق " الرب " على غيره تعالى
قد اشتملت كتب اللغة والتفسير على أن إطلاق " الرب " على
الإطلاق على غيره تعالى، غير جائز، وهو من الأسماء المختصة به تعالى،
وأما إذا أضيف إلى شئ، مثل: رب الإبل والدار وربات الأنواع، فلا بأس به (1).
والذي هو التحقيق: جواز ذلك فقها وعدم جوازه أخلاقا وأدبا، لا ينافيه
كما لا يخفى، وذلك لعدم الدليل الشرعي على ذلك، مع ما قد مر من وروده
في بعض الأدعية، مثل قوله: " رب الأرباب " (2)، بل في الكتاب: * (أرباب
متفرقون) * (3)، فإنه شاهد على جواز ذلك، فما في كتب اللغة وغيرها محمول
على ما تعارف في الخارج بحسب الاتفاق، فلا تخلط.
ومن العجيب توهم عدم جواز إطلاقه على غيره تعالى لغة (4)،
وأعجب منه الاختلاف في أن المقصود من الاختصاص، هل هو من ناحية
اللغة، أم هو من ناحية الفقه شرعا؟ (5) وعن الشهاب: أنه لو كان بمعنى
غير المالك جاز مع القرينة (6)، وجوز بعضهم إطلاقه إذا كان نكرة، كما في

1 - المفردات في غريب القرآن: 184، لسان العرب 1: 399، تاج العروس 1: 261،
الكشاف 1: 10، مجمع البيان 1: 22، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 7.
2 - بحار الأنوار 88: 78.
3 - يوسف (12): 39.
4 - راجع لسان العرب 5: 95، وتاج العروس 1: 260.
5 - انظر روح المعاني 1: 73.
6 - نفس المصدر.
384

قول النابغة:
نحث إلى النعمان حتى نناله * فدى لك من رب طريفي وتالدي (1)
وهذا الاستدلال ساقط، لأن جواز إطلاقه لغة مما لا يمكن توهم خلافه
من غير فرق، وقد اطلق معرفة في شعر ابن حلزة في منذر بن ماء السماء:
وهو الرب والشهيد على يو * م الحيارين والبلاء بلاء (2)
وقد مر بيان حول ذلك.
وأعجب من ذلك كله منع بعض جواز إطلاقه مضافا إلى العاقل،
كرب الإنسان والعبد، لأنه يوهم الشرك، حتى روي عن أبي هريرة رواية
في ذلك، ولا ينبغي أن يتفوه العاقل بما لا يرضى به العقل، حتى يحتاج إلى
مثل هذه التشبثات الباردة، كي يقول الآخر: بأن الرواية منسوخة، وكي
يحتاج إلى تأويل الكتاب في سورة يوسف: * (اذكرني عند ربك) * (3)، وغير
ذلك من الأباطيل (4)، فلا تخلط.
مسألة: حكم تربية الأنام
إذا كان هو تعالى رب العالمين فهو يستحق ربوبية الناس، أفهل
يجوز لغيره تعالى أن يتصدى لتربية الأنام بما يختلقه أفهامه القاصرة،

1 - حكاه الآلوسي في المصدر عن بعضهم فراجع.
2 - لسان العرب 5: 94، تاج العروس 1: 260.
3 - يوسف (12): 42.
4 - انظر لسان العرب 5: 95، وتاج العروس 1: 260، وروح المعاني 1: 73.
385

ويتخيله عقوله الناقصة، من الأوراد والأذكار المتعارفة في هذه العصور،
وقد كان ذلك من العصر الأول، وتورمت وازدادت سعة في عصرنا ويومنا، مع
تدخل الأيادي السياسية الخبيثة السيئة الرذيلة، ناظرة إلى هدم
أساس الشريعة لإبطال الأديان الحقة، ومتوجهة إلى أن كل من كان فيه
جهة كمال وولاية، فله أن يتصدى لذلك، حتى سمعت من طلاب العلوم
الدينية ومن طلائهم، هذه الأراجيف الكاسدة، فتوهموا جواز البدار إلى
تلك الأذكار الخاصة والأخذ بها، لأن من يعين حدها اتصلت نفسه
الكاملة بالولاية المطلقة، فلا يكون مشتبها في الذكر وحده.
وبذلك انسد باب الاستدلال عليهم من: أنه تعالى مخصوص
بالربوبية، فلا يجوز - من غير طريق الوحي - التصدي لما هو سبب
الكمال والخروج من النقص، لأنهم يقولون: هذا من عند الله بطريق
الاتصال والتحديث من وراء الحجاب، وما أشبه ذلك قول من يقول: بأن كل
ورد وذكر من كل أحد إذا صدر متوجها إلى فرد من الأفراد، واتخذه ذلك
بحسن النية، وأتى به متوجها إليه تعالى، فهو من الرب ونوع تربية من
قبله تعالى، لأن العالم يد الله، وهو يضع فيها، فلا غيرية حتى يتوهم
ربوبيته، فإنه بذلك التقريب أيضا ينسد باب الاستدلال المزبور.
فبالجملة: أفهل ترضى لنفسك أن تكون تحت ظل غيره تعالى بهذه
التقاريب الفاشلة، أم يلزم أخذ أسباب التربية الروحية من الوجود
الخالق للأرواح، المسيطر على ما تحتاج إليه النفوس في العوالم
البرزخية والقيامة، ومن الحي القيوم الذي يقف على جميع
الخصوصيات الكامنة في زوايا النفوس البشرية، ومن الخبير البصير
386

الذي لا يشتبه عليه الأحوال والحالات، ولا يتغير في الأوراد والأذكار،
فاقتضى ربوبيته الإلهية إنزال الكتب وبعث الرسل، ورحمته الواسعة
إخراج الطبائع الظلمانية إلى الوجودات النورانية، فلا يجوز التعدي
عنه والدخول تحت ربوبية الآخرين، فإنه يلازم ويستلزم في وجه إنكار
سعة ربوبيته، بل فيه إشعار بنقصان وسائل تربيته من الكتاب والسنة.
ولعمري إن جميع الطرق والمسالك المفتعلة في عصورنا
والعصور السابقة مشبوهة، ولا تكون خالية عن أيادي الشياطين
الإنسية والجنية، فلتكن من هذا التنبيه القيم على ذكر، ولا تكن من
الضالين.
وإني قد سافرت الأسفار الكثيرة وشاركت في المحافل غير اليسيرة،
وصاحبت أرباب الأذكار الليلية والنهارية في الخلوات الخاصة
والجلوات الانسية، فهم وإن كانوا خالين عن مجموعة من الرذائل
الكلامية، وفي نوع الحالات والساعات مشغولون بالمباحث
التوحيدية الأخلاقية، ولكن كان الشيطان الكبير استولى عليهم، وأخذ
منهم ما أراده واشتهاه، فأرسلهم إلى ما عندهم، كما اشتهر ذلك في سائر
الفرق الباطلة، فإنه إذا بلغ إلى آماله الأصلية، فلا يبالي بالفروع
والأغصان، ولا بغير ذلك مما يبتذله الشيطان.
فعلى المسلم المتوجه والمؤمن الكيس: أن يحافظ في طريقته
المثلى على ما أتى به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه قد أتم أسباب ذلك
ويحتاج إلى الجد والاجتهاد في الوصول إلى تلك الغايات والآمال
القصوى التي انتظرتها النفوس الراقية، فهذا أمير المؤمنين - عليه
387

صلوات المصلين - فإنه تربى في حجره، وبلغ ما لا يدانيه الملائكة
المقربون، وعليك وعلى كل من يقرأ إعانته بالمقدار الميسور، برفض
الشهوات وإن كان معسورا، والترنم بمثل هذا البيت:
كجا تواند دم از مقامات عارفي زد * كسى كه چون نى به شب ننالد چو نى بصد جا كمر نبندد (1)

1 - البيت من صفا الأصفهاني وكذا في بعض المنتخبات والصحيح:
صفا به رندى كجا تواند دم از بيانات عاشقي زد * كسى كه نالد به ناله نى، چونى به هر جا كمر نبندد
388

الأخلاق والموعظة والنصيحة
يا أخا الحقيقة ويا عزيزي! لا تغتر بما في هذه الصحائف من الدقائق
والحقائق، ولا تقنع بدرك الكليات والرقائق، فتصير حمال معان ومركب
لطائف، ولا تكتف بالحجب والأستار من بين الأخبار والآثار، بل عليك أن
تتدبر في الرب الذي يربيك، ما أنعم عليك، وما يصرفه في توجيه اللطف
إليك، والعلوم والفنون والفضائل والمسائل الفكرية ظلمات، فيما إذا
لم تكن أثرت في قلبك، ولا حصلت بها على الأنوار والفضائل الأخلاقية،
وتصير وبالا عليك في جميع النشآت الآتية، فكن متعوذا بالله تعالى فيها من
شر هذه التبعات، ومن آثار هذه المعلومات والصور، فإن العلم حجاب
أكبر، ونور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء.
فعلى هذا النموذج والبرنامج القصير تأمل في أسباب تربيتك، وأنك
كنت قطرة من النطفة الرذيلة النجسة من صلب الأب، فانتقلت إلى
رحم الام، فانظر أنها كيف صارت علقة أولا، ثم مضغة ثانيا، ثم تولدت بعد
ذلك منها الأعضاء المختلفة، والعظام المنتظمة، والغضاريف والرباطات
والأوتار والأوردة والشرايين، على نظام خاص متين لا ينحل، ثم حصلت في
389

كل واحد من تلك المكامن والأعضاء، أنواع القوى البصرية والسمعية
والشمية والذوقية واللمسية، ثم حصل لك في ثدي الام أحسن الأشياء
رقة وخاصة يناسب حالك، وهو اللبن اللطيف اللذيذ للشاربين، ثم
أعطف - تعالى وتقدس - عواطف الأمهات والآباء عليك، وجعلك في خبايا
قلوبهم وزوايا نفوسهم مورد الحب والشوق والعشق، حفظا لك عما
يتوجه إليك، ودافع عنك المضار والمضادات الوجودية البالغة إلى
ملايين عددا بل نوعا، وانظر إلى ما خلقه وهيأه لتربيتك البدنية، من
الأغذية والأشربة المختلفة الأنواع المتشابهة وغير المتشابهة، وأنه
تعالى كيف لاحظ في ذلك تسهيل الأمور عليك، وكيف لطف بك وفي حقك،
من بذل هذه الأنعم والآلاء غير القابلة للإحصاء، فإذا تفكرت ساعة
وتأملت دقيقة من هذه الناحية - وهي النشأة المادية - فاعطف وجهك
ونظرك إلى المسائل الروحية والآداب الأخلاقية والاعتقادات
الروحانية.
فإنه تعالى وتقدس عالم بالأسرار والعوالم، ويرى حاجتك في
سائر الآفاق والظروف، فيهيئ الأسباب المورثة لخلاصك من الآفات
والبلايا، التي في جنبها تلك البلايا الدنيوية ضئيلة جدا ويسيرة واقعا.
فأرسل الرسل وأنزل الكتب، وقد تحمل في ذلك الرسل المعظمون
والأنبياء الشامخون، مصائب كثيرة مما لا يعد ولا يحصى، وقد امتلأت كتب
التواريخ من تلك الرزايا المتوجهة إليهم - عليهم الصلاة والسلام -
390

حتى حكي عن رسولنا الأعظم أنه قال: " ما أوذي نبي مثل ما أوذيت " (1)، وما
كان ذلك كله إلا صيانة لك عن تبعات الأعمال الرذيلة في البرازخ
والقيامة، فهم أطباء النفوس، مبعوثون لهداية البشر وتربيته وإخراجه
من النقص إلى الكمال، فإذا كنت من أهل البصيرة والفكر، وتوجهت إلى
هذه الجهات والنواحي والفواحي، فهل لا يحصل في نفسك لهذا الوجود
العظيم ولهذا الكريم الكريم، الرحمن الرحيم، حب وشوق وعشق؟! فإذا
لم تكن كذلك فالموت لك خير، ولنعم ما قال عز من قائل: * (بل هم
أضل سبيلا) * (2).
وإذا وجدت في قلبك له عشقا وشوقا فعليك بازدياده، حتى لا يبقى في
قلبك لغيره شئ، أفيحسن بالإنسان الملتفت المتوجه إلى أطراف
القضايا أن تعلق نفسه بغير الرب العزيز الذي قيل في حقه: إنه تعالى
يملك عبادا غيرك وأنت ليس لك رب سواه، ثم إنك تتساهل في خدمته
والقيام في وظائف طاعته، كأن لك ربا بل أربابا غيره، وهو سبحانه يعتني
بتربيتك حتى كأنه لا عبد له سواك، فسبحانه ما أعظم رحمته وأتم تربيته.
فعلى ما تقرر وتحرر، وإلى نصاب البرهان والشهود بلغ ووصل، فلا
تماطل في القيام بما أراد منك، ولا تكن من العاصين المتمردين على أوامره
ونواهيه، واجتهد في أن يصير وجودك مرهون مقاصده، ومن أهم طلباته

1 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير 2: 144، بحار الأنوار 39: 56، تاريخ أمير
المؤمنين (عليه السلام): الباب 73.
2 - الفرقان (25): 44.
391

تعالى، القيام والاهتمام بأمور المسلمين، وهداية البشر إلى الطريق
المستقيم، فكن مظهر الاسم " الرب " في توجيه الناس إلى الآخرة، وفي
تصغير الدنيا في نفوسهم، وفي تعظيم الديانة في قلوبهم. والله هو المعين
والمستعان.
392

التأويل والتفسير
على المسالك المختلفة
فعلى المسلك الأعلى والأحلى
أن * (الحمد) * - بمعناه المصدري - * (لله) * تعالى، فلا يليق غيره
للقيام بحمده الذي هو * (رب) * جميع العوالم الغيبية والشهودية،
حسب مناسبات تلك العوالم واقتضاء لكيفية التربية المسانخة معها،
فإن تربية كل وعاء بحسبه وتابع لاقتضائه، فما حمد الحامد إياه، للزوم
السنخية بين الحامد والمحمود، فهو تعالى الحامد والمحمود، وحمده
ظهوره لذاته بذاته، المستلزم لظهور لوازم صفاته وأسمائه.
وقريب منه: أن * (الحمد) * الحاصل المصدري، * (لله رب العالمين) *،
فلا يكون غيره لائقا لأن يحمد، لعدم ثبوت الجمال للغير، فإن جمال كل
جميل جماله وكماله.
فبالجملة: * (الحمد) * كله بجميع أنواعه، والمحامد كلها بجميع
393

أصنافها، له تعالى، وقد أشير إلى ذلك في بعض رواياتنا كما مضى.
وقريب منه: أن ما يحمد عليه لله تعالى، وهو الفعل الجميل
الاختياري، فلا يكون غيره واجدا له.
وفي كل هذه التقاريب إبراز للخضوع والخشوع وإنشاء للعبودية،
وإخبار عن تلك اللطيفة الإلهية والبارقة الملكوتية.
وعلى مسلك أهل الظاهر: أن * (الحمد لله رب العالمين) * دعاء وندبة
وابتهال وإبراز للعبودية والخضوع.
وقريب منه: أن الله تبارك وتعالى أمر عباده بأن يتفوهوا بهذه الكلمة
في مقام العبودية والشكر، وقال: قولوا * (الحمد لله رب العالمين) *، أي
رب العقلاء، أو رب الجنة والنار، أو رب الجن والإنس... وهكذا مما مر
تفصيله في بعض المباحث السابقة، فلا ينحصر الحمد فيه تعالى.
وعلى مسلك الحكيم والفيلسوف الإسلامي
* (الحمد) * والثناء على الجميل الاختياري ينحصر فيه تعالى،
الذي هو * (رب العالمين) * ومربي العوالم، التي تكون متدرجة في
الوجود ومتحركة من النقصان إلى الكمال اللائق بها، فلا تكون العوالم
الاخر داخلة في هذه الآية.
وعلى بعض مسالك المتصوفة
أن المحامد والكمالات الموجودة في جميع الأشياء، وجميع أنواع
394

الظهورات المتجلية بها الأعيان، الثابتة في جميع المراتب وأنحاء
الآفاق، كلها لله، ولاحظ لغيره من الوجود وكماله، ما شمت الأعيان
رائحة الوجود ولن تشم، وإلا يلزم كون الوجود لها بالذات والحقيقة، لا
بالمجاز والعرض، وذلك مخالف لما أقيم عليه البراهين الساطعة
والأدلة القاطعة، من أن الممكنات كلها مفتقرات الذوات من الأزل إلى
الأبد، ولقد نص عليه الكتاب: * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو
الغني الحميد) * (1)، فتوصيفه تعالى بالحمد، شاهد على أن ما هو المحمدة
وما يحمد به الشئ، هو ليس له، فكيف يستحق التحميد والثناء على ما
ينتسب إليه بالعرض والمجاز؟!
وعلى مشرب الأخبار والآثار
التي لم يثبت لنا صحة صدورها، ولا تشمل تلك الروايات أدلة
حجيتها، والأمر موكول إلى محل آخر -: " أن * (الحمد لله) * هو أن عرف
عباده بعض نعمه عليهم جملا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل،
لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال لهم: قولوا: * (الحمد لله) * على ما أنعم
الله علينا * (رب العالمين) *، وهو الجماعات من كل مخلوق من الجمادات
والحيوانات... - إلى أن قال -: و * (رب العالمين) *، مالكهم وخالقهم،
وسائق أرزاقهم إليهم من حيث لا يعلمون " الحديث، وهو منسوب إلى
مولانا أمير المؤمنين في كتاب " التفسير المنسوب إلى مولانا

1 - فاطر (35): 15.
395

العسكري (عليه السلام) " (1)، وهو ضعيف عند المحققين.
وعن " الفقيه " فيما يذكره عن الفضل بن شاذان في " العلل " عن
الرضا (عليه السلام) أنه قال: أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن
مهجورا مضيعا، وليكون محفوظا مدروسا، فلا يضمحل ولا يجهل، وإنما بدأ
بالحمد دون سائر السور، لأنه ليس شئ من القرآن والكلام، جمع فيه
من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد، وذلك أن قوله
عز وجل: * (الحمد لله) * إنما هو أداء لما أوجب الله عز وجل على خلقه من
الشكر، والشكر لما وفق عبده من الخير، * (رب العالمين) * توحيد وتحميد
له، وإقرار بأنه هو الخالق المالك لا غيره (2) الحديث.
وعلى المسلك الأجمع
أن ما مر من الحمد والمحامد ومن الطبيعة بإطلاقها السرياني، لله
تعالى الذي هو رب العوالم، ومخرجها من القوة إلى الفعلية ومن
النقص إلى الكمال، ولا يشترك معه في الربوبية التكوينية
والتشريعية غيره، فتذهب المذاهب الباطلة هباء منثورا، ولا يصح أن
يدعي أحد استقلاله في أي خصيصة، حتى الحركة المباشرية، فإنها
خروج من القوة إلى الفعل، ولا يعقل أن تتحقق تلك الحركات الإعدادية
إلا من قبله تعالى فيرد مفاد * (رب العالمين) * إلى مفاد * (الحمد لله) *، إلا

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 30، بحار الأنوار 89: 224 / 2.
2 - الفقيه 1: 203 / 12، والمراد ب‍ " العلل " كتاب علل الشرائع لفضل بن شاذان.
396

أن * (الحمد لله) * أعم - حسب ما تقرر وتحرر - ضرورة أنه يشمل - على
التحقيق - جميع الظروف والعوالم وكل الأنحاء من الكمال والجمال،
بخلاف * (رب العالمين) * فإنه - على مذهب - مقصور على عوالم الكائنات
والمواد والقوى والحركات، لعدم معقولية هذه الأمور في المجردات
المحضة والمفارقات الصرفة، بل ولا في الموجودات المقدرة
بالكميات، والمكيفة بالكيفيات على ما تقرر وتحرر في المفصلات.
397

الناحية الرابعة
حول قوله تعالى: * (الرحمن الرحيم) *
قد فرغنا عن المباحث المختلفة والفنون المرتبطة
بهاتين الكلمتين، ولذلك نذكر جملة من المسائل الراجعة
إليهما طي فوائد، حذرا عن التكرار ورعاية للاختصار:
399

الفائدة الأولى
في إعرابهما
المعروف المشهور قراءته بالخفض، بل عليه اتفاق القراء
السبعة. وقد نصبهما أبو البالية وابن السميقع وعيسى بن عمرو، وهو
المحكي عن زيد بن علي (عليهما السلام) كما مضى. وحكي الرفع عن العقيلي وابن
خيثم وأبي عمران الجوني (1).
ووجه الخفض: على النعت لله، أو نعتا لرب العالمين، فإن الوصف
الثاني يمكن أن يكون وصفا للأول كما مضى، وعلى كل تقدير ربما يستشم
منه (2): أن جعلهما صفتين لله تعالى أنهما صفتان للاسم في البسملة،
ويصير بذلك تأسيسا وإيماء إلى أن القارئ، ينبغي أن تكون قراءته مرتقية
من النظر إلى الأسماء والاتسام بها والتوصيف بصفات الله إلى النظر إلى
الذات والاتصاف بتلك الصفات الذاتية، حتى يتحقق في حقه امتثال

1 - انظر البحر المحيط 1: 19.
2 - تفسير بيان السعادة 1: 30.
401

قوله: " اقرأ وارق " (1).
ووجه النصب والرفع معلوم، لأنه كما يمكن على القطع، يمكن أن
يكون النصب على المفعولية لقوله: " حمدت "، وأن يكون الرفع على
الابتداء والاستئناف، أي: * (الرحمن الرحيم) * ويكون " الرحيم " خبره،
ويكون * (مالك يوم الدين) * على الرفع أيضا خبرا بعد خبر قال ابن مالك:
وأخبروا باثنين أو بأكثرا * عن واحد كهم سراة شعرا (2)
الفائدة الثانية
حول شهادة الآية على عدم كون البسملة من السورة
عن المكي وفي " تفسير النسفي ": أن التكرار شاهد على أن البسملة
ليست من الفاتحة، وحكى ابن حيان كلمة عن المكي حول مقالته، وقال
بعد ذلك: ولولا جلالة قائله، نزهت كتابي هذا عن ذكره (3). انتهى.
وفي التفسير الآخر: أن ذلك شاهد على أن البسملة آية مستقلة،
وليست جزء (4).
ولك دعوى: أن هذا لا يشهد على أن البسملة ليست من الكتاب،
وكان كل من اعتبر مرامه من موقف آخر، واتخذ له دليلا وسبيلا من

1 - الكافي 2: 601 / 11 و 603 / 3 و 606 / 10.
2 - الألفية، ابن مالك، بحث المبتدأ والخبر.
3 - البحر المحيط 1: 19 - 20.
4 - روح المعاني 1: 77.
402

الناحية الأخرى، استشم له ذلك من غير نظر إلى الاستدلال حتى ينظر
فيه صحة وسقما، وإلا فمثل ذلك غير خفي عن الأصاغر، فضلا عن الأكابر.
وربما يختلج بالبال أن يقال: بأن البسملة نزلت مستقلة، وهي آية
مستقلة في النزول، وجئ بها لأن تكون مبتدأ كل صحيفة وكلام ومقال
ومقام، والفاتحة نزلت مستقلة ثم أضيفت البسملة إليها، وصارت جزء
منها، فعند ذلك لا يكون من التكرار الذي تفر عنه الطباع.
وأما ما في كثير من الكتب التفسيرية من: أن الآيات كثيرة التكرار
في الكتاب العزيز، فهو غير نافع، ضرورة أن مثل سورة الرحمن وما
ضاهاها مبنية على التكرار، فلا يستشم منه الشئ، وأما التكرار الآخر
فهو لو كان أحيانا في الكتاب فهو لا يستتبع حل المشكلة بل يزداد، كما
في سورة الكافرون، فتأمل.
ولعمري إن الأصحاب لولا ما يرون من الاتفاق على أنه من الكتاب،
لسلوا سيوفهم من أغمادها، ونزهوا الكلام الإلهي - البالغ في البلاغة غايته،
والراقي في المتانة نهايته - عن هاتين الكلمتين في هذا الموقف، وقد
كثر عليهم القراءة من ابتداء الطفولية، فاعتادوا على ذلك، والعادة طبيعة
خامسة، فلا يتمكنون من التشخيص والتمييز، والله الغالب على أمره.
الفائدة الثالثة
حول الوجوه الممكن خلقها لحل مشكلة التكرار
أي في ذكر ما قيل - أو يمكن أن يقال - وجها للتكرار، ونكتة وسرا
403

للتوصيف بهما مرة ثانية.
الأول: أن الرحمة في الوصفين الأولين رحمة باطنية كالعلم
والمعرفة، وفي الثانيين ظاهرية كالصحة والأمان والرزق. هكذا في
تفسير الشيخ العربي (1).
وفيه: أن اختلاف مرادات المتكلم في الاستعمال، يحتاج إلى
الشاهد، ولا يلزم منه عدم التكرار المطلوب، بعد كون اللفظتين مشتركتين
بالاشتراك المعنوي في المعاني المرادة وغير المرادة. نعم لو كانت لفظة
" الرحمن " و " الرحيم " مشتركة لفظية بين النعم الباطنية والظاهرية،
كان لما قيل وجه قريب، بل يعد هو من المستحسنات الكلامية.
الثاني: أن في الأول ذكر الإلهية، فوصل بذكر النعم التي بها يستحق
العبادة، وهاهنا ذكر الحمد، فوصله بذكر ما يستحق به الحمد والشكر
على النعم، فليس فيه تكرار. هكذا أفاده صدر المتألهين أخذا عن علي بن
عيسى الرماني (2).
وفيه: ما مر مع أن كلمة " الله " ليست فيها العبودية، كما مر تفصيله،
مع قوة كون * (الرحمن الرحيم) * هناك وصف الاسم المضاف.
الثالث: إنما أعاد ذكر " الرحمن " و " الرحيم " للمبالغة. هكذا في
" مجمع البيان " (3).

1 - تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1: 10.
2 - تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1: 78.
3 - مجمع البيان 1: 23.
404

وفيه: ما لا يخفى، فإن المبالغة غير التأكيد، فكان ينبغي أن يقول:
هما للتأكيد لما فيه من التأكيد اللفظي بتكرار اللفظ، ولكنه ساقط أيضا،
لما أن المتعارف في التأكيد إتيان الثاني عقيب الأول بلا فصل، فلا يمكن
حمل كلامه تعالى على الشذوذ والندرة.
الرابع: أن " الرحمن " و " الرحيم " في الأول من صفات الذات على
التقريب الذي مر تفصيله، فيكون هو تعالى بذاته الرحمن وبذاته
الرحيم، لأن تلك الرحمة هي الوجود المستلزم لخروج الماهيات عن
كتم الأعدام إلى منصة الوجود والظهور، وهو تعالى أصل الوجود
والظهور، وهما في الثاني من صفات الأفعال، بقرينة تبعيتهما في الأول
للذات، وهنا للرب الذي هو من أسماء الأفعال، كما لا يخفى.
وفيه: أيضا - مضافا إلى ما مر - أن الرحمن من الأسماء الإلهية، أو
من أسماء الذات باعتبار صفة الرحمة التي هي عين الذات، من غير فرق
بين موارد استعمالها، بل كون " الرحيم " من صفات الذات يحتاج إلى
مؤونة زائدة، وهي دعوى الاتحاد، فلا تغفل.
الخامس: أن يكون التكرار للتوطئة، وهو أن المتكلم - بعد الفراغ
عن توصيف الذات بالرحمة الرحمانية - انتقل إلى أن المستمع ربما
يتجرأ على مولاه بأخذ السبيل الباطل، فقال: الرحمن الرحيم الذي أشرنا
إليه ومدحناه، هو مالك يوم الدين، فلا تغتر برحمته، ولا تسهو عن غضبه
وملوكيته ليوم الجزاء في الآخر والمنتهى (1).

1 - التفسير الكبير 1: 242، البحر المحيط 1: 23.
405

وهذا يتم على قراءة الرفع بكون " الرحمن " مبتدأ، و " الرحيم "
صفة، و " مالك يوم الدين " خبره، وهذا خلاف السياق قطعا، ولا يناسب
خطابه بعد ذلك * (إياك نعبد) *، ضرورة أن عبودية العبد هنا بعد الإقرار بأن
الحمد لله، ويكون المحمود ذا أوصاف كثيرة، وهي الربوبية والرحمانية
والمالكية، وتكون تلك الجمل ناقصة وأوصافا لله تعالى في قوله:
* (الحمد لله) *.
السادس: أن " الرحمن " تارة يستعمل علما، كما في البسملة على ما
عرفت وجهه، وأخرى يستعمل صفة، وهو هنا، فلا تكرار، بل هو من الاشتراك
اللفظي في وجه، وأما " الرحيم " فهو كأنه تتمة لكلمة الرحمن، ولذلك
يذكران معا كثيرا.
وفيه: أن " الرحمن " إذا أمكن أن يعتبر وصفا فهو هكذا في البسملة،
ومجرد إمكان كونها علما فيها أو تقوية علميته فيها، لا يكفي لحل هذه
المشكلة.
السابع: ما أشرنا إليه في الفائدة الأولى، وهو أن موصوفهما في الأول
هو الاسم، وفي الثاني هو الذات، فلا يلزم التكرار.
وأنت خبير بأن ذلك لا يكفي لجواز التكرار.
الثامن: أن التكرار غير جائز إلا للفائدة، وهو هنا بيان أن الحق الأول
عز اسمه، رحمان رحيم بعباده، وأن تلك الرحمة والمرحمة كثيرة
وغالبة على الغضب والانتقام، ويشهد لتمام رحمته وشدة رأفته القضايا
والحكايات الكثيرة، بل شاهده جميع مراحل الوجود ومظاهره، تعطي سعة
رحمته ونهاية لطفه بعباده وخلقه، بل المقرر عنا: أن ناره وجحيمه أيضا
406

من تجليات تلك الرحمة غير المتناهية، ومن مظاهر تلك الآراء والنعم
الباطنية والواقعية.
وربما يقال: إن القدرية يقولون: كيف يكون رحمانا رحيما، من خلق
الخلق للنار ولعذاب الأبد؟! وكيف يكون رحمانا رحيما من يخلق الكفر في
الكافر ويعذبه به؟! وكيف هو هكذا ويأمر بالإيمان ويصد ويمنع عنه؟!
وعن الجبرية: أن أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان فلو لم
يكن الإيمان من الله، بل كان من العبد، لكان اسم الرحمن والرحيم بالعبد
أولى منه بالله (1). انتهى. فكررهما دفعا لهذه الأباطيل.
وأنت خبير: بأن مقالتهما من الأباطيل، ولقد تحرر منا تفصيله في كتابنا
" القواعد الحكمية "، وربما يناسب هذا الكتاب بعض الآيات الآتية،
ونشير لديها إلى ما هو مغزى مرامهم ومفاسد آرائهم إن شاء الله تعالى.
وأما توهم صحة الوجه المزبور فهو غير لائق بمن هو أهل
العربية، ضرورة أن اختلاف الوجوه الكثيرة لرفع هذه الغائلة، وجلب
الطرق المختلفة لحل هذه المعضلة، كلها شاهد على الإقرار بالإعضال،
ولا يمكن الفرار منه بأمثالها.
والذي هو الأقرب - وهو الوجه الأخير الحاسم لمادة الشبهة -: هو
أن البسملة - كما أشير إليه - نزلت إما مستقلة، أو مع سورة " اقرأ "، وهي -
على ما عرفت - ربما كانت أول سورة نزلت، فهي تكون آية يبتدأ بها تبركا
وتيمنا، عند كل قيل وقال وفعل وفعال، وقد ابتدئ بها في سائر السور،

1 - التفسير الكبير 1: 236.
407

واعتبرت جزء لها، فتكون الفاتحة نزلت للثناء والحمد الإلهي من غير نظر
إلى خصوصيات البسملة، لأنها كلمة مستقلة مشتركة فيها سائر السور،
فلابد من كون سورة الفاتحة واجدة لتوصيفه تعالى بالرحمن والرحيم،
فعلى هذا تنحل المعضلة وتزول المشكلة، من غير حاجة إلى ذكر تلك
الوجوه الباردة أو غير الباردة.
ومما يؤيد ذلك: أن سورة الفاتحة من ابتداء الحمد إلى توجيه
الخطاب بعنوان إياك نعبد، تكون جملة واحدة، والبسملة خارجة عنها،
وهي جملة مستقلة أخرى، وكأنها خارجة عن تركيب الفاتحة وأسلوبها،
وإن كانت جزء لها اعتبارا وملتحقة بها ثانيا، كما لا يخفى.
إن قلت: هذا ينافي ما ورد عن الأئمة المعصومين - عليهم صلوات
المصلين - من أن البسملة أعظم آية، وسرقوا أعظم آية (1)، وأنها آية من
السبع المثاني (2)، وغير ذلك.
قلت: كلا، فإن هذه الأخبار لا تدل على أكثر من جزئيتها لها، وما هو
مقصودنا هو أنها ليست في النزول والتركيب والأسلوب داخلة في
الفاتحة، بل هي آية مستقلة في جميع السور وجزء لها، ولكنها خارجة
عن أسلوبها وتركيبها، ولذلك لا يكون بينها وبين كثير من السور تناسب ظاهر،
كقوله تعالى: * (بسم الله الرحمن الرحيم * إنا أعطيناك الكوثر) * أو * (قل
أعوذ برب الفلق) * وأمثاله، وهكذا، فلا تكن من الخالطين، ولا من الداخلين

1 - تفسير العياشي 1: 19 / 4.
2 - المصدر السابق 1: 19 / 3.
408

في اللجاج، فإنه أعظم أعداء الإنسان في الإيصال إلى الاعوجاج.
ذنابة
قد مر فيما سلف بعض روايات المعراج، وفيها - كما في " الوسائل " -
" ثم قال له: احمدني، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
نفسه: شكرا، فقال الله: يا محمد قطعت حمدي، فسم باسمي، فمن أجل ذلك
جعل في الحمد " الرحمن الرحيم " مرتين " (1) الحديث.
الفائدة الرابعة
تفسير الآية على مشرب العرفان
اعلم أن من المحرر في علم الأسماء والعرفان: أن لجميع الأسماء
والصفات الإلهية مقامين:
الأول: مقام الأسماء والصفات الذاتية الثابتة في الحضرة
الواحدية الجمعية.
الثاني: مقام الأسماء والصفات الفعلية الثابتة له بفيضه
المقدس، وبناء على هذا للرحمة الرحمانية والرحيمية تجليان: تجلي
الذات في الحضرة الواحدية بفيضه الأقدس، والتجلي في مرايا الأعيان
الثابتة بالفيض المقدس.

1 - علل الشرائع 2: 315 / 1، وسائل الشيعة 4: 679 كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة،
الباب 1، الحديث 10.
409

وهذه السورة اشتملت على تلك المضامين في البسملة وفي نفس
السورة، ولقد أشرنا في مطاوي كلماتنا السابقة إلى هذه البارقة
العرفانية، إلا أنه ليس وجها لطيفا يناسب المقام، ويندفع به الإبهام،
والله تعالى عالم بشؤون الكلام.
وبالجملة يصير المعنى على ما احتمله السيد العارف الوالد
المحقق - مد ظله -: بمشيته الرحمانية والرحيمية الحمد لذاته
الرحمانية والرحيمية (1)، وذلك لأن المشية من تجليات ذاته
المقدسة، ومقام الرحمانية والرحيمية من تعينات تلك الجلوة
والمشية، ومن تجليات الرحمانية والرحيمية الذاتية.

1 - شرح دعاء السحر، الإمام الخميني (قدس سره): 44، وراجع آداب الصلاة، الإمام
الخميني (قدس سره): 245.
410

الناحية الخامسة
حول قوله تعالى: * (مالك يوم الدين) *
411

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول مادة " مالك "
ملك يملك ملكا بتثليث الميم، ومملكة بتثليث اللام، وملكة: احتواه
قادرا على الاستبداد به. ملك على القوم، استولى عليهم. الملاك الاقتدار.
الملك - بالفتح - مصدر وصاحب الملك، والملك - بالضم - اسم لما
يملك ويتصرف به، يذكر ويؤنث: العظمة والسلطان. والملك: من تولى
السلطنة بالاستعلاء على أمة أو قبيلة، قيل: الملك صفة مشبهة من ملك،
وقيل: مقصور من مالك أو مليك، ويقال فيه: ملك بسكون اللام تخفيفا. انتهى
ما في الأقرب (1).
والذي يظهر لي: أن هذه المادة معناها الحقيقي المشترك فيها
المشتقات، هي الاستيلاء والسلطة والاستبدادية والاقتدار على التصرفات

1 - أقرب الموارد 2: 1239 - 1240.
413

والتبديلات والأمر والنهي وغير ذلك.
وأما معناها الآخر، وهي الإضافة الخاصة بين رب المال والمال،
المعبر عنها بالملكية الاعتبارية، التي هي ثابتة للجمادات والنباتات
والحيوانات والمجانين والصغار، بل والعناوين الاعتبارية كالجهات،
فهي ليست من المعنى اللغوي الأصيل، بل هذا أمر اعتبر في المجتمعات
البشرية لقوام رحى معاشهم عليها، اتخاذا عن الملكية الحقيقية والقدرة
والاستيلاء الخارجي.
فإذا قيل: زيد مالك الدار، فمعناه الحقيقي اللغوي، هو أنه
المسيطر عليها والمتصرف فيها كيف شاء نحوا من السلطنة الاعتبارية
أيضا، اتخاذا عن السلطنة الحقيقية الثابتة في بعض مصاديقها، كسلطنته
تعالى على الأشياء وسلطنة النفوس على قواها.
وأما معناه الآخر الذي صار حقيقة أيضا، فهو أن الدار له، ولا
يجوز للآخر التصرف فيه، وإن لا يتمكن هو أن يتصرف فيه مباشرة لصغره
- مثلا - أو لغير ذلك وهذا الاعتبار وإن كان سابقا على الإسلام والأديان، إلا أن
استفادته من تلك الإطلاقات غير ممكنة إلا مع القرينة، فتأمل.
وبالجملة: المقصود الأساسي هنا، هو أن إرادة المالكية الاعتبارية
من قوله تعالى: * (مالك) * غير صحيحة، إما لعدم دلالة اللغة عليه رأسا
أو لعدم وجود القرينة، أو لعدم مناسبتها مع الله عز وجل، فإنه تعالى وإن
أمكن أحيانا اعتبار الملكية له، كما قيل في الأخماس والأنفال (1)، ولكنه

1 - راجع جواهر الكلام 16: 84 - 90.
414

هنا غير صحيح، فالمراد من الملكية هي الملكية الحقيقية والاستيلاء
التكويني، لا الاعتبارية ولا السلطنة الاعتبارية، كما لا يخفى، مع أن
المحرر منا في محله: أن الأنفال والأخماس أيضا ليست ملكا اعتباريا لله
تعالى وتقدس، كما يأتي في محله.
وبعبارة أخرى: المناسبات في المقام تقتضي كون المراد من
الملكية، الإضافة الخارجية الإشراقية ومن تلك المناسبات " يوم الدين "
فإنه لا معنى لكونه مملوكه تعالى بالملكية الاعتبارية، فلا تخلط.
المسألة الثانية
حول هيئة " مالك "
ظاهر كتب اللغة أن " ملك " متعد كضرب، وجاء لازما أيضا (1).
والحق: أنه في جميع الاشتقاقات الثلاثية لازم، ومجرد قولهم:
ملكه أو يملكه، لا يقتضي التعدية، بل للمتعدي واللازم من الأفعال ملاك
واقعي، فما كان من الحدث يصدر عن الإنسان بالآلة ويقع على الطرف
بواسطتها، فهو من الحدث المتعدي، وإلا فهو لازم، ولذلك ترى أنهم في مقام
تفسير ملكه يقولون: استولى على الأمر أو على كذا (2)، وهذا شاهد على أن
هذه المادة لازمة.
وبعبارة أخرى: السلطنة والاستيلاء على الغير ليس فعلا صادرا من

1 - القاموس المحيط: 1232، تاج العروس 7: 180.
2 - أقرب الموارد 2: 1239.
415

الغير بالآلة قائما بالطرف، كالضرب والقتل والشتم وأمثالها، فعلى هذا
لا يجوز أن يكون " مالك " اسم فاعل واقعا، بل هو على زنة الفاعل، ويكون
صفة مشبهة كطاهر وظاهر، ولا يكون إضافته إلى " يوم الدين " من إضافة
العامل إلى مفعوله الحقيقي، وهو المفعول به، كما يأتي.
ثم إن مقتضى ما يظهر من اللغة أن " ملك " و " ملك " - بسكون اللام -
أيضا صفة مشبهة، ويحتمل كون الثاني مخفف " مالك " كما مضى في الرب،
وذكرنا هناك أنه يشبه البر والبار، فإن البر مخفف البار بحذف الألف.
المسألة الثالثة
حول كلمة " يوم "
" اليوم " معناه الوقت الخاص، وهو ما بين الطلوع والغروب من
الشمس، أو طلوعه الثاني والمغرب، أو غيرهما، وله معنى آخر، وهو
مطلق الوقت (1)، وهو المراد في كثير من الاستعمالات القرآنية
والعصرية، وليس النظر فيه إلى جهة بزوغ الضياء وظهور الشمس.
وربما يمكن دعوى: أن النظر إلى الوقت وإلى جهة أخرى وهو ان
ذلك الوقت نير ومضئ، فيقال: " مالك يوم الدين "، أي صبح الدين
وطلوع الدين، فيكون حين الدين الوقت نيرا، فلا تكن من الغافلين.
وأما " الدين " فهو الجزاء والمكافأة والحساب، والقهر والغلبة
والاستعلاء، والسلطان والملك والحكم والسيرة والتدبير.

1 - تاج العروس 9: 115.
416

وقيل: " الدين " هو الجزاء بقدر فعل المجازى، فالجزاء أعم (1).
وهل المراد منه هنا المعنى المناسب للمعاني الثلاثة الأولى أو
الأخيرة؟ أو على الفرض الأول فهل يختص ذلك بيوم القيامة - مثلا - أم
يشترك فيه جميع الأيام الدنيوية والأخروية؟
أقول: مقتضى اللغة عدم الاختصاص وعدم ظهوره في أحد المعاني
الخاصة، مع إمكان إرجاع الكل إلى معنى واحد كما هو الظاهر، ولكن
الرجوع إلى الكتاب العزيز يورث حل هذه المعضلة: * (وقالوا يا ويلنا
هذا يوم الدين) * (2) * (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) * (3) * (يسألون أيان يوم
الدين) * (4) * (هذا نزلهم يوم الدين) * (5) * (والذين يصدقون بيوم الدين) * (6)
* (وكنا نكذب بيوم الدين) * (7) * (يصلونها يوم الدين) * (8).
فعلى ما تحرر وتقرر تبين: أن " يوم الدين " كأنه موضوع بالوضع
المستقل في الاستعمالات القرآنية ليوم التغابن والقيامة واليوم
الموعود. والله العالم.

1 - تاج العروس 9: 207.
2 - الصافات (37): 20.
3 - ص (38): 78.
4 - الذاريات (51): 12.
5 - الواقعة (56): 56.
6 - المعارج (70): 26.
7 - المدثر (74): 46.
8 - الانفطار (82): 15.
417

النحو والإعراب
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول إعراب " مالك "
من قرأ بخفض الكاف - كما عن المشهور وعليه السبعة والآخرون -
فهو على الوصف والنعت.
ومن قرأ بفتح الكاف فهو على القطع أو النداء، أو الحالية بناء على
صحة التأويل، أي مالكا يوم الدين، كما يأتي قراءته هكذا. وهذا هو
المحكي عن جماعة تأتي أسماؤهم عند ذكر اختلاف القراءات، ومنهم
محمد بن السميقع - المزبور ذكره - والأعمش وعثمان بن أبي سليمان
وعبد الملك قاضي الهند، وعن ابن عطية هو قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي
صالح السمان.
وفيهم من فتح الكاف، لكونه فعل ماض، كما يأتي ذكره عند البحث
عن اختلاف الأصحاب في القراءة.
ومن قرأه بالرفع فهو إما على الخبرية، كما سلف للمتبدأ المذكور،
418

وهو " الرحمن الرحيم "، أو للمبتدأ المحذوف، وهو المنسوب إلى شيخ
المضيرة (1) وأبي حياة، وأيضا إلى ابن عبد العزيز، وعن صاحب اللوامع:
أنه قراءة ابن شداد العقيلي البصري.
وفيهم من قرأ الكاف بالتنوين مرفوعا، وهو المحكي عن خلف وابن
هشام وأبي عبيد وأبي حاتم، وهو أيضا على الخبرية بأحد الوجهين
السابقين (2).
وغير خفي: أن الأصحاب خلطوا بين مسائل اختلاف القراءات في
الكلمة، وبين اختلاف القراءات في الكلام، فإن الأولى تذكر في البحث
الآتي، والثانية لابد وأن تذكر في ناحية البحث عن الاعراب.
المسألة الثانية
حول إضافة " مالك "
هل إضافة " المالك " أو " الملك " أو غيرهما من الإضافة اللفظية،
فيكون المضاف إليه معموله أو مفعوله، أي هو مالك يوم الدين كما أن
زيدا مالك الدار، فيوم الدين مملوكه تعالى اعتبارا، أم هذه الإضافة
معنوية، وليست لفظية، وتقديره: أنه مالك في يوم الدين، من غير لزوم
كون المضاف مظروفا للمضاف إليه وحدا محيطا به، كما لا يخفى.
قال ابن حيان: ومن قرأ بجر الكاف فعلى معنى الصفة، فإن كان بلفظ

1 - يعني أبا هريرة. والمضيرة طعام يطبخ باللبن المضر، أي الحامض.
2 - هذه الوجوه مذكورة في البحر المحيط 1: 20.
419

" ملك " على " فعل " بكسر العين أو إسكانها، أو " مليك " بمعناه فظاهر، لأنه
وصف معرفة، وإن كان بلفظ " مالك " أو " ملاك " أو " مليك " محولين من
" مالك " للمبالغة، وكان بمعنى الاستقبال - كما هو الظاهر - لأن اليوم لم
يوجد، فهو مشكل، لأن اسم الفاعل إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال، فإنه
تكون إضافته غير محضة، فلا يتعرف بالإضافة، وإن أضيف إلى معرفة فلا
يكون - إذ ذاك - صفة، لأن المعرفة لا توصف بالنكرة، ولا بدل نكرة من
معرفة، لأن البدل بالصفات ضعيف.
ثم قال: وحل هذا الإشكال وهو: أن اسم الفاعل إن كان بمعنى الحال
والاستقبال جاز فيه وجهان، وبذلك تنحل المعضلة (1). انتهى ملخص مرامه.
أقول: قد عرفت أن اتصافه تعالى بالمالك ليس له معنى وراء
اتصافه بالملك وغيره، والكل بحسب المعنى واحد، وهو المسيطر على
يوم الدين أو المسيطر على الخلائق في يوم الدين، والثاني أرجح لعدم
الحاجة إلى التقدير، كما هو الظاهر، فهو تعالى مالك يوم الدين،
ويكون يوم الدين ظرف قدرته وسطوته وجبروته بوجه من الظرفية، لا
كظرفية المملكة لسطوة السلطان.
ثم إن يوم الدين - وهو يوم القيامة - الآن موجود بضرورة العقل
والنقل، ويدل عليه روايات المعراج وآياته، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وبالجملة: على هذا لا يكون من الإضافة اللفظية، لأن المضاف
إليه ليس مفعوله ولا فاعله، كما في إضافة الصفة المشبهة، كقولهم:

1 - البحر المحيط 1: 21.
420

حسن الوجه، فإنه معناه حسن وجهه، بل هو من الإضافة المعنوية، ولا
برهان على أن إضافة أسماء الفاعلين والمفعولين من اللفظية، وإلا لما
كان وجه لأن يذكر لها الشروط، فعند انتفاء أحد الشروط تكون الإضافة
معنوية بتقدير أحد حروف الجر.
هذا، مع أن يوم الدين إذا كان موجودا بالفعل، فهو الوصف الذي
جاء بمعنى الماضي والاستمرار، فيقع نعتا للمعرفة، كما صرح به أهله.
وأما إضافة " يوم " إلى " الدين " فهي أيضا معنوية بتقدير اللام، أي
مالك على يوم للجزاء والانتقام.
ومن الممكن دعوى: أن المضاف إلى الدين هو المالك المضاف
إلى اليوم، كما ذكرناه في إضافة الاسم إلى " الله " وإلى " الرحمن "، وله
نظير في الفقه غير خفي على طلابه ورواده.
ومما حصلناه إلى هنا تبين نقاط ضعف كثير في كتب القوم صدرا وذيلا:
1 - في معنى الملك مادة، 2 - وفي هيئة المالك، 3 - وفي أنها ليست مادة
متعدية، 4 - وفي إضافة المالك أو الملك أو غيرهما، وغير ذلك مما أشير
إليه، وسيتبين المواقف الأخرى طي المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
تنبيه
لو سلمنا: أن إضافة المالك إلى يوم الدين من الإضافة اللفظية،
فتوصيف المعرفة بها أيضا، جائز، وذلك لأن ما اشتهر من منعه فهو
مخصوص بما إذا كان الوصف نكرة محضة، دون ما إذا كانت مخصصة،
421

ضرورة أن المدار على حسن الاستعمال وموافقة الطباع، دون القواعد
الاختراعية النحوية الوهمية.
وإني قد صرفت مدة من عمري العزيز في تحريرها، وبالغت في
البحث عنها، حتى علقت الحواشي على شرح الرضي (رحمه الله) (1) وكنت أباحثه،
وادرس الدروس البالية من المغني مع إبراز النظر فيها، ولكن مع الأسف
إن المعتبر من بينها ما يوافقه الوجدان والذوق، دون تلك التخيلات
الباردة، فلاحظ وتدبر جيدا.

1 - الحواشي على شرح الرضي (رحمه الله) مع كثير من تأليفاته في الفقه والأصول والحكمة
والرجال مفقودة.
422

القراءة واختلافها
وهنا فوائد:
الفائدة الأولى
قراءات الآية
قال السيوطي في " الإتقان ": فيه ثلاثة عشر قراءة. وهذا هو مأخوذ
مما فصله ابن حيان، ولا بأس بنقلها مع رعاية الاختصار:
1 - قرأ " مالك " على وزن فاعل بالخفض، عاصم والكسائي وخلف في
اختياره ويعقوب، وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير، وقراءة كثير من الصحابة،
منهم أبي وابن مسعود ومعاذ وابن عباس، والتابعين منهم قتادة والأعمش.
2 - وقرأ " ملك " على وزن فعل بالخفض، باقي السبعة وزيد وأبو
الدرداء وابن عمر والمسور وكثير من الصحابة والتابعين.
3 - وقرأ " ملك " على وزن سهل، أبو هريرة وعاصم الجحدري، ورواها
الجعفي وعبد الوارث، عن أبي عمرو، وهي لغة بكر بن وائل.
4 - وقرأ " ملكي " - بإشباع كسرة الكاف - أحمد بن صالح، عن
ورش، عن نافع.
423

5 - وقرأ " ملك " على وزن عجل، أبو عثمان الهندي والشعبي وعطية،
ونسبها ابن عطية إلى أبي حياة.
6 - وقال صاحب اللوامح: قرأ أنس بن مالك وأبو نوفل عمر بن مسلم
بن أبي عدي " ملك " بنصب الكاف من غير ألف، وجاء كذلك عن أبي حياة.
انتهى.
7 - وقرأ كذلك إلا أنه رفع الكاف، سعد بن أبي وقاص وعائشة
ومورق العجلي.
8 - وقرأ " ملك " فعلا ماضيا، أبو حياة وأبو حنيفة وجبير بن مطعم وأبو
عاصم عبيد بن عمير الليثي وأبو المحشر عاصم بن ميمون الجحدري،
فينصبون " اليوم "، وذكر ابن عطية: أن هذه قراءة يحيى بن يعمر والحسن
وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام).
9 - وقرأ " مالك " بنصب الكاف، الأعمش وجماعة أخرى مضى
ذكرهم في مبحث الإعراب.
10 - وروى ابن أبي عاصم عن اليمان ملكا بالنصب والتنوين.
11 - وقرأ " مالك " برفع الكاف والتنوين، عون العقيلي، ورويت عن
خلف بن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم وبنصب اليوم.
12 - وقرأ " مالك يوم " بالرفع والإضافة، أبو هريرة وأبو حياة وعمر
بن عبد العزيز بخلاف عنه، ونسبها صاحب اللوامح إلى أبي روح عون بن
أبي شداد العقيلي ساكن البصرة.
13 - وقرأ " مليك " على وزن فعيل، أبي وأبو هريرة وأبو رجاء
العطاردي.
424

14 - وقرأ " مالك " بالإمالة البليغة، يحيى بن يعمر وأيوب
السختياني.
15 - وبين بين قتيبة بن مهران، عن الكسائي، وجهل النقل - أعني في
قراءة الإمالة - أبو علي الفارسي، فقال: لم يمل أحد من القراء ألف
" مالك "، وذلك جائز، إلا أنه لا يقرأ بما يجوز إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض.
16 - وذكر أيضا: أنه قرأ في الشاذ " ملاك " بالألف والتشديد للام
وكسر الكاف.
فهذه ثلاث عشرة قراءة (1). انتهى.
وأنت قد عرفت بلوغها إلى ستة عشر. ومن العجب أن " روح
المعاني " قد أخذ ما أفاده ولم ينسبه إليه (2)، وهو من الخيانة في وجه،
كما لا يخفى.
الفائدة الثانية
في ترجيح إحدى القراءات
بناء على ما تقرر وتحرر في بحث اللغة: أن " المالك " هو معناه ذو
الملك بكسر الميم وذو الملك بضم الميم، وهما بمعنى واحد، والملك
أيضا معناه ذو المملكة وذو الملك وذو الملك، وهي بمعنى واحد،
والمليك مثله، وهكذا الملك بسكون اللام، سواء كان مخففا عن المالك

1 - البحر المحيط 1: 20.
2 - روح المعاني 1: 77 - 78.
425

أو صفة مشبهة، ومن راجع موارد استعمالات هذه المادة في الكتاب
العزيز يجد صدق دعوانا، فإن الملك - بالضم - كثير استعماله، ومعناه
العزة والقدرة والسيطرة: * (ولم يكن له شريك في الملك) * (1) * (ولله ملك
السماوات والأرض) * (2) * (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من
بعدي) * (3) * (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) * (4)
* (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) * (5). وهذا الأخير - بحسب
الاستعمال - منحصر في موضع واحد في سورة النحل، وهو أيضا معناه، أي
الذي لا يقدر ولا يكون له السلطنة.
فما ترى في كتب القوم والتفاسير، من التمسك بالوجوه المعنوية
لترجيح إحدى القراءات على الأخرى، كله ساقط جدا، لاتحاد معنى الكل،
وبذلك تسقط صفحات كثيرة من كتب التفسير المتعرضة لذلك، الغافلين
عن حقيقة الحال، والله هو المستعان.
ومما يؤيد هذا قوله تعالى في سورة آل عمران: * (قل اللهم مالك
الملك) * (6)، فلو كان المالك من " الملك " بالكسر، لكان ينبغي أن يقال:
" قل اللهم مالك الملك " بالكسر.

1 - الإسراء (17): 111.
2 - آل عمران (3): 189. والآيات بهذا اللفظ كثيرة في القرآن الكريم.
3 - ص (38): 35.
4 - النساء (4): 54.
5 - النحل (16): 75.
6 - آل عمران (3): 26.
426

ومن هنا يسقط كثير من الوجوه المعنوية المتمسك بها لترجيح
" الملك " على " المالك " (1)، لمناسبة إضافته إلى يوم، توهما أن الزمان
لا يناسب المملوكية بخلاف الملكية، مع أن " مالك " كصاحب وزنا ومعنى
في وجه، ويقال: صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف)، فاغتنم.
الفائدة الثالثة
حول عدم الاعتناء بالقراءات
ربما يخطر بالبال سؤال وهو: أن الكتب السابقة على القرآن،
والأنثار والأشعار المتعارفة بين الناس قبل هذا الوحي الإلهي، كانت تقرأ
في المحافل والمجالس وعلى المنابر والأعواد، وما كان يقرأ إلا على
الوجه الظاهر، ولم يكن بين الناس خلاف في كيفية القراءة، بل وما
كانت الكتب السماوية غير هذا السفر القيم مورد هذا الشقاق والنفاق،
ولا محل الميول والآمال، ولا مصب الأمراض والأغراض.
فهل كان الرسول الأعظم الإلهي يقرأ الكتاب مختلفا، حسب
الحالات والأطوار، أم هل كان القرآن نزل كرارا ومختلفا، أو النبي الأعظم
الإسلامي والعقل الكلي الإنساني أمر وأصدر حكما حول هذه النكتة،
فذهب كل اشتهاء وميل إلى ما يميله، أم هل المسلمون رأوا أن عظمة
القرآن، تقتضي أن يكون الكتاب النافي لسائر الكتب، مورد الدقة
ومحل الفكرة وموضوعا لهذه المباحث الراقية مثلا؟

1 - راجع التفسير الكبير 1: 238.
427

أو هل يمكن توهم: أن عناد المسلمين للقرآن ومعاندتهم للوحي
أورثوا مثل هذه الأحدوثة، أم اليهود والنصارى وأمثالهم كانوا يشعرون
بذلك، فأوقعوهم في مثل هذه الخلافات، الموجبة للوهن في الكتاب
ولسقوطه عن الاهتداء به، وعن الاستدلال بكثير من الآيات، لأن اختلاف
القراءات لا ثمرة فيه إلا ذلك؟
فالأمر عندي مشكل جدا، ولا أستطيع أن اصغي إلى روايات لو كانت
هي معتبرة، تشعر بصحة القراءات أو اختلاف القرآن في الوحي والنزول،
فإنه كسائر الكتب المدونة، لا يخصه شئ وارء رقاء موضوعاته وكيفية
تأليفه وتركيبه، وارتقاء ما فيه من الأحكام العقلية والنقلية من
السياسات وغيرها، وأما هذا الاختلاف فلا يظهر لي منه شئ، إلا توهم
الوجه الأخير، أو قلة شعور جماعة من المسلمين وثلة من الطبقة
العليا.
ومن الأباطيل الواضحة والأكاذيب الظاهرة، تواتر القراءات السبع
وتفصيله في مقام آخر.
فعلى هذا المنهج والمسلك الذي أبدعناه إلى هنا تبين: أنه لابد من
تفتيش القرائن والآثار على أن النازل على النبي الأعظم - صلى الله عليه
وآله الطيبين الطاهرين وسلم - ماذا من تلك القراءات.
وقبل الخوض في ذلك لابد من الإشارة إلى نكتة وأمر وهو: أن كثيرا
من تلك القراءات - مضافا إلى شذوذه وبرودته وخروجه عن أسلوب
الكلام - مخالف للقواعد الأدبية، ومنها قراءة " ملك " على وزن الفعل
الماضي، فإنه كما مر في " رب " لا يمكن أن يكون وصفا لما سبق ولا جملة
428

حالية، لاحتياجها إلى الواو الحالية وغير ذلك.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن طريق استكشاف ذلك هو السبر في القرائين
المخطوطة والكتب المشتملة عليها، كالكتب القديمة التفسيرية أو
الكتب الحديثية والفقهية وأمثالها، مما تكون مشتملة على سورة
الحمد والفاتحة لتناسب اقتضاه، فإذا كانت الكتب القديمة وأقدم قرآن
مخطوط مكتوبا بالألف ومخفوضا، فهو كاف لكشف الحال، وإذا انضمت
إليه سائر الكتب، فهو يورث الاطمئنان والعلم العادي بأن ما هو القرآن
المتداول من الأول بين المسلمين كان مع الألف.
وإذا وجدنا أن المولى أمير المؤمنين - عليه أفضل صلاة المصلين -
مع نهاية الدقة ينظر إلى القرآن ويحافظ عليه من الحدثان، وكان هذا
القرآن قبل الأمير (عليه السلام) مدونا، ولم يرمز إلى ما فيه من الغلط في الضبط
بشئ، فهو يشهد على أن هذا الكتاب بعينه من غير تفاوت هو النازل،
ومجرد الاحتمالات الأخرى لا يضر بما هو مورد النظر، وهو حصول الوثوق
والاطمئنان والعلم النظامي العادي بذلك، وإذا انضم إلى ذلك شدة اهتمام
المسلمين بحفظ الكتاب الإلهي عن الاشتباه والاختلاف، يحصل من وراء
هذه الأمور شئ آخر يسمى بالقطع واليقين بعدم التحريف.
ولكنه عندي غير تام، لأن انسداد باب الاحتمالات غير ممكنة، إلا أن
الاطمئنان والوثوق القوي حاصل بذلك جدا، فما هو بين أيدينا من الأول
إلى الآخر - حسب هذا السبر والتقسيم - هو المنزل على النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير نقص ولا زيادة.
وهنا شواهد أخرى على عدم التحريف بالمعنى الأعم، وتفصيله يذكر
429

في مدخل الكتاب، عند البحث عن تحريف الكتاب - إن شاء الله تعالى -.
فبالجملة: كان التجويد واختلاف القراءات حسب التخريص، من
أسباب المعيشة ومن موجبات التقرب إلى السلاطين والتدخل في البلاط.
ومما يؤيد ذلك جدا: أن مذهب الشيعة ليس متدخلا في هذه الأمور،
وليس من القراء من يعد منا أهل البيت، لما أن الشيعة كانوا يعتقدون بأن
القرآن واحد ومن الواحد إلى الواحد للتوحيد.
وإن لهذه المسألة موقفا آخر، ذكرنا هنا شرذمة قليلة من المباحث
الطويلة المحتاجة إلى التعمق الكثير في التاريخ، حتى يتبين لغيرنا
حقيقة الأمر أيضا.
ومن العجب ميل بعض أصحابنا إلى القراءات الأخرى، حتى كتب
شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس سره) رسالة في هذه المسألة سماها " إنارة
الهالك في قراءة ملك ومالك " واعتقد أنه " ملك "، وقد هلك. والله
المستعان.
وغير خفي: أن مقتضى هذه المسألة عدم جواز التجاوز من القرآن
الموجود إلى سائر القراءات في القراءات الندبية والوجوبية.
اللهم إلا أن يقال: بأن ما هو النازل واحد، إلا أنه يجوز تغييره إعرابا
وفي الكيفيات دون المواد، فيجوز - مثلا - رفع " مالك "، ولكنه لا يجوز
حذف الألف، فليتأمل جيدا.
430

الفائدة الرابعة
في ذكر الوجوه المتمسك بها لترجيح " مالك " على " ملك "
بعد سقوط القراءات الاخر لشذوذها (1):
1 - مفهوم " مالك " أوسع وأشمل من مفهوم " ملك ".
2 - ولزيادة حروفها على حروفه بواحدة، وقد حكي عن الشجر أنه
قال: كان من عادتي قراءة " مالك "، فسمعت من بعض أصحاب الفضل أن
" ملك " أبلغ، فتركت عادتي وقرأت " ملك "، ورأيت في المنام قائلا يقول لي:
لم نقصت من حسناتك عشرة؟ أما سمعت قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ
القرآن، كتب له بكل حرف عشر حسنات، ومحيت منه عشر سيئات،
ورفعت له عشر درجات ".
3 - ولأن فيه إشارة واضحة إلى الفضل الكبير والرحمة
الواسعة، والطمع بالمالك من حيث إنه مالك فوق الطمع بالملك من
حيث إنه ملك، فأقصى ما يرجى من الملك أن ينجو الإنسان منه رأسا
برأس، ومن المالك يرجى ما هو فوق ذلك، فالقراءة به أرفق بالمذنبين،
وأنسب بما قبله.
4 - ولأن إضافته إلى " يوم الدين " أنسب، لأن يوم الدين يستلزم

1 - راجع التفسير الكبير 1: 237 - 242، والجامع لأحكام القرآن 1: 140 - 141،
والبحر المحيط 1: 22، وروح المعاني 1: 78 - 79.
431

الحرارة في قلوب السامعين، ويورث القلق في أفئدة المؤمنين، ويشبه
ذلك في وجه قوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * (1) فلابد - حينئذ -
من المبرد والمبشر، ومن ذكر الرحمة بالعناوين المختلفة (2).
5 - ولأن قراءة " المالك " تناسب سائر الجمل السابقة المشتملة
على الألف، ك‍ " العالمين " و " لله " و " الرحمن "، فكأنه يلزم من تلك
الكيفية الخاصة الملحوظة في الآيات السابقة، وجود مماثلها في هذه
الآية، كما نشاهدها في * (إياك نعبد وإياك نستعين) * بل إلى آخر السورة،
فاغتنم.
الفائدة الخامسة
في ذكر الوجوه المتمسك بها
لترجيح قراءة " ملك " على " مالك " (3)
1 - هو أعم وأشمل مفهوما من " مالك ".
2 - إن الزمان لا يضاف إليه كلمة " مالك " غالبا، بخلاف كلمة
" ملك "، فيقال: ملك العصر والعصور.
وهذا لا يستلزم ترجيح " ملك " عليه، لأنه شاذ لا يعبأ به، والكلام
فيما هو الأرجح بعد جواز كل واحدة من القراءتين لتواترهما مثلا، أو لجواز

1 - التوبة (9): 43.
2 - روح المعاني 1: 78 - 79.
3 - نفس المصدر.
432

الاقتداء بالسبعة أو العشرة في القراءة، فلا تخلط كما خلطوا.
ومن هنا يظهر ما في توهم بعض من الإشكال في ذكر التراجيح: بأنه
بعد جوازهما لا معنى له (1)، وكأنه تخيل من هذه الوجوه تعين الوجه
المقصود بها، وقد غفل عن ذلك، لأن البحث في الأرجح منهما، لا في
المتعين من بين القراءات، فلا تغفل.
نعم لو كان مقصود الأصحاب والمفسرين من ذكر الوجوه التخيلية،
تعيين إحدى القراءات، فما قيل في محله، إلا على قول من يقول بعدم جواز
الاقتداء بتلك القراءات المحكية، بل لابد من الفحص عما قرأه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل به الكتاب، فإنه عند ذلك لابد من ذكر الدليل، وهذه
الوجوه الاستحسانية غير كافية، وليست حجة عقلائية ولا شرعية عليه
بالضرورة. ولعمري إنه لا يتفوه بذلك أحد، فإنه كيف يجوز تعيين " مالك "
لما فيه من زيادة الثواب، فإنه منه يعلم أنه يجوز بقراءة " ملك "، ولكنه
في مقام الترجيح في مقام العمل، فافهم وتأمل.
3 - ولأنه قراءة أهل الحرمين.
4 - ولعدم لزوم التكرار، ضرورة أن " مالك " من معاني " الرب "، أو
هما مثلان في الشمول، فلابد من ذكر الأخص، وهو " ملك " بناء على
أخصيته، كما لا يخفى.
5 - ولأنه تعالى وصف نفسه وذاته المتعالية بالملكية عند

1 - روح المعاني 1: 78 - 79، البيان في تفسير القرآن، الخوئي: 480.
433

المبالغة في قوله تعالى: * (مالك الملك) * (1) دون المالكية.
الفائدة السادسة
حول ترجيح المرجحات
اعلم أن الوجوه الأخر لترجيح " مالك " على " ملك " مذكورة في
المفصلات، وهكذا لعكسه.
وأنت بعد ما أحطت خبرا بمقالتنا في هذا المسائل تقدر على تزييف
هذه المسائل بما لا مزيد عليه. هذا أولا.
وثانيا بعد ما اتضح أن مراد المتصدين لترجيح قراءة على قراءة أخرى،
ليس إلا ترخيص ذلك في مقام العمل، وإلا فيجوز عند الكل قراءتهما، فلا
معنى للغور في تلك الوجوه، بل العبد يتبع في قراءته حاله، فتارة يغلب
على حاله ما يناسب المالكية، وأخرى ما يناسب الملكية، وعلى كل
يقرأ ما يناسبها.
وبعبارة أخرى: لا تنافي بين كون كل واحدة منهما ذات مرجحات
اعتبارية واستحسانية، ولا يجب تقديم إحداهما على الأخرى على وجه
يتعين ذو المزية على الآخر، بل لا يمكن ذلك بالضرورة لصحة كثير من
الوجوه المسطورة وغيرها، فيختار العبد حسب حاله إحداهما.
بل لنا أن نقول بجواز تكرار الآية، ففي " الكافي " عن السجاد (عليه السلام):

1 - آل عمران (3): 26.
434

" أنه إذا قرأ * (مالك يوم الدين) *، يكررها حتى كاد أن يموت " (1) فإذا جاز
تكرارها بالألف فلم لا يجوز بغير الألف، بعد جواز القراءة حسب ما ارتضوه
في الفقه. وبهذا يجمع بين المرجحات، ولا يلزم إبطالها كما تصدى له
بعض المفسرين (2).
فما في كتب التفسير في هذه المواقف كله ساقط جدا، ولا يكاد
ينقضي التعجب من أن الكتاب العزيز كان مورد البحث من العصر الأول،
ومع ذلك لم ينقح مباحثه ومسائله، وذهب كل إله إلى ما خلق له وتيسر.
والله من وراء القصد.

1 - الكافي 2: 440 / 13.
2 - روح المعاني 1: 78 - 79.
435

المعاني والبلاغة
وهنا جهات:
الجهة الأولى
في كيفية استفادة حصر المالكية
وقصر الملكية على حضرته تعالى وتقدس
فربما يشكل ذلك لعدم سبب له، لانتفاء جميع آلاته ومقتضياته
اللغوية والأدبية، ضرورة أن قولنا: زيد مالك هذه الدار، لا ينافي مالكية
الآخر إذا كان المراد من الملك الأولوية والسلطنة، كما في ولاية الأب
والجد عرضا على الصغير.
فإذا وصف نفسه تعالى برب العالمين، يستفاد الحصر من عموم
" العالمين " ومن إطلاق الربوبية، بخلاف * (مالك يوم الدين) *، فإنه
تعالى مسيطر على يوم الدين، ولا ينافيه مسيطرية الآخر عليه.
اللهم إلا أن يقال: إن يوم الدين هو يوم محاسبة جميع الموجودات،
من المجردات والماديات، فإذا كان مثل الرسول الأعظم الإلهي مورد
436

المحاسبة وفي موقف الجزاء، فكيف يعقل أن يكون أحد مالكا في ذلك
اليوم، لعدم اجتماع المالكية والمقهورية؟! فتنحصر القاهرية
والغالبية فيه تعالى وتقدس.
نعم لا منع من الالتزام بلزوم المظهر لهذه الصفة، كما يأتي في
محله، وهو - عندئذ - يكون مقهورا بالذات وقاهرا بالغير على الآخرين.
تذنيب
ربما يتخيل المنافاة بين البلاغة وبين توصيفه تعالى بمالك يوم
الدين، لأنه تعالى مالك كل شئ، فلا وجه للتخصيص (1).
قلت: نعم إلا أن الأحوال تختلف في ذلك، فإن مقتضى ما يأتي من الوجوه
الناهضة على لزوم توصيفه في هذا الموقف بصفة جلالية، هو ذكر نعته
على هذه الطريقة، ومجرد مالكية السماوات والأرض ليس من النعوت
الجلالية الظاهرة، بل إضافته إلى يوم الجزاء والحساب، لازم في توغله
في أنه تعالى كما يكون له الترغيب والرحمة، له الترهيب والنقمة.
الجهة الثانية
حول توصيفه بالمالكية
إن البلاغة اقتضت توصيفه تعالى - بعد الأوصاف الثلاثة

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 143.
437

السابقة - بالمالكية وما ضاهاها، وذلك لأن الذي يحمده الناس
ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد الأمور الأربعة:
1 - إما لكونه كاملا لذاته وفي ذاته وصفاته، من غير انتظار إحسان
منه إليهم.
2 - وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم.
3 - وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال.
4 - وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته، فكأنه سبحانه يقول: يا عبادي
إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي، فاحمدوني فإني أنا
الله، وإن كان للإحسان والتربية والإنعام فإني أنا رب العالمين، وإن كان
للرجاء والطمع في الآتي فإني أنا الرحمن الرحيم، وإن كان للخوف فإني أنا
مالك يوم الدين. هكذا أفادوه في كتبهم التفسيرية على اختلاف عبائرهم (1).
ولا يخفى ما فيه مع لطفه.
وبتقريب منا: إنه لولا هذه الآية الأخيرة لما بقي للمسلمين سوق
ولا للبلاد نظام، لأن تلك الرحمات والعواطف والرأفة والألطاف، توجب
عصيان العباد وتجريهم على البلاد في الفساد والإفساد، فحسب القواعد
البلاغية، لابد من ذكر غضبه وانتقامه وسخطه وملكيته ومالكيته هنا،
حتى ترتعد منه الفرائص والعظام، وتخشع لديه القلوب والأفئدة، حتى
يصان النظام ويحفظ الأنام تحت هذه البرقية العاجلة وبيمن تلك الآية
الكريمة الإلهية، فهو في وجه يرجع إلى الرحمة الشاملة العامة،

1 - روح المعاني 1: 80.
438

ولذلك سمى بالآلاء في الكتاب العزيز: * (يرسل عليكما شواظ من نار
ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (1) صدق الله العلي العظيم.
الجهة الثالثة
حول مقتضيات البلاغة في تأخير مالك
ربما يستشم في تقديم الأوصاف الجمالية على التوصيف الجلالي
وتأخيره عنها، عناية خاصة تقتضيها البلاغة، فإن الخبر قد ورد: أن
رحمة الله سبقت غضبه (2)، وأن مقتضى الظهور بأصل الوجود هو التعين
بالأوصاف الجمالية، لما فيه من إبراز الماهيات من كتوم الأعدام إلى
منصات الوجود والخيرات، ثم التربية بالربوبيات التكوينية
والتشريعية، وإلهام الرحمة والعطوف عليها، وبعد ذلك يضرب جرس
الموت، وهو بالطبع بعد الحياة، فالحياة متقدمة، وبمقتضى تلك الرحمة
تحققت، وكمال تلك الحياة أيضا مقدم، والموت مؤخر، والحساب والجزاء
بعد ذلك، فيتذكر الناس في كيفية الثناء والحمد وبيان النعوت الجمالية
والجلالية أن الأمر كذلك بحسب الواقع.
وفي تعبير آخر (3) - لا بأس به -: إن الإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس

1 - الرحمن (55): 35 - 36.
2 - الكافي 2: 384 / 20 فيه " سبقت رحمتك غضبك "، علم اليقين 1: 57 فيه " سبقت
رحمته غضبه "، دعاء جوشن الكبير: فقرة 20 " يامن سبقت رحمته غضبه ".
3 - انظر روح المعاني 1: 81.
439

سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي، فالتجلي باسمه تعالى الله
للجوهر الملكي، * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (1)، وباسم الرب للنفس
الشيطانية * (رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (2)، وباسم الرحمن
للنفس السبعية * (الملك يومئذ الحق للرحمن) * (3)، وباسم الرحيم
للنفس البهيمية * (أحل لكم الطيبات) * (4)، وبمالك يوم الدين للبدن
الكثيف * (سنفرغ لكم أيه الثقلان) * (5).
وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة، وطاعة النفس
الشيطانية بطلب الاستعانة، والسبعية بطلب الهداية، والبهيمية بطلب
الاستقامة، وتواضعت الروح القدسية، فعرضت لطلب إيصالها إلى
الأرواح البالية المطهرة. والله العالم بحقائق آياته.
وهذه الآثار المتجلية ظاهرة في قوله: * (إياك نعبد) * إلى قوله:
* (ولا الضالين) * فتلك الخمسة تقابل هذه.

1 - الرعد (13): 28.
2 - المؤمنون (23): 97.
3 - الفرقان (25): 26.
4 - المائدة (5): 4.
5 - الرحمن (55): 31.
440

علم الأسماء والعرفان
اعلم أن " الملك " و " المالك " - بحسب الاعتبار في تقسيم الأسماء
الإلهية - من أسماء الذات، ومن العجب عدم تعرض الشيخ للمالك في
تقاسيمه، ولعله اكتفى بالملك عنه (1)، لأنه وهو كما عرفت بمعنى واحد
مطلقا أو في الناحية المقدسة خصوصا وما في بعض الكتب السطحية
أن " الملك " من أسماء الذات دون " المالك "، فهو من الغلط، كما في
القرطبي (2)، لأنه كما لا يتصور المالك بدون المملوك، لا يتعقل الملك
بدون الرعية، فلو كان منشأ تخيله: أن " المالك " اسم الفعل ومن صفات
الأفعال، هذا فإن " الملك " مثله، كما لا يخفى.
ولكن الذي هو مناط ذلك أمر آخر يأتي تفصيله في سورة البقرة - إن
شاء الله تعالى - وهو من مشكلات المسائل العرفانية والإلهية.

1 - رسالة إنشاء الدوائر: 28 - 30، مصباح الانس: 112 - 113، شرح فصوص الحكم،
القيصري: 14.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 143.
441

ثم إن مقتضى ما تحرر وتقرر: أن لكل اسم مظهرا يخصه في النشآت
العلمية والعينية، وما هو المظهر في النشأة الظاهرة العينية، هو
المظهر في النشأة الغيبية العلمية، وإن كان ما به الظهور مختلفا، فإن
الظهور في الثاني بالفيض الأقدس، وفي الأول بالفيض المقدس (1)
والنفس الرحماني، فينتهي الأمر هنا إلى ما هو مظهر مالكيته تعالى
وملكيته في يوم الحساب، وما به تعين تلك الملوكية والمالكية، فهل
هو من الموجودات المجردة المحضة، فإنها غير قابلة للرؤية لجميع الآحاد
والأشخاص، فإن مالك يوم الدين لابد وأن يكون بوجه يصدقه كل أحد
نوري وناري، ولو كان معنى مالكيته في يوم الدين بغير هذا الوجه، لكان
هو مالك الدنيا والآخرة، كما هو مالك يوم الدين من غير تفاوت واختلاف.
فعلى هذا لابد من مظهر يناسب جميع الآفاق وكل الناس والأشخاص،
وهو ما في رواية " مشارق الأنوار " عن الصادق (عليه السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا علي أنت ديان هذه الأمة والمتولي حسابها، وأنت
ركن الله الأعظم يوم القيامة، ألا وإن المآب إليك، والحساب عليك، والصراط
صراطك، والميزان ميزانك، والموقف موقفك " (2).
وعن " تفسير الفرات ": " إن إلينا إياب هذا الخلق، وعلينا حسابهم " (3).
وعن " المناقب " عن الباقر (عليه السلام) في قوله: * (إن إلينا حسابهم) *: " إن

1 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 18.
2 - مشارق أنوار اليقين: 180.
3 - تفسير فرات الكوفي: 207.
442

إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم " (1) ومثله في الزيارة الجامعة (2).
فبالجملة: لابد - بحسب القواعد العقلية والكشف العرفاني - من
مظهر في القيامة هو في قوس الصعود، وما هو الأليق بالمظهرية أولا هو
الرسول الأعظم، وباطنه علي (عليه السلام)، فيكون بيده يوم الدين.
وبعبارة أخرى: هو تعالى مالك يوم الدين، فذاته اعتبار مقدم على
مالكيته، فهو يكون مالكا وملكا بالقدرة والسيطرة، وتلك القدرة
والسيطرة والسلطنة ظهور السلطنة الذاتية، وهو الظاهر في تعين من
التعينات بنحو الإجمال، وليس هذا إلا في مثال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي
الأعظمين، فافهم ولا تكن من الجاهلين.
إيقاظ
" المالك " من الأسماء المرؤوسة، ويندرج تحت الاسم الظاهر من
أمهات الأسماء، وله الظهور في جميع النشآت الغيبية والشهادية، لأن
بظهور القدرة والعلم يعتبر السلطنة على كافة الأعيان العلمية
والعينية، فهو تعالى مالك قبل خلق السماوات والأرضين، ومسيطر وله
السلطنة والاقتدار على تلك اللوازم والأعيان، وهذا الاسم من الأسماء
الجلالية المقتضية لعدم غيره " غيرتش غير در جهان نگذاشت ".

1 - مناقب آل أبي طالب 3: 107.
2 - تهذيب الأحكام 6: 97 / 177، الفقيه 2: 372 / 1625.
443

الحكمة والفلسفة
وهنا مباحث، بعضها كلامية:
المبحث الأول
حول فعلية يوم الدين
لا شبهة في ظهور هذه الجمل في الاتصاف الفعلي، وأن المشتق
جار بلحاظ زمان الحال، فهو تعالى رب العالمين في الحال، وهو
الرحمن الرحيم في الحال، وهو مالك يوم الدين في الحال، أي بالفعل
سواء كان تحت أحكام الزمان أو فوقها.
وهذا دليل وبرهان على ما تحرر وتقرر في الكتب العقلية (1) - خلافا
لما اشتهر عن علماء الكلام (2) - من أن يوم الدين والجزاء والحساب
موجود بالفعل، لأن فعلية الاتصاف بالمالكية تستلزم فعلية وجود يوم
الدين. فما يستظهر من الكتاب العزيز موافق لما يشهد به العقل

1 - الأسفار 9: 201 و 319 - 328، المبدأ والمعاد، ملا صدرا: 337 - 344، الشواهد
الربوبية: 300 و 302 و 305 و 306، مفاتيح الغيب: 601 و 631 و 637.
2 - كشف المراد: 426، شرح المقاصد 5: 107 - 111، شرح المواقف 8: 301 - 303.
444

والبرهان، بل والكشف والعرفان (1)، بل الأخبار والآثار (2) والوجدان، من
أن يوم القيامة إذا كان معدوما فلا يكون عالم القبر برزخا، ضرورة أن
البرزخية لا تتصور بين المعدوم والموجود، فقوله تعالى: * (ومن ورائهم
برزخ إلى يوم يبعثون) * (3) دليل على ذلك.
مع أن القيامة من مظاهر الله تعالى، ومن العوالم الكلية، وتلك
العوالم موجودة بالكلية وإنما الاختلاف في حوادثها ودليل ذلك الأخبار
الكثيرة الواردة من الطرق المختلفة على مشاهدته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة
المعراج أحوال أهل الجنة والنار (4)، ولا يمكن ذلك إلا على نحو الكشف
التام الملازم لوجود المكشوف في الأفق الخارج عن إحاطة كشفه،
وإلا فهو من التخيل والرؤية في الخيال المتصل.
وأما توهم: أن الجزاء ليس موجودا والحساب ليس بالفعل، فيوم
الدين أيضا ليس موجودا بالفعل.
فهو قابل للذب:
فأولا: لأن المراد هو مالكيته ليوم الجزاء بالفعل، ويوم الجزاء
عنوان ذلك الظرف واليوم، ولا يراد منه معناه المصدري.
وثانيا: مقتضى البرهان الدقيق وأخبار المعراج، هو أن المتأخر في
الوجود في كل مرتبة متقدم بحسب المرتبة الأخرى، وله الكينونة

1 - شرح فصوص الحكم، القيصري: 40 - 41، الأسفار 9: 334 - 335.
2 - علم اليقين 2: 1008 - 1014، بحار الأنوار 8: 205.
3 - المؤمنون (23): 100.
4 - علم اليقين 1: 489 - 520، بحار الأنوار 18: 282.
445

السابقة، فباعتباره يصح ذلك، فليتدبر.
المبحث الثاني
حول إشارة الآية إلى الموجودات الأمرية
إذ قد تبين في الكتب العقلية: أن الموجودات بين ما تكون محتاجة
في الوجود إلى الإمكان الذاتي فقط، وبين ما تكون محتاجة إلى الإمكان
الذاتي والاستعدادي الذي هو في محل المادة، وتكون الأولى في الاصطلاح
هي المبدعات، والثانية هي الكائنات (1)، فقيل - كما في " تفسير صاحب
الحكمة المتبالية " -: إن قوله تعالى: * (رب العالمين) * ناظر إلى تلك
الموجودات والطائفة الأولى منها، وقوله * (مالك يوم الدين) * والآخرة
مقابل الدنيا ناظر إلى الثلة الأخرى والموجودات الأمرية، أي التي
تتحقق بنفس الأمر، بل هي نفس الأمر (2). انتهى.
وأنت خبير: بأن اعتبار المالكية ومفهومها أجنبي عن الخالقية
والبارئية، فهو تعالى مالك الدنيا والآخرة ومسيطر عليهما، ومسلط على
جميع الأمريات والكائنات، وهذا اعتبار متأخر عن اعتبار الخلائق
وإيجادها، ولا يجوز أن تتداخل الأسماء الإلهية في الاقتضاءات، وهذا لأجل
عدم تداخلها في المفاهيم.

1 - الأسفار 1: 230 - 236، شرح الإشارات 3: 97 - 103، شرح المنظومة (قسم
الفلسفة): 186 - 187.
2 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 80.
446

وغير خفي: أن الاهتمام بشأنه (قدس سره) ألجأني إلى نقل ما تخيله، وإلا لو
كنا بصدد نقل ما قيل في كل محل ونقده " مثنوى هفتاد من كاغذ شود "،
ولخرجنا عن طور الكتاب وشأنه، فإني بمقدار القدرة والطاقة، لا أتجاوز
المسائل الراجعة إلى الآية الشريفة، ولا أباحث عن الأجنبيات منها، بل
وعن الغرائب عنها، كما ترى في طول هذه المباحث ذيل تلك الآيات.
ومن الغريب: أن دعوى شهادة الآية الشريفة على خالقيته تعالى
للكائنات والموجودات الواقعة في عالم الملك والشهادة، عكس ما
فهمه، قريبة، لأن معنى " المالك " ذو الملك، والملك والشهادة وعاء
المادة والماديات، والموجودات المحتاجة في الوجود إلى الأمر
الزائد، فافهم وتبصر.
المبحث الثالث
الرد على مقالة المجبرة
قد تلونا عليك معاني الدين، وهي تتراوح بين الحساب والجزاء وما
يقرب منهما.
وأما ما يتوهم من: أنه هو الدين والإسلام (1)، فهو إما لأجل رجوع
المعاني إلى معنى واحد، لأن حقيقة الشئ هي الغاية، وصورته
الكمالية، فيكون الدين والحساب والجزاء بمعنى واحد، أو لأجل أن

1 - المفردات في غريب القرآن: 175، لسان العرب 4: 460، القاموس المحيط 4: 227،
تاج العروس 9: 208.
447

المراد من الدين هو الإسلام، لظهور حقيقة الإسلام في يوم الجزاء.
وأنت خبير بما فيه من الركاكة والسقوط.
فبالجملة: إذا كان هو تعالى، مالك يوم الدين والحساب والجزاء،
وكان هو المختار والمقتدر في ذلك اليوم، فمقتضى سعة اختياره وإطلاق
مالكيته أنه لا يستحق في ذلك اليوم أحد العذاب ولا العقاب والثواب،
لأن الاستحقاق ينافي ذلك، فإن العقل إذا كان يحكم بلزوم عقاب العاصين
وإنعام المطيعين، فإنه ينافي مالكيته ومختاريته، بل يلزم كون القانون
مالكا والله تعالى يجريه ويعمل به، وهذا ليس من حقيقة المالكية
والسلطنة.
فيتضح من ذلك مقالة المجبرة القائلين: بأنه تعالى يفعل في
الآخرة ما يشاء من تعذيب المطيعين وإنعام العاصين (1).
وقضية أنه مالك يوم الحساب والجزاء، أن ذلك اليوم يوم
المحاسبة ويوم الجزاء، فلو كان الكل مستوي النسبة في ذلك الموقف،
ومتساوي الأعمال والأفعال في تلك الأيام والساعات، فما معنى أنه مالك
يوم الحساب والجزاء؟! بل لابد وأن يقال: هو مالك الآخرة أو يوم القيامة
والرجوع، فيثبت مقالة الآخرين.
وحيث إنه تعالى مضافا إلى كونه مالكا يكون عادلا، فلا تنافي بين
مالكيته على الإطلاق مع رعاية العدالة بين الأنام، فإنه لو شاء كذا

1 - انظر كشف المراد: 302 - 307، وشرح المقاصد 4: 282 - 296، ومقالة المجبرة إلى
شرح المواقف 8: 180 - 209.
448

فله أن يفعل كذا، ولكنه يمتنع عليه تلك المشية، فيمتنع عليه، وما نحن
فيه مثله كما لا يخفى، فيتعين الوجه الثاني. هذا، مع أن إطلاق
المالكية قابل لرفع اليد عنه، بخلاف مادة الدين فيتعين الوجود
الثاني أيضا حسب الصناعة المحررة في الأصول.
فن الكلام
مسألة: هل يجب أن يكون هو تعالى مالك يوم الدين، أم لا؟
فمقتضى القواعد العقلية، هو الأول بالضرورة، لأن كل وصف
كما لي ثابت لحقيقة الوجود، ويرجع إلى تلك الحقيقة، وكل ما أمكن
عليه تعالى بالإمكان العام يجب عليه بالضرورة (1).
وأما حسب الدليل الكلامي، فقيل: إن من سلط الظالم على المظلوم،
ثم إنه لا ينتقم منه، فذاك: إما للعجز، أو للجهل، أو لكونه راضيا بذلك
الظلم، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محالة، فوجب أن ينتقم
للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا، وجب
أن يحصل في دار الآخرة، وذلك هو المراد بقوله: * (مالك يوم الدين) * (2)
انتهى.
أقول: هذا ما أفاده الفخر ولم يتبين لي وجه قوله: إنه من سلط... "،

1 - راجع الأسفار 1: 122، والنجاة (قسم الإلهيات): 228.
2 - التفسير الكبير 1: 236.
449

فإنه كيف رضي بهذا التعبير، وهو تسليطه تعالى الظالم على المظلوم،
فإنه ظلم قطعا، وقد برأه العقل والنقل، وليس الفخر من المجبرة قطعا،
فلعله جزاء لما يصدر منه في بعض الأحيان، فعلى هذا يسقط برهانه.
نعم يمكن دعوى: أن مقتضى كونه عادلا وصاحب مملكة الوجود
سرا وعلانية هو جزاء الظالم، وأما لزوم جزائه في الآخرة دون الدنيا، أو
في الدنيا دون الآخرة، فهو أمر خارج عن إحاطة الدرك والتعقل.
نعم بناء على كون الجزاء ظهور تبعات الأعمال والأفعال، وهذا أمر لا
يحصل مع غبار الطبائع، ومع التلبس بجلباب المادة، يتعين كونها عند
الفراغ من المادة. وأما كونها بعد الفراغ عنها والفراق لها في يوم خاص،
وهو القيامة أو البرزخ، فهو بحث طويل الذيل يأتي لتناسب في محال
اخر إن شاء الله تعالى.
المبحث الرابع
حول حشر الموجودات
هذه الآية تدل على المعاد والحشر للجزاء والحساب. وربما
يستشعر منها اختصاص الحشر والبعث بالعقلاء والذين يستحقون الجزاء،
ويصح حسابهم، دون سائر الموجودات من الجمادات والنباتات
والحيوانات، بل وكثير من أفراد الإنسان، ضرورة أن يوم القيامة يوم
الحساب، ولو كان سائر الموجودات تحشر في ذلك اليوم، فلا يناسب
تسميته بذلك، لأكثريتها ممن يستحقون الجزاء والحساب.
450

فعلى هذا ما تقرر في الحكمة المتبالية - من حشر جميع الأشياء
حتى الجمادات (1) - وما تحرر في الكلام - من حشر جميع أفراد الإنسان (2) -
غير موافق لها وغير مساعد عليه ظهورها البدوي.
وأما البراهين الناهضة على حشر كل موجود، فهي كثيرة مسطورة في
المفصلات، ويؤيدها ظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى: * (وإلى الله ترجع
الأمور) * (3) وغيره.
وأما التي تقتضي حشر جميع أفراد الإنسان، فهي - مضافا إلى اتفاق
الملل - مقتضى العقل، لأن كل مجرد يبقى، ويفنى البدن المادي، فما عن
بعض فلاسفة اليونان - كفرفوريوس - خلاف الحق والضرورة.
وأما الآية الشريفة، فهي لا تفيد حصر المبعوثين بتلك الطائفة من
أفراد الإنسان، ولو كان يمكن استفادته فهو لأجل بعض القرائن، وبعد قيام
الآيات الأخر على خلافها بالصراحة، فلا تنهض لمقاومتها هذه الآية وما
شاكلها.
وأما وجه التسمية: فهو لأجل الأشرفية أولا، ولأن للحشر مراتب،
وليس مرتبة حشر النباتات والجمادات في رتبة حشر الحيوان... وهكذا.
بل قد تقرر في مباحث النفس: أن لكل شخص أكثر من حشر واحد،

1 - الأسفار 9: 272 - 343، الشواهد الربوبية: 332 و 335، رسالة الحشر، ضمن الرسائل
لصدر المتألهين: 341 - 370، مفاتيح الغيب: 611 - 617.
2 - كشف المراد: 400 - 416، شرح المقاصد 5: 82 - 156، شرح المواقف 8: 289 -
320.
3 - البقرة (2): 210.
451

بل ربما لا يعد ولا يحصى، وتفصيله في مقام آخر (1).
المبحث الخامس
في فعلية الجزاء
قد سبق أن الآية ظاهرة في فعلية اتصافه تعالى بالمالكية يوم
الدين، وقضية ذلك فعلية يوم الدين وفعلية الدين، فإذا كان المراد من
الدين العقوبة، بل ولو كان المراد منه الحساب، فتكون الآية دالة على
تجسم الأعمال والأفعال، وتبعيتها للصور المسانخة معها التي هي حقيقة
الجزاء والعقوبة، ضرورة أن تلك الصور تابعة لها ولوجوده بالفعل على
نعت الضعف والقوة والكتمان والسر، لغلبة أحكام المادة والمدة،
ولضعف النفس بسبب الاحتجاب بالبدن عن خلقها، حسب مقتضياتها
الموجودة معها من الرذائل والأعمال، فإن كل عمل يصدر من الإنسان ينقش
في صحيفة وجوده، ويكون باقيا وخالدا حتى يراه، وتزيله التوبة
التكوينية بالاقبال على دار الآخرة، والانغماس في ماء الإنابة والابتهال.
فإذا يكون الجزاء بالفعل والحساب بالفعل، وأسبابهما موجودة
الآن، و * (إن جهنم لمحيطة بالكافرين) * (2) بالفعل، إلا أن لكل شئ ظهورا
وبطونا، وهذا الجزاء والحساب بطونهما حال العناق مع المادة، وظهورهما

1 - الأسفار 9: 232 - 236.
2 - العنكبوت (29): 54.
452

لدى الفراق عن المادة والمدة. ولظهورهما مراحل ومراتب تبتدئ من
القبر وتنتهي يوم القيامة الكبرى والرجعة العظمى. ولهذه المباحث
مسائل راقية تأتي طي البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.
453

الموعظة الحسنة والنصيحة
إذا بلغت القراءة إلى * (مالك يوم الدين) *، فإن كان القلب مذعنا
لتلك المواقف والعقبات، ومعتقدا بتلك الأيام والساعات، ومتوجها إلى
تبعات الأقوال والأعمال، فترتعد منها عظامه، وترتعش منها أفئدة القارئين،
وإذا كان عالما بأنه تعالى لا يقول لغوا ولا شططا ولا غلطا، ولا يكون
مستهزئا ولا ممازحا، بل كلماته كلها صادقة تطابق الواقعيات، وهو برئ
من الأباطيل والأكاذيب، فيتحرك نحو الفرار عن المعاصي والعمل
بالطاعات، ويتحلى بحلية الأخلاق الحسنة، ويتجلي بجلباب السعادة،
ويخلع ألبسة الشقاق والشقاوة، ويرتقي بأسباب العزة والإسلام إلى
الملكوت الأعلى ومقام * (أو أدنى) *.
فإياك يا أخي الأعز ويا حبيبي وعزيزي أن تكتفي بالقراءات وآدابها
الأدبية والتجويدية، وعليك بالجد والاجتهاد والسعي إلى التخلق
بأخلاق الله، حتى تكون تسمع الآية من قائلها وتصدر من حقيقتك ورقيقتك،
فتكون - بإذن الله تعالى - مماثلا للملكوتيين في الناسوت السفلى،
ومشابها للعلويين في هذه الطبيعة الظلماء، وليكن تمام السعي والجد
454

في أن تكون أنت مظهر هذا الاسم في ناحية من نواحي تلك النشأة الكبرى،
وفي ذلك اليوم الذي تخشى فيه القلوب وتبلغ لديه الحناجر.
ولا يتمكن من هذا المقام المنيع والمحل الرفيع، إلا بعد رفض
الشيطان الرجيم حقيقة وواقعا، لا تخيلا وتقولا، فإن هذا من الأطباق
الشديدة الفخمة، لا يقتدر على هدمها إلا الأوحدي.
فقد روي عن " الكافي " بإسناده عن سيد العابدين (عليه السلام)، فقال:
" حدثني أبي: أنه سمع أباه علي بن أبي طالب (عليه السلام) يحدث الناس، قال: إذا كان
يوم القيامة، بعث الله تبارك وتعالى الناس من حفرهم جردا مردا في صعيد
واحد، يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة، حتى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب
بعضهم بعضا، ويزدحمون عليها دونها فيمنعون من المضي، فيشتد أنفاسهم
ويكثر عرقهم وتضيق بهم أمورهم ويشتد ضجيجهم وترتفع أصواتهم، فقال:
هو أول هول من أهوال القيامة، قال: فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من
فوق عرشه في ظلال من الملائكة، فيأمر ملكا من الملائكة، فينادي فيهم:
يا معشر الخلائق، أنصتوا واستمعوا منادي الجبار، قال: فيسمع آخرهم
كما يسمع أولهم، قال: فتنكسر أصواتهم عند ذلك، وتخشع أبصارهم،
وتضطرب فرائصهم، وتفزع قلوبهم، ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت،
* (مهطعين إلى الداعي) *، قال: فعند ذلك يقول الكافر: هذا يوم عسير.
قال: فيشرف الجبار - تعالى ذكره - الحكم العدل عليهم، فيقول: أنا الله
الذي لا إله إلا أنا الحكم العدل الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي
وقسطي، لا يظلم اليوم عندي أحد اليوم، آخذ للضعيف من القوي بحقه،
ولصاحب المظلمة بالمظلمة، بالقصاص من الحسنات والسيئات واثيب على
455

الهبات، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم ولأحد عنده مظلمة، إلا مظلمة
وهبها صاحبها وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب... " إلى آخر
الحديث الشريف الطويل (1).
أقول: في أهوال القيامة وأحولها وشدائدها وكيفية العذاب
والعقاب، أخبار كثيرة (2) لا يناسبها المقام، وإنما المقصود بالأصالة الإيماء
والإشارة إلى بعض الجهات الواردة على بعض أهل الإيمان، وإلى أن
مجرد قراءة * (مالك يوم الدين) * غير جائز عند أرباب اليقين، بل لابد وأن
تكون القراءة مشفوعة بالحالات والآثار، فيكون ناظرا من أول الشروع
فيها، ومتفكرا في التذكر بها إلى أن يكون من أصحاب اليمين من المتقين،
في استجلاب الصفات الحسنة التي بها تصير الذات محسنة وكاملة
ومستكفية عن غير الله تعالى، فتكون خائفة من الله ومن عقوبته يوم
الدين وشدائده وأهواله وحياء العرض على مالكه، فإن ذلك أمر عظيم
جدا، والافتضاح على رؤوس الأشهاد. ومن ذلك ما روي من غشية الصادق
(عليه السلام) عند تكرار * (مالك يوم الدين) * (3)، وما روي عن السجاد (عليه السلام): أنه إذا
قرأه يكرره حتى كاد أن يموت (4).
وبالجملة: للعارفين عند ذكر أسماء الله تعالى، حالات سنية ولذات
فاخرة، وتفرجات عالية في متنزهات دار الجلال وتأنسات ناعمة من

1 - الكافي 1: 150 / 79.
2 - راجع بحار الأنوار 7: كتاب العدل والمعاد، أبواب المعاد، الباب 3 - 9.
3 - انظر فلاح السائل: 107، والمحجة البيضاء 1: 352.
4 - الكافي 2: 440 / 13، تفسير العياشي 1: 23 / 23.
456

تجليات أنوار صفات الجمال في دار الوصال.
وبالجملة: بعد التوجه إلى الله تعالى وربوبيته ورحمته
الرحمانية والرحيمية ومالكيته، يسير في هذه الأسماء في جميع
العوالم من مبدئها إلى منتهاها، ويتفرج بالتدبر في مالكيته ليوم
العقوبة والدين في تفاصيل عوالم القيامة، ويتوجه إلى أن جميع
صفاته الجلالية فانية في الجمالية، وفي ا لخبر: " قد سبقت رحمته
غضبه " (1)، فلا يكون للعارف الكامل خوف من ناره وجحيمه، بل خوفه من
نار فراقه وطول عكوفه عليه، فإذا وصل نوبة قراءته إلى * (مالك يوم
الدين) *، يفزع ويضطرب جميع أعضائه ومراتبه حتى يغشى عليه، ولكنه
طليعة تضمحل بظهور جلوات رحمته ورأفته ولطفه ومحبته.

1 - علم اليقين 1: 57.
457

رسم الخط والكتابة
قد تعارف في رسم كتابة " مالك " أن يكتب بالألف، وربما يشاهد
بعض النسخ في الخزائن، وهو الآن مطبوع رائج بين المسلمين، أن يكتب
بدونها مع الرمز إليها، وهو هكذا: " ملك "، وهذا ليس على ما يجوز توهمه
من قراءة " ملك "، حتى يقال: إن النسخ القرآنية على قسمين: قسم مشتمل
على " مالك "، وقسم مشتمل على " ملك "، بل هذا النوع من النسخ يشتمل
على حذف الألف من مثله في جميع الآيات، ومن أول الكتاب إلى آخره.
وهذا النوع من الرسم هو المعروف بالرسوم القرآنية، وإلا فهي
غير صحيحة حسب قوانين الكتابة، ولا يجوز ذلك عند العقل، ولابد من
الوفاق بين الملفوظ والمكتوب، والتعدي عن الملفوظ إضرار بالمتعلمين.
ثم إن من الجدير بالذكر أن من الممكن توهمه: أن منشأ قراءة
" ملك " كتابة " مالك " بشكله وهيئته، وكان أحد الكتاب قد تفنن في
رسمه، وأوقع الناس في هذا الاشتباه.
وهذا الاحتمال قوي جدا، ووقوعهم فيه في خصوص هذه الكلمة
مثلا، فلكثرة ابتلاء الناس به والبحث عنه، فوقعوا في حيص بيص، وقد
* (كشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) * (1).

1 - ق (50): 22.
458

التفسير والتأويل
على المشارب المختلفة والمسالك الكثيرة
على مسلك الأخبار والآثار
أنه تعالى * (مالك يوم الدين) *، إقرار له بالبعث والحساب
والمجازاة، وإيجاب له ملك الآخرة، كما أوجب له ملك الدنيا (1)، وإذ قال
العبد: * (مالك يوم الدين) *، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنه قال الله عز وجل
جلاله: أشهدكم كما اعترف عبدي أني مالك يوم الدين، لأسهلن يوم
الحساب حسابه، ولأتقبلن حسناته ولأتجاوزن عن سيئاته " (2).
وهو * (مالك يوم) * الحساب، كما في قوله: * (يا ويلنا هذا يوم
الدين) * (3).

1 - الفقيه 1: 203 / 12، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 107 / 1.
2 - الأمالي، الصدوق: 174 / 1، بحار الأنوار 89: 226 / 3.
3 - تفسير القمي 1: 28.
459

وأيضا * (يوم الدين) * يوم خروج القائم (عليه السلام)، هكذا في " الكافي " (1)
وعنه عن الباقر (عليه السلام): " * (يوم الدين) * أيام ثلاثة: يوم يقوم القائم، ويوم
الكرة، ويوم القيامة " (2).
وقريب منه: أنه * (مالك يوم الدين) * والجزاء والحساب والعقوبة
في الدنيا والآخرة، وأنه تعالى يجزي المتخلف الظالم حسب اقتضاء
الظروف أنحاء الجزاء المناسب لتلك الظروف، ولا يدع إلى الآخرة،
بمعنى أنه لا ينحصر يوم الجزاء بالآخرة، وإن كان الجزاء الحقيقي والكلي
في الآخرة، وأما في الدنيا فبالنسبة إلى الأمم السالفة، فقد كان يجزيهم
في هذه النشأة وينزل عليهم أنواع العذاب، من غرقهم ومن الخسف بهم
وتنزيل الحجارة وغير ذلك.
وأما بالنسبة إلى الأمة المرحومة الإسلامية وسائر الأمم
المعاصرين لهم، وإن كان البناء على تأخير العقوبة وإنما يعجل من يخاف
الفوت، ولكن كثيرا ما يتفق الجزاء والنكال في هذه النشأة أيضا رحمة
منه تعالى وشفقة عليهم.
إنه تعالى * (مالك يوم الدين) * والحساب، كما في بعض أخبارنا،
وذلك لأن الجزاء يحصل في هذه النشأة أحيانا وفي البرزخ، لأن القبر
روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران (3). وهذا من الجزاء

1 - لم أقف عليه في الكافي، وفي تأويل الآيات الظاهرة: 712.
2 - راجع الخصال: 108 / 75 وفيه * (أيام الله) *.
3 - الكافي 3: 242 / 2.
460

حقيقة وواقعا، بل الجزاء في الدنيا يظهر لبعض كثيرا، فإنا نرى كثيرا من
المنغمسين في شهواتهم، يقضون أعمارهم وهم متمتعون بلذاتهم. نعم إنهم لا
يسلمون من المنغصات وربما رقتهم الحوائج ابتلوا في أموالهم، واعتلت
أجسامهم، وضعفت عقولهم، ولكنه ليس هذا جزاء كاملا لما اقترفوه من
عظيم الموبقات وكبير المنكرات.
كذلك نرى كثيرا من المحسنين يبتلون بهضم حقوقهم، ولا ينالون ما
يستحقون من حسن الجزاء. نعم إنهم ينالون بعض الجزاء، بإراحة
ضمائرهم وسلامة أجسامهم وصفاء ملكاتهم وتهذيب أخلاقهم، ولكن ليس
هذا كل ما يستحقون من الجزاء.
فإذا جاء ذلك اليوم استوفى كل عامل جزاء عمله كاملا، إن خيرا
فخير، وإن شرا فشر جزاء وفاقا لما عمل، كما لا يخفى.
فعلى هذا يتعين أن يكون المراد من * (الدين) * هو الحساب، ولعل
كلمة " الدين " المستعملة في القرآن كثيرا حتى بلغ أكثر من سبعين موردا
أريد منها الحساب، ودين الإسلام وسائر الأديان يسمى بالدين، لأجل أن
القوانين محاسبات الأعمال والأفعال، ومحددات المسالك والمعايش
والسياسات، فكل ذلك حساب من الله تعالى.
وعلى هذا إذا قيل: هو مالك يوم الحساب والدين، وأريد منه يوم
القيامة، فهو باعتبار أن في ذلك اليوم كمال الدين والحساب وظهور
الدين والمحاسبة، وتتجلى فيه أحكام الإسلام والقرآن حق التجلي
والظهور.
461

وعلى مسلك أهل العرفان والشهود
أنه تعالى هو الآن * (مالك يوم الدين) * باعتبار منتهائيته التي هي
حقيقة مالكيته للأشياء في يوم الدين، إذا لا يجزي في الواقع إلا هو،
الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء، بإثابة النعمة الباقية عن الفانية
في الظهور والتجلي، وفي كل آن يثيب تلك النعمة عن النعمة الفانية،
عند التجرد عنها بالزهد وتجليات الأفعال، عند انسلاخ العبد عن أفعاله.
وأيضا تعويضه صفاته تعالى عند المحو عن صفاته، وأيضا إبقاؤه
بذاته ونحلته الوجود الحقاني عند الفناء عن ذاته.
فتحصل من البدأ إلى المنتهى: أن مطلق الحمد وماهيته أزلا وأبدا،
على حسب استحقاقه إياه بذاته، باعتبار البداية والنهاية وما بينهما في
مقام الجمع على الألسنة بالتفصيل الماضي تحقيقه، فهو الحامد
والمحمود جمعا وتحقيقا والعابد والمعبود مبدأ ومنتهى، وكل ذلك بالاعتبارات
المساعد عليها البراهين القاطعة، وإن لا يساعد عليها السنة الطاهرة.
وقريب منه: أنه تعالى * (مالك يوم الدين) * بالملكية الأرقى من
أنواع الملكيات، لأنها ليست كمالكية الملاك لأملاكهم، ولا كمالكية
الملوك لممالكهم، ولا كمالكية النفوس لأعضائها، ولا كمالكية
النفوس لقواها ولا لصورها العلمية الحاصلة الحاضرة عنده، يفني ما
شاء منها، ويبقي ما شاء، ويوجد ما شاء، ويمحق ويثبت.
بل مالكيته ليوم الدين غير مسبوقة بالسابقة المعدة، وقريب من
462

المالكية الأخيرة تنظيرا وتشبيها، فإذا هو مالك حقيقة يوم الدين نفسه، لا
الأمر الآخر الذي توهم أنه المملوك ويوم الدين ظرفه، بل يوم الدين
ليس مثل اليوم المعهود في أفق الزمان وعمود الوقت اعتباريا وتخيليا،
فإنه مرتبة من الوجود وعالم كلي خارجي، ولأجل ضيق المجال وقصور
اللغات عن إفادة المطلوب والمقصود العقلاني، يعبر عنه بيوم الدين، وإلا
فلكل موجود يوم الدين، وذلك الموجود نفسه الآخرة ويوم الدين، لا أن
اليوم الكذائي كيومنا هذا يعتبر من الحركة أو هو نفسها، بل اليوم في
عالم الآخرة ولدى المجردات، لا مبدأ اعتباري له، فلا معنى لاعتبار
الوقت هناك، كما لا يخفى على أهله، وجاهله معذور.
وقريب منه: أنه تعالى مالك كل شئ، ولا يخرج عن تحت ظل
مالكيته شئ، إلا أن لتلك المالكية ظهورا وبطونا، فبطونه في هذه
النشآت لظهور مالكية غيره فيها، ولخفاء أن هذه المالكية ظل
مالكيته تعالى على طائفة الملاحدة، فيتخيلون أن السلاطين ملوك، وأن
الناس ملاك، وأن الأنبياء والأولياء أرباب السيطرة والقدرة، وأن سليمان
- على نبينا وآله وعليه السلام - صاحب السلطنة والعزة والمكنة.
وأما ظهور تلك المالكية فهو في * (يوم الدين) *، لأنه يوم الآخرة
وغاية الغايات، وفيه يصل كل ذي غاية ونهاية إلى الغاية والنهاية،
وإلى كماله المرغوب له والمنتظر فيه، وهو آخر حقيقته المتدرجة
ونهاية حركته الذاتية، وقد تقرر في الكتب العقلية: أن حقيقة كل شئ
463

فصله الأخير (1)، وهو باضمحلال جميع الاستعدادات والإمكانات الاستعدادية
والقوى، وصيرورتها فعلية محضة ونورا صرفا.
فلأجل ذلك أضيفت مالكيته تعالى إلى * (يوم الدين) * والحساب،
ضرورة أن في ذلك اليوم يتوجه كل محاسب إلى حسابه، ويدرك كل راجع
ما حوسب وهيئ له. والله من ورائهم محيط.
فبالجملة: الإنسان ما بقي في عالم الطبع والبشرية لم يظهر له
مالكيته تعالى، وإذا ارتقى إلى أول عالم الجزاء - وهو عالم المثال - ظهر
له أنه تعالى مالك للأشياء كمالكيته للصور العلمية وقواه النفسية،
وإذا ارتقى إلى العالم الآخر - وهي القيامة العظمى والرجعة الكبرى -
يتوجه إلى خطائه في السابقات، ويظهر له أن الأمر ليس مثل ذاك،
ويشهد أن مالكية كل شئ هي مالكيته، وحينئذ يدرك التوحيد الأفعالي
بعد الفناء الذاتي * (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك
اليوم حديد) * (2).
وعلى مسلك أهل الظاهر والتفسير
أنه تعالى * (مالك يوم الدين) *، أي سيملك يوم الدين، أي ما في يوم
الدين، وحيث كان اليوم المزبور محقق الوقوع في المستقبل، صح أن
يقال: هو * (مالك يوم الدين) *، وحيث إن يوم الدين ليس قابلا لأن يملك،

1 - راجع الأسفار 2: 32 - 37، وشرح المنظومة (قسم الفلسفة): 101.
2 - ق (50): 22.
464

يكون قرينة على أن الله مالك الأشياء في يوم الدين.
والمراد من * (الدين) *: هو الحساب، أو الجزاء والعقوبة، أو الآخرة
والقيامة التي هي معدومة بالفعل، وسيوجد - إن شاء تعالى - ولذلك قيل:
إن الأنسب أن يقرأ بالتنوين مع نصب اليوم، أي مالك يوم الدين، فإن بين
قولنا: " زيد قاتل عمرو " وبين قولنا: " زيد قاتل عمرا " فرقا واضحا، فإن الأول
إقرار بالقتل، ويستحق القصاص، دون الثاني، فليتأمل جيدا.
وأما فائدة تخصيص هذه الإضافة - وإن كان الله تعالى مالك
للأزمنة كلها والأمكنة - فالتنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور
العظام والأهوال الجسام، من قيامهم فيه لله تعالى والاستشفاع لتعجيل
الحساب والفصل بين المحسن والمسئ وغير ذلك.
وعلى مشرب أهل الحكمة ومسلك أصحاب الفلسفة
أنه تعالى * (مالك يوم الدين) * بالفعل وفي الحال، لأجل أن الدين
والجزاء والحساب بالفعل وفي الحال، ضرورة أن جميع الأفعال والأقوال
السيئة ذوات الآثار والتبعات البرزخية والصور المؤذية، وهكذا
الحسنات منها، وتلك التبعات تحصل في النفس بمجرد اتصافها بها، وتكون
باقية، وعليه يكون الآن مالك يوم الدين، لأن كل وقت وآن يوم الدين، إلا
أن ظهور ذلك في الوقت المعلوم، كما مضى سبيله وتحقيقه، ولذلك ذكرنا:
أن الآية تشهد على تجسم الأعمال والأفعال، ويأتي إن شاء الله تعالى * (يوم
465

تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) * (1)، * (إقرأ كتابك
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * (2)، ولا شبهة في أن محاسبة النفس ليست
مبتدئة من زمن مفارقة البدن، بل النفس تحاسب من الأول والابتداء، وإليه
يشير قوله (عليه السلام): " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا " (3)
وربما يكون الحديثان يشيران إلى أن لكل إنسان أن يفرغ من حسابه وزن
عمله في دار الدنيا، بحيث لا يحتاج إليهما في دار الآخرة، وهو على ما قيل
كذلك عند اولي الألباب. والله العالم بحقائق الأمور والآيات.
وعلى بعض المسالك الاخر
أنه تعالى هو * (مالك يوم الدين) * والجزاء في جميع النشآت،
وأنه لا يضيع أجر المحسنين في جميع العوالم، فقال في سورة يوسف:
* (قالوا أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من
يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * (4)، فيعلم منها أن الجزاء لا
يختص بالقيامة والآخرة.

1 - آل عمران (3): 30.
2 - الإسراء (17): 14.
3 - نهج البلاغة، صبحي الصالح: 147، الخطبة 90 " عباد الله زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا
وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا "، وراجع وسائل الشيعة 11: 377 - 381، كتاب الجهاد،
أبواب جهاد النفس، الباب 96، الحديث 2 و 7 و 9.
4 - يوسف (12): 90.
466