الكتاب: رفع المنارة
المؤلف: محمود سعيد ممدوح
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٦ - ١٩٩٥ م
المطبعة:
الناشر: دار الإمام النووي - عمان - الأردن
ردمك:
ملاحظات:

رفع المنارة
1

بسم الله الرحمن الرحيم
2

رفع المنارة
لتخريج
أحاديث التوسل والزيارة
بقلم
محمود سعيد ممدوح
عفا الله تعالى عنه
دار الإمام النووي
3

جميع حقوق الطبع محفوظة
لدار الإمام النووي
الطبعة الأولى
1416 ه‍ - 1995 م
دار الإمام النووي
الأردن / عمان ص. ب (925393).
هاتف (672011) فاكس (891584)
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، منزل الكتاب، واهب العطاء، اختص
من شاء بما شاء، فهو السميع العليم الحكيم الكريم المبدئ المعيد
الوهاب.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بالكمالات،
السراج المنير والبشير النذير، الفارق بين الحق والباطل والهدى
والضلال والرشاد والغي، من تبعه نجا ومن خالفه هلك، والإيمان به
وسيلة كل مسلم، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وابتغوا إليه الوسيلة) صلى الله وسلم وبارك عليه وزاده فضلا وشرفا
لديه، وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار ومن تبعه بإحسان.
وبعد..
فإن مسألتي التوسل والزيارة من المسائل التي شغلت الناس كثيرا،
وصنفت فيهما - خاصة مسألة التوسل - مصنفات متعددة وحصل
أخذ ورد وجدل، وتزيد وتاجر بهما سماسرة الاختلاف بين المسلمين
ومما زاد الطين بله أن سبكهما المتشددون في مسائل الاعتقاد..!!
وقد حصل بسببهما الخوض في أعراض كثير من أئمة الدين، وتطاول
في أعراض جماهير المسلمين.
ومن أحاط علما بما ذكرت علم كم صحب ذلك من النهي الشديد
والتخويف والتهديد، وقد تلاحقت أقلام في ذلك كان من آخرها
5

رسالة باسم (الأخطاء الأساسية في توحيد الألوهية الواقعة في
فتح الباري).
شنع فيها صاحبها على الحافظ ابن حجر لتجويزه التوسل وقوله
باستحباب الزيارة، وهذا غاية في الغلو والتعصب والجهل.
فيا للعار والشنار قاضي قضاة المسلمين وشيخ المحدثين وإمامهم
ومفخرة المسلمين أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله تصنف - بدون
حياء - رسالة تحوي هذا المعنى الذي لا يدل إلا على مبلغ انحراف
مصنفها المشكين ومن ذله عليها على جماعة المسلمين.
وهي لا تدل إلا على مبلغ انحراف هذا المتشدد وأمثاله حيث وقعوا
في الأكابر وبالغوا وشنعوا، ولكن أهل الفضل لا يكترثون بمصنف
تالف فغايته أنه صرير باب أو طنين ذباب، ولا يضر البحر العظيم
أمثاله
ما يضر البحر أمسى زاخرا * أن رمى فيه غلام بحجر
ولو كتبت مثل هذه الرسالة في عصر انتشار العلم والعناية بأهله
لكان للقضاء وللعلماء موقف آخر من هذا المتطاول وأمثاله.
وأهل الحق يعلمون فساد مقالات المتشددين، وأن الحق لم
يحالفهم - في المسألتين - مرة. وأن هذا الاختلاف من إدبار الدين
وليس من إقباله.
فيا قومنا الله الله في إسلامكم لا تفسدوه لهوى شيطان مريد أو
جاهل مغرض مسكين.
* * *
6

وقد استعنت بالله تعالى على تحقيق الحق في الأحاديث الواردة في
التوسل والزيارة، وأردت أن أسلك فيه سبيل الإنصاف، وبعدت فيه
عن المحاباة والتعصب والاعتساف وتقيدت بقواعد الحديث الشريف.
والغرض من هذا المصنف بعد بيان الحق في الأحاديث، هو أن
الخلاف في مسألة التوسل هو خلاف في الفروع ومثله لا يصح أن
يشنع أخ به على أخيه أو يعيبه به، وأن من قال به - وهو التوسل
بالأنبياء والأولياء - متمسك بأدلة ثابتة ثبوت الجبال الرواسي وردها لا
يجئ إلا من متعنت أو مكابر، فإن لم تقنع فاسكت وسلم ولا
تشنع فالخلاف في الفروع لا يحتمل هذا الافراط، سلك الله بنا سواء
السبيل.
وأما المقصود في مسألة الزيارة فهو إثبات إطباق فقهاء الأمة على
استحباب أو وجوب زيارة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بشد
رحل أو بدونه، وأن من قال بتحريم الزيارة المستوجبة لشد الرحل قد
ابتدع وخالف النصوص الصريحة وإطباق فقهاء مذهبه فضلا عن
المذاهب الأخرى.
فأولى بأولي النهى ترك الشاذ من القول والتسليم بالمعروف المشهور
الذي أطبقت الأمة على العمل به والله المستعان.
أما من تعود أن يقول: عنزة ولو طارت، أو يا داخل مصر مثلك
كثير، فهو مكابر أو متعنت فلا كلام لنا معه، فقد خالف صريح
الدليل وخالف أعيان الأئمة وسرج الأمة.
وقد سميت هذا المصنف (رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل
والزيارة).
7

أسأل الله تعالى أن يتقبله بقبول حسن ويجعله في صحيفة حسناتي.
وقد عقدت مقدمتين لهذا المصنف الأولى في الكلام على التوسل
والثانية في الكلام على الزيارة، ومهدت لهما بكلمة عن الصارم المنكى
وشفاء السقام.
* * *
شاع بين كثير من الناس أن أحاديث الزيارة كلها ضعيفة بل
موضوعة وهو خطأ بلا ريب، ومصادمة لقواعد الحديث بلا مين
ويكفي اللبيب قول الذهبي الحافظ الناقد عن أحاديث الزيارة: طرقه
كلها لينة لكن يتقوى بعضها ببعض لأن ما في روايتها متهم بالكذب،
نقله عنه السخاوي، وأقره في المقاصد الحسنة (ص 412).
ومنشأ هذا الخطأ هو الاعتماد على كتاب (الصارم المنكى في الرد
على السبكي) للحافظ أبي عبيد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي
رحمه الله تعالى.
وكنت أرى الإحالة على هذا الكتاب من كثير من الكتاب سواء
من المشتغلين بالحديث أو غيرهم فاكتفي بالسكوت رغبة في اغتنام
فرصة لتحقيق صحة هذه المقولة.
وبعد النظر في (الصارم المنكى) وتحقيق أحاديث الزيارة، رأيت
الهول في هذا الكتاب، فتراه يتعنت أشد التعنت في رد الأحاديث
عند كلامه على الرجال، ويطول الكلام جدا على الرجال ناقلا ما
يراه يؤيد رأيه وهو الجرح، ولا يذكر من التعديل إلا ما يوافقه كما
فعل مع عبد الله بن عمر العمري وتطويله للكلام يخرجه عن
8

المقصود إلى اللغو والحشو مع التكرار الممل (أنظر مثلا ص 226،
454، 256، 257، 315، 290، 130، 154، 168،
132، 31... إلخ) (1).
وهو يذكر أبحاثا خارجة عن المقصود كالبحث المتعلق بالمرسل
وطرق الحديث الذي فيه حفص بن سليمان القاري.
ويطيل الكتاب جدا بذكر فتوى في الزيارة لابن تيمية عقب كل
حديث في الزيارة، ولو اختصر الكتاب بحذف كل خارج عن
المقصود لجاء في جزء صغير.
أما تهجمه على التقي السبكي فحدث ولا حرج وخذ مثلا (ص
20، 62، 95)، وعند المحاققة تجد الحق مع السبكي ففي (ص
20) اختلف في نقل عن أبي محمد الجويني، والصواب فيه مع
السبكي كما يعلم من شفاء السقام (ص 122 - 123) ونصرة
الإمام السبكي للسمنودي (ص 4).
وأحيانا يأتي بتعليلات للأحاديث خارجة على قواعد الحديث،
كقوله عند محاولة تضعيف بعض الأحاديث: لم يخرجه أحد من
أصحاب الكتب الستة ولا رواه الإمام أحمد في مسنده.. الخ، وغير
خفي أن هذا التعليل فيه نظر فالعبرة بالإسناد ولو كان الحديث في جزء
غير مشهور وانظر ص 225 وما بعدها في هذا الكتاب.
وقد أكثر في كتابه من الدعاوى على السبكي من غير برهان.
بيد أن الخطأ في الفروع له وزنه عند أهل العلم، أما الخطأ في
الأصول فمما لا يجترئ عليه إلا من بعد عن الحق، فمن شقاشق

(1) والإحالة على طبعة الرياض التي حققها الشيخ إسماعيل الأنصاري.
9

ابن عبد الهادي قوله: (وقد اختلف المثبتون للنزول هل يلزم منه
خلو العرش منه أم لا؟) (ص 304).
وهذا الباطل لا تجده في نصوص الكتاب والسنة وما فاه به أحد من
أئمة السلف ولا يبحثه إلا من لا يفرق بين الخالق والمخلوق، تعالى
الله عما يأفكون ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.
ومن الآفات المردية انتصار الإنسان لشيخه ولو في خطأ بين في
الأصول. ولشيخنا المحدث السيد عبد العزيز الغماري حفظه الله
تعالى كلمة جامعة في بيان حال الصارم المنكى ذكرها في كتابه
(التهاني في التعقيب على موضوعات الصغاني) فقال:
(وابن عبد الهادي، سلك في ذلك الكتاب مسلك الافراط الخارج
عن قواعد أهل الحديث، فيجب الحذر منه زيادة على سوء الأدب في
التعبير مع التقي السبكي الحافظ الفاقه وإتيانه في حقه بما لا يليق بأهل
العلم سلوكه، يضاف إلى ذلك ما أتى به من القول الفاسد والرأي
الباطل والخروج عن سبيل السلف في ذلك، وإن زعم أنه ينصر
عقيدتهم ويكفيك من ذلك أنه ذكر الخلاف في مسألة النزول هل يخلو
العرش من الرحمن عند نزوله في ثلث الليل أو لا؟ وهذا مما لا ينبغي
أن يذكره في كتاب إلا مشبه بليد لا يفقه ولا يدري ما يخرجه من
رأسه، وأين وجد عن السلف هذا التشبيه حتى يبني عليه الخلاف في
خلو العرش أو عدم خلوه) ا ه‍ (ص 49).
ومع ذلك فلا نبخس ابن عبد الهادي، والحق أقول ففي الكتاب
فوائد ونكات وقواعد هامة دلت على موهبة وتمكن في الفن ولكنها
ضاعت في أثناء جداله العنيف وانتصاره لشيخه في مقولة خاسرة،
بعكس كتابه المفيد (التنقيح) فإنه مشى فيه على طريق المحدثين بدون
10

مواربة أو هوى، ولذلك تجده يخالف بعض ما يكتبه في صارمه كما
تجد ذلك عند الكلام على عبد الله بن عمر العمري الذي استدل به
في التنقيح (1 / 122)، بينما أقام الدنيا ولم يقعدها على العمري المذكور في
الصارم غفر الله لنا وله، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وإذا كان هذا حال الصارم المنكى، فإن كتاب (شفاء السقام في
زيارة خير الأنام) الذي دبجته يراعة الإمام التقي علي بن عبد الكافي
السبكي الشافعي المتوفى سنة 756 رحمه الله تعالى الذي قال فيه الحافظ
الذهبي:
ليهن المنبر الأموي لما * علاه الحاكم البحر التقي
شيوخ العصر أحفظهم جميعا * وأخطبهم وأقضاهم علي
أنفس كتاب صنف في هذا الباب جمع فيه مؤلفه بين النقل والعقل
وزاد أبواب في غاية الأهمية كالتوسل وحياة الأنبياء والشفاعة وغير
ذلك، وعظم الجناب النبوي الشريف صلى الله وسلم وبارك عليه،
وكان عف اللسان قوي الحجة ناصع البرهان، وإذا كان قد أورد ما
ليس بصحيح من أحاديث الزيارة فيغتفر في بحر حسناته، وقد
أوردها في مقام الاستشهاد، وقد حقق الأقوال في مسألة الزيارة
وغيرها من مباحث الكتاب تحقيقا ما عليه مزيد، يجزم الواقف
عليه بأن ابن عبد الهادي قد ظلمه في صارمه، أسأل الله لي ولهما
الرحمة فيعفو عمن أساء ويقبل ممن أحسن فلكل محمل حسن
وتحسين الظن بعلماء المسلمين واجب، وصلى الله وسلم على سيدنا
محمد وعلى آله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين.
محمود سعيد ممدوح
غفر الله تعالى له
11

المقدمة الأولى
في الكلام على التوسل
* التوسل في اللغة:
قال الجوهري في الصحاح مادة (وسل) (5 / 1841):
(الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع: الوسيلة والوسائل،
والتوسيل والتوسل واحد يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة وتوسل
إليه بوسيلة أي تقرب إليه بعمل) 1 ه‍. وقال الإمام القرطبي في
تفسيره (ص 2156، طبعة الشعب):
(قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة).
الوسيلة: هي القربة عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء
والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير وهي فعيلة من توسلت إليه أي
تقربت. قال عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة * أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
والجمع الوسائل قال:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل
ويقال: منه سلت أسأل، أي طلبت، وهما يتساولان، أي
يطلب كل واحد من صاحبه، فالأصل الطلب، والوسيلة القربة
التي ينبغي أن يطلب بها.) ا ه‍.
وكون الوسيلة هي القربة لا خلاف بين المفسرين في ذلك كما
13

صرح به ابن كثير في تفسيره (3 / 97) وقال: (الوسيلة هي ما
يتوصل بها إلى تحصيل المطلوب). 1 ه‍.
فقول بعضهم: إن التوسل هو اتخاذ واسطة بين العبد وربه،
خطأ محض فالتوسل ليس من هذا الباب قطعا، فالمتوسل لم يدع
إلا الله وحده فالله وحده هو المعطي والمانع والنافع والضار ولكنه
اتخذ قربة رجاء قبول دعاءه، والقربة في الدعاء مشروعة بالاتفاق.
وترد الوسيلة بمعنى المنزلة كما في الحديث الصحيح المشهور:
(سلوا الله لي الوسيلة...) الحديث، والبحث هنا يدور مع
المعنى الأول فقط، وهي كونها (القربة).
والتوسل على نوعين: أحدهما ما اتفق عليه وترك الخوض فيه
صواب لأنه تكرار وتحصيل حاصل.
ثانيهما: ما اختلف فيه وهو السؤال بالنبي أو بالولي أو بالحق أو
بالجاه أو بالحرمة أو بالذات وما في معنى ذلك.
وهذا النوع لم يرى المتبصر في أقوال السلف من قال بحرمته أو أنه
بدعة ضلالة أو شدد فيه وجعله من موضوعات العقائد كما نرى الآن.
لم يقع هذا إلا في القرن السابع وما بعده، وقد نقل عن السلف
توسل من هذا القبيل.
قال ابن تيمية في (التوسل والوسيلة) (ص 98):
هذا الدعاء (أي الذي فيه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلام)، ونحوه قد روى أنه
دعا به السلف ونقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل
بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء. ا ه‍، ونحوه في (ص 155) من الكتاب المذكور.
14

وقال في (ص 65): (والسؤال به (أي بالمخلوق) فهذا يجوزه
طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف وهو موجود
في دعاء كثير من الناس.) ا ه‍
وذكر أثرا فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لفظه:
(اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلى الله عليه
وسلم تسليما يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بي).
قال ابن تيمية: فهذا الدعاء ونحوه روى أنه دعا به السلف، ونقل
عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء. ا ه‍.
وهذا هو نص عبارة أحمد بن حنبل فقال في منسك المروزي بعد
كلام ما نصه: وسل الله حاجتك متوسلا إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم تقض من الله
عز وجل. ا ه‍ هكذا ذكره ابن تيمية في الرد على الأخنائي ص 168
والتوسل به صلى الله عليه وسلم معتمد في المذاهب ومرغب فيه
نص على ذلك الأئمة الأعلام، وكتب التفسير والحديث والخصائص
ودلائل النبوة والفقه طافحة بأدلة ذلك بدون تحريم وهي بكثرة.
* * *
وقد أكثر ابن تيمية من بحث النوع الثاني من التوسل في مصنفاته
قائلا بمنعه وقلده وردد صدى كلامه آخرون.
ويحسن ذكر كلام ابن تيمية مع بيان ما فيه، واقتصاري على كلامه
فقط هو الأولى، لأن من تشبث بكلامه لا يزيد عن كونه متشبعا من
موائده دائرا في فلكه والله المستعان.
* * *
15

كان ابن تيمية يرى منع التوسل بالأنبياء والملائكة والصالحين،
وقال: التوسل حقيقته هو التوسل بالدعاء - دعاء الحي فقط - وذكر
ذلك في مواضع من كتابه (التوسل والوسيلة) (ص 169).
وقال ابن تيمية (ص 65) وهو الاعتراض الأول:
(السؤال به (أي بالمخلوق) فهذا يجوزه طائفة من الناس، لكن
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وليس عنه
حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى لا حجة
لهم فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو
طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي أن يقول: (اللهم
شفعة في)، ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان
ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ولو توسل غيره من العميان الذين
لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله). ا ه‍
قلت: قوله: (كله ضعيف بل موضوع وليس عنه حديث ثابت
قد يظن أن لهم فيه حجة إلا...)، سيأتي إن شاء الله تعالى الرد
على هذا الكلام في تخريج الأحاديث، ففيها الصحيح والحسن
والضعيف عند أئمة هذا الشأن ووفق قواعد الفن.
أما قوله: (إلا حديث الأعمى لا حجة لهم فيه) فإنه صريح في
أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته وهو طلب عن النبي صلى الله عليه وسلم
الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم شفعه في)، ولهذا
رد الله عليه بصره لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك مما يعد من آيات النبي
صلى الله عليه وسلم. ا ه‍.
16

قلت: فنظر ابن تيمية إلى أن التوسل من الأعمى كان بدعاء النبي
صلى الله عليه وسلم.
وكلامه فيه نظر ظاهر، لأن الناظر في حديث توسل الأعمى يجد
فيه الآتي:
1 - جاء الأعمى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ادع الله أن يعافيني،
فالأعمى طلب الدعاء.
2 - فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: (إن شئت أخرت ذلك وهو خير،
وإن شئت دعوت). فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين له أن الصبر
أفضل.
3 - ولكن لشدة حاجة الأعمى التمس الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم.
4 - عند ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي
ركعتين.
5 - وزاد على ذلك هذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه
إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في
حاجتي فتقضى لي).
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء كما طلب الأعمى في أول الحديث،
ودعا الأعمى بهذا الدعاء كما علمه النبي صلى الله عليه وسلم.
6 - فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء هو توسل به صلى الله عليه وسلم، وهو
نص في التوسل به صلى الله عليه وسلم لا يحتمل أي تأويل، وكيف
يحتمل غير التوسل به صلى الله عليه وسلم وفيه (أتوجه إليك
بنبيك)، (إني توجهت بك).
17

ومن رأى غير ذلك فقد استعجم عليه الحديث.
وابتهج الألباني في توسله بكلام ابن تيمية فردده قائلا (ص 72):
وعلى هذا فالحادثة كلها تدور حول الدعاء - كما هو ظاهر -
وليس فيها ذكر شئ مما يزعمون. ا ه‍.
قلت: هذه مصادرة للنص وتعمية على القارئ كيف لا يكون
كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم علم الرجل دعاء فيه السؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم.
نعم.. الحادثة تدور حول الدعاء، ولكن السؤال هنا ما هو
الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم؟، وما هو الدعاء الذي علمه للرجل
الأعمى؟
لا يستطيع أي منصف إلا الإجابة بأن هذا الدعاء هو الذي فيه نص
بالتوسل به صلى الله عليه وسلم. فالأعمى جاء يطلب مطلق الدعاء
برد بصره. وعلمه صلى الله عليه وسلم وأمره بالتوسل به ليتحقق
المطلوب.
7 - ثم قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم شفعه في وشفعني في
نفسي)، أي تقبل شفاعته أي دعاءه في وتقبل دعائي في نفسي.
وهنا سؤال: أي دعاء هنا الذي يطلب قبوله؟
لا شك أن الإجابة عليه ترد بداهة في ذهن أي شخص إنه الدعاء
المذكور فيه التوسل به صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يحتاج لإعمال
فكر أو إطالة نظر وتأمل وهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.
ويمكن أن يقال: إن سؤال قبول الشفاعة هو توسل بدعائه صلى الله
عليه وسلم مع التوسل بذاته، وهذا منتهى ما يفهم من النص والله
أعلم.
18

8 - فسبب رد بصر الأعمى هو توسله بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا ما فهمه
الأئمة الحفاظ الذين أخرجوا الحديث في مصنفاتهم فذكروا الحديث
على أنه من الأدعية التي تقال عند الحاجات. فقال البيهقي في (دلائل
النبوة) (6 / 166) باب: ما جاء في تعليمه الضرير ما كان فيه
شفاؤه حين لم يصبر وما ظهر في ذلك من آثار النبوة. ا ه‍.
ولا يخفى أن تعليمه للضرير هو الدعاء الذي فيه التوسل بالذوات
وعبارة البيهقي واضحة جدا. والبيهقي حافظ فقيه.
وهكذا ذكره النسائي، وابن السني في عمل اليوم والليلة،
والترمذي في الدعوات، والطبراني في الدعاء، والحاكم في
المستدرك، والمنذري في الترغيب والترهيب، والهيثمي في مجمع
الزوائد في صلاة الحاجة ودعائها، والنووي في الأذكار على أنه من
الأذكار التي تقال عند عروض الحاجات، وابن الجزري في العدة في
باب صلاة الضر والحاجة (ص 161).
وقال القاضي الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص 162): وفي
هذا الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل مع
اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى وأنه المعطي المانع ما شاء الله
كان وما لم يشأ لم يكن. ا ه‍.
واستقصاء الحفاظ الذين فهموا أن الحديث على عمومه واستعمال
الدعاء الوارد فيه الذي فيه التوسل به صلى الله عليه وسلم يطول.
9 - إن عثمان بن حنيف رضي الله عنه وهو راوي الحديث فهم
من الحديث العموم، فقد وجه رجلا يريد أن يدخل على عثمان بن
19

عفان رضي الله عنه إلى التوجه بالدعاء المذكور في الحديث الذي فيه
التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إسناده صحيح سيأتي إن شاء الله تعالى. وفهم
الصحابي الجليل عثمان بن حنيف رضي الله عنه هو ما لا يستقيم فهم
الحديث إلا به.
10 - إن رواية ابن أبي خيثمة للحديث من طريق حماد بن سلمة
الحافظ الثقة فيها (فإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك)، وهي زيادة
ثقة حافظ، فهي صحيحة مقبولة كما هو معلوم ومقرر في علوم
الحديث. وهذه الرواية تدل على العموم وطلب العمل بالحديث في
الحياة وبعد الممات إلى قيام الساعة. ثم قال ابن تيمية رحمه الله
تعالى:
ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي قي س ز بالسؤال
به لم تكن حالهم كحاله. ا ه‍.
وقال ابن تيمية في موضع آخر: وكذلك لو كان أعمى توسل به
صلى الله عليه وسلم ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة ذلك الأعمى
لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى،
فعدولهم عن هذا إلى هذا دليل على أن المشروع ما سألوه دون ما
تركوه. ا ه‍.
قلت: الجواب عليه سهل ميسور، وكنت أود ألا أورد هذا
الايراد، لكنني رأيت جماعة أخذوا هذا الايراد ونسبوه لأنفسهم وكان
الصواب ألا يذكر لفساده أو يذكر مع نسبته لقائله، ومن الذين نسبوه
لأنفسهم الألباني فإنه قال في توسله (ص 76):
20

لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وقدره
وحقه كما يفهم عامة المتأخرين لكان المفروض أن يحصل هذا الشفاء
لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم بل
ويضمون إليه أحيانا جاه جميع الأنبياء المرسلين وكل الأولياء والشهداء
والصالحين وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة والإنس والجن
أجمعين، ولم نعلم ولا نظن أحدا قد علم حصول مثل هذا
خلال هذه القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى
اليوم. ا ه‍.
وذكر نحو هذا الايراد صاحب (التوصل إلى حقيقة التوسل)
(ص 243)، وكذا المتعالم صاحب (هذه مفاهيمنا) (ص 37).
والجواب على هذا الايراد بالآتي:
1 - إجابة الدعاء ليست من شروط صحة الدعاء، وقد قال الله
تعالى: (ادعوني أستجب لكم)، ونحن نرى بعض المسلمين
يدعون فلا يستجاب لهم، وهذا الايراد يأتي على الدعاء كله،
فانظر إلى هذا الايراد أين ذهب بصاحبه؟
2 - هذا الايراد يرد عليه احتمال أقوى منه وحاصله أن عدم توسل
عميان الصحابة وغيرهم احتمال فقط لا يؤيده دليل، وهم إما
توسلوا فاستجيب لهم، أو - تركوا رغبة في الأجر، أو توسلوا
وادخر ذلك أجرا لهم، أو تعجلوا فما أستجيب لهم.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم
يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي). رواه البخاري
ومسلم وغيرهما.
21

وكم من داع متوسلا لله بأسمائه وصفاته ولم يستجب له ويلزم
هؤلاء إشكال وهو أننا نرى من يدعو ويتوسل بأسماء الله وصفاته أو
بعمله الصالح أو بدعاء رجل صالح ولم نر إجابة الدعاء. هذا من
تمام الحجة عليهم ونقض إيرادهم فلا تلازم بين الدعاء والإجابة، فلا
تلازم بين الدعاء والإجابة والله أعلم بالصواب. على أن قول الألباني
: لا نعلم ولا نظن أحدا.. إلخ. تهافت وشهادة على نفي لا ينخدع
بها إلا مسلوب العقل.
* * *
تذنيب مفيد لكل لبيب
بعد أن تبين لك دلالة الحديث الواضحة على التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
وأن المخالف متسنم بيتا من بيوت العنكبوت تجد أن من هؤلاء
المخالفين من لم يستطع تحت قوة الدليل إلا الاعتراف بجواز هذا
التوسل وأنه لا غبار عليه فشكك في شبهاته وأسقط كلامه إنه الألباني
الذي قال في توسله (ص 77):
(على أنني أقول: لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته صلى الله
عليه وسلم فيكون حكما خاصا به صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه
غيره من الأنبياء والصالحين، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح،
لأنه صلى الله عليه وسلم سيدهم وأفضلهم جميعا، فيمكن أن يكون
هذا مما خصه الله به عليهم ككثير مما يصح به الخبر، وباب
الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات، فمن رأى أن توسل الأعمى
كان بذاته صلى الله عليه وسلم فعليه أن يقف عنده ولا يزيد عليه كما
نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى،
22

هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف والله الموفق
للصواب). ا ه‍
فقل لي بربك لماذا كان كل هذا المراء من أساسه وترك الدليل إلى التقليد؟ بيد
أن عبارته فيها هنات لا تخفى فقصره بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فقط لا
دليل عليه، وهو تخصيص بدون مخصص فالخصوصية لا تثبت إلا
بدليل، وإذا كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم
ينقل عنه المنع من التوسل بغيره ومن نقل عنه ذلك يكون قد إفتأت عليه
والحنابلة وهم أعرف بإمامهم لم يذهبوا إلى القصر الذي ادعاه
الألباني فيقول ابن مفلح الحنبلي في الفروع (1 / 595): (ويجوز التوسل
بصالح وقيل يستحب قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي إنه
يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسله في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره). ا ه‍
* الاعتراض الثاني:
ثم قال ابن تيمية: ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في
الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله: (اللهم إنا كنا إذا
أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) يدل
على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا
السؤال بذاته، إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر والمهاجرون
والأنصار عن السؤال بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السؤال بالعباس. 1 ه‍
(ص 66)، وقال في موضع آخر:
وكذلك ثبت في الصحيح عن ابن عمر وأنس وغيرهما أنهم كانوا
إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستسقائه، لم ينقل عن
أحد منهم أنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى
23

بمخلوق، لا به ولا بغيره، لا في الاستسقاء ولا غيره، وحديث الأعمى
سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى، فلو كان السؤال به معروفا عند الصحابة
لقالوا لعمر: إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس، فلم
نعدل عن الأمر المشروع الذي كنا نفعله في حياته وهو التوسل بأفضل
الخلق إلى أن نتوسل ببعض أقاربه، وفي ذلك ترك السنة المشروعة
وعدول عن الأفضل وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة
على أعلاهما، ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي
يضرب به المثل في الجدب، والذي فعله عمر فعل مثله معاوية
بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بيزيد بن الأسود
الجرشى كما توسل عمر بالعباس. ا ه‍ (ص 67).
قلت وبالله التوفيق:
الناظر في كلام ابن تيمية يجده ينفي التوسل بالذوات مطلقا لأن
الصحابة رضي الله عنهم تركوا التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد
وفاته لأنه مقصور على الدعاء فقط، ودعاؤه بعد انتقاله غير ممكن،
ولو كان توسلهم بذاته ممكنا لما تركوه مع قيام المقتضى.
والجواب على هذا الايراد يظهر في النقاط التالية:
1 - إن غايته ترك للتوسل به صلى الله عليه وسلم مع قيام
المقتضي وهو شدة الحاجة، والترك بمفرده لا يدل على التحريم أو
الكراهية، وإنما يفيد الترك أن المتروك جائز تركه فقط أما التحريم أو
الكراهية، فهذا يحتاج لدليل آخر يفيد الحظر وينبغي ألا ينسب لساكت
قول، فتدبر. وقد حرر مسألة الترك تحريرا ما عليه مزيد شيخنا العلامة
المحقق سيدي عبد الله بن الصديق رحمه الله تعالى ونور مرقده في
24

رسالته المطبوعة باسم (حسن التفهم والدرك لمسألة الترك).
2 - لو كان الترك يدل على التحريم فإن الصحابة قد تركوا
التوسل المتفق على جلالته وفضله وهو التوسل بأسماء الله وصفاته
وهم مضطرون غاية الاضطرار لحال الشدة والقحط. كما يعلم من
استسقاء عمر رضي الله عنه.
3 - إن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإنا نتوسل إليك بعم
نبينا لا يخرج عن كونه توسلا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال العباس في دعائه:
(وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك)، ولذلك قال عمر بن
الخطاب (بعم نبيك)، ولم يقل بالعباس، وكان الأحرى بعمر في
شدة الضيق أن يتوسل بمن هو أفضل من العباس من الصحابة وهم
متوافرون ولكن عمر رضي الله عنه قال: (واتخذوه وسيلة إلى
الله)، فلم يعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتوسل عمر بالعباس
رضي الله عنهما فيه إرضاء للنبي صلى الله عليه وسلم في لحين والاقتداء به في إكرام عمه
واتخاذه وسيلة لقربه ثم مع هذا رجاء دعائه لصلاحه.
قال الحافظ في الفتح (2 / 47): ويستفاد من قصة العباس
استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه
فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه. 1 ه‍.
أما قول الألباني في توسله (ص 68):
لو صحت هذه الرواية، فهي إنما تدل على السبب الذي من أجله
توسل عمر بالعباس دون غيره من الصحابة الحاضرين حينذاك، وأما
أن تدل على جواز الرغبة عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم
- لو كان جائزا عندهم - إلى التوسل بالعباس أي بذاته فكلا، ثم
25

كلا، لأننا نعلم بالبداهة والضرورة - كما قال بعضهم - أنه لو
أصاب جماعة من الناس قحط شديد، وأرادوا أن يتوسلوا بأحدهم
لما أمكن أن يعدلوا عمن دعاؤه أقرب إلى الإجابة وإلى رحمة الله
سبحانه وتعالى، ولو أن إنسانا أصيب بمكروه فادح وكان أمامه نبي
وآخر غير نبي وأراد أن يطلب الدعاء من أحدهما لما طلبه إلا من
النبي ولو طلبه من غير النبي وترك النبي لعد من الآثمين الجاهلين،
فكيف يظن بعمر ومن معه من الصحابة أن يعدلوا عن التوسل به
صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره؟. ا ه‍.
قلت: هذه الرواية - واتخذوه وسيلة إلى الله - مقبولة الإسناد،
وتفصيل الكلام عليها سيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: فهي إنما تدل على السبب الذي من أجله توسل بالعباس
دون غيره من الصحابة. ا ه‍
قلت: هذا تسليم منه بالمطلوب، فكان يكفيه الوقوف عند ذلك
ولكن... أما التوسل بالأدنى مع وجود الأعلى، والفاضل مع
وجود المفضول فله نظائر كثيرة بين الصحابة معلومة في أماكنها.
قوله: ولو طلبه من غير النبي صلى الله عليه وسلم وترك النبي لعد من الآثمين
الجاهلين. قلت: هذا تهويل وتشويش وإيهام باطل ولم يقل أحد
بمقولته هذه التي لا دليل عليها وغاية الأمر أنه ترك، والترك يدل على
جوازه فقط وتركهم (إن سلم ذلك) له احتمالات كثيرة، ولا ينبغي
أن ينسب لساكت قول، والبناء على المجهول أفول.
4 - قول ابن تيمية: وقوله: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل
26

إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) يدل على أن التوسل
المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته. ا ه‍
قلت: قوله هذا يخالف فهم الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعرف
وأفهم من غيرهم، كيف لا وهم قد حضروا التوسل بالعباس وهم
عرب لم تدخلهم عجمة، فالفرق بين فهمهم وفهم مخالفهم كالفرق
بين الأبيض والأسود، فالقول قولهم والصواب حليفهم ولا يرضى
العاقل بغير فهمهم لو أراد الإنصاف. وممن فهم أن التوسل بالعباس
هو توسل به لا بدعائه حسان بن ثابت حيث قال:
سأل الأنام وقد تتابع جدبنا * فسقى الغمام بغرة العباس
عم النبي وصنو والده الذي * ورث النبي بذاك دون الناس
أحيى الإله به البلاد فأصبحت * مخضرة الأجناب بعد الياس
وصحابي آخر هو عباس بن عتبة بن أبي لهب فقال:
بعمي سقى الله الحجاز وأهله * عشية يستسقى بشيبته عمر
توجه بالعباس في الجدب راغبا * إليه فما رام حتى أتى المطر
ومنا رسول الله فينا تراثه * فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر
فالأبيات السابقة تصرح بأن التوسل كان بالعباس، ومن يحاول أن
يصرف اللفظ هنا عن ظاهره يكون قد كذب على صاحبي الأبيات
رضي الله عنهما واتبع هواه.
5 - وعليه فإن قول بعضهم: إن الكلام ليس على ظاهره ولا بد
27

من تقدير مضاف محذوف في قول عمر (وإنا نتوسل إليك بعم
نبينا)، أي بدعاء عم نبينا، قولهم هذا فيه صرف للنص عن ظاهره
ولا دليل معهم إلا شبه متخيلة، فالواجب والحالة هذه إبقاء النص
على ظاهره ذلك أن الحذف يكون على خلاف الأصل والواجب
العمل بالأصل وتجد المخالف يقول: أراد عمر بدعاء عم نبيك وهذا
خطأ لأن الإرادة محلها القلب فتعيين الإرادة على خلاف الظاهر
باطل، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أجل من أن يلبس
على الناس دينهم فيكون ظاهر كلامه مخالفا لما يريده.
6 - بقي بيان أن الاسترسال السابق هو في دفع شبه فقط وإلا
فالصحابة رضي الله عنهم توسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت ذلك عن ابن عمر
وبلال بن الحارث المزني (1) وعائشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى،
وتقدمت الأبيات المصرحة بالتوسل بالعباس رضي الله عنه.
ثم لا يخفى على اللبيب أن المتوسل لم يطلب من الميت أو الحي
شيئا، وإنما طلب من الله عز وجل فقط متوسلا أي متقربا إلى الله
تعالى بكرامة هذا الميت أو الحي أو عمله الصالح أو نحو ذلك، فهل
في هذا ونحوه عبادة للميت أو تأليه له، نعوذ بالله من المجازفة
والهجوم على أعراض المسلمين.

(1) وركب المعلق على فتح الباري الصعب فقال تعليقا على أثر بلال بن
الحارث المزني (2 / 495): هذا الأثر - على فرض صحته كما قال الشارح
- ليس بحجة على جواز الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لأن السائل مجهول،
ولأن عمل الصحابة رضي الله عنهم على خلافه، وهم أعلم الناس بالشرع،
ولم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا ولا غيرها، بل عدل عمر عنه لما وقع
الجدب إلى الاستسقاء بالعباس، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، فعلم أن
ذلك هو الحق، وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل قد
جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك، وأما تسمية السائل في رواية سيف
المذكورة (بلال بن الحارث) ففي صحة ذلك نظر، ولم يذكر الشارح سند
سيف في ذلك، وعلى تقدير صحته عنه لا حجة فيه، لأن عمل كبار
الصحابة يخالفه، وهم أعلم بالرسول صلى الله عليه وسلم وشريعته من غيرهم، والله أعلم
. ا ه‍.
قلت: قوله (لأن السائل مجهول) هو معنى كلام الألباني في توسله
(ص 122) حيث قال: هب أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها لأن مدارها
على رجل لم يسم، وتسميته بلالا في رواية سيف لا يساوي شيئا لأن سيفا
متفق على ضعفه. ا ه‍.
وقد أجبت بتوفيق الله تعالى عن هذا فقلت: الجاني إلى القبر الشريف
سواء كان صحابيا أو تابعيا فالحجة في إقرار عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه في عمله، حيث لم ينهه عما فعل، بل بكى عمر وقال: يا رب ما آلو
إلا ما عجزت عنه. والله أعلم.
قوله: (ولأن عمل الصحابة رضي الله عنهم على خلافه). قلت: قد
تقدم أن حكمه حكم الترك، وإقرار عمر لهذا الجائي فيه لفت نظر للقارئ
الكريم إلى أن فعل الصحابة ليس على خلافه ومثله أثر عائشة رضي الله عنها
في فتح الكوى وهما نص في الباب.
قوله: (ولأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل جعله
بعض أهل العلم من أنواع الشرك). قلت: أخطأت وما أصبت فبعد
تسليمك بصحة الأثر أترى أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يقر الرجل
على الشرك - في رأيك - حاشاه من هذا؟
ثم للناظر أن يتعجب ويسأل: هل نتعلم من الصحابة رضوان الله عليهم
ديننا؟ أم ننظر في أعمالهم ونحكم عليها وفق ما نراه من قواعد غير مسلمة؟
وهكذا تكون الفوضى في التعليقات.
وسبيل أهل العلم هجر ما يخالف الآثار الصحيحة وعمل الصحابة رضي الله
عنهم. والمجئ إلى القبر الشريف ومخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس، بشرك
واعتراف ابن تيمية بهذه الواقعة وغيرها انظره في اقتضاء الصراط المستقيم
(ص 373) ولا بد.
فهل ابن تيمية يقر الشرك أم أن المعلق لم يعط البحث حقه أم ماذا؟ نعوذ
بالله من التخبط والتناقض ومرض البدعة والشرك.
قوله: وعلى تقدير صحته عنه لا حجة فيه، لأن عمل كبار الصحابة
يخالفه وهم أعلم بشريعته صلى الله عليه وسلم من غيرهم).
الحجة في قول عمر وإقراره رضي الله عنه، ثم إن عمل كبار الصحابة ليس
بحجة مع مخالفة صغارهم لهم كما هو مقرر في علم الأصول. والكلام هنا
يحتمل أكثر من ذلك ولولا خشية الإطالة لوفيت الكيل صاعا بصاع والله
المستعان.
28

* الاعتراض الثالث:
قال البخاري في صحيحه (الفتح 2 / 494):
حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا أبو قتيبة قال: حدثنا عبد
الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه، قال: سمعت ابن عمر
يتمثل بشعر أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
30

وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم عن أبيه (ربما ذكرت قول
الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش
كل ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب. والشاهد فيه قوله: (يستسقى الغمام
بوجهه).
فتمثل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بقول أبي طالب وتذكره
له مع النظر للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على توسله بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء،
وهو نص لا يحتمل غيره.
وقد أجاب الشيخ بشير السهسواني على هذا النص الصريح إجابة
مندفعة فقال (ص 373):
فإن قلت: لفظ (يستسقى الغمام بوجهه) يدل على أن التوسل
بالذوات الفاضلة جائز قلت: المكروه من التوسل هو أن يقال أسألك
بحق فلان أو بحرمة فلان، وأما إحضار الصالحين في مقام الاستسقاء
أو طلب الدعاء منهم فهو ليس من المكروه في شئ بل هو ثابت
بالسنة الصحيحة. ا ه‍.
وقال في موضع آخر (ص 274): وإذا كان حضور الصحابة
والتابعين وتابعي التابعين والضعفاء سببا للنصر والفتح فما ظنك
بحضور سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. ا ه‍
ثم قال في (ص 275): فالمراد بوجهه في قول أبي طالب:
(يستسقى بوجهه) ببركة حضور ذاته أو بدعائه. ا ه‍
31

قلت وبالله التوفيق: صرف السهسواني هذا التوسل إلى التبرك
بالذات أو الدعاء فيه نظر، أما الدعاء فظاهر أو كون المراد بيستسقى
بوجهه ببركة حضوره فيمكن أن يكون كذلك إن كان التبرك والتوسل
عنده مترادفان وهو الصواب.
وهو ما صرح به البدر العيني فقال في عمدة القاري (7 / 30):
معنى قول أبي طالب هذا في الحقيقة توسل إلى الله عز وجل بنبيه
لأنه حضر استسقاء عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم معه، فيكون استسقاء
الناس الغمام في ذلك الوقت ببركة وجهه الكريم. ا ه‍. وإن لم
يكن فلفظة (يستسقى الغمام بوجهه) هو عين التوسل، ولا بد من
حمل النص على ظاهره ولا يصرف إلا بدليل ولا صارف هنا. والله
أعلم.
وللعلامة محمد بن علي الشوكاني كلمة في جواز التوسل بالأنبياء
وغيرهم من الصالحين رد فيها على من منعه وفند لي إيراداته، فقال رحمه
الله تعالى في كتابه (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) ما نصه:
أما التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأحد من خلقه في مطلب
يطلبه العبد من ربه، فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام:
إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث
فيه. ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه
والترمذي وصححه وابن ماجة وغيرهم أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر
الحديث، قال وللناس في معنى هذا قولان: أحدهما أن التوسل هو
الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك
32

فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا هو في صحيح البخاري وغيره،
فقد ذكر عمر رضي الله عنه إنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته
في الاستسقاء ثم توسل بعمه العباس بعد موته وتوسلهم هو
استسقائهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى الله
تعالى، والنبي صليب الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا وداعيا لهم.
والقول الثاني: إن التوسل به صلى الله عليه وسلم يكون في
حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه، ولا يخفاك أنه قد ثبت
التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته وثبت التوسل بغيره بعد
موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على
عمر رضي الله عنه في توسله بالعباس رضي الله عنه.
وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه
الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين:
الأول: ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم،
والثاني: إن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل
بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة إذ لا يكون فاضلا إلا بأعماله (1)،
فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو باعتبار
ما قام به من العلم.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الثلاثة
الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله
بأعظم عمل عمله، فارتفعت الصخرة.

(1) فرجع الأمر إلى تصويب القول بالتوسل وأن المانع يمنع أمرا لا وجود له
في الحقيقة.
33

فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا كما
زعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام (1)، ومن قال
بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة لهم ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن
إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون
من التوسل بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: (ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله زلفى)، ونحو قوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله
أحدا)، ونحو قوله تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من
دونه لا يستجيبون لهم بشئ) ليس بوارد بل هو من الاستدلال على
محل النزاع بما هو أجنبي عنه، فإن قولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى

(1) العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى لم يتشدد البتة ولكن عذر الشوكاني أنه نقل
كلام العز بن عبد السلام بواسطة، كما وضحه شيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن
الصديق الغماري رحمه الله تعالى. ونور مرقده في الرد المحكم المتين (ص 55)
فإنه قال: هذا غلط في النقل عن ابن عبد السلام لأن فتواه في الإقسام على الله بخلقه
لا في سؤاله بجاه فلان، ونحن ننقل كلامه في ذلك ليتضح المراد فقد جاء في الفتاوى
الموصلية ما نصه:
أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
علم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: (قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد نبي
الرحمة) وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لأنه سيد ولد آدم وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء
لأنهم ليسوا في درجته وأن يكون هذا مما خص به نبينا على علو درجته ومرتبته. ا ه‍
ثم قال السيد عبد الله بن الصديق رحمه تعالى ونور ضريحه: هذا كلام عز الدين
بحروفه نقلناه من الفتاوى الموصلية وهكذا نقله أصحاب الخصائص كالحافظ السيوطي
والقسطلاني وغيرهما مستدلين به على أن الإقسام على الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم من
خصوصياته وهذا غير ما نحن فيه، وهو سؤال الله بجاه فلان من غير إقسام عليه، وبين
المسألتين بون كبير كما لا يخفى، فاشتبه الحال على ابن تيمية ودخلت عليه مسألة في
أخرى والكمال لله تعالى. انتهى كلام شيخنا رحمه الله تعالى ونور قبره.
وانظر الرد المحكم المتين (ص 54، 55)، وحاشية (ص 222) منه.
34

الله زلفى مصرح بأنهم عبدوهم لذلك والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده
بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك
قوله: (ولا تدع مع الله أحدا) فإنه نهي عن أن يدعو مع الله غيره
كان يقول بالله وبفلان، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله فإنما
وقع منه التوسل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توسل
الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله:
(والذين يدعون من دونه) الآية. فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب
لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم.
والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا
غيره معه.
فإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من
الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ما ذكرناه
كاستدلالهم بقوله تعالى: (ومما أدراك مما يوم الدين، ثم مما أدراك ما
يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله)، فإن هذه
الآية الشريفة ليست فيها دلالة إلا أنه تعالى هو المنفرد بالأمر في يوم
الدين وأنه ليس لغيره من الأمر شئ، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو
عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله
في أمر يوم الدين.
ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبيا أو غير نبي فهو في
ضلال مبين، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: (ليس
35

لك من الأمر شئ) (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا)، فإن
هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الله شئ،
وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك لغيره، وليس فيهما منع
التوسل به أو بغيره من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء وقد جعل الله
لرسول الله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى وأرشد الخلق
إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه، وقال له: سل تعط واشفع تشفع،
وقيد ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه ولا تكون إلا
لمن ارتض، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله
عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) يا فلان
ابن فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك
من الله شيئا، فإن هذا ليس فيها إلا التصريح بأنه صلى الله عليه
وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره ولا ضر من أراد الله تعالى
نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله،
وهذا معلوم لكل مسلم وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله، فإن ذلك
هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين
يدي طلبه ما يكون سببا للإجابة ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع وهو
مالك يوم الدين. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.
وقال الآلوسي:
أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله
تعالى حيا وميتا، ويراد بالجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى
36

مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته فيكون
معنى قول القائل:
إلهي أتوسل إليك بجاه نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم أن تقضي
لي حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا
فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل إليك برحمتك أن تفعل كذا، إذ
معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا. انتهى من جلاء
العينين (ص 572).
* * *
التوسل ليس من مباحث الاعتقاد
التوسل من موضوعات الفروع، لأن حقيقته اتخاذ وسيلة، أي
قربة إلى الله تعالى.
قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه
الوسيلة).
والتوسل على أنواع وأمره يدور بين الجواز والندب والحرمة، وما
كان أمره كذلك فهو من الأحكام الشرعية التي موضوعها علم الفقه،
وإقحام موضوعات الفقه في التوحيد والعقائد خطأ يجب مجانبته
حتى ينزل كل بحث منزلته.
وهذا الإمام أبو حنيفة يقول: ويكره أن يقول الرجل في دعائه:
أسألك بمعقد العز من عرشك. 1 ه‍ (الجامع الصغير للإمام محمد
37

ص 395 مع النافع الكبير).
فعبر الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بقوله: (يكره)، فدار الأمر
بين الكراهة التنزيهية أو التحريمية، كما قرره أصحابه في
كتاب (الكراهية) أو الحظر والإباحة من مصنفاتهم الفقهية.
والسادة الفقهاء يذكرون التوسل في باب الاستسقاء، وعند زيارة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
أما سلك بحث التوسل في العقائد وجعله وسيلة من وسائل
الشرك فبدعة قد حلت بالمسلمين ومسلكا قد زرع العداوة بينهم ونفخ
في بوق الخلاف بين الأخ وأخيه والأب وابنه.
ومن قلب النظر في عشرات الكتب والرسائل التي يصنفها بعض
المعاصرين التي تتحدث عن (منهج أهل السنة والجماعة)، و (وأصول
أهل السنة)، و (عقيدة الفرقة الناجية أ، و (العقيدة الصحيحة)،
و (مجمل أصول أهل السنة والجماعة). وخصائص....،
ومميزات.....، لرأى الهول والجهل معا ووقف على أنواع من
التشدد كادت أن تأتي على الأخضر واليابس.
وينبغي على العقلاء كشف أوضار وأخطار هؤلاء الجهلة ومن على
شاكلتهم من المتاجرين بالخلاف بين المسلمين.
وإن المرء لا يعجب ممن يأخذ بأحد الرأيين، ولكنه لا ينقضي
عجبه ممن يتبع أحد هذين الرأيين، ثم يجعل ما اتبعه هو الحق الذي
يجب المصير إليه ويجعل من اختيار الآخرين للرأي الآخر برهان
38

كونهم مبتدعة يجب مفارقتهم ويجب... ويجب...، فقل لي
بربك أي عالم من علماء الأمة يقر هذا المسلك المتخلف العجيب،
ولطالما اتهم كثير من عباد الله الصالحين بالابتداع وغيره، وعند
المحقاقة تجد الحق معهم والجهل مع غيرهم، فإلى الله المشتكى مما آل
إليه أمر المسلمين.
والنصيحة لإخواني المتشددين في هذا الباب توجب علي أن أذكر
بعض النصوص التي تؤيد الحق الذي ذكرته وعنيت بأن تكون
للمانعين من التوسل:
1 - قال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي (1) في (روضة الأفكار
والإفهام لمرتاد حال الإمام): (العاشرة) قولهم في الاستسقاء: لا
بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع
قولهم أنه لا يستغاث بمخلوق، فالفرق ظاهر جدا وليس الكلام مما
نحن فيه، فكون بعضهم يرخص بالتوسل بالصالحين وبعضهم يخصه
بالنبي صلى الله عليه وسلم، و (وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه لما (2)، هذه

(1) من أصحاب محمد بن عبد الوهاب، وكتابه المذكور مطبوع. أنظر:
روضة الناظرين: 1 / 78
(2) قوله: (وكثر العلماء) ربما يعني الشيخ (علماء مخصوصين عنده)،
والصواب أن جماهير علماء الأمة على جوازه، والشيخ مالكي وأهل مذهبه
متفقون على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يحفظ عن أحد من المالكية قول بكراهية
التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما حققه شيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق
الغماري قدس الله سره في الرد المحكم المتين (ص 89 - 91)
39

المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور أنه
مكروه فلا ننكر على من فعله ولا إنكار في مسائل الاجتهاد. ا ه‍.
انتهى من كتاب (السهسواني) (ص 183).
2 - قال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق النجدي:
مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل
إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فهي مسألة مشهورة والكلام فيها معروف عند
أهل العلم، فطائفة من العلماء منعوا من ذلك سواء توسل بالنبي
صلى الله عليه وسلم أو بغيره، وطائفة جوزوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم لا بغيره (1)، واستدل
هؤلاء بما روى الترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بعض أصحابه أن
يدعو فيقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا
رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في)،
فاستدلوا بهذا الحديث على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم في
حياته وبعد مماته، وقالوا: ليس في التوسل به صلى الله عليه وسلم
دعاء للمخلوق والاستغاثة به، وإنما هو دعاء ولكن فيه بجاهه صلى الله
عليه وسلم، قالوا: وهذه مثل قوله فيما رواه ابن ماجة في دعاء الخارج
إلى الصلاة: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني
لم أخرج أشرا ولا بطرا خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك
أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
هذا حاصل ما استدل به المجوزون للتوسل به صلى الله عليه وسلم.
وأما المانعون من ذلك فيقولون: إن صح الحديث فليس فيه دليل

(1) لم يذكر الشيخ من جوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء.
فتدبر.
40

على جواز التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد مماته، وإنما فيه جواز ذلك
في حياته بحضوره، قالوا: والدليل على صحة ما قلناه أن عمر بن
الخطاب استسقى بالعباس رضي الله عنهما، فقال: التهم إنا كنا إذا أجدبنا
نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل بعم نبيك فاسقنا فيسقون.
ولو كان التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد مماته مشروعة لما عدل عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس، هذا ما ذكره العلماء في هذه المسألة (1).
ونحن وإن قلنا بالمنع من التوسل به صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ أو نحوه لما
نعتقده من أصحية المنع، فنحن مع ذلك لا نشدد في ذلك على من
فعله مستدلا بالحديث فضلا عن أن نكفره. ا ه‍ (ص 33 - 34).
3 - وسئل محمد بن عبد الوهاب عن قولهم في الاستسقاء
(لا بأس بالتوسل بالصالحين) وقول أحمد: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
خاصة مع قولهم: (إنه لا يستغاث بمخلوق) فأجاب بكلام منه
قوله: فهذه المسألة من مسائل الفقه وإن كان الصواب عندنا قول
الجمهور (2): إنه مكروه، فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في
مسائل الاجتهاد.. الخ انظر فتاوى ابن عبد الوهاب (3 / 68).
4 - وقال القنوجي في باب آداب الدعاء من كتاب (نزل الأبرار)
(ص 37) ما نصه:

(1) قد تقدم أن غاية استدلاله هو استدلال بالترك، وأجيب بأن الترك يدل
على جواز ترك المتروك فقط، على أن الصحابة توسلوا بالنبي صلى الله عليه
وآله وسلم بعد انتقاله كما في آثار عن بلال بن الحارث وابن عمر وعائشة
والتوسل بالعباس توسل بذاته وبدعائه كما تقدم.
(2) بل العكس هو الصحيح فالجمهور على الجواز أو الندب وفي الفروع
لابن مفلح الحنبلي (1 / 595) ما نصه: (ويجوز التوسل بصالح وقيل
يستحب، قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي: (إنه يتوسل بالنبي
صلى الله عليه وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره). ا ه‍
41

ومنها التوسل إلى الله سبحانه بالأنبياء، ويدل عليه ما أخرجه
الترمذي من حديث عثمان بن حنيف - وذكر حديث توسل الضرير
- ثم قال: ومنها التوسل بالصالحين ويدل له ما ثبت في الصحيح
أن الصحابة استسقوا بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ومسألة
التوسل بالأنبياء والصالحين مما اختلف فيه أهل العلم اختلافا شديدا
بلغت النوبة إلى أن كفر بعضهم بعضا أو بدع وضلل. والأمر أيسر
من ذلك وأهون مما هنا لك، وقد قضى الوطر منها صاحب كتاب
(الدين الخالص)، والعلامة الشوكاني في (الدر النضيد في
إخلاص كلمة التوحيد)، وحاصلها: جواز التوسل بهم على ما
ورد من الهيئات وعلى القصر على ما في الروايات، ولا يقاس عليه
ولا يزاد عليه شئ، ولا نشك أن من لا يرى التوسل إخلاصا لله
ليس عليه إثم ولا وزر، ومن توسل فما أساء، بل جاء بما هو جائز
في الجملة، وكذلك ثبت التوسل بالأعمال الصالحة كما سبقت
الإشارة إليه فيما تقدم، وبالجملة ليست المسألة مستحقة لمثل تلك
الزلازل والقلاقل، ولكن مفاسد الجهل والتعصب ومساوئ التقليد
والتعسف لا تحصى. ا ه‍.
ولا بأس أن ألفت نظر القارئ الكريم لنوع من رسائل التهويل
والتضليل والتعدي على المسلمين - وما أكثرها - من هذه الرسائل
رسالة باسم (وقفات مع كتاب للدعاة فقط) يعيب المؤلف فيها على
صاحب كتاب (للدعاة فقط) مسائل منها قول الإمام حسن البنا
رحمه الله تعالى: (والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله تعالى بأحد
من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة).
ا ه‍ (ص 25).
42

وهذا حق لا مرية فيه، ومنكره منكر للمحسوس ومكابر في
الضروريات، ولأن صاحب الرسالة المذكورة وقف على بعض
الرسائل التي ترشح بالتهويل والتضليل وتعميق الخلاف بين المسلمين
جرى المسكين في فلك هذه الرسائل فأبرق لمن يفتيه وفق مراده،
فأفاده بعضهم (1) بقوله المضحك المبكي:
التوسل في الدعاء بذوات الصالحين أو حقهم أو جاههم يعتبر أمرا
مبتدعا ووسيلة من وسائل الشرك والخلاف فيه يعتبر خلافا في مسائل
العقيدة لا في مسائل الفروع، لأن الدعاء فيه أعظم أنواع العبادة ولا
يجوز فيه إلا ما ورد في الكتاب والسنة.... إلخ (ص 31 - 32).
قلت: لا يخفى أن الأحاديث والآثار الصحيحة والحسنة ترد قوله،
ولو استحضر هذا المجيب حديثا واحدا منها، وليكن حديث توسل
الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم واستعمال عثمان بن حنيف له وزيادة حماد بن
سلمة الصحيحة وكان مع استحضاره منصفا وترك تقليد غيره لأعرض
عما تفوه به، فإن أبى ترك التقليد فأولى به تقليد إمامه في توسله
بالنبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من السلف كما نقله ابن تيمية في التوسل
والوسيلة ص 65، 98 فإذا كان أحمد وجماعة من السلف لا يعرفون
الشرك ووسائله وعرفه هذا المستدرك عليهم فليكن ما عرفه هو سب
السلف وأئمة الدين ورميهم بالعظائم لا غير.
نعم الدعاء من أعظم أنواع العبادة، كلمة حق أريد بها باطل،
لكن المتوسل لا يدعو إلا الله جل وعز، ولكنه اتباعا لقول بقول الله

(1) هو صالح الفوزان.
43

تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) توسل في دعائه. وهذه الوسيلة مختلف
في بعض أنواعها منها ما يجوز، ومنها ما لا يجوز فالأمر فيه خلاف
وهو ضعيف، ومحل هذا الخلاف موضوع علم الفقه، أما علم
العقيدة أو التوحيد فيتكلم في الإلهيات والنبويات والسمعيات، فلا
معنى لإدخال بحث التوسل في العقيدة وبون كبير بين العلمين.
ومن جملة ما استدل به في جوابه قول الله تعالى: (وقال ربكم
ادعوني أستجب لكم)، (فادعوا الله مخلصين له الدين).
وهذا استدلال عجيب لأنه استدل بخارج عن النزاع أجنبي عنه
وتقدم جواب مسكت لأمثال هؤلاء عن العلامة الشوكاني، والآية
الأولى فيها طلب دعاء الله تعالى، والثانية فيها حث على الدعاء مع
الاخلاص، أما التوسل فهو اتخاذ قربة لله رغبة في إجابة الدعاء،
وهذه القربة على أنواع كما هو معلوم فلا تنافي بأي وجه مع الآيتين،
بل التوسل يوافقهما من حيث أنه يدعو الله تعالى ولا يدعو غيره.
ثم رأيت المجيب يقول في رسالة له مطبوعة باسم (تعقيبات على
كتاب السلفية ليست مذهبا) عن التوسل: إنها لمسألة خطيرة تمس
العقيدة وتجر إلى الشرك، فكيف تكون هينة. ا ه‍.
قلت: هون على نفسك يا شيخ، فإذا كان التوسل يجر إلى
الشرك فقل لي بربك هؤلاء الأئمة الذين توسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أحمد
وغيره من السلف ومن بعدهم هل علمت أنهم انجروا إلى الشرك
حاشاهم من ذلك وهم أئمة الدين.
وكلامك يعني أن التوسل يستلزم بالضرورة الانجرار للشرك وهو
44

لازم باطل لا ينكره إلا مكابر. وهذا الرجل (1) الذي يتشدد هنا

(1) هو صالح الفوزان، ودعوى البدعة والشرك عنده سهلة جدا، حتى
أنني رأيت منسكا له عد فيه الدعاء عند القبر الشريف من الأخطاء العظيمة لأنه
(وإن كان الداعي لا يدعو إلا الله) بدعة ووسيلة إلى الشرك. كذا في منسكه
(ص 52) وغير خفي أن الدعاء عند القبر الشريف تضافرت النقول عليه عن
السلف والخلف وابن تيمية ذكر ذلك عن جماعات في رده على الأخنائي (ص
37 - 38) فانظره.
ثم رأيت أن أتحف القارئ الكريم بهذه الفائدة من معجم الشيوخ للحافظ
الذهبي الذي قال في (1 / 73 - 74) ما نصه:
(عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: (أنه كان يكره مر قبر النبي صلى الله عليه وسلم
قلت: كره ذلك لأنه رآه إساءة أدب.
وقد سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله فلم ير بذلك إساءة
أدب. وقد سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله فلم ير بذلك
بأسا، رواه عنه ولده عبد الله بن أحمد. فإن قيل: فهلا فعل ذلك الصحابة
قيل: لأنهم عاينوه حيا وتملوا به وقبلوا يده وكادوا يقتتلون على وضوئه
واقتسموا شعره المطهر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخم لا تكاد نخامته تقع إلا
في يد رجل فيدلك بها وجهه.
ونحن فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام
والتبجيل والاستلام والتقبيل.
ألا ترى كيف فعل ثابت البناني، كان يقبل يد أنس بن مالك ويضعها على
وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأمور لا يحركها من المسلم إلا فرط حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو مأمور بأن
يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه وولده والناس أجمعين، ومن أمواله
ومن الجنة وحورها، بل خلق من المؤمنين يحبون أبا بكر وعمر أكثر من حب
أنفسهم.
حكى لنا جندار أنه كان بجبل البقاع فسمع رجلا سب أبا بكر فسل سيفه
وضرب عنقه، ولو كان سمعه يسبه أو يسب أباه لما استباح دمه.
ألا ترى الصحابة في فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال:
لا، فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير لا سجود عبادة كما قد
سجد إخوة يوسف - عليه السلام - ليوسف.
وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم والتجليل
لا يكفر به أصلا بل يكون عاصيا فليعرف أن هذا منهى عنه، وكذلك الصلاة
إلى القبر). انتهى كلام الذهبي.
45

التشدد الممقوت - ويخالف مذهبه - في أمر فرعي، تجده في مكان
آخر يتساهل في. محض الاعتقاد تساهلا مذموما فتجده يقول في
رسالته المذكورة تعقيبا على من نقل الاجماع على بقاء النار فقال:
وتعقيبنا عليه من وجهين:
الوجه الأول: أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء النار وعده من
البدع كما زعم. فالمسألة خلافية، وإن كان الجمهور لا يرون الفول بذلك، لكنه
لم يتم إجماع على إنكاره، وإنما هو من المسائل الخلافية التي لا يبدع فيها.
الوجه الثاني: أن الذين قالوا بفنائها استدلوا بأدلة من القرآن
والسنة، وبقطع النظر عن صحة استدلالهم بها أو عدم صحته، فإن هذا
القول لا يعتبر من البدع ما دام أن أصحابه يستدلون له، لأن البدع ما ليس لها
دليل أصلا، وغاية ما يقال إنه قول خطأ أو رأي غير صواب ولا يقال بدعة،
وليس قصدي الدفاع عن هذا القول، ولكن قصدي بيان أنه ليس بدعة ولا ينطبق
عليه ضابط البدعة، وهو من المسائل الخلافية. ا ه‍ (ص 39 - 40).
قلت: وغير خفي على اللبيب والبليد أن كلامه نهاية في البطلان
والتعصب، وأن القول بفناء النار هو قول المبتدعة من جهمية
46

المعتزلة، وأن من يعتد به في الاجماع من الأئمة فارق هذا القول
وخالفه، وقد قال الطحاوي:
(والجنة والنار مخلوقتان أبدا لا تفنيان ولا تبيدان). ا ه‍ (ص
476 مع الشرح).
وبسط الرد على هذه البدعة في كتاب (الاعتبار ببقاء الجنة والنار)
للتقي السبكي، و (رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار)
للأمير الصنعاني وقد طبعا.
وصفوة القول: أنه تشدد فيما هو سهل، وتساهل في أمر
الاعتقاد، وما أرى ذلك إلا بسبب اتباع الهوى والانتصار للأشخاص
لا غير، وهذا هو الغلو الذي قاموا وقعدوا ولفوا وداروا حوله
ووقعوا في أئمة الدين بسببه، فلله الأمر من قبل ومن بعد نعوذ بالله
من الهوى والمناكدة، وإن كل متمسك بالحق خلا قلبه من شوائب
العصبيات والأهواء ليبرأ إلى الله تعالى من التلاعب بالدين.
* * *
وإذا كان صاحب رسالة (وقفات مع كتاب للدعاة فقط) قد
اعتمد على غيره، فإن أبا بكر الجزائري قد اعتمد على نفسه، فزاد
الطين بلة وكفر قسطا وافرا من المسلمين فقال ما نصه:
إن دعاء الصالحين والاستغاثة بهم والتوسل بجاههم لم يكن في
دين الله تعالى قربة ولا عملا صالحا فيتوسل به أبدا، وإنما كان شركا
في عبادة الله محرما يخرج فاعله من الدين ويوجب له الخلود في
جهنم. انتهى بحروفه من كتابه (عقيدة المؤمن) (ص 144).
والصحيح أن المؤمن لا يعتقد ذلك في إخوانه المؤمنين الذين
47

يعتقدون ألا مؤثر إلا الله عز وجل، وغاية عملهم أنهم علموا منزلة
النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه فتوسلوا به واتبعوا الأدلة الصحيحة، وقد تأسوا
في ذلك بالصحابة رضوان الله عليهم.
وقد أخطأ أبو بكر الجزائري فكفر عباد الله الصالحين، وهذا
التكفير الجزاف لا ارتباط له بكتاب أو سنة ولا بما عليه السواد الأعظم،
ولم يقل ذو عقل ودين بمقولته الفاسدة إلا من كان على رأي الخوارج
نسأل الله العافية. وللأسف قد طبع كتابه مرات، وليتأمل القاري المنصف
كم من المسلمين فتنوا بهذا الباطل والله المستعان. ولا بد أن يفرق
المنصف بين وقوع الفعل في حدود ما أباحه الشارع ووقوعه إذا خرج
عن المحدود وإن كان جائزا في نفسه، فلا يعني وقوع بعض الألفاظ
المتوهمة من العوام ضرورة منع الأصل الذي أباحه السرع. فتدبر.
* * *
وإذا كان أبو بكر الجزائري قد تفوه بالتكفير، فهناك آخر هو
محمد صالح العثيمين الذي أصر على اعتبار التوسل من مباحث
الاعتقاد واستدل على مقولته بما لم يصرح به مسلم فقال:
(وبالنسبة للتوسل فهو داخل في العقيدة لأن المتوسل يعتقد أن
لهذه الوسيلة تأثيرا في حصول مطلوبه ودفع مكروهه، فهو في
الحقيقة من مسائل العقيدة، لأن الإنسان لا يتوسل بشئ إلا وهو
يعتقد أن له تأثيرا فيما يريد) ا ه‍ من فتاوى ابن عثيمين (3 / 100)
كما نقله عنه جامع (فتاوى مهمة لعموم الأمة).
قلت: أثبت العرش ثم انقش، فمن الذي أطلعك على ما في
صدور المتوسلين حتى تصرح بهذه المقولة الشنيعة.
48

إن ما قاله مناف للاعتقاد تماما فكل مسلم يعتقد اعتقادا جازما أن الله
جل وعز هو النافع وهو الضار وأن المؤثر الحقيقي هو الله وأنه وحده
مسبب لأسباب فلا فاعل إلا الله ولا خالق سواه وإليه يرجع الأمر
كله.
وغاية ما في المتوسل أن يقول: اللهم إني أسألك أو أتوسل إليك
بنبيك صلى الله عليه وسلم مثلا.
فالمتوسل سأل الله تعالى ولم يسأل سواه، ولم ينسب إلى
المتوسل به تأثيرا أو فعلا أو خلقا وإنما أثبت له القربة والمنزلة عند الله
تعالى، وتلك المنزلة ثابتة له في الدنيا والآخرة وإليه نذهب يوم
القيامة طلبا للشفاعة.
ومن اعتقد أن إخوانه المسلمين يعتقدون أن المتوسل به له تأثير
فيكون قد كفرهم، ونصب نفسه مقام العارف بما في الصدور،
وهذه فتاوى يضحك بها هؤلاء على البسطاء ليوضحوا لهم أن
المتوسلين من جلدة أخرى وكلام العثيمين ينسحب إلى التوسل كله،
والحق يقال: إنه كلام لا علاقة له بالعلم، وكم من حوادث وفتن
تتبع هذه الفتاوى، وكم من جاهل كفر أبويه أو أهل خطته بسبب
اغتراره بمثل هذه الفتاوى، ولو تمهل المفتي وفكر قليلا لأدرك سخف
مقولته.
والعجب أنه أطلق وما قيد، فهل للعمل الصالح المتوسل به تأثيرا
بذاته. ومحال أن الصحابة اعتقدوا هذا الاعتقاد في النبي صلى الله عليه وسلم
والعباس ويزيد عندما توسلوا بهم، ومحال أن يعتقد السلف ومنهم
الإمام أحمد الذين توسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم (كما صرح به ابن تيمية في
49

التوسل والوسيلة ص 98) هذا الاعتقاد الفاسد.
والحنابلة يجوزون أو يستحبون التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما صرح
إمامهم ابن قدامة بذلك في المغنى، فهل يراهم يعتقدون مثل هذا
الاعتقاد؟!!
إن من الآفات المردية التسرع في رمي العباد بالعظائم، والحاصل
أن ما قاله العثيمين لا يصلح دليلا على ما ادعى بل هو مما يدوم ضرره
لأن آثاره نراها دارجة تفرق بين المسلمين نسأل الله لنا جميعا الهداية
والتوفيق، ولو حسن الشيخ الظن بإخوانه المسلمين لكان له موقف
آخر.
وليكن هذا آخر الكلام على مبحث التوسل، والحمد لله أولا
وآخرا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
* * *
50

المقدمة الثانية
في الكلام على الزيارة
كلام الأئمة الفقهاء في استحباب زيارة القبر
الشريف
قال الإمام - المجمع على علمه وفضله - أبو زكريا النووي رحمه
الله تعالى:
واعلم أن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم
القربات وأنجح المساعي، فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة
استحب لهم استحبابا متأكدا أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته صلى الله
عليه وسلم وينوي الزائر من الزيارة التقرب وشد الرحل إليه والصلاة
فيه. ا ه‍ (المجموع: 8 / 204).
وقال أيضا في الإيضاح في مناسك الحج:
إذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدينة رسول
الله صلى الله عليه وسلم لزيارة تربته صلى الله عليه وسلم فإنها من أهم القربات
وأنجح المساعي، وقد روى البزار والدارقطني بإسنادهما عن ابن عمر
رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زار قبري
وجبت له شفاعتي). ا ه‍ (ص 214).
وعلق الفقيه ابن حجر الهيتمي على الحديث، فقال في حاشية
الإيضاح:
الحديث يشمل زيارته صلى الله عليه وسلم حيا وميتا، ويشمل
51

الذكر والأنثى الآتي من قرب أو بعد، فيستدل به على فضيلة شد
الرحال لذلك وندب السفر للزيارة إذ للوسائل حكم المقاصد. ا ه‍
(ص 214 حاشية الإيضاح).
وقال الإمام المحقق الكمال ابن الهمام الحنفي في شرح فتح القدير:
المقصد الثالث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: مشايخنا رحمهم الله
تعالى من أفضل المندوبات، وفي مناسك الفارس وشرح المختار:
إنها قريبة من الوجوب لمن له سعة، ثم قال بعد كلام ما نصه:
والأولى فيما يقع عند العبد الضعيف تجريد النية لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
ثم إذا حصل له إذا قدم زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله سبحانه في
مرة أخرى ينويهما فيها، لأن في ذلك زيادة تعظيمه صلى الله عليه
وسلم لي إجلاله. ا ه‍ (3 / 179 - 180).
وعلق عليه العلامة الكشميري فقال:
وهو الحق عندي، فإن آلاف الألوف من السلف كانوا يشدون
رحالهم لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم ويزعمونها من أعظم القربات وتجريد نياتهم
إنها كانت للمسجد دون الروضة المباركة باطل بل كانوا ينوون زيارة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطعا. ا ه‍ (فيض الباري: 2 / 433).
قلت: كلامه صواب وجيد رحمه الله تعالى وكيف لا يكون كذلك
وقد تركوا ثواب مائة ألف صلاة في مكة المكرمة وبذلوا النفس
والنفيس وسافروا أترى لماذا؟
لماذا تركوا بلدا قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إنك لخير أرض الله
وأحب أرض الله إلى الله.
هل تركوا ذلك من أجل زيارة المسجد كما يقولون؟
كلا ولو استظهروا بالثقلين لخالفوهم ولقالوا: إنما شدوا الرحال
لزيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
52

وفي رد المحتار إلى الدر المختار:
(قوله مندوبة): أي بإجماع المسلمين كما في اللباب، قوله:
(بل قيل واجبة) ذكره في شرح اللباب، وقال كما بينته في (الدرة
النبوية في الزيارة المصطفوية) وذكره أيضا الخير الرملي في حاشية
المنح عن ابن حجر قال وانتصر له، نعم عبارة اللباب والفتح وشرح
المختار إنها قريبة من الوجوب لمن له سعة، وقد ذكر في الفتح ما
ورد في فضل الزيارة وذكر كيفيتها وآدابها وأطال في ذلك وكذا في
شرح المختار واللباب. ا ه‍.
قوله: (ويبدأ... إلخ). قال في شرح اللباب: وقد روى
الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا كان الحج فرضا، فالأحسن للحاج أن
يبدأ بالحج ثم يثني بالزيارة وإن بدأ بالزيارة جاز. ا ه‍ (رد المحتار
إلى الدر المختار: 2 / 257).
وقال علي القاري:
وقد فرط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم
كما أفرط غيره حيث قال: كون الزيارة قربة معلومة من الدين
بالضرورة وجاحده محكوم عليه بالكفر، ولعل الثاني أقرب الصواب
لأن تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفرا، لأنه فوق
تحريم المباح المتفق عليه في هذا الباب. ا ه‍ (2 / 514 من شرح
الشفا بهامش نسيم الرياض).
وقال القاضي عياض في الشفا (2 / 74): فصل في حكم زيارة
قبره صلى الله عليه وسلم وفضيلة من زاره وسلم عليه، وكيف يسلم
53

ويدعو وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة من سنن المسلمين مجمع
عليها وفضيلة مرغب فيها. ا ه‍.
وقال في موضع آخر (2 / 75) نقلا عن ابن عبد البر:
الزيارة مباحة جمت الناس، وواجب شد المطى إلى قبره صلى الله
عليه وسلم قال عياض: يريد بالوجوب هنا وجوب ندب وترغيب
وتأكيد لا وجوب فرض. ا ه‍
وقال العلامة الدردير في الشرح:
وندب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وهي من أعظم القربات. ا ه‍ (2 / 381).
وقال محقق مذهب الحنابلة أبو محمد بن قدامة المقدسي:
ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما
زارني في حياتي). وفي رواية: (من زار قبري وجبت له
شفاعتي). رواه باللفظ الأول سعيد ثنا حفص بن سليمان عن ليث
عن مجاهد عن ابن عمر، وقال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد
ابن قسيط عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم على
عند قبري إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام). وإذا حج
الذي لم يحج قط يعني من غير طريق الشام لا يأخذ على طريق
المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصر
الطرق ولا يتشاغل بغيره، ويروى عن العتبى قال: كنت جالسا عند
قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول سمعت الله
يقول: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر
54

لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)، وقد جئتك مستغفرا لذنبي
مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والاكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي فحملتني عيني فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في
النوم، فقال: يا عتبي ألحق الأعرابي فبشره إن الله غفر له. ا ه‍
(المغني: 3 / 588 - 589).
وقال أبو الفرج ابن قدامة الحنبلي في الشرح الكبير:
مسألة: (فإذا فرغ من الحج استحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر
صاحبيه رضي الله عنهما). تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما روى
الدارقطني بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي)،
وفي رواية: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) رواه باللفظ الأول
سعيد، وقال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم
على عند قبري إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام). ا ه‍.
ثم ذكر قصة العتبى التي تقدمت (الشرح الكبير: 3 / 494).
وقال الشيخ منصور البهوتي في كشاف القناع:
فصل: وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر
صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما لحديث الدارقطني عن
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فزار قبري بعد
55

وفاتي فكأنما زارني في حياتي). وفي رواية (من زار قبري وجبت
له شفاعتي) رواه باللفظ الأول سعيد.
تنبيه: قال ابن نصر الله: لازم استحباب زيارة قبره صلى الله عليه
وسلم استحباب شد الرحال إليها لأن زيارته للحاج بعد حجة لا
تمكن بدون شد الرحل، فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل
لزيارته صلى الله عليه وسلم (2 / 514 - 515)، وذكر قصة
العتبى التي تقدم ذكرها.
وفي متن المقنع:
إذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة قبر
صاحبيه رضي الله عنهما (2 / 258 مع المبدع).
وكذا في المبدع شرح المقنع لابن مفلح، وقرر عليه وزاد بذكر قصة
العتبى (2 / 258 - 260).
وقال أبو الحسن المرداوي في الإنصاف (4 / 53):
(قوله فإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه).
هذا المذهب وعليه الأصحاب قاطبة متقدمهم ومتأخرهم). ا ه‍
وفي زاد المستقنع مختصر المقنع:
(ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر صاحبيه رضي الله
عنهما). ا ط (الروض المربع ص 152).
هذا حاصل ما للسادة فقهاء المذاهب الأربعة في مسألة الزيارة،
وقد علمت مما سبق اتفاقهم على طلب الزيارة وجوبا وندبا،
وتسابقوا في ذكر تأكيدها وجريان عمل المسلمين على ذلك.
56

وفيما ذكر كفاية لمن كان من أهل العناية، وسلم لأولي الفقه
وعرف قدره ووقف عنده. أما من رغب في معرفة الدليل فإنهم
استدلوا على مطلوبهم بالكتاب والسنة والإجماع:
أولا - الدليل من الكتاب:
قال الله تبارك وتعالي: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك
فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما).
وهذه الآية تشمل حالتي الحياة وبعد الانتقال، ومن أراد تخصيصها
بحال الحياة، فما أصاب لأن الفعل في سياق الشرط يفيد العموم
وأعلى صيغ العموم ما وقع في سياق الشرط كما في إرشاد الفحول
(ص 122). وقال شيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق
الغماري رحمه الله تعالى: فهذه الآية عامة تشمل حالة الحياة وحالة
الوفاة وتخصيصها بأحدهما يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا، فإن
قيل من أين أتى العموم حتى يكون تخصيصها بحالة الحياة دعوى
تحتاج إلى دليل؟ قلنا من وقوع الفعل في سياق الشرط والقاعدة
المقررة في الأصول أن الفعل إذا وقع في سياق الشرط كان عاما لأن
الفعل في معنى النكرة لتضمنه مصدرا منكرا والنكرة الواقعة في سياق
النفي أو الشرط تكون للعموم وضعا. انتهى من الرد المحكم المتين
(ص 44).
فالآية الشريفة طالبة للمجئ إليه صلى الله عليه وسلم في جميع
الحالات لوقوع (جاؤوك) فيها في حيز الشرط الذي يدل على العموم.
وقد فهم المفسرون من الآية العموم، ولذلك تراهم يذكرون معها
حكاية العتبى الذي جاء للقبر الشريف، فقال ابن كثير في تفسيره
(2 / 306):
57

وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو النصر الصباغ في كتابه الشامل
الحكاية المشهورة عن العتبى قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم
فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول:
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)، وقد جئتك مستغفرا لذنبي
مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع واسم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال:
يا عتبى ألحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له (1). ا ه‍.

(1) وقد ذكر قصة العتبى الإمام المجمع على فضله وعلمه يحيى بن شرف
النووي الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه " الأذكار "، ولكن خلع " المحقق "
ربقة الأمانة فحذف قصة العتبى في الطبعة التي حققها لحساب دار الهدى
بالرياض سنة 1409.
ولم يكتف بهذا التحريف فله نظائر أخرى منها: قال الإمام النووي في
الأذكار:
" فصل " في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكارها: إعلم أنه ينبغي لكل من
حج أن يتوجه إلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن فأن.
زيارته صلى الله عليه وسلم من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات
.... إلخ. هذه عبارة الإمام النووي، ولكن المحقق حرف عبارة النووي،
وهذا نص تحريفه (ص 295): " فصل في زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اعلم أنه يستحب من أراد زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكثر من الصلاة
عليه صلى الله عليه وسلم... إلخ.
فليتق الله هؤلاء المتلاعبون وانظر إلى نصرة الباطل بالباطل، فالرجل أيد
الباطل وكذب على النووي وعلى مذهب الشافعي وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
القائل: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وقد نبه على هذه الفرية وأمثالها
أخونا العلامة السيد حسن بن علي السقاف باعلوى أيده الله تعالى في كتابه
" الإغاثة " (ص 16 - 18).
58

وهي حكاية غير صحيحة الإسناد، لكن محل ذكرها هو بيان أن
العلماء ذكروها استئناسا لبيان أن الآية تفيد العموم.
وحديث عرض الأعمال يؤيد الاستدلال بهذه الآية وهو قوله صلى
الله عليه وسلم: " حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم تحدثون
ويحدث لكم وتعرض علي أعمالكم، فما وجدت خيرا حمدت الله
وما وجدت غير ذلك استغفرت لكم ".
وهو حديث صحيح سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومع عموم الآية الذي لا يرتاب فيه مرتاب أغرب ابن عبد الهادي
فقال: ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجئ إليه في
حياته ليستغفر لهم. ا ه‍ (ص 425 من الصارم المنكى).
قلت: عجبت ولا ينقضي عجبي من ابن عبد الهادي رحمه الله
تعالى، فهو يشهد شهادة نفي على السلف والخلف، فلم يكفه
السلف بل تعدى إلى الخلف، ونظرة إلى كتب التفاسير والفقه
والمناسك التي بين أيدينا تجدهم يذكرون هذه الآية عند الكلام على
59

الزيارة، ولو استحضر ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى كتب مذهبه
واستدلال فقهاء الحنابلة بالآية لما صرح بقوله المذكور، ولكن حبك
للشئ يعمي ويصم.
وما زال الحجاج على مدى قرون عديدة يأتون للزيارة قبل أو بعد
المناسك متشرفين بالوقوف بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم
يسلمون عليه فيرد عليهم السلام ويدعون ويستغفرون، وهذا يكفي
لرد دعواه.
ثم الواجب على المسلم أن يعمل بالدليل الذي صح ولا ينظر هل
عمل به أم لا؟
وتوقفه عن العمل بسبب هذه الشائبة فيه افتئات على الشرع،
وتوقف في العمل بالدليل لعارض متوهم، وقد قال الله تعالى:
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
ولم يتقرر بعد توقف العمل بالدليل إلا بعد حصر من عمل به
ولم يعمل، لا تجد هذا إلا في مخيلة من يدفع بالصدر فقط.
والحاصل أن التخصيص لا يكون إلا بحجة، ولا حجة هنا في
عرف الشرع، وأجاد العلامة أبو بكر المراغي فقال رحمه الله تعالى
في عموم هذه الآية: وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته صلى الله
عليه وسلم قربة للأحاديث الواردة في ذلك ولقوله تعالى: (ولو
أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول
لوجدوا الله توابا رحيما).
60

لأن تعظيمه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع بموته ولا يقال: إن
استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في حال حياته، وليست الزيارة كذلك
لما أجاب به بعض العلماء المحققين أن الآية دلت على تعليق وجدان الله
توابا رحيما بثلاثة أمور: المجئ واستغفارهم واستغفار الرسول لهم.
وقد حصل استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لجميع المؤمنين لأنه صلى الله عليه
وسلم قد استغفر للجميع. قال الله تعالى: (واستغفر لذنبك
وللمؤمنين والمؤمنات) آية 19 سورة محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا وجد مجيئهم
واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته، وقد
أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور كما حكاه النووي،
وأوجبها الظاهرية، فزيارته صلى الله عليه وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص لما سبق
. ا ه‍ (ص 102 - 203). وأصل الكلام في " شفاء السقام في زيارة
خير الأنام " للتقي السبكي.
* * *
وقد اعترض محمد بن صالح العثيمين على الاستدلال بالآية
المذكورة فقال في فتاويه (1 / 89) ما نصه:
(إذ) هذه ظرف لما مضى وليست ظرفا للمستقبل لم يقل الله:
ولو أنهم إذا ظلموا بل قال: " إذ ظلموا " فالآية تتحدث عن أمر
وقع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مماته أمر
متعذر لأنه إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كا قال الرسول صلى الله عليه وسلم
صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، فلا يمكن
للإنسان بعد موته أن يستغفر لأحد بل ولا يستغفر لنفسه أيضا لأن
العمل انقطع. انتهى.
61

قلت: هذا إقدام جرئ من العثيمين نسأل الله العافية.
وإليك تفنيده بالآتي:
أما قصره (إذ) على الزمن الماضي فقط ففيه نظر لأن (إذ) كما
تستعمل في الماضي فتستعمل أيضا في المستقبل، ولها معان أخرى
ذكرها ابن هشام في مغني اللبيب (1 / 80 - 83).
وقد نص على أن (إذ) تستعمل للمستقبل: الأزهري فقال في
تهذيب اللغة (15 / 47):
العرب تضع (إذ) للمستقبل و (إذا) للماضي قال الله عز وجل
(ولو ترى (إذ) فزعوا) (سبأ آية رقم 151).
قلت: ومن استعمال إذ للمستقبل قوله تعالى: (ولو ترى إذ
وقفوا على النار) (الأنعام آية 127).
(ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) (الأنعام 130).
(ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) (الأنعام 93).
(ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم) (السجدة
12).
قوله: واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم مر متعذر لأنه إذا مات انقطع عمله
إلا من ثلاث ا ه‍.
قلت: استغفار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير متعذر لأمور:
الأول: قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأنبياء أحياء في قبورهم
يصلون " أخرجه البيهقي في حياة الأنبياء (ص 15). وأبو يعلى في
62

مسنده (6 / 147)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2 / 44) وابن عدي
في الكامل (2 / 739).
وقال الهيثمي في المجمع (8 / 211): ورجال أبي يعلى ثقات.
ا ه‍ والحديث له طرق.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مررت على موسى وهو قائم يصلي في
قبره " أخرجه مسلم (4 / 1845) وأحمد (3 / 120) والبغوي في
شرح السنة (13 / 351) وغيرهم.
وقال ابن القيم في نونيته عند الكلام على حياة الرسل بعد مماتهم
(النونية مع شرح ابن عيسى 2 / 160).
والرسل أكمل حالة منه (1) بلا * شك وهذا ظاهر التبيان
فلذاك كانوا بالحياة أحق من * شهدائنا بالعقل والبرهان
وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ * فنساؤه في عصمة وصيان
ولأجل هذا لم يحل لغيره * منهن واحدة مدى الأزمان
أفليس في - هذا دليل أنه * حي لمن كانت له أذنان
الثاني: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى إماما بالأنبياء عليهم السلام
في الإسراء وهذا متواتر، وكانوا قد ماتوا جميعا، وراجعه موسى
عليه السلام في الصلوات ورأى غيره في السماوات.
فمن كان هذا حاله فكيف يتعذر عليه الاستغفار؟
والصلاة دعاء واستغفار وتضرع.

(1) أي الشهيد.
63

الثالث: قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حياتي خير لكم تحدثون
ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من
خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت لكم.
وهو حديث صحيح وقال عنه الحافظ العراقي في طرح التثريب
(3 / 297): إسناده جيد. وقال الهيثمي (المجمع 9 / 24): رواه
البزار ورجاله رجال الصحيح وصححه السيوطي في الخصائص
(2 / 281).
وكلام العراقي والهيثمي بالنسبة لإسناد البزار فقط، وإلا فالحديث
صحيح كما قال الحافظ السيوطي وغيره وسيأتي الكلام على الحديث
بتوسع إن شاء الله تعالى.
الرابع: استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم حاصل لجميع المؤمنين سواء من
أدرك حياته أو من لم يدركها قال الله تعالى " واستغفر لذنبك
وللمؤمنين والمؤمنات " وهذه منة من الله تعالى، وخصوصية من
خصوصيات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد علم مما سبق أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية وهي:
1 - المجئ إليه صلى الله عليه وسلم.
2 - والاستغفار.
3 - واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين
هذه الثلاثة حاصلة في حياته وبعد انتقاله.
ولا يقال: إن الآية وردت في أقوام معينين لا يقال ذلك لأنه كما
هو معروف " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ".
64

ولذلك فهم المفسرون وغيرهم من الآية العموم واستحبوا لمن جاء
إلى القبر الشريف أن يقرأ هذه الآية (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم
جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)
ويستغفر الله تعالى.
وهذه التفاسير بين أيدينا والمناسك التي صنفها علماء المذاهب
كذلك وكلها تظهر صدق دعوى الاستدلال بالآية.
ولماذا نذهب بعيدا فهذا العلامة أبو محمد ابن قدامة الحنبلي
صاحب المغني، الذي يقول فيه ابن تيمية: ما دخل الشام بعد
الأوزاعي أفقه من ابن قدامة. يذكر هذه الآية في المغني (3 / 590)
في صفة زيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم قد تقدم نحو ذلك في (ص 48).
فقد قال في صفة الزيارة ما نصه: ثم تأتي القبر فتولي ظهرك
وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،
السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه... إلى أن قال بعد الثناء
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إنك قلت وقولك الحق (ولو أنهم
إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفروا لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما) وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي
فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته،
اللهم اجعله أول الشافعين، وأنجح السائلين، وأكرم الآخرين
والأولين، برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم يدعو لوالديه ولاخوانه
وللمسلمين أجمعين. انتهى باختصار.
بقي الكلام على قول العثيمين: لأنه إذا مات انقطع عمله إلا من
ثلاث. الخ
65

قلت: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم له من الكمالات والخصوصيات ما لم
يصح لأحد وهذا قرره ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول على
شاتم الرسول) وهو أحسن كتبه، وهو صلى الله عليه وسلم في ترق وارتفاع إلى
يوم الدين، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة ومقرر في كتب
الخصائص ودلائل النبوة والشفا وشروحه.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور
من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ". أخرجه مسلم وغيره.
فجميع الأعمال الصالحة التي تصدر عن الأمة المحمدية راجعة
لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فثوابها راجع إليه وهو ينتفع به قطعا من
غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
وفي هذا الصواب قال ابن تيمية في الفتاوى (1 / 191): ثبت عنه
صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل
أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ ".
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الداعي إلى ما تفعله أمته من الخيرات، فما
يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم
شئ. انتهى كلام ابن تيمية.
والحاصل أن ابن عثيمين زل فيما قال.
نعوذ بالله من الكلام في كتاب الله بغير علم والتعدي على مقام
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا - الدليل من السنة، وهو ينقسم إلى قسمين:
الأول: الأحاديث الدالة على مطلق الأمر بزيارة القبور ولها ألفاظ
66

متعددة بلغت حد التواتر كما في نظم المتناثر (ص 80 - 81)،
وإتحاف ذوي الفضائل المشتهرة (ص 97).
ومن أشهر ألفاظه قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت قد نهيتكم
عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ".
ومن ألفاظه " فمن أراد أن يزور القبور فليزر ولا تقولوا هجرا "
أخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه (4 / 73) والفعل في سياق الشرط
يفيد العموم ولا تجد مخصصا للحديث.
وقبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. سيد القبور مطلقا وأولاها بالزيارة.
* وهنا إشكال حاصله أنه قد حصل الاتفاق على جواز السفر
لطلب العلم وصلة الأرحام وزيارة الإخوة في الله والتجارة، فما
الذي خص أحاديث زيارة. القبور وجعل جوازها مقرونا بعدم السفر؟!
لا شك أن من قيد الأحاديث التي فيها مطلق زيارة القبور يكون
قد أبعد، فتدبر.
إيقاظ
لفظ " الزيارة " يلزم منه الانتقال من مكان لآخر، فالشارع يحض
على الانتقال من مكان لآخر من أجل زيارة القبور.
فإن قيل قد قال ابن تيمية في الرد على الأخنائي (ص 77). قوله
" فزوروا القبور " فالأمر بمطلق الزيارة أو استحبابها أو إباحتها
لا يستلزم السفر إلى ذلك لا استحبابه ولا إباحته ا ه‍.
قلت: الحديث عام لا يخصصه شئ، وقد تقرر: أن الأمر إذا
67

ثبت ثبتت لوازمه.
وعليه فإذا تعلقت الزيارة بانتقال سفر فلا يوجد ما يمنع من هذا
السفر.
ثم المرجع عند الاختلاف هو الشرع قال الله تعالى: (فإن
تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) (النساء 59).
وقد سمى الشارع السفر زيارة، وهو نص لا يحتمل التأويل.
فقد أخرج مسلم في صحيحه (4 / 1988) " أن رجلا زار أخا له
في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال:
أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في تلك القرية قال: هل لك عليه
من نعمة تربها؟ قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل. فقال:
إني رسول الله إليك، بأن الله أحبك كما أحببته ".
فالشارع قد سمى السفر وهو الانتقال من قرية لأخرى زيارة وعليه
فلفظ الزيارة يحتمل السفر وعدمه.
وعليه فقصر لفظ الزيارة على أحد نوعيها وهو الزيارة التي بدون
سفر تحكم في النص ومخالفة لأصول الشرع والله أعلم.
فائدة:
قال الحافظ أبو زرعة العراقي في طرح التثريب (6 / 43):
وكان والدي (أي الحافظ الكبير ولي الله العراقي) رحمه الله
تعالى يحكي أنه كان معادلا للشيخ في ين الدين عبد الرحيم بن رجب
68

الحنبلي في التوجه إلى بلد الخليل عليه السلام، فلما دنا من البلد
قال: نويت الصلاة في مسجد الخليل ليحترز عن شد الرحل لزيارته
على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية قال: فقلت: نويت زيارة قبر
الخليل عليه السلام ثم قلت له: أما أنت فقد خالفت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه
قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " وقد شددت الرحل إلى
مسجد رابع، وأما أنا فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال " زوروا القبور "
أفقال إلا قبور الأنبياء؟ قال: فبهت ا ه‍.
والعراقي الكبير كان حافظا فقيها أصوليا فرحمة الله على الجميع.
ولا شك أن من قيد الأحاديث التي فيها مطلق زيارة القبور يكون قد
أبعد. فتدبر.
الثاني: الأحاديث الدالة على زيارة قبره صلى الله عليه وسلم
بخصوصه، ومنها ما هو حسن بل صححه أو حسنه بعض الأئمة
كابن السكن والسبكي والسيوطي وإلى الحسن تكاد تصرح عبارة
الذهبي، ومن أحسنها ما روي من طريق موسى بن هلال العبدي
عن عبد الله بن عمر العمري وعبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من زار قبري وجبت له
شفاعتي ".
والصواب: إثبات رواية العبدي للحديث عن العمري المكبر
والمصغر، والمكبر وإن كان فيه كلام لكنه حسن الحديث. وقال ابن
معين في حديثه عن نافع: صالح ثقة.
ومما يجب أن نلفت نظر القارئ الكريم إليه إلى أن ابن عبد
الهادي الذي حشد نصوص الجرح في العمري المكبر قد حسن حديث
69

العمري هذا في تنقيح التحقيق (1 / 122)، والحجة في قول يحيى
ابن معين إمام الجرح والتعديل وغيره من الأئمة الذين قبلوا حديث
العمري.
وموسى بن هلال العبدي روى عنه أئمة حفاظ وهو من شيوخ
أحمد، وقد قال عنه الذهبي في الميزان (4 / 226): صالح
الحديث، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
ومن أحاديث الزيارة ما هو صالح للاحتجاج على طريقة أبي داود
السجستاني في سننه كما ستجده في مكانه إن شاء الله تعالى.
وصفوة القول إن أحاديث زيارة القبر الشريف تصلح لإقامة صلب
الدعوى ومن الجرأة الحكم عليها بالوضع كما زعم بعضهم.
ثالثا - الاجماع:
فقد نقله جماعة منهم القاضي عياض، فقال في الشفا بتعريف
حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم (2 / 74):
زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها
وفضيلة مرغب فيها. ا ه‍.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (5 / 110):
وأحتج أيضا من قال بالمشروعية بأنه لم يزل دأب المسلمين
القاصدين للحج في جميع الأزمان على تباين الديار واختلاف
المذاهب الوصول إلى المدينة المشرفة لقصد زيارته ويعدون ذلك من
أفضل الأعمال فكان إجماعا. ا ه‍.
70

وقال أبو الحسنات اللكنوي في " إبراز الغي الواقع في شفاء
العي ": وأما نفس زيارة القبر النبوي فلم يذهب أحد من الأئمة
وعلماء الملة إلى عصر ابن تيمية إلى عدم شرعيته بل اتفقوا على أنها
من أفضل العبادات وأرفع الطاعات، واختلفوا في ندبها ووجوبها،
فقال كثير منهم بأنها مندوبة، وقال بعض المالكية والظاهرية: إنها
واجبة، وقال أكثر الحنفية: إنها قريب من الواجب، وقريب
الواجب عندهم في حكم الواجب، وأول من خرق الاجماع فيه
وأتى بشئ لم يسبق إليه عالم قبله هو ابن تيمية. ا ه‍.
وقد أتى المعارض هنا بتمحلات وليس عنده ما يشفي ومن جملة
تمحلاته أنه يعترف بالإجماع المذكور ولكنه حرف الكلم عن مواضعه
وقال: مقصودهم زيارة القبر الشريف بدون شد الرحل أو زيارة
المسجد إن اقترن بشد الرحل، وهذا التمحل باطل ويبطله النصوص
المتقدمة عن السادة الفقهاء رضي الله عنهم، ثم من ذا الذي يتحمل
مشقة السفر والتعرض للمخاطر حتى يحصل أجر ألف صلاة في حين
أنه يتمكن من تحصيل أجر مائة ألف في مكة المكرمة فما هذه النفس
التي تتحمل هذه التضحية بالثواب العظيم والمشقة الجسيمة؟!
لا شك أنها ما شدت الرحل وما سمحت بهذه التفدية العظيمة إلا
لزيارة تلك البقعة المقدسة التي ثوى فيها حبيب رب العالمين إمام المرسلين
وسيد ولد آدم أجمعين صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وزاده فضلا وشرفا لديه.
ولا يظن ظان أننا ننكر فضل المسجد النبوي كلا وإنما مع وجود
فضيلة المسجد النبوي فهي تقل عن فضيلة المسجد الحرام كما جاء
النص بذلك، فلو كان شد الرحل لتحصيل الأجر فقط لكان المسجد
71

الحرام أولى وأولى، وانظر رحمني الله وإياك هل تشد الرحال لزيارة
المسجد الأقصى كما تشد للمسجد النبوي، فذلك أدل دليل وأقوى
برهان على أن الذي يحث العزائم والركائب هو زيارة سيدنا ومولانا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وليتنبه القارئ أنه لم يقل أحد من فقهاء الأمة بنية شد
الرحل لزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم فقط قبل ابن تيمية.
والحاصل أن الاجماع القولي والعملي على مشروعية شد الرحل
لزيارة القبر الشريف قد ثبت ثبوت الجبال الرواسي والحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات
وثم ألفاظ وردت عن الإمام مالك رحمه الله تعالى لا تقدح في
هذا الاجماع أجاب أصحابه عليها كما هو معلوم في محله، ومثله
ما يروى عن أبي محمد الجويني في مسألة النذر، فإنه لا تعلق له
بزيارة القبر الشريف كما حققه التقي السبكي في شفاء السقام (ص
121 - 123).
* * *
حديث (لا تشد الرحال... الحديث) لا يدل على منع الزيارة
غير خفي أن ابن تيمية انفرد في القرن السابع بمنع إنشاء السفر لزيارة
النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكثر تلميذه ابن عبد الهادي من نقل فتاوى شيخه ابن
تيمية المصرحة بتحريم شد الرحل لمجرد الزيارة، وأعقب فتيا ابن
تيمية مناظرات ومصنفات وفتن.
وأكثر العلماء (1) من رد مقالته.

(1) ومحاولة تصوير الرادين على ابن تيمية إنهم من علماء السوء تهافت
وبعد عن البحث وركوب لمقام الافساد الذي يرده الواقع، ولا بد من المبالغة
في رد أمثال هذه الوساس.
72

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح له) (5 / 66) بعد الإشارة لهذه
الفتنة:
(والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل إلى زيارة قبر
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال الحافظ: وهي من أبشع (1) المسائل
المنقولة عن ابن تيمية) ا ه‍.

(1) قال بعضهم معلقا على عبارة الحافظ المذكورة أعلاه (الفتح: 3 / 66):
وهذا اللازم لا بأس به، وقد التزمه الشيخ وليس في ذلك بشاعة بحمد الله
عند من عرف السنة مواردها ومصادرها والأحاديث المروية في فضل زيارة قبر
النبي صلى الله عليه وسلم كلها ضعيفة بل موضوعة، كما حقق ذلك أبو العباس في منسكه
وغيره، ولو صحت لم يكن فيها حجة على جواز شد الرحال إلى زيارة قبره
عليه الصلاة والسلام من دون قصد المسجد، بل تكون عامة مطلقة.
وأحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة يخصها ويقيدها. ا ه‍.
قلت: إذا كان كلام الشيخ فيه بشاعة شدد بسببها العلماء النكير عليه،
فالأبشع منه قولك، ولو صحت.. إلخ، فلازم كلامك تحريم السفر لطلب
العلم وصلة الرحم وزيارة أخ في الله وللتجارة.. إلخ، لأن الأحاديث التي
وردت في مثل هذه الأنواع عامة مطلقة وأحاديث النهي عن شد الرحال إلى
غير المساجد الثلاثة يخصها ويقيدها حسب عبارتك وهذا لم يقل به أحد من
الأمة، ولا يعقل وكان أولى بالكاتب أن يتقيد بمذهبه الحنبلي بله مذاهب
الأئمة قاطبة، ولا يخفى على القارئ اللبيب أن الحديث المذكور في شد
الرحال لا يفيد العموم ودونك فهم الصحابة له مثل عمر بن الخطاب وسعد بن
أبي وقاص وأبي هريرة وسيأتي إن شاء الله تعالى والله المستعان.
73

وقال الحافظ أبو زرعة العراقي في بعض أجوبته المسماة (الأجوبة
المرضية عن الأسئلة المكية)، وهو بصدد الكلام على المسائل التي انفرد
ابن تيمية بها:
(وما أبشع مسألتي ابن تيمية (1) في الطلاق والزيارة، وقد رد
عليه فيهما معا الشيخ تقي الدين السبكي وأفرد ذلك بالتصنيف فأجاد
وأحسن) ا ه‍.
وقال أيضا في طرح التثريب (6 / 43): وللشيخ تقي الدين بن
تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة، وأنه
ليس من القرب، بل بضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين
السبكي في شفاء السقام فشفى صدور قوم مؤمنين ا ه‍
وذكر الحافظ العلائي المسائل التي انفرد بها ابن تيمية فقال: ومنها
.. أن إنشاء السفر لزيارة نبينا صلى الله عليه وسلم معصية لا تقصر فيها الصلاة،
وبالغ في ذلك ولم يقل به أحد من المسلمين قبله ا ه‍. انظر تكملة
الرد على النونية ص 143 وبهذه المقولة فتح في الأمة باب فتنة،
وقضى الله ولا راذ لقضائه.

(1) وكأن ابن تيمية يمنع من الزيارة مطلقا كما يفهم من كلامه فقال في الرد
على الأخنائي (ص 102): والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد، وإذا سمى
هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له إنما هو إتيان إلى مسجده ا ه‍ وقلده ابن
عبد الهادي فقال: ولأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لا يتمكن منها أحد كما يتمكن من
الزيارة المعروفة عند قبر غيره. ا ه‍ قلت: مشيا رحمهما الله على اشتراط مشاهدة
القبر في الزيارة وهو أمر لم يصرح به أحد من المسلمين، على أنه قد
استفاض لفظ القبر الشريف مع الزيارة والسلام والدعاء وطلب الاستسقاء
والله المستعان.
74

وعمدة ابن تيمية على هذا المنع حديث (لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا).
والجواب على هذا من وجوه:
* الوجه الأول:
هذا الاستثناء المذكور في الحديث استثناء مفرغ ولا بد من تقدير
المستثنى منه، وهو إما أن يحمل على عمومه فيقدر له أعم العام لأن
الاستثناء معيار العموم، فيكون التقدير لا تشد الرحال إلى مكان إلا
إلى المساجد الثلاثة، وهذا باطل بداهة لأنه يستلزم تعطيل السفر
مطلقا إلا للمساجد الثلاثة.
ولكن لا بد أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، قال ابن
النجار الحنبلي في (شرح الكوكب المنير) (3 / 286): ولا يصح
الاستثناء أيضا من غير الجنس نحو جاء القوم إلا حمارا، لأن الحمار
لم يدخل في القوم، وكذا: له عندي مائة درهم إلا دينارا ونحوه،
وهذا هو الصحيح من الروايتين عن الإمام أحمد رضي الله عنه
واختيار أكثر من أصحابنا وغيرهم. ا ه‍
واختاره الإمام الغزالي في المنخول (ص 159).
ومن قال بجواز الاستثناء من غير الجنس قال: إنه مجاز.
وعليه فلا يصح أن يقال: قام القوم إلا حمارا مع إرادة الحقيقة.
فإن أراد المجاز صح هنا بأن يجعل الحمار كناية عن البليد.
كذا في المدخل لابن بدران (ص 117)، وفيه أيضا قول الخرقي
في مختصره: ومن أقر بشئ واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه
باطلا. ا ه‍.
75

واستظهر أبو إسحاق الشيرازي كون الاستثناء من غير الجنس من
باب المجاز، كذا في نزهة المشتاق شرح لمع أبي إسحاق (ص 230
- 231) لشيخ مشايخنا الشيخ يحيى أمان المكي رحمه الله تعالى.
وصفوة القول أن كون المستثنى لا بد أن يكون من جنس المستثنى منه
هو مذهب الحنابلة، وأن من جوزه جعله من باب المجاز، فرجع
خلافهم إلى وفاق.
وعلى ما سبق تقريره ينبغي أن يقدر مستثنى منه يوافق
المستثنى (المساجد) المذكور في الحديث. فيكون نظم الحديث
كالآتي:
لا تشد الرحال إلى (مسجد) إلا إلى ثلاثة (مساجد).
ورواية شهر بن حوشب في تعيين المستثنى منه مشهورة، وقد
أخرجها أحمد في المسند (3 / 64، 93).، وأبو يعلى في مسنده
(2 / 489).
وقال الحافظ في الفتح (3 / 65): وشهر حسن الحديث وإن كان
فيه بعض الضعف. ا ه‍.
وذكره الذهبي فيمن يحلم فيه وهو موثق (ص 100)، فهو ممن
يحسن حديثه عند الذهبي أيضا فهذان حافظان جبلان في الحفظ
ومعرفة الرجال ذهبا إلى تحسين حديث شهر بن حوشب فلا تنظر بعد
لتشغيب الألباني وقد رددت عليه بما سيأتي في مكانه إن شاء الله
تعالى، وقد تتابع على تقدير المستثنى بالمساجد شراح الحديث.
قال الكرماني في شرحه على البخاري (7 / 12):
76

عند قوله: (إلا إلى ثلاثة مساجد)، والاستثناء مفرغ، فإن
قلت: فتقدير الكلام لا تشد الرحال إلى موضع أو مكان، فيلزم أن
لا يجوز السفر إلى مكان غير المستثنى حتى لا يجوز السفر لزيارة
إبراهيم الخليل عليه السلام، ونحوه لأن المستثنى منه في المفرغ لا بد
أن يقدر أعم العام. قلت: المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعا
ووصفا كما إذا قلت: ما رأيت إلا زيدا كان تقديره: ما رأيت رجلا
أو أحدا إلا زيدا، لا ما رأيت شيئا أو حيوانا إلا زيدا، فهاهنا
تقديره: لا تشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة. وقد وقع في هذه المسألة
في عصرنا مناظرات كثيرة في البلاد الشامية، وصنف فيها رسائل من
الطرفين لسنا الآن لبيانها. ا ه‍.
وقال العلامة البدر العيني الحنفي (6 / 276):
وشد الرحل كناية عن السفر لأنه لازم للسفر، والاستثناء مفرغ،
فتقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى موضع أو مكان، فإن قيل:
فعلى هذا يلزم أن لا يجوز السفر إلى ما كان غير المستثنى حتى لا
يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه
ونحوه، لأن المستثنى منه في المفرغ لا بد أن يقدر أعم العام. وأجيب
بأن المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعا ووصفا كما إذا قلت: ما
رأيت إلا زيدا كان تقديره: ما رأيت رجلا أو أحدا إلا زيدا، لا ما
رأيت شيئا أو حيوانا إلا زيدا، فها هنا تقديره لا تشد إلى مسجد إلا
إلى ثلاثة. ا ه‍.
وفي فتح الباري (3 / 66):
قال بعض المحققين: قوله: (إلا إلى ثلاثة مساجد) المستثنى منه
77

محذوف، فإما أن يقدر عاما فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في
أي أمر كان إلا إلى الثلاثة أو أخص من ذلك، لا سبيل إلى الأول
لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم
وغيرها فتعين الثاني، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو: لا
تشد الرحال إلى مسجد للصلاة إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول
من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين
والله أعلم. ا ه‍
إيقاظ
كون المستثنى منه (مسجد) هو ما وافق فيه ابن تيمية فقال
(الفتاوى 27 / 12):
(والتقدير في أحد أمرين:
إما أن يقال: (لا تشد الرحال) إلى مسجد (إلا إلى المساجد
الثلاثة).
فيكون نهيا عنها باللفظ). ا ه‍
ويا ليته اقتصر على ذلك ولكنه قال:
(فيكون نهيا عنها باللفظ، ونهيا عن سائر البقاع التي يعتقد
فضيلتها بالتنبيه والفحوى وطريق الأولى..... ثم قال: فإذا كان
السفر إلى البقاع الفاضلة قد نهى عنه فالسفر إلى المفضولة أولى
وأحرى). ا ه‍
78

قلت:
العكس هو الصواب تماما، فإن هذه المساجد اختصت بزيادة
فضل، واستحب السفر لها، فبدلالة النص وطريق الأولى فإن
السفر لهذه البقعة الشريفة أولى من السفر للمساجد الثلاثة، لأن
البقعة التي ضمت جسده الشريف أفضل من المساجد الثلاثة.
قال الإمام مالك: (إن البقعة التي فيها جسد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل
من كل شئ حتى الكرسي والعرش ثم الكعبة ثم المسجد النبوي
ثم المسجد الحرام ثم مكة).
وقد حكى القاضي عياض الاجماع على أنها أفضل بقاع الأرض
كما في الشفا، وحكاه قبله أبو الوليد الباجي وغيره وبعده القرافي
وغيره من المالكية ويطلب تفصيل ذلك من معارف السنن (3 / 323).
وعليه فقول ابن تيمية أعلاه: (فإذا كان السفر إلى البقاع الفاضلة
قد نهى عنه فالسفر إلى المفضولة أولى وأحرى). ا ه‍
ينبغي أن يزاد عليه:
والسفر إلى المكان الأفضل (وهو القبر النبوي الشريف) أولى
وأحرى أيضا بدلالة النص والله الموفق والهادي للصواب.
* الوجه الثاني:
قال التقي السبكي في شفاء السقام (ص 118):
إعلم أن هذا الاستثناء مفرغ تقديره لا تشد الرحال إلى مسجد إلا
إلى المساجد الثلاثة، أو لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى المساجد
79

الثلاثة ولا بد من أحد هذين التقديرين ليكون المستثنى مندرجا تحت
المستثنى منه والتقدير الأول أولى لأنه جنس قريب. ا ه‍.
وعلى اعتبار عموم الحديث أي لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى
المساجد الثلاثة. أي العموم الذي يذهب إليه ابن تيمية.
قال السبكي ما ملخصه (ص 119 - 121):
السفر فيه أمران باعث عليه كطلب العلم وزيارة الوالدين وما أشبه
ذلك، وهو مشروع بالاتفاق، الثاني: المكان الذي هو نهاية السفر
كالسفر إلى مكة أو المدينة أو بيت المقدس ويشمله الحديث والمسافر
لزيارة لم النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل في الحديث لأنه لم يسافر لتعظيم البقعة،
وإنما سافر لزيارة من فيها فإنه لم يدخل في الحديث قطعا، وإنما
يدخل في النوع الأول المشروع. فالنهي عن السفر مشروط بأمرين:
أحدهما: أن يكون غايته غير المساجد الثلاثة.
والثاني: أن تكون علته تعظيم البقعة.
والسفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم غايته أحد المساجد الثلاثة وعلته تعظيم
ساكن البقعة لا البقعة، فكيف يقال بالنهي عنه؟ بل أقول إن للسفر
المطلوب سببين أحدهما: ما يكون غايته أحد المساجد الثلاثة،
والثاني: ما يكون لعبادة وإن كان إلى غيرها.
والسفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم اجتمع فيه الأمران، فهو في
الدرجة العليا من الطلب ودونه ما وجد فيه أحد أمرين، وإن كان
السفر الذي غايته أحد الأماكن الثلاثة لا بد في كونه قربة من قصد
صالح، وأما السفر لمكان غير الأماكن الثلاثة لتعظيم ذلك المكان،
80

فهو الذي ورد فيه الحديث، ولهذا جاء عن بعض التابعين أنه قال:
قلت لابن عمر إني أريد أن آتي الطور. قال: إنما تشد الرحال إلى
ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسجد
الأقصى. ودع الطور فلا تأته. ا ه‍.
والحاصل أن الحديث إن حمل على عمومه وفق مراد ابن تيمية فهو
لا يرد على الزيارة مطلقا لأن المسافر للزيارة مسافر لساكن البقعة
كالعالم والقريب وهذا جائز إجماعا، أما الحديث فوارد في الأماكن
فقط فتدبر تستفد. ولله در التقي السبكي.
إيقاظ
تقرير التقي السبكي يصرح بأن الحديث خاص بالنهي عن السفر
للأماكن فقط.
وهو يتفق مع ما صرح به ابن تيمية فقد قال (الفتاوى 27 / 21):
(قوله صلى الله عليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) يتناول
المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة وطلب
العلم ونحو ذلك فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت،
وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان). ا ه‍
قلت: وعليه فالحديث خاص بالنهي عن السفر الأمكنة.
إذا علم ذلك فزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لا تدخل في الحديث البتة لأنها
زيارة وسفر لساكن البقعة وليس للبقعة. فتدبر
وبعد فلعل اللبيب يدرك أن الاستدلال بحديث (لا تشد الرحال)
- بعد ذلك - على منع السفر للزيارة هو استدلال بأجنبي.
81

* الوجه الثالث:
إن النهي هنا ليس على وجه واحد، وهو التحريم لكنهم اختلفوا
على أي وجه هو؟
قال ابن بطال: هذا الحديث إنما هو عند العلماء فيمن نذر على
نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير المساجد الثلاثة. ا ه‍
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن:
هذا (أي حديث لا تشد الرحال....) في النذر، ينذر
الإنسان أن يصلي في بعض المساجد فإن شاء وفى به، وإن شاء صلى
في غيره إلا أن يكون نذر الصلاة في واحد من هذه المساجد، فإن
الوفاء يلزمه بما نذره فيها، وإنما خص هذه المساجد بذلك لأنها
مساجد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وقد أمرنا بالاقتداء
بهم. ا ه‍ (معالم السنن 2 / 443).
ومن المقرر أن النذر لا يجب إلا في طاعة (1)، فمعنى الحديث
يجب الوفاء لمن نذر إتيان أحد المساجد الثلاثة للصلاة فيها، فمن
نذر إتيان غير هذه المساجد لا يجب عليه الوفاء بالنذر.

(1) وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم طاعة لذلك يلزم الوفاء بالنذر لمن نذر إتيان القبر
الشريف. قال القاضي ابن كج الشافعي: إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم
فعندي أنه يلزم الوفاء بذلك وجها واحدا. ا ه‍ (المجموع: 8 / 376).
وابن كج (بفتح الكاف): هو يوسف بن أحمد الدينوري. قال ابن
قاضي شهبة (1 / 196): أحد الأئمة المشهورين، وحفاظ المذهب المصنفين،
وأصحاب الوجوه المتقنين، كان يضرب به المثل في حفظ المذهب. ا ه‍.
82

قال الإمام النووي: لا خلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه
قال: يجب الوفاء به، وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين ولا
ينعقد نذره، وعن المالكية رواية إذا تعلقت به عبادة تختص به كرباط
لزمه وإلا فلا وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي في مسجد قباء لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت. ا ه‍ المجموع (8 / 377).
قال ابن بطال: وأما من أراد الصلاة في مساجد الصالحين والتبرك
بها متطوعا بذلك فمباح إن قصدها بإعمال المطى وغيره ولا يتوجه إليه
الذي في هذا الحديث. ا ه‍.
وقال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون
أنه لا يحرم ولا يكره. قالوا: والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في
شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة والله أعلم (9 / 106).
وقال الشيخ الإمام أبو محمد ابن قدامة المقدسي الحنبلي: فإن سافر
لزيارة القبور والمشاهد، فقال ابن عقيل: لا يباح له الترخص لأنه
منهى عن السفر إليها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد) متفق عليه، والصحيح إباحته وجواز القصر فيه،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا وكان يزور القبور وقال:
(زوروها (1) تذكركم الآخرة)، وأما قوله عليه السلام: (لا تشد

(1) والزيارة تقتضي الانتقال مطلقا فيحمل لفظ الزيارة على انتقال بسفر
وبدون سفر، فاستدلال ابن قدامة استدلال فقيه عارف، وقد حاول ابن تيمية
تعقب ابن قدامة فقصر لفظ الزيارة على أنه انتقال بدون سفر وفي كلام ابن
تيمية نظر، والصواب مع ابن قدامة رحمهما الله تعالى.
83

الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، فيحمل على نفي التفضيل لا على
التحريم وليست الفضيلة شرطا في إباحة القصر، فلا يضر انتفاؤها.
(المغني 2 / 103 - 104).
ومثله لأبي الفرج ابن قدامة في الشرح الكبير (2 / 93).
وقال إمام الحرمين: والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة، وبه
قال الشيخ أبو علي: ومقصود الحديث تخصيص القربة بقصد المساجد
الثلاثة. ا ه‍ (الروضة: 3 / 324)، (المجموع: 8 / 375).
وصفوة ما سبق أن الصلاة في هذه المساجد تختص بطاعة زائدة
على ما سواها من المساجد، وما كان الأمر كذلك فلا يصح الوفاء
بالنذر إلا إليها.
أما غيرها من المساجد فيستوي ثواب الصلاة فيها، والسفر إليها
سفر مباح يجوز قصر الصلاة فيه، فإن قيل: هلا كشفت لنا ما يؤيد
ما ذكرته قلت: وبالله استعنت: يؤيد من ذهب أن الحديث خاص
بالنذر الآتي:
1 - ما صح بإسناد رجاله رجال مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إن خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق)،
وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى، والحديث يصرح بأنه يجوز
ركوب الرواحل إلى غيرهما من المساجد والبقاع.
2 - فهم الصحابة، فقد روى عمر بن شبه في (تاريخ المدينة)
(1 / 42) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا صخر بن
جويرية عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي
84

يقول: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلى من أن أتى بيت
المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل. قال
الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح (الفتح: 3 / 69).
وروى ابن أبي شيبة نحوه في المصنف (2 / 373)، وروى عبد
الرزاق في المصنف (5 / 133) عن الثوري عن يعقوب بن مجمع
بن جارية عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (لو كان مسجد
قباء في أفق من الآفاق ضربنا إليه أكباد المطى).
إسناده حسن فإن يعقوب بن مجمع وثقه ابن حبان وروى عنه إمام
كالثوري وقال الحافظ الذهبي في الكاشف (2 / 395): وثق،
ومجمع بن جارية صحابي، ولهذا الأثر طريق آخر أخرجه عمر بن
شبه في أخبار المدينة (1 / 49) فيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو وإن
ضعف من قبل حفظه فهو. يصلح في المتابعات والشواهد.
وعمر رضي الله عنه من رواة حديث (لا تشد الرحال)، فلو
علم أن النهي في الحديث للتحريم لما قال مقولته في مسجد قباء
فتدبر يا أخي تستفد.
وروى أحمد في المسند (6 / 397)، والطبراني في المعجم الكبير
(2 / 310) من حديث مرثد بن عبد الله اليزنى عن أبي بصرة
الغفاري قال: لقيت أبا هريرة وهو يسير إلى مسجد الطور ليصلي فيه
قال: فقلت له: لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت قال: فقال
ولم؟ قال: فقلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد
الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى،
ومسجدي).
فأبو هريرة لقي أبا بصرة رضي الله عنهما، وكان أبو هريرة يسير
إلى مسجد الطور، ولما أعلمه أبو بصرة بنص الحديث لم يرجع أبو
هريرة، ولو كان أبو هريرة قد فهم من الحديث التحريم لرجع ولكنه
85

لم يفعل بل ولم يخرج أصلا لأنه من رواة هذا الحديث، فدل فعله
ذلك على أن النهى الذي في الحديث لا يفيد التحريم عند أبي هريرة
رضي الله عنه فأي حجة وأي برهان وأي دليل يطلب بعد فهم أكابر
الصحابة رضي الله عنهم للحديث؟.
ومما سبق يعلم أنه ليس من مدلول حديث (لا تشد الرحال
....) الحديث: نهى عن شد الرحال لزيارة القبر النبوي الشريف
والله أعلم.
فلا تنظر بعد لمن يردد صدى كلام لا يفقهه، وإنما هو مؤيد فقط
لرأى غيره بدون تأمل أو من يلخص ويتعصب!!
وبعد.. فهذا أوان الشروع في المقصود بالذات من هذا المصنف
وهو تخريج أحادث التوسل والزيارة أسأل الله الإعانة والتوفيق.
* * *
86

تخريج أحاديث التوسل
88

1 - قال إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري في
صحيحه (الفتح: 2 / 494):
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا عبد
الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل
بشعر أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم عن أبيه (ربما ذكرت قول
الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش
كل ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب. ا ه‍.
قلت: طريق عمر بن حمزة العمري وصلها بسند صحيح أحمد
(2 / 93)، وابن ماجة (1 / 405)، والبيهقي في دلائل النبوة
(6 / 142)، وفي السنن الكبرى (3 / 88). كلهم من طريق أبي
عقيل عبد الله بن عقيل وهو ثقة.
وأخرج البيهقي من غير وجه في دلائل النبوة (6 / 140 - 142)
عن سعيد بن خثيم الهلالي، عن مسلم الملائي عن أنس بن مالك
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا
بعير يئط ولا صبي يصيح وأنشده:
89

أتيناك والعذراء يدمى لبانها * وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الصبي استكانة * من الجوع ضعفا ما يمر ولا يخلي
ولا شئ مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا * وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد المنبر ثم رفع يديه إلى السماء
فقال: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا غدقا، طبقا عاجلا غير
رائث، نافعا غير ضار تملأ به الضرع وتنبت به الزرع وتحيي به
الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون)، فوالله ما رد يديه إلى نحره
حتى ألقت السماء بإبراقها وجاء أهل البطانة يعجون يا رسول الغرق
الغرق، فرفع يديه إلى السماء، ثم قال: (اللهم حوالينا ولا
علينا)، فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل،
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: (لله در أبي طالب
لو كان حيا قرتا عيناه من ينشدنا قوله)؟ فقام علي بن أبي طالب
رضي الله عنه فقال: يا رسول الله كأنك أردت:
وأبيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا * ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ومسلم الملائي ضعيف، وقال الحافظ في الفتح (2 / 495):
وإسناد حديث أنس، وإن كان فيه ضعف لكنه يصلح للمتابعة. ا ه‍.
وقال ابن هشام في السيرة (1 / 281): وحدثني من أثق به فذكره.
90

2 - قال البخاري في صحيحه (الفتح: 2 / 494):
حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله
الأنصاري، قال: حدثني أبي عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله
ابن أنس عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا
استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك
بنبينا فتسقنا، لي أنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا). قال فيسقون.
أسنده البغوي في شرح السنة (3 / 409) هكذا من طريق
البخاري. ورواه عن أنس أيضا ابن خزيمة (رقم 1421)، وابن
حبان (7 / 110)، والبيهقي في دلائل النبوة (6 / 147)، وفي
السن الكبرى (3 / 352)، وابن سعد في الطبقات.
قال الحافظ في الفتح (2 / 497):
ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح
وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس
ومعرفته بحقه. ا ه‍.
وليس فيه ترك التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم لعموم الأدلة،
ولأن غاية ما فيه هو جواز ترك التوسل به، وفرق بين الجواز وغيره.
على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد بالتوسل بالعباس رضي
الله تعالى عنه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبجيل
وإكرام العباس، وقد كان في الصحابة من هم أفضل من العباس.
وقد أخرج الحاكم في المستدرك (3 / 334) من طريق داود بن
عطاء المدني، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه قال:
91

استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فقال
: اللهم هذا عم نبيك العباس نتوجه إليك به فاسقنا، فما برحوا
حتى سقاهم الله، قال: فخطب عمر في الناس فقال: أيها الناس
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده يعظمه
ويفخمه ويبر قسمه فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم.
وهكذا رواه الزبير بن بكار في الأنساب كما في الفتح (2 / 497)،
وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق الزبير بن بكار به
(8 / 931).
قلت: فيه داود بن عطاء المدني ضعيف، وقد ضعفه به الذهبي
في تلخيص المستدرك، أما الحاكم فلم يتكلم عليه.
قال الحافظ في الفتح بعد سياقه لطريق داود بن عطاء الضعيف ما نصه:
وأخرجه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم،
فقال عن أبيه بدل ابن عمر: فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان. ا ه‍
واحتمال الحافظ وجه قوى وله نظائر، والعجب أن الألباني لم
يذكر هذا الاحتمال القوي في توسله!
ولك وجه آخر وهو أن هشام بن سعد من رجال مسلم فالقول قوله.
وأغرب الألباني - غفر الله لنا وله - فاشتغل في توسله (ص
67 - 68) بتضعيف داود بن عطاء المدني ولما رأى متابعة هشام بن
سعد قال: إن في السند اضطرابا. ا ه‍.
قلت: هذا قول مدفوع ينبغي ألا يلتفت إليه، ولا أرى دعامة له
92

إلا الهوى الذي أداه لمخالفة قواعد الحديث.
فإن من المعروف أن الحكم بالاضطراب على السند لا يكون إلا إذا
تساوت الروايات وامتنع الجمع والترجيح، عند ذلك يحكم
بالاضطراب وهو هنا ممتنع جدا، فإن هشام بن سعد من رجال مسلم،
وقد رأيت الألباني يحسن حديثه مرات، وداود بن عطاء ضعيف،
فكيف يغض الألباني طرفه عن هذا الحق الأبلج.
هب أنهما متساويان، فالجمع واجب كما صرح به الحافظ وتقدم
عنه رحمه الله تعالى.
فثبت ولله الحمد لماذا توسل عمر بالعباس من قول عمر نفسه
وهو زيادة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضا أن التوسل كان
بالعباس وليس بدعائه بدليل قول عمر: (واتخذوه وسيلة إلى الله
فيما نزل بكم.
3 - قال الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي في جامعه (تحفة:
10 / 32 - 33):
حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا شعبة
عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف:
(أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني،
قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال
فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء:
اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني
توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في).
هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من
93

حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي.
ورواه من هذا الوجه ابن خزيمة في صحيحه، وأحمد في المسند
(4 / 138)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 417)، وابن
ماجة في السنن (1 / 441)، والبخاري في التاريخ الكبير (6 / 210)،
والطبراني في المعجم الكبير (9 / 19)، وفي الدعاء أيضا
(2 / 1289)، والحاكم في المستدرك (1 / 313، 519) وصححه
وسلمه الذهبي، والبيهقي في دلائل النبوة (6 / 166)، وفي
الدعوات الكبير، وتابع حماد بن سلمة شعبة في روايته عن أبي
جعفر.
أخرج هذه المتابعة:
النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 417)، وأحمد في المسند
(4 / 138)، والبخاري في تاريخه (9 / 209). وقد اتفق شعبة
وحماد بن سلمة على أن شيخ أبي جعفر هو عمارة بن خزيمة بن
ثابت. بينما خالفهما هشام الدستوائي وروح بن القاسم.
قال النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 418): خالفهما هشام
الدستوائي وروح بن القاسم، فقالا عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن
خماشة عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان بن حنيف. ا ه‍.
قلت: حديث هشام الدستوائي أخرجه النسائي في عمل اليوم
والليلة (ص 418)، والبخاري في التاريخ الكبير (6 / 210)،
والبيهقي في دلائل النبوة (6 / 168).
وأما حديث روح بن القاسم فأخرجه البخاري في التاريخ الكبير
94

(6 / 210)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 209)،
والطبراني في المعجم الكبير (1 / 17)، وفي الصغير وصححه (1 / 183)
وفي الدعاء (2 / 1288)، والحاكم في المستدرك (1 / 526)،
والبيهقي في دلائل النبوة (6 / 167 - 168).
قلت: هذا إسناد صحيح، وقد صححه غير واحد من الحفاظ
وقد تقدم منهم الترمذي والطبراني وابن خزيمة والحاكم والذهبي.
وأبو جعفر: هو الخطمي عمير بن يزيد بن عمير بن خماشة
المدني، كما نص على ذلك النسائي في عمل اليوم والليلة، وقد
وقع التصريح بالخطمي عند أحمد، وبالمديني عند أحمد أيضا وابن
ماجة والحاكم والبيهقي، وبالخطمي المدني عند الطبراني وابن السني،
فلا تلتفت لتشغيب الشيخ بشير السهسواني رحمه الله تعالى في صيانة
الإنسان (ص 125 - 127)، فإنه مما لا فائدة فيه.
وقد جاءت زيادة موقوفة عن المرفوع، قال الطبراني في المعجم
الصغير (1 / 184):
حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المقري المصري التميمي، حدثنا
أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي،
عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة
ابن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف:
(أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في
حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي
عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف ائت
95

الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل:
اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا
محمد إني أتوجه بك إلى ربك (ربي) جل وعز فيقضي لي حاجتي،
وتذكر حاجتك. ورح إلى حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع
ما قال له عثمان ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده
فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال:
حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له: ما ذكرت حاجتك
حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم
إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك
الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في،
فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأتاه ضرير فشكا عليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أفتصبر؟)،
فقال: يا رسول الله إنه لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: أيت الميضاة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم
ادع بهذه الدعوات. قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال
بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط).
لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد. أبو سعيد المكي
وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد (ابن أحمد) بن شبيب عن
أبيه عن يونس بن يزيد الأبلي.
وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير
ابن يزيد وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة،
والحديث صحيح. ا ه‍.
وأخرجه من هذا الوجه الطبراني في الكبير (9 / 17)، وفي
96

الدعاء (2 / 1288)، والبيهقي في دلائل النبوة (6 / 167 - 168).
قلت: لا كلام بعد تصحيح الطبراني للحديث مرفوعا وموقوفا.
فإن قيل: قد صحح الطبراني الحديث المرفوع لكنه لم يصحح
القصة الموقوفة.
أجيب: بأن الطبراني قد وثق (شبيب بن سعيد الحبطي)، وهو
راوي الموقوف، وتوثيق حديث الرجل هو تصحيح لحديثه، فالأمر
سهل ولا يحتاج لبيان، ويؤيد هذا ويوضحه أن الهيثمي في مجمع
الزوائد (2 / 179) لم يتكلم على الحديث كما عهد عنه ولكنه
اقتصر على نقل تصحيح الطبراني فقط. فتدبر أيها المستبصر.
ومع ذلك سعى الساعون لتضعيف هذه الزيادة الموقوفة جهد
الطاقة فأتوا بعلل مزعومة هي:
1 - شيخ الطبراني طاهر بن عيسى مجهول.
2 - شبيب بن سعيد الحبطي انفرد بالقصة وهو ضعيف الحفظ.
3 - الاختلاف عليه فيها.
4 - مخالفته للثقات الذين لم يذكروا القصة في الحديث.
والثلاثة الأخيرة ذكرها الألباني في توسله (ص 88)، والناظر
فيها لا يراها أكثر من دفعة صدر من متعنت، وسيرى أن السعي
لتضعيف الأحاديث الصحيحة بهذه الحجج الواهية سعى لإقامة باطل
بدعائم هي أوهى من بيوت العنكبوت، ولو فتح هذا المهيع الخطير
لانسد باب الآثار والله المستعان.
وإليك نقض هذه العلل المتوهمة:
97

* أما عن الأولى: وهي كون شيخ الطبراني طاهر بن عيسى
المصري من المجهولين فخذ الآتي:
1 - من علل الحديث بجهالة شيخ الطبراني أبعد جدا عن معرفة
الحديث وغاير قواعده، فإن القصة الموقوفة تفرد بها شبيب، ثم
رواها عن شبيب ثلاثة، ورواه عن الثلاثة المذكورين ثلاثة آخرون
وعنهم آخرون، فلم يتفرد أحد برواية القصة إلا شبيب، فلا مدخل
لشيخ الطبراني هنا فتأمل.
2 - قد صحح الطبراني الحديث وهو يعني توثيق رجال إسناده
ومنه شيخه وهو أعلم به من غيره.
فلا تغتر بعد بكلام صاحب النهج السديد عن شيخ الطبراني (ص
93).
* أما عن العلة الثانية: وهي ضعف حفظ المتفرد بها وهو شبيب
ابن سعيد الحبطي، هكذا زعم الألباني في توسله (ص 88)،
ولم أجد من سبقه إلى هذه الدعوى.
فشبيب بن سعيد الحبطي قد وثقه علي بن المديني ومحمد بن
يحمص الذهلي والدارقطني والطبراني وابن حبان والحاكم.
وقال أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي: لا بأس به. وهذا غاية ما
يطلب من التوثيق في الراوي ليصحح حديثه ويحتج به في الصحيحين.
فإن قيل ماذا تقول في قول ابن عدي في الكامل (4 / 1347):
كان شبيب إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة يونس عن
الزهري إذ هي أحاديث مستقيمة، ليس هو شبيب بن سعيد الذي
98

يحدث عنه ابن وهب بالمناكير التي يرويها عنه، ولعل شبيبا بمصر في
تجارته إليها كتب عنه من حفظه فيغلط ويهم وأرجو ألا يتعمد شبيب
هذا الكذب. ا ه‍.
قلت وبالله استعنت: في هذا الكلام ثلاثة أمور:
الأول: ما رواه أحمد بن شبيب عن أبيه نسخة يونس عن الزهري
فهي أحاديث مستقيمة.
الثاني: ما رواه عبد الله بن وهب عن شبيب بمصر، فيه غلط ووهم.
الثالث: حديثه في غير النوعين السابقين، وهو صحيح لأنه قيد
وهم شبيب بكونه من رواية ابن وهب بمصر.
وصحة النوع الثالث هو ما يقتضيه النظر الصحيح، وفي الذهاب
لغير هذا المذهب فيه إهدار لتوثيق تسعة من الحفاظ لشبيب بن سعيد
الحبطي، فهو ثقة طرأ عليه طارئ أثناء تجارته بمصر شأنه شأن كثير
من الرواة الثقات.
فإن قيل قد قال علي بن المديني: ثقة كان يختلف في تجارة إلى
مصر، وكتابه كتاب صحيح، قد كتبتها عن ابنه أحمد بن شبيب. ا د.
قلت: كلام ابن المديني يدل على أن الرجل ثقة وكتابه صحيح،
وقد فهم من لا يفهم (1) إلا السب والشتم - سامحه الله - أن هذا
القول من ابن المديني يثبت أن روايته من غير كتابه لا تصح.
قلت: الرجل وثقه ابن المديني، فهو يعني أنه ضابط حفظا وكتابة،

(1) هو صاحب كشف المتواري (ص 40).
99

ثم نص على أحد أفراد العموم، وهو صحة كتابه، فلم يشترط ولم
يصرح ولم يشر إلى شئ عن حفظه، وكلامه لا مفهوم له، وكنت
أود أن يبين من أين أتى بهذا الفهم الذي لا يحسد عليه، والتفاته إلى
السب والشتم صرفه عن الفهم.
* تنبيه:
من غرائب التشويش والحذف في العبارات أن الألباني - غفر الله
لنا وله - حاول أن يستدل بعبارة علي بن المديني على ضعف حفظ
شبيب بن سعيد، فقال في توسله (ص 86):
قال ابن المديني: كان يختلف في تجارة إلى مصر... إلخ،
وحذف الألباني أهم كلمة من كلام ابن المديني التي صدر بها عبارته
وهي قوله: (ثقة) كان يختلف... إلخ، فحذف الألباني كلمة
(ثقة) من كلام ابن المديني، وهكذا تكون الأمانة العلمية فالله
المستعان.
وقد أبعد الألباني فسلك مسلكا غريبا لم يسبق إليه، فأهمل كلام
الأئمة الحفاظ الذين وثقوا شبيبا، فنقله من طائفة الثقات الذين يقبل
حديثهم إلا غرائب وقعت في رحلاتهم إلى طائفة الضعفاء الذين لا
يقبل حديثهم إلا بشروط، فشرط شرطين لقبول حديث شبيب بن
سعيد الحبطي، فقال في توسله (ص 87):
الأول: أن يكون من رواية ابنه أحمد عنه.
والثاني: أن يكون من رواية شبيب عن يونس. ا ه‍
قلت: الذي أوقع الألباني في هذا القول الغريب هو عدم رجوعه
100

للأصول (1)، فقد نقل عبارة ابن عدي في شبيب من الميزان
(2 / 262)، واعتمد عليه دون الرجوع للأصول، والذي نقله
الألباني عن ابن عدي هو ما نصه:
كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه وأرجو أنه لا
يتعمد، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه شبيب آخر
يعني يجود.
ففرق بين (كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه) كما
في الميزان.
وبين عبارة الكامل (4 / 1347): (لعل شبيبا بمصر في تجارته
إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم).
فالأولى تعني أن الغلط والوهم كانا ديدنه وصفة لازمة له وهي
عبارة فيها نظر.
والثانية التي في الكامل: تعني أن الغلط والوهم طارئ عليه وهو
ما حدث عنه ابن وهب بمصر، فالأولى تعني ضعفه، والثانية لا
تعني ذلك، والأمر واضح.
وقد صرح النقاد بوجوب حكاية الجرح والتعديل وعدم التصرف

(1) وقد تتبعت شيئا كثيرا من كلامه على الرجال فوجدته لا يرجع للأصول
ويكتفى بالكتاب الواحد في الكلام على الرجال، وقد نبهت على ذلك في
(وصول التهاني بأثبات سنية السبحة والرد على الألباني)، وفي مقدمة
(النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح) للحافظ العلائي
رحمه الله تعالى.
101

في عبارة المعدل أو المجرح، وقد اهتبل الألباني تصرف الذهبي في
عبارة ابن عدي ولم يرجع للأصل فحدث ما تراه.
والحاصل أن حديث شبيب بن سعيد صحيح من غير رواية عبد الله
ابن وهب إذا أخذنا كلام ابن عدي في الاعتبار فإن كلامه فيه نظر.
ولذلك فقد قال الذهبي في المغني (1 / 295) ثقة له غرائب.
وقال في الديوان (ص 141): ثقة يأتي بغرائب.
وفي الكاشف (2 / 4): صدوق.
* * *
فإن قيل قد ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح علل
الترمذي (ص 418) ضمن قوم ثقات لهم كتاب صحيح وفي
حفظهم بعض شئ.
فجوابه أن هذا الايراد لا يعني ضعف حديثهم إذا حدثوا من
حفظهم، إنما يعني أن حديثهم من الكتاب صحيح وأدون منه حديثهم
من حفظهم لأنهم قوم ثقات قد وثقهم عدد من الأئمة بدليل قوله:
(وفي حفظهم بعض شئ)، فهذه العبارة لا تفيد أن الغلط كان
غير منفك عنهم فهم ضعفاء الحفظ، بل العكس هو الصواب.
وقد ذكر ابن رجب في هذا النوع طائفة من أعيان الثقات كعبد العزيز
ابن محمد الداروردي، وهمام البصري، وعبد الرزاق الصنعاني،
وأبو داود الطيالسي، وإبراهيم بن سعد الزهري وغيرهم والعمل
على قبول حديثهم حدثوا من كتاب أو من حفظهم. على أن العبارات
102

التي قيلت فيهم هي أشد من التي قيلت في شبيب بن سعيد الحبطي
رغم الاتفاق عليهم.
* * *
فصل
بقي الكلام على أمرين:
أولهما:
قال الحافظ في التقريب (ص 263) في ترجمة شبيب:
لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه لا من رواية ابن وهب.
ا ه‍، وما قاله الحافظ (1) يعني صحة القصة المذكورة، وهذا أيضا
لم يرتضه الألباني فعقب عليه بقوله في توسله (ص 87):
وليس كذلك بل هذا مقيد بأن يكون من روايته هو عن
يونس..، ويؤيده أن الحافظ نفسه أشار لهذا القيد، فإنه أورد شبيبا
هذا في (من طعن فيه من رجال البخاري) من مقدمة فتح الباري
(ص 133)، ثم دفع الطعن عنه بعد أن ذكر من وثقه وقول ابن
عدي فيه بقوله: (قلت: أخرج البخاري من رواية ابنه عنه عن
يونس أحاديث، ولم يخرج من روايته عن غير يونس، ولا من
رواية ابن وهب عنه شيئا)، فقد أشار رحمه الله بهذا الكلام إلى أن
الطعن قائم في شبيب إذا كانت روايته عن غير يونس، ولو من رواية
ابنه أحمد عنه. ا ه‍.

(1) وفيه تشدد لقصره القبول على رواية ابنه أحمد فقط، فتدبر.
103

قلت: الذي أشار له الحافظ هو أن البخاري أخرج له أصح
حديثه، ذلك أن البخاري عندما أراد أن يخرج حديث الزهري في
جامعه الصحيح أراده من طريق الطبقة الأولى من أصحاب الزهري
كما فصله الحازمي في شروط الأئمة، ولما كان يونس من هذه
الطبقة، وكان شبيب عنده نسخة يونس بن يزيد عن الزهري وسمعها
منه أحمد بن شبيب فأصبحت النسخة من هذا الطريق غاية في
الصحة فأخرجها البخاري في صحيحه.
فأحمد عن أبيه عن يونس عن الزهري من شرط البخاري، فعدم
إخراج البخاري لحديث شبيب من غير هذا الطريق لا تعني ضعف
الغير مخرج في الصحيح، بل تعني أنه ليس على شرط البخاري
فقط لأن البخاري لم يستوعب الصحيح وما ادعاه، ولا يلزم من كونه
على غير شرطه أنه لا يصلح للاحتجاج به عند البخاري نفسه بل قد
يكون صالحا للاحتجاج به عنده وليس هو على شرط صحيحه الذي
هو أعلى شروط الصحة، كما صرح بذلك الحافظ في الفتح
(2 / 205)، وكثيرا ما يختم الحافظ الترجمة في مقدمة الفتح في
بيان كيفية رواية البخاري لحديث الراوي المتكلم فيه، ذلك أن حديث
الرجل إذا جاء على خلاف ما ذكره الحافظ يكون فيه تفصيل هذا ما
يجب التمسك به، والإذعان إليه وإلا نكون قد أعرضنا وأهدرنا
توثيق تسعة من أئمة الحفاظ لشبيب.
ولم أر من سبق الألباني في رد حديث شبيب مع اشتراط هذين
الشرطين.
ولم يزد ابن تيمية في كتابه (قاعدة في التوسل) (ص 102) عن
قوله: (شبيب هذا صدوق روى له البخاري). وهو كلام جيد يرد على
الألباني ومن شايعه، لكنه اتبع سبيلا آخر لتعليل هذا الحديث وهو:
104

الأمر الثاني:
وحاصله أن هذا الحديث يرويه شبيب عن روح بن القاسم، وقد
ذكر ابن عدي حديثين في كامله أنكرهما على شبيب من رواية شبيب
عن روح بن القاسم، وإن كان شبيب قد غلط في ذينك الحديثين
أمكن أن يكون غلط عليه في هذا الحديث. انظر قاعدة في التوسل
له (ص 104 - 105).
قلت وبالله التوفيق:
1 - هذان الحديثان من رواية ابن وهب عن شبيب عن روح بن
القاسم، وقد تقدم أن شبيبا حدث أثناء تجارته بمصر ابن وهب ببعض
ما أنكر عليه، وقد أورد هذين الحديثين ابن عدي في كامله ليستدل
بهما على صحة دعواه، فلا مدخل هنا لما يرويه شبيب عن روح بن
القاسم، فالكلام على من حدثه شبيب (وهو ابن وهب)، لا من
حدث عنه شبيب سواء كان روحا أو غيره.
2 - لا يسلم لابن عدي استشهاده بهذين الحديثين على صحة دعواه
وهاك الحديثين:
الحديث الأول: ما رواه شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن
أبي عقيل عن سابق بن ناجية عن أبي سلام قال: مر بنا رجل
فقالوا: إن هذا قد خدم النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقمت إليه، فقلت:
حدثني شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتداوله الرجال بينك
قال: سمعته يقول: (من قال حين يصبح وحين يمسي رضيت بالله ربا
وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة).
105

وحاصل ما في هذا الحديث أن بعضهم عن أبي عقيل عن
سابق بن ناجية عن أبي سلام عن خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم به مرفوعا.
وهم شعبة وهشيم وروح بن القاسم، فأبو سلام هنا روى عمن
رفعه، وخالفهم مسعر فجعله عن أبي عقيل عن سابق عن أبي سلام
به مرفوعا، فأبو سلام هنا هو الذي رفعه، والصواب قول شعبة
والجماعة وهو ما صححه الحفاظ: المزي والعلائي في جامع
التحصيل (ص 385)، وابن حجر في الإصابة (4 / 93)،
والبوصيري في مصباح الزجاجة (4 / 150).
ومن هنا يظهر خطأ ابن عدي رحمه الله تعالى ومن اعتمد عليه في إيراد
هذا الحديث على أنه مما أنكر على شبيب وخطأ ابن عدي من وجهين:
الأول: الاختلاف من طبقة شيوخ شبيب فلا مدخل لشبيب فيه.
الثاني: أن شبيب بن سعيد سلك المسلك الصواب فيه كما ترى
والله أعلم.
وأما الحديث الثاني: فهو ما رواه شبيب عن روح بن القاسم عن
عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا دخلت المسجد...) الحديث.
ورواه عبد العزيز الداروردي، وإسماعيل بن إبراهيم بن علية،
وقيس بن الربيع، وليث بن أبي سليم عن عبد الله بن الحسن عن أمه
فاطمة عن فاطمة الكبرى عليها السلام.
وإذا كان شبيب قد انفرد عن روح وروى الحديث معضلا، فالقول
قول الجماعة، ولكن الخطب هنا سهل، وهو ما يحدث لكثير من
106

كبار الحفاظ، ولا يعني هذا ضعف شبيب في روح بن القاسم لأنه
جود الحديث السابق ووافق الجماعة.
3 - شبيب بن سعيد بصري كروح بن القاسم البصري، ورواية
شبيب عن بلدية لها مزية وقوة، وأبو جعفر الخطمي مدني بصري
كذلك، ومما يزيدها قوة أن حدث بها بصريين مثله هما ابنيه أحمد
وإسماعيل. والحاصل مما سبق:
إن شبيب بن سعيد ثقة إلا ما حدث عنه ابن وهب، وليس كله
من المنكرات بل تعرف وتنكر، فإذا توبع ابن وهب كما هنا وجب
عليك أن تعرف وتقبل، والله أعلم بالصواب.
وبذلك تعلم أن إطلاق الضعف على شبيب من الألباني في توسله
(ص 118) فضلا عن كونه تهافتا فهو أمر مردود ولم يسبق إليه.
أما عن الأمر الثاني الذي ضعف به الألباني الحديث فهو قوله:
والاختلاف عليه فيها. ا ه‍.
قلت: أعاد الضمير إلى شبيب.
ولكنه جعل الاختلاف في توسله (ص 87) على أحمد بن
شبيب فقال: ثم ظهر لي علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها.
فبان من هذا اضطرابه، فالأمر سهل والخطب غير جليل والأمثلة
على تحديث الراوي للحديث على وجهين كثيرة، فإذا رجع الحديث
لشبيب بن سعيد فقد روى القصة عنه ثلاثة، اثنان في بلدته البضرة
وقت الراحة والبعد عن السفر والمشقة وهما أحمد وإسماعيل ابنا
شبيب كما في دلائل النبوة للبيهقي (6 / 167 - 168).
107

أما الثالث فهو عبد الله بن وهب، فقد روى عنه القصة وقت
السفر، وكان السفر خاصا بالتجارة حيث تبلبل البال وتشتت الأفكار،
ولكنه حدث على الجادة ولم يتلعثم ولم يخطئ، فجاء حديثه في
قطعة العذاب موافقا لحديثه في بلدته، والراوي إذا حدث في بلده
كان أتقن لما يحدث به في حال سفره كما هو معروف ونص عليه
الحافظ في الفتح (10 / 444)، وإذا كان شبيب في هذا الحديث
قد أجاد في السفر والحضر، فإن هذا غاية ما يطلب في الرجل كما
لا يخفى على أولى العناية والإنصاف، وإذ قد انتهى الأمر إلى أن
شبيبا قد جود الحديث بهذه الصورة فلا مدخل بعد صحة هذه القصة
لمن يأتي من الرواة عن شبيب ويروي الحديث تارة بذكر القصة وتارة
أخرى لا يذكرها.
ولكن الهوى والتعصب يدفعان إلى الافتراء، وهو ما تراه هنا
بادعاء الألباني اختلافا على أحمد بن شبيب، وجواب هذا
الاختلاف الذي ارتأه الألباني فقط: أن أحمد بن شبيب كان يحدث
الحديث بطوله وفيه قصة مجئ الرجل لعثمان بن عفان رضي الله عنه
حدث بذلك الحافظ الثقة المتقن يعقوب بن سفيان الفسوي كما في
دلائل النبوة للبيهقي (6 / 168).
وكان أحمد أحيانا أخرى لا ينشط فيقتصر على أصل الحديث فقط
أخرج ذلك ابن السني والحاكم، فكان ماذا بعد ذلك؟ والرجل (أي
أحمد) ثقة، اللهم إلا التعنت والتعصب.
108

على أن بعضهم (ا) قال: روى الحديث دون ذكر القصة عن ابن
السني:
1 - العباس بن فرج الرياشي.
2 - والحسين بن يحمص الثوري.
ورواه الحاكم وعنه البيهقي من طريق:
3 - محمد بن علي بن زيد الصائغ.
ثلاثتهم عن أحمد بن شبيب ولم يذكروا القصة.
ولم يرو القصة عن أحمد إلا يعقوب بن سفيان الفسوي، فهو
على ثقته لا يقابل بمن هو أكثر منه عددا من الثقات 10 ه‍.
قلت: إن صح هذا الكلام فرحمة الله على العلم والعقل
والبرهان، وخذ الآتي:
1 - هؤلاء الثلاثة الذين قال عنهم ثقات إذا أضيف إليهم مثلهم لم
يرجحوا على الإمام الحافظ العلم يعقوب بن سفيان الفسوي، فهو
ثقة وفوق الثقة، وقد قال أبو زرعة الدمشقي:
قدم علينا رجلان من نبلاء الناس أحدهما وأرجلهما " يعقوب بن
سفيان " يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلا.
ومن المعروف أن الشيوخ إذا خالفهم حافظ يرجح قول الحافظ
على الشيوخ، فالقول تول الحافظ وإن اجتمع الشيوخ عليه،
ويعقوب الفسوي إمام حافظ وفوق الحافظ.
(1) هو صاحب كشف المتواري (ص 44).
109

2 - العباس بن فرج روى الوجهين فقد أسند القصة عن إسماعيل
ابن شبيب عن أبيه أخرجها البيهقي في دلائل النبوة (168 / 6)
فوافق الحجة العلم يعقوب بن سفيان الفسوي.
فبقي اثنان من الثلاثة، فهل ما زال يصر المعترض على مخالفتهما
للفسوي؟ التهم غفرانك.
والاثنان الباقيان أحدهما: الحسين بن يحيى الثوري لم أجده بعد
بحث! فما أسرع انهيار صرح التعصب! ثم إن تعجب فعجب من
محاولة تقديم رواية عون الضيف لأنه لم يرو القصة على من رواها
كشبيب وابنه أحمد وعبد الله بن وهب ويعقوب بن سفيان الفسوي
وغيرهم من الثقات!.
3 - رواية الحديث على أي من الوجهين لا تعل الأخرى فكلاهما
صحيح، وهذا مقرر ومعروف، ذلك أن الاختلاف الذي يوجد الشك
والريبة في الرواية هو الاضطراب الذي لا يمكن توجيهه أما هنا فلا اختلاف
ولا اضطراب ونسأل الله السلامة والصون من التخبط والتعصب.
أما الأمر الأخير الذي ضعف به الألباني الحديث فهو قوله في
توسله (ص 88):
" ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث).
قلت: هذا تمحل غريب.
فأنت ترى أن الزيادة هي أن يروي جماعة حديثا واحدا بإسناد
واحد ومتن واحد، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة.
كذا لابن رجب في شرح علل الترمذي (ص 310).
وقال الحافظ في نكته على ابن الصلاح (2 / 692): وإنما الزيادة
110

التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في
الحديث الذي يتحد مخرجه كمالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله
عنهما إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث
ذلك الشيخ وانفرد دونهم بعفر رواته بزيادة، فإنها لو كانت
محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها 10 ه‍.
إذا علمت هذا فإن شبيبا لم يخالف أحدا من الثقات في ذكره
القصة الموقوفة وبيان ذلك في الوجهين الآتيين:
الأول: غاية ما في الأمر أن مخرج الحديث غير واحد فمرجعه إلى
شيخين لأبي جعفر الخطمي، فلشعبة وحماد طريق، ولروح وهشام
طريق آخر، وإذا لم يتحد المخرج فدعوى المخالفة غير صحيحه.
فإن قيل قد اتحد المخرج بين روح بن القاسم وهشام الدستوائي،
وقد جاءت القصة الموقوفة من طريق روح بن القاسم.
أجيب بأن شبيب بن سعيد روى عن روح بن القاسم أمرا موقوفا
عن صحابي بعد سنوات عديدة من رواية الحديث المرفوع.
فهذا مرفوع وذاك موقوف فأين هي المخالفة الواقعة في المتن؟
لا تجدها إلا في التوهم.
وقد صرح المحدثون الذين صنفوا في قواعد الحديث بقبول زيادة
الراوي إذا تعدد المجلس ولم يتحد، فكيف وبين المرفوع والموقوف
بون شاسع من السنين، فأين المجلس الذي اتحد هنا؟!
هب أن المخرج واحد فهو لا يضر أيضا لما قد سبق بيانه.
وغير واحد من أئمة الحديث قال بوجوب قبول زيادة الثقة ما لم
111

تكن منافية منهم: الخطيب البغدادي.
الثاني: قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: إذا كان في
الحديث قصة دل على أن راويه حفظه. ا ه‍. نقله عنه الحافظ في
مقدمة الفتح (ص 363). وهذا يدل على شفوف نظر الإمام أحمد فتدبر.
فالحق الذي لا مرية فيه أن شبيبا ثقة يصحح حديثه كما فعل
الأئمة، فإن تعنت غاية التعنت، فالرجل ليس بأقل ممن يحسن
حديثه الأئمة، ولو وهم هذا الوهم وخالف هذه المخالفة فنقل قصة
وقعت في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه لسقط إلى درجة الضعفاء
والمتروكين الذين لا يحتج بهم أو الوضاعين الذين لا ينظر في حديثهم
ولا يظن أحد بشبيب أن يفعل ذلك أو يقاربه ولم يختلط أو يصل
وهمه إلى هذه الدرجة الدنيا إن صح وهم عنه وما أراه يصح.
والاختلاف لا يضر إذا أمكن الجمع أو الترجيح بين الروايات على
قواعد المحدثين، هذا إذا وجد الخلاف وتصور حدوثه، أما هنا فلا
خلاف إلا في مخيلة من يدفع بالصدر والله المستعان.
وحاصل ما تقدم أن هذه الزيادة الموقوفة التي فيها قصة مجئ
الرجل إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه صحيحة، ولذا فقد
صححها الحفاظ أمثال الطبراني والحاكم والهيثمي، والحمد لله رب
العالمين.
* * *
قال ابن أبي خيثمة في تاريخه (كما في قاعدة في التوسل لابن
تيمية ص 106):
حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا حماد بن سلمة، أنا أبو جعفر
112

الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن
رجلا أعمى أتى النبي (ص) فقال: إني أصبت في بصري فادع الله لي،
قال: لا اذهب فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك
وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد إني أستشفع بك على
ربي في رد بصري، اللهم فشفعني في نفسي وشفع نبيي في رد
بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك ".
قلت: هذا سند غاية في الصحة، وحماد بن سلمة ثقة حافظ
علم، ومع ذلك فقد أعل بوجود زيادة في المتن وهي: " وإن كانت
حاجة فافعل مثل ذلك "، بتفرد حماد بن سلمة بها، وهي زيادة
تفرد بها عن شعبة فتكون شاذة.
والجواب عن هذا: إن زيادة الثقة مقبولة ما لم تقع منافية أو فيها
نوع مخالفة لرواية الأوثق، وقوله: " وإن كانت حاجة فافعل مثل
ذلك لا لا تنافي أصل الحديث أو تخالفه بل توافقه تماما، لأن الأصل
العموم واستعمال الحديث في أي وقت.
وكون حماد غلط ظن مجرد لا حجة فيه، وغاية ما في الأمر أنها
زيادة ثقة ليس فيها نوع منافاة فهي مقبولة بلا ريب، ونقول تبكيتا
للمتشددين: وإن لم تصح هذه الزيادة فالأولى جعل زيادة الثقات
من باب الحديث الشاذ وبالله التوفيق.
وهذا الإمام الحافظ أبو حاتم ابن حبان يقول على زيادة تفرد بها
حماد بن سلمة في الثقات (1 / 8) ما نصه:
هذه اللفظة... تفرد بها حماد بن سلمة وهو ثقة مأمون، وزيادة
الألفاظ عندنا مقبولة عن الثقات إذ جائز أن يحضر جماعة شيخا في
113

سماع شئ ثم يخفى على أحدهم بعض الشئ ويحفظه من هو مثله
أو دونه في الإتقان. ا ه‍.
وهو كلام رصين ينبغي تعقله، ثم لا ينبغي أيضا هنا أن يخلي المقام
من بيان أن الألباني الذي يسارع برد هذه الزيادة بدعوى مخالفة حماد
ابن سلمة لراو واحد فقط هو شعبة، تجده يقبل مخالفة حماد بن
سلمة لجماعة في موضع آخر فيقول في صحيحته (203 / 1) ما
نصه:
وخالف الجماعة (ا) حماد بن سلمة... فيحتمل أن يكون قد حفظ
ما لم يحفظه الجماعة 10 ه‍. نعوذ بالله من الهوى.
وعليه فزيادة رواية حماد بن سلمة ثابتة حتى عند من صنف
لإنكارها وهو الألباني والحمد لله رب العالمين.
4 - قال الطبراني في المعجم الكبير (4 2 / 352) حديث رقم 1 87:
حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة، ثنا روح بن صلاح، ثنا سفيان
الثوري، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك قال: لما ماتت
فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب دخل عليها رسول
الله جل وعز، فجلس عند رأسها فقال:
(ا) قوله: ة وخالف الجماعة " خطأ، بل تابعه الفزاري الإمام الثقة في
عشرة النساء (ص 90)، ثم ذكر أن حمادا يتأيد برواية ذكرها عن علي بن
زيد وهذا أيضا خطأ، فعلي بن زيد كأنه أخطأ فرواه بوجهين: وجه كرواية
حماد، وآخر مخالف له في المسند (6 / 182). وليس المقصود التنبيه على
هذه الأخطاء، ولكن المقصود ذكر عبارة الألباني، وأن زيادة حماد بن سلمة
أولى بالقبول في حديث الأعمى.
114

(رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني وتعرين
وتكسيني وتمنعين نفسك طيبا وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله
والدار الآخرة)، ثم أمر أن تغسل ثلاثا، فلما بلغ الماء الذي فيه
الكافور سكبه رسول صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه
فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد
وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاما أسود يحفرون،
فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج
ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال:
(الله الذي يحمص ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد
ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من
قبلي فإنك أرحم الراحمين)، وكبر عليها أربعا وأدخلوها اللحد هو
والعباس وأبو بكر الصديق، رضي الله عنهم.
ورواه من هذا الوجه الطبراني في الأوسط (1 / 152)، ومن
طريقه أبو نعيم في الحلية (3 / 121)، وابن الجوزي في العلل
المتناهية (1 / 268).
وهو حديث حسن.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9 / 257): رواه الطبراني في
الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه
ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح. ا ه‍.
قلت: شيخ الطبراني أحمد بن حماد بن زغبة ثقة من شيوخ
النسائي ولم يخرج له في الصحيح.
115

أما روح بن صلاح فقد اختلف فيه فوثقه قوم وضعفه آخرون فمثله
يحتاج لإعمال النظر لبيان حاله. فقال عنه الحاكم في سؤالات
السجزي: ثقة مأمون.
وذكره ابن حبان في الثقات (8 / 244).
وروى عنه يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ (3 / 406)
فهو ثقة عنده، قال الفسوي (التهذيب: 11 / 378): كتبت عن
ألف شيخ وكسر كلهم ثقات. ا ه‍.
أما من جرحه فلم يذكر سبب جرحه ولم يفسره، ففي المؤتلف
والمختلف للدارقطني (3 / 1733) قال: روح بن صلاح بن سيابه
يروى عن ابن لهيعة وعن الثوري وغيرهما كان ضيفا في الحديث
سكن مصر. ا ه‍. ومثله لابن ماكولا في الإكمال (5 / 15) وابن
عدي في الكامل (3 / 1005).
وهذا جرح مبهم غير مفسر فيرد في مقابل التعديل المذكور قبله كما
هو مقرر.
مثاله قول الحافظ في مقدمة الفتح (ص 437) في ترجمة (محمد
ابن بشار بن بندار) ضعفه عمرو بن علي الفلاس، ولم يذكر سبب
ذلك، فما عرجوا على تجريحه. ا ه‍.
وادعى الألباني (1) أن الجرح مفسر في روح بن صلاح بقول ابن
يونس: رويت عنه مناكير، وبقول ابن عدي في الكامل: في بعض

(1) ضيفته (1 / 32 - 33).
116

حديثه نكرة.
قلت: كلام الألباني فيه نظر يظهر في الوجهين الآتيين:
الأول: عبارتي ابن يونس وابن عدي لا تدلان على الجرح، قال
ابن دقيق العيد في (شرح الالمام) كما في (نصب الراية) (1 / 179)،
(وفتح المغيث) (1 / 347): قولهم روى مناكير لا تقتضي بمجرده
ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته وينتهي أن يقال فيه منكر
الحديث، لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك
لحديثه. ا ه‍.
الثاني: قولهم: (روى المناكير)، أو (رويت عنه مناكير)
ليست أيضا من الجرح في شئ، فقد تكون تلك المنكرات من
شيوخه أو من الرواة عنه وهو روى شيئا تحمله فقط.
قال الحاكم للدارقطني (السؤالات ص 217 - 218): سليمان
ابن بنت شرحبيل، قال: ثقة، قلت: أليس عنده مناكير، قال:
يحدث بها عن قوم ضعفاء. ا ه‍.
فما كل من روى المناكير ضعيف عندهم.
وعندما ترجم ابن عدي لروح بن صلاح في كامله (3 / 1005
- 1006) روى عنه حديثين الآفة والحمل فيهما من الراوي عن
(روح بن صلاح)، وعادة ابن عدي في كامله - كما يقول الحافظ
في مقدمة الفتح (ص 429): أن يخرج الأحاديث التي أنكرت
على الثقة أو على غير الثقة فلو وجد ابن عدي شيئا أنكر على روح
بن صلاح لأتى به في ترجمته ولكنه خرج ما حدث به وكان منكرا،
117

ولكن الحمل فيه على غيره فتدبر.
فائدة: أراد الألباني تضعيف الحديث المذكور، فاعتبر قول ابن
يونس في روح بن صلاح: (رويت عنه مناكير) من الجرح المفسر
الذي يضعف به الراوي، بينما تناقض فاعتبر قولهم في راو آخر (له
مناكير) ليس بجرح مطلقا، وذلك في ثنايا رده على الشيخ البوطي (
ص 66 - 67)، وأكثر من هذا أنه اعتبر (منكر الحديث) جرح
مردود، لأنه غير مفسر كذا في صحيحته (1 / 769).
وأنت ترى ألا فارق بين القولين، ولكنك ترى فارقا بين صنيعي
الألباني، فعندما يريد أن ينتصر لما يراه صوابا يبتعد عن قواعد
الحديث ويسير حسبما يرى، فالله المستعان.
* * *
فصل
قال الألباني في رد توثيق ابن حبان وتلميذه الحاكم لروح بن
صلاح ما نصه (ضيفته: 1 / 32): إن ابن حبان متساهل في
التوثيق، فإنه كثيرا ما يوثق المجهولين... ومثله في التساهل الحاكم
كما لا يخفى على المتضلع بعلم التراجم والرجال فقولهما عند التعارض
لا يقام له وزن حتى ولو كان الجرح مبهما لم يذكر له سبب. ا ه‍.
* قلت: هذا كلام من لم يفهم - رغم اشتغاله - توثيق ابن
حبان، ولم يمعن النظر في ثقاته، فسارع برد توثيقه والأولى
التفصيل.
118

فتوثيق ابن حبان على قسمين نص عليهما في مقدمة ثقاته (1 / 31):
فالأول: من اختلف فيه علماء الجرح والتعديل، فإذا صح عنده
أنه ثقة أدخله في ثقاته وإلا فأودعه كتابه الآخر.
الثاني: من لم يعرف بجرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه
والراوي عنه ثقة، ولم يأت بحديث منكر، فهو ثقة عنده، ولم
ينفرد ابن حبان بذلك المذهب، لكن هذا النوع من الرواة عند
الجمهور يكون مجهول الحال (1).
وأما نسبة التساهل إليه فبالنظر للنوع الثاني فقط، فإهدار توثيق
ابن حبان مطلقا خطأ، ولا تصح نسبة التساهل إليه مطلقا، إنما هو
في نوع معين من الرواة فقط وهو الثاني، أما النوع الأول فتوثيقه لا
يقل عن توثيق غيره من الأئمة.
إذا علم ذلك، فإن رد توثيق ابن حبان لروح بن صلاح بدعوى
تساهله فيه نظر ظاهر.
فروح بن صلاح روى عنه يعقوب بن سفيان الحافظ، ومحمد بن
إبراهيم البوشنجي الفقيه الحافظ، وأحمد بن حماد بن زغبة صاحب
النسائي الثقة، وأحمد بن رشدين وابنه عبد الرحمن، وعيسى بن
صالح المؤذن، وفيه جرح وتعديل وبعضهم سبق ابن حبان في الكلام
عليه كابن يونس.

(1) وإذا كان الرجل ليس من المجهولين فتوثيق ابن حبان لروح بن صلاح
مقبول شأنه شأن غيره من النقاد.
119

أما عن توثيق الحاكم فرده أيضا بدعوى التساهل خطأ بين، فما
زال العلماء ينقلون توثيق الحاكم معتمدين له، وكتب الرجال طافحة
بذلك وهي بين أيدينا.
وكان الحاكم إمام أهل زمانه في الحديث، وكانت له المعرفة التامة
في الجرح والتعديل والعلل وكل فنون الحديث، وكان يراجع مشايخه
في الكلام على الرجال وكان الدارقطني - وهو من مشايخه - يقدمه
على ابن منده.
وقال الحافظ أبو حازم العبدوي: وسمعت مشيختنا يقولون: كان
الشيخ أبو بكر بن إسحاق وأبو الوليد النيسابوري يرجعان إلى أبي
عبد الله الحاكم في السؤال عن الجرح والتعديل وعلل الحديث
وصحيحه وسقيمه.
قال (أي الحافظ العبدوي): وأقمت عند الشيخ أبي عبد الله
العصمي قريبا من ثلاث سنين، ولم أر في جمله مشايخنا أتقى منه
ولا أكثر تنقيرا، فكان إذا أشكل عليه شئ أمرني أن أكتب إلى
الحاكم أبي عبد الله، وإذا ورد جوابه حكم به وقطع بقوله، وانتخب
على المشايخ خمسين سنة. ا ه‍ كذا في طبقات الشافعية (4 / 158).
نعم.. ذكر الذهبي في جزء (ذكر من يعتمد قوله في الجرح
والتعديل) (ص 172) الحاكم على أنه من المتساهلين كالترمذي
قلت: تساهل الحاكم خاص بالمستدرك (1)، فإنه رحمه الله تعالى
أدركته المنية قبل أن ينقحه كله كما هو معلوم في مكانه، وتوثيقه لروح
بن صلاح هو خارج المستدرك في سؤالات السجزي. ومما قوى دعوى

(1) وهذا ما ذكر في التنكيل (1 / 459)، والألباني قام على طبعه
وخاصم فيه فهو مطالب بما فيه.
120

تساهله أنه صحح أحاديث في فضل علي رضي الله تعالى عنه شنع
عليه بسببها وعند المحاققة القول فيها قوله والحق فيها معه.
أما كلامه في غير المستدرك فكغيره من الأئمة النقاد، بل تراه يظهر
التشدد أحيانا، فكذب ابن قتيبة كما في الميزان (2 / 503)، وفي
ترجمة محمد بن الفرح الأزرق (4 / 4). قال الذهبي: تكلم فيه
الحاكم لمجرد صحبته الحسين الكرابيسي، وهذا تعنت زائد. ا ه‍.
وكم عاب الحاكم على الشيخين البخاري ومسلم إخراجهما
لحديث رجال يحلم فيهم.
هب إن الحاكم متساهل كما يقولون، فإنه قال عن روح بن
صلاح: (ثقة مأمون)، فالرجل عنده في أعلى درجات القبول
والتوثيق، فليس من العدل الذي أمرنا الله أن نقوم به أن نسقط هذا
القول بالكلية بل نقول هو: (ثقة)، وإذا تشددنا غاية التشدد
فالرجل (صدوق) ولا بد.
فإذا ضم هذا التوثيق لتوثيق ابن حبان، وإذا كنت في أعلى
درجات التعنت فلا يمكنك أن تنفك إلا عن توثيق الرجل، ويقوى توثيقي ابن
حبان والحاكم توثيق ضمني من يعقوب بن سفيان الفسوي لأنه من
مشايخه، فالرجل حديثه لا يقل عن الحسن والله تعالى أعلم بالصواب.
أما قول الألباني (1): فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى

(1) ونقل كلامه وأضافه لنفسه الشيخ حماد بن محمد الأنصاري في كتابه
(ص 44): ومما كنت أحب له ألا يكتبه قوله عن روح بن صلاح (ص 45)
ما نصه: فأنت ترى أئمة الجرح قد اتفقت عباراتهم على تضعيفه. ا ه‍.
فلا أدري هل يعقوب بن سفيان الفسوي والحاكم وشيخه ابن حبان من طلبة
الحديث أو أئمته أو من حملة الدكتوراه؟ فلماذا هذه التعمية؟ ولماذا هذا
التهويل؟
121

لو كان الجرح مبهما لم يذكر له سبب. ا ه‍.
ففيه إهدار لتوثيق هذين الإمامين بالكلية، وهو قول فيه نظر ولا
يساوي سماعه لأنه مخالف للواقع وفيه جرأة لا تحمد.
ثم زاد الطين بلة فقال: حتى لو كان الجرح مبهما لم يذكر له سبب.
قلت: زدت نكدا، وهذا مثال للكلام الساقط الذي نجل كل
مشتغل بالحديث أن يهذي بمثله ونستحي له فالله المستعان.
وحاصل ما تقدم أن روح بن صلاح (صدوق) والحديث حسن
الإسناد والله أعلم.
5 - حديث: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي
خير لكم تعرض على أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه،
وما رأيت من شر استغفرت لكم.)
قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده (كشف الأستار: 1 / 397):
حدثنا يوسف بن موسى، ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي
رواد عن سفيان عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم
تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما
رأيت من شر استغفرت لكم.)
قال الحافظ العراقي في (طرح التثريب) (3 / 297) إسناده جيد.
وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (9 / 24): رواه البزار
ورجاله رجال الصحيح.
وصححه السيوطي في الخصائص (2 / 281)، وفي تخريج
122

الشفا وهو كما قال.
ولشيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق الغماري الحسني
رحمه الله تعالى ونور مرقده في هذا الحديث جزء مفيد مطبوع اسمه
(نهاية الآمال في شرح وتصحيح حديث عرض الأعمال).
ورجال السند ثقات، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ثقة
أيضا احتج به مسلم، وسيأتي تفصيل الكلام عنه إن شاء الله تعالى.
وللحديث طرق أخرى غير ما رواه ابن مسعود فجاء عن أنس
وبكر بن عبد الله المزني مرسلا وهو غاية في الصحة ومحمد بن علي
ابن الحسين معضلا.
أما مرسل بكر بن عبد الله المزني فله عنه طريقان صحيحان وثالث
ضعيف، أما الصحيحان فأخرجهما القاضي إسماعيل في فضل
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 38. 39)، وقد قال ابن عبد الهادي
في الصارم بعد ذكره أحد الإسنادين (ص 217): هذا إسناد
صحيح إلى بكر المزني (1)، وبكر من ثقات التابعين وأئمتهم ا ه‍.
والثالث الضعيف ما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدثنا
الحسن بن قتيبة، ثنا جسر بن فرقد عن بكر بن عبد الله المزني به
مرفوعا. وانظر المطالب العالية (4 / 23).
قلت: الحسن بن قتيبة وشيخه ضعيفان.
وأما حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، فقال أبو طاهر
المخلص في فوائده (من الاكتفاء ص 17): حدثنا يحيى بن محمد

(1) فهذا المرسل بمفرده حجة عن كثير من الأئمة كأبي حنيفة ومالك
وأحمد وغيرهم.
123

ابن صاعد، ثنا يحيى بن خذام بالبصرة، ثنا محمد بن عبد الله بن
زياد أبو سلمة الأنصاري، ثنا مالك بن دينار عن أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(حياتي خير لكم ثلاث مرات ووفاتي خير لكم ثلاث مرات
فسكت القوم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأبي أنت وأمي
كيف يكون هذا؟ قلت: حياتي خير لكم ثلاث مرات، ثم قلت:
موتي خير لكم ثلاث مرات. قال: حياتي خير لكم ينزل على
الوحي من السماء فأخبركم بما يحل لكم وما يحرم عليكم، وموتي
خير لكم ثلاث مرات تعرض علي أعمالكم كل خميس، فما كان
من حسن حمدت الله عليه وما كان من ذنب استوهبت لكم ذنوبكم)
قلت: أبو سلمة الأنصاري كذبه ابن طاهر وتركه غيره. وله
طريق آخر عن أنس أسقط منه، رواه ابن عدي (3 / 945)،
والحارث ابن أبي أسامة (كما في المغني: 4 / 148) فيه خراش بن
عبد الله.
وأما حديث محمد بن علي بن الحسين أبي جعفر عليهم السلام
فقال الحافظ السيد أحمد بن الصديق رحمه الله تعالى في الاكتفاء في
تخريج أحاديث الشفا (ص 18):
رواه أبو جعفر الطوسي في أماليه من طريق إبراهيم بن إسحاق
النهاوندي الأحمري، حدثني محمد بن عبد الحميد وعبد الله بن
الصلت عن حنان بن سدير عن أبيه قال إبراهيم: حدثني عبد الله بن
حماد عن سدير عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في
نفر من أصحابه: (إن مقامي بين أظهركم خير لكم، وإن مفارقتي
124

إياكم خير لكم)، فقام إليه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسول
الله أما مقامك بين أظهرنا فهو خير لنا، فكيف تكون مفارقتك إيانا
خيرا لنا، فقال: (أما مقامي بين أظهركم خير لكم فلان الله عز
وجل يقول: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون)، يعني: تعذيبهم بالسيف، وأما مفارقتي إياكم،
فهو خير لكم لأن أعمالكم تعرض علي كل اثنين وخميس فما كان
من حسن حمدت الله تعالى وما كان من سيئة استغفرت لكم.،
وهذا غير صحيح بل ملفق مركب محرف، أخرجه إبراهيم الأحمري
المذكور في مصنفاته وهو ضعيف، كما ذكره الطوسي في فهرسته
فقال: كان ضعيفا في حديثه متهما في دينه، وهكذا قال من قبله
النجاشي وغيره. انتهى من كتاب الاكتفا في تخريج أحاديث الشفا
للسيد أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله تعالى.
والحاصل أن الحديث صحيح بلا ريب.
فإذا وقفت على قول الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4 / 148)
إذ يقول:
أخرجه البزار من حديث عبد الله بن مسعود، ورجاله رجال
الصحيح إلا أن عبد المجيد بن أبي رواد، وإن أخرج له مسلم ووثقه
ابن معين والنسائي، فقد ضعفه كثيرون، ورواه الحارث بن أبي
أسامة في مسنده من حديث أنس بنحوه بإسناد ضعيف ا ه‍.
فلا تتهيب مخالفته لأمور:
الأول: إن صاحبه وقائله - الحافظ العراقي - قد جود إسناد البزار
125

في طرح التثريب (3 / 297)، وكلامه في طرح التثريب مقدم على
كلامه في تخريج أحاديث الإحياء، فالأول آخر كتبه، والثاني كتبه
وهو دون العشرين، قال تقي الدين ابن فهد في لحظ الألحاظ (ص
228): ولع (أي الحافظ العراقي) بتخريج أحاديث الإحياء وله
من العمر قريب من العشرين سنة. ا ه‍.
الثاني: إن كلام الحافظ العراقي يقتضي تحسينه للحديث لأنه ذكر
طريقين للحديث، فإن سلم ضعفهما، فالحديث حسن بهما كما هو
مقرر.
الثالث: إن الحديث حسن عند العراقي لزاما، وبيانه أنه تكلم
على طريقين للحديث هما: طريق ابن مسعود، وطريق أنس. ولم
يتكلم على مرسل بكر بن عبد الله المزني وهو مرسل غاية في الصحة
ولو وقف عليه لما ترك الكلام عليه.
فبالنظر إلى ما ذكره العراقي وما فاته يقوي الحديث ويحكم بقبوله
والله أعلم.
وكعادة الألباني في مثل هذه الأحاديث سعى لتضعيف هذا الحديث
فاتبع سبيلا لم يسبق إليه، وتلاعب تلاعبا يعاب عليه.
أما تضعيفه للحديث فاتبع فيه سبيلا لم يسبق إليه كما صرح هو
بذلك في ضعيفته (2 / 405)، فإنه أضاف للحديث حديثا آخر
رواه جمع من الثقات وجعل حديث (حياتي خير لكم...) زيادة
على الحديث الأول انفرد بها عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد
فحكم على الحديث الثاني بالشذوذ لمخالفة عبد الحميد للثقات الذين
126

رووا الحديث الأول..!!
ذلك أن الحافظ البزار قال في مسنده: حدثنا يوسف بن موسى،
ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن عبد الله بن السائب عن
زاذان عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله ملائكة سياحين
يبلغوني عن أمتي السلام). قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حياتي
خير لكم تحدثون ويحدث لكم....) الحديث.
فالحديث الأول رواه عن سفيان جمع من الثقات.
والحديث الثاني انفرد به عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد،
فلما جعلهما الألباني حديثا واحدا حكم على الثاني بالشذوذ، ولم
يعده حديثا مستقلا بل زيادة، وهذا خطأ بين!.
ذلك أن المدقق لا بد أن يعلم أن هذين حديثين بسند واحد
أخرجهما البزار كما ترى سعيا للاختصار وعدم تكرار الإسناد، وهو
ما يكثر حدوثه في كتب الحديث حيث يذكرون سندا واحدا لعدة متون،
وهو ظاهر لا يحتاج لشرح وبيان، وقد أصاب الحافظ السيوطي
فجعل في جامعيه الصغير والكبير الحديث الأول في مكان، والحديث
الثاني في مكان آخر وهذا من شفوف نظره وثاقب فهمه والله أعلم.
ولكي تروق للألباني دعوته صرح بأن عبد المجيد بن عبد العزيز
ابن أبي رواد متكلم فيه من قبل حفظه، وهو وإن وثقه بعضهم لكن
ضعفه آخرون وبين بعضهم السبب (كذا) في ضعيفته (2 / 404)،
فكلامه يرشح بضعف الرجل.
ولأن الرجل ثقة ومن رجال الصحيح فقد رأيت أن هذا مقام الذب
127

عنه وبيان ثقته.
فقد وثقه ابن معين وأحمد وأبو داود والنسائي وابن شاهين والخليلي.
ورجل يوثقه هؤلاء، ويكثر مسلم من الاحتجاج به في صحيحه
يكون قد جاوز القنطرة، ويكون ما جاء فيه من الجرح مردودا عند
التأمل والنظر الصحيح الموافق لقواعد الحديث.
فمن تكلم فيه فلأسباب:
1 - بسبب مذهبه، فإنه كان مرجئا وهذا لا يضر في الرواية كما
هو مقرر في محله، وقد قال الحافظ الذهبي في الميزان بعد ذكر عبد المجيد
ابن عبد العزيز في جماعة من الثقات المرجئين ما نصه: الإرجاء
مذهب لعدة من جلة العلماء لا ينبغي التحامل عليه به. ا ه‍.
2 - كونه أخطأ في أحاديث، فإنه روى حديث الأعمال بالنيات
من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد
الخدري به مرفوعا، هكذا أخرجه أبو نعيم في الحلية (6 / 342)
والقضاعي في مسند الشهاب (فتح الوهاب 1 / 16)، وأبو يعلى
الخليلي في الإرشاد (1 / 233).
والمحفوظ هو عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم
التيمي عن علقمة عن عمر به مرفوعا هكذا أخرجه الجماعة، ولذا
عد هذا الحديث مما أخطأ فيه عبد المجيد فكان ماذا؟ فمن ذا الذي ما
غلط في أحاديث.
فإذا وقفت على ترجمة ابن عدي لعبد المجيد بن أبي رواد في
الكامل (5 / 1982)، فتذكر قول الذهبي في الموقظة (ص 78):
128

وليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ فمن الذي يسلم من
ذلك؟ غير المعصوم الذي لا يقر على خطأ؟
وقد نبه الذهبي على هذا المعنى عدة مرات في ميزان الاعتدال.
والحاصل أن وجود بعض الوهم في حديث عبد المجيد بن أبي
رواد لا يخرجه عن حد الثقة لا سيما وأنه كان حافظا مكثرا وكثيرا ما
يقع من المكثرين مثل ذلك.
وقد وصفه الذهبي بالحفظ والصدق، فقال في النبلاء (9 / 434)
: العالم القدوة الحافظ الصادق. ا ه‍.
3 - من تكلم فيه بجرح غير مفسر كقول أبي حاتم الرازي -
وتشدده معروف ومشهور - " لا يحتج به، يعتبر به " (1)، وكقول
ابن سعد: " كان كثير الحديث مرجئا ضعيفا "، وكقول أبي أحمد
الحاكم: لا ليس بالمتين عندهم،، وكقول أبي عبد الله الحاكم:
" هو ممن سكتوا عنه ".
فهذا فضلا عن كونه من الجرح الخفيف الذي لم يسلم منه إلا
الطبقة الأولى من الثقات، فهو من الجرح الغير مفسر الذي ينبغي
رده في مقابل توثيق ابن معين وأحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم.
4 - من تكلم فيه بجرح فيه مبالغة وتشدد مردود، وهو ابن حبان
حيث قال في المجروحين (2 / 161): منكر الحديث جدا، يقلب

(1) ولا أدري كيف جعل الألباني هذا القول بعد أن نسبه على سبيل الوهم
- للنسائي - من الجرح المفسر؟
129

الأخبار، ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك. ا ه‍.
وقد نبه الحافظ في التقريب (ص 361) على إفراط ابن حبان
بمقولة الترك (1).
وكيف يكون الرجل مستحقا للترك ويغيب ذلك عمن حدث عنه
ووثقه كأحمد وابن معين، وابن حبان يبالغ جدا في الجرح حتى قال
عنه الذهبي في الميزان (1 / 274): ابن حبان ربما قصب الثقة حتى
كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه. ا ه‍.
وكأن مستند ابن حبان في المبالغة في جرحه لعبد المجيد بن أبي
رواد ما رواه في المجروحين (2 / 161) قن طريق عبد المجيد عن
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: " القدرية كفر والشيعة
هلكة والحرورية بدعة، وما نعلم الحق إلا في المرجئة ".
قال الدارقطني في " الأفراد ": تفرد به عبد المجيد، وزاد الحافظ
في التهذيب (6 / 383): وبقية رجاله ثقات. ا ه‍.

(2) وإن تعجب فعجب من الألباني، فالحافظ نبه في التقريب (ص 361)
على إفراط ابن حبان فقال: صدوق يخطئ وكان مرجئا، أفرط ابن حبان
فقال: متروك. ا ه‍.
فاقتصر الألباني في (ضعيفته: 2 / 404) على قول الحافظ: " صدوق
يخطئ "، ولم يذكر تعقب الحافظ على ابن حبان، وما فعل هذا إلا ليوهم
القراء أن الرجل متروك وكلام ابن حبان مقبول غير متعقب، نعوذ بالله تعالى
من اتباع الهوى وشره.
130

قلت: ما قاله الدارقطني والحافظ حق لا مرية فيه، ولا يعني
هذا اتهام عبد المجيد، فالصواب وهو أيضا الحق الذي لا مرية فيه
اتهام من دلسه ابن جريج، فإنه كان مدلسا سئ التدليس.
قال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس لا
يدلس إلا فيما سمعه من مجروح ا ه‍.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: بعض هذه الأحاديث التي كان
يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من
أين يأخذها. ا ه‍ هكذا في الميزان (2 / 659).
وبذا تعلم ما في جرح ابن حبان من النظر، وتوصب الجناية في
هذا الإسناد فيمن دلسه ابن جريج، والحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات.
والحاصل أن الرجل كما قال معاصروه أحمد وابن معين: ثقة،
ومن تكلم فيه فكلامه مردود لا ينتبه إليه.
من أجل هذا اعتمده مسلم في صحيحه وأخرج له في أصوله،
ولهذا قال الحافظ الذهبي في من " تكلم فيه وهو موثق " (ص 124)
: ثقة مرجئ داعية غمزه ابن حبان. ا ه‍.
فكلام الذهبي يصرح بتوثيق الرجل وأن بدعته لا تؤثر في ثقته،
وكذا غمز ابن حبان، وإن كان لهما تأثير لما صرح بتوثيقه فتنبه والله
أعلم بالصواب.
أما كونه (أي الألباني) تلاعب تلاعبا يعاب عليه فبيانه من وجهين:
131

الأول: قال في ضعيفته (2 / 405): فلعل هذا الحديث الذي
رواه عبد المجيد موصولا عن ابن مسعود أصله هذا المرسل عن بكر،
أخطأ فيه عبد المجيد فوصله عن ابن مسعود ملحقا إياه بحديثه
الأول. ا ه‍.
قلت: هذا ظن، والظن ليس بكذب فقط، ولكنه أكذب
الحديث، ويلزم من هذا الظن الفاسد رد المسند - الذي فيه راو
تكلم فيه - للمرسل الذي جاء من وجه أقوى، فلا يصح بذلك
مرسل إلا بشق الأنفس، وفيه إهدار لشطر من السنة، ولم أجد من
سبق الألباني لهذه الخرافة.
الثاني: فإنه قد تقرر أن الحديث المرسل يتقوى بأمور منها إذا ورد
هذا المرسل من طريق آخر موصول ضعيف تقوى المرسل به وصار
من باب الحسن لغيره وبه تقوم الحجة ويلزم العمل به. وإذا كان
الموصول الذي فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد من قسم
الضعيف كما ارتآه الألباني - دفعا بالصدر - فإن المرسل الصحيح إذا
ضم إليه صار من قسم الحسن المقبول الذي يجب العمل به اتفاقا.
ولم أجد مبررا عند الألباني يبعده عن اتباع القواعد الحديثية هنا إلا
التعنت واتباع الهوى في رد مثل هذه الأحاديث، وأزيد هنا
بخصوص هذا الحديث رده على نفسه واتباعه لما تقرر من قبول
المرسل بالشروط المبسوطة في محلها قوله في رده على الشيخ
إسماعيل الأنصاري (1) ما نصه:

(1) كتاب الشيباني: 1 / 134 - 135
132

المرسل الصحيح إسناده حجة وحده عند جمهور الفقهاء، قال
الحافظ ابن كثير: (والاحتجاج به مذهب مالك وأبي حنيفة
وأصحابهما وهو يحكي عن أحمد في رواية ".
وأما مذهب الشافعي فشرطه في الاحتجاج به معروف، وهو أن
يجئ من وجه آخر ولو مرسلا... فهذا الحديث المرسل صحيح
حجة عند المذاهب الأربعة وغيرهم من أئمة أصول الحديث والفقه،
وبذلك يظهر لكل منصف أن القول بسقوط الاستدلال بهذا الحديث
لمجرد وروده مرسلا (1) هو الساقط. ا ه‍.
قلت: بل يظهر لكل منصف أن هوى الرجل أوقعه في التناقض
والرد على نفسه!.
6 - حديث: " من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني
أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم
أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء
مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر
الذنوب إلا أنت أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك ".
قال ابن ماجة في سننه (1 / 256) حدثنا محمد بن سعيد ابن
يزيد بن إبراهيم التستري، ثنا الفضل بن الموفق أبو الجهم، ثنا فضيل
بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك

(1) ثم حديث عرض الأعمال أولى بالقبول من هذا المرسل الذي تقوى
بموصول، فالموصول في الرد على الأنصاري فيه ليث بن أبي سليم حاله
معروف في الضعف، وموصولنا فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد
وقد تقدم توثيقه وأنه من رجال مسلم فيكون قد جاوز القنطرة. والله أعلم.
133

بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا
ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء
مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه
لا يغفر الذنوب إلا أنت أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك ".
ورواه أحمد في " المسند " (3 / 21) عن يزيد بن هارون، وابن
خزيمة في " التوحيد " (17، 18) عن محمد بن فضيل بن غزوان
وأبي خالد الأحمر.
والطبراني في " الدعاء " (2 / 990) وابن السني في " عمل
اليوم والليلة " (ص 40) كلاهما عن عبد الله بن صالح العجلي.
والبغوي في حديث علي بن الجعد (ص 262 نسختي) عن يحيى
ابن أبي بكير ويزيد بن هارون وأحمد بن منيع كما في " مصباح
الزجاجة " (1 / 99) عن يزيد بن هارون.
والبيهقي في " الدعوات الكبير " (ص 47) عن يحيى بن أبي بكير.
كلهم عن فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه به مرفوعا.
ورواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (10 / 211 - 212) عن
وكيع وأبو نعيم الفضل بن دكين كما في " أمالي الأذكار "
(1 / 273).
كلاهما عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد موقوفا
عليه، وهذا وجه مرجوح كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وإسناد هذا الحديث من شرط الحسن، وقد حسنه جمع من
الحفاظ منهم الحافظ الدمياطي في " المتجر الرابح في ثواب العمل
الصالح " (ص 471 - 472)، والحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ
134

الحافظ المنذري كما في " الترغيب والترهيب " (3 / 273).
والحافظ العراقي في " تخريج أحاديث الإحياء " (1 / 291).
والحافظ ابن حجر العسقلاني في " أمالي الأذكار " (1 / 272).
وقال الحافظ البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 99): لكن
رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق فضيل بن مرزوق فهو صحيح
عنده. ا ه‍.
فهؤلاء خمسة من الحفاظ رحمهم الله تعالى صححوا أو حسنوا
الحديث وقولهم حقيق بالقبول والوقوف عنده والإذعان إليه وسنبين
للقارئ صواب مسلك الحفاظ المذكورين ومن تبعهم إن شاء الله تعالى
لكن لا بد من ذكر ما أعل به الحديث ثم الجواب عليه بعون الله تعالى.
فقد أعل الحديث بثلاث علل:
الأولى والثانية: بالكلام في فضيل بن مرزوق وعطية العوفي.
والثالثة: ترجيح الوقف على الرفع... كما زعموا.
فصل
أما عن فضيل بن مرزوق فهو من رجال مسلم في صحيحه ووثقه
جماعة من الأئمة منهم:
العجلي في ثقاته (ص 384) فقال: جائز الحديث ثقة.
ووثقه السفيانان ابن عيينة والثوري.
وقال ابن عدي في الكامل (6 / 2045): ولفضيل أحاديث حسان
135

وأرجو أنه لا بأس به.
وقال أحمد بن حنبل كما في الجرح (7 / 75): لا أعلم إلا خيرا.
وقال الحافظ الكبير الهيثم بن جميل: كان من أئمة الهدى زهدا
وفضلا. ا ه‍
وهذا الثناء لا تجده إلا في الأفراد من الرجال.
ووثقه ابن شاهين بإدخاله في الثقات (ص 185).
وكذا ابن حبان فذكره في (7 / 316) من الثقات.
ومع هؤلاء فقد وثقه من اتفق الناس على قبول توثيقه أعني الإمام
مسلما رحمه الله تعالى فأدخله في صحيحه واحتج به.
أما إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين فقد نقل عنه خمسة من
أصحابه توثيقه لفضيل بن مرزوق فقال عثمان بن سعيد الدارمي عنه:
لا بأس به.
وقال عباس الدوري عنه: ثقة.
وقال عبد الخالق بن منصور عنه: صالح الحديث.
وقال ابن محرز عنه: صويلح.
أما أحمد بن زهير بن أبي خيثمة فمرة قال: ثقة، ومرة قال:
ضعيف.
والتوثيق حقيق بالقبول لأنه موافق للروايات الأخرى عن ابن معين
في الجملة لا سيما وهو موافق للآخرين.
فهؤلاء هم أئمة الجرح والتعديل قد عدلوه وقبلوا حديثه، واحتج
136

به مسلم في صحيحه فكلامهم هو المقبول.
فصل
وأما من جرحه فقسمان:
الأول: قال الحاكم في " سؤالات مسعود السجزي " له: فضيل
ابن مرزوق ليس من شرط الصحيح فعيب على مسلم بإخراجه في
الصحيح. ا ه‍
قلت: هذا في نظر الحاكم وليس في نظر مسلم بن الحجاج،
وقول مسلم مقدم على قول الحاكم في هذا الفن.
ثم إن كلام الحاكم لا يدل على الجرح في شئ، وكم
عاب الحاكم على الشيخين إخراجهما لحديث بعض الناس في
صحيحيهما فلم يلتفت إلى قوله كما تجد ذلك مبسوطا في كتب
المصطلح، على أن الحاكم صحح لفضيل بن مرزوق في المستدرك
* تنبيه:
قال الذهبي في " سير النبلاء " (7 / 342): إنما يروي له مسلم
في المتابعات. ا ه‍
وتبعه المعلمي في تعليقاته على موضوعات الشوكاني (ص 353)
تقليدا لا تنقيدا.
الثاني: أبو حاتم الرازي حيث قال (7 / 75 الجرح): صدوق
صالح الحديث يهم كثيرا يكتب حديثه، قال ابن أبي حاتم: يحتج
به، قال: لا. ا ه‍
137

قلت: لا يخفى تشدد أبي حاتم الرازي في الجرح حتى قال عنه
الحافظ الذهبي - وهو من أهل الاستقراء التام في الرجال كما قال
عنه الحافظ ابن حجر - في " سير أعلام النبلاء " (13 / 81) يعجبني
كثيرا كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل يبين عليه الورع والمخبرة
بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنه جراح. ا ه‍
وقال الذهبي في " السير " أيضا (13 / 260): إذا وثق أبو
حاتم رجلا فتمسك بقوله فإنه لا يوثق إلا رجلا صحيح الحديث،
وإذا لين رجلا أو قال: لا يحتج به فتوقف حتى ترى ما قال غيره
فيه، فإن وثقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم فإنه متعنت في
الرجال قد قال في طائفة من رجال الصحاح: ليس بحجة، ليس
بقوى أو نحو ذلك. ا ه‍.
بل قال ابن تيمية في رسائله في " الزيارة " (ص 88): وأما قول
أبي حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به فأبو حاتم يقول مثل هذا في
كثير من رجال الصحيحين وذلك أن شرطه في التعديل صعب،
والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في اصطلاح جمهور أهل
العلم. ا ه‍
وقال ابن عبد الهادي في " التنقيح ":
وقول أبي حاتم: لا يحتج به، غير قادح أيضا، فإنه لم يذكر
السبب، وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب
الصحيح الثقات الأثبات من غير بيان السبب كخالد الحذاء وغيره
والله أعلم. ا ه‍. (نصب الراية 2 / 439).
138

فإذا علم تشدد أبي حاتم في الجرح وهذا جواب عام، فلقائل أن
يقول: قد بين أبو حاتم سبب جرحه لفضيل بن مرزوق وهو قوله:
" يهم كثيرا " وابن حبان عندما ذكره في الثقات (7 / 316) أخذ كلمة
أبي حاتم وقال: كان ممن يخطئ.
فمحله الجواب الخاص وهو إن سلمنا لأبي حاتم قوله فإن الوهم
الذي يقع في حديث الراوي الموثق لا يخرجه عن حد الثقة إلا إذا
كثر الوهم في حديثه وغلب عليه، أما إذا كان الوهم قليلا فلا
يخرجه عن حد الثقة الذي يصحح حديثه، ولكن لا يكون حديثه
من الطبقة العليا من الحديث الصحيح بل من الطبقة الثانية لأنه كما
هو مقرر فإن الحديث الصحيح ينقسم لأقسام ويعرف له درجات
ومنهم من يدرج الحسن فيه كابن حبان وابن خزيمة وغيرهما.
فإن قيل هذا يسلم لك إن كان قليل الوهم، وقد وصفه أبو حاتم
الرازي بكثرة الوهم.
قلت: هذا من دلائل تعنته وتشدده وأوضح دليل على ذلك أن
الأئمة الذين وثقوه وهم سفيان الثوري وسفيان بن عيينة ويحيى بن
معين وأحمد بن حنبل والهيثم بن جميل ومسلم بن الحجاج وابن
عدي وابن شاهين لم يذكروا شيئا عن أوهامه القليلة بله أوهامه
الكثيرة فدل ذلك على وجود جهتين الأولى سبعة من الحفاظ يقولون
بتوثيق الرجل ولم يذكروا شيئا عن أوهامه، وحافظ خالفهم هو أبو
حاتم الرازي يقول بوهمه الكثير، فإعمالا لجميع الأقوال في الرجل،
ولما عرف من تعنت أبي حاتم الرازي فلك أن تقول: إن الرجل ثقة
139

في حديثه بعض الوهم فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى أو
صحيح ولكن ليس في الدرجة العليا من الصحة.
أما قول النسائي " ضعيف " فإنه من الجرح المبهم غير المفسر فيرد
في مقابل التعديل الذي ورد في حق فضيل بن مرزوق عن عدد من
الأئمة الحفاظ الذين تقدم ذكرهم.
مثال الجرح المبهم المردود قول الحافظ في مقدمة الفتح (ص 437)
في ترجمة محمد بن بشار البصري:
ضعفه عمرو بن علي الفلاس ولم يذكر سبب ذلك فما عرجوا
على جرحه. ا ه‍
على أن النسائي أخرج لفضيل بن مرزوق في سننه وهو المعروف
بتشدده وتعنته في الرجال، فتدبر.
وأما ابن حبان فإنه حامل راية التشدد والتعنت في الرجال فكم من
ثقة أودعه كتابه " المجروحين " حاكما عليه بالترك وعلى مروياته
بالنكارة، وقد أتى بما لم يسبق إليه في الرجل فقال: " منكر
الحديث جدا " وهو قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه، بل ابن
حبان نفسه خالف مقولته هذه فقال عقبها: " كان ممن يخطئ على
الثقات ويروي عن عطية الموضوعات وعن الثقات الأشياء المستقيمة
فاشتبه أمره ". ا ه‍.
قلت: هذا الكلام لا يفيد إلا أن الرجل ثقة لا غير، شأنه في
الرواية كشأن سائر الثقات، فالثقة إذا روى عن ثقة فحديثه مستقيم،
140

وإن روى عن غير ثقة فحديثه غير ذلك فلا مدخل للثقة فيمن روى
عنه، وإذا كان الرجل يؤدي ما سمعه تماما فهو من رسم الثقة، ثم
قال ابن حبان: " والذي عندي أن كل ما يروى عن عطية من المناكير
يلزق ذلك كله بعطية ويبرأ فضيل منها ".
قلت: إذا برئ الرجل من غلط غيره فلا بد من إخراجه من
المجروحين وإدخاله في الثقات وهذا ما لم يستطع أن ينفك منه ابن
حبان فأدخله في ثقاته (7 / 316)، وهذا هو الأولى والصواب من
قوليه لأنه الموافق لأقوال الجماعة وفيهم السفيانان وابن عيينة وابن
معين وأحمد، وأتبع ابن حبان توثيقه بقوله: " كان ممن يخطئ "
ولم يأت بما يدل على خطئه لا في الثقات ولا في المجروحين كما
سترى إن شاء الله تعالى.
ثم قال ابن حبان: " وفيما وافق الثقات من الروايات عن الأثبات
يكون محتجا به، وفيما انفرد على الثقات ما لم يتابع عليه يتنكب
عنها في الاحتجاج به ". ا ه‍.
قلت: حاصل هذا أن حديثه لا يقبل إلا بمتابع.
وهو معارض بقوله: " هو يروي عن الثقات الأشياء المستقيمة "
فإن من يروي الأحاديث المستقيمة عن الثقات ويكون هذا شأنه وديدنه
وطريقته لا يحتاج للتوقف في أمره وأخذ ما وافق والتنكب عما انفرد
به، فإن من يتنكب عن حديثه إذا انفرد به هو الذي يغلط عن الثقات،
وإذا كان الرجل يأتي بالوجه الصحيح عن الثقات فمقتضى ذلك قبول
حديثه لا التوقف فيما انفرد به والتنكب عنه، وهذا التوقف والتنكب
141

من دلائل تشدد وتعنت ابن حبان في الجرح رحمه الله تعالى.
ثم كان ابن حبان يستدل على مقولته فقال: روى الفضيل بن
مرزوق عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي بن أبي طالب عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا
في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قويا).
قلت: لا شئ على فضيل بن مرزوق في هذا الحديث، فالرجل
لم ينفرد به من هذا الوجه، بل تابعه إسرائيل بن يونس بن أبي
إسحاق السبيعي فيما أخرجه أحمد في المسند (1 / 109) وعبد الله بن
أحمد في السنة، وأبو نعيم في الحلية (1 / 64)، وابن الجوزي في
العلل المتناهية (1 / 251) وتابعه أيضا إبراهيم بن هراسة وسفيان
الثوري في الحلية (1 / 64).
ومنه يعلم أن كلام ابن حبان في فضيل بن مرزوق غير مقبول،
والحديث الذي تسرع وأتى به لا يساعده في دعواه بل يفيد إتقان
الرجل وأنه لم ينفرد به بل وافقه غيره، فتأمل.
والحاصل إن فضيل ابن مرزوق إن لم يكن حديثه في أعلى
درجات الصحة فإنه لا يقل عن درجة الحسن.
وكون الرجل حسن الحديث هو معنى قول ابن رجب الحنبلي في
جامع العلوم والحكم (1 / 210): هو ثقة وسط. ا ه‍.
وهو ما صرح به الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (7 / 342)
فقال: ما ذكره في الضعفاء البخاري ولا العقيلي ولا الدولابي
142

وحديثه (أي فضيل بن مرزوق) في عداد الحسن. ا ه‍
وأدخله الذهبي في كتابه (من تكلم فيه وهو موثق) (ص 151)
وهو يعني أن حديثه لا يقل عن رتبة الحسن، بل أطلق الذهبي القول
بتوثيقه في الكاشف (2 / 332) وليس هذا ببعيد عن رجل يوثقه
الأئمة ويحتج به مسلم في صحيحه.
تتمة مهمة:
ضعف الألباني هذا الحديث بأمور منها تصريحه بضعف فضيل بن
مرزوق، وقد دافع عن ذلك وتشدد فيه في ضعيفته (1 / 323)، ثم
تناقض وحسن حديثه في صحيحته (3 / 128) فتأمل.
* * *
أما عن العلة الثانية وهي الكلام في عطية بن سعد العوفي:
فمن تكلم في عطية فعلى قسمين:
الأول: قسم أبهم الجرح ولم يفسره.
الثاني: قسم آخر ذكر سبب جرحه، وهؤلاء كلامهم في عطية
العوفي يرجع إلى ثلاثة أسباب، هي:
1 - تدليسه.
2 - وتشيعه.
3 - وروايته شيئا أنكر عليه.
أما الجرح المبهم فينبغي رده وعدم الالتفات إليه؟ لو بلغ مبلغا
كبيرا، لأنه تقرر في قواعد علوم الحديث أن الراوي الذي جاء فيه
143

جرح وتعديل وهذا الجرح مبهم غير مفسر ينبغي رده وعدم العمل به
وترك الالتفات إليه وبالتالي الأخذ بالتعديل الذي جاء في الراوي هو
الصحيح وقد استقر العمل عند المحدثين على هذا.
وأما من جرحه بسبب تدليسه وهم أكثرون فاعتمادهم في ذلك
على رواية تفرد بها تالف متهم بالكذب هو محمد بن السائب الكلبي
لا ينبغي الاعتماد عليه، وقد توارد كثرة على ذلك تقليدا لا تنقيدا.
ومن تكلموا فيه بسبب تشيعه فجرحهم في الحقيقة مردود لأن
الجرح بالبدعة لا يلتفت إليه بعد بيان صدق الراوي وعدالته خاصة إذا
لم يكن داعيا لبدعته أو المروي يؤيد بدعته، ولم يثبت أن عطية
العوفي كان داعيا للتشيع والحديث المروي هنا الذي نحن بصدده لا
علاقة له بالتشيع، وعليه فكلام من تكلم في عطية العوفي بسبب
تشيعه لا ينظر إليه، خاصة إذا كان هذا المتكلم فيه متهم بالنصب
وهو ضد التشيع.
وأما الكلام فيه بسبب روايته شيئا أنكر عليه فلم أجد له فيما وقفت
عليه من كتب الرجال شيئا من ذلك إلا حديثا واحدا فقط ذكره ابن
عدي، والقول فيه قول عطية والصواب هو حديثه كما سيأتي إن
شاء الله تعالى، حتى وإن غلط عطية العوفي في الحديث الذي ذكره
له ابن عدي فهذا لا يفيد تضعيفه وإسقاط حديثه، فليس معنى كون
الراوي مقبول الحديث أن تكون مروياته كلها صوابا هذا بعيد جدا عن
الواقع، لأن الإنسان عامد للنسيان وتغلب عليه الطبيعة البشرية،
ولذا لا تجد إماما مهما علا قدره وقوى حفظه لا يهم في حديثه،
ولكن إذا كان صوابه كثر من خطئه كان مقبولا وإلا فلا، والحاصل
144

أن ثبوت بعض الأخطاء في حديث عطية العوفي لا يضره في جنب ما
روى، خاصة أنه كان مكثرا والله تعالى أعلم بالصواب.
وهذا الكلام المجمل ينبغي بيانه في الفصول التالية:
* * *
فصل
جرح أكثرون عطية العوفي بسبب روايتهم تدليسه تدليس
الشيوخ.
قال ابن حبان في المجروحين (2 / 176).
سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث فلما مات أبو سعيد جعل
يجالس الكلبي ويحضر قصصه، فإذا قال الكلبي: قال رسول الله
كذا فيحفظه وكناه أبا سعيد ويروي عنه، فإذا قيل له من حدثك
بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري
وإنما أراد الكلبي. ا ه‍.
وقد اعتمد من اتهم عطية العوفي بتدليس الشيوخ على الآتي:
قال عبد الله بن أحمد، سمعت أبي ذكر عطية العوفي فقال: هو
ضعيف الحديث، بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير
وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد: قال أبي: وكان
هشيم يضعف حديث عطية.
وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي ثنا أبو أحمد الزبيري سمعت
الثوري قال: سمعت الكلبي قال: كناني عطية بأبي سعيد.
145

وسمعت أبي يقول: كان سفيان الثوري يضعف حديث عطية
العوفي. ا ه‍.
كذا في العلل ومعرفة الرجال (1 / 122)، والجرح والتعديل
(6 / 383)، وضعفاء العقيلي (3 / 359)، والكامل لابن عدي
(5 / 2007).
وفي المجروحين لابن حبان (2 / 177): سمعت مكحولا يقول:
سمعت جعفر بن أبان يقول: ابن نصير يقول قال لي أبو خالد
الأحمر قال لي الكلبي: قال لي عطية كنيتك بأبي سعيد قال: فأنا
أقول حدثنا أبو سعيد. ا ه‍.
فأنت أيها القارئ المنصف إذا نظرت بعين الناقد المتجرد تجد أن
أحمد قد ضعف عطية العوفي ثم ذكر مستنده في تضعيفه وهي حكاية
الكلبي وهي سبب كلام هشيم في عطية، وحكى أحمد تضعيف
الثوري لعطية بعد أن أسند البلاغ من طريق الثوري، فحكاية الكلبي
هي أصل مستند الثوري أيضا في تضعيفه عطية العوفي.
وقد أدخله ابن حبان في المجروحين (2 / 176) اعتمادا على كلام
الكلبي ولم يذكر شيئا آخر يتكئ عليه إلا هذه الحكاية ولم تفته
المبالغة في الجرح كعادته رحمه الله تعالى.
وهذا الذي اعتمدوا عليه فيه نظر ولا يصح سنده، لأن مداره على
محمد بن السائب الكلبي وحاله معروف فهو تالف متهم بالكذب،
فالسند الذي يكون فيه ذلك الرجل لا ينظر إليه ولا يعتمد عليه في
شئ، ومع ذلك فقد سارت الركبان بمقولته التالفة وتوارد البعض
146

على حكايتها، والكمال لله تعالى والمعصوم هو رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإن تعجبت من اعتماد البعض على هذه الرواية الساقطة في رمي
عطية العوفي بتدليس الشيوخ فأعجب أكثر لتوارد الكثير على هذا
الجرح المردود، فصار هؤلاء خلف المعتمدين على هذه الرواية
الساقطة تقليدا لا غير، ومع كون قولهم جاء عاريا عن الدليل فإنهم
لم يذكروا ما يؤيد دعواهم ويقيم صلب مستندهم ولو وجدوا شيئا
لذكروه خاصة المتأخرين منهم، ولما لم نجد ذلك علم أن من تأخر
قلد المتقدم وحصل التوارد على الخطأ وهذا له نظائر كثيرة في كتب
الرجال فالحمد لله على توفيقه. ولم أجد من تنبه لهذا الخطأ من
أهل الحديث إلا اثنان.
أولهما: الحافظ البارع أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي
حيث قال في شرح علل الترمذي (ص 471) بعد نقله أصل الحكاية
عن العلل للإمام أحمد ما نصه:
ولكن الكلبي لا يعتمد على ما يرويه. ا ه‍.
وثانيهما: الحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري، فقال في
الهداية في تخريج أحاديث البداية (6 / 172) في أثناء كلام له
عن عطية العوفي:
وإنما نقلوا عنه التدليس في حكاية ما أراها تصح مع الكلبي. ا ه‍.
وقد تقعقع الألباني كعادته فشنع في توسله (ص 94 - 98) على
عطية العوفي بسبب هذه الرواية التالفة وشنع على من حسن الحديث،
وهو كلام لا يتلفت إليه ولا يشتغل برده لما علمت من حال هذه الرواية
147

التي هي عمدة ورأس مال من اتهمه بالتدليس والله المستعان.
* * *
فصل
قال صاحب (الكشف والتبيين) (ص. 50) تعقيبا على كلام ابن
رجب الحنبلي:
أما أن الكلبي لا يعتمد على ما يرويه فهذا صحيح لكن.. ليس
له شأن هنا إذ أن العلماء الذين ذكروه بهذا النوع من التدليس القبيح
لم يعتمدوا فقط على قول الكلبي عن عطية وتكنيته له لم إنما اعتمدوا
ذلك بناء على سبرهم مروياته وتنقيدهم لرواياته. ا ه‍.
قلت: هذا كلام متناقض فإنه يسلم بعدم الاعتماد على الكلبي،
ثم ينفي أن له شأنا هنا ثم يثبت عكس ذلك فيصرح بأن العلماء
الذين ذكروا عطية بالتدليس لم يعتمدوا على قول الكلبي فقط ولكن
على سبرهم مروياته أيضا فهذا يعني أنهم يعتمدون على قول الكلبي
وغيره فهو ينفي أمرا ثم يثبته ويتناقض كعادة شيخه، هذه واحدة.
والثانية: من ذكر تدليس الشيوخ عن عطية العوفي وتكنيته للكلبي
بأبي سعيد اعتمد فقط على رواية الكلبي فهذه كتب الرجال بين أيدينا
لم تذكر إلا الرواية التي فيها الكلبي المتهم بالكذب فقط ولم تشر
لأي شئ آخر من مرويات عطية العوفي، فكيف يقول هذا عن
الكلبي: ليس له شأن هنا؟
الثالثة: إن هذه دعوى لا دليل عليها ولا مستند لها، وكل ما
كان حاله كذلك فهو مردود لا ينظر إليه لأن الله جل وعز يقول:
148

(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
فمن لم يأت ببرهان على دعواه فكلامه فيه نظر.
الرابعة: قوله: (وإنما اعتمدوا ذلك بناء على سبرهم مروياته
وتنقيدهم لرواياته).
قلت: لما لم يصرح أحد بمقولته دل ذلك على أنه اعتمد على ظن
مرجوح، والظن لا يغني من الحق شيئا، ومن الأدلة على كونه ظنا
أنه لو كان معه شئ يؤيد دعواه لأبرزه ليؤيد قوله وينصر رأيه فلما لم
يفعل دل أن هذا من باب أكذب الحديث والله أعلم.
ولك أن تقول: إن كلامهم في تدليس عطية العوفي لو كان
معتمدا على سبر مروياته لأبرزوا ذلك وبينوه وتداولوه في كتب
الرجال والتخاريج، وكأنك لا تجد مثالا واحدا يسعف صاحب
الدعوى، فلما لم تصح الدعوى رجع ذلك إلى رواية الكلبي فقط.
الخامسة: تدليس الشيوخ لا يعرف إلا بنص، فكون عطية
العوفي كنى الكلبي بأبي سعيد حتى لا يتميز عن أبي سعيد الخدري
هذا أمر يحتاج إلى توقيف ولا عبرة إلا به، فسبر المرويات لا يفيد
شيئا في ذلك ما لم يكن معه نص في حكاية التكنية.
السادسة: هذه إحالة على مجهول ومحاولة إثبات التدليس القبيح
دفعا بالصدر لا غير ولو صحت هذه الطريقة فرحمة الله عز وجل
على الحجة والبرهان والدليل فمثله كمثل رجل اعتمد على حديث
مكذوب في إثبات أمر ما، فلما حاجه غيره وبين له كذب ما اعتمد
عليه وافق هذا الرجل من حاجه ولكنه يريد أن يثبت الأمر الذي في
149

ذهنه فقال لمن حاجه: أسلم لك بكذب ما اعتمدت عليه لكن هناك
أدلة أخرى وسكت، ولو علمها لأبرزها.
وبهذه الطريقة يمكن إثبات كل باطل ومنكر والاعتماد على
الموضوعات والله المستعان.
السابعة: قد تقرر أنه لا ينسب لساكت قول وقد سكتوا عما
سوى رواية الكلبي، فمن نسب للحفاظ غير حكاية الكلبي يكون قد
نسب للساكت قولا وقول الناس ما لم يقولوه والله المستعان.
* تنبيه هام:
قال الألباني في توسله (ص 95) بعد ذكر حكاية تكنية عطية
للكلبي - وهي تالفة - كما تقدم: وهذا وحده عندي يسقط عدالة
عطية هذا. ا ه‍
قلت: هذا خطأ لأمرين:
الأول: قال الحافظ السيوطي في تدريب الراوي (1 / 231):
من أقسام التدليس.. إعطاء شخص اسم آخر مشهور تشبيها، ذكره
ابن السبكي في جمع الجوامع قال: كقولنا أخبرنا أبو عبد الله
الحافظ يعني الذهبي تشبيها بالبيهقي حيث يقول ذلك يعني به
الحاكم.. وليس ذلك بجرح قطعا لأن ذلك من المعاريض لا من الكذب،
قاله الآمدي في الأحكام وابن دقيق العيد في الاقتراح. ا ه‍
الثاني: ما ذكر من تكنية عطية العوفي للكلبي فعل نحوه جماعة
من الأعيان العدول.
قال ابن حبان في المجروحين (2 / 253): محمد بن السائب
150

الكلبي كنيته أبو النضر من أهل الكوفة وهو الذي يروي عنه الثوري
ومحمد بن إسحاق ويقولان: حدثنا أبو النضر حتى لا يعرف. ا ه‍
قلت: ومن شيوخهما سالم بن أبي أمية المكنى بأبي النضر وهو
تابعي ثقة احتج به الجماعة كما في التهذيب (3 / 431).
وكان هشيم بن بشير الواسطي الحافظ الثقة - وهو من المتكلمين
في عطية العوفي - يفعل ذلك.
قال يحيى بن معين: لم يلق أبا إسحاق السبيعي وإنما كان يروي
عن أبي إسحاق الكوفي، وهو عبد الله بن ميسرة وكنيته أبو عبد
الجليل فكناه هشيم كنية أخرى. ا ه‍ من التهذيب (11 / 63).
قلت: عبد الله بن ميسرة ضعيف.
وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين كان مروان يغير الأسماء يعمى
على الناس كان يحدثنا عن الحكم بن أبي خالد وإنما هو حكم بن
ظهير. ا ه‍ ومروان هو ابن معاوية الفزاري الثقة الحافظ والحكم
الذي يدلسه متروك متهم، وابن معين مع ذلك يقول عن مروان ثقة.
فهؤلاء أربعة من كبار أعيان الحفاظ يدلسون تدليس الشيوخ عن
الضعفاء وأنت أيها المنصف تقول بعدالتهم ولا تستطيع أن تنفك
عن هذا القول، فإذا تكلمت بعد ذلك في عطية العوفي وقلت بسقوط
عدالته فقد تخبطت تخبطا معيبا وبعدت عن حد الإنصاف وألزمت
نفسك بعظيم يصعب دفعه. نسأل الله تعالى السلامة والصون.
* * *
151

فصل
أما من تكلموا فيه لتشيعه كالجوزجاني فإنه قال في (أحوال
الرجال ص 56): مائل.
والجوزجاني كان معروفا بالنصب مشهورا به - وكتابه ماثل بين
أيدينا - حتى قال عنه الحافظ في مقدمة اللسان (1 / 16):
الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى
العجب وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع. ا ه‍.
على أن قول الجوزجاني هذا مع سخافته وسقوطه هو في حقيقته
توثيق لعطية العوفي لأنه لما لم يجد شيئا في حديث العوفي وكان
الرجل كوفيا شيعيا لم يجد ما يذكره به إلا تشيعه فقال: (مائل)،
ولو وجد الجوزجاني شيئا لسارع بإظهاره لشدة عداوته لأهل الكوفة.
والنواصب مجروحون بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام: (لا يحبك إلا
مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) ففض يديك من جرح النواصب تسلم.
* تنبيه:
نقل العقيلي في الضعفاء (3 / 359) عن سالم المرادي أنه قال:
كان عطية العوفي رجلا متشيعا.
وأورد الذهبي هذه المقولة في الميزان (3 / 79).
وهي كلمة لا تفيد جرحا البتة. فالمرادي هو ابن عبد الواحد
الكوفي ليس هو من الحفاظ ولا من النقاد الذين يقف المرء عند
قولهم في الجرح والتعديل، وهو أيضا شيعي كعطية العوفي، بل
عطية العوفي من مشايخه فهو بعيد جدا عن نقد عطية العوفي.
152

وقد أوردت هذا التنبيه تعقيبا على الشيخ حماد الأنصاري حيث عد
سالما المرادي من النقاد المضعفين لعطية العوفي في رسالته (تحفة
القاري في الرد على الغماري) (ص 64).
وكلامه خطأ من وجهين:
الأول: إن (سالم المرادي) ليس من النقاد، بل هو يحكي أمرا
في عطية فقط.
الثاني: أن كلامه ليس من الجرح في شئ، فكيف يعده الشيخ
حماد الأنصاري من المجرحين لعطية العوفي، وكان الشيخ حمادا
الأنصاري يريد أن يحشد المجرحين لعطية بدون تأمل.
وكذا قول الساجي في عطية العوفي كما في التهذيب (7 / 226)
ليس بحجة وكان يقدم عليا على الكل. ا ه‍.
فإن الساجي كان بصريا، والبصريون كثر فيهم النصب، قال
الحافظ في اللسان (4 / 439): النصب معروف في كثير من أهل
البصرة. ا ه‍
وهم يفرطون فيمن يتشيع لأنهم عثمانيون وخاصة فيما كان بين
أظهرهم كذا في التهذيب (7 / 413).
والساجي رحمه الله تعالى كان شديدا متصلبا، فجرحه للكوفيين
ينبغي التدقيق فيه، فإنه قد يجرح الرجل بسبب مذهبه كما حدث
لعطية العوفي هنا فإنه قال عنه: ليس بحجة، ثم أبان عن سبب
قوله فقال: وكان يقدم عليا على الكل.
153

وإذا كان الرجل شيعيا يقدم عليا على الكل فلا بد أن يجرح عند
المخالف لقوله ولا يكون حجة عنده. على أن الجرح بالتشيع وغيره
مردود لا يلتفت إليه، فالعبرة بصدق الراوي لا بمذهبه، فكم من
الرواة الشيعة والنواصب والخوارج وغيرهم قد أخرج حديثهم في
الصحيحين وقد استقر الأمر على ذلك (1).
ومما زاد في جرحهم لعطية أنه كان محبا لعلي ابن أبي طالب عليه
السلام (2) بحيث عرض النواصب عليه سبه فأبى، وكان هذا ينبغي
أن يحسب له، ولكن للنواصب شدة وصولة.
قال ابن سعد في الطبقات (6 / 304):
خرج عطية مع ابن الأشعث، فكتب الحجاج إلى محمد بن
القاسم أن يعرضه على سب علي فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط
واحلق لحيته، فاستدعاه فأبى أن يسب، فأمضى حكم الحجاج فيه.
ا ه‍.
فانظر إلى جلد الرجل وحبه لعلي كرم الله وجهه، وقد صح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله تعالى عنه: (لا يحبك إلا
مؤمن ولا يبغضك إلا منافق).
* * *

(1) أنظر للكلام على قبول رواية المبتدع كتاب (فتح الملك العلي بصحة
حديث باب مدينة العلم علي) للحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري
رحمه تعالى، ففيه فوائد ومناقشات قد لا توجد في غيره.
(2) السلام على آل البيت دأب كثير من المتقدمين خاصة المحدثين وقد ذكرت
في كتابي بشارة المؤمن بتصحيح حديث اتقوا فراسة المؤمن بعض النقول في
ذلك وهي غيض من فيض فلا تلتفت لتشغيب النواصب ومن تأثر بهم.
154

فصل
أما من تكلم فيه بسبب روايته شيئا أنكر عليه، فلم أجد من صرح
بذلك عند ترجمته لعطية العوفي إلا أن ابن عدي أورد حديثا واحدا
في ترجمته من الكامل (5 / 2207) الذي جاء بدليل يؤيد دعواه
التي أشار إليها ولم يصرح بها.
قال ابن عدي: حدثنا أبو العلاء محمد بن أحمد الكوفي بمصر،
ثنا محمد بن الصباح الدولابي، ثنا إبراهيم بن سليمان بن رزين
وهو أبو إسماعيل المؤدب، ثنا عطية العوفي في سنة عشر ومائة عن
أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أهل عليين ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري
بالأفق وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما).
قلت: حديث أبي سعيد الخدري أصله في الصحيحين (الفتح:
6 / 0 23)، مسلم (4 / 2177) ولفظه:
(إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون
الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما
بينهم)، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم
قال: (بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
وأخرجه أحمد في المسند (3 / 0 5، 27، 93)، وفي فضائل
الصحابة (1 / 49)، وأبو داود (4 / 48)، والترمذي (تحفة
10 / 141 - 1)، وابن ماجة (1 / 37)، والحميدي (2 /
333)، وعبد بن حميد في المنتخب (ص 170)، وأبو يعلى
الموصلي (2 / 369، 400)، وابن أبي عاصم في السنة
(2 / 616)، وخيثمة بن سليمان الأطرابلسي في جزء الفضائل (ص
155

200)، وانظر علي بن الجعد (ص 259 وما بعدها) كلهم من
طريق عطية عن أبي سعيد الخدري مرفوعا بما رواه ابن عدي.
وكأن ابن عدي أنكر على عطية العوفي هذه (وإن أبا بكر وعمر
منهم وأنعما) فإن أصل الحديث في الصحيحين كما تقدم.
قلت: هذه الزيادة ثابتة ولم ينفرد بها عطية العوفي، فقد أخرجه
أحمد في المسند (3 / 26)، وفي فضائل الصحابة (1 / 69)،
وأبو يعلى في مسنده (2 / 461) من طريق مجالد عن أبي الوداك
عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا.
مجالد فيه كلام لكن تابعه غير واحد من الثقات، وأبو الوداك
تابعي ثقة.
وبعد ثبوت الزيادة المذكورة تبين لك أن جرح عطية العوفي من
هذا الباب دعوى تحتاج لدليل.
ثم حديث آخر ففي المطبوع باسم (التاريخ الصغير) للبخاري
(ص 124) ما نصه:
قال أحمد في حديث عبد الملك عن عطية عن أبي سعيد قال النبي
صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم الثقلين)، أحاديث الكوفيين هذه مناكير.
ا ه‍.
قلت: النكارة لها معان، أحدها: مرادفة الشاذ، ثانيها:
مخالفة الضعيف لمن هو أوثق منه، ثالثها: تفرد الضعيف الذي لا
يحتمل تفرده ولا من يتابعه أو يشهد له، رابعها: كون المتن غريبا
156

ومخالفا للأصول مع ركاكة الألفاظ، خامسها: مطلق التفرد ولو
بوجه من الوجوه.
أما عن الأول: وهو مرادفته للشاذ، فلم يخالف عطية العوفي
أحدا لا في متن ولا في إسناد.
بي عن الثاني: فمثله.
وعن الثالث: فالحديث ليس فردا فلا ينطبق عليه.
وعن الرابع: فإنه منتف تماما هنا فلا تعارض بينه وبين غيره بل هو
مفيد للعلم.
فلم يبق إلا الوجه الخامس: وهو مطلق التفرد من جهة عطية عن
أبي سعيد الخدري وهذا الوجه يجب أن يحمل عليه قول الإمام أحمد
ابن حنبل رحمه الله تعالى.
* * *
فصل
قول أبي زرعة: كوفي لين، وقول أبي حاتم الرازي: ضعيف
يكتب حديثه.
فهذا من الجرح المبهم غير المفسر فهو يرد كما تقرر في قواعد
الحديث، وكما استقر العمل على ذلك والأخذ في مقابل ذلك
بالتعديل الوارد في عطية العوفي.
ولكن يجب ألا يخلي المقام من أمرين:
أولهما: أن الجرح المذكور أعلاه ليس من الجرح الشديد الذي ينزل
157

بمفرده عند خلو الراوي من التعديل إلى درجة التالف الذي لا يعتبر
بحديثه، بل هو جرح خفيف لم يخل منه عدد من الرواة صحح لهم
الحفاظ وخرج حديثهم في الصحيح.
ثانيهما: إن هذا الجرح غير المفسر في حقيقته يرجع إلى الأمرين
اللذين ظلم بسببهما وهما التشيع والتدليس.
وقد قال الحافظ في نتائج الأفكار (1 / 271): ضعف عطية إنما
جاء من قبل التشيع ومن قبل التدليس. ا ه‍ وقد تقدم الكلام على
التشيع والتدليس المنقولين عن عطية العوفي.
بقي أن تعلم أن أبا حاتم الرازي قد جاء عنه توثيق عطية العوفي
كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
* * *
فصل
أما عن قول ابن عدي في الكامل (5 / 2007): (وهو مع
ضعفه يكتب حديثه).
فإن ابن عدي اعتمد في ترجمة عطية العوفي على أمور هي:
1 - رواية ابن أبي مريم عن يحيى بن معين قال عن عطية العوفي:
ضعيف إلا أنه يكتب حديثه.
2 - تضيف أحمد والثوري وهشيم بسبب حكاية الكلبي تدليس
عطية له.
3 - قول الجوزجاني: مائل.
158

4 - الحديث الذي ذكره له وقد تقدم الكلام عليه.
وظاهر أن ابن عدي لم يقنع بشئ من هذه الأمور الثلاثة الأخيرة
وارتضى قول يحيى بن معين في رواية ابن أبي مريم عنه حيث قال:
ضعيف إلا أنه يكتب حديثه، فتبع يحيى بن معين في مقولته، بل
ونقل عبارته فختم الترجمة بقوله: مع ضعفه يكتب حديثه.
وكون ابن عدي لم يقنع بالأمور الثلاثة هو الصواب، فإن
تضعيف أحمد والثوري وهشيم راجع لحكاية التدليس التي لا تصح
لانفراد محمد بن السائب الكلبي بها وحاله معروف في الضعف،
وقول الجوزجاني قد فرغنا منه، والحديث المذكور لا يعد قدحا في
الرجل وإن تضعيفه بسبب هذا الحديث يعتبر تعنت مرفوض، فلم
يبق إلا اعتماده كلام يحيى بن معين فهو تابع أو قل مقلد إن شئت.
وإذا علم ذلك فإن هذه الرواية في عطية العوفي التي اعتمد عليها
ابن عدي وهي رواية ابن أبي مريم مرجوحة أمام الروايات الأخرى
عن ابن معين التي وثقت عطية العوفي.
وإذا كان ما اعتمد عليه ابن عدي مرجوحا، فقوله كذلك فتدبر،
والله أعلم بالصواب.
* * *
فصل
وبعد أن تبين لك حقيقة الجرح الذي جاء في عطية العوفي وأنه لا
يضر الرجل ولا يوهن أمره لأنه عند المحاققة جرح لا يلتفت إليه ولا
يعمل به، وجب بيان صدق الرجل وعدالته وعمل الأئمة بحديثه
واحتجاجهم به في الأحكام وتخريجهم له على الأبواب.
159

فالرجل قد وثقه وعدله وقبل حديثه جماعة والصواب معهم،
فمن هؤلاء ابن سعد حيث قال في (الطبقات الكبرى) (6 / 304):
وكان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة ومن الناس من لا يحتج
به. ا ه‍
وقد حاول صاحب (الكشف والتبيين) رد هذا التوثيق، فقال في
رسالته المذكورة (ص 39) ما نصه:
ومثل هذا التوثيق لا يعارض تضافر الأئمة على تضعيفه كما سبق
تفصيله وبخاصة أن ابن سعد مادته من الواقدي في الغالب،
والواقدي ليس بمعتمد كما قال الحافظ ابن حجر في هدي الساري
(ص 417)، وانظر (ص 443، 447) منه. ا ه‍.
قلت: لو قبل كل جرح صدر عن إمام أو غيره لانسد باب الرواية
تماما، فلا تجد راويا قد خلا من الجرح، ولكن الحاذق هو الذي
يعرف ما ينبغي أن يعد جرحا فيقبله وإلا فلا، والذين جرحوا عطية
جرحهم راجع إلى التدليس أو التشيع أو إنكار بعض ما روي، وقد
علمت أن الأولى لا تعتمد إلا على محمد بن السائب الكلبي التالف
المتهم بالكذب، والتشيع لا يعد جرحا، وما أنكر عليه تقدم أن
الصواب مع عطية والقول قوله.
أما عن اعتماد ابن سعد على الواقدي غالبا فهو ما صرح به
الحافظ، لكن هذا ليس على إطلاقه، فإذا رأيت ابن سعد ترجم
للرجل ترجمة عارف بأحواله وبحديثه وبكلام الناس فيه فلا مدخل
عند ذلك للواقدي، هذه واحدة.
160

والثانية: إن كلام ابن سعد هو كلام مدني في عراقي وقد كان
بينهما ما كان، وهو ما علل به الحافظ في مقدمة الفتح (ص 443)
سبب عدم قبول كلام ابن سعد فقال:
ابن سعد يقلد الواقدي، والواقدي على طريقة أهل المدينة في
الانحراف على أهل العراق فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى. ا ه‍.
وعليه فإذا وجدت لابن سعد جرحا في عراقي فلا بد من الحذر
والتأني في قبوله، أما إذا وثق ابن سعد عراقيا كوفيا فلا بد من
العض عليه بالنواجذ فإن شهادة الخصم هي من أقوى الشهادات.
ثم قول ابن سعد: (كان ثقة إن شاء الله تعالى وله أحاديث
صالحة ومن الناس من لا يحتج به) يفيد أشياء:
1 - توثيقه لعطية العوفي.
2 - إن عطية العوفي له أحاديث صالحة مقبولة.
3 - إن مما يؤكد توثيقه وسبره لحاله أنه رأى بعضهم لم يحتج به
فأعرض عنهم ورجح توثيقه مما يبين لك أنه لم يقنع بقولهم - وهو
المتحامل على الكوفة - ولم يقف عنده لما ظهر له من أنه ليس جرحا
في الحقيقة، ولو كان جرحا لرد حديثه وصرح بعدم توثيقه.
والحاصل أن توثيق ابن سعد لعطية العوفي مقبول ولا بد، والله
أعلم.
* * *
فصل
أما إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين، فقد وثقه ونقل عنه ذلك
161

عدة مرات، ففي سؤالات الدوري (2 / 407): قيل ليحيى كيف
حديث عطية؟ قال: صالح (1).

(1) قال صاحب الكشف والتبيين (ص 38) عن قول ابن معين في عطية
العوفي ما نصه:
وأما قوله في تاريخ الدوري (صالح) فهذا تمريض منه للقول فيه كما صرح
بمثله الحافظ في الهدى (ص 417). ا ه‍.
قلت: قائل هذه العبارة هو ابن حبان وليس الحافظ وهذا ظاهر لمن نظر في
هدي الساري (ص 417) في ترجمة عبد الرحمن بن سليمان المعروف بابن
الغسيل، وأصرح من هذا أنك تجد هذا النص في المجروحين لابن حبان
(2 / 57) هذه واحدة.
والثانية: تقرر في قواعد الحديث أن الناقد إذا سئل عن حال حديث الرجل
فقال: صالح، هذا يعتبر من باب التعديل، فيكون الرجل موثقا بهذا القول
لأنه صالح الحديث، لكن هذا لا يعني أنه في المرتبة العليا من التوثيق فمثله
يحسن حديثه.
فإذا قلت: إنها عبارة تمريض فيمكن قبول هذا على أنه ليس من الجرح
ولكنه تمريض بالنسبة للدرجة العليا من التوثيق، فإنك قد مرضت هذا بالنسبة
للآخر فهو كلام نسبي، أما إذا اعتبرت أن هذا من الجرح فهذا فهم سقيم لا
يحسد عليه صاحبه.
والثالثة: فهم إمام من الأئمة الحذاق وهو الحافظ ابن القطان السجلماسي
الفهم الصحيح لكلمة ابن معين فقال: (كما في نصب الراية: 4 / 68):
عطية العوفي مضعف، وقال ابن معين فيه: صالح. فالحديث به
حسن. ا ه‍.
فانظر إلى تحسينه لحديث عطية العوفي اعتمادا على قول ابن معين: صالح.
وهذا حافظ آخر من المتأخرين هو الهيثمي إذ اعتمد توثيق ابن معين كما في
مجمع الزوائد (7 / 314)، كما حسن لعطية العوفي في المجمع أيضا (10 / 371
162

وفيه أيضا سألت يحيى عن عطية وعن أبي نضرة فقال: أبو نضرة
أحب إلى. ا ه‍
وهذا النص توثيق منه لعطية، لأن أبا نضرة ثقة عند يحيى بن
معين كما في (التهذيب) فهو في حقيقته مقارنة بين ثقتين.
وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين عطية مثل أبي الوداك؟ قال:
لا، قيل: فمثل أبي هارون قال: أبو الوداك ثقة ما له ولأبي هارون.
ا ه‍ كذا في التهذيب (2 / 60) فانظر إلى ارتضاء ابن معين لمقارنته
بأبي الوداك الثقة، فهو توثيق منه لعطية العوفي.
ونظائره كثيرة جدا في كتب الجرح والتعديل في المقارنة بين الثقات،
فيحيى بن معين يحب عطية العوفي، وأبو نضرة أحب إليه. فتدبر.
وقال يحيى بن معين في رواية أبي خالد الدقاق (ص 27):
عطية العوفي ليس به بأس. ا ه‍.
قلت: هذا توثيق من إمام الجرح والتعديل لعطية العوفي، وقد
صرح يحيى بن معين أن من قال فيه: لا بأس به فهو ثقة، وهذه
حكاية عن نفسه ونص من عنده ولا اجتهاد مع وجود النص.
وتجد هذا النص عن ابن معين في كتب شتى منها ثقات ابن شاهين
(ص 270)، ومقدمة ابن الصلاح، وفي مقدمة اللسان (1 / 13).
163

وقال ابن الجنيد عن ابن معين: هو وعمرو بن أبي قيس لا بأس
بهما قلت: ثقتان، قال: ثقتان. ا ه‍. كذا في التهذيب
(6 / 207) وهو ظاهر في ترادف اللفظين. فهو اصطلاح خاص
بيحيى بن معين ولا مشاحة فيه.
قال صاحب (الكشف والتبيين) (ص 38):
قال ابن معين: (ليس به بأس)، أو " لا بأس به " لا يفهم منه
- مجردا - التوثيق أو التجريح إذ غالب من قال فيهم مثل ذلك هم
ثقات، لكن الأمر ليس على إطلاقه، فقد وردت عنه قوله: " لا
بأس به "، أو " ليس به بأس "، في أناس ضعفاء.
وانظر أمثلة على ذلك في ميزان الاعتدال (1 / 341، 435)،
والجرح والتعديل (3 / 11)، وتهذيب التهذيب (1 / 93). ا ه‍
قلت: هذا الكلام فيه نظر من وجوه:
الأول: إن ابن معين قد صرح كما تقدم بأن " لا بأس به " عنده
معناه أن الرجل ثقة، فلا ينبغي بعد ذلك تقويله ما لم يقله.
الثاني: إذا قال ابن معين في الرجل " لا بأس به " وكان ضعيفا
فهذا لا يضره، فكم انفرد ابن معين بتوثيق رجال ضعفهم غيره،
وهذا ليس شأن يحيى بن معين فقط، ولكنه شأن سائر أئمة الجرح
والتعديل تجد في ترجمة الراوي المضعف توثيقا لأحدهم وانفرادا منهم.
وإذا كان التوثيق لا يعني معناه فمعنى ذلك أن علم الجرح والتعديل
قد سقط كلية وأصبحت نصوصه جوفاء لا تنطبق على أفرادها، وأن
الألفاظ لا تعتبر قوالب للمعاني!!
164

الثالث: قوله: " قد ورد عنه قوله لا بأس به أوليس به بأس في
أناس ضعفاء ".
قلت: ضعفاء عند غيره ولكنهم ثقات عنده فكان ماذا؟، ولآخر
أن يعارضه بقوله: ورد عنه قوله ثقة في أناس ضعفاء وهذا كثير،
فكان ماذا أيضا؟ فكل ناقد مجتهد له نظره وقوله.
الرابع: ثم ذكر أربعة أمثلة لتأييد مقولته المردودة، فهاك الكلام عليها:
المثال الأول: بكار. بن محمد بن عبد الله بن محمد بن سيرين
السيريني (الميزان 1 / 34) قال عنه يحيى بن معين: كتبت عنه،
ليس به بأس، وضعفه غيره.
وهذا المثال لا يفيد الدعوى شيئا ولا يفيد تضعيف ابن معين للرجل
كيف وهو يقول كتبت عنه، فهو من شيوخه، وكونه ضعيفا عند
غيره لا يلزم منه أن يكون ضعيفا عنده أو ضعيفا في نفس الأمر فاللازم
باطل، والرجل أدرى بشيوخه.
المثال الثاني: الحارث بن عبد الله الأعور الشيعي الكوفي وهذا
المثال يهدم الدعوى من أساسها، فقد قال عنه يحيى بن معين في
رواية الدوري: ليس به بأس.
وقال عثمان الدارمي: سألت يحيى بن معين عن الحارث الأعور
فقال: ثقة.
فانظر إلى توافق هذا الإمام وإتقانه، وقد نقل هذا التوثيق عن
ابن معين غير واحد منهم ابن شاهين في الجزء المطبوع بنهاية تاريخ
جرجان (ص 655 - 656).
165

فإن قيل: قال عثمان بن سعيد الدارمي بعد حكايته عن ابن معين
ما نصه: ليس يتابع يحيى على هذا. ا ه‍.
قلت: هذا مبلغ علم الدارمي، فقد وثقه أحمد بن صالح
المصري وقال ابن معين: ما زال المحدثون يقبلون حديثه، وهذا من
يحيى بن معين الإمام في هذا الشأن زيادة لقبول حديث الحارث وثقته
كما قال ابن شاهين (ص 655 - 656).
المثال الثالث: لم أجد راويا يقول عنه ابن معين: " لا بأس به "
في الموضع المشار إليه (الجرح والتعديل 3 / 11).
المثال الرابع: أبان بن إسحاق الأسدي الكوفي، هذا المثال أيضا
من أكبر الأدلة على وهن كلامه، فإن أبان بن إسحاق فيه أربعة أقوال
في التهذيب: قول ابن معين ليس به بأس، وتوثيق العجلي وابن
حبان، وقول الأزدي متروك الحديث.
فالرجل ليس بضعيف فهو خارج عن موضوع الدعوى، وقد
اعتمد الحافظ قول ابن معين على أنه توثيق للرجل فقال في التقريب:
ثقة تكلم فيه الأزدي بلا حجة. ا ه‍.
وقد قال الحافظ العراقي في ألفية الحديث:
وابن معين قال: من أقول لا بأس به فثقة.............
والحاصل أن كلام صاحب " الكشف والتبيين " أبان عن محاولته
رد توثيق ابن معين دفعا بالصدر فيلوي عنق النص، ثم هو يستخف
بالقراء ويضحك عليهم بإيراد أمثلة لا طائل تحتها، بل لك أن تقول:
إنها عليه لا له، والله تعالى أعلم بالصواب.
166

وبعد أن تبين لك أن يحيى بن معين قد وثق عطية العوفي، فإنك
قد تقف على أقوال ليحيى بن معين ظاهرها قد يشير إلى غير ذلك
كرواية موسى بن أبي الجارود، فهي وجادة منقطعة، ورواية ابن أبي
مريم وهو مصري وأصحاب يحيى بن معين البغداديين ولا سيما عباس
الدوري أكثر ملازمة والتصاقا بيحيى بن معين فرواياتهم مقدمة على
رواية غيرهم والله أعلم.
بقي الكلام على ما جاء في المطبوع باسم " التاريخ الصغير "
للبخاري (ص 133) عن علي بن المديني عن يحيى بن معين:
عطية وهارون العبدي وبشر بن حرب عندي سواء.
فمعناه والله أعلم أنهم سواء في الطبقة والمذهب، فهم من شيعة
التابعين، ويشتركون في الرواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،
وكيف يسوى يحيى بن معين بين أبي هارون العبدي وعطية العوفي
وقد قال عن أولهما: غير ثقة وكان يكذب، بينما وثق الثاني ورفع
شأنه.
وقد تلقف الشيخ بشير السهسواني في " صيانة الإنسان " (ص
100) هذه الكلمة عن يحيى بن معين فنسب لعطية العوفي الألفاظ
الشديدة جدا التي قيلت في أبي هارون العبدي ثم تناقض فقال:
المختار عندي قول أبي حاتم: ضعيف يكتب حديثه فإنه أعدل
الأقوال وأصوبها. ا ه‍
وما درى السهسواني رحمه الله تعالى أن لأبي حاتم الرازي قولا
آخر يفيد توثيق عطية العوفي سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
167

ومنهم ابن شاهين:
وقد أدخل عطية العوفي في الثقات (ص 172) فهو من موثقيه
فإن قيل: قد ذكره أيضا في الضعفاء فقال: ضعفه أحمد ويحيى.
قلت: التوثيق هو الراجح لما قد علمت مما سبق من اعتماد أحمد
على رواية محمد بن السائب الكلبي، وهي رواية تالفة لا يعتمد عليها
في جرح عطية العوفي، وأن يحيى بن معين من موثقيه كما تقدم.
ومنهم أبو بكر البزار:
فإنه قال كما في " التهذيب " (7 / 226): كان يعده في التشيع،
" روى عنه جلة الناس "، وهذه صيغة تعديل تعادل قولهم صالح
الحديث، مقارب الحديث، ونحو ذلك كما يعلم من قواعد الحديث.
ورغم وضوح هذا القول من البزار وكونه موجودا في كتاب
متداول مشهور كالتهذيب، فلم أجد أحدا مما سعى في تضعيف هذا
الحديث تعرض لذكر قول أبي بكر البزار المفيد تعديل عطية العوفي،
فالحمد لله تعالى على توفيقه.
ومنهم أبو حاتم الرازي:
فقد قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن نضرة وعطية، فقال: أبو
نضرة أحب إلى.
وهذا في حقيقته مقارنة بين ثقتين فإن أبا نضرة المنذر بن مالك
العبدي ثقة.
168

ومنهم يحيى بن سعيد القطان:
فقد قال عن جبر بن نوف أبي الوداك كما في " التهذيب " (2 / 60)
هو أحب إلى من عطية. ا ه‍. قلت: هذه أيضا مقارنة بين ثقتين.
ومنهم ابن خزيمة:
فإنه أخرج الحديث في صحيحه:
قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 98): رواه ابن
خزيمة في صحيحه من طريق فضيل بن مرزوق فهو صحيح عنده. ا ه‍.
قلت: فمقتضى تصحيح الحديث توثيق رجاله ومنهم عطية العوفي.
وهذا لم يرق لصاحب " الكشف والتبيين " (ص 64، 65)
فوجه سهامه لصحيح ابن خزيمة، فنقل عن الحافظ ابن حجر في
النكت كلاما (1 / 270)، (1 / 290 - 291) حاصله في الآتي:
1 - أن ابن خزيمة كان لا يفرق بين الصحيح والحسن، فليس كل
ما عنده صحيحا بل فيه الحسن المدرج في الصحيح.
2 - قال الحافظ: حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة..
صلاحية الاحتجاج بها لكونها دائرة بين الصحيح والحسن ما لم يظهر
في بعضها علة قادحة. ا ه‍.
قلت: يؤخذ من كلام الحافظ أن أحاديث ابن خزيمة على قسمين:
1 - صحيح أو حسن.
2 - ما ظهر فيه علة قادحة وهو قليل جدا.
ولكن هذا في نظر غيره وليس في نظر إمام الأئمة ابن خزيمة الذي
169

سمى كتابه " المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير
قطع في المسند ولا جرح في النقلة ".
لم إذا كانت الأنظار تتفاوت في الحكم على الرجال، فالمقصود هو
إثبات أن تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث هو توثيق لرجاله، ومنهم
عطية العوفي فهو ثقة عند ابن خزيمة والله أعلم.
ومنهم الإمام أبو عيسى الترمذي:
فإنه حسن له عدة أحاديث من أفراده، بل حسن له عدة أحاديث
انفرد بها فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي - كما في الحديث الذي
نحن بصدد الكلام عليه - انظرها في " تحفة الأشراف "، ومقتضى
ذلك أن يكون صدوقا عند الترمذي كما صرح بذلك الحافظ في " تعجيل
المنفعة " (ص 153).
وعليه: فعطية العوفي " صدوق " عند الترمذي، وهو شرط الحسن
لذاته والتشغيب هنا برمي الترمذي بالتساهل خطأ جسيم، لأن
الترمذي لم ينفرد بتعديل عطية العوفي فقد مر تعديله عن ابن سعد
وابن معين والبزار وأبي حاتم الرازي وابن شاهين ويحيى بن سعيد
القطان، ثم الترمذي إمام حافظ ثقة كان يقون له إمام أهل الصناعة
محمد بن إسماعيل البخاري: استفدنا منك كثر مما استفدت منا.
وقول الترمذي معتمد عندهم في الجرح والتعديل وحكمه على
الأحاديث كذلك، وإن ظهر شئ انفرد به في قوله وحكمه، فهو كغيره
من الأئمة ولا يخدش ذلك في الأخذ بقوله وحكمه فليس هو بمعصوم.
وكم حسن الترمذي أحاديث في الصحيحين، فهل يعد متشددا
من هذه الجهة؟
170

وقد تلقف هذا أو ذاك كلمة ابن دحية الكلبي (1) في الكلام على
جامع الترمذي وبنى عليها أحكاما وأوهاما أو نظر في جامع الترمذي
نظرة متأخر متبع لقواعد سقيمة متروكة فاستخلص منها تساهل
الترمذي بسقيم فهمه.
والكلام يحتاج لبسط ليس هذا محله لكن ينبغي ألا يخلى المقام
من المثال الذي ذكره صاحب " الكشف والتبيين " (ص 45) ليستدل
به على تساهل الترمذي فقال:
ومن أقرب ما يذكر حديث سمرة " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
كسوف لا نسمع له صوتا "، فقد رواه الترمذي وصححه ونقل
الحافظ ابن حجر تصحيحه في " التلخيص الحبير "، لكن تعقبه
بإعلال ابن حزم له بجهالة ثعلبة بن عباد وأن ابن المديني قال فيه
مجهول. ا ه‍.
قلت: هذا الكاتب إما أنه لا يفهم أو يضحك على القراء،
وأحلاهما مر، فالصواب مع الترمذي والقول فيه قوله وهاك الآتي:
فثعلبة بن عباد لم ينفرد الترمذي بتصحيح حديثه، بل وافقه على
ذلك الحاكم في المستدرك (1 / 330)، وابن حبان.
والحديث أخرجه النسائي (3 / 140)، وأبو داود (1 / 700)،
وابن ماجة (1 / 402)، وأحمد في المسند (5 / 61)،

ابن دحية الكلبي الأندلسي رغم كونه حافظا متفننا إلا أنه كما قال
الذهبي في تذكرة الحفاظ (4 / 1421): كان معروفا على كثرة علمه وفضائله
بالمجازفة والدعاوى العريضة. ا ه‍. وترجمته تحوي غرائب.
171

والطحاوي في شرح معاني الآثار (1 / 329)، والبيهقي في السنن
الكبرى (3 / 335) كلهم من طريق ثعلبة.
فمقتضى تصحيح الترمذي والحاكم وابن حبان للحديث أن رجاله
ثقات عندهم. وقد ذكر ابن حبان ثعلبة بن عباد في ثقاته (4 / 98)،
فالرجل ثقة ولا بد.
وقوى حاله إخراج حديثه في السنن المذكورة.
فإن قيل قد جهله ابن المديني وابن القطان قلت: من علم حجة
على من لم يعلم.
وقد شنع الإمام تقي الدين بن دقيق العيد على من يرد تصحيح
الترمذي بدعوى الحكم بجهالة أحد الرواة، فقال رحمه الله تعالى
(نصب الراية: 1 / 149) ما نصه:
ومن العجب كون ابن القطان لم يكتف بتصحيح الترمذي في
معرفة حال عمرو بن بجدان مع تفرده بالحديث وهو قد نقل كلامه:
هذا حديث حسن صحيح، وأي فرق بين أن يقول: هو ثقة، أو
يصحح له حديثا انفرد به؟ وإن كان توقف عن ذلك لكونه لم يرو
عنه إلا أبو قلابة، فليس هذا بمقتضى مذهبه، فإنه لا يلتفت إلى
كثرة الرواة في نفي جهالة الحالة، فكذلك لا يوجب جهالة الحال
بانفراد راو واحد عنه بعد وجود ما يقتضي تعديله وهو تصحيح
الترمذي. ا ه‍
وقال الحافظ الذهبي في " الموقظة " (ص 81): ومن الثقات
من لم يخرج لهم في الصحيحين خلق منهم من صحح لهم الترمذي
وابن خزيمة ثم من روى لهم النسائي وابن حبان. ا ه‍
172

فانظر إلى توثيقه لمن صحح لهم الترمذي، ومن روى له النسائي
وابن حبان.
فلا بد إن أردت أن تسلك سبيل أهل الحديث وتتبع قواعدهم،
وتقف عند كلام أئمتهم أن تقول بقولهم وتحذو حذوهم، فلا تنفك
في توثيق ثعلبة بن عباد اتباعا لتصحيح الترمذي له، فضلا عن
تصحيح الحاكم وابن حبان وإخراج النسائي لحديثه.
فلله در الترمذي الإمام الحافظ العلم، وبذا يكون الانتقاد قد
انقلب على صاحبه المنتقد بدون روية، والمنازل بدون آلة، والحمد لله
الذي بنعمته تتم الصالحات.
وإن وفق الله عز وجل ففي النية إشباع هذا البحث في جزء خاص
به، يسر الله ربي على ذلك وأعان.
* * *
فصل
وخلاصة ما تقدم أن عطية العوفي قد عدله (1) يحيى بن سعيد
القطان وابن سعد وابن معين والترمذي والبزار وابن شاهين وتبعهم

(1) فمن الخطأ البين والظلم لهذا الرجل قول ابن الجوزي في الموضوعات:
ضعفه الكل، وقول الذهبي في الديوان: مجمع على ضعفه، وقوله في
مختصر المستدرك (4 / 222): واه، وقول البوصيري في " مصباح الزجاجة "
: متفق على ضعفه، وهذه أقوال مخالفة للواقع فلا يلتفت إليها فليس الرجل
بواه أو أجمعوا على ضعفه، وكتب الرجال إن لم ينظر الناظر فيها بعين الناقد
البصير الصيرفي زل وضل، والله المستعان.
173

بعض من تأخر عنهم فقال ابن القطان (كما في نصب الراية 4 / 68):
وعطية العوفي مضعف، وقال ابن معين فيه: صالح، فالحديث
حسن. ا ه‍.
والحاصل أن من تكلم فيه فلأجل ما رمي به من التدليس وهو أمر
لم يصح البتة، أو التشيع، أو روايته شيئا تكلم فيه، وقد تبين لك
أن هذه الأمور الثلاثة التي تكلم فيه بسببها ليست قادحة.
فالصواب قبول حديثه واعتباره من الحسن لذاته.
وقد قال شيخ الفن وطبيب علله الحافظ ابن حجر العسقلاني في
أمالي (1) الأذكار (1 / 271):

(1) ولما كان كلام الحافظ قاطعا وسادا لباب الكلام في عطية العوفي لم يرق
ذلك لصاحب الكشف والتبيين (ص 42) فبدلا من الاعتراف بقصوره
والتسليم للحافظ رحمه الله تعالى أغمض عن هذا وأخذ يغمز أمالي الحافظ
على الأذكار، وذلك كسعيهم دائما لنقد الكتب عند المخالفة، فإذا أرادوا رد
تصحيح أو تحسين لحافظ اتهموه بالتساهل وبأن كتابه فيه كذا وكذا، وقفوا
على حديث صحيح لا يوافق شذوذهم تراهم يقولون: لم يخرجه أحمد
وليس في الصحيحين ولا الموطأ ولا تجده في السنن الأربعة بل هو في الكتب
التي تروي الضعاف كالدارقطني والبزار... إلخ وهو كلام ساقط بنفسه لا
يحتاج لإسقاط. وها نحن نراهم اليوم يتكلمون ويغمزون أمالي الأذكار وهي
جرأة قبيحة من منازل بنير آلة وتطاول على كتاب حاز القدح المعلى في بابه
يحق أن يفاخر به كبار الحفاظ المتقدمين ولكن... من جهل شيئا عاداه والله
المستعان.
174

ضعف عطية إنما جاء من قبل التشيع ومن قبل التدليس وهو في نفسه صدوق. ا ه‍
وإذا تبين لك أن دعوى التدليس ليست بصحيحة والتشيع لا دخل
له في روايته، فالرجل صدوق.
وقد أصر الحافظ على كون عطية العوفي صدوقا، فعندما سرد
أسامي المدلسين في النكت على ابن الصلاح (2 / 644) قسم
المدلسين لقسمين أحدهما: من وصف بالتدليس مع صدقه، وثانيهما:
من ضعف بأمر آخر غير التدليس، ثم ذكر عطية العوفي في القسم
الأول (2 / 646)، وهم من وصفوا بالتدليس مع صدقهم فهو
صدوق عنده.
فإذا وجدت بعد هذا البيان تضعيفا لعطية العوفي، فاعلم أنه
مخالف للصواب.
وبعد فيمكن لك أن تسمى ما كتبته في الانتصار لعطية العوفي
ب‍ " القول المستوفي في الانتصار لعطية العوفي " والله تعالى أعلم.
* * *
فصل
أما عن العلة الثالثة:
فقد قال ابن أبي حاتم في " العلل " (2 / 184): سألت أبي
عن حديث رواه عبد الله بن صالح بن مسلم عن فضيل بن مرزوق
عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
175

" إذا خرج الرجل من بيته فقال: اللهم بحق السائلين عليك
وبحق ممشاي " وذكر الحديث، ورواه أبو نعيم عن فضيل عن عطية
عن أبي سعيد موقوفا قال أبي: موقوف أشبه. ا ه‍.
وأيده الذهبي في " الميزان ". قلت: لا تتسرع بإعلان الموافقة
تقليدا كما فعل جماعة منهم:
بشير السهسواني في صيانة الإنسان، والألباني في ضعيفته
(1 / 37)، وحماد الأنصاري في " المفهوم الصحيح للتوسل "،
وغيرهم.
فإن الحديث قد اختلف فيه عن فضيل بن مرزوق فروي مرفوعا
وموقوفا.
فممن رواه مرفوعا:
1 - يحيى بن أبي بكير، أخرجه البغوي في حديث علي بن الجعد
(ص 262)، والبيهقي في الدعوات الكبير (ص 47).
2 - محمد بن فضيل بن غزوان، أخرجه ابن خزيمة في " التوحيد "
(ص 17).
3 - سليمان بن حيان أبو خالد الأحمر، أخرجه ابن خزيمة في
التوحيد (ص 18).
4 - عبد الله بن صالح العجلي، أخرجه الطبراني في " الدعاء "
(2 / 990)، وابن السني (ص 40).
5 - الفضل بن الموفق، أخرجه ابن ماجة (1 / 256).
176

6 - يزيد بن هارون، فقد روى أحمد في مسنده (3 / 21)،
والبغوي في حديث علي بن الجعد (ص 262 نسختي)، وأحمد
ابن منيع كما في مصباح الزجاجة (1 / 99) من طريق يزيد بن
هارون أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد
الخدري فقلت لفضيل: رفعه؟ أحسب قد رفعه ثم ذكر الحديث
مرفوعا.
قلت: هذا ظن راجح تقوى " بقد " وهو حرف تحقيق هنا دخل
على الماضي فقربه من الحال، وعليه فرواية يزيد بن هارون من قسم
المرفوع ولا بد وهو صنيع من تكلم على الحديث ممن تأخر من
الحفاظ.
ورواه عن فضيل بن مرزوق موقوفا اثنان:
1 - أبو نعيم الفضل بن دكين، أخرجه في كتاب " الصلاة "،
كما في " أمالي الأذكار " (1 / 273).
2 - وكيع بن الجراح، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (10 /
211 - 212).
وللمحدثين في ذلك مسلكان كلاهما يقوى الرفع:
فأولهما: إن الرفع زيادة ثقة وهي مقبولة، إذ أن الحكم لمن أتى
بالزيادة وهو مذهب الخطيب البغدادي وجماعة من أئمة الفقه
والحديث والأصول.
وثانيهما: الترجيح باعتبار القرائن وهو ما يقوى الحكم بالرفع
أيضا، فإن من رفع الحديث كثر عددا (وهم ستة)، ممن وقفه
(وهم اثنان فقط).
177

نعم الفضل بن دكين ووكيع إمامان ثقتان، لكن في مقابلهما يزيد
ابن هارون ويحيى بن أبي بكير وهما كذلك ومعهما ابن غزوان ثقة
احتج به الجماعة، وكذا سليمان بن حيان احتج به الجماعة،
والعجلي ثقة من رجال البخاري، فهؤلاء القول قولهم وهو الرفع،
والله تعالى أعلم.
فلا تتهيب بعد مخالفة القائل بالوقف والمرجح له، فإن قواعد
الحديث التي إليها المرجع في هذا الشأن ترجح الرفع، وكم من
حديث مرفوع حكم عليه أبو حاتم الرازي بالوقف، وكم من
موصول حكم بإرساله، وكم من صحيح حكم بضعفه، والمرجع
عند الخلاف هو الاحتكام لقواعد الحديث والله أعلم.
ومن التلاعب البغيض نصب صاحب " الكشف والتبيين " (ص
23) للخلاف بين وكيع الجراح وفضيل بن غزوان من جهة أنهما
وقفا الحديث، وبين عبد الله بن صالح العجلي والفضل بن الموفق
من جهة أنهما رفعا الحديث.
وهذا خطأ ومغالطة واضحة لأمور:
الأول: لا دخل لفضيل بن غزوان هنا.
الثاني: أخرج يحيى بن أبي بكير عند الترجيح وجعله في حاشية
الكتاب، فلم يضمه لزميليه في الرفع وهو عين التلاعب.
الثالث: لم يستوعب أسماء من رفعوا الحديث وهم ستة.
فلا أدري لماذا يسارع هؤلاء بالتصنيف؟ للدعاوى الفارغة، أم
للتجارة البائرة؟!! والله المستعان.
178

* تنبيه:
أغرب الألباني فادعى في ضعيفته (1 / 37) اضطرابا من عطية أو
ابن مرزوق لأنه جاء مرفوعا وموقوفا وهذا خطأ لأن الاضطراب يكون
عند تساوي الوجوه وحيث لا تساوي وأمكن الترجيح كما سبق فلا
اضطراب، ولم أجد من سبقه إلى هذه الدعوى عند الكلام على
هذا الحديث، والله أعلم.
* * *
فصل
وللحديث شاهد لا يفرح به.
قال أبو بكر ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 39 - 40):
حدثنا ابن منيع، ثنا الحسن بن عرفة، ثنا علي بن ثابت الجريري
عن الوازع بن نافع العقيلي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن
جابر بن عبد الله، عن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قال:
" بسم الله آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا
بالله، اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا، فأني لم
أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، خرجت ابتغاء مرضاتك،
واتقاء سخطك أسألك أن تعيذني من النار وتدخلني الجنة ".
الوازع شديد الضعف، لذلك قال الحافظ في (نتائج الأفكار)
(1 / 271): هذا حديث واه جدا أخرجه الدارقطني في الأفراد من
هذا الوجه وقال: تفرد الوازع به. ا ه‍.
179

* تنبيه:
قال العلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى في
مقالاته (ص 394) عند الكلام على هذا الحديث: ولم ينفرد
عطية عن الخدري بل تابعه أبو الصديق عنه في رواية عبد الحكم بن
ذكوان وهو ثقة عند ابن حبان وإن أعله به أبو الفرج في علله. ا ه‍
فتعقبه الألباني في ضعيفته (1 / 37) بقوله:
لقد عاد الشيخ (أي الكوثري) إلى الاعتداد بتوثيق ابن حبان مع
اعترافه بشذوذه في ذلك كما سبق النقل عنه، هذا مع قول ابن معين
في ابن ذكوان هذا: لا أعرفه، فإذا لم يعرفه إمام الجرح والتعديل
فأنى لابن حبان أن يعرفه؟
فتبين أن لا قيمة لهذا المتابع لجهالة الراوي عنه، فإعلال أبي الفرج
للحديث به حق لا غبار عليه عند من ينصف. ا ه‍
قلت: هذا الكلام مسلسل بالأوهام.
فأولا: هذه ليست متابعة البتة. وعبد الحكم هو ابن عبد الله
القسملي، وليس ابن ذكوان فقد قال ابن الجوزي في " العلل
المتناهية " (1 / 410):
أنبأنا علي بن عبيد الله قال: أنبأنا علي بن أحمد البندار، قال:
نا الحسن بن عثمان بن بكران قال: نا عبد الله بن عبد الرحمن
العسكري، قال: نا عبد الملك بن محمد، قال: نا سهل بن سعيد
ابن أبي تمام بن رافع، قال: نا عبد الحكم القسملي عن أبي
الصديق عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بشر المشائين في الظلم
180

إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ". ا ه‍
وأخرجه من حديث عبد الحكم بن عبد الله القسملي به أبو يعلى
في مسنده (2 / 361).
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 30) رواه أبو يعلى وفيه عبد
الحكم بن عبد الله وهو ضعيف. ا ه‍. والرجل ذكره ابن حبان في
المجروحين (2 / 143) وقال: لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة
التعجب. وضعفه غيره.
ثانيا: على أن الألباني الذي ترجح عنده عبد الحكم هو ابن
ذكوان ينبغي أن يلزم بتحسين الحديث وبيانه: إن عبد الحكم بن ذكوان
وثقه ابن حبان، وروى عنه أهل البصرة ومعهم ثلاثة من الحفاظ
الثقات هم: أبو داود الطيالسي، ومروان بن معاوية الفزاري، وأبو
عمر حفص بن عمر الحوضي أو الحرضي.
وقال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (6 / 36) في ترجمته:
سألته عنه فقال: بصري، قلت: هو أحب إليك أم عبد الحكم
القسملي صاحب أنس؟ قال: هذا أستر. ا ه‍
وحسن حديثه الحافظ البوصيري في زوائد ابن ماجة (4 / 175).
فل الرجل إن لم يحسن حديثه لذاته فهو حسن لغيره ولا بد، على
رأي أشد الناس تعنتا والألباني ملزم بهذا والله أعلم.
ثالثا: قوله: إذا لم يعرفه إمام الجرح والتعديل فأنى لابن حبان
أن يعرفه.
181

قلت: قد عرفه، قبل ابن حبان حافظ كبير هو أبو حاتم الرازي،
ومن علم حجة على من لم يعلم ولم يقل أحد بمقولة الألباني هذه
حتى ولا المبتدئ في هذا الفن.
رابعا: قوله: لا قيمة لهذا المتابع لجهالة الراوي عنه.
قلت: هذا خطأ ومجازفة فبون كبير بين قولهم لا أعرفه والحكم
على الراوي بالجهالة. قال الحافظ في " اللسان " (1 / 432) في
ترجمة إسماعيل الصفار:
من عادة الأئمة أن يعبروا في مثل هذا بقولهم: لا نعرفه أو لا
نعرف حاله، أما الحكم عليه بالجهالة بغير زائد لا يقع إلا من مطلع
عليه أو مجازف. ا ه‍.
وفي هذا القدر كفاية، ونسأل الله تعالى السلامة والصون.
وحاصل ما تقدم أن ما علل به حديث " اللهم إني أسألك بحق
السائلين.. " غير منتهض، وأنه لا يقوى أمام قواعد الحديث لإثبات
علة واحدة بهذا الحديث.
وعليه فلك أن تقول: إن من حسن الحديث من الحفاظ كالدمياطي
والمقدسي والعراقي والعسقلاني وقبلهم إمام الأئمة ابن خزيمة الذي
صححه القول قولهم والصواب حليفهم وقواعد الحديث مؤيدة لهم
والله عز وجل أعلم بالصواب.
7 - حديث: " إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد
الله احبسوا علي، فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم ".
قال الطبراني في المعجم الكبير (10 / 267):
182

حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، ثنا الحسن بن عمر بن شقيق،
ثنا معروف بن حسان السمرقندي عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة،
عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا
علي، فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم ".
ورواه من هذا الوجه أبو يعلى في مسنده (9 / 177)، وابن
السني في عمل اليوم والليلة (ص 162) قال الهيثمي في مجمع
الزوائد (10 / 132) بعد أن عزاه لأبي يعلى والطبراني: فيه
معروف بن حسان وهو ضعيف. ا ه‍
وكذا قال الحافظ البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة
(حاشية المطالب العالية 3 / 239).
وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار (شرح ابن علان
5 / 150) بعد أن عزاه لابن السني والطبراني: وفي السند انقطاع
بين ابن بريدة وابن مسعود. ا ه‍
ومع ذلك فللحديث طرق تقويه وترفعه من الضعف إلى الحسن
المقبول المعمول به.
الأول: ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17 / 117) من طريق
عبد الرحمن بن شريك قال: حدثني أبي عن عبد الله بن عيسى عن
زيد بن علي عن عتبة بن غزوان عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: لا إذا أضل أحدكم
شيئا أو أراد أحدكم عونا، وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا
عباد الله أعينوني أغيثوني، فإن لله عبادا لا نراهم " وقد جرب ذلك.
183

قلت: في سنده ضعف وانقطاع.
قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 132): رواه
الطبراني ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم إلا أن يزيد بن علي
لم يدرك عتبة. ا ه‍
واقتصر الحافظ على إعلاله بالانقطاع فقط فقال في تخريج الأذكار:
أخرجه الطبراني بسند منقطع عن عتبة بن غزوان مرفوعا. ا ه‍
الثاني: ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (10 / 424، 425).
حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن أبان بن
صالح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا نفرت دابة أحدكم أو بعيره
بفلاة من الأرض لا يرى بها أحدا فليقل: أعينوني عباد الله، فإنه
سيعان ".
قلت: هذا مرسل، ولولا عنعنة محمد بن إسحاق لكان حسن
الإسناد، وأعله الألباني في ضيفته (2 / 109) بالإعضال وهو
خطأ لأن أبان بن صالح من صغار التابعين والله أعلم.
الثالث: ما أخرجه البزار في مسنده (كشف الأستار: 4 / 33 -
34).
حدثنا موسى بن إسحاق ثنا منجاب بن الحارث ثنا حاتم بن
إسماعيل عن أسامة بن زيد عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله ملائكة في الأرض سوى
الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة
بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله ".
184

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 132): رواه البزار ورجاله
ثقات ا ه‍.
قال الحافظ في تخريج الأذكار (شرح ابن علان 5 / 151) حسن
الإسناد غريب جدا، واقتصار الحافظ على تحسينه سببه وجود أسامة
ابن زيد الليثي في إسناده فقد اختلف فيه.
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أيضا - لكنه
موقوف - من طريق جعفر بن عون ثنا أسامة بن زيد عن أبان بن
صالح عن مجاهد عن ابن عباس به.
وأعل الألباني في ضعيفته (2 / 112) الطريق المرفوعة عن ابن
عباس بهذه الموقوفة فقال: جعفر بن عون أوثق من حاتم بن
إسماعيل... ولذلك فالحديث عندي معلول بالمخالفة، والأرجح
أنه موقوف. ا ه‍.
قلت: هذا خطأ من وجهين:
أولهما: تقرر في علم الحديث أنه إذا تعارض الرفع والوقف
فالحكم فيه للرفع.
قال الإمام النووي في مقدمة شرح مسلم (1 / 32):
إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلا وبعضهم مرسلا أو بعضهم
موقوفا وبعضهم مرفوعا أو وصله هو أو رفعه في وقت وأرسله أو
وقفه في وقت، فالصحيح الذي قاله المحققون من المحدثين وقاله
الفقهاء وأصحاب الأصول وصححه الخطيب البغدادي: أن الحكم
لمن وصله أو رفعه سواء كان المخالف له مثله أو أكثر وأحفظ لأنه زيادة
ثقة وهي مقبولة. ا ه‍
185

وقد صرح بذلك ابن عبد الهادي في التنقيح (1 / 350) طبعة
مصر.
ثانيهما: إن حاتم بن إسماعيل لم ينفرد برفع الحديث بل وافقه على
الرفع محمد بن إسحاق كما تقدم با لإضافة إلى شاهد عبد الله بن
مسعود المذكور أولا.
والصواب هنا أن يقال: إن أبان بن صالح كان يرفعه أحيانا،
وأحيانا أخرى لا ينشط لرفعه ونظائره كثيرة جدا. والله أعلم.
وعليه فإعلال الألباني للطريق المرفوعة بالموقوفة تمحل لا معنى له
وعلة لا تساوي سماعها يريد بها دفع الحديث والتخلص منه بأي
وسيلة كانت ولو بمخالفة قواعد الحديث فاللهم غفرانك.
ومما سبق بيانه يعلم أن الحديث جيد مقبول ولا بد خاصة وأن
الشاهد الثالث حسن الإسناد لذاته والله أعلم.
* * *
فائدة
إذا ورد حديث بسند ضعيف يصير من قسم المقبول الذي هو أعم
من الصحيح والحسن إذا تلقته الأمة بالقبول، أما إذا عمل به بعض
الأئمة - كحديثنا هذا - ففي عملهم تقوية له.
قال الحافظ البيهقي في السنن الكبرى (3 / 52) بعد أن روى
حديث صلاة التسبيح ما نصه: وكان عبد الله بن المبارك يفعلها
وتداولها الصالحون بعضهم عن بعض وفيه تقوية للحديث المرفوع.
ا ه‍
186

ونحوه لشيخه الحاكم في المستدرك (1 / 320).
والحديث عمل به الأئمة وجربوه:
1 - ففي المسائل، وشعب الإيمان للبيهقي: قال عبد الله بن
الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: حججت خمس حجج منها ثنتين
راكبا، وثلاثة ماشيا، أو ثنتين ماشيا وثلاثة راكبا، فضللت
الطريق في حجة وكنت ماشيا فجعلت أقول: يا عباد الله دلونا على
الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق، أو كما قال
أبي. ا ه‍
2 - وبعد أن أخرج أبو القاسم الطبراني الحديث في معجمه الكبير
(17 / 117) قال: وقد جرب ذلك.
3 - قال الإمام النووي في الأذكار (ص 331) بعد أن ذكر
الحديث ما نصه: حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه انفلتت
له دابة أظنها بغلة وكان يعرف هذا الحديث فقاله، فحبسها الله عليهم
في الحال، وكنت أنا مرة مع جماعة فانفلتت منا بهيمة وعجزوا عنها
فقلته فوقفت في الحال بغير سوى هذا الكلام. ا ه‍
والحاصل أن للناقد مسلكين في تقوية هذا الحديث.
أحدهما: تقويته بالشواهد فيصير حسنا، ولا ريب في ذلك.
ثانيهما: تقويته بعمل الأمة به.
وأحد المسلكين أقوى من الآخر والله أعلم.
8 - حديث: " ليأتين على الناس زمان يخرج الجيش من
جيوشهم فيقال: هل فيكم أحد صحب محمدا فتستنصرون به
فتنصروا؟ ثم يقال: هل فيكم من صحب محمدا فيقال: لا. فمن
187

صحب أصحابه؟ فيقال: لا. فيقال: من رأى من صحب أصحابه؟
فلو سمعوا به من وراء البحر لأتوه ".
قال أبو يعلى الموصلي في مسنده (4 / 132):
حدثنا عقبة، حدثنا يونس، حدثنا سليمان الأعمش، عن أبي
سفيان، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ليأتين على الناس زمان يخرج الجيش من جيوشهم فيقال:
هل فيكم أحد صحب محمدا فتستنصرون به فتنصروا؟ ثم يقال:
هل فيكم من صحب محمدا فيقال: لا. فمن صحب أصحابه؟
فيقال: لا. فيقال: من رأى من صحب أصحابه؟ فلو سمعوا به
من وراء البحر لأتوه ".
إسناده صحيح.
والأعمش وإن كان مدلسا فهو معدود في المرتبة الثانية منهم،
وحديثهم مقبول صرحوا بالسماع أو لم يصرحوا.
ورواه أبو يعلى في مسنده (4 / 200) بلفظ مقارب:
حدثنا ابن نمير، حدثنا محاضر، عن الأعمش، عن أبي سفيان
عن جابر قال: سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" يبعث بعث فيقال لهم: هل فيكم أحد صحب محمدا؟ فيقال:
نعم. فيلتمس فيوجد الرجل فيستفتح فيفتح عليهم. ثم يبعث بعث فيقال:
هل فيكم من رأى أصحاب محمد؟ فيلتمس فلا يوجد حتى لو كان من
وراء البحر لأتيتموه. ثم يبقى قوم يقرؤون القرآن لا يدرون ما هو ".
وهو سند صحيح أيضا.
188

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 18):
رواه أبو يعلى من طريقين ورجالهما رجال الصحيح. ا ه‍
وهذا الحديث الصحيح فيه استحباب التوسل بذوات الصالحين.
9 - حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين ".
قال الطبراني في معجمه الكبير (1 / 292):
حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه، ثنا أبي، ثنا عيسى بن
يونس حدثني أبي عن أبيه، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد،
قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين ".
ثم قال: وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ثنا
عبيد الله بن عمر القواريري ثنا يحيى بن سعيد عن أبي إسحاق عن
أمية بن خالد قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين ".
ثم رواه من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب بن
أبي صفرة عن أمية بن خالد مرفوعا نحوه.
قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 262): رواه
الطبراني ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح. ا ه‍.
قلت: أمية بن عبد الله بن خالد تابعي ولم يخرج له في
الصحيح لكنه ثقة، ولولا عنعنة أبي إسحاق السبيعي - فإنه مذكور
189

في المرتبة الثالثة من المدلسين (ص 42) - لكان الحديث مرسلا
صحيح الإسناد والله أعلم.
10 - حديث: " لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن أبكوا
عليه إذا ولية غير أهله ".
قال الإمام أحمد في مسنده (5 / 422):
ثنا كل عبد الملك بن عمرو، ثنا كثير بن زيد، عن داود بن أبي
صالح قال:
أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر فقال:
أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب فقال: نعم جئت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن أبكوا عليه إذا وليه
غير أهله ".
وأخرجه من هذا الوجه الحاكم في المستدرك (4 / 515) وقال:
صحيح الإسناد وسلمه الذهبي.
عبد الملك بن عمرو هو القيسي أبو عامر العقدي ثقة احتج به
الجماعة وكثير بن زيد حسن الحديث.
وداود بن أبي صالح قال عنه الذهبي في الميزان (2 / 9): لا
يعرف وسكت عنه ابن أبي حاتم الرازي (الجرح 3 / 416).
وذكره الحافظ ابن حجر تمييزا وقال في التقريب: " مقبول ".
فإذا تشددت وأعرضت عن تصحيح الحاكم وموافقه الذهبي له لأن
190

التصحيح هو توثيق للراوي فهذا الإسناد فيه ضعف يسير يزول بالمتابعة
وداود بن أبي صالح قد تابعه المطلب بن عبد الله بن حنطب فيما
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4 / 189) والأوسط (1 / 199)،
وأبو الحسين يحيى ابن الحسن في أخبار المدينة (كما في شفاء السقام
ص 152).
والمطلب بن عبد الله بن حنطب صدوق ويدلس ومثله يصلح
للمتابعة صرح بالسماع أو لم يصرح أدرك أبا أيوب أو لم يدركه.
فغاية هذا الإسناد أنه فيه انقطاع يسير يزول بالمتابعة المتقدمة.
وبهذه المتابعة يثبت الحديث ويصير من قسم الحسن لغيره والله
أعلم.
تنبيه:
أما الألباني فكان ولا بد أن يضعف الحديث، فماذا فعل في
تضعيفه؟!
اقتصر على رواية أحمد والحاكم التي فيها داود بن أبي صالح
وضعف الحديث به، وهذا قصور وقد علمت وجود متابع لداود بن
أبي صالح.
ثم أخطأ على الحافظ العلم نور الدين الهيثمي فقال الألباني:
وذهل عن هذه العلة (أي داود بن أبي صالح) الحافظ الهيثمي فقال
في المجمع (5 / 245):
رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وفيه كثير بن زيد وثقه
أحمد وغيره، وضعفه النسائي وغيره. ا ه‍.
وخطأ الألباني أنه اعتبر الجودة ذهولا، ذلك أن الحافظ الهيثمي
عندما نظر لإسنادي أحمد والطبراني وجد متابعا لداود بن أبي صالح
191

وهو المطلب بن عبد الله بن حنطب فلم يجد ما يستحق الكلام عليه
إلا كثير بن زيد فبين أنه مختلف فيه، ومثله يحسن حديثه.
فحصر الهيثمي الكلام على كثير بن زيد هو الصواب.
ومنشأ خطأ الألباني هو عدم وقوفه على المتابعة وهو قصور بلا شك.
وبيان هذا القصور أنه عندما علم تخريج الطبراني للحديث كان
ينبغي المسارعة والبحث عن إسناد الطبراني والنظر فيه وهذا هو مسلك
المحدثين الناقدين، أما الاقتصار على طريق واحد للحديث ثم
تضعيف الألباني له مع وجود طريق آخر فهو خطأ بلا ريب.
ولعمل الألباني هذا نظائر في كتبه.
والحديث فيه التجاء أحد الصحابة إلى القبر الشريف.
11 - حديث: " اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر
من ابتغى وأروف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى،
أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا تهلك، كل شئ هالك إلا
وجهك، لن تطاع إلا بإذنك ولم تعص إلا بعلمك، تطاع فتشكر،
وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حكت دون الثغور
وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوب لك
مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت،
والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك،
وأنت الله الرؤوف الرحيم، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له
السماوات والأرض، بكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك أن
تقبلني في هذه الغداة أو في هذه العشية، وأن تجيرني من النار
بقدرتك ".
قال الطبراني في المعجم الكبير (8 / 264):
192

حدثنا أحمد بن علي بن الأبار البغدادي، ثنا العباس بن الوليد النرسي، ثنا
هشام بن هشام الكوفي ثنا فضال بن جبير، عن أبي أمامة الباهلي،
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وأمسى دعا بهذه الدعوات:
" اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغى
وأروف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك
لا شريك لك، والفرد لا تهلك، كل شئ هالك إلا وجهك، لن
تطاع إلا بإذنك ولم تعص إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر،
أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون الثغور وأخذت بالنواصي،
وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر
عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما
شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت
الله الرؤوف الرحيم، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له
السماوات والأرض، بكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك أن
تقبلني في هذه الغداة أو في هذه العشية، وأن تجيرني من النار
بقدرتك ".
قلت: فيه فضال بن جبير.
قال ابن عدي في الكامل (6 / 2047): لفضال بن جبير عن أبي
أمامة قدر عشرة أحاديث كلها غير محفوظة. ا ه‍
وقال ابن حبان في المجروحين (2 / 204): يروى عن أبي أمامة
ما ليس من حديثه، لا يحل الاحتجاج به بحال. ا ه‍
ولذلك قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 117):
رواه الطبراني، وفيه فضال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه.
193

قلت: ولولا قوة فضال بن جبير في الضعف لجاز الاستشهاد به
لحديث " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك... " الحديث.
12 - حديث: " إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني، وليصل علي ".
قال الطبراني في معجمه الصغير (2 / 120):
حدثنا نصر بن عبد الملك السنجاري بمدينة سنجار سنة 278 ثمان
وسبعين ومائتين، حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع صاحب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حدثنا أبي محمد عن أبيه عبيد الله
عن أبيه أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني، وليصل علي) لا يروى عن
أبي رافع إلا بهذا الإسناد، تفرد به معمر بن محمد.
قلت: لم يتفرد به معمر بن محمد كما سيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى، وقد أخرجه من هذا الوجه البزار في مسنده (كشف الأستار
4 / 32)، والبيهقي في الدعوات، وأبو يعلى، وابن عدي في
الكامل (6 / 2443)، والعقيلي في الضعفاء (1 / 264). وقال
العقيلي (4 / 104): ليس له أصل، ولذا أورده من طريقه ابن
الجوزي في الموضوعات (3 / 76)، وذكره ابن طاهر المقدسي في
تذكرة الموضوعات (ص 32).
ومعمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع وأبوه ضعيفان، فمعمر
كذب، وقال البخاري: منكر الحديث. ومحمد بن عبيد الله بن أبي
رافع قال عنه البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث
منكر الحديث جدا، ذاهب. وقال الدارقطني: متروك. ومع ذلك ذكره
ابن حبان في الثقات! واقتصر الحافظ على تضعيفه في التقريب.
194

ومعمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع لم يتفرد به كما قال
الطبراني، بل له طرق أخرى لكن مدارها على أبيه محمد بن عبيد
الله ابن أبي رافع وقد علمت قوته في الضعف.
أخرجها ابن خزيمة في صحيحه، والخرائطي في " مكارم الأخلاق "
(ص 80)، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " (ص 66)،
والطبراني في " المعجم الكبير " (1 / 321 - 322)، وابن عدي
في " الكامل " (6 / 2126)، وابن حبان في " المجروحين "
(2 / 250)
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 138): إسناد الطبراني
في الكبير حسن. ا ه‍.
وهذا منه غريب لما قد تبين من ضعف المتفرد به، بل قوته في
الضعف.
وأغرب منه إخراج ابن خزيمة له في صحيحه، وقد انتقده الحفاظ
على ذلك، فقال السخاوي في " القول البديع في الصلاة على
الحبيب الشفيع " (ص 225):
وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وذلك عجيب لأن إسناده
غريب وفي ثبوته نظر.
وقال نحوه ابن كثير في تفسيره (6 / 467)، وقلد المناوي في
فيض القدير (1 / 399) ابن خزيمة والهيثمي فبعد عن الصواب،
والله تعالى أعلم.
13 - حديث: " لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد
195

لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال:
يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي
فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله،
فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله
صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا
محمد ما خلقتك ".
قال الحاكم في المستدرك (2 / 615):
حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل، ثنا أبو
الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، ثنا أبو الحارث عبد الله
ابن مسلم الفهري، ثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأ عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت
لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال: يا
رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي
فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله،
فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله
صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلى ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا
محمد ما خلقتك ".
هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن
ابن زيد بن أسلم في هذا الكتاب. ا ه‍
196

ورواه الآجري في الشريعة (ص 427) من هذا الوجه مع زيادة
رجل بين الفهري وشيخه لكنه موقوف.
وأخرجه عن الحاكم البيهقي في " دلائل النبوة " (5 / 489) وقال:
تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه وهو
ضعيف.
ولكن الذهبي في " تلخيص المستدرك " (2 / 615) كان حكمه
أشد فقال:
موضوع، وعبد الرحمن واه، رواه عبد الله بن مسلم الفهري ولا
أدرى من ذا عن إسماعيل بن مسلمة عنه.
لكنه قال في ترجمة عبد الله بن مسلم من الميزان (2 / 504):
روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد
ابن أسلم خبرا باطلا فيه: يا آدم لولا محمد ما خلقتك، رواه البيهقي
في " دلائل النبوة "، وأقره الحافظ في اللسان (3 / 360)، لكن
لم ينفرد عبد الله بن مسلمة به فقد توبع.
قال الطبراني في المعجم الصغير (2 / 82):
حدثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري، حدثنا أحمد بن
سعيد المدني الفهري، حدثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن
ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" لما أذنب آدم صلى الله عليه وسلم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه
197

إلى العرش فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله
إليه وما محمد ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت
رأسي إلى عرشك، فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله
فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك،
فأوحى الله عز وجل إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك، وإن أمته
آخر الأمم من ذريتك ولولاه يا آدم ما خلقتك ".
قال الطبراني: لا يروى عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به أحمد
ابن سعيد.
قلت: والأمر ليس كما قال فأحمد بن سعيد توبع كما تقدم عند
الحاكم، لكن هذا السند فيه من لم أجد تراجمهم.
وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8 / 153):
رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم. ا ه‍
والحاصل أن الحديث تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو
ضعيف كما قال البيهقي: ضعفه الكل، إلا ابن عدي فإنه رغم
روايته لمنكرات له في الكامل قال (4 / 1585):
له أحاديث حسان... وهو ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم
وهو ممن يكتب حديثه. ا ه‍
وشدد بعضهم فيه، وبسبب تساهل الحاكم في تصحيح هذا
الحديث قال الحافظ في النكت على ابن الصلاح (1 / 318):
ومن عجيب ما وقع للحاكم أنه أخرج لعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم وقال - بعد روايته:
198

هذا صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن مع أنه
قال في كتابه الذي جمعه في الضعفاء: عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من
أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.
وقال في آخر هذا الكتاب: فهؤلاء الذين ذكرتهم قد ظهر عندي
جرحهم لأن الجرح لا استحله تقليدا. ا ه‍
وله شاهد موقوف ولكنه ضعيف. أخرجه الآجري في الشريعة
(ص 422 - 425): أخبرنا أبو أحمد هارون بن يوسف بن زياد
التاجر قال: حدثنا أبو مروان العثماني قال: حدثني ابن عثمان بن
خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال:
" من الكلمات التي تاب الله عز وجل بها على آدم عليه السلام أنه
قال: اللهم إني أسألك بحق محمد عليك، قال الله عز وجل: يا
آدم وما يدريك بمحمد؟ قال: يا رب رفعت رأسي فرأيت مكتوبا
على عرشك لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه أكرم خلق
الله عليك ".
قلت: أبو مروان العثماني فيه كلام، وأبوه عثمان بن خالد متروك
ومع ذلك فهو معضل وموقوف. وله شاهد آخر مرسل موقوف
ولكن ألفاظه فيها نكارة.
فقد أخرج ابن المنذر في تفسيره (كما في الدر المنثور: 1 / 60)
عن محمد الباقر بن علي بن الحسين عليهم السلام قال: لما أصاب
آدم الخطيئة عظم كربه واشتد ندمه فجاء جبريل فقال: يا آدم هل
199

أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه، قال: بلى يا
جبريل، قال: فقم في مقامك الذي تناجي فيه ربك فمجد وامدح
فليس شئ أحب لله من المدح، قال: فأقول ماذا يا جبريل؟ قال:
فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي
ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شئ قدير، ثم
تبوء بخطيئتك فتقول سبحانك التهم وبحمدك لا إله إلا أنت رب إني
ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت،
اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي
خطيئتي، قال: ففعل آدم، فقال الله: يا آدم من علمك هذا،
فقال: يا رب إنك لما نفخت في الروح فقمت بشرا سويا أسمع
وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوبا بسم الله الرحمن
الرحيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله، فلما لم
أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب، ولا نبي مرسل غير اسمه
علمت أنه أكرم خلقك عليك، قال: صدقت وقد تبت عليك
وغفرت لك خطيئتك، قال: فحمد آدم ربه وشكره وانصرف بأعظم
سرور لم ينصرف به عبد من عند ربه، وكان لباس آدم النور، قال
الله ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ثياب النور، قال: فجاءته
الملائكة أفواجا تهنئة يقولون: لتهنك توبة الله يا أبا محمد ".
لم أقف على إسناده إلى محمد الباقر عليه السلام، وهو رغم
كونه إماما جليل القدر من أئمة التابعين وثقاتهم، إلا أن في متنه
نكارة بينة، وهو أجل من أن تنسب إليه هذه النكارة، ولكنها من
الرواة عنه، والله أعلم
200

14 - حديث: " من أراد يؤتيه الله حفظ القرآن وحفظ العلم فيكتب
هذا الدعاء في إناء نظيف بعسل، ثم يغسله بماء مطر، يأخذه قبل أن
يقع إلى الأرض، ثم يشربه على الريق ثلاثة أيام، فإنه يحفظ بإذن الله:
اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يسأل مثلك، أسألك بحق محمد
رسولك ونبيك، وإبراهيم خليلك وصفيك، وموسى كليمك
ونجيك، وعيسى كلمتك وروحك.... " الحديث بطوله.
قال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع
(2 / 261):
أنا محمد بن الحسين بن محمد المتوه، نا عثمان بن أحمد
الدقاق، نا محمد بن خلف بن عبد السلام، نا موسى بن إبراهيم
المروزي، نا وكيع، عن عبيدة، عن شقيق، عن ابن مسعود، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من أراد يؤتيه الله حفظ القرآن وحفظ العلم فيكتب هذا الدعاء
في إناء نظيف بعسل، ثم يغسله بماء مطر، يأخذه قبل أن يقع إلى
الأرض، ثم يشربه على الريق ثلاثة أيام، فإنه يحفظ بإذن الله:
اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يسأل مثلك، أسألك بحق محمد
رسولك ونبيك، وإبراهيم خليلك وصفيك، وموسى كليمك
ونجيك، وعيسى كلمتك وروحك.... " الحديث بطوله.
قلت: هذا موضوع، والمتهم به موسى بن إبراهيم أبو عمران
المروزي.
كذبه يحيى بن معين، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقد عد
201

الحافظ الذهبي في الميزان (4 / 199) هذا الحديث من بلايا موسى
ابن إبراهيم.
وقد سرقه منه عمر بن صبح الخراساني الكذاب وركب له إسنادا
آخر وهو الذي أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (3 / 174 -
175).
ورواه أبو الشيخ في الثواب (كما في اللآلئ: 2 / 357) من
طريق الحسن بن عرفه، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عبد الملك بن
هارون بن عنترة عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أتى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
إني أتعلم القرآن فينفلت مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل: اللهم
إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيك وعيسى
روحك... " الحديث.
وفي التوسل والوسيلة (ص 89):
ورواه أبو موسى المديني من حديث زيد بن الحباب عن عبد الملك
ابن هارون بن عنترة، وقال: هذا حديث حسن مع أنه ليس بالمتصل،
قال أبو موسى: ورواه محرز بن هشام عن عبد الملك عن أبيه عن
جده عن الصديق رضي الله عنه، وعبد الملك ليس بذاك القوي وكان
بالري، وأبوه وجده ثقتان. ا ه‍.
قلت: هذا أمثل أسانيد الحديث.
فهارون بن عنترة وثقه أحمد وابن معين والعجلي وابن سعد.
وأبوه هو عنترة بن عبد الرحمن تابعي ثقة وزعم بعضهم أن له
202

صحبة فإسناده متصل، لكن آفته عبد الملك بن هارون بن عنترة
هالك، قال عنه يحيى بن معين: كذاب، وقال أبو حاتم: متروك
ذاهب الحديث.
والحاصل أن الحديث موضوع.
وهو ممن أصاب ابن الجوزي بذكره في الموضوعات. والله أعلم.
15 - أثر: " قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة
فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوا إلى السماء حتى لا يكون
بينه وبين السماء سقف قال: ففعلوا، فمطرنا مطرا حتى نبت
العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق ".
قال الحافظ الدارمي في سننه (1 / 43 - 44): باب ما أكرم الله
تعالى نبيه بعد موته:
حدثنا أبو النعمان، ثنا سعيد بن زيد، ثنا عمرو بن مالك
النكري، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال:
" قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت:
انظروا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منة كوا إلى السماء حتى لا يكون
بينه وبين السماء سقف قال: ففعلوا، فمطرنا مطرا حتى نبت
العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق ".
قلت: هذا إسناد حسن إن شاء الله تعالى.
أبو النعمان هو محمد بن الفضل السدوسي الملقب بعارم ثقة مشهور.
لأن كان قد اختلط بآخرة فحديثه مقبول هنا لأمرين:
الأول: قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته (ص 462): عارم
203

محمد بن الفضل اختلط بأخرة، فما رواه عنه البخاري ومحمد بن
يحيى الذهلي وغيرهما من الحفاظ ينبغي أن يكون مأخوذا عنه قبل
اختلاطه. ا ه‍ وعقب عليه الحافظ العراقي في التقييد والإيضاح
(ص 462)، فقال: وكذلك ينبغي أن يكون من حدث عنه من
شيوخ البخاري ومسلم. ا ه‍
قلت: عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي من شيوخ مسلم
والبخاري فيكون ممن حدثوا عن محمد بن الفضل السدوسي قبل
اختلاطه ولا بد.
الثاني: قال الذهبي في الميزان في ترجمة عارم (4 / 8)، وقال
الدارقطني: تغير بأخرة، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر
وهو ثقة.
قلت: فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله،
فأين هذا القول من قول ابن حبان الخساف المتهور في عارم فقال:
اختلط في آخر عمره وتغير حتى كان لا يدري ما يحدث به، فوقع
في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه
المتأخرون، فإذا لم يعلم هذا ترك الكل، ولا يحتج بشئ منها.
قلت: ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثا منكرا، فأين ما زعم.
انتهى كلام الذهبي.
وأقر العراقي في " التقييد والإيضاح " (ص 461) الذهبي في
دفعه لجرح ابن حبان.
وصرح الذهبي في الكاشف (3 / 79) بأنه تغير قبل موته فما
حدث. ا ه‍
204

وكلام الحافظ الذهبي جيد دل على براعة والواقع يؤيده، فإذا كان
الرجل قد اختلط، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر - كما
صرح بذلك الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث - فيكون قد أمسك
عن التحديث وبعد فمن يتخلف عن مثل عارم الثقة فلا تلتفت إليه،
وقد:
خلق الله للحروب رجالا ورجالا لقصعة وثريد
والله أعلم.
وإذ قد تبين لك أن ما رواه الدارمي عن أبي النعمان محمد بن
الفضل السدوسي مقبول لا مراء فيه.
فإن تعجب فعجب من صنيع الألباني الذي نقل في كتابه " التوسل "
(ص 128)، ذكر ابن الصلاح لأبي النعمان في المختلطين، ثم لم
ينقل من كلام ابن الصلاح ما يدحض شبهته وهي قول ابن الصلاح -
وقد تقدم ذكره - ما رواه البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهما
من الحفاظ ينبغي أن يكون مأخوذا عنه قبل اختلاطه. ا ه‍
والدارمي من كبار الحفاظ وهو من شيوخ البخاري والذهلي.
وأكثر من هذا أنه - أي الألباني - قال في حاشية كتابه المذكور
(ص 129):
وتغافل عن هذه العلة - أي اختلاط أبي النعمان - الشيخ
الغماري في " المصباح " (ص 43). ا ه‍
والصواب رد كلام الألباني عليه وما أحسن قول القائل:
وكم عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
205

وأما سعيد بن زيد فتكلم فيه، لكن وثقه ابن معين وابن سعد
والعجلي وسليمان بن حرب وغيرهم.
وقد احتج به مسلم في صحيحه.
وقد كفانا الحافظ الذهبي مؤنة تفصيل القول في قبول حديثه بإيراده
إياه في جزء " من تكلم فيه وهو موثق " (ص 85)، وحديثهم لا
ينزل عن درجة الحسن عنده، كما صرح بذلك في مقدمة الجزء
المذكور (ص 27).
فلا تلتفت أيها المنصف بعد ذلك لمن يشغب عليك ويضعف
الرجال المخرج لهم في الصحيح.
وأما عمرو بن مالك النكري، فقد وثقه ابن حبان (الثقات
7 / 228)، ولا يقول قائل إنه من المجاهيل الذين يدخلهم كتابه
الثقات، فالرجل روى عنه جماعة من الثقات، وعندما ترجمه ابن
حبان في ثقاته قال ما نصه:
عمرو بن مالك النكري كنيته أبو مالك، من أهل البصرة، يروي
عن أبي الجوزاء، روى عنه حماد بن زيد وجعفر بن سليمان وابنه
يحيى بن عمرو، ويعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه، مات سنة
تسع وعشرين ومائة. ا ه‍
وأكثر من هذا أن ابن حبان ترجم لعمرو بن مالك النكري في
مشاهير علماء الأمصار (ص 155) ضمن طبقة أتباع التابعين في
البصرة وقال: وقعت المناكير في حديثه من رواية ابنه عنه، وهو في
نفسه صدوق اللهجة. ا ه‍.
فأنت ترى أن ابن حبان عرف اسم الراوي وكنيته وبلده وشهرته
بالعلم وعرف الرواة عنه، وأنه قد سبر روايته بدليل قوله يعتبر حديثه
... إلخ، وقوله وقعت المناكير... إلخ.
206

فقبول توثيق ابن حبان حق لا مرية فيه وهو الذي اعتمده الحافظ،
فقال في التقريب (ص 426): صدوق له أوهام. ا ه‍
لكن الصواب من قول الحافظ قوله " صدوق " فقط، وبيان هذا
الصواب أنه وقع في " التهذيب " (8 / 96) زيادة على كلام ابن
حبان لم أجدها في الثقات هي " يخطئ ويغرب "، وهي سبق قلم
بنى عليها الحافظ قوله: " له أوهام ".
فإذا رفعت هذه الزيادة التي لا أصل لها من كلام ابن حبان، رفع
كلام الحافظ المعتمد عليها، وكان الصواب من قول الحافظ في عمرو
ابن مالك هو " صدوق " فقط والله أعلم.
فإن قيل: فما بالنا، نراك قد أعرضت عن كلام أحمد في عمرو
ابن مالك النكري، فقد نقل عبد الله بن أحمد عن أبيه في مسائله
(ص 89): أنه كأنه ضعفه. ا ه‍
قلت: كأن ظن لا تقوم به حجة.
ونحوه قال الحافظ في ترجمة الحسن بن موسى الأشيب في مقدمة
الفتح (ص 397):
روى عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه قال: كان ببغداد (أي
الحسن بن موسى)، وكأنه ضعفه.
قلت (أي الحافظ): هذا ظن لا تقوم به حجة. ا ه‍
أضف إلى كونه ظنا مرجوحا أنه جرح غير مفسر حكمة الرد في
مقابل التعديل كما تقرر في علم الحديث، فتوثيق عمرو بن مالك
بعد ذلك البيان لا مرية فيه.
207

وهو ما صرح به الحافظ الذهبي في " الميزان " (3 / 286)، وفي
" المغني " (2 / 489).
وإذ قد تبين لك ثقة عمرو بن مالك النكري فلك أن تعجب من
قول الألباني في ضعيفته (1 / 131) تعقيبا على الحافظين المنذري
والهيثمي إذ حسنا لعمرو بن مالك النكري قال الألباني:
وفيما قالاه نظر، فإن عمرا هذا لم يوثقه غير ابن حبان، وهو
متساهل في التوثيق حتى إنه ليوثق المجهولين عند الأئمة النقاد.... ا ه‍
قلت: تقدم قبول توثيق ابن حبان له، ومحل العجب من
الألباني، حيث قال في تعليقه على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
(ص 88):
عمرو بن مالك النكري وهو ثقة كما قال الذهبي، ثم عاد ووثقه
مرة أخرى في صحيحته (5 / 608)...!!
ومحل العجب أنه يصحح ويضعف وفق غرضه وهواه، ولهذا
يكثر التناقض منه ويترك القواعد، نعوذ بالله تعالى من الهوى والمناكدة.
* تنبيه:
خلط ابن عدي في كامله (5 / 1779) بين عمرو بن مالك
النكري، وعمرو بن مالك الراسبي فقال: منكر الحديث عن الثقات،
ويسرق الحديث، ثم ختم الترجمة بقوله: ولعمرو غير ما ذكرت
أحاديث مناكير بعضها سرقها من قوم ثقات. ا ه‍
إلا أنه قال في صدر الترجمة: عمرو بن مالك النكري،
208

والصواب أنه عمرو بن مالك الراسبي. وقد نبه على وهم ابن عدي
الحافظ في " التهذيب " (8 / 95)، وفرق بينهما الذهبي
في " الميزان " (3 / 286)، وفي " المغني " (2 / 489).
واغتر بخلط ابن عدي جماعة منهم:
ابن الجوزي في " الضعفاء " (2 / 231)، وفي " الموضوعات " (2 / 145)،
وابن تيمية في " التوسل " وغيره. وكان من أثر ذلك أن حكما على
هذا الأثر بالوضع وهو خطأ بلا ريب منشأة تقليد ابن عدي.
وأبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله البصري: ثقة احتج به الجماعة،
وقد تكلم في سماعه من أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
والصواب إثبات سماعه منها للآتي:
الأول: أن حديث أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها أخرجه
مسلم في صحيحه وكفى بهذا حجة.
الثاني: قال البخاري في " التاريخ الكبير " (2 / 17): قال لنا
مسدد عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك النكري عن أبي
الجوزاء قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة ليس من
القرآن آية إلا سألتهم عنها.
وفي رواية أخرجها ابن سعد (7 / 224): أخبرنا عارم بن
الفضل قال: حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن مالك عن أبي
الجوزاء قال: جاورت ابن عباس في داره اثنتي عشرة سنة ما في
القرآن آية إلا وقد سألته عنها.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (3 / 79) بزيادة:
209

وكان رسولي يختلف إلى أم المؤمنين غدوة وعشية فما سمعت من
أحد من العلماء ولا سمعت أن الله تعالى يقول لذنب: إني لا أغفره
إلا الشرك به.
قال الحافظ في " التهذيب " (1 / 384):
لكن لا مانع من جواز كونه توجه إليها بعد ذلك فشافهها على
مذهب مسلم في إمكان اللقاء. ا ه‍
فإذا كان أبو الجوزاء قد أدرك السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها
بيقين، ولم يكن أبو الجوزاء مدلسا فروايته عنها محمولة على السماع
كما هو مذهب الإمام مسلم بل الجمهور، واستقر العمل على ذلك
والله أعلم.
وقد صحح أبو نعيم الأصبهاني في ترجمة أبي الجوزاء في " الحلية "
عدة أحاديث له عن عائشة.
وفي الجمع بين الصحيحين لابن القيسراني (1 / 46): سمع
عائشة. ا ه‍
فحاصل ما تقدم: إن هذا إسناد حسن أو صحيح رجاله رجال مسلم ما خلا
عمرو بن مالك النكري وهو ثقة. والله تعالى أعلم بالصواب.
16 - أثر مالك الدار: " أصاب الناس قحط في زمن عمر؟ فجاء
رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد
هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فاقرئه السلام وأخبره
أنكم مستقيون وقل له: عليك الكيس عليك الكيس، فأتى عمر
فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا ألو إلا ما عجزت عنه ".
210

قال ابن أبي شيبة في " المصنف " (12 / 31 - 32):
حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار،
قال: وكان خازن عمر على الطعام، قال:
" أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى
الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فاقرئه السلام وأخبره أنكم
مستقيون وقل له: عليك الكيس عليك الكيس، فأتى عمر فأخبره
فبكى عمر ثم قال: يا رب لا ألو إلا ما عجزت عنه ".
وأخرجه من هذا الوجه ابن أبي خيثمة كما في " الإصابة "
(3 / 484)، والبيهقي في " الدلائل " (7 / 47)، والخليلي
في " الإرشاد " (1 / 313 - 314)، وابن عبد البر في " الإستيعاب "
(2 / 464).
وقال الحافظ في " الفتح " (495 / 2): وقد روى سيف في
الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد
الصحابة. ا ه‍.
إسناده صحيح، وقد صححه الحافظان ابن كثير في " البداية "
(7 / 101)، وابن حجر في " الفتح " (2 / 495) وقال ابن كثير
في جامع المسانيد - مسند عمر (1 / 223): إسناده جيد قوي. ا ه.
وأقر ابن تيمية بثبوته في اقتضاء الصراط المستقيم (ص 373).
وقد سعى بعضهم لتضعيف هذا بأمور مخالفة لقواعد الحديث
رأيت أن أسوقها ثم أبين مجانبتها للصواب وهي:
1 - الأعمش مدلس ولم يصرح بالسماع.
211

2 - مالك الدار مجهول.
3 - مظنة انقطاع بين أبي صالح ومالك.
4 - إن صحت الرواية فلا حجة فيها لأن مدارها على رجل لم
يسم وتسميته بلالا في رواية سيف لا يساوي شيئا، لأن سيفا متفق
على ضعفه.
5 - تفرد مالك المجهول - في ظنهم - رغم عظم الحادثة وشدة
وقعها على الناس إذ هم في كرب، إن سببا يفك هذه الأزمة مما
تتداعى الهمم على نقله، فإذا لم ينقلوه دل على أن الأمر لم يكن
كما رواه مالك، فلعله ظنه ظنا.
أما عن الأولى وهي تدليس الأعمش: فإن الأعمش وإن كان مدلسا
إلا أن حديثه هنا مقبول صرح بالسماع أو لم يصرح لأمرين:
الأول: وهو أن الأعمش مذكور في المرتبة الثانية من المدلسين،
وهم من احتمل الأئمة حديثهم وأخرجوا لهم في الصحيح لإمامتهم
وقلة تدليسهم في جنب ما رووا، فالأعمش حديثه مقبول صرح
بالسماع أو لم يصرح.
والثاني: وهو وإن لم نقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع
كأهل المرتبة الثالثة وما بعدها من المدلسين فحديثه هنا مقبول لأنه
يروي عن أبي صالح وهو ذكوان السمان. قال الذهبي في " الميزان "
(2 / 224): متى قال (أي الأعمش) " عن " تطرق إليه احتمال
التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم وابن أبي وائل وأبي
صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال 10 د
212

وأما عن الثانية وهي ظنهم جهالة مالك الدار الثقة المخضرم، فقد
أبعد الألباني وغاير قواعد الحديث وقال في " التوسل " (120 -
121):
مالك الدار غير معروف العدالة والضبط واستدل على ذلك بأن ابن
أبي حاتم لم يذكر راويا عنه غير أبي صالح ففيه إشعار بأنه مجهول
ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه - مع سعة حفظه واطلاعه - لم يحك
فيه توثيقا فبقي على الجهالة، ثم أيد كلامه بأن الحافظ المنذري أورد
قصة من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال: ومالك الدار لا أعرفه،
وكذا قال الهيثمي في " مجمع الزوائد ". ا ه‍ انتهى باختصار اقتضاه
المقام، ثم صرح الألباني بجهالته (ص 121).
قلت وبالله التوفيق: مالك الدار ثقة وفوق الثقة متفق عليه أثنى
عليه جمع من التابعين ولنا في بيان ذلك مسالك.
المسلك الأول
مالك الدار هو مالك بن عياض مولى عمر بن الخطاب، ذكره
الحافظ في المخضرمين في " الإصابة " (3 / 484). وقال: له
إدراك وسمع من أبي بكر الصديق، وروى عن الشيخين ومعاذ وأبي
عبيدة، روى عنه أبو صالح السمان وابناه عون (1) وعبد الله ابنا
مالك، ثم ذكر بعد كلام في الرواة عنه عبد الرحمن بن سعيد بن
يربوع الثقة.

(1) حديثه عنه في المعجم الكبير للطبراني (2 / 33)، والحلية، والزهد
لابن المبارك.
213

وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين في أهل المدينة (5 / 6)،
وقال:
وكان معروفا، وقال أبو عبيدة كما في " الإصابة "
(3 / 484):
ولاه عمر وكلة عياله، فلما قدم عثمان ولاه القسم. ا ه‍
وفيها أيضا قال إسماعيل القاضي عن علي بن المديني: كان مالك
الدار خازنا لعمر. ا ه‍.
وأجاد الحافظ أبو يعلى الخليلي فقال في الإرشاد (1 / 313):
مالك الدار مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه تابعي قديم
متفق عليه أثنى عليه التابعون. ا ه‍
ووثقه ابن حبان في " الثقات " (5 / 384).
فأي ثناء يطلب بعد هذا في الرجل حتى يصحح حديثه؟، وأي
حجة تطلب في توثيق الرجل بعد ذلك؟ فتوثيق جمع له وخاصة إذا
كانوا معاصرين ومن التابعين الذين هم خير القرون بعد القرن الأول
لا تجده إلا في أفذاذ الثقات، فالرجل متفق على الاحتجاج به بلا
مرية كما هو ظاهر كلام الخليلي.
ولفرط دينه وأمانته استعمله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب
رضي الله عنهما.
المسلك الثاني
إن تشددت غاية التشدد وأعرضت عن توثيق ابن حبان، ولم
تقف على كلام الخليلي الذي هو قاطع للنزاع، فغاية ما في الرجل
214

أنه عدل الظاهر برواية أربعة ثقات عنه، بله اعتماد أئمة الصحابة له.
فلا يخرج عن كونه - في أدنى الأحوال ومع كامل التشدد - من
مستوري التابعين وقد قبل الأئمة حديثهم. قال ابن الصلاح في
مقدمته (ص 145):
ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي (وهو قبول رواية المستور)
في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين
تقادم العهد وتعذرت الخبرة الباطنة بهم. والله أعلم.
ومن أكبر الأدلة على قبول رواية المستور هو تصحيح الشيخين
البخاري ومسلم لحديثهم.
قال الذهبي في " الميزان " (1 / 556) في ترجمة حفص بن بغيل:
ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعفهم أحد
ولا هم بمجاهيل ". ا ه‍
وقال الذهبي في " الميزان " أيضا (3 / 426) في ترجمة مالك بن
الخير الزيادي:
وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحدا نص على توثيقهم
والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما
ينكر عليه أن حديثه صحيح ". ا ه‍
قلت: مالك بن الخير من تابعي التابعين، وحفص بن بغيل من
صغارهم فأين هم ثم أين هم من مالك الدار المخضرم المعترف بدينه
وأمانته من عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما؟
وعليه فإذا صحح الأئمة لأمثال من تقدم فمالك بن عياض حديثه
215

أصح منهم ولا بد.
بل وأكثر من هذا قول الذهبي في " الميزان " (2 / 40) في
ترجمة الربيع بن زياد الهمداني ما رأيت لأحد فيه تضعيفا، وهو
جائز الحديث. ا ه‍
وقال في ترجمة زياد بن مليك من " الميزان " أيضا (2 / 93)
شيخ مستور ما وثق ولا ضعف فهو جائز الحديث. ا ه‍ وزياد
يروي عمن تأخروا كثيرا عن مالك الدار أمثال الأعمش وطبقته.
والمتقدمون من الرواة أمثال مالك الدار تعذرت الخبرة الباطنة بهم
على النقاد، ولما كانت الأخبار تبنى على حسن الظن بالراوي قبل
الأئمة حديثه وحديث أمثاله، وقد صرح بنحو هذا السخاوي في
شرح الألفية (1 / 299).
وهذا أمير المؤمنين في الحديث أبو الحسن الدارقطني يقول (كما
في فتح المغيث 1 / 298):
" من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته وثبتت عدالته. ا ه‍ "
فإذا علمت ما سبق عن الأئمة في قبول حديث مالك بن عياض
وأمثاله، فلا تنظر بعد ذلك لقول غيرهم إلا مع قولك: إنه قول
بعيد عن الصحة بعيد عن التحقيق والله أعلم بالصواب.
المسلك الثالث
مالك الدار مخضرم له إدراك.
ومن له إدراك يذكره بعضهم في الصحابة، قال الحافظ في
216

التهذيب في ترجمة إبراهيم بن أبي موسى الأشعري (1 / 135):
" ذكره جماعة في الصحابة على عادتهم في من له إدراك ". ا ه‍
وقال في ترجمة الأسود بن مسعود العنبري (1 / 342):
" ذكره الباوردي وجماعة ممن ألف في الصحابة لإدراكه ". ا ه‍
وقال الحافظ السيوطي في حسن المحاضرة (1 / 103) في ترجمة
الأكدر بن حمام:
أورده الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة في قسم المخضرمين
وهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم إلا بعد وفاته وهم صحابة في
قول ابن عبد البر وطائفة. ا ه‍
ولذا ذكره السيوطي في " در السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة ".
قلت: وقال آخرون ليس بصحابي.
وإذا كان من له إدراك ممن اختلفوا في صحبته فأثبتها بعضهم ونفاها
آخرون، فلك أن تقول من له إدراك مختلف في صحبته.
إذا علم ذلك، فقد قال الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير "
(1 / 74) عند الكلام على حديث لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله
عليه قال عند الكلام على أسماء بنت سعيد بن زيد بن عمرو ما نصه:
وأما حالها فقد ذكرت في الصحابة، وإن لم يثبت لها صحبة
فمثلها لا يسأل عن حالها. ا ه‍
فجعل الحافظ - ولله دره - بقوله فمثلها أي من اختلف في صحبته
217

من الثقات الذين لا يسأل عن حالهم. فحاصل ما سبق يمكن أن
تقول:
مالك الدار له إدراك، وكل من له إدراك اختلفوا في صحبته،
ومن اختلفوا في صحبته فهو ثقة لا يسأل عن حاله، فالنتيجة مما
تقدم، مالك الدار ثقة لا يسأل عن حاله والله أعلم.
المسلك الرابع
والألباني الذي يرد رواية مالك بن عياض الشهير بالدار وهو
المعتمد من أئمة الصحابة رضوان الله عليهم بدعوى جهالته، يقبل
رواية من هم أقل شأنا منه، والأمثلة عندي كثيرة وهي توضح تناقض
مسلكه وتناديه بأعلى صوت وتلزمه بأقوى برهان هكذا صنعت في
المذكورين وهم أقل من مالك الدار فأنت ملزم بقبول حديث مالك
الدار والله المستعان.
وأتحف القارئ بعشرة أمثلة توضح ما ذكرت:
1 - مهاجر بن أبي مسلم جود حديثه في صحيحته (2 / 487)
برواية جمع من الثقات عنه وتوثيق ابن حبان له.
قلت: وفي " التقريب " (ص 548): " مقبول ". ا ه‍
2 - يحيى بن العريان الهروي حسن له في صحيحته (1 / 49)،
وحجته أن الخطيب البغدادي عندما ترجمه في التاريخ (14 / 161)
ذكر أنه كان محدثا!!
قلت: لا زلت أتعجب من مسلكه، فليس التحديث من عبارات
التعديل، ولا يلزم من كون الرجل محدثا أو حافظا أن يصحح
218

حديثه أو يحسن وهذا واضح لا يحتاج لبيان.
3 - موسى بن عبد الله بن إسحاق بن طلحة القرشي صحح له
في صحيحته (1 / 295) وفي " التقريب " (ص 552): " مقبول ". ا ه‍
4 - مالك بن الخير الزيادي صحح حديثه برواية جمع من الثقات
وتوثيق ابن حبان له (صحيحته: 2 / 512).
5 - عون بن محمد بن الحنفية حسن له (صحيحته: 2 / 274)
وهو كسابقه.
6 - عبد الله بن يسار الأعرج المكي مولى ابن عمر جود حديثه في
صحيحته (2 / 290)، وهو كسابقه أيضا، وفي التقريب
(ص 330): " مقبول ". ا ه‍
7 - محمد بن الأشعث جود حديثه في صحيحته (2 / 313)
بتوثيق ابن حبان، ورواية جمع عنه وكونه تابعيا كبيرا، وفي التقريب:
" مقبول ". ا ه‍ (ص 469).
8 - أبو سعيد الغفاري جود له في صحيحته (2 / 298)، وقال
بعد ارتفاع الجهالة العينية عنه ما نصه:
ثم هو تابعي كبير فمثله يحسن حديثه جماعة من الحفاظ، فلا
جرم جود إسناده الحافظ العراقي وهو الذي انشرح له صدري
واطمأنت إليه نفسي. ا ه‍
قلت: فيا هذا ما الفارق بين الغفاري ومالك الدار؟
9 - بشر بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز حسن له في صحيحته
219

(2 / 392) بسكوت ابن أبي حاتم ورواية بعض الثقات عنه واحتمال
كونه في ثقات ابن حبان.!
قلت: جعله ابن حبان في تبع الأتباع (8 / 138) فطبقته نازلة
جدا بالنسبة لمالك الدار الثقة المخضرم المعتمد من كبار الصحابة،
ولكن حبك للشئ يعمي ويصم، نعوذ بالله من اتباع الهوى.
10 - صالح بن حوات حسن له في صحيحته (2 / 436) برواية
جمع من الثقات عنه وتوثيق ابن حبان له.
قلت: في " التقريب " (ص 271): " مقبول من أهل الثامنة ". ا ه‍
فأين هو من أهل الثانية؟
* * *
بقي الكلام على أخطاء وقعت في عبارات الألباني رأيت أن
السكوت عنها ليس بجيد وهاك بيانها:
قوله: " مالك الدار غير معروف العدالة والضبط ".
قلت: المقصود هنا بالعدالة عدالة الظاهر وهو عدل، بلا شك
برواية أربعة عنه، وزد على ذلك اعتماد أئمة الصحابة عليه في الأمور
التي تحتاج لكامل العدالة والمروءة.
وأما قوله: " وقد أورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "
(4 / 1 / 213)، ولم يذكر راويا عنه غير أبي صالح هذا. ففيه
إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه مع سعة حفظه
واطلاعه لم يحك فيه توثيقا فبقي على الجهالة ". ا ه‍
220

فأقول: هذا تقصير في البحث لا ينبغي لمن يتصف به أن يتكلم
في الرجال، ويحكم على الأحاديث فاعتماد الألباني على كتاب
الرازي فقط أوقعه فيما تراه من قصور شديد وإلا فالرجل ترجمه ابن
حبان في الثقات، وابن كثير في " البداية " (7 / 100 - 101)،
والذهبي في تاريخ الإسلام (3 / 69)، والحافظ في " الإصابة "
(3 / 484)، والخليلي في " الإرشاد " (1 / 313)، والسخاوي
في التحفة اللطيفة (3 / 445)، وله ذكر في تهذيب التهذيب
(8 / 217)، (7 / 226).
ومنهم تعلم عدالة مالك الدار، ورواية جمع غير أبي صالح
السمان عنه، هذه واحدة.
أما الثانية: فأن سكوت ابن أبي حاتم عن الرجل لا يشعر بجهالته
كما صرح بذلك الألباني، هنا، وأكثر من هذا قول الشيخ حماد بن
محمد الأنصاري (1): " كل من سكت عنه ابن أبي حاتم في " الجرح
والتعديل " فهو مجهول ". ا ه‍. فجعلها الشيخ حماد قضية كلية
ولله الأمر.
قلت: سكت ابن أبي حاتم عن الراوي لأنه لم يجد فيه جرحا
ولا تعديلا فقال في ختام كلامه على مباحث الجرح والتعديل
(1 / 37):
" على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من " الجرح والتعديل "

(1) في مجموعة مقالات له نشرت في مجلة (الجامعة الإسلامية) باسم
" المفهوم الصحيح للتوسل، أو تحفة القاري في الرد على الغماري "، وفيما
يراه القارئ من تحقيق لأحاديث التوسل في هذا الكتاب نسف لتحفته،
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
221

كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روى عنه العلم رجاء وجود
الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله
تعالى ". ا ه‍
فعدم وجود الجرح والتعديل لا يعني جهالتهم لأن الجهالة جرح،
فلم يصرح بذلك، ولم يشر إليه بل والواقع يخالف ذلك قطعا،
فكم من الرواة الذين سكت عنهم ابن أبي حاتم وجد فيهم الجرح
والتعديل غيره من الأئمة، وكتب الرجال طافحة بالأمثلة.
وأكثر من هذا أن أبا حاتم الذي يعتمد قوله ابن أبي حاتم في
الجرح والتعديل قد عبر بعبارة مجهول في كثير من الصحابة، وصرح
بذلك الحافظ في التهذيب (3 / 357).
ثم وجه الألباني (توسله ص 120) تصحيح الحافظ ابن حجر
لهذا السند بكلام متهافت لا يشتغل به ولا برده لأنه عبث لا فائدة فيه
والله المستعان.
* * *
فصل
فإن قلت: سلمنا لك أن " مالك الدار " مخضرم وثقة، وقد
استعمله كبار الصحابة، فما لنا نرى اثنين من الحفاظ وهما المنذري
والهيثمي قد قالا في مالك الدار " لا أعرفه ".
قلت: لم يعرفاه، ولكن قد عرفه غيرهما فكان ماذا؟!
من عرف حجة على من لم يعرف، ولم يقولوا: من لم يعرف
حجة على من عرف.
وهنا نكتة لا تخلو من فائدة وهي أن الحافظين المنذري والهيثمي
222

نفيا المعرفة فقط ولم يحكما بالجهالة مما يدل على معرفتهما التامة
بالفن.
بينما جازف الألباني فادعى جهالة الرجل، وبون شاسع بين
اللفظين.
قال الحافظ في " اللسان " في ترجمة إسماعيل بن محمد الصفار
(1 / 432):
" لم يعرفه ابن حزم فقال في " المحلى ": إنه مجهول... ومن
عادة الأئمة أن يعبروا في مثل هذا بقولهم لا نعرفه أو لا نعرف حاله،
وأما الحكم عليه بالجهالة بغير زائد لا يقع إلا من مطلع عليه أو
مجازف ". ا ه‍
فليتأمل المطلع الفارق بين الصنيعين، صنيع أهل الفن وصنيع
غيرهم. وكم للألباني من عدول عن " عدم المعرفة " إلى "
الحكم بالجهالة "، وهو خطأ شائع في كتبه وقد نبهت عليه في مقدمة
النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح للحافظ صلاح
الدين العلائي والله المستعان.
وأما عن العلة الثالثة وهي مظنة الانقطاع بين أبي صالح ذكوان
السمان ومالك الدار.
هذه العلة المتوهمة ذكرها صاحب كتاب " هذه مفاهيمنا " (ص
62، 63).
وهذا الذي ظنه صاحب الكتاب المذكور ظن باطل لا يغني من
الحق شيئا، ويكفي في بطلانه أن تعرف أن أبا صالح ذكوان السمان
مدني كمالك الدار وجل روايته عن الصحابة، ولم يكن مدلسا،
والمعاصرة تكفي للحكم على السند بالاتصال كما هو مقرر.
223

وفي هذا القدر كفاية والله أعلم.
وأما عن العلة الرابعة: وهي قولهم: إن صحت الرواية فلا حجة
فيها لأن مدارها على رجل لم يسم وتسميته بلالا في رواية سيف لا
يساوي شيئا لأن سيفا متفق على ضعفه.
قلت: نعم سيف شديد الضعف لكن الجائي إلى القبر الشريف
سواء كان صحابيا أو تابعيا لا يضر الجهل به لأن الحجة في إقرار سيدنا
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في عمله حيث لم ينهه عما
فعل، بل أقره وبكى عمر وقال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت
عنه. والله أعلم.
وأما عن العلة الخامسة وهي عظم الحادثة وتفرد مالك الدار بنقلها.
" وهو مجهول عندهم " دل على أن الأمر لم يكن كما رواه مالك
فلعله ظنه ظنا.
أورد هذا الاعتراض أيضا صاحب كتاب " هذه مفاهيمنا " (ص
قلت: تقرر في علم الأصول أن الخبر يقطع بكذبه إذا توفرت فيه
ثلاثة شروط:
الأول: إذا انفرد به واحد.
الثاني: أن يكون ممن تجتمع الدواعي للناس على نقله.
الثالث: أن يشاركه خلق كثير في حضور ما يدعيه المنفرد.
والشرطان الأخيران لا يتوافران في خبر مالك الدار، فإن خبره لم
تتوفر الدواعي للناس على نقله فتدبر. وتقدم أن مالك الدار معروف
متفق عليه كما قال أبو يعلى الخليلي.
224

نعوذ بالله من رد الآثار الصحيحة بمثل هذه التوهمات واتباع سبل
أهل البدع والأهواء.
وكم من حديث عد من الأصول ومع ذلك تفرد به رواته
كحديث " إنما الأعمال بالنيات "، فهو فرد ويدخل في ربع العلم،
كما قال عدد من الأئمة.
وحاصل ما ذكر أن هذا الأثر صحيح ومن طعن فيه فما أصاب
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
* * *
225

تخريج
أحاديث الزيارة
228

17 - حديث: " من زار قبري وجبت له شفاعتي ".
أخرجه الدارقطني في سننه (2 / 278)، والدولابي في الكنى
والأسماء (2 / 64)، والبيهقي في " شعب الإيمان " (3 / 490)،
والخطيب في " تلخيص المتشابه في الرسم " (1 / 581)، وابن
الدبيثي في " الذيل على التاريخ " (2 / 170)، وابن النجار في
" تاريخ المدينة " (ص 142)، والعقيلي في الضعفاء (4 / 170)،
وابن عدي في الكامل (6 / 2350)، والسبكي في " شفاء السقام "
(ص 2 - 14).
جميعهم من طرق عن موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن
عمر وعبد الله بن عمر كلاهما عن نافع عن ابن عمر به مرفوعا.
وهذا الإسناد حسن سواء قال موسى بن هلال عن عبيد الله بن
عمر أو عن أخيه عبد الله بن عمر أو عنهما.
وقد صححه عبد الحق الإشبيلي، وصححه أو حسنه السبكي
في " شفاء السقام "، والسيوطي في " مناهل الصفا في تخريج
أحاديث الشفا "، وآخرون ممن تأخروا عنه.
وقد أعل هذا الحديث بعلل لا يصح منها شئ لكن لا بد من
ذكرها ثم الجواب عليها بدون تكلف إن شاء الله تعالى.
فأعل الحديث بالآتي:
1 - موسى بن هلال مجهول واضطرب في هذا الحديث.
2 - أن موسى بن هلال يرويه عن عبد الله بن عمر العمري ولا
229

تصح روايته عن عبيد الله بن عمر الثقة الحافظ.
3 - أن عبد الله بن عمر العمري ضعيف.
وهذه العلل لا تصح وهي غير ناهضة للحكم على الحديث
بالضعف للآتي:
1 - موسى بن هلال حسن الحديث، وقد قال عنه ابن عدي:
أرجو أنه لا بأس به، وقال الذهبي: صالح الحديث، وروى عنه
عدد من الأئمة الحفاظ من أجلهم أحمد بن حنبل، هب أن موسى
ابن هلال ضعيف فهو لم ينفرد به بل تابعه غيره عليه، فزال بذلك
أي تعلق للمتشددين في موسى بن هلال.
ودعوى الاضطراب لا تصح إلا مع تعذر الجمع بين الروايات،
وقد أمكن الجمع من جهتين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
2 - وقد ثبت الحديث من طرق متعددة عن موسى بن هلال عن
عبيد الله بن عمر الثقة الحافظ فلا مجال في الطعن في ثبوت روايته
للحديث عن عبيد الله بن عمر.
3 - إن سلم أن موسى بن هلال لا يرويه إلا عن عبد الله بن عمر
العمري، فالعمري حسن الحديث، كما قال غير واحد من الأئمة،
وهذا ابن عبد الهادي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها وحشد الأقوال في
تضعيف عبد الله بن عمر العمري قد استدل بحديثه في تنقيح التحقيق
(1 / 122).
هذا ما أردت أن ألفت نظر القارئ إليه على سبيل الاجمال،
وهاك تفصيل ما أجملت على طريقة اللف والنشر المرتب والله
230

المستعان:
أما عن الأمر الأول: فموسى بن هلال العبدي حسن الحديث.
فقد قال عنه أبو حاتم الرازي في " الجرح " (8 / 166)
" مجهول "، وقال العقيلي (4 / 170): ولا يصح حديثه ولا
يتابع عليه. وقال الدارقطني في سؤالات البرقاني: مجهول.
هذا حاصل ما قيل في الرجل الرمي بالجهالة والتفرد.
أما عن الجهالة (1) فهي مردودة بمعرفة غيره له، فقد روى عنه
عدد كبير من الرواة وفيهم أئمة حفاظ منهم الإمام أحمد بن حنبل
وعده ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص 49) من شيوخه.
وروى عنه غير أحمد بن حنبل جماعة منهم أحمد بن الخليل،
ومحمد بن إسماعيل الأحمسي، وأبو أمية محمد بن إبراهيم
الطرسوسي، وعبيد بن محمد الوراق، والفضل بن سهل، وجعفر
ابن محمد البزوري، ومحمد بن زنجويه العسيري، وعلف بن معبد
ابن نوح، والعباس بن الفضل، وهارون بن سفيان، ومحمد بن
جابر المحاربي، وأحمد بن أبي غرزة، وأبو محمد عبد الملك بن
إبراهيم، ومحمد بن عبد الرزاق.
وإذا كانت جهالة الظاهر ترتفع برواية اثنين أو واحد كما هو مقرر
في موضعه، فما بالك بمن روى عنه خمسة عشر رجلا.
وكان الرجل مشهورا فاعتمده يعقوب بن سفيان الفسوي في معرفة

(1) وقد تبع ابن القطان أبا حاتم الرازي فما أصاب.
231

وفيات بعض البصريين (أنظر المعرفة والتاريخ: 1 / 122، 127،
128).
أما عن جهالة الحال فهي مردودة بأمرين: الأول: بقول ابن عدي
في " الكامل " (6 / 2350): أرجو أنه لا بأس به.
وإذا كان قد تقرر في المصطلح أن التزكية تقبل بقول واحد فقط في
الرواية، فمن روى عنه خمسة عشر رجلا وفيهم أئمة حفاظ وزكاه
ابن عدي بقوله لا بأس به، لا بد أنه غير مجهول بل حديثه مقبول.
وهذا حال كثير من الرواة الذين يصحح الأئمة حديثهم.
والثاني: روى عنه أحمد (مناقب أحمد لابن الجوزي ص 49)
وهو لا يروي إلا عن ثقة كما هو مقرر في محله.
فإن قيل: قد قال ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في الصارم
المنكى في الجواب على ذلك (ص 40 - 41) ما نصه:
" الجواب: أن يقال رواية أحمد عن الثقات هو الغالب من فعله
، والأكثر من عمله كما هو المعروف من طريقة شعبة ومالك وعبد
الرحمن ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم وقد يروي الإمام
أحمد قليلا في بعض الأحيان عن جماعة نسبوا إلى الضعف وقلة
الضبط وذلك على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد
والاعتماد مثل روايته عن عامر بن صالح الزبيري ومحمد بن القاسم
الأسدي وعمر بن هارون البلخي وعلي بن عاصم الواسطي وإبراهيم
بن أبي الليث صاحب الأشجعي ويحيى بن يزيد بن عبد الملك
النوفلي ونصر بن باب وتليد بن سليمان الكوفي وحسين بن حسن
232

الأشقر وأبي سعيد الصاغاني ومحمد بن ميسر ونحوهم ممن اشتهر
الكلام فيه، وهكذا روايته عن موسى بن هلال إن صحت روايته
عنه (1) ". ا ه‍.
قلت: هنا أمور:
الأول: أحمد لا يروي إلا عن ثقة ولكن أحيانا يروي عن الضعفاء
لأسباب منها:
أنه لم يتبين أمر الضعيف له.
ومنها أنه يروي عنه على سبيل التعجب كما كان يروي شعبة عن
جابر الجعفي ومحمد بن عبيد الله العرزمي.
ومنها الرواية عنهم في غير الحلال والحرام كما في ترجمة موسى
ابن عبيدة الربذي، إذا علم ذلك وكان قد استقر لدينا أن الإمام
أحمد بن حنبل لا يروي إلا عن ثقة، فهل رواية أحمد عن موسى
ابن هلال مقوية لحال موسى أم ماذا؟
قلت: قال ابن أبي حاتم الرازي (الجرح: 2 / 36) سألت أبي عن
رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه؟ قال: إذا كان معروفا
بالضعف لم تقوه روايته عنه، وإذا كان مجهولا نفعه روايته عنه. ا ه‍

(1) هذا ظلم بين لموسى بن هلال إذ كيف يسوى ابن عبد الهادي بين موسى
ابن هلال وبين المذكورين؟!، وفيهم أقوياء في الضعف جدا كعامر بن صالح
الزبيري الذي كذبه ابن معين، ومحمد بن القاسم الأسدي الكذاب، وعمر بن
هارون البلخي المتروك، وإبراهيم بن أبي الليث المتروك أيضا وبضرب هذه
الأمثلة يظهر للبيب سعى ابن عبد الهادي الحثيث لتضعيف موسى بن هلال
العبدي ولو عن طريق التشدد المكشوف!
233

ثم قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن
رجل مما يقوى حديثه؟ قال: أي لعمري، قلت: الكلبي روى عنه
الثوري، قال: إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي
يتكلم فيه، قال أبو زرعة: حدثنا أبو نعيم، نا سفيان، نا محمد
ابن السائب الكلبي وتبسم الثوري، قال أبو محمد: قلت لأبي ما
معنى رواية الثوري عن الكلبي وهو غير ثقة عنده، فقال: كان
الثوري يذكر الرواية عن الكلبي على الانكار والتعجب. ا ه‍
ومنه يعلم أن رواية الثقة في نظر أبي زرعة الرازي مفيدة في حالتين:
الأولى: إذا كان المروى عنه مجهول الحال (1).
الثانية: إذا كان الراوي غير ضارب في الضعف متوغلا فيه كمحمد
ابن السائب الكلبي وجابر الجعفي وعامر بن صالح الزبيري وعمر بن
هارون البلخي وأضرابهم.
وعليه فرواية أحمد مقوية لموسى بن هلال العبدي فهو مجهول
الحال عند بعضهم، وقد روى عنه في كتبه وخارجها، فروى عنه في
" الزهد "، وأسند الفسوي من طريق أحمد عن موسى بن هلال
هذا على سبيل التنزل فقط مع القائلين بجهالة موسى بن هلال
العبدي وإلا فالرجل من شرط الحسن، وقد قال الزركشي في المعتبر
في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر ص 226: وقال أهل هذا
الشأن: إن جهالة الراوي لا توجب قدحا إذا كان من روى عنه ثقة
فإن روايته عنه تكون تعديلا له. ا ه‍
والحاصل مما سبق أن إطلاق جهالة الحال على موسى بن هلال
من ابن عبد الهادي (الصارم مر 32) فيها نظر ظاهر، وانظر إلى المقال ولا

(1) وهذا تجد أمثلة كثيرة له في كتب الرجال.
234

تنظر لمن قال، فإذا وافق المقال القواعد فهو الحق، وإن خالفه فهو
مما لا يلتفت إليه والله المستعان.
أما قول العقيلي في الضعفاء (4 / 170): لا يصح حديثه ولا
يتابع عليه. ا ه‍
فالناظر والمدقق فيه يرى أن آخره سبب لأوله.
فلأن موسى بن هلال لا يتابع عليه (أي حديث الزيارة فلا يصح
حديثه، وذلك في نظر واطلاع العقيلي).
وفي الجواب على ذلك يقال:
إن قوله: لا يتابع عليه (وهو الأساس المبنى عليه) ليس من
الجرح في شئ ولم يذكره المصنفون في مراتب الجرح إنما هو علامة
على التفرد فقط.
قال الحافظ ابن رجب في " شرح علل الترمذي " (ص 264):
وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به
واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه: إنه لا يتابع عليه، ويجعلون
ذلك علة فيه. ا ه‍
فالرجل عند العقيلي ليس في أعلى درجات التوثيق حتى يصحح
له ما انفرد به ولم يتابع عليه، وليس هو في الدرجة الدنيا من الجرح
فيترك حديثه، ولكنه وسط أو صالح الحديث.
أما وقد توبع الرجل كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فحديثه
مقبول حتى عند العقيلي.
235

وقد تعقب الحافظ في " التلخيص " (2 / 267)، قول العقيلي
فقال: وفي قوله (أي العقيلي) لا يتابع عليه نظر، ثم ذكر المتابعة التي
ستأتي إن شاء الله تعالى.
وصفوة القول مما تقدم أن الرجل غير مجهول وليس فيه إلا قول
العقيلي لا يصح حديثه ولا يتابع عليه (إذا اعتبرت هذا من الجرح
الذي يزول بالمتابعة).
وفي مقابلة ما سبق تجد قول ابن عدي في " الكامل " (6 / 2350):
أرجو أنه لا بأس به مع توثيق ضمني من أحمد بن حنبل بروايته عنه.
فتحسين حديث موسى بن هلال هو ما أراه صوابا والله أعلم.
وقد قال الحافظ الذهبي في الميزان (4 / 226) بعد حكاية أقوال
أبي حازم والعقيلي وابن عدي في موسى بن هلال قال: هو صالح
الحديث.
* * *
أما عن الأمر الثاني وهو إثبات رواية موسى بن هلال للحديث عن
عبيد الله بن عمرو عبد الله بن عمر:
فقد اختلف على موسى بن هلال العبدي في رواية الحديث،
فبعضهم قال عن موسى بن هلال عن عبيد الله ابن عمر المصغر،
وقال آخرون عن عبد الله بن عمر المكبر.
فمن قال عن عبيد الله بن عمر المصغر الحافظ الثقة جماعة هم:
1 - عبيد بن محمد الوراق.
2 - وجعفر بن محمد البزوري.
236

3 - ومحمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي.
4 - والفضل بن سهل.
5 - ومحمد بن عبد الرزاق.
فرواية الأول وهو عبيد بن محمد الوراق أخرجها الدارقطني في
سننه (278 / 2)، ثنا القاضي المحاملي، نا عبيد بن محمد الوراق،
نا موسى بن هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر به.
قلت: القاضي المحاملي هو أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل
الضبي المحاملي ثقة حافظ، والوراق ثقة مترجم في " تاريخ الخطيب "
(11 / 97).
وقد اتفقت عدة نسخ معتمدة من سنن الدارقطني على ذكر عبيد الله
ابن عمر المصغر منها نسخة ابن بشران المطبوعة ومنها نسخة أبي طاهر
محمد بن أحمد بن عبد الرحيم كما في شفاء السقام (ص 3)،
ورواية أبي النعمان تراب بن عبيد كما في الشفاء أيضا (ص 5)،
وأخرجه الخلعي في فوائده من طريق أبي النعمان (ل 55 / 1).
وهكذا اتفقت روايات الدارقطني على ذكر عبيد الله بن عمر
المصغر، وتابع القاضي المحاملي عن عبيد بن محمد الوراق محمد
ابن زنجويه العسيري.
ورواية الثاني: وهو جعفر بن محمد البزوري أخرجها العقيلي في
الضعفاء (4 / 170)، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا جعفر
ابن محمد البزوري، ثنا موسى بن هلال البصري عن عبيد الله به.
237

ورواية محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي أخرجها البيهقي في
شعب الإيمان (3 / 490)، وأسندها تقي الدين السبكي في " شفاء
ا لسقام " (ص 7).
ورواية الفضل بن سهل أخرجها البيهقي في " شعب الإيمان "
(3 / 490).
ورواية محمد بن عبد الرزاق أخرجها القاضي عياض في الشفا
(2 / 74).
فهؤلاء خمسة من الرواة قالوا عن " عبيد الله بن عمر، الثقة
الحافظ، فلا مجال بعد للطعن في هذه الرواية.
555 - فصل
وأما من قال عن عبد الله بن عمر العمري المكبر:
ا - فعلي بن معبد بن نوح.
2 - والفضل بن سهل.
3 - ومحمد بن إسماعيل الأحمسي.
4 - وعبيد بن محمد الوراق.
أما حديث علي بن معبد بن نوح، فأخرجه الدولابي في
الكنى (2 / 64).
وحديث الفضل بن سهل أسنده التقي السبكي من طريق ابن أبي
الدنيا (شفاء السقام ص 9).
238

ورواية محمد بن إسماعيل الأحمسي أخرجها البيهقي في شعب
الإيمان (3 / 490).
ورواية الوراق أخرجها الخطيب في تلخيص المتشابه في الرسم
(581 / 1).
فحاصل ما تقدم أن الحديث رواه عن موسى بن هلال العبدي ستة
قال خمسة منهم عبيد الله المصغر، وثلاثة رووه بالوجهين، وانفرد
الخامس بقوله عن عبد الله بن عمر فقط.
وسبب ذلك كثرة الرواة عنه.
وللمحدثين في ذلك مسلكان: إما أن يقولوا بالترجيح، وبذلك
ترجح رواية عبيد الله بن عمر المصغر.
والمسلك الثاني: أن تقول: يحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله
المصغر وأخيه عبد الله المكبر، ويكون الراوي عنهما موسى بن هلال
العبدي قد رواه عنهما إلا أنه كان يكثر من الرواية به عن عبيد الله بن
عمر المصغر الحافظ الثقة.
والألباني مع تشدده اعترف بثبوت الروايتين (عبيد الله وعبد الله
ابني عمر)، فقال: لأن الطرق بالروايتين عنه متقابلة. (الإرواء:
4 / 337).
لكنه بحث عن علة فلم يجد إلا الاضطراب، وما أضفها من
علة، وسيأتي الجواب عليها إن شاء الله تعالى.
وحاصل ما تقدم أن الحديث ثابت ثبوت الجبال برواية موسى بن
هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر الإمام الثقة الحافظ.
239

فصل
فإن قيل: قال ابن عبد الهادي في الصارم (ص 39 - 40) ما
نصه:
" وكأن موسى بن هلال حدث به مرة عن عبيد الله فأخطأ لأنه
ليس من أهل الحديث ولا من المشهورين بنقل، وهو لم يدرك عبيد
الله ولا لحقه، فإن بعض الرواة عنه لا يروي عن رجل عن عبيد الله
وإنما يروي عن رجل آخر عن عبيد الله، فإن عبيد الله متقدم الوفاة
كما ذكرنا ذلك فيما تقدم بخلاف عبد الله فإنه عاش دهرا بعد أخيه
عبيد الله، وكم ن موسى بن هلال لم يكن يميز بين عبيد الله وعبد الله
ولا يعرف أنهما رجلان، فإنه لم يكن من أهل العلم ولا يعتمد عليه
في ضبط باب من أبوابه) 10 ه‍
قلت وبالله استعنت: هذا تهويل وتشدد وكلام يحتمل دعاوى
مغايرة للواقع وتعصب ممقوت، ولولا اغترار بعض الناس
به (ا) ما نبهت عليه.
قوله: " وكأن موسى بن هلال حدث به مرة عن عبيد الله فأخطأ ".
قلت: بل حدث به موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمر بأسانيد
صحيحة مرات وبمخارج متعددة، فقد رواه هنا من هذا الوجه - كما
سبق - خمسة من الثقات وتعددت مخارجهم، وهذه دعوى باضطراب
موسى بن هلال، ولما وجد ابن عبد الهادي أنه لم يسبق إلى هذه الدعوى

(1) منهم الألباني الذي نقل هذا الكلام بعلله الظاهرة في إروائه (4 /
337 - 338).
240

أراد أن يؤيدها بنفي رواية موسى بن هلال عن عبيد الله واستدل على
ذلك بأمرين:
الأول: وهو قوله: " وهو لم يدرك عبيد الله ولا لحقه... إلخ ".
قلت: بل أدركه إدراكا بينا، فقد روى موسى بن هلال عن
متقدمي الوفاة مثل كهمس بن الحسن البصري المتوفى سنة 143 على
ما في المعرفة والتاريخ للفسوي، وروايته عنه في الحلية (6 / 213)
أيضا.
وروى عن هشام بن حسان كما في " الزهد " للإمام أحمد (ص
279)، و " الحلية " (2 / 216)، وتوفي هشام بن حسان سنة
147 أو سنة 148.
إذا علم ذلك فروايته عن عبيد الله بن عمر صحيحة لأنه أدركه
إدراكا بينا، ثم إنه رحل للحجاز كما في الحلية (6 / 313).
وهذا مما يؤيد ويؤكد رواية موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمر.
الثاني: قوله: فإن بعض الرواة عنه لا يروي عن رجل عن
عبيد الله، وإنما يروي عن رجل آخر عن عبيد الله. ا ط
قلت: الأمر سهل ولا يحتاج لحشد الأدلة الواهية والإعراض عن
رد هذه الواهيات أولى لأولي النظر، لكن لما رأيت اغترار بعضهم
بكلامه تعين بيان ما فيه.
وليعلم أن هذا الكلام مخدوش بقوله " بعض "، فمعنى ذلك أن
البعض الآخر يروي عن عبيد الله العمري بواسطة واحدة، هذا
إجمال.
241

* أما التفصيل:
فمن الرواة عن موسى بن هلال " أحمد بن حنبل "، وقد روى
عن يحيى بن سعيد وعبد الرزاق وحماد بن أسامة وأبي معاوية في
رجال آخرين عن عبيد الله بن عمر.
ومنهم أبو أمية الطرسوسي وعلي بن معبد بن نوح البغدادي
كلاهما عن روح بن عبادة عن عبيد الله بن عمر.
ومنهم محمد بن إسماعيل الأحمسي ومحمد بن جابر المحاربي
كلاهما عن وكيع عن عبيد الله بن عمر، والأخير عن ابن عيينة عن
عبيد الله بن عمر.
والحاصل أنه يجب أن يحكم على الحديث بالاتصال من طريق
موسى بن هلال عن عبيد الله، حيث لم يعلم انتفاء اللقاء بينهما بل ترجح
ثبوته، فعند ذلك يكون الحكم للاتصال كما هو مقرر. والله أعلم.
ثم قال ابن عبد الهادي: وكأن موسى بن هلال لم يكن يميز بين
عبيد الله وعبد الله ولا يعرف أنهما رجلان، ثم استدل على ذلك
بقوله: فإنه لم يكن من أهل العلم ولا يعتمد عليه في ضبط باب من
أبوابه. ا ه‍
قلت: هذا تابع لدعوى الاضطراب التي ادعاها ابن عبد الهادي
وردها. سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم إن الرجل قد روى عنه خمسة عشر رجلا، فيهم أئمة حفاظ
242

في أعلى درجات التوثيق (1)، كيف يكون في نهاية التردي والسقوط
والاختلاط والجهل الذي ادعاه الرجل، ثم كيف يكون الرجل بالصورة
التي ادعاها ابن عبد الهادي ويعتمده حافظ جليل كيعقوب ابن سفيان
الفسوي في معرفة وفيات البصريين. أنظر (1 / 122، 127،
128).
والأمر سهل للغاية، فالحديث قصير المتن مشهور الإسناد.
ثم إن تعجب فعجب من دعوى الاضطراب التي ادعيت، وهي
كلمة تقال استرواحا، والأمر فيه تفصيل.
فإن المقرر عند علماء الحديث أن الاضطراب إنما يكون حيث
تختلف الروايات بالتنافي مع تعذر الجمع، فالمراتب ثلاث في هذا
الباب جمع فترجيح فاضطراب، والترتيب واجب عند أولي
الألباب.
قال الحافظ العراقي في ألفيته (1 / 221 فتح المغيث):
مضطرب الحديث ما قد وردا مختلفا من واحد فأزيدا
في متن أو سند إن اتضح * فيه تساوى الخلف أما إن رجح
بعض الوجوه لم يكن مضطربا * والحكم للراجح منها وجبا
وإذا كانت الروايات قد صحت إلى موسى بن هلال برواية الحديث
على الوجهين، فالجمع هنا واجب بأن نقول قد روى موسى

(1) ومنهم إمام ابن عبد الهادي وشيخ مذهبه الإمام المبجل أحمد بن حنبل
الشيباني رحمه الله تعالى.
243

الوجهين وكان يحدث تارة بوجه وتارة أخرى بالوجه الآخر. والله
تعالى أعلم بالصواب.
* * *
فصل
قال ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في الصارم (ص 34) ما نصه:
ولو فرض أن الحديث من رواية عبيد الله لم يلزم أن يكون
صحيحا فإن تفرد موسى بن هلال به عنه دون سائر أصحابه
المشهورين بملازمته وحفظ حديثه وضبطه من أدل الأشياء على أنه منكر
غير محفوظ، وأصحاب عبيد الله بن عمر المعروفون بالرواية عنه مثل
يحيى بن سعيد القطان.
ثم ذكر جملة من أصحاب عبيد الله إلى أن قال:
فإذا كان الحديث لم يروه عن عبيد الله أحد من هؤلاء الأثبات،
ولا رواه ثقة غيرهم علمنا إنه منكر غير مقبول وجزمنا بخطأ من حسنه
أو صححه. ا ه‍
قلت: إذا تفرد الرجل بحديث لا يعد ذلك منكرا إلا بشرطين.
الأول: أن يكون المنفرد ضعيفا لا يصحح حديثه أو يحسن.
الثاني: أن لا يوجد ما يقوى حديثه من متابعات وشواهد.
قال الحافظ في " النكت " (2 / 675):
إذا انفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ أو المضعف في بعض
244

مشايخه دون بعض بشئ لا متابع له ولا شاهد فهذا أحد قسمي
المنكر. ا د
وموسى بن هلال العبدي ليس بمستور أو سئ الحفظ أو مضعف،
كيف يكون كذلك، وقد روى عنه أئمة حفاظ ثقات كالإمام أحمد،
وقال عنه ابن عدي: لا بأس به، وقال الذهبي: صالح الحديث.
فإذا اعتبرنا تفرد من كان على هذه الحال من قبيل المنكر لأعرضنا
عن شطر عظيم من السنة والله المستعان.
وإن سلمنا لابن عبد الهادي بتضعيف موسى بن هلال العبدي،
فلا يعتبر ما تفرد به منكرا لوجود الشواهد المتكاثرة لهذا الحديث بل
والمتابع كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد أشفقت على علوم الحديث التي تغافل عنها ابن عبد الهادي
رحمه الله لغرض ينصره:
* * *
فصل
وإذا سلمنا بتضعيف موسى بن هلال العبدي.
فمثله لا يختلف اثنان (1) أن حديثه يحسن إذا توبع وجاء من
طريق آخر.
فقد أخرج الطبراني (12 / 291)، من حديث عبد الله بن
محمد العبادي البصري، ثنا مسلم بن سالم الجهني، حدثني عبيد الله
ابن عمر، عن نافع عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " من جاءني زائرا لا يعمل له حاجة إلا زيارتي كان حقا على
أن أكون له شفيعا يوم القيامة ".

(1) بشرط أن لا يكون أحدهما ابن عبد الهادي.
245

وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 2): رواه الطبراني في
الأوسط والكبير، وفيه مسلمة بن سالم وهو ضعيف. ا ه‍
هكذا أخرجه الطبراني والخلعي وابن صاعد فقالوا عن نافع عن
سالم، وقال ابن المقري في معجمه عن نافع وسالم.
وكلهم من طريق عبد الله بن محمد العبادي عن مسلمة عن عبيد الله
العمري، وعبد الله بن محمد العبادي البصري ترجمه السمعاني في
الأنساب.
وتابعه من هو أحسن حالا منه أعني " مسلم بن حاتم الأنصاري ".
فقد وثقه الترمذي والطبراني وابن حبان (التهذيب: 10 / 125)
رواه عن مسلمة بن سالم الجهني عبد الله يعني العمري، حدثني
نافع عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من
جاءني زائرا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقا على أن أكون له
شفيعا يوم القيامة ".
قلت: وما رواه مسلم بن حاتم الأنصاري هو الأصح لأن مسلما
أوثق من عبد الله بن محمد العبادي.
والحاصل: أن السند صح إلى مسلمة بن سالم الجهني فانحصر
الكلام فيه.
فأقول: الرجل وإن قال عنه أبو داود ليس بثقة. لكن صحح له
ابن السكن، ومقتضى ذلك أن يكون ثقة عنده، فمع توثيق ابن
السكن وكلام أبي داود، فالرجل يصلح للمتابعات ولا ريب.
* * *
246

فصل
وقد تقعقع ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى كعادته فأخذ يضعف
هذه المتابعة فقال:
إنه حديث ضعيف الإسناد، منكر المتن، لا يصلح الاحتجاج به،
ولا يجوز الاعتماد على مثله، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب
الستة، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده، ولا أحد من الأئمة المعتمد
على ما أطلقوه في روايتهم ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه،
وقد تفرد به هذا الشيخ (1) الذي لم يعرف بنقل العلم ولم يشتهر
بحمله ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره، وهو مسلمة بن
سالم الجهني الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر وحديث
آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم ومتنه الحجامة في الرأس
أمان من الجنون والجذام والبرص والنعاس والضرس. وروى عنه
حديث آخر منكر من رواية غير العبادي، وإذا تفرد مثل هذا الشيخ
المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيد الله
ابن عمر أثبت آل عمر بن الخطاب في زمانه وأحفظهم عن نافع عن
سالم عن أبيه عبد الله بن عمر من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقات
المشهورين والأثبات المتقنين علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره
ولا يجوز الاعتماد على روايته. ا ه‍
قلت: أما كونه ضعيف الإسناد منكر المتن، فهو معارض بتصحيح
من هو أعلم وأقدم وأقعد بهذا الفن منه، أعني الحافظ أبا

(1) وأغرب ابن عبد الهادي فقال: إنه مجهول الحال (الصارم المنكى ص
69).
247

علي بن السكن (1) الذي صحح هذا الطريق بمفرده. فما بالك
وهذا الطريق متابع لموسى بن هلال البصري فهو مقبول حسب
القواعد.
أما كونه " منكر المتن "، فهي دعوى لا يسندها إلا الدفع بالصدر
فقط، فلا دليل أتى به ابن عبد الهادي ليقيم به صلب هذه الدعوى
المتهاوية!
أما قوله ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتاب الستة ولا رواه
الإمام أحمد في مسنده... إلخ، فهذا اعتراض لا يليق بعارف
بالحديث كابن عبد الهادي وعندما عرف العلماء الحديث الصحيح لم
يشترطوا أن يكون مرويا في الكتب التي ذكرها ابن عبد الهادي وغيرها،
لأن العبرة بالسند لا بالكتاب ما خلا الكتب التي لها شروط معينة، إذ
الكتاب لا يفيد الحديث قوة أو ضعفا، وكذلك صاحب الكتاب لا
يفيد الحديث شيئا إذا كان السند الذي ذكره في كتابه ضعيفا.
وقد يكون الكتاب مشحونا بالمنكرات والواهيات والموضوعات
ويسند صاحبه فيه أحاديث صحيحة وحسنة ومتابعات مقبولة فيحكم
لها بالصحة أو الحسن حسب حال السند، وبغض النظر عن الكتاب
وهكذا الأمر في جميع كتب السنة إلا من اشترط شرطا لكتابه
كأصحاب الصحاح والمستخرجات.
والحاصل: أن كلام ابن عبد الهادي مخالف لأدنى قواعد

(1) وعندما رتب ابن حزم كتب السنة جعل صحيح ابن السكن ثالث الكتب
بعد الصحيحين.
248

علم الحديث الشريف وهي تعريف الحديث الصحيح الذي لم يشترط
أن يكون مرويا في كتاب كذا وليس في كتاب كذا. والله المستعان.
على أن هذه المتابعة صححها ابن السكن بإيراده إياها في صحيحه،
وأخرجها الطبراني في معجميه الكبير والأوسط وهما من أهم أصول
الإسلام المعتنى بها.
وقد قال ابن تيمية في المنهاج (2 / 122):
" من المعلوم أن الأحاديث المنقولة لا يميز بين صدقها وكذبها إلا
بالطرق الدالة على ذلك ". ا ه‍
فانظر إلى قوله (بالطرق)، ولم يقل بالكتب. والله المستعان.
وأما قول ابن عبد الهادي: " وقد تفرد به هذا الشيخ.. " إلخ.
قلت: قد مر أن الشيخ هو مسلمة بن سالم الجهني لم ينفرد به،
بل تابعه بلدية موسى بن هلال البصري، وكذا تقدم الكلام على
صلاحية مسلمة بن سالم الجهني للمتابعات، ثم أراد أن يجهز على
الرجل ويطيح به أرضا، فحكم على حديثين أخرجهما له الطبراني
بالوضع والنكارة.
أما الأول: وهو حديث الحجامة في الرأس أمان من الجنون
والجذام والبرص والنعاس والضرس، فلم يسبق ابن عبد الهادي -
والله أعلم - في الحكم على الحديث بالوضع.
وكيف يحكم عليه بالوضع وله شاهد عن ابن عباس أخرجه
العقيلي (1 / 83)، وابن عدي (6 / 2074)، وفيه إسماعيل بن
شيبة الطائفي، وهو وإن كان ضعيفا لكنه لم يتهم بالكذب، فإذا
249

ضممنا هذا الشاهد لحديث مسلمة بن سالم الجهني كان الحكم عليه
بالوضع بعيد جدا عن قواعد الحديث. والله المستعان.
أما الحديث الآخر: فالخطب فيه هين، والأمر فيه ليس بعظيم ولا
يخرج الرجل عن الاستشهاد به، واقتصر الهيثمي في المجمع (3 / 211)
على تضعيف الحديث بمسلمة بن سالم فقط، وهو يعني اعتباره في
المتابعات والشواهد، وهو قول حافظ ناقد ثاقب الرأي ليس بمتشدد
أو جراح.
قوله: وإذا تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل
هذين المنكرين عن عبيد الله بن عمر... إلخ.
قلت: دعوى لم يسبق إليها، فلا الرجل بمجهول الحال ولم
يصرح أحد بذلك.
فقد روى عنه جماعة، وصحح له ابن السكن، وقال عنه أبو
داود: ليس بثقة، وكان إماما لمسجد بني حرام بالبصرة، فكيف
يكون مجهولا بعد ذلك؟
على أن تفرده عن عبيد الله العمري لا يضره.
فقد تابعه بلدية موسى بن هلال البصري، وقد مر الكلام على
مثل هذه الشبهة. والله المستعان.
* * *
أما عن الأمر الثالث فهو خاص ببيان حال عبد الله بن عمر العمري.
فقد قال ابن عبد الهادي ما نصه:
وقد تكلم في عبد الله العمري جماعة من أئمة الجرح والتعديل
250

ونسبوه إلى سوء الحفظ والمخالفة للثقات في الروايات.. قال أبو حاتم
محمد بن حبان البستي في كتاب (المجروحين من المحدثين ": عبد الله
ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري أخو
عبيد الله بن عمر من أهل المدينة يروي عن نافع روى عنه العراقيون
وأهل المدينة كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ
الأخبار وجودة الحفظ للآثار فوقع المناكير في روايته فلما فحش خطؤه
استحق الترك. ومات سنة ثلاث وسبعين ومائة.
حدثنا الهمداني، حدثنا عمرو بن علي قال: كان يحيى بن سعيد
لا يحدث عن عبد الله بن عمر، قال أبو حاتم: وهو الذي روى
عن نافع عن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ خلل لحيته)، وروى
عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا فسأله لم
تقبل له صلاة أربعين يوما "، وروى عن نافع عن ابن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم " أسهم للفارس سهمين وللراجل سهما " فيما يشبه هذا من
المقلوبات والملزوقات التي ينكرها من أمعن في العلم وطلبه من مظانه،
وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه: وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى
ابن سعيد من قبل حفظه، وقال البخاري في تاريخه: عبد الله بن
عمر بن حفص العمري المدني قرشي كان يحيى بن سعيد يضعفه،
وقال النسائي في كتاب " الكنى ": أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر
ابن حفص بن عاصم بن عمر ضعيف، وقال العقيلي: حدثنا عبد الله
ابن أحمد بن حنبل قال: سألت يحيى بن معين عن عبد الله بن عمر
العمري فقال: ضعيف، حدثنا عبد الله، قال: سألت أبي عن
عبد الله بن عمر فقال: كذا وكذا، وقال أبو زرعة الدمشقي: قيل
لأحمد بن حنبل: كيف حديث عبد الله بن عمر؟ فقال: كان
251

يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلا صالحا، وقد ذكر العقيلي هذا
القول عن الإمام أحمد بن حنبل من رواية أبي بكر الأثرم عنه،
وروى إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين قال عبد الله بن عمر:
صويلح، وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: ضعيف،
وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال يعقوب
ابن شيبة: صدوق في حديثه اضطراب، وقال صالح بن محمد
البغدادي: لين مختلط الحديث، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس
بالقوي عندهم. انتهى من الصارم المنكى (ص 36 - 38).
قلت: أسرف ابن عبد الهادي - رحمه الله تعالى - بذكر الجرح
وقنع بالقليل من التعديل.
فالذي يقف على ما ذكره ابن عبد الهادي يجزم بضعف الرجل،
أما الواقع ونفس الأمر فشئ آخر، وعلى ذلك يجب الالتفات
لأمور أذكرها في فصول بعون الله تعالى.
* * *
فصل
الأول: صدر كلامه بنقل جرح ابن حبان من " المجروحين "
(6 / 2).
وتعنت ابن حبان ومبالغته في الجرح استفاضت واشتهرت.
وقد نص على تعنته ومبالغته جمع من الحفاظ منهم الذهبي، وابن
حجر.
فقال الذهبي في " الميزان " (1 / 274) في ترجمة أفلح بن سعيد
252

المدني بعد حكاية قول ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات لا
يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه بحال، قال الذهبي ما نصه:
ابن حبان ربما قصب الثقة حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه. ا ه‍
وقال في ترجمة محمد بن الفضل السدوسي المعروف بعارم (4 / 8):
قال الدارقطني: تغير بأخرة وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر
وهو ثقة (أي عارم) قلت (أي الذهبي): فهذا قول حافظ العصر
الذي لم يأت بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبان
الخساف المتهور في عارم، فقال: اختلط في آخر عمره وتغير حتى
كان لا يدري ما يحدث به فوقع في حديثه المناكير الكثيرة فيجب
التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإذا لم يعلم هذا من هذا
ترك الكل ولا يحتج بشئ منها. ا ه‍
وقال في ترجمة أيوب بن عبد السلام (1 / 290): ابن حبان
صاحب تشنيع وتشغيب. ا ه‍
وقال في ترجمة سويد بن عمرو الكلبي بعد أن نقل توثيق ابن
معين وغيره: وأما ابن حبان فأسرف واجترأ، فقال: كان يقلب
الأسانيد ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية. ا ه‍
(2 / 253).
وقال في ترجمة عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي (3 / 45):
وأما ابن حبان فإنه تقعقع كعادته فقال فيه: يروي عن قوم ضعاف
أشياء يدلسها عن الثقات حتى إذا سمعها المستمع لم يشك في وضعها
فلما كثر ذلك في أخباره ألزقت به تلك الموضوعات وحمل
253

الناس عليه في الجرح فلا يجوز عندي الاحتجاج بروايته كلها بحال.
ا ه‍.
والحاصل أن كلام ابن حبان في هذا الباب لا يسلم له، خاصة
في الرجال الموثقين. والله المستعان.
وقد بين ابن حبان مستنده فأتى بثلاثة أحاديث ادعى خطأ عبد الله
العمري فيها.
أما الحديث الأول، فقال أبو حاتم بن حبان، وهو الذي روى عن
نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ خلل لحيته. ا ه‍.
قلت: إن كان للحديث علة فمن الراوي عن عبد الله العمري.
قال الطبراني في المعجم الأوسط (1 / 39 مجمع البحرين): لم
يروه عن العمري إلا مؤمل بن إسماعيل. ا ه‍ ومؤمل ضعفه جمع
وقال فيه البخاري: منكر الحديث.
فالأولى الحمل على مؤمل بن إسماعيل بل هو الواجب.
وأما الحديث الثاني، فقال أبو حاتم بن حبان: وروى عن نافع
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وقال: " من أتى عرافا فسأله لم تقبل له
صلاة أربعين يوما ". ا ه‍
أخرجه ابن وهب في " الجامع " (ص 114)، سمعت عبد الله
ابن عمر يحدث عن نافع عن ابن عمر به مرفوعا.
قلت: أراد ابن حبان أن عبد الله خالف أخاه الذي رواه من
حديث نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم به مرفوعا.
254

رواه من هذا الوجه مسلم في صحيحه (4 / 1751)، وأحمد
في المسند (4 / 68)، وأبو نعيم في الحلية (10 / 407)، وتاريخ
أصبهان، والبيهقي في السنن الكبرى (8 / 138).
فابن حبان يرى أن الصواب عن نافع عن صفية.
لكن أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (8 / 246) من حديث أبي
إسحاق السبيعي عن سعيد بن وهب عن ابن عمر مرفوعا نحوه.
قلت: أبو إسحاق السبيعي وسعيد بن وهب ثقتان معروفان، وهذه
المتابعة تظهر أن الحديث صحيح من مسند عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما فلم يخطئ فيه عبد الله العمري، كما تظهر مدى التسرع في
تخطئة عبد الله العمري.
أما الحديث الثالث، فقال ابن حبان: وروي عن نافع عن ابن عمر
أن النبي صلى الله عليه وسلم " أسهم للفارس سهمين وللراجل سهما ".
قلت: أراد ابن حبان أن عبد الله العمري خالف أخاه عبيد الله
الذي رواه باختلاف في اللفظ عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما.
والإجابة على ذلك هي ما قاله الحافظ في " الفتح " (6 / 68)
المعنى أسهم للفارس بسبب فرسه غير سهمه المختص به. ا ه‍
وإن سلم بخطأ عبد الله العمري في هذا الحديث فلا يضره بجانب
ما روى، والرجل مكثر، وقد أخطأ في حديث فكان ماذا؟
255

فإن قيل: قد ذكر معنى الترك غير ابن حبان، وهو ابن عمار
الموصلي، فقال كما في التهذيب (5 / 328): لم يتركه أحد إلا
يحيى بن سعيد. ا ه‍.
قلت: قال عمرو بن علي الفلاس كان يحيى بن سعيد لا يحدث
عنه. وهذا أو غيره لم يذكر مستند يحيى بن سعيد في عدم الرواية
عنه.
والحاذق يعلم أن ابن عمار لم يقصد الترك بالمعنى الاصطلاحي،
ولكنه قصد الترك بمعنى عدم الرواية، وبون شاسع بين المعنيين فلزم
التنبيه.
ويوضحه ويقويه قول أبي عيسى الترمذي الحافظ (العلل مع شرحه
ص 12):
ذكر عن يحيى بن سعيد أنه كان إذا رأى الرجل يحدث من حفظه
مرة هكذا، ومرة هكذا لا يثبت على رواية واحدة تركه، وقد حدث
عن هؤلاء الذين تركهم يحمى بن سعيد القطان عبد الله بن المبارك
ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من الأئمة. ا ه‍
وهذا ابن عبد الهادي الذي شنع على عبد الله العمري يقول عن
أحد الرواة:
وكون يحيى بن سعيد كان لا يرضاه غير قادح فيه، فإن يحيى
شرطه شديد في الرجال، ولذلك قال: لو لم أرو إلا عمن أرضى
ما رويت إلا عن خمسة. ا ه‍
وكونه لا يرضاه أي لا يرضى الرواية عنه، فهو كعبد الله العمري.
فتأمل.
256

وقد قال الحافظ في " مقدمة الفتح " (ص 402) في ترجمة
الزبير البصري:
وحكى الباجي في رجال البخاري عن علي بن المديني أنه قال:
تركه شعبة، قلت: والذي رأيته عن علي أنه قال لم يرو عنه شعبة،
وبين اللفظين فرقان. ا ه‍
وترك الرواية قد يكون لشبهة لا توجب الجرح.
ومما يدلك على أن قول ابن حبان في العمري غير معمول به،
ولم يلتفت إليه أن المحدثين انقسموا في العمري لقسمين منهم من قبل
حديثه، والثاني من ضعفه.
وهذا الأخير قبل حديثه في باب المتابعات والشواهد، والمعلوم
والمقرر أن المتروك لا يقبل حديثه في المتابعات والشواهد، فعلم أن
ضعفه عندهم من الضعف الخفيف الذي يزول بمجئ متابع له أو
شاهد فيرتقي حديثه إلى الحسن لغيره. والله أعلم.
ويعضده أن الرجل قد أخرج له مسلم في صحيحه مقرونا بأخيه
عبيد الله.
فكيف يكون من أخرج له مسلم في صحيحه - ولو مقرونا بغيره -
حاله كما ذكر ابن حبان واعتمده ابن عبد الهادي؟!!.
* * *
فصل
ثم نقل ابن عبد الهادي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله كذا
وكذا، وقوله كان يزيد في الأسانيد ويخالف، وكان رجلا صالحا.
257

قلت: أما عن الأولى فلك في النظر إليها وجهان:
الأول: قال الذهبي في الميزان (4 / 483) في ترجمة يونس بن
أبي إسحاق السبيعي هذه العبارة - أي قول أحمد كذا وكذا -
يستعملها عبد الله بن أحمد كثيرا فيما يجيبه به والده، وهي
بالاستقراء كناية عمن فيه لين. ا ه‍
واللين أقل الضعف.
ولكن لم يذكر ابن عبد الهادي سامحه الله ما يدل على توثيق
أحمد لعبد الله بن عمر العمري، حيث قال (الجرح: 109 / 5 - 110):
" صالح لا بأس به قد روى عنه الناس ". ا ه‍
الوجه الثاني: قال ابن عدي في " الكامل " (4 / 1460):
ثنا ابن حماد، ثنا عبد الله بن أحمد عن أبيه قال عبد الله بن عمر
ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو أخو عبيد الله بن
عمر كذا وكذا، ثنا ابن أبي عصمة، ثنا أبو طالب سألت أحمد بن
حنبل عن عبد الله بن عمر العمري قال:
" صالح قد روى عنه لا بأس به، ولكن ليس مثل أخيه عبيد الله ". ا ه‍
قلت: المدقق في أقوال الإمام أحمد رحمه الله تعالى يجد أن
كلامه هو توثيق نسبي أو تليين نسبي لإيراد به المعنى المتعين من اللفظ
الثاني فإنه نزل به بالنسبة لأخيه عبيد الله الثقة الحافظ المتفق عليه.
وقد نبه الحافظ السخاوي على الجرح والتعديل النسبي فقال (فتح
المغيث: 1 / 348):
258

ينبغي أن نتأمل أقوال المزكين ومخارجها، فقد يقولون: فلان ثقة
أو ضعيف، ولا يريدون به أنه ممن يحتج بحديثه ولا ممن يرد، له إنما
ذلك بالنسبة لمن قرن معه على وفق ما وجه إلى القائل من السؤال كان
يسأل عن الفاضل المتوسط في حديثه ويقرن بالضعفاء، فيقال ما
تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة يريد أنه ليس من نمط من
قرن به، فإذا سئل عنه بمفرده بين حاله في المتوسط. وأمثلة ذلك
كثيرة لا نطيل بها. ا ه‍.
ومنه يعلم أن تليين أحمد للعمري - في رواية عبد الله - بالنسبة
لأخيه عبيد الله الحافظ الثقة.
ويؤيد ذلك ما سيأتي عن ابن عدي إن شاء الله تعالى.
* * *
فصل
ونقل ابن عبد الهادي عن يحيى بن معين قولين:
الأول: تضعيفه، والثاني: قوله صويلح، فلم يستوف ما قاله
ابن معين في الرجل.
فقد روى ابن أبي مريم عن يحيى بن معين أنه قال: ليس به بأس
يكتب حديثه. ا ه‍.
ومن المعلوم أن قول ابن معين في الرجل ليس به بأس معناه أنه ثقة.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت لابن معين كيف حاله في
نافع؟ قال: صالح ثقة (الكامل: 4 / 1459).
259

فالأول: توثيق مطلق من ابن معين للعمري، والثاني: توثيقه له
في خصوص روايته عن نافع كما في حديثنا هذا، وهو نص من إمام
الجرح والتعديل قاطع للنزاع.
والدارمي الذي روى عنه هذا النص من أخص وأشهر أصحاب ابن
معين والله المستعان.
ومما سبق يعلم أن الراجح من أقوال الإمام أحمد وإمام الجرح
والتعديل يحيى بن معين هو قبول حديث عبد الله العمري واعتماده ما
لم يخالف، شأنه في ذلك شأن جمهرة الثقات. والله أعلم.
* * *
فصل
وإذا تبين للقارئ الكريم حقيقة أقوال يحيى بن معين وأحمد وابن
حبان في العمري فليعلم المستفيد أن الرجل قد وثقه جمع من الأئمة،
واعتمده عدد من حفاظ الأمة وهذا معروف ومسطور في كتب الجرح
والتعديل.
ولكن الغريب ألا يذكره ابن عبد الهادي ولله في خلقه شؤون..!
فممن وثق العمري مما لم يذكره ابن عبد الهادي في الصارم:
الإمام العلم أحمد بن صالح المصري (ثقات ابن شاهين ص 151)
وقال أبو حاتم الرازي (الجرح: 5 / 110): رأيت أحمد بن
صالح (1) يحسن الثناء على عبد الله العمري.

(1) وقع في التهذيب (5 / 327) أحمد بن حنبل وهو خطأ، والصواب
ما في الجرح والتعديل.
260

وقال العجلي: 260 لا بأس به (الثقات ص 239).
ووثقه ابن شاهين بإيراده له في ثقاته (ص 151).
وقال الخليلي: ثقة غير أن الحفاظ لم يرضوا حفظه. ا ه‍،
وقوله الحفاظ لم يرضوا حفظه أي سعة محفوظه، انظر نظير ذلك
في مقدمة الفتح (ص 420).
ولعلهم لم يرضوا حفظه بالنسبة لحفظ أخيه عبيد الله العمري،
فإن كثيرا من أقوالهم فيه ترجع للمقارنة مع أخيه، كما سيأتي
تصريح ابن عدي بذلك، والمقصود بيان أن الرجل ثقة عند أبي يعلى
الخليلي.
وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه.
وحسن له أبو يعلى الموصلي.
وحسن له أيضا يعقوب بن شيبة وقال (تاريخ بغداد: 10 / 20):
ثقة صدوق في حديثه اضطراب. ا ه‍.
وهو يعني أن الاضطراب الذي في حديثه لا يخرجه عن حد الثقة
الصدوق.
وقد صحح له ابن السكن، وهو يعني توثيقه، وحسن له
الترمذي (تحفة 9 / 391 - 392) في باب ما يقول إذا رأى مبتلى،
وفي أبواب الحج (تحفة 3 / 590) (1) في باب دخول مكة نهارا.
وجوز البخاري تصحيح حديثه كما تشير عبارته في جزء رفع اليدين
(ص 25)، وذكره في صحيحه في كتاب العلم باب المناولة (الفتح

(1) ووهم المباركفوري رحمه الله تعالى في تحفة الأحوذي (3 / 950) فذكر
أنه عبيد الله بن عمر فوهم والصواب أنه عبد الله العمري وانظر تحفة الأشراف
(6 / 107).
261

1 / 154) فجزم الكرماني أنه العمري، ومال إليه البدر العيني
(1 / 407) وخالفهما الحافظ (الفتح 1 / 154)، وحسن له ابن كثير
في التفسير في أوائل سورة القصص، وحسن له المنذري في الترغيب
لكن لا تحضرني الآن أماكنه.
وقال ابن عدي في " الكامل " (5 / 1869): وثقه الناس ا ه‍
وهو يعني قبول الناس لحديثه.
وقال في " الكامل " أيضا (4 / 1461): ولعبد الله بن عمر
حديث صالح وأروى من رأيت عنه ابن وهب ووكيع وغيرهما من
ثقات المسلمين وهو لا بأس في رواياته، وإنما قالوا فيه لا يلحق أخاه
عبيد الله، وإلا فهو في نفسه صدوق لا بأس به. ا ه‍
وهذا الذي ذكره ابن عدي هو أعدل الأقوال في عبد الله العمري.
فالرجل وإن تكلم فيه فحديثه حسن إلا إذا تبين مخالفته شأنه شأن
من يحسن حديثهم، ومن قارن ترجمته بترجمة من يحسن الأئمة
حديثهم كمحمد بن إسحاق وعبد الله بن محمد بن عقيل لا ينفك إلا
عن تحسين حديث الرجل وهو ما ذهب إليه الحافظ الذهبي، فقال
في المغني (1 / 348): صدوق حسن الحديث. ا ه‍
واقتصر على عبارات التوثيق الواردة فيه في كتابيه " الكاشف "
(2 / 99)، و " الديوان " (ص 173)، وأدخله في كتابه من تكلم
فيه وهو موثق (ص 112).
وقال الحافظ السخاوي في " التحفة اللطيفة " (3 / 366): كان
صالحا عالما خيرا صالح الحديث. ا ه‍
* * *
262

فصل
وإذا سلمنا بتضعيف عبد الله العمري.
فقد قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: عبد الله
العمري ما حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة. ا ه‍. كذا في
" الكامل " (4 / 1459).
قلت: والرجل يروي هنا عن نافع.
فهذا نص قاطع للنزاع من إمام الجرح والتعديل والله المستعان.
* تنبيه:
حمل ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في الصارم المنكى على
عبد الله العمري ورفع راية تضعيفه، فإن تعجب فلك ذلك إذا وقفت
على تقويته لعبد الله العمري في التنقيح ورده على من ضعفه
واحتجاجه بحديثه في " الأحكام ".
فلما ضعف المخالف عبد الله بن عمر العمري قال ابن عبد الهادي
(1 / 122):
وأما عبد الله بن عمر فقد قال يحيى في رواية: ليس به بأس. ا ه‍
وهي تعني توثيقه.
ثم لك أن تعجب ثانية إذا علمت أن هذه الرواية التي تفيد توثيق ابن
معين للعمري لم يذكرها ابن عبد الهادي نصا أو حتى إشارة في
الصارم المنكى.! ونسأل الله العافية
وحاصل ما تقدم أن حديث الزيارة (من زار قبري وجبت له
263

شفاعتي " حديث حسن ولا بد، وهذا ما تقتضيه قواعد الحديث،
أما من كابر فلا كلام لنا معه وهو غير مقصود بالذات من هذا الكلام،
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
18 - حديث: " من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي،
ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له شهيدا يوم القيامة ".
أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (3 / 457) حدثنا سعيد بن
محمد الحضرمي ثنا فضالة بن سعيد بن زميل المأربي، حدثنا محمد
بن يحيى المأربي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس به مرفوعا.
ورواه تقي الدين السبكي في " شفاء السقام " (ص 38) بسنده
إلى ابن عساكر الذي أخرجه من طريق العقيلي المذكور ولفظه:
" من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي.... " الحديث.
والصواب ما في ضعفاء العقيلي، وإن كانت رواية ابن عساكر هي
صواب أيضا، فلا ضير في ذلك، فإن لفظ الزيارة ثابت في كلا
الروايتين في آخر الحديث.
وأعل هذا الحديث بفضالة بن سعيد بن زميل المأربي وشيخه محمد
ابن يحيى بن قيس المأربي.
أما فضالة بن سعيد بن زميل المأربي فقال العقيلي في " الضعفاء "
(3 / 457): حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به، ثم قال بعد
أن ذكر الحديث محل البحث بإسناده: " وهذا يروى بغير هذا الإسناد
من طريق أيضا فيه لين ". ا ه‍
فدل كلام العقيلي على أمور:
264

الأول: أن حديث فضالة بن سعيد المأربي غير محفوظ.
الثاني: أنه فرد.
الثالث: أن هذا الإسناد فيه لين.
والأمر الثالث هو خلاصة نظر العقيلي في هذا الإسناد إنه فيه لين.
واللين هو أقل الضعف.
وإن تعجب فعجب من الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - ففي
ترجمته لفضالة بن سعيد بن زميل المأربي ذكر الحديث موضع البحث
ثم قال (3 / 349): هذا موضوع على ابن جريج. ا ه‍
ولا يوجد في الإسناد أو المتن ما يساعده على دعواه.
فهي دعوى لا برهان عليها، ولا ذكر الذهبي دليلا يشهد لها
وكلام العقيلي هنا أقوى وأقعد.
* * *
فصل
وأما محمد بن يحيى بن قيس المأربي فقد وثقه الدارقطني في
سؤالات البرقاني (464) وابن حبان (9 / 45) وذكره ابن أبي حاتم
في " الجرح والتعديل " برواية جمع عنه، ولم يذكر فيه جرحا ولا
تعديلا (8 / 123).
وقال ابن حزم: مجهول.
فقبول توثيق الدارقطني وابن حبان هو الموافق لقواعد الحديث ومن
علم حجة على من لم يعلم.
265

فإن قيل قد قال ابن عدي في " الكامل " (6 / 2239): أحاديثه
مظلمة منكرة. ا ه‍.
قلت: هذا سرف من ابن عدي رحمه الله تعالى.
وقد ذكر حديثين له في ترجمته، أولهما: في مدح وذم بعض
المدن والحمل فيه على من رواه عنه وهو خطاب بن عمر الهمداني،
وقد قال الذهبي في ترجمته من " الميزان ": مجهول وخبره في فضل
البلدان كذب. ا ه‍
وأصاب العقيلي بذكره هذا الحديث الموضوع في ترجمة خطاب بن
عمر الهمداني (2 / 25)
والحديث الآخر الذي ذكره ابن عدي في ترجمة محمد بن يحيى
المأربي حديث في الاستقطاع أخرجه أصحاب السنن وغيرهم،
وصححه ابن حبان (10 / 351)، والخطب في مثل ذلك سهل لا
يستحق معه أن يقال في حق الرجل: أحاديثه مظلمة منكرة. وأين
هي الأحاديث الكثيرة التي تستحق هذا الوصف..؟!!.
وقال الذهبي في " الكاشف " (3 / 95): وثق.
وهي تقضي على تردده المذكور في ترجمة محمد بن يحيى المأربي
في " الميزان " (4 / 62).
وخلاصة ما قيل في محمد بن يحيى المأربي هو قول الحافظ في
التقريب (ص 513): لين الحديث. والترمذي: يحسن لمن قيل
فيه مثل ذلك.
266

* تنبيه:
أما ابن عبد الهادي فإنه ما أصاب في كلامه عن محمد بن يحيى
المأربي وتشدد وبعد عن الإنصاف، فذكر أن الرجل مختلف فيه.
ثم أراد أن يقوى رجحان جرحه وتضعيفه، فذاكر كلام ابن عدي
وأيده بالحديث الموضوع في مدح وذم بعض المدن وتقدم أن الحمل فيه
على خطاب بن عمر الهمداني المجهول، فلم يكفه أنه لم يصرح
بتوثيق الدارقطني للمأربي في سؤالات البرقاني (464) لا بل زاد أن
ألصق به حديثا موضوعا نسأل الله تعالى السلامة والصون.
بقي الكلام على ما قد يظن بعضهم أنه علة ثالثة في هذا الإسناد،
وهي أن ابن جريج وهو عبد الملك ابن عبد العزيز بن جريج مدلس
ولم يصرح بالسماع.
والجواب على ذلك: أن هذا يرويه ابن جريج عن عطاء وروايته
عنه محمولة على السماع صرح أو لم يصرح، فإن ابن جريج قال:
إذا قلت: قال عطاء: فأنا سمعته منه، وإن لم أقل سمعت. (التهذيب
6 / 406)
فالحاصل مما تقدم أن هذا الإسناد فيه راو غاية ما فيه أنه مجهول
وتفرد بهذا الحديث، وآخر اختلف فيه وثقه الدارقطني وصحح له
ابن حبان ووثقه وأخرج له أصحاب السنن النسائي وأبو داود
والترمذي، وقال عنه الحافظ: لين الحديث. وقال الذهبي: وثق.
267

فإذا كان الأمر كذلك فهذا الإسناد ضعيف فقط بسبب فضالة بن
سعيد بن زميل المأربي فقط ويمكن أن ينجبر بغيره بل يمكن أن يكون
مشبه بالحسن على رأي جماعة من الحفاظ، وهو وحده يقضي على
قولهم المتهافت: أحاديث الزيارة كلها ضعيفة بل موضوعة. فكيف
ولهذا الحديث نظائر أقوى منه، نسأل الله تعالى الإنصاف في
الغضب والرضا. والله تعالى أعلم بالصواب.
19 - حديث: " من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا
يوم القيامة).
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3 / 488)، وحمزة بن يوسف
السهمي في تاريخ جرجان (ص 434) ومن طريقه السبكي في
شفاء السقام (ص 35)، وابن أبي الدنيا في كتاب " القبور " كلهم
من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن سليمان بن يزيد
الكعبي أبي المثنى عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة ".
قلت: محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ثقة احتج به الجماعة.
لكن أبا المثنى سليمان بن يزيد الكعبي قال عنه أبو حاتم: منكر
الحديث ليس بقوي. وضعفه الدارقطني، وقال ابن حبان
في " المجروحين ":
يخالف الثقات في الروايات، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية
عنه إلا للاعتبار. لكنه ذكره في " الثقات " (6 / 395)، وحسن له
الترمذي.
268

ومقتضى ذلك أن يكون " صدوق الحديث " عند الترمذي، قال
الحافظ في " تعجيل المنفعة " (ص 153):
قول الترمذي حسن غريب هذا يقتضي أن الراوي عنده صدوق
معروف. ا ه‍
وصحح له الحاكم (4 / 221 - 222) وهو يعني أن الرجل ثقة
عنده.
فإن أعرضت عن تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم له وتوثيق ابن
حبان، فالرجل ضعفه من النوع الخفيف الذي يزول بمجئ متابع أو
شاهد له، لذلك اقتصر الحافظ على تضعيفه في " التقريب " (ص 670).
وأجاد الحافظ الذهبي فقال في " الكاشف " (3 / 331): " وثق،
وقال أبو حاتم ليس بقوي ". ا ه‍
وتبقى علة أخرى في هذا السند وهي الانقطاع بين سليمان بن يزيد
وأنس بن مالك، فإن سليمان بن يزيد من أتباع التابعين.
* وله طريق آخر عن أنس:
قال إسحاق بن راهويه في مسنده: أخبرنا عيسى بن يونس، ثنا
ثور بن يزيد، حدثني شيخ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. (المداوي:
6 / 232).
قلت: عيسى بن يونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي، ثقة.
وثور بن يزيد ثقة ثبت.
فلولا الشيخ المبهم الذي لم يسم لكان السند في أعلى درجات
الصحة.
269

لكن هذا الطريق إذا ضم لسابقه استفاد الحديث قوة، فإن قال قائل
: إنه مشبه بالحسن يكون قد أصاب، وكم احتج الأئمة الفقهاء بأقل
من هذا وبمثله في الأحكام، بل هذا بمفرده يثبت مشروعية الزيارة.
وابن عبد الهادي لم يذكر الطريق الثاني عن أنس، وكأنه لم يقف
عليه، ولذا كان كلامه مقصورا على الطريق الأول فقط.
ولو وقف عليه ابن عبد الهادي لشنع عليه وصب تشنيعه على
الراوي المبهم كما هي طريقته لأنه يأبى أن يصح حديث في الباب.
والله المستعان.
20 - حديث: " من أتى المدينة زائرا لي وجبت له شفاعتي يوم
القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمنا ".
أخرجه يحيى بن الحسن بن جعفر في أخبار المدينة كما في " شفاء
السقام " (ص 40).
ثنا محمد بن يعقوب، ثنا عبد الله بن وهب، عن رجل عن بكر
ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى المدينة زائرا لي وجبت له
شفاعتي يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمنا ".
محمد بن يعقوب هو الأسدي الزبيري المدني أبو عمر.
قال عنه أبو حاتم والنسائي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في
الثقات، وقال: مستقيم الحديث (التهذيب: 9 / 533).
وقال الحافظ في التقريب (ص 514): صدوق.
وعبد الله بن وهب هو الثقة الحافظ الفقيه.
270

أما بكر بن عبد الله فالذي يظهر لي أنه المزني البصري فهو تابعي
ثقة ثبت جليل كما في " التقريب " (ص 127)، فعلى هذا
فالحديث مرسل، ولولا الرجل المبهم لكان صحيح الإسناد.
واحتمل السيد السمهودي في " وفاء الوفا " (4 / 1348) أن بكر
ابن عبد الله هو المزني المذكور أو هو بكر بن عبد الله بن الربيع
الأنصاري الصحابي المترجم له في الإصابة (1 / 164).
ووقع في " الصارم المنكى " (ص 343) بكير بن عبد الله بالياء،
وهو تصحيف من الناسخ، وإن لم يكن تصحيفا - وهو بعيد - فإن
عبد الله بن وهب يروي في جامعه عن بكير بن عبد الله الأشج المدني
ثم المصري بواسطة واحدة، وبكير بن عبد الله الأشج من تابعي
التابعين. والأرجح فيما سبق - والله أعلم - أن بكر بن عبد الله هو
المزني.
ومع الاحتمالات الثلاثة المذكورة، فالحديث ضعيف الإسناد فقط.
فمن مجانبة قواعد الحديث قول ابن عبد الهادي في الصارم (ص
243): وهو حديث باطل لا أصل له، وخبر معضل لا يعتمد
على مثله وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات. ا ه‍
قلت: تزيد الرجل جدا وبالغ وتعنت وتشدد.
فإسناد الحديث ليس فيه إلا الرجل المبهم، وإمامه أحمد بن حنبل
وغيره من أئمة الفقه والحديث يحتجون بالمرسل.
ولم يذكر ابن عبد الهادي دليل مقولته لأن قواعد الحديث لا
توافقه.
271

ومن تعصب الألباني قوله في رده على الشيخ محمد سعيد رمضان
البوطي (ص 109):
" وهذا باطل كما قال ابن عبد الهادي ". ا ه‍
فعمدته قول ابن عبد الهادي الذي ما استطاع أن يقيم صلب دعوته
المتهاوية، ثم جاء الألباني يردد الصدى لا غير، وهذا هو التقليد
المذموم فأين البحث منه أو ممن قلده هنا؟!
والمتتبع يجد أن المحدثين لا يزيدون في مثل هذا على قولهم:
مرسل ضعيف الإسناد، ومثله ينجبر بغيره، نسأل الله تعالى السلامة
والصون.
21 - حديث: " من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن
مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ".
أخرجه الدارقطني في سننه (2 / 278)، حدثنا أبو عبيد
والقاضي أبو عبد الله وابن مخلد قالوا: أنا محمد بن الوليد البسري،
نا وكيع، نا خالد بن أبي خالد وأبو عون عن الشعبي والأسود بن
ميمون عن هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد
الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ".
وأخرجه من هذا الوجه البيهقي في " شعب الإيمان " (3 / 488)
272

والمحاملي والساجي كما في الميزان، وعلقه ابن عبد البر في
الاستذكار.
ورواه البخاري في تاريخه فقال:
ميمون بن سوار العبدي عن هارون أبي قزعة عن رجل من ولد
حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات في أحد الحرمين... ".
قلت وبالله استعنت: خالد بن أبي خالد هو خالد بن طهمان،
فإنه يروي عن طبقة الشعبي وهو كوفي مثله، ويروي عنه وكيع وليس
هو خالد بن أبي خلدة كما ادعى ابن عبد الهادي في " الصارم المنكى "
(ص 151)، وخالد بن طهمان صدوق وكان قد اختلط، لكن
تابعه ابن عون، ويقال أبو عون وهو هو فإنه عبد الله بن عون
البصري وكنيته أبو عون وهو ثقة ثبت، فصح بذلك السند إلى عامر
بن شراحيل الشعبي بل إلى هارون بن أبي قزعة لأن الشعبي حافظ
ثقة لا يسئل عن مثله.
وأغرب ابن عبد الهادي وتشدد جدا وهول فقال:
وأما ما وقع من الزيادة في الإسناد عن وكيع عن خالد بن أبي
خالد وأبي عون أو ابن عون عن الشعبي أو بإسقاط الشعبي (1)،
فإنها زيادة منكرة غير محفوظة، وليس للشعبي مدخل في إسناد هذا
الحديث... ثم قال: والحاصل أن ذكر هذه الزيادة المظلمة في
الإسناد لم تزد الحديث فقط بل لم تزده إلا ضعفا واضطرابا (الصارم
المنكى ص 151).

(1) رجح السبكي في " شفاء السقام " رواية: إثبات الشعبي وهو الصواب
(ص 33).
273

قلت: هذه الزيادة مسلسلة بالثقات كما تقدم وكيع بن الجراح
وخالد بن طهمان ومتابعه عبد الله بن عون البصري، ثم عامر
الشعبي ثقات لا ينظر في حالهم ما خلا ابن طهمان وهو صدوق وقد
توبع.
ونسأل الله تعالى الإنصاف في الرضا والغضب.
إذا علم ذلك فإن الكلام في هذا الإسناد انحصر في هارون بن أبي
قزعة وشيخه المبهم.
أما هارون بن أبي قزعة فقد قيل هارون أبو قزعة، وقيل ابن قزعة
وهذا لا يضر.
قال الحافظ في " النكت على ابن الصلاح (2 / 773) ":
" واختلاف الرواة في اسم رجل لا يؤثر ذلك، لأنه إن كان ذلك
الرجل ثقة فلا ضير، وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل
ضعفه لا من قبل اختلاف الثقات في اسمه ". ا ه‍ فتأمل ذلك.
والرجل قد ضعفه يعقوب بن شيبة، وذكره العقيلي والساجي وابن
الجارود في الضعفاء، لكن ذكره ابن حبان في الثقات (7 / 580).
ويروي عنه عامر الشعبي فيكون هارون بن أبي قزعة ثقة عنده.
قال يحيى بن معين في " الشعبي ": إذا حدث عن رجل فسماه
فهو ثقة ويحتج به (التهذيب: 5 / 67)، فرواية الشعبي عن هارون
ابن أبي قزعة توثيق له، كما قال ابن معين لأنه سماه. لكنه توثيق
أقل من النص على ذلك صراحة، فهو توثيق ضمني أو إجمالي.
274

فمع توثيق ابن حبان ورواية الشعبي المتوثقة لهارون بن أبي قزعة،
فالرجل ممن يعتبر بحديثه وليستشهد به.
وتبقى علة واحدة في هذا الإسناد وهي شيخ هارون بن أبي قزعة
المبهم.
وليكن الضعف في هذا الحديث غير شديد بل ضعفه قريب ويحتج
الفقهاء بمثله في إثبات مشروعية أمر ما ودونك كتب الفقه لتتحقق
من صحة مقولتي، فكيف ولأحاديث الزيارة طرق بعضها من شرط
الحسن، فإذا وقفت بعد على قولهم: أحاديث الزيارة ضعيفة بل
موضوعة فاضرب به عرض الحائط لأنه مخالف للقواعد.
وقد قال الحافظ الذهبي: أجودها (أي أحاديث الزيارة) إسنادا
حديث حاطب، وأقره السخاوي في " المقاصد الحسنة " (ص 413)،
والسيوطي في " الدرر المنتثرة " (ص 173) فهؤلاء ثلاثة من الحفاظ
اتفقوا على مقولة تدحض المخالف، فماذا بعد الهدى...
بقي التنبيه على أن ابن تيمية قد حكم على هذا الحديث بالكذب،
فقال في كتابه " التوسل والوسيلة ص 74 ": هذا كذب ظاهر
مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته وكان مؤمنا به كان
من أصحابه لا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه، وقد
ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تسبوا أصحابي فوالذي
نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا
نصيفه ". أخرجاه في الصحيحين، والواحد من بعد الصحابة لا
يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج والجهاد
والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق
المسلمين. ا ه‍ (ص 74).
وقلده الألباني فحكم على هذا الحديث بالبطلان فما أصابا.
275

وجواب هذا الإشكال سهل:
1 - هذا تشبيه ولا يلزم من التشبيه المساواة بين طرفي التشبيه،
فقد يكون أحدهما أفضل من الآخر، فيكون من باب إلحاق فاضل
بأفضل منه كقولك الرملي كالشافعي وأبو يوسف كأبي حنيفة وزيد
كالبدر ومدرسة كالأزهر ونحو ذلك الوجه.
2 - الجامع بين طرفي التشبيه هو الحياة، فمن زاره صلى الله عليه
وسلم بعد موته يشبه من زاره في حياته باعتبار حياة النبي صلى الله عليه وسلم في
قبره الشريف، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره تواترت بها الأخبار وأفردها
عدد من الحفاظ منهم البيهقي والسيوطي، وللحافظ أحمد بن
الصديق الغماري رحمه الله تعالى خلاصة جامعة في حياة الأنبياء
نجدها في خاتمة كتاب " الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين "
لشيخنا العلامة المحقق الجامع سيدي عبد الله بن الصديق رحمه الله
تعالى ونور مرقده.
بيد أن الأمر لا يخلو من توجيه نظر القارئ إلى أن هذا الاتفاق
الذي ذكره ابن تيمية فيه نظر، لأن زيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة
عند كثير من علماء المسلمين وهو قول الظاهرية، وعليه كثير من
المالكية وهو قول عند الحنفية.
22 - حديث: " من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعا أو
شهيدا أو من مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة ".
أخرجه أبو داود الطيالسي (منحة المعبود 1 / 228)، والبيهقي
في السنن الكبرى (5 / 245)، وفي " شعب الإيمان " (3 / 488).
حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل
من آل عمر عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا، ومن
مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة).
276

وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3 / 489) من حديث شعبة
ابن الحجاج عن سوار بن ميمون، نا هارون بن قزعة عن رجل من
آل الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة، ومن سكن
المدينة وجد على بلائها كنت له شهيدا أو شفيعا، ومن مات في أحد
الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة ".
وقال العقيلي: والرواية في هذا لينة (4 / 170).
فاختلف حديث شعبة وأبي داود الطيالسي وخلافهما يرجع لأمرين:
الأول: قال شعبة عن سوار بن ميمون عن هارون بن قزعة، ولم
يذكر أبو داود هارون بن قزعة.
الثاني: الاختلاف فيمن رفع الحديث.
وهذا الاختلاف لا مدخل لشعبة ولأبي داود الطيالسي فيه فكلاهما
من كبار الحفاظ الثقات خاصة أولهما فتوهيم أحدهما - كما فعل ابن
عبد الهادي - فيه نظر.
فقد حكم ابن عبد الهادي بوهم أبو داود الطيالسي من جهتين،
الأولى: أنه وهم بإسقاط هارون بن قزعة من روايته، الثانية: أن
ذكر عمر وهم من الطيالسي.
كذا قال ابن عبد الهادي سامحه الله (الصارم المنكى صر 132)!!
وهذا عجيب جدا من ابن عبد الهادي، فإن أبا داود الطيالسي حافظ
ثقة إمام مصنف حدث بما تحمله، فلا مدخل له فيه.
والصواب أن هذا الاختلاف راجع لسوار بن ميمون، فإنه مما لا
ترجمة له في كتب الرجال.
277

فلا ينبغي أن يوهم الطيالسي ويترك سوار بن ميمون - أو ميمون ابن
سوار كما قيل في بعض الروايات - الغير معروف.
والحاصل أن الحديث ضعيف بهذا الإسناد.
23 - حديث: " من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني
في حياتي ".
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12 / 406)، والدارقطني
في سننه (2 / 278)، والبيهقي في السنن الكبرى (5 / 246)،
وابن عدي في الكامل (2 / 790)، والأصبهاني في الترغيب
والترهيب (1 / 447)، والفاكهي في أخبار مكة (1 / 437)،
وعزاه الذهبي للبخاري في الضعفاء تعليقا، ولم أجده في
المطبوعة (الميزان: 1 / 559)، وهو في المطالب العالية (1 / 372)
معزوا لأبي يعلى.
جميعهم من طريق حفص بن سليمان الأسدي القاري عن ليث بن
أبي سليم، عن مجاهد بن جبر عن ابن عمر مرفوعا قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في
حياتي ".
وفي هذا الإسناد ضعيفان، وأولهما أضعف من الثاني.
أما أولهما: فهو حفص بن سليمان الكوفي القاري.
ضعفه جماعة، وقال بعضهم: متروك، وبالغ فيه بعضهم فنسبه
إلى الكذب، وقد أجاب على هذه المبالغة تقي الدين السبكي رحمه
الله تعالى فقال:
وعندي أن هذا القول سرف، فإن هذا الرجل إمام قراءة وكيف
يعتقد أنه يقدم على وضع الحديث والكذب ويتفق الناس على الأخذ
278

بقراءته، وإنما غايته أنه ليس من أهل الحديث، فلذلك وقعت
المنكرات والغلط الكثير في روايته. ا ه‍ (شفاء السقام ص 25).
وقال تلميذه الذهبي في ترجمة شيخه عاصم بن أبي النجود
القاري:
ما زال في كل وقت يكون العالم إماما في كل فن مقصرا في فنون
وكذلك كان صاحبه حفص بن سليمان ثبتا في القراءة واهيا في
الحديث، وكان الأعمش بخلافه كان ثبتا في الحديث لينا في الحروف.
ا ه‍ (سير النبلاء: 5 / 260).
وبكلام السبكي والذهبي يزول ما قد يشكل للبعض عن حال
حفص بن سليمان القاري.
وثانيهما: هو ليث بن أبي سليم صدوق في نفسه لكنه اختلط،
ولم يتميز حديثه، فمثله وإن كان ضعيفا فلم يتخلف عنه بصير في
باب المتابعات والشواهد.
ولم ينفرد حفص بن سليمان به عن ليث بن أبي سليم فله متابعان:
أولهما: ما أخرجه الطبراني في معجميه الكبير (12 / 406)،
والأوسط (1 / 201).
قال: حدثنا أحمد بن رشدين، قال: حدثنا علي بن الحسن بن
هارون الأنصاري، قال: حدثني الليث ابن ابنة الليث بن أبي سليم
قال: حدثتني عائشة ابنة يونس امرأة الليث عن ليث بن أبي سليم
عن مجاهد عن ابن عمر به مرفوعا. هكذا وقع في الكبير.
وفي المطبوع من المعجم الأوسط للطبراني لم يذكر ليث بن أبي
279

سليم، والصواب ما وقع في الكبير، وأشار الطبراني في الأوسط
إلى تفرد علي بن الحسن بن هارون الأنصاري به.
وقال الهيثمي في " المجمع ": وفيه عائشة بنت سعد، ولم أجد
من ترجمها (4 / 2). ا ه‍.
قلت: والأمر كذلك، ومثلها علي بن الحسن بن هارون
الأنصاري، والليث ابن ابنة الليث بن أبي سليم لم أجد من
ترجمهما.
وشيخ الطبراني أحمد بن رشدين المقال فيه مشهور. فهذا الإسناد
ضعيف جدا.
أما المتابعة الثانية:
فهي ما أخرجها أبو بكر محمد بن السري بن عثمان التمار في
جزئه قال:
ثنا نصر بن شعيب مولى العبديين، ثنا أبي، وثنا جعفر بن
سليمان الضبعي عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر به مرفوعا. كذا
في " شفاء السقام " (ص 27).
وهذا الإسناد ضعيف. بسبب أبي بكر محمد بن السري بن عثمان
التمار.
قال عنه الذهبي:
يروي المناكير والبلايا، ليس بشئ، وأقره الحافظ في
اللسان (5 / 174).
280

وفيه ضعيف آخر هو نصر بن شعيب.
قال الذهبي عنه في الميزان (2 / 251): نصر بن شعيب عن أبيه
عن جعفر بن سليمان ضعف.
وقال ابن عساكر: هو وهم وإنما هو حفص بن سليمان أبو عمر
الأسدي الغاضري القاري (شفاء السقام ص 27). وعلى كل
فالحديث ضعيف.
24 - حديث: " من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة
وصلى في بيت المقدس لم يسأله الله عما افترض عليه ".
أخرجه أبو الفتح الأزدي في فوائده قال:
ثنا النعمان بن هارون بن أبي الدلهات، ثنا أبو سهل بدر بن
عبد الله المصيصي، ثنا الحسن بن عثمان الزيادي، ثنا عمار بن محمد،
حدثني خالي سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله
ابن مسعود مرفوعا به.
كذا في شفاء السقام (ص 34).
ولكن وقع فيه ابن عمر والصواب ابن مسعود كما في اللسان
(2 / 4)، والقول البديع (ص 135)، وتنزيه الشريعة (2 / 175).
أبو الفتح الأزدي صاحب الجزء هو حافظ مشهور ضعفه جماعة،
وبالغ فيه بعضهم بسبب روايته حديثا أتهم به.
قال الخطيب في التاريخ (2 / 244): وسألت محمد بن جعفر
ابن علان عنه فذكره بالحفظ وحسن المعرفة بالحديث وأثنى عليه،
281

فحدثني أبو النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الأرموي قال: رأيت
أهل الموصل يوهنون أبا الفتح الأزدي جدا ولا يعدونه شيئا. قال:
وحدثني محمد بن صدقة الموصلي أن أبا الفتح قدم بغداد على الأمير
- يعني ابن بويه - فوضع له حديثا: أن جبريل كان ينزل على النبي
صلى الله عليه وسلم في صورته. قال: فأجازه وأعطاه دراهم كثيرة. ا ه‍
وقال ابن كثير في " البداية " (11 / 303):
ضعفه كثير من الحفاظ من أهل زمانه واتهمه بعضهم بوضع حديث
رواه لابن بويه، حين قدم عليه بغداد، فساقه بإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن جبريل كان ينزل عليه في مثل صورة ذلك الأمير "، فأجازه
وأعطاه دراهم كثيرة. ا ه‍
وفي إسناده أبو سهل بدر بن عبد الله المصيصي قال عنه الحافظ
الذهبي:... عن الحسن بن عثمان الزيادي بخبر باطل وعنه
النعمان بن هارون. (الميزان: 1 / 300).
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمته في اللسان (2 / 4): والخبر
المذكور أخرجه أبو الفتح الأزدي في الثامن من فوائده فذكره الحافظ
بإسناده.
وأورده السيوطي في " ذيل اللآلئ "، فذكره ابن عراق في تنزيه
الشريعة تبعا له. (2 / 175).
وقال الحافظ السخاوي في القول البديع (ص 135): في ثبوته
نظر. ا ه‍
فالصواب - والله أعلم - أن الحمل في هذا الحديث على أبي
282

الفتح الأزدي لا على المصيصي، وقد قال الإمام السبكي عن
المصيصي: ما علمت من حاله شيئا (شفاء السقام ص 34 - 35).
وهل صح السند إلى المصيصي حتى تعلق التهمة به؟
والحاصل: أن الحديث لا يصح وبعضهم حكم عليه بالوضع وفي
المتن نكارة.
25 - حديث: " من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني ".
أخرجه ابن عدي في " الكامل " (7 / 2480)، وابن حبان في
" المجروحين " (3 / 73)، والدارقطني في غرائب مالك (كما في
شفاء السقام ص 28)، والسهمي في " تاريخ جرجان " (ص
217).
جميعهم من طريق محمد بن محمد بن النعمان بن شبل قال:
حدثني جدي، قال: حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر به مرفوعا.
وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع (الموضوعات: 2 / 217)
فأصاب في حكمه ووافقه في هذا الحكم جماعة من الحفاظ.
فمحمد بن محمد بن النعمان بن شبل طعن فيه الدارقطني واتهمه
(الميزان: 4 / 26).
وجده النعمان بن شبل قال عنه موسى بن هارون: كان متهما (الكامل:
7 / 2480)، وقال ابن حبان في " المجروحين " (3 / 73): يأتي
عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات. ا ه‍
فإن قيل: قد قال ابن عدي في الكامل (7 / 2480): ثنا
283

صالح بن أحمد بن أبي مقاتل، ثنا عمران بن موسى الدجاجي،
ثنا النعمان بن شبل وكان ثقة. ا ه‍
أجيب بأن هذا التوثيق إما أن يكون من صالح بن أحمد أو من
عمران بن موسى الدجاجي، فإن كان من أولهما، فهو ليس أهلا
له، وإن كان من ثانيهما فالرواية لا تصح إليه، فإن صالح بن أحمد
ابن أبي مقاتل هو المعروف بالقيراطي البزار شديد الضعف حتى قال
عنه الدارقطني: متروك كذاب دجال، وقال عنه ابن عدي: كان
يسرق الحديث.
وعلى كل فالحمل في هذا الحديث على محمد بن محمد بن النعمان أولى
من الحمل على جده النعمان بن شبل وهو ما صرح به الدارقطني، فقال فيما
نقله عنه ابن الجوزي في الموضوعات (2 / 217) حيث قال:
" الطعن في هذا الحديث من محمد بن محمد بن النعمان ". ا ه‍
والنعمان بن شبل قد ارتضاه ابن عدي في " الكامل (7 / 2480).
ويروى هذا الحديث بإسناد ساقط جدا، ولعل محمد بن محمد
ابن النعمان سرقه من جده وركب له إسنادا نظيفا عن مالك عن نافع
عن ابن عمر، فقد أخرج أبو الحسن يحيى بن الحسن بن جعفر في
أخبار المدينة (كما في شفاء السقام ص 39) من حديث النعمان بن
شبل، ثنا محمد بن الفضل عن جابر عن محمد بن علي عن علي
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم
يزرني فقد جفاني ".
284

قلت: هذا تالف.
والنعمان بن شبل تقدم الكلام عليه.
ومحمد بن الفضل هو ابن عطية العبسي الكوفي كذبه غير واحد
من النقاد.
وجابر هو ابن يزيد الجعفي حاله معروف في الضعف.
26 - حديث: " من زار قبري حلت له شفاعتي ".
أخرجه البزار في مسنده (كشف الأستار: 2 / 57).
حدثنا قتيبة، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا عبد الرحمن بن زيد،
عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من زار قبري حلت له
شفاعتي ".
قال البزار:
عبد الله بن إبراهيم لم يتابع على هذا وإنما يكتب ما بتفرد به. ا ه‍
وقال الهيثمي في المجمع (4 / 2):
رواه البزار وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو ضعيف. ا ه‍
قلت: عبد الله بن إبراهيم الغفاري حاله أشد في الضعف.
فقد قال عنه الحافظ في " التقريب " (ص 295):
متروك ونسبه ابن حبان إلى الوضع. ا ه‍
وشيخه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف أيضا.
وكان ابن عدي حسن الرأي فيه، وتقدم الكلام عليه.
285

والحاصل: أن هذا الحديث ضعيف جدا بهذا الإسناد.
27 - حديث: " من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي ".
قال الإمام تقي الدين السبكي: رواه أبو الفتوح سعيد بن محمد
ابن إسماعيل اليعقوبي في جزء له فيه فوائد مشتملة على بعض
شمائل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وما ورد في فضل زيارته ودرجة
زواره (شفاء السمام ص 34 - 35).
وأخرجه اليعقوبي من طريق خالد بن يزيد، ثنا عبد الله بن عمر
العمري، قال: سمعت سعيد المقبري يقول: سمعت أبا هريرة
رضي الله عنه يقول فذكره مرفوعا.
في هذا الإسناد خالد بن يزيد أبو الهيثم العمري المكي كذبه أبو
حاتم ويحيى بن معين وضعفه جدا العقيلي وابن عدي وابن حبان
وغيرهم.
28 - حديث: " من زارني ميتا فكأنما زارني حيا، ومن زار قبري
وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم
يزرني فليس له عذر ".
أخرجه ابن النجار في الدرة الثمينة في فضائل المدينة (ص 144).
من طريق محمد بن مقاتل عن جعفر بن هارون عن سمعان بن
المهدي عن أنس مرفوعا به.
وهذا بعض من نسخة سمعان بن المهدي المكذوبة.
قال الحافظ الذهبي في الميزان (2 / 234) عن سمعان هذا:
286

ألصقت به نسخة مكذوبة رأيتها قبح الله من وضعها. ا ه‍
وقال الحافظ في " اللسان " (3 / 114) في ترجمة سمعان
المذكور: وهي من رواية محمد بن مقاتل الرازي عن جعفر بن
هارون الواسطي عن سمعان، فذكر النسخة وهي أكثر من ثلاثمائة
حديث أكثر متونها موضوعة. وهذا هو السند المذكور أعلاه ومحمد
ابن مقاتل الرازي. قال عنه الذهبي (4 / 47):
تكلم فيه ولم يترك. ا ه‍
وجعفر بن هارون الواسطي قال عنه الذهبي:
أتى بخبر موضوع. ا ه‍
ونسخة سمعان بن مهدي عن أنس من النسخ المشهورة بالوضع.
29 - حديث: " رحم الله من زارني وزمام ناقته بيده ".
هذا الحديث وضعه العوام ولا إسناد له، وقد صرح الحافظ ابن
حجر بأنه مما لا أصل له، وأقره تلميذه السخاوي في المقاصد
الحسنة.
30 - حديث: " من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد دخل
الجنة ".
هذا حديث موضوع ولا إسناد له، صرح بذلك الإمام النووي في
المجموع (8 / 209)، وابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (ص
402).
وممن حكم ببطلانه الزركشي والسيوطي وابن عراق في جماعة
آخرين.
287

31 - حديث: " من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي
نائيا أبلغته ".
أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في الثواب (كما في اللآلئ:
1 / 283).
حدثنا عبد الرحمن بن أحمد الأعرج، حدثنا الحسن بن الصباح،
حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به
مرفوعا.
قال الحافظ السخاوي في القول البديع (ص 154): وسنده جيد
كما أفاده شيخنا (أي الحافظ ابن حجر). ا ه‍
وقد أصاب الحافظ في حكمه، فإسناد الحديث رجاله رجال
الصحيح ما خلا شيخ أبي الشيخ الأصبهاني، وهو عبد الرحمن بن
أحمد بن أبي يحيى الزهري أبو صالح الأعرج المتوفى سنة 300
ترجمه أبو الشيخ الأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان (3 / 541)،
وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2 / 113)، ولم يذكرا فيه جرحا أو
تعديلا.
وقد روى عنه جماعة منهم أبو الشيخ ابن حيان الأصبهاني الحافظ،
فغاية ما في الرجل إنه مستور، وهو على شرط ابن حبان لكن لم
أجده في ثقاته.
ومثل هذا الصنف من الرواة يقبل الجمهور حديثه ما لم يخالف
كما صرح الذهبي بذلك في ترجمة مالك بن الخير الزيادي.
288

وقال الذهبي في ترجمة زياد بن مليك (2 / 93): شيخ مستور
ما وثق ولا ضعف، فهو جائز الحديث. ا ط
وقال في ترجمة الربيع بن زياد الهمداني (2 / 40): ما رأيت
لأحد فيه تضعيفا، فهو جائز الحديث. ا ه‍
وتوسع الزركشي فقال في المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج
والمختصر (ص 69):
قال أهل هذا الشأن: إن جهالة الراوي لا توجب قدحا إذا كان
من روى عنه ثقة، فإن روايته عنه تكون تعديلا له. ا ه‍.
والحاصل أن رواية من كان هذا شأنه مقبولة ما لم يخالف أو يأت
بمتن منكر، ولا تجد هنا مخالفة ومتن الحديث ليس فيه نكارة.
فالحديث بهذا الإسناد مقبول، وقد قال الحافظ أحمد بن الصديق
الغماري في المداوي لعلل المناوي (6 / 277 / 1) إسناده نظيف. ا ه‍
وقد صرح ابن تيمية في الرد على الأخنائي (ص 134) أن
الحديث صحيح المعنى، ولكنه تكلم في إسناده باعتبار ما سيأتي إن
شاء الله تعالى.
وللحديث طريق آخر عن الأعمش.
أخرجه العقيلي في الضعفاء (4 / 137)، والبيهقي في حياة
الأنبياء (ص 15)، وفي شعب الإيمان (2 / 218)، والخطيب
في التاريخ (3 / 291، 292)، وابن الجوزي في الموضوعات
(1 / 303)، وغير هم.
289

من طريق محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح
عن أبي هريرة به مرفوعا.
قلت: في إسناده محمد بن مروان السدي متروك الحديث وكذب.
وقال العقيلي في الضعفاء: لا أصل له من حديث الأعمش وليس
بمحفوظ ولا يتابعه إلا من هو دونه. ا ه‍
وقال ابن كثير في " التفسير " (6 / 466): في إسناده نظر تفرد
به محمد بن مروان السدي الصغير وهو متروك. ا ه‍
النظر الذي ذكره ابن كثير هو بالنسبة لهذا الإسناد فقط، فقد
حكم على هذا الحديث بالوضع ابن الجوزي ومن تبعه.
أما بالنظر لما للطريق الذي أخرجه أبو الشيخ في الثواب،
فالحديث جيد الإسناد كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر، واختلف
فيه قول ابن تيمية، فحكم عليه بالوضع في الفتاوى (27 / 241)،
لكن قال: إسناده لين في إحدى رسائله في الزيارة (ص 17) وقال
في الرد على الأخنائي (ص 134): وإن كان معناه صحيحا فإسناده
لا يحتج به.
وأنت خبير أن حكمه بالوضع فبالنظر لإسناد السدي الصغير فقط.
وإن تعجب فاعجب من ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى الذي
ذهب إلى أقصى التشدد، فقال في صارمه: وقد روى بعضهم هذا
الحديث من رواية أبي معاوية عن الأعمش، وهو خطأ فاحش وإنما
محمد بن مروان تفرد به، وهو متروك الحديث متهم بالكذب. ا ه‍
ووجه العجب أنه جعل رواية السدي المتروك المكذب هي المحفوظة
وسواء كان قد وقف على رواية أبي الشيخ أو لم يقف عليها، فإنه
لم يأت بدليل يقيم صلب دعواه، وما كان كذلك فإنه ينهار من
290

أساسه، ثم محمد بن مروان السدي لم يتفرد به كما يشير إليه كلام
العقيلي وكما يعلم من رواية أبي الشيخ الأصبهاني المتقدمة ولعل ابن
عبد الهادي لم يرد أن يخالف شيخه ابن تيمية.
وحاصل ما ذكر أن الحديث جيد الإسناد، ومن حكم على هذا
الحديث بالوضع فلعدم وقوفه على رواية أبي الشيخ. والله أعلم.
32 - حديث: " ما من أحد يسلم على إلا رد الله علي روحي
حتى أرد عليه ".
أخرجه أحمد (2 / 527)، وأبو داود (2 / 293)، والبيهقي
في السنن الكبرى (5 / 245)، وفي حياة الأنبياء (ص 11)،
وفي الشعب (2 / 217)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2 / 353).
جميعهم من طريق أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله
ابن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد يسلم
علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام.
أبو صخر حميد بن زياد قال عنه أحمد وابن معين: لا بأس به،
ووثقه الدارقطني وابن حبان وقال البغوي: مدني صالح الحديث.
وقال ابن عدي: وهو عندي صالح الحديث.
وضعفه يحيى بن معين في رواية وكذا النسائي، ووثقه ابن شاهين،
وذكره الذهبي في جزء من تكلم فيه، وهو موثق (ص 73).
ثم وثقه من اتفق الأئمة على قبول توثيقه والعمل بمقتضاه، فقد
أخرج له مسلم في صحيحه.
فالرجل حسن الحديث على الأقل فلا تلتفت لتشغيب ابن عبد الهادي،
291

فإنه جعل الاختلاف في اسم وكنية الراوي سببا لرد حديثه، ولو كان
الاختلاف في الاسم والكنية سببا لتضعيف الراوي لفتح باب جديد
لتضعيف الرواة، وعند ذلك فللعقلاء أن يقولوا: رحمة الله على
الحديث وعلومه، فكم من راو اختلف في اسمه وكنيته، وهو ثقة،
وكم من راو اتفق على اسمه وكنيته وهو ضعيف.
والحاصل أن حميد بن زياد حسن الحديث.
أما يزيد بن عبد الله بن قسيط فقد احتج به الجماعة ووثقه النسائي
وابن حبان وابن عبد البر وغيرهم، وقال ابن معين: لا بأس به.
فالحديث حسن بهذا الإسناد. والله أعلم.
33 - أخرج الحاكم في المستدرك (2 / 595) من طريق محمد بن
إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عطاء مولى أم حبيبة قال:
سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ليهبطن عيسى بن مريم
حكما عدلا لم إماما مقسطا، وليسلكن فجا حاجا أو معتمرا أو بنيتهما،
وليأتين قبري حتى يسلم علي ولأردن عليه ".
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه
السياقة وسلمه الذهبي.
وللحديث أوجه أخر ورجح هذا الوجه أبو زرعة الرازي في العلل
(رقم 2747)، ولا يضر هنا عدم تصريح محمد بن إسحاق بالسماع.
34 - حديث: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد
الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا ".
292

حديث صحيح له طرق متعددة عن أبي سعيد الخدري، وأبي
هريرة، وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن
العاص وعلي بن أبي طالب، وأبي الجعد الضمري وواثلة بن
الأسقع، والمقدام بن معدي كرب وأبي أمامة وعمر بن الخطاب
رضي الله عنهم.
أما حديث أبي سعيد الخدري، فأخرجه البخاري (3 / 63)،
ومسلم (2 / 976)، والترمذي (8 / 142)، وقال: حسن
صحيح، وابن ماجة (1 / 452)، وأحمد (3 / 34، 45، 51)،
وأبو يعلى (2 / 338)، والحميدي (2 / 330)، وابن أبي شيبة
في المصنف (4 / 272)، وابن حبان في صحيحه (3 / 71)،
والطحاوي في مشكل الآثار (1 / 242)، والبيهقي في السنن
الكبرى (10 / 82)، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان
(2 / 221)، وأبو نعيم في ذكر أخبار أصبهان (1 / 85)،
والطبراني في المعجم الأوسط (3 / 103)، والخطيب في تاريخ
بغداد (11 / 195)، والواسطي في فضائل بيت المقدس (ص 6)
والبغوي في شرح السنة (2 / 336).
وغيرهم من طرق عن قزعة بن يحيى عن أبي سعيد الخدري به
مرفوعا.
ولفظ البخاري وغيره:
" لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا
صوم في يومين: الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى
293

تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب، ولا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي هذا ".
وله طريق ثان عن أبي سعيد الخدري أخرجه أحمد في المسند (3 / 53)،
وابن الجوزي في فضائل القدس (ص 96) من طريق مجالد بن
سعيد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا.
مجالد بن سعيد وأبو الوداك هو جبر بن نوف فيهما مقال
وحديثهما يصلح للاستشهاد به على الأقل.
وطريق ثالث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (2 / ل 2 / 2)
من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري.
وعطية العوفي سبق تفصيل الكلام عليه عند الكلام على حديث
: " اللهم إني أسألك بحق السائلين ".
وطريق رابع أخرجه عبد حميد في المنتخب من المسند (رقم 949
ص 180)، وتمام في فوائده (الروض البسام: 1 / 300).
من طريق أبي هارون عمارة بن جوين العبدي عن أبي سعيد
الخدري مرفوعا به.
وعمارة بن جوين شديد الضعف، وقال عنه الحافظ في التقريب:
متروك.
وأخرج بعضه من هذا الطريق أبو يعلى الموصلي في مسنده
(2 / 372).
وطريق خامس أخرجه أحمد في المسند (3 / 71) عن عكرمة
مولى زياد عن أبي سعيد الخدري مرفوعا به.
294

وطريق سادس فيه أخذ ورد أخرجه أحمد (3 / 64، 93)، وأبو
يعلى في مسنده (2 / 489) من طريق ليث وعبد الحميد بن بهرام
عن شهر بن حوشب قال: أقبلت أنا ورجال من عمرة فمررنا بأبي
سعيد الخدري، فدخلنا عليه فقال: أين تريدون؟ قلت: نريد
الطور، قال: وما الطور؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا
تشد رحال المطي إلى مسجد يذكر الله فيه إلا إلى ثلاثة مساجد:
مسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبيت المقدس... " الحديث.
فزاد شهر بن حوشب زيادة هي: إلى مسجد يذكر الله فيه أو إلى
مسجد ينبغي فيه الصلاة.
ومثل هذه الزيادة محل أخذ ورد بين المحدثين ومحدثي الفقهاء
والفقهاء.
وممن قال بقبولها الحافظ ابن حجر، فقال في الفتح (3 / 65):
ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت
أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور، فقال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة
غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي ".
وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف. ا ه‍.
فهذا قول شيخ الفن وعلمه المفرد فانظره أيها المتبصر في اعتماد
رواية شهر بن حوشب في شرح المراد من الحديث.
فانفراد شهر بن حوشب بهذه اللفظة لا يعني سقوطها وردها،
فالرجل حسن الحديث، كما صرح الحافظ وقبله عدد من الحفاظ،
295

ومال إلى هذا الحافظ ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم (ص 122)،
وقال الحافظ الذهبي في سير النبلاء (4 / 378): " والاحتجاج به
مترجح ".
وأودعه - الذهبي أيضا - في جزء من تكلم فيه وهو موثق (ص
100).
فإن تشددت غاية التشدد، فإن هذه اللفظة التي انفرد بها شهر بن
حوشب هي من قبيل الرواية بالمعنى وتفسير للحديث من أحد كبار
علماء التابعين.
* تنبيه:
حاول الألباني أن يسقط اللفظة التي انفرد بها شهر بن حوشب
بالكلية، فقال في إروائه (3 / 230):
قوله: " إلى مسجد " زيادة في الحديث لا أصل لها في شئ من
طرق الحديث عن أبي سعيد ولا عن غيره فهي منكرة بل باطلة،
والآفة إما من شهر، فإنه سئ الحفظ، وإما من عبد الحميد وهو
ابن بهرام، فإن فيه كلاما، وهذا هو الأقرب عندي، فقد رواه ليث
عن شهر بدون الزيادة. ا ه‍.
قلت كلامه فيه نظر:
1 - فإن ما انفرد به شهر أو زاده على غيره لا يصح أن يقال له لا
أصل له، ثم إطلاق البطلان على زيادته، والآفة من شهر، نعم لا
يصح أن يقال ذلك أيضا، فإن شهرا ما خالف مالكا وشعبة وسفيان
وأمثالهم، وما خالف أمرا معلوما مقطوعا به.
ثم حديث الرجل يدور بين الحسن إما احتجاجا أو استشهادا فلا
296

يكون مثله آفة أبدا.
على أن هذه اللفظة التي انفرد بها شهر يقبلها جمع من الفقهاء
ومحدثيهم.
2 - قوله: وإما من عبد الحميد وهو ابن بهرام، فإن فيه كلاما.
ا ه‍.
قلت: نعم عبد الحميد بن بهرام فيه كلام لكن حديثه عن شهر بن
حوشب مقبول كما نص على ذلك عدد من الحفاظ.
قال أحمد: أحاديثه عن شهر مقاربة، وقال ابن أبي حاتم عن
أبيه: هو في شهر كالليث في سعيد المقبري قلت: ما تقول فيه؟
قال: ليس به بأس أحاديثه عن شهر صحاح لا أعلم روى عن شهر
أحاديث أحسن منها.
وقال أحمد بن صالح المصري: عبد الحميد بن بهرام ثقة يعجبني
حديثه أحاديثه عن شهر صحيحه.
وعلى ذلك فالناقد المتيقظ لا يضعف حديثا عن شهر بن حوشب
رواه عنه عبد الحميد بن بهرام، ومن فعل ذلك علمت أنه أوتى من
قلة اطلاع أو تعصب.
3 - قوله: فقد رواه ليث عن شهر بدون الزيادة. ا ه‍
قلت: بل رواه بالزيادة المذكورة ليث عن شهر بن حوشب بطريق
صحيح في مسند أبي يعلى الموصلي (2 / 489)، وكان الأولى
بالألباني إبقاء الاحتمال والتعلق به بدلا من القطع والله أعلم.
297

وفي هذا القدر كفاية لمن كان من أهل العناية.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري (الفتح 3 / 63)،
ومسلم (2 / 1014)، وعبد الرزاق في المصنف (5 / 132)،
والحميدي في مسنده (2 / 421)، وأحمد في مسنده (2 / 234،
238، 501)، والدارمي (1 / 272)، وأبو داود (2 / 528)،
والنسائي (2 / 37)، وابن ماجة (1 / 452)، وأبو يعلى
(9 / 283)، والبيهقي في السنن الكبرى (5 / 244)، والخطيب
في التاريخ (9 / 222)، والبغوي في شرح السنة (2 / 337).
جميعهم من طرق متعددة عن أبي هريرة.
وله رواية منكرة عن أبي هريرة أخرجها الطبراني في الأوسط (2 /
ل 1 / أ) من طريق خثيم بن مروان عن أبي هريرة قال: قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد
الخيف ومسجد الحرام ومسجدي هذا ".
قال الطبراني: لم يذكر مسجد الخيف في شد الرحال إلا في هذا
الحديث. ا ه‍. قلت: فيه ضعف وانقطاع.
قال البخاري في التاريخ الكبير (3 / 210): لا يتابع في مسجد
الخيف ولا يعرف لخثيم سماع من أبي هريرة. ا ه‍.
وخثيم بن مروان ذكره ابن الجارود في الضعفاء وقال العقيلي: لا
يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به ووثقه ابن حبان، والحاصل أن هذه
اللفظة: مسجد الخيف منكرة تفرد بها خثيم وهو ضعيف، ولم
يسمع عن أبي هريرة.
298

وأما حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فأخرجه
أحمد (3 / 350)، والنسائي في السنن الكبرى (تحفة 2 / 341)
وعبد بن حميد في المنتخب من المسند (رقم 1097، ص 197)،
وأبو يعلى في مسنده (4 / 182 - 183)، وابن حبان في صحيحه
(4 / 495)، والطبراني في الأوسط (1 / 415)، والحضرمي في
تاريخ علماء مصر (ص 107)، وقاسم بن قطلوبغا في عوالي
الليث (رقم 35).
جميعهم من طرق عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر به
مرفوعا.
وقال الطبراني في المعجم الأوسط: لم يرو هذا الحديث عن
الليث إلا العلاء بن موسى. ا ه‍.
وفيه نظر.
فقد تابع العلاء بن موسى في المسند يونس بن محمد المؤدب،
وقتيبة بن سعيد في السنن الكبرى، وعيسى بن يونس في صحيح ابن
حبان، وأحمد بن يونس في المنتخب من مسند عبد بن حميد،
والحضرمي في تاريخ مصر، وكامل الجحدري في مسند أبي يعلى.
فالإسناد صحيح سواء انفرد به العلاء بن موسى أو تابعه غيره.
ولم ينفرد به الليث بن سعد عن أبي الزبير.
فقد رواه عن أبي الزبير - فيما علمت - اثنان:
أولهما: ابن لهيعة أخرج هذه المتابعة أحمد في المسند (3 / 336)
299

قال: ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو الزبير عن جابر قال: قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد
إبراهيم عليه السلام ومسجدي ".
حسن هو ابن موسى الأشيب ثقة احتج به الجماعة.
وعبد الله بن لهيعة مدلس كان قد اختلط بعد احتراق كتبه وقد
صرح بالسماع.
وثانيهما: ما أخرجه البزار (كشف الأستار: 2 / 4)،
والطحاوي في مشكل الآثار (1 / 241) كلاهما من طريق عبد العزيز
ابن عبد الله الأويسي المدني عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن
موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد إبراهيم عليه السلام ومسجد
محمد صلى الله عليه وسلم "، وهذا الإسناد صحيح.
وعبد الرحمن بن أبي الزناد من تكلم فيه ففي حديث غير المدنيين
عنه فقط، والراوي عنه مدني ثقة.
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فأخرجه ابن حبان في
الثقات (8 / 459)، والطبراني في مسند الشاميين (رقم 1538)،
والعقيلي في الضعفاء (3 / 256)، والضياء المقدسي في فضائل
بيت المقدس (رقم 5).
جميعهم من طرق متعددة عن علي بن يونس البلخي العابد عن
هشام بن الغاز، عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تشد المطايا إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي هذا
والمسجد الأقصى ".
300

وعلي بن يونس البلخي ذكره العقيلي في الضعفاء (3 / 256)
وقال:
لا يتابع على حديثه وسكت عنه ابن أبي حاتم ووثقه ابن حبان
وروى عن جماعة.
واعتمد الهيثمي توثيق ابن حبان لعلي بن يونس فقال في المجمع
(4 / 4): رجاله ثقات. ا ه‍.
وله طريق آخر عن ابن عمر مرفوعا بلفظ:
" لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد
المدينة، ومسجد بيت المقدس ".
وشيخ الطبراني فيه هو أحمد بن محمد بن رشدين فيه مقال
مشهور، وبالغ بعضهم فيه فكذبه.
لكن الحديث جاء موقوفا عن ابن عمر من طرق أنظف من
الطريقين المذكورين بكثير.
فقد أخرج البخاري في التاريخ الكبير (7 / 204)، وعبد الرزاق
(5 / 135)، وابن أبي شيبة (2 / 373). وعمر بن شبه في
أخبار المدينة (كما في الصارم المنكى ص 342).
من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طلق بن حبيب
عن قزعة قال: سألت ابن عمر آتى الطور؟ قال: دع الطور ولا
تأتها وقال: لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.
وهذا الإسناد صحيح لا علة فيه.
301

وقد تابع ورقاء بن عمر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أخرج
هذه المتابعة البيهقي في شعب الإيمان (8 / 106).
وتابعه أيضا ابن جريج، أخرج هذه المتابعة الفاكهي في أخبار مكة
(2 / 94)، وعبد الرزاق في المصنف (5 / 131).
وقد خالف أصحاب ابن عيينة وهم جمع من الثقات الحفاظ أحمد
ابن محمد الأزرقي، فرواه عن ابن عمر مرفوعا كما في أخبار مكة
لحفيده (2 / 64 - 65).
فرواية الأزرقي شاذة لمخالفتها لجمع من الثقات.
وعليه فتصحيح الألباني لهذه الرواية الشاذة في أحكام الجنائز (ص
287) خطأ ظاهر.
وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
فأخرجه ابن ماجة (1 / 452)، والطحاوي في مشكل الآثار
(1 / 242)، والطبراني في مسند الشاميين (2 / 309)،
والفاكهي في أخبار مكة (2 / 99)، ويعقوب بن سفيان الفسوي
(2 / 295).
جميعهم من طريق يزيد بن أبي مريم، عن قزعة بن يحيى، عن
عبد الله بن عمرو به مرفوعا وهذا إسناد صحيح.
ووقع عند ابن ماجة والطحاوي والطبراني في مسند
الشاميين عبد الله بن عمرو مقرونا بأبي سعيد الخدري.
وأما حديث علي بن أبي طالب
فأخرجه الطبراني في الأوسط (8 / ل 210 / 2)، والصغير
302

(1 / 173)، ومن طريقه الضياء المقدسي في فضائل بيت المقدس
(رقم 6).
قال الطبراني في المعجم الصغير: حدثنا سلمة بن إبراهيم بن
إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي، حدثني
أبي عن أبيه عن جده سلمة بن كهيل الحضرمي عن حجية بن عدي
عن علي به مرفوعا.
قال الطبراني: لم يروه عن سلمة إلا ابنه يحيى تفرد به ولده عنه.
وأشار لهذه الغرابة الضياء المقدسي.
وهذا الإسناد شديد الضعف، فإبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن
سلمة ضعيف وأبوه وجده متروكان.
واقتصر الهيثمي في المجمع (4 / 3، 4) على إعلاله بالأول فقط
فقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه إبراهيم بن إسماعيل
ابن يحيى الكهيلي وهو ضعيف. ا ه‍
ومتن الحديث معروف من حديث أبي سعيد الخدري كما تقدم.
وأما حديث أبي الجعد الضمري فأخرجه البزار (كشف الأستار
2 / 4)، والطحاوي في مشكل الآثار (1 / 244)، والطبراني في
المعجم الكبير (22 / 366)، والضياء المقدسي في فضائل بيت
المقدس (رقم 5).
جميعهم عن سعيد بن عمرو، ثنا عبثر، عن محمد بن عمرو
عن عبيدة بن سفيان، عن أبي الجعد الضمري به مرفوعا.
رجاله ثقات رجال الصحيح.
303

وقد قال الهيثمي في المجمع (4 / 4): رواه الطبراني في الكبير
والأوسط ورجاله رجال الصحيح ورواه البزار أيضا. ا ه‍.
وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه الضياء المقدسي في فضائل
بيت المقدس (رقم 7) من طريق أيوب بن مدرك الحنفي عن
مكحول عن واثلة بن الأسقع به.
وقال الضياء المقدسي: لا أعلم أني كتبته من حديث واثلة إلا من
هذا الوجه من رواية أيوب بن مدرك وهو من المتكلمين فيه. ا ه‍.
وأيوب بن مدرك قال عنه ابن معين: ليس بشئ.
وقال مرة: كذاب، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك.
ومع ضعف أيوب بن مدرك، ففي الإسناد انقطاع، فإن أيوب بن
مدرك عن مكحول مرسل (التاريخ الكبير: 1 / 423).
فهذا الإسناد من قسم الواهيات.
وأما حديث المقدام بن معدي كرب وأبي أمامة رضي الله عنهما
فأخرجه أبو نعيم الأصبهاني في الحلية (9 / 308).
حدثنا سليمان، ثنا موسى، ثنا محمد بن المبارك، ثنا إسماعيل
ابن عياش، عن زيد بن زرعة عن شريح بن عبيد عن المقدام بن
معدي كرب وأبي أمامة به مرفوعا.
في هذا الإسناد ضعف وانقطاع.
أما الضعف فبسبب موسى وهو ابن عيسى بن المنذر هكذا وقع في
ترجمة محمد بن المبارك الحمصي في حلية الأولياء مرارا.
304

وموسى بن عيسى قال عنه الحافظ في اللسان (6 / 126 - 127):
روى عنه الطبراني وهو من قدماء شيوخه سمع منه قبل الثمانين
ومائتين وكتب النسائي عنه فقال: حمصي لا أحدث عنه شيئا ليس
هو شيئا. ا ه‍.
قلت: وقع سماعه في المعجم الصغير (2 / 109)، سنة ثمان
وسبعين ومائتين.
وأما الانقطاع فإن شريحا لم يدرك أبا أمامة ولا المقدام.
قال ابن أبي حاتم الرازي سمعت أبي يقول: شريح بن عبيد
الحضرمي لم يدرك أبا أمامة ولا الحارث بن الحارث ولا المقدام.
ا ه‍ (المراسيل ص 90).
وأما حديث عمر بن الخطاب فأخرجه البزار في مسنده البحر
الزخار (1 / 291 - 292).
قال: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن قال: نا حبان بن هلال
وأملاه علينا من كتابه عن همام عن قتادة عن أبي العالية عن ابن
عباس عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام،
ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى ".
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا
الوجه من هذا الإسناد وهو خطأ أتى خطؤه من حبان لأن هذا
الحديث إنما يرويه همام وغيره عن قتادة عن قزعة عن أبي سعيد. ا ه‍.
وقال الهيثمي في المجمع (4 / 4):
305

رواه البزار ورجاله رجال الصحيح إلا أن البزار قال: أخطأ فيه
حبان بن هلال. ا ه‍.
وحبان بن هلال (بفتح الحاء) ثقة ثبت متفق عليه لكنه خالف
أصحاب همام فجعله من مسند عمر بن الخطاب والصواب أنه من
مسند أبي سعيد الخدري كما تقدم.
وهكذا رواه أصحاب قتادة من وجوه.
* * *
نجز الكتاب بحمد الله تعالى، وصلى الله وسلم وبارك على
سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق،
والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله وصحبه في كل لمحة
ونفس بعدد كل معلوم لك.
وكتب
محمود سعيد بن محمد ممدوح
عفا الله عنه
* * *
306