الكتاب: إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي (ص)
المؤلف: الحافظ ابن الصديق المغربي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: تقديم وتعليق : حسن بن علي السقاف
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٢ - ١٩٩٢ م
المطبعة:
الناشر: دار الإمام النووي - عمان - الأردن
ردمك:
ملاحظات: ويليه الرد على الألباني المسمى ببيان نكث الناكث المعتدي بتضعيف الحارث لمحدث المغرب السيد عبد العزيز الغماري الحسني

إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي
للإمام المحدث الأصولي الشريف
عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني
ويليه الرد على الألباني المسمى
ببيان نكث الناكث المعتدي بتضعيف الحارث
لمحدث المغرب السيد عبد العزيز الغماري الحسني
قدم لهما وعلق عليهما حسن بن علي السقاف
1

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الثانية
1412 ه‍ - 1992 م
دار الإمام النووي
الأردن / عمان ص. ب 925393
2

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي اختص سيدنا محمدا بالرسالة واجتباه، فتوسلنا واستغثنا به إلى
من اختاره واصطفاه، وجعله أفضل الخلق بالكمال، بما جمله به من الجلال
والجمال، واختاره وبعثه ليظهر كلمة الحق بعد أن مد الضلال رواقه، فلم يزل
بإعزاز الشرع قائما، ولساعات زمانه في طلب رضا الله قاسما، لا ينحرف عن
مقاصد الصواب ولا يميل، ولا يخلي مطايا جده في تقوية الدين مما تابع فيه الرسيم
والذميل، إلى أن أزال عن القلوب صدأ الشكوك وجلا، وأجلى مسعاه عن كل ما
أودع نفوس أحلاف الباطل والحاقدين وجلا، ومضى وقد أضاء للإيمان هلال أمن
سراره، ورضي لإبادة الشرك حساما لا ينبو قط غراره، فصلى الله عليه وعلى آله
الطاهرين، ورضي عن صحابته المنتخبين، صلاة يتصل الأصيل فيها بالغدو،
ونرى قيمتها في الأجر وافية العلو.
أما بعد:
فالتوسل والاستغاثة والتشفع بسيد الأنام، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
مصباح الظلام، من الأمور المندوبات المؤكدات، وخصوصا عند المدلهمات،
وعلى ذلك سار العلماء العاملون، والأولياء العابدون، والسادة المحدثون، والأئمة
السالفون، كما قال السبكي فيما نقل عند صاحب فيض القدير (2 / 135):
ويحسن التوسل والاستعانة (1) والتشفع بالنبي إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف
ولا من الخلف... أه‍.
حتى نص السادة الحنابلة في مصنفاتهم الفقهية عل استحباب التوسل بسيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلوا ذلك عن الإمام أحمد أنه استحبه كما في كتاب
الإنصاف فيما ترجح من الخلاف (2 / 456) وغيره ونقل ابن كثير في البداية
(14 / 45) أن ابن تيمية أقر أخيرا في المجلس الذي عقده له العلماء العاملون الربانيون

(1) وقد تصحفت وصوابها الاستغاثة أه‍
3

المجاهدون بالتوسل وأصر على إنكار الاستغاثة. مع أنه يقول في رسالة خاصة له في
الاستغاثة بجوازها بالنبي فيما يقدر عليه المخلوق.
واعتمد الإمام الحافظ النووي استحباب التوسل والاستغاثة في مصنفاته كما في
حاشية الايضاح على المناسك له (ص 450) و (ص 498) من طبعة أخرى وفي
شرح المهذب المجموع (8 / 274) وفي الأذكار (ص 307) من طبعة دار الفكر في
كتاب أذكار الحج وص (184) من طبعة المكتبة العلمية وهو مذهب الشافعية
وغيرهم من الأئمة المرضيين المجمع على جلالتهم وثقتهم وإني أود أن أسرد بعض
الأدلة من الأحاديث الصحيحة الثابتة عند علماء المسلمين وأئمة الحفاظ والمحدثين،
والتي لم تضرها محاولة تلاعب المتلاعبين في الطعن في أسانيدها، وغير ذلك من
طرق التلاعب والتدليس التي بينتها ومثلت عليها في بهجة الناظر في الفصل الرابع.
ولا يعرف الحق كما هو معلوم بالجعجعة وكثرة الكلام ونفخ الكتب بتكثير عدد
الصفحات وإنما يعرف الحق بالبراهين العلمية، والأدلة الواضحة الجلية، وإن
كانت قليلة العبارات، فهي كثرة التعبيرات والإشارات، وقد أرشد إلى ذلك
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (أوتيت جوامع الكلم واختصر لي
الكلام اختصارا).
وإني ابدأ بعرض بعض أدلة التوسل ثم أردفها بأدلة الاستغاثة المندوبة التي
أرشدت إليها السنة الغراء فأقول:
أدلة التوسل:
(1) حديث الشفاعة المتواتر والمروي في الصحيحين وغيرهما من أن الناس
يتوسلون بسيد الأنام عند اشتداد الأمر عليهم يوم القيامة ويستغيثون به ولو كان
التوسل والاستغاثة من الكفر والشرك لم يشفع النبي للناس يؤمئذ ولا يأذن الله له
بالشفاعة للمشركين والكفار على زعم من يكفر عباد الله بالآلاف، ويحاول تهييج
العامة والسذج على من أظهر كفر من قال بقدم العالم المجمع على كفر قائله
ومعتقده، وأيضا لو كان التوسل شركا أو كفرا لبينه سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم عندما أخبر أصحابه بحديث الشفاعة. فلما لم يكن كفرا بنص
4

الأحاديث المتواترة كان امرأ مندوبا إليه في الدنيا والآخرة لأن العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب، ومن قال إن التوسل والاستغاثة كفر في الدنيا ليس كفرا في
الآخرة قلنا له: إن الكفر كفر سواء كان في الدنيا أو في الآخرة. قبل موته صلى الله
عليه وسلم وبعد موته لا فرق. وإن ادعيت الفرق فأت لنا بدليل شرعي مخصص
مقبول معتبر.
(2) حديث سيدنا عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال:
(إن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافيني فقال:
إن شئت دعوت وإن شئت صبرت وهو خير قال فادعه. فأمره أن يتوضأ
ويحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد
نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى اللهم شفعه في. قال
سيدنا عثمان: فعاد وقد أبصر).
رواه الترمذي والنسائي والطبراني والحاكم وأقره الذهبي والبيهقي بالأسانيد
الصحيحة. وللحديث تتمة صحيحة تأتي في (إرغام المبتدع الغبي).
(3) حديث سيدنا علي رضي الله عنه وكرم وجهه:
أن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن فاطمة بنت أسد أم سيدنا علي رضي
الله عنهما قال: اللهم بحقي وحق الأنبياء من قبلي اغفر لأمي بعد أمي " رواه الطبراني
والحاكم مختصرا وابن حبان وغيرهم وفي إسناده روح بن صلاح قال الحاكم ثقة
وضعفه بعضهم والحديث صحيح.
(4) وروى الإمام البخاري في صحيحه:
" أن سيدنا عمر رضي الله عنه استسقى عام الرمادة بالعباس عم النبي صلى الله
عليه وسلم ومن قوله توسلا به: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه
وسلم وإنا نتوسل إليك بعم نبينا قال فيسقون.
وفي الحديث إثبات التوسل به صلى الله عليه وسلم وبيان جواز التوسل بغيره
كالصالحين من آل البيت ومن غيرهم. كما قال الحافظ في فتح الباري (2 / 497)
5

وأما أدلة الاستغاثة:
(1) فما روى البخاري في صحيحه وغيره من حديث سيدنا عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما في حديث الشفاعة بلفظ:
(أن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينا هم كذلك
استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع ليقضي بين الخلق
فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع
كلهم).
وهذا صريح في الاستغاثة وهي عامة في جميع الأحوال، مع لفت النظر أنه صلى
الله عليه وسلم حي في قبره يبلغه سلام من يسلم عليه وكلام من يستغيث به لأن
الأعمال تعرض عليه كما صح فيدعو الله لأصحاب الحاجات.
(2) روى الإمام أحمد بسند حسن كما قال الإمام الحافظ ابن حجر في الفتح
(8 / 579) عن الحارث بن حسان البكري رضي الله عنه قال:
خرجت أنا والعلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم...
الحديث وفيه - فقلت - أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد، قال - أي
سيدنا رسول الله - وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث ولكنه يستطعمه...
الحديث.
وقد استغاث الرجل بالله وبرسوله ولم يكفره سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقد خالف الألباني ذلك فكفر كل مستغيث به صلى الله عليه وسلم كما في
توسله ص 7 الطبعة الثانية وقلده في هذه البدعة أصحابه والمتعصبين له وأنكروا على
من كفر من العلماء مثبت قدم العالم نوعا ومن قال بالحد والجهة والاستقرار وغير
ذلك من طامات نسأل الله لهم الهداية وأن يردهم إلى دينه وإلى الحق ردا جميلا. وأن
يخلصهم من أهوائهم وعنادهم الذي بنوه على سوء فهم كبيرهم الذي علمهم
السحر أو فساد قصده وقد يجتمعان.
(3) قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعمى الصحيح عندما علم الرجل
أن يقول: (يا محمد إني أتوجه بك إلى الله). في كل زمان ومكان.
6

وهذه استغاثة صريحة، وقد اعتمدها العلماء المحدثون والحفاظ في كتب السنة
في صلاة الحاجة حاثين الأمة عليها.
(4) جاء في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قص على أصحابه قصة
السيدة هاجر هي وابنها في مكة قبل أن تبنى الكعبة بعد أن تركهما سيدنا إبراهيم
عليه الصلاة والسلام وفي ما قصه أنها لما سمعت صوتا عند الطفل قالت: " إن كنت
ذا غوث فأغث " فاستغاثت فإذا بجبريل عليه السلام فغمز الأرض بعقبه فخرجت
زمزم.
ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أنها كفرت كما يزعم الألباني ولم ينبه أن تلك
الاستغاثة منها كفر البتة. وهي تعلم أن صاحب الصوت لن يكون رب العالمين
المنزه عن الزمان والمكان.
وهناك أدلة كثيرة بجواز التوسل والاستغاثة وندبهما أفردتها برسالة خاصة أسميتها
(الإغاثة بأدلة الاستغاثة) وقد اقتصرت هنا على بعضها وفيها بيان لمن ألقى السمع
وهو شهيد هذا إذا كان قلبه نظيفا لا يحب رمى عباد الله بالشرك بمجرد مخالفتهم
لمزاجه وأراد اقتفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأختم الاستدلال ببيان مسألة هامة
جدا وهي استدلال أخير على التوسل والاستغاثة من أحد الصحابة بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم وإقرار الباقين من الصحابة له وعلى رأسهم سيدنا عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وهو ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري
(2 / 495) حيث قال: روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح (وصححه أيضا ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 92 من طريق البيهقي) عن أبي صالح السمان عن
مالك الدار وكان خازن عمر قال: أصاب الناس قحط شديد في زمن عمر فجاء
رجل إلي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد
هلكوا فأتي الرجل في المنام فقيل له ائت عمر واقرئه السلام وأخبره أنهم يسقون
إسناده صحيح وقد ضعف هذا الأثر الصحيح الألباني بحجج أوهى من بيت
العنكبوت في توسله ص (119 - 121) وزعم أن مالك الدار مجهول. ونقل
ترجمته من كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم فقط ليوهم قراءه أنه لم يرو عنه إلا
رجل واحد وهو أبو صالح السمان، وقد تقرر عند الألباني بما ينقله عن بعض
العلماء من غير المتفق عليه أن الرجل يبقى مجهولا حتى يروي عنه اثنان فأكثر. ثم
7

قال لينصر هواه إن المنذري والهيثمي لم يعرفا مالك الدار فهو مجهول ولا يصح
السند لوجود مجهول فيه ثم تبجح قائلا: وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه
الصناعة. ونحن نقول له بل هذا تدليس وغش وخيانة لا يدريه إلا من امتلأ قلبه
حقدا وعداء على السنة والتوحيد وأهلهما. وقد تبعه على هذا الغش والتدليس وزاد
عليه أحد الأغبياء المتعصبين اللاهثين وراء بريق الدراهم في كتاب له ملأه من هذه
البضاعة. تخيل فيه أنه رد التوسل وهيهات وهو لم يقرأ العلوم وخاصة ملحة
الأعراب على أحد ولم يكن له في حياته أستاذ يهذب أو شيخ يدرب إلا التلقي من
صفحات دفاتر هذا الألباني. ونقول في بيان نسف ما قاله الألباني من جهالة مالك
الدار:
إذا صرح المنذري والهيثمي بأنهما لا يعرفانه فنقول للباحث عن الحق إذن لم
يصرحا بتوثيق له أو تجريح لأنهما لا يعرفانه. لكن هناك من يعرفه وهم ابن سعد
والبخاري وعلى ابن المديني وابن حبان والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهم.
فهل يا الباني ينقل كلام من عرفه أم كلام من جهله؟!!. العجيب أن الألباني
يحبذ كلام من جهل حاله ويختاره ويفضله على كلام من علم حاله الذي يستره
الألباني ولا يحب أن يطلع عليه أحد. وما سأنقله من أقوال الأئمة الحفاظ الذين عرفوه في توثيقه كاف في إثبات ما يقوله السيد عبد الله الغماري وغيره من المحدثين
والمشتغلين في علم الحديث من أن الألباني يعرف الصواب في كثير من الأمور لكنه
غاش مدلس خائن مضلل لا يؤتمن على حديث واحد. وقد صرح بذلك كثير من
أهل العلم كالسيد أحمد الغماري والسيد عبد الله والسيد عبد العزيز المحدثون
والشيخ عبد الفتاح أبو غدة والمحدث حبيب الرحمن الأعظمي محدث الهند
والباكستان والشيخ إسماعيل الأنصاري والشيخ محمد عوامة والشيخ محمود سعيد
والشيخ شعيب الأرناؤوط وغيرهم عشرات من أهل هذا الفن والمشتغلين به. فأهل
الحديث شهدوا بأن هذا الرجل لا يعتمد كلامه في التصحيح والتضعيف لأنه
يصحح ويضعف حسب الهوى والمزاج وليس حسب القواعد العلمية ومن تتبع
أقواله وما يكتبه تحقق ذلك.
ويكفيني أن أقول في مالك الدار إن ابن سعد قال في الطبقات (5 / 12): مالك
الدار مولى عمر بن الخطاب روى عن أبي بكر وعمر ثم قال وكان معروفا.
8

وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمته ترجمة رقم (8356):
له إدراك أي أنه معدود من الصحابة ويكفيه في ذلك توثيقا ثم ذكر أنه روى عنه
أربعة رجال وهم أبو صالح السمان وابناه عون و عبد الله ابنا مالك و عبد الرحمن بن
سعيد بن يربوع المخزومي. ثم قال: قال علي بن المديني: كان مالك الدار خازنا
لعمر أه‍ بمعناه ملخصا.
وبذلك نعلم أن سيدنا عمر وسيدنا عثمان قد وثقاه إذ قد ولياه بيت مال
المسلمين وفي ذلك أقوى توثيق له أيضا.
- وقد نقل الحافظ الخليلي في كتابه الإرشاد (/) الاتفاق عل توثيق مالك
الدار فقال هناك: " متفق عليه أثنى عليه التابعون ".
فقد ذهب كلام الألباني هباء وللموضوع توسع في رسالة لنا خاصة أسميناها
بالباهر. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
حسن بن علي السقاف
9

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.
وبعد،
فإن الشيخ الألباني سامحه الله تعالى صاحب غرض وهوى، إذا رأى حديثا أو
أثرا لا يوافق هواه فإنه يسعى في تضعيفه بأسلوب فيه تدليس وغش (1)، ليوهم
قراءه أنه مصيب، مع أنه مخطئ بل خاطئ غاش، وبأسلوبه هذا ضلل كثيرا من
أصحابه الذين يثقون به ويظنون أنه على صواب، والواقع خلاف ذلك.
ومن المخدوعين به من يدعى حمدي السلفي (2) الذي يحقق المعجم الكبير، فقد
أقدم بجرأة على تضعيف أثر صحيح لم يوافق هواه كما لم يرافق هوى شيخه (3) وكان
كلامه في تضعيفه هو كلام شيخه نفسه.
فأردت أن أرد الحق إلى نصابه، ببيان بطلان كلام الخادع والمخدوع به، وعلى
الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي.
روى الطبراني في المعجم الكبير (9 / 17) من طريق ابن وهب عن شبيب عن
روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن

(1) كما ضعف الأثر الصحيح الذي قال عنه ابن حجر العسقلاني في الفتح (2 / 495): روى ابن أبي
شيبة بإسناد صحيح عن أبي صالح عن مالك الدار وكان خازن عمر قال: (أصاب الناس
قحط شديد في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق
لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له ائت عمر واقرئه السلام وأخبرهم أنهم يسقون)
ضعفه الألباني بجهالة مالك الدار مع أنه ثقة بإجماع الصحابة وغيرهم زمن سيدنا عمر وسيدنا عثمان
رضي الله عنهما ولم يجرحه أحد البتة وغير ذلك مما بسطناه في غير هذا الموضوع فهذا الأثر صحيح وقد
ضعفه الألباني لأنه مخالف لهواه بحجج واهية غير مقبولة حسب الموازين العلمية، فتأمل.
(2) وقد أساء هذا المقلد غاية الإساءة في ترجمة الحافظ أحمد الغماري في مقدمة تعليقاته على (فتح الوهاب بتخريج أحاديث الشهاب) فاتهمه وبهته بما هو برئ منه.
(3) مع أنه من المعلوم لا يجوز التصحيح والتضعيف إلا من الحافظ كما هو في كتب المصطلح.
11

عمه عثمان بن حنيف رضي الله عنه: أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي
الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن
حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت
المسجد، فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد
صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد أني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي
حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إلي حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما
قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان
بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة، وقال له ما حاجتك فذكر حاجته، فقضاها
له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك
من حاجة فائتنا.
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا،
ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في. فقال عثمان بن حنيف:
والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضرير
فشكا إليه ذهاب بصره. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو تصبر؟ فقال: يا
رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات) قال عثمان بن
حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به
ضر قط ".
صححه الطبراني، وتعقبه حمدي السلفي بقوله: لا شك في صحة الحديث
المرفوع، وإنما الشك في هذه القصة التي يستدل بها على التوسل المبتدع، وهي
انفرد بها شبيب كما قال الطبراني، وشبيب لا بأس بحديثه، بشرطين أن يكون من
رواية ابنه أحمد عنه، وأن يكون من رواية شبيب عن يونس بن يزيد. والحديث
رواه عن شبيب ابن وهب وولداه إسماعيل وأحمد، وقد تكلم الثقات في رواية ابن
وهب عن شبيب، في شبيب، وابنه إسماعيل لا يعرف، وأحمد وإن روى القصة
عن أبيه إلا أنها ليست من طريق يونس بن يزيد، ثم اختلف فيها على أحمد، ورواه
ابن السني في عمل اليوم والليلة والحاكم من ثلاثة طرق بدون ذكر القصة، ورواه
الحاكم من طريق عون بن عمارة البصري عن روح بن القاسم به، قال أي شيخنا محمد
12

ناصر الدين الألباني: وعون هذا وإن كان ضعيفا فروايته أولى من رواية شبيب
لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي. (4) أ ه‍.
وفي هذا الكلام تدليس وتحريف نبينه فيما يلي.
(أولا):
هذه القصة رواها البيهقي في دلائل النبوة (5) من طريق يعقوب بن سفيان حدثنا

(4) وفي هذا الكلام من الاباني كتمان لتمام ما رواه وذكره الحاكم في المستدرك (1 / 526): والقول فيه
قول شبيب فإنه ثقة مأمون أ ه‍، فكتم الألباني هذا ورمى خصومه بكتم ما فيه عكس مصالحهم كما
يدعى، كما فعل مثلا في مقدمته الجديدة التي أسفرت عن أخلاقه في آداب زفافه الذي خالف فبه
الحدث والاجماع. سهل الله الرد عليه قريبا.
(5) أنظر دلائل النبوة بتحقيق القلعجي (6 / 166 - 168) وقد أورد البهيقي في الدلائل (6 / 167)
القصة أولا من طريق إسماعيل بن شبيب حدثنا أبي عن روح بن القاسم ثم (ص 168) ثم ثني بذكر أن
القصة مروية من طريق أحمد ابن شبيب، وقال: وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سنة أربع
وأربعين. فتكون القصة مروية عند البيهقي في الدلائل من طريق أحمد ابن شبيب عن أبيه عن روح،
وقد صحح الحاكم في المستدرك (1 / 527) هذا السند على شرط البخاري وأقره على ذلك الذهبي،
وهو الموافق لكلام الحافظ في التقريب (2739) طبعة محمد عوامة): لا بأس بحديثه من رواية ابنه
أحمد عنه...
وقول الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري (ص 409): قلت: أخرج البخاري من رواية ابنه عن
يونس أحاديث. ولم يخرج من روايته عن غير يونس ولا من رواية ابن وهب عنه شيئا. أه‍.
أقول: وقول الحافظ: (ولم يخرج من روايته عن غير يونس أحاديث) ليس تصريحا من الحافظ بضعف
رواية شبيب عن غير يونس ولا إشارة كما توهم الألباني واستنبط في (التوسل أنواعه وأحكامه 87
الطبعة الثانية) لوجوه:
1) إنه أراد أن يدفع عن رواية شبيب أي شائبة طعن لأنه ذكر عن ابن عدي أن روايته
عن يونس مستقيمة وقد رويت في البخاري عن يونس وهي المشهود لها بالصحة والاستقامة ولم تقع
عن غيره، فليس في ذلك كله أي طعن إشارة أو تلميحا برواية شبيب غير يونس، وإنما المراد
بيان أقوى رواياته وأكثرها استقامة هي التي وقعت في البخاري. وأما قول الحافظ: (ولا من رواية
ابن وهب عنه شيئا) فمراده أنه لما نقل الطعن في رواية ابن وهب عن شبيب بأن فيها مناكير أراد أن
يبرئ روايته في البخاري من طريق ابن وهب عنه، فلما ذكر الحافظ أن رواية شبيب من طريق ابن
وهب عنه منكرة، ولم ينقل في روايته عن يونس الأيلي طعن اتضح المراد الذي قررناه، والذي
يوافق:
2) ما ذكره الحافظ في التقريب عنه، أنه إذا روي الحديث من طريق ابنه أحمد عنه فهو لا بأس به.
3) إن الحافظ كالحاكم والذهبي حكموا على رواية أحمد بن شبيب عن أبيه عن روح بأنها على شرط
البخاري، ومعنى ذلك أنها صحيحة وهذا الذي يوافق كلام الحافظ، ويبطل ما استنبطه الألباني من
كلام الحافظ في مقدمة فتح الباري فليتأمل.
4) إن الحافظ أيضا صحح هذه القصة، كالمنذري في الترغيب والترهيب (1 / 476) بإقراره
للطبراني، والهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 279) أيضا، وقبلهما الإمام الحافظ الطبراني في معجمه
الصغير (1 / 307 الروض الداني) وغيرهم.
5) إنه لم ينقل الألباني عن حافظ واحد أنه نص على تضعيف القصة مع ملاحظة هؤلاء الحفاظ من
الأئمة الأعلام كالمنذري والهيثمي وغيرهما لم ينصوا على أن هذا بدعة أو شرك، بل ذكروها في أبواب
صلاة الحاجة ناصين على التصحيح مقرين له، غير معقبين عليه بالضعف والنكارة أو الشرك والبدعة
كما فعل الاباني القاصر في هذا العلم.
6) وقد تقرر في علم المصطلح اتفاق الحفاظ على عدم جواز التصحيح والتضعيف لغير الحافظ، ولا
عبرة بقول أمثال الألباني الذين هم ليسوا حفاظا ولم يتلقوا هذا العلم عن أهله، فهل نصغي للأئمة
الحفاظ أهل هذا الشأن أم إلى الألباني الذي ظهر خطله؟ ا.
وبهذا كله يسقط قول الألباني في توسله ص 88 حيث قال: ومن عجائب التعصب واتباع الهوى أن
الشيخ الغماري أورد روايات هذه القصة في المصباح ص 12 - 17.. ثم لم يتكلم عليها مطلقا لا
تصحيحا ولا تضعيفا والسبب واضح، أما التصحيح فغير ممكن صناعة وأما التضعيف فهو الحق
ولكن...) أه‍ كلامه بشينه وزينه، وقد تبين أن التصحيح هو الصحيح الثابت صناعة وأن
التضعيف هو لتعصب الألباني واتباع هواه وما يوحيه إليه شيطانه، وبان أن هذه الوصمة هي صفة
الألباني وليست صفة الإمام الحافظ المحدث الحجة سيدي عبد الله والحمد لله. تماما كما قالوا: " رمتني
بدائها وانسلت ".
13

أحمد بن شبيب (6) بن سعيد ثنا أبي عن روح بن القاسم (7) عن أبي جعفر الخطمي
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى
عثمان بن عفان رضي الله عنه، فذكر القصة بتمامها.
ويعقوب بن سفيان هو الفسوي الحافظ الإمام الثقة، بل هو فوق الثقة، وهذا
إسناد صحيح.

(6) أحمد بن شبيب قال الذهبي في الميزان (1 / 103 - 104): صدوق، ثم نقل عن الأزدي أنه قال
منكر الحديث، ثم رد عليه وقال: قلت: قد وثقه أبو حاتم أ ه‍، قلت: وهو من رجال البخاري
كما في الجمع (1 / 10 - 18).
(7) قال الحافظ في التقريب (1970 طبعة محمد عوامة): ثقة حافظ من رجال البخاري ومسلم وأبو
داود والنسائي وابن ماجة.
14

فالقصة صحيحة جدا، وقد وافق على تصحيحها أيضا الحافظ المنذري في
الترغيب (ج 2 / 06 6) (8) والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 279).
(ثانيا):
أحمد بن شبيب من رجال البخاري، روى عنه في الصحيح وفي الأدب المفرد،
وثقه أبو حاتم الرازي وكتب عنه هو وأبو زرعة، وقال ابن عدي: وثقه أهل
البصرة وكتب عنه علي ابن المديني (9).
وأبوه شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري أبو سعيد من رجال البخاري
أيضا (*) روى عنه في الصحيح وفي الأدب المفرد. وثقه أبو زرعة وأبو حاتم
والنسائي والذهلي والدارقطني والطبراني في الأوسط. قال أبو حاتم: كان عنده
كتب يونس بن زيد، وهو صالح الحديث لا بأس به: وقال ابن عدي: ولشبيب
نسخة الزهري عنده عن يونس عن الزهري أحاديث مستقيمة.
وقال ابن المديني: ثقة كان يختلف في تجارة إلى مصر وكتابه كتاب صحيح،
هذا ما يتعلق بتوثيق شبيب، وليس فيه اشتراط صحة روايته بأن تكون عن يونس
بن يزيد، بل صرح ابن المديني بأنه كتابه صحيح. وابن عدي إنما تكلم على نسخة
الزهري عن شبيب فقط، ولم يقصد جميع رواياته، فما ادعاه الألباني تدليس
وخيانة.
يؤكد ذلك أن حديث الضرير صححه الحفاظ ولم يروه شبيب عن يونس عن
الزهري!!
وإنما رواه عن روح بن القاسم، ودعواه ضعف القصة بالاختلاف فيها حيث لم
يذكرها بعض الرواة عند ابن السني والحاكم، لون آخر من التدليس (10) لأن من

(8) في الطبعة الواقعة في 4 مجلدات في (1 / 476).
(9) أنظر تهذيب التهذيب (1 / 31 - 32).
* وقد انغر كاتب متعصب بكلام الألباني في أكتوبة أسماها بالزهر ص 79 بأن شبيب متكلم في حفظه كما
أوهم كلام بعضهم في التهذيب 4 / 270 فأبان عن غباء وتدليس.
(10) ولا شك أن تدليسه على الطلبة والضعفاء في هذا الفن له ألوان وأشكال.
15

المعلوم عند أهل العلم أن بعض الرواة يروي الحديث وما يتصل به كاملا، وبعضهم
يختصر منه، بحسب الحاجة. والبخاري يفعل هذا أيضا، فكثيرا ما يذكر الحديث
مختصرا أو يوجد عند غيره تاما. والذي ذكر القصة في رواية البيهقي إمام فذ يقول
عنه أبو زرعة الدمشقي: قدم علينا رجلان من نبلاء الناس أحدهما وأرحلهما
يعقوب بن سفيان (1) يعجز أهل العراق أن يرو مثله رجلا.
وتقديمه رواية عون (12) الضعيف على من زاد القصة، لون ثالث من التدليس
والغش.
فإن الحاكم روى حديث الضرير من طريق عون مختصرا ثم قال: تابعه شبيب ابن
سعيد الحبطي عن روح بن القاسم زيادات في المتن والإسناد، والقول فيه قول
شبيب فإنه ثقة مأمون، هذا كلام الحاكم، وهو يؤكد ما تقرر عند علماء الحديث
والأصول أن زيادة الثقة مقبولة، وأن من حفظ حجة على من لم يحفظ (13).
والألباني رأى كلام الحاكم لكن لم يعجبه لذلك ضرب عنه صفحا، وتمسك بأولوية
رواية عون الضعيف عنادا وخيانة (14).
(ثالثا):
تبين مما أوردناه وحققناه في كشف تدليس الألباني وغشه أن القصة صحيحة
جدا رغم محاولاته وتدليساته وهي تفيد جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
بعد انتقاله، لأن الصحابي راوي الحديث، فهم ذلك، وفهم الراوي له قيمته
العلمية، وله وزنه في مجال الاستنباط.
وإنما قلنا إن القصة من فهم الصحابي، على سبيل التنزل، والحقيقة أن ما فعله
عثمان بن حنيف من إرشاده الرجل إلى التوسل، كان تنفيذا لما سمعه من النبي صلى
الله عليه وسلم، كما ثبت في حديث الضرير.

(11) أنظر ترجمته في تهذيب التهذيب (11 / 338).
(12) أنظر ترجمته في تهذيب التهذيب (8 / 154).
(13) كما تقرر عند الحفاظ وأهل الشأن.
(14) كما ضرب صفحا عن ترجمة مالك الدار في الإصابة وطبقات ابن سعد وثقات ابن حبان وكم لذلك من
اشتباه.
16

قال ابن أبي خيثمة (15) في تاريخه: حدثنا مسلم بن إبراهيم (16) ثنا حماد بن
سلمة (17) أنا أبو جعفر الخطمي (18) عن عمارة بن خزيمة (19) عن عثمان بن حنيف
رضي الله عنه: أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت في
بصري فادع الله لي قال:
" اذهب فتوضأ وصل ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد
نبي الرحمة يا محمد إني استشفع بك عن ربي في رد بصري اللهم فشفعني في نفسي
وشفع نبيي في رد بصرى وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك " إسناده صحيح.
والجملة الأخيرة من الحديث تصرح بإذن النبي صلى الله عليه وسلم في التوسل
به عند عروض حاجة تقتضيه.
وقد أعل ابن تيمية هذه الجملة بعلل واهية. بينت بطلانها في غير هذا
المحل (2)، وابن تيمية جرئ في رد الحديث الذي لا يوافق غرضه. ولو كان في
الصحيح (21).

(15) هو الحافظ الحجة الثقة أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب النسائي أبو بكر الحافظ ابن الحافظ، قال
الدارقطني، ثقة مأمون. أنظر سير أعلام النبلاء (11 / 492).
(16) من رجال الستة، أنظر تهذيب التهذيب (10 / 109)..
(17) في التقريب (1498) ثقة عابد. من رجال مسلم والأربعة.
(18) اسمه عمير بن يزيد بن عمير ترجمته في التهذيب (8 / 134). وهو ثقة.
(19) ترجمته في التهذيب (7 / 364) وهو ثقة.
(20) بينها في كتابه (مصباح الزجاجة - طبعة عالم الكتب ص 37) ودحض كلام ابن تيمية ومنه يتبين
سقوط كلام الألباني في (توسله ص 83) حيث اعترض على الشيخ وأنه وضع القاعدة التي جلبها من
نخبة الفكر في غير محلها. والحمد لله.
(21) أو صحيحا في غير صحيح البخاري ومسلم: كحديث السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم:
" كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ويفطر ويصوم) قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. وانظر سنن
البيهقي (3 / 142) والجوهر النقي أسفل الصحيفة للتركماني، فقال ابن القيم في زاد المعاد: وسمعت
شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أفاده السيد عبد الله في كتابه الصبح السافر (ص 37) فانظره. وتأمل. وفي لسان الميزان (6 / 319)
ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة يوسف بن الحسن الرافضي، أن ابن تيمية رد أحاديثا جيادا وغير
ذلك.
17

مثال ذلك: روى البخاري في صحيحه حديث: " كان الله ولم يكن شئ غيره
وهو موافق لدلائل النقل والعقل والاجماع المتيقن. لكنه خالف رأيه في اعتقاده قدم
العالم، فعمد إلى رواية للبخاري أيضا في هذا الحديث بلفظ " كان الله ولم يكن شئ قبله " فرجحها على الرواية المذكورة، بدعوى أنها توافق الحديث الآخر " أنت
الأول فليس قبلك شئ ".
قال الحافظ ابن حجر (22): مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه
الرواية على الأولى لا العكس، والجمع مقدم عل الترجيح بالاتفاق. أه‍. قلت:
تعصبه لرأيه أعماه عن فهم الروايتين اللتين لم يكن بينهما تعارض، لأن رواية " كان شئ ".
مثال ثان: حديث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في
المسجد وترك باب علي عليه السلام، حديث صحيح، أخطأ ابن الجوزي بذكره
في الموضوعات. ورد عليه الحافظ في القول المسدد (23). وابن تيمية لانحرافه عن
علي عليه السلام كما هو معلوم. لم يكفه حكم ابن الجوزي. بوضعه فزاد من كيسه
حكاية اتفاق المحدثين على وضعه، وأمثلة رده للأحاديث التي يردها لمخالفة رأيه
كثيرة يعسر تتبعها.
(رابعا):
ونقول على سبيل التنزل: لو فرضنا أن القصة ضعيفة تطيبا لخاطر الألباني، وأن
رواية ابن أبي خيثمة معلولة كما في محاولة ابن تيمية (24)، قلنا في حديث توسل

(22) في فتح الباري (13 / 410).
(23) القول المسدد (طبقة عالم الكتب ص 10 - 11).
(24) أي لو سلم ذلك جدلا، مع كون ادعاء ضعف القصة وما أشبه ذلك باطلا قطعا.
18

الضرير كفاية وغناء، لأن النبي حين علم الضرير ذلك التوسل، دل على
مشروعيته في جميع الحالات. ولا يجوز أن يقال عنه: توسل مبتدع، ولا يحوز
تخصيصه بحال حياته صلى الله عليه وسلم، ومن خصصه فهو المبتدع حقيقة لأنه
عطل حديثا صحيحا وأبطل العمل به، وهو حرام.
والألباني عفا الله عنه جرئ على دعوى التخصيص والنسخ لمجرد خلاف رأيه
وهواه.
فحديث الضرير لو كان خاصا به، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، كما بين لأبي
بردة أن الجذعة من المعز تجزئه في الأضحية ولا تجزئ غيره، كما في الصحيحين.
وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (25).
" اعتذار وجوابه "
قد يقال: الداعي إلى تخصيصي الحديث بحال حياة النبي صلى الله عليه وسلم ما
فيه من ندائه، وهو عذر مقبول.
والجواب: أن هذا اعتذار مردود (26)، لأنه تواتر عن النبي صلى عليه وسلم
تعليم التشهد في الصلاة، وفيه السلام عليه بالخطاب ونداؤه (السلام عليك أيها
النبي) وبهذه الصيغة علمه على المنبر النبوي أبو بكر وعمر (27)، وابن الزبير
ومعاوية، واستقر عليه الإجماع كما يقول ابن حزم (28) وابن تيمية (29) والألباني
لابتداعه خالف هذا كله، وتمسك بقول ابن مسعود، فلما مات قلنا السلام على
النبي، ومخالفة التواتر والاجماع، هي عين الابتداع.

(25) كما هو مقرر في الأصول.
(26) كما وضح ذلك المصنف في كتابه (القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع (ص 13 - 18) فلينظر
فإنه مهم.
(27) كما ثبت ذلك بالأسانيد الصحيحة في الموطأ ومصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق ومعاني
الآثار.
(28) كما في الفصل في النحل لابن جزم (1 / 89).
(29) في كتابه الجواب الباهر.
19

مع أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمالنا تعرض عليه (30)، وكذلك
صلاتنا عليه صلى الله عليه وسلم، تعرض عليه، وثبت أن لله ملائكة سياحين في
الأرض يبلغونه سلام أمته، وثبت بالتواتر والاجماع أن النبي صلى الله عليه وسلم
حي في قبره (31)، وأن جسده الشريف لا يبلى، فكيف يمتنع مع هذا نداؤه في
التوسل به (32) وهل هو إلا مثل ندائه في التشهد!.
ولكن الألباني عنيد شديد العناد، والألبانيون عندهم عناد، وصلابة في
الرأي، أخبرني بذلك عالم الباني حضر علي في تفسير البيضاوي وشرح التحرير لابن
أمير الحاج، وكان وديعا هادئ الطبع، وهو تلميذ لي.

(30) كما جاء في الحديث الصحيح: " حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم تعرض علي
أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله وما رأيت من شر استغفرت لكم " وهو من رواية سيدنا عبد
الله بن مسعود، وأوله: " إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام " ثم قال: وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (حياتي...) الحديث. قال العراقي في طرح التثريب: إسناده جيد أه‍. أي
صحيح.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال إسناده رجال الصحيح أه‍.
وقال السيوطي في الخصائص الكبرى: إسناده صحيح وكذا علي القارئ والخفاجي، وقد جمع
الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11 / 385) بينه وبين حديث (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ونقل
الجمع عن خمسة من الحفاظ، فانظره.
(31) أنظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر (طبعة دار الكتب العلمية) ص 135، حديث رقم (115) حياة
الأنبياء في قبورهم.
(32) قال العلامة ابن حجر الهيثمي في قصيدة له شرحها الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي:
تواترت الأدلة والنقول فما يحصي المصنف ما يقول
بأن المصطفى حي طرئ هلال ليس يطرقه أفول
وأن الجسم منه بقاع لحد كورد لا يدنسه الذبول
وأن الهاشمي بكل وصف جميل لا يغيره الحلول
ويسمعهم إذا صلوا عليه بأذنيه فقصر يا ملول
ومن لم يعتقد هذا بطه يقينا فهو زنديق جهول
عبيد هيتمي مستجير بمن حطت بساحته الحمول
وجاء في حديث أوس بن أوس مرفوعا: " إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء " وهو حديث
صحيح رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
20

هذا موجز ردنا لدعوى الألباني. أما من يدعى حمدي السلفي فليس هناك،
وإنما هو مجرد مخدوع يردد الصدا (33).
(خامسا):
والذي أقرره هنا، أن الألباني غير مؤتمن في تصحيحه وتضعيفه، بل يستعمل
في ذلك أنواعا من التدليس والخيانة في النقل، والتحريف في كلام العلماء (34)، مع
جرأته على مخالفة الإجماع *، وعلى دعوى النسخ بدون دليل، وهذا يرجع إلى
جهله بعلم الأصول، وقواعد الاستنباط، ويدعى أنه يحارب البدع مثل التوسل
بالنبي صلى الله عليه وسلم وتسويده في الصلاة عليه (35)، وقراءة القرآن على
الميت!! لكنه يرتكب أقبح البدع بتحريم ما أحل الله، وشتم مخالفيه بأقذر الشتائم
خصوصا الأشعرية والصوفية، وحاله في هذا كحال ابن تيمية، تطاول على الناس
فأكفر طائفة من العلماء، وبدع طائفة أخرى، ثم اعتنق هو بدعتين لا يوجد أقبح
منهما: إحداهما قوله بقدم العالم (36)، وهي بدعة كفرية (37) والعياذ بالله تعالى.

(33) يعني لا صلة له بعلم الحديث ولا معرفة وإنما هو مقلد هذا الجاهل.
(34) ويتضح ذلك لمن طالع كتاب: " تنبيه المسلم إلى تعدي الألباني على صحيح مسلم " وكتاب " وصول
التهاني " للمحقق البحاثة محمود سعيد و " بيان نكث الناكث " للسيد المحدث عبد العزيز الغماري
متعنا الله بحياته. وغير ذلك من الكتب المفيدة.
* وقد صنفت في الرد عليه في إنكاره الإجماع كتابا أسميته (احتجاج الخائب بعبارة من ادعى الإجماع
فهو كاذب) فلينظر.
(35) إعلم أن حديت " لا تسيدوني في الصلاة " كذب موضوع نص على ذلك جماعة منهم الحافظ
السخاوي في المقاصد الحسنة وعلي القاري في موضوعاته الكبرى والصغرى، والعجلوني في كشف
الخفاء وابن حجر الهيتمي في المنهاج القويم.
وعندنا معاشر الشافعية تسويد النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة الإبراهيمية وغيرها سنة، وقد
اعتمد ذلك الرملي والزيادي والحلبي وابن ظهيرة، وقال ابن حجر في الايعاب: الأولى سلوك الأدب
أي فيأتي بسيدنا، إفادة العلامة الكردي في الحواشي المدينة (1 / 174 طبعة مكتبة الغزالي) وكذا غيره.
(36) قال ذلك في عدة من كتبه كمنهاج السنة (1 / 109) والموافقة (2 / 75) من الطبعة الواقعة في هامش
منهاج السنة في مجلدين.
(37) بإجماع العلماء وقد نقل ذلك خلائق حتى ابن حزم في مراتب الإجماع (167) وهذا الإجماع مدعم
بنصوص الكتاب والسنة والتي فصلناها في كتابنا، (التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد) فليراجع.
21

والأخرى انحرافه عن علي عليه السلام (38)، ولذلك وسمه علماء عصره بالنفاق،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق "
وهذه عقوبة من الله لابن تيمية (39) الذي يسميه الألباني شيخ الإسلام (40)، ولا
أدري كيف يعطى هذا اللقب وهو يعتقد عقيدة تناقض الإسلام؟!!
وأظن بل أجزم أن الحافظ ابن ناصر لو اطلع على عقيدته وما فيها من طامات، لما
كتب في الدفاع عنه كتاب الرد الوافر (41)، لأنه كتبه وهو مغرور بمن أثنى عليه،

(38) نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة (1 / 114) إن ابن تيمية خطأ أمير المؤمنين عليا كرم
الله وجهه في سبعة عشر موضعا خالف نص الكتاب، وأن العلماء نسبوه إلى النفاق لقوله هذا في
سيدنا علي، ولقوله أيضا فيه: أنه كان مخذولا، وأنه قاتل للرياسة لا للديانة فمن شاء فليراجع الدرر
الكامنة.
وقال ابن تيمية في منهاج السنة (2 / 203) ما نصه:
(وليس علينا أن نبايع عاجزا عن العدل علينا ولا تاركا له...)
وانظر لزاما التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني (ص 85) والفرق بين الفرق (ص 350 -
351).
(39) أنظر كتاب الصبح السافر في تحقيق صلاة المسافر للسيد عبد الله بن محمد بن الصديق مؤلف هذا
الكتاب (ص 54).
(40) أنظر القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع للمؤلف ص (9). والألباني حريص كل الحرص على
تلقيب ابن تيمية بشيخ الإسلام مع أنه لقب مبتدع لا أصل له عن السلف إلا ما جاء بإسناد واه عن
عبد الله بن أبي رأس المنافقين: أنه رأى أبا بكر رضي الله عنه وجماعة من الصحابة، فقال لأصحابه
انظروا كيف أصرف هؤلاء السفهاء فتقدم إلى أبي بكر فصافحه وسماه شيخ الإسلام نفاقا ومداهنة،
ثم إن الإسلام دين الله أنزله على رسوله (محمد صلى الله عليه وسلم) فكيف يكون أحد شيخا له؟!
والعجيب في أمر هذا الألباني أنه يحرص على ابن تيمية بهذا اللقب المبتدع ويعيب على الذين
يسودون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة عليه ويعتبر لفظ السيادة (الواردة في القرآن
والسنة) بدعة؟! ويعتبر الذين يذكرونها مبتدعة!
مع أن سيادته صلى الله عليه وآله وسلم ثابتة بالتواتر. ومعلومة بالضرورة لكل مسلم ا. ه‍ فأقول:
وكتاب الرد الوافر هذا من فرح بما فيه فقد فرح في غير مفرح حقا، وماذا يفيد ثناء الناس على رجل
ثبت الزيغ في كتبه؟! ومن قال بقدم العالم وقيام الحوادث بذات الله تعالى وغيرها من الطامات
المستشنعة لا ينفعه مديح المادحين ولا ثناء المثنين وخصوصا إذا علم أيضا أن أقوال من نقل ثناءهم
لديه، مسطرة في كتبهم ومؤلفاتهم بذمهم عليه. فليستيقظ المخدعون.
22

وكذلك الآلوسي ابن صاحب التفسير، لو عرف عقيدته على حقيقتها، ما كتب
جلاء العينين.
وشواذ الألباني في اجتهاداته الآثمة، وغشه وخيانته في التصحيح والتضعيف
حسب الهوى، واستطالته على العلماء وأفاضل المسلمين. كل ذلك عقوبة من الله
له، وهو لا يشعر، فهو من الذين (يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا ساء ما
يظنون).
نسأل الله العافية مما ابتلاه به، ونعوذ بالله من كل سوء. والحمد لله رب
العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأكرمين.
(إلحاق)
قال الدارمي في سننه (42): حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد بن زيد ثنا عمرو بن
مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطا
شديدا، فشكوا إلى عائشة، فقالت انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فافتحوا
منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا. فمطرنا مطرا
حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق.
ضعف الألباني هذا الأثر بسعيد بن زيد، وهو مردود لأن سعيدا من رجال
مسلم ووثقه يحيى بن معين (43).

(42)
رواه الدارمي في سننه في المقدمة (1 / 42) وكذا (1 / 43) باب 5 من الطبعة الهندية بإسناد
صحيح.
(43) ذكر الألباني تضعيفه في كتاب (التوسل أنواعه وأحكامه الطبعة الثانية ص (128): واحتج بحجج
باطلة على عادته في تمويهاته، حيث نقل كلام ابن حجر في التقربب الذي يوافق هواه ولم ينقل من
هنالك أنه من رجال مسلم في صحيحه، فلننتبه إلى هذا التدليس وهذه الخيانة التي تعود عليها هذا
الرجل الذي يصف أعدائه بكتمان الحق وما يخالف آرائهم كما في مقدمته الجديدة لآداب زفافه والتي
حلاها بما دل على اختلاطه من هجر وخنا.
ثم أردف ذلك بنقل ترجمة " سعيد بن زيد " من الميزان للذهبي زيادة في الكتم والتعمية، وقد خان فلم
يذكر ما ذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (4 / 29) من نقل أقوال موثقيه زيادة على أنه من
رجال مسلم في الصحيح فقد قال البخاري حدثنا مسلم هو ابن إبراهيم ثنا سعيد بن زبد أبو الحسن
صدوق حافظ. وقال الدوري عن ابن معين ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، وقال العجلي: بصري
ثقة وقال أبو زرعة سمعت سليمان بن حرب يقول ثنا سعيد بن زيد وكان ثقة، وقال أبو جعفر
الدارمي ثنا حبان بن هلال ثنا سعيد بن زيد وكان حافظا صدوقا، وقال ابن عدي: وليس له من
منكر لا يأتي به غيره وهو عندي في جملة من ينسب إلى الصدق أ. ه‍ فإذا تأملنا هذه النقول في توثيقه
ووصفه بالحفظ والصدق وخصوصا من البخاري ومسلم الذي روى له في صحيحه، ثم تأملنا قول
الألباني في اقتصاره على نقل كلام بعض الجارحين عرفنا حقا أنه معدوم الأمانة العلمية وأنه متغافل،
يرمي الآخرين بالتغافل حيث رمى الإمام المحدث عبد الله كما في توسله ص (129) في الحاشية بالتغافل
ولم يكن كذلك. وقد أثبت الله تعالى لنا أن هذه وصمة الألباني المخلط والحمد لله.
23

وضعفه أيضا باختلاط أبي النعمان (44)، وهو تضعيف غير صحيح لأن اختلاط
أبي النعمان لم يؤثر في روايته، قال الدارقطني: تغير بأخرة وما ظهر له بعد اختلاط
حديث منكر وهو ثقة. وقول ابن حبان: وقع في حديثه المناكير الكثيرة بعد
اختلاطه، رده الذهبي فقال: لم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثا منكرا والقول

(44) فقد خان في ذلك، ونقل في توسله ص (128) أن البرهان الحلبي ذكر أبا النعمان في (الاغتباط بمن
رمى بالاختلاط ص 23) تعمية على مقلديه ومن يقرأ له، وينبغي أن نعلم أن المذكورين ممن رموا
بالاختلاط في الكتاب المذكور منهم من ضرهم الاختلاط في حديثهم ومنهم من لم يضره الاختلاط في
حديثه لأنه لم يحدث زمن الاختلاط أو غير ذلك ومنهم أبو النعمان، وقد وضح ذلك الذهبي كما في
الميزان (4 / 8) فنقول للألباني الخساف المتهور المتغافل: لم يغفل الشيخ الغماري عن ذلك الاختلاط
لأنه محدث حافظ ولكنك غفلت أيها اللماز الهماز فتب إلى الله فقد قرب الرحيل وما أظنك تذكره كما
لا أظن أنك تقرأ قرآنا لتتعظ فيا خيبة من خدع بك ويا خسارة من اتبع هواك
(تنبيه):
وأما جواب الألباني عما قاله في توسله ص (128) على النقطة الثانية من أن (الأثر موقوف على عائشة
ولو صح لم تكن حجة) أ. ه‍.
فجوابه: أنه صحيح بلا شك وريب، وهو حجة من وجهين:
الأول: أن بصحته سقط كلام الألباني وتمويهه في التضعيف وثبت أن التوسل مذهب للسيدة عائشة
أم المؤمنين أيضا وغير ذلك مما لا نود الآن الإطالة به. ففيه أن الصحابة توسلوا واستغاثوا به صلى الله
عليه وسلم بعد موته.
والثاني: أنه اتفاق من حضر من المسلمين صحابة ممن كانوا صحابة وغيرهم وفي ذلك تثبيت مع أثر
عثمان بن حنيف في إرشاد الرجل للتوسل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر ابن أبي شيبه
الصحيح عن مالك الدار الثقة ما يثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم توسلوا به صلى الله
عليه وسلم بعد وفاته بلا ريب.
وأما ما نقله الألباني من التعليل المهلهل عن ابن تيمية فباطل كما رده المصنف مع أن ابن تيمية رجع عن
تحريم التوسل فأباحه وبقي محرما للاستغاثة بعد استتابته بمحضر من العلماء كما نقل ذلك تلميذه ابن
كثير في البداية والنهاية (14 / 45) فليراجع.
24

فيه ما قال الدارقطني (45)، وابن تيمية كذب أثر عائشة، ولا عبرة به، لجرأته على
تكذيب ما يخالف هواه. والحمد لله رب العالمين.

(45) حيث قال كما في الميزان (4 / 81): تغير بآخرته، وما ظهر له بعد اختلاطه حديت منكر وهو ثقة
أه‍. أقول وهو من رجال البخاري ومسلم والأربعة. فتأمل. والحمد لله رب العالمين.
25

الرد على الألباني
المسمى
بيان نكث الناكث
المتعدي بتضعيف الحارث
تأليف
السيد العلامة المحدث
عبد العزيز بن محمد بن الصديق
عفا الله عنه آمين
الطبعة الثالثة
1410 ه‍ - 1990 م
27

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله الطاهرين
الأكرمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد،
فقد قرأت كلاما للألباني في مقدمة لكتاب علق عليه، يقول فيه في حق كتابي:
" الباحث، عن علل الطعن في الحارث " بعد كلام دعاه إليه حب الشغب
والخصام، وحمله عليه ما عرف به واشتهر عنه من تسليط لسانه الأعجمي على عباد
الله تعالى بدون ذنب اكتسبوه ولا إثم اقترفوه، حتى امتد منه ذلك إلى أئمة السلف
وأصحاب المذاب المتبوعة شرقا وغربا، المشهود لهم بالفضل والدين بين الخاص
والعام، والمتفق على جلالتهم في العلم، وعلو درجتهم في الاجتهاد، وعظيم مكانتهم
في خدمة الإسلام والمسلمين.
وتطاول على مقام أكابر الحفاظ، كالمنذري الحافظ المتقن - رحمه الله تعالى -
وغيره بدون أدنى سبب يوجب ذلك التطاول على مقامهم في خدمة الحديث
النبوي.
وكتبه لا تخلو من التهجم على الأئمة من السلف والخلف، الأمر الذي يدل على
شئ في نفسه، والله تعالى أعلم بمراده منه.
وإلا، فلو كان غرضه بيان الحقيقة ونشر العلم وتعريف الناس بصواب من
أخطأ، لسلك في ذلك مسلك المخلصين من أهل العلم الناصحين، ولاتبع طريقهم
في التعليم والتبليغ، ونهج ما كانوا عليه من القول الحسن والجدال بالتي هي
أحسن.
لأن مرادهم - رضي الله تعالى عنهم - كان هو رد الحق إلى نصابه والتعريف بما
يجب الأخذ به، وكل ذلك لا يحتاج إلى الطعن والقدح والذم وجلب العبارات
الشائنة المشينة، وأهل الاخلاص من أهل العلم برءاء من هذه الصفات الذميمة.
29

لأنها من صفات النفاق - نسأل الله السلامة منها لنا ولإخواننا - كما ورد في
الحديث في بيان آية المنافق: " وإذا خاصم فجر ".
وقال الشاعر:
إن المنافق معلوم سجيته همز ولمز وإيماء وإغماض
والمقصود: إن الألباني قال بعد كلام في تلك المقدمة في شأن كتابي:
" الباحث، عن علل الطعن في الحارث " ما نصه: حتى أن أحدهم ألف رسالة
خاصة في توثيق الحارث الأعور الشيعي.
فدل هذا الكلام منه على أمرين، أبان بهما عن جهل عظيم وتصور فاضح.
أما الجهل: فما يفهم منه القاصر في العلم من أني تفردت بتوثيق الحارث الأعور
الهمداني، وخرجت بذلك عن سبيل أهل الحديث، وسلكت غير الجادة بتوثيقه.
ومن طالع كتابي " الباحث "، يعلم بطلانه وفساده وبعده عن الحقيقة، وأنه كلام
الغرض منه الشغب والرغبة في الجدال ونشر الخصام بين الناس بدون فائدة تعود على
أحد من أهل العلم من ذلك.
لأن الحارث الأعور الهمداني الذي وثقته وبينت بطلان جرح من جرحه، مثله
مثل سائر رواة الصحيح الذين اختلف فيهم أئمة الجرح، ما بين مادح وقادح
ومجرح وموثق، كما يعلم ذلك من تتبع أحوال رجال الصحيحين.
وكما أشرت إلى بعض الأمثلة في ذلك في خاتمة كتاب " الباحث ".
بل من يتتبع أحوال الرجال ويطلع على كتب الجرح والتعديل، يحصل عنده
العلم اليقين أنه لا يوجد راو، مهما علا قدره وسمت منزلته، لم يتناوله جرح، ولو
بالتدليس مثلا.
حتى قال بعضهم: من أخذ بالقواعد المصطلح عليها في راوي الحديث الصحيح
لم يمكنه أن يصحح إلا الحديث بعد الحديث، لعدم سلامة راو مطلقا من جرح
وتضعيف، ولو بأقل وجوه الجرح كما قلنا وأضعفها.
30

وإذا كان هذا حال سائر الرواة إلا النادر منهم جدا، فلا ينبغي أن يحمل باللوم
على من اختار توثيق الحارث.
لا سيما إذا كان ذلك الاختيار مبنيا على القواعد المقرر عند أئمة الحديث،
ومدعما بالأدلة السالمة من الوهن والضعف، كما بينت ذلك في " الباحث " ذلك
الكتاب الذي أعجب له كل من قرأه من أهل العلم السالمين من داء الشغب
والشغف بنشر الحلاف بين المسلمين، في الوقت الذي هم فيه أحوج ما يكونون
إلى الوفاق والإلتئام والوئام، وجمع الكلمة على خدمة الإسلام، وتوحيد القلوب
على صد الهجمات والغارات الموجهة من أعداء الإسلام ضد المسلمين في شرق
الأرض وغربها، وطرح الترهات والخزعبلات التي يراها الجاهلون ومن في قلوبهم
مرض أنها من صميم الدين، وليست من الدين لا في قبل ولا في د بير.
وإنما أثارها المثيرون وأخرجها المضلون من زوايا الاهمال ومخابئ النسيان، تلبية
لنداء الشر وإجابة لدعوة الشيطان في التفرقة ورفع لواء التنافر والتناحر وإيغار
الصدور بين أهل لا إله إلا الله، ليسهل اجتياحهم على عدوهم، والقضاء عليهم في
عقر دارهم، رغم ما هم فيه من بلاء.
والألباني نفسه يعلم هذا ويلمسه، بل ويسمعه ويشاهده.
ووطنه الذي ينتمي إليه، وعرف بالانتساب إليه، يحكمه الشيوعيون بل
المتطرفون منم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإخوانه يذوقون الويل والعذاب من
تسلطهم، فكان ينبغي للألباني قبل الهجوم على العلماء وأئمة السلف والسعي بين
المسلمين بالفرقة بقصد أو بدون قصد، أن يكرس جهوده ويوجه لسانه على الأقل
لدعوة الألبانيين إخوانه للجهاد وقتال الشيوعيين الملاحدة.
مع أني لم أسمع عنه شيئا يتعلق بهذا الأمر مطلقا.
بل كان الواجب عليه أن يكون أول الحاملين للسلاح لتحرير بلاده من حكم
الملاحدة، وعند ذلك يعطي الدليل وألف دليل على غيرته على الإسلام، ونصيحته
لدينه، والدفاع عن أهل ملته.
أما حمل القلم وتجريد اللسان للطعن في أئمة المسلمين وحماة الشريعة من رجال
السلف والخلف والدعوة إلى الخلاف والشقاق في أمور تافهة للغاية، فذلك لا
31

يجمل صدوره من مسلم عامي، فضلا عمن يدعي خدمة الإسلام ونشر السنة
المحمدية، وينصب نفسه لإرساء القواعد (للدولة الإسلامية) إلى درجة أن يدخل
من أجل ذلك في مداخل لا قبل له بها، ولا تقرها السنة النبوية التي نصب نفسه
للدعوة إليها.
لأن صاحبها - عليه الصلاة والسلام - أمرنا أن لا ننازع الأمر أهله.
أقول: لا يجمل بمسلم عامي في هذا الوقت الذي أصاب البلاد الإسلامية
سرطان الارتداد، ونبذ الدين، والخروج منه جملة، بما دخل إليها بواسطة عملاء
الشيوعية الملحدة، والصليبية والصهيونية، وغيرهم من عملاء المذاهب الضالة
الهدامة، كالوجودية والبهائية والقاديانية والماسونية.
حتى صار تسعون بالمئة من الشباب ملحدا مارقا منحلا، لا يقر بدين ولا يقول
بعقيدة.
لا يجمل بمسلم أبدا في هذا الوقت العصيب الذي خرج فيه الناس من دين الله
أفواجا، إن يسعى السعي الحثيث، ويعمل جهده، ويصرف طاقته الفكرية
والمادية، في نشر الخلاف وبث الشقاق بين البقية الباقية من المسلمين أهل لا إله إلا
الله، الذين لا يستطيع الألباني مهما حاول من مغالطات وارتكب من شذوذ أن
يخرجهم عن دائرة جماعة أهل السنة عند السلف والخلف.
والذين لا يجوز لأجل ذلك تكفيرهم، أو منع الصلاة خلفهم، وعليهم، أو
معاملتهم بغير ما يعامل به المسلم الذي حرم الله تعالى دمه وماله وعرضه.
لأنهم من أهل لا إله إلا الله التي يثقل بها ميزانهم يوم يقوم الناس للحساب،
مهما ارتكبوا من موبقات، ومهما خرجوا عن الطريق وفعلوا وفعلوا.
كما يشهد بذلك حديث (البطاقة) وهو معروف مشهور متداول بين أهل
الحديث خصه كثير منهم بالتأليف والتصنيف، لأنه حديث قاصم لظهر كل من
يريد أن يحجر على أهل لا إله إلا الله رحمة الله تعالى وفضله ومغفرته التي وعد بها
قائلها، فيدخل الجنة منهم من أتبعه ورأى رأيه، ويدخل النار من خالفه، ولو
كانت المخالفة في الأمور التافهة التي لا تغني العامل بها ولا تسمنه من جوع.
32

أقول: لا يجمل بالمسلم الناصح، أن يسعى بين جماعة المسلمين - في هذا
الوقت - بالتفرقة وبث الشقاق والخلاف في أمور تافهة للغاية. إثمها أكبر من
نفعها إن كان فيها نفع، وإلا فإثمها محقق، وضررها قد ظهر للعيان، وأصاب ما
تبقى من هذه الطائفة المسلمة، طائفة أهل السنة والجماعة في صميم مجتمعها، بما
نجم عنه من الخلاف والتنافر والتناحر وتفريق الشمل واللمز بالتبديع، بل
والتكفير، بما لا يعد كفرا ولا بدعة، حتى وصل ضرر ذلك إلى المصلين في
مساجدهم، وأهل العلم في حلقة علمهم ودرسهم (1).
وكل ذلك - والعياذ بالله تعالى - بسبب هذه الأباطيل والخلافات الواهية،
التي كرس لها المفتونون جهدهم بنشرها بين العامة وضعفاء العقول من طلبة العلم.
فعم البلاء بها، واتسع خرقها على الرقع وتنكرت بسببها القلوب بعد أن كانت
مؤتلفة، وبلغ الحال إلى تعدد الجماعات في الوقت الواحد في المسجد الواحد.
وإلى إعراض الأب عن ابنه، والابن عن أبيه، ومخاصمة الأخ لأخيه، ورمي
المسلم أخاه بالبدعة والضلال، والخروج عن الإسلام، وترك التحية بينهما
بالسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولنرجع إلى بيان جهل الألباني، فيما اعترض به على من وثق الحارث.
فنقول:
إن الحارث ثقة عدل رضي، وثقة جماعة السلف والخلف، واعتمدوا على
روايته، واحتجوا بحديثه، لأنه إمام من أئمة العلم والحديث في الكوفة.
وروى عنه الأكابر من رجال العلم، وقدمه أهل الكوفة على غيره، في العلم،
وفي الصلاة بهم، في الوقت الذي كانت فيه عامرة بسادات التابعين وأئمة العلم
والرواية.
حتى كانوا يقدمونه على المشاهير من أئمة التابعين، كعبيدة السلماني،
وعلقمة، ومسروق، وشريح.

(1) حتى أن أتباع الألباني ومقلديه في أمريكا كانوا وما يزالون سببا لإغلاق مساجد عديدة من قبل
البوليس الأمريكي لأجل ما فعلوه وسببوه من فتن وخلافات وشجار في تلك المساجد أه حسن.
33

ولو لم يكن دليل على توثيق الحارث، وجعله في الطبقة الأولى من أهل العدالة،
وتقديمه على أغلب رجال الصحيح إلا هذا، لكان كافيا لأهل العلم في ذلك،
ومغنيا عن غيره من الأدلة.
لأن من المقرر عند أهل الحديث، أن من الأمور التي يعرف بها عدالة الراوي
وكونه ثقة، شهرته بذلك بين أهل بلده ووطنه، وربما كان عندهم هذا أعلى وأرقى
في التعديل والتوثيق من ثناء رجل واحد من أئمة الجرح عليه.
وهو وجيه من جهة النظر - كما لا يخفى - لما تفيده الشهرة من العلم بذلك
ما لا يفيده تعديل الرجل الواحد.
وقليل من الرواة الثقات من تكون لهم هذه المكانة في الشهرة بالعلم والرواية
التي تغني عن الثناء عليه والنص على ذلك من إمام من أئمة الجرح.
فلو قال قائل: إن الحارث الهمداني من الطبقة الأولى والدرجة المثلى في العدالة
والضبط، وأن حديثه من الصحة والثبوت بما تقتضيه منزلته في ذلك، لكان صادقا
في قوله، مؤيدا بالدليل الذي لا يمكن نقضه، يضاف إلى هذا توثيق الأئمة من أهل
عصره له، وأخذهم عنه، وشهادتهم له بالتفوق في العلم على غيره.
وأول من اعتمد عليه في الرواية عنه والأخذ منه سيدا شباب أهل الجنة -
الحسن والحسين - عليهما السلام.
فقد روى ابن سعد في الطبقات 6 / 168 عن الشعبي، قال: لقد رأيت الحسن
والحسين يسألان الحارث الأعور عن حديث علي. ورواه أيضا ابن أبي حاتم، في
ا لجرح 1 / 2 / 79.
فهذا الشعبي نفسه يخبر أنه رأى الحسن والحسين عليهما السلام يسألان
الحارث عن حديث علي عليه السلام.
وفي هذا أعظم دليل وأكبر حجة وأقوى برهان على أنه ثقة عندهما، عنده من
حديث علي والدهما - عليه السلام - ما لا يوجد عند غيره.
قد يقول قائل: إن الرواية عن شيخ لا تدل على كون الراوي عنه يوثقه.
34

إلا أنا نقول: مثل الحسن والحسين في العلم والجلالة في الدين، لا يأخذ
الحديث عمن عرف بالكذب وعدم الصدق في الرواية.
لأنهما يعلمان قبح ذلك، وأنه لا فائدة في الأخذ عن الكذاب، بل فيه الإثم.
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد
الكذابين.
ومن روى عن الكذاب ونشر حديثه بين الناس فهو داخل في هذا الوعيد.
وحاشا الحسن والحسين - عليهما السلام - أن يجهلا هذا الوعيد أو يستخفا بهذه
الكبيرة حتى يستجيزا الرواية عن الكذاب.
فرواية الحسن والحسين عن الحارث ترد طعن الشعبي فيه بالكذب، وتظهر أنه
أراد به - إن سلم ذلك له - الكذب في الرأي، كما قال أحمد بن صالح المصري.
ولهذا قال الحافظ الكبير أبو حفص ابن شاهين في: (الجزء الذي ذكر فيه من
اختلف فيه العلماء ونقاد الحديث، فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه، ومن قيل فيه
قولان) وهو مطبوع في آخر تاريخ جرجان: 559 قال بعد أن ذكر قول الشعبي
الحارث الأعور أحد الكذابين ما نصه:
قال أبو حفص: وفي هذا الكلام من الشعبي في الحارث نظر، لأنه قد روى هو
أنه رأى الحسن والحسين يسألان الحارث عن حديث علي.
وهذا يدل على أن الحارث صحيح في الرواية عن علي، ولولا ذلك لما كان
الحسن والحسين، مع علمهما وفضلهما، يسألان الحارث، لأنه كان وقت
الحارث من هو أرفع من الحارث من أصحاب علي، فدل سؤالهما للحارث على
صحة روايته.
ومع ذلك، فقد قال يحيى بن معين: ما زال المحدثون يقبلون حديثه.
وهذا من قول يحيى بن معين الإمام في هذا الشأن زيادة لقبول حديث الحارث
وثقته.
وقد وثقة أحمد بن صالح المصري إمام أهل مصر في الحديث، فقيل لأحمد بن
35

صالح، قول الشعبي: حدثنا الحارث وكان كذابا، قال أحمد بن صالح: لم يكن
بكذاب، وإنما كان كذبه في رأيه. ا ه‍ كلام ابن شاهين، في الجزء المذكور.
فمن الذي يعترض بعد هذا على من يقول بتوثيق الحارث؟!
ومما لا شك فيه أن الحارث كان عنده من حديث علي - عليه السلام - ما لا
يوجد عند غيره، كما يدل على ذلك ما رواه ابن سعد 6 / 168 عن علباء بن أحمر:
أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خطب الناس فقال: من يشتري علما
بدرهم. فاشترى الحارث الأعور صحفا بدرهم. ثم جاء بها عليا، فكتب له علما
كثيرا، ثم إن عليا خطب الناس بعد فقال: يا أهل الكوفة، غلبكم نصف رجل.
وهذه أيضا شهادة من علي - عليه السلام - بفضل الحارث، وأنه من أهل العلم
الذين يؤخذ عنهم، وأنه غلب أهل الكوفة في العلم، ولو كان متهما في ذلك لبين
علي أمره وحذرهم منه.
ولم يوثق أحد على لسان علي بن أبي طالب - عليه السلام - فوق المنبر على
رؤوس الناس كما وثق الحارث، وهذا هو السبب في كون أهل الكوفة كانوا
يقدمون الحارث الأعور في صلاتهم، لأنه كان أعلمهم بالسنة. ومن كان كذلك
فهو أولى بالإمامة، وكانوا يقدمونه في صلاتهم على الجنائز لأنه أفضلهم، وأهل
الفضل أولى بالصلاة على الجنازة.
فقد روى ابن سعد في الطبقات 6 / 168 قال: أخبرنا الفضل ابن دكين،
حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق: أنه كان يصلي خلف الحارث الأعور،
وكان إمام قومه، وكان يصلي على جنائزهم، فكان يسلم - إذا صلى على الجنازة
- عن يمينه مرة واحدة.
وهذا أيضا هو السبب في كون أهل الكوفة كانوا يقدمون الحارث الأعور على
أئمة العلم من أهل الكوفة، كعبيدة السلماني، وعلقمة، ومسروق، وشريح.
قال ابن سيرين: أدركت الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث ثنى
بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة الثالث لا شك فيه، ثم مسروق،
ثم شريح.
36

قال ابن سيرين: إن قوما آخرهم شريح لقوم لهم شأن. ا ه‍. أنظر " المعرفة
والتاريخ " ليعقوب بن سفيان 2 / 557 و " تهذيب الكمال " 1 / 215 و " تهذيب
التهذيب " 2 / 146 و " الميزان " 1 / 203.
وفي بعض الروايات، قال ابن سيرين: وإن قوما آخرهم شريح لقوم خيار.
وفي اللفظ الذي ذكره الذهبي في " الميزان " قال ابن سيرين: وفاتني الحارث
فلم أره، وكان يفضل عليهم، وكان أحسنهم. ا ه‍.
وهذا أيضا توثيق من ابن سيرين - التابعي الجليل - للحارث، وشهادته له
بالفضل على عبيدة ومسروق وعلقمة وشريح.
فيضم. إلى من وثقه من أئمة التابعين المعاصرين له.
وانظر كيف أخبر ابن سيرين بأن أهل الكوفة كانوا في شأن تقديم الحارث على
عبيدة السلماني مختلفين، منهم من يقدمه على عبيدة، ومنهم من يقدم عبيدة عليه.
أما ابن سيرين نفسه، فجزم بأن الحارث أفضل الخمسة وأحسنهم كما ذكر
الذهبي ذلك، في ترجمة الحارث من " الميزان " 1 / 203.
وعلى حسب رواية الذهبي، فإن خلاف أهل الكوفة إنما كان في الثلاثة، أيهم
أفضل، علقمة ومسروق وعبيدة، وأما الحارث، فكان مقدما عندهم على
الجميع. مما يدل على علو مكانة الحارث في نفوسهم، وأنه مقدم على أكابر التابعين
الكوفيين.
وبالوقوف على ما كان لعبيدة وعلقمة ومسروق وشريح من المنزلة الرفيعة عند
أهل الحديث والفقه من السلف، لا سيما المعاصرون لهم، يظهر لك منزلة الحارث
في العدالة والثقة والتفوق في العلم.
وأنه ممن يجب أن يكون في مقدمة رجال الصحيح، بل يجب أن يكون سنده عن
علي - عليه السلام - أصح الأسانيد من غير شك، لأنهم قالوا فيما ذكروه في
أصح الأسانيد: محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي.
فإذا ثبت عندنا أن الحارث كان مقدما عند أهل الكوفة على عبيدة، وأنه أفضل
منه وأعلم، كما قال ابن سيرين، كان بلا شك على ما يقتضيه النظر أن حديثه عن
37

علي - عليه السلام - أصح من حديث عبيدة السلماني، عنه.
وكذلك قالوا فيما قالوه في أصح الأسانيد: إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن
ابن مسعود.
فيقتضي هذا أيضا أن يكون حديث الحارث عن ابن مسعود أصح من حديث
علقمة عنه، لاتفاق أهل الكوفة على تقديم الحارث على علقمة. كما حكى ابن
سيرين ذلك من غير خلاف بينهم.
بل ابن سيرين نفسه شهد بأن الحارث أفضلهم وأحسنهم.
وأما تكذيب الشعبي له، فقد رده عليه أئمة الجرح وحكموا ببطلانه.
بل جعلوا طعن إبراهيم النخعي في الشعبي بكذبه في السماع من مسروق عقوبة
من الله تعالى له، حيث تعدى على الحارث في لمزه بالكذب.
وقد ذكرت القصة في " الباحث " وحتى لو لم يرد أحد طعن الشعبي في الحارث
فهو باطل، لأنه غير مفسر ولا مبين السبب، وهو مردود اتفاتا.
لا سيما إذا كان معارضا بالتوثيق ممن هو أرجح منه، وهو العدد الجم من
الأئمة الذين وثقوه ورووا عنه وأثنوا عليه بالفقه والعلم وسعة الرواية.
حتى فضلوه - لأجل ذلك - على علقمة ومسروق وشريح، بل وعبيدة
السلماني كما ذكرنا.
ولم يخرج تكذيب الشعبي له عن أن يكون من كلام الأقران في بعضهم بعضا،
وذلك معروف مشهور بين أهل العلم، وعقد له ابن عبد البر في " جامع بيان
العلم " بابا خاصا استوفى الكلام فيه على ذلك. أنظر 2 / 150 منه.
ولذلك لم يلتفت أهل الجرح إلى من تكلم فيه بسبب المعامرة كما يعلم ذلك من
كتب الرجال، ولو عملوا بمقتضاه لما بقي في يدهم راو واحد يحتج به.
بل قال الذهبي رحمه الله تعالى - في مقدمة رسالته " في الرواة الثقات المتكلم
فيهم. بما لا يوجب ردهم " بعد كلام ما نصه:
38

وما زال يمر بالرجل الثبت، وفيه مقال من لا يعبأ به، ولو فتحنا هذا الباب
على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة، فبعض الصحابة كفر
بعضهم بتأويل ما.
ثم قال بعد كلام: وهكذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض، ينبغي أن
يطوي ولا يروي، ويطرح ولا يجعل طعنا. ا ه‍ كلام الذهبي رحمه الله.
قلت: ولو عملنا بكلام الأقران في بعضهم البعض، لطرحنا - لأجل ذلك -
حديث الشعبي نفسه، فقد كذبه إبراهيم النخعي في دعواه السماع من مسروق،
لا سيما وقد فسر جرحه له، وبين سببه. ومع ذلك لم يلتفت أحد إلى كلام إبراهيم
النخعي في الشعبي، لأنه صدر عن أمر خارج عن حقيقته، فلا يعتبر به.
وتكذيب الشعبي للحارث من هذا الباب، فلذلك روى عنه الشعبي أيضا
وأخذ عنه العلم لما زال ما في نفسه عنه، وذهب وحر صدره. والشعبي - رحمه
الله تعالى - كان سريع التكذيب والطعن في كل من حدث بما لم يسمعه من الحديث
ولم يبلغه.
ومعلوم أن الحارث كان أعلم بحديث علي - عليه السلام - من الشعبي، فلما
سمع منه ما لم يبلغه من حديث علي عليه السلام - سارع إلى تكذيبه، وهكذا حاله
حتى مع الصحابة، فكيف بالحارث!؟
فقد نقل الحافظ الذهبي في ترجمة الشعبي من " تذكرة الحفاظ " 1 / 83 عن
الحاكم، عن ربيعة بن يزيد، قال: قعدت إلى الشعبي بدمشق في خلافة عبد
الملك، فحدث رجل من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه
قال: " اعبدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة،
وأطيعوا الأمراء، فإن كان خيرا فلكم. وإن كان شرا فعليهم وأنتم منه براء " فقال
له الشعبي: كذبت.
فهذه القصة فيها دليل بين على أن الشعبي كان سريع التكذيب لمن حدث بما لم
يبلغه، فمن جعل طعن الشعبي في الحارث بالكذب حجة فليجعله في تكذيب هذا
الصحابي كذلك، مع أني أكاد أجزم بأن تكذيب الشعبي للحارث إنما هو من جهة
رأيه لا غير.
39

وإلا لما أخذ عنه وتعلم منه، وهو معدود من الرواة عن الحارث.
لا سيما والكذب لم يكن له سوق بين التابعين، ولا له رواج على لسانهم، وإذا
وقع منهم فعلى سبيل الغلط والوهم والخطأ.
وهذا شأن عامتهم، فكيف بعلمائهم وساداتهم كالحارث!؟
وما صار التابعون يأخذون الحذر من الرواة ويحتاطون في الأخذ حتى وقعت
الفتنة، فلما وقعت، نظروا من كان من أهل السنة أخذوا حديثه، ومن كان من
أهل البدع تركوا حديثه - كما قال ابن سيرين - رحمه الله تعالى.
وهذا الاحتياط لم يكن منهم لأجل انتشار الكذب بينهم، وإنما كان لأجل
المذهب والخروج عن جماعة أهل السنة.
ثم بعد أن قررت هذا، وسنح في الفهم عند كتابة هذه السطور، وجدت
الذهبي - رحمه الله تعالى - يقول في رسالته: " في الثقات المتكلم فيهم بما لا
يوجب ردهم ": 4 بعد كلام ما نصه:
وأما التابعون، فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمدا، ولكن لهم غلط وأوهام،
فمن ندر غلطه في جنب ما قد حمل احتمل، ومن تعدد غلطه وكان من أوعية العلم
اغتفر له أيضا، ونقل حديثه، وعمل به على تردد بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج
عمن هذا نعته، كالحارث الأعور، وعاصم بن ضمرة، وصالح مولى التوأمة،
وعطاء بن السائب، ونحوهم، ومن فحش خطؤه وكثر تفرده لم يحتج بحديثه، ولا
يكاد يقع ذلك في التابعين الأولين، ويوجد ذلك في صغار التابعين فمن بعدهم.
أه‍. كلامه.
فأفاد هذا التقرير، من الحافظ الناقد المتقن الذهبي - رحمه الله تعالى - فيما
يتعلق بالحارث أمورا:
أولها: أن الحارث لم لكن كذابا كما زعم الشعبي، لأن الكذب لم يكن يصدر
من التابعين عمدا.
ثانيها: أن حديثه يعمل به في الأحكام وينقل بين الناس، ولهذا احتج أصحاب
كتب السنة بحديثه للمعنى الذي ذكره الذهبي، والتردد في ذلك لا يضر، فقد
40

ذكرت أن ذلك التردد لا أساس له ولا دليل عليه، وأن الحارث ثقة يعمل بحديثه
قولا واحدا على حسب القواعد المقررة.
ثالثها: إن الحارث لم يقع منه تفرد في حديثه، وإنه لم يكن ممن فحش خطؤه
وكثر همه، لأنه كان من التابعين الأولين، وإنما ذلك يوجد في صغار التابعين فمن
بعدهم.
فأين يذهب الألباني من هذا الكلام الذي قرره الذهبي الحافظ الناقد، الذي ما
أتى بعد يحيى بن معين خبير بأحوال الرجال مثله، في شأن الحارث وحكمه فيه بأنه
ممن يعمل بحديثه وينقل عنه!؟
ومعلوم أن الذهبي لم يكن له بالتشيع صلة، ولا له بالشيعة رابطة، حتى يتهم
هو الآخر بأنه قال ما قال لأجل تشيعه.
فظهر من هذا أن الألباني ليس له معرفة بالرجال، ولا له غوص في نقل عبارات
أهل الجرح.
وإنما شأنه فأصر على جمع طرق الحديث، وذكر الصفحات بأرقامها التي يوجد
فيها الحديث لا غير، وكون السند فيه ثقة أو ضعيفا، أما نقد الرجال والكلام على
علل الحديث الخفية التي هي أهم علوم الحديث، فهذا لا يعلمه ولا يدريه، ولا
شأن له به في كلامه على الأسانيد، كما يظهر من كتبه وتعاليقه.
فتجده يصحح ما هو موضوع، ويضعف ما هو صحيح، ويحكم بوقف ما هو
مرفوع.
ولكنه اغتر بفراغ الجو وخلو البلاد ممن يشتغل بالحديث على الوجه الصحيح، (1)
ولم يجد بين أهل العلم من يتفرغ لبيان أوهامه وسقطاته وأغلاطه التي أرجوا أن يهيئ

(1) قلت: وخصوصا بلاد الشام فليس فيهم محدث البتة والشيخ بدر الدين الذي شهروا بأنه محدث لم يكن
كذلك ويشهد لذلك عدم تخرج تلامذة به يعرفون الحديث مع علم وجود كتب حديث من تصنيفه
تدل على أنه محدث وكل من عرفته أو سمعت عنه يشهد له بأنه محدث هو حقيقة لا يعرف الحديث،
وإنما يتناقل الناس ذلك دون تمحيص وإدراك وقد نقل الحافظ الشريف أحمد الغماري في بعض كتبه
بأنه حضر عليه فوجده لا يعرف الحديث. وليي هذا طعنا بالشيخ البتة وإنما هو إخبار بالواقع أه‍
حسن.
41

الله تعالى الفرصة لبيانها، حتى يعلم الطلبة أنه محدث الأوراق والصحف.
وأعظم دليل على هذا ما وقع له في شأن الحارث، مع وقوفه على قول الذهبي في
ترجمة الحارث في " الميزان " أن الجمهور على توهينه، فأخذ ذلك منه مسلما،
ورأى أن ذلك هو الحق، لأنه ليس له أهلية لمعرفة صواب كلام أهل الجرح من
خطئه، وحقه من باطله، وإلا لو كانت له أهلية وكفاءة، وكان محدثا على طريق
النقاد، لتتبع كلام أهل الجرح وسبر أقوالهم، ليعلم هل قول الذهبي في الحارث أن
الجمهور على توهينه صواب أم خطأ؟ حق أم باطل؟
لأن الذهبي، وإن كان حافظا ناقدا، لكنه له أوهام وأغلاط في كلامه على
بعض الرجال، من لم يتنبه لها يقع في حبالتها.
كما يقع له أيضا أوهام في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وتساهل في الكلام
على أسانيدها، كما يعلم ذلك من قرأ تلخيص المستدرك له، ومن ذلك قوله في
الحارث إن الجمهور على توهينه، فإنه وهم محض، وتسرع في القول لا غير.
ولو تتبع الألباني، كلام أهل الجرح في الحارث - كما حصل لنا - ونظر في
مخرج جرح المجرحين له، لعلم وتحقق أن الجمهور الذي قال الذهبي أنه اتفق على
توهين الحارث لا يوجد إلا في (الميزان) للذهبي - رحمه الله تعالى - وأنه لا حقيقة
له في الخارج مطلقا، كما يقولون في العنقاء.
لأن الجمهور الذي يخرج منه الحسن والحسين، ومعهما والدهما - عليهم
السلام - وأهل الكوفة جميعا، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وابن معين،
وأحمد بن صالح المصري، وحبيب بن أبي ثابت، والنسائي، وأبو بكر بن أبي
داود، وأبو حفص ابن شاهين، وابن عبد البر، وغيرهم كثير ممن وثقه وأثنى
عليه. بل قال ابن معين: ما زال المحدثون يقبلون حديثه.
الجمهور الذي يخرج منه هذا العدد الجم من أئمة السلف والخلف، لجدير أن
ينبذ نبذ النواة، ويطرح في زوايا الترك والاهمال، ويسدل عليه ستار النسيان.
ويكفي في رد دعوى الذهبي - رحمه الله تعالى - هذه في كون الجمهور على
هين الحارث:
42

أنه كان معدودا من سرج الكوفة - كما قال سعيد بن جبير - رضي الله تعالى عنه
لهذا ذكره أبو إسحاق الشيرازي - رحمه الله تعالى - في فقهاء التابعين
بالكوفة، وقد ذكر منهم علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد بن قيس، والنخعي،
ومسروق، وشريح بن الحارث القاضي، والحارث الأعور.
وقال - بعد أن ترجم لهؤلاء الستة ما نصه -: وهؤلاء الستة الذين ذكرناهم
أصحاب عبد الله بن مسعود، وقال سعيد بن جبير: كان أصحاب عبد الله سرج
هذه القرية.
وقال فيهم الشاعر:
وابن مسعود الذي سرج القرية أصحابه ذوو الأحلام
وله جماعة من غير هؤلاء من الأصحاب. قال الشعبي: ما كان من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفقه صاحبا من عبد الله بن مسعود، أنظر
" طبقات الفقهاء " لأبي إسحاق الشيرازي: 80.
وقد اقتصر أبو إسحق الشيرازي في هذه الطبقات على ذكر فقهاء الأمصار الذين
لا يسع الفقيه جهلهم لحاجته إليهم في معرفة من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع ويعتد
به في الخلاف، وذكر ما دل على علمهم من ثناء الفضلاء عليهم. أنظر
" الطبقات ": 31.
فالذي يتمسك بقول الذهبي في توهين الحارث بعد هذا هو الواهي حقيقة.
وأرى أن الذهبي نفسه - رحمه الله تعالى - ناقض نفسه في دعواه توهين
الجمهور للحارث، حيث قال في كلامه السابق، الذي ذكره في رسالة " الرواة
الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ": أن الحارث وشبهه يعمل بحديثه. وينقل
على تردد بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج عمن هذا نعته.
فجعله ممن تردد الأئمة في الاحتجاج به، وهذا يرد دعوى توهين الجمهور له.
وكذلك ناقض الذهبي نفسه حيث قال: مع روايتهم لحديثه في الأبواب، وهذا
الشعبي يكذبه ثم يروى عنه، والظاهر أنه يكذب في لهجته وحكاياته وأما في
43

الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم... الخ كلامه المذكور، في " الميزان "
1 / 202.
فرواية أهل الحديث لحديثه في الأبواب دليل على أنه لم يوهنوه، كما ذكرت ذلك‍
في " الباحث ".
وأما قوله: والظاهر أنه كان يكذب في لهجته، فباطل أيضا، بل من أبطل
ا لباطل.
لأن المقرر عند أهل الحديث أن الراوي إذا كان يكذب في لهجته وكلامه ولا
يكذب في حديثه، فروايته أيضا غير مقبولة.
لأن العدالة لا تتجزأ ولا تتبعض، فلا يكون الراوي ثقة عدلا في جهة، وكذابا
فاسقا في جهة أخرى. وهذا مما تشترك فيه الرواية مع الشهادة.
بخلاف الضبط، فقد يكون الراوي ضابطا في شيخ، ضعيفا في آخر، كما هو
معلوم لصغار الطلبة. أما العدالة فلا تتبعض ولا تتجزأ مطلقا، لا سيما وقد قالوا
في تعريف الثقة: هو الذي يجتنب الكبائر ولا يتظاهر بخوارم المروءة. وهل هناك
كبيرة أعظم وأقبح من الكذب، والإخبار بغير الواقع!؟ وإن كان يعفي رجال
الحديث قبل رواية الرجل الذي يكذب في لهجته وكلامه، ولا يكذب في حديثه.
وذلك مذكور في المصطلح، ويظهر أن الذهبي - رحمه الله تعالى - مشى على هذا
القول في توجيه طعن الشعبي بالكذب في الحارث.
وهو مردود عقلا ونقلا، ولا يتمشى مع القواعد المقررة، فكن منه على بال.
والمقصود بعد هذا، أن الحارث ثقة عدل رضي، وثقة الأئمة من رجال السلف
والخلف. بل لو قلت: الاتفاق قد حصل ووقع على توثيقه، إلا ما شذ من الأقوال
المخالفة للجمهور لكنت صادقا في ذلك، ومن خالف الجمهور في ذلك فخلافه
مردود بما تقتضيه القواعد المقررة التي لا يمكن نقضها وردها، كما بينت ذلك، في
" الباحث ".
ولأجل ذلك احتج به أصحاب السنن، وذكروا حديثه في الأبواب، فإنه لا
معنى لذلك إلا كونه حجة صالحا للعمل.
44

بل قال الذهبي في " الميزان، 1 / 23: والنسائي مع تعنته في الرجال، قد احتج
به
وهذه شهادة من النسائي بأن الطعن الذي وقع في الحارث، مردود غير مقبول،
ولا يلتفت إليه، لأنه ما دام متعنتا في الرجال - والمتعنت المتشدد - يرد حيث
الراوي بما لا يكون جرحا، فكيف إذا جرح بالكذب!؟.
فاحتجاجه بالحارث، مع هذا، دليل واضح على أنه ثقة؟ وأن الطعن الذي قيل
فيه، لا أساس له يستند عليه، وأن حديثه صحيح كسائر أحاديث الثقات.
ولهذا صرح بصحته الإمام حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله تعالى
- حيث قال في " التمهيد " 4 / 287 في الكلام على الصلاة الوسطى بعد كلام ما
نصه: والصحيح عن علي من وجوه شتى صحاح أنه قال في الصلاة الوسطى:
صلاة العصر. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رواه عنه جماعة
من أصحابه، منهم عبيدة السلماني، وشتير بن شكل، ويحيى الجزار، والحارث.
والأحاديث في ذلك صحاح ثابتة، أسانيدها حسان. أ ه‍.
والألباني لشذوذه وجهله بالجرح والتعديل، وأخذه الأقوال في ذلك من غير
نقد لها ولا بحث ولا تحقيق ولا تمحيص، خالف عمل هؤلاء الأئمة من السلف
والخلف في توثيق الحارث وتصحيح حديثه، وصار يحكم على حديث الحارث
بالوضع اغترارا منه بكلام الذهبي في دعواه أن الجمهور على توهينه.
كما وقع منه في كلامه، على حديث: الأنبياء قادة، والفقهاء سادة، ومجالسهم
زيادة. فقد ذكره في " الضعيفة " 1 / 54 وقال: موضوع، أخرجه الدارقطني،
والقضاعي في " مسند الشهاب "، من طريق أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي
بن أبي طالب مرفوعا.
ثم قال الألباني: وهذا سند ضعيف جدا. الحارث: هو ابن عبد الله الهمداني
الأعور ز قد ضعفه الجمهور. +
وقال ابن المديني: كذاب.
وقال شعبة: لم يسمع أبو إسحاق منه إلا أربعة أحاديث... الخ كلامه.
45

وقد أظهر في هذا الكلام من الجهل ما يضحك منه صغار الطلبة، لأنه فضح به
نفسه، وأظهر للناس صدق قولنا فيه: إنه محدث الأوراق والصحف، ولا يغوص
لاستخراج علل أسانيد الأحاديث الخفية، ولا يغوص لاستخراج علل أسانيد
الأحاديث الخفية، ولا يتتبع الطرق ويعتبر بها، كما هو مقرر عند أهل هذا العلم،
وإنما غايته كغيره ممن يتعاطى الاشتغال بالحديث أن يرجع إلى رجل من رجال
السند، فيكتفي بما قيل فيه في الطعن في الحديث، وإن كان ذلك الراوي المسكين
لا ناقة له ولا جمل في علة الحديث، وهذا صنيع المبتدئين البسطاء في هذا الفن.
ولبيان تهوره هذا أقول: إن الحارث برئ من هذا الحديث براءة الذئب من دم
يوسف. ولا علاقة له به مطلقا.
والألباني أوقعه في هذا الخطأ القبيح والغلط الشنيع، تقليده لأبي الطيب العظيم
آبادي، فهو الذي اقتصر على إلصاق التهمة في هذا الحديث بالحارث في كتابه:
" التعليق المغني على الدارقطني " 3 / 80 وذلك قصور منه.
واعتماد الألباني عليه - لعدم وصوله إلى درجة الاجتهاد في الكلام، على الرجال
أوقعه كما قلنا فيما كشف به عن جهله.
وذلك أن الحديث رواه الدارقطني في آخر كتاب البيوع من " سننه " 3 / 80
والخطيب في " الفقيه والمتفقه) 1 / 32 من طريق الهيثم بن موسى المروزي، عن عبد
العزيز بن الحصين بن الترجمان، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن
علي - عليه السلام - به مرفوعا.
فالقاعدة المقررة، عند أهل العلم بالحديث، والأمر الذي عليه العمل عندهم،
وهو الذي يقتضيه النظر أيضا:
إن الحديث يجب أن يعلل أولا بالهيثم بن موسى المروزي المجهول، فإني لم أقف له
على ترجمة فيما لدي من كتب الرجال، وإنما الذي وجدته عنه هو ذكر الخطيب له
في " تاريخ بغداد " في ترجمة إسحاق بن البهلول، الذين أخذ عنهم الفقه، فقال:
وذكر أهله أنه كان فقيها، حمل الفقه عن الحسن بن زياد اللؤلؤي، وعن الهيثم بن
موسى صاحب أبي يوسف القاضي. فهذا ما وجدته عنه. فالرجل في عداد
المجهولين فيما يظهر.
46

فكان يجب على الألباني - لو كان بصيرا بنقد الأسانيد - أن يبدأ في الكلام على
سند الحديث الذي أعله بالحارث من أوله ليسلم له التعليل. وإلا، فما دام السند لم
يثبت إلى الحارث، فمن قال له: إنه من صنعه. هذا لا يقوله طالب في هذا العلم
أبدا.
ثم بعد هذا، هناك علة أكبر من علة وجود هذا الرجل المجهول:
وهي علة العلل التي يجزم بسببها طالب الحديث بأن الحارث برئ من هذا
الحديث، وأنه لا يرميه به إلا الرجل العامي في هذا العلم.
وهذه العلة هي عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان، شيخ الهيثم بن موسى، فإنه
ضعيف جدا.
قال البخاري: ليس بالقوي عندهم.
وقال ابن معين: ضعيف.
وقال مسلم: ذاهب الحديث.
وقال ابن عدي: الضعف على رواياته بين.
وقال أبو داود: متروك الحديث.
وتال أبو القاسم البغوي: ضعيف الحديث.
وقال أبو زرعة الدمشقي: سألت أبا مسهر. فقلت. عبد العزيز بن الحصين
ممن يؤخذ عنه؟ فقال: أما أهل الحزم فلا يفعلون.
وقال ابن المديني: روى عنه معن وغيره، بلاء من البلاء، وضعفه جدا.
وقال النسائي في " التمييز ": ليس بثقة، ولا يكتب حديثه.
وقال الحافظ في " اللسان ": وأعجب من كل ما تقدم أن الحاكم أخرج له في
" المستدرك " وقال: إنه ثقة. أنظر " اللسان " 4 / 28.
وقال الذهبي في " المغنى " 2 / 397: ضعفه يحيى والناس. وكذلك قال في
" ديوان الضعفاء ": 195.
فوجود عبد العزيز بن الحصين هذا هو الذي يجب أن يعلل به الحديث، كما هي
قاعدة أهل العلم في مثل هذا، لأنه لم يوثقه أحد، وقيل فيه: إنه متروك غير ثقة.
47

فكيف يترك تعليل السند به ويرحل إلى الحارث الذي وثقه الجمهور - كما قلنا -
وعمل أهل السنة بحديثه. واحتجوا به، كأنه لا يوجد ضعيف في السند إلا هو.
فتنبه لهذا تعلم قصور الألباني في كلامه على أسانيد الحديث، وأنه صحفي لا
غير.
وحتى لو سلمنا له أن الحارث ضعيف وكذاب - كما قال - ولكن من يثبت لنا
أنه هو صاحب الحديث ما دام الطريق إليه فيها متروكا وغير ثقة؟!
ولو سلمنا له سلامة السند من كل هذا، وأن التهمة فيه من جهة الحارث
وحده، ولكن ما زالت في الطريق إلى الصاق التهمة بالحارث علة أخرى تحول عند
أهل الحديث دون الصاق التهمة به. وهذه العلة هي تدليس أبي إسحاق السبيعي،
فإنه كان مدلسا، وقد عنعن في روايته عن الحارث، وعنعنة المدلس لا يقبلها أحد
من أهل العلم مطلقا، لا عند المحدثين ولا عند غيرهم.
وأبو إسحاق السبيعي ذكره الحافظ - رحمه الله تعالى - في المرتبة الثالثة، من
" طبقات المدلسين ": 14 وقال: مشهور بالتدليس.
بل نقل الحافظ في " تهذيب التهذيب " 8 / 66 عن الجوزجاني: أنه قال: كان
قوم من أهل الكوفة لا تحمد مذاهبهم - يعني التشيع - هم رؤوس محدثي الكوفة:
أبو إسحاق، والأعمش، ومنصور، وزبيد، وغيرهم من أقرانهم، احتملهم
الناس على صدق ألسنتهم في الحديث، ووقفوا عندما أرسلوا، لما خافوا أن لا
تكون مخارجها صحيحة. فأما أبو إسحاق، فروى عن قوم لا يعرفون، ولم ينتشر
عند أهل العلم إلا ما حكى أبو إسحاق عنهم.
وهذا الكلام الذي قاله الجوزجاني - وإن كان مردودا من جهة الطعن بالتشيع
- فإنه أخبر فيه بأن أبا إسحاق يروي عمن لا يعرف، ويرسل عنهم.
فيجب على قوله هذا ترك عنعنته - كما هو معلوم - لاحتمال أنه أخذه عمن لا
يعرف.
ولهذا قال معن: أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق للتدليس.
فهذه العلة وحدها تدفع التهمة عن الحارث، وتظهر أن من ضعف الحديث
48

بسببه بعيد عن صناعة الحديث بعد السماء عن الأرض.
ومن الأمور التي تدل على تصور الألباني: أنه اقتصر في كلامه على الحارث على
قوله: ضعفه الجمهور. وقال ابن المديني: كذاب.
وترك ذكر العدد الكبير الذي وثقه وأثنى عليه كما ذكر ذلك في ترجمة الحارث
من كتب الجرح. وقد ذكرت ذلك فيما سبق.
والمقرر عن المحدثين والذي عليه عملهم: أنه يجب أن يذكر في الراوي ما قيل
فيه من جرح وتعديل ومدح وذم ليعرف منزلة قول الجارح من المادح، فإن
عبارات المجرحين يظهر الخلل فيها من أقوال الموثقين للراوي نفسه كما هو معلوم.
ولعلي أشرت إلى هذا في " الباحث "، من ذلك: أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا كما
أجمع عليه أهل النقد من أهل الحديث، اللهم إلا إذا كان الراوي لم يوثق مطلقا.
أما إذا كان الراوي وثقة جماعة وجرحه آخرون بجرح غير مفسر، فالجرح
مردود غير مقبول قولا واحدا بدون خلاف من أحد.
كما هو الحال في الحارث، فإن المجرحين له لم يفسروا جرحهم له، ولم يبينوا
أسبابه، فيطرح جرحهم ويترك ويعمل بقول من وثقه، وهو الجمهور من السلف
والخلف.
ولكن الألباني اقتصر على قوله: إنه كذاب، والجمهور على تضعيفه. ونحن لا
نكون مثله، فنقول: إنه يشم منه رائحة النصب، وقد عابوا على ابن الجوزي في
كتابه في الرجال صنيعه الذي تفرد به عن أهل الحديث، وهو الاقتصار على ذكر ما
قيل في الرجل من الجرح دون التعديل، لأن ذلك ينافي الأمانة أولا، ويضلل
الباحث عن حال الرجال ثانيا.
ومما يضحك ويجعل حبوتك تنحل عجبا من هذا الألباني: أنه جعل قول
شعبة: لم يسمع أبو إسحاق منه إلا أربعة أحاديث، مما يجرح به الحارث، مع أن
هذا لا دخل له في باب الجرح مطلقا عند أهل الحدث النقاد، وإنما هو إخبار عن
كون أبي إسحاق لم يكن من المكثرين عن الحارث لا غير. كما أن عددا من المشاهير
الثقات من رجال الصحيح لم يرو عنهم بعض الأئمة إلا حديثا واحدا، فضلا عن
أربعة.
49

ولم يقل أحد أن ذلك جرح لهم، وهذا موضوع معروف بين أهل الحديث،
وألفوا فيه التآليف، بل يوجد هذا حتى في الصحابة، ففيهم عدد كبير لم يرو عنهم
الرواة إلا حديثا واحدا أو ثلاثة أو أربعة.
وحتى لو سلمنا للألباني فهمه، فإن هذا يكون حجة عليه في رمي الحارث بهذا
الحديث، لأنه يدل على أن أبا إسحاق لم يسمع هذا الحديث من الحارث، فلماذا
يرميه به إذن، ويتهمه بوضعه هذا؟! والله إنه الدخول فيما لا يحسنه الانسان.
ومن جهله أيضا، ظنه أن توثيق الراوي لشيخه لا يتم حتى يروي عنه العدد
الكبير من الأحاديث. ولهذا اعتمد على قول شعبة هذا، مع أن هذا الشرط لا تجده
إلا في مخيلة الألباني.
وإلا فلا فرق في ذلك بين أن يروي شيخ حديثا واحدا أو مئة في الدلالة على
كونه ثقة عنده إن قلنا: إن الرواية عن الشيخ تدل على كونه ثقة عند الراوي عنه.
والمسألة فيها نزاع شهير مذكور في محله.
ثم مما يعرفك بضعف الألباني في هذا العلم، وقصوره فيه، وعدم اتباعه للمقرر
فيه عند أهله، أنه حكم على الحديث أولا بأنه موضوع، ثم قال بعد أن ذكر سند
الحديث الذي علقه من طريق أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب:
وهذا سند ضعيف جدا. فحكمه أولا بأن الحديث موضوع - وهو شر الضعيف
لأنه لا درجة بعده مطلقا - ثم حكمه على السند بأنه ضعيف جدا ثانيا، تناقض
عظيم، وجهل كبير، يعلمه طلبة " نخبة الفكر " لأن السند الضعيف جدا لا يصل
أن يكون به الحديث موضوعا.
بل يحتمل أن يكون واهيا يرتفع إلى درجة الضعيف.
بخلاف الحديث الموضوع، فإنه لا يرتفع إلى درجة الضعيف مطلقا، ولا تنفع
فيه المتابعات والشواهد. وهذا أمر معلوم لا يحتاج إلى شرحه للألباني، وعليه
بقراءة " النخبة " ليعلمه، وفي الوقت الذي نجد فيه الألباني يرفض الاعتماد في
التصحيح والتضعيف على الحفاظ النقاد، لأن ذلك يكون غالبا فيما لا يوافق هواه.
ولا يتمشى مع رأيه، نراه هنا يؤيد قوله ورأيه في الحارث بما لا يعد تأييدا عند
50

العلماء، وذلك في قوله: وفي " الكشف " قال القاري: هو موضوع كما في
" الخلاصة ".
كأن الألباني يرهب خصومه ويرفع في وجههم السلاح الفتاك إذا أرادوا
معارضته في الحكم على الحارث بالكذب بقول القاري: هو موضوع، كأن
القاري - رحمه الله تعالى - يحيى بن معين، أو علي بن المديني، أو الحافظ ابن
الحجر، أو المنذري، رضي الله عنهم جميعا.
مع أنه لا يعد في هذا العلم شيئا مذكورا، ولا هو فيه بالرتبة التي يذكر بسببها
فيه أهل الحديث، كما تدل كتبه ومصنفاته، بل إذا رأيت الذي يشتغل بالحديث
يذكر في كتبه القاري محتجا به ومستشهدا بكلامه، فاعلم أنه لا يأتي منه شئ في
هذا العلم.
وفي الختام، أراد الألباني أن يجهز عل الحديث مرة واحدة، ولا يدع للنزاع معه
طريقا، فتناول الطعن في الحديث من جهة معناه، فقال: ولوائح الوضع عليه
ظاهرة. وهذا منه مجرد تحكم بالهوى، ودفع بالصدر، وإلا فما الذي يلوح عليه
من علامات الوضع؟ ومعناه واضح ظاهر لذي عينين، وورد ما يشهد له في
أحاديث كثيرة.
وورد موقوفا عن أبي مسعود، بلفظ: المتقون سادة، والفقهاء قادة،
ومجالسهم زيادة. رواه الطبراني في " الكبير ".
قال الهيثمي في " المجمع " 1 / 126: ورجاله موثقون.
فالحكم على الحديث بأن لوائح الوضع عليه ظاهرة، من غير أن يكون هناك
دليل شرعي يشهد بفساد ذلك المعنى، أو دليل عقلي قاطع على ذلك، جرأة عظيمة
من صاحبه، وهو يفتح الباب أمام الجهلة المتنطعين لرد الأحاديث الثابتة لمجرد عدم
فهمهم لمعناها، وقصور عقلهم عن إدراك مراد الشارع منها.
وبعد، فقد تبين مما ذكرناه في هذه السطور، وأشرنا إليه في هذه الورقات
اليسيرة، إن القول بأن الحارث ثقة، هو قول الجمهور، وهو الذي مشى عليه
أصحاب السنن، وعليه كان أهل الكوفة، وقد كانت عامرة بالأئمة من علماء
التابعين وفقهائهم وغيرهم، وإن القول بأنه غير ثقة لا نصيب له من الصواب،
51

لأنه لا يؤيده دليل ولا برهان، ولا تشهد له قواعد علم الحديث التي يحتكم إليها
عند الخلاف، ويرجع إلى فصلها عند النزاع.
وإن كان الألباني لا يقول بقاعدة، ولا يرجع إلى أصل يحتكم إليه.
وهو يخترع القواعد على حسب ما يظهر له ويريد فهمه، ولهذه تجده في كلامه
على الأحاديث يصحح ويضعف ويثبت ويبطل بما يخالفه هو نفسه إذا اقتضى نظره
وجداله وخصامه ولدده ذلك.
لأن قواعده مبعثرة، فلا هي تابعة لأهل الحديث، ولا لأهل الأصول، ولا
للفقهاء، وغرضه بذلك الهرب من الوقوع في يد خصمه إذ وقع في نزاع فيما
يختاره من الأقوال الشاذة الواهية وهي كثيرة، في صفة صلاته، وتجهيز جنازته،
وحجاب امرأته، وحلية نسائه، وسلسلة أحاديثه، بحيث لو تتبعها الانسان
لأخرج منها كتابا مفيدا للفكاهة وقت الاستراحة من العمل الشاق، يصلح أن
يكون ذيلا لكتاب: " أخبار الحمقى والمغفلين " لابن الجوزي - رحمه الله
تعالى -.
ومن شذوذه المضحك: ما وقع منه في شأن الحارث من جزمه بكذبه،
واعتراضه علي في توثيقي له، الأمر الذي يوهم الغر المبتدئ أني تفردت بذلك عن
الجمهور.
وهو اعتراض - كما قلت - ينبئ عن جهل، وعجز، وقلة اطلاع، وتهجم
على القول لمجرد النزاع والجدال ونشر الخصام لا غير.
ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " اتركوا الترك " لخضنا
معه في بيان أوهامه الساقطة، وأقواله الخارجة عن إجماع المسلمين، في المصطلح
والحديث وفي الأصول، الذي ظهر من كلامه فيه أنه لا يتقنه، ولا يحسن
معرفته، ولذلك يخالف قواعده المقررة عند أهله.
وكذلك أقواله في الفروع التي خالف فيها إجماع السلف والخلف، رغبة في
التفرقة وبث الشقاق والخلاف، فيما لا يفيد ولا ينفع المسلمين، بل يضرهم وينفع
غيرهم، الأمر الذي يدل على دغل، والعياذ بالله تعالى.
52

وكذلك أقواله الشائنة فيما يتعلق بذات الله تعالى، مما يدل على أنه لا يعرف ما
يستحيل وصف الحق تعالى به، كقوله: العصمة لله تعالى. (1)
وهي كلمة لا تصدر إلا من جهلة العوام، ومن دخل في دين الإسلام عن
كبر.
ولكن يكفي في ذلك ما ذكرناه وأشرنا إليه، وقد قالوا: يكفي من القلادة ما
أحاط بالعنق. وبالله تعالى التوفيق، ومنه وحده المعونة والتأييد.

(1) وكإقراره لشارح الطحاوية في ما ذكره في الشرح من أغلاط كقدم نوع العالم وإثبات الحد لله دون أن
يعلق على تلك العبارات بالانكار وغير ذلك وقد بينا ذلك في رسائل عديدة.
53

الفصل
وأما قصوره الذي أظهره في الاعتراض علي في توثيق الحارث لكونه شيعيا،
فهو أن توثيق الشيعي ليس بأمر منكر، ولا بالطريق الصعب، ولا بالسبيل الوعر.
بل الراوي الشيعي كغيره من الرواة، إن كان ثقة ضابطا فحديثه صحيح
مقبول، يجب الأخذ به ويحرم رده.
وعلى هذا عمل أهل الحديث قاطبة، وفي مقدمتهم الإمامان: البخاري
ومسلم.
فلا يحصى كم عدد رواتهما من الشيعة، بل وممن وصفوا بالغلو في التشيع.
فإخراج أحاديثهم في صحيحهما أعظم دليل على أن الشيعي كغيره من الرواة في
صحة حديثه إذا ثبت عدالته وضبطه.
وكتب الرجال، ك‍ " تهذيب الكمال " و " تهذيب التهذيب " و " الميزان " و
" لسان الميزان " وغيرها، مملوءة بالرواة الشيعة الذين وثقهم أئمة الجرح والتعديل.
بل تجد الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - يذكر في " لسان الميزان " رجالا
من الشيعة ينقلهم من كتب رجال الشيعة للكشي والنجاشي، وينص على
توثيقهم، ولو تتبع الانسان " اللسان " لأخرج عددا كبيرا منهم.
فلا يرد حديث الثقة الشيعي إلا من قصر نظره وقل علمه ولم يدر ما اتفق عليه
أئمة الحديث والسنة من الاحتجاج بحديث الشيعي الثقة.
وكيف يردون حديثه ولا يوثقونه لأجل تشيعه، والتشيع كان فاشيا في
التابعين. فلو رد حديث الثقة الموصوف بالتشيع لرددنا من أجل ذلك جملة كبيرة
من أحاديث التابعين، وذلك يذهب عدد كبير من الأحكام الشرعية أدراج
الرياح، وهذا لا يقول به أحد، ولم يقل به أحد، ولن يقول به أحد، اللهم إلا
الرجل القصير النظر، الذي لا يميز بين الليل والنهار.
قال الذهبي - رحمه الله تعالى - في ترجمة أبان بن تغلب 1 / 5: شيعي جلد،
لكنه صدوق، فلنا صدقة، وعليه بدعته.
54

ثم قال بعد أن ذكر من وثقه من الأئمة - ما نصه: غلو التشيع، أو التشيع بلا
غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو
رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
فرد حديث الشيعي الثقة مفسدة بينة، كما قال الذهبي - رحمه الله تعالى - لما
يترتب على ذلك من ذهاب جملة من الأحاديث النبوية. فلهذا كان عمل أهل
الحديث سلفا وخلفا، وفي مقدمتهم: البخاري ومسلم، على الاحتجاج بحديث
الشيعي الثقة.
فمن رد حديثه، ورأى توثيقه منكرا، وعملا غير مشروع، وأمرا لا يجوز،
فهو شاذ، خارج عن إجماع أهل الحديث، فلا يعتبر به، ولا يلتفت إلى كلامه.
وصدور ذلك منه يدل على قصوره في علم الحديث، وعدم معرفته بما أجمعوا
عليه من مسائله بينهم.
ويكفي في الدلالة على أن الشيعي محتج بحديثه مقبول الرواية، إذا كان ثقة،
وأن هذا هو الذي عليه جماعة أهل الحديث واتفقت الأمة معهم في ذلك، إخراج
البخاري ومسلم لحديثه، فإن ذلك دليل على إطباق الأمة، سلفها وخلفها، على
الاحتجاج بالشيعي لإطباق الأمة على قبول حديث الصحيحين والاحتجاج بهما
والحكم عليهما بأنهما أصح الكتب بعد القرآن.
فهذا وحده كاف في كون الشيعي الثقة مجمعا على الاحتجاج به، مقبول
الرواية. ومن خالف ذلك فقد خرج عن هذا الإجماع، ورد ما أجمعت الأمة على
قبوله، والله تعالى يقول: (ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله
جهنم) " سورة النساء الآية 115 " وكفى هذا فسادا لقول الألباني في الاعتراض
على توثيق الحارث الشيعي.
قال الحافظ - رحمه الله تعالى - في مقدمة " الفتح " (384): ينبغي لكل
منصف إن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتضيا لعدالته عنده
وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور
الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين. وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في
الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما.
55

ثم قال بعد كلام: وقد كان أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه
في الصحيح: هذا جاز القنطرة. يعني بذلك: أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
وقال الشبخ أبو الفتح القشيري في مختصره: وهكذا نعتقد، وبه نقول، ولا
نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه
من اتفاق الناس - بعد الشيخين - على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم
ذلك تعديل رواتهما.
ثم قال الحافظ: (قلت): فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح، لأن
أسباب الجرح مختلفة... الخ كلامه، وهو دال على أن التشيع لا دخل له في عدالة
الراوي، ولا علاقة بضعفه.
وأنه إذا ثبت براءة الشيعي من الكذب والغفلة، فحديثه صحيح يحتج به، ولو
كان غالبا في التشيع، فإن ذلك لا يضره أيضا في العدالة، لأن الغلو في التشيع ليس
مفسقا لصاحبه، ولا يعد به من المبتدعة الخارجين عن الجماعة، كما بين ذلك
الحافظ في مقدمة " الفتح ". بل أغلب التابعين كان على هذا كما قال الذهبي، ومع
ذلك ما رد حديثهم أحد.
وفي الصحيحين أحاديث كثيرة، من رواية أهل الغلو في التشيع.
وبذلك يكون أيضا إجماع الأمة على قبول حديث الشيعي الغالي في التشيع - كما
تقدم - في كلام الحافظين: ابن دقيق العيد، وابن حجر - رحمهما الله تعالى -.
وذكر الذهبي في ترجمة أبي أحمد الحاكم، من " تذكرة الحافظ " 3 / 978: قال
أبو أحمد الحاكم: سمعت أبا الحسين الغازي يقول: سألت البخاري عن أبي غسان.
فقال: عم تسأل عنه؟.
قلت: شأنه في التشيع.
فقال: هو على مذهب أئمة أهل بلدة الكوفيين، ولو رأيتم عبيد الله وأبا نعيم
وجميع مشايخنا لما سألتمونا عن أبي غسان.
قلت: ولو تتبعت تراجم أئمة الكوفة لما وجدت واحدا منهم لم يوصف
بالتشيع، وأغلبهم له رواية في الصحيحين، بل منهم من كان من سادات أهل
56

الحديث ورؤوس محدثي الكوفة، مثل: أبي إسحاق السبيعي، والأعمش،
ومنصور بن زبيد، والشعبي.
وإن كان الذهبي يقول في حق الشعبي: إن تشيعه يسير كما نقل ذلك صاحب
(الروض الباسم، في الذب عن سنة أبي القاسم) 1 / 148 عن (النبلاء) للذهبي،
أنه قال: روى الشعبي عن حذيفة أنه تكلم في أبي موسى بكلام يقتضي أنه منافق،
ثم قال: في الشعبي تشيع يسير.
وقول من قال: إن الشعبي يقبل حديثه فيما لا يؤيد مذهبه ولا يوافق رأيه،
باطل أيضا.
فالعمدة في الرواية على العدالة والضبط، فإذا ثبتا في الراوي فلا معنى للنظر في
شئ زائد عنهما، إلا التعنت والتمحل في رد ما لا يوافق الهوى.
ولا يجوز في العقل، أن يكون الرجل حجة ثبتا ثقة في حديث ويكون في الوقت
نفسه كذابا متهما باطل الرواية في حديث آخر.
والثقة على هذه الصورة، لا يوجد إلا في مخيلة النواصب، ومن تبعهم من
الجهلة.
وأما المسلمون عموما، لا فرق بين عالمهم وجاهلهم، فالثقة عندهم: هو
الذي يجتنب الكبائر، ولا يعتمد الولوج في الصغائر، ولا يتظاهر بخوارم المروعة.
وإذا ارتكب كبيرة، وتظاهر بها، أو عرفت عنه، فهو فاسق لا يقبل حديثه
مطلقا بتاتا، سواء كان صادقا فيه أو لم يكن.
وعلى هذا اصطلح عباد الله تعالى في شرق الأرض وغربها، لأن الله تعالى
يقول: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) فأطلق سبحانه الأمر بالتبين في نبأ
الفاسق، ولم يخص منه نوعا دون نوع.
وأول من أظهر هذه الزيادة، وهي أن الشيعي الثقة لا يقبل حديثه المؤيد لمذهبه
وإدخالها في تقييد حديث الشيعي الثقة أبو إسحاق الجوزجاني، وهو ناصبي
مشهور، له صولات وجولات وتهجمات شائنة في القدح في الأئمة الذين وصفوا
57

بالتشيع، حتى دعاه ذلك إلى الكلام في أهل الكوفة كافة، وأخذ الحذر منهم ومن
رواياتهم.
وهذا معروف عنه، مشهور له، حتى نصوا على عدم الالتفات إلى طعنه في
الرجال الكوفيين، أو من كان على مذهبهم في التشيع، لأنه خارج عن هوى
وتعصب وغرض.
ولأجل ذلك لم يلتفت إلى زيادة هذه في تقييد حديث الثقة الشيعي، بأن لا
يكون مؤيدا لمذهبه، أهل الحديث، ولم يعملوا بها، واقتصروا على ما يشهد له
العقل من وجوب حديث الراوي إذا كان ثقة ضابطا، بدون أن يكون ذلك القبول
مقيدا بباب دون باب، أو معنى دون معنى، لأن ذلك لا يتفق مع شواهد العقل
وقواعد النقل.
والألباني لقصوره وجهله، وعدم اطلاعه على ما عليه العمل عند أهل الحديث
من قبول رواية الشيعي الثقة، وإن كانت موافقة لمذهبه، صار يستند ويعتمد على
ما زاده الجوزجاني من هذا الشرط الباطل الذي لا يؤيده عقل ولا نقل، فيضعف
الأحاديث بسببها، ويجعلها حجة على الوضع، وكون الحديث كذبا، كما فعل في
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: " أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب ".
فإنه حكم بوضعه في مقدمة كتبها لبعض الرسائل، مستدلا على وضعه بأن
روح التشيع واضحة في الحديث.
ولا أدري أين هذا التشيع الذي وضح له من الحديث!؟
مع أن الحديث له شواهد وطرق، وعلى قوله هذا وقاعدته الفارغة ينبغي ألا
نقبل حديثا في فضل علي عليه السلام، ولو تواتر، لا سيما إذا كان يخبر بفضل لعلي
لا يوجد لغيره من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كحديث: (من كنت
مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه وانصر من نصره).
وهكذا إذا اتبع الانسان كل جاهل، وأجاب كل صارخ، ولم يعمل النظر
ويبحث عن الأقوال قبل قائلها، فإنه يرد السنة الصحيحة جملة، ويعطي مع ذلك
السلاح لأعداء الدين وملاحدة العصر في رد ما لا يعجبهم ويوافق هواهم من
حديث سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
58

وقوله: إن الصحابة كانوا يقولون في عهد أبي بكر: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم
علي، إذا اتفق الصحابة على هذا الترتيب، فإنما كان ذلك في الخلافة، أما في
التفضيل والفضل، فالخلاف في ذلك معروف معلوم لكل من له علم واطلاع (1).
والمقصود بعد هذا: هو بيان أن رد حديث الثقة الشيعي إذا كان يؤيد مذهبه لم
يصدر إلا من النواصب ومن لف حولهم واختار قولهم ودار في فلكهم.
وأما أهل الإنصاف، من أئمة الحديث سلفا وخلفا، فلا يقولون بهذا الهراء
الذي لا طائل تحته، والذي يدل على التخريف والتحريف.
ولهذا احتج الشيخان بما رواه الشيعة الثقات من الأحاديث التي تؤيد مذهبهم،
كحديث: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى فقد رواه البخاري، من طريق
عبيد الله بن موس العبسي، وقد كان شديد التشيع. وكذلك حديث: " لا يحبك
إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق " رواه مسلم في " صحيحه "، من طريق عدي
بن ثابت، وقد كان شيعيا غاليا، بل كان داعية.
وتبعهم على ذلك بقية الأئمة الذين جمعوا الصحاح وألفوا السنن، فقد رووا في
هذه المصنفات العدد الكثير من حديث الشيعة فيما يؤيد مذهبهم، وصرحوا
بصحتها أو صحة أكثرها.
وكل هذا يدل على أن ما زاد ه الجوزجاني، وتبعه عليه الجهلة من النواصب
ومبغضي آل البيت، مع كون حديث الشيعي الثقة لا يقبل إذا كان يؤيد مذهبه،
وينصر رأيه، باطل لا أصل له، ولا يشهد له عقل، ولا يؤيده نظر.
ولولا ضيق الوقت، لذكرنا العدد الكبير من الأحاديث التي رواها الشيعة
الثقات فيما يؤيد مذهبهم، وصححها الأئمة، وأخرجوها في كتبهم.

(1) قال الحافظ ابن حجر في التهذيب (1 / 94) التشيع في عرف المتقدمين: هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان
وأن عليا كان مصيبا في حروبه وأن مخالفه مخطئ مع تقديم الشيخين وتفضيلهما وربما اعتقد بعضهم
أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان معتقدا ذلك ورعا دينا صادقا مجتهدا
فلا ترد روايته بهذا... أه‍ قلت: وكان في المحابة ومن بعدهم من يعتقد أن أفضل الناس بعد النبي
هو سيدنا علي وذلك مشهور وذكره الذهبي في السير فتأمل.
59

ولعلنا نجد فرصة لتفصيل الكلام في هذا الموضوع تفصيلا كافيا لذوي الإنصاف
رادعا لأهل الاعتساف.
أما هذا الجزء، فقد كتبته على عجل، تلبية لرغبة بعض الأخوان في التعجيل
ببيان فساد دعوى المتطفل - فميا زعمه - في الاعتراض علي في توثيق الحارث بن
عبد الله الهمداني.
وكان الفراغ من هذا الجزء، صباح يوم الأحد، الحادي والعشرين من جمادى
الثانية، سنة أربع وأربع مئة وألف.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله
الأبرار الأكرمين، وسلم تسليما إلى يوم الدين.
60