الكتاب: فقه القرآن
المؤلف: القطب الراوندي
الجزء: ١
الوفاة: ٥٧٣
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: السيد أحمد الحسيني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٥
المطبعة:
الناشر: مكتبة آية الله العظمى النجفي المرعشي
ردمك:
ملاحظات: بإهتمام : السيد محمود المرعشي

من مخطوطات
مكتبة آية الله المرعشي العامة
(2)
فقه القران
تأليف الفقيه المحدث المفسر الأديب
قطب الدين أبي الحسين
سعيد بن هبة الله الراوندي
المتوفى سنة 573 ه‍
(الجزء الأول)
تحقيق السيد احمد الحسيني
باهتمام السيد محمود المرعشي
تعريف الكتاب 1

كتاب: فقه القرآن، الجزء الأول
تأليف، قطب الدين الراوندي
نشر: مكتبه آية الله العظمى النجفي المرعشي
طبع: مطبعة الولاية - قم
التاريخ: 1405، الطبعة الثانية
العدد: (1500) نسخه
تعريف الكتاب 2

كلمة
سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى
السيد شهاب الدين المرعشي النجفي
دام ظله الوارف
(كان من المنتظر أن يسعف الامام المرعشي قراءة
الكرام بكلمة مبسطة حول أهمية الكتاب وعظمة المؤلف،
ولكن أعباء المرجعية الثقيلة والانحراف الصحي الملازم
له، حالا عن تحقيق هذه الأمنية السعيدة فاكتفى بأن
توج الكتاب بالصحائف التالية.)
كلمة السيد المرعشي 3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي انزل القرآن، وجعله حبلا ممدودا بينه وبين عباده في
دياجي الظلم وحوالك البهم، الذي من تمسك به فقد نجى، ومن تخلف عنه غوى
وهوى، وجعله شافعا مشفعا، غضا طريا ونهجا سويا، والصلاة والسلام على مقدام
السفراء الإلهيين وكبش كتيبة الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا العبد
المؤيد، والرسول المسدد، مولانا أبى القاسم محمد وعلى آله مشاكي الهدى ونباريس
الضياء بين الورى، سيما ابن عمه ابن الريحانتين ووالد السبطين مولى الموحدين
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب روحي له الفداء.
وبعد غير خفي على من ألقى السمع وهو شهيد أن علوم كتاب الله المجيد
وفرقانه الحميد وافرة متكثرة ومن أهمها العلم بآيات الاحكام المتكفلة لبيان الحلال
والحرام، تكليفية ووضعية، اباحية وحظرية.
فمن ثم توجهت همم علماء الاسلام وفطاحل أهل القبلة إلى شرحها والاستفادة
من مضامينها والاستنارة من أنوارها وهم بين ماتن وشارح ومعلق ومحشى، ولم يألوا
كلمة السيد المرعشي 5

الجهود بالترصيف والتأليف في طيلة القرون الماضية، والأيام الخالية. شكر الله
مساعيهم الجميلة.
وممن اخذ السبق في السباق، وصار في هذا المضمار من المصلين والمجلين
هو العلامة الأقدم، والثقة المقدم، عيبة الفنون والفضائل، المقدام الهمام، الثبت
الثبت الفقيه المحدث المفسر المتكلم البحاثة النقاد، أغلوطة زمانه وأعجوبة عصره
مولانا الشيخ قطب الدين ابن علي سعيد بن هبة الله الراوندي الكاشاني الموطن القمي
المدفن، فإنه قدس سره وطاب رمسه من علي أرباب الفضل والبهى بتأليف كتاب
فقه القرآن في شرح آيات الاحكام الذي هو بين يديك، وهذا السفر الجليل،
القليل المثيل من أهم الزبر والاسفار المؤلفة في هذا الشأن فلله دره وعليه اجره.
ومن المأسوف عليه أن نسخه كانت قليلة بحيث لا توجد الا في بعض خزائن
الكتب وعند ذوي النفوس الشحيحة وكانت متربة مبعثرة تأكلها العثة والفيران
وتبيدها الحرق والغرق بالأمطار والسيول.
إلى أن أيقض الله همة ولدي الصالح قرة عيني وثمرة فؤادي، النشيط بحفظ
آثار أسلافنا الكرام، حجة الاسلام الحاج السيد محمود الحسيني المرعشي النجفي
دام مجده فأقدم على طبعه وانتشاره على نفقة مكتبتنا العامة الموقوفة بقم، فصار
من منشوراتها، وفوض تصحيحه وتحقيقه والتعليق عليه إلى الفاضل المتتبع المضطلع
النقاد حجة الاسلام الحاج السيد احمد الحسيني الإشكوري النجفي دامت بركاته
وقوبلت على نسختين قديمتين مهمتين.
فانتشر بحمد الله تعالى في مجلدين على أحسن نمط وخير أسلوب، وطلب
منى بعض الأفاضل تأليف رسالة في ترجمة المؤلف الهمام ولكن الأسف أن اعتوار
الأسقام الجسمية والآلام الروحية حالت بيني وبين أنشودتهم، فمن ثم الف المصحح
المنوه بذكره عجالة فيها فجمع كراريس في ترجمته، فأتى بما هو الكافي في بابه،
كلمة السيد المرعشي 6

ألا وجزاه وشبلي المكرم ربهما الكريم أحسن الجزاء وادام توفيقهما في احياء تراث
الماضين من علمائنا السالفين آمين آمين.
حرره بيراعه وبنانه وفاه بفيه ولسانه المضطهد المهضوم المتفتت كبده بمقاريض
ألسنة الحاسدين أعداء العترة الزاكية أبو المعالي شهاب الدين الحسيني المرعشي
النجفي، عشية يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي الحجة سنة 1397 ببلدة قم المشرفة
حرم الأئمة الأطهار وعش آل محمد، حامدا، مصليا، مسلما.
كلمة السيد المرعشي 7

بسم الله الرحمن الرحيم
(وله الحمد)
بين العلوم القرآنية التي عالجها علماء المسلمين وغير المسلمين، موضوع
مهم يعرف ب‍ (فقه القرآن). ففي القرآن الكريم ما يقرب من خمسمائة آية تتناول
بيان رؤوس الاحكام الفقهية وأصول التشريع الاسلامي من الوجهة العملية، وهي التي
اصطلح العلماء تسميتها ب‍ (آيات الاحكام) والحديث عنها وشرحها وتفسيرها ب‍ (فقه
القرآن).
وبما أن القرآن هو الأصل الأول لاستنباط الاحكام الفقهية ومعرفة مبادئ الاسلام
وتشريعاته، وبما أن الفقه حاجة ضرورية للمسلمين في تصرفاتهم اليومية وكل شؤون
حياتهم، كان لابد من اهتمام علماء الفقه والمجتهدين بالآيات التي تخص هذا
الموضوع. ولذا نراهم قد أكثروا التأليف حول آيات الاحكام بشتى المذاهب
الاسلامية والوجهات الفقهية المختلفة (1).

(1) في كتابنا المائل للطبع (معجم المؤلفات القرآنية) أحصينا عددا كبيرا جدا من
الكتب العربية المؤلفة في فقه القرآن.
مقدمة المحقق 8

بدأ هذا الموضوع بشكل بسيط في الجمع والعرض، ثم تطور مع تطور
باقي العلوم الشرعية حتى أصبح فنا خاصا له معالمه وأصوله، وأصبح التأليف فيه
يحتاج إلى خبرة واسعة في الأدب واللغة والتفسير والفقه.
وقد تفنن المؤلفون في ذلك في ترتيب كتبهم ومؤلفاتهم، وأكثر الطرق
المتبعة هي طريقان: ترتيب الآيات حسب السور الواردة في القرآن الكريم من سورة
البقرة إلى آخره، أو ترتيبها في كتب من الطهارة إلى الديات على غرار الأبواب
الفقهية في تصانيف الفقهاء. الطريقة الأولى أكثر ما تميل إلى المباحث التفسيرية،
وأما الثانية فتوجه اهتمامها إلى المسائل الفقهية أكثر من غيرها.
ومن الطبيعي أن تختلف قيمة هذه المؤلفات من الوجهات العلمية، ومن
بينها كتب هي في القمة من حيث العمق والشمول وسعة آفاق الدراسة. ويمكن أن
نعتبر من الصفوة المختارة في هذا المضمار، الكتاب الذي نقدمه إلى الملا العلمي
ونحاول التعريف به.
* * *
ويأتي دور التساؤل عن أول من صنف في (فقه القرآن)، ذلك لأننا نجد
بعض الاختلاف بين العلماء في تعيين أول من كتب في الموضوع. ونترك الحديث
بهذا الصدد للسيد الصدر في كتابه القيم (تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام) ص 321
حيث قال:
(أول من صنف في أحكام القرآن هو محمد بن السائب الكلبي المفسر
الآتي ذكره في طبقات المفسرين. قال ابن النديم في الفهرست عند ذكره للكتب
المؤلفة في أحكام القرآن ما لفظه: كتاب أحكام القرآن للكلبي، رواه عن ابن عباس.
قلت: ستعرف أن وفاة محمد بن السائب سنة 146، وحينئذ فقد وهم الجلال
مقدمة المحقق 9

السيوطي في كتاب الأوائل حيث قال أول من صنف أحكام القرآن الإمام الشافعي،
فان الإمام الشافعي توفي سنة 204 وله من العمر أربع وخمسون سنة. وذكر في
طبقات النحاة أول من كتب في أحكام القرآن هو القاسم بن أصبغ بن محمد بن
يوسف البياني القرطبي الأندلسي الاخباري اللغوي المتوفى سنة 304 عن ثلاث
وتسعين سنة، وأيا ما كان فهو متأخر عن محمد بن السائب. اللهم الا أن يريد أول
من صنف في هذا من علماء السنة والجماعة، وحينئذ لا ينافي ما ذكرنا من تقدم
الشيعة في ذلك.).
* * *
ومن الاعلاق النفيسة في هذا الموضوع، كتاب (فقه القرآن) للفقيه المفسر
المحدث الأديب قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي المتوفى سنة 573.
وهو من آثار قدمائنا التي تعتز بها المكتبة الاسلامية في أصالتها والمادة
العلمية الثرية التي تحويها، فإنه مع اختصاره النسبي شامل لأطراف الموضوع
جامع لما يجب أن يقال غني بما تناوله من الاستدلال. عرض الموضوع على ترتيب
الكتب الفقهية حيث بدأه بكتاب الطهارة وختمه بكتاب الديات، مع رعاية المباحث
التفسيرية والفقهية فأشبعها بحثا وتعمقا إذا كانت المسألة تحتاج إلى ذلك.
والقطب في هذا الكتاب شديد التأثر بآراء شيخ الطائفة محمد بن الحسن
الطوسي (ت 460) في كتابيه (التبيان في تفسير القرآن) و (الاستبصار فيما اختلف
فيه من الاخبار)، كما أنه يبدو عليه التأثر الكبير أيضا بآراء الشريف المرتضى علي بن
الحسين الموسوي البغدادي (ت 436) في كتابه (الانتصار في انفرادات الامامية)
وبعض أجوبته على المسائل، ففي كثير من المسائل نجده يتتبع ما قالاه وخاصة الأول
منهما، بل ربما يأتي بعباراتهما عينا من دون تغيير أو تصرف فيها.
مقدمة المحقق 10

وهذا لا يعنى اطلاقا أن القطب ليس له جديد في كتابه هذا، بل له المحاولات
الموفقة في مسائل جليلة يستعرضها بانطلاق في الاستنباط مستعينا بالقدرة العلمية
العظيمة التي يملك نواصيها ويذلل مصاعبها، فيدخل في خضمها دخول العالم
المتمكن الذي أوتي نصيبا وافرا من المبادئ العلمية.
ويمتاز الكتاب بأنه يحاول في جمع الآراء وخاصة التفسيرية منها إذا ظهر
عليها الاختلاف، فيوفق بينها ما وجد إلى ذلك سبيلا. ولذلك ترى بعض مسائل
مطروحة في كتب الفقه أو التفسير بشكل يبدو عليها أنها معترك العلماء وتتضارب فيها
آراؤهم، ولكنك عندما تعود إليها في هذا الكتاب تجد نقطة تنتهى إليها أقوال أولئك
ولا يبقى شئ من الخلاف بينهم.
كما أنه يمتاز أيضا بما حواه من المسائل الخلافية بين المذاهب الشيعية
والسنية، والتي وجدت العناية الكافية في تبسيطها وعرضها والنقاش فيها والاستدلال
عليها، فربما كتب المؤلف فصولا عديدة في مسألة واحدة يتحدث عنها في فصل
ويعود عليها في فصل آخر ليتكلم فيها من زاوية أخرى غير التي تكلم فيها.
والكتاب - بعدا هذ كله - أثر علمي عظيم من آثار أعلامنا الأقدمين، بذل
فيه مؤلفه القطب الراوندي جهدا كبيرا موفقا، نقدر أنه سيبقى بعد طبعه بالشكل
الذي تراه ماثلا أمامك مرجعا هاما في موضوعه يرجع إليه المؤلفون في التفسير
والفقه.
* * *
وبعد، فمن ألطافه سبحانه وتعالى أن من علي بأن وفقني لاخراج هذا الكتاب
الجليل إلى عالم النور، باذلا في خدمته ما أوتيت من الامكانات المحدودة وطابعا
له بالشكل المتيسر عندنا من وسائل الطبع والاخراج.
ويعود الفضل في طبع هذا السفر النفيس إلى عناية سيدنا المعظم سماحة
مقدمة المحقق 11

آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي دام ظله المديد، وجهود ولده
الكريم فضيلة العلامة الأخ السيد محمود المرعشي الذي أوقف نفسه لخدمة التراث
واحياء آثار السلف.
فإلى سيدي الامام المرعشي أقدم ثنائي العطر سائلا المولى عز وجل أن يديم
في أيام عمره الشريف، والى نجله المفضال أقدم شكري المتواصل طالبا من العلي
القدير له دوام التوفيق والتسديد.
قم: 10 ذو الحجة 1397 ه‍ السيد احمد الحسيني
مقدمة المحقق 12

ترجمة المؤلف
نسبه ونسبته:
الشيخ الامام الفقيه الكبير قطب الدين أبو الحسين سعيد بن عبد الله بن الحسين
ابن هبة الله بن الحسن الراوندي، ويعرف اختصارا بسعيد بن هبة الله الراوندي نسبة
إلى جده.
اختلف المترجمون له في كنيته، فقال بعضهم (أبو الحسين) وهو المعروف
وقيل (أبو الحسن) (1. قال الأفندي: كذا وجدته بخط الكفعمي في بعض مجاميعه
وقال غيره أيضا، ولكن ما سننقله بخطه الشريف نفسه على ظهر نهج البلاغة كان
(أبو الحسين). 2)
والمعروف المشهور في اسمه (سعيد) مع الياء، الا أن بعضهم سماه

1) أمل الآمل 2 / 125، أعيان الشيعة 35 / 16.
2) رياض العلماء - مخطوط.
ترجمة المؤلف 13

(سعدا) وأصر على ذلك (1. كما أن البعض الاخر ذكره بعنوان (قطب الدين
أبو سعيد هبة الله بن الحسن الراوندي) وهو وهم بين (2.
وينقل ابن حجر العسقلاني عن شيخه ابن بابويه في كتابه (تاريخ الري)
نسب القطب هكذا (سعيد بن هبة بن الحسن بن عيسى) (3.
(والراوندي) نسبة إلى (راوند) قرية بين كاشان وأصبهان.
قال الأفندي: قال صاحب مختصر تاريخ ابن خلكان في ترجمة (ابن
الراوندي) المعروف بالزندقة ان راوند بفتح الراء والواو قرية من قاسان بنواحي
أصبهان، وراوند أيضا ناحية بظاهر نيسابور. أقول: ويمكن أن يكون القطب
هذا من ناحية نيسابور أيضا. وقال صاحب تقويم البلدان: ومن القرى المشهورة
بنواحي أصبهان راوند، قال في اللباب هي بفتح الراء المهملة والواو بينهما ألف
وسكون النون ثم دال مهملة، والنسبة إليها الراوندي (4.
وقال ياقوت الحموي: راوند بفتح الواو والنون ساكنة وآخره دال مهملة،
بليدة قرب قاشان وأصبهان، قال حمزة: وأصله راهاوند، ومعناه الخير المضاعف
قال بعضهم: وراوند مدينة قديمة بالموصل بناها راوند الأكبر بن بيوراسف
الضحاك. (5.

1) تنقيح المقال 2 / 21، معجم رجال الحديث 8 / 94.
2) رياض العلماء - مخطوط.
3) لسان الميزان 3 / 48.
4) رياض العلماء - مخطوط.
5) معجم البلدان 3 / 19.
ترجمة المؤلف 14

أسرته:
لا نعرف شيئا من تاريخ اسلاف قطب الدين الراوندي وأنهم هل كانوا من
العلماء أم لا، الا ما صرح به في الرياض مجملا أن والده وجده كانا من العلماء،
ولكن التاريخ احتفظ لنا بطرف من ترجمة أولاده الثلاثة وحفيده الذين كانوا من
العلماء الاثبات، فهم:
نصير الدين أبو عبد الله الحسين بن سعيد الراوندي، عالم صالح شهيد،
كتب والده بخطه إجازة له على كتاب (الجوهر) لابن البراج (1.
عماد الدين أبو الفرج علي بن سعيد الراوندي، فقيه ثقة، يروي عن السيد
ضياء الدين فضل الله الراوندي والشيخ جمال الدين عبد الرحيم بن أحمد المعروف
بابن اخوة البغدادي، ويروي عنه الشيخ أبو السعادات أسعد بن عبد القاهر الأصبهاني
كان حيا في سنة 600 (2.
ظهير الدين أبو الفضل محمد بن سعيد الراوندي، فقيه ثقة عدل عين، يروي
عن والده قطب الدين، ويروي عنه قطب الدين محمد بن الحسين الكيدري
البيهقي (3.
برهان الدين أبو الفضائل محمد بن علي بن سعيد الراوندي، فاضل عالم (4.

1) الثقات العيون ص 75 و 276، شهداء الفضيلة ص 40.
2) أمل الآمل 2 / 171 و 188، الثقات العيون ص 191.
3) أمل الآمل 2 / 274، الثقات العيون 265.
4) الثقات العيون 273، الأنوار الساطعة 162.
ترجمة المؤلف 15

مكانته العلمية:
عالج شيخنا القطب الراوندي في مؤلفاته موضوعات عديدة من العلوم
والمعارف الاسلامية، فقد كتب في التفسير والكلام والفلسفة والفقه والحديث
والتاريخ وغيرها، وعرفت كتبه بالأصالة وعمق البحث والدراسة، وأصبحت تآليفه
موضع عناية العلماء والدارسين منذ عصره ولا تزال مقدرة لدى المعنيين بالدراسات
القديمة.
في الكتب التي وفقت إلى مطالعتها من آثاره العلمية - ومنها هذا الكتاب
الذي أقدم له - وجدته عميقا في الفكر ملما بأطراف الموضوع لا يقنع بالبحث
السريع والنظرة العجلي، فهو يستعرض كل ما يعانيه استعراضا دقيقا ربما لا يتأتى
مثله لكثير من الباحثين، مع تثبت فيما ينقل وتقييم للآراء الموافقة له والمعاكسة
لما يرتئيه. وبهذا يعتبر انسانا محايدا يطلب الحق للحق ولا يتأثر بالهوى والعصبية.
ومن هنا نجد من يترجمه أو يذكر شيئا من كتبه وآثاره، يبدأ كلامه أو يعقبه
بعبارات تدل على التعظيم والاجلال، وهي ترمز إلى مكانته الكبيرة عند العلماء
والمستفيدين من نميره العذب وعلمه الفياض.
قال عنه ابن حجر العسقلاني: كان فاضلا في جميع العلوم، له مصنفات
كثيرة في كل نوع، وكان على مذهب الشيعة (1.
وقال في مجمع الآداب: قطب الدين. الراوندي، فقيه الشيعة، كان من
أفاضل علماء الشيعة (2.
وقال الشيخ منتجب الدين: فقيه ثقة عين صالح، له تصانيف (3.

1) لسان الميزان 3 / 48.
2) أعيان الشيعة 35 / 117.
3) أمل الآمل 2 / 125.
ترجمة المؤلف 16

وقال الميرزا عبد الله أفندي: فاضل عالم متبحر فقيه متكلم بصير بالاخبار
شاعر. وله مؤلفات جياد نافعة. بل هو أجل وأعظم من كل ما ذكر فيه (1.
وقال الشيخ النوري: فضائل القطب ومناقبه وترويجه للمذهب بأنواع
المؤلفات المتعلقة به أظهر وأشهر من أن يذكر، وكان له أيضا طبع لطيف ولكن
أغفل عن ذكر بعض أشعاره المترجمون له (2.
وقال المحدث القمي: العالم المتبحر الفقيه المحدث المفسر المحقق الثقة
الجليل صاحب الخرائج والجرائح. (3.
وقال الشيخ عبد الله السماهيجي: كان عالما فاضلا متبحرا كاملا فقيها محدثا
ثقة عينا علامة. (4.
أساتذته وشيوخه:
للقطب الراوندي أساتذة وشيوخ من وجوه علماء الفريقين، ذكر طائفة منهم
خلال أسانيد كتبه ومؤلفاته، نذكر منهم:
أبو جعفر بن كميح.
أبو نصر الفاري.
أبو الصمصام أحمد بن سعيد الطوسي.
أبو الحسين أحمد بن محمد بن علي المرشكي.

1) رياض العلماء - مخطوط.
2) مستدرك الوسائل 3 /.
3) الكنى والألقاب 3 / 72.
4) تكملة الرجال 1 / 436.
ترجمة المؤلف 17

أبو سعد الحسن بن علي الارآبادي.
أبو القاسم الحسن بن محمد الحديقي.
أبو عبد الله الحسين المؤدب القمي.
أبو منصور شهريار بن شيرويه بن شهريار الديلمي.
أبو الصمصام ذو الفقار بن محمد بن معبد الحسيني.
أبو الفضل عبد الرحيم بن أحمد الشيباني - ابن اخوة البغدادي.
الشيخ عبد الله بن الحسن [الحسين] الراوندي.
علي بن أبي طالب السليقي.
أبو الحسن علي بن علي بن عبد الصمد التميمي النيسابوري.
أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي.
شيخ السادة المجتبى بن الداعي الحسنى الرازي.
السيد أبو البركات محمد بن إسماعيلي.
عماد الدين محمد بن أبي القاسم الطبري.
محمد بن الحسن الطوسي، والد نصير الدين الطوسي.
أبو الحسن محمد بن علي بن عبد الصمد التميمي النيسابوري.
أبو جعفر محمد بن علي بن المحسن الحلبي.
أبو جعفر محمد بن المرزبان.
صفى الدين المرتضى بن الداعي الحسيني الرازي.
أبو القاسم المرزبان بن الحسين بن كميح.
أبو المحاسن مسعود بن علي بن أحمد الصواني.
الشيخ هبة الله بن عويدار.
أبو السعادات هبة الله بن علي الشريف الحسنى.
ترجمة المؤلف 18

تلامذته والراوون عنه:
له جماعة من التلامذة الذين تربوا في حوزته العلمية، كما أن جماعة كبيرة
يروون عنه بالإجازة، وقد وصف أرباب التراجم بعض تلامذته والراوين عنه بأوصاف
جليلة تدل على مكانتهم الكبيرة بين العلماء ورواة الحديث، واليك أسماء بعضهم:
القاضي أحمد بن علي بن عبد الجبار الطوسي.
نصير الدين الحسين بن سعيد الراوندي (ابنه).
القاضي جمال الدين علي بن عبد الجبار الطوسي.
الفقيه علي بن محمد المدائني.
الفقيه عز الدين محمد بن الحسن العلوي البغدادي.
ظهير الدين محمد بن سعيد الراوندي (ابنه).
زين الدين أبو جعفر محمد بن عبد الحميد بن محمود دعويدار.
رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب السروي.
آثاره العلمية:
في مؤلفات القطب الراوندي نرى الثراء والنبوغ، فهو كثير التأليف تبلغ
كتبه حدود الستين، وهو أيضا متنوع في الموضوعات التي يكتب فيها، ففيها
الأدب العربي والشعر والتفسير والكلام والفلسفة والفقه وغيرها. وهو مع ذلك لا
يقنع بالبحث العابر بل يدخل في أغوار الموضوع ليستخرج اللآلئ المستعصية
على كثير من العلماء الأفاضل، وبهذا يتجلى في كتبه عالما كبيرا جامعا لفنون
العلم والمعرفة قويا في حجاجه.
واليك فيما يلي ثبتا لما عرفنا من آثاره العلمية:
ترجمة المؤلف 19

1 - احكام الاحكام.
2 - الاختلافات بين المفيد والمرتضى في بعض المسائل الكلامية.
3 - أسباب النزول.
4 - الأغراب في الاعراب.
5 - ألقاب الرسول وفاطمة والأئمة عليهم السلام.
6 - أم القرآن، ويحتمل اتحاده مع بعض تفاسيره.
7 - أم المعجزات، وهو من تتمات الخرائج والجرائح.
8 - الانجاز في شرح الايجاز في الفرائض.
9 - البحر، ولم يعرف موضوعه.
10 - بيان الانفرادات.
11 - تحفة العليل في الأدعية وغيرها، وهو غير كتاب الدعوات.
12 - التغريب في التعريب، وهو غير كتابه الأغراب في الاعراب ظاهرا.
13 - تفسير القرآن الكريم، مختصر في مجلدين.
14 - تهافت الفلاسفة.
15 - جنى الجنتين في ذكر ولد العسكريين عليه السلام.
16 - جواهر الكلام في شرح مقدمة الكلام.
17 - حل المعقود في الجمل والعقود.
18 - الخرائج والجرائح في معجزات المعصومين عليهم السلام.
19 - خلاصة التفاسير، في عشر مجلدات.
20 - الخمس، مسألتان فيه.
21 - الدعوات، وهو المسمى بسلوة الحزين.
22 - الرائع في الشرائع - مجلدان.
ترجمة المؤلف 20

23 - زهر المباحثة وثمر المناقشة.
24 - الشافية في الغسلة الثانية.
25 - شجار العصابة في غسل الجنابة.
26 - شرح آيات الاحكام، وهو غير كتابه فقه القرآن.
27 - شرح الآيات المشكلة في التنزيه؟.
28 - شرح الأبيات المشكلة في العربية.
29 - شرح العوامل المائة.
30 - شرح الكلمات المائة من جمع الجاحظ.
31 - شرح ما يجوز وما لا يجوز من النهاية.
32 - شرح مشكلات النهاية.
33 - صحة أحاديث أصحابنا.
34 - صلاة الآيات.
35 - الصلاة الحاضرة لمن عليه الفائتة.
36 - ضياء الشهاب في شرح الشهاب.
37 - علامات النبي والامام، وهو من تتمات الخرائج والجرائح.
38 - غريب النهاية.
39 - الفرق بين الحيل والمعجزات، وهو من تتمات الخرائج والجرائح.
40 - الفقهاء.
41 - فقه القرآن، وهو غير كتابه شرح آيات الاحكام.
42 - قصص الأنبياء، وربما ينسب إلى غيره أيضا.
43 - الكافية في الغسلة الثانية، والظاهر أنه الشافية بعينه.
44 - لباب الاخبار، مختصر في الأحاديث.
ترجمة المؤلف 21

45 - الباب في فضل آية الكرسي.
46 - اللب واللباب مختصر فصول عبد الوهاب.
47 - المجالس في الحديث.
48 - المزار، كتاب كبير.
49 - مسألة في العقيقة.
50 - المستقصى في شرح الذريعة، ثلاثة اجزاء.
51 - مشكلات النهاية.
52 - المغنى في شرح النهاية، عشر مجلدات.
53 - من حضره الأداء وعليه القضاء.
54 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مجلدان.
55 - الناسخ والمنسوخ.
56 - نفثة المصدور، ديوان شعره.
57 - نوادر المعجزات، وهو من تتمات الخرائج والجرائح.
58 - نهية النهاية، وهو غير شروحه على النهاية.
59 - النيات في جميع العبادات.
شعره:
نقل السيد الأمين - رحمه الله - أبياتا من قصائد قالها القطب في مدح آل
الرسول صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين (1، ننقلها فيما يلي:
قال:
لآل المصطفى شرف محيط * تضايق عن تضمنه البسيط

1) أعيان الشيعة 35 / 116.
ترجمة المؤلف 22

إذا كثر البلايا والرزايا * فكل عنده الجأش الربيط
إذا ما قام قائمهم بوعظ * فان كلامه در لقيط
إذا ما قست عدلهم بعدل * تقاعس دونه الدهر القسوط
هم العلماء ان جهل البرايا * هم الموفون ان خان الخليط
بنو أعمامهم جاروا عليهم * ومال الدهر إذ مال الغبيط
لهم في كل يوم مستجد * برغم الأصدقاء دم عبيط
فمات محمد وارتد قوم * بنكث العهد وانبرت الشروط
تناسوا ما مضى بغدير خم * فأدركهم لشقوتهم هبوط
على آل الرسول صلاة ربى * طوال الدهر ما طلع الشميط
وقال:
قسيم النار ذو خير وخير * يخلصني الغداة من السعير
فكان محمد في الناس شمسا * وحيدر كان كالبدر المنير
هما فرعان من عليا قريش * مصاص الخلق بالنص الشهير
وقال له النبي لانت منى * كهارون وأنت معي وزيري
ومن بعدي الخليفة في البرايا * وفى دار السرور على سريري
وأنت غياثهم والغوث فيهم * لدى الظلماء والصبح السفور
مصيري آل احمد يوم حشري * ويوم النصر قائمهم مصيري
وقال:
بنو الزهراء آباء اليتامى * إذا ما خوطبوا قالوا السلاما
هم حجج الاله على البرايا فمن ناواهم يلق الأثاما
يكون نهارهم في الدهر صوما وليلهم كما تدري قياما
ألم يجعل رسول الله يوم * الغدير عليا المولى إماما
ترجمة المؤلف 23

ألم يك حيدر أحوى علوما * ألم يك حيدر أعلى مقاما
بنوه العروة الوثقى تولى * عطاؤهم اليتامى والأيامى
هم الراعون في الدنيا الذماما * هم الحفاظ في الأخرى الأناما
وقال:
امامي علي كالهزبر لدى العشا * وكالبدر وهاجا إذا الليل أغطشا
امامي علي خيرة الله لا الذي تخيرتم والله يختار من يشا
أخو المصطفى زوج البتول هو الذي * إلى كل حسن في البرية قد عشا
بمولده البيت العتيق لما روى * رواه وفى حجر النبوة قد نشأ
موالوه قوامون بالقسط في الورى * معادوه أكالون للسحت والرشا
له أوصياء قائمون مقامه * أرى حبهم في حبة القلب والحشا
هم حجج الرحمن عترة احمد * أئمة حق لا كمن جار وارتشى
مودتهم تهدى إلى الجنة العلى * ولكنما سبابهم يورث العشا
وقال:
محمد وعلى ثم فاطمة * مع الشهيدين زين العابدين علي
والصادقان وقد أسس علومهما * والكاظم الغيظ والراضي الرضا علي
ثم التقى النقي الأصل طاهره * محمد ثم مولانا التقي علي
ثم الزكي ومن يرضى بنهضته * ان يظهر العدل بين السهل والجبل
اني بحبهم يا رب معتصم * فاغفر بحرمتهم يوم القيامة لي
وفاته ومدفنه:
توفى - رضوان الله عليه - ضحوة يوم الأربعاء رابع عشر شهر شوال سنة
573 كما عن مجموعة الجبعي نقلا عن خط الشهيد الأول (1.

1) الثقات العيون ص 124.
ترجمة المؤلف 24

ودفن بقم في مقبرة الست فاطمة مما يلي الرجل (1، وقبره الان مزار مشهور
في صحن السيدة المعصومة عليها السلام يؤمه الناس ويقرأون لروحه الفاتحة.
قال الميرزا عبد الله أفندي: ثم إن المولى حشري التبريزي الشاعر المشهور
نقل في كتاب (تذكرة الأولياء في أحوال العلماء) أن قبر القطب الراوندي في قرية
(خسروشاه) من توابع تبريز. أقول: وأنا أيضا رأيت قبرا بتلك القرية يعرف عند
أهلها بأنه قبر القطب الراوندي وكانوا يزورونه فيه وقد زرته أنا فيه أيضا، فلا يبعد
أن يكون أحدهما - أي أحد القبرين الموجودين في قم وخسروشاه - قبر الشيخ
قطب الدين الراوندي والثاني قبر السيد فضل الله الراوندي، أو أحدهما قبر أحد
أولاده أو قبر والده أوجده والاخر قبره (2.
مصادر ترجمته:
1 - الاعلام، للأستاذ خير الدين الزركلي.
2 - أمل الآمل، للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي.
3 - أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين العاملي.
4 - بهجة الآمال (مخطوط)، للشيخ عبد الله بن علي العلياري.
5 - تكملة الرجال، للشيخ عبد النبي الكاظمي.
6 - تنقيح المقال، للشيخ عبد الله المامقاني.
7 - الثقات العيون، للشيخ آقا بزرك الطهراني.
8 - جامع الرواة، للمولى محمد بن علي الأردبيلي.
9 - روضات الجنات، للسيد الخوانساري.

1) روضات الجنات 4 / 8، أعيان الشيعة 35 / 17.
2) رياض العلماء - مخطوط.
ترجمة المؤلف 25

10 - رياض العلماء (مخطوط)، للميرزا عبد الله أفندي.
11 - الغدير، للشيخ عبد الحسين الأميني.
12 - كشف المحجة، للسيد ابن طاوس الحلى.
13 - الكنى والألقاب، للشيخ عباس القمي.
14 - لؤلؤة البحرين، للشيخ يوسف البحراني.
15 - لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني.
16 - مستدرك الوسائل، للميرزا حسين النوري.
17 - معالم العلماء، لابن شهرآشوب.
18 - معجم رجال الحديث، للامام الخوئي.
19 - معجم المؤلفين، للأستاذ عمر رضا كحالة.
20 - منتهى المقال، للشيخ ابن علي الحائري.
21 - مقابس الأنوار، للشيخ أسد الله التستري الكاظمي.
22 - هدية العارفين، لإسماعيل باشا البغدادي.
ترجمة المؤلف 26

في طريق التحقيق
قوبل هذا الكتاب على نسختين قديمتين هما:
1 - نسخة مكتبة (آية الله العظمى الامام المرعشي دام ظله) العامة بقم، وهي
محفوظة في المكتبة برقم (1570)، كتبها حسن بن يعقوب بن يوسف بن محمد
الحائري محتدا والحلي مولدا، في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر شوال
سنة 759.
وهي نسخة تامة مهملة النقط على الأكثر صعبة القراءة في املائها، وبالرغم
من آثار التصحيح والمقابلة في هوامشها كثيرة الغلط والتحريف والسقط كما يتبين
من تعاليقنا لمواضع السقط منها.
وقد ملكها كثير من العلماء في التواريخ المختلفة نجد تملكهم على الورقة
الأولى بخطوطهم، وممن يمكن قراءة تملكه: مرتضى بن علي بن أحمد الحسيني،
محمد سعيد بن محمد تقي الحسنى الكرماني، ابنه القاضي محمد باقر بن محمد
سعيد الحسيني، محمد علي الحسيني بتاريخ 1163، محمد بن خاتون العاملي
بتاريخ 1041.
طريقة التحقيق 27

وقد رمزنا إلى هذه النسخة بحرف (م).
* * *
2 - نسخة المكتبة المركزية بجامعة طهران، واستفدت من صورتها المحفوظة
بتلك المكتبة قسم المصورات برقم (5368) و (5369)، وهي ناقصة الاخر، الا
أنها قديمة تعود إلى القرن الثامن كما يظهر مما جاء على الورقة الأولى.
وهي نسخة كثيرة الاهمال في النقط كالسابقة، فيها بعض السقط والتحريف
ولكنها تمتاز بما كتب في هوامشها من التعاليق للمؤلف ومن غيره، مشوشة الأوراق
في النسخة أو في الصورة.
على الورقة الأولى كتابة باسم الكتاب والمؤلف وان النسخة لصاحبها وكاتبها
(كاتب وجه الورقة الأولى لاكل النسخة) سبط المؤلف الامام الأعلم الأكمل الأورع
الأفضل خير الاخلاف بقية الأسلاف قطب الملة والدين فخر الاسلام والمسلمين
محمد بن أبي المفاخر محمد بن محمد بن أبي الفتوح الراوندي ثم الرازي. كتب
هذا ابن خالة الرازي المذكور، علي بن محمود بن أبي القاسم الحمصي الرازي
أواخر ذي الحجة سنة 706.
وعلى هذه الورقة أيضا تملك إسحاق بن عبد الملك وحفيده محمد بن إبراهيم
ابن عبد الله بن فتح الله بن عبد الملك بن إسحاق.
ونرمز إلى هذه النسخة بحرف (ج).
* * *
اخترنا من التعاليق الموجودة في نسخة (ج) ما رأيناه مهما، وتركنا بعض
التعاليق لعدم أهميتها أو قلة الفائدة فيها أو لأننا لم نتمكن من قراءتها لانخرامها، وأكثرها
لغير المؤلف.
وبقيت ألفاظ وربما جمل لم نعرف وجه الصواب فيها بالرغم مما بذلناه من
طريقة التحقيق 28

الجهد في قراءتها وكشف ألغازها، وذلك لاهمال النقط وللتحريف والسقط في
النسختين كما ذكرنا سابقا.
وخرجنا الأحاديث جهد المستطاع وبقى بعضها غير مخرج ربما لانفراد
المؤلف في الرواية وعدم عثورنا على المصادر الأولية التي كانت في متناول يده.
وقد رجعنا أيضا إلى كتب اللغة والتفسير والأدب لاستكشاف ما أبهم من
الألفاظ اللغوية وغير ذلك مما رأينا انه يحتاج إلى توضيح وشرح، مع رعاية
الاختصار كما هو دأبنا في مطبوعاتنا.
وبالله تعالى التوفيق ومنه نستمد العون.
طريقة التحقيق 29

وجه الورقة الأولى من نسخة (م)
صور النسخ المخطوطة 30

الصفحة الأولى من نسخة (م)
صور النسخ المخطوطة 31

الصفحة الأخيرة من نسخة (م)
صور النسخ المخطوطة 32

وجه الورقة الأولى من نسخة (ج)
صور النسخ المخطوطة 33

الصفحة الأولى من نسخة (ج)
صور النسخ المخطوطة 34

الصفحة الأخيرة من نسخة (ج)
فقه القران
تأليف
قطب الدين
سعيد بن هبة الله الراوندي
المتوفى سنة 573 ه‍
صور النسخ المخطوطة 35

فقه القران
تأليف
قطب الدين
سعيد بن هبة الله الراوندي
المتوفى سنة 573 ه‍
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(رب زدني علما)
الحمد لله الذي خلق الخلق كما أراد، ولم يرد الا الحكمة والسداد، ابتدعهم
بقدرته ابتداعا، واخترعهم على مشيته اختراعا، فأغنى بفضله كل صغير، وأقنى
بمنه كل كبير، ومن أجل مواهبه وأجمل صنائعه هذا العقل الذي يدرك به سعادة
الأبد، وينقذ من الشقاوة كل أحد. فطوبى لمن عز باعماله، وبؤسي لمن ذل باهماله
ثم لم يرض سبحانه بذلك لرأفته بالمكلفين حتى أمد عقولهم بارسال الرسل وانزال
الكتب، واكد بالألطاف الحجة، وأوضح بالشرائع المحجة. فله الحمد دائبا،
وله الشكر واصبا، بكل ما حمده به أكرم خلائقه عليه، وأرضى حامديه لديه.
فقد أكمل لنا دينه، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الاسلام دينا.
وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله الأطهار،
الأئمة الأخيار، الهداة الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
أما بعد:
فان الذي حملني على الشروع في جمع هذا الكتاب أنى لم أجد من علماء
الاسلام قديما وحديثا من ألف كتابا مفردا يشتمل على الفقه الذي ينطق به كتاب الله،
3

ولم يتعرض أحد منهم لاستيعاب ما نصه عليه لفظه أو معناه وظاهره أو فحواه، في
مجموع كان على الانفراد صائب هدف المراد، وان صنفوا في الفقه وتفسير القرآن
ما لا يحاط به الا على امتداد الزمان.
والعذر لنا خاصة واضح، لان حجة هذه الطائفة في صواب جميع ما انفردت
به من الأحاديث الشرعية والتكاليف السمعية أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء هي
اجماعها، لان اجماعها حجة قاطعة ودلالة موجبة للعلم بكون المعصوم الذي لا
يجوز عليه الخطأ فيه، فان انضاف إلى ذلك كتاب الله أو طريقة أخرى توجب
العلم وتثمر اليقين فهي فضيلة ودلالة تنضاف إلى أخرى، والا ففي اجماعهم كفاية.
فرأيت أن أولف كتابا في (فقه القرآن)، يغنى عن غيره بحسن مبانيه، ولا
يقصر فهم القارئ عن معانيه، متجنبا فيه الإطالة والتكثير، ومتحريا الايجاز والتيسير
ليكون الناظر فيه أنيسا يصادقه، وللفقيه ردءا يصدقه. فجمعت منه بعون الله تعالى
جملة مشروحة أخرجها الاستقراء، وان نسأ الله في الاجل ذكرت بعد ذلك ما
يقتضيه الاستقصاء.
والله الموفق لما يشاء.
4

كتاب الطهارة
اعلم أن الله سبحانه وتعالى بين أحكام الطهارة في القرآن على سبيل التفصيل
في موضعين، ونبه عليها جملة في مواضع شتى منه خصوصا أو عموما تصريحا أو
تلويحا.
وأنا انشاء الله أورد جميع ذلك أو أكثر ما فيه على غاية ما يمكن تلخيصه،
وأستو فيه وأومى إلى تعليله وجهة دليله، واذكر أقوال العلماء والمفسرين في ذلك
والصحيح منها والأقوى. وان شبهت شيئا بشئ فعلى جهة المثال لا على وجه حمل
أحدهما على الاخر.
وأقتصر في جميع ما يحتاج إليه على مجرد ما روى السلف رحمهم الله من
المعاني الا القليل النادر والشاذ الشارد، وأقنع أيضا بألفاظهم المنقولة حتى لا
يستوحش من ذلك. وهذا شرطي إلى آخر الكتاب.
ولا أجمع الا ما فرقه أصحابنا في مصنفاتهم، وذلك لان القياس بالدليل
الواضح غير صحيح في الشريعة، وهو حمل الشئ على غيره في الحكم لأجل ما
5

بينهما من الشبه، فيسمى المقيس فرعا والمقيس عليه أصلا. وكذلك الاجتهاد غير جائز
في الشرع (1)، وهو (استفراغ الجهد في استخراج احكام الشرع)، وقيل (هو بذل
الوسع في تعرف الأحكام الشرعية).
فأما إذا صح باجماع الفرقة المحقة حكم من الأحكام الشرعية بنص من
الرسول صلى الله عليه وآله مقطوع على صحته على سبيل التفصيل رواه
المعصومون من أهل بيته عليه وعليهم السلام ثم طلب الفقيه بعد ذلك دلالة عليه من
الكتاب جملة أو تفصيلا ليضيفها إلى السنة حسما للشنعة، فلا يكون ذلك قياسا ولا
اجتهادا، لان القايس والمجتهد لو كان معهما نص على وجه من الوجوه لم يكن ذلك
منهما قياسا ولا اجتهادا. وهذا واضح بحمد الله.
على أن أكثر الآيات التي نتكلم عليها في هذا المعنى، فهو ما نبهنا عليه (2)
الأئمة من آل محمد عليه وعليهم السلام، وهم معدن التأويل ومنزل التنزيل.
(فصل)
اعلم أن الأدلة كلها أربعة: حجة العقل، والكتاب، والسنة والاجماع.
أما الكتاب - وهو غرضنا ههنا - فهو القرآن في دلالته على الأحكام الشرعية.
والمستدل بالكتاب على ذكرناه يحتاج إلى أن يعرف (3) من علومه خمسة أصناف:

(1) يريد الاجتهاد الذي يسلك المجتهد فيه سبيل الرأي والاستحسان وما أشبههما
مما لا يقره أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وكان بعض المجتهدين المعاصرين لهم
يأخذ بها مدعيا أنه يستنبط به حكم الله تعالى وهو مصيب في استنباطه بهذه الوسيلة، ولا يريد
استخراج الأحكام الشرعية من الطرق والأدلة الصحيحة التي تستند إلى القرآن الكريم والسنة
الطاهرة والأدلة الكلية المستفادة منهما، فان هذا هو المسلك الوحيد الذي يمكن به معرفة حكم
الله تبارك وتعالى إذا لم يكن الشخص مقلدا أو محتاطا.
(2) في م (كما نبهنا عليه).
(3) في م (إلى يعرف).
6

العام والخاص، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفسر، والمطلق والمقيد، والناسخ
والمنسوخ.
اما العموم والخصوص قليلا يتعلق بعموم قد دخله التخصيص، كقوله تعالى
(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) (1) وهذا عام في كل مشركة حرة كانت أو أمة.
وقوله (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) (2) خاص في الحرائر فقط،
فلو تمسك بالعموم غلط. وكذلك قوله (اقتلوا المشركين) (3) عام، وقوله (من
الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية) (4) خاص في أهل الكتاب.
واما المحكم والمتشابه فليقضى بالمحكم ويفتى به دون المتشابه (5).
واما المجمل والمفسر فليعمل بالمفسر كقوله تعالى (أقيموا الصلاة) (6) وهذا
غير مفسر، وقوله (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) (7) مفسر باجماع المفسرين
لأنه فسر الصلوات الخمس، لان قوله (حين تمسون) يعني المغرب والعشاء الآخرة،
و (حين تصبحون) يعنى الصبح، و (عشيا) يعنى العصر، و (حين تظهرون) الظهر.
وأما المطلق والمقيد فليبنى المطلق على المقيد إذا كانا في حكم واحد، كقوله
تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) (8) فهذا مطلق في العدل والفاسق، وقوله
(وأشهدوا ذوي عدل منكم) (9) مقيد بالعدالة، فيبنى المطلق عليه.

(1) سورة البقرة: 221.
(2) سورة المائدة: 5.
(3) سورة التوبة: 5.
(4) سورة التوبة: 29.
(5) المتشابه كقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة: 228]
(ه‍ ج).
(6) سورة البقرة: 43.
(7) سورة الروم: 17.
(8) سورة البقرة: 282.
(9) سورة الطلاق: 2.
7

واما الناسخ والمنسوخ فليقضى بالناسخ دون المنسوخ، كآية العدة بالحول
والآية التي تضمنت العدة بالأشهر.
ويأتي بيان جميع ذلك انشاء الله تعالى.
(باب)
(وجوب الطهارة وكيفيتها وما به تكون وما ينقضها)
الدليل على هذه الأشياء الأربعة - التي هي مدار الطهارتين وما يقوم مقامهما
عند الضرورة - اثنان من المائدة والنساء، وهما:
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم) (1).
وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) (2).
وظاهر هذا الخطاب متوجه إلى من كان على ظاهر الايمان، فأما الكافر فلا
يعلم بهذا الظاهر أنه مخاطب به ويعلم بآية أخرى ودلالة عليه به احرى.
وإنما أمر المؤمنون به - وهو واجب على الكل - لأنه بعد الدخول في
الملة، ومن أتى الاسلام يؤمر به ثم يؤمر بفروعه.
على أنه يمكن أن يقال: أن التخصيص ههنا ورد للتغليب والتشريف وإن كان
الكل مرادا، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) (3).
ألا ترى أن أسباب التكليف التي حسن الخطاب لأجلها حاصلة للمؤمن
والكافر، يوضح ذلك ويبينه قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) (4) ولا خلاف

(1) سورة المائدة: 6. والآية ساقطة من ج.
(2) سورة النساء: 43.
(3) سورة التحريم: 6.
(4) سورة البقرة: 21.
8

أنه ينبغي ان يحمل على عمومه في كل ما هو عبادة الله وإن كان خاصا في المكلفين
منهم الذين أوجب الله ذلك عليهم أو ندبهم إليه. والآية متوجهة إلى جميع الناس
ممن يصح مخاطبته مؤمنهم وكافرهم، لحصول العموم فيها، الا من ليس بشرائط
التكليف على ما ذكرناه.
فالكافر إذا لابد أن يكون مخاطبا بالصلاة وبجميع أركان الشريعة لكونها
واجبة عليه، لأنه مذموم بتركها متمكن من أن يعلم وجوبها، ويعاقب غدا عليه
أيضا. ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عن الكفار (قالوا لم نك من المصلين) (1).
ولا يقدح في وجوب ذلك بأنه إذا أسلم لا يجب عليه قضاء ما فاته، لان القضاء
هو الفرض الثاني.
فان قيل: كيف يجوز ان يكون [من] مخاطبين بذلك ولم يكن [من] (2)
موجودين في ذلك الوقت، ومن المحال أن يخاطب المعدوم.
قلنا: الأوامر على ضربين: أحدهما على الاطلاق، فالمأمور يجب أن يكون
قادرا مزاح العلة فضلا على وجوده. والاخر يكون أمرا بشرط، فالمأمور لا يجب
أن يكون كذلك في الحال ولكن بشرط أن يوجد ويصير قادرا مزاح العلة متمكنا.
وإذا ثبت هذا فأوامر الله تعالى وأوامر الرسول عليه السلام كانت أوامر للمكلفين
الموجودين في ذلك الزمان على تلك الصفات، وكانت أوامر لمن بعدهم، بشرط أن
يوجدوا ويصيروا قادرين مترددي الدواعي على ما ذكرناه، والامر على هذا الوجه
يكون حسنا. [فإنه يحسن من الواحد منا أن يأمر النجار بانجار باب غدا بشرط
أن يمكنه مما يحتاج إليه من الآلات وغيرها وان لم يمكنه في الحالة] (3).
وانما أوردت هذه الجملة استيناسا للناظر فيه، وهو التنبيه للفقيه.

(1) سورة المدثر: 43.
(2) الزيادتان منا.
(3) الزيادة من م.
9

(باب الوضوء)
أما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (1).
فإنه يدل بظاهره على وجوب أربعة أفعال مقارنة للوضوء، ويدل من فحواه
على وجوب النية فيه، لأنه عمل والأعمال بالنيات.
ثم اعلم أن القيام إلى الصلاة ضربان: أحدهما ان يقوم للدخول فيها، والاخر أن
يتأهب باستعمال الطهارة للشروع فيها. فالأول لا يصح من دون الثاني، والثاني انما
يجب بشرط تقدم الأول. فبهذا الخطاب أمرهم الله انهم إذا أرادوا القيام إلى الصلاة
وهم على غير طهر أن يغسلوا وجوههم ويفعلوا ما أمرهم الله به فيها.
وحذف الإرادة لان في الكلام دلالة عليه، ومثله قوله تعالى (فإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله) (2)، معناه إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، وقوله (وإذا كنت فيهم فأقمت
لهم الصلاة) (3)، معناه فأردت أن تقيم لهم الصلاة.
والذي يدل عليه هو أن الله أمر بغسل الأعضاء إذا قام إلى الصلاة بقوله (إذا
قمتم إلى الصلاة فاغسلوا). ومعلوم أنه إذا قام إلى الصلاة لا يغسل أعضاءه، لأنه
لا يقوم إليها ليصلي الا وقد غسل الأعضاء أو فعل ما قام مقامه، فعلم أنه أراد إذا
أردت القيام إلى الصلاة فاغسل أعضاءك، فأمر بغسل الأعضاء، فثبت أن الغسلين
والمسحين كليهما واجب في هذه الطهارة.
ويدل قوله تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (4) على

(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة النحل: 98.
(3) سورة النساء: 102.
(4) سورة الحشر.
10

وجوب عشر كيفيات مقارنة للوضوء، وعلى وجوب أربعة أشياء قبل الوضوء، وهي
تركان وفعلان (1).
(فصل)
وإذا ثبت وجوب الطهارة - لان الله أمر بها والامر في الشرع على الوجوب
لا يحمل على الندب الا لقرينة - فاعلم أنهم اختلفوا هل يجب ذلك كلما أراد القيام
إلى الصلاة أو في بعضها أو في أي حال هي؟
فقال قوم: المراد به إذا أراد القيام إليها وهو على غير طهر، وهو المروي
عن ابن عباس وجابر.
وقيل: معناه إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة. وروي أن الباقر عليه السلام
سئل ما المراد بالقيام إليها؟ فقال: المراد به القيام من النوم (2).
وقيل: المراد به جميع حال قيام الانسان إلى الصلاة، فعليه أن يجدد طهر
الصلاة، عن عكرمة وقال: كان علي عليه السلام يتوضأ لكل صلاة ويقرأ هذه الآية،
وهذا محمول على الندب. وعن ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة.
وعن ابن عمر: كان الفرض أن يتوضأ لكل صلاة ثم نسخ ذلك بالتخفيف، فقد
حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر الغسيل حدثها
ان النبي صلى الله عليه وآله أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه
فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء الا من حدث (3)، فكان عبد الله يرى ذلك فرضا.

(1) التركان أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها في حال الخلاء، والفعلان تطهير مخرج
البول وتطهير مخرج الغائط (ه‍. ج).
(2) البرهان 1 / 452 عن الباقر عليه السلام، وفى التهذيب 1 / 7 والاستبصار 1 / 80
عن الصادق عليه السلام.
(3) الدرر المنثور 2 / 262.
11

وروى سليمان بن بريدة عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وآله كان يتوضأ لكل
صلاة، فلما كان عام الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال عمر: يا رسول الله
صنعت شيئا ما كنت تصنعه. فقال: عمدا فعلته (1).
(فصل)
والآية تدل على جميع ما ذكرناه من الواجب والندب لغة، وأقوى الأقوال
ما حكيناه أولا من أن الفرض بالوضوء يتوجه إلى من أراد الصلاة وهو على غير
طهر، فأما من كان متطهرا فعليه ذلك استحبابا.
وقال الحسين بن علي المغربي: معنى (إذا قمتم) إذا عزمتم عليها وهممتم
بها، قال الراجز للرشيد:
ما قاسم دون الفتى ابن أمه * وقد رضيناه فقم فسمه (2)
فقال: يا أعرابي ما رضيت أن تدعونا إلى عقدة الامر له قعودا حتى أمرتنا بالقيام
فقال: قيام عزم لا قيام جسم.
وقال خزيم الهمداني:
فحدثت نفسي أنها أو خيالها * أتانا عشاءا حين قمنا لنهجعا
أي حين عزمنا للهجوع (3).
وقال قوم: ان الله تعالى أنزل هذه الآية اعلاما للنبي صلى الله عليه وآله انه
لا وضوء عليه واجبا الا إذا قام إلى الصلاة وما يجري مجراها من العبادات، لأنه
كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى نزلت هذه الآية، فأباح الله له بها أن
يفعل ما بدا له من الأعمال بعد الحدث، توضأ أو لم يتوضأ، الا عمل الصلاة فإنه

(1) الدر المنثور 2 / 261.
(2) لسان العرب (قوم) وفيه (دون مدى) و (فقد).
(3) التبيان 3 / 448.
12

يجب عليه أن يتوضأ له.
وفي الآية نيف وعشرون حكما سوى التفريعات الداخلة تحتها، والامتحان
يستخرجها، فالحوادث غير متناهية، وعموم النصوص أيضا غير متناهية وان كانت
النصوص متناهية، فلا حاجة إلى القياس شرعا.
(فصل)
وقوله (فاغسلوا وجوهكم) أمر منه تعالى بغسل الوجه، والامر شرعا
يقتضي الوجوب وانما يحمل على الندب لقرينة. وغير ممتنع أن يراد باللفظ الواحد
في الحالين لأنه لا تنافي بينهما.
و (الغسل) جريان الماء أو كالجريان، فقد رخص عند عوز الماء مثل الدهن
واختلفوا في حد الوجه الذي يجب غسله:
فحده عندنا من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا، وما دخل
بين الابهام والوسطى عرضا. وما خرج عن ذلك فلا يجب غسله، وما نزل من
المحادر لا يجب غسله.
والدليل عليه من القرآن جملة قوله (وما آتاكم الرسول فخذوه) وقد بينها
عليه السلام.
وأما ما غطاه الشعر - كالذقن والصدغين - فان امرار الماء على ما علا عليه
من الشعر، يجزي من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه (1).
والذي يدل عليه أن ما ذكرناه مجمع على أنه من الوجه، ومن ادعى الزيادة
فعليه الدلالة، ولا دليل شرعا لمن خالفنا فيه.
وقال عبد الجبار: لو خلينا والظاهر لكان بعد نبات اللحية يجب ايصال الماء

(1) انظر التبيان 3 / 449 فان ما هنا ملخص منه.
13

إلى البشرة التي هي تحتها، كما يلزم ذلك من لا لحية له، الا أن الدلالة قامت على
زوال وجوب ذلك بستر اللحية. ولاية تدل عليه، لان إفاضة الماء على ما يقابل
هذه البشرة وما سقط من اللحية عن الوجه، فلا يلزم فيه على وجه.
وان نبت للمرأة لحية فكمثل الرجل.
وكل مسألة شرعية لها شعب ووجوه، فإذا سألك عنها سائل فتثبت في
الجواب، فلا تجبه بلا أو بنعم على العجلة، وتصفح حال المستفتي، فإن كان عاميا
يطلب الجواب ليعمل به ويعول عليه فاستفسره عن الذي يقصده ويريد الجواب عنه،
فإذا عرفت ما يريده بعينه أجبته عنه ولا تتجاوز إلى غيره من الوجوه، فليس مقصود
هذا السائل الا الوجه الذي يريد بيان حكمه ليعمل به. وإذا كان السائل معاندا يريد
الاعنات تستفسره أيضا عن الوجه الذي يريد من المسألة، فإذا ذكره أفتيته عنه بعينه
ولا تتجاوزه إلى غيره أيضا، فليس مقصوده طلب الفائدة وانما هو يطلب المعاندة
فضيق عليه سبيل العناد. وإن كان السائل مستفيدا يطلب بيان وجوه المسألة والجواب
عن كل وجه ليعلمه ويستفيده فأوضح له الوجوه كلها واجعل الكلام منقسما لئلا يذهب
شئ من بابه. وهذا لعمري استظهار للعالم في جميع العلوم انشاء الله تعالى.
(فصل)
وقوله (وأيديكم إلى المرافق) عطف على (وجوهكم)، فالواجب غسلهما.
ويجب عندنا غسل الأيدي من المرافق، وغسل المرافق معهما إلى رؤوس
الأصابع، ولا يجوز غسلها من الأصابع إلى المرافق الا عند الضرورة، فقد قال الله
تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (1).
و (إلى) في الآية بمعنى مع، كقوله (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) (2).

(1) سورة الحج: 78.
(2) سورة النساء: 2.
14

وانما قلنا ذلك لان إلى قد تكون بمعنى الغاية وقد تكون بمعنى مع حقيقة فيهما،
ولا خلاف بين أهل اللسان أن كل لفظة مشتركة بين معنيين أو معان كثيرة انما يتميز
بعضها دون بعض بما يقترن إليها من القرائن، فإذا صح اشتراك لفظة (إلى) في
معنى الغاية ومعنى مع حقيقة - لا استعارة ومجازا - وانضاف إلى واحد منهما وهو
ما ذكرناه اجماع الطائفة ثبت ما أردناه من وجوب ابتداء غسل الأيدي من المرافق
وغسلها معها إلى رؤوس الأصابع.
وقد قال جماعة من الخاصة والعامة ان حمل (إلى) في هذا الموضع على
معنى مع أولى من حمله على معنى الغاية، لأنه أعم وفيه زيادة في فائدة الخطاب
واحتياط في الطهارة واستظهار بدخول المرافق في الوضوء، وفي معنى الغاية اسقاط
الفائدة وترك الاحتياط وابطال سائر ما ذكرناه، ويؤكد ذلك قراءة أهل البيت عليهم
السلام (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق) (1).
على أن المرتضى رضي الله عنه قال: ان الابتداء في غسل اليدين للوضوء
من المرافق والانتهاء إلى أطراف الأصابع، الأولى أن يكون مسنونا ومندوبا إليه لا
أن يكون فرضا حتما. والفقهاء يقولون: لعل هو مخير بين الابتداء بالأصابع وبين
الابتداء بالمرافق (2).
وقال الزجاج: لو كان المراد بإلى (مع) لوجب غسل اليد إلى الكتف
لتناول الاسم له. قال: وانما المراد بإلى الغاية والانتهاء، لكن المرافق يجب
غسلها مع اليدين (3).
وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأنا لو خلينا وذلك لقلنا بما قاله، لكن

(1) روى ذلك عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام. أنظر البرهان 1 / 451.
(2) الانتصار ص 16 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(3) التبيان 3 / 451.
15

أخرجناه بدليل، وهو اجماع الأمة على أن من بدأ من المرافق كان وضوؤه صحيحا،
وإذا جعلت غاية ففيه الخلاف.
واختلف أهل التأويل في ذلك:
فقال مالك بن انس: يجب غسل اليدين إلى المرفقين ولا يجب غسل المرفق،
وهو قول زفر.
وقال الشافعي: لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها.
وقال الطبري: غسل المرفقين وما فوقهما مندوب إليه غير واجب. وقد
اعتذر له بأن معنى كلامه أن وجوب ذلك يعلم من السنة لا من الآية.
وانما اعتبرنا غسل المرافق لاجماع الأمة على أن من غسلهما صحت صلاته
ومن لم يغسلهما ففيه الخلاف (1).
وقيل: الآية مجملة فالواجب الرجوع إلى البيان، وقد ثبت أنه صلى الله
عليه وآله غسلهما فيما حكاه كبار الصحابة في صفة وضوئه، فصار فعله بيانا للآية،
كما أن قوله كذلك.
وليس لاحد أن يقول: ان ظاهر قوله (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق)
يوجب ان يكون المرفق غاية في الوضوء لا ان يكون مبدوءا به أو يغسل المرفق معها.
لأنا قد بينا بأن (إلى) بمعنى مع والغاية على سبيل الحقيقة، وقرينة اجماع
الأمة أن غسل المرافق واجب، فلو كان إلى للغاية هنا لم يلزم غسل المرفق على
مقتضى وضع اللغة، لان ما بعد إلى إذا كانت للغاية لا يدخل فيما قبلها والا فلا
تكون غاية.

(1) جواب الزجاج وأقوال الفقهاء مأخوذ من التبيان 3 / 451 مع اختصار وإضافة.
16

(فصل)
قول (وامسحوا برؤوسكم) جملة فعلية معطوفة على الجملة المتقدمة، وهي
تقتضي الايجاب حيث تقتضيه الأولى وتتناول الندب حيث تتناوله الأولى، ولا
فرق بين المقتضيين في الجملتين على حال لمكان الواو العاطفة.
وكذلك يجب أن يكون حكم (أرجلكم) حكم (رؤوسكم) لمكان واو
العاطفة أيضا، سواء كان عطفا على اللفظ أو على المحل، لان جميع ذلك اسم لشئ
واحد، وهو الوضوء، فان اقتصر على بعضها اختيارا فلا وضوء.
فإذا ثبت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في صفة المسح:
فقال قوم: يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح، وهو مذهبنا، وبه قال عبد الله
ابن عمر والقاسم بن محمد والشافعي.
وقال مالك: يجب مسح جميع الرأس.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز مسح الرأس بأقل من ثلاثة أصابع، وهذا عندنا
على الاستحباب.
ولا يجوز المسح عندنا الا على مقدم الرأس، وهو المروي عن ابن عمر
والقاسم بن محمد والطبري، ولم يعتبره أحد من الفقهاء وقالوا: أي موضع
مسح أجزأه.
وانما اعتبرنا المسح ببعض [الرأس] (1) - فضلا على النص من آل محمد عليه
وعليهم السلام - (2) لدخول الباء الموجبة للتبعيض، لان دخولها في الاثبات في الموضع
الذي يتعدى الفعل فيه بنفسه لا وجه له غير التبعيض، والا لكان لغوا. وحملها على
الزيادة لا يجوز مع امكانها على فائدة مجددة.

(1) الزيادة من التبيان لاستقامة الجملة.
(2) انظر النصوص في الموضوع في وسائل الشيعة 1 / 290 - 292.
17

فان قيل: يلزم على ذلك المسح ببعض الوجه في التيمم في قوله (فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه).
قلنا: كذلك نقول، فان في التيمم يمسح الوجه بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف
، على ما نصوا عليه عليهم السلام.
ومن غسل الرأس فإنه لا يجزيه عن المسح عندنا، وخالف جميع الفقهاء
في ذلك وقالوا بجزيه لأنه يشتمل عليه.
وهذا غير صحيح، لان حد المسح شرعا هو امرار العضو الذي فيه نداوة
على العضو الممسوح من غير أن يجري عليه الماء، والغسل لا يكون الا بجريان
الماء عليه بعلاج وغير علاج، فمعناهما مختلف. ولو كانا واحدا لما ورد الامر بهما
واقتصر بقوله (فاغسلوا) ولم يقل بعده (وامسحوا). وليس إذا دخل المسح في
الغسل يسمى الغسل مسحا، كما أن العمامة لا تسمى خرقة وان كانت تشتمل على
خرق كثيرة.
وقال الشافعي: الأذنان ليستا من الوجه [ولا من الرأس] (1).
(فصل)
وقوله (وأرجلكم) من قرأها بالجر عطفها على اللفظ وذهب إلى أنه يجب
مسح الرجلين كما وجب مسح الرأس، ومن نصب فكمثل، لأنه ذهب إلى أنه
معطوف على موضع الرؤوس، فان موضعهما نصب لوقوع المسح عليهما، فالقراءتان
جميعا تفيدان المسح على ما نذهب إليه.
وممن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم.
وعندنا ان المسح على ظاهرهما من رؤوس الأصابع إلى الكعبين.
قال ابن عباس وأنس: الوضوء غسلتان ومسحتان.

(1) الزيادة من م.
18

وقال عكرمة: ليس على الرجلين غسل انما فيهما المسح، وبه قال الشعبي
وقال: ألا ترى أن في التيمم يمسح ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا.
وقال قتادة: افترض الله مسحين وغسلين.
وروى أوس بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله توضأ ومسح على
نعليه ثم قام وصلى. وكذلك روى حذيفة (1).
وروى حبة العرني: رأيت عليا عليه السلام شرب في الرحبة قائما ثم توضأ
ومسح على نعليه (2).
ووصف ابن عباس وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه مسح على رجليه
وقال: ان كتاب الله المسح ويأبى الناس الا الغسل (3).
و (الغسل) في اللغة اجراء الماء على الشئ على وجه التنظيف والتحسين
وإزالة الوسخ عنه ونحوها. ومسحه بالماء ايصال رطوبته إليه فقط كما ذكرناه.
وقال علي عليه السلام: ما نزل القرآن الا بالمسح (4).
وأما (الكعبان) فهما عندنا الناتئان في وسط القدم، وبه قال محمد بن
الحسن الشيباني، وان أوجب الغسل.
وقال أكثر الفقهاء: هما عظما الساقين.
يدل على ما قلناه أنه لو أراد ما قالوا لقال سبحانه (إلى الكعاب) لان في
الرجلين منها أربعة.
فان ادعوا تقديرا بعد قوله (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) أي كل واحدة
إلى الكعبين، كما في قولهم (اكسنا حلة) أي اكس كل واحد منا حلة. فذلك مجاز،
وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن أولى، وهو قولنا.

(1) التبيان 3 / 452.
(2) التبيان 3 / 452.
(3) الدر المنثور 2 / 262.
(4) التهذيب: 1 / 63.
19

فان قيل: كيف قال (إلى الكعبين)، وعلى مذهبكم ليس في كل رجل الا
كعب واحد.
قلنا: انه تعالى أراد رجلي كل متطهر، وفي الرجلين كعبان، ولو بنى الكلام
على ظاهره لقال (وأرجلكم إلى الكعاب)، والعدول بلفظ (أرجلكم) إلى أن
المراد بها رجلا كل متطهر أولى من حملها على كل رجل.
(فصل)
ان قيل: القراءة بالجر في (أرجلكم) ليست بالعطف على الرؤوس في
المعنى، وانما عطف عليها على طريق المجاورة، كما قالوا (جحر ضب خرب)
وخرب من صفات الجحر لا الضب.
قلنا: أولا ان العرب لم تتكلم به الا ساكنا فقالوا (خرب) فإنهم لا يقفون الا
على الساكن، فلا يستشهد به. وبعد التسليم فإنه لا يجوز في الآية من وجوه:
أحدها - ما قال الزجاج ان الاعراب بالمجاورة لا يكون مع حرف العطف،
وفي الآية حرف العطف الذي يوجب أن يكون حكم المعطوف حكم المعطوف عليه،
وما ذكروه ليس فيه حرف العطف، فأما قول الشاعر:
فهل أنت ان ماتت أتانك راحل * إلى آل بسطام بن قيس فخاطب 1
قالوا: جر مع حرف العطف الذي هو الفاء، فإنه يمكن أن يكون أراد
الرفع وانما جر الراوي وهما، ويكون عطفا على راحل، فيكون قد أقوى (2) لان
القصيدة مجرورة. وقال قوم: أراد بذلك الامر وانما جر لاطلاق الشعر.
والثاني - ان الاعراب بالمجاورة انما يجوز مع ارتفاع اللبس، فأما مع

(1) نسب البيت إلى جرير ولم تثبت النسبة.
(2) الاقواء في العروض، ان يجئ بيت في القصيدة مرفوعا وبيت آخر مجرورا
(ه‍. ج).
20

حصول اللبس فلا يجوز، ولا يلتبس على أحد أن (خرب) صفة جحر لا ضب،
وليس كذلك في الآية، لان الأرجل يمكن أن تكون ممسوحة ومغسولة، فالاشتباه
حاصل هنا ومرتفع هناك.
وأما قوله (وحور عين) (1) - في قراءة من جرهما - فليس بمجرور على
المجاورة، بل يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون عطفا على قوله (يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب
وأباريق * وكأس من معين) (2) إلى قوله (وحور عين)، فهو عطف على أكواب.
وقولهم انه لا يطاف الا بالكأس، غير مسلم، بل لا يمتنع أن يطاف بالحور العين
كما يطاف بالكأس، وقد ذكر في جملة ما يطاف به الفاكهة واللحم.
والثاني: انه لما قال (أولئك المقربون * في جنات نعيم) (3) عطف بقوله
(وحور عين) على (جنات النعيم)، فكأنه قال هم في جنات النعيم وفى مقاربة
أو معاشرة حور عين - ذكره أبو علي الفارسي (4).
ومن قال القراءة بالجر يقتضي المسح على الخفين. فقوله باطل، لان الخف
لا يسمى رجلا في لغة ولا شرع، والله أمر بايقاع الفرض على ما يسمى رجلا على
الحقيقة.
(فصل)
وان قيل في القراءة بالنصب في (أرجلكم): هي معطوفة على قوله (وأيديكم)
في الجملة الأولة.

(1) سورة الواقعة: 22.
(2) سورة الواقعة: 17 - 18.
(3) سورة الواقعة: 12 - 13.
(4) انظر التبيان 3 / 454.
21

فيقال: ان هذا غير صحيح، لأنه لا يجوز ان يقول القائل (اضرب زيدا
وعمرا وأكرم بكرا وخالدا)، ويريد بنصب خالدا العطف على زيدا وعمرا المضروبين
لان ذلك خروج عن فصاحة الكلام ودخول في معنى اللغز، فان أكرم المأمور خالدا
فيكون ممتثلا لامره معذورا عند العقلاء، وان ضربه كان ملوما عندهم. وهذا مما
لا محيص عنه.
على أن الكلام متى حصل فيه عاملان - قريب وبعيد - لا يجوز اعمال البعيد
دون القريب مع صحة حمله عليه. وبمثله ورد القرآن وفصيح الشعر: قال تعالى
(وانهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) (1)، ولو أعمل الأول لقال (كما
ظننتموه). وقال (آتوني أفرغ عليه قطرا) (2)، ولو أعمل الأول لقال (أفرغه).
وقال (هاؤم اقرأوا كتابيه) (3)، ولو اعمل الأول لقال (هاؤم اقرأوه)، واليه ذهب
البصريون.
فأما من يختار اعمال الأول من الكوفيين فإنه لا يجيز ذلك في مثل الموضع
الذي نحن فيه، وليس قوى امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة * كفاني ولم أطلب قليل من المال
من قبيل ما نحن بصدده، إذ لم يوجه فيه الفعل [الثاني] (4) إلى ما وجه إليه
الأول، وانما اعمل الأول لأنه لم يجعل القليل مطلوبا، وانما كان المطلوب عنده الملك
وجعل القليل كافيا، ولو لم يرد هذا ونصب لفسد المعنى. وعلى هذا يعمل الأقرب
أبدا، أنشد سيبويه قول طفيل:
* جرى فوقها فاستشعرت لون مذهب * (5)

(1) سورة الجن: 7.
(2) سورة الكهف: 96.
(3) سورة الحاقة: 19.
(4) الزيادة من ج.
(5) من بيت لطفيل بن عوف بن ضبيس الغنوي، وصدره (وكمتا مدماة كأن متونها).
22

وقال كثير: قضى كل ذي دين فوفى غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها
ولو اعمل الأول لقال (فوفاه غريمه)، والاستدلال بقوله (ممطول معنى
غريمها) أولى، لان قوله (عزة) مبتدأ و (ممطول) خبره و (معنى) كذلك،
وكل واحد منهما فعل للغريم، فلا يجوز رفعه بممطول، فيبقى (معنى) وقد جرى
خبرا على عزة، وهو فعل لغيرها، فيجب ابراز ضميره.
فأما من قال: ان قوله (وأرجلكم) منصوبة بتقدير واغسلوا أرجلكم كما قال:
متقلدا سيفا ورمحا * وعلفتها تبنا وماءا باردا
فقد أخطأ أيضا، لان ذلك انما يجوز إذا استحال حمله على ما في اللفظ،
فأما إذا جاز حمله على ما في اللفظ فلا يجوز هذا التقدير.
(فصل)
وقد ذكرنا من قبل ان قوله (وأرجلكم) بالنصب معطوف على موضع
(برؤوسكم) لان موضعها النصب، والعطف على الموضع جائز حسن كما يجوز
على اللفظ، لا فرق بينهما عند العرب في الحسن، لأنهم يقولون (لست بقائم ولا
قاعدا) أو (لا قاعد) و (ان زيدا في الدار وعمرو)، فرفع عمرو بالعطف على الموضع،
كما نصب قاعدا لأنه معطوف على محل بقائم. قال الشاعر:
معاوي اننا بشر فأسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا (1)
مقدرا لكل شبهة.
وصح أن الحكم في الآية المسح في الرجلين، وقد تقل الشبهة في القراءة

(1) البيت لعقبة بن هبيرة الأسدي.
23

بالجر على ما قدمناه.
ومن قال يجب غسل الرجلين لأنهما محدودتان كاليدين. فقوله ليس بصحيح
لأنا لا نسلم أن العلة في كون اليدين مغسولتين كونهما محدودتين، وانما وجب غسلهما
لأنهما عطفتا على عضو مغسول وهو الوجه، وكذلك إذا عطف الرجلان على ممسوح
وهو الرأس وجب أن يكونا ممسوحتين، والفصاحة فيما قال الله في الجملتين ذكر
معطوفا ومعطوفا عليه أحدهما محدود والاخر غير محدود فيهما.
وروي أن الحسن قرأ (وأرجلكم) بالرفع. فان صحت هذه القراءة فالوجه
أنه الابتداء وخبره مضمر، أي وأرجلكم ممسوحة، كما يقال (أكرمت زيدا وأخوه)
[اي وأخوه (1)] أكرمته، فأضمره على شريطة التفسير واستغنى بذكره مرة أخرى،
إذا كان في الكلام الذي يليه ما يدل عليه وكان فيما أبقى دليل على ما ألقى، فكأن
هذه القراءة - وان كانت شاذة - إشارة إلى أن مسح الرأس [ببقية النداوة من مسح
الرأس] (1) كما هو.
ويدل أيضا على وجوب الموالاة لان الواو إذا واو الحال في قوله (وأرجلكم)
بالرفع.
(فصل)
وهذه الآية تدل على أن من غسل وجهه مرة وذراعيه مرة مرة أدى الواجب
على ما فصله الأئمة عليهم السلام (2)، ودخل في امتثال ما يقتضيه الظاهر، لان لفظ الامر
يدل على المرة الواحدة ويحتاج على الاقتصار أو التكرار إلى دليل آخر. فلما ورد
أن النبي صلى الله عليه وآله توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين (3)، علم أن الفرض

(1) الزيادة من ج.
(2) انظر الأحاديث في ذلك في الوسائل 1 / 271 - 282.
(3) انظر احكام القرآن للجصاص 3 / 357.
24

مرة واحدة والثانية سنة، لان الآية مجملة وبيانها فعله عليه السلام.
وكذلك تدل الآية على أنه لا يجوز أن يجعل مكان المسح غسلا ولا بدل
الغسل مسحا، لان الله أوجب بظاهر الآية الغسل في الوجه واليدين وفرض المسح
في الرأس والرجلين، فمن مسح ما أمر الله بالغسل أو غسل ما أمر بالمسح لم يكن
ممتثلا للامر، لان مخالفة الامر لا تجزي في مثل هذا الموضع.
وتدل الآية أيضا على أنه يجب تولى المتطهر وضوءه بنفسه إذا كان متمكنا
من ذلك ولا يجزيه سواه، لأنه قال (فاغسلوا)، أمر بأن يكونوا (1) غاسلين وماسحين
والظاهر يقتضي تولي الفعل حتى يستحق التسمية، لان من وضأه غيره لا يسمى غاسلا
ولا ماسحا على الحقيقة.
ويزيد ذلك تأكيدا ما روي أن الرضا عليه السلام رأى المأمون يتوضأ بنفسه
والغلام يصب الماء عليه، فقرأ عليه السلام (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) (2). فإذا كان
هذا مكروها فينبغي أن يكون الأول محظورا.
وفي الآية أيضا دلالة على أن من مسح على العمامة أو الخفين لا يجزيه، لان
العمامة لا تسمى رأسا والخف لا يسمى رجلا، كما لا يسمى البرقع وما يستر اليدين
وجها ولا يدا.
وما روي في المسح على الخفين (3) أخبار آحاد لا يترك لها ظاهر القرآن، على
أنه روى المخالف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: نسخ ذلك بهذه الآية.
ولذلك قال عليه السلام لمن شهد لمسح الخفين (أقبل المائدة أم بعدها) عند عمر.
فقالوا: لا ندري. فقال عليه السلام: كان قبل المائدة (4).

(1) في النسختين (بأن يكون).
(2) سورة الكهف: 110، والحديث في الوسائل 1 / 336.
(3) انظر الأحاديث في ذلك في الدر المنثور 2 / 262، احكام القرآن للجصاص 3 / 353.
(4) التبيان 3 / 457.
25

(فصل)
وفي هذه الآية دلالة على أن الطهارة تفتقر إلى النية، سواء كانت وضوءا
أو غسلا أو ما يقوم مقامهما من التيمم، وهو مذهب الشافعي أيضا.
وقال أبو حنيفة: الطهارة بالماء لا تفتقر إلى النية والتيمم لابد فيه من نية.
والدليل على صحة ما ذكرناه أن قوله (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) تقديره
أي فاغسلوا للصلاة، وانما حذف ذكر الصلاة اختصارا. ومذهب العرب في ذلك
واضح، لأنهم إذا قالوا (إذا أردت لقاء الأمير فالبس ثيابك) تقديره فالبس ثيابك
للقاء الأمير.
وإذا أمر بالغسل للصلاة فلابد من النية، لان بالنية يتوجه الفعل إلى الصلاة
دون غيرها.
وقوله عليه السلام (الأعمال بالنيات) (1) يؤكده.
(فصل)
وإذا صح بظاهر تلك الآية أن أفعال الوضوء الواجبة المقارنة له خمس:
النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، ومسح الرجلين.
فاعلم أن في الآية أيضا دلالة على وجوب كيفياتها العشر المقارنة له بظاهرها
ومن فحواها، ولولا النصوص المجمع على صحتها في وجوب هذه الواجبات
وغيرها الموجبة علما وعملا، لما أوردنا هذه الاستدلالات التي ربما يقال لنا: انها
على أسلوب استخراجات الفقهاء الا انهم يرجمون رجما فيما طريقه العلم، ونحن
بعد أن قبلناه علما بالاجماع من الفرقة المحقة الذي هو حجة نتجاذب أهداب تلك

(1) وسائل الشيعة 1 / 34.
26

الاستدلالات، ونتشبث بها نضيف بذلك فضيلة إلى فضيلة، على أن أكثر ما نتبينه
من أئمة الهدى عليهم السلام.
ولعمري ان الله قد أغنى الخلق عن التعسف، بين وفصل الشريعة على لسان
رسوله صلى الله عليه وآله وألسنة حججه عليهم السلام ما أجمله في كتابه من الاحكام،
لما في مجمل الكتاب وتفصيل السنة من دواء العليل وشفاء الغليل ما تصير الألطاف
الإلهية بهما أقوى وأبلغ.
وكلا الامرين من الله جملة وتفصيلا، ليس للرسول والأئمة عليه وعليهم
السلام في شئ من ذلك اجتهاد، انما هو علم علمهم الله نعمة عليهم ورحمة للعالمين
[حتى أرش الخدش] (1).
(فصل)
والآية تدل على وجوب الترتيب في الوضوء من وجهين:
أحدهما: أن الواو توجب الترتيب لغة على قول الفراء وأبى عبيد، وشرعا
على قول كثير من الفقهاء، ولقوله عليه السلام (ابدأوا بما بدأ الله به) (2).
والثاني: وهو على قول الجمهور ان الله أوجب على من يريد القيام إلى
الصلاة إذا كان محدثا أن يغسل وجهه أولا، لقوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا)، والفاء توجب الترتيب والتعقيب بلا خلاف. فإذا ثبت ان البداءة بالوجه
هو الواجب ثبت في باقي الأعضاء، لان أحدا لا يفرق.
ويقويه قوله عليه السلام للاعرابي حين علمه الوضوء فقال: هذا وضوء لا يقبل
الله الصلاة الا به (3). فإن كان رتب فهو كما نقول، وان لم يرتب لزم أن يكون من رتب

(1) الزيادة من م.
(2) وسائل الشيعة 1 / 316، وفيه (ابدأ بما بدأ الله عز وجل به).
(3) الكافي: 3 / 31.
27

لا يجزيه، وقد أجمعت الأمة على خلافه.
وقال أبو مسلم بن مهرايزد: أجود ما يقال على من أجاز وقوع الطهارة بغير
الترتيب، انه قد ثبت ان فاعله مسئ بفعله [والمسئ معاقب والاحتراز عن العقاب
واجب] (1). قال: والوجه اسم لما يناله البصر عند المواجهة من قصاص شعر الرأس
إلى منتهى الذقن طولا.
ولم يحد الله الوجه كما حد اليد، لان الوجه معروف مختص يجب غسل
جميعه، واليد يشتمل على جميع ما هو من البنان إلى أصل الساعد، ولا يجب غسل
جميعها في الوضوء، فلابد فيها من التحديد.
وأشار إلى مسح بعض الرأس بالباء التي ليست للتعدية.
وحد الرجلين لمثل ما ذكرناه في اليد.
(فصل)
وظاهر الآية يوجب غسل الأعضاء ومسحها متى أراد الصلاة وهو محدث،
فإذا غسلها بلا ترتيب ثم أراد الصلاة يجب أن يكون بعد مخاطبا به، عملا بمقتضى
الآية.
على أن من أخطأ في الوضوء فقدم مؤخرا أو أخر مقدما يجب عليه أن يعيد، لان
الترتيب في الوضوء واجب على ما ذكرناه من مقتضى الآية.
وقال أبو جعفر عليه السلام: تابع بين الوضوء كما قال تعالى، ابدأ بالوجه
ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين [ولا تقدمن شيئا بين يدي شئ تخالف ما أمرت به] (2)
فان غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه واعد على الذراع، وان مسحت الرجل

(1) الزيادة من ج.
(2) الزيادة من المصدر.
28

قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل، ابدأ بما بدأ الله
عز وجل به (1).
وهذا عام في العمد والخطأ.
(فصل)
وفي الآية أيضا دلالة على أن الموالاة واجبة في الوضوء، لان الامر شرعا
يجب على الفور ولا يسوغ فيه التراخي الا بدليل، فإذا ثبت ذلك وكان المأمور
بالصلاة في وقتها مأمورا بالوضوء قبلها فيجب عليه فعل الوضوء عقيب توجه الامر إليه.
وكذلك جميع الأعضاء الأربعة، لأنه إذا غسل وجهه فهو مأمور بعد ذلك
بغسل اليدين، ولا يجوز له تأخيره.
فان فرق وضوءه للضرورة حتى يجف ما تقدم منه استأنف الوضوء من أوله،
وان لم يجف وصله من حيث قطعه إذا كان الهواء معتدلا.
وان والى بين غسل أعضاء الطهارة ومسحها وجف شئ منها قبل الفراغ لحر
شديد أو ريح من غير تقصير منه فيه، فلا بأس إذا بقيت نداوة تكفي للمسح، لأنه
قال (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (2).
وبمثل ذلك تدل الآية على مقارنة النية واستدامة حكمها.
(فصل)
ويدل قوله (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) على أن من مسح رأسه ورجليه
بأصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ويكون ماسحا.
ولا يلزم على ذلك ما دون الإصبع، لأنا لو خلينا والظاهر لقلنا بذلك، لكن
السنة منعت منه.

(1) وسائل الشيعة 1 / 316.
(2) سورة الحج: 78.
29

وصورته: ان يمسح برأس مسبحة يمينه مقدم رأسه، يضعها عليه عرضا مع
الشعر إلى قصاصه، ثم يمسح بها عرضا رجله اليمنى من أصابعها إلى الكعبين،
وبمسبحته اليسرى رجله اليسرى كذلك. فهذا مجزئ.
والندب: ان يمسح مقدم الرأس بثلاث أصابع مضمومة بالعرض، وأن يمسح
الرجلين بالكفين.
والباء في قوله (برؤوسكم) كما تدل على مسح بعض الرأس تدل في الرجلين
أيضا عليه، لأنها مضمرة في (أرجلكم)، وواو العطف منئبة عنه وقائمة مقامها،
وكلما هو منوي في الكلام فهو في حكم الثابت على بعض الوجوه.
(فصل)
وتدل الآية بقريب من ذلك على أن مسح الرأس والرجلين ببقية نداوة
الوضوء من غير استيناف ماء جديد، لان الامر كما هو على الايجاب شرعا فهو على
الفور، وإذا لم يشتغل المتطهر بأخذ الماء الجديد واكتفى بالبلة فهو على الفور،
ولان اسم المسح يقع على كليهما، فلا يصح أن يميز ويخصص بأحدهما الا بقرينة
تنضم إليه.
واجماع الطائفة - الذي هو حجة - حاصل على أن المسح ببقية النداوة،
وهو من أوثق القرائن على أنه سبحانه لم يذكر في الآية استيناف الماء، وهذا
قد مسح.
فان قيل: ولم يذكر المسح ببقية النداوة أيضا.
قلنا: نحمل الآية على العموم ونخصها - بدليل اجماع الفرقة - على أن
المسح في الشرع هو أن يبل المحل بالماء من غير أن يسيل، والغسل امرار الماء
على المحل حتى يسيل مع الاختيار.
30

(باب الغسل)
ثم قال سبحانه وتعالى عاطفا على تلك الجملة جملة أخرى، فقال (وان كنتم
جنبا فاطهروا).
ولكل كلام حكم نفسه (1)، ولذلك قال عليه السلام: إذا أجنب المكلف فقد
وجب الغسل (2).
فعلة الغسل هي الجنابة كما ذكره المرتضى في الذريعة، فغسل الجنابة
واجب على كل حال.
وقد ذكرنا في كتاب (الشجار) (3) في وجوب غسل الجنابة بيان ذلك على
الاستقصاء، وبينا ما هو العمل عليه والمعول على ما أشرنا ههنا أيضا إليه.
وقيل: ان هذه الأحكام التي هي الغسل والتيمم - الذي هو بدل منه أو من
الوضوء - من مقدمات الصلاة وشرائطها تجب لوجوبها، أي وان أصابتكم جنابة
وأردتم القيام إلى الصلاة فاطهروا، ومعناه فتطهروا بالاغتسال. فهذه الجملة مفصلة
بالجملة الأولى متعلقة بها، لان الآية من أولها إلى آخرها تبين شرائط الصلاة
المتقدمة، فلهذا كان حكم الجملة الأخيرة حكم الأولى، لا لأنه قد ربطها الواو
العاطفة بما قبلها حتى يقدح (4) في ذلك بقوله (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في

(1) حتى لا يلزم ان الغسل الواجب للصلاة كالوضوء (ه‍ ج)
(2) الاستبصار 1 / 162.
(3) يريد كتاب (شجار العصابة في غسل الجنابة) - انظر عنه كتاب الذريعة 13 / 26.
(4) وجه القدح أن يقال: إذا كان يجب ان يكون حكم الجملة الثانية حكم الجملة
الأولى - لمكان واو العطف - لزمكم أن تكون بنت الزوجة مشاركة في الحكم لام الزوجة،
وحينئذ يلزم أن تحل أم الزوجة على الرجل إذا لم يدخل ببنتها، كما تحل بنت الزوجة عليه
إذا لم يدخل بأمها، وليس كذلك (ه‍ ج)
31

حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم (1)).
(فصل)
ونبدأ أولا بتفسير ألفاظ الآية وكشف معانيها ثم نشتغل بذكر الأحكام المتعلقة
بها، فنقول:
ان لفظ (الجنب) يقع على الواحد والجمع والاثنين والمذكر والمؤنث،
مثل عدل وخصم وزور ونحو ذلك، إذ هو مصدر أو بمنزلة المصدر، وقال الزجاج:
تقديره (ذو جنب).
وأصل الجنابة البعد، لأنها حالة تبعد عن مقاربة العبادات إلى أن يتطهر
بالاغتسال على بعض الوجوه.
والأطهار هو الاغتسال بلا خلاف. وأطهر هو تطهر مدغما، لان التاء أدغم
في الطاء، فسكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل.
ومعنى الآية: أي استعملوا الماء أو ما يقوم مقامه.
والجنابة تحصل بشيئين: اما بانزال الماء الدافق في النوم واليقظة بشهوة
أو بغير شهوة، أو بالتقاء الختانين. وجب غيبوبة الحشفة في القبل أنزل أو لم ينزل.
وقال أبو مسلم ابن مهرايزد: يلزم الرجل حكم الجنابة من أمور: منها أن
يجامع في قبل أو دبر، ومنها أن يلتقي الختانان وان لم يكن انزال ولا ماء شهوة،
ومنها ان يحتلم في النوم بشرط أن يجد بللا.
والأغسال المفروضة والمسنونة سبعة وثلاثون غسلا: منها ستة أغسال مفترضات
والباقية نوافل (2).

(1) سورة النساء: 23.
(2) عد الشيخ يحيى بن سعيد الحلى اثنين وعشرين غسلا واجبا وخمسة وأربعين غسلا
مسنونا، ويمكن أن يتداخل بعضها في بعض لوحدة ملاكها أو حكمها، ولكنها على كل حال
أكثر مما ذكره القطب الراوندي هنا - انظر كتاب نزهة الناظر ص 13 - 16.
32

ولم يورد المشايخ تغسيل الأموات من جملة الواجبات، ولا غسل نظارة
المصلوب بعد ثلاثة أيام، ولا غسل الاستسقاء، ولا غسل من أسلم بعد الكفر. فلذلك
نقص عن هذا العدد.
والفرض المذكور بظاهر اللفظ في القرآن منها اثنان غسل الجنابة والحيض.
قال تعالى (وان كنتم جنبا فاطهروا) (1)، فأوجب بظاهر هذا اللفظ الغسل.
وقال سبحانه (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض
ولا تقربوهن حتى يطهرن) (2) فيمن قرأ بالتشديد، وقد بينا ان الأطهار هو الاغتسال،
وسيجئ بيانه في بابه انشاء الله تعالى.
(فصل)
وليس على الجنب وضوء مع الغسل، فان قوله (وان كنتم جنبا فاطهروا)
هو على الاطلاق غير مقيد ولا مشروط بالوضوء، ومن اغتسل من الجنابة فقد طهر
بلا خلاف.
وكل غسل ما عدا غسل الجنابة يجب الوضوء قبله حتى يستباح به الدخول
في الصلاة، فان نسيه المغتسل فليتوضأ بعد الغسل لتصح منه الصلاة.
وغسل المرأة من الجنابة كغسل الرجل سواء، لأنا قد بينا في قوله (جنبا) ان
الجنب يقع على الرجال والنساء والرجل والمرأة، فينبغي ان يكون حكم الجنابة
وحكم غسل الجنابة فيهما سواء، وان ورد الخطاب بفظ المذكرين في قوله (وان
كنتم جنبا) فان ذلك لتغليب لفظ الرجال على النساء إذا اجتمعوا.
والأغسال الاخر الواجبة - وهي أربعة - يعلم وجوبها بالاجماع والسنة وبقوله

(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة البقرة: 222.
33

تعالى على سبيل الجملة (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (1).
وقال المرتضى: غسل من مس ميتا من الناس مستحب غير واجب. وانما
ذكره كذلك لخبر ورد للتقية.
والجنب إذا أراد الغسل يجب عليه ستة أشياء (2)، ويعلم هذا من السنة على سبيل
التفصيل ومن القرآن على سبيل الجملة. قال تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه)،
وقد فصلها رسول الله صلى الله عليه وآله ورواها الأئمة المعصومون عليهم السلام كما
علمه الله غضا طريا.
وقال بعضهم: لا يجب الاغتسال على الجنب بقوله (فاطهروا)، بل بتفسيره
في قوله (الا عابري سبيل حتى تغتسلوا) (3) في سورة النساء.
فان قيل: ما معنى تكرير قوله (أو لامستم النساء) إن كان معنى اللمس الجماع
مع قوله (وان كنتم جنبا فاطهروا).
قلنا: يمكن أن يقال إن الجنابة في الأول تحمل على الاحتلام وفي الثاني على
الجنابة عمدا.
وقيل: ان المعني في قوله (وان كنتم جنبا فاطهروا) غير المعني بقوله (أو
لامستم النساء)، فان معنى قوله (وان كنتم جنبا فاطهروا) إذا كنتم واجدين للماء
متمكنين لاستعماله، ثم بين حكمه إذا عدم الماء أو لا يتمكن من استعماله، فالتيمم
هو فرضه وهو طهارته، فأراد: إذا كان له سبيل إلى الماء فعليه أن يغتسل، وان
جامع ولم يجد الماء فعليه التيمم. فالأول في حكمه مع وجود الماء، والثاني في
حكمه مع عوز الماء.

(1) سورة الحشر: 7.
(2) ثلاثة أفعال وهي الاستبراء والنية وغسل جميع الجسد، وثلاث كيفيات وهي مقارنة
النية واستدامتها والترتيب (ه‍ ج).
(3) سورة النساء: 43.
34

(باب التيمم)
ثم قال تعالى (وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) (1).
بين تعالى أحكام التيمم الخمسة، وأشار إلى أنه على ضربين: تيمم هو بدل
من الوضوء، وتيمم هو بدل من الغسل المفروض.
قال المفسرون: معنى الآية أنه لما تقدم الامر بالوفاء بالعقود - ومن جملتها إقامة
الصلاة ومن شرائطها الطهارة - بين سبحانه وتعالى وقال (يا أيها الذين آمنوا إذا
قمتم إلى الصلاة) أي إذا أردتم القيام إليها وأنتم على غير طهر فعليكم الوضوء،
وان كنتم جنبا عند ذلك فاغتسلوا، أي اغسلوا جميع البدن على وجه، وان كنتم
جرحى أو مجدرين أو مرضى يضربكم استعمال الماء وكنتم جنبا أو على غير وضوء
وكنتم مسافرين وأنتم جنب أو جاء من الغائط أحدكم قد قضى حاجته منه وهو
مسافر أو جامعتم النساء ولم تجدوا ماءا أو لا تتمكنون من استعماله فاقصدوا وجه
الأرض طاهرا نظيفا غير نجس ولا قذر، (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) أي من
الصعيد (2).
فإذا تبينت خلاصة معنى الآية يسهل عليك تدبر أحكامها التي نذكرها.
و (الغائط) أصله المطمئن من الأرض، وكانوا يبرزون إليه ليغيبوا عن عيون
الناس، ثم كثر ذلك حتى قيل للحدث غائط كناية بالتغوط عن الحدث في الغائط.
وقيل: انهم كانوا يلقون النجو في هذا المكان وترميه الرياح إليه أيضا، فسمي
باسمه على سبيل المجاورة، ثم كثر ههنا حتى صار فيه حقيقة، وان استعمل فيما وضع
له كان مجازا.

(1) سورة المائدة: 6.
(2) انظر التبيان 3 / 457، فان ما ههنا ملخص منه.
35

و (اللمس) يكون باليد، ثم اتسع فيه فأوقع على الجماع.
و (التيمم) القصد، وقد صار في الشرع اسما لقصد مخصوص، وهو أن يقصد
الصعيد ونحوه، ويستعمل التراب وما في معناه في أعضاء مخصوصة.
و (الصعيد) وجه الأرض من غير نبات ولا شجر. وقال الزجاج: الصعيد
ليس هو التراب انما هو وجه الأرض ترابا كان أو غيره من الأحجار ونحوها، وانما
سمى صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض.
وقوله (أو على سفر) معناه: وان كنتم مسافرين.
(فصل)
اعلم أنهم قالوا: ان السفر في هذين الموضعين غير معتبر اعتبارا يخل به (1)
إذا حصل شرطه الذي قرنه الله بذلك وقيده به من قوله (فلم تجدوا ماءا)، وانما
ذكر لان أكثر هذه الضرورات على الأغلب تكون في الحال السفر، فان حصلت في
غيره فكمثله. ولهذا نظائر كثيرة، كقوله (وربائبكم اللاتي في حجوركم) (2). وليس
لكونهن في الحجور اعتبارا، وانما ذكر ذلك لكونه في أكثر الحالات كذلك.
وقيل إن (أو) ههنا بمعنى الواو، كقوله (أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) (3)
يعني وجاء أحد منكم من الغائط، وذلك لان المجئ من الغائط ليس من جنس
المرض والسفر حتى يصح عطفه عليهما، فإنهما سبب لإباحة التيمم والرخصة،
والمجئ من الغائط سبب لايجاب الطهارة، والتقدير: وقد جاء من الغائط.
وقوله (أو لامستم النساء) المراد به الجماع، وكذا إذا قرئ (أو لمستم).
واللمس والملامسة معناهما واحد، لأنه لا يلمسها الا وهي تلمسه. وقيل المراد به
اللمس باليد وغيرها، والصحيح هو الأول.

(1) أي بالتيمم.
(2) سورة النساء: 23.
(3) سورة الصافات: 147.
36

يروى أن العرب والموالي اختلفتا فيه، فقال الموالي المراد به الجماع، وقال
العرب المراد به مس المرأة. فارتفعت أصواتهم إلى ابن عباس فقال: غلب الموالي
المراد به الجماع (1).
وسمي الجماع لمسا لان به يتوصل إلى الجماع، كما سمي المطر سماءا.
(فصل)
وقوله (فلم تجدوا ماءا) راجع إلى المرضى والمسافرين جميعا، مسافر لا يجد
الماء ومريض لا يجد الماء أو من يوضئه أو يخاف الضرر من استعمال الماء، لان
الأصل ان حال المرض يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء، وحال السفر
يغلب فيها عدم الماء.
(فتيمموا) أي تعمدوا وتحروا واقصدوا صعيدا.
وقد ذكرنا أن الزجاج قال: الصعيد وجه الأرض. وهذا يوافق مذهب
أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر، سواء كان عليه تراب أو لم يكن.
والتيمم انما يصح ويجب لفريضة الوقت في آخر الوقت وعند تضيقه، لان
التيمم بلا خلاف انما هو طهارة ضرورية، ولا ضرورة إليه الا في آخر الوقت، وما
قبل هذه الحال لم تتحقق فيه ضرورة.
وليس للمخالف أن يتعلق بظاهر قوله (فلم تجدوا ماءا فتيمموا) وبأنه لم يفرق
بين أول الوقت وآخره، لان الآية لو كان له ظاهر يخالف قولنا جاز أن يخصه
باجماع الفرقة المحقة وبما ذكرناه أيضا، كيف ولا ظاهر لها ينافي ما نذهب إليه،
لأنه تعالى قال (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة)، وأراد - بلا خلاف - إذا
أردتم القيام إلى الصلاة كما قدمناه، ثم أتبع ذلك حكم العادم للماء الذي يجب
عليه التيمم، فيجب على من تعلق بهذه الآية أن يدل على أن من كان في أول الوقت

(1) مجمع البيان 3 / 52.
37

له أن يريد الصلاة ويعزم على القيام إليها.
فانا نخالف في ذلك ونقول: [ليس لمن عدم الماء أن يريد الصلاة في أول
الوقت، وليس لهم أن يفصلوا بين الجملتين ويقولوا] (1) ان إرادة الصلاة شرط في
الجملة الأولى التي أمر فيها بالطهارة بالماء مع وجوده، وليست شرطا في الجملة
الثانية التي ابتداؤها (وان كنتم مرضى)، وذلك لان الشرط الأول لو لم يكن شرطا
في الجملتين لكان يجب على المريض أو المسافر إذا أحدثا التيمم وان لم يردا
الصلاة، وهذا لا يقوله أحد.
والتيمم انما أوجبه الله عند عدم الماء حيث لم يجده الانسان، ومعلوم أنه
أراد من وجود الماء التمكن منه والقدرة عليه، لأنه لو وجد الماء ولم يتمكن من
الوصول إليه للخوف من السبع أو التلف على نفسه لم يكن واجبا عليه استعماله ولم
يحسن أن يكون مرادا، فعلم أنه انما أراد التمكن. والتمكن مرتفع بأحد الأشياء
الثلاثة: اما لعدم الماء مع الطلب له، أو لعدم ما يتوصل إلى الماء من آلة أو ثمن،
أو لحائل بينه وبين الماء من الخوف من استعماله اما على النفس أو على المال وما
أشبه ذلك، فالآية بمجردها تدل على جميع ذلك.
(فصل)
على أنا نحمل قوله تعالى (فلم تجدوا ماءا فتيمموا) على العموم في جميع
الأوقات عنه عدم الأشياء الثلاثة المذكورة على بعض الوجوه، فان القاضي للصلوات
المفروضات يتيمم عند حصول إحدى تلك الشرائط في كل حال (2) وان لم يكن وقت
صلاة حاضرة، وكذلك يتيمم من أراد أن يصلي صلاة نافلة في غير وقت فريضة
أو في أول وقتها، ثم يجوز أن يصلي بذلك التيمم فريضة الوقت في آخر وقتها

(1) الزيادة من ج.
(2) في ج (في كل واحد).
38

عند تضيقه، إذا لم ينتقض حكم ذلك التيمم بحدث أو ما يجري مجراه، وهو التمكن
من استعمال الماء.
واختلف في كيفية التيمم على أقوال:
أحدها: انه ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وهو قول أبي حنيفة
والشافعي وأكثر الفقهاء، وبه قال قوم من أصحابنا لحديث ورد للتقية (1).
وثانيها: انه ضربة للوجه وضربة لليدين من الزندين، واليه ذهب عمار بن
ياسر ومكحول والطبري، وهو مذهبنا في التيمم إذا كان بدلا من الجنابة، فإن كان
بدلا من الوضوء كفاه ضربة واحدة يمسح بها وجهه من قصاص شعره إلى طرف أنفه
ويديه وزنديه إلى أطراف أصابعهما.
وانما وهم الراوي عن عمار في الضربة في اليدين للتيمم على كل حال، لأنه
روى التيمم الذي هو بدل من الجنابة. وقصته معروفة، وهي انه وعمر كانا في سفر
فاحتلما ولم يجدا الماء، فامتنع عمر من الصلاة إلى أن وجد الماء، وتمعك عمار
في التراب وصلى، إذ لم يعرفا كيفية التيمم، فلما دخلا على رسول الله صلى الله عليه
وآله حكيا حالهما، فتبسم عليه السلام وقال: تمعكت كما تتمعك الدابة (2)، ثم علمه
كيفية التيمم (3).
وثالثها: انه إلى الإبطين، ذهب إليه الخوارج.
وروى الزهري: ان الله عفو يقبل منكم العفو السهل، لان في قبوله التيمم
بدلا من الوضوء تسهيل الامر علينا.
ومسح الوجه بالتراب وما يجرى مجراه في التيمم انما هو إلى طرف الأنف،
ومسح اليد على ظاهر الكف على ما قدمناه. والدليل عليه - بعد اجماع الطائفة -

(1) تهذيب الأحكام 1 / 208.
(2) تمعكت: تمرغت في التراب، والمعك الدلك - النهاية لابن الأثير 4 / 343.
(3) وسائل الشيعة 2 / 976.
39

قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم)، ودخول الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل
إلى المفعول لابد له من فائدة والا كان عبثا، ولا فائدة بعد ارتفاع التعدية الا
التبعيض (1)، وحكم التبعيض يسرى (2) من الوجوه إلى الأيدي، لان حكم المعطوف
والمعطوف عليه سواء في مثل ذلك.
(فصل)
والمقيم إذا فقد الماء يتيمم كالمسافر، لان العلة في السفر فقدان الماء. ألا
ترى ان السفر بانفراده لا يرخص التيمم فيه، وانما ذكر سبحانه السفر مع السببين
للترخيص في التيمم على ما قدمناه، لان الغالب في السفر عوز الماء دون الحضر
وبناء كلام العرب على الأغلب كثير.
فان قيل: الآية ترخص للمحدث التيمم إذا فقد الماء، فمن أين لكم ان من
سواه ممن ذكرتموه يجوز له أيضا ذلك؟
قلنا: قد قدمنا ان من المعلوم انه تعالى أراد بوجود الماء التمكن من استعماله
والقدرة عليه، والتمكن مرتفع في المواضع كلها.
(فصل)
قوله تعالى (فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا) يدل على أن المحبوس إذا
لم يجد الماء وتيمم وصلى فلا إعادة عليه، خلافا للشافعي.
وانما قلنا إنه لا يعيد، لأنه إذا صلى فقد أدى فرضا بالاتفاق، وإعادة الفرض
لا تجب الا بحجة، ولا حجة على إعادة صلاة المحبوس بالتيمم من كتاب ولا سنة
ولا اجماع.

(1) لان كل من قال بفائدة زائدة أقر بأنها التبعيض (ه‍ ج).
(2) في م (ينتهى من الوجوه).
40

ويستحب التيمم من ربى الأرض (1) التي تنحدر المياه عنها، فإنها أطيب من
مهابطها، قال تعالى (صعيدا طيبا). وسمي صعيدا لأنه يصعد من الأرض، والطيب
ما لم يعلم فيه نجاسة، وطيبا اي طاهرا، وقيل حلالا، وقيل منبتا دون السبخة التي
لا تنبت، كقوله (والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا) (1)
والعموم يتناول الكل.
وتسمية التيمم بالطهارة حكم شرعي، لان النبي صلى الله عليه وآله قال (جعلت
لي الأرض مسجدا وترابها طهورا) (2).
ولا يرفع الحدث بالتيمم، سواء كان بدلا من الوضوء أو بدلا من الغسل،
وانما يستباح به الصلاة عند ارتفاع التمكن من الطهارتين. ألا ترى أن الجنب إذا
تيمم وصلى فإذا تمكن من الماء يجب عليه الاغتسال.
وقال المرضى رضي الله عنه: يجب في نية التيمم رفع الحدث ليصح الدخول
في الصلاة.
(فصل)
وقوله تعالى (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) (3)، معناه ما يريد الله فيما
فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل من الجنابة والتيمم عند
عدم الماء أو تعذر استعماله ليلزمكم في دينكم من ضيق ولا ليفتنكم فيه. ومن
الحرج الذي لم يرده الله تعالى بهم، أن يغتسلوا حين يخافون منه تلف النفس.

(1) ربى الأرض، جمع الرابية من الربو، وهو ما ارتفع من الأرض - صحاح اللغة
6 / 2349.
(2) سورة الأعراف: 58.
(3) مستدرك الوسائل: 1 / 156.
(4) سورة المائدة: 6.
41

ثم قال (ولكن يريد ليطهركم)، أي لكن يريد الله ليطهركم بما فرض عليكم
من الوضوء والغسل من الاحداث والجنابة أن ينظف به أجسامكم من الذنوب،
كما قال النبي صلى الله عليه وآله: (ان الوضوء يكفر ما قبله) 1.
وقوله (وليتم نعمته عليكم) معناه يريد الله مع تطهيركم من ذنوبكم أن يتم
نعمته بإباحته لكم التيمم وبطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا
قمتم إلى الصلاة مع وجود الماء والتيمم مع عدمه، لتشكروا الله على نعمه فتستحقوا
الثواب إذا قمتم بالواجب في ذلك.
(فصل)
والله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، حتى أباح للمتيمم أن يصلى
بتيممه صلوات الليل كلها من الفرائض والنوافل ما لم يحدث أو لم يتمكن من
استعمال الماء.
ويدل عليه قوله في آية الطهارة أنه أوجب الطهارة على القائم إلى الصلاة إذا
وجد الماء، ثم عطف عليه بالتيمم عند فقد الماء، والصلاة [أتم الجنس، وكأنه
قال والطهارة تجزيكم لجنس الصلاة] (2) إذا وجدتم الماء وإذا فقدتموه أجزأكم التيمم
لجنسها.
ثم كما لا تختص الطهارة بصلاة واحدة فكذلك التيمم.
فان قيل: ان قوله (إذا قمتم إلى الصلاة) يدل على ايجاب الطهور أو التيمم
إذا لم يجد الماء على كل قائم إلى الصلاة، وهذا يقتضى وجوب التيمم لكل صلاة.
قلنا: ظاهر الامر لا يدل على التكرار ولا على الاقتصار، من فعل مرة واحدة
فليس يجب تكرر الطهارة بتكرر القيام إلى الصلاة الا بقرينة ودليل.

(1) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 6 / 35.
(2) الزيادة من ج.
42

على أن السائل يذهب إلى أن الرجل لو قال لامرأته (أنت طالق إذا دخلت
الدار) فلم يقتض قوله أكثر من مرة واحدة عند من يجيز الطلاق مشروطا، ولو
تكرر دخولها لم يتكرر وقوع الطلاق عليها.
(باب أحكام الطهارة)
(من الآية الثانية التي هي من أمهات الطهارة أيضا)
اما قوله تعالى في سورة النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى) (1) فقد قيل في هذه الآية نيفا وعشرين حكما سوى التفريعات (2).
وقالوا في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - قال إبراهيم: انها نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح (3).
الثاني - قالت عائشة: نزلت في جماعة منهم أعوزهم الماء (4).
وظاهر الخطاب متوجه إلى المؤمنين كلهم بأن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى،
ولا يجب قصر الحكم على سببه بلا خلاف.
وقرب يقرب متعد، يقال قربتك. وقرب يقرب لازم يقال قربت منه.

(1) سورة النساء: 43.
(2) أ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ب حتى تعلموا ما تقولون لان معناها اقربوها
إذا علمتم ما تقولون، ج ولا جنبا لان المراد لا تقربوها جنبا، د الا عابري سبيل لان المراد
اقربوا مواضع الصلاة عابري سبيل، ه‍ حتى تغتسلوا لان معناه اقربوا إذا اغتسلتم. فهذه
خمسة احكام خاصة غير مكررة، وأربعة مكررة في المرضى والمسافرين والمحدثين والملامسين
كما ذكرنا فيما تقدم من آية الطهارة، يو المفهومات من قوله تعالى وان كنتم مرضى أو
على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم، وواحد مشترك بين المسافر والمحدث والملامس - الخ ولا
يقرأ بقية التعليق في الصورة (ه‍ ج).
(3) لباب النقول ص 81.
(4) أسباب النزول للواحدي 102.
43

واصل السكر سد مجرى الماء، فبالسكر تنسد طريق المعرفة (1).
وقوله (وأنتم سكارى) جملة منصوبة الموضع على الحال، والعامل فيه
(تقربوا)، وذو الحال ضميره.
وقوله (جنبا) انتصب لكونه عطفا عليه، والمراد به الجمع.
و (عابري سبيل) منصوب على الاستثناء.
وقوله (على سفر) عطف على (مرضى)، أي مسافرين.
(فصل)
ومعنى الآية: لا تقربوا مكان الصلاة، أي المساجد للصلاة وغيرها، كقوله
(وصلوات) أي مواضعها.
وهذا أولى مما روي أن معناه لا تصلوا وأنتم سكارى (2)، لان قوله (الا عابري
سبيل) يؤكد الأول، فان العبور انما يكون في المواضع دون الصلاة.
و (أنتم سكارى) فيه قولان:
أحدهما: ان المراد به سكر النوم، روي ذلك عن أبي جعفر الباقر عليه السلام (3).
والثاني: ان المراد به سكر الشراب (4).
(حتى تعلموا ما تقولون) اي حتى تميزوا بين الكلام وحتى تحفظوا ما تتلون
من القرآن.
وقوله (ولا جنبا الا عابري سبيل) فيه قولان أيضا:

(1) قال ابن فارس: السين والكاف والراء أصل واحد يدل على حيرة، من ذلك
السكر من الشراب، يقال سكر (بكسر الكاف) سكرا (بسكون الكاف). معجم مقاييس
اللغة 3 / 89.
(2) الدرر المنثور 2 / 165.
(3) وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام. انظر البرهان في تفسير القرآن 1 / 370.
(4) روى ذلك عن الصادق عليه السلام معللا أنه قبل تحريم الخمر. انظر البرهان 1 / 370.
44

أحدهما: ان معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد وأنتم جنب الا
مجتازين (1)، و (عابري سبيل) أي مارين في طريق حتى تغتسلوا من الجنابة.
والثاني: ان المراد به ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب الا ان تكونوا مسافرين
فيجوز لكم أداؤها بالتيمم وان لم يرتفع حكم الجنابة، فان التيمم - وان أباح
الصلاة - لا يرفع الحدث.
والقول الأول أقوى، لأنه تعالى بين حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم
الماء، فلو حملناه على القول الثاني لكان تكرارا، وانما أراد تعالى ان يبين حكم
الجنب في دخول المساجد في أول الآية ويبين حكمه في الصلاة عند عدم الماء في
آخر الآية.
وقوله (وان كنتم مرضى) قد بينا انه نزل في أنصاري مريض لم يستطع ان
يقوم فيتوضأ (2).
والمرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح والكسر والقروح إذا خاف
أصحابها من مس الماء، وقيل هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء، أو
لا يكون هناك من يناوله على ما قدمناه. والمروي عن الأئمة عليهم السلام جواز التيمم
في جميع ذلك لأنه على العموم (3).
والمراد بقوله (لمستم) و (لامستم) الجماع، ليكون بيانا لحكم الجنب
عند عدم الماء، كما بين حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله (ولا جنبا الا عابري
سبيل حتى تغتسلوا)، وبين أيضا حكم المحدث عند عدم الماء بقوله (أو جاء أحد
منكم من الغائط).

(1) روى ذلك عن الصادق عليه السلام، مستثنيا المسجد الحرام بمكة ومسجد النبي
بالمدينة. انظر البرهان 1 / 371.
(2) الدر المنثور 2 / 166.
(3) انظر الأحاديث الواردة في ذلك في وسائل الشيعة 2 / 966 - 969.
45

(فصل)
يسأل عن قوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فيقال: كيف يجوز
نهي السكران في حال السكر مع زوال العقل؟
ويجاب عنه بأجوبة:
أحدها: ان النهي انما ورد عن التعرض للسكر في حال وجوب أداء الصلاة
عليهم على التخصيص وان وجب ذلك قبله، كما قال تعالى بعد ذكر الأشهر الحرم
(فلا تظلموا فيهن أنفسكم) (1) وان وجب ذلك في غيرها من الأشهر.
والثاني: انه قد يكون سكران من غير أن يخرج من حد نقصان العقل إلى
ما لا يحتمل الأمر والنهي.
والثالث: ان النهى انما دل على أن إعادة الصلاة واجبة عليهم ان أدوها في
حال السكر [ولا تصح] (2) لو كان الخمر على ثوبه أو بدنه.
وقد سئل أيضا فقيل: إذا كان السكران مكلفا فكيف يجوز أن ينهى عن
الصلاة في حال سكره مع أن عمل المسلمين على خلافه؟
وأجيب عنه بجوابين:
أحدهما: انه منسوخ على حد قول من زعم أن قليل الخمر لم يكن شربه
حراما بحيث لم يسكر.
والاخر: انهم لم يؤمروا بتركها لكن أمروا بأن يصلوها في بيوتهم، ونهوا
عن الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله في جماعة تعظيما له وتوقيرا للمسجد.
ولا يصح من السكران شئ من العقود، كالنكاح والبيع والشراء وغير ذلك
على بعض الوجوه، ولا رفعها كالطلاق والعتاق.

(1) سورة التوبة: 36.
(2) لا تقرأ في النسختين.
46

فأما ما يلزم به الحدود والقصاص فإنه يلزمه جميع ذلك، يقطع بالسرقة
على كل حال إذا تمت شرائط السرقة. وكذا يحد بالقذف والزنا، لأنه السبب لذلك
ولعموم الآيات المتناولة لذلك على ما نذكره.
(فصل)
على أن من كان مكلفا يلزمه الصلاة على كل حال، وانما حسن أن ينهى عن
الصلاة من على ثوبه أو بدنه نجاسة مع أنه مكلف. والخمر نجس، فالنهي على
هذا متوجه إليه في حال يكون عليه.
ومعنى الآية انه خاطب المؤمنين ولا سكر وقال: (لا تقربوا الصلاة) في
المستقبل (وأنتم سكارى)، وإذا كان كذلك فيجب ان يكون منعا مما يؤدي إلى
السكر. وعلى هذا قال السلف ان الله حرم بهذه الآية المسكر، ثم حرم القليل
والكثير منه في المائدة، كما ذكر ههنا بعض أحكام الطهارة وبينها في المائدة.
ومعنى (لا تقربوا الصلاة) لا تصلوا، و (لا تقرب الشئ) أبلغ في النهي
من (لا تفعله).
وقد ذكروا ان قوله (وأنتم سكارى) جملة من مبتدأ وخبر في موضع
الحال، لأنه لم ينههم عن الصلاة مطلقا، انما نهاهم عن السكر الذي لا يفهم معه
القول، أي إذا كنتم بهذه الحالة فلا تصلوا، والمراد تجنبوا الصلاة في هذه الحالة.
وقوله (حتى تعلموا ما تقولون) غاية للحال التي نهى عن الصلاة فيها،
فكأنه قال: لكن إذا كنتم من السكر في حالة تعلمون معه معنى ما تقرأون في صلاتكم
أو لفظه فصلوا.
وقد بينا ان قوله (ولا جنبا) انما نصب على الحال عطفا على محل (وأنتم
سكارى)، أي لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد لا مجتازين في حال السكر
47

ولا مجتازين في حال الجنابة، وهو قول أبى جعفر عليه السلام (1)، وحذف لدلالة الكلام
عليه. وهو الأقوى، لأنه تعالى بين حكم الجنابة في آخر هذه الآية إذا عدم الماء،
فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا. وانما أراد أن يبين حكم الجنب في دخول
المساجد في أول الآية، وحكمه إذا أراد الصلاة مع عدم الماء في آخرها.
وبهذه الآية وبالآية التي تقدم ذكرها من المائدة يستدل على تحريم الخمسة
الأشياء على الجنب على ما ذكرناه.
(فصل)
وقوله (أو لمستم) المراد بالقراءتين في الآيتين الجماع (2)، واختاره أبو حنيفة
أيضا. ألا ترى إلى قوله (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم) (3) خصص
باليد لئلا يلتبس بالوجه الاخر.
وكل موضع ذكر الله تعالى المماسة أراد به الجماع، كقوله (من قبل ان
يتماسا) (4)، وكذلك الملامسة.
وقال بعضهم: من قرأ بلا الف أراد اللمس باليد وغيرها مما دون الجماع،
واختاره الشافعي. والصحيح هو الأول.
وعن ابن عباس: إذا حمل (عابري سبيل) على المسافرين كان تكرارا،
فيجب أن يحمل على الاجتياز بالمساجد إلى الاغتسال إذا لم يتوصل إلى الماء الا به.
وقال عبد الله والحسن: يمر به إلى الماء ولا يجلس فيه.
وقيل: ان ما توهموه من التكرير غير صحيح، لان المكرر إذا علق به حكم

(1) انظر فيما سبق ص 45.
(2) يريد بالقراءتين (أو لمستم) و (أو لامستم).
(3) سورة الأنعام: 7.
(4) سورة المجادلة: 3.
48

آخر لم يفهم من الأول كان حسنا، وقد ذكر معه التيمم، فلم يكن تكريرا معيبا.
والأول أولى.
وقال قوم: ان في التيمم جائزا ان يضرب باليدين على الرمل فيمسح به
وجهه وان لم يعلق بها شئ، وبه نقول.
والشافعي يوجب التيمم لكل صلاة (1) ويرويه عن علي عليه السلام، وذلك عندنا
محمول على الندب.
وقوله (يا أيها الذين آمنوا) يدخل تحته النساء أيضا، لأنه لا خلاف إذا
اجتمع المذكر والمؤنث يغلب المذكر.
وقوله (ان المسلمين والمسلمات) (2) الآية، انما ذكر إزالة للشبهة، فان أم
سلمة قالت: يا رسول الله الرجال يذكرون في القرآن ولا تذكر النساء، فنزلت الآية (3).
(فصل)
والجنب لا يجوز ان يمس القرآن، وهو المكتوب في الكتاب أو اللوح،
لقوله تعالى (لا يمسه الا المطهرون) (4)، وكذا كل من يجب عليه غسل واجب.
والضمير في (لا يمسه) يرجع إلى القرآن لا إلى الدفتر، لقوله (تنزيل من

(1) وقال مالك لا يصلى صلاتي فرض بتيمم واحد، ولا يصلى الفرض بتيمم النافلة،
ويصلى النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض. وقال شريك بن عبد الله يتيمم لكل صلاة فرض ويصلى
الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد - انظر احكام القرآن للجصاص 4 / 21.
(2) سورة الأحزاب: 35.
(3) أسباب النزول للواحدي 240 ونسب سبب نزول الآية إلى أسماء بنت عميس
ونساء من المسلمات، لباب النقول 225 ونسب سبب نزول الآية إلى أم عمارة الأنصارية
ونساء المسلمات.
(4) سورة الواقعة: 79.
49

رب العالمين) 1، حظر الله مس القرآن مع ارتفاع الطهارة.
فان قيل: هذا يلزمكم أن لا تجوزوا على من ليس على الطهارة الصغرى
أيضا ان يمس القرآن.
قلنا: وكذلك نقول، وانما يجوز له ان يمس حواشي المصحف، وأما نفس
المكتوب فلا يجوز.
وكذلك لا يمس كتابة شئ عليه اسم الله أو أسماء أنبيائه وأسماء أئمته عليهم
السلام.
ويجوز للجنب والحائض أن يقرءا من القرآن ما شاءا الا عزائم السجود الأربع (2)
والدليل عليه - زائدا على اجماع الفرقة - قوله (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) (3).
فأما الحديث (ما كان يحجب رسول الله عن قراءة القرآن الا الجنابة) (4) فهو الكراهة.
وظاهر عموم ذلك يقتضى حال الجنابة وغيرها. فان ألزمنا قراءة السجدات، قلنا
أخرجناها بدليل، وهو اجماع الطائفة واخبارهم.
ويمكن ان يكون هذا الفرق بين عزائم السجود وغيرها، ان فيها سجودا
واجبا، والسجود لا يكون الا على طهر - ذكره بعض أصحابنا.
وهذا ضعيف، لان العلة لو كان ذلك لما تجاوز موضع السجود. الا ان
يقال: النهي عن قراءة تلك السور الأربع لحرمتها الزائدة على غيرها، والنهى
الوارد في الأحاديث بقراءة القرآن للجنب، ففي السور الأربع على الحظر وفيما
عداها على الكراهة.

(1) سورة الواقعة: 80.
(2) أي السور الأربع التي فيها آية السجود والتي يجب السجدة لقراءتها، وهي:
سورة السجدة التي بعد سورة لقمان، وسورة حم السجدة. وسورة النجم، وسورة اقرأ.
وانظر الأحاديث في ذلك في الوسائل 1 / 494 - 495.
(3) سورة المزمل: 20.
(4) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 1 / 423.
50

(باب الحيض والاستحاضة والنفاس)
قال الله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في
المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) (1).
وسبب نزول هذه الآية انهم كانوا في الجاهلية يجتنبون مؤاكلة الحائض
ومشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد، فسألوا رسول الله صلى الله عليه
وآله عن ذلك واستعلموا ذلك أو أجب هو أم لا؟ فنزلت الآية (2).
وقيل: كانوا يستجيزون اتيان النساء في أدبارهن أيام الحيض، فلما سألوا عنه
بين تحريمه (3). والأول أقوى.
وقالوا: ان في هذه الآية خمسة عشر حكما (4)، وزاد بعضهم.
والمحيض والحيض مصدر حاضت المرأة. والمحيض في الآية تصلح للمصدر
والزمان، فتقدير المصدر يسألونك عن حيض المرأة ما حكمه من المجامعة وغيرها
وتقدير الزمان يسألونك عن حال المرأة وقت الحيض ما حكمها في مجامعة الرجل

(1) سورة البقرة: 222.
(2) أسباب النزول للواحدي ص 46.
(3) أسباب النزول للواحدي ص 46.
(4) وهي هذه: يسألونك عن المحيض الآية يدل على وجوب السؤال عن الشرعيات،
ب قل لأنه يدل على وجوب البيان، ج هو أذى، د فاعتزلوا النساء في المحيض أي في الفرج،
ه‍ تحليل ما دون الفرج لئلا يضيع القيد، وتحليل مجالستها، ز تحليل مؤكلتها، ح تحليل
مشاربتها وهي كلها مفهومة من قوله في المحيض. ط انتهاء تحريم القرب عند التطهير بقوله
فلا تقربوهن حتى يطهرن، ى وجوب التطهير بقوله يطهرن، يا فإذا تطهرن فأتوهن فإنه إباحة
للاتيان عند الطهارة، يب وجوب الاتيان على الوجه المأمور به، يج دلالة امركم الله على
تقدم الاعلام منه تعالى حكم المأتى، يد ان الله يحب التوابين، يه يجب المتطهرين. فهذا
هو الذي أدركه الفهم والله أعلم بمراده (ه‍ ج).
51

إياها. والسائل أبو الدحداح فيما روي (1).
وصفة الحيض هو الدم الغليظ الأسود الذي يخرج بحرارة على الأغلب.
وأقل الحيض ثلاثة أيام متواليات، ولا يعتبر التوالي فيها بعض أصحابنا إذا
لم يكن بين بعض الأيام الثلاثة وبين بعض عشرة أيام. وكلاهما على الاطلاق غير
صحيح، لان غير التتابع في ثلاثة الأيام انما يكون في الحبلى لم يستبن حملها،
والتتابع لمن عداها على ما ذكره في الاستبصار (2).
وأكثر الحيض عشرة أيام، وعليه أهل العراق والحسن.
وأقل الطهر عشرة أيام، وخالف الجميع وقالوا خمسة عشر.
وأما المستحاضة فهي المرأة التي غلبها الدم فلا يرقأ، والسين ههنا للصيرورة،
أي صارت كالحائض.
والاستحاضة دم رقيق أصفر بارد على الأغلب، وهي بحكم الطاهر إذا فعلت
ما عليها.
وقال قوم: تغتسل مرة ثم تتوضأ لكل صلاة. وقال قوم: تغتسل عند كل صلاة.
وعندنا لها ثلاثة أحوال: ان رأت الدم لا يظهر على القطنة فعليها تجديد
الوضوء لكل صلاة [وان ظهر الدم على القطنة ولا يسيل فعليها غسل لصلاة الغداة
وتجديد الوضوء لباقي الصلوات] (3) وان ظهر الدم عليها وسال فعليها ثلاثة أغسال عند
الغداة والظهر والمغرب.
وحكم النفاس حكم الحيض الا في الأقل، فليس حد لأقل النفاس.
وهذا يعلم بالاجماع والسنة تفصيلا، وبالكتاب جملة، قال تعالى (ما آتاكم
الرسول فخذوه).

(1) في الدر المنثور 1 / 258: سأل عن ذلك ثابت بن الدحدح. وأبو الدحداح
كنية له - انظر الإصابة 1 / 193.
(2) الاستبصار 1 / 132.
(3) الزيادة من م.
52

(فصل)
وقوله (قل هو أذى) معناه قذر ونجاسة، وقيل قل يا محمد هو دم ومرض،
وقيل هو أذى لهن وعليهن لما فيه من المشقة.
(فاعتزلوا النساء في المحيض) أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج، عن
ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد، وهو قول الشيباني محمد بن الحسن،
ويوافق مذهبنا.
وقيل إنه لا يحرم منها غير موضع الدم فقط، وقيل يحرم ما دون الإزار ويحل
ما فوقه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
والاعتزال التنحي عن الشئ.
وقيل معنى (أذى) أي ذو أذى، أي يتأذى به المجامع بنفور طبعه عما
يشاهد، فلا تلزموا أنفسكم منه أكثر من ترك مجامعتهن في ذلك الموضع، لان
من العرب من كان يتجنب المرأة كلها تقبيلها وان يماس بدنها، فأبطل الله هذا
الاعتقاد وبين أنه أذى فقط، أي يستقذر المجامع دم الحيض، وانه كلفة عليهن
في التكليف.
ولو قال (فاعتزلوا النساء فيه) لكان كافيا، وانما ذكر في المحيض ايضاحا
وتوكيدا وتفخيما، ولذلك قالا (ولا تقربوهن) بعد أن قال (اعتزلوا النساء)
لما وصله به من ذكر الغاية التي أمر باعتزالهن، وهو قوله (حتى يطهرن).
(فصل)
ومعنى لا تقربوهن) أي لا تقربوا مجامعتهن في موضع الحيض، الا أن
اللفظ عام والمعنى خاص، لان العلماء مجمعون على جواز قضاء الوطر منها فيما
53

بين الفخذين والأليتين وأي موضع أراد من جسدها. وانما اختلفوا في الدبر
فمنع منه الجمهور واجازه مالك بن انس وعزاه إلى نافع عن ابن عمر (1).
وكل من أنكر ذلك قال: ان الله سماهن (حرثا)، وليس الدبر موضع الحرث.
وهذا ليس بسداد، لأنهم يجوزون في غير القبل وان لم يكن موضع حرث.
فالجواب الصحيح: ان العلماء اجمعوا على جواز هذا ولم يجمعوا على
جواز ذلك فافترق الأمران.
فمباشرة الحائض على ثلاثة أضرب: محرم بلا خلاف، ومباح بلا خلاف،
ومختلف فيه.
فالمحظور بلا خلاف وطؤها في الفرج، لقوله (ولا تقربوهن حتى يطهرن)،
فان خالف وفعل فقد عصى الله وعليه الكفارة.
وأما المباح فما عدا ما بين السرة والركبة في أي موضع شاء من بدنها.
والمختلف فيه ما بين السرة والركبة غير الفرج، والظاهر أن هذا أيضا مباح.
والآية دالة على وجوب اعتزال المرأة والتباعد منهن في حال الحيض على
ما ذكرناه، وفيها ذكر غاية التحريم، ويشمل ذلك على فصول:
أحدها: ذكر الحيض وأقله وأكثره، وفد فصلناه.
وثانيها: حكم الوطي في حال الحيض، فان عندنا الكفارة عليه، إن كان
في أوله دينار وفى وسطه نصف دينار وفى آخره ربع دينار. وقال ابن عباس عليه
دينار ولم يفصل. وأول الحيض وآخره مبني على أكثر أيام الحيض وهي عشرة
أيام دون عادة المرأة.
وثالثها: غاية تحريم الوطي، وسيجئ ذكرها.
وقال المرتضى: من وطئ جاريته في حيضها فعليه أن يتصدق. والدليل
عليه: انا قد علمنا أن الصدقة بر وقربة وطاعة لله تعالى، فهي داخلة تحت قوله (وافعلوا

(1) الدر المنثور 1 / 263.
54

الخير)، وأمره بالطاعة مما لا يحصى بالكتاب، وظاهر الامر يقتضى الايجاب في
الشريعة، فينبغي أن تكون الصدقة واجبة. ويثبت له حكم الندب بدليل قاد إلى
ذلك، ولا دليل ههنا يوجب العدول عن الظواهر.
فأنعم النظر كيف ألزم القوم الذين خالفوه من طريقهم.
(فصل)
وقوله (حتى يطهرن) بالتخفيف معناه حتى ينقطع الدم عنهن، وبالتشديد
معناه حتى يغتسلن، وقال مجاهد وطاوس معنى (يطهرن) بتشديد يتوضأن، وهو
مذهبنا. وأصله يتطهرن فأدغم التاء في الطاء.
وعندنا يجوز وطئ المرأة إذا انقطع دمها وطهرت وان لم تغتسل إذا غسلت
فرجها. وفيه خلاف:
فمن قال: لا يجوز وطؤها الا بعد الطهر من الدم والاغتسال. تعلق بالقراءة
بالتشديد، وانها تفيد الاغتسال.
ومن جوز وطؤها بعد الطهر من الدم قبل الاغتسال تعلق بالقراءة بالتخفيف،
وهو الصحيح، لأنه يمكن في قراءة التشديد أن يحمل على أن المراد به يتوضأن على
ما حكيناه عن طاوس وغيره، ومن عمل بالقراءة بالتشديد يحتاج ان يحذف القراءة
بالتخفيف أو يقدر محذوفا، بأن يقول: تقديره حتى يطهر ويتطهرن.
وعلى مذهبنا لا يحتاج إلى ذلك، لأنا نعمل بالقراءتين، فانا نقول: يجوز
وطئ الرجل زوجته إذا طهرت من دم الحيض وان لم تغتسل متى مست به الحاجة.
والمستحب ان لا يقربها الا بعد التطهير والاغتسال.
والقراءتان إذا صحتا كانتا كآيتين يجب العمل بموجبهما إذا لم يكن نسخ.
ومما يدل على استباحة وطئها إذا طهرت وان لم تغتسل، قوله (والذين هم
55

لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم) (1).
وقوله (فأتوا حرثكم أنى شئتم)، قال المفسرون: ان اليهود قالوا من أتى
زوجته من خلفها في قبلها يكون الولد أحولا، فكذبهم الله وأباح ما حظروه (2)، فعموم
هذه الظواهر يتناول موضع الخلاف، ويقطع كل اعتراض عليه قوله (ولا تقربوهن
حتى يطهرن)، إذ لا شبهة في أن المراد بذلك انقطاع الدم دون الاغتسال، لان (طهرت
المرأة) في الشرع بخلاف (طمثت) وإن كان في الأصل هو ضد النجاسة، يقال
طهرت المرأة فهي طاهرة إذا لم يكن عليها نجاسة، وطهرت فهي طاهر إذا لم تكن
حائضا.
والخطاب إذا ورد من الحكيم ويكون فيه وضع اللغة وعرف الشرع يجب
حمله على العرف الشرعي إذا كان واردا لحكم من أحكام الشرع. ولان جعله تعالى
انقطاع الدم غاية يقتضي أن ما بعده بخلافه، فالحيض كما ذكر الله تعالى مانع
وليس وجوب الاغتسال مانعا.
وطهرت بالفتح أقيس لقولهم طاهر، كقولهم قعد فهو قاعد. ومن حيث
الطبيعة طهرت أولى في المعنى.
والقراءة بالتشديد: لابد أن يكون المراد بها الطهارة، فإن كان المعنى التوضؤ
- كما ذكرنا - فلا كلام، وإن كان الاغتسال فنحمله على الاستحباب.
(فصل)
وقوله (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) أي إذا اغتسلن، وقيل
إذا توضأن، وقيل إذا غسلن الفرج.

(1) سورة المؤمنون: 5.
(2) الدر المنثور 1 / 261، البرهان 1 / 216.
56

(فأتوهن) أي فجامعوهن، وهو إباحة كقوله (وإذا حللتم فاصطادوا) (1)
وكقوله (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله) (2).
وأما قوله (من حيث أمركم الله) [فمعناه من حيث امركم الله] (3) بتجنيبه في
حال الحيض، وهو الفرج، وقيل من قبل الطهر دون الحيض. وقال محمد بن
الحنفية: أي من قبل النكاح دون الفجور.
والأول أليق بالظاهر، وإن كان العموم يحتمل جميع ذلك. وكذا يحتمل أن
يكون المراد من حيث أباح الله لكم دون ما حرمه عليكم من اتيانها وهي صائمة واجبا
أو محرمة أو معتكفة - على بعض الوجوه ذكره الزجاج، والعموم يشمل الجميع.
فغاية تحريم الوطئ مختلف فيها: منهم من جعل الغاية انقطاع الدم حسب
ما قدمناه، ومنهم من قال إذا توضأت أو غسلت فرجها حل وطؤها وإن كان الأولى
أن لا يقربها الا بعد الغسل وهو مذهبنا، ومنهم من قال إذا انقطع دمها واغتسلت حل
وطؤها عن الشافعي، ومنهم من قال إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدم يحللها
للزوج وإن كان دون العشر فلا يحل وطؤها الا بعد الغسل أو التيمم أو مضي وقت
صلاة عليها عن أبي حنيفة.
(فصل)
وقوله (ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)، قال عطاء المتطهرين
بالماء، وقال مجاهد المتطهرين من الذنوب، والأول مروي في سبب نزول هذه
الآية (4)، والعموم يتناول الامرين.

(1) سورة المائدة: 2.
(2) سورة النساء: 103.
(3) الزيادة من ج.
(4) الدر المنثور 2 / 261.
57

وانما قال (المتطهرين) ولم يذكر المتطهرات لان المذكر والمؤنث إذا
اجتمعا فالغلبة للمذكر، كما قدمناه في قوله (يا أيها الذين آمنوا).
وقيل (التوابين) من الذنوب و (المتطهرين) بالماء.
ولو قلنا المراد به الرجال دون النساء - لان الخطاب بالامر والنهى معهم
دونهن لقوله (فاعتزلوا النساء في المحيض) و (لا تقربوهن) - لكان أولى ولم
يحتج إلى عذر.
ويستدل بهذه الآية أيضا على استحباب غسل التوبة، وكذا على ما ذكرناه
من أنهن لا يقربن الا بعد الاغتسال.
(باب احكام المياه)
قال الله تعالى (وأنزلنا من السماء ماءا طهورا) (1)، أي طاهرا مطهرا مزيلا
للاحداث والنجاسات مع طهارته في نفسه.
ووصف الله الماء بكونه طهورا مطلقا يدل على أن الطهورية صفة أصلية للماء
ثابتة له قبل الاستعمال، بخلاف قولهم ضارب وشاتم ومتكلم، لأنه انما يوصف به
بعد ضربه وشتمه وكلامه، ولذلك لا يجوز إزالة النجاسة بمايع سوى الماء.
وكذا لا يجوز الوضوء به والغسل (2) لأنه تعالى نقل الحكم من الماء المطلق
إلى التيمم، ومعناه أنه أوجب التيمم على من لم يجد الماء، وهذا غير واجد للماء،
لان المايع ليس بماء لأنه لا يسمى ماءا.
وأيضا فقوله (فتيمموا) الفاء فيه يوجب التعقيب بلا خلاف.
ووجه الدلالة أن الله تعالى قال (وأنزلنا من السماء ماء طهورا)، فأطلق

(1) سورة الفرقان: 48.
(2) أي بمايع سوى الماء.
58

على ما وقع عليه اسم الماء، فإنه طهور سواء نزل من السماء أو نبع من الأرض
عذبا كان أو مالحا باردا أو مسخنا واقفا أو جاريا ماء البحر أو البر أو البئر أو العين.
وقال ابن بابويه: أصل جميع الماء من السماء لقوله (وأنزلنا من السماء ماءا
طهورا (1))، والطهور هو المطهر في اللغة، فيجب أن يعتبر كلما يقع عليه اسم الماء
بأنه طاهر ومطهر الا ما قام الدليل على تغير حكمه أو انه غير مطهر وإن كان طاهرا
لكونه مضافا.
(فصل)
فان قيل: (الطهور) لا يفيد في لغة العرب كونه مطهرا.
قلنا: هذا خلاف على أهل اللغة، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل (هذا ماء
طهور) و (هذا ماء مطهر)، بل الطهور أبلغ. وأيضا وجدنا العرب تقول (ماء
طهور) و (تراب طهور) ولا يقولون (ثوب طهور) ولا (خل طهور) لان التطهير
ليس في شئ من ذلك، فثبت ان الطهور هو المطهر.
فان قيل: كيف يكون الطهور هو المطهر واسم الفاعل منه غير متعد.
قلنا: هذا كلام من لم يفهم معاني الألفاظ العربية، وذلك أنه لا خلاف بين
أهل النحو أن اسم الفعول موضوع للمبالغة وتكرر الصفة، فإنهم يقولون (فلان
ضارب)، فإذا تكرر منه ذلك وكثر قالوا (ضروب)، وإذا كان كون الماء طاهرا
ليس مما يتكرر ولا يتزايد فينبغي ان يعتبر في اطلاق الطهور عليه غير ذلك وليس
بعد ذلك الا أنه مطهر، ولو حملناه على ما حملنا عليه لفظة طاهر لم يكن فيه زيادة
فائدة.

(1) من لا يحضره الفقيه 1 / 5
59

(فصل)
ويدل عليه أيضا قوله تعالى (وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به (1))،
فكل ما وقع عليه اسم الماء المطلق يجب أن يكون مطهرا بظاهر اللفظ الا ما خرج
بالدليل.
وقوله (ماءا) يعني مطهرا وغيثا.
وقوله (ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان (2)). قال ابن عباس: معناه
يذهب عنكم وسوسة الشيطان (3)، فان الكفار غلبوكم على الماء حتى تصلوا أنتم
مجنبون، وذلك أن يوم بدر وسوس الشيطان إلى المسلمين وكان الكفار نزلوا على
الماء، فقال لعنه الله: تزعمون أيها المسلمون انكم على دين الله وأنتم على غير
الماء وعدوكم على الماء. فأرسل الله عليهم المطر فشربوا واغتسلوا وأذهب به وسوسة
الشيطان، وكانوا على رمل تغوص فيه الاقدام، فشده المطر حتى ثبتت عليه الأرجل
وهو قوله (ويثبت به الاقدام) (4). والهاء في (به) راجعة إلى الماء (5).
وقد أطبق المفسرون على أن (رجز الشيطان) في الآية المراد به اثر الاحتلام
فان المسلمين كان أكثرهم احتلموا ليلتهم، فأنزل الله المطر وطهرهم به.
والتطهير لا يطلق في الشرع الا بإزالة النجاسة أو غسل الأعضاء الأربعة، وقد
أطلق الله عليه اسم التطهير. وقال الجبائي: انما ذكر (الرجز) وكنى به عن الاحتلام
لأنه بوسوسة الشيطان.

(1) سورة الأنفال: 11.
(2) سورة الأنفال: 11.
(3) تنوير المقباس ص 114.
(4) الدر المنثور 3 / 171.
(5) التبيان 5 / 86.
60

(فصل)
ولا بأس بأن يشرب المضطر من المياه النجسة، ولا يجوز شربها مع الاختيار.
وليس الشرب منها مع الاضطرار كالتطهير، لان التطهير قربة إلى الله،
والتقرب إليه تعالى لا يكون بالنجاسات. ولان المحدث يجد في اباحته للصلاة بدلا
من الماء عند فقده، قال تعالى (فلم تجدوا ماءا فتيمموا) (1).
ولا يجد المضطر بالعطش بدلا من الماء غيره، فإذا وجد الماء وكان نجسا
رخص الله له في تناوله مقدار ما يمسك به رمقه.
ويدل على استباحة الماء النجس في حال الاضطرار أن الله أباح كل محرم
عند ضرورة، حيث قال (انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير
الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) (2)، فبين أنه لا اثم على متناول هذه المحظورات
عند الضرورة.
(فصل)
والماء إذا خالطه من الطاهرات ما غير لونه أو طعمه أو رائحته، فإنه يجوز
التوضؤ به ما لم يسلبه اطلاق اسم الماء عليه، لان الله أوجب التيمم عند فقد الماء
بقوله (فلم تجدوا ماءا فتيمموا)، ومن وجد ماءا على تلك الصفة فهو واجد للماء
قال الصادق عليه السلام: الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر (3).
ولا خلاف أن الماء له حكم التطهير إذا كان على خلقته، والخلاف في أنه
إذا خالطه غيره أو استعمل.

(1) سورة النساء: 43.
(2) سورة البقرة: 173.
(3) وسائل الشيعة 1 / 100.
61

وقيل إذا اغتسل به جنب خرج عن بابه، ومنهم من كره التطهير به بعد ذلك
وقال المرتضى: يجوز إزالة النجاسات بالمايعات، لان الغرض بإزالة النجاسة
ان لا تكون، وأسباب أن لا تكون النجاسة لا تختلف. قال: والدليل عليه أن لا تختلف
بين أن لا تكون أصلا وبين ازالتها، فإذا كان هكذا فمتى أزيلت مشى ما ذكرناه وقد
سقط حكمها (1).
وقال الشيخ أبو جعفر: إن كان ذلك كذلك عقلا، فانا متعبدون شرعا ان
لا نزيل النجاسة الا بالماء المطلق.
(فصل)
ومن لا يجد ماءا ولا ترابا نظيفا، قال أبو حنيفة لا يصلي، وعندنا أنه يصلى
ثم يعيد بالوضوء أو التيمم، وبذلك نص عن آل محمد عليهم السلام (2). ويؤيده.
قوله تعالى (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (3) وقوله (أقم الصلاة
لدلوك الشمس) (4) الآية.
والامر على الوجوب الا أن يدل دليل [ولا دليل] (5) على ما يدعيه الخصم، وقد
بين النبي عليه السلام أحكام المياه وما ينجسها وما يزيل حكم نجاستها بالزيادة أو
النقصان على ما أمر الله بعد أن علمه تعالى فقال (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس

(1) كلام المرتضى مضطرب في النسختين، وقد صححناه على ما يفهم من المسائل
الناصريات في المسألة الثانية والعشرين.
(2) فقد روى عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في حديث: ولا تدع
الصلاة على حال، فان النبي صلى الله عليه وآله قال: الصلاة عماد دينكم - الوسائل 2 / 605.
(3) سورة النساء: 103.
(4) سورة الإسراء: 78.
(5) الزيادة من ج.
62

ما نزل إليهم) (1)، أي أنزلنا إليك القرآن يا محمد لتبين للناس ما نزل من الاحكام على
ما علمناك. وأمر جميع الأمة باتباعه والاخذ منه جملة وتفصيلا فقال (ما آتاكم
الرسول فخذوه).
فان قيل: كيف لكم وجه الاحتجاج بالاخبار التي تروونها أنتم عن جعفر بن
محمد وآبائه وأبنائه عليهم السلام على من خالفكم؟
قلنا: ان الله تعالى قال (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (2)،
وهذا على العموم، وقد ثبت بالأدلة امامة الصادق عليه السلام وعصمته، وان قوله
وفعله حجة، فجرى قوله من هذا الوجه مجرى قول الرسول، على أنه عليه السلام
صرح بذلك وقال: كلما أقوله فهو عن أبي عن جدي عن رسول الله عن جبرئيل عن الله (3).
ومن وجه آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله قال (انى مخلف
فيكم الثقلين ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي) الخبر (4). فجعل عترته
في باب الحجة مثل كتاب الله، ولا شك أن هذا الخطاب انما يتناول علماء العترة
الذين هم أولو الامر، وهم الصادق وآباؤه وأبناؤه الاثنا عشر عليهم السلام، وكلما
يصدر عنهم من أحكام الشرع عن رسول الله عن الله تعالى يجب على من خالفنا
العمل عليه، سواء أسندوا أو أرسلوا. وكيف لا وهم يعملون على ما رواه مثل أبي هريرة
وأنس من أخبار الآحاد.
وهذا السؤال يعتمده مخالفونا في جميع مسائل الشرع، وهو غير قادح.

(1) سورة النحل: 44.
(2) سورة النساء: 59.
(3) هذا المضمون في الكافي 1 / 53.
(4) البرهان 1 / 9 - 14.
63

(فصل)
وقوله تعالى (انما المشركون نجس) (1) يدل على أن سؤر اليهودي والنصراني
وكل كافر أصلي أو مرتد أو ملي نجس.
وفي الآية شيئان تدل على المبالغة في نجاستهم:
أحدهما: قوله (انما المشركون)، فهو أبلغ في الاخبار بنجاستهم من أن
يقال (المشركون نجس) من غير انما، فان قول القائل (انما زيد خارج) عند
النحويين بمنزلة (ما خارج الا زيد).
والثاني: قوله (نجس) وهو مصدر، ولذلك لم يجمع، والتقدير انما
المشركون ذو نجاسة. وجعلهم نجسا مبالغة في وصفهم بذلك، كما يقال (ما هو
الأسير) إذا وصف بكثرة السير، وكقوله:
* فإنما هي اقبال وادبار (3) *
وليس لاحد أن يقول المراد به نجاسة الحكم لا نجاسة العين، لان حقيقة هذه
اللفظة تقتضي نجاسة العين في الشرع، وانما يحمل على الحكم تشبيها ومجازا،
والحقيقة أولى من المجاز باللفظ. على انا نحمله على الامرين، لأنه لا مانع من ذلك.
فان قيل: فقد قال الله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) (3). وهذا
عام في جميع ما شربوا وعالجوا بأيديهم.
قلنا: يجب تخصيص هذا الظاهر بالدلالة على نجاستهم، وتحمل هذه الآية
على أن المراد بها طعامهم الذي هو الحبوب ويملكونه دون ما هو سؤر أو عالجوه
بأجسامهم.

(1) سورة التوبة: 28.
(2) من بيت للخنساء - انظر مجمع البحرين 4 / 110.
(3) سورة المائدة: 5.
64

على أن ما في طعام أهل الكتاب ما يغلب على الظن أن فيه خمرا أو لحم
خنزير، فلابد من اخراجه من هذا الظاهر، وإذا أخرجناه من الظاهر لأجل النجاسة
وكان سؤرهم على ما بينا نجسا أخرجناه أيضا من الظاهر.
(فصل)
عن أبي بصير: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجنب يدخل يده في
الاناء. قال: ان كانت قذرة فليهرقه، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا مما
قال الله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (1).
وسئل أيضا عن الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الاناء؟ فقال: لا بأس،
هذا مما قال الله (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (2).
وإذا صافح المسلم الكافر أو من كان حكمه حكمه ويده مرطبة بالعرق أو
غيره غسلها من مسه بالماء البتة، وإذا لم يكن في يد أحدهما رطوبة مسحها بالحائط
لأنه تعالى قال (انما المشركون نجس)، فحكم عليهم بالنجاسة بظاهر اللفظ، فيجب
أن يكون ما يماسونه نجسا الا ما أباحته الشريعة.
فان قيل: هل يجوز الوضوء والغسل بما مستعمل.
قلنا: يجوز ذلك فيما استعمل في الوضوء ولا يجوز فيما استعمل في غسل
الجنابة والحيض وأشباههما مما يزال به كبار النجاسات، وبذلك نصوص عن
أئمة الهدى عليهم السلام.
وفي تأييد جواز ما استعمل في الوضوء قوله (فلم تجدوا ماءا فتيمموا) (3).

(1) الاستبصار 1 / 20 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(2) الكافي 2 / 14.
(3) سورة المائدة: 6.
65

وهذا الضرب من الماء مستحق للاسم على الاطلاق، وفى منع ما سواه
نص ظاهر واحتياط للصلاة - قاله الشيخ مفيد.
وقال المرتضى: يجوز استعمال الماء المستعمل في الأغسال الواجبة أيضا
إذا لم تكن نجاسة على البدن، لعموم هذه الآية. وقد أشرنا في الباب الأول إلى هذا.
(فصل)
(فيما ينقض الطهارتين)
نواقضهما عشر باجماع الفرقة المحقة وبالكتاب والسنة جملة وتفصيلا.
أما النوم فان آية الطهارة تدل بظاهرها على أنه حدث ناقض للوضوء، وانما
يوجب اعادته على اختلاف حالات النائم إذا أراد الصلاة.
وقد نقل أهل التفسير وأجمعوا على أن المراد بقوله (إذ قمتم إلى الصلاة)
إذا قمتم من النوم. وهذا الظاهر يوجب الوضوء من كل نوم.
وقال زيد الشحام: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخفقة والخفقتين.
فقال: ما أدري ما الخفقة والخفقتان، ان الله يقول (بل الانسان على نفسه بصيرة) (1)
ان عليا عليه السلام كان يقول: من وجد طعم النوم أوجب عليه الوضوء (2).
وعن ابن بكير قلت للصادق عليه السلام: ما يعني بقوله (إذا قمتم إلى
الصلاة)؟ قال: إذا قمتم من النوم. قلت: ينقض النوم الوضوء؟ فقال: نعم إذا
كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت.
والجنابة تنقض الوضوء على اي وجهيها حصلت وتوجب الغسل أيضا، قال

(1) سورة القيامة: 14.
(2) الاستبصار 1 / 80، وفى الكافي 3 / 37 عن عبد الرحمن بن الحجاج.
(3) الاستبصار 1 / 80.
66

تعالى (وان كنتم جنبا فاطهروا) (1)، وكذا الحيض قال تعالى (ويسألونك عن المحيض) (2)
الآية، والسكر المزيل للعقل ينقض الوضوء فقط، وكذلك الغائط قال تعالى
(ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) إلى قوله (أو جاء أحد منكم من الغائط) (3).
وما سواها من النواقض يعلم بالتفصيل من السنة وانما يعلم من القرآن
على الجملة.
وروي أن النبي عليه السلام قال لأهل قبا: ماذا تفعلون في طهركم، فان الله
أحسن عليكم الثناء. فقال: نغسل أثر الغائط. فقال: أنزل الله فيكم (والله يحب
المطهرين) (4).
فقوله (رجال يحبون ان يتطهروا) (5) اي يتطهرون بالماء من الغائط والبول،
وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام (6).
وري في تفسير قوله (ويضع عنهم إصرهم) (7) أي بني إسرائيل إذا أصاب
البول شيئا من جسدهم قطعوه بالسكين (8).
(باب توابع الطهارة)
قد بينا أن من شرط الصلاة الذي لا تتم الا به الطهور، وهو ينقسم على ثلاثة

(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة البقرة: 222.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) وسائل الشيعة 1 / 250.
(5) سورة التوبة: 108.
(6) مجمع البيان 5 / 73.
(7) سورة الأعراف: 157.
(8) تفسير البرهان 2 / 40.
67

أضرب: وضوء، وغسل، وتيمم بدلهما.
وكما لا يجوز الدخول في الصلاة مع عدم الطهارة في أكثر الحالات، لا يجوز
الدخول فيها مع نجاسة على البدن أو الثياب اختيارا، قال تعالى (وثيابك فطهر *
والرجز فاهجر) (1).
حمل هذه الآية أهل التفسير على الحقيقة والمجاز:
أما الحقيقة فظاهر، أي فطهر ثيابك من كل نجاسة للصلاة فيها، قال ابن سيرين
وابن زيد أغسلها بالماء، وقيل معناه شمر ثيابك. ورأى علي عليه السلام من يجر
ذيله لطوله، فقال له: قصر منه فإنه أتقى وأنقى وأبقى.
وأما من حمله على المجاز فقال: كأنه تعالى قال وبدنك فطهر أو نفسك فطهر
كما يقال (فلان طاهر الثوب) أي طاهر النفس، كقول امرئ القيس:
* فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي (2) *
ولا مانع للحمل على الحقيقة والمجاز معا، لفقد التنافي بينهما، فيجب اجراؤه
على العموم فيهما لفقد المخصص. والقرينة على أن الحقيقة أصل والمجاز فرع عليه،
والحمل على الأصل أولى، والامر شرعا على الوجوب.
ويدل عليه أيضا قوله (ويحرم عليهم الخبائث) (3)، ولم يفرق بين الظاهر والخفي
ولا بين القليل والكثير.
(فصل)
وقوله (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) (4).

(1) سورة المدثر: 4 - 5.
(2) أوله (فان تك قد ساءتك منى خليقة)، وقوله (تنسلي) من (نسل الثوب عن
الرجل) سقط، والياء الاشباع، والمعنى: خلصي قلبي من قلبك (ه‍ ج).
(3) سورة الأعراف: 157.
(4) سورة البقرة: 124.
68

عن ابن عباس: ان الله أمر بعشر سنن خمس في الرأس وخمس في البدن،
أما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والفرق وقص الشوارب والسواك،
واما التي في الجسد فالختان وحلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستنجاء
بالماء (1).
وبه قال قتادة وأبو الخلد.
وقال تعالى (ملة أبيكم إبراهيم) (2) أي ابتغوا ملته، فإنها داخلة في ملة نبينا
مع زيادات.
(فصل)
وانما نتكلم في النجاسات التي خالفونا فيها احتجاجا عليهم:
اعلم أن المني نجس لا يجزي فيه الا الغسل عندنا. والدليل عليه - بعد اجماع
الطائفة - قوله (وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به ويذهب عنكم رجز
الشيطان) (3) فان المفسرين قالوا: انه تعالى أراد به اثر الاحتلام - على ما قدمناه.
والآية دالة على نجاسة المني من وجهين:
أحدهما - أن الرجس والرجز والنجس بمعنى واحد، لقوله (والرجز
فاهجر) ولقوله (واجتنبوا الرجس).
والوجه الثاني - انه تعالى أطلق عليه اسم التطهير، وهو في الشرع إزالة
النجاسة.
ودم الحيض نجس قليله وكثيره، لا يجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه
شئ قليل، والدليل عليه آية المحيض، فإنها على العموم.

(1) هذا أحد الأقوال المنقولة عن ابن عباس - انظر الدر المنثور 1 / 111.
(2) سورة الحج: 78.
(3) سورة الأنفال: 11.
69

والخمر وكل مسكر نجس، يدل عليه آية تحريمه، وهي على العموم أيضا.
وأما الغائط فيمكن ان يستدل على نجاسته بآية الطهارة.
والفقاع وغيره من النجاسات تدل على نجاستها السنة على سبيل التفصيل
والقرآن على الاجمال، قال تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)،
وقد نهى عنه.
(فصل)
والدم الذي ليس بدم حيض ونفاسة واستحاضة يجوز الصلاة في ثوب أو
بدن أصابه منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي، وما زاد على ذلك لا يجوز
الصلاة فيه.
واحتجاجنا عليه من الكتاب - مضافا إلى الاجماع - قوله (يا أيها الذين آمنوا
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) (1)، فجعل تطهير الأعضاء الأربعة مبيحا للصلاة، فلو
تعلقت الإباحة بغسل نجاسة لكان زيادة لا يدل عليها الظاهر لأنه بخلافها. ولا يلزم
على هذا ما زاد على الدرهم.
وما عدا الدم من سائر النجاسات من بول أو عذرة ومني وغيرها إذا كان قليلا
يجب ازالته، لأن الظاهر - وان لم يوجب ذلك - فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة
على الظاهر، وليس في ذلك يسير الدم.
وتلك الدماء الثلاثة للنساء تختص في الأكثر بأوقات معينة يمكن التحرز
منها، وباقي الدماء بخلاف ذلك.
وانما فرقنا بين الدم وبين البول والمني وسائر النجاسات في اعتبار الدرهم
لاجماع الطائفة وأخبارهم. ويمكن أن يكون الوجه فيه أن الدم لا يوجب خروجه

(1) سورة المائدة: 60.
70

من الجسد - على اختلاف مواضعه - وضوءا الا ما ذكرناه، والبول والعذرة
والمني يوجب خروج كل واحد منها الطهارة، فغلظت أحكامها من هذا الوجه على
حكم الدم.
(فصل)
فأما من كان به بثور (1) يرشح منها الدم دائما لم يكن عليه حرج في الصلاة به،
وكذا إن كان به جراح يرشح دما وقيحا فله ان يصلي فيها وان كثر ذلك، يدل عليه
قوله (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (2)، ونحن نعلم لو ألزم المكلف إزالة ذلك
لحرج به، وربما تفوته الصلاة مع ذلك، فأباحه الله رأفة بعباده.
والآية دالة أيضا على أن حكم الثوب إذا أصابه دم البق والبراغيث فلا حرج
أن يصلى فيه وإن كان كثيرا، لأنه مما لا يمكن التحرز منه وانه تعالى رفع الحرج
عن المكلفين.
وقد قدمنا ان الخمر ونبيذ التمر الذي نش (3) وكل مسكر لا يجوز الصلاة فيه وإن كان
قليلا حتى يغسل بالماء، ويدل عليه قوله (انما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس) (4)، وإذا ثبت انه نجس يجب ازالته، ثم قال (فاجتنبوه)، أمر
باجتناب ذلك على كل حال. وظاهر أمر الله شرعا على الايجاب، فيجب اجتناب ما
يتناول اللفظ على كل وجه.

(1) البثور: خراج صغار، وهو مثل الجدري يقبح على الوجه وغيره من بدن الانسان
لسان العرب (بثر).
(2) سورة الحج: 78.
(3) الخمر تنش: إذا أخذت تغلى - أساس البلاغة 2 / 443.
(4) سورة المائدة: 90.
71

(باب الزيادات في الخبر)
إذا سمعت الله تعالى يقول (يا أيها الذين آمنوا) فارع لها سمعك، فإنها لأمر
يؤمر به أو لنهي ينهى عنه. وقال الصادق عليه السلام: لذة ما في النداء أزالت تعب
العبادة والعناء.
وقوله (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) (1) يدل على أنه يكره أن يستعين الانسان
في الوضوء أو الغسل بمن يصب الماء عليه، بل ينبغي أن يتولاه بنفسه.
ومن وضأه غيره وهو يتمكن منه لم يجزه، وكذلك في الغسل إذا تولاه
غيره مع تمكنه لا يكون مجزيا، لقوله (فاغسلوا وجوهكم) (2) و (ان كنتم جنبا
فاطهروا) (3) فإنه إذا لا يكون متطهرا.
فإن كان عاجزا عن الوضوء أو الغسل لمرض أو ما يقوم مقامه بحيث لا يتمكن
منه لم يكن به بأس، لقوله (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (4).
(مسألة)
ان قيل: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل في قوله (إذا قمتم إلى الصلاة).
قلنا: لان الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه ويقع بوجه دون وجه بإرادته له،
فكما يعبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم (الانسان لا يطيروا الأعمى لا يبصر)
أي لا يقدران على الطيران والابصار، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، فأقيم ما هو
كالمسبب مقام ما هو كالسبب للملابسة بينهما، ولا مجاز في الكلام.

(1) سورة الكهف: 110.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) سورة الحج: 78.
72

(مسألة)
فان قيل: ظاهر الامر يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث
وغير محدث.
قلنا: يحتمل ان يكون الامر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة.
فان قيل: هل يجوز أن يكون الامر شاملا للمحدثين وغيرهم، لهؤلاء على
وجه الايجاب ولهؤلاء على وجه الاستحباب.
قلنا: نعم هذا من الصواب، لأنه لا مانع من أن تتناول الكلمة الواحدة معنيين
مختلفين.
(مسألة)
أما ما روي أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من الصحابة
حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب
قدموا أحدهم ليصلي بهم، فقرأ (أعبد ما تعبدون أنتم عابدون ما أعبد) فنزل (يا
أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) (1)، فكانوا
لا يشربون في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون الا وقد ذهب
عنهم السكر ويعلموا ما يقولون، ثم نزل تحريمها (2).
فهذه الرواية غير صحيحة، فالخمر كانت محرمة في كل ملة على ما نذكره
في بابه.

(1) سورة النساء: 43.
(2) أسباب النزول للواحدي: 101.
73

(مسألة)
فان قيل: ما محل قوله (الا عابري سبيل) من الاعراب؟
قلنا: من فسر الصلاة في الآية بمواضع الصلاة - وهي المساجد - فحذف
المضاف فهو في موضع الحال، أي لا تقربوا المسجد جنبا الا مجتازين منه إذا كان
فيه الطريق إلى الماء أو كان الماء منه أو احتلمتم فيه. وكان النبي صلى الله عليه
وآله لم يأذن لاحد يمر في مسجده وهو جنب الا لعلي عليه السلام حتى سد الأبواب
كلها الا بابه (1).
وأما من حمل الآية على ظاهرها - وهو بعيد - فقال: معناه لا تقربوا الصلاة
في حال الجنابة الا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر، وعبور السبيل
عبارة عن السفر. فقد ترك مجازا ووقع في مجازين.
وان زعم أنه صفة لقوله (جنبا) أي ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة الا
ولعلم حال أخرى تعذرون معها وهي حال السفر، وعبور السبيل عنده عبارة عن
السفر. فقد ترك مجازا ووقع في مجازين (2).
وان زعم أنه صفة لقوله (جنبا) أي ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل،
فإنهم لا تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر، حتى يغتسلوا ويتيمموا عند العذر.
وهذا يستوي فيه المقيم والمسافر.
(مسألة)
فان قيل: ان الله تعالى أدخل في حكم الشرط أربعة، وهم المرضى والمسافرون

(1) وسائل الشيعة
(2) أحدهما استعمال القرب الذي هو من صفات الأجسام في الصلاة، والاخر حمل
عبور السبيل على السفر (ه‍ ج).
74

والمحدثون وأهل الجنابة، فبمن تعلق الجزاء - الذي هو الامر بالتيمم عند عدم
الماء منهم؟
قلنا: الظاهر أنه يتعلق بهم جميعا، وان المرضى إذا عدموا الماء لضعف
حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه أو مع وجدانهم الماء لا يمكنهم استعمال الماء
لجرح أو قرح بهم فلهم أن يتيمموا، وكذلك السفر إذا عدموه لبعدهم منه أو لبعض الأسباب
التي هي في الشرع عذر، والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض
الأسباب.
(مسألة)
فان قيل: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين وبين المحدثين
والمجنبين، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والاحداث سبب لوجوب
الوضوء والغسل.
قلنا: أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهير وهم عادمون للماء
في التيمم، فخص من بينهم مرضاهم وسفرهم، لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان
الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة لغرضه،
ثم عم من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء
أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر.
(مسألة)
الدلك في غسل الجنابة غير واجب بدلالة قوله (ولا جنبا الا عابري سبيل
حتى تغتسلوا) (1)، واسم الاغتسال ثابت مع عدم الدلك للجوارح واليدين، فبطل

(1) سورة النساء: 43.
75

قول من أوجبه، إذ ليس بعد امتثال الامر بالغسل أمر آخر، ودلك البدن أمر زائد
على الغسل، وايجاب ما زاد على المأمور به لا يكون من جهة الشرع، الا أن يريد
به احتياط المغتسل في ايصال الماء إلى أصل كل شعر من رأسه وبدنه.
(مسألة)
فان قيل: مم اشتقاق الجنابة.
قلنا: من البعد (1)، فكأنه سمي به لتباعده عن المساجد إلى أن يغتسل، ولذلك
قيل (أجنب).
وقال ابن عباس: الانسان لا يجنب والثوب لا يجنب. فإنه أراد به أن الانسان
لا يجنب بمماسة الجنب، وكذا الثوب إذا لبسه الجنب.
(مسألة)
الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره، وإن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب
المتيمم يده عليه لكان ذلك طهوره، وهو مذهب أبي حنيفة أيضا.
فان قيل: فما يصنع بقوله في المائدة (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) (2)
أي بعضه، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟
قلنا: قالوا إن (من) لابتداء الغاية. على أنه لو كان للتبعيض لا يلزم ما ذكر
لان التيمم بالتراب عند وجوده أولى منه بالصخر، وكون الغبرة على الكفين لا
اعتبار بها.

(1) قال ابن فارس: الجيم والنون والباء أصلان متقاربان، أحدهما الناحية والاخر
البعد. واما البعد فالجنابة. ويقال ان الجنب الذي يجامع أهله مشتق من هذا، لأنه يبعد
عما يقرب منه غيره من الصلاة والمسجد وغير ذلك - معجم مقاييس اللغة 1 / 483.
(2) سورة المائدة: 43.
76

(مسألة)
المحيض مصدر مثل المجئ، وكانت الجاهلية إذا حاضت المرأة لم
يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس، وأخرجوهن من بيوتهن في صدر الاسلام
أيضا بظاهر قوله (فاعتزلوا النساء) (1)، فقال عليه السلام: انما أمرتم ان تعتزلوا
مجامعهتن إذا حضن ولم يأمركم باخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم (2).
(مسألة)
وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى (قد أفلح من تزكى) (3)، معناه أفلح
من تطهر للصلاة وتوجه بذكر الله فصلى الصلوات الخمس.

(1) سورة البقرة: 222.
(2) تفسير البرهان 1 / 215.
(3) سورة الاعلى: 14.
77

كتاب الصلاة
وقد ورد في القرآن آي كثيرة على طريق الجملة تدل على وجوب الصلاة،
نحو قوله (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (1) وقوله (وأقيموا الصلاة ان الصلاة
كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (2) وقوله (حافظوا على الصلوات) (3).
ويمكن الاستدلال بهذه الآيات على [وجوب جميع الصلوات، وعلى
صلاة
الجنائز وصلاة العيدين، وعلى] (4) وجوب الصلاة على النبي وآله في التشهد، لأنه
عام في جميع ذلك.
وقوله (حافظوا) أبلغ من احفظوا، لان هذا البناء أصله لتكرر الفعل
بوقوعه من اثنين، فإذا استعمل فيما يكون من واحد ضمن مبالغة وتطاولا في ذلك
الفعل، كقوله (عافاك الله) لا يقصد به سؤال هذا الفعل مرة واحدة. فكأن الله تعالى
كرر الامر بحفظ الصلوات الخمس، وتحفظ الصلوات بأن يؤتى بها في أوقاتها
بحدودها وحقوقها.

(1) سورة البقرة: 43.
(2) سورة النساء: 103.
(3) سورة البقرة: 238.
(4) الزيادة من م.
78

والصلاة أفضل العبادات، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله (لكل
شئ وجه ووجه دينكم الصلاة) (1) وقال عليه السلام (الصلاة أول ما ينظر فيه من
أعمال العبد، فان صحت لم ينظر في عمل من أعماله، وان لم تصح نظر فيها وفي
جميع أفعاله) (2).
(فصل)
فان قيل: كيف أمروا بالصلاة وهم لا يعرفون حقيقتها في الشريعة.
قيل: انما أمروا بذلك لأنهم أحيلوا فيه على بيان الرسول عليه السلام،
ووجه الحكمة فيه ظاهر، لان المكلفين إذا أمروا بشئ على الاجمال كان أسهل عليهم
في أول الوهلة وأدعى لهم في قبولها من أن يفصل. ثم كون المجمل المأمور به
يدعوهم إلى استفسار ذلك، فيكون قبول تفصيله ألزم لهم.
ومثاله في العقليات: قول أصحاب المعارف لنا: لو كنا مكلفين بالمعرفة
لوجب أن نكون عالمين بصفة المعرفة، لئلا يكون تكليفا بما لا يطاق.
فنقول لهم: الواحد منا - وان لم يكن عالما بصفة المعرفة - فإنه عالم
بسبب المعرفة، وهو النظر. فالعلم به يقوم مقام العلم بمسببه الذي هو المعرفة
وصفتها، والمكلف انما يجب ان يكون عالما بصفة ما كلف لتمكنه الاتيان به على
الوجه الذي كلف، فإذا أمكنه من دونه فلا معنى لاشتراطه.
(فصل)
وإقامة الصلاة أداؤها بحدودها وفرائضها كما فرضت عليهم، يقال (أقام
القوم سوقهم) إذا لم يعطلوها من المبايعة.

(1) وسائل الشيعة 3 / 16.
(2) وسائل الشيعة: 3 / 23 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
79

وقيل أقامتها إدامة فرائضها، يقال للشئ الراتب قائم.
وقيل: هو من تقويم الشئ، يقال (قام بالامر) إذا أحكمه وحافظ عليه.
وقيل: انه مشتق مما فيها من القيام، ولذلك يقال (قد قامت الصلاة).
واما (الصلاة) فهي الدعاء في الأصل. والصلاة اشتقاقها من اللزوم، يقال
(اصطلى بالنار) أي لزمها (1). وقال تعالى (تصلى نارا) (2).
وتخصصت في الشرع بالدعاء والذكر في موضع مخصوص. وقيل: هي
عبارة عن الركوع والسجود على وجه مخصوص وأذكار مخصوصة.
وقال أصحاب المعاني: ان معنى (صلى) أزال الصلاء منه وهو النار، كما
يقال مرض.
وفرضها على ثلاثة أقسام متعلقة بثلاثة أحوال: الحضر، والسفر، والضرورة.
وانما اختلفت أحكامها لاختلاف أحوالها، وبينها رسول الله صلى الله عليه
وآله وفصلها، ونص القرآن عليها جملة، قال (ما آتاكم الرسول فخذوه) (3) وقال
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (4).
(باب ذكر المواقيت)
فأولها الظهر، وهي أول صلاة فرضها الله تعالى على نبيه عليه السلام، وقال

(1) قال ابن فارس: الصاد واللام والحرف المعتل أصلان: أحدهما النار وما أشبهها
من الحمى، والاخر جنس من العبادة. فأما الأول فقولهم (صليت العود بالنار)، والصلي
صلي النار، واصطليت بالنار، والصلاء ما يصطلى به وما يذكى به النار ويوقد.. واما
الثاني فالصلاة وهي الدعاء - معجم مقاييس اللغة 3 / 300.
(2) سورة الغاشية: 4.
(3) سورة الحشر: 7.
(4) سورة النحل: 44.
80

(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل (1)) [ودلوكها زوالها، وبعدها العصر
قال (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (2)، ففرض في الآية الأولى بين دلوك
الشمس وعسق الليل] (3) أربع صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم
قال (وقرآن الفجر) فأوجب صلاة الفجر أيضا، وقال تعالى (أقم الصلاة طرفي
النهار) (4).
وقال في الموضعين (أقم)، فالمراد به أمته معه.
(فصل)
والدلوك في آية الفرض المتقدمة اختلفوا فيه: فقال ابن عباس وابن مسعود
وابن زيد هو الغروب، والصلاة المأمور بها ههنا هي المغرب. وقال ابن عباس
في رواية أخرى والحسن ومجاهد وقتادة دلوكها زوالها، وهو المروى عن الباقر
والصادق عليهما السلام (5)، وذلك أن الناظر إليها يدلك عينه لشدة شعاعها، وأما عند
غروبها فيدلك عينه ليتبينها، والصلاة المأمور بها عند هؤلاء الظهر.
وغسق الليل ظهور ظلامه، يقال (غسقت القرحة) اي انفجرت وظهر ما
فيها، وقال ابن عباس وقتادة هو بدء الليل، وقال الجبائي غسق الليل انتصافه (6).
وقوله تعالى (وقرآن الفجر) قال قوم يعنى به صلاة الفجر، وذلك يدل على
أن الصلاة لا تتم الا بالقراءة، لأنه أمر بالقراءة وأراد بها الصلاة لأنها لا تتم الا بها
مع التمكن.

(1) سورة الإسراء: 78.
(2) سورة البقرة: 234.
(3) الزيادة من ج.
(4) سورة هود: 114.
(5) تفسير البرهان 2 / 435.
(6) وهو المروى عن الباقر عليه السلام، انظر البرهان 2 / 435.
81

ومعنى (ان قرآن الفجر كان مشهودا) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار،
فتكتب في صحيفة الليل وصحيفة النهار (1). وفيه حث للمسلمين على أن يحضروا هذه
الصلاة ويشهدوها للجماعة. وعن أمير المؤمنين عليه السلام انها الصلاة الوسطى (2).
وقال الحسن (لدلوك الشمس) لزوالها صلاة الظهر والعصر (إلى غسق
الليل) صلاة العشائين، كأنه يقول من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على ما بين
أوقات الصلوات الأربع، ثم أفرد صلاة الفجر بالذكر.
وقال الزجاج: سمي صلاة الفجر (قرآن الفجر) لتأكيد أمر القراءة في
الصلاة كما ذكرنا.
(فصل)
واستدل قوم بهذه الآية على أن الوقت الأول موسع إلى آخر النهار في
الأحوال، لأنه أوجب إقامة الصلاة من وقت الدلوك إلى وقت غسق الليل، وذلك
يقتضي ان ما بينهما وقت.
وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي: هذا ليس بقوي، لان من قال إن الدلوك
هو الغروب [لا دليل له فيها، لان من قال ذلك يقول إنه يجب إقامة المغرب من
عند الغروب] (3) إلى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق وما بين ذلك وقت
المغرب، ومن قال الدلوك هو الزوال يمكنه ان يقول المراد بالآية بيان وجوب

(1) هذا مضمون أحاديث رويت عن السجاد والصادق عليهما السلام - انظر البرهان
4 / 436 - 437.
(2) الدر المنثور 1 / 300.
(3) الزيادة من م والمصدر.
82

الصلوات الخمس على ما ذكره الحسن لا بيان وقت صلاة واحدة، فلا دلالة في الآية
على ذلك (1).
والصلاة قي أول وقتها أفضل، قال تعالى (فاستبقوا الخيرات) (2)، ففي عمومها
دليل عليه.
(فصل)
وقوله (أقم الصلاة طرفي النهار وزلقا من الليل) (3) أمر الله به نبيه وأمته بإقامة
الصلاة والاتيان بأعمالها على وجه التمام في ركوعها وسجودها وسائر فروضها.
وقيل: اقامتها هو عملها على استواء، كالقيام الذي هو الانتصاب في الاستواء.
وقوله (طرفي النهار) يريد بهما صلاة الفجر والمغرب، وقال الزجاج
يعني به الغداة والظهر والعصر (4)، ويحتمل أن يريد به صلاة الفجر والعصر، لان
طرف الشئ من الشئ، وصلاة المغرب ليست من النهار.
وقوله (زلفا من الليل) عن ابن عباس يريد به العشاء الآخرة. وقال الزجاج
العشاء ان المغرب والعتمة، والزلفة المنزلة.
ومن قال المراد ب‍ (طرفي النهار) الفجر والمغرب، قال: ترك ذكر الظهر
والعصر لظهورهما في أنهما صلاة النهار، والتقدير أقم الصلاة طرفي النهار مع
الصلاتين المفروضتين.
وقيل إنهما ذكرا على التبع للطرف الأخير، لأنهما بعد الزوال، فهما أقرب
إليه، وقد قال أقم لدلوك الشمس إلى غسق الليل، ودلوكها زوالها، ثم قال (ان
الحسنات يذهبن السيئات) (5) أي ان الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيئات

(1) التبيان 6 / 510.
(2) سورة المائدة: 48.
(3) سورة هود: 114.
(4) كأنه جعل ما بعد الزوال إلى الليل طرف النهار كما يسميه أصحابنا عشية (ه‍ ج).
(5) سورة هود: 114.
83

فإذا دعا إلى تركها فكأنها ذهبت بها لقوله (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (1).
(فصل)
وقوله تعالى (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) (2) هذه الآية أيضا
تدل على الصلوات الخمس في اليوم والليلة، لان قوله (حين تمسون) يقتضى
المغرب والعشاء الآخرة (وحين تصبحون) يقتضي صلاة الفجر (وعشيا) يقتضي
العصر (وحين تظهرون) يقتضي صلاة الظهر - ذكره ابن عباس ومجاهد.
وانما أخر الظهر عن العصر لازدواج الفواصل.
والامساء الدخول في المساء، والمساء مجئ الظلام بالليل. والاصباح
نقيضه، وهو الدخول في الصباح، والصباح مجيئ ضوء النهار.
و (سبحان الله) أي سبحوا الله في هذه الأوقات تنزيها لله عما لا يليق به (وله
الحمد) يعني الثناء والمدح (في السماوات والأرض وعشيا) أي في العشي (وتظهرون)
أي حين تدخلون في الظهر، وهو نصف النهار.
وانما خص الله العشي والاظهار في الذكر بالحمد - وإن كان حمده واجبا
في جميع الأوقات - لأنها أحوال تذكر باحسان الله، وذلك أن انقضاء احسان أول
يقتضي الحمد عند تمام الاحسان والاخذ في الاخر، كما قال (وآخر دعواهم أن
الحمد لله رب العالمين) (3).
(فصل)
وقوله (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل

(1) سورة العنكبوت: 45.
(2) سورة الروم: 17.
(3) سورة يونس: 10.
84

غروبها) (1).
قال تعالى لنبيه عليه السلام (فاصبر) على أذاهم إياك (وسبح بحمد ربك)
أي صل، والسبحة الصلاة، و (بحمد ربك) أي بثناء ربك (قبل طلوع الشمس)
يعني سبحة الصبحة، اي صلاة الفجر، و (قبل غروبها) يعني صلاة العصر، و (من
آناء الليل) يعني صلاة المغرب والعشاء، (وأطراف النهار) صلاة الظهر في قول
قتادة.
فان قيل: لم جمع أطراف النهار؟.
قلنا: فيه ثلاثة أقوال: أحدها انه أراد أطراف كل نهار، والنهار اسم جنس
في معنى جمع. وثانيها أنه بمنزلة قوله (فقد صغت قلوبكما) (2). وثالثها أراد طرف
أول النصف الأول، وطرف آخر النصف الأول، وطرف أول النصف الأخير،
وطرف آخر النصف الأخير. فلذلك جمع.
وقوله (لعلك ترضى) أي افعل ما أمرتك به لكي ترضى بما يعطيك الله من
الثواب على ذلك. وقيل أي لكي ترضى بما حملت على نفسك من المشقة في طاعة
الله بأمره كما كنت تريد أن تكون في مثل ما كان الأنبياء عليه من قبلك.
(فصل)
وقوله (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
الغروب * ومن الليل فسبحه وأدبار السجود) (3) أي احتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج.
وصل (قبل طلوع الشمس) صلاة الفجر (وقبل الغروب) صلاة العصر،
وقيل صلاة الظهر والعصر، (ومن الليل) يعني صلوات الليل، ويدخل فيها صلاة

(1) سورة طه: 130.
(2) سورة التحريم: 4.
(3) سورة ق: 39 - 40.
85

المغرب والعتمة ونوافل الليل أيضا (وأدبار السجود) عن الحسن بن علي عليهما السلام
أنهما الركعتان بعد المغرب تطوعا (1). وقيل التسبيحات المائة بعد الفرائض - عن
ابن عباس ومجاهد. وعن ابن زيد هي النوافل كلها.
وأصل التسبيح التنزيه لله عن كل ما لا يجوز في صفته، وسميت الصلاة
تسبيحا لما فيها من التسبيح.
وروي انه تعالى أراد ب‍ (أدبار السجود) نوافل المغرب، وأراد بقوله
(أدبار النجوم) الركعتين قبل الفجر (2).
فتلك الآيات الست تدل على المواقيت للصلوات الموقتة في اليوم والليلة.
(باب ذكر القبلة)
قال الله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) (3).
في بعض التفاسير: أي جعل الله الكعبة ليقوم الناس في متعبداتهم متوجهين
إليها قياما وعزما عليها. وقيل: قواما لهم يقوم به معادهم ومعاشهم، وقياما أي
مراعاة للناس وحفظا لهم.
وعن ابن عباس والبراء بن عازب: ان الصلاة كانت إلى بيت المقدس إلى
بعد مقدم النبي عليه السلام المدينة تسعة عشر شهرا.
وعن أنس كان ذلك بالمدينة تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم وجهه الله تعالى
إلى الكعبة.
قال تعالى (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) (4).

(1) الدر المنثور 6 / 110.
(2) الدر المنثور 6 / 110.
(3) سورة المائدة: 97.
(4) سورة البقرة: 142.
86

اختلفوا في الذين عابوا النبي عليه السلام والمسلمين بالانصراف عن قبلة
بيت المقدس إلى الكعبة على ثلاثة أقوال:
قال الحسن: هم مشركو العرب، فان رسول الله لما تحول بأمر الله إلى
الكعبة من بيت المقدس، قالوا: يا محمد رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها
أيضا، والله لترجعن إلى دينهم.
وقال ابن عباس: هم اليهود.
وقال السدي: هم المنافقون، قالوا ذلك استهزاءا بالاسلام.
والعموم يتناول الكل.
واختلفوا في سبب عيبهم الصرف عن القبلة، فقيل إنهم قالوا ذلك على وجه
الانكار للنسخ. وقال ابن عباس: ان قوما من اليهود قالوا: يا محمد ما ولاك عن
قبلتك التي كنت عليها، ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك. وأرادوا بذلك فتنته. الثالث
ان مشركي العرب قالوا ذلك ليوهموا أن الحق ما هم عليه.
وانما صرفهم الله عن القبلة الأولى لما علم من تغيير المصلحة في ذلك. وقيل
انما فعل ذلك لما قال تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع
الرسول ممن ينقلب على عقبيه) (1)، لأنهم لما كانوا بمكة أمروا أن يتوجهوا إلى بيت
المقدس ليتميزوا عن المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة، فلما
انتقل الرسول عليه السلام إلى المدينة كانت اليهود الذين بالمدينة يتوجهون إلى
بيت المقدس، فنقلوا إلى الكعبة للمصالح الدينية الكثيرة، من جملتها ليتميزوا من
اليهود كما أراد في الأول أن يتميزوا من كفار مكة.
(فصل)
لا خلاف أن التوجه إلى بيت المقدس قبل النسخ كان فرضا واجبا، ثم اختلفوا:
فقال الربيع: كان ذلك على وجه التخيير، خير الله نبيه عليه السلام بين أن

(1) سورة البقرة: 143.
87

يتوجه إلى بيت المقدس وبين أن يتوجه إلى الكعبة.
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: كان ذلك فرضا معينا. وهو الأقوى،
لقوله (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها)، فبين تعالى أنه جعلها قبلة، وظاهر ذلك
أنه معين، لأنه لا دليل على التخيير.
ويمكن أن يقال: انه كان مخيرا بين أن يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس
في توجهه إليه وبين أن لا ينتقل لما كان بمكة.
على أنه لو ثبت أنه كان مخيرا لما خرج عن كونه فرضا، كما أن الفرض هو
أن يصلي الصلاة في الوقت ثم هو مخير بين أوله وأوسطه وآخره.
وقوله (الا لنعلم) أي ليعلم ملائكتنا، والا فالله كان عالما به. وقال المرتضى
فيه وجها مليحا: أي يعلم هو تعالى وغيره، ولا يحصل علمه مع علم غيره الا بعد
حصول الاتباع، فأما قبل حصوله فإنما يكون هو تعالى العالم وحده، فصح حينئذ
ظاهر الآية.
وقوله (ممن ينقلب على عقبيه) قيل فيه قولان: أحدهما أن قوما ارتدوا عن
الاسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيها من وجوه الحكمة. والاخر أن المراد
به كل مقيم على كفره، لان جهة الاستقامة اقبال وخلافها ادبار، ولذلك وصف الكافر
بأنه أدبر واستكبر وقال (لا يصلاها الا الأشقى * الذي كذب وتولى) (1) عن الحق.
(فصل)
ثم قال (وان كانت لكبيرة) فالضمير يحتمل رجوعه إلى ثلاثة أشياء: القبلة
على قول أبي العالية. والتحويلة على قول ابن عباس، وهو الأقوى لان القوم انما
ثقل عليهم التحول لانفس القبلة. وعلى قول ابن زيد الصلاة.
و (ما كان الله ليضيع ايمانكم) في معناه أقوال: قال ابن عباس: لما

(1) سورة الليل: 15 - 16.
88

حولت القبلة قال ناس كيف أعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى وكيف بمن مات
من إخواننا قبل ذلك فأنزله الله. وقال الحسن انه لما ذكر ما عليهم من المشقة في
التحويلة أتبعه بذكر مالهم من المثوبة، وانه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه، لان
التذكير به يبعث على ملازمة الحق والرضا به. الثالث قال البلخي انه لما ذكر
انعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر السبب الذي استحقوه به، وهو ايمانهم بما
حملوه أولا فقال (وما كان الله ليضيع ايمانكم) الذي استحققتم به تبليغ محبتكم
في التوجه إلى الكعبة (1).
فان قيل: كيف جاز عليهم الشك فيمن مضى من إخوانهم فلم يدروا أنهم
كانوا على حق في صلاتهم إلى بيت المقدس.
قلنا: الوجه فيه أنهم تمنوا وقالوا كيف لإخواننا لو أدركوا الفضل بالتوجه
إلى الكعبة معنا، فإنهم أحبوا لهم ما أحبوا لأنفسهم وكان الماضون في حسرة ذلك
أو يكون قال ذلك منافق فخاطب الله المؤمنين بما فيه الرد على المنافقين.
وانما جاز أن يضيف الايمان إلى الاحياء على التغليب، لان من عادتهم أن
يغلبوا المخاطب على الغائب كما يغلبون المذكر على المؤنث فيقولون (فعلنا
بكما وبلغناكما) وإن كان أحدهما حاضرا والاخر غائبا.
(فصل)
ثم قال تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) (2). قال
قوم: ان هذه الآية نزلت قبل التي تقدمتها، وهي قوله (سيقول السفهاء).

(1) أضاف المصدر إلى مفعوله الثاني، أي استوجبتم بايمانكم أن يبلغكم الله تعالى
إلى ما تحبونه من التوجه إلى الكعبة (ه‍ ج).
(2) سورة البقرة: 144.
89

فان قيل: لم قلب النبي عليه السلام وجهه في السماء؟
قلنا: عنه جوابان:
أحدهما: انه كان وعد بالتحويل عن بيت المقدس، فكان يفعل ذلك انتظارا
وتوقعا لما وعد به.
والثاني: انه كان يحبه محبة طباع، ولم يكن يدعو به حتى أذن له فيه، لان
الأنبياء عليهم السلام لا يدعون الا بإذن الله، لئلا يكون في ردهم تنفير عن قبول قولهم
ان كانت المصلحة في خلاف ما سألوه. وهذا الجواب مروي عن ابن عباس.
وقيل في سبب محبة النبي عليه السلام التوجه إلى الكعبة ثلاثة أقوال: أحدها
أنه أراد مخالفة اليهود والتميز منهم. والثاني انه أراد ذلك استدعاءا للعرب إلى الايمان.
والثالث أنه أحب ذلك لأنها كانت قبلة إبراهيم.
ولو قلنا إنه أحب جميع ذلك لكان صوابا.
(فصل)
و (شطر المسجد الحرام) نحوه وتلقاه، وعليه المفسرون وأهل اللغة.
وعن الجبائي أراد بالشطر النصف، فأمره أن يولي وجهه نصف المسجد حتى يكون
مقابل الكعبة.
والأول أولى، لان اللفظ إذا كان مشتركا بين النصف والنحو ينبغي أن لا
يحمل على أحدهما الا بدليل، وعلى الأول اجماع المفسرين.
وقوله (ان الذين أوتوا الكتاب) (1) هم اليهود عن السدي، وقيل هم أحبار
اليهود وعلماء النصارى غير أنهم جماعة قليلة يجوز عليهم اظهار خلاف ما يبطنون،
لان الجمع الكثير لا يتأتى ذلك منهم لما يرجع إلى العادة، فإنها لم يجز ذلك مع
اختلاف الدواعي وانما يجوز العناد على النفر القليل.

(1) سورة البقرة: 144.
90

وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس قبل ذلك. وعن ابن عباس
أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة. وقال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها.
وهذا مما نسخ من السنة بالقرآن، لأنه ليس في القرآن ما يدل على تعبده
بالتوجه إلى بيت المقدس ظاهرا.
ومن قال: انها نسخت قوله (فأينما تولوا فثم وجه الله) (1). فنقول له: ليست
هذه منسوخة، بل هي مختصة بالنوافل في حال السفر على ما نذكره بعد.
فأما من قال: يجب على الناس أن يتوجهوا إلى الميزاب الذي على الكعبة
ويقصدوه. فقوله باطل على الاطلاق، لأنه خلاف ظاهر القرآن.
وقال ابن عباس: البيت كله قبلة، وقبلته بابه. وهذا يجوز، فأما أن يجب
على جميع الخلق التوجه إليه فهو خلاف الاجماع.
(فصل)
وقوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره). روي عن الباقر
والصادق عليهما السلام ان ذلك في الفرض. وقوله (فأينما تولوا فثم وجه الله)
قالا هو في النافلة 2.
وعن الباقر عليه السلام: لما حولت القبلة إلى الكعبة أتى رجل من عبد الأشهل
من الأنصار وهم قيام يصلون الظهر قد صلوا ركعتين نحو بيت المقدس، فقال: ان
الله قد صرف رسوله نحو البيت الحرام، فصرفوا وجوههم نحوه في بقية صلاتهم 3.
(وانه للحق من ربك) الهاء يعود إلى التحويل، وقيل التوجه إلى الكعبة
لأنه قبلة إبراهيم وجميع الأنبياء.

(1) سورة البقرة: 115.
(2) تفسير البرهان 1 / 145.
(3) وسائل الشيعة 3 / 214
91

وعن عطا في قوله (فول وجهك شطر المسجد الحرام) الحرم كله مسجد.
وهذا مثل قول أصحابنا: ان الحرم قبلة من كان نائيا عن الحرم من الآفاق.
واختلف الناس في صلاة النبي عليه السلام إلى بيت المقدس (1): [فقال قوم
كان يصلي بمكة إلى الكعبة فلما صار بالمدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس] (2) سبعة
عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة. [وقال قوم كان يصلى بمكة إلى البيت المقدس
الا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه، ثم أمره الله بالتوجه إلى الكعبة] (3).
فان قيل: كيف قال (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا
قبلتك) (4) وقد آمن منهم خلق كثير؟
قلنا: عن ذلك جوابان: أحدهما قال الحسن ان المعنى ان جميعهم لا يؤمن،
والثاني انه مخصوص بمن كان معاندا من أهل الكتاب دون جميعهم الذين وصفهم
الله تعالى (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) (5).
وقوله (ولئن اتبعت أهواءهم) معناه الدلالة على فساد مذاهبم وتبكيتهم بها.
وقوله (وما أنت بتابع قبلتهم) أي ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم
لاختلاف وجهتهم، لان النصارى يتوجهون إلى المشرق واليهود إلى المغرب،
فبين الله أن ارضاء الفريقين محال.
وقيل: انه لما كان النسخ مجوزا قبل نزول هذه الآية في القبلة أنزل الله الآية
ليرتفع ذلك التجويز، وكذلك ينحسم طمع أهل الكتاب من اليهود، إذ كانوا
طمعوا في ذلك وظنوا أنه يرجع النبي إلى الصلاة إلى بيت المقدس.
وقوله (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) أي لا يصير النصارى كلهم يهودا ولا

(1) انظر الأحاديث في ذلك في الوسائل 3 / 216 - 220.
(2) الزيادتان من م.
(3) الزيادتان من م.
(4) سورة البقرة: 145.
(5) سورة البقرة: 146.
92

اليهود كلهم نصارى ابدا، كما لا يتبع جميعهم الاسلام.
(فصل)
ثم قال تعالى (وان فريقا منهم ليكتمون الحق) كتموا أمر القبلة وهم يعلمون
صحة ما كتموه، وما لمن دفع الحق من العذاب.
والهاء في (يعرفونه) عائدة على أمر القبلة في قول ابن عباس. وقال الزجاج
هي عائدة على أنهم يعرفون حق النبي عليه السلام وصحة أمره.
وانما قال (وان فريقا منهم ليكتمون الحق) وفي أول الآية قال (يعرفونه)
على العموم، لان أهل الكتاب منهم من أسلم وأقر بما عرف فلم يدخل في جملة
الكاتمين كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما ممن دخل الاسلام.
فان قيل: كيف قال (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) وهم لا يعرفون في الحقيقة
أن أبناءهم أبناؤهم ويعرفون أن محمدا هو النبي المبعوث المبشر به في الحقيقة.
قلنا: التشبيه وقع بين المعرفة بالابن في الحكم، وهي معرفة تميزه بها من
غيره، وبين المعرفة بأنه هو النبي المبشر به في الحقيقة، فوقع التشبيه بين معرفتين
إحداهما أظهر من الأخرى، فكل من ربي ولدا كثيرا ورآهم سنين وسمى هذا
أحمدا وذا محمدا وذا عليا وذا حسنا وذا حسينا فإنه يميز بينهم بحيث لا يلتبس عليه
ذلك بحال.
(فصل)
وقوله (ولكل وجهة هو موليها).
فيه أقوال: أحدها ان لكل أهل ملة من اليهود والنصارى وجهة. وثانيها ان
لكل نبي وجهة واحدة وهي الاسلام وان اختلفت الاحكام كما قال (لكل جعلنا منكم
93

شرعة ومنهاجا (1)) أي شرائع الأنبياء. وثالثها هو صلاتهم إلى بيت المقدس وصلاتهم
إلى الكعبة. ورابعها ان لكل قوم من المسلمين وجهة وراء الكعبة أو قدامها أو عن
يمينها أو عن شمالها.
والوجهة: القبلة. و (موليها) في قول مجاهد مستقبلها.
وقيل في تكرار قوله (فول وجهك) انه لما كان فرضا نسخ ما قبله كان من
مواضع التأكيد لينصرف الناس إلى الحالة الثانية بعد الحالة الأولى ويثبتون عليه
على يقين.
وقيل في تكرير قوله (ومن حيث خرجت) [ان الاختلاف لاختلاف المعنى
وان اتفق اللفظ، لان المراد بالأول من حيث خرجت] (2) منصرفا عن التوجه إلى
بيت المقدس فول وجهك شطر المسجد الحرام، والمراد بالثاني أين كنت من البلاد
فتوجه نحو المسجد الحرام مستقبلا كنت لظهر القبلة أو وجهها أو يمينها أو شمالها.
وفي قوله (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) محذوف، واجتزئ بدلالة
الحال عن دلالة الكلام. قال الزجاج: عرفتكم ذلكم كيلا لا يكون لأهل الكتاب حجة
لو جاء على خلاف ما تقدمت به البشارة في الكتب السالفة من أن المؤمنين سيوجهون
إلى الكعبة.
(الا الذين ظلموا) استثناء منقطع، أي لكن الظالمين منهم يتعلقون بالشبهة
ويضعونها موضع الحجة، فلذلك حسن الاستثناء، وهو كقوله (ما لهم به من علم
الا اتباع الظن) (3).

(1) سورة المائدة: 48.
(2) الزيادة من م.
(3) سورة النساء: 157.
94

(باب ستر العورة)
(وذكر المكان واللباس مما يجوز الصلاة عليه وفيه)
(وذكر الأذان والإقامة)
ستر السوأتين (1) على الرجال مفروض، وما عدا ذلك مسنون. وعلى النساء
الحرائر يجب ستر جميع البدن، قال تعالى (خذوا زينتكم عند كل مسجد) (2) يعني
البسوا لباسا مأمورا به عند كل صلاة مع التمكن.
والزينة ههنا - باتفاق المفسرين - ما يوارى به العورة، قالوا: أمر الله بأخذ
الزينة، ولا خلاف أن التزين ليس بواجب والامر في الشريعة على الوجوب،
فلابد من حمله على ستر العورة.
ويدل عليه أيضا قوله (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم
وريشا ولباس التقوى) (3). قال علي بن موسى القمي: دل ذلك على وجوب ستر العورة.
وقال غيره: انما يدل ذلك على أنه أنعم عليهم بما يقيهم الحر والبرد وما يتجملون
به. ويصح اجتماع القولين.
وانما قال (أنزلنا عليكم لباسا) لان ما يتخذ هو منه ينبت بالمطر الذي ينزل
من السماء، وهو القطن والكتان وجميع ما ينبت من الحشيش والرياش الذي
يتجمل به.
و (لباس التقوى) هو الذي يقتصر عليه من أراد التواضع والنسك في
العبادة من لبس الصوف والشعر والوبر والخشن من الثياب، وقيل هو ما يكون
مما ينبت من الأرض وشعر وصوف ما يؤكل لحمه من الحيوان، وقيل التقدير:

(1) السوءتان القبل والدبر، ويقال لهما السوءتان لأنه يسوء الانسان عند الكشف
عنهما، كما سيذكر بعد هذا.
(2) سورة الأعراف: 31.
(3) سورة الأعراف: 26.
95

ولباس التقوى خير لكم إذا أخذتم من الريش وأقرب لكم إلى الله منه، والريش
ما فيه الجمال كالخز الخالص ونحوه مما أباحه الله ومنه ريش الطائر.
والحمل على جميع ذلك أولى، لفقد الاختصاص، فالحرير الخالص غير
محرم على النساء على حال، وإذا كان خلطا بالقطن ونحوه فللرجال أيضا حلال.
(فصل)
وهذه الآية خطاب من الله تعالى لأهل كل زمان من المكلفين على ما يصح
ويجوز من وصول ذلك إليهم، كما يوصي الانسان ولولده ولد ولده وان نزلوا
بتقوى الله وايثار طاعته.
ويجوز خطاب المعدوم، بمعنى أن يراد بالخطاب إذا كان المعلوم انه سيوجد
وتتكامل فيه شرائط التكليف، ولا يجوز ان يراد من لا يوجد، لان ذلك عبث
لا فائدة فيه.
على أن الآية كانت خطابا للمكلفين الموجودين في ذلك الزمان ولكل من
يكون حكمهم حكمه.
وقوله تعالى (يوارى سوآتكم) أي يستر ما يسوؤكم انكشافه من الجسد،
لان السوءة ما إذا انكشف عن البدن يسوء، والعورة ترجع إلى النقيصة في البدن.
وقوله (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) أي تناولوا زينتكم، وهي
اللبسة الحسنة، ويسمى ما يتزين به زينة من الثياب الجميلة ونحو ذلك.
قال الزجاج: هو أمر بالاستتار في الصلاة. قال أبو علي: ولهذا صار
التزيين للجمع والأعياد سنة. وقال مجاهد: هو ما وارى العورة ولو عباءة.
وقوله (عند كل مسجد) عن أبي جعفر عليه السلام في الجمعات والأعياد (1)،
وعن ابن عباس كانوا يطوفون بالبيت عراة فنهاهم الله عن ذلك.

(1) تفسير البرهان 2 / 8.
96

وقالوا: لما أباح الله تناول الزينة وحث عليه وندب إليه - وهناك قوم يحرمون
كثيرا من الأشياء من هذا الجنس - قال الله تعالى منكرا لذلك: (قل) يا محمد
(من حرم زينة الله التي أخرج لعباده).
(فصل)
وجلد ما يؤكل لحمه يجوز فيه الصلاة إذا كان مذكى مشروعا.
وجلود الميتة لا تطهر بالدباغ، وكذا جلود ما يذكيه أهل الخلاف. والدليل
على ذلك - مضافا إلى اجماع الطائفة - قوله (حرمت عليكم الميتة) (1)، وهذا تحريم
مطلق يتناول أجزاء الميتة في كل حال.
وجلد الميتة يتناوله اسم الموت لان الحياة تحله، وليس بجار مجرى العظم
والشعر، وهو بعد الدباغ يسمى جلد ميتة كما يسمى قبل الدباغ، فينبغي أن يكون
حظر التصرف لاحقا به.
فأما دلالته على أن الشعر والصوف والريش منها والناب والعظم كلها محرم
فلا يدل عليه، لان ما لم تحله الحياة لا يسمى ميتة.
وكذلك جلد ذبائح أهل الكتاب وكل من خالف الاسلام أو من أظهره ودان
بالتجسم والصورة وقال بالجبر والتشبيه أو خالف الحق، فعندنا لا يجوز الانتفاع به
على وجه ولا يصح الصلاة فيه لعموم الآية، قال تعالى (وانه لفسق) (2).
(فصل)
وقوله تعالى (لكم فيها دفء ومنافع) (3).

(1) سورة المائدة: 3.
(2) سورة الأنعام: 121.
(3) سورة النحل: 5.
97

قال ابن عباس: الدفء لباس من الأكسية وغيرها، كأنه سمي بالمصدر،
من دفئ يومنا دفاءا، ونظيره الكن. وقال الحسن: يريد ما استدفئ به من أوبارها
وأصوافها واشعارها، والدفء خلاف البرد، ومنه رجل دفآن (1).
وقال تعالى (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) (2) يعني قمصا من الكتان
والقطن (3)، وخص الحر بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر لامرين: أحدهما ان الذين
خوطبوا به أهل حر في بلادهم، والثاني انه ترك ذلك لأنه معلوم.
(فصل)
وقال تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) (4).
قيل المراد بالمساجد في الآية بقاع الأرض كلها، لقوله عليه السلام (ان الله
جعل الأرض لي مسجدا) (5)، فالأرض كلها مسجد يجوز الصلاة فيه الا ما كان مغصوبا
أو نجسا، فإذا زال الغصب والنجاسة منه فحكمه حكمها. وروى ذلك زيد بن علي عن
آبائه عليهم السلام.

(1) قال ابن فارس: الدال والفاء والهمزة أصل واحد يدل على خلاف البرد، فالدفء
خلاف البرد، يقال دفؤ يومنا وهو دفئ. قال الأموي: الدفء عند العرب نتاج الإبل،
وهو قوله جل ثناؤه (لكم فيها دفء ومنافع) - معجم مقاييس اللغة 2 / 287.
(2) سورة النحل: 81.
(3) السرابيل جمع السربال، وهو ما يلبس من قميص أو درع - معجم ألفاظ القرآن
الكريم 1 / 581.
(4) سورة البقرة: 114.
(5) مستدرك الوسائل: 1 / 156.
98

(فصل)
وقال تعالى (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا) (1).
النداء في الآية الدعاء بمد الصوت في الاذان ونحوه.
أخبر الله عن صفة الكفار الذين نهى المؤمنون عن اتخاذهم أولياء، بأنهم
إذا نادى المؤمنون للصلاة ودعوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا.
وفي معنى ذلك قولان:
أحدهما: قال قوم انهم كانوا إذا اذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم
وتغامزوا على طريق السخف والمجون تجهيلا لأهلها وتنفيرا للناس عنها وعن
الداعي إليها.
والثاني: انهم كانوا يرون المنادى إليه بمنزلة اللاعب الهادي بفعلها جهلا
منهم بمنزلتها، وقال أبو ذهيل الجمحي:
وأبرزتها من بطن مكة بعدما * أصاب المنادى بالصلاة واعتما
فالاستدلال بهذه الآية يمكن على الاذان، وكذا بقوله (إذا نودي للصلاة
من يوم الجمعة) (2).
والاذان للمنفرد سنة على كل حال، وكذا الإقامة. وواجبان في صلاة الجمعة
إذا اجتمعت شرائطها، لان تلك الجماعة واجبة ولا تنعقد الا بهما. ويقال على
الاطلاق انهما واجبان في الجماعة لخمس صلوات، وقيل يتأكد ندبهما.
وقد بين رسول الله أحكامها كما أمره الله بقوله (وأنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس ما نزل إليهم)، وقد علمه الله.

(1) سورة المائدة: 58.
(2) سورة الجمعة: 9.
99

والاذان في اللغة اسم للاعلام (1) قائم مقام الايذان، كما أن العطاء اسم للاعطاء
وهو في الأصل علم سمعي، قال تعالى (واذن في الناس) (2).
والاذان في الشرع اعلام الناس بحلول وقت الصلاة. وقال السدي: كان
رجل من النصارى بالمدينة يسمع المؤذن ينادي (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن
محمدا رسول الله) قال حرق الكاذب، والقائل كان منافقا، فدخلت خادمة له بعد
ذلك ليلة بنار فسقطت شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله.
وقد بينا ان المؤذن في اللغة كل من تكلم بشئ نداءا، وأذنته وآذنته،
ويستعمل ذلك في العلم الذي يتوصل إليه بالسماع، كقوله (فأذنوا بحرب من الله) (3).
(باب ما يقارن حال الصلاة)
قال الله تعالى (وقوموا لله قانتين) (4).
قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت هذه الآية.
وقد دلت على أن القيام مع القدرة والاختيار واجب في الصلاة.
وقال تعالى (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (5).
تدل هذه الآية على أن النية للصلاة ولسائر العبادات واجبة، وذلك أن الاخلاص

(1) قال ابن فارس: الهمزة والذال والنون أصلان متقاربان في المعنى متباعدان في
اللفظ: أحدهما اذن كل ذي اذن، والاخر العلم. تقول العرب (قد أذنت بهذا الامر) أي
علمت، وآذنني فلان اعلمني. ومن الباب الاذان، وهو اسم التأذين - معجم مقاييس اللغة
1 / 77.
(2) سورة الحج: 27.
(3) سورة البقرة: 279.
(4) سورة البقرة: 238.
(5) سورة البينة: 5.
100

بالديانة هو التقرب إلى الله بعملها مع ارتفاع الشوائب، والتقرب لا يصح الا بالعقد
عليه والنية له ببرهان الدلاة.
وروي عن الرضا عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: لا
قول الا بعمل، ولا قول ولا عمل الا بنية، ولا عمل ولا نية الا بإصابة السنة، ومن
تمسك بسنتي عند اختلاف أمتي كان له أجر مائة شهيد (1).
ومحل النية القلب، وذلك لأن النية هي الإرادة المخصوصة التي تؤثر في
وقوع الفعل على وجه دون وجه، ولا يكون من فعل غيره، وبها يقع الفعل عبادة
وواقعا موقع الوجوب أو الندب، وقد قال النبي عليه السلام (الأعمال بالنيات) (2).
ولا يجوز في تكبيرة الافتتاح الا قول (الله أكبر) مع القدرة عليه، لان
المسلمين قد أجمعوا على أن من قاله انعقدت صلاته بلا خلاف. وإذا أتى بغيره فليس
على انعقادها دليل، فالاحتياط يقتضي ما قلناه.
وقال قوم: ان قوله (ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) (3) أمر بذلك،
وهو على الايجاب شرعا، وكذا قوله (وربك فكبر) (4).
وقيل معناه: صل لله طاهرا في ثياب طاهرة. فكنى بالتكبير عن الصلاة،
ولولا وجوب التكبير في الصلاة لما كنى به عنها، وهذا كقوله (الحج عرفة).
(فصل)
القراءة شرط في صحة الصلاة، قال تعالى (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) (5)

(1) وسائل الشيعة 1 / 33 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(2) وسائل الشيعة 1 / 34.
(3) سورة الإسراء: 111.
(4) سورة المدثر: 3.
(5) سورة المزمل: 20.
101

وقال (فاقرأوا ما تيسر منه) (1)، والامر في الشريعة يقتضي الايجاب.
وقال عليه السلام (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) (2). وهذا تفصيل ما أجمله الآيتان
(ما آتاكم الرسول فخذوه) و (أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس).
وقال تعالى (وقرآن الفجر) (3) أي صلاة الفجر، فسمى الله الصلاة قرآنا
اعلاما بأنها لا تتم الا بالقراءة.
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا (4)) لما كان الله في كثير
من الآيات أمر بالصلاة جملة ثم نص على بعض أفعالها، تنبيها على عظم محله وكبر
شأنه، كذلك أمر بالركوع والسجود مفردا تفخيما لمنزلتهما في الصلاة، أي
صلوا على ما أمرتكم به من الركوع والسجود. ثم أمرهم تعالى بعد ذلك بأوامر،
فقال (واعبدوا ربكم وافعلوا الخير) إلى أن أمر مرة أخرى بإقامة الصلاة فقال
(فأقيموا الصلاة). وكل هذا يدل على شدة التأكيد في الركوع والسجود وانهما
ركنان من الصلاة على ما ذكرناه، لا تتم الا بهما مع الاختيار أو ما يقوم مقامهما مع
الاضطرار.
والتسبيح فيهما واجب أيضا، والدليل عليه ما روى أنه لما نزل قوله تعالى
(وانه لحق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم) (5) قال النبي عليه السلام: اجعلوها
في ركوعكم، ولما نزل قوله (سبح اسم ربك الاعلى) (6) قال عليه السلام: ضعوا هذا
في سجودكم (7). وهذان أمران يقتضيان الوجوب.

(1) سورة المزمل: 20.
(2) مستدرك الوسائل: 1 / 274.
(3) سورة الإسراء: 78.
(4) سورة الحج: 77.
(5) سورة الحاقة: 51 - 52.
(6) سورة الاعلى: 2.
(7) من لا يحضره الفقيه 1 / 315.
102

(فصل)
ان سأل سائل عن قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع
الراكعين) (1) أن قوله (أقيموا الصلاة) يدخل فيها الركوع، فلم قال (واركعوا)،
وهل هذا الا تكرار؟
قلنا: هذا أولا يدل على أن الركوع ركن من أركان الصلاة على بعض
الوجوه لا تصح من دونه، فهذا انما ذكره للتفخيم والتعظيم لشأن الركوع، كقوله
(وملائكته ورسله وجبرئيل وميكال) (2) وكما قال (فيهما فاكهة ونخل ورمان) (3).
وفعل الركوع يعبر به أيضا عن الصلاة بتمامها، فقول القائل (فرغت من ركوعي)
أي من صلاتي، وانما يعبر به عنها لأنه أول ما يشاهد مما يدل على أن الانسان في
الصلاة، لان أصل الركوع الانحناء.
وقال بعض المفسرين: ان المأمورين في الآية هم أهل الكتاب ولا ركوع في
صلاتهم، فكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك لأنه أبعد من اللبس، فأمرهم
الله بالصلاة على ما يرونها من أمرهم بضم الركوع إليها، والامر شرعا على الوجوب.
ويمكن أن يقال: ان قوله (أقيموا الصلاة) انما يفيد ايجاب اقامتها،
ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها. ويجوز أن يكون أيضا
إشارة إلى الصلاة الشرعية، فلما قال (واركعوا مع الراكعين) حتى مع هؤلاء
المسلمين الراكعين، فخصصت بالصلاة المنفردة في الشرع، فلا يكون تكرارا
بل يكون بيانا.
وقيل فيه وجه لطيف، وهو أنه لما أمر بالصلاة بقوله (أقيموا الصلاة)

(1) سورة البقرة: 43.
(2) سورة البقرة: 98.
(3) سورة الرحمن: 68.
103

حث بقوله (واركعوا مع الراكعين) على صلاة الجماعة، لتقدم الصلاة للمنفرد
في أول الآية، ويجئ بيانها في بابها.
(فصل)
وقال تعالى (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) (1).
قال الطبري: المراد (لا تجهر بصلاتك) يعنى صلاة النهار العجماء (2) (ولا
تخافت بها) يعني صلاة الليل التي يجهر بها في القراءة (3). فالجهر في صلاة الغداة
واجب، وكذلك في الركعتين الأوليين من العشائين.
فأما صلاة النهار فهي عجماء كما ذكرناه، يجب في الظهر والعصر جميعا
المخافتة الا في الجمعة يوم الجمعة، وفي الركعتين الأوليين من الظهر أيضا من
يوم الجمعة، فإنه يستحب الجهر فيهما.
وقيل: انه نهي من الله تعالى عن الجهر العظيم في حال الصلاة وعن المخافتة
الشديدة، وأمر بأن يتخذ بين ذلك طريقا وسطا، فأقل الجهر أن تسمع من يليك،
وأكثر المخافتة أن تسمع نفسك. ولا مانع من الحمل على القولين لعمومه.
وعن ابن عباس: ان النبي عليه السلام بمكة كان إذا صلى يجهر بصلاته على
المأمور، فسمع به المشركون فشتموه وآذوه وأرادوا أصحابه، فأمره الله بترك الجهر.
وعن عائشة: المراد بالصلاة ههنا الدعاء، أي لا تجهر بدعائك ولا تخافت
به ولكن بين ذلك.
ويجوز أن يكون جميع ما ذكرناه مرادا، لأنه لا مانع.
وقال قوم: هذا خطاب لكل واحد من المصلين، والمعنى لا تجهر أيها

(1) سورة الإسراء: 110.
(2) عبر عنها بالعجماء لأنها لا تبين لاخفات الصوت فيها.
(3) تفسير الطبري 15 / 125.
104

المصلي بصلاتك تحسنها مراءاة في العلانية ولا تخافت بها تسئ في القيام بها في
السريرة.
وصلاة الغداة يجهر بها وان كانت من صلاة النهار، لان النبي عليه السلام
صلاها في غلس الصبح.
(فصل)
وقال قوم: يمكن أن يستدل على أن الصلاة على النبي وآله في التشهد واجب
بقوله (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) (1)، وهو أمر، وهو في الشرع
على الوجوب.
والاجماع حاصل باستحباب الصلاة على النبي وآله في كل موضع وعلى
كل حال.
ووجوبها لا يعتبر الا في التشهد والقنوت في كل صلاة مستحب في الموضع
المخصوص منها، يدل عليه قوله تعالى (وقوموا لله قانتين) (2). قال صاحب العين:
القنوت في الصلاة دعاء بعد القراءة في آخر الركعتين يدعو قائما.
فإذا قيل: القنوت هو القيام الطويل ههنا.
قلنا: المعروف في الشريعة أن هذا الاسم يختص الدعاء، ولا يعرف من
اطلاقه سواه 3. على انا نحمله على الامرين لأنه عام.
ويجوز الدعاء في الصلاة أين شاء المصلي منها. والحجة - بعد اجماع
الطائفة - ظاهر أمر الله بالدعاء على الاطلاق، قال تعالى (قل ادعوا الله أو ادعوا

(1) سورة الأحزاب: 56.
(2) سورة البقرة: 238.
(3) قال الجوهري: القنوت الطاعة، هذا هو الأصل، ومنه قوله تعالى (والقانتين
والقانتات)، ثم سمى القيام في الصلاة قنوتا، وفى الحديث (أفضل الصلاة طول القنوت)،
ومنه قنوت الوتر - صحاح اللغة 1 / 261.
105

الرحمن) (1) وقال (ادعوني استجب لكم) (2).
وقال قوم: القنوت السكوت، وقوله (قوموا لله قانتين) يدل على أن الكلام
والتحدث في الصلاة محظور نهى الله عنه. وهذا التأويل أيضا غير مستبعد، مع
أنه لا ينافي ما قدمناه. ويجوز أن يكون الكل مرادا.
(فصل)
ويجب القراءة في الركعتين الأوليين على التضيق للمنفرد، والمصلي مخير
في الركعتين الأخيرتين بين القراءة والتسبيح. ويمكن أن يستدل عليه بقوله (فاقرأوا
ما تيسر من القرآن) (3)، لان ظاهر هذا القول يقتضي عموم الأحوال كلها التي من
جملتها أحوال الصلاة.
ولو تركنا وظاهر الآية قلنا: ان القراءة واجبة كلها تضييقا، لكن لما دل الدليل
على وجوبها في الأوليين على التضيق وفى الأخيرتين يجب على التخيير للمنفرد،
قلنا بجواز التسبيح في الأخيرتين، الا أن الأثر ورد بأن القراءة للامام في الأخيرتين
أيضا أفضل من التسبيح.
وافتتاح الصلاة المفروضة يستحب بسبع تكبيرات، يفصل بينهن بتسبيح
وذكر الله. والوجه فيه - بعد اجماع الفرقة المحقة - هو أن الله ندبنا في كل
الأحوال إلى تكبيره وتسبيحه واذكاره الجميلة، وظواهر آيات كثيرة من القرآن
تدل عليه، مثل قوله (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة
وأصيلا) (4) فوقت افتتاح الصلاة داخل في عموم الاخبار التي أمرنا فيها بالأذكار.

(1) سورة الإسراء: 110.
(2) سورة غافر: 60.
(3) سورة المزمل: 20.
(4) سورة الأحزاب: 41 42.
106

ويجب الطمأنينة في الركوع والسجود، وكذا بعد رفع الرأس منهما.
وقد بين النبي عليه السلام كيفية الصلاة من الفرائض والسنن وما يترك لأمر
الله بذلك، قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس)، ورواها علماء أهل
البيت. وعلى صحة جميع ذلك اجماع الطائفة، وهو دليل قاطع، ففي أول ركعة
ثلاثة عشر فعلا مفروضا، وكذا في كل ركعة الا النية [وتكبيرة الاحرام] (1).
(باب هيئات الصلاة)
قال الله تعالى (فصل لربك وانحر) (2).
أمر منه تعالى لنبيه، ويدخل فيه جميع المكلفين، يأمرهم الله بالصلاة وأن
ينحروا.
قال قوم: معناه صل لربك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك، تقول
العرب (منازلنا تتناحر) أي تتقابل، أي هذا ينحر ذا، يعنى يستقبله. وأنشد:
أبا حكم هل أنت عم مجالد * وسيد أهل الأبطح المتناحر (3)
وهذا قول الفراء.
وروي عن مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام
أنه قال: لما نزلت هذه السورة قال رسول الله لجبرئيل: ما هذه النحيرة التي
أمرني بها ربى؟ قال: ليست بنحيرة، وانما يأمرك إذا تحرمت للصلاة ان ترفع
يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت، فإنه
صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع، وان لكل شئ زينة وان زينة الصلاة
رفع الأيدي عند كل تكبيرة (4).

(1) الزيادة من ج.
(2) سورة الكوثر: 2.
(3) لبعض بنى أسد، لسان العرب (نحر).
(4) تفسير البرهان 4 / 514. وهو حديث عامي انظر الدر المنثور 6 / 403.
107

وأما ما رووه عن علي عليه السلام أن معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى
حذاء النحر في الصلاة (1). فمما لا يصح عنه، لان جميع عترته الطاهرة قد رووا عنه
بخلاف ذلك، وهو أن معناه ارفع يديك إلى النحر في الصلاة حسب ما قدمناه.
وكذا روي عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى
(فصل لربك وانحر) هو رفع يديك حذاء وجهك (2).
وروى مثله عنه عليه السلام عبد الله بن سنان (3).
وقال حماد بن عثمان: سألته ما النحر؟ فرفع يديه إلى صدره فقال: هكذا.
يعني استقبل بيديه القبلة في استفتاح الصلاة (4).
وعن جميل: قلت لأبي عبد الله عليه السلام (فصل لربك وانحر) فقال بيده
هكذا. يعنى استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة (5).
وقال النبي عليه السلام: رفع الأيدي من الاستكانة. قيل: وما الاستكانة؟
قال: ألا تقرأ هذه الآية (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) (6).
وقد أورد الثعلبي والواحدي في تفسيريهما الحديث الذي قدمناه عن الأصبغ
عن علي عليه السلام، وجعلا هذا الخبر من تمامه، وهو الصحيح.
وروى جماعة عن الباقر والصادق عليهما السلام في قوله (وتبتل إليه تبتيلا) (7)
أن التبتيل هنا رفع الأيدي في الصلاة (8).

(1) الدر المنثور 6 / 403.
(2) وسائل الشيعة 4 / 728.
(3) تهذيب الأحكام 2 / 66.
(4) مجمع البيان 5 / 550 ز.
(5) وسائل الشيعة 4 / 728.
(6) الدر المنثور 6 / 403.
(7) سورة المزمل: 8.
(8) تفسير البرهان 4 / 397.
108

وفى رواية: هو رفع يديك إلى الله وتضرعك إليه (1).
والعموم يتناولهما.
(فصل)
وقال تعالى (وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) (2).
قال الفراء والزجاج: المساجد مواضع السجود من الانسان الجبهة واليدان
والرجلان.
وزاد في رواية أصحابنا عنهم عليهم السلام تفصيلا فقالوا في قوله (وان
المساجد لله) السجود على سبعة أعظم فريضة الجبهة واليدين والركبتين وطرف
أصابع الرجلين (3).
والمعنى أنه لا ينبغي أن يسجد بهذه الأعضاء لاحد سوى الله، أي ان الصلاة
لا تجب الا لله لأنها عبادة، والعبادة غاية الشكر، والشكر يجب على النعمة، وغاية
الشكر - التي هي العبادة - تجب على أصول النعمة، وهي خلق الحياة والقدرة
والشهوة [..] (4) وغيرها مما لا يدخل تحت مقدور القدر، ولا يقدر على أصول النعمة
غير الله، فلا تجب العبادة الا له تعالى.
وقال تعالى (فلا تدعوا مع الله أحدا) أي لا تراؤوا أحدا، نهاهم الله عن
الرياء في الصلاة حتى لا يراؤوا بها غيره، فإنها لا تكون مقبولة الا إذا كانت خالصة
لله تعالى.
والسجود على هذه الأعضاء السبعة واجب، ووضع الانف على الأرض
سنة، وكنايتهم عليهم السلام فيه الارغام بالأنف سنة (5).

(1) تفسير البرهان 4 / 397.
(2) سورة الجن: 18.
(3) انظر وسائل الشيعة 4 / 954 - 955.
(4) كلمة لا تقرأ في النسختين.
(5) انظر وسائل الشيعة 4 / 954.
109

وقال بعضهم: الانف والجبهة عظم واحد، فلا تقبل صلاة لا يصيب الانف
منها ما يصيب الجبهة، وهذا لشدة تأكيد الندب في ذلك.
(فصل)
قوله (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون) 1.
قال مجاهد: هو غض الطرف وخفض الجناح، أي بقيت أعمالهم الصالحة
فهم خافضون متذللون فيها لله.
وقيل: الخشوع هو أن ينظر المصلي إلى موضع سجوده في حال القيام وينظر
في حال الركوع إلى ما بين قدميه، أو يغمض عينه في هذه الحالة، وأما في حال
السجود فإلى طرف أنفه، وفي جلوسه إلى حجره.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرفع بصره إلى السماء، فلما
نزلت هذه الآية طأطأ رأسه ونظر إلى مصلاه (2).
وانما أعاد ذكر الصلاة ههنا بقوله (والذين هم على صلاتهم يحافظون) (3) مع
جري ذكرها في الآية المقدمة، لأنه أمر بالخشوع في أول الآيات وأمر في آخرها
بالمحافظة عليها والقراءة بالتوحيد، لان الصلاة اسم جنس يقع على القليل والكثير
أي لا يضيعونها وهم يواظبون على أدائها.
وفي تفسير أهل البيت عليهم السلام: ان معناه الذين يحافظون على مواقيت
الصلاة فيؤدونها في أوقاتها ولا يؤخرونها حتى يخرج وقتها (4). وبه قال أكثر المفسرين.

(1) سورة المؤمنون 1 - 2.
(2) الدر المنثور 5 / 3.
(3) سورة المؤمنون: 9.
(4) تفسير علي بن إبراهيم القمي 2 / 89.
110

(فصل)
وقوله (يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن
ذكر الله وأقام الصلاة) (1).
قال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن صلاة.
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: ان الله مدح قوما بأنهم
إذا دخل وقت الصلاة تركوا تجارتهم وبيعهم واشتغلوا بالصلاة (2).
وهذان الوقتان من أصعب ما يكون على المتبايعين، وهما الغداة والعشي.
وقوله (قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك
له) (3) انما أضاف الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد والعدل، لان فيها التعظيم
لله عند التكبير، وفيها تلاوة القرآن التي تدعو إلى كل بر، وفيها الركوع والسجود
وهما غاية خضوع لله، وفيها التسبيح الذي هو تنزيه الله تعالى.
وانما جمع بين صلاته وحياته وإحداهما من فعله والأخرى من فعل الله،
لأنهما جميعا بتدبير الله.
والكيفيات المفروضة في أول ركعة ثمانية عشر، وفي أصحابنا من يزيد في
العدد (4)، وان كانت الواجبات بحالها في القولين.

(1) سورة النور: 35 - 36.
(2) تفسير البرهان 2 / 139.
(3) سورة الأنعام: 162 / 163.
(4) من يزيد في العدد ويقول إحدى وعشرون كيفية كما ذكره المصنف رضي الله عنه
في كتاب (فرائض العبادات)، وهي: مقارنة النية بتكبيرة الاحرام لأول الصلاة، واستمرار
حكم النية إلى حين الفراغ، وقول (الله أكبر) خاصة ولا يتلفظ مكانه (الله وأكبر) أو
(الله الكبير) أو نحوه فإنه لا يجزئ، وقراءة الحمد وسورة أخرى معها في الفرض مع
القدرة والاختيار، والترتيب بين الحمد والسورة يبدأ بقراءة الحمد أولا، والاخفات فيما
يخافت فيه، والجهر فيما يجهر فيه، والترتيب بين القراءة والركوع يقرأ أولا ثم يركع،
111

وفي الركعة الثانية مثلها، الا كيفية النية وكيفية التكبير.
وفي التشهد يجب ستة أشياء، ويستدل عليها من فحوى الآيات التي تقدم
ذكرها، ومن الآيات التي يأتي بيانها من بعد.
(فصل)
قال الله تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (1).
ومعنى الآية حث على مراعاة الصلوات ومواقيتهن، وان لا يقع فيها ولا في
شرائطها ولا في أفعالها ولا في كيفياتها التي بين رسول الله صلى الله عليه وآله
وجوبها تضييع وتفريط. وهذا عام في جميع واجباتها من الافعال والتروك وكيفياتها
والفرائض والسنن.
وقوله (الصلاة الوسطى) هي العصر فيما روي عن النبي صلوات الله عليه
وآله وعن علي عليه السلام وعن ابن عباس والحسن (2). وقال ابن عمر وزيد بن ثابت
انها الظهر، وهو المروي عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام (3). وقال
قبيصة بن ذؤيب هي المغرب. وقال جابر هي الغداة. وعن ابن عمر هي واحدة من
الخمس غير مميزة.
وقال الحسن بن علي المغربي: المعني بها صلاة الجماعة، [لان الوسط

والطمأنينة في الركوع، والطمأنينة في الانتصاب من الركوع، والسجود على سبعة أشياء
الجبهة وباطن الكفين والركبتين وإبهامي الرجلين، والترتيب بين الركوع والسجود يركع
أولا ثم يسجد، والطمأنينة في السجدة الأولى وفى الانتصاب منها، وفى السجدة الثانية كذلك.
والكيفيات الثلاث الزائدة على البواقي هي: الترتيب بين الحمد والسورة، وبين القراءة
والركوع، وبين الركوع والسجود (ه‍ ج).
(1) سورة البقرة: 238.
(2) الدر المنثور 1 / 302 - 305.
(3) تفسير البرهان 1 / 231.
112

العدل، فلما كانت صلاة الجماعة] (1) أفضلها خصت بالذكر. وهذا وجه مليح غير
أنه لم يذهب إليه غيره.
فمن جعلها العصر قال لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وانما حث عليها
زيادة لأنها وقت شغل الناس في غالب الامر.
ومن قال إنها صلاة الظهر قال لأنها وسط النهار، ولأنها أول صلاة فرضت
فلها بذلك فضل.
ومن قال هي المغرب قال لأنها وسط في الطول والقصر من بين الصلوات،
فهي أول صلاة الليل وقد رغب الله في الصلاة بالليل.
واما من قال هي الغداة قال لأنها بين الظلام والضياء، وهي صلاة لا تجمع
معها غيرها.
ومن حمل الصلاة الوسطى على صلاة الجماعة، جعل الصلوات على عمومها
من الفرائض.
ومن حملها على واحدة من الصلوات على الخلاف فيه اختلفوا: فمنهم من
قال أراد بقوله (على الصلوات) ما عدا هذه الصلاة حتى لا يكون عطف الشئ على
نفسه، ومنهم من قال لا يمتنع لمن يريد بالأول جميع الصلوات وخص هذه الصلاة
بالذكر تعظيما لها وتأكيدا لفضلها وشرفها، كقوله (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) (2).
(فصل)
اعلم أن الله تعالى لما حث على الطاعة بقوله (ولا تنسوا الفضل بينكم) (3)
خص بعده الصلاة بالمحافظة عليها لأنها أعظم الطاعات، فقال (حافظوا على الصلوات)

(1) الزيادة من ج.
(2) سورة البقرة: 97.
(3) سورة البقرة: 237.
113

أي داوموا على الصلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها، ثم خص الوسطى
تفخيما لشأنها، ثم اختلف فيها على ستة أقوال على ما ذكرنا.
واكد من ذكر أنها الظهر بقول النبي عليه السلام: إذا زالت الشمس سبح
كل شئ لربنا، فأمر الله بالصلاة في تلك الساعة، وهي الساعة التي تفتح فيها
أبواب السماء فلا تغلق حتى يصلى الظهر ويستجاب فيها الدعاء. وذكر أنها الجمعة
يوم الجمعة، والظهر سائر الأيام.
ومن ادعى أنها العصر اكد قوله بقول النبي عليه السلام: الذي تفوته صلاة
العصر (1) فكأنما وتر أهله وماله.
ومن ذكر أنها المغرب اكد قوله بقول النبي عليه السلام: ان أفضل الصلوات
عند الله صلاة المغرب، لم يحطها الله عن مسافر ولا مقيم، فتح الله بها صلاة الليل
وختم بها صلاة النهار، فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا
في الجنة، ومن صلى بعدهما أربع ركعات غفر الله له ذنب عشرين أو أربعين سنة.
ومن زعم أنها صلاة العشاء الآخرة قال: لأنها بين صلاتين لا يقصران، وقال
النبي عليه السلام: من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليله.
ومن قال إنها إحدى الصلوات الخمس لم يعينها الله وأخفاها في جملة المكتوبات
كلها ليحافظوا على كلها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان واسمه الأعظم
في جميع أسمائه وساعة الإجابة في ساعات الجمعة.
ومن قال إنها صلاة الفجر دل عليه أيضا من التنزيل بقوله (وقرآن الفجران
قرآن الفجر كان مشهودا) (2) يعني تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وهي مكتوب
في ديوان الليل وديوان النهار، ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها كما تقدم، فهي منفردة
بين مجتمعتين، فقد جمع النبي عليه السلام بين الظهر والعصر وجمع بين المغرب

(1) في ج (من فاتته صلاة العصر).
(2) سورة الإسراء: 78.
114

والعشاء بالمزدلفة، فصلاة الظهر متآخية لصلاة العصر وكذا المغرب للعشاء وصلاة
الغداة منفردة.
ويستحب الجمع في هذين الموضعين - يعنى عرفة والمشعر - على الرجال
والنساء في أي يوم كان من الأسبوع، وفي أية ليلة كانت سوى ليلة الجمعة أو غيرها
من الليالي، ولا يستحب الجمع في غيرهما من المواضع بل هو رخصة، سواء كان
في الحضر أو السفر، الا في يوم الجمعة فإنه يستحب فيه الجمع بين الظهر والعصر
لا غير في كل بقعة وعلى كل حال.
ويلزم النساء خاصة الجمع بين الظهر والعصر والجمع بين المغرب والعشاء
الآخرة في بعض وجوه استحاضتهن.
(فصل)
ثم قال تعالى في آخر الآية (وقوموا لله قانتين) أي داعين، والقنوت هو
الدعاء في الصلاة في حال القيام، وهو المروي عنهما عليهما السلام (1). وقيل ساكتين
لأنهم نهوا بذلك عن الكلام في الصلاة. وقيل خاشعين، فنهوا عن العبث والالتفات
في الصلاة، فالالتفات فيها إلى خلف محظور والى ما سواه من الجوانب مكروه.
والأصل في القنوت الاتيان بالدعاء وغيره من العبادات في حال القيام (2)،
ويجوز أن يطلق في سائر الطاعات، فإنه وان لم يكن فيه القيام الحقيقي فان فيه
القيام بالعبادة.

(1) أي عن الباقر والصادق عليهما السلام، انظر البرهان 1 / 231. وذكر القنوت في
روايات أخرى أيضا بمعنى الإطاعة والرغبة والمحافظة على الصلوات.
(2) قال ابن فارس: والأصل في الطاعة، يقال قنت يقنت قنوتا، ثم سمى كل استقامة
في طريق الدين قنوتا، وقيل لطول القيام في الصلاة قنوت، وسمى السكوت في الصلاة
والاقبال عليها قنوتا، قال الله تعالى (وقوموا لله قانتين) - معجم مقاييس اللغة 5 / 31.
115

واستدل الشافعي على أنها هي الغداة بقوله (وقوموا لله قانتين) بمعنى وقوموا
فيها لله قانتين. وهذا في جميع الصلوات عندنا.
والقنوت جهرا في كل صلاة، وعن زيد بن ثابت ان النبي عليه السلام كان
يصلي الهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فلا يكون وراءه الا الصف
والصفان، فقال: لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم، فنزل
قوله (حافظوا على الصلوات) (1).
(فصل)
وقوله (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة وهم راكعون) (2).
لا خلاف بين الأمة أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام حين
تصدق بخاتمه وهو راكع، روى ذلك المغربي عن أبي بكر الرازي والطبري والرماني
ومجاهد والسدي، وقالوا: المعني بالآية هو الذي أتى الزكاة في حال الركوع،
وهو قول أهل البيت عليهم السلام (3).
[وأجمعت الأمة على أنه لم يؤت الزكاة في الركوع غير أمير المؤمنين
عليه السلام] (4).
وفي هذه الآية دلالة عن أن العمل القليل لا يفسد الصلاة.
وقيل في قوله (وعنت الوجوه للحي القيوم) (5) هو وضع الجبهة والأنف في
السجود على الأرض.

(1) الدر المنثور 1 / 298.
(2) سورة المائدة: 55.
(3) الدر المنثور 2 / 293، تفسير البرهان 1 / 479.
(4) الزيادة من ج.
(5) سورة طه: 111.
116

(فصل)
وقوله تعالى (وأقم الصلاة لذكري) (1) قال قوم معناه متى ذكرت أن عليك
صلاة كنت في وقتها فأقمتها أو فات وقتها فاقضها، سواء فاتت عمدا أو نسيانا.
وقيل: معناه أقم أيها المكلف الصلاة لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم واني
أذكرك (2) بالمدح والثواب.
وقال تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة) (3) أي تركوها، وقيل
أي أخروها عن مواقيتها، وهو الذي رواه أصحابنا.
وقال (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) (4) وهذا تهديد لمن
يؤخرها عن وقتها، لأنه تعالى قال (عن صلاتهم) ولم يقل ساهون فيها. وانما ذم
من وقع منه السهو مع أنه ليس من فعل العبد بل هو من فعل الله، لان الذم توجه
في الحقيقة على التعرض للسهو بدخوله فيها على وجه الرياء وقلبه مشغول بغيرها
لا يرى لها منزلة تقتضي صرف الهمة إليها.
وعن يونس بن عمار: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله (الذين هم
عن صلاتهم ساهون) أهي وسوسة الشيطان؟ قال: لا كل أحد يصيبه هذا ولكن ان
يغفلها ويدع أن يصلي في أول وقتها (5).
وعن أبي أسامة زيد الشحام سألته أيضا عن قوله (الذين هم عن صلاتهم
ساهون). قال: هو الترك لها والتواني عنها (6).

(1) سورة طه: 14.
(2) كذا في م وفى ج (ولان أذكر بالمدح).
(3) سورة مريم: 59.
(4) سورة الماعون: 4 - 5.
(5) تفسير البرهان 4 / 511.
(6) تفسير البرهان 4 / 511.
117

وعن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام قال: هو التصنيع لها (1).
وعن ابن عباس: هم الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها.
وقيل: يريد المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابا ان صلوا ولا يخافون عليها
عقابا ان تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، فإذا كانوا مع المؤمنين صلوها
رياءا، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو قوله (الذين هم يراؤن).
وقيل: ساهون عنها لا يبالون صلوا أو لم يصلوا.
وعن أبي العالية: هم الذين لا يصلونها لمواقيتها ولا يتمون ركوعها ولا
سجودها، هم الذين إذا سجدوا قالوا برؤوسهم هكذا وهكذا ملتفتين.
وقال أنس: الحمد لله الذي قال (عن صلاتهم) ولم يقل في صلاتهم. أراد
بذلك أن السهو الذي يقع للانسان في صلاته من غير عزم لا يعاقب عليه.
(فصل)
وقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) (2).
خاطب محمدا صلى الله عليه وآله، والمراد به هو وجميع المكلفين،
أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، لان بعد القراءة لا تكون الاستعاذة الا عند
من لا يعتد بخلافه.
وقيل: هو التقديم والتأخير. وهذا ضعيف، لان ذلك لا يجوز مع ارتفاع
اللبس والشبهة.
والاستعاذة عند التلاوة مستحبة الا عند أهل الظاهر، فإنهم قالوا (فاستعذ
بالله) أمر وهو على الايجاب. ولولا الرواية عن أهل البيت أنها مستحبة وعلى
صحتها اجماع الطائفة لقلنا بوجوبها.
والتعوذ في الصلاة مستحب في أول ركعة دون ما عداها، وتكراره في كل.

(1) تفسير البرهان: 4 / 511.
(2) سورة النحل: 98.
118

ركعة يحتاج إلى دليل ولا دليل.
ويسر في التعوذ في جميع الصلوات، ويجب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
في الحمد وفى كل سورة بعدها في كل صلاة يجب الجهر فيها، وتجب قراءته لأنه
آية من كل سورة، والدليل عليه اجماعنا الذي تقدم أنه حجة، فان كانت الصلاة مما
لا يجهر فيها استحب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم فيها.
واختلف فيه أيضا، فقيل إنه مقصور على الركعتين الأوليين من الظهر والعصر
والأظهر انه على العموم في جميع المواضع التي كانت فيها من الصلوات.
وقالوا في قوله (واذكر اسم ربك) (1) أي اقرأ أيها المخاطب بسم الله الرحمن
الرحيم في أول كل سورة.
(فصل)
قال الله تعالى (وانه لتنزيل رب العالمين) إلى قوله (بلسان عربي مبين) (2).
تدل هذه الآية أن من قرأ بغير العربية معنى القرآن بأي لغة كانت في الصلاة
كانت صلاته باطلة، لان ما قرأه لم يكن قرآنا.
وان وضع لفظا عربيا موضع لفظ من القرآن يكون معناهما واحدا فكمثله،
فإنه تعالى وصف اللسان بصفتين، ألا ترى انه تعالى أخبر انه انزل القرآن بلسان
عربي مبين، وقال تعالى (انا أنزلناه قرآنا عربيا) (3) فأخبر انه أنزله عربيا.
فمن قال: إذا كان بغير العربي فهو قرآن، فقد ترك الآية، وقال تعالى (وما
أرسلنا من رسول الا بلسان قومه) (4). وعند أبي حنيفة أرسل الله رسوله بكل لسان.

(1) سورة المزمل: 8.
(2) سورة الشعراء: 92 - 95.
(3) سورة يوسف: 2.
(4) سورة إبراهيم: 4.
119

وإذا ثبت أنه بغير العربية لا يكون قرآنا سقط قولهم وثبت أنها لا تجزي.
على أن من يحسن الحمد لا يجوز أن يقرأ غيرها، لقوله عليه السلام: كل
صلاة ليس فيها فاتحة فهي خداج (1).
فإن لم يحسن الحمد وجب عليه أن يتعلمها، فان ضاق عليه الوقت وأحسن
غيرها قرأ ما يحسن، فإن لم يحسن الا بعض سورة قرأه، فإن لم يحسن شيئا أصلا
ذكر الله وكبره. ولا يقرأ معنى القرآن بغير العربية.
(فصل)
وقوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (2).
يدل على أنه يجوز للمصلي أن يدعو لدينه ودنياه ولاخوانه، لأنه قال (فادعوه)
ولم يستثن حال الصلاة، وظاهره في عرف الشرع الاستغراق والعموم فلا مانع.
وإذا سلم عليه وهو في الصلاة رد عليه مثله، يقول (سلام عليكم) ولا يقول
(وعليكم السلام) فإنه يقطع الصلاة.
ويمكن أن يكون الوجه في ذلك أن لفظة (سلام عليكم) من ألفاظ القرآن
يجوز للمصلي أن يتلفظ بها تاليا للقرآن وناويا لرد السلام، إذ لا تنافي بين الامرين،
قال الله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (3).
قال الحسن وجماعة من متقدمي المفسرين: ان السلام تطوع والرد فرض،
لقوله (فحيوا) والامر شرعا على الوجوب، فإذا أطلق الامر ولم يقيده بحال دون
حال فالمصلي إذا سلم عليه وهو في الصلاة فليرد عليه مثل ذلك.

(1) وسائل الشيعة 4 / 733. والخداج - بكسر الخاء - النقصان، يقال (خدجت
الناقة) إذا ألقت ولدها قبل الاوان - النهاية لابن الأثير 2 / 12.
(2) سورة الأعراف: 180.
(3) سورة النساء: 86.
120

وسمعت بعض مشايخي مذاكرة أنه مخصوص بالنوافل، والأظهر أنه على
العموم.
ومن شجون الحديث (1) أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا أبا سعيد
الخدري وهو في الصلاة فلم يجبه، فوبخه وقال: ألم تسمع قول الله (يا أيها
الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) (2).
(فصل)
وقوله تعالى (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) (3)، أي يصلون
على قدر امكانهم في صحتهم وسقمهم، وهو المروى في اخبارنا (4)، لان الصلاة يلزم
التكليف ما دام عقله ثابتا، فإن لم يتمكن من الصلاة لا قائما ولا قاعدا ولا مضطجعا
فليصل موميا، يبدأ بالصلاة بالتكبير ويقرأ، فإذا أراد الركوع غمض عينيه، فإذا
رفع رأسه فتحهما، وإذا أراد السجود غمضهما، وإذا رفع رأسه فتحهما، وإذا
أراد السجود الثاني غمضهما، وإذا رفع رأسه فتحهما، وعلى هذا صلاته.
وقوله (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) (5) إن كان صلى ركعة مستلقيا هكذا ثم
قوي على أن يصلي مضطجعا، أو كان صلى مضطجعا وقدر أن يصلي قاعدا، أو
كان يصلي قاعدا فقوي أن يصلي قائما رجع إليه.
وكذا على عكسه ان صلى ركعة قائما فضعف عن القيام صلى الباقي قاعدا.

(1) الشجن - بتسكين الجيم - واحد شجون الأودية، وهي طرقها. ويقال (الحديث
ذو شجون) أي يدخل بعضه في بعض - صحاح اللغة 5 / 2143.
(2) سورة الأنفال: 24.
(3) سوره آل عمران: 191.
(4) تفسير البرهان 1 / 332.
(5) سورة النساء: 103.
121

وعن ابن مسعود نزلت هذه الآية في صلاة المريض، لقوله (وقعودا وعلى
جنوبهم).
والعريان إذا كان بحيث لا يراه أحد صلى قائما، وإذا كان بحيث لا يأمن أن
يراه أحد صلى جالسا، للآية ولقوله (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (1).
وقال ابن عباس: لم يعذر أحد في تركه للصلاة الا مغلوب على عقله. وهذا
يدل على عظم حال الصلاة.
(فصل)
وقوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (2).
يستدل بهذه الآية على أن من ترك الصلاة متعمدا يجب قتله البتة على بعض
الوجوه، لان الله تعالى أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرطين: أحدهما أن
يتوبوا من الشرك، والثاني أن يقيموا الصلاة. فإذا لم يقيموا وجب قتلهم.
ثم قال (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم) (3) تقديره فهم اخوانكم.
أما قوله (وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاءا وتصدية) (4)، فمعناه انه اخبار
من الله تعالى انه لم يكن صلاة هؤلاء الكفار تلك الصلاة التي أمروا بها، فأخبر
تعالى بذلك لئلا يظن ظان ان الله لا يعذبهم مع كونهم مصلين ومستغفرين. ثم قال
تعالى (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) (5).
وانما سمى الله مكاءهم صلاة لأنهم يجعلون ذلك مكان الصلاة والدعاء

(1) سورة الحج: 78.
(2) سورة التوبة: 5.
(3) سورة التوبة: 11.
(4) سورة الأنفال: 35.
(5) سورة الأنفال: 34.
122

والتسبيح المشروع. والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق. ولأنهم كانوا يعملون
كعمل الصلاة مما في هذا. وقيل كان بعضهم يتصدى البعض ليراه بذلك الفعل
وكان يصفر له.
(باب قضاء الصلاة وتركها)
اعلم أن القضاء هو فرض ثان، يدل عليه السنة على سبيل التفصيل. ويستدل
عليه من القرآن بقوله (واذكر ربك إذا نسيت) (1) على طريق الجملة، وعلى ما قدمناه
في قوله (وأقم الصلاة لذكري) (2).
ثم من كان مخاطبا بالصلاة ففاتته، فإن كان كافرا في الأصل فالصلاة الفائتة
منه في حال كفره لا يلزمه قضاؤها، وإن كان مخاطبا بالشرائع بالدليل القاطع،
وعموم قوله (ان تجتنبون كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ندخلكم مدخلا
كريما) (3) يشهد ببراءة ذمته التي هي الأصل. والسنة قد فصلت انه لا يلزمه قضاؤها.
فأما من كان على ظاهر الاسلام بالغا كامل العقل، فان جميع ما يفوته من
الصلوات بعذر وغير عذر يلزمه قضاؤها حسب ما فاتته ان سفرا فسفر وان حضرا
فحضر. وكذا ما يفوته في حال النوم المعتاد أو حال السكر أو تناول الأشياء المرقدة.
وإن كان على مذهب فاسد كالتشبيه ونحوه وكان صلى أو لم يصل، فإذا استبصر.
وجب عليه قضاء جميع ذلك.

(1) سورة الكهف: 24.
(2) سورة طه: 14.
(3) سورة النساء: 31.
123

(فصل)
وقوله تعالى (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر) (1) أي
يخلف كل واحد منهما صاحبه مما يحتاج أن يعمل فيه، فمن فاته عمل الليل استدركه
بالنهار، ومن فاته عمل النهار استدركه بالليل على الفور، وهو قوله (لمن أراد أن
يذكر أو أراد شكورا).
عن أكثر المفسرين: ان الله أراد أن يجعل الليل والنهار وقتين للمتذكرين
والشاكرين من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الاخر.
وعن عنبسة العابد سألت الصادق عليه السلام عن قول الله (وهو الذي جعل
الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا)؟ قال: قضاء صلاة الليل بالنهار
وقضاء صلاة النهار بالليل (2).
وفى رواية عن غيره أن أبا عبد الله عليه السلام قال في قوله (وهو الذي جعل الليل
والنهار خلفة) يقضى صلاة النهار بالليل وصلاة الليل بالنهار (3).
وقوله (لمن أراد أن يذكر) كلام مجمل يفسره قوله عليه السلام: من نسي
صلاة فوقتها حين يذكرها (4). يعني إذا ذكر أنها فاتته قضاها لقوله تعالى (أقم الصلاة
لذكرى).

(1) سورة الفرقان: 62.
(2) تفسير البرهان 3 / 173.
(3) تفسير البرهان 3 / 173.
(4) وسائل الشيعة 3 / 348.
124

(باب ذكر صلاة الليل وذكر جميع النوافل)
قال الله تعالى (يا أيها المزمل * قم الليل) (1).
وهذا أمر من الله لنبيه عليه السلام بقيام جميع الليل الا القليل منه، والخطاب
معه حين التف بثيابه تأهبا للصلاة. وقيل التف بثيابه للنوم. وقال الحسن:
ان الله فرض على النبي والمؤمنين أن يقوموا ثلث الليل فما زاد، فقاموا حتى تورمت
أقدامهم ثم نسخ تخفيفا عنهم. وقال غيره: هو فعل لم ينسخ، لأنه لو كان فرضا لما خير
في ذلك وانما بين تخفيف الثقل.
وقال قوم: المرغب فيه قيام ثلث الليل أو نصف الليل أو الليل كله الا القليل،
وانما لم يرغب بالآية في قيام جميعه لأنه تعالى قال (الا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا *
أو زد عليه) يعني على النصف.
وقال الزجاج: نصفه بدل من الليل بدل البعض من الكل، كقوله (ضرب
زيد رأسه)، والمعنى قم نصف الليل أو زد على نصف الليل، وذلك قبل أن يتعبد
بالصلوات الخمس.
وعن ابن عباس وغيره: كان بين أول السورة وآخرها الذي نزل فيه التخفيف
سنة. وقال ابن جبير عشر سنين. وقال الحسن وعكرمة نسخت الثانية الأولة.
والأولى أن يكون الكلام على ظاهره ويكون جميع ذلك سنة مؤكدة الا أنه
ليس بفرض.
(فصل)
وقوله (ورتل القرآن ترتيلا) (2) أمر من الله له بأن يرتل القراءة.

(1) سورة المزمل: 1 - 2.
(2) سورة المزمل: 4.
125

والترتيل ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها وتبيين الاعراب تثبت فيها.
والحدر هو الاسراع فيها. وكلاهما حسن، الا أن الترتيل ههنا هو المرغب فيه.
و (ناشئة الليل) (1) ساعات التهجد من الليل. وقال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما
السلام هو القيام آخر الليل إلى صلاة الليل (2).
والمعنى ان عمل الليل أشد ثباتا من عمل النهار وأثبت في القلب من عمل النهار،
لأنه يواطئ فيه القلب اللسان لانقطاع الشغل وفراغ القلب، وثوابه أعظم لان عمل
الليل أشد على البدن من عمل النهار.
ثم قال (ان ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) (3). في الناس
من قال: هذه الآية ناسخة لما في أول السورة من الامر الحتم بقيام الليل الا قليلا (نصفه
أو انقص منه).
وقال آخرون: انما نسخ ما كان فرضا إلى أن صار نفلا.
وقد قلنا: الامر في أول السورة على وجه الندب، فكذا ههنا، فلا تنافي بينهما
حتى ينسخ بعضها ببعض.
(فصل)
وقوله (واذكر ربك بكرة وأصيلا) (4). البكرة الغداة، والأصيل العشي،
وهو أصل الليل.
(ومن الليل فاسجد له) (5) دخلت من للتبعيض، يعني فاسجد له في بعض الليل.

(1) سورة المزمل: 6.
(2) مجمع البيان 4 / 378.
(3) سورة المزمل: 20.
(4) سورة الانسان: 25.
(5) سورة الانسان: 26.
126

لأنه يأمر بقيام جميع الليل، كما قال (ان ربك يعلم انك تقوم أدنى من ثلثي الليل
ونصفه وثلثه) (1). والمعنى ان ربك يعلم يا محمد انك تقوم أدنى، أي أقرب وأقل
من ثلثي الليل (ونصفه وثلثه) أي أقل من نصفه ومن ثلثه، والهاء تعود إلى الليل أي نصف
الليل وثلث الليل، معناه انك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين وفى بعضها قريبا
من نصف الليل وفى بعضها قريبا من ثلثه.
وقيل إن الهاء تعود إلى الثلثين، أي وأقرب من نصف الثلثين ومن ثلث
الثلثين. وإذا نصبت فالمعنى وتقوم نصفه وثلثه ويقوم طائفة من الذين معك.
وقوله تعالى (والله يقدر الليل والنهار) (2) أي يقدر أوقاتهما لتعلموا منها على
ما يأمركم به.
(علم أن لن تحصوه) أي تطيقوا المداومة على قيام الليل ويقع منكم التقصير
فيه (فتاب عليكم) بأن جعله تطوعا ولم يجعله فرضا. وقيل أي فخفف عليكم.
(فأقروا ما تيسر من القرآن) (3) الان، يعنى في الصلاة عند أكثر المفسرين.
وأجمعوا أيضا على أن المراد بالقيام المتقدم في قوله (قم الليل) هو القيام إلى
الصلاة الا ابا مسلم فإنه قال أراد القيام لقراءة القرآن.
(علم أن سيكون منكم مرضى) وذلك يقتضي التخفيف عنكم (وآخرون
يضربون في الأرض) أي ومنكم آخرون ويسافرون للتجارة وطلب الأرباح،
ومنكم قوم آخرون يقاتلون في سبيل الله، فكل ذلك يقتضي التخفيف عنكم،
(فاقرأوا ما تيسر منه).
وروي عن الرضا عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: (فاقرأوا ما تيسر منه)
لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر وأقيموا الصلاة لحدودها التي أوجبها الله عليكم.

(1) سورة المزمل: 20.
(2) سورة المزمل: 20.
(3) سورة المزمل: 20.
127

(فصل)
وقوله تعالى (كانوا قيلا من الليل ما يهجعون) (1).
قال الزهري: (كانوا) يعني المتقين الذين وعدهم بالجنات، قليلا ما يهجعون
بالليل في دار التكليف، أي كان هجوعهم قليلا، فتكون ما مصدرية. وقال الحسن
ما صلة وتقديره كانوا يهجعون هجوعا قليلا. وقال قتادة: كان هجوعهم قليلا في
جنب يقظتهم للصلاة والعبادة.
وقال أبو عبد الله عليه السلام في قوله (وبالاسحار هم يستغفرون) (2) في الوتر
في آخر الليل سبعين مرة (3).
وقال في قوله (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) أي كانوا أقل الليالي
يفوتهم لا يقومون فيها، وكان القوم ينامون ولكن كلما انقلب. أحدهم قال (الحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر) (4).
وقال عليه السلام في قوله (وأقوم قيلا) (5) قيام الرجل عن فراشه يريد به الله
لا يريد به غيره (6).
وقال مجاهد في قوله (وبالاسحار هم يستغفرون) (7) أي يصلون في السحر.
وعن الحسن يطلبون من الله المغفرة. والحمل عليهما للعموم أحسن.

(1) سورة الذاريات: 17.
(2) سورة الذاريات: 18.
(3) تفسير البرهان: 4 / 232.
(4) تفسير البرهان: 4 / 232.
(5) سورة المزمل: 6.
(6) تفسير البرهان: 4 / 397.
(7) سورة الذاريات: 18.
128

و (السحر) الوقت قبل طلوع الفجر، وهو من أفضل الأوقات، قال تعالى
(المستغفرين بالاسحار) (1) أي المصلين بها يسألون المغفرة فيها. وقد تطلب المغفرة
بالصلاة كما تطلب الدعاء.
وقال عمران بن حصين في قوله (والشفع والوتر) (2) هي الصلاة فيها شفع ووتر.
وعن أبي عبد الله عليه السلام ان قوله تعالى (والباقيات الصالحات) (3) هي
القيام آخر الليل لصلاة الليل والدعاء في الأسحار. وسميت باقيات لان منافعها تبقى وتنفع
أهلها في الدنيا والآخرة، بخلاف ما نفعه مقصور على الدنيا فقط. وقيل هي قوله
(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) (4) عقيب الصلوات وفي غيرها (5).
(فصل)
وقوله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) (6).
خاطب نبيه عليه السلام، ومن للتبعيض، والتهجد التيقظ بما ينفي الهجود،
وهو النوم كالتأثم والتحرج.
قال المبرد: التهجد عند أهل اللغة السهر للصلاة أو لذكر الله، فإذا سهر

(1) سورة آل عمران: 17.
(2) سورة الفجر: 3.
(3) سورة الكهف: 46، سورة مريم: 76.
(4) تفسير البرهان: 3 / 21.
(5) في العباب: روى كعب بن عجرة (رض) عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
قال: معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن: دبر كل صلاة ثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة
وأربع وثلاثون تكبيرة، قال شمر: أراد بالمعقبات تسبيحات تخلف بأعقاب الناس. قال:
المعقبات من كل شئ ما خلف ما بعده (ه‍ ج).
أقول: يمكن ان يقال سميت (معقبات) لأنها أذكار تقال عقيب الصلوات.
(6) سورة الإسراء: 79.
129

للصلاة قيل تهجد، وإذا أراد النوم قيل هجد (1).
والنافلة فعل ما فيه الفضيلة مما رغب الله فيه ولم يوجبه (2).
وقوله (نافلة لك) وجه هذا الاختصاص هو أنه أتم الترغيب لما في ذلك من
الصلاح لامته في الاقتداء به والدعاء الا الاستيذان بسنته.
وروي أنها فرضت عليه ولم تفرض على غيره فكانت فضيلة له - ذكره ابن
عباس، واليه أشار أبو عبد الله عليه السلام (3).
والسنة مضافة إلى الله من حيث دلنا عليها وعلى تحريم الحرام منها وتحليل
الحلال، وتضاف إلى النبي عليه السلام من حيث سمعناها منه وكان هو المبتدئ بها.
(فصل)
وقوله (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) (4) عنهما عليهما السلام أن الآية
متناولة لمن يقوم إلى صلاة الليل عن لذة مضجعه في وقت السحر، (5) وقد مدح الله
القائمين بالليل قال (تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في
وجوههم من أثر السجود) (6) هو ما يظهر في وجوههم من السهر بالليل. عن ابن عباس
أثر صلاتهم يظهر في وجوههم. وعن زين العابدين عليه السلام خلوا بالله فكساهم
نورا من نوره.

(1) قال ابن فارس: الهاء والجيم والدال أصيل يدل على ركود في مكان، يقال
(هجد) إذا نام هجودا، والهاجد النائم، وان صلى ليلا فهو متهجد، كأنه بصلاته ترك الهجود
عنه - معجم مقاييس اللغة 6 / 34.
(2) النافلة عطية عن يد، والنفل والنافلة ما يفعله الانسان مما لا يجب عليه - لسان العرب (نفل).
(3) تفسير البرهان 2 / 438.
(4) سورة السجدة: 16.
(5) تفسير البرهان 3 / 284.
(6) سورة الفتح 29.
130

وقال أبو جعفر عليه السلام: من استغفر الله في وقت السحر سبعين مرة فهو
من أهل هذه الآية (وبالاسحار هم يستغفرون) (1). وقال في قوله (الا المصلين * الذين
هم على صلاتهم يحافظون) (2). ان ذلك في النوافل يدعون عليها. وفي قوله (والذين
هم على صلواتهم يحافظون) (3). في الفرائض والواجبات. وقوله (واصبر لحكم
ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم) (4) قال أبو الأحوص معناه حين تقوم
من نومك.
وقيل معناه صل النوافل بحمد ربك حين تقوم من نوم القائلة قبل فريضة
الظهر، (ومن الليل) يعنى حين تقوم من النوم فصل نوافل الليل (وأدبار النجوم)
ركعتا الفجر قبل الفرض (وأدبار السجود) نوافل المغرب.
(باب أحكام الجمعة)
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا
إلى ذكر الله) (5).
(من) ههنا بمعنى في الدالة على الظرفية، بدليل أن النداء للصلاة المشار
إليها في وسط الجمعة، ولو كانت من التي تختص بابتداء الغاية لكان النداء في أول
يوم الجمعة، فهو على اضمار مصدر محذوف حذف لدلالة الكلام عليه، ومعناه إذا
سمعتم اذان يوم الجمعة فامضوا إلى الصلاة.

(1) سورة الذاريات: 18.
(2) سورة المعارج: 34.
(3) سورة المؤمنون: 9.
(4) سورة الطور: 48.
(5) سورة الجمعة: 9.
131

قال قتادة: امضوا إلى الصلاة مسرعين غير متغافلين. وقال الزجاج: المعنى
فامضوا لا السعي الذي هو الاسراع. قال: وقرأ ابن مسعود: فامضوا إلى ذكر الله،
ثم قال: لو علمت الاسراع لأسرعت حتى يقع ردائي من كتفي، قال وكذلك كان
يقرأ. قال الحسن: والله ما أمروا الا بأن يأتوا الصلاة وعليهم الوقار والسكينة. وقال
الزجاج: أي اقصدوا، والسعي التصرف في كل عمل، يدل عليه قوله (وأن ليس
للانسان الا ما سعى) (1) أي بما عمل، ومنه قوله (لتجزى كل نفس بما تسعى) (2).
وعن أبي جعفر عليه السلام: السعي قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار
والغسل والتطيب ليوم الجمعة ولبس أفضل الثياب والذكر (3).
خاطب الله المؤمنين انه إذا أذن لصلاة الجمعة وكذلك إذا صعد الامام المنبر
يوم الجمعة، وذلك لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله سواه (4) (فاسعوا
إلى ذكر الله) أي فامضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين. وقيل ما هو السعي
على الاقدام ولكن بالقلوب والنية والخشوع، فقد نهوا أن يأتوا الصلاة الا وعليهم
السكينة والوقار.
وقال السائب بن يزيد: كان لرسول الله مؤذن واحد وهو بلال، فكان إذا جلس
على المنبر اذن على باب المسجد، فإذا نزل أقام للصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر
كذلك، حتى إذا كان في عهد عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذانا، فأمر
بالتأذين الأول على سطح دار له بالسوق، فإذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه،
فإذا نزل أقام للصلاة، فلم يعب ذلك عليه (5).

(1) سورة النجم: 36.
(2) سورة طه: 15.
(3) تفسير البرهان 4 / 334 مع بعض الاختلاف في الألفاظ.
(4) أي سوى هذا الاذان (ه‍ ج).
(5) الدر المنثور 6 / 218 ما هو بمضمونه عن السائب بن يزيد.
132

وليس هذا دليلا شرعيا، بل قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أحدث
في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد.
(فصل)
اعلم أن فرض الجمعة يلزم جميع المكلفين، لعموم قوله (فاسعوا إلى
ذكر الله) الا صاحب العذر من سفر أو مرض أو عمى أو عرج أو آفة وغير ذلك.
ويعتبر فيه أيضا الذكورة والحرية.
وعند اجتماع شروطه لا تجب الا عند حضور سلطان عادل أو من نصبه.
ويتكامل العدد عندنا ستة أو خمسة.
والمراد بذكر الله الخطبة التي هي تتضمن ذكر الله والمواعظ، وأقل ما
يكون أربعة أصناف: حمد الله، والصلاة على محمد وآله، والوعظ، وقراءة
سورة خفيفة من القرآن.
وقيل المراد بالذكر في الآية الصلاة التي فيها ذكر الله.
والنداء رفع الصوت حتى يصل إلى المقصود به، ومنه قولهم (لا ينداك
مني مكروه) أي لا يصل مني إليك مكروه ولا يصيبك. والمراد به ههنا الاذان،
فالمخاطب لصلاة الجمعة من يحصل فيه شرائط عشرة: الذكورة، والبلوغ،
وكمال العقل، والحرية، والصحة من المرض، وارتفاع العمى، وارتفاع العرج،
وأن لا يكون شيخا لا حراك به، وأن لا يكون مسافرا، ويكون بينه وبين الموضع
الذي يصلى فيه الجمعة فرسخان فما دونه.
فعلى هذا إذا صلى المريض الظهر في بيته أربعا، ثم سعى إلى الجمعة فصلاها
مع الامام كان فرضه أفضلهما وأزكاهما عند الله وان لم يقطع بواحدة منهما على التعيين.
قال الشيخ المفيد: وبذلك نص عن أئمة الهدى عليهم السلام. قال: ويؤيده
133

أن الله تعالى قد دعاه إلى كل واحدة من الصلاة على التخيير ولم يحظر عليه الجمع
بينهما إذا شاء، فوجب أن يكون الفرض أحدهما على الابهام فلم يتعين بحكم شرعي.
وقال آخرون: إذا لم يمكنه السعي إلى الجمعة وإن كان مقيما ففرضه أربع.
ويكره السفر يوم الجمعة قبل الصلاة لأنه مانع من أفعال الخير، وكل ما
يمنع من الأفضل في الأعمال مكروه.
(فصل)
وقوله تعالى (وذروا البيع) أي دعوا المبايعة، فمعناه إذا دخل وقت الصلاة
اتركوا البيع والشراء.
قال الفراء: انما لم يذكر الشراء - وهو مثله - لان المشترى والبايع يقع
عليهما البيعان، فإذا زالت الشمس من يوم الجمعة والحال هذه حرم البيع والشراء
حتى تقضى الصلاة.
قال الحسن: كل بيع تفوت فيه الصلاة يوم الجمعة فإنه بيع حرام لا يجوز.
وهذا الذي يقتضيه ظاهر الآية، وهو مذهبنا.
وتحريم البيع يدل على تحريم سائر ما يشغل عن التوفر على سماع الذكر
وتدبره حتى الكلام، لان النهي يدل على فساد المنهي عنه.
(ذلكم خير لكم) ذلك يعني ما أمرتكم به من حضور الجمعة واستماع
الذكر وأداء الفريضة وترك البيع خير لكم وأنفع عاقبة لكم (ان كنتم تعلمون)
صحة ما قلناه وتعلمون منافع الأمور ومضارها ومصالح أنفسكم ومفاسدها أي
اعلموا ذلك.
وفي الآية - كما ذكرنا - دلالة على وجوب الجمعة وتحريم جميع التصرفات
عند سماع اذان الجمعة، لان البيع انما خص بالنهي عنه لكونه من أعم التصرفات
في أسباب المعاش.
134

وفيها دلالة على أن الخطاب للأحرار، لان العبد لا يملك البيع، وعلى
اختصاص الجمعة بمكان، ولذلك أوجب السعي إليه.
فان قيل: هل يجوز أن يخطب رجل ويصلي آخر.
قلنا: لا، وذلك أن السنة ثبتت بخلافة، ولم يحفظ عن أحد من أئمة الاسلام
أنه تفرد بالصلاة دون الخطبة، فثبت أن فعل ما في السؤال بدعة، واستدل من
فحوى الآية بعضهم على ذلك.
والامام إذا عقد صلاة الجمعة بتكبيرة الاحرام ثم تفرق عنه الناس بعد دخولهم
فيها معه، تمم هو ركعتين ولم يصل أربعا الظهر، فإنه عقدها جمعة عقدا صحيحا،
فلم ينقض ما عقده فعل من غيره لم يتعد إلى صلاته بالفساد، ويدل عليه قوله
(وتركوك قائما).
(فصل)
وقوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) أي إذا صليتم الجمعة
وفرغتم عنها تفرقوا في الأرض واطلبوا الرزق في الشراء والبيع، وهذا إباحة
ورخصة وليس بأمر، بل رفع الحظر الذي أوقعه بقوله (وذروا البيع).
وقد أطبقوا على أن هذا الامر الوارد بعد الحظر [يقتضى الإباحة، والصحيح
أن حكم لفظ الامر الواقع بعد الحظر] (1) هو حكم أمر المبتدأ على الوجوب أو
الندب أو الوقف على الحالين، فهو كذلك بعد الحظر. وهذا قوي في الدلالة
على وجوب هذه الصلاة على هذه الهيئة، لأنها لو لم تجب لكان الانتشار مباحا
قبل اتمامها، ويدخل في الانتشار سائر التصرف، خصوصا مع ذكر ابتغاء الفضل.
وقيل في قوله (وابتغوا من فضل الله) اي اطلبوا من فضله بعمل الطاعة

(1) الزيادة من ج.
135

والدعاء له تعالى وعيادة المريض وحضور الجنائز وزيادة الاخوان في الله، واذكروا
احسانه لتفلحوا. وقيل هذا أمر بزيادة التعقيب الذي يستحب يوم الجمعة. والعموم
يتناول جميع ذلك.
والامام إذا قرب من الزوال ينبغي ان يصعد المنبر ويأخذ في الخطبة بمقدار
ما إذا خطب الخطبتين زالت الشمس، فإذا زالت نزل فصلى بالناس. وفحوى
الآية يدل عليه.
ويفصل بين الخطبتن بجلسة كلا ولا، وهذا التفصيل يعلم بعمل رسول الله
وقوله من القرآن على الجملة، قال تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه).
وهذا الفصل بينهما سنة عندنا، وقال الشافعي وأبو حنيفة هو واجب.
ويحرم الكلام على من حضر ويجب عليه الاصغاء إلى الخطبتين لأنهما بدل
من الركعتين.
ولا يذكر فيهما الا الحق والا فلا جمعة له.
ومن دخل المسجد والامام يخطب فلا يتطوع، لان ذلك شاغل له عن سماع
الخطبة، واستماعها أفضل من التطوع بالصلاة، إذ هو بدل من ركعتي فرض الظهر
في سائر الأيام على ما روي (1). ومن وجد الامام قد رفع رأسه من الركوع في الثانية فقد فاتته الجمعة وعليه
الظهر أربع ركعات.
ومن أدرك مع الامام ركعة فإذا سلم الامام قام فأضاف إليها ركعة أخرى
يجهر فيها وقد تمم جمعته.
(فصل)
وعن أبي عبد الله عليه السلام في قوله (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في

(1) انظر وسائل الشيعة 5 / 14.
136

الأرض) قال: الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت (1).
وفي الخبر: ان الله بارك لامتي في خميسها وسبتها لأجل الجمعة.
وقال الصادق عليه السلام: اني لاركب في الحاجة التي كفاها الله، ما اركب
فيها الا التماس ان يراني الله أضحى في طلب الحلال، أما تسمع قول الله (فإذا
قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) (2).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: من اغتسل في يوم الجمعة فأحسن غسله
ولبس صالح ثيابه ومس من طيب بيته ثم لم يفرق بين اثنين غفر له ما بينه وبين
الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام بعدها (3).
وقيل المراد بالذكر ههنا الفكر، وقيل اذكروا الله في تجارتكم وأسواقكم.
ولا يجوز الخطبة الا قائما، قال تعالى (وتركوك قائما). فان خطب لعذر
جالسا جاز، لقوله (ما جعل عليكم في الدين من حرج).
ويجوز رد السلام وتسميت العاطس والامام يخطب، إذ لم يحظر ذلك كتاب
ولا سنة.
(فصل)
ثم أخبر الله عن جماعة قابلوا الكرم باللؤم فقال (وإذا رأوا تجارة أو لهوا
انفضوا إليها).
سبب نزوله ما روي أنه أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية
الكلبي بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وغيرهما والنبي عليه السلام على المنبر

(1) من لا يحضره الفقه 1 / 424.
(2) نور الثقلين 5 / 347.
(3) هذا المضمون في صحيح البخاري 2 / 4.
137

يخطب وذاك قبل ان أسلم دحية، وجعل يضرب بطبل ليعلم بقدومه، فلما رأوه قاموا
إلى البيع خشية ان يسبقوا [إليه فلم يبق غير اثني عشر رجلا وانفض الآخرون، فقال
عليه السلام: لو تبايعتم حتى لا يبقى] (1)، منكم أحد لسال بكم الوادي نارا، ولولا هؤلاء
لسومت لهم الحجارة من السماء، فأنزل الله الآية.
وروي انهم استقبلوه باللهو، اي تفرقوا عنك خارجين إليها ومالوا ونحوها،
و (رأوا تجارة) أي عاينوها، وقيل علموا بيعا وشراءا. (لهوا) وهو الطبل، وقيل
المزامير. والضمير للتجارة، وخصت بالذكر إليها دون اللهو لامرين: أحدهما أن
التجارة كانت أهم إليهم وهم بها آسر من الطبل. الثاني انهم انصرفوا إلى التجارة
واللهو كان معهم، فأي حاجة بالضمير إليه (3).
(فصل)
وقوله (وتركوك قائما) عن أبي عبد الله عليه السلام: انصرفوا إليها
وتركوك قائما تخطب على المنبر (3).
وسئل ابن مسعود: أكان النبي يخطب قائما؟ فقال: أما تقرأ (وتركوك
قائما).
وقال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله خطب الا وهو قائم، فمن حدثك
انه خطب وهو جالس [فكذبه.
وأول من استراح على المنبر هو عثمان كان يخطب قائما فإذا أعيى جلس،
وأول من خطب [(4) جالسا معاوية.

(1) الزيادة من ج.
(2) انظر أسباب النزول للواحدي ص 286، تفسير البرهان 4 / 336.
(3) نور الثقلين 5 / 330.
(4) الزيادة من ج.
138

وروي في قوله (وتركوك قائما) أي قائما في الصلاة (1).
ثم قال: قل يا محمد لهم ما عند الله من الثواب على سماع الخطبة احمد
عاقبة من ذلك، والله يرزقكم وان لم تتركوا الخطبة والجمعة.
وفي بعض القراءة: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) وهي صلاة
العصر (وقوموا لله قانتين) (2) في الصلاة الوسطى (3).
قالوا: نزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله في سفر، فقنت فيها وتركها
على حالها في السفر والحضر (4).
وقوله (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (5) أي مفروضا انها خمس
بخمسين، حصل التخفيف مع أجر خمسين صلاة، لقوله (من جاء بالحسنة فله
عشر أمثالها) (6).
(باب الجماعة وأحكامها)
قال الله تعالى (واركعوا مع الراكعين) (7).
وهذا أمر منه تعالى للمكلفين بصلاة الجماعة، لأنه تعالى قال قبله (وأقيموا

(1) مجمع البيان 5 / 289.
(2) سورة البقرة: 238.
(3) هذه العبارة وردت في تفسير البرهان في حديث عن الباقر عليه السلام هكذا
(وفى بعض القراءات (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله
قانتين) قال: ونزلت هذه الآية يوم الجمعة.) وهي الصحيح.
(4) تفسير البرهان: 1 / 231.
(5) سورة النساء: 103.
(6) سورة الأنعام: 160.
(7) سورة البقرة: 43.
139

الصلاة وآتوا الزكاة) أمر بهذه اللفظة بواجباتها ونوافلها. والتكرار في الكلام
لغير فائده غير مستحسن، فيجب ان يكون قوله (واركعوا مع الراكعين) بعده
دالا على صلاة الجماعة، سواء كانت الجماعة واجبة أو مندوبا إليها، فالامر يكون
بالواجب مطلقا والندب مقيدا في الشرع. وقوله تعالى (مع الراكعين) دليل
صريح لذلك.
والجماعة على أربعة اضرب: واجب، ومستحب، ومكروه، ومحظور.
فالواجب لا يكون الا في الجمعة والعيدين إذا اجتمعت شرائطها على ما
ذكرناه، والمستحب هو الجماعة في الصلوات الخمس، والمكروه صلاة الحاضر
خلف المسافر فيما يقصر في السفر، والمحظور هو الصلاة خلف الفاسق والفاجر.
وقد رغب الله في الجماعة وحث عليها بالآية التي تلوناها وبقوله (حافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى)، فقد قيل إن الصلاة الوسطى كناية عن صلاة
الجماعة لأنها أفضل الصلوات، وكذلك خصها الله بالذكر.
وأقل ما تكون الجماعة اثنان فصاعدا، ويتقدم للإمامة اقرأهم ثم أفقههم.
ولا تنعقد الجماعة الا بالاذان والإقامة.
(فصل)
وقوله تعالى (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) (1).
كان النبي صلى الله عليه وآله يقول: ان الله وملائكته يصلون على الصف
الأول - وفي رواية على الصف المقدم - فازدحم الناس. وكانت دور بني عذرة
بعيدة عن المسجد فقالوا: نبيع دورنا ولنشترين دورا قريبة من المسجد حتى
ندرك الصف المقدم، فنزلت الآية - رواه الربيع بن انس (2).

(1) سورة الحجر: 24.
(2) أسباب النزول للواحدي ص 186.
140

ومعنى الآية انا نجازي الناس على نياتهم.
وقال ابن عباس: اي علمنا المستقدمين إلى الصف الأول في الصلاة
والمستأخرين عنه. فإنه كان يتقدم بعضهم إلى الصف الأول ليدركوا فضيلته، وكان
يتأخر بعضهم لينظر إلى أعجاز النساء، فنزل (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد
علمنا المستأخرين).
وروي ان النبي صلى الله عليه وآله حث الناس على الصف الأول في الصلاة،
فقال: خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها
وشرها أولها، فازدحموا فنزلت الآية (1).
(فصل)
والمؤتمون يجب عليهم ان يستمعوا قراءة الإمام إذا جهر وان لا يقرأوا،
والدليل عليه قوله (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا) (2).
والمفسرون اختلفوا في الوقت الذي أمروا بالانصات والاستماع:
فقال قوم: أمروا حال كون المصلي في الصلاة خلف الامام الذي يؤتم به
وهم يستمعون قراءة الإمام، فعليهم ان ينصتوا ولا يقرأوا ويستمعون لقراءته، فإذا
كانوا على بعد من الامام بحيث لا يسمعون صوته - وان كانت الصلاة مما يجهر فيها -
فلا بأس إذا أن يقرأوا.
ومن المفسرين من قال: أمروا بالانصات لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة،
وإذا دخل داخل وهم في الصلاة قال لهم كم صليتم فيخبرونه، وكان مباحا فنسخه الله.
وقال قوم: هو أمر بالانصات للامام في خطبته.

(1) المنثور 4 / 97.
(2) سورة الأعراف: 204.
141

وقيل: هو أمر بذلك في الصلاة والخطبة.
وأقوى الأقوال الأول الذي استدللنا به، لأنه لا حال يجب فيها الانصات
لقراءة القرآن الا حال قراءة الإمام في الصلاة، فان على المأموم الانصات والاستماع
له على ما قدمناه. فأما خارج الصلاة فلا خلاف أنه لا يجب الانصات والاستماع،
وما روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه في حال الصلاة وغيرها (1) فهو على وجه
الاستحباب.
وقال أبو حنيفة: لا يصلى صلاة الخسوف جماعة. وكل ما يدل من القرآن
والسنة على جواز الجماعة في كل فريضة، فهو عام. على أن العامة قد روت أيضا عن النبي
صلى الله عليه وآله أنه صلاها جماعة ورووا انه صلاها فرادى، فوافقت رواياتهم
رواياتنا.
مع أن الشيخ المفيد ذكر في كتابه مسائل الخلاف انه ان انكسف [القرص
بأسره في الشمس أو القمر صليت صلاة الكسوف جماعة، وان انكسف] (2) بعضه
صليت فرادى.
(باب الصلاة في السفر)
اعلم أن السفر الذي يجب فيه التقصير في الصلاة ثمانية فراسخ فما فوقها
إذا كان مباحا أو طاعة.
والحجة - مع الاجماع المكرر - هو أن الله علق سقوط فرض الصيام عن
المسافر بكونه مسافرا في قوله (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام
أخر) (3) ولا خلاف بين الأمة أن كل سفر أسقط فرض الصيام ورخص في الافطار

(1) تفسير البرهان 2 / 57.
(2) الزيادة من م.
(3) سورة البقرة: 184.
142

فهو بعينه موجب لقصر الصلاة، وإذا كان الله قد علق ذلك في الآية باسم السفر
فلا شبهة في أن اسم السفر يتناول المسافة التي حددنا السفر بها، فيجب أن يكون
الحكم تابعا لها.
ولا يلزم على ذلك أدنى ما يقع عليه الاسم من فرسخ أو ميل، لأن الظاهر
يقتضي ذلك لو تركنا معه، لكن الدليل والاجماع أسقطا اعتبار ذلك ولم يسقطاه
فيما اعتبرناه من المسافة، وهو داخل تحت الاسم.
وذكر الفضل بن شاذان النيسابوري أنه سمع الرضا عليه السلام يقول: انما
وجب التقصير في ثمانية فراسخ لأنها مسيرة يوم [ولو لم يجب في مسيرة يوم] (1) لما
وجب في مسيرة ألف سنة، وذلك أن كل يوم بعد هذا اليوم منها نظير هذا اليوم،
فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره (2).
(فصل)
فان قيل: القرآن يمنع مما ذكرتم من وجوب التقصير، لأنه تعالى قال (وإذا
ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم) (3) ورفع الجناح
يدل على الإباحة لا على الوجوب.
قلنا: هذه الآية غير متناولة لقصر الصلاة في عدد الركعات، وانما المستفاد
منها التقصير في الافعال من الايماء وغيره، لأنه تعالى علق القصر بالخوف، ولا خلاف
في أنه ليس الخوف من شرط القصر في عدد ركعات الصلاة وانما الخوف شرط في
الوجه الاخر، وهو التقصير في الافعال من الايماء وغيره في الصلاة، لان صلاة
الخوف قد أبيح فيها ما ليس مباحا مع الامن.

(1) الزيادة من ج والمصدر.
(2) من لا يحضره الفقيه 1 / 454 مع تغيير واختصار لبعض الألفاظ.
(3) سورة النساء: 101.
143

وقال أبو جعفر الطوسي: من تمم في السفر وقد تليت عليه آية التقصير وعلم
وجوبه وجب عليه إعادة الصلاة، فإن لم يكن علم ذلك فليس عليه شئ. ولم يفصل
المرتضى في الإعادة بين الحالتين، وكأنه للاحتياط.
ومن تمم في السفر الصلاة متعمدا يجب عليه الإعادة مع التقصير على كل حال
وإن كان أتم ناسيا أعاد ما دام في الوقت، ولا إعادة عليه بعد خروج الوقت. والحجة
في ذلك - زائدا على الاجماع المتردد - ان فرض السفر ركعتان فيما كان أربعا في
الحضر وليس ذلك رخصة، وإذا كان الفرض كذلك فمن لم يأت على ما فرض وجب
عليه الإعادة.
(فصل)
وقوله تعالى (ولله والمشرق والمغرب).
قال قوم: كان ابن عمر يصلي حيث توجهت به راحلته في السفر تطوعا،
ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يفعل ذلك، ويتأول عليه هذه الآية.
فالمصلي نافلة على الراحلة، ومن يصلي صلاة شدة الخوف، ومن كان في
السفينة ثم دارت. يستقبل كل واحد من هؤلاء الثلاثة قبلته بتكبيرة الاحرام ثم
يصلي كيف شاء، والآية تدل على جميع ذلك.
وقيل: نزلت في قوم صلوا في ظلمة وقد خفيت عليهم جهة القبلة، فلما
أصبحوا إذا هم صلوا يمين القبلة أو يسارها، فأنزل الله الآية (2).
وقيل: المراد بقوله (فثم وجه الله) أي فثم رضوان الله، كما يقال: هذا

(1) سورة البقرة: 115.
(2) أسباب النزول للواحدي ص 23.
144

وجه الصواب. وقيل المراد به فثم جهة القبلة وهي الكعبة، لأنه يمكن التوجه إليها
من كل مكان.
وعن ابن عباس: انه رد على اليهود لما أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة،
فقال (1): ليس هو في جهة دون جهة كما يقول المشتبهة (2).
وقال الزجاج في قوله (ان الله واسع عليم) انه يدل على التوسعة للناس
فيما رخص لهم في الشريعة
(فصل)
وإذا نوى الانسان السفر لا يجوز أن يقصر حتى يغيب عنه البنيان ويخفى عنه
اذان مصره أو جدران بلده. والدليل عليه من القرآن قوله (وإذا ضربتم في الأرض
فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة).
ومن نوى السفر ولم يفارق موضعه فلا يجوز له القصر، وإذا فارق بنيان
بلده يجوز له التقصير.
ولا يجوز أن يقصر ما دام بين بنيان البلد، سواء كانت عامرة أو خرابا، فان
اتصل بالبلد بساتين فإذا حصل بحيث لا يسمع اذان المصر قصر، فإن كان دونه تمم.
ومن خرج من البلد إلى موضع بالقرب مسافة فرسخ أو فرسخين نيته أن
ينتظر الرفقة هناك والمقام عشرا فصاعدا، فإذا تكاملوا ساروا سفرا فيه يجب عليهم
التقصير (3). ولا يجوز أن يقصر الا بعد المسير من الموضع الذي يجتمعون فيه،
لأنه ما نوى بالخروج إلى هذا الموضع سفرا يجب فيه التقصير.

(1) أي قال الله تعالى (ه‍ ج).
(2) أسباب النزول للواحدي ص 24.
(3) أي هم يقصرون وهو لا يقصر، لأنهم نووا المسافة وهم لم ينوها (ه‍ ج).
145

وان لم ينو المقام عشرة أيام هناك وانما خرج نيته سفر بعيد الا أنه ينتظر قوما
يتصلون به هناك اليوم أو غدا، فالظاهر أنه يقصر.
وحكى قتادة عن أبي العالية أن قصر الصلاة في حال الا من بنص القرآن،
قوله (لتدخلن المسجد الحرام انشاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) (1).
هذا إذا كان التقصير يراد بها في السفر كما يراد في الشعر بعد الاحرام.
ومن شجون الحديث ان ابن عباس قال: اتخذت النصارى المشرق قبلة
لقوله (واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) (2) فاتخذوا ميلاد
عيسى قبلة، كما سجدت اليهود على حرف وجوههم لقوله (وإذا نتقنا الجبل فوقهم
كأنه ظلة) (3) فسجدوا وجعلوا ينظرون إلى الجبل فوقهم بحرف وجوههم مخافة أن
يقع عليهم فاتخذوها سنة.
(باب صلاة الخوف)
قال تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة
ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) (4).
اعلم أن صلاة الخوف على ضربين:
أحدهما: صلاة شدة الخوف، وهو إذا كان في المسلمين قلة لا يمكنهم أن
يفترقوا فرقتين، فعند ذلك يصلون فرادى ايماءا، ويكون سجودهم [على قربوس
سرجهم، فإن لم يتمكنوا من ذلك ركعوا وسجدوا بالايماء ويكون سجودهم] (5)

(1) سورة الفتح: 27.
(2) سورة مريم: 16.
(3) سورة الأعراف: 171.
(4) سورة النساء: 101.
(5) الزيادة من ج.
146

أخفض من ركوعهم. فان زاد الامر عى ذلك أجزأهم عن كل ركعة ان يقولوا
(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر). والقصر في الآية التي تلوناها
الان هو هذا التفصيل.
والضرب الثاني: هو إذا لم يبلغ الخوف إلى ذلك الحد وأرادوا أن يصلوا
فرادى، صلى كل واحد منهم صلاة تامة الركوع والسجود، ويبطل حكم القصر
الا في السفر مع الانفراد. ذكره الشيخ أبو جعفر في بعض كتبه.
فان أرادوا أن يصلوا جماعة نظروا، فإن كان في المسلمين كثرة والعدو في
جهة القبلة صلوا كما صلى النبي صلى الله عليه وآله يوم بني سليم، فإنه قام والمشركون
أمامه - يعني قدامه - فصف خلف رسول الله صف وبعد ذلك الصف صف آخر،
فركع رسول الله وركع الصفان، ثم سجد وسجد الصف الذين يلونه وكان الآخرون
يحرسونهم [فلما فرغ الأولون مع النبي من السجدتين وقاموا سجد الآخرون] (1)،
فلما فرغوا من السجدتين وقاموا تأخر الصف الذين يلونه إلى مقام الآخرين وتقدم
الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله وركعوا جميعا في حالة
واحدة، ثم سجد وسجد معه الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس
رسول الله والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا وتشهدوا جميعا فسلم بهم
أجمعين (2).
وإن كان العدو في خلاف جهة القبلة يصلون كما وصفه الله في كتابه حيث قال
(وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) (3) وهي مشروحة في كل كتاب.
وإذا كان في المسلمين كثرة يمكنهم أن يفترقوا فرقتين وكل فرقة يقاوم العدو

(1) الزيادة من ج والمصدر.
(2) مستدرك الوسائل 1 / 499، وهذا المضمون مأخوذ من حديث رواه العامة، انظر
صحيح مسلم 1 / 574.
(3) سورة النساء: 102.
147

جاز أن يصلي بالفرقة الأولى الركعتين ويسلم بهم، ثم يصلى بالطائفة الأخرى
الركعتين أيضا، ويكون نفلا له وهي فرض للطائفة الثانية ويسلم بهم، وهكذا صلى
عليه السلام بذات النخل. (1)
وهذا يدل على جواز صلاة المفترض حلف المتنفل، وعلى عكسه.
وصلاة الخوف مقصورة على وجهين سفرا وحضرا على ما تقدم.
(فصل)
وقوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) معناه وإذا كنت في الضاربين
في الأرض من أصحابك يا محمد، أي المسافرين الخائفين عدوهم أن يفتنوهم (فأقمت
لهم الصلاة) يعني أتممت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها ولم تقصرها
القصر الذي يجب في صلاة شدة الخوف من الاقتصار على الايماء، فليقم طائفة
من أصحابك الذين أنت فيهم معك في صلاتك وليكن سائرهم في وجه العدو.
ولم يذكر ما ينبغي أن يفعله الطائفة غير المصلية من حمل السلاح وحراسة
المصلين لدلالة الكلام والحال عليه، لأنها (2) لابد أن يكونوا آخذين السلاح.
ثم قال (وليأخذوا أسلحتهم) قال قوم: الفرقة المأمورة في الظاهر هي المصلية
مع رسول الله، والسلاح مثل السيف يتقلد به والخنجر يشده إلى درعه، وكذا
السكين ونحوه، وهو الصحيح.
قال ابن عباس: الطائفة المأمورة بأخذ السلاح هي التي بإزاء العدو دون
المصلية، فإذا سجدوا - يعني الطائفة التي قامت معك مصلية بصلاتك وفرغت من
سجودها - فليكونوا من ورائكم، يعني فليصبروا بعد فراغهم من سجودهم مصافين

(1) انظر هامش من لا يحضره الفقيه 1 / 462 نقلا عن الدروس، وانظر صحيح مسلم
1 / 576.
(2) في ج (الا انها).
148

للعدو
وعندنا أنهم يحتاجون أن يتموا صلاتهم ركعتين والامام قائم في الثانية ويطيل
القراءة وينوون هم الانفراد بها وقرأوا وركعوا وسجدوا وتشهدوا، فإذا سلموا انصرفوا
إلى موضع أصحابهم، ويجئ الآخرون فيستفتحون الصلاة فيصلي بهم الامام الركعة
الثانية له ويطيل التشهد حتى يقوموا فيصلوا بقية صلاتهم، ثم سلم بهم الامام.
(فصل)
وفي كتاب (المولد والمبعث) لأبي محمد أحمد بن اعثم الكوفي: ان النبي
عليه السلام صلى العصر كذلك في غزوة ذات الرقاع إذ حارب بني سعد، وكان صلى
رسول الله الظهر أربعا قبل أن تنزل الآية. قال: وهم المشركون أن يحملوا على
المسلمين وهم في صلاة العصر، وأراد النبي عليه السلام أن يصلي العصر بأصحابه
فنزلت الآية وأسلم بعض الكفار بسبب ذلك. ثم قال ابن أعثم: فيجب على أهل
الاسلام الان إذا صلوا صلاة الخوف من عدو. ثم فصل التفصيل الذي ذكره أبو مسلم
ابن مهر ايزد الأصفهاني في تفسيره أيضا قال إن النبي عليه السلام قال فصلى وقامت
طائفة خلفه من المؤمنين وطائفة وجاه العدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وقام
فأتمت الطائفة بركعة أخرى وسلمت وهو عليه السلام واقف يقرأ، ثم انصرفت فقامت
تجاه الكفار، وأتت الطائفة التي كانت تلقاء العدو فصلى النبي بهم ركعة هي له ثانية
ولهذه الطائفة الركعة الأولى، وجلس حتى قاموا فصلوا ركعة ثانية وحدهم وهو
قاعد يتشهد ويدعو لم يسلم حتى انتهت الطائفة الثانية إلى التسليم فسلم وسلموا معه
بتسليمه.
وهو اختيار الشافعي ومالك، وهذه بعينها مذهبنا أمر بها أئمة أهل البيت عن
رسول الله عن الله تعالى.
149

(فصل)
ومن قال إن صلاة الخائف ركعة قال الأولون إذا صلوا ركعة فقد فرغوا،
وهذا عندنا انما يجوز في صلاة شدة الخوف على بعض الوجوه.
وفي الناس من قال: كان النبي عليه السلام صلى بهم ركعة فلما قام خرجوا
من الجماعة وتمموا صلاتهم. فعلى هذا صلاة الخائف ركعة في الجماعة وركعة على
الانفراد لكل واحدة من الفرقتين.
وقوله (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) يجوز أن يرجع الضمير إلى جميع
المسلمين من الفرقتين، أي يأخذون السلاح والحذر في حال الصلاة.
وقوله (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم) معناه تمنى الكافرون
لو تعتزلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها
(فيميلون عليكم) أي يحملون عليكم حملة واحدة، وأنتم متشاغلون بصلاتكم عن
أسلحتكم وأمتاعكم فيصيبون منكم غرة فيقتلونكم ويستبيحون عسكركم وما معكم.
والمعنى لا تشاغلوا بأجمعكم بالصلاة عند مواقفة العدو فتمكنون عدوكم من أنفسكم
وأسلحتكم، ولكن أقيموها على ما بينت وخذوا حذركم بأخذ السلاح.
ومن عادة العرب أن يقولوا (ملنا عليهم) أي حملنا عليهم. وقال العباس بن
عبادة بن نضلة (1) الأنصاري لرسول الله ليلة العقبة الثانية: والذي بعثك بالحق ان شئت
لنميلن غدا على أهل مني (2) بأسيافنا. فقال عليه السلام: لم نؤمر بذلك (3) - يعني في
ذلك الوقت.

(1) في م (نغيلة)، وانظر أسد الغابة 3 / 108.
(2) منى - بلفظ منى الرجل - ماء بقرب ضرية في سفح جبل احمر من جبال بنى كلاب
ثم للضباب منهم - معجم البلدان 5 / 219. والظاهر أن هذا الموضع هو المقصود في الحديث.
(3) تاريخ الطبري 2 / 365.
150

(فصل)
ثم قال تعالى (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن
تضعوا أسلحتكم [وخذوا حذركم) (1) معناه لا حرج عليكم ولا أثم ان نالكم مطر وأنتم
مواقفوا عدوكم أو كنتم جرحى ان تضعوا أسلحتكم] (2) إذا ضعفتم عن حملها، لكن إذا
وضعتموها فخذوا حذركم، أي احترزوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم غافلون.
وقال (طائفة أخرى) ولم يقل طائفة آخرون، ثم قال (لم يصلوا فليصلوا)
حملا للكلام مرة على اللفظ ومرة على المعنى، كقوله (وان طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فأصلحوا بينهما) (3) ومثله (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) (4).
والآية تدل على نبوته عليه السلام، فالآية نزلت والنبي بعسفان (5) والمشركون
بضجنان (6) هموا أن يغيروا عليهم فصلى بهم العصر صلاة الخوف.
وقال قوم: اختص النبي بهذه الصلاة، والصحيح أنه يجوز لغيره.
وقال قوم في قوله (فليس عليكم جناح أن تقصروا) يعني في عددها، فيصلوا
الرباعيات ركعتين. وظاهرها يقتضي أن التقصير لا يجوز الا إذا خاف المسافر،
لأنه قال (ان خفتم أن يفتنكم)، ولا خلاف اليوم أن الخوف ليس بشرط فيه، لان

(1) سورة النساء: 102.
(2) الزيادة من ج.
(3) سورة الحجرات: 9.
(4) سورة الأعراف. 30.
(5) عسفان بضم العين وسكون السين، وهي قرية أو منهلة على مرحلتين من مكة على
طريق المدينة - معجم البلدان 4 / 121.
(1) ضجنان بفتح الضاد وفتح الجيم أو سكونها، جبل بناحية تهامة بينه وبين مكة
خمسة وعشرون ميلا - معجم البلدان 3 / 453.
151

السفر المخصوص بانفراده سبب التقصير.
والصحيح أن فرض السفر مخالف لفرض المقيم، وليس ذلك قصرا لقوله
عليه السلام (فرض المسافر ركعتان غير قصر). وأما الخوف بانفراده فإنه يوجب
القصر.
ومعنى قوله (فليس عليكم جناح أن تقصروا) أي من حدود الصلاة في صلاة
شدة الخوف.
وروي أن يعلى بن منبه (1) قال لعمر: كيف تقصر الصلاة في السفر وقد أمنا؟
فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك، فقال: صدقة
تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته 2.
ولا يقرأ أبي في الآية (ان خفتم).
(فصل)
وقوله (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) (3).
المعنى أيها المؤمنون إذا فرغتم من صلاتكم وأنتم مواقفوا عدوكم فاذكروا
الله في حال قيامكم وفي حال قعودكم ومضطجعين على جنوبكم، وادعوا لأنفسكم
بالظفر على عدوكم لعل الله ينصركم عليهم، وهو كقوله (يا أيها الذين آمنوا إذا
لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله) (4).

(1) كذا في ج، وفى م (منية)، وورد الاسم في صدر الحديث في المصادر (يعلى
ابن أمية). قال الرازي: يعلى بن أمية التميمي، وهو ابن منية، ومنية أمه، عامل عمر على
نجران - الجرح والتعديل 9 / 301.
(2) التاج الجامع للأصول 1 / 318.
(3) سورة النساء: 103.
(4) سورة الأنفال: 45.
152

ثم قال (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) معناه إذا استيقنتم بزوال الخوف من
عدوكم وحدوث الامن لكم فأتموا الصلاة بحدودها غير قاصريها عن شئ من
الركوع والسجود، وان كنتم صليتم ايماءا بعضها. وهذا أقوى من قول من قال:
معناه إذا استقررتم في أوطانكم فأتموها التي أذن لكم في قصرها في حال خوفكم
وسفركم، لأنه قال (وإذا كنت فيهم)، فلما قال (فإذا اطمأننتم) كان معلوما انه تعالى
يريد إذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا فيها مقيمين صلاتكم فأقيموها مع حدودها
قاصرين لها.
(فصل)
وقوله تعالى (فان خفتم فرجالا أو ركبانا) (1) يدل على ما ذكرناه من صلاة
شدة الخوف، لان معناه ان خفتم فصلوا على أرجلكم، لان الراجل هو الكائن على
رجله - واقفا كان أو ماشيا.
والخائف ان صلى منفردا صلاة شدة الخوف الذي نقوله انه يصلي ركعتين
يومئ ايماءا ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وان لم يتمكن كبر عن كل ركعة
تكبيرة على ما ذكرناه. وهكذا صلاة شدة الخوف إذا صلوها جماعة، والى هذا
ذهب الضحاك وإبراهيم النخعي.
وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام صلى ليلة الهرير ويومه خمس صلوات
بالايماء وقيل بالتكبير (2)، وان النبي صلى الله عليه وآله صلى يوم الأحزاب ايماءا.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يجوز أن يصلي الخائف ماشيا. وقال أهل
العراق: لا يجوز لان المشي عمل. والأول أصح لأنه تعالى قال (ما جعل عليكم
في الدين من حرج) (3).

(1) سورة البقرة: 239.
(2) مستدرك الوسائل 1 / 500.
(3) سورة الحج: 78.
153

وعن ابن عباس في رواية ان القصر في قوله (وإذا ضربتم في الأرض فليس
عليكم جناح أن تقصروا) (1) المراد به صلاة شدة الخوف، يقصر من حدودها ويصليها
ايماءا، وهو مذهبنا.
ثم قال (فإذا أمنتم فاذكروا الله) قيل إنه الصلاة، أي فصلوا صلاة الامن
واذكروه بالثناء عليه والحمد له.
(باب فضل المساجد)
(وما يتعلق بها من الاحكام)
قال الله تعالى (وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) (2).
قال الخليل: التقدير ولكن المساجد لله، أخبر تعالى الا يذكر مع الله في
المساجد التي هي المواضع التي وضعت للصلاة أحدكما يدعو النصارى في بيعهم
والمشركون في الكعبة.
وقيل من السنة أن يقال عند دخول المسجد (لا إله إلا الله لا أدعو مع الله
أحدا).
وقيل معناه يجب أن يدعوه بالوحدانية، ومن هنا لا ينبغي للانسان أن يشتغل
بشئ من أمور الدنيا في المساجد.
ثم رغب الله بقوله (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) (3)
فيما يستحب من الأدعية عند دخول المساجد المروية، فإنه أمر منه تعالى وترغيب
بهذا الدعاء وبغيره إذا دخل مسجدا أو غيره وإذا خرج.
ولذلك رغب في المشي إلى المساجد للصلاة فيها والعبادات بقوله تعالى

(1) سورة النساء: 101.
(2) سورة الجن: 18.
(3) سورة الإسراء: 80.
154

(ونكتب ما قدموا وآثارهم) (1). قال مجاهد: انا نأمر ملائكتنا ليثبتوا جميع أفعالهم
الصالحة حتى مشيهم إلى المساجد، فان بني سلمة من الأنصار شكوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله بعد منازلهم، فنزلت الآية (2).
و (آثارهم) أي خطاهم، فمن مشى إلى مسجد كان له بكل خطوة أجر عظيم.
(فصل)
وقوله تعالى (قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) (3).
يأمر المكلفين أن يقيموا وجوههم عند كل مسجد، أي يتوجهوا إلى قبلة كل
مسجد في الصلاة على الاستقامة.
وقال الفراء: معناه إذا دخل عليك وقت صلاة في مسجد فصل فيه ولا تقل
آتي مسجد قومي.
وقيل أي توجهوا بالاخلاص لله ولا تشتغلوا بما لا يليق فعله في المساجد من
المكروهات والمحظورات، بل من المباحات التي لا يستقبح في غير المتعبدات.
ولا يختلف المعنى سواء كان مسجد مصدرا أو مكانا أو زمانا، فالمصدر عبارة
عن الصلاة وان لا يسجدوا الا لله، أي كلما صليتم فأقيموا وجوهكم لله، أي فلا
تصلوا الا لله واقبلوا بصلاتكم عليه ولا تشغلوا قلوبكم بغيره. وأما المكان فعلى
معنى كل مكان تصلون فيه، ويؤول المعنى إلى الأول. وكذا إذا أريد به الزمان،
أي في أوقات صلاتكم أقيموا وجوهكم لله.

(1) سورة يس: 12.
(2) أسباب النزول للواحدي 245.
(3) سورة الأعراف: 29.
155

(فصل)
وقوله (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) (1) أمر منه تعالى للمكلفين
بالاستتار في الصلاة وفى المساجد، ففي الآية دلالة على أنه لا يجوز كشف الركبة
أو الفخذ ولا السرة في شئ من المساجد فضلا عن كشف العورة فيها.
وقوله تعالى (وإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) (2) قيل أراد بالبيوت المساجد،
أي إذا دخلتموها فسلموا على من فيها من المؤمنين الذين هم بمنزلة أنفسكم، وإذا
دخلتموها ولم يكن فيها أحد فقولوا (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين). فهذا
على الحقيقة والأول مجاز، وكلاهما يجوز أن يكون مرادا.
وقوله تعالى (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا
بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) (3).
أمرهم الله أن يصلوا في بيوتهم ويجعلوا في البيوت قبلة، أي مصلى إذا كانوا
خائفين، وهذا رخصة. وكل ما يعلم صحة كونه في شريعة نبي ولا يعرف فيه نسخ
ولم يرد فيه نهي، فالأصل فيه أنه باق على حاله.
وعن ابن عباس: كان فرعون أمر بهدم مساجدهم وأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
وقد تقدم في قوله (وان المساجد لله) أنه يمكن أن يستدل به على أنه ينبغي
أن يجنب المساجد البيع والشراء وانشاد الشعر ورفع الأصوات وغير ذلك مما هو
محظور أو مكروه، ولذلك استدل قوم بهذه الآية على أنه يكره في المساجد.

(1) سورة الأعراف: 31.
(2) سورة النور: 61.
(3) سورة يونس: 87.
156

(فصل)
وقوله تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) (1).
المراد بذلك مشركوا العرب من قريش، لأنهم صدوا النبي عليه السلام عن
المسجد الحرام، وهو المروي عن الصادق عليه السلام (2). وقيل أراد جميع المساجد،
وقيل أنهم الروم غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه، وقيل هو بخت نصر (3) خرب
بيت المقدس.
وإذا صح وجه منها لا يجب الاقتصار عليه، لان نزول حكم في سبب لا يوجب
الوقوف عليه، ويجوز أن يعنى غيره للعموم. ألا ترى إلى قوله (يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر) نزل في الصوم، فلما كانت الآية عامة - وان وردت في
سبب - وجب حملها على عموم اللفظ دون خصوص السبب.
وقال الطبري: ان كفار قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام (4).
وهذا ليس بشئ، لان عمارة المسجد بالصلاة فيه، وخرابه المنع من أن يصلى فيه.
على أنهم قد هدموا مساجد كانت بمكة كان المسلمون يصلون فيها لما هاجر رسول
الله صلى الله عليه وآله.
وذكر المساجد لان كل موضع منه مسجد، ثم يدخل في خرابه خراب جميع
المساجد.

(1) سورة البقرة: 114.
(2) تفسير البرهان 1 / 145.
(3) قال صدر الأفاضل: بخت نصر بتشديد الصاد، نقله أبو حاتم في كتاب (ما يلحن
فيه العوام) عن الأصمعي (ه‍ ج).
(4) تفسير الطبري 1 / 398.
157

(فصل)
وقوله تعالى (انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم
هذا) (1).
أمر المؤمنين بمنع الكفار من مقاربة المسجد الحرام لطواف وغيره. وقيل إنهم
منعوا من الحج فأما دخولهم للتجارة فلم يمنعوا منه، يبين ذلك قوله (وان
خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ان شاء).
وقوله (بعد عامهم هذا) هي سنة تسع من الهجرة التي تبدأ فيها براءة
المشركين.
وظاهر الآية ان الكفار أنجاس لا يمكنون من دخول مسجد. وقال عمر بن
عبد العزيز: ولا يجوز أن يدخل المسجد أحد من اليهود والنصارى وغيرهم من
الكفار. ونحن نذهب إليه.
وانما قال (ان شاء) لان منهم من لم يبلغ الموعود بأن يموت قبله، وقيل
انما ذكره لتنقطع الآمال إلى الله، كما قال (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله) (2).
وقوله (ما كان لهم أن يدخلوها الا خائفين) (3) نادى رسول الله صلى الله عليه وآله
أن لا يحج مشرك بعد العام، فان دخل مسجدا منهم داخل كان على المسلمين ان يمنعوه
فان أدخل إلى حاكم المسجد الذي يحكم فيه فلا يقعد مطمئنا فيه، بل ينبغي أن يكون
خائفا من الاخراج على وجه الطرد.

(1) سورة التوبة: 28.
(2) سورة الفتح: 27.
(3) سورة البقرة: 114.
158

(فصل)
وقوله تعالى (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا) (1) أي بنوه للاضرار والكفر
والتفريق بين المؤمنين، فإنهم إذا تحزبوا فصلى حزب هنا وحزب يصلي في غيره
اختلفت الكلمة وبطلت الألفة.
و (ارصادا لمن حارب الله) هو أبو عامر الراهب لحق بقيصر متنصرا، وكان
يبعث إليهم: سأتيكم بجند فأخرج محمدا، فبنوه يترقبونه. وهو الذي حزب
الأحزاب مع المشركين، فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف
خرج إلى الروم. وابنه عبد الله أسلم، وقيل يوم أحد، وهو غسيل الملائكة. ووجه
رسول الله عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم،
وكان مالك من بنى عوف الذين بنوا مسجد الضرار، فقال لهما: انطلقا إلى هذا
المسجد الظالم أهله فاهدماه ثم احرقاه، ففعلا ما أمر به (2)، فقال تعالى (لا تقم فيه أبدا)،
نهى نبيه وجميع المؤمنين أن يقوموا في مثل هذا المسجد ويصلوا فيه. وأقسم ان
المسجد الذي أسس على التقوى أحق أن يقوم فيه هو مسجد قباء، وقيل مسجد
المدينة، وسبب ذلك أنهم قالوا بنينا للضعيف في وقت المطر، نسألك يا رسول
الله أن تصلي فيه، وكان توجه إلى تبوك، فوعدهم أن يفعل إذا عاد، فنهي عنه.
(باب صلاة العيدين والاستسقاء)
(والكسوف وغير ذلك)
قال الله تعالى (فصل لربك وانحر) (3) أي فصل لربك صلاة العيد وانحر

(1) سورة التوبة: 107.
(2) مستدرك الوسائل 1 / 243.
(3) سورة الكوثر: 2.
159

الأضاحي. وانحر أعم نفعا من النسك.
وهذه الصلاة واجبة عند حصول شرائطها، وهي شرائط الجمعة، وتستحب
تلك الصلاة إذا اختل شرائطها.
وقوله تعالى (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (1). قال الحسن: ذبح قوم
قبل صلاة العيد يوم النحر فأمروا بإعادة ذبيحة أخرى. وقال الزجاج: معناه لا
تقدموا أعمال الطاعة حتى لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها.
والتكبيرات المأمور بها في العيدين يدل عليها - بعد اجماع الطائفة - قوله
(ولا تكبروا الله على ما هداكم) (2).
وإذا أجدبت البلاد يستحب صلاة الاستسقاء، قال الله تعالى (وسلوا الله
من فضله) (3). ومثله من الآيات يدل على استحبابها.
وما روي أن النبي صلى الله عليه وآله صلاها، وقال تعالى (لقد كان لكم
في رسول الله أسوة حسنة) يدل عليها وعلى جميع ما يستحب من الصلوات
المندوبة كصلاة الاستخارة والحاجة، فقد أمر بهما رسول الله عن الله، وقال تعالى
(ما آتاكم الرسول فخذوه).
وقوله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله
أفواجا * فسبح بحمد ربك) (4) أي صل شكرا له على ما جدد لك من نعمه. وهذا يدل
على أن صلاة الشكر مستحبة.
وكذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وآله صلاة الكسوف، وفعله بيان (5)،

(1) سورة الحجرات: 1.
(2) سورة البقرة: 185.
(3) سورة النساء: 32.
(4) سورة النصر: 1 - 3.
(5) أي فعله بيان كما أن قوله بيان (ه‍ ج).
160

لقوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال (ما آتاكم
الرسول فخذوه).
ولما حولت القبلة إلى الكعبة كانوا لا يعتبرون بطاعة الا بالصلاة إلى الكعبة
قال تعالى (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن
بالله) (1) قال ابن عباس: ليس البر كله في التوجه إلى الصلاة نحو الكعبة ولكن البر
من آمن بالله، وان هذه تدعو إلى الصلاح وتصرف عن الفساد، وان ذلك يختلف
بحسب الأزمان.
(باب الصلاة على الموتى وأحكامهم)
يدل على أربعة أحكام مفروضة في حق المؤمن إذا مات، قوله تعالى (ما آتاكم
الرسول فخذوه)، وقد بين رسول الله تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وفرضها
على الكفاية، وقد بينها بقوله (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).
فإذا مات كافر أو منافق فلا يجب شئ من ذلك على الاحياء، قال تعالى
(ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) (2) [وهذا نهي من الله لنبيه
أن يصلي على منافق أو يقوم على قبره] (3) أي لا تتول دفنه - كما يقال قام فلان بكذا (4).
وعن ابن عباس: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله على عبد الله بن أبي
ابن سلول قبل أن نهي عن الصلاة على المنافقين.

(1) سورة البقرة: 177.
(2) سورة التوبة: 84.
(3) الزيادة من ج.
(4) يمكن الاستدلال بهذه الآية على منع الصلاة على الكافر أيضا، لأنه تعالى علل المنع
بقوله (انهم كفروا بالله) والكفر حاصل في الكافر فوجب أن لا يصلى عليه (ه‍ ج).
161

وكان الشيخ المفيد يستدل بفحوى هذه الآية على وجوب القيام بدفن المؤمنين
والصلاة عليهم، لأنه كان يقول بدليل الخطاب ويجعله دليلا. ومنع منه المرتضى،
وتوقف فيه أبو جعفر الطوسي. وكذا حالهم في استصحاب الحال.
والقيام في الآية يجوز أن يكون الذي هو مقابل الجلوس، ويكون معناه لا
تقف عند قبره، ومن قولهم (قام بكذا) إذا ثبت على صلاحه. ويكون القبر مصدرا
على هذا، أي لا تتول دفن ميت منهم. والمفسرون كلهم على أن المراد بذلك الصلاة
التي تصلى على الموتى. وكان صلاة أهل الجاهلية على موتاهم أن يتقدم رجل فيذكر
محاسن الميت ويثني عليه ثم يقول عليك رحمة الله.
وقوله (انهم كفروا بالله) كسرت ان وفيها معنى العلة لتحقيق الاخبار بأنهم
على هذه الصفة، ويدل ذلك على أن الصلاة على الميت عبادة.
(فصل)
وقوله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) (1) يدل بعمومه على أن أحق
الناس بالصلاة على الميت وليه، وهو أولى بها من غيره.
وقوله تعالى (وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل
إليهم خاشعين) (2) الآية.
قال جابر وغيره: ان النبي صلى الله عليه وآله أتاه جبرئيل عليه السلام وأخبره
بوفاة النجاشي، ثم خرج من المدينة إلى الصحراء ورفع الله الحجاب بينه وبين
جنازته فصلى عليه ودعا له واستغفر له، وقال للمؤمنين صلوا عليه، فقال المنافقون

(1) سورة الأنفال: 75.
(2) سورة آل عمران 191.
162

يصلي على علج بنجران، فنزلت الآية (1). والصفات التي ذكرت في الآية هي صفات
النجاشي.
وقال مجاهد: نزلت في كل من أسلم من اليهود والنصارى. ولا مانع من
هذا أيضا، لان الآية قد تنزل على سبب وتكون عامة في كل ما تتناوله.
ويجوز أن يصلى على الجنازة بالتيمم مع وجود الماء إذا خيف فوت الصلاة
عليه، وبذلك آثار عن أئمة الهدى عليهم السلام، وكأنه استثناء من قوله (إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية.
على أن هذا قد ورد في الصلاة المطلقة، والصلاة على الجنائز صلاة مقيدة،
فأما التيمم فيها فلا جماع الطائفة.
وأما التكفين فإنه يدل عليه من القرآن قوله (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم
لباسا يواري سوآتكم) (2) الآية، تعم الاحياء والأموات لأنه تعالى لم يفصل، فدل
على وجوب الكفن عمومها.
وأما الدفن فالدليل عليه من كتاب الله قوله (ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا) (3)
فالكفات الضمائم والوعاء (4)، أي تضمهم في الحالين، فظهرها للاحياء وبطنها للأموات.
وقوله تعالى (ثم أماته فأقبره) (5) فالمقبر الامر بالدفن والقابر الدافن.

(1) أسباب النزول ص 93 مع اختلاف في بعض الألفاظ. والعلج: الرجل من كفار
العجم، والجمع علوج وأعلاج ومعلوجاء وعلجة (صحاح اللغة 1 / 330). ونجران بالفتح ثم
السكون. في مخاليف اليمن من ناحية مكة.
(2) سورة الأعراف: 26.
(3) سورة المرسلات: 25 - 26.
(4) في الكشاف: الكفات من الكفت، وهو الجمع، وهي بمعنى كافته، وبهذا نصبت
احياء بالمفعولية (ه‍ ج).
(5) سورة عبس: 21.
163

وقوله تعالى (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة
أخيه) (1) هو أول ميت كان من الناس، فلذلك لم يدر أخوه كيف يواريه وكيف يدفنه
حتى بعث الله غرابان أحدهما حي والاخر ميت، فنقر في الأرض حتى جعل حفيرة
ووضع الميت فيه وواراه بالتراب الهاما من الله.
(باب الزيادات)
(الصلاة الوسطى) أي الفضلى، من قولهم: الأفضل الأوسط. وانما أفردت
وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل.
وقال النبي عليه السلام يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة
العصر، ملا الله بيوتهم نارا. ثم قال: انها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود
حتى توارت بالحجاب (2).
وروي في قوله (وقوموا لله قانتين) أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة
هاب الرحمن أن يمد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يحدث نفسه بشئ من
أمور الدنيا (3).
(مسألة)
دلكت الشمس زالت أو غربت، فإذا كان الدلوك الزوالي فالآية جامعة
للصلوات الخمس، لان الغسق الظلمة، وهو وقت صلاة العشائين. وقرآن الفجر
صلاة الغداة. وإذا كان الدلوك الغروب خرجت منها صلاة الظهر والعصر.

(1) سورة المائدة: 31.
(2) الدر المنثور 1 / 301.
(3) الدر المنثور 1 / 306.
164

وقوله تعالى (وقرآن الفجر) يجوز أن يكون حثا على طول القراءة فيها،
وكذلك كانت صلاة الفجر أطول الصلوات قراءة.
(ومن الليل فتهجد) أي وعليك بعض الليل فتهجد به. والتهجد ترك الهجود،
وهو النوم للصلاة.
و (نافلة) أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس. ووضع نافلة موضع
تهجد لان التهجد عبادة زائدة، فنافلة مصدر من غير لفظ الفعل قبله.
(مسألة)
فان قيل: أي فائدة في اخبار الله بقول اليهود أو المنافقين أو المشركين
قبل وقوعه، فقال (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) (1).
قلنا: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب
إذا وقع لما يتقدمه من توطين النفس، فان الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع
للخصم وأرد لسعيه، وقبل الرمي يراش السهم.
(ما ولاهم عن قبلتهم) وهي بيت المقدس.
(لله المشرق والمغرب) أي الأرض كلها (يهدي من يشاء) وهو ما توجبه
الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة.
(مسألة)
(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها). قال بعض المفسرين: قوله (التي
كنت عليها) ليست بصفة القبلة، انما هي ثاني مفعولي جعل، يريد وما جعلنا

(1) سورة البقرة: 142.
165

القبلة الجهة التي كانت عليها - وهي الكعبة - لان رسول الله كان يصلي بمكة إلى
الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود، ثم تحول
إلى الكعبة. فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها
أولا بمكة، يعني وما رددناك إليها الا امتحانا للناس، كقوله (وما جعلنا عدتهم
الا فتنة) (1).
ويجوز أن يكون بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس [قبلته، يعنى أن أصل
أمرك أن تستقبل الكعبة وان استقبالك بيت المقدس] (2) كان أمرا عارضا لغرض، وانما
جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا - وهي بيت المقدس - لنمتحن
الناس.
وعن ابن عباس: كان قبلته بمكة بيت المقدس، الا أنه كان يجعل القبلة
بينه وبينه.
(مسألة)
(شطر المسجد الحرام) نحوه. وقرأ أبى (تلقاء المسجد الحرام).
وشطر نصب على الظرف، أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد الحرام،
أي في جهته وسمته، لان استقبال عين الكعبة فيه حرج عظيم على البعيد.
وذكر المسجد الحرام دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، فعلى
هذا الكعبة قبله من كان في المسجد الحرام، والمسجد قبلة من كان في الحرم، والحرم
قبلة من نأى من أي جانب كان، وهو شطر المسجد وتلقاؤه. وقراءة أبي (ولكل
قبلة) إشارة إلى ما ذكرنا.
وقوله تعالى (هو موليها) أي هو موليها وجهته، فحذف أحد المفعولين.

(2) سورة المدثر: 31.
(1) الزيادة ليست في ج.
166

وقيل هو لله، أي الله موليها إياه. على أن القراءة العامة يجوز أن يراد بها ذلك أيضا،
ويكون المعنى ولكل منكم يا أمة محمد وجهة، أي جهة تصلى إليها جنوبية أو شمالية
أو شرقية أو غربية، أينما تكونوا يجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم
تصلون حاضري المسجد الحرام.
(مسألة)
وعن أبي حنيفة يجوز أن يصلى الفريضة في جوف الكعبة، وعندنا لا يجوز،
وبذلك نصوص عن أئمة الهدى. ويؤيده قوله (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره)
وقد بينا أن المراد به نحوه، ومن كان في جوف الكعبة لم يكن مصليا نحوها. على
أنه قد ورد النص بأنه يصلى النوافل في الكعبة.
وقوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام) يدل على أن البعيد من
مكة يتوجه إلى المسجد، فإنه لا يمكنه التوجه إلى عين الكعبة الا لمن يقربها.
(مسألة)
قوله تعالى (خذوا زينتكم) أي كلما صليتم خذوا لباس زينتكم. وقيل الزينة
الطيب، وأطيب الطيب الماء.
ثم قال (قل من حرم زينة الله) أي من الثياب وكل ما يتجمل به. ومعنى
الاستفهام في (من) انكار تحريم ذلك، فإنهم كانوا يقولون لا نعبد الله في ثياب
أذنبنا فيها ويطوفون ويصلون عراة.
(قال هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) ونبه تعالى بهذا على أنها خلقت
للذين آمنوا على طريق الأصالة، وان الكفرة تبع لهم في الحياة الدنيا خالصة
للمؤمنين يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد.
167

(مسألة)
قوله تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر) يجوز أن ذكر ثاني
مفعول منع، ويجوز أن يكون مفعولا له.
(ولله المشرق والمغرب) أي بلادهما، ففي أي مكان فعلتم التولية - يعني
تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله (فول وجهك شطر المسجد الحرام) -
(فثم وجه الله) أي جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى انكم إذا منعتم أن تصلوا
في المسجد الحرام قد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها
وافعلوا التولية منها فإنها ممكنة في كل مكان.
(مسألة
قال الباقر عليه السلام: الصلاة عشرة أوجه: صلاة السفر، وصلاة الحضر،
وصلاة الخوف على ثلاثة أوجه، وصلاة كسوف الشمس والقمر، وصلاة العيدين،
وصلاة الاستسقاء، والصلاة على الميت (1).
(مسألة)
وقوله (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) (2) تفصيل هذه الجملة
ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمران بن حصين: صل قائما، فإن لم تستطع
فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب تومي ايماءا (3).

(1) وسائل الشيعة 3 / 3.
(2) سورة آل عمران: 191.
(3) الدر المنثور 2 / 110.
168

(مسألة)
وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة) المراد بالنداء الاذان
ههنا. ومن في قوله (من يوم الجمعة) بيان لاذا وتفسير له.
وقيل: ان الأنصار قالوا: ان لليهود يوما يجتمعون فيه في كل سبعة أيام،
والنصارى كذلك، فاجتمعوا يوم العروبة إلى سعد بن زرارة، فأنزل الله آية الجمعة.
وأول جمعة جمعها رسول الله هي أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بنى
عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم،
ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بنى سالم بن عوف
في بطن واديهم، فخطب وصلى الجمعة.
وقد أبطل الله قول اليهود حين افتخروا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله،
فشرع الله لهم الجمعة.
(مسألة)
[قال أبو حنيفة] (1) لا تجب الجمعة الا على أهل الأمصار، فأما من كان موضعه
منفصلا عن البلد فإنه لا يجب عليه وان سمع النداء.
وعندنا وعند الشافعي تجب على الكل إذا بلغوا العدد الذي تنعقد به الجمعة
مع الشرائط الأخر، يؤيده قوله (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر
الله) يعم الامر بذلك كل متمكن من سماع النداء الا من خصه الدليل.
وكذا قول النبي عليه السلام (الجمعة واجبة على كل من آواه الليل) (2) ثم
استثنى أشياء وبقى هذا على العموم.

(1) ليست في ج.
(2) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 1 / 368، وليس فيه لفظة (واجبة).
169

(مسألة)
وقوله (وإذا ضربتم في الأرض) (1) الضرب في الأرض السفر، وقال الفقهاء
القصر ثابت بالكتاب مع الخوف وبالسنة في حال الامن.
فان قيل: كيف جمع بين الحذر والأسلحة في قوله (وليأخذوا حذرهم
وأسلحتهم) (2).
قلنا: جعل الحذر - وهو التحرز والتيقظ - آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع
بينه وبين الأسلحة في الاخذ وجعلا مأخوذين، ونحوه قوله (والذين تبوأوا الدار
والايمان) (3) جعل الايمان مستقرا لهم ومتبوءا لتمكنهم فيه.
(مسألة)
وقوله تعالى (يا أيها المزمل) (4) ليس بتهجين بل هو ثناء عليه وتحسين
لحاله التي كان عليها. ثم أمره بأن يختار على الهجود التهجد وعلى التزمل التشمر،
لا جرم ان رسول الله صلى الله عليه وآله اقبل على احياء الليالي مع اصباحه حتى
ظهرت السماء في وجوههم.
وترتيل القرآن قراءته على تؤدة بتبيين الحروف واشباع الحركات حتى يجئ
المتلو كالثغر المرتل. و (ترتيلا) تأكيد لقوله (ورتل القرآن) في ايجاب الامر به
وانما مما لابد منه للقارئ.
(مسألة)
وعن زين العابدين عليه السلام كان يصلى بين العشائين ويقول: اما سمعتم

(1) سورة النساء: 101.
(2) سورة النساء: 102.
(3) سورة الحشر: 9.
(4) سورة المزمل: 1.
170

قول الله (ان ناشئة الليل) هذه ناشئة الليل.
وقال النبي عليه السلام: تنفلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين، فإنهما
يورثان دار الكرامة ودار السلام وهي الجنة، وساعة الغفلة بن المغرب والعشاء (1).
(مسألة)
وقوله (قد أفلح المؤمنون) أخبر تعالى بثبات الفلاح لهم.
والخشوع في الصلاة خشية القلب والزام البصر موضع السجود، ومن
الخشوع أن يستعمل الآداب، فيتوقى لف الثياب والعبث بالجسد والثياب والالتفات
والتمطي والتثاؤب والتغميض والفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى وكل ما لا يكون
من الصلاة.
وإضافة الصلاة إليهم لأنهم ينتفعون بها وهي ذخيرة لهم، والله متعال عن
الحاجة.

(1) وسائل الشيعة 3 / 249.
171

كتاب الصوم
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين
من قبلكم) (1).
فقوله (كتب عليكم) يقتضي الوجوب من وجهين: أحدهما (كتب)،
وهو في الشرع يفيد الايجاب، كما قيل المكتوبة في فريضة الصلوات. والثاني
(عليكم) لأنه يبنى على الايجاب أيضا، كقوله (ولله على الناس حج البيت) (2).
وإذا جمع بينهما فالدلالة على الايجاب أوكد.
ومعنى (كتب) فرض وأوجب، وعبر عن الفرض بالكتب لان المكتوب
أبقى وأثبت. ويجوز أن يكون معناه كتب في اللوح المحفوظ أنكم تتعبدون بذلك.
والمراد فرض عليكم الصوم أياما معدودة كما فرض على من كان قبلكم أياما معدودة

(1) سورة البقرة: 183.
(2) سورة آل عمران: 97.
172

وان زاد ونقص واختلفت الأيام، فالتشبيه واقع على جملة أمر الصوم لا على جميع
أوقاته وأحكامه.
(لتتقوا النار التي أعدت للكافرين) (1) أي توقوا أنفسكم عذاب النار، فالصوم
جنة. فأوجب الله فرض الصيام على جميع المؤمنين بعموم اللفظ المنتظم للجميع،
وعم به جميع المؤمنات لمعرفة تغليب المذكر على المؤنث إذا اجتمعوا وبقرينة
الاجماع الا من خصه من الجميع في الآية التي تعقب ما تلوناه وما يتبعها من السنة
على لسان رسول الله عليه السلام.
ثم قال مفسرا ما أجمله ضربا من التفسير (أياما معدودات فمن كان منكم
مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) (2) الآية. فبين أن الفرض متعلق بأزمان
مخصوصة، وكشف عما يختص بالخروج عن فرضه في الحال من المرضى والمسافرين
وإن كان ألزمهم إياه بعد الحال.
(فصل)
ثم قال (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) رخص في صدر الاسلام
للمشاهدين له من أهل السلامة والصحة من الأمراض افطاره على التعمد على شرط
قيامهم بفدية الافطار من الاطعام، ودل على أن الصوم له مع ذلك أفضل عنده وأولى
من الفدية للافطار.
ثم نسخ تعالى ذلك بما أردفه من الذكر من القرآن، فقال (شهر رمضان
الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم

(1) الآية في سورة آل عمران 131 هكذا (واتقوا النار التي أعدت للكافرين).
وهي ليست في موضوع الصوم خاصة - فلاحظ.
(2) سورة البقرة: 184.
173

الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر) (1) الآية.
فأوضح بها عن بقية تفسير الاجمال فيما أنزله أولا من فرض الصيام وبين
أنه في أيام معدودات يجب فعله في شهر على التمام بما ذكر في العدة من فرض
الكمال، وحظر ما كان أباحه من قبل من الافطار للفدية مع طاقة الصيام، بالزامه
الفرض للشاهد في الزمان مع السلامة من العلل والأمراض، واكد خروج المرضى
والمسافرين من فرضه في الحال بتكرار ذكرهم للبصيرة والبيان، وأبان عن علة
خروجهم بما وصف من أرادتهم به تعالى لهم اليسر وكراهة العسر عليهم زيادة
منه في البرهان.
وجاء في التفسير أن ما جاء في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) [فإنها مدنية
وما فيه (يا أيها الناس)] (2) مكية.
والصوم شرعا امساك مخصوص عن أشياء مخصوصة، ومن شرط انعقاده
النية، ولان تفسير الصوم بالصبر أولى، لقوله تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) (3)،
فقد قال المفسرون ان الصبر في الآية هو الصوم، ولا يوهم أنه ترك.
(باب في تفصيل ما أجملناه)
قوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم).
وفيه ثلاثة أقوال: أحسنها أنه كتب عليكم صيام أيام، وكما محله نصب
صفة مصدر محذوف، أي فرض عليكم فرضا مثلما فرض على الذين من قبلكم.

(1) سورة البقرة: 185.
(2) الزيادة من ج.
(3) سورة البقرة: 45.
174

ويحتمل أن يكون أيضا من الحال للصيام، وتقديره كتب عليكم الصيام مفروضا
في هذه
الحال.
والثاني ما قاله الحسن انه فرض علينا شهر رمضان كما كان فرض شهر رمضان
على النصارى، وانما زادوا فيه وحولوه إلى زمان الربيع.
والثالث ما قاله جماعة انه كان الصوم من العتمة إلى العتمة، لا يحل بعد
النوم مأكل ولا مشرب ولا منكح ثم نسخ. والأول هو المعتمد.
وقال مجاهد: المعني بالذين من قبلكم أهل الكتاب، وقوله (لعلكم تتقون)
أي لكي تتقوا المعاصي بفعل الصوم. وقال السدي: لتتقوا ما حرم عليكم من المأكل
والمشرب. وقال قوم: معناه لتكونوا أتقياء مما لطف بكم في الصيام، لأنه لو لم
يلطف بكم لم تكونوا أتقياء.
وانما قلنا إن الأول أصح، لأنه يصح ذلك في اللغة إذا فرض عليهم صيام
أيام كما فرض علينا صيام أيام وان اختلف ذلك بالزيادة والنقصان.
وقوله (أياما معدودات) قال الفراء انه مفعول كقولك (أعطى زيد المال)
وقال الزجاج هو ظرف، كأنه قيل الصيام في أيام معدودات، وإذا كان المفروض
في الحقيقة هو الصيام دون الأيام فلا يجوز ما قاله الفراء الا على سعة الكلام.
وقال عطاء وابن عباس: (أياما معدودات) ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ.
وقال ابن أبي ليلى: المعني به شهر رمضان وانما كان صيام ثلاثة أيام تطوعا.
وروي عن أبي جعفر عليه السلام: ان شهر رمضان كان واجبا صومه على كل
نبي دون أمته، وانما أوجب على أمة نبينا صلى الله عليه وآله فحسب (1).

(1) الوسائل 7 / 172 مع اختلاف في الألفاظ.
175

(فصل)
وقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) تقديره
فعليه عدة من أيام أخر.
وهذه الآية فيها دلالة على أن المسافر والمريض يجب عليهما الافطار، لأنه
تعالى أوجب القضاء عليهما مطلقا، وكل من أوجب القضاء بنفس السفر والمرض
أوجب الافطار. وأوجب داود القضاء وخير في الافطار، فان قدروا في الآية فأفطر
على تقدير فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كان ذلك خلاف
ظاهر الآية وخروجا عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل.
وبوجوب الافطار في السفر قال عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عمر وعبد
الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة وعروة بن الزبير، وهو المروي
عن أبي جعفر عليه السلام.
وروي عن عمر ان رجلا صام في السفر فأمره أن يعيد صومه.
وروى يوسف بن الحكم: سألت ابن عمر عن الصوم في السفر؟ قال:
أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك الا تغضب، فإنها صدقة من الله
تصدق بها عليكم.
وقال ابن عباس: الافطار في السفر عزيمة.
وروى ابن عوف عن النبي صلى الله عليه وآله: الصائم في السفر كالمفطر
في الحضر.
وروى عطا عن المحرز بن أبي هريرة قال: كنت مع أبي في سفر في شهر
رمضان فكنت أصوم ويفطر، فقال أبى: ما انك إذا أقمت فصليت وصام رجل في
السفر فأمره عروة أن يقضى.
176

وقال الباقر عليه السلام: كان أبى عليه السلام لا يصوم في السفر وينهى عنه.
وقال الطبري انه لم ينقطع العذر برواية صحيحة أنه كان ههنا صوم متعبد
فنسخه الله بشهر رمضان.
(فصل)
وقوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه) الهاء عائدة على الصوم، وقيل عائدة
على الفداء لأنه معلوم وان لم يجر له ذكر. والأول أقوى.
وقال الحسن وأكثر أهل التأويل: ان هذا الحكم كان في المراضع والحوامل
والشيخ الكبير، فنسخ من الآية المراضع والحوامل وبقي الشيخ الكبير.
وقال أبو عبد الله عليه السلام: ذلك في الشيخ الكبير يطعم لكل يوم مسكينا
منهم من مال نصف صاع وهم أهل العراق.
وقال الشافعي مد عن كل يوم، وعندنا مدان إن كان قادرا، وان لم يقدر الا
على مد أجزأه.
وعن الصادق عليه السلام: معناه على الذين يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر
أو عطاش وشبه ذلك فعليهم كل يوم مد (1).
قال السدي: لم تنسخ، انه كان فيمن يطيقه فصار إلى حال العجز عنه، وانما
المعنى وعلى الذين يطيقونه ثم صاروا بحيث لا يطيقونه.
وقوله (ومن تطوع خيرا) أي ومن جمع بين الصوم والصدقة، وقيل من
أعطى أكثر من مسكين.
والمعني بقوله (وعلى الذين يطيقونه) انه سائر الناس، كان في أول الاسلام
من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى لكل يوم طعام مسكين [حتى نسخ ذلك.

(1) وسائل الشيعة 7 / 151 مع بعض الاختلاف.
177

و (من تطوع) من للجزاء أو بمعنى الذي.
وقوله (فدية طعام مسكين)] (1) أي لكل يوم يفطر طعام مسكين. ومن أضاف
وجمع المساكين فمعنى قراءته يؤول إليه أيضا، لأنه إذا قيل اطعام مساكين للأيام
بمعنى لكل يوم اطعام مسكين صار المعنى واحدا.
(وأن تصوموا خير لكم) أي وصومه خير لكم من الافطار والفدية، وكان
هذا مع جواز الفدية، فأما بعد النسخ فلا يجوز أن يقال الصوم خير من الفدية مع
أن الافطار لا يجوز له أصلا.
(فصل)
وقوله (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى
والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (2).
قيل في معناه قولان: أحدهما من شاهد منكم الشهر مقيما فليصمه، وثانيهما
من شهده بأن حضره ولم يغب، لأنه يقال شاهد بمعنى حاضر ويقال بمعنى مشاهد.
وعندنا ان من دخل عليه الشهر كره له أن يسافر حتى يمضى ثلاث وعشرون
من الشهر الا أن يكون سفرا واجبا كالحج (3) أو تطوعا كالزيارة، فإن لم يفعل وخرج
قبل ذلك في مباح أيضا كان عليه الافطار ولم يجزه الصوم.
وقال أكثر المفسرين: فمن شهد الشهر - بأن دخل عليه شهر رمضان وهو
حاضر - فعليه أن يصوم كله.
وشهر رمضان خبر مبتدأ، أي هي شهر رمضان، يدل عليه أياما معدودات.
وقيل بدل من قوله (الصيام)، وتقديره كتب عليكم شهر رمضان أو صوم شهر
رمضان على حذف المضاف.

(1) الزيادة ليست في ج.
(2) سورة البقرة: 185.
(3) الواجب بالنذر وشبهه.
178

وقوله (أنزل فيه القرآن) قال الصادق عليه السلام: ان الله أنزل جميع القرآن
في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك نجوما (1).
وقيل ابتدئ انزاله في ليلة القدر من شهر رمضان (1).
فان قيل: كيف يجوز أن يقال أنزل في ليلة واحدة وفى الآية اخبار عما كان،
ولا يصلح ذلك قبل أن يكون.
قلنا: يجوز ذلك كما قال تعالى (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) (2)،
أي إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الجنة أصحاب النار. ومثله (لقد نصركم الله
ببدر وأنتم أذلة) (3) و (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) (4)، على أنه إذا كان وقت
كذا أنزل لقد نصركم الله. والحكمة في أثنائه على اللوح المحفوظ ليكون لطفا
للملائكة.
وعلى هذا مسألة، وهي أن بيان الأحكام الشرعية انما يكون بالمواضعة وبما
يتبع ذلك، فالأول مثاله الكلام والكتابة [والثاني هو الإشارة والافعال، فالنبي
عليه السلام يصح أن يبين الاحكام بالوجوه الأربعة ولا يصح البيان من الله الا بالكلام
والكتابة] (5)، فان الإشارة لا تجوز عليه، والافعال التي تكون بيانا يقتضي مشاهدة
فاعلها على بعض الوجوه، وذلك يقتضي مشاهدته. أما الكتابة فقد بين الله تعالى
للملائكة بها في اللوح المحفوظ.
وقوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ناسخ للفدية على قول من قال
بالتخيير على ما تقدم، وناسخ للفدية أيضا في المراضيع والحوامل عند من ذهب

(1) انظر تفسير البرهان 1 / 182.
(2) سورة الأعراف: 44.
(3) سورة آل عمران: 123.
(4) سورة التوبة: 25.
(5) الزيادة ليست في ج.
179

إليه، وبقي الشيخ له أن يطعم ولم ينسخ.
وعندنا ان المرضعة والحامل إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وكفرتا وكان
عليهما القضاء فيما بعد إذا زال العذر، وبه قال جماعة من المفسرين كالطبري وغيره.
(فصل)
وقوله (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر) قد بينا أنه
يدل على وجوب الافطار في السفر، لأنه أوجب القضاء بنفس السفر والمرض،
وكل من قال ذلك أوجب الافطار، ومن قدر في الآية فأفطر فعدة من أيام أخر زاد
في الظاهر ما ليس منه.
فان قيل: هذا كقوله (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من
صيام) (1) فمعناه فحلق ففدية من صيام.
قلنا: انما قدرنا هناك فحلق للاجماع على ذلك وليس هنا اجماع، فيجب
أن لا يترك الظاهر ولا نزيد فيه ما ليس منه.
وسئل أبو عبد الله عليه السلام عن حد المرض الذي على صاحبه فيه الافطار،
فقال: هو مؤتمن عليه مفوض إليه، فان وجد ضعفا فليفطر، وان وجد قوة فليصم،
كان المريض على من كان 2، بل الانسان على نفسه بصيرة.
وروي ان ذلك كل مرض لا يقدر معه على القيام بمقدار زمان صلاة: (3).
وقيل: ما يخاف الانسان معه الزيادة المفرطة في مرضه.

(1) سورة البقرة: 196.
(2) مستدرك الوسائل 1 / 568.
(3) وسائل الشيعة 7 / 157.
180

(فصل)
وقوله (يريد الله بكم اليسر) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك
اليسر في الآية الافطار في السفر والعسر الصوم فيه وفي المرض. والعدة المأمور
باكمالها المراد بها أيام السفر أو المرض التي أمر بالافطار فيها.
وقوله (ولتكملوا العدة) عطف على تأويل محذوف دل عليه ما تقدم من
الكلام، لأنه لما قال (يريد الله بكم اليسر) دل على أنه فعل ذلك ليسهل عليكم،
فجاز ولتكملوا العدة.
وقيل هو عطف جملة على جملة لان بعده محذوفا، كأنه قال ولتكملوا العدة
شرع ذلك أن أريد ذلك، ومثله قوله (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات
والأرض وليكون من الموقنين) (1) [أي وليكون من الموقنين] (2) بما أريناه.
هذا قول الفراء والأول قول الزجاج، وهو أجود، لان العطف يعتمد على
ما قبله لا على ما بعده.
وعطف الظرف على الاسم في قوله (ومن كان مريضا أو على سفر) جائز،
لأنه بمعنى الاسم، وتقديره أو مسافرا، ومثله (دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما)
[كأنه قال دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما] (4).
(فصل)
وقوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أراد تعالى من شهد الشهر وهو ممن

(1) سورة الأنعام: 75.
(2) الزيادة من ج.
(3) سورة يونس: 12.
(4) الزيادة من ج.
181

يتوجه إليه الخطاب، فعلى هذا الصبي إذا احتلم في نصف يوم من شهر رمضان
أمسك ما بقي تأديبا ولا قضاء عليه فيما مضى، ويمسك الكافر أيضا إذا أسلم في نهار
رمضان للتأديب.
والمجنون والمغمى عليه في الشهر كله لا قضاء عليهم عندنا، بدلالة قوله
(فمن شهد) وتقديره فمن كان شاهدا الشهر ويتوجه الخطاب إليه، والمجنون
والمغمى عليه ليسا بعاقلين حتى يتناولهما الخطاب.
والكافر وإن كان مخاطبا بالشرعيات فقد سامح الله معه إذا أسلم.
وقسم هذا الكلام بعض أصحابنا فقال: من نوى الصوم في أول الشهر ثم
أغمي عليه واستمر به أياما فهو بحكم الصائم لم يلزمه قضاء، وان لم يكن مفيقا
في أول الشهر وجب عليه القضاء (1). وانما يحمل هذا على الاستحباب لأنه تعالى قال
(ما جعل عليكم في الدين من حرج) (2).
(باب من له عذر أو ما يجرى مجرى العذر)
قال الله تعالى (ومن كان مريضا أو على سفر) [المراد به إذا كان مريضا] (3)
عليلا فلا يطيق الصوم أو يخاف على نفسه منه فيلزمه عدة من الأيام الأخر.
واعلم أن من فاته رمضان بعذر من مرض وغيره فعليه قضاؤه، ووقت القضاء
ما بين رمضانين الذي تركه والذي بعده، فان أخر القضاء إلى أن يدركه رمضان
آخر صام الذي أدركه وقضى الذي فاته، وإن كان تأخيره لعذر من سفر أو مرض
استدام به فلا كفارة عليه، وان تركه مع القدرة كفر عن كل يوم بمد من طعام. يدل
عليه - بعد اجماع الطائفة والاحتياط - قوله (فمن كان منكم مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر)، وهذا هو القضاء، والامر على الفور الا لقرينة.

(1) لأنه لم ينو الصوم (ه‍ ج).
(2) سورة الحج: 78.
(3) الزيادة من ج.
182

ثم الظاهر أن الفدية على من أطاق القضاء، وإن كان الخطاب راجعا إلى
القضاء والأداء معا، فالظاهر أنه منهما (1) الا أن يقوم دلالة على تركه. وقال أهل العراق
الحامل والمرضع اللتان يخافان على ولديهما يفطران ولا يقضيان يوما مكانه ولا صدقة
عليهما ولا كفارة، وبه قال قوم من أصحابنا، وقال الشافعي - في رواية المزني -
عليهما القضاء ويطعمان لكل يوم مدا، وهو مذهبنا المعول عليه.
والشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر ويتصدق مكان كل يوم نصف صاع
في قول أهل العراق، وهو مذهبنا.
(فصل)
قال المرتضى: من بلغ من الهرم إلى حد يتعذر معه الصوم وجب عليه
الافطار بلا كفارة ولا فدية، ولو كان من ذكرنا حاله لو تكلف الصوم لتأتي منه لكن
بمشقة شديدة يخشى المرض منها والضرر التعظيم كان له أن يفطر ويكفر عن كل
يوم بمد من طعام..
قال: ومما يجوز أن يستدل به على أن الشيخ الذي لا يطيق الصوم يجوز له
الافطار من غير فدية، قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) 2، وإذا لم يكن
في وسع الشيخ الصوم خرج من الخطاب به ولا فدية عليه إذا أفطر، لان الفدية
انما تكون عن تقصير، وإذا لم يطق الشيخ الصوم فلا تقصير وقع منه.
ويدل على أن من أطاق من الشيوخ الصوم لكن بمشقة شديدة يخشى منها
المرض يجوز له أن يفطر ويفدي، قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية)، ومعنى
الآية أن الفدية تلزم مع الافطار، وكأن الله خير في ابتداء الامر بهذه الآية الناس

(1) أي من أفطر مع القدرة فهو من جملة الفريقين اللذين يجب عليهما القضاء والأداء
(ه‍ ج).
(2) سورة البقرة: 286.
183

كلهم بين الصوم وبين الافطار والفدية، ثم نسخ ذلك بقوله (فمن شهد منكم الشهر
فليصمه).
وأجمعوا على تناول هذه الآية لكل من عدى الشيخ الهرم ممن لا يشق عليه
الصوم، ولم يقم دليل على أن الشيخ إذا كان الضرر في هذه الآية، فهو إذا يدخل
تحت حكم الآية الأولى (1).
(فصل)
وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام بعد أن ذكر كلام الشيخ
المفيد، وهو ان: الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إذا لم يطيقا الصيام وعجزا عنه فقد
سقط عنهما فرضه ووسعهما الافطار ولا كفارة عليهما، وإذا أطاقاه بمشقة عظيمة وكان
مرضهما يضر بهما ضررا بينا (2) وسعهما الافطار وعليهما ان يكفرا عن كل يوم بمد
من طعام.
قال: وهذا الذي فصل به بين من يطيق الصيام بمشقة وبين من لا يطيقه أصلا،
لم أجد به حديثا مفصلا، والأحاديث كلها على أنه متى عجزا كفرا عنه.
والذي حمله على هذا التفصيل هو أنه ذهب إلى أن الكفارة فرع على وجوب
الصوم، ومن ضعف عن الصيام ضعفا لا يقدر عليه جملة فإنه يسقط عنه وجوبه
جملة، لأنه لا يحسن تكليفه للصيام وحاله هذه، وقد قال الله تعالى (لا يكلف الله
نفسا الا وسعها). وهذا ليس بصحيح لان وجوب الكفارة ليس بمبني على وجوب
الصوم، لأنه ما كان يمتنع أن يقول الله: متى لم تطيقوا الصيام فصار مصلحتكم
في الكفارة وسقط وجوب الصوم عنكم، وليس لأحدهما تعلق بالآخر.

(1) الانتصار ص 67 - 68 مع بعض الاختصار.
(2) عبارة الأصل هكذا: وكان يمرضهما ان صاماه أو يضر بهما ضررا بينا.
184

والذي ورد في الأحاديث في ذلك ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سألته عن رجل كبير يضعف عن صوم شهر رمضان. فقال: يتصدق بما يجزى
عنه طعام مسكين لكل يوم.
وما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله (وعلى
الذين يطيقونه فدية طعام مسكين). قال: الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.
وفي رواية أخرى: ولا قضاء عليهما، فإن لم يقدرا فلا شئ عليهما.
وفي رواية أنه قال: يتصدق كل واحد بمدين من طعام.
وهذا ليس بمضاد للرواية التي تضمنت مدا من طعام أو اطعام مسكين، لان
هذا الحكم يختلف بحسب اختلاف أحوال المكلفين، فمن أطاق اطعام مدين يلزمه
ذلك، ومن لم يطق الا اطعام مد فعل ذلك، ومن لم يقدر على شئ منه فليس عليه
شئ حسب ما قدمناه (1).
ومقدار المد ثلاثمائة سوى سبعة دراهم ونصف درهم (2).
(باب)
في النية وفي علامة أول الشهر وآخره
من شرط صحة الصوم النية، قال الله تعالى (وما أمروا الا ليعبدوا الله
مخلصين له الدين) (3) والاخلاص لله بالديانة هو أن يتقرب إليه بذلك من غير رياء
ولا سمعة، وهذا التقرب لا يصح الا بالنية له. وقال النبي صلى الله عليه وآله
(الأعمال بالنيات) (4).

(1) تهذيب الأحكام 4 / 237 - 239 مع حذف أسانيد الأحاديث واختصار.
(2) المد ما يقرب من ثلاثة أرباع الكيلو (750 غرام).
(3) سورة البينة: 5.
(4) وسائل الشيعة 7 / 7.
185

ويكفي في النية أن يعزم أنه يصوم شهر رمضان كله من أوله إلى آخره مع
ارتفاع ما يوجب افطاره.
والنية إرادة مخصوصة ولا تتعلق الا بحادث ونحوه، وههنا لا تتعلق بالامساك
وانما تتعلق بكراهة تناول المفطرات (1) وقد ذكرنا ذلك مستوفى في كتاب (النيات
في جميع العبادات).
وإذا نوى الانسان في أول شهر رمضان صوم الشهر كله إلى آخره قال بعد
النية في قلبه انشاء الله، فان الله تعالى يقول (ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا
الا أن يشاء الله) (2).
والصيام كما ذكرنا هو الكف عن تناول أشياء والصبر عليه، وقد ورد الامر
من الله بالكف عنها في أزمان مخصوصة مما يجب أن يمسك عنه الصائم مما ان أقدم
عليه يوجب القضاء سبعة عشر شيئا، فإذا كف العبد عنها في أوقات الصيام المحدودة
بنية الكف عنها لوجه الله كان آتيا بالصيام. وقد حظر الله على الصائم تناول جميع
ما ينقض صومه من حد بيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وهو بياض الفجر
عند انسلاخ الليل، فإذا طلع الفجر فقد دخل وقت فرض الصيام ودخل وقت فريضة
الصلاة، ثم الحظر ممتد إلى دخول الليل، وحد دخوله مغيب قرص الشمس،
وعلامة سقوط القرص عدم الحمرة من المشرق، فإذا عدمت الحمرة من المشرق سقط
الحظر ودخل وقت الافطار بضروبه من الأكل والشرب والجماع وسائر ما يتبع ذلك
ويختص حظره بحال الصيام.
ولا يلزم الكفارة مع القضاء الا في تسعة مما قدمناه مجملا. على أنه يجب

(1) لأنه عدم محض، والنية يجب تعلقها بالحادث لكونها إرادة، وإذا تعلقت بالكراهة
لم يلزم اجتماع الضدين، لان متعلق الإرادة هو الكراهة ومتعلق الكراهة هو تناول المفطرات،
فزال التضاد (ه‍ ج).
(2) سورة الكهف: 23.
186

الامساك عن جميع المحرمات والقبائح التي هي سوى التسعة الموجبة للقضاء والكفارة
والثمانية الموجبة للقضاء دون الكفارة. ويتأكد وجوب الامتناع عنها لمكان الصوم.
(فصل)
قال الله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (1).
جعل الله الأهلة علامات الشهور ودلائل أزمان الفروض ومواقيت للناس في
الحج والصوم وحلول آجال الدين ومحل الكفارات وفعل الواجب والمندوب إليه.
سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الأهلة في قوله (يسألونك عن الأهلة)،
فقال: هي أهلة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر، وليس بالرأي
والتظني (2).
ويسمى هلالا لليلتين (3) - قاله الزجاج.
فان قيل: عماذا وقع السؤال من حال الأهلة؟
قيل: عن زيادتها ونقصانها. وما وجه الحكمة في ذلك؟ فأجيب بأن مقاديرها
يحتاج إليها الناس في صومهم وفطرهم وحجهم وعدد نسائهم ومحل ديونهم
وغير ذلك.

(1) سورة البقرة: 189.
(2) وسائل الشيعة 7 / 182، وفيه عدة أحاديث بهذا المضمون وليس فيها جملة (وليس
بالرأي والتظني)، وذكر حديثا عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ولفظه (إذا رأيتم الهلال
فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا.).
(3) قال ابن منظور: والهلال غرة القمر حين يهله الناس في غرة الشهر، وقيل
يسمى هلالا لليلتين من الشهر ثم لا يسمى به إلى أن يعود في الشهر الثاني، وقيل يسمى به ثلاث
ليال ثم يسمى قمرا، وقيل يسماه حتى يحجر، وقيل يسمى هلالا إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل وهذا
لا يكون الا في الليلة السابعة. انظر لسان العرب (هلل).
187

وفيها دلالة واضحة على أن الصوم لا يثبت بعدد الجدوليين وانه يثبت بالهلال،
لان عددهم لو كان مراعى لما أحيل في مواقيت الناس في الحج على ذلك بل أحيل
على العدد.
والميقات منتهى الوقت. والآخرة منتهى الخلق. والاهلال ميقات الشهر.
(فصل)
ومن قال: ان قوله تعالى (ولتكملوا العدة) يدل على أن شهر رمضان لا ينقص
أبدا. فقد أبعد من وجهين: أحدهما لان قوله (ولتكملوا العدة) معناه ولتكملوا
عدة الشهر، سواء كان الشهر تاما أو ناقصا، أعني ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين
يوما. والثاني أن ذلك راجع إلى القضاء، لأنه قال عقيب ذكر السفر والمرض (فعدة
من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة) يعني عدة
ما فاته، وهذا بين.
فالهلال علامة الشهر وبه وجبت العبادة في الصيام والافطار والحج وسائر ما
يتعلق بالشهور على أهل الشرع، وربما خفي لعارض أو استبين أهل مصر لعلة وظهر
لأهل غير ذلك المصر، ولكن الغرض انما تعلق على العبادة، إذ هو العلم دون
غيره بما قدمناه من آي القرآن.
فان قيل: أي تعلق لقوله تعالى (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) (1)
بسؤال قدم عن الأهلة.
قلنا: لأنه لما بين ما فيه من وجه الحكمة اقتضى لتعملوا على أمور متعددة
ولتجروا أموركم على استقامة، فإنما البر أن تتبعوا أمر الله، وان تأتوا البيوت من
أبوابها، أي ائتوا البر من وجهه الذي أمر الله به ورغب فيه. وهذا عام في كل شئ
حتى في الصوم والافطار، فإنه يجب أن لا يصام فرضا من عند رؤية هلال شعبان

(1) سورة البقرة: 189.
188

الا بعد أن يقصى ثلاثون يوما مع العلة في السماء، ولا يفطر الا بالرؤية أو بعد انقضاء
ثلاثين يوما من عند رؤية هلال شهر رمضان إذا كان في آخره علة في السماء لا يصح
معها الترائي قبله إن كان.
(باب أقسام الصوم الواجب)
الصوم الواجب على ضربين:
مطلق من غير سبب، وهو شهر رمضان، قال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
والثاني ما هو واجب بسبب، وهو عشرة أوجه، ووجوبها كوجوب شهر
رمضان:
أحدهما - صوم شهرين متتابعين في كفارة الظهار، قال الله تعالى (والذين
يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم
توعظون به والله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) (1).
الثاني - صيام شهرين متتابعين فيمن أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا،
قال الله تعالى (فعدة من أيام أخر) وقال (ما آتاكم الرسول فخذوه).
الثالث - صيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ ممن لم يجد العتق، قال الله
تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) إلى قوله
(فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) (2).
الرابع - صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الاطعام والكسوة

(1) سورة المجادلة: 3 - 4
(2) سورة النساء: 92.
189

والعتق، قال الله تعالى (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) (1)
كل ذلك متتابع وليس بمفترق.
الخامس - صيام أذى حلق الرأس، قال تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به
أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) (2) فصاحبها مخير ان شاء صام ثلاثا
أو تصدق أو نسك.
السادس - صوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي، قال الله تعالى (فمن تمتع
بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) (3).
السابع - صوم جزاء الصيد، قال الله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء
مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين
أو عدل ذلك صياما) (4).
الثامن - صوم النذر، سواء كان متعينا أو غير متعين، قال الله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (5) وقال (يوفون بالنذر) (6).
التاسع - صوم الاعتكاف، وقال تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في
المساجد) (7).
العشار - صوم قضاء ما فات من شهر رمضان والنذر، قال الله تعالى (فعدة

(1) سورة المائدة: 89.
(2) سورة البقرة: 196.
(3) سورة البقرة: 196.
(4) سورة المائدة: 95.
(5) سورة المائدة: 1.
(6) سورة الانسان: 7.
(7) سورة البقرة: 187.
190

من أيام أخر) (1). يلحق بها صوم كفارة من أفطر يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال،
فإنه أيضا واجب.
فأما بيان آية صوم شهر رمضان فقد مضى، ونحن نبين الان ما يتعلق بالوجوه
الاخر من الصوم الواجب، ونفرد لكل واحد فصلا مفردا انشاء الله تعالى.
(الفصل الأول)
(في الصوم الذي هو كفارة الظهار)
قال تعالى (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم) إلى قوله
(فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) (2).
يقول فمن لم يجد الرقبة - يعنى عجز عنها - فالصيام. والتتابع فيه ان يوالي
بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما. وعند قوم ان بدأ من نصف شهر لا يفطر
فيما بينهما، فان أفطر لا لعذر استأنف. فان أفطر لعذر من مرض اختلفوا فمنهم
قال يستأنف من عذر وغير عذر وقال قوم يبنى.
واجمعوا على أن المرأة إذا أفطرت للحيض في الشهرين المتتابعين في كفارة
قتل الخطأ انها تبنى، فقاسوا عليه المظاهر.
وروى أصحابنا انه إذا صام شهرا ومن الثاني بعضه ولو يوما ثم أفطر لغير
عذر فقد أخطأ الا انه يبنى، فان أفطر قبل ذلك بغير عذر استأنف وإن كان لعذر
يبنى، قال تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) ثم قال (فمن لم يستطع فاطعام
ستين مسكينا).

(1) سورة البقرة: 184.
(2) سورة المجادلة: 2 - 4.
191

الفصل الثاني
(في صوم كفارة قتل الخطأ)
قال الله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ) إلى قوله (فمن لم
يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) (1). يعنى فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة
عن قتله المؤمن لاعساره فعليه صيام شهرين متتابعين.
واختلفوا في معناه، فقال قوم مثل ما قلناه ذهب إليه مجاهد، وقال قوم فمن
لم يجد الدية فعليه صوم الشهرين عن الرقبة والدية. وتأويل الآية فمن لم يجد رقبة
مؤمنة ولا دية يسلمها إلى أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين، ذهب إليه مسروق.
والأول هو الصحيح، لان دية قتل الخطأ على العاقلة - على ما نذكره في
بابه - والكفارة على القاتل باجماع الأمة على ذلك.
وصفة التتابع في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بافطار يوم. وقال
أصحابنا إذا صام شهرا وزيادة ثم أفطر خطأ جاز له البناء كالتفصيل الذي ذكرناه
في الفصل الأول.
وقوله (توبة من الله) أي رفعة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم
من فرض تحرير رقبة مؤمنة بايجاب صوم الشهرين المتتابعين.
الفصل الثالث
(في صوم كفارة اليمين)
قال الله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) إلى قوله (فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) (2). فحد من لم يكن بواجد هو من

(1) سورة النساء: 92.
(2) سورة المائدة: 89.
192

ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، وهو قول قتادة والشافعي
أيضا. فصوم هذه الثلاثة الأيام متتابع.
فأما إذا قال القائل (إذا فعلت كذا فلله علي أن أتصدق بمائة دينار أو أصوم
يوم كذا) فهذا عندنا نذر، وعند أكثر الفقهاء يلزمه مائة دينار أو الصوم.
وقال أبو علي عليه كفارة يمين، لقوله (ذلك كفارة أيمانكم)، وهو عام في
جميع الايمان. وعندنا هذا ليس بيمين، بل هو نذر يلزمه الوفاء به، لقوله (أوفوا
بالعقود) ولقوله (وليوفوا نذورهم) ولقوله (يوفون بالنذر)، والوفاء بالنذر هو
أن يفعل ما نذر عليه.
والوفاء امضاء العقد على الامر الذي يدعو إليه العقد، ومنه قوله (يا أيها
الذين آمنوا أوفوا بالعقود) أي العقود الصحيحة، لأنه لا يلزم أحدا أن يفي بعقد
فاسد، وكل عقد صحيح يجب الوفاء به.
الفصل الرابع
(في صيام أذى حلق الرأس)
قال الله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو
صدقة أو نسك) (1).
أمر الله تعالى أن لا يزيلوا شعور رؤوسهم من أول ذي القعدة حتى ينتهى
الهدي إلى المكان الذي يحل نحره فيه، فمن مرض أو قمل رأسه أو تأذى به فعليه
فدية من صيام. فالذي رواه أصحابنا ان الصيام ثلاثة أيام أو صدقة ستة مساكين.
وروي عشرة مساكين (2)، والنسك شاة، وروي عن كعب بن عجرة الأنصاري ومجاهد

(1) سورة البقرة: 196.
(2) انظر الأحاديث في ذلك وسائل الشيعة 9 / 295 - 297.
193

وعلقمة وإبراهيم والربيع. واختار الجبائي مثل ما قلناه أن الصوم ثلاثة أيام، وقال
الحسن وعكرمة صوم عشرة أيام.
الفصل الخامس
(في صوم دم المتعة)
قال الله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم
يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) (1).
فالهدي واجب على المتمتع، فإن لم يجد الهدي ولا ثمنه صام ثلاثة أيام
في الحج. وعندنا أن وقت صوم هذه الثلاثة الأيام يوم قبل التروية ويو التروية
ويوم عرفة، فان صام في أول العشر جاز ذلك رخصة، وان صام يوم التروية ويوم
عرفة قضى يوما آخر بعد التشريق، فان فاته يوم التروية فلا يصوم يوم عرفة لذلك
بل يصوم بعد انقضاء أيام التشريق ثلاثة أيام متتابعات وصوم السبعة أيام إذا رجع إلى
أهله، فأما أيام التشريق فلا يجوز صومها عندنا لمن كان بمنى وبمكة حاجا لصوم دم
المتعة وغيره.
الفصل السادس
(في صوم جزاء الصيد)
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) إلى قوله
(أو عدل ذلك صياما) (2).
قيل في معناه قولان:

(1) سورة البقرة: 196.
(2) سورة المائدة: 95.
194

أحدهما - لا تقتلوا الصيد محرمين، فمن صاد فعليه الجزاء أو الصدقة أو
أن يقوم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاما في قول عطاء، وهو مذهبنا.
وقال قتادة: يقوم نفس الصيد المقتول حيا ثم يجعل قيمته طعاما.
ونصب (صياما) على التمييز، وفى معناه قولان:
أحدهما - يقوم ذلك المقتول بدراهم وتفض على الطعام ثم يصام لكل مد
من الطعام يوم عن عطاء، وقال غيره عن كل يوم مدين، وهو مذهبنا. وقال سعيد
ابن جبير يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام.
وعن الزهري في قوله (أو عدل ذلك صياما) قال: قال لي علي بن الحسين
عليه السلام: أو تدري كيف كان عدل ذلك صياما. فقلت لا. قال: يقوم الصيد قيمة
ثم تفض تلك القيمة على البر، ثم يكال ذلك البر أصواعا، فيصوم لكل نصف
صاع يوما (1).
هذا إذا أصابه المحل في الحرم.
الفصل السابع
(في صوم النذر)
قال الله تعالى (وليوفوا نذورهم) (2) وقال (أوفوا بالعقود) (3).
يقال وفى بعهده، وأوفى لغة أهل الحجاز، وهي لغة القرآن، وقد ذكرنا
ما في الوفاء بالنذر.
أما العقود فجمع العقد، بمعنى المعقود، وهو أوكد العهود.

(1) تفسير البرهان 1 / 504.
(2) سورة الحج: 29.
(3) سورة المائدة: 1.
195

والفرق بين العهد والعقد أن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد، ولا يكون الا
بين متعاقدين، والعهد قد ينفرد به الواحد، فكل عهد عقد ولا يكون كل عقد عهدا.
خاطب الله تعالى المؤمنين، وتقديره يا أيها المؤمنون، وهو اسم تعظيم
وتكريم (أوفوا بالعقود)، والامر على الوجوب شرعا، فعلى هذا من نذر صوم
يوم بعينه فعليه الوفاء به واجبا.
واختلفوا في هذه العهود على أربعة أقوال:
أحدها - ان المراد بها العقود التي يتعاقد الناس بينهم ويعقدها المرء على
نفسه، كعقد الايمان والنذور وعقد العهد وعقد البيع.
وثانيها - انها العهود التي أخذها الله على العباد مما أحل وحرم.
وثالثها - ان المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا على
النصرة والمؤازرة على من حاول ظلمه.
ورابعها - ان ذلك أمر من الله لأهل الكتاب. قالوا فإنما أخذ به ميثاقهم من
العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق نبينا عليه السلام.
والأقوى أن يكون على العموم، فان ذلك بعرف الشرع يحمل على العموم
والاستغراق وجوبا، فيدخل تحته الصوم والصلاة والحج وغير ذلك.
الفصل الثامن
(في صوم الاعتكاف)
قال الله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) (1).
قيل في معناه قولان: أحدهما انه أراد به الجماع عن ابن عباس وغيره.
والثاني أنه أراد به الجماع وكل ما كان دونه من قبلة وغيرها، وهو مذهبنا

(1) سورة البقرة: 187.
196

وقوله (وأنتم عاكفون في المساجد) فعندنا الاعتكاف هو اللبث في أحد
المساجد الأربعة للعبادة من غير اشتغال بما يجوز تركه من أمور الدنيا، وله شرائط
مذكورة في كتب الفقه، وأصله اللزوم.
وقوله (تلك حدود الله) أي فرائضه، والحد منتهى الشئ.
ولا يجوز الاعتكاف الا بالصوم، وبه قال أبو حنيفة ومالك بن أنس، ودلت
الآية من فحواها على الصوم الواجب في الاعتكاف، والدليل القاطع من القرآن
قوله (ما آتاكم الرسول فخذوه) وإن كان على الجملة.
وعندنا لا يكون أقل من ثلاثة أيام، وبه قال أهل المدينة.
وقيل إن هذه الآية من أولها (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)
نزلت في شأن ابن قيس بن صرمة (1)، وكان يعمل في أرض له، فأراد الاكل فقالت
امرأته نصلح لك شيئا فغلبت عيناه، ثم قدمت إليه الطعام فلم يأكل، فلما أصبح
لاقى جهدا، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، فنزلت الآية (2).
وروي أن عمر أراد أن يواقع زوجته في شهر رمضان بالليل، فقالت اني
نمت (3)، فظن أنها تعتل عليه فوقع عليها، ثم أخبر النبي عليه السلام من الغد، فنزلت
الآية فيهما (4).
وعن الصادق عليه السلام: انها نزلت في خوات بن جبير بمثل قصة ابن قيس
ابن صرمة، وكان ذلك يوم الخندق (5).

(1) كذا في النسختين. وفى المصدر (قيس بن صرمة)، وذكر في المصادر الحديثية
بعناوين مختلفة - أنظر الإصابة 2 / 177 و 4 / 160.
(2) أسباب النزول للواحدي ص 30 مع اختلاف في الألفاظ.
(3) انما قالت نمت لان الجماع بعد النوم كان محظورا عليهم (ه‍ ج).
(4) أسباب النزول للواحدي ص 31.
(5) انظر تفسير البرهان 1 / 186.
197

الفصل التاسع
(في صوم قضاء ما فات من شهر رمضان لعذر)
قال الله تعالى (فعدة من أيام أخر) (1).
وتقديره فمن كان منكم في سفر - يعني مسافرا - فليصم عدة من أيام أخر،
والامر على الايجاب في الشرع، فلم أن قضاء ما يفوت من شهر رمضان لعذر واجب
يجوز متتابعا ومتفرقا، والتتابع أفضل، وبه قال الشافعي ومالك، وقال أهل العراق
هو مخير.
وروي عبد خير قال: قلت لأبي الحسن أمير المؤمنين عليه السلام: ان علي
أياما من شهر رمضان أفيجوز أن أقضيها متفرقة؟ قال: اقضها ان شئت متتابعة وان
شئت تترى. قال: فقلت ان بعضهم قال لا تجزي الا متتابعة. قال: بل تجزي تترى،
لأنه تعالى قال (فعدة من أيام أخر) ولو أرادها متتابعة لبين التتابع كما قال (فصيام
شهرين متتابعين) في الكفارة.
وقال المرتضى: يخير أصحابنا للقاضي لصوم شهر رمضان إذا فاته بين التفريق
والمتابعة، ولي في ذلك تأمل، والأقوى أن يلزمه متتابعا إذا لم يكن له عذر، لان
الواجبات عندنا هي على الفور شرعا دون التراخي، والقول بتخييره في ذلك يدفع
هذا الأصل، فأما عند العذر فلا خلاف أنه يجوز التفريق.
ومعنى قوله (تترى) أي متواترة، تقول العرب جاءت الخيل متتابعة إذا
جاء بعضها في اثر بعض بلا فصل، وجاءت متواترة إذا تلاحقت وبينها فصل، والعامة
يوهمون فيقولون للمتتابع متواتر.
وأما صيام النذر فإن كان الناذر نذر أن يصوم يوما بعينه في سفر أو حضر ثم

(1) سورة البقرة: 184.
198

وافق ذلك اليوم أن يكون مسافرا كان أو حاضر فإنه يجب الصيام في حال السفر أيضا،
فان اتفق ان يكون ذلك اليوم يوم عيد أو يكون الناذر مريضا فعليه الافطار والقضاء.
وقد نص على قضاء ما يفوت من صيام النذر لعذر رسول الله صلى الله عليه
وآله تفصيلا ونص عليه القرآن جملة، كما قال تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه).
الفصل العاشر
(في صيام شهرين متتابعين)
(على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا)
من أفطر في شهر رمضان متعمدا بالجماع في الفرج لزمه القضاء والكفارة
عندنا. والكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو اطعام ستين مسكينا، وعليه
اجماع الطائفة المحقة.
والدليل عليه على سبيل التفصيل انما يكون من السنة، ومن القرآن انما
يكون على الجملة، قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)،
وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقال مالك هو بالخيار في ذلك، واعتمد الشيخ في الجمل والعقود على هذه
الرواية، وقال في غير موضع الكفارة وفيه عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين، فإن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وعول
على هذه الرواية وقال: ومن أصحابنا من قال بالأول.
فمن أكل أو شرب أو جامع في نهار شهر رمضان متعمدا لزمه القضاء والكفارة
عندنا. ومتى فعل شيئا منها ناسيا فلا شئ عليه، وكذلك حكم من فعل شيئا منها في
يوم قد نذر صومه عمده كعمده ونسيانه كنسيانه.
199

(باب مسائل شتى من ذلك)
من صام في السفر واجبا يجب عليه الإعادة غير النذر المقيد صومه بالسفر،
وغير الثلاثة الأيام في الحج بدل هدي المتعة.
والحجة لقولنا - زائدا على الاجماع المكرر - قوله (ومن كان منكم مريضا
أو على سفر فعدة من أيام أخر) فأوجب الله القضاء بنفس السفر.
فان قيل: فيجب أن تقولوا مثل ذلك في قوله (فمن كان منكم مريضا أو به
أذى من رأسه) ولا تضمروا فحلق.
قلنا: هكذا يقتضي الظاهر، ولو خلينا وإياه لم نضمر شيئا، لكن أضمرناه
بالاجماع، ولا دليل ولا اجماع نقطع به في الموضع الذي اختلفنا فيه، والشئ
إذا تكرر تقرر.
ومن تمضمض لطهارة فوصل الماء إلى جوفه لا شئ عليه من قضاء ولا غيره،
وان وصل لغير طهارة من تبرد أو غيره ففيه القضاء خاصة.
ويمكن أن نتعلق للحجة في الأول - بعد الاجماع المتردد - بقوله (ما جعل
عليكم في الدين من حرج)، وكل الحرج أن يأمرنا بالمضمضة في الطهارة ثم
يلزمنا القضاء إذا سبق الماء إلى أجوافنا من غير اعتماد في حال الصوم. ولا يلزم
على ذلك التبرد بالمضمضة لأنه مكروه في الصوم، والامتناع منه أولى.
وقد كره بعض أصحابنا ان يتمضمض في الطهارة في الصوم الفرض، وقال:
من تمضمض فيها فينبغي أن يرمي بماء الفم بعده ثلاث مرات.
200

(فصل)
قال الله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) (1).
الرفث الجماع ههنا بلا خلاف (2)، وروي عنهما (3) عليهما السلام كراهية الجماع
في أول كل شهر الا أول ليلة من شهر رمضان لمكان الآية (4).
ويمكن أن يقال: الوجه في ذلك تكسير الشهوة لسائر الشهر وارضاء النفس
اللوامة.
والأشبه أن يكون المراد بليلة الصيام ليالي الشهر كله، وانما ذكر بلفظ
التوحيد لأنه اسم جنس دل على الكثير.
وقوله تعالى (علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم) معناه انهم كانوا لما حرم
عليهم الجماع في شهر رمضان بعد النوم خالفوا في ذلك، فذكرهم الله بالنعمة في
الرخصة التي نسخت تلك الفريضة.
فان قيل: أليس الخيانة انتقاص الحق عن جهة المساترة، فكيف يساتر
الانسان نفسه.
قلنا عنه جوابان: أحدهما ان بعضهم كان يساتر بعضا فيه، فصار كأنه يساتر
نفسه، لان ضرر النقص والمساترة داخل عليه. والثاني أنه يعمل عمل المساتر له،
فهو يعمل لنفسه عمل الخائن له.

(1) سورة البقرة: 187.
(2) قال ابن منظور: الرفث الجماع وغيره مما يكون بين الرجل وامرأته، يعنى التقبيل
والمغازلة ونحوهما مما يكون في حالة الجماع، وأصله قول الفحش - لسان العرب (رفث).
(3) المراد بقولنا (عنهما) الباقر والصادق عليهما السلام، وكذا قولنا عن أحدهما
عليهما السلام (ه‍ ج).
(4) وسائل الشيعة 7 / 255 بمضمونه، وانظر تفسير البرهان 1 / 186.
201

وقوله تعالى (وعفا عنكم) أي أزال تحريم ذلك عنكم، وذلك عفو عن
تحريمه عنهم (فالآن باشروهن) أي جامعوهن، ومعناه الإباحة دون الامر (وابتغوا
ما كتب الله لكم) في معناه قولان: أحدهما قال الحسن يعني طلب الولد، والثاني
قال قتادة يعني الحلال الذي بينه الله في كتابه بقوله (كلوا واشربوا) إباحة للاكل
والشرب حتى يظهر بياض الفجر من سواد الليل. وقيل خيط الفجر الثاني مما كان
في موضعه من الظلام، وقيل النهار من الليل، فأول النهار طلوع الفجر الثاني،
لأنه أوسع ضياءا.
وقوله تعالى (من الفجر) يحتمل من معنيين: التبعيض لان المعنى بعض
الفجر وليس الفجر كله، أو التبيين أي حتى يتبين الخيط الأبيض الذي هو الفجر.
(فصل)
وقوله (ثم أتموا الصيام إلى الليل).
والليل هو بعد غروب الشمس، وعلامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة
من جانب المشرق واقبال السواد منه، والا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في
الأرض المبسوطة وعدم الجبال والروابي فقد دخل الليل.
وقوله (وكلوا واشربوا) يمكن أن يقال هو أمر على الوجوب يتناول ما هو
قوام البدن، وأمر على الاستحباب بأكل السحور، فإنه عون على الصوم وخلاف
على اليهود واقتداء بالرسول، فإنه عليه السلام قال (يستحب السحور ولو بشربة
من ماء وأفضله التمر) (1).
وروي أن عدي بن حاتم قال للنبي عليه السلام: اني وضعت خيطين من
شعر أبيض وأسود فكنت أنظر فيهما فلا يتبينان لي. فضحك رسول الله عليه السلام

(1) الكافي 4 / 94.
202

حتى رؤي نواجذه وقال: يا بن حاتم انما ذلك بياض النهار وسواد الليل، فابتدئ
الصوم من هذا الوقت (1).
وقد بين سبحانه الانتهاء أيضا بقوله (ثم أتموا الصيام إلى الليل) أي من
وقت طلوع الفجر الثاني، وهو الفجر الصادق المستطير المعترض الذي يأخذ الأفق
ويجب عنده الصلاة إلى وقت دخول الليل على ما حددناه.
(فصل)
وقوله تعالى (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) (2).
قيل: معناه لتبلون بالعبادات في أنفسكم كالصلاة والصيام وغيرهما، وفي
أموالكم من الزكوات والأخماس والانفاق في سبيل الله ليتميز المطيع من العاصي.
ويقال لشهر رمضان (شهر الصبر) لصبر صائمه عن الطعام والشراب نهارا
وصبره إياهم عن المأكول والمشروب، أي كفه إياهم وحبسه لهم عن ذلك، قال
تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) (3) أي بالصوم والصلاة. وهو خطاب لجميع من
هو بشرائط التكليف، لفقد الدلالة على التخصيص، واقتضاء العموم لذلك. والصبر
هو منع النفس عن محابها وكفها عن هواها، وكان النبي عليه السلام إذا أحزنه أمر
استعان بالصبر والصلاة.
واعلم أن من تحرى الفجر فلم يره فتسحر ثم علم بعد ذلك أنه كان طالعا لم
يكن عليه قضاء، بدلاله قوله (ما جعل عليكم في الدين من حرج) إذا كان الصوم
فرضا كشهر رمضان، فأما إن كان قضاءا لشهر رمضان أو نافلة فلا يصح صوم ذلك اليوم.

(1) الدر المنثور 1 / 199 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(2) سورة آل عمران: 186.
(3) سورة البقرة: 45 و 153.
203

وقوله (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وان لم يكن تحرى الفجر وأقدم على
التسحر قبل تحريه وقد طلع الفجر حينئذ وجب عليه القضاء لما كان منه من تفريطه
في فرض الصيام.
(فصل)
وقد جرى ذكر النسخ في المسح على الخفين بسورة المائدة، ونسخ القبلة
من بيت المقدس إلى الكعبة، وكذا في آية الصوم ذكرنا دليلا على جوازه، وقال
تعالى (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) (1).
فالنسخ حقيقته كل دليل شرعي دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص الأول
غير ثابت فيما بعد على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه.
والنسخ في الشرع على ثلاثة أقسام (2): نسخ الحكم دون اللفظ، ونسخ اللفظ
دون الحكم، ونسخهما معا.
فالأول كقوله (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ان يكن منكم عشرون
صابرون يغلبوا مائتين وان يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا انهم قوم لا
يفقهون * الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا
مائتين) (3). فكان الفرض الأول وجوب ثبوت الواحد للعشرة، فنسخ بثبوت الواحد
للاثنين، فحكم الآية الأولى منسوخ وتلاوتها ثابتة. ونحوها آية العدة والفدية
وغير ذلك.
والثاني كآية الرجم، فقد روي أنها كانت منزلة (الشيخ والشيخة إذا زنيا

(1) سورة البقرة: 106.
(2) انظر في ذلك الاتقان للسيوطي 2 / 26، وهذا التقسيم لم يعرف عند الشيعة الإمامية.
(3) سورة الأنفال: 64 - 65.
204

فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة جزاءا بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) (1)
فرفع لفظها وبقي حكمها.
والثالث ما هو مجوز ولم يقطع بأنه كان، وقد روي عن أبي بكر أنه قال:
كنا نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فهو كفر) (2).
واعلم أن سبيل النسخ سبيل سائر ما تعبد الله به وشرعه على حسب ما يعلم
من المصلحة فيه، فإذا زال الوقت الذي تكون المصلحة مقرونة به زال بزواله،
وذلك مشروط بما في المعلوم من المصلحة به، وهذا كاف في ابطال قول من أبى
النسخ.
ومعنى الآية: ما نبدل من آية أو نتركها أو نؤخرها نأت بخير منها لكم في
التسهيل كالأمر بالقتال أو مثلها كالتوجه إلى القبلة.
(باب الزيادات)
سأل هشام بن الحكم أبا عبد الله عليه السلام عن علة الصيام، فقال: انما
فرض الله الصيام ليستوي به الغنى والفقير، وذلك أن الغني لم يكن ليجد مس الجوع
فيرحم الفقير [لان الغنى كلما أراد شيئا قدر عليه]، فأراد الله أن [يسوي بين خلقه
وان] يذيق الغني مس الجوع ليرق على الضعيف ويرحم الجائع (3).
(مسألة)
من قرأ (فدية طعام مسكين) فطعام مسكين عطف بيان لقوله (فدية)، ومن

(1) الاتقان 2 / 25.
(2) الاتقان 2 / 25، وهو مروى عن عمر.
(3) من لا يحضره الفقيه 2 / 73. والزيادتان منه.
205

أضاف الفدية إلى طعام فهو كإضافة البعض إلى ما هو بعض له، فإنه سمى الطعام
الذي يفدى به فدية، ثم أشاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها، وهذا
كقولهم (خاتم حديد).
(مسألة)
وقوله (فعدة من أيام أخر)، أي فعليه عدة، ارتفاعه على الابتداء. ويجوز
أن يكون خبر ابتداء، أي فالذي ينويه عدة من أيام أخر.
فان قيل: كيف قيل (فعدة) على التنكير ولم يقل فعدتها؟.
قلنا: لما قيل (فعدة) فالعدة بمعنى المعدود، فأمر بأن يصوم أياما معدودة،
فكأنها ان أفطر بعض الشهر فبعضه وان أفطر الكل فالكل.
واختلفوا في العدة من الأيام الأخر: فقال الحسن هي على التضييق إذا برئ
المريض أو قدم المسافر، وعندنا موقت فيما بين رمضانين فان فرط فعلى ما ذكرناه.
(مسألة)
عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله (وعلى الذين يطيقونه فدية) قال: من
مرض في شهر رمضان فأفطر ثم صح ولم يقض ما فاته متوانيا حتى جاء شهر رمضان
آخر فعليه أن يتصدق لكل يوم بمد من طعام وأن يقضي بعده (1).
(مسألة)
وقوله تعالى (ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) عن
الصادق عليه السلام: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله يصوم في السفر تطوعا

(1) تفسير البرهان 1 / 181، مع اختلاف في بعض الألفاظ.
206

ولا فريضة منذ نزلت هذه الآية بكراع الغميم (1) عند صلاة الهجير، فدعا رسول الله
صلى الله عليه وآله باناء فشرب وأمر الناس أن يفطروا، فقال قوم: لو تممنا يومنا
هذا، فسماهم النبي عليه السلام العصاة، فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض
عليه السلام (2).
(مسألة)
وقوله (أنزل فيه القرآن) أي أنزل في فرضه وايجاب صومه على الخلق
القرآن، فيكون (فيه) بمعنى في فرضه، كما يقول القائل (أنزل الله في الزكاة
كذا) يريد في فرضها. وقد ذكرنا له معنى آخر، والمراد بالهدى الأولى الهداية
من الضلالة وبالهدى الثانية بيان الحلال والحرام.
وعن أبي عبد الله عليه السلام: القرآن جملة الكتاب، والفرقان المحكم
الذي يجب العمل بظاهره (3).
(مسألة)
وقوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) الألف واللام في الشهر للعهد،
والمراد به شهر رمضان، وينتصب على أنه ظرف لا على أنه مفعول به، لأنه لو كان
مفعولا به للزم صومه المسافر كما يلزم المقيم، من حيث أن المسافر يشهد الشهر

(1) الكراع - بضم الكاف - اسم لجمع الخيل، وكراع الغميم موضع بناحية الحجاز
بين مكة والمدينة، وهو واد امام عسفان بثمانية أميال، وهذا الكراع جبل اسود في طرف
الحرة يمتد إليه - معجم البلدان 4 / 443.
(2) تفسير البرهان 1 / 180 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(3) البرهان 4 / 155.
207

كما يشهد المقيم، فلما لم يلزم المسافر علمنا أن معناه فمن شهد منكم المصر في
الشهر فليصمه أي فليصم جميعه، ولا يكون الشهر مفعولا به.
فان قيل: كيف جاء ضميرة متصلا في قوله (فليصمه) إذا لم يكن الشهر
مفعولا به.
قلنا: قد حذف منه المضاف على ما ذكرنا.
وقيل: ان الاتساع وقع فيه بعد أن استعمل ظرفا، على ما تقدم بيان أمثاله
في مواضع.
(مسألة)
وقوله (ولتكملوا العدة). اللام فيه يجوز أن يكون للامر، كقراءة من قرأ
(فبذلك فلتفرحوا) (1) بالتاء. وانما أورد اللام في أمر المخاطب هنا اشعارا أن النبي
عليه السلام وأمته الحاضرين والغائبين داخلون تحت هذا الخطاب (2).

(1) سورة يونس: 58.
(2) الأخفش: ادخال اللام في أمر المخاطب لغة رديئة، لان هذا اللام انما تدخل
في المواضع الذي لا يقدر فيه على أفعل، وإذا خاطبت قلت قم لأنك قد استغنيت عنها. قال
صدر الأفاضل الخوارزمي: والامر كما ذكره الأخفش، الا ان من المواضع ما يحسن فيه
الامر باللام للفاعل المخاطب، وذلك إذا لم يكن المأمور ثمة بعضها غائب وبعضها مخاطب،
لقوله صلى الله عليه وآله (لتأخذوا مصافكم)، فالتاء تفيد الخطاب واللام تفيد الغيبة وبمجموع
الامرين يستفاد العموم، ولو قال (خذوا) لاوهم خصوص الجماعة المخاطبة، وعليه قراءته
صلى الله عليه وآله (فلتفرحوا)، الفاء في فلتفرحوا مزيدة، كما في (فاجزعي) من قوله:
لا تجزعي ان منفسا أهلكته * وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
(ه‍ ج).
208

(مسألة)
وقوله تعالى (يريد الله بكم اليسر) إشارة إلى جواز غير التتابع في قضاء
تلك العدة وان كانت شهرا أو أياما، الا أنه لابد من قضائها جميعا.
(مسألة)
وقوله تعالى (ولتكبروا الله على ما هداكم) المراد به تكبير ليلة الفطر
ويومه عقيب أربع صلوات - المغرب والعشاء والغداة وصلاة العيد - على
مذهبنا.
(مسألة)
وقوله تعالى (حتى يتبين لكم خيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر).
يسأل فيقال: لم زيد قوله (من الفجر) وهلا اختصر به على الاستعارة؟ قلنا: لان
من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر (من الفجر) لم يعلم
أن الخيطين مستعاران، فزيد (من الفجر) فكان تشبيها بليغا. على أن مع هذا البيان
التبس على العربي الفصيح مثل عدي بن حاتم.
(مسألة)
أما قوله (كما كتب على الذين من قبلكم) فقد روي عن أمير المؤمنين عليه
السلام: أولهم آدم عليه السلام.
يعنى أن الصوم عبادة قديمة ما أخلا الله نبيا ولا أمة من افتراضها عليهم، لم
يفرضها عليكم وحدكم (لعلكم تتقون) المعاصي، لان الصائم أظلف لنفسه. والمعنى.
209

كتب عليكم كما كتب عليهم أن تتقوا المفطر بعد أن تصلوا العشاء وبعد أن تناموا،
ثم نسخ ذلك بقوله (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم).
ومعنى (معدودات) موقتات بعدد معلوم أو قلائل كقوله (دراهم معدودة)
والله أعلم.
210

كتاب الزكاة
[وجميع العبادات المالية] (1)
(باب في وجوب الزكاة)
قال الله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون) (2).
أمر الله تعالى في هذه الآية جميع المكلفين بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة اللتين
أوجبهما عليهم وأن يطيعوا الرسول في كل ما يأمرهم به ويدعوهم إليه ليرحموا
جزاءا على ذلك ويثابوا بالنعم الجزيلة. فالفرض التالي لفرض الصلاة في محكم
التنزيل هو الزكاة، فلابد من معرفته وتحصيله، إذ كان في الجهل به جهل أصل
الشريعة، يكفر المنكر له برده ويؤمن بالاقرار به، لعموم تكليفه وعدم سقوطه عن
بعض البالغين لا لعذر.
وفي قوله (وآتوا الزكاة) في آي كثيرة ومواضع متفرقة في كتاب الله دلالة

(1) الزبادة من ج.
2) سورة النور: 56.
211

قاطعة على أنها واجبة، لان ما رغب الله فيه فقد أراده، وكل ما أراده من العبد وأمر
به في الشرع فهو واجب، الا أن يقوم دليل على أنه نفل. وقيل الاحتياط يقتضى
الوجوب.
وسمي بالزكاة ما يجب اخراجه من المال، لأنه نماء لما يبقى وتثمير له. وقيل
بل هو مدح لما يبقى بعد الزكاة، فإنه زكي به أي مطهر، كما قال (أقتلت نفسا
زكية) (1) أي طاهرة.
وقوله في أول البقرة (ومما رزقناهم ينفقون) (2) عن ابن عباس أنه الزكاة
المفروضة تؤتيها احتسابا، وقال الضحاك هو التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى.
والأولى حمل الآية على عمومها فيمن أخرج الزكاة الواجبة والنفقات الواجبة وتطوع
بالخيرات.
(فصل)
قال الله تعالى (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله) (3).
وقال (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (4).
هذه الآية نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي عليه السلام في قتال
المشركين منهم عبد الرحمن بن عوف وهم بمكة، فلم يأذن لهم، فلما كتب عليهم
القتال وهم بالمدينة، قال فريق منهم ما حكاه الله في الآية (5).

(1) سورة الكهف: 74.
(2) سورة البقرة: 3.
(3) سورة التوبة: 54.
(4) سورة النساء: 77.
(5) أسباب النزول للواحدي ص 111.
212

فان قيل: كيف يصح ذلك ولم أمرهم الله بايتاء الزكاة ولم تكن الزكاة
فرضت بمكة.
قلنا: انما قال الله ذلك وأمر بها على وجه الاستحباب والندب دون الزكاة
المقدرة على وجه مخصوص.
وقيل الآية نزلت في اليهود، نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا مثل صنيعهم.
على أن العقل دال على حسن الاحسان والانفاق، فجائز أن يعلم الكافر حسنه،
غير أنه - وان علم ذلك - لا يقع منه على وجه يكون طاعة، لأنه لو أوقعها على
ذلك الوجه لا يستحق الثواب، وهذا لا يجوز. فبين الله في الآية الأولى أنه لا يثيب
من فعل الخيرات إذا كان كافرا.
(فصل)
وقوله (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق) إلى قوله (وآتى المال
على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام
الصلاة وآتى الزكاة) (1).
لا خلاف أن هذه الآية تدل على وجوب اعطاء الزكاة، وتدل أيضا في قول
الشعبي والجبائي على وجوب غيره مما له سبب وجوب، كالانفاق على من يجب
عليه نفقته وعلى من يجب عليه سد رمقه إذا خاف التلف، وعلى ما يلزمه من
النذر والكفارات. ويدخل أيضا فيها ما يخرجه الانسان على وجه التطوع والقربة
إليه تعالى، لان ذلك كله من البر.
ومعنى قوله (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) أي
ليس الدين والخير الصلاة وحدها، لكنه الصلاة مع العبادات الاخر المذكورة.

(1) سورة البقرة: 177.
213

عن ابن عباس قال: فان قيل قوله (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) معطوف
على قوله (وآتى المال على حبه ذوي القربى) فلم كرر وليس زيادة فائدة؟
قلنا: انما قال تعالى (وآتى الزكاة) وقد تضمن قوله (وآتى المال على
حبه ذوي القربى) إيتاء الزكاة توكيدا لأمر الزكاة وتنبيها على أنها تالية للصلاة،
فجمع بينهما في الذكر كما يجبان على حد واحد.
وقيل: انه قوله (وآتى المال على حبه ذوي القربى) ليس يتناول الزكاة
المفروضة في هذه الآية، وانما يدل على وجوب الزكاة قوله (وآتى الزكاة)، وانما
يدل قوله (وآتى المال على حبه) على الانفاق على أولئك إذا عرف منهم شدة
الحاجة، ولا يخرجه ذلك من أن يكون واجبا كما يجب عليه النفقات في أهله وولده،
ورتب الله هذا الترتيب لتقديم الأولى فالأولى.
(فصل)
فان قيل: كيف قال الله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (1) والفقير لا تجب
عليه الصدقة وان لم ينفق فإنه غير مخاطب به.
قلنا: الكلام خرج مخرج الحث على الصدقة الا أنه على ما يصح ويجوز
من امكان النفقة، فهو مقيد في الجملة بذلك، الا انه أطلق الكلام به للمبالغة في
الترغيب فيه. وقال الحسن: هو الزكاة الواجبة وما فرض الله في الأموال خاصة.
والأولى أن تحمل الآية على الخصوص، بأن نقول هي متوجهة إلى من يجب
عليه اخراج شئ أوجبه الله عليه دون من لم تجب عليه، ويكون ذلك أيضا مشروطا
بأن لا يعفو الله عنه. أو نقول: (لن تنالوا البر) الكامل الواقع على أشرف الوجوه
(حتى تنفقوا مما تحبون).

(1) سورة آل عمران: 92.
214

وقيل في معنى (البر) انه الجنة، وقيل إنه البر من الله بالثواب والجنة،
وقيل البر فعل الخير الذي يستحقون به الاجر.
فإذا ثبت وجوب الزكاة فاعلم أنه يحتاج فيها إلى معرفة خمسة أشياء: ما
تجب فيه، ومن تجب عليه، ومقدار ما تجب فيه، ومتى تجب، ومن المستحق
لها. ويدخل في القسم الأخير مقدار ما يعطى.
والطريق إلى معرفتها الكتاب والسنة جملة وتفصيلا، ونحن نشير إليها في
أبواب انشاء الله تعالى:
(الباب الأول)
(فيما تجب فيه الزكاة وكيفيتها وما تستحب فيه الزكاة)
الزكاة عندنا لا تجب الا في تسعة أشياء بينها رسول الله صلى الله عليه وآله.
والدليل عليه من القرآن قوله تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه) وقال (وأنزلنا
إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).
وهي: الانعام والأثمان والغلات والثمار. وما عداها من الحبوب تستحب
فيه الزكاة.
(فصل)
والذي يدل على صحته - زائدا على اجماع الطائفة - قوله تعالى (ولا يسألكم
أموالكم) (1). والمعنى أنه لا يوجب في أموالكم حقوقا، لأنه تعالى لا يسألنا أموالنا
الا على هذا الوجه.
وهذا الظاهر يمنع من وجوب حق في الأموال مما أخرجناه، فهو بالدليل

(1) سورة محمد: 36.
215

القاطع وما عداه باق تحت الظاهر، فان تعلق المخالف بقوله (وآتوا حقه يوم
حصاده) (1) وانه عام في جميع الزروع وغيرها مما ذكر في الآية.
فالجواب عنه: انا لا نسلم أن قوله (وآتوا حقه) يتناول العشر ونصف العشر
المأخوذ على سبيل الزكاة، فمن ادعى تناوله لذلك فعليه الدلالة.
وعند أصحابنا أن ذلك يتناول ما يعطى المسكين والفقير المجتاز وقت الحصاد
والجذاذ (2) من الجفنة والضغث (3)، فقد رووا ذلك عن الأئمة عليهم السلام، فمنه ما
روي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: ليس ذاك
الزكاة، ألا ترى أنه قال (ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين) (4).
وهذه نكتة منه عليه السلام مليحة، لان النهى عن السرف لا يكون الا فيما
ليس بمقدر، والزكاة مقدرة. وليس لاحد أن يقول: ان الاسراف ههنا هو أن يعطى
غير المستحق. لان ذلك مجاز، ولا يجوز ترك الظاهر الذي هو الحقيقة والخروج
إلى المجاز الا بدليل، ولا دليل ههنا.
وروي عن أبي عبد الله عليه السلام انه قيل له: يا بن رسول الله وما حقه؟
قال: يناول منه المسكين والسائل (5).
والأحاديث بذلك كثيرة، ويكفي احتمال اللفظ. وإن كان يقوي هذا التأويل
أن الآية تقتضي أن يكون العطاء في وقت الحصاد والعشر المفروض أو نصفه في

(1) سورة الأنعام: 141.
(2) قال الجوهري: جذ النخل يجذه أي صرمه، واجذ النخل حان له أن يجذ، وهذا
من الجذاذ والجذاذ - أي بفتح الجيم وكسره - مثل الصرام والصرام (ه‍ ج).
(3) الجفن قضبان الكرم، الواحدة جفنة، قضبت أي قطعت أغصانه أيام الربيع، قضبه
أي قطعه والضغث قطعة حشيش مختلطة الرطب باليابس - من هامش نسخة م.
(4) تفسير البرهان 1 / 555.
(5) تفسير البرهان 1 / 556.
216

الزكاة لا يمكن في تلك الحال، لان العشر أو نصفه مكيل ولا يؤخذ الا من المكيل
وفي وقت الحصاد لا يكون مكيلا ولا يمكن كيله، وانما يكال بعد تذريته وتصفيته،
فتعليق العطاء بتلك الحال لا يمكن الا بما ذكرناه.
ويقوي هذا التأويل ما روي عن النبي عليه السلام من النهى عن الحصاد
والجذاذ بالليل (1). وانما نهى عن ذلك لما فيه من حرمان المساكين ما ينبذ إليهم
من ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون) (2).
وما يقوله قوم في قوله (وآتوا حقه يوم حصاده) من أنها مجملة ولا دليل
فيها. فليس بصحيح، لان الاجمال هو مقدار الواجب لا الموجب فيه (3).
(فصل)
فان قيل في قوله (وآتوا حقه يوم حصاده) قد سماه الله تعالى حقا، وذلك
لا يليق الا بالواجب.
قلنا: قد يطلق اسم (الحق) على الواجب والمندوب إليه، ألا ترى إلى ما
روي عن جابر أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله: وهل علي حق في
ابلي سوى الزكاة؟ قال: نعم تحمل عليها وتسقي من لبنها.
فان قالوا: فظاهر قوله (وآتوا حقه) يقتضي الوجوب، وما ذكرتموه
ليس بواجب.
قلنا: إذا سلمنا ان ظاهر الامر شرعا على الوجوب أو الايجاب كان لنا من
الكلام طريقان:

(1) تفسير البرهان 1 / 556.
(2) سورة القلم: 17 - 18.
(3) أي لا يمكن دفع شبهة الخصم بهذا الجواب، لان الاجمال في مقدار الواجب،
وبحثنا فيما يجب الزكاة فيه (ه‍ ج).
217

أحدهما أن نقول: ان ترك ظاهر من الكلام ليسلم ظاهر آخر له كترك
ظاهر ذاك ليسلم هذا، وأنتم إذا حملتم الامر على الوجوب ههنا تركتم تعلق العطاء
بوقت الحصاد، ونحن إذا حملنا الامر على الندب سلم لنا ظاهر تعلق العطاء بوقت
الحصاد، وليس أحد هذين الامرين الا كصاحبه. وأنتم المستدلون بالآية فخرجت
من أن تكون دليلا لكم.
والطريق الاخر - انا لو قلنا بوجوب هذا العطاء في وقت الحصاد، فإن لم
يكن مقدرا بل موكولا إلى اختيار المعطي لم نقل بعيدا من الصواب (1).
فان تعلق مخالفنا بقوله تعالى (أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم
من الأرض) (2) ان المراد بالنفقة ههنا الصدقة، بدلالة قوله تعالى (والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) (3) يعني لا يخرجون زكاتها.
فالجواب عن ذلك أن اسم النفقة لا يجري على الزكاة الا مجازا، ولا يعقل من
اطلاق لفظ الانفاق الا ما كان من المباحات وما جرى مجراها. ثم لو سلمنا ظاهر
العموم لجاز تخصيصه ببعض الأدلة التي ذكرناها.
(فصل)
وقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم) (4).
أمر من الله لنبيه عليه السلام أن يأخذ من المالكين النصاب: الإبل إذا بلغت خمسا،
والبقر إذا بلغت ثلاثين، والغنم إذا بلغت أربعين، والورق إذا بلغ مائتين،

(1) أي يجوز ان نلتزم ان اخراج بعض الزرع واجب بمقتضى الآية، الا أن صاحبه
مخير ان شاء اعطى القليل وان شاء اعطى الكثير (ه‍ ج).
(2) سورة البقرة: 267.
(3) سورة التوبة: 34.
(4) سورة التوبة: 103.
218

والذهب إذا بلغ عشرين مثقالا، والغلاب والثمار إذا بلغت خمسة أوسق. تطهيرا
لهم بها من ذنوبهم، ووجب على الأمة حملها إليه لفرضه عليها طاعته ونهيه لها عن
خلافه (1). والامام قائم مقام النبي صلى الله عليه وآله فيما فرض عليه من إقامة الحدود
والاحكام، لأنه مخاطب في ذلك بخطابه.
وقوله (خذ من أموالهم) يدل على أن الاخذ يجب من اختلاف الأموال،
لأنه تعالى جمعه، ولو قال (خذ من مالهم) لأفاد وجوب الاخذ من جنس واحد
متفق. و (من) دخلت للتبعيض، فكأنه قال خذ بعض مختلف الأموال.
وظاهر الآية - لما ذكرنا - لا يدل على أنه يجب أن يؤخذ من كل صنف،
لأنه لو أخذ من صنف واحد لكان قد أخذ بعض الأموال، وانما يعلم ذلك بدليل آخر.
و (الصدقة) عطية ماله قيمة في الشرع للفقير وذي الحاجة، و (البر)
عطية لاجتلاب المودة، ومثله (الصلة).
وانما ارتفع (تطهرهم) لاحد أمرين: اما أن يكون صفة للصدقة وتكون
التاء للتأنيث، وقوله (بها) تبيين له، والتقدير صدقة مطهرة. واما أن تكون التاء
لخطاب النبي عليه السلام، والتقدير فإنك تطهرهم بها [وهو أيضا صفة الصدقة الا
أنه اجتزأ بذكر (بها) في الثاني] (2) عن الأول.
[وقيل يجوز ان يكون على الاستئناف وحمله على الاتصال أولى] (3).
وقيل في هذه الصدقة قولان: أحدهما قاله الحسن أنها كفارة الذنوب التي
أصابوها، وقال غيره هي الزكاة الواجبة.
وأصل (التطهير) إزالة النجس (4)، فالمراد ههنا إزالة نجس الذنوب على

(1) في م (ونهيها له عن خلافه).
(2) الزيادتان من ج.
(3) الزيادتان من ج.
(4) قال ابن فارس: الطاء والهاء والراء أصل واحد صحيح يدل على نقاء وزوال
219

المجاز والاستعارة.
وقوله (وصل عليهم) أمر من الله لنبيه عليه السلام أن يدعو لمن يأخذ منه
الصدقة، وقال قوم يجب ذلك على كل ساع يجمع الصدقات أن يدعو لصاحبها
بالخير والتزكية والبركة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله.
وعن ابن عباس: قالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا.
فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل الله (خذ من أموالهم صدقة).
(فصل)
ولا تجب الزكاة في عروض التجارة، وانما تستحب على بعض الوجوه.
فان تعلق المخالف بقوله (خذ من أموالهم صدقة) وان عموم القول يتناول عروض
التجارة. فالجواب عن ذلك أن أكثر ما في هذه الآية أن يكون لفظها عموما،
والعموم معرض للتخصيص، ونحن نخص هذا العموم ببعض ما تقدم من أدلتنا.
على أن مخالفينا لابد لهم من ترك هذا الظاهر في عروض التجارة، لأنهم
يضمرون في تناول هذا اللفظ لعروض التجارة أن يبلغ قيمتها نصاب الزكاة، وهذا
ترك للظاهر وخروج عنه. ولا فرق بينهم فيه وبيننا إذا حملنا اللفظ في الآية على
الأصناف التي أجمعنا على وجوب الزكاة فيها، وإذا قمنا في ذلك مقامهم - وهم
المستدلون بالآية - بطل استدلالهم.
وبمثل هذا الكلام يبطل تعلقهم بقوله (وفي أموالهم حق معلوم * للسائل
والمحروم) (1).

دنس، ومن ذلك الطهر خلاف الدنس، والتطهر التنزه عن الذم وكل قبيح، وفلان طاهر
الثياب إذا لم يدنس، معجم مقاييس اللغة 3 / 428.
(1) سورة الذاريات: 19.
220

ويمكن أن يقال في هذه الآية: انها خرجت مخرج المدح لهم لما فعلوه
لا على سبيل ايجاب الحق في أموالهم، لأنه تعالى قال (كانوا قليلا من الليل ما
يهجعون * وبالاسحار هم يستغفرون * وفي أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم)
فأخرج الكلام كله مخرج المدح لهم بما فعلوه، وليس في ايجاب الله في أموالهم
حقا معلوما [مدح لهم ولا ما يجب الثناء عليهم، فعلم أن المعنى ويعطون من أموالهم
حقا معلوما] (1) للسائل والمحروم، وما يفعلونه من ذلك ليس بلازم أن يكون واجبا
بل قد يكون نفلا ومتطوعا به، وقد يمدح الفاعل على ما يتطوع به كما يمدح على
فعل ما يجب عليه
ولا تعلق لهم بقوله (وآتوا الزكاة)، لان اسم الزكاة اسم شرعي، ونحن
لا نسلم أن في عروض التجارة زكاة فيتناولها الاسم، فعلى من ادعى ذلك أن
يدل عليه.
والدين إذا كان يد صاحبه تمتد إليه ولا يتعذر عليه كانت الزكاة فيه، وإذا
لم يتمكن من قبضه لتأجيله أو دفعه باليد عنه فلا زكاة فيه على صاحبه. وبذلك
نصوص عن آل محمد عليهم السلام، فان الله لم يجعل في الدين من حرج، ولا
كلف عسيرا بنص التنزيل.
(فصل)
وقوله (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (2).
سبب ذلك أنهم لما سألوا النبي عليه السلام أن يأخذ من مالهم ما يكون
كفارة لذنوبهم فامتنع النبي من ذلك حتى أذن له فيه بقوله (خذ من أموالهم

(1) الزيادة ليست في ج.
(2) سورة التوبة: 104.
221

صدقة) على ما قدمناه، فبين الله ههنا أن ليس للنبي قبول توبتكم وان ذلك إلى
الله دونه، فان تعالى هو الذي (يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) أي يأخذها
بتضمن الجزاء عليها كما تؤخذ الهدية.
قال الجبائي: جعل أخذ النبي والمؤمنين للصدقة أخذا له تعالى على وجه
المجاز، من حيث كان يأمره واكده النبي عليه السلام بقوله: ان الصدقة تقع في
يد الله قبل أن تصل إلى السائل (1).
وفي التفسير: ان أبا لبابة وصاحبه لما بشرهم رسول الله صلى الله عليه وآله
بقبول الله توبتهم ومغفرته لهم، قالوا: نتقرب بجميع أموالنا شكرا لما أنعم الله
به علينا من قبول توبتنا. فقال النبي صلى الله عليه وآله: يكفيكم الثلث.
(فصل)
وقوله تعالى (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) (2).
يدل على أن النية واجبة في الزكاة، لان اعطاء المال قد يقع على وجوه كثيرة:
فمنها اعطاؤه على وجه [الصدقة، ومنها اعطاؤه على وجه] (3) الهدية، ومنها الصلة،
ومنها الوديعة، ومنها قضاء الدين، ومنها القرض، ومنها البر، ومنها الزكاة، ومنها
النذر وغير ذلك. وبالنية يتميز بعضها من بعض.
قال الكلبي في معنى الآية: يضاعف الله أموالهم في الدنيا، ونحوه قوله
تعالى (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل
سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) (4).

(1) تفسير البرهان 2 / 157.
(2) سورة الروم: 39.
(3) الزيادة من ج.
(4) سورة البقرة: 261.
222

قال الربيع والسدي الآية تدل على أن النفقة بسبع مائة ضعف لقوله (سبع
سنابل)، فأما غيرها فالحسنة بعشرة كقوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (1)
ومعنى الآية: أي يضاعف الله لهم الحسنات.
فان قيل: هل رؤي في سنبلة مائة حبة حتى يضرب المثل بها؟
قلنا: ان ذلك متصور، فشبه به لذلك وان لم ير، كقول امرئ القيس:
* ومسنونة زرق كأنياب أغوال *
وقال تعالى (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) (2). وقيل يرى ذلك في سنبل
الدخن، وقد يكون ذلك عبارة عن حب كثير.
وهذه الآية متصل بقوله (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) (3) وهذا مجاز،
لان حقيقته أن يستعمل في الحاجة ويستحيل ذلك. ومعناه التلطف في الاستدعاء
إلى أعمال البر.
وجهلت اليهود لما نزلت هذه الآية، فقالوا: الذي يستقرض منا فنحن أغنياء
وهو فقير إلينا، فأنزل الله (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) (4).
(فصل)
وقوله تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات) (5) الآية. دلالة على أنهم لم ينظروا
إلى كيفية القسمة أهي عادلة أم جائرة، وانما اعتبروا اعطاءه إياهم فقط، فان أعطاهم
قالوا عدل وأحسن وان لم يعطهم سخطوا وأنكروا. وهذا جهل ومعلوم أن من لم

(1) سورة الأنعام: 160.
(2) سورة السافات: 65.
(3) سورة البقرة: 245.
(4) سورة آل عمران: 181، وانظر الدر المنثور 2 / 106.
(5) سورة التوبة: 58.
223

يرض قسمة النبي عليه السلام الصدقات وطعن عليه فيها سرا أو جهرا اما كافر أو
منافق.
و (اللمز) العيب في خلوة، أي من المنافقين من يعيبك في تفريق الصدقات.
وقال النبي عليه السلام: لا أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه، انما أنا خازن أضع حيث
أمرت.
ولا تعجب ان اختلف أحكام الصدقات، فالغلات والثمار لا يراعى فيها حول
الحول [وشرطها اثنان الملك والنصاب.
ويراعى حول] الحول في الانعام والأثمان ومن شرط الانعام الملك والنصاب
والسوم، ومن شرط الأثمان الملك والنصاب، وكونهما مضروبين منقوشين دنانير
ودراهم.
وهذا التفصيل انما نعلمه ببيان الرسول، قال تعالى (وما آتاكم الرسول
فخذوه)، فبيانه في مثل ذلك بالقول وبيانه في تفريقها بالعمل، وكلاهما بيان.
ثم قال تعالى (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله) وجوابه محذوف، أي لكانوا
مؤمنين. والحذف في مثل هذا أبلغ، لان الذكر يقصره على معنى، والحذف يجوز،
كل ممكن محتمل، يذهب النفس معه كل مذهب. والله أعلم.
(الباب الثاني)
(في ذكر من يستحق الزكاة وأقل ما يعطى)
قال الله تعالى (انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله فريضة من الله) (1).
أخبر الله في هذه الآية انه ليست الصدقات التي هي زكاة الأموال الا للفقراء

(1) سورة التوبة: 60.
224

والمساكين ومن ذكرهم الله في الآية.
وفسر العالم عليه السلام هذه الأصناف الثمانية فقال: الفقراء الذين لا يسألون
لقوله تعالى في سورة البقرة (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) (1) الآية، والمساكين
هم أهل الزمانات منهم الرجال والنساء والصبيان، والعاملين عليها هم السعاة
في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدوها إلى من يقسمها، والمؤلفة قلوبهم [قال هم
قوم وحدوا الله ولم يدخل قلوبهم] (2) ان محمدا رسول الله فكان عليه السلام يتألفهم
فجعل لهم نصيبا بأمر الله لكي يعرفوا ويرغبوا، وفى الرقاب قوم لزمتهم كفارات
في قتل الخطأ وفى الظهار وفى الايمان وفى قتل الصيد في الحرم وليس عندهم ما
يكفرون به وهم مؤمنون (3).
وقال بعض العلماء: جعل الله الزكوات لامرين: أحدهما سد خلة، والاخر
تقوية ومعونة لعز الاسلام. واستدل لذلك على أن المؤلفة قلوبهم في كل زمان،
والغارمين الذين ركبتهم الديون في مباح أو طاعة، وفى سبيل الله الجهاد وجميع
مصالح المؤمنين، وابن السبيل المسافر المنقطع به والضيف.

(1) سورة البقرة: 273.
(2) الزيادة من ج.
(3) وسائل الشيعة 6 / 145 - 146 مع اختلاف واختصار، وقد أسقط المؤلف ذيل الحديث
فلم يكمل تفسير الأصناف، وبقية الحديث هكذا: والغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها
في طاعة الله من غير اسراف فيجب على الامام أن يقضى عنهم ويفكهم من مال الصدقات، وفى
سبيل الله قوم يخرجون في الجهاد وليس عندهم ما يتقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم
ما يحجون به أو في جميع سبل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على
الحج والجهاد، وابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الاسفار في طاعة الله فيقطع
عليهم ويذهب مالهم فعلى الامام أن يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات.
225

(فصل)
اختلفوا في الفرق بين الفقير والمسكين: فقال ابن عباس وجماعة الفقير
المتعفف الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل، ذهبوا إلى أنه مشتق من المسكنة
بالسؤال (1).
وهذا الخلاف في الفقير والمسكين لا يخل بشئ في باب الزكاة، لأنهما
جميعا من جملة ذوي السهام الثمانية، سواء كان هذا أشد حالا أو ذاك، الا أنه ليس
كلا اللفظين عبارة عن شئ واحد.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: ليس المسكين الذي يرده الاكلة والأكلتان
والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى فيعينه ولا يسأل الناس الحافا.
وقال قتادة: الفقير ذو الزمانة من أهل الحاجة، والمسكين من كان صحيحا
محتاجا.
وقال قوم: هما بمعنى واحد الا انه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره، وليعطى من
له شئ ولا يكفيه كما يعطى من لا شئ له.
وسمي المحتاج فقيرا من حيث كأنه كسر فقار ظهره، والمسكين كأن الحاجة
سكنته عن حالة أهل السعة والثروة.
ومن قال المسكين أحسن حالا، استدل بقوله (أما السفينة فكانت لمساكين) (2)
ومن قال هما سواء قال كانت السفينة مشتركة بين جماعة لكل واحد منهم شئ يسير.
(والعاملين عليها) يعنى سعادة الزكاة وجباتها.

(1) ذكر في الوسائل 6 / 144 روايتين تصرحان بأن الفقير هو الذي لا يسأل، والمسكين
أجهد منه وهو يسأل.
(2) سورة الكهف: 79.
226

(والمؤلفة قلوبهم) أقوام أشراف كانوا في زمن النبي عليه السلام، فكان
يتألفهم على الاسلام ويستعين بهم على قتال غيرهم (1)، فيعطيهم سهما من الزكاة. فقال
قوم كان هذا خاصا على عهد النبي عليه السلام، وروى جابر عن الباقر عليه السلام
أنه ثابت في كل عصر الا أن من شرطه ان يكون هناك امام عدل يتألفهم على ذلك (2)،
واختاره الجبائي.
(وفى الرقاب) يعنى المكاتبين. وأجاز أصحابنا أن يشترى به عبد مؤمن
إذا كان في شدة ويعتق من مال الزكاة ويكون ولاؤه لأرباب الزكاة، وهو قول ابن
عباس وجعفر بن مبشر.
والمكاتب انما يعطى من الصدقة إذا لم يكن معه ما يعطى ما عليه من مال
الكتابة، فإن كان ذلك عنده فإنه لا يعطى شيئا. هذا إذا حل عليه نجم وليس معه ما
يعطيه أو ما يكفيه لنجمه، وان لم يكن معه شئ غير أنه لم يحل عليه نجم فإنه
يجوز أيضا أن يعطى، لعموم الآية.
والغارمين) هم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا اسراف فيقضى
عنهم ديونهم. هذا قول أبى جعفر عليه السلام، وعليه جميع المفسرين.
(وفى سبيل الله) يعنى الجهاد بلا خلاف. ويدخل فيه عند أصحابنا جميع
مصالح المسلمين، وهو قول ابن عمر وعطاء، وبه قال البلخي، فإنه قال يبنى منه
المساجد والقناطر وغير ذلك، وهو قول جعفر بن مبشر.
(وابن السبيل) هو المسافر المنقطع به، فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنيا
في بلده من غير أن يكون دينا عليه. وهو قول قتادة ومجاهد.
ويستحب له أيضا إذا وصل إلى ماله ان يتصدق بمثل ما أخذه حيث انقطع به.

(1) في م (عشيرتهم).
(2) تفسير البرهان 2 / 137.
227

(فصل)
إذا دفع صاحب المال زكاته إلى الفقير بغير اذن الامام عند حضوره فللامام أن يعيد
عليه ويطالبه بالزكاة، بدلالة تعلق فرض الأداء به، قال الله تعالى (خذ من أموالهم
صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، والامام مخاطب بعد النبي عليه السلام بما خوطب
به في تنفيذ الاحكام.
واختلفوا في مقدار ما يعطى الجابي للصدقة: فقال مجاهد والضحاك يعطى
الثمن بلا زيادة، وقال به عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن وابن نهد، وهو قدر
عمالته (1) وهو المروي في أخبارنا.
واللام في قوله (للفقراء) ليست للملك، إذ لا خلاف ان الصدقات لا يملكها
الفقراء بالوجوب وانما تصير حقا لهم ولمن عطف عليهم، واللام إذا دلت على الحق
لم يجب فيها العموم، إذ الحق قد يكون للفقراء، ويكون الاختيار إلى من يضعه
فيهم، فله أن لا يعمهم. وإن كان قبل الوضع لجماعتهم فقد صار التخصيص في التمليك
يصح مع كونه حقا [على طريق العموم.
فإذا أبيت من ذلك فالواجب من الظاهر أن لا يقطع على كونه حقا] (2) لجماعتهم.
يبين ذلك أنه لو كان كذلك لما جاز في الصدقة أن يوضع في ثلاثة مساكين، بل
كان يجب وضعها في جميع من يتمكن منه في البلد، وقد أجمعوا على خلافه.
وقال الباقر عليه السلام: ان لقاسم الزكاة أن يضعها في أي الأصناف شاء.
واليه ذهب ابن عباس وحذيفة وعمر وعطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير.
وقال بعض المتأخرين: لا يضعها الا في سبعة أصناف، لان المؤلفة قلوبهم قد

(1) العمالة بالضم: رزق العامل (ه‍ ج).
(2) الزيادة من م.
228

انقرضوا. وان قسمها الانسان عن نفسه ففي ستة، لأنه بطل سهم العامل عليها. وزعم
أنه لا يجزي في كل صنف أقل من ثلاثة.
وعندنا أن سهم المؤلفة والسعاة وسهم الجهاد قد سقط اليوم، ويقسم في
الخمسة الباقية كما شاء رب المال، وان وضعها في فرقة منهم جاز، الا أن أقل ما
يعطى مستحق ما يجب في نصاب ولا يكسر الا في الغلات والثمار، والاحتياط فيها
أن لا يكسر في نصابها أيضا.
وأجمعت الأمة على أن الصدقات يخالف حكمها حكم الوصية، لأنه إذا
أوصى بسهام ثم تعذر بعضها في البلد لم يجز صرفها إلى الموجودين فيه. ولم
يختلفوا في جواز ذلك في الزكاة، فقد ثبت ان هذه السهام جهات لجواز الوضع
فيهم، فكأن الله وسع على المصدق القاسم الحال في ذلك، فجاز أن يضعه في
جميعهم كيف يشاء، وجاز أن يضع جميعه في بعضهم إذا رأى ذلك أولى وأحق
في الحال.
(فصل)
قد ذكرنا من قبل أنه يجوز أن يشترى المملوك من مال الزكاة فيعتق إذا كان
حاله ما قدمناه. والدليل عليه قوله (انما الصدقات للفقراء) إلى قوله (وفي الرقاب)
وهذا نص صريح في جواز عتق الرقبة من الزكاة.
فان قيل: المراد بقوله (وفي الرقاب) المكاتبون، فان الفقهاء كلهم يجيزون
أن يعطى المكاتب من مال الزكاة الا مالكا.
قلنا: نحمله على المكاتب وعلى من يبتاع فيعتق، لأنه لا تنافي بين الامرين،
وظاهر القول يتناول الكل ولا مخصص لعمومه، فمتى استفاد هذا المعتق من الزكاة
مالا ثم مات فماله - إذا لم يكن له وارث من النسب والزوجية - لأهل الزكاة لأنه
اشتري من مالهم.
229

ويجوز أن يكفن من الزكاة الموتى ويقضى بها الدين عن الميت، وباقي
الفقهاء يخالفوننا فيه. والحجة لأصحابنا - مضافا على اجماعهم - قوله (وفى سبيل
الله) في آية وجوه الصدقة التي ذكرناها. ومعنى سبيل الله الطريق إلى ثواب الله
والوصلة إلى التقرب إليه تعالى، ولما كان ما ذكرنا مقربا إلى الله وموصلا إلى الثواب
جاز صرفه فيه.
فان قيل: المراد بقوله (وفى سبيل الله) ما ينفق في جهاد العدو.
قلنا: كل هذا مما يوصف بأنه سبيل الله، وإرادة بعضه لا يمنع من إرادة
البعض الاخر.
وقد روى مخالفونا عن ابن عمر أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله. فقال
ابن عمر: ان الحج من سبيل الله، فاجعلوه فيه.
ورووا عن النبي عليه السلام: ان الحج والعمرة من سبيل الله.
الباب الثالث
(في ذكر من يجب عليه الزكاة وذكر احكام الزكاة كلها)
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) (1).
هذا وإن كان خطابا للمؤمنين دون سائر الناس، فلا يدل على أن الكافر غير
متعبد به، لان الامر المتوجه إليك لا يكون نهيا لغيرك. مع أن جميع المؤمنين لا
يجب عليهم الزكاة، وانما تجب على من يكون حرا يملك النصاب مع شرائطها
الاخر المذكورة، وقد قال الله تعالى (ويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة) (2)

(1) سورة البقرة: 267.
(2) سورة فصلت: 6 - 7.
230

فقد توعدهم على ترك الزكاة الواجبة عليهم لأنهم متعبدون بجميع العبادات ومعاقبون
على تركها.
قال الزجاج: معناه ويل للمشركين الذين لا يؤمنون بأن الزكاة واجبة عليهم.
وانما خص الزكاة بالذكر تقريعا لهم على شحهم الذي يأنف منه أهل الفضل.
والصحيح أنه عام في جميع ذلك، وحسن الاحسان والانعام يعلم على الجملة عقلا.
ولا زكاة واجب في صامت أموال الصبيان، وتجب فيهما عدا ذلك من أنعامهم
وغلاتهم وثمارهم. وبهذا نصوص عن آل محمد عليه وعليهم السلام (1)، ويؤيدها قوله
تعالى (وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة) (2)، فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة،
والصبي غير مخاطب بالصلاة. وقوله (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم
بها) (3)، والصبي لا يحتاج إلى التطهير، إذ لا ذنب له ولا تكليف عليه.
فأما زكاة حرثه ونعمه فمأخوذ من قوله (والذين في أموالهم حق معلوم) (4)
وقد ثبت أن القرآن لا يتناقض ولا يختلف معانيه، ولم يكن طريق إلى الملائمة بين
معانيه الا على الوجه الذي ذكرناه مع وفاق السنة في ذلك له.
وقوله (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) يدخل فيه الزكاة المفروضة وغيرها من
أنواع النفقة.
وقال عبيدة السلماني والحسن: هي مختصة بالزكاة، لان الامر على الايجاب،
ولا يجب من الانفاق على الكل الا الزكاة.
وقال الجبائي: هي في التطوع، لان الفرض من الصدقة له مقدار من القيمة
ان قصر كان ذنبا عليه إلى أن يؤديه على التمام.

(1) انظر الوسائل 6 / 54.
(2) سورة النور: 56.
(3) سورة التوبة: 103.
(4) سورة المعارج: 24.
231

(فصل)
وقوله (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (1).
عن علي عليه السلام والبراء والحسن وقتادة انها نزلت لان بعضهم كان يأتي
بالحشف (2) فيدخله في تمر الصدقة (3). وقال ابن زيد الخبيث الحرام.
والأول أقوى، والعموم يستغرقهما، الا أنه تعالى قال (أنفقوا من طيبات ما كسبتم
ومما أخرجنا لكم من الأرض) ثم قال (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) يعنى من
الذي كسبتم أو أخرجه الله من الأرض، والحرام - وإن كان خبيثا - فليس من ذلك
غير أنه يمكن أن يراد بذلك، لأنه لا ينافي السبب.
فأما إذا كان مال المزكى كله رديئا فجائز له أن يعطي منه ولا يدخل فيما نهي
عنه، لان تقدير ما جعله الله للفقير في مال الغنى تقدير حصة الشريك، فليس لأحد
الشريكين أن يأخذ الجيد ويعطي صاحبه الردئ [لما فيه من الوكس، فإذا استوى
في الرداءة جاز له اعطاء الزكاة من الردئ لأنه حينئذ] (4) لم يبخسه حقا هو له كما يبخسه
في الأول.
ويقوي القول الأول قوله (ولستم بآخذيه الا أن تغمضوا فيه)، لان الاغماض
لا يكون الا في الشئ الردئ دون ما هو حرام.
والأجناس التسعة التي تجب فيها الزكاة تدخل [تحت قوله (أنفقوا من طيبات

(1) سورة البقرة: 267.
(2) الحشف اليابس الفاسد من التمر، وقيل الضعيف الذي لا نوى له - النهاية لابن
الأثير (حشف).
(3) أسباب النزول للواحدي ص 55.
(4) الزيادة من ج.
232

ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض)، وكذا الأجناس الخمسة التي يستحب فيها
الزكاة تدخل] (1) تحته.
وعن الصادق عليه السلام: ان الآية نزلت في قوم لهم أموال من ربا الجاهلية
كانوا يتصدقون منه، فنهى الله عنه وأمر بالصدقة من الطيب الحلال (2).
فعليك أيها الناظر في كتابي هذا أن تتدبره، فان السنة منها جئ ومنها أجئ،
وبيان الكتاب من السنة.
(فصل)
وقوله (ولستم بآخذيه الا أن تغمضوا فيه) في معناه قولان: أحدهما أن
لا تتصدقوا بما لا تجدونه من غرمائكم الا بالمسامحة والمساهلة، فالاغماض المساهلة.
والاخر معناه لا تتصدقوا بما لا تأخذونه الا أن تحطوا من الثمن فيه. ومثله قول الزجاج،
أي لستم تأخذونه الا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة.
ثم قال إن الله غنى عن صدقاتكم يقبلها منكم ويحمدكم عليها ويجازيكم عليه.
ثم حذر من الشيطان المانع من الصدقة، فإنه يعدكم الفقر بتأدية زكاتكم
ويأمركم بالانفاق من الردئ، وسماه (فحشاء) لان فيه معصية الله. والله يعدكم أن
يخلف عليكم خيرا من صدقتكم. وعن ابن عباس: اثنان من الله واثنان من الشيطان.
وقال الصادق عليه السلام: للشيطان لمة وللملك لمة (3)، فلمة الشيطان وعده
بالفقر وأمره بالفاحشة، ولمة الملك أمره بالانفاق ونهيه عن المعصية.
ثم ذكر تعالى صفة الانفاق ورغب فيه، فقال (ان تبدوا الصدقات فنعما هي

(1) الزيادة ليست في ج.
(2) البرهان 1 / 255 عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.
(3) اللمة - بفتح اللام - الهمة والخطرة تقع في القلب، وقيل لمة أي دنو - لسان
العرب (لمم).
233

وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) (1).
اعلم أن صدقه التطوع اخفاؤها أفضل لأنه أبعد من الرياء، والمفروض لا
يدخله الرياء ويلحقه تهمة المنع باخفائها فاظهارها أفضل، عن ابن عباس، وكذا
روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: الزكاة المفروضة تخرج علانية وتدفع علانية،
وغير الزكاة ان دفعه سرا فهو أفضل 2.
وقيل الاخفاء في كل صدقة من واجب وغيره أفضل - عن الحسن. وهو الأشبه،
لعموم الآية، وعليه يدخل اخبارنا على أن الأول حسن، ونحوه ان اظهار الصلوات
الخمس أفضل دفعا للشبهة، واخفاء النوافل حسن دفعا للرياء.
والزكاة والصدقة يتداخل معناهما، وان كانت الزكاة وضعت عرفا أولا في
الفرض والصدقة في النفل. والابداء الاظهار، والاخفاء الاسرار.
وقوله (فنعما هي) اي نعم شيئا ابداؤها، فما نكرة وهي في موضع نصب،
لأنه يفسر الفاعل المضمر قبل الذكر في نعم. والابداء هو المخصوص بالمدح،
فحذف المضاف الذي هو الابداء وأقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات،
وهو (هي).
(فصل)
وقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) (3) عن الصادق عليه السلام: نزلت هذه
الآية في شهر رمضان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله مناديه فنادى في الناس:
ان الله قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض عليكم من الذهب

(1) سورة البقرة: 284.
(2) تفسير علي بن إبراهيم 1 / 92 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(3) سورة التوبة: 103.
234

والفضة والإبل والبقر والغنم ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعفا عما
سوى ذلك. ثم لم يتعرض لشئ من أموالهم حتى حال عليهم الحول من قابل
فصاموا وأفطروا، فأمر عليه السلام مناديه فنادى: أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل
صلاتكم. قال: ثم وجه عمال الصدقة (1).
وقد بعث أمير المؤمنين عليه السلام مصدقا من الكوفة إلى باديتها، فقال له:
يا عبد الله عليك بتقوى الله، ولا تؤثرن دنياك على آخرتك، وكن حافظا لما ائتمنتك
عليه راعيا لحق الله فيه حتى تأتي نادي بني فلان، فإذا قدمت فأنزل بمائهم من غير
أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ثم
قل لهم: يا عباد الله أرسلني إليكم ولي الله لاخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل
لله في أموالكم حق فتؤدوه إلى وليه. فان قال لك قائل لا فلا تراجعه، وان أنعم لك
منهم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده الا خيرا، فإذا أتيت ماله فلا تدخله
الا باذنه فان أكثره له، فقل يا عبد الله أتأذن لي في دخول مالك، فاذن اذن لك فلا
تدخل دخول متسلط عليه فيه ولا عنف به، فاصدع المال صدعين، ثم خيره فان
اختار فلا تعرض له، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فإذا
بقي ذلك فاقبض حق الله منه، فان استقالك فأقله، ثم اخلطها واصنع مثل الذي
صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله، فإذا قبضته فلا توكل به الا ناصحا شفيقا
أمينا حفيظا غير معنف بشئ منها. ثم احدر ما اجتمع عندك من كل فأد إلينا نصيره حيث
أمر الله، فإذا انحدر بها رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وفصليها ولا يفرق
بينهما ولا يصر لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوبا، وليعدل بينهن في ذلك
وليوردهن كل ماء يمر به، ولا يعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطريق حتى
تأتينا سجاحا سمانا غير متعبات ولا مجهدات، فنقسمهن على كتاب الله وسنة نبيه على

(1) الكافي 3 / 497.
235

أولياء الله، فان ذلك أعظم لاجرك (1).
فقوله (خذ من أموالهم صدقة) أمر منه تعالى بأخذ صدقاتهم على ما تقدم،
وفرض على الأمة حملها إليه لفرضه عليها طاعته، والامام قائم مقامه فيما فرض على
النبي صلى الله عليه وآله من إقامة الحدود والاحكام، لأنه مخاطب بخطابه في ذلك.
ولما وجد النبي كان الفرض حمل الزكاة [إليه، فلما غاب من العالم بوفاته صار
الفرض حمل الزكاة] (2) إلى خليفته، فإذا غاب الخليفة كان الفرض حملها إلى من نصبه
في مقامه من خاصته، فإذا عدم السفراء بينه وبين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء
المأمونين من أهل ولايته، لان الفقيه أعرف بموضعها ممن لا فقه له.
(فصل)
وقوله تعالى (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشرا شهر) (3) قال المبرد يعنى ان السنة
للمسلمين على الأهلة لا على ما يعده أهل الكتاب، فسمى الله كل ثلاثين يوما أو تسعة
وعشرين يوما - عند تجدد رؤية الهلال بعد استسراده - شهرا، وسمى كل اثني عشر
شهرا سنة وعاما وحولا، إذ كان لا ينتظم أمر الناس الا بهذا الحساب واجراء الأحوال
على مقتضى هذا المثال في جميع الأبواب.
ولما كان سائر الأمم سوى العرب يجعلون الشهر ثلاثين يوما والسنة بحلول
الشمس أول الحمل، وذلك انما يكون بانقضاء ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع
يوم، واليهود والنصارى عبادتهم المتعلقة بالأوقات تجرى على هذا الحساب، بين
الله أنه حكم بأن تكون السنة قمرية لا شمسية وانه تعبد المسلمين بهذا، فجعل حجتهم
وأعيادهم ومعاملاتهم وحساباتهم ووجوب الزكوات عليهم معتبرة بالقمر وشهوره

(1) نهج البلاغة 2 / 27 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(2) الزيادة من ج.
(3) سورة التوبة: 36.
236

لا بالشمس. فإن كان مع الانسان مال تام النصاب وحال عليه الحول يجب فيه الزكاة
وحد حول الحول فيها أنه إذا استهل هلال الشهر الثاني عشر.
والأثمان والانعام لا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول.
فأما الغلات فوقت الزكاة فيها حين حصولها بعد الحصاد والجذاذ، وتفصيل
ذلك أن وقت وجوب الزكاة في الغلات إذا كانت حبوبا إذا اشتدت، وفى الثمار
إذا بدأ صلاحها.
وعلى الامام أن يبعث سعاته لحفظها في الاحتياط عليها، كما فعل رسول
الله بخيبر.
ووقت الاخراج إذا ديس الحب ونقى وصفى، وفى الثمر إذا جففت وشمست
والمراعى في النصاب مجففا مشمسا.
وقوله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده) عن ابن عباس الزكاة العشر أو نصف
العشر، وعن الصادق عليه السلام مما تنشر مما يعطى المساكين الضغث بعد الضغث
والجفنة بعد الجفنة (1).
وعن السدي الآية منسوخة بفرض العشر ونصف العشر، لان الزكاة لا تخرج
يوم الحصاد، ولأن هذه الآية مكية وفرض الزكاة نزل بالمدينة، ولما روي أن
الزكاة نسخت كل صدقة. وقال الرماني: هذا غلط، لان يوم حصاده ظرف لحقه
وليس بظرف الايتاء المأمور به.
وقوله (ولا تسرفوا) نهي عن وضع الزكاة في غير أهله، وان من أعطي
زكاة ماله الفاسق والفاجر فقد أسرف ووجب عليه الإعادة. قال النبي صلى الله عليه
وآله (المعتدي في الصدقة كمانعها) (2). والاسراف مجاوزة حد الحق، وهو يكون

(1) تفسير البرهان 1 / 556.
(2) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 4 / 158.
237

بالتفريط والافراط والتقصير والزيادة.
والخطاب لأرباب المال، وقيل للسلطان، وقيل خطاب للجميع، وهو
أعم فائدة.
وروي عن ثابت بن قيس بن شماس انه كان له خمسمائة رأس نخلة، فصرمها
وتصدق بها ولم يترك لأهله منها شيئا، فنهى الله عن ذلك وبين أنه سرف (1)، ولذلك
قال عليه السلام: ابدأ بمن تعول.
والآية الأولى تدل على أن الواجب تعليق الاحكام المتصلة بالشهور والسنين
من عبادات وغيرها بهذه الأشهر دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم، فمن هذا
الوجه تعليق الصيام وأخذ الجزية وغيرها بحؤول هذا الحول، يؤيده قوله (منها
أربعة حرم) (2) والعدة اسم المعدود.
(فصل)
وقوله تعالى (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) [أي ما تنفقوا في وجوه البر
من مال فلأنفسكم ثوابه، ثم قال] (3) (وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله) (4) أخبر تعالى
عن صفة المؤمنين انهم لا ينفقون الا طلبا لرضا الله. [وقيل معناه النهي وإن كان ظاهره
الخبر، أي لا تنفقوا الا طلبا لرضوان الله] (5).
ثم قال (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) (6) قيل هو بدل من قوله (فلأنفسكم)

(1) الدر المنثور 3 / 49.
(2) سورة التوبة: 36.
(3) الزيادة من ج.
(4) سورة البقرة: 272.
(5) الزيادة ليست في ج.
(6) سورة البقرة: 273.
238

والأحسن أن يكون العامل محذوفا، أي النفقة المذكورة للفقراء الذين حبسوا
ومنعوا في طاعة الله اما لخوف العدو واما للمرض والفقر واما للاقبال على العبادة.
ثم وصفهم بقوله (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا
يسئلون الناس الحافا).
ثم حث الناس عليها فقال (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية)
أي ينفقون على الدوام إذ لا وقت سواها (فلهم اجرهم) (1) أتى بالفاء ليدل على أن
الاجر من أجل الانفاق في طاعة الله.
ثم عقب بآية الربا، ثم قال (وإن كان ذو عسرة) (2) أي ان وقع في غرمائكم
فقر فتؤخر إلى وقت يساره. وقال الصادق عليه السلام في حد هذا الاعسار: وهو
أن لم يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت عياله على الاقتصاد، وهو وأجب في
كل دين (3).
وقال الباقر عليه السلام (إلى ميسرة) معناه إلى أن يبلغ خبره الامام فيقضي
عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في معروف (4).
(وان تصدقوا) أي أن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين (خير لكم
ان كنتم تعلمون) الخير من الشر، فإن كان الدين على والدك أو على والدتك أو
ولدك جاز أن تقضيه عنهم من الزكاة وان لم يجز اعطاء الزكاة إياهم.
وقوله (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا
أذى) (5) فالمن هو ذكر ما ينقص المعروف، بأن يقول أحسنت إلى فلان وأغنيته

(1) سورة البقرة: 274.
(2) سورة البقرة: 280.
(3) نور الثقلين 1 / 297.
(4) تفسير البرهان 1 / 260.
(5) سورة البقرة: 262.
239

ونحوه، والأذى أن يقول أنت أبدا فقير ومن أبلاني بك وأراحني الله منك.
ثم قال (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس) (1)
فالمنافق والمنان يفعلان لغير وجه الله فلا يستحقان عليه ثوابا. ولا دليل فيها على أن
الثواب الثابت يزول بالمن.
أما قوله (يسئلونك ما ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين) (2) فقال السدى:
الآية واردة في الزكاة يستحب سان؟ مصارف الزكاة. والأظهر أن المراد به نفقة
التطوع على من لا يجوز وضع الزكاة عنده ولمن يجوز وضع الزكاة عنده، فهي عامة
في الزكاة المفروضة وفي التطوع، لأنه لا دليل على نسخها.
والآية نزلت في عمرو بن الجموح، كان شيخا كبيرا ذا مال قال: يا رسول
الله بماذا أتصدق وعلى من أتصدق (3).
ثم قال (ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو) (4) عن الباقر عليه السلام العفو ههنا
ما فضل عن قوت السنة (5)، فنسخ ذلك بآية الزكاة. وعن الصادق عليه السلام العفو
الوسط (6)، أي لا اقتار ولا اسراف.
(فصل)
وقوله (الذين يلزمون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) (7) نزلت في

(1) سورة البقرة: 264.
(2) سورة البقرة: 215.
(3) مجمع البيان 1 / 390.
(4) سورة البقرة: 219.
(5) تفسير البرهان 1 / 212.
(6) نفس المصدر والصفحة.
(7) سورة التوبة 79.
240

حبحاب (1)، لأنه اتى النبي عليه السلام بصاع من تمر وقال: يا رسول الله اني عملت
في النخل بصاعين فتركت للعيال صاعا وأهديت لله صاعا. فقال المنافقون: ان الله
لغني عما أتى به (2).
والمتطوع المتنفل من طاعة الله ما ليس بواجب.
وقوله (والذين يكنزون الذهب والفضة) (3) أكثر المفسرين والعلماء على أن
الوعيد يتناول مانع الزكاة الواجبة، لان جمع المال ليس بمحظور، وبعد اخراج
حق الله منه فحفظه إليه ان شاء أحرزه بالدفن في الأرض أو بالوضع في الصندوق (4).
وقال النبي عليه السلام: ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه الا جئ بكنزه
يوم القيامة فتحمى به جنبه وجبينه لعبوسه وازوراره، وجعل السائل والساعي وراء
ظهره (5).
وروى ابن مهرايزد في تفسيره ان سائلا سأل أبا ذر وهو بالربذة: ما أنزلك
هذا المنزل؟ فقال: كنا بالشام فسألني معاوية عن هذه الآية أهي فينا أم في أهل الكتاب
فقال: قلت فينا وفيهم. فقال معاوية: بل هي في أهل الكتاب. ثم كتب إلى عثمان
ان أبا ذر يطعن فينا، فاستقدمني عثمان المدينة، فلما أقبلت قال تنح قليلا، فتنحيت
إلى منزلي هذا.

(1) حبحاب، أبو عقيل الأنصاري، هو الذي لمزه المنافقون لما جاء بصاع من تمر
صدقة - أسد الغابة 1 / 366.
(2) أسباب النزول ص 172، وفى تفسير البرهان 2 / 148 ان المتصدق هو سالم بن
عمير الأنصاري.
(3) سورة التوبة: 34.
(4) يعلم هذا من حديث منقول في تفسير البرهان 2 / 121 مروى عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم.
(5) بهذا المعنى في صحيح مسلم 2 / 682.
241

وعن الصادق عليه السلام من منع الزكاة سأل الرجعة عند الموت، وهو
قول الله تعالى (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا
فيما تركت) (1).
(باب ذكر الخمس وأحكامه)
قال الله تعالى (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (2).
[الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال] (3) وهي هبة من الله
للمسلمين.
والخمس يجب فيها وفي كل فائدة تحصل للانسان من المكاسب وارباح
التجارات وفى الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك. وهي خمسة وعشرون جنسا
وكل واحد منها غنيمة، فإذا كان كذلك فالاستدلال يمكن عليها كلها بهذه الآية،
ويدل عليها جملة قوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).
ووقت وجوب الخمس فيه وقت حصوله، لا يراعى فيه حؤول الحول ولا
النصاب الذي في الزكاة الا في شيئين منها: أحدهما الكنوز، فإنه يراعى فيها النصاب
الذي يجب فيه زكاة الأثمان. والثاني الغوص، فإنه يراعى فيه مقدار دينار، وما
عداهما لا يعتبر فيه مقدار. والتقدير واعلموا أن ما غنمتموه، ما نصب اسم ان وغنمتم
صلته.
وقوله (فأن لله خمسه) اي فأمره وشأنه أن لله خمسه، فما بمعنى الذي،

(1) سورة المؤمنون: 100، وانظر الحديث في تفسير البرهان 3 / 119.
(2) سورة الأنفال: 41.
(3) الزيادة من ج.
242

ولا يجوز أن يكتب الا مفصولا، لان كتبه موصولا يوجب كون ما كافة على ما عليه
عرف أهل اللغة والنحو.
وقال الشيخ المفيد: الخمس يجب في المعدن إذا بلغ الموجود منه مبلغا
قيمته مائتا درهم، وبذلك نصوص عن أئمة آل محمد عليه وعليهم السلام، ويؤيد
ذلك قوله (واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه)، وما وجد في المعدن
فهو من الغنائم بمقتضى العرف واللسان.
(فصل)
وأما قسمة الخمس فهو عندنا على ستة أقسام على ما ذكره الله: سهم لله وسهم
لرسوله، وهذان مع سهم ذي للقربى القائم مقام النبي صلى الله عليه وآله ينفقهما
على نفسه وأهل بيته من بني هاشم، وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء
السبيل كلهم من أهل بيت الرسول عليه السلام لا يشركهم فيها باقي الناس، لان الله
عوضهم ذلك عما أباح لفقراء سائر المسلمين ومساكينهم وأبناء سبيلهم من الصدقات
الواجبة المحرمة على أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، وهو قول زين العابدين
والباقر عليهما السلام، روى الطبري باسناده عنهما.
واعلم أن الفقير إذا اطلق مفردا دخل فيه المسكين، وكذا لفظ المسكين
إذا أطلق مفردا دخل فيه الفقير، لأنهما متقاربان في المعنى. ولم يذكر في آية
الخمس الفقراء - كما جمع الله في آية الزكاة بينهما - لان هناك لهما سهمان من ثمانية
أسهم، وههنا أفرد لفظ المساكين وأراد بهم من له شئ لا يكفيه ومن شئ له،
ولكليهما سهم واحد من ستة أسهم.
243

(فصل)
وقوله (واليتامى والمساكين وابن السبيل).
قال المغربي حاكيا عن الصابوني ان هؤلاء الثلاث الفرق لا يدخلون في سهم
ذي القربى وإن كان عموم اللفظ يقتضيه لان سهامهم مفردة، وهو الظاهر من
المذهب.
وافراد لفظ (ذي) من (ذي القربى) دون أن يكون ذوي القربى على الجمع
يحقق ما ذكرناه انه للامام القائم مقام الرسول صلى الله عليه وآله.
والذين يستحقون الخمس عندنا من كان من ولد عبد المطلب، لان هاشما
لم يعقب الا منه من الطالبيين والعباسيين والحارثيين واللهبيين، فأما ولد عبد مناف
من المطلبين فلا شئ لهم منه.
وعن ابن عباس الخمس يقسم خمسة أقسام فسهم الله وسهم رسوله واحد.
وقال قوم يقسم أربعة أقسام سهم لبنى هاشم وثلاث للذين ذكرهم الله بعد ذلك من
سائر المسلمين، ذهب إليه الشافعي. وقال أهل العراق يقسم ثلاثة أقسام لان سهم
الرسول صرف الأئمة الثلاثة إلى الكراع والسلاح. وقال مالك يقسم على ما ذكره
الله. وقال أبو العالية - وهو رجل من صلحاء التابعين - يقسم على ستة أقسام فسهم
الله للكعبة والباقي لمن ذكر بعد ذلك.
(فصل)
وعن ابن عباس ومجاهد ذو القربى بنو هاشم. وقد بينا ان المراد بذي القربى
من كان أولى من أهل بيته في حياته، وبعد النبي هو القائم مقامه، وبه قال علي
ابن الحسين عليهما السلام في رواياتهم. وقال الحسن وقتادة سهم الله ورسوله وسهم
244

ذي القربى لولي الأمر من بعده، وهو مثل مذهبنا.
واليتيم هو من مات أبوه وهو صغير ولم يبلغ. وابن السبيل هو المنقطع
به في سفره، سواء كان له في بلده يسار أو لم يكن، ولا يجب أن يكون له في بلده
يسار وانقطع به في السفر، لان ذلك لا يقتضيه كلمة الأصل التي هي ابن السبيل ولا
تفسيره الذي هو المنقطع به، لان المسافر انما قيل له ابن السبيل لان السبيل أخرجه
إلى هذا المستقر كما أخرجه أبوه إلى مستقره لقى محتاجا، والمنقطع به هو الذي
نفد ما عنده [بل ضاع منه أو قطع به الطريق أو لغير ذلك، سواء كان ما عنده] (1)
قليلا أو كثيرا، وسواء كان من ورائه شئ أو لم يكن.
وذكر الشيخ في المبسوط ان ابن السبيل على ضربين: أحدهما المنشئ
للسفر من بلده، الثاني المجتاز بغيره بلده. وكلاهما مستحق للصدقة عند أبي حنيفة
والشافعي، ولا يستحقها الا المجتاز عند مالك. وهو الأصح، لأنهم عليهم السلام فسروه
فقالوا هو المنقطع به وإن كان في بلده ذا يسار، فدل ذلك على أنه المجتاز. وقد
روي أن الضيف داخل فيه. والمنشئ للسفر من بلده إذا كان فقيرا جاز أن يعطى من
سهم الفقراء دون سهم ابن السبيل.
ثم قسم السفر إلى طاعة ومعصية، قال: فإذا كان طاعة أو مباحا استحق بهما
الصدقة، ولا يستباح بسفر المعصية الصدقة. ثم قال: فابن السبيل متى كان منشئا
للسفر من بلده ولم يكن له مال أعطي من سهم الفقراء عندنا ومن سهم ابن السبيل
عندهم، وإن كان له مال لا يدفع إليه لأنه غير محتاج بلا خلاف، وإن كان مجتازا
بغير بلده وليس معه شئ دفع إليه وإن كان غنيا في بلده لأنه محتاج في موضعه.
هذا كلامه في باب الزكاة. والصحيح ان المنشئ من بلده للسفر ليعطى
شيئا في بلد آخر لا مانع من أن يدفع إليه من سهم ابن السبيل مقدار ما يوصله
إلى بلده.

(1) الزيادة ليست في ج.
245

(فصل)
قال المرتضى رضي الله عنه: ان تمسك الخصم بقوله (واعلموا أن ما غنمتم
فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) وقال: عموم الكلام يقتضي ألا يكون ذو
القربى واحدا، وعموم قوله (واليتامى والمساكين وابن السبيل) يقتضي تناوله
لكل من كان بهذه الصفات ولا يختص ببني هاشم، ومذهبكم يخالف ظاهر الكتاب
لأنكم تخصون الامام بسهم ذي القربى ولا تجعلونه لجميع قرابة الرسول من بني
هاشم، وتقولون ان الثلاثة الأسهم الباقية هي ليتامى آل محمد ومساكينهم وأبناء
سبيلهم ولا تتعدونهم إلى غيرهم ممن استحق هذا الاسم وهذه الأوصاف.
وأجاب عنه فقال: ليس يمتنع تخصيص ما ظاهره العموم بالأدلة، على أنه لا
خلاف بين الأمة في تخصيص هذه الظواهر، لان ذا القربى عام وقد خصوه بقربى
النبي عليه السلام دون غيره. ولفظ اليتامى والمسكين وابن السبيل عام في المشترك
والذمي والغني والفقير، وقد خصته الجماعة ببعض من له هذه الصفة. على أن من
ذهب من أصحابنا إلى أن ذا القربى هو الإمام القائم مقام النبي خاصة وسمي بذلك
لقربه منه نسبا وتخصصا، فالظاهر معه لان قوله (ذي القربى) لفظ وحدة، ولو أراد
الجمع لقال ذوي القربى، فمن حمل ذلك على الجمع فهو مخالف للظاهر (1).
فأما الاستدلال بأن ذا القربى في الآية لا يجوز أن يحمل على جميع ذوي
القرابات من بني هاشم، فان ما عطف على ذلك من اليتامى والمساكين وابن السبيل إذا
يلزم أن يكونوا غير الأقارب، لان الشئ لا يعطف على نفسه. فضعيف وذلك غير لازم،
لان الشئ وان لم يعطف على نفسه فقد يعطف صفة على أخرى والموصوف واحد.

(1) انظر كلام المرتضى في الانتصار ص 87 - 88 مع بعض الاختلاف في الألفاظ.
246

(فصل)
والفئ ما أخذ بغير قتال في قول عطاء والسائب وسفيان الثوري، وهو قول
الشافعي، وهو اختيارنا. وقال قوم الغنيمة والفئ واحد.
قوله تعالى (واعلموا ان ما غنمتم) إلى آخر الآية، ناسخ للآية التي في
الحشر من قوله (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل) (1). قالوا: لان الله بين في آية الغنيمة أن الأربعة
الأخماس للمقاتلة وخمسها للرسول ولأقربائه، وفى آية الحشر كلها له. وعلى القول
الأول لا يحتاج إلى هذا لأنه الفئ.
وعندنا الفئ للامام خاصة، يفرقه فيمن يشاء يضعه في مؤنة نفسه وذي قرابته
واليتامى والمساكين وابن السبيل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، ليس
لسائر الناس فيه شئ.
وكذلك قيل في قوله تعالى (ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى) (2)
أن الامر فيه باعطاء ذي القربى هو أمر بصلة قرابة النبي عليه السلام، وهم الذين
أرادهم الله بقوله (فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) (3).
(باب الأنفال)
روي أنه لما نزل قوله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله

(1) سورة الحشر: 7.
(2) سورة النحل: 90.
(3) سورة الأنفال: 41.
247

وللرسول ولذي القربى واليتامى وابن السبيل) الآية، قال رسول الله صلى الله عليه
وآله لجبرئيل عليه السلام: لمن هذا الفئ؟ فأنزل الله قوله (وآت ذا القربى
حقه) (1) فاستدعى النبي صلى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام فأعطاها فدكا وسلمها
إليها، فكان وكلاؤها فيها طول حياة النبي من عند نزولها، فلما مضى رسول الله
أخذها أبو بكر ولم يقبل بينتها ولا سمع دعواها، فطالبت بالميراث لان من له حق إذا
منع من وجه جاز له أن يتوصل إليه بوجه آخر، فقال لها: سمعت رسول الله
يقول (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) فمنعها الميراث بهذا الكلام،
وهذا مشهور.
وروى علي بن أسباط قال: لما ورد أبو الحسن موسى عليه السلام على
المهدى الخليفة وجده يرد المظالم فقال: ما بال مظلمتنا لا ترد؟ فقال: ما هي
يا أبا الحسن؟ فقال: ان الله لما فتح على نبيه فدك وما والاها ولم يوجف عليها
بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه (وآت ذا القربى) فلم يدر رسول الله من هم،
فراجع في ذلك جبريل، فسأل الله عن ذلك، فأوحى الله إليه أن ادفع فدكا إلى
فاطمة، فدعاها رسول الله فقال لها: يا فاطمة ان الله أمرني أن ادفع إليك فدك.
فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول
الله، فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها، فأتته فسألته أن يرد عليها، فقال ايتني
بأسود أو احمر، فجاءت بأمير المؤمنين والحسن والحسين وأم أيمن، فشهدوا
لها فكتب بترك التعرض، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: ما هذا معك
يا بنت محمد؟ قالت: كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة. قال: فأرينه، فأبت فانتزعه
من يدها فنظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه وقال: هذا لان أبيك لم يوجف عليه
بخيل ولا ركاب، وتركها ومضى. فقال له المهدي: حدها، فحدها فقال: هذا
كثير وأنظر فيه (2).

(1) سورة الإسراء: 26.
(2) تفسير البرهان 2 / 414.
248

(فصل)
وقوله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله وللرسول) (1) وروي عن
الباقر والصادق عليهما السلام: ان الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال إذا
انجلى أهلها عنها (2).
وقسمها الفقهاء فيئا وميراث من لا وارث له وغير ذلك مما هو مذكور في
كتب الفقه.
وهو لله وللرسول وبعده للقائم مقامه يصرف حيث يشاء من مصالح نفسه ومن
يلزمه مؤنته، ليس لأحد فيه شئ.
وقالا كانت غنائم بدر للنبي عليه السلام خاصة فسألوه أن يعطيهم.
وفي قراءة أهل البيت (يسألونك الأنفال) (3) فأنزل الله قوله (قل الأنفال لله
وللرسول) ولذلك قال تعالى (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) ولو سألوه عن
موضع الاستحقاق لم يقل (فاتقوا الله). وقد اختلفوا في ذلك اختلافا شديدا،
والصحيح ما ذكرناه.
وقال قوم: نزلت في بعض أصحاب النبي سأله من المغنم شيئا قبل القسمة
فلم يعطه إياها، فجعل الله جميع ذلك للنبي عليه السلام وكان نفل قوما. وقال
آخرون لو أردنا لاخذنا، فأنزل الله الآية يعلمهم ان ما فعل فيها رسول الله ماض،
وقال معنى (عن) معنى من، وكان ابن مسعود يقرأ (يسألونك الأنفال).

(1) سورة الأنفال: 1.
(2) تفسير البرهان 2 / 61.
(3) نقل ذلك عن زين العابدين والباقر والصادق عليهم السلام - انظر مجمع البيان
2 / 516.
249

وقال الحسن: قال النبي عليه السلام: أيما سرية خرجت بغير اذن امامها
فما أصابت من شئ فهو غلول.
واختلفوا هل لاحد بعد النبي أن ينفل: فقال جماعة من الفقهاء - واختاره
الطبري - ان للأئمة أن يتأسوا بالنبي في ذلك.
و (ذات بينكم) قال الزجاج أراد الحال التي ينصلح بها أمر المسلمين.
(فصل)
وأما قوله (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى)
فاوله (وما أفاء الله على رسوله منهم) يعني من اليهود والذين أجلاهم من بني
النضير وإن كان الحكم سائر في جمع الكفار إذا كان حكمهم حكمهم.
والفئ رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله إياهم على ما شرط
فيه. وقال عمر الفئ مال الخراج والجزية. وقيل هو كل ما رجع من أموال الكافرين
إلى المؤمنين فمنه غنيمة وغير غنيمة.
والذي نذهب إليه أن مال الفئ غير مال الغنيمة، فالغنيمة كل ما أخذ بالسيف
من دار الحرب عنوة على ما قدمناه، والفئ كل ما أخذ من الكفار بغير قتال أو
انجلى أهلها، وكان ذلك للنبي عليه السلام، وهي لمن قام مقامه. ومال بنى النضير
كان له عليه السلام، لأنه لما نزل المدينة عاقدوه على أن لا يكونوا لا عليه ولا له،
ثم نقضوا العهد وأرادوا أن يطرحوا عليه حجرا حين مشى النبي إليهم يستعين بهم،
فأجلاهم الله عن منازلهم.
و (ما أفاء الله) يعني ما رجعه الله على رسوله منهم - يعنى من بني النضير -
فهو له يفعل فيه ما يشاء وليس فيه لاحد حظ.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: أيما قرية فتح الله ورسوله بغير قتال فهي لله
250

ولرسوله، وأيما قرية فتحها المسلمون عنوة فأن لله خمسه وللرسول ولأقربائه وما
بقي غنيمة لمن قاتل عليها إذا كان يصح نقله إلى دار السلام، فإن لم يمكن نقله فهو
لبيت المال.
ثم قال (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) يعني لم يوجفوا على ذلك
بخيل ولا ركاب وانما جلوا عن الرعب ولم يكن هناك قتال.
ثم بين المستحق لذلك فقال (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) يعني
قرى بنى النضير (فلله ولرسوله ولذي القربى) يعني من أهل بيته، وظاهره يقتضى
أنه لهؤلاء سواء كانوا أغنياء أو فقراء. ثم بين لم فعل ذلك فقال (كيلا يكون دولة بين
الأغنياء منكم) فالدولة نقل النعمة من قوم إلى قوم.
ثم قال (وما آتاكم الرسول فخذوه) أي ما أعطاكم الرسول من الفئ
فخذوه وارضوا به، فان مال بنى النضير للنبي صلى الله عليه وآله فإنه فئ لا غنيمة،
والنبي عليه السلام انما وضعه في المهاجرين إذا كان بهم حاجة ولم يعط الأنصار الا
أبا دجانة وسهل بن حنيف لفقرهما، وانما وضعه في المذكورين للفقر لا من حيث
كان لهم نصيب، وهو لمن قام مقامه من الأئمة.
وقوله (للفقراء) ليست اللام للتمليك والاستحقاق وانما هي للتخصيص من
حيث تبرع النبي عليه السلام بشئ منه لهم كما تقدم، بل اللام يتعلق بمعنى الكلام
في قوله (ما آتاكم الرسول) أي ما آتاكم الرسول ايتاءا للفقراء. ومن قال (للفقراء)
بدل من قوله (ذوي القربى) غفل عن سبب نزول الآية.
وأما قوله (والذين تبوأوا الدار) فمبتدأ وخبره (يحبون) (1)، وكذا (والذين
جاؤوا) مبتدأ وخبره (يقولون) (2)، فلا تتوهم أن هؤلاء كلهم مشتركون في ذلك الفئ
كما يدعيه المخالفون.

(1) سورة الحشر: 9.
(2) سورة الحشر: 10.
251

(باب زكاة الفطرة)
كل آية دلت على زكاة المال تدل على زكاة الرؤوس، لعمومها ولفقد الاختصاص
وقد روي عن آل محمد عليهم السلام أن قوله تعالى (قد أفلح من تزكى) (1) المراد
به زكاة الفطرة وفيها نزلت خاصة (2)، فمن ملك قبل أن يهل شوال بلحظة نصابا وجب
عليه اخراج الفطرة.
وقوله (وذكر اسم ربه فصلى) (3) إشارة إلى صلاة العيد، وذلك لان اخراج
الفطرة يجب يوم الفطر قبل صلاة العيد على ما بدأ الله به في الآية.
وقال العلماء والمفسرون كل موضع من القرآن يدل على الصلوات الخمس
وزكاة الأموال فذكر الصلاة فيه مقدم كقوله (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (4)، وقدم
الزكاة في هذه الآية على الصلاة فقال (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى)
اعلاما أن تلك الزكاة زكاة الفطرة [وان تلك الصلاة صلاة العيد.
ويحتاج في زكاة الفطرة] (5) إلى معرفة خمسة أشياء: من تجب عليه، ومتى
تجب، وما الذي يجب، وكم يجب، ومن يستحقها. ويعلم تفصيلها من سنة النبي
عليه السلام، وقد بينها بقوله (وأنزلنا إليك الذكر للتبين للناس ما نزل إليهم).
وتجب الفطرة على كل حر بالغ مالك لما يجب فيه زكاة المال، ويلزمه أن
يخرجه عن نفسه وعن جميع من يعوله حتى فطرة خادمة زوجته، لقوله (وعاشروهن

(1) سورة الاعلى: 14.
(2) انظر تفسير البرهان 4 / 450.
(3) سورة الاعلى: 15.
(4) سورة البقرة: 43.
(5) الزيادة من م.
252

بالمعروف) (1) وهذا من المعروف. فان أهل شوال وزوجته المدخول بها مقيمة على
النشوز لم يلزمه فطرتها. والمرأة الموسرة إذا كانت تحت معسر لا يلزمها فطرة
نفسها، وتسقط عن الزوج لاعساره. ولو قلنا أنها إذا ملكت نصابا وجب عليها
الفطرة كان قويا، لعموم الخبر إذا كان الحال هده.
والفطرة صاع من أحد أجناس ستة: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب،
والأرز، والأقط (2).
ولا يجوز أن يخرج صاع من جنسين، ويجوز اخراج قيمته. ولا يجوز
اخراج المسوس والمدود منها لقوله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (3).
قال الصادق عليه السلام (تمام الصوم اعطاء الزكاة - يعنى الفطرة - كالصلاة
على النبي وآله من تمام الصلاة، ومن صام ولم يؤدها فلا صوم له إذا تركها متعمدا
ومن صلى ولم يصل على النبي وآله فلا صلاة له. ان الله تعالى بدأ بها قبل الصلاة
فقال (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) (4).
ويمكن أن يقال: ان هذا فيمن صام واعتقد أن الفطرة لا تجب عليه وعلى وجه
وكان ابن مسعود يقول: رحم الله امرءا تصدق ثم صلى، ويقرأ هذه الآية.
(فصل)
فان قيل: روي في قوله (قد أفلح من تزكى) عن ابن عمر وأبى العالية

(1) سورة النساء: 19.
(2) في العباب: روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: كنا نخرج زكاة الفطرة:
صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب (ه‍ ج).
(3) سورة البقرة: 267.
(4) وسائل الشيعة 6 / 221 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
253

وعكرمة وابن سيرين أنه أراد صدقة الفطرة وصلاة العيد (1)، وكيف يصح ذلك والسورة
مكية ولم يكن هناك صلاة عيد ولا زكاة فطرة.
قلنا: يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكة وختمت بالمدينة (2).
قال تعالى (فلا صدق ولا صلى) أي لم يتصدق ولم يصل (لكن كذب) بالله
(وتولى) عن طاعته (3). وكأنه في زكاة الفطرة، لأنه ابتدأ بذكر الصدقة ثم بالصلاة
على ما قدمنا. والصدقة العطية للفقير (4).
وقال تعالى (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (5) والشح منع الواجب
في الشرع، وكذا البخل (6) قال الله تعالى (سيطوقون ما بخلوا به) (7) وقال النبي
صلى الله عليه وآله: انه شجاع أقرع طوقوا به - رواه أبو جعفر عليه السلام (8).
(باب الجزية)
قال الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (9) والجزية عبارة

(1) انظر الدر المنثور 6 / 339 - 340.
(2) نقل عن الضحاك انها مدنية - انظر مجمع البيان 5 / 472.
(3) سورة القيامة: 31 - 32.
(4) هذا من الجانب الشرعي - انظر لسان العرب (صدق).
(5) سورة الحشر: 9 وسورة التغابن: 16.
(6) قال ابن منظور: الشح والشح - بضم الشين وفتحها - البخل، والضم أعلى،
وقيل هو البخل مع الحرص، وفى الحديث (إياكم والشح)، الشح أشد البخل، وهو أبلغ
في المنع من البخل، وقيل البخل في افراد الأمور وآحادها والشح عام. وقيل للبخل بالمال
والشح بالمال والمعروف - لسان العرب (شحح).
(7) سورة آل عمران: 180.
(8) تفسير البرهان 1 / 327.
(9) سورة التوبة: 29.
254

شرعية عن حق مخصوص يؤخذ من أهل الكتاب ليقروا على دينهم، كما أن المأخوذ
من أموال المسلمين على جهة الطهر يسمى زكاة، وكلاهما اسم شرعي.
والمعنى ان ذلك إذا أدوه أغنى عنهم، لاجتزاء للمؤمنين لهم منهم والابقاء
به على دمائهم، مأخوذة من قولهم (هذا الشئ يجزي عن فلان) أي يغني عنه ويكفي.
وقد طعن الدهرية في أمر الجزية وأخذها وابقاء العاصي على كفره لهذا
النفع اليسير من جهته، فكأنه إجازة الكفر لأجل الرشوة المأخوذة من أهل الذمة.
الجواب: لم تؤخذ الجزية للرضا بالكفر. وفيه وجه حسن، وهو أن ابقاءه
أحسن في العقل من قبله، لان الفرض بتكليفه نفعه، وهو ما دام حيا فعلى حد الرجاء
من التوبة والايمان، بأن يتذكر ما غفل عنه، وإذا قتل فقد انقطع الرجاء. وهم
أهل الكتاب يوحدون الله باللسان، بخلاف الكافر الحربي فان الحكمة تقتضي قتله
الا أن يسلم. وإذا أخذ الجزية من هؤلاء وبقوا ربما يكون سببا للايمان، وذو النفس
الدنية ربما يفادي من ذهاب المال عنه الدخول في الدين. وفيه منفعة المؤمنين جملة
وعلى أهل الذمة إهانة، فالطعن ساقط.
(فصل)
قيل: ان قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) (1) نزلت في أهل الذمة، ثم نسخها
قوله (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله
ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون) (2)، فأوجب الجزية على أهل الكتاب من الرجال البالغين.
والفقير الذي لا شئ معه يجب عليه الجزية، لأنه لا دليل على اسقاطها منه،

(1) سورة البقرة: 83.
(2) سورة التوبة: 29.
255

وعموم الآية يقتضيه، فإذا لم يقدر على أدائها كانت في ذمته، فإذا استغنى أخذت
منه من يوم ضمنها.
وبدليل العقل تسقط من مجانينهم ونواقصي العقول منهم.
وما للجزية حد، لأنه من كل انسان منهم ما شاء على قدر ماله ومما يطيق،
انما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا، فتؤخذ منهم على قدر ما يطيقون
حتى يسلموا، فان الله قال (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، فمنهم من
لا يكترث مما يؤخذ منه، فإذا وجد ذلا يسلم الجزية بيده صاغرا فإنما على طريق
الاذلال [بذلك وقابضها منه يكون قاعدا تألم لذلك يسلم] (1).
وقوله تعالى (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (2)
يدل على أن من وجبت عليه الجزية وحل الوقت فأسلم قبل أن يعطيها سقطت عنه ولم
يلزمه أداؤها، لان ذلك على العموم.
وأما عقد الجزية فهو الذمة، ولا يصح الا بشرطين: التزام الجزية، وأن
يجرى عليهم أحكام المسلمين من غير استثناء. فالتزام الجزية وضمانها لابد منه،
لقوله (قاتلوا الذين لا يؤمنون) إلى قوله (حتى يعطوا الجزية) وحقيقة الاعطاء
هو الدفع، غير أن المراد ههنا هو الضمان وان لم يحصل الدفع.
وأما التزام أحكامنا عليهم فلابد منه، وهو الصغار المذكور في الآية، ففي
الناس من قال الصغار هو وجوب جري احكامنا عليهم، ومنهم من قال الصغار أن
تؤخذ الجزية منه قائما والمسلم جالس عن خشوع وضراعة وذل واستكانة من الذمي
وعن يد من المسلمين ونعمة منهم عليهم في حقن دمائهم وقبول الجزية منهم.
ولاحد لها محدود، بل يضعها الامام على أرضهم أو على رؤوسهم على قدر

(1) الزيادة من ج.
(2) سورة التوبة: 11.
256

أحوالهم من الضعف والقوة بقدر ما يكونون به صاغرين. وما روي أن عليا عليه
السلام وضع على الموسر منهم ثمانية وأربعين درهما، وعلى المبسوط أربعة وعشرين
درهما، وعلى المتجمل اثنى عشر درهما - (1) انما فعله لما رآه في تلك الحال من
المصلحة.
(باب الزيادات)
أما قوله تعالى (انما الصدقات للفقراء) فقصر لجنس الصدقات على الأصناف
المعدودة وأنها مختصة بهم، كأنه قيل انما هي لهم لا لغيرهم، ونحوه قولهم (انما
الخلافة لقريش) يريدون لا يتعداهم ولا يكون لغيرهم، فيحتمل أن تصرف إلى
الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها.
(مسألة)
فان قيل: لم عدل عن اللام التي في الأربعة الأولة من قوله (للفقراء) التي
في الأربعة الأخيرة؟
قلنا: قال بعض المفسرين: ان ذلك للايذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق
عليهم ممن سبق ذكره، لان في للدعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم
الصدقات، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفى فك الغارمين
من الغرم من التخليص والانفاذ.
ويجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعالة، وكذلك
ابن السبيل الجامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير (في) في قوله
(وفي سبيل الله) فيه فضل ترجيح لهذين على الغارمين.

(1) وسائل الشيعة 11 / 115.
257

وقيل: اللام في الأصناف الأربعة تدل على أن تلك الصدقة لهم يفعلون به ما
أرادوا وينفقون كما شاؤوا مما أبيح لهم، ولفظة (في) تدل أن الصدقة التي تعطى
المكاتب والغارم ليس لهما أن ينفقا على أنفسهما وأهاليهما وانما يضعان في فك الرقبة
والذمة، فيوصل المكاتب إلى سيده المديون إلى غريمه.
وقوله (فريضة) مصدر مؤكد، لان قوله (انما الصدقات للفقراء) معناه
فرض الله الصدقات لهم.
(مسألة)
وقوله (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول) (1) قال النبي عليه السلام:
أيها الناس انه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم، صلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا
بيتكم وأدوا زكاة أموالكم تدخلوا جنة ربكم.
فاشتملت هذه الآية على جميع العبادات.
(مسألة)
وأما قوله (واعلموا أن ما غنمتم من شئ) (2) فما بمعنى الذي ومن شئ بيانه.
قيل من كل شئ حتى الحنطة والمخيط، وقيل من بعض الأشياء لا من
جميعها، فيكون التقدير من شئ مخصوص، فحذف الصفة، كقوله (فإن كان له
اخوة) (3) أي من الام.
وقوله (فأن لله) تقديره فواجب أن لله خمسه، كأنه قيل فلابد من ثبات

(1) سورة النور: 56.
(2) سورة الأنفال: 41.
(3) سورة النساء: 11.
258

الخمس (1) فيه من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات كقولك
واجب ثابت حق لازم وما أشبه ذلك كان أقوى لايجابه من النص على واحده وتعلق
قوله (ان كنتم آمنتم بالله) بمحذوف، ويدل عليه (اعلموا) اي ان كنتم آمنتم
بالله فاعلموا أن الخمس لهؤلاء المذكورين، وليس المراد العلم المجرد ولكنه
العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله، لان العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر.
(مسألة)
فان قيل: ما معنى ذكر الله وعطف الرسول وغيره عليه في قوله تعالى (فأن
لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الآية، وما المراد بالجمع بين الله ورسوله في
قوله (قل الأنفال لله والرسول)؟.
قلنا: أما آية الغنيمة فان الله لما رأى المصلحة أن يكون خمس الغنيمة على
ستة أقسام ويكون لرسوله سهمان منه في حال حياته وسهم لذي قرباه وثلاثة الأسهم
الباقية ليتامى آل محمد ومساكينهم وأبناء سبيلهم ويكون بعد وفاة رسول الله سهم الله
وسهم رسوله وسهم ذي القربى لذي قربى الرسول القائم مقامه، فصل تفصيلا في ذلك
تمهيدا لعذره عليه السلام وقطعا لاطماع كل طامع.
وكذلك آية الأنفال لما علم الله الصلاح في الأنفال أن تكون خاصة لرسوله
وبعده لمن يقوم مقامه من ذي قرباه أضافها إلى نفسه والى رسوله لكيلا تكون دولة
بين هذا وذا، وأبى القوم الا أن تكون دولة بينهم.
(مسألة)
وقوله (وما أفاء الله على رسوله) أي ما جعله الله فيئا له خاصة، فما أوجفتم

(1) أي كأن الله تعالى قال أن ما غنمتم من شئ فلابد من ثبات الخمس فيه (ه‍ ج).
259

على تحصيله خيلا ولا تعبتم في الاقتتال عليه ولكن سلط الله رسوله على مال بنى النضير
ونحوه، فالامر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء، يعنى أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي
قوتل عليها، وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت الآية.
ثم قال (ما أفاء الله على رسوله) ولم يدخل الواو العاطفة لأنه بيان للجملة
الأولى، فالجملة الأخيرة غير أجنبية عنها، بين لرسول الله ما يصنع بما أفاء الله عليه
وإن كان هو حقه نحلة من الله في هذه الآية وفي قوله (وآت ذا القربى حقه).
(مسألة)
وعن زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا لأبي عبد الله عليه السلام: أرأيت قول
الله (انما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية، أكل هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف؟
فقال: ان الامام يعطي هؤلاء جميعا لأنهم يقرون بالطاعة، وانما يعطى من لا يعرف
ليرغب في الدين فيثبت عليه، فأما اليوم فلا تعطيها أنت وأصحابك الا من تعرف،
فمن وجدت من هؤلاء المسلمين عارفا فاعطه دون الناس (1).
(مسألة)
فان قيل: كيف قال (وفى الرقاب) بعد قوله (وآت المال على حبه ذوي
القربى) ولا يقال اتى المال فيه.
قلنا: المفعول محذوف، والتقدير وآت في فك الرقاب سيدهم وفى حق
الغارمين أصحاب ديونهم ولا تعطى المملوك المال ينفق على نفسه وانما يعطى ليدفع
إلى مولاه فينعتق، سواء كان مكاتبا أو مملوكا.

(1) تفسير البرهان 2 / 135.
260

(مسألة)
قال الصادق عليه السلام في قوله (لا خير في كثير من نجواهم الا من أمر
بصدقة أو معروف) (1) المعروف القرض (2).
وقال في قوله (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) (3) هو الرجل يدع
ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا، ثم يدعه لمن يعمل بطاعة الله أو بمعصيته، فان عمل
فيه بطاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة وقد كان المال له، وان عمل به في
معصيته قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله (4).
(مسألة)
قال علي عليه السلام: قوله (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى (5))
انه التصدق بصدقة الفطر. وقال: لا أبالي أن أجد في كتابي غيرها لقوله (قد أفلح
من تزكى) أي أعطاه زكاة الفطرة فتوجه إلى المصلى فصلى صلاة العيد.
(مسألة)
روى أبو سعيد الخدري: كنا نخرج - إذا كان فينا رسول الله - صاعا من
تمر أو طعام أو شعير أو أقط، فقدم معاوية حاجا فقال: أرى مدين من سمراء الشام (6)

(1) سورة النساء: 114.
(2) من لا يحضره الفقيه 2 / 58.
(3) سورة البقرة: 167.
(4) تفسر البرهان 1 / 173.
(5) سورة الاعلى: 14 - 15.
(6) السمراء: الحنطة - عن الجوهري (ه‍ ج).
261

يعدل صاعا من تمر (1)، وذلك في عهد عثمان. فقال علي عليه السلام - وقد سئل عن
الفطرة - فقال: صاع من طعام. قيل: أو نصف صاع. قال: بئس الاسم الفسوق
بعد الايمان.
(مسألة)
وقال الرضا عليه السلام: ان الخمس بعد المؤنة (2).
وقال الصادق عليه السلام: ان الله لما حرم علينا الزكاة أنزل لنا الخمس،
قال الله تعالى (واعلموا ان ما غنمتم من شئ) الآية، فالصدقة علينا حرام والخمس
لنا فريضة والكرامة لنا حلال (3).
(مسألة)
وقال أبو عبد الله عليه السلام في الرجل يموت ولا وارث له ولا مولى: انه
من أهل هذه الآية (يسألونك عن الأنفال) (4).
وعن علي بن أبي راشد (5) قلت لأبي الحسن عليه السلام: عندنا لأبي جعفر شئ
فكيف نصنع؟ فقال: ما كان لأبي عليه السلام بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير
ذلك فهو ميراث على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله.

(1) صحيح البخاري 2 / 162 بهذا المضمون.
(2) وسائل الشيعة 6 / 348.
(3) وسائل الشيعة 6 / 187.
(4) تفسير البرهان 2 / 59.
(5) في م (أبى علي بن راشد). وانظر تنقيح المقال 2 / 263.
262

كتاب الحج
قال الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) (1).
فأوجب سبحانه بهذه الآية حجة الاسلام وعمرة الاسلام، لأنه تعالى، أمر من
المكلفين جميع من توجه إليه وجوب الحج أن يتم الحج والعمرة ووجوب الاتمام
يدل على أنه واجب، بل هذا آكد في الايجاب من حجوا واعتمروا، كما أن (أقيموا
الصلاة) آكد من صلوا، و (آتوا الزكاة) آكد من زكوا.
وهي واجبة بشروط ثمانية بينها رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقوله (أتموا) أمر بايقاعهما تامة، فان نسكها كثيرة ولا يجوز أن يقضى بعضها
دون بعض.
وقيل: من دخل في الحج أو العمرة على سبيل التطوع وأحرم فإنه يجب
عليه أن يتمه. ومثاله الاعتكاف، فإنه يستحب للمكلف أن يعتكف في أحد المساجد
الأربعة، فإذا اعتكف فإنه يجب عليه أن يتمه.

(1) سورة البقرة: 196.
263

(فصل)
ولما قرن تعالى العمرة بالحج وأمر باتمامهما وفعلهما أمرا واحدا فهي في
الوجوب مرة واحدة كالحج.
والحج في اللغة القصد، وفى الشرع هو القصد إلى البيت الحرام لأداء مناسك
بها مخصوصة في أوقات مخصوصة.
والعمرة في اللغة الزيارة، وفى الشرع عبارة عن زيارة البيت لأداء مناسك
مخصوصة. فان كانت ما يتمتع بها إلى الحج فتكون أيضا في وقت مخصوص،
وإذا كانت مبتولة ففي أي وقت كان من أيام السنة جازت.
وقيل في قوله (وأتموا الحج والعمرة لله) أي أقيموها إلى آخر ما فيهما،
وهو المروي عن أمير المؤمنين وزين العابدين عليهما السلام (1).
وقوله (لله) أي اقصدوا بهما التقرب إلى الله.
(فصل)
وقال تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (2).
سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قوله (من استطاع إليه سبيلا) فقال:
ما يقول فيها هؤلاء؟ قيل: يقولون الزاد والراحلة. فقال عليه السلام: قد قيل ذلك
لأبي جعفر عليه السلام فقال: هلك الناس إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما
أو مقدار ذلك مما يقوت به عياله ويستغنى به عن الناس فقد وجب عليه الحج ثم
رجع فيسأل الناس بكفه، لقد هلك إذا. فقيل له: فما السبيل عندك؟ فقال: السعة

(1) مجمع البيان 1 / 290.
(2) سورة آل عمران: 97.
264

في المال، وهو أن يكون معه ما يحج ببعضه ويبقى بعض يقوت به نفسه وعياله.
ثم قال: أليس قد فرض الله الزكاة فلم تجعل الا على من يملك مائتي درهم (1).
وانما أورد عليه السلام هذه اللفظة على وجه المثال لا على جهة الحمل،
والأمثلة مما توضح به المسائل، قال الله تعالى ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم) (2).
(باب في أنواع الحج)
معلوم أن الحج ليس المراد به القصد والحضور فقط، وانما هو مجمل
يحتاج إلى التفصيل كالصلاة، وتفصيله يدرك بالكتاب والسنة، والله سبحانه قد بين
بعض ذلك كالوقوف والدفع والسعي والطواف كما ذكر في سورة البقرة. وبين
أيضا ما يجب أن يمتنع منه كالرفث والفسوق والجدال وقتل الصيد.
والذي يدرك بالسنة فقد بينها رسول الله لقوله (وأنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس ما نزل إليهم).
ثم اعلم أن الحج ضروب ثلاثة: مفرد لأهل مكة، وقارن لمن حكمه حكم
أهل مكة وإن كان منزله خارج مكة من بواديها، ثم النوعان للفريقين وتمتع لمن نأى
من الحرم.
فالافراد فرض ساكني مكة ومجاوريها الذين جاوروا ثلاث سنين فصاعدا لم
يجز لهم التمتع ويجوز لهم القران. فأما من كان بحكم حاضري المسجد الحرام
فهو كل من كان على اثني عشر ميلا فما دونها إلى مكة من أي جانب كان، ففرضه
الافراد والقران، ولان يحرم أغنياؤهم فالاقران أولى.
وفرض التمتع عندنا هو اللازم لكل من لم يكن من حاضري المسجد الحرام،

(1) وسائل الشيعة 8 / 24.
(2) سورة آل عمران: 59.
265

وهو كل من كان على أكثر من اثني عشر ميلا من أي جانب كان إلى مكة. فمن خرج
عنها وليس من الحاضرين لا يجوز له مع الامكان غير التمتع، قال الله تعالى (فإذا
أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) الآية (1).
(فصل)
وروي عن ابن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: ان النبي صلى الله عليه وآله
أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج، ثم أنزل الله عليه (وأذن في الناس بالحج) (2)
الآية، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا على أصواتهم بأن رسول الله يحج من عامه هذا،
فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي (3) والاعراب فاجتمعوا، فخرج رسول الله في
أربع بقين من ذي القعدة، فلما انتهى إلى ذي الحليفة (4) فزالت الشمس فاغتسل ثم
خرج حتى أتى المسجد عند الشجرة (5)، فصلى فيه الظهر وأحرم بالحج - ثم ساق
الحديث إلى أن قال - فلما وقف رسول الله بالمروة (6) بعد فراغه من السعي قال: ان
هذا جبريل - وأومى بيده إلى خلفه - يأمرني ان آمر من لم يسق هديا أن يحل.
ثم قال: ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ولكني سقت
الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحل حتى يبلغ الهدي محله. فقال عمر (7): أنخرج

(1) سورة البقرة: 196.
(2) سورة الحج: 27.
(3) العالية الحجاز وما والاها (ه‍ ج).
(4) ذو الحليفة قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، ومنها ميقات أهل المدينة،
وهو من مياه جشم - معجم البلدان 2 / 295.
(5) وهي على ستة أميال من المدينة - معجم البلدان 3 / 325.
(6) جبل بمكة بعطف على الصفا. مائل إلى الحمرة - معجم البلدان 5 / 116.
(7) في م (فقال عثمان).
266

حجاجا ورؤوسنا تقطر؟ فقال عليه السلام: انك لن تؤمن بها أبدا. فقام إليه سراقة فقال: فهذا
الذي أمرتنا به لعامنا هذا أو لما يستقبل؟ فقال عليه السلام: بل هو للأبد إلى يوم القيامة
ونزل رسول الله بمكة بالبطحاء هو وأصحابه ولم ينزلوا الدور، فلما كان يوم التروية
عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلوا بالحج، وكانت قريش تفيض من
المزدلفة - وهي جمع والمشعر الحرام - ويمنعون الناس أن يفيضوا منها، فأنزل الله
(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) يعنى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في افاضتهم
منها ومن كان بعدهم من قريش، ثم مضى إلى الموقف بعرفات فوقف حتى وقع
القرض - إلى آخر الحديث (1).
(فصل)
ومما يدل على التمتع بالعمرة إلى الحج هو فرض الله على كل من نأى عن
المسجد الحرام ولا يجزيه مع التمكن سواه - بعد اجماع الطائفة عليه - قوله تعالى
(وأتموا الحج والعمرة لله) (2)، فأمره تعالى شرعا على الوجوب والفور، فلا يخلو
من أن يأتي بهما على الفور، بأن يحرم بالحج أو العمرة معا أو يبدأ بالحج ويثنى
بالعمرة أو يبدأ بالعمرة ويثنى بالحج، فالأول يفسد ويبطل، لان عندنا أنه لا يجوز أن
يجمع في احرام واحد بين [الحج والعمرة كما لا يجمع في احرام واحد بين] (3)
حجتين أو عمرتين. والقسم الثاني أيضا باطل، لان أحدا من الأمة لا يوجب على من
أحرم بالحج مفردا أن يأتي عقيبه بلا فصل بالعمرة. فلم يبق الا وجوب القسم الأخير
الذي ذكرناه، وهو التمتع الذي ذهبنا إليه.

(1) الكافي 4 / 244 - 248 مع تفصيل أكثر مما هنا.
(2) سورة البقرة: 196.
(3) الزيادة من ج.
267

فان قيل: قد نهى عمر عن هذه المتعة مع متعة النساء وأمسكت الأمة عنه
راضية بقوله.
قلنا: من ليس بمعصوم عن الفعل القبيح لا يدل على قبحه قوله بالنهي عن
التمتع، والامساك عن النكير لا يدل عند أحد من العلماء على الرضا الا بعد أن يعلم
أنه لا وجه له الا الرضا.
وروى الحلبي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحج. فقال: تمتع دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لان الله يقول (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج
فما استيسر من الهدي) (1) فليس لأحد أن يتمتع الا لحاضري المسجد الحرام، لان الله
تعالى أنزل ذلك في كتابه وجرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله. ثم قال:
انا إذا وقفنا بين يدي الله قلنا يا ربنا عملنا بكتابك وقال الناس رأينا ورأينا، ويفعل
الله بنا وبهم ما أراد. ثم قال: انا لا نتقي أحدا في التمتع بالعمرة إلى الحج واجتناب
المسكر والمسح على الخفين (2).
(فصل)
وسياق التمتع أن يحرم من الميقات بالعمرة في أشهر الحج، وهي شوال
وذو القعدة وتسع من ذي الحجة، ويبلى ثم يدخل مكة فيطوف بالبيت للعمرة ويصلي
ركعتي الطواف لها ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر وقد حل.
فيتمتع حينئذ بلبس الثياب ان شاء وعمل كل ما يعمله الحلال (3) من الطيب

(1) سورة البقرة: 196.
(2) هذا الحديث مركب من ثلاثة أحاديث ذكرها الطوسي في الاستبصار 2 / 150 - 151،
الأول والثاني مروى عن الحلبي كما هنا والثالث مروى عن محمد بن الفضل الهاشمي - فراجع.
(3) أي المحل الذي ليس عليه لباس الاحرام.
268

والنساء وغيرهما، الا الصيد لأنه في الحرم إلى أن يحرم بالحج يوم التروية، فهذه
المدة التي بينهما متعة له.
ثم ينشئ احراما آخر بالحج من المسجد الحرام ويلبى ويخرج إلى عرفات
ويقف هناك ويفيض إلى المشعر ويقف هناك، ويغدو منها إلى منى ويذبح الهدي
بها مع باقي المناسك يوم النحر، ثم يأتي مكة يوم النحر أو من الغد لا غير اختيارا
ويطوف طواف الزيادة ويصلي ركعتيه ويسعى ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتيه
وقد أحل من كل شئ، ويعود إلى منى فيبيت ليالي منى بها (1) ويرمي الجمار.
وفرائض الحج المتمتع ثماني عشرة، يدل عليها ظواهر القرآن وفحواه،
وفرائض الحج القارن والمفرد عشر. ومن أفرد أو قارن فعليه أن يعتمر بعد الفراغ
عمرة الاسلام مبتولة من حجه متى شاء.
(باب في تفصيل أفعال الحج المتمتع)
أولها النية، لان من خرج من بيته قاصدا بيت الله يجب عليه وقت نهوضه
أن ينوي أنه يخرج لحجة الاسلام.
ثم هو في قطع الطريق يؤدى الواجبات، لان ما لا يتم الواجب الا به فهو
أيضا واجب، فإذا بلغ الميقات أحرم به للعمرة التي يتمتع بها إلى الحج، ونوى
ولبس ثوبي الاحرام ولبى أربع كلمات واجبا.
فالدليل على وجوب النية قوله تعالى (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له
الدين) (2) فهذه الآية تدل على أن النية للحج ولجميع العبادات واجبة، لان الاخلاص
بالديانة هو القربى إلى الله تعالى بعملها مع ارتفاع الشوائب، والتقريب إليه تعالى

(1) إلى ليالي التشريق (ه‍ ج).
(2) سورة البينة: 5.
269

لا يصح الا بالعقد عليه والنية له ببرهان.
والنية إرادة مخصوصة محلها القلب، وبين عليه السلام ذلك بقوله (انما
الأعمال بالنيات) (1).
وأما الاحرام فريضة من تركه متعمدا فلا حج له. فإذا أراد الاحرام تنظف
واتزر بثوب وتوشح بآخر أو ارتدى به، ولا يلبس مخيطا.
وروى عن ابن مسعود أنه لقي رجلا محرما وعليه ثيابه القميص والسروال،
فقال له: انزع هذا عنك. فقال الرجل: اقرأ علي آية في هذا من كتاب الله. فقرأ
عليه قوله تعالى (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
والآية عامة في كل ما أتى رسول الله وما نهى عنه وإن كان أمر النبي متصلا
به، ولا خلاف بين الفقهاء أن الآية إذا نزلت في أمر لا تكون مقصورة عليه.
(فصل)
وقوله تعالى (وأذن في الناس بالحج) (2) الآية.
عن ابن عباس ان إبراهيم عليه السلام قام في المقام فنادى: يا أيها الناس
ان الله قد دعاكم إلى الحج. فأجاب الحاضرون: بلبيك لبيك اللهم لبيك لبيك.
والشئ إذا علم أنه كان في شرع ولم ينسخ فهو على ما كان.
وقال مجاهد: نزل قوله (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم
تسؤكم) (3) حين سألوا عن أمر الحج لما أنزل الله (ولله على الناس حج البيت)
فقالوا: في كل عام؟ قال: لا ولو قلت نعم لوجبت (4).

(1) وسائل الشيعة 1 / 34.
(2) سورة الحج: 27.
(3) سورة المائدة: 101.
(4) الدر المنثور 2 / 335.
270

وقال ابن عباس: كان رجل مطعون في نسبه يقال له عبد الله فقال: يا رسول الله
من أبي؟ فقال عليه السلام: حذافة، فنزلت الآية (1).
وكأن السؤال الأول والثاني وقعا في مجلس واحد، فخاطب الله المؤمنين بهذه
الآية ونهاهم عن مسألة الأشياء التي إذا ظهرت ساءت وأحزنت من أظهرت له.
وروي عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام أنه قال: ان الله فرض
الحج على أهل الجدة (2) في كل عام، وذلك قوله (ولله على الناس حج البيت). فقال
أخوه علي بن جعفر: قلت ومن لم يحج منا فقد كفر؟ [قال: لا ولكن من قال ليس
هذا هكذا فقد كفر] (3).
ومعناه أنه يجب على أهل الجدة في كل عام على طريق البدل، لان من وجب
عليه الحج في السنة الأولة فعلى هذا في كل سنة إلى أن يحج [ولم يعن عليه السلام
وجوب ذلك عليهم في كل عام على طريق الجمع] (4). ونظير ذلك ما نقوله في وجوب
الكفارات الثلاث من أنه متى لم يفعل واحدة منها فانا نقول إن كل واحدة منها له
صفة الوجوب، فإذا فعل واحدة منها خرج الباقي من أن يكون واجبا، فكذلك القول
فيما تضمن هذا الحديث. والمراد بقوله (ولله على الناس حج البيت) الامر دون الخبر، كقوله (ومن
دخله كان آمنا) (5) فان معناه الامر أيضا، اي أمنوه، لأنه لو كان خبرا لكان كذبا.

(1) الدر المنثور 2 / 336.
(2) الجدة الغنى والثروة، يقال: وجد في المال وجدا وجدة، أي استغنى.
(3) الزيادة من م، والحديث مع الزيادة في الاستبصار 2 / 149.
(4) الزيادة من ج.
(5) سورة آل عمران: 97.
271

(فصل)
ومن أحرم بالحج أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج في غير أشهر الحج -
وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة - لم ينعقد احرامه.
والحجة لنا - بعد الاجماع المكرر - قوله تعالى (الحج أشهر معلومات) 1،
ومعنى ذلك وقت الحج أشهر معلومات، لان الحج نفسه لا يكون أشهرا. والتوقيت
في الشريعة يدل على اختصاص الموقت بذلك الوقت وانه لا يجزي الا في وقته.
فان تعلق المخالف بقوله (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس
والحج) (2) وان ظاهر ذلك يقتضي أن الشهور كلها متساوية في جواز الاحرام فيها.
الجواب: ان هذه الآية عامة نخصصها بقوله (الحج أشهر معلومات)، ونحمل
لفظ (الأهلة) على أشهر الحج خاصة.
على أن أبا حنيفة لا يمكنه التعلق بهذه الآية، لان الله تعالى قال (مواقيت للناس
والحج)، والاحرام عنده ليس من الحج.
وقد أجاب بعض الشفعوية (3) عن التعلق بهذه الآية بأن قال (يسألونك عن الأهلة
قل هي مواقيت للناس) أي لمنافعهم وتجاراتهم. ثم قال (والحج) فاقتضى ذلك
أن يكون بعضها لهذا وبعضها لهذا، وهكذا نقول. ويجري ذلك مجرى قولهم (هذا
المال لزيد وعمرو) أن الظاهر يقتضى اشتراكهما فيه.
وهذا ليس بمعتمد، لأن الظاهر من قوله (للناس والحج) يقتضي أن يكون

(1) سورة البقرة: 197.
(2) سورة البقرة: 189.
(3) يريد أصحاب الشافعي أحد أئمة المذاهب الأربعة عند السنة.
272

جميع الأهلة على العموم لكل واحد من الامرين، وليس كذلك قولهم (المال
لزيد وعمرو)، لأنه لا يجوز أن يكون جميع المال لكل واحد منهما، فوجب
الاشتراك لهذه العلة. وجرت الآية مجرى أن نقول (هذا الشهر أجل لدين فلان
ودين فلان) في أنه يقتضي كون الشهر كله أجلا للدينين جميعا ولا ينقسم لانقسام المال،
فوجب أن لا يكون الاشتراك لهذه العلة.
(فصل)
والطواف بالبيت فريضة، وهو سبعة أشواط، يتبدأ به من عند الحجر الأسود،
قال تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين) (1) والطائف الدائر
حول الكعبة. وقال (وليطوفوا بالبيت العتيق) (2) وقال (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (3)
وقال (أرنا مناسكنا) (4) قال قتادة: أراهما الله الطواف بالبيت والسعي بين الصفا
والمروة وغير ذلك من أعمال الحج والعمرة.
وقال تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (5). قال الشعبي وقتادة: أمروا
أن يصلوا عنده، وهو المروى في اخبارنا (6). وبذلك يستدل على أن صلاة الطواف
فريضة مثل الطواف، لان الله أمر بذلك، والامر في الشرع يقتضى الايجاب، وليس
ههنا صلاة يجب أداؤها عنده غير هذه.

(1) سورة البقرة: 125.
(2) سورة الحج: 29.
(3) سورة البقرة: 128.
(4) سورة البقرة: 128.
(5) سورة البقرة: 125.
(6) انظر تفسير البرهان 1 / 151 - 152.
273

وقال تعالى (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم) (1) الآية. قال
مجاهد: انما ذكر اللباس ههنا لان المشركين كانوا يتعرون في الطواف حتى تبدو
سوآتهم.
وقوله تعالى (قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها) (2) هو التعري في الطواف،
كانوا يقولون لا نخدم الله في ثياب أذنبنا فيها. ويقال أيضا بالتعري من الذنوب.
وكانت المرأة تطوف أيضا عريانة الا أنها تشد في حقوها (3) سيرا.
(فصل)
السعي بين الصفا والمروة فرض عندنا في الحج والعمرة، وبه قال الحسن
وعائشة والشافعي، قال الله (ان الصفا والمروة من شعائر الله) (4).
وهما جبلان معروفان بمكة، وهما من الشعائر أي معالم الله. وشعائر الله
اعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر، مأخوذ من (شعرت به) أي علمت،
وكل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة وأداء فريضة فهو مشعر لتلك العبادة (5).
وانما قال (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (6) وهو

(1) سورة الأعراف: 26.
(2) سورة الأعراف: 33.
(3) الحقو: الخصر ومشد الإزار - صحاح اللغة 6 / 2317.
(4) سورة البقرة: 158.
(5) قال ابن فارس: الشين والعين والراء أصلان معروفان، يدل أحدهما على ثبات
والاخر على علم وعلم - بسكون اللام وفتحه -.. ومشاعر الحج مواضع المناسك، سميت
بذلك لأنها معالم الحج، والشعيرة واحدة الشعائر، وهي أعلام الحج وأعماله. ويقال الشعيرة
أيضا البدنة تهدى - معجم مقاييس اللغة 3 / 193.
(6) سورة البقرة: 158.
274

طاعة، من حيث أنه جواب لمن توهم أن فيه جناحا لصنمين كانا عليهما أحدهما أساف
والاخر نائلة، وروي ذلك عنهما عليهما السلام (1)، وكان ذلك في عمرة القضاء ولم يكن
فتح مكة بعد، وكانت الأصنام على حالها حول الكعبة.
وقال قوم: سبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما، فكره المسلمون
ذلك خوفا أن يكون من أفعال الجاهلية، فأنزل الله (فلا جناح عليه أن يطوف بهما).
وقال آخرون على عكس ذلك، وذكروا أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون
السعي بينهما، فظن قوم أن في الاسلام مثل ذلك، فأنزل الله الآية.
وجملته أن في الآية ردا على جميع ما كرهه من كرهه لاختلاف أسبابه على
الأجوبة الثلاثة.
(فصل)
قوله تعالى (ومن تطوع خيرا فان الله شاكر) (2) لا يدل على أن السعي بين الصفا
والمروة مستحب متطوع، لان معناه ومن تطوع خيرا بالصعود على الصفا والمروة
فهو المجازى بالثواب على تطوعه، وفيمن لم يصعد ولم يقف على رؤوسهما وسعى
وطاف بينهما من طرف هذا إلى طرف تلك ومن طرف تلك إلى طرف هذا هكذا
سبعا فقد أدى الواجب فلا جناح عليه.
وقال انس وعطا ان جميع ذلك تطوع، وبه قال أبو حنيفة. وعندنا ان من
ترك الطواف بينهما متعمدا فلا حج له حتى يعود ويسعى، وبه قالت عائشة والشافعي.
وقال أبو حنيفة ان عاد فحسن والا جبره بدم. وقال عطا ومجاهد يجزيه ولا شئ عليه.
وقال المفسرون في معنى قوله (ومن تطوع خيرا) ثلاثة أقوال: أولها من

(1) عن الباقر والصادق عليهما السلام - انظر تفسير البرهان 1 / 169.
(2) سورة البقرة: 158.
275

تطوع خيرا أي الحج أو العمرة بعد الفريضة، والثاني ومن تطوع خيرا أي بالطواف
بهما عند من قال إنهما نفل، والثالث ومن تطوع خيرا بعد الفرائض كمن طاف
بالبيت الطوافات النافلة بعد الفراغ من مناسك الحج. وهذا هو الأولى لأنه أعم.
وقال الجبائي: التقدير فلا جناح عليه ان يطوف بهما، وهو غير صحيح،
لان الحذف يحتاج إلى دليل.
والفرق بين الفرض والتطوع ان الفرض يستحق بتركه الذم والعقاب، والتطوع
لا مدخل لهما في تركه.
وعن الصادق عليه السلام: ان آدم الصفي نزل على الصفا وحواء على المروة،
وهي مرأة تسميا بهما (1).
والتقصير بعد الفراغ من هذه العمرة واجب، قال تعالى (محلقين رؤوسكم
ومقصرين) (2).
(فصل)
وإذا كان يوم التروية وقد فرغ من العمرة التي يتمتع بها إلى الحج وأراد
الاحرام للحج وهو واجب نوى وأحرم عند مقام إبراهيم ولبى. وكل هذه الثلاثة
واجب، يدل عليه الآيات التي تلوناها من قبل، وقال تعالى أيضا (ما آتاكم
الرسول فخذوه).
ويتوجه إلى عرفات، فإذا زالت الشمس بها [وقف هناك بعد الظهر والعصر
إلى غروب الشمس، وهذا الموقف فريضة] (3) في الحج، قال تعالى (ثم أفيضوا

(1) تفسير البرهان 1 / 169، والمنقول هنا مختصر فيه.
(2) سورة الفتح: 27.
(3) الزيادة من ج.
276

من حيث أفاض الناس) (1). كانت قريش في الجاهلية لا تخرج إلى عرفات ويقولون
لا نخرج من الحرم، وكانوا يقفون يوم عرفة بالمشعر الحرام وليلة العيد أيضا بها،
وكان الناس الذين يحجون غيرهم يقفون بعرفات يوم عرفة كما كان إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق يفعلون، فأمر الله أن يقف المسلمون كلهم يوم عرفة بعرفات ويفيضوا منها
عند الغروب إلى المشعر بقوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)، والإفاضة
منها لا يمكن الا بعد الوقوف أو الكون بها.
(فصل)
وقوله (فإذا أفضتم من عرفات) (2) بين تعالى فرض الموقفين عرفات والمشعر،
أي إذا دفعتم من عرفات بعد الاجتماع بها فاذكروا الله عند المشعر الحرام.
أوجب الله على الحاج كلهم أن يذكروا الله بالمشعر، لان الامر شرعا على
الوجوب، ولا يجوز أن يوجب الذكر فيه الا وقد أوجب الكون فيه، ففي هذا
دلالة على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليلة العيد فريضة كما ذهبنا إليه. وتقدير
الكلام: فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا الله فيه، اي اذكروه
تعالى بالثناء والشكر حسب نعمائه عليكم بالهداية، فان الشكر يجب أن يكون على
حسب النعمة في عظم المنزلة كما يجب أن يكون على مقدارها لو صغرت النعمة،
ولا يجوز التسوية بين من عظمت نعمته ومن صغرت نعمته، يعنى اذكروه ذكرا فيه
بمثل هدايته إياكم [وان كنتم قبل محمد وقبل الهدى لمن الضالين عن النبوة والشريعة
هداكم إليه] (3).

(1) سورة البقرة: 199.
(2) سورة البقرة: 198.
(3) الزيادة من م.
277

فان قيل: ثم للترتيب متراخيا، فما معنى الترتيب بين قوله (واذكروا الله
عند المشعر الحرام) وبين قوله (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)، ولا خلاف
أن الوقوف بعرفات مقدم على الوقوف بالمشعر.
قلنا: هذا يوجب الترتيب في الاخبار بهما لا بالعمل فيهما، ونحوه قوله تعالى
(ثم كان من الذين آمنوا) (1) بعد قوله (أو اطعام في يوم ذي مسغبة) (2)، ولا خلاف
ان الايمان يجب أن يكون قبل الاطعام.
وقد روى أصحابنا أن ههنا تقديما وتأخيرا، وتقديره، ليس عليكم جناح ان
تبتغوا فضلا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وإذا أفضتم من عرفات فاذكروا
الله عند المشعر الحرام واستغفروا الله ان الله غفور رحيم (3).
وأجاب المتأولون بأن قالوا: رتبت الإفاضة بعد المعنى الذي دل الكلام
الأول عليه، كأنه قيل احرموا بالحج على ما بين لكم ثم أفيضوا يا معشر قريش من
حيث أفاض الناس بعد الوقوف بعرفة.
وهذا قريب مما قلناه، وانما عدل من تأوله على الإفاضة من مزدلفة لأنه رآه
بعد قوله (فإذا أفضتم من عرفات) قال: فأمروا ان يفيضوا من المزدلفة يوم الوقوف
بها كما أمروا بعرفة. وما قدمناه هو التأويل المختار.
فإذا أصبح يوم النحر صلى الفجر ووقف للدعاء بالمشعر إلى طلوع الشمس،
ثم يفيض إلى منى لأداء المناسك بها كما بينها رسول الله، لقوله (وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس).

(1) سورة البلد: 14 - 17.
(2) سغب الرجل - بكسر الغين - جاع، ويوم ذو مسغبة أي ذو المجاعة - لسان العرب
(سغب).
(3) انظر في ذلك مجمع البيان 1 / 296.
278

(فصل)
والهدي واجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج، ومن لم يقدر عليه وجب
عليه صيام عشرة أيام، قال تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من
الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) (1)، فالهدي
على الحاج المتمتع واجب بلا خلاف لظاهر القرآن، وخالفوا في أنه نسك [أو
جبران، والصحيح أنه نسك] (2)، وكذلك هو عندنا.
فإن لم يجد الهدي ولا ثمنه صام ثلاثة أيام متتابعة في أول ذي الحجة رخصة.
ووقت صومها يوم قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، فان فاتته صام ثلاثة أيام
بعد أيام التشريق في شوال متتابعة وصام سبعة الأيام إذا رجع إلى أهله. وهذا أصح
من قول من قال إذا رجع عن حجه في طريقه.
وقوله (تلك عشرة كاملة) عن أبي جعفر عليه السلام أن المعنى كاملة من
الهدي، إذ وقعت بدلا منه استكملت ثوابه (3).
ثم أنه لإزالة الابهام، لئلا يظن أن الواو بمعنى أو، كأنه قال: فصيام ثلاثة
أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجعتم، كقوله (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى
وثلاث ورباع) (4).
(ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجدي الحرام) أي ما تقدم ذكره من
التمتع بالعمرة إلى الحج ليس لأهل مكة ومن يجري مجراهم، وانما هو لمن
لم يكن من حاضري مكة.

(1) سورة البقرة: 196.
(2) الزيادة من ج.
(3) تفسير البرهان 1 / 197 عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام.
(4) سورة النساء: 3.
279

وقال تعالى (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) (1).
يجب على كل من حج أو يوفر شعر رأسه من أول ذي القعدة إلى يوم النحر
بمنى فيحلقه هناك. والمعنى لا تزيلوا شعر رؤوسكم حتى ينتهي الهدي إلى المكان
الذي يحل نحره فيه، وهو منى.
وقال تعالى (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) (2) عن ابن عباس انه تعالى
أمر بمناسك الحج الوقوف بعرفة والمشعر والإفاضة ورمي الجمار والطواف والسعي
وغير ذلك من مناسكه (فأتمهن) أي وفى بهن.
والابتلاء الاختبار، وهو مجاز، يعنى أنه تعالى يقابل العبد مقابلة المختبر
الذي لا يعلم، لأنه تعالى لو جازاهم بعلمه فيهم كان ظلما لمن أدخله النار.
وعلى هذا قوله تعالى (والفجر * وليال عشر) (3). عن ابن عباس وحسن وجماعة
الليالي العشر هي العشر الأول من ذي الحجة، شرفها الله ليسارع الناس فيها إلى
عمل الخير واتقاء الشر. والشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة. ووجه ذلك أن
يوم النحر مشفع بيوم بعده.
ولا يجوز للمتمتع مع الامكان طواف الحج وركعتاه والسعي بين الصفا
والمروة للحج الا في هذين اليومين، فالطواف للحج وركعتاه والسعي له وطواف
النساء وركعتاه فهذه الخمسة كلها فريضة، وقد بينها رسول الله لقوله (وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال (ما آتاكم الرسول فخذوه).

(1) سورة البقرة: 196.
(2) سورة البقرة: 124.
(3) سورة الفجر: 1 - 2.
280

وأما قوله تعالى (وليطوفوا بالبيت العتيق) (1) قال قوم هو طواف العمرة الذي
يقال له طواف الصيد لأنه تعالى أمر به عقيب المناسك كلها، وقيل هو طواف الإفاضة
بعد التعريف اما يوم النحر واما بعده، وهو طواف الزيارة. وروى أصحابنا أن
المراد به ههنا طواف النساء (2) الذي يستباح به وطي النساء، وهو زيادة على طواف
الزيارة للحج، والعموم يتناول الجميع.
(باب فرائض الحج)
(وسننه وما يجري مجراها)
اعلم أن فرائض الحج المفرد والقارن عشر، احتججنا من القرآن تصريحا
وتلويحا وتبيينا وإشارة، فان الثمانية الأشياء التي وجبت في العمرة التي يتمتع بها
إلى الحج تسقط في الافراد والقران. ومن حج مفردا فعليه عمرة الاسلام بعد الحج
مبتولة منه.
وقوله تعالى (الحج أشهر معلومات) أي أشهر الحج أشهر معلومات، أو
الحج حج أشهر معلومات، ليكون الثاني هو الأول في المعنى، فحذف المضاف،
أي لا حج الا في هذه الأشهر. وقد يجوز أن يجعل (الأشهر) الحج على الاتساع
لكونه فيها ولكثرته من الفاعلين له، لقول الخنساء:
* فإنما هي اقبال وادبار *
أي أشهر الحج أشهر موقتة معينة لا يجوز فيها التبديل والتغيير بالتقديم

(1) سورة الحج: 29.
(2) مروى عن الصادق عليه السلام - انظر البرهان 3 / 88.
281

والتأخير الذي كان يفعلهما النساء، قال الله تعالى (1) (انما النسئ زيادة في الكفر) (2).
وقد ذكر أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عندنا على
ما روي عن أبي جعفر عليه السلام (3)، وقيل هو شوال وذو القعدة وذو الحجة، وروي
ذلك أيضا في أخبارنا (4)، وروي تسع من ذي الحجة. ولا تنافي بينها، لان على
الرواية الأخيرة لا يصح الاحرام بالحج الا فيها، وعندنا لا يصح الاحرام بالعمرة التي
يتمتع بها إلى الحج الا بالرواية الأولى.
ومن قال إن جميع ذي الحجة من أشهر الحج قال لأنه يصح أن يقع فيها
بعض أفعال الحج، مثل صوم الأيام الثلاثة وذبح الهدي.
واختلف المفسرون فيه: فقال قوم المعنى في جميع ذلك واحد، وقال آخرون
هو مختلف من حيث إن الثاني معناه ان العمرة لا ينبغي أن تكون في الأشهر الثلاثة
على التمام لأنها من أشهر الحج. والأول على أنها ينبغي ان يكون في شهرين وعشرا
وتسع من الثالث.
فان قيل: كيف جمع شهرين وعشرة أيام ثلاثة أشهر.
قلنا: لأنه قد يضاف الفعل إلى الوقت وان وقع في بعضه، ويجوز

(1) عن الجوهري: قوله تعالى (انما النسئ زيادة في الكفر) هو فعيل بمعنى مفعول
من قولك نسأت الشئ فهو منسوء، إذا أخرته، ثم يحول منسوء إلى نسئ كما يحول مقتول
إلى قتيل، ورجل ناسئ وقوم نسأة مثل فاسق وفسقة، وذلك أنهم كانوا إذا صدروا عن
منى يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء. فيقولون: أنسئنا شهرا أي اخر عنا
حرمة المحرم واجعلها في صفر، لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون
فيها، لان معائشهم كان من الغارة فيحل لهم المحرم (ه‍ ج) انظر الصحاح 1 / 77.
(2) سورة التوبة: 38.
(3) وسائل الشيعة 8 / 197.
(4) انظر وسائل الشيعة 8 / 196 - 197.
282

أن يضاف الوقت إليه كذلك، كقولك (صليت يوم الجمعة) و (صليت يوم العيد)
وان كانت الصلاة في بعضه، و (قدم زيد في يوم كذا) و (قدموه في بعض اليوم)
فكذلك جاز أن يقال ذو الحجة شهر الحج وإن كان في بعضه، وانما يفرض الاحرام
بالحج في البعض.
(فصل)
وقوله تعالى (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (1).
فمن فتح الجميع فقد نفى جميع الرفث والفسوق والجدال، كقوله تعالى
(لا ريب فيه) (2) بعد نفى جميع الريب. ومن رفع فعلى الابتداء وخبره في الحج،
ويعلم من الفحوى أنه ليس المنفي رفثا واحدا ولكنه جميع ضروبه.
والرفث ههنا عندنا كناية عن الجماع، وهو قول ابن عباس وقتادة، والأصل
الافحاش في المنطق في اللغة. وعن جماعة المراد ههنا المواعدة للجماع والتعريض
للجماع أو المداعبة كله رفث.
والفسوق قيل هو التنابز بالألقاب، لقوله (بئس الاسم الفسوق) (3). وقيل هو
السباب، لقوله عليه السلام (سباب المؤمن فسوق) (4). وروى بعض أصحابنا أن
المراد به الكذب، والأولى أن نحمله على جميع المعاصي التي نهي المحرم عنها،
وبه قال ابن عمر. وقد يقول القائل (ينبغي أن تقيد لسانك في شهر رمضان لئلا يبطل
صومك) فيخصه بالذكر لعظم حرمته.

(1) سورة البقرة: 197.
(2) سورة البقرة: 2.
(3) سورة الحجرات: 11.
(4) الكافي 2 / 306.
283

وقوله (ولا جدال في الحج) فالذي رواه أصحابنا انه قول (لا والله) و (بلى
والله) صادقا وكاذبا. وللمفسرين فيه قولان: أحدهما أنه لا مراء بالسباب والاغضاب
على وجه اللجاج، والثاني أنه لا جدال في أن الحج قد استدار، لأنهم أنسأوا
الشهور فقدموا وأخروا فالآن قد رجع إلى حاله. والجدال المخاصمة.
ولا رفث ان خرج مخرج النفي والاخبار فالمراد به النهي (وما تفعلوا من خير
يعلمه الله) أي يجازيكم عليه لأنه عالم به.
(فصل)
وقوله تعالى (وتزودوا فان خير الزاد التقوى) (1) أي تزودوا من الطعام
ولا تلقوا كلكم على الناس كما يفعله العامة، وخير الزاد مع ذلك التقوى. وقيل تزودوا
من الافعال الصالحة، فان الاستكثار من أعمال البر أحق شئ بالحج. والعموم
يتناول التأويلين.
ثم قال (ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم) (2) وهذا تصريح بالاذن
بالتجارة، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام (3). أي لستم تأثمون في أن تبتغوا
وتطلبوا الرزق، فإنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج، فرفع الله الاثم بهذه
اللفظة عمن يتجر في الحج.
وقيل كان في الحج أجراء ومكارون، وكان الناس يقولون أنه لا حج لهم،
فبين تعالى أنه لا اثم على الحاج في أن يكون أجيرا لغيره أو مكاريا.
وقيل معناه لا جناح ان تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه جابر عن ابن جعفر

(1) سورة البقرة: 197.
(2) سورة البقرة: 198.
(3) انظر تفسير البرهان: 1 / 201.
284

عليه السلام (1). والعموم يتناول الجميع.
فالآية تدل على أن التاجر والحمال والأجير وغيرهم يصح لهم الحج، فليس
الحج كالصلاة، لان أفعال الصلاة متصلة لا يتخللها غيرها، وافعال الحج بخلافها،
فلا يمتنع قصد ابتغاء المنافع مع قصد إقامة التعبد، وكذلك لا يمتنع ان يستغفر الله
ويصلي على النبي وآله في خلال ذكر التلبيات وغيرها.
(فصل)
وقوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع). عن ابن عباس
وابن عمر السبيل الذي يلزم بها الحج هي الزاد والراحلة، وقال ابن الزبير والحسن
ما يبلغه كائنا ما كان، وعندنا هو وجود الزاد والراحلة ونفقة من يلزمه نفقته والرجوع
إلى كفاية عند العود اما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة
والسلامة وزوال الموانع وامكان المسير. ولا بيان في ذلك [أبين مما بينه الله بأن
يكون مستطيعا إليه السبيل، وذلك] (2) عام في جميع ما ذكرنا، ومن في موضع الجر
بدل من الناس، المعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت.
وقوله تعالى (فمن كفر) اي من جحد فرض الحج فلم يره واجبا، فأما من
تركه وهو يعتقد فرضه فإنه لا يكون كافرا وإن كان عاصيا. وقال قوم معنى من كفر
أي ترك الحج، والسبب في ذلك أنه لما نزل قوله (ومن يبتغ غير الاسلام دينا) (3)
قال اليهود نحن مسلمون نحن مسلمون، فأنزل الله هذه الآية، يأمرهم بأمر الحج
ان كانوا صادقين، فامتنعوا فقال تعالى: فمن ترك من هؤلاء الحج فهو كافر.

(1) تفسير البرهان 1 / 201.
(2) الزيادة من ج.
(3) سورة آل عمران: 85.
285

وظاهر الآية خبر ومعناه أمر، لأنه ايجاب الحج على الناس. وفي مورد
هذا الايجاب في صورة الخبر نكتة مليحة يطلع عليها من تدبره. وفيها مداراة واستمالة
لان المأمور به ينكسر بالامر، وأكثر كلام الله وكلام رسوله الوارد على لفظ الخبر
اما يتضمن الامر أو النهي.
(فصل)
ومما يدل على أن الوقوف بالمشعر الحرام واجب وهو ركن من أركان الحج
- بعد الاجماع المذكور - قوله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر
الحرام) (1)، والامر شرعا على الايجاب، ولا يجوز أن يوجب ذكر الله فيه الا وقد
أوجب الكون فيه. ولان كل من أوجب الذكر فيه أوجب الوقوف به.
فان قالوا: نحمل ذلك على الندب.
قلنا: هو خلاف الظاهر، ويحتاج إلى دلالة ولا دليل.
فان قيل: هذه الآية تدل على وجوب الذكر وأنتم لا توجبونه وانما توجبون
الوقوف به كالوقوف بعرفة.
قلنا: لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر هذه الآية.
وبعد، فان الآية تقتضي وجوب الكون في المكان المخصوص والذكر جميعا،
فإذا دل الدليل على أن الذكر مستحب غير واجب أخرجناه من الظاهر وبقي الاخر
يتناوله الظاهر. وتقدير الكلام: فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام
واذكروا الله فيه.
فان قيل: الكون في المكان يتبع الذكر في وجوب أو استحباب، لأنه انما
يراد له ومن أجله، فإذا ثبت أن الذكر مستحب فكذلك الكون.
قلنا: لا نسلم أن الكون في ذلك المكان تابع للذكر، لان الكون به عبادة

(1) سورة البقرة: 198.
286

مفردة عن الذكر والذكر عبادة أخرى، فلا يتبع الكون الذكر كما لا يتبع الذكر
لله في عرفات الكون في ذلك المكان والوقوف به، لان الذكر بعرفات مستحب
والوقوف بها واجب بلا خلاف. على أن الذكر لو لم يكن واجبا فالشكر لله على
نعمه واجب على كل حال، وقد أمر الله أن يشكر عند المشعر الحرام، فيجب ان
يكون الكون بالمشعر واجبا.
فان قيل: ما أنكرتم من أن يكون المشعر ليس بمحل للشكر وإن كان محلا
للذكر وان عطف الشكر على الذكر.
قلنا: الظاهر بخلاف ذلك، عطف الشكر على الذكر يقتضي تساوى حكمهما
في المحل وغيره، وليس في الآية ذكر الشكر صريحا، ولكن الذكر الأول على
عمومه والذكر الثاني مفسر بالشكر، لقرينة قوله (كما هداكم) فالهداية نعمة واجب
الشكر عليها، لان الشكر على كل نعمة واجب. وعلى هذا لا تكرار مستقبحا في
الكلام أيضا.
(فصل)
(ثم ليقضوا تفثهم) فالتفث مناسك الحج من الوقوف والطواف والسعي
ورمي الجمار والحلق بمنى والاحرام من الميقات.
عن ابن عباس التفث جميع المناسك. وقال قوم التفث قشف الاحرام وقضاؤه
بحلق الرأس والاغتسال ونحوه. وقال الأزهري في كتاب تهذيب اللغة التفث في
كلام العرب لا يعلم الا من قول ابن عباس (1). وقيل التفث الدرن، ومعنى قوله (ثم

(1) نقل الجاحظ في الحيوان 5 / 376 قول أمية بن أبي الصلت:
شاحين آباطهم لمن ينزعوا تفثا * ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
وهذا البيت حجة على من يقول من اللغويين بأن لفظة (التفث) لم ترد في كلام العرب
ولم يعلم معناها الا من قبل المفسرين.
287

ليقضوا تفثهم) ليزيلوا أدرانهم. وقيل هو الاخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف
الإبط وحلق العانة. وهذا عند الخروج من الاحرام.
وقوله (وليوفوا نذورهم) أي يفوا بما نذروا من نحر البدن. وقال مجاهد
كل ما نذر في الحج، فربما نذر الانسان ان رزق حجا ان يتصدق. وإذا كان على
الانسان نذر فالأفضل ان يفي به هناك. ولم يقل بنذورهم، لان المراد بالايفاء الاتمام
أي ليتموا نذورهم بقضائها.
وقوله (وليطوفوا بالبيت) عام في كل طواف، وسمي عتيقا لأنه أعتق من أن
يملكه جبار (1).
(فصل)
وقوله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم
صيد البر ما دمتم حرما) (2) ظاهره يقتضي تحرم الصيد في حال الاحرام وتحريم ما
صاده غيره. ومنهم من فرق بين ما صيد وهو محرم وبين ما صيد قبل احرامه.
وعندنا لا فرق بينهما والكل محرم على المحرم. فأما من لم يكن محرما فيجوز أن
يأكل من الصيد الذي ذبح وصيد في غير الحرم وإن كان في الحرم.
والصيد يكون عبارة عن الاصطياد فيكون مصدرا، ويعبر به عن المصيد
فيكون اسما صريحا. ويجب ان يحمل ذكره في الآية على الامرين وتحريم الجميع،
والمعنى أبيح لكم صيد الماء.
وانما أحل بهذه الآية الطري من صيد البحر، لان العتيق لا خلاف في كونه

(1) هذا مروى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام كما في الكافي 4 / 189. وقيل لقدمه
لأنه أول بيت وضع للناس، وقيل لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان - انظر لسان العرب (عتق).
(2) سورة المائدة: 96.
288

حلالا، و (طعامه) أي طعام البحر يريد المملوح، وهو الذي يليق بمذهبنا. وانما
سمي (طعاما) لأنه يدخر ليطعم، فيكون المراد بصيد البحر الطري وبطعامه المملوح،
وقيل المراد بطعامه ما ينبت من الزرع والثمار بحباته.
(باب ذكر المناسك وما يتعلق بها)
قوله تعالى (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس) (1) أي يثوبون إليه في كل عام،
يعنى ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس.
وعن ابن عباس: معناه أنه لا ينصرف عنه أحد وهو يرى أنه قد قضى منه
وطرا فهم يعودون إليه.
وعن أبي جعفر عليه السلام: يرجعون إليه لا يقضون وطرا.
وحكى الحارثي أن معناه يحجون إليه فيثابون عليه.
وروي أن كل من فرغ من الحج وانصرف وعزم أن لا يعود إليه أبدا مات
قبل الحول (2).
وانما جعل الله أمنا بأن حكم أن من عاذبه والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام
فيه بما جعله في نفوس العرب من تعظيمه وكان من فيه أمنا ويتخطف الناس من حوله.
ولعظم حرمته أن من جنى جناية فالتجأ إليه لا يقام عليه الحد فيه لكن يضيق
عليه في المطعم والمشرب حتى يخرج فيحد، فان أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم
فيه الحد، لأنه هتك حرمة الحرم (3).

(1) سورة البقرة: 152.
(2) مجمع البيان 1 / 203.
(3) هذا مأخوذ من حديث مروى عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام - انظر الكافي
4 / 226.
289

(فصل)
وقوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (1).
قيل فيه أربعة أقوال: قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم، وقال عطاء مقام
إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار، وقال مجاهد الحرم كله مقام إبراهيم، وقال السدى هو
الحجر الذي فيه اثر رجلي إبراهيم. وكانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدميه حتى
غسلت رأسه، فوضع إبراهيم عليه رجله وهو راكب، فغسلت شقه الأيمن ثم رفعته
وقد غابت رجله فيه، فوضعته تحت قدمه اليسرى وغسلت الشق الأيسر من رأسه،
فغابت رجله اليسرى أيضا في الحجر، فأمر الله بوضع ذلك الحجر قريبا من الحجر
الأسود وأن يصلى عنده بعد الطواف. وهو الظاهر في أخبارنا (2).
وقوله (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا) (3) أمرهما الله أن يطهراه من
فرث ودم، كان يطرح المشركون قبل أن صار في يد إبراهيم. وقيل أراد طهراه
من الأصنام والأوثان. وقيل طهرا بيتي ببنائكما له على الطهارة، كقوله (أفمن أسس
بنيانه على تقوى) (4).
ومعنى (الطائفين) هم الذين أتوه من غربة، وقيل هم الطائفون بالبيت.
والطائف الدائر.
و (العاكفين) قيل إنهم المقيمون بحضرته، وقيل هم المجاورون، وقيل

(1) سورة البقرة: 125.
(2) مجمع البيان 1 / 203.
(3) سورة البقرة: 125.
(4) سورة التوبة: 109.
290

هم أهل البلد الحرام، وقيل هم المصلون، وقيل العاكف المعتكف في المسجد.
و (الركع السجود) هم الذين يصلون عند الكعبة، والطواف للطارئ أحسن،
والصلاة لأهل مكة أفضل.
(فصل)
وقوله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا) (1).
قال ابن عباس: كان الحرام أمنا قبل دعوة إبراهيم، لقول النبي عليه السلام
حين فتح مكة: هذه حرم حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض (2).
وقيل: كانت قبل الدعوة ممنوعا من الايتفاك (3) كما لحق غيرها من البلاد، فسأل
إبراهيم أن يجعلها أمنا من القحط لأنه أسكن أهله بها، فأجابه الله.
وقال النبي: ان إبراهيم حرم مكة وانى حرمت المدينة (4).
وقال في سورة إبراهيم (رب اجعل هذا البلد آمنا) بتعريف البلد، لان
النكرة إذا أعيدت تعرفت.
سأل ان يديم أمنه من الجدب والخسف.
وقوله (ربنا اني أسكنت من ذريتي) (5) المراد بالذرية إسماعيل أبو العرب وأمه
هاجر، أسكنهما مكة. ومن للتبعيض، ومفعول أسكنت محذوف.
وقيل لما ان بناه إبراهيم سماه بيتا لأنه كان قبل ذلك بيتا وانما خربته طسم (6)
واندرس.

(1) سورة البقرة: 126.
(2) الكافي 4 / 226.
(3) ايتفكت البلدة بأهلها: أي انقلبت، نعوذ بالله من سخط الله - عن الجوهري (ه‍ ج)
(4) انظر هذا المضمون في الكافي 4 / 564.
(5) سورة إبراهيم: 37.
(6) طسم قبيلة من عاد كانوا فانقرضوا (ه‍ ج).
291

(فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) (1) هذا سؤال من إبراهيم أن يجعل الله
قلوب الخلق تحن إليه ليكون في ذلك منافع ذريته لأنه واد غير ذي زرع.
(فصل)
وقوله (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا) (2) كان
إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجر، وانما رفعا البيت للعبادة لا للمسكن لقولهما
(تقبل منا).
وروي أن آدم عليه السلام بناه ثم عفى أثره فجدده إبراهيم عليه السلام (3).
والمروي في أخبارنا أن أول من حج آدم، حج واعتمر ألف مرة على قدميه
من الهند (4).
وقال الباقر عليه السلام: ان الله وضع تحت العرش أربعة أساطين وسماه
الضراح (5)، وهو البيت المعمور، وقال للملائكة طوفوا به، ثم بعث ملائكة فقال لهم
ابنوا في الأرض بيتا بمثاله وقدره وأمر من في الأرض ان يطوفوا به. وقال: ولما أهبط
الله آدم من الجنة قال: اني منزل معك بيتا يطوف (6). حوله كما يطاف حول عرشي
ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي، فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء
يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى تواه الله لإبراهيم فأعلمه مكانه، فبناه من خمسة

(1) سورة إبراهيم: 37.
(2) سورة البقرة: 127.
(3) من لا يحضره الفقيه 2 / 235.
(4) من لا يحضره الفقيه 2 / 229 مع اختلاف.
(5) هو بالضم، قيل البيت المعمور في السماء الرابعة، من المضارحة وهي المقابلة
والمضارعة - مجمع البحرين 2 / 391.
(6) كذا في النسختين والظاهر أن الصحيح (يطاف).
292

أجبل من حراء وثبير ولبنان وجبل الطور وجبل الحمر - وقال الطبري وهو جبل
بدمشق.
وقوله تعالى (وأرنا مناسكنا) اي متعبدنا. قال الزجاج متعبد منسك. وقيل
المناسك هي ما يتقرب بها إلى الله من الهدي والذبح وغير ذلك من أعمال الحج
والعمرة. وقيل مناسكنا مذابحنا، وأرنا من رؤية البصر. وقيل أي أعلمنا.
وقيل أراهما الله الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من
عرفات والإفاضة في جمع حتى رمى الجمار، فأكمل الله له الدين. وهذا أقوى،
لأنه هو العرف الشرعي في معنى المناسك.
وقال (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) (1). هي ملة نبينا، لان ملة إبراهيم داخلة
في ملة محمد مع زيادات ههنا.
وقوله (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) (2). معناه والامر ذلك،
أي هكذا أمر الحاج المناسك ومن يعظم حرمات الله، فالتعظيم خير له في الآخرة،
يعنى بأن يترك ما حرمه الله، والحرمة ما لا يحل انتهاكه.
واختار المفسرون في معنى الحرمات هنا أنها المناسك، لدلالة ما يتصل بها
من الآيات. وقيل هي في الآية ما نهي عنها من الوقوع فيها، وتعظيمها ترك ملابستها.
وقيل معناها البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام.
(فصل)
وقوله تعالى (وأحلت لكم الانعام) أي الإبل والبقر والغنم في حال
احرامكم (الا ما يتلى عليكم من الصيد) فإنه يحرم على المحل في الحرم إذا صيد
في الحرم وعلى المحرم في الحل والحرم (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) كانوا

(1) سورة البقرة: 130.
(2) 30.
293

يلطخون أصنامهم بدماء قربانهم فسمي ذلك رجسا (واجتنبوا قول الزور) (1) اي
الكذب، وهو تلبية المشركين: لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وروى أصحابنا أنه يدخل فيه سائر الأقوال الملهية (2).
(ذلك ومن يعظم شعائر الله) (3) الشعائر مناسك الحج، والمراد بالمنافع التجارة.
وقوله (إلى أجل مسمى) إلى أن يعود من مكة.
وقوله (ولكل أمة جعلنا منسكا) (4). إشارة إلى ما ذكرنا من تفصيل المجمل
للمعتمر والحاج.
(باب الذبح والحلق ورمى الجمار)
قال تعالى (فما استيسر من الهدي) (5) قد ذكرنا أن من حج متمتعا فالواجب
عليه أن ينحر بدنة أو بقرة أو فحلا من الضأن أو شاة كما تيسر عليه ويسهل ولا يصعب، فإن لم
يجد شيئا منها ووجد ثمنه خلفه عند ثقة حتى يشتري له هديا ويذبحه إلى انقضاء
ذي الحجة، فإن لم يصبه ففي العام المقبل في ذي الحجة.
وقوله تعالى (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) قيل الشعائر
البدن إذا أسفرت في الحج القارن، أي أعلمت عليها بأن يشق سنامها من الجانب
الأيمن ليعلم أنها هدي. وتعظيمها استسمانها واستحسانها (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى)

(1) سورة الحج: 30.
(2) انظر مجمع البيان 4 / 82، وقد جاء أحاديث كثيرة في تفسير البرهان 3 / 20 - 91
قد فسرت قول الزور بالغناء.
(3) سورة الحج: 32.
(4) سورة الحج: 34.
(5) سورة البقرة: 196.
294

منافعها ركوب ظهورها وشرب ألبانها إذا احتيج إليها، وهو المروي عن أبي جعفر
عليه السلام (1).
وقال ابن عباس: ذلك ما لم يسم هديا أو بدنا. وقال عطاء: ما لم يقلد، إلى
اجل مسمى إلى أن ينحر.
وقوله (ثم محلها إلى البيت العتيق) معناه أن يحل الهدي والبدن الكعبة.
وعند أصحابنا إن كان في العمرة المفردة فمحله مكة قبالة الكعبة بالحزورة، وإن كان
الهدي في الحج فمحله منى.
ثم عاد إلى ذكر الشعائر فقال (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) (2) اي وجعلنا
البدن صواف لكم فيها عبادة لله بما في سوقها إلى البيت وتقليدها بما ينبئ أنها هدي
ثم ينحرها للاكل منها واطعام القانع والمعتر.
(فاذكروا اسم الله عليها صواف) أمر من الله أن يذكروا اسم الله عليها، فإذا
أقيمت للذبح صافة - أي مستمرة في وقوفها على منهاج واحد. والتسمية انما يجب
عند نحرها دون حال قيامها.
و (البدن) الإبل العظام البدنة بالسمن، جمع (بدنة) (3)، وهي إذا نحرت
فعندهم يعقل لها يد واحدة (4) وكانت على ثلاث. وعند أصحابنا يشد يداها إلى
إبطيها ويطلق [رجلاها، والبقر يشد يداها ورجلاها ويطلق] (5) ذنبها، والغنم تشد ثلاثة
أرجل منها ويطلق فرد رجل.

(1) تفسير البرهان 3 / 91.
(2) سورة الحج: 36.
(3) البدن بضم الباء وسكون الدال، جمع بدنة بفتح الباء والدال، تقع على الناقة
والبقرة والبعير الذكر مما يجوز في الهدى والأضاحي، سميت بدنة لعظمها - انظر لسان
العرب (بدن).
(4) الزيادة من ج.
(5) أي يشد يد واحدة منها بالعقال.
295

وقال أبو عبد الله عليه السلام: القانع الذي يسأل فيرضى بما أعطي، والمعتر
الذي يعترى رحلك ممن لا يسال 1. وقال: ينبغي لمن ذبح الهدي أن يعطي القانع
والمعتر ثلثه، ويهدي لأصدقائه ثلثه، ويطعم ثلثه الباقي (2).
(كذلك سخرناها لكم) أي مثل ما وصفناه ذللناها لكم حتى لا تمتنع عما
تريدون منها من النحر والذبح بخلاف السباع الممتنعة، ولتنتفعوا بركوبها وحملها
ونتاجها نعمة منا عليكم (لعلكم تشكرون) 3 ذلك.
(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) (4) أي لن يصعد إلى الله تلكم وانما يصعد إليه
التقوى، وهذا كناية عن القبول، فان ما يقبله الانسان يقال قدنا له ووصل إليه،
فخاطب الله عباده بما اعتادوه في مخاطباتهم. وكانوا في الجاهلية إذا ذبحوا الهدي
استقبلوا الكعبة بالدماء فنضحوها حول البيت قربة إلى الله تعالى.
والمعنى لن يتقبل الله اللحوم ولا الدماء لكن يتقبل التقوى فيها وفى غيرها،
بأن يوجب في مقابلتها الثواب، (لتكبروا الله) تعظموه وتشكروه في حال الا حلال
كما يليق به في حال الاحرام. وقيل لتسموا الله على الذباحة.
(ان الله لا يحب كل خوان كفور) (5) أي من ذكر اسم غير الله على الذبيحة فهو
الجحود لنعم الله.
(فصل)
وقوله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) (6) قد ذكرنا أن

(1) الكافي 4 / 499.
(2) الكافي 4 / 499 بمعناه.
(3) سورة الحج: 36.
(4) سورة الحج: 37.
(5) سورة الحج: 38.
(6) سورة البقرة: 196.
296

الحاج لا ينبغي أن يحلق رأسه من أول ذي القعدة إلى يوم النحر بمنى، فحينئذ يلزم
الرجال أن يحلقوا رؤوسهم.
قال تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم
ومقصرين) (1) فان الصرورة تلزمه الحلق وغير الصرورة تجزيه التقصير. ولا يجب
على النساء الحلق ويجزيهن التقصير على كل حال.
ومحل الهدي منى إن كان في الحج أو في العمرة التي يتمتع بها إلى الحج يوم
النحر، وإن كان في العمرة المبتولة فمكة. والمعنى لا تحلوا من احرامكم حتى يبلغ
الهدي محله وينحر أو يذبح.
(فمن كان منكم مريضا) أي من مرض منكم مرضا يحتاج فيه إلى الحلق
للمداواة (أو به أذى من رأسه) أي تأذى بهوام رأسه أبيح له الحلق بشرط الفدية قبل
يوم النحر في ذي القعدة أو في تسع ذي الحجة، فالأذى المذكور في الآية كلما
تأذيت به.
نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة، فإنه كان قد قمل رأسه، فأنزل الله فيه
ذلك (2). وهي محمولة على جميع الأذى.
وقوله تعالى (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) فالذي رواه أصحابنا أن من
حلق لعذر فالصيام عليه ثلاثة أيام أو الصدقة ستة مساكين، وروي عشرة مساكين (3).
والنسك شاة، وفيه خلاف بين المفسرين.
والمعنى ان تأذى بشئ فحلق لذلك العذر فعليه فدية، أي بدل وجزاء يقوم
مقام ذلك من صيام أو صدقة أو نسك مخير فيها.

(1) سورة الفتح: 27.
(2) أسباب النزول للواحدي ص 35 - 37.
(3) تفسير البرهان 1 / 195.
297

وأما رمي الجمار فقوله تعالى (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) (1) يدل
عليه باجماع أهل البيت (2) والعلماء، أي كلفه مناسك الحج ومن جملتها رمي الجمار،
وعليه المفسرون. يرمي جمرة العقبة يوم النحر سبعة، وكل يوم من أيام التشريق (3)
الثلاثة إحدى وعشرين حصاة في الجمرات الثلاث يبدأ بالجمرة الأولى فيرمي سبعة
ثم كذا في الوسطى ثم في الأخرى.
(باب في ذكر أيام التشريق)
(يكون فيها رمي الجمرات على ما ذكر)
قال الله تعالى (فإذا قضيتم مناسككم) (4) أي إذا أديتموها وفرغتم منها. قال
مجاهد هي الذبائح، وقيل المعنى فإذا قضيتم ما وجب عليكم في متعبداتكم ايقاعه
من الذبح والحلق والرمي وغيرها فاذكروا الله فإنه يستحب الدعاء بعد رمي الجمرتين
الأوليين. وقيل المراد بالذكر ههنا التكبير أيام منى. وقيل إنه سائر الدعاء في تلك
المواطن فإنه أفضل من غيره.
وقوله (كذكركم آبائكم) عن أبي جعفر عليه السلام انهم في الجاهلية كانوا
يجتمعون هناك ويفتخرون بالاباء وبمآثرهم ويبالغون فيه (5).

(1) سورة البقرة: 124.
(2) في ج (أهل التفسير).
(3) تشريق اللحم تقديده، ومنه سميت امام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر، لان
لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر في الشمس. ويقال سميت بذلك لقولهم (أشرق ثبير
كيما تغير)، حكاه يعقوب. وقال ابن الاعرابي: سميت بذلك لان الهدى لا تنحر حتى تشرق
الشمس. والله أعلم (ه‍ ج).
(4) سورة البقرة: 200.
(5) تفسر البرهان 1 / 203.
298

وقوله (أو أشد ذكرا) بما لله عليكم من النعمة. وانما شبه الا وجب بما هو دونه
في الوجوب لأنه خرج على حال لأهل الجاهلية معتادة ان يذكروا آباءهم بأبلغ
الذكر. وقيل اذكروا الله كذكر الصبي لامه. والأول أظهر.
ثم بين أن من يسأل هناك فمنهم من يسأل نعيم الدنيا فقط لأنه غير مؤمن بالقيامة
ومنهم من يقول (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة) (1)
عن الصادق عليه السلام: انها السعة في الرزق والمعاش، وحسن الخلق في
الدنيا، ورضوان الله والجنة في الآخرة (2).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: من أوتي قلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه
على أمر دنياه وآخرته فقد أوتي في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ووقي عذاب النار (3).
(فصل)
ثم قال تعالى (واذكروا الله في أيام معدودات) (4).
أمر من الله أن يذكروا الله في هذه الأيام، وهي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد
يوم النحر، والأيام المعلومات عشر ذي الحجة، وهو قول ابن عباس وجماعة. وقال
الفراء: المعلومات أيام التشريق والمعدودات عشر ذي الحجة. [وفى النهاية نحوه
على خلاف ما في كتبه الاخر] (5).
والصحيح أن المعدودات هي أيام التشريق لا غير. والدليل عليه قوله ههنا (فمن
تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى)، والنفر الأول والنفر
الثاني لا يكونان الا في أيام التشريق بلا خلاف.

(1) سورة البقرة: 201.
(2) تفسر البرهان 1 / 203.
(3) الدر المنثور 1 / 233.
(4) سورة البقرة: 203.
(5) الزيادة من م.
299

والأيام المعلومات يوصف بها عشر ذي الحجة ويوصف بها أيام التشريق معا.
وقد ذكر في تهذيب الأحكام أن الأيام المعلومات هي أيام التشريق، ويؤكد ذلك
بقوله في سورة الحج (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على
ما رزقهم من بهيمة الأنعام) (1).
وسميت أيام التشريق معدودات لأنها قلائل، وهي ثلاثة.
وهذه الآية تدل على وجوب التكبير أو استحبابه، والذكر المأمور به (الله
أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، ولله الحمد، والحمد لله على ما رزقنا من
بهيمة الأنعام ". والأظهر أنها تجب بمنى وتستحب بغير منى.
(فصل)
وقوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى) (2)
المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من التشريق، فان أقام إلى
النفر الأخير - وهو اليوم الثالث من التشريق - كان أفضل، فان نفر في الأول نفر بعد
الزوال إلى قبيل الغروب، فان غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث بعد الرمي
وليس للامام أن ينفر في النفر الأول.
وقوله (فلا اثم عليه) [قيل فيه قولان: أحدهما لا اثم عليه] (3) لتكفير سيئاته
مما كان من حجه المبرور، وببركته تفضل الله بالمغفرة لذنوبه، وهو معنى قول ابن
مسعود. الثاني قال الحسن: لا اثم عليه في تعجله ولا تأخره، وانما نفى الاثم لئلا يتوهم
ذلك متوهم في التعجيل، وجاء في التأخير على مزاوجة الكلام، كما يقول (ان

(1) سورة الحج: 28.
(2) سورة البقرة 203.
(3) الزيادة من ج.
300

أظهرت الصدقة فجائز وان أسررتها فجائز والاسرار أفضل).
ويمكن أن يقال: ان الأول معناه لا حرج عليه، والثاني معناه لم يبق عليه اثم
فقد غفر له جميع ذنوبه. فيكون جمعا للقولين المتقدمين.
وقوله (لمن اتقى) فيه قولان: أحدهما لما قال (فلا اثم عليه) دل على وعده
بالثواب، وعلقه بالتقوى لئلا يتوهم انه بالطاعة في النفر فقط. الثاني انه لا اثم عليه
في تعجله إذا لم يعمل لضرب من ضروب الفساد ولكن لاتباع اذن الله فيه.
وقيل هو التحذير في الايكال على ما سلف من اعمال البر في الحج، فبين ان
عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة المعاصي.
وقد روى أصحابنا ان قوله (لمن اتقى) متعلق بالتعجل في يومين فلا اثم
عليه لمن اتقى الصيد ان شاء نفر في النفر الأول وان شاء وقف إلى انقضاء النفر
الأخير، ومن لم يتق الصيد فلا يجوز له النفر في الأول، وهو اختيار الفراء وهو قول
ابن عباس (1).
وروي عن الصادق عليه السلام في قوله (فمن تعجل في يومين) أي من مات
في هذين فقد كفر عنه كل ذنب (ومن تأخر) أي أنسئ أجله فلا اثم عليه بعدها إذا
اتقى الكبائر (2). والتقدير ذلك لمن اتقى، أو جعلناه لمن اتقى، وقيل العامل فلا اثم عليه.
قوله (وإذا حللتم فاصطادوا) (3) أي إذا حللتم من احرامكم وخرجتم من الحرم
فاصطادوا الصيد الذي نهيتم أن تحلوه ان شئتم، فالسبب المحرم له زال. وهو
إباحة، اي لا حرج عليكم في صيده بعد ذلك.

(1) انظر مجمع البيان 1 / 299.
(2) تفسير البرهان 1 / 204 بمناه.
(3) سورة المائدة: 2.
301

(باب ما يجب على المحرم اجتنابه)
قد تقدم القول في كثير من ذلك، وقد عد مشائخنا التروك المفروضة
والمكروهة في الحج والعمرة، فمحظورات الاحرام ستة وثمانون (1) شيئا، (2) ومحظورات
الطواف والسعي والذبح والرمي سبعة وأربعون شيئا، ومكروهات الحج والعمرة
ثلاثة وخمسون شيئا. وقد نطق القرآن ببعضها مفصلا، وقوله (وما نهاكم عنه فانتهوا)
يدل على جميع ذلك جملة.
وقوله (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) (3) قد ذكرنا أن الرفث كناية عن الجماع،
فحكم المحرم إذا جامع له شرح طويل لا نطيل به الكتاب. والمراد بالفسوق
الكذب، فمن كذب مرة فعليه شاة، ومن كذب مرتين فعليه بقرة، ومن كذب ثلاثا
فعليه بدنة. وقد أشرنا إلى الجدال أنه القسم بالله.

(1) وثلاثون (خ ل). وتعرف من التعليقة الآتية أنه الصحيح.
(2) محظورات الاحرام: ان لا يلبس المخيط، ولا يلامس بشهوة، ولا يتزوج، ولا يعقد
نكاحا، ولا يزوج، ولا يشهد عقدا، ولا يجامع، ولا يستمني، ولا يقبل بشهوة، ولا يصطاد، ولا يذبح صيدا،
ولا يدل عليه، ولا يأكل لحم صيد، ولا يغطى المحمل، ولا رأسه، ولا يكسر بيض صيد، ولا يذبح
فرخ الطير، ولا يقلع شجر الحرم وحشيشه، ولا يدهن بما فيه طيب، ولا يأكل ما فيه ذلك، ولا
يقرب المسك أو الكافور أو العود أو الزعفران، ولا يلبس ما يستر ظاهر القدم بالخف اختيارا،
ولا يتختم للزينة، ولا يفسق بالكذب على الله والرسول ولا يجادل، ولا يقص شيئا من شعره، ولا يزيل
القمل عن نفسه، ولا يسد أنفه من النتن، ولا يدمى جسده ولا فاه بحك ولا سواك، ولا يدلك رأسه ولا
وجهه في وضوء أو غسل لئلا يسقط شئ من شعره، ولا يقص أظفاره، وان مات لم يقرب الكافور،
ولا يقتل جرادا أو زنابير قصدا، ولا يتسلخ الا لضرورة، ولا يخرج حمام الحرم منه، ولا يمسك
الطير إذا دخل به في الحرم. فهذه ستة وثلاثون (ه‍ ج).
(3) سورة البقرة: 197.
302

وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام
ولا الهدي) (1) أي يا أيها الذين صدقوا الله فيما أوجب عليهم لا تحلوا حرمات الله
ولا تعدوا حدوده ولا تحلوا معالم حدود الله وأمره ونهيه وفرائضه ولا تحلوا حرم الله
وشعائر حرم الله ورسوله ومناسك الحج.
عن ابن عباس المعنى لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها، وقال مجاهد شعائر
الله الصفا والمروة والهدي من البدن وغيرها. وقال الفراء كانت عامة العرب لا ترى
الصفا والمروة من شعائر الله ولا يطوفون بهما فنهاهم الله عن ذلك، وهو قول أبى
جعفر عليه السلام. وقال قوم لا تحلوا ما حرم الله عليكم في احرامكم. وقيل الشعائر
العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم، نهاهم الله أن يتجاوزوا المواقيت إلى
مكة بغير احرام. وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة
هدايا للبيت. وقريب منه ما روي عن ابن عباس أيضا ان المشركين كانوا يحجون
البيت ويهدون الهدايا، فأراد بعض المسلمين أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عنه.
والعموم يتناول الكل.
ثم قال (ولا الشهر الحرام) أي لا تستحلوا الأشهر الحرم كلها بالقتال فيها
أعداءكم هؤلاء من المشركين ولا تستحلوها بالنسئ، انما النسئ زيادة في الكفر (2).
وقوله تعالى (ولا القلائد) أي ولا تحلوا الهدي المقلد. وانما كرر لأنه أراد

(1) سورة المائدة: 2.
(2) في التبيان: قال أبو علي: كانوا يؤخرون الحج في كل سنة شهرا، وكان الذي
ينسئون بنى سليم وغطفان وهوازن، وافق ذلك في الحجة، فلما حج النبي صلى الله عليه وآله
في العام المقبل وافق ذلك في ذي الحجة، فلذلك قال: لا ان الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق
السماوات والأرض - في قول مجاهد. وكأن النسئ المنهى في الآية تأخير الأشهر الحرم
عما وقتها الله تعالى، وكانوا في الجاهلية يعملون ذلك، وكان الحج يقع في غيره وفيه، فبين
الله ان ذلك زيادة في الكفر (ه‍ ج).
303

المنع من حل الهدي الذي لا يقلد والهدي الذي قلد. وقيل هو نعل يقلد بها الإبل والبقر
يجب التصدق بها إن كان لها قيمة.
وقوله (ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم) نهى أن يحل ويمنع
من يلتمس أرباحا في تجاراتهم من الله وأن يرضى عنهم بنسكهم، فأما من قصد
البيت ظلما لأهله وجب منعه ودفعه.
(باب)
(نهي المحرم من الاخلال والتعدي والتقصير)
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد) (1) هذا
خطاب من الله للمؤمنين وقسم منه تعالى، أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم بشئ
من الصيد، وأصله اظهار باطن الحال. والمعنى يعرضكم بأمره ونهيه لان يظهر
ما في نفوسكم وهو خاف في الحال. وسمي ذلك اختبارا لأنه شبيه في الظاهر
باختبار الناس، وإن كان المختبر لا يعلم ما يكون من المختبر والله عالم بما يكون
من المكلف بكل جلي وخفي ومضمر ومنوي، والمعنى ليظهر طاعتكم من معصيتكم.
ومن في قوله (من الصيد) للتبعيض، ويحتمل وجهين: أحدهما أن يكون
عنى صيد البر دون صيد البحر، والاخر أن يكون لما عنى الصيد ما داموا في
الاحرام أو في الاحرام والحرم كان ذلك بعض الصيد. ويجوز أن يكون من لتبيين
الجنس، وأراد بالصيد المصيد، بدلالة قوله تعالى (تناله أيديكم ورماحكم)،
ولو كان الصيد هنا مصدرا كان حدثا، فلا يوصف بمثل اليد والرمح وانما يوصف
به ما كان عينا.
وقال أصحاب المعاني: امتحن الله أمة محمد صلى الله عليه وآله بصيد البر
كما امتحن أمة موسى عليه السلام بصيد البحر.

(1) سورة المائدة: 94.
304

ولما تقدم في أول السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا بين سبحانه ذلك
ههنا فقال: ليختبرن الله تعالى طاعتكم من معصيتكم بشئ من الصيد، أي بتحريم
شئ من الصيد وبعض منه.
والذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض، والذي تناله الرماح
الكبار من الصيد - عن ابن عباس، وهو المروي عن الصادق عليه السلام (1).
وقيل: المراد به صيد الحرم ينال بالأيدي والرماح، لأنه يأنس بالناس ولا ينفر
منهم كما ينفر في الحل، وذلك آية من آيات الله.
وقيل: المراد به ما قرب وما بعد من الصيد.
وجاء في التفسير أنه يعنى به حمام مكة، وهي تفرخ في بيوت مكة في السقف
وعلى الحيطان، فربما كانت الفراخ بحيث تصل اليد إليها.
(فصل)
وبهذه الآية حرم الله صيد الحل على المحل وصيد الحرم على المحل والمحرم
جميعا. وقال الزجاج: سن النبي عليه السلام تحريم صيد الحرم على المحرم وغيره، وهذا
صحيح. وصيد غير الحرم يحرم على المحرم دون المحل. وقال أبو علي صيد الحر
هو المحرم بهذه الآية، ونحوه قول بعض المفسرين: ان الله عنى به كل صيد الحرم
لأنه جعل الصيد آمنا بالحرم، فهو لا ينقر من الناس نفاره إذا خرج من مكة، وإذا بمكة
أمكن قتله بالرمح وأخذه باليد، فأمر الله أن لا يقتلوا هذا الصيد ولا يأخذوه ولا يؤذوه.
وقيل (تناله أيديكم) إشارة إلى صيد الحرم لأنه يكون آنس من غيره، فيمكن
تناوله باليد. وقوله (ورماحكم) إشارة إلى صيد غير الحرم للمحرم، لأنه يمكنه
اخذه بالرمح، وهذا من الصيد الهام من الله بخلاف صيد آخر يكون في أرض أخرى

(1) تفسير البرهان 1 / 502.
305

(ليعلم الله من يخافه بالغيب) أي ليعلم ملائكة الله من يخافه غائبا، لأنه تعالى
عالم فيما لم يزل. ومعنى (ليعلموا) اي ليعرفوا قوما يخافون صيد الحرم في العلانية
فلا يعترضون له على حال.
ثم قال (فمن اعتدى بعد ذلك) أي من تجاوز حد الله بمخالفة أمره وارتكاب
نهيه بالصيد في الحرم وفى حال الاحرام، فله عذاب النار في القيامة. ويجوز أن يكون
غير ذلك من الآلام والعقوبات في الدنيا، فقد قال (لأعذبنه عذابا شديدا) حكاية
عن سليمان في حق الهدهد ولم يرد عذاب النار.
(باب)
(تفصيل ما يجب على هذا الاعتداء من الجزاء)
قال الله تعالى عقيب ذلك (يا أيها الذين آمنوا الا تقتلوا الصيد) (2). اختلف في
المعني بالصيد: فقيل هو كل الوحش أكل أو لم يؤكل، وهو قول أهل العراق،
واستدلوا بقول علي عليه السلام:
صيد الملوك أرانب وثعالب * وإذا ركبت فصيدي الابطال
وهو مذهبنا. وقيل هو كل ما يؤكل لحمه، وهو قول الشافعي.
وقوله (وأنتم حرم) فيه ثلاثة أوجه: أحدها وأنتم محرمون بحج أو عمرة،
الثاني وأنتم في الحرم، الثالث وأنتم في الشهر الحرام. ولا خلاف أن هذا ليس
بمراد، فالآية تدل على تحريم قتل الصيد في حال الاحرام بالحج أو العمرة سواء كان
محرما بالعمرة أو بالحج أو لم يكن. وقال الرماني: تدل على تحريم قتل الصيد
على المحرم بالحج أو العمرة. والأول أعم فائدة، واختاره أكثر المفسرين.

(1) سورة النمل: 21.
(2) سورة المائدة: 95.
306

وقال جماعة: الأولى أن تكون الآية الأولى حرم فيها الصيد بالحرم في جميع
الأوقات والحالات، وهذه الآية الثانية حرم فيها صيد البر كله في حال الاحرام.
وواحد الحرم حرام، كسحاب وسحب.
(فصل)
ثم قال تعالى (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) (1).
فقوله تعالى من قتله فيه قولان: أحدهما أن يتعمد القتل وينشئ الاحرام،
الثاني الذاكر لاحرامه مع تعمد قتله. وقال أين جرير: وهو عام في الناسي والذاكر،
لان ظاهره عام ولا دليل على الخصوص.
وقوله (منكم) يعنى كل من يدين بدين الاسلام. (معتمدا) نصب على
الحال، أي قاصدا غير ساه ولا جاهل به.
والفتوى: ان قاتل الصيد إذا كان محرما لزمه الجزاء عامدا كان في القتل أو
خاطئا أو ناسيا لاحرامه أو ذاكرا عالما كان أو جاهلا، وعلى هذا أكثر الفقهاء والعلماء.
وقال جماعة: انه يلزمه إذا كان متعمدا لقتله ذكرا لاحرامه، وهو أشبه بالظاهر.
والأول يشهد به روايات أصحابنا.
(فصل)
واختلفوا في مثل المقتول بقوله (فجزاء مثل ما قتل من النعم). قال ابن
عباس والحسن والسدي والضحاك ومجاهد وعطاء: هو أشبه الأشياء به من النعم،
ان قتل نعامة فعليه بدنة، حكم النبي عليه السلام بذلك في البدنة، وأن قتل اروى (2)

(1) سورة المائدة: 95.
(2) اروى جمع أروية، وهي التي يقال لها بالفارسية بزكوهى (ه‍ ج).
307

فبقرة، وان قتل غزالا أو أرنبا فشاة. وهذا هو الذي يدل عليه روايات أصحابنا (1).
وقال قوم: يقوم الصيد بقيمة عادلة ثم يشترى بثمنه مثله من النعم ثم يهدى إلى
الكعبة، فإن لم يبلغ ثمن هدي كفر أو صام، وفيه خلاف بين الفقهاء.
وقد تواترت أخبارنا ورواياتنا بأن كلما يصيده المحل في الحرم يلزمه فيه
القيمة، وما يصيده المحرم في الحل من الصيد كان عليه الفداء، وان اصابه المحرم
في الحرم كان عليه الفداء والقيمة، وما يجب فيه التضعيف هو ما لم يبلغ بدنة، فإذا
بلغها لم يجب عليه غيرها.
قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الخطأ.
والفتوى: ان الصيد كلما تكرر من المحرم كان عليه كفارة إذا كان ذلك منه
نسيانا، فان فعله متعمدا مرة كان عليه الكفارة، وان فعله مرتين فهو ممن ينتقم الله منه
وليس عليه الجزاء.
فان قيل: بم يعلم المماثلة بين النعم وما يضاد.
قلنا: لهذا جوابان:
(أحدهما) - ان الله بين على لسان نبيه عليه السلام في قتل النعامة بدنة من
الإبل على كل حال في الحل إذا كان محرما وفى الحرم، وجعل بدل حمار وحش
أو بقر وحش بقرة إذا أصابه المحرم في الحل، وبدل ظبية شاة هكذا، وان أصاب
قطاة فعليه حمل مفطوم، وان أصاب ظبا فعليه جدي، وان أصاب عصفورا فعليه
مدمن طعام، وان أصاب المحرم في الحل حمامة فعليه دم، وان أصابها وهو محل
في الحرم فعليه درهم، وان أصابها وهو محرم في الحرم فعليه دم والقيمة، وان
قتل فرخا وهو محرم في الحل فعليه حمل، وان قتله في الحرم وهو محل فعليه
نصف درهم، وان قتله وهو محرم في الحرم فعليه الجزاء والقيمة معا، وان أصاب
بيض حمام وهو محرم في الحل فعليه درهم، وان أصاب وهو محل في الحرم فعليه
ربع درهم، وان اصابه وهر محرم في الحرم فعليه الجزاء والقيمة، فإن كان حمام

(1) تفسر البرهان 1 / 503.
308

الحرم يشترى به العلف لحمام الحرم، وإن كان حماما أهليا يتصدق به. فقد بين
جميع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، لقوله (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نزل إليهم).
(والجواب الثاني) - انه اختلف في المكان الذي يوم فيه الصيد: فقال
أبو حنيفة وصاحباه يقوم بالمكان الذي أصاب فيه إن كان أصاب بخراسان أو غيره،
وقال عامر الشعبي يقوم بمكة أو منى.
وقوله (يحكم به ذوا عدل منكم) يعنى شاهدين عدلين فقيهين يحكمان بأنه
جزاء مثل ما قتل من الصيد، أي يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم، اي
من أهل ملتكم ودينكم، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به.
وقوله (هديا) أي يهديه هديا، و (بالغ الكعبة) صفة.
والهدي يجب أن يكون صحيحا بالصفة التي تجري في الأضحية. وقال
الشافعي: يجوز في الهدي ما لا يجوز في الأضحية.
وعندنا ان قتل طائرا أو نحوه ففيه دم في الحل على المحرم، وعلى المحل
في الحرم القيمة، وعلى المحرم في الحرم دم والقيمة لما قدمنا. والدم لا يكون
أقل من دم شاة.
وقد تقدم إن كان ذلك الصيد في احرام الحج أو العمرة التي يتمتع بها يذبح بمنى،
وإن كان في العمرة المبتولة فمكة. وعن ابن عباس إذا أتى مكة ذبحه كله وتصدق به.
(فصل)
من قرأ (فجزاء مثل ما قتل) قال أبو علي الفارسي رفع مثل لأنه صفة لجزاء،
والمعنى فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول، وتقديره فعليه جزاء، أي فاللازم له
أو فالواجب عليه جزاء من النعم مماثل ما قتل من الصيد.
309

وقوله تعالى (من النعم) في هذا القراءة صفة للنكرة التي هي جزاء وفيه
ذكر له، ولا ينبغي إضافة جزاء إلى مثل، لان عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله ولا جزاء
عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله. ولا يجوز على هذه القراءة أن يكون قوله (من
النعم) متعلقا بالمصدر كما جاز أن يكون الجار متعلقا به في قوله (جزاء سيئة بمثلها)
لأنك قد وصفت الموصول، وإذا وصفته لم يجز أن تعلق به بعد الوصف شيئا،
كما انك إذا عطفت عليه أو اكدته لم يجز أن تعلق به شيئا بعد العطف عليه والتأكيد
له، والمماثلة في القيمة أو الخلقة على اختلاف الفقهاء في ذلك.
وأما من قرأ (فجزاء مثل ما قتل) فأضاف الجزاء إلى المثل فقوله (من النعم)
يكون صفة للجزاء، كما كان في قول من نون [ولم يضف صفة له (1). ويجوز فيه وجه
آخر مما يجوز في قول من نون] (2)، فيمتنع تعلقه به، لان من أضاف الجزاء إلى مثل
فهو كقولهم (انا أكرم مثلك) اي أنا أكرمك، فالمراد فجزاء ما قتل. ولو قدرت
الجزاء تقدير المصدر المضاف إلى المفعول به فالواجب عليه في الحقيقة جزاء
المقتول لاجزاء مثل المقتول، لان معناه مجازا مثل ما قتل.
ونحن نعمل بظاهر القراءتين، فان المحرم إذا قتل الصيد الذي له مثل فهو مخير
بين أن يخرج مثله من النعم وهو أن يقوم مثله دراهم ويشتري به طعاما ويتصدق
به أو يصوم عن كل مد يوما، ولا يجوز اخراج القيمة جملة. وإن كان الصيد لا مثل
له كان مخيرا بين أن يقوم الصيد ويشترى به طعاما ويتصدق به وبين أن يصوم عن
كل مد يوما.
والقراءتان إذا كانتا مجمعا على صحتهما كانتا كالآيتين يجب العمل بهما،
وقد تخلصنا أن يتعسف في النحو والاعراب.

(1) أي قولهم (من النعم) صفة للجزاء كما كان صفة له في قول من نون ولم يصنف،
وهو قراءة من قرأ (فجزاء مثل ما قتل من النعم) (ه‍ ج).
(2) الزيادة من ج.
310

(فصل)
وعن أبي الصباح: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل في الصيد
(من قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم)؟ قال: في الظبي شاة [وفي الحمامة
وأشباهها وإن كان فراخا فعدتها من الحملان] وفى حمار وحش بقرة، وفى النعامة
جزور (1).
وعن حريز عن الصادق عليه السلام في قول الله (فجزاء مثل ما قتل من النعم)
في النعامة بدنة، وفى حمار وحش بقرة، وفى الظبي شاة، وفي البقرة بقرة (2).
وعن محمد بن مسلم سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله (أو عدل ذلك صياما).
قال: عدل الهدي ما بلغ ثم يتصدق به، فإن لم يكن عنده فليصم بقدر ما بلغ لكل
طعام مسكين يوما (3).
وعن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أصاب المحرم الصيد
ولم يجد ما يكفر من موضعه الذي أصاب فيه الصيد قوم جزاءه من النعم دراهم ثم
قومت الدراهم طعاما لكل مسكين نصف صاع، فإن لم يقدر على الطعام صام لكل
نصف صاع يوما (4).
وعن الزهري في قوله تعالى (أو عدل ذلك صياما) قال لي علي بن الحسين
عليهما السلام: أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياما؟ قلت: لا. قال: يقوم الصيد
قيمة، ثم يفض تلك القيمة على البر، ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع
يوما (5).

(1) وسائل الشيعة 9 / 182 والزيادة منه.
(2) وسائل الشيعة 9 / 181.
(3) وسائل الشيعة 9 / 185.
(4) وسائل الشيعة 9 / 181.
(5) تفسير البرهان 1 / 504.
311

وإذا قتل صيدا فهو مخير بين ثلاثة أشياء، بين أن يخرج مثله من النعم وبين
ان يقوم مثله دراهم ويشتري به طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوما.
[وإن كان الصيد لا مثل له فهو مخير بين شيئين: أن يقوم الصيد ويشتري به طعاما يتصدق
به، أو يصوم عن كل يوما مدا]. (1)
ولا يجوز اخراج القيمة بحال، وبه قال الشافعي، ووافق مالك في جميع ذلك
الا ان عندنا انه إذا أراد شراء الطعام قوم المثل، وعنده قوم الصيد ويشتري به
طعاما. وفي أصحابنا من قال على الترتيب. دليلنا عليه قوله (فجزاء مثل ما قتل من
النعم) فأوجب في الصيد مثلا موصوفا من النعم وجزاء الصيد على التخيير بين
اخراج المثل أو بيعه وشراء الطعام والتصدق به وبين الصوم عن كل مد يوما، وبه
قال جميع الفقهاء.
وعن ابن عباس وابن سيرين ان وجوب الجزاء على الترتيب، وعليه قوم من أصحابنا.
دليلنا قوله تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إلى قوله
(أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) وأو للتخيير بلا خلاف بين أهل اللسان،
فمن ادعى الترتيب فعليه الدلالة.
والمثل الذي يقوم هو الجزاء، وبه قال الشافعي، وعند مالك يقوم الصيد
المقتول. ودليلنا الآية.
وماله مثل يلزم قيمته وقت الاخراج دون حال الاتلاف، وما لا مثل له يلزمه
قيمته حال الاتلاف دون حال الاخراج.
وقال المرتضى: إذا قتل المحرم صيدا متعمدا فعليه جزاءان، وباقي الفقهاء
يخالفون في ذلك. قال: ويمكن أن يقال قد ثبت أن من قتل الصيد ناسيا يحب عليه
الجزاء، والعمد أغلظ من النسيان في الشريعة، فيجب أن يتضاعف الجزاء عليه
مع العمد (2).

(1) الزيادة من م.
(2) الانتصار ص 99 مع اختصار.
312

(فصل)
(أو كفارة طعام مساكين) قال أبو علي الفارسي: من رفع طعام مساكين جعله
عطفا على الكفارة عطف بيان، لان الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إلى
الطعام، ومن أضاف الكفارة إلى الطعام فلانه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء - الهدى
والطعام والصيام - استجاز الإضافة لذلك، فكأنه قال: كفارة طعام لا كفارة هدي
أو صيام، فاستقامت الإضافة.
وأورد ابن جنى في المستحب: ان قراءة أبى عبد الرحمن (فجزاء) منون
(مثل ما) بالنصب، معناها أي مجازي مثل ما قتل. وقراءة الباقر والصادق عليهما
السلام (يحكم به ذو عدل) قال: وانه لم يوجد (ذو)، لان الواحد يكفي، لكنه
أراد معنى (من)، أي يحكم به من يعدل، ومن يكون للاثنين كما يكون للواحد،
كقوله:
* فكن مثل من يا ذئب يصطحبان (1) *
وروي عنهما عليهما السلام: ان المراد بذي العدل رسول الله وأولى الامر من
بعده (2). وكفى بصاحب القراءة خبرا بمعنى قراءته.
وقيل في معناه قولان: أحدهما ان يقرم عدله من النعم يجعل قيمته طعاما
وليتصدق به عن عطاء والاخر أن يقوم الصيد المقتول حيا ثم يجعل طعاما عن قتادة.
(أو عدل ذلك صياما) قيل فيه قولان: أحدهما ان يصوم عن كل مد يقوم
من الطعام يوما عن عطاء، وهو مذهب الشافعي. والاخر أن يصوم عن كل مدين يوما
وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام، وهو مذهب أبي حنيفة.

(1) انظر هذا الكلام بطوله في مجمع البيان 2 / 243.
(2) تفسير البرهان 1 / 504.
313

(فصل)
[واختلفوا في هذه الكفارات الثلاث: فقيل إنها مرتبة، عن ابن عباس
والشعبي والسدي، قالوا وانما دخلت (أو) لأنه لا يخرج حكمه عن إحدى الثلاث.
وقيل إنها على التخيير، وهو مذهب الفقهاء، واختاره الشيخ أبو جعفر على ما تقدم.
وكلا القولين رواه أصحابنا.
قال المرتضى: الأظهر انه ليس على التخيير لكن على الترتيب، ودخلت
(أو) لأنه لا يخرج حكمه عن أحد الثلاثة، على أنه ان لم يجد الجزاء فالاطعام، فإن لم
يجد الاطعام فالصيام. وليس في الآية دليل على العمل بالقياس، لان الرجوع إلى
ذوي عدل في تقويم الجزاء مثل الرجوع إلى المقومين في قيم المتلفات، ولا تعلق
لذلك بالقياس.
وقوله (ليذوق وبال أمره) أي عقوبة ما فعله في الآخرة ان لم يتب، وقيل
معناه ليذوق وخامة عاقبة أمره وثقله بما يلزمه من الجزاء.
فان قيل: كيف يسمى الجزاء وبالا وانما هي عبادة، وإذا كان عبادة فهي
نعمة ومصلحة.
فالجواب: ان الله شدد عليه بالتكليف بعد أن عصاه فيثقل ذلك عليه، كما حرم
الشحم على بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت فثقل ذلك عليهم وإن كان مصلحة لهم.
قوله (ومن عاد فينتقم الله منه) أي من عاد إلى قتل الصيد محرما فالله تعالى
يكافيه عقوبة بما صنع.
واختلف في لزوم الجزاء بالمعاودة: فقيل إنه لا جزاء عليه، عن ابن عباس والحسن،
وهو الظاهر في رواياتنا. وقيل إنه يلزمه الجزاء عن جماعة، وبه قال بعض أصحابنا.
والجمع بين الروايتين ان في معاودة قتل الصيد عمدا لا جزاء عليه وفي النسيان
يكرر.
314

فان قيل: ظاهر القرآن يخالف مذهبكم، لأنه تعالى قال (فجزاء مثل ما قتل
من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) ولفظة (أو) يقتضي التخيير،
ومذهبكم أن القاتل للصيد عليه الهدي، فإن لم يقدر عليه فالاطعام، فان عجز عنهما
فالصيام.
فالجواب: قلنا ندع الظاهر للدلالة، كما تركنا ظاهر ايجاب الواو للجمع
وحملناها على التخيير في قوله (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث
ورباع) ويكون كذا إذا لم يجد الأول] (1).
(فصل)
ثم قال (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد
البر ما دمتم حرما) (2).
وظاهره يقتضى تحريم الصيد في حال الاحرام وتحريم كل ما صاده غيره، وبه
قال جماعة. وقال الحسن لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره. ومنهم من
فرق ما بين صيد وهو محرم وبين ما صيد قبل احرامه. وعندنا لا فرق بينهما، فالكل
محرم على المحرم.
والصيد يعبر به عن الاصطياد فيكون مصدرا، ويعبر به عن الصيد فيكون
اسما صريحا. ويجب أن تحمل الآية على الامرين وتحريم الجميع.
بين الله تعالى ما يحل من الصيد وما لا يحل فقال (أحل لكم صيد البحر) أي
أبيح لكم صيد الماء. وانما أحل بهذه الآية الطبري من صيد البحر لان العتيق لا
خلاف في كونه حلالا - عن ابن عباس وجماعة.

(1) هذا الفصل كله لا يوجد في ج.
(2) سورة المائدة: 96.
315

وقوله (وطعامه) يعنى طعام البحر، يريد به المملوح عن جماعة. وهو
الذي يليق بمذهبنا. وانما سمي طعاما لأنه يدخر ليطعم.
(باب)
(المحصور والمصدود)
الحصر عندنا لا يكون الا بالمرض، والصد انما يكون من جهة العدو. وعند
الفقهاء كلاهما من جهة العدو، والمذهب هو الأول.
فإذا أحرم المكلف بحجة أو عمرة فحصره عدو من المشركين ومنعوه من
الوصول إلى البيت كان له أن يتحلل، لعموم الآية. هذا في الحصر العام وأما
الحصر الخاص - وهو أن يحبس بدين عليه أو غيره - فلا يخلو أن يحبس بحق
أو بغير حق، فان حبس بحق - بأن يكون عليه دين يقدر على قضائه فلم يقضه - لم
يكن له أن يتحلل، لأنه متمكن من الخلاص، فهو حابس نفسه باختياره. وان حبس
بظلم أو دين لا يقدر على أدائه كان له أن يتحلل لعموم الآية والاخبار بأنه مصدود.
وكل من له التحلل فلا يتحلل الا بهدي، ولا يجوز له قبل ذلك.
وإذا لم يجد المحصر الهدي أو لا يقدر على ثمنه لا يجوز له أن يتحلل حتى
يهدي، ولا يجوز له أن ينتقل إلى بدل من الصوم أو الاطعام لأنه لا دليل على ذلك.
وأيضا قوله (فان أحصرتم فما استيسر من الهدي) و (لا تحلقوا رؤسكم
حتى يبلغ الهدي محله) يمنع كلاهما من التحلل إلى أن يهدى فيبلغ الهدى محله
- وهو يوم النحر - ولم يذكر البدل.
وإذا أراد التحلل من حصر العدو فلابد من نية التحلل قبل الدخول فيه،
وكذلك إذا حصر بالمرض.
ومتى شرط في حال الاحرام ان يحله حيث حبسه صح ذلك ويجوز له التحلل.
316

ولابد ان يكون للشرط فائدة، مثل ان يقول: ان مرضت أو فني نفقتي أو فاتني
الوقت أو ضاق علي أو منعني عدو أو غيره. فأما ان يقول إن خلى حيث شئت،
فليس له ذلك. فإذا حصل ما شرط فلابد له من الهدي، لعموم الآية - هذا كلام
الشيخ أبى جعفر.
وقال المرتضى: إذا اشترط المحرم فقال عند دخوله في الاحرام (فان عرض
لي عارض يحبسني فحلني حيث حبستني) جاز له ان يتحلل عند العوائق من مرض
وغيره بغير دم. وهذا أحد قولي الشافعي، وذهب باقي الفقهاء إلى أن وجود هذا
الشرط كعدمه. فان احتجوا بعموم قوله (وأتموا الحج والعمرة الله فان أحصرتم فما
استيسر من الهدي) قلنا نحمل ذلك على من لم يشترط (1).
(فصل)
وقوله تعالى (فان أحصرتم) فيه خلاف: قال قوم ان منعكم حابس قاهر،
وقال آخرون ان منعكم خوف أو عدو أو مرض أو هلاك بوجه من الوجوه فامتنعتم
لذلك، وهذا قول جماعة، وهو المروي عن ابن عباس. وهذا أقوى، وهو في
اخبارنا، ولان الاحصار هو ان يجعل غيره بحيث يمتنع من الشئ، وحصره منعه.
وقوله (فما استيسر من الهدي) اي فليهد ما استيسر من الهدي، أو فعليكم
ما سهل وتيسر من الهدي إذا أردتم الاحلال.
وفى معنى (ما استيسر) خلاف، فروى عن علي عليه السلام انها شاة، وعن
ابن عمر وعائشة انه ما كان الإبل والبقر دون غيرهما، ووجهها التيسر على ناقة
دون ناقة وبقرة دون بقرة. فالأول هو المعمول عليه عندنا وإن كان الأفضل هو الثاني.
وقال الفراء احصر وحصر بمعنى. وقال المبرد والزجاج حصره حبسه وأوقع

(1) الانتصار ص 104.
317

به الحصر، واحصره عرضه للحصر، ونظيره حبسه أي جعله في الحبس، واحبسه
اي عرضه للحبس، واقتله عرضه للقتل، وقتله فعل به، وقبره واقبره.
وفى أصل الهدى قولان: أحدهما انه من الهدية، فعلى هذا انما يكون هديا
لأجل التقرب به إلى الله باخلاص الطاعة فيه على ما أمر به، وواحده هدية كتمرة
وتمر، وجمع الهدي هدي على فعيل، كما يقال عبد وعبيد. والقول الاخر انه من
هداه إذا ساقه إلى الرشاد، فسمي هديا لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد (1).
والهدي يكون من ثلاثة الأنواع: جزور، أو بقرة، أو شاة. وايسرها شاة،
وبينا انه هو الصحيح.
(فصل)
وقوله تعالى (ان الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) (2)
أي وهم يصدون، فالمعنى ومن شأنهم الصد، أي ان الذين كفروا فيما مضى وهم
الان يصدون عن الحج والعمرة وعن طاعة الله والمسجد الحرم الذي جعلناه للناس
منسكا ومتعبدا لم يخص به بعضا دون بعض (سواء العاكف فيه والباد) فالمعتمر
فيه والذي ينتابه من غير أهله مستويان في سكناه والنزول به، فليس أحدهما أحق
بالنزول فيه من الاخر، غير أنه لا يخرج أحد من بيته. وقيل إن كراء دور مكة
وبيعها حرام.
والمراد بالمسجد الحرام الحرم كله، لقوله تعالى (أسرى بعبده ليلا من المسجد
الحرام) (3)، والظاهر أنه غير المسجد، وكان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة

(1) انظر تفصيل ذلك في معجم مقاييس اللغة 6 / 42.
(2) سورة الحج: 25.
(3) سورة الإسراء: 1.
318

في المسجد الحرام والطواف به ويدعون أنهم ولاته.
وقيل نزلت الآية في الذين صدوا عن مكة رسول الله صلى الله عليه وآله عام
الحديبية من أبي سفيان وأصحابه (1).
(ومن يرد فيه بالحاد بظلم) أي من يرد فيه ميلا عن الحق بأن يدخل مكة
بغير احرام الا الحطابة والرعاة في وقت دون وقت. وقيل هو احتكار الطعام بمكة.
وقيل هو كل شئ نهي عنه حتى شتم الخادم، لان الذنوب هناك أعظم. وقيل الباء
في قوله تعالى (بالحاد) زائدة، أي ومن يرد فيه الحادا، والباء في (بظلم) للتعدية
وقال الزجاج الباء ليست بملغاة، واليه يذهب أصحابنا. والمعنى: ومن ارادته فيه
بأن يلحد بظلم، كقوله (أريد لانسى ذكرها) أي أريد وأرادني لهذا.
(فصل)
اعلم أن مجموع فوائد قوله تعالى (فان أحصرتم) وقوله (ان الذين كفروا
ويصدون عن سبيل الله) أن يقال: ان المحرم الممنوع على ضربين: محصور،
ومصدود.
فالمحصور هو الذي لحقه المرض، فإن كان معه هدي فليبعث إلى منى إن كان
حاجا أو معتمرا للتمتع والى مكة إن كان معتمرا لا للتمتع، ويجتنب جميع ما يجتنبه
المحرم إلى أن يبلغ الهدي محله ثم قصر وقد أحل. ويجب عليه الحج من قابل
إن كان حجة الاسلام، ولا تحل له النساء إلى أن يحج في العام القابل. وان لم يكن ساق
الهدي فليبعث ثمنه مع أصحابه ليذبحوا عنه في وقته، ويجتنب هو ما يجب اجتنابه
على المحرم، فإذا دخل الوقت المعين فقد أحل.
وأما المصدود - وهو الذي يصده العدو وقد أحرم - فإن كان معه هدي فليبعثه

(1) تفسير البرهان 3 / 83.
319

إلى مكة أو إلى منى على ما ذكرناه ليذبح هناك عنه، فإن لم يقدر على ذلك ذبح هناك
وقصر وأحل من كل شئ من النساء وغيرها، فإن لم يكن معه هدي وجب أن يقصر
في مكانه ويحل مما أحرم منه.
والاشتراط في الاحرام ليس لسقوط فرض الحج، فان من حج حجة الاسلام
وأحصر لزمه الحج من قابل، فإن كان تطوعا فإنه يستحب.
(باب العمرة المفردة)
قال الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) (1) فالعمرة واجبة مثل الحج الا أنه من
تمتع بها إليه سقط فرضها عنه مفردا، ومن حج قارنا أو مفردا يعتمر بعد انقضاء الحج.
وأقل ما بين العمرتين عشرة أيام من آخر انقضاء العمرة الأولى، وقيل شهر.
فيجوز أن يعتمر في كل عشرة أيام سنة.
فأما المعتمر إذا حصر فعليه العمرة فرضا في الشهر الداخل إذا كانت واجبة.
وقوله (وأتموا الحج والعمرة لله) عام يتناول بعمومه الرجال والنساء، وغلب
بالذكر الذكران.
وقوله (لله) اي اقصدوا بالحج والعمرة التقرب لله. ولا يوحشنك ما لا ينفتح
من حمل التنزيل من الكتاب الا بتفصيل التأويل من السنة، فان معاني القرآن على
ثلاثة أوجه:
أحدها - المحكم، وهو ما طابق لفظه معناه، وأكثر القرآن من هذا الجنس.
والثاني - هو المجمل، وهو ما لا يعلم بظاهره مراد الله كله، كقوله (ولله على
الناس حج البيت) (2) فان تفصيله وكيفيته وأحكامه لا يعلم الا ببيان الرسول صلى الله عليه وآله.

(1) سورة البقرة: 196.
(2) سورة آل عمران: 97.
320

والثالث - هو المتشابه، وهو ما يشترك لفظه بين معنيين وأكثر، وكل واحد
منهما يجوز أن يكون مرادا، فحكمه أن يحمل على جميع محتملاته في اللغة،
الا أن يمنع دليل من حمله على وجه منها، ولا نقطع على مراد الله فيه الا بنص
من رسوله.
وأفعال عمرة الاسلام الواجبة ثمانية: النية، والاحرام، والتلبية، والطواف
والسعي، وطواف النساء، وركعتا طواف له (1). هذا إذا كانت العمرة غير التي
يتمتع بها إلى الحج، فان كانت مما يتمتع بها فليس فيها طواف النساء ولا ركعتاه
ويجب بعد السعي فيه التقصير.
(فصل)
واعلم أن عندنا وعند الشافعي العمرة واجبة كوجوب حجة الاسلام، لان
الله قال (وأتموا الحج والعمرة لله)، فكأنه قال: وأتموا الحج وأتموا العمرة.
واختلفوا في معنى اتمامها، فقال مجاهد والمبرد والجبائي انه يجب اجراء
أعمالهما بعد الدخول فيهما، وقال ابن جبير وعطاء والسدي ان معناه إقامتهما إلى
آخر ما فيهما لأنهما واجبان، وقال طاوس اتمامهما افرادهما.
وقال أهل الكوفة: العمرة مسنونة. فمن قال إنها غير واجبة قال لان الله أمر
باتمام الحج، واتمام الحج وجوب اتمامه لا يدل على أنه واجب قبل ذلك، كما
أن الحج المتطوع به يجب اتمامه وان لم يجب أولا الدخول فيه. قالوا: وانما
علمنا وجوب الحج بقوله (ولله على الناس حج البيت) الآية.
واجماع الفرقة المحقة على أن عمرة الاسلام واجبة كحجة الاسلام، وقد

(1) المذكور هنا من الافعال سبعة أشياء، وفى التبصرة ص 77: وأفعالها: النية،
والاحرام، والطواف، وركعتاه، والسعي، وطواف النساء، وركعتاه، والتقصير أو الحلق.
321

بينا أن معنى (أتموا الحج والعمرة) أقيموهما، وهو الذي رووه عن علي وزين
العابدين عليهما السلام، وبه قال مسروق والسدي.
وللمفسرين في التمتع أقوال:
روى أنس بن مالك ان النبي صلى الله عليه وآله أهل بالعمرة وحجه وسماه
قارنا، وانكره ابن عمر.
والثاني روي عن أبن عباس وابن عمر وابن المسيب وعطاء والجبائي هو
أن يعتمر في أشهر الحج ثم يدخل مكة فيطوف ويسعى ويقصر ثم يقيم حلالا إلى
يوم التروية فيهل فيه بالحج من مكة ثم يحج. وهذا كما قلناه سواء. وقال البلخي
هذا الضرب كرهه عمر (1) ونهى عنه.
والثالث هو الناسخ للحج بالعمرة، روى جابر وأبو سعيد الخدري أن
النبي عليه السلام أمرهم - وقد أهلوا بالحج - لا ينوون غيره ان يعتمروا وينقلوا
نياتهم إلى العمرة التي يتمتع بها إلى الحج ثم يحلوا إلى وقت الحج. وهذا عندنا
جائز أن يفعل.
وقوله تعالى: (واذان من الله رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) (2) قال
جماعة هو الحج الذي فيه الوقوف بعرفة المشعر والنسك بمنى، والحج الأصغر
العمرة.
وعن الصادق عليه السلام: ان يوم الحج الأكبر انه يوم النحر. قال: وسمي
الحج الأكبر لأنه حج فيه المشركون والمسلمون ولم يحج بعدها مشرك (3). وروى
ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وعن علي عليه السلام أيضا.

(1) في م (عثمان).
(2) سورة التوبة: 3.
(3) تفسير البرهان 2 / 102 وهو مأخوذ من حديثين وردا في ذلك.
322

وقال الحسن: هو ثلاثة أيام اجتمعت فيها أعياد المسلمين وأعياد اليهود
والنصارى.
(باب الزيادات)
سأل عبد الله بن سنان الصادق عليه السلام عن قوله تعالى (ومن دخله كان
آمنا) البيت أو الحرم؟ قال: من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن [ومن دخل
البيت من المؤمنين مستجيرا به فهو آمن] من سخط الله، وما دخل من الوحش
والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم (1)، ومن ألحد في الحرم
أخذ به في الحرم لأنه لم ير للحرم حرمة.
(مسألة)
ومن أدخل مكة أو الحرم من الصيد طيرا يجب عليه أن يخلى سبيله، لان
الله يقول (ومن دخله كان آمنا) أي أمنوه. هذا إذا كان الطير مالكا لجناحه، فإن كان
مقصوص الجناح يراعيه حتى يصح ثم يخليه ولا يخرجه من الحرم.
(مسألة)
وعن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه
من عذاب أليم) (2) قال: كل ظلم يظلمه الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو
شئ من الظلم فانى أراه الحادا (3).

(1) تفسير البرهان 1 / 301 مع بعض الاختلاف في الألفاظ والزيادة منه.
(2) سورة الحج.
(3) تفسير البرهان 3 / 84 وفى ذيل الرواية: ولذلك كان يتقى أن يسكن الحرم.
323

ولذلك كان يتقى الفقهاء أن يسكنوا مكة.
(مسألة)
وروى محمد بن مسلم والحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ان
الله تعالى اشترط على الناس شرطا وشرط لهم شرطا، فمن وفى لله وفى الله له،
فقال (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال
في الحج) (1)، وأما ما شرط لهم فقال (فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر
فلا اثم عليه لمن اتقى) (2) قال: يرجع ولا ذنب له. فقالا له: أرأيت من ابتلى بالفسوق
ما عليه؟ قال: لم يجعل الله له حدا، يستغفر الله ويلبى. فقالا: فمن ابتلي بالجدال
ما عليه؟ فقال: إذا جادل فوق مرتين فعلى المصيب دم يهرقه وعلى المخطئ بقرة (3).
(مسألة)
قد قدمنا أن الجدال الذي منع المحرم منه بقوله (ولا جدال في الحج)
هو الجدال صادقا أو كاذبا.
فان قيل: ليس في لغة العرب أن الجدال هو الحلف.
قلنا: لا ينكر أن يقتضى عرف الشرع ما ليس في اللغة. على أن الجدال إذا
كان الخصومة والمراء والمنازعة، وهذه أمور تستعمل للدفع والمنع، والقسم بالله
قد يفعل كذلك، ففيه معنى المنازعة والخصومة.

(1) سورة البقرة: 197.
(2) سورة البقرة: 203.
(3) تفسير البرهان 1 / 199 - 200، والحديث مذكور عن كل واحد من الحلبي ومحمد
ابن مسلم على حدة.
324

(مسألة)
وقوله تعالى (لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد) (1) خطاب للنبي
صلى الله عليه وآله، أي حلال لك قتل من رأيت حين أمر بالقتال، فقتل ابن خطل
صبرا وهو آخذ بأستار الكعبة ولم يحل لاحد بعده (2). وقال عطاء لم يحل الا لنبيكم
ساعة من النهار، وقال الحسن أي أقسم بمكة وأنت حال بها نازل فيها فشرفها بك.
(مسألة)
وقوله تعالى (ففروا إلى الله) (3) أي حجوا إلى بيت الله.
وسئل الصادق عليه السلام عن قوله (فأصدق واكن من الصالحين) (4) قال:
فأصدق من الصدقة، واكن من الصالحين أي أحج (5).
وقال عليه السلام: من قرأ سورة الحج في كل ثلاثة أيام لم تخرج سنته حتى
يخرج إلى بيت الله الحرام (6)، ومن قرأ (عم يتساءلون) لم تخرج سنته إذا كان يدمنها
في كل يوم حتى يزور بيت الله الحرام.
وقال: اتق المفاخرة وعليك بورع يحجزك عن معاصي الله، فان الله يقول

(1) سورة البلد: 1 2.
(2) انظر الدر المنثور: 6 / 351.
(3) سورة الذاريات: 50.
(4) سورة المنافقين: 10.
(5) تفسير البرهان 4 / 339.
(6) تفسير البرهان 3 / 76.
325

(ثم ليقضوا تفثهم)، ومن التفث أن تتكلم في احرامك بكلام قبيح، فإذا دخلت
مكة فطفت بالبيت تكلمت بكلام طيب فكان ذلك كفارة لذلك (1).
(مسألة)
وروى محمد بن الفضيل: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله تعالى
(ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) (2) فقال: نزلت فيمن
سوف الحج حجة الاسلام وعنده ما يحج به يقول العام أحج حتى يموت
قبل أن يحج (3).
وقال معاوية بن عمار: سألت الصادق عليه السلام عن رجل لم يحج قط
وله مال. فقال: هو ممن قال الله (ونحشره يوم القيامة أعمى) (4) فقلت: سبحان الله
أعمى؟ فقال: أعماه الله عن طريق الخير (5).
(مسألة)
جاء رجل إلى علي بن الحسين عليه السلام فقال: قد آثرت الحج على
الجهاد وقد قال الله (ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) (6)
فقال عليه السلام: فاقرأ ما بعدها فقال (التائبون العابدون الحامدون) إلى آخرها.

(1) تفسير البرهان 3 / 87.
(2) سورة الإسراء: 72.
(3) تفسير البرهان 2 / 433.
(4) سورة طه: 124.
(5) تفسير البرهان 3 / 48 وفيه (عن طريق الحق).
(6) سورة التوبة: 111.
326

فقال: إذا رأيت هؤلاء فالجهاد معهم يومئذ أفضل من الحج (1).
(مسألة)
كتب علي عليه السلام إلى قثم بن عباس عامله على مكة: أقم للناس الحج
واجلس لهم العصرين فأفت المستفتي وعلم الجاهل وذاكر العالم. ومر أهل مكة
أن لا يأخذوا من ساكن أجرا، فان الله سبحانه يقول (سواء العاكف فيه والباد)
العاكف المقيم به والبادي الذي يحج إليه من غير أهله (2).
(مسألة)
روي عن داود الرقي: ان بعض الخوارج سألني عن هذه الآية من كتاب الله
(ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) إلى قوله (ومن الإبل اثنين ومن
البقر اثنين) (3) ما الذي أحل الله تعالى من ذلك وما الذي حرم؟ فلم يكن عندي فيه
شئ، فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام وأنا حاج فأخبرته بما كان فقال: ان
الله تعالى أحل في الأضحية بمنى الضأن والمعز الأهلية وحرم أن يضحى فيه بالجبلية
وأما قوله (ومن الإبل اثنين رمن البقر اثنين) فان الله أحل في الأضحية بمنى من
الإبل العراب وحرم منها البخاتي، وأحل من البقر الأهلية أن يضحى فيها وحرم
الجبلية. فانصرفت إلى الرجل الخارجي الذي سألني عن تلك الآية فأخبرته بهذا
الجواب فقال: هذا شئ حملته الإبل من الحجاز (4).

(1) تفسير البرهان 2 / 163.
(2) نهج البلاغة 3 / 140، وما هنا مختصر من كتابه عليه السلام للقثم.
(3) سورة الأنعام: 143.
(4) تفسير البرهان 1 / 558 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
327

كتاب الجهاد
اعلم أن الجهاد والمجاهدة كلاهما استفراغ الوسع في مدافعة العدو.
والشرع خصص لفظ الجهاد بالمقاتلة في سبيل الله لاعلاء كلمة الله واعزاز
الدين واذلال المشركين، وبقي لفظة المجاهدة على عمومها.
(باب فرض الجهاد ومن يجب عليه)
قال الله تعالى (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) (1) أي فرض عليكم قتال
المشركين، والمقاتلة مشقة لكم والقتال يشق عليكم. والألف واللام بدل من
الإضافة، والكره والكره لغتان (2)، وقيل بالفتح المشقة وبالضم أن يتكلف الشئ فيفعله
كارها.
والآية تدل على وجوب الجهاد وفرضه، وبه قال أكثر المفسرين، غير أنه
فرض على الكفاية، وعن عطاء ان ذلك كان على الصحابة، والصحيح الأول لحصول

(1) سورة البقرة: 16.
(2) بفتح الكاف وضمه.
328

الاجماع عليه اليوم وقد انقرض خلاف عطاء.
ثم قال (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم).
فان قيل: كيف كره المؤمنون الجهاد وهو طاعة الله.
قيل عنه جوابان: أحدهما انهم يكرهونه كراهية طباع، الثاني انه كره لكم
قبل أن يكتب عليكم. وعلى الوجه الأول تكون لفظة الكراهة مجازا، وعلى الثاني
حقيقة.
ومما يدل على وجوب الجهاد أيضا قوله سبحانه (وجاهدوا في الله حق جهاده) (1)
عن ابن عباس أي جاهدوا المشركين وجاهدوا أنفسكم، وهو على العموم، والخطاب
متوجه إلى جميع المؤمنين لقوله قبل هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا
واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده)
فجاهدوا أمر بالغزو، ومجاهدة النفس فيه وفي كل طاعة، وجهاد النفس هو الجهاد
الأكبر.
وقوله (وفي الله) أي في ذات الله ومن أجله تعالى.
فان قيل: ما وجه إضافة قوله (حق جهاده) فالقياس حق الجهاد فيه أو حق
جهادكم فيه.
قلنا: الإضافة تكون بأدنى ملابسة وأقل اختصاص، فلما كان الجهاد مختصا
بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه. ويجوز أن يتبع
في الظرف، وكذلك خاطب المؤمنين فقال (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) (2)
أمرهم بالجهاد وبقتال المقاتلين دون النساء.
وقيل: الآية منسوخة بقوله (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (3) وبقوله

(1) سورة الحج: 87.
(2) سورة البقرة. 190.
(3) سورة التوبة: 5.
329

(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) (1) لأنه أوجب علينا في هذه الآية قتال المشركين وان
لم يقاتلونا و (الذين يقاتلونكم) الذين يناجزونكم بالقتال دون المحاجزين، وعلى
هذا يكون منسوخا بقوله (وقاتلوا المشركين كافة) (2).
وعن الربيع بن أنيس: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فكان رسول
الله صلى الله عليه وآله يقاتل من قاتل ويكف عمن كف.
وقيل: هم الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من
الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أو الكفرة كلهم، لأنهم جميعا مضادون للمسلمين
قاصدون لمقاتلتهم، فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا.
وقال ابن عباس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز: الآية غير منسوخة. وهو
الأقوى، لأنه لا دليل على كونها منسوخة. ووجه الآية انه أمر بقتال المقاتلة دون
النساء.
وقيل: ان قوله (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) أمر بقتال أهل مكة
لان المشركين لما صدوا رسول الله عليه السلام عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع
من قاتل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فراجع، فخاف المسلمون أن لا تفئ لهم قريش
بل يقاتلونهم في الشهر الحرام وكرهوا ذلك، فنزلت.
والأولى حمل الآية على عمومها الا ما أخرجه الدليل، فالجهاد ركن من
أركان الاسلام، إذا قام به من في قيامه غناء عن الباقين سقط عن الباقين، فمنى لم
يقم به أحد لحق الذم بجميعهم.
ومن شرط وجوبه ظهور الإمام العادل، إذ لا يسوغ الجهاد الا باذنه، يدل
عليه قوله (ولا تعتدوا) أي لا تعتدوا [بقتال من لم تؤمروا بقتاله ولا تعتدوا] 3 بالقتال

(1) سورة البقرة: 193.
(2) سورة التوبة: 36.
(3) الزيادة من ج.
330

على غير الدين ولا تعتدوا إلى النساء والصبيان ومن قد أعطيتموه الأمان. والعموم
يتناول الأقوال الثلاثة.
(فصل)
فان قيل: إذا كان قتال من لم يقاتلهم اعتداءا فكيف جاز أن يؤمروا به فيما بعد.
قلنا: انما كان اعتداءا من أجل أنه مجاوزة لما حده الله لهم مما فيه الصلاح للعباد
في ذلك الوقت، ولم يكن فيما بعد على ذلك، فجاز الامر به. فأطلق لهم في الآية
الأولى قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم أو في الشهر الحرام ورفع عنهم الجناح
في ذلك، ثم قال (ولا تعتدوا) بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء
والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة، فإنما
يجب القتال عند شروط، وهي أن يكون بأمر الإمام العادل.
ولا يجوز قتال أحد من الكفار الا بعد دعائهم إلى الاسلام والى شرائعه،
فإذا لم يدعوا لم يجز قتالهم. ولا يجوز قتال النساء، فان عاون أزواجهن وقاتلن
المسلمين أمسك عنهن، فان اضطروا إلى قتلهن جاز حينئذ.
وقوله تعالى (وفي سبيل الله) يعنى في دين الله، وهو الطريق الذي بينه
للعباد ليسلكوه على ما أمرهم به ودعاهم إليه. والاعتداء: مجاوزة الحد والحق.
(فصل)
قوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (1).
يمكن أن يستدل به على أنه إذا دهم المسلمين أمر من قبل العدو يخاف منه
وجب حينئذ جهادهم وان لم يكن ثم امام عادل، ويقصد المجاهد به الدفاع عن

(1) سورة البقرة: 194.
331

نفسه وعن الاسلام وأهله ولا يجاهدهم ليدخلهم في الاسلام مع الامام الجائر.
ويؤكد ذلك قوله (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين) (1) أي لا عذر
لكم ألا تقاتلوا في سبيل الله وعن المستضعفين، أي تصرف الأذى عنهم، أي مالكم
لا تسعون في خلاصهم.
وقوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) يدل على جواز المقاتلة مع النساء
عند الاضطرار إلى ذلك.
فان قيل: كيف قال (مثل ما اعتدى عليكم) والأول جور والثاني عدل.
قلنا: لأنه مثله في الجنس وفي مقدار الاستحقاق، لأنه ضرر كما أنه ضرر
وهو على مقدار ما يوجبه الحق كل في جرم.
فان قيل: كيف جاز قوله (ان الله لا يحب المعتدين) مع قوله (فاعتدوا
عليه).
قلنا: الثاني ليس باعتداء في الحقيقة، وانما هو على سبيل المزاوجة، ومعناه
المجازاة على ما قلناه. والمعتدى مطلقا لا يكون الا ظالما فاعلا لضرر قبيح، وإذا
كان محاربا فإنما يفعل ضررا مستحقا حسنا.
(باب ذكر المرابطة)
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) (2) اعلم أن
المرابطة نوع من الجهاد، وهي أن يحبس الرجل خيله في سبيل الله ليركبها المجاهدون
وأن يعينهم على الجهاد بسائر أنواع الإعانة. وفيها ثواب عظيم إذا كان هناك امام
عادل.

(1) سورة النساء: 75.
(2) سورة آل عمران 200.
332

ولا يرابط اليوم الا على سبيل الدفاع عن الاسلام والنفس، وهي مستحبة
بهذا الشرط.
وحدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما، فان زاد كان جهادا.
والرباط ارتباط الخيل للعدو، والربط الشد، ثم استعمل في كل مقيم في
ثغر يدفع عمن وراءه من أرادهم بسوء.
وينبغي أن يحمل قوله تعالى (وربطوا) على المرابطة، لأنه العرف وهو
الطارئ على أصل وضع اللغة، ويحمل على انتظار الصلوات، لما روي عن علي
عليه السلام في الآية، أي رابطوا الصلوات واحدة بعد واحدة (1)، أي انتظروها،
لان المرابطة لم تكن حينئذ، والمعنى اصبروا على تكاليف الدين في الطاعات وعن
المعاصي.
(وصابروا) أعداء الله في الجهاد، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب
لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا.
و (رابطوا) أي أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين
للغزو.
وقال تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به
عدو الله وعدوكم) (2) فقوله (من قوة) أي من كل ما تتقوى به في الحرب من عددها.
وعن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول على المنبر:
ألا ان القوة الرمي - قالها ثلاثا (3). ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله.
والرباط اسم للخيل التي ترتبط في سبيل الله، تسمى بالرباط الذي هو
بمعنى المرابطة، أو يكون جمع ربيط كفصيل وفصال. ويجوز أن يكون من (رباط

(1) تفسير البرهان 1 / 335 بهذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وآله.
(2) سورة الأنفال: 60.
(3) الدر المنثور 3 / 192.
333

الخيل) تخصيصا للخيل من بين ما يتقوى به، كقوله جبرئيل وميكائيل.
والضمير في (به) راجع إلى ما استطعتم، ترهبون بذلك عدو الله، وهم
أهل مكة، و (آخرين من دونهم) اليهود، وقيل المنافقون، أو أهل فارس، أو
كفرة الجن. وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن.
وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) (1) قال أبو جعفر عليه السلام
أي خذوا سلاحكم (2). فسمي السلاح حذرا لان به يقى الحذر، وقيل أي احذروا
عدوكم بأخذ السلاح، كما يقال للانسان خذ حذرك أي احذر، ويقال أخذ حذره
أي تيقظ واحترز عن المخوف، والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه
من أنفسكم.
وظاهر الآيات وعمومها يدل على أن من ربط اليوم فرسا في بيته، وأعد الأسلحة
للدفع عن الاسلام وأهله يكون بمنزلة المرابط.
(باب حكم من ليس له نهضة إلى الجهاد)
قال الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (3) لما نزلت جاء عمرو بن
أم مكتوم - وكان أعمى - فقال: يا رسول الله كيف وأنا أعمى، فما برح حتى نزل
قوله (غير أولى الضرر) (4) أي الا أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم وغير ذلك من
العل التي لا سبيل لأهلها من الجهاد للضرار الذي بهم.
ويجوز أن يساوي أهل الضرر المجاهدين، بأن يفعلوا طاعات أخر تقوم

(1) سورة النساء: 71.
(2) تفسير البرهان 1 / 393.
(3) سورة النساء: 95.
(4) أسباب النزول للواحدي ص 117.
334

مقام الجهاد فيكون ثوابهم عليه مثل ثواب الجهاد. وليس كذلك من ليس بأولي
الضرر، لأنه قعد عن الجهاد بلا عذر. وظاهر الآية يمنع من مساواته على وجه.
فان قيل: كيف قال في أول الآية [فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم
على القاعدين درجة) (1) ثم قال في آخرها] (2) (فضل الله المجاهدين على القاعدين
أجرا عظيما * درجات منه) [وهذا ظاهر التناقض.
قلنا إن أول الآية فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر درجة
وفى آخرها فضلهم على القاعدين غير أولي الضرر درجات] (2) ولا تناقض في ذلك،
لان قوله (وكلا وعد الله الحسنى) يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين وان
كانوا تاركين للفضل.
وقال المغربي: انما كرر لفظ (التفضيل) لان الأولى أراد تفضيلهم في الدنيا
على القاعدين والثاني أراد تفضيلهم في الآخرة بدرجات النعيم.
وقوله تعالى (وأنفقوا في سبيل الله) (3) من كان له مال ولا يمكنه القيام إلى
الحرب يجب عليه إقامة غيره مقامه فيما يحتاج إليه وينفق عليه ويعين المحاربين
بالسلاح والمركوب والنفقة، فعموم الآية يتناول جميع ذلك.
وقوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) أي لا تتقحموا الحرب من
غير نكاية للعدو ولا قدرة على دفاعهم، فمن وجب عليه الجهاد فإنما يجب عند شروط
سبعة، وهي: الذكورة، والبلوغ، وكمال العقل، والحرية، والصحة، وأن لا
يكون شيخا لا حراك به، ويكون هناك امام عادل أو من نصبه الامام للجهاد. والآية
تدل بظاهرها على أكثر ذلك، فإذا اختل واحد من هذه الشروط سقط فرض الجهاد
والتهلكة كل ما كان عاقبته إلى الهلاك.

(1) سورة النساء: 95.
(2) الزيادتان من ج.
(3) سورة البقرة: 195.
335

وقال الصادق عليه السلام: لو أن رجلا أنفق ما في يده في سبيل الله ما كان
أحسن ولا وفق لقوله (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا ان الله يحب المحسنين)
أي المقتصدين (1). وتقديره ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، كما يقال أهلك
فلان نفسه: إذا تسبب لهلاكها.
والمعنى النهي عن ترك الانفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك، أو عن
الاسراف في النفقة، أو الاستقلال والاخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو الذي هو
تقوية للعدو. وقيل الياء مزيدة، والمعنى لا تقبضوا التهلكة أيديكم، أي لا تجعلوها
آخذة بأيديكم.
(باب حكم القتال في الشهر الحرام)
قال الله تعالى (والفتنة أشد من القتل) نزلت في سبب رجل من الصحابة
قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام، فعابوا المؤمنين بذلك، فبين الله أن الفتنة
في الدين أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان محظورا (2).
ثم قال (الشهر الحرام بالشهر الحرام) قال حسن: ان مشركي العرب
قالوا للنبي عليه السلام: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: نعم. فأراد
المشركون أن يغتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه، فأنزل الله الآية.
فلهذا لا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان الا الأشهر الحرم، فان من
يرى منهم لها حرمة لا يبتدئون فيها بالقتال، فان بدأوهم بالقتال جاز حينئذ قتالهم.
ويجوز قتال من لا يرى للأشهر الحرم حرمة على كل حال.
(والحرمات قصاص) أي ان استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا
منهم مثل ما استحلوا منكم.

(1) تفسير البرهان 1 / 192 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(2) أسباب النزول للواحدي ص 41.
336

قال ابن عباس: كان أهل مكة اجتهدوا أن يفتنوا قوما من المؤمنين عن دينهم
والأذى لهم وكانوا مستضعفين في أيديهم، فقال تعالى (مالكم لا تقاتلون في سبيل
الله والمستضعفين) أي مالكم لا تسعون في خلاصهم.
ومعنى قوله (الشهر الحرام بالشهر الحرام) أي هتكه بهتكه، يعنى كما
هتكوا حرمته عليكم فأنتم تهتكون حرمته عليهم.
(والحرمات قصاص) أي وكل حرمة يجرى فيها القصاص، ثم أكد ذلك
بقوله (فمن اعتدى عليكم) أي فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم. وانما جمع الحرمات
لاحد أمرين: أحدهما أن يريد حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة الاحرام، الثاني ان
كل حرمة تستحل فلا يجوز الا على وجه المجازاة.
وروي عن الأئمة عليهم السلام: ان قوله (وقاتلوا في سبيل الله) (1) ناسخ
لقوله (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) (2) وكذا قوله (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) (3)
ناسخ لقوله (ولا تطع الكافرين والمنافقين) (4).
وقيل: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة) ناسخة للآية الأولى التي تضمنت النهي
عن القتال عند المسجد الحرام حتى يبدأوا بالقتال، لأنه أوجب قتالهم على كل حال
حتى يدخلوا في الاسلام.
(حيث ثقفتموهم) أي حيث وجدتموهم في حل أو حرم.
وقوله تعالى (من حيث أخرجوكم) أي من مكة، وقد فعل رسول الله صلى
الله عليه وآله لمن لم يسلم منهم يوم الفتح.

(1) سورة البقرة: 191.
(2) سورة النساء: 77.
(3) سورة البقرة: 191.
(4) سورة الأحزاب: 48.
337

(فصل)
وقوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) كان بعث رسول الله عبد
الله بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، ليترصد عيرا
لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه واستأسروا اثنين واستاقوا
العير وفيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى
الآخرة، فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام، وعظم ذلك على أصحاب
السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا، وظن قوم منهم أنهم ان سلموا من الاثم
فليس لهم أجر، فأنزل الله فيهم (ان الدين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في
سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) (1) وسبيل الله قتال العدو (2). ويقال
(جاهدت العدو) إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله.
وقال قتادة: القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله (وقاتلوهم حتى لا تكون
فتنة) (3) وبقوله (فاقتلوا المشركين) (4). وقال عطاء هو باق على التحريم.
وروى أصحابنا أنه باق على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة، وأما
من لا يرى لها حرمة فإنه يجوز قتاله أي وقت كان، أما في الحرم فلا يبتدأ بقتال
أحد من الكفار كائنا من كان.
والمعنى يسألك الكفار والمؤمنون عن القتال في الشهر الحرام، قل قتال
فيه اثم كبير، وما فعل قريش من صدهم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفرهم

(1) سورة البقرة: 218.
(2) أسباب النزول للواحدي ص 42.
(3) سورة البقرة: 193.
(4) سورة التوبة: 5.
338

بالله واخراج أهل المسجد الحرام - وهم رسول الله والمؤمنون - أكبر عند الله
مما فعلته السرية في القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن.
قال الحسن: السائلون هم أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم
القتال في الشهر الحرام. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال البلخي: هم أهل الاسلام
سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه.
والفتنة: الاخراج أو الشرك.
(باب في الآيات التي تحض على القتال)
قال الله تعالى (ولا تهنوا في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فإنهم يألمون
كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) (1) الآية.
نزلت في أهل أحد لما أصاب المسلمين ما أصابهم ونام المسلمون وبهم الكلوم
فنزلت (ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) (2) لان الله أمرهم على ما بهم من
الجراح أن يتتبعوا المشركين، وأراد بذلك ارهاب المشركين، فخرج المسلمون
إلى بعض الطريق وبلغ المشركين ذلك فأسرعوا حتى دخلوا مكة (3). وقال سبحانه
(ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) (4).
وفى تناول هذا الوعيد لكل فار من الزحف خلاف: قال الحسن انما كان
ذلك يوم بدر خاصة، وقال ابن عباس هو عام، وهو قول الباقر والصادق عليهما
السلام.

(1) سورة النساء: 104.
(2) سورة آل عمران: 140.
(3) سورة البرهان 1 / 317.
(4) سورة الأنفال: 16.
339

أخبر ان من ولى دبره على غير وجه التحرف للقتال والتحيز إلى الفئة انه
رجع بسخطه تعالى، وتقديره الا رجلا متحرفا يتحرف ليقاتل أو يكون منفردا فينحاز
ليكون مع المقاتلة، ولا يجوز ان يفر واحد من واحد ولا من اثنين، فان فر منهما
كان مأثوما، ومن فر من أكثر من اثنين لم يكن عليه شئ.
واما قوله تعالى (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب ان يتخلفوا
عن رسول الله) (1) فان الله لما قص في هذه السورة قصة الذين تأخروا عن رسول الله
عليه السلام والخروج معه إلى تبوك، ذكر عقيب ذلك أن ليس لهم ان يتأخروا
عن رسول الله، وهذه فريضة ألزمها الله إياها.
قال قتادة: حكم هذه الآية مختص بالنبي عليه السلام، كان إذا غزا لم يكن لاحد
ان يتأخر عنه، فأما من بعده من الخلفاء فذلك جائز. وقال الأوزاعي وابن المبارك
وجماعة: ان هذه الآية لأول الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله. وقال ابن
زيد: هذا حين كان المسلمون قليلون، فلما كثر نسخ بقوله تعالى (وما كان المؤمنون
لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) (2). وهذا هو الأقوى.
لأنه لا خلاف أن الجهاد فرض على الكفاية، فلو لزم كل أحد النفر لصار من فروض
الأعيان، أما من استنهضه الامام فيجب عليه النهوض ولا يجوز له التأخر.
(فصل)
وقد أدب الله بتأديب الحرب وعلم بها، فقال (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم
فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا
فتفشلوا) (3).

(1) سورة التوبة: 120.
(2) سورة التوبة: 122.
(3) سورة الأنفال: 45 - 46.
340

قال أبو جعفر عليه السلام: هذه الآية نزلت حين أشار حباب بن المنذر على
النبي عليه السلام ان ينتقل من جانب مكة حتى ينزل على القليب ويجعلها خلفه،
فقال بعضهم لا تنقض مصافك يا رسول الله، فتنازعوا فنزلت الآية وعمل على قول
حباب (1).
وقوله تعالى (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) (2) اي إذا نفرتم فانفروا اما ثبات
أي جماعات متفرقة سرية بعد سرية واما جميعا مجتمعين كوكبة واحدة ولا تتخاذلوا
وقيل في ثبات أي فرقة بعد فرقة أو فرقة في جهة وفرقة في جهة. وقال الباقر عليه
السلام الثبات السرايا والجمع العساكر.
ثم قال (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) (3) حثا على
الجهاد ولا تلتفتوا إلى تثبيط المنافقين، وقاتلوا في سبيل الله بائعين الدنيا بالآخرة،
ومن يقاتل جوابه فسوف نؤتيه.
وانما قال (أو يغلب) ان الوعد على القتال حتى ينتهي إلى تلك الحال.
(باب)
(أصناف الكفار الذين يجب جهادهم وحكم الأسارى)
قال الله تعالى (وقاتلوا المشركين كافة) (4).
وقال (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) (5).
أمر الله نبيه عليه السلام ان يجاهدهم، والجهاد هو ممارسة الامر الشاق،

(1) مجمع البيان 4 / 549.
(2) سورة النساء: 71.
(3) سورة النساء: 74.
(4) سورة التوبة: 36.
(5) سورة التوبة: 73 وسورة التحريم: 9.
341

فيكون بالقلب واللسان واليد، فمن أمكنه الجميع وجب عليه جميعه، ومن لم يقدر
باليد فاللسان والقلب، وان لم يقدر باللسان أيضا فبالقلب.
واختلفوا في كيفية جهاد الكفار والمنافقين: فقال ابن عباس جهاد الكفار
بالسيف وجهاد المنافقين باللسان والوعظ والتخويف، وقيل جهاد الكفار
بالسهم والرمح والسيف وجهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم، وقال ابن مسعود
هو بالأنواع الثلاثة بحسب الامكان فإن لم يقدر فليكفهر في وجوههم وهو الأعم.
وقيل قتاله مع الكفار ما قام فيه بنفسه وبابن عمه وبسرية كان يبعثها أيام حياته، وقتاله
مع المنافقين ما وصى به عليا ان يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
وفى قراءة أهل البيت (جاهد الكفار بالمنافقين) (1).
(فصل)
اعلم أن الكفار على ضربين أهل الكتاب وغيرهم، فالأولون يقاتلون إلى أن
يسلموا أو يقبلوا الجزية، وهم ثلاث فرق اليهود والنصارى والمجوس (2)، قال
تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون) (3).
بين تعالى ان أهل الكتابين والمجوس - الذين حكمهم حكم اليهود والنصارى
إذا لم يدينوا دين الحق - يعنى إذا لم يدخلوا الاسلام - يجب علينا ان نقاتلهم حتى

(1) مجمع البيان 5 / 50.
(2) في تهذيب الأحكام: روى أبو يحيى الواسطي قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام
عن المجوس؟ قال: كان لهم نبي قتلوه وكتاب أحرقوه، اتاهم نبيهم بكتابهم في اثنى عشر
الف جلد ثور، وكان يقال له جاماسب (ه‍ ج).
(3) سورة التوبة: 29.
342

يدخلوا الذمة باعطاء الجزية وغيرها مما هو من شرائط الذمة على ما قدمناه.
ونذكر أيضا لها بيانا فنقول: لا يؤخذ الجزية عندنا الا من اليهود والنصارى
والمجوس، واما غيرهم من الكفار - على اختلاف مذاهبهم من عباد الأصنام والأوثان
والصابئة وغيرهم - فلا يقبل منهم غير الاسلام أو القتل والسبي، قال تعالى (وقاتلوهم
حتى لا تكون فتنة) أي كفر.
وسميت (جزية) لأنها شئ وضع على أهل الذمة ان يجزوه أي يقضوه،
أو لأنهم يجزون امام المسلمين بها الذين من عليهم بالاعفاء عن القتل. وقيل الجزية
عطية عقوبة مما وظفه رسول الله على أهل الذمة، وهي على وزن جلسة وقعدة لنوع
من الجزاء.
وقوله (عن يد) أي عن يد متواتية غير ممتنعة، ويعطونها عن يد أي نقد
غير نسيئة لا مبعوثا على يد أحد ولكن عن يد المعطى إلى يد الاخذ. هذا إذا أريد
به يد المعطي، وان أريد به يد الاخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو
عن انعام عليهم، لان قبول الجزية منهم وتركهم احياء نعمة عظيمة عليهم، يعني
يؤخذ منهم على الصغار والذل، وهو ان يأتي بها ماشيا (1) ويسلمها قائما والمسلم جالس.
(فصل)
فان قيل: اعطاء الجزية منهم طاعة أم معصية، فإن كان طاعة وجب ان يكونوا
مطيعين، وإن كان معصية فكيف أمر الله بها.
قلنا: اعطاؤهم ليس بمعصية، واما كونها طاعة لله فليس كذلك، لأنهم انما
يعطونها دفعا لقتل أنفسهم وفدية لاستعباده لهم لا طاعة لله، فان الطاعة لا تقع من الكافر
بحال عندنا. وانما أمر الله تعالى بذلك لما علم فيه من المصلحة واقرار أهل الكتاب

(1) أي إلى بلاد الاسلام لتكون المشقة أعظم (ه‍ ج).
343

على طريقتهم، ومنع ذلك من غيرهم لان أهل الكتاب مع كفرهم يقرون بألسنتهم
بالتوحيد وببعض الأنبياء - وان لم يكونوا على الحقيقة عارفين - وغيرهم من الكفار
يجحدون ذلك كله، وذلك فرق بين أهل الكتاب وسائر المشركين مما عداهم.
والآية تدل على صحة مذهبنا في اليهود والنصارى وأمثالهم انه لا يجوز انه
يكونوا [عارفين بالله وان أقروا بذلك بلسانهم، وانما يجوز ان يكونوا] (1) معتقدين
لذلك اعتقادا ليس بعلم.
والآية صريحة بأن هؤلاء الذين هم أهل الكتاب الذين يؤخذ منهم الجزية
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر، وانه يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية.
واعتقاد اليهود لشريعة موسى انما يوصف بأنه غير حق اليوم لاحد أمرين:
أحدهما انها نسخت، فالعمل بها بعد النسخ باطل غير حق. والثاني ان التوراة التي
معهم مبدلة مغيرة، لقوله تعالى (يحرفون الكلم عن مواضعه) (2).
وأهل الكتاب - بلا خلاف - هم اليهود والنصارى، لقوله تعالى (أن تقولوا
انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) (3) وقول النبي عليه السلام في المجوس
(أجروهم مجرى أهل الكتاب لان لهم شبه كتاب)، فقد كان للمجوس كتاب فحرفوه
على ما ورد في أخبارنا.
(فصل)
فان قيل: فقد قال تعالى (لا اكراه في الدين) (4) ثم قال (وقاتلوهم حتى لا

(1) الزيادة من ج.
(2) سورة النساء: 46.
(3) سورة الأنعام: 156.
(4) سورة البقرة 256.
344

تكون فتنة ويكون الدين كله لله) (1) فأي اكراه أعظم من أن يؤمر بالقتال حتى يسلم؟.
قلنا: لكل واحد من الآيتين وجها حسنا ومعنى لا يناقض معنى الاخر، فان
معنى قوله (لا اكراه في الدين) أي لم يجز الله أمر الايمان على القسر والاجبار
ولكن على التمكن والاختيار، ونحوه قوله تعالى (ولو شاء ربك لامن من في الأرض
جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (2). وهذه المشية أيضا مشية القسر
والالجاء. وحرف الاستفهام انما أورده اعلاما بأن الاكراه ممكن، وانما الشأن في
المكره من هو وما هو الا هو تعالى وحده لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم
ما يضطرون عنده إلى الايمان.
وأما قوله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي شرك، ويكون الدين لله خالصا
أمر تعالى لعزة الاسلام باذلال أهل الكفر حتى تجري الشريعة على ما يرضاها الله
ظاهرة وأفعال الجوارح لا مدخل لها في أن تكون من حدود الدين والايمان، وانما
هي رتبة وحلية للمؤمن المتدين على أن الكفار لا يرضون رأسا برأس، فإنهم لما
عجزوا عن الغلبة بالحجة طلبوا بوار الاسلام والمسلمين بالقهر والغلبة بالقوة، فأمر
الله بمجاهدتهم ليذعنوا للاسلام (فان انتهوا فلا عدوان الا على القوم الظالمين) (3).
والمعنى ان امتنعوا من الكفر وانقادوا فلا قتل الا على الكافرين المقيمين على الكفر.
وسمي القتل عدوانا مجازا من حيث كان عقوبة على العدوان والظلم، وسمي
جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة، أي ان تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط
عليكم من يعدو عليكم، وقال في موضع آخر (ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) (4).

(1) سورة الأنفال: 39.
(2) سورة يونس: 99.
(3) سورة البقرة: 193.
(4) سورة الأنفال 38.
345

وشرائط الذمة خمسة: قبول الجزية، وأن لا يتظاهروا بأكل لحم الخنزير،
وشرب الخمر، ونكاح الزنا، ونكاح المحرمات. فان خالفوا شيئا من ذلك خرجوا
من الذمة، قال تعالى (وان نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا
أئمة الكفر) (1) أي فقاتلوهم، فوضع المظهر موضع المضمر اشعارا بأنهم إذا نكثوا
فهم ذوو الرئاسة في الكفر.
وفي الآية دلالة على أن الذمي إذا أظهر الطعن في الاسلام فإنه يجب قتله،
لان عهده معقود على أن لا يطعن في الاسلام، فإذا طعن فقد نقض عهده.
ومن وجبت عليه الدية فأسلم قبل ان يعطيها سقطت منه، قال تعالى (فان
انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين).
(فصل)
وقال تعالى (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (2) أي إذا لقيتم يا معشر
المؤمنين الذين جحدوا ربوبيته من أهل دار الحرب فاضربوهم على الأعناق (حتى
إذا أثخنتموهم) وأثقلتموهم بالجراح وظفرتم بهم (فشدوا الوثاق) معناه احكموا
أوثاقهم في الأسر. ثم قال (فاما منا بعد واما فداء حتى تضع الحرب أوزارها)
أي أثقالها، والتقدير اما تمنوا منا واما ان تفدوا فداءا.
قال ابن جريح وقتادة: الآية منسوخة بقوله (اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم (3) وقوله (فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) (4).
وقال ابن عباس والضحاك الفداء منسوخ، وقال ابن عمر وجماعة ليست

(1) سورة التوبة: 12.
(2) سورة محمد: 4.
(3) سورة التوبة: 5.
(4) سورة الأنفال: 57.
346

بمنسوخة، وكان الحسن يكره ان يفادي بالمال ويقوى يفادى الرجل بالرجل، وقيل
ليست منسوخة والامام مخير بين بين الفداء والمن والقتل بدلالة الآيات.
وقوله (حتى تضع الحرب أوزارها) قال قتادة أي حتى لا يكون شرك،
وقال الحسن ان شاء الامام أن يستعبد الأسير من المشركين فله ذلك بالسنة، والذي
رواه أصحابنا ان الأسير إذا اخذ قبل انقضاء الحرب والقتال والحرب قائمة والقتال
باق فالامام مخير بين ان يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى
ينزفوا، وليس له المن والفداء، وإن كان الأسير اخذ بعد وضع الحرب أوزارها
وانقضاء الحرب والقتال كان مخيرا بين المن والمفاداة اما بالمال أو النفس وبين
الاسترقاق بضرب الرقاب، فان أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وصار حكمه
حكم المسلمين، لقوله (فان انتهوا فان الله غفور رحيم) ولقوله (فان انتهوا فلا
عدوان الا على القوم الظالمين).
(فصل)
وقوله تعالى (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى) (1) خاطب نبيه
عليه السلام وأمره بأن يقول لمن حصل في يده من الأسارى، في وسماه في يده لأنه بمنزلة
ما قبض في يده بالاستيلاء عليه، ولذلك يقال للملك المتنازع فيه لمن اليد.
وقوله (أن يعلم الله في قلوبكم خيرا) أي اسلاما (يعطكم خيرا مما أخذ
منكم) من الفداء.
روي عن العباس أنه قال: كان معي عشرون أوقية فأخذت مني ثم أعطاني
مكانها عشرون عبدا ووعدني المغفرة. قال: وفي نزلت وفي أصحابي هذه الآية (2).

(1) سورة الأنفال: 70.
(2) أسباب النزول للواحدي ص 162 بهذا المضمون.
347

(وان يريدوا خيانتك) بنقض العهد (فقد خانوا الله من قبل) (1) بأن خرجوا
إلى بدر وقاتلوا المسلمين مع المشركين فأمكن الله منهم بأن غلبوا وأسروا، فان
خانوا ثانيا فسيمكن الله منهم مثل ذلك.
وأما قوله تعالى (ما كان لنبي أن يكون له أسرى (2)) فالمعنى ما كان لنبي أن
يحتبس كافرا للفداء والمن حتى يثخن في الأرض. والاثخان في الأرض تغليظ
الحال بكثرة القتال. (تريدون عرض الدنيا) أي الفداء، سمي متاع الدنيا عرضا
لقلة لبثه.
وهذه الآية نزلت في أسارى بدر قبل أن يكثر أهل الاسلام، فلما كثر المسلمون
قال تعالى (فامامنا بعد واما فداءا) (3)، وهو قول ابن عباس وقتادة.
فان قيل: كيف يكون القتل فيهم كان أصلح وقد أسلم منهم جماعة، ومن
علم الله من حاله أنه يصير مسلما يجب تبقيته.
قلنا: من يقول أن تبقيته واجبة، يقول إن الله أراد أن يأمرهم بأخذ الفداء،
وانما عاتبهم على ذلك لأنهم بادروا إليه قبل أن يؤمروا به.
(فصل)
فان قيل: هل كان الجهاد واجبا على كل أهل الملة أم لا.
قلنا: الزجاج استدل بقوله تعالى (ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة

(1) سورة الأنفال: 71.
(2) سورة الأنفال: 67.
(3) سورة محمد: 4.
348

والإنجيل والزبور والقرآن) (1) على أن الجهاد كان واجبا على أهل كل ملة، لعموم اللفظ
فيها.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت
صوامع) أيام شريعة عيسى (وبيع) في أيام شريعة موسى (2) (ومساجد) (3) في أيام
شريعة محمد صلى الله عليه وآله وعليهم.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى (ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى
إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) (4) وكان سبب سؤالهم هذا استدلال
الجبابرة من الملوك الذين كانوا في زمانهم إياهم، وأنكروا لما بعث الله لهم طالوت
ملكا بأنه لم يؤت سعة من المال، فرد الله عليهم (أن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة
في العلم والجسم) أي هو أولى بالملك، فإنه اعلم وأشجع منكم. وهذا يدل على
أن من شرط الامام أن يكون اعلم رعيته.
ثم قال تعالى (وقال لهم نبيهم ان آية ملكه ان يأتيكم التابوت فيه سكينة) (5)
فنص عليه بالمعجز، وهذا يدل على أن الامام يجب ان يكون منصوصا عليه. إلى
أن قال (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (6) أي يدفع الله بالبر
عن الفاجر الهلاك.

(1) سورة التوبة: 111.
(2) عن الجوهري البيعة للنصارى، وفى المجمع الكنسية لليهود والبيعة للنصارى واستعمالها
ههنا لليهود مجازا.
(3) سورة الحج: 40.
(4) سورة البقرة: 246.
(5) سورة البقرة: 248.
(6) سورة البقرة: 151.
349

(باب)
(حكم ما أخذ من دار الحرب بالقهر وذكر ما يتعلق به)
قال الله تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) (1) أباح الله للمؤمنين بهذه الآية
ان يأكلوا مما غنموه من أموال المشركين بالقهر من دار الحرب. ولفظه وإن كان
لفظ الامر فالمراد به الإباحة ورفع الحظر.
والغنيمة ما اخذ بالقهر من دار الحرب.
والفرق بين الحلال والمباح ان الحلال من حل العقد في التحريم، والمباح
من التوسعة في الفعل وان اجتمعا في الحل.
وقد ذكرنا في باب الخمس أن جميع ما يغنم من بلاد الشرك يخرج منه
الخمس فيفرق في أهله الذين ذكرنا هم هناك. والباقي على ضربين: فالأرضون
والعقارات لجميع المسلمين، وما يمكن نقله للمقاتلة ولمن حضر القتال خاصة وان
لم يقاتل للفارس سهمان وللراجل سهم. وقال قوم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل
سهم. وهذا عندنا إذا كان معه فرسان أو أفراس جماعة. وقيل إن النبي عليه السلام
فتح مكة عنوة ولم يقسم أرضها بين المقاتلة، وقال قوم فتحها سلما.
وروي أن سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وآله، فمروا برجل فقال إني
مسلم، فلم يقبل أميرهم أسامة أو المقداد ذلك وقتله وأخذ غنيمة (2) له، فأنكر النبي

(1) سورة الأنفال: 69.
(2) غنيمة تصغير غنم، في التبيان لحق ناس رجلا في غنيمة له، فقال السلام عليكم،
فقتلوه وأخذوا غنمه. وقيل قال الرجل: السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
الله، فشد عليه أسامة بن زيد وكان أمير القوم فقتله فنزلت الآية. وقال قوم كان صاحب السرية
المقداد (ه‍ ج).
350

عليه السلام ذلك، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله
مغانم كثيرة) (1).
(فصل)
وقال تعالى (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم) تقديره أذكر يا محمد إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين، اما العير
عير قريش واما قريشا.
عن الحسن: كان المسلمون يريدون العير ورسول الله يريد ذات الشوكة
لما وعده الله. فروي أن النبي عليه السلام لما بلغه خروج قريش لحماية العير شاور
أصحابه، فقال قوم خرجنا غير مستعدين للقتال، وقال المقداد امض لما أمرك الله
به فوالله لو دخلت بنا الجمر لتبعناك، فجزاه خيرا وأعاد الاستشارة، فقالوا امض
يا رسول الله لما أردت، فسار عليه السلام ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة
الله وأبشروا فان الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم.
وروي أن أحدا لم يشاهد الملائكة يوم بدر الا رسول الله (3).
(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم اني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) (4).
الداعي رسول الله، ولقلة عددهم استغاث الله فأمدهم بألف من الملائكة مردفين
مثلهم. ومعناه على هذا التأويل مع كل ملك ملك ردف فقتلوا سبعين وأسروا سبعين.

(1) سورة النساء: 94 وانظر أسباب النزول للواحدي ص 115.
(2) سورة الأنفال: 7.
(3) انظر الدر المنثور 3 / 164.
(4) سورة الأنفال: 9.
351

(فصل)
وأما قوله (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (1) آي نصرفها مرة لفرقة ومرة
عليها، ليمحص الله المؤمنين بذلك من الذنوب ويخلصهم به ويهلك الكافرين
بالذنوب.
فان قيل: لم جعل الله مداولة الأيام بين الناس وهلا كانت أبدا لأولياء الله؟.
قلنا: ذلك تابع للمصلحة وما تقتضيه الحكمة أن يكونوا تارة في شدة وتارة
في رخاء، فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الطاعة واحتقار الدنيا الفانية المنتقلة من
قوم إلى قوم حتى يصير الغني فقيرا والفقير غنيا والنبيه خاملا والخامل نبيها، فتقل
الرغبة حينئذ فيها ويقوى الحرص على غيرها مما نعيمه دائم.
والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة. (نداولها) أي نصرفها بين الناس،
نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كقوله:
فيوما علينا ويوما لنا * ويوما نساء ويوما نسر
وفى أمثالهم (الحرب سجال).
(وليعلم الله الذين آمنوا) فيه وجهان:
أحدهما أن يكون المعلل محذوفا، معناه واستمر التائبون على الايمان من
الذين على حرف فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، يعنى فعلنا ذلك فعل من يريد
أن يعلم من الثابت على الايمان منكم من غير الثابت، والا فالله لم يزل عالما بالأشياء
قبل كونها.
والثاني أن تكون العلة محذوفة، وليعلم عطف عليه، معناه وفعلناه ذلك ليكون
كيت وكيت ونعلمهم علما، فتعلق به الجزاء، وهو أن نعلمهم موجودا منهم الثبات،

(1) سورة آل عمران: 140.
352

وانما حذف للايذان أن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم،
وليبصرهم أن العبد يسؤه ما يجري عليه من المصائب ولا يشعر أن لله في ذلك من
المصالح ما هو غافل عنه.
(ويتخذ منكم شهداء) أي وليكرم ناسا منهم بالشهادة، يريد المستشهدين
يوم أحد وليصفيهم من الذنوب.
(ويهلك الكافرين) يعني ان كانت الدولة على المؤمنين فللاستشهاد والتمحيص
وغير ذلك مما هو أصلح لهم، وان كانت على الكفار فلمحقهم ومحو آثارهم.
(فصل)
ثم قال تعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا
منكم) (1).
أم منقطعة، ومعنى الهمزة فيها للانكار، ومعنى (لما يعلم الله) أي لما
تجاهدوا، لان العلم يتعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه، لأنه منتف
بانتفائه. يقول القائل (ما علم الله في فلان خيرا) يريد ما فيه خير حتى يعلم.
ثم خاطب الذين لم يشهدوا بدرا فقال (ولقد كنتم تمنون الموت) فكانوا
يتمنون أن يحضروا مشهدا مع النبي عليه السلام ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال
شهداء بدر، وهم ألحوا على رسول الله في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه
في الإقامة بالمدينة للوحي به. يعنى وكنتم تتمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا
شدته (فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حتى قتل من قتل
من اخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى
ما تسببوا له من خروج رسول الله بالحاحهم عليه ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده.

(1) سورة آل عمران: 142.
353

فان قيل: كيف يجوز تمني الشهادة وفي تمنيها تمني غلبة الكافر على المؤمن.
قلنا: قصد تمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لاغير، فلا يذهب وهمه
إلى ذلك المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصدا إلى حصول
المأمول من الشفاء، ولا يخطر بباله أن منه جر منفعة واحسان إلى عدو الله وتنفيقا
لصناعته. فإذا ثبت ذلك فتمنيهم الشهادة انما هو بالصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا
لا بقتل المشركين لهم وإرادتهم ذلك.
(باب المهادنة)
وقوله تعالى (الا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا ولم
يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) (1).
الهدنة والمعاهدة واحدة، وهي وضع القتال وترك الحرب إلى مدة من غير
عوض، وذلك جائز لقوله تعالى (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) (2). وقد صالح
النبي عليه السلام قريشا بالحديبية على ترك القتال عشر سنين.
فإذا ثبت جوازه فإن كان في الهدنة مصلحة للمسلمين ونظر لهم في أن يرجو
الامام منهم الدخول في الاسلام أو بذلك الجزية فعل ذلك، وإذا لم يكن للمسلمين
مصلحة - بأن يكون العدو ضعيفا قليلا وإذا ترك قتالهم اشتدت شوكهم وقووا -
فلا تجوز الهدنة لان فيها ضررا على المسلمين.
وإذا هادنهم في الموضع الذي يجوز فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر بنص
القرآن، وهو قوله (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) (3)، ولا يجوز الزيادة عليها

(1) سورة التوبة: 4.
(2) سورة الأنفال: 61.
(3) سورة التوبة: 2.
354

بلا خلاف لقوله (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (1)
فاقتضى ذلك قتلهم بكل حال. وخرج قدر الأربعة الأشهر بدليل الآية الأولى وبقي
ما عداه على عمومه.
هذا إذا كان الامام مستظهرا على المشركين، فإن كان هم مستظهرين لقوتهم
وضعف المسلمين - وإن كان العدو بالبعد منهم في قصدهم التزام مؤن كثيرة - فيجوز
أن يهادنهم إلى عشر سنين، لان النبي عليه السلام هادي قريشا إلى عشر سنين ثم
نقضوها هم من قبل نفوسهم.
(فصل)
وقوله تعالى (أوفوا بالعقود) (2) يدل على أن الامام إذا عقد لعدو من المشركين
عقد الهدنة إلى مدة فعليه الوفاء إلى انقضاء تلك المدة، فان خالف جميعهم في
ذلك انقضت الهدنة، وان خالف بعضهم ولم يكن منهم انكار بقول أو فعل كان نقضا
للهدنة في حق جميعهم، وإن كان منهم انكار لذلك كان الباقون على صلحه دون
الناقضين.
وإذا خاف الامام من المهادنين خيانة جاز له أن ينقض العهد، لقوله (واما
تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) (3).
ولا تنقض الهدنة بنفس الخوف بل للامام نقضها، فإذا نقضها ردهم إلى مأمنهم
لأنهم دخلوا إليه من مأمنهم.
وقد أمر الله نبيه عليه السلام أنه متى خاف ممن بينه وبينه عهد خيانة أن ينبذ

(1) سورة التوبة: 5.
(2) سورة المائدة: 1.
(3) سورة الأنفال: 58.
355

إليه عهده إلى سواء، أي على عدل. وقيل على استواء في العلم به أنت وهم في
انكم حرب لئلا يتوهم انك نقضت العهد ونقضه بالخوف من الخيانة.
قلنا: انما فعل ذلك لظهور أمارات الخيانة التي دلت على نقض العهد ولم
يشتهر ولو اشتهرت لم يجب النبذ.
(باب ذكر الامر بالمعروف والنهى عن المنكر)
قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر) (1).
(ولتكن) أمر، لان لام الإضافة لا تسكن، وتسكين اللام يؤذن أنه للجزم.
وقوله (منكم) من للتبعيض عند أكثر المفسرين، لان الامر بانكار المنكر
والامر بالمعروف متوجه في فرقة منهم غير معينة لأنه فرض على الكفاية، فأي فرقة
قامت به سقط عن الباقين.
وقال الزجاج: والتقدير وليكن جميعكم، ومن دخلت ليحض المخاطبين
من بين سائر الأجناس، كما قال (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) (2). فعلى هذا الامر
بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الأعيان لا يسقط بقيام البعض عن الباقين.
و (الأمة) للجماعة، و (المعروف) الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على
حسنه. وربما كان واجبا وربما كان ندبا، فإن كان واجبا فالامر به واجب، وإن كان
ندبا فالامر به ندب.
و (المنكر) هو القبيح، فالنهي كله واجب. والانكار هو اظهار كراهة الشئ

(1) سورة آل عمران: 104.
(2) سورة الحج: 30.
356

لما فيه من وجه القبح، ويقتضيه الاقرار، وهو اظهار تقبل الشئ من حيث هو
صواب وحكمة وحسن.
ولا خلاف أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان على ما ذكرناه.
واختلف المتكلمون أيضا في وجوبهما: فقيل إنه من فروض الكفايات، وقال آخرون
هو من فروض الأعيان، وهو الصحيح. وقال بعض أصحابنا انهما ربما يجبان على
التعيين وربما يجبان على الكفاية.
(فصل)
ويدل على وجوبهما زائدا على ما ذكرناه قوله تعالى (الذين ان مكناهم في الأرض
أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) (1). وذلك لان ما رغب
الله فيه فقد أراده، وكل ما أراده من العبد شرعا فهو واجب، الا أن يقوم دليل على
أنه نفل، ولان الاحتياط يقتضى ذلك.
و (المعروف) الحق، وسمي به لأنه يعرف صحته. وسمي (المنكر)
منكرا لأنه لا يمكن معرفة صحته بل ينكر.
والناس اختلفوا في ذلك: فقال قوم ان طريق انكار المنكر العقل، لأنه كما
يجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهية، والا كان
تاركه بمنزلة الراضي به. وقال آخرون - وهو الصحيح عندنا - ان طريق وجوبه
السمع، وأجمعت الأمة على ذلك.
ويكفى المكلف الدلالة على كراهيته من جهة الخبر وما جرى مجراه.
فان قيل: هل يجب في انكار المنكر حمل السلاح.
قلنا: نعم إذا احتيج إليه بحسب الامكان، لأنه تعالى قد أمر به، فإذا لم

(1) سورة الحج: 41.
357

ينجع فيه الوعظ والتخويف ولا التناول باليد وجب حمل السلاح، لان الفريضة
لا تسقط مع الامكان الا بزوال المنكر الذي لزم به الجهاد. الا انه لا يجوز أن يقصد
القتال الا وغرضه انكار المنكر.
وأكثر أصحابنا على أن هذا النوع من انكار المنكر لا يجوز الاقدام عليه
الا باذن سلطان الوقت، ومن خالفا جوز ذلك من غير الاذن، مثل الدفاع عن
النفس سواء.
(فصل)
اما قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر) (1)، فقد أوجب الله الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فيما تقدم من قوله
(ولتكن منكم أمة) ثم مدح على قبوله والتمسك به كما مدح بالايمان، وهذا يدل
على وجوبهما.
وقد بينا اختلاف المفسرين والمتكلمين في قوله (منكم أمة) انها للتبعيض
أو للتبيين والأولى ان يكون للتبيين، والمعنى كونوا أمة تأمرون، كقوله (كنتم خير
أمة أخرجت للناس تأمرون). ولا يصح الاستدلال على أنها للتبعيض
أو للتبيين والأولى ان يكون للتبيين، والمعنى كونوا أمة تأمرون، كقوله (كنتم خير
أمة أخرجت للناس تأمرون). ولا يصح الاستدلال على أنها للتبعيض، بأن ذلك
لا يصح الا ممن علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الامر في اقامته وكيف
يباشر، وان الجاهل ربما نهى عن معروف وامر بمنكر، وربما يغلظ في موضع
اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده انكاره الا تماديا، لان هذا
كله من شرائطهما.
وشرائط وجوبهما ثلاثة: أن يعلم المعروف معروفا والمنكر منكرا، وتجويز
تأثير انكاره، ولا يكون فيه مفسدة.

(1) سورة آل عمران: 110.
358

فان قيل: كيف يباشر انكار المنكر؟
قلنا: يبتدئ بالسهل، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب، لان الغرض كف
المنكر، قال تعالى (فأصلحوا بينهما) ثم قال (فقاتلوا) (1).
فان قيل: فمن يباشر؟
قلنا: كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه.
وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الانكار، لان قبحه
معلوم لكل أحد، وأما الانكار الذي بالقتال فالامام وخلفاؤه أولى، لأنهم أعلم بالسياسة
ومعهم عدتها.
فان قيل: فمن يؤمر وينهى؟
قيل: كل مكلف، وغير المكلف إذ هم بضرر غيره منع كالصبيان والمجانين،
وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها، كما يؤخذون بالصلاة ليتمرنوا
عليها.
فان قيل: هل ينهى عن المنكر من يرتكبه؟
قيل: نعم يجب عليه، لان ترك ارتكابه وانكاره واجبان عليه، فبترك أحد
الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر، وقد قالوا عليهم السلام (مروا بالخير وان
لم تفعلوا) (2).
فان قيل: كيف قال تعالى (يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف) (3).
[قلنا: الدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الافعال والتروك] 4. والنهي عن المنكر

(1) سورة الحجرات: 9.
(2) وسائل الشيعة 11 / 399.
(3) سورة آل عمران: 104.
(4) الزيادة من ج.
359

فخاص، فجئ بالعام ثم عطف عليه الخاص ايذانا بفضله كقوله (حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى) (1).
(فصل)
وانما قال تعالى (كنتم خير أمة) (2) ولم يقل أنتم خير أمة، لأمور:
أحدها - ان ذلك قد كان في الكتب المتقدمة، فذكر كنتم لتقدم البشارة به،
ويكون التقدير كنتم خير أمة في الكتب الماضية وفى اللوح المحفوظ، فحققوا
ذلك بالافعال الجميلة.
الثاني - أنه بمنزلة قوله (وكان الله غفورا رحيما)، لان مغفرته المستأنفة
كالمغفرة الماضية في تحقق الوقوع لا محالة. وفي كان على هذا تأكيد وقوع الامر،
لأنه بمنزلة ما قد كان.
الثالث - كان تامة، أي حدثتم خير أمة، وخير أمة نصب على الحال، قال مجاهد
ومعناه كنتم خير أمة إذا فعلتم ما تضمنته الآية من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
والعمل بما أوجبه.
فان قيل: لم يقال للحسن المعروف مع أن القبيح معروف أيضا انه قبيح ولا
يطلق عليه اسم المعروف.
قلنا: لان القبيح بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه، والحسن بمنزلة النبيه
الذي يعرف بجلالته وعلو قدره، ويعرف أيضا بالملامسة الظاهرة والمشاهدة، فأما
القبح فلا يستحق هذه المنزلة.
وقال أهل التحقيق: نزلت هذه الآية فيمن هذه صفته من هذه الأمة، وهم من

(1) سورة البقرة: 238.
(2) سورة آل عمران: 110.
360

دل الدليل من عصمته، لان هذا الخطاب لا يجوز أن يكون المراد به جميع الأمة،
لان أكثرها بخلاف هذه الصفة، بل منها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. وقد
حث الله عليه بما حكى عن لقمان ووصيته (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه
عن المنكر واصبر على ما أصابك) (1).
ويجوز أن يكون هذا عاما في كل ما يصيبه من المحن، وأن يكون خاصا بما
يصيبه فيما أمر به من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن يبعثه على الخير وينكر
عليه الشر ان ذلك ما عزمه الله من الأمور، اي قطعه قطع ايجاب والزام. وهذا الضرر
مثل سبب عرض أو ضرب لا يؤدي إلى ضرر في النفس عظيم أو في ماله أو لغيره لان
كل ذلك مفسدة.
(فصل)
وقوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) (2).
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أن المراد بالآية الامر بالمعروف والنهي
عن المنكر (3).
وعن أبي جعفر عليه السلام: انما نزلت في علي عليه السلام (4) يشرى نفسه
يبيعها، أي يبذلها في الجهاد ويأمر وينهى حتى يقتل.
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (5).

(1) سورة لقمان: 17.
(2) سورة البقرة: 207.
(3) مجمع البيان 1 / 301.
(4) تفسير البرهان 1 / 207.
(5) سورة الأنفال: 24.
361

أي إلى احياء امركم بجهاد عدوكم مع نصر الله إياكم (واعلموا أن الله يحول بين
المرء وقلبه) بالموت وبالجنون وزوال العقل فلا يمكنه استدراك ما فات.
ثم قال (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (1) عن ابن عباس
أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
وقال تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب) الآية، عن ابن عباس نزلت هذه
الآية لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه، قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد
الا أشرارنا، فأنزله الله إلى قوله (وأولئك من الصالحين) (2).
وقوله (ويؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (3)
صفة قوله (أمة قائمة).
وليس طريق وجوبهما العقل، وانما طريق وجوبهما السمع، وعليه اجماع
الأمة. وانما الواجب بالعقل كراهة المنكر فقط، غير أنه إذا ثبت بالسمع وجوبه فعلينا
إزالة المنكر بما يقدر عليه من الأمور الحسنة دون القبيحة، لأنه لا يجوز إزالة قبيح
بقبيح آخر.
وليس لنا أن نترك أحدا يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها، سواء كان
المعصية من أفعال القلوب - مثل اظهار المذاهب الفاسدة - أو من أفعال الجوارح.
ثم ينظر فإن كان أمكننا ازالته بالقول فلا مزيد عليه وان لم يكن الا بالمنع
من غير اضرار لم يزد على ذلك، فإن لم يتم دفعه الا بالحرب فعلناه. وإن كان عند
أكثر أصحابنا هذا الجنس موقوفا على اذن السلطان فيه.
وانكار المذاهب الفاسدة لا يكون الا بإقامة الحجج والبراهين والدعاء إلى

(1) سورة الأنفال: 25.
(2) سورة آل عمران: 114.
(3) سورة آل عمران: 114.
362

الحق، وكذا انكار أهل الذمة.
فأما الانكار باليد فمقصور على من يفعل شيئا من معاصي الجوارح، أو يكون
باغيا على امام الحق، فإنه يجب قتاله ودفعه على ما نذكر حتى يفئ إلى الحق
وسبيلهم سبيل أهل الحرب، فان الانكار عليهم باليد والقتال حتى يرجعوا إلى الاسلام
أو يدخلوا في الذمة.
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) (1) أمرهم الله
بأن يقوا أنفسهم، أي يمنعوها ويمنعوا أهليها نارا. وانما يمنعون نفوسهم بأن يعملوا
الطاعات، ويمنعوا أهليهم بأن يدعوهم إليها ويحثوهم على فعلها، وذلك يقتضى
أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون للأقرب فالأقرب.
(باب أحكام أهل البغى)
قال الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) (2) أي شبابا وشيوخا وأغنياء وفقراء ونشاطا
وغير نشاط وركبانا ومشاة ومشاغيل وغير مشاغيل وذوي العيال والميسرة وذوي
العسرة وقلة العيال.
(وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) ظاهر الآية يقتضي وجوب مجاهدة البغاة كما
يجب مجاهدة الكفار لأنه جهاد في سبيل الله.
و (الباغي) هو من قاتل إماما عادلا يجب جهاده على كل من يستنهضه الامام،
ولا يجوز قتالهم الا باذنه. وأصل البغي في اللغة الطلب، قال تعالى (فمن اضطر
غير باغ ولا عاد) (3).

(1) سورة التحريم: 6.
(2) سورة التوبة: 41.
(3) سورة البقرة: 173.
363

قال سعيد بن جبير ومجاهد: غير باغ على امام المسلمين ولا عاد بالمعصية
طريق المحقين، وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام (1).
وقال الرماني: ان هذا لا يسوغ. قال: لأنه تعالى لم يبح لاحد قتل نفسه بل
حظر ذلك عليه. وهذا الذي ذكره غير صحيح، لان من بغى على امام عادل فأدى
ذلك إلى تلف نفسه فهو المعرض لقتل نفسه، كما لو قتل في نفس المعركة فإنه
المهلك لها، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله كما لا يجوز له أن يستبقى نفسه
بقتل غيره من المسلمين. والرخصة تتناول الميتة، وان كانت عند المفسرين بصورة
المجاعة [فليست لمكان المجاعة على الاطلاق، بل يقال انما ذلك للمجاعة] (2) التي لم يكن هو
المعرض نفسه لها، فأما إذا عرض نفسه فلا يجوز له استباحة المحرم كما قلناه في
قتل نفس الغير ليدفع عن نفسه القتل (3).
(فصل)
وإذا قوتل البغاة فلا يبتدأون بالقتال الا بعد أن يدعوا إلى ما ينكرون من
أركان الاسلام، كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام بالخوارج. قال تعالى (ادع إلى
ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (4) فالجدال قتل الخصم
عن مذهبه بطريق الحجاج وحل شبهه.
و (التي هي أحسن) قيل الرفق والوقار والسكينة مع نصرة الحق بالحجة.
و (الحكمة) المقالة الحسنة المحكمة الصحيحة التي تزيل الشبهة وتوضح الحق.

(1) مجمع البيان 1 / 257.
(2) الزيادة من ج.
(3) انظر هذا الكلام مع تغيير في بعض الألفاظ في مجمع البيان 1 / 257.
(4) سورة النحل: 125.
364

و (الموعظة الحسنة) التي أن لا تخفي عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم
بها، أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وجادلهم بالطريقة التي
فيها اللين والرفق من غير فظاظة ولا تعسف. والداعي هو الامام أو من يأمره هو.
ولا ينصرف من قاتلهم بأمر الإمام الا بعد الظفر أو يفيؤا إلى الحق، ومن
رجع عنهم من دون ذلك كان فارا من الزحف، وقد أشار إلى هذا كله رسول الله
صلى الله عليه وآله بقوله: حربك يا علي حربي، وسلمك سلمي. أي حكم حربك
حكم حربي.
(باب حكم المحاربين والسيرة فيهم)
قال الله تعالى (انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض
فسادا أن يقتلوا) (1).
فمعنى (يحاربون الله) أي يحاربون أولياء الله والمؤمنين، لأنه لو كان المراد
مقصورا على محاربة رسول الله عليه السلام لكان حكم الآية يسقط بوفاته. واجمع
المسلمون على أن هذا الحكم ثابت.
ومعنى (يسعون في الأرض فسادا) يسرعون في الفساد، وأصل السعي سرعة
المشي.
والمحارب عندنا هو الذي يشهر السلاح ويخيف السبيل، سواء كان في
المصر أو في خارج المصر، فان اللص المجاهر في المصر وغير المصر سواء.
وبه قال الأوزاعي ومالك والليث بن سعيد وابن الهيعة والشافعي والطبري، وقال
قوم هو قاطع الطريق في غير المصر، ذهب إليه أبو حنيفة.
ومعنى (يحاربون الله) أي يحاربون أولياء الله ويحاربون رسوله لما ذكرنا

(1) سورة المائدة: 33.
365

(ويسعون في الأرض فسادا) هو ما قلناه في اشهار السيف وإخافة السبيل.
وجزاؤهم على قدر الاستحقاق: ان قتل قتل، وان أخذ المال وقتل قتل وصلب،
وان أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وأن أخاف السبيل فقط
فإنما عليه النفي لا غير. هذا مذهبنا، وهو المروي عنهما عليهما السلام، وهو قول
ابن عباس وابن مجلز وسعيد بن جبير والسدي وقتادة والربيع، وبه قال الجبائي
والطبري. وقال الشافعي ان أخذ المال جهرا كان للامام صلبه حيا وان لم يقتل.
وموضع (ان يقتلوا) رفع، وتقديره انما جزاؤهم القتل أو الصلب أو القطع.
ومعنى (انما) ليس جزاؤهم الا هذا. قال الزجاج: إذا قال جزاؤك عندي كذا،
جاز أن يكون معه غيره، فإذا قال انما جزاؤك كذا، كان معناه ما جزاؤك عندي كذا.
(فصل)
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس والضحاك نزلت في
قوم كان بينهم وبين النبي عليه السلام معاهدة فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخبر
الله نبيه فيما ذكر في الآية، وقال الحسن وعكرمة نزلت في أهل الشرك، وقال
قتادة وأنس وابن جبير والسدي أنها نزلت في العرنيين والعكليين حين ارتدوا
وأفسدوا في الأرض فأخذهم النبي عليه السلام وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف
وسمل أعينهم، وفى بعض الأخبار أنه أحرقهم بالنار (1).
ثم اختلفوا في نسخ هذا الحكم الذي فعله بالعرنيين: فقال البلخي وغيره
نسخ ذلك بنهيه عن المثلة، ومنهم من قال حكمه ثابت في نظرائهم لم ينسخ.
وقال آخر: لم يسمل النبي عليه السلام أعينهم، وانما أراد أن يسمل فأنزل
الله آية المحاربة، والذي نقوله: إن كان فيهم طائفة ينظرون لهم حتى يقتلوا قوما

(1) انظر مجمع البيان 2 / 188 وأسباب النزول للواحدي ص 129.
366

سملت أعين الرائية، فأجرى على الباقين ما ذكرناه. وقال قوم الامام مخير فيه.
فمن قال بالأول ذهب إلى أن (أو) في الآية تقتضي التفصيل، ومن قال بالثاني
ذهب إلى أنها للتخيير.
(فصل)
ومعنى قوله (وأرجلهم من خلاف) معناه أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى
ولو كان موضع من على أو الباء لكان المعنى واحدا.
وقوله (أو ينفوا من الأرض) في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - أنه يخرج من بلاد الاسلام ينفى من بلد إلى بلد الا أن يتوب ويرجع،
وهو الذي نذهب إليه. وقال أصحابنا: لا يمكن أيضا من دخول بلد الشرك ويقاتل
المشركون على تمكينهم من ذلك حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق.
الثاني - أن ينفى من بلد إلى غيره.
الثالث - أن النفي هو الحبس، ذهب إليه أبو حنيفة.
وأصل النفي الاهلاك، ومنه النفي والاعدام، ومنه النفاية لردئ المتاع.
وقال الفراء: النفي أن يقال من قتله فدمه هدر.
ثم قال (ذلك لهم خزي في الدينا) والخزي الفضيحة، أي ان ما ذكرناه
من الاحكام لهم خزي في الدينا ولهم في الآخرة عذاب عظيم زيادة على ذلك. وهذا
يبطل قول من قال إقامة الحدود تكفير للمعاصي، لأنه تعالى مع إقامة الحدود عليهم
بين أن لهم في الآخرة عذابا عظيما، أي انهم يستحقون ذلك، ولا يدل على أنه
تعالى يفعل بهم ذلك لا محالة، لأنه يجوز أن يعفو عنهم.
(فصل)
ثم قال تعالى (الا الذين تابوا من قبل أن يقدروا عليهم) أي لكن التائبين
من قبل القدرة عليهم فالله غفور رحيم.
367

ولما بين الله حكم المحارب على ما فصلناه استثنى من جملتهم من يتوب مما
ارتكبه قبل أن يؤخذ ويقدر عليه، لان توبته بعد حصوله (1) في قبضة الامام وقيام البينة
عليه بذلك لا تنفعه ووجب عليه إقامة الحد.
واختلفوا فيمن تدرأ عنه التوبة الحدود، هل هو المشرك أو من كان مسلما
من أهل الصلاة:
قال الحسن: هو المشرك دون من كان مسلما، فأما من أسلم فإنه لم يؤاخذ
بما جناه الا أن يكون معه عين مال من أخذ منه قائمة، فإنه يجب عليه ردها وما عداه
يسقط.
أما علي عليه السلام فإنه حكم بذلك فيمن كان مسلما وهو حارثة بن زيد،
لأنه كان خرج محاربا ثم تاب فقبل أمير المؤمنين توبته.
وقال الشافعي: يضع بتوبته حد الله عنه الذي وجب عليه لمحاربته ولا يسقط
عنه حقوق بني آدم. وهو مذهبنا. فعلى هذا ان أسقط الادمي حق نفسه ويكون
ظهرت منه التوبة [قبل ذلك فلا يقام عليه الحدود وان لم يكن ظهرت منه التوبة] (2)
أقيم عليه الحد لأنه محارب فيتحتم عليه الحد، وهو قول أبى علي أيضا. ولا خلاف
أنه إذا أصيب المال بعينه في يده أنه يرد إلى أهله.
فأما المشرك المحارب فمتى أسلم وتاب سقطت عنه الحدود، سواء كان ذلك
منه قبل القدرة عليه أو بعدها بلا خلاف.
فأما السارق إذا قدر عليه بعد التوبة وتكون التوبة منه بعد إقامة البينة فإنه لا يسقط
عنه الحد، وإن كان قبل قيام البينة أسقطت عنه. وقال لا تسقط التوبة عن السارق
الحد، ولم يفعل وادعى في ذلك الاجماع.

(1) في م (قبل حصوله).
(2) الزيادة من ج.
368

وقيل: ان الله جعل هذا الحكم للمحارب بالاستثناء بقوله (فاعلموا أن الله
غفور رحيم)، ولم يكن غير المحارب في معناه فيقاس عليه، لان ظاهر هذا التفرد،
وليس كذلك هو في المحارب الممتنع نفيه.
ثم قال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) أي ما يتقرب
به إلى الله (وجاهدوا في سبيل الله) (1) أي جاهدوا أعداءكم في وقت الحاجة إليه
وجاهدوا أنفسكم في كل وقت.
أما قوله تعالى (ويسعون في الأرض فسادا) أي مفسدين، لان سعيهم في
الأرض لما كان على طريق الفساد نزل منزلة ويفسدون في الأرض، فانتصب (فسادا)
على المصدر حالا أو مفعولا له.
وقيل النفي أن ينفى من بلده، وكانوا ينفونهم إلى بلد في أقصى تهامة يقال له (دهلك)
والى (ناصع) وهو من بلاد الحبشة. ومن قال إن النفي من بلد إلى بلد اي لا يزال
يطلب وهو هارب فزعا.
وقوله (الا الذين) استثناء من المعاقبين عقاب قطع الطريق خاصة، وأما
حكم القتل والجراح وأخذ المال فإلى الأولياء ان شاؤوا استوفوا.
(باب حكم المرتدين وكيفية حالهم)
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) (2) الآية.
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، والصحيح ما روي عن الباقر والصادق عليهما
السلام أنها نزلت في أهل البصرة ومن قاتل عليا عليه السلام (3) والذي يقوي هذا
التأويل أن الله وصف من عناه بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين عليه السلام

(1) سورة المائدة: 35.
(2) سورة المائدة: 54.
(3) تفسير البرهان 1 / 479.
369

مستكملا لها بالاجماع، لأنه تعالى قال في عقبته (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه). وقد شهد النبي صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام بما يوافق لفظ الآية
في قوله - وقد ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فر منها - (لأعطين الراية غدا رجلا
يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) ودفعها إلى علي، فكان من ظفره ما وافق خبر
النبي عليه السلام.
ثم قال (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) فوصف من عناه بالتواضع
للمؤمنين والرفق بهم والعزة للكفار، والعزيز على الكافرين هو الممتنع في أن
ينالوه مع شدة مكانته منهم، وهذه أوصاف أمير المؤمنين.
ثم قال (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) ولا يخفى قصور كل
مجاهد من منزلته ولم يقارب أحد رتبته، وهو الذي ما ولى الدبر قط، فاختصاصه
بالآية أولى.
وروي أنه عليه السلام قال يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى
اليوم، وتلا (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) (1).
ومثل ذلك قال عمار وحذيفة وابن عباس.
(فصل)
وقرئ (من يرتد) و (من يرتدد)، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في
القرآن قبل كونها.
وقيل كان أهل الردة أحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله: بنو مدلج،
ورئيسهم ذو الخمار، وهو الأسود العنسي، وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده
وأخرج عمال رسول الله فبيته فيروز الديلمي فقتله، وأخبر رسول الله بقتله ليلة قتل،

(1) تفسير البرهان 1 / 479.
370

فسر المسلمون وقبض رسول الله من الغد. وبنو حنيفة قوم مسيلمة الذي تنبأ. وبنو أسد
قوم طليحة بن خويلد تنبأ أيضا ثم أسلم وحسن اسلامه. وثمان بعد وفاة رسول الله
وكفى الله أمرهم.
وقوله (فسوف يأتي الله بقوم) قيل هم الأنصار، وقيل ضرب رسول الله يده
على متن سلمان وقال: هذا وذووه. ثم قال: لو كان الايمان معلقا بالثريا لناله رجال
من فارس. والتقدير فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم مقامهم.
وانما لم يقل (أذلة للمؤمنين) لان الذل يضمن معنى الحنو والعطف، كأنه
قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل.
(فصل)
وقوله تعالى (ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا
لم يكن الله ليغفر لهم) (1) يعنى بذلك أهل النفاق انهم أظهروا الايمان ثم ازدادوا
كفرا بموتهم على الكفر.
ثم اعلم أن المرتد عندنا على ضربين:
مرتد عن فطرة الاسلام بين المسلمين، متى كفر فإنه يجب قتله ولا يستتاب
ويقسم ماله بين ورثته، وتعتد منه زوجته عدة المتوفى عنها زوجها من يوم ارتد.
والاخر من أسلم من كان أسلم ثم كفر ثم ارتد، فهذا يستتاب ثلاثا، فان تاب
والا وجب عليه القتل، ولا يستتاب أكثر من ذلك.
والمرأة إذا ارتدت تستتاب على كل حال، فان تابت والا حبست حتى تموت،
ولا تقتل بحال، وفيه خلاف.
وقال تعالى (ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (2) نزلت في الوليد بن عقبة لما بعثه

(1) سورة النساء: 137.
(2) سورة الحجرات: 6.
371

رسول الله في صدقات بنى المصطلق خرجوا يتلقونه فرحا به، فظن أنهم هموا بقتله
فرجع إلى النبي عليه السلام فقال إنهم منعوا زكواتهم، وكان الامر بخلافه (1).
ثم قال (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) قتل بعضهم بعضا، أي من كان
على ظاهر الايمان (فأصلحوا بينهما) (2) حتى يصطلحا، فان بغت إحدى الطائفتين على
الأخرى، بأن تطلب ما لا يجوز لها وتطالب الأخرى ظالمة لها، فقاتلوا الظالمة حتى
ترجع إلى طاعة الله، فان رجعت بالقول فلا تميلوا على واحدة [منها وأقسطوا.
قيل نزلت في قبيلتين من الأنصار وقع بينهم قتال] (3).
(باب الزيادات)
قوله تعالى (ان عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق
السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) (4).
جعل ضمير الأشهر الحرم الهاء والنون في (فيهن) لقلتهن، وضمير شهور
السنة الهاء والألف في منها لكثرتها، ولذلك يقولون لأربع خلون في التاريخ
ولعشرين بقيت. وعلى هذا ما جاء في التنزيل (وقالوا لن تمسنا النار الا أياما
معدودة) (5) في سورة البقرة، وقال في سورة آل عمران (الا أياما معدودات) (6) كأنهم
قالوا أولا تطول المدة التي تمسهم فيها النار، ثم تراجعوا عنه فقصروا تلك المدة.

(1) أسباب النزول للواحدي ص 261.
(2) سورة الحجرات: 9.
(3) الزيادة من م، وانظر أسباب النزول للواحدي ص 263.
(4) سورة التوبة: 36.
(5) سورة البقرة: 80.
(6) سورة آل عمران: 24.
372

وقيل الضمير في قوله (فيهن) أيضا يرجع إلى الشهور، وخالف في العبارة
كراهة التكرار.
(مسألة):
إذا نزل الامام بالجيش في الغزو على أهل بلد هل له حصره والمنع لمن يريد
الخروج منه من الكفار؟
قلنا: له ذلك، لقوله (واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) (1)، كما فعل
رسول الله صلى الله عليه وآله، فإنه حاصر أهل الطائف.
(مسألة):
فان قيل: لم ترك أمير المؤمنين القتال مع معاوية وقد كان لاح له وجه الظفر
ولكن لما رفعوا المصاحف كف عنهم، هلا كان يضربهم بالسيف حتى يهلكوا أو
يفيئوا إلى أمره كما قال تعالى (فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) (2) وقال
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (3)؟.
الجواب: انه لما التقى الجمعان دعا علي عليه السلام معاوية وأحزابه إلى ما
في كتاب الله وقال: بيننا وبينكم القرآن، اقتداءا منه بحكم الله وبدعائه أهل الكتاب
إلى ما يجدوا في التوراة والإنجيل من تصديق محمد وصحة نبوته صلى الله عليه
وآله، فقال في الذين آمنوا منهم بمحمد (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) (4)

(1) سورة التوبة: 5.
(2) سورة الحجرات: 9.
(3) سورة البقرة: 193.
(4) سورة الأعراف: 157.
373

الآية، وقال في الذين وجدوا ذكره فيهما ولم يؤمنوا به (ولما جاءهم كتاب من
عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ولما جاءهم
ما عرفوا كفروا به) (1)، وقال (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ
فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم) (2).
ولو أن عليا ابتدأ بالقتال قبل الزام أهل الشام الحجة من الكتاب دخل في
زمرة من قال (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا منهم فريق معرضون)
إلى قوله (بل أولئك هم الظالمون) (3).
فدعاهم أولا إلى ما قاله القرآن ليكون من جملة من قال سبحانه (انما كان
قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا
وأولئك هم المفلحون) (4).
فعلي كان المنقاد لأمر الله والعامل به والراضي بحكمه، ومعاوية وأصحابه
كانوا التاركين لأمر الله والمعرضين عن العدل، ولما علموا أنهم متى حاكموا عليا
بما في القرآن وأذعنوا للانصاف وأقروا لذي الفضل بفضله التزموا الظلم والبغي
وباؤا بغضب من الله ولم يفيئوا إلى أمر الله، فلذلك دافعوا التحكيم بكتاب الله في
عنفوان الامر وأبوا الا القتال، إلى أن ضاق عليهم الامر وأصابهم وقع السيف ففزعوا
إلى رفع المصاحف هنالك، فرفعوا على الأسل والتجأوا إلى التحكيم الذي قد كان
علي عليه السلام دعاهم إليه أولا فأبوا.
وانما كان دعاء علي عليه السلام إياهم إلى ما في كتاب الله أولا ثقة منه بتحقيق

(1) سورة البقرة: 89.
(2) سورة البقرة: 101.
(3) سورة النور: 48.
(4) سورة النور: 51.
374

أمره، وعلما بأن الكتاب يحكم له عليهم، وأنهم لو حاكموا عليا في أول ما دعاهم
إلى ما في القرآن لوجدوه من السابقين الأولين من المهاجرين، ووجدوه من
المجاهدين الذين لا يقاس به القاعدون، ومن المؤمنين بالغيب، ومن أولياء الله
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن العلماء الذين يتقون الله
حق تقاته، ومن الموفين بالنذر المطعمين على حب الله المسكين واليتيم والأسير (1)،
ووجدوا أباه أبا طالب أشد من حامى رسول الله، ووجدوا معاوية في الطلقاء وأبناء
الطلقاء، فلما نابهم حر القتل أمر برفع المصاحف.
وكان علي عليه السلام يقول لأهل العراق - حين قالوا له: يا أمير المؤمنين
قد أنصفك حين دعاك إلى ما في الكتاب فإن لم تجبه إلى ذلك شددنا مع العدو عليك
فان الله يقول (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (2) - فقال علي عليه
السلام: كلمة حق يراد بها باطل، اصبروا على ابن هند ساعة يفتح الله لكم.
ولما لم ينجع كلامه منهم وأبى الذين فسدت قلوبهم من أصحابه الا النزول
عند حكم معاوية وضع علي عليه السلام نفسه موضع المستضعفين المعذورين وعمل
على قول الله (فاتقوا الله ما استطعتم) (3)، وكانوا يشتدون عليه ليجيب معاوية إلى ما
كان يدعو إليه من التحكيم حتى قال: لا رأي لمن لا يطاع.
وقد بين الله عذر علي عليه السلام في ذلك بقوله (الان خفف الله عنكم وعلم
أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) (4) الآية.
فألف من المؤمنين إذا قاتلوا ألفين من الكافرين هم اكفاء بعضهم لبعض، فإذا
استأمن رجل واحد من المؤمنين مرتدا إلى الكفار وصار الكفار زيادة على الألفين

(1) هذه الجمل إشارة إلى ما نزل في علي عليه السلام من الآيات.
(2) سورة النساء: 59.
(3) سورة التغابن: 16.
(4) سورة الأنفال: 66.
375

برجل واحد وانحط المؤمنون إلى تسعمائة وتسعة وتسعين فهم في سعة ورخصه إذا
انهزموا ولم يقاتلوا، ولا حرج عليهم متى نقص من ألفهم واحد وزاد في ألفي
الكفار.
فإذا رخص الله للمؤمنين أن ينحجزوا عن قتال الكفار متى نقص واحد من ألف
منهم فزاد على ألفي الكفار، فلان يرخص لمولانا أمير المؤمنين أن يمسك عن قتال
قوم كانوا في الأصل أضعاف أصحابه، ثم وجد بعض أصحابه قد صار أعدى عليه
من أعدائه، والله تعالى يقول (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (1) ويقول (ولا تقتلوا
أنفسكم) (2) ويقول لمن كانوا أكفاء لأعدائهم كالألف من المؤمنين مع الألفين من
الكفار سواء بعضها لبعض (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
الادبار) (3) الآية (4).

(1) سورة البقرة: 195.
(2) سورة النساء: 29.
(3) سورة الأنفال: 15.
(4) انظر لمعرفة تفصيل صلح علي عليه السلام مع معاوية وأسبابه وكيد معاوية في ذلك
كتاب (الصفين) لنصر بن مزاحم المنقري.
376

كتاب الديون
(والكفالات والحوالات والوكالات)
نقدم ذكر الدين لان الثلاثة الأخر على الأغلب تكون من توابعه.
و (دان) من الأضداد، يقال دينه أي أقرضه، ودان استقرض أيضا (1).
(باب احكام الدين)
قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) (2)
اعلم أن أخذ الدين قد يكون مباحا ومكروها ومحظورا وواجبا ومستحبا،
والآية تدل على جواز أخذ الدين لمن له مال يقضي به أو من يقضى عنه. ومع هذا
الشرط عند الاضطرار ربما يكون ندبا أو واجبا.

(1) قال ابن منظور: والدين واحد الديون معروف، وكل شئ غير حاضر دين، والجمع
أدين مثل أعين وديون، لسان العرب (دين).
(2) سورة البقرة: 282.
377

وقول النبي عليه السلام (الدين شين الدين) (1) يدل على كراهيته، فإن لم يكن
له ما يقضي به دينه ولا ولي يعلم أن مات قضاه عنه في غيبة الامام فلا يتعرض البتة للدين.
(فصل)
قوله تعالى (إذا تداينتم) أي إذا دان بعضكم بعضا، يقال داينت الرجل إذا
عاملته بدين آخذا أو معطيا، كما تقول بايعته إذا بعته أو باعك. والمعنى إذا تعاملتم
بدين موجل فاكتبوه.
فأن قيل: أي حاجة إلى ذكر الدين مع قوله (إذا تداينتم) وما فائدة قوله
(مسمى)؟.
قلنا: انما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله (فاكتبوه) إذ لو لم يذكر
لوجب أن يقال فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع
الدين إلى مؤجل وحال. وانما قال (مسمى) ليعلم أن من حق الاجل ان يكون معلوما
كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام. ولو قال إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج
لم يجز لعدم التسمية.
وانما أمر بكتب الدين لأنه أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود. والامر
هنا للندب.
وعن ابن عباس المراد به السلم، وقال: لما حرم الله الربا أباح السلف.
وقال: أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه
أطول آية.
وقيل: انما قال (بدين) على وجه التأكيد، ولا يختص (تداينتم) بالدين
خاصة دون الدين الذي هو الجزاء، و (أجل مسمى) معلوم.

(1) الأول بفتح الدال والثاني بكسره.
378

وقوله تعالى (فاكتبوه) ظاهره الامر بالكتابة، واختلفوا في مقتضاه: فقال
أبو سعيد الخدري والشعبي والحسن هو مندوب إليه، وقال الربيع وكعب هو فرض
والأول أصح لاجماع أهل عصرنا عليه، ولقوله تعالى (فان أمن بعضكم بعضا فليؤد
الذي اؤتمن أمانته)، ومفهومه فان أمنه فيما له أن يأمنه.
وقال الأكثرون حكم الآية في كل دين من سلم أو غيره أو تأخير ثمن في بيع،
وهو الأقوى لأنه العموم. فأما القرض فلا مدخل له فيه، لأنه لا يكون مؤجلا،
والقرض فيه ثواب جزيل وهو أفضل من الصدقة.
(فصل)
ثم قال تعالى (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) أي كاتب مأمون على ما يكتبه
يكتب بالسوية والاحتياط، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص، فقوله (بالعدل)
متعلق بكاتب صفة له.
وقيد أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط حتى يجئ مكتوبه معدلا بالشرع،
وهو أمر للمبتدئين بتخير الكاتب وان لا يستكتبوا الا فقيها دينا، ولا يمتنع أحد من
الكتاب أن يكتب كتابة الوثائق ولا يغير ولا يبدل.
وذكرنا كراهية الدين الا عند الضرورة.
ومن لا يملك شيئا يقضى به دينه فليقبل الصدقة ولا يتعرض للدين، لان الصدقة
حق جعلها الله له في الأموال.
وفى هذه الآية أحد وعشرون حكما: (إذا تداينتم) حكم (فاكتبوه) حكم،
(وليكتب بينكم) حكم، (بالعدل) حكم، (ولا يأب كاتب) حكم، (وليملل)
حكم، (ولا يبخس) حكم، (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) حكم، (أو ضعيفا)
حكم، (أولا يستطيع) حكم، (فليملل وليه) حكم (بالعدل) حكم واستشهدوا)
379

حكم، (شهيدين) حكم (1)، (من رجالكم) حكم، (فرجل وامرأتان) حكم،
(ممن ترضون من الشهداء) حكم، (ولا يأب الشهداء) حكم، (ولا تسأموا) حكم،
(الا أن تكون تجارة حاضرة) حكم، (وأشهدوا إذا تبايعتم) حكم، (ولا يضار كاتب)
حكم، (ولا شهيد) حكم (2).
(فصل)
حدث موسى بن بكر قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: من طلب الرزق
من حله ليعود به على عياله ونفسه كان كالمجاهد في سبيل الله، فان غلب عليه فليستدن
على الله وعلى رسوله ما يقوت به عياله، فان مات ولم يقضه كان على الامام قضاؤه
فإن لم يقضه كان عليه وزره، ان الله تعالى يقول (انما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين) (3) فهو فقير مسكين مغرم (4).
وعن سلمة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل منا يكون عنده الشئ
يتبلغ به وعليه دين، أيطعمه عياله حتى يأتي الله بميسرة فيقضي دينه أو يستقرض
على ظهره [في خبث الزمان وشدة المكاسب] (5) أو يقبل الصدقة؟ قال: يقضي بما
عنده دينه [ولا يأكل أموال الناس الا وعنده ما يؤدى به حقوقهم، ان الله تعالى يقول] (6)

(1) في التبيان (واستشهدوا شهيدين) حكم، (فرجل وامرأتان) حكم (ه‍ ج).
(2) لا يخفى ان ما عده المؤلف يكون ثلاثة وعشرين حكما لا واحد وعشرين كما ذكر،
وهذا الكلام مأخوذ من التبيان 2 / 379 وفيه أيضا ورد العدد غير صحيح.
(3) سورة التوبة: 61.
(4) الكافي 5 / 93.
(5) الزيادة من المصدر.
(6) الزيادة من م والمصدر.
380

(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض بينكم) 1 فلا يستقرض
على ظهره الا وعنده وفاء، ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة واللقمتين
[والتمرة والتمرتين] (2)، الا أن يكون له ولي يقضي دينه من بعده (3).
وهذا مخصوص بحال الغيبة فلا ينافي الأول.
(باب قضاء الدين وحكم المدين المعسر)
اعلم أن وجوب قضاء الدين يعلم ضرورة، ولذلك يعلمه كل عاقل لأنه من
الواجبات العقلية، ولما كان كذلك بين الله في كتابه بقوله (وإن كان ذو عسرة فنظرة
إلى ميسرة) (4) فان المدين متى كان معسرا لم يجز لصاحب الدين مطالبته والالحاح
عليه، بل ينبغي أن يرفق به وينظره إلى أن يوسع الله عليه.
وأشار سبحانه من فحوى الآية إلى وجوب قضاء الدين أيضا إذا طالبه صاحبه
إن كان حالا أو نزل محله، لان معناها وان وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة واعسار
فالحكم والامر نظرة، وهي من الانظار، إلى ميسرة أي إلى يسار. ويجوز أن يكون
(كان) ناقصة، والتقدير وإن كان ذو عسرة غريما لكم أو من غرمائكم إن كان معسرا
فعليه نظرة.
وهل الانظار واجب في كل دين أوفى دين الربا فقط، قيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها قال شريح وإبراهيم انه في دين الربا خاصة. والثاني قال ابن عباس في كل
دين، وهو قول أبى جعفر عليه السلام. الثالث أن المراد بالآية يجب في دين الربا،

(1) سورة النساء: 22.
(2) الزيادة من المصدر.
(3) الكافي 5 / 95.
(4) سورة البقرة: 280.
381

لان الكلام متصل بذلك. والثاني هو الصحيح، لعموم الكلام في كل دين، لان
لكل كلام حكم نفسه وان نزل في حكم خاص وسبب مخصوص.
واستدل على أنه يجب في كل دين بأنه لا يخلو اما أن يجب في ذمته أو في
رقبته أو في عين ماله، فلو كان في رقبته لكان إذا مات بطل وجوبه، ولو كان في
عين ماله كان إذا هلك ماله بطل وجوبه، فصح أنه في ذمته ولا سبيل له عليه في ذلك
من جنس أو غيره.
والغريم لا يخلو اما أن يكون له شئ أولا يكون، فإن لم يكن له شئ أصلا
يجب لصاحب الدين أن لا يلزمه ذلك ولا يحسبه. وان كانت له دار وكانت واسعة
كبيرة يستحب لصاحب الدين ان يصبر عليه، وإن كان له مال ومطل جاز للحاكم
حبسه، فان دافع به أيضا كان له أن يبيع متاعه ويقضى عنه ما وجب عليه.
وقوله (إلى ميسرة) معناه إلى أن يوسع الله عليه. وقال أبو جعفر عليه السلام
إلى أن يبلغ خبره الامام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه [في معروف (1)،
وإن كان لا يعلم في ماذا أنفقه أو علم أنه أنفقه] (2) في معصية لم يجب عليه القضاء عنه،
بل إذا وسع الله عليه قضى عن نفسه.
ويجوز أن يعطى من سهم الفقراء والمساكين شئ ويقضي هو به دينه (3).
(فصل)
ثم قال تعالى (وأن تصدقوا خير لكم) معناه وتصدقكم على المعسر بما عليه
من الدين خير لكم.

(1) التبيان 2 / 369.
(2) الزيادة من م.
(3) في ج (ويقضى هو دينه).
382

(وان تصدقوا خير لكم) ندب إلى أن يتصدقوا برؤس أموالكم وبديونكم
كلها على من أعسر من غرمائكم أو ببعضها، [لقوله (وان تعفوا أقرب للتقوى) (1).
وقيل أريد بالتصدق الانظار] (2) لقوله عليه السلام: لا يحل دين رجل مسلم
فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة.
(ان كنتم تعلمون) انه خير لكم فتعلموا به، جعل من لا يعلم به وان علمه
كان لا يعلمه، والصدقة أحسن لقوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها والله يضاعف
لمن يشاء) (3).
وسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام رجل فقال: ان الله تعالى يقول (وإن كان
ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها الله في كتابه لها حد
يعرف به إذا صار المعسر إليه لابد له من أن ينظر وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه
على عياله وليس له غلة ينتظر ادراكها ولا دين ينتظر محله ولا مال غائب ينتظر قدومه
قال: نعم ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الامام فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين
إذا كان أنفقه في طاعة الله، وإن كان أنفقه في معصية الله فلا شئ له على الامام.
[قيل: فإن لم يعلم] (4) فيما أنفقه أفي طاعة الله أم في معصيته. قال: يسعى له في ماله
فيرده عليه وهو صاغر (5).
(باب القرض)
قال الله تعالى (ان تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم) (6) الآية،

(1) سورة البقرة: 237.
(2) الزيادة من م.
(3) سورة البقرة: 261.
(4) في المصدر بدل هذه الجملة (قلت: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم).
(5) الكافي 5 / 93.
(6) سورة التغابن: 17.
383

القرض على ما روي بثماني عشر، والآية تدل على زيادة فضله على الصدقة.
والمراد ان تقرضوا أيها الأغنياء الفقراء الذين هم أولياء الله، لأنه تعالى هو الغني
على الحقيقة لا يحتاج إلى شئ.
وقال الصادق عليه السلام في قوله تعالى (لاخير في كثير من نجواهم الا من
أمر بصدقة أو معروف) (1). قال: يعني بالمعروف القرض (2). وانما حرم الربا ليتقارض
الناس.
قال أبو جعفر عليه السلام: من أقرض قرضا إلى ميسرة كان ماله في زكاة، وكان
هو في صلاة من الملائكة حتى يقضيه (3).
وإذا أقرض انسان مالا فرد المستقرض عليه أجود منه من غير شرط لم يكن به
بأس، وكذلك ان رد عليه زيادة على ما أخذ من غير شرط، لقوله تعالى (وإذا حييتم
بتحية فحيوا بأحسن منها أوردوها).
(باب قضاء الدين عن الميت)
قال الله تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين) (4).
يجب أن يقضى الدين عن الميت من أصل تركته، وهو أول ما يبدأ به بعد
الكفن، ثم تليه الوصية.
فان قيل: لم قدمت الوصية على الدين في الآية والدين مقدم عليها في الشريعة.
قلنا: لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض كان

(1) سورة النساء: 114.
(2) تفسير البرهان 1 / 415.
(3) في الوسائل 13 / 87 قريب من هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وآله.
(4) سورة النساء: 11.
384

اخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين
فان نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة
إلى اخراجها بعد الدين.
وقضاء الدين عند حلول الأجل انما يجب مع المطالبة، فمن مات وعليه دين
مؤجل حل أجل ما عليه ولزم ورثته الخروج عما كان عليه من ماله وتركته، وكذلك
إن كان له دين (1) مؤجل حل أجل ماله وجاز للورثة المطالبة به في الحال.
ومطل الدين ودفعه مع القدرة ظلم، فمن عليه دين لا ينوي قضاءه كان بمنزلة
السارق، وإذا كان عازما على قضائه أعانه الله عليه وكان له بذلك أجر كبير، فان
حضرته الوفاة أوصى إلى من يثق به أن يقضي عنه.
وانما قدم الله الوصية على الدين في القرآن في الآيتين في سورة النساء مع
وجوب البدءة بالدين ثم بالوصية - على ما أمر به على لسان رسوله - لان أولا
يوجب الترتيب لأنه لاحد الشيئين، فكأنه قال من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما
إلى الاخر، ولان وجوب رد الدين يعلم عقلا، فقدم الله في اللفظ الوصية عليه اشعارا
بأنه أيضا واجب، وان اخراج الدين من أصل التركة واخراج الوصية من ثلثها.
على أن الوصية أعم من الدين فحسن تقديمها لفظا، فان الدين يدخل فيها فالمحتضر
يوصي بدينه. والغالب من أحوال من يحضره الموت الوصية، والدين لا يكون
الا نادرا.
(باب الصلح)
وهو من توابع الدين وغيره، فربما يضطر فيه إليه.
قال الله تعالى (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) (2).

(1) في م (عليه دين).
(2) سورة النساء: 128.
385

وهذا على العموم، فالصلح جائز بين المسلمين ما لم يؤد إلى تحريم حلال
أو تحليل حرام.
وقال تعالى (لاخير في كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو
اصلاح بين الناس) (1).
فعلى هذا إذا كان لرجلين لكل واحد عند صاحبه شئ تعين لهما ذلك أولم
يتعين فاصطلحا على أن يتتاركا ويتحللا كان جائزا. وكذلك من كان له دين على غيره
آجل فيقضي عنه شيئا وسأل تعجيل الباقي كان سائغا لقوله تعالى (ان يريدا اصلاحا
يوفق الله بينهما) (2).
والشريكان إذا تقاسما واصطلحا على أن يكون الربح والخسران على واحد
منهما ويرد على الاخر رأس ماله على الكمال أيضا جائز، لقوله تعالى (فأصلحوا
بينهما).
وهذه الآيات كلها بعمومها تدل على كل صلح لا يخالف الشريعة.
والصلح ليس بأصل في نفسه، وانما هو فرع على العين، وهو على خمسة
أضرب.
(باب الكفالة)
قال تعالى حكاية عن يعقوب (لتأتيني به الا أن يحاط بكم) (3) وقول ولده ليوسف
(فخذ أحدنا مكانه) (4) وذلك كفالة البدن.
واعلم أن الكفالة بالنفس والمال في الشرع جائزة، ولا تصح الا بأجل وان

(1) سورة النساء: 114.
(2) سورة النساء: 35.
(3) سورة يوسف: 66.
(4) سورة يوسف: 78.
386

كانت الكفالة ندامة وغرامة، قال تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) (1) اي
كفيل به وضمين له، وأنشد:
فلست بآمن فيها بسلم * ولكني على نفسي زعيم (2)
وانما قال (وأنا به زعيم) وقبله ذلك جمع (قالوا نفقد صواع الملك) لان
زعيم القوم يتكلم عنهم.
وسأل أبا عبد الله عليه السلام أبو العباس عن الرجل يكفل بنفس الرجل إلى
اجل فإن لم يأت به فعليه كذا وكذا؟ قال: ان جاء به إلى أجل فليس عليه مال وهو
كفيل بنفسه أبدا إلى أن يبدأ بالدراهم [فأن بدأ بالدراهم] فهو له ضامن ان لم يأت
به إلى الاجل الذي أجله (3).
بيان ذلك: ان من ضمن غيره إلى اجل فإن لم آت به كان علي كذا، وحضر
الاجل لم يلزمه الا احضار الرجل، وان قال علي كذا إلى كذا ان لم أحضر فلانا ثم
لم يحضره وجب عليه ما ذكره من المال.
وإذا تكفل رجل ببدن رجل لرجل عليه مال أو يدعي عليه مالا، ففي الناس
من قال يصح ضمانه، وفيهم من قام لا يصح ضمانه. والأول أقوى، للآية التي
تقدمت.
(باب الحوالة)
هي عقد من العقود يجب الوفاء به، لقوله تعالى (أوفوا بالعقود) (4). ووجوب
الوفاء يدل على جوازه.

(1) سورة يوسف: 72.
(2) انظر التبيان 6 / 171.
(3) وسائل الشيعة 13 / 157 والزيادة منه.
(4) سورة المائدة: 1.
387

وقال النبي صلى الله عليه وآله: إذا أحيل أحدكم على ملي فليحتل.
وأجمعت الأمة على جواز الحوالة وان اختلفوا في مسائل منها.
والحوالة مشتقة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، يقال: أحاله بالحق عليه
تحيله واحتال قبله الحوالة.
والحوالة انما تصح في الأموال التي هي ذوات أمثال، ولا تصح الا بشرطين:
اتفاق الحقين في الجنس والنوع والصفة، وأن يكون الحق مما يصح فيه أخذ البدل
قبل قبضه.
وقد بينا أن الضمان جائز للكتاب والسنة، فالكتاب ما تلوناه من سورة يوسف
من قوله (وأنا به زعيم).
وليس لاحد أن يقول: ان الحمل مجهول لا يصح الكفالة به والضمان فيه،
وذلك أن الحمل حمل بعير وهو ستون وسقا عند العرب.
وأيضا فإنه مال الجعالة، وذلك عندنا يصح ضمانه لأنه يؤول إلى اللزوم،
ومن لم يجز ضمان مال الجعالة وضمان مال المجعول قال أخرجت ذلك بدليل
والظاهر يقتضيه.
وخطب النبي عليه السلام يوم فتح مكة فقال في خطبته: العارية مؤداة والمنحة
مردودة والدين مقضى والزعيم غارم. يعني الكفيل يغرم.
فإذا ثبت صحة الضمان فمن شرطه وجود ثلاثة اشخاص: ضامن، ومضمون
له، ومضمون عنه. وليس من شرط الضمان معرفتهما. والله أعلم.
(باب الوكالة)
قال الله تعالى حكاية عن أصحاب الكهف (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى
المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه) (1). أي قال بعضهم لبعض: ابعثوا

(1) سورة الكهف: 19.
388

من يتصرف لكم في البيع والشراء. فلما قبل المبعوث القيام بما وكلوه إليه وضمن
ما وكلوه فيه فقد صار وكيلا لهم ويصح شراؤه وبيعه.
وقال تعالى (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) (1).
و (الفتى) الرجل الشاب، وانما أضيف موسى لأنه كان يخدمه ويكل هو إليه
كثيرا من أموره الدنياوية وموكله فيها، والعرب تسمي خادم الرجل ووكيله (فتاه)
وإن كان شيخا.
والوكالة يعتبر فيها شرط الموكل، ان شرط في خاص من الأشياء لم يجز
له فيما عداه، ألا ترى إلى قوله (فلينظر أيها أزكى طعاما).
وقوله (أزكى طعاما) أي أنمى بأنه طاهر حلال، لان أهل تلك المدينة كان
أكثرهم كفارا وقت خروجهم منها، كانوا يذبحون للأوثان وهم أرجاس، فأشاروا
بأن لا يشتري غير الطعام الطاهر. و (فليتلطف) في شرائه واخفاء أمره (ولا يشعرن
بكم أحدا) وان ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع هو فيه.
وان شرط الموكل أن تكون الوكالة عامة كان هو الوكيل على العموم.
وروي عن جابر أنه قال: أردت الخروج إلى حنين (2) فأتيت رسول الله صلى الله
عليه وآله وقلت: اني أريد الخروج إلى حنين (2). فقال عليه السلام: إذا اتيت وكيلي فخذ منه
خمسة عشر وسقا، فان ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته (3). فأثبت عليه السلام
لنفسه وكيلا.
وكل عليه السلام أيضا حكيما بن حزام في شراء شاة.
ومن وكل غيره في مطالبة أو محاكمة وقبل الغير ذلك منه صار وكيله، يجب

(1) سورة الكهف: 62.
(2) في ج (إلى خيبر) في الموضعين.
(3) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث 7 / 306.
389

له ما يجب لموكله ويجب عليه ما يجب على موكله، الا ما يقتضيه الاقرار من الحدود
والآداب والايمان.
(فصل)
ومن وكل رجلا على امضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة ابدا حتى يعلمه
بالخروج منه كما اعلمه بالدخول فيه. وعن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه
السلام في رجل قال لاخر اخطب لي فلانة فما فعلت في شئ من صداق أو ضمنت
من شئ أو شرطت فذلك رضائي وهو لازم لي، ولم يشهد على ذلك، فذهب فخطب
له وبذل عنه الصداق وغير ذلك مما طالبوه وسألوه، فلما رجع إليه أنكر هو ذلك
كله. قال: يغرم لها نصف الصداق عنه، وذلك أنه هو الذي ضيع حقها لما لم يشهد
عليه بذلك الذي قال له، وحل لها ان تتزوج، ولا يحل للأول فيما بينه وبين الله ان
يطلقها، لان الله يقول (فامساك بمعروف أو تسريح باحسان) (1)، فإن لم يفعل فإنه مأثوم
فيما بينه وبين الله (2).
ولا يجوز لحاكم ان يسمع من متوكل لغيره الا بعد أن تقوم له عنده البينة
بثبوت وكالته عنه.
وسئل عليه السلام عن رجل قبض صداق بنته من زوجها ثم مات هل لها ان
تطالب زوجها بصداقها أو قبض أبيها قبضها؟ فقال عليه السلام: ان كانت وكلته
بقبض صداقها من زوجها فليس لها ان تطالبه، وان لم تكن وكلته فلها ذلك ويرجع
الزوج على ورثة أبيها بذلك، الا أن تكون صبية في حجره فيجوز لأبيها ان يقبض
عنها. (3)

(1) سورة البقرة: 229.
(2) وسائل الشيعة 13 / 288.
(3) وسائل الشيعة 13 / 290.
390

ومتى طلقها قبل الدخول فعفى عن بعض المهر من له العفو جاز ذلك، وليس
له ان يعفو عن جميع المهر، وهو الذي بيده عقدة النكاح من أحد ثلاثة، وذلك
قوله (الا ان يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح)، يعنى الأب والجد مع وجود
الأب والذي توكله المرأة وتوليه أمرها من الجد مع عدم الأب أو أخ أو قرابة
أو غيرهما.
(فصل)
فإذا ثبت جواز الوكالة فالكلام بعد في بيان ما يجوز التوكيل فيه وما لا يجوز،
ونأتي به على كتب الفقه:
فالطهارة لا يصح التوكيل فيها، وإذا استعان بغيره في صب الماء عليه على
كراهة فيه، أو غسل أعضائه على خلاف فيه، لان عندنا لا يجوز ذلك مع القدرة،
وينوي هو بنفسه رفع الحدث مع الضرورة، وذلك ليس بتوكيل وانما هو استعانة
على فعل عبادة.
والصلاة لا يجوز التوكيل فيها، ولا يدخلها النيابة ما دام هو حيا الا ركعتي
الطواف تبعا للحج.
والزكاة يصح التوكيل في اخراجها عنه وفى تسليمها إلى أهل السهمان (1) ويصح
من أهل السهمان التوكيل في قبضها.
والصيام لا يصح التوكيل فيه، ولا يدخله النيابة ما دام حيا، فإذا مات وعليه
الصوم أطعم عنه وليه أو صام عنه في الموضع الذي وجب عليه وفرط فيه. وكذا
في الصلاة على بعض الوجوه.
والاعتكاف لا يصح التوكيل فيه بحال ولا يدخله النيابة بوجه.

(1) بضم السين جمع السهم وهو النصيب - انظر الصحاح 5 / 1956.
391

والحج لا يدخله النيابة مع القدرة عليه بنفسه، فإذا عجز عنه بزمانة أو موت
أو منع دخلته النيابة.
والبيع يصح فيه التوكيل مطلقا في ايجابه وقبوله وتسليم المال فيه وتسلمه.
وكذا يصح التوكيل في عقد الرهن وفي قبضه.
ولا يتصور التوكيل في التفليس.
واما الحجر فللحاكم ان يحجر بنفسه، وله ان يستنيب غيره فيه.
والصلح في معنى البيع يصح التوكيل فيه.
والحوالة يصح فيها التوكيل، وكذا في عقد الضمان والشركة.
ويصح أيضا التوكيل في الوكالة [فيوكل رجلا في توكيل آخر] (1) عنه.
والاقرار هل يصح فيه التوكيل أم لا؟ فيه خلاف.
والعارية يصح فيها التوكيل لأنها هبة خلاف.
والعارية يصح فيها التوكيل لأنها هبة منافع.
والغصب لا يصح التوكيل فيه، فإذا وكل رجل في الغصب فغصبه فالحكم
يتوجه على الذي باشر الغصب، كما يتوجه عليه بأن لو غصبه بغير أمر أحد.
والشفعة يصح التوكيل في المطالبة بها.
وكذا يصح في القراض والمساقاة والإجارة واحياء الموات.
وكذا التوكيل في العطايا والهبات والوقف.
ولا يصح التوكيل في الالتقاط، فإذا وكل غيره في التقاطه لقطة تعلق الحكم
بالملتقط لا بالامر، وكان الملتقط بها أولى.
والميراث لا يصح التوكيل فيه الا في قبضه واستيفائه.
والوصايا يصح التوكيل في عقدها وقبولها.
والوديعة يصح التوكيل فيها أيضا.

(1) الزيادة من ج.
392

وقسم الفئ فللام أن يتولى قسمته بنفسه وله أن يستنيب غيره فيه.
والصدقات حكمها حكم الزكوات، وقد قلناه.
والنكاح يصح فيه التوكيل في الولي والخاطب، وكذا التوكيل في الصدقات
يصح أيضا، [ويصح التوكيل في الخلع لأنه عقد بعوض] (1) ولا يصح التوكيل في
القسم بين الزوجات لان الوطأ يدخل فيه فلا نيابة فيه.
واما الطلاق فيصح التوكيل فيه، يطلق عنه الوكيل مع غيبته، والرجعة فيها
خلاف ولا يمتنع ان يدخلها التوكيل.
والرضاع لا يصح فيه التوكيل، لأنه يختص التحريم بالمرضع والمرضع (2).
و [النفقات يصح التوكيل في طرفها إلى من يجب، ولا] (3) يصح التوكيل في
الايلاء والظهار واللعان لأنها أيمان.
والعدد لا يدخلها النيابة ولا يصح فيها التوكيل، [والجنايات لا يصح فيها
التوكيل] (3) فكل من باشر الجناية تعلق به حكمها.
والقصاص يصح في اثباته التوكيل ولا يصح في استيفائه يحضره الولي ويصح
في غيبته عندنا.
والديات يصح التوكيل في تسليمها وتسلمها.
والقسامة لا يصح فيها التوكيل لأنها أيمان.
والكفارات يصح التوكيل فيها كما يصح في الزكوات.
وقتال أهل البغي للامام أن يستنيب فيه.
والحدود للامام أيضا أن يستنيب في اقامتها، ولا يصح التوكيل في تثبتها،
لأنه لا تسمع الدعوى فيها.

(1) الزيادة من ج.
(2) بكسر الضاد في الأول وفتحه في الثاني.
(3) الزيادتان من ج.
393

وحد القذف حق الآدميين حكمه حكم القصاص يصح التوكيل فيه.
والأشربة لا يصح التوكيل فيها، فكل من شرب الخمر فعليه الحد دون غيره.
والجهاد لا يصح النيابة فيه بحال، لان كل من حضر الصف توجه فرض
القتال وكيلا كان أو موكلا. وقد روى أصحابنا أنه يدخله النيابة على بعض الوجوه
والأقوى أن لا يدخل الجزية التوكيل.
[والذبح يصح التوكيل فيه.
وكذا السبق والرماية، لأنه إجارة أو جعلا وكلاهما يدخل فيه التوكيل] (1).
والايمان والنذور لا يصح التوكيل فيها.
والقضاء يصح النيابة فيه.
وكذا في الشهادات يصح الاستنابة فيها، فتكون شهادة على شهادة، وليس ذلك
بتوكيل.
والدعوى يصح التوكيل فيها، لان كل أحد لا يكمل للمخاصمة والمطالبة.
والعتق والتدبير والكتابة يصح التوكيل فيها.
(باب اللقطة والضالة)
قال الله تعالى (وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة) (2).
والأصل في ذلك السنة، ويمكن الاستدلال عليها من القرآن بما تلوناها وبقوله
تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (3).
وكل ما يلتقط من الآدميين فحكمه أن يكون حرا، سواء وجد في دار الاسلام
أو في دار الحرب.
فأما اللقطة فإنه يجوز أخذ كل ما كان قيمته دون الدرهم منها من غير ضمان

(1) الزيادة من م.
(2) سورة يوسف: 10.
(3) سورة القصص: 8.
394

ولا تعريف، وكذا ما يوجد في موضوع خرب مدفونا لامن اثر أهل الزمان، وعلى
خلافه ما يوجد في الحرم.
وما يجده الانسان في غير الحرم وكان درهما فما فوقه، فإنه يجب تعريفه سنة،
فإن لم يجئ صاحبه كان كسبيل ماله، الا أنه يكون ضامنا له متى جاء صاحبه.
والشاة متى وجدها في برية فليأخذها وهو ضامن لقيمتها، فان وجدها في العمران
حبسها ثلاثة أيام، فان جاء صاحبها والا تصدق بها عنه.
(باب الزيادات)
أما معنى قوله (فاكتبوه) في آية المعاملة بالدين، أي فاكتبوا الدين في صك
كيلا يقع فيه جحود أو نسيان، وليكون ذلك نظرا للذي عليه الحق وللذي له الحق
وللشهود، فوجه النظر للذي عليه الحق أن يكون أبعد به من الجحود فلا يستوجب
النقمة والعقوبة، ووجه النظر للذي له الحق أن يكون حقه موثوقا بالصك والشهود
فلا يضيع حقه، ووجه النظر للشهود أنه إذا كتب خطه كان ذلك أقوم للشهادة وأبعد
من السهو وأقرب إلى الذكر
(مسألة):
روي عن أبان عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يكون
عليه دين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه ويقول: أنقدني من الذي لي كذا وكذا وأضع
لك بقيته، أو يقول: أنقدني بعضا وأمد لك في الاجل فيما بقي؟ فقال: لا أرى بأسا
ما لم يزد على رأس ماله شيئا، يقول الله تعالى (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون
ولا تظلمون) (1).

(1) سورة البقرة: 279، وانظر تفسير البرهان 1 / 259.
395

(مسألة):
وعن الصادق عليه السلام وقد سأله يزيد العجلي أن علي دينا لأيتام وأخاف
ان بعت ضيعتي بقيت ومالي شئ. فقال: لاتبع ضيعتك ولكن اعط بعضا وأمسك
بعضا (1).
وعن سماعة بن مهران فيمن عليه الدين؟ قال: يقضي بما عنده دينه ولا يأكل
أموال الناس الا وعنده ما يؤدى إليهم حقوقهم، ان الله تعالى يقول (ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل) (2).
(مسألة):
وعن الصادق عليه السلام: أفضل ما يستعمله الانسان في اللقطة إذا وجدها أن
لا يأخذها ولا يتعرض لها، فلو أن الناس تركوا ما يجدونه لجاء صاحبه وأخذه.
وسئل عن الأضحية يوجد في جوفها جوهر أو غيره من المنافع؟ فقال عليه
السلام: عرفها البائع، فإن لم يعرفها فالشئ لك رزقك الله إياه (3).
وأما ما يكون حكمه حكم اللقطة فقد سئل عليه السلام عمن أودعه اللص سرقة
ولاخوف على المودع فيه. فقال: لا يردها عليه، فان أمكنه أن يردها على صاحبها
فعل والا كان في يده بمنزلة اللقطة يعرفها حولا فان أصاب صاحبها والا تصدق بها عنه.

(1) الكافي 5 / 97.
(2) سورة البقرة: 188. وانظر الكافي 5 / 95.
3) الكافي 5 / 139.
396

كتاب الشهادات
لا يجوز للشاهد أن يشهد حتى يكون عالما بما يشهد به حين التحمل وحين
الأداء، لقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) (1) وقال (الا من شهد بالحق) (2).
وقال ابن عباس: سئل رسول الله عليه السلام عن الشهادة فقال: هل ترى
الشمس؟ فقال: نعم. قال: على مثلها فاشهد أودع.
وما يصير به عالما من وجوه ثلاثة: سماعا، أو مشاهدة، أوبهما:
أما ما يقع له به مشاهدة فالافعال كالغصب والسرقة والقتل والقطع والرضاع
والولادة واللواط والزنا وشرب الخمر، فله أن يشهد إذا علم الشاهد ولا يصير به
عالما بغير مشاهدة.
وأما ما يقع العلم به سماعا فثلاثة أشياء: النسب والموت، والملك المطلق.
وأما ما يحتاج إلى سمع والى مشاهدة فهو كالشهادة على العقود كالبيع
والسلم والصلح والإجارات والنكاح ونحو ذلك، لابد فيها من مشاهدة المتعاقدين

(1) سورة الإسراء: 36.
(2) سورة الزخرف: 86.
397

وسماع كلام العقد منهما، لأنه لا يمكن تحمل الشهادة قطعا الا كذلك.
وليس عندنا عقد من العقود من شرطه الشهادة أصلا عند الفقهاء كذلك الا
النكاح وحده (1)، وأما الطلاق فمن شرطه اشهاد رجلين عدلين في مجلس واحد.
وقال داود: الشهادة واجبة على البيع لقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) (2)،
ولقوله عليه السلام: ثلاثة لا يستجاب لهم دعوة: من باع ولم يشهد، ورجل دفع
ماله إلى سفيه، ورجل له امرأة فيقول اللهم خلصني منها ولا يطلقها.
وعندنا الآية والخبر يحملان على الاستحباب.
(باب تعديل الشهود ومن تقبل شهادته)
قال الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) (3) أي اطلبوا ان يشهد لكم
شهيدان من رجالكم من رجال المؤمنين، والمعنى بالغوا في طلب من يعلم بتعاملكم
وهو شهيدان، أي رجلان من أهل الفضل والعدل، لكي ان اختلفتم يبينا الحق من
الباطل بما عرفاه من قبل.
والشهادة العلم، والسين للطلب والسؤال. وقال (شهيدين) ولم يقل رجلين
ليستغني عن ذكر عدلين، لأنه تعالى قال (وأشهدوا ذوي عدل منكم).
و (الشهيد) اسم للرجل العدل، وهو أبلغ من (شاهد). و (العدل) هو من ظاهره
ظاهر الايمان، ويعرف باجتناب الكبائر، ويعرف بالصلاح والعفاف حافظا على
الصلوات.
وقال مجاهد في قوله تعالى (من رجالكم) أي من رجالكم الأحرار المسلمين

(1) في ج (الا البيع والنكاح وحدهما).
(2) سورة البقرة: 272.
(3) سورة البقرة: 282.
398

دون الكفار والعبيد. وقال شريح والبستي وأبو ثور: الحرية ليست شرطا في قبول
الشهادة. وعندنا هذا هو الصحيح، وانما الاسلام شرط مع العدالة.
ولم يقل واستشهدوا شهيدين من رجالكم في ذلك اشعارا بأن الاشهاد كما يعتبر
في الدين والسلم يراعى في أشياء كثيرة.
(فصل)
ثم قال تعالى (فإن لم يكونا رجلين) أي فإن لم يكن الشهيدان رجلين، يعنى
ان لم يحضر من يستأهل أن يكون شهيدا من جملة الرجال رجلين (فرجل وامرأتان)
أي فليشهد رجل وامرأتان.
والحكم بالشاهد والمرأتين يختص بما يكون مالا أو المقصود به المال، فأما
الحدود التي هي حق الله وحقوق الآدميين وما يوجب القصاص فلا يحكم فيها بشهادة
رجل وامرأتين الا في الرحم وحد الزنا والدم خاصة، لئلا يبطل دم امرئ مسلم،
فإنه إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان على رجل بالزنا وجب عليه الرجم إن كان محصنا،
وان شهد بذلك رجلان وأربع نسوة لا يرجم المشهود عليه بل يحد حد الزاني، وان
شهد رجل وست نسوة بذلك جلدوا كلهم حد القذف.
ويجوز شهادة رجل وامرأتين على رجل بالجرح أو القتل، غير أنه لا يثبت
بشهادتهن القود ويجب بها الدية على الكمال. فأما شهادتهن بذلك على الانفراد
فإنها لا تقبل على حال.
وتقبل شهادتهن في الديون ونحوها على ما ذكرناه مع الرجال وعلى الانفراد.
وكذلك عندنا في الشاهد واليمين حكم الشاهد والمرأتين سواء. وهذا في الدين
ونحوه مما القصد به المال خاصة.
ومن شجون الحديث ما روي أن أبا حنيفة سأل جعفر بن محمد عليهما السلام
399

عن شاهد واحد واليمين، فقال: تقبل شهادة واحد ويحلف مع ذلك صاحب الدين
ويقضى له به. فقال أبو حنيفة: كلام الله (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) و (رجل
وامرأتان) فقال عليه السلام: وهل فيه انه لا يجوز اليمين مع شاهد واحد؟ فانقطع،
ثم قال عليه السلام: وأنت تحير الحكم فيما هو أعظم منه برجل واحد فقط إذا عرف
من يشهد شهودا على نفسه وهم لا يعرفونه، فلم يحر جوابا.
ولا يجوز أن يشهد الانسان الاعلى من يعرفه، فان اشهد على من لا يعرفه فليشهد
بتعريف من يتق الله رجلين مسلمين، وإذا أقام الشهادة أقامها كذلك، وفحوى الآية
تدل على ذلك.
وقوله (ان لم يكونا رجلين) التقدير فإن لم يكن رجلين لكنه ثنى لما تقدم
ذكر الشهيدين. ولو قال فإن لم يكونا لكفى من ذكر الرجلين، لكنه أعاد ذكر الرجلين
توكيدا وتثبيتا.
وفي الضمير الذي في (كانا) فائدة، وهو أن يكون كناية عن شهيدين، ولو
قال فإن لم يكن لجوز السامع ألا تكون العدالة معتبرة ههنا.
ونحوه قوله (فان كانتا اثنتين) ثم قال (فرجل وامرأتان) أي فليكن رجلا
وامرأتان، ولابد من تقدير حذف المضاف، أي فليحدث شهادة رجلين أو امرأتين
أو فليكن - قاله أبو علي.
(فصل)
وقوله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) أي ممن تعرفون عدالتهم (أن تضل
أحداهما) أي أن لا تهتدي إحداهما للشهادة، بأن تنساها، من ضل الطريق إذا لم يهتد
له. وانتصابه على أنه مفعول له، أي إرادة أن تضل.
فان قيل: كيف يكون ضلالها مراد الله؟
400

قيل: لما كان الضلال سببا للاذكار والأذكار مسببا عنه وهم ينزلون كل واحد
من السبب والمسبب بمنزلة الاخر لالتباسهما واتصالهما كانت إرادة الضلال المسبب
عنه الأذكار عنه إرادة للاذكار، فكأنه قيل إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى ان
ضلت. ونظيره قولهم: أعددت الخشبة ان يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح
ان يجئ عدو فأدفعه.
وقوله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) فيه ذكر يعود إلى الموصوفين اللذين
هما (فرجل وامرأتان)، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المقدم ذكرهما،
لاختلاف اعراب الموصوفين. ألا ترى أن (شهيدين) منصوبان و (رجل وامرأتان)
اعرابهما الرفع. وإذا كان كذلك علمنا أن الوصف الذي هو ظرف انما هو وصف
لقوله (فرجل وامرأتان) دون من تقدم ذكرهما من الشهيدين.
وقوله (أن تضل) لا يتعلق بقوله (واستشهدوا) ولكن يتعلق أن بفعل مضمر
يدل هو عليه، أي واستشهدوا رجلا وامرأتين أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
وقيل تقديره فرجل وامرأتان، ويكون يشهدون خبر المبتداء، والمفعول الثاني من
ذكر محذوف، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى شهادتهما.
وقراءة حمزة على الشرط ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما بالرفع والتشديد
كقوله (ومن عاد فينتقم الله منه)، والشرط والجزاء وصف المرأتين، لان الشرط
والجزاء جملة يوصف بها كما يوصل بها في قوله (الذين ان مكناهم في
الأرض) (1) الآية.
وقال أبو عبيدة معنى (ان تضل) ان تنسى، نظيره (فعلتها إذا وانا من الضالين) (2)
أي نسيت وجه الامر.

(1) سورة الحج: 41.
(2) سورة الشعراء: 20.
401

(فصل)
ومن بدع التفاسير (فتذكر) أي فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا، يعنى انهما إذا
اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر. والمعنى ان لم يحضر رجلان من الشهداء الذين خبرت
أحوالهم، فحمدت أحوالهم بالكف عن البطن والفرج واليد واللسان واجتناب
شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين وغير ذلك، يسترون عيوبهم ويتعاهدون
الصلوات الخمس ويتوفرون على حضور جماعة المسلمين، غير متخلفين عنهم الا
لمرض أو علة أو عذر. يستشهد رجل وامرأتان من الشهداء الذين وصفناهم لكي
ان نسيت إحدى المرأتين ذكرتها الأخرى. ولم يوجب هذا الحكم في الرجال،
لأنهم من النسيان أبعد والى التحفظ والتيقظ أقرب.
ويمكن أن يقال في (أن تضل إحداهما): ان المرادان تنسى إحدى البينتين
تذكرها شهادة الأخرى، فيكون الكلام عاما في الرجال والنساء. وهذا صحيح لأنه
لا يجوز أن يقيم الانسان شهادة الا على ما يعلم، ولا يعول على ما يجد به خطه، فان
وجد خطه مكتوبا ولم يذكر الشهادة لم يجز له اقامتها، فإن لم يذكر هو ويشهد معه
آخر ثقة جاز له حينئذ إقامة الشهادة.
ويعتبر في شهادة النساء الايمان والستر والعفاف وطاعة الأزواج وترك البذاء
والتبرج إلى أندية الرجال.
(باب ذكر ما يلزم الشهود)
ولما ذكر الله ما يلزم المستشهد من الواجبات والمندوبات ذكر بعده ما يلزم
الشهداء فقال (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) ليقيموا الشهادة، فعلى هذا يكون إشارة
إلى أنه متى دعي الانسان لإقامة شهادة لم يجز له الامتناع منها على حال، الا إذا علم
402

أن من عليه الدين معسر فان شهد عليه حبسه فاستضر هو به وعياله.
وقيل: لا يأب الشهداء إذا ما دعوا ليستشهدوا.
وانما قال لهم شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يساوق منزلة الكائن، وقد أشار
سبحانه بهذا إلى أنه لا يجوز أن يمتنع الانسان من الشهادة إذا دعي إليها ليشهد
بها إذا كان من أهلها، الا أن يكون حضوره مضرا لشئ من أمر الدين أو بأحد
من المسلمين.
وعن قتادة: كان الرجل يطوف بين خلق كثير فلا يكتب له أحد، فنزل (ولا
تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله)، كنى بالسأم عن الكسل لان الكسل صفة
للمنافق، ومنه الحديث (لا يقول المؤمن كسلت).
ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته، فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير
كتابا فربما قل كثرة الكتب.
والضمير في (يكتبوه) للدين أو للحق (صغيرا أو كبيرا) على أي حال كان
الحق من صغير أو كبير. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وان يكتبوه مختصرا
أو مشبعا.
ولا تخلوا بكتابته إلى أجله أي إلى وقته الذي اتفق الفريقان على تسميته،
قال الزجاج: هذا يؤكد أن الشهادة ابتداءا واجبة، والمعنى لا تسأموا أن تكتبوا
ما شهدتم عليه، ولا حاجة إلى ما يؤكد به وجوب إقامة الشهادة.
وقال ابن جريج عذرا للأول: (لا تسأموا) خطاب للمتداينين، يقول اكتبوا
ما تتعاملون عليه بدين صغيرا كان الحق أو كبيرا (ذلكم) إشارة إلى ما تكتبوه، لأنه
في معنى المصدر، أي ذلك الكتب (أقسط) أي أعدل، من القسط (وأقوم للشهادة)
وأعون على إقامة الشهادة (وأدنى ألا ترتابوا) أي أقرب من انتفاء الريب، وانما
قال إنه أصوب للشهادة لان الشهادة حينئذ أقرب إلى أن تأتوا بألفاظ المستدين وما
403

يقع عليهم غلط النسيان، وأنتم مع هذا أقرب إلى أن تشكوا فيما يشهد به الشهود
عليكم من الحق والأجل إذا كانا مكتوبين.
(فصل)
وقد ذكر الله سبحانه في أول هذه الآية قبل الامر بالاستشهاد النهي عن الامتناع
من الكتابة، قال (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) والنهي يقتضي تحريم
الامتناع. وقال عامر الشعبي: هو فرض على الكفاية كالجهاد.
وجوز الجبائي أن يأخذ الكاتب والشاهد الأجرة على ذلك، وعندنا لا يجوز
ذلك للشاهد.
والورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين، ويكون
الكتاب في يده لأنه له. وقال السدي: ذلك واجب على الكاتب في حال فراغه.
وقال مجاهد هو واجب. وقال الضحاك نسخها قوله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد).
وقوله تعالى: (أن يكتب كما علمه الله فليكتب) يعني الكاتب (وليملل
الذي عليه الحق) أمر لمن عليه الحق بالاملاء (وليتق الله ربه) معناه لا يملل الا
الذي عليه الحق. والمراد بالامر الذي عليه الدين بالاملاء الندب دون الايجاب،
لأنه لو أملى غيره وأشهد هو كان جائزا بلا خلاف ولا ينقص منه شيئا. والبخس
النقص ظلما، ومنه قوله (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) أي لا تنقصوهم ظالمين لهم.
والبخس فوق الغبن، وفى هذا ايجاز وحذف، لان المدين المملي ان أراد أن يحط
في املائه من المال شيئا فان الدائن يمنعه ذلك، وان تمكن من النقصان بوجه من
الوجوه - اما بحيلة يحتالها واما بغباوة يكون من صاحب الدين - فلا يفعلن ذلك
خشية من عقاب الله.
(ولا يأب كاتب) ذكر بتنكير كاتب، أي لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب
مثل ما علمه الله كتابهم. وقيل: هو كقوله (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي ينفع
404

الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.
و (كما علمه الله) يجوز أن يتعلق بأن يكتب وبقوله فليكتب.
فان قيل: أي فرق بين الوجهين؟
قلنا: ان علقته بأن يكتب فقد نهي عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم قيل
له فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد. وان علقته بقوله فليكتب فقد نهي عن
الامتناع من الكتابة على سبيل الاطلاق ثم أمر بها مقيدة. (وليملل الذي عليه) ولا يكن
المملي الا من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته واقراره به.
والاملال والاملاء لغتان قد نطق بهما القرآن.
(فصل)
ثم قال تعالى (فإن كان الذي عليه الحق سفيها).
قال مجاهد: السفيه الجاهل، لأنه خفيف العقل بنقصه، وأصل السفة الخفة.
وقوله (أو ضعيفا) هو الأحمق - عن مجاهد والشعبي.
وقوله (أولا يستطيع أن يمل هو) قال ابن عباس: هو الغبي والعاجز عن الاملاء
بالعي أو الخرس.
وقيل: المراد بالسفيه القوي على الاملاء الا أنه جاهل لا يعرف موضع صواب ما
يمليه من خطأه. والضعيف العاجز عن الاملاء وإن كان شديدا رشيدا اما بعي بلسانه
أو خرس. والذي لا يستطع أن يمل الممنوع مسنه اما بحبس أو لغيبة لا يقدر على
حضور الكاتب الشاهد فحينئذ يمل عنه وليه.
وقيل: الأولى أن يكون المراد بالسفيه البذي اللسان الخفيف في نفسه
فلا يوثق باملائه عليه. والضعيف الذي لا يحسن أن يملى. والذي لا يستطيعه من به
لكنة أو خرس أو آفة يمنعه من الاملاء. وهذا أقرب.
وقال أكثر المفسرين: سفيها محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف، أو
405

ضعيفا صبيا أو شيخا مخبلا، ولا يستطيع أن يمل هو أي غير مستطيع الاملاء بنفسه
لعلي أو خرس، فليملل وليه الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيها أو وكيل إن كان غير
مستطيع أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه.
والهاء في قوله (وليه) عائدة إلى السفيه في قول الضحاك وابن زيد الذي
يقوم مقامه بأمره، لان الله أمر أن لا يؤتى السفهاء أموالهم، وأمر أن لا يقام لها بها.
وقال الربيع: يرجع إلى ولي الحق. والأول أقوى.
وإذا أشهد الولي على نفسه فلا يلزمه المال في ذمته، بل يلزم ذلك في مال
المولى عليه.
(فصل)
ونعود إلى ما كنا فيه من ذكر ما في قوله (ذلكم أقسط عند الله).
أعلم أن أكثر ما يبنى (أفعل) من الثلاثي، وههنا بني من أفعل لأنه من (أقسط)
بمعنى عدل وأزال الجور، لامن (قسط) أي جار. وكذلك في قوله (أقوم للشهادة)
لأنه افعل، من اقامه إلى سواه، وقال الشئ استوى.
وقال الجبائي: لا تجب الكتابة والاشهاد، فإن لم يكن الثمن حاضرا وتسلم
المشتري المبيع وأنسأ الثمن كان الكتاب فرضا، وكذا الاشهاد لقوله تعالى (وأشهدوا
ذوي عدل منكم إذا تبايعتم)، وهذا أمر على الوجوب. قال: ولا دليل لمن
جعله ندبا.
وهذا الامر فيما يتتابع عليه نقدا كالرباع والحيوان. وقيل من ههنا ذهب
بعض الفقهاء إلى أن الاشهاد في بعض الساعات واجب. وليس كما قدر لأنه من
باب الاحتياط.
فان قيل: فما معنى (تجارة حاضرة)، وسواء كانت المبايعة بدين أو بعين
406

والتجارة حاضرة وما معنى ادارتها بينهم؟.
قيل: أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الابدال، ومعنى ادارتها بينهم تعاطيهم
إياها يدا بيد، والمعنى الا أن يتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد، فلا بأس أن لا يكتبوا،
لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين.
وأما قوله (وأشهدوا إذا تبايعتم) فهو أمر بالاشهاد على التبايع مطلقا ناجزا
وكاليا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز ان يراد واشهدوا إذا
تبايعتم هذا التبايع، يعنى التجارة الحاضرة، على أن الاشهاد كان فيه دون الكتابة.
(فصل)
وقوله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد).
(يضار) يحتمل البناء للفاعل والمفعول، والدليل عليه قراءة أبى عمرو (ولا
مضاررة) بالاظهار والكسر، وقراءة ابن عباس (ولا يضارر) بالاظهار والفتح.
والمعنى إذا كان على تفاعل نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب
منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان، اي لا يكتب الكاتب الا الحق ولا يشهد
الشاهد الا بالحق. وإذا كان على تفاعل فمعناه النهي عن الضرار بهما، بأن يعجلا
عن مهم أو لمزا ويحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد، اي لا يدعي الحاحا ولا يؤدى إذا
كان في شغل.
وقال أبو جعفر محمد بن مبشر: جميع ما في هذه الآية كله على التخيير الا
حرفين وهما (لا يضار كاتب ولا شهيد)، لقوله (وان تفعلوا فإنه فسوق بكم) والثاني
(ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).
ومعنى (وان تفعلوا) وان تضاروا فإنه أي فان الضرار فسوق بكم. وقيل وان
تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه.
407

(باب)
(في تحمل الشهادة وآدابها)
اما التحمل فإنه فرض في الجملة، فمن دعي إلى تحمله في بيع أو نكاح
أو غيرهما من عقد أو دين لزمه التحمل، لقوله (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) ولم
يفرق ولقوله (ولا يضار كاتب ولا شهيد) فان أهل التفسير تأولوا هذا الكلام بثلاث
تأويلات:
فقال ابن عباس: معناه لا يضار الشاهد والكاتب لمن يدعوه إلى تحملها، ولا
يحتج عليه بأن لي شغلا أو خاطب غيري فيها.
ومنهم من قال: لا يضر الشاهد بمن يشهد له فيؤدي غير ما تحمل، ولا يضر
الكاتب بمن يكتب له فليكتب غير ما قيل له.
ومنهم من قال: لا يضار بالشاهد الكاتب من يستدعيه فيقول له دع اشغالك
واشتغل بشغلي لحاجتي.
فإذا ثبت ان التحمل فرض على الجملة فإنه من فروض الكفايات إذا قام بها
بعض سقط عن الباقين، كالجهاد والصلاة على الموتى ورد السلام.
وقد يتعين التحمل، وهو إذا دعي لتحملها على عقد النكاح أو على دين أو غيره
وليس هناك غيره، فحينئذ يتعين عليه التحمل كما يتعين في الصلاة على الجنائز
والدفن ورد السلام.
(فصل)
واما الأداء فإنه في الجملة أيضا من الفرائض، لقوله تعالى (ولا تكتموا
الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا).
408

ويمكن ان يستدل بها على وجوب التحمل، وعلى وجوب الأداء على ما
قدمناه، وهي بوجوب الأداء أشبه، فإنه تعالى سماهم شهداء ونهاهم عن الاباء إذا
دعوا إليها، وانما يسمى شاهدا بعد تحملها حقيقة.
وهو من فروض الكفايات إذا كان هناك خلق وقد عرفوا الحق وصاروا به
شاهدين، فإذا قام به اثنان سقط الفرض عن الباقين كالصلاة على الجنائز، وقد
يتعين الفرض فيه، وهو إذا لم يتحمل الشهادة الا اثنان أو تحملها خلق ولم يبق منهم
الا اثنان تعين عليهما الأداء، كما لو لم يبق من قرابة الميت الا من يطيق الدفن، فإنه
يتعين الفرض عليه.
فإذا ثبت هذا فالكلام في بيان فرائض الأعيان والكفايات، وجملته انه لافرق
ولا فصل بين فرائض الأعيان والكفايات ابتداءا، وان الفرض يتوجه على الكل في
الابتداء، لأنه إذا زالت الشمس توجهت صلاة الظهر على الكل، وإذا مات في البلد
ميت توجه فرض القيام به على الكل، وانما يفترقان في الثاني، وهو انما كان من
فرائض الأعيان لا يتعين، وفروض الكفاية إذا قام بها قوم سقط الفرض عن الباقين،
لان المقصود دفن الميت فإذا دفن لم يبق وجوب دفنه بعد أن دفن على أحد.
(فصل)
وكل عقد يقع من دون الاشهاد وإن كان فعلى سبيل الاحتياط، الا الطلاق فإنه
لا يقع الا بالاشهاد على ما نذكره في بابه، مع أنه ليس بعقد. قال الله تعالى (واشهدوا
ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله) فعند أصحابنا ان الاشهاد شرط في وقوع الطلاق،
لان ظاهر الامر يقتضيه، والامر على الايجاب.
وقال قوم: ان ذلك راجع إلى الرجعة، وتقديره: وأشهدوا على الامساك
ان أمسكتم ذوي عدل، وهو الرجعة في قول ابن عباس. وقال الشافعي الاشهاد
409

على الرجعة أولى. ويجوز عند أكثرهم بغير اشهاد، وانما ذكر الله الاشهاد كما
دكر في قوله (وأشهدوا إذا تبايعتم)، وهو على الندب، فأما في الطلاق فهو
محول على الوجوب.
ثم قال (وأقيموا الشهادة لله) إذا طولبتم بإقامتها ولكم معاشر المكلفين
(يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر). وانما أضاف الوعظ إلى من يؤمن
بالله واليوم الآخر دون غيره لأنه الذي ينتفع به دون الكافر الجاحد لذلك.
(باب)
(شهادة كل ذي قرابة لمن يقرب منه وعليه وذكر من تقبل شهادته منهم)
كل من كان عدلا فشهادته جائزة اللا ما يشينه، وكذلك اقرار العاقل على نفسه
فيما يوجب حكما في الشرع، سواء كان مسلما أو كافرا مطيعا أو عاصيا أو فاسقا
وعلى كل حال الا ان يكون عبدا. ويمكن ان يستدل عليه من الآيات المتقدمة -
فليتأملها.
فأما شهادة ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض فجائزة إذا كانوا عدولا من
غير استثناء أحد، لأنه تعالى شرط العدالة في قوله (وأشهدوا ذوي عدل منكم) ولم
يشترط سواها. ويدخل في عموم هذا لقول ذوو القرابات كلهم، وكذلك قوله
(واستشهدوا شهيدين من رجالكم) يدل أيضا عليه.
والذي يدل على جواز شهادة الانسان على أقربائه خاصة قوله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء الله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين) (1)، فان الله لما حكى عن الذين سعوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله
في أمر بنى أبيرق وقيامهم بالعذر وذبهم عنهم من حيث كانوا أصحاب فقر وفاقة

(1) سورة النساء: 135.
410

أمر بعده المؤمنين بهذه الآية ان يلزموا العدل وأن يكونوا قوامين بالقسط، أي العدل
(شهداء لله ولو على أنفسكم) يعني ولو كانت شهادتكم عى أنفسكم أو على آبائكم وأمهاتكم
أو على أقرب الناس إليكم، وقوموا فيها بالعدل وأقيموا على صحتها وقولوا فيها
بالحق ولا تميلوا فيها لغنى غني ولا فقر فقير فتجوروا، فان الله ساوى بين الغني والفقير فيما
ألزمكم من إقامة الشهادة لكل واحد منهما في ذلك وفى غيره من الأمور كلها منكم
(فلا تتبعوا الهوى) في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغني أو فقير إلى أحدهما
(فتعدلوا عن الحق) أي تجوروا عنه وتضلوا ولكن قوموا بالقسط وأدوا الشهادة
على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
ونصب (شهداء) على الحال من الضمير في قوله (قوامين)، وهو ضمير
(الذين آمنوا). ويجوز أن يكون خبرا ثانيا لكونوا، كقولهم (هذا حلو حامض).
ويجوز أن يكون صفة للقوامين، والمعنى كونوا قوامين بصفة من يصلح أن يكون
شهيدا على سائر عباده.
(فصل)
فان قيل: كيف تكون شهادة الانسان على نفسه حتى يأمر الله بذلك؟
قلنا: بأن يكون عليه حق لغيره فيقر له به ولا يجحده، فأدب الله المؤمنين أن
لا يفعلوا ما فعله الذين عذروا بنى أبيرق في سرقتهم ما سرقوا أو خيانتهم ما خانوا
وإضافتهم ذلك إلى غيرهم - فهذا الذي اختاره الطبري ونذكر في باب القضايا.
وقال السدي: انما نزلت وقد اختصم رجلان إلى عند رسول الله صلى الله
عليه وآله غني وفقير، فكان عليه السلام مع الفقير لظنه أن الفقير لا يظلم الغنى،
فأبى سبحانه الا القيام بالقسط في أمر الغنى والفقير، فقال تعالى (ان يكن غنيا
أو فقيرا فالله أولى بهما).
411

وهذا الوجه فيه بعد، لان النبي لا يجور في الحكم ولا يميل إلى أحد الخصمين،
سواء كان غنيا أو فقيرا، لان ذلك ينافي عصمته.
فعلى هذا لا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه، وشهادة الوالد لولده وعليه،
وشهادة الرجل لزوجته وعليها، وكذا لا بأس بشهادتها له وعليه فيما يجوز قبول
شهادة النساء فيه إذا كان مع كل واحد منهم غيره من أهل الشهادة.
ولا تقبل شهادة واحد منهم لصاحبه مع يمينه كما جاز مع الأجنبي، فأما شهادة
الولد لوالده وعليه فالمرتضى يجيزها أيضا على كل حال، وإذا كان معه غيره من
أهل الشهادات فظاهر الآية معه. وان كانت شهادة الانسان على نفسه مجازا لأنها اقرار
على نفسه، وشهادته على أقربائه والوالدين حقيقة، فان الكلمة الواحدة تذكر ويراد
بها الحقيقة والمجاز معا إذ لا مانع. وجمهور فقهائنا أيضا على ذلك، لعموم الآيتين
اللتين قدمناهما، الا شهادة الولد على والده فإنهم لا يجوزونها لخبر يروونه.
وعذرهم في تأويل هذه الآية ما روي عن ابن عباس أنه قال: ان الله تعالى
أمير المؤمنين بهذه الآية أن يقولوا الحق على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يميلون إلى
غني لغناه ولا إلى فقير لفقره. قالوا: وهذا أولى، لأنه أليق بالظاهر على كل وجه
من غير عدول عنه، وهو أمر بقبول الحق وفعله وملازمة العدل والامر به.
(فصل)
ومما يؤكد القول الأول ما روي عن الحسن أنه قال: يعنى بالآية الشهادة
خاصة، وقوله (ولو على أنفسكم) أي ولو كانت شهادتكم تضر في الحال أنفسكم
في الحال أو المآل، لان على يقتضي ذلك.
ومعنى (كنوا شهداء لله) أي ليكن شهادتكم لأجل رضاء الله ولما أمر الله
به وهو القسط.
412

وقال ابن شهاب: كان سلف المؤمنين على جواز شهادة كل ذي قرابة لمن
تقرب منه وعليه حتى دخل الناس فيما بعدهم وظهرت منهم أمور حملت الولاة على
اتهامهم فتركت شهادة من يتهم إذا كان من أقربائهم.
والاعتماد في المنع من شهادة الأقارب على التهمة التي تلحق لأجل النسب
غير صحيح، لأنه يلزم على ذلك أن لا تقبل شهادة الصديق لصديقه ولا الجار لجاره،
لان التهمة متطرقة. على أن العدالة مانعة من التهمة وحاجزة عنها.
وما روي عن النبي عليه السلام من أنه لا يجوز قبول شهادة المتهم والخصم
والخائن والأجير له ما لم يفارقه ولا شهادة من خالف من أهل البدع وإن كان على
ظاهر السنن والعفاف. فليس ذلك مستخرجا من اجتهاد أو عفاف، وانما هو
أيضا نص الهي به. ويمكن أن يستدل من الآيات المتقدمة على ذلك، وقال تعالى
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)، فبين عليه السلام كما علمه
الله تعالى.
(فصل)
أما شهادات القرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا فقد ذكرنا أن دليلنا قوله
تعالى (واشهدوا ذوي عدل منكم)، فشرط - كما ترى - العدالة وأن يكون من جملة
المؤمنين بقوله (منكم)، لا أن يكون عدلا عند نحلته وأهل ملته ولم يشترط سواها
ويدخل في عموم هذا ذو القرابات كلهم.
وقوله (واستشهدوا شهيدين) يدل أيضا على هذه المسألة.
وما يقول المخالف: الولد جزء من أبيه، فكأنه شهد لنفسه إذا شهد لما هو
بعضه. فهذا غير محصل، لان الولد - وإن كان مخلوقا من نطفة أبيه - ليس ببعض
له على الحقيقة، بل لكل واحد منهما حكم يخالف حكم صاحبه. وكذلك يسترق
413

الولد برق أمه وإن كان الأب جزءا على بعض الوجوه، ويحرر بحرية الام وإن كان
الأب عبدا كذلك، والا لم يسر حكم واحد منهما إلى صاحبه هنا، ولذلك تقبل شهادة
العبيد لساداتهم إذا كان العبيد عدولا [ويقتل أيضا على غيرهم وبهم، ولا يقتل على
ساداتهم العبيد وإن كان العبيد عدولا] (1) ودليلنا عليه اجماع الفرقة.
ويمكن أن يستدل من القرآن على ذلك أيضا. ولو كنا ممن يثبت الاحكام
بالأقيسة لكان لنا أن نقول: إذا كان العبد العدل بلا خلاف تقبل شهادته على رسوله
وعلى آله - في رواية عنه وعنهم - فلان تقبل شهادته على غيره أولى. على أن العبيد
العدول داخلون في عموم الآية ويحتاج في اخراجهم منها إلى دليل.
ولا يعترض على هذا بالنساء، لأنهن داخلات في الظواهر التي ذكرناها،
مثل قوله (ذوي عدل منكم) وقوله (شهيدين من رجالكم)، فأخرجن النساء من
هذه الظواهر لأنهن ما دخلن فيها.
وكذلك شهادة الأعمى مقبولة إذا كان عدلا، لان الأعمى داخل في ظواهر
الآيات، ولا يمنع عماه من كونها متناولة له.
ومعول من خالفنا في هذه المسألة على أن الأعمى تشتبه عليه الأصوات. وهذا
غلط فاحش، لان الضرير يعرف زوجته ووالديه وأولاده ضرورة، ولا يدخل عليه شك
في ذلك كله. ولو كان لا سبيل له إلى ذلك لم يحل له وطوء زوجته، للتجويزة أن
تكون غير من عقد عليها.
وان استدل المخالف بقوله (وما يستوي الأعمى والبصير) (2) فالجواب عنه أن
الآية مجملة لم تذكر ما يستوون فيه. وادعاء العموم فيما لم يذكر غير صحيح، وظواهر
آيات الشهادة تتناول الأعمى كتناولها البصير إذا كان عدلا، لان قوله (وأشهدوا ذوي

(1) الزيادة من م.
(2) سورة فاطر: 19.
414

عدل منكم) و (استشهدوا شهيدين من رجالكم) يدخل فيه الأعمى كدخول البصير،
فإن كان الذي يشهد عليه يحتاج فيه إلى الرؤية حتى تصح الشهادة فيه فلا تقبل حينئذ
شهادة الأعمى فيه. فإن كان في وقت اشهاد الأعمى كان صحيحا ثم عمي فشهادته
مقبولة في ذلك أيضا.
(فصل)
وقد مست الحاجة ههنا وفى مواضع كثيرة من كتابنا هذا إلى أن يفرق بين
العموم والمجمل لتتمشى تلك الاستدلالات التي أوردناها:
اعلم أن الفرق بين العموم والمجمل: هو أن كل لفظ فعل لأجل ما أريد به فهو
عموم، وكل لفظ فعل لأجل ما أريد وما لم يرد فهو مجمل.
مثال الأول: قوله تعالى (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (1) فلو خلينا وتلك
الآية لقلنا اليهودي والنصراني مثل الوثني، وكل من تناوله هذا الاسم وكنا فاعلين
بموجب اللفظ وهو العموم.
وأما مثال الثاني: فهو قوله (أقيموا الصلاة) (2) فلو فعلنا كل صلاة لكنا فاعلين
ما لم يرد منا. وكذلك قوله (خذ من أموالهم صدقة) (3) فإنه لا يجب ان يؤخذ كل صدقة
بل صدقة مخصوصة.
وعن داود بن الحصين قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أقيموا
الشهادة على الوالد والولد ولا تقيموها على الأخ في الدين للصبر. قلت: وما
الصبر؟ قال: إذا تعدى فيه صاحب الحق الذي يدعيه قبله خلاف ما أمر الله

(1) سورة التوبة: 5.
(2) سورة البقرة: 43.
(3) سورة التوبة: 103.
415

به ورسوله (1).
ومثال ذلك: أن يكون لاحد على آخر دين وهو معسر، وقد أمر الله بانظاره
حتى يتيسر قال (فنظرة إلى ميسرة) (2)، ويسألك أن تقيم الشهادة له وأنت تعرفه بالعسر
فلا يحل لك أن تقيم الشهادة في حال العسر، وقال: لا تشهد بشهادة حتى تعرفها
كما تعرف كفك.
وكلام الشيخ أبى جعفر الطوسي أن شهادة الولد لوالده جائزة ولا تجوز عليه.
فدليله الحديث النبوي الذي رواه المعصومون من أهل بيته، فهو بيان لما أجمله الله
في كتابه، ويخصص به كثير من عموم القرآن.
وأما الآية التي يرى أنها دالة على خلاف هذا - وهي قوله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين) (3) فهي
وقوله (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين شهداء لله بالقسط ولا يجر منكم شنآن قوم
على أن لا تعدلوا) (4) فالخطاب للولاة، أي كونوا قوامين لأجل طاعة الله بالعدل والحكم
في حال كونكم شهداء أي وسائط بين الخالق والخلق أو بين النبي وأمته كما قال
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (5)، فالقائم بتنفيذ احكام
الله بين خلقه إذا وفى بما عليه من حقه فهو شهيد لله على من وليه والرسول شهيد عليه
بما نقله إليه.
والباء في قوله (بالقسط) متعلقة ب‍ (قوامين)، أي كونوا قوامين بالقسط

(1) وسائل الشيعة: 15 / 142.
(2) سورة البقرة: 280.
(3) سورة النساء: 135.
(4) سورة المائدة: 8.
(5) سورة البقرة: 143.
416

شهداء بالعدل لله، يعنى دوموا على فعل العدل والحق، وليكن ذلك منكم لله لا
لأمر آخر.
وقال أبو مسلم: يجوز أن تكون الشهادة ههنا بمعنى الحضور، فيكونوا
مأمورين بإقامة الحق والعدل، وتحضروا المواضع التي تحضرونها لذلك لا تدعونه
في وقت ولاحال، أي شاهدوا من شاهدتم بالحق دون غيره ولا تزولوا عنه أبدا.
وفى تغاير ترتيب الآيتين مع الاتفاق في الألفاظ خبيئة لطيفة فليتأملها يقف
عليها إن شاء الله.
(باب)
(شهادة من خالف الاسلام)
ولما بين الله تعالى في آي كثيرة انه لا يجوز قبول شهادة من خالف الاسلام
على المسلمين في حال الاختيار، أجاز تعالى قبول شهادتهم في حال الضرورة في
الوصية خاصة، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت
حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) (1) فاللذان منكم مسلمان واللذان
من غيركم ذميان من أهل الكتاب.
وقد قرئ (شهادة بينكم) (2)، أي ليقيم شهادة بينكم اثنان، كما أن من رفع
فنون أولم ينون فهو على نحو من هذا، أي مقيم شهادة بينكم أو شهادة بينكم (اثنان
ذوا عدل منكم) أي ينبغي أن تكون الشهادة المعتمدة هكذا.
وقرئ (ولا يكتم شهادة الله) الله على الوجهين: فالقصر بالجر حذف منه
حرف القسم، وبالمد عوض منه همزة الاستفهام، كأنه قال: القسم بالله انا إذا لمن

(1) سورة المائدة: 106.
(2) بتنوين (شهادة).
417

الظالمين. وفى مجيئ القسم وحرف الاستفهام قبله تهيب.
وذكر أبو جعفر عليه السلام: ان سبب نزول هذه الآية ما قال أسامة بن زيد
عن أبيه قال: كان تميم الداري وأخوه عدي نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة،
فلما هاجر [رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى
عمرو بن العاص المدينة] (1) وهو يريد الشام تاجرا، فخرج هو وتميم الداري وأخوه
عدي حتى إذا كانوا ببعض الطرق مرض ابن أبي مارية، فكتب وصية بيده بحيث
لا يدري بها أحد ودسها في متاعه ودفع المال إليهما وأوصى إليهما وقال: أبلغا هذا
أهلي. فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه، ثم رجعا بباقي المال إلى الورثة
فلما فتش القوم المال نظروا إلى الوصية وفقدوا بعض ما كان فيها ولم يجدوا المال
تاما، فكلموا تميما وصاحبه فقالا: لاعلم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه كما هو، فرفعوا
أمرهم إلى النبي عليه السلام فنزلت هذه الآية. ومثله ذكر الواقدي (2).
وقيل في معنى الشهادة ههنا ثلاثة أقوال:
أحدها - الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام، مصدر شهد يشهد إذا
أظهر ما عنده من العلم بالشئ المتنازع فيه لإبانة حق عند حاكم أو غيره.
الثاني - شهادة الحضور لوصيين.
الثالث - شهادة ايمان بالله إذا ارتاب الورثة بالوصيين، من قول القائل (أشهد
الله أني لمن الصادقين).
والأولى أقوى وأليق بالقصة.
وفي كيفية الشهادة قولان:
أحدهما - أن يقول صحيحا كان أو مريضا: إذا حضرني الموت فافعلوا كذا

(1) الزيادة من ج.
(2) انظر القصة في تفسير البرهان 508 / 1 وأسباب النزول للواحدي ص 142.
418

وكذا - ذكره الزجاج.
الثاني - إذا حضر أسباب الموت من المرض.
(فصل)
وقوله تعالى (شهادة بينكم)، قيل في رفعه ثلاثة أقوال:
أحدها: ان يكون بالابتداء، وتقديره شهادة بينكم شهادة اثنين، ويرتفع
اثنان بأنه خبر الابتداء، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال أبو علي
الفارسي: واتسع في بين وأضيف إليه المصدر، وذلك يدل على قول من يقول إن
الظرف الذي يستعمل اسما يجوز ان يستعمل اسما في غير الشعر، كما قال (لقد
تقطع بينكم) (1) فيمن رفع.
الثاني: على تقدير محذوف، وهو عليكم شهادة بينكم، أو مما فرض عليكم
شهادة بينكم، ويرتفع اثنان بالمصدر ارتفاع الفاعل بفعله، وتقديره [ان يشهد اثنان
الثالث: ان يكون الخبر إذا حضر، فعلى هذا لا يجوز ان يرتفع اثنان
بالمصدر] (2) لأنه خارج عن الصلة بكونه بعد الخبر لكن على تقدير ليشهد اثنان، ولا
يجوز ان يتعلق (إذا حضر) بالوصية لامرين: أحدهما ان المضاف إليه لا يعمل فيما
قبل المضاف، لأنه لو عمل فيما قبله للزم ان يقدر وقوعه في موضعه، فإذا قدر ذلك
لزم تقديم المضاف إليه على المضاف، ومن ثم لم يجز القال زيد حين يأتي.
والاخر ان الوصية مصدر لا يتعلق به ما تقدم عليه.
وقوله (إذا حضر أحدكم الموت) يعني قرب أحدكم الموت، كما قال (حتى
إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان) (3) وقال (حتى إذا جاء أحدهم الموت

(1) سورة الأنعام: 94.
(2) الزيادة من ج.
(3) سورة النساء: 18.
419

توفته رسلنا) (1) وقال (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) (2) فكل ذلك يريد
المقاربة، ولولا ذلك لما أسند إليه القول بعد الموت.
(فصل)
واما قوله (حين الوصية) فلا يجوز ان يحمل على الشهادة، لأنها إذا عملت
في ظرف من الزمان لم يعمل في ظرف آخر منه. ويمكن حمله على ثلاثة أشياء:
أحدها ان تعلقه بالموت كأنه قال والموت في ذلك الحين بمعنى قرب منه، الثاني
على حضر اي إذا حضر في هذا الحين، الثالث ان يحمله على البدل من إذا، لان
ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان فيبدله منه فيكون بدل الشئ من الشئ إذا
كان إياه.
وقوله (اثنان ذوا عدل منكم) خير المبتدأ الذي هو شهادة، وتقديره شهادة
بينكم شهادة اثنين على ما قدمناه، لان شهادة لا تكون الا من اثنين على الغالب.
وقوله (منكم) صفة لقوله (اثنان)، كما أن (ذوي عدل) صفة لهما، وفي الظرف
ضمير، وفى (منكم) قولان: أحدهما ما قال ابن عباس اي من المسلمين، وهو قول
الباقر والصادق عليهما السلام. الثاني قال عكرمة من حي الموصى. والأول ظاهر
واضح، وهو اختيار الرماني، لأنه لا حذف فيه.
وقوله تعالى (أو آخران من غيركم) تقديره أو شهادة آخرين من غيركم،
وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. و (من غيركم) صفة للآخرين، اي آخران
كائنان من غيركم.
وقيل في معنى غيركم قولان أيضا: أحدهما قال ابن عباس وجماعة انهما
من غير أهل ملتكم، وهو قولهما عليهما السلام. الثاني قال الحسن اي من غير

(1) سورة الأنعام: 61.
(2) سورة المؤمنون: 99.
420

عشيرتكم، لان عشيرة الموصي اعلم بأحواله من غيرهم، وهو اختيار الزجاج، قال
لأنه لا يجوز قبول شهادة الكافرين مع كفرهم وفسقهم وكذبهم على الله.
ومعنى أو للتفصيل لا للتخيير، لان المعنى وآخران من غيركم ان لم تجدوا
منكم، وهو قول أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام وجماعة. وقال قوم: هو
بمعنى التخيير، ضمن ائتمنه الموصي من مؤمن أو كافر.
وقوله (ان أنتم ضربتم) بمعنى ان أنتم سافرتم، كما قال (وإذا ضربتم في
الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) (1).
(فصل)
وقوله تعالى (فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما) فيه محذوف وتقديره وقد
أسندتم الوصية إليهما فارتاب الورثة بهما.
وقوله (تحبسونهما) خطاب للورثة، والهاء في به تعود إلى القسم بالله.
والصلاة المذكورة في هذه الآية قيل فيها ثلاثة أقوال: أحدها انها صلاة
العصر، وهو قول أبى جعفر الباقر عليه السلام. الثاني قال الحسن هي الظهر أو
العصر، وكل هذا لتعظيم حرمة وقت الصلاة على غيره من الأوقات، وقيل لكثرة
اجتماع الناس كان بعد صلاة العصر. الثالث قال ابن عباس صلاة أصل دينهما،
يعنى في الذميين، لأنهم لا يعظمون أوقات صلاتنا.
وقوله (فيقسمان بالله) الفاء دخلت لعطف جملة على جملة (ان ارتبتم) في قول
الآخرين اللذين ليس من أهل ملتكم أو من غير قبيلة الميت فغلب في ظنكم خيانتهم. ولا
خلاف أن الشاهد لا يلزمه اليمين الا أن يكونا شاهدين على وصية مسندة إليهما فيلزمهما
اليمين لأنهما مدعيان.

(1) سورة النساء: 101.
421

وقوله تعالى (لا نشتري به ثمنا)، (لا نشتري) جواب ما يقتضيه قوله (فيقسمان)
لان أقسم ونحوه يتلقى بما يتلقى به الايمان.
ومعنى (لا نشتري به ثمنا) لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنا، فحذف المضاف
وذكر الشهادة لان الشهادة قول، كما قال (وإذا حضر القسمة أو لوا القربى) (1) ثم قال
(فارزقوهم منه)، وانما يرزق من التركة، وتقديره لا نشتري به ثمنا لا نشتري به
ذا ثمن. ألا ترى أن الثمن لا يشترى، وانما الذي يشترى المبيع دون ثمنه، وكذلك
قوله (واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا) (2) أي ذا ثمن، والمعنى انهم آثروا الشئ القليل
وانقاد له من ابتاع، وليس المعنى هنا على الانقياد وانما هو على التمسك به والايثار
له على الحق.
وقوله (ولو كان ذا قربى) تقديره ولو كان المشهود له ذا قربى. وخص ذا القربى
بالذكر لميل الناس إلى قراباتهم ومن يناسبونه.
وقوله (ولا نكتم شهادة الله انا إذا لمن الاثمين) (3) وانما أضاف الشهادة إلى
الله في قوله (شهادة الله) لامره بها وبإقامتها والنهى عن كتمانها في قوله (ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه) (4) وقوله (أقيموا الشهادة لله) (5).
(فصل)
وقوله تعالى (فان عثر على أنهما استحقا اثما فآخران) (6) قد ذكرنا سبب نزول

(1) سورة النساء: 8.
(2) سورة التوبة: 9.
(3) سورة المائدة: 106.
(4) سورة البقرة: 283.
(5) سورة الطلاق: 2.
(6) سورة المائدة: 107.
422

هذه الآية. روي أنها لما نزلت أمر رسول الله صلى الله عليه وآله ان يستحلفوهما،
بأن يقولا: والله ما قبضنا له غير هذا ولا كتمناه، ثم ظهر على اناء من فضة منقوش
مذهب معهما، فقالوا: هذا من متاعه. فقالا: اشتريناه منه. فارتفعوا إلى رسول الله
فنزل قوله (فان عثر على أنهما استحقا اثما فآخران يقومان مقامهما من الذين
استحق)، فأمر رسول الله رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا، فحلف
عبد الله بن عمر والمطلب بن أبي وداعة، فاستحقا. ثم إن تميما أسلم وبايع رسول
الله، فكان يقول: صدق رسول الله وبلغ رسول الله، أنا أخذت الاناء (1).
ومعنى (عثر) ظهر عليه، تقول: عثرت على خيانته، وأعثرت عيني على
خيانته، وأعثرت غيري على خيانته أي أطلعته. ومنه قوله (وكذلك أعثرنا عليهم) (2)
وأصله الوقوع بالشئ.
وقوله (على أنهما) يعنى ان الوصيين المذكورين أولا في قوله (اثنان)
في قوله ابن جبير، وقال ابن عباس على الشاهدين استحقا اثما، بمعنى خانا وظهر
وعلم منهما ذلك (فآخران يقومان مقامهما) يعنى من الورثة في قول ابن جبير (من
الذين استحق عليهم الأوليان).
وقيل في قوله (الأوليان) ثلاثة أقوال: أحدهما الأوليان بالميت عن ابن
جبير، الثاني قال ابن عباس الأوليان بالشهادة وهي شهادة الايمان. الثالث قال
الزجاج الأوليان أن يحلفا من غيرهما، وهما النصرانيان. ويقال هو الأولى بفلان
ثم حذف بفلان فيقال هو الأولى وهذان الأوليان، كما يقال هو الأكبر بمعنى الكبير
وهذان الأكبر ان.

(1) تفسير البرهان 1 / 508.
(2) سورة الكهف: 21.
423

(فصل)
وقوله (الأوليان) في رفعه ثلاثة أقوال:
أحدها: بأنه اسم ما لم يسم فاعله، المعنى استحق عليهم اثم الأولين، أي
استحق منهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
الثاني: بأنه بدل من الضمير في (يقومان)، على معنى فليقم الأوليان من
الذين استحق عليهم الوصية، وهو اختيار الزجاج.
الثالث: بدل من قوله (آخران). وزعم الكوفيون انه لا يجوز ابداله من
آخرين، لتأخير العطف في قوله (فيقسمان)، لأنه يصير بمنزلة (مررت برجل
قام زيد وقعد). وقال الرماني يجوز على العطف بالفاء جملة على جملة. وقال
الفارسي يجوز أن يكون رفعا بالابتداء وقد أخر، وتقديره فالأوليان بأمر الميت
آخران من أهله أو من أهل دينه يقومان مقام الخائنين اللذين من عثر عليهما، كقولك
(تميمي أنا).
ويجوز أن يكون خبرا لابتداء محذوف، وتقديره آخران يقومان مقامهما هما
الأوليان.
واختار الأخفش أن يكون (الأوليان) صفة لقوله (فآخران)، لأنه لما وصف
اختص، فوصف لأجل الاختصاص بما وصف به المعارف.
فأما الجمع (1) على اتباع اللذين، وموضعه الجر، وتقديره من الأولين الذين
استحق عليهم الايصاء والاثم.
وانما قيل هم الأولين من حيث كانوا الأولين في الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم

(1) يعنى بالجمع قراءة من قرأ (الأوليين) جمع أول، وهي قراءة حمزة وأبى بكر
ويعقوب وخلف (ه‍ ج).
424

(يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم)، وكذلك (اثنان ذوا عدل منكم) ذكرا في
اللفظ قبل قوله (أو آخران من غيركم)، وحجتهم (1) في ذلك أن قالوا: أرأيت إن كان
الأوليان صغيرين أراد بهما إذا كانا صغيرين لم يقوما مقام الكبيرين في الشهادة
ولم يكونا لصغرهما أولى بالميت وان كانا لو كانا كبيرين كانا أولى به.
وانما قال (استحقا اثما) لان آخذه يأخذ آثم، فسمى اثما كما يسمى ما يؤخذ
منك مظلمة. قال سيبويه: المظلمة اسم ما يؤخذ منك، فكذلك يسمى هذا المأخوذ
باسم المصدر.
(فصل)
وقيل في معناه استحقا عذاب اثم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه
مقامه، كقوله تعالى (انى أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) (2) أي بعقاب إثمي وعقاب
إثمك.
وقيل في معنى (عليهم) ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون على بمعنى من، كأنه قال من الذين استحق منهم الاثم، كما
قال (إذا اكتالوا على الناس يستوفون) (3)، ومعناه من الناس.
الثاني: أن يكون المعنى كما يقول (استحق على زيد مال الشهادة) أي لزمه
ووجب عليه الخروج [منه، لان الشاهدين كما عثر على حياتهما استحق عليهما
بأولياه من آخر الشهادة والقيام بها ووجب عليهما الخروج مما وجب] (4) عليه.
الثالث: أن يكون على بمنزلة في، كأنه استحق فيهم وقام على مقام في،

(1) أي حجة القارئين على الجمع (ه‍ ج).
(2) سورة المائدة: 29.
(3) سورة المطففين: 2.
(4) الزيادة من م.
425

والمعنى من الذين استحق عليهم بشهادة الآخرين اللذين هما من غيرنا.
فان قيل: هو يجوز أن يسند أستحق فيه إلى الأوليان.
قلنا: لا يجوز ذلك، لان المستحق انما تكون الوصية أو شيئا منها، ولا يجوز
أو يستحق الأوليان، وهما الأوليان بالميت، فالأوليان بالميت لا يجوز أن يستحقا
فيسند استحق عليهما.
وقوله (فيقسمان بالله) أي يحلفان بالله.
وقوله (لشهادتنا أحق من شهادتهما) جواب القسم التي في قوله (فيقسمان
بالله)، وما اعتدينا فيما قلنا إن شهادتنا أحق من شهادتهما، انا ان اعتدينا لمن
الظالمين لنفوسنا. وهذه أصعب آية اعرابا.
فان قيل: كيف يجوز أن يقف أولياء الميت على كذب الشاهدين وخيانتهما
حتى يحل أن يحلفا.
قيل: يجوز ذلك لوجوه: أحدها أن يسمعوا اقرارهما بالخيانة من حيث
لا يعلمان، أو يشهد عندهم شهود عدول بأنهم سمعوهما يقران بأنهما كذبا أو خانا وتقوم
البينة عند هما على أنه أوصى بغير ذلك، أو أن هذين لم يحضروا الوصية وانما حضرا
بغير ذلك من الأسباب.
(فصل)
قال تعالى (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها) (1) معناه ذلك الاحلاف
والاقتسام أو ذلك الحكم أقرب أن تأتوا بالشهادة على وجهها، أي حقها وصدقها،
لان اليمين تردع عن أمور كثيرة لا يرتدع عنها مع عدم اليمين.
واختلفوا في أن اليمين هل تجب على كل شاهدين أم لا؟ قال ابن عباس انما

(1) سورة المائدة: 108.
426

هي على الكافر خاصة، وهو الصحيح. وقال غيره هي على كل شاهدين وصيين
إذا أريب بهما.
واختلفوا في نسخ حكم الآيتين المتقدمتين مع هذه على قولين: فقال ابن
عباس هي منسوخة الحكم، وقال الحسن هي غير منسوخة، وهو الذي يقتضيه مذهبنا
وأخبارنا. وقال البخلي: أكثر أهل العلم على أنه غير منسوخ، لأنه لم ينسخ من
سورة المائدة شئ، لأنها آخر ما نزلت.
ووجه قول من قال هي منسوخة: ان اليمين اليوم لا تجب على الشاهدين
بالحقوق، وانما كان قبل الامر باشهاد العدول في قوله (وأشهدوا ذوي عدل منكم)
فنسخت بذلك هذه الآية، ودلت على أن شهادة الذمي لا تقبل على الذمي إذا ارتفعا
إلى حكام المسلمين، لان الذمي ليس بعدل ولا ممن يرضى من الشهداء.
ومن ذهب إلى أنها غير منسوخة جعلها بمعنى شهادة الايمان على الوصيين،
فإذا ظهر على خيانة منهما فما وجد في أيديهما صار مدعيين وصار الورثة في معنى
المنكرين، فوجب عليهما اليمين من حيث صارا مدعيين.
وقوله تعالى (أو تخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) يعنى أهل الذمة يخافون
أن يرد أيمان على أولياء الميت، فيحلفوا على خيانتهم فيفتضحوا ويغرموا وينكشف
للناس بذلك بطلان شهادتهم ويسترد منهم ما أخذوه بغير حق حينئذ أدوا الشهادة على
وجهها وتحرزوا من الكذب.
وقرئ (استحق) بفتح التاء والحاء وبضم التاء وكسر الحاء، وقرئ (الأولين)
بتشديد الواو وكسر اللام وفتح النون على الجمع وبسكون الواو وفتح اللام وكسر
النون على التثنية.
427

(باب الزيادات)
ذكر الله الشهادة في القرآن في ثلاثة مواضع:
منها: قوله (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا فرجل وامرأتان)
ثم أمر بالاشهاد على التبايع وقال (واشهدوا إذا تبايعتم) ثم أوعد على كتمانها
فقال (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)، فلولا أنها واجبة ما توعد
على كتمانها.
الثاني: قال (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) إلى قوله
(فان الله غفور رحيم)، فأمر بجلد القاذف ثم رفع عنه الجلد بتحقيق قذفه بالشهادة
في ذلك، ثم قال (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) دل على أن غير الفاسق مقبول الشهادة
ثم قال (وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا) يعني تقبل شهادتهم.
الثالث: قال تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) إلى قوله (وأشهدوا
ذوي عدل منكم).
ومعنى قوله (فإذا بلغن أجلهن) يعنى قاربن البلوغ، لأنه لا رجعة بعد
بلوغ الاجل.
وجملته أن الحقوق ضربان: حق الله، وحق الآدمي.
فأما حق الآدمي فإنه ينقسم في باب الشهادة ثلاثة أقسام: أحدها لا تثبت الا
بشاهدين ذكرين كالقصاص، والثاني ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين
وهو كل ما كان مالا أو المقصود منه المال، والثالث ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين
أو أربعة نسوة وهو الولادة والاستهلال والعيوب تحت الثياب.
وأما حقوق الله فجميعها لا مدخل للنساء ولا للشاهد مع اليمين فيها، وهي ثلاثة
اضرب: مالا يثبت الا بأربعة وهو الزنا واللواط إذا كانا بالاحياء، فان كانا بالأموات
428

فيكفي في ذلك شاهدان، واتيان البها ثم. والثاني مالا يثبت الا بشاهدين، وهو السرقة
وحد الخمر. والثالث ما اختلف فيه، وهو الاقرار بالزنا، قال قوم لا يثبت الا بأربعة
كالزنا، وقال آخرون يثبت بشاهدين كسائر الاقرارات، وهو أقوى.
(مسألة):
وقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات) معناه الذين يقذفون العفائف بالزنا
فحذف بالزنا لدلالة الكلام عليه - ولم يقيموا عليه أربعة من الشهود فإنه يجب على
كل واحد منهم ثمانون جلدة إذا كان أجنبيا منها لا زوجا، ثم نهى سبحانه عن
قبول شهادة القاذفين على التأييد وحكم عليهم بأنهم فساق بقوله (ولا تقبلوا لهم
شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون)، ثم استثنى منهم (الا الذين تابوا منهم)
بعد ذلك.
واختلفوا في الاستثناء إلى من يرجع، فقال قوم هو من الفساق، فإذا تاب قبلت
شهادته حد أولم يحد وهو قول ابن المسيب.
(مسألة):
وسئل أبو عبد الله عليه السلام عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته إذا
تاب؟ قال: نعم. قيل: وما توبته؟ قال: فيجئ ويكذب نفسه عند الامام ويقول قد
افتريت على فلانة ويتوب مما قال (1).
وقال ابن عمر لأبي بكرة: ان تبت قبلت شهادتك. فأبى أبو بكرة أن يكذب
نفسه. وبه قال الشافعي، وهو مذهبنا.

(1) وسائل الشيعة 16 / 183.
429

وقال الحسن الاستثناء من الفاسقين دون قوله (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)،
وبه قال أهل العراق، قالوا فلا يجوز شهادة القاذف ابدا.
ولا خلاف انه إذا لم يحد بأن تموت المقذوفة ولم يكن هناك مطالب ثم تاب
انه يجوز قبول شهادته، وهذا يقتضى الاستثناء من المعتدين على تقدير وأولئك هم
الفاسقون، مع امتناع قبول شهادتهم الا التائبين منهم، والحد حق المقذوفة لا
يزول بالتوبة.
ثم قال (ان الذين يرمون المحسنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا)
وان نزلت في سبب لم يجب قصرها عليه، وعلى هذا أكثر المحصلين كآية القذف
وآية اللعان وآية الظهار وغيرها.
(يوم تشهد عليهم ألسنتهم) يجوز أن يكون المعنى أي يشهدون، يعنى هؤلاء
على أنفسهم بألسنتهم. وقيل شهادة الأيدي والأرجل تكون بأن يبينها الله بينة مخصوصة
يمكنها النطق، أو يفعل الله في هذه البنى كلاما يتضمن الشهادة فكأنها هي الناطقة،
أو يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق، وذلك إذا جحدوا معاصيهم.
(مسألة):
المفعول الثاني في قوله (فتذكر إحداهما الأخرى) محذوف، وكذا إذا قرئ
بالتخفيف فتذكر بالقراءتين محذوف، والمعنى فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي
تحملتاها، لان ذكرت فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمزة أو خففت العين
منه تعدى إلى مفعول آخر.
وما بعد الفاء في قوله (فتذكر) مبتدأ محذوف، ولو أظهرته لكان فهما تذكر
إحداهما الأخرى، فالذكر العائد إلى المبتدأ المحذوف الضمير في قوله (إحداهما).
430

(مسألة):
فان قيل: ان الشهادة انما وقعت للذكر والحفظ لا للضلال الذي هو النسيان.
فجوابه: لان سيبويه قد قال أمر بالاشهاد لان تذكر إحداهما الأخرى، وانما
ذكر أن تضل لأنه سبب الأذكار.
وقوله (فتذكر) معطوف على الفعل المنصوب، ووجه كونه مرفوعا قد ذكرناه
(مسألة):
(ولا تكتموا الشهادة) خطاب للشهود ونهي لهم عن كتمان الشهادة إذا دعوا
إلى اقامتها. (ومن يكتمها) أي من يكتم الشهادة مع علمه بالمشهود به وعدم ارتيابه
فيه وتمكنه من أدائها من غير ضرر بعد ما دعي إلى اقامتها فإنه آثم قبله. أضاف الاثم
إلى القلب [وإن كان الاثم هو الحملة لان اكتساب الاثم إلى القلب] (1) أبلغ في الذم
كما أن إضافة الايمان إلى القلب أبلغ في المدح، قال تعالى (وأولئك كتب في
قلوبهم الايمان) (2) وقال النبي صلى الله عليه وآله: لا ينقضي كلام شاهد زور بين يدي
الحاكم حتى يتبوأ مقعده من النار.
(مسألة): وقوله (فان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) أي ان تظهروا
الشهادة أو تكتموها فان الله يعلم ذلك ويجازيكم به.
وقيل إنها عامة في الاحكام التي ذكرها الله تعالى من أول البقرة، وفيها خمسمائة

(1) الزيادة من م.
(2) سورة المجادلة: 22.
431

حكم ونيف على ما ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم. خوف الله عباده من العمل بخلافها
بهذه الآية، وبين أنه لما أمر بتلك الوثائق ويعتد بها انما هو لأمر يرجع إلى المكلفين
للامر يرجع إليه تعالى، فان له ما في السماوات وما في الأرض.
ومن قال إنها منسوخة بقوله (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) (1) فإنه لا يصح، لان
تكليف ما ليس في الوسع غير جائز.
.

(1) سورة البقرة: 286
432