الكتاب: فقه القرآن
المؤلف: القطب الراوندي
الجزء: ٢
الوفاة: ٥٧٣
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: السيد أحمد الحسيني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٥
المطبعة:
الناشر: مكتبة آية الله العظمى النجفي المرعشي
ردمك:
ملاحظات: بإهتمام : السيد محمود المرعشي

من مخطوطات
مكتبة آية الله المرعشي العامة
(2)
فقه القرآن
تأليف
الفقيه المحدث المفسر الأديب
قطب الدين أبى الحسن
سعيد بن هبة الله الراوندي
المتوفى سنة 573 ه‍
(الجزء الثاني)
تحقيق السيد احمد الحسيني
باهتمام السيد محمود المرعشي
1

كتاب: فقه القرآن، الجزء الثاني
تأليف: قطب الدين الراوندي
نشر: مكتبه آية الله العظمى النجفي المرعشي
طبع: مطبعة الولاية - قم
التاريخ: 1405، الطبعة الثانية
العدد: (1500) نسخه
2

بسم الله الرحمن الرحيم
" الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام "
" على محمد وآله الطيبين الطاهرين ".
3

كتاب القضايا
قال الله تعالى " يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق " (1.
أخبر الله بأنه نادى داود أن افصل بين المختلفين من الناس والمتنازعين
بالحق بوضع الأشياء مواضعها على ما أمرك الله به.
والخليفة هو المدبر للأمور من قبل غيره بدلا من تدبيره.
وقيل: معناه جعلناك خليفة لمن كان قبلك من رسلنا، ثم أمره (2. فالآية تدل
على أن القضاء جائز بين المسلمين وربما كان واجبا، فإن لم يكن واجبا فربما
كان مستحبا، وتدل عليه آيات كثيرة.
(باب) (الحث على الحكم بالعدل والمدح عليه)
(وذكر عقوبة من يكون بخلافه)
قال الله سبحانه " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " (3 وقال تعالى " فان جاؤوك

(1) سورة ص: 26.
2) أي بعد أن أثبت له مقام الخلافة للأنبياء عليهم السلام، أمره بالحكم بين الناس.
3) سورة المائدة: 49.
5

فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (1 وقال تعالى " وداود وسليمان إذ يحكمان في
الحرث " (2 وقال تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " (3.
وقد ذم الله من دعي إلى الحكم فأعرض عنه، فقال " وإذا دعوا إلى الله
ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون " (4.
ومدح قوما دعوا إليه فأجابوا فقال " انما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى
الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " (5 وقال تعالى " ان الله يأمركم
أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " (6
وقال تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " (7 وفي موضع
آخر " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " (8 وفي موضع آخر
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (9.
وقال الحسن: هي عامة في بني إسرائيل وغيرهم من المسلمين.
وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله: ان هذه الآيات الثلاث
في الكفار خاصة.
وقال الشعبي: نزل الكافرون في هذه الأمة، والظالمون في اليهود، والفاسقون
في النصارى.

1) سورة المائدة: 42.
2) سورة الأنبياء: 78.
3) سورة النساء: 65.
4) سورة النور: 48.
5) سورة النور: 51.
6) سورة النساء: 58.
7) سورة المائدة: 47.
8) سورة المائدة: 45.
9) سورة المائدة: 44.
6

والأولى أن يقال هي عامة في من حكم بغير ما أنزل الله، فإن كان مستحلا
لذلك معتقدا أنه هو الحق فإنه يكون كافرا بلا خلاف، فأما من لم يكن كذلك
وهو يحكم بغير ما أنزل الله فإنه يدخل تحت الآيتين الأخريين (1.
(فصل)
وقال أبو جعفر عليه السلام: الحكم [حكمان] حكم الله وحكم الجاهلية،
وقال الله عز وجل " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " (2، وأشهد على زيد
ابن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية (3. ثم قال: قال النبي صلى الله
عليه وآله: من حكم في الدرهمين بحكم جوز ثم أجبر عليه كان من أهل هذه
الآية " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ". قيل: كيف يجبر عليه؟
قال: يكون له سوط وسجن فيحكم عليه، فان دخل بحكومته والا ضربه (4 بسوطه
وحبسه في سجنه (5.
وقال أبو عبد الله عليه السلام: إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل
الجور، ولكن أنظروا إلى رجل منكم يعمل شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم فاني
جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (6.

1) أنظر الأقوال حول الآيات الثلاث الدر المنثور 2 / 286.
2) سورة المائدة: 50.
3) البرهان في تفسير القرآن 1 / 478، والزيادة منه.
4) في م " فان رضى بحكومته فان ضربه ". وفى المصدر قريب منه.
5) وسائل الشيعة 18 / 18 وهو فيه ليس ذيلا للحديث السابق.
6) وسائل الشيعة 18 / 4.
7

(فصل)
وعن أبي بصير قلت لأبي عبد الله عليه السلام، قول الله في كتابه " ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام " (1. قال: يا أبا بصير ان الله
عز وجل قد علم أن في هذه الأمة حكاما يجورون، أما انه لم يعن حكام العدل ولكنه
عنى حكام الجور، يا أبا محمد انه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حاكم
أهل العدل فأبى عليك الا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له كان ممن
حاكم إلى الطاغوت، وهو قول الله عز وجل " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما انزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد
أمروا أن يكفروا به " (2 الآية (3.
وقال: إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور - الخبر (4.
وقال: لما ولى أمير المؤمنين عليه السلام شريحا القضاء اشترط عليه أن
لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه (5.
وقال له: قد جلست مجلسا لا يجلسه الا نبي أو وصي نبي أو شقي (6.
ثم قال: ان عليا عليه السلام اشتكى عينه، فعاده رسول الله صلى الله عليه
وآله فإذا علي يصيح، فقال له النبي: أجزعا أم وجعا يا علي؟ فقال: يا رسول
الله ما وجعت وجعا قط أشد منه. قال: يا علي ان ملك الموت إذا نزل ليقبض

1) سورة البقرة: 188.
2) سورة النساء: 59.
3) تهذيب الأحكام 6 / 219.
4) من لا يحضره الفقيه 3 / 2.
5) تهذيب الأحكام: 6 / 217.
6) تهذيب الأحكام 6 / 217.
8

روح الفاجر أنزل معه سفودا (1 من نار فينزع روحه به فتضج جهنم. فاستوى
علي جالسا فقال: يا رسول الله أعد علي حديثك فقد أنساني وجعي ما قلت،
فهل يصيب ذلك أحد من أمتك؟ قال: نعم حكاما جائرون وآكل مال اليتيم
وشاهد الزور (2.
(باب)
(ما يجب أن يكون القاضي عليه)
قال الله تعالى " ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم
بين الناس أن تحكموا بالعدل " (3.
أمر تعالى الحكام بين الناس أن يحكموا بالعدل لا بالجور، ونعم الشئ
شيئا الله به من أداء الأمانة.
وروي عن المعلى بن خنيس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه
الآية، فقال: على الامام أن يدفع ما عنده إلى الامام الذي بعده وأمرت الأئمة
بالعدل وأمرت الناس أن يتبعوهم. (4.
وقال تعالى " واذكر عبدنا داود " إلى قوله " وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " (5
أي أعطيناه إصابة الحكم بالحق. وفصل الخطاب هو قوله: البينة على المدعي
واليمين على المدعى عليه.

1) السفود.. بتشديد الفاء - الحديدة التي يشوى بها اللحم - صحاح اللغة (سفد).
2) تهذيب الأحكام 6 / 224.
3) سورة النساء: 58.
4) من لا يحضره الفقيه 3 / 3 مع اختلاف يسير.
5) سورة ص: 17 - 20.
9

ثم قال " وهل أتاك نبأ الخصم " هذا خطاب من الله لنبيه عليه السلام،
وصورته صورة الاستفهام ومعناه الاخبار بما كان من قصة داود من الحكومة بين
الخصمين، وتنبيهه على موضع تركه بعض ما يستحب له أن يفعله.
والنبأ الخبر بما يعظم حاله، والخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق
المتنازع له فيه. ويعبر به عن الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد، لان أصله
المصدر. ولذلك قال " إذ تسوروا المحراب " لأنه أراد المدعي والمدعى عليه
ومن معهما، فلا يمكن أن يتعلق به في أن أقل الجمع اثنان لما قال " خصمان
بغى بعضنا على بعض "، لأنه أراد بذلك الفريقين، أي نحن فريقان خصمان،
أي يقول ما يقول خصمان، لأنهما كان ملكين ولم يكونا خصمين ولا بغى أحدهما
على الاخر، وانما هو على المثل.
" فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " معناه ولا تجاوز الحق ولا تجر ولا تسرف
في حكمك بالميل مع أحدنا على صاحبه، وأرشدنا إلى قصد الطريق الذي هو
طريق الحق ووسطه.
(فصل)
ثم حكى سبحانه ما قال أحد الخصمين لصاحبه، فقال " ان هذا أخي له
تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها " (1 قال وهب: يعنى أخي
في ديني، وقال المفسرون: انه كنى بالنعاج عن تسع وتسعين امرأة كانت له
وان الاخر له امرأة واحدة. وقال الحسن: لم يكن له تسع وتسعون نعجة وانما
هو على وجه المثل. وقال أبو مسلم: أراد النعاج بأعيانها. وهو الظاهر، غير
أنه خلاف أقوال المفسرين.

1) سورة ص: 23.
10

وقال: هما خصمان من ولد آدم ولم يكونا ملكين، وانما فزع منهما لأنهما
دخلا عليه في غير الوقت المعتاد. وهو الظاهر.
ومعنى " أكفلنيها " قال ابن عباس أنزل لي عنها، وقال أبو عبيدة ضمها إلي،
وقال آخرون أي اجعلني كفيلا بها، أي ضامنا لأمرها، ومنه قوله " وكفلها زكريا " (1.
ثم قال " وعزني في الخطاب " أي غلبني في المخاطبة وقهرني، وقال
أبو عبيدة صار أعز مني.
فقال له داود " لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وان كثيرا من الخلطاء
ليبغي بعضهم على بعض "، ومعناه إن كان الامر على تدعيه لقد ظلمك بسؤال
نعجتك إلى نعاجه، فأضاف السؤال إلى المفعول به.
وقال أصحابنا: موضع الخطيئة أنه قال للخصم " لقد ظلمك " من غير أن
يسأل خصمه عن دعواه. وفي أدب القضاء أن لا يحكم بشئ ولا يقول حتى يسأل
خصمه من دعوى خصمه فما أجاب به حكم بذلك، وهذا ترك الندب.
والشرط الذي ذكرناه لابد منه، لأنه لا يجوز أن يخبر النبي عليه السلام أن
الخصم ظلم صاحبه قبل العلم بذلك على وجه القطع، وانما يجوز مع تقدير
وبالشرط الذي ذكرناه، فروي أن الملكين غابا من بين يديه فظن داود أن الله
تعالى اختبره بهذه الحكومة. ومعنى " الظن " هنا العلم، كأنه قال وعلم داود.
وقيل انما ظن ظنا قويا، وهو الظاهر.
و " فتناه " أي بحق أضافه الله إلى نفسه، أي اختبرناه. وقرئ " فتناه "
بالتخفيف، أي الملكين فتناه بهما.
وقيل: انه كان خطب امرأة كان أوريا بن حنان خطبها ولم يعلم ذلك، فكان
دخل في سومه فاختاروه عليه، فعاتبه الله على ذلك.

1) سورة آل عمران: 37.
11

وأولى الوجوه أنه ترك الندب فيما يتعلق بأدب القضاء.
وقرأ ابن مسعود " ولي نعجة أنثى واحدة "، ووصفها بأنثى اشعارا بأنها
ضعيفة مهينة.
يسأل فيقال في قوله " لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " كيف يكون
السائل ظالما؟
[الجواب، انه لم يسأله سؤال خضوع انما غالبه، فمعنى السؤال ههنا
حمل على سؤال مطالبة، ولو سأله التفضل ما عازه عليها. وقد بينا أن الحكمة
في قوله " وآتيناه الحكمة " اسم تقع على العلم والعقل وصواب الرأي وصحة
العزم والحزم] (1.
" وفصل الخطاب " قطع الأمور بين المتخاصمين. والخطاب نزاع في
الخطوب، وهو يفصل ذلك لحكمته.
وقيل: انما كان كناية عن قوله " البينة على المدعي واليمين على من أنكر "
لان بذلك يقع الفصل بين الخصوم.
(فصل)
وقوله تعالى " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم
وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان " (2 فقد قال الجبائي: ان الله أوحى
إلى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل ذلك، ولم يكن ذلك
عن اجتهاد.
وهذا هو الصحيح عندنا، ويقوي ذلك قوله " ففهمناها سليمان " يعني علمنا
الحكومة في ذلك - التي هي مصلحة الوقت - سليمان.

1) بين المعقوفين مشوش في نسخة م ونقل كما في ج.
2) سورة الأنبياء: 78 - 79.
12

وقوله " إذ يحكمان " أي طلبا الحكم في ذلك ولم يبتدئا بعد.
وقصته: أن زرعا أو كرما وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته، فحكم داود بالغنم
لصاحب الكرم، لان الشرع كان ورد لذلك إليه من قبل ولم يثبت الحكم،
فقال سليمان لأبيه: ان الله أوحى إلي الان بغير هذا يا نبي الله. قال: وما ذاك؟
قال: يدلع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع
الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان دفع كل واحد
إلى صاحبه حقه.
ذكره ابن مسعود، وهو المروي عنهما عليهما السلام (1.
فعلى هذا ينبغي أن يكون الحاكم حكيما عالما بالناسخ والمنسوخ، عارفا
بالكتاب والسنة، عاقلا بصيرا بوجوه الاعراب، يثق من نفسه، يتولى القضاء
والفصل بين الناس.
(باب)
(كيفية الحكم بين أهل الكتاب)
قد ذكرنا من قبل كثيرا مما يتعلق بهذا الباب، وههنا نذكر ما يكون تفصيلا
لتلك الجملة أو جملة لذلك التفصيل:
اعلم أن الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال " وأنزلنا
إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم
بما أنزل الله " (2. التقدير وأنزلنا إليك يا محمد أن احكم بينهم، وانما كرر
الامر بالحكم بينهم لامرين:

1) وسائل الشيعة 19 / 208.
2) سورة المائدة: 48.
13

أحدهما: انهما حكمان أمر بهما جميعا، لان اليهود احتكموا إليه في زنا
المحصن ثم احتكموا إليه في قتيل كان منهم - ذكره أبو علي، وهو المروي عن أبي
جعفر عليه السلام (1.
الثاني: أن الأمر الأول مطلق والثاني دل على أنه منزل.
قال ابن عباس والحسن: تدل الآية على أن أهل الكتاب إذا ترافعوا إلى
الحكام المسلمين يجب أن يحكموا بينهم بحكم القرآن وشريعة الاسلام، لأنه
أمر من الله بالحكم بينهم، والامر يقتضي الايجاب.
وقال أبو علي: نسخ ذلك التخيير بالحكم بين أهل الكتاب أو الاعراض
عنهم والترك، قال تعالى " فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (2.
والكتاب في قوله " وأنزلنا الكتاب " المراد به القرآن، " مصدقا " نصب
على الحال، مصدق ما بين يديه من الكتاب، يعني التوراة والإنجيل وما فيهما
من التوحيد لله وعدله والدلالة على نبوتك والحكم بالرجم والقود وغيرهما.
وفيه دلالة على أن ما حكى الله انه كتبه عليهم في التوراة حكم يلزمنا العمل به،
لأنه جعل القرآن مصدقا لذلك وشاهدا.
وقال مجاهد: " مهيمنا " صفة للنبي عليه السلام، والأول أقوى لأجل حرف
العطف، ولو قال بلا واو لجاز.
و " لا تتبع أهواءهم " عادلا عما جاءك من الحق، ولا يدل ذلك على أنه
عليه السلام اتبع أهواءهم، لأنه مثل قوله تعالى " لئن أشركت ليحبطن عملك " (3
ولا يدل ذلك على أن الشرك كان وقع منه.

1) أنظر القصة في تفسير البرهان 1 / 472 عن الباقر عليه السلام.
2) سورة المائدة: 42.
3) سورة الزمر: 65.
14

" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال مجاهد شريعة القرآن لجميع
الناس لو آمنوا به، وقال آخرون انه شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة
القرآن، والمعني بقوله " منكم " أمة نبينا وأمم الأنبياء قبله على تغليب المخاطب
على الغائب، فبين تعالى ان لكل أمة شريعة غير شريعة الآخرين لأنها تابعة
للمصالح، فلا يمكن حمل الناس على شريعة واحدة مع اختلاف المصالح،
قال تعالى " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " (1.
(فصل)
ثم قال تعالى " أفحكم الجاهلية يبغون " (2. قال مجاهد: انها كناية عن
اليهود، لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا وجب
على أقويائهم لم يأخذوهم به.
" ومن أحسن من الله حكما " أي فصلا بين الحق والباطل من غير محاباة،
لأنه لا يجوز للحاكم أن يحابى في الحكم، بأن يعمل على ما يهواه بدلا مما
يوجبه العدل، وقد يكون حكم أحسن من حكم - بأن يكون أولى منه وأفضل -
وكذا لو حكم بحق يوافق هواه أحسن مما يوافقه.
وقال تعالى في وصف اليهود " سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاؤوك
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (3 أي هؤلاء يقبلون الكذب ويكثر أكلهم السحت
- وهو الحرام.
فخير الله نبيه عليه السلام في الحكم بين اليهود في زنا المحصن وفي قتيل
قتل من اليهود.

1) سورة النحل: 93.
2) سورة المائدة: 50.
3) سورة المائدة: 42.
15

وفي اختيار الحكام والأئمة الحكم بين أهل الذمة إذا احتكموا إليهم قولان:
أحدهما انه حكم ثابت والتخيير حاصل، ذهب إليه جماعة، وهو المروي عندهم
عن علي عليه السلام، والظاهر في رواياتنا (1. وقال الحسن انه منسوخ بقوله
" وأن احكم بينهم بما أنزل الله " (2، فنسخ الاختيار وأوجب الحكم بينهم بالقسط.
" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله (3 أي الحكم بالرجم
والقود.
ثم قال تعالى: " انا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك
الله ولا تكن للخائنين خصيما " (4. نهى الله نبيه عليه السلام أن يكون خصيما لمن
كان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله، أي لا تخاصم عنه.
والخطاب وان توجه إلى النبي فالمراد به أمته.
(باب نوادر من الاحكام)
قال محمد بن حكيم: سألت أبا الحسن عليه السلام عن شئ. فقال لي:
كل مجهول ففيه القرعة [فقلت له: ان القرعة] (5) تخطئ وتصيب. فقال: كل
ما حكم الله به فليس بمخطئ (6.
قال تعالى " فساهم فكان من المدحضين " (7.

1) انظر وسائل الشيعة 18 / 338 فما بعد.
2) سورة المائدة: 49.
3) سورة المائدة: 43.
4) سورة النساء: 105.
5) الزيادة من المصدر و ج.
6) تهذيب الأحكام 6 / 240.
7) سورة الصافات: 141.
16

وعن عبد الله بن الحجاج قال: دخل الحكم بن عيينة (1 وسلمة بن كهيل على
أبي جعفر عليه السلام فسألاه عن شاهد ويمين. قال: قضى به رسول الله صلى الله
عليه وآله وقضى به علي عليه السلام عندكم بالكوفة. فقالا: هذا خلاف القرآن.
قال وأين وجدتموه خلاف القرآن؟. فقالا: ان الله تعالى قول " وأشهدوا
ذوي عدل منكم " (2. فقال لهما أبو جعفر عليه السلام: فقوله " وأشهدوا ذوي
عدل منكم " وهو أن لا تقلبوا شهادة واحد ويمينا. [قالا: لا] (3.
وقال الرضا عليه السلام: ان أبا حنيفة قال لجعفر بن محمد عليه السلام:
كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد - وهو يضحك؟ فقال جعفر: أنتم
تقضون بشهادة واحد شهادة مائة. قال: لا نفعل. قال: بلى يشهد مائة لا يعرف
فترسلون واحدا يسأل عنهم ثم تجيزون شهادتهم بقوله (4). ثم قال أبو حنيفة: القتل
أشد من الزنا فكيف يجوز في القتل شاهدان والزنا لا يجوز فيه الا أربعة شهود؟
فقال الصادق: لان القتل فعل واحد والزنا فعلان، فمن ثم لا نجوز الا أربعة شهود
على الرجل شاهدان وعلى المرأة شاهدان.
وسئل عليه السلام عن البينة إذا أقيمت على الحق [أيحل للقاضي] أن يقضي
بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم. قال: خمسة أشياء يجب على الناس
الاخذ بها بظاهر الحكم الولايات والتناكح والمواريث والذبائح والشهادات،
فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه (5، فقد اختصم

1) كذا في الأصل. وفى المصدر " عبد الرحمن بن الحجاج " و " بن عتيبة ".
2) سورة الطلاق: 2.
3) تهذيب الأحكام 6 / 273 والزيادة ليست فيه. وللحديث ذيل يراجع المصدر بشأنه.
4) تهذيب الأحكام 6 / 296 مع اختلاف في بعض الألفاظ وليس فيه بقية الحديث.
5) تهذيب الأحكام 6 / 288 والزيادة منه.
17

رجلان إلى داود عليه السلام في بقرة، فجاء هذا بينة على أنها له وجاء هذا ببينة
على أنها له. قال: فدخل داود المحراب فقال: يا رب انه قد أعياني أن أحكم
بين هذين فكن أنت الذي تحكم. فأوحى الله إليه: أخرج فخذ البقرة من الذي
في يده فادفعها إلى الاخر واضرب عنقه. قال: فضجت بنو إسرائيل [من ذلك
وقالوا جاء هذا بينة وجاء هذا ببينة وكان أحقهما باعطائه الذي في يديه. فأخذها
منه وضرب عنقه فأعطاه هذا] (1، فقال داود: يا رب ان بني إسرائيل ضجوا مما
حكمت. فأوحى الله إليه: ان الذي كانت البقرة في يده لقي أبا الاخر فقتله
وأخذ البقرة منه، فإذا جاءك مثل هذا فاحكم بينهم بما ترى ولا تسألني أن أحكم
حتى يوم الحساب (2.
(فصل)
وعن داود بن الحصين قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما يقول في النكاح
فقهاؤكم؟ قلت: يقولون لا يجوز الا بشهادة رجلين عدلين. فقال: كذبوا لعنهم
الله هونوا واستخفوا بعزائم الله وفرائضه وشددوا وعظموا ما هون الله، ان الله
أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين فأجازوا الطلاق بلا شاهد، والشهادة في
النكاح لم يجئ عن الله في عزيمة، فقد ندب في عقدة النكاح ويستحل الفرج
وان لم يشهدوا، وانما سن رسول الله في ذلك الشاهدين تأديبا ونظرا لئلا ينكر
الولد والميراث.
" ولا يأب الشهداء " قبل الشهادة " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " بعد الشهادة (3

1) الزيادة من المصدر.
2) تهذيب الأحكام 6 / 288 والذيل واصل الحديث هنا جاء في التهذيب في حديثين.
3) من لا يحضره الفقيه 3 / 57.
18

(باب الزيادات)
ذكر ابن عباس ان أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم [فكل فرقة زعمت أنهم أولى بدينه، فقال
عليه السلام: كلا الفريقين برئ من دين إبراهيم] (1، فغضبوا وقالوا ما نرضى
لقضائك، فأنزل الله " أفغير دين الله يبغون " أي أفبعد هذه الآيات والحجج
تطلبون دينا غير دين الله " وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها " (2.
فالطوع لأهل السماوات خاصة، وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا ومنهم
من استسلم كرها، أي فرقا (3 من السيف.
(مسألة)
وقال ابن عباس: ان الله خير نبيه عليه السلام بقوله تعالى " فان جاؤوك
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (4، وهذا التخيير ثابت في الشرع للأئمة والحكام.
وقول من قال إنه منسوخ بقوله تعالى " وان احكم بينهم " (5. لا يصح،
لان المعنى " وان تعرض " عن الحكم بينهم " فلن يضروك شيئا "، فدع النظر
بينهم ان شئت. " وان حكمت " أي وان اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بينهم
" بالقسط " بما في القرآن وشريعة الاسلام.
ثم قرع اليهود بقوله " وكيف يحكمونك " ويرضون بك حكما وهم

1) الزيادة من ج.
2) سورة آل عمران: 83.
3) أي خوفا وخشية.
4) سورة المائدة: 42.
5) سورة المائدة: 49.
19

تركوا الحكم بالتوراة جرأة على الله، وانما طلبوا بذلك الرخصة، وما هم
بمؤمنين بحكمك انه من عند الله.
(مسألة) وقوله تعالى " انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون " (1 لا يدل
على أن نبينا صلى الله عليه وآله كان متعبدا بشرع موسى عليه السلام، لان الله
هو الذي أوجب ذلك بوحي أنزله عليه لا بالرجوع إلى التوراة، فصار ذلك
شرعا له وان وافق ما في التوراة.
ونبه بذلك اليهود على صحة نبوته، من حيث أخبر عليه السلام عما في التوراة
من غوامض العلم ما التبس على كثير منهم، وقد عرفوا أنه لم يقرأ كتابهم.
وقوله تعالى " للذين هادوا " أي تابوا من الكفر، وقيل لليهود، واللام فيه
يتعلق بيحكم، أي يقضي بإقامة التوراة النبيون الذين كانوا من وقت موسى إلى
وقت عيسى عليهما السلام لهم وفيما بينهم.

1) سورة المائدة: 44.
20

كتاب المكاسب
قال الله تعالى " والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل
شئ موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين " (1.
فقد جعل الله لخلقه من المعيشة ما يتمكنون به من التقدير (2، وأمرهم بالتصرف
في ذلك من وجوه الحلال دون الحرام، فليس لأحد أن يتكسب بما حظره الله،
ولا يطلب رزقه من حيث حرمه.
و " المعايش " جمع معيشة، وهي طلب أسباب الرزق مدة الحياة. فقد
يطلبها الانسان بالتصرف والتكسب وقد يطلب له، فان أتاه أسباب الرزق
من غير طلب فذلك العيش الهنئ.
(باب)
(في تفصيل ما أجملناه)
قوله تعالى " ومن لستم له برازقين " من في موضع النصب عطفا على قوله

1) سورة الحجر: 19 - 20.
2) في ج " من العبادة ".
21

" معايش "، والمراد به العبيد والإماء والدواب والانعام، والعرب لا تجعل
" من " الا في الناس خاصة وغيرهم من العلماء، فلما كان مع الدواب المماليك
حسن حينئذ.
ويجوز أن يكون " من " في موضع خفض نسقا على الكاف والميم في
" لكم "، وإن كان الظاهر المخفوض قلما يعطف على المضمر المخفوض.
ويجوز أن يكون في موضع رفع، لان الكلام قد تم قبله، ويكون التقدير
ولكم فيها من لستم له برازقين.
" وان من شئ الا عندنا خزائنه " (1 أي ليس شئ الا وهو قادر من جنسه
على ما لا نهاية له، ولست أنزل من ذلك الشئ الا ما هو مصلحة لهم في الدين
وينفعهم دون ما يكون مفسدة لهم ويضرهم.
وصدر الآية إشارة إلى قوله عليه السلام: اطلبوا الرزق في خبايا الأرض،
فإنه تعالى بسطها وجعل لها طولا وعرضا، وطرح فيها جبالا ثابتة وأعلاما يهتدى
بها، وأخرج منها النبات فيها من كل شئ بقدر معلوم. ومن الأشياء التي توزن
من الذهب والفضة النحاس والحديد وغيرها (2.
(فصل)
وقال الصادق عليه السلام في قوله تعالى " ربنا آتنا في الدنيا حسنة " أي
سعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا " وفي الآخرة حسنة " (3 رضوان
الله والجنة في الآخرة.

1) سورة الحجر: 21.
2) تفسير البرهان 1 / 202 بمضمونه.
3) سورة البقرة: 201.
22

وقال تعالى " ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم معايش " (1 أخبر تعالى
على وجه الامتنان على خلقه بأصناف نعمه أنه مكن عباده في الأرض من التصرف
فيها من سكناها وزراعتها، وجعل لهم فيها ما يعيشون به مما أنبت لهم من الحبوب
والثمرات وغيرها. والمعيشة وصلة من جهة مكسب المطعم والمشرب والملبس
إلى ما فيه الحياة.
والتمكين اعطاء ما يصح معه الفعل مع ارتفاع المنع، لان الفعل كما يحتاج
إلى القدرة فقد يحتاج إلى [آلة والى دلالة والى سبب كما يحتاج إلى] (2 رفع
المنع، والتمكين عبارة عن جميع ذلك.
وقال تعالى " كلوا من طيبات ما رزقناكم " (3 المراد به الإباحة، لأنه تعالى
لا يريد المباحات من الأكل والشرب وغيرهما.
" ولا تطغوا فيه " (3) أي لا تتعدوا فيه فتأكلوه على وجه حرمه الله، فمتى
طغيتم فيه وأكلتموه على وجه الحرام نزل عليكم غضبي.
(فصل)
وقال بعض المفسرين: ان قوله تعالى " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض
حلالا طيبا " (4 إشارة إلى ما ذكره النبي عليه السلام تفصيلا لتلك الجملة، وهو
قوله: إذا مر الانسان بالثمرة جاز له أن يأكل منها بقدر كفايته ولا يحمل منها
شيئا على حال. ولذلك قال تعالى بعده " ولا تتبعوا خطوات الشيطان ".

1) سورة الأعراف: 10.
2) الزيادة من ج.
3) سورة طه: 81.
4) سورة البقرة 168.
23

وكان لموسى بن جعفر عليه السلام ضيعة فيها كروم وفواكه فأتاه [آت]
وقت الادراك ليشتريها، فقال عليه السلام: اني أبيعها مشروطة أن تجعل من
أربع جوانب الحائط مدخلا ليأكل كل من يمر عليها مقدار ما يشتهيه، فاني
لا يمكنني أن أبيع القدر الذي يأكله من يمر عليها، فاشتراها على ما يريد، بهذا
الشرط وأحفظه لئلا يحمل شيئا ويخرج.
وقد بين الله الحلال فقال " وأنزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات
وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد " (1 يعني بحب
الحصيد حب البر والشعير وكل ما يحصد لان من شأنه أن يحصد، أي خلقنا
ما ذكرناه من حب النبت الحصيد. والطلع النضيد رزقا لهم وغذاءا، وكل رزق
فهو من الله اما بفعلنا أو فعل سببه (2.
ولما كانت المكاسب وما يجري مجراها تنقسم إلى المباحات والمكروهات والمحظورات لم يكن بد من تميزها:
(باب)
(المكاسب المحظورة والمكروهة)
اعلم أن تقلد الامر من قبل السلطان الجائر إذا تمكن معه من ايصال الحق
إلى مستحقه جائز.
يدل عليه - بعد الاجماع المتردد والسنة الصحيحة - قول الله تعالى حكاية
عن يوسف عليه السلام " قال اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم " (3

1) سورة ق: 9 - 11.
2) في ج " اما أن يفعله أو يفعل سببه ".
3) سورة يوسف: 55.
24

طلب ذلك إليه ليحفظه عمن لا يستحقه ويوصله إلى الوجوه التي يجب صرف
الأموال إليها، ولذلك رغب إلى الملك فيه، لان الأنبياء لا يجوز أن يرغبوا في
جمع أموال الدنيا الا لما قلناه، فقوله " حفيظ " أي حافظ للمال عمن لا يستحقه
عليهم بالوجوه التي يجب صرفه إليها.
ومتى علم الانسان أو غلب على ظنه أنه لا يتمكن من جميع ذلك فلا يجوز
له التعرض له على حال.
وعن أبي بصير: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن كسب المغنيات؟ قال:
التي تدعى إلى العرائس ليس به بأس، والتي يدخل عليها الرجال حرام، وهو
قول الله تعالى " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " (1.
وعن ابن سنان قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الإجارة. قال. صالح
لا بأس به إذا نصح قدر طاقته، فقد آجر موسى عليه السلام نفسه واشترط، فقال:
ان شئت ثمانيا وان شئت عشرا، فأنزل الله فيه " على أن تأجرني ثماني حجج
فان أتممت عشرا فمن عندك " (2.
وعن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: الرجل يتجر،
فان هو آجر نفسه [أعطي ما يصيب في تجارة. فقال: لا يؤاجر نفسه ولكن سيرزق
الله تعالى ويتجر فإنه إذا آجر نفسه] فقد حظر على نفسه الرزق (3).
ولا تنافي بينهما، لان الخبر الأول محمول على ضرب من الكراهية. والوجه
في كراهة ذلك أنه لا يأمن أن لا ينصحه في عمله فيكون مأثوما، وقد نبه على ذلك
في الخبر الأول بقوله " لا بأس إذا نصح قدر طاقته ".

1) سورة لقمان: 6. والحديث في الاستبصار 3 / 62 عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.
2) سورة القصص: 27. والحديث في من لا يحضره الفقيه 3 / 173.
3) الاستبصار 3 / 55، والزيادة منه.
25

(فصل)
وعن عمار بن مروان: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلول (1، فقال: كل
شئ غل من الامام فهو سحت، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت. والسحت (2
أنواع كثيرة: منها أجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ المسكر، والربا بعد
البينة. وأما الرشا في الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله (3.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى " أكالون للسحت " (4.
قال: السحت الرشوة في الحكم (5.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: السحت الرشوة في الحكم، ومهر
البغي، وعسيب الفحل، وكسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن
الميتة، وحلوان (6 الكاهن (7.
وروي عن أبي هريرة مثله.
وقال مسروق: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجور في الحكم. قال:

1) الغلول - بضم الغين - الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة.. وكل
من خان في شئ خفية فقد غل، وسميت غلولا لان الأيدي فيها مغلولة، أي ممنوعة مجعول
فيها غل، وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه - النهاية لابن الأثير 3 / 380.
2) السحت في اللغة بمعنى القطع والاستئصال، يقال سحت الله الكافر بعذاب إذا استأصله،
والمال السحت كل حرام يلزم آكله العار، وسمى سحتا لأنه لا بقاء له - معجم مقاييس اللغة 3 / 143.
3) الكافي 5 / 126.
4) سورة المائدة: 42.
5) مجمع البيان 3 / 196.
6) حلوان الكاهن بضم الحاء وسكون اللام: الأجرة التي تعطى إياه، واشتقاقه من
الحلاوة - الفائق للزمخشري 1 / 304.
7) مجمع البيان 3 / 196.
26

ذلك الكفر. وعن السحت، فقال: الرجل يقضي لغيره الحاجة فيهدي له الهدية،
قال الله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (1. هذا إذا كان
مستحلا لذلك (2.
وقال الخليل: السحت القبيح الذي فيه العار، نحو ثمن الكلب والخمر.
وأصل السحت الاستيصال.
وعن الصادق عليه السلام في قوله " أكالون للسحت " أنه قال: ثمن العذرة
من السحت (3).
وقال: أربعة لا تجوز في أربعة: الخيانة والغلول والسرقة والربا، لا تجوز
في حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة (4.
وقال: لا تصلح السرقة والخيانة إذا عرفت (5.
والآية تدل على جميع ذلك بعمومها.
(فصل)
أما قوله تعالى " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء أن أردن تحصنا " (6 فهو نهي
عن اكراه الأمة على الزنا، انها نزلت على سبب فوقع النهي عن المعين على
تلك الصفة.

1) سورة المائدة: 44.
2) وسائل الشيعة 17 / 314.
3) تفسير البرهان 1 / 474.
4) من لا يحضره الفقيه 3 / 161.
5) الكافي 5 / 228.
6) سورة النور: 33.
27

قال جابر بن عبد الله: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين أكره أمته
مسيكة على هذا (1.
وهذا نهي عام لكل مكلف أن يكره أمته على الزنا طلبا لكسبها بالزنا.
وقوله " ان أردن تحصنا " صورته صورة الشرط وليس بشرط، وانما ذكر
لعظم الافحاش في الاكراه على ذلك.
ومهور البغايا محرمة كرهن أو لم يكرهن.
وقوله تعالى " ومن يكرههن " يعني على الفاحشة " فان الله من بعد اكراههن "
أي لهن " غفور رحيم " (2 ان وقع منها مكرهة في ذلك الوزر على المكره.
وقال أبو جعفر عليه السلام: لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله
" انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " (3
قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ فقال: كلما يقامر به حتى الكعاب والجوز. قيل:
فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوه لآلهتهم. قيل: فما الالزام؟ قال: قداحهم التي
كانوا يستقسمون بها (4.
ونهى عليه السلام أن يؤكل ما تحمل النملة بقيها وقوائمها (5.
وقال تعالى " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم " (6. أي
لا تحمل رزقها للادخار. وقيل أي لا تدخره لغد.

1) أسباب النزول للواحدي ص 220.
2) سورة النور: 33.
3) سورة المائدة: 90.
4) الكافي 5 / 122.
5) الكافي 5 / 307.
6) سورة العنكبوت: 60.
28

وروي أن الحيوان أجمع من البهائم، والطير ونحوها لا تدخر القوت لغدها،
الا ابن آدم والنملة والفارة، بل تأكل منها كفايتها فقط.
ونزلت الآية من أولها " يا عبادي الذين آمنوا ان أرضي واسعة فإياي فاعبدون " (1
إلى ههنا في أهل مكة المؤمنين منهم، فإنهم قالوا: يا رسول الله ليس لنا بالمدينة
أموال ولا منازل فمن أين المعاش؟ فأنزل الله الآية (2.
(فصل)
وقوله تعالى " لتبلون في أموالكم وأنفسكم " (3 معناه لتختبرن ما يفعل بكم
من الفقر وشدة العسر وبما تؤمرون من الزكوات والانفاق في سبيل الله في أموالكم
كما تختبرون بالعبادات في أنفسكم، وانما فعله لتصبروا، فسماه بلوى مجازا،
لان حقيقته لا تجوز على الله.
وكفى للمكلفين واعظا بقوله تعالى " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان
عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له " (4). فان أرض سبأ كانت من
أطيب البقاع، لم يجعل الله فيها شيئا من هوام الأرض نحو البق والبراغيث
ولا العقرب ولا غيرها من المؤذيات، وكان الغريب إذا دخل أرضهم وفى
ثيابه قمل مات.
فهذه آية والآية الثانية أن المرأة كانت تأخذ على رأسها مكيلا فتملا بالفواكه
من غير أن تمس بيدها شيئا.

1) سورة العنكبوت: 56.
2) مجمع البيان 4 / 290.
3) سورة آل عمران: 186.
4) سورة سبأ: 15.
29

ثم فسر الآية فقال " جنتان " أي هي جنتان من عن يمين الوادي وشماله.
ثم قال " كلوا من رزق ربكم " المراد به الإباحة وإن كان لفظه لفظ الامر " بلدة
طيبة " ليس فيها سبخة، فأعرضوا عن ذلك فلم يشكروا الله، فجازاهم تعالى
على ذلك بأن سلبهم نعمة كانت بها، وأرسل عليهم سيل العرم، وقد كانت
تجتمع مياه وسيول في هذا الوادي وسدوه بالحجارة والقاربين الجبلين فجعلوا
له أبوابا يأخذون الماء منه بمقدار الحاجة ما شاؤوا، فلما تركوا أمر الله بعث عليهم
جرذا فنقبته فأغرق عليهم جنتهم وأفسد أرضهم.
ثم قال " وبدلناهم بجنتيهم جنتين " وانما سماهما بعد ذلك أيضا جنتين
ازدواجا للكلام " ذواتي أكل خمط " فالاكل جناء الثمر الذي يؤكل، والخمط
شجر له ثمر مر.
ثم " ذلك جزاؤهم بما كفروا ". ثم من الله تعالى عليهم بما يذكر
بعد فظهر فيما بينهم المحاسدة فكان كما قال " فجعلناهم أحاديث " أي أهلكناهم
وألهمنا الناس أحاديثهم ليعتبروا بها.
(باب المكاسب المباحة)
قال أبو عبد الله عليه السلام: ان قوما من الصحابة لما نزل " ومن يتق الله
يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " (1 أغلقوا الأبواب وأقبلوا على
العبادة وقالوا قد كفينا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فأرسل إليهم فقال:
ما حملكم على ما صنعتم؟ فقالوا: يا رسول الله تكفل الله لنا بأرزاقنا فأقبلنا على
العبادة. فقال عليه السلام: انه من فعل ذلك لم يستجب الله له، عليكم بالطلب (2

1) سورة الطلاق: 3.
2) من لا يحضره الفقيه 3 / 192.
30

طلب الحلال فريضة بعد الفريضة.
وقال: ملعون من ألقى كله على الناس (1.
وقال الله تعالى " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ
وهو كل على مولاه " أي ثقل على وليه " هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل " (2.
وعن سعيد بن يسار: قلب لأبي عبد الله عليه السلام: امرأة دفعت إلى
زوجها مالا من مالها ليعمل به وقالت له حين دفعته إليه: أنفق منه، فان حدث
بك حادث فما أنفقت منه لك حلال طيب، وان حدث بي حادث فهو لك حلال،
[فقال: أعد علي يا سعيد المسألة. فلما ذهبت أعيد المسألة عليه اعترض فيها
صاحبها] وكان صاحبها معي، فقال له: يا هذا ان كنت تعلم أنها قد أوصت بذلك
إليك فيما بينك وبينها وبين الله فحلال طيب. ثم قال: يقول الله تعالى " فان
طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " (3 يعنى بذلك أموالهن التي في
أيديهن مما يملكن (4.
وعن أبي جعفر عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله لرجل: أنت
ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر عليه السلام: وقال رسول الله: لا يجب أن يأخذ
من مال ابنه الا ما احتاج إليه مما لابد منه، ان الله لا يحب الفساد (5).
وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم
إلى طعام غير ناظرين أناه " (6.

1) الكافي 5 / 72.
2) سورة النحل: 76.
3) سورة النساء: 4.
4) الكافي 5 / 136، والزيادة منه، وليس فيه " يعنى " الخ.
5) الاستبصار 3 / 48.
6) سورة الأحزاب: 53.
31

نهاهم عن دخول دار النبي عليه السلام بغير اذن إلى طعام غير منتظرين
بلوغ لطعام، وغير نصب على الحال، وان الطعام إذا بلغ حال النضج. ثم
قال " ولكن إذا دعيتم فأدخلوا " أي إذا دعيتم إلى الطعام فأدخلوا " فإذا طعمتم
فانتشروا " أي تفرقوا ولا تستأنسوا بطول الحديث. وانما منعوا من الاستيناس
لأجل طول الجلوس. ثم بين أن الاستيناس بطول الجلوس يؤذي النبي، وأنه
يستحيي من الحاضرين فيسكت على مضض ومشقة.
(فصل)
أما قوله تعالى " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على
المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم " (1 إلى
آخر الآية.
فقد قال ابن عباس: ليس في مؤاكلتهم حرج لأنهم كانوا يتحرجون
من ذلك.
قال الفراء: كانت الأنصار تتحرج من ذلك لأنهم كانوا يقولون الأعمى
لا يبصر فيأكل جيد الطعام دونه، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، والمريض
يضعف عن المآكل.
وقال مجاهد: أي ليس عليكم في الاكل من بيوت من سمي على جهة
حمل قراباتكم إليهم تستتبعونهم في ذلك حرج.
وقال الزهري: ليس عليهم حرج في أكلهم من بيوت الغزاة إذا خلفوهم
فيها باذنهم.
وقيل: كان المخلف في المنزل المأذون له في الاكل، فيجوز لئلا يزيد

1) سورة النور: 61.
32

على مقدار المأذون له فيها.
وقال الجبائي: الآية منسوخة بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا
بيوت النبي الا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين أناه " (1.
ويقول النبي عليه السلام: لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفسه (2.
والذي روي عن أهل البيت عليهم السلام انه لا بأس بالاكل لهؤلاء من
بيوت من ذكره الله بغير اذنهم قدر حاجتهم من غير اسراف، وهم عشرة (3.
وقوله " ولا على أنفسكم ان تأكلوا من بيوتكم " قال الفراء: لما نزل
قوله تعالى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة " (4 ترك
الناس مؤاكلة الصغير والكبير ممن أذن الله في الاكل معه، فقال تعالى وليس
عليكم في أنفسكم وفى عيالكم أن تأكلوا معهم، إلى قوله " أو صديقكم " أي
بيوت صديقكم " أو ما ملكتم مفاتحه " أي بيوت عبيدكم وأموالهم.
وقال ابن عباس: معنى " ما ملكتم مفاتحه " هو الوكيل ومن جرى مجراه.
وقال مجاهد والضحاك: هو ما ملكه الرجل نفسه في بيته.
وقال قتادة: معنى قوله " أو صديقكم " لأنه لا بأس في الاكل من بيت صديقه
بغير اذن.
وقوله تعالى " ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعا أو اشتاتا " قيل يدخل
فيه أصحاب الآفات على التغليب للمخاطب، كقولهم " أنت وزيد قمتما ". وقال
ابن عباس: معناه لا بأس أن يأكل الغني مع الفقير في بيته. وقال الضحاك.

1) سورة الأحزاب: 53.
2) مستدرك الوسائل 3 / 146.
3) انظر تفسير البرهان 3 / 152 فما بعد.
4) سورة البقرة: 188.
33

هم قوم من العرب كان الرجل منهم يتحرج أن يأكل وحده، وكانوا من كنانة.
وقال أبو صالح: كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا الا معه، فأباح
الله الاكل مفردا ومجتمعا.
والأولى حمل ذلك على عمومه وأنه يجوز الاكل وحدانا وجماعا.
(باب)
(التصرف في أموال اليتامى)
قال الله عز وجل " ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير وان تخالطوهم
فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم " (1.
معنى الآية الاذن لهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الأيتام في
الأموال من المأكل والمشرب والمسكن ونحو ذلك، فأذن الله لهم في ذلك
إذا تحروا الاصلاح بالتوفير على الأيتام - في قول الحسن وغيره، وهو المروي
في أخبارنا.
وقوله " وإخوانكم " أي فهم اخوانكم خالطتموهم أو لم تخالطوهم
" ولو شاء الله لأعنتكم " الاعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا، ومعناه التذكر
بالنعمة في التوسعة على ما توجبه الحكمة مع القدرة على التضييق الذي فيه
أعظم المشقة.
وقال أحمد بن محمد بن أبي نصر: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل
يكون في يده مال لا يتام فيحتاج إليه فيمد يده فيأخذه وينوي أن يرده. قال:
لا ينبغي له أن يأكل منه الا القصد ولا يسرف، فإن كان من نيته أن لا يرده عليهم

1) سورة البقرة: 220.
34

فهو بالمنزل الذي قال الله عز وجل " ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " (1.
وعن سماعة عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى " ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف " (2 قال: من كان يلي شيئا من أموال اليتامى وهو محتاج إلى ما يقيمه
فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر ولا يسرف، فإن كان ضيعتهم
لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يرزأن من أموالهم شيئا (3.
وسئل عليه السلام عن قوله تعالى " وان تخالطوهم فإخوانكم " قال: يعنى
اليتامى. إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره فليخرج من ماله على قدر [ما
يحتاج إليه على قدر] ما تخرج لكل انسان منهم فيخالطهم ويأكلون جميعا ولا
يرزأن من أموالهم شيئا، انما هي النار (4 - أي ما يضيعه منه.
وقال عليه السلام في قوله تعالى " فليأكل بالمعروف " المعروف هو القوت
وانما عنى الوصي والقيم في أموالهم بما يصلحهم (5.
وعن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى " ومن
كان فقيرا فليأكل بالمعروف " [فقال: ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس
أن يأكل بالمعروف] إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كان المال قليلا فلا يأكل
منه شيئا. قال: قلت أرأيت قول الله عز وجل " وان تخالطوهم فإخوانكم "؟
قال: تخرج من أموالهم بقدر ما يكفيهم وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ثم
تنفقه. قلت: أرأيت ان كانوا يتامى صغارا وكبارا وبعضهم أعلا كسوة من بعض
وبعضهم آكل من بعض ومالهم جميعا. فقال: أما الكسوة فعلى كل انسان منهم

1) سورة البقرة: 219. والحديث في الكافي 5 / 128.
2) سورة النساء: 5.
3) تهذيب الأحكام 6 / 340.
4) تهذيب الأحكام 6 / 340، والزيادة منه.
5) الكافي 5 / 130.
35

ثمن كسوته، وأما الطعام فاجعلوه جميعا، فان الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير (1.
(باب)
(من يجبر الانسان على نفقته)
الذين يجب لهم النفقة بنص القرآن منهم: الولد لقوله تعالى " ولا تقتلوا
أولادكم خشية املاق " (2) يعنى خشية الفقر، فلولا أن على الوالد نفقة الولد ما قتله
خشية الفقر.
وهذا الخطاب متوجه إلى الأغنياء الذين يخافون الفقر إن انفقوا على أولادهم
أموالهم، فقال تعالى لهم لا تقتلوا أولادكم فاني أرزقهم كما رزقتكم. وخاطب
الفقراء بالآية الأخرى فقال تعالى " ولا تقتلوا أولادكم من املاق " فاني أرزقهم
وإياكم (3.
فصح أن نفقة الولد على الوالد واجبة، سواء كان له مال أو حرفة وصناعة
أو أي حيلة يحصل بها ما يقوته ويتبلغ هو به.
وقول الله " لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده " (4 يمنع من الاضرار به.
أما قوله تعالى " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " (5 فإنه تعالى أراد به
المطلقات دون الزوجات، بدلالة أنه تعالى أو جب الأجرة بشرط الرضاع الا إذا
كانت ناشزا لا تستحق منه النفقة، ولأنه تعالى سماه أجرة والنفقة لا تسمى بذلك.
وأما وجوب نفقة الوالد على الولد فعلى كل ولد أن ينفق على والده في

1) الكافي 5 / 130 والزيادة منه.
2) سورة الإسراء: 31.
3) سورة الأنعام: 151.
4) سورة البقرة: 233.
5) سورة الطلاق: 6.
36

الجملة، وعلى الوالدة أيضا. هذا إذا كان له يسار وما يجري مجراه، والدليل
على هذا قوله تعالى " وصاحبهما في الدنيا معروفا " (1، فعلى هذا ان احتاج
الوالد ولا ينفق الولد عليه يجوز للوالد حينئذ أن يأخذ من مال ولده قدر ما يحتاج
إليه من غير اسراف بل على طريق القصد.
فأما من كان له أولاد صغار فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من أموالهم الا قرضا
على نفسه. وأما الوالدة فلا يجوز لها أن تأخذ من ولدها شيئا على حال الا على
سبيل القرض على نفسها.
والمرأة لا يجوز لها أن تأخذ من بيت زوجها من غير اذنه الا المأدوم، فان
ذلك مباح لها أن تتصرف فيه ما لم يؤد إلى ضرر.
ويجبر الرجل على نفقة ستة: ولده، ووالديه، وجده، وجدته من الطرفين،
وزوجته، والمملوك أيضا.
ويستحب له النفقة على الآخرين من ذوي أرحامه.
وإذا كان للولد مال ولم يكن لوالده شئ جاز له أن يأخذ منه ما يحج
به حجة الاسلام، فأما حجة التطوع فلا يجوز له الا باذنه.
(باب السبق والرماية)
قال الله تعالى " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون
به عدو الله وعدوكم " (2.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: ألا ان القوة الرمي - ثلاثا.
ووجه الدلالة أن الله أمر باعداد الرمي ورباط الخيل للحرب ولقاء العدو.

1) سورة لقمان: 15.
2) سورة الانفعال: 60.
37

والاعداد لا يكون الا بالتعلم، والنهاية في التعلم المسابقة في ذلك ليكد كل واحد
نفسه في بلوغ النهاية والحذف فيه، فكان في ضمن الآية دليل على ما قلناه.
وقال تعالى حكاية عن ولد يعقوب " يا أبانا انا ذهبنا نستبق " (1 فأخبر بالمسابقة.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر (2 بسكون
الباء وفتحها. فالسكون مصدر، وبالفتح الفرض المخرج في المسابقة. فأحل
عليه السلام السبق وأباحه في هذه الثلاثة.
وسئل أنس: هل كنتم تراهنون؟ فقال: نعم.
ولا خلاف في جوازه، وانما الخلاف في أعيان المسائل.
فإذا تقرر جواز ذلك في الجملة فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه وما لا يجوز.
فما تضمنه الخبر من النصل والحافر والخف ضربان: أحدهما نشابة وهي
للعجم، والاخر السهم وهو للعرب. والمزاريق - وهي الردينيات - والرماح
والسيوف كل ذلك من النصل. ويجوز المسابقة عليه بعوض لقوله تعالى " وأعدوا
لهم ما استطعتم " الآية.
وأما الخف فالإبل، يجوز المسابقة عليها لقوله " فما أوجفتم عليه من خيل
ولا ركاب " (3، فالركاب الإبل. وكذا المسابقة على الخيل فجائز، لقوله " ومن
رباط الخيل " (4 وقوله " من خيل ولا ركاب "، وعليه الاجماع.

1) سورة يوسف: 17.
2) وسائل الشيعة 13 / 349.
3) سورة الحشر: 6.
4) سورة الأنفال: 60.
38

(باب الزيادات)
قوله تعالى " كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه " (1.
ركب علي عليه السلام يوما دلدل ليخرج إلى موضع، فأتى مسجد الكوفة
ليصلي فيه ركعتين ثم يخرج وكان منفردا، فلما وصل إلى باب المسجد رأى
رجلا هناك فقال: احفظها لادخل المسجد فإذا خرجت أعطيتك شيئا. فأخذ
الرجل اللجام من رأس البغلة ومضى، فلما خرج عليه السلام من الصلاة فإذا
بقنبر وجماعة من الناس حول البغلة ولم يكن عليها اللجام، فقال عليه السلام:
سبحان الله اني أخذت درهمين لأدفعهما إليه، فدفعهما إلى قنبر ليشتري بهما
لجاما. فلما دخل قنبر أول السوق فإذا الرجل باعه بدرهمين قراضة، فلما عاد
أقبل أمير المؤمنين على الناس وقال: لا تتعرضوا للحرام، ولا تأكلوا مال غيركم
غصبا فتحرموا في يومكم مقدار ذلك من رزقكم. وكل من أمكنه أن يأخذ مال
غيره على وجه الحرام ولا يأخذ فالله يرزقه في ذلك اليوم مقدار ذلك من حيث
لا يحتسب حلالا طيبا، قال تعالى " كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه ".

1) سورة طه: 81.
39

كتاب المتاجر
قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن
تكون تجارة عن تراض منكم " (1.
نهى الله عن أكل الأموال بالباطل، واستثنى المتاجر من ذلك وجعلها حقا
يخرج به مستعملها من الباطل.
وقيل في معناه قولان:
أحدهما - قال السدي: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالربا والقمار والبخس
والظلم. وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
الثاني - قال الحسن: بغير استحقاق من طريق الأعواض.
وكان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما أنزلت هذه الآية
إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة النور " ليس على الأعمى حرج ولا على
الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم "

1) سورة النساء: 29.
40

إلى قوله تعالى " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا " (1.
والأول أقوى، لان ما أكل على وجه مكارم الأخلاق فليس هو أكلا بالباطل.
وقيل: معناه التجاوز والاخذ من غير وجهه ولذلك قال تعالى " بينكم ".
وقوله تعالى " الا أن تكون تجارة " فيه دلالة على بطلان من حرم الكسب،
لان الله حرم أكل الأموال بالباطل وأحله بالتجارة على طريق المكاسب، ومثله
قوله " وأحل الله البيع وحرم الربا " (2.
وقوله تعالى " عن تراض منكم " قيل في معنى التراضي بالتجارة قولان:
أحدهما - امضاء البيع بالتفرق أو التخاير بعد العقد في قول شريح والشعبي
وابن سيرين، لقوله عليه السلام " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " (3 أو يكون بيع
خيار. وربما قالوا أو يقول أحدهما للاخر اختر، وهو مذهبنا.
الثاني - امضاء البيع بالعقد على قول مالك بن أنس وأبي حنيفة بعلة رده
إلى عقد النكاح، ولا خلاف أنه لا خيار فيه بعد الافتراق. وقيل معناه إذا تغابنوا
فيه مع التراضي فإنه جائز.
ثم قال تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " أي لا تهلكوها بترك التجارة وبارتكاب
الآثام والعدوان في أكل الأموال بالباطل وغيره " ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما
فسوف نصليه نارا " الإشارة إلى أكل الأموال بالباطل.
وقوله تعالى " الا أن تكون تجارة " من رفع فالمعنى الا أن يقع، ومن نصب
فمعناه الا أن تكون الأموال تجارة، أي أموال تجارة، وحذف المضاف، ويكون
الاستثناء منقطعا، ويجوز أن يكون التقدير الا أن تكون التجارة تجارة. والرفع
أقوى، لأنه أدل على الاستثناء، فان التحريم لاكل المال بالباطل على الاطلاق.

1) سورة النور: 61.
2) سورة البقرة: 275.
3) الكافي 5 / 170.
41

(باب آداب التجارة)
قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا
لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " (1.
فندب تعالى إلى الانفاق من طيب الاكتساب، ونهى عن طلب الخبيث
للمعيشة به والانفاق، فمن لم يتفقه لم يميز بين العقود الصحيحة والفاسدة ولم
يعرف فرق ما بين الحلال والحرام من الكسب، فلم يكن مجتنبا للخبيث من
الأعمال.
وينبغي للتاجر إذا عامله مؤمن ألا يربح عليه الا في حال الضرورة، ويقنع
بما لابد له من اليسير مع الاضطرار أيضا.
قال تعالى " خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين " (2 أمر الله
نبيه عليه السلام أن يأخذ مع الناس بالعفو، وهو التساهل فيما بينه وبينهم، وأن
يترك الاستقصاء عليهم في ذلك. وهذا يكون في مطالبة الحقوق الواجبة لله
وللناس وفي غيرها، وهو في معنى الخبر عن النبي عليه السلام: رحم الله سهل
القضاء سهل الاقتضاء بائعا ومشتريا.
ولا ينافي ذلك أن لصاحب الحق والديون وغيرها استيفاء الحق وملازمة
صاحبه حتى يستوفيه، لان ذلك مندوب إليه دون أن يكون واجبا.
" وأمر بالعرف " أي المعروف، وهو كل ما حسن في العقل فعله أو في
الشرع " وأعرض عن الجاهلين " [أمر بالاعراض عن السفيه الذي ان بايعه

1) سورة البقرة: 267.
2) سورة الأعراف: 199.
42

أو شاراه سفه عليه] (1 وآذاه، والى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله
لأهل السوق كل بكرة يغتدي إليهم: تبركوا بالسهولة، واقتربوا من المتبايعين،
وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب والظلم، ولا تقربوا الربا، وأوفوا المكيال
والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، وإياكم
ومخالطة السفلة وهو الذي لا يبالي بما قال وما قيل له، ولا تعاملوا الا من يشاء في
خير، قال تعالى " وأعرض عن الجاهلين " (2.
(فصل)
قال الله تعالى " وأوفوا الكيل إذا كلتم " (3 ولا يكون الوفاء حتى يميل الميزان.
وكان عليه السلام يقول: زن يا وزان وأرجح. فلهذا أمرنا أن لا نأخذ الا
ناقصا وان لا نعطي الا راجحا.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: من باع واشترى فليحفظ خمس خصال
والا فلا يشتري ولا يبيع: الربا، والحلف، وكتمان العيب، والمدح إذا باع،
والذم إذا اشترى (4.
قال الله تعالى " أحل الله البيع وحرم الربا " (5).
وقال " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " (6).

1) ليست الزيادة في ج.
2) وسائل الشيعة 12 / 284.
3) سورة الإسراء: 35.
4) وسائل الشيعة 12 / 284.
5) سورة البقرة: 275.
6) سورة البقرة: 224.
43

وقال " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم
تعلمون " (1.
فلا ينبغي تزيين متاعه، بأن يري جيده ويكتم رديه، ولقوله تعالى " وما
كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة " (2 فالغلول الخيانة، لأنه
يجري في الملك على خفى من غير الوجه الذي يحل، كالغلل وهو دخول الماء
في خلل الشجر. وانما خصت الخيانة بالصفة دون السرقة لأنه يجري إليها
بسهولة، لأنها مع عقد الأمانة.
وقال النبي عليه السلام حين مر على رجل يبيع التمر وكان يخلط الردئ
بالجيد: من غشنا فليس منا (3.
ولا يجوز أن يشوب اللبن بالماء، لان العيب لا يتبين فيه.
وعن إسحاق: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يبعث إلى الرجل
يقول له: ابتع لي ثوبا، فيطلب له في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في
السوق فيعطيه من عنده؟ قال: لا يقربن هذا ولا يدنس نفسه، ان الله عز وجل
يقول " انا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها
وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا " (4، وإن كان ما عنده خيرا
مما يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده الا باعلامه ذلك (5.
وكذلك من باع لغيره شيئا فلا يشتريه لنفسه وان زاد في ثمنه على ما يطلب
في الحال الا بعلم من صاحبه واذن من جهته.

1) سورة الأنفال: 27.
2) سورة آل عمران: 161.
3) انظر وسائل الشيعة 12 / 208 - 211 ففيه أحاديث بهذا المضمون لا بهذا اللفظ.
4) سورة الأحزاب: 72.
5) تهذيب الأحكام 6 / 352 مع اختلاف يسير.
44

ولا يجوز للرجل أن يدخل في سوم أخيه، فقد عاتب الله نبيه داود فقال
" ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها " (1 الآية
وإذا تعسر عليه نوع من التجارة فليتحول منه إلى غيره.
(باب أحكام الربا)
قال الله تعالى " الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس " (2.
أصل الربا الزيادة، من قولهم ربا الشئ يربو: إذا زاد، والربا هو الزيادة
على رأس المال في جنسه أو مماثله، وذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة
في الاجل، أو كاعطاء درهم بدرهمين أو دينار بدينارين.
والمنصوص عليه تحريم التفاضل في ستة أشياء: الذهب، والفضة، والحنطة،
والشعير، والتمر، والملح. وقيل الزبيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
فيها: مثلا بمثل يدا بيد، من زاد واستزاد فقد أربى.
فهذه الستة أشياء لا خلاف بينهم في حصول الربا فيها، وباقي الأشياء عند
الفقهاء مقيس عليها، وفيها خلاف بينهم.
وعندنا ان الربا في كل ما يؤكل ويوزن إذا كان الجنس واحدا منصوصا
عليه، والعموم يتناول كل ذلك ولا يحتاج إلى قياس.
والربا محرم متوعد عليه كبيرة موبقة بلا خلاف بهذه الآية وبقوله " يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " (3 وبقوله: فإن لم تفعلوا فأذنوا

1) سورة ص: 23.
2) سورة البقرة: 275.
3) سورة البقرة: 278.
45

بحرب من الله ورسوله " (1.
أما قوله " لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال
ابن عباس: ان قيامهم على هذه الصفة يكون يوم القيامة إذا قاموا من قبورهم،
ويكون ذلك أمارة على أنهم آكلة الربا.
وقوله " يتخبطه الشيطان من المس " مثل لا حقيقة عند الجبائي على وجه
النسبة بحال من تغلب عليه المرة السوداء، فتضعف نفسه، ونسب إلى الشيطان
مجازا لما كان عند وسوسته.
ثم قال " ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا " معناه ذلك العقاب لهم
بسبب قولهم انما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا.
قال ابن عباس: كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه يطالبه به، قال
المطلوب منه له زدني في الاجل وأزيدك في المال، فيتراضيان عليه ويعملان
به، فإذا قيل لهم هذا ربا قالوا هما سواء، يعنون به أن الزيادة في الثمن حال
البيع والزيادة فيه بسبب الاجل عند محل الدين سواء، فذمهم الله وأوعدهم
وخطأهم.
وقال بعضهم: انهم قالوا الزيادة على رأس المال بعد تصييره على جهة
الدين كالزيادة عليه في ابتداء البيع، وذلك خطأ لان أحدهما محرم والاخر
مباح، وهو أيضا منفصل منه في العقد، لان الزيادة في أحدهما لتأخير الدين
وفي الاخر لأجل البيع.
والفرق بين البيع والربا أن البيع ببدل، لان الثمن فيه بدل المثمن، والربا
ليس كذلك، وانما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الاجل أو زيادة في الجنس.
" وقد أحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف "

1) سورة البقرة: 279.
46

أي له ما أكل، وليس عليه رد ما سلف إذا لم يكن علم أنه حرام.
قال أبو جعفر عليه السلام: من أدرك الاسلام وتاب مما كان عمله في الجاهلية
وضع الله عنه ما سلف. فمن ارتكب ربا بجهالة ولم يعلم أن ذلك محظور
فليستغفر الله في المستقبل وليس عليه فيما مضى شئ، ومتى علم أن ذلك محرم
وتمكن من عمله فكل ما يحصل له من ذلك محرم عليه ويجب عليه رده إلى
صاحبه.
وقال السدي في معنى قوله " فله ما سلف " له ما أكله وليس عليه رد ما سلف،
فأما من لم يقبض بعد فلا يجوز له أخذه وله رأس المال.
ويحتمل أن يكون أراد " فله ما سلف " يعني من الربا المأخوذ دون العقاب
الذي استحقه.
وقوله " وأمره إلى الله " معناه في جواز العفو عنه ان لم يتب " ومن عاد "
لاكل الربا بعد التحريم " فأولئك أصحاب النار " لان ذلك لا يصدر الا عن كافر،
لان مستحل الربا كافر بالاجماع.
(فصل)
والوعيد في الآية متوجهة إلى من أربى وان لم يأكله، وانما ذكر الله الذين
يأكلون الربا لأنها في قوم كانوا يأكلونه فوصفهم بصفتهم، فحكمها ثابت
في جميع من أربي. والآية الأخرى التي ذكرناها تبين ما قلناه، وعليه أيضا الاجماع.
وقيل: الوجه في تحريم الربا أن فيه تعطيل المعايش والاجلاب، فالتاجر
إذا وجد المربى ومن يعطيه دراهم فضلا بدراهم لا يقرض. وقد قال أبو عبد الله
عليه السلام: انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف
47

قرضا أو رفدا (1.
ثم قال تعالى " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " (2. المحق نقصان الشئ
حالا بعد حال. قال البلخي: محقه في الدنيا بسقوط عدالته والحكم بفسقه
وتسميته به.
وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا اضعافا مضاعفة " (3 قيل
في تحريم الربا خاصة، مع ما في قوله " أحل الله البيع وحرم الربا " (4 وغير
ذلك قولان:
أحدهما - التصريح بالنهي عنه بعد الاخبار بتحريمه، فلما في ذلك من
تصريف الحظر له وشدة التحذير منه.
الثاني - لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الذي يجري على الأضعاف
المضاعفة. وقيل في معناه ههنا قولان: أحدهما للمضاعفة بالتأخير أجلا بعد
أجل كما أخر أجلا إلى غيره زيد عليه زيادة على المال. الثاني أي
تضاعفون به أموالكم.
والربا المنهي عنه قال عطا ومجاهد هو ربا الجاهلية، وهو الزيادة على
أصل المال للتأخير عن الاجل الحال، ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة
من جهة المضاعفة.
ووجه تحريم الربا هو المصلحة التي علم الله تعالى، فان ذلك يدعو إلى
العدل ويحض عليه، ويدعو أيضا إلى مكارم الأخلاق بالاقراض وانظار المعسر
من غير زيادة.

1) في الوسائل 12 / 422 فما بعد أحاديث بهذا المعنى.
2) سورة البقرة: 276.
3) سورة آل عمران: 130.
4) سورة البقرة: 275.
48

ومعنى " لا تأكلوا الربا " لا تزيدوا على رأس المال، وليس المراد النهي
عن الاكل فقط، وانما جاز ذلك لأنه معلوم المراد.
وقوله تعالى " أضعافا مضاعفة " حال للرباء، والاضعاف جمع ضعف، والربا
مصدر، كأنه قال: لا تزيدوا زيادة متكررة.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وآله أن قليل الربا حرام ككثيرة.
وسئل الصادق عليه السلام عن قوله " يمحق الله الربا ويربي الصدقات "
وقيل قد أربى من يأكل الربا يربو ماله؟ قال أي محق أمحق من درهم ربا
يمحق الدين، وان تاب منه ذهب ماله وافتقر (1.
(باب)
(البيع بالنقد والنسيئة والشرط في العقود)
البيع نقدا ونسيئة جائز، لان قول الله عز وجل " وأحل الله البيع " يتناوله
على كل الوجوه، فمن باع شيئا ولم يذكر فيه ثمنه نقدا ولا نسيئة كان الثمن
حالا.
فان ذكر أن يكون الثمن آجلا فلا يخلو اما أن يكون مجهولا مثل قدوم
الحاج وادراك الغلات فالبيع باطل على هذا، وإن كان الاجل معينا كان البيع
صحيحا، والأجل على ما ذكر. والذي يدل على هذا الفصل والتفصيل قوله
تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " (2.
وكذلك إذا باع بنسيئة ولم يذكر الاجل أصلا كان البيع أيضا باطلا، لان
الله اعتبر في هذه الآية الاجل وأن يكون ذلك الاجل مسمى معينا.

1) وسائل الشيعة 12 / 424.
2) سورة البقرة: 282.
49

والآية تدل على صحة اشتراء السلف، وصحته بيع النسيئة بشرط تعيين
أجلهما.
ولابد من حضور الثمن والمثمن، ولا يجوز تأخير الثمن عن وقت وجوبه
لزيادة فيه، لأنه ربا على ما ذكرناه. [ولا بأس بتعجيله بنقصان شئ منه،
لقوله تعالى " فلا جناح عليهما أن يصلحا "] (1.
(فصل)
وقوله تعالى " وأحل الله البيع " عام في كل بيع شرعي.
ثم اعلم أن البيع هو انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدر
على وجه التراضي على ما يقتضيه الشرع.
وهو على ثلاثة أضرب: بيع عين مرئية، وبيع موصوف في الذمة، وبيع
خيار الرؤية.
فأما بيع الأعيان المرئية: فهو أن يبيع انسان عبدا حاضرا أو ثوبا حاضرا
أو عينا من الأعيان حاضرة فيشاهد البائع والمشتري ذلك، فهذا بيع صحيح
بلا خلاف.
وأما بيع الموصوف في الذمة: فهو أن يسلمه في شئ موصوف إلى أجل
معلوم ويذكر الصفات المقصودة، فهذا أيضا صحيح بلا خلاف.
واما بيع خيار الرؤية: فهو بيع الأعيان الغائبة، وهو أن يبتاع شيئا لم يره
مثل أن يقول " بعتك هذا الثواب الذي في كمي " أو " الثوب الذي في الصندوق "
وما أشبه ذلك، فيذكر جنس المبيع فيتميز من غير جنسه ويذكر الصفة. ولا فرق
بين أن يكون البائع رآه والمشتري لم يره أو يكون المشتري رآه والبائع لم

1) الزيادة من م.
50

يره أو لم يرياه معا. فإذا عقد البيع ثم رأى المبيع فوجده على ما وصفه كان
البيع ماضيا، وان وجده بخلافه كان له رده وفسخ العقد.
ولابد من ذكر الجنس والصفة: فمتى لم يذكر هما أو واحدا منهما لم يصح
البيع. ومتى شرط المشتري خيار الرؤية لنفسه كان جائزا، فإذا رآه بالصفة
التي ذكرها لم يكن له الخيار، وان وجده مخالفا كان له الخيار. هذا إذا لم يكن
رآه، وإن كان قد رآه، فلا وجه لشرط الرؤية لأنه عالم به قبل الرؤية.
وقوله تعالى " الا أن تكون تجارة عن تراض منكم " يدل أيضا على أكثر
ما ذكرناه.
(فصل)
وقوله تعالى " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " يدل على صحة السلف
في جميع المبيعات، وانما يجوز ذلك إذا جمع شرطين: تمييز الجنس من
غيره مع تحديده بالوصف، والثاني ذكر الاجل فيه. فإذا اختل شئ منهما لم
يصح السلف، وهو بيع مخصوص.
وكل شئ لا يتحدد بالوصف - مثل روايا الماء والخبز واللحم - لم
يصح السلف فيه، لان ذلك لا يمكن تحديده بوصف لا يختلط به سواه. وقال
بعض أصحابنا انه جائز، والأول أظهر.
وكل شرط يوافق شريعة الاسلام اعتبره المشتري فإنه يلزم، لقوله تعالى
" أوفوا بالعقود " ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله " المؤمنون عند شروطهم ".
وعن فضيل: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما الشرط في الحيوان؟ قال:
ثلاثة أيام شرط ذلك في ضمن العقد أو لم يشرط، ويكون الخيار للمبتاع خاصة
في هذه المدة ما لم يحدث فيه حدثا. قلت: فما الشرط في غير الحيوان؟ قال:
51

البيعان في الخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما الا أن يشترطا
إلى مدة معينة (1.
وقال عليه السلام: لا بأس بالسلم في المتاع [إذا وصفت الطول والعرض (2
إلى أجل معلوم، وفي الحيوان] (3 إذا وصفت أسنانها (4.
وقوله تعالى " وأشهدوا إذا تبايعتم " (5 يختص بهذا النوع من المبايعة.
(باب)
(في أشياء تتعلق بالمبايعة ونحوها)
الاحتكار يكون في ستة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب،
والسمن، والملح.
وهو حبسها من البيع، ولا يجوز ذلك وبالناس حاجة ولا يوجد غيره في
البلد. فإذا ضاق الطعام ولا يوجد الا عند من احتكره كان للسلطان أن يجبره على
بيعه، ولم يكرهه على سعر بعينه إذا باع هو على التقريب من سعر الوقت. فإن كان
سعر الغلة مثلا عشرين منا بدينار فلا يمكن أن يبيع خمسة أمنان بدينار، ويجبره
على ما هو مقاربة للعشرين.
وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وآله لقوله تعالى " وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم ".
وقال عليه السلام: علامة رضا الله في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم،

1) الكافي 5 / 170 بمضمونه.
2) إلى هنا في رواية في الكافي 5 / 199.
3) الزيادة من م.
4) الكافي 5 / 220.
5) سورة البقرة: 282.
52

[وعلامة غضب الله على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم] (1.
وعلى هذا قوله تعالى حكاية عن اخوة يوسف عليه السلام له " يا أيها العزيز
مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل " (2
وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله قوما فشكوا إليه سرعة نفاد طعامهم.
فقال تكيلون أم تهيلون (3؟ فقالوا: نهيل يا رسول الله - يعنون الجزاف. فقال عليه
السلام لهم: كيلوا ولا تهيلوا فإنه أعظم للبركة (4.
وروي: أن من أهان بالمأكول أصابه المجاعة.
وقال أبو عبد الله عليه السلام: إذا أصابتكم مجاعة فأعينوا بالزبيب (5.
وقوله تعالى " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير " (6 معناه لو كنت
عالما بما يكون من أحوال الدنيا لاشتريت في الرخص وبعت في الغلاء " وما
مسني السوء " أي الفقر.
فان قيل: فهل اطلع نبيه على الغيب؟
قلنا: على الاطلاق لا، لان الله تعالى يقول " وما كان الله ليطلعكم على
الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء " (7 والمعنى ولكن الله اجتبى رسوله
بأعلامه كثيرا من الغائبات.

1) الكافي 5 / 162 والزيادة منه ومن م.
2) سورة يوسف: 88.
3) كل شئ أرسلته ارسالا من رمل أو تراب أو طعام ونحوه قلت هلته أهيله هيلا فانهال
أي جرى وانصب.. وأهلت الدقيق لغة في هلت - صحاح اللغة 5 / 1855.
4) الكافي 5 / 167.
5) المصدر السابق 5 / 308.
6) سورة الأعراف: 188.
7) سورة آل عمران: 179.
53

وقال أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتم بشئ فسلوني من كتاب الله. ثم
قال في حديثه: ان الله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال. فقالوا:
يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله! فقال: ان الله يقول في كتابه " لا خير في
كثير من نجواهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس " (1 وقال
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " (2 وقال " لا تسئلوا عن أشياء
ان تبد لكم تسؤكم " (3. ثم قال: لا تمانعوا قرض الخمير والجبن، فان منعه
يورث الفقر.
وقال علي عليه السلام: من باع الطعام نزعت منه الرحمة (4.
وقال أبو الحسن عليه السلام: من اشترى الحنطة زاد ماله، ومن اشترى
الدقيق ذهب نصف ماله، ومن اشترى الخبز ذهب ماله. وذلك لمن يقدر ولا يفعل (5.
(فصل)
وقوله تعالى " وأوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس
المستقيم " (6 المعين أعطوا الواجب وافيا غير ناقص، ويدخل الوفاء في الكيل
والذرع والعدد. والمخسر: المعرض للخسران في رأس المال، يقال أخسر
يخسر: إذا جعله يخسر في ماله، وهو نقيض أربحه. والقسطاس الميزان. نهاهم

1) سورة النساء: 113.
2) سورة النساء: 4.
3) سورة المائدة: 104. والحديث في تهذيب الأحكام 7 / 231، وليس فيه الذيل
المذكور هنا.
4) وسائل الشيعة 12 / 99.
5) الكافي 5 / 166 بهذا المعنى عن الصادق عليه السلام وليس بلفظه.
6) سورة الشعراء: 181 - 182.
54

الله أن يكونوا من المخسرين.
وقال تعالى " ولا تنقصوا المكيال والميزان اني أراكم بخير " (1 نهاهم أن
يبخسوا الناس فيما يكيلونه أو يزنونه، وقال لهم " اني أراكم بخير " أي برخص
السعر، وحذرهم الغلاء في قول ابن عباس.
وقال تعالى " ويل للمطففين " (2 هدد الله بهذا الخطاب كل من بخس غيره
حقه ونقصه ماله من مكيل وموزون، فالبائع والمشتري مخاطبان بهذا، لان
الكيل ووزن المتاع على البائع فتوفية ذلك عليه، ووزن الثمن على المشتري.
فإن لم يحسنا ذلك لم يتعرضا له وليول كل واحد منهما ما عليه غيره وأجرته
عليه، والكيال ووزان الا متعة يعينان البائع فأجرتهما عليه، والناقد ووزان الذهب
والفضة يعينان المشتري فأجرتهما عليه.
والتطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن. ولفظة " المطففين "
صفة ذم لا يطلق على من طفف شيئا يسيرا إلى أن يصير إلى حال يتفاحش. وفي
الناس من قال لا يطلق حتى يطفف أقل ما يجب فيه القطع في السرقة، لان ما يقطع
فيه فهو كثير.
قال ابن عباس: كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلا إلى أن أنزل الله
هذه الآية فأحسنوا الكيل.
ثم قال تعالى " الذين إذا اكتالوا على الناس " أي أخذوا ما عليهم " وإذا
كالوهم أو وزنوهم " فان بعض المفسرين يجعلهم فعلا في موضع رفع بمعنى
الفاعل والباقون يجعلونه في موضع نصب، وهو الصحيح.

1) سورة هود: 84.
2) سورة المطففين: 1.
55

(فصل)
وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " (1
يدل على أنه إذا كان لرجل مال فيه عيب وأراد بيعه وجب عليه أن يبين للمشتري
عيبه ولا يكتمه، أو يتبرأ إليه من العيوب، والأحوط الأول.
قال تعالى " وتخونوا أماناتكم " أي ولا تخونوا أماناتكم، وعمومه يدل
على أكثر مسائل البيع، فإن لم يبين البائع العيب الذي في المبيع واشتراه
انسان فوجد به العيب كان المشتري بالخيار ان شاء رضي به وان شاء رده
بالعيب واسترجع الثمن وان شاء أخذ الأرش.
وان اختار فسخ البيع ورد المبيع فإن لم يكن حصل من جهة المبيع نماء
رده واسترجع الثمن، وان حصل نماء وفائدة فلا يخلو أن يكون كسبا من جهته
أو نتاجا وثمرة، فإن كان كسبا مثل أن كسب بعمله أو بتجارته أو يوهب له شئ أو
يصطاد أو يحتطب فإنه يرد المعيب ولا يرد الكسب، لقول النبي عليه السلام: الخراج
بالضمان. والخراج اسم للفائدة والغلة التي تحصل من جهة المبيع، ومعنى الخبر أن
الخراج لمن يكون المال يتلف من ملكه، ولما كان المبيع ان تلف يتلف من ملك
المشتري - لأن الضمان انتقل إليه - كان الخراج له والنتاج والثمرة أيضا للمشتري،
وان حصل من المبيع نماء قبل القبض كان ذلك للبائع إذا أراد الرد بالعيب،
لان ضمانه على الظاهر من الخبر على البائع ههنا.
ولا يجوز لكافر أن يشتري عبدا مسلما ولا يثبت ملكه عليه، لقوله تعالى " ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " (2.

1) سورة الأنفال: 27.
2) سورة النساء: 141.
56

ولا يجوز بيع رباع مكة ولا اجارته، لقوله تعالى " سواء العاكف فيه
والبادي " (1.
وقال أبو عبد الله عليه السلام: اشتروا وإن كان غاليا، فان الرزق ينزل مع
الشراء (2.
وقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يأذن لحكيم بن حزام في
تجارة حتى ضمن له إقالة النادم وانظار المعسر وأخذ الحق واعطاء الحق (3.
وقيل في قوله تعالى " أحل الله البيع وحرام الربا " يحتمل احلال الله
البيع معنيين:
أحدهما - أن يكون احلال بيع يعقده البيعان عن تراض منهما وكانا
جايزي الامر. وهذا لا يصح، لان الله لما أحل البيع وحرم الربا وقد يتراضيان
بما يؤدي إلى الربا، ولا يصح ذلك.
والثاني - أن يكون أحل الله البيع المشروع، فيكون من العام الذي أراد
به الخاص، فبين النبي صلى الله عليه وآله ما أحله الله وما حرمه، أو يكون داخلا
فيهما. فأصل البيع كله مباح الا ما نهى النبي عليه السلام، وما فارق ذلك من
البيوع التي لا ربا فيها أبحناه بما وصفنا من إباحة الله البيع.
ونظيره قولنا ان السلم مخصوص من خبر النهي عن بيع ما ليس عند الانسان
ولا يكون داخلا في عمومه.
ومن هذا الجنس ما أمر الله به من قتال المشركين كافة، وقوله تعالى " حتى

1) سورة الحج: 25.
2) تهذيب الأحكام 7 / 4.
3) الكافي 5 / 151 مع اختلاف يسير.
57

يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (1. فلم يدخل أهل الكتاب في عموم النهي
أمرنا فيها بقتال المشركين، فلما قال رسول الله " يا حكيم بن حزام لا تبع ما ليس
عندك " واذن في السلف علمنا أن هذا لا يدخل في عموم الأول.
(باب الرهن وأحكامه)
قال الله تعالى " وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " (2 الرهن
في اللغة الثبات والدوام، وفي الشريعة اسم لما يجعل وثيقة في دين، وهو جائز
بالاجماع والسنة والكتاب.
قال الله تعالى " فرهان مقبوضة " تقديره والوثيقة رهن ويجوز فعليه رهن
مقبوضة.
وقال أبو عبد الله عليه السلام: ان النبي صلى الله عليه وآله رهن درعه عند أبي
الشحم اليهودي على شعير أخذه لأهله (3.
قيل: وانما عدل عن أصحابه إلى يهودي لئلا يلزمه منه بالابراء، فإنه لم
يأمن ان استقرض من بعضهم أن يبرئه منه، وذلك يدل على أن الابراء يصح من
غير قبول المبرأ.
وعقد الرهن يحتاج إلى ايجاب وقبول وقبض برضا الراهن.
وليس الرهن بواجب، وانما هو وثيقة جعلت إلى رضا المتعاقدين،
ويجوز في السفر والحضر.
والدين الذي يجوز أخذ الرهن به هو كل دين ثابت في الذمة، مثل الثمن

1) سورة التوبة: 29.
2) سورة البقرة: 283.
3) مستدرك الوسائل 2 / 494 بمضمونه.
58

والأجرة والمهر والعوض في الخلع وأرش الجناية وقيمة المتلف، كل ذلك
يجوز أخذ الرهن به.
وفي الدية على العاقلة يجوز بعد الحول وقبل الحول لا يجوز، فإن لم
يقبض المرهون لم ينعقد الرهن، لان الله جعل من شرط صحة الرهن أن تكون
مقبوضة، قال تعالى " فرهان مقبوضة ".
والرهن والرهان (1 كلاهما جمع، وأحدهما رهن، كجبل وجبال وسقف
وسقف، ولا يعرف في الأسماء فعل وفعل غير هذين. ولو قلنا الرهن جمع الجمع
- لان فعالا وفعالا كثير - لكان أقيس.
ويجوز أخذ الرهن في الحضر مع وجود الكاتب، لما قدمنا أن النبي صلى
الله عليه وآله اشترى طعاما نسيئة ورهن فيه درعا.
ولما أمر تعالى بالاشهاد في السلم بقوله " وأشهدوا إذا تبايعتم " سنة واحتياطا،
أمر بالرهن احتياطا أيضا إذا لم يوجد كاتب ولا شهيد.
وانما أورد ذكر كون السفر فيه وشرط الكلام به: اما لان تلك الحال التي
نزلت الآية فيها كانت على تلك الصفة، واما لان فقدان البينة على الأغلب في
حال السفر لا لأنه شرط في صحته.
(فصل)
ثم قال تعالى " فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أوتمن أمانته " (2. فبين
سبحانه بهذا أن الاشهاد والكتابة في المداينة والرهن ليس بواجب على ما ذكرناه،
وانما هو على جهة الاحتياط. معناه ان ائتمنه فلم يقبض منه رهنا فليؤد الذي

1) بضم الراء في الأول وكسره في الثاني.
2) سورة البقرة: 283.
59

اؤتمن الأمانة، يعني على الذي عليه الدين بأن يؤدي إليه حقه في محله ويؤدي
الأمانة كما وثق به واعتقد فيه، أي ليقض دينه الذي أمنه عليه. والائتمان افتعال
من الامن، يقال أمنه وائتمنه.
" وليتق الله ربه " أن يظلمه أو يخونه وهو وثق به وائتمنه ولم يرتهن منه شيئا.
وقرأ ابن عباس ومجاهد " ولم تجدوا كتابا " يعني ما تكتبون فيه من طرس وغيره.
وإذا ارتهن صاحب الدين وأشهد فقد أكد الاحتياط. ولا بأس أن يكون
الرهن أكثر قيمة من المال الذي عليه أو أقل ثمنا منه أو مساويا له، لان عموم
اللفظ يتناوله على الأحوال.
وانما قلنا إن الأحوط هو الاشهاد مع التمكن وان استوثق من ماله رهنا،
لأنه ان اختلفا في مقدار المبلغ الذي الرهن لأجله كان على المرتهن البينة، فإن لم
يكن له بينة فعلى صاحب الرهن اليمين. وكذا إذا اختلفا في متاع فقال الذي
عنده أنه رهن وقال صاحب المتاع أنه وديعة كان على المدعي لكونه رهنا
البينة بأنه رهن، وقد روي أن القول قول المرتهن مع يمينه لأنه أمينه، والبينة
على الراهن ما لم يستغرق الرهن ثمنه.
ومن أدل الدليل على أن الاشهاد والارتهان يصح اجتماعهما قوله تعالى بعد
هذا " ولا تكتموا الشهادة " يعني بعد تحملها " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " انما
أضاف إلى القلب مجازا لأنه على الكتمان، والا فالاثم هو الحي، وقالت عائشة:
الصامت عن الحق كالناطق بالباطل، وكاتم الشهادة كشاهد الزور.
" والله بما تعملون عليم " يعني بما تسترونه وبما تكتمونه.
وانما ذكر تعالى بعد ذلك " وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به
الله " لان المعنى فيه كتمان الشهادة. ويحتمل أن يريد جميع الأحكام التي
تقدمت، خوفهم الله من العمل بخلافه.
60

(باب الوديعة)
اعلم أن الوديعة حكم في الشريعة، لقوله تعالى " ان الله يأمركم أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها " (1 وقال تعالى " فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن
أمانته " (2.
والوديعة مشتقة من ودع يدع: إذا استقر وسكن، يقال: أودعته أودعه إذا
أقررته وأسكنته.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد أن
يهاجر أودعها أم أيمن وأمر عليا عليه السلام بردها على أصحابها (3.
فإذا ثبت ذلك فالوديعة أمانة لا ضمان على المودع ما لم يفرط، وقال النبي
صلى الله عليه وآله: ليس على المودع ضمان (4.
فأما قوله تعالى " ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك " يعني
به النصارى لأنهم لا يستحلون أموال من خالفهم " ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده
إليك " يعني اليهود لأنهم يستحلون مال كل من خالفهم في حل السبت " لا ما دمت
عليه قائما " (5 على رأسه بالتقاضي والمطالبة، قائما بالاجماع والملازمة. والفرق
بين تأمنه بقنطار وعلى قنطار أن معنى الباء الصاق الأمانة ومعنى على استعلاء
الأمانة، وهما متعاقبان في هذا الموضع لتقارب المعنى كما يقال " مررت به وعليه ".

1) سورة النساء: 58.
2) سورة البقرة: 283.
3) مستدرك الوسائل 2 / 504.
4) المصدر السابق 2 / 506.
5) سورة آل عمران: 75.
61

ويمكن أن تكون الفائدة أن هؤلاء لا يؤدون الأمانة لاستحلالهم ذلك، لقوله
" ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " (1. وسائر الفرق - وإن كان منهم
من لا يؤدي الأمانة - لا يستحلها.
وقال جماعة: قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل
لأنهم مشركون، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، وهم يعلمون أن هذا
هو الكذب على الله.
فإذا ثبت ذلك فالوديعة جائزة من الطرفين، من جهة المودع متى شاء أن
يستردها فعل، ومن جهة المودع متى شاء أن يردها فعل. فإذا ردها على المودع
أو على وكيله فلا شئ عليه، وان ردها على الحاكم أو على ثقته مع القدرة
على الدفع إلى المودع أو إلى وكيله فعليه الضمان.
فإن لم يقدر على المودع ولا على وكيله، فلا يخلو اما أن يكون له عذر
أو لم يكن له عذر، فإن لم يكن له عذر برده فعليه الضمان، وإن كان له عذر
برده على الحاكم أو على ثقته فلا ضمان عليه.
وقال أبو عبد الله عليه السلام: صاحب الوديعة وصاحب البضاعة مؤتمنان (2.
وكل ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة فلا تلزم.
ورد الوديعة واجب متى طلبها صاحبها وهو متمكن من ردها، وليس عليه
في ردها ضرر يؤدي إلى تلف النفس أو المال، سواء كان المودع كافرا أو مسلما.
(باب العارية)
هي أيضا جائزة بدليل الكتاب والسنة، فالكتاب قوله تعالى " تعاونوا على

1) سورة آل عمران: 75.
2) من لا يحضره الفقيه 3 / 304.
62

البر والتقوى " (1، والعارية من البر.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى " ويمنعون الماعون " (2 فقد قال ابن عباس
- وهو ترجمان القرآن - ان الماعون العواري.
وروي عن صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وآله استعار منه أدرعا
فقال: أغضبا يا محمد؟ فقال عليه السلام: لابل عارية مضمونة مؤداة (3.
ولا خلاف بين الأمة في جواز ذلك، وانما اختلفوا في مسائل منها.
وإذا ثبت جواز العارية فاعلم أنها أمانة غير مضمونة الا أن يشرط صاحبها،
فان شرط ضمانها كانت مضمونة.
والذهب والفضة إذا استعيرا فهما مضمونان، شرط فيهما ذلك أم لم يشرط.
ومتى تعدى المستعير في العواري كانت مضمونة، سواء شرط أو لم يشرط.
(باب الإجارات)
قوله تعالى " قالت إحداهما يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوي
الأمين " (4. يدل على صحة الإجارة زائدا على السنة والاجماع من أن كل ما
يستباح بعقد العارية يجوز أن يستباح بعقد الإجارة، من إجارة الرجل نفسه
وعبيده وداره وعقاره بلا خلاف.
والاستيجار طلب الإجارة، وهي العقد على ما أمر بالمعاوضة.
حكى الله ما قال أبو المرأتين شعيب لموسى: اني أريد أن أنكحك إحدى

1) سورة المائدة: 2.
2) سورة الماعون: 7.
3) تهذيب الأحكام 7 / 183.
4) سورة القصص: 26.
63

ابنتي هاتين على أن تجعل أجر رعي ماشيتي ثماني سنين صداق ابنتي، ثم
جعل لموسى كل سخلة تلد على خلاف شية أمها. فأوحى الله إليه أن الق
عصاك في الماء إذا شربن فولدن كلهن خلاف شيتهن. وجعل الزيادة على المدة
إليه الخيار، " فان أتممت عشرا فمن عندك " أي هبة منك غير واجبة عليك
فقضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما.
فإذا ثبت ذلك فاعلم أن الإجارة عقد معاوضة، وهي من عقود المعاوضات
اللازمة كالبيع والشراء.
والإجارة على ضربين: أحدهما ما تكون المدة معلومة والعمل مجهولا،
مثل أن يقول " آجرتك شهرا لتبني ". والثاني أن تكون المدة مجهولة والعمل
معلوما [مثل أن يقول " آجرتك لتبنى هذه الدار وتخيط هذا الثوب "، فأما
إذا كانت المدة معلومة والعمل معلوما] (1 هنا فلا يصح، فإنه إذا قال " استأجرتك
اليوم لتخيط قميصي هذا " كانت الإجارة باطلة، لأنه ربما يخيط قبل مضي
النهار فيبقى بعض المدة بلا عمل، وربما لا يفرغ منه بيوم ويحتاج إلى مدة
أخرى ويحصل العمل بلا مدة.
والبهائم والحيوان تكترى للركوب وللحمولة وللعمل عليها، بدلالة قوله
تعالى " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " (2.
وعن ابن عباس في قوله تعالى " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من
ربكم " (3 فقال: المعنى لا جناح عليكم أن تحجوا أو تكرهوا الجمال للركوب
والعمل.

1) الزيادة من ج.
2) سورة النحل: 8.
3) سورة البقرة: 198.
64

فان آجرها ليركب عليها فلابد من أن يكون المحمول معلوما والمحمول
له وأن يكون المركوب معلوما والراكب معلوما. أما المركوب فيصير معلوما اما
بالمشاهدة أو بالصفة، فالمشاهدة أن يقول: اكتريت منك هذا الجمل شهرا،
أو اكتريت منك هذا الجمل لا ركبه إلى مكة.
فأما إذا كان معلوما بالصفة فلابد من ذكر ثلاثة أشياء: الجنس، والنوع
والذكورية والأنوثية. أما الجنس فأن يقول جمل حمار بغل دابة، والنوع أن
يذكر حمار مصري جمل بختي أو عرابي، ويقول ناقة أو جمل لان السير على
النوق أطيب منه على الجمل.
وأما الراكب فيجب أن يكون معلوما، ولا يمكن ذلك الا بالمشاهدة لأنه
لا يوزن. ثم هو بالخيار ان شاء ركبه هو أو يركب من يوازنه، ويكون في
معناه هذا إذا اكراها مطلقا.
(باب الشركة والمضاربة)
أما الشركة فجائزة لقوله تعالى " واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه
وللرسول " (1 الآية، فجعل سبحانه الغنيمة مشتركة بين الغانمين وبين أهل الخمس
وجعل الخمس مشتركا بين أهله.
وقال تعالى " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " (2 فجعل
سبحانه التركة مشتركة بين الورثة.
وقال تعالى " انما الصدقات للفقراء والمساكين " (3 الآية، فجعل تعالى

1) سورة الأنفال: 41.
2) سورة النساء: 11.
3) سورة التوبة: 60.
65

الصدقات مشتركة بين أهلها، لان الواو للتشريك، فجعلها مشتركة بين الثمانية
الأصناف.
وقال سبحانه " وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض " (1.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا (2.
وروي عن السائب بن أبي السائب أنه قال: كنت شريكا للنبي عليه السلام
في الجاهلية، فلما قدم يوم فتح مكة قال: أتعرفني؟ قلت: نعم كنت شريكي
وكنت خير شريك لا تواري ولا تماري (3.
ولا خلاف في جواز الشركة بين المسلمين وان اختلفوا في مسائل من تفصيلها
وفروعها.
وإذا ثبت هذا فالشركة على ثلاثة أضرب: شركة في الأعيان، وشركة
في المنافع، وشركة في الحقوق.
فأما الشركة في الأعيان فمن ثلاثة أوجه: أحدها بالميراث كاشتراك الورثة
في التركة، والثاني بالعقد وهو أن يملك جماعة عينا ببيع أو هبة أو صدقة أو
وصية مشتركة، والثالث بالحيازة وهو أن يشتركوا في الاحتطاب والاصطياد
فإذا صار محوزا كان بينهم.
وأما الاشتراك في المنافع كالاشتراك في منفعة الوقف ومنفعة العين المستأجرة
وغيرها.
وأما الاشتراك في الحقوق فمثل الاشتراك في حق القصاص وحد القذف
وما أشبه ذلك.
والآيات التي تلوناها تدل بعمومها على جميع ذلك.

1) سورة ص: 24.
2) مستدرك الوسائل 2 / 500.
3) مستدرك الوسائل 2 / 500.
66

(فصل)
وأما ما يجري مجرى الشركة فهو المضاربة، يدل على صحتها قوله تعالى
" وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " (1 ولم يفصل.
والمضاربة والقراض بمعنى، وهو أن يدفع الانسان إلى غيره مالا ليتجر
فيه على أن ما يرزق الله من ربح كان بينهما على ما يشرطانه. والقراض لغة أهل
الحجاز، والمضاربة لغة أهل العراق، واشتقاقها من الضرب في المال والتقليب
واشتقاق القراض من القرض، وهو القطع، ومعناه ههنا أن رب المال
قطع قطعة من ماله فسلمها إلى العالم وقطع له قطعة من الربح.
والمضارب - بكسر الراء - العامل، لأنه هو الذي يضرب فيه ويقلبه وليس
لرب المال منه اشتقاق، يدل على ذلك ما رواه الحسن عن علي عليه السلام أنه
قال: إذا خالف المضارب فلا ضمان هما على ما شرطاه. والظاهر أنه أراد العامل
لأنه إذا كان الخلاف منه فالضمان بالتعدي عليه.
وعلى جوازه دليل الكتاب والسنة والاجماع: فالكتاب ما تلوناه وقوله تعالى
" فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله " (2. وأما الاجماع
فلا خلاف فيه، والصحابة كانوا يستعملونه.
فإذا ثبت جواز القراض فاعلم أنه لا يجوز الا بالأثمان من الدراهم والدنانير،
وكان أمير المؤمنين عليه السلام كره مشاركة اليهودي والنصراني والمجوسي
الا أن تكون تجارة حاضرة لا يغيب عنها [المسلم] (3.

1) سورة المزمل: 20.
2) سورة الجمعة: 10.
3) الكافي 5 / 286 والزيادة منه.
67

وقال أبو عبد الله عليه السلام: لا ينبغي للرجل المسلم أن يشارك الذمي
ولا يبضعه ببضاعة ولا يودعه وديعة ولا يصافيه مودة (1 لقوله تعالى " يا أيها الذين
آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم " (2. فإنه عام في جميع ذلك.
وقد أشار سبحانه إلى جواز الشركة على جميع ضروبها بقوله " ضرب
لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم " (3.
(باب الشفعة)
قال الله تعالى " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " (4 وقد بين
مسائل الشفعة وغيرها رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد قال: الشفعة فيما لم
يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، والكافر لا شفعة له على المسلم.
والدليل عليه قوله " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة " (5، ومعلوم
أنه تعالى انما أراد أنهم لا يستوون في الاحكام. والظاهر يقتضي العموم الا ما أخرجه
دليل قاهر.
فان قيل: أراد في النعيم والعذاب، بدلالة قوله تعالى " أصحاب الجنة
هم الفائزون ".
قلنا: معلوم في أصول الفقه أن تخصيص إحدى الجملتين لا يقتضي تخصيص
الأخرى وان كانت متعقبة لها.
والشفعة جائزة في كل شئ من حيوان أو ارض أو متاع، إذا كان الشئ

1) المصدر السابق.
2) سورة الممتحنة: 13.
3) سورة الروم: 28.
4) سورة النحل: 44.
5) سورة الحشر: 20.
68

بين شريكين فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره، وان زاد على الاثنين
فلا شفعة لاحد منهم - هذا قول المرتضى رضي الله عنه.
وقال الشيخ أبو جعفر رضي الله عنه: الأشياء في الشركة على ثلاثة أضرب:
ما يجب فيه الشفعة متبوعا، ومالا يجب فيه تابعا ولا يجب فيه متبوعا، وما يجب
فيه تابعا ولا يجب متبوعا. [فأما ما يجب فيه مقصورا متبوعا فالعراض والأراضي
والراح؟ لقوله عليه السلام " الشفعة فيما لم يقسم ". وأما ما لا يجب فيه تابعا
ومتبوعا] (1 بحال فكل ما ينقل ويحول غير متصل كالحيوان والنبات والحبوب
ونحو ذلك لا شفعة، وفي أصحابنا من أوجب الشفعة في ذلك. وأما ما يجب فيه
تابعا ولا يجب فيه متبوعا فكل ما كان في الأرض من بناء وأصل وهو البناء والشجر،
فان أفرد بالبيع دون الأرض فلا شفعة فيه.
وان بيعت الأرض تبعها هذا الأصل من حيث الشفعة في الأرض أصلا وفي
هذه على وجه التبع على خلاف، فأما ما لم يكن أصلا ثابتا كالزرع والثمار
فإذا دخلت في البيع بالشرط كانت الشفعة واجبة في الأصل دونها.
ولا تثبت الشفعة الا لشريك مخالط فأما الشفعة بالجوار فلا ثبت الا إذا
اشتركا في الطريق أو النهر ولا يشركهما فيه ثالث.
(باب المزارعة والمساقاة)
المزارعة والمخايرة اسمان لعقد واحد، وهو استكراء الأرض ببعض
ما يخرج منها. والدليل عليه الاجماع والسنة، ويمكن الاستدلال عليه أيضا من
القرآن بالآيات التي استدللنا بها على صحة الشركة.
فإذا ثبت ذلك فالمعاملة على الأصل ببعض ما خرج من نمائها على ثلاثة

1) الزيادة من م.
69

أضرب: معارضة، ومزارعة، ومساقاة. فالمعارضة تصح بلا خلاف بين الأمة،
والمساقاة أيضا جائزة الا عند أبي حنيفة وحده، والمزارعة على ضربين: ضرب
باطل بلا خلاف، وضرب مختلف فيه.
فالباطل هو أن يشترط لأحدهما شيئا بعينه ولم يجعله مشاعا، مثل أن يعقد
المزارعة على أن يكون لأحدهما ما يدرك أولا وللآخر ما يتأخر ادراكه، أو على
أن الشتوي لأحدهما والصيفي للاخر. فهذا باطل بلا خلاف، فإنه قد ينمى أحدهما
ويهلك الاخر.
والضرب المختلف فيه هو أن يزارعه على سهم مشاع، مثل ان يجعل له
النصف أو الثلث أو أقل أو أكثر، كان ذلك جائزا عندنا، وفيه خلاف للفقهاء.
وان قال لي منها النصف علم أنه ترك الباقي للعامل، كقوله تعالى " وورثه أبواه
فلأمه الثلث " (1 علم ما بقي للأب.
والمساقاة هي: أن يدفع الانسان نخله أو كرمه إلى غيره على أن يصلحه
ويسقيه وما يرزق الله من ثمره كانت بينهما على ما يشترطانه. وهي جائزة بشرطين:
مدة معلومة كالإجارة، ويكون قدر نصيب العامل معلوما كالقراض.
وهي من العقود اللازمة لأنها كالإجارة، وتفارق القراض لأنها لا تحتاج إلى
مدة وهي تحتاج إليها. والمدة فيها كالمدة في الإجارة، فما يحوز هناك يجوز
ههنا سواء كان سنة أو سنتين ومن خالف هناك خالف ههنا.
وقد ذكرنا أن الآية المتقدمة تدل على جميع ذلك.
(باب الافلاس والحجر)
المفلس في الشريعة هو الذي ركبته الديون وماله لا يفي بقضائها، فإذا

1) سورة النساء: 11.
70

جاء غرماؤه إلى الحاكم وسألوه الحجر عليه لئلا ينفق بقية ماله فإنه يجب على
الحاكم أن يحجر عليه إذا ثبت عنده ديونهم وأنها حالة غير مؤجلة وان صاحبهم
مفلس لا يفي ماله بقضاء دينهم.
فإذا فعل ذلك تعلق بحجره ثلاثة أحكام: أحدها أن يتعلق ديونهم بعين المال
الذي في يده، والثاني أنه يمنع من التصرف في ماله عنده، والثالث أن كل
من وجد من غرمائه عين ماله عنده كان أحق به من غيره.
ويمكن أن يستدل من القرآن على أصل الباب على الجملة.
والمحجور عليه انما سمي بذلك لأنه يمنع ماله من التصرف فيه (1.
والحجر على ضربين أحدهما حجر على الانسان لحق غيره، والثاني حجر
عليه لحق نفسه. فأما المحجور عليه لحق غيره فهو المفلس لحق الغرماء،
والمريض محجور عليه في ماله لحق ورثته وفيه خلاف، والمكاتب محجور
عليه فيما في يده لحق سيده. وأما المحجور عليه لحق نفسه فهو الصبي والمجنون
والسفيه.
والأصل في الحجر على الصبي قوله تعالى " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا
النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " (2.
واليتيم من مات أبوه قبل بلوغه، ولا يتم بعد حلم.
وقوله " فان آنستم " أي علمتم، فوضع الايناس موضع العلم، وهو اجماع
لا خلاف فيه.
وقيل في قوله تعالى " فليملل الذي عليه الحق " إلى قوله " فإن كان الذي

1) أصل الحجر في اللغة المنع عن الوصول إلى الشئ، وكل ما منعت منه فقد حجرت
عليه، وحجر عليه القاضي إذا منعه من التصرف في ماله - لسان العرب (حجر).
2) سورة النساء: 6.
71

عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " (1 أنه
دلالة على تثبيت الحجر لنفسه. وقيل: انما دل ذلك على الحجر لو قال ولي
المطلوب، وكلاهما على الاطلاق يصح. وقال الفراء: يحتمل غير ذلك،
معناه فليملل ولي الدين الكتاب بالعدل لا بخسران.
(فصل)
فان قيل: كيف يقبل قول المدعي على مبلغ حقه؟
قلنا: أما إذا أكذبه المطلوب فلا، ولكن إذا صدقه جاز له أن يمل الكتاب
الذي يقع فيه الشهادة بالحق.
والآية انما نزلت في الدين عند وقوع الديون لا عند تجاحدها.
(فصل)
أعلم أن الصبي محجور عليه ما لم يبلغ، والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء:
خروج المني، والحيض، والحمل، والانبات، والسن. فاثنان منهما ينفرد
بهما الإناث وهما الحيض والحمل، والثلاثة الاخر يشترك فيها الرجال والنساء.
والحمل ليس ببلوغ حقيقة وانما هو علم على البلوغ، لان الله أجرى
العادة أن المرأة لا تحبل حتى يتقدم حيض، والحمل لا يمكن الا بعد أن ترى المرأة
المني، لان الله أخبر أن الولد مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة، لقوله تعالى
" يخرج من بين الصلب والترائب " (2 وأراد من صلب الرجل وترائب المرأة،
ولقوله تعالى " من نطفة أمشاج " (3 أي أخلاط.

1) سورة البقرة: 282.
2) سورة الطارق: 7.
3) سورة الانسان: 2.
72

والانبات دليل على البلوغ، والاعتبار بانبات العانة على وجه الخشونة
التي تحتاج إلى الحلق دون ما كان مثل الزغب (1.
فأما السن فحده خمسة عشر سنة في الذكور وتسع سنين إلى عشر في الإناث.
وقد ذكرنا أن الصبي لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ، فإذا بلغ وأونس منه الرشد
يسلم إليه ماله. إيناس الرشد منه مجموع أمرين: أن يكون مصلحا لماله، عدلا
في دينه. ومتى كان غير رشيد لا يفك حجره وان بلغ وصار شيخا.
ووقت الاختبار يجب أن يكون قبل البلوغ، لقوله تعالى " وابتلوا اليتامى
حتى إذا بلغوا ". فإذا بلغ الصبي فاما أن يسلم إليه ماله أو يحجر. وكيفية اختباره
مذكورة في كتب الفقه من أرادها فليطلبها منها.
(باب الغصب)
تحريم الغصب معلوم بالكتاب والسنة والاجماع، قال الله تعالى " ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم " (2 والغصب ليس
عن تراض.
وقال تعالى ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم
نارا " (3 ومن غصب مال اليتيم فقد ظلمه.
وقال تعالى " ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون *
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " (4.
والاجماع ثابت على أن الغصب حرام.

1) الزغب الشعرات الصفر على ريش الفرخ - صحاح اللغة 1 / 143.
2) سورة النساء: 29.
3) سورة النساء: 10.
4) سورة المطففين: 1 - 3.
73

وقال النبي صلى الله عليه وآله: لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب
نفس منه (1.
وقال: حرمة مال المسلم كحرمة دمه (2.
فإذا ثبت تحريم الغصب فالأموال على ضربين: حيوان: وغير حيوان.
وكلاهما إذا كان قائما يجب رده.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: على اليد ما أخذت حتى تؤدي (3.
وقال: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، من أخذ عصى أخيه
فليردها (4.
وإن كان بالغا فعليه مثله، لقوله تعالى " ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم " (5 إن كان له مثل، وان لم يكن له مثل فعليه قيمته أكثر
ما كانت قيمته من حيث الغصب إلى حين التلف، لأنه مأمور برده في كل وقت،
فوجب عليه قيمته إذا تعذر. والله أعلم.

1) مستدرك الوسائل 3 / 146.
2) من لا يحضره الفقيه 4 / 418 بمضمونه.
3) مستدرك الوسائل 3 / 145.
4) نفس المصدر 3 / 145.
5) سورة البقرة: 194.
74

كتاب النكاح
قال الله تعالى " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم
ان يكونوا فقراء يغنهم من فضله " (1.
هذا خطاب من الله تعالى للمكلفين من الرجال والنساء، يأمرهم أن يزوجوا
الأيامى اللواتي لهم عليهن ولاية، وأن يزوجوا الصالحين المستورين الذين
يفعلون الطاعات من المماليك والإماء إذا كانوا ملكا لهم.
والأيامى جمع أيم، وهي المرأة التي لا زوج لها، سواء كانت بكرا أو
ثيبا. وقال قوم: الأيم التي مات زوجها، وعلى هذا قوله عليه السلام: الأيم
أحق بنفسها أعني الثيب. وقيل: ان الامر بتزويج الأيامى إذا أردن ذلك أمر فرض
والامر بتزويج الأمة إذا أرادت ندب، وكذلك العبد.
ومعنى قوله " ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " اي لا يمنعوا من النكاح
المرأة أو الرجل إذا كانا صالحين لأجل فقرهما وقلة ذات أيديهما، فإنهم وان

1) سورة النور: 32.
75

كانوا كذلك فان الله يغنيهم من فضله. وقال قوم: معناه ان يكونوا فقراء إلى
النكاح يغنهم الله بذلك عن الحرام.
فعلى الأول تكون الآية خاصة في الأحرار، وعلى الثاني عامة في
الأحرار والمماليك. فالنكاح فيه فضل كبير، لأنه طريق التناسل وباب التواصل
وسبب الألفة والمعونة على العفة، ومن سنن الاسلام النكاح وترك التعزب، فمن
دعته الحاجة إلى النكاح ووجد له طولا فلم يتزوج فقد خالف سنة رسول الله
صلى الله عليه وآله.
وقد ذكرنا ما حث الله به عباده ودعاه إليه فقال " وأنكحوا الأيامى منكم "
الآية، ثم قال " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ".
أمر تعالى من لا يجد السبيل إلى أن يتزوج بأن لا يجد طولا من المهر ولا يقدر
على القيام بما يلزمه لها من النفقة والكسوة أن يتعفف ولا يدخل في الفاحشة
ويصبر حتى يغنيه الله من فضله.
(باب)
(ما أحل الله من النكاح وما حرم منه)
قال الله تعالى " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من
مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من
مشرك ولو أعجبكم " (1.
هذه الآية على عمومها عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار، وليست
منسوخة ولا مخصوصة. قال ابن عباس: فرق عمر ابن طلحة وحذيفة امرأتيهما
اللتين كانتا تحتهما كتابيتين. وقال الحسن: انها عامة الا أنها نسخت بقوله

1) سورة البقرة: 121.
76

تعالى " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " (1. وقال ابن جبير هي
على الخصوص.
ونحن انما اخترنا ما قلناه أولا لأنه لا دليل على نسخها ولا على خصوصها،
وسنبين وجه ذلك بعد هذا انشاء الله تعالى.
وأما المجوسية فلا يجوز نكاحها اجماعا، والذمي لا يجوز أن يتزوج مسلمة
اجماعا أيضا وقرآنا وأخبارا.
والأمة المملوكة، والجارية تكون مملوكة وغير مملوكة.
والاعجاب يكون بالجمال، ويكون بخصال يرغب لها فيها، ومعنى
" أعجبني الشئ " فرحت به ورضيته. والفرق بين " لو أعجبكم " و " ان
أعجبكم " أن لو للماضي وان للمستقبل، وكلاهما يصح في معنى الماضي.
ولا يجوز نكاح الوثنية اجماعا، لأنها تدعو إلى النار كما حكاه الله تعالى.
وهذه العلة قائمة في الذمية من اليهود والنصارى، فيجب أن لا يجوز نكاحها.
وقال السدي في قوله تعالى " قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك
كثرة الخبيث " (2 فالخبيث الكافر والطيب المؤمن، وهو اختيار ابن جرير. وقال
جماعة: الآية عامة، أي لا يستوي أهل الطاعة والمعصية لا في المكان ولا في
المقدار ولا في الانفاق ولا في غير ذلك من الوجوه.
وفي الآية دلالة على جواز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود الطول، لقوله
" ولامة مؤمنة خير من مشركة ". فكل من عقد على أمة الغير وأعطى سيدها
المهر كان العقد ماضيا، غير أنه يكون تاركا للأفضل.
ولا يجوز له أن يعقد على أمة وعنده حرة الا برضاها، فان عقد عليها من

1) سورة المائدة: 5.
2) سورة المائدة: 100.
77

غير رضاها كان العقد باطلا، وان أمضت الحرة العقد مضى العقد ولم يكن له
بعد ذلك اختيار.
فأما الآية التي في النساء وهي قوله " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح
المحصنات " (1 فإنما هي على التنزيه دون التحريم.
(فصل)
وقال بعض المفسرين: لا يقع اسم المشركات على نساء أهل الكتاب،
فقد فصل الله تعالى بينهما في قوله " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب
والمشركين " (2 وفي قوله " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين " (3
إذ عطف أحدهما على الاخر.
وهذا التعليل من هذا الوجه غير صحيح، فالمشرك يطلق على الكل،
لان من جحد نبوة محمد صلى الله عليه وآله فقد أنكر معجزه فأضافه إلى غير
الله، وهذا هو الشرك بعينه، وهذا ورد للتفخيم، كما عطف على الفاكهة
النخيل والرمان مع كونهما منها تخصيصا في قوله تعالى " فيهما فاكهة ونخل
ورمان " (4.
ومتى أسلم الزوجان بنيا على النكاح الذي كان جرى بينهما ولا يحتاج إلى
تجديده بلا خلاف. وان أسلمت قبله طرفة عين، فعند كثير من الفقهاء وقعت
الفرقة، وعندنا تنتظر عدتها: فان أسلم الزوج تبين [أن الفرقة لم تحصل

1) سورة النساء: 25.
2) سورة البينة: 1.
3) سورة البقرة: 105.
4) سورة الرحمن: 68.
78

ورجعت إليه، وان لم يسلم تبين ان الفرقة وقعت حين الاسلام: غير] (1 أنه
لا يمكن من الخلو بها. فان أسلم الزوج وكانت ذمية استباح وطؤها بلا خلاف،
وان كانت وثنية انتظر اسلامها ما دامت في العدة، فان أسلمت ثبت عقده عليها
وان لم تسلم بانت منه.
فان قيل: كيف يقال للكافر الذي يوحد الله مشرك؟
الجواب: فيه قولان:
أحدهما - أن كفره نعمة الله هي الاسلام وجحده لدين محمد عليه السلام
كالشرك في عظم الجرم.
والاخر - أنه إذا كفر بالنبي عليه السلام فقد أشرك فيما لا يكون الا من
عند الله وهو القرآن، فزعم أنه من عند غير الله - ذكره الزجاج، وهذا أقوى (2.
فالمحرمات من النساء على ضربين: ضرب منهن يحرمن بالنسب وضرب
منهن يحرمن بالسبب. وما عداهما فمباح. وبيان ذلك في الآيات من سورة النساء في قوله تعالى " ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء الا ما قد سلف انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " (3 ثم قال
" حرمت عليكم أمهاتكم " إلى آخرها.
والحكمة في هذا الترتيب ظاهرة، ونحن نذكر تفصيلها في فصول:

1) الزيادة من ج.
2) وأقوى من هذين الجوابين: انهم أشركوا بنص القرآن، أما اليهود فبقوله تعالى
" وقالت اليهود عزير ابن الله " [سورة التوبة: 30] وأما النصارى فبقوله سبحانه " وقالت
النصارى المسيح ابن الله " إلى قوله " لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " [التوبة: 30] وقوله
تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم " [المائدة: 17] " ج ".
3) سورة النساء: 22.
79

(فصل)
اعلم أن الله تعالى ابتدأ بتحريم ما نكح الاباء في سورة النساء بقوله تعالى
" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " ثم فصل المحرمات.
ومعنى الآية الأولى قيل فيه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس: انه حرم عليهم ما كان أهل الجاهلية يفعلونه
من نكاح امرأة الأب إذا لم تكن الام.
الثاني - أن يكون " ما نكح " بمنزلة المصدر، والتقرير ولا تنكحوا نكاح
آبائكم، فعلى هذا يدخل فيه النهي عن حلائل الاباء وكل نكاح لهم فاسد في
الجاهلية. وهو اختيار الطبري، وقال: ان هذا الوجه أجود، لأنه لو أراد
حلائل الاباء لقال لا تنكحوا ما نكح آباؤكم.
وهذا ليس بطعن، لأنه ذهب به مذهب الجنس، كما يقول القائل " لا تأخذ
ما أخذ أبوك من الإماء " فيذهب مذهب الجنس، ثم يفسره بمن.
وقوله " الا ما قد سلف " يعني بإلا لكن، وكذا استثناء منقطع كقولهم
" لاتبع متاعي الا ما بعت " أي لكن ما بعت فلا جناح عليك فيه. وقيل في معناه
قولان:
أحدهما - الا ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به، وإن كان منه ولد فليس
الولد بولد زنا. وقال قطرب: معناه لكن ما سلف فاجتنبوه ودعوه انه فاحشة.
الثاني - حكاه بعض المفسرين الا ما قد سلف فدعوه فهو جائز لكم. وهذا
لا يجوز بالاجماع.
والهاء في قوله تعالى " انه كان فاحشة " يحتمل أن تكون عائدة إلى النكاح
بعد النهي، ويحتمل أن تكون عائدة إلى النكاح الذي عليه أهل الجاهلية. قيل
80

ولا يكون ذلك الا وقد قامت عليهم الحجة بتحريمه من جهة الرسل، فالأول
اختاره الجبائي، وهو الأقوى، قال: وتكون السلامة مما قد سلف في الاقلاع
عنه. وقيل انما استثنى ما قد مضى، ليعلم أنه لم يكن مباحا لهم.
" انه كان فاحشة " أي زناءا " ومقتا " أي بغضا، أي يورث بغض الله،
ويسمى ولد الرجل من امرأة أبيه المقتي، ومنهم الأشعث بن قيس وأبو معيط
جد الوليد بن عتبة.
قال البلخي: ليس كل نكاح حرمه الله تعالى زنا، لان الزنا هو فعل
مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية، لذلك لا يقال للمشركين
في الجاهلية " أولاد زنا " ولا لأهل الذمة والمعاهدين " أولاد زنا " إذا كان عقدا
بينهم يتعارفونه.
[" انه كان فاحشة " دخلت كان لتدل على أنه كان قبل تلك الحال كذا كان
كذا فاحشة] (1.
وقول المبرد إن كان زائدة غير صحيح، لأنها لو كانت زائدة لم تعمل،
معناه انه كان فيما مضى أيضا فاحشة ومقتا وكان قد قامت الحجة عليهم بذلك
في كل من عقد عليها الأب من النساء أنه [يحرم على الابن دخل بها أو لم يدخل
بلا خلاف.
فان دخل بها الأب على وجه السفل فهل] (2 يحرم على الابن؟ ففيه خلاف.
وعموم الآية يقتضي أنها تحرم عليه، لان النكاح يعبر به عن الوطي كما يعبر به
عن العقد، فيجب أن يحمل عليهما.
وامرأة الأب وان علا تحرم على الابن وان نزل بلا خلاف.

1) الزيادة من م.
2) الزيادة من م.
81

(فصل)
ثم قال تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " (1 الآية.
اعلم أن في الناس من اعتقد أن هذه الآية وما يجري مجراها كقوله تعالى
" حرمت عليكم الميتة والدم " (2 مجملة لا يمكن التعلق بظاهرها في تحريم شئ، وانما
يحتاج إلى بيان. قالوا: لان الأعيان لا تحرم ولا تحل، وانما يحرم التصرف
فيها، والتصرف مختلف، فيحتاج إلى بيان التصرف المحرم دون التصرف المباح.
والأقوى أنها ليست مجملة، لان المجمل هو مالا يفهم المراد بعينه بظاهره،
وليست هذه الآية كذلك، لان المفهوم من ظاهرها تحريم العقد عليهن والوطي
دون غيرهما من أنواع الفعل، فلا يحتاج إلى البيان مع ذلك.
وكذلك قوله
" حرمت عليكم الميتة " المفهوم منه الاكل والبيع دون النظر إليها أو ما جرى
مجراه.
كيف وقد تقدم هذه الآية ما يكشف عن أن المراد ههنا من قوله تعالى
" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم "، فلما قال بعده " حرمت عليكم أمهاتكم " كان
المفهوم أيضا تحريم نكاحهن. ويطلب الكلام فيه من أصول الفقه. (فصل)
قال ابن عباس: حرم الله في هذه الآية سبعا بالنسب وسبعا بالسبب:
فالمحرمات من النسب: الأمهات ويدخل في ذلك أمهات الأمهات وان علون
وأمهات الاباء كذلك، والبنات ويدخل في ذلك بنات الأولاد، أولاد البنين وأولاد

1) سورة النساء: 23.
2) سورة المائدة: 3.
82

البنات وان نزلن، والأخوات سواء كن لأب أو لأب وأم، وكذا العمات
والخالات وان علون من جهة الأب كن أو من جهة الام، وبنات الأخ وبنات
الأخت وان نزلن. وكل من يقع عليه اسم بنت حقيقة أو مجازا تحرم لقوله
تعالى " وبناتكم "، وكذا من يقع عليه اسم العمة لقوله تعالى " وعماتكم "،
وكذلك كل من كان خالته حقيقة وهي أخت أمه أو مجازا وهي أخت جدته أي
جدة كانت من قبل أمها فأختها خالته وتحرم عليه لقوله تعالى " وخالاتكم ".
والمحرمات بالسبب: الأمهات من الرضاعة والأخوات أيضا من الرضاعة،
وكل من يحرم بالنسب يحرم مثله بالرضاع، فنص الله من جملتهن على الأمهات
والأخوات بظاهر اللفظ ودل بفحواه على أن من عداهما ممن تحرم بالنسب
كهما، لان تلك إذا صارت بالرضاع أما وهذه أختا فالعمة والخالة يصيران
عمة وخالة، وكذلك من سواهما. ولذلك قال عليه السلام: يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب (1.
(فصل)
ثم قال تعالى " وأمهات نسائكم " فأمهات النساء يحرمن بنفس العقد وان
لم يدخل بالبنت على رأي أكثر الفقهاء، وبه قال ابن عباس والحسن وعطاء،
وقالوا هي مبهمة، وخصوا التقييد بقوله " وربائبكم اللاتي في حجوركم من
نسائكم اللاتي دخلتم بهن ". ورووا عن علي عليه السلام وزيد بن ثابت أنه
يجوز العقد على الام ما لم يدخل بالبنت، ولم يجعلوا قوله " من نسائكم
اللاتي دخلتم بهن " راجعا إلى أمهات النساء، وقالوا تقدير الكلام [حرمت
عليكم نساؤكم مطلقا و] (2 حرمت عليكم ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم

1) من لا يحضره الفقيه 3 / 475.
2) الزيادة من م.
83

اللاتي دخلتم بهن، وقالوا أم المرأة تحرم بالعقد مجردا والربيبة تحرم بشرط
الدخول بالام، وهذا هو الصحيح. وقال قوم: هي من صلبهما جميعا، فان
المرأة لا تحرم أمها ما لم يدخل بها أيضا.
والصحيح أن الجملة المقيدة إذا عطفت على الجملة المطلقة لا يجب أن يسري
ذلك التقييد إلى الجملة الأولى أيضا. ويتحقق هذا من النحو أيضا، فقال الزجاج:
وهو قول سيبويه، والمحققين أن الصحيح هو الأول، وذلك أن الموصوفين
وان اتفقا في الاعراب فإنهما إذا اختلف العامل فيهما لم يجز أن يوصفا بصفة
جامعة. والمثال يجئ من بعد.
و " الربائب " جمع ربيبة، وهي بنت الزوجة من غيره، ويدخل فيه أولادها
وان نزلن، وسميت بذلك لتربيته إياها، ومعناها مربوبة. ويجور أن تسمى
ربيبة سواء تولى تربيتها وكانت في حجره أو لم تكن، لأنه إذا تزوج بأمها سمي
هو ربيبها وهي ربيبته.
والعرب تسمي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم ويوقعونه، يقولون هذا
مقتول وهذا ذبيح وان لم يقتل بعد ولم يذبح إذا كان يراد قتله أو ذبحه، وكذلك
يقولون هذا أضحية لما أعد للتضحية، فمن قال لا تحرم بنت الزوجة الا إذا
تربت في حجره فقد أخطأ على ما قلناه.
وقوله تعالى " من نسائكم الآتي دخلتم بهن " قال المبرد: " اللاتي دخلتم
بهن " نعت للنساء اللواتي من أمهات الربائب لا غير، قال: لاجماع الناس أن
الربيبة تحل إذا لم يدخل بأمها، وان من أجاز أن يكون قوله تعالى " من نسائكم
اللاتي دخلتم بهن " هو لأمهات نسائكم، فيكون معناه أمهات نسائكم من نسائكم
اللاتي دخلتم بهن، فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب.
قال الزجاج: لان الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا، لا يجيز
84

النحويون " مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات " على أن تكون
الظريفات نعتا لهؤلاء النساء، وهؤلاء النساء، لان الأولى جر بالباء والثانية بالإضافة،
فكذلك النساء الأولى في الآية جر بإضافة الأمهات إليها والثانية جر بمن، فلا يجوز
أن يكون " اللاتي دخلتم بهن " صفة للنساء الأولى والثانية.
وقيل أيضا: لو جاز أن يكون " اللاتي دخلتم بهن " صفة للأولى والثانية
لجاز أن يكون قوله " الا ما ملكت أيمانكم " استثناء من جميع المحرمات. وفي
اجماع الجميع على أنه استثناء مما يليه وهو " المحصنات من النساء " دلالة
على أن " اللاتي دخلتم بهن " صفة للنساء اللاتي تليها. والدليل الأول أقوى.
وقال من اعتبر الدخول بالنساء لتحريم أمهاتهن يحتاج أن يقدر " أعني "، فيكون
التقدير: وأمهات نسائكم أعني اللاتي دخلتم بهن، وليس بنا إلى ذلك حاجة.
والدخول المذكورة في الآية قيل فيه قولان: أحدهما قال ابن عباس هو
الجماع واختاره الطبري، الثاني قال عطا هو الجماع وما يجري مجراه من
المسيس وهو مذهبنا. وله تفصيل. فإن كان المسيس من شهوة فهو كالجماع
فيكون محظورا، وإن كان من غير شهوة فنكاح بنتها مكروه. وفيه خلاف بين
الفقهاء.
(فصل)
ثم قال تعالى " وحلائل أبنائكم الذيم من أصلابكم " يعني نساء البنين
للصلب دخل بهن البنون أو لم يدخلوا. وزوجات أولاد الأولاد من البنين والبنات
داخلون في ذلك. وانما قال " من أصلابكم " لئلا يظن أن امرأة من يتبنى به
تحرم عليه.
وقال عطا: نزلت الآية حين نكح النبي عليه السلام امرأة زيد بن حارثة،
85

فقال المشركون في ذلك، فنزل " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ".
فأما حلائل الأبناء من الرضاع فمحرمات، لقوله عليه السلام: يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب.
وانما سميت المرأة حليلة لامرين: لأنها تحل معه في الفراش، ولأنه يحل
له وطؤها.
(فصل)
ثم عطف عليه فقال تعالى " وأن تجمعوا بين الأختين " أي وحرم عليكم
الجمع بينهما، لان أن مع صلتها في حكم المصدر، وهذا يقتضي تحريم الجمع
بينهما في عقد واحد وتحريم الجمع بينهما في الوطي سيما بملك اليمين، فإذا
وطئ إحداهما لم يحل له الأخرى حتى تخرج تلك من ملكه، وهو قول الحسن
وأكثر المفسرين وا لفقهاء.
ومن أجاز الجمع بينهما في الوطئ على ما ذهب إليه داود وقوم من أهل
الظاهر فقد أخطأ في الأختين وكذا في الربيبة وأم الزوجة، لان قوله " وأمهات
نسائكم " يدخل فيه المملوكة والمعقود عليها، وكذا قوله " من نسائكم اللاتي
دخلتم بهن " يتناول الجميع، وكذا قوله " وأن تجمعوا بين الأختين " عام في
الجميع على كل حال في العقد والوطي، وانما أخرجنا جواز ملكها بدلالة
الاجماع.
ولا يعارض ذلك قوله تعالى " أو ما ملكت أيمانكم "، لان الغرض بهذه الآية
مدح من يحفظ فرجه الا عن الزوج أو ما ملكت الايمان، فأما كيفية ذلك فليس فيه.
ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: أو ما ملكت أيمانهم الاعلى وجه الجمع بين
الام والبنت أو الأختين.
86

وقوله تعالى " الا ما قد سلف " استثناء منقطع، لكن ما قد سلف لا يؤاخذكم الله
به الان وقد دخلتم في الاسلام وتركتم ما فعلتم في الجاهلية، وليس المراد أن ما
سلف حال النهى يجوز استدامته بلا خلاف.
وقيل إن " الا " بمعنى سوى، وموضع " أن تجمعوا " رفع، تقديره حرمت
عليكم الأشياء والجمع بين الأختين، فإنهما يحرمان على وجه الجمع دون
الانفراد، سواء اجتمع العقدان أو افترقا. وكان ذلك لبني إسرائيل حلالا، فان
خلفت إحداهما الأخرى جاز.
ويمكن الاستدلال بهذه الآية على أنه لا يصح أن يملك واحدة من ذوات
الأنساب المحرمات ومن الرضاع أيضا، لان التحريم عام بقوله عليه السلام:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. فهو دليل على أنه لا يصح ملكهن من جهة
الرضاع وإن كان فيه خلاف.
وأما المرأة التي وطئها بلا تزويج ولا ملك فليس في الآية ما يدل على أنه يحرم
وطؤ أمها وبنتها، لان قوله تعالى " وأمهات نسائكم " وقوله " من نسائكم اللاتي
دخلتم بهن " يتضمن إضافة الملك اما بالعقد أو بملك اليمين، فلا يدخل فيه من
وطئ من لا يملك وطؤها. غير أن قوما من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوءة
بالعقد والملك بالسنة والاخبار المروية في ذلك. وفيه خلاف بين الفقهاء.
ثم قال " ان الله كان غفورا رحيما " أخبر سبحانه أنه كان غفورا حيث لم
يؤاخذهم بما فعلوه من نكاح المحرمات وانما عفا لهم عما سلف.
(فصل)
ثم قال تعالى " والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم " (1

1) سورة النساء: 24.
87

قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو الأقوى أن المراد به ذوات الأزواج الا ما ملكت أيمانكم من
سبي من كان لها زوج، لان بيعها طلاقها. قال ابن عباس: طلاق الأمة ست:
سبيها، وبيعها، وعتقها، وهبتها، وميراثها، وطلاق زوجها (1.
الثالث - ان المحصنات العفائف الا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو اليمين
ملك استمتاع بالمهر أو ملك استخدام بثمن الأمة. وأصل الاحصان المنع.
والاحصان على أربعة أقسام: أحدها بالزوجية كقوله " والمحصنات من
النساء "، الثاني بالاسلام كقوله " فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف
ما على المحصنات من العذاب " (2، الثالث بالعقد (3 كقوله " والذين يرمون المحصنات
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " (4 الرابع يكون بالجزية كقوله " والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " (5.
قال البلخي: والآية دالة على أن نكاح المشركين ليس بزنى، لان قوله
تعالى " والمحصنات من النساء " إذا كان المراد به ذوات الأزواج من أهل الحرب
بدلالة قوله " الا ما ملكت أيمانكم " بسبي، فلا خلاف انه لا يجوز وطي المسبية
بعد استبرائها بحيضة.
وقوله " كتاب الله عليكم " نصب على المصدر من غير فعله، وفيه معناه،
كأنه قال حرم الله ذلك كتابا من الله أو كتب كتابا. وعن الزجاج أنه نصب على
جهة الامر، ويكون " عليكم " مفسرا. والمعنى الزموا كتاب الله وعلى الاغراء،

1) كذا في النسختين وقد حذف منهما القول الثاني.
2) سورة النساء: 25.
3) في ج " بالعفة ".
4) سورة النور: 4.
5) سورة المائدة: 5.
88

والعامل محذوف، لان عليكم لا يعمل فيما قبله.
وقد صح عن ابن عباس أنه قال: حرم الله من النساء سبعا بالنسب وسبعا
بالسبب، وتلا الآية، ثم قال: والسابعة من محرمات السبب قوله " ولا تنكحوا
ما نكح آباؤكم " وهي امرأة الأب سواء دخل بها أو لم يدخل، وتدخل في ذلك
زوجات الأجداد وان علوا من الطرفين.
(باب)
(مقدار ما يحرم من الرضاع وأحكامه)
(ما وراء ذوات المحارم القرابية)
أما الرضاع فان الله سمى بقوله تعالى " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " (1
أمهات للحرمة.
ولا يحرم عندنا الرضا الا ما نبت اللحم وشد العظم، وانما يعتبر أقل ذلك
بخمس عشرة رضعة متوالية لا يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى، أو برضاع يوم
وليلة لا يفصل بينهما برضاع امرأة أخرى.
وفي أصحابنا من روى تحريم ذلك بعشر رضعات، وذلك محمول على
شدة الكراهة في ذلك.
ومتى دخل من الرضاع رضاع امرأة أخرى بطل حكم ما تقدم، وحرم
الشافعي بخمس رضعات ولم يعتبر التوالي، وانما اختار خمس الرضعات لما
روت عائشة أن عشر رضعات كانت محرمة فنسخن بخمس. وهذا يدل على
ما نذهب إليه من خمس عشرة رضعة، لان النسخ كما توهم الشافعي أنه بالنقصان
فإنه يكون بالزيادة. وانما ذهبنا إلى الزيادة للتفصيل الوارد عن الصادق

1) سورة النساء: 23.
89

عليه السلام. وحرم أبو حنيفة بقليله وكثيره، وفي أصحابنا من ذهب إليه،
والمراد به الكراهية.
واللبن عندنا للفحل، لأنه بفعله ثار ونزل. ومعناه إذا أرضعت امرأة بلبن
فحل لها صبيانا كثيرين من أمهات شتى فإنهم جميعهم يصيرون أولاد الفحل
ويحرمون على جميع أولاده الذين ينتسبون إليه ولادة ورضاعا ويحرمون على
أولاد المرضعة الذين ولدتهم. فأما من أرضعته بلبن غير هذا الفحل فإنهم لا يحرمون
عليهم.
ثم اعلم أن كل أنثى انتسبت إليها باللبن فهي أمك، لقوله تعالى " وأمهاتكم
اللاتي أرضعنكم " فالتي أرضعتك أو أرضعت امرأة أرضعتك أو رجلا أرضعت
بلبانه من زوجته أو أم ولده كلها على ما ذكرناه فهي أمك من الرضاعة، وكذا
كل امرأة ولدت امرأة أرضعتك، أو ولدت رجلا أرضعت بلبنه فهي أمك من
الرضاعة.
(فصل)
وقوله تعالى " وأخواتكم من الرضاعة " يعني بنات المرضعة، وهن ثلاثا:
الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أو مع
ولد قبلك أو بعدك. الثانية أختك [لامك دون أبيك، وهي التي أرضعتها أمك
بلبان رجل غير أبيك. والثالثة أخيك] (1 لأبيك دون أمك، وهي التي أرضعتها
زوجة أبيك بلبن أبيك. وأم الرضاعة وأخت الرضاعة لولا الرضاعة لم تحرما،
فالرضاعة سبب تحريمهما.
وكل من تحرم بالنسب من اللاتي مضى ذكرهن تحرم أمثالهن بالرضاع،

1) الزيادة من ج.
90

لقول النبي صلى الله عليه وآله: ان الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب.
فثبت بهذا الخبر أن السبع المحرمات بالنسب على التفصيل الذي ذكره الله
محرمات بالرضاع.
والكلام في الرضاع في ثلاثة فصول:
أحدها - مدة الرضاع. وقد اختلف فيها، فقال أكثر أهل العلم لا يحرم
الا ما كان في مدة الحولين، فأما ما كان بعده فلا يحرم بحال، وهو مذهبنا، وبه
قال الشافعي ومحمد وأبو يوسف.
وثانيها - قدر الرضاع الذي يحرم. وقد ذكرناه الان.
وثالثها - كيفية الرضاع. فعند أصحابنا لا يحرم الا ما وصل إلى الجوف من
الثدي في المجرى المعتاد الذي هو الفم، وأما ما يوجر أو يسعط أو يحقن به
فلا يحرم بحال.
(فصل)
ثم اعلم أن هذه الجملة على ضربين: تحريم أعيان، وتحريم جمع.
فأما تحريم الأعيان فنسب وسبب، فالنسب قد مضى ذكره، والسبب على
ضربين رضاع ومصاهرة، فالرضاع بيناه أيضا. وتحريم المصاهرة وان قدمنا
الكلام عليه فنذكرها هنا أيضا مجموعا مفصلا.
فاعلم أنهن أربع:
أمهات الزوجات وكل من يقع عليها اسم " أم " حقيقة أو مجازا وان علون،
فالكل يحرمن لقوله تعالى " أمهات نسائكم ".
والثانية - الربيبة، وهي كل من كان نسلها، وكذا ولد الربيب ونسله، فإنه
يحرم بالعقد تحريم جمع، فان دخل بها حرمن عليه كلهن تحريم تأبيد، لقوله
91

" وربائبكم اللاتي في حجوركم " إلى قوله " فلا جناح عليكم ".
والثالثة - حلائل الأبناء، فإذا تزوج امرأة حرمت على والده بنفس العقد وحدها
دون أمهاتها وبناتها، لقوله " وحلائل أبنائكم "، وأمهاتها وأولادها ليس حلائله.
والرابعة - زوجات الاباء يحرمن دون أمهاتهن ودون نسلهن من غيره،
ولقوله تعالى " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ".
(فصل)
ثم قال سبحانه " كتاب الله عليكم " يعني كتب الله تحريم ما حرم وتحليل
ما حلل عليكم كتابا فلا تخالفوه وتمسكوا به.
فإذا ثبت من الكتاب على سبيل التفصيل تحريم اللواتي ذكرناهن، فاعلم
أن ست عشرة امرأة أخرى يعلم تحريمهن من القرآن جملة ومن السنة تفصيلا،
بين رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك بقوله تعالى " وأنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس ما نزل إليهم " كما علمه الله تعالى.
وهن: الملاعنة، والمطلقة تسع تطليقات للعدة، والمعقود عليها في العدة
مع العلم بذلك، والمدخول بها في العدة على كل حال، والمنكوحة في الاحرام،
والمفجور بابنها، والمفجور بأبيها، والمفجور بأخيها، والمفجور بها وهي
ذات بعل، والمفضاة بالدخول بها قبل بلوغها تسع سنين، والتي تقذفها زوجها
وهي صماء، والتي تقذها زوجها وهي خرساء، وبنت العمة على ابن الخال إذا
كان فجر بأمها، وبنت الخالة أيضا إذا فجر بأمها، والمفجور بأمها على الفاجر،
وكذا المفجور بابنتها.
وقد خالفنا فقهاء العامة في قولنا: ان من زنى بامرأة ولها بعل حرم عليها
نكاحها أبدا وان فارقها زوجها. والدليل على صحته وصحة مجموع ما ذكرناه
92

من أخوات هذه المسألة اجماع الطائفة، فان مفض إلى العلم.
وانما قلنا إن اجماعهم حجة لان في اجماع الامامية قول الإمام الذي دلت
العقول على أن كل زمان لا يخلو من رئيس معصوم لا يجوز عليه الخطأ في قول
ولا فعل، فمن هذا الوجه كان اجماعهم حجة ودلالة قاطعة. وهذه الطريقة واضحة
مشروحة في غير موضع من كتبنا.
فان استدل المخالف بظواهر آيات القرآن مثل قوله تعالى " فانكحوا
ما طاب لكم من النساء " وقوله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلك " بعد ذكر
المحرمات.
قلنا: هذه الظواهر يجوز أن يرجع عنها بالأدلة، كما رجعتم أنتم عنها
في تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها مع جواز ذلك عندنا على بعض
الوجوه على ما نذكره.
على أن النساء اللاتي يعلم تحريمهن بالسنة انما حرمت كل واحدة منهن على
رجل بعينه بسبب من قبله وأمر من أموره، والا كانت هي قبل ذلك على أصل
الإباحة، ولولا حصول ما حصل لما حرمت البتة، فسقط سؤالهم.
فأما إذا زنى رجل بامرأة حرمت على ابنه. والدليل عليه قوله تعالى
" ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " ولفظ النكاح يقع على الوطي والعقد معا على
ما ذكرناه، فكأنه قال لا تعقدوا على من عقد عليه آباؤكم ولا تطئوا من وطئوهن.
والدليل على جواز نكاح العمة والخالة وعنده بنت الأخ وبنت الأخت
اجماع الطائفة. وكذا نكاح المرأة وعنده عمتها وخالتها إذا رضيتا، فإنه يدل
عليه عموم قوله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم " لأنه عام في جميعهن، ومن
ادعى نسخه فعليه الدلالة، وخبر الواحد لا ينسخ به القرآن.
93

(باب)
(ضروب النكاح)
قال الله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم " (1 وقال تعالى " فانكحوا ما طاب
لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ملكت
أيمانكم " (2.
أما الآية الأولى فقد قيل في معناه أربعة أقوال:
أحدها - أحل لكم ما دون الخمس ان تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح.
الثاني - كحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم ونحوها من المحرمات
بالسبب.
الثالث - ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم.
الرابع - ما وراء ذوات المحارم إلى الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو
ملك يمين. وهذا الوجه أولى، لأنه حمل الآية على عمومها في جميع ما ذكره
الله في كتابه أو على لسان نبيه.
ثم اعلم أن أحكام النكاح تشتمل على ذكر أقسامه وشروطه وما يلزم بالعقد
وما يلزم بالفرقة:
فأقسامه على ثلاثة أقسام: نكاح دوام وهو غير مؤجل، ونكاح متعة وهو
مؤجل، ونكاح بملك اليمين.
وأما شرائط الأنكحة الواجبة: فالايجاب، والقبول، والمهر أو الاجر أو
الثمن أو ما يقوم مقامها، وكون المتعاقدين متكافئين في الدين في نكاح الدوام،

1) سورة النساء: 24.
2) سورة النساء: 3.
94

وأن تكون الزوجة والأمة من غير ذوات المحارم ونحو ذلك مما لا يصح مع عدمه
من الشروط.
وما يلزم بالعقد فهي: المهر، والقسمة، والنفقات، ولحوق الأولاد. وما
يلزم بالفرقة نذكره.
وما روي من تحليل الرجل جاريته لمؤمن، لا يخرج عن تلك الأقسام الثلاثة
التي هي من ضروب النكاح.
وجارية الغير إذا تزوجت باذن سيدها فنكاحها صحيح، قال الله تعالى
" والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " (1،
فمدح من حفظه فرجه الا عن زوجته أو ملك اليمين.
والنكاح يستحب لقوله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم " فعلق النكاح باستطابتها
وما هذه صورته فهو غير واجب، خلافا لداود.
والناس ضربان: ضرب مشته للجماع وقادر على النكاح، وضرب لا يشتهيه
فالمشتهي يستحب له أن يتزوج، والذي لا يشتهي فالمستحب أن لا يتزوج لقوله
تعالى " وسيدا وحصورا " (2، فمدحه على كونه حصورا، وهو الذي لا يشتهي
النساء، لأنه لا يجعل سبب ذلك (3 ولا يجئ شهوته، بل يميتها بكثرة الصوم،
وقال قوم هو الذي يمكنه أن يأتي النساء ولكن لا يفعل.
(باب)
(ذكر النكاح الدائم)
قال الله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " فندب تعالى عباده إلى

1) سورة المؤمنون: 5 - 6.
2) سورة آل عمران: 39.
3) أي تهيج شهوته بالاكل والشرب " ج ".
95

التزويج، وأجمع المسلمون على أن التزويج مندوب إليه لجميع الأمة، وان
اختلفوا في وجوبه لمحمد صلى الله عليه وآله.
وأما قوله " وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء
مثنى وثلاث ورباع " (1 فاختلف المفسرون في سبب نزوله على ستة أقوال:
أحدها - ما روي عن عائشة أنها نزلت في حق اليتيمة التي تكون في
حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا
أن ينكحوهن الا أن يقسطوا لها صداق مهر مثلها، وأمروا أن ينكحوا ما طاب
مما سواهن من النساء إلى أربع " فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة " من سواهن
" أو ما ملكت أيمانكم ".
ومثل هذا ذكر في تفسير أصحابنا، وقالوا انها متصلة بقوله " ويستفتونك
في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي
لا تؤتوهن ما كتب لهن ترغبون أن تنكحوهن فان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى
فانكحوا ما طاب لكم النساء " الآية. وبه قال الحسن والمبرد.
الثاني - قال ابن عباس: ان الرجل منهم كان يتزوج الأربع والخمس
والست والعشر ويقول ما يمنعني ان أتزوج كما تزوج فلان، فإذا فنى ماله مال على
مال اليتيمة فأنفقه، فنهاهم الله تعالى أن يتجاوزوا الأربع [لئلا يحتاجوا إلى أخذ
مال اليتيمة، وان خافوا ذلك مع الأربع] (2 أيضا أن يقتصروا على واحدة.
الثالث - قال جماعة كانوا يشددون في أموال اليتامى ولا يشددون في أموال
النساء ينكح أحدهم النسوة ولا يعدل بينهن، فقال تعالى كما تخافون أن لا تعدلوا في
اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا واحدة إلى الأربع، فان خفتم ألا تعدلوا
فواحدة.

1) سورة النساء: 3.
2) الزيادة من ج.
96

الرابع - قال مجاهد: " ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " معناه ان تحرجتم
من ولاية اليتامى وأكل أموالهم ايمانا وتصديقا، فكذلك تحرجوا من الزنا
وانكحوا النكاح المباح من واحدة إلى أربع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة.
الخامس - قال الحسن: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجركم
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قراباتكم مثنى وثلاث -
الآية. وبه قال الجبائي، وقال: الخطاب متوجه إلى ولي اليتيمة إذا أراد أن
يتزوجها، فإنه إذا كان هو وليها كان له أن يزوجها قبل البلوغ وله أن يزوجها.
السادس - قال الفراء: المعنى ان كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فتحرجوا
من جمعكم بين اليتائم ثم لا تعدلون بينهن.
(فصل)
أما قوله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم " فهو جواب لقوله " وان خفتم ألا
تقسطوا " على ما روي عن عائشة وأبي جعفر عليه السلام.
ومن قال إن تقديره ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك تخافوا في
النساء، الجواب قوله " فانكحوا "، والتقدير فان خفتم ألا تقسطوا فخافوا
في أموال اليتامى فتعدلوا فيها فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء،
فلا تتزوجوا منهن الا من تأمنون معه الجور مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم أيضا
من ذلك فواحدة، فان خفتم من الواحدة فمما ملكت ايمانكم، فنزل ذكر
فلذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء لدلالة الكلام عليه، وهو قوله " فان
خفتم ألا تعدلوا فواحدة ".
ومعنى " ألا تقسطوا " أي ألا تعدلوا ولا تقسطوا، والأقساط العدل، واليتامى
97

جمع لذكران الأيتام، وإناثهم في هذا المعنى.
وقال الحسين بن علي المغربي: معنى " ما طاب " أي ما بلغ من النساء كما
يقال " طابت الثمرة " أي بلغت، والمراد المنع من تزويج اليتيمة قبل البلوغ
لئلا يجري عليها الظلم، فان البالغة تختار لنفسها.
وقيل معنى " ما طاب لكم " ما حل لكم من النساء ومن أحل لكم منهن دون
من حرم عليكم، وانما قال " ما طاب " لان ما مصدرية. وقيل إن ما ههنا للجنس.
كقولك " ما عندك؟ " فالجواب رجل وامرأة. وقيل لما كان المكان مكان ابهام
جاءت ما لما فيها من الابهام، ولم يقل من طاب وإن كان من العقلاء ونحوهم
من العلماء وما لغير العقلاء، لان المعنى انكحوا الطيب أي الحلال، لأنه ليس
كل النساء حلالا، لان الله حرم كثيرا منهن بقوله " حرمت عليكم أمهاتكم "
الآية. هذا قول الفراء، وقال مجاهد: فانكحوا النساء نكاحا طيبا. وقال المبرد:
ما ههنا للجنس. وكذا قوله " أو ما ملكت أيمانكم " معناه أي ملك أيمانكم.
ومعنى " فانكحوا ما طاب لكم " أي فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع،
لما قال " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين
جلدة " (1 معناه فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة.
وقوله تعالى " مثنى وثلاث ورباع " بدل من " ما طاب " وموضعه النصب،
وتقديره اثنتين اثنتين وثلاثا وثلاثا وأربعا أربعا، والواو على هذا بمعنى أو. وقد
تقع هذه الألفاظ على الذكر والأنثى، فوقوعها على الاثني مثل الآية التي نحن
في تفسيرها، ووقوعها على الذكر قوله " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " (2
لان المراد به الجناح وهو مذكر.

1) سورة النور: 4.
2) سورة الفاطر: 1.
98

وقوله " مثنى وثلاث ورباع " معناه اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا،
فلا يقال إن هذا يؤدي إلى جواز نكاح تسع كما توهمه بعض الزيدية، فان اثنين
وثلاثا وأربعا تسع لما ذكرناه، فان من قال " دخل القوم البلد مثنى وثلاث
ورباع " لا يقتضي الاعداد في الدخول، ولكن لهذا العدد لفظا موضوعا وهو
تسع، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي. جل كلامه تعالى
عن ذلك.
وقال الصادق عليه السلام: لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة
أرحام من الحرائر (1. ولعمومه بقوله: ان الاقتصار في نكاح المتعة على أربعة
أولى (2. وان ورد انهن بمنزلة الإماء، وفي الإماء يجوز الجمع بين أكثر من
أربع في ملك اليمين.
(فصل)
وقوله " فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " أي فان خفتم ألا تعدلوا في ما زاد على
الواحدة فانكحوا واحدة.
وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع، وتقديره فواحدة كافية، كما قال تعالى " فإن لم
يكونا رجلين فرجل وامرأتان " (3.
ومن استدل من الزيدية بهذه الآية على أن نكاح التسع جائز، فقد أخطأ،
لان المعنى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ان أمنتم الجور، وأما ثلاث
ان لم تخافوا ذلك، وأما رباع ان أمنتم ذلك فيهن، بدلالة قوله تعالى " فان

1) وسائل الشيعة 14 / 399.
2) في المصدر السابق 14 / 448 أحاديث بهذا المعنى.
3) سورة البقرة: 282.
99

خفتم ألا تعدلوا فواحدة " لان معناه فان خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة، ثم
قال فان خفتم في الواحدة أيضا فما ملكت أيمانكم. على أن مثنى لا تصلح الا
لاثنين اثنين على التفريق في قول الزجاج، فتقدير الآية فانكحوا ما طاب لكم
من النساء مثنى وثلاث بدلا من مثنى ورباع من ثلاث، فلا حاجة إلى أن يقال
الواو بمعنى أو، ولو قال أو لظن أنه ليس لصاحب مثنى ثلاث ولا لصاحب
الثلاث رباع.
وقال الفارسي: ان مثنى وثلاث ورباع حال من قوله " ما طاب لكم من
النساء "، فهو كقولك " جئتك راكبا وماشيا وراكبا ومنحدرا " تريد أنك جئته
في كل حال من هذه الأحوال، ولست تريد أنك جئته وهذه الأحوال لك في
وقت واحد.
ومن استدل بقوله تعالى " فانكحوا " على وجوب التزويج من حيث أن
الامر شرعا يقتضي الوجوب. فقد أخطأ، لان ظاهر الامر وان اقتضى الايجاب
في الشرع فقد ينصرف عنه بدليل، وقد قام الدليل على أن التزويج ليس بواجب،
على أن الغرض بهذه الآية انهي عن القد على من يخاف أن لا يعدل بينهن.
(فصل)
ثم قال تعالى " ذلك أدنى ألا تعولوا " فأشار بهذا إلى العقد على الواحدة
مع الخوف من الجور فيما زاد عليها والاقتصار على ما ملكت أيمانكم، أي
هو أقرب إلى أن لا تجوروا ولا تميلوا، يقال منه عال يعول إذا مال وجار.
وما قاله قوم من أن معناه أن لا يفترقوا فهو خطأ، وكذا قول من زعم أن معناه
أن لا يكثر عيالكم، لأنه يقال عال يعيل إذا احتاج، وأعال يعيل إذا كثر عياله.
على أنه لو كان المراد القول الثالث لما أباح الواحدة وما شاء من ملك
100

اليمين لأنه أريد في العيال من أربع حرائر. والصحيح أن عال الرجل عياله
يعولهم أي مانهم، ومنه قوله عليه السلام: ابدأ بمن تعول (1.
(باب الصداق وأحكامه)
قال الله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " (2 أي أعطوهن مهورهن ديانة
وهبة من الله لهن. ونحلة نصب على المصدر.
عن ابن عباس: المخاطب به الأزواج، أمرهم بالعطاء المهر كملا إذا دخل
بها لمن سمي لها، فأما غير المدخول بها فإنها إذا طلقت فان لها نصف المسمى
إذا طلقها، وان لم يكن سمى لها المهر فلها المتعة، فإن لم يطلقها ولم يسم لها
مهرا فلها مهر المثل ما لم يتجاوز خمسمائة درهم.
وقال أبو صالح: هذا خطاب للأولياء، لان الرجل منهم كان إذا زوج ابنته
أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك وأنزل هذه الآية.
وذكر المعتمر بن سليمان أن أناسا كان أحدهم يعطي هذا الرجل منهم أخته
ويأخذ أخت الرجل ولا يكون بينهما المهر، فيشير بهذا إلى نكاح الشغار، فنهى
الله عن ذلك.
والظاهر يدل على الأول.
ثم خاطب الله الزواج بقوله تعالى " فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه
هنيئا مريئا " لان أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شئ مما ساق إلى
امرأته، فأنزل الله هذه الآية - عن ابن عباس.
وقال أبو صالح: المعني به الأولياء، والمعنى ان طابت لكم أنفسهن بشئ

1) وسائل الشيعة 6 / 302.
2) سورة النساء: 4.
101

من المهر، ومن لتبيين الجنس، فلو وهبت له المهر نحلة لجاز وكان حلالا
بلا خلاف.
(فصل)
والأصل في الصداق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله: فالكتاب
قوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " (1 وقوله " فما استمتعتم به منهن فآتوهن
أجورهن فريضة " (2 وقال " وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن
فريضة فنصف ما فرضتم " (3.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: أدوا العلائق. قيل: يا رسول الله ما العلائق؟
قال: ما تراضى به الأهلون.
وعليه الاجماع. يسمى المهر صداقا وأجرة وفريضة.
فان قيل: كيف سماه الله نحلة وهو عوض عن النكاح؟
فالجواب: انه مشتق من الانتحال الذي هو التدين، يقال فلان ينتحل مذهب
كذا، فكأن قوله تعالى " نحلة " معناه تدينا.
وقيل: انه في الحقيقة نحلة من الله لها، لان حظ الاستمتاع لكل واحد
منهما بصاحبه كحظ الاخر.
وقيل وجه ثالث، وهو أن الصداق كان للأولياء في شرع من قبلنا، بدلالة
قول شعيب حين زوج موسى ابنته " على أن تأجرني ثماني حجج فان أتممت

1) سورة النساء: 4.
2) سورة النساء: 24.
3) سورة البقرة: 237.
102

عشرا فمن عندك " (1. فكأن معنى قوله تعالى " نحلة " أي ان الله أعطاهن هذا
في شريعة محمد عليه السلام.
فإذا ثبت هذا فالمستحب أن لا يعرى نكاح عن ذكر مهر، لأنه إذا عقد مطلقا
ضارع الموهوبة، وذلك يختص بالنبي صلى الله عليه وآله، فلذلك يستحب
ذكره. ولئلا يرى الجاهل فيظن أنه يعرى عن المهر، ولان فيه قطعا لمواد الخصومة.
ومتى ترك ذكر المهر وعقد النكاح بغير ذلك فالنكاح صحيح اجماعا، لقوله
تعالى " لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة "
تقديره ولم تفرضوا لهن فريضة، لأنه معطوف على قوله " ما لم تمسوهن " بدلالة
قوله " ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ".
وهذه المتعة واجبة للمرأة التي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا.
ثم قال " متاع بالمعروف حق على المحسنين "، فإن كان المهر مسمى وأعطاها
المهر ثم طلقها فالمتعة مستحبة، قال الله تعالى " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا
على المتقين " (2.
(فصل)
والصداق عندنا غير مقدر، فكل ما يصح أن يكون ثمنا لمبيع أو أجرة
لمكتر صح أن يكون صداقا قليلا كان أو كثيرا، وفيه خلاف.
والكثير أيضا لاحد له عندنا، لقوله تعالى " وان آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا
منه شيئا " (3 والقنطار ملء مسك تور ذهبا أو سبعون ألفا، وهو اجماع لقصة عمر
مع المرأة التي حجته فقال: كل أحد أفقه من عمر حتى النساء أفقه من عمر.

1) سورة القصص: 27.
2) سورة البقرة: 241.
3) سورة النساء: 20.
103

وكل ماله قيمة في الاسلام وتراضي عليه الزوجان ينعقد به النكاح ويصير
به مهرا، الا أن السنة المحمدية خمسمائة درهم قيمتها خمسون دينارا.
وروى أصحابنا أن الإجارة مدة لا يجوز أن يكون صداقا، لأنه كان يختص
بموسى عليه السلام. ويجوز أن يكون المهر تعليم شئ من القرآن.
(باب)
(المتعة وأحكامها)
قال الله تعالى " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة " (1) قال الحسن
هو النكاح، وقال ابن عباس والسدي هو المتعة إلى أجل مسمى. وهو مذهبنا،
لان لفظ " الاستمتاع " إذا أطلق لا يستفاد به في الشرع الا العقد المؤجل، وإن كان
في أصل الوضع معناه الانتفاع. ولا خلاف أن الشئ إذا كان له وضع وعرف
شرعي يجب حمله على العرف دون الوضع، لأنه صار حقيقة والوضع مجازا
والحكم للطارئ. ألا ترى أنهم يقولون " فلان يقول بالمتعة وفلان لا يقول بالمتعة "
ولا يريدون الا العقد المخصوص.
ولا ينافي ذلك قوله تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم
أو ما ملكت أيمانهم " (2. لأنا نقول: ان هذه زوجة، ولا يلزم أن يلحقها جميع
أحكام الزوجات من الميراث والطلاق والايلاء والظهار واللعان، لان أحكام
الزوجات تختلف. ألا ترى أن المرتدة تبين بغير طلاق، وكذا المرتد عندنا،
والكتابية لا ترث. وأما العدة فإنها يلحقها عندنا ويلحق به الولد أيضا في هذا
النكاح فلا شنعة بذلك.

1) سورة النساء: 24.
2) سورة المؤمنون: 5 - 6.
104

ولو لم تكن زوجة لما جاز أن يضم ما ذكر في هذه السورة إلى ما في تلك
الآية، وان ذلك جائز لأنه لا تنافي بينهما، فيكون التقدير: الا على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم، أو ما استمتعتم به منهن. وقد استقام الكلام.
(فصل)
وقد روي عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير أنهم
قرأوا " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " (1 وذلك صريح بما قلناه. على
أنه لو كان المراد به عقد النكاح الدائم لوجب لها جميع المهر بنفس العقد لأنه
قال تعالى " فآتوهن أجورهن " يعني مهورهن عند أكثر المفسرين. وذلك غير
واجب بلا خلاف، وانما يجب الاجر بكماله في عقد المتعة بنفس العقد.
ولا يعترض هذا بقوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " (2 لان آية الصدقة
مطلقة وهذه مقيدة بما قبلها، مع أنه فصل سبحانه فقال " وان طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ".
وفي أصحابنا من قال: قوله " أجورهن " يدل على أنه تعالى أراد المتعة،
لان المهر لا يسمى أجرا بل سماه الله تعالى صدقة ونحلة.
وهذا ضعيف، لان الله سمى المهر أجرا في قوله " فانكحوهن بأذن أهلهن
وآتوهن أجورهن " (3 وفي قوله " والمحصنات من الذين أوتو الكتاب من قبلكم
إذا آتيتموهن أجورهن " (4، ومن حمل ذلك كله على المتعة كان مرتكبا لما يعلم
خلافه.

1) انظر الدر المنثور 2 / 129 فما بعدها.
2) سورة النساء: 4.
3) سورة النساء: 25.
4) سورة المائدة: 5.
105

ومن حمل لفظ " الاستمتاع " على الانتفاع فقد أبعد، لأنه لو كان كذلك
لوجب أن لا يلزم من لا ينتفع بها شئ من المهر. فقد علمنا أنه لو طلقها قبل
الدخول للزمه نصف المهر، فان خلا بها خلوة تامة لزمه جميع المهر عند كثير
من الفقهاء وان لم يلتذ ولم ينتفع.
(فصل)
وأما الخبر الذي يروونه أن النبي عليه السلام نهى عن المتعة (1، فهو خبر
واحد لا يترك له ظاهر القرآن، ومع ذلك يختلف لفظه وروايته: فتارة يروون
أنه نهى عنها في عام خيبر، وتارة يروون أنه نهى عنها في عام الفتح، وقد طعن
أيضا في طريقه بما هو معروف.
وأدل دليل على ضعفه قول عمر " متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى
عنهما ومعاقب عليهما " (2، فأخبر أن هذه المتعة كانت على عهد رسول الله صلى
الله عليه وآله وانه هو الذي نهى عنها لضرب من الرأي.
فان قالوا: انما نهى لان النبي عليه السلام كان نهى عنها.
قلنا: لو كان كذلك لكان يقول متعتان كانتا على عهد رسول الله فنهى عنهما
وأنا أنهى عنهما أيضا، فكان يكون آكد في باب المنع، فلما لم يقل ذلك دل
على أن التحريم لم يكن صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وصح ما قلناه.
وقال الحكم بن عيينة: قال علي عليه السلام: لولا أن عمر نهى عن المتعة
ما زنى الا شقي (3.

1) انظر سنن الترمذي 3 / 429.
2) الغدير 6 / 210 عن سنن البيهقي 7 / 206 ولفظه " وأعاتب عليهما ".
3) الدر المنثور 2 / 140. وبمضمونه حديث عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، انظر
الاستبصار 3 / 141.
106

وذكر البلخي عن وكيع عن إسماعيل بن خالد عن قيس بن أبي حازم
عن ابن مسعود قال: كنا مع النبي عليه السلام ونحن شباب فقلنا: يا رسول الله
ألا نستخصي؟ قال: لا. ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل (1.
وقوله تعالى " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " (2 قال
السدي وقوم من أصحابنا (3: معناه لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من استيناف
عقد آخر بعد انقضاء المدة التي تراضيتم عليها، فنزيدها في الاجر وتزيدك في
المدة (4.
(فصل)
فإذا ثبت أن النكاح المتعة جائز وهو النكاح المؤجل، وقد سبق إلى القول
بإباحة ذلك جماعة معروفة الأحوال عند المخالفين وقد أثبتوا في كتبهم منهم
أمير المؤمنين عليه السلام وابن مسعود ومجاهد وعطا، وقد رووا عن جابر وسلمة
ابن الأكوع وأبى سعيد الخدري والمغيرة بن شعبة وابن جبير وابن جريح انهم
كانوا يفتون بها، وادعاؤهم الاتفاق على حظر المتعة باطل.
وقد ذكرنا أن الحجة لنا بعد الاجماع من القرآن قوله تعالى " فما استمتعتم
به منهن فآتوهن أجورهن فريضة "، ولفظ الاستمتاع والتمتع وإن كان واقعا

1) مسند أحمد بن حنبل 1 / 432.
2) سورة النساء: 24.
3) انظر الدر المنثور 2 / 140.
4) قال الصغاني في العباب: قيل لسعد بن أبي وقاص " رض ": ان فلانا ينهى عن المتعة.
فقال: متعنا مع رسول الله عليه السلام وفلان كافر بالعرش - أي وهو مقيم بعرش مكة وهي
بيوتها القديمة لم يسلم ولم يهاجر. كأنه قال كافر بالعروش، وهو جمع عريش، وهو خيمة
من خشب وثمام. قال الصغاني: فلان هو معاوية بن أبي سفيان " ج ".
107

على الالتذاذ والانتفاع في أصل اللغة، فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا
العقد المعين، لا سيما إذا أضيف إلى النساء، ولا يفهم من قول القائل " متعة
النساء " لا هذا العقد المخصوص، كما أن لفظ الظهار اختص في عرف الشرع
بهذا الحكم المخصوص وان كانت في اللغة مشتركة، فكأنه قال: إذا عقدتم
عليهن هذا العقد المخصوص فآتوهن أجورهن.
ولفظة " استمتعتم " لا تعدو وجهين: اما أن يراد بها الانتفاع والالتذاذ الذي
هو أصل موضوع اللغة، أو العقد المؤجل المخصوص الذي اقتضاه عرف
الشرع. فلا يجوز أن يكون هو الوجه الأول لامرين:
أحدهما - أنه لا خلاف بين محصلي من تكلم في أصول الفقه، في أن لفظ
القرآن إذا ورد وهو محتمل لامرين أحدهما أصل اللغة والاخر عرف الشرع
أنه يجب حمله على عرف الشرع، ولهذا حملوا كلهم لفظ صلاة وزكاة وصيام
وحج على العرف الشرعي دون اللغوي.
والامر الاخر - أنه لا خلاف في أن المهر لا يجب بالالتذاذ، لان رجلا لو وطئ
امرأته، ولم يلتذ لوطئها لان نفسه عافتها وكرهتها أو لغير ذلك من الأسباب لكان
دفع جميع المهر واجبا وإن كان الالتذاذ مرتفعا، فعلمنا أن الاستمتاع في الآية
انما أريد به العقد المخصوص دون غيره.
(فصل)
ومما يبين ذلك ويقويه قوله تعالى " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من
بعد الفريضة " ومعناه على ما روي عن آل محمد عليه وعليهم السلام أن تزيدها
أنت في الاجر وتزيدك هي في الاجل (1.

1) انظر تفسير البرهان 1 / 360.
108

وما يقوله مخالفونا من أن المراد به رفع الجناح في الابراء والنقصان أو
الزيادة في المهر أو ما يستقر بتراضيهما من النفقة ليس بصحيح. لأنا نعلم أن
العفو والابراء مسقط للحقوق بالعقول ومن الشرع ضرورة لا بهذه الآية، والزيادة
في المهر كالهبة، والهبة أيضا معلومة لامن هذه الآية، وأن التراضي مؤثر في
النفقات وما أشبهها، فحمل الآية والاستفادة بها ما ليس بمستفاد قبلها ولا معلوم هو
الأولى، فالحكم الذي ذكرناه مستفاد بالآية غير معلوم قبلها، فيحب أن يكون
أولى.
(فصل)
فان قيل: كيف يضح حمل لفظة " استمتعتم " على النكاح المخصوص،
وقد أباح الله بقوله " وأحل لكم ما وراء ذلكم " النكاح المؤبد بلا خلاف، فمن
خصص ذلك بعقد المتعة فهو خارج عن الاجماع.
قلنا: قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء " وأحل لكم ما وراء ذلكم
أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين " يبيح العقد على النساء والتوصل
بالمال إلى استباحتهن ويعم ذلك العقد المؤبد والمؤجل، ثم خص المؤجل
بالذكر فقال " فما استمتعتم به منهن "، فالمعنى فمن نكحتموها منهن نكاح المتعة
فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، لان
الزيادة في الاجر والأجل لا يليق الا بالعقد المؤجل.
فان قيل: الآية مجملة لقوله تعالى " محصنين غير مسافحين " ولفظة الاحصان
تقع على أشياء مختلفة من العقد والتزويج وغير ذلك.
قلنا: الأولى أن تكون لفظة " محصنين " محمولة على العقد والتنزيه من
الزنا، لأنه في مقابلة قوله " غير مسافحين " والسفاح الزنا بغير شبهة، ولو حملت
109

اللفظة على الامرين من العفة والاحصان الذي يتعلق به الرجم لم يكن بعيدا.
فان قيل: كيف يحمل لفظة " الاحصان " في الآية على ما يقتضي الرجم
وعندكم أن المتعة لا تحصن.
قلنا: قد ذهب أكثر أصحابنا إلى أنها تحصن، وانما لا تحصن إذا كانت
المتمتع بها يغيب عنها في أكثر الأوقات، والغائب عن زوجته في النكاح الدائم
لا يكون بحكم المحصن في الرجم.
وبعد فإذا كانت لفظة " محصنين " تليق بالنكاح الدائم المؤبد رددنا ذلك
إليه، كما أنا رددنا لفظة " الاستمتاع " إلى النكاح المؤجل لما كانت تليق به،
فكأنه تعالى أحل النكاح على الاطلاق وابتغاءه بالأموال ثم فصل منه المؤبد
بذكر الاحصان والمؤجل بذكر الاستمتاع.
وموضع " أن تبتغوا " نصب على البدل من ما أو على حذف الام، بأن
يكون تقديره لان تبتغوا. ومن قرأ " وأحل " بالضم جاز في محل ان الرفع
والنصب. ومعنى " أن تبتغوا " ان تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم اما شراءا بثمن
أو نكاحا مؤجلا أو مؤبدا - عن ابن عباس.
" محصنين غير مسافحين " أي متزوجين غير زانين وأعفة غير زناة. وقال
الزجاج: المسافح والمسافحة الزانيان غير ممتنعين من أحد، فإذا كانت تزني
بواحد فهي ذات خدن، فحرم الله الزنا على وجه السفاح الذي ذكرناه واتخاذ
الصديق الذي بيناه.
(باب)
(العقد على الإماء وأحكامه)
قال الله تعالى " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
110

فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " (1 معناه ومن لم يجد منكم طولا،
والطول هو الغنى، مأخوذ من الطول، فشبه الغني به لان به ينال معالي الأمور.
وقيل الطول هو الهوى (2، قال جابر: إذا هوى الأمة التي للغير فله أن يتزوجها
بأن كان ذا يسار. والأول هو الصحيح، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام (3.
المعنى: من لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح
أمة، أي من لم يقدر على شئ مما يصلح لنكاح الحرائر من المهر والنفقة
فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، أي من فتيات المسلمين لا من
فتيات غيركم، وهم المخالفون في الدين كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم،
فان مهور الإماء أقل ومؤونتهن أخف في العادة.
والمراد به إماء الغير، لأنه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأمة نفسه اجماعا.
وطولا مفعول به، وعلى قول جابر من أنه من الهوى مفعول له.
والعنت في قوله تعالى " لمن خشي العنت منكم " على هذا المراد به الحد،
لأنه إذا هواها خشي أن يواقعها فيحد فيتزوجها.
والفتاة: الشابة. والفتاة: الأمة وان كانت عجوزا، لأنها كالصغيرة في أنها
لا توقر توقير الحرة. والفتوة حالة الحداثة، يقال أفتى الفقيه لأنه في مسألة حادثه.
(فصل)
وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، لأنه قيد جواز العقد
على الإماء بكونهن مؤمنات. وقال أبو حنيفة يجوز ذلك، لان التقييد هو على

1) سورة النساء: 25.
2) وفسر الطول بالمهر في حديث عن الصادق عليه السلام - انظر تفسير البرهان 1 / 361.
3) مجمع البيان 2 / 33.
111

جهة الندب دون التحريم. والأول أقوى، لأنه الظاهر وما قاله عدول عن الظاهر.
ومنهم من قال: ان تأويل من فتياتكم المؤمنات الكتابيات دون المشركات
من عبدة الأوثان، بدلالة الآية في المائدة، وهي قوله تعالى " والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " (1. وهذا ليس بشئ، لان الكتابية لا تسمى
مؤمنة.
ومن أجاز العقد على الكتابية، له أن يقول: آية المائدة مخصوص بالحرائر
منهن دون الإماء.
وظاهر الآية يقتضي أن من وجد المهر للحرة ونفقتها ولا يخاف العنت لا يجوز
له تزويج الأمة وانما يجوز العقد عليها مع عدم الطول والخوف من العنت. وهو
مذهب الشافعي، غير أن أكثر أصحابنا قالوا ذلك على وجه الأفضل، لا لأنه
لو عقد عليها وهو غني كان العقد باطلا وهو قول أبي حنيفة، وقووا ذلك بقوله
تعالى " ولامة مؤمنة خير من مشركة " (2.
الا أن من شرط صحة العقد على الأمة عند أكثر الفقهاء ألا يكون عنده
حرة، وهو مذهبنا، الا أن ترضى الحرة بأن يتزوج عليها أمة، فان أذنت كان
العقد صحيحا عندنا. ومتى عقد عليها بغير اذن الحرة كان العقد باطلا. وروى
أصحابنا أن الحرة تكون بالخيار بين أن تفسخ عقد الأمة، كما يكون لها الخيار
أن تفسخ عقد نفسها، والأول أظهر لأنه إذا كان العقد باطلا لا يحتاج إلى فسخه.
فأما تزويج الحرة على الأمة فلا يجوز الا باذن الحرة، فإن لم تعلم الحرة
بذلك كان لها أن تفسخ نكاح نفسها أو نكاح الأمة. وفي الناس من قال في عقده
على الحرة طلاق الأمة، وعن النبي عليه السلام: الحرائر صلاح البيت،

1) سورة المائدة: 5.
2) سورة البقرة: 221.
112

والإماء هلاك البيت.
(فصل)
ثم قال تعالى " والله يعمل بايمانكم بعضكم من بعض ". قيل فيه قولان:
أحدهما كلكم ولد آدم، والثاني كلكم على الايمان.
ويجوز أن تكون الأمة أفضل من الحرة وأكثر ثوابا عند الله، وفي ذلك
تسلية لمن يعقد على الأمة إذا جوز أن يكون أكثر ثوابا عند الله مع اشتراكهم
بأنهم ولد آدم. وفي ذلك صرف عن التعاير في الأنساب.
ومن كره نكاح الأمة قال إن الولد منها يكون مملوكا، ولذلك أنكر. وعندنا
أن هذا ليس بصحيح، لان الولد عندنا يلحق بالحرية في كلا الطرفين الا أن
يشترط.
وقوله تعالى " فانكحوهن باذن أهلهن " أي اعقدوا عليهن بأذن أهلهن. وفي
ذلك دلالة واضحة على أنه لا يجوز نكاح الأمة بغير اذن وليها الذي هو مالكها.
وقوله تعالى " وآتوهن أجورهن " معناه أعطوا مالكهن مهورهن، لان مهر
الأمة لسيدها. وقيل تقديره فأتوا مواليهن، فحذف المضاف. وقيل انما قال
وآتوهن لأنهن وما في أيديهن لمواليهن، فيكون الأداء إليهن بحضور مواليهن
أداءا إلى الموالي.
وقوله تعالى " بالمعروف " وهو ما وقع عليه العقد والتراضي.
وقوله تعالى " محصنات غير مسافحات " يعني بالعقد عليهن دون السفاح
معهن " ولا متخذات أخدان " فالخدن الصديق يكون للمرأة يزني بها سرا،
والسفاح ما ظهر من الزنا، أي غير زانيات جهرا ولا سرا. ولا يحرم في الجاهلية
ما خفي من الزنا وانما يحرم ما ظهر منه، قال الله تعالى " ولا تقربوا الفواحش
113

ما ظهر منها وما بطن " (1 أي حرم الزنا سرا وعلانية.
(فصل)
قوله تعالى " فإذا أحصن " من قرأ بالضم معناه تزوجن، ومن فتح الهمزة
فمعناه أسلمن. وقال الحسن يحصنها الاسلام والزوج.
ولا خلاف أنه يجب عليها نصف الحد إذا زينت، سواء كانت ذات زوج
أو لم تكن.
وقوله " من العذاب " أي من الحد، لقوله " وليشهد عذابهما " (2 و " يدرأوا
عنها العذاب " (3.
ولا رجم على الإماء، لان الرجم لا ينتصف.
وقوله " ذلك لمن خشي العنت منكم " إشارة إلى نكاح الأمة عند عدم الطول
لمن خشي العنت، أي الزنا والمشقة والضرر لغلبة الشهوة.
" وان تصبروا خير لكم " معناه وصبركم عن نكاح الإماء وعن الزنا خير لكم.
ويدل على أن الاحصان يعبر به عن الخيرية قوله تعالى في أول الآية " ومن
لمس يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات "، ولا شك انه أراد بها
الحرائر والعفائف، لان اللاتي لهن أزواج لا يمكن العقد عليهن. على أن في
الناس من قال إن المحصنات هنا المراد بها الحرائر دون العفائف، لأن العقد
على المرأة الفاجرة ينعقد وإن كان مكروها، لان قوله " الزاني لا ينكح الا زانية

1) سورة الأنعام: 151.
2) سورة النور: 2.
3) سورة النور: 8.
114

أو مشركة " (1 منسوخ بالاجماع. ويمكن أن يخص بالعفائف على الأفضل دون
الوجوب.
وذكر الطبري أن في الآية تقديما وتأخيرا، لان التقدير ومن لم يستطع
منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات مما ملكت أيمانكم، أي فلينكح
مما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات بعضكم من بعض والله أعلم بايمانكم (2.
وهو مليح.
(فصل)
ثم قال تعالى " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم "
قال الجبائي: في الآية دلالة على أن ما ذكر في الآيتين من تحريم النكاح وتحليله
قد كان على من قبلنا من الأمم لقوله " ويهديكم سنن الذين من قبلكم " أي في
الحلال والحرام.
وقال الرماني: لا يدل ذلك على اتفاق الشريعة وان كنا على طريقتهم في
الحلال والحرام كما لا يدل عليه وان كنا على طريقتهم في الاسلام. وهذا أقوى،
ومثله قوله تعالى " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " (3، واللام
في " ليبين " لإرادة التبيين، والأصل أن يبين، كما زيدت في " لا ابا لك " لتأكيد
الإضافة.
" والله يريد أن يتوب عليكم " أي يقبل توبتكم من استحلالهم ما هو حرام
عليهم من حلائل الاباء والأبناء، " ويريد الذين يتبعون الشهوات " قيل هم اليهود،

1) سورة النور: 3.
2) مجمع البيان: 2 / 35.
3) سورة البقرة: 183.
115

لأنهم يحلون نكاح الأخت من الأب، وقيل المجوس. أي يريدون أن يعدلوا
عن الاستقامة " ويريد الله أن يخفف عنكم " في نكاح الإماء، لان الانسان خلق
ضعيفا في أمر النساء.
(باب)
(نفقات الزوجات والمرضعات وأحكامها)
قال الله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " (1 أي لا تعطوا النساء والصبيان
أموالكم التي تملكونها فتسلطونهم عليها فيفسدوها ويضيعوها، ولكن ارزقوهم
أنتم منها ان كانوا ممن يلزمكم نفقتهم واكسوهم.
وقال تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض
وبما أنفقوا من أموالهم " (2 وفيه دليلان على وجوب ذلك: أحدهما قوله " قوامون "،
والقوام على الغير هو المتكفل بأمره من نفقة وكسوة وغير ذلك. والثاني قوله
" وبما أنفقوا من أموالهم " يعني أنفقوا عليهن من أموالهم.
وقال تعالى " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم
ألا تعدلوا " أي في النفقة " فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " (3 يعني لا تكثروا من
تمونونه، فلولا أن النفقة واجبة والمؤنة عليهم ما حذره بكثرتها عليه.
وقال تعالى " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " (4 يعني من الحقوق التي
لهن على الأزواج من الكسوة النفقة والمهر وغير ذلك.

1) سورة النساء: 5.
2) سورة النساء: 34.
3) سورة النساء: 3.
4) سورة الأحزاب: 50.
116

وقال تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن المعروف " (1 والمولودة
له الزوج، فقد أخبر تعالى أن عليه رزقها وكسوتها.
(فصل)
وقوله تعالى " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم " قال قوم: معناه قد
علمنا مصلحة ما أخذنا على المؤمنين في أزواجهم وما فرضناه عليهم مصلحة لهم
في أديانهم من المهر والحصر بعدد محصور من النفقة والكسوة والقسمة بين
الأزواج وغير ذلك من الحقوق ومما ملكت أيمانهم ان لا يقع لهم الملك الا بوجوه
معلومة، ووضعنا أكثر ذلك منك وأبحنا لك امرأة وهبت نفسها لك، وانما
خصصناك على علم منا بالمصلحة فيه من غير محاباة.
وعندنا أن النكاح بلفظ الهبة لا يصح، وانما كان ذلك للنبي عليه السلام
خاصة. وقال قوم يصح غير أنه يلزم المهر إذا دخل بها، وانما جاز بلا مهر
للنبي عليه السلام خاصة. والذي يبين صحة ما قلناه قوله تعالى " ان أراد النبي
أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " (2 فبين أن هذا الضرب من النكاح
خاص له عليه السلام دون غيره من المؤمنين.
ومتى اجتمع عند الرجل حرة وأمة بالزوجية كان للحرة يومان وللأمة يوم،
وفي رواية للحرة ليلتان وللأمة المزوجة ليلة. فان كانت لمك بيمين فلا قسمة
لها. والتسوية بينهن في النفقة والكسوة أفص، ولا بأس أن يفضل بعضهم على
بعض فيهما.
وإذا كان له زوجة يبيت عندها ليلة في كل أربع ليالي، وان كانت عنده
حرتان جاز أن يبيت عند واحدة ثلاث ليالي وعند الأخرى ليلة.

1) سورة البقرة: 223.
2) سورة الأحزاب: 50.
117

(فصل)
وقوله تعالى " يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا " (1 الآية.
فقد فرض الله على نبيه صلى الله عليه وآله أن يخير نساءه بين المقام معه على
ما يكون من أحوال الدنيا وبين مفارقته بالطلاق وتعجيل المنافع، فقد روي في
سببه أن كل واحدة من نسائه طلبت شيئا منه فلم يقدر على ذلك، لأنه لما خيره
الله تعالى في ملك الدنيا فاختار الآخرة فأمره الله بتخيير النساء فاخترن الله ورسوله (2.
وروي في سبب ذلك أن بعض نسائه طلبت منه حلقة من ذهب فصاغ لها
حلقة من فضة وطلاها بالزعفران، فقالت: لا أريد الا من ذهب، فاغتم لذلك
النبي عليه السلام، فنزلت الآية فصبرن على الفاقة والضر، فأراد الله تعالى أن
يكافئهن في الحال فأنزل " لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج " (2
الآية، ثم نسخت بعد مدة بقوله " انا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن "
يعني أعطيت مهورهن، لان النكاح ينفك من المهر.
والايتاء قد يكون بالأداء وقد يكون بالالتزام، وأحللنا لك ما ملكت يمينك
من الإماء أن تجمع منهن ما شئت، وأحللنا لك بنات عمك أن تعقد عليهن وتعطيهن
مهرهن. ثم قال " وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي " يعني وأحللنا لك المرأة
إذا وهبت نفسها لك إذا أردتها ورغبت فيها.
[عن ابن عباس: لا تحل لك امرأة بغير مهر وان وهبت نفسها الا للنبي عليه
السلام خاصة] (4.

1) سورة الأحزاب: 28.
2) أسباب النزول ص 242.
3) سورة الأحزاب: 52.
4) الزيادة من م.
118

(فصل)
وقوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " (1 هو أمر ورد
في صورة الخبر، كقوله " ومن دخله كان آمنا " (2.
وانما قلنا ذلك لامرين:
أحدهما - أن تقديره والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين في حكم
الله الذي أوجبه على عباده، فحذف للدلالة عليه.
والثاني - أنه وقع موقع ليرضعن تصرفا في الكلام مع دفع الاشكال، ولو
كان خبرا لكان كذبا لوجودنا، والوالدات يرضعن أكثر من حولين وأقل منهما.
وقال بعضهم هو على ظاهره خبر.
فان قيل: ان الخبر يوجب [...] (3 والاجماع أن الوالدة بالخيار.
الجواب: انه في تقدير حق للوالدات أن يرضعن حولين.
وقال الأصم: ذلك في المطلقات، لوروده عقيبه ولقوله " وعلى المولود
له رزقهن "، والزوجة يلزم لها النفقة إذا كانت تطيع على كل حال، ولا التباس
على أنها عامة ولا يمتنع أن يبين للرضاع زيادة حق على حق الزوجية.
وقال أبو مسلم: هو أمر وحكم من الله على النساء بارضاع أولادهن على
أزواجهن إقامة رزقهن وكسوتهن.
وقال الزجاج في قوله تعالى " بالمعروف " أي بما تعرفون أنه عدل على

1) سورة البقرة: 233.
2) سورة آل عمران: 97.
3) كلمة لم نتبينها.
119

قدر الامكان، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى " لا نكلف نفسا الا وسعها " (1
لأنه خبر في تقدير النهي وبدل، أي لا يكلف الزوج من النفقة أكثر من الامكان
على قدر حاله وما يتسع له، لان الوسع ما يتسع له الرجل ولا يتحرج به ويصير
إلى الضيق من أجله.
ونظر الصادق عليه السلام إلى أم إسحاق ترضع أحد ابنيها، فقال: لا ترضعيه
من ثدي واحد وأرضعيه من كليهما، يكون أحدهما طعاما والاخر شرابا (2.
(فصل)
وفي الآية بيان لامرين: أحدهما مندوب، والاخر فرض.
فالمندوب هو أن يجعل الرضاع تمام الحولين، لان ما نقص عنه يدخل
به الضرر عل المرتضع.
والفرض. أن مدة الحولين التي تستحق المرضعة الاجر فيها ولا تستحق فيما
زاد عليه، وهو الذي بينه الله تعالى بقوله " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن "
فثبتت المدة التي يستحق فيها الجرة على ما أوجبه الله تعالى في هذه الية.
وانما قال تعالى " حولين كاملين " وان كانت التثنية تأتي على استيفاء السنتين
لوقع التوهم من أنه على طريقة التغليب، كقولهم " سرنا يوم الجمعة " وإن كان
السير في بعضه. وقد يقال أقمنا حولين " وان كانت الإقامة في حول
وبعض من الحول الثاني، فهو لرفع الابهام الذي يعرض في الكلام.
فان قيل: هل يلزم الحولين في كل مولود.
قيل: فيه خلاف:

1) سورة الأنعام: 152.
2) وسائل الشيعة 15 / 176.
120

قال ابن عباس: لا، لأنه يعتبر ذلك بقوله " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " (1،
فان ولدت المرأة لستة أشهر فحولين كاملين، وان ولدت لسبعة أشهر فثلاثة
وعشرون شهرا [وان ولدت لتسعة أشهر وأحد وعشرون شهرا يطلب لذلك التكملة
لثلاثين شهرا] (2 في الحمل والفصال الذي يسقط به الفرض. وعلى هذا يدل
أخبارنا، لأنهم رووا أن ما نقص عن أحد وعشرين شهرا فهو جور على الصبي.
وقال الثوري: هو لازم في كل ولد، إذا اختلف والداه رجعا إلى الحولين
من غير نقصان ولا زيادة، لا يجوز لهما غير ذلك.
والرضاع بعد الحولين لا حكم له في التحريم عندنا، وبه قال ابن عباس
وأكثر العلماء.
وقوله " وعلى المولود له رزقهن " أنه يجب على الأب اطعام أم الولد
وكسوتها ما دامت في الرضاعة اللازمة إذا كانت مطلقة عند أكثر المفسرين.
(فصل)
أما قوله تعالى " لا تضار والدة بولدها " فله تقديران:
أحدهما - لا تضارر ما لم يسم فاعله، اي لا ينزع الولد منها ويسترضع امرأة
أخرى مع اجابتها إلى الرضاع بأجرة المثل، ولا مولود له وهو الوالد، أي
لا تضارر والدة، بأن لا تمتنع هي من الارضاع بأجرة المثل.
والثاني - ان وزنه تفاعل، أي لا تضارر والدة بولدها، اي لا تترك المطلقة
ارضاع ولدها غيضا على أبيه فتضر بولدها، لان الوالدة أشفق على ولدها من
الأجنبية، وهو اختيار الزجاج. قال: لا تضر بولدها في رضاع ولا غذاء ولا حفظ،

1) سورة الأحقاف: 25.
2) الزيادة من ج.
121

فيكون " ضار " بمعنى أضر، ومعنى ولا مولود له بولده أي لا يضر الوالد على
أم الولد من جهة النفقة وتفقده وحفظه.
ويجوز أن تكون المضارة من الوالدين بسبب الولد ونهيا عنه، لان في
تضارهما اضرارا بالولد. وقال أبو مسلم: المضارة والمعاسرة واحدة، لقوله
تعالى " فان تعاسرتم فسترضع له أخرى "، وتعاسرهما أن تعلوا المرأة في
التماس النفقة ومنعها الوالد أوسط ما يكفيها، كأنه قيل لا تضر والدة الزوج بولدها،
وكذا فرض الوالد. وعن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام: أي لا يترك
جماعها خوف الحمل لأجل ولدها المرتضع، ولا تمنع نفسها من الأب خوف
الحمل فيضر ذلك بالأب (1.
وإذا قرئ " لا تضار " بالرفع فهو في لفظ الخبر ومعناه الامر، والمعنى
لا تضارر، ووالدة على هذا فاعلة لا غير. وإذا قرئ بفتح الراء فهو نهي مجزوم
اللفظ، والتقدير لا يضارره أو لا تضارره.
(فصل)
وقوله تعالى " وعلى الوالد مثل ذلك " معناه عليه كما ذكر من قبل من النفقة
ومن ترك المضارة. وقيل الوارث الولد، وقيل الوالدة، والأول أقوى.
وروي في أخبارنا أن على الوارث كائنا من كان النفقة (2، وهو ظاهر القرآن،
وبه قال جماعة. وقال بعض المفسرين: ان على كل وارث نفقة الرضاع الأقرب
فالأقرب يؤخذ به، وأما نفقة ما بعد الرضاع فعندنا تلزم الوالدين وان عليا النفقة
على الولد وان نزل ولا تلزم غيرهم. وقال قوم تلزم العصبة دون الام والاخوة

1) تفسير البرهان 2 / 224.
2) انظر تفسير البرهان 2 / 225.
122

من الام، وقيل على الوارث من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث.
وعموم الآية يقتضيه غير أنا خصصناه بدليل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: على الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون من
كان ذا رحم ليس من المحرم كابن العم وابن الأخت، فأوجبوا على ابن الأخت
ولم يوجبوها على ابن العم وإن كان وارثه في تلك الحال وكذا العم وابن العم.
وقال سفيان: وعلى الوارث، أي الباقي من أبويه، وهذا مثل ما قلناه.
(فصل)
وقوله تعالى " فان أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما "
الفصال الفطام لانفصال المولود عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات.
وهذا الفصال في الآية المراد به فصال قبل الحولين، لان المدة التي هي تمام
الحولين معلومة إذا تنازعا رجعا إليه، فأما بعد الحولين فلا يجب على واحد
منهما اتباع الاخر في دعائه.
وقال ابن مهرايزد في تفسيره: إذا اتفق الوالد والمرضعة على أن يريا
الصواب فطام المولود قبل انقضاء الحولين واستشارا غيرهما كيلا يقع عليهما
غلط فيضرا به ان فطماه فجائز أن يفعلاه. والظاهر أنه مع شرط الفصال قبل
الحولين تراضى الوالدين واستشارة الغير فيه، وجوز أبو مسلم أن يكون المراد
بالفصال مفاصلة بين الوالد والوالدة أن تراضيا بالافتراق وتسليم الولد حتى
تسترضعه من يختار، وهو بعيد.
وقد قال تعالى " وحرمنا عليه المراضع من قبل " (1 ومعناه منعنا موسى عليه
السلام من قبل رده إلى أمه وبغضناهن إليه، وكان ذلك كالمنع بالنهي لا أن هناك

1) سورة القصص: 12.
123

نهيا بالفعل، فلما أحضر فرعون أمه سألها: كيف ارتضع منك ولم يرتضع
من غيرك؟ فقالت: لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أوتى صبيا الا ارتضع
مني. يدل هذا على أن لبن الام أنفع بالولد من لبن غيرها.
وعن ابن عباس: انه إذا تراضيا على انفصال فلا حرج إذا سلمتم أجرة الام
أو الظئر. وقال مجاهد: أجرة الام بمقدار ما ارتضعت أجرة المثل، وقال سفيان
أجرة المسترضعة.
وعندنا أن الأب متى وجد من ترضع الولد بأربعة دراهم وقالت الام لا أرضعه
الا بخمسة دراهم، فان له أن ينزعه منها، قال تعالى " وان تعاسرتم فسترضع له
أخرى " (1، الا أن الأصلح له أن يترك مع أمه.
و " آتيتم " بالمد من الاعطاء، و " أتيتم " بالقصر من الاتيان، والتقدير
إذا سلمتم ما أتيتم نقده، فحذف المضاف ثم المضاف إليه. و " بالمعروف "
يتعلق بأتيتم أو بسلمتم. والآية تدل على أنه تعالى اتاه إذا ضمن أن يعطيه، فإذا
سلم قيل سلم ما أتاه. والعامل في إذا معنى لا جناح عليكم، أي إذا استرضعتم
وآتيتم الأجرة أمنتم، فان أردتم أن تسترضعوا أولادكم أي لأولادكم.
وفي الآية دلالة على أن الولادة بستة أشهر تصح، لأنه إذا ضم إلى الحولين
كان ثلاثين شهرا، وروي ذلك عن علي عليه السلام (2 وعن ابن عباس.
(فصل)
وقوله تعالى " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " (3 فيه دلالة

1) سورة الطلاق: 6.
2) وسائل الشيعة 15 / 117.
3) سورة آل عمران: 44.
124

على أنهم حين ولادتها تشاحوا في الذي تحضنها وتكفل تربيتها، فقال زكريا أنا
أولى لان خالتها عندي، وقال القوم نحن أولى لأنها بنت امامنا، وكان عمران
امام الجماعة، فألقوا الأقلام أيهم أولى بكفالتها، فألقوها بالماء تلقاء الجرية،
فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء مصعدة وانحدرت أقلام الباقين فقرعهم زكريا.
فإذا ثبت ذلك فاعلم أن الام أولى بالولد من الأب مدة الرضاع، فإذا خرج
عن حد الرضاع كان الوالد أحق به منها إذا كان حرا وكان الولد ذكرا، فإن كان
أنثى فهي أحق بها إلى سبع سنين ما لم تتزوج، فإذا تزوجت كان الوالد
أحق بها الا أن تكون مملوكا.
ولا تسترضع كافرة ولا زانية لقوله تعالى " والذي خبث لا يخرج الا نكدا " (1
فإن كان الوالد مات كانت الام أحق به من الوصي، سواء كان الولد ذكرا أو
أنثى إلى أن يبلغ.
وقال تعالى " ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله
في عامين " (2 أي انها تضعف ضعفا بحملها الولد إلى أن تضعه فلا تزال تزداد
ضعفا على حسب تزايده في بطنها، " وفصاله في عامين " أي في انقضاء عامين
بعد الوضع، وظاهر الآية يدل على جواز أحد وعشرين شهرا فإنها في عامين (3.
وقوله تعالى " ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله
وفصاله ثلاثون شهرا " (4 أي أمرناه بأن يحسن إلى والديه احسانا. " حملته أمه
كرها " أي كانت تحمله لمشقة في بطنها مدة الحمل ووضعته بمشقة في حال
الولادة وأرضعته مدة الرضاع.

1) سورة الأعراف: 58.
2) سورة لقمان: 14.
3) في ج " فإنها عامين ".
4) سورة الأحقاف: 15.
125

ثم تبين أن أقل مدة الحمل وكمال مدة الرضاع ثلاثون شهرا، فنبه بتلك الآية
على ما يستحقه الوالدان من حيث أنهما يكفلانه ويربيانه.
(باب)
(في ذكر ملك الايمان)
قال الله تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم أو ما
ملكت أيمانهم " (1.
اعلم أن الإماء يستباح وطؤهن بإحدى ثلاثة أشياء: العقد عليهن بأذن أهلهن،
وبتحليل مالكهن الرجل من وطئهن واباحته له وان لم يكن هناك عقد، وبأن
يملكهن فيستبيح وطأهن بملك الايمان.
وانما يملكهن بوجوه معلومة من الشرى والهبة والإرث والسبي. ولا بأس
أن يجمع الرجل بين أختين في الملك لكنه لا يجمع بينهما في الوطئ، لان
حكم الجمع بينهما في الوطئ حكم الجمع بينهما في العقد، فمتى ملك أختين
ووطئ منهما واحدة لم يجز له وطئ الأخرى حتى تخرج تلك من ملكه بالبيع
أو الهبة أو غيرهما.
ويجوز أن يملك أمة وأمها، فمتى وطئ إحداهما حرمت الأخرى عليه أبدا.
وقوله تعالى " قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم " (2
قد تكلمنا عليه من قبل، وكذلك في قوله تعالى " انا أحللنا لك أزواجك اللاتي
آتيت أجورهن وما ملكت يمينك " (3.
وملك اليمين في الآيات المراد به الإماء، لان الذكور من المماليك لا خلاف

1) سورة المؤمنون: 5 - 6.
2 - 3) سورة الأحزاب: 50.
126

في وجوب حفظ الفرج منهم، لان الله عنى بالفروج في قوله " والذين هم لفروجهم
حافظون " فروج الرجال خاصة، بدلالة قوله " الا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم " استثنى من الحافظين لفروجهم من لا يحفظ فرجه عن زوجته أو ما ملكت
يمينه من الإماء على ما أباحه الله له.
وكل ما لم يجز الجمع بينهما في العقد فلا يجوز الجمع بينهما في الوطئ
بملك اليمين.
وانما قيل للجارية " ملك يمين " ولم يقل في الدار " ملك يمين " لان ملك
الجارية أخص من ملك الدار، اذله نقض بنية الدار وليس له نقض بنية الجارية
وله عارية الدار وليس له عارية الجارية، فلذلك خص الملك في الأمة.
(باب)
(ما يحرم النظر إليه منهن وما يحل)
خاطب الله نبيه عليه السلام فقال: يا محمد " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " (1
عن عورات النساء وما يحرم النظر إليه، أي قل لهم يغضوا من نظرهم فلا ينظروا
إلى ما يحرم، فوجب الغض على العموم حيث حذف المفعول، ثم خص من
وجه آخر بايراد من، فمن للتبعيض لان غض البصر انما يجب في بعض المواضع.
وكل موضع ذكر في القرآن حفظ الفروج فهو الزنا الا في هذا الموضع،
لان المراد به الستر حتى لا ينظر إليها أحد. قال الصادق عليه السلام: لا يحل
للرجل أن ينظر إلى فرج أخته، ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى فرج أخيها (2.
وقال قوم من المفسرين: العورة من النساء ما عدا الوجه والكفين، فأمروا

1) سورة النور: 30.
2) تفسير علي بن إبراهيم 2 / 101.
127

بغض البصر عن عوراتهن، وقيل: العورة من الرجل العانة إلى مستغلظ الفخذ
من أعلى الركبة، وهو العورة من الإماء، والحرة عورة من قرنها إلى قدمها.
قالوا: ويدل على أن الوجه والكفين والقدمين كلها ليست بعورة من الحرة أن
لها كشف ذلك في الصلاة.
وقوله تعالى " ويحفظوا فروجهم " أمر منه تعالى أن يحفظ الرجال فروجهم
عن الحرام وأن يحفظوها عن ابدائها.
ثم أمر المؤمنات أيضا بغض أبصارهن عن عورات الرجال ومالا يحل لهن
النظر إليه، وأمرهن أن يحفظن فروجهن الامن أزواجهن على ما أباحه الله،
ويحفظن أيضا اظهارها بحيث ينظر إليها، ونهاهن عن ابداء زينتهن الا ما ظهر
منها.
قال ابن عباس: يعني القرطين والقلادة والسوار والخلخال والمعضدة
والنحر فإنه يجوز اظهار ذلك، فأما الشعر فلا يجوز أن تبديه الا لزوجها.
والزينة المنهي عن ابدائها زينتان، فالظاهرة الثياب والخفية الخلخالان
والسواران في قول ابن مسعود. وقال إبراهيم الظاهر الذي أبيح الثياب فقط،
وقال الحسن الوجه والثياب، وقال قوم كل ما ليس بعورة يجوز اظهاره، والأحوط
قول ابن مسعود.
(فصل)
ثم قال تعالى " وليضربن بخمرهن " وهي المقانع " على جيوبهن ".
ثم كرر النهي عن اظهار الزينة تأكيدا وتغليظا، واستثنى من ذلك الأزواج
وآباء النساء وان علوا وآباء الأزواج وأبناءهم " أو إخوانهن أو بني أخواتهن
أو بني أخواتهن أو نسائهن " يعني النساء المؤمنات لا المشركات، وقيل يعني
128

نساء المؤمنين دون نساء المشركين سواء كن ذميات أو غيرهن، فإنهن يصفن
ذلك لأزواجهن الا إذا كانت أمة.
وقوله " أو ما ملكت أيمانهن " يعنى الإماء، فإنه لا بأس باظهار الزينة لهؤلاء
المذكورين لأنهم محارم.
وقوله تعالى " والتابعين غير أولي الإربة من الرجال " قال ابن عباس: هو
الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء هو الأبله، وقيل هو
العنين، وقيل هو المجنون، وقال مجاهد هو الطفل الذي لا أرب له في النساء،
وقيل هو الشيخ الهم. والإربة الحاجة.
وقوله تعالى " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " يعني
الصغار الذين لم يراهقوا، فإنه يجوز ابداء الزينة لهم إذا لم يطلعوا بعد على
الاستلذاذ والتمتع بهن، ولم يروا العورات عورات لصغرهم.
ولم يقل أو أعمامهن أو إخوانهن لان أولادهم ليسوا ذوي محرم لهن، فلعلهم
إذا رأوا زينتهن بأن يظهرنها لهم يصفونها لبنيهم فيفتتنوا.
(فصل)
اعلم أن قوله تعالى " وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " يدل على أنه
لا يحل للأجنبي أن ينظر إلى أجنبية لغير حاجة وسبب، فنظره إلى ما هو عورة
منها محظور والى ما ليس بعورة كالثياب فقط مكروه.
والمرأة إذا ملكت فحلا أو خصيا هل يجوز لها أن تخلو به أو تسافر معه؟
قال قوم أنه يكون محرما لها لقوله تعالى " ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن " إلى
قوله " أو ما ملكت ايمانهن "، فنهاهن عن اظهار زينتهن لاحد الا من استثنى
واستثنى ملك اليمين، قالوا وهذا ظاهر القرآن. وعندنا أنه لا يكون محرما،
129

فان أصحابنا رووا في تفسير الآية أن المراد به الإماء دون الذكران من المماليك
على ما تقدم.
ويجوز للرجل إذا أراد أن يتزوج بامرأة أن ينظر إلى محاسنها، وإذا
اشترى جارية جاز له أن ينظر إليها. ويمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى " وكشفت
عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير " (1، وروي أنه نظر إلى ساقها وكان
عليه الشعر فساءه ذلك فعمل له النورة والزرنيخ (2.
(فصل)
وقوله تعالى " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا " (3 نهى الله
المؤمنين أن يدخلوا بيوتا لا يملكونها وهي ملك غيرهم الا بعد أن يستأذنوا،
والاستيناس الايذان، فالمعنى حتى تستأنسوا بالاذن. وقال مجاهد: حتى
يستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام الاستيذان. وقد بين تعالى ذلك
بقوله " وإذا بلغ الأطفال منكم فليستأذنوا " (4 قال عطاء وهو واجب في أمه وأخته
وسائر أهله لئلا يهجم على عورتهن.
وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين
لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات " (5، يقول الله مروا عبيدكم وإماءكم أن
يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى مواضع خلواتكم. قال ابن عباس: الآية
في النساء والرجال من العبيد. وقال غيره: الاستيذان واجب على كل بالغ

1) سورة النمل: 44.
2) سورة الثقلين 4 / 92.
3) سورة النور: 27.
4) سورة النور: 59.
5) سورة النور: 58.
130

في كل حال، وعلى الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة بظاهر الآية، ففي ذلك دلالة
على أنه يجوز أن يؤمر الصبي الذي يعقل لأنه أمره بالاستيذان. وقال آخرون:
ذلك أمر للآباء أن يأخذوا الأولاد بذلك.
وفسر تعالى الأوقات فقال " من بعد صلاة الفجر وحسن تضعون ثيابكم
من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء " لان الغالب على الناس أن يتعروا في خلواتهم
في هذه الأوقات.
ثم بين أنه ليس عليكم ولا عليهم أن يدخلوا عليكم من غير اذن، يعني
الذين لم يبلغوا الحلم، وهو المراد بقوله " طوافون عليكم " أي هم طوافون.
ثم قال " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا " فقد صار حكمهم حكم الرجال.
وقوله تعالى " والقواعد من النساء " (1 يعني المسنات اللاتي يقعدن عن
الحيض وعن التزويج، وانما ذكر القواعد لان الشابة يلزمها من الستر أكثر
مما يلزم العجوز، والعجوز لا يجوز لها أن تبدي عورة لغير محرم كالساق والشعر
والذراع.
(باب)
(اختيار الأزواج ومن يتولى العقد عليهن)
قال الله تعالى " يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم " (2.
فهذا يدل على أن المؤمنين اكفاء في عقد النكاح كما أنهم متكافئون في الدماء
فمتى خطب المؤمن إلى غيره بنته وبذل لها من الصداق السنة المحمدية وكان

1) سورة النور: 60.
2) سورة الحجرات: 13.
131

عنده يسار بقدر ما يقوم بأمرها والانفاق عليها وكان مرضيا غير مرتكب لجور فلم
يزوجه كان عاصيا لله. ويكره أن يتزوج متظاهرا بالفسق.
واستدل المرتضى على أن الرجل إذا أراد أن يتزوج ينبغي أن يطلب
ذوات الدين والأبوات والأصول الكريمة ويجتنب من لا أصل له بقوله تعالى
" وثيابك فطهر " (1، فقال: يجوز أن يكون للثياب ههنا معنى آخر غير ما قالوه
وهو ان الله سمى الأزواج لباسا فقال تعالى " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " (2
واللباس والثياب هنا بمعنى واحد، فكأنه سبحانه أمر أن يستطهر النساء، أي
يختارهن طاهرات من دنس الكفر ودرن العيب، لأنهن مظان الاستيلاد ومضام
الأولاد.
وعن الصادق عليه السلام: زوجوا الأحمق ولا تزوجوا الحمقاء، فان الأحمق
قد ينجب والحمقاء لا تنجب (3، " والبلد الطيب يخرج نباته بأذن ربه والذي خبث
لا يخرج الا نكدا " (4.
(فصل)
وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن "
إلى قوله " ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا
بعصم الكوافر " (5.

1) سورة المدثر: 4.
2) سورة البقرة: 187.
3) من لا يحضره الفقيه 3 / 516.
4) سورة الأعراف: 58. والنكد العسر الممتنع من اعطاء الخير على وجه البخل،
والمعنى الأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها الا شيئا قليلا لا ينتفع به - انظر مجمع
البيان 2 / 431.
5) سورة الممتحنة: 10.
132

سبب نزول هذه الآية أن المهادنة لما وقعت بين النبي عليه السلام وبين
قريش بالحديبية فرت بعدها امرأة من المشركين وخرجت إلى رسول الله مسلمة،
فجاء زوجها وقال: ردها علي، فنزلت " لا ترجعوهن إلى الكفار " (1.
وما جرى للنساء ذكر وانما ضمن أن يرد الرجال، فأمر الله أن تمتحن المهاجرة
بالشهادتين فان كانت مؤمنة رد صداقها ولا ترد هي عليه، إذ هي لا تحل له ولا هو
يحل لها، وهذا في القرآن للتوكيد. " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " حكم
آخر، أي كما ليس للمؤمنة أن تكون مع الكافر فكذلك أنتم أيها المؤمنون
لا تبغوا نكاح الكافرات ان لم يؤمن.
ثم قال تعالى " واسئلوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا " أي ان ارتدت مسلمة
فلحقت بأهل المعاهدة فلكم أن تطالبوا أهلها أو وليها من الكفار أو يردوا عليكم
ما أنفقتم في صداقها ولهم أن يطالبوكم بمثل ذلك، فأما رد المؤمنة على الكافر
فلم يجز البتة في حكم الله تعالى.
وفي هذه الآية أحكام كثيرة منها ما هو باق ومنها ما قد سقط، وكثير من
الناس يدعون [النسخ فيما قد سقط كامتحان المهاجرة ورد الصداق على الكافر] (2
وليس في شئ من ذلك نسخ، وانما هي أحكام تبعت الهجرة والهدنة التي كانت
فلما انقضى زالت تلك الأحكام، وما كان كذلك لم يكن نسخا.
وقال الحسن: معنى قوله تعالى " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " اقطعوا عصمة
الكفار ولا تتمسكوا بها. قال: كان في صدر الاسلام تكون المسلمة تحت الكافر
والكافرة تحت المسلم، فنسخت هذه الآية ذلك. وهذا ليس بنسخ على الحقيقة،
لان الله لم يأمر بالأول فيكون نهيه عنه نسخا، وانما كان للأول بقاء على الحالة

1) أسباب النزول للواحدي ص 282.
2) الزيادة من ج.
133

الأولة غيرته الشريعة بحكم هذه الآية كما غيرت كثيرا من سنن الجاهلية.
(فصل)
أما قوله تعالى " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا
الكتاب " (1 فمعناه أحل لكم العقد على المحصنات يعني العفائف من المؤمنات
والحرائر منهن، ولا يدل على تحريم من ليس بعفيفة ولا أمة، لان ذلك دليل الخطاب
وقد تقدم أنه لو عقد على أمة أو من ليست بعفيفة صح العقد والأولى تجنبه. وآخر
الآية ينطق بأن المراد الحرائر، وهو قوله " إذا آتيتموهن أجورهن "، لان ذلك
يتأتى في الحرائر ومهور الإماء يعطى أربابهن كما قدمنا.
فان قيل: كيف قال اليوم أحل لكم تلك النساء، أتراهن قبل ذلك اليوم
كن محرمات؟.
قلنا: المراد استقرار الشرع وانتهاء التحريم واعلام الامن (2 من أن تحرم
محصنة بعد اليوم. وعندنا لا يجوز العقد على الكتابية نكاح الدوام لقوله تعالى
" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " على ما قدمناه، ولقوله " ولا تمسكوا بعصم
الكوافر ".
فإذا ثبت ذلك قلنا في قوله " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب "
تأويلان:
أحدهما - أن يكون المراد بذلك اللاتي أسلمن منهن، والمراد بقوله
" والمحصنات من المؤمنات " من كن في الأصل مؤمنات وولدن على الاسلام.

1) سورة المائدة: 5.
2) أي هذا اعلام من الله تعالى للمسلمين أن يأمنوا تحريم المحصنات بعد اليوم " ج ".
134

وقيل: ان قوما كانوا يتحرجون من العقد على الكافر إذا أسلمت، فبين تعالى أنه
لا حرج في ذلك ولذا أفردهن بالذكر.
والثاني - أن يختص ذلك لنكاح المتعة أو ملك اليمين، لان وطئهما بعقد
المتعة جائز عندنا. على أنه روى أبو الجارود عن الباقر عليه السلام انه منسوخ
بالآيتين المتقدمتين من قوله " ولا تنكحوا المشركات " و " لا تمسكوا بعصم
الكوافر ".
باب
(في النهي عن خطبة النساء المعتدات بالتصريح)
(وجوازها بالتعريض)
اعلم أن المرأة إذا كانت في عدة زوجها يجب عليها الامتناع من التزويج
بغيره، فإذا انقضت عدتها حلت للخطاب، قال تعالى " فإذا بلغن أجلهن " اي
إذا بلغن آخر العدة بانقضائها " فلا جناح عليكم ". قيل إنه خطاب للأولياء،
وقيل لجميع المسلمين لأنه يلزمهم منعها عن التزويج في العدة، وقيل معناه
لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من النكاح واستعمال الزينة التي
لا ينكر مثلها.
وهذا معنى قوله " بالمعروف "، وقيل معنى قوله " بالمعروف " ما يكون
جائزا، وقيل معناه النكاح الحلال عن مجاهد، ويحقق معنى قوله تعالى " فإذا
بلغن أجلهن " فإذا انقضت عدتهن فلا جناح عليكم أيها الأئمة في ما فعلن في أنفسهن
من التعرض للخطاب بالمعروف، أي بالوجوه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى
انهن لو فعلن ما هو منكر كان على جماعة المسلمين أن يكفوهن وان فرطوا كان
عليهم الجناح - عن بعض المفسرين.
135

ولما تقدم ذكر عدة النساء وجواز الرجعة فيها للأزواج عقبه ببيان حال
غير الأزواج فقال " ولا جناح عليكم " أي لا حرج ولا ضيق عليكم يا معشر الرجال
فيما عرضتم به من خطبة النساء المعتدات ولا تصرحوا به، وذلك بأن تذكروا ما
يدل على رغبتكم فيها.
وقوله تعالى " فيما عرضتم به " فهو كلام يوهم أنه يريد نكاحها، فكأنه
إحالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، فالتعريض أن يذكر شيئا يدل به
على شئ لم يذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لاسلم عليك وأنظر
إلى وجهك الكريم، والكناية أن يذكر الشئ بغير لفظه الموضوع له، ويسمى
التلويح، لأنه يلوح فيه ما يريده.
والمستدرك بقوله " ولكن لا تواعدوهن سرا " مضمر، تقديره علم الله انكم
ستذكروهن فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سرا، والسر وقع كناية عن النكاح،
وحرف الاستثناء يتعلق ب‍ " لا تواعدوهن "، أي لا تواعدوهن مواعدة قط الا مواعدة
معروفة غير منكرة، أي لا تواعدوهن الا بالتعريض، أو لا تواعدوهن الا بأن تعفوا.
ولا يجوز أن يكون استثناءا منقطعا من سرا لأدائه إلى قولك لا تواعدوهن الا
التعريض. وقيل لا تواعدوهن في السر، فالمواعدة في السر عبارة عن الموعدة
بما يستهجن.
وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدة، لان العزم على الفعل
يتقدمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح،
من عزم الامر وعزم عليه. والله يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما يجوز فاحذروه
ولا تعزموا عليه.
فان عزم انسان على خطبة امرأة معتدة قبل انقضاء العدة وواعدها بالتصريح
فقد فعل مكروها، ولا يحرم العقد عليها بعد العدة، فرخص له التعريض بذلك
ولا كراهة فيه.
136

(فصل)
واختلف في معناه: فقيل التعريض وهو أن يقول الرجل للمعتدة اني أريد
النكاح فاني أريد امرأة من صفتها كذا وكذا - فيذكر بعض الصفات التي هي
عليها، عن ابن عباس. وقيل هو أن يقول انك لنافقة (1 وانك لموافقة لي وانك
لمعجبة جميلة وان قضى الله شيئا كان - عن القاسم بن محمد وعن الشعبي. وقيل
وهو كل ما كان من الكلام دون عقد النكاح عن ابن زيد.
" أو أكننتم في أنفسكم " أي أسررتم وأضمرتم في أنفسكم من نكاحهن بعد
مضي عدتهن، وقيل هو اسرار العزم دون اظهاره والتعريض اظهاره عن مجاهد
وابن زيد.
" علم الله انكم ستذكرونهن " برغبتكم فيهن خوفا منكم أن يسبقكم إليهن
غيركم فأباح لكم ذلك " ولكن لا تواعدون سرا " فيه أقوال:
أحدها - أن معناه لا تواعدوهن في السر لأنها أجنبية والمواعدة في السر
تدعو إلى ما لا يحل.
وثانيها - أن معناه الزنا عن الحسن وإبراهيم وقتادة، فقالوا: كان الرجل
يدخل على المرأة من أجل الزنية وهو معرض بالنكاح فنهوا عن ذلك.
وثالثها - أنه العهد على الامتناع من تزويج غيرك عن ابن عباس وابن جبير.
ورابعها - هو أن يقول لها اني ناكحك فلا تفوتيني بنفسك عن مجاهد.
وخامسها - ان السر هو الجماع، ومعناه لا تصفوا أنفسكم بكثرة الجماع
ولا تذكروه عن جماعة.
وسادسها - انه اسرار عقدة النكاح في السر عن عبد الرحمن بن زيد.

1) من النفاق في المتاع.
137

ويجمع هذه الأقوال ما روي عن الصادق عليه السلام: لا تصرحوا لهن النكاح
والتزويج. قال: ومن السر أن يقول لها موعدك بيت فلان.
" لا أن تقولوا قولا معروفا " يعني التعريض الذي أباحه الله تعالى، والا
بمعنى لكن، لان ما قبله هو المنهي عنه وما بعده هو المأذون فيه، وتقديره ولكن
قولوا قولا معروفا.
" ولا تعزموا عقدة النكاح " اي لا تبيتوا النكاح ولا تعقدوا عقد النكاح في العدة
ولم يرد به النهي عن العزم على النكاح بعد العدة، لأنه أباحه بقوله " أو أكننتم ".
" حتى يبلغ الكتاب أجله " أي حتى تنقضي العدة.
(فصل)
وقوله تعالى " الذي بيده عقدة النكاح " الأب والجد مع وجود الأب إذا
كانت البنت صغيرة لم تبلغ مبلغ النساء أو بلغت وكانت بكرا، فلكل واحدا
منهما أن يعقد على كل واحدة منهما ولا تكون للصغيرة إذا بلغت خيار. وكذلك
ان أبت التزويج البكر وأظهرت كراهية بما عقد عليها أبوها أوجدها مع وجود
الأب فلا يلتفت إلى كراهيتها.
فأما الثيب إذا كانت غير مولى عليها لفساد عقلها مع وجود الأب أو الجد
أو البكر البالغة إذا لم يكن بها أب فلا أحد بيده عقدة النكاح لواحدة منهما على
الاطلاق، فإذا جعلت الثيب أمرها إلى أبيها أو جدها أو أخيها كما هو الأصل
لها أو وكلت انسانا في أمرها فهو من بيده عقدة النكاح.
وكذا حال البالغة البكر التي لا والد لها والثيب إذا كانت مولى عليها كان
الامر إلى وليها في تولي العقد عليها.
138

ولا يجوز لها العقد على نفسها [وكذا البكر لا يجوز لها أن تعقد على نفسها] (1
الا باذن أبيها، فان عقدت كان العقد موقوفا على رضاء الأب، فان عضلها أبوها
- وهو أن لا يزوج بنته البكر بالاكفاء إذا خاطبوها - كان لها العقد على نفسها
وان لم يرض بذلك الأب.
وقال المرتضى: يجوز عقد المرأة التي تملك أمرها على نفسها بغير ولي.
قال: والدليل عليه قوله تعالى " فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره "،
فأضاف عقد النكاح إليها، والظاهر أنها تتولاه. وأيضا قوله " فان طلقها فلا جناح
عليهما أن يتراجعا " فأضاف تعالى التراجع - وهو عقد مستقل - إليهما، والظاهر أنهما
يتوليانه. وأيضا قوله " فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن
بالمعروف " فأباح فعلها في نفسها من غير اشتراط الولي. قال: ولا يجوز أن يحمل
اشتراط المعروف على تزويج الولي لها، وذلك أنه تعالى انما رفع الجناح
عنها في فعلها بنفسها بالمعروف، وعقد الولي عليها لا يكون فعلا منها في نفسها.
وأيضا فقوله " ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " (2
فأضاف العقد إليهن ونهى الأولياء عن معارضتهن. قال: والظاهر انهن يتولينه،
فأما من ذهب إلى الأول فيمكنه أن يخصص هذه الآيات كلها ويحملها على بعض
ما قدمناه ويكون معه اجماع الطائفة والاخبار التي رووها عنهم عليهم السلام.
(باب)
(ما يستحب فعله عند العقد وآداب الخلوة)
يستحب أن يستخير الله تعالى من أراد عقدة النكاح، فان الله تعالى يقول

1) الزيادة من ج.
2) سورة النساء: 32.
139

" واسألوا الله من فضله ".
وأن يتابع المراسم الشرعية في ذلك وقد قال تعالى " نساؤكم حرث لكم
فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم (1 قال ابن عباس: معنى قوله " حرث
لكم " مزدرع أولادكم، كأنه قيل محترث لكم، وانما الحرث الزرع في الأصل.
وقال الزجاج: أي نساؤكم ذات حرث لكم فأتوا لموضع حرثكم أنى شئتم.
وقيل الحرث كناية عن النكاح على وجه التشبيه.
ومعنى " أنى شئتم " من أين شئتم، في قول قتادة والربيع، وقال مجاهد
معناه كيف شئتم، وقال الضحاك معناه متى شئتم، فخطأه جميع أهل التفسير
وأهل اللغة، بأن قالوا " أنى " لا يكون الا بمعنى من أين كما قال تعالى " أنى لك
هذا قالت هو من عند الله " (2. وقال بعضهم معناه من أي وجه، واستشهد ببيت
الكميت:
أنى ومن أين آبك طرب * من حيث لا صبوة ولا ريب (3
وهذا لا شاهد فيه، لأنه يجوز أن يكون أتي به لاختلاف اللفظين كما يقولون
متى كان هذا وأي وقت كان، ويجوز أن يكون بمعنى كيف.
وتأول مالك وقال " أنى شئتم " يفيد جواز اتيان النساء في الدبر، ورواه
عن نافع عن ابن عمر، وبه قال بعض أصحابنا. وخالف في ذلك جميع الفقهاء
والمفسرين وقالوا هذا لا يجوز من وجوه:
أحدها - أن الدبر ليس بحرث، لأنه لا يكون منه الولد. وهذا ليس بشئ
لأنه لا يمتنع أن تسمى النساء حرثا لأنه يكون منهن الولد، ثم يبيح الوطئ

1) سورة البقرة: 223.
2) سورة آل عمران: 37.
3) الهاشميات للكميت ص 41.
140

فيما لا يكون منه الولد. وهذا ليس بدليل، لأنه لا خلاف أنه يجوز الوطئ بين
الفخذين وان لم يكن هناك ولد.
وثانيها - قالوا: قال الله " فأتوهن من حيث أمركم الله " وهو الفرج.
وهذا أيضا لا دلالة فيه، لان قوله " من حيث أمركم الله " معناه من حيث أباح
الله لكم، أو من الجهة التي شرعها الله لكم على ما حكيناه عن الزجاج، ويدخل
في ذلك الموضعان. على أنهم قد أجمعوا على أن الآية الثانية ليست بناسخة
للأولى.
وثالثها - قالوا: ان معناه من أين شئتم، أي ائتوا الفرج من أين شئتم،
وليس في ذلك إباحة لغير الفرج. وهذا أيضا ضعيف، لان من ذهب إلى كراهيته
دون حظره لا يسلم أن معناه ائتوا الفرج، بل معناه عنده ائتوا النساء وائتوا
الحرث من أين شئتم، ويدخل فيه جميع ذلك.
ورابعها - قالوا: قوله تعالى في المحيض " قل هو أذى فاعتزلوا النساء
في المحيض " فإذا حرم للأذى بالدم فالأذى بالنجو أعظم منه. وهذا ليس
بشئ، لان هذا حمل الشئ على غيره من غير علة. على أنه لا يمتنع أن يكون
المراد بقوله " قل هو أذى " غير النجاسة، بل المراد أن في ذلك مفسدة. ولا
يجب أن يحمل على ذلك الا بدليل موجب للعلم. على أن الأذى بمعنى النجاسة
حاصل في البول ودم الاستحاضة، ومع هذا فليس بمنهي عن الوطئ في الفرج.
(فصل)
ويقال ان هذه الآية نزلت ردا على اليهود، فإنهم يقولون إذا أتى الرجل
المرأة من خلف في قبلها خرج الولد أحول، فأكذبهم الله تعالى في ذلك -
ذكره ابن عباس وجابر ورواه أصحابنا أيضا. وقال الحسن: أنكرت اليهود
141

اتيان المرأة قائمة وباركة، فأنزل الله أباحته بعد أن يكون في الفرج.
ومع هذا السبب الذي روي لا يمتنع أن يكون ذلك أيضا مباحا، لان غاية
ما في السبب أن يطابقه الآية، فأما أن لا يفيد غيره فلا يجب عند أكثر المحصلين.
وقوله تعالى " وقدموا لأنفسكم " أي سموا الله في أنفسكم عند الجماع
وسلوه أن يرزقكم ولدا ذكرا سويا ليس في خلقه زيادة ولا نقصان. وقيل ائتوا
النساء في موضع الولادة لا في أحشاشهن. وقيل هذا على العموم، أي قدموا
الأعمال الصالحة التي أمر الله بها عباده ورغبهم فيها لتكون ذخرا عند الله.
فإذا وجه اتصال قوله " وقدموا لأنفسكم " بما قبله أنه لما قدم الامر بعدة
أشياء قال قدموا لأنفسكم بالطاعة فيما أمرتم به واتقوا مجاوزة الحد فيما بين
لكم، وفي ذلك الحث على العمل بالواجب الذي عرفوه والتحذير من مخالفة
ما ألزموه (1.
(فصل)
وقد خاطب الله نبيه عليه السلام بقوله تعالى " ترجي من تساء منهن وتؤوي
إليك من تشاء " (2 قال ابن عباس: خيره الله بين طلاقهن وامساكهن، وقال مجاهد
معناه: تعزل من شئت من نسائك فلا تأتيها تأتي من شئت من نسائك.
وليس هذا مسقطا للقسم بينهن، لأنه إذا كان عند الرجل أربع نسوة يجب
عليه أن يبيت عند كل واحدة ليلة ويسوي بينهن في القسمة ولا يلزمه إذا بات عند
كل واحدة أن يجامعها، بل هو مخير في ذلك، وعلى هذا قوله تعالى " ولن

1) هذا الفصل وما قبله مأخوذ من تفسير التبيان 2 / 222 - 225 مع تغيير يسير في بعض
التعابير.
2) سورة الأحزاب: 51.
142

تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء " (1) فان هذا في المودة والمحبة، وقوله تعالى
" فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة " (2 في القسمة.
وقوله تعالى " ومن ابتغيت ممن عزلت " قال قتادة: كان نبي الله صلى الله
عليه وآله يقسم بين أزواجه فأحل الله له ترك ذلك. وقيل ومن طلبت اصابته ممن
كنت عزلت عن ذلك من نسائك.
وقوله تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم " (3 لا
يخرج من الآية وطؤ المتمتع بها لأنه زوجة عندنا وان خالف حكمها حكم
المزوجة على الدوام في أحكام كثيرة، كما أن حكم الزوجات على الدوام أيضا
مختلف.
وذكره تعالى هذه الأوصاف من قوله تعالى " قد أفلح المؤمنون " ومدحه
عليها يكفي ويغني عن الامر بها فيها من الترغيب، كما قال الله تعالى " الا على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " (4 مع تحريم وطأها على وجوه
لتحريم وطئ الزوجة والأمة في حال الحيض، ووطؤ زيد جاريته إذا كان
قد زوجها من عمرو أو كانت في عدة من زوج، وتحريم وطئ المظاهرة غير
المشروطة بالوطئ قبل الكفارة. لان المراد بذلك على ما يصح مما بينه الله
ورسوله في غير هذا الموضع، وحذف لأنه معلوم، وهي من الأمور العارضة
في هذه الوجوه.
وأيضا فان من وطئ الزوجة أو الأمة في حال الحيض والنفاس، فلا

1) سورة النساء: 129.
2) سورة النساء: 3.
3) سورة المعارج: 29 - 30.
4) سورة المؤمنون: 6.
143

يلزمه اللوم من حيث كانت زوجة أو ملك يمين، وانما يستحق اللوم على
وجه آخر.
و " وراء " بمعنى غير، أي من طلب سوى الزوجة والأمة فهو عاد. والعادون
الذين يتعدون الحلال إلى الحرام.
والاستمناء باليد محرم اجماعا، لقوله تعالى " الا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " وهذا
وراء ذلك. وعنه عليه السلام: ملعون سبعة - وذكر فيها الناكح كفه.
(باب الزيادات)
سئل الصادق عليه السلام عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ قال:
قال " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " (1 فلا يدري ما
يطرقه من البلية، إذا فرغ فليغتسل (2.
وقال: من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمض بصره لم يرتد
إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين (3.
وقيل له عليه السلام: هل يمتع رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: نعم
وقرأ هذه الآية " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حدثنا " إلى قوله " ثيبات
وأبكارا " (4.
وكان علي عليه السلام يكره أن يسلم على الشابة من النساء وقال: أتخوف

1) سورة الزمر: 42.
2) وسائل الشيعة 1 / 501 مع اختلاف يسير.
3) من لا يحضره الفقيه 3 / 437.
4) سورة التحريم: 3. وانظر من لا يحضره الفقيه 3 / 366.
144

أن يعجبني صوتها فيدخل علي من الاثم أكثر مما أطلب من الاجر (1.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: من سعادة الرجل ان لا تحيض ابنته في
بيته (2. وفي رواية: أن تحيض ابنته في بيت زوجها.
وروى صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه السلام في قوله تعالى حكاية
عن ابنة شعيب " يا أبت استأجره ان خير من استأجرت القوي الأمين " (3. قال:
قال لها شعيب: هذا قوي قد عرفتيه برفع الصخرة الأمين من أين عرفتيه؟ قالت:
يا أبت اني مشيت قدامه فقال: أمشي من خلفي فان ضللت فأرشديني إلى الطريق
فانا قوم لا ننظر في أدبار النساء (4.
واعلم أن بنت الربيب وهو ابن الزوجة لا يصح لزوج أمه أن ينكح ابنته،
وليس هذا حملا على الربيبة، بل الدلالة عليه من الكتاب، هو أن الله تعالى
ذكر في جملة المحرمات " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي
دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " (5)، وأجمعت الأمة على
أن قوله " وربائبكم " انما أراد به بنات نسائكم، وهذا يقتضي تحريم كل من
يتناوله هذا الاسم من بناتهن وان سفلن وبعدن، وقد علمنا أن بنت ابن الزوجة
ولدها، فان بنات الصلب وبنات البنين والبنات أولاد فتقتضي هذه الجملة
تحريم من يقع عليه اسم بنت لزوجة الرجل.

1) الكافي 5 / 535.
2) وسائل الشيعة 14 / 41.
3) سورة القصص: 26.
4) وسائل الشيعة 14 / 145.
5) سورة النساء: 23.
145

كتاب الطلاق
كل آية من القرآن فيها ذكر الطلاق - وهي كثيرة - يعلم منها جواز
الطلاق.
ومعنى " الطلاق " حل عقدة النكاح، لأن المرأة تكون في حظر من النكاح
فإذا طلقت تطلقت (1.
وللطلاق أقسام وشرائط لابد من معرفتها ليتم الغرض، ونحن نذكر جميع
ذلك على سبيل الجملة أولا ثم نتبع الأدلة من الكتاب والسنة على التفصيل انشاء
الله تعالى، ثم نذكر ما يلحق بالطلاق وما يؤثر في بعض أنواع الطلاق وما يكون
كالسبب للطلاق، ونبين جميع ذلك في أبواب بعون الله تعالى.

1) قال ابن فارس: الطاء واللام والقاف أصل صحيح مطرد واحد، وهو يدل على
التخلية والارسال، يقال انطلق الرجل ينطلق انطلاقا - معجم مقاييس اللغة 3 / 420.
146

(باب)
(أقسام الطلاق وشرائطه)
وجوه الطلاق عشرة، وهي على ضربين:
ثلاثة منها لا تحتاج إلى العدة وهي: طلاق التي لم يدخل بها، والتي دخل
بها ولم تبلغ المحيض ولا في سنها من تحيض، والآيسة من المحيض ولا يكون
في سنها من تحيض.
والسبعة الباقية لابد من اعتبار العدة بعدها وهي: الطلاق التي لم تبلغ
المحيض وفي سنها من تحيض، وطلاق الآيسة من المحيض وفي سنها من
تحيض، والمستقيمة الحيض، والحاملة المستبين حملها، والمستحاضة،
وطلاق الغائب عن زوجته، وطلاق الغلام والعبد.
وأما شرائطه فعلى ضربين: عام في سائر أنواعه، وخاص في بعضه. فالعام
خمسة: أن يكون الرجل غير زائل العقل، ويكون مريدا للطلاق غير مكره
عليه ولا مجبر، ويكون طلاقه بمحضر من شاهدين مسلمين، ويتلفظ بلفظ
مخصوص أو ما يقوم مقامه عند العجز.
والخاص يراعى في المدخول بها غير غائب عنها مدة مخصوصة، وهو
اثنان: أن لا تكون المرأة حائضا، أو في طهر لم يقربها فيه إذا لم يكن بها حبل.
ونحن نتكلم على هذه الأصول فصلا فصلا انشاء الله تعالى.
(فصل)
(في طلاق التي لم يدخل بها)
قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من
147

قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن " (1.
خاطب الله تعالى بهذه الآية المؤمنين بأنه إذا نكح واحد منهم مؤمنة نكاحا
صحيحا ثم طلقها قبل أن يمسها - يعني قبل أن يدخل بها - فإنه لا عدة عليها منه،
ويجوز لها أن تتزوج بغيره في الحال. وأمرهم أن يمتعوها ويسرحوها سراحا
جميلا إلى بيت أهلها وأن يخليها تخلية حسنة ان كانت في بيت أهلها.
وهذه المتعة واجبة إن كان لم يسم لها مهرا، وإن كان سمى مهرا لزمه نصف
المهر، وان لم يبين لها صداقا متعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح
الجميل، وهذا مثل قولنا سواء.
وروى أصحابنا أنه يمتعها إن كان موسرا فبدابة أو مملوك، وإن كان متوسطا
فبثوب وما أشبهه، وإن كان فقيرا فبخاتم وما أشبهه (2.
وقال سعيد بن المسيب: ان هذه الآية نسخت بايجاب نصف المهر المذكور
في البقرة. والصحيح الأول أنه لا ناسخ ولا منسوخ في ذلك، ولكل آية من
هذه الآيات حكم ثابت، لأنا اتفقنا على أن بضع حرة لا تحل بغير مهر أو عوض
والنكاح من دون ذكر المهر يتعقد ويصح، فان طلقها قبل أن يجامعها فإنه لا يخلو
من أن يكون سمى لها مهرا أو لم يسم، فإن لم يسم لها مهرا وجب عليه أن يمتعها
على ما ذكرناه بالآية التي قدمناها وبقوله تعالى " وللمطلقات متاع بالمعروف
حقا على المتقين " (3.
ويمكن أن يقال: ان الإشارة بهذه الآية إلى المتعة الواجبة التي قدمناها
أو بما قبل هذه الآية من قوله " حقا على المحسنين " إلى المتعة المستحبة على
ما ذكرنا.

1) سورة الأحزاب: 49.
2) في ذلك أحاديث عن الأئمة عليهم السلام، انظر وسائل الشيعة 15 / 55 - 59.
3) سورة البقرة: 241.
148

والمراد بالقراءتين " تماسوهن " أو " تمسوهن " الجماع بلا خلاف، وانما
قال " تعتدونها " فخاطب الرجال لأن العدة حق للزوج ربما استبرأ من أن يلحق
به من ليس من صلبه أو يلحق بغيره من هو من صلبه. قال الجرجاني: أصله أنهم
كانوا يقولون فيما توفر عدد أعددته فاعتد، أي وفرته عليه فاسترفأه، كما يقال
كلته فاكتال وزنته فأتزن.
ومما يوضع ما ذكرناه قوله تعالى " لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن
أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف
حقا على المحسنين " (1، المفروض من صداقها داخل في دلالة الآية وان لم يذكر،
لان التقدير ما لم تمسوهن ممن قد فرضتم لهن أو لم تفرضوا لهن فريضة لان أو
تنبئ عنه، إذ لو كان على الجمع لكان بالواو.
والفريضة المذكورة في الآية الصداق بلا خاف، لأنه يجب بالعقد للمرأة
فهو فرض بوجوبه بالعقد ومتعة التي لم يدخل بها، وقد روي أيضا انها لكل
مطلقة، ذلك على وجه الاستحباب.
و " متاعا " حال من قوله " قدره " والعامل فيه الظرف، ويجوز أن يكون
مصدرا والعامل " ومتعوهن ".
ويحتمل نصب " حقا " أيضا على وجهين: أحدهما أن يكون حالا من قوله
" بالمعروف " والعامل فيه معنى عرف حقا. والثاني على التأكيد لجملة الخبر،
كأنه قيل أخبركم به حقا.
وانما خص التي لم يدخل بها بالذكر في رفع الجناح دون المدخول بها
في الذكر وإن كان حكمها واحدا لامرين: أحدهما لإزالة الشك في الحرج على
هذا المطلق. والثاني لان له أن يطلق أي وقت شاء، وليس كذلك حكم المدخول

1) سورة البقرة: 236.
149

بها، لأنه يجب أن يطلقها للعدة على ما نذكره.
وفي الآية دلالة على أن هذا العقد بغير مهر صحيح (1، لأنه لو لم يصح لما
جاز فيه الطلاق ولا وجبت فيه المتعة.
ثم قال " وان طلقتموهم من قبل أن تماسوهن " الآية. وقد قدمنا أن الآية
الأولى متضمنة حكم من لم يدخل بها ولم يسم لها مهرا إذا طلقها، وهذه تضمنت
حكم التي فرض لها صداق إذا طلقت قبل الدخول، وأحد الحكمين غير الاخر.
وقال جميع أهل التأويل انه إذا طلق الرجل من سمى لها مهرا معلوما قبل
أن يدخل بها فإنه يستقر لها نصف المهر، فان كانت ما قبضت شيئا وجب
على الزوج تسليم نصف المهر، فان كانت تسلمت جميع المهر وجب عليها رد نصفه
ويستقر لها النصف الآخر.
" الا أن يعفون " معناه من يصح عفوها من الحرائر البالغات غير المولى
عليها لفساد عقلها، فيترك ما يجب لها من نصف الصداق.
وقوله تعالى " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " قال مجاهد وحسن وعلقمة
انه الولي، وهو المروي عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام (2، غير أنه
لا ولاية لاحد عندنا الا للأب أو الجد مع وجود الأب على البكر وغير البالغة،
وأما من عداهما فلا ولاية الا بتولية من المرأة. وروي عن علي عليه السلام أنه
الزوج (3، والأول هو المذهب وهو أظهر، فمن جعل العقد للزوج قال تقديره
الذي بيده عقدة نكاحه، ومن جعله للولي قال تقديره الذي بيده عقدة نكاحها،
ومن جعل العفو للزوج قال له أن يعفو عن جميع نصفه، ومن جعله للولي قال

1) احترز بهذا عن النكاح المنقطع فإنه لا يصح بدون ذكر المهر " ه‍ ".
2) تفسير البرهان 1 / 229.
3) الدر المنثور 1 / 293.
150

أصحابنا له أن يعفو عن بعضه وليس له أن يعفو عن جميعه، فان امتنعت المرأة
لم يكن لها ذلك إذا اقتضت المصلحة ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. واختار
الجبائي أن يكون المراد به الزوج، قال لأنه ليس للولي أن يهب مال المرأة.
وقوله تعالى " وان تعفو أقرب للتقوى " خطاب للزوج والمرأة جميعا في
قول ابن عباس، وقيل للزوج وحده وانما جمع لأنه لكل زوج. وقول ابن عباس
أقوى لأنه العموم.
وانما كان العفو أقرب للتقوى من وجهين: أحدهما لاتقاء ظلم كل واحد
صاحبه ما يجب من حقه. الثاني انه أدعى إلى اتقاء معاصي الله للرغبة فيما رغب
فيه بالعفو عما له. وتقدير " فنصف ما فرضتم " أي فعليكم نصف ما فرضتم.
(فصل)
(في طلاق التي دخل بها ولم تبلغ المحيض)
(ولا تكون في سنها من تحيض)
قال الله تعالى " واللائي لم يحضن " بعد قوله " واللائي يئسن من المحيض
من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن " (1 للصغار، وتقديره
واللائي لم يحضن لا عدة عليهن، وحذف لدلالة الكلام عليه. وهذا التقدير
أولى من أن يقال: تقديره واللائي لم يحضن فعدتهم ثلاثة أشهر، لان قوله
" ان ارتبتم " في الأولى يخرج من الفائدة (2.
فعلى هذا إذا أراد الرجل أن يطلق امرأة قد دخل بها ولم تكن قد بلغت

1) سورة الطلاق: 4.
2) لأنه يصير التقدير اللائي لم يئسن من المحيض فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم
يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، فلا يبقى فرق بين المسترابة وغيرها " ه‍ ".
151

مبلغ النساء ولا مثلها في السن قد بلغ ذلك - وحد ذلك دون تسع سنين - فليطلقها
أي وقت شاء، فإذا طلقها فقد بانت منه في الحال ولا عدة عليها. وحكم الآيسة
من المحيض ومثلها لا تحيض حكم التي لم تبلغ مبلغ النساء في أنه متى طلقها
لا عدة عليها وقد بانت منه في الحال ويطلقها أي وقت شاء. وحد ذلك للهاشمية
ستون سنة وللأجنبية خمسون سنة فصاعدا.
وقال المرتضى: على الآيسة من المحيض والذي لم يبلغه العدة على كل
حال من غير مراعاة الشرط الذي حكيناه عن أصحابنا. قال: والذي يدل على
صحة هذا القول قوله " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن
ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن "، وهذا صريح في الآيسات من المحيض واللائي
لم يبلغن عدتهن الأشهر على كل حال، لان قوله " واللائي لم يحضن " معناه
واللائي لم يحضن كذلك. قال: وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب
بها أولى بذلك.
ثم قال: فان قيل: كيف يدعون أن الظاهر يقتضي ايجاب العدة على من
ذكرتم على كل حال، وفي الآية شرط وهو قوله " ان ارتبتم ". الجواب:
أول ما نقوله ان الشرط المذكور في الآية لا ينفع من خالف من أصابنا لأنه غير
مطابق لما يشرطونه، وانما يكون نافعا لهم الشرط لو قال تعالى ان مثلهن لا تحيض
في الآيسات وفي اللائي لم يبلغن المحيض إذا كان مثلهن تحيض، وإذا لم يقل
تعالى ذلك وقال " ان ارتبتم " وهو غير الشرط الذي يشرطه أصحابنا - فلا منفعة
لهم فيه.
وليس يخلو قوله تعالى " ان ارتبتم " من أن يريد به ما قاله جمهور المفسرين
وأهل العلم بالتأويل من أنه تعالى أراد به ان كنتم مرتابين في عدة هؤلاء النساء
وغير عالمين بمبلغها، فقد رووا ما يقوي ذلك من أن سبب نزول هذه الآية هو
152

ما ذكرناه من فقد العلم، فروى مطرف عن عمرو بن سالم قال: قال أبي بن
كعب: يا رسول الله ان عددا من عدد النساء لم يذكر في الكتاب الصغار والكبار
وأولات الأحمال، فأنزل الله تعالى " واللائي يئسن من المحيض " إلى قوله
تعالى " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " (1.
وكان سبب نزول هذه الآية الارتياب الذي ذكرناه، ولا يجوز أن يكون
الارتياب بأنها آيسة أو غير آيسة. لأنه تعالى قد قطع في الآية على الناس من
المحيض بقوله تعالى " واللائي يئسن " والمشكوك في حالها والمرتاب في أنها
تحيض أو لا تحيض لا تكون آيسة، والمرجع في وقوع الحيض منها أو ارتفاعه
إليها وهي المصدقة على ما تخبر به، فإذا أخبرت بأن حيضها قد ارتفع قطع
عليه ولا معنى للارتياب مع ذلك.
وإذا كان المرجع في الحيض إلى النساء ومعرفة الرجال به مبنية على اخبار
النساء وكانت الريبة المذكورة في الآية منصرفة إلى اليأس من المحيض، فكان
يجب أن يقول تعالى ان ارتبتم أو ارتبن، لأنه حكم يرجع إلى النساء ويتعلق بهن
فهن المخاطبات به، فلما قال تعالى " ان ارتبتم " فخاطب الرجال دون النساء
علم أن المراد هو الارتياب في العدة ومبلغها (2.
ثم قال: فان قيل: ما أنكرتم أن يكون الارتياب ههنا، انما هو بمن تحيض
أولا تحيض ممن هو في سنها على ما يشرطه بعض أصحابكم. قلنا: هذا يبطل
بأنه لا ريب في سن ومن تحيض مثلها من النساء أولا تحيض، لان المرجع فيه
إلى العادة.
ثم إذا كان الكلام مشروطا فالأولى أن يعلق الشرط بما لا خلاف فيه دون ما فيه

1) أسباب النزول ص 290 بهذا المعنى.
2) أي ارتبتم في كيفية عدتهن وانها بالشهور أو الحيض أو الأطهار " ه‍ ".
153

الخلاف، وقد علمنا أن من شرط وجوب الاعلام بالشئ والاطلاع عليه فقد
العلم ووقوع الريب: فمن يعلم بذلك ويطلع عليه فلابد إذا من أن يكون ما علقنا
نحن الشرط به وجعلنا الريبة واقعة فيه مرادا.
وإذا ثبت ذلك لم يجز أن يعلق الشرط بشئ آخر مما ذكروه أو بغيره، لان
الكلام مستقل بتعلق الشرط بما ذكرناه أنه لا خلاف فيه ولا حاجة به بعد الاستقلال
إلى أمر آخر. ألا ترى أنه لو استقل بنسفه لما جاز اشتراطه، وكذلك إذا استقل
مشروطا بشئ لا خلاف فيه، ولا يجب تجاوزه ولا تخطيه إلى غيره.
وقد سلم الشيخ أبو جعفر الطوسي " رض " أن الآية لا تدل على صحة هذا
الباب بظاهرها (1، وانما تبين الأخبار الواردة عن آل محمد عليه وعليهم السلام
ذلك، منها ما روي عن عبد الرحمن بن الحجاج قال أبو عبد الله عليه السلام:
ثلاث يتزوجن على كل حال: التي لم تحض ومثلها لا تحيض - قال: قلت
وما حدها؟ قال: إذا أتى لها أقل من تسع سنين - والتي لم يدخل بها، والتي
قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض. قال: قلت وما حدها؟ قال إذا كان
لها خمسون سنة (2.
وقد تقدم أن قوله " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن
ثلاثة أشهر " محمول على الآيسة من المحيض وفي سنها من تحيض وفي التي لم
تحض وفي سنها من تحيض، لان الله تعالى شرط فيه ذلك وقيده بالريبة.
ولما كان الخطاب بقوله " من نسائكم " مع الرجال قال أيضا " ان ارتبتم "،
لأن النساء يرجعن في تعرف أحوالهن إلى العلماء. وقد ذكرنا تقدير قوله
" واللائي لم يحضن " من قبل.

1) انظر التبيان 10 / 34.
2) تهذيب الأحكام 8 / 67.
154

وإذا كانت الآية مجملة فتفصيل ذلك يعلم من أهل التنزيل والتأويل، وهم
الأئمة المعصومون بعد رسول الله عليه وعليهم السلام، وقال تعالى " خلق الانسان *
علمه البيان " (1.
(فصل)
(في طلاق الآيسة من المحيض وفي سنها من تحيض)
بين الله كيفية العدد باختلاف أحوال النساء فقال " واللائي يئسن من المحيض
من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ". يعني ان الآيسة من المحيض إذا
كانت ترتاب بنفسها ولا تدري انقطع حيضها لكبر أو عارض ولا تدرون أنتم أيضا
مقدار سنها فعدتها ثلاثة أشهر، وهي التي قلنا إن مثلها تحيض، لأنها لو كانت
في سن من لا تحيض لم يكن معنى للارتياب في سنها. فإذا أراد زوجها طلاقها
فليصبر عليها ثلاثة أشهر ثم يطلقها بعد ذلك أن شاء.
وحكم التي لم تبلغ المحيض وفي سنها من تحيض - وهي التي كان لها
تسع وسنين فصاعدا ولم تكن حاضت - حكم الآيسة وفي سنها من تحيض في
جميع ما ذكرناه.
وقال قتادة: " اللائي يئسن " الكبار " واللائي لم يحضن " الصغار.
وقد ذكرنا أن قوله " واللائي لم يحضن " تقديره واللائي لم يحضن ان
ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، وحذف لدلالة الكلام الأول عليه.
وقال بعض المفسرين: ان الله سبحانه لما بين هذه المسائل الأربع على
لسان نبيه صلى الله عليه وآله ورواها أهل بيته المعصومون عليهم السلام وكان
قد أشار بهذه الآية إلى مسألة من هذا الفصل وهي الأولى والى مسألة من الفصل

1) سورة الرحمن: 3 - 4.
155

ن
الأول وهي الثانية، كان من أعجب الحكم الإلهية ومن لطيف الفصاحة وغريب
البراعة. فعلى هذا لا يكون قوله " واللائي لم يحضن " مشروطا مقيدا بجميع
ما قيدت الجملة الأولى به، بل يقدر خبر المبتدأ فيه على ما وردت به الأحاديث
الصحيحة.
(فصل)
(في طلاق المستقيمة الحيض)
قال الله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (1. أمر سبحانه
بذلك انه إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته التي دخل بها وهو غير غائب عنها وهي
ممن تحيض حيضا مستقيما فليطلقها وهي طاهر طهرا لم يقربها فيه بجماع وشهد
على ذلك شاهدين تطليقة واحدة، ولتعتد هي ثلاثة أقراء وهي الأطهار، فإذا
رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد ملكت نفسها ولم يكن له عليها سبيل.
فالقرء الطهر عندنا، وبه قال أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء والمفسرين.
وأصل القرء في اللغة يحتمل وجهين (2:
أحدهما: الاجتماع، ومنه " قرأت القرآن " لاجتماع حروفه. فعلى هذا
يقال أقرأت المرأة إذا حاضت في قول الأصمعي والكسائي. فتأويل ذلك اجتماع

1) سورة البقرة: 228.
2) قال الراغب الأصبهاني: القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما
كان اسما جامعا للامرين الطهر والحيض المتعقب له اطلق على كل واحد منهما، لان كل اسم
موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفردت كالمائدة للخوان وللطعام، ثم قد
يسمى كل واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض مجردا، بدلالة
أن الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم
والنفساء لا يقال لها ذلك - المفردات ص 413.
156

الدم في الرحم. ويجئ على هذا الأصل أن يكون القرء الطهر لاجتماع الدم
في جملة البدن - هذا قول الزجاج.
والوجه الثاني: أن يكون أصل القرء وقت الفعل الذي يجري على عادة
في قول أبى عمرو بن العلاء، وقال هو يصلح للحيض والطهر، يقال هذا قارئ
الرياح أي وقت هبوبها. فعلى هذا يكون القرء الحيض لأنه وقت اجتماع الدم
في الرحم على العادة المعروفة فيه، ويكون الطهر لأنه وقت ارتفاعه على عادة
جارية فيه.
واستشهد أهل العراق بأشياء على أن المراد الحيض، منها قوله عليه السلام
في مستحاضة سألته: دعي الصلاة أيام أقرائك. واستشهد أهل المدينة بقوله
تعالى " فطلقوهن لعدتهن " أي طهر لم تجامع فيه، كما يقال جئت لغرة الشهر.
وتأوله غيرهم لاستقبال عدتهن وهو الحيض، وتدل الآية على ذلك، لان معناه
في طهر لم يجامعهن فيه، وهو اختيار ابن جرير.
وقال أبو مسلم: لما أوجب الله على من أراد تطليق امرأته أن يطلقها طاهرة
غير مجامعة وأوجب عليها التربص إلى أن ترى ثلاثة قروء: نظرنا فكان المراد
ثلاثة أطهار، لأنه لا خلاف أن السنة في الطلاق أن يكون عند الطهر.
فان قيل: الظرف اما مكان أو زمان، والقرء ليس واحدا منهما.
قلنا: الظرف هنا زمان، والتقدير مدة انقضاء ثلاثة قروء، والقروء جمع القرء.
فان قيل: كيف أضاف الثلاثة إلى قروء وهي جمع الكثرة، ولم يضفها
إلى اقراء وهي جمع القلة.
فالجواب عنه: ان المعني في قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء " أي ليتربصن كل واحدة من المطلقات ثلاثة اقراء، فلما أسند ثلاثة إلى
جماعتهن والواجب على كل واحدة منهن ثلاثة اتى بلفظة " قروء " ليدل على
الكثرة المرادة.
157

فان قيل: لو كان المراد بالأقراء في الآية الأطهار لوجب استيفاء ثلاثة الأطهار
بكمالها، كما أن من كانت عدتها بالأشهر وجب عليها ثلاثة أشهر على الكمال،
وقد أجمعنا على أنه لو طلقها في آخر الطهر الذي ما قربها فيه أنه لا يلزمها أكثر
من طهرين آخرين، وذلك دليل على فساد ما قلتموه.
قلنا: يسمى القرآن الكاملان وبعض الثالث ثلاثة أقراء، كما يسمى الشهران
وبعض الثالث ثلاثة أشهر في قوله تعالى " الحج أشهر معلومات " (1، وانما هو
شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة.
وقال بعض الفقهاء: ان لفظ الخبر في قوله " يتربصن بأنفسهن " في تقدير
الامر، لان المعنى فرض عليهن أن يتربصن. والأولى أن يحمل على معنى الخبر
لأنه مما لابد منه، وما حل هذا المحل فالخبر به أولى من الامر، لان المأمور
قد يفعل وقد لا يفعل، والمخبر عنه لابد من كونه، وهذا التربص لابد منه.
وهذا لا يحتاج فيه إلى نية وعزم، فالمطلقة ربما انقضت عدتها ولم تعتد،
وذلك أن تطلق ولا يبلغها الطلاق الا وقد مضت أيام الأقراء، لان ابتداء عدتها
وقت طلاقها من غير صنع منها. ولهذا قال قوم ابتداء عدتها وقت سماعها، وهذا
ليس بصحيح في الطلاق وانما هو العدة بعد الوفاة إذا سمعت بها، لأنها وان
لم تسمع فهي مطلقة وأوجب الله عليها العدة بسبب الطلاق.
وكل مطلقة يلزمها هذا التربص الا من لم يدخل بهاء، ما عدا الآيسة من المحيض
ولا يكون في سنها من تحيض، وما عدا التي لم تبلغ المحيض ولا يكون في سنها
من تحيض.

1) سورة البقرة: 197.
158

(فصل)
(في طلاق الحامل المستبين حملها)
قال الله تعالى " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " (1.
اعلم أن الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته وهي حبلى مستبين حملها فليطلقها
أي وقت شاء، وعدتها أن تضع حملها وإن كان بعد الطلاق بلا فصل وحلت
للأزواج، سواء كان ما وضعته سقطا أو غير سقط تاما أو غير تام، فقد بين الله
تعالى بقوله " أن يضعن حملهن " ان عدة الحامل من الطلاق وضع الحمل الذي
معها، فان وضعت عقيب الطلاق فقد ملكت نفسها ويجوز لها أن تعقد لغيره على
نفسها، غير أنه لا يجوز له وطؤها، لان نفاسها كالحيض سواء، فإذا طهرت
من نفاسها حل له ذلك.
وان كانت حاملا باثنين ووضعت واحدا لم تحل للأزواج حتى تضع جميع
الحمل، لقوله تعالى " أن يضعن حملهن ".
فأما انقطاع الرجعة فقد روى أصحابنا انها إذا وضعت واحدا انقطع عصمتها
من الأول ولا يجوز لها العقد لغيره حتى تضع الاخر.
فأما المطلق فإنه إن كان طلقها أول مرة ووضعت واحدا وهي حامل بآخر
فليس له أن يراجعها، وانما كانت الرجعة له من غير رضاها قبل الوضع، فأما
ان أراد أن يعقدا بمهر جديد قبل وضع الثاني فإنه يجوز ذلك. وكذلك بعد
التطليقتين إذا كانت المرأة حرة.
وقال ابن عباس هذه الآية في المطلقة خاصة لما قلناه.

1) سورة الطلاق: 4.
159

(فصل)
(في طلاق المستحاضة وطلاق الغائب عن زوجته)
(وطلاق الغلام والعبد)
قال الله تعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا
العدة " (1 هذه الآية بعمومها يتناولها كما يتناول غيرها مما نذكره.
وأما المستحاضة إذا كانت مطلقة وتعرف أيام حيضها فلتعتد بالأقراء، فإن لم
تعرف أيام حيضها اعتبرت صفة الدم واعتدت أيضا بالأقراء، فان اشتبه عليها
دم الحيض بدم الاستحاضة ولم يكن لها سبيل إلى الفرق بينهما اعتبرت عادة
نسائها في الحيض، فتعتد على عادتهن في الأقراء، فإن لم يكن لها نساء أو كن مختلفات
العادة اعتدت بثلاثة أهش وقد بانت منه.
وأما طلاق الغائب عن زوجته فان خرج إلى السفر وهي في طهر لم يقربها
فيه بجماع طلقها أي وقت شاء، ومتى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه فلا يطلقها
حتى يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ثم يطلقها ويكون عدتها ثلاثة أشهر.
والغلام إذا طلق وكان ممن يحسن الطلاق وقد أتى عليه عشر سنين فصاعدا
جاز طلاقه، فإن لم يحسن الطلاق فإنه لا يجوز طلاقه. ولا يجوز لوليه أن يطلق
عنه، الا أن يكون قد بلغ وكان فاسد العقل، فإنه والحال على ما ذكرناه جاز
طلاق الولي عنه.
والعبد إذا تزوج فلا يخلوا ما أن يكون مولاه زوجه جاريته فالفراق بينهما
بيده وليس للزوج طلاق على حال. ومتى عقد الرجل لعبده على أمة غيره بأذنه

1) سورة الطلاق: 1.
160

كان الطلاق بيد العبد. وكذلك ان عقد على حرة.
وهذا كله مما بينه رسول الله صلى الله عليه وآله لقوله تعالى " وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ".
(باب)
(بيان شرائط الطلاق)
فأول ما نقول في ذلك أن تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة - أي جزء
كان - لا يقع به طلاق. ودليلنا بعد الاجماع قوله تعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء " (1، فجعل الطلاق واقعا بما يتناوله اسم النساء، واليد والرجل لا يتناولهما
هذا الاسم بغير شبهة.
ولا يطعن على ما ذكرنا بقوله " تبت يدا أبي لهب " (2 وبقوله " فبما كسبت
أيديكم " (3، وان عبر بها عن جميع البدن، لان ذلك مجاز وكلامنا على الحقائق
لقول الله مخاطبا لنبيه عليه السلام والمراد به أمته، ومعناه إذا أردتم طلاق النساء
كما قال " إذا قمتم إلى الصلاة " (4، والنبي عليه السلام داخل تحت هذا الخطاب،
وهذه مسألة فيها خلاف.
وقال قوم: تقديره يا أيها النبي قل لامتك إذا طلقتم النساء. فعلى هذا يجوز
أن يكون النبي عليه السلام خارجا من الحكم، ويجوز أن يكون حكمه حكمهم،
كخطاب الرئيس الذي يدخل فيه الاتباع. وأجمعت الأمة أن حكم النبي حكم

1) سورة الطلاق: 1.
2) سورة المسد: 1.
3) سورة الشورى: 3.
4) سورة المائدة: 6.
161

أمته في الطلاق.
والطلاق في الشرع قد ذكرنا أنه عبادة عن تخلية المرأة على عقدة من عقد
النكاح، بأن يقول أنت طالق يخاطبها، أو يقول هذه طالق ويشير إليها، أو يقول
فلانة بنت فلان طالق.
وعندنا لا يقع الطلاق الا بهذا اللفظ المخصوص، ولا يقع الطلاق بشئ من
كنايات الطلاق أراد به الطلاق أو لم يرد. وفيه خلاف.
ومن شرط وقوع الطلاق عندنا أن يكون الرجل ثابت العقل مريدا للطلاق
غير مكره عليه ويتلفظ بما قدمناه، وفحوى قوله تعالى " إذا طلقتم النساء " يدل
على جميع ذلك. ويكون بمحضر من شاهدي عدل لقوله " وأشهدوا ذوي عدل
منكم " على ما نذكره.
وان كانت مدخولا بها غير حامل ويكون الزوج حاضرا غير غائب، فلابد
من أن تكون طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع، لقوله " وطلقوهن لعدتهن "،
ومعناه أن يطلقها وهي طاهر في طهر لاجماع فيه معها ويستوفي باقي الشروط،
أي طلقوهن مستقبلات لعدتهن كقولك أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلا لها.
(فصل)
وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله في قبل عدتهن وإذا طلقت المرأة
في الطهر الذي ذكرناه طلقت مستقبلة لعدتها، والمراد أن يطلقن في طهر لم
يجامعهن فيه ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن - قاله ابن عباس ومجاهد والحسن
وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي.
فمتى طلقها وقصد به ايقاع الطلاق على ما ذكرناه وقع تطليقة واحدة، وهو
أملك برجعتها ما لم تخرج من العدة، فان خرجت قبل أن يراجعها كان كواحد
من الخطاب.
162

ومتى تلفظ بثلاث تطليقات مع الشرائط كلها وقعت واحدة، وخالف جميع
الفقهاء في ذلك وقالوا يقع الثلاث، وفي أصحابنا من يقول متى تلفظ بالثلاث
لا يقع شئ، وذلك محمول على أنه إذا لم يحصل جميع شرائط الطلاق.
والعمل على ما قدمناه.
ومتى طلقها في الحيض والحال ما ذكرناه فلا يقع طلاقها لأنه خلاف المأمور
به، وهو منهي عنه والنهي يدل على فساد المنهي عنه. وعند الفقهاء أنه يقع
الطلاق وإن كان بدعة.
ولم يبين المفسرون معنى اللام في قوله " لعدتهن " وكيف صار هذا اللفظ
عبادة عما فسروه به من أن المراد طاهر من غير جماع. والقول في ذلك أن
اللام لام العلة والسبب.
فان قيل: علة الفعل ما يولد عنه، يعني الفعل يتولد من العلة ولم يتولد
الطلاق من العدة وانما تولد من ايثار الزوج مفارقة المرأة.
والجواب: ان ذلك يحتاج إلى بيان، لان في الكلام حذفا وايجازا، كأنه
قال تعهدوا بطلاقهن هذه الحالة لأجل عدتهن، أي ليعتددن في الوقت، لان ابتداء
عدتها الطهر الذي طلق فيه، " ثم أحصوا عدتها " أي احفظوا أقراءها. وان مضت
الثلاثة منها ولم تراجعوهن فلا سبيل إلى المراجعة من بعد.
ومثل هذا اللام قوله " أقم الصلاة لدلوك الشمس " (1 ولقول النبي عليه السلام
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (2.
وقال أبو علي المرزوقي: اللام في قوله " لعدتهن " ظرف للطلاق بمنزلة

1) سورة الإسراء: 78.
2) وسائل الشيعة 7 / 185.
163

وقت له، والدليل عليه قوله تعلى " لأول الحشر " (1، فجعل له أولا.
وقيل العدة هنا الحيض، والمعنى فطلقوهن قبل الحيض.
واحصاء العدة حفظ وقت الطلاق ثم أيام الطهر والحيض إلى أن يقع البينونة.
(فصل)
ثم قال تعالى " واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن " (2
غلظ الله أمر المطلقين بالوعيد، أي لا تخروجهن زمان العدة، لأنه لا يجوز اخراجها
من بيتها، وأمر المطلقات ألا يخرجن باختيار أنفسهن قبل انقضاء عدتهن.
وعندنا وعند جميع الفقهاء يجب عليه السكنى والنفقة والكسوة إذا كانت
المطلقة رجعية، وان كانت بائنة فلا نفقة لها ولا سكنى. وقال عطا والضحاك وقتادة
لا يجوز أن تخرج من بيتها حتى تنقضي عدتها الا عند الفاحشة. وقال الحسن
وعامر والشعبي ومجاهد وابن زيد الفاحشة ههنا الزنا تخرج لإقامة الحد، وقال
ابن عباس الفاحشة البذاء على أهله، وهو المروي عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليهما السلام (3. وقال قتادة الفاحشة هو النشوز، وقال ابن عمر هو خروجها
قبل انقضاء العدة، وفي رواية عن ابن عباس أن كل معصية لله ظاهرة فهي فاحشة.
وقوله " تلك حدود الله " يعني ما تقدم ذكره من كيفية الطلاق والعدة وترك
اخراجها من بيتها الا عند الفاحشة حدود الله، فالحدود نهايات تمنع أن يدخل
في الشئ ما ليس منه أو يخرج عنه ما هو منه، فقد بين الله بالأمر والنهي الحدود.
" ومن يتعد حدود الله " أي من يتجاوز حدود الله فقد فعل ما يستحق به العقاب
ويحرم معه الثواب.

1) سورة الحشر: 2.
2) سورة الطلاق: 1.
3) تفسير البرهان 4 / 345.
164

ثم قال " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " أي يغير رأي الزوج في
محبة الطلاق فيكون تطليقه على ما أمر الله به يملك الرجعة فيما بين الواحدة
والثانية وما بين الثانية والثالثة إذا لم يكن خلعا على الحرة المطلقة التي دخل
بها، وقد ذكرناها.
وقال الضحاك: أي لعل يحدث بعد ذلك أمر الرجعة في العدة. وقيل
معناه لعل الله يحدث بعد ذلك شهوة المراجعة.
" فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " (1 قيل أي إذا
بلغن إلى القرء الثالث وذلك قرب انقضاء عدتهن، ومعناه إذا قاربن أجلهن، الذي
هو الخروج من عدتهن، لأنه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن، لأنه
عند انقضاء أجلهن لا يملك رجعتها وقد ملكت نفسها وقد بانت منه بواحدة ثم
تتزوج من شاءت هو أو غيره، وانما المعنى إذا قاربن الخروج من عدتهن فأمسكوهن،
بأن تراجعوهن بمعروف بما يجب لها من النفقة والكسوة والمسكن وحسن
الصحبة، أو فارقوهن بمعروف بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة، والمعروف
عند الفراق الصداق أو المتعة وحسن الثناء.
(فصل)
ثم قال تعالى " وأشهدوا ذوي عدل منكم " فالاشهاد عندنا شرط في وقوع
الطلاق، لان ظاهر الامر بذلك يقتضيه، والامر شرعا على الايجاب الا إذا دل
دليل على كونه ندبا. فمتى طلق الرجل ولم يشهد شاهدين ممن ظاهره الاسلام
كان طلاقه غير واقع، وان أشهد رجلا بعد آخر ولم يشهدهما في مكان واحد لم
يقع أيضا طلاق، فان طلق بمحضر رجلين مسلمين ولم يقل لهما اشهدا وقع طلاقه

1) سورة الطلاق: 2.
165

وجاز لهما أن يشهدا بذلك.
وشهادة النساء لا تقبل في الطلاق. ومتى فقدا لم يقع الطلاق.
فان قيل: ما الدليل على صحة جميع ما ذكرتم؟
قلنا: الحجة لنا بعد الاجماع قوله " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
لعدتهن " إلى قوله " وأشهدوا ذوي عدل منكم " فأمر تعالى فيه بالاشهاد، وظاهر
الامر في عرف الشرع كما قدمنا يقتضي الوجوب، فليس لهم أن يحملوا ذلك
ههنا على الاستحباب لفقد الدليل عليه.
ولا يخلو قوله " وأشهدوا " من أن يكون راجعا إلى الطلاق، كأنه قال إذا
طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأشهدوا، أو أن يكون راجعا إلى الفرقة، أو
إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالامساك.
ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة التي ليست ههنا شيئا يوقع ويفعل،
وانما هو العدول عن الرجعة، وانما يكون مفارقا لها بأن لا يراجعها، فتبين بالطلاق
السابق. على أن أحدا لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة، وظاهر الامر في الشرع
يقتضي الوجوب.
ولا يجوز أن يرجع الامر بالشهادة إلى الرجعة، لان أحدا لا يوجب فيها
الاشهاد وانما هو يستحب فيها. فثبت أن الامر بالاشهاد راجع إلى الطلاق.
فان قيل: كيف يرجع إلى الطلاق مع بعد ما بينهما؟
قلنا: إذا لم يلق الا بالطلاق وجب عوده إليه مع قرب وبعد.
فان قيل: أي فرق بينكم في حملكم هذ الشرط على الطلاق وهو بعيد
منه في اللفظ وهو مجاز وعدول عن الحقيقة، وبيننا إذا حملنا الامر بالاشهاد
ههنا على الاستحباب ليعود إلى الرجعة القريبة منه في ترتيب الكلام.
قلنا: حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع
166

بلا دليل، ورد الشرط إلى ما بعد عنه إذا لم يلق بما قرب ليس بعدول عن الحقيقة
ولا استعمال التوسع والتجوز في القرآن، والخطاب كله مملوء من ذلك، قال
الله تعالى " انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه
وتوقروه وتسبحوه " (1. والتسبيح - وهو متأخر في اللفظ - لا يليق الا بالله دون
رسوله.
ثم قال " وأقيموا الشهادة لله " (2 أي لوجه الله خالصا لا للمشهود له ولا للمشهود
عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم.
" ذلكم يوعظ به " أي ذلكم الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل
القيام بالقسط يوعظ به " ومن يتق الله " جملة اعتراضية.
(فصل)
وقد فسرنا الآيات المتصلة بها إلى قوله تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم
من وجدكم " (3 يقول الله مخاطبا لمن طلق زوجته بأمره أن يسكنها حيث يسكن
هو. وقد بينا أن السكنى والنفقة يجبان للرجعية بلا خلاف، أما البينونة فلا
سكنى لها ولا نفقة عندنا الا إذا كانت حبلى. وهو مذهب الحسن. وقد روت
فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا نفقة للمبتوتة (4.
وقال الشافعي ومالك لها السكنى بلا نفقة، وقال أهل العراق لها السكنى

1) سورة الفتح: 8.
2) سورة الطلاق: 2.
3) سورة الطلاق: 6.
4) البت: القطع، والمبتوتة هنا بمعنى المقطوعة عن حبل النكاح، لأنها بائنة لا
يمكن الرجوع الا بنكاح جديد، فكأن عصمة الزوجية انقطعت تماما بينها وبين زوجها - انظر
النهاية لابن الأثير 1 / 92.
167

والنفقة معا، وبه قال ابن مسعود وعمر.
وقوله " من وجدكم " أي ملككم - قاله السدي. وقال ابن زيد هو إذا
قال صاحب المسكن لا أنزل هذه في بيتي وليس من وجده، ويجوز له حينئذ
أن ينقلها إلى غيره.
والوجد ملك ما يجده المالك له، وذلك أنه قد يملك المالك ما يغيب عنه
وقد يملك ما هو حاضر له، فذلك وجده.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون أسكنوهن أمرا بالانفاق عليهن، أي
نزلوهن منزلة أنفسكم من وجدكم ولينفق كل واحد عليهن على قدر غناه وفقره.
ولفظ " الاسكان " و " الاحلال " و " الانزال " على ما قلنا يستعمل كثيرا
في هذا المعنى، يقال أحلني فلان من نعمته محل نفسه أي أشركني فيها حتى
شاطرنيها. وذلك أولى، لان الامر بالسكنى قد تقدم من قوله " لا تخرجوهن من
بيوتهن ولا يخرجن ".
ثم قال " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " معناه لا تدخلوا الضرر عليهن
بالتقصير في النفقة والسكنى والكسوة وحسن العشرة وتضيقوا عليهن في السكنى
والنفقة ليخرجن، أي لا تؤذوهن فتحوجوهن إلى الخروج، أمر الله بالسعة.
وقد تكون المضارة من واحد، كما يقال طارقت النعل، ويمكن أن يكون
ههنا من كل واحد منهما لصاحبه.
والتضييق قد يكون في الرزق وفي المكان وفي الامر.
" وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " أمر من الله
بالانفاق على الحامل المطلقة إذا كانت مبتوتة، ولا خلاف في ذلك. وانما يجب
أن ينفق عليها بسبب ما في بطنها، وانما يسقط نفقتها بالوضع.
168

(باب)
(عدة المتوفى عنها زوجها وعدة المطلقة على اختلاف أحوالها)
قال الله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا " (1.
أمر تعالى أن يكون عدة كل متوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام،
سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها حرة كانت أو أمة، لان الله لم يخص.
فان كانت حبلى فعدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل أو مضي أربعة الأشهر
والعشرة أيام، وهو المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام (2، ووافقنا في الأمة
الأصم. وخالف باقي الفقهاء في ذلك وقالوا عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران
وخمسة أيام. واليه ذهب قوم من أصحابنا.
وقالوا في عدة الحامل أنها بوضع الحمل، وعندنا ان وضع الحمل يختص
عدة المطلقة.
والذي يجب على المعتدة في عدة الوفاة اجتنابها الزينة والكحل والأثمد
وترك النقلة عن المنزل في قول ابن عباس، وقال الحسن ان الواجب عليها
الامتناع من الزوج لا غير. وعندنا أنه يجوز لها ان تبيت في الدار التي مات
فيها زوجها حيث شاءت وعليها الحداد إذا كانت حرة، وان كانت أمة فليس
عليها حداد. والحداد هو ترك الزينة وأكل ما فيه الراحة الطيبة وشمه.
فان احتج مخالفنا في هذا بظاهر قوله تعالى " وأولات الأحمال أجلهن أن

1) سورة البقرة: 234.
2) وسائل الشيعة 15 / 419.
169

يضعن حملهن " (1 وانه عام في المتوفى عنها زوجها وفي غيرها. عارضناهم بقوله
" والذين يتوفون منكم " الآية وانه عام في الحامل وغيرها. ثم لو كانت آياتهم
التي ذكروها عامة الظاهر، جاز أن نخصها بدليل، وهو اجماعنا الامامية،
وفيه الحجة.
(فصل)
وقوله تعالى " الذين " رفع بالابتداء، و " يتوفون منكم " صلة الذين،
" يذرون أزواجا " عطف عليه. وخبر الذين قيل فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن كون الجملة على تقدير والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
أزواجهم يتربصن.
الثاني: يتربصن بعدهم، أي يتربصن أزواجهم بعدهم.
الثالث: أن يكون الضمير في يتربصن لما عاد إلى مضاف في المعنى كان
بمنزلته على تقدير يتربصن أزواجهم. هذا قول الزجاج، والأول قول أبي العباس
والثاني قول الأخفش. ونظيره قول الزجاج أن يقول إذا مات وخلف ابنتين
ترثان الثلثين بالفرض، المعنى ترث ابنتاه الثلثين.
الرابع: أن يعدل عن الاخبار عن الزوج، لان المعنى على والفائدة فيه.
ذهب إليه الكسائي والفراء، وأنكره أبو العباس والزجاج لأنه لا يكون مبتدأ
لا خبر له ولا خبر الا عن مخبر عنه. و " يذرون أزواجا " أي يتركونها.
فان قيل: كيف قال " وعشرا " وانما العدة بالأيام والليالي، ولذلك لم
يجز أن يقول عشرا من الرجال والنساء.
قيل: لتغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره، لان ابتداء

1) سورة الطلاق: 4.
170

شهور الأهلة الليالي عند طلوع الهلال، فلما كانت أوائل غلبت لان الأوائل
أقوى من الثواني. ولا يقدح هذا في قولهم. إذا اختلط الذكر والأنثى كان
الغلبة للذكر.
قال ابن المسيب وأبو العالية: انما زاد الله تعالى هذه العشرة على أربعة
أشهر لان فيها ينفخ الروح على الولد.
ومعنى التربص أن تحبس نفسها عن الأزواج وتترك الزينة والطيب.
(فصل)
وهذه الآية التي قدمناها ناسخة لقوله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج " (1 وان كانت هذه مقدمة
عليها في التلاوة.
ولا خلاف في نسخ العدة سنة كاملة، الا أن أبا حذيفة قال: العدة أربعة
أشهر وعشرا وما زاد على الحول يثبت بالوصية والنفقة، فان امتنع الورثة من
ذلك كان لها أن تتصرف في نفسها.
وأما حكم الوصية عندنا فباق لم ينسخ وإن كان على وجه الاستحباب.
وحكي عن الحسن أنها منسوخة بآية الميراث فلا وصية لوارث. وهذا فاسد،
لان آية الميراث لا تنافي الوصية، فلا يجوز أن تكون ناسخة لها.
فمن نصب " وصية " فالتقدير فليوصوا وصية، والرفع أي فعليهم وصية أو
لأزواجهم وصية. وقيل لا يجوز غير الرفع، لأنه لا يمكن الوصية بعد الوفاة،
ولان الفرض كان لهن وصوا أو لم يوصوا. قال الرماني: وهذا غلط، لان
المعنى والذين يحضرهم الوفاة منكم، ولذلك قال تعالى " يتوفون " على لفظ
الحال الذي يتطاول.

1) سورة البقرة: 240.
171

وأما قوله الفرض كان لهن وان لم يوصوا. فقد قال قتادة والسدي انما كان
لهن بالوصية. على أنه لو كان على ما زعم لم ينكر أن يوجبه الله على الورثة ان
فرط الزوج في الوصية.
" ومتاعا إلى الحول غير اخراج " كأنه قال متعوهن متاعا في مساكنهن لا
اخراجا، ويجوز أن تكون الإقامة في مساكنهن.
قال الحسن: " فان خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف "
دليل على سقوط النفقة والسكنى بالخروج، لأنه انما جعل لهن ذلك بالإقامة
إلى الحول، فان خرجن قبله بطل الحق الذي وجب بالإقامة.
وانما احتاج إلى هذا التخريج من يوجب النفقة للمعتدة عن الوفاة، فأما
من قال لا نفقة لها ولا سكنى فلا يحتاج إلى ذلك. وهو مذهبنا، لان المتوفى
عنها زوجها لا نفقة لها، فان كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ولدها الذي
في بطنها.
وقد قدمنا أن الرجل إذا طلق زوجته قبل الدخول بها ما لم يكن عليها منه
عدة وكذلك التي لم تبلغ المحيض ومثلها لا تحيض إذا طلقها - وحد ذلك ما دون
تسع السنين - لم يكن عليها منه عدة وان دخل بها. وكذلك ان كانت آيسة
ومثلها لا تحيض فليس عليها من عدة إذا طلقها وان كانت مدخولا بها. والدليل
على هاتين المسألتين من القرآن ما ذكرناه من قبل.
ويمكن أن يستدل بقوله تعالى " وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن " (1
الآية، على أن لا عدة على من لم يدخل بها، وقد صرح تعالى بذلك في قوله
" يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تماسوهن

1) سورة البقرة 237.
172

فما لكم عليهن من عدة تعتدونها " (1.
فأما من طلق من تحيض حيضا مستقيما فعدتها ثلاثة أطهار، لقوله تعالى
" والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء " (2، وانما أطلق سبحانه الكلام ههنا
اطلاقا ولم يقيد لان الأغلب في العادة أن تكون المرأة مستقيمة الحيض، وما
سوى هذه الحالة يكون نادرا.
وإذا طلقها وهي حامل فعدتها أن تضع حملها، لقوله تعالى " وأولات
الأحمال أجلهن أن يضعهن حملهن " (3.
والآيسة من المحيض وفى سنها من تحيض والتي لا تحيض وفي سنها من
تحيض فعدة كل واحدة منهما إذا كانت حرة ثلاثة أشهر إذا طلقها زوجها، وقد
بينا حكمها من قبل، يدل عليه قوله " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم
ان ارتبتم " الآية.
والحرة إذا كانت تحت مملوك فعدتها مثل عدتها إذا كانت تحت حر لا
يختلف الحكم فيه. لان الله تعالى لم يفصل في كتابه بين الحالتين.
والأمة إذا كانت تحت حر وطلقها فعدتها قرآن ان كانت ممن تحيض، وان
كانت لا تحيض ومثلها تحيض فعدتها خمسة وأربعون يوما. واستدل عليه بعض
المفسرين بقول " فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات
من العذاب " (4 وقال: هذا على العموم.
هذا كله إذا كانت الحرة والأمة مدخولا بها.
والأمة إذا كانت أم ولد وتوفي عنها زوجها فعدتها مثل عدة الحرة، وان

1) سورة الأحزاب: 49.
2) سورة البقرة: 228.
3) سورة الطلاق: 4.
4) سورة النساء: 25.
173

كانت مملوكة ليست أم ولد فعدتها فعدتها شهران وخمسة أيام.
والتي لم يدخل بها إذا مات عنها الزوج فعدتها أربعة أشهر وعشرا، لعموم
قوله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرا " (1. ويجب على ورثته أن يعطوها المهر كملا. ويستحب لها أن تترك
نصف المهر، وان لم تفعل كان لها المهر كله.
(باب)
(كيفية الطلاق الثلاث)
(وحكم المراجعة والتراجع والعضل)
قوله تعالى " الطلاق مرتان " (2 يدل على صحة قولنا الطلاق الثلاث لا يقع
بلفظ واحد، فإنه تعالى لم يرد بذلك الخبر، لأنه لو أراده لكان كذبا، وانما
أراد الامر، فكأنه تعالى قال طلقوهن مرتين، ويجري مجرى قوله " ومن دخله
كان آمنا " (3، والمراد يجب أن تؤمنوه. والمرتان لا تكون الا واحدة بعد
واحدة. ومن جمع الطلاقين في كلمة واحدة [لا يكون مطلقا مرتين، كما أن
من أعطى درهمين مرة واحدة] (4 لم يعطها مرتين.
فان قيل: العدد إذا ذكر عقيب الاسم لم يقتض التفريق، مثاله إذا قال " له
علي مائة درهم مرتان "، وإذا ذكر العدد عقيب فعل اقتضى التفريق، مثاله " إذا
دخل الدار مرتين فاضربه ضربتين "، والعدد في الآية عقيب اسم لا فعل.

1) سورة البقرة: 234.
2) سورة البقرة: 229.
3) سورة آل عمران: 97.
4) الزيادة من ج.
174

قلنا: قد بينا أن قوله " الطلاق مرتان " معناه طلقوا مرتين، والعدد عقيب
فعل لا اسم صريح.
فان قيل: إذا كان الثلاث لا تقع فأي معنى لقوله تعالى " لا تدري لعل الله
يحدث بعد ذلك أمرا " وانما المراد انك إذا خالفت السنة في الطلاق وجمعت
بين الثلاث وتعديت ما حده الله تعالى لم تأمن أن تتوق نفسك إلى المراجعة
فلا تتمكن منها.
قلنا: قوله " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " مجمل غير مبين،
فمن أين أنه أراد ما ذكرتم، والظاهر غير دال على هذا الامر الذي يحدثه الله.
والأشبه بالظاهر أن يكون ذلك الامر الذي يحدثه الله متعلقا بقوله " ومن يتعد
حدود الله " لأنه قال " تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري
لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " فيشبه أن يكون المراد لا تدري ما يحدثه الله من
عقاب يعجله الله في الدنيا على من تعدى حدوده، وهذا أشبه مما ذكروه. وأقل
الأحوال أن يكون الكلام يحتمله، فسقط تعلقهم.
وقيل: يتعلق قوله " لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " بالنهي عن اخراجهن
من بيوتهن لعله يبدو له في المراجعة. وهذا أيضا يحتمل، فمن أين أن المراد
ما ذكره.
(فصل)
وأبان سبحانه بقوله " الطلاق مرتان " عدد الطلاق، لأنه كان في صدر الاسلام
بغير عدد. قال قتادة: كان الرجل يطلق امرأته في صدر الاسلام ما شاء من واحدة
إلى عشر ويراجعها في العدة، فنزل قوله تعالى " الطلاق مرتان " يعني طلقتين.
" فامساك بمعروف أو تسريح باحسان " فبين أن عدد الطلاق ثلاثة، فقوله
" مرتان " اخبار عن طلقتين بلا خلاف، واختلفوا في الثالث: فقال ابن عباس
175

" أو تسريح باحسان " الطلقة الثالثة، وقال غيره " فان طلقها فلا تحل له من بعد
حتى تنكح زوجا غيره " التطليقة الثالثة، وهو الأقوى.
وقيل في قوله " الطلاق مرتان " قولان:
أحدهما: ما قاله ابن عباس ومجاهد ان معناه البيان عن تفصيل الطلاق في
السنة، وهو أنه إذا أراد طلاقها ينبغي أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه بجماع
تطليقة واحدة ثم يتركها حتى تخرج من العدة.
والثاني: ما قاله عروة وقتادة أن معناه البيان عن عدد الطلاق الذي يوجب
البينونة مما لا يوجبها.
وفي الآية بيان أنه ليس بعد التطليقتين الا الفرقة الباينة. وقال الزجاج في
الآية حذف، لان التقدير عدد الطلاق الذي يملك فيها الرجعة مرتان، بدلالة
قوله " فامساك بمعروف أو تسريح باحسان " والمرتان هما دفعتان.
ومعنى قوله " فامساك " أي فالواجب عليه امساك، والامساك خلاف الاطلاق.
قال الزجاج ظاهره خبر ومعناه أمر، كأنه قال فليمسكها بعد ذلك بمعروف، أي
بما يعرف به إقامة الحق في امساك المرأة أو تخلية سبيلها بوجه حسن.
وقوله " بمعروف " أي على وجه جميل سائغ في الشريعة لا على وجه
الاضرار بهن.
وقوله " أو تسريح باحسان " قيل فيه قولان:
أحدهما: انها الطلقة الثالثة، وروي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله
فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ فأجابه عليه السلام: أو تسريح باحسان (1.
وقال السدي والضحاك هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، وهو المروي

1) الدر المنثور 1 / 277.
176

عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام (1.
والتسريح مأخوذ من السرح، وهو الانطلاق.
وقد ذكرنا أن أصحابنا استدلوا بهذه الآية على أن الطلاق الثلاث لا تقع
بمرة، لأنه تعالى قال " الطلاق مرتان " ثم ذكر الثالثة على الخلاف في أنه قوله
" أو تسريح باحسان " أو قوله " فان طلقها فلا تحل له من بعد ".
ومن طلق بلفظ واحد فلا يكون أتى بالمرتين ولا بالثالثة، كما أنه لما أوجب
في اللعان أربع شهادات فلو أتى بلفظ واحد لما وقع موقعه، وكما لو رمى بسبع
حصيات في الجمار دفعة واحدة لم يكن مجزيا له، فكذا الطلاق. ومتى ادعوا
في ذلك خبرا فعليهم أن يذكروه لنتكلم عليه.
(فصل)
أما قوله " فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " فالمعنى
فيه التطليقة الثالثة على ما روي عن أبي جعفر عليه السلام (2، وبه قال الضحاك
والسدي والجبائي والنظام وغيرهم.
وقال مجاهد: هو تفسير لقوله " أو تسريح باحسان "، فإنه التطليقة الثالثة،
وهو اختيار الطبري.
وقوله " فان طلقها " يعني الزوج ان بانت منه - بأن يختر أن يراجعها في
الثالث " فلا تحل له " أي فلا يجوز نكاحها ولا جماعها " حتى تنكح زوجا غيره "
أي حتى تتزوج زوجا آخر فيطأها ذلك الزوج، لان المراد بالنكاح التزويج ههنا
الجماع لا التزويج وإن كان الأصل في النكاح التزوج، لأنهم أجمعوا على أنه

1) تهذيب الأحكام 8 / 25 - 27.
2) تفسير البرهان 1 / 223.
177

ان تزوجت ولم تجامع لم تحل لنكاح الزوج الأول.
وأهل المدينة اختلفوا في النكاح أأصله الجماع أم التزويج، وعند أكثر
الكوفيين ان أصله الجماع، وتسمية التزويج به كما يسمى الشئ باسم ما هو
من سببه (1.
وصفة الزوج الذي تحل المرأة للزوج الأول أن يكون بالغا، ويعقد عليها
عقدا صحيحا دائما، ويذوق عسيلتها (2 بأن يطأها وتذوق عسيلته بلا خلاف بين أهل
العلم.
ولا يجوز لاحد أن يتزوجها في العدة، فأما العقود الفاسدة أو عقود الشبهة
فإنها لا تحل للزوج الأول. ومتى وطئها بعقد صحيح في زمان يحرم فيه وطئها
- مثل أن تكون حائضا أو محرمة أو معتكفة - فإنها تحل للأول، لان الوطئ
يدخل في نكاح صحيح وانما حرم الوطئ لأمر طارئ عليه.
هذا عند أكثر أهل العلم، وقال مالك الوطئ في الحيض لا يحل للأول وان
وجب به المهر كله والعدة.
ثم قال تعالى " فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ان ظنا أن يقيما حدود
الله ". بين سبحانه أن الزوج الثاني ان طلقها فلا حرج على الزوج الأول إذا
خرجت هي من عدة الزوج الثاني ورأيا أمارة الخير بينهما وظنا الصلاح لأنفسهما
بعد ذلك في التزويج أن يتراجعا بعقد مستأنف.

1) قال ابن فارص: النون والكاف والحاء أصل واحد، وهو البضاع، ونكح ينكح،
وامرأة ناكح في بنى فلان أي ذات زوج منهم، والنكاح يكون العقد دون الوطئ، يقال نكحت
تزوجت وأنكحت غيري - معجم مقابيس اللغة 5 / 475.
2) في الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة بالعسل، وصغرت بالهاء لان الغالب على العسل
التأنيث. ويقال انما أنث لأنه أراد به العسلة وهي القطعة منه، كما يقال للقطعة من الذهب
ذهبة. قال الصغاني: وقيل إن العسيلة مصغرة ماء الرجل نفسه، والنطفة تسمى عسيلة " ه‍ ".
178

وموضع " أن يتراجعا " خفض عند الخليل، وتقديره في أن يتراجعا،
وقال الزجاج موضعه النصب. وموضع أن الثانية نصب بلا خلاف يظن. وانما
جاز حذف في من " أن يتراجعا " لطولها بالصلة، ولو كان مصدرا لم يجز.
وقوله تعالى " فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا " يدل على أن الوطئ
في عقد الشبهة لا يحل للزوج الأول، لان الطلاق لا يلحق نكاح الشبهة، وانما
جعل الظن شرطا لأنه في المستقبل فلا يحصل العلم به. ومعناه ان عرفا من أخلاقهما
وطرائقهما ما يقوي في ظنونهما أنهما يقومان بحدود الله تعالى.
(فصل)
وقوله تعالى " الطلاق مرتان فامساك بمعروف " (1 يدل على صحة المراجعة
بعد التطليقة الأولى وقيل انقضاء العدة، وكذلك يدل على صحة المراجعة بعد
التطليقة الثانية قبل انقضاء العدة، من غير اعتبار رضا المرأة إذا لم يكن خلعا،
لأنه تعالى قال " فامساك بمعروف " وهو المراجعة ولم يعتبر رضاها.
والتراجع الذي ذكره الله تعالى في قوله " فان طلقها فلا جناح عليهما أن
يتراجعا " (2 هو أن يتعاقدا بعد العدة من موت الزوج الثاني أو طلاقه بمهر جديد
وعقد مستأنف، ورضاها لابد منه ههنا، لأنه الان خاطب من الخطاب وهي
أجنبية، وقد أشار إليه بقوله " ان يتراجعا ". واعتبر ههنا في التراجع فعليهما
وما اعتبر في التراجع هناك بقوله " فامساك " الا فعله.
ثم قال تعالى " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو
سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " (3 والمعنى إذا بلغن قرب انقضاء

1) سورة البقرة: 229.
2) سورة البقرة: 230.
3) سورة البقرة: 231.
179

عدتهن، لان بعد انقضاء العدة ليس له امساك. والامساك أيضا ههنا هو المراجعة
قبل انقضاء العدة، وبه قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، على هذا يقال
لمن دنا من البلد فلان بلغ البلد.
والمراد بالمعروف ههنا الحق الذي يدعو إليه العقل أو الشرع للمعرفة
بصحته خلاف المنكر الذي يزجر عنه العقل أو السمع لاستحالة المعرفة بصحته،
فما يجوز المعرفة بصحته معروف ومالا يجوز المعرفة بصحته منكر. والمراد به
ههنا أن يمسكها على الوجه الذي أباحه له من القيام بما يجب لها من النفقة وحسن
العشرة وغير ذلك، ولا يقصد الاضرار بها.
(فصل)
وقوله تعالى " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " معناه لا ترجعونهن لا لرغبة
فيهن بل لطلب الاصرار بهن، اما في تطويل العدة أو طلب المعاداة أو غير ذلك،
فإنه غير جائز.
ويجوز أن يكون المراد بالمضارة التضييق عليها في العدة في النفقة والمسكن،
كما قال " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن
ومن يفعل ذلك " أي المراجعة للضرر " فقد ظلم نفسه " (1 فالإشارة إلى الامساك
ضرارا.
" ولا تتخذوا آيات الله هزوا " يعنى ما ذكره من الاحكام في النكاح والطلاق
مما يجوز فيه المراجعة، ومالهم على النساء من التربص حتى يفيؤا أو يوقعوه
مما ليس لهم وغير ذلك، أي لا يتركوا العمل بحدود الله فيكونوا مقصرين،
كما يقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه ويتوانى فيه انما أنت لاعب.

1) سورة الطلاق: 6.
180

وروي عن أبي الدرداء وأبي موسى: كان الرجل يطلق أو يعتق ثم يقول انما
كنت لاعبا، [فأعلم الله أن فرائضه لا يجوز اللعب فيها، ولذلك قال النبي صلى
الله عليه وآله: من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا] (1 فقد جاز عليه. لان لحاكم يجب
عليه الحكم على ظاهر الشرع إذا شهد البينة.
والأولى أن يكون المراد لا تستخفوا بآيات الله وفروضه ولا تتخذوا آيات الله
هزوا، أي ذات استهزاء بها. وهذا توكيد، كأنه قال اعملوا، عليها ولا تستهينوا بها.
(فصل)
ثم قال " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن
أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف " (2.
قال قتادة والحسن: ان هذه الآية نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته
ان ترجع إلى الزوج الأول، فإنه كان طلقها وخرجت من العدة ثم أرادا أن
يجتمعا بعقد آخر على نكاح آخر، فمنعه من ذلك فنزلت الآية فيه. وقال السدي:
نزلت في جابر بن عبد الله عضل بنت عم له (3.
والوجهان لا يصحان على مذهبنا، لان عندنا أنه لا ولاية للأخ ولا لابن العم
عليها، وانما هي ولية نفسها فلا تأثير لعضلهما. والوجه في ذلك أن تحمل الآية
على المطلقين، لأنه خطاب لهم بقوله تعالى " وإذا طلقتم النساء "، فكأنه قال
لا تعضلوهن بأن تراجعوهن عند قرب انقضاء عدتهن ولا رغبة لكم فيهن وانما
تريدون الاضرار بهن، فان ذلك مما لا يسوغ في الدين والشرع كما قال في الأولى

1) الزيادة من م.
2) سورة البقرة: 232.
3) أسباب النزول للواحدي ص 50 - 51.
181

" ولا تمسكوهن ضرارا لتعدوا " (1.
ولا يطعن على ذلك بقوله " أن ينكحن أزواجهن " لان المعنى فيه من يصير
أزواجهن، كما أنهم لابد لهم من ذلك إذا حملوا على الزوج الأول، لان بعد
انقضاء العدة لا يكون زوجا، ويكون المراد من كان أزواجهن فما لهم الا مثل
ما عليهم.
ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر والحيلولة بينهن وبين التزويج
دون ما يتعلق بالولاية، لان العضل هو الحبس والمنع والضيق (2. وهذا الوجه
حسن، وتقدير أن ينكحن من أن ينكحن، فمحل " أن " جر عند الخليل ونصب
عند سيبويه.
وانما قال " ذلك " ولم يقل ذلكم كما تقدم من قوله " طلقتم " لان تقديره
ذلك يا محمد أو يا أيها القبيل.
" يوعظ به من كان يؤمن "، وانما خص المؤمن بالوعظ لأنه ينتفع به
فنسب إليه كما قال " هدى للمتقين " ولأنه أولى بالاتعاظ.
(فصل)
قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا
تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " (3.
اختلفوا في معنى ذلك:

1) هذا الكلام مأخوذ من مجمع البيان 1 / 332.
2) العضل هو الشدة والالتواء في الامر، وعليه تتفرع المعاني المذكورة في الكتاب -
أنظر معجم مقاييس اللغة 4 / 345.
3) سورة النساء: 19.
182

فقال الزهري والجبائي وغيرهما: هو أن يحبس الرجل المرأة عنده لا حاجة
له إليها وينتظر موتها حتى يرثها فنهى الله عن ذلك، وهو المروي عن أبي جعفر
عليه السلام (1.
وقال الحسن ومجاهد: معناه ما كان يعمله أهل الجاهلية من أن الرجل إذا
مات وترك امرأته قال ابنه من غيرها أو وليه ورثت امرأته كما ورثت ماله فألقى
عليها رداءه أنها امرأته على العقد الذي كان مع أبيها ولا يعطيها شيئا، وان شاء
زوجها وأخذ صداقها. روى ذلك أبو الجارود عن الباقر عليه السلام، قال
أبو مجلث: ثم كان هو بالميراث أولى بها من ولي نفسها (2.
أما قوله تعالى " فلا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " قيل فيمن عني
بهذا النهي أربعة أقوال:
أحدها: قال ابن عباس هو الزوج، أمره الله بتخلية سبيلها إذا لم يكن لها
فيه حاجة ولا يمسكها اضرارا بها حتى تفتدي ببعض مالها.
الثاني: قال الحسن هو الوارث، نهى عن منع المرأة من التزويج كما يفعله
الجاهلية على ما بيناه.
الثالث: قال مجاهد المراد الولي.
الرابع: قال ابن يزيد المطلق يمنعها من التزويج كما كانت قريش تفعل في
الجاهلية، ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فإذا لم توافقه فارقها ان لا تتزوج
الا باذنه ويشهد عليها بذلك ويكتب كتابا، فإذا خطبها خاطب فان أعطته وأرضته
أذن لها وان لم تعطه عضلها فنهى الله عن ذلك.
والأول أظهر الأقاويل. والعضل هو التضييق بالمنع من التزويج.

1) انظر تفسير البرهان 1 / 355.
2) تفسير البرهان 1 / 355.
183

وقوله تعالى " الا أن يأتين بفاحشة مبينة " قيل فيه قولان: أحدهما ما قال
الحسن أنه يعني به الزنا، وقال إنه إذا أطلع منها على ريبة فله أخذ الفدية.
الثاني قال ابن عباس هو النشوز. والأولى حمل الآية على كل معصية، لان العموم
يقتضي ذلك، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام (1.
قوله " لا تعضلوهن " يحتمل أن يكون جزما بالنهي ويحتمل أن يكون نصبا
بالعطف على " أن يرثوا النساء كرها "، ويقرأ بهذا التقدير عبد الله: ولا أن
تعضلوهن باثبات أن.
وقيل في سبب نزول هذه الآية ان أبا قيس بن الأسلت لما مات عن زوجته
كبشة بنت معن بن عاصم (2 أراد ابنه أن يتزوجها، فجاءت إلى النبي صلى الله
عليه وآله فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح، فنزلت
هذه الآية - ذكره أبو جعفر عليه السلام وغيره (3.
(فصل)
ثم أمر الله سبحانه المؤمنين بأداء حقوقهن التي أوجبها عليهم من امساك
بمعروف أو تسريح باحسان، فقال " وعاشروهن بالمعروف " أي خالطوهن
وخالقوهن، من العشرة التي هي المصاحبة " فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا
شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " يعني في امساكهن على كره منكم، خيرا كثيرا
من ولد يرزقكم أو عطفكم عليهن بعد الكراهية. والهاء في " فيه " يحتمل أن

1) تفسير البرهان 1 / 355.
2) كذا في النسختين، وفى المصدر " كبيثة بن معمر بن معبد "، وهو غير صحيح -
انظر الإصابة 4 / 383.
3) تفسير البرهان 1 / 355.
184

أن يرجع إلى قوله " شيئا " ويحتمل أن يعود إلى الذي تكرهونه.
" وان أردتم استبدال زوج مكان زوج " المعنى ان أردتم تخلية المرأة،
سواء استبدلت مكانها أو لم تستبدل. وانما خص الله الاستبدال بالنهي لان مع
الاستبدال قد يتوهم جواز الاسترجاع لما أعطي من حيث أن الثانية تقوم مقام
الأولى، فيكون لها ما أعطته الأولى، فيبين الله أن ذلك لا يجوز.
ومعنى قوله تعالى " وآتيتم إحداهن قنطارا " ليس ما أعطيتموهن موقوفا
على التمسك بهن دون تخليتهن، فيكون إذا أردتم الاستبدال جاز لكم أخذه،
بل هو تمليك صحيح الرجوع فيه. والمراد بذلك ما أعطي المرأة مهرا
لها ويكون دخل بها، فأما إذا لم يدخل بها وطلقها جاز له أن يسترجع نصف
ما أعطاها. فأما ما أعطاها على وجه الهبة فظاهر الآية يقتضي أنه لا يجوز الرجوع
في شئ منه، لكن علمنا بالسنة أن ذلك سائغ له ولو كان مكروها.
والقنطار المال الكثير، قيل هو دية الانسان، وقيل هو ملء جلد ثور ذهبا.
" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ". وقال السدي وابن زيد:
هذه الآية منسوخة بقوله " الا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " (1 الآية. والصحيح
أنها محكمة ليست منسوخة، إذا لا يتنافى حكما الآيتين، لان الزوج يجوز له أن
يأخذ الفدية من المختلعة، لان النشوز فيها هو في حكم المكره، في الآية الأخرى
الزوج مختار للاستبدال، فلا حاجة إلى نسخ إحداهما بالأخرى.
والافضاء في الآية كناية عن الجماع قال ابن عباس ومجاهد والسدي، وقيل إنه
الخلوة وان لم يجامع، فليس له أن يسترجع نصف المهر مع الجماع
ومع الدخول في الثيب، وأما البكر فان خلا بها ووجدت بخاتم ربها من بعد
فلها نصف المهر. وكلتا الروايتين رواهما أصحابنا واختلفوا فيه، والأول أقوى

1) سورة البقرة: 229.
185

لان الافضاء كناية عن الجماع.
وقوله تعالى " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " قيل هذا الميثاق قوله " امساك
بمعروف أن تسريح باحسان " وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام (1. وقال
مجاهد: هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج (2، وهذا الكلام وإن كان ظاهره
الاستفهام فالمراد به التهديد والتوبيخ.
(باب)
(ما يجب على المرأة في عدتها)
نستدل أولا على أن عدة الحامل وضعها، ثم نشرع في ذكره.
ان قيل: ما حجتكم على أن عدة المطلقة إذا كانت حاملا هي وضعها الحمل
دون الأقراء، فان احتججتم بقوله " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " (3
عورضتم بعموم قوله " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (4؟
الجواب عنه: انه لا خلاف بين العلماء في أن آية وضع الحمل عامة في
المطلقة وغيرها وأنها ناسخة لما تقدمها، ومما يكشف عن ذلك أن قوله " والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن "
انما هو في عدة غير الحامل، فان من استبان حملها لا يقال فيها [لا يحل لها أن
تكتم ما خلق الله في رحمها، وإذا كانت هذه خاصة] (5 في غير الحوامل لم يعارض
أنه الوضع، وهي عامة في كل حامل من مطلقة وغيرها.

1) تفسير البرهان 1 / 355.
2) هذا التفسير أيضا مروى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام - انظر المصدر السابق.
3) سورة الطلاق: 4.
4) سورة البقرة: 228.
5) الزيادة من ج.
186

وقيل في معنى قوله تعالى " ولا يحل فهن أن يكتمن ما خلق الله في
أرحامهن " ثلاثة أقوال: أحدها قال إبراهيم الحيض، وثانيها قال قتادة الحبل،
وثالثها قال ابن عمر هو الحبل والحيض. وبه قال الحسن، وهو الأقوى لأنه
أعم (1. وانما لم يحل لهن الكتمان لظلم الزوج بمنعه المراجعة في قول ابن عباس،
وقال قتادة لنسبة الولد إلى غير والده كفعل الجاهلية.
ثم شرط بقوله " ان كن يؤمن بالله واليوم الآخر " أي من كانت مؤمنة فهذه
صفتها لا أنه يلزم المؤمنة دون غيرها. وخرج ذلك مخرج التهديد.
ثم قال " وبعولتهن أحق بردهن " يعني أزواجهن أحق برجعتهن، وذلك
يختص الرجعيات وإن كان أول الآية عاما في جميع المطلقات الرجعية والبائنة،
ويسمى الزوج بعلا لأنه عال على المرأة بملكه لزوجيتها.
وقوله تعالى " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ". قال الضحاك: لهن من
حسن العشرة المعروف على أزواجهن مثل ما عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن
لهم. وقال ابن عباس: لهن على أزواجهن من التصنيع والبر بهن مثلما لأزواجهن
عليهن. وقال الطبري: على أزواجهن ترك مضارتهن كما أن ذلك عليهن لأزواجهن.
ثم قال " وللرجال عليهن درجة " أي فضيلة: منها الطاعة، ومنها أنه يملك
التخلية، ومنها زيادة الميراث على قسم المرأة والجهاد. هذا قول مجاهد وقتادة،
وقال ابن عباس: منزلة في الاخذ عليها بالعضل في المعاملة حتى قال " ما أحب
أن استوفي منها جميع حقي ليكون لي عليها الفضيلة والدرجة والمنزلة ".
وقيل إن في الآية نسخا، لان التي لم يدخل بها لا عدة عليها بلا خلاف إذا
طلقت، قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات " إلى قوله " فمالكم

1) وهو المروى عن الصادق عليه السلام - انظر مجمع البيان 1 / 326.
187

عليهن من عدة تعتدونها " (1 ولان الحامل عدتها وضع ما في بطنها لقوله تعالى
" وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " (2.
(فصل)
وجاء في التفسير أن الذي حرم على المرأة كتمانه مما خلق الله في رحمها
هو الولد، وهو أن تكون حبلى فتكتم الحبل لتطلق فتتزوج زوجا تؤثره.
ونهيت عن ذلك لامرين:
أحدهما: أنها تلحق الولد بغير والده كما ذكرناه.
والثاني: أنها تمنع الزوج فسخه في المراجعة، لان عدة الحوامل وضع
الحمل، فهي أبعد مدى من مدة القرء. ويقويه قوله " هو الذي يصوركم في
الأرحام كيف يشاء " (3 وأنكر أبو علي على إبراهيم قوله انه المحيض وقال لا يكون
الا الحبل، لان الدم لا يكون حيضا حتى يخرج من الرحم وإذا خرج فليس في
الرحم وامر الله تعالى ان لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن.
وقال محمد بن جرير: المراد الحبل الحيض ههنا، ولا معنى لصرف المعنى
إلى أحدهما، كأن الغرض نهيهن عما يكون سببا لمنع حق الزوج من مراجعتها
في العدة ان أراد، وكل واحد منهما كالاخر لان يوضع الحمل بتقضي العدة
كما ينقضي بانقضاء القرء.
الثالث: قال علي بن عيسى ان كتمت الحبل محبة لفراقه ثم علم به ردها
صاغرة عقوبة لما كتمته.
وقال عبد الجبار: الآية تدل على بقاء الزوجية بعد الطلاق الرجعي ما دامت

1) سورة الأحزاب: 49.
2) سورة الطلاق: 4.
3) سورة آل عمران: 6.
188

في العدة، فلهذا سماهن بعولا، ولان للطلاق تأثيرا يزال بالرد ما بقيت العدة.
وان الرجعة تصح من دون الاشهاد، وانما أمر الله فيها بالاشهاد احتياطا وسنة،
لان الرجل كان قد أشهد على طلاقها فإذا راجع قبل انقضاء العدة ولم يشهد فان
أنكرت المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة ولم يكن للرجل بينة على المراجعة
وكان لها بينة على الطلاق فرق الحاكم بينهما على ظاهر الشرع، فالاحتياط هو
الاشهاد في المراجعة. ويصح من دونه لأنه تعالى جعلها حقا للبعل.
وله أن يراجع بغير رضاء منها، لان الله جعله أحق بذلك. ويدل الظاهر
على أن له الرجعة في كل مطلقة يلزمها العدة ولا يكون تطليقا ثانيا.
وقال تعالى في موضع آخر " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن
وأحصوا العدة " فلما أمر بالتطليق وأن يكون بعدة تحصى بين تعالى في هذه
الآية العدة ما هي فقال " ثلاثة قروء "، قال في آيات أخر بيان العدد كلها على
ما ذكرناه.
وقد ذكرنا من قبل انه تعالى انما قال " ثلاثة قروء " ولم يقل ثلاثة أقراء
على جمع القليل لأنه لما كانت كل مطلقة مستقيمة الحيض على ما ذكرناه يلزمها
هذا، دخله معنى الكثرة فأتى ببناء الكثرة للاشعار بذلك، فالقروء كثيرة الا أنها
ثلاثة ثلاثة في القسمة.
(باب)
(ما يكون كالسبب للطلاق)
وهو على ضربين النشوز والشقاق، ولكل واحد منهما حكم دون حكم
الاخر.
أما النشوز فقد قال الله تعالى " وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا
189

فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " (1 وهو أن يكره الرجل
المرأة (2 وتريد المرأة المقام معه وتكره مفارقته ويريد الرجل طلاقها فتقول له: لا تفعل
اني أكره أن يشمت بي، فكلما يلزمك من نفقة وغيرها لي فهو لك وأعطيك
أيضا من مالي شيئا معلوما ودعني على حالتي، لا جناح عليهما أن يصالحا بينهما
على هذا الصلح.
ومعنى الآية ان امرأة علمت من زوجها كراهة بنفسه عنها إلى غيرها وارتفاعا
بها عنها اما لبغضه واما لكراهية منه شيئا منها اما دمامتها واما سنها وكبرها أو
غير ذلك.
" أو اعراضا " يعني انصرافا بوجهه أن يبغض منافعه التي كانت لها منه
" فلا جناح " ولا حرج عليهما أن يصطلحا بينهما صلحا، بأن تترك المرأة له يومها
أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك، تستعطفه بذلك
وتستديم المقام في حباله والتمسك بالعقد الذي بينه وبينها من النكاح.
ثم قال تعالى " والصلح خير " ومعناه الصلح بترك بعض الحق استدامة
للخدمة وتمسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة. وقال بعض المفسرين: الصلح
خير من النشوز والاعراض، والأول أشبه.
هذا إذا كان بطيبة من نفسها، فإن لم يكن كذلك فلا يجوز له الا ما يسوغ
في الشرع من القيام بالكسوة والنفقة والقسمة، والا يطلق. ونحوه هذه الجملة
روى مخالفونا عن علي عليه السلام وعن عمر وابن عباس وعائشة وابن جبير
وجماعة.

1) سورة النساء: 128.
2) النشوز بمعنى الارتفاع وطلب العلو، ويكون بين الزوجين للكراهة التي تحدث
بينهما، فنشوز المرأة استعصاؤها على زوجها، ونشوز الزوج استعطاؤه عليها وضربها وجفاها
والاضرار بها - لسان العرب (نشز).
190

وقال ابن عباس: خشيت سودة بنت زمعة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه
وآله، قالت: لا تطلقني وأجلسني مع نسائك ولا تقسم لي، فنزلت " وان امرأة
خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا " (1.
قال أبو جعفر عليه السلام: هي بنت محمد بن مسلمة فتزوج عليها شابة فآثر
الشابة عليها، فأبت الأولى أن تقر على ذلك، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من
أجلها يسيرا، قال: ان شئت راجعتك وصبرت على الأثرة وان شئت تركتك
حتى يخلو أجلك، ثم طلقها الثانية وفعل بها مثل ما فعله أولا، فقالت: راجعني
وأصبر على الأثرة، فراجعها فذلك الصلح الذي بلغنا أنزل الله فيه " وان امرأة
خافت من بعلها نشوزا " (2.
" وأحضرت الأنفس الشح " أي أحضرت أنفس كل واحد من الرجل والمرأة
الشح بحقه قبل صاحبه، فشح المرأة بترك حقها من النفقة والكسوة والقسمة
وغير ذلك، وشح الرجل انفاقه على التي لا يريدها.
وان قيل: وان امرأة ليس فيه ان الرجل نشز على امرأة، والخوف ليس
معه يقين.
قلنا عنه جوابان:
أحدهما: ان الخوف في الآية بمعنى العلم، تقديره وان امرأة علمت.
والثاني: أنها لا تخاف النشوز من الرجل الا وقد بدا منه ما يدل على النشوز
والاعراض من أمارات ذلك.
ثم نفى الله أن يقدر أحد على التسوية بين النساء في حبهن، لان ذلك تابع
لما فيه من الشهوة وميل الطبع، وذلك من فعل الله، وليس بذلك نفي القدرة
على التسوية والنفقة والكسوة.

1) انظر مجمع البيان 2 / 120.
2) تفسير علي بن إبراهيم 1 / 154 وانظر أيضا أسباب النزول للواحدي ص؟؟؟ 12.
191

ثم قال " وان يتفرقا يغن الله كلا من سعته " المعنى ان الزوجين اللذين تقدم
ذكرهما متى أبى كل واحد منهما مصالحة الاخر، بأن تطالب المرأة نصيبها من
النفقة والقسمة وحسن العشرة ويمتنع الزوج من اجابتها إلى ذلك لميله إلى
الأخرى ويتفرقا حينئذ بالطلاق، فان الله يغني كل واحد بفضله.
(فصل)
ثم قال تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على
بعض " (1 أي انهم يقومون بأمرهن وبتأديبهن. فدلت الآية على أنه يجب على
الرجل أن يدبر أمر المرأة وان ينفق عليها، لان فضله وانفاقه معا علة لكونه قائما
عليها مستحقا لطاعتها، فالصالحات مطيعات لله ولأزواجهن، حافظات لما غاب
عنه أزواجهن من ماله وما يجب من رعايته وحاله وما يلزم من صيانتها نفسها لله.
" واللاتي تخافون نشوزهن " النشوز ههنا معصية الزوج، وأصله الرفع
على الزوج، من قولهم " هو على نشز من الأرض " أي ارتفاع. والنشوز يكون
من قبل المرأة على زوجها خاصة، والشقاق بينهما.
" فعظوهن " فان رجعن والا فاهجروهن في المضاجع: وعن الباقر عليه
السلام: هجر المضاجعة هو أن يحول ظهره إليها (2. وقال ابن جبير هو هجر
الجماع. وقال بعضهم اهجروهن اربطوهن بالهجار أي الحبل. وهذا تعسف
في التأويل، ويضعفه قوله " في المضاجع " ولا يكون الرباط في المضاجع.
فأما الضرب فإنه غير مبرح بلا خلاف. قال أبو جعفر عليه السلام: هو

1) سورة النساء: 34.
2) تفسير البرهان 1 / 367.
192

بالسواك (1 " فان أطعنكم " فلا تطلبوا العلل في ضربهن وسوء معاشرتهن.
ثم قال " وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " (2
ويجعلا الامر إليهما على ما يريان من الصلاح [فان رأيا من الصلاح الجمع
بينهما جمعا ولم يستأذنا ولم يكن لهما مخالفتهما، وان رأيا من الصلاح] (3
التفريق بينهما لم يفرقا حتى يستأذنا، فان استأذنا هما ورضيا بالطلاق فرقا بينهما.
وان رأى أحد الحكمين التفريق والاخر الجمع لم يكن لذاك حكم حتى يصطلحا
على أمر واحد، اما جمع واما تفريق. ومعنى الآية أي ان علمتم، والأولى
والأصح أن يحمل على خلاف الامن، لأنه لو علم الشقاق يقينا لم يحتج إلى
الحكمين، فان أريد به الظن كان قريبا مما قلناه.
والشقاق الخلاف والعداوة، والحكم السلطان الذي يترافعان إليه - قاله
جماعة، وقال قوم هنا وكيلان، وعندنا أنهما حكمان. والضمير في " بينهما "
عائد إلى الحكمين، أي إذا أرادا اصلاحا في أمر الزوجين يوفق الله بينهما - قاله
ابن عباس وابن جبير.
(باب)
(ما يؤثر في أنواع الطلاق)
وهو أيضا على ضربين الخلع والمباراة. وهما يؤثران في كيفية الطلاق،
فان كل واحد منهما متى حصل مع الطلاق كانت التطليقة بائنة.
أما الخلع فإنه يكون من جهة المرأة خاصة، ويجب إذا قالت المرأة لزوجها

1) تفسير البرهان 1 / 367.
2) سورة النساء: 35.
3) الزيادة من ج.
193

ان لم تطلقني لأوطئن فراشك من تكرهه، فمتى سمع منها هذا القول أو علم
هذا من حالها وان لم تنطق به وجب عليه خلعها، وقد سمى الله تعالى في كتابه
الخلع افتداء فقال " فلا جناح عليهم فيما افتدت به " (1. والفدية العوض الذي
تبذله المرأة لزوجها تفتدي نفسها منه به. وهذا هو الخلع في الشرع، وانما
استعمل هذا (2 في الزوجين لان كل واحد منهما لباس لصاحبه.
والأصل في الخلع الكتاب والسنة، قال تعالى " ولا يحل لكم أن تأخذوا
مما آتيتموهن شيئا الا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " (3 الآية.
فإذا أراد خلعها اقترح عليها شيئا معلوما تعطيه، سواء كان ذلك مثل المهر
الذي أعطاها أو أكثر منه أو أنقص حسبما يختاره أي ذلك فعل جاز وحل له
ما يأخذ منها، فإذا تقرر بينهما على شئ معلوم طلقها بعد ذلك، وتكون تطليقة
بائنة لا يملك رجعتها الا أن ترجع المرأة فيما بذلته من مالها قبل العدة (4، فان
رجعت في شئ من ذلك في العدة كان له الرجوع أيضا في بعضها ما لم تخرج
من العدة، فإذا خرجت من العدة لم يلتفت إليها ذا رجعت فيما بذلته ولم يكن
عليها أيضا رجعة فان أراد كان بعقد جديد.
أما قوله تعالى " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الا ان يخافا "
أي الا أن يظنا، ومن ضم الياء من " يخافا " فتقديره أن لا يخافا على أن لا يقيما
حدود الله. وقال أبو علي الفارسي: خاف يتعدى إلى مفعول واحد، وذلك
المفعول يكون تارة أن وصلتها وتارة غيرها، ولا يلزم حمزة سؤال من قال ينبغي

1) سورة البقرة: 229.
2) أي اسم " الخلع " أطلق على هذا الطلاق لان الزوج كأنه يخلع لباسه عن بدنه
إذ يطلق زوجته.
3) سورة البقرة: 229.
4) أي قبل انقضاء العدة.
194

أن يكون فان خيفا، وكذا لا يلزم من خالفه لم لم يقل " فان خافا " لامرين: أحدهما
أن يكون الصرف من الغيبة إلى الخطاب كما قال " الحد لله " ثم قال " إياك نعبد "
وقال " ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ". (1 والاخر
يكون الخطاب في قوله " فان خفتم " مصروفا إلى الولاة والفقهاء الذين يقومون
بأمور الكافة.
فان قيل: كيف قال " فلا جناح عليهما " وانما الإباحة لاخذ الفدية.
قيل: لأنه لو خص بالذكر ولا وهم انها عاصية، فان كانت الفدية له جائزة
فبين الاذن لهما لئلا يوهم انه كالربا المحرم على الاخذ والمعطي.
وذكر الفراء أنه كقوله تعالى " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " (2 وانما
هو من الملح دون العذب مجاز للاتساع. وهذا هو الذي يليق بمذهبنا، لان
الذي يبيح الخلع عندنا هو ما لولاه لكانت المرأة به عاصية، فهما اشتركا في
أن لا يكون عليهما جناح إذا كانت تعطي ما قد يفي عن الزوج فيه الاثم، فاشتركت
فيه لأنها إذا أعطت ما يطرح الاثم احتاجت هي إلى مثل ذلك، أي انها نفت
[عن] (3 نفسها الاثم بأن افتدت، لأنها لو أقامت على النشوز والاضرار لأثمت
وكان عليها في النشوز جناح فخرجت عنه بالافتداء.
وأما المباراة فهي أن تكون الكراهية من جهة الرجل والمرأة معا من كل
واحد منهما لصاحبه ولم يختص ذلك واحد منهما، فمتى عرفا ذلك من حالهما
أو قالت المرأة لزوجها أنا أكره المقام معك وأنت تكره المقام معي أيضا فباريني،
أو يقول الرجل مثل ذلك على أن تعطيني كيت وكيت ويكون ذلك دون المهر،

1) سورة الروم: 39.
2) سورة الرحمن: 22.
3) زيادة يقتضيها السياق.
195

فإذا بذلته ذلك من نفسها طلقها حينئذ تطليقة. وتكون بائنة على ما ذكرناه، لان
المباراة ضرب من الخلع، والفرق بينهما ما ذكرناه، والآية تدل عليهما.
والخلع بالفدية على ثلاثة أوجه:
أحدها، أن تكون المرأة عجوزا ودميمة فيضاريها لتفتدي به نفسها، فهذا
لا يحل له الفداء، لقوله " وان أردتم استبدال زوج مكان زوج " (1 الآية.
الثاني: أن يرى الرجل امرأته على فاحشة فيضاريها لتفتدي في خلعها،
فهذا يجوز وهو معنى قوله " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الا أن
يأتين بفاحشة مبينة " (2.
الوجه الثالث: أن يخافا ألا يقيما حدود الله لسوء خلق أو لقلة نفقة من غير
ظلم أو نحو ذلك، فتجوز الفدية خلعا كان أو مباراة على ما فصلناه.
(باب ما يلحق بالطلاق)
وهو أيضا على ضربين: يوجب التحريم وان لم تقع الفرقة، وضرب
يوجب البينونة مثل الطلاق. فالقسم الأول الظهار والايلاء، والقسم الثاني
اللعان والارتداد. ونحن نفرد لكل واحد منهما فصلا مفردا انشاء الله تعالى.
(فصل)
(في الظهار)
قال الله تعالى " الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم ان أمهاتهم

1) سورة النساء: 20.
2) سورة النساء: 19.
196

الا اللائي ولدنهم " (1. وهذه الآية نزلت في خولة بنت ثعلبة (2 وزوجها أوس
أخو عبادة بن الصامت في قول قتادة، وكان مجادلتها إياه مراجعتها في أمر زوجها
وكان ظاهر منها وهي تقول كبرت سني ودق عظمي، وان أوسا تزوجني وأنا شابة
غنية فلما علت سني ظاهر مني، ورسول الله صلى الله عليه وآله ساكت لا يجيبها
لأنه لم يكن نزل عليه وحي في ذلك ولا حكم. ثم قالت: إلى الله أشكو حالي
فلي صبية ان ضممتهم إلي جاعوا وان ضمهم إليه ضاعوا. فعاودت النبي عليه
السلام فسألته رخصة (3.
ان قيل: لم قال " ولاله يسمع تحاوركما " بعد قوله " قد سمع الله قول
التي تجادلك ".
قلنا: ليس ذلك تكريرا، لان أحد المسموعين غير الاخر، والأول ما حكته
عن زوجها من الظهار والثاني ما كان يجري بينهما وبين النبي عليه السلام من
الكلام في ذلك.
قال ابن عباس: هو أول من ظاهر في الاسلام فكان الرجل في الجاهلية إذا
قال لامرأته " أنت علي كظهر أمي " حرمت عليه كما هو في الاسلام، فأنزل الله
في قصة الظهار الآيات. ولا خلاف أن الحكم عام في جميع من يظاهر وان نزلت
الآية في سبب.
وقال صاحب النظم: ان بعض المفسرين قال: ليس قولهم " أنت علي
كظهر أمي " مأخوذا من الظهر الذي هو العضو، لأنه لو كان من ذلك لكان البطن
أولى به من الظهر، بل انما هو من قولهم " ظهر علي كذا " إذا ملكه، وكما

1) سورة المجادلة: 2.
2) في بعض نصوص الحديث " خويلة "، انظر الإصابة 4 / 282.
3) أسباب النزول للواحدي ص 273.
197

يقولون " نزل عنها " إذا طلقها يقولون ظهر عليها إذا ملكها وعلاها بالزوجية وملك
النكاح، فكأنه قال ملكي إياك حرام علي كما أن ملكها علي حرام (1.
وكان أهل الجاهلية إذا قال الرجل منهم لامرأته " أنت علي كظهر أمي "
بانت منه وطلقت، وفي شريعة الاسلام لا تبين المرأة الا أنه لا يجوز له وطؤها
بل يحرم.
وهو ينقسم إلى قسمين:
قسم: يجب فيه الكفارة قبل المواقعة، وهو أنه إذا تلفظ بالظهار ولا يعلقه
بشرط أو علقه بشرط غير الوطي ثم حصل ذلك الشرط.
والقسم الثاني: أن يقول " أنت علي كظهر أمي ان واقعتك "، فإنه لا تجب
الكفارة هنا عليه الا بعد المواقعة.
والظهار لا يقع الا على المدخول بها، وشروطه كشروط الطلاق سواء، من
كون المرأة في طهر لم يقربها فيه بجماع، ويكون بمحضر شاهدين، ويقصد
التحريم، ولا يكون على الغضب ولا على الاجبار، فان اختل شئ من ذلك لم
يقع به ظهار.
ومعنى قوله " الذين يظاهرون منكم من نسائهم " أي الذين يقولون لنسائهم
" أنتن علي كظهر أمي "، ومعناه ان ظهر كن علي حرام كظهر أمي. فقال الله
" ما هن أمهاتهم " أي ليست أزواجهم أمهاتهم على الحقيقة، وليس أمهاتهم على
الحقيقة الا اللائي ولدنهم من الام وجداته والا اللائي أرضعنهم

1) قال ابن منظور: وأصله (أي الظهار) مأخوذ من الظهر، وانما خصوا الظهر دون
البطن والفخذ والفرج - وهذه أولى بالتحريم - لان الظهر موضع الركوب، والمرأة
مركوبة إذا غشيت، فكأنه إذا قال " أنت على كظهر أمي " أراد: ركوبك للنكاح على حرام
كركوب أمي للنكاح، قأقام الظهر مقام الركب لأنه مركوب، وأقام الركوب مقام النكاح لان
الناكح راكب، هذا من لطيف الاستعارات للكناية - لسان العرب (ظهر).
198

ثم أخبر أن القائل لهذا يقول منكرا قبيحا وكذبا.
ثم قال " والذين يظاهرون من نسائهم " يعني الذين يقولون هذا القول
الذي حكيناه " ثم يعودون لما قالوا " اختلفوا في معنى العود، فقال طاوس الذين
كانوا يظاهرون في الجاهلية ثم عادوا في الاسلام إلى مثل ذلك فظاهروا، وقال
قتادة العود هو العزم على عودها، وقال قوم فيه تقديم وتأخير، وتقديره والذين
يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فإن لم يجد فصيام شهرين
فإن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ثم يعودون لما قالوا، وقال آخرون معناه
ثم يعودون لنقض ما قالوا.
والذي هو مذهبنا أن العود المراد به الوطئ أو بعض القول، فالذي قاله
فإنه لا يجوز له الوطئ الا بعد الكفارة إذا كان الظهار مطلقا.
وجعل الأخفش لما قالوا من صلة " فتحرير رقبة " فالمعنى الذين يظاهرون
من نسائهم ثم يعودون فتحرير رقبة، أي عليهم تحرير رقبة لما قالوا، يعني لأجل
ما قالوا. وهذا أيضا حسن.
وقال أحمد بن يحيى: معناه الذين يعودون لتحليل ما حرموه فقد عادوا
فيه، وهو في موضعه لا حاجة إلى تقديم وتأخير.
والأقاويل كلها متقاربة، لان من عزم على غشيانها فقد عاد.
ثم بين تعالى كيفية الكفارة فقال " فتحرير رقبة "، فان أول ما يلزمه من
الكفارة عتق رقبة. والتحرير هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق، بأن
يقول المالك انه حر.
والرقبة ينبغي أن تكون مؤمنة أو في حكم المؤمن، سواء كان ذكرا أو أنثى
صغيرة أو كبيرة إذا كانت صحيحة الأعضاء، فان الاجماع واقع على أنه يقع
الاجزاء بها.
199

وتحرير الرقبة واجب في الظهار المطلق قبل المجامعة أو في المشروط بغير
الوطي، كأن يقول " ان فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي "، فإذا فعله وجب عليه
الكفارة أيضا قبل الوطي لقوله " فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " أي من قبل أن
يجامعها فيماسا، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن يكره للمظاهر أن يقبل.
والذي يقتضيه الظاهر أن لا يقربها بجماع ولا بمماسة شهوة.
" فمن لم يجد " الرقبة وعجز عنها " فصيام شهرين متتابعين "، والتتابع
عند العلماء أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما ان بدأ من
نصف شهر ونحوه لا يفطر بينهما، فان أفطر بعد أن صام شهرا ومن الثاني بعضه
ولو يوما فقد أخطأ الا أنه يبني، فان أفطر قبله لعذر بنى أيضا، وان أفطر من
غير عذر استأنف.
فمن لم يقدر على الصوم " فاطعام ستين مسكينا " يعطي عندنا لكل مسكين
نصف صاع، فإن لم يقدر أعطاه مدا.
وقال بعض المفسرين: التحرير واجب قبل المجامعة لنص القرآن في
الظهار المطلق، ولم يذكر الله في الطعام ولكن أجمعت الأمة على أنه قبل التماس.
ويمكن أن يقال: ان الآية تدل على جميع ذلك، لان الثاني ههنا بدل من الأول
والثالث من الثاني.
ومتى نوى بلفظ الظهار الطلاق لم يقع به طلاق.
والاطعام لا يجوز الا للمسكين.
(فصل)
(في الايلاء)
قال الله تعالى " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فان فاؤا فان الله
200

غفور رحيم * وان عزموا الطلاق فان الله سميع عليم " (1.
اعلم أن الايلاء لا يقع الا بعد الدخول بها، ومتى آلى بغير اسم الله أو حلف
بالطلاق أو ما أشبهه أن لا يطأها فليطأها وليس عليه كفارة.
ولا خلاف بين أهل التأويل أن معنى " يؤلون " يحلفون، والايلاء في الآية
الحلف على اعتزال النساء وترك جماعهن على وجه الاضرار بهن، وكأنه قيل
الذين يؤلون أن يعتزلوا النساء تربص أربعة أشهر.
فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته كانت المرأة بالخيار ان شاءت صبرت
عليه أبدا وان شاءت خاصمته إلى الحاكم، فان استعدت عليه (2 أنظره الحاكم
بعد رفعها إليه أربعة أشهر ليرتأي في أمرها، فان كفر وراجع والا خيره الحاكم
بعد ذلك بين أن يكفر ويعود أو يطلق، فان أقام على الاضرار بها حبسه الحاكم
وضيق عليه في المطعم والمشرب حتى يفئ ا لي أمر الله فيكفر ويرجع أو يطلق.
واليمين التي يكون بها الرجل موليا هي اليمين بالله أو بشئ من صفاته
التي لا يشركه فيها غيره على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه، وهو
المروي عن علي عليه السلام. وقال جماعة: هو في الجماع وغيره من الاضرار،
نحو الحلف أن لا يكلهما.
وقوله " حتى يفئ إلى أمر الله " أي حتى يرجع من الخطأ إلى الصواب.
فان قيل: ما الذي يكون به المولي فائيا؟.
قيل: عندنا يكون فائيا بأن يجامع، وبه قال ابن عباس. وقال الحسن:
يكون فائيا بالعزم في حال القدرة الا أنه ينبغي أن يشهد عليه فيه. وهذا عندنا
يكون للمضطر الذي لا يقدر على الجمع.
ويجب عندنا على الفائي كفارة، وبه قال ابن عباس وجماعة. ولا عقوبة

1) سورة البقرة: 226 - 227.
2) أي شكته إلى الحاكم.
201

عليه، وهو المروي عنهما عليهما السلام (1. وقال الحسن: لا كفارة عليه لقوله
تعالى " فان فاؤا فان الله غفور رحيم " فإنه ليس فيه أن يتبعه بكفارة.
ومتى حلف أنه لا يجامع أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا، لان الايلاء
على أربعة أشهر أو أكثر. ولا يجوز له وطؤها في تلك المدة وان لم يجب عليه
أحكام الايلاء الاخر.
ومتى حلف أنه لا يقربها وهي مرضعة خوفا من أن تحبل فيضر ذلك بولدها
لا يلزمه حكم الايلاء على ما ذكرناه آنفا.
ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير، ويكون تقديره: للذين يؤلون
تربص أربعة أشهر من نسائهم. ويجوز أن يكون معناه للذين يؤلون من أجل
نسائهم.
والفقهاء جعلوا " من " متعلقة بالايلاء حتى إذا استعملوها معه قالوا " آلى من
امرأته " إذا حلف الحلف الموصوف. وقال أبو مسلم: هي متعلقة باللام في
" للذين يؤلون " كما يقولون لك مني النصرة والمعونة. والصحيح أن الايلاء
يستغنى عن من، والمعروف آلى عن امرأته. والأحسن من هذا كله أن يكون
" من " ههنا للتبعيض، أي من آلى من جملة نسائه على واحدة أو على بعضهن
أو على جميعهن. وقال النحويون: اللام يفيد الاستحقاق، كما يقول اللعن للكفار.
وقوله " من نسائهم " يتعلق بالظرف كما يقول لك مني نصرة ولك مني معونة
أي للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر، وليس من يتعلق يؤلون، لان اللغة
يحكم أن يقال آلى على امرأته. وقول القائل آلى فلان من امرأته، وهم انما توهمه
من هذه الآية لما سمع الله تعالى يقول " للذين يؤلون من نسائهم " ظن أن من

1) انظر وسائل الشيعة 15 / 535.
202

يتعلق بيؤلون، فكرروا في كتاب الايلاء " إلى من امرأته " والصواب ما ذكرته.
(فصل)
(في اللعان)
قال الله تعالى " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء الا أنفسم فشهادة
أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين " (1.
إذا قذف الرجل امرأته بالفجور وادعى أنه رأى معها رجلا يفجر لها مشاهدة
ولم يقم به أربعة من الشهود كان عليه ملاعنتها، وكذلك إذا انتفى من ولد زوجة
له في حباله أو بعد فراقها مدة الحمل. ومعنى الآية ان من رمى زوجته بالزنا
تلاعنا إذا لم تكن صماء أو خرساء إذا لم يكن له شهود أربعة.
والملاعنة أن يبدأ الرجل فيحلف بالله انه صادق فيما رماها به. ويحتاج أن
يقول " أشهد بالله اني لصادق "، لان شهادته أربع مرات تقوم مقام أربعة شهود
في دفع الحد عنه، ثم يشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما
رماها به. وإذا جحدت المرأة ذلك شهدت أربع شهادات انه لمن الكاذبين فيما
رماها به، وتشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ثم يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا، كما فرق رسول الله صلى الله عليه وآله
بين هلال بن أمية وزوجته وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب، ولا ترمى هي
ولا يرمى ولدها.
وعند أصحابنا انه لا لعان بينهما ما لم يدخل بها. واللعان عندنا يحصل
بتمام اللعان من غير حكم الحاكم. وتمام اللعان انما يكون إذا تلاعن الرجل
والمرأة جميعا على ما ذكرنا.

1) سورة النور: 6.
203

(فصل)
(في الارتداد)
قال الله تعالى " من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر " (1 وقال سبحانه
" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (2.
استدل بعض المفسرين بمجموع الآيتين على أن المرتد عن الاسلام تبين
عنه امرأته لعموم الآيتين.
وعندنا أن المرتد على ضربين:
فإن كان مسلما ولد على فطرة الاسلام فقد بانت منه امرأته في الحال وقسم
ماله بين ورثته ووجب عليه القتل من غير أن يستتاب وتعتد زوجته عدة المتوفى
عنها زوجها.
وإن كان المرتد ممن كان أسلم عن كفر ثم ارتد استتيب، فان عاد كان عقد
زوجته ثابتا، وان لم يرجع كان عليه القتل، وان هرب إلى دار الحرب تعتد
زوجته ثلاثة أشهر.
والأولى أن نقول: ان هذا الحكم يعلم بالسنة، قال الله تعالى " وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " وقال تعالى " آتاكم الرسول فخذوه " فتدل
الآيتان عليه جملة أو من فحوى كل واحدة من الآيتين.
(باب الزيادات)
انما خص الله المؤمنات في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم

1) سورة البقرة: 217.
2) سورة البقرة: 221.
204

المؤمنات " (1 لئلا ينكح المؤمنون الاكل مؤمنة عفيفة، كما قال عليه السلام:
تخيروا لنطفكم. فيجب أن يتنزه عن مزاوجة الفواسق والفواجر والكوافر.
وفائدة ثم في قوله " ثم طلقتموهن " نفي التوهم عمن عسى تفاوت الحكم
بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح وبين أن يبعد عهدها من النكاح ويتراخى
بها المدة في حبالة الزوج ثم يطلقها.
وقرئ " تعتدونها " مخففا، أي تعتدون فيها، والمراد بالاعتداء ما في
قوله " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " (2.
والعامل في الظرف من قوله " إذا نكحتم " ما يتعلق به لكم، والتقدير إذا
نكحتم المؤمنات " ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن " لم يثبت لكم عليهن عدة.
والسراح الجميل هو دفع المتعة بحسب الميسرة والعشرة بغير جفوة ولا أذية.
وعن حبيب بن أبي ثابت قال: كنت قاعدا عند علي بن الحسين عليهما
السلام فجاء رجل فقال: اني قلت: يوم أتزوج فلانة فهي طالق. فقال: اذهب
وتزوجها فان الله تعالى بدأ بالنكاح قبل الطلاق، وقرأ هذه الآية (3.
مسألة:
ان قيل: قد أمر الله بطلاق العدة في قوله تعالى " فطلقوهن لعدتهن " (4،
فكيف تقدمون أنتم طلاق السنة على طلق العدة؟
قلنا: ان طلاق السنة أيضا طلاق العدة الذي ذكره الله، الا أن أصحابنا
قد اصطلحوا على أن يسموا الطلاق الذي لا يزاد عليه [بعد المراجعة طلاق

1) سورة الأحزاب: 49.
2) سورة البقرة: 231.
3) وسائل الشيعة 15 / 289 مع اختلاف يسير.
4) سورة الطلاق: 1.
205

السنة والطلاق الذي يزاد عليه] (1 شرط المراجعة طلاق العدة. ومما يعضده
ما روى بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: الطلاق أن يطلق
الرجل المرأة على طهر من غير جماع ويشهد رجلين عدلين على تطليقه ثم هو
أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء، فهذا الطلاق الذي أمر الله به في القرآن
وأمر به رسول الله في سنته، وكل الطلاق لغير العدة فليس بطلاق (2.
وعن حريز: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن طلاق السنة فقال: على طهر
من غير جماع بشاهدي عدل، ولا يجوز الطلاق الا بشاهدين والعدة، وهو قوله
" فطلقوهن لعدتهن " الآية (3.
مسألة:
عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل قال لامرأته:
أنت علي حرام. قال: لو كان لي عليه سلطان لأوجعت رأسه وقلت: الله أحلها
لك فمن حرمها عليك، انه لم يزد على أن كذب فزعم أن ما أحل الله له حرام
ولا يدخل عليه طلاق ولا كفارة. فقلت: يقول الله " يا أيها النبي لم تحرم ما
أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم
تحلة أيمانكم " (4 فجعل عليه فيه الكفارة. فقال: انما حرم عليه جاريته مارية
فحلف أن لا يقربها، وانما جعل عليه الكفارة في الحلف ولم يجعل عليه في
التحريم (5.
وهذا إشارة إلى الايلاء.

1) الزيادة من ج.
2) وسائل الشيعة 15 / 280.
3) المصدر السابق 15 / 181.
4) سورة التحريم: 1.
5) وسائل الشيعة 15 / 292.
206

مسألة:
فان قيل: ان أخلعت الزوجة في مرضها بأكثر من مهر مثلها هل يصح ذلك
أم لا؟ وان صح فهل يكون ذلك من صلب مالها أم لا؟
قلنا: الخلع على هذا صحيح، لان المرض لا يبطل المخالعة بمهر المثل
أو أكثر منه، ويكون ذلك من صلب مالها لقوله تعالى " ولا جناح عليهما فيما
افتدت به "، ولم يفرق بين حال المرض وغيره، فوجب حمله على عمومه الا
أن يدل دليل.
مسألة:
فان قيل: كيف عدى قوله " للذين يؤلون " بمن وهو معدى بعلى؟
قلنا: قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل يبعدون
من نسائهم مؤلين أو مقسمين، ويجوز أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة
أشهر، كقولك " لي منك كذا ".
والايلاء من المرأة أن يقول " والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا " أو " لا
أقربك على الاطلاق ". ولا يكون فيما دون أربعة أشهر.
فان قيل: كيف موضع الفاء في قوله تعالى " فان فاؤا ".
قيل: موقع صحيح، لان قوله " فان فاؤا " " وان عزموا " تفصيل لقوله
" للذين يؤلون "، والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: انا نزيلكم هذا الشهر
فان أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره والا لم أقم الا ريثما أتحول.
مسألة:
وقوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " أراد المدخول
207

بهن التي تحيض. واللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، فجاء
في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك.
وفي ذكر الأنفس ههنا تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، وذلك أن
أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنا على الطموح
ويجبرنها على التربص.
وفى قوله تعالى " تربص أربعة أشهر " لأنهن يستنكفن هناك فلم يحتج إلى
ذكر أنفسهن.
مسألة:
فان قيل: هل يصح الايلاء من الذمي؟
قلنا: يصح منه ذلك، لقوله تعالى " للذين يؤلون من نسائهم " وهذا عام في
الذمي والمسلم.
208

كتاب العتق وأنواعه
قال الله تعالى " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " (1.
هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة وكان النبي صلى الله عليه وآله أعتقه (2.
وانعام الله عليه الذي ذكره الله في الآية هو الاسلام وقد وفقه له، وانعام
النبي عليه السلام عتقه.
خاطب الله محمدا فقال: أذكر حين تقول للذي أنعم الله عليه بالهداية إلى
الايمان وأنعمت عليه بالعتق " أمسك عليك زوجك " أي احبسها ولا تطلقها،
لان زيدا جاء إلى النبي عليه السلام مخاصما زوجته زينب بنت جحش على أن
يطلقها، فوعظه النبي وقال له: لا تطلقها واتق الله في مفارقتها.
" وتخفي في نفسك ما الله مبديه " فالذي أخفى في نفسه أنه ان طلقها زيد.
تزوجها وخشي من اظهار هذا للناس، وكان الله أمره بتزوجها إذا طلقها زيد.
" فلما قضى زيد منها وطرا " أي لما طلق زيد امرأته أذن الله لنبيه في

1) سورة الأحزاب: 37.
2) أنظر أسباب النزول للواحدي ص 237.
209

تزويجها وأراد بذلك نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم زوجة الدعي، وهو
قوله تعالى " لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم ".
فهذه الآية تدل على أن في العتق فضلا كثيرا وثوابا جزيلا، ألا ترى أنه
تعالى كنى عنه بقوله " أنعمت عليه ".
ويستحب عتق المؤمن المستبصر، فان الانعام عليه أحسن.
ولا عتق الا ما أريد به وجه الله.
والعتق لا يصح ولا يقع بغير نية.
وكل آية تنطق بتحرير الرقبة في الكفارات فإنها تدل على جواز العتق بل
على فضله وانه من أكرم الاحسان وأفضل الانعام. ولا خلاف في جوازه والفضل
فيه بين الأمة.
والعنق على ضربين واجب وندب، ويدخل كلا وجهيه تحت قوله تعالى
" ان الله يأمر بالعدل والاحسان " (1، فالامر بالعدل على وجه الايجاب وبالاحسان
على وجه الندب.
فان قال " كل عبد أملكه فهو حر " لا يقع به عتق وان ملك في المستقبل الا
أن يجعل ذلك نذرا على نفسه.
وإذا قال " كل عبد لي قديم فهو حر " فمن كان أتى له ستة أشهر من مماليكه
صار حرا، قضى به أمير المؤمنين عليه السلام وتلا قوله تعالى " والقمر قدرناه
منازل حتى عاد كالعرجون القديم " (2، وقد ثبت أن العرجون انما ينتهي إلى
الشبه بالهلال في تقويه وضؤلته بعد ستة أشهر من أخذ الثمرة منه.

1) سورة النحل: 90.
2) سورة يس: 39.
210

(باب)
(من إذا ملك العتق في الحال)
قال الله تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم " (1
الآية.
يستدل بذلك - بعد الاجماع والسنة - على أنه متى ملك الانسان أحد
والديه أو ولده ذكرا كان أو أنثى أو أخته أو عمته أو خالته أو واحدة من
المحرمات عليه في النكاح من ذوي أرحامه انعتقوا في الحال ولم يثبت لهم
معه استرقاق على حال.
وكل من ذكرناه من المحرمات من جهة النسب فان استرقاقهم لا يثبت،
فإنهم إذا كانوا من جهة الرضاع لا يثبت استرقاقهم أيضا، لان التحريم عام لقوله
عليه السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2، على أنه لا يصح ملكهن من جهة
الرضاع.
وقوله " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " يدل فحوى
هذه الآية على تحريم البنات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت
من الرضاع على ما تقدم في كتاب النكاح.
وقوله تعالى " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " إلى قوله " وما ينبغي للرحمن
أن يتخذ ولدا ان كل من في السماوات والأرض الا آتي الرحمن عبدا " (3. فيه
دلالة على أن النبوة والعبودية لا تجتمعان، وانه إذا ملك الانسان ابنه عتق عليه.

1) سورة النساء: 23.
2) أنظر وسائل الشيعة 14 / 293.
3) سورة مريم 88 - 93.
211

ويستحب للانسان إذا ملك من سواهم من ذوي أرحامه أن يعتقه، فان ملك
أخاه أو ابن أخيه وابن أخته أو عمه أو خاله وغيرهم من الرجال فلا بأس،
والأولى عتقه.
(باب)
(من يصح ملكه ومن لا يصح)
قال الله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " (1 يدل بعمومه
على أن الكافر إذا اشترى عبدا مسلما فالبيع باطل، وكذلك ان أسلم مملوك
لذمي لا يقر عنده بل يباع من مسلم ويعطى ثمنه الذمي.
ولا بأس أن يشتري الانسان ما يسبيه الظالمون إذا كانوا مستحقين للسبي.
ولا بأس أن يشتري من أهل الحرب أولادهم. ويجوز وطئ من هذه صفتها،
وإن كان فيه الخمس لمستحقيه لم يصل إليهم لأنهم جعلوا شيعتهم من ذلك في
حل وسعة.
وكل من قامت البينة على عبوديته - سواء كان بالغا أو لم يكن - جاز تملكه،
وكذا من أقر على نفسه بالعبودية وكان بالغا. والدليل على جميع ذلك كل آية
تدل على صحة الاقرار والبينة.
والله تعالى بين وجه حكمته في إباحة الاسترقاق بقوله " أنظر كيف فضلنا
بعضهم على بعض " (2، بأن جعلنا بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، وبعضهم موالي
وبعضهم عبيدا واماءا، وبعضهم مرضى وبعضهم أصحاء بحسب ما علمنا من
مصالحهم.

1) سورة النساء: 141.
2) سورة الإسراء: 21.
212

" وللآخرة أكبر درجات " فذلك أولى أن يرغب فيه، فقد يكون كثير من
المماليك خيرا من ساداتهم وان كانوا جميعا مسلمين، وكذا الفقير والغني جميعه
نوع من التكليف.
(باب)
(بيع أمهات الأولاد)
أم الولد هي التي تلد من مولدها، سواء كان ما وضعته تاما أو غير تام وان أسقطت
نطفة. ويجوز بيعها بعد وفاة أولادها، والدليل عليه قول الله تعالى " وأحل الله
البيع وحرم الربا " (1، وهذا عام في أمهات الأولاد وغيرهن.
فان قيل: قد أجمعنا على أن قوله " وأحل الله البيع " مشروط بالملك، فان
بيع مالا يملكه لا يجوز.
قلنا: الملك باق في أم الولد بلا خلاف، لان وطؤها مباح له، ولا وجه
لاباحته الا بملك اليمين.
ويدل عليه أيضا أنه لا خلاف في جواز عتقها بعد الولد ولو لم يكن الملك
لما جاز العتق، وكذلك أجمعوا على أن قاتلها لا يجب عليه الدية وانما يجب
عليه قيمتها إذا كانت دون دية الحرة أو مثلها، وكذلك يجوز مكاتبتها وأن يأخذ
سيدها ما كاتبها عليه عوضا عن رقبتها. وهذا كله يدل على بقاء الملك.
وحمل ذلك على الرهن وان ملك الشئ المرهون هو باق للراهن وان لم
يجز بيعه، فذلك قياس ونحن لا نقول به.
على أنهم إذا سلموا بقاء الملك في أمهات الأولاد فبقاؤه يقتضي استمرار
أحكامه، وإذا ادعوا فيه النقصان طولبوا بالدلالة ولم يجدوها. على أنه لو سلمنا

1) سورة البقرة: 275.
213

نقصان الملك تبرعا لجاز أن نحمله على أنه لا يجوز بيعها مع ولدها. وهذا
ضرب من النقصان.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى " والذين هم لفروجهم حافظون * الا على
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " (1، وقد علمنا أن للمولى أن يطأ أم ولده، وانما
يطأها بملك اليمين لأنه لا عقد ههنا، وإذا جاز أن يطأها بالملك جاز أن يبيعها
بعد وفاة ولدها كما جاز ذلك في سائر جواريه.
(باب الولاء)
قال الله تعالى " فإخوانكم في الدين ومواليكم " (2 والمراد بمواليكم
مماليككم الذين أنتم بهم أولى. وهذا المعنى فيهم على العموم، فيكون الولاء
لمعتق الذي أنعم عليه بأن أعتقه تبرعا لا في واجب كما قال تعالى في حق زيد.
ولهذا نقول: الولاء انما يثبت في العتق الذي ليس بواجب بل يكون
على سبيل التبرع، وأما إن كان العتق في أمر واجب ككفارة ظهار أو كفارة قتل
أو افطار في شهر رمضان أو نذر أو يمين أو ما أشبه ذلك من جهات الواجب،
فان الولاء يرتفع منه والمعتق سائبة لا ولاء للمعتق عليه، فلا يدخل تحت الآية،
لان العتق على سبيل التبرع هو الانعام والاحسان عليه واليه، والى ذلك أشار
سبحانه بقوله " وأنعمت عليه " (3.
ولولا النصوص من أئمة الهدى عليهم السلام في هذا المعنى لما كان لاحد
أن يتكلم في مثله من القرآن (4.

1) سورة المؤمنون: 5 - 6.
2) سورة الأحزاب: 5.
3) سورة الأحزاب: 37.
4) أنظر وسائل الشيعة 16 / 38 - 39.
214

وولاء المعتق في واجب لمن تضمن جريرته خاصة، وميراثه له إذا لم يكن
له ذو رحم مسلم حر، سواء كان المتضمن لحدثه معتقه أو سواه، فقوله " والذين
عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " (1 منسوخ فيمن لا قرابة له دون من ليس له
أحد منهم.
وان لم يتضمن جريرته أحد فولاؤه للامام وحدثه الخطأ المحض بالشهادة عليه.
وليس للولاء قسم آخر سوى هذه الثلاثة، فان توفي هذا المعتق وله زوجة
فلها الربع والباقي لسيده الذي أعتقه تطوعا أو يرد إلى ضامن جريرته أو إلى
الامام إذا أعتق في واجب ولم يضمن جريرته أحد.
(باب)
(ان المملوك لا يملك شيئا)
قال الله تعالى " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ " (2 في هذه
الآية دلالة على أن المملوك لا يملك شيئا من الأموال ما دام رقا، لان قوله " مملوكا
لا يقدر على شئ " ليس المراد به نفي القدرة لأنه قادر، وانما المراد أنه لا يملك
التصرف في الأموال، وذلك عام في جميع ما يملك ويتصرف فيه.
فان ملكه مولاه شيئا ملك التصرف فيه بجميع ما أباح له سيده وأراده،
فان أصيب العبد في نفسه بما يستحق به الأرش كان له ذلك وحل له التصرف فيه
وليس له رقبة المال على وجه.
(باب المكاتبة)
قال الله تعالى " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ان

1) سورة النساء: 33.
2) سورة النحل: 75.
215

علمتم فيهم خيرا (1 ومعناه ان للانسان إذا كان له أمة أو عبد يطلب المكاتبة، وهي
أن يقوم على نفسه وينجم عليه [ليؤدي قيمة نفسه إليه، فإنه يستحب لسيده أن
يجيبه إلى ذلك ويساعده عليه] (2، لدلالة قوله " فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا "
وهذا أمر ترغيب عند الفقهاء، وأما عند الطبري وعمر بن دينار وعطاء هو
واجب عليه إذا طلب.
والمكاتبة على ضربين: مشروط ومطلق.
فصورة الكتابة المطلقة أن يقول الانسان لعبده أو أمته: قد كاتبتك على أن
تعطيني كذا وكذا دينارا أو درهما في نجوم معلومة (3 على انك إذا أديت ذلك
فأنت حر، فيرضى العبد ويكاتبه عليه، ويشهد بذلك على نفسه. فمتى أدى مال
الكتابة في النجوم التي سماها صار حرا، فان عجز عن أداء ذلك ينعتق بحساب
ما أدى ويبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه.
وان كانت الكتابة مشروطة، وهي أن يقول لبعده في حال المكاتبة: متى
عجزت عن أداء قيمتك فأنت رد في الرق ولى جميع ما أخذت منك. فمتى
عجز عن ذلك - وحد العجز هو أن يؤخر نجما إلى نجم أو يعلم من حاله أنه
لا يقدر على أداء ثمنه - فإنه يرجع رقا وجاز لمولاه رده إلى الرق.
وقوله تعالى " ان علمتم فيهم خيرا " الخير الذي يعلم منه هو القوة على
التكسب بحيث يحصل به مال الكتابة. وقال الحسن: معناه ان علمتم منهم
صدقا. وقال ابن عباس وعطا: ان علمتم لهم مالا. وقال ابن عمر: ان علمتم فيهم
قدرة على التكسب، قال لأنه إذا لم يقدر على ذلك أطعمني أوساخ أيدي الناس.

1) سورة النور: 33.
2) الزيادة من ج.
3) النجوم المعلومة هي الدفعات التي يتوافقان على اعطاء المال فيها، فان النجم
الوقت المضروب، ويقال نجمت المال إذا أديته نجوما.
216

(فصل)
ولا يجوز للسيد أن يكاتب عبده حتى يكون عاقلا، فإن كان مجنونا لم يجز
مكاتبته، لقوله تعالى " فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا "، والخير الكسب
والأمانة، لأنه تعالى قال " والذين يبتغون الكتاب " والمجنون لا ابتغاء له.
والمكاتبة مشتقة من الكتب، وهو الضم والجمع، لأنه ضم أجل إلى أجل
في عقد المعاوضة على ذلك.
ودليل جوازها قوله تعالى " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم
فكاتبوهم " فأمر بالكتابة.
فإذا ثبت هذا فمتى دعا العبد سيده إلى مكاتبته - والحال ما ذكرناه في الآية -
فالمستحب له أن يجيبه إلى ذلك وليس بواجب، سواء دعاه إلى ذلك بقيمة
مثله أو أقل أو أكثر.
واختلفوا في الامر بالكتابة مع طلب المملوك لذلك وعلم مولاه أنه فيه
خيرا: فقال عطا هو فرض، وقال مالك والثوري وابن زيد هو على الندب،
وهو مذهبنا.
وقوله تعالى " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " (1 أمر من الله أن يعطي
السيد مكاتبه من ماله الذي أنعم الله عليه، بأن يحط عنه شيئا منه. وروى أبو
عبد الرحمن السلمي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: يحط عنه ربع مال
الكتابة (2.

1) سورة النور: 33.
2) الدر المنثور 5 / 46، وفي حديث آخر فيه عن ابن عباس عنه عليه السلام قوله:
أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه.
217

وقال سفيان: أحب أن يعطيه الربع أو أقل وليس بواجب. وقال ابن عباس:
أمره بأن يضع عنه من مال الكتابة شيئا. وقال الحسن: حثه الله على معونته.
وقال قوم: المعنى آتوهم سهمهم يا أرباب الأموال من الصدقة التي ذكرها
في قوله " وفي الرقاب " ويكون السيد داخلا تحت عموم الخطاب أيضا،
وهو مذهبنا.
(فصل)
والمسلم إذا كان له عبد كافر فكاتبه لا تصح الكتابة، لقوله تعالى " ان علمتم
فيهم خيرا " وهذا لا خير فيه، ولقوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " وهذا
ليس من أهلها لان ذلك من الصدقة وليس الكافر من أهلها.
وروي أنه لكان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح، سأل مولاه
أن يكاتبه فأبى فنزلت الآية (1.
ولا تنعقد عندنا الا بأجل، ومتى كانت بغير أجل معلوم كانت باطلة [وكذلك
لابد أن يكون العوض معلوما، فإن لم يعين كانت باطلة] (2.
وأقل ما يجزي فيه أجل واحد عندنا، وعند بعضهم أجلان.
فان قيل: يجب أن تكون الكتابة جائزة بمال معجل ومؤجل كما يجوز البيع
بمال معجل ومؤجل، إذ لم يذكر الله في واحد منهما أجلا.
قلنا: لفظ الكتابة يدل على التأجيل في ذلك، إذ لو كانت معجلة لم تكتب،
ففارقت البيع. على أن الكتابة في الابة مجملة لا لها من بيان وقد بينها رسول الله
صلى الله عليه وآله على ما ذكرنا، لقوله " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما
نزل إليهم ".

1) أسباب النزول للواحدي ص 219.
2) الزيادة من م.
218

(باب التدبير)
والقرآن يدل عليه على سبيل العموم من آية العتق، لأنه جنس من أجناس
العتق. مع أنه نوع من الوصية.
والتدبير (1 هو أن يقول الرجل لمملوكه - عبده أو أمته -: أنت رق في
حياتي وحر بعد وفاتي. فإذا نوى وقال ذلك ثبت له التدبير. وهو بمنزلة الوصية
يجوز للمدبر نقضه ما دام فيه الروح، فمتى لم ينقضه ومات كان المدبر من
الثلث.
والتدبير ليس بعتق مشروط، لان العتق بالشرط لا يصح على ما قدمنا، وانما
هو وصية بالعتق منصوص عليه: مطلق ان يعلقه بموت مطلق فيقول " إذا مت
فأنت حر "، والمقيد أن يقيد الموت بشئ يخرج به عن اطلاق فيقول: " ان مت
من مرضي هذا أو في سفري هذا فأنت حر ".
وأي تدبير كان فإذا مات السيد نظرت فإذا احتمله الثلث عتق كله، فإن لم
يكن له سواه عتق ثلثه إذا لم يكن عليه دين ودبره فرارا من الدين، فان دبره
وعليه دين فرارا منه لم يصح تدبيره. فان دبره ثم استدان بعد ذلك صح التدبير
على ما ذكرنا.
وصريح التدبير أن يقول: إذا مت فأنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق. غير
أنه لابد فيه من النية لوجه الله تعالى. وسمي مدبرا عن العتق عن دبر حياة سيده
يقال دبر عبده تدبيرا، إذا علق عتقه لوتاته.

1) التدبير تحير العبد دبر وفاة المولى، أي بعد وفاته، فالمولى مدبر (بتشديد الدال
وكسره) والعبد مدبر (بتشديد الدال وفتحه).
219

(باب الزيادات)
أما قول الله تعالى " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " فمعناه أنعم تعالى عليه
بالاسلام الذي هو أعظم النعم وبتوفيقك لعتقه ومحبته " وأنعمت عليه " (1 بما
وفقك الله فيه، فهو منقلب في نعمة الله ونعمة رسوله وهو زيد بن حارثة.
وفي هذا إشارة إلى أن المستحب أن لا يعتق الانسان الا من أغنى نفسه ويقدر
على اكتساب ما يحتاج إليه.
ومن أعتق صبيا فالأفضل أن يجعل له شيئا يعينه به على معيشته وينعم به
عليه، لان النعمة إذا أتمت فهي نعمة.
ومن نذر أن يعتق رقبة مؤمنة غير معينة جاز له أن يعتق صبيا لم يبلغ الحلم
مولودا بين مؤمنين أو بحكمه.
مسألة:
وقوله تعالى " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم " الذين مبتدأ
فيكون محله رفعا أو يكون منصوبا بفعل مضمر يفسره " فكاتبوهم " (2، كقولك
زيدا فاضربه. ودخلت الفاء في ذلك لتضمنه معنى الشرط.
والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، وهو أن يقول الانسان لمملوكه:
كاتبتك على ألف درهم. فإذا أداها عتق على ما ذكرناه. ومعناه كتبت لك على
نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال ووفيته في أجله وكتبت على نفسك أن تفي
لي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق.

1) سورة الأحزاب: 37.
2) سورة النور: 33.
220

ويجوز عقد الكتابة على خدمته في مدة معلومة وعلى عمل معلوم موقت،
مثل حفر بئر في مكان بعينه معلومة الطول والعرض، كما يجوز على مال، لعموم
قوله تعالى " فكاتبوهم ان علمتم " فإنه يتناول جميع ذلك إذ لم يخصص سبحانه
مقدار الذي يكاتب عليه ولا جنسه.
221

كتاب الايمان والنذور والكفارات
اليمين المنعقدة هي أن يحلف الانسان بالله تعالى أو بشئ من أسمائه أي
اسم كان (1.
ولا ينعقد الا بالنية، فمتى تجرد عن النية كان لغوا، قال الله تعالى " لا يؤاخذكم
الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " (2.
والنية انما يراعى فيها نية المستحلف إذا كان محقا بالظاهر، فإذا كان مبطلا
على الحقيقة فيما يقول كانت النية نية الحالف.
أخبر تعالى أنه لا يؤاخذ بلغو اليمين، ولغو اليمين أن يسبق لسانه بغير عقيدة
بقلبه، كأنه أراد أن يقول " لا والله " فقال " بلى والله ".
واختلفوا في لغو اليمين في هذه الآية: فقال ابن عباس هو ما يجري على
اللسان عادة " لا والله " و " بلى والله " من غير عقد على يمين يقطع بها قال أو

1) قال ابن فارس: سمى الحلف يمينا لان المتحالفين كأن أحدهما يصفق بيمينه على يمين
صاحبه - معجم مقاييس اللغة 6 / 159.
2) سورة المائدة: 89.
222

يظلم بها أحد، وهو المروي عنهما عليهما السلام (1). وقال الحسن هي يمين الظان
وهو يرى أنه كما حلف فلا اثم عليه ولا كفارة. وعن طاوس انها يمين الغضبان
لا يؤاخذ منها بالحنث. وقال زيد بن أسلم هو قول الرجل " أعمى الله بصري "
أو " أهلك الله مالي "، فيدعو على نفسه، قال تعالى " ولو يعجل الله للناس الشر
استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم " (2.
وأصل اللغو الكلام الذي لا فائدة فيه، وكل يمين جرت مجرى مالا فائدة
فيه حتى صارت بمنزلة ما لم يقع فهي لغو ولا شئ فيها، يقال لغا يلغو إذا تكلم
بما لا فائدة فيه. واللغو في اللغة ما لم يعتد به.
والصحيح أن لغو اليمين هو الحلف عل وجه الغلط من غير قصد، مثل قول
الفائل " لا والله " و " بلى والله " على سبق اللسان.
ولا كفارة في لغو اليمين عند أكثر المفسرين والفقهاء.
وقوله تعالى " عقدتم " و " عقدتم " بالتخفيف والتشديد المراد بها تأكيد
الايمان حتى يكون بمنزلة العقد المؤكد، أو يكون المراد انكم عقدتموها على
شئ، خلافا لليمين اللغو التي ليست معقودة على شئ، لان الفقهاء يسمون
اليمين على المستقبل يمينا معقودة، وهي التي يتأتى فيها البر والحنث ويجب
فيها الكفارة.
واليمين على الماضي عندهم ضربان لغو وغموس، فاللغو كقول القائل
" والله ما فعلت كذا " في شئ يظن أنه لم يفعله، أو " والله لقد فعلت كذا " في
شئ يظن أنه فعله، فهذه اليمين لا مؤاخذة فيها. وأما الغموس (3 فهي اليمين على

1) تفسير البرهان 1 / 495.
2) سورة يونس: 11.
3) قال ابن منظور: اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الاثم ثم في النار، وقيل هي
التي لا استثناء فيها. وقيل هي اليمين الكاذبة التي تقتطع بها الحقوق. وسميت غموسا لغمسها صاحبها
في الاثم ثم في النار - لسان العرب (غمس).
223

الماضي إذا وقعت كذبا، كقول القائل " والله ما فعلت " وهو يعلم أنه قد فعله.
فهذه اليمين كفارتها الاستغفار بشرطه لا غير.
(باب)
(في أقسام الايمان وأحكامها)
لما بين سبحانه أنه لا يؤاخذ على لغو اليمين بين بعده بقوله " ولكن يؤاخذكم
بما عقدتم الايمان " انه يؤاخذ بما عقد عليه قلبه ونوى.
وقرئ " عاقدتم و " عقدتم " بلا ألف مع تخفيف القاف وتشديدها.
ومنع الطبري من القراءة بالتشديد، قال: لأنه لا يكون الا مع تكرير اليمين
والمؤاخذة تلزم من غير تكرير بلا خلاف. وهذا غير صحيح، لان تعقيد اليمين
أن يعقدها بقلبه ولفظه، ولو عقد عليها في أحدهما دون الاخر لم يكن تعقيدا،
وهو كالتعظيم الذي يكون تارة بالمضاعفة وتارة بعظم المنزلة.
قال أبو علي الفارسي: من شدد احتمل أمرين: أحدهما أن يكون لتكثير
الفعل، فقوله " ولكن يؤاخذكم " مخاطب للكثرة، فهو مثل " وغلقت الأبواب "
والاخر أن يكون عقد مثل ضعف، لأنه أراد به التكثير، كما أن ضاعف قد
لا يراد به فعل من اثنين وإن كان أصله بين الاثنين.
وقال الحسن بن علي المغربي: في التشديد فائدة، وهي أنه إذا كرر اليمين
على محلوف واحد فإذا حنث لم يلزمه الا كفارة واحدة. وفي ذلك بين الفقهاء
خلاف، والذي ذكره قوي. ومن قرأ بالتخفيف جاز أن يريد به الكثير من
الفعل والقليل.
و " عاقدتم " يراد به عقدتم، كما يقال عافاه الله. ويحتمل أن يكون يقتضى
فاعلين، كأنه قال يؤاخذكم بما عاقدتم عليه اليمين. ولما كان عاقد في المعنى
224

قريبا من عاهد عداه بعلى كما يعدى بها عاهد، قال تعالى " ومن أوفى بما عاهد
عليه الله " (1، والتقدير يؤاخذكم بالذي عاقدتم عليه، ثم حذف الراجع فقال
" عاقدتم الايمان ".
ويجوز أن تكون ما مصدرية فيمن قرأ " عقدتم " بالتخفيف والتشديد،
فلا يقتضى راجعا كما لا يقتضيه في قوله تعالى " بما كانوا يكذبون ". والقراءات
الثلاث يجب العمل بها على الوجوه الثلاثة، لان القراءتين فصاعدا إذا صحت
فالعمل بها واجب لأنها بمنزلة الآيتين والآيات، على ما ذكرنا في قوله تعالى
" يطهرن " و " يطهرن ".
(فصل)
واليمين على ثلاثة أقسام:
أحدها: عقدها طاعة وحلها معصية، فهذا يتعلق بحنثها كفارة بلا خلاف،
كقوله: والله لا أشرب خمرا ولا أقتل نفسا ظلما.
والثاني: عقدها معصية وحلها طاعة، كقوله: والله لا أصلي ولا أصوم. فإذا
حنث بالصلاة والصوم فلا كفارة عندنا عليه.
والثالث: أن يكون عقدها مباحا، كقوله: والله لا ألبس هذا
الثوب. فمتى حنث تعلق به الكفارة إذا لم يكن لبسه أولى. وكذا إذا حلف
أنه لا يشرب من لبن عنز له ولا يأكل من لحمها وليس به حاجة إلى ذلك لم يجز
له شرب لبنها ولا لبن أولادها ولا أكل لحومهن، فان اكل أو شرب مع ارتفاع
الحاجة كانت عليه الكفارة، وان اكل أو شرب لحاجة فليس عليه شئ.
فعلى هذا تكون الايمان على ضربين: أحدهما ما لا كفارة عليه، والثاني

1) سورة الفتح: 10.
225

يجب فيها الكفارة. فما لا كفارة فيه هو اليمين على الماضي إذا كان كاذبا فيه وإن كان
آثما، مثل أن يحلف أنه ما فعل وكان فعل أو حلف أنه فعل وما كان فعل، فهاتان
لا كفارة فيهما عندنا وعند أكثر الفقهاء.
وكذلك إذا حلف على مال لتقطيعه فليس له أن يقتطع ولا كفارة عليه
ويلزمه الخروج مما حلف عليه والتوبة، وهي اليمين الغموس.
ومنها أن يحلف على أمر فعل أو ترك وكان خلاف ما حلف عليه أولى من
المقام عليه، فليخالف ولا كفارة عليه عندنا. وما فيه كفارة فهو أن يحلف على أن
يفعل أو يترك وكان الوفاء به واجبا أو ندبا أو كان فعله وتركه سواء، فمتى حالف
كان عليه الكفارة.
(فصل)
وقوله " فكفارته " الهاء يحتمل رجوعها إلى أحد ثلاثة أشياء: أحدها إلى
ما مر من قوله " بما عقدتم الايمان "، الثاني إلى اللغو، الثالث إلى حنث اليمين
لأنه مدلول عليه. والصحيح الأول.
ثم قال " اطعام عشرة مساكين " وانما ذكر بلفظ التذكير تغليبا للتذكير
في كلامهم، لأنه لا خلاف أنه لو أطعم الإناث لأجزأه.
وقد حده أصحابنا بأن يعطي كل واحد مدين أو مدا منفردا أو يجمعهم على
ما هذا قدره ليأكلوا، ولا يجوز أن يعطي خمسة ما يكفي عشرة. وهل يجوز اعطاء
القيمة؟ فيه خلاف، والظاهر أنه لا يجزي والروايات تدل على جوازه.
وانما ذكر الكفارة في الآية لان التوبة من كل ذنب يعلم وجوبها على الجملة
وليس تجب الكفارة على كل ذنب، لان المعنى فكفارته الشرعية كذا، وحكم
التوبة معلوم من الشرع فلذلك لم يذكر.
226

وقوله " من أوسط ما تطعمون أهليكم " فيه قولان:
أحدهما: الخبز واللحم دون الادم، لان أفضله الخبز واللحم والتمر
وأوسطه الخبز والزيت أو السمن وأدونه الخبز والملح.
الثاني: أوسطه في المقدورات، فكنت تشبع أهلك أولا تشبعهم بحسب
اليسر والعسر فتقدير ذلك. هذا قول ابن عباس، وعندنا يلزمه أن يعطي كل
مسكين مدين، وقال قوم يكفيه مد، وروي ذلك في أخبارنا (1 فالأول للمغني
الواجد والثاني لمن دونه في الغنى.
وقوله " أو كسوتهم " فالذي رواه أصحابنا أنه ثوبان لكل واحد مئزر وقميص
وعند الضرورة قميص (2، وقال الحسن ثوب.
وقوله " أو تحرير رقبة " فالرقبة التي تجزي في هذه الكفارة كل رقبة كانت
سليمة من العاهة صغيرة كانت أو كبيرة مؤمنة كانت أو كافرة، والمؤمنة أفضل لان
الآية مبهمة مطلقة وفيه خلاف، وما قلناه قول أكثر المفسرين من الحسن وغيره
ومعنى تحرير رقبة جعلها حرة، وهذه الثلاثة الأشياء بلا خلاف، وعندنا أيضا
واجبة على التخيير، وقال قوم الواجب منها واحد لا بعينه.
والكفارة قبل الحنث لا تجزي، وفيه خلاف.
" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " أي فكفارته صيام ثلاثة أيام. وحد من
ليس بواجد هو من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، كما
ذكرناه في باب الصوم.
وصوم هذه الأيام الثلاثة متتابع، ويقويه قراءة ابن مسعود وأبي " صيام
ثلاثة أيام متتابعات ".

1) انظر الكافي 7 / 452 - 453.
2) انظر المصدر السابق.
227

وعن علي بن أبي حمزة: سألت أبا عبد الله عليه السلام عمن قال " والله "
ثم لم يف [به] قال: كفارته اطعام عشرة مساكين مدا مدا دقيق أو حنطة، أو
تحرير رقبة، أو صيام ثلاثة أيام متوالية إذا لم يجد شيئا (1. قلت: ما حد من لم
يجد، فان الرجل يسأل في كفه وهو يجد. قال: إذا لم يكن عنده فضل من قوت
عياله فهو لا يجد (2.
وعن ابن عباس: كل صيام في القرآن متتابع الا قضاء رمضان.
ثم قال " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " أي حنثتم " فاحفظوا أيمانكم " أي
احفظوها من أن تحلفوا بها، ومعناه لا تحلفوا، وقيل معناه احفظوها من الحنث،
وهو الأقوى لان الحلف مباح الا في معصية بلا خلاف، وقيل مكروه في حال
الصدق وانما الواجب ترك الحنث. وذلك يدل على أن اليمين في المعصية غير
منعقدة، لأنها لو انعقدت للزم حفظها، وإذا لم تنعقد لم تلزمه كفارة على ما بيناه.
(باب)
(حفظ اليمين)
اعلم أن من حلف بالله أنه يفعل قبيحا أو يترك واجبا لم تنعقد يمينه ولم
تلزمه كفارة إذا فعل ما حلف أنه لا يفعله أو لم يفعل ما حلف أنه يفعله. والدليل
عليه أن انعقاد اليمين حكم شرعي بغير شبهة، وقد علمنا بالاجماع انعقاد اليمين
إذا كانت على طاعة أو مباح، فإذا تعلقت بمعصية فلا اجماع ولا دليل يوجب العلم
على انعقادها، فوجب نفي انعقادها لانتفاء دليل شرعي عليه.

1) إلى هنا في الكافي 7 / 453.
2) هذا الذيل في حديث في الكافي 7 / 452 عن أبي إبراهيم (موسى بن جعفر)
عليه السلام، وظاهر السياق هنا انه حديث واحد.
228

والذي يكشف عن صحة ما ذكرناه ان الله تعالى أمرنا بقوله " واحفظوا
أيمانكم " (1 بأن نحفظ ايماننا ونقيم عليها كقوله " أوفوا بالعقود " (2، فاليمين
المنعقدة هي التي يجب حفظها والوفاء بها، ولا خلاف ان اليمين على المعصية
بخلافه فيجب أن تكون غير منعقدة، وإذا لم تنعقد فلا كفارة فيها.
وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين،
فان الله عز وجل قد نهى عن ذلك فقال " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " (3، ثم
قال: من حلف بالله فليصدق ومن لم يصدق فليس من الله، ومن حلف له بالله فليرض
ومن لم يرض فليس من الله (4.
ولو حلف الرجل أن لا يحك أنفه لابتلي به (5.
فقوله تعالى " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " يدل على أن الحلف صادقا
مكروه وفي حال الكذب محظور، لان اللفظ الواحد يجوز أن يراد به معنيان
مختلفان.
(فصل)
وقوله تعالى " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا " (6 أي لا تجعلوا
اليمين بالله مبتذلة في كل حق وباطل لان تبروا في الحلف فيها وتبقوا الاثم

1) سورة المائدة: 89.
2) سورة المائدة: 1.
3) سورة البقرة: 224.
4) هذا الحديث مقطع في الكافي 7 / 434 و 438، وفى من لا يحضره الفقيه 3 / 362
في حديثين.
5) هذه الجملة في حديث عن الصادق عليه السلام - من لا يحضره الفقيه 3 / 362.
6) سورة البقرة: 224.
229

فيها، وهو المروي عن عائشة لأنها قالت: لا تحلفوا به وان بررتم (1. وبه قال
الجبائي، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام (2.
وأصله على هذا معترض بالبذل، لا تبذل يمينك في كل حق وباطل. وقيل
في معناه قولان آخران:
أحدهما: ان العرضة علة، كأنه قيل لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر
والتقوى من حيث تعمدوا لتعتلوا بها وتقولوا قد حلفنا بالله ولم تحلفوا به. هذا
قول الحسن، وأصله في هذا الوجه الاعتراض به بينكم وبين البر والتقوى
للامتناع منهما، لأنه قد يكون المعترض بين شيئين مانعا من وصول أحدهما
إلى الاخر، فالعلة مانعة لهذا المعترض. وقيل: العرضة المعترض، قال الشاعر:
* فلا تجعليني عرضة للوائم (3 *
الثاني: عرضة حجة، كأنه قيل لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع أن تبروا
وتتقوا بأن تكونوا قد سلف منكم يمين ثم يظهر أن غيرها خير منها، فافعلوا الذي
هو خير ولا تحتجوا بما سلف من اليمين.
والأصل في هذين القولين واحد، لأنه منع من جهة الاعتراض بعلة أو حجة.
وقيل إن أصل عرضة قوة، فكأنه قيل ولا تجعلوا الحلف بالله قوة لايمانكم
في ألا تبروا، وعلى هذا يكون الأصل العرض، لان بالقوة يتصرف في العرض
والطول، فالقوة عرضة لذلك. فتقدير أول هذين القولين لا تجعل الله مانعا من

1) الدر المنثور 1 / 268 بلفظ " لا تحلفوا بالله وان نذرتم ".
2) أنظر تفسير البرهان 1 / 216.
3) استشهد به في الكشاف بلفظ " ولا تجعلوني عرضة للوائم "، وقال في شرح شواهده:
قيل البيت لأبي تمام، وفى ديوان أبى تمام:
متى كان سمعي عرضة للوائم * وكيف صغت للعاذلين غرائمي
أنظر الكشاف 4 / 517.
230

البر والتقوى باعتراضك به حالفا، وتقدير ثانيهما لا تجعل الله بما تحلف به
دائما باعتراضك بالحلف من كل حق وباطل لتكون من البررة والأتقياء.
وقيل في معنى قوله " أن تبروا " ثلاثة أقوال: أحدها لان تبروا على معنى
الاثبات، الثاني أن يكون على معنى لدفع أن تبروا أو لترك أن تبروا، الثالث
على تقدير ألا تبروا، وحذفت " لا " لأنه في معنى القسم كقول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي لا أبرح، هذا قول أبى عبيد. وأنكر هذا أبو العباس، لأنه لما كان معه
" أن " بطل أن يكون جواب القسم.
وفي موضع " أن تبروا " ثلاثة أقوال:
أحدها: أن موضعه الخفض، فحذف اللام - عن الخليل والكسائي.
الثاني: موضعه النصب، قال سيبويه لما حذف الخافض وصل الفعل -
وهو القياس.
الثالث: قال قوم موضعه الرفع على أن يكون التقدير أن تبروا وتتقوا
فتصلحوا بين الناس أولى، وحذف أولى لأنه معلوم المعنى أجازه الزجاج.
وقال بعض المفسرين: فعلى هذا إذا حلف أن لا يعطي زيدا من معروفه ثم رأى أن
بره خير أعطاه ونقض يمينه (1.
وعندنا لا كفارة عليه وجوبا وان كفر كان ندبا، وانما جاز ذلك لأنه
لا يخلو من أن يكون حلف يمينا جائزة أو غير جائزة، فان كانت جائزة فهي مقيدة
بأن لا يرى ما هو خير، فليس في هذا مناقضة للجائز، وان كانت غير جائزة فنقضها
غير مكروه.
ثم قال " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت

1) هذا الفصل إلى هنا مأخوذ من التبيان 2 / 225 - 228.
231

قلوبكم " (1 أي لا يلزمكم كفارة في الدنيا ولا عقوبة في الآخرة على اليمين التي
تقع منكم لغوا على ما ذكرناه.
(فصل)
ومن حلف أن يؤدب غلامه بالضرب جاز له تركه ولا يلزمه الكفارة،
قال الله تعالى " وان تعفوا أقرب للتقوى " (2 على أنه يمكنه التورية، وإن كان
حلف مثلا ان يضربه مائة على ما أمره الله تعالى " وخذ يبدك ضغثا فاضرب به
ولا تحنث " (3.
ومن حلف أن لا يكلم زيدا حينا وقع على ستة أشهر، والدليل على بعد
اجماع الطائفة قوله تعالى " تؤتي أكلها كل حين باذن ربها " (4. روى عن ابن
عباس أن المراد به ستة أشهر، وهذا مروي عن أئمتنا عليهم السلام (5.
وقيل: ان الاستدلال عليه من القرآن أن يقال: ان اسم " الحين " يقع في
القرآن على أشياء مختلفة: يقع على الزمان كله في قوله سبحانه " فسبحان الله
حين تمسون وحين تصبحون " (6 وانما أراد زمان الصباح والمساء كله، ومما يقع
عليه اسم الحين أيضا من قوله تعالى " ومتعناهم إلى حين " (7 فالمراد به وقت مبهم،

1) سورة البقرة: 225.
2) سورة البقرة: 237.
3) سورة ص: 44. والضغث - بكسر الضاد - قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس
- انظر صحاح اللغة 1 / 285.
4) سورة إبراهيم: 25.
5) روى ذلك في أحاديث عن الصادق عليه السلام - انظر تفسير البرهان 2 / 311.
6) سورة الروم: 17.
7) سورة يونس: 98.
232

وقال عبد الله بن عباس في قوله تعالى " تؤتي اكلها كل حين " هو ستة أشهر، ومما
يقع عليه اسم الحين أيضا أربعون سنة، قال الله تعالى " هل أتى على الانسان حين
من الدهر " (1 فذكر المفسرون انه تعالى أراد أربعين سنة (2.
ومع اشتراك اللفظ لابد من دلالة في حمله على البعض، لما روت الامامية
عن أئمتها عليهم السلام انه ستة أشهر وأجمعوا عليه كان ذلك حجة في حمله على
ما ذكرنا، والله أعلم بالصواب.
(باب)
(أقسام النذور والعهود وأحكامها)
قال الله تعالى " وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر " (3 فالآية تدل على
أن بالنذر يلزم الشئ كما يلزم بالزام الله، لأنه قرنه بالانفاق الذي أمر الله تعالى به
فقال " أنفقوا من طيبات ما كسبتم " (4. وقال الزجاج: يريد ما تصدقتم من
فرض، لأنه في ذكر الزكاة المفروضة، ألا ترى إلى قوله بعده " وما للظالمين
من أنصار ".
قال ابن جرير: الظالم هنا من أنفق ماله رياءا وسمعة، وقيل المراد بالظالم
ههنا من أنفق ماله لا كما أمر الله بوضع الصدقة في غير موضعه، لان الظلم وضع
الشئ في غير موضعه، والمعتدي في الصدقة كمانعها، والوفاء بالنذر واجب
إذا كان في طاعة الله.

1) سورة الانسان: 1.
2) انظر المفردات للراغب ص 138.
3) سورة البقرة: 270.
4) سورة البقرة: 267.
233

والنذر عقد فعل شئ من البر على النفس بشرط، كأن يقول: ان عافى الله
مريضي تصدقت بكذا لله. وهو من الخوف، لأنه يعقد على نفسه مخافة التقصير
فيه، وقال تعالى " أوفوا بالعقود " (1.
قال الزجاج: العقود أبلغ من العهود، لان العهد يكون على استيثاق وغيره
والعقد لا يكون الا العهد الذي أخذ على استيثاق، فكأنه قال: العقود التي أحكم
عقدها أوفوا بها.
وقال ابن عباس: إذا كان العقد على طاعة وجب الوفاء، وإن كان على
معصية لم يجز الوفاء بها، وإذا كان على مباح جاز الوفاء.
ولم يجب عندنا [أن] يكون كما ذكرنا في باب اليمين على الطاعة والمباح
والمعصية، قال الله تعالى " يوفون بالنذر ويخافون " (2 وقال " والموفون بعهدهم
إذا عاهدوا " (3 و " أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " (4 وقال " ومنهم من عاهد الله " (5
وقال " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسؤولا " (6.
وقال الشيخ أبو جعفر في المبسوط: النذر ضربان:
أحدهما: نذر لجاج وغضب، وصورته صورة اليمين اما أن يمنع نفسه به
فعلا أو يوجب عليها فعل شئ، فالمنع أن يقول: ان دخلت الدار فمالي صدقة.
والايجاب أن يقول: ان لم أدخل الدار فمالي صدقة. فإذا وجد شرط نذره فهو
بالخيار بين الوفاء به وبين كفارة اليمين.

1) سورة المائدة: 1.
2) سورة الانسان: 7.
3) سورة البقرة: 177.
4) سورة النحل: 91.
5) سورة التوبة: 75.
6) سورة الأحزاب: 15.
234

والضرب الثاني: نذر التبرر والطاعة، وهو على ضربين اما ان يعلقه بجزاء
أو يطلق، فالجزاء اما اسداء نعمة كقولك: ان رزقني الله ولدا فلله علي أن
أتصدق بمالي. واما دفع نقمة مثل أن تقول: ان نجاني الله من البحر فلله علي أن
أصوم كذا. فإذا وجد شرط نذره لزمه الوفاء (1.
والمطلق أن يقول: لله علي أن أتصدق بمالي أو أحج أو أصوم ونحو هذا
نذر طاعة ابتداء بغير جزاء. فعندنا انه يلزمه، وقيل لا يتعلق به حكم لان ثعلبا
قال النذر عند العرب وعد بشرط. والأول أصح عندنا.
(فصل)
واعلم أن النذر هو أن تقول " إن كان كذا فلله علي كذا " من صوم وغيره،
أو تعتقد أنه متى كان شيئا فلله علي كذا وجب عليك الوفاء به عند حصول ذلك
الشئ. ومتى لم تقل لله ولم تعتقده لله كنت مخيرا في الوفاء به وتركه.
والمعاهدة أن تقول " عاهدت الله - أو تعتقد ذلك - أنه متى كان كذا فعلي
كذا "، فمتى حصل شرطه وجب عليك الوفاء به. وكذا ان لم تقل لله ولم
تعتقده كان مستحبا الوفاء به.
وانما يكون للنذر والعهد تأثيرا إذا صدرا عن نية.
وعن محمد بن مسلم انه سأل الباقر أو الصادق عليهما السلام عن امرأة
جعلت مالها هديا وكل مملوك لها حرا ان كلمت أختها ابدا. قال: تكلمها وليس
هذا بشئ، ان هذا وشبهه من خطوات الشيطان (2، قال تعالى " يا أيها الذين
آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء
والمنكر " (3.

1) انظر المبسوط 6 / 246، وقد نقله المؤلف هنا بتغيير وتلخيص.
2) من لا يحضره الفقيه 3 / 360.
3) سورة النور: 21.
235

وقال المرتضى: لا ينعقد النذر حتى يكون معقودا بشرط متعلق به، كأن يقول
" لله علي ان أصوم أو أتصدق ان قدم فلان "، ولو قال " لله علي ان أصوم " من
غير شرط يتعلق به لم ينعقد نذره. قال: والدليل عليه أن معنى النذر في القرآن (1
يكون متعلقا بشرط، ومتى لم يتعلق بشرط لم يستحق هذا الاسم، وإذا لم يكن
ناذرا إذا لم يشترط لهم يلزمه الوفاء، لان الوفاء انما يلزم متى ثبت الاسم والمعنى.
قال: فأما استدلالهم بقوله " أوفوا بالعقود " وبقوله " أوفوا بعهد الله إذا
عاهدتم " فليس بصحيح، لأنا لا نسلم انه مع التعري من الشرط يكون عقدا
وعهدا، وانما تناولت الآيتان ما يستحق اسم العقد والعهد، فعليهم أن يدلوا عليه (2.
والاحتياط فيما قدمناه من أنه يجب الوفاء إن كان مطلقا.
والقائل إذا نذر فقال " لله علي ان أصوم كل خميس " فإنه يجب عليه صومه
أبدا لأنه أيضا في معنى المشروط كأنه قال " ان عشت ".
(فصل)
وأما قوله تعالى " وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه " (3
فما بمعنى الذي وما بعدها صلتها والعائد إليها الهاء في قوله " يعلمه ".
والنذر عقد الشئ على النفس في فعل شئ من البر بشرط أو غيره، بأن
يقول: لله علي كذا إن كان كذا، ولله علي كذا.
" فان الله يعلمه " اي يجازي عليه، فدل بذكر العلم على تحقيق الخبر
ايجازا للكلام.

1) كذا في النسختين، وفى المصدر " في اللغة ".
2) الانتصار ص 163 مع تغيير في بعض العبارات.
3) سورة البقرة: 270.
236

وقوله " أوفوا بالعقود " أمرهم بالاتمام بالوفاء لما لزمهم، والعقود هي
التي يتعاقدها الناس بينهم أو يعقدها المرء على نفسه، كعقد الايمان وعقد النكاح
وعقد الشركة وعقد البيع وعقد العهد وعقد الحلف.
وقال بعض المفسرين: أراد الوفاء بالنذور فيما يجوز الوفاء به، اي أوفوا
بالعقود الصحيحة، لأنه لا يلزم أحدا ان يفي بعقد فاسد، كالنذر في قتل مؤمن
ظلما وعصب ماله.
وقيل في قوله تعالى " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " (1 هي النذور في المعاصي.
وقوله " يوفون بالنذر " (2 الوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه. وقد ذكرنا
ان النذر عقد على فعل على وجه البر بوقوع أمر يخاف ان لا يقع.
وكفارة النذر مثل كفارة الظهار، فإن لم يقدر كان عليه كفارة اليمين والمعني
به انه إذا فات الوقت الذي نذر فيه صار بمنزلة الحنث. والله أعلم بالصواب
(باب)
(اقسام العهد)
قال الله تعالى " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " (3 اعلم أن من عاهد الله أن
يفعل واجبا أو ندبا أو ما يكون به مطيعا وجب عليه الوفاء به، فإن لم يفعل كان
عليه الكفارة. وكذلك ان عاهد على أن لا يفعل قبيحا أو لا يترك واجبا أو ندبا
ثم فعل القبيح أو ترك الطاعة وجب عليه أيضا الكفارة.
أمر الله تعالى عباده بأن يفوا بعهده إذا عاهدوا عليه، وكذلك قوله " وأوفوا

1) سورة البقرة: 168.
2) سورة الانسان: 7.
3) سورة النحل: 91.
237

بالعهد ان العهد كان مسؤولا " (1 أي مسؤولا عنه للجزاء عليه، فحذف عنه لأنه
مفهوم.
والآية أمر منه تعالى بالوفاء بالعهود التي تحسن، ومتى عقد عاقد على ما
لا يجوز نقض ذلك العقد الفاسد.
وقد يجب الشئ للنذر والعهد والوعد به، وانما يجب عند العقد والعهد
الذي يجب الوفاء به هو كل فعل حسن إذا عقد عليه وعاهد الله ليفعلنه بالعزم
عليه فإنه يصير واجبا عليه، ولا يجوز له خلافه كما ذكرناه. فأما إذا رأى غيره
خيرا منه فليأت الذي هو خير فلا كفارة عليه، وهذا يجوز فيما كان ينبغي أن
يشرط، فأما إذا أطلقه وهو لا يأمن أن يكون غيره خيرا فقد أساء باطلاق
العقد عليه.
ثم قال " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " (2 وهذا نهي منه تعالى عن حنث
الايمان بعد عقدها وتوكيدها. وفي الآية دلالة على أن اليمين على المعصية غير
منعقدة، لأنها لو كانت منعقدة لما جاز نقضها، وأجمعا على أنه يجب نقضها
ولا يجوز الوفاء به.
وقد مدح الله المؤمنين فقال " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " (3
أي محافظون ما يعاهدون عليه، والمراعاة قيام الداعي باصلاح ما يتولاه. وقال
تعالى " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل " (4 وقال " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا
من فضله لتصدقن " (5.

1) سورة الإسراء: 34.
2) سورة النحل: 91.
3) سورة المؤمنون: 8.
4) سورة الأحزاب: 15.
5) سورة التوبة: 75.
238

وانما صح أن يعاهد الله من لا يعرفه، لأنه إذا وصفه بأخص صفاته جاز أن
يعرف عهده إليه، فلذلك جاز أن يكون غير عارف، وقال تعالى " وبعهد الله
أوفوا " (1.
(باب الكفارات)
أما كفارة اليمين فقد قال الله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين من
أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة
أيام " (2 أي الثلاثة التي هي عتق رقة أو اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم فعل فقد
أجزأ مخير فيها، ومتى عجز عن جميعها كان عليه صيام ثلاثة أيام متتابعات.
وعن محمد بن مسلم سألت أبا جعفر عليه السلام عن قوله تعالى " من أوسط
ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم " قال ثوب، وعن اطعام عشرة مساكين أو اطعام
ستين مسكينا الجمع لانسان واحد يعطاه؟ قال: لا ولكن يعطي انسانا انسانا كما
قال الله تعالى. قلت: يعطيها الرجل مرأته إذا كانوا محتاجين؟ قال: نعم (3.
وفي قوله تعالى " أوسط ما تطعمون أهليكم " قال أبو عبد الله عليه السلام:
هو كما يكون [أنه يكون] في البيت من يأكل أكثر من المد ومنهم من يأكل
أقل من المد فبين ذلك، وان شئت جعلت لهم أداما، والإدام أدناه الملح
وأوسطه الخل والزيت وأرفعه اللحم (4.
والكفارة فعالة من الكفر وهو الستر والتغطية، أي الذي يستر هذا الذنب،

1) سورة الأنعام: 152.
2) سورة المائدة: 89.
3) هذا المضمون ورد في حديثين عن أبي الحسن عليه السلام - انظر تفسير البرهان
1 / 496.
4) الاستبصار 4 / 53 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
239

وهو الحنث في اليمين المعقود عليها حتى يزول عنه العقاب.
والضمير في قوله " فكفارته " يعود إلى الذنب بالحنث بأنه مدلول عنه.
وقال أبو علي الفارسي: أي كفارة ما عقدتم عليه، لان الكفارة أو جبت بالتنزيل
فيما عقد عليه دون اليمين التي لم يعقد عليها والمعقود عليه دون ما كان موقوفا
على الحنث والبر دون ما لم يكن كذلك. وقال الزجاج: أي فكفارة المؤاخذة
فيه إذا حنث أن يطعم عشرة مساكين ذكورا كانوا أو إناثا أو مختلطين.
والمراد بالرقبة واحد من المماليك، والأصل في ذلك العنق وما حولها،
وأريد ههنا جملة البدن لأنه شبه المملوك بالأسير الذي يشد رقبته فإذا اطلق
فك عن رقبته فكذا المملوك إذا أعتق. وقال الحسن: كل مملوك كالاخر في الجواز
فيجوز الكافر أيضا لان الآية مبهمة.
وخير الله الحالف بين هذه الثلاثة وفيه تفاوت، لان اشباع عشرة لا يفي
بثمن الرقبة، والله العالم الحكمة في تسوية هذا بذاك، وكذلك الكسوة
ثمنها دون الرقبة بكثير. وقال الزجاج: أكثرها نفعا أفضلها عند الله، فإن كان
الناس في جدب لا يقدرون على المأكول فالاطعام أفضل لان به قوام الحياة، والا
فالاعتاق أو الكسوة أفضل.
(فصل)
وكفارة قتل الخطأ واجبة سواء أخذ أولياء المقتول الدية من العاقلة أو
من القاتل أو تصدقوا، قال الله تعالى " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة
مؤمنة " (1، وسواء كان المقتول مؤمنا بين المؤمنين أو مؤمنا وقومه كافرون والقاتل
لا يعرف ايمانه والظاهر أنه مباح الدم أو مؤمنا وقومه معاهدون.

1) سورة النساء: 94.
240

وقيل: ان الكفارة أيضا واجبة إذا كان المقتول كافرا بين قوم معاهدين،
لعموم قوله " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير
رقبة مؤمنة " (1.
واختلفوا في وجوب الكفارة على القاتل عمدا إذا قبل منه الدية أو عفي عنه:
فقال قوم عليه الدية ولا كفارة، ومنهم من قال عليه كفارة واجبة كوجوبها في قتل
الخطأ لأنها وجبت في الخطأ بالقتل وهو حاصل في العمد.
وعندنا كفارة قتل العمد عتق رقبة واطعام ستين مسكينا وصيام شهرين متتابعين
بعد رضاء أولياء المقتول بالدية أو العفو عنه.
(فصل)
فان قيل: ما تقولون في الكفارة أهي عقوبة؟
قلنا: الصحيح أن يقال الكفارة للظهار والوطئ في نهار شهر رمضان في
الحضر وغير ذلك انها تقع موضع العقوبة لما ثبت وجوبها الا فيما يعظم فيه المأثم
فأما إن كان عقوبة فيما سواه فكلا. وهذا بين، لان تحريم الاكل في نهار شهر
رمضان في حال الحضر تكليف، فإذا أكل وكفر بعده فإنه على التكفير يستحق
المثوبة، وما هذا حاله معدود في النعم فكيف يكون عقوبة. والله أعلم بالصواب.
(باب الزيادات)
قوله تعالى " بما عقدتم الايمان " أي بتعقيدكم الايمان، وهو توثيقها بالقصد
والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة
لأنه كان معلوما عندهم. أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف.

1) سورة المائدة: 89.
241

" فكفارته " أي فكفارة حنثه ونكثه، والكفارة فعلة من شأنها أن تكفر
الخطيئة أي تسترها.
مسألة:
وقوله تعالى " أو كسوتهم " عطف على محل من أوسط، ووجهه أن من
أوسط بدل من الاطعام، والبدل هو المقصود، ولذلك كان المبدل منه في
حكم المنحي.
والكسوة ثوب يغطي العورة، ومعنى أو التخيير. وايجاب أحد الكفارات
الثلاث على الاطلاق، فإنها كلها واجبة على سبيل التخيير بأيتها أخذ المكفر
فقد أصاب.
وقوله " ذلك " أي المذكور " كفارة أيمانكم "، ولو قيل تلك كفارة أيمانكم
لكان صحيحا على معنى تلك الأشياء أو لتأنيث الكفارة.
" واحفظوا أيمانكم " أي لا تحنثوا، أراد الايمان لله الحنث فيها معصية.
وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاونا بها " كذلك " أي مثل ذلك البيان
" يبين لكم آياته " أي أعلام شريعته.
مسألة:
قوله تعالى " ولا تعجلوا الله عرضة " العرضة فعلة بمعنى مفعول كالغرقة.
والعرضة أيضا المعرض للامر. ومعنى الآية على الأول أن الرجل كان يحلف على
بعض الخيرات من صلة رحم أو اصلاح ذات بين أو احسان إلى أحد ثم يقول
أخاف الله ان أحنث في يميني فيترك البر في يمينه، فقيل لهم فلا تجعلوا الله حاجزا
لما حلفتم عليه.
242

وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه
وآله لعبد الرحمن بن سمرة: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت
الذي هو خير (1. أي على شئ مما يحلف عليه.
وقوله " أن تبروا وتتقوا وتصلحوا " عطف بيان لايمانكم، أي للأمور
المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والاصلاح بين الناس.
مسألة:
فان قيل: بم تعلقت اللام في قوله " بأيمانكم "؟
قلت: بالفعل، أي ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم حجازا. ويجوز أن
يكون اللام للتعليل ويتعلق " أن تبروا " بالفعل أو بالعرضة، أي لا تجعلوا الله
لأجل أيمانكم عرضة لايمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به، ولذلك ذم من أنزل
فيه " ولا تطع كل حلاف مهين " (2 بأشنع المذام، وجعل كونه حلافا مقدمتها وان
تبروا علة للنهي، أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لان الحلاف مجترئ
على الله غير معظم له، فلا يكون متقيا ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في وسائطهم
واصلاح ذات بينهم.
" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " (3 أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين
الذي لاقصد معه ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من اثم القصد إلى الكذب
في اليمين، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله.

1) الدر المنثور 1 / 268.
2) سورة القلم: 10.
3) سورة البقرة: 225.
243

كتاب الصيد والذباحة
قال الله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم
عليكم البر ما دمتم حرما " (1 أباح سبحانه صيد البحر مطلقا لكل أحد،
وأباح صيد البر الا في حال الاحرام وفي الحرم.
وقال تعالى " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا " (2.
وقال " إذا حللتم فاصطادوا " (3 أي إذ أحللتم من احرامكم فاصطادوا الصيد
الذي نهيتكم عنه أن تحلوه وأنتم حرم، بمعنى لا حرج عليكم في اصطياده ان
شئتم حينئذ، لان السبب المحرم قد زال، لان معناه الإباحة وان كانت هذه الصورة
مشتركة بينها وبين الامر. والله أعلم.
(باب أحكام الصيد)
أما الذي أحله بقوله تعالى " أحل لكم صيد البحر " فهو على ما قاله المفسرون

1) سورة المائدة: 96.
2) سورة البقرة: 168.
3) سورة المائدة: 2.
244

الطري منه وأما العتيق فلا خلاف في كونه حلالا.
وإذا حل صيد البحر حل صيد الأنهار، لان العرب تسمى النهر بحرا، ومنه
قوله تعالى " ظهر الفساد في البر والبحر " (1 والأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه
ملحا، لكن إذا أطلق دخل فيه الأنهار بلا خلاف.
وقوله " وطعامه متاعا لكم " يعني طعام البحر، وفي معناه قولان: أحدهما
ما قذف به ميتا، والثاني أنه المملوح. واختار الرماني الأول وقال: انه بمنزلة
ما صيد منه وما لم يصد منه، فعلى هذا تصح الفائدة في الكلام. والذي يقتضيه مذهبنا
ويليق به القول الثاني، ويكون قوله " صيد البحر " المراد به ما أخذ طريا.
وقوله " وطعامه " ما كان منه مملوحا، لان ما يقذف البحر ميتا لا يجوز عندنا
أكله لغير المحرم ولا للمحرم الا إذا قذف به البحر حيا وتحضره أنت فيجوز
لك أكله وان لم تكن صدته. وقال الزجاج: معنى قوله " وطعامه " ما ينبت
بمائه من الزرع والنبات.
وقوله " متاعا لكم " مصدر، بدل قوله " أحل لكم " على أنه قد متعكم
متاعا، أي منفعة للمقيم والمسافر.
" وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " يقتضي ظاهره تحريم الصيد في
حال الاحرام وأكل ما صاده غيره، وهو مذهبنا (2.
وصيد السمك اخراجه من الماء حيا على أي وجه كان. وما يصيده غير المسلم
لا يؤكل الا ما شوهد ولا يوثق بقوله أنه صاده حيا.
(فصل)
وقوله تعالى " يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم

1) سورة الروم: 41.
2) هذا الباب إلى هنا مأخوذ من التبيان 4 / 28.
245

من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا
اسم الله عليه " (1.
هذه أبين آية في كتاب الله في الاصطياد واكل الصيد، لأنها أفادت جواز
تعليم الجوارح للاصطياد وأكل ما يصيد الكلب ويقتل إذا كان معلما، لأنه لو لم
يقتله لما جاز أكله حتى يذكى معلما كان أو غير معلم. فمعنى الآية: يسألك يا
محمد أصحابك أي شئ أحل لهم أكله من المطاعم فقل لهم أحل لكم الطيبات، أي
ما يستلذ منها وهو حلال، وأحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح
وهي الكواسب من سباع الطير والبهائم.
ولا يجوز أن يستباح عندنا أكل شئ مما اصطاده الجوارح والسباع سوى
الكلب الا ما أدرك ذكاته.
وقوله " وما علمتم " تقديره وصيد ما علمتم، فحذف لدلالة الكلام عليه،
لان القوم كانوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله حين أمرهم بقتل الكلاب مما يحل
لهم اتخاذه منها وصيده فأنزل الله فيما سألوه عنه هذه الآية (2، فاستثنى عليه السلام
كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث مما أمر بقتله واذن في اتخاذ ذلك
(فصل)
واختلفوا في الجوارح التي ذكرت في الآية: فقال ابن عباس: الجوارح التي في قوله " وما علمتم من الجوارح مكلبين "
هو كلما علم الصيد فيتعلمه بهيمة كان أو طائرا، والفهد والبازي من الجوارح.
وروي ذلك عن علي بن الحسين وأبى جعفر عليهما السلام أيضا (3.

1) سورة المائدة: 4.
2) انظر أسباب النزول للواحدي ص 127.
3) وسائل الشيعة 6 / 223.
246

وقال قوم: عنى بذلك الكلاب خاصة دون غيرها من السباع وهو ما رواه
أصحابنا عنهما عليهما السلام (1. فأما ما عدا الكلب مما أدرك ذكاته فهو مباح
والا فلا يحل له أكله، بهذا يجمع بين الروايتين. ويقوي قولنا سبحانه
" مكلبين "، وذلك مشتق من الكلب أي في هذه الحال، يقال رجل مكلب وكلاب
إذا كان صاحب صيد بالكلاب. وفي ذلك دليل على أن صيد الكلب الذي لم
يعلم حرام إذا لم يدرك ذكاته.
وقوله " تعلمونهن مما علمكم الله " معناه تؤدبون الجوارح فتعلمونهن طلب
الصيد لكم " مما علمكم الله " من التأديب الذي أدبكم به.
وقيل: صفة المعلم أن يجيبه إذا دعاه، ويطلب الصيد إذا أرسله عليه
ولا يفر منه، ولا يأكل ما يصيده على العادة بل يمسكه إلى أن يلحقه صاحبه فيطعمه
منه ما يريده، فان أكل منه على العادة فغير معلم وصيده حرام الا أن يذكى فإنه
انما أمسكه على نفسه. وهو الذي يدل عليه أخبارنا، غير أنا نعتبر أن يكون اكل
الكلب للصيد دائما فأما إذا كان نادرا فلا بأس بأكل ما أكل منه.
وقال قوم: لاحد لتعلم الكلاب، فإذا فعل ما قلنا فهو معلم، وقد دل على
ذلك رواية أصحابنا، لأنهم رووا انه إذا أخذ كلب مجوسي فعلمه في الحال
فاصطاد به جاز اكل ما يقتله (2.
وقد بينا أن صيد غير الكلب لا يحل اكله الا ما أدرك ذكاته، فلا يحتاج أن
يراعى كيف يعلمه ولا اكله منه. ومن أجاز ذلك أجاز أكل ما اكل منه البازي
والصقر، ذهب إليه ابن عباس، وقال يعلم البازي وهو أن يرجع إلى صاحبه.
وقال قوم: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد، وهو أن يشلى على

1) الاستبصار 4 / 72.
2) انظر الأحاديث في ذلك وسائل الشيعة 16 / 227.
247

الصيد فيستشلى (1 ويأخذ الصيد ويدعوه صاحبه فيجيبه، فإذا كان كذلك كان
معلما وان اكل ثلثه.
وقوله " فكلوا مما أمسكن عليكم " يقوي قول من قال ما أكل منه الكلب
لا يجوز اكله لأنه أمسك على نفس.
ومن شرط استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه سمى عند ارساله، فإن لم
يسم عمدا لم يحل اكله الا إذا أدرك ذكاته، وحده أن يجده تتحرك عينه أو أذنه
أو ذنبه فيذكيه حينئذ بفري الحلقوم والأوداج.
(فصل)
واختلفوا في من التي في قوله تعالى " مما أمسكن عليكم " [فقال قوم هي
زائدة لان جميع ما يمسكه فهو مباح وتقديره فكلوا ما أمسكن عليكم] (2 ويجرون ذلك مجرى قوله " يكفر عنكم من سيئاتكم " (3، وأنكر قوم ذلك وقالوا من للتبعيض كما يقال " أكلت من الطعام " تريد اكلت شيئا من الطعام.
والأقوى أن تكون من للتبعيض في الآية، لان ما يمسكه الكلب من الصيد
لا يجوز أكل جميعه، لان في جملته ما هو حرام من الدم والفرث والغدد والطحال
والمرارة والمشيمة والفرج والقضيب والأنثيين والنخاع والعلباء وذات الأشاجع
والحدق والخرزة تكون في الدماغ، فإذا قال فكلوا مما أمسكن عليكم أفاد
ذلك بعض ما أمسكن. وهو الذي أباح الله أكله من اللحم وغيره.

1) استشلاه وأشلاه أي استنقذه، وكل من دعوته حتى تخرجه وتنجيه من موضع هلكة
فقد استشليته واشتليته - صحاح اللغة (شلا).
2) الزيادة من ج.
3) سورة البقرة: 271.
248

وقوله " واذكروا اسم الله عليه " صرحي في وجوب التسمية عند الارسال،
وهو قول ابن عباس.
وقوله " أمسكن عليكم " يدل على أن الكلب متى غاب عن العين مع الصيد ثم
رآه ميتا لا يجوز اكله، لأنه يجوز أن يكون مات من غير قتل الكلب له. ومتى
أخذ الكلب الصيد ومات في يده من غير أن يجرحه لم يجز اكله، وفحوى
الآية يدل على هذا أيضا.
وعموم الآية يدل على أن من لا يؤكل ذبيحته من أجناس الكفار لا يؤكل
صيده، فأما الاصطياد بكلابه المعلمة إذا صاد المسلم بها فجائز.
(باب)
(ما يحرم من الصيد)
يحرم أكل الأرنب والضب ومن صيد البحر الجري والمار ما هي وكلما
لا فلس له من السمك، والدليل عليه الاجماع المتردد.
فان استدل المخالف بقوله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا
لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " (1 وقال: ظاهر الآية يقتضي
أن جميع صيد البحر حلال وكذا صيد البر الا على المحرم خاصة.
الجواب: أن قوله " أحل لكم صيد البحر " لا يتناول ظاهره الخلاف في
هذه المسألة، لان الصيد مصدر صدت، وهو يجري مجرى الاصطياد الذي هو
فعل الصائد، وانما يسمي الوحش وما جرى مجراه صيدا مجازا أو على وجه
الخلاف لأنه محل للاصطياد سمي باسمه، وإذا كان كلامنا في تحريم لحم الصيد
فلا دلالة في إباحة الصيد لان الصيد غير المصيد.

1) سورة المائدة: 96.
249

فان قيل: قوله " وطعامه متاعا لكم وللسيارة " يقتضي أنه أراد المصيد
دون الصيد، لان لفظة " الطعام " لا تليق الا بما ذكرناه دون المصدر.
قلنا: أولا روي عن الحسن البصري في قوله " وطعامه " أنه أراد به البر
والشعير والحبوب التي تسقى بذلك، فعلى هذا سقط السؤال. ثم لو سلمنا أن
لفظة الطعام ترجع إلى لحوم ما يخرج من حيوان البحر لكان لنا أن نقول قوله
" وطعامه " يقتضي أن يكون ذلك اللحم مستحقا في الشريعة لاسم الطعام، لان
ما هو محرم في الشريعة لا يسمى بالاطلاق فيه طعاما كالخنزير والميتة، فمن
ادعى في شئ مما عددنا تحريمه أنه طعام في عرف الشريعة فليدل على ذلك
وانه يتعذر عليه.
(فصل)
وصيد أهل الكتاب محرم لا يحل اكله وكذلك ذبائحهم، قال الله تعالى
" ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق " (1، وهذا نص في موضع
الخلاف، لان من ذكرناه من الكفار لا يرون التسمية على الذبائح فرضا ولا سنة
فهم لا يسمون الله عند ارسال الكلب إلى الصيد وقد أوجبه الله بقوله " واذكروا
اسم الله عليه "، وكذلك لا يسمون على ذبائحهم، ولو سموا لكانوا مسمين
لغير الله لأنهم لا يعرفون الله بكفرهم. وهذا الجملة تقتضي تحريم ذبائحهم
وصيدهم.
فان قيل: هذا يقتضي أن لا يحل ذباحة الصبي لأنه غير عارف بالله.
قلنا: ظاهر الآية يقتضي ذلك، وانما أدخلناه فيمن يجوز ذباحته بدليل،
ولان الصبي وان لم يكن عارفا فليس بكافر ولا معتقد أن الله غير مستحق للعبادة على

1) سورة الأنعام: 121.
250

الحقيقة، وانما هو خال من المعرفة، فجاز أن يجري مجرى العارف متى ذبح
وتلفظ بالتسمية. وهذا كله موجود في الكفار.
فان اعترض علينا بقوله: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا
الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " (1 وادعى أن الطعام يدخل فيه ذبائح أهل الكتاب
وصيدهم.
فالجواب عن ذلك: ان أصحابنا يحملون قوله " وطعام الذين أوتوا الكتاب "
على ما يؤكل من حبوب وغيرها، وهذا تخصيص لا محالة، لان ما صنعوه طعاما
من ذبائحهم يدخل تحت اللفظة ولا يجوز اخراجه الا بدليل.
فإذا قلنا: نخصصه بقوله " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ". قيل
لنا: ليس أنتم بأن تخصوا آياتنا بعموم آيتكم بأولى منا إذا خصصنا الآية التي
تعلقتم بها، لعموم ظاهر الآية التي استدللنا بها.
والذي يجب أن نبينه في الفرق بين الامرين أنه قد ثبت وجوب التسمية عند
ارسال الكلب وعند الذبيحة وان من تركها عامدا لا يكون مذكيا ولا يجوز
اكل صيده وذبيحته على وجه من الوجوه، وكل من ذهب إلى هذا المذهب
من الأمة يذهب إلى تخصيص قوله " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " وان
ذبائحهم لا تدخل تحته، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع.
ولا يلزم على ما ذكرنا أن أصحاب أبي حنيفة يوافقونا على وجوب التسمية
لأنا نرى وجوب التسمية مع الذكر على كل حال، وعند أصحاب أبي حنيفة انه
جائز أن يترك التسمية من أداه اجتهاده إلى ذلك إذا استفتى هذه حاله. والامامية
يذهبون إلى أن التسمية مع الذكر لا تسقط بحال من الأحوال.
فان قيل: على هذه الطريقة التي تعتمدونها من الجمع بين المسألتين ما

1) سورة المائدة: 5.
251

أنكرتم من مخالفكم أن يعكس هذه الطريقة عليكم ويقول: قد ثبت أن التسمية
غير واجبة، أو يشير إلى مسألة قد دل الدليل على صحتها عنده، ثم يقول: وكل
من ذهب إلى هذا الحكم يذهب إلى عموم قوله تعالى " وطعام الذين أوتوا
الكتاب حل لكم "، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع.
قلنا: الفرق بيننا ظاهر، لأنا إذا بنينا على مسألة ضمنا عهدة صحتها ونفى
الشبهة عنها، ومخالفنا إذا بنى على مسألة - مثل أن التسمية غير واجبة أو غير
ذلك من المسائل - لا يمكنه أن يصحح ما بنى عليه ولا أن يورد حجة قاطعة
واضحة بيننا وبين من يتعاطى ذلك، ونحن إذا بنينا على مسألة دللنا على صحتها
بما لا يمكن دفعه بهذا على التفصيل يخرجه الاعتبار.
(باب الذبح)
الذكاة حكم شرعي، والمذكي إذا استقبل القبلة بتوجيه الذبيحة إليها أيضا
وسمى الله تعالى يكون مذكيا بيقين. فقد صرحوا بأن من ذبح يجب أن يكون
مستقبلا، ولا يناقضه قولهم: ينبغي أن يوجه الذبيحة إلى القبلة فمن لم يستقبل
بها القبلة متعمدا لم يجز أكل ذبيحته وان فعله ناسيا لم يكن به بأس، لان هذا
أيضا مما يجب أن يفعل على ما يمكن.
وقوله تعالى " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ان كنتم بآياته مؤمنين " (1 لم
يذكر الله في هذه الآية ذبحا ولكن الأمة أجمعت على أن المراد أنه مباح لكم
اكل لحوم ما ذكر اسم الله على تذكيته.
ويجب استقبال القبلة عند الذبح مع امكان ذلك على ما ذكرناه، لان من
ذبح غير مستقبل القبلة عامدا قد أتلف الروح وحل الموت في الذبيحة، وحلول

1) سورة الأنعام: 118.
252

الموت يوجب أن يكون ميتة ويدخل تحت قوله تعالى " حرمت عليكم الميتة " (1،
إذ لم تقم دلالة على حصول ا لذكاة المشروعة فيستحق هذا الاسم.
ولا يجوز أن يتولى الذباحة غير المسلمين لما ذكرناه من الأدلة. وقال
ابن عباس: لا ينفع الاسم في الشرك ولا يضر النسيان في الملة. وهذا إشارة إلى أن
ذبائح المشركين ومن ضارعهم وان ذكروا اسم الله عليها لا يجوز اكلها، وان
تذكية أهل الحق العارفين بالله المعترفين بتوحيده وعدله لا بأس بها وان ترك
ذكر اسم الله عليها نسيانا.
ومعنى قوله تعالى " ان كنتم بآياته مؤمنين " لا تأكلوا الا ما ذكر اسم الله عليه
ان كنتم مؤمنين على ما ذكرنا، وليس المراد ان كنتم مؤمنين فكلوا مما ذكر اسم
الله البتة، لان المؤمن لا يخرج من أن يكون مؤمنا وان لم يأكل اللحم قط.
فبان أن المراد النهي عن اكل ما لم يذكر اسم الله عليه والامر باعتبار تحليل
اكل ما ذكر اسم الله عليه حقيقة، يدل على ذلك قوله " ومالكم ألا تأكلوا مما
ذكر اسم الله عليه " (2، وهذا كأنه انكار على من يرى أنه لا يجوز اكل ما ذكر اسم
الله عليه، فقيل ما الذي يمنعكم من أكله، وكان المشركون ينكرون على المسلمين
أن يأكلوا ما قتلوه ويمتنعوا من اكل ما قتله الله، فأعلم تعالى أنه أحل ما ذكر اسم
الله عليه وحرم غيره من الميتة وذبيحة المشرك ومن بحكمه وقد فصل المحرمات
من المأكولات في قوله " حرمت عليكم الميتة ".
وإذا ذبحت الذبيحة فلم يخرج الدم ولم يتحرك شئ منها لم يجز أكلها،
لأنها ميتة ماتت خوفا على ما روي.

1) سورة المائدة: 3.
2) سورة الأنعام: 119.
253

(باب)
(ما يحل أو يكره لحمه)
قال الله تعالى " أحلت لكم بهيمة الأنعام " (1 قال قوم: أحلت لكم بهيمة الأنعام
الوحشية من الضباء والبقر والحمر غير المستحلين اصطيادها " وأنتم حرم الا
ما يتلى عليكم " (2 من قوله " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " (3.
والأقوى أن يحمل على عمومه في جميع ما حرمه الله في كتابه.
وقال قوم: أراد ببهيمة الانعام أجنة الانعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا
ذكيت الأمهات وهي ميتة. وعندنا أنه إذا ذبح شاة أو غيرها ووجد في بطنها
جنين فإن كان قد أشعر أو أوبر ولم يلجه الروح فذكاته ذكاة أمه وان لم يكن تاما
لم يجز اكله على حال، وإن كان فيه روح وجبت تذكيته ليحل اكله، يدل عليه الخبر
إذا روي بالنصب " ذكاة أمه " (4.
والانعام على الاطلاق مقصورة على الإبل والبقر والغنم، لان الله فصل في
سورة الأنعام ثمانية أزواج ولم يذكر الا هذه الثلاثة.
وقال عبد الجبار: ما يصاد ليس من الانعام، لأنه تعالى قال " فجزاء مثل ما
قتل من النعم " (5) فدل هذا على أن المقتول الذي جعل جزاؤه مثله من النعم ليس

1) سورة الأنعام: 1.
2) نص الآية " الا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم ".
3) سورة المائدة: 3.
4) يريد الجملة المروية " فذكاته - أي الجنين في البطن - ذكاة أمه " راجع وسائل
الشيعة 16 / 270.
5) سورة المائدة: 95.
254

من النعم. ثم عارض نفسه بقوله " غير محلي الصيد ". وأجاب بأن ذلك ليس
باستثناء، والمراد به سوى الصيد المحرم على المحرم، فكأنه تعالى بين أن
المحلل والمحرم فيه غير الامر بالاحرام وهو الصيد، وهو بيان أمر ثالث سوى ما
يحل من الانعام ويحرم.
وقال تعالى " يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا " (1 وانما جمع
الوصفين لاختلاف الفائدتين، إذ وصفه بأنه حلال يفيد أنه طلق ووصفه بأنه
طيب يفيد أنه مستلذ اما في العاجل أو الاجل.
" ولا تتبعوا خطوات الشيطان " أي آثاره وأعماله، نزل لما حرم أهل
الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة، فنهى الله عما كانوا يفعلونه وأمر المؤمنين
بخلافه (2.
والاذن في الحلال يدل على حظر الحرام على اختلاف ضروبه وأنواعه،
فحملها على العموم أولى.
والمآكل والمنافع في الأصل للناس فيها ثلاثة أقوال: فقال قوم هي على
الحظر، وقال آخرون هي على الإباحة، ومنهم من قال بعضها على الحظر وبعضها
على الإباحة. وهذه الآية دالة على إباحة المأكل الا ما دل الدليل على حظره.
وقال تعالى " والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون " (3 وهي
الإبل والبقر والغنم، أي خلقها لمنافعكم.
(فصل)
واعلم أن لحوم الخيل والبغال والحمير مكروهة غير محرمة، وبعضها أشد

1) سورة البقرة: 168.
2) انظر أسباب النزول للواحدي ص 29.
3) سورة النحل: 5.
255

كراهية من بعض. ويستدل على ذلك بقوله " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما
على طاعم يطعمه " الآية (1.
وحرم سائر الفقهاء لحوم الحمر الأهلية. واحتجوا عليه بقوله تعالى " والخيل
والبغال والحمير لتركبوها وزينة " (2 وانه تعالى أخبر انها للركوب والزينة لا
للاكل. والجواب لهم: انها وان كانت للركوب الزينة فلا يمتنع ان يكون لغير
ذلك أيضا. ألا ترى قول القائل " أعطيتك هذا الثوب لتلبسه " فلا يمنعه من جواز
بيعه أو هبته والانتفاع به من وجوه شتى. ولان المقصود بالخيل والحمير الركوب
والزينة ولى اكل لحومها مقصودا منها. ثم إنه لا يمنع من الحمل على الحمير
والخيل وان لم يذكر الحمل انما خص الركوب والزينة بالذكر.
وأكثر الفقهاء يجيزون أكل لحوم الخيل ولا يعملون بمضمون الآية. ذكر
الركوب والزينة خاصة، وقد رووا عن ابن عباس انما نهى عن لحوم الحمير كيلا
يقل الظهر، وذلك النهي محمول على الكراهة للقرينة.
(باب)
(ما حلل من الميتة وما حرم من المذكى)
اعلم أن العمل بتحليل ذلك أو تحريمه هو السمع وليس للعقل فيه مجال،
فان وردت العبارة الشرعية بتحريم ماله صفة المباح في العقل امتنع منه، وان
أباحت الشريعة ما كان محظورا قيل به. وقد نطق الكتاب بتحريم الميتة، قال الله
تعالى " حرمت عليكم الميتة " وأطلقت الأمة القول بتحريم الميتة ثم أجمعت
على أن اطلاق قولها بالتحريم وما ورد به نص الكتاب مخصوص غير محمول
على عمومه وشموله وان اختلفوا فيما هو مباح منها.

1) سورة الأنعام: 145.
2) سورة النحل: 8.
256

والميتة هي كل حيوان صامت مات أو على (1 وجه الذكاة، والذكاة مع الامكان
على ثلاثة أضرب: الإبل إذا نحرت من غير تعمد ترك التسمية، والسمك والجراد
إذا اصطيدا، لقوله عليه السلام وقد سئل عن ذكاتهما فقال: صيده ذكاته (2، وما
سوى ذلك مما يعمل فيه الذكاة إذا ذبح ولم يتعمد ترك التسمية على ما ذكرناه
في نحر الإبل.
فان قيل: ما معنى قولكم " مع التمكن " من أي شئ تحرزتم به؟
قلنا: نتحرز بذلك من الجمل والبقر وما جرى مجراهما إذا صال شئ منها
أو تردى في بئر ولم يتمكن من تذكيته، فان الامر ورد بأن ينفح (3 بالرماح أو
يرمى بالسهام أو يضرب بالسيوف حتى يموت فتلك ذكاته وان وقع في غير منحره
أو مذبحه. وتحرزنا أيضا عما نذكره، فأما إذا رميتا صيدا وقد سمينا فأصاب
السهم فقتله فإنه لا خلاف بين الأمة في ذكاته وان لم يقع في مذبحه، وكذا ما
يقتله الكلب المعلم.
وقد قال أبو عبد الله عليه السلام: أحل من الميتة عشرة أشياء: الصوف،
والشعر، والوبر، والبيض، والناب، والقرن، والظلف، والإنفحة، واللبن،
والعظم (4.
فالمباح من الميتة عندنا هذه العشرة، والدليل على ذلك اجماع الامامية
على القول بصحته والفتوى به، ويدل عليه قوله تعالى " قل لا أجد فيما أوحي

1) كذا في النسختين، والظاهر أن الصحيح " لا على وجه الذكاة ".
2) ورد ذلك في حديث عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام - انظر وسائل الشيعة
16 / 297.
3) نفحه بالرمح أو السيف: تناوله من بعيد - صحاح اللغة 1 / 412.
4) الوسائل 16 / 363 مع اختلاف يسير.
257

إلي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " (1
الآية. ولا يجوز الحكم بتحريم شئ سوى ما ذكر في الآية الا بدليل، ولا دليل
مقطوع به على تحريم شئ مما عددناه.
واما المحظور من المذكى فالمجمع عليه عشرة أشياء أيضا: الدم، والخصيتين
والقضيب، والرحم، والمثانة، والغدد، والطحال، والمرارة، والنخاع،
وذات الأشاجع وهي موضع الذبح ومجمع العروق. والدليل على ذلك اجماع
الطائفة والأخبار المتواترة عن أئمة الهدى عليهم السلام في ذلك.
فأما ما روي عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال: حرم من الشاة سبعة أشياء:
الدم، والخصيتان، والقضيب، والمثانة، [والغدد] والطحال، والمرارة (2 فإنه
لا يبطل التجاوز إلى العشرة، ولو كان لازما للزم من يقل بدليل الخطاب، لان عندهم
ان الحكم إذا علق بصفة دل انتفاء الصفة عن غيره على انتفاء الحكم.
فهذا مذهب فاسد، لأنه غير ممتنع ان يتناول دليل التحريم سبعة أشياء ويأتي
دليل آخر على زيادة عليها، كما قلناه في مواضع من العبادات الموجب منها
والمحظور، قال الله تعالى " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (3) فأوجب بهذا اللفظ
علينا فعلهما ولم يمنع من ايجاب عبادات أخر بأدلة غير هذا.
وكذا قال تعالى " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعم الا ان
يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " ثم حرم أشياء أخر بالكتاب وغيره،
فلم يمتنع قوله " قل لا أجد " من القول بتحريم أشياء أخر، وقد ورد خبر بتحريم
أربعين شيئا من المذكى ونحن نحملها على الكراهية لقرينة تدل عليه، ونعدل عن
تحريمها للاجماع على تحريم تلك العشرة التي ذكرناها فقط.

1) سورة الأنعام: 145.
2) الكافي 6 / 253 والزيادة منه.
3) سورة البقرة: 43.
258

(باب الزيادات)
قد ذكرنا انه لا يحل اكل ما قتله غير الكلب المعمل عندنا من ذوات الأربع
والطيور، قال الله تعالى " وما علمتم من الجوارح مكلبين " (1، لأنه لو لم نقل
مكلبين لدخل في الكلام كل جارح من ذي ناب وظفر. ولما اتى بلفظة " مكلبين "
وهي تخص الكلاب بلا خلاف بين أهل اللغة، علمنا أنه لم يرد بالجوارح
[جميع ما يستحق هذا الاسم وانما أراد الجوارح] (2 من الكلاب خاصة. ويجري
ذلك مجرى قولهم " ركب القوم نهارهم مبقرين محمرين "، لأنه لا يحمل وإن كان
اللفظ الأول عام الظاهر الا على ركوب البقر والحمير.
وليس لاحد ان يقول المكلب في الآية المراد به المفري للجارح الممرن
له والمغرى، فيدخل فيه الكلب وغيره. لأنه لا يعرف عن أحد من أهل اللغة
العربية ان المكلب هو المغري والمفري، بل نصوا في كتبهم على أن المكلب
صاحب الكلاب. على انا لو سلمنا انها قد استعملت في التعليم والتمرين فذلك
مجاز، وحمل القرآن على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ما أمكن.
على أن قوله تعالى " وما علمتم من الجوارح " يعني ان يكرر ويقول مكلبين
لان من حمل لفظة مكلبين على التعليم لابد من أن يلزمه التكرار، وإذا جعلنا
ذلك مختصا بالكلاب أفاد فائدة أخرى، لأنه بيان ان هذا الحكم يتعلق بالكلاب
دون غيرها.
مسألة:
روي أن أمير المؤمنين على السلام مر بسوق القصابين فنهاهم عن بيع أشياء

1) سورة المائدة: 4.
2) الزيادة من ج.
259

منها الطحال، فيقل: ما الكبد والطحال الا سواء. فقال عليه السلام له: كذبت
ايتني بتورين من ماء (1 أنبئك بخلاف ما تقول. فأتى بطحال وكبد وتورين من
ماء فقال: شق الكبد من وسطه والطحال من وسطه واجعلهما في الماء جميعا.
ففعل فلم ينقص من الكبد شيئا وصار الطحال كله دما وهي جلد وعروق، فقال:
هذا لحم وهذا دم (2.
وقال تعالى " فيه تبيان لكل شئ " (3) وقال " وما يعقلها الا العالمون " (4،
فالقرآن يدل على جميع ذلك جملة والسنة تفصيلا.
مسألة:
قوله " وما علمتم من الجوارح " عطف على الطيبات إذا كانت ما موصولة
ويجوز أن يكون " وما علمتم " كلاما مستأنفا وجعل ما شرطية وجعل جوابها
" فكلوا ".
والمكلب مؤدب الكلاب واشتق من لفظه، فان استعمل في غيره من السباع
فهو كالمجاز، فالأولى حمله على الحقيقة.

1) التور - بفتح التاء وسكون الواو - اناء من صفر أو حجارة كالإجانة قد يتوضأ منه
- لسان العرب (تور).
2) الكافي 6 / 253 مع اختلاف في ألفاظ.
3) في سورة النحل 89 قوله تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ".
4) سورة العنكبوت: 43.
260

كتاب الأطعمة والأشربة
الحلال هو الجائز من الافعال، مأخود من أنه طلق لم يعقد بحظر، والمباح مثله.
وليس كل حسن حلالا، لان أفعاله تعالى حسنة ولا يقال إنها حلال، إذ الحلال
اطلاق في الافعال لمن يجوز عليه المنع.
وقد دللنا على إباحة المآكل الا ما دل الدليل على حظره، وقد استدل بقوله
تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " (1. على أن الأشياء التي يصح
أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات من العقل خلقت في الأصل مباحة
قد أطلق لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها، كالماء من البحر والحطب ونحوه
من البر، فليست على هذا الوجه على العموم بل هو مخصوص.
وقيل: معناه خلقها لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم بالنظر إليها.

1) سورة البقرة: 29.
261

(باب)
(ما أباحه الله من الأطعمة)
قال الله تعالى " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " (1. الطيب
في الأصل خلاف الخبيث، وهو على ثلاثة أقسام: الطيب المستلذ، والطيب الجائز،
والطيب الطاهر. والأصل واحد وهو المستلذ، الا أنه وصف به الطاهر والجائز
تشبيها، إذا ما يزجر عنه العقل أو الشرع كالذي يتكد هذه النفس في الصرف عنه
وما يدعو إليه بخلاف ذلك، فالطيب الحلال والطيب النظيف.
واختلفوا في معنى الطيبات في الآية، فقال البلخي هو ما يستطاب ويستلذ
وقال الطبري وغيره هو الحلال الذي أذن لكم ربكم في اكله من الذبائح. والأول
أولى، لان الثاني يؤول تقديرا إلى ما لا فائدة فيه، وهو يسألونك ما الذي هو
حلال لهم فقيل الذي هو حلال لكم هو الحلال، وهذا لا معنى له.
وإذا كان المراد بالذي أحل المستلذ حسن أن يقال: ان الأشياء التي حرمت
غير مستلذة، لأنه لا يميل كل أحد إلى الميتة، والدم أيضا ليس من طيبات الرزق.
فقل لهم: الطيبات من المأكولات محللة لكم.
والضمير في " يسألونك " للمؤمنين الذين حرم عليهم ما فصل في الآية الأولى
من قوله " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " الآية. أي يسألونك تفصيل
المحللات فقل أحل لكم الطيبات. قال أبو علي: كل ما لم يجر ذكره في آيات
التحريم كله حلال.
وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " ونحوه قوله
" يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا "، الا أن تلك الآية خطاب للمؤمنين

1) سورة المائدة: 4.
262

وهذه خطاب لجميع الناس، يعني ان من آمن بالله لا يحل ولا يحرم الا بأمره،
ومن امتنع من اكل ما أحل الله فقد خالف أمره والله أحل المستلذ.
فقوله " كلوا " يحتمل أن يكون إباحة وتخييرا وأمرا على الايجاب أو الندب
فالامر في وقت الحاجة إليه، إذا لا يجوز لاحد أن يترك ذلك حتى يموت مختارا
مع امكان تناوله.
والاذن على أن اكل المستلذ مما ملكتم، وهو الحلال مباح لكم. وفي الآية
دلالة على النهي عن أكل الخبيث في قول بعض المفسرين، كأنه قيل كلوا من
الطيب دون الخبيث كما لو قال كلوا من الحلال لكان ذلك دالا على حظر الحرام.
وهذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم، فأما غير ذلك فلا يدل على قبح ضده،
لان قول القائل " كل من مال زيد " لا يدل على أن المراد تحريم ما عداه، لأنه
قد يكون الغرض البيان لهذا خاصة، وذكر الشرط ههنا انما هو على وجه المظاهرة
في الحجاج.
قال سبحانه " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ". والتحريم
هو العقد على مالا يجوز فعله للعبد، والتحليل حل ذلك العقد، وذلك كتحريم
السبب بالعقد على أهله فلا يجوز لهم العمل فيه، وتحليله تحليل ذلك العقد وذلك
يجوز لهم الان العمل فيه.
" ولا تعتدوا " إلى ما حرم عليكم، واعتداء الحد مجاوزة الحكمة إلى ما
نهى عنه الحكيم وزجر عنه اما بالعقل أو بالسمع.
ثم قال تعالى " وكلوا مما رزقكم الله حلال طيبا " والرزق هو ما للحي
الانتفاع به وليس لغيره معه منه.
فان قيل: إذا كان الرزق لا يكون الا حلالا فلم قال الله تعالى " حلالا طيبا ".
قلنا: ذكر ذلك على وجه التأكيد كقول " وكلم الله موسى تكليما " (1،

1) سورة النساء: 164.
263

والطيب قد يكون مستلذا، وقد اطلق في موضع آخر فقال " ومما رزقناهم ينفقون " (1.
ثم اعلم أن الطيب يقع على الحلال كقوله " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات " (2،
ويقع على الطاهر كقوله تعالى " فتيمموا صعيدا طيبا " (3، ويقع على مالا أذى
فيه كما يقال زمان طيب ومكان طيب للذي لا حر فيه ولا برد، ويقع على ما يستطاب
من المأكول يقال هذا طعام طيب لما تستطيبه النفس ولا تنفر منه.
(فصل)
ثم قال تعالى " اليوم أحل لكم الطيبات " (4 أي ما تستطيبونه ولا تستخبثونه
فردهم إلى عادتهم. ولا يمنع ان يقال المراد به مالا اذى فيه من المباح الذي
ليس بمحرم، فكأنهم لما سألوه عن الحلال فقال هو مالا يستحق المدح والذم
بتناوله، وذلك عام في جميع المباحات سواء علمت كذلك عقلا أو شرعا.
ومن اعتبر العرف والعادة اعتبر عرف أهل الترف والغنى المكنة الذين
كانوا في القرى والأمصار على عهد النبي صلى الله عليه وآله حال الاخبار دون
من كان من أهل البوادي من جفاة العرب.
فإذا قيل: عادتهم مختلفة. قلنا: اعتبرنا العام الشائع دون الشاذ النادر.
وقوله تعالى " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " مبتدأ وخبر، وذلك
يخص عند أكثر أصحابنا بالحبوب لأنها المباحة من أطعمة أهل الكتاب، فأما
ذبائحهم وكل مائع يباشرونه بأيديهم فإنه ينجس ولا يحل استعماله.
وتذكيتهم لا تصح، لان من شرط صحتها التسمية لقوله تعالى " ولا تأكلوا

1) سورة البقرة: 3.
2) سورة المؤمنون: 51.
3) سورة النساء: 43.
4) سورة المائدة: 5.
264

مما لم يذكر اسم الله عليه " (1، وهؤلاء لا يذكرون اسم الله عليه، وإذا ذكروا
قصدوا بذلك اسم من أبد شرع موسى أو عيسى عليهما السلام، أو اتخذ
عيسى أو عزيزا ابنا وكذب محمدا عليه السلام وذلك غير الله عز وجل، وقد
حرمه الله بقوله " وما أهل به لغير الله " (2.
" وطعامكم حل لهم " أي انه حلال لهم سواء قبلوه أو لم يقبلوه. وقيل:
حلال للمسلم بذله لهم، ولو كان محرما لما جاز للمسلم بذله إياهم.
وقوله " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " (3 الذكر المأمور به هو قول " بسم الله "
وقيل كل اسم يختص الله به أو صفة تختصه كقول " بسم الله الرحمن " أو " باسم
القديم " أو " باسم القادر لنفسه " أو " باسم العالم لنفسه " وما جرى مجرى ذلك
فالأول مجمع على جوازه والظاهر يقتضي جواز غيره، ولقوله تعالى " قل
ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى " (4. وهذا يقتضي
مخالفة المشركين في أكلهم ما لم يذكر اسم الله عليه، فأما ما لم يذكر عليه اسم الله
سهوا أو نسيانا من المؤمنين فإنه يجوز أكله على كل حال.
والاسم انما يكون لمسمى مخصوص بالقصد، وذلك مفتقر إلى معرفته
واعتقاده، والكفار على مذهبنا لا يعرفون الله فكيف يصح منهم تسميته تعالى،
فلا يجوز أكل ذبائح الكفار لهذا.
ثم قال " ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " (5) أي لم لا تأكلوا.
وبينهما فرق، لان " لم لا تفعل " أعم من حيث أنه يكون لحال يرجع إلى غيره

1) سورة الأنعام: 121.
2) سورة البقرة: 173.
3) سورة الأنعام: 118.
4) سورة الإسراء: 110.
5) سورة الأنعام: 119.
265

وأما " ما لك لا تفعل " فحال يرجع إليه، والمعنى أي شئ لكم في أن لا تأكلوا.
وقيل " ما منعكم ان تأكلوا " لان " مالك ان تفعل " و " مالك لا تفعل " بمعنى.
واختار الزجاج الأول.
" وقد فصل لكم ما حرم عليكم " يعني ما ذكره في مواضع من قوله " حرمت
عليكم الميتة " الآية وغيرها.
" الا ما اضطررتم إليه " معناه الا إذا خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع
وترك التناول، فحينئذ يجوز لكم تناول ما حرمه الله في قوله " حرمت عليكم
الميتة والدم ولحم الخنزير ".
واختلفوا في مقدار ما يسوغ تناوله حينئذ له: فعندنا لا يجوز أن يتناول الا
ما يمسك الرمق، ومن الناس من قال يجوز له أن يشبع منه إذا اضطر إليه وان
يحمل معه منها حتى يجد ما يأكل.
قال: وفي الآية دلالة على أن ما يكره عليه من هذه الأجناس يجوز أكله
لان المكره يخاف على نفسه مثل المضطر.
(فصل)
وقال تعالى " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون
ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر
غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه فان ربك غفور رحيم " (1.
أمر الله نبيه عليه السلام ان يقول لهؤلاء الكفار انه لا يجد فيما أوحى الله
إليه شيئا محرما الا هذه الثلاثة. وقيل: انه خص هذه الأشياء الثلاثة بذكر
التحريم مع أن غيرها محرم مما ذكره تعالى في المائدة كالمنخنقة والموقوذة

1) سورة الأنعام: 145. وفى النسختين " ان الله غفور رحيم ".
266

لان جميع ذلك يقع عليه اسم الميتة وفي حكمها، فبين هناك بالتفصيل وهنا
على الجملة.
وأجود من ذلك أن يقال: خص الله هذه الثلاثة تعظيما لتحريمها وبين ما
عداها في موضع آخر.
وقيل: انه تعالى خص هذه الأشياء بنص القرآن، وما عداه بوحي غير
القرآن.
وقيل: ان ما عداه حرم فيما بعد بالمدينة والسورة مكية.
والدم المسفوح هو المصبوب، وانما خص المسفوح بالذكر لان ما يختلط
منه باللحم مما لا يمكن تخليصه منه لقلته معفو مباح. وقال قوم: انما قال
" مسفوحا " لان الكبد يشبه الدم الجامد وان لم يكن دما فليس بحرام، فذكر
المسفوح ليبين الحلال من الحرام. فأما الطحال فإنه إذا ثقب وطرح في الماء
فيسيل كله لأنه دم وهو حرام.
وقوله " أو لحم خنزير " فإنه وان خص لحمه بالذكر هنا فان جميع ما
يكون منه من الشحم والجلد والشعر محرم.
" فإنه رجس " يعني ما تقدم ذكره، ولذلك كنى عنه بكناية الذكر. والرجس
كل مستقذر منفور عنه.
وقوله " أو فسقا " عطف على قوله " أو لحم خنزير "، والمراد بالفسق ما
أهل لغير الله به. وكان ابن عباس وعائشة يتعلقان بظاهر هذه الآية في إباحة
لحوم الحمير.
ثم قال " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " قيل فيه قولان: أحدهما غير طالب
بأكله التلذذ، والثاني غير قاصد لتحليل ما حرمه الله. وروى أصحابنا ان المراد
به الخارج على الإمام العادل وقطاع الطريق فإنهم لا يرخصون ذلك على
كل حال.
267

" ولا عاد " أي لا يعتدي بتجاوز ذلك إلى ما حرمه الله. والضرورة التي تبيح
أكل الميتة هي خوف التلف على النفس من الجوع.
وقد استدل قوم بهذه الآية على إباحة ما عدا هذه الشياء المذكورة. وهذا
ليس بشئ لان هنا محرمات كثيرة غيرها، كالسباع وكل ذي ناب وكل ذي مخلب
وغير ذلك من البهائم والمسوخ مثل الفيلة والقردة.
ويمكن ان يستدل بهذه الآية على تحريم الانتفاع بجلد الميتة، فإنه داخل
تحت التعدي.
(فصل)
وقوله تعالى " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم
حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم " (1
أخبر تعالى انه حرم على اليهود في أيام موسى عليه السلام كل ذي ظفر. قال
ابن عباس: انه كل ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والبط والإوز.
وأخبر تعالى أيضا انه كان حرم عليهم شحوم البقر والغنم مما في أجوافهما،
واستثنى من ذلك بقوله " الا ما حملت ظهورهما "، فإنه لم يحرمه. واستثنى
أيضا ما على الحوايا من الشحم فإنه لم يحرمه. واستثنى أيضا من جملة ما حرم
ما اختلط بعظم، وهو الشحم الجنب والالية لأنه على العصعص.
وهذه الأشياء وان كانت محرمة في شرع موسى عليه السلام فقد نسخ الله
تحريمها وأباحها على لسان محمد صلى الله عليه وآله.
ثم قال تعالى " ذلك جزيناهم ببغيهم " معناه انا حرمنا ذلك عليهم عقوبة
لهم على بغيهم.

1) سورة الأنعام: 146.
268

فان قيل: كيف يكون التكيف عقابا وهو تابع للمصلحة، ومع ذلك فهو
تعريض للثواب.
قلنا: انما سماه عقوبة لان عظيم ما أتوه من المعاصي اقتضى تحريم ذلك
فيه عقوبة وتعيين المصلحة وحصول اللطف، ولولا جرمهم لما اقتضت المصلحة
ذلك.
" وانا لصادقون " يعني فيما أخبر به من أن ذلك عقوبة لأوائلهم ومصلحة لمن
بعدهم إلى وقت النسخ. والصحيح أن تحريم ذلك لما كان مصلحة عند هذا
الاقدام منهم جاز ان نقول حرم عليهم بظلمهم، لما روي أن العبد ليحرم الرزق
بالذنب يصيبه.
(باب الأطعمة المحظورة)
قال الله تعالى " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير
الله به " (1 الآية. بين تعالى في هذه الآية ما استثناه في قوله " أحلت لكم بهيمة الأنعام
الا ما يتلى عليكم " (2 فهذا مما تلاه علينا فقال سبحانه مخاطبا للمكلفين
" حرمت عليكم الميتة " وهي كلما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير
تذكية. واستثنى النبي صلى الله عليه وآله منها السمك والجراد فقال: ميتتان
مباحتان (3.
ثم قال تعالى " والدم " أي حرم عليكم الدم، فقيل: انهم كانوا يجعلون
الدم في المباعر ويشوونها ويأكلونها، فأعلم الله ان الدم المسفوح - أي

1) سورة المائدة: 3.
2) سورة المائدة: 1.
3) هذا المضمون مروى عن طريق العامة - انظر معجم مفهرس ألفاظ الحديث 16 / 301.
269

المصبوب - حرام، فأما اللحم المتلطخ بالدم وما يرى أنه منه مثل الكبد فهو
مباح. واما الطحال فهو الدم المسفوح على ما ذكرناه. وانما شرطنا في الدم
الحرام ما كان مسفوحا لأنه تعالى بين ذلك في الآية الأخرى فقال تعالى " أو دما
مسفوحا " (1.
ثم قال " ولحم الخنزير " أي حرم عليكم لحم الخنزير أهليه وبريه. فالميتة
والدم مخرجهما في الظاهر مخرج العموم والمراد بهما الخصوص، ولحم
الخنزير مخصوص ظاهره، مع أن كلما كان من الخنزير حرام كلحمه من الشحم
والجلد وغير ذلك فالمراد به العموم.
وقوله تعالى " وما أهل لغير الله به " أي وحرم عليكم ما أهل لغير الله به
أي ما ذبح للأصنام والأوثان مما يقرب به من الذبح لغير الله، أو رفع الصوت
عليه بغير اسم الله حرام.
وكل ما حرم اكله مما عددناه يحرم بيعه وملكه والتصرف فيه.
والخنزير يقع على المذكر والمؤنث.
وفى الآية دلالة على أن ذبائح كل من لم يذكر اسم الله عليه حرام، سواء
كان كافرا أو من دان بالتجسم والصورة، أو قال بالجبر والتشبيه، أو خالف
الحق، فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته.
وقد قدمنا ان التسمية على الذبيحة واجبة، فان تركها ناسيا لم يكن به
بأس.
(فصل)
ثم قال تعالى " والمنخنقة " قال السدي: هي التي تدخل رأسها بين شعبتين

1) سورة الأنعام: 145.
270

من شجرة فتختنق وتموت. وقال الضحاك: هي التي تختنق وتموت. وقال
قتادة: هي التي تموت في خناقها، وقال كان أهل الجاهلية يخنقونها ثم يأكلونها.
والا ولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك، سواء كان بشئ من
قبلها أو من قبل غيرها، لأنه تعالى وصفها بالمنخنقة، ولو كان الامر على ما ذكره
قتادة فقط لقال والمخنوقة.
وقوله تعالى " والموقوذة " يعني التي تضرب حتى تموت.
" والمتردية " التي تقع من جبل أو تقع في بئر فتموت، فان وقعت في شئ
من ذلك ويعلم أنها لم تمت بعد ولم يقدر على موضع ذكاته جاز أن تطعن
وتضرب بالسكين في غير المذبح حتى تبرد ثم تؤكل.
" والنطيحة " وهي التي تنطح أو ينطح.
فان قيل: كيف تكون بمعنى المنطوحة وقد ثبت فيها الهاء وفعيل إذا كان
بمعنى مفعول لا يثبت فيه الهاء، مثل " عين كحيل " و " كف خضيب ".
قلنا: اختلف في ذلك، فقال البصريون أثبت في " النطيحة " الهاء لأنها جعلت
كالاسم مثل الطويلة، فوجه التأويل النطيحة أي معنى الناطحة، ويكون المعنى
حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها. وقال بعض الكوفيين: انما يحذف
هاء الفعيل بمعنى المفعول إذا كان مع الموصوف، فأما إذا كان منفردا فلابد من
اثبات الهاء، فيقال " رأيت قتيلة ".
والقول بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول أكثر المفسرين، لأنهم
أجمعوا على تحريم الناطحة والمنطوحة إذا ماتتا.
وقوله " وما أكل السبع " أي وحرم عليكم ما أكل السبع، بمعنى ما قتله
السبع - قاله ابن عباس، وهو فريسة السبع. " الا ما ذكيتم " الا ما أدركتم
ذكاته فذكيتموها من هذه الأشياء التي وصفها، وموضع ما نصب بالاستثناء.
271

واختلف في الاستثناء إلى ماذا يرجع: فقال قوم يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره
من قوله " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة ما أكل السبع " الا مالا يقبل الذكاة من لحم الخنزير
والدم، وهو الأقوى، وهو المروي عن علي عليه السلام وابن عباس، قال وهو أن تدركه
يتحرك رجله أو ذنبه أو تطرف عينه، وهو المروي عنهما عليهما السلام.
وقال آخرون: هو استثناء من التحريم لأنه من المحرمات، لان الميتة لا ذكاة لها
ولا الخنزير. قالوا: والمعنى حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكر الا ما
ذكيتم مما أحله الله تعالى له بالتذكية فإنه حلال لكم.
وسئل مالك عن الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاؤها. فقال:
لا أرى أن تذكى ولا تؤكل، أي شئ يذكى منها.
وقال كثير من الفقهاء: انه يراعى أن يلحق وفيه حياة مستقرة فيذكى فيجوز
أن يؤكل، فأما ما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة فلا يجوز بحال.
(فصل)
فان قيل: فما وجه تكرير قوله تعالى: " وما أهل لغير الله به والمنخنقة
والموقوذة " وجميع ما عدد تحريمه في هذه الآية يعمه قوله تعالى " حرمت
عليكم الميتة " وان اختلف أسباب موته من خنق أو ترد أو نطح أو اهلال لغير الله
أو أكيل سبع، وانما يكون كذلك - يعني قول من يقول إنها وان كانت فيها حياة إذا
كانت غير مستقرة - فلا يجوز أكلها.
قلنا: الفائدة في ذلك أن الذين خوطبوا بذلك لم يكونوا يعدون الميت
الا ما مات حتف أنفه من دون شئ من هذه الأسباب، فأعلمهم الله تعالى ان
حكم الجميع واحد وان وجه الاستباحة هي التذكية الشرعية.
272

وقال السدي: ان ناسا من العرب كان يأكلون جميع ذلك ولا يعدونه ميتا،
انما يعدون الميتة التي تموت من الوجع.
فان قيل: قد جاء في البقرة " وما أهل به لغير الله " وفي المائدة وفي الانعام
وفي النحل " وما أهل لغير الله به " فما وجه ذلك؟
قلنا: الأصل ما جاء في سورة البقرة، لان الباء التي يتعدى بها الفعل بمنزلة
جزء منه، تقول ذهبت بزيد وأذهبته، وما يتعدى إليه الفعل باللام لا يتنزل منه
اللام منزلة الجزء منه، فالباء أحق بالتقديم، لان معنى " أهل به لغير الله " ذبح
لغير الله، أي سمي عليه بعض الالهة، ان لم يكن الذابح ممن يعرف الله فيسميه.
فالأصل ما هو في البقرة، ثم لما كان الاهلال بالمذبوح لا يستنكر الا إذا كان
ما عدا الأصل فتقديم المستنكر أولى. ألا ترى أنهم يقدمون المفعول إذا كانوا
ببيانه أعني (1 فيقولون " ضرب عمرا زيد ". فلهذا بدئ في البقرة ثم قدم في
المواضع الثلاثة الاسم، وهو ذكر المستنكر في غير الله.
والتذكية هي فري الأوداج والحلقوم إذا كانت فيه حياة ولا يكون بحكم
الميت، والذكاة في اللغة تمام الشئ. فالمعنى على هذا في قوله تعالى " الا ما
ذكيتم " أي ما أدركتم ذبحه على التمام.
(فصل)
ثم قال تعالى " وما ذبح على النصب " فانصب الحجارة التي كانوا يعبدونها
وهي الأوثان، واحدها نصاب، ويجوز أن يكون واحدا والجمع أنصاب (2.

1) أعني: أشد عناية " ج ".
2) قال ابن منظور: النصب والنصب - بفتح النون وسكون الصاد في الأول وضم
النوب والصاد في الثاني - كل ما عبد من دون الله تعالى والجمع أنصاب، وقال الزجاج
النصب - بضمتين - جمع واحدها نصاب، قال وجائز أن يكون واحدا وجمعه أنصاب -
لسان العرب (نصب).
273

والفرق بين هذا وبين ما أهل به لغير الله أن المراد ما يصدق به تقربا إلى
الأنصاب، والمراد بالأول ما ذبحه الكافر أو من سمى غير الله عند ذبحه على ما
ذكرناه لأي شئ ذبحه من بيع أو إضافة أو تصدق.
وقال ابن جريح: النصب ليست أصناما، وانما كانت حجارة تنصب إذا
ذبحوا لآلهتهم جعلوا اللحم على الحجارة ونضحوا الدم على ما أقبل ما البيت،
فقال المسلمون عظمت الجاهلية البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه، فأنزل الله
تعالى " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها (1 " الآية (2.
وقوله " وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق " أي وحرم عليكم الاستقسام
بالأزلام، وهي سهام كانت الجاهلية يطلبون قسم الأرزاق بها ويتفألون بها في
أسفارهم وابتداءات أمورهم. وبه قال ابن عباس.
وقال مجاهد: هي سهام العرب وكعاب فارس والروم (3.
والأنصاب الأصنام، وانما قيل لها ذلك لأنها كانت تنصب للعبادة لها، قال
تعالى " انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام " (4.
والميسر القمار، وعن أبي جعفر عليه السلام يدخل فيه الشطرنج والنرد

1) سورة الحج: 37.
2) الدر المنثور 4 / 363 مع تفصيل أكثر.
3) قال الأزهري: الأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهى وافعل
ولا تفعل، قد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا
أو نكاحا أتى السادن فقال اخرج لي زلما، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الامر مضى
على ما عزم عليه وان خرج قدح النهى قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما
في قرابه فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما - لسان العرب (زلم).
4) سورة المائدة: 90.
274

حتى اللعب بالجوز (1.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: الشطرنج ميسر العجم.
والأزلام القداح، وهي سهام كانوا يجلبونها للقمار.
قال الأصمعي: كان الجزور يقسمونه على ثمانية وعشرين جزءا. وذكرت
أسماءها مفصلة، وهي عشرة منها ذوات الحظوظ سبعة.
ثم قال " رجس من عمل الشيطان " فوصفها بذلك يدل على تحريمها.
(فصل)
أما قوله تعالى " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الا ما حرم إسرائيل على
نفسه من قبل أن ينزل التوراة " (2، فقد كان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا
تحليل النبي صلى الله عليه وآله لحوم الإبل، فبين الله أنها كانت محللة لإبراهيم
وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه وهو يعقوب، نذر ان برأ من النساء
أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهي لحوم الإبل وألبانها، فلما برأ وفى
بنذره. فحاجهم النبي عليه السلام بالتوراة فلم يجسروا أن يحضروها لعلمهم
بصدق محمد " ص " (3).
فان قيل: كيف يجوز للانسان أن يحرم شيئا وهو لا يعلم ماله فيه من المصلحة
مما له فيه المفسدة.
قلنا: يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك وأعمله، وكان الله أذن لإسرائيل
في هذا النذر ولذلك نذر، فأما غير الأنبياء والأوصياء فلا يجوز لهم مثل ذلك

1) مجمع البيان 2 / 239.
2) سورة آل عمران: 93.
3) أنظر أسباب النزول للواحدي ص 75.
275

(باب)
(الأشربة المباحة والمحظورة)
قال الله تعالى " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير " (1 قال
أكثر المفسرين: الخمر عصير العنب التي إذا اشتد. وقال جمهور أهل المدينة:
كلما أسكر كثيره فهو خمر، وهو الظاهر في رواياتنا.
واشتقاقه في اللغة من قولهم " خمرت الشئ " أي سترته، لأنها تغطي
على العقل.
وكلما أسكر على اختلاف أنواعه حرام قليله وكثره لاشتراكهما في المعنى
إذ يجري عليهما أجمع جميع أحكام الخمر.
وقوله تعالى " قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس " فالمنافع التي في الخمر
ما كانوا يأخذونه في أثمانها وربح تجارتها وما فيها من اللذة بتناولها، أي فلا يغتروا
بالمنافع التي فيها فضررها أكثر من نفعها.
قال الحسن: وهذه الآية تدل على تحريم الخمر، لأنه مع ذكر أن فيها
اثما وقد حرم الله الاثم في قوله " قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما
بطن والاثم " (2)، على أنه تعالى قد وصفها بأن فيها اثما كبيرا، والاثم الكبير
محرم بلا خلاف.
وقال قوم: المعنى ان الاثم بشرب هذه والقمار بهذا أكبر وأعظم، لأنهم
كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا.
قال قتادة: وانما يدل على تحريمها الآية التي في المائدة من قوله " انما

1) سورة البقرة: 219.
2) سورة الأعراف: 33.
276

الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " (1، أخبر
الله تعالى أن هذه الأشياء رجس من عمل الشيطان ثم أمرنا باجتنابها بأن قال
" فاجتنبوه " أي كونوا على جانب منها، أي في ناحية.
ففي الآية دلالة على تحريم الخمر وعلى تحريم هذه الأشياء من أربعة أوجه:
أحدها: أنه وصفها بأنها رجس، والرجس والنجس بلا خلاف محرم.
الثاني: نسبها إلى عمل الشيطان، وذلك لا يكون الا محرما.
الثالث: انه تعالى أمرنا باجتنابه، والامر يقتضي الايجاب شرعا.
الرابع: انه جعل الفوز والفلاح في اجتنابه.
والهاء في قوله " فاجتنبوه " راجعة إلى عمل الشيطان.
(فصل)
ثم قال تعالى " انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في
الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " (2. قيل
هل ان ههنا مع ما بعدها بمنزلة الامر أي انتهوا
وسبب نزول هذه الآية أن سعد بن أبي وقاص لاقى رجلا من الأنصار وقد
كانا شربا الخمر فضربه بلحي جمل (3.
وقيل: انه لما نزلت قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى " (4 قال رجل: اللهم بين لنا في هذه الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية.

1) سورة المائدة: 90.
2) سورة المائدة: 91.
3) تفسير البرهان 1 / 500 بتفصيل.
4) سورة النساء: 43.
277

معناه: الشيطان انما يريد ايقاع العداوة والبغضاء بينهم بالاغراء المزين
لهم ذلك حتى إذا سكروا زال عقولهم وأقدموا من المكاره والقبائح ما كانت
تمنعهم منه عقولهم.
وقال قتادة: كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى سليبا حزينا فيكسبه
ذلك العداوة والبغضاء.
وقوله " ويصدكم عن ذكر الله " أي يمنعكم من الذكر لله بالتعظيم والشكر
على آلائه، لما في ذلك من الدعاء إلى الصلاح واستقامة الحال في الدين
والدنيا.
وقوله تعالى " فهل أنتم منتهون " صيغته الاستفهام ومعناه النهي، وانما جاز
ذلك لأنه إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب صار في منزلة من نهي عنه، فإذا قيل له
أتفعله بعد ما قد ظهر من أمره، صار في محل من عقد عليه باقراره.
فان قيل: ما الفرق بين انتهوا عن شرب الخمر وبين لا تشربوا الخمر؟
قلنا: الفرق بينهما أنه إذا قال " انتهوا " دل ذلك على أنه مريد لأمر ينافي
شرب الخمر، وصيغة النهي تدل على كراهة الشرب، لأنه قد ينصرف عن الشرب
إلى أحد أشياء مباحة، وليس كذلك المأمور به، لأنه لا ينصرف عنه الا إلى
محظور، والمنهي عنه قد ينصرف عنه إلى غير مفروض.
ثم قال " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا أنما على
رسولنا البلاغ المبين " (1 لما أمر سبحانه باجتناب الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام أمر بطاعته في ذلك وفي غيره من أوامره، ثم أمر بالحذر وهو امتناع
القادر من الشئ لما فيه من الضرر والخوف، وهو توقع الضرر الذي لا يؤمن كونه.
" فان توليتم " الوعيد " فاعلموا " انكم قد استحققتم العذاب لتوليكم عما
أدى رسولنا من البلاغ المبين.

1) سورة المائدة: 92.
278

والخمر محرمة على لسان كل نبي وفي كل كتاب نزل، وان تحريمها لم يكن
متجددا، فإذا انقلبت الخمر خلا بنفسها أو بفعل آدمي إذا طرح فيها ما ينقلب
إلى الخل حلت.
ثم قال " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا
وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا " (1. قال ابن عباس: انه لما
نزل تحريم الخمر قال الصحابة: كيف بمن مات من إخواننا وهو يشربها من قبل،
فأنزل الله الآية وبين أنه ليس عليهم في ذلك شئ إذا لم يكونوا عالمين بتحريمها
وقد كانوا مؤمنين عاملين للصالحات ثم يتقون المعاصي وجميع ما حرم الله عليهم.
والصحيح أن معناه ليس على المؤمنين اثم ولا حرج في أكل طيبات الدنيا
إذا أكلوها من الحلال، ودل على هذا المعنى بقوله " إذا ما اتقوا وآمنوا ".
وتكرار الاتقاء انما حسن لان الأول المراد به اتقاء المعاصي، الثاني الاستمرار
على الاتقاء، الثالث اتقاء مظالم العباد.
(فصل)
أما قوله تعالى " وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم " إلى قوله " ومن
ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " (2 قال قوم ممن لا يؤبه
بهم استدلوا بهذه الآية على تحليل النبيذ، بأن قالوا أمتن الله علينا وعدد من
جملة نعمه علينا أن خلق الله لنا الثمار التي نتخذ منها السكر والرزق الحسن،
وهو سبحانه وتعالى لا يمتن بما هو محرم.
وهذا لا دلالة لهم فيه لأمور:

1) سورة المائدة: 93.
2) سورة النحل: 66 - 67.
279

أحدها: ان المفسرين على خلاف هذا، ولم يقل أحد منهم هو ما حرم من
العثرات وانما ذكروا في معناه تتخذون منه ما حل طعمه من شراب أو غيره.
الثاني: أنه لو أراد بذلك تحليل السكر لما كان لقوله " ورزقا حسنا " معنى
لان ما أحله وأباحه فهو أيضا رزق حسن.
فان قيل: فلم فرق بين الرزق الحسن وبينه والكل شئ واحد؟
قلنا: الوجه فيه أنه تعالى خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها فاتخذتم أنتم منها
ما هو حرام عليكم وتركتم ما هو رزق حسن.
وأما وجه المنة فبالأمرين معا ثابتة، لان ما أباحه وأحله فالمنة به ظاهرة
ليعجل الانتفاع به وما حرمه، فوجه النعمة فيه أنه إذا حرم علينا وأوجب الامتناع
ضمن في مقابلته الثواب الذي هو أعظم النعمة، فهو نعمة على كل حال.
ويؤكد ذلك قوله " وهديناه النجدين " (1 وقوله " فألهمها فجورها وتقواها " (2
ونحوه قولنا ان خلق نار جهنم نعمة من الله على العباد.
الثالث: ان السكر إذا كان مشتركا بين السكر والطعم وجب أن يتوقف
فيه ولا يحمل على أحدهما الا بدليل، وما ذكرناه مجمع على أنه مراد وما ذكر
ليس عليه دليل.
والسكر في اللغة على أربعة أقسام (3: أحدها ما أسكر. والثاني ما طعم من

1) سورة البلد: 10.
2) سورة الشمس: 8.
3) قال الصغاني في العباب السكر: نبيذ التمر، وفى التنزيل " تتخذون منه سكرا، " هذا
قيل لهم قبل أن يحرم عليهم الخمر، والسكر خمر الأعاجم، ويقال لما يسكر السكر، ومنه
حديث النبي عليه السلام " حرمت الخمرة بعينها والسكر من كل شراب " هكذا رواه أحمد
ابن محمد بن حنبل [المسند] والاثبات. وقال ابن عباس: السكر حرم من ثمره قبل
أن يحرم وهو الخمر، والرزق الحسن ما أحل من ثمره من الأعناب والتمور. وقال أبو عبيدة
وأشد السكر الطعام جعلت اعراض الكرام سكرا، أي جعلت دمهم طعما لك.
وقال الزجاج: هذا بالخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى يتخمر بأعراض الكرام، وهو
أبين مما يقال للذي يتبرك في أعراض الناس. وقال بعض المفسرين: السكر الخل في التنزيل
هذا شئ لا يعرفه أهل اللغة " منه ".
280

الطعام، كما قال الشاعر:
* جعلت عين الأكرمين سكرا (1 *
أي طعما. الثالث المصدر من قولك سكر سكرا، وأصله انسداد المجاري
بما يلقى فيها ومنه السكر، وهو القسم الرابع (2.
على أنه كان يقتضي أن يكون كل ما أسكر منه يكون حلالا، وذلك خلاف
الاجماع، لأنهم يقولون القدر الذي لا يسكر هو المباح، وكان يلزم على ذلك
أن يكون الخمر مباحا، وذلك لا يقوله أحد من المسلمين. ويلزم أن يكون النقيع
حلالا، وذلك خلاف الاجماع.
(باب)
(بيان تحريم الخمر)
حدث علي بن يقطين قال: سأل المهدي الخليفة أبا الحسن موسى بن جعفر
عليه السلام عن الخمر أهي محرمة في كتاب الله تعالى، فان الناس انما يعرفون
النهي [عنها] ولا يعرفون التحريم [لها]. فقال له أبو الحسن: هي محرمة في
كتاب الله تعالى. فقال: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله تعالى يا أبا الحسن؟
فقال: قول الله تعالى " قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم " (3،

1) رواية التبيان " عيب الأكرمين ". وفى اللسان " جعلت اعراص الكرام سكرا ".
2) من قوله " والسكر في اللغة " إلى هنا منقول من البيان 6 / 401 مشوها، وفيه:
الثالث السكون، قال الشاعر " وجعلت عين الحرور تسكر "، والرابع المصدر.
3) سورة الأعراف: 31.
281

فأما قوله " ما ظهر منها " فإنه يعني بذلك الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت
ترفعها الفواجر في الجاهلية، وأما قوله " وما بطن " فإنه يعني به ما نكح من
الاباء، فان الناس كانوا من قبل أن يبعث الله النبي صلى الله عليه وآله إذا كان
للرجل زوجة ومات عنها زوجها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله
ذلك، وأما قوله " والاثم " فإنه يعني به الخمرة بعينها، وقد قال الله تعالى في
مواضع أخر " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس
واثمهما أكبر من نفعهما " (1 فإنما عنى بالاثم حراما عظيما، وقد سماها الله تعالى
أخبث الأسماء رجسا.
ثم قال عليه السلام: ان أول ما نزل في تحريم الخمر " يسألونك عن الخمر
والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما "، فلما نزلت
هذه الآية أحس القوم بتحريم الخمر وعلموا أن الاثم مما يجب اجتنابه، ثم
نزلت آية أخرى وهي قوله " انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من
عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " (2، وكانت هذه الآية أشد من الأولى وأغلظ
في التحريم، ثم ثلث بآية أخرى وكانت أغلظ في الآية الأولى والثانية وأشد،
وهي قوله " انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر
ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " (3، فأمر باجتنابها وفسر
عللها التي لها ومن أجلها حرمها.
ثم بين تعالى تحريمها وكشفه في الآية الرابعة مع ما دل عليه في هذه الآي

1) سورة البقرة: 216. والى هنا ينتهى الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام
كما في الكافي 6 / 406 مع اختلاف في ألفاظ يسيرة.
2) سورة المائدة: 91.
3) سورة المائدة: 92.
282

المتقدمة بقوله " قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم "،
وقال في الآية " يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير " فخبر أن الاثم
في الخمر وغيرها وأنه حرام، وذلك أن الله تعالى إذا أراد أن يفرض فريضة أنزلها
شيئا بعد شئ حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ويسكنوا إلى أمر الله ونهيه فيها
وذلك من فعل الله تعالى ووجه التدبير والصواب لهم ليكونوا أقرب إلى الاخذ
بها وأقل لنفارهم منها. فقال المهدي: هذه والله فتوى هاشمية (1.
(فصل)
وروي أنه شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر، فأراد أن يحده فقال
له قدامة انه لا يجب علي الحد لان الله تعالى يقول " ليس على الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا
وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا " (2 فدرأ عنه الحد، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام
فأتى المسجد وفيه عمر فقال له: لم تركت إقامة الحد على قدامة في شربه الخمر؟
فقال: تلا علي آية وتلاها عمر. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ليس قدامة
من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله، ان الذين آمنوا
لا يستحلون حراما، فاردد قدامة واستتبه مما قال فان تاب فأقم عليه الحد وان
لم يتب فاقتله فقد خرج من الملة، فعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة (3.
والآية انما أنزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق
الترهب، كعثمان بن مظعون وغيره، فبين الله لهم انه لا جناح في تناول المباح
مع اجتناب المحرمات، أي ليس عليهم أثم وخروج فيما طعموا من الحلال.

1) الكافي 4 / 406 في رواية مرسلة غير الرواية السابقة مع اختلاف في ألفاظ.
2) سورة المائدة: 93.
3) انظر تفسير البرهان 1 / 500.
283

وهذه اللفظة صالحة للاكل والشرب.
وقوله " ثم اتقوا وآمنوا " أي اتقوا شربها بعد التحريم " ثم اتقوا " أي دانوا
على الاتقاء. فالاتقاء الأول من الشرب، والاتقاء الثاني هو الدوام عليه، والاتقاء
الثالث اتقاء جميع المعاصي وضم الاحسان إليه.
وقال الله تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم
سمعنا وأطعنا " (1. قال أبو جعفر عليه السلام: الميثاق هو ما بين لهم في حجة
الوداع من تحريم كل مساء وكيفية الوضوء على ما ذكره الله في كتابه ونصب
أمير المؤمنين عليه السلام إماما للخلق كافة (2.
وتحريم الفقاع لا يعلل بالسكر وانما تحريمه مثل لحم الخنزير والدم.
(فصل)
وقد أباح الله تعالى الماء الذي هو أذل موجود وأعز مفقود، وقد قال تعالى
" وجعلنا من الماء كل شئ حي " (3 وقال " هو الذي أنزل من السماء ماءا لكم منه
شراب " (4 أخبر تعالى أنه الذي ينزل من السماء ماءا، يعني غيثا ومطرا لمنافع
خلقه فينبت بذلك الماء هذه الأشياء التي عددها.
وقال تعالى " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا " إلى أن
قال " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه " (5 من أصفر وأبيض وأحمر مع

1) سورة المائدة: 7.
2) تفسير البرهان 1 / 454 بمضمونه.
3) سورة الأنبياء: 30.
4) سورة النحل: 10
5) سورة النحل: 68.
284

انها تأكل الحامض والمر فيجعله الله تعالى عسلا حلوا لذيذا فيه شفاء للناس.
وأكثر المفسرين على أن الهاء راجعة إلى العسل، وهو الشراب الذي ذكر أن
فيه شفاءا من كثير من الأمراض. وانما قال " من بطونها " وهو خارج من فيها
لان العسل يخلقه الله في بطن النحل ثم يخرجه إلى فيه ثم يخرجه من فيه، ولو قال
من فيها لظن أنها تلقيه من فيها وليس بخارج من البطن.
وقال الرضي في كتاب مجاز القرآن: ان العسل عند المحققين من العلماء
غير خارج من بطون النحل، وانما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق
الأشجار وأصناف النبات (1، لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة
وعلى أوصاف معلومة، والنحل ملهمة بتتبع تلك المساقط [وتعهد تلك المواقع] (2
فتنقل العسل بأفواهها إلى المواضع المعدة لها، قال تعالى " يخرج من بطونها "
والمراد من جهة بطونها وجهة بطونها أفواهها، وهذا من غوامض البيان وشرائف
الكلام (4.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: اشربوا ماء السماء فإنه يطهر البدن ويدفع
الأسقام، قال تعالى " وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به ويذهب عنكم رجز
الشيطان " (4.
وجاء رجل فشكى إليه وجع البطن فقال عليه السلام: ألك زوجة؟ قال:
نعم. قال: استوهب منها درهما من صداقها بطيبة نفسها من مالها واشتر به عسلا
واسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه. ففعل الرجل فبرء، فسئل عليه السلام
عن ذلك فقال سمعت الله تعالى يقول في كتابه " فان طبن لكم عن شئ منه نفسا

1) في المصدر " وأضغاث النبات ".
2) الزيادة من المصدر.
3) تلخيص البيان ص 193.
4) سورة الأنفال: 11. والحديث في الكافي 6 / 387.
285

فكلوه هنيئا مريئا " (1 وقال " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " (2
وقال " ونزلنا من السماء ماءا مباركا " (3، فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنئ
والمرئ رجوت فيه لك الشفاء (4.
(باب الزيادات)
قال الشافعي: إنفحة (5 الميتة نجسة لا يحل الانتفاع بها، وعندنا وعند أبي
حنيفة هي طاهرة، وبذلك نصوص عن أئمة الهدى عليهم السلام (6، يؤيد ذلك
قوله تعالى " كلوا مما في الأرض حلالا طيبا " (7 وهذا عام الا ما أخرجه الدليل،
ولا دليل على تحريم الا نفحة من الميتة ولا نجاستها من كتاب وسنة ولا اجماع.
ويؤكد ذلك ما ذكره أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في كتابه المشهور
عن أبي حمزة الثمالي قال: كنت في مسجد النبي عليه السلام إذ دخل رجل وقال
لي: من أنت؟ فقلت: رجل من أهل الكوفة. قال: تعرف محمد الباقر؟ قلت:
نعم فما حاجتك إليه؟ قال: هيأت أربعين مسألة أسأله عنها فما كان من حق أخذته
وما كان من باطل تركته [قال أبو حمزة: فقلت له: هل تعرف ما بين الحق
والباطل؟ قال: نعم] قلت: ما حاجتك إليه ان كنت تعرف الفرق ما بين الحق والباطل.

1) سورة النساء: 4.
2) سورة النحل: 69.
3) سورة ق: 9.
4) وسائل الشيعة 17 / 75 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
5) الإنفحة - بكسر الهمزة وفتح الفاء مخففة - كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل، فإذا أكل
فهو كرش، وكذلك المنفحة بكسر الميم.. والإنفحة لا تكون الا لذي كرش، وهو شئ يستخرج
من بطن ذيه، اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن - لسان العرب (نفح).
6) انظر وسائل الشيعة 2 / 1088 - 1090.
7) سورة البقرة: 168.
286

قال: أنتم قوم لا تطاقون. فما انقطع كلامه حتى أقبل أبو جعفر عليه السلام وحوله
أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحج، فقال للرجل: من أنت؟
فقال: أنا قتادة بن دعامة البصري. قال: أنت فقيه البصرة. قال: نعم أخبرني
عن الجبن. فتبسم أبو جعفر عليه السلام وقال: رجعت مسائلك إلى هذا. فقال:
ضلت عني. فقال عليه السلام: لا بأس به. فقال: ربما جعلت فيه إنفحة الميتة.
قال: ليس بها بأس، ان الإنفحة ليس لها عروق وليس فيها دم وليس لها عظم
انما تخرج من بين فرث ودم، وانما الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها
بيضة [فهل تؤكل تلك البيضة]. قال: [لا و] لا آمر بأكلها. فقال عليه السلام:
[ولم؟ فقال: لأنها من الميتة، قال له] فان حضنت تلك البيضة فخرجت منها
دجاجة أتأكلها؟ قال: نعم. قال: فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة
كذلك الإنفحة مثل البيضة، فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين
ولا تسأل عنه (1.
مسألة:
قوله تعالى " كل الطعام كان حلا " (2 أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام
والحل مصدر حل الشئ، كما يقال عز الرجل عزا وذلت الدابة ذلا، ولذا
استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع، قال تعالى " لا هن
حل لهم ولاهم يحلون لهن " (3.
والمعنى كل الطعام لم يزل حلالا لهم من قبل انزال التوراة وتحريم ما حرم

1) الكافي 6 / 256، وقد اختصر الحديث هنا واضفنا إليه ما لابد منه من المصدر
وهي الجمل الموضوعة ما بين المعقوفتين.
2) سورة آل عمران: 93.
3) سورة الممتحنة: 10.
287

عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شئ قبل ذلك غير المطعوم الواحد
الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه.
وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نزل
فيهم من قوله " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " (1 الآية،
وفي قوله " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " (2، فقالوا: لسنا بأول من
حرمت عليه وما هو الا تحريم قديم وكانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن
بعده وهلم جرا إلى أن انتهى - التحريم إلينا. وغرضهم تكذيب شهادة الله تعالى
عليهم بالبغي والظلم وأكل الربا، فقال تعالى " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم
صادقين ".

1) سورة النساء: 160.
2) سورة الأنعام: 146.
288

كتاب الوقوف والصدقات
قال الله تعالى " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " (1.
لما نزلت هذه الآية عمد كثير من الصحابة إلى نفائس أموالهم فتصدقوا
بها زيادة على الزكوات الواجبة كما روي عن أبي طلحة أنه قال: يا رسول الله
ان لي حائطا وقد جعلته صدقة. فقال: اجعله صدقة على فقراء أهلك، فجعله
بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب (2.
وقد ورد في القرآن آي كثيرة تحت على الوقوف والصدقات بظواهرها،
قال الله تعالى " وافعلوا الخير " (3، وهو أمر بالطاعات والقربات.
فان قيل: ما أنكرتم من فساد الاستدلال بذلك من جهة أن الخير لا نهاية له، ومحال
أن يوجب الله تعالى علينا مالا يصح أن نفعله، وإذا لم يصح ايجاب الجميع فليس
البعض بذلك أولى من البعض وبطل الاستدلال بالآية.

1) سورة آل عمران: 92.
2) الدر المنثور 2 / 194.
3) سورة الحج: 77.
289

قلنا: لا شبهة في أن ايجاب مالا يتناهى لا يصح، غير أنا نفرض المسألة فنقول:
قد ثبت أن من وقف وتصدق على بعض فقراء المؤمنين يكون فاعلا للخير، وفعل المرة
صحيح غير محال، فيجب تناول الآية له، وهكذا يفرض في كل مسألة. وموضع
استدلالنا بعموم هذه الآية وأمثالها على استحباب شئ من العبادات أو وجوب
شئ من القربات هو أن نعين على ما يصح تناول الايجاب والاستحباب له ثم
ندخله في عموم الآية.
(باب)
(كيفية الوقف واحكامه)
قال الله تعالى " وأقرضوا الله قرضا حسنا " (1 نزلت حين وقف بعض الأنصار
نخيلا، وسمى تعالى ذلك قرضا تلطفا في القول، لان الله تعالى من حيث أنه
يجازيهم على ذلك بالثواب فكأنه استقرض منهم لرد عوضه.
وانما قال " حسنا " أي على وجه لا يكون فيه وجه من وجوه القبح.
و " ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " (2 أي ما تعطوا الفقراء
والمساكين تجدوا ثوابه وجزاءه.
ثم اعلم أن وجوه العطايا ثلاثة، اثنان منها في الحياة وواحد بعد الوفاة،
فالذي بعد الوفاة هو الوصية، ولها كتاب مفرد نذكره فيما بعد انشاء الله، وأما
اللذان في حال الحياة فهما الهبة والوقف، وللهبة باب مفرد يجئ بعد هذا.
وأما الوقف فهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وجمعه وقوف وأوقاف، وقفت
يقال ولا يقال أوقفت الا شاذا نادرا، ويقال حبست وأحبست.

1) سورة الحديد: 18.
2) سورة البقرة: 110.
290

فإذا وقف شيئا من أملاكه زال ملكه عنه إذا قبض الموقوف عليه أو من يتولى
عنه، وان لم يقبض لم يخص الوقف ولم يلزم. فهذان شرطان في صحة الوقف.
فمتى لم يقبض الوقف ولم يخرجه من يده أو وقف مالا يملكه كان الوقف باطلا
فإذا قبض الوقف فلا يجوز الرجوع له فيه بعد ذلك ولا التصرف فيه ببيع ولا هبة
ولا غيرها، ولا يجوز لاحد من ورثته التصرف فيه.
(فصل)
وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا أحبس بعد سورة النساء (1.
فلا يدل على حظر الوقف أو كراهيته، وانما المعنى في ذلك أحد أمرين:
أحدهما: أراد حبس الزانية التي ذكرها الله في قوله " فأمسكوهن في
البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " (2، فان الله نسخ هذا
الحكم على لسان رسوله عليه السلام بقوله: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام،
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
والثاني: أراد الحبس الذي كان يفعله الجاهلية في نفي السائبة والبحيرة
والوصيلة والحام، قال الله تعالى " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة
ولا حام " (3. فالسائبة هي الناقة تلد عشرة بطون كلها إناث فتسيب تلك الناقة
فلا تركب ولا تحلب الا لضيف. والبحيرة هي ولدها الذي تجئ به في البطن
الحادي عشر، فإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها فهي البحيرة.
وأما الوصيلة فهي الشاة تلد خمس بطون في كل بطن اثنان، فإذا ولدت
البطن السادس ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاها فما يلد بعد ذلك يكون حلالا

1) الدر المنثور 2 / 129.
2) سورة النساء: 15.
3) سورة المائدة: 103.
291

للذكور وحراما على الإناث. وأما الحام فهو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن
فكان لا يركب.
وكذلك يحمل على الوجهين ما روي عن شريح أنه قال: جاء محمد
باطلاق الحبس.
(فصل)
يجوز وقف الأراضي والعقار والرقيق والماشية والسلاح وكل عين يبقى
بقاءا متصلا ويمكن الانتفاع بها، فأما إذا كانت في الذمة أو كانت مطلقة - وهو أن
يقول وقفت فرسا أو عبدا فان ذلك لا يجوز لأنه لا يمكن الانتفاع به ما لم يتعين
ولا يمكن تسليمه ولا القبض.
ويجوز وقف المشاع، كما يصح بتعدد ألفاظ الوقف مثل تصدقت ووقفت
وحبست وسلبت وحرمت وأبدت، فإذا قال تصدقت بداري أو بكذا لم ينصرف
إلى الوقف، لان التصدق يحتمل الوقف ويحتمل صدقة التمليك المتطوع بها
ويحتمل الصدقة المفروضة، فإذا قرنه بقرينة تدل على الوقف انصرف إلى الوقف
وزال الاحتمال.
والقرينة أن تقول: تصدقت صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة
أو مؤبدة، أو قال صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث، لأن هذه كلها لا تصرف الا إلى
الوقف.
وإذا قال حبست أو سبلت رجع إلى الوقف وصار صريحا فيه، لان الشرع
ورد بهما، قال النبي صلى الله عليه وآله لعمر: حبس الأصل وسبل الثمرة. وعرف
الشرع آكد من عرف العادة.
والأقوى عندنا أن صريح الوقف عندنا قول واحد، وهو " وقفت " لا غير وبه
292

يحكم بالوقف، فأمر غيره من الألفاظ فلا يحكم به الا بدليل.
ولا يجوز أن يقف شيئا على حمل هذه الجارية ولم ينفصل الحمل بعد. ولا
ينتقض بالوقف على أولاد الأولاد ما تناسلوا، لأن الاعتبار بما ولد، فإذا صح
في حقه صح في حق الباقين على وجه التبع لهم.
وإذا وقف دارا وقبض فإنه يزول ملك الواقف كما يزول بالبيع وينتقل
إلى الموقوف عليه وهو الصحيح. وقال قوم ينتقل إلى الله تعالى. وإنما قلنا
ذلك لأنه يثبت عليه اليد وليس فيه أكثر من أنه لا يملك بيعه على كل حال وانما يملك
بيعه على وجه عندنا، وهو إذا خيف على الوقف الخراب أو كان بأربابه حاجة شديدة
أو لا يقدرون على القيام به أو يخاف وقوع خلاف بينهم يؤدي إلى فساد يجوز
لهم بيعه، ومع عدم ذلك كله لا يجوز.
والوقف على المساجد وما فيه صلاح المؤمنين انما يصح ان كانت هذه
الأشياء لا تملك، لان الوقف عليها لمصالح المسلمين فالوقف عليها وقف على
المسلمين والمسلمون يملكون.
فان وقف انسان شيئا على قومه ولم يسمهم كان ذلك وقفا على جماعة أهل
لغته من الذكور دون الإناث، لقوله تعالى " لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا
خيرا منهم ولا نساء من نساء "، فدل على أن لفظ القوم لا يقع على النساء.
(فصل)
العمرى نوع من الهبات يفتقر في صحتها إلى ايجاب وقبول، ويقتضي لزومها
إلى قبض كسائر الهبات.
وهي مشتقة من العمر، وصورتها أن يقول الرجل لاخر " أعمرتك هذه الدار
أو جعلتها لك عمرك أو هي لك ما حييت ".
293

وهذا عقد جائز، فان قال هذه الدار لك عمرك ولعقبك من بعدك فإنه جائز،
وانما هي للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها.
وأما إذا أطلق ذلك ولم يذكر العقب فان العمرى يصح ويكون للمعمر حياته،
فإذا مات رجع إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان مات وهو الصحيح، ولا فرق عندنا
سواء علقه بموت المعمر أو المعمر.
والرقبى جائزة عندنا، وصورتها صورة العمرى الا أن اللفظ يختلف. ومن
أصحابنا من قال: الرقبى أن تقول " جعلت خدمة هذا العبد لك مدة حياتك أو
مدة حياتي ". وهي مأخوذة من رقبة العبد.
(باب)
(الهبة وأحكامها)
الهبة جائزة لكتاب الله وللسنة، فالكتاب قوله تعالى " تعاونوا على البر
والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " (1 والهبة من البر. وقوله تعالى " ليس
البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله " إلى قوله
" وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين " (2.
والسنة أكثر من أن تحصى.
والهبة والصدقة والهدية، بمعنى واحد، غير أنه إذا قصد الثواب والتقرب
بالهبة إلى الله سميت صدقة، وإذا قصد بها التودد والمواصلة سميت هدية.
وكان النبي صلى الله عليه وآله يقبل الهدية ويأكلها ولا يقبل الصدقة ولا
يأكلها.

1) سورة المائدة: 2.
2) سورة البقرة: 177.
294

فإذا ثبت هذا فإنه لا يلزم شئ منها الا بالقبض.
(فصل)
الهبات على ثلاثة أصناف: هبة لمن هو فوق الواهب، وهبة لمن هو دونه،
وهبة لمن هو مثله. ويقتضي كل واحد منها الثواب (1 عندنا على بعض الوجوه.
وصدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام، ومن شرطها الايجاب
والقبول، ولا يلزم الا بالقبض أو ما يجرى مجراه.
[وكل من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة] (2.
وإذا كان لانسان في ذمة رجل مال فوهبه له كان ذلك ابراء بلفظ الهبة.
وقال قوم من شرط صحته قوله، وهذا حسن لان في ابرائه من الحق الذي عليه
منة عليه ولا يجبر على قبول المنة. وقال آخرون انه يصح شاء من عليه الحق أو
أنى، لقوله " فنظرة إلى ميسرة وان تصدقوا خير لكم " (3 فاعتبر مجرد الصدقة
ولم يعتبر القبول، وقال الله تعلى " ودية مسلمة إلى أهله الا ان يصدقوا " (4 فأسقط
الدية لمجرد التصدق ولم يعتبر القبول. هذا أيضا قوي ظاهر.

1) المراد بالثواب ههنا العوض، اما انه يقتضى الثواب فلما روى أبو هريرة عن النبي
عليه السلام أنه قال " الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها "، واما اقتصار الثواب على بعض
الوجوه فهو أن الواجب اما أن يطلق أو يشرط الثواب، فان أطلق اقتضى أن يشبه قدر ما
يكون ثوابا لمثله في العبادة، وان شرط الثواب فإن كان الثواب مجهولا صح اجماعا، وإن كان
معلوما ففيه خلاف - وهذا خلاصة كلام الشيخ في المبسوط.
2) الزيادة من ج.
3) سورة البقرة: 280.
4) سورة النساء: 92.
295

(باب الزيادات)
قوله تعالى " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب
والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة " (1.
فالبر العطف والاحسان، وهو مصدر، وقد يكون بمعنى البار، أي الواسع
الاحسان، وأصله من الاتساع.
بين سبحانه ان البر كله ليس في الصلاة وانما هي مصلحة من المصالح
الدينية، والتقدير ولكن البر بر من آمن بالله، أي لكن ذا البر من آمن بالله،
أي صدق بالله. ويدخل فيه جميع مالا يتم معرفة الله الا به.
" واليوم الآخر " بمعنى القيامة، وان الملائكة عباد الله والكتب المنزلة
وأنبياءه كلهم.
" وأعطى المال على حبه " أي حب المال، والايتاء حب الله، وهذا
أبلغ.
" وذوي القربى " قرابة المعطي، وقيل قرابة الرسول عليه السلام. قال
ابن عباس: في المال حقوق سوى الزكاة، ويدخل فيها ما يتطوع به الانسان قربة
إلى الله من الوقوف والصدقات والهبات لان ذلك كله من البر. قال: ولا يجوز
حمله على الزكاة المفروضة لأنه عطف عليه الزكاة.
وانما خص هؤلاء لان الغالب انه لا يوجد الاضطرار الا في هؤلاء، ولئلا
يظن أنه مستحق الزكاة الواجبة لا يجوز أن يعطى ما يتصدق به تطوعا، والآية
تعمها.

1) سورة البقرة: 177.
296

وشرائط الوقوف شيئان: ان يخرج الوقف من يده ويقبضه الموقوف
عليه أو من يتولى عنه، ويكون ملكا للواقف.
والوقف والصدقة شئ واحد، ولا يصحان الا بالقربة إلى الله تعالى.
والوقف لابد ان يكون مؤبدا.
297

كتاب الوصايا
الوصية مشتقة من وصاء النبت إذا اتصل بعضه ببعض، وكل وصية أمر
وليس كل أمر وصية، فعلى هذا معنى الوصية وصل الامر بمثله أو بغيره مما يؤكد. قال
أبو علي النحوي: كأن الموصي وصل جل امره بالموصى إليه. فقال: وصى
فلان وأوصى إذا وصل تصرف ما قبل الموت بما يكون بعد الموت. والتوصية
أبلغ من الايصاء لأنها لمرار كثيرة.
والأصل في ذلك الكتاب والسنة، اما الكتاب فقد قال الله تعالى " يوصيكم
الله في أولادكم " (1. فذكر ههنا الوصية في أربعة مواضع: أحدها قوله " فلأمه السدس
من بعد وصية ". الثاني في فرض الزوج، قال الله تعالى " فلكم الربع
مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ". والثالث في فرض الزوجة، قال
" فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ". الرابع قوله " فهم
شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين " (1. فثبت بذلك ان الوصية
لها حكم في الشرع.

1) سورة النساء 11 - 12.
298

فإذا ثبت هذا فالناس في الوصية على ثلاثة اضرب:
منهم من لا تصح له الوصية بحال، وهو الكافر الذي لا رحم له مع الميت
وعند المخالف الوارث.
والثاني: من تصح له الوصية بلا خلاف، مثل الأجانب، فإنه يستحب لهم
الوصية، وعندنا الوارث تصح له الوصية أيضا.
والثالث: من هو مختلف فيه، وهو على ضربين: منهم الأقرباء الذين
لا يرثونه بوجه، مثل ذوي الأرحام عند من لم يورث ذوي الأرحام مثل بنت
الأخ وبنت العم والخالة والعمة. والضرب الاخر يورثون لكن ربما يكون
معهم من يحجبهم، مثل الأخت مع الأب والولد، فإنه يستحب أن يوصي لهم
وليس بواجب.
وعندنا ان الوصية لهؤلاء كلهم مستحبة.
(باب)
(الحث على الوصية)
قال الله تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية
للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين " (1 معنى كتب فرض الا أنه ههنا
معناه الحث والترغيب دون الفرض والايجاب.
وفى الآية دلالة على أن الوصية للوارث جائزة، لأنه تعالى قال " للوالدين
والأقربين "، والوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرين غير قاتلين عمدا
وظلما. ومن خص الآية بالكافرين فقد قال قولا بلا دليل. ومن ادعى نسخ الآية
فلا نسلم له ذلك بلا دليل.
وبمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري سواء، فان ادعوا الاجماع على

1) سورة البقرة: 180.
299

نسخها كان ذلك دعوى باطلة ونحن نخالف في ذلك، وقد خالف في نسخها
طاوس، فإنه خصها بالكافرين لمكان الخبر ولم يحملها على النسخ، وقد قال أبو مسلم
محمد بن بحر ان هذه الآية مجملة وآية المواريث مفصلة وليست نسخا، فمع
هذا الخلاف كيف يدعى الاجماع على نسخها.
ومن ادعى نسخها بقوله عليه السلام " لا وصية لوارث " (1 فقد أبعد، لان هذا
أولا خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به اجماعا، ولو سلمنا الخبر لجاز أن نحمله
على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث، لأنا لو خلينا وظاهر الآية لاجزنا
الوصية بجميع ما يملك للوالدين والأقربين (2.
وأما من قال إن الآية منسوخة بأنه للوارث، فقوله أيضا بعيد من الصواب
لان الشئ انما ينسخ غيره إذا لم يكن الجمع بينهما، فأما إذا لم يكن بينهما
تناف ولا تضاد بل يمكن الجمع بينهما فلا يجب حمل الآية على النسخ، ولا
تنافى بين ذكر ما فرض الله للوالدين وغيرهما من الميراث وبين الامر للوصية لهم
على جهة الخصوص، فلم يجب حمل الآية على النسخ.
وقول من قال حصول الاجماع على أن الوصية ليست فرضا يدل على أنها
منسوخة. باطل أيضا، لان اجماعهم على أنها لا تفيد الفرض لا يمنع من كونها
مندوبا إليها ومرغبا فيها، ولأجل ذلك كانت الوصية للأقربين الذين ليسوا
بوارثين ثابتة بالآية ولم يقل أحد انها منسوخة في حيزهم.
ومن قال إن النسخ في الآية ما يتعلق بالوالدين - وهو قول الحسن - فقد
قال قولا ينافي ما قاله مدعو نسخ الآية على كل حال، ومع ذلك فليس الامر على
ما قال، لأنه لا دليل على دعواه.

1) مسند أحمد بن حنبل 4 / 186.
2) ذكر المرتضى الحديث المروى عن النبي " ص " بشأن الوصية للوارث وتكلم في
طرقه والرد عليه - راجع الانتصار ص 309 - 310.
300

وقال طاوس: إذا أوصى لغير ذي قرابته لم تجز وصيته. وقال الحسن:
ليست الوصية الا للأقربين. وهذا الذي قالاه عندنا وإن كان غير صحيح، فهو
مبطل قول من يدعي نسخ الآية. وانما قلنا إنه ليس بصحيح لان الوصية لغير الوالدين
والأقربين عندنا جائزة، ولا خلاف بين الفقهاء في جوازها.
والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث اجماعا، والأفضل أن تكون بأقل من الثلث
لقوله عليه السلام " والثلث كثير " (1.
وأحق من وصي له من كان أقرب للميت إذا كانوا فقراء، وان كانوا أغنياء
فقال الحسن هم أحق بها، وقال ابن مسعود الأحق بها الأحوج فالأحوج من
القرابة.
(فصل)
وقوله تعالى " ان ترك خيرا " يعنى مالا، واختلفوا في مقدار ما الذي يستحق
الوصية عنده: فقال الزهري كلما وقع عليه اسم مال من قليل أو كثير، وقال
إبراهيم النخعي ألف درهم إلى خمسمائة.
وروي أن عليا عليه السلام دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة درهم
أو ستمائة، فقال: ألا أوصي؟ فقال عليه السلام: لا، انما قال سبحانه " ان ترك
خيرا " وليس لك كثير مال. وبهذا يؤخذ، لان قوله عليه السلام عندنا حجة.
والوصية مرفوعة بكتب، ويجوز أن تكون مبتد أو خبره للوالدين. والجملة
في موضع رفع على الحكاية بمنزلة قيل لكم الوصية للوالدين.
وفي اعراب " إذا " والعامل فيه قولان: أحدهما كتب، على معنى إذا حضر
أحدكم الموت، أي عند المرض. والوجه الاخر قال الزجاج: لأنه رغب

1) وسائل الشيعة 13 / 363 من حديث عن أبي الحسن موسى عليه السلام.
301

في حال صحته أن يوصي، فتقديره كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين
بالمعروف في حال الصحة قائلين إذا حضرنا الموت فلفلان كذا.
والمعروف هو الذي لا يجوز أن ينكر ولا حيف فيه ولا جور.
والحضور وجود الشئ بحيث يمكن أن يدرك، وليس معناه في الآية إذا
حضره الموت أي إذا عاين الموت، لأنه في تلك الحال في شغل عن الوصية،
لكن المعنى كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الانسان
إذا حضرني الموت - يعنى إذا أنا مت - فلفلان كذا.
والحق هو الذي لا يجوز انكاره، وقيل ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا
أو اعتقادا، وهو مصدر حق يحق حقا، وانتصب في الآية على المصدر،
وتقديره أحق حقا، وقد استعمل على وجه الصفة بمعنى ذي الحق كما وصف
بالعدل.
وقوله " بالمعروف " معناه بالشئ الذي يعرف ذوو التمييز أنه لا حيف فيه
ولا جور على قدر التركة وحال الموصى له. وقيل معنى المعروف بالحق الذي
لا يجوز أن ينكر، وقيل أي لا يوصي بماله للغني ويدع الفقير.
وقال ابن مسعود: الوصية للأخل فالأخل، أي للأحوج فالأحوج على
ما قدمناه.
ومعنى حضره الموت حضرته أماراته ومقدماته.
(فصل)
ثم قال " فمن بدله بعد ما سمعه " الهاء عائدة على الوصية وانما ذكر حملا
على المعنى، لان الايصاء والوصية واحدة. والهاء في قوله " فإنما إثمه " عائدة
على التبديل الذي دل عليه قوله " فمن بدله بعد ما سمعه ". وقال الطبري: الهاء
تعود على محذوف، لان عودها على الوصية المذكورة لا يجوز، لان التبديل
302

انما يكون لوصية الموصي، فأما أمر الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدله.
قال الرماني: وهذا باطل، لان ذكر الله للوصية انما هو لوصية الموصي
فكأنه قيل كتب عليكم وصية مفروضة عليكم، فالهاء تعود إلى الوصية المفروضة
التي يفعلها الموصي.
وقوله " فمن بدله " فالتبديل هو تغيير الشئ عن الحق فيه، والبدل هو وضع
شئ مكان آخر.
ومن أوصى وصية في ضرار فبدلها الوصي لم يأثم بذلك. قال ابن عباس
من أوصى في ضرار لم تجز وصيته، لقوله " غير مضار ".
والوصي إذا بدل الوصية لم ينقص من أجر الموصي شئ كما لو لم يبدلها
لأنه لا يجازى أحد على عمل غيره، لكن يجوز ان يلحقه منافع الدعاء والاحسان
الواصل إلى الموصى له على غير وجه الاجر له.
وفي الآية دلالة على بطلان قول من يقول إن الوصي أو الوارث إذا لم يقض
دين الميت فإنه يؤخذ به في قبره أو في الآخرة، إذ لا اثم عليه في تبديل غيره
فأما ان قضى عنه من غير أن أوصى به فان الله تعالى يتفضل باسقاط العقاب عنه
إن شاء الله.
ثم قال تعالى " فمن خاف من موص جنفا أو اثما فأصلح بينهم فلا اثم
عليه " (1 لما حذر في الآية الأولى الوصي من تبديل أمر الوصية وأوعده أن يجاوز
ما أمر به أعقب ذلك بما للوصي أن يفعله فيما جعل إليه من الوصية، لان الأولى
كالعموم وهذا تخصيص له، فكأنه قال ليس للوصي أن يبدل أمر الوصية بعد سماعه
الا أن يخاف من الموصي أنه أمر بغير المعروف مخالفا لأمر الله، فحينئذ للوصي
أن يبدل ويصلح لأنه رد إلى أمر الله.

1) سورة البقرة: 182.
303

وقال المرتضى: لا تصح الوصية في حال الصحة والمرض جميعا بأكثر من
الثلث، وكذلك تمليك يستحق لموت المملك، وإذا أوصى الانسان بأكثر
من الثلث يرد إلى الثلث على ما نذكره.
(فصل)
فان قيل: كيف قال تعالى " فمن خاف من موص " لما قد وقع، والخوف
انما يكون لما لم يقع.
قلنا: فيه قولان:
أحدهما: أنه خاف أن يكون قد زل في وصيته فالخوف للمستقبل، وذلك
الخوف هو أن يظهر ما يدل على أنه قد زل، لأنه من جهة غالب الظن.
والثاني: لما اشتمل على الواقع ولم يقع جاز فيه خلاف ذلك، فيأمره بما
فيه الصلاح وما وقع رده إلى العدل بعد موته.
والجنف الجور، وهو الميل عن الحق. قال الحسن: هو أن يوصي في غير
القرابة. قال: فمن أوصى لغير قرابته رد إلى أن يجعل للقرابة الثلثان ولمن أوصى
له الثلث. وهذا باطل عندنا، لان الوصية لا يجوز صرفها عمن أوصى له، وانما
قال الحسن ذلك لقوله ان الوصية للقرابة واجبة، وعندنا أن الامر بخلافه على
ما بيناه.
وإذا خان الموصي في وصيته فللوصي أن يردها إلى العدل، وهو المروي
عن أبي عبد الله عليه السلام (1.
وقال قوم أي فمن خاف من موص في حال مرضه الذي يريد أن يوصي
فيه ويعطى بعضا ويضر ببعض فلا اثم أن يشير عليه بالحق ويرده إلى الصواب ويشرع

1) تفسير البرهان 1 / 179.
304

بالاصلاح بين الموصي والورثة والموصى له، حتى يكون الكل راضين ولا
يحصل حيف ولا ظلم ويكون ذا صلح بينهم يريد فيما يخاف من حدوث الخلاف
فيه فيما بعده. ويكون قوله " فمن خاف " على ظاهره، فيكون الخوف مترقبا
غير واقع. وهذا قريب أيضا غير أن الأول أصوب.
وانما قيل للمتوسط بالاصلاح ليس عليه اثم ولم يقل فله الاجر على الاصلاح
لان المتوسط انما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض
حقه بسؤاله إياه فاحتاج أن يبين الله تعالى لنا أنه لا اثم عليه في ذلك إذا
قصد الاصلاح.
والضمير في قوله " بينهم " عائد إلى الموصى له ومن ينازعه لان الكلام
عليه، وقيل يعود إلى الوالدين والأقربين. وقوله " فلا اثم عليه " قد ذكرنا أن
الضمير عائد إلى المصلح المذكور في " من " وقيل الضمير عائد إلى الوصي.
والحيف في الوصية على جهة الخطاء لأنه لا يدري أنه لا يجوز، والاثم أن
يتعمد ذلك، روي ذلك عن الباقر عليه السلام. وقيل: الحيف بأن يوصي أكثر
من الثلث أو يوصي بمال في المعصية أو انفاق في غير مرضاة الله، فان ذلك كله
يرد ولا ينفذ.
فأما أن يوصي الرجل لابن بنته وله أولاد أو يوصي لزوج بنته وله أولاد،
فلا يجوز رده على وجه عندنا، وكذا ان وصى للبعيد دون القريب لا ترد وصيته.
(باب)
(الوصية للوارث وغيره من القرابات)
(وأحكام الأوصياء)
الوصية للوارث جائزة بدلالة قوله تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم
305

الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين " (1، وهذا نص في موضع
الخلاف على ما قدمناه. وقولهم ان هذه الآية منسوخة من غير دليل على نسخها
لا يغني شيئا.
وأيضا قوله تعالى " من بعد وصية يوصى بها أو دين " (2 وهذا عام في
الأقارب والأجانب، فمن خص به الأجانب دون الأقارب، فقد عدل عن الظاهر
بغير دليل.
فان قالوا: ان الآية منسوخة بآية المواريث. الجواب: ان النسخ انما
يكون إذا تنافى العمل بموجبهما، ولا تنافى بين آية الوصية وآية المواريث
والعمل بمقتضاهما سائغ، فكيف يجوز أن يدعى النسخ في ذلك مع فقد التنافي
ولا يجوز أن ينسخ بما يقتضى الظن كتاب الله الذي يوجب العمل، وإذا كنا لا
نخصص كتاب الله بأخبار الآحاد فالأولى أن لا ننسخه بها.
وقال تعالى " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم
منه وقولا لهم قولا معروفا (3 عن ابن عباس: ان الخطاب بقوله " فارزقوهم "
متوجه إلى من حضرته الوفاة وأراد الوصية، فإنه ينبغي لهم أن يوصوا لمن
لا يرث من الأقرباء بشئ من أموالهم ان كانوا أغنياء ويعتذرون إليه ان كانوا فقراء.
ورزق الانسان غيره يكون على معنى التمليك.
ثم قال تعالى " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم
فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " (4. قيل في معنى الآية أربعة أقوال:
أحدها: النهي عن الوصية بما يجحف بالورثة ويضر بهم.

1) سورة البقرة: 180.
2) سورة النساء: 11.
3) سورة النساء: 8.
4) سورة النساء: 9.
306

الثاني: قال الحسن كان الرجل يكون عند الميت يقول له أوص بأكثر من
الثلث من مالك فنهاه الله عن ذلك.
الثالث: قال ابن عباس انه خطاب لولي اليتيم، يأمره بأداء الأمانة فيه والقيام
بحفظه، كما لو خاف على مخلفيه إذا كانوا ضعافا وأحب أن يفعل بهم مثل ذلك.
الرابع: قال ميثم هي في حرمان ذوي القربى أن يوصي لهم، بأن يقول الحاضر
للوصية لا توص لأقاربك ووفر على ورثتك.
ومعنى الآية أنه ينبغي للمؤمن الذي لو ترك ذرية ضعافا بعد موته خاف عليهم
الفقر والضياع أن يخش على ورثة غيره من الفقر والضياع ولا يقول لمن يحضر
وصيته أن يوصي بما يضر بورثته وليتق الاضرار بورثة المؤمن.
(فصل)
ثم خوف الله تعالى الأوصياء وأوعدهم بقوله " ان الذين يأكلون أموال
اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا " (1، وانما علق سبحانه الوعيد في
الآية بمن يأكل أموال اليتامى ظلما لأنه قد يأكله على وجه الاستحقاق، بأن
يأخذ الوصي منه وغيره أجرة المثل على ما قلناه، أو يأكل منه بالمعروف على
ما فسرناه، أو يأخذه قرضا على نفسه.
فان قيل: إذا أخذه قرضا على نفسه أو أجرة المثل على ما قلناه فلا يكون
أكل مال اليتيم وانما أكل مال نفسه.
قلنا: ليس الامر على ذلك، لأنه يكون أكل مال اليتيم لكنه على وجه
التزم عوضه في ذمته أو استحقه بالعمل في ماله، فلم يخرج بذلك من استحقاق
الاسم بأنه مال اليتيم. ولو سلم ذلك لجاز أن يكون المراد بذلك ضربا من

1) سورة النساء: 10.
307

التأكيد وبيانا، لأنه لا يكون أكل مال اليتيم [لا ظلما، و " ظلما " نصب على المصدر
وأكل مال اليتيم] (1 وغصبه يتساويان في توجه الوعيد إليه.
وقال تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " (2
نهى سبحانه جميع المكلفين أن يتصرفوا في أموال اليتامى، بل يحفظوا على
اليتيم ماله ويثمروه على مالا يشك أنه أصلح له، فأما بغير ذلك فلا يجوز لاحد
التصرف فيه. وانما خص اليتيم بذلك - وإن كان التصرف في مال الغير بغير
اذنه لا يجوز أيضا - لان اليتيم إلى ذلك أحوج والطمع في ذلك أكثر.
" حتى يبلغ أشده " أي حتى يبلغ الحلم، وقيل حتى يبلغ كمال العقل
ويؤنس منه الرشد.
وقال تعالى " وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " (3 هذا
خطاب لأوصياء اليتامى، أمرهم الله بأن يعطوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا الحلم
وأونس منهم الرشد. وسماهم يتامى بعد البلوغ مجازا، لأنه عليه السلام قال
" لا يتم بعد حلم ".
وقيل: كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلون مكانه
الردئ، قال لهم لا تتبدلوا الخبيث بالطيب، أي لا تستبدلوا ما حرمه الله عليكم
من أموالهم بما أحله لكم من أموالكم " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " أي
لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم فتأكلوهما جميعا. فأما خلط مال اليتيم بمال نفسه
إذا لم يظلمه فلا بأس به.
قال الحسن: لما نزلت هذه الآية كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم
فأنزل الله " ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير وان تخالطوهم فإخوانكم

1) الزيادة من ج.
2) سورة الأنعام: 152.
3) سورة النساء: 2.
308

والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم " (1 وهو المروي عنهما
عليهما السلام.
وقال في سورة الأنعام " ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ
أشده " (2 المراد بالقرب التصرف فيه على ما قدمناه، وانما خص اليتيم لأنه لما
كان لا يدفع عن نفسه ولا له والد يدفع عنه وكان الطمع في ماله أقوى تأكد
النهي في التصرف في ماله " الا بالتي هي أحسن " أي يحفظه عليه إلى أن يكبر
أو بتثميره بالتجارة.
(باب)
(ما على وصي اليتيم)
قال الله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " (3 قال ابن جبير: يعني بأموالكم
أموالهم، كما قال " ولا تقتلوا أنفسكم " (4 قال: وهم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم
وارزقوهم فيها واكسوهم.
والأولى حمل الآية على الامرين لان العموم يقتضي ذلك، فلا يجوز أن يعطى
السفيه الذي يفسد المال ولا اليتيم الذي لم يبلغ ولا الذي بلغ ولم يؤنس منه
الرشد ولا أن يوصى إلى سفيه ولا يخص بعض دون بعض، فالموصي إذا كان عاقلا
حرا ثابت العقل لا يوصى إلى سفيه ولا إلى فاسق ولا إلى عبد لأنه لا يملك مع
سيده شيئا، بل يختار لوصيته عاقلا مسلما عدلا حكيما. وانما تكون إضافة مال اليتيم

1) سورة البقرة: 220.
2) سورة الأنعام: 152.
3) سورة النساء: 5.
4) سورة النساء: 29.
309

إلى من له القيام بأمرهم على ضرب من المجاز، أو لأنه لا يعطى الأولياء ما
يخصهم لمن هو سفيه.
ويجرى ذلك مجرى قول القائل لواحد: يا فلان أكلتم أموالكم بينكم
بالباطل. فيخاطب الواحد بخطاب الجميع ويريد به أنك وأصحابك أكلتم.
والتقدير في الآية: لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم فتضيعوها.
ومعنى قوله " وقولوا لهم قولا معروفا " أي يا معشر ولاة السفهاء قولوا للسفهاء
ان صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وقال الزجاج: علموهم مع اطعامكم
إياهم وكسوتهم أمر دينهم.
وفي الآية دلالة على جواز الحجر على اليتيم إذا بلغ ولم يؤنس منه الرشد،
لأنه منع تعالى من دفع المال إلى السفهاء. وفيها أيضا دلالة على وجوب الوصية
إذا كان الورثة سفهاء، لان ترك الوصية بمنزلة اعطاء المال في حال الحياة إلى
من هو سفيه.
وانما سمي الناقص العقل سفيها وان لم يكن عاصيا لان السفه هو خفة الحلم.
(فصل)
ثم قال تعالى " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم
رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " (1 هذا خطاب لأولياء اليتامى. أمر الله أن يختبروا
عقول اليتامى في أفهامهم وصلاحهم في أديانهم واصلاح أموالهم.
وقوله " حتى إذا بلغوا النكاح " معناه حتى يبلغوا الحد الذي يقدر على
مجامعة النساء وينزل، وليس المراد الاحتلام، لان في الناس من لا يحتلم أو يتأخر
احتلامه.

1) سورة النساء: 6.
310

وفي المفسرين من قال: إذا كمل عقله وأونس منه الرشد سلم إليه ماله،
وهو الأقوى. ومنهم من قال: لا يسلم إليه حتى يكمل له خمسة عشر سنة إذا كان
عاقلا، لان هذا حكم شرعي وبكمال العقل يلزمه المعارف لا غير.
" فان آنستم منهم رشدا " أي وجدتم منهم صلاحا وعقلا ودينا واصلاح
المال فادفعوا إليهم أموالهم. والأقوى أن يحمل على أن المراد به العقل، واصلاح
المال هو المروي عن أبي جعفر عليه السلام (1، للاجماع على أن من يكون كذلك
لا يجوز على الحجر في ماله وإن كان فاجرا في دينه، فإذا كان ذلك اجماعا فكذلك
إذا بلغ وله مال في يدي وصي أبيه أو في يد حاكم قد ولي ماله وجب عليه أن
يسلم إليه ماله إذا كان عاقلا مصلحا لما له وإن كان فاسقا في دينه.
وفي الآية دلالة على جواز الحجر على العاقل إذا كان مفسدا في ماله من
حيث أنه إذا كان عند البلوغ يجوز منعه المال إذا كان مفسدا له فكذلك في حال
كمال العقل إذا صار بحيث يفسد المال جاز الحجر عليه، وهو المشهور في أخبارنا.
ثم قال " ولا تأكلوها اسرافا وبدارا أن يكبروا " خطاب لأولياء اليتيم أيضا،
أي لا تأكلوها بغير ما أباحه لكم ولا مبادرة منهم ببلوغهم وايناس الرشد منهم
حذرا أن يبلغوا فيلزمهم ردها إليهم. وموضع أن " يكبروا " نصب بالمبادرة،
والمعنى لا تأكلوها مبادرة كبرهم.
ومن كان من ولاة أموال اليتامى غنيا فليستعفف بماله عن أكلها، ومن كان
فقيرا فليأكل بالقرض، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، ألا ترى أنه قال
" فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ".
وقال الحسن: يأخذ ما سد الجوعة ووارى العورة ولا قضاء عليه ولم يوجب
أجرة المثل. قال: لان أجرة المثل ربما كان أكثر من قدر الحاجة. والظاهر في

1) تفسير البرهان 1 / 345.
311

أخبارنا ان له أجرة المثل سواء كان قدر كفايته أو لم يكن.
واختلفوا في هل للفقير من أولياء اليتيم أن يأكل من ماله هو وعياله: فقال
بعضهم ليس له ذلك لقوله " فليأكل " فخصه بالاكل، وقال غيره له ذلك لان
قوله " بالمعروف " يقتضي أن يأكل هو وعياله على ما جرت به العادة في أمثاله.
وقال: إن كان المال واسعا كان له أن يأخذ قدر كفايته له ولمن يلزمه نفقته من
غير اسراف، وإن كان قليلا كان له أجرة المثل لا غير. وانما لم يجعل له أجرة المثل
إذا كان المال كثيرا لأنه ربما كان أجرة المثل أكثر من نفقته من غير اسراف، وإن كان
قليلا كان له أجرة المثل من نفقته بالمعروف على ما قلناه من أن له أجرة المثل
سقط بهذا الاعتبار.
ثم أمر الأولياء أن يحتاطوا لأنفسهم أيضا بالاشهاد عليهم إذا دفعوا إليهم
أموالهم لئلا يقع منهم جحودهم ويكون أبعد من التهمة، وسواء كان ذلك في
أيديهم أو استقرضوه دينا على أنفسهم، فان الاشهاد يقتضيه الاحتياط وليس بواجب،
" وكفى بالله شهيدا " بايصال الحق إلى صاحبه.
وولي اليتيم المأمور بابتلائه هو الذي جعل إليه القيام به من وصي أو حاكم
أو أمين ينصبه الحاكم، وأصحابنا انما أجازوا الاستقراض من مال اليتيم إذا
كان مليا.
(باب)
(الوصية المبهمة)
عن معاوية بن عمار: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أوصى بجزء من
ماله. قال: جزء من عشرة، قال الله تعالى " ثم اجعل على كل جبل منهن
312

جزءا " (1 وكانت الجبال عشرة أجبل (2.
وعن إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا عليه السلام في الرجل أوصى بجزء
من ماله. قال: الجزء من سبعة، قال تعالى " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء
مقسوم " (3.
والوجه في الجمع بينهما أن يحمل الجزء على أنه يجب ان ينفذ في واحد
من العشرة، ويستحب للورثة أن ينفذوا في واحد من السبعة.
وعن صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر سألنا الرضا عليه السلام عن
رجل أوصى لك بسهم من ماله ولا ندري السهم أي شئ هو؟ فقال: ليس عندكم
فيما بلغكم عن جعفر ولا عن أبي جعفر فيها شئ؟ قلنا له: ما سمعنا أصحابنا
يذكرون شيئا من هذا عن آبائك. فقال: السهم [واحد] (4 من ثمانية. فقلنا:
فكيف واحد من ثمانية. فقال: أما تقرأون كتاب الله. قلت: اني لأقرأه ولكن
لا أدري أي موضع هو. فقال: قول الله " انما الصدقات للفقراء والمساكين
والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن
السبيل " (5، ثم عقد بيده ثمانية (6.
وإذا أوصى انسان لغيره بكثير من ماله أو نذر أن يتصدق بمال كثير فالكثير
ثمانون فما زاد، لقول الله تعالى " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة " (7 وكانت
ثمانين موطنا.

1) سورة البقرة: 260.
2) وسائل الشيعة 13 / 443 وفيه " عشرة أجبال ".
3) وسائل الشيعة 13 / 447. والآية في سورة الحجر: 44.
4) الزيادة من المصدر.
5) سورة التوبة: 60.
6) وسائل الشيعة 13 / 448.
7) سورة التوبة: 25.
313

والأحسن أن يقيد الكلام، فيقول المال الكثير ثمانون درهما، الا إذا كان
مضافا إلى جنس فإذا يكون منه خاصة.
وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أن من أوصى بشئ من ماله كان
ذلك السدس (1.
وعن الحسين بن عمر: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ان رجلا أوصى إلي
بشئ في سبيل الله قال: اصرف إلى الحج، فاني لا أعلم شيئا من سبله أعظم
من الحج (2.
وعن الحسين بن راشد: سألت العسكري عليه السلام: بالمدينة عن رجل
أوصى بمال في سبيل الله. فقال: سبيل الله شيعتنا (3.
ذكر أبو جعفر ابن بابويه رحمة الله عليه الوجه في الجمع بين الخبرين ان
المعنى في ذلك أن يعطي المال لرجل من الشيعة ليحج به، فقد انصرف في
الوجهين معا وسلم الخبران من التناقض (4. وهذا وجه حسن.
على أنه ان أوصى انسان بثلث ماله في سبيل الله ولم يسم أخرج في معونة
المجاهدين لأهل الضلال، فإن لم يحضر مجاهد في سبيل الله يصرف أكثره في
فقراء آل محمد عليه وعليهم السلام ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ثم يصرف
ما بقي بعد ذلك في معونة الفقراء والمساكين وأبناء السبيل عامة، وفي جميع
وجوه البر.
وان أوصى انسان لأولاده شيئا وقال هو بينهم على كتاب الله، كان للذكر

1) وسائل الشيعة 13 / 450 بمضمونه.
2) من لا يحضره الفقيه 4 / 206 مع اختصار هنا.
3) من لا يحضره الفقيه 4 / 206.
4) من لا يحضره الفقيه 4 / 207 ونقل الكلام هنا بالمعنى.
314

مثل حظ الأنثيين، وان أبهم ولم يبين كيفية القسمة بينهم أصلا كان بينهم
بالسوية.
وإذا أوصى المسلم للفقراء كان ذلك لفقراء المسلمين، وان أوصى الكافر كان ذلك
لفقراء أهل ذمته، فقد حدث أبو طالب [عن] (1 عبد الله بن الصلت قال: كتب الخليل
ابن هاشم إلى ذي الرياستين وهو والي نيسابور: ان رجلا من المجوس مات
وأوصى للفقراء بشئ من ماله فأخذه قاضي نيسابور فجعله في فقراء المسلمين.
[فكتب الخليل إلى ذي الرياستين بذلك] (2) فسأل المأمون عن ذلك فقال: ليس
عندي في ذلك شئ، فسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام فقال: ان المجوسي لم
يوص لفقراء المسلمين، ولكن ينبغي أن يؤخذ مقدار ذلك المال من مال الصدقة
فيرد على فقراء المجوس (3 ان الله تعالى يقول " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه
على الذين يبدلونه ".
(باب)
(الوصية التي يقال لها راحة الموت)
قال الله تعالى " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " (4 أي وصى إبراهيم
ويعقوب عليهما السلام بنيهما بلزوم شريعة إبراهيم التي هي الاسلام، وقالا: ان
الله رضيه لكم دينا فلا تفارقوه ما عشتم.
وجاء في التفسير: ان إبراهيم جمع ولده أسباطه وقال إن الاسلام دين الله

1) كذا في ج وليس في م ولا في المصدر.
2) الزيادة من المصدر.
3) وسائل الشيعة 13 / 414، وليس فيه الاستشهاد بالآية ذيلا.
4) سورة البقرة: 132.
315

الذي تعبدكم به فالزموه ولا تعدلوا عنه ولو نشرتم بالمناشير وقرضتم بالمقاريض
وأحرقتم بالنار.
" وجعلها كلمة باقية في عقبه " أي جعل هذه الوصية بقيت في عقبه يذكرونها،
وكان في وصيته: يا بني عليكم أن تظهروا كل حسنة وجدتم من غيركم، وأن
تستروا كل سيئة وفاحشة وإياكم أن تشيعوها.
وقوله " ولا تموتن " وإن كان على لفظ النهي، فما نهوا عن الموت وانما نهوا
في الحقيقة عن ترك الاسلام لئلا يصادفهم الموت عليه. وتقديره لا تتعرضوا
للموت عن ترك الاسلام بفعل الكفر، ومثله في كلام العرب " لا أرينك ههنا "،
فالنهي للمتكلم في اللفظ وانما هو في الحقيقة للمخاطب، فكأنه قال لا تتعرض
لان أراك بكونك ههنا.
" وأنتم مسلمون " جملة في موضع الحال، أي لا تموتن الا مسلمين.
واقتصروا على تفعلة في مصدر وصى فقالوا وصى توصية، ورفضوا تفعيلا
لئلا تجتمع ثلاث ياءات. ومعنى وصى أمر وعهد. والفرق بينهما أن الامر يحصل
بلفظ الامر [ولو مرة، والوصية وصل لفظة الامر بمثله] (1) أو بغيره مما يؤكده
على ما قدمنا.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: من أوصى ولم يحف ولم يضار كمن
تصدق به في حياته (2)، ومن لم يوص عند موته لذي قرابته ممن لا يرث فقد ختم
عمله بمعصية (3، قال الله تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك

1) الزيادة من ج.
2) من لا يحضره الفقيه 4 / 182.
3) في المصدر السابق ورد هذا اللفظ في حديث عن الصادق عليه السلام وليس فيه
" ممن لا يرث ".
316

خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين " (1.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: الوصية تمام ما نقص عن الزكاة، ومن لم
يحسن وصيته عند الموت كان نقصا في مروته وعقله. قالوا: يا رسول الله فكيف
الوصية؟ قال: إذا حضرته الوفاة قال: اللهم إني أعهد إليك أنى اشهد ألا اله
الا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن القول كما حدث، اللهم أنت ثقتي وعدتي
صل على محمد وآل محمد وآنس في قبري وحشتي واجعل لي عندك عهدا يوم
ألقاك (2.
وقال الصادق عليه السلام: وتصديق هذا في سوره مريم، قول الله تعالى
" لا يملكون الشفاعة الا من اتخذ عند الرحمن عهدا " (3 وهذا هو العهد (4.
(باب)
(من تجوز شهادته في الوصية)
(وشرائط الوصية)
من شرط الوصية أن يشهد الموصى عليه تعيين عدلين لئلا يعترض فيه
الورثة، فإن لم يشهد وأمكن الوصي انفاذ الوصية جاز له انفاذها على ما أوصى
به إليه، قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت
حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " (5
قال حمزة بن حمران: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية. فقال

1) سورة البقرة: 180.
2) وسائل الشيعة 13 / 353 مع اختلاف في ألفاظ.
3) سورة مريم: 87.
4) وسائل الشيعة 3 / 354 في ذيل الحديث السابق.
5) سورة المائدة: 106.
317

اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب. ثم قال: إذا مات الرجل
المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيته فلم يجد مسلمين
فليشهد على وصيته رجلين ذميين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما (1.
وعن يحيى بن محمد عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن قوله " يا أيها
الذين آمنوا شهادة بينكم " الآية. قال: اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم
من أهل الكتاب، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس، لان رسول الله
صلى الله عليه وآله شبه المجوس بأهل الكتاب في الجزية. قال: وإذا مات في
أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب.
" تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى
ولا نكتم شهادة الله انا إذا لمن الاثمين " قال: وذلك أن ارتاب ولي الميت
في شهادتهما.
" فان عثر على أنهما استحقا اثما " أي شهدا بالباطل " فآخران يقومان
مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما
وما اعتدينا انا إذا لمن الظالمين " فإذا فعل ذلك نقض شهادة الأولين وجازت
شهادة الآخرين، لقول الله عز وجل " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها
أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " (2.
(فصل)
وقد تقدم بيان هذه الآية في باب الشهادة ونزيدها ايضاحا ههنا فنقول:
ان قوله " اثنان " ارتفع عل أنه خبر للمبتدأ الذي هو " شهادة بينكم "، أو

1) وسائل الشيعة 13 / 392.
2) المصدر السابق.
318

على أنه فاعل " شهادة بينكم " على معنى فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان،
و " إذا حضر " ظرف للشهادة و " حين الوصية " بدل منه.
وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الاجل. وقيل " منكم " أي
من أقاربكم و " من غيركم " أي من أجانبكم. فعلى هذا معناه ان وقع الموت
في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية.
وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح
والأصح ما قدمناه ان قوله " منكم " أي من المسلمين و " من غيركم " أي من
أهل الذمة.
وقوله " ان ارتبتم " اعتراض بين القسم والمقسم عليه، أي ان اتهمتموهما
فحلفوهما، والضمير في " به " للقسم وفى " كان " للمقسم له، يعني لا يستدل
بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا، أي لا يحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو
كان من يقسم له قريبا منا.
وقوله " شهادة الله " أي الشهادة التي أمر الله بتعظيمها وحفظها.
وقوله " تحبسونهما " تقفونهما وتصيرونهما للحلف من بعد الصلاة. وقيل
اللام في الصلاة للجنس، والقصد بالتحليف على أثرها أن تكون الصلاة لطفا
في النطق بالصدق وناهية عن الكذب، فان اطلع على أنهما فعلا ما أوجب
اثما فاستوجبا أن يقال لهما انهما من الاثمين.
" فشاهدان آخران " من الذين جني عليهم وهم أهل الميت، و " الأوليان "
اللاحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما الأوليان، كأنه قيل
ومن هما فقيل الأوليان وقيل " هما " بدل من الضمير في " يقومان " أو " من
آخران "، وقرئ " الأولين " على أنه وصف للذين استحق عليهم.
ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها، ذلك
319

الذي يقدم من بيان الحكم " أدنى أن تأتوا بالشهادة " على نحو تلك الحادثة
ان تكرر أيمان شهود آخرين بعد ايمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم، كما جرى
في قصة بديل على ما تقدم.
ويجوز شهادة النساء عند عدم الرجال، فإن لم تحضر الا امرأة جازت
شهادتها في ربع الوصية، فان حضرت اثنتان جازت شهادتهما في النصف،
والثلاث في النصف والربع، والأربع في كل الوصية إذا كانت بالثلث فما دونه.
والعدالة معتبرة في المواضع كلها.
(باب نادر)
عن سلمى مولاة ولد أبي عبد الله عليه السلام (1: كنت عنده حين حضرته
الوفاة، فأغمي عليه فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي بن الحسين بن علي
- وهو الأفطس - سبعين دينارا. قلت: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة؟ قال:
ويحك أما تقرئين القرآن. قلت: بلى. قال: أما سمعت قول الله تعالى (2 " الذين
يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " (3).
وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله أبى وأنا حاضر
عن قوله تعالى " حتى إذا بلغ أشده واستوى " (4. قال: الاحتلام. قال: فقال
يحتلم في ست عشرة سنة وسبع عشرة ونحوها. فقال: لا أتت عليه ثلاث عشرة
سنة كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات وجاز أمره الا أن يكون سفيها أو
ضعيفا. فقال: وما السفيه؟ فقال: الذي يشتري الدرهم بأضعافه. قال: وما

1) في المصدر " عن سالمة مولاة أم ولد كانت لأبي عبد الله ".
2) سورة الرعد: 21.
3) تفسير البرهان 2 / 289.
4) سورة القصص: 14.
320

الضعيف؟ فقال: الأبله (1.
وعن العيص بن القاسم قال: سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال:
إذا علمت أنها لا تفسد ولا تضيع. فسألته: ان كانت تزوجت. فقال: إذا تزوجت
فقد انقطع ملك الوصي عنها (2.
وقال: إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب
فإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك، وذلك انها تحيض لتسع سنين (3 ولا
يدخل بالجارية حتى يأتي بها تسع سنين أو عشرة سنين.
وقوله تعالى " للرجل نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " (4
يمكن أن يقال: ان المعنى للآية ان للرجل وللنساء نصيبا مما اكتسبوا، وهو
الثلث من أموالهم الذي يصح لهم أن يوصوا به في صدقة أو صلة ان أشرفوا
على الموت، فإذا وصوا بثلث من أموالهم يجب ان يمضى وينفذ ذلك فإنه نصيبهم.
(باب الاقرار)
اقرار الحر البالغ الثابت العقل غير المولى عليه جائز على نفسه للكتاب
والسنة:
أما الكتاب فقوله تعالى " أولا يستطيع ان يمل هو فليملل وليه بالعدل " (5
أي فليقر وليه بالحق غير زائد ولا ناقص، وهو العدل.

1) وسائل الشيعة 13 / 430.
2) المصدر السابق 13 / 432.
3) الكافي 7 / 69. وليس فيه الذيل المذكور هنا.
4) سورة النساء: 32.
5) سورة البقرة: 282.
321

وأيضا قوله تعالى " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم " (1
والشهادة على النفس هو الاقرار بما عليها.
وقوله " فاعترفوا بذنبهم " (2 وقوله " فاعترفنا بذنوبنا " (3 و " آخرون
اعترفوا بذنوبهم " (4. والاقرار والاعتراف واحد.
وأيضا قوله " ألست بربكم قالوا بلى " (5) وقوله " ألم يأتكم نذير قالوا
بلى قد جاءنا نذير " (6.
ولا يجوز أن يكون الجواب في مثل هذا الا ببلى، ولو قال نعم كان انكارا
ولم يكن اقرارا ويكون تقديره نعم لست ربنا ولم يأتنا نذير، ولهذا يقول الفقهاء
إذا قال رجل لاخر " أليس لي عليك ألف درهم " فقال " بلى " كان اقرارا وان
قال نعم لم يكن اقرارا، ومعناه ليس لك علي.
(باب الزيادات)
روى السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن رجل يوصي بسهم
من ماله. فقال: السهم واحد من ثمانية، لقول الله تعالى " انما الصدقات للفقراء
والمساكين " الآية (7.
وقد روي أن السهم واحد من ستة (8.

1) سورة النساء: 135.
2) سورة الملك: 11.
3) سورة غافر: 11.
4) سورة التوبة: 12.
5) سورة الأعراف: 172.
6) لفظ " بلى " جواب كلام مقرون بالنفي، و " نعم " جواب كلام مقرون بالاثبات " م ".
7) الكافي 7 / 41.
8) وسائل الشيعة 13 / 449.
322

والحديثان متفقان لا تناقض بينهما، فتمضى الوصية على ما يظهر من مراد
الموصى، فمتى أوصى بسهم من سهام الزكاة كان السهم واحدا من ثمانية ومتى
أوصى بسهم من سهام المواريث فالسهم واحد من ستة.
وعن علي بن مزيد صاحب السابري قال: أوصى إلي رجل بتركته وأمرني
أن أحج بها عنه، فنظرت في ذلك فإذا شئ يسير لا يكون للحج، فسألت أبا حنيفة
وفقهاء أهل الكوفة فقالوا تصدق بها عنه، فلما لقيت عبد الله بن الحسن في
الطواف سألته، فقال: هذا جعفر بن محمد في الحجر فسله، فدخلت الحجر
فإذا هو تحت الميزاب، فقلت: أوصى إلي رجل أن أحج عنه بتركته فلم تكف
فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا تصدق بها عنه. فقال عليه السلام: ما صنعت؟
قلت: تصدقت بها عنه. فقال: ضمنت الا أن لا يكون مبلغ ما يحج به من مكة،
فإن كان لا يبلغ ما يحج به من مكة فليس عليك ضمان، وإن كان بلغ ما يحج به من
مكة فأنت ضامن (1.
وسئل عليه السلام أيضا عن رجل أوصى بحجة فجعلها وصيه في نسمة.
فقال: يغرمها وصيه ويجعلها في حجة كما أوصى به، فان الله تعالى يقول " فمن
بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ان الله سميع عليم " (2.

1) من لا يحضره الفقيه 4 / 207 مع تغيير واختصار هنا.
2) الكافي 7 / 22.
323

كتاب المواريث
قال الله تعالى " للرجل نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب
مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا " (1 فجعل تعالى
تركة الميت لأقاربه من الرجال والنساء على سهام بينها في موضع آخر من كتابه
وسنة نبيه عليه السلام، فينبغي أن يعرف السهام على حقائقها في مواضعها.
ونسلك في عملها طريق المعرفة بها دون غيره ليحصل للانسان فهمها ويستقر
لها الحكم فيها على يقين انشاء الله تعالى.
(باب)
(كيفية ترتيب نزول المواريث)
اعلم أن الجاهلية كانوا يتوارثون بالحلف والنصرة، وأقروا على ذلك في

1) سورة النساء: 7.
324

صدر الاسلام في قوله تعالى " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " (1 ثم
نسخ مع وجود ذوي الأنساب بسورة الأنفال في قوله تعالى " وأولو الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " (2.
وكانوا يتوارثون بعد ذلك بالاسلام والهجرة، فروي أن النبي صلى الله عليه
وآله آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة، فكان يرث المهاجري من
الأنصاري والأنصاري من المهاجري ولا يرث وارثه الذي كان له بمكة وإن كان
مسلما لقوله " ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله
والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا
مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا " (3.
ثم نسخت هذه الآية بالقرابة والرحم والنسب والأسباب بقوله " وأولو
الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين الا أن تفعلوا
إلى أوليائكم معروفا " (4. فبين تعالى أن أولى الأرحام أولى من المهاجرين
الا أن يكون وصية، ولقوله تعالى " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون "
الآية.
ثم قدر ذلك في سورة الناس في ثلاث آيات، وهي أمهات أحكام المواريث
ذكر الله فيها أصول الفرائض، وهي سبعة عشر فريضة، فذكر في قوله " يوصيكم
الله في أولادكم " ثلاثا في الأولاد وثلاثا في الأبوين واثنتين في الزوج واثنتين
في المرأة واثنتين في الأخوات من الام، وذكر في آخر هذه السورة في قوله تعالى
" يستفتونك قل الله يفتيكم " الآية أربعا في الاخوة وأخوات من الأب والام أو الأب

1) سورة النساء: 33.
2) سورة الأنفال: 75.
3) سورة الأنفال: 72.
4) وسائل الشيعة 17 / 415.
325

مع عدمهم من الأب والام، وذكر واحدة - وهي تمام السبع عشرة فريضة -
في قوله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ".
(فصل)
(في بيان ذلك)
ذكر تعالى أولا فرض ثلاثة من الأولاد، جعل للبنت النصف ولبنتين فصاعدا
الثلثين وان كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين، ثم بين ذكر الوالدين
في قوله " ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن
له ولد وورثة أبوابه فلأمه الثلث فإن كان له أخوة فلأمه السدس "، ذكر أن
لكل واحد من الأبوين السدس مع الولد بالفرض، فإن لم يكن ولد فللام
الثلث والباقي للأب، وإن كان أخوة من الأب والام أو من الأب فلأمه السدس
والباقي للأب هذه الآية الأولى.
ثم قال " ولكم نصف ما ترك أزواجكم " فذكر في صدر الآية حكمهم
وذكر في آخرها حكم الكلالة من الام، ذكر في أولها حكم الزوج والزوجة
وأن للزوج النصف إذا لم يكن ثم ولد، فإن كان ولد فله الربع، وان للزوجة
الربع إذا لم يكن ولد، فإن كان ولد فلها الثمن. ثم عقب بكلالة الام فقال إن
كان له أخ من أم أو أخت منها فله أولها السدس، وان كانوا اثنتين فصاعدا
فلهم الثلث.
وفي قراءة ابن مسعود " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت
[من أم] فلكل واحد منهما السدس " (1.
وأيضا فان الله لما ذكر أنثى وذكرا وجعل لهما الثلث ولم يفصل أحدهما

1) سورة النساء: 12.
326

عن الاخر ثبت انهما يأخذان بالرحم، وذكر في قوله " يستفتونك في النساء
" قل الله يفتيكم في الكلالة " (1 في آخر سورة المائدة (2) يذكر فيها أربعة أحكام:
ذكر أن للأخت من الأب والام إذا كانت واحدة فلها النصف، ان ماتت وهي
لم يكن لها ولد ولها أخ فالأخ يأخذ الكل، وان كانتا اثنتين فصاعدا فلهما أو
لهن الثلثان، وان كانوا أخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الأنثيين، فإن لم
يكن أخ ولا أخت من الأب والام فحكم الأخت الواحدة من الأب والأخ من
الأب وحكم الأختين فصاعدا من الأب وحكم الاخوة والأخوات معا من الأب
حكم الاخوة والأخوات من الأب والام على ما ذكرناه.
وقال ابن عباس: من تعلم سورة النساء وعلم من يحجب ومن لا يحجب
فقد علم الفرائض.
(باب)
(ما يستحق به المواريث وذكر سهامها)
قد بين الله في كتابه أن الميراث يستحق بشيئين سبب ونسب، وبين أيضا
ان النسب على ضربين نسب الولد للصلب ومن يتقرب بهم ونسب الوالدين ومن
يتقرب بهما، فقال " يوصيكم الله في أولادكم " (3 وهذا عام في الولد وولد
الولد وان نزلوا، وقال " ولأبويه لكل واحد منهما السدس " (3 وقال إن امرؤ
هلك ليس له ولد وله أخت " (4 الآية، وقال " وإن كان رجل يورث كلالة أو
امرأة وله أخ أو أخت " الآية (5.

1) سورة النساء: 176.
2) كذا والصحيح: في آخر سورة النساء.
3) سورة النساء: 11.
4) سورة النساء: 176.
5) سورة النساء: 12.
327

وكذا بين تعالى أن السبب على ضربين الزوجية والولاء، فقال " ولكم
نصف ما ترك أزواجكم ولهن الربع مما تركتم " وقال " فإخوانكم في الدين
ومواليكم " فإنه يدل على أن معتق زيد إذا مات ولم يخلف نسيبا كان مولاه
أولى به من كل أحد فيكون ميراثه له. وكذا يدل على ولاء الإمامة، فان ميراث
من لا وارث له كان للنبي عليه السلام، وهو لمن قام مقامه خلفا عن سلف.
وقال تعالى " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " (1 فإنه يدل على ولاء
تضمن الجريرة على ما تقدم.
ويمنع كفر الوارث ورقه على بعض الوجوه وقتله عمدا ظلما من الميراث
من جهة السبب والنسب معا.
ومن تأمل هذه الآيات علم أن سهام المواريث ستة: النصف، والربع،
والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. وانما صارت سهام المواريث من ستة
أسهم لا يزيد عليها لان أهل المواريث الذين يرثون ولا يسقطون ستة الأبوان
والابن والبنت والزوج والزوجة، وقيل إن الانسان خلق من ستة أشياء، وهو
قول الله تعالى " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " (2 الآية، لمصلحة رآها
الله تعالى في ذلك.
(باب)
(ذكر ذوي السهام)
نبدأ بذوي الأسباب الذين هم الزوجان، ثم نعقبه بذكر ذوي الأنساب:
قال الله تعالى " ولكم نصف ما ترك أزواجكم " بين سبحانه أن للزوج

1) سورة النساء: 33 ولفظة " عاقدت " على قراءة في الآية.
2) سورة المؤمنون: 12.
328

النصف مع عدم الولد وولد الولد وان نزلوا وهو السهم الاعلى له، وله الربع
مع وجود الولد.
وقال " ولهن الربع مما تركتم " بين أيضا أن لها الربع مع عدم الولد،
وكذلك الزوجات فان لها الثمن مع وجود الولد وولد الولد وان نزلوا،
وكذلك الزوجين والثلاث والأربع وهو السهم الأدنى لهن.
فإذا اجتمع واحد مع الزوجين مع ذوي الأنساب أخذ هو نصيبه والباقي
لهم، وإذا انفرد أحد الزوجين فإن كان هو الزوج يأخذ فرضه المسمى والباقي
يرد عليه أيضا على بعض الروايات على كل حال، وإن كان زوجة تأخذ هي نصيبها
والباقي لبيت المال، وفي زمان الغيبة يرد إليها أيضا الباقي، ولا يرثان الا بعد
وفاء الدين كله واعطاء ثلث الوصية.
(فصل)
وأما ذوو الأنساب فأقواهم قرابة الولد، ولذلك بدأ الله بذكر سهامه فقال
تعالى " يوصيكم الله في أولادكم ". وسبب نزول هذه الآية قيل فيه قولان:
أحدهما: قال ابن عباس والسدي: ان سبب نزولها أن القوم لم يكونوا
يورثون النساء والبنات والبنين الصغار ولا يورثون الا من قاتل وطاعن، فأنزل
الله الآية وأعلمهم كيفية الميراث.
وقال عطا عن ابن عباس وابن جريح عن مجاهد انهم كانوا يورثون
الولد والوالدين للوصية فنسخ الله ذلك.
وقال محمد بن المنكدر عن جابر قال: كنت عليلا مدنفا فعادني النبي صلى
الله عليه وآله ونضح الماء على وجهي، فأفقت وقلت: يا رسول الله كيف أعمل
في مالي؟ فأنزل الله الآية (1.

1) انظر الدر المنثور 2 / 125.
329

وروي عن ابن عباس أنه قال: كان المال للولد والوصية للوالدين والأقربين
فنسخ بهذه الآية.
وقرئ " يوصي بها أو دين " بفتح الصاد وكسرها والكسر أقوى لقوله " مما
ترك إن كان له ولد " فتقدم ذكر الميت وذكر المفروض مما ترك، ومن فتحها
فلانه ليس لميت معين وانما هو شائع في الجميع.
ومعنى " يوصيكم الله " فرض عليكم، لان الوصية من الله فرض، كما قال
" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به " (1 يعنى فرض عليكم
- ذكره الزجاج.
وانما لم يعد قوله " يوصيكم " إلى قوله " مثل حظ الأنثيين " بنصب اللفظ
لأنه كالقول في حكاية الجملة بعده، والتقدير قال الله تعالى في أولادكم للذكر
مثل حظ الأنثيين، ولان الفرض بالآية الفرق بين الموصي والموصى له في نحو
" أوصيت زيدا بعمرو ".
(فصل)
(في ميراث الولد)
اعلم أن قوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم " عام في كل ولد يتركه الميت
وان المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذا حكم البنت والبنتين لها ولهما
النصف والثلثان على كل حال الا من خصه الدليل من الرق والكفر والقتل
الظلم على ما ذكرناه، فإنه لا خلاف ان الكافر والقاتل عمدا على سبيل الظلم
والمملوك على بعض الوجوه لا يرثون، وإن كان القاتل خطأ ففيه خلاف وعندنا
يرث من المال دون الدية، والمسلم عندنا يرث الكافر وفيه خلاف، والعبد لا

1) سورة الأنعام: 151.
330

يرث لأنه لا يملك شيئا ويورث إذا لم يكن غيره وارث في درجته بشرط أن
تكون التركة أكثر من قيمته أو مثلها.
والمرتد لا يرث، وميراثه لورثته المسلمين، وهو قول علي عليه السلام (1.
وقال ابن المسيب نرثهم ولا يرثونا. وما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
قال: " لا يتوارث أهل ملتين " (2 فإذا صح فمعناه لا يرث كل واحد منهما من
صاحبه. وانا نقول: المسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم، ولم يثبت حقيقة
التوارث بينهما فلا يكون كلامنا مخالفا لذلك.
وقوله تعالى " فان كن نساءا فوق اثنتين " فالظاهر في هذا يقتضي أن البنتين
لا يستحقان الثلثين، وانما يستحق الثلثان إذا كن فوق اثنتين، لكن أجمعت
الأمة أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات فتركنا له الظاهر.
وقال أبو العباس المبرد وأختاره إسماعيل بن إسحاق القاضي: ان في الآية
دليلا على أن للبنتين الثلثين أيضا، لأنه قال " للذكر مثل حظ الأنثيين " وأول
العدد ذكر وأنثى وللذكر الثلثان من ستة وللأنثى والثلث علم من فحوى ذلك
أن للبنتين الثلثين وإن كان بالتلويح، ثم أعلم الله بعده انما فوق البنتين لهن
الثلثان أيضا بالتصريح، ليكون في باب البلاغة على الأقصى. وهذا حسن.
وقوله " فان كانت واحدة فلها النصف " يدل على أن فاطمة عليها السلام
كانت مستحقة للميراث، لأنه عام في كل بنت، والخبر المدعى ان الأنبياء لا
يورثون خبر ما عمل به الراوي أيضا، لأنه ورث ابنته. مع أنه خبر واحد
لا يترك له عموم الآية، لأنه معلوم لا يترك بمظنون.

1) وسائل الشيعة 17 / 384.
2) المصدر السابق 17 / 377.
331

(فصل)
(في ميراث الوالدين)
ثم قال " ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد " (1 لا
خلاف في ذلك، وكذا إن كان واحد من الأبوين مع الولد كان له السدس
بالفرض بلا خلاف.
ثم ننظر فإن كان الولد ذكرا كان الباقي للولد واحدا كان أو أكثر بلا خلاف
وكذلك ان كانوا ذكروا وإناثا فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وان كانت
بنتا كان لها النصف ولاحد الأبوين السدس أولهما السدسان، والباقي عندنا
يرد على البنت والأبوين أو أحدهما على قد سهامهما أيهما كان لان قرابتهما سواء.
ومن خالفنا يقول: إن كان أحد الأبوين أبا كان الباقي له لأنه عصبة، وان
كانت أما ففيهم من يقول بالرد على البنت والام وفيهم من يقول الباقي في بيت
المال. وانما رددنا عليهم لعموم قوله تعالى " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " (2
وههنا هما متساويان، لان البنت تتقرب بنفسها إلى الميت وكذا الأبوان. والخبر
المدعى في أن ما أبقت الفرائض فلاولى عصبة ذكر (3 خبر ضعيف، وله مع
ذلك وجه لا يخص به عموم القرآن.
وقوله " فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث " فمفهومه أن الباقي
للأب، فليس فيه خلاف.
فإن كان في الفريضة زوج كان له النصف وللأم الثلث بالظاهر وما بقي فللأب،

1) سورة النساء: 11.
2) سورة الأنفال: 75.
3) الجامع الصحيح للترمذي 4 / 419 بمضمونه، وسائل الشيعة 17 / 432 قريب منه.
332

ومن قال للام ثلث ما بقي فقد ترك الظاهر. وبمثل ما قلناه قال ابن عباس.
وإن كان بدل الزوج زوجة كان الامر مثل ذلك، للزوجة الربع وللأم الثلث
والباقي للأب، وبه قال ابن عباس وابن سيرين.
ثم قال " فإن كان له اخوة فلأمه السدس " ففي أصحابنا من يقول انما يكون
لها السدس إذا كان هناك أب، لان التقدير فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه
فلأمه الثلث فإن كان له أخوة وورثه أبواه فلأمه السدس.
ومنهم من قال إن لها السدس بالفرض مع وجود الاخوة سواء كان هناك
أب أو لم يكن، وبه قال جميع الفقهاء. غير انا نقول: إن كان هناك أب كان
الباقي للأب فإن لم يكن أب كان الباقي ردا على الام.
ولا يرث أحد من الاخوة والأخوات مع الام شيئا، سواء كانوا من قيل
أب وأم أو من قبل أب أو من قبل أم على حال، لان الام أقرب منهم بدرجة.
ولا يحجب عندنا من الاخوة الا من كان من قبل الأب والام أو من قبل الأب
فأما من كان منهم من قبل الام فحسب فإنه لا يحجب على حال.
ولا يحجب أقل من أخوين أو أخ وأختين أو أربع أخوات، بشريطة ان
لم يكونوا كفارا ولا رقا ولا قاتلين ظلما، فأما أخ وأخت أو أختان فلا يحجبان
وكذلك ثلاث أخوات لا يحجبن على حال. وخالفنا جميع الفقهاء في ذلك.
فأما الاخوان فإنه لا خلاف انه يحجب بهما الام عن الثلث إلى السدس،
الا ما قال ابن عباس انه لا يحجب بأقل من ثلاثة لقوله تعالى " فإن كان له أخوة "
قال: والثلاثة أقل الجمع.
وحكي عن ابن عباس أيضا ان ما يحجب الإخوة من سهم الام من الثلث
إلى السدس يأخذه الاخوة دون الأب، وذلك خلاف ما أجمعت عليه الأمة، لأنه
لا خلاف ان أحدا من الاخوة لا يستحق مع الأبوين شيئا.
333

وانما قلنا إن الأخوين يحجبان للاجماع، وأيضا فإنه يجوز وضع لفظ
الجمع في موضع التثنية إذا اقترنت به دلالة كما قال " ان تتوبا إلى الله فقد
صغت قلوبكما " على أن أقل الجمع اثنان.
فان قيل: لم حجبت الام الاخوة من غير أن يرثوا مع الأب.
قلنا: قال قتادة معونة للأب لأنه يقوم بنفقتهم ونكاحهم دون الام. وهذا
بعينه رواه أصحابنا، وهو دال على أن الاخوة من الام لا يحجبون، لان الأب
لا يلزمه نفقتهم على حال.
وإن كان الاخوة كفارا أو مماليك أو قاتلين ظلما لا يحجبون الام أيضا مع
وجوب الأب وفقده. وكذلك ان كانا اثنين وكان أحد الأخوين كافرا أو رقا أو
قاتلا ظلما كذلك فان الام لا تحجب.
وقوله " لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " معناه لا تعلمون أيهم أقرب نفعا في
الدين والدنيا والله يعلمه فافهموه على ما بينه من تعلم المصلحة فيه.
وقال بعضهم: الأب يجب عليه نفقة الابن إذا احتاج إليها، وكذلك الابن
يجب عليه نفقة الأب مع الحاجة. فهما في النفع في هذا الأب سواء لا تدرون
أيهم أقرب نفعا. وقيل: لا تدرون أيكم يموت قبل صاحبه فينتفع الاخر بماله.
وقوله " فريضة من الله " نصب على الحال من قوله " لأبويه "، وتقديره
فيثبت لهؤلاء الورثة ما ذكرناه مفروضا فريضة مؤكدة، كقوله " يوصيكم الله "
هذا قول الزجاج. وقال غيره: هو نصب على المصدر من يوصيكم الله في
أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فرضا مفروضا. ويجوز أن يكون نصبا على
التمييز، أي فلأمه السدس فريضة، كما يقال هو لك صدقة أو هبة.
وانما يقال في تثنية الأب والام " أبوان " تغليبا للفظ الأب، ولا يلزم على
ذلك في ابن وابنة لأنه ههنا يوهم.
334

(فصل)
(في ميراث الزوجين)
وان كنا قدمنا القول فيه، فانا نتكلم على ذلك أيضا ههنا لنسق القرآن.
لا خلاف أن للزوج نصف ما تتركه الزوجة إذا لم يكن لها ولد، فإن كان
لها ولد فله الربع بلا خلاف، سواء كان ودلها منه أو من غيره وإن كان ولد لا يرث
لكونه مملوكا أو كافرا أو قاتلا عمدا ظالما، فلا يحجب الزوج من النصف إلى
الربع، ووجوده كعدمه.
وكذلك حكم الزوجة لها الربع إذا لم يكن للزوج ولد على ما قلناه في الزوجة
في أنه سواء كان منها أو من غيرها، فإن كان لها ولد كان لها الثمن.
ولا خلاف أن ما تستحقه الزوجة ان كانت واحدة فهو لها، وان كانت ثنتين
أو ثلاثا أو أربعا لم يكن لهن أكثر من ذلك. ولا يستحق الزوج أقل من الربع
في حال من الأحوال ولا الزوجة أقل من الثمن على وجه من الوجوه. ولا
يدخل عليهما النقصان وكذا الأبوان لا ينقصان في حال من الأحوال، لان العول
عندنا باطل على ما نذكره.
وولد الولد وان نزل يقوم مقام الولد للصلب في حجب الزوجين من الفرض
الاعلى إلى الأدون.
وكل من ذكر الله له فرضا فإنما يستحقه إذا أخرج من التركة الكفن والدين
والوصية، فان استغرق الدين المال لم تنفذ الوصية ولا ميراث، وان بقي نفذت
الوصية ما لم يزد على ثلث ما يبقى بعد الدين، فان زادت ردت إلى الثلث.
فان قيل: كيف قدم الوصية على الدين في هذه الآية وفى التي قبلها مع أن
الدين يتقدم عليها بلا خلاف؟
335

قلنا: لان " أو " لا يوجب الترتيب وانما هي لاحد الشيئين، فكأنه قال من
بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الاخر، [كقولهم " جالس الحسن أو ابن
سيرين " أي جالس أحدهما مفردا أو مضموما إلى الاخر] (1) ويجب البدأة بالدين
بعد الكفن لأنه مثل رد الوديعة التي يجب ردها على صاحبها، فكذا حال الدين
وجب رده أولا ثم تكون الوصية بعده ثم الميراث.
ومثل ما قلناه اختاره الطبري والجبائي، وهو المعتمد عليه في تأويل الآية.
(فصل)
(في ميراث كلالة الام)
ثم قال تعالى " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت " يعني
من الام بلا خلاف.
وكلالة نصبها يحتمل أمرين: أحدهما على أنه مصدر وقع موضع الحال
تكون كان تامة، وتقديره يورث متكلل النسب كلالة. والثاني أن يكون خبر
كان ناقصة، وتقديره وإن كان رجل وارث كلالة، فرجل اسم كان ويورث
صفته وكلالة خبره. والأول هو الوجه، لان يورث هو الذي اقتضى ذكر
الكلالة، كما تقول: يورث هذا الرجل كلالة، بخلاف من يورث ميراث الصلب
ويورث كلالة عصبة وغير عصبة.
واختلفوا في معنى الكلالة: فقال قوم هو من عدا الولد والوالد، وقال
ابن عباس ان الكلالة ما عدا الولد، وورث الاخوة من الام السدس مع الأبوين
وهو خلاف اجماع أهل الاعصار. قال ابن زيد الميت يسمى كلالة، وقال قوم
الكلالة هو الميت الذي لا ولد له ولا والد.
وعندنا ان الكلالة هم الاخوة والأخوات فمن ذكره الله في هذه الآية هو

1) الزيادة من ج.
336

من كان من قبل الام، ومن ذكر في آخر السورة هو من قبل الأب والام أو من
قبل الأب.
وأصل الكلالة الإحاطة، ومنه " الإكليل " لاحاطته بالرأس، والكلالة
لإحاطتها بالنسب الذي هو الولد والوالد. وقال أبو مسلم: أصلها من كل إذا
أعيا، فكأنه يتناول الميراث من بعد على كلال واعياء. وقال الحسين بن علي
المغربي: أصله عندي ما تركه الانسان وراء ظهره، مأخوذا من كلالة وهو مصدر
الاكل وهو الظهر، تقول ولائي فلان اكله على وزن أظله أي ظهره.
وهذا الاسم تعرفه العرب وتخبره عن جملة النسب والوراثة، ولا خلاف
أن الاخوة والأخوات من الام يتساوون في الميراث.
وانما قال " وله أخ أو أخت " ولم يقل لهما وقد قال قبله " وإن كان رجل
يورث كلالة أو امرأة " لرفع الابهام، ولو ثنى لكان حسنا كما يقول من كان له
أخ أو أخت فليصله ويجوز فليصلها ويجوز أيضا فليصلهما، فالأول يرد الكناية
على الأخ والثاني على الأخت والثالث عليهما. كل ذلك حسن.
وقوله تعالى " غير مضار " نصب على الحال، ويجوز أن يكون مفعولا به.
" تلك حدود الله " أي هذه تفصيلات الله لفرائضه، لان أصل الحد هو الفصل.
وقال ابن الياس: المعنى تلك حدود طاعة الله.
فان قيل: إذا كان ما تقدم ذكره دل على أنها حدود الله فما الفائدة في هذا
القول؟
قلنا عنه جوابان: أحدهما انه للتأكيد، والثاني ان الوجه في اعادته ما علق
به من الوعد والوعيد.
337

(فصل)
(في ميراث كلالة الأب)
قال الله تعالى " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له
ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " (1 إلى آخرها.
روى البراء بن عازب ان هذه الآية آخر ما نزلت بالمدينة، وقال غيره
نزلت في مسير كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله (2.
واختلفوا في سبب نزولها: فقال سعيد بن المسيب: سئل النبي عليه السلام
عن الكلالة فقال: أليس قد بين الله ذلك - فنزلت الآية، وقال جابر: اشتكيت
وعندي تسع أخوات لي أو سبع، فدخل علي النبي عليه السلام فنفخ في وجهي
فأفقت فقلت: يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين. قال: أحسن. قلت
بالشطر. قال: أحسن. ثم خرج وتركني ورجع إلي وقال: يا جابر اني لا أراك
ميتا من وجعك هذا، وان الله قد انزل لأخواتك فجعل لهن الثلثين. قال: وكان
جابر يقول: أنزلت هذه الآية في. وعن قتادة: ان أصحاب رسول الله همهم
شأن الكلالة فأنزل الله هذه الآية (3.
ومعنى " يستفتونك " يسألونك يا محمد ان تفتيهم في الكلالة " قل الله
يفتيكم " في الكلالة، فحذف ان اختصار لما دل الجواب عليه. والاستفتاء
والاستقصاء واحد.
وقوله تعالى " ان امرؤ هلك ليس له ولد " معناه مات انسان ليس له ولد

1) سورة النساء: 176.
2) الدر المنثور 2 / 250 - 251.
3) التبيان 3 / 408.
338

ذكر ولا أنثى " وله أخت " يعني وللميت أخت لأبيه وأمه أو لأبيه " فلها نصف
ما ترك " والباقي عندنا رد عليه أيضا سواء كان هناك عصبة أو لم يكن. وقال جميع
الفقهاء ان الباقي للعصبة.
وان لم يكن عصبة هناك - وهم العم وبنو العم وأولاد الأخ - فمن قال
بالرد على ذوي الأرحام رد الباقي على الأخت، وهو اختيار الجبائي وأكثر
أهل العلم، وهو يرثها ان لم يكن لها ولد. يعنى ان كانت الأخت هي الميتة
ولها أخ من أب وأم أو من أب فالمال كله له بلا خلاف إذا لم يكن لها ولد سواء
كان ذكرا أو أنثى، لأنه تعالى قال " وهو يرثها ان لم يكن لها ولد " والبنت
بلا خلاف ولد. والدليل على صحة تسمية البنت بالولد قوله " يوصيكم الله
في أولادكم " ثم فسر الأولاد فقال " للذكر مثل حظ الأنثيين ".
فإن كان للأخت ولد ذكر فالمال كله له بلا خلاف ويسقط الأخ، وإن كان
بنتا كان لها النصف بالتسمية بلا خلاف، والباقي عندنا رد عليها لأنها أقرب
دون الأخ.
ثم قال " فان كانتا اثنتين " يعنى ان كانت الأختان اثنتين فلهما الثلثان، وهذا
لا خلاف فيه. والباقي على ما بيناه من الأخت الواحدة عندنا رد عليهما دون
عصبته ودون ذوي الأرحام، وإذا كان هناك عصبة رد الفقهاء الباقي عليهم.
فان كانت إحدى الأختين لأب وأم وأخرى لأب فالواجب للأب والام النصف
بلا خلاف، والباقي رد عليها عندنا لأنها مجمع السببين، ولا شئ للأخت للأب
لأنها انفردت بسبب واحد، وعند الفقهاء لها السدس يكمله الثلثين والباقي على
ما بيناه من الخلاف.
وان كانوا أخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الأنثيين، يعنى إن كان
الورثة اخوة رجالا ونساء للأب والام فللذكر مثل حظ الأنثيين بلا خلاف.
339

وإن كان الذكور منهم للأب والام والإناث للأب انفرد الذكور بجميع المال
بلا خلاف. وإن كان الإناث للأب والام والذكور للأب كان للإناث الثلثان
بالتسمية بلا خلاف، والباقي عندنا رد عليهن لما بيناه من اجتماع السببين لهن.
وعند جماعة الفقهاء ان الباقي للاخوة من الأب لأنهم عصبة، ويروون خبرا
ضعيفا عنه عليه السلام أنه قال: ما اتفقت الفرائض فلاولي العصبة ذكر (1. وقد
قلنا ما عندنا في خبر العصبة.
ويمكن أن يحمل خبر العصبة مع تسليمه على من مات وخلف زوجا أو
زوجة وأخا لأب وأم وأخا لأب أو ابن أخ لأب وأم وابن أخ لام أو ابن عم لأب
وأم وابن عم لأب. قال للزوج سهمه المسمى والباقي لمن يجتمع كلالة الأب
والام دون من يتفرد بكلالة الأب. وقال عمر (2: سألت رسول الله صلى الله عليه
وآله عن الكلالة فقال: يكفيك آية الصيف (3.
(باب)
(في مسائل شتى)
إذا تركت امرأة زوجها وأبويها فللزوج النصف وللأم الثلث كاملا وما بقي
فللأب، قال الله تعالى " فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث " (4،

1) وسائل الشيعة 17 / 432 قريب منه.
2) الدر المنثور 2 / 249.
3) المراد بآية الصيف قوله تعالى في آخر سورة النساء [الآية 175] " يستفتونك
قل الله يفتيكم في الكلالة " إلى تمام الآية، وسميت آية الصيف لان الله سبحانه أنزل في
الكلالة إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء والأخرى في الصيف وهي التي في
آخرها " ن ".
4) سورة النساء: 11.
340

فجعل الله للأم الثلث كاملا إذا لم يكن ولد ولا أخوة.
ومن الدليل على أن لها الثلث في جميع المال أن جميع من خالفنا لم يقولوا
لها السدس في هذه الفريضة، انما قالوا للأم ثلث ما بقي وثلث ما بقي هو السدس،
فأحبوا أن لا يخالفوا الكتاب فأثبتوا لفظ الكتاب وخالفوا حكمه، وذلك تمويه.
وجاء رجل إلى أبى جعفر عليه السلام فسأله عن امرأة تركت زوجها وأخويها
وأختها لامها (1. فقال: للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللاخوة من الام سهمان،
وللأخت من الأب [السدس] (2 سهم. فقال له الرجل: فان فرائض زيد وفرائض العامة
على غير هذا، يقولون للأخت من الأب ثلاثة أسهم (3 تصير من ستة تعول من ثمانية.
فقال أبو جعفر عليه السلام: ولم قالوا ذلك؟ قال: لان الله تعالى قال " وله أخت
فلها نصف ما ترك ". فقال عليه السلام: فإن كان مكان الأخت أخا. قال: ليس
له الا السدس. فقال أبو جعفر عليه السلام: فما لكم نقضتم الأخ ان كنتم تحتجون
للأخت النصف بأن الله سمى لها النصف، فان الله سمى للأخ الكل والكل أكثر من
النصف لأنه تعالى قال في الأخت " ولها نصف ما ترك " وقال في الأخ " وهو
يرثها " يعني جميع مالها " ان لم يكن لها ولد " فلا تعطون الذي جعل الله له
الجميع في بعض فرائضهم شيئا وتعطون الذي جعل الله له النصف والام تاما، ويقولون (4
في زوج وأم وأخوة لام وأخت لأب فيعطون الزوج النصف والام السدس والاخوة
من الام الثلث والأخت من الأب النصف فيجعلونها من تسعة وهي ستة تعول إلى

1) كذا في النسختين، وفى المصدر " تركت زوجها واخوتها لامها وأختا لأبيها ".
2) الزيادة من المصدر.
3) لان فيها النصف والثلث، وقوله " تعول إلى ثمانية " لان للاخوة من الام سهمين
وللأخت من الأب ثلاثة أسهم وكذا للزوج فتصير ثمانية " ج ".
4) كذا في النسختين، وفى المصدر " فقال له الرجل: وكيف تعطى الأخت النصف
ولا يعطى الذكر لو كانت هي ذكرا شيئا؟ قال: يقولون ".
341

تسعة (1. فقال: كذلك يقولون. فقال له أبو جعفر عليه السلام: فان كانت الأخت
أخا لأب؟ قال الرجل: ليس له شئ [فقال الرجل لأبي جعفر عليه السلام] (2
فما تقول. فقال: ليس (3 للاخوة من الأب والام ولا للاخوة من الام ولا الاخوة
من الأب مع الام شئ؟؟؟ (4.
(باب)
(من يرث بالقرابة دون الفرض)
قال الله تعالى " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " (5). بين
سبحانه ان أولى الناس بالميت أقربهم إليه، والآية بعمومها تتناول الميراث وغيره.
ومن يرث بالقرابة ستة: فأقواهم قرابة الولد للصلب لا يرث معه أحد سواء
يتقرب به أو بغيره الا ذوي السهام المذكورين من قبل من الأبوين والزوجين،
ثم ولد الولد وان نزلوا، ثم الأب، ثم من يتقرب به من ولده أو أبويه، ثم
من يتقرب بالام دونها (6 ودون ولدها.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الأحزاب " وأولو الأرحام بعضهم
أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين الا ان تفعلوا إلى أوليائكم

1) ثلاثة للزوج وواحد للام واثنان لكلالتها وثلاثة للأخت من الأب فالمجموع
تسعة " ج ".
2) الزيادة من المصدر.
3) لأنه ليس بذى نصف وقرابة ممنوعة بالام فلا وجه لثوريته، ولا يلزم على هذا كلالة
الام لأنها ذات نصف بخلاف الأخ للأب " ه‍ ".
4) وسائل الشيعة 17 / 482.
5) سورة الأنفال: 75.
6) أي يرث الأخوال بشرط عدم الام وأولادها " ه‍ ".
342

معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا " (1).
بين سبحانه أن من كان قرباه أقرب فهو أحق بالميراث من الابعد، وظاهر
ذلك يمنع ان يرث مع البنت والام أحد من الاخوة والأخوات، لان البنت والام
أقرب من الاخوة والأخوات. وكذلك يمنع ان يرث مع الأخت أحد من
العمومة والعمات وأولادهم لأنها أقرب.
والخبر المروي في هذا الباب " ان ما أثبت الفرائض فلاولي عصبة ذكر " (2
خبر واحد مطعون على سنده لا يترك لأجله ظاهر القرآن الذي بين فيه ان
أولى الأرحام الأقرب منهم أولى من الابعد في كتاب الله من المؤمنين المؤاخين
والمهاجرين، فقد روي أنهم كانوا يتوارثون بالهجرة والمؤاخاة الأولة حتى نزلت
هذه الآية.
والاستثناء منقطع في قوله " الا أن تفعلوا "، معناه لكن ان فعلتم معروفا
من الوصية يعرف صوابه فهو حسن ولا يجوز أن تكون القرابة مشركين، لقوله
" لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " (3.
وقد أجاز كثير من الفقهاء الوصية للقرابات الكفار، وعندنا ان ذلك جائز
للوالدين والولد.
" ومن " يحتمل أمرين: أحدهما أن تكون دخلت لاولي، أي بعضهم أولى
ببعض من المؤمنين. والثاني ان يكون التقدير وأولى الأرحام من المؤمنين
والمهاجرين أولى بالميراث.

1) سورة الأحزاب: 6.
2) وسائل الشيعة 17 / 423.
3) سورة الممتحنة: 1.
343

(فصل)
ويدل على ذلك أيضا عموم قوله تعالى " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم
على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن " (1، فظاهر
الخطاب يقتضي تحريم تمني ما فضل الله به بعضا على بعض، فلا يجوز لرجل
أن يتمنى أن كان امرأة ولا للمرأة ان تتمنى لو كانت رجلا بخلاف ما فعله الله
تعالى، لأنه تعالى لا يفعل من الأشياء الا ما هو الأصلح، فيكون تمني ما يكون مفسدة (2.
ثم اعلم أن الله أخبر عن أحوال المؤمنين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة
وعن أحوال الأنصار بقوله تعالى " ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم
وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين
آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا " (3.
فقال " أولئك " يعني المهاجرين والأنصار " بعضهم أولياء بعض "، ثم
أخبر عن الذين آمنوا ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة فقال " مالكم من ولايتهم
من شئ ".
قيل نفى ولاية القرابة عنهم لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة دون
الرحم - في قول ابن عباس. وقيل إنه نفى الولاية التي يكونون بها يدا واحدة
في الحل والعقد، فنفى عن هؤلاء ما أثبته للأولين حتى يهاجروا. وقيل نسخ
ذلك بقوله " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " (4.

1) سورة النساء: 32.
2) أي يكون تمنى خلاف ما فعل الله تعالى " ه‍ ".
3) سورة الأنفال: 72.
4) سورة التوبة: 71.
344

ثم قال " والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " ففي الآية دلالة على أن من كان
قرباه أقرب إلى الميت كان أولى بالميراث، سواء كان عصبة أولم يكن أو تسمية
أو لم يكن، لان مع كونه أقرب تبطل التسمية.
وهذه الآية نسخت حكم التوارث بالنصرة والهجرة على ما قدمناه، فإنهم
كانوا لا يورثون الاعراب من المهاجرين على ما ذكر في الآيات الأول.
ومن قال: الولاية في الآيات الأولة ولاية النصرة دون الميراث. نقول:
ليست ناسخة لهما بل هما محكمتان.
قال مجاهد: في هذه الآيات الثلاث ذكر ما والى به رسول الله صلى الله
عليه وآله بين المهاجرين والأنصار في الميراث، ثم نسخ ذلك بآخرها من
قوله تعالى " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ".
وقال ابن الزبير: نزلت في العصبات، كان الرجل يعاقد الرجل، يقول
ترثني وأرثك فنزلت " وأولو الأرحام " إلى آخرها.
(باب)
(في مسائل شتى)
روي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال في رجل ترك خالتيه ومواليه أولو الأرحام
بعضهم أولى ببعض: المال بين الخالتين (1.
ولا يرث الموالي مع أحد من القرابات شيئا وإن كان بعيدا، لان الله تعالى
قد ذكرهم وفرض لهم وأخبر انهم أولى في هذه الآية ولم يذكر الموالي.
والحديث الذي رواه المخالفون ان مولى لحمزة توفي وان النبي صلى الله

1) من لا يحضره الفقيه 4 / 304.
345

عليه وآله أعطى بنت حمزة النصف وأعطى ورثة المولى الباقي (1 فهو خبر
واحد، ومع التسليم نقول: لعل ذلك كان شيئا قبل نزول الفرائض فنسخ (2.
فقد فرض الله للحلفاء في كتابه فقال: " والذين عاقدت ايمانكم فآتوهم
نصيبهم " (3 ولكنه نسخ ذلك بقول " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في
كتاب الله (4.
فمتى خلف أحد من ذوي الأرحام وترك مولاه المنعم أو المنعم عليه فالمال لنسيبه
وليس للموالي شئ، فإنه تعالى يقول " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في
كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين الا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " (5 يعنى
الوصية لهم بشئ أو هبة الورثة لهم من الميراث شيئا.
(باب)
(ذكر من يرث بالفرض والقرابة)
قال الله تعالى " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب
مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا " (6.
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية:
فقال قوم: ان أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث، فنزلت
هذه الآية ردا لقولهم.

1) المصدر السابق.
2) بآية أولى الأرحام " ج ".
3) سورة النساء: 33.
4) سورة الأنفال: 75.
5) سورة الأحزاب: 6.
6) سورة النساء: 7.
346

وقال الزجاج: كانت العرب لا يورثون الا من طاعن بالرماح وذاد عن
الحريم، فزلت هذه الآية ردا عليهم، وبين أن للرجال والنساء نصيبا في مال الميت
قليلا كان المال أو كثيرا، لكيلا يتوهم أنه إذا قل كان الرجال أولى به أو خالف
حكمه حكم الكثير (1.
" ونصيبا مفروضا " نصب على الحال، أي لهم نصيب حالة أن الله فرضه.
وفى الآية دليل على بطلان القول بالعصبة، لان الله تعالى فرض الميراث
للرجال والنساء، فلو جاز أن يقال النساء لا يرثن في موضع لجاز لآخرين أن
يقولوا والرجال لا يرثون.
ثم قال " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم
منه " (2 هذه الآية عندنا محكمة غير منسوخة، وبه قال ابن عباس وجماعة.
والمخاطب بقوله " فارزقوهم " الورثة، أمروا بأن يرزقوا المذكورين إذا كانوا
لا سهم لهم في الميراث. وقال آخرون: انما يتوجه إلى من حضرته الوفاة
وأراد الوصية، فإنه ينبغي له أن يوصي لمن لا يرثه من هؤلاء المذكورين بشئ
من ماله. والوجه الأول.
وقال سعيد بن جبير: إن كان الميت أوصى لهم بشئ أنفذت وصيته وإن كان
الورثة ارضخوا لهم فان كانوا صغار قال وليهم اني لست أملك هذا المال
وليس لي انما هو للصغار فذلك قوله " وقولوا لهم قولا معروفا " أمر الله أن يقول
الولي الذي لا يرث المذكورين قولا معروفا ويقول: ان هذا لقوم غيب أو يتامى
صغار ولكم فيه حق ولسنا نملك أن نعطيكم منه.
وقال ابن عباس: ان قوله " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما

1) انظر مجمع البيان 2 / 10.
2) سورة النساء: 8.
347

اكتسبن " نزل في الميراث. فإن كان كذلك والا فالعموم أيضا يتناوله.
(فصل)
وقال تعالى " ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت
أيمانكم فآتوهم نصيبهم " (1 معنى الآية جعلنا الميراث لكل من هو مولى الميت.
والموالي المذكورون في الآية: قال مجاهد هم العصبة، وقال قوم هم
الورثة، وهو أقواهما. والتقدير ولكم جعلنا ورثة مما ترك الوالدان والأقربون
وقيل تقديره ولكل مال تركه ميت جعلنا موالي - أي قوما - يرثونه فيملكون
مما ترك الوالدان والأقربون. وقال الجبائي: أي لكل شئ وارث هو أولى به
من غيره، يسمى الوارث مولى من هذه الجهة.
ثم استأنف فقال " والذين عقدت " أي عقدتم " أيمانكم " أراد بذلك عقد
المصاهرة والمناكحة.
وقال الله تعالى " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم
في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " (2. اختار الطبري
أن يكون المراد به آيات الفرائض، قال: لان الصداق ليس مما كتب الله للنساء
الا بالنكاح فما لم تنكح فلا صداق لها عند أحد.
" والمستضعفين من الولدان " أي [وفى المستضعفين " واليتامى " الصغار
من الذكور والإناث لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من الذكور حتى يبلغوا،
فأمرهم أن يؤتوا المستضعفين من الولدان] (3 حقوقهم من الميراث.

1) سورة النساء: 33.
2) سورة النساء: 127.
3) الزيادة من م.
348

قال ابن جبير: قوله تعالى " فيما يتلى عليكم " يعني قوله " يستفتونك قل
الله يفتيكم في الكلالة " (1.
وقد ذكرنا أن الجاهلية لا يورثون المرأة ولا المولود حتى يكبر، فأنزل
الله آية الميراث في أول النساء وهو معنى قوله " اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن
وترغبون أن تنكحوهن " (2 أي ترغبون فيهن - عن ابن سيرين. وقيل أي ترغبون
أن تنكحوهن.
(فصل)
أما قوله " واني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من
لدنك وليا " (3 فان المخالفين استدلوا بهذه الآية على أن البنت لا تحوز المال
دون بني العم والعصبة، قالوا لان زكريا طلب وليا ولم يطلب ولية. وهذا ليس
بشئ، لان زكريا انما طلب وليا لوجوه غير ذلك: منها أن الله تعالى كان وعده
أنه يرزقه ولدا رضيا فسأل الله انجاح ذلك.
وقيل: انما طلب وليا لان من طباع البشر الرغبة في الذكور دون الإناث
من الأولاد، فلذلك طلب الذكر. على أنه قيل: ان لفظ " الولي " يقع على
الذكر والأنثى، فلا نسلم انه طلب الذكر، بل الذي يقتضي الظاهر أنه طلب
ولدا سواء كان ذكرا أو أنثى.
واعلم أن أكثر الخلاف بيننا وبين مخالفينا ومعظمه في الفرائض والمواريث
على ثلاثة أشياء: العصبة، والعول، والرد. ونحن نبين بعد هذا أن الحق في

1) سورة النساء: 176.
2) سورة النساء: 127.
3) سورة مريم: 5.
349

هذه الأصول معنا كما في جميع المواضع، فإذا ثبت ذلك استغنينا عن التطويل
بتعيين المسائل.
وقد استدللنا على أمهات مسائل المواريث من الكتاب، وفروعها لا
يحتمل هذا الموضع ذكرها، غير أنا نعقد ههنا جملة تدل على صحة المذهب،
فنقول:
الميراث بالفرض لا يجتمع فيه الا من كان قرباه واحدة إلى الميت، مثل
البنت أو البنات مع الوالدين أو أحدهما، فإنه متى انفرد واحد منهم أخذ المال
كله بعضه بالفرض والباقي بالرد، وإذا اجتمعا أخذ كل واحد منهم ما سمي له
والباقي يرد عليهم ان فضل على قدر سهامهم، وان نقص لمزاحمة الزوج أو
الزوجة لهم كان النقص داخلا على البنت أو البنات دون الأبوين أو أحدهما
ودون الزوج والزوجة.
ولا يجتمع مع الأولاد ولا مع الوالدين ولا مع أحدهما أحد ممن يتقرب
بهما كالكلالتين، فإنهما لا يجتمعان مع الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا ولا مع الوالدين
ولا مع أحدهما أبا كان أو أما بل يجتمع كلالة الأب وكلالة الام، فكلالة الام
إن كان واحدا كان له السدس وإن كان اثنين فصاعدا كان لهم الثلث لا ينقصون
منه والباقي لكلالة الأب، فان زاحمهم الزوج أو الزوجة دخل النقص على
كلالة الأب دون كلالة الام.
ولا يجتمع كلالة الأب مع كلالة الأب والام، فان اجتمعا كان المال كله
لكلالة الأب والام دون كلالة الأب ذكرا كان أو أنثى.
ومن يرث بالقرابة دون الفرض لا يجتمع الا من كانت قرباه واحدة وأسبابه
ودرجته متساوية. فعلى هذا لا يجتمع مع الولد الصلب ولد الولد ذكرا كان
ولد الصلب أو أنثى لأنه أقرب بدرجة.
350

وكذلك لا يجتمع مع الأبوين ولا مع أحدهما ممن يتقرب بهما من الاخوة
والأخوات والجد والجدة على حال، ولا يجتمع الجد والجدة مع الولد الصلب
ولا مع ولد الولد وان نزلوا.
ويجتمع الأبوان مع ولد الولد وان نزلوا لأنهم بمنزلة الولد للصلب إذا
لم يكن ولد الصلب.
والجد والجدة يجتمعان مع الاخوة والأخوات لأنهم في درج، والجد من
قبل الأب بمنزلة الأخ من قبله والجدة من قبله بمنزلة الأخت من قبله، والجد
من قبل الام بمنزلة الأخ من قبلها والجدة من قبلها بمنزلة الأخت من قبلها.
وأولاد الاخوة والأخوات يقاسمون الجد والجدة لأنهم بمنزلة آبائهم وآباء
والجد والجدة وأمهاتهم يقاسمون الاخوة وأخوات أيضا.
ولا يجتمع مع الجد والجدة من يتقرب بهما من العم والعمة والخال والخالة
ولا الجد الا على ولا الجدة العليا.
وعلى هذا تجري جملة المواريث، فان فروعها لا تنحصر، والآيات التي
قدمناها تدل على جميع ذلك من ظاهرها ومن فحواها.
(باب)
(بطلان القول بالعصبة والعول وكيفية الرد)
الذي يدل على صحة مذهبنا وبطلان مذهبهم في العصبة - زائدا على اجماع
الطائفة الذي هو حجة - قوله تعالى " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون
وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " (1. وهذا نص في موضع الخلاف
لان الله صرح بأن للرجال من الميراث نصيبا وان للنساء أيضا نصيبا، ولم يخص

1) سورة النساء: 7.
351

موضعا دون موضع، فمن خص في بعض المواريث الرجال دون النساء فقد
خالف ظاهر هذه الآية.
وأيضا فان توريث الرجال دون النساء مع المواساة في القربى والدرجة
من احكام الجاهلية، وقد نسخ الله بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وآله أحكام
الجاهلية وذم من أقام عليها واستمر على العمل بها بقوله " أفحكم الجاهلية
يبغون ومن أحسن من الله حكما " (1.
وليس لهم أن يقولوا: انا نخص الآية التي ذكرتموها بالسنة. وذلك أن
السنة التي لا تقتضي العلم القاطع [بها القرآن كما لا ينسخه بها وانما
يجوز بالسنة أن تخص] (2 أو تنسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين. ولا خلاف
في أن الاخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علما، وأكثر
ما تقتضيه غلبة الظن. على أن أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة يروونها
في ابطال أن يكون الميراث بالعصبة وأن يكون بالقربى والرحم، وإذا تعارضت
الاخبار رجعنا إلى ظاهر الكتاب.
فان قيل: إذا كنتم تستدلون على أن العمات يرثن مع العمومة وبنات العم
يرثن مع بنى العم وما أشبه ذلك من المسائل، بقوله تعالى " للرجال نصيب
مما ترك الوالدان والأقربون " - الآية، ففي هذه الآية حجة عليكم في موضع آخر.
لأنا نقول لكم: ألا ورثتم العم أو ابن العم مع البنت بظاهر هذه الآية، وكيف
خصصتم النساء دون الرجال بالميراث في بعض المواضع وخالفتم ظاهر الآية،
فألا ساغ لمخالفكم مثل ما قلتموه.
قلنا: لا خلاف أن قوله " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " أن

1) سورة المائدة: 50.
2) الزيادة من ج.
352

المراد به مع الاستواء في القرابة والدرج، ألا ترى أنه لا يورث ولد الولد
ذكورا أو إناثا مع ولد للصلب لعدم التساوي في الدرجة والقرابة وان كانوا
يدخلون تحت التسمية بالرجال والنساء، وإذا كانت الدرجة والقرابة مراعاتين
فالعم أو ابنه لا يساوي البنت في القربى والدرجة وهو أبعد منها كثيرا، وليس
كذلك العمومة والعمات وبنات العم وبنو العم لان درجة هؤلاء واحدة وقرباهم
متساوية. والمخالف يورث الرجال منهم دون النساء، فظاهر الآية حجة عليه
وفعله مخالف لها، وليس كذلك قولنا في المسائل التي وقعت الإشارة إليها،
فالفرق واضح. فليتأمل.
(فصل)
أما العول فإنه اسم يدخل في الفرائض في المواضع التي ينقص فيها المال عن
السهام المفروضة منها، فالذي يذهب إليه الإمامية يذهب إليه أن المال إذا ضاق عن سهام
الورثة قدم ذو السهام المولدة من الأبوين والزوجين على البنات والأخوات
من الأب والام أو من الأب وجعل الفاضل من السهام لهن.
وقال المخالف: ان المال إذا ضاق عن سهام الورثة قسم بينهم على قدر
سهامهم كما يفعل في الديون والوصايا إذا ضاقت التركة عنها.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه - بعد الاجماع - ان المال إذا ضاق
عن السهام - كمرأة ماتت وخلفت ابنتين وأبوين والزوج والمال يضيق عن
الثلثين والسدس والربع - فنحن بين أمرين: اما ان ندخل النقص على كل
واحد من هذه السهام أو ندخلها على بعضها، وقد أجمعت الأمة على أن البنتين
ههنا منقوصتان بلا خلاف، فيجب أن يعطي الأبوين السدسين والزوج الربع
ويجعل ما بقي للبنتين ونخصهما بالنقص لأنهما منقوصتان بالاجماع، وما عداهما ما
353

وقع اجماع على نقصه من سهامه ولا قام دليل على ذلك.
فظاهر الكتاب يقتضي أن له سهما معلوما، فيجب أن نوفيه إياه ونجعل
النقص لاحقا بمن أجمعوا على نقصه. وقد استدل على ذلك بعض أصحابنا من
القرآن، وعليه اعتراضات كثيرة فأضربنا عنه.
(فصل)
وأما الرد فعندنا أن الفاضل عن فرض ذوي السهام من الورثة يرد على
أصحاب السهام بقدر سهامهم ولا رد على الزوجين، كمن خلف بنتا وأبا فللبنت
بالتسمية النصف وللأب بالتسمية السدس وما بقي بعد ذك - وهو ثلث المال -
رد عليهم بقدر أنصبائهما فللبنت ثلاثة أرباعه وللأب ربعه.
ويمكن أن يستدل عليه بقوله تعالى " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله " زائدا على الاجماع، فدل على أن من هو أولى بالرحم وأقرب
به أولى بالميراث. وقد علمنا أن قرابة الميت وذوي أرحامه أولى بميراثه من
المسلمين وبيت المال، وأصحاب السهم غير الزوج والزوجة أقرب إلى الميت
من عصبته، فوجب أن يكون فاضل السهام إليهم مصروفا.
فان قيل: لم يقع التصريح في الآية بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض
في الميراث؟
قلنا: اللفظ يحتمل الميراث وغيره، فنحمله بحكم العموم على جميع ما
يحتمله، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل.
واحتج المخالف لنا في الرد بقوله " ان امرء هلك ليس له ولد وله أخت
فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد "، فجعل للأخت النصف إذا مات
أخوها ولا ولد له ولم يزد عليه، فدل على أنها لا تستحق أكثر من النصف بحال
من الأحوال.
354

والجواب عن ذلك: أن النصف انما وجب لها بالتسمية لأنها أخت، والزيادة
انما تأخذها لمعنى آخر وهو الرد بالرحم. وليس يمتنع أن ينضاف سبب إلى
آخر، مثال ذلك: الزوج إذا كان ابن عم ولا وارث معه، فإنه يرث بالزوجية
النصف والنصف الآخر عندنا لأجل القرابة وعند مخالفينا لأجل العصبة. ولم
يجب إذا كان الله تعالى قد سمى النصف له مع فقد الولد أن لا يزاد على ذلك
لأنا قد بينا أن النصف قد يستحق بسبب آخر وهو الرد، فاختلف السببان.
(باب)
(بيان ان فرض البنتين الثلثان
ان سأل سائل عن قوله تعالى " فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " (1
فقال: من أين تقولون ان فرض البنتين هو الثلثان، وقوله فوق اثنتين " يتضمن
بأن الثلثين سهم من زاد على البنتين دون البنتين.
الجواب: ان الله تعالى لما علمنا الفرائض وقال " يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين " (2 نبه بذلك أولا على أن لكل ذكر حظ كل أنثيين
لان اللام التي في كلتا الكلمتين للجنس تفيد ما ذكرنا، فلما بين لنا ذلك
علمنا أن للابن سهم البنتين بهذا التصريح، وعلمنا أيضا ان للبنتين الثلثين بهذا
البلوغ.
وانما قلنا ذلك لأنه إذا اجتمع ابن وبنت وكان للابن الثلثان وللبنت الثلث
ههنا علم من ذلك أن للبنتين الثلثين فكفى هذا النص في بيان فريضة البنتين
ولم يحتج لأجل ذلك إلى غيره.

1) سورة النساء: 12.
2) سورة النساء: 11.
355

وليس لاحد أن يقول: انما يتمشى لكم ذلك لو كان الثلثان في كل موضع
نصيب الابن مع وجود البنتين والثلاث فصاعدا أيضا كما كان مع بنت واحدة
وذلك لان أول العدد على ظاهر القرآن ذكر وأنثى وللذكر الثلثان، فلا اعتبار
بما سواه من الأحوال، لان الدرجة الأولى هي التي يبنى عليها وللفظ يقتضي
ذلك.
ويمكن أن يستدل على ذلك بوجه آخر، وهو أن يقال: ان الله تعالى بين
نصيب الولد الذكر سهمين، وذكر الأنثيين وبين فرضهما من فحواه، وبين
فرض من فوق اثنتين من البنات بعده، فدلت الآية على سهم البنتين كما ذكرناه
من فحواها ودلت على حظ من زاد عليهما من الثلاث والأربع فصاعدا من
حيث ظاهر اللفظ والتصريح ليكون في باب الفصاحة أبلغ ومن التكرار أبعد.
وأما قوله " وان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " فقد علمنا به أن
الثلثين فرض يسمى لمن زاد على البنتين أيضا، كما أن هذه التسمية تتصور مع
فقد جنس البنتين من الثلثين فرض لهما بالنص الأول الا أن هذه التسمية انما
تتصور مع فقد جنس البنتين من الصلب.
وكذا قوله " وان كانت واحدة لها النصف " لأنه ليس للبنت الواحدة
ولا للاثنتين فصاعدا مع وجود ابن فما زاد فرض مسمى، بل يكون الميراث
بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. ومثاله قوله تعالى " ان امرؤ هلك ليس له ولد
وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد فان كانت اثنتين فلهما
الثلثان مما ترك "، فسمى سبحانه للأخت الواحدة من الأب والام أو من الأب
النصف وللأختين منه الثلثين.
وانما يصح ذلك شريطة فقد أحد من الاخوة فصاعدا، ألا ترى إلى قوله
تعالى بعده " وان كانوا أخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الأنثيين " قد أسقط
356

فيه الاعتبار الأول وأثبت للذكر مثل حظ الأنثيين فيه إذا كانوا رجالا ونساءا.
واستدل بعض الفقهاء على أن للبنتين الثلثين من هذه الآية، وحمل ذاك
على هذا. وليس ذلك بشئ.
وما أوردت أنا آية الكلالة في هذا الموضع للدلالة وانما هي على طريق
المثال، والتمثيل جائز وليس بقياس. يدل عليه ما روى عبد الرحمن بن الحجاج
عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يرمي الصيد وهو يؤم الحرم فتصيبه الرمية
فيتحامل بها حتى يدخل الحرم فيموت. قال عليه السلام: ليس عليه شئ،
انما هو بمنزلة رجل نصب شبكة في الحل فوقع فيها صيد فاضطرب حتى دخل
الحرم فمات فيه. قلت: هذا عندهم من القياس. قال: لا، انما شبهت لك
شيئا بشئ (1.
وليس لاحد أن يقول: ألزمت نفسك في ايراد هذا الجواب بهذا التطويل
شيئا ليس يلزمك، وقد أمكنك رد السائل بأن لو دفعته بابطال دليل الخطاب،
وذلك لأن هذه الآية مظنة للنصوص على المواريث مفصلة في أصولها غير مجملة
ليست آية من القرآن بهذا التفصيل في المعنى.
ولو أجبت السائل بذلك لكان دفعا بالراح ولم يكن مغنيا، بل يلزمني مع
ذلك ايراد النص على ذلك من الآية أو من موضع آخر من الكتاب أو السنة
والاشتغال بالأحسن أولى. مع أن دليل الخطاب - وإن كان المرتضى يمنع منه -
وهو قوي وكلامه لا غبار عليه، فان الشيخ المفيد كان يقول به وينصره والشيخ
أبو جعفر الطوسي كان متوقفا فيه.
فان قيل: ان ما استدللتم به ضرب من القياس وأنتم لا تقولون به.
قلنا: هذا كلام من لا يعرف دلالة النص ولا حكم القياس، وذلك لأنه لا

1) وسائل الشيعة 9 / 225.
357

خلاف بين الفقهاء المحصلين أن الخطاب الذي يستقل بنفسه ويمكن معرفة المراد
به على أربعة أقسام:
أولها: ما وضع في أصل اللغة لما أريد به وكان صريحا فيه، سواء كان خاصا
أو عاما، فمتى خاطب الحكيم به يعلم المراد بظاهره.
وثانيها: ما يفهم به المراد بفحواه لا بصريحه، وليست دلالة هذا الضرب في
القوة يقصر عن الضرب الأول. وفي الوجهين ربما يحتاج إلى قرينة.
وثالثها: تعليق الحكم بصفة الشئ، فإنه يدل على أن ما عداه بخلافه على
ما يدل وإن كان فيه خلاف على ما أشرنا إليه.
ورابعها: ما يدل فائدته عليه لا صريحه ولا فحواه ولا دليله.
على أن الروايات عن أئمة الهدى عليهم السلام الذين كان فيهم التنزيل
ومن عندهم التفسير والتأويل متظافرة في أن الثلثين فرض البنتين، وكلامهم
كله من رسول الله صلى الله عليه وآله، وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي
يوحى.
فعلمنا ذلك منهم عليهم السلام، وأجمعت الطائفة المحقة على صحتها. فإذا
أصفنا كتاب الله إليه فتلك دلالة تنضاف إلى دلالة، والا ففي اجماع الامامية
كفاية.
(فصل)
ومن شجون الحديث أن أبا هاشم الجعفري ذكر أن الفهفكي سأل أبا محمد
العسكري عليه السلام فقال: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا
ويأخذ الرجل القوي سهمين. فقال أبو محمد عليه السلام: لأن المرأة ليس عليها
جهاد ولا نفقة ولا معقلة، انما ذلك على الرجال. فقلت في نفسي قد كان قيل لي
358

ان ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله عليه السلام عن هذه المسألة فأجابه بمثل هذا
الجواب. فأقبل عليه السلام علي وقال: نعم هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب
منا واحد إذا كان معنى المسألة واحدا (1.
وعن أبي عبد الله عليه السلام وقد سأله عبد الله بن سنان: لم صار للذكر مثل
حظ الأنثيين؟ فقال: لما جعل لها من الصداق (2.
وقال الرضا عليه السلام: اعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث
لأن المرأة إذا تزوجت اخذت والرجل يعطى فلذلك وفر على الرجال، ولان
الأنثى في عيال الذكر ان احتاجت وعليه ان يعولها وعلى نفقتها، وليس على
المرأة ان تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته ان احتاج، فوفر على الرجل لذلك
وذلك قوله " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما
انفقوا من أموالهم " (3.
(باب)
(ان القاتل خطأ يرث المقتول من التركة لا من الدية)
يدل عليه ظواهر آيات المواريث كلها، مثل قوله تعالى " يوصيكم الله في
أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " (4.
فإذا عورضنا بقاتل العمد فهو يخرج بدليل قاطع لم يثبت مثله في قاتل الخطأ.
ويمكن ان يقوى ذلك أيضا بأن الخاطئ معذور، فلا يجب ان يحرم

1) كشف الغمة 3 / 299.
2) وسائل الشيعة 17 / 438.
3) عيون أخبار الرضا 2 / 96، والآية في سورة النساء: 34.
4) سورة النساء: 11.
359

الميراث الذي يحرمه القاتل ظلما على سبيل العقوبة.
فان احتج المخالف بقوله " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية
مسلمة إلى أهله " (1 فإن كان القاتل خطأ وارثا لما وجب عليه تسليم الدية.
فالجواب عن ذلك: ان وجوب تسليم الدية على القاتل إلى أهله لا يدل على
أنه لا يرث ما دون هذه الدية من تركته، لأنه لا تنافي بين الميراث وبين تسليم الدية. وأكثر
ما في ذلك أن لا يرث من الدية التي يجب عليه تسليمها شيئا، والى هذا نذهب.
(باب)
(ان المسلم يرث الكافر)
جميع ظواهر آيات المواريث دالة على أن المسلم يرث الكافر، لان قوله
" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " يعم المسلم والكافر. وكذلك آية
ميراث الأزواج والزوجات والكلالتين.
وظواهر هذه الآيات كلها تقتضي أن الكافر كالمسلم في الميراث، فلما
أجمعت الأمة على أن الكافر لا يرث المسلم، أخرجناه بهذا الدليل الموجب للعلم.
ونفي ميراث المسلم من الكافر تحت الظاهر كميراث المسلم من المسلم،
ولا يجوز أن يرجع عن هذا الظاهر بأخبار الآحاد التي يروونها، لأنها توجب الظن
ولا يخص بها ولا يرجع عما يوجب العلم من ظواهر الكتاب.
وربما عول بعض المخالفين لنا في هذه المسائل على أن المواريث بنيت
على النصرة والولاء، بدلالة قوله تعالى " والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم
من شئ حتى يهاجروا " (2 فقطع بذلك الميراث بين المسلم المهاجر وبين المسلم الذي

1) سورة النساء: 92.
2) سورة الأنفال: 73.
360

لم يهاجر، إلى أن نسخ ذلك بانقطاع الهجرة بعد الفتح، فلذلك يرث الذكور
من العصبة دون الإناث لنفي العقد والنصرة عن النساء، ولذلك لا يرث القاتل
عمدا ظلما والا العبد النفي النصرة.
وهذا ضعيف جدا، لأنا أولا لا نسلم أن المواريث بنيت على النصرة والمعونة،
لأن النساء يرثن وكذا الأطفال ولا نصرة ههنا، وعلة ثبوت المواريث غير معلومة
على التفصيل وان كنا نعلم على سبيل الجملة أنها للمصلحة.
وبعد، فان النصرة مبذولة من المسلم للكافر في الواجب على الحق، كما
أنها مبذولة للمسلم بهذه الشروط.
(باب)
(ان ولد الولد ولد وان نزل)
الدليل على ذلك - بعد الاجماع - قوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين " وهذا يدخل فيه الولد للصلب وولد الولد. ولا خلاف
أن مع أولاد الابن للوالدين السدسين.
ولا اعتبار بخلاف بعض أصحاب الحديث من أصحابنا، لان الاجماع عندنا
انما كان حجة لكون المعصوم فيه، ومن خالف فيه معلوم أنه ليس بمعصوم فلا يعتد
بخلافه. ولا ينعكس ذلك علينا، لأنا لا نعلم أن كل من قال بما قلناه ليس بمعصوم،
لتجويز أن يكون بعض علماء الأمة الذي لا يعرف نسبه ولا ولادته إماما.
فان قيل لا نسلم ان ولد الولد ولد حقيقة.
قلنا: هذا خلاف القرآن، لان الله تعالى قال " وحلائل أبنائكم الذين من
أصلابكم " (1 ولا خلاف ان امرأة ولد الولد يحرم نكاحها ووطؤها، سواء كان

1) سورة النساء: 23.
361

ولد ابن أو ولد بنت وان نزلوا ببطون كثيرة. لا خلاف بين الأمة في ذلك، وانما
شرط في الآية بقوله " الذين من أصلابكم " لئلا يتوم أن ولد الدعي الذي تبناه
به يحرم عليه نكاح زوجته إذا فارقها، فان هذا الحكم يختص الولد للصلب
وان نزلوا.
وقال تعالى " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " (1 ولا خلاف أن من عقد عليه
انسان فان الجد لا يجوز العقد عليها وان علا وإذا كان الجد أبا في هذا الموضع
فولد الولد يكون ولدا، قال تعالى " ملة أبيكم إبراهيم " (2.
وقال تعالى " ندع أبنائنا وأبنائكم " (3 ولا خلاف أنه عنى بذلك الحسن
والحسين عليهما السلام، لأنه لم يحضر المباهلة غيرهما من الأبناء.
وأيضا فلو أن انسانا وصى بثلث ماله لولد رسول الله صلى الله عليه وآله
ولولد علي عليه السلام كان يجب أن لا تصح الوصية، لان أولادهما للصلب ليسوا
بموجودين، وولد الولد على هذا المذهب ليس بولد. وكذا لو وقف وقفا
عليهم كان يجب أن لا يصح الوقف لمثل ما قلناه. وكل ذلك باطل بالاتفاق.
فان قيل: لو كان ولد الولد ولدا على الحقيقة لوجب أن يكون المال بينهم
للذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان ابن بنت وبنت ابن، والمذهب بخلافه.
قلنا: في أصحابنا من ذهب إلى ذلك، وكان المرتضى ينصره. ونحن إذا
قلنا بخلافه نقول: لو خلينا والظاهر لقلنا بذلك، ولكن أجمعت الأمة على
خلافه، فان مخالفينا لا يورثون ولد البنت مع ولد الابن شيئا أصلا. وأصحابنا
يقولون: ان كل واحد يأخذ نصيب من يتقرب به، لقوله عليه السلام: ولد

1) سورة النساء: 22.
2) سورة الحج: 78.
3) سورة آل عمران: 61.
362

الولد يقوم مقام الولد إذا لم يكن ولد.
فولد الابن يقوم مقام الابن ذكرا كان أو أنثى، وولد البنت يقوم مقام البنت
يأخذ نصيبها ذكرا كان أو أنثى. وإذا أقمناهم مقام آبائهم وأمهاتهم فكان هم أولاد
للصلب للذكر مثل حظ الأنثيين.
على أنه لو كان ميراث ولد الولد بالرحم والقرابة لأدى إلى أنه إذا ترك
بدرجتين عن ولد الصلب أن يكون المال للأخ دونه، وإذا نزل ثلاث درج أن
يكون المال للعم، دونه إذا نزل بأربع درج أن يكون الميراث لابن العم دونه وأن يكون
ولد الولد يقاسم الأخ. وكل ذلك فاسد، فكان يؤدي إلى أن يكون ولد الأخ
لا يقاسم الجد وولد ولد الأخ مع العم يكون المال للعم. وذلك باطل.
(باب الزيادات)
أما قوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم " فمعناه يعهد إليكم ويأمركم
في شأن ميراث أولادكم بما هو العدل والمصلحة، وهذا اجمال تفصيله " للذكر
مثل حظ الأنثيين " (1.
فان قيل: هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر.
قلنا: بدأ ببيان حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك ولأنهم كانوا
يورثون الذكور دون الإناث، وهو السبب لورود الآية. فقيل: كفى الذكور
أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع ادلائهن
من القرابة بمثل ما يدلون به. وتقديره للذكر منهم، فحذف الراجع إليه لأنه
مفهوم كقولهم: السمن منوان بدرهم.

1) سورة النساء: 11.
363

مسألة:
أول من يتقرب إلى الميت بنفسه الولد والوالدان، قال تعالى " يوصيكم الله
في أولادكم " ثم قال " ولأبويه " إلى قوله " عليما حكيما "، فقدم الولد والوالدين
على جميع ذوي الأرحام لقربهم من الميت، وأخر من سواهم من الأهل عن
رتبتهم في القربى، وجعل لكل واحد منهم نصيبا سماه له وبينه لنزول الشبهة
عمن عرفه في استحقاقه.
مسألة:
وقوله " ولأبويه " الضمير للميت، وما بعده بدله بتكرير العامل والابدال
والتفصيل بعد الاجمال تأكيد وتشديد.
فان قيل: كيف يصح أن يتناول الاخوة الأخوين، والجمع خلاف التثنية.
قلنا: الاخوة يفيد الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع
في إفادة الكمية، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالاخوة عليه.
مسألة:
وقوله " وإن كان رجل يورث كلالة " الكلالة في الأصل مصدر بمعنى
الكلال، وهو ذهاب القوة من الاعياء، واستعيرت للقرابة من غير جهة الولد
والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كآلة ضعيفة.
والكلالة يطلق على من لم يخلف ولدا ولا والدا، وعلى من ليس بولد
ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. فإذا جعلت
صفة للوارث أو الموروث منه فبمعنى ذي كلالة، كما تقول فلان من قرابتي تريد
364

من ذي قرابتي. ويجوز أن يكون صفة كالفقاقة للأحمق.
فان جعلتها اسما للقرابة في الآية فانتصابها على أنه مفعول له، أي يورث
لأجل الكلالة أو يورث غيره لأجلها، فان جعلت يورث على البناء للمفعول من
أورث فالرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. وكلالة حلا أو مفعول به إذا قرئ
يورث على البناء للفاعل بالتخفيف والتشديد.
365

كتاب الحدود
الحد في أصل اللغة المنع. وحد العاصي سمي به لأنه شئ يمنعه عن المعاودة.
والحدود في الشريعة معروفة موضوعة للعصاة لا يجوز أن يتجاوز عنها،
وقد أمر الله بها في أشياء مخصوصة، ونحن نذكر جميع وجوهها وجميع أحكامها
بابا بابا انشاء الله تعالى.
وقال أبو عبد الله عليه السلام: ان في كتاب علي عليه السلام: انه كان يضرب
بالسوط وبنصف السوط وببعض السوط - يعنى الحدود - إذا أتي بغلام أو
جارية لم يدركا لم يكن يبطل حدا من حدود الله. قيل له: كيف كان يضرب
ببعضه؟ قال: كان يأخذ السوط بيده من وسطه فيضرب به أو من ثلثه فيضرب به
على قدر أسنانهم، كذلك يضربهم بالسوط ولا يبطل حدا من حدود الله (1.
وقال: قال علي عليه السلام: ان الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض
فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلفوها رحمة

1) الكافي 7 / 176 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
366

من الله لكم فاقبلوها (1.
[والمريض إذا وجب على حد دون هلاكه يؤخذ دقاق فيضرب عليه لمرة
أو مرتين، قال الله تعالى " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث "] (2.
(فصل)
قال الله تعالى " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة
منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن
سبيلا " (3. شرع الله تعالى في بدو الاسلام إذا زنت الثيب أن تحبس حتى
تموت، والبكر أن تؤذى وتوبخ حتى تتوب، ثم نسخ هذا الحكم فأوجب على
الثيب الرحم وعلى البكر جلد مائة.
وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وآله قال: خذوا عني " قد
جعل الله لهن سبيلا " (4 البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب
جلد مائة والرجم (5.
وقيل: المراد بالآية الأولى الثيب وبالثانية البكر، بدلالة أنه أضاف النساء
إلينا في الأولى فقال " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم "، فكانت إضافة
زوجية، لأنه لو أراد غير الزوجات لقال من النساء، ولا فائدة للزوجية ههنا
الا أنها تيب.
وقال أكثر المفسرين: أن هذه الآية منسوخة، لأنه كان الفرض الأول ان

1) من لا يحضره الفقيه 4 / 75.
2) الزيادة من م، والآية في سورة ص: 44.
3) سورة النساء: 15.
4) الآية في سورة النساء: 15 " أو يجعل الله لهن سبيلا ".
5) مسند أحمد بن حنبل 5 / 313.
367

المرأة إذا زنت وقامت عليها البينة بذلك أربعة شهود أن تحبس في البيت أبدا
حتى تموت ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين والجلد في البكرين.
(فصل)
وقوله " أو يجعل الله لهن سبيلا " قال ابن عباس: معنى السبيل أنه الجلد
للبكر مائة وللثيب المحصن الرجم.
وقوله " يأتين الفاحشة " أي بالفاحشة، فحذف الباء كما يقولون أتيت أمرا
عظيما أي بأمر عظيم.
وقال أبو مسلم " واللاتي يأتين الفاحشة " هي المرأة تخلو بالمرأة في الفاحشة
المذكورة عنهن " أو يجعل الله لهن سبيلا " بالتزويج والاستغناء بالنكاح. وهذا
خلاف ما عليه المفسرون، لأنهم متفقون على أن الفاحشة المذكورة في الآية
هي الزنا، وهو المروي عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام (1.
ولما نزل قوله " الزانية والزاني " قال النبي صلى الله عليه وآله: قد جعل الله
لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد ثم الرجم (2.
قال الحسن وقتادة: إذا جلد البكر فإنه ينفى سنة، وهو مذهبنا. وقال
الجبائي: النفي يجوز من طريق اجتهاد الامام، وأما من وجب عليه الجلد
والرجم فإنه يجلد أولا ثم يرجم. وأكثر الفقهاء على أنهما لا يجتمعان في الشيخ
الزاني المحصن أيضا.
وثبوت الرجم معلوم من جهة التواتر لا يختلج فيه شك (3، ولا اعتداد بخلاف
الخوارج فيه.

1) انظر تفسير البرهان 1 / 353.
2) مستدرك الوسائل 3 / 226.
3) لأنه عليه السلام رجم ماعز بن مالك الأسلمي حين أقر بالزنا أربع مرات عند النبي
عليه السلام وقال: يا رسول الله قد زنيت فطهرني " ه‍ ".
368

وأما قوله " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " (1
المعني بقوله " اللذان " فيه ثلاثة أقوال أقواها ما قال الحسن وعطا أنهما الرجل والمرأة
وقال السدي وابن زيد هما البكران من الرجال والنساء، وقال مجاهد هما الرجلان
الزانيان.
قال الرماني: قول مجاهد لا يصح، لأنه لو كان كذلك لكان للتثنية معنى،
لأنه انما يجئ الوعد والوعيد بلفظ الجمع، لأنه لكل واحد منهم أو بلفظ
الواحد لدلالته على الجنس الذي يعمهم جميعهم، وأما التثنية فلا فائدة فيها.
والأول أظهر.
وقال أبو مسلم: هما الرجلان يخلوان في الفاحشة بينهما.
والذي عليه جمهور المفسرين أن الفاحشة هي الزنا ههنا، وان الحكم
المذكور في هذه الآية منسوخ بالحد المفروض في سورة النور. وبعضهم قال:
نسخها الحدود بالرجم أو الجلد.
وقوله تعالى " فآذوهما " قيل في معناه قولان: أحدهما قول ابن عباس وهو
التعيير باللسان والضرب بالنعال، وقال مجاهد هو التوبيخ.
فان قيل: كيف ذكر الأذى بعد الحبس؟
قلنا فيه ثلاثة أوجه:
أحدها قول الحسن: ان هذه الآية نزلت أولا، ثم أمر بأن يوضع في التلاوة
بعد مكان الأذى أولا ثم الحبس، ثم بعد ذلك نسخ الحبس بالجلد أو الرجم.
الثاني: قال السدي انه في البكرين خاصة دون الثيبين والأولى في الثيبين
دون البكرين.
الثالث قول الفراء: ان هذه الآية نسخت الأولى.

1) سورة النساء: 16.
369

وقال الجبائي: في الآية دلالة على نسخ القرآن بالسنة المقطوع بها، لأنها
نسخت بالرجم أو الجلد والرجم ثبت بالسنة. ومن خالف في ذلك يقول:
هذه الآية نسخت بالجلد في الزنا وأضيف إليه الرجم زيادة لا نسخا، ولم يثبت
نسخ القرآن بالسنة.
وأما الأذى المذكور في الآية فليس بمنسوخ، فان الزاني يؤذى ويوبخ
على فعله ويذم، وانما لا يقتصر عليه فزيد في الأذى إقامة الحد عليه، وانما نسخ
الاقتصار عليه.
وروي ان امرأة أتت عمر فقالت: انى فجرت فأقم علي حد الله فأمر برجمها
وكان علي عليه السلام حاضرا فقال له: سلها كيف فجرت. قالت: كنت في فلاة
من الأرض أصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها أعرابيا.
فسألته الماء فأبى على أن يسقيني الا أن أمكنه من نفسي، فوليت منه هاربة فاشتد
في العطش حتى غارت عيناي [وذهب لساني]، فلما بلغ منى [العطش] أتيته
فسقاني ووقع علي. فقال علي عليه السلام: هذه التي قال الله تعالى " فمن اضطر
غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه " (1 هذه غير باغية ولا عادية، فخلا سبيلها (2.
(فصل)
أما قوله " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (3 الآية،
فان حكم الزنا لا يثبت الا بشيئين:
أحدهما: باقرار الفاعل بذلك على نفسه مع كمال عقله من غير اجبار

1) سورة البقرة: 173.
2) من لا يحضره الفقيه 4 / 35 والزيادتان منه.
3) سورة النور: 2.
370

أربع مرات في أربع مجالس. فلو أقر بالوطي في الفرج أربعا حكم له بالزنا،
وان أقر أقل من ذلك كان عليه التعزير.
والثاني: قيام البينة بالزنا وهو أن يشهد أربعة عدول على مكلف بأنه وطئ
امرأة ليس بينها وبينه عقد ولا شبهة عقد وشاهدوا وطئها في الفرج، فإذا شهدوا
كذلك قبلت شهادتهم وحكم عليه بالزنا ووجب عليه ما يجب على فاعليه من أي
قسم كان على ما ذكرناه.
أمر الله في هذه الآية أن يجلد الزاني والزانية إذا لم يكونا محصنين كل واحد
منهما مائة جلدة، وإذا كانتا محصنين أو أحدهما كان على المحصن الرجم بلا
خلاف.
وعندنا أنه يجلد أو لا مائة جلدة ثم يرجم، وفي أصحابنا من خص ذلك
بالشيخ والشيخة إذا زنيا وكانا محصنين كما ذكرناه، فأما إذا كانا شابين محصنين
لم يكن عليهما غير الرجم، وهو قول مسروق.
والاحصان الذي يوجب الرجم هو أن يكون له زوج يغدو إليها ويروح
على وجه الدوام وكان حرا، فأما العبد فلا يكون محصنا وكذا الأمة لا تكون
محصنة، وانما عليهما نصف الحد خمسون جلدة.
والحر متى كان عنده زوجة سواء كانت حرة أو أمة - يتمكن من وطئها مخلى
بينه وبينها أو كانت هذه أمة يطأها بملك اليمين، فإنه متى زنى وجب عليه الرجم.
ومن كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا أو كان محبوسا أو هي محبوسة هذه
المدة فلا احصان، ومن كان محصنا على ما قدمناه وقد ماتت زوجته أو طلقها
بطل احصانه.
(فصل)
وقد استدل بعض المفسرين على الرجم حيث يجب الرجم وعلى القتل
371

حيث يجب القتل في الزنا من الكتاب، فان الله تعالى وضع قوله " ولا تقربوا
الزنا انه كان فاحشة " (1 في الانعام وبني إسرائيل بين قوله " ولا تقتلوا أولادكم " (2
وقوله " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق " (3 إشارة إلى ذلك، لان الحق
الذي يستباح به قتل النفس في الشريعة الكفر بعد الايمان وقود النفس الحرام
والزنا بعد الاحصان.
وما ذكر من أنه يجمع على الزاني المحصن الجلد والرجم يبدأ بالجلد ويثنى
بالرجم، ودليلنا عليه اجماع الطائفة المحقة، فإنه لا خلاف في استحقاق المحصن
الرجم وانما الخلاف في استحقاقه الجلد.
والذي يدل على استحقاقه إياه قوله تعالى " الزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منها مائة جلدة " والمحصن يدخل تحت هذا الاسم فيجب أن يكون مستحقا
للجلد، فكأنه تعالى قال اجلدوهما لأجل زناهما، وإذا كان الزنا علة لاستحقاق
الحد وجب في المحصن كما وجب في غيره. واستحقاقه الرجم غير مناف لاستحقاقه
الجلد، لان استحقاق الحدين لا يتنافى واجتماع الاستحقاقين لا يتناقض. ولا
تحمل هذه الآية على الانكار، لأنه تخصيص بغير دليل.
والخطاب بهذه الآية وإن كان متوجها إلى الجماعة فالمراد به الأمة بلا خلاف،
لان إقامة الحد ليس لأحد الا للامام أو لمن نصبه الامام.
فإذا كان الذي من وجب عليه الرجم قد قامت عليه بينة كان أول من يرجمه
الشهود ثم الامام ثم الناس، [وإن كان قد وجب عليه باقراره على نفسه كان أول
من يرجمه الامام ثم الناس]. (4.

1) سورة الإسراء: 32.
2 - 3) سورة الأنعام: 151.
4) الزيادة من م.
372

وليس كل وطي حرام زنا، لأنا قد يطأ في الحيض والنفاس وهو حرام ولا
يكون زنا، وكذا لو وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها لم يكن
ذلك زنا، لأنه شبهة. على أنه روي: إذا وطئها من غير تحرز يقام عليه الحد سرا
وعليها جهرا. ويمكن الجمع بين الروايتين.
(فصل)
قوله " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " (1
معناه لا تمنعكم الرحمة من إقامة الحد. وقال الحسن: لا يمنعكم ذلك من
الجلد الشديد، أي ان كنتم تصدقون بما وعد الله وتوعد عليه وتقرون بالبعث
والنشور ولا يأخذكم فيما ذكرناه الرأفة ولا يمنعكم من إقامة الحد على ما ذكرناه،
فمن وجب عليه الجلد فاجلدوه مائة جلدة كأشد ما يكون من الجلد. ويفرق
الضرب على بدنه ويبقى الوجه والرأس والفرج.
والرجم يكون بأحجار صغار ويكون الرجم من وراء المرجوم لئلا يصيب
وجهه من ذلك شئ.
وينبغي أن يشعر الناس بالحضور ثم يجلد بمحضر منهم لينزجروا عن
مواقعة مثله، قال تعالى " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ".
قال عكرمة الطائفة رجلان فصاعدا، وقال قتادة والأزهري هم ثلاثة فصاعدا،
وقال ابن زيد أقله أربعة، وقال الجبائي: من زعم أن الطائفة أقل من ثلاثة فقد
غلط من جهة اللغة. وقال: ليس لأحد أن يقيم الحد الا الأئمة وولاتهم، ومن
خالف فيه فقد غلط، كما أنه ليس للشاهد أن يقيم الحد.
وقد دخل المحصن في حكم الآية بلا خلاف. وكان سيبويه يذهب إلى أن

1) سورة النور: 2.
373

التأويل فيما فرض عليكم الزانية والزاني، ولولا ذلك لنصب بالامر. وقال المبرد:
إذا رفعته ففيه معنى الجزاء ولذلك دخل الفاء في الخبر، والتقدير التي تزني والذي
يزني، ومعناه من زنى فاجلدوا، فيكون على ذلك عاما في الجنس.
ثم قال " الزاني لا ينكح الا زانية أو مشركة " إلى قوله " وحرم ذلك
على المؤمنين " (1 قيل المراد بقوله " ينكح " يجامع، والمعنى أن الزاني لا
يزنى الا بزانية والزانية لا يزنى بها الا زان، وجملة ما في هذه الآية تحريم الزنا.
وقال الحسن: رجم النبي صلى الله عليه وآله الثيب، وأراد عمر أن يكتبه
في آخر المصحف ثم تركه لئلا يتوهم أنه من القرآن (2.
وقال قوم: انه من القرآن، وان ذلك منسوخ التلاوة دون الحكم.
وعن علي عليه السلام: ان المحصن يجلد مائة جلدة بالقرآن ثم يرجم
بالسنة وانه أمر بذلك (3.
(فصل)
ومما يكشف عن ذلك قوله تعالى " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون
في الكفر " إلى قوله " يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا
فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا " (4.
قال ابن عباس: أي أرسلوا بهم، في قصة زان محصن فقالوا لهم ان أفتاكم
محمد بالجلد فخذوه وان أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه، لأنهم كانوا قد صرفوا حكم

1) سورة النور: 3.
2) الدر المنثور 5 / 19.
3) مستدرك الوسائل 3 / 222.
4) سورة المائدة: 41.
374

الحد الذي في التوراة إلى جلد أربعين وتسويد الوجه والاشهار على حمار.
وقال أبو جعفر عليه السلام: ان امرأة من خيبر في شرف منهم زينت وهي
محصنة فكرهوا رجمها، فأرسلوا إلى يهود المدينة يسألون محمدا طمعا أن يكون
أتى برخصة، فسألوا فقال: هل ترضون بقضائي؟ فقالوا: نعم. فأنزل الله عليهم
الرجم، فأبوه فقال جبريل: سلهم عن ابن صوريا ثم اجعله بينك وبينهم. فقال
عليه السلام: تعرفون ابن صوريا؟ قالوا: نعم هو أعلم يهودي، فأرسل إليه
فأتى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أنشدك الله هل تجدون في كتابكم
الذي جاء به موسى الرجم على من أحصن؟ قال عبد الله بن صوريا: نعم،
والذي ذكرتني لولا مخافتي من رب التوراة أن يهلكني ان كتمت ما اعترفت لك
به، فأنزل الله فيه " يا أهل الكتاب قد جائكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم
تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير " (1. فقام ابن صوريا وسأله أن يذكر الكثير
الذي أمر أن يعفو عنه، فأعرض عليه السلام عن ذلك (2.
قال أهل التفسير " سماعون للكذب " قابلون له، كما يقال لا تسمع من فلان
أي لا تقبل منه.
وقيل قال المنافقون لليهود: ان أمركم محمد بالجلد فخذوه واجلدوا وان
أمركم بالرجم فلا تقبلوا وسلوه عن ذلك لقوله " لا يحزنك الذين يسارعون " (3
الآية، نهى الله نبيه عليه السلام أن يحزنه الذين يتبادرون في الكفر من المنافقين
ومن اليهود.
ورفع قوله " سماعون " فيه قولان: قال سيبويه هو ابتداء والخبر " من الذين

1) سورة المائدة: 15.
2) نور الثقلين 1 / 629.
3) سورة آل عمران: 176.
375

هادوا ". الثاني قال الزجاج هو رفع على أنه خبر مبتدأ، وتقديره المنافقون
هم اليهود سماعون للكذب. وفي معناه قولان: أحدهما سماعون كلامك للكذب
عليك سماعون كلامك لقوم الآخرين لم يأتوك ليكذبوا عليك إذا رجعوا إليهم
أي هم عيون عليك. وقيل إنهم كانوا رسل أهل خيبر وأهل خيبر لم يحضروا
فلهذا جالسوك.
(باب)
(غير المسلم يفجر بالمسلم)
روى جعفر بن رزق الله: ان المتوكل بعث إلى أبي الحسن علي بن محمد
العسكري عليهما السلام من سأله عن نصراني فجر بامرأة مسلمة فلما أخذ ليقام
عليه الحد أسلم. فأجاب عليه السلام: ان الحكم عليه أن يضرب حتى يموت
لان الله عز وجل يقول " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا
به مشركين * فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في
عباده " (1.
(باب)
(الحد في اللواط والسحق)
قال الله تعالى " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ". قال محمد بن بحر:
هذه الآية في الساحقات، وقوله " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما " في أهل اللواط.
وأجمع السلف والخلف ما عداه على أن الآيتين في الزناة والزواني، وان
هذين الحكمين كانا في أول الاسلام ثم نسخا بحكم الجلد والرجم.
ثم اعلم أن اللوطي إذا أوقب في الدبر يجب فيه القتل من غير مراعاة

1) من لا يحضره الفقيه 4 / 37 والآية في سورة غافر: 84.
376

للاحصان فيه، والذي يقوي ذلك أن الحدود انما وضعت في الشريعة للزجر
عن فعل الفواحش والجنايات، وكلما كان الفعل أفحش كان الزجر أقوى. ولا
خلاف في أن اللواط أفحش من الزنا، والكتاب ينطق بذلك، فيجب أن يكون
الزجر أقوى، وليس هذا بقياس ولكنه ضرب من الاستدلال. وربما قيل: ان
اللواط أفحش من الزنا لأنه إصابة لفرج لا يستباح اصابته وليس كذلك الزنا.
على أنه ليس يلزمنا تعليل الأحكام الشرعية، فمتى نص الله على حكم في
كتابه أو على لسان نبيه عليه السلام فنحن نتلقاه بالقبول.
وعن محمد بن أبي حمزة وهشام وحفص عن أبي عبد الله عليه السلام أنه
دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهن عن السحق، فقال: حدها حد الزاني. فقالت
المرأة: ما ذكر الله ذلك في القرآن. فقال: بلى. فقالت: وأين؟ فقال: هن
أصحاب الرس (1.
فإذا ساحقت المرأة أخرى وجب على كل واحدة منهما مائة جلدة حدا،
وان كانتا محصنتين كان على كل واحدة منهما الرجم.
ويثبت الحكم فيه بقيام البينة، وهي شهادة أربعة عدول أو اقرار المرأة
على نفسها أربع مرات دفعة بعد أخرى من غير اكراه مع كمال عقلها.
وأما اللواط - وهو الفجور بالذكران - فيثبت فيه الحد باقرار المرء على
نفسه فاعلا كان أو مفعولا أربع مرات على ما ذكرناه، أو قيام البينة يشهدون
على الفاعل والمفعول به في الفعل ويدعون المشاهدة كالميل في المكحلة كما
هو في الزنا.
ومن ثبت عليه حكم اللواط بفعله الايقاب كان حده أحد خمسة أشياء: اما
برمى من مكان عال، أو يرمى عليه جدار، أو يضرب رقبته، أو يرجم، أو

1) وسائل الشيعة 18 / 425.
377

يحرق بالنار. وان أقيم عليه الحد بأحد الأربعة ثم يحرق جاز ذلك تغليظا وتشديدا
للعقوبة وتعظيما لها.
والجامع بين الفاجرين يجب عليه ثلاثة أرباع حد الزاني.
(باب)
(الحد في شرب الخمر)
من شرب شيئا من المسكر قليلا أو كثيرا وجب عليه الحد ثمانون جلدة
حد المفتري.
وقد ذكرنا في باب تحريم الخمر أن قدامة بن مظعون شرب الخمر، فلما
أراد عمر أن يحده قال له قدامة: لا يجب علي الحد فان الله يقول " ليس على
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا " فدرأ
عنه الحد. فقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: أقم على قدامة
الحد. فلم يدر عمر كيف يحده، فقال لأمير المؤمنين: أشر علي في حده.
فقال: حده ثمانين، ان شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى
افترى، قال الله تعالى " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة " (1. فجلد عمر ثمانين (2.
وقد كان عثمان بن عفان يرى في حد شرب الخمر أربعين جلدة، فشرب
بعض أقاربه في عهده وشهد عليه شاهدا عدل، فأشار إلى أمير المؤمنين عليه
السلام بضربه، فضربه بدرة لها رأسان أربعين جلدة، فكانت ثمانين (3.

1) سورة النور: 4.
2) تهذيب الأحكام 10 / 93.
3) الكافي 7 / 215، صحيح مسلم 13 / 131.
378

وليس هذا الحد حملا على حد القذف، ولم يكن ما ذكره لعمر اجتهادا
من علي عليه السلام، وانما أومى إلى بعض ما سمعه من النبي صلى الله عليه
وآله في وجه ذلك.
ومن شرب الخمر مستحلا لها حل دمه إذا استتيب كما هو الواجب ولم
يتب، فان تاب أقيم عليه حد الشرب.
وشارب المسكر يجلد عريانا على ظهره وكتفيه.
وأتي برجل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله قد شرب الخمر وأقر بذلك،
فقيل: لم شربتها وهي محرمة. قال: أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون
الخمر ويستحلونها ولم أعلم أنها حرام. فلم يدر أحد منهم ما الحكم في ذلك،
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ابعثوا من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار
فمن تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن أحد تلا عليه آية التحريم
فلا شئ عليه. ففعل بالرجل ما قاله فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله. فقال سلمان:
يا أمير المؤمنين لقد أرشدتهم. فقال عليه السلام: انما أردت أن أجدد تأكيد
هذه الآية في وفيهم " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي الا أن يهدى
فما لكم كيف تحكمون " (1.
(باب)
(الحد في السرقة)
قال الله تعالى " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (2 ظاهر الآية يقتضي
وجوب القطع على كل من يكون سارقا أو سارقة، لان الألف واللام ان دخلا

1) الكافي 7 / 249 بمضمونه، والآية في سورة يونس: 35.
2) سورة المائدة: 38.
379

على الأسماء المشتقة أفادا الاستغراق إذا لم يكون للعهد دون تعريف الجنس على
ما ذهب إليه قوم، وقد دل على ذلك في كتب أصول الفقه.
فأما من قال القطع لا يجب الا على من كان سارقا مخصوصا من مكان مخصوص
مقدارا مخصوصا - وظاهر الآية لا ينبئ عن تلك الشروط - فيجب أن تكون الآية
مجملة مفتقرة إلى بيان. فقوله فاسد، لان ظاهر الآية يقتضي وجوب القطع
على كل من يسمى سارقا وانما يحتاج إلى معرفة الشروط ليخرج من جملتهم
من لا يجب قطعه، فأما من يقطع فإنما نقطعه بالظاهر، والآية مجملة فيمن لا يجب
قطعه دون من يجب قطعه، فسقط ما قالوه.
وقال ابن جرير: الظاهر يوجب أن يقطع من سرق كائنا من كان، الا أنه
صح عن النبي عليه السلام أنه قال: القطع في ربع دينار فصاعدا (1.
وقوله " فاقطعوا أيديهما " أمر من الله بقطع أيدي السارق والسارقة، والمعنى
أيمانهما، وانما جمعت الأيدي لان كل شئ من شيئين، فتثنيته بلفظ الجمع
كما قال تعالى " فقد صغت قلوبكما ". ويمكن أن يقال: ان في جمع أيديهما
هنا إشارة إلى من سرق وليس له اليمنى بل كانت قطعت في القصاص أو غير
ذلك وكان له اليسرى قطعت له اليسرى.
ونحن انما اعتبرنا قطع الايمان لاجماع المفسرين عليه ولقراءة ابن مسعود
" والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما ".
(فصل)
وكيفية القطع عندنا يجب من أوصل الأصابع الأربعة، ويترك الابهام والكف
وهو المشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام. وقال أكثر الفقهاء انه يقطع من

1) سنن النسائي 8 / 72.
380

المفصل من الكف والساعد، وقالت الخوارج يقطع من الكف.
وأما الرجل فعندنا تقطع الأصابع الأربع من مشط؟ مسقط القدم ويترك
الابهام والعقب، دليلنا انما قلناه مجمع على وجوب قطعه وما قالوه ليس
عليه دليل.
واليد يقع على جميع اليد إلى الكتف، ولا يجب قطعه إليه بلا خلاف
الا ما حكيناه عمن لا يعتد به. وقد استدل عليه قوم من أصحابنا بقوله " فويل للذين
يكتبون الكتاب بأيديهم " (1 قالوا انما يكتبونه بالأصابع، والمعتمد ما قلناه.
على أنه يمكن أن يستدل على ذلك بقوله " وأدخل يدك في جيبك تخرج
بيضاء " (2، ومعلوم باجماع المفسرين على أن النور ما كان في أكثر من أربع
أصابع موسى عليه السلام.
ويستدل على وجه آخر على أنه يجب قطع يد السارق من أصول الأصابع ويبقى
له الراحة والابهام، وفي السرقة الثانية يجب قطع رجله من صدر القدم ويبقى له
العقب.
وهو انا نقول: ان الله أمر بقطع يد السارق بظاهر الكتاب، واسم اليد يقع
على هذا العضو من أوله إلى آخره ويتناول كل بعض منه، ألا ترى انهم يسمون
من عالج شيئا بأصابعه انه قد فعل شيئا بيده، قال تعالى " فويل للذين يكتبون
الكتاب بأيديهم "، وآية الطهارة تتضمن التسمية باليد إلى المرفق، فإذا وقع
اسم اليد على هذه المواضع كلها وأمر الله بقطع يد السارق ولم ينضم إلى ذلك
بيان مقطوع عليه في موضع القطع وجب الاقتصار على أقل ما يتناوله الاسم،
لان القطع والاتلاف محظور عقلا، فإذا أمر الله تعالى به ولا بيان وجب الاقتصار

1) سورة البقرة: 79.
2) سورة النمل: 12.
381

على أقل ما يتناوله الاسم، وأقل ما يتناوله الاسم مما وقع الخلاف فيه هو ما ذهب
إليه الإمامية.
فان قيل: هذا يقتضي أن يقتصر على قطع أطراف الأصابع ولا يوجب أن
يقطع من أصولها.
قلنا: الظاهر يقتضى ذلك، والاجماع منع منه، وقد روى الناس كلهم أن
عليا عليه السلام قطع من الموضع الذي ذكرناه، ولم يعرف له مخالف في الحال
ولا منازع، وكان عليه السلام يقول: اني لاكره أن تدركه التوبة فيحتج علي
عند الله أني لم أدع له من كرائم بدنه ما يركع به ويسجد (1.
وإذا اشترك نفسان أو جماعة في سرقة ما يبلغ النصاب من حرز قطع جميعهم،
لان قوله " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ظاهره يقتضى أن القطع انما
وجب بالسرقة المخصوصة، وكل واحد من الجماعة يستحق هذا الاسم فيجب
أن يستحق القطع.
(فصل)
والنصاب الذي يتعلق القطع به قيل فيه ستة أقوال:
أولها: مذهبنا، وهو ربع دينار، وبه قال الشافعي والأوزاعي، لما روي
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: القطع في ربع دينار (2.
الثاني: ثلاثة دراهم وهو قيمة المجن، وذهب إليه مالك بن أنس.
الثالث: خمسة دراهم، رووا ذلك عن علي عليه السلام وعن عمر أنهما
قالا: لا يقطع الا في خمسة دراهم. وهو اختيار أبى علي، قال: لأنه بمنزلة

1) تفسير البرهان 1 / 471.
2) سنن النسائي 8 / 72.
382

من منع خمسة دراهم من الزكاة فإنه فاسق.
الرابع: قال الحسن يقطع في درهم، لأنه ما دونه تافه.
الخامس: قال أبو حنيفة خمسة دراهم، وقد روى أصحابه لأنه كان قيمة
المجن.
السادس: قال أصحاب الظاهر يقطع في القليل والكثير.
ولا يقطع الا من سرق من حرز، والحرز مختلف فلكل شئ حرز يعتبر فيه
حرز مثله في العادة. وحده أصحابنا: بأنه كل موضع لم يكن لغيره الدخول
إليه والتصرف فيه الا باذنه فهو حرز. قال الجبائي: الحرز أن يكون في بيت
أو دار يغلق عليه وله من يراعيه ويحفظه.
ومن سرق من غير حرز لا يجب عليه القطع، قال الرماني لأنه لا يسمى
سارقا حقيقة وانما يقال ذلك مجازا، كما يقال سارق كلمة أو معنى في شعر،
لأنه لا يطلق على هذا الاسم سارق على كل حال. وقال داود: يقطع إذا سرق من
غير حرز.
فعلى هذا السارق الذي يجب عليه القطع هو الذي يسرق من حرز ربع
دينار فصاعدا أو ما قيمته كذلك ويكون كامل العقل والشبهة عنه مرتفعة حرا كان
أو عبدا مسلما كان أو كافرا.
وإذا سرق نفسان فصاعدا ما قيمته ربع دينار من حرز وجب عليهما القطع،
فان انفرد كل واحد منهما ببعضه لم يجب عليهما القطع لأنه قد نقص عن المقدار
الذي يجب فيه القطع وكان عليهما التعزير. ويمكن أن يستدل عليه من الآية.
ومن ترك القياس العقلي الذي هو جائز وهو الأصول واشتغل بالقياس
الشرعي الذي هو محظور وهو الفروع إذ لا دليل على ثبوته في الشرع، وان
383

جاز خبط خبط عشواء، فلينظروا إلى الملحد الملهد (1 أعمى البصر والبصيرة ضل
عن حكمة الله بجهله فرآها مناقضة ثم نظم خبث عقيدته لصفاقة وجهه وقلة مبالاته
بالدين، فقال (2:
يد بخمس مائين من عسجد فديت * ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا الا السكوت له * نعوذ بالله مولانا من النار (3
وقد كان الأئمة المعصومون عليهم السلام كشفوا وجه الحكمة في ذلك
ورووا عن جدهم النبي الأمي صلى الله عليه وآله ما هو دواء العليل وشفاء الغليل،
ونظم السيد الإمام الكبير أبو الرضا الراوندي قدس الله سره مجيبا لذلك المعري:
الله قومها تقويم خمس مئى * زجرا لقاطعها دفعا لا ضرار
وقد رأى قطعها في الربع مصلحة * في حفظ مال الورى يا أيها الزاري (4
وقد هذى المعرى أيضا فقال:
هذا النبي الذي جبريل جادله * بالوحي والله أولى خلقه المنحا
ولى سيوف الأعادي هاج شيعته * وكان يكره في أسنانها فلحا
فأجبته وقلت:
يا من تحمل خسرانا وما ربحا * هذا النبي لقد أسدى وقد نصحا
لنصرة الدين سام العز وأمته * وللطهارة فيهم أنكر الفلحا
(فصل)
أما قوله تعالى " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه " (5 فإنه

1) أي المزري بالشريعة، قال أبو زيد: ألهدت به أزريت به " ج ".
2) يريد به ابا العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرى المتوفى سنة 449.
3) انباه الرواة 1 / 75 وروايته " بخمس مئ " و " وان نعوذ بمولانا ".
4) لم يذكر في ديوان الراوندي.
5) سورة المائدة: 39.
384

سبحانه أخبر أن من تاب وندم على ما كان منه من فعل الظلم بالسرقة وغيرها فان
الله يقبل توبته باسقاط العقاب بها عن المعصية التي تاب عنها.
فعلى هذا لو تاب السارق قبل أن يرفع إلى الامام وظهر ذلك منه ثم قامت
عليه البينة فإنه لا يقطع غير أنه يطالب بالسرقة، وان تاب بعد قيام البينة عليه
وجب قطعه على كل حال.
وروي أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأقر بالسرقة، فقال له
علي عليه السلام: أتقرأ شيئا من كتاب الله؟ قال: نعم سورة البقرة. فقال: قد
وهبت يدك لسورة البقرة. فقال الأشعث: أتبطل حدا من حدود الله؟ فقال:
وما يدريك ما هذا، وإذا قامت البينة قليس للامام أن يعفو، قال الله تعالى "
والحافظون لحدود الله " (1، فإذا أقر الرجل على نفسه بسرقة فذلك إلى الامام ان شاء
عفا وان شاء عاقب (2.
ولا يقطع حتى يقر بالسرقة مرتين وأنه سرق من حرز وكان نصابا، فان
رجع ضمن السرقة ولم يقطع. وقال الفقهاء: إذا قامت البينة على السارق
يجب قطعه على كل حال، فإن كان تاب كان قطعه امتحانا وان لم يكن تاب كان
عقوبة وجزاءا.
ومتى قطع فإنه لا يسقط عنه رد السرقة، سواء كانت باقية أو هالكة، فان
كانت باقية ردها بلا خلاف وان كانت هالكة رد عندنا قيمتها. قال أبو حنيفة
وأصحابه: لا يجب عليه القطع والغرامة معا، فان قطع سقطت عنه الغرامة وان
غرم سقط القطع.
ومن سرق بعد قطع اليد دفعة ثانية على ما ذكرناه قطعت رجله اليسرى

1) سورة التوبة: 112.
2) الاستبصار 4 / 252.
385

حتى يكون من خلاف، فان سرن ثالثة حبس عندنا أبدا، فان سرق في الحبس
قتل. ولا يعتبر ذلك أحد من الفقهاء.
فظاهر الآية يقتضي وجوب قطع العبد والأمة لتناول اسم السارق والسارقة
لهما إذا سرقا، وصح ذلك عليهما بالبينة دون الاقرار.
وقوله تعالى جزاءا بما كسبا " معناه استحقاقا على فعلهما " نكالا من الله "
أي عقوبة منه على ما فعلاه. وقال مجاهد الحد كفارة، وهذا غير صحيح، لان
الله دل على معنى الامر بالتوبة (1، وانما يتوب المذنب عن ذنبه والحد من فعل
غيره. وأيضا فمتى كان مصرا كان إقامة الحد عليه عقوبة والعقوبة لا تكفر
الخطيئة كما لا يستحق بها الثواب. والتوبة التي يسقط الله العقاب عندها هي
الندم على ما مضى من القبيح أو الاخلال بالواجب والعزم على ترك الرجوع
إلى مثله في القبح.
فان قيل: قوله " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح " (2 هل فعل الصلاح
شرط في قبول التوبة أم لا، فإن لم يكن شرطا فلم علق الغفران بمجموعهما؟
قيل له: لا خلاف في أن التوبة متى حصلت على شرائطها فان الله يقبلها
ويسقط العقاب وان لم يعمل بعدها عملا صالحا، غير أنه إذا تاب وبقي بعد
التوبة فإن لم يعمل العمل الصالح عاد إلى الاصرار، لأنه لا يخلو في كل حال
من واجب عليه. وأما ان مات عقيب التوبة من غير فعل صلاح فان الرحمة
باسقاط العقاب تلحقه بلا خلاف.
على أن قوله تعالى " وأصلح " يمكن أن يكون إشارة إلى العزم على ترك

1) أي دل بقوله تعالى " فمن تاب " على معنى الامر بالتوبة، لأنه خبر بمعنى الامر،
أي توبوا فأصلحوا، فلو كان الحد كفارة لم يبق ذنب حتى يتوب منه " ج ".
2) سورة المائدة: 39.
386

المعاودة مع الندم. وقال بعض المفسرين: معناه وأصلح أمره بالتفصي عن
التبعات ورد السرقة. وهذا من شرائط صحة التوبة فيه.
وأما رفع قوله " والسارق والسارقة " فإنه عند سيبويه رفع على تفسير
فرض فيهما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة. وقيل: معناه الجزاء، وتقديره
من سرق فاقطعوه، وله صدر الكلام.
قال الفراء: ولو أراد سارقا بعينه لكان النصب الوجه، ويفارق ذلك قولهم
" زيدا فاضربه " لأنه ليس فيه معنى الجزاء والمقصود واحد بعينه، وليس
القصد بالسارق واحدا بعينه، وانما هو كقولك " من سرق فاقطعوا يده " فهو في
حكم الجزاء، والجزاء له صدر الكلام. وقال الزجاج: هو القول المختار.
وأجمع العلماء على أن القطع لا يجب على السارق الا بعد أن يأخذ المال
الذي لغيره من دون اذنه من حرز وهو لا يستحقه.
(باب)
(حد المحارب)
قال الله تعالى " انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " (1 الآية.
من جرد السلاح في مصر أو غيره وهو من أهل الريبة على كل حال كان محاربا
وله خمسة أحوال: فان قتل ولم يأخذ المال وجب على الامام أن يقتله وليس
لأولياء المقتول العفو عنه ولا للامام، وان قتل وأخذ المال فإنه يقطع بالسرقة
ويرد المال ثم يقتل بعد ذلك ويصلب، وان اخذ المال ولم يقتل ولم يجرح قطع
ثم نفي عن البلد، فان جرح ولم يأخذ المال ولم يقتل وجب أن يقتص منه ثم
ينفى بعد ذلك، وان لم يجرح ولم يأخذ المال وجب أن ينفى من البلد الذي

1) سورة المائدة: 33.
387

فعل فيه ذلك إلى غيره على ما قدمناه.
وهذا التفصيل يدل عليه قوله تعالى " ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض "، واللص أيضا محارب.
وقد أخبر الله في هذه الآية بحكم من يجهر بذلك مغالبا بالسلاح، ثم
اتبعه بحكم من يأتيه في خفاء في قوله " والسارق والسارقة " الآية.
ومن سرق حرا فباعه وجب عليه القطع لأنه من المفسدين في الأرض.
ودم اللص الذي يدخل على الانسان فيدفعه عن نفسه فيؤدي إلى قتل اللص
هدر ولم يكن له قود ولادية.
(باب)
(الحد في الفرية)
قال الله تعالى " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم
ثمانين جلدة " (1. قال سعيد بن جبير هذه الآية نزلت في عائشة، وقال الضحاك
في جميع نساء المؤمنين. وهذا أولى لأنه أعم فائدة، لان الأولى أيضا يدخل
تحته وإن كان يجوز أن يكون سبب نزولها في عائشة لكن لا تقصر الآية على سببها.
قال الحسن يجلد هذا القاذف وعليه ثيابه، وهو قول أبى جعفر عليه السلام (2.
ويجلد الرجل قائما والمرأة قاعدة، وقال إبراهيم يرمى عنه ثيابه، وعندنا
انما يرمى عنه ثيابه إذا كان الحد في الزنا وكان وجد عريانا، فان وجد وعليه
ثيابه في الزنا يجلد وعليه ثيابه قائما على كل حال.
فان مات من يجلد من الضرب لم يكن عليه قود ولا دية.

1) سورة النور: 4.
2) انظر الكافي 7 / 205.
388

فإذا قال الرجل أو المرأة كافرين كانا أو مسلمين حرين أو عبدين بعد أن
يكونا بالغين لغيره من المسلمين البالغين الأحرار " يا زاني " أو " يا لائط " أو
معناه معنى هذا الكلام بأي لغة كانت بعد أن يكون عارفا لموضوعها وبفائدة اللفظ
وجب عليه الحد ثمانون، وهو حد القاذف.
فان قال " قد لطت بفلان " كان عليه حدان حد للمواجهة وحد لمن نسبه
إليه. والآية تدل على جميع ذلك.
وقوله " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " ذكرنا في كتاب الشهادات بيانه.
والحد حق المقذوف، لأنه لا يزول بالتوبة.
وقال بعض المفسرين والفقهاء: إذا كان القاذف عبدا أو أمة كان الحد أربعين
جلدة. وروى أصحابنا ان هذا الحد ثمانون في الحر والعبد والمسلم والكافر
وظاهر العموم يقتضى ذلك، وبه قال عمر بن عبد العزيز والقاسم بن عبد الرحمن.
ويثبت الحد في القذف بشهادة شاهدين مسلمين عدلين، أو باقرار القاذف
على نفسه مرتين بأنه قذف. ولا يكون الحد فيه كما هو في شرب الخمر وفى الزنا
في الشدة، بل يكون دون ذلك.
وقد ذكرنا أن القاذف لا يجرد على حال. والعفو عن القاذف في جميع الأحوال إلى المقذوف، ألا ترى أنه لو
قال
لغيره " يا بن الزانية " كانت المطالبة إلى الام ان كانت حية، وان كانت ميتة ولها وليان
أو أكثر وعفا بعضهم أو أكثرهم كان لمن بقي منهم المطالبة بإقامة الحد عليه
على الكمال.
(فصل)
والقذف على الاطلاق يكون الزنا وما في معناه ويكون بغير ذلك، والمراد
389

في الآية قذفهن بالزنا بسببين: أحدهما ذكر المحصنات عقيب آية الزواني،
والثاني اشتراط أربعة شهداء.
والقذف بالزنا أن يقول العاقل البالغ لمحصنة أو لمحصن " يا ولد الزنا " أو
ما قدمناه ففيه الحد، والقذف لغير الزنا أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر
يا فاسق، يا عاض بظر أمه، يا يهودي، يا نصراني.
فعليه إذا كان المقذوف على ظاهر العدالة التعزير، وهو ما دون الحد. وقال
الفقهاء لا يبلغ به أدنى حد العبيد، وقال أبو يوسف يبلغ به تسعة وتسعون، وللامام
أن يعزر إلى تسعة وتسعين.
وشروط احصان القذف الحرية والبلوغ والاسلام، وزاد بعضهم العقل
والعفة. فمتى قال انسان لمسلم " أمك زانية " وكانت أمه كافرة أو أمة كان عليه
الحد تاما لحرمة ولدها المسلم الحر، وان قال لغيره من المماليك أو الكفار
" يا بن الزاني " أو " يا بن الزانية " وكان أبو المقذوف مسلمين أو حرين كان
عليه الحد أيضا كاملا، لان الحد لمن لو واجهه بالقذف لكان له الحد تاما.
ثم قال تعالى " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا
في الدنيا والآخرة " (1 أي أبعد وامن رحمة الله في الدنيا بإقامة الحدود عليهم
ورد الشهادة وفى الآخرة بأليم العقاب.
وهذا وعيد عام لجميع المكلفين في قول ابن عباس. ومن قال الوعيد
خاص فيمن قذف عائشة فقوله لا يصح، لان الآية إذا نزلت في سبب لم يجب
قصرها عليه، كآية اللعان وآية الظهار. ومتى حملت على العموم دخل من قذفها
في جملتهم.
وإذا لم يكن المقذوف محصنا يعزر القاذف ولا يحد.

1) سورة النور: 23.
390

وقال الفقهاء: أشد الضرب ضرب التعزير، ثم ضرب الزنا، ثم ضرب
من شرب الخمر، ثم ضرب القاذف.
(باب الزيادات)
ان قيل: كيف قال " يتوفاهن الموت " (1 والمتوفى والموت واحد؟.
قلنا: يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت، كقوله " الذين تتوفاهم
الملائكة " (2 أو " حتى يأخذهن الموت ".
و " اللاتي يأتين الفاحشة " أي يرهقنها، يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها
ورهقها. والفاحشة الزنا، لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
وقيل: نزلت هذه الآية في الساحقات وما بعدها في اللواطين.
مسألة:
وقوله " الزانية والزاني فاجلدوا " (3 الجلد ضرب الجلد، كما يقال جلد
ظهره ورأسه.
وهذا حكم من ليس بمحصن من الزناة والزواني، فان المحصن حكمه
الرجم.
وشرائط الاحصان عند أبي حنيفة ست: الاسلام، والحرية، والعقل،
والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول. وعند الشافعي الاسلام ليس
بشرط.
فان قيل: اللفظ يقتضي تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني، لان قوله

1) سورة النساء: 15.
2) سورة النحل: 28.
3) سورة النور: 2.
391

" الزانية والزاني " عام في المحصن وغير المحصن.
قلنا: هما يدلان على جنسين دلالة مطلقة، والجنسية قائمة في الكل والبعض
جميعا، فأيهما قصد المتكلم فلا يطلق الا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك. وانما
ابتدئ هنا بذكر النساء وفي آية السرقة بالرجال للتغليب، ولان الحد بالجلد
انما يجب على الرجل الشاب غير المحصن إذا زنا وطاوعته المرأة، فان أكرهها
وغصب فرجها فإنه يجب ضرب عنقه البتة.
مسألة:
وقوله تعالى " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " (2 الآية
الذي يقتضيه ظاهرها أن يكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه
قيل ومن قتل المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم، أي فاجمعوا
لهم الجلد والرد والتفسيق، الا الذين تابوا.
مسألة:
عن سليمان بن خالد قلت لأبي عبد الله عليه السلام: في القرآن رجم؟
قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة فإنهما
قضيا الشهوة (2.
وقد ذكرنا في كتاب الصوم كيفية ذلك في باب النسخ.
مسألة:
وعن حنان بن سدير قال: ان عباد المكي سأل الصادق عليه السلام عن

1) سورة النور: 4.
2) من لا يحضره الفقيه 4 / 26.
392

رجل زنا وهو مريض فان أقيم عليه الحد خافوا عليه أن يموت، ما تقول في هذه
المسألة؟ فقال: هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك انسان ان تسأل عنها. فقال: ان
سفيان الثوري أمرني أن أسألك عنها. فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله
أتى برجل أحبن (1 قد استسقى بطنه وبدت عروق فخذيه وقد زنا بامرأة مريضة،
فأمر رسول الله فأتي بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربة واحدة وضربها
به ضربة واحدة وخلى سبيلهما، وذلك قوله تعالى (2 " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به
ولا تحنث " (3.

1) الحبن - بفتح الحاء والباء - عظم البطن من الاستسقاء، ورجل أحبن المبتلى
بهذا المرض - النهاية لابن الأثير 1 / 335.
2) سورة ص: 44.
3) من لا يحضره الفقيه 4 / 28.
393

كتاب الديات
اعلم أن القتل على ثلاثة أضرب: عمد محض ويجب فيه القود أو الدية
على ما بينته، وخطأ محض، وخطأ شبيه العمد. وفيهما الدية لا غير، وفي كل
واحد منهما يجب على القاتل الكفارة بعد أخذ الدية أو العفو على ما ذكرناه
في باب الكفارة.
(باب)
(القتل العمد وأحكامه)
قال الله تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها " (1 الآية.
فالعمد المحض هو كل من قتل غيره وكان بصيرا بالغا كامل العقل بحديد
أو بغيره، إذا كان قاصدا بذلك القتل أو يكون فعله مما قد جرت العادة بحصول
الموت عنده، يجب عليه القود، ولا يستقاد منه الا بحديد. وإن كان قتل هو

1) سورة النساء: 93.
394

صاحبه بغير الحديد ولا يمكن من تقطيع أعضائه وإن كان هو فعل ذلك بصاحبه
بل يؤمر بضرب رقبته.
ويستوي في القاتل جميع ذلك، ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو مملوكا مسلما
كان أو كافرا.
وليس لأولياء المقتول الا نفسه، وليس لهم مطالبته بالدية. فان فادى القاتل
نفسه بمال جزيل ورضوا به جاز.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من يقتل مؤمنا متعمدا - يعني قاصدا إلى
قتله - أن جزاءه جهنم خالدا " مؤبدا فيها وغضب الله عليه. وقد بينا أن غضب
الله هو إرادة عقابه والاستخفاف به، ولعنه معناه أبعده من رحمته.
وسأل سماعة أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله " ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم ". قال: من قتل مؤمنا على دينه ولايمانه فذاك المتعمد الذي
قال الله تعالى في كتابه " وأعد له عذابا عظيما ". قلت: فالرجل يقع بينه وبين
الرجل [شئ] فيضربه بسيفه فيقتله. قال: ليس ذلك المتعمد الذي قال الله
عز وجل (1.
وإن كان قتله متعمدا لغضب أو لسبب شئ من الدنيا فان توبته أن يقاد منه،
وهذا حد من الله والتوبة منه مع الاستسلام.
وان لم يكن علم به أحد وانطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل
صاحبهم فان عفوا عنه ولم يقتلوه وأعطاهم الدية أو عفوه عن الدية أيضا أعتق
نسمة وصام شهرين متتابعين وأطعم ستين مسكينا كفارة وتوبة إلى الله تعالى.
(فصل)
واختلفوا في صفة قتل العمر، قال قوم لا يكون قتل العمد الا ما كان بحديد،

1) تهذيب الأحكام 10 / 164.
395

واليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في رواية.
وقال آخرون: ان من قصد قتل غيره بما يقتل مثله في غالب العادة - سواء
كان بحديدة حادة كالسلاح أو مثقلة من حديد أو خنق أو سم أو احراق أو تغريق
أو ضرب بالعصا أو الحصى حتى يموت - فان جميع ذلك عمد يوجب القود.
وبه قال الشافعي وأصحابه واختاره الطبري، وهو مذهبنا على ما ذكرناه، وقد
أمر الله تعالى بذلك في قوله " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى
الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالاثني " (1.
فان قيل: كيف قال " كتب عليكم " بمعنى فرض والأولياء مخيرون بين
القصاص والعفو؟.
قلنا عنه جوابان: أحدهما انه فرض عليكم ذلك أن اختار أولياء المقتول
القصاص، والفرض قد يكون مضيقا وقد يكون مخيرا فيه. والثاني فرض عليكم
ترك مجاوزة ما حد لكم إلى التعدي فيما لم يجعل لكم. والقصاص الاخذ من
الجاني مثل ما جنى، وذلك لأنه مال لجنايته.
(فصل)
وقال بعض المفسرين: ان هذه الآية منسوخة بقوله " وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس " (2. قال جعفر بن مبشر: ليس هذا عندي كذلك، لأنه تعالى انما
أخبرنا أنه كتبها على اليهود. قلنا: وليس في ذلك ما يوجب أنه فرض علينا،
لان شريعتهم منسوخة بشريعتنا.
والذي نقوله نحن: ان هذه الآية ليست منسوخة، لان ما تضمنته معمول

1) سورة البقرة: 178.
2) سورة المائدة: 45.
396

عليه ولا ينافي قوله " النفس بالنفس "، لان تلك عامة وهذه خاصة ويمكن بناء
تلك على هذه ولا تناقض ولا يحتاج إلى أن ينسخ إحداهما بالأخرى.
وقال قتادة: نزلت هذه الآية لان قوما من أهل الجاهلية كانت لهم جولة
على غيرهم، فكانوا يتعدون في ذلك فلا يرضون بالعبد الا الحر ولا بالمرأة الا
الرجل، فنهاهم الله بهذه الآية عن مثل ذلك.
ويجوز قتل العبد بالحر والأنثى بالذكر اجماعا، ولقوله " ومن قتل مظلوما
فقد جعلنا لوليه سلطانا " ولقوله " النفس بالنفس ". وقوله في هذه الآية " الحر
بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " لا يمنع من ذلك، لأنه تعالى لم يقل ولا
يقتل الأنثى بالذكر ولا العبد بالحر، وإذا لم يكن ذلك في الظاهر فما تضمنته
الآية معمول به. وما قلناه مثبت بما تقدم من الأدلة.
واما قتل الحر بالعبد فعندنا لا يجوز، وبه قال الشافعي وأهل المدينة، وقال
أهل العراق يجوز.
ولا يقتل الوالد بالولد عندنا وعند أكثر الفقهاء، وقال مالك يقتل به على
بعض الوجوه.
وأما قتل الوالدة بالولد فعندنا تقتل به وعند جميع الفقهاء انها جارية مجرى الأب
وأما قتل الولد بالوالد فيجوز اجماعا. لا يقتل مولى بعبده.
ويجوز قتل الجماعة بواحد اجماعا، ولقوله " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا "، الا ان عندنا يرد أولياء المقتول فاضل الدية وعندهم لا يرد شئ
على حال.
وإذا اشترك بالغ مع طفل أو مجنون في قتل فعندنا لا يسقط القود عن البالغ
وبه قال الشافعي، وقال أهل العراق يسقط.
(فصل)
ثم قال سبحانه " فمن عفي له من أخيه شئ " معنى عفي ههنا ترك، من
397

عفت المنازل لو تركت حتى درست. والعفو عن المعصية ترك العقاب عليها.
والعفو عن القتل يكون على وجهين:
أحدهما: ان يعفو أولياء المقتول عن القاتل ويصفحوا عنه ولا يطلبون منه
شيئا اما للتقرب إلى الله تعالى واما لغرض من الأغراض.
والثاني: ان يكون العفو ترك القود بقبول الدية إذا بذل القاتل ورضي به
أولياء المقتول.
وأولياء المقتول كل من يرث الدية الا الزوج والزوجة ليس لهما غير سهمهما
من الدية ان قبلها الأولياء أو العفو عنه بمقدار ما يصيبهما من الميراث، وليس
لهما المطالبة بالقود، وأما من سواهما من الأولياء فلهم المطالبة بالقود ولهم
الرضا بالدية.
ولهم العفو على الاجتماع والانفراد ذكرا كان أو أنثى، فان اختلفوا فبعض
عفا عن القاتل وبعض طلب القود وبعض رضي بالدية كان للذي يطلب القود أن
يقتل القاتل إذا رد على الذي طلب الدية ماله منها ورد على أولياء القاتل سهم
من عفا عنه.
وقال أبو حنيفة: إذا كان للمقتول ولد صغار وكبار فللكبار أن يقتلوا، واحتج
بقاتل علي عليه السلام. وقال غيره لا يجوز حتى يبلغ الصغار. وعندنا ان لهم
ذلك إذا ضمنوا حصة الصغار من الدية إذا بلغوا ولم يرضوا بالقصاص.
وقال الزجاج: معنى قوله " فمن عفى له من أخيه شئ " اي من ترك قتله
ورضي منه بالدية وهو قاتل متعمد للقتل، فقد عفي له بأن ديته؟ ورضي منه بالدية،
وهو من العفو الذي هو الصفح وترك المؤاخذة بالذنب، فمعنى عفي له صفح
عنه، بأن لا يؤاخذ بما يستحقه عليه من القصاص والقتل.
وقيل العفو الترك كما قدمناه، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وآله
398

" عفوت عنكم عن صدقة الخيل " أي تركتها. واصل العفو محو الأثر.
وهذا العفو كما ذكرناه على ضربين: أحدهما عفو عن دم القاتل وعن الدية
جميعا، والاخر عفو عن الدم والرضا بالدية. وهو المراد بالآية.
والمراد بقوله " من أخيه " أي من القاتل عفا ولي المقتول عن دمه الذي له
من جهة أخيه المقتول. والمراد بقوله " شئ " الدم. فالهاء في قوله " من أخيه "
يعود إلى أخي المقتول في قول الحسن، وقال الآخرون تعود إلى أخ القاتل.
فان قيل: كيف يجوز أن يعود على أخي القاتل وهو في تلك الحال فاسق.
قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها انه أراد اخوة النسب لا في الدين كما
قال " والى عاد أخاهم هودا " (1. الثاني أن القاتل قد يتوب ويدخل في الجملة
غير التائب على وجه التغليب. الثالث تعريفه بذلك على أنه كان أخاه قبل أن
قتله كما قال " إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " (2
يعني الذين كانوا أزواجهن.
(فصل)
قوله تعالى " فاتباع بالمعروف " يعني العافي، وعلى المعفو عنه " أداء إليه
باحسان "، وبه قال ابن عباس والحسن، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه
السلام (3. وقال قوم هما عن المعفو عنه.
ودية القصاص في قود النفس ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، أو مائة
من مسان الإبل، أو مائتان من البقر، أو ألف شاة، أو ماشا كله. فهذه الستة أصل

1) سورة الأعراف: 65.
2) سورة البقرة: 232.
3) تهذيب الأحكام 10 / 178.
399

في نفس الدية وليس بعضها بدلا من بعض، وهذا كما نقول في زكاة الفطرة انها
تجب صاع من أحد الأجناس الستة الحنطة والشعير والتمر والزبيب والأرز
والأقط، فان كل واحد منها أصل فيها وليس بعضها بدلا من بعض.
ولا يجبر القاتل عمدا على الدية، فان رضي فهي عليه في ماله، فإن لم يقبل
أولياء المقتول الدية فأدى القاتل نفسه بأضعاف الدية فلا بأس بقبوله.
" فاتباع بالمعروف " أي فعليه اتباع الأخ العافي بمعروف.
" وأداء إليه باحسان " أي يتبعه بالحمد والشكر والثناء ويؤدي إليه الدية
باحسان، اي على وجه جميل.
وقال الزجاج: قيل على الولي العافي اتباع القاتل بالمطالبة للدية وعلى
القاتل أداء الدية باحسان. وقال: وجائز أن يكون الاتباع بالمعروف والأداء
بالاحسان جميعا على القاتل.
وجاء في التفسير: ان الأداء باحسان ان يكون منجما ولا يذهب شئ من
الدية، والاتباع بالمعروف أن يقبضها برفق. وقال أبو مسلم: أي على قاتل
العمد الذي يرضى منه ولي المقتول بالدية ويعفو له عن القود أن يتبع ما أمره
الله في اعطاء الولي ما يصالحه عليه ويرضى به منه. ويحتمل بالمعروف أن
يكون صفة لأمر الله أن يكون ما يتعارفه العرب بينها من دية القتلى بينهم إذا
أرادوا الاصلاح وحقن الدماء.
ويؤخذ دية العمد نسيئة، وقد حث الله كل واحد منهما على الاحسان، فليؤد
المطلوب إلى الطالب ان استطاع بتعجيل وليرفق الطالب في طلب الدية.
وأنكر بعض أهل اللغة أن يكون العفو في الآية بمعنى الاعطاء كما قاله
البصري ان الضمير في " أخيه " يرجع إلى أخي المقتول الذي يرث دمه،
والأخ المراد به في النسب بذل له من دم أخيه شئ يعطي عفوا، أي الدية في
سهولة. وذلك لأنه لو كان من الاعطاء لقيل فمن أعطي له، وليس في الكلام
400

عفي له منه بمعنى أعطاه عفوا، انما يقال أعفي له بكذا إذا أعطاه، وانما هو عفو
ولي المقتول عن دية القاتل.
وقوله " القاتل لا يكون أخا المقتول الا في النسب " ليس بصحيح، لأنه
يمكن أن يكون القاتل عمدا والمقتول مسلمين.
قال ابن مهرايزد: الصحيح أن الضمير في " أخيه " للقاتل الذي عفى له
القصاص وأخوه ولي المقتول، والضمير في " إليه " أيضا له، أي يؤدي القاتل الدية
إلى الولي العافي " باحسان " أي من غير مطل ولا أذى.
(فصل)
ثم قال " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " المشار إليه بذا ترخيص الله ترك
القصاص والاقتصار على الدية " فمن اعتدى " بعد ذلك " فله عذاب أليم " أي
من اعتدى بعد البيان في الآية فقتل غير قاتل وليه أو بعد قبول الدية فله عذاب
أليم، أي من قتل منكم نفسا في الدنيا قتلته في النار مائة ألف قتلة مثل قتله صاحبه.
وجاء في التفسير: ان الاعتداء ههنا أن يقتل بواحد عدة، كما كان يفعل
كبراء الكفار في الجاهلية. وكل هذا يحتمل في الآية، والمروي عن ابن عباس
أن الاعتداء هو القتل بعد قبول الدية، وكذلك عن أبي جعفر وأبى عبد الله
عليهما السلام.
ومعنى " تخفيف من ربكم " أنه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو،
وكان لأهل التوراة قصاص وعفو ولأهل الإنجيل عفو ودية.
وقال " ولكم في القصاص حياة " المراد به القصاص في القتل، وانما كان
فيه حياة من وجهين: أنه إذا هم الانسان بالقتل فذكر القصاص ارتدع، فكان
ذلك سببا للحياة، حياة للذي هم هو بقتله وحياة له لأنه من أجل القصاص
أمسك عن القتل، فلسم من أن يقتل. وقال السدي. من جهة أنه لا يقتل الا
القاتل دون غيره، خلاف فعل الجاهلية الذين كانوا يتفالون بالطوائل. و
401

المعنيان جميعا حسنان، ونظير هذه الآية قولهم " القتل أنفى للقتل ".
وانما خص الله بالخطاب أولي الألباب لأنهم المكلفون المأمورون، ومن
ليس بعاقل لا يصح تكليفه. فعلى هذا متى كان القاتل غير بالغ - وحده عشر
سنين فصاعدا - أو يكون مع بلوغه زائل العقل اما أن يكون مجنونا أو مؤوفا
فان قتلهما وإن كان عمدا فحكمه حكم الخطأ.
(فصل)
قوله تعالى " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق " (1 يعني الا بالقود
أو الكفر أو ما يجري مجراهما، فان قتله كذلك حق وليس بظلم.
" ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف " (2 أي فلا يسرف
القاتل في القتل، وجاز أن يضمر وان لم يجر له ذكر، لان الحال يدل عليه،
ويكون تقييده بالاسراف جاريا مجرى قوله في أكل مال اليتيم " ولا تأكلوها
اسرافا " وان لم يجز أن يأكل منه على الاقتصاد، فكذلك لا يمتنع أن يقال
للقاتل الأول لا تسرف في القتل، لأنه يكون بقتله مسرفا فلا يسرف لان من قتل
مظلوما كان منصورا بأن يقتص له وليه والسلطان ان لم يكن له ولي، فيكون هذا
رد القاتل عن القتل.
والاخر أن يكون في " يسرف " ضمير " الولي "، أي لا يسرف الولي في
القتل، فاسرافه فيه أن يقتل غير من قتل أو يقتل أكثر من قاتل وليه، أي فلا يسرف
الولي فإنه منصور بقتل قاتل وليه والاقتصاص منه.
والسلطان الذي جعله الله للولي، قال ابن عباس: هو القود أو العفو
أو الدية.

1) سورة الأنعام: 151 والاسراء: 33.
2) سورة الإسراء: 33.
402

(فصل)
ومما يقتضيه الآيات أن المرأة إذا قتلت رجلا واختار أولياؤه القود فليس
لهم الا نفسها، فان قتل الرجل امرأة عمدا وأراد أولياؤها قتله كان لهم ذلك
إذا ردوا نصف دية الرجل.
وإذا قتل المسلم ذميا عمدا وجب عليه ديته ولا يجب فيه القود، وكذلك
إذا قتل حر عبدا أو أمة لم يكن عليه قود وعليه الدية يعطى قيمتهما يوم قتلهما
فان زادت القيمة على دية الحر والحرة رد إليها.
فان قتل عبد حرا عمدا كان عليه القتل ان أراد أولياء المقتول ذلك، فان
طلبوا الدية كان على مولاه الدية كاملة أو تسليم العبد إليهم ان شاؤوا استرقوه
وان شاؤوا قتلوه.
فإذا قتل جماعة واحدا فان أولياء الدم مخيرون بين أمور ثلاثة: أحدها
أن يقتلوا القاتلين كلهم ويؤدوا فضل ما بين دياتهم ودية المقتول إلى أولياء
المقتولين. والثاني أن يتخيروا واحدا منهم فيقتلوه ويؤدوا المستبقون ديته إلى
أولياء صاحبهم بحساب أقساطهم من الدية. الثالث ان اختار أولياء المقتول
أخذ الدية كانت على القاتلين بحسب عددهم، والدليل على صحته اجماع
الطائفة، ولان ما ذكرناه أشبه بالعدل.
والذي يدل على الفصل الأول - زائدا على الاجماع - قوله تعالى " ولكم
في القصاص حياة "، ومعنى هذا أن القاتل إذا علم أنه ان قتل قتل كف عن
القتل وكان ذلك أزجر له وكان داعيا إلى حياته وحياة من هم بقتله، فلو أسقطنا
القود في حال الاشتراك سقط هذا المعنى المقصود بالآية، فكان من أراد قتل
غيره من غير أن يقتل به شارك غيره في قتله، فسقط القود عنهما.
403

ويمكن أن يستدل أيضا على من خالف في قتل الجماعة بواحد بقوله
تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (1، والقاتلون
إذا كانوا جماعة فكلهم معتدون، فيجب أن يعاملوا ما عاملوا به القتيل.
فان قالوا: ان الله تعالى يقول " النفس بالنفس والحر بالحر " (2، وهذا ينفي
أن يؤخذ نفسان بنفس وحران بحر.
قلنا: المراد بالنفس والحر ههنا الجنس لا العدد، فكأنه تعالى قال: ان
جنس النفوس يؤخذ بجنس النفوس وكذا جنس الأحرار، فالواحد والجماعة
يدخلون في ذلك.
فان قيل: قد ثبت أن الجماعة إذا اشتركوا في سرقة نصاب لم يلزم كل
واحد منهم قطع وإن كان كل واحد منهم إذا انفرد بسرقته لزمه القطع، فأي
فرق بين ذلك وبين القتل مع الاشتراك؟
قلنا: الذي نذهب إليه - وان خالفنا فيه الجماعة - أنه إذا اشترك نفسان في
سرقة شئ من حرز وكان قيمة المسروق ربع دينار ويكون أيديهما عليه، فإنه
يجب عليهما القطع معا وقد سوينا بين القتل والقطع. ولهذه المسألة تفصيل
ذكر في بابه.
(فصل)
واختلف أهل التأويل في قوله " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض
فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " (3.

1) سورة البقرة: 194.
2) سورة المائدة: 45.
3) سورة المائدة: 32.
404

قال الزجاج: معناه انه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنهم خصومه في
قتل ذلك الانسان.
قال الحسن: معناه تعظيم الوزر والاثم.
قال ابن مسعود: من قتل نفسا فكأنما قتل الناس عند المقتول، ومن
أحياها فكأنما أحيا الناس عند المستقيد.
وقال ابن زيد: معناه ان يجب من القتل والقود مثلما يجب عليه لو قتل
الناس جميعا، ومعنى من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا من نجاها من
الهلاك - مثل الغرق والحرق.
وقيل من عفا عن دمها وقد وجب القود عليها، وقيل معناه من زجر عن
قتلها بما فيه حياتها على وجه يفتدى به فيها، بأن يعظم تحريم قتلها كما حرمه
الله على نفسه فلم يقدم عليه فقد حيى الناس بسلامتهم منه وذلك احياؤه إياها،
وهو اختيار الطبري.
والله هو المحيى للخلق لا يقدر عليه غيره، وانما قال أحياها على وجه
المجاز، يعني نجاها من الهلاك، كما حكي عن نمرود " أنا أحي وأميت "
فاستبقي واحدا وقتل الاخر.
والقول في ذلك أن يقال: أن الله تعالى شبه قاتل النفس بقاتل جميع
الناس ومنجيها بمنجى جميع الناس، وتشبيه الشئ بالشئ يكون من وجوه
حقيقة ومجازا، فيجب أن ينظر في التشبيه ههنا بماذا يتعلق، فلا يجوز أن
يكون شبه الفعل بالفعل، لان قتل واحد لا يشبه قتل اثنين، فلابد من أن يكون
التشبيه في المعنى.
ولا يجوز أن يقال: شبه الاثم بالاثم والعقاب بالعقاب، لان الذي يحاسب
على الفتليل والقطمير ويتمدح بأنه لا يظلم مثقال حبة من خردل يمنع غناه
405

وحكمته وعدله أن يساوي في العقاب بين قاتل نفس واحدة وبين قاتل نفسين
فكيف من قتل نوع الناس، فإذا التشبيه مجاز والمراد به تهويل أمر القتل ومبالغة
في الزجر عنه وأنه يستحق في الدنيا من كل مؤمن البراءة واللعنة والعداوة، كما لو
تعرض له نفسه بالقتل لا يستحق كل ذل منه لكون المؤمنون يدا واحدة على
من سواهم.
وقد قضى الحسن بن علي عليهما السلام في رجل اتهم بأنه قتل نفسا فأقر
بأنه قتل، وجاء آخر فأقر أن الذي قتل هو دون صاحبه، ورجع الأول عن
اقراره: أنه درأ عنهما القود والدية ودفع إلى أولياء المقتول الدية من بيت المال
وقرأ هذه الآية ثم قال: هذا ان قتل ذلك فقد أحيا هذا (1.
والأولياء هم الوراث من الرجال، فمن الأولاد الذكور ومن الأقارب من
كان ذكرا من قبل الأب.
(باب)
(القتل الخطأ المحض)
قال الله تعالى " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله الا أن تصدقوا " (2.
اعلم أن النفي ههنا متعلق بالجواز في دين الله وحكمه، أي لا يجوز ذلك
في حكم الله. والظاهر اخبار بانتفاء الجواز ويتضمن النفي، أي فلا تفعلوه. ولدخول
كان إفادة أن هذا ليس حكما حادثا بل لم يزل حكم الله على هذا.
وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية ديتين وثلاث كفارات:
ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار الاسلام فقال " ومن قتل مؤمنا

1) وسائل الشيعة 19 / 107 وما هنا نقل بالمعنى.
2) سورة النساء: 92.
406

خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ".
وذكر الكفارة دون الدية بقتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين
إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم ففيه الكفارة دون الدية، فقال " فإن كان من
قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة "، لان قوله " وإن كان " كناية عن
المؤمن الذي تقدم ذكره.
ثم ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار المعاهدين، فقال " وإن كان
من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ".
وعند المخالف ان ذلك كناية عن الذي في دار الاسلام. وما قلناه أليق
بسياق الآية، لان الكنايات كلها في كان عن المؤمن فلا ينبغي أن يصرفها إلى غيره
بلا دليل.
ومعناه: لم يأذن الله ولا أباح لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيما عهده إليه،
لأنه لو أباحه أو اذن فيه لما كان خطأ، والتقدير الا ان يقتله خطأ فان حكمه
كذا - ذهب إليه قتادة.
وقوله " الا خطأ " استثناء منقطع في قول أكثر المفسرين، وتقدير الآية
الا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس ذلك فيما جعله الله له، واجماع ان
قتل المؤمن لا يجوز لا عمدا ولا خطأ. فالتقدير: غير جائز في حكم الله أن
يقتل مؤمن مؤمنا لكن ان وقع عليه غلط فأخطأ في مقصده وفعل هذا المحظور
فعليه كذا وكذا.
(فصل)
ثم أخبر سبحانه بحكم من قتل من المؤمنين مؤمنا خطأ فقال " ومن قتل
مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " معناه فعليه تحرير رقبة مؤمنة، يعني مظهرة
407

للايمان. وظاهر ذلك يقتضي أن تكون بالغة ليحكم لها بالايمان، وذلك في ماله خاصة.
" ودية مسلمة إلى أهله " يؤديها عنه عاقلته إلى أولياء المقتول.
" الا أن يصدقوا " أولياء المقتول على من لزمته دية قتلهم فيعفو عنه،
فحينئذ يسقط عنهم وموضع أن من قوله " الا أن يصدقوا " نصب، لان المعنى
فعلية ذلك الا في حال التصدق، ثم حذفت في. وقيل الا حال التصدق، وأصله
الا على أن تصدقوا ثم سقط على ويعمل فيه ما قبله على معنى الحال، أو هو
مصدر وقع موقع الحال. ويجوز في سبب النزول كلما قيل.
والذي يعول عليه: ان ما تضمنته الآية حكم من قتل خطأ.
وقال ابن عباس والحسن: الرقبة المؤمنة لا تكون الا بالغة قد آمنت وصامت
وصلت، فأما الطفل فإنه لا يجزي، ولا الكافر. وقال عطا: كل رقبة ولدت في
الاسلام فهي تجزي. والأول أقوى، لان المؤمن على الحقيقة لا يطلق الا على
بالغ عاقل مظهر للايمان ملتزم لوجوب الصلاة والصوم، الا أنه لا خلاف أن
المولود بين مؤمنين يحكم له بالايمان، فهذا الاجماع ينبغي أن يجري في كفارة
قتل الخطأ، فأما الكافر والمولود بين كافرين فإنه لا يجزي بحال.
ودية قتل الخطأ يلزم العاقلة، والعاقلة يرجع بها على القاتل إن كان له مال،
فإن لم يكن له مال فلا شئ للعاقلة عليه، ومتى كان للقاتل مال ولم يكن للعاقلة
مال الزم في ماله الدية خاصة.
ولا يلزم العاقلة من دية الخطأ الا ما قامت به البينة، فأما ما يقر به القاتل
فليس عليهم منه شئ ويلزم القاتل ذلك في ماله خاصة.
وتستؤدى دية الخطأ في ثلاث سنين.
والعاقلة هم الذين يرثون دية القاتل ان لو قتل، ولا يلزم من لا يرث من
ديته شيئا.
408

والدية المسلمة إلى أهل القتيل هي المدفوعة إليهم موفرة غير منقصة
حقوق أهلها منها.
" الا أن يصدقوا " معناه يتصدقوا، وهو في قراءة أبي فأدغمت التاء في
الصادر لقرب مخرجهما.
(فصل)
وقوله تعالى " فإن كان من قدم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " (1.
يعنى إن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم هم أعداء لكم مشركون
وهو مؤمن فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة.
واختلفوا في معناه:
فقال قوم: إذا كان القتيل في عداد الأعداء وهو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر
فمن قتله فلا دية له وعليه تحرير رقبة مؤمنة، لان الدية ميراث وأهله كفار لا يرثونه
- هذا قول ابن عباس.
وقال آخرون: بل عنى به من أهل الحرب من تقدم دار الاسلام ثم يرجع
إلى دار الحرب، فإذا مر بهم جيش من أهل الاسلام فهرب قومه وأقام ذلك
المسلم بينهم فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا.
ثم قال " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير
رقبة مؤمنة " معناه إن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم وبينهم
أيها المؤمنون ميثاق أو عهد - أي عهد وذمة - وليسوا أهل حرب لكم فدية
مسلمة إلى أهله يلزم عاقله قاتله وتحرير رقبة مؤمنة على القاتل كفارة لقتله.
واختلفوا في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن

1) سورة النساء: 93.
409

أو كافر؟ فقال قوم هو كافر، الا انه يلزم قاتله ديته لان له ولقومه عهدا، ذهب
إليه ابن عباس. وقال آخرون بل هو مؤمن، فعلى قاتله ديته يؤديها إلى قومه
من المشركين لأنهم أهل ذمة. وهو المروي في أخبارنا، الا أنهم قالوا تعطى
ديته ورثته المسلمين دون الكفار.
والميثاق العهد، والمراد به ههنا الذمة وغيرها من العهود.
والخطأ هو أن يريد شيئا فيصيب غيره.
والدية الواجبة في قتل الخطأ مائة من الإبل ان كانت العاقلة من أهل الإبل.
وقال ابن مهرايزد: هو أن يكون المقتول مؤمنا [من قوم معاهدين، وذكر
ابن إسحاق انه يجوز أن لا يكون مؤمنا] (1، ولأجل المهادنة والميثاق وجبت
الدية والكفارة.
(فصل)
أما دية أهل الذمة فقال قوم هي دية المسلم سواء، ذهب إليه ابن مسعود
واختاره أبو حنيفة. وقال قوم هي على النصف من دية المسلم، وقال قوم هي
على الثلث من دية المسلم، ذهب إليه الشافعي وقال إنها أربعة آلاف.
وأما دية المجوسي فلا خلاف انها ثمانمائة درهم، وكذلك عندنا دية اليهودي
والنصراني، والأنثى منهم أربعمائة درهم، والدليل عليه اجماع الطائفة.
فان احتج المخالف بقوله " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية
مسلمة إلى أهله " ثم قال " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة "،
وظاهر الكلام يقتضي ان الدية واحدة.
قلنا: هذا السؤال ساقط على قول من يقول هذا القتيل الذي هو من قوم

1) الزياد من ج.
410

بينكم بينهم ميثاق هو مؤمن، ومعناه إن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من
قوم بينكم وبينهم ميثاق - أي ذمة وعهد وليسوا من أهل حرب لكم - فدية
مسلمة إلى أهله لأنهم أهل الذمة. واما على قول من يقول إن هذا القتيل كافر
فلا شبهة في أن ظاهر الكلام لا يقتضي التساوي في مبلغ الدية، وانما يقتضي
التساوي في وجوب الدية على سبيل الجملة.
وفي تقديم تحرير الرقبة على الدية في صدر الآية وتقديم الدية على تحرير
الرقبة في آخر الآية خبيئة لطيفة، وكذلك في قوله " الا أن تصدقوا " إشارة حسنة
والأحسن أن تكون الكناية في كان من قوله " فإن كان من قوم عدو لكم " للقتيل
دون أن يكون للمؤمن، لان قوله " وهو مؤمن " يمنع من ذلك.
وكذا الكناية في كان من قوله " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " للمقتول
لان المقتول يقع على المؤمن والكافر، فإن كان القتيل من هؤلاء الكافرين كافرا
فديته دية الكافر وإن كان مؤمنا فديته دية المؤمن. هذا هو المذهب، ويجوز
أن يكون كان تامة في أول الآية من قوله " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ "
أي ما وقع قتل مؤمن لمؤمن الا قتلا خطأ.
(فصل)
ثم قال تعالى " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " (1 اختلفوا في معناه:
فقال قوم يعني فمن لم يجد الرقبة المؤمنة كفارة عن قتله المؤمن خطأ لاعساره
فعليه صيام شهرين متتابعين، وقال آخرون فمن لم يجد الدية فعليه صوم شهرين
عن الدية والرقبة، وقال مسروق تأويل الآية فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولا دية
يسلمها إلى أهله فعليه صوم شهرين متتابعين.

1) سورة النساء: 92.
411

والأول هو الصحيح، لان دية قتل الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل
باجماع الأمة على ذلك.
وصفة التتابع في الصوم أن يتابع الشهرين لا يفصل بينهما بافطار يوم على
ما قدمناه في باب الكفارة.
ثم قال " توبة من الله " وهو نصب على القطع (1، ومعناه رخصة من الله لكم
إلى التيسير عليكم بتخفيفه ما خفف عنكم من فرض تحرير رقبة مؤمنة بايجاب
صوم شهرين متتابعين.
قال الجبائي: انما قال " توبة من الله " لأنه تعالى بهذه الكفارة التي يلزمها
يدرأ العقاب والذم عن القاتل، لأنه يجوز أن يكون عاصيا في السبب وان لم
يكن عاصيا في القتل من حيث إنه رمى في موضع هو منهي عنه وان لم يقصد
القتل. وهذا ليس بشئ، لان الآية عامة في كل قاتل خطأ، وما ذكره ربما اتفق
في الآحاد.
والزام دية الخطأ للعاقلة ليس هو مؤاخذة البرئ بالسقيم، فان ذلك ليس
بعقوبة بل هو حكم شرعي تابع للمصالح، ولو خلينا والعقل ما أوجبناه. وقد
قيل إن ذلك على وجه المواساة والمعاونة.
ثم قال " ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها " واستدلت المعتزلة
بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة يخلد في نار جهنم وانه إذا قتل مؤمنا يستحق
الخلود فيها ولا يعفى عنه.
ولنا ان نقول لهم: ما أنكرتم ان يكون المراد بالآية الكفار ومن لا ثواب
له أصلا، فأما من يستحق الثواب فلا يجوز ان يكون مرادا بالخلود في النار
أصلا. وقد استوفى الكلام فيه أصحابنا في الأصول.

1) الكوفيون يسمون الحال قطعا " ج ".
412

وقد ذكر جماعة من المفسرين ان الآية متوجهة إلى من يقتل مؤمنا تعصبا
لايمانه، وذلك لا يكون الا كافرا.
وقال علي بن موسى القمي: ان التقدير في الآية من يقتل مؤمنا لدينه،
والوعيد ورد على هذا الوجه، لأنه إذا قتله لأجل انه مؤمن فقد كفر.
(فصل)
اما قوله " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا " (1 فقد قال
أبو جعفر عليه السلام: نزلت في أمر بنى النضير وبنى قريضة (2.
قال قتادة: انما كان ذلك في قتيل بينهم، قالوا إن أفتاكم محمد بالدية
فاقتلوا وان أفتاكم بالقود فاحذروه، فلما أرادوا الانصراف تعلقت قريضة بالنضير
قالوا: يا أبا القاسم - وكرهوا أن يقولوا يا محمد لئلا يوافق ذلك ما في كتبهم من
ذكره - هؤلاء إخواننا بنو النضير إذا قتلوا منا قتيلا لا يعطون القود منهم وأعطونا
سبعين وسقا من تمر، وان اخذوا الدية اخذوا منا مائة وأربعين وسقا، وكذا
جراحاتنا على انصاف جراحاتهم. فأنزل الله " وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئا
وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط " (3 أي فاحكم بينهم بالسواء. فقالوا: لا نرضى
بقضائك، فأنزل الله " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم
يوقنون " (4.
ثم قال تعالى " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة " (5 شاهدا لك فيما

1) سورة المائدة: 41.
2) روى ذلك في حديث طويل - انظر يجمع البيان 2 / 193.
3) سورة المائدة: 42.
4) سورة المائدة: 50.
5) سورة المائدة: 43.
413

يخالفونك. ثم فسر ما فيها من حكم الله فقال " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس
والعين بالعين " الآية.
" فان تولوا " يعنى بني النضير لما قالوا لا نرضى بحكمك.
(باب)
(القتل الخطأ وشبيه العمد)
اعلم أن القتل على ثلاثة أضرب:
عمد محض، وهو أن يكون عامدا بآلة يقتل غالبا كالسيف والسكين والحجر
الثقيل، عامدا في قصده، وهو أن يقصد قتله بذلك. فمتى كان عامدا في قصده
عامدا في فعله فهو العمد المحض، قال تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه
جهنم " (1.
والثاني: خطأ محض، وهو ما لم يشبه شيئا من العمد، بأن يكون مخطئا
في فعله مخطئا في قصده، مثل أن رمى طائرا فأصاب انسانا، فقد أخطأ في
الامرين، قال الله تعالى " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " (2.
الثالث: عمد الخطأ أو شبه العمد، والمعنى واحد، وهو أن يكون عامدا
في فعله مخطئا في قصده. فأما كونه عامدا في فعله فهو أن يعمد إلى ضربه لكنه
بآلة لا تقتل غالبا كالسوط والعصا الخفيفة، والخطأ في القصد أن يكون قصده
تأديبا وزجره وتعليمه لكنه ان مات منه فهو عامد في فعله مخطئ في قصده.
ويمكن أن يستدل على هذا النوع من القتل أيضا بقوله " وما كان لمؤمن
أن يقتل مؤمنا الا خطأ " الآية. فالخطأ شبيه العمد هو أن يعالج الطبيب غيره بما

1) سورة النساء: 93.
2) سورة النساء: 92.
414

قد جرت العادة بحصول النفع عنده أو بقصده فيؤدى ذلك إلى الموت. فان
هذا وما قدمناه يحكم فيه بالخطأ شبيه العمد يلزم فيه الدية مغلظة، ولا قود فيه
على حال.
والدية فيه تلزم القاتل بنفسه في ماله خاصة، وان لم يكن له مال استسعى
فيها أو يكون في ذمته إلى أن يوسع الله عليه. والدية في ذلك مائة من الإبل
أثلاثا، وهذه الدية تستؤدى في سنتين.
وعلى هذا القاتل بعد اعطاء الدية كفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد كان
عليه صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا، كما على قاتل
الخطأ المحض، لان الآية أيضا دالة عليه.
وكفارة قتل العمد بعد العفو له ببدل أو بلا بدل هذه الثلاثة. والدليل
عليه بعد الاجماع السنة، فإن لم يقدروا على ذلك تصدقوا بما استطاعوا وصاموا
ما قدروا عليه.
(باب)
(ديات الجوارح والأعضاء والقصاص فيها)
قال الله تعالى " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف
بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص " (1.
هذا وإن كان اخبارا من الله تعالى انه مما كتب على اليهود في التوراة،
فإنه لا خلاف أن ذلك ثابت في شرعنا. وذلك لأنه إذا صح بالقرآن أو بالسنة
أن حكما من الاحكام كان ثابتا في شريعة من كان قبل نبينا من الأنبياء عليهم السلام

1) سورة المائدة: 45.
415

ولا يثبت نسخة لا قرآنا ولا سنه ة فإنه يجب العمل به.
يقول الله عز وجل: فرضنا على اليهود الذين تقدم ذكرهم في التوراة أن النفس
بالنفس، ومعناه إذا قتلت نفس نفسا أخرى متعمدا فإنه يستحق عليه القود إذا
كان القاتل عاقلا مميزا وكان المقتول مكافئا للقاتل، اما أن يكونا مسلمين حرين
أو كافرين أو مملوكين، فأما أن يكون القاتل حرا مسلما والمقتول كافرا أو مملوكا
فان عندنا لا يقتل به، وفيه خلاف بين الفقهاء. وإن كان القاتل مملوكا أو كافرا
والمقتول مثله أو فوقه فإنه يقتل بلا خلاف.
ويراعى في قصاص الأعضاء ما يراعى في قصاص النفس من التكافؤ، ومتى
لم يكونا متكافئين فلا قصاص على الترتيب الذي رتبناه في النفس سواء، وفيه
أيضا خلاف.
ويراعى في الأعضاء التساوي أيضا، فلا يقلع العين اليمنى باليسرى، ولا
يقطع اليمين باليسار، ولا يقطع الناقصة بالكاملة. فمن قطع يمين غيره وكانت
يمين القاطع شلاء قال أبو علي: يقال له ان شئت قطعت يمينه الشلاء أو تأخذ دية
يدك. وقد ورد في أخبارنا أن يساره تقطع إذا لم يكن للقاطع يمين.
وروى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: دية اليد إذا
قطعت خمسون من الإبل، فما كان جروحا دون الاصطلام (1 فيحكم به ذوا عدل
منكم ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (2. وفى هذا إشارة إلى أن
الحكم بذلك أو بغيره ليس الا إلى حجة الله أو من يأمره الحجة.
فأما عين الأعور فإنها تقلع بالعين الذي يقلعها، سواء كانت المقلوعة عوراء
أو لم تكن، فان قلعت العوراء كان فيها كمال الدية إذا كانت خلقة أو ذهبت

1) أي لم يقطع عضو تام، والاصطلام الاستيصال.
2) من لا يحضره الفقيه 4 / 130.
416

بآفة من الله تعالى أو تقلع أحد عيني القالع ويلزمه مع ذلك نصف الدية،
وفيه خلاف.
(فصل)
وقوله تعالى " والجروح قصاص " التقدير أوجبنا أن النفس تقتل إذا قتلت
نفسا بغير حق وفرضنا عليهم أن الجروح قصاص.
وظاهر هذه الآية لا يقتضى انا متعبدون بهذه الأحكام، لأنها حكاية عن أمة
أنه فرض عليهم ذلك، الا ان العلماء مجمعون على انا أيضا بهذه الأحكام متعبدون
لا بهذه الآية بل بالآية التي في سورة البقرة وهي مجارية لهذه. ولا يجب من
الاتفاق في كثير من المتعبدات أن تكون الشريعتان واحدة بعينها.
ومعنى " النفس بالنفس " تقتل النفس بسبب قتل النفس. قيل وذلك مجمل
وله بيان طويل، وفيه تخصيص.
ومعنى " العين بالعين " تقلع العين لمن قلع عينا بغير حق.
وكذا ان قطع أنفه أو أذنه أو قلع أو كسر سنا له أو جرحه بجراحة يفعل به
مثله. وهذا معنى قوله " والجروح قصاص " لان القصاص ان يتبع به فعله فيفعل
مثل فعله، ومعناها ذات قصاص، أي يقاص الجارح قصاصا.
وتفاصيل هذه الأحكام بكتب الفقه أولى، لكنا نذكر ألفاظا يسيرة.
(فصل)
وأما الجروح فإنه يقتص منها إذا كان الجارح مكافئا للمجروح على ما بيناه
في النفس، فيقتص بمثل جراحته الموضحة بالموضحة والهاشمة بالهاشمة
والمنقلة بالمنقلة. ولا قصاص في المأمومة وهي التي تبلغ أم الرأس، ولا الجائفة
417

وهي التي تبلغ الجوف، لان في القصاص منهما تضريرا بالنفس.
ولا ينبغي أن يقتص الجراح بعد أن يندمل من المجروح، فإذا اندمل اقتص
حينئذ من الجارح، وان سرت إلى النفس كان فيها القود.
وكسر العظم لا قصاص فيه وانما فيه الدية.
وكل جارحة كانت ناقصة فإذا قطعت كان فيها حكومة ولا يقتص بها الجارحة
الكاملة، كيد شلاء وعين لا تبصر وسن سوداء متأكلة، فان في جميع ذلك حكومة
لا تبلغ دية تلك الجارحة، وقد روينا في هذه الأشياء مقدرا، وهو ثلث دية العضو
الصحيح.
والعين تقلع بالعين وان تفاوتتا في الصغر والكبر والحسن والقبح وزيادة
البصر، الا أن تكون عمياء.
(فصل)
وقوله تعالى " فمن تصدق به فهو كفارة له " الهاء في كفارة له يحتمل
عودها إلى أحد أمرين:
أحدهما: - وهو الأقوى - أنها عائدة على المتصدق من المجروح أو ولي
المقتول، لأنه إذا تصدق بذلك على الجارح لوجه الله تعالى كفر الله بذلك
عنه عقوبة ما مضى من معاصيه.
الثاني: أنها تعود على المتصدق عليه، لأنه يقوم مقام أخذ الحق عنه.
وانما رجحنا الأول لان العائد يجب أن يرجع إلى مذكور وهو " من "
والمتصدق عنه لم يجر له ذكر. على أنه لو كان ههنا كفارة وقصاص - كما قتل
خطأ المؤمن في دار الاسلام كفارة ودية - لما سقطت الكفارة وان أسقط المجروح
القصاص، كما لا تسقط الكفارة في قتل الخطأ وان تصدقوا بالدية فتسقط.
ومعنى من تصدق به عفا عن الحق وأسقط.
418

فان قيل: هل يكفر الذنب الا التوبة أو اجتناب الكبيرة.
قلنا: على مذهبنا لا يجوز أن يكفر الذنب شئ من أفعال الخير، ويجوز
أن يتفضل الله باسقاط (1 عقابها كما قال عليه السلام: من يعف يعف الله عنه (2
وقوله " فمن تصدق به " من لصاحب الحق والذي له أن يطلب القصاص،
والضمير في " به " لحقه يقول ولي المقتول: ومن جرح أو أصيب عضو منه ان عفى واحد
منهم عن حقه ولم يطالب بالقصاص أو الدية - فهو أي فعله ذلك وتركه لحقه - كفارة له،
أي يكفر الله له ذنوبه فلا يؤاخذه بها. وقال ابن عباس: انه كفارة للحامي، أي
يسقط عنه الولي والمخرج القود والقصاص عن القاتل والجارح. فالأول أوجه.
(فصل)
وأما قوله " والذين إذا أصابعهم البغي هم ينتصرون " إلى قوله " وجزاء
سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله " (3. العفو في الآية المراد به ما يتلق
بالإساءة إلى نفوسهم الذي له الاختصاص بها، فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين.
وأما ما يتعلق بحقوق الله وحدوده فليس للامام تركها ولا العفو عنها ولا يجوز
له عن المرتد وعمن يجري مجراه.
" وجزاء سيئة سيئة مثلها " يحتمل أن يكون المراد ما جعل الله لنا الاقتصاص
منه من النفس بالنفس والعين بالعين - الآية، فان المجني عليه [له] أن يفعل
بالجاني مثل ذلك من غير زيادة. وسماه سيئة للازدواج، كما قال " وان
عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (4.

1) إلى هنا تنتهى نسخة " ج " من جامعة طهران.
2) مستدرك الوسائل 2 / 87.
3) سورة الشورى: 39 - 40.
4) سورة النحل: 126.
419

ثم مدح العافي بماله أن يفعله فقال " فأجره على الله " أي فجزاؤه عليه وهو
سبحانه يثيبه على ذلك " انه لا يحب الظالمين " أي لم أرغبكم في العفو عن
الظالم لأني أحبه بل لأني أحب الاحسان والعفو.
ثم أخبر أن من انتصر بعد أن تعدي عليه فليس عليه سبيل قال قتادة " بعد
ظلمه " فيما يكون فيه القصاص بين الناس في النفس أو الأعضاء أو الجرح،
فأما غير ذلك فلا يجوز أن يفعل بمن ظلمه.
وقال قوم: ان له أن ينتصر على يد سلطان عادل، بأن يحمله إليه ويطالبه
بأخذ حقه منه، لان السلطان هو الذي يقيم الحدود ويأخذ من الظالم للمظلوم.
(فصل)
وقوله تعالى " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة
في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما
فكسونا العظام لحما " (1.
فأول ما يكون الجنين نطفة وفيها عشرون دينارا، ويصير علقة وفيها أربعون
دينارا وفيما بينهما بحساب ذلك، ثم يصير مضغة وفيها سبعون دينارا، ثم يصير
عظما وفيه ثمانون دينارا، ثم يصير صورة بلا روح مكسوا عليها اللحم خلقا
سويا شق له العينان والاذنان والأنف قبل أن تلجه الروح وفيه مائة دينار، ثم تلجه
الروح وفيه دية كاملة. وبذلك قضى أمير المؤمنين عليه السلام وقرأ الآية (2.
قوله " يا أيها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم
من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم " (3. قال قوم:

1) سورة المؤمنون: 12 - 14.
2) انظر تفسير البرهان 3 / 111.
3) سورة الحج: 5.
420

أراد به جميع الخلق، لان النطفة التي خلقهم الله تعالى منها تكون من الغذاء
والغذاء يكون من التراب والماء فكان أصلهم كلهم التراب، ثم أحاله بالتدريج
إلى النطفة، ثم أحال النطفة علقة - وهي القطع من الدم جامدة - ثم أحال
العلقة مضغة وهي شبيه قطعة من اللحم ممضوغة والمضغة مقدار ما يمضغ من
اللحم، فخلقه تامة الخلق وغير تامة، وقيل متصورة وغير متصورة وهو السقط.
" ثم أنشأناه خلقا آخر " بنبات الأسنان والشعر وأعضاء العقل والفهم،
وقيل خلقا آخر أي ذكرا وأنثى.
وجاء في الأثر أن الصحابة احتلفوا في الموؤودة ما هي، وهل الاعتزال وأد،
وهل اسقاط المرأة جنينها وأد. قال علي عليه السلام: انها لا تكون موؤودة حتى
يأتي عليها البارات السبع. فقال عمر: صدقت (1.
وأراد أمير المؤمنين عليه السلام بالبارات السبع طبقات الخلق السبع المثبتة
في قوله " ولقد خلقنا الانسان من سلالة " الآية. فعنى سبحانه ولادته ميتا، فأشار علي
عليه السلام أنه إذا استهل بعد الولادة ثم دفن فقد وئد، وقصد بذلك أن يدفع قول
من توهم أن الحامل إذا أسقطت جنينها قبل أن تلجه الروح بالتداوي فقد وأدته.
(باب الزيادات)
اعلم أن الحر لا يقتل بالعبد أخذا بقوله تعالى " كتب عليكم القصاص في
القتلى "، وهي مفسرة لما أبهم في قوله " النفس بالنفس "، لان تلك واردة
لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها وهذه خوطب بها المسلمون وكتب
عليهم فيها.
وروي أنه كان بين حنين دماء في الجاهلية فأقسموا لنقتلن الاثنين بالواحد
والحر بالعبد، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله حين جاء الاسلام،
فنزلت وأمرهم أن يتساووا.

1) الدر المنثور 6 / 320.
421

وقوله " فمن عفي له من أخيه شئ "، كقولك " سير " يريد بعض السير،
ولا يصح أن يكن " شئ " في معنى المفعول به، لان عفى لا يتعدى إلى المفعول
به الا بواسطة.
و " أخوه " هو ولي المقتول، وذكره بلفظ الاخوة ليعطف أحدهما على
صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والاسلام.
فان قيل: ان " عفا " يتعدى بعن لا باللام، فما وجه قوله " فمن عفى له "؟
قلنا: يتعدى بعن إلى الجاني والى الذنب فيقال " عفوت عن فلان وعن
ذنبه " قال تعالى " عفا الله عنك " (1 وقال " عفا الله عنها " (2، فان تعدى إلى الذنب
قيل " عفوت لفلان عما جنى " كما يقال " تجاوزت له عنه ". وعلى هذا فما
في الآية كأنه قيل: فمن عفا له من جنايته. فاستغنى عن ذكر الجناية.
فان قيل: هنا فسرت عفا بترك جنى يكون شئ في معنى المفعول به.
قلنا: لان عفا الشئ إذا تركه ليس يثبت ولكن أعفاه ذمته، قوله عليه السلام
" أعفوا اللحى ".
فان قيل: فقد ثبت قولهم " عفا الشئ " إذا نحاه فان له فهلا فعلت معناه
فمن عفا له من أخيه شئ.
قلنا: عبارة قلقه في مكانها، والعفو في الجنايات عبارة مشهورة في
الشرع فلا نعدل عنها.
مسألة:
قول " ولكم في القصاص حياة " (3 عرف القصاص ونكر الحياة، لان المعنى

1) سورة التوبة: 43.
2) سورة المائدة: 101.
3) سورة البقرة: 179.
422

ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم
كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، كما قاد مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن
وائل، فلما جاء الاسلام فشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة أو نوع من
الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل، لوقوع العلم بالاقتصاص
من القاتل. وقرئ " ذلكم في القصص حياة " أي مما قص عليكم من حكم
القتل والقصاص.
مسألة:
وقوله " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق " (1 أي بإحدى ثلاث
الا بأن يكفر أو يقتل مؤمنا عمدا أو يزني بعد احصان.
" ومن قتل مظلوما " أي غير راكب واحدة منهن " فقد جعلنا لوليه سلطانا "
على العاقل في الاقتصاص منه " فلا يسرف " الولي، أي فلا يقتل غير القاتل،
وقيل الاسراف المثلة. وقرئ " فلا يسرف " بالرفع على أنه خبر في معنى
الامر، وفيه مبالغة ليست في الامر. وقرئ بالتاء على خطاب الولي أو قتل
المظلوم.
" انه كان منصورا " الضمير اما للولي، يعني حسبه ان الله ناصره بأن أوجب
له القصاص فلا يسترد على ذلك، وبأن الله نصره بمعونة السلطان وباظهار المؤمنين
على استيفاء الحق فلا يقع ما وراء حقه: اما المظلوم لان الله ناصره حيث أوجب
القصاص بقتله وبنصره وفى الآخرة بالثواب، وأما الذي يقتله الولي بغير الحق
ويسرف في قتله فإنه منصور بايجاب القصاص على المسرف.

1) سورة الإسراء: 33.
423

مسألة:
وأما قوله " ومن قتل نفسا بغير نفس " فتقديره بغير قتل نفس " أو فساد "
عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد، وهو الشرك أو قطع الطريق.
فان قيل: كيف شبه الواحد بالجمع وجعل حكمه حكمهم؟
قلنا: لان كل انسان مدلى بما يدلى به الاخر وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد
أهين وتركت حرمته وعلى العكس، فلا فرق بين الواحد والجمع في ذلك.
" ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك " أي بعد ما كتبنا عليهم " لمسرفون " في القتل
لا يبالون بعظمته.
مسألة:
سئل أبو عبد الله عليه السلام عن القسامة في القتل فكان بدؤها من قبل رسول
الله صلى الله عليه وآله فقد وجد أنصاري قتل، قالوا: يا رسول الله قتلت اليهود
صاحبنا. قال: ليقسم منكم خمسون رجلا [على أنهم قتلوه] (1. فقالوا: نقسم
على ما لم نر. فقال: ليقسم اليهود. قالوا: من يصدق اليهود. فقال: أنا أؤدي
دية صاحبكم، ان الله (2 حكم في الدماء ما لم يحكم في شئ من حقوق الناس
لتعظيمه الدماء... فاليمين على المدعى عليه في سائر الحقوق وفى الدم على
المدعي (3 - كما ترى.

1) الزيادة من المصدر.
2) في المصدر " فقلت له: كيف الحكم فيها؟ فقال: ان الله.. ".
3) تهذيب الأحكام 10 / 167 مع اختلاف في ألفاظ وجمل.
424

مسألة:
" وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ " (1 أي ما صح ولا استقام ولا لاق
بحاله أن يقتل مؤمنا ابتداءا غير قصاص الا خطأ، أي الا على وجه الخطأ.
وانتصب خطأ على أنه مفعول له، أي ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل الا للخطأ
وحده. ويجوز أن يكون حالا، بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال الا في حال
الخطأ، وأن يكون صفة مصدرا الا قتلا خطأ.
" ومن قتل مؤمنا خطأ فعليه تحرير رقبة " (1. والتحرير الاعتاق، والرقبة
عبارة عن النسمة كما عبر عنها بالرأس، يقال " فلان يملك كذا رأسا من الرؤس ".
فان قيل: على من يجب الدية أو الرقبة؟
قلنا: على القاتل، الا أن الرقبة في ماله على كل حال، والدية إن كان أقر
هو على نفسه بذلك فعلى ماله أيضا على الأحوال، وإن كان بإقامة البينة عليه
بذلك فالدية يتحملها عنه العاقلة، فإن لم يكن له عاقلة أو كانوا ولم يكن لهم
مال ففي ماله، وان لم يكن يستسعى، وان لم يكن ففي بيت المال.
" الا أن تصدقوا " عليه بالدية، ومعناه العفو.
فان قيل: بم يتعلق " أن تصدقوا " وما محله؟
قلنا: يتعلق بعليه أو بتسليمه، كأنه قيل ويجب عليه الدية أو تسليمها الا حين
تتصدقون عليه، ومحلها النصب على الظرف بتقدير خلاف الزمان، كقولهم
" اجلس ما دام زيد جالسا ". ويجوز أن يكون حالا من أهله، بمعنى الا يتصدقن.
مسألة:
قوله " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين " (2 المعطوفات

1) سورة النساء: 92.
2) سورة المائدة: 45.
425

كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل أن النفس، لان المعنى
وكتبنا عليهم النفس بالنفس، اما لاجراء كتبنا مجرى لنا واما لان معنى الجملة
التي هي قوله " النفس بالنفس " ما يقع عليه الكتب كما يقع عليه القراءة.
وكذلك قال الزجاج لو قرئ " ان النفس بالنفس " بالكسر لكان صحيحا
أو الاستئناف، والمعنى فرضنا عليهم فيها أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها
إذا قتلها بغير حق.
وكذلك العين مفقوءة بالعين والأنف مجدوع بالأنف والاذن مقطوعة بالاذن
والسن مقلوعة بالسن والجروح ذات قصاص، وهو المقاصة. ومعناه ما يمكن
فيه القصاص ويعرف المساواة.
مسألة:
ان قيل في قوله تعالى " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " (1 أهم محمودون
على الانتصار؟
قلنا: نعم، لان من أخذ الحق غير متعد حد الله ولم يسرف في القتل إن كان
ولي الدم أو رد على سفيه محاماة على عرضه فهو مطيع وكل مطيع محمود.
على أن كلتا التعليلين الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من ينزل به.
والمعنى أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن يقابل بمثلها من غير زيادة، فمن
عفى وأصلح بينه وبين خصمه بالعفو فأجره على الله، عدة مبهمة لا يقاس أمرها
في العظم، لأنه لا يحب الظالمين دلالة على أن [..] (2 لا يكاد مؤمن فيه
تجاوز بالسيئة، خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية. والله أعلم بالصواب.

1) سورة الشورى: 39.
2) كلمة لا تقرأ في م.
426

(باب)
(فيما يحتاج إليه الناظر في هذا الكتاب)
اعلم أن القرآن على ثلاثة أقسام مما استدللنا به:
أحدها: ما هو مجمل لا ينبئ الظاهر عن المراد به تفصيلا، مثل قوله تعالى
" أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (1 وقوله " ولله على الناس حج البيت " (2 وقوله
" في أموالهم حق معلوم " (3 وما أشبه ذلك، فان تفصيل أعداد الصلاة وعدد
ركعاتها وتفصيل مناسك الحج وشروطه ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن
استخراجه الا ببيان النبي عليه السلام ووحي من جهة الله تعالى، فتكلف القول
في ذلك خطأ وممنوع منه. ويمكن أن تكون الاخبار متناولة له، قال الله تعالى
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليك " (4.
وثانيها: ما كان لفظه مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما، ويمكن أن يكون
كل واحد منهما مرادا، فإنه لا ينبغي أن يقدم أحد فيقول " هذا مراد الله منه " الا
بقول معصوم عليه السلام، بل ينبغي أن يقول: ان الظاهر يحتمل الأمور وكل
واحد يجوز أن يكون مرادا على التفصيل. ومتى كان اللفظ المشترك بين شيئين
أو ما زاد عليهما ودل الدليل على أنه لا يجوز أن يريد الا وجها واحدا جاز أن يقال إنه
المراد.
وثالثها: يكون ظاهره مطابقا لمعناه، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها

1) سورة البقرة: 43.
2) سورة آل عمران: 97.
3) سورة المعارج: 24.
4) سورة النحل: 44.
427

عرف معناها، مثل قوله تعالى " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق " (1
ومثل قوله " قل هو الله أحد " (2 وغير ذلك.
ولا ينبغي لاحد أن ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد مفصلا أن
يقلد أحدا من المفسرين، الا أن يكون التأويل مجمعا عيه فيجب اتباعه لمكان
الاجماع الذي هو حجة، لان من المفسرين من حمدت طرائقه ومدحت مذاهبه
في التأويل كابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم، ومنهم من ذمت
مذاهبه كأبى صالح والسدي والكلبي.
هذا في الطبقة الأولة، فأما المتأخرون فكل واحد منهم نصر مذهبه وتأول
على ما يطابق أصله، فلا يجوز لاحد أن يقلد أحدا منهم، بل ينبغي أن يرجع
إلى الأدلة الصحيحة اما العقلية أو الشرعية من اجماع عليه أو نقل متواتر به عمن
يجب اتباع قوله. ولا يقبل في ذلك خبر واحد وخاصة إذا كان مما طريقه العلم.
ومتى كان التأويل مما يحتاج إلى شاهد من اللغة، فلا يقبل من الشاهد الا ما
كان معلوما بين أهل اللغة سائغا بينهم، ولا يجعل الشاذ النادر شاهدا على كتاب
الله، وينبغي أن يتوقف فيه ويذكر ما يحتمله ولا يقطع على المراد منه بعينه
ويحتاط في ذلك كله، فان كل آخذ بالاحتياط غير زال عن الشرائط.
(فصل)
ثم أعلم أن الله سبحانه أغنانا بفضله في الشرعيات عن أن تستخرج أحكامها
بالمقاييس والاجتهادات التي تصيب مرة وتخطئ أخرى، بل بين جميع ما
يحتاج إليه المكلفون في تكليفهم عقلا وشرعا ووقفهم عليه في كتابه وعلى لسان

1) سورة الإسراء: 33.
2) سورة التوحيد: 1.
428

نبيه وحججه عليه وعليهم السلام، فلا حاجة مع ذلك إلى تعسف وتكلف.
والفقيه ينبغي أن يكون كيسا فلا يختلجه بعد العلم شك على حالة، فان من
ألطافنا الخاصة ما يروونه آل محمد عنه صلى الله عليه وآله في أشياء كثيرة
يعلم وجوبها اجماع أنها من السنن:
كغسل من مس ميتا من الناس بعد البرد وقبل التطهير، فإنه يعلم بالاجماع
الذي هو حجة وجوب ذلك، فإذا قال عليه السلام ان ذلك سنة [لا؟؟؟ فلو
الوصن] (1، فان معناه أو وجوبه يعلم بالسنة لا بالكتاب.
وكذلك إذا قال عليه السلام غسل يوم الجمة واجب وعلم بالاجماع كونه
مستحبا، يعلم أن المراد به شدة التأكيد في استحبابه.
وكذلك إذا علم من الأثر النبوي علما مقطوعا على صحته أن الأغسال
الواجبة هي غسل الجنابة وغسل الحيض والاستحاضة والنفاس وغسل مس الميت
على ما ذكرناه وتغسيل الأموات فقط وغسل من رأى أثر المني على ثيابه التي
لا يستعملها الا هو بأن لم يذكر احتلاما.
ثم ورد عنه صلى الله عليه وآله بطريقة أهل بيته عليهم السلام أن من ترك
صلاتي الكسوف والخسوف متعمدا وقد احترق القرصان يجب عليه القضاء
مع الغسل، فلا يوهمنه نظم هذا الكلام أن غسل قاضي هذه الصلاة على هذا
الوجه واجب مع تقدم علمه بكونه مستحبا غير واجب بتفصيل من النصوص،
وانما تثبت بايراد هذه المسألة على أخواتها.
واعلم أن جميع كلامهم عليهم السلام الوارد في الأصول رموز وإشارات،
كيلا يرى أحد أنه تعليم بل تقويم، وأكثر ما فيه أنه تنبيه. فان كلامهم عليهم
السلام في فروع الفقه بيان وايضاح كي لا يتورط أحد في القياس. وقد أبى أكثر

1) عبارة لا تقرأ واضحا في م.
429

الناس الا خلاف ما أشاروا إليه، فسكتوا عن العقليات وتكلموا في الشرعيات.
* * * وقد وفيت بعون الله بما شرطت في صدر الكتاب، والله سبحانه ينفعني.
وأسأل الناظر فيه أن لا يخليني من صالح دعائه، فقد كفته مؤمنة الدأب
وصعوبة الطلب، فسرت له ما خلته ملتبس على من يقتبس.
والحمد لله وحده والصلاة على خير خلقه محمد وآله من بعده..
430