الكتاب: الإنصاف فيما تضمنه الكشاف
المؤلف: ابن المنير الإسكندري
الجزء: ٣
الوفاة: ٦٨٣
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٨٥ - ١٩٦٦ م
المطبعة:
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ، عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاهم - خلفاء
ردمك:
ملاحظات:

الانصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال
تأليف
الامام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي
الجزء الثالث
1

القول في سورة الحج
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعال (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع
3

كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) قال (يقال مرضع على النسب ومرضعة على أصل اسم
الفاعل) قال أحمد: والفرق بينهما أن وروده على النسب لا يلاحظ فيه حدوث الصفة المشتق منها ولكن مقتضاه
أنه موصوف بها، وعلى غير النسب يلاحظ حدوث الفعل وخروج الصفة عليه، وكذلك هو في الآية لقوله عما
أرضعت، فأخرج الصفة على الفعل وألحقه التاء، قال (وقوله - وترى الناس سكارى وما هم بسكارى - أثبت
لهم أولا السكر المجازى ثم نفى عنهم السكر الحقيقي) قال أحمد: والعلماء يقولون إن من أدلة المجاز صدق نقيضه،
كقولك زيد حمار إذا وصفته بالبلادة، ثم يصدق أن تقول وما هو بحمار فتنفى عنه الحقيقة، فكذلك الآية بعد أن
أثبت السكر المجازى نفى الحقيقي أبلغ نفى مؤكد بالباء والسر في تأكيده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم
في تلك الحالة ليس من المعهود في شئ وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، والاستدراك بقوله - ولكن عذاب الله
شديد - راجع إلى قوله - وما هم بسكارى - وكأنه تعليل لاثبات السكر المجازى كأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى
من الخمر وهو السكر المعهود فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: سببه شدة عذاب الله تعالى. ونقل عن
جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه قال: هو الوقت يقول كل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيه
نفسي نفسي.
4

قوله تعالى (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق) قال (يجوز في هذا
التشبيه أن يكون مركبا ومفرقا، فإن كان مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية
بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فصيرته مزعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى
12

هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الايمان في علوه بالسماء، والذي ترك الايمان وأشرك
بالله بالساقط من السماء وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان إلى يطوح به في وادى الضلالة
بالريح تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة) قال أحمد: أما على تقدير أن يكون مفرقا فيحتاج تأويل
تشبيه المشرك بالهاوي من السماء إلى التنبيه على أحد أمرين: إما أن يكون الاشراك المراد ردته فإنه حينئذ كمن علا إلى
السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده، وإما أن يكون الاشراك أصليا فيكون قد عد تمكن المشرك من الايمان ومن العلو به
ثم عدوله عنه اختيارا بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى - والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم
من النور إلى الظلمات - فعدهم مخرجين وما دخلوه قط ولكن كانوا متمكنين منه، وقد مضى تقرير
هذا المعنى بأبسط من هذا، وفي تقرير تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر بالطير المختطفة، وفى تشبيه تطويح الشيطان
بالهوى مع الريح في مكان سحيق نظر، لان الامرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين، فإذا جعل الأول
مثلا لاختلاف الأهواء والأفكار، والثاني مثلا لنزع الشيطان فقد جعلهما شيئا واحدا، لان توزع الأفكار
واختلاف الأهواء مضاف إلى نزغ الشيطان فلا يتحقق التقسيم المقصود، والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير
ذلك فنقول: لما انقسمت حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما: الأول منهما المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم
التصميم على ضلالة واحدة، فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولى طائر على مزعة
منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه. والثاني مشرك مصمم
على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يكع ولم يرجع، لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو
فرح مبتهج بضلالته، فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه، ونظير
تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق الذي هو أبعد الاخباء عن السماء وصف ضلالة بالبعد في قوله تعالى - أولئك
في ضلال بعيد - وضلوا ضلالا بعيدا - أي صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين،
والله أعلم.
13

قوله تعالى (فقد كذبت قبلهم - إلى قوله: وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم) قال (فإن قلت: لم
قيل وكذب موسى ولم يقل وقوم موسى بدون تكرير التكذيب؟ قلت: لان قوم موسى هم بنو إسرائيل ولم
يكذبوه، وإنما كذبه القبط، أو لان آيات موسى كانت باهرة ظاهرة فكأنه قال: وكذب موسى أيضا على ظهور
آياته الخ) قال أحمد: ويحتمل عندي والله أعلم أنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ثم عدد أصناف المكذبين
وطوائفهم ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام حسن تكريره ليلى قوله - فأمليت للكافرين - فيتصل المسبب
بالسبب كما قال في آية " ق " بعد تعديدهم - كل كذب الرسل فحق وعبد - فربط العقاب والوعيد ووصلهما بالتكذيب
بعد أن جدد ذكره، والله أعلم.
16

قوله تعالى (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) قال (فيه إنذار بحلم الله تعالى ووقاره واستقصاره
الأمد الطويل حتى إن يوما واحدا عنده كألف سنة) قال أحمد: الوقار المقرون بالحلم يفهم لغة السكون وطمأنينة
الأعضاء عند المزعجات والأناة والتؤدة ونحو ذلك مما لا يطلق على الله تعالى إلا بتوقيف، وأما الوقار في قوله تعالى
- مالكم لا ترجون لله وقارا - فقد فسر بالعظمة فليس من هذا، وعلى الجملة فهو موقوف على ثبت في النقل.
18

قوله تعالى (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون) قال (فيه معناه: إن الله علام بالذات لا يتعذر عليه تعلق
بمعلوم) قال أحمد: وقد تقدم مثله وأنكرنا عليه تحميله القرآن مالا يحتمله فإن الأعلم في اللغة ذو العلم الزائد المفصل
على علم غيره فكيف يفسر بما ينفى صفة العلم البتة؟ هب أن الأدلة العقلية لا وجود لها، والله الموفق للصواب.
22

القول في سورة المؤمنين
(بسم الله الرحمن الرحيم)
24

قوله تعالى (قد أفلح المؤمنون) الآية. قال (اختلف في الايمان على قولين: أحدهما أن كل من نطق
بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فقد اتصف بالايمان. والاخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقى دون الفاسق
الشقى) قال أحمد: والأول مذهب الأشعرية والثاني مذهب المعتزلة، والموحد الفاسق عندهم لا مؤمن ولا كافر،
ولو لم يبن المعتزلة على هذا المعتقد تحريم الجنة على الموحد الفاسق بناء على أنه لا يندرج في وعد المؤمنين لكان البحث
معهم لفظيا، ولكن رتبوا على ذلك أمرا عظيما من أصول الدين وقواعده. وقد نقل القاضي عنهم في رسالة
الايمان خبطا طويلا فنقل عن قدمائهم كعمرو بن عبيد وطبقته أن الايمان هو التصديق بالقلب وجميع فرائض الدين
فعلا وتركا. ونقل عن أبي الهذيل العلاف أن الايمان هو جميع فرائض الدين ونوافله، ومختصر دليل القاضي لأهل
السنة أن الايمان لغة هو مجرد التصديق اتفاقا، فوجب أن يكون كذلك شرعا عملا بقوله تعالى - وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قومه - مع سلامته عن معارضة النقل، فإنه لو كان لبينه عليه الصلاة والسلام، ولو بينه لنقل لأنه
مما يبتنى عليه قاعدة الوعد والوعيد ولم ينقل لان النقل إما آحاد أو تواتر إلى اخر مادته.
25

قوله تعالى (والذين هم للزكاة فاعلون) قال (الزكاة تطلق ويراد بها العين المخرجة وتطلق ويراد بها فعل المزكى
الذي هو التزكية، ويتعين ههنا أن يكون المراد التزكية لقوله - فاعلون - إذ العين المخرجة لم يفعلها المزكى، ثم
ضبط المصدر على الاطلاق بأنه الذين يصدق عليه أنه فعل الفاعل، فعلى هذا تكون العين المخرجة مصدرا بالنسبة
إلى الله تعالى، وكذلك السماوات والأرض وكل مخلوق من جوهر وعرض. قال: فجميع الحوادث إذا قيل من
فاعلها؟ فيقال الله أو بعض الخلق) قال أحمد: ويقول السنى: فاعل جميعها هو الله وحده لا شريك له، ولكن إذا
سئل بصيغة مشتقة من الفعل على طريقة اسم الفاعل مثل أن يقال له: من القائم، من القاعد؟ أجاب بمن خلق الله
الفعل على يديه وجعله محلا له كزيد وعمرو.
26

قوله عز وجل (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) قال (هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما،
وكيف والرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، وإنما المعنى الاعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك الخ)
قال أحمد: هذه نفحة اعتزالية، فإن مذهب أهل السنة أن الله تعالى متكلم آمر ناه أزلا، ولا يشترط في تحقق الامر
وجود المخاطب، فعلى هذا قوله - كلوا من الطيبات واعملوا صالحا - على ظاهره، وحقيقته عند أهل الحق، وهو
ثابت أزلا على تقدير وجود المخاطبين لا يزال متفرقين كما في هذا الخطاب أو مجتمعين كما في زعمه، والمعتزلة لما
أبت اعتقاد قدم الكلام زلت بهم القدم حتى حملوا هذه الآية وأمثالها على المجاز وخلاف الظاهر، وما بال
الزمخشري خص هذه الآية بأنها على خلاف الظاهر، ومعتقده يوجب حمل مثل قوله تعالى - أقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة - وجميع الأوامر العامة في الأمة على خلاف الظاهر.
34

قوله تعالى (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) قال (فإن قلت: أكثرهم يعطى أن أقلهم لا يكره
الحق وكيف ذلك والكل كفرة؟ قلت: فيهم من أبى الاسلام حذرا من مخالفة آبائه ومن أن يقال صبأ كأبي طالب
لا كراهة للحق الخ) قال أحمد: وأحسن من هذا أن يكون الضمير في قوله وأكثرهم على الجنس للناس كافة،
ولما ذكر هذه الطائفة من الجنس بنى الكلام في قوله وأكثرهم على الجنس بجملته كقوله - إن في ذلك لاية وما
كان أكثرهم مؤمنين - وكقوله - وما أكئر الناس ولو حرصت بمؤمنين - ويدل على ذلك قوله تعالى - بل جاءهم
بالحق - والنبي صلى الله عليه وسلم جاء الناس كلهم وبعث إلى الكافة، ويحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل
القليل على النفي والله أعلم. وأما قول الزمخشري: إن من تمادى على الكفر وآثر البقاء عليه تقليدا لإبائه ليس كارها
للحق فمردود، فإن من أحب شيئا كره ضده، فإذا أحبا البقاء على الكفر فقد كرهوا الانتقال عنه إلى الايمان
ضرورة والله أعلم. ثم انجر الكلام إلى استبعاد إيمان أبى طالب، وتحقيق القول فيه أنه مات على الكفر، ووجه
ذلك بأنه أشهر عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان قد أسلم لأشتهر إسلامه كما اشتهر إسلام العباس وحمزة
وأجدر لأنه أشهر. وللقائل بإسلامه أن يعتذر عن عدم شهرته بأنه إنما أسلم قبيل الاختضار فلم يظهر له مواقف
في الاسلام يشتهر بها كما ظهر لغيره من عمومته عليه الصلاة والسلام. هذا، والظاهر أنه لم يسلم وحسبك دليلا على
ذلك قوله عليه الصلاة والسلام " سألت الله تعالى فيه وإنه بعد ذلك لفى ضحضاح من نار يغلى رأسه من قدميه ".
فإن قيل: لا يلزم من ذلك موته على الكفر لان كثيرا من عصاة الموحدين يعذب بأكثر من ذلك. قلنا: من أثبت
إسلامه ادعى أن ذلك كان قبيل الاحتضار فالاسلام جب ما قبله، وتلك الدقيقة التي صار فيها من المسلمين لا تحتمل
من المعاصي ما يوجب ذلك، والله أعلم.
37

قوله تعالى (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) قال (استكان: استفعل من الكون: أي انتقل من كون إلى
38

كون، كما يقال استحال إذا انتقل من حال إلى حال الخ) قال أحمد: هذا التأويل أسلم وأحق من تأويل من اشتقه
من السكون وجعله افتعل ثم أشبعت الفتحة فتولدت الألف كتولدها في قوله * ينباع من ذفري غضوب جسرة *
فإن هذا الاشباع ليس بفصيح وهو من ضرورات الشعر، فينبغي أن ترفع منزلة القرآن عن ورود مثله فيه، لكن
تنظير الزمخشري له باستحال وهم، فإن استكان على تأويله أحد أقسام استفعل الذي معناه التحول كقولهم استحجر
الطين واستنوق الجمل، وأما استحال فثلاثيه حال يحول إذا انتقل من حال إلى حال، وإذا كان الثلاثي يفيد معنى
التحول لم يبق لصيغة استفعل فيها أثر، فليس استحال من استفعل للتحول ولكنه من استفعل بمعنى فعل وهو أحد
أقسامه إمذ لم يزد السداسي فيه على الثلاثي معنى، والله أعلم. ثم نعود إلى تأويله فنقول: المعنى عليه: فما انتقلوا من
كون التكبر والتجبر والاعتياص إلى كون الخضوع والضراعة إلى الله تعالى. ولقائل أن يقول: استكان يفيد على
التأويل المذكور الانتقال من كون إلى كون، فليس حمله على أنه انتقال عن التكبر إلى الخضوع بأولى من العكس،
وترى هذه الصيغة لاتفهم إلا أحد الانتقالين، فلو كانت مشتقة من مطلق الكون لكانت مجملة محتملة للانتقالين
جميعا. والجواب أن أصلها كذلك على الاطلاق، ولكن غلب العرف على استعمالها في الانتقال الخاص كما غلب
في غيرها، والله أعلم. وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير رحمه الله يذكر لي أنه لما دخل بغداد
زمن الامام الناصر رضي الله عنه أظهر من جملة كراماته له أن جمع له الوزير جميع علماء بغداد وعقد بهم محفلا
للمناظرة، وكان يذكر لي أن مما انجر الكلام إليه حينئذ هذه الآية: وأن أحدهم وكان يعرف بالأجل اللغوي خصه
الوزير بالسؤال عنها فقال: هو مشتق من قول العرب: كنت لك إذا خضعت، وهى لغة هذلية فاستحسن منه
ذلك. قال أحمد: وقد وقفت عليها بعد ذلك في غريب أبى عبيد المروى وهو أحسن محامل الآية وأسلمها، والله
أعلم. وعلى هذا يكون من استفعل بمعنى فعل كقولهم استقر واستعلى وحال واستحال على ما مر، وقد قال لي
بعضهم يوما: لم لا تجعله على هذا التأويل من استفعل المبنى للمبالغة مثل استحسر واستعصم من حسر وعصم؟
فقلت: لا يسعني ذلك لان المعنى يأباه، وذلك أنها جاءت في النفي، والمقصود منها ذم هؤلاء بالجفوة والقسوة
وعدم الخضوع مع ما يوجب نهاية الضراعة من أخذهم بالعذاب، فلو ذهبت إلى جعلها للمبالغة أفادت نقص
المبالغة، لان نفى الأبلغ أدنى من نفى الأدنى، وكأنهم على ذلك ذموا بنفي الخضوع الكثير، وأنهم ما بلغوا في
الضراعة نهايتها، وليس الواقع فإنهم ما اتسموا بالضراعة ولا بلمظة منها، فكيف تنفى عنهم النهاية الوهمة لحصول
البداية، والله أعلم.
39

قوله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) قال فيه (هذا أبلغ من أن يقال ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من
التفضيل كأنه قال ادفع بالحسنى السيئة، والمعنى: الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الاحسان، حتى إذا
اجتمع الصفح والاحسان وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة، وهذه قضية قوله - بالتي هي
أحسن - الخ) قال أحمد: ما ذكره تقريرا للمفاضلة عبارة عن الاشتراك في أمر والتميز بغيره، ولا اشتراك بين الحسنة
والسيئة فإنهما ضدان متقابلان، فكيف تتحقق المفاضلة؟ قلت: المراد أن الحسنة من باب الحسنات أزيد من
السيئة من باب السيئات، فتجئ المفاضلة مما هو أعم من كون هذه حسنة وهذه سيئة، وذلك شأن كل مفاضلة
بين ضدين كقولهم العسل أحلى من الخل: يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة،
وليس لان بينهما اشتراكا خاصا، ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال: نشأت أنا والأعمش في
حجر فلان، فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا، بمعنى أنهما استويا في بلوغ كل منهما الغاية، أشعب بلغ الغاية
على السفلة، والاغمش بلغ الغاية على العلية، هذا تفسير كلامه عن نفسه. ونعود إلى الآية فنقول: فإنهما قد تدفع
بالصفح والاغضاء ويقنع في دفعها بذلك، وقد يزاد على الصفح الاكرام وقد تبلغ غايته ببذل الاستطاعة، فهذه
41

الأنواع من الدفع كلها دفع بحسنة، ولكن أحسن هذه الحسنات في الدفع هي الأخيرة لاشتمالها على عدد من
الحسنات، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الحسنات في دفع السيئة، فعلى هذا تجرى المفاضلة على حقيقتها
من غير حاجة إلى تأويل والله أعلم، فتأمله فإنه حسن جدا.
42

قوله تعالى (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) قال: إن قلت: قد ناقض هذا قوله
- فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - الخ) قال أحمد: يجب أن لا يسلك هذا المسلك في إيراد الأسئلة عن فوائد
الكتاب العزيز الذي - لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد - وسؤال الأدب أن يقال:
قصر فهمي
عن الجمع بين هاتين الآيتين فما وجهه، ولو سأل سائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن شئ من كتاب
الله تعالى بهذه الصيغة لأوجع ظهره بالدرة. عاد كلامه إلى جواب السؤال، قال (وجه الجمع بينهما أن يحمل ذلك
على اختلاف موقف القيامة الخ) قال أحمد: وكثيرا ما ينتهز الزمخشري الفرصة في إنكار الشفاعة ويشمر ذيله للرد
على القائلين بها إذا انتهى إلى مثل قوله - ولا تنفعها شفاعة - لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة - ويتغافل حينئذ عن
طريق الجمع بين ما ظاهره نفى الشفاعة وبين ما ظاهره ثبوتها بحمل الامر على اختلاف الأحوال في القيامة، والله
الموفق
43

قوله عز وجل (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) قال فيه (لا برهان له به إما صفة لازمة أو كلام
معترض لان في الصفة إفهاما لان إلها سوى الله يمكن أن يكون به برهان الخ) قال أحمد: إن كان صفة فالمقصود بها
التهكم بمدعى إله مع الله كقوله - بما أشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا - فنفى إنزال السلطان به وإن لم يكن في نفس
الامر سلطان لا منزل ولا غير منزل، ومن جنس مجئ الجملة بعد النكرة وصرفها عن أن تكون صفة لها ما قدمه عند
قوله تعالى - فاجعل بيننا وبينك موعدا - لا نخلفه نحن ولا أنت - حيث أعرب الزمخشري موعدا مصدرا ناصبا
لمكان سوى. واعترضه بأن المصدر الموصوف لا يعمل إلا على كره. واعتذرت عنه بصرف الجملة عن أن تكون
صفة وجعلها معترضة مؤكدة لمعنى الكلام، والله أعلم.
45

القول في سورة النور
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) ذكرا في الرفع وجهين: أحدهما الابتداء والخبر
محذوف وهو إعراب الخليل وسيبويه والتقدير وفيما فرض عليك الزانية والزاني أي جلدهما. الثاني أن يكون الخبر
فاجلدوا ودخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وقد ضمن معنى الشرط. قال أحمد: وإنما عدل سيبويه
إلى هذا الذي نقله عنه لوجهين لفظي ومعنوي: أما اللفظي فلان الكلام أمر وهو يخيل اختيار النصب ومع ذلك
قراءة العامة فلو جعل فعل الامر خبرا وبنى المبتدأ عليه لكان خلاف المختار عند الفصحاء فالتجأ إلى تقدير الخبر حتى
لا يكون المبتدأ مبنيا على الامر فخلص من مخالفة الاختيار وقد مثلهما سيبويه في كتابه بقوله تعالى " مثل الجنة التي
وعد المتقون فيها أنهار " الآية، ووجه التمثيل أنه صدر الكلام بقوله " مثل الجنة " ولا يستقيم جزما أن يكون قوله
46

" فيها أنهار " خبره فتعين تقدير خبره محذوفا وأصله وفيما نقص عليكم مثل الجنة. ثم لما كان هذا إجمالا لذكر المثل
فصل المجمل بقوله " فيها أنهار " إلى آخرها فكذلك ههنا كأنه قال وفيما فرض عليكم شأن الزانية والزاني ثم فصل هذا
المجمل بما ذكره من أحكام الجلد ويناسب هذا ترجمة الفقهاء في كتبهم حيث يقولون مثلا الصلاة الزكاة السرقة ثم
يذكرون في كل باب أحكامه يريدون مما يصنف فيه ويبوب عليه الصلاة وكذلك غيرها، فهذا بيان لمقتضى عند
سيبويه لاختيار حذف الخبر من حيث الصناعة اللفظية، وأما من حيث المعنى فهو أن المعنى أتم وأكمل على حذف
الخبر لأنه يكون قد ذكر حكم الزانية والزاني مجملا حيث قال الزانية والزاني وأراد وفيما فرض عليكم حكم الزانية
والزاني فلما تشوف السامع إلى تفصيل هذا المجمل ذكر حكمهما مفصلا فهو أوقع في النفس من ذكره أول وهلة
والله أعلم.
47

قوله تعالى (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) قال (إن قلت: أي فرق
48

بين الجملتين في المعنى؟ قلت معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى
الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للاعفاء ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان الخ. قال أحمد: وليس فيما ذكره
إيضاح إطباق الجملتين ونحن نوضحه فنقول: الأقسام أربعة: الزاني لا يرغب إلا في زانية الزانية لا ترغب إلا في زان
العفيف لا يرغب إلا في عفيفة، العفيفة لا ترغب إلا في عفيف، وهذه الأقسام الأربعة مختلفة المعاني وحاصرة
للقسمة فنقول: اختصرت الآية من هذه الأربعة قسمين، واقتصرت على قسمين أحرى من المسكوت عنهما
فجاءت مختصرة جامعة، فالقسم الأول ويفهم الثالث، والقسم الثاني صريح في القسم الثاني
ويفهم الرابع، والقسم الثالث والرابع متلازمان من حيث إن المقتضى لانحصار رغبة العفيف في العفيفة هو اجتماعهما
في العفة، وذلك بعينه مقتض لانحصار رغبتها فيه، ثم يقصر التعبير عن وصف الزناة والاعفاء بما لا يقل عن ذكر
الزناة وجودا وسلبا، فإن معنى الأول الزانية لا ينكحها عفيف، ومعنى الثاني العفيفة لا ينكحها زان، والسر في
ذلك أن الكلام في أحكامهم، فذكر الاعفاء بسبب نقائصهم حتى لا يخرج بالكلام عما هو المقصود منه، ثم بينه
في إسناد النكاح في هذين القسمين للذكور دون الإناث، بخلاف - قوله الزانية والزاني - فإنه جعل لكل واحد منهما
ثم استقلالا، وقدم الزانية على الزاني والسبب فيه أن الكلام الأول في حكم الزنا والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من
الايمان والأطماع. والكلام الثاني في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة، والأصل في النكاح الذكور وهم
المبتدئون بالخطبة فلم يسند إلا لهم لهذا وإن كان الغرض من الآية تنفير الاعفاء من الذكور والإناث من مناكحة
الزناة ذكورا وإناثا زجرا لهم عن الفاحشة، ولذلك قرن الزنا والشرك، ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة
المشهورين بالفاحشة. وقد نقل بعض أصحابه الاجماع في المذهب على أن المرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح
الفاسق، ومالك أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين، وأما في النسب فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى
فاستعظمه وتلا - يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم -.
49

قوله تعالى (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون بأنفسهم خيرا) قال (معناه: ظنوا بالذين منهم من
المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى - ولا تلمزوا أنفسكم -) قال أحمد: والسر في هذا التعبير تعطيف المؤمن على أخيه
وتوبيخه على أن يذكره بسوء، وتصوير ذلك بصورة من أخذ يقذف نفسه ويرميها بما ليس فيها من الفاحشة ولا
شئ أشنع من ذلك، والله أعلم. عاد كلامه، قال (ونقل أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته: ألا ترين مقالة
الناس؟ قالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تخون في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال: لا،
قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنته، وصفوان خير منك، وعائشة خير منى) قال أحمد: ولقد ألهمت بنور
الايمان إلى هذا السر الذي انطوى عليه التعبير عن الغير من المؤمنين بالنفس، فإنها نزلت زوجها منزلة صفوان
ونفسها منزلة عائشة، ثم أثبتت لنفسها ولزوجها البراءة والأمانة حتى أثبتتها لصفوان وعائشة بطريق الأولى رضي الله عنها
. ويحتمل والله أعلم خلاف ما قاله الزمخشري وهو أن يكون التعبير بالأنفس حقيقة، والمقصود إلزام
سيئ الظن بنفسه، لأنه لم يعتد بوازع الايمان في حق غيره وألغاه واعتبره في حق نفسه وادعى لها البراءة قبل
معرفته بحكم الهوى لا بحكم الهدى، والله أعلم.
53

قوله تعالى (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) قال (إن قلت: القول لا يكون إلا بالأفواه فما فائدة
ذكرها؟ قلت: المراد إن هذا القول لم يكن عبارة عن علم قام بالقلب وإنما هو مجرد قول اللسان) قال أحمد:
ويحتمل أن يكون المراد المبالغة أو تعريضا بأنه ربما يتمشدق ويقضى تمشدق جازم عالم وهذا أشد وأقطع، وهو
السر الذي أنبأ عنه قوله تعالى - قد بدت البغضاء من أفواههم - والله أعلم.
54

قوله تعالى (سبحانك هذا بهتان عظيم) قال (معناه: التعجب من عظيم الامر، وأصله أن الانسان إذا رأى
عجيبا من صنائع الله تعالى سبحه ثم كثر حتى استعمل عند كل متعجب منه، ثم أورد هاهنا سؤالا على توبيخهم
على ترك التعجب فقال: إن قلت: لم جاز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة
ولم يكن كفرها متعجبا منه وفجورها متعجب منه؟ قلت: لان الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويتزلفوا
إليهم، وكفر الزوجة غير مانع ولا منفر بخلاف الكشخنة) قال أحمد: وما أورد عليه أبرد من هذا سؤال كأن
أحدا يشكل عليه أن ينسب الفاحشة إلى مثل عائشة مما ينكره كل عاقل ويتعجب منه كل لبيب، والله الموفق.
55

قوله تعالى (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) الآية، قال (إن كانت عائشة هي المرادة فلم
56

جمع؟ قلت: المراد إما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون هذا الوعيد لاحقا بقاذفهن، وإما عائشة
وجمعت إرادة لها ولبناتها كما قال: * قدني من نصر الخبيبين قذى * يعنى عبد الله بن الزبير وأشياعه،
وكان يكنى أبا خبيب) قال أحمد: والأظهر أن المراد عموم المحصنات، والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من
وقع في عائشة على أبلغ الوجوه، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن
وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم؟ على أن تعميم الوعيد أبلغ وأقطع من تخصيصه وهذا معنى قول زليخا
- ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم - فعممت وأرادت يوسف تهويلا عليه وإرجافا،
والمعصوم من عصمه الله تعالى.
57

قوله تعالى (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) الآية. قال (تحتمل الآية أمرين: أحدهما أن يكون
المراد الكلمات الخبيثة للخبيثين، والمراد الإفك ومن أفاض فيه وعكسه في الطيبات والطيبين. الثاني أن يكون المراد
بالخبيثات النساء وبالخبيثين الرجال) قال أحمد: إن كان الامر على التأويل الثاني فهذه الآية تفصيل لما أجمله قوله
تعالى - والزانية لا ينكحها إلا زان - وقد بينا أنها مشتملة على هذه الأقسام الأربعة تصريحا وتضمينا، فجاءت هذه
الآية مصرحة بالجميع، وقد اشتملت على فائدة أخرى وهى الاستشهاد على براءة أم المؤمنين بأنها زوجة أطيب
الطيبين، فلابد وأن تكون طاهرة طيبة مبرأة مما أفكت به، وهذا التأويل الثاني هو الظاهر فإن بعد الآية - لهم مغفرة
ورزق كريم - وبهذا وعد أزواجه عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى - نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما -
والله أعلم. عاد كلامه قال (ونقل عن عائشة أنها قالت لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة فذكرت منهن أنها خلقت
طيبة عند طيب) قال أحمد: وهذا أيضا يحقق ما ذكرته من أن المراد بالطيبات والطيبين النساء والرجال، وأن المراد
بذلك إظهار براءة عائشة بأنها زوج أطيب الطيبين فيلزم أن تكون طيبة وفاء بقوله - والطيبون للطيبات - والله أعلم.
قوله تعالى (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) قال فيه وجهان: أحدهما أنه من
الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش: أي حتى يؤذن لكم فستأنسوا عبر بالشئ عما هو رادف له. الثاني أن
يكون من الاستعلام من آنس إذا أبصر، والمعنى: حتى تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا. وذكر أيضا
وجها بعيدا وهو أن المراد حتى تعلموا هل فيها إنسان أم لا) قال أحمد: فيكون على هذا الأخير بنى من الانس
استفعل، والوجه الأول هو البين، وسر التجوز فيه والعدول إليه عن الحقيقة ترغيب المخاطبين في الاتيان
58

بالاستئذان بواسطة ذكر، فإن له فائدة وثمرة تميل النفوس إليها وتنفر من ضدها وهو الاستيحاش الحاصل بتقديم
عدم الاستئذان، ففيه تنهيض للدواعي على سلوك هذا الأدب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
59

قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال (المراد النهى عن إبداء مواضع الزينة فليس النهى عن
إظهار الزينة مقصود العينة ولكن جعل نفسها كناية عن النهى عن إبداء مواقعها بطريق الأولى الخ) قال أحمد:
وقوله تعالى عقيب ذلك - ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن - محقق أن أبدا الزينة بعينه مقصود بالنهى
لأنه قد نهى عما هو ذريعة إليه خاصة، إذ الضرب بالأرجل لم يعلل النهى عنه إلا بعلم أن المرأة ذات زينة وإن لم
تظهر فضلا عن مواضعها، والله أعلم.
61

قوله تعالى (وانكحوا الأيامى منكم) الآية. قال (هذا أمر والمراد به الندب، ثم ذكر أحاديث تدل على ذلك
وأدرج فيها قوله عليه الصلاة والسلام) من وجد نكاحا فلم ينكح فليس منا " الخ) قال أحمد: وهذا بأن يدل على
الوجوب أولا، ولكن قد ورد مثله في ترك السنن كثيرا، وكأن المراد من لم يستن بسنتنا على أنه قد ورد في الواجب
كقوله " من غشنا فليس منا " ومجانبة الغش واجبة " ومن شهر السلاح في فتنة فليس منا " ومثله كثير. عاد قوله،
قوله (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) قال فيه (ينبغي أن تكون شريطة الحكمة والمصلحة غير منسية واستشهد على
63

ذلك بقوله - وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء -) قال أحمد: جنوحه للمعتقد الفاسد يمتح عليه
الصواب، فإن معتقده وجوب رعاية المصالح على الله تعالى، فمن ثم شرط الحكمة والمصلحة محجرا واسعا من
فضل الله تعالى، ثم استشهد على ذلك بما يشهد عليه لاله، فإن قوله تعالى في الآية الأخرى إن شاء يقتضى
أن وقوع الغنى مشروط بالمشيئة خاصة، وهذا معتقد أهل الحق، فطاح اشتراط الحكمة عن محل الاستدلال،
تعالى عن الايجاب رب الأرباب، لكن ينبغي التنبه لنكتة تدعو الحاجة إلى التنبيه عليها، ليعم نفعها ويعظم
وقعها إن شاء الله، وذلك أنا إذا بنينا على أن ثم شرطا محذوفا لابد من تقديره ضرورة صدق الخبر، إذ لو
اعتقدنا أن الله تعالى يغنى كل متزوج على الاطلاق مع أنا نشاهد كثيرا لهن استمر به الفقر بعد النكاح بل زاد
للزم خلف الوعد، تقدس الله وتعالى عن ذلك، فقد ثبت الاضطرار إلى تقدير شرط للجمع بين الوعد والواقع،
فالقدرية يقولون: المراد إن اقتضت الحكمة ذلك، فكل من لم يغنه الله بأثر التزوج فهو ممن لم تقتض الحكمة
إغناءه، وقد أبطلنا أن يكون هذا الشرط هو المقدر، وحتمنا أن المقدر شرط المشيئة كما يظهر في الآية الأخرى،
وحينئذ فكل من لم يستغن بالنكاح فذلك لان الله تعالى لم يشأ غناه. فلقائل أن يقول: إذا كانت المشيئة هي المعتبرة
في غنى المتزوج فهي أيضا المعتبرة في غنى الأعزب، فما ربط وعد الغنى بالنكاح مع أن حال الناكح منقسم في
الغنى على حسب المشيئة، فمن مستغن به ومن فقير، كما أن حال غير الناكح كذلك منقسم، وليس هذا كإقرار
شرط المشيئة في الغفران للموحد العاصي، فإن الوعد ثم له ارتباط بالتوحيد وإن ارتبط بالمشيئة أيضا من حيث إن
غير الموحد لا يغفر الله له حتما، ولا يستطيع أن تقول: وغير الناكح لا يغنيه الله حتما لان الواقع يأباه. فالجواب
وبالله التوفيق أن فائدة ربطه الغنى بالنكاح أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها والغفلة عن
المسبب جل وعلا، حتى غلب الوهم على العقل فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتما، وعدمها سبب
64

يوجب توفير المال جزما، وإن كان واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به فأريد قلع هذا الخيال
المتمكن من الطبع بالايذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه مع كثرة العيال التي هي سبب في الأوهام لنفاد
المال، وقد يقدر الاملاق مع عدمه الذي هو سبب في الاكثار عند الأوهام والواقع شهد لذلك بلا مراء، فدل
ذلك قطعا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر مرتبطات بمسبباتها ارتباطا لا ينفك ليست على ما يزعمونه، وإنما يقدر
الغنى والفقر مسبب الأسباب غير موقوف تقدير ذاك إلا على مشيئته خاصة، وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من
النكاح، لان قد استقر عنده أن لا أثر له في الأقتار، وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه، ولا يؤثر أيضا الخلو
عن النكاح لأجل التوفير، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتر عليه، وأن العبد إن
تعاطى سببا فلا يكن ناظرا إليه ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس، فمعنى قوله حينئذ إن يكونوا فقراء الآية: أن
النكاح لا يمنعهم من الغنى من فضل الله، فعبر عن نفى كونه مانعا من الغنى بوجوده معه، ولا تبطل المانعية إلا
وجود ما يتوهم ممنوعا مع ما يتوهم مانعا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك، فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى
- فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض - فإن ظاهر الامر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة وليس ذلك بمراد
حقيقة، ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة، وبيان أن الصلاة متى قضيت فلا مانع، فعبر عن نفى
المانع بالانتشار بما يفهم تقاضى الانتشار مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع والله أعلم، فتأمل هذا الفصل واتخذه
عضدا حيث الحاجة إليه.
65

قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) قال (إن قلت: لم أقحم قوله - إن أردن تحصنا -
قلت: لان الاكراه لا يكون إلا إذا أردن تحصنا) ولا يتصور إلا كذلك، إذ لولا ذلك لكن مطاوعات ولم يجب
بما يشفى العليل وعند العبد الفقير إلى الله تعالى أن فائدة ذلك، والله أعلم، أي يبشع عند المخاطب الوقوع فيه لكي
يتيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجر شرعي، ووجه التبشيع عليه أن مضمون الآية
النداء عليه بأن أمته خير منه لأنها آثرت التحصن عن الفاحشة، وهو يأبى إلا إكراهها عليها، ولو أبرز مكنون
هذا المعنى لم يقع الزاجر من النفس موقعه، وعسى هذه الآية تأخذ بالنفوس الدنية فكيف بالنفوس العربية، والله
الموفق.
66

قوله تعالى (والله خلق كل دابة من ماء) قال فيه (إن قلت: لم نكر ماء ههنا وعرفه في قوله - وجعلنا من
الماء كل شئ حي -؟ قلت: الغرض فيما نحن فيه أنه تعالى خلق كل دابة من نوع من الماء مخصوص وهو النطفة،
ثم خالف بين المخلوقات بحسب اختلاف نطفها فمنها كذا ومنها كذا، ونحوه قوله - يسقى بماء واحد ونفضل بعضها
على بعض في الاكل - وأما آية اقترب فالغرض فيها أن أجناس الحيوانات كلها مخلوقة من هذا الجنس الخ) قال
أحمد: وتحرير الفرق أن المقصد في الأولى إظهار الآية بأن شيئا واحدا تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة ذكر
تفصيلها في آية النور والرعد، والمقصد في آية اقترب أنه خلق الأشياء المتفقة في جنس الحياة من جنس الماء
المختلف الأنواع، فذكر معرفا ليشمل أنواعه المختلفة، فالآية في الأول لاخراج المختلف من المتفق، والله أعلم.
71

قوله تعالى (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات
بزينة وأن يستعففن خير لهن). قرر الزمخشري هذه الآية على ظاهرها. ويظهر لي والله أعلم أن قوله تعالى - غير
متبرجات بزينة - من باب: * على لأحب لا يهتدى بمناره * أي لا منار فيه فيتهدى به وكذلك المراد هنا،
والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لان الكلام فيمن هي بهذه المثابة وكأن الغرض من ذلك أن
هؤلاء استعفافهم عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم
وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد فكيف
بالكواعب والله أعلم.
76

قوله تعالى (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) إلى قوله تعالى (أو صديقكم) قال (الصديق يكون واحدا
وجمعا والمراد هنا الجمع) قال أحمد: وقد قال الزمخشري إن سر إفراده في قوله تعالى - فما لنا من شافعين ولا صديق
حميم - دون الشافعين التنبيه على قلة الأصدقاء ولا كذلك الشافعون، فإن الانسان قد يحمى له ويشفع في حقه من
لا يعرفه فضلا عن أن يكون صديقا، ويحتمل في الآيتين والله أعلم أن يكون المراد به الجمع فلا كلام، ويحتمل
أن يراد الافراد فيكون سره ذلك، والله أعلم
77

قوله تعالى (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) قال (معناه: فسلموا على
الجنس الذي هو منكم دينا وقرابة الخ) قال أحمد: وفى التعبير عنهم بالأنفس تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة
الاكل من هذه البيوت المعدودة، وإن ذلك إنما كان لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه لاتحاد القرابة فليطب
نفسا بالبساط فيها، والله أعلم.
78

القول في سورة الفرقان
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) قال (ويجوز أن يراد بوصفه بالفرقان تفريقه بين الحق والباطل
80

ويجوز أن يراد نزوله مفرقا شيئا فشيئا كما قال - وقرآنا فرقناه -) قال أحمد: والأظهر ههنا هو المعنى الثاني، لان
في أثناء السورة بعد آيات - وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة - قال الله تعالى - كذلك - أي أنزلناه مفرقا
كذلك - لنثبت به فؤادك - فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة والله أعلم كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد.
81

قوله تعالى (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) قال فيه (هو من قولهم دور بنى فلان تترا: أي
على المجاز) قال أحمد: لا حاجة إلى حمله على المجاز فإن رؤية جهنم جائزة وقدرة الله تعالى صالحة، وقد تظافرت
الظواهر على وقوع هذا الجائز، وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا ألا ترى إلى قوله - سمعوا لها
غيظا؟ - وإلى محاجتها مع الجنة وإلى قولها - هل من مزيد - وإلى اشتكائها أي ربها فأذن لها في نفسين إلى غير ذلك من
الظواهر التي لا سبيل إلى تأويلها إذ لا محوج إليه، ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد لتطوح الذي يسلك
ذلك إلى وادى الضلالة والتحيز إلى فرق الفلاسفة، فالحق أنا متعبدون بالظاهر مالم يمنع مانع، والله أعلم.
83

قوله تعالى (ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله) إلى قوله (قوما بورا) قال (في هذه الآية كسر بين
84

لمن يزعم أن الله تعالى يضل عباده حقيقة حيث يقول للمعبودين من دونه أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا
بأنفسهم؟ فيتبرأون منهم ويستعيذون مما نسب إليهم ويقولون: بل تفضلك على هؤلاء أوجب أن جعلوا عوض
الشكر كفرا، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من ذلك فهم لله أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حيث أضافوا
التفضل بالنعمة إلى الله تعالى وأسندوا الضلال الذي نشأ عنه إلى الضالين، فهو شرح للاسناد المجازى في قوله
- يضل من يشاء - ولو كان مضلا حقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتهم) قال أحمد: قد تقدم
شرح عقيدة أهل الحق في هذا المعنى، وأن الباعث لهم على اعتقاد كون الضلال من خلق الله تعالى التزامهم للتوحيد
المحض والايمان الصرف الذي دل على صحته بعد الأدلة العقلية قوله تعالى - الله خالق كل شئ - والضلال شئ
فوجب كونه خالقه، هذا من حيث العموم، وأما من حيث الخصوص فأمثال قوله تعالى - يضل من يشاء ويهدى
من يشاء - والأصل الحقيقة، وقول موسى عليه السلام - إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء -
فلو كان الاضلال مستحيلا على الله تعالى لما جاز أن يخاطبه الكليم بما لا يجوز، فإذ أوضح ذلك فالملائكة لم يسئلوا
في هذه الآية عن المضل لعبادهم حقيقة فيقال لهم من أضل هؤلاء، وإنما قيل لهم أأنتم أضللتموهم أم هم ضلوا؟
فليس الجواب المطابق العتيد أن يقولوا أنت أضللتهم، ولو كان معتقدهم أن الله تعالى هو المضل حقيقة لكان قولهم
في جواب هذا السؤال بل أنت أضللتهم مجاوزة لمحز السؤال ومحله، وإنما كان هذا الجواب مطابقا لو قيل لهم من
أضل عبادي هؤلاء فقد وضح أن هذا السؤال لايجاب عنه بما تخيله الزمخشري بتقدير أن يكون معتقدهم أن الله
تعالى هو الذي أضلهم، وأن عدولهم عنه ليس لانهم لا يعتقدونه ولكن لأنه لا يطابق، وبقى وراء ذلك نظر في أن
جوابهم هذا يدل على معتقدهم الموافق لأهل الحق، لان أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق لهم الضلالة إلا
أن لهم اختيارا فيها وتميزا لها ولم يكونوا عليها مقسورين كما هم مقسورين على أفعال كثيرة يخلقها الله فيهم كالحركات
الرعشية ونحوها، وقد قدمنا في موضع أن كل فعل اختياري له نسبتان إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى الله
تعالى، وإن نظر إلى كونه اختيار يا للعبد فهو منسوب إلى العبد، وبذلك قطعت الملائكة في قولهم بل متعتهم وآباءهم
حتى نسوا الذكر، فنسوا؟ نسيان الذكر إليهم: أي الانهماك في الشهوات الذي نشأ عنه النسيان لانهم اختاروه
لأنفسهم فصدقت نسبته إليهم، ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهماكهم في الشهوات إلى الله تعالى وهو
استدراجهم ببسط النعم عليهم فيها ضلوا، فلا تنافى بين معتقد أهل الحق وبين مضمون قول الملائكة حينئذ بل هما
متواطئان على أمر واحد، والله أعلم.
85

قوله تعالى (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال (إن قلت: لما قدم إلهه وهو المفعول الثاني وأجاب بأنه قدم
93

عناية به كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق) قال أحمد: وفيه نكتة حسنة وهى إفادة الحصر،
فإن الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر المبتدأ هواه والخبر إلهه، وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر فكأنه
قال: أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه، والله أعلم.
94

قوله تعالى (هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) قال (إن قلت: لم قلل الأعين إذ الأعين صيغة جمع
قلة؟ قلت: لأن أعين المتقين قليل بالإضافة إلى غيرهم يدل على ذلك قوله: - وقليل من عبادي الشكور -) قال
أحمد: والظاهر أن المحكي كلام كل أحد من المتقين، فكأنه قال: يقول كل واحد منهم اجعل لنا من أزواجنا
وذرياتنا قرة أعين، وهذا أسلم من تأويله فإن المتقين وإن كانوا بالإضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم على
كثرة من العدد، والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالنسبة والإضافة، والله أعلم.
102

القول في سورة الشعراء
(بسم الله الرحمن الرحيم)
104

قوله تعالى: (كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) قال (إن قلت: ما فائدة الجمع بين كل وكم؟ أجاب بأن كلا
دخلت للإحاطة بأزواج النبات، وكم دلت على أن هذا المحاط به متكاثر مفرط الكثرة) قال أحمد: فعلى مقتضى
ذلك يكون المقصود بالتكثير الأنواع، والظاهر أن المقصود آحاد الأزواج والأنعام، ويدل عليه أنك لو أسقطت
كل فقلت انظروا إلى الأرض كم أنبت الله فيها من الصنف الفلاني لكنت مكنيا عن آحاد ذلك الصنف المشار
إليه، فإذا أدخلت كلا فقد أديت بتكريره آحاد كل صنف لا آحاد صنف معين، والله أعلم.
105

قوله تعالى حكاية عن فرعون (وفعلت فعلتك التي فعلت) الآية قال (عدد نعمته عليه ووبخه بما جرى على
يديه من قتل خبازه وفظعه عليه بقوله - وفعلت فعلتك) - قال أحمد: ووجه التفظيع عليه من ذلك أن في إتيانه به
مجملا مبهما إيذانا بأنه لفظاعته مما لا ينطق به إلا مكنيا عنه، ونظيره في التفخيم المستفاد من الإبهام قوله تعالى
- فغشيهم من اليم ما غشيهم - إذا يغشى السدرة ما يغشى - فأوحى إلى عبده ما أوحى - ومثله كثير، والله أعلم.
108

قوله تعالى حكاية عن فرعون (قال فأت به إن كنت من الصادقين) قال فيه (علم فرعون أنه لا يأتي بالمعجزة
إلا صادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله تعالى لمدعى النبوة والحكيم لا يصدق الكاذب، ومن العجب أن
فرعون لم يخف عليه هذا وخفى على طائفة من أهل القبلة حيث جوزوا القبيح على الله تعالى حتى لزمهم تصديق
الكاذبين بالمعجزات انتهى كلامه) قال أحمد: ليته سلم وجه تصنيفه من ثآليل هذه الأباطيل وكلف هذا التكلف
في كيده لأهل السنة وإن كيده لفى تضليل، بينا هو يعرض بتفضيل فرعون عليهم إذا هو قد حتم على إخوانه القدرية
أنهم فراعنة، وأن كلا منهم إذا فتش نفسه وجد فيها نصيبا من فرعنته حيث يقول أنا ربكم الأعلى، لأنهم يعتقدون
أن أفعالهم خلقهم، وأنهم لها مبدعون خالقون، كلا إنهم لهم المبتدعون المختلفون لأنهم حجروا على الله تعالى أن يفعل
إلا ما توطأت أوهامهم على أنه حسن بالنسبة إلى الخلق في الشاهد، فمن ثم أشركوا به وهم لا يشعرون، ولما هدى
الله تعالى أهل السنة إلى التوحيد الحق اعتقدوا أن كل شئ هو مخلوق لله تعالى لا شريك له في ملكه، وأن كل ممكن
يجوز أن ينظمه سلطان القدرة الأزلية في سلكه، فكان من الممكنات أن يبتلى الله عباده بخرق العادات على أيدي
110

الكاذبين ومراده إظهاره الضلالات، وقد اندرج ذلك لكونه ممكنا تحت سطوة القدرة حقا بينا ثم لم يلزم من ذلك
لله الحمد خرم في الدين. فإن توهم ناظر بعين الهوى والغرض معنون عما في قلبه من مرض أن ذلك يجر إلى عدم
الوثوق بمعجزات الأنبياء حيث كان على يد غيرهم من الكذابين الأشقياء. قيل معاذ الله أن نأخذ ذلك بنفس مطمئنة
بصدق الأنبياء آمنة بحصول العلم لها من وقوع ما جوزه العقل، ولو قدح الإمكان العقلي في علم حاصل يقيني للزم
الآن الشك في أن جبال الأرض قد عادت تبرا أحمر وترابها مسكا أذفر وتقلبت البحار دما عبيطا لأن ذلك ممكن
في العقل بلا خلاف، ولا يشكك نفسه في هذا الإمكان إلا ذو خبل وعته وعمى وعمه، وأين الزمخشري من
الحديث الصحيح في الشاب الذي يكذب الدجال فيقسمه بالسيف جزلتين فيمشى بينهما ثم يقول له عد فيعود
حيا، فيقول له: ما ازددت فيك إلا بصيرة، أنت الدجال الذي وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم
به ثاني مرة فلا يسلط عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم " وهو حينئذ خير أهل الأرض أو من خير أهل الأرض "
أفرأيت هذا المؤمن لما نظر انخراق العادة على يد أكذب الكاذبين حتى شاهد ذلك في نفسه لم يشككه ذلك في معلومه
فلم يتلكأ في معاودة تكذيبه، ولكن - يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الآخرة ويضل الله
الظالمين ويفعل الله ما يشاء -.
111

قوله تعالى (قالوا أرجه وأخاه) قال (معناه: أخره ومنه المرجئة الذين لا يقطعون بوعيد الفساق ويقولون
هم مرجأون لأمر الله) قال أحمد: ضاقت عليك المسالك في تفسير الإرجاء حتى استدل عليه بالمرجئة، وصرف
هذا اللقب لأهل السنة، فإنهم هم الذين لا يقطعون بوعيد فساق المؤمنين ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عفا عنهم
وإن شاء غفر لهم، فإن كانت المرجئة هم المؤمنون بقوله تعالى - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء - اللهم فاشهد أنا مرجئة
112

قوله تعالى (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) قال (قللهم من أربعة أوجه: عبر عنهم بالشرذمة وهى تفيد القلة،
ثم وصفهم بالقلة وجمع وصفهم ليعلم أن كل ضرب منهم قليل، واختار جمع السلامة ليفيد القلة) قال أحمد: ووجه
آخر في تقليلهم يكون خامسا وهو أن جمع الصفة والموصوف منفرد قد يكون مبالغة في لصوق ذلك الوصف
بالموصوف وتناهيه فيه بالنسبة إلى غيره من الموصوفين به كقولهم معا: زيد جياع، مبالغة في وصفه بالجوع،
فكذلك ههنا جمع قليلا وكان الأصل إفراده فيقال لشرذمة قليلة كما أفرد في قوله - كم من فئة قليلة - ليدل بجمعه على
تناهيهم في القلة، لكن يبقى النظر في أن هذا السر يبقى الوجوه المذكورة على ما هي عليه، أو يسقط منها شيئا ويخلفه
فتأمله، والله الموفق.
114

قوله تعالى (حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وإذا مرضت فهو يشفين) قال (إنما أضاف المرض إلى نفسه لأن
كثيرا منه بتفريط الإنسان في مطعمه ومشربه) قال أحمد: والذي ذكره غير الزمخشري أن السر في إضافة المرض
إلى نفسه التأدب مع الله تعالى بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى، ولعل الزمخشري إنما عدل
عن هذا لأن إبراهيم عليه السلام قد أضاف الإماتة إلى الله تعالى وهى أشد من المرض فلم يثبت عنده المعنى المذكور
ولكن المعنى الذي أبداه الزمخشري أيضا في المرض ينكسر بالموت، فإن المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان
في نفسه كذلك الموت الناشئ عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضافه إلى الله تعالى. ويمكن
أن يفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله تعالى على
سائر البشر وحكم عام لا يخص ولا كذلك المرض، فكم من معافى منه قد بغته الموت، فالتأسي بعموم الموت لعلة
يسقط أثر كونه بلاء فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى، وأما المرض فلما كان مما يخص به بعض البشر دون
بعض كان بلاء محققا فاقتضى العلو في الأدب مع الله تعالى أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار ذلك السبب الذي
لا يخلو منه، ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما لأنه أمر لا بد منه، وأما المرض فلما
كان قد يتفق وقد لا أورده مقرونا بشرط إذا فقال - وإذا مرضت - وكان ممكنا أن يقول: والذي يمرضني
فيشفيني كما قال في غيره، فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة إلا لذلك، والله أعلم.
117

قوله تعالى (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) قال (إنما جمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة
إذا نزل بإنسان خطب ممن يعرفه وممن لا يعرفه وأما الصديق فقليل) قال أحمد: العجب أن الصديق يقع على الواحد
وعلى الجمع، فما الدليل على إرادة الأفراد؟ ثم لو كان المراد الأفراد لكان أعم لأنه في سياق النفي فينفى الواحد فما زاد
عليه إلا ما لا نهاية له، والله أعلم.
119

قوله تعالى (كذبت قوم نوح المرسلين) قال (المراد نوح كما تقول فلان يركب الدواب ويلبس البرود وماله
إلا دابة وبرد) قال أحمد: لا حاجة إلى تأويل الجمع بالواحد ههنا مع بالقطع بأن كل من كذب رسولا واحدا فقد
كذب جميع الرسل لأنه ما من نبي إلا ومستند صدقه المعجزة الدالة على الصدق فقد كذبوا كل من استند صدقه إلى
دليل المعجزة وكذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى - لا نفرق بين أحد من رسله - لأن التفرقة بينهم توجب تكذيب
الكل وتصديق واحد يوجب تصديق الكل، والله أعلم.
120

قوله تعالى (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) قال (كانوا يهتدون في أسفارهم بالنجوم فاتخذوا في طرقهم أعلاما
فعبثوا بذلك إذ النجوم فيها غنية عنها، وقيل المراد القصور المشيدة، وقيل بروج الحمام) قال أحمد: وتأويلها على
القصور أظهر، وقد ورد ذم ذلك على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم حيث وصف الكائنين آخر الزمان بأنهم
يتطاولون في البنيان، وما أحسن قول مالك رضي الله عنه: ولا يصلى الإمام على شئ أرفع مما عليه أصحابه كالدكاك
121

تكون مرتفعة في المحراب ارتفاعا كبيرا لأنهم يعبثون، فعبر عن ترفعهم إلى المحراب على سبيل التكبر ومطاولتهم
المأمومين بالعبث كتعبير هود صلوات الله عليه وسلامه عن ترفع قومه في البنيان بالعبث. وأما تأويل الآية على
اتخاذهم الأعلام في الطرقات وقد كانت لهم بالنجوم كفاية ففيه بعد من حيث إن الحاجة تدعو إلى ذلك لغيم مطبق
وما يجرى مجراه، ولو وضع هذا في زماننا اليوم لهذا المقصد لم يكن عبثا، والله أعلم.
122

قوله تعالى (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) قال
(يحتمل أن يكون من أزواجكم بيانا لما خلق، وأن يكون للتبعيض ويراد به العضو المباح منهن. وفى قراءة ابن
مسعود ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم فكأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم) قال أحمد: وقد أشار الزمخشري بهذه
الإشارة للاستدلال بهذه الآية على خطر إتيان المرأة في غير المأتي، وبيانه أن من لو كانت بيانا لكان المعنى حينئذ
على ذمهم بترك الأزواج، ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران، وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين
ترك الأزواج وإتيان الذكران لا أن ترك الأزواج وحده منكر، ولو كان الأمر كذلك لكان النصب في الثاني
متوجها على الجمع، وكان إما الأفصح أو المتعين، وقد اجتمعت العامة على القراءة به مرفوعا ولا يتفقون على ترك
الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة أو في الجواز أصلا، فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد فيتعين
حمل من على البعضية فيكون المنكر عليهم أمرين كل واحد منهما مستقل بالإنكار: أحدهما إتيان الذكران، والثاني
مجانبة إتيان النساء في المأتي رغبة في إتيانهن في غيره، وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول
واستقلال كل واحدة من هاتين العظيمتين بالنكير، والله الموفق.
124

قوله تعالى (قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين) قال (أي من جملة من أخرجناه ولعلهم كانوا
يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال من تعنيف به واحتباس لأملاكه وأشباه ذلك) قال أحمد: وكثيرا ما ورد في
القرآن خصوصا في هذه السورة العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة، ثم جعل الموصوف بها واحدا
مع جمع كقول فرعون - لأجعلنك من المسجونين - وقولهم - سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين - وقولهم
- لتكونن من المرجومين - وقوله - إني لعملكم من القالين - وقوله تعالى في غيرها - رضوا بأن يكونوا مع الخوالف -
وكذلك - ذرنا نكن مع القاعدين - وأمثاله كثيرة. والسر في ذلك والله أعلم أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه
خاصة، وأما التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع فإنه يفهم أمرا زائدا على وقوعه، وهو أن
الصفة المذكورة كالسمة لموصوف ثابتة العلوق به كأنها لقب وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور
ببعض السمات الرديئة. واعتبر ذلك لو قلت رضوا بأن يتخلفوا لما كان في ذلك مزيد على الإخبار بوقوع التخلف
منهم لا غير، وانظر إلى المساق وهو قوله - رضوا بأن يكونوا مع الخوالف - كيف ألحقهم لقبا رديئا وصيرهم من
نوع رذل مشهور بسمة التخلف حتى صارت له لقبا لاصقا به. وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال
ذلك فتأمله واقدره قدره، والله الموفق للصواب.
قوله تعالى (إلا عجوز في الغابرين) قال (المجرور صفة لها كأنه قيل إلا عجوزا غابرة ولم يكن الغبور صفتها
وقت تنجيتهم. قلت معناه إلا عجوزا مقدرا غبورها أي في الهلاك والعذاب) قال أحمد: وإن تعجلت برفع القاعدة
125

الممهدة آنفا فاعلم أن السر الذي اقتضى العدول عن أن يقول مثلا إلا عجوزا غابرة إلى ما ذكر في المتلو هو أن
المذكور في التلاوة يقتضى الإسجال عليها بأنها من أمة موسومين بهذه السمة من الهلاك كما قدمته الآن فهو أبلغ من
مجرد وصفها بالغبور، والله أعلم.
126

عاد كلامه قال (واعلم أن الآيات الأول كالمقدمات لهذه الآيات، فإن الله تعالى أبان أنه منزل بلغتهم التي لا يعرفون
غيرها وعلى لسان عربي لو أشكل عليهم فهم شئ منه لكان البيان عنده عتيدا ناجزا، وما نزله على لسان عجمي قد
128

قد يعتذرون بأنه لا يفهمهم ما استغلق على أفهامهم من معانيه فقد أزاح أعذارهم ودحض حججهم وسلكه في قلوبهم
ومكنهم من فهمه أشد التمكين، ولكن لم يوفقهم بل قدر عليهم أنهم لا يؤمنون) قال أحمد: يعنى بقوله قدر عليهم
أنهم لا يؤمنون علم أنهم لا يؤمنون، لأن التقدير عنده العلم، والحق أنه الله تعالى أراد منهم أنهم لا يؤمنون، وهذا
تقرير لجواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال قلوبهم أنهم لا يؤمنون نائية عن قبول الحق لا يلجها بوجه ولا بسبب
فكيف يسلك الحق فيها؟ فيجاب عنه بهذا الجواب، والله أعلم.
قوله تعالى (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) قال (إن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته،
قلت: المراد الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه، بدليل أنه أسند إليهم
ترك الإيمان به على عقبه في قوله لا يؤمنون به) قال أحمد: وما ينقم من بقائه على ظاهره إلا أنه التوحيد المحض
129

والإيمان الصرف، وأن الله تعالى خلق قلوبهم نائية عن قبول الحق، والقدرية لا يبلغون في التوحيد إلى هذا الحد،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
130

القول في سورة النمل
(بسم الله الرحمن الرحيم)
134

قوله تعالى (وهم بالآخرة هم يوقنون) قال: فيه كرر الضمير حتى صار معنى الكلام ولا يوقن بالآخرة حق
الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل المشاق) قال أحمد:
قد تقدم في غير موضع اعتقاد أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر كما مر له في قوله تعالى - هم ينشرون - أن معناه:
لا ينشر إلاهم، وعد الضمير من آلات الحصر كما مر ليس ببين، وقد بينا لمجئ الضمير في سورة اقترب وجها
سوى الحصر، وأما وجه تكراره ههنا والله أعلم فهو أنه لما كان أصل الكلام وهم يوقنون بالآخرة ثم قدم المجرور
على عامله عناية به فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر، فأريد أن بلى المبتدأ خبره، وقد حال المجرور بينهما فطرى
ذكره ليليه الخبر ولم يفت مقصود
العناية بالمجرور حيث بقى على حاله مقدما، ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة
له وحدها بعد ما يوجب التطرية، فأقرب منها أن الشاعر قال:
سل ذو عجل ذا وألحقنا بذال * الشحم أنا قد مللناه بخل
135

والأصل وألحقنا بذى الشحم، فوقع منتصف الرجز أو منتهاه على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل عند
اللام وبنى الشاعر على أنه لا بد عند المنتصف أو المنتهى من وقيفة فقدر بتلك الوقفة بعدا بين المعرف وآلة التعريف
فطراها ثانية، فهذه التطرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرر ولا كلمة واحدة سوى تقديره وقفة
لطيفة لا غير، فتأمل هذا الفصل فإنه جدير بالتأمل، والله أعلم.
قوله تعالى (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) قال (إن قلت: كيف أسند التزيين إلى
ذاته وقد أسنده إلى الشيطان في قوله - وزين لهم الشيطان أعمالهم - قلت: إن بين الإسنادين فرقا، فالإسناد إلى الله
مجاز وإلى الشيطان حقيقة. وقد روى عن الحسن أن المراد زينا لهم أعمال البر فعمهوا عنها ولم يهتدوا إلى العمل بها).
قال أحمد: وهذا الجواب مبنى على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح، وامتناع أن يخلق الله
تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة، فمن ثم جعل إسناد التزيين إلى الله تعالى مجازا وإلى الشيطان حقيقة، ولو عكس
الجواب لفاز بالصواب، وتأمل ميله إلى التأويل الآخر من أن المراد أعمال البر على بعده لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض
وأنى لهم ذلك وقد أتى الله بنيانهم من القواعد. على أن التزيين قد ورد في الخبر في قوله تعالى - ولكن الله حبب إليكم
الإيمان وزينه في قلوبكم - على أن غالب وروده في غير البر كقوله - زين للناس حب الشهوات - زين للذين كفروا
الحياة الدنيا - وكذلك زين لكثير من المشركين - ومما يبعد حمله على أعمال البر إضافة الأعمال إليهم في قوله
أعمالهم، وأعمال البر ليست مضافة إليهم لأنهم لم يعملوها قط، فظاهر الإضافة يعطى ذلك، ألا ترى إلى قوله
تعالى - ولما يدخل الإيمان في قلوبكم - وقوله - قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان -
136

فأطلق الإيمان في المكانين عن إضافته إليهم لأنه لم يصدر منهم وأضاف الإسلام الظاهر إليهم لأنه صدر منهم،
والله أعلم.
137

قوله تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان علما) قال (معناه طائفة من العلم) قال أحمد: التبعيض والتقليل من
التنكير، وكما يرد للتقليل من شأن المنكر فكذلك يرد للتعظيم من شأنه كما مر آنفا في قوله تعالى - وإنك لتلقى القرآن
من لدن حكيم عليم - ولم يقل الحكيم العليم والغرض من التنكير التفخيم كأنه قال: من لدن حكيم عليم، فظاهر قوله
- ولقد آتينا داود وسليمان علما - في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه كأنه قال علما أي علم، وهو كذلك فإن
علمهما كان مما يستعظم ويستغرب، ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات الذي خصهما الله تعالى به،
وكل علم بالإضافة إلى علم الله تعالى قليل ضئيل، والله أعلم.
قوله تعالى (وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) قال: بجلا نعمة الله عليهما من حيث
قولهما فضلنا وتواضعا بقولهما على كثير ولم يقولا على عباده اعترافا بأن غيرهما يفضلهما حذرا من الترفع.
139

قوله تعالى (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) قال (لما دخل قتادة الكوفة التفت عليه الناس فقال:
سلوا عما شئتم، فقال أبو حنيفة وكان شابا: سلوه عن النملة التي كلمت سليمان أذكرا كانت أم أنثى؟ فسألوه
فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل كيف لك ذلك؟ قال: لأن الله عز وجل قال - قالت نملة - ولو
كانت ذكرا، لقال قال نملة) قال أحمد: لا أدرى العجب منه أم من أبي حنيفة أن يثبت ذلك عنه، وذلك أن
النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس، يقال نملة ذكر ونملة أنثى، كما يقولون حمامة
ذكر وحمامة أنثى، وشاة ذكر وشاة أنثى، فلفظها مؤنث ومعناه محتمل، فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن
كانت واقعة على ذكر، بل هذا هو الفصيح المستعمل، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام " لا تضحى بعوراء
ولا عجفاء ولا عمياء " كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعنى الإناث من الأنعام خاصة فحينئذ قوله
تعالى - قالت نملة - روعي فيه تأنيث اللفظ، وأما المعنى فيحتمل على حد سواء، وإنما أطلت في هذا وإن كان
لا يتمشى عليه حكم لأنه نسبه إلى الإمام أبي حنيفة على بصيرته باللغة، ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان على
غزارة علمه، وتبصره بالمنقولات، ثم قرر الكلام على ما هو مصونا له، فيالله العجب العجاب والله الموفق
للصواب.
141

قوله تعالى (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) قال (معناه: أصدقت أم كذبت، إلا أن عبارة
الآية أبلغ لأنه إذا كان معروفا بالكذب اتهم في جملة أخباره فلم يوثق به) قال أحمد: وهذا مما نبهت عليه في سورة
الشعراء من العدول عن الفعل الذي هو أم كذبت، وعن مجرد صفته في قوله أم كنت كاذبا إلى جعله واحدا من
الفئة الموسومة بالكذب، فهو أبلغ في مقصود سياق الآية من التهديد، والله أعلم.
145

قوله تعالى (أهكذا عرشك) قال فيه (لم يقل أهذا عرشك لئلا يكون تلقينا، قالت كأنه هو ولم تقل هو هو
ولا ليس، وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل) قال أحمد: وفى قولها كأنه هو عدو لها عن مطابقة
الجواب للسؤال بأن تقول هكذا هو نكتة حسنة، ولعل قائلا يقول: كلا العبارتين تشبيه، إذ كاف التشبيه فيهما
149

جميعا وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة وفى الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما: أعني اسم
الإشارة والمضمر واقع على الذات المشبهة، وحينئذ تستوى العبارتان في المعنى، ويفضل قوله هكذا هو
بمطابقته للسؤال، فلا بد في اختيار كأنه هو من حكمة فنقول: حكمته والله أعلم أن كأنه هو عبارة من قرب عنده
الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين فكاد يقول هو هو وتلك حال بلقيس، وأما هكذا هو فعبارة جازم
بتغاير الأمرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة لمطابقتها لحالها والله
أعلم، وقول الزمخشري: ولا ليس بهو إن كان من قوله فوهم والصواب ولا ليس به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
150

قوله تعالى (لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) قال فيه (إن قلت: كيف
يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا
صالحا وبيتوا أهله وجمعوا بين البياتين جميعا لا أحدهما كانوا صادقين. وفى هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح
عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم، ألا تراهم قصدوا قتل نبي الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن
يكونوا كاذبين حتى سووا الصدق حيلة يتصفون بها عن الكذب) قال أحمد: وحيلة الزمخشري لتصحيح قاعدة
التحسين والتقبيح بالعقل أقرب من حيلتهم التي سماها الله تعالى مكرا، لأن غرضه من تمهيد حيلتهم أن يستشهد على
صحة القاعدة المذكورة في موافقة قوم لوط عليها إذا استقبحوا الكذب بعقولهم لا بالشرع، وأنى يتم له ذلك أولهم
وهم كاذبون صريح الكذب في قولهم - ما شهدنا مهلك أهله - وذلك أنهم فعلوا الأمرين، ومن فعل الأمرين فجحد
فعل أحدهما لم يكن في قرينة مرية، وإن كانت الحيلة تتم لو فعلوا أمرا فادعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع
ومن ثم لم تختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا فضرب زيدا وعمرا كان حانثا، بخلاف الحالف لا أضرب
زيدا وعمرا ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما، فإن مثل هذا محل خلاف العلماء في الحنث وعدمه، فإذا تمهد أن
هؤلاء كاذبون صراحة في قولهم " ما شهدنا مهلك أهله " وأنه لا حيلة لهم في الخلاص من الكذب فلا يخلو أمرهم أن
يكونوا عقلاء فهم لا يتواطئون على اعتقاد الصدق بهذه الحيلة مع القطع بأنها ليست حيلة ولا شبهة لقرب جحدهم
من الصدق، فيبطل ما قال الزمخشري لإثبات قاعدة دينه على زعمه، إذ قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل من قواعد
عقائد القدرية بموافقة قوم غير عقلاء على صحتها فحسبه ما رضى به لدينه والسلام.
152

قوله تعالى (آلله خير أما يشركون) قال فيه (معلوم أن لا خير فيما أشركوه حتى يوازن بينه وبين من هو خالق
كل خير ومالكه، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت) قال أحمد: كلام مرضى بعد أن تضع خالق كل شئ مكان
قوله خالق كل خير، فإنه تخصيص قدري أو إشراك خفى، والتوحيد الأبلج ما قلناه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
154

قوله تعالى (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) قال (إن قلت: فكم من مضطر لا يجاب؟ قلت: الإجابة موقوفة
على كون المدعى به مصلحة ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطا فيه المصلحة) قال أحمد: الصواب أن الإجابة
مقرونة بالمشيئة لا بالمصلحة، وإنما تقف الإجابة على المصلحة عند القدرية لإيجابهم على الله تعالى رعاية المصالح
فقول الزمخشري لا يحسن الدعاء من العبد إلا شارطا فيه المصلحة فاسد، فإن المشيئة شرط في إجابة الدعاء اتفاقا،
ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الداعي: اللهم اغفر لي إن شئت.
155

قوله تعالى (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ) قال فيه (المراد بالبلدة مكة،
وإضافة اسم الله تعالى إليها لتشريفها وذكر تحريمها لأنه أخص أوصافها وأسنده إلى ذاته تأكيدا لشرفها ثم قال -
وله كل شئ - فجعل دخول كل شئ تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخول هذه البلدة المعظمة، وفى ذلك
إشارة إلى أن ملكا قد ملك هذه البلدة المكرمة وملك إليها كلي شئ إنه لعظيم الشأن) قال أحمد: وتحت قوله
- وله كل شئ - فائدة أخرى سوى ذلك، وهى أنه لما أضاف اسمه إلى البلدة المخصوصة تشريفها لها اتبع ذلك إضافة
كل شئ سواها إلى ملكه قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها وتنبيها على ن الإضافة الأولى إنما قصد
بها التشريف لا لأنها ملك الله تعالى خاصة، والله أعلم.
163

قوله تعالى (وما ربك بغافل عما تعملون) قال فيه (لأن العالم بالذات لا يجوز عليه الغفلة) قال أحمد: قد
سبق له جحد صفة العلم وإيهام أن سلبها داخل في تنزيه الله تعالى، لأنه يجعل استحالة الغفلة عليه معللة بأنه عالم
بالذات لا بعلم، والحق أن استحالة الغفلة عليه تعالى لأن علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض
بل هو علم قديم أزلي عام التعلق بجميع الواجبات والممكنات والممتنعات، ولا يتوقف تنزيهه تعالى على تعطيل
صفاته وكماله وجلاله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
القول في سورة القصص
(بسم الله الرحمن الرحيم)
164

قوله تعالى (فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) قال فيه (روى أنهم اتهموها لما
قالت وهم له ناصحون بمعرفة موسى عليه السلام فقالت: إنما أردت وهم للملك فرعون ناصحون فخلصت من التهمة)
167

قال أحمد: أوردت هذه التورية استحسانا لفطنها ولكونها من بيت النبوة وأخت النبي فحقق لها ذلك:
168

قوله تعالى (قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين) قال أحمد: لقد تبرأ من عظيم لأن ظهير
المجرمين شريكهم فيما هم بصدده، ويروى " أنه يقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فيؤتى بهم حتى
بمن لاق ليقة أو برى لهم قلما، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار ".
169

قوله تعالى (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين) قال فيه (هذا كلام حكيم
جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت القوة والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام
الذي ساقته سياق المثل والحكمة عن أن تقول فإنه قوى أمين) قال أحمد: وهو أيضا أجمل في مدح النساء للرجال
من المدح الخاص وأبقى للحشمة، وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه،
وما أحسن ما أخذ الفاروق رضى الله تعالى عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوى ففي
مضمون هذه الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين فكان قويا أمينا يستعين به على ما كان بصاده
رضي الله عنه، وهذا الإبهام من ابنة شعيب صلوات الله عليه وسلامه قد سلكته زليخا مع يوسف عليه السلام،
ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والمستعمل * ليس التكحل في العينين كالكحل * حيث قال لسيدها - ما جزاء
من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم - وهى تعنى ما جزاء يوسف بما أرادني من السوء إلا تسجنه
أو تعذبه عذابا أليما، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر أن تنطق بالعصمة منسوبا إليها الخنا إيذانا بأن هذا الحياء
منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر يمنعها من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى، والله أعلم.
قوله تعالى (على أن تأجرني ثماني حجج) (نقل من ذهب أبي حنيفة منع النكاح على مثل خدمته بعينه وجوازه
172

على مثل خدمة عبده سنة، وفرق بأنه في الأولى سلم نفسه وليس بمال، وفى الثانية سلم عبده وهو مال، ونقل
عن الشافعي جواز النكاح على المنافع المعلومة مطلقا) قال أحمد: ومذهب مالك على ثلاثة أقوال: المنع والكراهة
والجواز. والعجب من إجازة أبي حنيفة النكاح على منافع العبد بخلاف منافع الزوج، مع أن الآية أجازت النكاح
على منافع الزوج ولم تتعرض لغيره، وما ذاك إلا لترجيح المعنى الذي أشار إليه الزمخشري، أو تفريعا على أن
لا دليل في شرع من قبلنا أو غير ذلك، والله أعلم.
173

قوله تعالى (ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار) قال (العاقبة هي العاقبة المحمودة
والدليل عليه قوله عز وجل - أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن - وقوله - وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار - والمراد
دار الدنيا وعاقبتها أن يختم للإنسان فيها بالرحمة والرضوان وتتلقاه الملائكة بالبشرى عند الموت قال: فإن قلت:
العاقبة المحمودة والمذمومة كلاهما يصح أن يسمى عاقبة لأن الدنيا إما أن تكون خاتمتها خيرا أو شرا، فلم اختصت
خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر. قلت: لأن الله سبحانه وتعالى وضع الدنيا مجازا للآخرة وأراد
لعباده فيها أن يعبدوه ولا يعملوا إلا الخير وما خلقهم إلا لأجله كما قال - وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون -
فمن عمل في الدنيا على خلاف ذلك فقد حرف لأن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها
لأنها من تحريف الفجار) قال أحمد: وقد تقدم من قواعد أهل الحق ما يستضاء به في هذا المقام، والقدر الذي
يحتاج إلى تجديده ههنا أن استدلاله على أن عاقبة الخير وعبادة الله تعالى هي المرادة له لا سواها بقوله تعالى - وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون - معارض بأمثاله في أدلة أهل السنة على عقائدهم مثل قوله - ولقد ذرأنا لجهنم
كثيرا من الجن والإنس - الآية، والمراد والله أعلم: ولقد جعلنا لعذاب جهنم خلقا كثيرا من الثقلين، ومن ذلك
ما يروى عن الفاروق رضي الله عنه أنه قال: وإنكم آل المغيرة ذرء النار: أي خلقها. فلئن دلت آية الذاريات
ظاهرا على أن الله تعالى إنما خلق الثقلين لتكون عاقبتهم الجنة جزاء وثوابا على عبادتهم له فقد دلت آية الأعراف على
أنه خلق كثيرا من الثقلين لتكون عاقبتهم جهنم جزاء على كفرهم، وحينئذ يتعين الجمع بين الآيتين، وحمل عموم
آية الذاريات على خصوص الآية الأخرى، وأن المراد: وما خلقت السعداء من الثقلين إلا لعبادتي جمعا بين الأدلة،
فقد ثبت أن العاقبتين كلتيهما مرادة لله تعالى تعالى هذا بعد تظافر البراهين العقلية على ذلك، فوجه مجئ العاقبة المطلقة
كثيرا وإرادة الخير بها أن الله تعالى هدى الناس إليها ووعدهم ما ورد في سلوك طريقها من النجاة والنعيم المقيم،
ونهاهم عن ضدها وتوعدهم على سلوكها بأنواع العذاب الأليم، وركب فيهم عقولا ترشدهم إلى عاقبة الخير
ومكنهم منها وأزاح عللهم ووفر دواعيهم، فكان من حقهم أن لا يعدلوا عن عاقبة الخير ولا يسلكوا غير طريقها
وأن يتخذوها نصب أعينهم فأطلقت العاقبة، والمراد بها الخير تفريعا على ذلك، والله أعلم.
177

والحاصل أنها لما كانت هي المأمور بها والمخضوض عليها عوملت معاملة ما هو مراد وإن لم تكن مرادة من
كثير من الخلق. وقال لي بعضهم: ما يمنعك أن تقول لم يفهم كون العاقبة المطلقة هي عاقبة الخير من إطلاقها
ولكن من إضافتها إلى ذويها باللام في الآي المذكورة كقوله - من تكون له عاقبة الدار - وسيعلم الكافر لمن عقبى
الدار - والعاقبة للمتقين - فأفهمت اللام أنها عاقبة الخير إذ هي لهم، وعاقبة السوء عليهم لالهم كما يقولون الدائرة
لفلان: يعنون دائرة الظفر والنصر، والدائرة على فلان: يعنون دائرة الخذلان والسوء، فقلت: لقد كان لي في
ذلك مقال لولا ورود - أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار - ولم يقل عليهم، فاستعمال اللام مكان على دليل على إيفاء
الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير، والله أعلم.
قوله تعالى (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) الآية، قال (عبر عن نفى المعلوم بنفي العلم،
وإنما كان كذلك لأن العلم لا يتعلق بالمعلوم إلا على ما هو عليه إن موجودا فموجود وإن معدوما فمعدوم، فمن ثم عبر
عن نفى كونه موجودا بنفي كونه معلوما) قال أحمد: لشدة ما بلغ منه الوهم لم يتأمل كيف سقط السهم، وإنما أتى
من حيث إن الله تعالى عبر كثيرا عن نفى المعلوم بنفي العلم في مثل قوله - قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا
في الأرض - أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض - فلما أطرد ذلك عنده توهم أن هذا التعبير عن نفى المعلوم بنفي العلم يشمل
كل علم ولو لم يتعلق بالمعلوم على ما هو به، وليس هو كذلك بل هذا التعبير لا يسوغ إلا في علم الله تعالى لأمر يخص
العلم القديم وهو عموم تعلقه حتى لا يعزب عنه أمر، فما لم يتعلق العلم بوجوده يلزم أن لا يكون موجودا، إذ لو كان
موجودا لتعلق به، بخلاف علم الخلق فلا تلازم بين نفى الشئ ونفى العلم الحادث بوجوده، ولا كذلك العلم القديم
178

فإن بين نفى معلومه ونفى تعلقه بوجوده تلازما سوغ التعبير المذكور، ولكن المعلوم أن فرعون كان يدعى الإلهية ويعامل
علمه معاملة علم الله تعالى في أنه لا يعزب عنه شئ، فمن ثم طغى وتكبر وعبر بنفي علمه عن نفى المعلوم تدليسا
على ملئه وتلبيسا على عقولهم السخيفة والله أعلم. ويناسب تعاظمه هذا قوله - فأوقد لي يا هامان على الطين - ولم يقل
فاطبخ لي آجرا، وذلك من التعاظم كما قال تعالى وله العظمة والكبرياء ومن ارتدى بردائهما قصمه - ومما يوقدون
عليه في النار ابتغاء حلية - فذكر هذه العبارة الجامعة لأنواع الكفر على وجه الكبرياء تهاونا بها، وذلك من تجبر
الملوك جل الله وعز، ومن تعاظم فرعون أيضا نداؤه لو زيره باسمه وبحرف النداء وتوسيط ندائه خلال الأمر وبناؤه
الصرح ورجاؤه الاطلاع دليل على أنه لم يكن مصمما على الجحود. قال الزمخشري: وذلك مناقض لما أظهر من
الجحد الجازم في قوله - ما علمت لكم من إله غيري - فإما أن يخفى هذا التناقض على قومه لغباوتهم وكآبة أذهانهم
وإما أن يتفطنوا لها ويخافوا نقمته فيصروا. قال أحمد: ولقائل والله أعلم أن يحمل قوله - ما علمت لكم من إله
179

غيري - على الشك ونفى علمه خاصة وإجرائه مجرى سائر علوم الخلق في أنه لا يلزم من نفى تعلقه بوجود أمر نفى
ذلك الأمر لجواز أن يكون موجودا عازبا من علمه وحينئذ لا يكون تناقضا، ولو لم يكن حمله هذا هو الأصل لما
سوغنا أن يرفع التناقض عن كلامه لأنه أحقر من ذلك. عاد كلامه، قال: وقوله تعالى (فأخذناه وجنوده فنبذناهم
في اليم) مقابلة لاستكباره بفعل عبر عنه بما صورته أخذ حصيات ممتهنات ثم نبذها: أي طرحها في اليم بهوان،
فذلك تمثيل لاستهانة به وإهلاكه بهذا النوع من الهلاك، والله أعلم.
قوله تعالى (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) قال فيه (معناه: دعوناهم أئمة دعاة إلى النار كما تقول جعلته
بخيلا فاسقا إذا دعوته بذلك) قال أحمد: لا فرق عند أهل السنة بين قوله تعالى - وجعل الظلمات والنور - وجعلنا
الليل والنهار آيتين - وبين هذه الآية، فمن حمل الجعل على التسمية فيما نحن فيه فرارا من اعتقاد أن دعاءهم إلى النار
مخلوق لله تعالى فهو بمثابة من حمله على التسمية في قوله تعالى - وجعلنا الليل والنهار آيتين - فرارا من جعل الليل والنهار
مخلوقين لله تعالى، فلا فرق بين نفى مخلوق واحد عن قدرته ونفى كل مخلوق، نعوذ بالله من ذلك.
180

قوله تعالى (بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون) قال (معناه: إرادة تذكرهم لأن الإرادة تشبه
الترجي فاستعير لها، أو يراد به ترجى موسى عليه السلام) قال أحمد: الوجه الثاني هو الصواب واحذر الأول فإنه
قدري.
181

قوله تعالى (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك
ونكون من المؤمنين) قال (لولا الأوللى امتناعية والثانية تحضيضية والفاء الأولى عاطفة والثانية جواب لولا،
والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا لولا أرسلت إلينا رسولا محتجين بذلك لما أرسلت إليهم أحدا. فإن قلت:
كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة سببا في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟
قلت: العقوبة سبب القول وهى سبب السبب فجعلت سببا، وعطف السبب الأصلي عليها بالفاء السببية)
قال أحمد: وذلك مثل قوله تعالى - أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى - والسر في جعل سبب السبب سببا
وعطف السبب الأصلي عليه أمران: أحدهما أن مزيد العناية يوجب التقديم وهذا هو السر الذي أبداه سيبويه.
الثاني أن في هذا النظم تنبيها على سببية كل واحد منهما، أما الأول فلاقترانه بحرف التعليل وهو أن، وأما الثاني
فلاقترانه بفاء السبب، ولا يتعاطى هذا المعنى إلا من قولك - أن تضل إحداهما فتذكر - لا من قول القائل: أن
تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت. وكان بعض النحاة يورد هذه الآية إشكالا على النحاة وعلى أهل السنة من
المتكلمين فيقول: لولا عند أهل الفن تدل على امتناع جوابها لوجود ما بعدها، وحينئذ يكون الواقع بعدها في
الآية موجودا وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل، وجوابها المحذوف غير واقع وهو عدم
الإرسال لأنه ممتنع بالأولى، ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة فيشكل الواقع بعدها على أهل
السنة لأنهم يقولون: لا ظلم قبل بعثة الرسل، فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة، وذلك لأنها واقعة جزاء على
مخالفة أحكام الشرع، فإن لم يكن شرع فلا مخالفة ولا عقوبة. ويشكل الجواب على النحاة لأنه يلزم أن لا يكون
واقعا وهو عدم بعثة الرسل، لكن الواقع بعدها يقتضى وقوعه، ثم كان مورد هذا الإشكال يجيب
182

عنه بتقدير محذوف والأصل ولولا كراهة أن تصيبهم مصيبة وحينئذ يزول الإشكال عن الطائفتين. والتحقيق
عندي في الجواب خلاف ذلك، وإنما جاء الإشكال من حيث عدم تجويز النحاة بمعنى: لولا أن يقولون إنها تدل على أن
ما بعدها موجودا وأن جوابها ممتنع به، والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس لو،
فإن معناها لزوم جوابها لما بعدها، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا، والآية من قبيل فرض وجود
المانع، وكذلك اللزوم في لو قد يكون الشئ الواحد لازما لشيئين فلا يلزم نفيه من نفى أحد ملزوميه، وعلى هذا
التحرير يزول الإشكال الوارد على لو في قوله " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " فتأمل هذا الفصل فتحته
فوائد للمتأمل، والله الموافق
183

قوله تعالى (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا) قال (هذا بيان لعدله
وتقدسه عن الظلم حتى أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا العذاب ولا يستحقونه حتى تتأكد عليهم الحجة ببعثة
الرسل) قال أحمد: هذا إسلاف من الزمخشري لجواب ساقط عن سؤال وارد على القدرية لا جواب لهم عنه ينشأ
186

السؤال في هذه الآية فيقال: لو كانت العقول تحكم على الله تعالى بأحكام التكليف لقامت الحجة على الناس وإن
لم يكن بعث رسل إذ العقل حاكم، فلا يجدون للخلاص من هذا السؤال سبيلا.
187

قول تعالى (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) قال:
لم يعلق الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما كما قال تعالى - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار -
فعلق الوعيد بالركون إلى الظلمة، وعن علي " أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله خيرا من شراك نعل أخيه فيدخل
تحتها " وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض. وعن الفضيل أنه قرأها وقال: ذهبت الأماني ههنا،
ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون لقوله - إن فرعون علا في الأرض - وقوله - ولا تبغ الفساد
في الأرض - ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله - والعاقبة للمتقين - كما
تدبرها على وعمر والفضيل) قال أحمد: هو تعرض لغمص أهل السنة في أن كل موحد من أهل الجنة، وإنما طمعوا
حيث أطمعهم الله تعالى بل حقق طمعهم في رحمته حيث يقول رسوله عليه الصلاة والسلام " من قال له إله إلا الله
193

دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ثلاثا، وفى الثالثة وإن رغم أنف أبي ذر " اللهم أقسم لنا من رجاء رحمتك ما تعصمنا
به من القنوط، ومن خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، والله الموفق للصواب.
194

القول في سورة العنكبوت
(بسم الله الرحمن الرحيم)
195

قوله تعالى (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) قال: إن قلت: هو لم يزل يعلم الصادقين
والكاذبين قبل الامتحان فما وجه هذا الكلام؟ قلت: لم يزل يعمله معدوما ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد) قال
أحمد: فيما ذكر إيهام بمذهب فاسد وهو اعتقاد أن العلم بالكائن غير العلم بأن سيكون. والحق أن علم الله تعالى
واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه. وفائدة ذكر العلم ههنا وإن كان سابقا على وجود
المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء كأنه قال تعالى: لنعلمنهم فلنجازيهم بحسب علمه فيهم، والله أعلم.
196

قوله تعالى (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) قال
(المراد بهؤلاء أحد فريقين: إما قوم مسلمون سيئاتهم صغائر مغمورة بالحسنات، وإما قوم آمنوا وعملوا الصالحات
بعد كفر فالإسلام يجب ما قبله) قال أحمد: حجر واسعا من رحمة الله تعالى بناء على أصله الفاسد في وجوب الوعيد
على مرتكب السيئات الكبائر لا بالتوبة، وأطلق تكفير الصغائر وإن لم تكن توبة إذا غمرتها الحسنات وكلا الأصلين
قدري مجتنب، والله الموفق.
197

قوله تعالى (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من
شئ إنهم لكاذبون) قال (وبعض المتسمين بالإسلام إذا أراد أن يشجع صاحبه على ذنب قال له: افعل هذا
وإثمه في عنقي، ومنه ما يحكى أن رجلا رفع إلى المنصور حوائجه، فلما قضاها قال: يا أمير المؤمنين بقيت لي إليك
حاجة هي العظمى، قال: وما هي؟ قال: شفاعتك في المحشر، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إياك وهؤلاء فهم
قطاع الطريق في المأمن) قال أحمد: عمرو بن عبيد أول القدرية المنكرين للشفاعة فاحذره، وليست الآية مطابقة
للحكاية، ولكن الزمخشري يبنى على أنه لا فرق بن اعتقاد الشفاعة واعتقاد أن الكفار يحملون خطايا أتباعهم،
فلذلك ساقهما مساقا واحدا نعوذ بالله من ذلك. وفى قوله تعالى - إنهم لكاذبون - نكتة حسنة يستدل بها على صحة
مجئ الأمر بمعنى الخبر، فإن من الناس من أنكره والتزم تخريج جميع ما ورد في ذلك على أصل الأمر ولم يتم له ذلك
في هذه الآية لأن الله تعالى أردف قولهم - ولنحمل خطاياكم - على صيغة الأمر بقوله - إنهم لكاذبون - والتكذيب
إنما يتطرق إلى الأخبار.
199

قوله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) قال (عدل عن تسعمائة وخمسين لأنه يحتمل في إطلاق
العدد على أكثره بخلاف مجيئه مع الاستثناء) قال أحمد: لأن الاستثناء استدراك ورجوع على الجملة بالتنقيص
تحريرا للعدد فلا يحتمل المبالغة لأنها لا يجوز معها العدد. عاد كلامه. قال (وفيه نكتة أخرى، وهى أن القصة
مسوقة لذكر ما ابتلى به نوح وكابده من طول المصابرة تسلية له عليه السلام، فكان ذكر رأس العدد الذي
لا رأس أكثر منه أوقع على الغرض، قال: وإنما خالف بين اللفظين فذكر في الأول السنة، وفى الثاني العام تجنبا
للتكرار الذي لا يحمد إلا لقصد تفخيم أو تعظيم) قال أحمد: ولو فخم المستثنى لعاد ذلك ببعض تفخيم المستثنى منه
وتكبيره عند السامع، والله أعلم.
200

قوله تعالى (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده) قال فيه (يعيده ليس معطوفا على يبدئ وإنما هو
أخبار على حياله كما وقع - كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة - كقولك: ما زلت أوثر فلانا واستخلفه
بعدي) قال أحمد: وقد تقدم له عند قوله تعالى - أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده - أنه معطوف وصحح العطف، وإن
كانوا ينكرون الإعادة لان الاعتراف بها لازم لها، وقد أبى ههنا جعله معطوفا، فالفرق والله أعلم أنه ههنا لو
عطف الإعادة على البداءة لدخلت في الرؤية الماضية وهي لم تقع بعد، ولا كذلك في آية النمل. ولقائل أن يقول:
هي وإن لم تقع إلا أنها بإخبار الله تعالى بوقوعها كالواقعة المرئية فعوملت معاملة ما رؤي وشوهد، إلا أن جعله خبرا
ثانيا أوضح، والله أعلم.
قوله تعالى (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) قال (إن قلت: ما وجه
الافصاح باسمه تعالى مع النشأة الآخرة بعد إضماره في البداءة أولا؟ قلت: لان النشأة الآخرة هي المقصودة وفيها
كانت تصطك الركب فكانت خليقة بإبراز اسمه تعالى تحقيقا لنسبة الإعادة إلى من نسبت إليه الأولى) قال أحمد:
والأصل الاظهار ثم الاظمار، ويليه لقصد التفخيم الاظهار، ويليه وهو أفخم الثلاثة الاظهار بعد
الاظمار كما في الآية، والله أعلم.
202

قوله تعالى (خلق الله السماوات والأرض بالحق) قال فيه (أي بالغرض الصحيح) قال أحمد: لفظة قدرية
ومعتقد ردئ قد تقدم إنكاره على القدرية، ولو كان ما قالوه حقا من حيث المعنى لوجب اجتناب هذه العبارة
التي لا تليق بالأدب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
207

قوله تعالى (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) قال (إنما عدل عن الحياة إلى هذا البناء تنبيها على تعظيم حياة
الآخرة ودوامها) قال أحمد: والذي يخص هذا البناء به إفادة ما لا يخلو من الحركة كالنزوان والجولان، والحيوان
من ذلك، والله أعلم،
211

القول في سورة الروم
(بسم الله الرحمن الرحيم)
213

قوله تعالى (ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) قال فيه (يعلمون بدل من الأول،
وفي البدل نكتة وهي الاشعار بأنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين العلم بظاهر الدنيا حتى كأنها شئ
واحد فأبدل أحدهما من الاخر، وفائدة تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهرها) قال
أحمد: وفي التنكير تقليل لمعلومهم وتقليله يقربه من النفي حتى يطابق المبدل منه. وروى عن الحسن أنه قال في
تلاوته هذه الآية: بلغ من صدق أحدهم في ظاهر الحياة الدنيا أنه ينقر الدينار بإصبعه فيعلم أجيد هو أم ردئ.
215

قوله تعالى (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا) قال (فإن قلت: أينصب خوفا وطمعا مفعولا لهما وليسا
فعلى فاعل الفعل المعلل فما وجه ذلك؟ قلت: المفعولون هنا فاعلون لانهم راءون، فتقديره: يجعلكم رائين البرق
خوفا وطمعا، أو على حذف مضاف تقديره: إرادة خوفكم وطمعكم) قال أحمد: الخوف والطمع من جملة
مخلوقات الله تعالى وآثار قدرته، وحينئذ يلزم اجتماع شرائط النصب فيهما وهي كونهما مصدرين ومقارنين في
الوجود والفاعل الخالق واحد، فلابد من التنبيه على تخريج النصب على غير هذا الوجه فنقول: معنى قول النحاة
في المفعول له لابد وأن يكون فعل الفاعل: أي ولابد أن يكون الفاعل متصفا به. مثاله إذا قلت: جئتك إكراما
لك فقد وصفت نفسك بالاكرام، فقلت في المعنى: جئتك مكرما لك، والله تعالى وإن خلق الخوف والطمع
لعباده إلا أنه مقدس عن الاتصاف بهما، فمن ثم احتيج إلى تأويل النصب على المذهبين جميعا، والله أعلم.
قوله تعالى (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) الآية.
قال (إن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله " ثم إذا دعاكم " حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض؟
قلت: الإعادة في نفسها عظيمة ولكنها هونت بالنسبة إلى الانشاء) قال أحمد: إنما يلقى في السؤال تعظيم الإعادة
من عطفها بثم إيذانا بتغاير مرتبتها وعلو شأنها، وقوله في الجواب إنها هونت بالنسبة إلى الانشاء لا يخلص، فإن
الإعادة ذكرت ههنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره، وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة فيلزم تعظيم
الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه عن الانشاء ويعود الاشكال. والمخلص والله أعلم جعل ثم على بابها لتراخي
الزمان لا لتراخي المراتب، وإن سلم أنها لتراخي المراتب فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا ومرتبة المعطوف هي
الدنيا، وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع أرفع درجة من المعطوف عليه،
والله أعلم.
219

قوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه). قال (إن قلت: لم أخرت الصلة ههنا، وقد
قدمت في قوله تعالى - هو على هين -؟ قلت: لان المقصود مما نحن فيه خلاف المقصد هناك فإنه اختصاص الله
تعالى بالقدرة على إيلاد الهم والعاقر. وأما المقصد هنا فلا معنى للاختصاص فيه، كيف والامر مبنى على
ما يعتقدونه في الشاهد من أن الإعادة أسهل من الابتداء فالاختصاص يغير المعنى) قال أحمد: كلام نفيس يستحق
أن يكتب بذوب التبر لا بالحبر، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر وقد علمت مذهبه في مثل ذلك.
عاد كلامه. قال (في تقرير معنى قوله - وهو أهون عليه - الافعال إما ممتنع عقلا لذاته، وإما ممتنع لصارف يصرف
الحكيم عن فعله، وإما تفضل يتخير الحكيم فيه بين أن يفعل وأن لا، وإما واجب على الحكيم أن يفعله،
فالانشاء الأول من قبيل التفضل، وأما الإعادة فواجبة على الله تعالى لأجل الجزاء، فلما كانت واجبة كانت
220

أبعد الافعال عن الممتنع فلذلك وصفت بالتسهيل وكانت أهون من الانشاء) قال أحمد: لقد ضل وصد عن
السبيل فلا نوافقه ولا نرافقه. والحق أن لا واجب على الله تعالى، وكل ما ذكره في هذا الفصل نزغات قدرية على
أنها أيضا غير مستقيمة على أصولهم المجتثة فإن مقتضاها وجوب الانشاء في الحكمة، إذ لولا مصلحة اقتضت
الانشاء لما وقع وتلك المصلحة توجب متعلقها، فقد وضح أن المصنف لا إلى معالى السنة رقى ولا في حضيض
الاعتزال بقى، فلله العصمة.
221

القول في سورة لقمان
(بسم الله الرحمن الرحيم)
228

قوله تعالى (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه) الآية (ذكر في ذلك اختلاف العلماء في نبوته، وذكر أثناء
ذلك أنه خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة) قال أحمد: وفي هذا بعد وذلك أن الحكمة داخلة في النبوة وقطرة
من بحرها وأعلى درجات الحكماء تنحط عن أدنى درجات الأنبياء بما لا يقدر قدره، وليس من الحكمة اختيار
الحكمة المجردة من النبوة.]
231

قوله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) قال (معناه: ما ليس بشئ،
وعبر بنفي العلم عن نفي المعلوم) قال أحمد: هو من باب قوله * على لأحب لا يهتدى بمناره * اي ما ليس بإله
فيكون لك علم بالإلهية وليس كما ذكره في قول فرعون - ما علمت لكم من إله غيري - وقد مر معناه فيما تقدم.
قوله تعالى (حملته أمه وهنا على وهن) الآية، قال (فيه تخصيص حق الام وهو مطابق لبدايته، فذكرها
في وجوب البر في الحديث المأثور) قال أحمد: وهذا من قبيل ما يقوله الفقهاء إن للام من عمل الولد قبل الحلم جله
وهو مما يفيد تأكيد حقها والله أعلم.
232

قوله تعالى (إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة) قال فيه (هذا من البديع الذي يسمى التتميم)
قال أحمد: يعني أنه تمم خفائها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة، وهو من وادي قولها * كأنها علم في رأسه نار *
233

قوله تعالى (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) قال (شبه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطر إلى الشئ الذي
لا يقدر على الانفكاك منه) قال أحمد: وتفسير هذا الاضطرار في الحديث في أنهم لشدة ما يكابدون من النار
235

يطلبون البرد فيرسل الله عليهم الزمهرير فيكون عليهم كشدة اللهب فيتمنون عود اللهب اضطرارا، فهو إخبار عن
اضطرار، وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث يقول:
يرون الموت قداما وخلفا * فيختارون والموت اضطرار
236

قوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم) إلى قوله (شيئا) قال (إن قلت: لم أكد الجملة الثانية دون الأولى.
قلت: لان أكثر المسلمين كان آبائهم قد ماتوا على الكفر، فلما كان إغناء الكافر عن المسلم بعيد لم يحتج تأكيدا.
ولما كان إغناء المسلم عن الكافر قد يقع في الأوهام أكد نفيه) قال أحمد: وهذا الجواب تتوقف صحته على أن هذا
الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ، والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطلق عليه اسم الناس، فالجواب المعتبر
والله أعلم أن الله تعالى لما أكد الوصية على الاباء وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل وأوجب على الولد أن
يكفي والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه، قطع ههنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه بحقه عليه
ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة، كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه، فلما كان إجزاء الولد عن الوالد
مظنون الوقوع لان الله حضه عليه في الدنيا، كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم ولا كذلك العكس، فهذا
جواب كاف شاف للعليل إن شاء الله تعالى.
238

القول في سورة السجدة
(بسم الله الرحمن الرحيم)
239

قوله تعالى (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) قال (يعني قريشا لأنها لم يبعث لها نبي قط. فإن قلت:
إن لم يتقدم بعث نبي إليهم فبم قامت عليه الحجة؟ قلت: قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا
بالرسل لا سبيل إليه، وأما قيامها بمعرفة الله تعالى وتوحيده وحكمته فنعم لان أدلة العقل معهم في كل زمان) قال
أحمد: مذهب أهل السنة أنه لا يدرك علم شئ من أحكام الله تعالى التكليفية إلا بالشرع، وما ذكره الزمخشري
تفريع على قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل، وقد مجها السمع فلم يبح بها القلم فأعرض عنه حتى يخوض في حديث
غيره، إنما قامت الحجة على العرب بمن تقدم من الرسل إليهم كأبيهم إسماعيل وغيره، والمراد بقوله تعالى - ما أتاهم
من نذير - يعني ذرية العرب في زمانه عليه الصلاة والسلام، إذ لم يبعث إليهم نذير معاصر، فلطف الله تعالى بهم
وبعث فيهم رسولا منهم صلى الله عليه وسلم.
240

قوله تعالى (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) قال (معناه: بما كنتم تعملون من الكفر والكبائر الموبقة)
قال أحمد: قد تمهد من مذاهب أهل السنة أن المقتضى لاستحقاق الخلود في العذاب هو الكفر خاصة، وأما
ما دونه من الكبائر فلا يوجب خلودا، والمسألة سمعية وأدلتها من الكتاب والسنة قطعية خلافا للقدرية.
قوله تعالى (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) قال (هذا حسم لاطماع المتمنين)
243

قال أحمد: يشير إلى أهل السنة لاعتقادهم أن المؤمن العاصي موعود بالجنة ولابد من دخوله إياها وفاء بالوعد
الصادق، وأن أحدا لا يستحق على الله بعمله شيئا، فلما وجد قوله تعالى - جزاء بما كانوا يعملون - اغتنم الفرصة
في الاستشهاد على معتقد القدرية في أن الأعمال أسباب موجبة للجزاء، ولا دليل في ذلك لمعتقدهم مع قوله صلى
الله عليه وسلم " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل
منه ورحمة " فهذا الحديث يوجب حمل الآية على وجه يجمع بينها وبينه، وذلك إما أن تحمل الآية على أن المراد منها
قسمة المنازل بينهم في الجنة فإنها على حسب الأعمال وليس بذاك، فإن المذكور في الآية مجرد دخول الجنة لا اقتسام
درجاتها، وإما أن تحمل وهو الظاهر والله أعلم على أن الله تعالى لما وعد المؤمن جنته ووعده يجب يكون حقا
وصدقا تعالى وتقدس صارت الأعمال بالوعد كأنها أسباب موجبات فعوملت في هذه العبارة معاملتها، والمقصود
من ذلك تأكيد صدق الوعد في النفوس وتصوره صورة المستحق بالعمل كالأجرة المستحقة شاهدا على العمل من
باب مجاز التشبيه والله أعلم. وذكر الزمخشري الحديث المشهور وهو " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا
أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرءوا إن شئتم - فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين - وكان جدي رحمه الله
يستحسن أن تقرأ الآية تلو الآية المذكورة بسكون الياء من أخفى ورده إلى المتكلم، وهي من القراءات المستفيضة،
والسبب في اختيار ذلك مطابقة صدر الحديث وهو " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت " ليكون
الكل راجعا إلى الله تعالى مسندا إلى ضمير اسمه عز وجل صريحا، والله الموفق.
قوله تعالى (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار) قال (سبب نزولها أنه شجر بين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
244

والوليد بن عقبة يوم بدر كلام، فقال له الوليد: أسكت فإنك صبي أنا أشك منك شبابا وأجلد جلدا وأذرب
لسانا وأحد منك سنانا وأشجع جنانا وأملا حشوا في الكتيبة، فقال له علي: اسكت فإنك فاسق. قال الزمخشري:
فنزلت عامة للمؤمنين والكافرين تتناولهما معا) قال احمد: ذكر للسبب المحقق لان المراد بالفاسق وبالذين فسقوا
الذين كفروا لأنها نزلت في الوليد وهو كافر حينئذ، ثم أدرج فيه المؤمن تعصبا لمذهبه في وجوب خلود فاسق
المؤمنين كفساق الكافرين، فلم يزل يورد هذه العقائد الفواسد، ولقد اتسع الخرق على الراقع.
قوله تعالى (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) قال (معناه: لعلهم يتوبون.
فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة ولعل من الله إرادة وإذا أراد الله شيئا كان وتوبتهم مما لا يكون
لانهم لو تابوا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تعالى تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد
شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع للاقتدار وخلوص الداعي. وأما أفعال عباده، فإما أن يريدها وهم مختارون لها أو
مضطرون إليها بقسره، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم
أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك الطاعة لك وهو لا يختارها
لان اختيارها لا يتعلق بقدرتك فلا يكون فقده عجزا منك) قال أحمد: هذا الفصل ردئ جدا مفرع على الاشراك
الجلي لا على الاشراك الخفي، فاعتصم بدليل الوحدانية على رده واجتنابه من أصله والله المستعان، وإنما جره في
تفسير لعل إلى الإرادة والحق في تفسيرها أنها لترجى المخاطبين امتناع الترجي على الله تعالى، كذا فسرها سيبويه
فيما تقدم، والله أعلم.
245

قوله تعالى (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) قال: أسد ما ذكر فيه من التأويلات أنهم كانوا يدعون
لابن خطل قلبين، فنفى الله صحة ذلك وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة كجعل الأدعياء أبناء والزوجات
أمهات. قال: وهذه الأمور الثلاثة متنافية: أما الأول فلأنه يلزم من اجتماع القلبين قيام أحد المعنيين بأحدهما
وضده في الاخر وذلك كالعلم والجهل والامن والخوف وغير ذلك. وأما الثاني فلأن الزوجة في مقام الامتهان والام
في محل الاكرام فنافى أن تكون الزوجة أما. وأما الثالث فلأن البنوة أصالة وعراقة والدعوة لاصقة عارضة فهما
متنافيان، وذكر الجوف ليصور به بصورة اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع بالانكار.
249

قوله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) الآية، قال فيه (قدم النبي صلى الله عليه وسلم
على نوح لانهم ذكروا تخصيصا بعد التعميم تفضيلا لهم فقدم أفضل المخصوصين) قال أحمد: وليس التقديم
في الذكر بمقتض لذلك، ألا ترى إلى قوله:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه * علي ومنهم أحمد المتخير
فأخر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليختم به تشريفا له، وإذا ثبت التفضيل ليس من لوازمه التقديم فيظهر
والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام على نوح ومن بعده في الذكر أنه هو المخاطب من بينهم والمنزل عليه
هذا المتلو فكان تقديمه لذلك، ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام جرى ذكر الأنبياء صلوات الله عليهم بعده
على ترتيب أزمنة وجودهم، والله أعلم.]
252

قوله تعالى (لستن كأحد من النساء) قال فيه (معناه: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء: أي إذا تقصيت
أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومثله - لم يفرقوا بين أحد منهم -)
قال أحمد: إنما بعثه على جعل التفضيل بين نساء النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام وبين جماعات النساء لا آحداهن أن
يطابق بين المتفاضلين لان الأول جماعة وقد كان مستغنيا عن ذلك بحمل الكلام على واحدة، ويكون المعنى:
أبلغ والتقدير ليست واحدة منكن كأحد من النساء أي كواحدة من النساء، ويلزم من تفضيل كل واحدة منهن على
كل واحدة من آحاد النساء تفضيل جماعتهن على كل جماعة ولا يلزم ذلك في العكس فتأمله والله أعلم. وجاء
259

التفضيل ههنا كمجيئه في قوله تعالى - أفمن يخلق كمن لا يخلق - وقوله - وليس الذكر كالأنثى - في تقديم الأفضل
عند التفضيل، وقد مضت في ذلك نكتة حسنة، والله الموفق.
260

قوله تعالى (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور) الآية. قال (إن جعلت يصلى
بمعنى يترحم فما بال عطف الملائكة عليه؟ فأجاب بأنهم لما كانوا يدعون الله بالرحمة ويستجيب دعاءهم بذلك جعلوا
كأنهم فاعلون الرحمة كما تقول حياك الله بمعنى أحياك، ثم تقول حييته بمعنى دعوت الله له بالحياة، والمقصد بذلك
جعل الحياة محققة له، كأنك قلت: دعوت له بالحياة فاستجيبت الدعوة) قال أحمد: كثير ما يفر الزمخشري من اعتقاد
إرادة الحقيقة والمجاز معا بلفظ واحد، وقد التزمه ههنا ولكن جعل الصلاة من الله حقيقة ومن الملائكة مجازا لأنه
حلها على الرحمة، وأما غيره فحملها على الدعاء وجعلها من الملائكة حقيقة ومن الله مجازا، والله أعلم.
265

قوله تعالى (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك
فيها إلا قليلا) قال فيه (المراد بقوله تعالى - إلا قليلا - ريثما يلتقطون عيالاتهم وأنفسهم لا غير) قال أحمد: وفيها إشارة
إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى
يتحصل له منزل آخر على حسب الاجتهاد، والله أعلم.
274

القول في سورة سبأ
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة) قال فيه (الحمد الأول
واجب لأنه على نعمة متفضل بها، والثاني ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة على المنعم) قال أحمد: والحق في
الفرق بين الحمدين أن الأول عبادة مكلف بها، والثاني غير مكلف به ولا متكلف، وإنما هو في النشأة الثانية
كالجبليات في النشأة الأولى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس " وإلا فالنعمة
الأولى كالثانية بفضل من الله تعالى على عباده لا عن استحقاق، والله الموفق.
278

قوله تعالى (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) قال (لما ألزمهم الحجة في قوله - قل ادعوا الذين
زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير -
وهلم جرا إلى الآية المذكورة، وهذا الالزام إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه أمره أن يقول - وإنا أو
إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين - ومعناه: أن أحد الفريقين من الموحدين الرازق من السماوات والأرض
288

بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة لعلى أحد الامرين والضلال،
وهذا من كلام المنصف الذي كل من سمعه من مرافق أو مخالف قال للمخاطب به قد أنصفك صاحبك، والتعريض
أفضل بالمجادل إلى الغرض وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل
لصاحبه: الله يعلم الصادق منى ومنك وإن أحدنا لكاذب، ومنه قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء)
قال أحمد: وهذا تفسير مهذب وافتتان مستعذب رددته على مسعي فزاد رونقا بالترديد واستعاده الخاطر كأني بطئ
الفهم حين يفيد، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخرو الفقهاء في مجادلاتهم
ومحاوراتهم وذلك قولهم أحد الامرين لازم على الابهام، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد فتأمله، والله الموفق.
قوله تعالى (قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون) قال (وهذا القول أدخل في الانصاف من الأول
حيث أسند الاجرام إلى النفس وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو عنها مؤمن، وأسند العمل إلى المخاطبين وأراد
به الكفر والمعاصي والكبائر) قال أحمد: فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم، وعن العظائم بما يعبر به عن
289

الهفوات التزاما للانصاف، وزيادة على ذلك أنه ذكر الاجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الذي يعطى
تحقيق المعنى، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما يعطى ذلك، والله أعلم.
290

القول في سورة الملائكة
بسم الله الرحمن الرحيم)
297

قوله تعالى (هل من خالق غير الله يرزقكم) الآية، قال فيه (إن قلت: ما محل يرزكم؟ قلت: يحتمل أن
يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق، وأن لا يكون له محل إذا جعلته تفسيرا وجعلت من خالق مرفوع المحل بفعل يدل
عليه هذا، كأنه قيل: هل يرزكم خالق غير الله، أو جعلت يرزكم كلاما مبتدأ) قال أحمد: والوجه المؤخر
أوجهها. عاد كلامه، قال (فإن قلت: هل فيه دليل على أن الخالق لا يطلق على غير الله تعالى؟ قلت: نعم إن
جعلت يرزكم كلاما مبتدأ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة. وأما على الوجهين الآخرين وهما الوصف
والتفسير فقد تقيد فيهما بالرزق من السماوات والأرض وخرج من الاطلاق فكيف يستشهد به على نفيه مطلقا)
قال أحمد: القدرية إذا قرعت هذه الآية أسماعهم قالوا بجرأة على الله تعالى: نعم ثم خالق غير الله، لان كل أحد
عندهم يخلق فعل نفسه، فلهذا رأيت الزمشخري وسع الدائرة وجلب الوجوه الشاردة النافرة، وجعل الوجهين
يطابقان معتقده في إثبات خالق غير الله ووجهها هو الحق والظاهر وأخره في الذكر تناسيا له. والذي يحقق الوجه
الثالث وأنه هو المراد أن الآية خوطب بها قوم على أنهم مشركون إذا سئلوا عن رازقهم من السماوات والأرض
قالوا الله، فقرروا بذلك وقرعوا به إقامة للحجة عليهم بإقرارهم، ولو كان على غير هذا الوجه قيدا لكان مفهومه
299

إثبات خالق غير الله لكنه لا يرزق، وهؤلاء الكفرة قد تبرءوا عن ذلك فلا وجه لتقريعهم بما يلائم قولهم هذا
ترجيح الوجه الثالث من حيث مقصود سياق الآية، وأما من حيث النظم اللفظي فلأن الجملتين اللتين هما قوله:
يرزقكم، وقوله: لا إله إله إلا هو، سيقتا سياقا واحدا، والثانية مفصولة اتفاقا مما تقدم فكذلك: وزينتها.
قوله تعالى (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا) الآية. قال (معناه: ولا يقولن لكم
الشيطان اعملوا ما شئم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة) قال أحمد: هو يعرض بأهل السنة في
اعتقادهم جواز مغفرة الكبائر للموحد وإن لم يكن توبة، وهذا لا يناقض صدق وعده تعالى لان الله تعالى حيث
توعد على الكبائر قرن الوعد بالمشيئة في مثل قوله لهم - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء - فهم إذا مصدقون بوعد الله تعالى موقنون به على حسب ما ورد.
300

قوله تعالى - ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات
308

بإذن الله) قال (يعني بالمصطفين أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم قسمتهم الآية إلى ظالم لنفسه وهو المرجأ لأمر
الله، وإلى مقتصد وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. والى سابق، ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف
جعل الجنات بدلا من الفضل الكبير وذلك في تتمة الآية في قوله - ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل
الكبير جنات عدن يدخلونها - قلت: لان الإشارة بالفضل إلى السبق بالخيرات وهو السبب في الجنات ونيل
الثواب، فأقام السبب مقام المسبب، وفي اختصاص السابقين بذكر الجزاء دون الآخرين ما يوجب الحذر،
فليحذر المقتصد وليملك الظالم لنفسه حذرا، وعليهما بالتوبة النصوح ولا يغترا بما رواه عمر رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له " فإن شرط ذلك صحة التوبة فلا يعلل
نفسه بالخدع) قال أحمد: وقد صدرت هذه الآية بذكر المصطفين من عباد الله، ثم قسمتهم إلى الظالم والمقتصد
والسابق ليلزم اندراج الظالم لنفسه من الموحدين في المصطفين وأنه لمنهم، وأي نعمة أتم وأعظم من اصطفائه
للتوحيد والعقائد السالمة من البدع، فما بال المصنف يطنب في التسوية بين الموحد المصطفى والكافر المجترى، وقوله
جنات عدن يدخلونها - الضمير فيه راجع إلى المصطفين عموما، والجنات جزاؤهم على توحيدهم جميعا. وإعرابها
جنات مبتدأ ويدخلونها - الخبر، وقوله - يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير - إلى آخر الآية
خبر بعد خبر وخير على خير، والله المستعان.
309

القول في سورة يس
(بسم الله الرحمن الرحيم)
313

(يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم) قال فيه (إن قلت: ما سر قوله - على صراط مستقيم -
وقد علم بكونه من المرسلين أنه كذلك؟ وأجاب بأن الغرض وصفه ووصف ما جاء به فجاء بالوصفين في نظام واحد
فكأنه قال: إنك لمن المرسلين على طريق ثابت. وأيضا ففي تنكير الصراط أنه مخصوص من بين
الصراط المستقيمة بصراط لا يكتنه وصفه انتهى كلامه) قال أحمد: قد تقدم في مواضع أن التنكير قد يفيد
تفخيما وتعظما وهذا منه.
قوله تعالى (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) قال فيه إنه على الوصف كقوله - لتنذر قوما ما أتاهم من نذير - قال
وقد فسر ما أنذر آباؤهم على إثبات الانذار على أن ما مصدرية أو موصولة قال: والفرق بين موقع الفاء على
التفسيرين أنها على الأول متعلقة بالنفي معنى جوابك، والمعنى: أن نفي إنذارهم هم هو السبب في غفلتهم. وعلى الثاني
بقوله - إنك لمن المرسلين - لتنذر كما تقول أرسلناك إلى فلان لتنذره فإنه غافل أو فهو غافل انتهى. قلت:
يعني أنها على التفسير الثاني تفهم أن غفلتهم سبب في انذارهم. قال: فإن قلت: كيف يكونون منذرين على هذا
التفسير غير منذرين في قوله - ما أتاهم من نذير من قبلك - وأجاب بأن الآية لنفي إنذارهم لا لنفي إنذار آبائهم، وآباؤهم
القدماء من ولد إسماعيل وقد كانت النذارة فيهم. قال: فما تصنع بأحد التفسيرين الذي مقتضاه أن آباؤهم لم ينذروا
وهو التفسير الأولى في هذه الآية مع التفسير الثاني ومقتضاه أنهم أنذروا؟ وأجاب بأن آباءهم الأباعد هم المنذرون
آباؤهم الأدنون، قال: ثم مثل تصميمهم على الكفر وأنهم لا يرعوون ولا يرجعون بأن جعلهم كالمغلولين]
314

المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يطأطئون رؤوسهم له وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا
ما خلفهم. قال: والضمير للاغلال لان طوق الغل يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نارا
من الحلقة إلى الذقن فلا تخليه يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحا انتهى كلامه. قلت: إذا فرقت هذا التشبيه كان
تصميمهم على الكفر مشبها بالاغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق وعن الخضوع والتواضع لاستماعه مشبها
بالاقماح لان المقمح لا يطأطئ رأسه، وقوله - فهي إلى الأذقان - تتمة للزوم الاقماح لهم، وكان عدم الفكر في
القرون الخالية مشبها بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم. قال: فإن قلت:
فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق وبذلك يسمى جامعة كان ذكر
الأعناق دالا على ذكر الأيدي. وأجاب بأن الوجه هو الأول، واستدل على هذا التفسير الثاني بقوله فهم مقمحون
لأنه جعل الاقماح نتيجة قوله - فهي إلى الأذقان - ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا
وترك الحق لابلج للباطل اللجلج انتهى كلامه. قلت: ويحتمل أن تكون الفاء للتعقيب كالفاء في الأولى في قوله
- فهي إلى الأذقان - أو للتسبب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الاقماح، فإن اليد والعياذ بالله
تعالى تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن دافعة بها ومانعة من وطأتها ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فإن اليد متى
كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها، ولعله يتحيل بها على فكاك الغل، ولا كذلك إذا كانت
مغلولة فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر
المقدر عليهم مشبها بغل الأيدي، فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص.]
315

قوله تعالى (إنما تنذر من أتبع الذكر) الآية، إن قلت: قد ذكر على ما دل على انتفاء إيمانهم مع
ثبوت الانذار ثم قفاه بقوله إنما تنذر، وإنما كانت التقفية تصح لو كان الانذار منفيا. وأجاب بأن الامر كذلك
ولكن لما بين أن البغية المرومة بالانذار وهي الايمان منفية عنهم قفاه بقوله - إنما تنذر - أي إنما تحصل بغية الانذار
ممن اتبع الذكر. انتهى كلامه. قلت: في السؤال سوء أدب، وينبغي أن يقال: وما وجه ذكر الانذار الثاني
في معرض المخالفة للأول مع أن الأول إثبات والانذار الثاني كذلك؟
316

قوله تعالى (إنا إليكم مرسلون) قال (إن قلت: لم أسقط اللام هنا وأثبتها في الثانية عند قوله - ربنا يعلم إنا
إليكم لمرسلون - قلت: الأول ابتداء إخبار والثاني جواب إنكار) قال أحمد: أي فلاق توكيده.
318

قوله تعالى (وإن كل لما جميع لدنيا محضرون) قال فيه (إن قلت: لم أخبر عن كل بجميع ومعناهما واحد.
وأجاب بأن كلا تفيد الإحاطة حتى لا ينفلت عنهم أحد، وجميع تفيد الاجتماع وهو فعيل بمعنى مفعول وبينهما
فرق انتهى كلامه) قال أحمد: ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعا لكل لأنه أخص منه وأزيد معنى.
قوله تعالى (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) الآية، قال (يجوز أن يكون أحييناها صفة للأرض، وصح
ذلك لان المراد بالأرض الجنس ولم يقصد بها أرض معينة، وأن يكون بيانا لوجه الآية فيها) قال أحمد: وغيره من
321

النحاة يمنع وقوع الجملة صفة للمعرف وإن كان جنسيا وليس الغرض منه معينا، ويراعى هذا المانع المطابقة
اللفظية في الوصفية، ومنه: * ولقد أمر على اللئيم يسبني *.
322

قوله تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) قال فيه (معناه أن كل واحد منهما
لا يدخل على الاخر في سلطانه فيطمس نوره، بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى. قال: فإن قلت: لم جعلت
الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؟ قلت: لان الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة والقمر يقطع فلكه
في شهر، فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف الادراك والقمر لسرعته جديرا بأن يوصف بالسبق. انتهى
كلامه) قلت: يؤخذ من هذه الآية أن النهار تابع لليل وهو المذهب المعروف للفقهاء، وبيانه من الآية أنه جعل
الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل. وإنما نفى الادراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع وذلك
يستدعى تقدم القمر وتبعية الشمس، فإنه لا يقال أدرك السابق اللاحق، ولكن أدرك اللاحق السابق، وبحسب
الامكان توقيع النفي، فالليل إذا متبوع والنهار تابع. فإن قيل: هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار وقد
صرحت الآية بأنه ليس سابقا؟ فالجواب أن هذا مشترك الالزام، وبيانه أن الأقسام المحتملة ثلاثة: إما تبعية النهار
لليل وهو مذهب الفقهاء، أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة، أو اجتماعهما. فهذا القسم الثالث منفي
باتفاق فلم يبق إلا تبعية النهار لليل وعكسه، وهذا السؤال وارد عليهما جميعا لان من قال: إن النهار سابق الليل لزمه
أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال: ولا الليل يدرك النهار، فإن المتأخر إذا نفى إدراكه كان أبلغ من نفي سابقه مع
323

أنه يتناءى عن مقتضى قوله - لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر - تنائيا لا يجمع شمل المعنى باللفظ، فإن الله تعالى
نفى أن تكون مدركة فضلا عن أن تكون سابقة، فإذا أثبت ذلك فالجواب المحقق عنه أن المنفى السبقية الموجبة لتراخي
النهار عن الليل وتخلل زمن آخر بينهما، وحينئذ يثبت التعاقب وهو مراد الآية. وأما سبق أول المتعاقبين للاخر
منهما فإنه غير معتبر، ألا ترى إلى جواب موسى بقوله - هم أولاء على أثرى - فقد قربهم منه عذرا عن قوله
تعالى - وما أعجلك عن قومك - فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره، فكيف لو كان متقدما وهم في عقبه
لا يتخلل بينهم وبينه مسافة، فذاك لو اتفق لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقا، فحينئذ يكون القول
بسبقية النهار لليل مخالفا صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل، فإن بين عدم الادراك الدال على التأخير والتبعية
وبين السبق بونا بعيدا ومخالفا أيضا لبقية الآية، فإنه لو كان الليل تابعا ومتأخرا لكان أحرى أن يوصف بعدم
الادراك ولا يبلغ به عدم السبق، ويكون القول بتقدم الليل على النهار مطابقا لصدر الآية صريحا ولعجزها بوجه
من التأويل مناسب لنظم القرآن وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده، والله الموفق للصواب من القول
وتسديده.
قوله تعالى (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم) إلى قوله (ومتاعا إلى حين) قلت: من هنا أخذ أبو الطيب:
324

ولم أسلم لكي أبقى ولكن * سلمت من الحمام إلى الحمام
لأنه تعالى أخبر أنهم إن سلموا من موت الغرق فتلك السلامة متاع إلى حين: أي إلى أجل يموتون فيه ولابد.
325

قوله تعالى (في شغل فاكهون). قلت: هذا مما التنكير فيه للتفخيم كأنه قيل: في شغل أي شغل، وكذا
قوله تعالى - سلام قولا من رب رحيم - ومنه قوله تعالى - وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم - قال: ومعناه لا صراط
أقوم منه، والتنكير يفيد ذلك إفادته إياه في قول كثير عزة: فإن كان يهدي برد أنيابها العلا * لافقر منى.... البيت
ولولا ذلك لم يستقم معنى البيت قال: ويجوز أن يكون معناه: هذا صراط أقل الأحوال فيه أن يعتقد أنه
مستقيم، كما يقول الرجل لولده: هذا فيما أظن قول نافع غير ضار، توبيخا له على الاعراض عن نصائحه.
326

قوله تعالى (ومن نعمره ننكسه في الخلق) قال: فيه مناسبة لقوله - ولو نشاء لطمسنا على أعينهم - من حيث
إنه استدلال بقدرته على رده إلى أرذل العمر وإلى الضعف بعد القوة كما أنه قادر على طمس أعينهم والله أعلم.
329

القول في سورة والصافات
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا) الآيات قال في تفسيرها: المقسم به طوائف
الملائكة أو نفوسهم، والمراد صفهم في الصلاة وزجرهم السحاب: أي سوقهم وتلاوتهم ذكر الله، أو العلماء
والمراد تصافف أقدامهم في الصلاة وزجرهم بالمواعظ عن المعاصي وتلاوتهم الذكر أو الغزاة يصفون في الحرب
ويزجرون الخيل ولا يشغلهم ذلك عن تلاوة الذكر. فإن قلت: ما حكم الفاء العاطفة للصافات. وأجاب بأنها
تقع لثلاثة أوجه: إما لتعاقب وقوع الصفاة وجودا كقوله:
333

يا لهف زيابة للحرث * الصابح فالغانم فالأيب
أو على ترتبها لتفاوتها من بعض الوجوه كقولك: اعمل الأحسن فالأجمل، وإما لترتب موصوفاتها كقوله " رحم
الله المحلقين بالمقصرين " فعلى هذا إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته
فهي للدلالة على ترتيب الموصوفات فيه، ومعنى توحيدها أن تعتقد أن صنفا مما ذكر في التفاسير المذكورة جامع
للصفات الثلاثة ويجوز أولى الصفات وأفضلها أو على العكس، ومعنى تثليثها أن تجعل كل صفة لطائفة، ويكون
التفاضل بين الطوائف إما على الأول هو الأفضل أو على العكس انتهى كلامه. قلت: قد جوز أن يكون ترتبها
في التفاضل على أن الأول هو الأفضل وعلى العكس، ولم يبين وجه كل واحد منهما من حيث صنعة البديع،
ونحن نبينه فنقول: وجه البداءة بالأفضل الاعتناء بالأهم فقدم ووجه عكس هذا الترقي من الأدنى إلى الاعلى،
ومنه قوله:
بهاليل منهم جعفر وابن أمه * علي ومنهم أحمد المتخير
ولا يقال: إن هذا إنما ساغ لان الواو لا تقتضي رتبة فإن هذا غايته أنه غدر، وما ذكرناه بيان لما فيه من مقتضى
334

البديع والبلاغة، وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل - والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى -
فإنهما يقولان لان الواو الثانية وما بعدها عواطف، وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم فوقوع الفاء في هذه
الآية موقع الواو والمعنى واحد، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا
السياق للعطف لا للقسم.
قوله تعالى (وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون) أبطل أن يكون لا يسمعون صفة لان الحفظ من شيطان
لا يسمع لا معنى له، وأبطل أن يكون أصله لئلا يسمعوا فحذف اللام وحذفها كثير، ثم حذف أن وأهدر عملها
مثل:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
واستبعد اجتماع هذين الحذفين وإن كان كل واحد منهما بانفراده سائغا، ولما أبطل هذين الوجهين تعين عنده
أن يكون ابتداء كلام اقتصاصا لما عليه أحوال المسترقة للسمع اه‍ كلامه. قلت: كلا الوجهين مستقيم، والجواب
335

عن إشكاله الوارد على الوجه الأول أن عدم سماع الشيطان سببه الحفظ منه، فحال الشيطان حال كونه محفوظا
منه هي حاله كونه لا يسمع، وإحدى الحالين لازمة للأخرى، فلا مانع أن يجتمع الحفظ منه وكونه
موصوفا بعدم السماع في حالة واحدة، لا على أن عدم السماع ثابت قبل الحفظ بل معه وقسيمه، ونظير هذه الآية
على هذا التقدير قوله تعالى - وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره - فقوله تعالى
- مسخرات - حال مما تقدمه العامل فيه الفعل الذي هو سخر، ومعناه مستقيم لان تسخيرها يستلزم كونها مسخرة،
فالحال التي سخرت فيها هي الحال التي كانت فيها مسخرة لا على معنى تسخيرها مع كونها مسخرة قبل ذلك، وما
أشار له الزمخشري في هذه الآية قريب من هذا التفسير، إلا أنه ذكر معه تأويلا آخر كالمتشكل لهذا الوجه،
فجعل مسخرات مصدر كممزق، وجعل المعنى: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر أنواعا من
التسخير، وفيما ذكرناه كفاية، ومن هذا النمط - ثم أرسلنا رسلنا - وهم ما كانوا رسلا إلا بالارسال، وهؤلاء
ما كانوا لا يسمعون إلا بالحفظ، وأما الجواب عن إشكاله الثاني فورود حذفين في مثل قوله تعالى - يبين الله
لكم أن تضلوا - وأصله لئلا تضلوا فحذف اللام ولا جميعا من محليهما.
336

قوله تبارك وتعالى (يطاف عليهم بكأس من معين) إلى قوله (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) قال فيه:
معناه - يتساءلون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب:
وما بقيت من اللذات إلا * أحاديث الكرام على المدام
340

قوله تعالى (هل أنتم مطلعون) قال: فأطلع على صيغة المضارع المنصوب، قال في موجب هذه القراءة:
إن معناها أنه لا يستبد بأمر دونهم فشرط في اطلاعه اطلاعهم وذلك من آداب المجالسة.
341

قوله تعالى (والله خلقكم وما تعملون) قال فيه: يعنى خلقكم وما تعملون من الأصنام كقوله - بل ربكم رب
السماوات والأرض الذي فطرهن - فإن قلت: كيف يكون الشئ الواحد مخلوقا لله تعالى معمولا لهم. وأجاب بأن
هذا كما يقال عمل النجار الباب، فالمراد عمل شكله لا جوهره، وكذلك الأصنام جواهرها مخلوقة لله تعالى وأشكالها
وصورها معمولة لهم. فإن قلت: ما منعك أن تكون ما مصدرية لا موصولة ويكون المعنى: والله خلقكم وعملكم
كما يقول المجبرة؟ وأجاب بأن أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه بالحجج العقلية أن معنى الآية يأباه، فإن
الله تعالى احتج عليهم بأنه خلق العابد والمعبود فيكف يعبد المخلوق المخلوق، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة
المعبود، قال: ولو قلت والله خلقكم وعملكم لم يكن للكلام طباق، وشئ آخر، وهو أن قوله وما تعملون شرحه
في قوله: أتعبدون ما تنحتون، ولا مقال في أن ما هذه موصولة فالتفرقة بينهما تعسف وتعصب. قال: فإن قلت:
أجعلها موصولة ومعناها وما تعملونه من أعمالكم وحينئذ توافق الأولى في أنها موصولة فلا يلزمني التفرقة بينهما،
345

وأجاب فقال: بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق، وذلك أنك وإن جعلتها موصولة فهي واقعة
عندك على المصدر الذي هو جوهر الصنم، وفي ذلك فك للنظم وتبتير كما لو جعلتها مصدرية انتهى كلامه. قلت:
إذا جاء سيل الله ذهب سيل معقل، فتقول: يتعين حملها على المصدرية، وذلك أنهم لم يعبدوا هذه الأصنام من
حيث كونها حجارة ليست مصورة، فلو كان كذلك لم يتعاونوا في تصويرها ولا اختصوا بعبادتهم حجرا دون
حجر، فدل أنهم إنما يعبدونها باعتبار أشكالها وصورها التي هي أثر عملهم، ففي الحقيقة أنهم عبدوا عملهم وصلحت
الحجة عليهم بأنهم مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله، فقد ظهر أن الحجة قائمة عليهم على تقدير أن تكون
ما مصدرية أو ضح قيام وأبلغه، فإذا أثبت ذلك فليتتبع كلامه بالإبطال، أما قوله إنها موصولة وأن المراد بعملهم
لها عمل أشكالها فمخالف للظاهر، فإنه مفتقر إلى حذف مضاف في موضع اليأس يكون تقديره: والله خلقكم وما
تعملون شكله وصورته بخلاف توجيه أهل السنة فإنه غير مفتقر إلى حذف البتة، ثم إذا جعل المعبود نفس الجوهر
فكيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من عمل العابد مع موافقته على أن جواهر الأصنام ليست من عملهم، فأم
هو من عملهم وهو الشكل ليس معبودا لهم على هذا التأويل، وما هو معبودهم وهو جوهر الصنم ليس من عملهم فلم
يستقر له قرار في أن المعبود على تأويله من عمل العابد وعلى ما قررناه يتضح، وأما قوله إن المطابقة تنفك على تأويل
أهل السنة بين ما ينحتون وما يعملون فغير صحيح فإن لنا أن نحمل الأولى على أنها مصدرية وأنهم في الحقيقة إنما عبدوا
نحتهم لأن هذه الأصنام وهى حجارة قبل النحت لم يكونوا يعبدونها فلما عملوا فيها النحت عبدوها ففي الحقيقة
ما عبدوا سوى نحتهم الذي هو عملهم فالمطابقة إذا حاصلة والإلزام على هذا أبلغ وأمتن ولو كان كما قال لقامت لهم
الحجة ولقالوا كما يقول الزمخشري مكافحين لقوله " والله خلقكم وما تعملون " بأن يقولوا لا ولا كرامة ولا يخلق
الله ما نعمل نحن لأنا إنما عملنا التشكيل والتصوير وهذا لم يخلقه الله وكانوا يجدون الذريعة إلى اقتحام الحجة ويأبى
الله إلا أن تكون لنا الحجة البالغة ولهم الأكاذيب الفارعة فهذا إلزام بل إلجام لمن خالف السنة وغل بعنقه وعقر
بكتفه وضرب على يده حتى يرجع إلى الحق آيبا ويعترف بخطئه تائبا.
346

قوله تعالى (قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وقديناه بذبح عطيم) قال فيه:
348

فإن قلت: قد أوحى إلى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده ولم يذبح، وقيل له قد صدقت الرؤيا وإنما كان يصدقها
لو صح منه الذبح ولم يصح. فأجاب بأنه قد بذل وسعه وفعل ما يفعله الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على
حلقه، ولكن الله سبحانه منع الشفرة أن تمضى فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا
ولا مفرطا بل يسمى مطيعا ومجتهدا كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم، وليس هذا من ورود
النسخ على المأمور به قبل الفعل ولا قبل أو ان الفعل في شئ كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام عليه
انتهى كلامه. قلت: كل ما ذكر دندنة حول امتناع النسخ قبل التمكن من الفعل وتلك قاعدة المعتزلة، وأما أهل
السنة فيثبتون جوازه لأن التكليف ثابت قبل التمكن من الفعل فجاز رفعه كالموت وأيضا فكل نسخ كذلك لأن
القدرة على الفعل عندنا مقارنة لا متقدمة ثم يثبتون وقوعه بهذه الآية، ووجه الدليل منها أن إبراهيم عليه السلام أمر
بالذبح بدليل افعل ما تؤمر ونسخ قبل التمكن بدليل العدول إلى الفداء، فمن ثم تحوم الزمخشري على أنه فعل غاية
وسعه من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، وإنما امتنعت بأمر من الله تعالى وغرضه بذلك أحد أمرين:
إما أن يكون الأمر إنما توجه عليه بمقدمات الذبح وقد حصل لا بنفس الذبح، أو توجه الأمر بنفس الذبح
وتعاطيه ولكن لم يتمكن وكلا الأمرين لا يخلصه: أما قوله أمر بمقدمات الذبح فباطل بقوله - إني أرى في المنام
أنى أذبحك - وقوله - افعل ما تؤمر - وأما قوله لم يتمكن لأن الشفرة منعت بأمر من الله تعالى بعد تسليم الأمر بالذبح
فحاصله أنه لم يتمكن من الذبح المأمور به فكان النسخ إذا قبل التمكن وهو عين ما أنكره المعتزلة ولما لم يكن في هذين
الجوابين لهم خلاص لجأ بعضهم إلى تسليم أنه أمر بالذبح، ودعوى أنه ذبح ولكنه كان يلتحم وهو باطل
لا ثبوت له، وسياق الآية يخل دعواه ويفل ثنياه.
349

القول في سورة ص (بسم الله الرحمن الرحيم)
358

قوله تعالى (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد قال فيه: معناه اصبروا
فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد إن هذا لشئ يراد: أي يريده الله ويحكم بإمضائه، وما أراد الله كونه فلا مرد له
ولا ينفع فيه إلا الصبرا ه‍ كلامه.
360

قوله تعالى (أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب) قال: معناه لم يذوقوه
بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم الخ. قلت: ويؤخذ منه أن لما لائقة بالجواب، وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده
كما يقول سيبويه، وفرق بينها وبين لم بأن لم نفى الفعل بتوقع وجوده لم يقبل مثبته قد ولما نفى لما يتوقع وجوده أدخل
على مثبته قد، وإنما ذكرت ذلك لأنى حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام " والشفعة فيما لم يقسم "
فإني استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة، فقيل لي إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة، فإما
لأنها لا تقبل قسمة، وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة لم ومقتضاها قبول المحل
الفعل المنفى وتوقع وجوده، ألا تراك تقول الحجر لا يتكلم، ولو قلت الحجر لم يتكلم لكان ركيكا من القول
لإفهامه قبول الكلام.
قوله تعالى (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب) قال: ثم تهكم بهم غاية التهكم
361

فقال: إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة فكانت عندهم المعرفة التي يميزون بها بين من
هو حقيق بإيتاء النبوة دون من لا يستحق فيرتقوا في المعارج والطرق الموصلة إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا
أمر العالم وملكوت الله تعالى وينزلوا الوجى على من يختارون. قال: ثم خسأهم بقوله - جند ما هنالك مهزوم من
الأحزاب - معناه: إن هؤلاء إلا جند متحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم عما قليل يهزمون ويولون الأدبار اه‍
كلامه. قلت: الاستواء المنسوب لله ليس مما يتوصل إليه بالصعود في المعارج والوصول إلى العرش والاستقرار
عليه والتمكن فوقه، لأن الاستواء المنسوب إلى الله تعالى ليس استواء استقرار بجسم، تعالى الله عن ذلك، وإنما
هو صفة فعل: أي فعل فيه فعلا سماه استواء، هذا تأويل القاضي أبى بكر، وليست عبارة الزمخشري في هذا
الفصل مطابقة للمفصل على جارى عاداته في تحرير العبارة على مراده.
قوله تعالى (أولئك الأحزاب) قال فيه: قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم
منهم هم هم وأنهم الذين وجد التكذيب منهم اه‍ كلامه. قلت: وفي تكرار تكذيبهم فائدة أخرى وهى أن الكلام
لم طال بتعديد آحاد المكذبين ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم كرر ذلك مصحوبا بالزيادة
362

المذكورة ليلى قوله تعالى - فحق عقاب - على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام وهو كما قدمته في قوله
- وكذب موسى - حيث كرر الفعل ليقترن بقوله - فأمليت للكافرين -.
قوله عز وعلا (يسبحن بالعشى والإشراق) قال: الإشراق حين تشرق الشمس: أي يصفو نورها وهو
363

وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها، يقال شرقت الشمس ولما تشرق، ومنه أخذ ابن عباس صلاة الضحى.
قال: ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في وقت الشروق ويكون المراد وقت صلاة الفجر لانتهائه
بشروق الشمس اه‍ كلامه. قلت: الوجه الثاني يفرق بين العشى والإشراق، فإن العشى ظرف بال إشكال، فلو
حمل الإشراق على الدخول في وقت الشروق لكان مصدرا مع أن المراد به الظرف لأنه فعل الشمس وصفتها التي
تستعمل ظرفا كالطلوع والغروب وشبههما. عاد كلامه. إلى قوله تعالى (يسبحن) قال فيه: إن قلت: لم اختار
يسبحن على مسبحات وأيهما وقع كان حالا؟ وأجاب بأن اختيارهما لمعنى وهو الدلالة على حدوث التسبيح
شيئا بعد شئ كأن السامع محاضر لها فيسمعها تسبح، ومنه قول الأعشى: * إلى ضوء نار في يفاع تحرق *
ولو قال محرقة لم يكن شيئا. قلت: ولهذه النكتة فرق سحنون من أصحابنا بين أنا محرم يوم أفعل كذا بصيغة اسم
الفاعل وبين أحرم بصيغة المضارع، فرأى أن المعلق بصيغة اسم الفاعل يكون محرما بوجود صيغة التعليق ولا
كذلك المعلق بصيغة الفعل المضارع، فإنه لا يكون محرما حتى يحرم ويقال له أحرم، فكأنه رأى أن صيغة الفعل
خصوصية في الدلالة على حدوثه، ولا كذلك اسم الفاعل وإن كان متأخرا، وأصحابنا اختلفوا في معنى قول سحنون
في اسم الفاعل يكون محرما يوم يفعل، فمنهم من قال: أراد الفور فينشئ إحراما، ومنهم من قال: يكون محرما في الحال
بالتعليق الأول ولا يحدد شيئا، ومذهب مالك التسوية بين صيغتي اسم الفاعل والفعل في هذا المقام، والله أعلم.
وحقق الزمخشري هذا الفرق بين اسم الفاعل والفعل في قوله - والطير محشورة كل له أواب - فقال: لما كان
الواقع حشر الطير دفعة واحدة وكان ذلك أدل على القدرة لم يكن لاستعمال الفعل الدال على الحدوث شيئا
فشيئا معنى فاستعمل فيه اسم المفعول على خلاف استعمال الفعل في الأول.
364

قوله تعالى (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب) الآية: ذكر في تفسيرها فصلا أسرده على الاختصار
والإيجاز لتندرج حقا في فصل الخطاب قال: كان أهل زمان داود يسأل بعضهم بعضا النزول له عن امرأته إذا
أعجبته فيتزوجها، وقد روى مثله عن الأنصار، كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فوقعت عين داود عليه
السلام على امرأة أوريا فأعجبته، فسأله إيثاره أبا ليتزوجها فاستحيا منه فنزل عنها، فتزوجها وأولدها سليمان
366

فقيل له: إنك مع كثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها وكان الأفضل
قهر الهوى. وقيل خطبها أوريا ثم خطبها داود، فرغب إليه أهلها، فاندرج في الخاطب على خطبة أخيه. وأما
ما يذكر أن داود تمنى منزلة آبائه الأنبياء فقيل له إنهم ابتلوا فصبروا فسأل الابتلاء ليصبر، فقيل له إنك تبتلى يوم
كذا فاحترس ذلك اليوم، وأغلق عليه محرابه فتمثل له الشيطان في صورة حمامة ذهب، فمد يده ليأخذها لولد
صغير فطارت فتبعها فرأى المرأة قد نقضت شعرها، فبعث إلى أيوب صاحب بعث البلقاء أن قدم أوريا إلى
التابوت وهو من غزاة البلقاء، وكان المتقدم إليه يحرم عليه الرجوع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد، فقدم
فسلم فأمر بتقديمه مرة أخرى وثالثة فقتل، فلم يحزن عليه كحزنه على الشهداء، وتزوج امرأته المذكورة، فهذا
ونحوه مما يقبح الحديث به عن متسم بصلاح من آحاد المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد بن
المسيب أن علي بن أبي طالب قال: من حدثكم قصة داود كما يرويها القصاص جلدته مائة وستين حد الفرية
مضاعفا. روى أن عمر بن عبد العزيز حدثه رجل بذلك بحضرة عالم محقق فكذب الحديث بذلك وقال: إن كانت
القصة على ما في كتاب الله فالتماس خلافها فرية، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا لنبيه عليه السلام فما
ينبغي لك إظهار ما ستره الله تعالى، فقال عمر بن عبد العزيز: استماعي هذا الكلام أحب إلى مما طلعت عليه الشمس.
قال الزمخشري: والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله أن قصته ليست إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها
فقط، ثم نبه الزمخشري على محبئ الإنكار على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح، وذلك أن التعريض داع
إلى التأمل والتنبيه لوجه الخطأ مع ما فيه من اجتناب المجاهرة في الإنكار والتوبيخ له، وألقاه بطريق التمثل ليستقبح
ذلك من غيره فيجعله مقياسا لاستقباح ذلك من نفسه مع البقاء على الحشمة كما أوصى الحكماء بذلك في سياسة الوالد
لولده إذا خصلت منه هنة منكرة: قال: وجاء ذلك على وجه التحاكم ليحكم بقوله: لقد ظلمك فتقوم الحجة
عليه محكمة. قال وقوله: وهل أتاك، جاء على وجه الاستفهام تنبيها على أن هذه قصة عجيبة من حقها أن تشيع
ولا تخفى على أحد وتشويقا إلى سماعها أيضا. وقال في قوله: هذا أخي، الأخوة كيفما كانت: إما من الصداقة، أو
من الدين، أو من الشركة، والخلطة تدلى بحق مانع من الاعتداء والظلم فلذلك قال: إن هذا أخي، وقال في
الخطاب: يحتمل أن يكون من المخاطبة، ومعناه: أتاني بما لم أقدر على رده من الجدال، ويحتمل أن يكون من
الخطبة مفاعلة: أي خطبت فخطب على خطبتي فغلبني، والمفاعلة لأن الخطبة صدرت منهما جميعا. وقال
367

في ذكر النعاج: إنها تمثيل فكان تحاكمهم تمثيل وكلامهم أيضا تمثيل، لأنه أبلغ لما تقدم، وللتنبيه على أن هذا أمر
يستحيا من التصريح به وأنه مما يكنى عنه سماجة للإفصاح به وللستر على داود عليه السلام. ووجه التمثيل فيه أن
مثلت قصة أرويا برجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون، فأراد أن يتمها مائة بالنعجة المذكورة. ثم قال:
فإن قلت: طريقة التمثيل إنما تستعمل على جعل الخطاب من الخطابة فإن كان من الخطبة فما وجهه؟ قال: الوجه
حينئذ أن تجعل النعجة استعارة للمرأة كما استعاروا لها الشاة في قوله * يا شاة ما قنص لمن حلت له * إلا أن لفظ
الخلطاء يأباه، اللهم إلا أن يكون ابتداء مثل من داود عليه السلام. قلت: والفرق بين التمثيل والاستعارة أنه على
التمثيل يكون الذي سبق إلى فهم داود عليه السلام أن التحاكم على ظاهره وهو التخاصم في النعاج التي هي البهائم،
ثم انتقل بواسطة التنبية إلى فهم أنه تمثيل لحاله، وعلى الاستعارة يكون فهم عنهما التحاكم في النساء المعبر عنهن
بالنعاج كناية، ثم استشعر أنه هو المراد بذلك. قال: فإن قلت: لم صح من الملائكة الإخبار عن أنفسهم بما لم
يتلبسوا بشئ منه؟ وأجاب بأن ذلك على سبيل التصوير والفرض كما تقول في تصوير المسألة زيد له أربعون شاة
وعمر له أربعون خلطاها، فماذا يجب عليهما من الزكاة؟ وتقول أيضا: لي أربعون شاة ولك أربعون ومالك، ولا
له من الأربعين أربعة ولا ربعها. فإن قلت: فما وجه قراؤة ابن مسعود ولى نعجة أنثى؟ وأجاب بأنه يقال امرأة
368

أنثى للحسناء الجميلة، ومعناه: وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها
369

وتثنيها، ألا ترى إلى وصفهم إياها بالكسول والمكسال كقوله: * فتور القيام قطيع الكلام * اه‍ كلامه.
قلت: ولكن قوله - ولى نعجة - إنما أورده على سبيل التقليل لما عنده والتحقير ليسجل على خصمه بالبغي لطلبه هذا
القليل الحقير وعنده الجم الغفير، فكيف يليق وصف ما عنده، والمراد تقليله بصفة الحسن التي توجب إقامة عذر
ما لخصمه، ولذلك جاءت القراءة المشهورة على الاقتصار على ذكر النعجة وتأكيد قلتها بقوله واحدة فهذا
إشكال على قراءة ابن مسعود يمكن الجواب عنه بأن القصة الواقعة لما كانت امرأة أوريا الممثلة بالنعجة فيها
مشهورة بالحسن، وصف مثالها في قصة الخصمين بالحسن زيادة في التطبيق لتأكيد التنبيه على أنه هو المراد بالتمثيل
ثم قال: فإن قلت: لم سارع بتصديق أحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر؟ وأجاب بأن ذلك كان بعد اعتراف
خصمه، ولكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم اه‍ كلامه. قلت: ويحتمل أن يكون ذلك من داود على سبيل الفرض
والتقدير: أي إن صح ذلك فقد ظلمك. ونقل بعضهم أن هذه القصة لم تكن من الملائكة وليست تمثيلا وإنما
كانت من البشر، إما خليطين في الغنم حقيقة، وإما كان أحدهما موسرا وله نسو ان كثيرة من المهائر والسراري،
والثاني معسرا وماله إلا امرأة واحدة فاستنزله عنها، وفزع داود وخوفه أن يكونا مغتالين لأنهما دخلا عليه في غير
وقت القضاء، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر ونسبه إلى الظلم قبل مسئلته اه‍ كلامه. قلت:
مقصود هذا القائل تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء، فأخذ الآية على ظاهرها وصرف الذنب إلى العجلة
في نسبة الظلم إلى المدعى عليه لأن الباعث على ذلك في الغالب إنما هو التهاب الغضب، وكراهيته أخف مما يكون
الباعث عليه الشهوة والهوى، ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله تعالى عقبها وصية لداود عليه السلام
- يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى - فما جرت العناية بتوصيته فيما يتعلق
بالأحكام إلا والذي صدر منه أولا وبان منه من قبيل ما وقع له في الحكم بين الناس، وقد التزم المحققون من أئمتنا
أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام داود وغيره منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب مبرؤون من ذلك والتمسوا
المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة، وهذا هو الحق الأبلج والسبيل الأبهج إن شاء الله تعالى.
370

قوله تعالى (الصافنات الجياد) قال: الصفون أن يقف على ثلاث وعلى طرف الرابع، وقيل هذا للمتخيم
والصافن الذي يجمع بين يديه. قال: ووصفها بذلك لأنه لا يكون في الهجن غالبا وإنما يكون في العراب الخلص،
أو وصفها ليجمع لها الوصفين المحمودين جارية وواقفة، فوصفها في جريها بالجودة والسرعة، وفي وقوفها
بالسكينة والطمأنينة لأن ذلك من لوازم الصفون غالبا.
373

قوله تعالى (هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب) قال فيه: إنما قال هذا ذكر ليذكر عقبه ذكرا آخر هو
ذكر الجنة وأهلها، كما يقول الجاحظ في كتبه فهذا باب ثم يشرع في باب آخر. قلت: وكما يقول الفقيه إذا ذكر
أدلة المسألة عند تمام الدليل الأول هذا دليل ثان كذا وكذا إلى آخر ما في نفسه، ويدل عليه أنه عند انقضاء ذكر
أهل الجنة قال - هذا وإن للطاغين لشر مآب - فذكر أهل النار.
378

قوله تعالى (قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا) وقال: في موضع آخر (آتهم ضعفين من العذاب
والعنهم لعنا كبيرا) والقصة واحدة. قلت: وفيه دليل على أن الضعفين اثنان من شئ واحد، خلافا لمن قال غير
ذلك لأنه في موضع قال: فزده عذابا ضعفا، والمراد مثل عذابه فيكون عذابين. وقال في موضعين ضعفين،
والمراد إذا عذابان.،
قوله تعالى (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) قال: إن قلت: لم سمى ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما
380

يجرى بينهم من السؤال والجواب بما يجرى بين المتخاصمين من نحو ذلك، ولأن قول الرؤساء لا مرحبا بهم وقول
أتباعهم بل أنتم لا مرحبا بكم من باب الخصومة. قلت: هذا يحقق أن ما تقدم من قوله - لا مرحبا بهم إنهم صالوا
النار - من قول المتكبرين الكفار، وقوله تعالى - بل أنتم لا مرحبا بكم - من قول الأتباع فالخصومة على هذا التأويل
حصلت من الجهتين فيتحقق التخاصم خلافا لمن قال: إن الأول من كلام خزنة جهنم والثاني من كلام الأتباع،
فإنه على هذا التقدير إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين فالتفسير الأول أمكن وأثبت.
381

قوله تعالى (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) قال فيه: لما كان ذو اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه غلب
العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغير اليدين حتى قيل في عمل القلب هذا مما عملت يداك. قال: ومعناه
إن الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم واستنكف بسببه أنه سجود لمخلوق مع أنه دون الساجد لأن آدم من طين
وإبليس من نار، فرأى للنار فضلا على الطين وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر أعز عباده عليه وأقربهم منه وهم الملائكة
أن يسجدوا لهذا البشر لم يمتنعوا ولم يذهبوا بأنفسهم إلى التكبر مع انحطاطه عن مراتبهم، فقيل له: ما منعك أن
تسجد لهذا الذي هو مخلوق بيدي كما وقع لك مع أنه لاشك أن في ذلك امتثالا لأمري وإعظاما لخطابي كما فعلت
الملائكة؟ فذكر له العلة التي منعته من السجود، وقيل له: ما حملك على اعتبار هذه العلة دون اعتبار أمري؟
ومثاله أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتبارا لسقوطه، فيقول له: ما منعك أن تتواضع
لمن لا يخفى على سقوطه؟ يريد هلا اعتبرت أمري وخطابي وتركت اعتبار سقوطه. انتهى المقصود من الآية بعد
تطويل وإطناب وإكثار وإسهاب. قلت: إنما أطال القول هنا ليفر من معتقدين لأهل السنة تشتمل عليهما هذه
الآية: أحدهما أن اليدين من صفات الذات أثبتهما السمع، هذا مذهب أبي الحسن والقاضي بعد إيطالهما حمل
اليدين على القدرة، فإن قدرة الله تعالى واحدة واليدان مذكورتان بصيغة التثنية، وأبطلا حملهما على النعمة بأن
382

نعم الله لا تحصى فكيف تحصر بالتثنية، وغيرهما من أهل السنة كإمام الحرمين وغيره يجوز حملهما على القدرة والنعمة،
ويحيب عما ذكراه بأن المراد نعمة الدنيا والآخرة، وهذا مما يحقق تفضيله على إبليس إذ لم يخلق إبليس لنعمة الآخرة،
وعلى أن المراد القدرة، فالتثنية تعظيم ومثل ذلك يوجد في اللغة كثيرا. المعتقد الثاني أن النبي أفضل من الملك
والزمخشري شديد العصبية في هذه المسألة، والإنكار على من قال بذلك من أهل السنة لاجرم أنه أجرم في بسط
كلامه على آدم عليه السلام، فمثل قصته في انحطاط مرتبته على زعمه عن مرتبة الملائكة بقول الملك لوزيره: زر
بعض سقاط الحشم، فجعل سقاط حشم الملك مثالا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء عليهم السلام، وأقام لإبليس
عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين، وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم
يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة، وجعل قوله تعالى
383

- لما خلقت بيدي - إنما ذكر تقريرا للعلة التي منعت إبليس من السجود وهو كونه دونه، وهذا نسأل الله العصمة،
المراد منه ضد ما فهم الزمخشري، وإنما ذكر ذلك تعظيما لمعصية إبليس إذ امتنع من تعظيم من عظمه الله إذ خلقه
بيده، وذلك تعظيم لآدم لا تحقير منه، ويدل عليه الحديث الوارد في الشفاعة إذ يقول له الناس عندما يقصدونه
فيها: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسنك جنته، فإنما يذكرون ذلك في سياق تعديد
كراماته وخصائصه لا فيما يحط منه معاذ الله، وإياه نسأل أن يعصمنا من مهاوى الهوى ومهالكه، وأن يرشدنا إلى
سبيل الحق ومسالكه إنه ولى التوفيق وبالإجابة حقيق.
384

القول في سورة الزمر
(بسم الله الرحمن الرحيم)
385

قوله تعالى (إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار) قال: المراد بمنع الهداية منع اللطف تسجيلا عليهم بأن
لا يلطف بهم، وأنه في علمه من الهالكين انتهى كلامه. قلت: مذهب أهل السنة حمل هذه الآية وأمثالها على الظاهر
فإن معتقدهم أن معنى هداية الله تعالى للمؤمن خلق الهدى فيه، ومعنى إضلاله للكافر إزاحته عن الهدى وخلق
386

الكفر له، ومع ذلك فيجوز عند أهل السنة أن يخلق الله تعالى للكافر لطفا يؤمن عنده طائعا خلافا للقدرية،
وغرضنا التنبيه على مذهب أهل الحق لاغيره.
قوله تعالى (ألا هو العزيز الغفار) قال: أي لذنوب التائبين اه‍ كلامه. قلت: الحق أنه تعالى غفار للتائبين
ولمن يشاء من المصرين على ما دون الشرك وقنوطهم من رحمة الله تعالى، ولقد قيد الزمخشري الآية بما ترى.
387

قوله تعالى (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) قال فيه (فإن قلت: ما وجه العطف بثم في قوله
ثم جعل؟ وأجاب بأنهما آيتان الخ) قال أحمد: إنما منعه من حمل ثم على التراخي في الوجود أنها وقعت بين خلق
الذرية من آدم وخلق حواء منه، وهو متقدم على الذرية فضلا عن كونه متراخيا عن خلق الذرية، فلم يستقم حملها
على تراخى الوجود لما جعلها في الوجه الآخر متعلقة بمعنى واحدة على تقدير: خلقكم من نفس وحدت ثم جعل
منها زوجها: يعنى شفعها بزوجها فكانت ههنا على بابها لتراخى الوجود، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله تعالى (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) قال (إنما جعلها منزلة لأن قضاياه تعالى وقسمه موصوفة
بالنزول الخ) قال أحمد: ومن هذا النمط بعينه قول الراجز * أسنمة الآبال في سحابة *.
قوله تعالى (ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم) حمل الرضا على الإرادة والعباد على العموم الخ
388

قال أحمد: إن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين أو في مران عقله غين: أليس يدعى أو يدعى له أنه الخريت
في مغائر العبارات وبديع الزمان في صناعة البديع، فكيف نبا عن جادة الإجادة فهما، وأعار منادى الحذاقة
أذنا صما، اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا وغطى سنى مكشوف العبارة فسحقا سحقا، أليس
مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط لا يتصور وجود المشروط قبل الشرط
عقلا، ولا مضيه واستقبال الشرط لغة وعقلا، واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وشيعة البدعة أن إرادة الله
تعالى لشكر عباده مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم، فحينئذ كيف ساغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في
الآية مشروطا وجزاء، وجعل وقوع الشكر شرطا ومجزيا واللازم من ذلك عقلا تقدم المراد وهو الشكر على
الإرادة وهى الرضا، ولغة تقدم المشروط على الشرط، والزمخشري أخص من قال: إن المشروط متى كان ماضيا
محضا لزمته الفاء وقد كقولك: إن تكرمني فقد أكرمتك قبل، وقد عريت الآية عن الحرفين المذكورين، على أنه
لابد من تأويل يصحح الشرطية من ذلك، فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الإرادة عقلا ونقلا تعين التماس المحمل
الصحيح له، وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازى به المرضى عنه من الثواب والكرامة، فيكون معنى الآية
والله أعلم: وإن تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر
389

فجرى الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة، وانتظم ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الإرادة عقلا،
ومثل هذا يقدر في قوله - ولا يرضى لعباده الكفر - أي لا يجازى غير الكافر مجازاة المغضوب عليه من النكال
والعقوبة.
(قوله تعالى أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قال هل يستوى الذين
يعلمون والذين لا يعلمون) قال (سئل الحسن عمن يتمادى على المعاصي ويرجوا الخ) قال أحمد: كلام الحسن
رضي الله عنه صحيح غير منزل على كلام الزمخشري بقرينة حاله، فإن الحسن أراد أن المتمادي على المعصية مصرا
عليها غير تائب إذا غلب رجاؤه خوفه كان متمنيا لأن اللائق بهذا أن يغلب خوفه رجاءه، ولم يرد الحسن إقناط
هذا من رحمة الله تعالى وحاشاه، وأما قرينة حال الزمخشري فإنها تنم على ما أضمره من إيراد هذه المقالة، فإن
معتقده أن مثل هذا العاصي وإن كان موحدا يحب خلوده في نار جهنم، ولا معنى لرجائه ولتنميته صحة هذا المعتقد،
أورد مقالة الحسن كالتزام إلى تتميم هذه النزعة، وعما قليل يقرع سمعه ما في أنباء هذه السورة.
390

قوله تعالى (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين) إلى قوله (قل الله
أعبد مخلصا له ديني) قال فيه (فإن قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد وأجاب بأنه ليس بتكرير
الخ) قال أحمد: ولقد أحسن في تقوية هذا المعنى في هذه الآية بقوله - فاعبدوا ما شئتم من دونه - فإن مقابلته بعدم
الحصر توجب كونه للحشر، والله أعلم. وما أحسن ما بين وجوه المبالغة في وصف الله تعالى لفظاعة خسرانهم
فقال: استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران ونعته بالمبين،
وبين في تسمية الشيطان طاغوتا وجوها ثلاثة من المبالغة: أحدها تسميته بالمصدر كأنه نفس الطغيان. الثاني
بناؤه على فعلوت وهى صيغة مبالغة كالرحموت وهى الرحمة الواسعة والملكوت وشبهه. الثالث تقديم لامه على عينه
ليفيد اختصاص الشيطان بهذه التسمية.
391

قوله تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) قال (يدخل تحت هذا المذهب اختبار أثبتها على السبك
وأقواها عند السبر الخ) قال أحمد: لقد كنت أطمع لعله رجع عما ضمن هذا الكتاب من المذاهب الرديئة والمعتقدات
الفاسدة حتى حققت من كلامه هذا أن ذلك التصميم كان متمكنا من فؤاده الصميم، فلا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
393

قوله تعالى (أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) قال فيه (معناه كمن هو آمن فحذف الخبر أسوة
أمثاله الخ) قال أحمد: الملقى في النار والعياذ بالله لم يقصد الاتقاء بوجهه، ولكنه لم يجد ما يتقى به النار غير وجهه
ولو وجد لفعل، فلما لقيها بوجهه كانت حاله حال المتقى بوجهه، فعبر عن ذلك بالاتقاء من باب المجاز التمثيلي،
والله أعلم.
396

قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون) قال فيه (قرئ إنك ميت ومائت الخ) قال أحمد: فاستعمال ميت مجاز
إذ الخطاب مع الأحياء، واستعمال مائت حقيقة إذ لا يعطى اسم الفاعل وجود الفعل حال الخطاب، ونظيره قوله
397

تعالى - الله يتوفى الأنفس حين موتها - يعنى توفى الموت والتي لم تمت في منامها: أي يتوفاها حين المنام تشبيها للنوم
بالموت كقوله - وهو الذي يتوفاكم بالليل - فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي: أي لا يردها في وقتها
حية، ويرسل الأخرى: أي النائمة إلى الأجل الذي سماه: أي قدره لموتها الحقيقي، هذا أوضح ما قيل في تفسير
الآية، والله أعلم.
398

قوله تعالى (ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هل فتنة) قال فيه (معناه: على علم من الله بي
وباستحقاقي الخ) قال أحمد: كذلك يقول على قدري، تمنى على الله أن يثيبه في الآخرة، إن الفرق بين حمد الدنيا
وحمد الآخرة أن حمد الدنيا واجب على العبد لأنه على نعمة متفضل بها، وحمد الآخرة ليس بواجب عليه لأنه على نعمة
واجبة على الله عز وجل، ولقد صدق الله إذ يقول وهى فتنة إنما سلم منها أهل السنة، إذ يعتقدون أن الثواب
بفضل الله وبرحمته لا باستحقاق، ويتبعون في ذلك قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم " لا يدخل أحد الجنة بعمله،
قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني برحمته " فما أحمق من منى نفسه وركب رأسه وطمع أنه
يستحق على الله الجنة. قال: فإن قلت: لم عطفت هذه الآية على التي قبلها بالفاء والآية التي قبلها في أول السورة
بالواو؟ وأجاب بأن هذه الآية مسببة عن قوله وإذا ذكر الله الخ قال أحمد: كلام جليل فافهمه فضلا عن مشبه
قليل.
402

قوله تعالى (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) قال فيه (يعنى الذين وصفوه تعالى بما
لا يجوز عليه وهو متعال عنه الخ) قال أحمد: قد عدا طور التفسير لمرض في قلبه لادواء له إلا التوفيق الذي حرمه،
ولا يعافيه منه إلا الذي قدر عليه هذا الضلال وحتمه، وسنقيم عليه حد الرد لأنه قد أبدى صفحته، ولولا شرط
الكتاب لأضربنا عنه صفحا ولوينا عن الالتفات إليه كشحا، وبالله التوفيق. فنقول: أما تعريضه بأن أهل السنة
يعتقدون أن القبائح من فعل الله تعالى فيرجمه باعتقادهم المشار إليه قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة - الله خالق
كل شئ وهو على كل شئ وكيل - أما الزمخشري وإخوانه القدرية فيغيرون في وجه هذه الآية ويقولون: ليس
خالق كل شئ لأن القبائح أشياء وليست مخلوقة له، فاعتقدوا أنهم نزهوا وإنما أشركوا، وأما تعريضه لهم في
أنهم يجوزون أن يخلق خلق لا لغرض فذلك لأن أفعاله تعالى لا تعلل لأنه الفعال لما يشاء. وعند القدرية ليس فعالا
لما يشاء لأن الفعل إما منطو على حكمة ومصلحة فيجب عليه أن يفعله عندهم، وإما عار عنهما فيجب عليه أن
لا يفعله فأين أثر المشيئة إذا. وأما اعتقاده أن في تكليف مالا يطاق تظليما لله تعالى فاعتقاد باطل لأن ذلك إنما ثبت
لازما لاعتقادهم أن الله تعالى خالق أفعال عبيده، فالتكليف بما تكليف بما ليس مخلوقا لهم، والقاعدة الأولى حق
ولازم الحق حق، ولا معنى للظلم إلا التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والعبادات ملك الله تعالى فيكف يتصور
حقيقة الظلم منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وأما تعريضه بأنهم يجوزون أن يؤلم لا لعوض فيقال له:
ما قولك أيها الظنين في إيلام البهائم والأطفال ولا أعواض لها، وليس مرتبا على استحقاق سابق خلافا للقدرية، إذ
يقولون: لابد في الألم من استحقاق سابق أو عوض. وأما اعتقاده أن تجويز رؤية الله تعالى يستلزم اعتقاد
405

الجسمية فإنه اغترار في اعتقاده بأدلة العقل المجوزة لذلك مع البراءة من اعتقاد الجسمية، ولم يشعر أنه يقابل بهداية
قول نبي الهدى عليه الصلاة والسلام " إنكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته " فهذا النص الذي
ينبو عن التأويل ولا يردع المتمسك به شئ من التهويل، وأما قوله إنهم يتسترون بالبلكفة فيعنى به قولهم بلا كيف
أجل إنها لستر لا تهتكه يد الباطل البتراء ولا تبعده عن اهدى عن الضلال العوراء. وأما تعريضه بأنهم يجعلون لله
أندادا بإثباتهم معه قدماء فنفى لإثباتهم صفات الكمال، كلا والله إنما جعل لله أندادا القدرية إذ جعلوا أنفسهم
يخلقون ما يريدون ويشتهون على خلاف مراد ربهم حتى قالوا: إن ما شاءوه كان وما شاء الله لا يكون. وأما أهل
أهل السنة فلم يزيدوا على أن اعتقدوا أن لله تعالى علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وحياة حسبما دل عليه
العقل وورد به الشرع، وأي مخلص للقدري إذا سمع قوله تعالى - وسع ربنا كل شئ علما - إلا اعتقاد أن لله تعالى
علما أو جحد آيات الله وإطفاء نوره - ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون - وأما قوله إنهم يثبتون لله تعالى يدا
وقدما ووجها فذلك فرية ما فيها مرية ولم يقل بذلك أحد من أهل السنة، وإنما أثبت القاضي أبو بكر صفات سمعية
وردت في القرآن اليدان والعينان والوجه ولم يتجاوز في إثباتها ما وردت عليه في كتاب الله العزيز على أن غيره من
أهل السنة حمل اليدين على القدرة والنعمة والوجه على الذات، وقد مر ذلك في مواضع من الكتاب، فقد اتصف
في هذه المباحثة بحال من بحث بظلفه على حتفه وتعريضه معتقده الفاسد لهتك ستره وكشفه، وإنما حملني على إغلاظ
مخاطبته الغضب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأهل سنته، فإنه قد أساء عليهم الأدب ونسبهم بكذبه إلى
الكذب، والله الموعد.
406

قوله تعالى (بل الله فاعبد) قال فيه: أصل الكلام إن كنت عابدا فاعبد الله فحذف الشرط وجعل تقديم
407

المفعول عوضا منه اه‍ كلامه. قلت: مقتضى كلام سيبويه في أمثال هذه الآية أن الأصل فيه فاعبد الله ثم حذفوا
الفعل الأول اختصارا فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه
فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم محذوفا اقتضى وجودها ولتعطف عليه ما بعدها ويضاف
إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص.
قوله تعالى (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) قال فيه:
الغرض من هذا الكلام تصوير عظمته تعالى والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة
حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن حبرا جاء إليه فقال:
يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على
إصبع وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجب
مما قال الحبر ثم قرأ هذه الآية تصديقا له " وإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهمه علماء البيان من
غير تصوير إمساك ولا هز ولا شئ من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شئ وآخره على الزبدة والخلاصة التي
هي الدلالة على القدرة الباهرة التي لا يوصل السامع إلى الوقوف عليها إلا إجراء العبارة على مثل هذه الطريقة من
التخييل، ثم قال: وأكثر كلام الأنبياء والكتب السماوية وعليتها تخييل قد زلت فيه الأقدام قديما اه‍ كلامه.
قلت: إنما عنى بما أجراه ههنا من لفظ التخييل التمثيل، وإنما العبارة موهما منكرة في هذا المقام لا تليق به بوجه من
الوجوه والله أعلم.
408

القول في سورة غافر
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) الآية، قال فيه (فإن قلت: لم اختلفت هذه الصفات
تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف) وأجاب بأن غافر الذنب وقابل التوب معرفان
لأنهما صفتان لازمتان وليستا لحدوث الفعل حتى يكونا حالا أو استقبالا بل إضافتها حقيقية، وأما شديد العقاب
فلا شك في أن إضافة غير حقيقية يريد لأنه من الصفات المشبهة ولا تكون إضافتها محضة أبدا. عاد كلامه، قال
(وجعله الزجاج بدلا وحده وانفراد البدل من بين الصفات فيه نبو ظاهر، والوجه أن يقال: إن جميعها أبدال غير
412

أوصاف لوقوع هذه النكرة التي لا يصح أن تكون صفة، كما لو جاءت قصيدة تفاعيلها كلها على مستفعلن قضى
عليها بأنها من بحر الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل) قلت: وهذا لأن دخول
مستفعلن في الكامل يمكن، لأن متفاعلن يصير بالإضمار إلى مستفعلن، وليس وقوع متفاعلن في الرجز ممكنا إذ
لا يصير إليه مستفعلن البتة، فما يقضى إلى الجمع بينهما فإنه يتعين، وهذا كما يقضى الفقهاء بالخاص على العام لأنه
الطريق في الجمع بين الدليلين. وأجاز فيه وجها آخر وهو أن تكون كلها صفات معارف، ويكون شديد العقاب
محذوف الألف ليجانس ما قبله، وذلك مثل قولهم ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع،
على أن الخليل قد قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل كذا أنه
على نية الألف واللام كما جاء الجماء الغفير على نية حذف الألف واللام مضافا إلى ما سهل ذلك وهو عدم اللبس
وأمن الجهالة. وأجاز وجها آخر وهو أن يكون صفة قصد تنكيرها لما في الإبهام من الدلالة على فرط الشدة. قال
ولعل هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. قال: فإن قلت فما بال
الواو في قوله - ما يجادل في آيات الله - الآية. قال: الجدال المذموم هو الجدال بالباطل لإدحاض الحق وقصد
إطفاء نور الله، فقد دل على ذلك قوله تعالى - وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق - وأما الجدال فيها لإيضاح
ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة العلماء في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها، فأعظم جهاد في سبيل الله تعالى،
وعلى هذا يحمل قوله عليه الصلاة والسلام (إن جدالا في القرآن كفر) ولهذا أورده منكرا للتمييز بين جدال وجدال
413

قوله تعالى (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) الآية، قال فيه: إن قلت: ما فائدة
قوله ويؤمنون به، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة مؤمنون بالله تعالى. وأجاب بأن
فائدته إظهار شرف الإيمان كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أفعال البر
بقوله - ثم كان من الذين آمنوا - فأبان بذلك فضل الإيمان، وفائدة أخرى وهى التنبيه على أن الأمر لو كان كما
يقول المجسمون لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب،
فلما وصفوا به على سبيل الثناء علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن
إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا. قال: وفيه تنبيه على أن الاشتراك في
وصف الإيمان يجب أن يكون أدعى شئ إلى النصيحة وأبعث شئ على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس
وتباعدت الأماكن فإنه لا تجانس بين ملك وبشر، ومع ذلك لما اشتركا في صفة الإيمان نزل ذلك منزلة الاشتراك
الحقيقي والتناسب الجنسي حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض اه‍ كلامه. قلت: كلام حسن إلا
استدلاله بقوله - ويؤمنون به - على أنهم ليسوا مشاهدين، فهذا لا يدل لأن الإيمان هو التصديق غير مشروط فيه
غيبة المصدق به بدليل صحة إطلاق الإيمان بالآيات مع أنها مشاهدة كانشقاق القمر وقلب العصاحية، وإنما لقب
الزمخشري بهذا التكلف عما في قلبه من مرض لكنه طاح بعيدا عن الغرض، فقرر أن حملة العرش غير مشاهدين بدليل
قوله تعالى - يؤمنون - لأن معنى الإيمان عنده التصديق بالغائب ثم يأخذ من كونهم غير مشاهدين أن الباري عز
وجل لو صحت رؤيته لرأوه، فحيث لم يروه لزم أن تكون رؤيته تعالى مما لا يصححه العقل، وقد أبطلنا ما ادعاه
من أن الإيمان مستلزم عدم الرؤية، ولو سلمناه فلا نسلم أنه يلزم من كون حملة العرش غير مشاهدين له تعالى أن
تكون رؤيته غير صحيحة، وقوله ولو كانت صحيحة لرأوه شرطية عقيمة الإنتاج لأن الرؤية عبارة عن إدراك يخلق الله
414

تعالى هذا الإدراك لحملة العرش، إلا أن يذهب بالزمخشري الوهم إلى أن مصححي الرؤية يعتقدون الجسمية والاستقرار
على العرش فيلزمهم رؤية حملة العرش له، تعالى الله عن ذلك وحاشى أهل السنة ومصححي الرؤية من ذلك.
415

قوله تعالى (ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا
وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم
السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمة) الآية، قال فيه: فإن قلت: قد ذكر أولا الرحمة والعلم ثم ذكر
ما توجبه الرحمة وهو الغفران، فأين موجب العلم؟ وأجاب بأن معناه: فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع
سبيلك. قال: وقوله - إنك أنت العزيز الحكيم - معناه الملك الذي لا يغلب وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئا
إلا بداعي الحكمة، وموجب حكمتك أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها، والوقاية منها: التكفير
أو قبول التوبة. ثم قال: فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم وهم تائبون صالحون موعودون بالمغفرة والله لا يخلف
الميعاد؟ وأجاب بأن هذا بمنزلة الشفاعة وفائدته زيادة الكرامة والثواب اه‍ كلامه. قلت: كلامه ههنا محشو
بأنواع الاعتزال: منها اعتقاد وجوب مراعاة المصلحة ودواعي الحكم على الله تعالى، ومنها اعتقاد أن اجتناب
الكبائر يكفر الصغائر وجوبا وإن لم يكن توبة. ومنها اعتقاد امتناع غفران الله تعالى للكبائر التي لم يتب عنها، ومنها
اعتقاد وجوب قبول التوبة على الله تعالى، ومنها جحد الشفاعة واعتقاد أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه مراعاة
المصلحة، وأنه يجوز أن يعذب على الصغائر وإن اجتنب الكبائر، وأنه يجوز أن يغفر الكبائر ما عدا الشرك وإن لم
يتب منها، وأن قبول التوبة بفضله ورحمته لا بالوجوب عليه وأنها تنال أهل الكبائر المصرين من الموحدين، فهذه
416

جواهر خمسة، نسأل الله تعالى أن يقلد عقائل عقائدنا بها إلى الخاتمة، وأن لا يحرمنا ألطافه ومراحمه آمين. وجميع
ما يحتاج إلى تزييفه مما ذكره على قواعد الاعتزال في هذا الموضع قد تقدم، غير أنه جدد ههنا قوله إن فائدة
الاستغفار كفائدة الشفاعة، وذلك مزيد الكرامة لا غير. يريد أن المغفرة للتائب واجبة على الله فلا تسئل، وهذا
الذي قاله مما يجعل لنفسه فيه الفضيحة زادت على بطلانه هذه الآية بالألسن الفصيحة كيف يجعل المسؤول مزيدة
الكرامة لا غير، ونص الآية - فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم - فهي ناطقة بأنهم يسألون
من الله تعالى المغفرة للتائب ووقاية عذاب الجحيم، وهو الذي أنكر الزمخشري كونه مسؤلا.
قوله تعالى (أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) قال فيه: إحدى الإماتتين خلقهم أمواتا أولا، والأخرى إماتتهم
عند انقضاء آجالهم. ثم قال: فإن قلت: كيف سمى خلقه لهم أمواتا إماتة؟ وأجاب بأنه كما تقول: سبحان من
417

صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، وكما تقول للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من
صغر إلى كبر ولا عكسه، ولا من ضيق إلى سعة ولا عكسه، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات، والسبب
في صحته إن الكبر والصغر جائزان معا على المصنوع الواحد، وكذلك الضيق والسعة فإذا اختار الصانع أحد الجائزين
وهو متمكن من الآخر جعل صرفا عن الآخر وهو متمكن منه اه‍ كلامه. قلت: ما أسد كلامه ههنا حيث
صادق التمسك بأذيال نظر مالك رحمه الله في مسألة ما إذا باعه إحدى وزنتين معينتين على اللزوم لإحداهما والخيرة
في عينها فإنه منع من ذلك، لأن المشترى لما كان متمكنا من تعيين كل واحدة منهما على سواء، فإذا عين واحدة
منهما بالاختيار نزل عدوله عن الأخرى وقد كان متمكنا منها منزلة اختيارها أولا، ثم الانتقال عنها إلى هذه،
فإذا آل إلى إحداهما بالأخرى غير معلومتي التماثل وهو الذي لخصه أصحابنا في قولهم: إن من خير بين شيئين
فاختار أحدهما عد منتقلا، وقد سبقت هذه القاعدة لغير هذا الغرض فيما تقدم.
قوله تعالى (فهل إلى خروج من سبيل) قال: أي إلى نوع من الخروج سريع أو بطئ من سبيل قط أم
اليأس واقع دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه، وهذا كلام من غلب عيله اليأس، والقنوط، وإنما يقولون
418

ذلك تعللا وتحيرا ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله - ذلكم بأنه إذا دعى الله وحدة كفرتم - معناه أن
اعتياض السبيل إلى خروجكم من النار سببه كفركم بتوحيد الله تعالى وإيمانكم بالإشراك انتهى كلامه. قلت: وعلى
هذا النمط بنى الشعراء مثل قولهم: هل إلى نجد وصول * وعلى الخيف نزول
وإنما قصدهم أن هذا أمر غلب فيه اليأس على الطمع.
419

قوله تعالى (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) قال فيه: يحتمل أن يكون المنفى الشفيع الذي هو الموصوف،
وصفته وهى الطاعة، ويحتمل أن يكون المنفى الصفة وهى الطاعة وهى الطاعة والشفيع ثابت اه‍ كلامه. قلت: إنما جاء
الاحتمال من حيث دخول النفي على مجموع الموصوف والصفة ونفى المجموع كما يكون بنفي كل واحد من جزأيه،
420

كذلك يكون بنفي أحدهما على أن المراد هنا كما قال نفى الأمرين جميعا، قال: وفائدة ذكر الموصوف أنه كالدليل
على نفى الصفة لأنه إذا انتفى الموصوف انتفت الصفة قطعا. قلت: فكأنه نفى الصفة مرتين من وجهين مختلفين.
قوله تعالى (يعلم خائنة الأعين) قال: الخائنة إما صفة للنظرة، وإما مصدر كالعافية. قال: ولا يحسن أن
يراد الخائنة من الأعين لأنه لا يساعد عليه قوله تعالى - وما تخفى الصدور - انتهى كلامه. قلت: أنما لم يساعد عليه
لأن خائنة الأعين على هذا التقدير معناه الأعين الخائنة، وإنما يقابل الأعين الصدور لا ما تخفيه الصدور، بخلاف
التأويل الأول فإن المراد به نظريات الأعين فيطابق خفيات الصدور.
421

قوله تعالى: حكاية عن فرعون (ذروني أقتل موسى وليدع ربه) قال فيه: كانوا إذا هم بقتله كفوه عنه
بقولهم ليس هذا ممن يخاف وإنما هو ساحر لا يقاومه إلا مثله، وقتله يوقع الشبهة عند الناس أنك إنما قتلته خوفا،
وكان فرعون لعنه الله في ظاهر أمره والله أعلم عالما أنه نبي خائفا من قتله مع رغبته في ذلك لولا الجزع، وأراد
أن يكتم خوفه من قتله بأن يقول لهم: ذروني أقتله ليكفوه عنه فينسب الانكفاف عن قتله إليهم لا إلى جزعه وخوفه
ويدل على خوفه منه لكونه نبيا قوله - وليدع ربه - وهذا من تمويهاته المعروفة قلت: هو من جنس قوله - إن
هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون - فقد تقدم أن مراده بذلك أن يظهر لقومه قلة
احتفاله بهم ويوهمهم أن قتله لهم ليس خوفا منهم ولكن غيظا عليهم، وكان من عادته الحذر والتحصن وحماية
الذريعة في المحافظة على حوزة المملكة، لا أن ذلك خوف وهلع، ولقد كذب إنما كان فؤاده مملوءا رعبا.
422

قوله تعالى (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) الآية قال: الظاهر أن الرجل من آل فرعون.
وقيل إنه من بني إسرائيل ومن آل فرعون متعلق بيكتم تقديره: يكتم إيمانه من آل فرعون، وهو بعيد لأن بني إسرائيل
كان إيمانهم ظاهرا فاشيا، ولقد استدرجهم هذا المؤمن في الإيمان باستشهاده على صدق موسى بإحضاره
عليه السلام من عند من تنسب إليه الربوبية ببينات عدة لا بينة واحدة وأتى بها معرفة معناه: البينات العظيمة التي
شهدتموها وعرفتموها على ذلك ليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم، ثم أخذهم بالاحتجاج بطريق التقسيم
فقال: لا يخلو أن يكون صادقا أو كاذبا، فإن يك كاذبا فضرر كذبه عائد عليه، أو صادقا فيصبكم إن تعرضتم له
423

بعض الذي يعدكم. قال: وإنما ذكر بعض مع تقدير أنه نبي صادق، والنبي صادق في جميع ما يعد به لأنه سلك
معهم طريق المناصحة لهم والمداراة، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم وأدخل في تصديقهم له ليسمعوا منه ولا
يردوا عليه صحته، وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد ولكنه أردفه - يصبكم بعض
الذي يعدكم - ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وأثنى عليه فضلا عن أن
يكون متعصبا له. قال: وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل اه‍ كلامه. قلت: لقد أحسن الفهم والتفطن
لأسرار هذا القول، ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا قوله تعالى - وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد
من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين - فقدم الشاهد أمارة
صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف دونها لرفع التهمة وإبعاد الظن وإدلالا بأن الحق
معه ولا يضره التأخير لهذه الفائدة. وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة ما في قصة يوسف مع أخيه، إذ بدأ
بأوعيتهم قبل وعاء أخيه حتى قيل إنه لما انتهى إليه قال: اللهم ما سرق هذا ولا هو بوجه سارق، فاطمأنت
أنفسهم وانزاحت التهمة عن يوسف أن يكون قصد ذلك فقالوا: والله لنفتشنه فاستخرجها من وعائه. قال: وقد
قيل إن ما لقيه أبو بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم أشد مما لقيه مؤمن آل فرعون، ولقد طاف عليه
الصلاة والسلام بالبيت فلقوه فأخذوا بمجامع ردائه وقالوا: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال عليه
الصلاة والسلام: أنا ذلك، فجاء أبو بكر فالتزمه وقال - أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من
ربكم - رافعا صوته وعيناه تسفحان حتى أرسلوه. وعن جعفر قال: إن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرا وقاله
أبو بكر جهرا. قال: وقال مؤمن آل فرعون - فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا - ليعلمهم أنه يساهمهم فيه
فيتحققوا نصحه لهم.
424

قوله تعالى (وما الله يريد ظلما للعباد) قال فيه: يحوز أن يكون معناه معنى - وما ربك بظلام للعبيد - وهذا
أبلغ لأنه إذا لم يرد الظلم كان عن فعله الظلم أبعد، وحيث نكر الظلم أيضا كأنه نفى أن يريد ظلما ما لعباده. قال:
ويجوز أن يكون معناه كمعنى قوله - ولا يرضى لعباده الكفر - فيكون المعنى: إن الله لا يريد لعباده أن يظلموا لأنه
ذمهم على كونهم ظالمين. قلت: هذا من الطراز الأول، وقد تقدم مذهب أهل السنة فيما يتعلق بإرادة الله تعالى
خلافا لهذا وأشياعه.
426

قوله تعالى (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند
الله وعند الذين آمنوا) قال في إعرابه: الذين يجادلون بدل من من هو مسرف، لأن المراد كل مسرف، وجاز
إبداله ما على معنى من لا على لفظها. قال: فإن قلت فاعل كبر؟ وأجاب بأنه ضمير من هو مسرف فحمل البدل
على المعنى والضمير على اللفظ وليس ببدع اه‍ كلامه. قلت: فيما ذكره معاملة لفظ من بعد معاملة معناها وهذا مما
قدمت أن أهل العربية يستغربونه، والأولى أن يجتنب في إعراب القرآن فإن فيه إبهاما بعد إيضاح، والمعهود في
قراءة البلاغة عكسه. والصواب أن يجعل الضمير في قوله كبر راجعا إلى مصدر الفعل المتقدم وهو قوله يجادلون
تقديره: كبر جدالهم مقتا، ويجعل الذين مبتدأ على تأويل حذف المضاف تقديره: جدال الذين يجادلون في آيات
الله، والضمير في قوله كبر مقتا عائد إلى الجدال المحذوف والجملة مبتدأ وخبر، ومثله في حذف المصدر المضاف
وبناء الكلام عليه قوله تعالى - أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله - على أحد تأويله ومثله كثير،
وفيه سوى ذلك من الوجوه السالمة عما يتطرق إلى الوجه المتقدم فالوجه العدول عنه.
427

قوله تعالى: تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم) قال: المراد بنفي العلم نفى المعلوم كأنه قال:
وأشرك به ما ليس بإله، وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلها. قلت: وهذا من قبيل:
* على لأحب لا يهتدى بمناره * أي لا منار له فيهتدى به، وكلام الزمخشري ههنا أشد من كلامه على قوله تعالى
حكاية عن فرعون - ما علمت لكم من إله غيري -.
قوله تعالى (لاجرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة) قال فيه: سياق لاجرم عند
البصريين أن يكون لا ردا لما دعاه إليه قومه، وجرم بمعنى كسب: أي وكسب دعاؤهم إليه بطلان دعوته: أي
ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، ويجوز أن يكون لاجرم نظير لابد من الجرم وهو القطع، فكما أنك
429

تقول لابد لك أن تفعل. والبد من التبديد الذي هو التفريق ومعناه: لا مفارقة لك من فعل كذا، فكذلك لاجرم
معناه: لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام بل هي باطلة أبدا.
430

قوله تعالى (وقال الذين في النار لخزنة جهنم) قال: فإن قلت: فهلا قيل لخزنتها؟ وأجاب بأن في ذكر جنهم
تهويلا وتفظيعا، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعرا من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر، وكان النابغة يسمى
الجهنام لبعد غوره في الشعر انتهى كلامه. قلت: الأول أظهر والتفخيم فيه من وجهين: أحدهما وضع الظاهر
موضع المضمر وهو الذي أشار إليه. والثاني ذكره وهو شئ واحد بظاهر غير الأول أفظع منه، لأن جهنم أفظع
من النار إذ النار مطلقة وجنهم أشدها.
قوله تعالى (قالوا فادعوا) قال في معناه: أنهم لما ألزمهم الحجة بقولهم - أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات -
واعترفوا بذلك، وكان في ضمن ذلك أنهم خلفوا أوقات الدعاء وأسباب الإجابة وراءهم قالوا لهم فادعوا أنتم،
معناه: إنا نحن لا نجترئ أن ندعو لكم فادعوا أنتم، وليس قوله فادعوا ترجية للكفار ولكن قطعا لرجائهم،
لأنه إذا لم يسمع دعاء الملك المقرب فكيف يسمع دعاء الكافر.
431

قوله تعالى (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) قال فيه: يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة لكنها لا تنفعهم لأنها باطلة.
ويحتمل أنهم لا يعتذرون، ولو جاءوا بمعذرة لم تكن مقبولة انتهى كلامه. قلت: هما الاحتمالان في قوله تعالى - ولا
شفيع يطاع - ولكن بين الموضعين فرقا يصير أحدهما معه عكس الآخر، وذلك أنه هنا على تقدير أن يكون المراد
أنهم لا معذرة لهم البتة يكون قد نفى صفة المعذرة وهى المنفعة التي لها تراد المعذرة قطعا لرجائهم كي لا يعتذروا البتة،
كأنه قيل إذا لم يحصل ثمرة المعذرة فكيف يقع مالا ثمرة له، وفي الآية المتقدمة جعل نفى الموصوف بتا لنفى الصفة
ولهذا أولى النفي في هذه الآية الفعل وفي المتقدمة أولى النفي الذات المنسوب إليها الفعل.
432

قوله تعالى (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) قال فيه: فإن قلت: كيف اتصل قوله لخلق
السماوات والأرض بما قبله؟ وأجاب بأن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على إنكار البعث وهو أصل المجادلة ومدارها
فحجوا بخلق السماوات والأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها وبأنها خلق عظيم، فخلق الناس بالقياس
إليه شئ قليل مهين، فمن قدر على خلقها مع عظمها كان على الإنسان الضعيف أقدر، وهو أبلغ من الاستشهاد
بخلق مثله انتهى كلامه. قلت: الأولوية في هذا الاستشهاد ثابتة بدرجتين أحدهما ما ذكره من أن القادر على العظيم
هو على الحقير أقدر. الثانية أن مجادلتهم كانت في البعث وهو الإعادة، ولا شك أن الابتداء أعظم وأبهر من
الإعادة، فإذا كان ابتداء خلق العظيم يعنى السماوات والأرض داخلا تحت القدرة، فابتداء خلق الحقير يعنى
الناس أدخل تحتها وإعادته أدخل من ابتدائه، فهو أولى بأن يكون مقدورا عليه مما اعترفوا به من خلق السماوات
والأرض بدرجتين، وإلى هذا الترتيب وقعت الإشارة بقوله تعالى في - آلم غلبت الروم - ومن آياته أن تقوم السماء
والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون - فقرر أن قيام السماء والأرض هو بأمره: أي
خلقها من آياته، فكيف بما هو أحط من قيامها بدرجتين وهو إعادة البشر أهون عليه من الابتداء ليتحقق
الدرجتان المذكورتان فقال تعالى - وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه - وإذا تأملت الذي ذكرته
منسوبا لما ذكره الزمخشري علمت أن ما ذكره هو لباب المراد فجدد عهدا به إن لم تعلم ذلك
433

قوله تعالى (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) قال فيه: هلا قيل ولكن أكثرهم فيستغنى عن التكرير.
وأجاب بأن في التكرير تخصيصا لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه - إن الإنسان
لكفور - إن الإنسان لربه لكنود - إن الإنسان لظلوم كفار -.
434

قوله تعالى (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربى) قال فيه: فإن قلت:
النبي عليه الصلاة والسلام قد اتضحت له أدلة العقل على التوحيد قبل مجئ الوحي فعلام تحمل الآية؟ وأجاب
بأن الأمر كذلك ولكن البينات مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومتضمنة ذكرها نحو قوله - أتعبدون ما تنحتون والله
خلقكم وما تعملون - وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل والسمع جميعا، وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا لأن
ذكر الأمرين أقوى في إبطال مذهبهم وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية انتهى كلامه. قلت: اللائق بقوله
بقواعد السنة أن يقال: أما معرفة الله تعالى ومعرفة وحدانيته واستحالة كون الأصنام آلهة فمستفاد من أدلة العقول، وقد
ترد الأدلة العقلية في مضامين السمعيات. وأما وجوب عبادة الله تعالى وتحريم عبادة الأصنام فحكم شرعي
لا يستفاد إلا من السمع، فعلى هذا يترك الجواب عن هذا السؤال، وقوله تعالى - إني نهيت أن أعبد الذين تدعون - من
دون الله - إنما أريد به والله أعلم تحريم عبادة غير الله، فهذا لا يستفاد إلا من نهى الله تعالى عن ذلك لامن العقل، لكن
قاعدة الزمخشري تقتضى أن تحريم عبادة غير الله تعالى تتلقى من العقل قبل ورود الشرع، إذ العقل عنده حاكم
بمقتضى التحسين والتقبيح، ولهذا أورد الإشكال عليه واحتاج إلى الجواب عنه، ثم قوله في الجواب: إن أدلة
الشرع مقوية لأدلة العقل ضعيف العقل ضعيف مع اعتقاده أن العقل يدل على الحكم قطعا، وما دل قطعا كيف
يحتمل الزيادة والتأكيد والقطعيات لا تفاوت في ثبوتها.
435

قوله تعالى (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) قال فيه: فإن قلت: كان قياس النظم
أن يقال فبئس مدخل المتكبرين كما تقول زر بيت الله فنعم المزار. وأجاب بأن الدخول المؤقت بالخلود في معنى
الثواء.
قوله تعالى (فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون) قال فيه: المصحح للحاق النون
المؤكدة دخول ما المؤكدة للشرط ولو لاها لم يجز دخولها. قلت: وإنما كان كذلك لأن النون المؤكدة حقها أن
تدخل في غير الواجب والشرط من قبيل الواجب، إلا أنه إذا أكد قوى إبهامه فقربته قوة الإبهام من غير الواجب
فيساغ دخول النون فيه. ثم قال: وقوله تعالى - أو نتوفينك - إما أن يشرك مع الأول في الشرط ويكون قوله - فإلينا
يرجعون - جزاء مشركا بينهما فلا يستقيم المعنى على - فإما نرينك بعض الذي نعدهم فإلينا يرجعون - وإن جعل الجزاء
مختصا بالثاني بقى الأول بغير جزاء. وأجاب بأنه مختص بالثاني وجزاء الأول محذوف تقديره: فإما نرينك بعض
الذي نعدهم، وهو ماحل بهم يوم بدر فذاك، أو نتوفينك فإلينا يرجعون فننتقم منهم اه‍ كلامه. قلت: وإنما
حذف جواب الأول دون الثاني، لأن الأول إن وقع فذاك غاية الأمل في إنكائهم، فالثابت على تقدير وقوعه
معلوم وهو حصول المراد على التمام، وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم فهذا هو الذي
يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس على أنه وإن تأخر جزاؤهم عن الدنيا فهو حتم في الآخرة ولابد منه، قال:
ومثله قوله تعالى - فإما تذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون - كأنه يستشهد
على أن جزاء الأول محذوف بذكر هذه الآية.
437

قوله تعالى (لتركبوا منها ومنها تأكلون. ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) قال فيه: فإن
قلت: هلا قيل لتركبوا منها ولتأكلوا منها ولتبلغوا ومنها تركبون ومنها تأكلون وعليها تبلغون؟ وأجاب بأن في
الركوب الركوب في الغزو والحج، وفي بلوغ الحاجة الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو علم، وهذه أغراض
دينية إما واجبة أو مندوبة مما يتعلق به إرادة الحكيم، وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا يتعلق به
الإرادة اه‍ كلامه. قلت: جواب متداع للسقوط مؤسس على قاعدة واهية، وهى أن الأمر راجع إلى الإرادة،
فالواجب والمندوب مرادان لأنهما مندرجان في الأمر، والمباح غير مراد لأنه غير مأمور به، وهذا من هينات
المعتزلة في إنكار كلام النفس فلا نطيل فيه النفس، وقاعدة أهل الحق أنه لاربط بين الأمر والإرادة، فقد يأمر
بخلاف ما يريد ويريد خلاف ما يأمر به. فالجواب الصحيح إذا أن المقصود المهم من الأنعام والمنفعة المشهورة فيها
إنما هي الركوب وبلوغ الحوائج عليها بواسطة الأسفار والانتقال في ابتغاء الأوطار فلذلك ذكرهما هنا مقرونين
باللام الدالة على التعليل والغرض: وأما الأكل وبقية المنافع كالأصواف والأوبار والألبان وما يجرى مجراها فهي
وإن كانت حاصلة منها فغير خاصة بها خصوص الركوب والحمل وتوابع ذلك، بل الأكل بالغنم خصوصا الضأن
أشهر، فلذلك اختيرت الضحايا منها على الغنم، فلذلك جردت هذه المنافع بالإخبار عن وجودها فيها غير مقرونة
بما يدل على أنها المقصود.
438

قوله تعالى (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) قال: فإن قلت: أي فرق بين قوله - فلم يك ينفعهم
إيمانهم - وبينه لو قيل: فلم ينفعهم؟ وأجاب بأن معنى كان هنا معناها في قوله - ما كان لله أن يتخذ من ولد -
بمعنى فلم يستقم ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم اه‍ كلامه. قلت: كان الذي ثبت التصرف فيها بإجراء نونها مجرى
حروف العلة حتى حذفت للجازم هي كان الكثير استعمالها المكرر دورانها في الكلام، وأما كان هذه فليست
كثيرة التصرف حتى يتسع فيها بالحذف بل هي مثل صان وحان في القلة فالأولى بقاؤها على بابها المعروف، وفائدة
دخولها في هذه الآية وأمثالها المبالغة في نفى الفعل الداخلة عليه بتعديد جهتي نفيه عموما باعتبار الكون وخصوصا
باعتباره في هذه الآية مثلا فكأنه نفى مرتين، والله أعلم.
440

القول في سورة فصلت
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي أذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) الآية، قال فيه:
441

فإن قلت: ما فائدة " من " في قوله - ومن بيننا وبينك حجاب - وأجاب بأن فائدتها الدلالة على أن من جهتهم ابتدأ
الحجاب ومن جهته أيضا ابتدأ حجاب، فيلزم أن المسافة المتوسطة بينهما مملؤة بالحجاب لافراغ فيها، ولولا
ذكر " من " فيها لكان المعنى: على أن في المسافة بينهما حجابا فقط اه‍ كلامه. قلت: لا ينفك المعنى بدخول من عما
كان عليه قبل، ولو كان الأمر كما ذكر لكانت من مقدرة مع بين الثانية لأنه جعلها مفيدة للابتداء في الثانية كما
هي مفيدة للابتداء في الأولى فيكون التقدير إذا: ومن بيننا وبينك حجاب، وهذا يخل بمعنى بين إخلالا بينا
فإنها تأبى تكرار العامل معها حتى لو قال القائل: جلست بين زيد وجلست بين عمرو، لم يكن مستقيما لأن تكرار
العامل يصيرها داخلة على مفرد فقط ويقطعه عن قرينه المتقدم، ومن شأنها الدخول على متعدد لأن في ضمن معناها
التوسط، وزاد الزمخشري على هذا فجعل بين الثانية غير الأولى، لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته، وليس
الأمر كما ظنه بل بين الأولى هي الثانية بعينها وهى عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين، وتكرارها إنما كان
لأن المعطوف مضمر محفوظ فوجب تكرار حافظه وهو بين، والدليل على هذا أنه لا تفاوت باتفاق بين أن تقول
جلست بين زيد وعمرو وبين أن تقول جلست بين زيد وبين عمرو، وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازا ومع
المضمر وجوبا لما بيناه، فإذا وضح ذلك فالظاهر والله أعلم أن موقع من ههنا كموقعها في قوله تعالى - وجعلنا من
بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا - وذلك للإشعار بأن الجهة المتوسطة مثلا بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام
مبدأ الحجاب لاغير، ووجود من قريب من عدمها، ألا ترى إلى آخر هذه الآية كيف لم يستعمل فيها من وهى
قوله تعالى - وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن
يفقهوه وفي آذانهم وقرا - وكلام الزمخشري هذا إذا امتحنته بالتحقيق الذي ذكرناه تبين ضعفه، والله الموفق.
وفي هذه الآية وأختها من المبالغة والبلاغة مالا يليق أن ينتظم إلا في درر الكتاب العزيز، فإنها اشتملت على ذكر
حجب ثلاثة متوالية كل واحد منها كاف في فنه: فأولها الحجاب الحائل الخارج، ويليه حجاب الصمم،
وأقصاها الحجاب الذي أكن القلب والعياذ بالله، فلم تدع هذه الآية حجابا مرتخيا إلا أسبلته، ولم تبق لهؤلاء
الأشقياء مطمعا ولا صريخا إلا استلبته، فنسأل الله كفايته.
442

قوله تعالى (قل إنما أنا بشر مثلكم) الآية، قال: فإن قلت: كيف كان هذا جوابا لما تقدمه؟ وأجاب بما
نلخصه فنقول: لما أبوا القبول منه عليه الصلاة والسلام كل الإباء بدأهم بإقامة الحجة على وجوب القبول منه،
فإنه بشر مثلكم لا قدرة له على إظهار المعجزات التي ظهرت، وإنما القادر على إظهارها هو الله تعالى تصديقا له
عليه الصلاة والسلام. ثم بين لهم بعد قيام الحجة عليهم أهم ما بعث به وهو التوحيد، واندرج تحت الاستقامة
جميع تفاصيل الشرع، وتمم ذلك بإنذارهم على ترك القبول بالويل الطويل.
قوله تعالى (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) قال فيه: فإن قلت: لم خص الزكاة؟ وأجاب بأن أحب
الأشياء إلى الإنسان ما له وهو شقيق روحه، فبذله مصداق لاستقامته ونصوع طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا
بلمظة من الدينا، وأهل الردة ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة فنصبت لهم الحرب وجوهدوا اه‍ كلامه. قلت: كلام
حسن بعد تبديل قوله وما خدع المؤلفة، فإن استعماله الخداع غير لائق لأنهم إنما تألفهم عليه الصلاة والسلام
على الإيمان من قبيل الملاطفة ودفع السيئة بالحسنة، وما نحا هذا النحو.
443

قوله تعالى (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين. وجعل فيها
رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) قال فيه: إن قوله في أربعة أيام
فذلكة بمدة خلق الله الأرض وما فيها، كأنه قال: وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين فلذلك أربعة أيام سواء
قال: ومعنى سواء كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. ونقل عن الزجاج أن معنى أن الآية في تتمة أربعة أيام
يريد بالتتمة اليومين، ثم قال: فإن قلت: بم تعلق قوله للسائلين؟ وأجاب بأنه متعلق بمحذوف كأنه قيل: هذا
الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، أو بقدر: أي قدر فيها الأقوات لأجل السائلين المحتاجين
إليها من المقتاتين، ثم قال: وهذا الوجه الأخير لا يستقيم إلا على تفسير الزجاج انتهى كلامه. قلت: لم يبين
امتناعه على التفسير الأول، ونحن نبينه فنقول: مقتضى التفسير الأولى أن قوله في أربعة أيام فذلكة، ومن شأنها
الوقوع في طرف الكلام بعد تمامه، فلو جعل قوله للسائلين متعلقا بمقدر لزم وقوع الفذلكة في حشو الكلام ولا
كذلك على تفسير الزجاج، فإن الأربعة على قوله من تتمة الأول وهى متعلقة بمقدر على تأويل حذف التتمة تعلق
الظرف بالمظروف ليلائم ذلك إتمام الكلام ببيان المقصود من خلق الأقوات بعد بيان من خلقها. وتفسير الزجاج
والله أعلم أرجح، فإنه يشتمل على ذكر مدة خلق الأقوات بالتأويل القريب الذي قدره، ومتضمن لما يقوم
444

مقام الفذلكة إذ ذكر جملة العدد الذي هو ظرف لخلقها وخلق أقواتها، وعلى تفسير الزمخشري تكون الفذلكة
مذكورة من غير تقدم تصريح بجملة تفاصيلها، فإنه لم يذكر منها سوى يومين خاصة، ومن شأن الفذلكة أن
يتقدم النص على جميع أعدادها مفصلة ثم تأتى هي على الجملة كقوله - فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم
تلك عشرة كاملة -.
قوله تعالى (ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) قال فيه:
إما أن يكون هذا من مجاز التمثيل كان عدم امتناعهما على قدرته امتثال المأمور المطيع إذا ورد عليه الأمر المطاع
فهذا وجه، وإما أن يكون تخييلا فيبنى الأمر فيه على أن الله تعالى كلم السماوات والأرض فأجابتاه. والغرض منه
تصوير أثر القدرة في المقدور من غير أن يحقق شيئا من الخطاب والجواب، ومثله قول القائل: قال الحائط
للوتد: لم تشقني؟ فقال الوتد: اسأل من يدقني لم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي اه‍ كلامه. قلت: قد تقدم
إنكاري عليه إطلاق التخييل على كلام الله تعالى، فإن معنى هذا الإطلاق لو كان صحيحا، والمراد منه التصوير
لوحب اجتناب التعبير عنه بهذه العبارة لما فيها من إبهام وسوء أدب، والله أعلم.
قوله تعالى أيضا (ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين) الآية
قال: فإن قلت: لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمهما في الأمر بالإتيان معها والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟
445

وأجاب بأنه قد خلق جرم الأرض أولا غير مدحوة ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال - والأرض بعد ذلك دحاها -
فالمعنى ائتيا على ما ينبغي من الشكل ائتي يا أرض مدحوة وقرارا ومهادا وائتي يا سماء سقفا مقببة. ثم قال: فإن
قلت: ما معنى طوعا أو كرها؟ وأجاب بأنه تمثيل للزوم تأثير القدرة فيهما كما يقول الجبار لمن تحت يده: افعل
هذا شئت أو أبيت. ثم قال فإن قلت: هلا قيل طائعتين على اللفظ وطائعات على المعنى لأنها سماوات وأرضون؟
وأجاب بأنه لما جعلن مخاطبات ومجيبات وموصوفات بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله
- ساجدين - اه‍ كلامه. قلت: لم يحقق الجواب عن السؤال الآخر، وذلك أن في ضمن الآية سؤالين: أحدهما لم
ذكرها وهى مؤنثة وهذا هو السؤال الذي أورده. الثاني أتى بها على جمع العقلاء وهى لا تعقل وهذا لم يذكره،
فالجواب الذي ذكره مختص بالسؤال الذي لم يذكره، ولهذا نظره بقوله ساجدين، فإن تلك الآية ليس فيها سوى
السؤال عن كونها جمعت جمع العقلاء، فأما السؤال الآخر فلا لأن الكلام راجع إلى الكواكب وهى مذكرة،
والشمس وإن كانت مؤنثة إلا أنه غلب في الكلام المذكر على المؤنث على المنهاج المعروف، فأما هذه الأيام فتزيد
على تلك بهذا السؤال الآخر، وهو أن جميع ما تقدم ذكره من السماوات والأرض مؤنثة، فيقال أولا لم ذكرها،
وثانيا لم أتى جمعها المذكر على نعت جمع العقلاء ليتحقق نسبة السؤال والجواب والطوع اللاتي تختص بالعقلاء لابها،
ولم يوجد في جمع المؤنث عدول إلى جمع المذكر لوجود الصيغة المرشدة إلى العقل فيه، فتمت الفائدة بذلك على
تأويل السماوات والأرض بالأفلاك مثلا وما في معناه من المذكر، ثم يغلب المذكر على المؤنث ولا يعدل مثل هذا
التأويل في الأرضين أيضا.
قوله تعالى (فقضاهن سبع سماوات في يومين) قال فيه: قيل إن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما فيها
446

في يوم الخميس ويوم الجمعة، وفرغ آخر ساعة من يوم الجمعة، وخلق آدم في تتمة اليوم وفيه تقوم القيامة،
ثم استدل بذلك على ما ذكره من أنه لو قال في يومين في موضع أربعة أيام سواء، لم يعلم أنهما يومان كاملان أو
ناقصان اه‍ كلامه. قلت: كأنه يستدل بإهمال اليومين عن التأكيد حيث لم يكن خلق السماوات بما فيها في جملة
اليومين على أنه إنما فذلك أيام خلق الأرض بما فيها، لأنه لو فصلها لم يكن فيها دليل على استيعاب الخلق لكل يومين
منها، بل كان يجوز أن يكون الخلق في أحد اليومين وبعض الآخر كما في هذه الآية على النقل الذي ذكر وهذا
لا يتم له منه غرض، فإن للقائل أن يقول: إنما كان خلق السماوات بما فيها في يومين كاملين، لأن آدم لم يكن في
السماوات حينئذ وبخلقه كمال اليومان على مقتضى ما نقله فتأمله.
447

قوله تعالى (أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) قال فيه: القوة: الشدة في البنية ونقيضها
الضعف، والقدرة ما لأجله يصح الفعل من الفاعل وهى نقيضة العجز، فإن وصف الله تعالى بالقوة فذاك بمعنى
القدرة وليست القوة على حقيقتها فكيف صح قوله - هو أشد منهم قوة - ولابد أن يراد بالقوة في الموضعين شئ
448

واحد. وأجاب عنه بأن القدرة في الإنسان صحة البنية والاعتدال والشدة والقوة زيادة في القدرة، فكما صح أن
يقال أقدر منهم صح إن يقال أقوى منهم على معنى أنه يقدر لذاته على ما لا يقدرون عليه بازدياد قدرتهم انتهى
كلامه. قلت: فسر القدرة على خلاف ما هي في اعتقاد المتكلمين، فإن سلم له من حيث اللغة فقد نكص عنه إلى
حمل القدرة في الآية على مقتضاها في فن الكلام، وجعل التفضيل من حيث إن الله تعالى قادر لذاته: أي بلا
قدرة، والمخلوق قادر بقدرة على القاعدة الفاسدة للقدرية. ونظير هذا التفسير في الفساد تفسير قول القائل زيد
أعلم من عمرو بإثبات صفة العلم للمفضول وسلبها بالكلية عن الأفضل، وهل هذا إلا عته وعمى في اتباع الهوى
وعمه. فالحق أن التفضيل إنما جاء من جهة أن القدرة الثابتة للعبد قدرة مقارنة لفعله معلومة قبله وبعده مفقودة
غير مؤثرة في العقل الراجح في محلها فضلا عن تجاوزها إلى غيره، وقدرة الله جلت قدرته مؤثرة في المقدورات
موجودة أزلا وأبدا عامة التعلق بجميع الكائنات من الممكنات، فهذا هو النور الذي لا يلوح إلا من إثبات عقائد
السنة لمن سبقت له من الله المنة.
قوله تعالى (وأما ثمود فهديناهم) قال فيه: فدللناهم على طريق الضلالة والرشد. ثم قال: فإن قلت: أليس
معنى هديته حصلت له الهدى والدليل عليه قولك هديته فاهتدى فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ وأجاب
بأنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذرا ولا علة فكأنه حصل البغية فيهم بحصول موجبها. ثم قال: ولو لم يكن
في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها عليه الصلاة والسلام وكفى به شهيدا إلا هذه
449

الآية لكفى بها حجة انتهى كلامه. قلت: قد أنطقه الله الذي أنطق كل شئ بأن القدرية مجوس هذه الأمة بشهادة
النبي عليه الصلاة والسلام، وقد شهد صحبه الأكرمون أن الطائفة الذين قفا الزمخشري أثرهم القدرية المتمجسة الذين
أديانهم بأدناس الفساد متنجسة، فهم أول منخرط في هذا السلك ومنهبط في مهواة هذا الهلك. ولنرجع إلى أصل
الكلام فنقول: الهدى من الله تعالى عند أهل السنة حقيقة هو خلق الهدى في قلوب المؤمنين، والإضلال خلق
الضلال في قلوب الكافرين، ثم ورد الهدى على غير ذلك من الوجوه مجازا واتساعا نحو هذه الآية، فإن المراد
فيها بالهدى الدلالة على طريقه كما فسره الزمخشري. وقد اتفق الفريقان أهل السنة وأهل البدعة على أن استعمال
الهدى ههنا مجاز، ثم إن أهل السنة يحملونه على المجاز في جميع موارده في الشرع، فأي الفريقين أحق بالأمن إن
كنتم تعلمون، وأي الدليل في هذه الآية على أهل السنة لأهل البدعة حتى يرميهم بما ينعكس إلى نحره ويذيقه وبال
أمره؟
450

قوله تعالى (وقيضنا لهم قرناء) قال فيه: كيف جاز أن يقيض لهم قرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع
خطواتهم. وأجاب بأن معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين.
والدليل عليه قوله تعالى - ومن يعش عن ذكر الرحمن - الآية انتهى كلامه. قلت: جواب هذا السؤال على مذهب
أهل السنة أن الأمر على ظاهره فإن قاعدة عقيدتهم أن الله تعالى قد ينهى عما يريد وقوعه ويأمر بما لا يريد حصوله
وبذلك نطقت هذه الآية وأخواتها، وإنما تأولها الزمخشري ليتبعها هواه الفاسد في اعتقاده أن الله تعالى لا ينهى عما
يريد، وإن وقع النهى عنه فعلى خلاف الإرادة، تعالى الله عن ذلك وبه نستعيذ من جعل القرآن تبعا للهوى،
وحينئذ فنقول: لو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها عليه الصلاة والسلام
سوى هذه الآية لكفى بها، فهذا موضع هذه المقالة التي أنطقه بها الله الذي أنطق كل شئ في الآية التي قبل هذه.]
451

قوله تعالى (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) أجاز في
الواو في هذه الآية وجهين: أحدهما أن تكون الواو لعطف الذين على الذين ووقر على هدى وشفاء ويكون من
العطف على عاملين. قال: وإما أن يكون والذين مرفوعا على تقدير: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على
حذف المبتدأ، أو في آذانهم منه وقر انتهى. قلت: أي وبتقدير الرابط يستغنى عن تقدير المبتدأ.]
456

القول في سورة حم عسق
(بسم الله الرحمن الرحيم)
459

قوله تعالى (جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه) قال: إن الضمير المتصل بيذرؤ
عائد على الأنفس وعلى الأنعام مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل وهى من الأحكام ذات العلتين
انتهى كلامه. قلت: الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين: أحدهما مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من
قوله مخاطبا أو غائبا، والثاني مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب، فالأول لتغليب العقل، والثاني لتغليب الخطاب.
قوله تعالى (ليس كمثله شئ) قال فيه: تقول العرب مثلك لا يبخل فينفون البخل عن مثله، والمراد نفسه
ونظيره قولك للعربي العرب لا تخفر الذمم، ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، وفي حديث رقيقة بنت
صيفي في سقيا عبد المطلب " ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته " تريد طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم
يكن فرق بين قولك ليس كالله شئ وبين قوله - ليس كمثله شئ - إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها ونحوه قوله تعالى
462

- بل يداه مبسوطتان - فإن معناه: بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط، لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون
بها شيئا آخر حتى إنهم يستعملونها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل وفيمن لامثل له، ثم قال:
ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررت في قول من قال: * وصاليات ككما يؤثفين * ومن
قال * فأصبحت مثل كعصف مأكول * انتهى كلامه. قلت: هذا الوجه الثاني مردود على ما فيه من الإخلال
بالمعنى، وذلك أن الذي يليق هنا تأكيد نفى المماثلة، والكاف على هذا الوجه إنما تؤكد المماثلة، وفرق بين تأكيد
المماثلة المنفية وبين تأكيد نفى المماثلة، فإن نفى المماثلة المهملة عن التأكيد أبلغ وآكد في المعنى من نفى المماثلة
المقترنة بالتأكيد، إذ يلزم من نفى المماثلة الغير مؤكدة نفى كل مماثلة، ولا يلزم من نفى مماثلة محققة متأكدة بالغة
نفى مماثلة دونها في التحقيق والتأكيد، وحيث وردت الكاف مؤكدة للمماثلة وردت في الإثبات فأكدته،
فليس النظر في الآية بهذين النظرين مستقيما والله أعلم، ومما يرشد إلى صحة ما ذكرته أن للقائل أن يقول: ليس زيد
شبيها بعمرو لكن مشبها له، ولو عكس هذا لم يكن صحيحا، وما ذاك إلا أنه يلزم من نفى أدنى المشابهة نفى أعلاها،
ولا يلزم من نفى أعلاها نفى أدناها فمتى أكد التشبيه قصر عن المبالغة، والوجه الأول الذي ذكره هو الوجه في
الآية عنده، وأتى بمطية الضعف في هذا الوجه الثاني بقوله: ولك أن تزعم فافهم.
463

قوله تعالى (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة
من نصيب) قال: فرق بين عملي العاملين بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضو عفت حسناته، ومن كان عمله للدنيا
465

أعطى منها شيئا لا ما يريده ويبتغيه وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وما له في الآخرة من نصيب، ولم يذكر في
معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة للاستهانة بذلك في جنب ما هو
بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.
قوله تعالى (إلا المودة في القربى) قال فيه: إن قلت: هلا قيل إلا مودة القربى أو إلا المودة للقربى،
466

وأجاب بأنهم جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها كقولك لي في آل فلان هوى وحب شديد، وليس في صلة للمودة
كاللام إذا قلت إلا المودة للقربى، وإنما هي متعلقة بمحذوف تقديره: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها
انتهى كلامه. قلت: وهذا المعنى هو الذي قصد بقوله في الآية التي تقدمت إن قوله يذرؤكم فيه إنما جاء عوضا
من قوله يذرؤكم به، فافهمه.
467

قوله تعالى (وما بث فيهما من دابة) قال فيه: فإن قلت: لم جاز فيهما من دابة والدواب في الأرض وحدها؟
وأجاب بأنه يجوز أن ينسب الشئ إلى جميع المذكور وإن كان لبعضه كقوله تعالى - يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان -
وإنما يخرج من الملح الخ. قال أحمد: إطلاق الدواب على الأناسي بعيد من عرف اللغة فكيف في إطلاقه على الملائكة
والصواب والله أعلم هو الوجه الأول، وقد جاء مفسرا في غير ما آية كقوله - إن في خلق السماوات والأرض واختلاف
الليل والنهار - ثم قال - وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة - فخص
هذا الأمر بالأرض، ولله أعلم.
قوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) قال فيه (الآية مخصوصة بالمجرمين
الخ) قال أحمد: هذه الآية تنكسر عندها القدرية، ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنهم
حملوا قوله تعالى - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - على التائب، وهو غير ممكن لهم ههنا فإنه قد أثبت التبعيض في العفو
ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقرونا بالتوبة فإنه يلزم تبعيض التوبة أيضا وهى عندهم لا تتبعض، وكذلك نقل
الإمام عن أبي هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محمل لها إلا الحق الذي لامرية فيه، وهو مرد
العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة، وقول الزمخشري: إن الآلام التي تصيب الأطفال والمجانين لها
أعواض إنما يريد به وجوب العوض على الله تعالى على سياق معتقده، وقد أخطأ على الأصل والفرع لأن المعتزلة
وإن أخطأت في إيجاب العوض فلم تقل بإيجابه في الأطفال والمجانين، ألا ترى أن القاضي أبا بكر ألزمهم قبح
470

إيلام البهائم والأطفال والمجانين فقال لا أعواض لها وليس مترتبا على استحقاق سابق فيحسن فإنما يتم إلزامه بموافقتهم
له على أن لا أعواض لها.
قوله تعالى (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) قال فيه (معناه ثوابت لا تجرى على ظهر البحر)
قال أحمد: وهم يقولون إن الريح لم ترد في القرآن إلا عذابا بخلاف الرياح، وهذه الآية تحرم الإطلاق فإن الريح
المذكور هنا نعمة ورحمة، إذ بواسطتها يسير الله السفن في البحر حتى لو سكنت لركدت السفن، ولا ينكر أن
471

الغالب من ورودها مفردة ما ذكروه وأما اطراده فلا، وما ورد في الحديث " اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا "
فلأجل الغالب في الإطلاق، والله أعلم.
472

قوله تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) قال فيه (دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن
فيه الخ) قال أحمد: معنى حسن يجاب به عن قول القائل لم ذكر هذا عقب العفو مع أن الانتصار ليس بظلم فيشفى
غليل السائل ويحصل منه على كل طائل ومن هذا النمط، والله الموفق.
473

قوله تعالى (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور)
قال فيه (لم يقل فإنه كفور ليسجل على هذا الجنس أنه موسوم بكفران النعم الخ) قال أحمد: وقد أغفل هذه النكتة
بعينها في الآية التي قبل هذه وهى قوله تعالى - وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم - فوضع الظالمين موضع الضمير الذي كان من حقه أن يعود على اسم إن
فيقال ألا إنهم في عذاب مقيم، فأتى هذا الظاهر تسجيلا عليهم بلسان ظلمهم.
474

قوله تعالى (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان) قال (فإن قلت: قد علم أن النبي عليه الصلاة والسلام
ما كان يدرى الكتاب قبل الوحي الخ) قال أحمد: لما كان معتقد الزمخشري أن الإيمان اسم التصديق مضافا إليه
كثير من الطاعات فعلا وتركا حتى لا يتناول الموحد العاصي ولو بكبيرة واحدة اسم الإيمان ولا يناله وعد المؤمنين
وتفطن لإمكان الاستدلال على صحة معتقده بهذه الآية عدها فرصة لينتهزها وغنيمة ليحرزها، وأبعد الظن بإيراده
مذهب أهل السنة على صورة السؤال ليجيب عنه بمقتضى معتقده فكأنه يقول: لو كان الإيمان هو مجرد التوحيد
والتصديق كما تقول أهل السنة للزم أن ينفى عن النبي عليه الصلاة والسلام قبل المبعث بهذه الآية كونه مصدقا،
ولما كان التصديق ثابتا للنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعث باتفاق الفريقين لزم أن لا يكون الإيمان المنفى في الآية
عبارة عما اتفق على ثبوته، وحينئذ يتعين صرفه إلى مجموع أشياء من جملتها التصديق ومن جملتها كثير من الطاعات
التي لم تعلم إلا بالوحي وحينئذ يستقيم نفيه قبل البعث، وهذا الذي طمع فيه يخرط القتاد ولا يبلغ منه ما أراد،
وذلك أن أهل السنة وإن قالوا إن الإيمان هو التصديق خاصة حتى يتصف به كل موحد وإن كان فاسقا يخصون
التصديق بالله وبرسوله، فالنبي عليه الصلاة والسلام مخاطب في الإيمان بالتصديق برسالة نفسه، كما أن أمته
476

مخاطبون بتصديقه، ولا شك أنه قبل الوحي لم يكن يعلم أنه رسول الله و ما علم ذلك إلا بالوحي، وإذا كان
الإيمان عند أهل السنة هو التصديق بالله و رسوله ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحي، بل كان الثابت هو
التصديق بالله تعالى خاصة استقام نفى الإيمان قبل الوحي على هذه الطريقة الواضحة، والله أعلم.
القول في سورة الزخرف
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) الآية قال فيه (أقسم بالكتاب المبين و جعل قوله
- إنا جعلناه قرآنا عربيا - جوابا للقسم الخ) قال أحمد: تنبيه حسن جدا: ووجه التناسب فيه أنه أقسم بالقرآن،
477

وإنما يقسم بعظيم، ثم جعل المقسم عليه تعظيم القرآن بأنه قرآن عربي مرجو به أن يعقل به العالمون: أي يتعقلوا آيات
الله تعالى، فكان جواب القسم مصححا للقسم، وكذلك أقسم أبو تمام بالثنايا، وإنما يقسم الشعراء بمثل هذا
الإشعار بأنه في غاية الحسن، ثم جعل القسم عليه كونها في نهاية الحسن لا أنها هي إغريض، وهو من أحسن
تشبيهات الثنايا، فجعل المقسم عليه مصححا المقسم، والله أعلم. عاد كلامه إلى قوله تعالى (لعلكم تعقلون) فسره
بالإرادة وقد بينا فساد ذلك غير ما مرة.
478

قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض
مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا) الآية، قال فيه (فإن
قلت: قوله - ليقولن خلقهن العزيز العليم - وما سرد من الأوصاف عقبه إن كان من قولهم الخ) قال أحمد: الذي
يظهر أن الكلام مجزأ فبعضه من قولهم وبعضه من قول الله تعالى، فالذي هو من قولهم خلقهن وما بعده من قول
الله عز وجل، وأصل الكلام أنهم قالوا - خلقهن الله، ويدل عليه قوله في الآية الأخرى - ولئن سألتهم من خلق
السماوات والأرض ليقولن الله - ثم لما قالوا خلقهن الله وصف الله تعالى ذاته بهذه الصفات. ولما سيق الكلام
كله سياقة واحدة حذف الموصوف من كلامهم وأقيمت الصفات المذكورة في كلام الله تعالى مقامه كأنه كلام
واحد، ونظير هذا أن تقول للرجل: من أكرمك من القوم؟ فيقول: أكرمني زيد، فتقول أنت واصفا
للمذكور الكريم الجواد الذي من صفته كذا وكذا ثم لما وقع الانتقال من كلامهم إلى كلام الله عز وجل جرى
كلامه عز وجل على ما عرف من الافتتان في البلاغة، فجاء أوله على لفظ الغيبة وآخره على الانتقال منها إلى التكلم
في قوله فأنشرنا كل ذلك افتتان في أفنان البلاغة، ومن هذا النمط قوله تعالى حكاية عن موسى - قال علمها عند
ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا
به أزواجا من نبات شتى - فجاء أول الكلام حكاية عن موسى إلى قوله ولا ينسى، ثم وقع الانتقال من كلام
موسى إلى كلام الله تعالى فوصف ذاته أوصافا متصلة بكلام موسى حتى كأنه كلام واحد، وابتدأ في ذكر صفاته
على لفظ الغيبة إلى قوله - فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى - فانظر إلى تحقيق التطبيق بين الآيتين تر العجب،
والله الموفق.
قوله تعالى (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) الآية. قال فيه (يقال ركبت الدابة وركبت في الفلك
479

إلى آخره) قال أحمد: لم يحرر العبارة في هذا الموضع، فإن قوله غلب المتعدى بغير واسطة على المتعدى بنفسه يوهم
أن بين الفعل تباينا، وليس كذلك فإن المتعدى إلى الأنعام هو عين الفعل المتعدى إلى السفن غاية ما، ثم إن العرب
خصته باعتبار بعض مفاعيله بالواسطة واعتبار بعضها بالتعدي بنفسه، والاختلاف بالتعدي والقصور أو
باختلاف آلات التعدي وباختلاف أعداد المفاعيل لا يوجب الاختلاف في المعنى، فمن ثم يعدون الفعل الواحد
مرة بنفسه ومرة بواسطة مثل سكرت وأخواته، ويعدون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة مثل دعوت وصليت،
فإنك تقول: صلى النبي على آل أبي أوفى، ولو قلت: دعا على آل أبي أوفى لأفهم عكس المقصود، ولكن دعا
لآل أبى أوفى، ويعدون بعضها إلى مفعولين ومرادفه إلى مفعول واحد كعلم وعرف، فلا يترتب على الاختلاف
بالتعدي والقصور الاختلاف في المعنى، والذي يحرر من هذا أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد، وإن خص
480

أحدهما باقتران الواسطة والآخر بسقوطها، فالصواب أحد أمرين: إما تقدير المتعلقين على ماهما عليه لو انفردا
فيكون التقدير: ما تركبونه وتركبون فيه، والأقرب تعليله باعتبار التعدي بنفسه ويكون هذا من تغليب أحد
اعتباري الفعل على الآخر وهو أسهل من التغليب في قوله تعالى - فأجمعوا أمركم وشركاءكم - على أحد التأويلين
فيه، فإن التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى: أعني أجمع على الأمر وجمع الشركاء، ولكن لما تقاربا
غلب أحدهما على الآخر ثم جعل المغلب هو المتعدى بنفسه، والله أعلم.
قوله تعالى (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) قال فيه (كأنه قيل: هبوا أن إضافة الولد إليه جائزة
فرضا وتمثيلا أما تستحيون من الشطط في القسمة ومن ادعاء أنه آثركم على نفسه الخ) قال أحمد: نحن معاشر أهل
السنة نقول: إن كل شئ بمشيئة الله تعالى حتى الضلالة والهدى اتباعا لدليل العقل وتصديقا لنص النقل في أمثال
قوله تعالى - يضل من يشاء ويهدى من يشاء - وآية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيدا ولا تفيده
إلا تصويبا وتسديدا، فنقول: إذا قال الكافر لو شاء الله ما كفرت فهذه كلمة حق أراد بها باطلا، أما كونها
كلمة حق فلما مهدناه، وأما كونه أراد بها باطلا فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله توهما أنه يلزم من
مشيئة الله تعالى لضلالة من ضل أن لا يعاقبه على ذلك لأنه إنما فعل مقتضى مشيئته، كما توهم القدرية إخوان الوثنية
ذلك فأشركوا بربهم واعتقدوا أن الضلالة وقعت بمشيئة الخلق على خلاف مشيئة الخالق، فالذين أشركوا بالملائكة
أرفع منهم درجة لأن هؤلاء أشركوا أنفسهم الدنية في ملك ربهم المتوحد بالربانية جل وعلا، فإذا وضح ما قلناه
فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه لأنهم توهموا أنها حجة على الله فدحض الله حجتهم وأكذب أمنيتهم وبين أن مقالتهم
صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض فقال - ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون، وإن هم إلا يظنون - وقد
أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام - وقال الذين أشركوا
لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من
481

علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون - فبين تعال أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل
والإشراك بالله اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم لو شاء الله ما أشركنا، فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا
الخيال بحال أوائلهم، ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلب وخيال مكذب فقال - إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا
تخرصون - ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله " فلله الحجة البالغة "
ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلا في احتجاجهم على الله بذلك لا لأن المقالة في نفسها كذب فقال - فلو شاء لهداكم
أجمعين - وهو معنى قولهم - لو شاء الله ما أشركنا - من حيث أن لو مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة، فدلت
الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم بل شاء ضلالتهم ولو شاء هدايتهم لما ضلوا، فهذا هو الدين القويم
والصراط المستقيم والنور اللائح والمنهج الواضح، والذي يدحض به حجة هؤلاء مع اعتقاد أن الله تعالى شاء
وقوع الضلالة منهم هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا وتيسرا للهداية وغيرها من الأفعال الكسبية حتى صارت الأفعال
الصادرة منه مناط التكليف لأنها اختيارية، يفرق بالضرورة بينهما وبين العوارض القسرية، فهذه الآية أقامت
الحجة ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة المحجة، ولما كانت تفرقة ودقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام
الكثيفة فلا جرم أن أفهامهم تبددت وأفكارهم تبدلت، فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد
على خلاف مشيئة ربه، وحاولت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار، وأن جميع الأفعال صادرة
منه على سبيل الاضطرار، أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا وأرشدهم إلى الطريق الوسطى فانتهجوا سبيل
482

السلام وساروا ورائد التوفيق لهم إمام، مستضيئين بأنوار العقول المرشدة إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى
ومشيئته، ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية
والقسرية بالضرورة، لكنها قدرة تقارن بلا تأثير وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير. فهذا هو
التحقيق والله ولى التوفيق.
483

قوله تعالى (حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) قال فيه (فإن
قلت قد جعل مجئ الحق والرسول غاية التمتيع ثم أردفه إلى آخره) قال أحمد: كلام نفيس لا مزيد عليه إلا أن قوله
485

خيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها إطلاق ينبغي اجتنابه والله أعلم، وما أحسن مجئ الغاية على هذا النحى مجئ
الإضراب في بعض التارات، فكما جاءت الغاية هنا وليس المراد بها أن الفعل المذكور قبلها منقطع عندها على
ما هو المفهوم منها بل المراد استمراره وزيادته فكأن تلك الحالة النافعة انتهت بوجود ما هو أكمل منها، كذلك
الإضراب في مثل قوله تعالى - بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون - وهذه الإضرابات
ليست على معنى أن الثاني منها رد للأول بل ثانيها آكد من أولها، وجاء الإضراب مع التوافق والزيادة للإشعار
بأن الثاني لما زاد على الأول صار باعتبار زيادته ونقصان الأول كأنهما شيئان متنافيان يضرب عن أولها ويثبت
آخرهما ومثله كثير، وبالله التوفيق.
قوله تعالى (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) قال فيه (فإن قلت: معيشتهم ما يعيشون به من المنافع
الخ) قال أحمد: قد تقدم أن الرزق عند أهل السنة يطلق على ما يقوم الله به حال العبد، حلالا كان أو حراما، وهذه
الآية معضدة والزمخشري بنى على أصله وقد تقدم.
486

قوله تعالى (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم) الآية، قال فيه (معناه:
لولا كراهية أن يجتمعوا على الكفر لجعلنا للكفرة سقوفا من فضة: أي لو سعنا عليهم الدنيا لحقارتها عندنا
انتهى كلامه) قال أحمد: لولا هنا أخت لولا في قوله - ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم - الآية،
فلك أن تصحح الكلام بتقدير كراهة ذلك بأن لا تقدر محذوفا كما قدمته، فيكون وجه الكلام ههنا أن إجماعهم على
الكفر مانع من بسط الدنيا، وهذا هو معنى لولا المطرد أن ما بعدها أبدا مانع من جوابها، ولكن قد يكون المانع
موجودا تحقيقا فيمتنع الجواب بلا إشكال كقوله تعالى - ولولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين - وهو
الأكثر وقد يكون وجوده تقديرا معه، وعلى ذلك الآية. أي لو وجد بسط الدنيا للكافر مقدرا لوجد مانعه عندنا
وهو الاجتماع على الكفر مقدرا معه وكل ما أدى وجوده إلى وجود مانعه لا يوجد. ثم قال: فحين لم يوسع على
487

الكافرين للفتنة التي كان يؤدى إليها التوسعة من الإطباق على الكفر فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على
الإيمان. وأجاب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما يؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا وذلك من دين
المنافقين اه‍ كلامه. قال أحمد: سؤال وجواب مبنيان على قاعدتين فاسدتين: إحداهما تعليل أفعال الله تعالى،
والأخرى أن الله تعالى أراد الإسلام من الخلق أجمعين. أما الأولى فقد أخرس الله السائل عنه بقوله - لا يسئل عما
يفعل وهم يسئلون -، وأما الثانية فقد كفى الله المؤمنين الجواب عنه فيه بقوله - ولو شاء ربك لآمن من في الأرض
كلهم جميعا -.
قوله تعالى - (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون
أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا) الآية، قال فيه (يقال عشى بصره بكسر الشين إذا أصابته الآفة الخ) قال أحمد:
في هذه الآية نكتتان بديعتان إحداهما الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم وهى مسألة اضطرب
فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بإفادتها العموم حتى استدرك على الأئمة إطلاقهم القول بأن النكرة في
سياق الإثبات تخص. وقال: إن الشرط يعم والنكرة في سياقه تعم، وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن على الأنباري
شارح كتابه ردا عنيفا، وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق
شرط، ونحن نعلم أنه إنما أراد عموم الشياطين لا واحدا لوجهين: أحدهما أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا فكيف
488

بالعاشي عن ذكر الله، والآخر يؤخذ من الآية وهو أنه أعاد عليه الضمير مجموعا في قوله وإنهم فإنه عائد إلى
الشيطان قولا واحدا، ولولا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع عليه بلا إشكال، فهذه نكتة تجد
عند إسماعها لمخالفي هذا الرأي سكتة. النكتة الثانية أن في هذه الآية ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من
العود على لفظها بعد ذلك، واحتج المانع لذلك بأنه إجمال بعد تفسير وهو خلاف المعهود من الفصاحة، وقد نقض
الكندي هذا بقوله تعالى - ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها
أبدا قد أحسن الله له رزقا - ونقض غيره بقوله - ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم
ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه - الآية، وكان جدي رحمه الله قد استخرج من هذه الآية
بعض ذلك لأنه أعاد على اللفظ في قوله يعش وله مرتين ثم على المعنى في قوله - ليصدونهم - ثم على اللفظ بقوله
- حتى إذا جاءنا - وقد قدمت أن الذي منع ذلك قد يكون اقتصر بمنعه على مجئ ذلك في جملة واحدة، وأما إذا
تعددت الجمل واستقلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك حتى رددت على الزمخشري في قوله تعالى - لا يملكون الشفاعة
إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا - فإن الجملة واحدة، فانظره في موضعه.
489

قوله تعالى (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) قال (سؤال الرسل مجاز عن الفحص في شرائعهم والنظر
في مللهم الخ) قال أحمد: ويشهد لإرادة سؤال الأمم - فاسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك - والله أعلم.
قوله تعالى (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون، وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) قال فيه
(جازت إجابة لما بإذا التي للمفاجأة لأن فعل المفاجأة مقدر معها وهو العامل فيها النصب الخ) قال أحمد: الظاهر
490

في تسويغ هذا الإطلاق والله أعلم أن كل واحدة من هذه الآي إذا أفردتها بالفكر استغرقت عظمتها الفكر وبهرته
حتى يجزم أنها النهاية، وأن كل آية دونها، فإذا نقل الفكرة إلى أختها استوعبت أيضا فكره بعظمها وذهل عن
الأولى فجزم بأن هذه النهاية وأن كل آية دونها. والحاصل أنه لا يقدر الفكر على أن يجمع بين آيتين منهما ليتحقق
عنده الفاضلة من المفضولة، بل مهما أفرده بالكفر جزم بأنه النهاية، وعلى هذا التقدير يجرى جميع ما يرد من أمثاله،
والله أعلم.
قوله تعالى (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) الآية، قال (معناه: إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى
491

الإيمان الخ) قال أحمد: تقدم في غير موضع أن لعل حيثما وردت في سياق كلام الله تعالى فالمراد صرف الرجاء إلى
الخلوقين: أي ليكونوا بحيث يرجى منهم ذلك هذا هو الحق وعليه تأول سيبويه ما ورد، وأما الزمخشري فيحمل
لعل على الإرادة لأنه لا يتحاشى من اعتقاد أن الله يريد شيئا ويريد العبد خلافه فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الرب،
تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا فما أشنعها زلة وأبشعها خلة، ولقد أساء الأدب في هذا الموضع حتى أنه
لولا تعين الرد عليه لما جرى القلم بنقل ما هذى به وما اهتدى، وقد جرى على سنن أوائله في جعل حقيقة الأمر هو
الإرادة، وأضاف إلى ذلك اعتقاد أن العبد يوجد فعله ويخلقه، وأن مراد العبد يقع ومراد الرب لا يقع، فهذه
ظلمات ثلاث بعضها فوق بعض، نعوذ بالله من هذه الغواية - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا -.
492

قوله تعالى (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) قال فيه (معناه: إن صح وثبت برهان قاطع فأنا أول
من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له إلى آخره) قال أحمد: لقد اجترأ عظيما واقتحم مهلكة في تمثيله
ذلك بقول من سماه عدليا إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس بإله
فلينقم عليه ذلك بقول القائل: قد ثبت قطعا عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الإيمان وفاء
بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله، وتصديقا بمضمون قوله تعالى - هل من خالق غير الله؟ وقوله
- الله خالق كل شئ - وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا لزمه فرك أذنه وغل عنقه، إذ يلحد في الله إلحادا لم يسبقه
إليه أحد من عباده الكفرة، ولا تجرأ عليه ما رد من مردة الفجرة، ومن خالف في كفر القدرية فقد وافق على كفر
من تجرأ فقال هذه المقالة واقتحم هذه الضلالة بلا محالة، فإنه قد صرح بكلمة الكفر على أقبح وجوهها وأشنع
أنحائها، والله المسؤول أن يعصمنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قوله تعالى (وهو الذي في السماء إله وفى الأرض إله) قال فيه: ضمن اسمه عز وجل معنى وصف فعلق به
498

الظرف وهو قوله - في السماء - الخ. قال أحمد: ومما سهل حذف الراجع مضافا إلى الطول الذي ذكره وقوع
الموصول خبرا عن مضمر لو ظهر الراجع لكان كالتكرار المستكره إذا كان أصل الكلام وهو الذي في السماء إله
ولا ينكران الكلام مع المحذوف الراجع أخف وأسهل وأن الراجع إنما حذف على قلة حذف مثله لأمر متأكد فإنه لم يرد
في الكتاب العزيز إلا في قوله " تماما على الذي أحسن " ومع: أي في موضعين على رأى. عاد كلامه. قال:
وتحتمل الآية أن يكون في السماء صلة الذي على تأويل الإلهية الخ.
القول في سورة الدخان
(بسم الله الرحمن الرحيم)
499

قوله تعالى (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى) قال فيه (فإن قلت: كان الكلام معهم واقعا في
504

الحياة الثانية لا في الموت الخ) قال أحمد: وأظهر من ذلك أنهم لما وعدوا بعد الحياة الدنيا حالتين أخريين:
الأولى منهما الموت، والأخرى حياة البعث: أثبتوا الحالة الأولى وهى الموت ونفوا ما بعدها وسموها أولى مع
أنهم اعتقدوا أن لا شئ بعدها، لأنهم نزلوا جحدهم على الإثبات فجعلوها أولى على ما ذكرت لهم، وهذا أولى
من حمل الموتة الأولى على السابقة على الحياة الدنيا لوجهين: أحدهما أن الاقتصار عليها لا يعتقدونه لأنهم يثبتون
الموت الذي يعقب حياة الدنيا وحمل الحصر المباشر للموت في كلامهم على صفة لم تذكر لا على نفس الموت المشاهد
لهم فيه عدول عن الظاهر بلا حاجة. الثاني أن الموت السابق على الحياة الدنيا لا يعبر عنه بالموتة، فإن الموتة فعلة
فيها إشعار بالتجدد والطريان، والموت السابق على الحياة الدنيا أمر مستصحب لم تتقدمه حياة طرأ عليها هذا مع أن
في بقية السورة قوله تعالى - لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى - وإنما عنى بالموتة الأولى هنا الموت المتعقب
للحياة الدنيا فقط، ففيه إرشاد لما ذكرته والله أعلم.
505

قوله تعالى (إن شجرت الزقوم طعام الأثيم) الآية، قال فيه (إن أبا الدرداء أقرأها رجلا فلم يقم النطق بالأثيم
وجعل يقول طعام اليتيم الخ) قال أحمد: لا دليل فيه لذلك وقول أبى الدرداء محمول على إيضاح المعنى ليكون
وضوح المعنى عند المتعلم عونا على أن يأتي بالقراءة كما أنزلت، على هذا حمله القاضي أبو بكر في كتاب الانتصار
وهو الوجه، والله أعلم.
506

قوله تعالى (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) قال (إنما استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة
من الموت المنفى ذوقه فيها الخ) قال أحمد: هذا الذي ذكره مبنى على أن الموتة بدل على طريقة بنى تميم المجوز
فيها البدل من غير الجنس، وأما على طريقة الحجازيين فانتصبت الموتة استثناء " منقطعا، وسر اللغة التميمية بناء
النفي المراد على وجه لا يبقى للسامع مطمعا في الإثبات فيقولون ما فيها أحد إلا حمار، على معنى: إن كان الحمار
من الأحدين ففيها أحد، فيعلقون الثبوت على أمر محال حتما بالنفي، وعليه حمل الزمخشري - قل لا يعلم من في
السماوات والأرض الغيب إلا الله - أي إن كان الله ممن في السماوات والأرض ففي السماوات والأرض من يعلم
الغيب، فإذا نفر السامع من ثبوت الأولى تعدت النفرة إلى ثبوت الثاني فجزمت بالنفي، والله أعلم.
507

القول في سورة الأحقاف
(بسم الله الرحمن الرحيم)
514

قوله تعالى (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون. وإذا
حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) قال فيه (استفهام معناه إنكار أن يكون في الضلال كلهم
أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام الخ) قال أحمد: وفى قوله إلى يوم القيامة نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة
غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، ولكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية لأنهم في
القيامة أيضا لا يستجيبون لهم، فالوجه والله أعلم أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد
منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشئ وضده، وذلك
أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على
عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم، فهو من وادى ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله - بل متعت
هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين. ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون.
515

قوله تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه
الآية. قال فيه (اللام في قوله تعالى للحق نحو اللام في قوله - وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا
إليه - أي لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا) الخ. قال أحمد: هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها،
فإنه انتقال إلى موافق لكنه أزيد من الأول، فنزل لزيادته عليه مع ما تقدمه مما ينقص عنه منزلة المتنافيين كالنفي
والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر، وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات أشد وأبعد من نسبتها إلى
أنها سحر، فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه.
قوله تعالى (قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) قال (فإن قلت: ما معنى إسناد الفعل إليهم الخ) قال
أحمد: فيه نظر من قبيل أن الكلام جرى فرضا وتقديرا، ومتى فرض الافتراء لا يتصور على تقديره نصح، فإن
النصح عبارة عن الدعاء إلى ما فيه نفع، ولا ينفع المكلف في عمل ظاهر أو باطن إلا أن يكون مأمورا به من الله
516

تعالى، ولا سبيل إلى الاطلاع على ذلك من الوحي الحق لا غير، فإذا لا يتصور نصح مع الافتراء، وإنما يتم
هذا الذي قرره على قاعدة المعتزلة القائلين بأن العقل طريق يوصل إلى معرفة حكم الله تعالى، لأنه إذا أمر بطاعة
من الطاعات كالتوحيد مثلا وقال: إن الله حتم عليكم وجوب التوحيد وأنا رسول الله إليكم ولم يكن متعوقا فإنه
محق في الأمر بالتوحيد، لأن الفعل دل على وجوبه عندهم وإن كان مفتريا في دعوى كونه رسولا من الله عز وجل.
وهذه قاعدة قد أفسدتها الأدلة القاطعة، فيحتمل في إجراء الآية على مذهب أهل السنة أن يكون إسناد الفعل لهم
على معنى التنبيه بالشئ على مقابله بطريق المفهوم، فالمعنى إذا: إن كنت مفتريا فالعقوبة واقعة بي لا تدفعونها
عنى، فمفهومه وإن كنت محقا وأنتم مفترون فالعقوبة واقعة بكم لا أقدر على دفعها عنكم، ويشهد لهذا المعنى
قوله تعالى - قل إن افتريته فعلى اجرامي وأنا برئ مما تجرمون - وأمثاله كثيرة، والله أعلم.
قوله تعالى (وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم) قال (أجود ما ذكر فيه حمله على الدراية المفصلة، يريد بذلك أن
517

تفصيل ما يصير إليه من خير ويصيرون إليه من شر الخ) قال أحمد: بنى على أن المجرور معطوف على مثله وأنهما
جميعا في صلة موصول واحد، ولو قيل إن المجرور الثاني من صلة موصول محذوف معطوف على مثله حتى يكون
التقدير وما أدرى ما يفعل بي ولا ما يفعل بكم لكانت لا واقعة بمكانة غير مفتقرة إلى تأويل وحذف الموصول
المعطوف وتفاصيله كثيرة ومنه:
فمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء
يريد حسان رضي الله عنه: أفمن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يمدحه سواء؟
قوله تعالى (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)
قال فيه (إن قلت: أخبرني عن نظم هذا الكلام لأقف عليه من جهة النظم الخ) قال أحمد: إنما لم يوجه المعطوف
518

إلى جهة واحدة لأن التفصيل قد يكون عطف مجموع مفردات على مجموع مفردات كل منهما، والآية من هذا
النمط ومثلها قوله تعالى - وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور - وقوله - إن المسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات - الآية، وقد تقدم تقرير ذلك في الآيتين فجدد به عهدا.
قوله تعالى (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) قال فيه (لا بد من عامل للظرف، وغير مستقيم أن يعمل
فيه الخ) قال أحمد: إن لم يكن مانع من عمل فسيقولون في الظرف إلا تنافى دلالتي المضي والاستقبال فهذا غير
519

مانع، فإن الاستقبال ههنا إنما خرج مخرج الإشعار بدوام ما وقع ومضى، لأن القوم قد حرموا الهداية وقالوا
هذا إفك قديم وأساطير الأولين وغير ذلك - فمعنى الآية إذا: وقالوا إذ لم يهتدوا به هذا إفك قديم. وداموا على ذلك
وأصروا عليه، فعبر عن وقوعه ثم دوامه بصيغة الاستقبال كما قال إبراهيم - إلا الذي فطرني فإنه سيهدين - وقد
كانت الهداية واقعة وماضية ولكن أخبر عن وقوعها ثم دوامها فعبر بصيغة الاستقبال، وهذا طريق الجمع بين
قوله سيهدين وقوله في الأخرى فهو يهدين، ولولا دخول الفاء على الفعل لكان هذا الذي ذكرته هو الوجه،
ولكن الفاء المسببة دلت بدخولها على محذوف هو السبب، وقطعت الفعل عن الظرف المتقدم فوجب تقدير
المحذوف عاملا فيه لينتظم بتقديره عاملا أمران: مصادفة الظرف للعامل، والفعل المعلل لعلته، فتعين ما ذكره
الزمخشري لأجل الفاء لا لتنافى الدلالتين، والله أعلم.
قوله تعالى (وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا) (أجاز في نصبه أن يكون حالا عن كتاب لتخصصه بالصفة
الخ) قال أحمد: وجهان حسنان أعززهما بثالث وهو النصب على الاختصاص، وهذه الوجوه في قوله تعالى
- فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا - والله أعلم.
520

قوله تعالى (وأصلح لي في ذريتي) قال فيه (فإن قلت: ما معنى في ههنا؟ وأجاب بأن المراد جعل ذريته
الخ) قال أحمد: ومثله قوله تعالى - إلا المودة في القربى - عدولا عن قوله إلا مودة القربى أو المودة للقربى،
والله أعلم.
قوله تعالى (والذي قال لوالديه) إلى قوله (أولئك الذين حق عليهم القول) الآية، قال (زعم بعضهم أن
المعنى بالآية عبد الرحمن بن أبي بكر الخ) قال أحمد: ونحن نختار أن المراد الجنس لا عبد الرحمن بن أبي بكر، ولكنا
لا نختار الرد على قائل ذلك بهذا الوجه، فإن له أن يقول أراد عبد الرحمن وأمته، ومثل ذلك قول الله تعالى حكاية
521

عن العزيز يخاطب زليخا - إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم - فخاطبها وخاطب أمتها والمقصودة هي، وقد عاد
إلى خطابها خصوصا بقوله - واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين - ولكن وجه الرد على من زعم أن المراد
عبد الرحمن ما ذكره الزمخشري ثانيا فقال: إن الذين حق عليهم القول هم المخلدون في النار في علم الله تعالى،
وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم، ونقل أن معاوية كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، فقال
عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: أيها الناس إن هذا هو الذي قال الله فيه - والذي
قال لوالديه - الآية: فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله
لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله اه‍ كلامه. قلت: وفى هذه الآية رد على من زعم أن المفرد
الجنسي لا يعم لأنه لا يعامل معاملة الجمع لا في الصفة ولا في الخبر. فلا يجوز أن تقول الدينار الصفر خير من
الدرهم البيض، وهذا مردود بأن خبر الذي الواقع جنسا جاء على نعت خبر المجموع كما رأيت، والله أعلم.
522

قوله تعالى (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) الآية، قال فيه (عرضهم
على النار إما من قولهم عرض بنو فلان على السيف الخ) قال أحمد: إن كان قولهم عرضت الناقة على الحوض مقلوبا
فليس قوله يعرض الذين كفروا على النار مقلوبا، لأن الملجئ ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له
والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الحوض حقيقة، وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدركة
إدراك الحيوانات بل إدراك أولى العلم، فالأمر في الآية على ظاهره كقولك عرضت الأسرى على الأمير، والله أعلم.
523

قوله تعالى (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) الخ. قال أحمد: بيت المتنبي ليس كما أنشده لعمرك وإنما هو:
يرى أما مامابان منك لضارب * بأقتل مما بان منك لعائب
ولا يستقيم إلا كذلك لأن قبله:
هو ابن رسول الله وابن صفيه * وشبههما شبهت بعد التجارب
من قصيدة يمدح بها طاهر ابن الحسين العلوي ولو أتى أبو الطيب عوض ما بان لجاء البيت:
* يرى أن إن مابان عنك لضارب * وهذا التكرار أثقل من تكرار ما بلا مراء، وإنما فنده الزمخشري وألزمه
استعمال إن عوض ما لاعتقاده أن البيت كما أنشده:
لعمرك ماما بان منك لضارب * بأقتل مما بان منك لعائب
ولو عوض إن عوض ما كما أصلحه الزمخشري لزم دخول الباء في خبر ما، وإنما تدخل الباء في خبر ما
الحجازية العاملة، وإن لا تعمل عمل ما على الصحيح فلا يستقيم دخول الباء في خبرها، فما عدل المتنبي عن ذلك
إلا لتعذره عليه من كل وجه، على أنى لا أبرئ المتنبي من التعجرف فإنه كان مغرى به مغرما بالغريب من النظم،
ونقل الزمخشري في الآية وجها آخر وهو جعلها صلة مثلها في قوله:
يرجى المرء ما إن لا يراه * وتعرض دون أدناه الخطوب
قال: ويكون معناه على هذا: مكناهم في مثل ما مكناكم الخ قلت: واختص بهذه الطائفة قوله تعالى - وقالوا
من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة - وقوله - مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم -.
525

قوله تعالى (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة) قال فيه (أحد مفعولي اتخذ الراجع إلى
الموصول محذوف الخ) قال أحمد: لم يتبين وجه فساد المعنى على هذا الإعراب ونحن نبينه فنقول: لو كان قربانا
مفعولا ثانيا ومعناه متقربا بهم لصار المعنى إلى أنهم وبخوا على ترك اتخاذ الله متقربا به، لأن السيد إذا وبخ عبده
وقال اتخذت فلانا سيدا دوني فإنما معناه اللوم على نسبة السيادة إلى غيره، وليس هذا المقصد، فإن الله تعالى
526

يتقرب إليه ولا يتقرب به لغيره، فإنما وقع التوبيخ على نسبة الإلهية إلى غير الله تعالى فكان حق الكلام أن يكون
آلهة هو المفعول الثاني لا غير.
قوله تعالى (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم) الآية، قال (إنما بعض المغفرة لأن من
الذنوب ما لا يفغره الإيمان كذنوب المظالم اه‍ كلامه) قال أحمد: ليس ما أطلقه من أن الإيمان لا يغفر المظالم بصحيح
لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة وسفك الدماء المحقونة ثم حسن إسلامه جب الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا
إشكال. ويقال إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة وهذا منه، فإن لم يكن
لاطراده بذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافر قبض لا بسط فلذلك لم يبسط رجاءه في مغفرة جملة الذنوب، وقد ورد
في حق المؤمنين مثله كثيرا، والله أعلم.
527

القول في سورة محمد على الصلاة والسلام
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) قال (معناه: جعلها كالضالة من الإبل الخ)
قال أحمد: هذا المعنى الثاني حسن متمكن ملئ بمقابلة قوله - والذين آمنوا وعملوا الصالحات - ثم قال - كفر عنهم
سيئاتهم وأصلح بالهم - وتحرير المقابلة بينهما أن الكفار ضلت أعمالهم الصالحة في جملة أعمالهم السيئة من الكفر
والمعاصي حتى صار صالحهم مستهلكا في غمار سيئهم، ومقابله في المؤمنين ستر الله لأعمالهم السيئة في كنف أعمالهم
الصالحة من الإيمان والطاعة حتى صار سيئهم مكفرا ممحقا في جنب صالح أعمالهم، وإلى هذا التمثيل الحسن في عدم
تقبل صالح الكفار والتجاوز عن سيئ أعمال المؤمنين وقعت الإشارة بقوله تعالى - كذلك يضرب الله للناس
أمثالهم - والله أعلم
529

قوله تعالى (مثل الجنة التي وعد المتقون) الآية، قال فيه (هو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي الخ) قال
أحمد، كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها، لا يعوزها إلا التنبيه
على أن في الكلام محذوفا لا بد من تقديره، لأنه لا معادلة بين الجنة وبين الخالدين في النار إلا على تقدير مثل ساكن
فيه يقوم وزن الكلام ويتعادل كفتاه، ومن هذا النمط قوله تعالى - أجعلتهم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن
آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله - فإنه لا بد من تقدير محذوف مع الأول أو الثاني ليتعادل القسمان،
وبهذا الذي قدرته في الآية ينطبق آخر الكلام على أوله، فيكون المقصود تنظير بعد التسوية بين المتمسك بالسيئة
والراكب للهوى ببعد التسوية بين المنعم في الجنة والمعذب في النار على الصفات المتقابلة المذكورة في الجهتين،
وهو من وادى تنظير الشئ بنفسه باعتبار حالتين: إحداهما أوضح في البيان من الأخرى، فإن المتمسك بالسنة
هو المنعم في الجنة الموصوفة، والمتبع للهوى هو المعذب في النار المنعوتة، ولكن أنكر التسوية بينهما باعتبار
الأعمال أولا، وأوضح ذلك بإنكار التسوية بينهما باعتبار الجزاء ثانيا
533

قوله تعالى (الشيطان سول لهم) قال فيه (هو مشتق من السول وهو الاسترخاء) أي سهل لهم ركوب العظائم،
536

قال: وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا. قلت: لأن السؤل مهموز وسول معتل.
537

قوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) قال فيه (معنه لا تحبطوا الطاعات بالكبائر الخ) قال أحمد: قاعدة أهل
السنة مؤسسة على أن الكبائر ما دون الشرك لا تحبط حسنة مكتوبة، لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة
يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، نعم يقولون - إن الحسنات يذهبن السيئات - كما وعد به الكريم جل وعلا.
وقاعدة المعتزلة موضوعة على أن كبيرة واحدة تحبط ما تقدمها من الحسنات ولو كانت مثل زبد البحر، لأنهم
يقطعون بخلود الفاسق في النار وسلب سمة الإيمان عنه، ومتى خلد في النار لم تنفع طاعاته ولا إيمانه، فعلى هذا بنى
الزمخشري كلامه وجلب الآثار التي في بعصها موافقة في الظاهر لمعتقده ولا كلام عليها جملة من غير تفصيل، لأن
القاعدة المتقدمة ثابتة قطعا بأدلة اقتضت ذلك يحاشى كل معتبر في الحل والعقد عن مخالفتها، فمهما ورد من ظاهر
يخالفها وجب رده إليه بوجه من التأويل، فإن كان نصا لا يقبل التأويل فالطريق في ذلك تحسين الظن بالمنقول
عنه والتوريك بالغلط على النقلة، على أن الأثر المذكور عن ابن عمر هو أولى بأن يدل ظاهره لأهل السنة فتأمله.
وأما محمل الآية عند أهل الحق فعلى أن النهى عن الإخلال بشرط من شروط العمل وبركن يقتضى بطلانه من
أصله، لا أنه يبطل بعد استجماعه شرائط الصحة والقبول.
538

القول في سورة الفتح
(بسم الله الرحمن الرحيم)
قوله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله) الآية، قال فيه (جاء الإخبار بالفتح على لفظ الماضي)
وإن لم يقع بعد لأن المراد فتح مكة. والآية نزلت حين رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل عام الفتح،
540

وذلك على عادة رب العزة في أخباره، لأنها لما كانت محققة نزلت منزلة الكائنة الموجودة، وفى ذلك من
الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى. قلت: ومن الفخامة الالتفات من التكلم إلى الغيبة. عاد كلامه،
قال (فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة) وأجاب بأن ذلك علة لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة:
المغفرة، وإتمام النعمة، والهداية، والنصر العزيز كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوك لنجمع لك
عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. قال: ويجوز أن يكون الفتح من حيث كونه جهادا وعبادة سببا للغفران.
541

قوله تعالى (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) قال فيه (لما قال إنما يبايعون الله أكده
تأكيدا على طريق التخييل الخ) قال أحمد: كلام حسن بعد إسقاط لفظ التخييل وإبداله بالتمثيل، وقد تقدمت
أمثاله.
قوله تعالى (قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا) قال (أي قتلا وهزيمة أو أراد بكم نفعا أي ظفرا
543

وغنيمة) انتهى كلامه. قال أحمد: لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف، وكان الأصل والله
أعلم: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا، لأن مثل هذا النظم
يستعمل في الضر، وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا كقوله - فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح
ابن مريم - ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا - فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه - ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث " إني لا أملك لكم شيئا " يخاطب عشيرته، وأمثاله كثيرة، وسر
اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام، ودفع المضرة نفه يضاف للمدفوع عنه، وليس
كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له، فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه لأن القسمين
يشتركان في أن كل واحد منهما نفى لدفع المقدر من خير وشر، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة، وخص
عبارة دفع الضر لأنه هو المتوقع لهؤلاء، إذ الآية في سياق التهديد أو الوعيد الشديد وهن نظير قوله تعالى - قل من ذا
الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة - فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة، فهاتان
الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته، والله أعلم.
قوله تعالى (ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) قال فيه (يغفر ويعذب بمشيئته
الخ) قال أحمد: قد تقدمت أمثالها والقول بأن موجب الحكمة ما ذكر تحكم، هذا وأدلة الشرع القاطعة تأتى على
ما يعتقده فلا تبقى ولا تذر، فكم من دليل على أن المغفرة لا تقف على التوبة، وكم يروم اتباع القرآن للرأي الفاسد
فيقيد مطلقا ويحجر واسعا والله الموفق.
544

قوله تعالى (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل
لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسد وتنابل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) قال (المراد بكلام الله وعده
545

أهل الحديبية بغنائم خيبر عوضا عما يفوتهم من غنائم مكة الخ) قال أحمد: فالإضراب الأول إذا هو المعروف،
والثاني هو المستغرب المستعذب الذي ليس فيه مباينة بين الأول والثاني، بل زيادة بينة ومبالغة متمكنة، وإنما
كان المنسوب إليهم ثانيا أشد من المنسوب إليهم أولا، لأن الأول نسبة إلى جهل في شئ مخصوص وهو نسبتهم
الحسد إلى المؤمنين، والثاني يعتبر بجهل على الإطلاق وقلة فهم على الاسترسال.
546

قوله تعالى (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم) إلى قوله (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم
عذابا أليما) قال فيه (يجوز أن يكون جواب لولا محذوفا الخ) قال أحمد: وإنما كان مرجعهما ههنا واحدا،
وإن كانت لولا تدل على امتناع لوجود، ولو تدل على امتناع لامتناع، وبين هذين تناف ظاهر، لأن لولا
ههنا دخلت على وجود، ولو دخلت على قوله تزيلوا، وهو راجع إلى عدم وجودهم وامتناع عدم الوجود
وجود فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه، وكان جدي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني ويسميه تطرية، وأكثر
ما تكون إذا تطاول الكلام وبعد عهد أوله واحتيج إلى رد الآخر على الأول، فمرة يطرى بلفظه، ومرة بلفظ
آخر يؤدى مؤداه، وقد تقدمت لهما أمثال، والله أعلم، وهو الموفق.
548

القول في سورة الحجرات
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا) إلى قوله (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) ذكر فيه من النكت أنه تعالى
ابتدأ السورة بإيجاب أن يكون الأمر الذي ينتهى إلى الله ورسوله متقدما على الأمور كلها من غير تقييد ولا تخصيص
قال أحمد: يريد أنه لم يذكر المفعول الذي يتقاضاه تقدموا باطراح ذلك المفعول كقوله - يحيى ويميت - وحلى
الكلام بمجاز التمثيل في قوله - بين يدي الله ورسوله - بفائدة ليست في الكلام العريان وهو تصوير الهجنة والشناعة
فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الإحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة، وجعل صورة ذلك المنهى عنه مثل أن
يجلس العبد في الجهتين المسامتتين ليمين سيده ويساره ويوليه دبره، ومعناه: أن لا تقدموا على مر حتى يأذن الله
ورسوله فيه فتكونوا مقتدين فيما تأتون وتذرون بكتاب الله وسنة نبيه.
552

قال وقوله (واتقوا الله) على أثر ذلك بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق العار
بك فتنهاه أولا عن عين ما قارفه ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب
في طريقها ويتعلق بسببها.
553

وقوله (إن الله سميع عليم) أي فحقيق أن يتقى ويراقب.
وقوله (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) جدد النداء عليهم استدعاء لتجديد الاستبصار والتيقظ والتنبيه
عند كل خطاب وارد وتطرية للإنصات منهم لكل حكم نازل.
وقوله (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) أي إذا نطق ونطقتم فلتن أصواتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه
صوته ليكون عاليا على كلامكم وجهره باهرا لجهركم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم.
وقوله (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) أي إذا كان صامتا فابتدأتموه بالخطاب فإياكم والعدول
عما نهيتم عنه من رفع أصواتكم، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، قال: ولا يتناول النهى الرفع الذي
لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما كان بينهم في حرب أو مجادلة معاند له أو إرهاب عدو ونحوه،
ففي الحديث أنه قال للعباس وكان أجهر الناس صوتا لما انهزم الناس يوم حنين (أصرخ بالناس) ويروى من
جهارة صوت العباس أنه صاح في غارة يا صباحاه فأسقطت الحوامل، وفيه يقول نابغة بنى جعدة:
زجر أبى عروة السباع إذا * أشفق أن يختلطن بالغنم
وزعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه.
554

قوله تعالى (أن تحبط أعمالكم) قال فيه: إنه مفعول له ومتعلقه إما معنى النهى كأنه قال انتهوا كراهية حبوط
555

أعمالكم على حذف مضاف كقوله - يبين الله لكم أن تضلوا - وإما نفس الفعل فهو المنهى عنه على معنى تنزيل
صيرورة الجهر المنهى عنه إلى الحبوط منزلة جعل الحبوط علة في الجهر على التمثيل من وادى - ليكون لهم عدوا
وحزنا - قال: وتلخيص الفرق بينهما أنه على الثاني يقدر انضمام المفعول من أجله إلى الفعل الأول الخ. قال أحمد:
وهو يحوم على شرعة وبيئة إياك وردودها، وذلك أنه يعتقد أن ما دون الكفر ولو كبيرة واحدة تحبط العمل وتوجب
الخلود في العذب المقيم وتخرج المؤمن من اسم الإيمان ورسمه، ومعاذ الله من هذا المعتقد، فعليك بعقيدة أهل
السنة الممهدة في مواضع من هذا المجموع فجدد العهد بها، وهى اعتقاد أن المؤمن لا يخلد في النار وأن الجنة له
بوعد الله حتم ولو كانت خطاياه ما دون الشرك أو ما يؤدى إليه كزبد البحر، وأنه لا تحبط حسنة سيئة طارئة كائنة
ما كانت سوى الشرك، والزمخشري اغتنم الفرصة في ظاهر هذه الآية فنزلها على معتقده ووجه ظهورها فيما يدعيه
أن رفع الصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية لا تبلغ الشرك، وقد أخاف الله عباده من إحباطه
الأعمال بها، ولو كان الإحباط مقطوعا بنفيه لم تستقم الإخافة به، وأنى له أن يبلغ من ذلك آماله ونظم الكلام
يأباه عند البصر بمعناه فنقول: المراد في الآية النهى عن رفع الصوت على الإطلاق ومعلوم أن حكم النهى الحذر
مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ
الكفر المحبط للعمل باتفاع، فورد النهى عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام سواء وجد هذا المعنى أو لا
حماية للذريعة وحسما للمادة، ثم لما كان هذا المنهى عنه وهو رفع الصوت منقسما إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولا، ولا
دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا، وخوف أن يقع فيما هو محبط للعمل
وهو البالغ حد الإيذاء، إذ لا دليل ظاهر يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد
القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله - أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون - وإلا فلو كان الأمر على ما يعتقده
الزمخشري لم يكن لقوله - وأنتم لا تشعرون - موقع، إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا
قطعا، وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعا. فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق، إذا فلا
موقع لإدغام الكلام بعدم الشعور مع أن الإحباط ثابت مطلقا والله أعلم. وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على
مقدمتين كلتاهما صحيحة: إحداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة
الآن، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما يستحقه من الإجلال والإعظام
المقدمة الأخرى أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا وأفتوا بقتل من تعرض
لذلك كفرا ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر، والله الموفق.
556

قوله تعالى (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) قال فيه (الوراء الجهة التي يواريها
557

عنك الشخص بظله من خلف أو قدام الخ) قال أحمد: ولقد اغتر بعضهم في تبكيت بنى تميم بما لا تساعد عليه
الآية. فإذا نزلت في المتولين لمناداة النبي عليه الصلاة والسلام أو في الحاضرين حينئذ الراضين بفعل المنادين له،
وقد سئل عليه الصلاة والسلام عنهم فقال: هم جفاة بنى تميم، وعلى الجملة - ولا تزر وازرة وزر أخرى - فكيف
يسوغ إطلاق اللسان بالسوء في حق أمة عظيمة لأن واحدا منهم أو اثنين ارتكب جهالة وجفاء، فقد ورد أن
المنادى له عليه الصلاة والسلام هو الأقرع، هذا مع توارد الأحاديث في فضائل تميم وتخليدها وجوه الكتب
الصحاح. عاد كلامه، قال: وتأمل نظم الآية ومجيئها على النمط المسجل عن الصائحين الخ.
558

قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)
قال فيه (نكر فاسقا ونبأ لقصد الشياع فكأنه قيل: أي فاسق جاء بأي نبأ) قال أحمد: تسامح بلفظ الشياع،
559

والمراد الشمول لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط تعم كما إذا وقعت في سياق النفي، والله أعلم، عاد كلامه،
قال: وعدل عن إذا إلى إن لأن مجئ الفاسق بالكذب لرسول الله ولأصحابه مما يندر الخ.
قوله تعالى (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان)
الآية، قال فيه (الجملة المصدرة بلو لا تكون مستأنفة لأدائه إلى تنافر النظم الخ) قال أحمد: من جملة هبات المعتزلة
ثلبهم على عثمان رضي الله عنه ووقوفهم عن الحكم بتعنيف قتلته، فضم إلى هذا المعتقد غير معرج عليه ما أورده
الزمخشري في هذا الموضع من حكايات تولية عثمان لأخيه الوليد الفاعل تلك الفعلة الشنعاء عوضا عن سعد بن أبي
وقاص أحد الصحابة وما عرض به من أن بعض الصحابة كان يصدر منهم هنات، فمنها مطالبتهم النبي صلى
الله عليه وسلم باتباع آرائهم التي من جملتها تصديق الوليد في الإيقاع ببنى المصطلق، فإذا ضممت هذه النبذة التي
ذكرها إرسالا إلى ما علمت من معتقده تبين لك من حاله: أعني الزمخشري مالا أطيق التصريح به لأنه لم يصرح
وإنما سلكنا معه سبيل الإنصاف ومحجة الانتصاف نص بنص وتلويح بتلويح، فنسأل الله العظيم بعد الصلاة على
560

نبيه محمد خاتم النبيين أن يرضى عن أصحابه أجمعين وعنا بهم آمين. عاد كلامه، قال (ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف
والإمداد بالتوفيق الخ) قال أحمد: تلجلج والحق أبلج، وزاغ والسبيل منهج، وقاس الخلق بالواحد الحق،
وجعل أفعالهم لهم من إيمان وكفر وخير وشر اغترارا بحال من اعتقد اطراده في الشاهد وهو أن الإنسان لا يمدح بفعل
غيره، وقال الغائب على الشاهد تحكما وتغلغل باتباع هوى معجما فجره ذلك بل جرأه على تأويل الآية وإبطال
ما ذكرته من نسبة تحبيب الإيمان إلى الله تعالى على حقيقته وجعله مجازا، لأنه يعتقد أنها لو بقيت على ظاهرها لكان
خلق الإيمان مضافا إلى الله تعالى، والعبد إذا ممدوح بما ليس من فعله وهذا عنده محال، فاتبع الآية رأيه الفاسد،
فإذا عرضت عليه الأدلة العقلية على الوحدانية والنقلية على أنه لا خالق إلا الله خالق كل شئ وطولب بإبقاء الآية
على ظاهرها المؤيد بالعقل والنقل، فإنه يتمسك في تأويلها بالحبال المذكورة في التحكم بقياس الغائب على الشاهد
مما له إدلاء إلى تعويج كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالذي تعتقده ثبتنا الله على الحق
أن الله تعالى منح ومدح وأعطى وأمتن، فلا موجود إلا الله وصفاته وأفعاله، غير أنه تعالى جعل أفعاله بعضها
محلا لبعض، فسمى المحل فاعلا والحال فعلا، فهذا هو التوحيد الذي لا محيص عنه للمؤمن ولا محيد، ولا بد أن
أطارحه القول فأقول: أخبرني عن ثناء الله على أنبيائه ورسله بما حاصله اصطفاؤه لهم لاختياره إياهم هل بمكتسب
أم بغير مكتسب؟ فلا يسعه أن يقول إلا أنه أثنى عليهم بما لم يكسبوه، بل بما وهبه إياهم فاتهبوه، وإن عرج على
القسم الآخر وهو دعوى أنهم أثنى عليهم بمكتسب لهم من رسالة أو نبوة فقد خرج عن أهل الملة وانحرف عن أهل
القبلة، وهذه النبذة كفاية إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى (أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة) أعرب فضلا في الآية مفعولا من أجله منتصبا عن
قوله الراشدون الخ. قال أحمد: أورد الإشكال بعد تقرير أن الرشد ليس من فعل الله تعالى وإنما هو فعلهم حقيقة
561

على ما هو معتقده، ونحن بنينا على ما بينا أن الرشد من أفعال الله ومخلوقاته فقد وجد شرط انتصاب المفعول له وهو
اتحاد فاعل الفعلين، على أن الإشكال وارد نصا على تقريرنا على غير الحد الذي أورده عليه الزمخشري، بل من
جهة أن الله تعالى خاطب خلقه بلغتهم المعهودة عندهم، ومما يعهدونه أن الفاعل من نسب إليه الفعل وسواء كان
ذلك حقيقة أو مجازا حتى يكون زيد فاعلا وانقض الحائط وأشباهه كذلك وقد نسب الرشد إليهم على طريقة
562

أنهم الفاعلون وإن كانت النسبة مجازية باعتبار المعتقد، وإذا تقرر وروده على هذا الوجه فلك في الجواب عنه
طريقان: إما جواب الزمخشري، وإما أمكن منه وأبين وهو أن الرشد يستلزم كونه راشدا إذ هو مطاوعه لأن
الله تعالى أرشدهم فرشدوا، وحينئذ يتحد الفاعل على طريقة الصناعة المطابقة للحقيقة، وهو عكس قوله - يريكم
البرق خوفا وطمعا - فإن الإشكال بعينه وارد فيها، إذ الخوف والطمع فعلهم: أي منسوب إليهم على طريقة أنهم
الخائفون الطامعون والفعل الأول لله تعالى لأنه مر بهم ذلك. والجواب عنه أنهم مفعولون في معنى الفاعلين
بواسطة استلزام المطاوعة، لأنه إذا أراهم فقد رأوا وقد سلف هذا الجواب مكانه، فصححت الكلام ههنا
بتقدير المفعول فاعلا، وعكسه آية الحجرات إذ تصحيح الكلام فيها بتقدير الفاعل مفعولا. وهذا من دقائق
العربية فتأمله والله الموفق.
قوله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) قال فيه (لم قال اقتتلوا عدولا الخ) قال أحمد: قد تقدم
في مواضع إنكار النحاة الحمل على لفظ من بعد الحمل على معناها، وفى هذه الآية حمل على المعنى بقوله اقتتلوا
ثم على الفظ بقوله بينهما، فلا يعتقد أن المقول في من مطرد في هذا لأن المانع لزوم الإجمال والابهام بعد التفسير
وههنا لا يلزم ذلك إذ لا إبهام في الطائفة بل لفظها مفرد أبدا ومعناها جمع أبداء، وكانت كذلك لاختلاف أحوالها من
حيث المعنى مرة جمعا ومرة مفردا فتأمله، والله الموفق.
563

قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم) الآية قال فيه (لم يقل لا يسخر
بعض المؤمنين والمؤمنات الخ) قال أحمد: ولو عرف فقال لا يسخر المؤمنون بعضهم من بعض لكانت كل جماعة
منهم منهية ضرورة شمول النهى، ولكن أورد الزمخشري هذا، وإنما أراد أن في التنكير فائدة أن كل جماعة منهية
على التفصيل في الجماعات والتعرض بالنهى لكل جماعة على الخصوص، ومع التعريف تحصيل النهى لكن لا على
التفصيل بلى على الشمول، والنهى على التفصيل أبلغ وأوقع عاد كلامه، قال (وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من
امرأة للإشعار الخ) قال أحمد: وهو في غاية الحسن لا مزيد عليه، قال: وقوله - عسى أن يكونوا خيرا منهم -
جواب للمستخبر عن علة النهى الخ. قال أحمد: وهو من الطراز الأول.
565

قوله تعالى (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) قال فيه (الاسم ههنا الذكر من قولهم طار اسمه في الناس بالكرم
كأنه قال: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين الخ) قال أحمد: أقرب الوجوه الثلاثة ملائمة لقاعدة أهل السنة وأولاها
هو أولها، ولكن بعد صرف الذم إلى نفس الفسق، وهو مستقيم لأن الاسم هو المسمى، ولكن الزمخشري لم يستطع
ذلك انحرافا إلى قاعدة يصرف الذم إلى ارتفاع ذكر الفسق من المؤمن تحوما على أن الاسم التسمية، ولا شك أن
صرف الذم إلى نفس الفسق أولى. وأما الوجه الثاني فأدخله ليتم له حمل الاسم على التسمية صريحا. وأما الثالث
567

فليتم له أن الفاسق غير مؤمن، وكلا القاعدتين مخالف للسنة فاحذرهما وبالله التوفيق. ولقد كشف الله لي عن
مقاصده حتى ما تنقلب كلمة متحيزة إلى فئة البدعة إلا إذا أدركها الحق فكلمها ولله الحمد.
568

قوله تعالى (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) قال فيه (وجه هذا النطم: تكذيب دعواهم أولا الخ)
569

قال أحمد: ونظير هذا النظم ومراعاة هذه اللطيفة قوله تعالى - إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول
الله - ثم قال - الله يشهد إن المنافقين لكاذبون - ولما كان مؤدى هذا تكذيب الله تعالى لهم في شهادتهم برسالة النبي
صلى الله عليه وسلم قدم على ذلك مقدمة تلخص المقصود وتخلصه من حوادث الوهم ونوائبه فقال بين الكلامين
- والله يعلم إنك لرسوله - ثم قال بعد ذلك - والله يشهد إن المنافقين لكاذبون - فتلخص من ذلك أنهم كذبوا فيما
ادعوه من شهادة قلوبهم بالحق لأن ذلك حقيقة الشهادة، لا أنهم كذبوا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول
من الله، وكان المخلص من ذلك قوله جل وعلا - والله يعم إنك لرسوله -.
انتهى الجزء الثالث من كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، ويليه الجزء الرابع وأوله:
سورة ق
570