الكتاب: حقائق التأويل
المؤلف: الشريف الرضي
الجزء:
الوفاة: ٤٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: شرح : محمد رضا آل كاشف الغطاء
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار المهاجر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: دار الكتب الإسلامية - قم - ايران

منتدى النشر
حقائق التأويل
في
متشابه التنزيل
تأليف
السيد الشريف الرضي المتوفى 406
الجزء الخامس
شرحه
العلامة الأستاذ محمد الرضا آل كاشف الغطاء
دققته
دار المهاجر
للطباعة. والنشر. والتوزيع.
تعريف الكتاب 1

كلمة الناشر
.. في حقبة نادرة من تاريخ العلوم، حافلة بأزاهير الآداب والفنون،
عاش نادرة زاهرة من نوادر الزمن، السيد الشريف الرضي، نازعا إلى
أعرق المناسب والمناصب، يتخذ مكانته العليا بين ذوي المثالة وأعيان
الفضيلة: شاعرا مطبوعا متصرفا، وكاتبا بارعا رائق الديباجة صافي
الأسلوب، محدثا فقيها مفسرا عديم النظير.
واليكم جزء من عشرة اجزاء من تفسير لمتشابهات القرآن وقد تناسى
التاريخ التسعة الباقية، وبعد حوالي عشرة قرون حصل منتدى النشر
في النجف الأشرف على هذه النسخة فقام بطبعها قبل أربعين عاما، بأحسن
الحروف واتقن التدقيقات، قليلة الأغلاط كثيرة الملاحظات الشارحة لما
أجمل من ألفاظها.
وحقيق لمثل هذا السفر القيم ان يملا المكتبات - النسخة الوحيدة
عن تفسير متشابه القرآن - التي حوت ألوان المعارف، وزخرت بأشتات
الطرائف، وحفظت بين جنبيها نتائج القرائح، وعمرت بها مجالس العلماء،
وسوامر الأدباء.
ونحن مع تقديم الشكر المتواصل إلى القائمين بطبعها لأول مرة بهذه
الجودة والنضارة - نطبعها ثانية على صورتها بالأوفسيت، دون زيادة
ولا نقصان، إلا اصلاح الأغلاط المطبعية في متن الكتاب.
كلمة الناشر 2

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمه السوابغ والشكر له على ما ساق من توفيق
والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا.
تأسيس منتدى النشر:
في العام الماضي تأسس (منتدى النشر) على فكرة كانت تتغلغل
في أدمغة رجالات النجف ومفكريها من عهد بعيد، تناشدوا تحقيقها
وتهامسوا في درسها، وكادت قبل ست سنوات أن تقهر بعض الأزمات
الاجتماعية هنا، فتطلع للملا حاملة راية النصر آخذة بأعضاد ثقافتنا
المبعثرة هنا وهناك، لولا تباطؤ في بعض مفكريها والعاملين لتحقيقها
فتراجعت مهضومة ورقدت مأسوفا عليها، شأن الآراء التي لا تأخذ
نصيبها الكافي من النضج.
المقدمة 3

ولا بد من الاعتراف بأن (منتدى النشر) هو وليد تلك الفكرة
ونتيجة طبيعية لتلك الحركة، بعد أن مضغتها النوادي النجفية بأشداقها
مدة من الزمن، ما زادها نضجا وأعدها للهضم، فانتهز فرصتها
زمرة من الروحيين، وقد عرفوا من أين تؤكل الكتف. وما هي
إلا خاطرة تحولت في يومها إلى عقيدة فعزيمة فعمل وضع موضع التنفيذ،
استنادا على إذن وزارة الداخلية الجليلة بتأسيسه، حتى كان منتدى
النشر، فكان معقد الآمال، وفيه الهدف الذي صوبت له سهام
تلكم الأفكار.
ولا بد هنا ألا ننسى فضل رجال العلم وأساتذته الذين انتسبوا لهذه
المؤسسة وهي في إبان نشأتها الأولى، حتى انتظمت من الجميع كتلة صالحة
ومجمع علمي يكفل بتحقيق أغراض سامية، ونهضة علمية مباركة، لا غنى
للمسلمين اليوم عنها وخاصة عراقنا المحبوب الذي يطلع طلع الثقافة العالية،
وينتظر حركة النشر الكافلة بحياته الأدبية. والله تعالى يأخذ بأيدي العاملين
باكورة الاعمال هذا الكتاب:
وكان أول تفكير مجلس الإدارة من يوم انعقاده أن يتقدم للأمة بكتاب
فخم من تراث الآباء، جامعا بين فضيلتي العلم والأدب، وخدمتي الدين ولغة
الضاد، ليفتتح به المنتدى أعماله. وبعد سرعة التنقيب أياما فتحت
لنا مكتبة العلامة الكبير شيخنا الهادي من آل كاشف الغطاء أبوابها،
ولبت نداء الواجب في نشر العلم، وإذا بدرة يتيمة احتفظ بها الدهر،
وثمالة من تراث مجيد طوح به الزمان إلا هذا الجزء الذي بأيدينا، قابعا
المقدمة 4

في هذه الزاوية القيمة، ينتظر من يتنسم به أرج الفضاء، ويتململ من
طول مكافحة الانزواء، وقد مر عليه ألف عام تقريبا، ولا من يحنو
عليه فيضعه لما خلق له من النشر فالاستفادة من ينبوعه، وفيه شرعة العالم
والمتعلم!
نعم! وكأنه ينتظر (منتدى النشر) ليسدل عليه ثوبا فضفاضا،
ويؤدي با أمانة العلم، فرحب به ترحيب مقدر لما أودع فيه من طلالة
الأدب العالي، وروعة الديباجة العربية البحتة، وجمال الثقافة الدينية
الصريحة. فصمم مجلس الإدارة تصميم الولهان - بعد فحصه الفحص
الكافي - على نشره بقراره الأخير في جلسته المنعقدة بتاريخ 23 ربيع
الثاني 1354 ه‍. ثم وجه به إلى الهيئة المشرفة بعد تأليفها من خيرة
العلماء والأساتذة: (الشيخ عبد الحسين الحلي والشيخ مرتضى آل يس
والشيخ محمد حسين المظفر)، وهم بدورهم فحصوا عن دخلته، ورووا
فيه حتى صدقوا قرار الإدارة بتاريخ 19 رجب 1354 ه‍.
العذر في نشر هذا الجزء:
على أن هذا هو الجزء الوحيد الذي عثرنا عليه من بين عدة
اجزاء مفقودة لم نتحققها، ولم نجد لها عينا ولا أثرا، فلم يقف ذلك
دون الاقدام على نشره منفردا عن أخواته. والعاذر لنا ان الكتاب
- كما تعرفه من اسمه - خاص بمتشابه التنزيل، على طريقة نادرة في
التأليف: فستجد من ذي قبل أن المؤلف يعقد لكل آية من المتشابه
مسألة قائمة بنفسها، مقطوعة حلقة الاتصال بطرفيها من أخواتها، إلا
المقدمة 5

الاشتراك في البحث عن متشابه الآي، فكان هذا الكتاب مجموعة
مسائل متنوعة، ولكل مسألة استقلالها العلمي وفائدتها الخاصة، لا
كسائر مؤلفات علم التفسير. فما أجدر هذا الجزء بمجموعه أن يستطيل
بهذا الاستقلال العلمي ويقوم بنفسه غنيا عن أخواته في الفائدة! وإن
كنا - ومعنا رواد المعارف - نتلهف لهاتيك الضائعة تلهف الضمآن لنهلة
ماء بارد.
وفوق ذلك أن أكثر متشابهات القرآن العزيز متماثلة التشابه
والاجمال، فكم كان يغنينا حل عقود الامر المشتبه في 37 آية عن
حله في نظيراتها من مئات الآيات. على أن المؤلف سيذهب بك يمينا
وشمالا في الآيات غير المتشابهة، فيلم بك إلمامة كافية في جملتها، حتى
لتجدك قد جست خلال جملة القرآن، عارفا بمناسبات آياته ونكاتها
ومعانيها، وهذا ما زاد في قيمة هذا السفر الجليل، والتشجيع على اخراجه
للمستفيدين تنقع به الغلة وتشفى به العلة.
وبعد، فليست هذه بدعة في النشر، وعلى الأقل ليست بأول
بدعة ابتدعت، ما دام الاحتفاظ بتراث السلف وتخليد آثارهم سنة محبوبة
لا تقتصر على نشر ما جادت به أقلامهم كاملة، وما دام نشر الناقص منها
يقوم بكثير من واجب خدمة العلم والثقافة.
وبعد هذا كله، فلنا الامل أن نجد من هذا الجزء مفتاحا لباقي الاجزاء
الموصدة في حصون الاهمال أو النسيان، إن لم تكن قد ذهبت من كرة الأرض.
وما أسعد تلك الساعة التي تخبرنا عن قبضنا على هذه الاجزاء، لنضعها
المقدمة 6

في صف أخيها الوحيد، وكادت أن تتحقق هذه الأمنية حينما أخبرنا
وافد أن الاجزاء بكاملها في قبضة يده، حتى صدقنا سن بكره، فرجعنا
بخفي حنين، ولعل وراء الأكمة ما وراءها، وبعد حين يصرح المحض
عن الزبد.
التعليق على الكتاب وتحقيقه:
بعد أن صحت العزيمة على اخراج الكتاب، كان ضربة لازم علينا
ألا يخرج خالصا من شرح مختصر يتضمن لمعا من فوائد لابد منها،
وحلول لبعض مبهماته، وتفسير للغريب من مفرداته. وكان لازما
أن يحقق ويصحح على ما تقتضيه استفادة المطالعين وأمانة النقل.
ومن أولى بالمهمة الأولى من الأستاذ العلامة الشيخ محمد رضا آل كاشف
الغطاء، والنسخة الأولة من الكتاب التي اعتمدنا عليها ولبت نداء
هي نسخة مكتبة والده العامرة. وقد قلبها ظهرا لبطن، وفحصها ولا بد
أن يعرف ما تحتاج من بيان وشرح، ولذلك عهد إليه مجلس الإدارة بهذه
المهمة وصدر له كتابه المؤرخ 19 رجب 1354، وجاء فيه (ولما كان
الجزء الخامس من كتاب حقائق التأويل في مكتبتكم الجليلة، نرجو أن
تتفضلوا بنسخته للطبع عليها، بعد أن تعلقوا عليه تعليقة مختصرة نافعة
تسد الخلة وتوضح المبهم...)
ومن للمهمة الثانية؟ وتحقيق مثل هذا الكتاب والتثبت فيه لا يستغنى
عن خبرة واسعة، ووقوف شامل على جملة علوم لها علاقتها بأبحاثه ومسائله،
فما كان إلا أن تألفت لهذا الغرض لجنة من الأساتذة أعضاء الهيئة المشرفة
المقدمة 7

الموقرة والأستاذ العلامة المعتمد الشيخ محمد جواد الحچامي، فواصلوا
اجتماعاتهم في بحث وتنقيب ودرس حتى أتموا الكتاب، بعد استحضار
نسخة مكتبة العلامة ميرزا محمد الطهراني بسامراء، ونسخة مكتبة العلامة
الشيخ محمد السماوي بالنجف، منضمتين إلى النسخة الأولى.
وكان من عمل هذه اللجنة أن قابلت بين هذه النسخ الثلاث،
وعند الاختلاف تضع في الأصل أنسب النسخ وأقربها للصحة،
وتضع في التعليقة النسخة المخالفة، مشيرين لكلمة (نسخة) بالحرف
(خ). وهذا ليستمر القارئ في مطالعته من غير تلكؤ، وإذا شاء
التثبت ومعرفة الصحيح - ولعل الصحيح ما في التعليقة - فباستطاعته
أن يرجع إليها ليتعرفه، فكانت اللجنة بهذا العمل قد سجلت رأيها،
وفتحت للمطالع بابا لرأيه واجتهاده، مع المحافظة على أمانة النقل. كما
أنها إذا رأت قصور النسخ جميعها أثبتت في الأصل ما رجحته من أقرب
تغيير لما في النسخ، منبهة في التعليقة على ذلك، للغرض المتقدم.
ولا بد من التنويه بفضل الأستاذ الشارح الذي قابل مطالعات اللجنة
بارتياح العالم الثبت، وهي شيمة العلماء المثقفين.
طبع الكتاب:
فكرنا أن يظهر الكتاب جميل الطبع ممتاز الورق. وفيه آيات قرآنية،
ونكات أدبية، وألفاظ غريبة، فما أحوجه إلى الحروف المشكلة! أنطبعه
ببغداد؟ خارج العراق؟.. لا..! لابد أن نقف على تصحيحه عن
كثب.
المقدمة 8

إذن!.. لابد أن يكون بالنجف فلنستجوب مطابعها! ولكنها
غير جاهزة بتلك الحروف. وهذه مشكلة كيف حلها؟ اتفقنا بعد لأي
وتردد دام شهرين - ومطبعة الغري، لتستوردها من أقرب مكان. - من
أقرب مكان؟ ليس إلا من مصر. فلنصبر!
وهنا جاء دور الورق. من أين لنا ذلك الورق الممتاز؟ ببغداد؟
من الخارج؟ فحصنا في العاصمة. وما كان بعد الفحص؟ كان الاتفاق
على هذا الورق الذي تراه، ولكنه سيأتي من أوروبا في الطريق.
لنصبر أيضا!
مضى أكثر من شهرين، فجاءت الحروف وجاء الورق والحمد لله.
لنشرع! ولكنها الحروف..! قالت الحروف: اصبروا شهرا
على الأقل ها أنذا ناقصة والتتمة بعدي، انتظروها ما بالكم جزعتم!
صبرنا وإلى متى؟.. إلى.. إلى شهر ونصف، حتى كنا قد قطعنا ستة
أشهر تقريبا على مضض الصبر، والصبر مفتاح الفرج.. فشرعنا..
ثم ماذا؟.. قالت المقادير: وما تشاءون إلا أن يشاء الله. لتمض
ستة أشهر أخرى، حتى تعرفوا قيمة هذه الاعمال وعناءها في مثل
النجف. فحمدنا أمرنا وشكرنا الله على ما أنعم وتفضل.
وضع الكتاب وضبطه:
وكان من أحد الاعمال المضنية ضبط الكتاب وآياته، ووضعه
على الذوق الحديث ورسم الخط الصحيح، ولا تقوم النسخ التي بأيدينا
بهذه المهمة طبعا، فنسخناه. ومما يجدر التنبيه عليه أنا ارتأينا تسهيلا للمطالع
المقدمة 9

وتقريبا لبحوث الكتاب إلى فهمه، أن نتصرف بشيئين لا يخلان
بأصل الكتاب:
1 - وضع الاعداد للمسائل ولآياتها ولأقوال العلماء فيها،
2 - وضع عنوان عام لكل مسألة وفصل، ووضع عناوين
خاصة في صدر كل مسألة لهم محتوياتها وخاصة لما يستطرده المؤلف.
ورأينا أن نشير في التعليقة إلى سورة كل آية يستشهد بها والى عددها
من السورة، مفضلين في عد الآيات طريقة الكوفيين التي تروى عن
علي أمير المؤمنين عليه السلام. وكنا نهمل ضبط وسورة الآية المتقدم
لها ذكر قريبا، اكتفاء بضبطها وذكر سورتها في أول مرة.
نسخ الكتاب
الأصل الأول:
لهذا الجزء أصلان أقدمهما النسخة الموجودة في المكتبة الرضوية
الموقوفة بطوس، يرجع تأريخها إلى ما بعد المؤلف بقرن وربع تقريبا،
نقلها كاتبها على نسخة قرئت على المؤلف، وعليها خطه، كما ستجد ذلك
في راموز الصفحة الأخيرة منها.
وقد حاولنا الحصول على نسخة فوتوغرافية لها أو مقابلة ما بأيدينا
عليها تثبتا، فحالت دون تنفيذ هذه الفكرة شؤون محلية وقتئذ بطوس،
بالرغم من بذل المساعي من مندوبنا الذي سافر إلى هناك، وأكثر ما
توفق إليه أخذ صورة الصفحة الأولى والأخيرة وستجد راموزهما هنا.
المقدمة 10

وكان من انتفاعنا بهما أنا اطلعنا على قدم النسخة الظاهر من خطها ومن
تأريخها، وحصلت لنا الثقة بصحة نسبة هذا الجزء لمؤلفه. ولا يسعنا إلا
أن نشكر بعض علماء خراسان الذين اهتموا بتنفيذ رغبتنا خدمة للعلم،
وساعدوا مندوبنا.
وهذا الأصل هو المرجع الأول لجميع النسخ التي بأيدينا، فقد
كان العلامة الكبير أشهر علماء الإمامية في إتقان الحديث والرجال ميرزا
حسين النوري قدس سره المتوفى سنة 1320 ه‍، بذل الجهود الجبارة
فيما بذل من عناء وسعي لتحصيل هذا الكتاب وغيره في رحلاته إلى إيران
والهند المتواصلة، حتى عثر على هذا الجزء في المكتبة الرضوية المبعثرة
يومئذ، فأخرجه، ونسخه بقلمه وجاء بنسخته إلى العراق غانما، وأشاعها في
الأوساط العلمية، وأبرز هذا الكنز للملاء واضحا، فتلقته العلماء ونسخوه،
وهذه النسخ الثلاث من جملة فروع هذه النسخة، ولا ندري أين ذهبت
بها عوادي الدهر بعد صاحبها أعلى الله درجته.
الأصل الثاني:
والأصل الثاني نسخة مكتبة العلامة السيد محسن القزويني بالحلة،
مخطوطة بالخط النسخي، ومؤرخة بسابع شوال 1097 ه‍، ومنقولة
على نسخة مؤرخة بسلخ شوال 1039 ه‍ نسخت ببلدة أصفهان. وقد قرر
مندوبنا الموفد للوقوف عليها أنها سقيمة الخط مع ما فيها من أغلاط شائعة فيها
ما أسقطها عن الاعتماد عليها واستظهر أن ناسخها ممن لا يمت للعلم واللغة
العربية بسبب وثيق، وليس فيها دلالة على أنها مصححة أو مقابلة.
المقدمة 11

على أن العلامة الهادي كان قد قابل نسخته عليها بدقة متناهية، فكانت
نسخته فرعا للأصلين ومجمعا للنسختين، مع تحقيقاته القيمة التي ادخلها عليها
والفهارس التي وضعها لها، وهذا ما أكد استغناءنا عن الرجوع إلى
هذا الأصل والمقابلة عليه ثانيا. وهذا الفرع أصح النسخ التي تحت أيدينا
وأتقنها وعليه أكثر اعتمادنا، وبعده في الصحة نسخة العلامة السماوي
المنقولة على نسخة المحدث النوري رحمه الله.
قيمة الكتاب العلمية:
إذا أردت أن تتعرف قيمة هذا الكتاب، فيكفيك أن تعرف
- وكل أحد يعرف - من هو الشريف مؤلفه صاحب تلك العبقرية النادرة
والنبوغ الفطري. وإذا كانت شهرته الطائرة لا تجد منك كبير ثقة
بهذه الشخصية الفذة، فسيمر عليك درسها ضمن ترجمته بقلم شيخنا الأستاذ
العلامة الحلي، وستري كيف كنت تجهل هذا النابغة المحلق، وستري أن
كتابه هذا غيض من فيض.
وخذ بعد هذا بين يديك هذا الجزء، واذهب في صفحاته أينما
شئت، وهل ترى من وسعك ألا تضم صوتك إلى الكلمة الكبيرة
التي لم تقل في كتاب غيره؟ تلك كلمة أستاذه ابن جني الخلدة كما في
تأريخ ابن خلكان في ترجمة المؤلف: (صنف الرضي كتابا في معاني
القرآن الكريم يتعذر وجود مثله دل على توسعه في علم النحو واللغة)
ومثلها في تاريخ الخطيب البغدادي في ترجمة المؤلف عن أحمد بن عمر بن
روح ونظيرها أيضا ما في معالم العلماء لابن شهرآشوب.
المقدمة 12

وميزة هذا السفر (أولا): بيانه العالي السهل، الذي يتفق بأسلوبه
مع الذوق الحديث في الانشاء، والأصح أن الذوق الحديث هو الذي أرجعنا
إلى مثل المؤلف في تلك العصور الحافلة بأعلام الأدب وبلغاء كتاب
العرب، أمثال الجاحظ والثعالبي والصاحب بن عباد ومنهم المؤلف.
أرجعنا بعد أن فسد البيان بضروب التسجيع البارد والتعقير المخل.
(ثانيا): اختصاصه بموضوع المتشابه في هذا الأسلوب.
(ثالثا): جمعه واستقصاؤه لأقوال العلماء إلى ذلك العصر،
فكان له بذلك ميزة تأريخية قيمة، ولو أنه كان يذكر أسماء القائلين
وأصحاب الآراء دائما، لبلغ بذلك الغاية القصوى من هذه الناحية.
وهذا الجمع لم نعرفه لكتاب آخر قبله إلا ما كان في أمالي الشريف
علم الهدى أخيه المرتضى رحمه الله، فيما يتفق وهذا الكتاب ببعض
المسائل.
ومما لفت أنظارنا ما وجدنا من التقارب والتشابه بين هذين الكتابين
في المسائل المشتركة. فمن هو السابق يا ترى؟ وهل درسا على أستاذ
واحد فتلقيا هذه المعلومات الواحدة؟ نعم نجد أن المرتضى أملى مجالسه
في طريق الحج، وكان قد حج عام 394 ومعه أخوه والوزير
الحسين بن الريان، ولا نعلم أنه حج قبل هذا ولا بعده، على أنه يخبرنا
في أماليه ج 1: ص 78 من المطبوع بمصر، أن بعض أصدقائه اقترح عليه
إجازة بيت لأبي دهبل فأجازه بمقطوعة، فنجد هذه المقطوعة في ديوانه
المخطوط بمكتبة شيخنا العلامة الحلي وأن المقترح عليه هو هذا الوزير
المقدمة 13

في طريق الحج، وعليه فلا يكون تأليف الأمالي في حجة سابقة على
هذه. ونجد ابن جني قد قرض حقائق التأويل - كما سبق - وهو قد
توفي عام 392، إذن لابد أن يكون الرضي قد ألف كتابه في زمان
سابق على الأمالي بسنتين على الأقل.
ولكنا من جانب آخر نرى ان الرضي في تأويل (وإلى الله ترجع
الأمور) ينقل القول السابع عن بعضهم كما تجده في صفحة (212)،
وهذا القول بنص عبارته يذكره المرتضى في ج 2: ص 43 احتمالا
من نفسه. ونرى أيضا المرتضى في ج 1 ص 97 يذكر وجها لنفسه
في آية (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) ويقول: (لم
نجدهم ذكروه)، والرضي في ص 9 ينقل هذا الوجه فيقول: (وقد
قيل أيضا..). إذن لابد أن يكون الرضي قد رأى الأمالي حينما
ألف كتابه. فمن هو السابق يا ترى؟ وهل يصح أن يكون الرضي قد
ادخل هذين القولين بعد تأليفه لكتابه لما أملي أخوه مجالسه؟ الله
أعلم بالحال.
مؤاخذة عامة:
ومؤاخذة واحدة عامة على هذا السفر وجدنا ألا نغفل عنها، هي
استعماله لحرف (اي) التفسيرية في موضع الاسم، فيجعلها خبرا
لمبتدأ ولان المشبهة بالفعل، كما يقول: (معنى كذا اي كذا) أو
(ان معنى كذا أي كذا) ونظائر ذلك، ونجد ذلك منتشرا في هذا
الجزء، ولئن كنا وجدنا هذا الاستعمال لغيره كثيرا، فنحن نرفع مقام
المقدمة 14

راموز الصفحة الأولى للنسخة الرضوية
المقدمة 15

راموز الصفحة الأخيرة للنسخة الرضوية
المقدمة 17

الشريف عن مثله. وعسى أن يؤول بالحكاية والحذف، على أن
يكون التقدير (معنى كذا ما يفسر بأي كذا) أو نحو ذلك، والله
العالم.
9 جمادى الآخرة 1355
قلم إدارة
منتدى النشر
المقدمة 19

ترجمة المؤلف
تمهيد
إني لأرى لنفسي شأنا إذا لبيت دعوة (منتدى النشر) لامر
ينصر العلم والأمة العربية، ويقوم الثقافة الدينية والأدبية. أرى
له المنة علي في تشجيعه وتثبيته اللذين تغلبا على ما خالط هواجسي بادئ
بدء: من الهيبة والاحجام عن ترجمة هذا الامام السيد ذي المنقبتين.
رهيب ومهيب لدرجة بعيدة هذا الموقف الذي يوقفني فيه أولئك الأفاضل
الأفذاذ رجال المنتدى، لكي أترجم أشهر رجال العراق في عصره باتقان العلوم
الدينية والأدبية وآداب اللغة العربية وبالشمم العربي الهاشمي.
ولو أقامني العلم لأترجم إماما كالغزالي، أو شاعرا كأبي تمام،
أو خطيبا مصقعا من فطاحلة الشرق والغرب، لم آبه أن أخلق لتراجمهم
ألفاظا على قدر، بلا أن أتكلف في تقييد شوارد المعاني مهما
بعدت أو استعصت، ولكن خطورة موقفي أني قمت أعرب عن المزايا
الفاضلة الجمة التي قلما اتفق اجتماعها في عظماء القرن الذي عاش فيه الشريف:
بتحليل نفسيته واستصفائها من الكدر الذي استقر في أعماق الكتب
القديمة. وكيف أستطيع تحليل تلك النفسية الممتنعة الفتانة، والافصاح
عن شئ من نوازعها الجميلة، والأفكار تمثل لي كل آن ذلك الهيكل
الذي تقوم به قد جللته الكبرياء والعظمة وحاطه من شرف النفس
ترجمة المؤلف 20

وكرم الأحساب سياج يمنعه من تسرب الأفكار إليه، والوقوف على برض
من عد من غرر الخصال التي تفرد بها. وكيف لي مع هذا أن أقف على
مساويه - لو كانت - التي أحرص على إبدائها! ومن لي أن تنفتح أمامي
الأبواب التي يتطرق القدح منها إليه! ولئن كنت لا أعتمد إلا أن أفهم ويفهم
القارئ من هو (الشريف الرضي)، بلا أن أتعرض لمدحه أو ذمه،
لان المدح والذم ليسا مما يتناوله فن التأريخ، فلست في سعة من
تركهما، إذا كان المترجم مستأثرا بعمل يستوجب الاطراء، أو مستبدا
بما يستدعي المؤاخذة، وإذا استطعت أن استخلص أفكاري من مصائد
عظمة الشريف، فسوف أقرر حياته كما هي بلا إطراء ولا إزراء.
أترجم الشريف أو أفهرس أدوار حياته بجميع مناحيها، في صحيفة
من صحائف أيامي الأخيرة، وليس بين يدي من معين سوى ديوان
شعره الضخم، وعدة نزرة من المصادر، محاطة بذكريات لقدمها وتكررها
لم تذهب ذهاب ما هو أهم منها وأنفس، لأني لا أريد أن أعتمد في
غالب ما أتوخاه فيها على أقاصيص السيرة وأقاويل التأريخ الفارط التي هي
روايات فقط، وخالية عن كل فقه تأريخي، والروايات أجدر أن يتطرق
إليها الشك، ولا يعتمد منها إلا على ما يشهد ذلك الديوان بصدقه،
وإلا ما يتفق منها ونتائجه بظاهره أو قرائن أحوال تتصل به. إذا فهو
أوفر المصادر نفعا، وأشدها إلى تحقيق الفقه التأريخي قربا.
ولست بناس مع هذا أن الشعر خيال لا ظل له، ولا يجدي التعمق
فيه في استنباط أي قضية مجهولة، كما أني لا أغفل عن أن فهم حياة أي
ترجمة المؤلف 21

فرد وجماعة فهما منطقيا يتوقف كثيرا على الاستعانة بالمنطق، وعلى
الاخذ بالنصيب الأوفر في علم النفس للافراد وللجماعات، للاستظهار
بهما على فهم روحه من شعره، وعلى إتقان فهم ملكاته من آثاره.
لكني إذا اقتنعت من هذا بالطفيف، فان في تكرر الأشياء وتأكدها
بالأشباه والنظائر وبقرائن الأحوال، كفاية في تحليل القضايا المبهمة،
واستيضاح الاحكام الغامضة. وعندما كمل ما توخيته كتابا لا يستهان بمقداره
ولا يستصغر حجمه، انتقيت منه بمحضر أفاضل رجال المنتدى الموقر
هذه النبذة التي تتقدم أمام كتاب من أجل تصانيفه، ومنه جل شأنه
آمل المعونة والتوفيق.
نسبه وتأثيره في نفسيته:
الشريف الاجل (الرضى) أبو الحسن محمد: ابن أبي احمد الطاهر
ذي المنقبتين الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم المجاب بن
موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين
السبط الشهيد بن علي أمير المؤمنين. لا قعدد مثل أبيه في علو النسب
وصراحته ورسوخ جذوره إلا الإمام المهدي الذي هو الخامس من ولد
موسى بن جعفر. وفي نحو من هذه المرتبة ينتهي نسبه من قبل أمه (فاطمة
بنت الناصر نقيب بغداد [1])، إلى الإمام السجاد ذي الثفنات، في
سلسلة نبيلة، حلقتها الأولى عمر الأطرف بن علي بن الحسين، والأخيرة

(1) له كتاب المسائل الناصرية في أبواب الفقه على مذهب الإمامية،
مائتا مسألة وسبع مسائل.
ترجمة المؤلف 22

أبو محمد الحسن الملقب بالناصر الأصغر.
ومهما حاز الشريف من رفعة الأحساب نصيبا، فإن لهذا النسب
الباسق الكريم أثر بليغ في ترفعه وشممه ومحاولاته، وفي عواطفه
وميوله، وإذا استعرضنا من فخرياته ما يدل فيه بنسبه ويتمجد
بآبائه، نزداد بصيرة في أن ذلك هو السبب الوحيد لان يرى نفسه
كفؤا لتسنم عرش الخلافة وتبوؤ أرائكها، ولقد أغرب حتى خاطر
بنفسه في ذلك الا دلال، حينما يدعو الطائع العباسي أبر الخلفاء به وبأبيه،
بالأرعن المتسامي، ولا يعترف له بأي مزية توجب التقدمة، حيث يقول
في مادحة لأبيه:
ألا إنني غرب الحسام الذي ترى * وغارب هذا الأرعن المتسامي
كلانا له السبق المبر إلى العلا * وإن كان في نيل العلاء أمامي
وما بيننا يوم الجزاء تفاوت * سوى انه خاض الطريق أمامي
وبنحو هذا جابه القادر في أبيات مشهورة، على ما بينهما من الحال القلقة.
إن الشموخ بذلك النسب الوضاح قد أثر في خيال الشريف وشعوره،
فنفخ فيه روحا فاخرة، ولذلك لا نجده يتجه بكله مرة إلى نظم شئ
من شعره، إلا وتجتذبه تلك الروح القوية، فتطبع شعره بطابع الفخر
الذي مازج شعوره، وهذا أحد الأسباب التي خولته البراعة في الشعر
الفخري الحماسي من بين فنون الشعر، حتى احتكرت له سرير الامارة الممهد.
بأولى النظرات في ديوانه، تجد البذخ قد أخذ بأطرافه، وأفعم
أجوافه، حتى غص به. ويدلنا قول المطهر بن عبد الله وزير عضد
ترجمة المؤلف 23

الدولة، لأبي أحمد - وهو يلقي القبض عليه ليعتقله في القلعة بفارس -:
(كم تدل علينا بالعظام النخرة)، على صدق المثل السائر (الولد على
سر أبيه). وإن للشريف من الفخر بنفسه من أخلاق وملكات
عالية يمتاز بها عن غيره ما يغنيه عن التمجد بآبائه، وكفى أن نثبت
له في هذه النبذة ما ينبئ عنه قوله:
ملكت بحلمي فرصة ما استرقها * من الدهر مفتول الذراعين أغلب
فحسبي أني للأعادي مبغض * وأني إلى غر المعالي محبب
وقور فلا الألحان تأسر عزمتي * ولا تمكر الصهباء بي حين أشرب
ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها * ولا انطق العوراء والقلب مغضب
تحلم عن كر القوارص شيمتي * كأن معيد الذم بالمدح مطنب
لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى * إذا نال مني العاضة المتوثب
ولست براض أن تمس عزائمي * فضالات ما يعطى الزمان ويسلب
غرائب آداب حباني بحفظها * زماني وصرف الدهر نعم المؤدب
مولده. نشأته. أسرته لأبيه. أسرته لامه:
ولد الشريف في مدينة السلام: مدينة الثقافة وعاصمة الشرق،
سنة 359 ه‍، ذلك الزمن الذي امتدت إليه حضارة عصر المأمون،
وأخذ بنصيب وافر من أبهته وجلالة العمران فيه، فاستهل في حجور
سامية، ودرت عليه فيها أخلاف العفاف الهاشمي، ودرج من أحضان
الحصانة والأمانة إلى ظل وارف من الزعامة والعظمة، فنشأ كما يقول:
ترجمة المؤلف 24

فتى لم توركه الإماء ولم تكن
* أعاريبه مدخولة بالأعاجم
وشب، وقد استفاد ثقافته النفسية من ذلك المحيط المفعم بالنقباء
والأمراء والعلماء والأدباء: هم أسرة أبيه بني (موسى بن جعفر
الصادق) امام الفقهاء، وأسرة أمه بني الناصر الكبير أبي محمد الحسن
الأطروش صاحب الديلم شيخ الطالبيين وعالمهم وزاهدهم وأديبهم ومالك
الامر في بلاد الجبل كله. ونحن لا نغفل عما للأسرة التي تحيط بالرجل،
وما للبيئة التي يعيش فيها، من التأثير في تربيته في ناحية العلم والأدب
وغيرهما، بل ليس هو إلا ثمرة من ثمار ذلك العصر الذي ولده، ونامية
من ناميات تلك الأرض التي درج عليها، ولسنا نحتاج أن نذكر
الدين، فان تأثير التربية والبيئة فيه أظهر من أن نشير إليه. وما علي
إذا تركت المقال في غير الأسرة لغير هذه النبذة التي لا تناسبها الإطالة!
أما أسرة أمه، فهم أسرة علم وأدب وقضاء وفروسية ونسك
ورواية، ومنهم من دوخ البلاد بحروبه طمعا في الخلافة والملك، وتم
لبعضهم ذلك في الطالقان وفي جبال الديلم [1]، وإياهم يعني الشريف
بقوله في مرثية أمه:
آباؤك الغر الذين تفجرت * بهم ينابيع من النعماء
من ناصر للحق أو داع إلى * سبل الهدى أو فارج الغماء
وما كان الشريف - وهو محاط بالمناوئين والحساد - ليقول في

(1) صاحب الطالقان هو محمد بن القاسم الصوفي الزاهد، والذي
ملك الجبل هو الناصر الأكبر الأطروش.
ترجمة المؤلف 25

هؤلاء مالا يعرفه لهم الناس أو ما ينكرونه، ولعل الكثير من الناس
يومئذ رآهم وعرفهم. أما نحن إذا غم علينا امرهم من التأريخ الذي ينوه
بأقدارهم، فان الشريف نفسه يجلو لنا الحقيقة الناصعة بقوله من مرثية
خاله وقد توفي سنة 391 ه‍:
من القوم حلوا في المكارم والعلا * بملتف أعياص الفروع الأطايب
فما شئت من داع إلى الله مسمع * ومن ناصر للحق ماضي الضرائب
هم استخدموا الاملاك عزا وأرهفوا * بصائرهم بعد الردى والمعاطب
وهم أنزلوهم بعد ما امتد غيهم * جماحا على حكم من الدين واجب
واما أسرة أبيه، فلقد كانت تقترب كثيرا من أسرة الخلافة في
الأبهة والسلطان، ويكفي من ذكرها - لمعرفة مقدار تأثره بها في التربية
والاخلاق - ان نذكر أباه (ابا احمد)، الذي ارتبى في كنفه وفي ظل
منعته، وإذا نحن فتشنا عن حاله أصدق المصادر نجدها تثبت له نسكا
مشهورا وهيبة ووقارا، وإرادة قوية وعصبية شديدة، وأصالة رأي
وجد في الاعمال، يستطيع بها ان يتلاعب بالدولة، ويتجرأ على
مقدراتها. ولهذه الصفات وهذه الملكات سفر أيام (معز الدولة) بينه وبين
الأتراك، الذين يحاولون ان يستردوا صولجان الحكم الذي كان بأيديهم
في العاصمة. وتوسط الصلح بينه وبين أبي تغلب بن حمدان، لما شغب
في أطراف الجزيرة. وفي أيام (بهاء الدولة) سفر بينه وبين صمصام
الدولة، وهو بفارس. وفي هذه السفارة يقول ولده في احدى روائعه:
راموا به الغرض الأقصى فشافهه * مر القطامي جلى بعد ما لمحا
ترجمة المؤلف 26

من العراق إلى أجبال خرمة * يا بعده منبدا عنا ومطرحا
وأسندت إليه النقابة مرارا [1]، وتولي المظالم وإمارة الحج،
ولقب بالطاهر ذي المناقب، والطاهر الأوحد، ولم يلقب بذلك
طالبي قبله.
وليست هذه المناصب وتلك المناسب هي التي تأخذ بضبع أبي أحمد
إلى الطول وتولد له العظمة، بل هو نفسه من رجال الطالبيين الذين
أسهموا بالكرامة والجد بالاعمال الجليلة، ومن الذين تتصل الملوك
بهم لتصريف سياستها كما تريد. وناهيك بندبة الخلفاء إياه لتسكين
الفتن التي لم تزل متتالية في العاصمة أيام ملوك الديلم كافة بين العسكرين
البغدادي والفارسي. وبين الفريقين الشيعة والسنة، فان ذلك لا يتولاه
ذو الجاه المستفاد من السلطان، والرهبة المجتلبة من القوة فقط، لأنه
يقع بالرغم على ذلك بكثرة، بل الرجل الذي له مع السلطة والنفوذ أصالة
الجاه والرأي معا، لتحترمهما الخاصة وتذعن لهما العامة، والى بعض
هذه الفتن يشير ولده الشريف بقوله:
وخطب على الزوراء ألقى جرانه * مديد النواحي مدلهم الجوانب
سللت عليه الحزم حتى جلوته * كما انجاب غيم العارض المتراكب
ولولاك علي بالجماجم سورها * وخندق فيها بالدماء الذوائب

(1) في شرح النهج انه ولي نقابة الطالبيين خمس مرات، ومات وهو
متقلدها. وهذا وهم منه، بل قد تولاها ولده في حياته مرارا وبعد وفاته كما
سيمر عليك.
ترجمة المؤلف 27

ولتأييد الأدلة على رفعة أبي احمد في نفسه، علينا أن نلتفت إلى توليه
إمارة الحج، التي لا يكفي في استلامها، وفي القيام بالواجب من شؤونها،
أن يكون الأمير ذا جاه مستفاد وذا قوة مسلحة ومزودة بالمال والعتاد، فان
هذا وحده لا يمكن الأمير من قطع البوادي المترامية التي يتقلص عند التوغل
بها نفوذ السلطان، ولا تنفع فيها القوة والمال مهما توفرا، بل لا بد له مع
ذلك أن يكون مهابا في نفسه وشجاعا ذائع الصيت، وأن يكون
ذا كرامة شخصية وجاه واسع، وذا صلات قوية بسراة العرب المتنفذين
بأقوامهم، في تلك البوادي وتلك المضائق والشعاب، التي لا تجوزها
قافلة تحمل الأزواد والأمتعة إلا بخراج أو إتاوة، أو برجل يجير على
كافة أهلها.
انا لا يهمني تحديد كرامة أبي احمد الاجتماعية، لولا العبور منها إلى
تربية ولده، وقد أستدرك على نفسي الاطناب في استنتاجها من تلك
المبادئ المرتبكة. ولكن لو حددنا كرامته بمفاخر الأسرة ومآثر
البسالة والفتوة، وما ينضاف إلى ذلك من الترفع عن منازع الأطماع
والشموخ بغرر الأيادي، فقط، لكان كافيا في الحكم على تربية ولده
الشريف بالصحة من كل ناحية، فكيف وقصيدته المستهلة بقوله: (وفوا
بمواعيد الخليط واخلفوا) توسع الدائرة في كرامة أبيه إلى أبعد من ذلك
الحد: ففي القصيدة سفاراته وتوسطاته للاصلاح، وفيها حروبه وإماراته،
وفيها ما في غيرها من مآثر الفتوة والبسالة وما ينضاف إليها، ونحن
إذا رأينا الشريف يمتن بأبيه كثيرا على شرف الدولة وبهاء الدولة،
ترجمة المؤلف 28

كما يمتن لنفسه، أو كما يتضرر بقوله للبهاء:
ما كان طوقك في جيدي مكان حلي * وإنما يستعار الحلي للعمل
وقوله:
ولي حق عليك فذاك جدي * قديما في رضاك وذا ثنائي
نذعن لهما بكرامة ذاتية ومجد عصامي لم تجلبه الامارة ولا النقابة.
أدوار حياته
[1] الدور العضدي. وهو دور النكبة:
قضى الشريف أربعة عقود من عمره مع أبيه، وكان يتصل بأعماله
أكثر من أخيه (الشريف المرتضى) لان المرتضى رغب ان يتجرد للحياة
العلمية المحضة، مهما كانت حياتهم الاجتماعية قلقة والسياسة مضطربة،
ولو كان له اتجاه سياسي لم يعز عليه شئ من محاولات أبيه. أما الرضى
فيحدثنا جامع ديوانه أنه قال وهو ابن عشر سنين:
المجد يعلم أن المجد من أربى * ولو تماديت في غي وفي لعب
إذا هممت ففتش عن شبا هممي * تجده في مهجات الأنجم الشهب
إني لمن معشر إن جمعوا لعلا * تفرقوا عن نبي أو وصي نبي
إن شعر الشريف في صباه كما ينبؤنا أنه سيكون له مستقبل باهر وحظ
وافر في ناحية الإجادة والاتقان، يمثل لنا منه عقلية كبيرة نافذة،
وإحساسا نابضا، ونفسا أبية صعبة المراس ذات اتجاهات واسعة وعالية
ترجمة المؤلف 29

في السياسة. وكانت الأمراء وعامة رجال الدولة تقدمه على أخيه،
وترفعه عليه في الاعزاز والاحترام ورعاية الجانب، لما تحسه فيه من
الاباء والعزة والفتوة - أو على ما يقوله صاحب العمدة: (لمحله من نفوس
العامة والخاصة) - وعدم قبول أيما صلة، وقصته مع الوزير المهلبي
المشهورة تشهد بذلك [1].
ولكنه بالرغم على تلك المخائل والإحساسات القوية، لما فتح عينيه
ينظر إلى الحياة الحقيقية وجد عضد الدولة - عدو أبيه - هو المتصرف
المطلق في مدينة المنصور، وعمره يومئذاك ثماني سنين، قضاها في ظل أبيه
وحشمة معز الدولة، حتى تم له ثماني عشرة سنة هي آخر ملك صمصام
الدولة التابع لأبيه العضد في الولاء والعداء مهما خفت وطأته.
وهذا من أسوأ الأدوار التي مرت على الشريف وأشدها بؤسا، فان
أباه وعمه (أبا عبد الله احمد) منفيان بفارس ومعتقلان في قلعة منها،
وأملاكهما مصادرة، وأحباؤه وأصحاب أبيه قد فتكت بهم تدابير
عضد الدولة وعمل فيهم مكره، فهم بين حبيس وقتيل.
وقد ذكر عمه وأباه وأطراهما عام الاعتقال بقصيدة (نصافي الأماني
والزمان معاند) فإنه في أثناء إطرائه لأبيه يقول:
فأقبل والدنيا مشوق وشائق * واعرض والدنيا طريد وطارد
وساعده يوم استقل ركابه * أخوه وقال البين: نعم المساعد

(1) ذكرها صاحب العمدة في كتاب النسب وشارح النهج عن محمد
ابن إدريس الحلي.
ترجمة المؤلف 30

هما صبرا والحق يركب رأسه * عشية زالت بالفروع القواعد
وبعد الافراج عنهما مدحهما بالمستهلة بقوله: (من الظلم أن
نتعاطى الخمارا)، ومنها قوله:
إذا سالم الموت نفسيكما * فلا حارب الدهر الا اليسارا
أصابتكما نكبة فانجلت * وعاودتما العز حتى الديارا
لئن جلتما في مكر الزمان * فبوا كما من مداه العثارا
فما يقرع الجهل إلا الحليم * ولا ينكت الخرق إلا الوقارا
تفرق مالكما في العدا * وشخصكما واحد لا يمارى
إن أبا احمد في دور المستكفي العباسي كان يتمنى لمرتبة بعيدة استيلاء
(معز الدولة بن بويه) على عاصمة المنصور، لما كانت تربطه به وبولده
(عز الدولة بختيار) وشائج المصاهرة. ولكن هذه العلة بالمرتبة الثانية من
بغضه للحكم التركي الذي كان يدير دفته (تورون) وأضرابه البعداء عن أبي
احمد وعن العرب، ولذلك ما كان أبو أحمد يلوم نفسه إذا سير
لمعز الدولة وهو بفارس أنباء العاصمة واستنار همته لامتلاكها وسهل له
سبيل ذلك، أو إذا عرفه وهن الخلافة بمدينة السلام، وإمكان
اصطلام الأتراك الذين استلموا صولجان الحكم فيها بدلا عن المستكفي الذي
هو صنيعتهم وله الاسم فقط.
وهذا التدخل في شأن تملك المعز هو الذي كان يحقده عضد الدولة
على أبي احمد، وكان العضد لا يحب أبدا أن يؤثر عليه أحد ولا يتقدم
عليه حتى المعز نفسه، كما لا يحب أيضا أن تضم نوادي العاصمة
ترجمة المؤلف 31

كل ذي سطوة ونفوذ ضده وكل مشايع لعز الدولة، الذي قتل ولده واستلم
السلطان منه وفتك بكتابه ووزرائه ونصحائه وذوي رحمه، ومنهم
الشريف أبو أحمد، فإنه لكثرة الوشايات عليه أو كما يقول ابن أبي الحديد
(لاستعظام امره وامتلاء صدره وعينيه به حين قدم العراق)، وصادر
املاكه واعتقله بفارس.
لا تسل عن هذا الشاب، وهو في شرخ الشباب متوقد الذكاء:
ماذا ثرت عليه قضية القلعة بفارس! ولأي درجة كانت تقلقه! وكيف
كان يصابر تلك المحنة التي لا يستطيع أن يشكو الحزن الذي لحقه لأجلها
خشية عضد الدولة!. وإذا قرأت ما نظمه في تلك الفترة تجد الروعة
والرهبة، وتجد الدموع الجارية تترقرق بين كلماته، وليس فيها من
أمر عضد الدولة إلا الكناية والرمز، حتى لقد كان يتقي أن يفصح
بموته، ولا يعبر لأبيه إلا بمثل قوله: (إن ذا الطود بعد بعدك
ساخا). ولكن اندفاعاته الحماسية الملتهبة ظهرت جلية ناصعة فيما
نظمه عند الافراج عن أبيه وفي استقباله وعند عودته إلى بغداد، ولعلما
كان أدنى توجع له في ذلك الشأن قوله في إحدى ما نظمه يومئذ:
لو شاب طرف شاب اسود ناظري * من طول ما أنا في الحوادث ناظر
أو أن هذي الشمس تصبغ لمة * صبغت شواتي طول ما انا حاسر
أو كان يأنس بالأنيس أوابد * يوما لزم لي النعام النافر
قد أكدت الأرض الخصبة على الشريف، وأظلمت بعينيه الطريتين
آفاقها المضيئة وضاقت الأجواء الواسعة. ولكن من ذا يمونه، وماذا
ترجمة المؤلف 32

يموله واملاك أبيه مصادرة ويده مقبوضة؟ ولا احسبه لترفعه وشممه يقبل
هبات أسرته الكبيرة الطائلة الثروة، وهو لا يدلنا ولا غيره على
مرتزق له من ثراء أو مال مدخر، سوى انه يشكو الوحشة لأبيه
بمثل قوله:
أكدت علي الأرض من أطرافها * وتدرعت بمدارع الأظلام
أشكو وأكتم بعض ما انا واجد * وأعاف أن أشكوا من الاعدام
وإذا كان الشريف يستشعر الاعدام ولا يشكوه لاحد، فمن
العبث محاولتنا معرفة ما يرفعه يومئذ، ومن الشذوذ عن الخطة التعرض
لما لا يهم، كأمر الإعالة والإعاشة. والأرجح أن أمه (فاطمة بنت الناصر)
هي التي كانت تقوم بشأنه وشأن أخيه المرتضى، مما ادخرته لنفسها أو من
الاملاك التي ورثتها من آبائها، وإذا كانت السيرة تنبؤنا بأنها كانت تدأب جدا
في ارشادهما لتحصيل العلوم الدينية، وتتوسل إلى رجال العلم والدين أن يعلموهما
وهما غلامان حدثان، فهي جديرة أن تمونهما في سبيل التربية والتهذيب
كما هي - بلا تردد - تقص عليهما مآثر أسرة نفسها وأسرة زوجها حبيس
الأحقاد والوشايات، وتمنيهما الأماني التي تدل مخائلهما من جهة
الذكاء وبعد الهمة على الحصول عليها. ولقد جزع الشريف لوفاتها سنة
385 ورثاها بقصيدة تنبئ عن حزنه ولوعته وعما أومأنا إليه من بذل
المال والسعي في سبيل تربيتهما، وذلك حينما يقول:
ومن الممول لي إذا ضاقت يدي * ومن المعلل لي من الأدواء
ومن الذي إن ساورتني نكبة * كان الموقي لي من الأسواء
ترجمة المؤلف 33

لو كان مثلك كل أم برة * غني البنون بها عن الآباء
إن هذا الدور الأول بما فيه من نوائب جمة وقعت على ذلك الشاب
الوديع فجاءة، هو الذي جعله يكثر في شعره - حتى في دور الهناء والصفاء -
من ذم الزمان وكيد الأعداء والحساد، ويتلهف كثيرا لماض يتمنى
رجوعه، ويتوجع لحادث لم يسبق له مثيل في آله، ويستطرد من ذلك إلى
ذكر مصائب ومصارع آبائه الأقدمين، وانتهاك حرمتهم واغتصاب
حقوقهم. ولقد اثر هذا في خياله في النسيب الذي يستهل به قصائده،
فحوره إلى ما كان متضمنا للبكاء على الدمن والتوجع للفراق والاحتراق
بلظى التصابي، وما إلى ذلك من الاتجاهات البعيدة عمن ثقفته الحضارة،
وارتبى في مهاد الترف. وإذا قرنته بابن المعتز وبأبي فراس الحمداني،
تجد هذا قد أثر حب الحرب في خياله، كما اثر اللهو والترف على طبع
الأول، اما الشريف فقد أثر الحزن على خياله في النسيب، ولعلما كان
ذلك أحد الأسباب في مجانبته الغزل.
[2] دور الطائع وشرف الدولة:
يبتدئ هذا الدور بدخول شرف الدولة إلى بغداد، أو بعد فتحه
لفارس، حينما هلك أبوه العضد، ولابد أن يكون هذا قد اتصل بأبي
أحمد سجين القلعة بفارس، وأن ابا أحمد استغل تلك الفرصة بالأساليب
التي تقربه منه، وفي الوقت ذاته كان شرف الدولة يحتاج إلى مثل أبي احمد الذي
يعرف بغداد ويعرف السراة والزعماء والأمراء، ومن يوالي العضد ويناويه،
ولا ننس أن شرف الدولة يعرف أن ابا احمد هو رجل الجد والعمل، وهو
ترجمة المؤلف 34

الذي تتأثر العاصمة بأفكاره، وترحب به إذا دخلها في الحملة العسكرية
الفاتحة. وإذا دخل شرف الدولة سنة 375 فاتحا مدينة السلام يصحبه
أبو أحمد وقد انعقدت الصلات بينهما، فماذا يصنع الشريف، وماذا
يقع منه في هذا الدور الجديد، حينما يرى حبيبه الطائع خليفة وشرف
الدولة هو الملك؟
إن الشريف قد حسر عن ذراعيه، ورفع أغشية قريحته، مستبشرا
لهذا العهد الذي يلمس فيه الهناء وصفو العيش وإقبال السعادة، فأنشأ
في مدح شرف الدولة سنة 376 قصيدته (أحظى الملوك من الأيام
والدول) يشكره فيها على إنزاله إباه وعمه من القلعة، وله فيه غيرها،
ولكن هذه تمثل الظروف والأحوال التي أنشئت فيها، وتقايس بين
دوري الامتنان والامتحان، وكأنه في ذلك الوقت الذي أنشأها فيه
لا يستطيع ان يقتصر على الاطراء والمدح، ولا الفخر، ولا ذكر
الحرب التي انتهت بالفتح لشرف الدولة، بل يتفلت عن ذلك إلى
ذكرى الشقاء السالف، ليستلذ منه السعادة المقبلة.
وقد وفى شرف الدولة لأبي أحمد، فرد بقية أملاكه، وقد كان
الكثير مستردا سنة 374، وأقره على النقابة وأدنى قربه، وكأنه
أراد أن يجدد له عهد صهريه معز الدولة وولده، ذلك العهد الذي كان
تهابه فيه الوزراء وتخشاه الحجاب والكتاب، أما الشريف نفسه
فما كان له عنده من محاولة سياسية تذكر إلا تأهله بأكمل الاستعداد
للقيام محل أبيه في كل ماله من جاه أو سلطان، وكفى بذلك مقاما
ترجمة المؤلف 35

مقنعا له محاولاته ومنازعه يومئذ.
اما الطائع فما كان لينسى - بعد استخلافه - ما لأبي احمد على أبيه
المطيع: من الأيدي الكريمة، وما كان بينهما من المودة. وعلى أساس
التجربة المعروفة (ما في الآباء ترثه الأبناء)، وجب أن يكون ما بينه
وبين الشريف ما كان بين أبويهما من الولاء والمصافاة. ولقد بدأ
فبالغ في اكرام الشريف أبي أحمد واحترامه عند عودته من فارس صحبة
شرف الدولة، ورد امر النقابة إليه، واستعاد ذكرى المودة القديمة
بينهما، وربما كان استعان به على تحسين صلاته مع شرف الدولة،
ولهذه المناسبات مدحه الشريف بالقصيدة التي يقول فيها:
بالطائع الهادي الامام أطاعني * أملي وسهل لي الزمان مرامي
هذا الحسين وقد أخذت بضبعه * جذبا يمر قرائن الأرحام
أعطيته محض المودة والهوى * وغرائب الاعزاز والاكرام
ولما شاخ أبو أحمد لم يكن الطائع ليولي النقابة بطبيعة الحال
غير ولده الشريف (محمد) نيابة عنه، ثم عهد بها إليه مستقلا سنة 380
مكافأة له على مدائحه المتوالية، وخاصة على ما يخاطبه بها في العام المذكور
بقوله:
متى أنا قائم أعلى مقام * ولاق نور وجهك بالسلام
ومنصرف وقد أثقلت عطفي * من النعماء والمنن الجسام
ولي أمل أطلت الصبر فيه * لو أن الصبر ينقع من أو أمي
فان الطائع بعد انشاء هذه أمر ان تخلع عليه أبراد النقابة السود في
ترجمة المؤلف 36

موضع من الدار قريب من مجلسه، إعظاما له، فعاد إلى المجلس مسودا [1]
وقد أدني مجلسه من سرير الطائع، وفي ذلك أنشأ قصيدته المستهلة
بقوله: (الآن أعربت الظنون) يشكره فيها على هذه الصنيعة،
وبالأخرى التي يقول فيها:
أفاض بلا من علي كرامة * ونقص الأيادي أن يزيد امتنانها
خرجت أجر الذيل منها وقد نزت * قلوب العدا مني وجن جنانها
[3] دور القادر وبهاء الدولة:
يبتدئ هذا الدور بخلع الطائع واستخلاف القادر بالله سنة 381،
وهو أطول الأدوار، ولقد كان الشريف يقضي حياته في شطر من
هذا الدور في قلق ومجاملة [2] لان صلاته بالقادر لم تتوثق من كافة مناحيها
ولم تكن له يد تستحق الرعاية التي كان يراها من الطائع، ومن ينعم
النظر في سيرته يعلم أنه لا يتفق والشريف على رأي ولا مبدأ، وأنه يصعب
على الشريف جدا ان يملك ثقته أو يفوز برعايته، وربما كان لا يخشى
ان تتوغل النبوة بينهما، بعد ما توطدت له الأمور وصاهر بهاء الدولة
ولكن القادر أشد ملائمة لنفس الشريف من الطائع، لزهده وانعزاله
عن مداحض السياسة على الأغلب، ولأنه صاحب كلام وجدل
والطائع لا نصيب له في أي فن من فنون العلم سوى الأدب، إلا أن
ملاينته للشريف وتقديره له تجعله بطبيعة الحال أكثر ولاء منه للقادر.

(1) قالوا: وهو أول طالبي لبس السواد.
(2) ستجد ذلك محسوسا في فصل صلته بالقادر.
ترجمة المؤلف 37

ولذلك نرى قصيدته في القادر يوم استقراره بدار الخلافة وهي المستهلة
بقوله: (شرف الخلافة يا بني العباس) يظهر عليها التكلف على ما حازته
من المتانة والرصانة والقوة الأدبية.
ينبؤنا شعر الشريف انه في هذا الدور يقضي شطرا من حياته في
اضطراب فكري، وأن القلق يستولي عليه على نسبة يأسه من محاولاته
ورجائه لها، فإذا حصل على شئ منها هدأ وربما جامل بلا مواربة،
فذكر وشائج الرحم وأواصر القرابة، كما نجده يقول في مرثية أبي القاسم
علي بن الحسين الزينبي نقيب العباسيين المتوفى سنة 384:
ألسنا بني الأعمام دنيا تمازجت * بأخلاقهم أخلاقنا والضرائب!
إذا عمموا بالمجد لاثت بها منا * عمائمهم أعراقنا والمناسب
نرى الشم من آنافنا في وجوههم * وأعناقنا طالت بهن المناصب
وإذا عضته نكبة ما في حياته السياسية، ثار والتهب وحمل حملة
شعواء على الدهر وعلى من يسميهم بالأعداء والحساد، وفي هذه الحالة
يتحمس مفتخرا ويطري البسالة، وينبه شعور أولياء الأمور إلى اهتضامه
ويوعد كثيرا بالالتجاء إلى من يرعى حقه ويقوم بواجبه، كما نجد
ذلك في مقطوعته،
ألبس الذل في ديار الأعادي * وبمصر الخليفة العلوي
تلك المقطوعة التي انتهت قصتها بصرف القادر إياه عن النقابة، وتوليه
محمد بن عمر النهر سايسي إياها، ولعله في ذلك يقول:
ولئن صرفت فلست عن شرف العلا * ومقاعد العظماء بالمصروف
ترجمة المؤلف 38

ولئن بقيت لكم فاني واحد * أبدا أقوم منكم بألوف
أنا لا أحسب أن صرف القادر إياه عن النقابة في أيام بهاء الدولة له
نصيبه من الصحة، ولعلما كان واقعا في فترات وفرص لا نستطيع
تعيينها، تمكنه من الايقاع به، لغيبة بهاء الدولة أو لغيرها، لان
هذا ممن لا نشك أن الشريف يملك ولاءه، ونعتقد بلا تردد انه يقدر
شخصية الشريف تقديرا صحيحا، ولذلك نجد صلته به ليست كصلة شاعر
أو زعيم، بل صلة خليفة لملك. وسواء كان يهم البهاء أو لا يهتم به أن
تبقى الحال بين الشريف وبين صهره القادر قلقة، فإنه يعتقد أن اتجاهاته
للشريف تصد القادر نوعا ما عن الايقاع به، ولقد كان الشريف
بتلك الاتجاهات ينال أقصى ما يبتغيه بلا تعديل قصدي لحاله مع القادر.
ولئن تكن النقابة المصروفة من المراتب الجليلة، التي لا يحظى بها إلا
الأكفاء من الطالبيين ذوي الدرجات العالية في العلم والأدب المتميزين
على غيرهم، فان الشريف كثيرا ما كان يستعفي عنها، إذ يرى أنها دون ما يجب
له، وكثيرا ما يتذمر مما يتكلفه بها من المشاق ومكايدة الأعداء
ومنافسة الغرباء، فيقول:
غمست يدي في أمر فمن لي * وأين بنزع كفي وانكفافي!
كفاني انني حرب لقومي * وذلك لي من الضراء كاف
ولو اني أطعت الرشد يوما * لأبدلت التحمل بالتجافي
وعسى أن يكون آخر ما أومأ به إلى بهاء الدولة في إعفائه عنها
ترجمة المؤلف 39

غوثك منها يا غياث الورى * قد ثقل العبء على المغرم [1]
لا تحسبوا أني على جرأتي * أحجمت لكن ضاق بي مقدمي
عظيمة ناديت من ثقلها
بالبازل الناهض بالمعظم
ومن يتعمق في بعض شعره يرى أنه يراغم نفسه بعد الطائع على قبول
النقابة، لأنه لا يريد أن يتحمل المنة فيها، وقد لا تطاوعه نفسه الأبية
على قبول الانصياع لصنيعة تأتي إليه من غيره، ولذلك لما أحيلت إلى
غيره زمنا ببذل المال قال متذمرا منها:
محمد طالما شمرت فيها * فدونك فاسحب الذيل الرفلا
ونم مستودعا صونا وأمنا * فقد أسلفتها جزعا وذلا
فان اتبعت هذا الامر لهفا * فإنك أعزب الثقلين عقلا
يراه المستغر علي طوقا * فيغبطني به وأراه غلا
وما حط الأعادي لي محلا * ولكن حط عني الدهر كلا
صلته بالملوك والخلفاء
تمهيد
إن نفس الشريف الطموح وروحه المتوثبة، تقوده بلا شطن للاتصال
بالخلفاء والملوك ورجال الدولة، تمهيدا للحصول على محاولاته ومنازعه النفسية
الجميلة، وإني لا أرى له صلة تربطه بهؤلاء إلا شرف بيته ونباهة اسمه

(1) وفي ديوانه المطبوع ببيروت (الهرم).
ترجمة المؤلف 40

وانه الولد النابه لأبي احمد النقيب أجل رجال العاصمة، وإلا شاعريته
التي يخطبها كافة عظماء وقته إشاعة لكرامتهم واشهارا لعظمتهم. هذا
غير ما تولد له أخيرا وتوطد من الجد بأعمال الإدارة، والقدرة على
تصريف الرأي العام كما يشاء، وكأن نشأته وتربيته وأسرته تقربه
إلى قصور الملوك والأمراء والى رجال الدولة في دواوين الشورى والحكم.
ولئن كانت الغاية المحمودة تبرر الواسطة، فما من منقصة لو كال
شعره لهم ليربح مودتهم ويسخرهم في تنفيذ أغراضه، مع الاحتفاظ
بكرامته، لان تلك التهاني في المواسم وتلك المراثي وتلك المدائح التي
تعلوها الروعة والوقار، ممتزجة بروح قوية من نفسه الصعبة المراس التي تأبى
الملق والتبصبص لأبعد غاية، ولذلك نجده في كثير من الأحايين يقع
من شاعريته في مشكلة دقيقة دقيقة المخرج: نراه واقفا بين نفس مادحة
صعبة الانقياد، وبين أخرى ممدوحة جبارة لا تقبل اي عذر في ترك المدح.
ولنفس هذا الغرض كانت مدائحه الفخمة لشرف الدولة وبهاء الدولة
ومن بعدهما متوالية، وكأنها حاضرة عنده سوى انه ينتهز لها الفرص
ويتحين لها المناسبات الزمنية، كالأعياد والنواريز ليكيلها لهم بغير
صاع. وها هو ذا يعتذر عن ذلك بقوله:
وما قولي الاشعار إلا ذريعة * إلى امل قد حان قود جنيبه
واني إذا ما بلغ الله منيتي * ضمنت له هجر القريض وحوبه
صلته بالطائع:
إن صلة الشريف بالطائع لم تكن للحصول على محاولاته من جاه أو
ترجمة المؤلف 41

سلطان فقط، بل لأنه نفسه قد نشأ على موالاة الطائع منذ صباه، وفي
أيام أبيه، حتى في دور الكبة، فلقد كان في أيام عضد الدولة المفضل
عليه لا يألوا جهدا في ملايتة الشريف ووعده بحصول أمانيه، بالرغم
على مراقبة حساده وأعداء أبيه،
وبعد، فما كان الطائع - وهو داهية المجاملة - ليهمل محاولات الشريف
التي يعرفها والتي يتوسمها في جبينه، وهو يرى إقبال شرف الدولة عليه
وعلى أبيه، ولا يهمل ما لأبي أحمد على أبيه المطيع في أيام المستكفي
وقبل دخول معز الدولة بغداد ثم بعده، لأنه الواسطة الوحيدة لدى
المعز في صرف الخلافة إليه، إلى أن تنازل عنها لولده الطائع.
إن هذا لا ينساه الطائع بعد استخلافه، ولا يجهله الشريف بعد
استقلاله وتأهله للقيام بشؤون النقابة وما يشبهها من المحاولات الشريفة
ولتلك المودة الموروثة والولاء الصميمي الممتزج بالآمال الكثيرة، كان
الشريف يحرص على مودته، ويغار عليه أن يتصل به بعض مناوئيه،
وقد يسترسل معه فيترك بعض واجبات الحشمة والمجاملة له، كما نجده حينما
استماله بعض أعداء الشريف بالمال ليحوز النقابة دونه يقول مخاطبا له:
ونمي إلي من العجائب أنه * لعبت بعقلك حيلة الخوان
فاحذر عواقب ما جنيت فربما * رمت الجناية عرض قلب الجاني
فهذه المعاتبة الجافية - أو سمها النصيحة الحادة - لا يقابل بها المهاب
المحتشم بل المماثل، وفيها تدليل على أن المودة بينهما كانت مستحكمة لدرجة
الخلة أو ما فوقها، ونحن نزداد بصيرة في هذا إذا رأينا الشريف مع
ترجمة المؤلف 42

ترفعه وشممه لا يتحاشى عن مطالبته بحقوقه، وعن تنجيز وعوده
لأبيه بقوله:
هذا الحسين إلى علائك ينتمي * شرفا وينسب مجده في المحفل
أسلفته وعدا عليك تمامه * وسيدرك المطلوب إن لم يعجل
ويقول وهو من السهل الممتنع المتضمن للاستعطاف المحتشم:
أنت ألبستني العلا فأطلها * أحسن اللبس ما يجلل عقبي
أني عائذ بنعماك أن أكثر * قولي وأن أطول عتبي
بي داء شفاؤه أنت لو * تدنو وأين الطبيب للمستطب
صلته بالقادر العباسي:
وأما صلته بالقادر فلم تزل قلقة، ولا تزال حاله معه في الأغلب
ليست على ما يرام، سيما بعد ما توطدت له الأشياء، واستعاد وقار الخلافة
واسترجع قوتها في تحسين الصلات بينه وبين الملوك، هذا بالرغم على ما التزمه
الشريف بادئ بدء من مجانبة ما يغضبه، وعلى اليد البيضاء لأبيه
عليه في عقده المصاهرة بينه وبين بهاء الدولة على بنته، وعلى مجاملته
وملاينته في استعطافه من أول يوم استخلافه حيث يخاطبه بقوله:
أورق أمين الله عودي إنما * أغراس أصلك في العلا أغراسي
واملك على من كان قبلك شأوه * في فرط تقريبي وفي ايناسي
إني لأجتنب السؤال متاركا * خلقا يدر علي بالابساس
ولكن زهد القادر وانعزاله عن مداحض السياسة يهون الامر على
الشريف، إذ أن ذلك بطبعه يوجب خفة وطأته عليه وعلى رجال الدولة
ترجمة المؤلف 43

كافة، وإذا كان الشريف مالكا ولاء بهاء الدولة وممتعا بعنايته، فلا
يهمه من امر القادر إلا المحافظة على النقابة التي لا يأسف كثيرا على
فواتها مهما عزت عليه، ولذلك كان يوالي عليه مدائحه ويستفزه فيها
لرعاية شأنه وإسداء واجبه له، ولكن له في خلال ذلك من المناقضات
ما يدل على الحال المضطربة، والصلات القلقة: فبينا هو يطريه ويحصر
الخلافة في أسرته ويعرض بالعبيديين (ملوك مصر) في ادعائهم الخلافة،
وذلك حينما يقول:
أبغاة هذا المجد إن مرامه * دحض يزل الصاعدين ويزلق
ودعوا مجاذبة الخلافة إنها * أرج بغير ثيابهم لا يعبق
إذا هو نفسه يزاحم القادر في نفس القصيدة فيقول: (ما بيننا يوم
الفخار تفاوت)، ثم لا يكتفي بذلك حتى يصرح باستحقاق العبيديين
للخلافة، ويعلق آماله بهم، فيقول:
ألبس الذل في ديار الأعادي * وبمصر الخليفة العلوي
صلاته بشرف الدولة وبهاء الدولة:
كما لا صلة بين الشريف والمعز لصغره يوم امتلاك المعز مدينة السلام
فكذا لا صلة له ذات تأثير وشأن بشرف الدولة، لان هذا دخل
بغداد فاتحا وعمر الشريف ستة عشر عاما، وأبوه أبو أحمد هو المنتصب
للمقامات العالية. وهو هو الذي امتلك قلب بهاء الدولة واستولى على
شعوره. ولسنا مع هذا نحتاج إلى التدليل على إطراء أبي أحمد لولده
وثنائه عليه لدى شرف الدولة، وإبداء نفسياته له وملكاته التي تؤهله
ترجمة المؤلف 44

للحصول على كل ما يحاوله بسهولة ورغبة. ولا ننس أن الشريف يومئذ
قد نبغ أيما نبوغ، وخطبت شاعريته، واشتهر اسمه ليس بإجادة نظم
القريض فقط، بل بما يتضمنه قريضة من عزة النفس وبعد الهمة والفتوة
والعفة، ومن كل ما يولد له العظمة في القلوب ويملؤها روعة وهيبة
وشرف الدولة هو ذلك الديلمي الفارسي الذي لا يتبرأ من الزهو والخيلاء
ومحبة المدح والاطراء، وملكه ذلك الملك الذي لا يكفل له الراحة ما لم
يشتهر بسمعة حسنة وصيت ذائع يعلن له القوة وحسن السيرة وفخامة
الملك، وأين يجد مذيعا مثل الشريف الرضي الذي يقول،
أنا القائل المحسود قولي في الورى * علوت وما يعلو علي مقال
ويقول متحديا أدباء عصره كافة وغيرهم:
من مبلغ الشعراء عني أن لي * قول الفحول ونجدة الانجاد
قد كان هذا الشعر ينزع في الدنا * فكان عقاله ميلادي
وهذا ما لا يزال يكرره فلا يرد عليه، ومهما اعتذر عن الغلو فيه
فلا يعتذر عن تفوقه فيه.
وعلى كل، فان الشريف وإن لم تكن له مآرب فعلية يوم
حسر عن ذراعيه متجردا لمدائح شرف الدولة مستبشرا بعهده العض
الجديد، لكن شرف الدولة ما كان يرضى له أن يتأهل فقط للقيام
مقام أبيه، بل غرس له في قلب بهاء الدولة (وارث ملكه) عظمة
وولاء يتقدم بهما على جميع رجال الدولة حتى على أبيه لولا السن والأبوة،
ولذا لما ملك هذا - وكان يقيم زمنا بواسط وآخر بالأهواز وثالثا بالبصرة -
ترجمة المؤلف 45

قلده وهو بواسط سنة 388 الخلافة عنه بمدينة السلام، ويدلنا هذا
الاستخلاف على أن صلة الشريف به ليست صلة شخصية بارزة ذات
مجد وكرامة فقط، أو صلة شاعر مادح أو ذام، بل هي نوع من صلة ذوي
الرأي الصائب في السياسة وأصحاب الجد بالاعمال التي توطد الملك
لان النيابة في تولي شؤون الإدارة الملكية لا توكل إلى ذي العظمة الجوفاء
أو المحدودة الاعمال، وما كان الشريف ليتولى تلك النيابة، وهو محاط
بالوزراء الفارسيين الذين يصطبغون للظروف بألوانها ويمكنهم فن السياسة
من أن يقلبوا له ظهر المجن، لو لم يعرف من نفسه الكفاءة وكمال القدرة.
وفي هذا العام لقبه بهاء الدولة ب‍ (الشريف الاجل) وكان يدعى
(الشريف الجليل)
ألقابه
إن وضع الألقاب وفخامتها لا يختص ببني بويه ولا بخلفاء بني العباس،
بل إن كل حكومة مطلقة مهما أخلصت للأمة ومهما تصلبت رجالها لهم،
لا يمكن أن تتخلص عن غرور وعن زهو وخيلاء، كما لا تنفك هذه
الصفات والأحوال في الأغلب عن إظهار الفخفخة ومحبة الاطراء
والمدح والامتياز على افراد الأمة، حتى في مقام التسمية وفي غير محل
المخاطبة، إذا فلا بد لهذه الحكومة المستبدة من تفخيم الألقاب ومعاقبة
من يعدل عنها، لأنها إطراء زمني لصاحبها من ناحية، كما هي مظهر
الكبر والزهو من ناحية أخرى. وهذا ما حدا بالديالمة وكافة الفرس
ترجمة المؤلف 46

قديما ألا يقتصروا على تلقيب أسرتهم بالألقاب الفخمة، بل تعدوا إلى
الرؤساء ورجال الدولة وعظماء المملكة، حتى للعلماء البعيدين عن الزهو
وحب الاطراء، فلذلك ابتدأ بهاء الدولة بتلقيب الشريف سنة 388
بالشريف الاجل، وفي سنة 392 صدر أمره من واسط بتلقيبه
ب‍ (ذي المنقبتين)، وفي سنة 398 لقبه وهو بالبصرة ب‍ (الرضي
ذي الحسبين) فمدحه يومئذ بقصيدة منها قوله:
رفعت اليوم من قدري * وأوطأت العدا عقبي
ووطأت لي الرحل * على عر عرة الصعب
وفي سنة 401 أمر أن تكون مخاطباته ومكاتباته بعنوان (الشريف
الاجل) إضافة إلى مخاطبته بالكناية، وهو أول من خوطب بذلك
من حضرة الملك.
وقد أوردت هذا لأدعم به دعوى أن صلة الشريف ببهاء الدولة
ليست كصلة شاعر أو زعيم أسرة شريفة، بل كصلة وزير بأمير،
ولهذه الصلة ولتأكدها كان الشريف يوالي مدائحه له، فلا يمر العام إلا وله
فيه قصائد كثيرة ولقد كان يحتاط ان تمس كرامة ولائه له بشئ يوجب
تغيره عليه، وعندما رفع له أن الشريف لا ينشد شعر نفسه أمامه كما
ينشده عند غيره تكبرا عليه، أقلقه ذلك خشية أن تروج هذه الفرية
عنده، وفي هذا يعتذر له ويبين له الحقيقة بقوله:
جناني شجاع إن مدحت إنما * لساني إذا سيم النشيد جبان
ترجمة المؤلف 47

أخلاقه وملكاته
الآنفة أو الفتوة
لا أريد أن استقصي التنويه عن ملكات الشريف وأخلاقه،
ولكن أمهات الغرائز ذوات الشأن في المجتمع هي التي أفحص عنها شعره،
وبأدنى فحص وبلا حاجة إلى التعمق، نجد الهيبة والجلال والروعة تلوح
على كلامه وناصع نظمه ونثره جلية ظاهرة، وإذا كانت هذه وهي في
كمام الألفاظ تتأثر بها النفس، فلا ريب في أنها مستمدة من ذات نفسه.
وبهذا الميزان تؤخذ له العفة والأنفة والفتوة. وهذه جماع الفضائل
إذا ساعدها الطول والقدرة.
حفاظة على القربى:
والسيرة تحدثنا عن عظيم مراعاته للأهل والعشيرة، ونحن إذا
رأينا في شعره تلك الثورات القائمة، والاندفاعات النفسية المخيفة،
نعلم أنه بطل جلاد وجدال ناضل بهما عن المجد العلوي ونقم على المعتدين
عليه، ثم هو ذا يبدي رعايته لأسرته القريبة بقوله في عتابية [1]
لأخيه علم الهدى:
لقد كنت أبغي رتبة * فآنف من أني أفوز بها وحدي
حفاظا على القربى الرؤوم وغيرة * على الحسب الداني وبقيا على المجد
ونتأكد ذلك إذا استعرضنا في ديوانه أمثال قوله: (انا ابن ال‍.
من القوم.. قومي.. من معشر..) مما لو أفرد بالتأليف لكان ديوانا

(1) تجدها في ديوان أخيه السيد المرتضى المخطوط، ولم تثبت في ديوانه
ترجمة المؤلف 48

فخما يملا القلوب ويحشو الأدمغة رهبة من قومه وعظمة لهم، ويخلد
لهم فيه أثيل المجد وتليد الشرف، ويبرهن للملا أنهم الأول والآخر
في مجد الاسلام وتثبيت أركانه، وهذه المراعاة لبعداء العشيرة لا تشبه
مراعاة الأقربين منهم بالعطف والصلات الموقتة، فان تلك دعاية
زمنية مستمرة.
تقشفه ونسكه:
أما التقشف المنسوب له فلا يدلنا عليه مثل قوله: (ما أقل اعتبارنا
بالزمان) ولا ألوف الأساطير التي تنحو نحوه، لان تكديس
الشعراء للعظات والعبر في صدور قصائد التأبين لا يكون في الأغلب ناشئا
من تأثر نفوسهم بها، بل لا يزال ذلك الترهيب طريقة لهم معروفة ونهجا
مأثورا يناسب التأبين المقصود لهم، وفيه مع ذلك تخلص أقاويلهم إلى
الغاية المتوخاة بلا كلفة. أما الشريف الذي يستدر أخلاف الأزمنة
ويتودد للوزراء ورجال الحاشية، فضلا عن الملوك والخلفاء، فهو
بعيد للغاية عن القشف، بعيد عن الخشونة والانكماش. إذا فكيف
نذعن بصدق قوله: (خطبتني الدنيا فقلت تراجعي)، وقوله:
طلقتها ألفا لا حسم داءها * وطلاق من عزم الطلاق ثلاث
إن الشريف قد لا يستطيع أن يستسلم لخشونة القشف، ونفسه
تلك النفس الطموح التي تباين التقشف بالمعنى الذي نفهمه، في جميع
محاولاتها ومنازعها، بلى!
إن فيه مع تلك الروح القوية، الشديدة
الاحتفاظ بمبادئ الرئاسة، ورعا وعفة وتمسكا بالدين والتزاما
ترجمة المؤلف 49

بقوانينه [1]. والأرجح أن هذا هو معنى التقشف الذي ينسب إليه.
وإذا كانت الامارات، والترف، والحضارة، والثراء، لا
تنفك في الأغلب عن اقتراف الجرائم، وغمط الحقوق، والتلاعب
بالقوانين المدنية، وهتك نواميس الشرع الأقدس - فان الشريف لم
يؤثر عنه إلا العفة المطلقة والفتوة والمماشاة بوفاق مع المروءة واحترام
النواميس كافة، حتى في مجالسه الخاصة، ونحن لتلك العزة وتلك
الآنفة والمروءة نذعن لآخر نظرة أنه لم يقترف مأثما، وأن تلك الصفات
والملكات تكفه وتردعه بسهولة وبلا مقاسرة، عن المظالم التي تبتعد
بالمروءة إلى المطرح السحيق.
وفوق ذلك انا نعتقد عندما ننظر في شعره إلى أمثال قوله:
شغلت بالمجد عما يستلذ به * وقائم الليل لا يلوي على السمر
أنه مع تمكنه من لذائذ الحياة بأكمل وجه قد أصبح محروما عن أكثرها،
إيثارا للمروءة وصونا لكرامة العرض، ونزداد يقينا في هذا إذا لاحظنا
أنه لم يستعمل المواربة في شعره، ولم يجالس الخلعاء والظرفاء الذين
يستخفون بالنواميس في أيام شبيبته، وأنه لذلك لم يصرف شيئا من شعره
في فنون المهازل والمجون، فان هذا يدلنا على أنه لم يعمل ما يعتذر عنه
ولا يصانع أحدا سترا على نفسه، ولذا نجده وهو بمرصد من أعدائه
لا يحفل أن يجاهر بمثل قوله:
عف السرائر لم تلط لريبة * يوما علي مغالقي وسجوفي

(1) ابن أبي الحديد في شرح النهج وغيره.
ترجمة المؤلف 50

وقوله:
أنا المرء لا عرضي قريب من العدا * ولا في للباغي علي مقال
وهذا، وإن كان فيه نوع من التمدح والافتخار بأنه لا مغمز فيه من
أي ناحية، سوى أنه في موضع آخر فصل ذلك متمدحا أيضا وأبانه
بصورة غير مبهمة ودل عليه بالعفة المطلقة وذلك حيث يقول:
وإني لمأمور على كل خلوة * امين الهوى والقلب والعين والفم
وغيري إلى الفحشاء إن عرضت له * أشد من الذؤبان عدوا على الدم
وبهذا الميزان الذي يوزن به تقشف الشريف يجب أن يوزن النسك الذي
ينحل لوالده، فان الخطيب في تأريخه يحكي لنا عن الصاحب بن عباد: أنه
يشتهي دخول بغداد، يشتهيه جدا ليرى نسك أبي أحمد، ومن وقف على
سيرة أبي أحمد يعلم أنه بطل جلاد ومسعار حروب، وأنه لا يفترق في
حال عن الرؤساء العظام ذوي الخطر، الفائزين بمآثر البسالة والفتوة [1]
ورجل مثله لا يشتهر له النسك بالمعنى الذي نفهمه ما يتشوق لمرآة البعيد
عنه، وكنا نحسب أن لأبي احمد خصالا حميدة ليس النسك إلا
أخفاها وأضعفها، وإذا هو أقواها وأظهرها. إذا فهو ليس إلا الالتزام
بقوانين الدين وأحكامه، حتى لا يقارف محرما ولا يهتك حرمة ولا يحيف
على أحد، لا يقارف المحرم ولا يحيف على أحد حتى في الحروب التي

(1) نقل عن أبي الحسن العمري النسابة أنه قال عن أبي احمد: (هو أجل
من وضع على كتفيه الطيلسان وجر خلفه رمحا) يريد انه أجل من جمع بين
الرئاستين في الحرب والسلم والبوادي والعواصم.
ترجمة المؤلف 51

كان يتولى قيادتها في بلاد العرب، لأنا نجد ولده يسم بعض تلك الحروب
بأنها طاعة ورضا لله، وذلك في قوله من قصيدة في بعض حروبه.
إلى أن أطعت الله ثم رميته * فلم تغض إلا والرمي قتيل
وربما يؤخذ ذلك من قوله فيه:
أقر بحق المجد وهو مضيع * وعظم قدر الدين وهو ضئيل
ومن قوله في خطابه للعباسيين:
أبي دونكم ذاك الذي ما تعلقت * بأثوابه الدنيا ولا تبعاتها
ولكن الشهرة الطائرة من بغداد إلى فارس تستدعي أن يكون
أبو أحمد فوق ذلك القدر المحدود من النسك، وإنا لنرى ولده يقول
في إطرائه بمعاناة الحروب:
ما التذ لبس الصوف.. إلا من تعمم بالقتير
متخدد الخدين مغبر.. الذوائب والضفور
ويخاطب شرف الدولة عند إكرامه له سنة 376 بقوله:
تركته زاهدا في العيش منقطعا * عن القرائن منا والأصاحيب
وكان بالحرب يلقى من ينافره * فصار يلقى الأعادي بالمحاريب
كما أن إخبار ولده عن نفسه بأنه طلق الدنيا، وقول مهيار في رثائه:
(أبكيك للدنيا التي طلقتها)، يجب أن يراد به معنى هو فوق ما
عرفناه منه.
وقد يؤخذ على الشريف في قشفه رثاؤه لمثل الصابي، ومدحه صديقا
له بالشعانين، ووصفه الخمرة ومجالس الغناء، وذمه لبعض من لم
ترجمة المؤلف 52

يسئ له، كمغن ثقيل بارد الغناء. ولكنا إذا تحققنا أن الشريف
لم يشرب، ولم يسمع، ولم يجالس أرباب اللهو والمهازل، ولم يتخذ
الندمان، ولم يستعمل الملاهي، فانا نعذره في الأوصاف، سيما ما يكون
منها مقترحا عليه، لأنها تقع في زمنها لأسباب مجهولة لا يصح الحكم
عليها بشئ، والوصف بمجرده لا يقدح بصاحبه، وإن أظهره بمظهر
الحاضر المشاهد كما نجده يقول:
ولرب يوم هاج من طربي * ولقد يضيق بغيره ذرعي
من منظر حسن ومن نغم * ندعوه قيد العين والسمع
أما التهنئة بالشعانين فهي اسم لا مسمى له، ولا شأن فيه لمن
لاحظه. وأما رثاء الصابي ومدحه، فما كنا لنحجرهما على الشريف
إذا تجنب فيهما القول بالباطل، وما كنا لنكم فم الشريف أن يعترف
لذي فضل بفضله، ولا نرى له ان يغمط حق ذي الحق، ومن عرف
صلات الشريف به لا يكون عاذرا له فقط، بل حامدا له في الوفاء
والاعتراف بالحق.
وفاؤه
أخص الوفاء لأنه أنبل صفات الانسان، لا سيما إذا كان الموقف فيه
حرجا، كموقف السموءل، وغير بدع أن ينطبع الشريف لذاته على
مقدار من الوفاء، فإنه من شؤون المروءة والفتوة بالمعنى المفهوم منها، والفتوة
هي: جماع صفات النبل والفضل. ولست في هذا الفصل بالذي
أريد أن أعد الوقائع، أو أسرد الشواهد من شعر الشريف على
ترجمة المؤلف 53

وفائه، فان الشاعر بعيد الخيال يصطبغ للظروف بألوانها في أغلب
الأحايين، ويصف نفسه بما هو برئ منه.
ولكن نظرة واحدة فيما نظمه متوجعا لخلع الطائع سنة 381، وفي
رثائه يوم توفي في الاعتقال بعد جدع انفه وأذنيه سنة 393، تدلنا على
احتفاظه بالولاء وتمسكه بالمودة التالدة، فان من يخلعه بهاء الدولة غضبا
عليه ليستصفي أمواله، ثم يقضي منكلا به مهانا بعد بضعة عشر عاما
قضاها في الاعتقال، تستهجن المجاهرات باطرائه وتأبينه ذلك التأبين
الحاد، وربما كانت المجاهرة بذلك مثيرة لغضب أضداده، بل هي
موقفة لصاحبها في معرض الخطر لا محالة.
ومع أن السيرة لم توقفنا على من مدح خليعا، ولا من رثى من نكل به
الملك، مجاهرة، غير الشريف، فانا نستغرب ذلك بادئ بدء حتى
من الشريف، لان المستخلف بعد هذا الخليع هو القادر الذي لم تزل
حال الشريف معه قلقة، وهو لا ينفك يزايلها لتصلح نوعا ما، فان
صلحت فببهاء الدولة، وهو هو الخالع للطائع وهو الممثل به، ولكن
نفس الشريف الحرة الجريئة التي يقول عنها [1]:
ولكنها نفس كما شئت حرة * تصول ولو في ماضغ الأسد الورد
ووغول غرائز الوفاء في تلك النفس الحرة القوية، القوية الإرادة - حملته
على أن يتعمد غضب أولياء الأمور عليه مهما كلفه ذلك من خسارة حكم
أو سلطان. وعندي ان من جيد مرثية له معنى ما يطري به مننه وأياديه

(1) من قصيدة موجودة في ديوان أخيه.
ترجمة المؤلف 54

عليه، لما انه مظهر وفائه، وهو قوله:
ليس ينسيها وإن طال المدى * مر أيام عليها وليال
فاتني منها انتصار بيميني * فتلافيت انتصارا بشمالي
ثم دعاؤه له بعد توجع طويل لفقده يصف فيه اقباره وهجرانه وارتخاص
الدمع عليه، وذلك إذ يخاطبه بقوله:
أيها الظاعن لا جاز الحيا * أبدا بعدك بالحي الحلال
كنت في الأحجال أرجوك ولا * أرتجي اليوم عظيما في الحجال
ولم يزل في هذه العصماء ينهج بالمعاني والمباني والأساليب المتشعبة
نهجا غريبا بديعا حتى كان ختامها قوله:
ضمنت منهم قرارتهم * عمد المجد وأركان المعالي
لا تقل تلك قبور إنما * هي أصداف على غر لئال
عزة نفسه:
إن عزة نفس الشريف الطامح بأقصى نظره للخلافة طموح ذي الحق
المهضوم لاستعادة حقه، لا تحتاج إلى نضد الأدلة وحشد الشواهد عليها
من ههنا وههنا. فان تلك العزة الملموسة هي الشاهد على ما انطبع عليه
من الغرائز المتفرعة عليها: كالعفة والاباء والأنفة، وهي إحدى الأسباب
التي مكنته من الاتصال بالملوك والخلفاء اتصالا لم يبلغه بشاعريته ولا
نسبه، لأنها هيأت له عندهم مقاما ساميا لم يبلغه أيما شاعر وشريف،
وهي التي أكسبت شعره - حتى ما يتودد فيه ويستعطف به - رونق
الحشمة والجلالة، ولو أردنا أن نورد شاهدا من شعره على ذلك لأوردنا
ترجمة المؤلف 55

غالبه، ونسقنا فيه كثيرا من شعره الغزلي الغرامي، فان نفسه العزيزة وروحه
المتوثبة قد اثرت فيه لدرجة أخرجت كثيرا منه عن مناهج الغرام المأثورة.
وهذا ما لا نتردد فيه، لأنه أول شئ يظهر لنا من خصائصه
الخلقية، ولكن السيرة تنبؤنا عن بلوغه من العزة والأنفة مرتبة قد
نقف عندها موقف الشاك المتردد، تنبؤنا متفقة أنه لم يقبل قط صلة
حتى من أبيه وحتى من ملوك بني بويه، وأنه كان يقنع من هؤلاء
بالاحترام وصيانة الجانب واكرام الاتباع [1]. وتقول: إن أبا
إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد الطبري أنف له أن يقيم في دار أبيه بباب
محول ولا تكون له دار تخصه منذ شبابه، ومنذ كان يقرأ عليه القرآن،
ولكن كيف يقبل الشريف هبة أستاذه له داره (دار البركة) وهو لم
يقبل قط صلة من أبيه! [2]
ونحن إذا أردنا أن نبرهن على ذلك من غير ناحية شعره، واستعرضنا
تأريخ حياته الاجتماعية والأدبية، لا نجد عينا ولا اثرا لمثل قول:
(مدحه في عيد كذا فوصله بصلة سنية... وهناه في وقعة كذا فأجازه
ببدرة...)، ونجد هذه القضايا المكافاتية مثبتة في سيرة جميع من
عداه من الشعراء البارزين وإن عظموا، كما انا لا نجد في شعره طلبا ولا
استرفادا حتى بالإشارة، إلا أن يكون نزرا يخفى على الفحص البالغ،
وذلك كقوله لبهاء الدولة:

(1) العمدة وشرح النهج.
(2) ابن أبي الحديد في شرحه عن
تأريخ أبي الفرج بن الجوزي.
ترجمة المؤلف 56

يا أيها البحر بنا غلة * فهل لنا عندك من مكرع؟
ولكن من يعلم مقدار تأثر الشريف بعظمة بهاء الدولة، يعذره
ان يجري على هواه إذا رأى منه رغبة في أن يستميحه، ليجزل رفده
في تكرمة أو رتبة أو غيرهما، ولعلما كان البيت السابق صدر من
هذا المورد.
ولكن من أين ثروته؟ ومن اي وجه حصل على تلك الاملاك
التي كانت تمونه وتقيم أوده، وتشيد بالانفاق الطائل مدرسته - دار العلم -
التي كان يختص بالانفاق عليها؟ ومن أين كانت تستدر نفقاته في
أسفاره وخاصة أسفار الحج حينما كان أمير الحجيج، وتقول السيرة:
إنه وأخاه أعطيا لابن البراج [1] الطائي لما اعتقل الحجاج بنجد تسعة
آلاف دينار من مالهما فداء لهم [2]، وأبو أحمد والدهما لم يزل في ذلك الوقت
حيا لم يورث، ولربما كانت والدتهما في قيد الحياة أيضا؟
يقول جامع ديوانه في عنوان قصيدة يمدح بها الطائع: إنه قالها يشكره
فيها على تكرمة خصه بها وثياب وورق وذلك سنة 376. وقد يسجل
عليه ذلك اعترافه حيث يقول:
وكنت إذا منحتني الملوك * نزرا من النائل الغامر
أبيت القليل ولكنني * أرد الرذاذ على الماطر
في كل يوم قوام الدين ينضحني * بماطر غير منزور ولا وشل
مدحت أمير المؤمنين وانه * لأشرف مأمول وأعلى مؤمم

(1) وفي بعض الكتب: الجراح
(2) عن تأريخ اتحاف الورى بأخبار أم القرى.
ترجمة المؤلف 57

فأوسعني قبل العطاء كرامة * ولا مرحبا بالمال إن لم أكرم
وهذا ربما يؤخذ منه أنه لا يتهالك على المال، وانه يؤثر عليه صيانة العرض
والكرامة، استمساكا بالعزة والأنفة، لا كمن يمدح الملوك للاسترفاد
وأخذ المال بأي وسيلة ممكنة. وهذا توسط بين طرفي الابتذال
والاباء، لا يعاب سالكه ولا يهدم شرف الشريف انتهاجه، ولربما
يدعم بمثل قوله للمهلبي:
فهذا ثنائي لا أريد به الغنى * أبى المجد أني أجعل المدح مكسبي
كم عرضوا لي بالدنيا وزخرفها * لمع الهلوك فلم أرفع لها رأسا
أريد الكرامة لا المكرمات * ونيل العلا لا العطايا الجساما
وهذا التوسط هو الذي صيره مقلا - فيما يزعم - على وفور ما عنده،
وهو الذي جعله يلهج بالقناعة كثيرا، ويكثر من التلهف على بلاغ
من العيش يناله بعزة، نحو قوله:
من لي ببلغة عيش غير فاضلة * تكفني عن قذى الدنيا وتكفيني
أخي! من باع دنياه وزخرفها * بصونه كان عندي غير مغبون
وعلى العلات، فاني لا أعرف في عصر الشريف بل في أكثر
العصور شاعرا استكبر على الكسب بالشعر، بل لا نكاد نعرف
للشعراء غرضا من نظم الشعر في الأغلب إلا التماس الوفر به، لكن الشريف
يتكبر على تلك العادة السيئة ويأنف من المدح، إلا أن يكون فيه نوع
من الكرامة لا يحط من شرفه ولا يضع من مقداره، ولذا نراه
يندد بمن لا يبالي إذا حصل له المال من اي طريق اجتلبه.
ترجمة المؤلف 58

شفاعاته وتوسطاته:
وإذا كان الشريف لا يستميح أحدا مالا، فانا لا ينبغي لنا
أن نجهل أن عظمته ومنزلته عند الملوك والخلفاء ورجال الدولة تستدعي
بطبيعة الحال وساطته لدى هؤلاء في كثير من المهمات التي يتكلف بها
ويتشفع، وربما يكون كثير منها من مهمات نفسه التي لا تتضمن
طلب المال، وفي هذه الوساطات إعمال للجاه في محاله، ولا منافاة فيه
للعزة والأنفة، فان الشح بالجاه قبيح كالشح بالمال أو أشنع، ومن هذا
ما نجده في كثير من شعره من تنجز المواعيد والالحاح على الوفاء،
والحض على التكرم باتباع الأفعال للأقوال، ولعمري إني لا أدري
أي شئ طلب ممن يقول فيه:
أخطأت في طلبي وأخطأ في * منعي ورد يدي بغير يد
فلأجعلن عقوبتي ابدا * ألا أمد يدا إلى أحد
فتكون أول زلة سبقت
مني وآخرها إلى الأبد
ومهما كان المطلوب، فهذا الشموخ، وهذه المعاتبة والمعاقبة،
تبرهن على اعتزازه وتمسكه بمبدئه الشريف.
شكره للصنايع:
قد يؤخذ على الشريف تنازله مع بهاء الدولة إلى مقام الخاضع
المتصاغر في قوله له: (أنا غرس غرسته) وقوله: (وارع لغرس أنت
أنهضته) ونحوه. وهذا رأي فيه تحامل شائن، لأنا مهما طبعنا نفس
الشريف بطابع العزة والاستعصاء على الذل والخنوع، فانا لا ننسى أن
ترجمة المؤلف 59

له من محاولات النقابة والامرة وسعة الجاه ما يملكه بهاء الدولة واضرابه،
والقادر وأمثاله، بل وحتى رجال الحاشية، وماذا يحصل لهؤلاء منه
بعد الحصول على أغراضه سوى الشكر - وشكر الصنيعة نوع من الفتوة -
وهو نفسه يقول: (ولا يشكر النعماء إلا المهذب). وفي الشكر مع
ذلك استبقاء لما كان جد في الابتداء له، ولو كان يترك الشكر على
الصنايع لكان الأجدر به الا يهيئ نفسه لتلقي الحقوق التي يلزمه الشكر
على نيلها، وها هو ذا يستهل قصيدته في صديق له بقوله:
لأي صنايعه أشكر * وفي أي أخلاقه أنظر
فكيف بهاء الدولة الذي هو حقا كما يقول له:
أنا غرسكم والغصن لدن والصبا * غض وللعيس القياد الأطوع
ويقول:
إذا كنت لي غيثا فأنت غرستني * ومورق عودي في الندى مثل غارسي
ويقول (ولا أحسب ذلك إلا فيه أوفي شرف الدولة وإن لم يذكر اسمه):
ألبستني نعما على نعم * ورفعت لي علما على علم
وعلوت بي حتى مشيت على * بسط من الأعناق والقمم
فلأشكرن نداك ما شكرت * خضر الرياض صنايع الديم
فالحمد يبقي ذكر كل فتى * ويبين قدر مواقع الكرم
والشكر مهر للصنيعة إن * طلبت مهور عقائل النعم
إن هذا ومثله لا يستنكر ولا يستغرب من الشريف ابتداء ولا شكرا
للصنايع التي يحق ان تشكر، لكن لم يكن المتوقع منه أن يؤدي شكر
ترجمة المؤلف 60

بهاء الدولة بقوله:
أنا عبد أنعمك التي نشطت * أملي وانهض عزمها منني
وبقوله:
وما انعامك الغمر * بزوار على العب
سقاني كرع الجم * بلا واسطة القعب
وأرضاني على الأيام * بعد اللوم والعتب
وأعلى المدح ما يثني * به العبد على الرب
وكما أغرق في شكره فقد بالغ في مدحه مبالغة ما كانت مأمولة الوقوع
منه كمثل قوله فيه:
ملك الملك ثم جل عن الملك.. فأمسى يستخدم الا ملاكا
عجبا كيف يرتضي صفحة النعل.. لرجل يطأ بها الأفلاكا
ومن نظر إلى مدحه له في المستهلة بقوله: (تمنت رجال نيلها وهي
شامس) ورثائه في المبتدأة بقوله: (أظن الليالي بعدكم ستريع)
يعلم مقدار تأثر الشريف بعظمة بهاء الدولة وتعليقه الفوز بآماله عليه، إذ
يرى القصيدتين وغيرهما من مدائحه لا تشبه مدائحه لمن سواه من خليفة
أو ملك، في الروعة والجلال وفي التنويه والتكريم، بل هي بمدائحه
لأبيه أشبه من كل ناحية.
دماثة أخلاقه:
إن من تتمكن وتتوغل في نفسه مثل عزة الشريف ورفعته لا ينفك
في الأغلب عن كبرياء وغطرسة، لكن الشريف وهو بتلك العزة
ترجمة المؤلف 61

والأنفة، لا تجد فيه زهوا ولا خيلاء ولا جبرية، كما نجد ذلك كثيرا
في مستعار العظمة أو مستجد النعمة، ولذا لا نراه يطمع في اطراء الشعراء
له مع استحقاقه وتأهله لذلك، كما نجد الصاحب بن عباد يتحامل على
المتنبي بشدة لأنه لم يمدحه، بل انا نلمس منه لين الجانب ودماثة الخلق
حينما نراه ينزل في معاتبة أصدقائه إلى رتبة المماثل أو دونها، وتدلنا
شوقيته لصديقه أبي الحسين أحمد بن علي البتي الكاتب انه على غاية
بعيدة من لين الجانب والبعد عن الغطرسة، وذلك حيث يقول له:
أشاق إذا ذكرتك من بعيد * وأطرب إن رأيتك من قريب
كأنك قدمة الامل المرجى * علي وطلعة الفرج القريب
إذا بشرت عنك بقرب دار * نزا قلبي إليك من الوجيب
أكاد أريب فيك إذا التقينا * من الأنفاس والنظر المريب
فهذا ونحوه لا تسمح به الكبرياء - لو كانت - خطابا من الشريف
لمثل البتي إلا أن يكون قرينا له في المزايا أو خليصا له في النسب، وفي
هذا ونحوه تدليل على أن تلك الحماسات، وتلك الاندفاعات التي امتلأ
بها دوان شعره لم تكن لتنشأ عن شراسة في الخلق وخشونة، ولكل مقال
مقامه الذي يليق به ولا يوضع في مقام غيره، ومما يبرهن على ذلك أيضا
مدائحه الجمة واستعطافاته، فإنها لا تتفق مع الشراسة، ولذا لا نجد
شاعرا مداحا في الأغلب إلا سهل الأخلاق لين الجانب لان
الانعطاف نحو الممدوح واستماحة فواضله والسماحة باظهار فضائله يلين
عريكته ويسهل جماحه، وقد يتفق لسهل الأخلاق ان يستعمل الحزونة
ترجمة المؤلف 62

مع بعض، لأغراض تتفق له كما نجد الشريف يعترف بها حينما يقول
لبعض مناوئيه:
لئن ساءكم مني حزون خلائقي * فقد طالما لم انتفع بالدمائث
تشدده في عقاب الجاني:
لعلما كان من هذا الشذوذ الأخلاقي ما ينسب إلى الشريف أيام
نقابته من الافراط في عقاب الجاني من آل أبي طالب، أو أن هذا جار
على العادة بلا شذوذ عن الخصائص الخلقية الحسنة لان الطالبيين يومئذ
يراهم الملوك ويراهم الكافة طبقة ممتازة بالشرف وبالاباء وبالانتماء إلى الرسول
الأعظم، ولذلك سنت فيهم (النقابة) التي تفرقهم ان يشتركوا
مع الجماهير في الأنظمة والقوانين الدولية العامة، ولهذا الامتياز ولذلك
التفوق كان الشريف يستكبر الصغير من اجرامهم، ويعاقبهم عليه
بنسبة ما هم عليه من العظمة استمساكا بالأنفة والعزة، ورفعا لهم عن
مساواة سفلة الاخلاق من غيرهم، وكفا لهم لأبعد غاية عن اقتراف
أيما جريمة، وبهذا الميزان يوزن ما نجده من حضه أباه على القسوة والشدة
على الباغي من أقربائه عقابا على بغيه كقوله:
لا تنظر الباغي لقربي وأرمه * بالذل واقطع ما عليه يعول
هذا الأمين أدال منه شقيقه * ومضى عقيرا بابنه المتوكل
والعفو مكرمة فان أغرى بها * متغافل قال الرجال: مغفل
وهذا يدلنا على أن من رأيه أن اعمال القسوة في محالها لا يكون
من حزونة الاخلاق. وقد لا يكون منافيا للحلم إذا كان الغرض منه
ترجمة المؤلف 63

تأديب الشخص وكف النوع عن الاجتراء على البغي، ومن هذا
الباب أيضا أو هو مما يؤخذ على الشريف مخاطبته لبهاء الدولة بقوله:
إذا أشر القريب عليك فاقطع * بحد السيف قربى الأقرباء
وكن إن عقك القرباء ممن * يميل على الاخوة للإخاء
فرب أخ خليق بالتقالي * ومغترب جدير بالصفاء
والذي أراه أن هذه وأمثالها تنشأ في وقتها لحوادث مجهولة لا يمكن
استنتاج أيما حكم غامض منها، وإذا انضمت الأشباه إلى نظائرها وأمثالها من
شعر الشريف دلت على رقة فائقة وانعطاف على الأهل والأقارب لا يشبه
ما يبدر منه فارطا في بعض الوقائع الخاصة المجهولة. ومن يستقرئ المعاتبات
الواقعية بينه وبين أخيه الشريف المرتضى في ديوانيهما وانعطافهما على البعداء
فضلا عن الأقربين، يعتقد ان الخلق فيهما هو ذلك، وأن ما يشذ عنه
لا حكم عليه بشئ. وإن أصدق ما اعرفه عنه عندما أتعمق للغاية في
شعره لأعرف نفسيته في ذلك، هو الرقة التي يمثلها قوله - في عتابية أخيه -:
أفوق نبل القول بيني وبينه * فيؤلمني من قبل نزعي بها عرضي
وأرجع لم أولغ لساني في دمي * ولم أدم أعضائي بنهش ولا عض
طموحه للخلافة ودعاته لها:
في العلويين ثم في الهاشميين شموخ وإباء يمتازون بهما عن سائر
بطون قريش العريقة في الكبرياء والأنفة، ثم هم يتفوقون
بذلك النسب الكريم الباسق الذي له الأثر البليغ في الترفع والشمم،
وزاد في الأثر مبالغة في العلويين خاصة أنهم كانوا - سيما في القرون
ترجمة المؤلف 64

الأولى القريبة العهد - يتمثل لأعينهم الحق الصريح في عرش الخلافة
الاسلامية، ويشعرون بأنهم وراثه الشرعيون، فان ذلك ليس فقط
يزيد في عز نفوسهم بل يقفز بهم ويتوثب على عرش الخلافة من حين لآخر،
ولذلك كانت مؤامراتهم وثوراتهم متتابعة وإن انتهت بالخيبة والفشل في
أكثر الأحيان بل كلها، فما هو الظن بالشريف الذي نبت في الصميم
من شرف الأسرة العلوية، وأولى من طرفي أبويه بقرب الانتماء إلى
الرسول الأعظم، ونفسه تلك النفس الوثابة الطموح، وله تلك
الفتوة والنجدة، وتلك البسالة الموروثة، ونحن إذا استعرضنا ديوانه
نجد الأماني والآمال، ونجد البشائر بالنجاح، ونجد التعزي عن الخيبة
بأنواع التعازي، نجد كل ذلك قد أفعم ديوانه حتى غص بأمثال قوله:
يا قدمي! دونك مسعاة العلا * قد ضمن الاقبال ألا تعثري
ليكثرن خطوك أو تنتعلي * سرير ملك أو مراقي منبر
لا يرى مثلي إلا طالبا * ذروة المنبر أو قعر الرجم
طامح الرأس على أعواده * أو على عادية الرمح الأصم
لو كنت أقنع بالنقابة وحدها * لغضضت حين بلغتها آمالي
لكن لي نفسا تتوق إلى التي * ما بعدها أعلى مقام عال
وإذا نظرنا إلى واحدة من فخرياته نجد أنه تستدرجه هذه الأحلام،
وهاتيك الأماني إلى الذهول عن مواضع محاولاته، والغفلة عن
الخطر الذي يلحقه من إبداء ما استكن في قرارة نفسه فبينا هو يقول:
انا ابن من ليس بجد له * من لم يكن بالماجد الجائد
ترجمة المؤلف 65

ثم يستطرد أنانياته الكثيرة التي لا خطر فيها، إذا هو يتبعها بقوله:
ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ * سرير هذا الأغلب الماجد
وهكذا ظل الشريف مخدوعا من قبل طموح نفسه وما يرى من تأهله
للخلافة بما حازه من المآثر والمفاخر والملكات العالية، فتارة يقول:
ستعلمون ما يكون مني * إن مد في ضبعي طول سن
وأخرى يعد نفسه بقوله:
وعن قرب سيشغلني زماني * برعي الرأس لا رعي القروم
حتى قر في آخر مضاجعه، ولم يحظ من ذلك بطائل، لان الحياة
السياسية في عصره لا تدوم إلا بخلافة ولو كانت مستفادة، كما لا تكون
الخلافة يومئذ إلا للقادر، ومن العبث محاولة غيره من العلويين لها إلا
بانتظار الصدف الشاذة، فنحن نترك للشريف رأيه فيما طلبه، غير انا
لا نحسبه إلا كما قال عن نفسه في بعض أغراضه:
وما انا إلا كالموارب نفسه * بغي ولدا والعرس جداء عاقر
والذي أراه والذي استنتجه من مجموعة وقائع موقعة بتوقيع من شعر
الشريف ان السبب في طمعه بالخلافة أمور:
1 - ادلاله بالفخر والطول المتكون من علو النسب فحسب، كما أن
ذلك وحده أو مع المزايا الأخرى كان ينهض ببني أبيه وبني عمه الثائرين في
وجوه الخلفاء من قبله، لاخذ الخلافة المهتضمة على رأيهم، وإن انتهت
ثوراتهم بالخيبة والفشل إلا أنهم يستفيدون بنفس الثورة كثيرا من منازعهم
الجميلة، وفي هذا المنحى من وجوه الطلب ينهج الشريف بقوله:
ترجمة المؤلف 66

كم أب لي جد في احرازها * يحرق الناب عليها وابن عم
صبروا فيها على كل اذى * ولقوا من دونها كل ألم
2 - قبض البويهيين المخلصين والمقدرين له على مخانق الخلافة،
وتلاعبهم نصب عينيه بالخلفاء لأسباب تافهة: فمعز الدولة يخلع المستكفي
ويسمل عينيه، ولو شاء أن يقطع به الخلافة لفعل، لكنه يستقدم
المطيع من منفاه فينصبه. وهذا لما جاء عضد الدولة فاتحا نكل به
وألجأه إلى التنازل عن الخلافة لولده الطائع. وهذا الأخير - وهو داهية
المجاملة - لم تخنه عبقريته في مراعاة موقفه مع بهاء الدولة، ولكنه
ماذا يصنع والبهاء يريد أمواله التي حرص على جمعها؟ إلا أن يفقد خلافته
أو ماله، فخسرهما جميعا ونكل به، وهو معتقل، ليجلس القادر مكانه،
وهو منفيه في البطيحة.
فهذا يمهد للشريف مقدمات الأماني، يبني له الصروح، إذ يرى
نفسه ويراه ملوك بني بويه أهلا للخلافة، وربما كانوا يعتقدون أنه أحق
بها من غيره، وله على ذلك أشياع من العظماء كالوزير ابن أبي الريان،
والأمير أبي الهيجاء الحمداني، وأبى حسان (المقلد بن المسيب) أمير
بني عقيل، وأبي الحسن بن الفضل المهلبي، وهذا هو المعني بقوله:
وإن رجائي أن تكون لهمتي * طريقا تؤديني إلى كل مطلب
وأرمي إلى أمر أظنك بابه * ألا إن بعض الظن غير مكذب
وانا نرى الصاحب بن عباد يخطب مودة الشريف في أبيات كتب
بها إليه، ولكن ما هو الجواب الذي يجيبه به حينما يقول:
ترجمة المؤلف 67

أيا خاطبا ودي على النأي إنني * صديقك إن كنت الحسام المهندا
فاني رأيت السيف أنصر للفتى * إذا قال قولا ماضيا أو توعدا
انه يلحن له في هذا القول عن مؤازرته فيما يرومه، وعن تقريبه إلى
الدعوة له، بيد انه لا يصارحه في ذلك كما يصارح أبا إسحاق الصابي.
إن الصابي كان - خصوصا بعدما أفقده عضد الدولة كرامته ومقامه
من كتابة ديوان الانشاء - يستميل الشريف بمثل قوله: (أبا حسن
لي في الرجال فراسة)، ويمنيه الأماني ويؤكد له المطامع والآمال،
ليستعيد مقامه الأول، وربما كان حماس الشريف نفسه وتطلعه
للخلافة يأخذ من الصابي مأخذه - وهو شاعر يستهويه الخيال فيتحول
إلى حقيقة ماثلة - فيجد في ذلك ضوء لنيل آماله واستعادة كرامته،
ولكن الشريف كيف يجيب عن تلك الفراسة، وبالأحرى المماذقة
والمواربة؟. انه يعده بالمكافأة التامة، ومشاطرة النعمة إن حصلت أمانيه
وصدقت به الفراسة، ولكنه بالآخرة يقول له غير متردد ولا شاك:
فوالله لا كذبت ظنك إنه * لعار إذا ما عاد ظنك مخفقا
فان الذي ظن الظنون صوادقا * نظير الذي قوى الظنون وحققا
وسواء كان الصابي - الذي حلب الدهر أشطره - صادق النية ومخلصا
للشريف أو مواربا كما أظن، أو هو كما يقال [1] يزعم أن طالعه النجومي
يدل على نيله الخلافة، فان الشريف هو المنبه لشعور الصابي وأمثاله، وهو
هو الذي قد مازج حب الخلافة نفسه منذ صباه، ولقد كان يستوحش إذا

(1) عمدة الطالب.
ترجمة المؤلف 68

رأي السكون من ناحية الخلافة سائدا في العاصمة بلا اضطراب، وبدون
أمارات تنذر بالقلق، كما كانت في أيام القادر، وفي هذا الشأن كان يقول:
أما تحرك للأقدار نابضة * أما يغير سلطان ولا ملك؟
قد هادن الدهر حتى لا قراع له * وأطرق الخطب حتى ما به حرك
أظلت السبعة العليا طرائقها * أم أخطأت نهجها أم سمر الفلك؟
3 - إمارة الحج، فهي التي نبهت هواجسه التي تنمو بنموه، وأذكت
فيه ذلك الشعور الملتهب الذي يتحفز ولا يهدأ ولا يقنع بما دون الخلافة
إلا ساخطا على القضاء، وليس ذلك لما في تلك الامارة من سلطة محدودة
ومقصورة على البادية فان سلطة النقابة الدائمة أقوى منها وأكمل،
بل لأنها قد أكدت الصلات بينه وبين سراة البادية وزعمائها في جزيرة
العرب كلها، وهم هم المتنفذون، وهم الذين يتمكن الشريف ان يفسر
بهم أحلامه، ويحقق أمانيه التي يظهرها قوله:
متى أرى الزوراء مرتجة * تمطر بالبيض الظبي أو تراح
يصيح فيها الموت عن ألسن * من العوالي والمواضي فصاج
وهذا أقوى الأسباب فيما أرى لدى الشريف، لأنه إن تم لا يقصر
خلافته على العراق فقط أو حيث تمتد سلطة بني بويه بل يسير بها في جزيرة
العرب كلها، ويدلنا على أن الشريف يطمع في عموم الاستخلاف الذي
ينحصر بهذا السبب قوله:
لست للزهراء إن لم ترها * كوعول الهضب يعجمن اللجم
يستجن البدر من فرسانها * بين بغداد إلى أرض الحرم
ترجمة المؤلف 69

وعلي إن يطأ العراق وأهلها * يوم أغر من الدماء محجل
يوم تزل به القلوب من الردى * جزعا وأولى أن تزل الأرجل
وما أرى مودة الشريف لصديقه العربي - ابن أبي ليلى - كانت في
بدء الامر إلا لكونه أحد سراة العرب المتنفذين في البادية، والذين
توثقت عرى الصلات معهم لاجتياز الحجيج لكنه استدرجه فيما بعد فأفضى
إليه بسره، وأبدى له ما يجيش بنفسه، فصادف جوا ملائما للغاية التي
يتمناها الشريف ويتوخاها، إما لبساطة في نفس أبي العوام هذا،
أو لغضبه على الخلفاء، أو لأنه يطمع برفعة ينالها في خلافة الشريف
أو مال أو غيرهما.
(ابن أبي ليلى) لا تعرفنا عنه كتب التأريخ والسير شيئا، ولا تنبؤنا عن
تحديد كرامته حتى ولا تذكر اسمه، ولكن يؤخذ من ديوان الشريف
أنه من بني عامر بن لوي وأن اسمه عمرو، أو كعب، ويكنى بابي
العوام، ويقال: انه كان دليلا له في طريقه إلى مكة سنة 394،
وهو العام الذي حج فيه معه الوزير أبو علي الحسين بن حمد بن أبي الريان
وله في ذلك قصيدة يذكره فيها، ويؤخذ من إطراء الشريف لابن أبي
ليلى هذا ترجمة رجل متفرد بمآثر جليلة ومناقب جمة جميلة، ولا ريب
أن في ذلك الاطراء مبالغة وتخييلا شعريا، ولكن واحد من مائة لم
يبالغ فيه يكفينا لان نعرف أنه من الشخصيات البارزة يومئذ، وأن
بني تميم قتلته في سبيل دعوته للشريف لما لم ترق لديهم تلك الدعوة، ولعلما
كان قتله وقتل المقلد العقيلي مما دبره الخلفاء بليل للاستراحة منهما،
ترجمة المؤلف 70

وبالآخرة من خلافة الشريف. ومن رثاء الشريف له بعدة قصائد نعرف
مكانته عنده ومنزلته من نفسه، وقلما تجد الشريف تكرر تأبينه لشخص
واحد مثله، وأرى أن من أجود مراثيه له هي التي يقول فيها:
لعمر الطير يوم ثوى ابن ليلى * لقد عكفت على لحم كريم
واقسم أن ثوبك يا بن ليلى * لمجموع على عرض سليم
أجدك أن ترى بعد ابن ليلى * طعانا بين رامة والغميم
أأرجو للحواضن كابن ليلى؟ * أحلت إذا على بطن عقيم
عقيدته من شعره
أصول اعتقاده
إن كتب التأريخ وكتب السيرة والأدب متفقة من عصر الشريف
إلى القرن الحاضر، على أنه شيعي إمامي من أسرة هم شيعة إمامية، وهو
- بعد - مؤلف كتاب (نهج البلاغة) الذي ما جمعه إلا وهو معترف
بصحته، وكفى أن شطره أو المقذع منه قد اتهم بوضعه، ونحن إذا سبرنا
شعره لنأخذ منه عقيدته حسبما اقترحناه نجده قد جمع أساسيات الاسلام
ثم التشيع بقوله:
أصبحت لا أرجو ولا ابتغي * فضلا ولي فضل هو الفضل
جدي نبيي وإمامي أبي * ورايتي التوحيد والعدل
وقد يجري مجرى ذلك قوله:
جدي النبي وأمي بنته وأبي * وصيه وجدودي خيرة الأمم
ترجمة المؤلف 71

لنا المقام وبيت الله حجرته * في المجد ثابتة الاطناب والدعم
اما جدوده أولئك الذين يقول عنهم: خيرة الأمم، فقد ذكرهم
عددا مفصلا في مقصورته المشهورة، وفي المستهلة بقوله: (أيا لله بادرة
الطلاب) حتى انتهى إلى أخيرهم، وهو الذي يقول فيه:
بني أمية ما الأسياف نائمة * عن ساهر في أقاصي الأرض موتور
ومما يمتاز به الشريف في شعره ونثره، حتى في مصنفاته، أنه
لا يستعمل القذف والقذع الشائع في ذلك الزمن، لمخالفيه في المذهب
والدين، ترفعا عن هذا المقام الشائن، وربما كانت - أيضا - الأحوال
الاجتماعية والسياسية يومئذ تصده عنه صدا كليا، وتسد ذلك الباب
دونه، ولقد كنت منذ الزمن الأقدم أعجب منه مع كمال أدبه وشدة
تحرجه كيف استطاع أن يعلن قوله في آل حرب:
بنى لهم الماضون آساس هذه * فعلوا على بنيان تلك القواعد
رمونا كما ترمى الظماء عن الروي * يذودوننا عن إرث جد ووالد
وكيف أعلن بعد ابهام وادماج قوله:
هم انتحلوا ارث النبي محمد * ودبوا إلى أبنائه بالفواقر
وما زالت الشحناء بين ضلوعهم * تربى الأماني في حجور الأعاصر
ولو أن من آل النبي مقيمها * لعاجوا عليه بالعهود الغوادر
إلى أن يقول في جده علي عليه السلام:
شهدت لقد آوى الخلافة سيفه * إلى جانب من عقوة الدين عامر [1]

(1) ويقول في مدحه لأبيه يوم الغدير حين ردت عليه بقية املاكه سنة 376: -
غدر السرور بنا فكان * وفاؤه يوم الغدير
يوم أطاف به الوصي * وقد تلقب بالأمير
ترجمة المؤلف 72

فروع عقائده وما يتصل بها:
إن من الآراء ما يتصل بالعقيدة، وإن لم يكن ممتزجا بجوهرها،
ولا مميزا لصاحبها عن غيره، لكنه متكون من معدنها، أو هو من
احدى نابتات أرضها، كقوله:
إن الخلائف والأولى فخروا * بهم علينا قبل أو بعد
شرفوا بنا ولجدنا خلقوا * وهم صنايعنا [1] إذا عدوا
وقوله:
ألست من القوم الذين تسلفوا * ديون العلا قبل الأولى في الأظلة!
والأظلة: عالم المجردات، وهو ما يسمى بعالم الذر، سمي بذلك لان
الأشياء فيه أشياء وليست بأشياء، كالظل، وقد جاء في أحاديث
الامامية عنه وعن شأن الأئمة فيه ما لا حاجة إلى ذكره.
ويجري هذا المجرى ما ذكره في اطراء جده علي، بذكر بعض
مناقبه وفضائله في قصيدته البائية التي يذكر فيها آباءه الاثني عشر
وشسوع مراقدهم، كما تقدمت الإشارة لها، قال:
قسيم النار جدي يوم يلفى * به باب النجاة من العذاب
وساقي الخلق والمهجات حرى * وفاتحة الصراط إلى الحساب
ومن سمحت بخاتمه يمين * تضئ بكل عالية الكعاب

(1) مأخوذ هذا المعنى من كلمة قالها علي رويت في النهج: (انا صنايع ربنا
والناس بعد صنايع لنا)
ترجمة المؤلف 73

أما في باب خيبر معجزات * تصدق أو مناجاة الحباب [1]
أرادت كيده والله يأبى * فجاء النصر من قبل الغراب
أهذا البدر يكسف بالدياجي * وهذي الشمس تطمس بالضباب؟
وكذلك المستهلة بقوله: (بعض الملام فقد غضضت جماحي)
وهي القصيدة الفذة التي يذكر فيها وقائع جده أمير المؤمنين علي بالبصرة
وصفين والنهروان، ويذكر فيها رد الشمس عليه.
رأيه ببني أمية وبني العباس:
إن الشريف كما يشنأ الأمويين كافة يشنأ العباسيين أيضا، لكن
الشائن الديني عنده لبني العباس بالمرتبة الثانية، والذي لم يزل يلهج به
هو العتب والمطاولة، والمدافعة عن الحكم والسلطان، والعصبية
للآباء، ولذلك نجد مدحه وذمه لهم يتراوح على نسبة وفاء الحق ومطله.
وأرى أنه لو استطاع ألا يمدح سوى النبي وآله صلى الله عليه وآله
وسلم - كما يقول - لما مدح غيرهم سوى أسرته، ولكنه لا يجد
بدا من ذلك، أما الذم والعتاب فقلما تعرض فيه لدماء مطلولة وحرمة
مهتوكة، ومن ذلك القليل قوله:
ويا رب أدنى من أمية لحمة * رمونا عن الشنآن رمي الجلامد
طبعنا لهم سيفا فكنا لحده * ضرائب عن ايمانهم والسواعد
يريدن ان نلقي إليهم اكفنا * ومن دمنا أيديهم الدهر تنطف
فلله ما أقسى ضمائر قومنا! * لقد جاوزوا حد العقوق وأسرفوا
واما ما لا تعرض فيه لدم مسفوك أو عرض منهوك، فإنه شئ لا
ترجمة المؤلف 74

يحصر، وانا لا أريد أن أحصيه ولكن لأنبه على إقدامه وجرأته على
الخلفاء، تلك الجرأة التي هي السبب في مغامراته وتعريض نفسه للخطر
كما يقول عن نفسه:
وأطمعني في العز أني مغامر * جرئ على الأعداء والقلب قلب
فمن ذلك قوله:
وقل لبني عمنا الواجدين: * بني عمنا بعض هذا الغضب!
سرحتم سفاهتكم في العقوق * ولم تحفلوا الحلم لما غرب
يناشدنا الله في حربكم * عريق لكم في أبينا ضرب
أقلوا علينا لا أبا لأبيكم * ولا ترشقونا باللتيا وبالتي
تريدون أن توطأ وأنتم أعزة * بأي كتاب أم بأية سنة!
أما بنو أمية فإنه لا يذكرهم إلا في مراثي آبائه، لما لاقوا منهم، ولذلك
نجده إذا ذكرهم يمزج الدمع بالدم وبالذم، ويخلط الأسا بالأسف،
ولا يبالي أن ينتحي عليهم من وجهة الشائن الديني فيقول في رثاء جده
الحسين وآله وأسرته قتلى الطف:
أدرك الكفر بهم غايته * وأديل الغي منهم فاشتفى
يا قتيلا قوض الدهر به * عمد الدين وأركان الهدى
عقيدة الزيدية والاعتزال:
غريب ما سمعته في هذه الآونة من رمي الشريف بالزيدية، وبنزعة
الاعتزال، وما كان هذا بالذي يدور بالخلد. وارى ان تلك التهمة
- الزيدية - قد لصقت به من قبل آبائه لامه، لان بني الناصر الكبير أبي
ترجمة المؤلف 75

محمد (الحسن الأطروش) صاحب الديلم، لكن هذا قد ثبت لدى علماء
الرجال من الامامية، وفي طليعتهم السيد الشريف المرتضى علم الهدى في
كتابه (شرح المسائل الناصرية) نزاهته ونزاهة جميع بنيه عن تلك
العقيدة المخالفة لعقيدة اسلافهم (1).
سوى ان اصطلاح الكتاب أخيرا جرى على تسمية الثائر في وجه
الخلافة: زيديا، ولمن كان بريئا من عقائد الزيدية، يريدون انه
زيدي النزعة لا العقيدة، وربما تطرفوا فجعلوا لفظ (زيدي) لقبا
لكل من تحمس للثورة، وطالب بحق زعم أنه أهله، وإن لم يجرد
سيفا، ولم يحد قيد شعرة عن مذهب الإمامية في الإمامة ولا عن طريق الجماعة،
ولقد كان أبو حنيفة في نقل أبي الفرج الأصبهاني زيديا، وكذا احمد
وسفيان الثوري وأضرابهم من معاصريهم، ومراده من زيديتهم أنهم
يرون أن الخلافة الزمنية جائرة، وأن الخارج آمرا بالمعروف أحق
بالاتباع والبيعة.

(1) الذي يقال إنه امام الزيدية هو الملقب بالداعي إلى الحق، وهو الحسن
ابن زيد من بني زيد بن الحسن السبط توفي بطبرستان سنة 250، وقام مقامه
الداعي إلى الحق أخوه محمد بن زيد، واما الحسن بن علي الملقب بالناصر للحق الكبير
وهو الأطروش أحد أجداد الشريف لامه، والحسن أو الحسين بن علي - أو ابن احمد -
الملقب بالناصر الأصغر وهو والد أم الشريف فليسا من أئمة الزيدية، ومن زعم أن
الناصر امام الزيدية فقد اشتبه عليه الداعي للحق بالناصر للحق، ولا يبعد دعوى اتباعه
أنه زيدي، لكنه برئ عن تبعة اعتقادهم. وقد توفي الناصر الكبير بطبرستان
سنة 304 وهو من بني الحسين السبط ينتهي نسبه إلى عمر الأشرف بن الإمام السجاد
علي بن الحسين كما تقدم.
ترجمة المؤلف 76

اما النزعة الاعتزالية فقد ظهرت عليه في مسألة (الارجاء والوعيد)
ومسألة (خلق الجنة والنار)، ولكن موافقة المعتزلة في رأيين يتبعهم
فيهما كثير من الناس لا يقتضي الرمي بالاعتزال، على أن الاعتزال منهج
لا عقيدة يسلكه الامامي وغيره، ولقد كان الشيخ أبو جعفر الطوسي
يقول بالوعيد ثم رجع عنه. وما من منقصة على إمامي إذا ذهب في
مسألة إلى رأي من يقول بالعدل ويبني أصله عليه. ومع ذلك فالشريف
ليس بالرجل الذي يوافق المعتزلة على سائر آرائهم. وإن شئت فقل:
هو إمامي واقف في حيطة اعتزال محدود لا يتجاوز آراء خاصة. وبعد
هذا فمن يتعمق في مناحي كتابه هذا (حقائق التأويل) يعرف انه
هو الرجل الذي إذا قاده البرهان إلى شئ لا يبالي ان يجاهر به، ولا يحفل
أن يتفق أهل الملل كافة على خلافه.
إن الكتاب المذكور يحدثنا عنه بأفصح بيان وأبلغه أنه لا يتطامن
للعقيدة تقليدا، ولا يأخذ بها اتباعا، وأنه ربما مر عليه الزمن الأطول وهو
شاك تتضارب لديه الحجج وتتنافى عنده البراهين، وأنه لا يزال كذلك
حتى يحصل له الاذعان بشئ بعينه، فإذا حصل ربما عدل به عن امر
كان يراه صوابا وعن شئ كان معتقدا له ردها من الزمن. وتجد مثالا
لذلك في ص 16 - 17.
ترجمة المؤلف 77

مناصبه
تمهيد
لا أريد في هذه النبذة أن أحدد هذه الامارات وما يجب فيها،
وما يلزم الأمير والمأمور، ولكن بمقدار ما تعلم به كرامة الشريف
وحياته الاجتماعية من ناحية هذه المناصب الثلاثة التي عرفنا من مطاوي
الفصول السابقة أنها عهدت إليه، لكن جاء في معاتبة القادر له على
ممالاته لملوك مصر زيادة على ذلك، وهي (الخلافة على الحرمين
والحجاز)، إذ قال حاجبه لأبيه أبي احمد: (ألم نوله المظالم؟ ألم
نستخلفه على الحرمين، وجعلناه أمير الحجيج؟). وهذا المنصب
لا نجد له في فخرياته أثرا وعسى أن يكون عهد إليه في أخريات أيامه.
(1) النقابة:
كان اشتراع النقابة على الطالبيين خاصة، في ملاك وظائف الدولة، سيما في
القرن الذي عاش فيه الشريف وما بعده، من أصوب التدابير التي اتخذها
الملوك المستبدون بالحكم في أقطار الشعوب الاسلامية التي يكثر فيها الطالبيون،
لان هؤلاء كانوا يتواثبون على الخلفاء وولاة الحكم بما يقلق الراحة ويخل
بالأمن، أو يزلزل العرش موقتا، كل ذلك إعادة للحق المهتضم - باعتقادهم -
الذين يرون انهم وراثه الشرعيون، لا غيرهم، ومن جهة أخرى كان
الناس بل الملوك يرونهم طبقة ممتازة بالشرف والانتماء إلى الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، وانه يجب من جهة التعظيم والتكريم اللازمين أن
تشرع لهم أنظمة خاصة، ويرعاهم رجل منهم يكون كخليفة عليهم وهو
ترجمة المؤلف 78

(النقيب) وهذا يلزم بطبيعة الحال أن يكون علويا له الشرف في
البيت والتقدمة في العلم والعمل والآداب، وفي العفة ونزاهة المولد
وطيب المحتد، وقل - إن شئت -: له مميزات التفوق على كافة من
سواه من الطالبيين الأكفاء فضلا عن غيرهم، ويكون ذا سلطة واسعة
وله تقدير خاص في التعظيم والاحترام من قبل الخلفاء والولاة. فهي
إذا (خلافة مصغرة) و (حكومة ضمن حكومة).
و (النقيب) هو المسؤول عن ابتاعه امام الخلفاء والملوك، وهو
مديرهم ومدبرهم بإقامة العدل فيهم والنكال بمن شذ عن منهج الشرع
الأقدس منهم، كما أنه هو المدافع عن كرامتهم عن أن تمس بما يشينها،
ومن جهة أخرى هو المكلف بالعطف عليهم وباحصاء نفوسهم، وتنزيه
أنسابهم، ومعاقبة مدعي النسبة إليهم، وكف من استطال منهم بشرفه
على غيره، وردعهم عن كل ما يوجب الطعن على اسلافهم الطيبين
من منافيات الأدب والمروءة، ومباينات العزة والشرف. إذا لا تكون
النقابة إلا في بيت الشريف أبي احمد يومئذ.
ولي النقابة والد الشريف الرضي، ولما اعتزلها سنة 362 وليها
جد الرضي لامه أبو محمد الناصر، ثم أعيدت له إلى أن اعتقل بالقلعة
بفارس نحوا من عشر سنين، وولده الشريف الرضي يومئذ شاب،
فوليها بعض أخوال أمه [1]، وعند عودة أبي احمد ردت إليه إلى أن شاخ

(1) هو أبو الحسن علي بن أحمد العلوي العمري، يراد بالعمري النسبة إلى عمر
الأشرف الجد الأعلى للشريف من قبل أمه.
ترجمة المؤلف 79

فوليها ولده الرضى نيابة عنه أو مستقلا بها، ويشهد لذلك قوله:
ولي النقابة خال أمي... قبل ثم أبى وجدي
ووليتها طفلا فهل * مجد يعدد مثل مجدي
وأظن نفسي سوف... ملني على الامر الأشد
حتى أرى متملكا * شرق العلا والغرب وحدي
لكن ابن أبي الحديد يعتقد أن أباه توفي وهو متقلدها، ونحن لا
نتردد في أن الرضى وليها مستقلا سنة 380، وانه لم يزل يتقلب فيها
إلى آخر أيامه [1]، لكن مع فترات قليلة يعتزلها فيها أو يعزل ثم تعاد
إليه من قبل الخلفاء، وهم لا غيرهم أهل البت فيها، لأنها مستفادة من
خلافتهم فقط، لكنها لا تكتسب صفتها الرسمية ما لم تمضها إرادة
ملكية، ولذلك صدرت الأوامر من بهاء الدولة، وهو في البصرة،
بتوليته النقابة وإمارة الحج سنة 397. ثم عهد إليه في 16 محرم سنة 403
بولاية أمور الطالبيين في جميع البلاد، فدعي (نقيب النقباء)،
ويقال: إن تلك المرتبة لم يبلغها أحد من أهل هذا البيت، إلا أن يكون
الامام عليا الرضا عليه السلام الذي كانت له ولاية عهد المأمون.
ثم وليها أخوه الشريف المرتضى إلى أن مات، فأسندت إلى أبي احمد
الشريف (عدنان) بن الشريف الرضى الملقب بالطاهر ذي المناقب، لقب
جده أبي احمد الطاهر، وكان مهابا وقورا عظيم الشأن معظما عند الملوك

(1) في اليتيمة: كان أبو أحمد يتولى النقابة ثم ردت إلى الرضي سنة 370
وأبوه حي.
ترجمة المؤلف 80

بني بويه. مدحه مهيار، والحسين بن الحجاج وغيرهما من شعراء عصره. قال
النسابة ابن الصوفي في الكتاب (انساب الطالبيين) عن عدنان هذا:
(إنه كان عفيفا متميزا بصلاحه وصواب رأيه)، ويقال [1]:
(إنه ولي النقابة بعد أبيه ولم يتولها عمه ما دام حيا).
(2) ولاية ديوان المظالم:
كانت الخلفاء والملوك تعد يوما أو أياما خاصة في السنة تأذن فيها لأهل
الظلامات عامة برفع ظلاماتهم لهم، فيتولون البت فيها مباشرة، ثم
تطور الشأن، فجعل لها ديوان يخصها، وجعلت وظيفة دائمة يتولاها الأكفاء
من ذوي الدرجات الرفيعة والوجدان الصحيح البعيد عن التهم، وهي
أشبه برئاسة التمييز الأعلى المشترع في عصرنا في ملاك وزارة العدلية [2]
لان تلك الظلامات على الأغلب ليست مولدات وقتها، بل هي منظورة
من قبل للقضاة وللحكام الإداريين الذين إليهم ترفع المظالم ابتداء،
وهم المحكمون في امر الخصومات، ولذلك يلزم والى هذا الديوان أن يكون
متفوقا في وفور العلم والفضل، ممتازا بالإحاطة التامة بفقه فرق
المسلمين كافة.
وإذا امتاز الشريف الرضي بالكفاءة للنقابة فهو لرعاية المظالم أولى
بالكفاءة، لعفته وصحة وجدانه، مع علمه وفضله، وقد تولاها سنة

(1) المجالس للقاضي نور الله الشهيد.
(2) أو مساوية لرتبة قاضي القضاة. وليست بها لان الشريف ابا احمد مع
ولايته المظالم أراد بهاء الدولة ان ينصبه لقضاء القضاة فلم يمكنه القادر.
ترجمة المؤلف 81

388 هي والنقابة وامارة الحج، على نقل ابن خلكان، والأرجح
أنه وليها قبل ذلك بأمد بعيد، ويظهر من الحديث الذي نقله ابن أبي
الحديد عن أبي الحسين الصابي وابنه غرس النعمة محمد، في تأريخهما،
أن الذي ولاه المظالم هو القادر العباسي، لكنه لم يذكر عام ولايته.
(3) امارة الحج:
كان من مراسم الخلافة منذ العهد الأول غزو الصائفة وحضور الموسم
بمكة، فإن لم يغز ولم يحج الخليفة، ناب في ذلك عنه غيره: من وال أو
أمير أو ولى عهد. وكان أول من حج بالناس من الطالبيين هو إبراهيم
ابن موسى بن جعفر (الجد الأعلى للشريف الرضي) في أيام المأمون [1]
وليس هذا من إمارة الحج في شئ بل الأمير هو الحامي لقطار الحجاج
في طريقه إلى مكة، من الأماكن الشاسعة عنها كالعراق والبصرة
ومصر وخراسان، وهو المصرف لمقدرات الدولة في الحجاج الذين
ينضمون إلى لوائه، وله وجائب تذكر، وسلطة يصدر بها من ديوان
الحكم مرسوم خاص ينهيه الملك ويمضيه الخليفة أو أن الامر بالعكس...
إذا كانت إمارة الحج من الضروريات في الدول الاسلامية ما دامت
تدأب في إقامة الشعائر الدينية الكبرى، فمن الضروري ان يعهد بها
إلى الشريف أو والده الطاهر، لان الحجاج لا بد لهم من قطع البوادي
المترامية الأطراف التي يتقلص عند التوغل بها نفوذ الحكم المدني، ويكثر
فيها السلب والنهب وهذا يتوقف على أن يكون ذا كرامة شخصية وسلطة

(1) المسعودي في تاريخه:
ترجمة المؤلف 82

غير مستفادة من السلطان، وذا صلات برؤوساء الاعراب المتنفذين،
ليعتصم الحجاج به منهم ومن سائر الغزاة وقطاع الطريق كما تقدمت
الإشارة إلى ذلك. وقد احتكرت هذه الامرة ببيت أبي احمد، لان
فيها إقداما على المكاره والمعاطب، وتعرضا للأخطار التي لا تحتملها
إلا بسالة أبي احمد، وهي بعد موقوفة على ذلك الجاه وتلك الجلالة التي
يتفرد بها هو وبنوه.
تولى الشريف الرضي هذه الامارة منذ صباه في أكثر أيام حياته
وزيرا لأبيه، ونائبا عنه، ومستقلا بها، وقد اشرب قلبه فيها كأسا
مترعا من المنازع الكبرى الجميلة، والطموح إلى المرتبة التي ما بعدها
غاية، لان تلك الامارة مهما كانت محدودة هي مثال مصغر من تلك
المرتبة التي يتوق إليها منذ صباه ويرى أنه الأجدر بها من أولئك
المهتضمين المتطفلين.
علمه
شهرته العلمية:
شهرة الشريف بالشعر ليست فقط لإجادته فيه. بل لإكثاره
منه أيضا. اما العلم فهو فيه مجيد للغاية، مجيد فيه نحو إجادته في الشعر،
سوى انه ليس بمكثر من التأليف ولا متجرد له، ولذلك لم يشتهر به،
وأخرى أن الشعر ما زال عند تزاحم الفضائل غالبا على كل فضيلة بالسمعة
والشهرة لصاحبها، ومهما تحمس وأكثر من نحو قوله:
ترجمة المؤلف 83

مالك ترضى أن تكون شاعرا * بعدا لها في عدد الفضائل
فهو شاعر، والشعر هو الذي طوى سمعته في العلوم الدينية بفنونها،
وفي العلوم الأدبية على تشعبها، وهذا الجزء الخامس من كتابه
(حقائق التأويل) أكبر آية على إتقانه للفنون العلمية الدينية ومبادئها،
ووقوفه على أسرارها ودقائقها، وكفى بقول معاصريه فيه: انه (يعتذر
وجود مثله).
تأثير اعماله وشعره على التأليف:
نقدر الشريف مؤلفا ومدرسا يلقي محاضراته يوميا في مدرسته (دار
العلم) في السابعة عشرة من سنيه، وأن الثلاثين الباقية من عمره قد
ذهب الشطر منها بولاية امارة الحج التي لا تتفق مع التأليف، وهلك
الشطر الآخر بالنظر في المظالم وفي مقتضيات النقابة، ولا تنس ضياع
الوقت بنظم الشعر في الأعياد والمواسم السنوية، وما يتفق في أثناء
العام الواحد من مراث وتهان ومعاتبات. إذا تنتهي الثلاثون منه لما
دون العشرين، وكم يحصل الكاد الكادح من العلوم في عشرين
عاما إذا كان متعبا وكانت زياراته للعظماء لا تزال متبادلة وشفاعاته لذوي
الحاجات متواترة. إذا فكيف تمت له تلك التآليف والتصانيف الجمة التي
تقصر عنها أزمنة فراغه.
إذا عرفنا أنه ابتدأ بنظم الجيد من الشعر لعشر سنين، أو بعد أن
جاوزها قليلا [1]، وانه تلقى علم النحو من ابن السيرافي لدون عشر

(1) يتيمة الدهر.
ترجمة المؤلف 84

فأتقن أصوله [1]، وأنه زاول القرآن بعد أن دخل في السن فحفظه في مدة
يسيرة [2] - نعرف توقد ذكائه وجودة حفظه وسرعة انتقاله واستمرار
حفظه لما وعاه، ونقدر له العشرين بضعفها، ونعلم أن نظمه للشعر
لا يختلس من وقته الا قدر ما يكتبه أو يميله، وأن تلك العوائق لم تكن
لتصده عن الاشتغال بالعلم مدرسا ولا مؤلفا.
وهذا يدلنا على أنه منذ قارب العشرين لم يحتج ان يتلمذ على
أحد، وأنه قد يعتمد على نفسه في التحصيل أكثر مما يتلقاه من
الأساتذة، فيكتب كتابة واثق بنفسه غير مقلد لاحد، وحسبنا في
التدليل أن نحيل على كتابه هذا. وهذا ديوان شعره الفخم إذا سبرناه
لا نجده قد اضطره التكلف في بيت واحد إلى خطأ في اللغة والاعراب.
مدرسته دار العلم ومكتبتها ومجمعه الأدبي.
ينبؤنا ابن خلكان أنه اتخذ لتلامذته عمارة سماها (دار العلم)
وأرصد لها مخزنا فيه جميع حاجياتهم من ماله، وأنه عندما أهدى لهم
الوزير المهلبي هدية - على كره وإباء من الشريف - لم يمد أحد منهم يدا
إلى شئ منها، وكيف يرمقها أحدهم ببصره، وهو مكفي المئونة غني
النفس صادق النية في طلب العلم. وإذا كانت العمارة للشريف والنفقة
عليه والتلامذة منسوبون إليه، فهو هو الذي يلقي عليهم إفاداته دروسا
يومية متتابعة، لان إلقاء المحاضرات غبا، وإلقاء عهدتها إلى غيره

(1) ابن خلكان.
(2) ابن خلكان عن ابن جني. ويقول صاحب العمدة:
انه حفظه على الكبر. وفي شرح النهج: حفظه بعد أن جاوز الثلاثين في مدة يسيرة.
ترجمة المؤلف 85

تعللا بزيارة زائر أو حرفة شاعر، نقض لهمم الطلاب الذين يقتدون في
نشاطهم بالأستاذ. وإن من تتوفر عليه التلامذة زمن أستاذ الكل في
الكل الشيخ (المفيد) أعلم علماء الإمامية وأبرعهم في الفقه والكلام
والجدل وأعرفهم بالاخبار والاشعار، وزمن (الشريف المرتضى)
الفقيه المتكلم خليفة المفيد، لهو حقيق أن يكون موازيا وموازنا لهما في
فنون العلم وسائر مميزات التفوق.
إن (دار العلم) ليست مدرسة فقط، بل ومكتبة أيضا، وهي
ثالثة المكتبتين الشهيرتين ببغداد: فالمكتبة القديمة منها هي التي
أسسها الرشيد وتدعى (بيت الحكمة)، والحديثة هي التي أنشأها وزير
شرف الدولة البويهي أبو نصر سابو بن أزد شير سنة 381 [1]، وقد
حدث عنها ياقوت وأطراها. وكان الخازن لمكتبة (دار العلم) هو أبو أحمد
عبد السلام بن الحسين البصري صاحب الصيت الذائع في علم تقويم
البلدان. وكان لعبد السلام هذا مجمع علمي خاص ببغداد وينعقد
له يوم الجمعة كل أسبوع. وهناك مجامع عامة: أحدها مجمع زعيمه الشريف
الرضي يحضره الأدباء على اختلافهم، وآخر لأخيه (الشريف المرتضى)
وهو من المجامع الفلسفية الكلامية العامة، وثالث للوزير أبي نصر السالف
ذكره، ورابع لأبي حامد الأسفرائيني من فقهاء الشافعية يحضره نحو
سبعمائة متفقه، وخامس للشيخ المفيد يحضره من فقهاء الإمامية أكثر
من ذلك، وكانت المحاضرات العامة تلقي على الناس في هذه المجامع من

(1) وهذا من عظماء الديالمة وعلمائهم، وقد عقد في اليتيمة فصلا لمدحه على حدة.
ترجمة المؤلف 86

أولئك الأئمة في شتى العلوم والفنون.
أساتذته:
إن السيرة تنص على مكانة للشريف في العلم والفضل فتهمل تفصيل
تلك المكانة ودرجتها، كما تهمل ذكر المشائخ الذين اخذ العلم عنهم إلا
الشاذ النادر، ونحن إذا تحققنا حال أولئك الأساتذة في تكثرهم
وتفوقهم، برهن ذلك لنا على مبادئ تحصيله، وعلى الجد والذكاء نعتمد
فيما انتهى إليه تحصيله. وإذا كانت السيرة أغفلت ذكر أساتذته فان كتبه
الفذة تنبؤنا عن كثير منهم: ينبؤنا كتابه (المجازات النبوية) أنه
قرأ على قاضي القضاة أبي الحسن (عبد الجبار بن أحمد) الشافعي المعتزلي
كتابه المعروف ب‍ (شرح الأصول الخمسة)، ولعله (المغني)،
وكتابه الموسوم ب‍ (العمدة) في أصول الفقه، وعلى (أبي بكر محمد
ابن موسى الخوارزمي) أبوابا في الفقه، وعلى (أبي عبد الله محمد بن عمران
المرزباني) في الحديث، وعلى (أبي الحسن علي بن عيسى الربعي)
وعلى (أبي حفص عمر بن إبراهيم الكناني) صاحب ابن مجاهد القراءات
السبع بروايات كثيرة.
ويصرح كتابه (حقائق التأويل) أنه قرأ على الخوارزمي الآنف مختصر
الطحاوي، وعلى (أبي محمد، عبد الله بن محمد) الأسدي الأكفاني مختصر
أبي الحسن الكرخي وعلى (أبي الحسن علي بن عيسى الرماني) كتبا
في النحو ذكرها فيه، وأنه قرأ عليه العروض لأبي إسحاق الزجاج
والقوافي لأبي الحسن الأخفش. ولم يذكر ابن خلكان في أساتذته غير
ترجمة المؤلف 87

ابن جني. وزاد في (الدرجات الرفيعة) قراءته هو واخوه المرتضى وهما
صبيان على ابن نباتة صاحب الخطب، ولعلهما قرءا عليه شيئا من
علم البلاغة وآداب اللغة العربية. وإذا كان هؤلاء مشايخه من علماء
الجماعة، فكم كان مشايخه من غيرهم، ومن يعرف المفيد بما تعرفه
الامامية يكتفي به عن مئات من المشائخ لو تلمذ عليهم، وما كنت في
هذه النبذة بحريص على ذكرهم لولا تأكيد البرهان على علو كعب
الشريف في فنون العلم.
وقد يستغرب بعض البسطاء إغراق الشريف في دراسة الفقه
وأصوله وأصول الكلام على طريقة مخالفيه في الطريقة، لان هذا
البعض لا يهمه إلا معرفة الاحكام الشخصية الخاصة به لصلته المذهبية
بها فحسب، ولكن العلماء في القرون السالفة ما كان يقنعهم غير الإحاطة
بأحاديث الفريقين وفقههم معا، وبالأصول التي تبنى عليها، تكميلا
للنفس وتتميما للتهذيب وإعلاء لمنار الاحتجاج، لما أن سوق المناظرة
كانت رائجة وخطة الجدل في الإمامة والكلام متسعة. ولعلما كان
الشريف يؤكد رغبته في ذلك زيادة على ما ذكرنا، ابتلاؤه بالنظر في
المظالم وما يجري مجراها، ليعرف الفقه على تلك الأساليب المتبعة
كقانون للدولة لا بد من معرفته.
مؤلفاته:
للشريف الرضي مؤلفات ومصنفات جمة في فنون الأدب والعلوم الدينية،
لم ينته إلينا إلا النزر منها، ولم نر إلا أسماءها واطراءها في كتب
ترجمة المؤلف 88

السيرة، وفي فهارس المصنفين، وتقول هذه عن بعضها: أنه
(يتعذر وجود مثله)، لكن من يقف على أي كتاب للشريف يعتقد
فيه أنه يتعذر وجود مثله، لأنه لا يجد فيه فراغا للزيادة ولا قصورا في الجمع
ولا موردا للنقد ولا مجالا لتصنيف ما يغني عنه أو يسد مسده، وهأنذا
أعد ما اعرف منها سردا منبها على المحل الذي ذكرت فيه في الأغلب:
1 - (نهج البلاغة): الكتاب الفذ الذي تغني شهرته عن
تعريفه، وهو في حسن اختياره من كلام أمير الكلام أكبر دليل على
وغوله في علم البلاغة، وبلوغه فيه محلا ما بلغه المؤلفون في فن البلاغة،
وقد ذكره المؤلف في هذا الجزء من حقائق التأويل وفي المجازات النبوية
مكررا. وقد طبع النهج مرارا بإيران وبيروت ومصر طبعات عديدة،
وعلقت عليه تعليقات جمة وشروح كثيرة أبسطها فيما أعلم شرح ابن أبي
الحديد المعتزلي.
2 - (خصائص الأئمة): ذكره مؤلفه في صدر (نهج البلاغة)
وأطراه، وقال: إنه وقع موقع الاعجاب من جماعة من الأصدقاء،
وأنه بمناسبة ما ذكره في آخر فصوله من محاسن كلام أمير المؤمنين (ع)
سألوه أن يفرد مؤلفا لكلامه لا يشذ عنه شئ من بليغة تصل إليه اليد
وتبلغه القدرة. والكتاب يشتمل على محاسن أخبار الأئمة وجواهر
كلامهم كما يقول هو عنه، ذكره في (كشف الظنون) أثناء كلامه عن
نهج البلاغة، ونقل منه السيد ابن طاوس الحسني الداودي في كتابه
(الطرف) أحاديث في فضل علي، وكذا العلامة المجلسي في كتابه (بحار
ترجمة المؤلف 89

الأنوار) فإنه نقل عنه كثيرا بنحو يظهر منه انه وقف عليه وتوجد في العراق
نسخ باسمه تشبهه في المنهج، لكن لم تصح نسبتها.
3 - (مجازات الآثار النبوية): من كتبه الشهيرة طبع ببغداد سنة
1328 وله نسخ في العراق قديمة الخط، وهو كتاب فذ في بابه أسقط
المطبوع منه كثرة ما فيه من أغلاط تفوق حد الحصر.
4 - (تلخيص البيان عن مجازات القرآن): ذكره ابن
خلكان ووصفه بأنه نادر في بابه، وفي كشف الظنون سماه ب‍ (المجازات
للسيد الرضي) ولم يزد على ذلك، وكفى أن مؤلفه نفسه ذكره في كتابه
المجازات النبوية في ص 2، 3، 9، 145 وقال عنه وعن كتابه
المجازات النبوية في ص 3: (إنهما عرينان لم أسبق إلى قرع بابهما)،
وذكره أيضا في حاشيته على كتابه هذا المطبوع ص 153.
5 - (حقائق التأويل في متشابه التنزيل): ذكره أكثر من ترجم
الشريف وجميعهم مطبقون على تقريضه وتفخيم نعوته حتى قيل عنه:
(يتعذر وجود مثله) كما مر في المقدمة بقلم إدارة (منتدى النشر).
وسماه في (عمدة الطالب) كتاب المتشابه، والمراد به هذا الكتاب
لأنه مخصوص بالمتشابه، ولذلك نجده في كتابه (المجازات النبوية)
يحيل عليه في موضع فيسميه حقائق التأويل ويصفه بالكبر، وفي
موضع آخر يهمل التسمية ويعبر عنه بالكتاب الكبير في متشابه
القرآن، وهذه النعوت تنطبق على المسمى بحقائق التأويل، لأنه
كبير ولأنه في المتشابه خاصة.
ترجمة المؤلف 90

وإذا كان هذا الكتاب - الذي لم يعثر إلا على هذا الجزء الخامس
منه - يتمم كله عشرة أجزاء كما قيل، فإنه يكون بالقياس إلى كتاب
(التبيان) في تفسير القرآن للشيخ أبي جعفر الطوسي المتوفى سنة 440
أكبر حجما وأغزر مادة وأتم فائدة وأعم نفعا [1].
6 - (كتاب سيرة والده الطاهر): مجموع يشتمل على مناقبه
ومآثره وما تم على يده من إصلاح عام، ألفه سنة 379، وذلك
قبل وفاة والده بإحدى وعشرين سنة، وقد شاخ أبوه يومئذ ويقال: إنه
كف بصره، وقد ذكر الشريف هذه السيرة في قصيدة يمدح بها أباه
في السنة المذكورة منها قوله:
لما نظرت إلى علاك غريبة * ومضيع راعي المناقب مهمل
أحرزتها متوغلا غاياتها * والمجد ملء يد الذي يتوغل
في سيرة غراء تستضوي بها... الدنيا ويلبسها الزمان الأطول
7 - (كتاب رسائله): ثلاث مجلدات، ذكر في الدرجات
الرفيعة بعضها، ونشرت مجلة العرفان شيئا منها.
8 - (كتاب ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي من الرسائل)
يعني بذلك الرسائل الشعرية الموجود كثير منها في ديوانه، لا
رسائل النثر.

(1) نقل كثير عن أبي الحسن العمري النسابة أنه قال: (رأيت تفسيره
للقرآن فرأيته أحسن التفاسير يكون في كبر تفسير أبي جعفر الطوسي أو أكبر
ونقل الأكثر هذه العبارة: (شاهدت مجلدة من تفسير منسوب إليه (الرضي)
مليح حسن يكون بالقياس في كبر تفسير الطبري).
ترجمة المؤلف 91

9 - كتاب الزيادات في شعر أبي تمام.
10 - مختار شعر أبي إسحاق الصابي.
11 - (منتخب شعر ابن الحجاج) سماه (الحسن من شعر الحسين)
يعني أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج الشاعر المشهور المتوفى سنة 391،
توفي بالنيل وحمل إلى بغداد فرثاه الشريف على البديهة بقصيدة مذكورة
في ديوانه، وكانت له معه صحبة وصداقة، وكان خليعا بذي اللسان
يستعمل الفحش في غالب شعره حتى ما يمدح به الملوك.
12 - كتاب أخبار قضاة بغداد.
13 - (تعليق خلاف الفقهاء.
14 - (تعليقته على إيضاح أبي علي الفارسي [1].
15 - (ديوان شعره، وللشريف عناية بشعره لأنه جمعه [2]، ولأنه
طلب منه وشرح بعضه في زمانه، فمدح شراحه [3] ومدح طالبيه [4]. وما
أرى جمعه له إلا كجمع أخيه الشريف المرتضى لديوانه الذي لم يزل باقيا
على ترتيب ناظمه، وهو ترتيب نظمه في الأزمان المتمادية، لم ينسق
على حروف الهجاء أو على الأبواب.

(1) ذكرت هذه الكتب في عمدة الطالب في انساب أبي طالب وفي رجال النجاشي
(2) يدل على ذلك أن الصاحب امر بانتساخ تمام شعره وكذلك ابنة سيف الدولة،
وذلك كله في زمانه.
(3) شرح ابن جني قصيدته في رثاء ناصر الدولة المقلد بن المسبب التي أولها:
(القى السلاح ربيعة بن نزار) فمدحه الشريف بقصيدة منها:
فدى لأبي الفتح لا فاضل أنه * يبر عليهم ان ارم مقالا
(4) كما مدح الصاحب وابنة سيف الدولة ورثاهما.
ترجمة المؤلف 92

ويؤكد لنا جمعه في زمانه أن جامع ديوانه عنون قصيدة له في مدح
بهاء الدولة بأنها وجدت في مسوداته خارجة عن الديوان فأثبتت فيه،
وعنون غيرها بأنها من الزيادات، ولم توجد في ديوانه منحولة له، ومراده
انها متأخرة في النظم عن جمعه، كما يقال ذلك في المستهلة بقوله:
(كربلا لا زلت كربا وبلا) لأنها آخر ما نظمه.
تذكر السيرة ويذكر ابن خلكان عن ديوان الشريف أنه عني بجمعه
جماعة وأن أحسن وأجود ما جمع هو ما جمعه (أبو حكيم الخبري) بالباء الموحدة
بعد الخاء المعجمة نسبة إلى خبر ناحية بشيراز، وكان أبو حكيم هذا
يعرف العربية ويكتب الخط الحسن ويضبط الضبط الصحيح، وانا
لا نعلم أن أبا حكيم هل رتبه على الأبواب أو على حروف الهجاء أو عليهما
معا، كما هي مرتبة عليه النسخة المطبوعة التي بأيدي الناس اليوم.
يقول السبكي في (طبقاته) عن أبي الحكيم الخبري أنه شرح الحماسة وعدة
دواوين كالبحتري والمتنبي والرضي الموسوي، ولم يذكر له في (بغية
الوعاة) غير شرح ديوان البحتري والمتنبي، ولا نعرف مرادهما من
الشرح ولعل المراد الجمع مع تفسير بعض الغريب، كما لا نعرف من هو أبو
الحكيم ومتى كان وما اسمه؟
وقد طبع ديوانه مرتين أجودهما طبعة بيروت سنة 1307، لأنها أقل
غلطا من الطبعة الأولى بمصر التي لا يكاد ينتفع بها. وقد علق على
الطبعة الجيدة بشروح طفيفة وهي تقع في مجلدين يشتملان على 986 صفحة،
اما الأخرى فهي في مجلد واحد يقع في 547 صفحة.
ترجمة المؤلف 93

أدبه
ميزة شعره:
يسجل الثعالبي في (اليتيمة) للشريف أنه (أشعر الطالبيين)
من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين. ويروي الخطيب
البغدادي عن أبي محفوظ شهادة جماعة من أهل العلم والأدب - وهو
معهم - أنه (أشعر قريش). وهذا ما لا أريد أن احتفظ به لأعلقه وساما
على صدر الشريف وأمنحه رتبة (أمير الشعراء) وهو أمير الكلام،
لأن هذه المرتبة دون شاعرية شاعر رفه البال ذكي الخاطر واسع الخيال
معتدل الذوق، قد زاول القريض منذ صباه مكبا عليه، حتى كملت قدرته
على الابداع فيه ما شاء، فسهل عليه التصرف في فنونه، وأخذت تلك
الفنون على تشعبها نصيبا وافرا من جزالة اللفظ وفخامة المعنى وسلامة التركيب
وبهذا فاز شعره، وهو أقصى ما يمتاز به شاعر على آخر. ولكني لا أريد
أن أخص شعره به.
إن الذي أرمي إليه أن أبين أمرا هو خفي ظاهر في آن واحد،
أرمي لأعرب عن أن الذي ماز شعر الشريف. وبه تسنم سرير الامارة
الممهد، هو أن شعره الذي قد يساويه فيه غيره من فحول الشعراء من جهة ما
كأبي تمام والبحتري والمتنبي (شاعر العصور)، عليه رونق من أبهة التاج
وحشمة الملوك، عليه روعة وهيبة وجلالة لا نجدها في شعر خليفة ولا
ملك فضلا عن غيرهما، لا نجدها في شعر أبي فراس وابن المعتز، وحتى
ترجمة المؤلف 94

لا نجدها في شعر أخيه الشريف المرتضى شقيقه في النسب، وقرينه
في الحياة الاجتماعية وفي الأحوال التي مرت عليهما من شدة ورخاء
وعزة وأبهة. وهذا هو الذي رفع شعره عن مستوى مماثليه فيه نوعا ما
إلى ذروة بعيدة المرتقى، ولذاك مع مناسبات أخرى أعجب الصاحب
ابن عباد - نيقد الشعر - الذي يعيب شعر المتنبي وينقده نقدا مرا،
فأنفذ إلى بغداد من ينسخ له ديوانه وكتب إليه بذلك سنة 385،
وعندما سمح له به وأنفذه مدحه بقصيدة منها قوله:
بيني وبينك حرمتان تلاقتا * نثري الذي بك يقتدي وقصيدي
ووصائل الأدب التي تصل الفتى * لا باتصال قبائل وجدود
إن أهد أشعاري إليك فإنها * كالسرد أعرضه على داود
وتلك (تقية) بنت سيف الدولة بن حمدان، ماذا راقها من شعر
الشريف، وهي امرأة ولديها ديوان المتنبي الملئ بمدائح الأسرة الحمدانية
وتهانيهم ومراثيهم، وهو هو ذلك الفحل المطرق الذي يقف صفا
واحدا والشعراء في صف واحد من ناحيتي بعد المعاني ومطابقة اللفظ
لها؟ انه راقها وراعها جميل ديباجته ورونق الحشمة والجلالة التي اصطبغ بها،
فأنفذت من مصر من ينسخه لها وهي لا ترى هدية أنفس منه يوم حمل إليها
ولعلما كانت هذه الصلة الأدبية بينهما هي التي أثارت عواطفه فرثاها وقد
توفيت بمصر سنة 399 ومما قال في قصيدته بعد إطراء بني حمدان:
إذا ابتدرت نساؤهم المساعي * فما ظني وظنك بالرجال
يقال في إطراء شعر أو تحديد مقداره: إنه رقيق الديباجة جزل
ترجمة المؤلف 95

المعرض ناصع الأسلوب. وهذه ألفاظ غير محدودة المعنى، بل يختلف
معناها باختلاف الأذواق، ولكن ليس من قبيل هذه الكلمات المبهمة
ما نطري به شعر الشريف بأبهة التاج وحشمة الملوك، وبالروعة والجلالة،
لأن هذه الصفات محسوسة محدودة المعنى لا تتحكم بها الأذواق، ولذا لا
نجد فيما نحكم له بها خلافا من أحد مهما كان ذوقه ومهما لطف مزاجه.
مقارنته بالمتنبي:
إذا نحن أردنا أن نقارن بين شعري الشريف والمتنبي - ولا بد من
المقارنة وهو ذلك الفحل الغوار على المعاني وشعره ذلك الشعر الفخم العالي -
لا نجد شعر الشريف يفوقه فيما ذكرناه من الأبهة والجلالة فقط، بل
نجد كثيرا في شعر المتنبي غموض المعنى وغرابة اللفظ ووعورة المسلك،
ثم المبالغة والغلو بصوغ الأكاذيب تاجا لكثير ممن لا يستحق إلا
الجفوة، ثم الفخر الكاذب والدفاع عنه، وبعد ذلك نجد الكلمات
القبيحة التي يستعملها الخلعاء، أما القذف والقذع في الهجاء فحدث عنه
ولا بأس عليك، وإذا كان الغلو والكذب والهجاء من الأمور الشايعة
التي قلما يخلو عنها شاعر، وقد تدعو الظروف لها، فان فيما عداها
كفاية في سقوطه أمام شعر الشريف النزه.
إن عمدة ما يمتاز به شعر المتنبي هو بعد المعاني مع تقريبها إلى الحس
بألفاظ تطابقها، غير نابية ولا مبذولة، وهو الشطر الأوفر من شعره
في جميع ضروبه حتى في الهجاء والمجون، وهذا بعض ما حازه شعر
الشريف إلا النادر منه، بلا أن يلوح عليه ما يظهر على شعر المتنبي من
ترجمة المؤلف 96

تكلف ممقوت وتعمل مرذول وغموض في الغرض، وألفاظ نفرت عن
حيطة التوسط إلى درجة الحوشية، وتراكيب متفككة نافرة، وبعد هذا
فديوان الشريف بالقياس أربعة أضعافه، وحقيق بهكذا ديوان ضخم أن
تكثر سقطاته، والحال أن ما يتفرد به من الإجادة أكثر، ونحن إذا
نقدناه وأحصينا سقطاته لا نجدها بتلك الكثرة ولا نراها إلا مندكة فيه
كل من الشاعرين كثير الاستظهار لنفسه، بصير بنقد الشعر، بارع
في إتقان اللغة والإحاطة بنافرها ومألوفها، فمن المعقول أن يتجنبا الزلل
الذي يخفى على غيرهما، ولكنا نجد في كتب الشريف وشعره بعض
اشتقاقات غير مأثورة لا نجد للمتنبي مثلها، وهكذا نجد شعر الشريف
المرتضى. وهذه صفحة لا نناقشه الحساب عليها، لأنه عربي وراوية
لغة جاب جزيرة العرب وبادية الشام، وسمع الاعراب وخالطهم،
وفي اللسان بقية من الصيانة والانطباع على الصحيح والفصيح، وبعد
فهو محترم الرأي له اجتهاده في جواز الاشتقاق الذي يستعمله وهو مذهب
كثير من معاصريه وممن جاء بعده. أما سقطاته المعدودة من حيث
التركيب والمعنى فانا سنورد الكثير منها عرضا.
ومن غريب امر شعره تساويه في دوري النكبة والابتهاج ودوري الصبا
والكهولة، ومع أن التقليد والمحاكاة تغلب على الصبي، فانا لا نجده مقلدا
في شئ مما نظمه في صباه، وازن بين فخرياته السالفة وبين قوله وهو ابن
عشر: (المجد يعلم أن المجد من أربي) وقوله:
إذا هممت ففتش عن شبا هممي * تجده في مهجات الأنجم الشهب
ترجمة المؤلف 97

فهل ترى من تفاوت؟ ثم قارن بعد ذلك بين إحدى وصفياته في وصف
الرمح والسنان وهو من أول نظمه، إذ يقول:
كالكوكب انتثرت منه ذوائبه * وموقد النار يذكيهم على أضم
أو كالشجاع تمطى بعد هجعته * يرخي لسانا كغرب اللهذم الخذم
وبين قوله في صفة الجدب:
وخضخض السجل في قعر القليب فلم * ينزح له غير مكتوم من الوذم
وأصبح البرق يخفى حر صفحته * عن المرابع أو يبرا من الديم
وصوح النبت حتى كاد من سغب
فيهم يصوح نبت الهام واللمم
أسلوبه الانشائي:
لم يحفظ لنا التأريخ من نثر الشريف شيئا كافيا، به يتعين مذهبه في
الانشاء، ويعلم من عد المترجمين له رسائله النثرية وأنها تقع في مجلدات،
أن فن الانشاء شئ كان يمارسه وله به عناية، ولكن الشعر الذي
امتلك حياته غلب عليه. وأرى أن أعلى مثل خالد من أسلوب نثره
كتابه (حقائق التأويل)، فإنه أقرب إلى الأساليب التحليلية
الشائعة في القرون الأولى من الأسلوب المستثقل المتفكك، الذي أخرجته
الصناعة في تكلف السجع إلى التكلف الممقوت، والشريف في كتابه
وإن كان يسجع قليلا ويزاوج كثيرا، لكن سجعه ليس بذلك المستثقل
المرذول، ولا ازدواجه بذلك النابي المتقلقل، وإن كنت أعترف بالفرق
بين الأسلوب العلمي الذي تغلب عليه السهولة والبساطة وبين أسلوب
إنشاء الرسائل الذي يغلب عليه التعمل والتكلف لترصيف الألفاظ،
ترجمة المؤلف 98

فقد ينشأ وعر المسلك متفكك النظم لاعمال الصنعة فيه، ونحن نرى
(الدرجات الرفيعة) و (مجلة العرفان) أوردا نبذا من نثره
لا يتفق وأسلوب كتابه، لان في هذا من الفخامة والبلاغة وعلو
الدرجة والروعة، ما ليس فيها، لكنه ينبؤنا بقوله:
نظم ونثر قد طمحت إليهما * صعدا ويعنو للأخير الأول
أن نثره أعلى درجة من نظمه في نظره.
مديحه وهجاؤه:
إن صلات الشريف بالخلفاء والملوك تبرر مدحه لهم وإطراءه إياهم،
والمدح مهما كان الغرض منه عادة جارية كسنة طبيعية، ولكن زاد
عصر الشريف تنافس ملوكه على بعد الصيت وحسن السمعة التي تولد لهم
العظمة في النفوس، فقام بنو بويه الذين لهم صولجان الملك في العراق
بترويج الأدب وتنشيط الأدباء، لزهوهم وحبهم لإذاعة العظمة وحسن
السيرة، فاقتضوهم مدائحهم وأمدوهم بالعطايا ليتهافتوا على مدحهم واشهار
محامدهم، ولعل لهؤلاء أغراض أخر لا نريد استقصاءها، ولقد كان الشريف
غنيا عن اطرائهم ومدحهم لولا تلك النزعات الضعف السياسي في الدولة
كما ينبؤنا عن نفسه منذ بلغ 15 عاما أنه لا يمدح الملوك وذلك حيث يقول:
ورفعت من مدح الملوك خواطري)، ولكنه لما ابتلي بأولئك
الملوك والخلفاء الذين يتهالكون في طلب المدح اشهارا لكرامتهم،
لم يجد بدا من مدحهم ليملك ودهم ويسخرهم لأغراضه، كما وجدناه يقول
في مدح الطائع:
ترجمة المؤلف 99

غرضي بمدحك أن يطاوعني * عوج بأيامي ويعتدل
ثم لا يتعدى بمدحه عن هؤلاء راغبا إلا لرحم أو صديق أو عظيم من
رجال الدولة، اتباعا لقوله في أبيه: (وغيرك لا أطريه إلا تكلفا)،
وقوله عند إطراء الطائع:
وإني إذا ما قلت في غير ماجد * مديحا كأني لائك طعم علقم
ولا ننسى أن الشاعر كثيرا ما يصوغ الأكاذيب ليتوج بها من
لا يستحق الثناء، لكن لا نجد شاعرنا مطمئنا إلى هذه العادة السيئة التي
تستدعي شيئا من الصفاقة تحول بينه وبين الحياء، اما أولئك الذين
يقول فيهم:
أكاشر أبناء هذا الزمان * وأهزأ من نبلهم بامتداحي
فهم نبلاء مستحقون لمدحه، لأنهم الخلفاء والملوك، إلا أنه لا يراهم
أهلا لمدحه
وكما أن الشريف لا يجد بدا من مدح من يستحقه، هو مضطر
لا محالة إلى ذم أعدائه ومناويه، لأنه محاط بهم، والكثير منهم
مسلح بالمكر والخديعة والوشاية والنميمة، وكما هو يدفع نكايتهم بيده
لا بدله من الوقيعة بهم بلسانه، ولذلك كان يسمي قصائده في المدح
ولذم (بوارد الغليل) ويقول فيها:
بوارد للغليل كأن قلبي * يعب بهن في برد النطاف
أسر بهن أقواما وأرمي * أقيواما بثالثة الأثافي
وبما أن تتبع أهاجيه يضطرنا إلى الإطالة تركنا التعرض لها بالرغم
ترجمة المؤلف 100

من أنها أحد فنون الشعر الذي تظهر فيه البراعة، وفي ذكر ما عداها
كفاية عن حكاية القذف وإن كان مستحقا.
مبالغاته:
الشريف يطري خلفاء زمانه، ولا ننكر عليه ذلك، إلا أن
إغراقه فيه إغراقا فاحشا هو الذي ربما يؤاخذ به، فإنه لم يكتف
بالمبالغة في مدح هؤلاء حتى يتجاوز إلى ما فيه روح دينية قوية، ويتعدى
إلى الموضع الذي لا يعتقده لهم، وذلك كقوله في الطائع:
إمام ترى سلك آبائه * بعيد الرسول إماما إماما
بالطائع الهادي الامام أطاعني * أملي وسهل لي الزمان مرامي
لله ثم لك المحل الأعظم * واليك ينتسب العلاء الأقدم
ولك التراث من النبي محمد * والبيت والحجر العظيم وزمزم
وسواء كان هؤلاء مستحقين للإمامة أو أنهم بعيدون عنها فإنه يغرر
بهم وبالكافة حينما يثبت لهم هذه الفضيلة الكاذبة بزعمه. وإني وإن
لم أقصد الدفاع عنه لكني أرى هذا ونحوه جاريا على ما يعتقده فيهم
الجماهير من استحقاق الإمامة، وبهذا يرتفع التغرير بالممدوح لأنه لا
يعتقد نقصه، وبالناس لاتفاق عامتهم على استحقاقه، ولذلك كان
الملوك يحرصون على نيل رضا الخليفة لترى العامة أن سلطانهم مشروعا
مستمدا من خلافة مشروعة. وإذا سمينا هذا النوع كذبا فلا مشاحة ولا
انتقاد عليه، لان النقد لا يتبع الاسم فقط، إلا أن يقصد به التهويل
ولا يراد به النقد الحقيقي المشروع، ولعل هذا النوع من الكذب
ترجمة المؤلف 101

هو الذي يشير إليه بقوله:
أهذب في مدح الرجال خواطري * فأصدق في حسن المعاني وأكذب
وما المدح إلا في النبي وآله * يرام وبعض القول ما يتجنب
أما إغراقه في مدح مثل بهاء الدولة وشرف الدولة والتوجع في رثائهما
والتودد في استعطافهما والانعطاف عليهما حتى ولو انتهى إلى مثل قوله:
لا عجبا أن نقيكم حذرا * نحن جفون وأنتم مقل
فهو أمر قد أشرنا إلى العذر عنه، إذ ذكرنا أن المدح لهؤلاء شئ لا
يريد به الشاعر إلا إتقان الصنعة كما يفهمها ولا يتشدد فيه باتقاء الضرورات
كما هي متقاة في مدح الأصدقاء وتأبينهم، ومع ذلك الاغراق في المدح
نراه يتحمس ويفخر في أثنائه كثيرا، كما نراه يتصلب في الغزل وفي
سائر موارد اللين والرقة، وتلك طريقة يتفرد بها، وعلى نفس هذه
الطريقة جرى مع سلطان الدولة الذي خطب مدحه، بعد أن طلق
الشعر حينما بلغ الأربعين، وذلك إذ يقول:
رام مني قود القريض ولولاه * لقد جاذب الزمام الأكفا
هب من رقدة الفتور إليه * بعد ما غض ناضريه وأغفى
هو ظهر ينقاد طوعا على اللين ويأبى القياد إن قيد عسفا
رثاؤه:
من يستطرد شعر الشريف يجد نفسه مملوءة بالهموم والأحزان
والأسا والأسف، ليس لتصريحاته التي يؤديها مثل قوله (لا ألوم
الهم إن لازمني)، بل أمانيه بالخلافة، ومداراة المتغلبين عليها،
ترجمة المؤلف 102

ومجاملة الحساد، والتفكير في إرضاء فريق والنكاية بآخر، هي التي
تملا قلبه بالهم، ولا ننس ما أثره بطبعه دور النكبة وقضية القلعة، فقد
رأينا أنه أثر حتى على خياله في النسيب، وفوق ذلك كله ما عرفنا من حاله
القلقة مع القادر العباسي. وهذه الهموم النفسية هي التي أعدته للنبوغ في
الرثاء فأحسن فيه ما شاء.
حقا إن الرثاء يكون للمجاملة كما يكون للعاطفة، ولكن بماذا نفرق
بين النوعين في شعره والمتانة فيهما على السواء؟ لولا ما نحسه من ظهور
العواطف في هذا وتكلف الحزن في ذاك، ونجد رثاءه لأبيه في ناحية
ولبهاء الدولة في أخرى ولمثل ابن جني وابن السيرافي في موضع ثالث،
وكل وفاه حقه بلا مواربة ولا ممالاة. ولعلنا مع التعمق والروية نجد
كافة مراثيه تتمثل فيها الأحزان النفسية بلا تكلف وتعمل، وفي هذا
تدليل على بعده عن المواربة في رثائه، وليس لنا ان ننكر عليه تفاوت
مراثيه في الاطراء وحسن الوصف، ما دام الرجال متفاوتين بالفضيلة
والمزايا الحميدة، وبالحقوق على المؤبن، وإذا كان بهاء الدولة هو ذلك
الملك العظيم المفضل عليه، فلا غرو إذا بالغ في الحزن عليه بقوله:
لقد جل قدر الرزء أن يبلغ البكا * مداه ولو أن القلوب دموع
ولو أن قلبي بعد يومك صخرة * لبان بها وجدا عليك صدوع
وهذا بالطبع تتجلى فيه العاطفة أكثر مما هي متجلية في غيره ممن ليس
هو كبهاء الدولة وشرف الدولة بالعظمة والسلطان، ومن بديع ما رثي به
بعض الهاشميين من أسرته قوله:
ترجمة المؤلف 103

لواعج أفصحت عنها الدموع وقد * كانت تجمجمها الأحشاء والضلع
نزفت دمعي حتى ما تركت له * غربا يعين على دراء إذ يقع
ثم اضطررت إلى صبري فعذت به * فأغرب الصبر لما أحجم الجزع
ومما ينخرط في هذا السلك وينتظم بهذا العقد ما أبدع به من غرائب
التخييلات الشعرية في تعزية بهاء الدولة عن ولده وهو قوله:
إذا السنان الطرير دام لنا * فدعه يستبدل الأنابيبا
والبدر ما ضره تفرده * ولا خبا نوره ولا عيبا
وما افتراق الشبول عن أسد * بما نع أن يكون مرهوبا
والعنبر الورد إن عبثت به * مثلما زاد عرفه طيبا
يطيح مستصغر الشرار من الزند ويبقى الضرام مشبوبا
محصت النار كل شائبة * وزاد لون النضار تهذيبا
حماسته:
ليس بنا حاجة إلى أن نثبت أن الشريف كان فخورا حماسيا، لأنا
رأينا أنه اختص بمزايا لا يطاوله فيها حتى الملوك والخلفاء، وإذا رجعنا
إلى تحديد كرامته اعتقدنا انه مهما صغر كبيرا من غيره فإنه لم يكبر لنفسه
صغيرا البتة. وإذا كان الفخور غالبا يستعمل الكذب فيدافع عنه بصفاقته
خشية الافتضاح، فان الشريف لا نعرفه الا حقيقيا بالفخر بنفسه وآبائه،
وما كان ليقول عن نفسه ما لا يعرفه الناس وهو متمسك بمبدأ الحياء المتوفر
فيه، وهو محاط بحساد ومناوئين مسلحين بكل ما فيه نكايته والوقيعة به،
وفي بعض ما يقوله تحد لهم وتعريض بهم، وها هو ذا يقول في عصامية نفسه:
ترجمة المؤلف 104

لئن نلت الكواكب في ذراها * لقد أبقيت فضلا من منالي
ولست بباسط كفي لأني * أرى الاملاك تقصر عن منالي
ومن الغريب تطاوله على أبيه الذي لم يزل يستطيل به ويتمدح برعايته له فيقول:
ولولا مراعاة الأبوة جزته * ولكن لغير العجز ما أتوقف
أما تمجده بآبائه وإغراقه فيه فحدث عنه ولا حرج، ومن المعجب
ما ابتدعه فأبدع فيه من وصل فخر بمثله، وجلاء شرف النسب بفضل
حسب يوازنه، إذ يقول معرضا ببعض حساده:
هيهات لا أحسد ذا قدرة * ولو حوى عاقر أغماد
ولو حسدت الفضل في أهله * حسدت آبائي وأجدادي
أما اندفاعاته الحماسية وثوراته الملتهبة في التمدح بالبطولة والفتوة والأنفة
والبسالة وما إلى ذلك فهو أكثر من اطرائه لآبائه بها وبغيرها مما حصل
وحصلوا عليه، والعامل الوحيد فيها هو تلك الأماني العالية والملكات
المحمودة المنطبع عليها، ولسنا بحاجة إلى التدليل على ذلك لان حياته تنتجه
انتاجا منطقيا. وإذا استعرضنا الصفحة الواحدة من ديوانه نجد روحه
الحماسية ممتزجة بسطورها ماثلة امام العين كعنوان لتلك الصحيفة، لكنها
نزهة عن كل عبث ومجون، وقد يستدرجه الحماس حتى في مدائحه للملوك
فيعرضه للخطر. وقد تشاهده في بعض الأحايين بطلا في معمعة يخوض
الغمرات ويلقي نفسه في لهواتها، ولو أردنا أن نتحدث عن ذلك الموقف لروعنا
كل من وقف عليه من هوله وفزعه وليس من حقنا أن نروعه. ومن هذا
نعتقد ان الشريف كما هو شاعر الاباء والعفة، شاعر الحرب، شاعر النخوة،
ترجمة المؤلف 105

شاعر الحديد.
وربما يؤكد ذلك في نفسه زيادة على ما انطبع عليه امتلاء مسامعه
وجميع حواسه بالحروب التي وقعت في أيامه ببغداد وخارجها.
النسيب والغزل:
يندر الغزل في ديوانه بالقياس إلى غيره، وليس ذلك ترفعا عن
نظمه لأنه مخل بمقامه وهادم لشرفه، كيف وله فيه الشئ الكثير وإن
قل بالنسبة إلى غيره، لكنا وجدناه يقول وشواهد الحال تصدقه:
شغلت بالمجد عما يستلذ به * وقائم الليل لا يلوي على السمر
من يعشق العز لا يعنو لغانيه * في رونق العز ما يغني عن الكدر
والذي نقرؤه من مجموعتي أخلاقه وشعره ترفعه عن نوع من الغزل
يستعمله الخلعاء أو ما يشبه العبث والمجون، وهذا النوع قد لا تطاوعه
شاعريته عليه لو أراده، وهو الذي يخل بمقامه وشرفه، لا غيره من
الأنواع الجميلة المشهورة، ولربما يستعصي عليه هذا الضرب الجميل
أيضا لأنه لا يمتزج بهواجس نفسه وأخلاقه المنطبع عليها. وهذا هو
سبب الندرة، وسبب الانصراف غالبا عن الغزل الناشف إلى النسيب
الذي تجلوه الرقة وتعلوه العفة، وأي عفة هي التي تعلو قوله:
خلونا فكانت عفة لا تعفف * وقد رفعت في الحي عنا الموانع
سلوا مضجعي عني وعنها فإننا * رضينا بما يخبرن عنا المضاجع
وأي رقة وعاطفة هي التي تجلو قوله:
ولما تدانى البين قال لي الهوى * رويدا وقال القلب أين تريد
ترجمة المؤلف 106

أتطمع أن تسلو على البعد والنوى * وأنت على قرب الديار عميد
ولو قال لي العادون ما أنت مشته * غداة جزعنا الرمل قلت أعود
أأصبر والوعساء بيني وبينكم * واعلام خبت؟ إنني لجليد
وإذا نحن عللنا إجادته في الرثاء بامتلاء نفسه بالهموم، وفي الفخر بما
حوى من عزة ومآثر، وفي المدح برغبة الملوك فيه ورغبته في حصول أمانيه
فما أجدرنا أن نعلل إجادته في هذا النوع من الغزل بما نعتقده أنه لم
ينظم ذلك إلا للفن خالصا، ونحن نعلم بأنه لم يرقص قلبه يوما لموعد وصل
ولم تنكمد نفسه لو شك رحيل، ولم ينادم غانية، ولم يكن حتى في إبان
شبيبته يسامر الظرفاء الذين يغازلون ويتغزلون، وها هو ذا يقول:
أضعت الهوى حفظا لعزمي وإنما * يصان الهوى في قلب من ضاع عزمه
أسوم الهوى نفسا عزوفا عن الهوى * وقلبا يضم الحب غير حمول
أين الغواني من طلابي وما * أطلب إلا الرائح الغادي
الشعر الوصفي:
ليس وصف المناظر الطبيعية والأشياء المحسوسة مما يضطر إليه الشاعر،
إلا ما جاء عفوا بتأثيرها على عواطفه وشعوره، أو لاقتراح مقترح، على أنه
مظهر لقوة شاعريته وسعة خياله، فتجد الشاعر الوصاف واسع الخيال قوي
الادراك، والعكس بالعكس، فهذا إذا من الأسباب للشعر الوصفي قد
يدعو الشاعر إليه، وإذا تعدى هذه الأسباب فلا يكون إلا غرضا
خاصا لا يحكم به ولا عليه في شئ.
ولا تخلو غالبا أي قصيدة لأي شاعر من أوصاف وتشابيه مختلفة،
ترجمة المؤلف 107

وليس هذا ما نقصد من الشعر الوصفي، وإنما هو المقاطيع والقصائد المنظومة
جمعاء في وصف شئ ما، وهذا كثير في شعر الشريف، وربما كان أكثر
من غزله ونسيبه: فهو يصف الأسد، والذئب، والحية، والسماء، والليل،
والطيف، والفجر، والسحاب، والبرق، والثلج، والبرد، والقلم، والسكين،
والجدب، والخمر، والورد، والشيب، ويكثر من وصف بعض هذه وكثيرا
ما يصف مجلسا، وجماعة، وركبا، ويوما خاصا كيوم طعن، وليلة سرى أو أنس،
ويصف حمامة وأفراخا، ويصف أسودا يتغزل به ويصف... ويصف
مما لا أحصيه، ولا أريد أن اذكر منه في هذه النبذة سوى النزر الذي
لا ينبغي أن تخلو عنه ترجمته، ولا أخالني ذاكرا إلا بعض ما أستجيده:
فمن ذلك قوله في صفة سحابة:
من كل سارية كأن رشاشها * إبرا تخيط للرياض برودا
نثرت فرائدها فنظمت الربا * من در هن قلائدا وعقودا
وقوله في وصف نيلوفر:
ونيلوفر صافحته الرياح * وعانقه الماء صفوا ورنقا
تخيل أطرافه في الغدير... ألسنة النار حمرا وزرقا
وقوله في وصف القلم من قصيدة:
يلجلج من فوق الطروس لسانه * وليس يؤدي ما تقول مسامعه
وينطق بالاسرار حتى تظنه * حواها وصفر من ضمير أضالعه
إذا اسود خطب دونه وهو ابيض * يسود وابيضت عليه مطالعه
وقوله في وصف جماعة:
ترجمة المؤلف 108

ومرجلين من الجمال غرانق * مثل الغصون ثيابها الورق الندى
متملئين من الشباب كأنهم * أقمار غاشية الظلام الأربد
صقلت نصول خدودهم بيد الصبا * مرد العوارض في زمان أمرد
تستنبط الا لحاظ ماء وجوههم * فيكاد ينقع في غضارتها الصدى
اما وصفيته للذئب العينية فهي في غاية القوة والإجادة، أتى فيها
على كل ما في الذئب من خلق وخلق، ولولا طولها لأوردتها بجملتها،
وكذا التي يصف فيها السنان والمحل ويستطرد فيها أوصافا شتى، وقد
مر ذكرها في شعره أيام صباه.
الحكم والأمثال:
للحكم والأمثال الشاردة من شعره حظ موفور، كما للأخلاق والآداب
والقصص وما إلى ذلك، وقلما نمر على المقطوعة لا تتجاوز العشرة
ونجدها خالية من تلك. وهذه أمور تندفع بطبعها على لسان الشاعر وقلمه
وحيا من هواجسه وعواطفه الحية، وكثيرا ما يأتي بها شاهدا على شئ أو
نصيحة ملقاة للعامة كجوهرة في الطريق: نحو قوله: (إن السياط لها
من مثلها ثمر) و (والفجر يعرب عما أعجم السدف) و (ولولا الجني ما
رجب الفرع غارس) و (والعجز أن تجعل الموتور منتصحا) وألوف نحو هذه
وليس الشريف بالمتفرد بنظم هذه الحكم والآداب والأمثال، ولكنه
متفوق ومكثر، ولو أردنا أن نجمع ذلك لكان ديوانا حافلا يربوا على شعر
المتنبي في هذا الباب وأمثاله فمن ذلك قوله:
لا تطلب الغاية القصوى فتحرمها * فإن بعض طلاب الربح خسران
ترجمة المؤلف 109

والعزم في غير وقت العزم معجزة * والازدياد بغير العقل نقصان
إذا العضو لم يؤلمك الا قطعته * على مضض لم تبق لحما ولا دما
فاعزم فليس عليك إلا عزمة * والعجز عنوان لمن يتوكل
أو حمل اللوم القضاء فإنه * عود لأثقال الملام مذلل
فلا تفتقد خلا يسوءك بعضه * وإن غاب يوما عنك ساءك كله
إذا شئت أن تبلو امرءا كيف طبعه * فدعه وسائل قبلها كيف أصله
تجاف عن الأعداء بقيا فربما * كفيت فلم تعقر بناب ولا ظفر
ولا تبر منهم كل عود تخافه * فان الأعادي ينبتون مع الدهر
وكم سعي ساع جر حتفا لنفسه * ولولا الخطاما شاك ذا الرجل شائك
ألا ربما حياك رزقك طايعا * ورحلك محطوط ونضوك بارك
إذا أنت أفنيت العرانين والذرا * رمتك الليالي عن يد الخامل الغمر
وهبك تقيت السهم من حيث يتقى * فمن ليد ترميك من حيث لا تدري
وما صحبك الأدنون إلا أباعد * إذا قل مال أو نبت بك حال
ومن لي بخل أرتضيه وليت لي * يمينا تعاطيها الوفاء شمال
وفاته ومدفنه
توفي بكور يوم الأحد 6 محرم سنة 406. ويقال سنة 404، وأظنه
من خطأ النساخ، لان أكثر العلماء والاثبات الذين ذكروه [1] على

(1) منهم النجاشي وصاحب العمدة وجامع ديوان مهيار وجامع ديوانه لأنه
ذكر رثاءه للبتي 405 وقال من بعده بشهور توفي الشريف الرضي.
ترجمة المؤلف 110

الست بعد الأربعمائة، فيكون عمره 47 عاما، وعند وفاته حضر إلى داره
الوزير أبو غالب فخر الملك، وسائر الوزراء والأعيان والاشراف والقضاة
حفاة مشاة، وصلى عليه فخر الملك، ودفن في داره الكائنة في محلة الكرخ
بخط مسجد الأنباريين، ولم يشهد جنازته أخوه الشريف المرتضى ولم يصل
عليه، وكان هو الأولى بذلك، لولا ما كان يحمله من المودة الأخائية
الخالصة، والهلع الشديد، فلم يستطع دون أن قصد تربة جده موسى بن
جعفر راجلا، وركب إليه بعد ذلك فخر الملك فرده إلى بغداد آخر النهار.
وقد ذكر كثير من المؤلفين نقل جثمانه إلى كربلا بعد دفنه في داره
فدفن عند أبيه الحسين بن موسى وهذا قريب إلى الاعتبار عندي، لان
بني إبراهيم المجاب قطنوا حائر الحسين عليه السلام مجاورين لجدهم الأعلى
(الحسين السبط)، فدفن فيه إبراهيم المذكور في موضع قريب من قبر
الحسين مما يلي رأسه، واتخذوا تربته مدفنا لهم، فدفن فيه من مات من بنيه
وأبنائهم، وأما من شذ منهم فقطن بغداد أو البصرة كبني موسى الأبرش،
فإنه ينقل بعد موته إلى تربة جده، وقد صح أن والد الشريف نقل
جثمانه إلى الحائر عندما توفي سنة 400 ولم يدفن ببغداد، ويشهد لذلك
استهلال الأستاذ أبي سعيد علي بن محمد الكاتب مرثيته له بقوله:
يا برق حام على حياك وغائر * أن تستهل بغير أرض الحائر
وصح أيضا نقل جثمان الشريف المرتضى إلى الحائر بعد دفنه في
داره، بالرغم على قول النجاشي (توليت غسله ودفن في داره) ولا بدع
لو نقل الشريف الرضي وأبناؤه إليه على عادتهم وطريقتهم هذه.
ترجمة المؤلف 111

وقد رثاه جماعة الأدباء في عصره، وكان بعضهم رثاه بما ظاهره
المأساة وباطنه الشماتة، ولذلك لم يؤثر مما رثى به إلا القليل كمرثية
سليمان بن فهد ومرثيتي مهيار الديلمي [1]، ورثاه أخوه المرتضى بقوله:
يا للرجال لفجعة جذمت يدي * ووددت لو ذهبت علي برأسي
ما زلت احذر وقعها حتى اتت * فحسوتها في بعض ما انا حاسي
ومطلتها زمنا فلما صممت * لم يجدني مطلي وطول مكاسي
لا تنكروا من فيض دمعي عبرة * فالدمع غير مساعد ومواسي
لله عمرك من قصير طاهر * ولرب عمر طال بالأدناس
وليكن هذا آخر ما أوردناه من ترجمة السيد الشريف، وإذا كنت مخلصا
وصادقا فيها ومعترفا بالقصور عن القيام بواجبها، فسوف ألاقي من
القراء العذر عن التشويش والاضطراب، لان الوقت يضيق عن التهذيب
وإعادة النظر، ومن الله أرجو التوفيق.
عبد الحسين الحلي.

(1) من مرثية ابن فهد قوله:
عذيري من حادث قد طرق * أمات الهدو واحي القلق
واما مرثيتا مهيار الدالية والميمية فهما مثبتتان في ديوانه
ترجمة المؤلف 112

بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الخامس
السورة التي يذكر فيها آل عمران (*)
1 - مسألة
وصف الآيات المحكمات بأم الكتاب
الجواب عن وصف هن بأم - القياس في جمع أم - الفاتحة أم الكتاب -
حكاية القول - جعل ابن مريم وأمه آية.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب
منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات... - 7)
فقال: كيف جمع سبحانه بين قوله: (هن) - وهو ضمير لجمع -

* لعل المؤلف إنما عدل عن التسمية المشهورة: (سورة آل عمران) إلى ما ذكره، لما رواه
الطبراني والبيهقي عن انس مرفوعا: (لا تقولوا: سورة البقرة ولا سورة آل عمران
ولا سورة النساء وكذا القرآن كله، ولكن قولوا: السورة التي يذكر فيها البقرة
والتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله). قال السيوطي في الاتقان 1: 53:
(واسناده ضعيف بل ادعى ابن الجوزي: انه موضوع). لكن المؤلف جرى على هذا التعبير
في سورة النساء أيضا كما سيأتي وقد يجري عليه في غيرها أثناء هذا الجزء، ولعله لا بهام
الإضافة معنى غير لائق يزول بالعدول إلى هذه العبارة كما سيجري ذكره في طي تعاليقنا،
لا لأجل اعتماده على صحة هذه الرواية.
1

وبين قوله: (أم الكتاب) - وهو اسم لواحد -، فجعل الواحد
صفة (1) للجمع (2)؟، وهذا فت في عضد البلاغة (3) وثلم في
جانب الفصاحة!.
فالجواب: أن المراد بذلك كون هذه الآيات باجتماعها، وانضمام
بعضها إلى بعض في إنزالها، أما للكتاب، وليست كل واحدة أما
بانفرادها، فلما كان الامر على ما قلنا جاز وصف الجمع بالواحد، إذ
كان في تعلق بعضه (4) ببعض وأخذ بعضه برقاب بعض بمنزلة الواحد،
ولأنه سبحانه لو قال: هن أمهات الكتاب، لذهب ظن السامع إلى أن
كل واحدة من الآيات أم لجميع الكتاب، وليس المراد ذلك، بل
المراد ما قدمنا القول فيه من كون الآيات بأجمعها أما للكتاب دون
بعضها، لان المراد بكونها أما للكتاب أن بها يعلم ما هو المقصود
بالكتاب من بيان معالم الدين، وذلك لا يرجع إلى كل واحدة من
الآيات، بل يرجع إلى جميعها، فالأم ههنا بمعنى: الأصل الذي
يرجع إليه ويعتمد عليه، لان المحكم أصل للمتشابه يقدح به فيظهر مكنونه
ويستثير دفينه، وعلى ذلك سميت والدة الانسان أما، لأنها أصله
الذي منه طلع وعنه تفرع، ولذلك سميت مكة أم القرى، لان

(1) ليس المراد بالصفة النعت في اصطلاح النحاة، بل ما يطلق على الشئ مما لا يكون
علما للذات نعتا كان أو خبرا أو غيرهما، وفي الآية وقعت (أم الكتاب) خبرا عن (هن)
لا نعتا لها
(2) وفي الأصل: للجميع
(3) فت في عضده أو في ساعده: أضعفه وأوهنه
(4) الضمير يرجع إلى الجمع.
2

القرى مضافة إليها (1)، وهي المتقدمة عليها (2) والمذكورة قبلها (3).
وكان القياس أن يقولوا في جمع أم: أمات، ولكنهم قالوا:
أمهات، لأنه قد جاء في الشعر الفصيح أمهة. فصح الجمع على أمهات،
قال قصي بن كلاب:
أمهتي خندف والياس أبي (4)
وقال بعضهم: يقال: أمهات في جمع ما يعقل، وأمات في
جمع ما لا يعقل.
واما وصفهم فاتحة الكتاب بأنها أم الكتاب، فهو راجع أيضا إلى المعنى
الذي ذكرناه، لأنهم إنما وصفوها بذلك من حيث كانت أصلا يبني
عليها غيرها من القرآن في صلاة المصلي، وعند تلاوة التالي إذا بدأ بقراءة
الكتاب، فقد صارت إذن متقدمة وبواقي السور لاحقة بها وموجفة (5)

(1) لأنه يقال: قرى مكة، أو ان الإضافة باعتبار اعتصام أهل من حولها من القرى
بها وانكفائهم إليها.
(2) لأنها اقدم القرى في جزيرة العرب على ما يؤثر.
(3) إذا كانت القرى - على ما روي في الاخبار - دحيت من تحتها، وقيل أيضا: انها سميت بذلك، لأنها قبلة لجميع القرى يؤمها الناس في صلاتهم، ويقصدونها لقضاء مناسكهم. (منه) عن
خطه.
(4) وصدره: عندة ناديهم بهال وهي عندة بفتح فسكون: اسم أم علقمة بن سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية الأكرمين، ولقب علقمة الزوبر. (هال) منونة: كلمة زجر للخيل، و (هي) بفتح فكسر: زجر للخيل أيضا اي تباعدي، أو دعاء لها اي أقبلي أو أقدمي. (خندف): ليلى بنت حلوان القضاعية. (الياس) بن مضر زوجها، وأولادها مدركة وطابخة وقمعة، وقصتهم - على رواية القاموس -: خرج الياس في نجعة فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها
وخرج عامر فتصيدها وطبخها وانقمع عمير في الخباء وخرجت أمهم تسرع نقال لها الياس:
أين تخندفين... فلقبوا: مدركة وطابخة وقمعة وخندف.
(تنبيه) يوجد هذا البيت منسوخا في أسفار الأدب هكذا (عند تناديهم بهال وهبي)
(5) الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل سريع.
3

خلفها، وكذلك الآيات المحكمات هن أصول للمتشابهات ترد إليها
وتعطف عليها، فقد بان: أن المعنى واحد والمراد متفق في وصفهم
الآيات المحكمات بأنها أم، وفاتحة الكتاب بأنها أم (1)
وقال الأخفش (2): (إنما قال تعالى: أم الكتاب، ولم يقل:
أمهات الكتاب، كما قال الرجل: مالي نصير، فيقول القوم: نحن
نصيرك، و: مالي أنصار، فيقول الواحد: أنا أنصارك، وهو يشبه
دعني من تمرتان على الحكاية، يعني: إذا قال القائل لصاحبه: ما عندي
إلا تمرتان، فيجيبه الآخر بحكاية قوله). وأنشد قول الشاعر (3):
تعرضت لي بمكان حل * تعرض المهرة في الطول (4)
تعرضا لم تأل عن قتلا لي (5)
وأراد: لم تأل عن أن تقول: قتلا لي، فجعله على الحكاية، لأنه
كان منصوبا قبل ذلك، كما تقول: نودي بالصلاة الصلاة، حكاية

(1) ولم الشئ في كلامهم جماع الشئ ومن ذلك أم الدماغ: معظمه، وأم الطعام:
البطن لأنها تشتمل عليه قال الشاعر:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه * أم الطعام على أعطافه الزغب
اي: أعظمه بطنه، وسموا اللواء: أم الرمح، لأنه يشتمل على الرمح، وقال الشاعر:
وسلبنا الرمح فيه أمه * من يد العاصي وما طال الطول
(منه) عن خطه
(2) قال في الصحاح مادة (أمم): (وقوله تعالى: هن أم الكتاب، ولم يقل: أمهات،
لأنه على الحكاية، كما يقول الرجل: ليس لي معين، فتقول: نحن معينك نتحكيه).
(3) منظور بن مرثد الأسدي.
(4) حبل طويل يشد به قوائم الدابة وترسل، أو تشد بحرف منه
ويمسك الحرف الآخر وترسل في المرعى، أو يشد أحدهما في وتد والآخر في يدها،
وتشدد لامه في الشعر للضرورة كما في البيت.
(5) ويروى عن قتل بالكسر، وهكذا أثبت في تاج العروس.
4

لقول القائل: الصلاة الصلاة. قال: (وقد قيل إنما هو: (تعرضا لم
تأل أن قتلالي)، ولكنه جعله عينا لان أن في لغة هذا الشاعر يجعل في
موضعها عن (1)، وقد قال الشاعر (2):
قال الوشاة لهند: عن تصارمنا * ولست أنسى هوى هند وتنساني
أراد: أن تصارمنا، فأبدل، وإنما قال شاعر (3) البيت الأول: (قتلالي)
لأنه نصبه على الامر كما تقول: ضربا لزيد). وقد اعترض على هذا القول
باعتراضات تمنع طريقة الاختصار من ذكرها وتمييز صحيحها من عليلها.

(1) علمت أن البيت لابن مرثد الأسدي، والمعروف ان بني تميم
يختصون بذلك وتسمى: عنعنة تميم.
(2) روى أبو القاسم عبد الرحمن الزجاج في
أماليه الأوسط غير المطبوع: (ان ابن أبي مرة الشاعر كتب إلى أهل مكة ببيتين
فقال: أجيبوني عنهما وهما:
هذا كتاب فتى طالت بليته * يقول: ما ينتهي شوقي وأحزاني
هل تعلمين وراء الحب منزلة * تدني إليك، فان الحب أقصاني؟
فلما ورد البيتان على أهل مكة نظروا فيها، فإذا الثاني ليعقوب بن إسحاق بن
عبد الله المخزومي صاحب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، فقال فتى منهم:
انا احفظ الأبيات فأنشأ يقول:
قال الوشاة لهند كي تصارمني * ولست أنسى هوى هند وتنساني:
يعقوب ليس بمبتول ولا كلف * ويح الوشاة فان الحب أضناني
مالي سوى حب هند لا ولو بخلت * حبي لهند برى جسمي وأبلاني
قد قلت لما بدا لي بخل سيدتي * وقد يبالغ في شوقي وأحزاني
هل تعلمين وراء الحب منزلة * تدني إليك فان الحب أقصاني؟
قالت: فدعنا بلا صرم ولا صلة * ولا صدود ولا في حال هجران
حتى يشك وشاة قد رموك بنا * وأعلنوا بك فينا اي اعلان
ثم وجهوا بالشعر إلي المدينة وارتفعوا إلى عاملها. فأدبه على سرقة البيت)
(3) وفي نسخة: الشاعر.
5

وقال بعض العلماء: (نظير قوله تعالى: هن أم الكتاب
(على التأويل الذي تقدم في توحيد الأم وهي خبر لهن) قول الله سبحانه:
(وجعلنا ابن مريم وأمه آية) (1)، ولم يقل: آيتين، لان
معناه وجعلناهما جميعا آية، ولو أراد: أن كل واحد منهما آية على
انفراده، لقال تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لأنه قد كان
في كل واحد منهما عبرة لهم، وذلك أن مريم عليها السلام ولدت من
غير رجل، ونطق ابنها عليه السلام في المهد، وهو صبي لا يجوز من
مثله النطق).
قلت انا: وقد قال أبو العباس المبرد في هذا المعنى قولا حسنا،
وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكره كثيرا على وجه الاستحسان
له، وهو أنه قال: (إنما وحد سبحانه صفتهما فقال: جعلناهما آية
- وهما اثنان -، لان المعنى الذي أعجز منهما شئ واحد، وذلك أن
مريم عليها السلام ولدت من غير ذكر وولد عيسى عليه السلام من غير
أب، فلو كان هناك زوج لكان أباه وزوجها، فلما كان المعنى
المعجز منهما شيئا واحدا، حسن أن يقول سبحانه: جعلناهما آية، وهما
اثنان). وهذا حسن جدا، وقد مضى من الكلام في هذه المسألة
ما فيه مقنع بتوفيق الله تعالى.

(1) المؤمنون: 50
6

فصل
(الراسخون في العلم وعلمهم بتأويل الكتاب)
فأما قوله تعالى في ذيل هذه الآية: (وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما
يذكر إلا أولوا الألباب) فبين العلماء فيه اختلاف:
فمنهم من جعل الوقف عند اسم الله تعالى، واستأنف قوله سبحانه:
[والراسخون في العلم يقولون آمنا به]، فمن ذهب إلى هذا المذهب منهم
يخرج العلماء عن أن يعلموا كنه التأويل وحقيقته، ويطلعوا طلعه (1) ويستنبطوا
غوامضه، ويستخرجوا كوامنه، وحطهم بذلك عن رتبة قد استحقوا
الايفاء عليها واطلاع شرفها (2)، لان الله سبحانه قد أعطاهم من نهج
السبيل وضياء الدليل ما يفتتحون به المبهم ويصدعون المظلم (3)، وكل
ذلك بتوفيق الله إياهم ونصب منار الأدلة لهم، فعلمهم بذلك مستمد
من علم الله سبحانه، فلا معنى للوقوف بهم دون هذه المنزلة، والاحجام
عن إيصالهم إلى أقصى هذه الرتبة.
وأما الذين يجعلون الوقف عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا
الله والراسخون في العلم)، فيوفون الاستثناء حقه بادخال العلماء فيه،
ويجعلون لهم مزية العلم بتأويل القرآن، ومعرفة مداخله ومخارجه، وسلوك

(1) الاسم من الاطلاع ومنه اطلع طلع العدو.
(2) جمع شرفه بالضم وهي ما أشرف من البناء.
(3) صدع بالنور الظلام: إذا شقه.
7

محاجه ومناهجه. وهذا القول مروي عن ابن عباس [ره] ومجاهد
والربيع (1)
فأما المحققون (2) من العلماء فيقفون في ذلك على منزلة وسطى وطريقة
مثلي، فلا يخرجون العلماء ههنا عن أن يعلموا شيئا من تأويل القرآن
جملة، ولا يعطونهم منزلة العلم بجميعه، والاستيلاء على قليله وكثيره.
بل يقولون: إن في التأويل ما يعلمه العلماء، وفيه ما لا يعلمه إلا الله
تعالى: من نحو تعيين الصغيرة (3) ووقت الساعة وما بيننا وبينها من
المدة ومقادير الجزاء على الاعمال وما أشبه ذلك.
وهذا قول جماعة من متقدمي العلماء: منهم الحسن البصري وغيره واليه
ذهب أبو علي الجبائي (4)، لأنه يجعل المراد بالتأويل في هذه الآية مصائر
الأمور وعواقبها، [كقوله] (5) تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله
يوم يأتي تأويله..) (6)، أي: مصيره وعاقبته، لان
أصل التأويل من قولهم: آل يؤول، إذا رجع.

(1) ابن انس.
(2) هذا من ذيول المسألة الكلامية التي احتدم النزاع فيها في أن
العلم بتأويل المتشابه من نحو العلوم التي استأثر سبحانه بها أو انها من متناول العلماء،
اماما يستلزمه قول المحققين من العطف أو الوقف أو انطباقه عليهما، فله مقام آخر ليس
هذا مجاله ولم يتعرض له المؤلف هنا.
(3) مسألة تمييز الصغيرة من الكبيرة وتعيين الضابط لهما وتحديدهما من المسائل
الكلامية المشهورة المختلف فيها.
(4) نقل الرازي في تفسيره: ان ابا علي يقول بالوقف
في الآية، وان الواو واو الابتداء، وكذا نقله المرتضى في أماليه، وهذا النقل لا ينافي
ما نسب إليه المؤلف من المذهب، فان ما ذهب إليه المحققون يمكن استفادته من كل من
قراءتي الوقف والعطف.
(5) وفي نسخة: لقوله.
(6) الأعراف: 53.
8

ومما يؤكد ذلك أن مجاهدا قال في قوله تعالى: (ذلك خير
وأحسن تأويلا) (1): (إنه سبحانه أراد بالتأويل ههنا: الجزاء
على الاعمال)، فهذا المعنى يلامح ما نحن في ذكره، لان الجزاء إنما
هو الشئ الذي آلوا إليه وحصلوا عليه.
وقد قيل أيضا: (إن المراد وما يعلم تأويله على التفصيل إلا الله تعالى
أو لا يعلم تأويله بعينه إلا الله، لان كثيرا من المتشابه يحتمل الوجوه
الكثيرة، وكلها غير خارج عن أدلة العقول، فيذكر المتأولون
جميعها، ولا [يقع] (2) القطع منهم على مراد الله تعالى بعينه منها،
ولا يعلم ذلك إلا الله، لان الذي يلزم المكلف من ذلك أن يعلم في الجملة
أنه سبحانه لم يرد ما يخالف أدلة القول، ولأنه ليس من تكليفنا أن
نعلم [أن] (3) المراد من ذلك بعينه، وإن كان العلماء يعلمونه على الجملة
وعلى الوجه الذي يمكن أن يعلم عليه).
و [في] (4) قول الراسخين في العلم: (آمنا به كل من عند
ربنا) دلالة على استسلامهم في ما لم يعلموا من تأويل المتشابه، وما استبد
الله بعلمه من قبيل ما ذكرنا: كوقت القيامة وتمييز الصغائر من الكبائر،
إلى ما أشبه ذلك، فقد بان أن في تأويل المتشابه ما لا يعلمونه، وإن كان
يعلمون كثيرا منه.

(1) الاسراء: 35
(2) وفي النسخ: يقطع
(3) كذا في النسخ، والظاهر سقوطها
(4) زيادة في بعض النسخ.
9

وقال قاضي القضاة أبو الحسن (1) - بعد ذكره طرفا من الخلاف
في هذه الآية -: [وما يقوله من حمل العطف على حقيقته وجعل
للعلماء نصيبا من علم التأويل على تفصيله أو جملته، إما أن يكون المراد
بذلك عنده وما يعلم تأويله إلا الله وإلا الراسخون في العلم ومع علمهم
بتأويله (يقولون آمنا به)، أو يكون المراد أنهم يعلمون تأويله في
حال قولهم: (آمنا به كل من عند ربنا)، ومن قال بذلك استدل
بظاهر العطف، وأنه يقتضي مشاركة الثاني للأول في ما وصف به الأول
وأخبر به عنه]. وقال: [إذا أمكن ذلك وأمكن حمل قوله تعالى:
(يقولون آمنا به) على الحال أو على خبر ثان وجب القول بذلك،
ولكلا الوجهين مسرح في طريق اللغة. وإنما ينبغي أن ننظر من
جهة المعنى، فان ثبت بالدليل صحة أحد المعنيين قضي به، وإلا لم
يمتنع أن يرادا جميعا إذا لم يقع بينهما تناف].
قلت أنا: وهذه طريقة لأبي علي (2) فيما ورد من القراءات
متغايرا فإنه يقول: (إذا كان يمكن حمل الكلام على القراءتين المختلفتين،
فإنهما جميعا مرادتان، إذا صحت القراءة بهما جميعا، نظير ذلك قوله
سبحانه (وجدها تغرب في عين حمئة) (3) وقد قرئ حامية).
فيقول: [إنه يجب أن تكون العين على الصفتين معا، فتكون حمئة من

(1) الغرض من هذا المقال جهة ايضاح تعلق قوله تعالى: (يقولون) بما قبله بناء
على العطف
(2) الجبائي، وربما يكون جمهور علماء الأدب على عدم جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى
(3) الكهف: 86.
10

الحمأة، وحامية من الحمي، فتكون هناك حرارة وحمأة، وإلا كان
يجب ألا تجوز إحدى القراءتين، لان من أصله أن كل كلام احتمل
حقيقتين - ولم يكن هناك دلالة على أن المراد به إحدى الحقيقتين دون
الأخرى - فواجب حمل الكلام عليهما جميعا حتى يكونا مرادين بذلك،
ومتى لم يمكن حمل الكلام عليهما جميعا، فلا بد من أن يبين الله تعالى
مراده منهما بدلالة، وإلا خرج من أن يكون فيه فائدة].
فأما من قرأ حمئة من الحمأة، فاني قرأت بذلك على شيوخ
[القراءة] (1) لابن كثير ونافع وأبي عمرو وحفص، عن عاصم، وأما من قرأ
حامية من الحمي، فاني قرأت به لحمزة والكسائي وأبي بكر بن عياش،
عن عاصم وعبد الله بن عامر.
وقد ظن بعض الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون تمام الكلام ومقطعه
عند قوله تعالى: [وما يعلم تأويله إلا الله]، وأن الواو للاستقبال
دون الجمع. قال: (لأنها لو كانت للجمع لقال: ويقولون آمنا به
فيستأنف الواو كما استأنف الخبر،. واحتج على هذا [القول من قال
بالقول] (2) الأول، بأن قال: (هذا جائز وقد وجد مثله في
القرآن: وهو قوله تعالى - في معنى قسم الفئ -: (ما أفاء
الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول... إلى قوله
سبحانه، إن الله شديد العقاب) (3) ثم أعقب ذلك بالتفصيل
وتسمية من يستحق هذا الفئ، فقال: (للفقراء المهاجرين الذين

(1) القراء: في خ
(2) القائل من ذهب إلى القول: في خ
(3) الحشر: 7
11

أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا...
إلى قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون...)، وهؤلاء
لا شك داخلون في مستحقي الفئ كالأولين، والواو ههنا للجمع، ثم قال
سبحانه، يقولون (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالايمان...)، ومعناه: قائلين: ربنا اغفر لنا ولإخواننا،
فكذلك قوله سبحانه: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) يكون
معناه: والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصبت لهم عليه الدلائل، ونحيت
لهم إليه المذاهب من المتشابه قائلين آمنا به، ومن الشاهد على ذلك قول
يزيد بن مفرغ الحميري - لما سامه عباد بن زياد أن يبيع عبده بردا في
دين لزمه، وحديثه في هذه القصة طويل (1) وهو بعد مستفيض -:
وشريت بردا، ليتني * من بعد برد كنت هامه (2)
فالريح تبكي شجوها (3) * والبرق يلمع في الغمامة
قوله: (وشريت) يريد: وبعت، وهو من الأضداد.
وقوله: (والبرق يلمع...) يريد: والبرق أيضا يبكي شجوه لامعا
في الغمامة، أي: في حال لمعانه، ولولا أن المراد هذا لما كان لقوله:
(والبرق يلمع في الغمامة) اتصال بقوله: (فالريح تبكي شجوها)، بل كان

(1) راجع تأريخ ابن خلكان في (يزيد) والأغاني ج 17: ص 51 - 72
المطبوع في مطبعة التقدم بمصر.
(2) يقال: أصبح فلان هامة اي مات
(3) كذا في رواية الأغاني وتاريخ
ابن خلكان والموجود في نسخ هذا الكتاب (شجوه). قال في أقرب الموارد: الشجو:
الشوط من البكاء يقال: (بكى فلان شجوه وبكت الحمامة شجوها).
12

بعيدا منه قصيا، وغريبا أجنبيا.
وإذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية، في
وجوب رد المتشابه إلى المحكم، فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا
بالمحكم على معناه، ولو كان العلماء لا يعلمون شيئا من تأويل المتشابه بتة، ما
كان لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله علم أمير المؤمنين عليه السلام
التفسير، معنى، لان معنى التفسير والتأويل إنما يكون لما غمض ودق ولم
يعلم بظاهره. وهذه صفة المتشابه، وأما المحكم الذي يعلم بظاهره،
فلا حاجة بأحد إلى تعليمه، لان أهل اللسان فيه سواء، ولولا أن الامر
على ذ لك لما كان لدعاء النبي صلى الله عليه وآله لابن عباس (ره) بأن
يعلمه الله التأويل معنى، لأنا نعلم أنه لم يرد عليه السلام تعليمه الظاهر
الواضح، فلم يبق إلى الغامض الباطن.
ومن وجه آخر: أن حقيقة الواو الجمع، فوجب حملها على سنن
حقيقتها ومقتضاها، ولا يجوز حملها على الابتداء الا بدلالة، ولا دلالة
ههنا توجب صرفها عن الحقيقة، فوجب حملها على الجمع، حتى تقوم الدلالة.
وكان أبو حاتم السجستاني يقول: (إن الوقف على قوله تعالى:
[وما يعلم تأويله الا الله]، لأنه قد حذف من الكلام (أما)،
وكأنه تعالى قال: (وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به)، وزعم
أنه إنما جاز حذفها لأنه قد جرى ذكرها وهو قوله تعالى: (فأما الذين
في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه). قال: (و (أما) لا تكاد
تجئ في القرآن مفردة حتى تثني أو تثلث أو تزاد على ذلك كقوله
13

سبحانه: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) (1) وكقوله
تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين... وأما الغلام
فكان أبواه مؤمنين... وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين... (2)
فلما قال سبحانه: (فالذين في قلوبهم زيغ) قدرنا ان (أما) مرادة مع
(الراسخين في العلم)، فكأنه تعالى قال: وأما الراسخون في العلم...)
وكلام أبي حاتم في ذلك غير سديد ولا مطرد، لأنه قدر في الكلام
حذف (أما)، وذكر أنها تقع في القرآن كثيرا مكررة. ولعمري
إن الامر كما قال من وقوعها مكررة في القرآن!، وما علمناها جاءت
فيه مرادة محذوفة، وكان ينبغي أن يرينا من القرآن موضعا هي فيه مرادة
وقد حذفت ليكون شاهدا على ما ذكره، فأما أن يستشهد بتكريرها على حذفها
فذلك غير مستقيم، ولو كان الامر على ما قال لكان وجه الكلام أن
يقول تعالى: (والراسخون في العلم فيقولون آمنا به)، كما قال سبحانه:
(فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون...)، فيعلم أن الموضع لاما،
وألا لم تكن على ذلك دلالة.
ولا يجوز الوقف على العلم في الوجهين (3) جميعا لان ما بعد العلم يكون
حالا في أحد الوجهين وخبرا في الآخر، و (الوقف التام) (4) على
(به)، وقد أوردنا في هذه المسألة ما فيه بلاغ ومقنع بتوفيق الله تعالى.

(1) الضحى: 9، 10
(2) الكهف: 78 - 82
(3) الوقف والعطف
(4) وفي نسخة: وقف التمام.
14

2 - مسألة
(معنى إزاغة القلوب من الله تعالى)
الاعتذار عن التكرير - الجواب عن الشبهة - نسبة القول لغير فاعله -
تخصيص القلب بالهداية دون سائر الجوارح - رد المتشابه في المقام إلى المحكم
- تفسير آية (فلما زاغوا...) - إضافة الفعل إلى الآمر والى
السبب - العمى في الآخرة - التفضيل في أفعال العيوب والألوان
ومن سأل عن قوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ
هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب - 8)
فقال: لو لم تكن إزاغة القلوب من الله سبحانه لما كان للدعاء بألا يفعلها
تعالى معنى ولا فائدة، وإزاغة القلوب من قبيل الاضلال والاغراء،
وهذا الذي يذهب إليه خصومكم (1)!
فالجواب: أنا قد بينا في عدة مواضع من أوائل كتابنا هذا معنى
الاضلال والضلالة والزيغ والإزاغة، وما يجري هذا المجرى مما ورد في
التنزيل، وظاهره لا يجوز على الله تعالى، وكررنا القول في أقسام ذلك
ووجوهه وجميع ضروبه وفنونه، ونحن ذاكرون ههنا يسيرا منه،
لئلا يخلى هذا الموضع من جواب يصدع الشبهة ويجلي الغمة ويكشف
الحيرة.

(1): الأشاعرة.
15

فلا ينبغي أن ينسب ذلك منا إلى تعاطي التكرير وتكلف الترديد
فان العاذر لنا في ذلك أن كتابنا هذا قد بعدت أوائله من أواخره،
وانفرج ما بين أعناقه وروادفه، ونزحت مسافات الكلام فيه نزوحا
يحتمل التكرير تجديدا للفائدة، ولا تستهجن معه الإعادة مبالغة في الحجة،
لا سيما وقد طال بنا الزمان في تأليفه بعوائق عارضتنا بحواجزها، وقواطع
زاحمتنا بمناكبها: من تقلب أحوال واشتغال ببواهظ أثقال، وكان
انقطاعنا إليه خلسا، واهتمامنا بالزيادة فيه لمعا وفرصا (1)، كنهلة
المزءود (2)، أو نشطة المطرود (3) أو كقبسة المستعجل أو حبسة
الظاعن المتحمل (4).
إلا أن الاهتمام أجمع (5) على حالي الشغل والفراغ، والانقباض
والانبساط، معقود بأسبابه، والعزيمة واقفة ببابه، نعم! ولا عيب
أيضا على جامع مثل هذا الكتاب البعيد الأطراف، المحتاج إلى فضلات
من مدد الزمان، أن تقرر فيه مذاهب كانت [مترجحة] (6) وتطمئن
آراء كانت قلقة، على حسب تأثير الزمان الأطول في جلاء الشبه،

(1) وفرصنا: في (خ).
(2) النهلة: أول الشرب، والمزءود: المذعور.
(3) النشطة: المرة من انتشط الحيوان المرعى والكلاء إذا
انتزعه بالأسنان، والحيوان المطرود ينتشط بسرعة الخائف.
(4) الحبسة: المرة من حبس أو تحبس إذا تأخر عن الركبان ومنه حديث
الفتح: انه بعث أبا عبيدة على الحبس بالضم وفي اللسان مادة (حبس) (قال
القتيبي: هم الرجالة سموا بذلك لتحبسهم عن الركبان وتأخرهم) وفي (خ)
(الطاعن) اي الذاهب في المفازة، والمتحمل: من الحمل.
(5) كلمة تأكيد اي جميع الاهتمام.
(6) وفي (خ) مرتجة: من الارتجاج أو الرتاج
16

وحل عقود الامر المشتبه، واستدراك فوائت الأدلة، واستثارة كوامن
الرأي والرواية.
ومن ذلك ما يمر بقارئ صدور كتابنا هذا: من كلامنا الذي يدل
على ميلنا إلى القول بالارجاء، ثم ما يمضي به في أوساطه وأثباجه [1]
من الكلام الدال على تحقيق القول بالوعيد قاطعين به وعاقدين عليه،
وإنما كان السبب في تباين هذين القولين سالفا وخالفا وسابقا ولاحقا
(تفرع) (2) شبه وشكوك ما زال الزمان بمماطلته يزجي حسيرها (3)
ويسهل وعورها، حتى أسرع حابسها وانقاد متقاعسها بلطف الله وتوفيقه
ومعونته وتسديده.
وقد ذهبنا عن سنن الغرض كثيرا، وتياسرنا عن المحجة بعيدا، فلنعد
الآن إلى الغرض المقصود والمرمى المطلوب!، فنقول: إن للعلماء في ما
سأل عنه السائل من هذه الآية أقوالا.
1 - فمنها أن يكون قولهم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا)
معناه: الدعاء بألا يعلم (4) تعالى قلوبهم زائغة بعد الهدى، أي: أدم لنا
ألطافك وأصحبنا هداك وعصمتك، حتى لا تزيغ قلوبنا فتعلمها زائغة،
ويكون ذلك على معنى المصادفة كقولهم: أضللت فلانا، إذا وجدته
ضالا، و: سألته فأبخلته، إذا وجدته بخيلا، و: جربته فأجبننه،

(1) أوساطه.
(2) تصرع: في (خ).
(3) الحسير: البعير أدركه الاعياء، وأزجاه ساقه ودفعه.
(4) اي الا تكون زائغة من ذاتها فتجدها وتصادفها كذلك،
وتعلم بما هو واقع منها، ويكون معنى أزاغه وجده زائغا.
17

إذا وجدته جبانا، وما أشبه ذلك.
2 - ومنها أن يكون معنى ذلك (ربنا لا تزغ قلوبنا) أي:
لا تبتلنا بأمر صعب، يثقل علينا القيام به والخروج إليك من حقه،
فتزيغ له قلوبنا ونميل إلى شهواتنا، ويكون هذا من قبيل قولهم: (ربنا
ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا..) (1)،
والإصر: الثقل، وهو راجع إلى هذا المعنى، وذلك كقوله سبحانه:
(ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من
دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) (2)، وقوله تبارك اسمه:
(إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) (3)،
فكأنهم دعوه سبحانه: بألا يبتليهم بما يكبر عليهم ويثقل على كواهلهم،
وأضافوا الزيغ إليه تعالى من حيث كان المتولي لفعل التكاليف التي
يفتنون بها ويزيغون عندها، وليست بأسباب لوقوع معاصيهم على
الحقيقة، وإن كانت معاصيهم لا تقع إلا بعد ابتلائهم بتلك العبادات،
فكأنهم سألوه تعالى: ألا يتعبدهم بما يكون عنده وقوع معصيتهم وزيغهم
عن هدى طريقتهم، وألا يحملهم من المشقة، ما لا يأمنون معه ذلك،
وأن كانوا لا يؤتون إلا من قبل أنفسهم.
3 - وقال بعضهم: معنى (لا تزغ قلوبنا) أي: احرسنا
من وساوس الشيطان حتى لا نزيغ فتزيغ أنت قلوبنا، لان الله تعالى
لا يزيغ أحدا حتى يزيغ هو، كما قال سبحانه: (فلما زاغوا أزاغ

(1) البقرة: 286.
(2) النساء: 66
(3) محمد: 37
18

الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (1)
4 - وقال بعضهم: معنى ذلك: ثبتنا بألطافك وزدنا من
عصمك (2) وتوفيقك، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا، فنكون زائغين
في حكمك، ونستحق أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه، لأنه
يجوز أن يقال: إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ، وإن كانوا هم
الفاعلين له، على مجاز اللغة، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ وقادهم إلى
الاعوجاج والميل، ولكنهم لما زاغوا عن أوامره وعدوا ما فرض الله
من فرائضه، جاز أن يقال: قد أزاغهم، كما قال سبحانه في ذكر
السورة: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (3)، وكقول
نوح (ع) (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) (4). أو يكون لما
منعهم تعالى ألطافه وفوائده جاز أن يقال: إنه أزاغهم، مجازا، وإن
كان تعالى لم يرد إزاغتهم.
ونظير ذلك من الكلام قولك لمن أطال أظافيره: قد جعلت
أضافيرك سلاحا [أي لم تقلمها]، فصارت شكة (5) تحز وشوكة
تخز، وهو لم يرد بلوغ أظافيره إلى ذلك الحد، وفي التعارف: إن
الرجل إذا ترك سيفه ولم يحادثه (6) بالصقال والارهاف فكل حده
وطبع فرنده، قيل له: إنك قد أفسدت سيفك، ولا يراد بذلك: انك
قصدت افساده واعتمدت اكلاله، وكيف يتهم بذلك وهو أشد الناس

(1) الصف: 5
(2) مصدر عصمه
(3) التوبة: 125
(4) نوح: 6
(5) الشكة: السلاح
(6) حادث السيف: جلاه
19

كراهية لما حدث فيه من ذلك الفساد، [واعترضه من ذلك الكلال] (1)،
ولكنه حسن أن يقال له ذلك في مجرى العادة، لما ترك تعاهده،
وأغفل صقله وإحداده.
5 - وقال بعضهم: إنما سألوا الله تعالى: ألا يزيغ قلوبهم عن
الثواب، أو عن زيادات الهدى والألطاف، والأمران معا يرجعان
إلى معنى واحد، لان زيادة الهدى واللطف تكون ثوابا، والشاهد
على ذلك قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم
تقواهم) (2)، ومعنى ذلك أنهم سألوه تعالى: أن يلطف لهم
بكثرة الخواطر، وقوة الزواجر، في فعل الايمان، حتى يقيموا عليه
مدة زمانهم، ولا يتركوه في مستقبل أعمارهم، فيستحقوا بتركه وفعل
الكفر - بدلا منه - أن يزيغ تعالى قلوبهم عن الثواب، وأن يفعل
بها مستحق العقاب، لأنه لا يجوز أن يسألوا الله سبحانه: ألا
يعاقبهم إذا كانوا مؤمنين، إلا على هذا المعنى، فاما الثواب الذي يفعله
الله تعالى بقلوب المؤمنين، فهو ما ذكره سبحانه من شرح الصدر
وكتابة الايمان في القلب، وضد ذلك هو العقاب الذي يفعله بقلوب الكفار
من الضيق والحرج والرين والطبع، وهذه طريقة أبي علي (3).
6 - وقال بعضهم: إنما أمرهم سبحانه أن يقولوا: (ربنا
لا تزغ قلوبنا)، تعبدا، فإذا قالوا ذلك بخضوع واستكانة ويقين وإنابة،

(1) كذا عن خطه في الحاشية.
(2) محمد: 17.
(3) الجبائي
20

أثابهم عليه، كما قال سبحانه لنبيه [ص]: (قال رب احكم
بالحق) (1) والله لا يحكم إلا بالحق، ونظائر ذلك كثير في القرآن.
7 - وقال بعضهم: إن الهدى لما كان على وجوه وكان من جملة
أقسامه الثواب وثبت عندنا أن الله سبحانه لا يضل عن الايمان، علمنا أن
المسألة بألا يزيغ الله القلوب، إنما يراد بها الإزاغة عن الثواب وأقسامه:
من شرح الصدور ومسار النفوس.
والدليل على ذلك قوله سبحانه في موضع آخر: (ومن يؤمن
بالله يهد قلبه) (2)، فليس يخلو قوله تعالى: [يهد قلبه] من
أحد أمرين: إما أن يكون أراد بذلك: الهداية إلى الايمان، وهذا
مستحيل، لأنه لا بد من أن تنقطع أفعال المكلفين من الايمان، وتكون
لها غاية، كما أن للتكليف غاية، فآخر ما يقع من ايمانه، لا بد -
باجماع الأمة - من أن يهدي الله قلبه عند فعله، كما ضمن له سبحانه،
ولا يكون هذا الهدى بأن يخلق في قلبه إيمانا ثابتا، لان ذلك يتصل
بما لا غاية له من الايمان، والهداية إلى الايمان.
فوجب أن يكون قوله سبحان: [يهد قلبه] إنما عنى به إثابة
قلبه على ايمانه، وإنما خص سبحانه القلوب بهذا [الذكر] (3)، دون
سائر الجوارح. لان القلب شريف الأعضاء ونفيسها، ومقدمها
ورئيسها، ولهذا قال تعالى (إن في ذلك لذكرى لمن كان له
قلب) (4)، ولم يقل سمع أو بصر أو غير ذلك: من آلات البدن

(1) الأنبياء: 112.
(2) التغابن: 11
(3) وفي نسختين (الفكر)
(4) ق: 37.
21

ومرافق الشخص المكون، إذ كان القلب ينفرد بخصائص أفعال الانسان:
مثل الجرأة والاقدام، والكف والاحجام، إلى غير ذلك: من الجذل
والغبطة، والكمد والغمة، فخصه تعالى بالذكر، لان سائر الأعضاء
في حكم التابعة له والمنوطة به. ومن الشاهد على ذلك أحد التأويلات
التي فسر بها قوله تعالى: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه
وأنه إليه تحشرون) (1)، فقيل: معنى ذلك أنه يميته، ومعلوم
انه إذا اماته حال بين نفسه وبين سائر أعضائه، ولكنه خص القلب
بالذكر لشرف موقعه، وعظيم نفعه، وكون سائر الجوارح له خدما
وحفدة، وعنه مصدرة وموردة، فلذلك خصه ههنا بالذكر على ما بينا.
8 - وقال بعضهم: قد يجوز أن يكون سؤالهم ألا يزيغ الله تعالى
قلوبهم معناه ألا يميلها بعقوبة يحلها بها كالمسخ وما يجري مجراه، لان
الزيغ في أصل اللغة: الميل، والمسخ: إنما هو إمالة الخلقة عن الحال التي
كانت عليها إلى غيرها من الهيئات والصور، ويكون المراد بهذا القول
الاستعفاء من عقوبة مستحقة يخافونها، بما لا يأمنونه من مواقعتهم المعاصي
في المستقبل. وهذا القول شديد التكلف، إلا أني أحببت ايراده لغرابة
طريقته، وغيره أولى بالاعتماد عليه والقول به.
9 - وقال قاضي القضاة أبو الحسن: ليس كل من سأل ربه ألا
يفعل به شيئا تدل مسألته على أنه تعالى يختار ذلك الشئ ويفعله، فاذن
معنى هذا الدعاء إما أن يكون المراد لا تشدد علينا المحنة في التكليف،

(1) الأنفال: 24
22

فيؤدي ذلك إلى زيغ قلوبنا بعد الهداية كما تقدم بيانه (1) في قوله سبحانه
(... ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا...)، وإما
أن يكون المراد بذلك ألا يعدل بهم عن زيادة الهدى والألطاف في
هذا الباب.
10 - والذي أقوله في ذلك: إن من أصلنا رد المتشابه من الآي
إلى المحكم منها، كما بينا أولا، وقد ورد في القرآن من ذكر الإزاغة
ما بعضه محكم وبعضه متشابه، فيجب رد متشابهه إلى محكمه - على
الأصل الذي قررناه -، فالمتشابه من ذلك قوله سبحانه ههنا: (ربنا
لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا)، وهذا لا يجوز أن يكون محمولا على ظاهره،
لأنه يقودنا إلى أن نقول: إن الله سبحانه يضل عن الايمان، وقد
قامت الدلائل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح، وهو غني عنه،
وعالم باستغنائه عنه، ولأنه تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه، فوجب ألا يضلنا عما أمرنا به، ولا يقودنا إلى
ما نهانا عنه، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره فاحتجنا إلى تأويله على
الوجوه التي قدمنا ذكرها، فهو متشابه، لان من صفة المتشابه ألا
يقتبس علمه من ظاهره وفحواه، فوجب رده إلى ما ورد من المحكم في
هذا المعنى، وهو قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم).
فعلمنا ان الزيغ الأول كان منهم، وأن الزيغ الثاني كان من الله سبحانه على
سبيل العقوبة لهم، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير الزيغ الثاني، وأن الأول

(1) في سورة البقرة.
23

قبيح إذ كان معصية، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة، وكان تقديره: فلما مالوا عن الهدى أملناهم
عن الهدى، فكان خلفا من القول يتعالى الله عنه، لان الكفر الذي حصل
في الكفار [الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الايمان] قد أغناهم عن
إحداث مثله لهم، وخلق ما يجري مجراه فيهم، فعلمنا أن زيغهم كان
عن الايمان، وإزاغته تعالى لهم إنما كانت عن طريق الجنة والثواب،
وأيضا فان هذا الفعل لما كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم،
علمنا أنه غير الجنس الذي فعلوه، لان العقوبة لا تكون من
جنس المعصية، إذ كانت المعصية قبيحة والعقوبة عليها حسنة.
وليس لقائل أن يقول: إن قوله سبحانه ههنا: (أزاغ الله
قلوبهم) متشابه أيضا لأنه لا يفهم بظاهره وهو محتاج إلى الكشف عن
باطنه.
لان قوله سبحانه: (فلما زاغوا) قد صير قوله: (أزاغ الله قلوبهم)
في حكم المفهوم الظاهر، إذ قد بينا أن الزيغ الثاني لا يجوز أن يكون
هو الزيغ الأول، ولا من جنسه، فقد علم أنه غيره، وإذا علم أنه غيره
- والأول الزيغ عن الايمان - وجب أن يكون الثاني غير الزيغ عن
الايمان، وأن يكون معناه ما ذكرنا من العقوبة على الميل عن الهدى
إلى الضلال، وفي ما أوردناه من ذلك كاف بتوفيق الله تعالى.
وإذ قد اعترضنا هذه الآية، أعني قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ
الله قلوبهم)، لايرادنا لها في موضع يحتاج إلى الاستشهاد بها فيه،
24

وان كانت من أواخر القرآن، ونحن بعد في أوائله، [فإنه] (1)
مما يجوز الجمع بينه وبين الآية التي نحن في الكلام عليها، وهي قوله
تعالى: [ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا]، لان الكلام فيهما ممتزج،
والاحتجاج عليهما مشتبه، فلنذكر طرفا من الكلام في التأويل الذي
يخصها، لترد الفائدة بكمالها، وتقوم الحجة على أساسها إن شاء الله
تعالى!:
قال بعضهم في تأويل هذه الآية: إن قال لنا المخالفون: إنكم
تزعمون أن الله لا يضل أحدا ولا يزيغه والله سبحانه يقول: [فلما
زاغوا أزاغ الله قلوبهم]!. قلنا لهم. أما دعوا كم علينا أنا نقول: إن الله
لا يضل أحدا ولا يزيغه، فبهت منكم لنا، بل من ديننا أن من أنكر ذلك
رافع لما جاء به القرآن، ولكنا نقول إن إضلال الله سبحانه وإزاغته ليسا
كاضلال إبليس وازاغته، لان الله تعالى قد ذم ذلك وبرئ منه، فعلمنا أنه
تعالى لا يضل - من حيث يضل - عن الحق وهو يدعو إليه، ولا يمنع
منه وهو يأمر به، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وبعد فإنه سبحانه لم
يذكر في هذه الآية أنه ابتدأ قوما بأن أزاغ قلوبهم، بل قال: [فلما
زاغوا أزاغ الله قلوبهم]، فأخبر تعالى: أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على
زيغهم وجزاء على فعلهم، فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه
من آمن به، ووقف عند حده، وخلاهم واختيارهم، وأخلاهم من
زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه، فقال: (والذين اهتدوا

(1) فإنها: في خ
25

زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (1)
فأضاف سبحانه (2) الفعل في الإزاغة إلى نفسه، على اتساع مناهج
اللغة في إضافة الفعل إلى الآمر، وإن وقع مخالفا لامره، لما كان
وقوعه مقابلا لامره، ويكشف عن ذلك قوله تعالى: (إنه كان
فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت
خير الراحمين. فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم
منهم تضحكون) (3)، وهؤلاء الفريق من عباد الله لم ينسوا
الفريق الآخر ذكر الله، وكيف يكون ذلك وهم يحادثون أسماعهم
وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا، وتنبيها وتحذيرا؟!، ولكنهم
لما اتخذوهم سخريا وقاموا على سئ أفعالهم وذميم اختيارهم، أنسوهم ذكر
الله، فأضيف الانساء إلى ذلك الفريق من عباد الله، إذ كان نسيان من
نسي ذكر الله سبحانه إنما وقع في مقابلة تذكيرهم به وتخويفهم منه ودعائهم
إليه، فحسنت الإضافة على الأصل الذي قدمناه.
وأقول: إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل إلى الآمر، وإن لم يأمر به، بل أمر بضده، لما
وقع مقابلا لامره فسمي من كان سبب الضلال مضلا، وإن لم يكن

(1) محمد: 17.
(2) هذا الذي يذكره هنا - من أن إضافة الإزاغة
إليه سبحانه على اتساع منهاج اللغة باعتبار انه تعالى امرهم بالهداية - لا يصح
أن يكون من تمام الكلام السابق أعني حمل الإزاغة على العقوبة على زيغهم، فان
كلا منهما جواب مستقل بنفسه، لان الأول يرجع إلى التصرف في كلمة الإزاغة
والثاني إلى التصرف في اسنادها إليه تعالى.
(3) المؤمنون: 109، 110
26

منه دعاء إلى الضلال ولا إلى ضده فوقع (1) الضلال عند دعائه. قال
سبحانه: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني
وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيرا من
الناس... الآية) (2)، فأضاف تعالى ضلال القوم إلى الأصنام،
إذ جعلوها سببا لضلالتهم، وهي جماد لا يكون منها صرف عن طاعة ولا
دعاء إلى معصية.
ومثل هذا من كلامهم: إن الرجل يشغف بالمرأة، فإذا عظم
وجده بها وقلقه من أجلها، قال لها: قد أسهرت ليلي، وأمرضت
قلبي، وكدرت صفاء عيشي، ولعلها لم تعلم بشئ من أمره، ولم تشعر
بأوقات قلقه وسهره، ولكنه لما اعتقد أنها سبب لذلك - وإن لم
تفعله - جاز أن ينسب إليها فعله.
وآكد من ذلك أنها لو شعرت بما يقاسيه فيها ويعانيه من حبها -
وكانت ذات عفة تحصنها وتحسم المطامع عنها، فزجرته عن نفسها وخوفته
عواقب الاشتغال بها، فكان ذلك سببا لزيادة كلفه وتضاعف شغفه،
فانحلت قوى أمره واسترخى وتر صبره وطال بها سهر ليله وتشاغل عن
مصالح نفسه - كان جائزا أن ينسب ذلك إليها، فيقول: إنها أسهرت
ليلي وأطالت فكري، واقتطعتني عن مصالحي، وذهبت بي عن
مراشدي، وهي لم تعظه إلا ليتعظ، ولم تزجره إلا ليزدجر، وإنما

(1) هذا التفريع من جملة المنفي اي فلم يقع الضلال...
(2) إبراهيم: 35، 36
27

حسن منه أن ينسب جميع ما ذكرنا إليها، لما اعتقد أنها سببه ومن أجلها
كان همه وقلقه، وهذا بين كما ترى.
وقد قال قائل آخر في ذلك: إن أصل لفظ الزيغ في اللغة: مأخوذ
من العدول عن الشئ، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ما زاغ البصر وما
طغى) (1)، إنما أراد سبحانه به: أن البصر ما عدل عن رؤية جبرئيل (1)
عليه السلام، بل أثبته إثباتا جليا، وعرفه عرفانا حقيقيا! وقال سبحانه:
(ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير) (2)
أي: من عدل عن أمرنا، وقال لبيد بن ربيعة في ذلك:
وأحب المجامل بالجميل، وصرمه * باق إذا ضاقت وزاغ قوامها (3)
أي: إذا عدلت النفس عن سنن الاستقامة، فلما كان الزائغ هو
العادل عن الشئ، وكان الله سبحانه عادلا بالكفار عن روحه ورحمته
وثوابه وجنته، من أجل عدولهم عن طاعته واتباع ما أمر به من عبادته،
كان مزيغا لقلوبهم، وحسن اختصاص القلوب بذلك، لما تقدم من
الكلام، ولو كان الله تعالى قال: فلما زاغوا عن الحق أزغناهم عنه، أو
لما شكوا في الدين زدناهم تشكيكا فيه، لكان لقائل مقال ولطاعن
مجال، فأما وليس في الكلام بيان الامر الذي أزاغهم عنه، فيجب
رجوعنا إلى الأدلة التي تدل على المعنى الذي يجوز في حكمته تعالى ان يعدل

(1) النجم: 17
(2) سبأ: 12.
(3) أحب: من الحبوة. المجامل:
من المجاملة. الصرم: القطع، اي وأنت على ما أنت عليه مما أضمرت له في نفسك
وهذا البيت من معلقته المشهورة، وفي روايته اختلاف.
(1) إنما الرؤية المعرفية لله تعالى، فشديد القوى هنا هو الله تعالى الذي أوحى إلى عبده ما أوحى
لا جبرئيل، فلقد بلغت معرفته بالله مقام أو أدنى: انه لم يبق بينه وبين الله أحد حتى نفسه - بونا
معرفيا، لا زمنيا أو مكانيا - تعالى الله عنهما علوا كبيرا (راجع المقارنات) الصادقي.
28

بهم عنه ويحول بنيهم وبينه، فنظرنا فوجدنا العقول توجب لمن عدل عن
طريق عبادته أن يعدل به عن طريق مثوبته
ألا ترى إلى قوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في
الآخرة أعمى وأضل سبيلا) (1)! وليس يعمى في الآخرة عن
الايمان ولا يصرف إلى الكفر والضلال، إذ لا معصية ولا طاعة في
الآخرة، لان العباد أجمع هناك ملجئون إلى معرفة الله سبحانه، لا خلاف
في ذلك، ولكنه لما كان أعمى في الدار الدنيا - بمعنى الجهل بالحق
والتعاشي عن الرشد - أخبر الله سبحانه أنه يعميه عن النظر إلى الجنة
ومواقع نعيمها ومطالع سرورها، بمعنى انه يلفته عن ذلك ويصرفه عنه
فوصف تعالى الذهاب في الضلال والاقتطاع عن الثواب، بأنهما عمى،
[وكذلك] (2) وصف عدول الانسان عن الطاعة والعدول به عن
طريق الثواب والجنة بأنهما زيغ.
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم، وإزاغة الله تعالى
لهم فعل له، فإذا ثبت أن زيغهم عن الايمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب،
وإلا لكان الفعلان واحدا، وقد علمنا أن جهتي الفعل مختلفتان.
فأما قوله تعالى [فهو في الآخرة أعمى] فلا يجوز أن يكون
أفعل من عمى العين، لان هذا الجنس مما لا يقع التزايد فيه (3)، فلا يقال:
هذا أعمى من هذا، ولا هذا أعور من هذا، من أجل أن هذه العيوب
والألوان خلق في الجسد بمنزلة اليد والرجل وسائر الأعضاء المباينة

(1) الاسراء: 72.
(2) وفي (خ). ولذلك.
(3) ولان عمى الدنيا ليس ذنبا يجازى به يوم الآخرة، ولان أضلية السبيل كتفسير للعمى.
فهاتان القرينتان المعنويتان تكفيان دلالة على أن العمى هنا ليس عمى العين - اللهم الا ان يراد
الأعم في الجزاء يوم الجزاء توهينا له في العقاب (الصادقي)
29

للاحداث والأفعال. وأيضا، فان الألوان والعيوب أفعالها في الأصل
على أكثر من ثلاثة أحرف، لأنك تقول في الألوان: احمر، واحمار
وابيض، وابياض - وفي العيوب: أعور، واعوار، بالتشديد،
فتبلغ بالزيادة ستة أحرف أو خمسة. ولا يجوز أن يقال: هذا أفعل من
هذا، إلا في ما يجوز أن يتعجب منه فيقال: ما أفعله وأفعل به، وفعل
التعجب إنما يجوز في ما كان ماضيه على ثلاثة أحرف كفعل، مثل علم،
أو فعل، مثل قتل، أو فعل، مثل ظرف، فاذن لا يجوز هذا.
وكان شيخنا وصديقنا أبو الفتح النحوي يقول: (أما قولهم عور
وحول فالأصل فيه أعور واحول، لان جميع نظائره كذلك، ولان
العور والحول أدخل في باب الخلقة من الألوان، وليس يقال في الألوان.
حمر ولا سود، فدل ذلك على أن أصل عور وحول التشديد، والأصل
أولى بهذه الأشياء). فإذا لم يجز أن يكون أعمى ههنا من عمى العين على
حقيقته لم يخل أن يراد به: ما قلنا من الصدوف به عن رؤية الجنة وثوابها،
فكأنه أعمى عنها على المجاز والاتساع، أو يكون المراد به عمى القلب من
طريق الجهل، فيصح فيه حينئذ لفظة أفعل، كما يقال: زيد أجهل من عمرو،
فأما في قراءة من قرأ: (فهو في الآخرة أعمى) على أنه اسم لذي العمى،
كما يقال: رجل أعور - من غير أن يكون بمعنى أفعل من غيره -،
فقد يصح فيه أيضا الحمل على المعنيين المذكورين، كأنه تعالى قال:
ومن كان في هذه أعمى عن الثواب فهو في الآخرة أعمى عن الثواب،
أو من كان في هذه أعمى القلب من الجهل فهو في الآخرة أعمى كذلك أيضا.
30

وقوله تعالى في آخر هذه الآية: (والله لا يهدي القوم الفاسقين)
دليل واضح على ما ذهبنا إليه، لأنهم لما فسقوا ابتداء من قبل أنفسهم،
لم يهدهم الله تعالى إلى طريق ثوابه، كما يهدي إلى ذلك من آمن به، فعلمنا
أن الإزاغة لهم بعد زيغهم إنما هي عن الثواب والجنة لا غير. ويجري
مجرى قوله تعالى: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم
لا يفقهون) (1) والكلام على هذه الآية كالكلام على تلك الآية.
وروى عن بعض الصحابة في قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)،
قال: هم الخوارج، وإن كان ابتداء الآية في ذكر قوم موسى [ع]
لان الخروج من قصة إلى قصة في الآية الواحدة كثير في القرآن،
والقول الأول أثبت، وفي ما ذكرناه من ذلك بلاغ ومقنع بتوفيق
الله تعالى.

(1) التوبة: 127
31

3 - مسألة
[معنى تقليل المسلمين في أعين المشركين]
وبالعكس
تناقض آيتين وان تقليل المسلمين خلاف المصلحة - الجواب عن
الشبهة - عدد المشركين والمسلمين يوم بدر - اختلاف القراءة في
ترونهم - الالتفات في الكلام عند العرب - معنى مثلي الشئ وكلام
الفراء في ذلك - معنى رأي العين - معنى في منامك: في عينك
ومن سأل عن معنى قول الله سبحانه (قد كان لكم آية في
فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم
رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء... الآية - 13)، فقال:
كيف ذكر سبحانه ههنا: ان المسلمين يرون المشركين مثليهم في مرآة العين،
وقال في السورة التي يذكر فيها الأنفال: (وإذ يريكموهم إذ
التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم... الآية - 44)؟،
وإذا قرنت الآيتين جامعا بينهما تناقض القول فيهما!.
وهب الآيتين لم يتناقضا. وكان تقليله تعالى للمشركين في أعين
المسلمين في الوقتين جميعا على حد سواء، وذلك معلوم الغرض، وهو أن
المسلمين إذا رأوا المشركين قليلا كان ذلك سببا لجرأتهم عليهم وطمعهم
فيهم! فما معنى تقليل المسلمين في أعين المشركين؟ فإن كان أريد
32

بذلك ما أريد بتقليل المشركين في أعين المسلمين، فهو طريق غلبة الكفار
وجرأة الفجار، فما قولكم في الاحتجاج لذلك؟
فالجواب: أن للعلماء في ذلك أقوالا:
1 - فمنها، أن يكون سبحانه قلل المشركين في أعين المسلمين،
إرادة منه تهوين أمر المشركين، وتصغير شأنهم عند المؤمنين، لما أراد
سبحانه من نصر المؤمنين عليهم، وتمكينهم من نواصيهم، لتكون
الغلبة لأوليائه، والدائرة على أعدائه. ثم قلل من بعد ذلك المسلمين
في أعين المشركين، لغرض آخر صحيح: وهو أن [يعلم المشركين] (1)
أن الغلبة والظفر لم يكونا للمسلمين - مع نقصان العدد وقلة المدد - إلا
بامدادهم من عون الله سبحانه ونصرته وتأييده وقوته، بما يقوم مقام
السيوف الماضية، والجنن الواقية، والخيول المقحمة، والكتائب المقدمة،
فقللهم في أعينهم ليعلموا أن الله سبحانه ناصرهم ومعينهم، وليتحقق
المشركون أن الله خاذلهم وموهن كيدهم، فيبعثهم بذلك على الدخول
في الدين، وطاعة النبيين.
وقوله سبحانه: (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) يوضح عن
ذلك، لان الامر المفعول هو غلبة المؤمنين دون الكافرين، وقوله
سبحانه في الآية المتقدمة: (والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك
لعبرة لأولي الابصار) دليل على ذلك أيضا، لأنه سبحانه جعل تلك
الحال آية ودليلا على أن نصر المؤمنين من قبل الله تعالى، وجعله عبرة

(1) يعلم المشركون: في (خ)
33

للمتفكرين، من حيث كان النصر مع القلة، والخذلان مع الكثرة،
وهذا موضع العبرة. وقال صاحب هذا القول: (وقد يجوز أيضا أن
يكون الله سبحانه قلل المؤمنين في أعين المشركين، لتشديد المحنة
عليهم). والقول الأول أسد وأقوم.
2 - وقول آخر: وهو أن يكون المراد بذلك أن المسلمين
يرون المشركين مثليهم، وذلك أن المسلمين كانوا ببدر ثلاثمائة وأربعة
عشر رجلا، وكان المشركون تسعمائة وخمسين رجلا، فقلل الله سبحانه
المشركين في أعين المسلمين، حتى رأوهم مثليهم في العدد: [ستمائة
ونيفا وعشرين رجلا]، فهذا موافق لقوله سبحانه: [وإذ يريكموهم
إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم]، والغرض في تقليلهم
في أعين المشركين أن يطمع المشركون فيهم، فيقدموا عليهم، فإذا
لابسوهم أظفرهم الله بهم، وأطال أيديهم في قتلهم، فكان ذلك
[أجدى] (1) عليهم من أن يهابوهم فيحجموا عنهم، فلا يصلوا إلى
شفاء النفوس من قتلهم، وأحراز الغنائم من أموالهم، وهذا على قول
ابن مسعود والحسن البصري، لان الفئة الرائية عندهما هم المسلمون،
والمرئبين هم الكافرون.
3 - وقول آخر (ومثله محكي عن ابن عباس). قال: [هذه
الآية خطاب ينصرف إلى اليهود، والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية
التي قبلها: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم

(1) أجدر: في (خ).
34

وبئس المهاد 7)، ثم قال سبحانه عقيب ذلك: [قد كان لكم
آية في فئتين.. الآية]، والمراد بذلك التخويف لهم من فل شوكتهم
على حدتها، وتوهين عدتهم على كثرتها، فضرب تعالى لهم المثل
بالفئتين الملتقيتين يوم بدر، وهم يرون إحداهما أضعاف الأخرى، فنصر
الله القليلة المؤمنة، حتى اجتاحت الكثيرة الكافرة].
وهذا المعنى يكون على قراءة من قرأ ترونهم مثليهم بالتاء المعجمة (1)
من فوقها، كأنه قال: ترون أيها اليهود - الذين الخطاب معهم - إحدى
الفئتين [وهي المؤمنة] مثلي الفئة الأخرى (وهي الكافرة)، وقد
يجوز أن يكون الخطاب أيضا لليهود على قراءة من قرأ يرونهم بالياء المعجمة
من تحتها، لان للعرب مذهبا في خطاب الحاضر، ثم الانتقال عنه إلى
خطاب الغائب، وعلى ذلك قوله سبحانه: (حتى إذا كنتم في الفلك
وجرين بهم بريح طيبة...) (2)، وعكس أيضا مثله وهو
الابتداء بخطاب الغائب، ثم الانتقال عنه إلى خطاب الحاضر، وعلى
ذلك قوله تعالى: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان
لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) (3)
فأما من قرأ ترونهم بالتاء المعجمة من فوقها، فهي القراءة التي

(1) قرأ أهل المدينة والبصرة عن أبي عمرو: ترونهم بالتاء، والباقون
بالياء. وروي في الشواذ عن ابن عباس: يرونهم، بضم الياء. (مجمع
البيان) وقرئ بضم: التاء.
(2) يونس: 22
(3) الدهر: 21، 22.
35

قرأنا بها لنافع بن أبي نعيم المدني، وقرأنا للباقين من السبعة يرونهم بالياء
معجمة من تحتها. وحكي عن أبي عبيدة: أن من قرأ يرونهم بالياء فإنما
أراد: أن المشركين يرون المسلمين مثليهم في رأي العين، وليس هذا
بناقض لقوله تعالى في السورة الأخرى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في
أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم)، فان تكثير المسلمين في أعين
المشركين في بعض المواطن، إنما يكون لالقاء الرعب في قلوب المشركين
وتخويفهم من شوكة المؤمنين، ليكون ذلك سببا لوهن أيديهم، وانعكاس
مراميهم، ويكون تقليل المسلمين في أعين المشركين في بعض المواضع
للغرض الذي قدمنا ذكره، وهو غرض صحيح، وفيه لطف عجيب:
وهو أن يراد بذلك التقليل أن يطمع المشركون فيهم، فيكون ذلك سببا
لاقدامهم عليهم، فإذا وقع الخلاط (1) والملابسة، كان النصر للمؤمنين،
والدائرة على الكافرين، فيتعجلون إزهاق نفوسهم، واصطفاء أموالهم،
ولم تطل المحاجزة (2) بينهم، فيكون في ذلك ضرر على المسلمين،
لتأخير الله سبحانه إنجاز وعدهم بالنصر، وملء أيديهم من النفل
والغنم (3)، وهذا غرض بين، لطف نير.
4 - وحكي عن الفراء: أنه قال: معنى ترونهم مثليهم رأي العين:
أن تروهم ثلاثة أمثالهم. قال (4) (لأنك إذا قلت: (عندي

(1) الاختلاط.
(2): الممانعة والمدافعة.
(3) النفل والغنم: الغنيمة.
(4) قال الفراء: يحتمل قولهم: يرونهم مثليهم: معنى ثلاثة أمثالهم، لأنك إذا قلت:
عندي الف واحتاج إلى مثلها، فأنت تحتاج إلى مثلين، لأنك تريد احتياجا إلى مثلها
مضافا إليها، لا بمعنى بدلا منها، فكأنك قلت: احتاج إلى مثليها، وإذا
قلت: احتاج إلى مثليها، فأنت تريد: تحتاج إلى ثلاثة آلاف، وكذلك
في الآية: المعنى يرونهم مثليهم مضافا إليهم، فذلك ثلاثة أمثالهم.
36

ألف وأحتاج إلى مثليها) فأنت تحتاج إلى ثلاثة آلاف)، وقد رد هذا
القول عليه جماعة علماء النحو البصريين، وبعض من على مذهبه من الكوفيين
فأما المفضل بن سلمة الكوفي منهم، فإنه جرد الرد في كتابه الملقب
ب‍ (ضياء القلوب في معاني القرآن) وبينه، ولم أعرف من تعاطى نصرته
في هذا القول من الكوفيين، إلا أبا بكر بن الأنباري، فإنه تكفل
بذلك في كتابه الذي وسمه ب‍ (مشكل القرآن)، والصحيح المعمول
عليه غير ما ذكره.
فمما قاله من رد على الفراء قوله المقدم ذكره: (أن الغلط في هذا الباب غلط في
جميع المقايس المعلومة والمعقولة والأشياء، لأنا إنما نعقل مثل الشئ مساويا له،
ونعقل مثليه ما يساويه مرتين، فإذا جهلنا المثل فقد بطل التمييز، وإنما قال
الفراء ذلك، لان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كانوا يوم بدر ثلاثمائة وأربعة
عشر رجلا، وكان المشركون تسعمائة وخمسين رجلا، فأتي من ههنا،
والذي قاله يبطل من جهة اللفظ والمعنى جميعا:
فأما من جهة اللفظ فلان من قال لغيره: مالي مثلا مالك - وكان
مال الأول ألفا -، فالمفهوم أن مال الآخر ألفان، لا يصح غير ذلك.
وأما من جهة المعنى فلان في هذا القول إبطال الآية المعجزة (في) (1)

(1) من: في (خ).
37

هذه الحال، لان المسلمين إذا رأوا المشركين على هيئتهم وصحيح
عدتهم، فليس في ذلك آية تدل على الاختصاص لهم، والتمييز من غيرهم،
(فمن) (1) زعم أن الآية في هذا غلبة القليل الكثير، فقد أبطل أيضا،
لأنه كثير ما يغلب العدد القليل العدد الكثير.
وإنما الصحيح أن يكون وجه الآية من هذا ان المشركين كانوا
تسعمائة وخمسين رجلا، وكان المسلمون ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا،
فأرى الله سبحانه المسلمين أن عدة المشركين ستمائة وكسر، وأرى
الله المشركين أن المسلمين أقل من ثلاثمائة، والله سبحانه قد قدم
إعلام المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين، فأراهم تعالى عدة المشركين
على القدر الذي أعلمهم أنهم يغلبونهم - إذا كانوا عليه - لطفا لهم وتقوية
لقلوبهم، وأرى الله سبحانه المشركين المسلمين أقل من العدة التي كانوا
عليها في الحقيقة، والقى مع ذلك الرعب في قلوب المشركين، فكانوا
يرون العدد قليلا ويحسون الرعب كثيرا، فكان سببا لضعف (منهم) (2)
وانحلال عقدهم.
والدليل على صحة هذا القول قوله سبحانه: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم
في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا)،
فهذا موضع الآية المعجزة: ان رأى كلا الفريقين كل واحد منهما على
خلاف صورته، وعلى نقصان من عدته، ليتم الغرض المقصود بذلك).

(1) فان: في (خ).
(2). جمع منة بالضم والتشديد وهي: القوة، وفي جملة من النسخ: منيهم.
38

وهذا القول فحوى كلام أبي إسحاق الزجاج في الرد على الفراء،
وقال المفضل بن سلمة في ذلك: (اما قول الفراء في الاستشهاد على أن
المراد بمثليكم ثلاثة أمثالكم: (إن القائل يقول - وعنده عبد له -:
احتاج إلى مثلي عبدي، فهو محتاج إلى ثلاثة أمثاله)، لا يقوم في العقل،
وذلك أن عبده قد حصل له واستغنى عن طلبه، وإنما تقع حاجته على المثل
والمثلين). قال: (ولو كان الامر كذلك، كان إذا دفع الرجل
إلى آخر درهما، وقال: أعطني مثل درهمين طيبا، أعطاه مثليه مرتين،
أو قال: أعطني مثليه، أعطاه ثلاثة أمثاله، وهذا يوجب أن يكون
المثل في الاعداد والأوزان غير معلوم ولا مضبوط، وذلك غير صحيح).
5 - وقد قال بعض العلماء أيضا: (إن قال قائل: كيف ذكر
سبحانه ان المسلمين كانوا يرون المشركين مثليهم، وكان المشركون ثلاثة
أمثالهم (على ما ذكرناه في ما تقدم)؟ فجوابه: أنهم وإن كانوا ثلاثة
أمثال المسلمين، فلم يخرجوا من أن (يكونوا) (1) مثليهم، لان فيهم
هذا القدر والزيادة على ذلك من الفضل)
وهذا القول عندي غير سديد، وذلك أنه تعالى قال: (يرونهم)،
فعم جميعهم بالرؤية على تلك الصفة، ولو كان الامر على ما ذهب إليه
هذا القائل، لكان هذا الكلام لغوا وعيا يتعالى الله عنه، لأنه
كان يقوم مقامه أن يقول: يرونهم ثلاثة أمثالهم على ما هم عليه في الحقيقة،
إذا كان يريد بقوله: (يرونهم مثليهم): أن عدد بعضهم كذا،

(1) وفي النسخ: يكون.
39

وهناك زيادة أخرى على هذا القدر، فلا فائدة في ذلك ولا اعتبار بما هذى
به الفراء من قوله: إن المراد بمثليهم ثلاثة أمثالهم، للوجوه التي ذكرناها
فيما يفسد به قوله ويظهر زلله.
6 - وقال بعضهم: إنه لا تناقض بين قوله تعالى: (يرونهم مثليهم
رأي العين) - ويعني رؤية المسلمين للمشركين -، وبين قوله تعالى في
السورة الأخرى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا)، لان
التقليل كان قبل الالتقاء ليطمع المسلمون في المشركين، فلما التقوا
واستحرت الحرب، فظهرت أمارات النصر، رأوهم مثليهم حينئذ،
ليعلموا ان الله سبحانه هو الذي قواهم على دفعهم وأعانهم على فلهم، مع
وفور عدتهم واشتداد شوكتهم، فكان في ذلك آية لهم وتصديق لقول
الرسول [ص] فيهم، لأنه عليه السلام قد كان أخبرهم بأن الله ناصرهم
وخاذل عدوهم، ولقول الله تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى
الطائفتين أنها لكم... الآية) (1) حتى أن النبي صلى الله عليه وآله
كان يقول لهم قبل الحرب: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان،
من أعدائهم، فصرعوا في تلك المواضع بأعيانها، وفي ذلك أكبر
آية، وأوضح حجة.
7 - وقال بعضهم: (و) (2) قد يجوز أن يكون معنى قوله تعالى:
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) هو: أنهم يرونهم على حال
وهن في القتال وهوان عليهم عند اللقاء، لا أن المسلمين يرون المشركين

(1) الأنفال: 7
(2) وفي (خ): سقوط الواو.
40

أقل من العدد الذي كانوا عليه في الحقيقة، كما يرى الانسان الثلاثة
اثنين، وهذا كما يقول القائل لجماعة من أعدائه: إني لأرى كثيركم
قليلا، وخطبكم يسيرا، على المعنى الذي ذكرناه، ويكون تقليل
المسلمين في أعين المشركين الذي ذكره الله تعالى بقوله: (ويقللكم في
أعينهم) على هذا الوجه أيضا، كما ذكرناه أولا، ليطمع المشركون فيهم
فيقدموا عليهم، ويجعل الله من بعد [الدابرة] (1) على المشركين، والعاقبة
للمتقين، وتفترق الرؤيتان على حال القلة والهوان، فيكون ما يراه
المسلمون من قلة المشركين سببا لقوة قلوبهم وطريقا للطمع فيهم، ويكون
ما يراه المشركون من قلة المسلمين سببا لسرعة الاقدام عليهم، ولئلا
يقفوا عنهم هيبة لهم، فيطول التحاجز بينهم، فإذا أسرعوا إليهم منح الله
المسلمين النصر والاظهار على جماعتهم، وأظفر أولياءه بهم، وأنجز لهم
وعده فيهم، فتكون القلة التي ترى بالمسلمين مفضية إلى كثرة وعزة،
والقلة التي ترى بالمشركين مفضية إلى ذلة وشقوة.
8 - وقال قاضي القضاة أبو الحسن: (معنى قوله تعالى: (قد
كان لكم آية في فئتين التقتا...) يحتمل أن يراد بذلك حجة ودلالة،
ويحتمل أن يراد به: أمارة وعلامة (2) تقوي ظنكم فيما خبرتم به من
النصر والاظهار (3)، لتأمنوا ما خفتم وقوعه من غلبة الكفار، لكن

(1) وفي نسخة: الدائرة.
(2) الحجة ما تورث اليقين والقطع، والعلامة:
ما تستثير الظن، وتكون الآية عبرة عليهما، لأنها يعبر بها من الجهل إلى العلم أو منه
إلى الظن، من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر.
(3): الغلبة.
41

الآية إذا أضيفت إلى الأنبياء عليهم السلام، واليه تعالى فيهم، فالأقرب أن
يراد بها الحجة، وهذا يوجب ان في الذي جرى يوم بدر دلالة الرسالة، من
حيث ظهور الآية المعجزة. فان قيل: فما تلك الآية؟ قيل: قد ذكر في ذلك
أشياء: منها أنه تعالى قلل المشركين في أعين المسلمين، حتى ظنوا أن عددهم
مثلا عددهم، وقد ضمن لهم في الجهاد أن تغلب المائة منهم المائتين من غيرهم،
فكانوا على ثقة من حصول النصرة لهم، (إذ) (1) كانت الحال هذه.
فان قيل: فيكف يجوز أن يروهم مثليهم، وهم ثلاثة أمثالهم،
ويؤكد تعالى ذلك برأي العين؟ أوليس هذا يوجب أن يكونوا رأوا
الشئ أقل مما هو عليه، وذلك غير جائز؟!
قيل: إن العدد إذا كثر خصوصا عند القتال والمجادلة، حدث في الهواء
كدر وقترة، فيجوز أن يكون ذلك حائلا دون رؤية جميعهم، وممكنا
من رؤية بعضهم، مع سلامة البصر، لأجل ما ذكرناه من الموانع
فيظن بهم القلة وان كانوا كثرة، ويجوز أن يكون تعالى منع من رؤية الثلث
منهم منفردا بما يحدث في الهواء من الموانع، فيصح حمله في الوجه الأول
على الظن، وفي الوجه الثاني على العلم.
هذا إذا حمل على أن المسلمين هم الذين رأوا المشركين مثليهم، فأما
إن حمل على أن المشركين هم الذين رأوا المسلمين على تلك الصفة من كثرة
العدد، فالوجه في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعينهم لايقاع الرعب في
قلوبهم، لكن ذلك لا يمكن حمله على رؤية العين على الحقيقة، لان القليل

(1) وفي نسخة: إذا
42

لا يجوز أن يراه أحد كثيرا، فلا بد من حمله على طريقة الظن لبعض
الامارات، ويجوز أيضا أن يحمل على أنه تعالى أراهم بعض الملائكة معهم
فكثروا عدتهم، والأول أقرب، لان الكلام على الفئتين، ولم يجر
معهما ذكر للملائكة.
قال: (فان قيل فكيف يصح ما ذكرتم أولا مع قوله تعالى في
السورة الأخرى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في
أعينهم... الآية)؟. أوليس ذلك يوجب انه تعالى قللهم في أعين
المشركين، وهذا مع ذلك يتناقض؟! فالجواب: أن التقليل والتكثير
يكونان بالإضافة، لا حد لهما يقفان عليه، ويفارق ذلك مثلي العدد،
لأنه حد يقتضي أن يكون مثل المذكور مرتين (1)، فإذا صح ذلك لم يمتنع
أن يري الله المشركين أن المسلمين مثلا ما هم عليه كما توجبه هذه الآية،
ومع ذلك يرونهم قليلا بالإضافة إلى عددهم، لأنهم مع كونهم مثلي ما هم
عليه أقل من عدد المشركين (2)، ويحتمل أيضا أن يريد بذلك القلة
بمعنى الضعف لا بمعنى العدد، وإذا حمل على هذا الوجه زال التناقض.
هذا على التأويل الذي ذكرناه، فأما إذا حمل قوله تعالى. (يرونهم
مثليهم) على أن الرائين هم المسلمون، والمرئيين هم المشركون، فالمسألة
زائلة.

(1) ففي الآية التي بأيدينا قال تعالى: (يرونهم مثليهم)، وفي
الآية الأخرى قال تعالى: (يقللكم).
(2) وعلى هذا يكون الضمير عائد للمسلمين، اي يرونهم الكافرون ضعف عددهم.
43

ثم قال: (قد بينا في معنى (رأى العين) ما تزول معه الشبهة،
لأنه إن كان هناك منع من رؤية جميعهم، فلم يروهم إلا مثليهم على التحقيق،
وإن كان المراد بذلك طريقة الظن، فهو محمول على الامارة، والرؤية
مشتركة مستعملة في الادراك، وفي العلم، وفي الظن، فإذا كان المظنون
من باب ما يرى وتظهر أمارته عيانا، جاز أن يوصف بذلك).
قلت أنا: إن الله سبحانه قد بين الغرض في تقليل المشركين في أعين
المسلمين في السورة التي يذكر فيها الأنفال قبل الآية التي ذكرناها، وهو
قوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم
كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر... الآية - 43)، ثم أعقب
تعالى ذلك بأن قال: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا... الآية)
فوجب أن تكون رؤية النوم ورؤية اليقظة يجري بهما إلى غرض واحد،
وقد بين تعالى: أنه أرى رسول الله صلى الله عليه وآله في منامه جمع المشركين
قليلا لئلا يفشل المسلمون ويهنوا ويتواكلوا ويجبنوا، ولتقوى قلوبهم
وتشتد (منهم) (1) بقلة عدد عدوهم، فيجب أن يكون ما أراه الله
سبحانه من قلة المشركين في اليقظة مرادا به هذا المعنى، فأما تقليل المسلمين
في أعين المشركين، فقد ذكرنا الغرض فيه متقدما فلا معنى لإعادته،
وإذا كانت رؤية المنام على الحال المؤنسة، كثيرا ما تقوى بها النفوس وتطمئن
إليها القلوب، حتى تزيد في انشراح الصدر وتؤثر في اشتداد الأزر،

(1) جمع منة بالضم وهي القوة، وفي نسخة: منتهم، وفي أخرى: ويشتد
متنهم. وهو كما يقال: يشتد أزره
44

فرؤية اليقظة التي معها ثلج الصدور وبرد اليقين أولى أن تبلغ في هذا
الباب الغاية الكبرى، وتؤمي إلى الغرض الأقصى،
فأما ما قاله بعض المفسرين: من أن المراد بقوله تعالى: (في منامك)
إنما هو في عينيك، وإنما عبر بالمنام عن العين لان بها يكون النوم، فهو
قول ظاهر التعسف شديد التكلف، لا ينبغي أن يعتمد عليه ولا يلتفت
إليه، لان الأثر أولا قد جاء بذكر ما أرى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله من تلك
الحال في منامه، ولان العبارة عن العين بالمنام فيها تلبس على السامع،
وعدول في الفصاحة عن الطريق الواضح، ولو كان الامر كذلك لكان
قوله تعالى من بعد: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) قد
أغنى عن الرؤية المذكورة في الآية المتقدمة الخاصة للنبي [ص]، وكان
ذلك الاختصاص للنبي [ص] بالتقليل في عينيه لا فائدة فيه، لان
ما جاء بعده كاف منه، فإنه سبحانه إذا قال للمسلمين (والنبي صلى الله عليه وآله
فيهم): (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا) فقد دخل النبي في
جملتهم وصار رائيا لذلك معهم، فلما أفرده تعالى في الآية المتقدمة باختصاص
الرؤية على تلك الصفة، علمنا أن ذلك في حال المنام، وأن رؤية المسلمين
- وهو صلى الله عليه وآله معهم - لما رأوه من قلة المشركين، في حال الاستيقاظ،
واختلفت الحالات وانتظم الكلام، وإنما أراد سبحانه أن يجمع لهم
رؤية القلة في حال النوم واليقظة، ليكون ذلك أقوى لنفوسهم، وأنفذ
لبصائرهم، وأشد لمعاقد عزائمهم.
45

فصل
(معنى النصر والخذلان من الله تعالى)
وأما قوله تعالى: (والله يؤيد بنصره من يشاء) فربما
تعلق به متعلق، فقال: إذا أضاف تعالى النصر إلى نفسه فيجب أن
يكون من فعله، حتى أن الغالب تكون غلبته بنصر الله، والمغلوب
تكون صرعته بخذلان الله، وهذا خلاف مذهبكم!
فالجواب: أنا قدمنا في صدر هذا الكتاب من الكلام في حقيقة
النصر والخذلان، ما يغني عن تكلف إعادة شئ منه، إلا أننا لا نخلي
هذا الموضع من يسير من القول في ذلك: يبلغ قدر الكفاية، ويقيم
عمود الحجة بتوفيق الله، فنقول:
إن النصرة قد تكون بالحجة إذا ظهرت للمؤمن على عدوه عند المنازعة،
وقد تكون بما يحصل له من التعظيم والكرامة، وللكافر من الإدالة (1)
والإهانة، وقد تكون في الحرب بالظفر والغلبة، وقد تكون بتحمل
المشقة فيما يؤدي إلى الاجر والمثوبة، فلذلك قلنا: إن المؤمنين إذا
غلبوا في الدنيا لم يخرج الكفار مع ذلك من أن يكونوا مخذولين، من
حيث كان ما فعلوه مؤديا إلى عظم النكال، وأليم العقاب، ولم يخرج
المؤمنون من أن يكونوا منصورين، من حيث كانوا يستحقون من الله تعالى

(1): الغلبة
46

الثواب الجزيل والمقام الشريف، والله تعالى يؤيد المؤمنين في حروب
الأعداء، وينصرهم بضروب من الألطاف: فتارة ينصرهم بأن يمدهم
بالملائكة، وتارة ينصرهم بأن يخطر ببالهم ما أعد لهم من نعيم الجنة،
فتقوى بذلك أنفسهم، وتثبت أقدامهم، ويتضاعف إقدامهم، وقد
يؤيدهم أيضا بالقاء الخوف في قلوب أعدائهم، فيكون ذلك سببا
لتمكين المؤمنين من نواصبهم، وإنزالهم من صياصيهم (1). وربما علم
تعالى في بعض المواطن أن الصلاح في ألا يؤيدهم بشئ من ذلك،
فيحملهم التكليف الصعب، ويلزمهم الشاق من الامر، إذا علم تعالى أن
فيه الصلاح لهم، فلا يكون مؤيدا لهم في باب الظفر والغلبة، وإن
كان فاعلا بهم الأولى في باب المصلحة، وما ذكرناه في هذه المسألة
كاف بتوفيق الله تعالى.

(1) القصور.
47

4 - مسألة
(تزيين حب الشهوات)
الجواب عن الشبهة - الشيطان هو المزين لحب الشهوات - ما في الدنيا
من لذائذ وآلام مثال لما في الآخرة - معنى أقوى وأنجد وأتهم
وأمثالها في اللغة - تمييز الكلام في المسألة وتقسيمه
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من
النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة...
الآية - 14)، فقال: إن كان الله تعالى هو المزين للناس حب هذه
الأشياء المذكورة، وهي الداعية إلى كثير من المعاصي والشاغلة عن
كثير من الطاعات، فذلك خلاف ما تقولونه!، وإذا ثبت انه سبحانه
هو المزين لها فلم زهد فيها وذم طالبيها؟ وفي ذلك ضروب من المناقضة!
فالجواب: أنه قد تقدم في أوائل كتابنا هذا من الكلام على جملة
هذا الباب - أعني: التزيين والاغواء وما يجري مجراهما - ما فيه كفاية،
إلا (اننا) (1) نذكر ههنا ما يكشف عن الغرض، ويصدع سدفة (2)
الريب والشك، بتوفيق الله تعالى، فنقول:
قد قال العلماء في ذلك أقوالا (3)
1 - فأحدها، أن الله سبحانه خلق هذه النعم التي (فصلها) (4)

(1) وفي (خ) إنما.
(2): ظلمة.
(3) وفي (خ) زيادة (كثيرة).
(4) وفي (خ): وصفها
48

وفصل جملها في الدنيا، وخلق عباده غير ممتنعين من (حب) (1)
الاستكثار منها والانغماس فيها والادخار لها، ثم نعبدهم تعالى في ذلك
بخلاف ما في طباعهم وما عليه فطرة خلقهم، فأمرهم بأن يأخذوا
الأشياء من وجوهها المباحة التي حللها، يعدلوا عما خطر عليهم منها، ولم
يأمرهم بشئ مما يحاربون فيه عواصي طباعهم، ويجاهدون نوازغ (2)
نفوسهم، إلا وقد جعل فيهم من القوى والقدر (3) والاعتصام والجلد
شككا (4) قوية وأسلحة معنية (5): يمتنعون بها في حرب الطباع،
على قراع الشيطان، لأنه تعالى لم يأمرهم بشئ إلا وقد جعل لهم الطريق
إلى تركه.
2 - وقول آخر. قال بعضهم:
معنى [زين للناس حب الشهوات]؟. يقول: زين لهم
الشيطان حبها، لان الله سبحانه قد نهى عنها وزهد فيها، وقد قال
الحسن البصري: ما نعلم أحدا أشد ذما لها من الذي خلقها، فكأن
الشيطان دعاهم إلى موافقة طباعهم، فأتبعوا أمره، وخالفوا أمر الله
سبحانه، وذلك كما يقول الرجل: زينت فلانا في عين الأمير، إذا
اثنى عليه عنده، وقربه من قلبه، وأحسن محضره في عينه، وقد قال
سبحانه: [وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم] (6) فالأولى أن
ينسب التزيين إلى من عادته التزيين، وهو الشيطان، وينسب التزهيد

(1) وفي (خ): حيث.
(2) مفسدات وفي (خ): نوازع
(3): جمع قدرة
(4): جمع شكة بالكسر: السلاح.
(5): مذلة مخضعة، وفي (خ): معينة.
(6) الأنفال: 48.
49

إلى من عادته التزهيد، وهو الله تعالى، وأي تزهيد أعظم من قوله
سبحانه عقيب هذا الكلام: (ذلك متاع الحياة الدنيا) وقوله
تعالى في موضع آخر: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (1)، فخبر
سبحانه أن الحياة الدنيا ظل زائل، وسنان مائل، وخضاب ناصل.
3 - وقول آخر. قال بعضهم: خلق الله هذه الأشياء إذ
خلقها، ليدل بما فيها من النعيم الفاني على ما في الآخرة من النعيم الباقي،
وجعل طباع الخلق منازعة إليها وراغبة فيها، فهي مزينة من هذا الوجه
الذي ذكرناه، وإنما تزيينها المذموم هو تحسين الاقدام عليها من الوجه
المحظور، والله سبحانه قد أمر عباده بالكف عنها والترك لها، لينالوا
بترك الاقدام على شهواتهم العاجلة ما وعدهم به من النعم الآجلة، والنعيم
الدائم الذي لا شوب فيه ولا انقطاع له، كما قال تعالى: (إنا جعلنا ما
على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) (2)، وهذا
ناطق بالغرض الذي ذكرناه، وكذلك خلق سبحانه المصائب والآلام
في الدنيا، ليدل بها على ما في الآخرة من مقادير العقاب ومآلم العذاب،
فيكون ذلك زاجرا عن مواقعة الخطيئات وارتكاب المحظورات، وعلى
هذا فسر قوله سبحانه في صفة النار: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعا
للمقوين) (3)، فكأنه سبحانه قال: إنما خلقنا النار في الدنيا وعرفنا
أليم وقعها، ومضض لفحها، لنذكر بذلك نار الآخرة، التي
أوعدنا بها الكفار والعصاة، فيكون الزجر أبلغ. والانزجار

(1) آل عمران: 185.
(2) الكهف: 7.
(3) الواقعة: 73.
50

أكثر. و (المقوون): ركاب القواء. وهي: الأرض القفر.
وإنما خص سبحانه المسافرين بأن النار متاع لهم - وإن كانت أيضا متاعا
للمقيمين - لان الحاجة إليها في السفر أكثر، وعدمها فيه أضر.
وقد قيل أيضا: إن المقوين: النازلون بالقواء والساكنون فيه.
وكان صديقنا الشبثي رحمه الله يقول في هذا: (إن الأولى أن يكون
المراد بالمقوين ههنا المسافرين، وعلى هذا مذهب العرب، ألا تراهم
يقولون: أتهم الركب، وأنجد القوم، وأشأم الحي، إذا ساروا
فبلغوا هذه المواضع!، ولا يقال للنازل بتهامة: متهم، ولا للنازل بنجد
منجد وإنما الأعرف أن يقال: حل نجدا، وسكن تهامة، ألا ترى
إلى قول الشاعر: (1)
نبي يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أي: ذهب ذكره ههنا وههنا، وما أراد: أنه أقام ذكره قاطنا
بنجد والغور، لان الأول امدح وأفصح، فإذا كان الامر كذلك
فقولهم: أقوى الرجل، مثل قولهم: أنجد، أي: ركب القواء
مسافرا). ولعمري إن هذا الذي ذكره هذا الرجل قول يقال مثله
ويذهب نحوه!
ومما يجري هذا المجرى ما فسره لنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جني
عند القراءة عليه - وقد مضى - قول الشاعر (وهو الأخطل) في تشبيه
الناقة بالحمار الوحشي:

(1) هو: الأعشى ميمون بن قيس
51

كأنها واضح الاقراب في لقح * أسمى بهن وعزته الأناصيل (1)
قال: (أراد بقوله: (أسمى بهن) أي: ركب بهن السماوة،
وهو يعني بهن: الحمار وأتنه، وهذا مثل قولهم: أنجد وأتهم).
وقد ذهبنا عن سنن الكلام في معنى المسألة بعيدا، فلنعد الآن إليه!،
فنقول:
إن أبا علي محمد بن عبد الوهاب قد ميز الكلام من هذه المسألة
تمييزا حسنا، وقسمه تقسيما واضحا، لان من تقدم من العلماء ذهب
في ذلك إلى أحد مذهبين - كما ذكرنا -: فمنهم من قال: إن التزيين
مضاف إلى الشيطان، لان الله سبحانه قد بغض إلى الناس الدنيا وذمها
وحذر من الغرور بها، فليس يجوز أن يضاف إليه التزيين لها، وقد
ظهر تنفيره عنها. ومنهم من قال: أن التزيين مضاف إليه تعالى، لان
ذلك من تمام التكليف، إذ لولا تزيينه لهذه الأمور لم تشتد المحنة في
باب التكليف.
فقال أبو علي: (إن المراد بالشهوات ههنا الأشياء المشتهاة،
لأنه قد يقال - في سعة اللغة - لما يشتهيه المرء: إنه شهوته، وإن المشتهى
قد يكون (حبه) (2) حسنا، وقد يكون قبيحا، لأنه يكون من
وجه يحل ومن وجه يحرم، لان حب ذلك هو إرادته، فقد يكون طاعته

(1) واضح: بين. القرب بالضم: الخاصرة جمعها أقراب. لقح:
الحبل بفتحتين. عزته: عزت عليه. الأناصيل: جمع! نصولة، وهي:
ما يوبسه الحر من البهمي، وهو: نبت معروف.
(2) زيادة بعض النسخ.
52

وقد يكون معصية، فإن كان ذلك معصية فالشيطان زينه ودعا إليه، وإن كان
ذلك طاعة أو مباحا (1)، فالله سبحانه زينه وأمر به المؤمنين (2))
ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه - كما قلنا في ما تقدم - قد ذم أهل
الدنيا بميلهم إليها، وعابهم بحبهم لها، ولم يكن سبحانه ليزين شيئا عند
المكلفين ويحببه إليهم، فإذا أحبوه لأمهم عليه وعيرهم به، فعلمنا بذلك
أن تزيين ما ذمه وعابه من فعل غيره لا من فعله، ونعني بهذا: التزيين
المذموم الذي هو ركوب المحارم، واحتقاب المآثم، فأما ما كان من
القرب والطاعات وسائر المباحات، فهو على ما قال مما يجوز أن ينسب
إلى تزيين الله تعالى، بمعنى: أنه جعله حسنا ولم يجعله قبيحا، ألا ترى
إلى قوله تعالى من بعد هذه الآية: (قل أؤنبؤكم بخير من
ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار...
الآية - 15)!، ولا يجوز أن يبعث الله تعالى على هذا الامر الذي
هو خير من الأول وأفضل، وهو مع ذلك مزين للامر الأول لان
تزيين الثاني يؤثر في تزيين الأول

(1) قال الرازي - بعد أن نسب هذا القول بالتفصيل لأبي علي والقاضي
-: (هذا ما ذكره القاضي، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون
في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب، والقاضي لم يذكر هذا القسم، وكان من
حقه أن يذكره ويبين أن التزيين فيه من الله تعالى أو من الشيطان) وأنت
ترى فيما نقله المؤلف عن أبي علي انه ألحق المباح بالطاعة ولم نجد في كتب التفسير
من ألحق المباحات بالطاعات في ايراد القول بالتفصيل.
(2) وفي النسخ: (أو بعض المؤمنين)، ولا يبعد زيادة (أو بعض) من
النساخ، أو زيادة (أو) نقط ونحن رجحنا ما أثبتناه.
53

فصل
(شهوة القبيح)
يتضمن طرفا من الكلام في الشهوة يحتاج إليه في هذا الموضع
فان قال قائل: إذا كانت الشهوة على قولكم من فعل الله تعالى، فيجب
ألا يكون فيها شهوة القبيح، لأنه سبحانه لا يفعل القبائح عندكم، وإلا
كان ذلك ناقضا لقولكم!
قيل له: إنما كان يجب ما ذكرته لو ثبت أن تعلق الشهوة بالقبيح
يقتضي قبحها، كما نقوله في الإرادة، فلما لم يجب ذلك، كما لا يجب مثله
في القدرة والعلم والخبر لأنها أجمع وإن تعلقت بالقبيح، فهي حسنة
فان قال: فيجب أن تكون كالإرادة، لأنها تدعو إلى القبيح (1)
وتخالف سائر ما ذكرتموه. قيل له: إنما كان يجب ذلك لو ثبت في الإرادة
أنها داعية إلى القبيح، وأنها قبحت لهذه العلة، ونحن لا نسلم أنها داعية
إلى ذلك، لأنها تابعة للمراد فيما تدعو إليه (2) لا أنها هي الداعية إليه،

(1) فالشهوة والإرادة يشتركان في علة القبح، وليس مثلهما العلم
بالقبيح والاخبار به والقدرة عليه، لأنها لا تدعو إلى القبيح.
(2) معنى تابعية الإرادة للمراد: أن المراد - بما فيه من مصلحة وأغراض
ودواع تلائم نفسية المريد - هو الذي يستثير الإرادة المتعلقة به،
فالإرادة تابعة له من هذه الجهة، ويكون الداعي إلى القبيح هو ذلك
الغرض، لا الإرادة، فالدعوة إلى القبيح (التي هي علة القبح المزعوم في
الشهوة) غير موجودة في الإرادة حتى يصح قياس الشهوة بها لعلة مشتركة.
54

وإنما يصح قياس الفرع على الأصل، لعلة موجودة فيهما، فإذا لم توجد
العلة في الأصل فالقياس مطرح
فان قال: إذا قبحت الإرادة مع أنها تتبع المراد في الداعي، فالشهوة
للقبيح - إذا كانت بنفسها داعية إليه - أولى بأن تكون قبيحة. قيل:
هذه دعوى كالدعوى الأولى، لا دليل على صحتها (1)، ألا ترى
أنه إذا أراد القبيح من فعل الغير قبحت الإرادة، وإن لم يصح ما ذكرته فيها!
وحقيقة الشهوة: أنها كالقدرة، (2) (لان متعلقها بالقبيح،
تردد الداعي بين الحسن والقبيح، فيصح التكليف، كما أن تعلق القدرة
بالقبيح يصح اختياره على الحسن أو اختيار الحسن عليه، فيجب أن يكون

(1) أي: على صحة دعوى قبح الإرادة لتبعيتها للمراد في الداعي،
لأنها إذا تعلقت بإرادة القبيح من فعل الغير، فهي قبيحة بلا ريب،
مع أنها لم تتبع المراد في الداعي، لان المراد - وهو فعل القبيح
من الغير - إنما صدر عنه بداعي الخوف أو الرجاء من المريد،
فهذه الإرادة القبيحة لم تكن تابعة للمراد القبيح - وهو فعل الغير -
في الداعي وهو خوفه ورجاؤه، فالإرادة لا يكون قبحها من هذه
الجهة فلا يصح القياس ولا يتم القبح في الشهوة من جهته. هذا شرح
كلام المؤلف، وفيه انظار تورد في محلها.
(2) هذه العبارة التي وضعناها بين قوسين من قوله: لان متعلقها...
إلى قوله: (حسنة)، كذا وجدناها في النسخ التي بأيدينا، ولا تخلو من قلق
واضطراب، ولا نشك بوقوع التحريف فيها من النساخ وقد أثبتناها على علاتها،
رجاء أن نظفر بصورتها الصحيحة في نسخة أخرى بعد ذلك فنتداركها وأن أمكننا
الآن تغييرها ووضعها على وجه تصح به.
55

حسنة)، لا سيما وقد ثبت أنه لا نظير لها في الشاهد يعتبر حالها به في
حسن أو قبيح، فيجب أن يرجع في جنسها إلى أنها من فعله تعالى، وقد
ثبت أنه لا يفعل القبيح، وإن كان وجه حسنها يعبر بما ذكرناه في أثناء
هذا الكلام، وهذا كاف بحمد الله تعالى
5 - مسألة
(شهادة الله لنفسه)
كيف يشهد الله لنفسه؟ - الجواب عن الشبهة - معنى الشهادة: القول -
شهد بمعنى: قضى - تقديم وتأخير في الآية - معنى الشهادة: بيان الأدلة
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو
والملائكة وأولو العلم... الآية - 18)، فقال: هذه شهادة
منه سبحانه لنفسه، وقد استقر العرف بيننا على أن الشهادة إنما تكون
لمن ادعى حقا من الحقوق، أو أمرا من الأمور، بأن يشهد له غيره،
لا أن تشهد له نفسه، وبعد فمنزلة الشاهد فيما يتعارف أنقص من منزلة
المشهود عنده!
56

فالجواب: أن في هذه المسألة أقوالا: -
1 - أحدها، أن تكون شهادته تعالى بذلك، ليعلم عباده به،
ويبينه لهم ويحققه عندهم، لان الشاهد إنما يعلم غيره الشئ المشهود به،
ويحقق عنده صحته، وكذلك البينة، إنما سميت: بينة، لأنها تبين
الحق، وتكشف اللبس، والشهادة في الأصل: طريق للعلم، ويوصف
المؤدي بأنه شاهد، إذا كان أداؤه طريقا للعلم الحاصل لغيره. وأما
شهادة الملائكة وأولي العلم، فهي أيضا إعلام لمن سواهم من الخلق: أن
الله تعالى واحد، وأنه عادل، ليقروا بذلك، ويعلموا أن الله تعالى
وملائكته وأولي العلم لا يشهدون إلا بالحق ولا يقولون غير الصدق،
ومما يبين ما قلنا أنه خص سبحانه أولي العلم بهذه الشهادة، لأنهم الذين
يعلمون الله على حقيقته، فيلزمهم تبيين ما علموه من ذلك لمن دونهم
في طبقة العلم، لأنهم القدوة وبهم الأسوة، ألا ترى إلى قوله سبحانه:
(إنما يخشى الله من عباده العلماء) (1)! وإنما خص العلماء بذلك،
وإن كان غيرهم يخشى الله سبحانه، لأنهم أعرف به تعالى من
غيرهم، فخشيتهم له على قدر معرفتهم به.
2 - وقال بعض العلماء: شهادة الله تعالى بأنه لا إله إلا هو
إنما يراد بها، ما بني عليه الخلق من الحاجة إليه (والسكينة) (2)
والخضوع له، وكل ضعيف وقوي، وفقير وغني، يدل من الوجه
الذي ذكرناه، على توحيد الله تعالى.

(1) فاطر: 28
(2) وفي (خ): المسكنة
57

3 - وقال المؤرخ: (أراد تعالى بقوله: [شهد الله]:
قال الله - بلغة قيس عيلان -، لان الشهادة في الأصل هي:
قول مخصوص). وفي هذا القول نظر، لان في القرآن مواضع ذكرت
فيها شهادة الله تعالى، ولا يجوز أن تحمل على أن المراد بها القول،
لان الكلام يفسد على هذا التأويل، فمن ذلك قوله تعالى (لكن الله
يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله
شهيدا) (1)، فلا يصح أن يقال ههنا: إن المراد بذلك لكن الله يقول
بما أنزل، لفساد المعنى.
4 - وقال بعضهم: معنى ذلك: شهد الله عند خلقه، بتدبيره العجيب،
وصنعه اللطيف، وحكمته البالغة، وقدرته الباسطة: أنه لا إله إلا هو
يدبر الامر ويصرف الخلق، وشهدت الملائكة، بذلك عند الرسل،
بما أبانت لهم من الحجج النيرة والاعلام القاهرة، وشهد أولو العلم بذلك
عند (سائر) (2) الخلق، بما أوضحوا لهم من البينات، وأظهروا من
الدلائل والامارات.
5 - وقال بعضهم: معنى شهد الله: قضى الله أنه لا إله إلا هو
ولن يخلو أن يكون قضى ههنا بمعنى: أعلم وبين، أو يكون بمعنى: حكم
وألزم، فإن كان بمعنى: أعلم وبين، فهو بمعنى: شهد على ما ذكرناه،
وقد جاء في التنزيل قضى بمعنى أعلم، في عدة مواضع: منها قوله تعالى،
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض

(1) النساء: 166.
(2) زيادة في بعض النسخ.
58

مرتين.. الآية) (1)، ومنها قوله تعالى: (وقضينا إليه
ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) (2)، وإن كان
بمعنى: حكم وألزم، فالتقدير أن الله سبحانه حكم بأن لا إله إلا هو
وألزم خلقه أن يعتقدوا ذلك بالدلالات القائمة، والبينات الواضحة.
وذلك كقوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (3)،
أي: ألزم ذلك وحكم به.
ويكون على الوجه الأول رفع الملائكة وأولى العلم بما ارتفع به اسم
الله تعالى، وهو: انهم أعلموا من سواهم من الخلق من لم يعلم كعلمهم
أنه لا إله إلا الله، ويكون رفع الملائكة وأولى العلم على الوجه الآخر أيضا
على نحو من ذلك المعنى، فكأن الملائكة وأولى العلم ألزموا من دونهم
من الخلق، (بما) (4) أظهروه لهم: من واضح الدلائل، وعادل
الشواهد، أن يعتقدوا أنه لا إله إلا الله، فالمعنيان متقاربان. والذي ذهب
إلى أن معنى شهد ههنا معنى قضى من المتقدمين، أبو عبيدة، وهو قول فيه نظر.
6 - وقال بعضهم: إن في ذلك تقديما وتأخيرا، فكأنه سبحانه
قال: شهد الله قائما بالقسط: أنه لا إله إلا هو، ومعنى ذلك: أنه
أعلم الخلق - بعدله عليهم واحسانه إليهم - أنه لا إله غيره يفعل ذلك بهم.
7 - وقال قاضي القضاة أبو الحسن: (قوله سبحانه: (شهد الله
أنه لا إله إلا هو) يجب أن يحمل على ما تعود فائدته على العباد وهو
أنه تعالى أودع خلقه الأدلة على أنه لا إله إلا هو، ولا تحق العبادة الا له

(1) أسرى: 4
(2) الحجر 66
(3) أسرى: 23.
(4) وفي (خ): ما
59

فمن حيث دل على ذلك، وبينه لجميع ما خلق من الخلق العجيب، باكمال
العقول والتكليف، صار شاهدا بأنه كذلك. فأما الملائكة فلا يجب
أن تكون (شهادتها) (1) على هذا الوجه، لأنها لا يصح أن تكون دالة
على حد ما دل تعالى به على نفسه وتوحيده، فالمراد أنها اعترفت بذلك
وعلمته وبينته للأنبياء عليهم السلام، بالتنبيه على الأدلة وإلقاء الحجج
البينة، وشهادة أولى العلم من الأنبياء والمؤمنين لغيرهم بعد البصيرة والمعرفة،
كشهادة الملائكة، وإذا شهد الله تعالى بأن لا إله إلا هو، خبرا، فذلك
توكيد منه لما ذكرناه، لان المعرفة بذلك من جهته إنما (تقع) (2) بالأدلة
دون الخبر، وإن كان الخبر يحقق ذلك ويوضحه وينبه عليه ويؤكده،
ويدل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى خص أولى العلم بالشهادة
بذلك مع الملائكة، ولو كان المراد الاقرار لكان غيرهم بمنزلتهم،
وإنما خصهم بذلك، إذ كانوا لأجل ما أوتوا من العلم يتمكنون من
البيان لغيرهم، ولمن ينحط في العلم عن درجتهم). وفي هذا القول أيضا
تنبيه من الله تعالى للخلق، وبعث لهم على معرفة التوحيد بالعقل، لتصح
الشهادة بأن لا آله إلا (الله) (3)، لان الشهادة لا تحسن الا مع المعرفة
بما تتضمنه، والا كانت قبيحة، (إذ) (4) كان المؤدي لها لا يؤمن
أن يكون كاذبا فيها. وفي ما ذكرناه من ذلك كفاية بتوفيق الله سبحانه (5).

(1) وفي بعض النسخ: شهادتهم.
(2) وفي (خ): يقع.
(3) وفي (خ): هو
(4) وفي (خ): إذا
(5) راجع كتابنا (حواريين الإلهيين والماديين) باب التوحيد - تجد فيه تفصيل الوجوه
في الآية صلى الله عليه وآله
60

6 - مسألة
إيتاء الله الملك ونزعه ممن يشاء
كيف يصح ان ينسب لله تعالى إيتاء ملك الظالمين؟ - الجواب
عن الشبهة - تسمية الفقر واللين ذلا مجازا - الفقر من صفة الأنبياء
والصالحين - قوم توقعوا النبوة قبل نبينا - الملك الذي حاج إبراهيم
وكيف صح ان يؤتيه الله الملك؟ - تقسيم الملك إلى ملك في الدين
وملك في الدنيا - الملك بمعنى: القدرة، ومعاني الملك لغة.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي
الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء... الآية - 26)،
فقال: فحوى هذا الكلام يدل على غير ما تذهبون إليه: من أن
الظالم المتملك بغير حق، لا يقال: إن الله سبحانه آتاه الملك ولا
استرعاه الخلق، بل هو المتغلب على ذلك والغاصب لما في يده، فاذكروا
لنا من تأويل هذا الكلام ما يكون موافقا لمذهبكم، ومستقيما على طريقتكم!.
فالجواب: أن للعلماء في ذلك أقوالا، تدل على ما ذهبنا إليه في
هذا الباب وتصححه وتكشفه وتوضحه:
1 - قال بعضهم: معنى (مالك الملك)، أي أنت تملك عبادك
فهم وما يملكون لك، و (تؤتي الملك من تشاء) منهم، باضفاء (1)

(1) أي بزيادة النعم:، ولم نجد استعمال أضفى مزيدا في معاجم اللغة
61

النعم عليهم، وإقرار الأموال الدثرة (1) عندهم، وبما ترفدهم به:
من الأولاد والحفدة، والعديد والعدة، وبأن تلزم غيرهم الطاعة لهم من جهة
الدين، متى أجابوا داعيك واتبعوا أوامرك ومتى عدلوا عن نهج طاعتك
وفارقوا سواء محجتك، نزعت الملك منهم: بأن تسلبهم ملابس نعمك،
وتجعل أموالهم غنما ونفلا لغيرهم من عبادك.
2 - وقال بعضهم: يعني سبحانه بذلك: أنه مالك لما يؤتيه
عباده ويجعلهم به ملوكا، لان هذا الملك لا يكون إلا ما يخلقه تعالى،
فهو مالك له، وبين أنه سبحانه يؤتي الملك من يشاء من عباده، وهو
ما للعباد أخذه والتمسك به والإقامة عليه من الملك الحلال، دون ما يفعله
الملوك من اغتصاب الأموال، والتملك على الرجال، من طريق الغلبة
والقدرة المستولية، لأنه سبحانه لم يؤت أحدا منهم ذلك، وكيف يكون
مؤتيا لهم ما هذا سبيله، وقد نهاهم عنه وخوفهم من الإقامة عليه؟!
ولو كان عطية منه سبحانه لكانوا غير ملومين على التمسك به، فصح
بذلك أن الملوك العادلين القائمين بأمر الله في الدنيا هم الذين ملكهم
الله بلاده، واسترعاهم عباده، دون من استولى على ذلك متغلبا،
وملكه عدوانا وغصبا.
وعنى بقوله تعالى: (وتنزع الملك ممن تشاء)، أي: ممن آتيته

(1): الكثيرة، والموجود في المعاجم: الدثر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع،
ولكن المؤلف استعمله وصفا للجمع مع الهاء هنا وفي مقدمة النهج أيضا إذ
يقول: (مضافة إلى المحاسن الدثرة)، ولم ينبه عليه شراح النهج.
62

الملك، فاما أن تنزعه عنه بإماتته أو بتغير نعمه، وتنزع أيضا الملك
من الظلمة المتغلبين: بأن تنصر عليهم أولياءك المؤمنين، وتنقل إليهم
دولتهم، وتزيل بهم نعمتهم، لأنه تعالى وإن لم يجز أن تؤتى الظلمة
الملك، فجائز ان ينزع منهم الملك.
وعنى بقوله تعالى: (وتعز من تشاء)، أي: بالمال والقوة
والعديد والعدة، إذا كانت على طريقة الحق، لا على وجه التغلب
والغضب. وعنى بقوله تعالى: (وتذل من تشاء)، أي: من أعدائك
في الدنيا والآخرة، لأنه تعالى لا يذل أحدا من أوليائه، وإن أفقرهم
وأمرضهم، وأحوجهم إلى غيرهم، لان ذلك يفعله بهم ليعزهم في
الآخرة، ويسعدهم في الآجلة، فليس ذلك باذلال لهم وكيف يكون إذلالا
وقد أمر الله تعالى باعظامهم وإعزازهم ورفع منازلهم وأقدارهم؟!، وإذا
وصف الفقر بأنه ذل فعلى طريق المجاز، كما سمى سبحانه لين المؤمنين
ذلا بقوله: (أذلة على المؤمنين) (1)، وهذا خارج مخرج المدح،
وكيف يكون الفقر ذلا وهو من صفة الأنبياء عليهم السلام والصالحين من
العباد؟!، فتجد أحدهم لا يملك إلا القعب (2)، والحلس (3) والحذاء
والطمر (4)، وهو عند الله سبحانه في أعلى الدرجات، وفي أعين الناس
أهيب من مالكي الأموال وحائزي النعم العظام.
3 - وقال بعضهم: معنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وآله سأل ربه

(1) المائدة: 57.
(2): القدح الضخم الغليظ
(3): ما يبسط في البيت تحت حر الثياب والمتاع
(4): الثوب البالي
63

سبحانه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى هذه
الآية، وروي ذلك عن الحسن وقتادة.
4 - وقال بعضهم: أراد سبحانه بالملك هنا: ظهور الدين
والغلبة، فقال: (تؤتي الملك من تشاء)، أي: ترزق بسطة اليد،
وظهور الامر، الذين أتبعوا دينك وأطاعوا أمرك، فجعل الله ما في
مملكة كل ملك من غير المسلمين ملكا للمسلمين، وجعلهم أحق
بذلك من كل أهل ملة غير ملة الاسلام، فكان الملك في الحقيقة على
هذا القول ملك المسلمين، وإن غلب الكفار على بعضه ودافعوهم عن
نيله، والمسلمون أحق بحيازته، ولهم أن يطلبوه أبدا، حتى يظفروا به،
كما يطالب المغصوب بما غصب منه، وينسب إليه ذلك الشئ وإن كان
في يد غيره، فيقال: هذا ثوب فلان، وهذا مال فلان، وإن كان
في قبضة الظالم، وخلف رتاج الغاصب.
فكأنه تعالى جعل الملك في حكمه وسنة نبيه لأهل دينه القائمين
بأحكامه، والمقيمين على طاعة أنبيائه، كما جعل للذكر في حكمه مثل
حظ الأنثيين، وكما جعل لولي المقتول في حكمه سلطانا على القاتل، وإن
رد ذلك الجائرون، وأباه المعتدون، فأعطوا الأنثى مثل حظ الذكر،
ولم يقضوا على القاتل بقصاص ولا قود، فالذين آتاهم الله الملك وأعزهم
به هم المؤمنون، وإن غلبوا، والذين لم يجعل لهم حظا في الملك وأذلهم
بذلك هم الجائرون المعتدون، وإن غلبوا، فعز الكافرين على المؤمنين
ليس بعز في الدين، ولا غنم في عاقبة الأمور، لأنه يعود إذلالا
64

ويصير وبالا، وذل المؤمنين على أيدي الكافرين ليس بذل في الحقيقة،
لأنه يؤول إلى العز اللازم والثواب الدائم، وكيف يسمى ذلك ذلا،
وقد أمر الله سبحانه باعزاز أنبيائه السفرة بينه وبين عباده، وإن سطا
عليهم الكفار، ونال منهم الأعداء؟!
وهذا القول يؤول إلى معنى الحكم، فكأنه سبحانه يحكم لمن أطاعه
بالملك ويسميه به وينسبه إليه، ولا يحكم لمن عصاه بالملك ولا يسميه به ولا
ينسبه إليه، وإن كان الطائع مستضاما مستذلا، وكان العاصي متسلطا
متعززا به، كما قال سبحانه: [ومن دخله كان آمنا] (1)،
فجعل ذلك حكما لا أمرا (جزما) (2)، ألا ترى أن كثيرا ممن لجأ
إلى المسجد الحرام قد قتلوا فيه وأخيفوا مع المقام به!، ولو كان ذلك
خبرا لكان يجب أن يكون مخبره على ما أخبره به، فلما رأينا الامر
على خلاف ذلك في بعض الأحايين علمنا ذلك إنما قيل من طريق الحكم
لا من طريق الخبر.
5 - وقال بعضهم: (تؤتى الملك من تشاء)، يريد تعالى:
ملك الجنة، يقول: تدخلها من أطاعك. [وتنزع الملك ممن تشاء]،
أي: تحرمه دخول الجنة وتهينه بدخول النار، فلا شئ أذل منها ولا
أشد هوانا من أهلها.
وهذا القول غير مرضي عندي، لان فيه استكراها وتعسفا:

(1) آل عمران: 97
(2) الظاهر كما أثبتناه، وفي بعض النسخ: (حزما) وفي أخرى: (آخر).
65

وذلك أن سياق الآية والآية التي تليها تدل على أن هذا الملك الذي يؤتيه
الله وينزعه إنما هو في الدنيا دون الآخرة، ألا ترى إلى قوله تعالى تالي
ذلك: (وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على
كل شئ قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل
وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي.. الآية)!،
وهذا كله من أحوال الدنيا، لا مدخل فيه لامر الآخرة.
6 - وقال بعضهم: (المراد بالملك ههنا النبوة، وكأنه تعالى
قال: (تؤتي النبوة من تشاء، وتنزعها ممن تشاء)، فهذا القول
محكي عن مجاهد بن جبير، ونزع النبوة يكون على وجهين: أحدهما
باخترام النبي بعد تبليغه، وتحويله إلى ما أعد الله له من ثوابه وجنته.
والوجه الآخر: أن يكون بمعنى صرف النبوة عمن (شاء) [1] وإن
كان تعالى لم يلبسها من صرفها عنه، فينزعها منه، ولكنه قال ذلك
مجازا، لأنه قد كان قوم يتوقعون النبوة قبل إرسال النبي [ص] ويعتقدون
أنهم سيكونون أنبياء ورسلا: منهم ورقة بن نوفل، ومنهم أمية بن أبي
الصلت الثقفي، وغيرهما، فجاز في اتساع اللغة أن يصف تعالى نفسه
بأنه نزع النبوة عنهم وآتاهم غيرهم، لأنهم كانوا - بزعمهم - يعتقدون
أنهم أهل لها، ويتوقعون الاصفاء بها.
واستشهد من يقول: إن الملك ههنا النبوة، بقوله تعالى: (ألم
تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك) [2]،

(1) وفي (خ): يشاء
(2) البقرة: 258.
66

أي: آتاه النبوة، فجعل الضمير في آتاه لإبراهيم عليه السلام، والأكثر
على أن الضمير في آتاه للملك الذي حاج إبراهيم، والمعنى: أن ذلك
الملك استطال على إبراهيم في المحاجة والدعوى الباطلة، بما أوتي من
الملك والقدرة.
فان سأل سائل على قول من قال: إن الضمير في آتاه الله الملك
للملك دون إبراهيم (ع)، فقال: كيف قال سبحانه: (آتاه الله الملك)،
وهو ظالم طاغ، ومتجبر باغ؟!، فقد ذهب أبو علي وأبو القاسم
البلخي إلى: أن الله سبحانه لا يجوز أن يعطي الفاسق حقيقة الملك،
ولا ينوط به تدبير الخلق، لأنه سبحانه قال: (لا ينال عهدي
الظالمين) [1]، والملك من أعظم العهود وأجل الأمور، لأنه يتضمن
سياسة الأمة وحفظ الشريعة، ويتعلق بأوامر الله ونواهيه، وأحكامه
وقضاياه، وذلك لا يؤمن عليه الفاسق ولا الكافر، ولا يجعل سبحانه
الرعية مؤمنة والرعاة فسقة!.
فجوابه: أنه يجوز أن يراد بالملك ههنا إعطاء المال وتثمير الحال،
وذلك مما يجوز أن يعطاه الفاسقون والظالمون، ألا ترى إلى قوله تعالى:
(وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم
إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا... الآية) [2]!،
(وقد) [3] قال عامة المفسرين: إنه تعالى أراد بالملك ههنا: حسن
الحال والاستكثار من المال، فبين: أنه سبحانه جعلهم ملوكا، وهم

(1) البقرة: 124.
(2) المائدة: 20
(3) وفي (خ): فقد.
67

حينئذ فاسقون، ألا ترى إلى قولهم لموسى (ع): (فاذهب أنت
وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) (1)، وقد سماهم تعالى بالفسق،
وسماهم موسى (ع) بذلك أيضا، وقال سبحانه: (فلا تأس على
القوم الفاسقين) [2]، وقال موسى: (فافرق بيننا وبين القوم
الفاسقين) [3].
7 - وقيل أيضا: يجوز أن يقال - في من أخذ الملك من جهته
التي أباحها الله تعالى -: إن الله سبحانه آتاه ذلك الملك كالذي يقال
في طالوت وذي القرنين: إنهما كانا ملكين ولم يكونا نبيين، ويجوز
أيضا أن يكون نزعه تعالى الملك ممن يشاء، بأن يسلط أولياءه على
أعدائه فينزعوا الملك منهم، إذا كانوا مستحقين لذلك ببغيهم وكفرهم،
كالذي فعل تعالى بالأكاسرة وغيرهم من الجبابرة.
8 - وقال قاضي القضاة أبو الحسن [4]: ما يؤتيه الله من الملك
ينقسم إلى ملك في الدين، كالنبوة والإمامة وما يتشعب عنهما، والى ملك
في الدنيا، وهو: ما يرزق تعالى من المباح، كالأموال العظيمة والنفائس
الجليلة والرأي والحزم والقوى والجلد، إلى سائر ما يتقدم به الملوك في
الدنيا، لان جميع ذلك قد يضاف إليه تعالى، لأنه من قبيل المباح.
ومتى قيل: فهل يصح وجود ملك لا يؤتيه الله تعالى صاحبه؟،

(1) المائدة: 24.
(2) المائدة: 26.
(3) المائدة: 25.
(4) وكأن القاضي أراد - بعد تقسيمه للملك - أن الذي لا يؤتاه
الفاسق هو الملك في الدين دون الثاني.
68

فجوابنا: أنه سبحانه إنما يخلق الأشياء لمنافع غيره، فإن كان ذلك الملك
بحيث إذا لم يؤته تعالى بعض العباد فقد الانتفاع به، فلا بد من ذلك [1]،
وإلا فجائز خلافه، وخلاف ذلك قد يكون على وجهين: أحدهما أن
يجعله سبحانه كالمباحات، والثاني أن يفرقه في العباد تفريقا لا يبلغ حد
الوصف بالملك، لأنه إنما يوصف بذلك عند اجتماع أمور كثيرة تشتمل
عليها يد انسان واحد.
9 - وعندي في ذلك وجه آخر، وهو: أنه يجوز أن يكون
معنى قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع
الملك ممن تشاء)، أي: مالك القدرة، تؤتي القدرة من تشاء،
وتنزعها ممن تشاء. وهذا القول على أصل قول أبي علي: إن معنى قوله
سبحانه: (مالك يوم الدين)، أي: قادر على يوم الدين. لان
كل مالك لشئ على الحقيقة فهو قادر عليه، وكل قادر على شئ يمكنه
فعله أو تصرفه فهو مالك له.
وحجته على ذلك أن أكثر ما يستعمل الملك في الأشياء الموجودة،
ويوم الدين لم يوجد بعد، وقد أخبر تعالى: أنه مالك له، فليس معنى
ذلك إلا أنه قادر عليه، فليس بمستحيل أن (يسمي) [2] القدرة ملكا
لان بها يملك الانسان أمره، ويحمي جانبه، ويمنع مجاذبه، ويتطرق
إلى قود المستصعبات، وبلوغ الغايات، وقد قيل في المثل: (العافية

(1) اي: من إيتائه بعض العباد.
(2) وفي (خ): تسمى.
69

ملك خفي) [1]، وليس العافية أكثر من سلامة الآلات، وصحة
الأعضاء، وقيل أيضا: (الجلد عز حاضر) [2]، وبالقوة يصير
الذليل عزيزا، كما أن بفقدها يصير العزيز ذليلا.
فبين سبحانه: أنه يؤتي هذا الملك (الذي هو القوة) [3] من
شاء، فيكون له شكة، وعلى عدوه شوكة، وينزعه ممن يشاء فيوهن يده
ويضعف عضده ويجعله مأكولا بعد أن كان آكلا، وضارعا بعد
أن كان صائلا [4]. والملك في الأصل مأخوذ من الشد والربط، ألا ترى
إلى قول القائل: ملك العجين، إذا شدد عجنه!، ومنه اشتقاق
الاملاك (5)، لأنه عقد يحكم شده، فكأنه يربط المرأة بالرجل، وعلى
هذا قول الشاعر (6) في صفة القوس:
الصحيح
(2) الجلد: القوة والصبر، والاستشهاد بهذا القول لا يظهر وجهه،
ويجوز أن يكون في النسخ: سقط أو تصحيف، ويجوز أن يكون شاهدا
للمثل المذكور، لا لأصل الدعوى، فان القوة من العافية وهما من نوع القدرة
(3) كذا في النسخ، وما بعد هذه العبارة من ذكر الأضداد والمناسبات
من الوهن والضعف والشد والربط يؤيد ما في النسخ، ولكن الظاهر أنها مصحفة
من القدرة، لان الكلام في الملك بمعنى القدرة.
(4) ضرع: خضع. صال عليه: سطا عليه وقهره.
(5) التزويج
(6) هو: أوس بن حجر. يصف قوسا وقواسا. انشده الفارسي، والمعروف
من رواية البيت: (فملك بالليط الذي...)، لا التي، والظاهر أن التصحيف
من النساخ. الغرقئ كزبرج: القشرة الرقيقة الملتزقة ببياض البيض، والمراد
انه جعل القشر كغرقئ. وكنه: ستره.

(1) لأنها قدرة وطاقة يعجز عن مفعولها السقيم فلا يقتدر على ما يقتدر عليه
70

فملك بالليط التي تحت قشرها * كغرقئ بيض كنه القيض من عل
وموضع التي تحت قشرها: نصب، لأنه مفعول لملك، فكأنه
قال: فشدد هذا الانسان بالليط - وهو: القشر الذي على القوس -
ما تحت قشرها، فصار له شدادا ورباطا، أي: ترك قشر القوس عليها،
ولم يزله عنها، ليكنها ويتمالك به قلبها، أي يتشدد عودها. والقيض:
قشر البيض. وفي هذا البيت أيضا معنى آخر لطيف، وهو أن الشاعر
جعل ترك قشر القوس عليها فعلا لباريها، وإن لم يكن منه فعل في الحقيقة،
ولكنه لما كان قد يؤخذ كثيرا من القشر عند بري القياس (1) ثم لم
يفعل ذلك بتلك القوس المذكورة، واعتمد ترك قشرها غليها، فصار
بقصده لذلك كفاعل فعل فيها، وهذا من اتساع نطاق اللغة، وبعد
مرامي الأغراض العربية.
فان قال قائل: إنه تعالى إذا نزع الملك ممن آتاه إياه كان في ذلك
ظلم له، لان أحدنا إذا وهب لغيره هبة ثم استرجعها منه كان في حكم
الظالم له، ومتى حسن ذلك منه تعالى دل على صحة ما يذهب إليه مخالفوكم؟!.
قيل له: إن التمليك قد يكون مطلقا دائما، وقد يكون مؤجلا موقتا، فلا
يجب أن يجعل الباب واحدا، فإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون تعالى
إنما ملك إلى غاية ومدة، فإذا زال التمليك ونزع الملك عند انقضاء
تلك المدة، كان له ذلك، كما يكون مثله للمعير والمعمر على بعض الوجوه [2].
ووجه آخر، وهو: أنه سبحانه إذا حسن منه أن يبيح استرجاع الهبة

(1) جمع قوس.
(2) كما لو أعمر ممن هو أقل منه عمرا.
71

لا عواض عظيمة، لم يمتنع أن يحسن منه نزع الملك لعوض عظيم. ووجه
آخر، وهو: أنه قد يجوز أن يعلم تعالى أن استدامة الملك في ذلك
العبد مفسدة في الدين، فيجب نزعه منه لا محالة، وفي ما ذكرناه من
الكلام على هذه المسألة بلاغ بحمد الله.
7 - مسألة
(موالاة الكافرين عند التقية)
الجواب عن شهبة إباحة موالاة الكافرين تقية - نزول الآية -
تارك التقية اعزازا للدين حتى يقتل أفضل من فاعلها - لا ولاية للكافر
على المسلم بحال - آية المسألة خبر لا نهي عن موالاة الكافرين،
وابطال ذلك - موالاة الكافرين محرمة مطلقا حتى مع موالاة
المسلمين - التقية لا تدخل الا في الظاهر.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين
أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في
شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة.. الآية 28)، فقال: ظاهر
هذا الكلام يقتضي إباحة موالاة الكافرين عند الخوف، وليس ذلك
قول أحد من المسلمين!
72

فالجواب: أن في ذلك أقوالا:
1 - منها، أن الاتخاذ في الأصل هو: القصد إلى أخذ الشئ
والعزم عليه والتمسك به والملازمة له، ألا ترى إلى قوله تعالى: (واتخذ الله
إبراهيم خليلا) [1]!، أي: قصد إلى تمييزه بهذه الحال والاظهار
لها والمداومة عليها، وإذا تأملت كل ما نطق به القرآن من ذكر
الاتخاذ، وجدته يتضمن هذا المعنى: فمن ذلك قوله تعالى: (قال
الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) (2)، أي:
لنجعل هناك موضعا يدوم لبثه، وتكثر الملازمة له. ومنه قوله تعالى (واتخذوا
من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) [3]، أي: انقطعوا
إليها، وأقاموا على عبادتها، فإذا كان الامر على ما قررنا، بان أن نهي الله
تعالى عن إظهار موالاة الكافرين إنما هو على هذا الوجه: من توطين
النفس بالعزم على ذلك والقصد إليه والاظهار له، فكأنه تعالى قال:
لا يظهرن أحد من المؤمنين موالاة أحد من الكفار قاصدا متعمدا، وعادلا
بموالاته عن المؤمنين الذين هم أحق بذلك من غيرهم!، لأن هذه
الأفعال إنما تكون موالاة بالمقاصد لا بصورة الفعل، ولولا ذلك لم تحسن
مع التقية أيضا، وقوله تعالى: (من دون المؤمنين) يدل على ما ذكرنا [4]
وعلى هذا قول القائل: أعطيت فلانا دوني، أي: أعطيته ومنعتني،
ولهذا قال سبحانه: (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ)،

(1) النساء: 124.
(2) الكهف: 21.
(3) الفرقان: 3
(4) اي: من قولنا: عادلا بموالاته عن المؤمنين.
73

أي: فليس من الله في ولاية ولا محبة، وقيل أيضا. إن معنى ذلك فقد
برئ الله منه وبرئ من دين الله.
ثم استثنى تعالى حال التقية، فقال: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)،
وقرئ: (تقية)، وكلاهما يرجعان إلى معنى واحد، فكأنه سبحانه
أباح في هذه الحال عند الخوف منهم إظهار موالاتهم ومما يلتهم قولا
باللسان، لا عقدا بالجنان.
2 - وقال بعضهم: معنى ذلك: أن يكون المؤمن بين الكفار
وحيدا، وفي حكم الوحيد، إذا كان قليل الناصر، غائب المظاهر [2]،
والكفار لهم الغلبة والكثرة والدار والحوزة، فمباح له أن يخالقهم
بأحسن خلقه، حتى يجعل الله له منهم مخرجا، ويتيح له فرجا، ولا
تكون التقية بأن يدخل معهم في انتهاك محرم، واستحلال محرم، بل
التقية بالقول والكلام، والقلب عاقد على خلاف ما يظهره اللسان.
وروي عن أبي العالية: أنه قال: (التقية باللسان لا بالعمل).
3 - وروي عن الحسن البصري: أنه قال: (إلا أن تتقوا
منهم تقاة) في أرحامكم التي بينكم وبينهم، فتتقونهم بالصلة لها، والرعي
لحقوقها، فاما المحبة لهم في الدين وعلى الدين فلا تجوز بحال.
4 - وروي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في قوم من الأنصار، كان
اليهود يفتنونهم في دينهم، ويستميلون قلوبهم بالممازجة لهم، والاختلاط
بهم. كعبد الله بن أبي سلول، والجد بن قيس، وغيرهما، فنهى الله

(2): المعاون.
74

سبحانه عن ملاطفة الكفار ومداخلهم، واتخاذهم شعارا من دون
المؤمنين، وبطانة دون أهل الدين، ولهذه الآية في التنزيل نظائر:
منها قوله تعالى في هذه السورة: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة
من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء
من أفواههم.. الآية 117)، ومنها قوله تعالى: (لا تجد قوما
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله.. الآية) [1]
ومنها قوله تعالى: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد
الذكرى مع القوم الظالمين) [2] ومنها قوله سبحانه: (يا أيها
الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء
بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم..) [3]، فكل ذلك
يوجب أن يعاملوا بالمغالظة والمخاشنة، دون الملاطفة والملاينة، إلا ما كان
شاذا، وخرج نادرا، لعارض من الامر، وواضح من العذر.
5 - وقال بعضهم: (إلا أن تتقوا منهم تقاة)، معناه: إلا
أن يخاف الخائف منهم تلف النفس، أو بعض أعضاء الجسم، فيتقيهم
باظهار الموالاة، من غير اعتقاد لها ولا صدق فيها.
* * *
وقد ذهب المحققون من العلماء إلى: أن من أكره على الكفر
فلم يفعل حتى قتل، إنه أفضل ممن أظهر الكفر لسانه، وان أضمر
الايمان بقلبه، وقالوا: قد أسر المشركون بمكة خبيب بن عدي، وطالبوه

(1) المجادلة: 22.
(2) الانعام: 68.
(3) المائدة: 51.
75

باظهار كلمة الكفر أو العرض على القتل، فلزم الحنفية، ولم يعط التقية،
حتى قتل على ذلك، وكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر، حين
أعطى التقية، وأظهر كلمة الكفر عند الالحاح عليه بالعذاب: من جره
على الرمضاء وتحريقه بالنار، وإن كان قلبه مطمئنا بالايمان، ويستدلون
بذلك على أن اعطاء التقية رخصة، وأن الأفضل ترك إظهارها، وكذلك
قالوا في كل أمر كان فيه إعزاز الدين، فإقامة المرء عليه حتى يقتل أفضل
من الاخذ بالرخصة في العدول عنه حتى يسلم.
وفي هذه الآية (وأخواتها) [1] دلالة على أنه لا ولاية للكافر
على المسلم في شئ من الأشياء، فإنه إذا كان له ابن صغير مسلم باسلام أمه،
فلا ولاية له عليه في حال من الأحوال.
وقال بعضهم: (ان قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين
أولياء من دون المؤمنين) ليس بنهي، وإنما هو خبر، فكأنه تعالى
قال: إن هذه صفة المؤمنين ألا يتخذوا الكافرين أولياء). وهذا خطأ
من قائله، وذلك أن الامر لو كان على ما ظنه لكان يكون (لا يتخذ
المؤمنون) برفع الذال، ولم يكن (يجزمها) [2]، وكسرها لالتقاء الساكنين،
فكونها مكسورة يدل على أنها نهي لا خبر، على أن الامر لو كان كما قاله
لكان المعنى مقاربا لمعنى النهي، لأنه لا يجوز أن تكون هذه الصفة صفة
المؤمن إلا وهو مأمور بموالاة المؤمنين، منهي عن موالاة الكافرين.
فان قال قائل: ما أنكرتموه من أنه تعالى نهي عن اتخاذ الكافرين

(1) زيادة في بعض النسخ.
(2) في النسخ: (يخرجها)، والظاهر أن الصحيح ما أثبتناه.
76

أولياء، بمعنى: أن (يفردوا) [1] بالموالاة دون المؤمنين، فأما إذا توليناهم
وتولينا المؤمنين معهم، فليس ذلك بمنهي عنه. قيل له: إن المراد
بالنهي المنع من اتخاذهم أولياء جملة، ونبه تعالى بقوله: (من دون المؤمنين)
على أن هذه الولاية يجب أن تكون مقصورة على المؤمنين، ولا تكون
مشتركة بينهم وبين الكافرين، فهذا يدل على أن المراد موالاة المؤمنين
خصوصا، وترك موالاة الكافرين على كل حال عموما، ثم بين تعالى
أن إظهار موالاة الكافرين محرم على المؤمنين إلا عند التقية، وهي:
أن يخافوا على نفوسهم ان تركوا إظهار موالاتهم.
وقد علمنا أن التقية لا تدخل الا في الظاهر، دون ما في الضمير
الباطن، لان من خوف غيره ليفعل أمرا من الأمور إذا كان من أفعال
القلوب، لا يتمكن من معرفة حقيقة ما في قلبه، وإنما يستدل باظهار
لسانه على إبطان جنانه، فالذي يحسن عند التقية إظهار موالاة الكفار
قولا بالخلاط [2] والمقاربة، وحسن العشرة والمخالقة [3]، ويكون
القلب على ما كان من قبل في اضمار عداوتهم، واعتقاد البراءة منهم،
وينوي الانسان بما يظهره من ذلك معاريض [4] الكلام،
واحتمالات الخطاب.

(1) وفي (خ): ينفردوا.
(2) الاختلاط.
(3) المعاشرة بالخلق الحسن.
(4): جمع معراض، وهو: التورية بالشئ عن شئ آخر.
77

فصل
(هل لله نفس؟)
وربما تعلقوا بقوله سبحانه في أواخر هذه الآية: (ويحذركم
الله نفسه وإلى الله المصير)، فقالوا: قد أثبت تعالى له نفسا،
وهذه من صفات المخلوقين، وعلامات المحدثين.
وجوابهم عن ذلك: أن المراد بقوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)
أي: يحذركم الله عقابه، ويخوفكم نقمته، وأراد تعالى بهذا الاختصاص
(أعني: بذكر النفس): تحذيرهم من العقاب الذي يأتي من قبله
ويصدر عن أمره، لا العقاب الذي يجريه تعالى على أيدي المخلوقين،
ويقع من جهة المسلطين، فان العقاب إذا كان على الوجه الأول كان أبلغ
ألما وأشد مضضا، كعقوبات الأمم السالفة: بنحو الطوفان
والجراد وعقائم الرياح (1)، وما يجري هذا المجرى، فذلك
أصعب من عقوبات الخلائق التي ربما صبر عليها، وتموسك تحتها.
ومثل ذلك ما حكي عن بعض من كان يتعاطى الجلد والقوة: أن بعض
السلاطين تقدم به بأن يضرب ضربا مبرحا [2] فصبر على ذلك الألم
غير متألم ولا مسترحم، فقامت له بذلك سوق، وطار له اسم في الجلد
عظيم، ثم اتفق أن لحقه بعد أيام من الحال صداع: أقامه وأقعده،
وأكثر تألمه وتغوثه، فقيل له من صبر على تلك الآلام العظيمة يقلق

(1) ريح عقيم: لاقح، وهي: ريح الهلاك.
(2) شاقا.
78

من هذا العارض اليسير والألم القليل!. فقال: ذاك عقاب المخلوقين،
وهذا عقاب الخالق، فلا صبر على شئ منه قليلا كان أو كثيرا. فقد
بان الفرق بين عقوبة الله تعالى وعقوبة عباده، وظهرت فائدة الاختصاص
بتخويف العقوبة من قبله تعالى في قوله: (ويحذركم الله نفسه).
وقد قيل: إن معنى ذلك ويحذركم الله إياه، لان نفس الشئ هو
الشئ، كقول القائل: نزلت بنفس البلد وفي نفس الجبل، وعلى
ذلك معنى قوله تعالى: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في
نفسك...) [1]، أي: تعلم ما أغيبه، ولا أعلم ما تغيبه، وقد
قيل: تعلم ما عندي، ولا أعلم ما عندك، وقال الشاعر في نحو ذلك
(وهو: أعشى بني قيس):
يوما بأجود نائلا منه إذا * نفس البخيل تجهمت سؤالها
والمعنى: إذا البخيل تجهم سؤاله، لان النفس لا تجهم، وإنما
يتجهم صاحبها. وكذلك معنى قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك...) [2]
و (كل شئ هالك إلا وجهه..) [3] معناه: ويبقى هو، وكل
شئ هالك إلا هو، وعلى هذا قول الرجل لصاحبه: إني لأكرم وجهك
عن هذا، ولم يستح فلان من وجهي، أي: لم يستح مني، وعلى هذا
قول الشاعر:
بوجهك عن مس التراب مضنة * فلا تبعدي، فكل حي سيعطب
وإنما أراد: بك عن مس التراب وبجملتك، فعبر بالوجه عن

(1) المائدة: 116.
(2) الرحمن: 27.
(3) القصص: 88.
79

ذلك، لأنه لا يجوز أن يضن عن البلى بوجهها، ويسمح له بجملتها،
ولو أراد ذلك لكان مناقضا، فليس الا ما ذكرناه.
وقال بعضهم: النفس [1] على وجوه: قد يقول القائل:
أحذرك نفسي، أي: سطوتي وفعلي. ويقول: أحذرك نفسي،
يريد به: التهدد لا غيره، ولو قال: أحذرك، ولم يقل: نفسي، لم
يعرف المخاطب من الذي يحذر من جهته، فأراد أن يبين من المحذور
(كذا وكذا منه) [2] لكي يتقيه ولا يعصيه. وقد يقال، نفس
الشئ ويراد الشئ بعينه لا غيره. ويقول القائل: أنا فعلته بنفسي،
وليس يريد شيئا غيره. وتقول: جاءني عشرون نفسا، أي
عشرون شخصا. والنفس: التي يستقر فيها العلم. وقيل: هو
القلب، ومنه قولهم وقع في نفسي، أي: في مستقر علمي. والنفس:
الرأي، ومنه قول أحدهم: أنا في هذا الامر بين نفسين، أي:
بين رأيين في فعله وتركه ومنه قول الشاعر (2):
يؤامر نفسية كذى الهجمة الإبل
أي: رأييه. والنفس: القوة، يقال: ثوب ماله نفس،

(1) النفوس: في (خ).
(2) زيادة في بعض النسخ، وهي غيره ظاهرة المعنى ولو قدمت (منه) على (كذا وكذا) ظهر المعنى.
(1) هو الكميت، وصدره: (تذكر من أنى ومن أين شربه)
ويؤامر نفسية يخابرهما، وهذه كلمة شائع استعمالها في الفصيح وذلك أن
العرب تجعل النفس التي بها التمييز نفسين: إحداهما تأمره والأخرى تنهاه
عند الاقدام على مكروه. الهجمة: القطعة الضخمة من الإبل ما بين الأربعين والمائة.
أبل كسمع: حذق مصلحة الإبل، والإبل: صاحبها.
80

أي: لا قوة له، وعلى ذلك قول امرئ القيس.
فلو أنها نفس تموت سوية [1] * ولكنها نفس تساقط أنفسا
أي: تذهب شيئا بعد شئ. والنفس: الآنفة، ومنه قولهم: لفلان
نفس، وهو عزوف النفس، أي: قوي الآنفة، وعلى ذلك قول الشاعر [2]:
نفس عصام سودت عصاما * وعلمته الكر والاقداما
أي: أنفته من الضيم ونفوره عن الذل فعلا به ذلك، وهذا أحد
تفسيري هذا الشعر، والآخر [3]: انه اكتسب العلا بنفسه ولم
يستعن على ذلك بسؤدد أبيه ولا أمه، فكأن العز أتاه من شطر نفسه
لا من شطر نسبه، ومن ذلك قولهم: دابة (لها) [4] نفس، أي:
أنفة من الضرب. والنفس: العين، قال الشاعر:
أصابتك نفس فاجتنبت مودتي * وكل حسود للمحب عيون [5]
والنفس: قدر دبغة من الشئ الذي يدبغ به الجلود: كالقرظ [6]
والنجب [7] وما أشبههما، ومن ذلك قولهم: أعطني نفسا أو نفسين،
أي: قدر دبغة أو دبغتين. وليس يجوز على القديم تعالى من هذه الوجوه

(1) في ديوانه والتاج: (جميعة). قال في التاج: (أراد جميعا فبالغ
بالحاق الهاء وحذف الجواب للعلم به كأنه قال لفنيت واسترحت).
(2) النابغة قاله في عصام الباهلي حاجب النعمان بن المنذر، وفي تاج العروس:
(عصام: ابن شهبر الجرمي)
(3) قال الثعالبي في المضاف والمنسوب وقاله غيره وهو المعروف عند علماء
الأدب.
(4) وفي (خ): له.
(5) العيون: شديد الإصابة بالعين.
(6) ورق السلم بفتحتين يدبغ به، ومنه أديم مقروظ.
(7) قشر الشجر، والمنجوب: الجلد المدبوغ بقشور سوق الطلح.
81

كلها الا وجه واحد: وهو النفس بمعنى ذات الشئ حسب، فقد وضح
إذن: أن معنى قوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه) أي: يحذركم
إياه، لان النفس ههنا لو كانت غير ذاته، كان كأنه قد حذرهم سواه
أو بعضه، وهو يتعالى عن التجزئة والتبعيض، إذا كل ذلك من
صفات الأجسام وعلامات المحدثات.
فصل
(فائدة تكرير آية (ويحذركم..))
فان قال قائل: إنه تعالى كرر قوله: (ويحذركم الله نفسه)
في موضعين متقاربين من هذه السورة، فما الفائدة في ذلك؟
فالجواب: أن ذلك ليس بتكرار، لان الذي عناه بالآية الأولى
غير الذي عناه بالآية الأخرى، لان الأولى إنما حذرهم فيها عقابه على
موالاة الكفار، والثانية إنما حذرهم فيها ذلك على مواقعة سائر المعاصي،
فحسن إعادة التحذير عند كل منهي عنه، ليكون الخوف أعم والزجر أبلغ،
وليعلم أيضا أن الجرمين في العقاب على حد سواء، فيكون التناهي عن
أحدهما كالتناهي عن الآخر. وقد يجوز أيضا أن تكون الآية الثانية نزلت
82

بعد الأولة [1] بزمان متراخ، فحسن التكرير فيها، لانفراج ما بين
الأولى وبينها، وهذا مقنع بحمد الله تعالى.
8 - مسألة
(وليس الذكر كالأنثى)
فائدة الاخبار بان ليس الذكر كالأنثى - اختلاف الفقهاء في شهادة
المرأة في عقد النكاح - تسمية المرأة بالشاهد - تسمية الشئ بما
يخالفه ويناقضه.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى حاكيا عن امرأة عمران: (فلما
وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت
وليس الذكر كالأنثى... 36) فقال: ومن يشك في أن
الذكر ليس كالأنثى؟ فبينوا لنا فائدة هذا الكلام. ليخرج عن
الحد الذي لا يليق بالقرآن!

(1) يغلط بعضهم استعمال الأولة تأنيث الأول، قال الحريري في درة
الغواص: (ذلك من نفائس الحان العامة) ولكن أثبت صحتها كثير من علماء
اللغة. راجع شرح الدرة للعلامة الآلوسي، والأساس، ولسان العرب، واستعمال
المؤلف لها هنا يحق أن يكون من الأدلة على صحتها.
83

فالجواب: أن امرأة عمران قالت عند حملها بمريم عليها السلام:
(رب إني نذرت لك ما في بطني محررا... - 35)، فاشترطت ما في
بطنها بالنذر، فكان ذلك منها بعد القعود واليأس من
الولد، فنذرت أن تجعل ولدها (الذي من الله عليها بحمله)
سادنا (1) يخدم بيت المقدس طلبا للقربة، وخروجا من حق النعمة، وكان
لا يجوز لخدمة بيت المقدس إلا الذكران، فلما وضعتها أنثى قالت
متعذرة إلى ربها، ومشفقة من ألا يتقبل نذرها: (رب اني وضعتها أنثى
وليس الذكر كالأنثى)، أي: في المعنى الذي أردته من التقريب بالذكر
وتصييره خادما لبيت المقدس، لان الأنثى لا تصلح من ذلك لما
يصلح له الذكر، لأجل ما يلحقها من الحيض والنفاس، ويلزمها من
الصيانة عن التبرج للناس، ولأنها إذا خالطت الرجال افتتنوا بها،
واستضروا بمكانها، فتقبلها الله تعالى وأجراها مجرى الذكر في التقرب به
وتحريره لخدمة بيته ولم يفعل ذلك بأنثى غيرها، تمييزا لها من نظائرها،
ومعنى محرر أي: جعلته نذيرة [2] خالصا، وكلما أخلص ولم يعلق
بشئ غيره فهو محرر. ومنه تحرر الكتاب، وهو: إخلاصه من
سودائه [3]. ومنه قولهم: حررت الغلام، ومعناه: جعلته خالصا لنفسه
وأزلت ملكي عن رقبته. ومنه رجل حر، أي: خالص من العيوب.
والطين الحر: ما خلص من الرمل والحمأة [4]، وكأن المحرر هو المفرغ

(1) السادن: خادم بيت العبادة.
(2): الولد الذي يجعل قيما أو خادما لبيت العبادة ذكرا كان أو أنثى.
(3) يريد المسودة (وهي عند الكتاب ما يكتب ابتداء بقصد المراجعة) ولم يسمع ذلك.
(4): الطين الأسود المتغير.
84

للعبادة، فلا يستعان به ولا يشغل عن عبادة ربه، أو يكون معناه: أنه
يحرر نفسه فيعتقها من رق المعاصي باجتنابها وترك ولوج أبوابها، فلا
يستحق العقاب من أجلها.
وقال بعضهم: (إنه سبحانه أعلم بحال المنذور في المستقبل، وقيامه
بحقوق النذر، فأراد تعالى بقوله: (وليس الذكر كالأنثى) اختلافهما
في باب الاحكام الجارية عليهما، لا في الصفات التي بها (تمييز) [1]
أحدهما من الآخر. هذا إذا جعلنا (وليس الذكر كالأنثى) كلاما له سبحانه،
ولم نجعله من صلة كلام أم مريم (ع)، ومعنى ذلك: أن امرأة عمران لما
أيقنت بأن مولودها أنثى، فزعت إلى الله تعالى في حفظها وإعاذتها وتقويتها
على القيام بوظائف دينها لان الإناث أوهن عقودا، وأضعف معقولا،
ووساوس الشيطان فيهن أبلغ تأثيرا، ألا ترى إلى قصور النساء عن
منازل الرجال في كثير من الاحكام، لأجل وهن العقول، وانحلال
العقود!، ولأجل ذلك لم يجز بعض الفقهاء [2] شهادة النساء في عقود
النكاح جملة، وقال: لا يصح النكاح الا بشهادة الرجال دون النساء).
وهذه مسألة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، فان الشافعي يذهب إلى
القول الذي ذكرناه، وأبو حنيفة يخالفه في ذلك ويجيز انعقاد النكاح بشهادة
رجل وامرأتين، والظهور في هذه المسألة لأبي حنيفة، وقد كنت

(1) وفي (خ): يتميز.
(2) من غير فقهاء الإمامية، اما فقهاء الإمامية فلا يرون لزوم الاشهاد في عقد النكاح، كما يرون ذلك في الطلاق، وإنما ذلك مندوب عندهم، والندب يتأدى بشهادة النساء.
85

علقت عن شيخنا أبي بكر محمد بن موسى الخوارزمي، عند قراءتي عليه
مختصر أبي جعفر الطحاوي، وبلوغي إلى هذه المسألة من كتاب النكاح
- الحجاج على الشافعي في جواز النكاح بشهادة رجل وامرأتين، وابطال
تعلقه بقوله (ع): (لا نكاح إلا بشاهدين)، وذلك أن هذا
القول يتناول الرجل والمرأتين، والدليل على ذلك قوله تعالى:
(واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين
فرجل وامرأتان...) [2]، وتقدير الكلام فإن لم يكن
الشاهدان رجلين فالشاهدان رجل وامرأتان. قال: ومما يؤكد ذلك
أن أبا الحسن الأخفش قال في كتابه المعروف بالأوسط: (العرب تقول
للمرأة: هذه شاهدي، وقد تقول: هذه شاهدتي)، فحكى: أن
لغة العرب الفصحى تجري على المرأة اسم الشاهد، كما تجريه على الرجل،
وأن الأفصح أن يقولوا: هذه شاهدي، دون أن يقولوا: هذه شاهدتي،
لان قوله: (وقد تقول هذه شاهدتي) يدل على أن القول الأول هو
الأكثر والثاني هو الأقل.
قلت أنا: وفي قولهم للمرأة: شاهدي، سر لطيف من لطائف
أسرار لغة العرب، وهو أنهم أرادوا بذلك: تتميم نقيصة معناها باجراء
صفة المذكر عليها، تشبيها لها به، وذهابا بها في طريقه، وتقريبا
لها من معنى الرجل الذي هذا الاسم خاص له، ومقصور عليه،
وكأن غرضهم في ذلك يلامح غرضهم في تسمية اللديغ سليما، والمهلكة

(1) البقرة: 282
86

مفازة [1]، وإن كان بعض أهل اللغة يدفع ذلك ويقول: إنما سموه
سليما لاستسلامه لما به، لا تفاؤلا بسلامته، وسموها مفازة، لان من
قطعها وتجاوزها قد فاز ونجا منها، لا تفاؤلا باسم الفوز لها، والقول
الأول أعرف في كلامهم، ونعود بتوفيق الله تعالى إلى بقية الكلام على
المسألة:
فصل
(قراءة (وضعت) بضم التاء وسكونها)
وقرأنا لعبد الله بن عامر ولأبي بكر بن عياش، عن عاصم: (والله
أعلم بما وضعت) بضم التاء، ولبقية السبعة بتسكينها، وقال
لي شيخنا أبو الحسن علي بن عيسى النحوي صاحب أبي علي الفارسي (وهذا
الشيخ كنت بدأت بقراءة النحو عليه قبل شيخنا أبي الفتح عثمان بن جني،
فقرأت عليه مختصر الجرمي، وقطعة من كتاب الايضاح لأبي علي الفارسي
ومقدمة أملاها علي كالمدخل إلى النحو، وقرأت عليه أيضا العروض لأبي
إسحاق الزجاج، والقوافي لأبي الحسن الأخفش، وهو ممن لزم أبا علي
السنين الطويلة، واستكثر منه وعلت في النحو طبقته، وقال لي: بدأت
بقراءة مختصر الجرمي على أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي رحمه الله

(1) ومن ذلك تسميتهم للرفقة المسافرة: قافلة من القفول: الرجوع،
وللخراج من البدن: دملا (بضم الدال وتشديد الميم) قبل اندماله.
87

في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، ثم انتقلت إلى أبي علي). قال:
كان أبو علي يقول: قراءة من قرأ بتسكين التاء أجود، لأنها قد قالت
(رب اني وضعتها أنثى)، فليس يحتاج بعد هذا القول أن تقول: (والله أعلم
بما وضعت). ووجه قراءة من قرأ بضم التاء: أن ذلك كما يقول القائل
في الشئ: رب قد كان كذا وكذا - وأنت أعلم -، ليس يريد إعلام
الله سبحانه ذلك، ولكنه من قبيل التعظيم والخضوع والاستسلام
والبخوع [1]، وكقول القائل: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وكقول
الرجل لرب نعمته أنا غرس نعمتك ورقيق نعمتك. قال: ومما يقوي
قول من أسكن التاء قوله سبحانه: (والله أعلم بما وضعت)، ولو كان
من صلة قول أم مريم (ع) لكانت تقول: وأنت أعلم بما وضعت، لأنها
تخاطب الله سبحانه:
قلت أنا: وهذا القول غير سديد، لأنه لا يمتنع أن يكون ذلك
من قول أم مريم، وتقول مع ذلك: (والله أعلم بما وضعت) على مجرى
العادة في خطاب المعظم من العدول معه من كاف المواجهة إلى هاء الكناية،
وفي القرآن مثل ذلك كثير في خطاب الله تعالى وخطاب غيره: من
خروج عن كناية إلى مواجهة ومن مواجهة إلى كناية، ألا ترى إلى قوله
سبحانه: (الحمد لله رب العالمين) ثم: (إياك نعبد وإياك
نستعين)، والى قوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين
بهم بريح طيبة) [2] إلى غير ذلك مما في معناه، فأما من قرأ:
(2) يونس 32.

(1) البخوع: كالخنوع والخنوع والخضوع وزنا ومعنى
88

(والله أعلم بما وضعت) بضم التاء، فمعناه - والله أعلم - أنها
لما قلت: (رب إني وضعتها أنثى) لم تأمن أن يظن بها أنها مخبرة
فبينت بقولها: (والله أعلم بما وضعت) أنها إنما أرادت بقولها:
(رب إني وضعتها أنثى) إظهار ما لحقها من الخوف، إذ أدخلت في
النذر من ليس أهله، ولا يقوم بشرائطه، فجزعت من ألا يقبل
نذرها، ولا تتم قربتها، وما أوردناه في ذلك كاف بتوفيق الله.
9 - مسألة
(استبعاد زكريا أن يكون له غلام)
الجواب عن الشبهة في هذا الاستبعاد - منازل الأنبياء وما يجوز عليهم
ومن سأل عن معنى قوله تعالى - حاكيا عن زكريا -: (قال رب
أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال
كذلك الله يفعل ما يشاء - 40) فقال: كيف أقدم زكريا
- وهو نبي - على استبعاد أمر وعده الله به، وضمن كونه له؟! هذا
بعد أن كان هو السائل فيه والطالب له! فما الحجة في ذلك؟
89

فالجواب: أن في هذه المسألة أقوالا: -
1 - منها، أن الله سبحانه لما بشر زكريا بالولد، بعد مسألة
أن يهب له ذرية طيبة تكون وارثة لوفره وداعمة لظهره، وأيقن أن ذلك
كائن لا محالة - اعترف بالنعمة لربه سبحانه، فقال: (أني يكون لي
غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر)، لولا أنك فضلتني على كل من
كانت هذه حاله في الكبر والعقم واليأس من الولد!، وذلك أن الله
سبحانه لم يرزق الكبير والعقيم (ولدا قبل) [1] ذلك، فصارت هذه
النعمة خاصة لزكريا (ع) فاز بحظوتها وبان بمزيتها، فقال: أنى يكون
لي ولد لو سويت بيني وبين من هذه حاله! ولكنك فضلتني بمزية
هذه النعمة، وبلغتني ما لم يكن في الأمنية، ولم يقل ذلك على سبيل
التعجب، لأنه يعلم أن الله على كل شئ قدير، وكيف يجوز ان يحمل
ذلك منه على الاستبعاد لما وعد به والتعجب من كونه، وقد وعده
الله بوقوعه، وهو من الأنبياء الذين تلقوا شرف الوحي والرسالة،
وسمعوا حسيس الملائكة، وعلموا أن موعود الله صادق وأمره واقع،
وأنه سيورق الهشيم [2] ويستنتج العقيم؟!.
2 - وقيل فيها قول آخر، وهو: أن الله تعالى لما بشره
بالولد، وكان عنده أن العاقر لا تلد، والعقيم لا تنسل، قال: أنى يكون لي
ولد! أي: من أي امرأة أرزق الولد؟: من امرأتي هذه العاقر أم من

(1) في النسخ: ولذا قيل، وهو خطأ
(2) النبت اليابس المتكسر.
90

غيرها؟، ليعلم من أي النساء يرزق الولد الذي بشر به، فرجع الله سبحانه
إليه القول يخبره أنه هين عليه أن يهب له ذلك من العاقر مع الكبر،
فعلم أن الولد يكون من امرأته، وهي على تلك الصفة من العقم، زيادة في
قدر النعمة التي خولها، والمنزلة التي أهل لها، لا أنه تعجب من كون
ذلك، مع علمه بقدرة الله سبحانه عليه، ولكنه على سبيل الاستفهام:
أيرزق الولد من العقيم العاقر أو من الولود الناتق [1]؟.
3 - وقيل فيها قول آخر، وهو أن زكريا لما بشره الله
بالولد، تحقق كونه لا محالة، ولكنه أراد أن يعلم كيف يهبه له؟:
أيفعل سبحانه ذلك وهو وزوجته على ما هم عليه: من جلال السن
وتصرم العمر، أو يعيدهما إلى حال الشباب ثم يرزقهما الولد على
مجرى عادات الناس؟، وذلك كقول إبراهيم (ع) (رب أرني
كيف تحيى الموتى) (2) ليزداد بذلك علما إلى علمه، فأخبر
الله زكريا بقوله: (كذلك الله يفعل ما يشاء) أنه يرزقه الولد من
زوجته، وهما على حالهما من الكبر والعقم، لتكون النعمة أتم
والآية أعظم، لأنها جاءت بعقب اليأس من الولد، وكان موقعها منهما
فوق موقعها ممن يرجو الولد باقتبال زمانه وعنفوان شبابه. وكان
الحسن البصري يقول: عجبا لابن آدم! سأل ربه ان يرزقه الولد ففعل
ذلك، ثم قال: كيف ترزقنيه؟ فما جبهه عن حاجته دون ان اعلمه
ما سأل عنه، ولم يدر متى يكون ذلك! فأراد أن يرى علامة يعرف بها

(1) الناتق الولود، اي كثيرة الولد
(2) البقرة: 260.
91

أن الولد قد أخذ مستقره من بطن أمه، فقال: (رب أجعل لي
آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا.. 41)
4 - وقال أبو علي الجبائي: لم يقل زكريا ذلك ردا على
ربه وعلى ملائكته، ولكنه قال إقرارا بصحته واستعظاما لقدر النعمة
به، إذ جاء على اليأس من الامر المطلوب، وكان خارجا عن العادة
والتقدير. وهذه سبيل من كان آيسا من أمر يريده، ثم جاء من وجه
كان يستبعد مجيئه منه، أن يقول: كيف كان هذا؟ وكيف وقع؟
وما أعجب ما اتفق!، فكان قول زكريا ما قاله على هذه الطريقة،
لا إنكارا للقدرة ولا ذهابا مع عارض الشبهة.
ونحا أبو مسلم بن بحر هذا النحو وزاد فيه أن قال: إن من شأن من
بشر بما كان يتمناه أن يولد له فرط السرور عند أول ما يهجم على سمعه
ما يقتضيه، الاستئناف في المعرفة والزيادة في الاستبانة، ثم عند إنعام
الفكر ومراجعة العقل يعلم أن الله على كل شئ قدير.
5 - وذكر أبو جعفر الطبري عن عكرمة والسدي: أنهما قالا
في ذلك: (إن الملائكة لما نادت زكريا بالبشارة، اعترض ذلك
النداء الشيطان، فوسوس إليه أن ما سمعه من غير جهة الملائكة وأنه
من جهة الشيطان، ولو كان من الله تعالى لكان وحيا، فشك حينئذ
وقال ما قاله).
وهذا القول جهل عظيم من قائله، وقلة بصيرة بمنازل الأنبياء (ع)
وما يجوز عليهم مما لا يجوز، لأنهم عليهم السلام تجل أقدارهم عن تلاعب
92

الشياطين بهم، وأن يشكل نداء الشيطان من نداء الملك عليهم،
وإذا كانت الملائكة هي التي أتته بالبشارة، وقد جرت عادته - إذ
هو نبي - باستماع كلامها، وألف مهابطها، وثلج صدره بما تؤديه إليه
عن ربها، فأي عذر له في أن يعترضه الريب أو يختلجه الشك؟ وهل دليل
أدل على أن زكريا لم يشك في أن النداء الذي نودي به كان من قبل ربه،
من قوله في الجواب عنه: (رب أنى يكون لي غلام)؟، ولو كان
شاكا كما زعموا لما جعل رجع الخطاب متوجها إلى الله تعالى، بل جعله
مبهما وموقوفا، كما يفعل الشاك المرتاب، والذاهل الحيران، وكان
أقرب أحواله أن يقول: أنى يكون لي غلام، ولا يبدأ مخاطبا لله
سبحانه بقوله: (رب أنى يكون لي غلام)، فلما قال ذلك (استدللنا) [1]
بخروج الجواب على معرفة الخطاب. وهذا كاف بتوفيق الله.

(1) وفي (خ): استدلوا
93

10 - مسألة
(المسيح كلمة من الله)
السؤال عن تسمية المسيح بالكلمة وتذكير الضمير - الجواب عن تسميته
بالكلمة - استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل واسم المفعول - الحلف
بصفات الله تعالى - الفرق بين تسمية عيسى بالكلمة وبالروح
والمسيح - أقوى الوجوه في الجواب - الكلمة بمعنى: الشريعة والأوامر
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (يا مريم إن الله يبشرك بكلمة
منه اسمه المسيح.. الآية - 45) فقال: ما معنى الكلمة ههنا؟ ولم
سماه كلمة؟ ولم لم يعط التأنيث حقه، فيقول: اسمها المسيح، ليكون
الكلام مطردا والمعنى منتظما.
فالجواب: أن للعلماء أقوالا في ذلك:
1 - فمنها، أن الله سبحانه قد كان كرر ذكر المسيح (ع)
في منزلات الكتب المتقدمة لميلاده، ووعد بمبعثه، وبشر بنبوته،
فلما خلقه تعالى وبعثه قال: هذا كلمتي، أي: هذا ما كنت أخبر
به، وأكرر ذكر مورده، وذلك كقول القائل - إذا كان قد تقدم
اخباره بأمر متوقع وإنذاره بحادث منتظر، ثم وقع المتوقع وورد
94

المنتظر -: قد جاءكم قولي وقد رأيتم كلامي، ويقال له أيضا: هذا
قولك، أو هذا كلامك، اي: ما كنت تعد به وتخوف منه.
2 - وقول آخر. قيل: قد يجوز أن يكون معنى ذلك أن
الله سبحانه قال: نبشرك بكلمة، يعني: بولد ذكر يكون نبيا يهتدى
به كما يهتدى بكلمات الله سبحانه، فلذلك سماه: كلمة، على التشبيه
بالكلمة الموضوعة للبيان والدلالة، لان الكلمة في الحقيقة (عين) [1]
الكلام، وعيسى (ع) ليس بكلام ولا من جنس الكلام، ولمثل هذا
أيضا سماه الله: روحا، لان العباد يحيون به في أديانهم، كما يحيون
بالأرواح في أبدانهم.
3 - وقول آخر. قال بعضهم: الكلمة من الله سبحانه ههنا
هي: الوعد، وكأنه تعالى قال: يبشرك بوعد الله الذي سبق، ومثل
ذلك في القرآن كثير: قال سبحانه: (لا تبديل لكلمات الله) [2]
اي: لما وعد الله به، وقال تعالى: (ولكن حقت كلمة
العذاب على الكافرين) [3] وقال سبحانه: (وحق عليهم
القول) [4]، وقال: (وإذا وقع القول عليهم) [5]،
والقول والكلمة بمعنى واحد. وهذا قول أبي مسلم بن بحر، وهو
يلاحظ القول الذي ذكرناه أولا، وبقي عليه فيه فضل بيان كان ينبغي
ان يشير إليه، وهو أنه إذا قرر أن تكون الكلمة ههنا بمعنى الوعد،

(1) وفي (خ): هي، وفي أخرى (غير).
(2) يونس: 64
(3) زمر: 71.
(4) فصلت: 25.
(5) النمل: 82.
95

فالعبارة بها عن المسيح (ع) مجاز، لأنه لا يجوز ان نقول: إن المسيح
وعد الله، إلا ونحن نريد أنه موعود الله، كما قال الشاعر:
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم * كما في بطون الحاملات رجاء
أي: مرجو. ولهذا قال الفقهاء: إن الحالف بكل ما كان
من صفات الله تعالى التي استحقها لنفسه يكون حالفا بالله سبحانه،
نحو قوله: وقدرة الله، وجلالة الله، وعظمة الله، وكذلك سائر
الصفات النفسية، لان قوله: وقدرة الله، بمنزلة قوله: والله القادر،
وقوله: وعظمة الله، بمنزلة: والله العظيم، إذ ليس هناك قدرة
بها كان قادرا ولا عظمة كان بها عظيما، فكان ذلك حلفا بالله تعالى،
لأنه لا معنى يقع الحلف به ههنا غير الله سبحانه. وهذا المعنى مستمر
في نظائر هذه الصفات إلا في شئ واحد وهو: قول القائل: وعلم الله
لأفعلن كذا، فلم يجعلوا ذلك يمينا، لان هذا في الاستعمال يراد به
معلوم الله، كما تقول: اللهم اغفر لنا علمك فينا وشهادتك علينا،
ومعناه: معلومك فينا، وقد يطلق المصدر ويراد به المفعول، وهو
كثير في اللغة والعادة: قال الله سبحانه: (واعبد ربك حتى يأتيك
اليقين) [1]، يريد تعالى: الموقن به، وعلى هذا أيضا تقول:
اللهم أنت أملنا ورجاؤنا، أي: مرجونا ومأمولنا.
وإذا كان قول الحالف: وعلم الله، بمعنى: ومعلوم الله، وكان
اسم المعلوم يدخل تحته غير الله تعالى، لم يصح الحلف به، وكان

(1) الحجر: 99
96

الحالف بذلك كالحالف بغير الله سبحانه، ولا يلزم على هذا قول من يقول:
إنه يجوز أن يكون قولهم: وقدرة الله، بمعنى: ومقدور الله، فيكون
كالعلم والمعلوم، فلأي معنى وقع التفريق بينهما؟. لان مقدور الله سبحانه
لا يكون إلا معدوما، إذ كان الموجود لا يكون مقدورا، وليس في العادة
الحلف بالمعدوم، فأما المعلوم فهو يقع على الموجود والمعدوم، فجاز
الحلف به لما ذكرناه.
وبان بذلك أن قول من قال: إن الكلمة بمعنى الوعد، لا بد من
أن يحملها على معنى الموعود، للوجه الذي قدمناه.
4 - ووجه آخر. قيل: إنما وصف بأنه كلمة، من حيث
كانت البشارة - التي هي كلمة - ابتداء معرفته، والمطرقة [1] بين يدي
مورده. وقد اعترض ذلك بأن قيل: لو جاز هذا لجاز أن يوصف
الانسان بأنه نطفة بعد تسوية خلقه وتكامل أجزاء جسمه، لان ابتداء
خلقه من نطفة، وهذا ممتنع!
5 - وحكي عن أبي الهذيل العلاف: أنه قال: إن
المراد بذلك قوله تعالى: (كن)، فكان، وإنما خص عيسى (ع)
بهذه التسمية - وإن كان كل مولود يكون عند قوله سبحانه له: (كن) -
لان كل مولود غيره إنما يكون على طريق العلوق من الرجال، وبتوسط
الحمل والولادة وليس كذلك حال عيسى (ع)، فجاز اختصاصه بهذا

(1) اسم مفعول من طرق (بتشديد الراء)، إذا جعل الطريق،
ومراده: الممهدة، ويحتمل أن تكون العبارة (مولده) بدل (مورده)
97

الاسم لاختصاصه بهذا المعنى.
6 - وحكي عن النظام: (أنه وصف (ع) بذلك على طريق
اللقب، إذ لا معنى يشار إليه يمكن أن يقال لأجله وصف بذلك، كما
يمكن أن يذكر في وصفه بأنه المسيح - على اختلاف الناس في معنى
هذه اللفظة - وأنه روح الله وما يجري هذا المجرى، فان ما تحت ذلك
- أجمع - من المعاني معقول، فجرى وصفه بأنه كلمة مجرى وصف أبي إبراهيم
بأنه آزر). ولا أعلم لأي حال فرق النظام بين تسميته بروح الله
وبالمسيح، وبين تسميته بكلمة الله؟، فان ساغ أن يجعل كلمة الله
لقبا ساغ أن يجعل روح الله لقبا، وإن جاز أن نتأول المسيح والروح على
المعاني المذكورة فيهما، جاز أن نتأول الكلمة أيضا على المعاني المذكورة
فيها، فلا معنى للتفريق بينهما.
وأقوى هذه الوجوه التي ذكرناها أن تكون الكلمة ههنا بمعنى:
عدة الله التي تقدم وعده بها، أو يكون إنما سماه تعالى كلمة، لأنه
يهدي به كما يهدي بكلمته، فكان ذلك على وجه التشبيه.
ومما يقوي قول من قال: إن الكلمة بمعنى الوعد ههنا، قوله
سبحانه في براءة: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي
العليا... - 40) قال جماعة من المفسرين: إن كلمة الذين كفروا
ههنا ما سبق من وعدهم باطفاء نور رسول الله صلى الله عليه وآله، ونحت
أثلته [1] وتعفية شريعته، وكلمة الله ههنا: ما سبق من وعده تعالى

(1) يقال: (نحت أثلة فلان) إذا عابه وطعن في حسبه، وهو من الكنايات المشهورة.
98

باعلاء بنيانه، ورفع أعلامه، وإبعاد صوته (وصيته) [1]، وتشريف بيته،
وكفايته أمر أعدائه، لقوله سبحانه: (فسيكفيكهم الله
وهو السميع العليم) [2]، ولقوله تعالى: (والله يعصمك
من الناس) [3]، إلى غير ذلك مما يشبهه.
وقد تجئ الكلمة بمعنى: الشريعة والأوامر المفترضة، وذلك
كقوله تعالى: (وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من
القانتين) (4) أي: بشرائعه وأوامره، ومثل ذلك قوله سبحانه في
السورة التي يذكر فيها الفتح: (يريدون أن يبدلوا كلام الله - 15)
- و (كلم الله)، على اختلاف القراءتين - أي: أوامر الله
وفرائضه، والكلم: جمع كلمة، وهي قراءة حمزة والكسائي، وباقي
القراء السبعة يقرءون: (كلام الله)، فعلى هذا المعنى أيضا يجوز
أن يكون قوله تعالى: (بكلمة منه) فيه تقدير مضاف مسقط، فكأنه
تعالى قال: (يبشرك) [5] بصاحب شريعة أو مبين فريضة، أو ما يجري
هذا المجرى.

(1) زيادة في بعض النسخ.
(2) البقرة: 137.
(3) المائدة: 67.
(4) التحريم: 12.
(5) وفي (خ): نبشرك.
99

فصل
(تذكير ضمير كلمة في الآية)
حمل الكلام على المعنى في التأنيث والتذكير - عجائب القرآن
في بلاغته - تفريق القرآن بين الإناث والذكور بالتنكير والتعريف
فأما قوله تعالى: (بكلمة منه اسمه المسيح)، ولم يقل: اسمها، فإنه
حمل الكلام على المعنى لا على اللفظ، فذكر، لان معنى الكلمة ههنا
مذكر، وهو: عيسى (ع) أو الشئ أو الولد أو الشخص، وكل
ذلك مذكر: وعلى هذا قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتا على
ما فرطت في جنب الله... بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها...
الآية) [1] على خطاب المذكر في إحدى القراءتين، لأنه تعالى عنى
بذلك: الانسان ذا النفس، وعلى هذا قول الشاعر (2):
من حديث نمي إلي فما ير... فأدمعي ولا ألذ شرابي
مرة كالذعاف أكتمها الناس * على حر ملة كالشهاب

(1) الزمر: 56 - 59.
(2) ذكر في (التاج) البيت الأول
دون الثاني مع جملة أبيات في مادة (ظرب) ولم ينسبها لاحد، وفي روايته
للبيت اختلاف عما هنا. قال قال الشاعر:
ان جنبي عن الفراش لناب * كتجافي الأسر فوق الظراب
من حديث نمي إلى فما ترقأ * عيني ولا أسيغ شرابي
قال: (والأسر: البعير في كركرته دبره). والظرب: الرابية الصغيرة
جمعها: ظراب والشهاب: كل ساطع متولد من النار
100

فجعل مرة نعتا لحديث، لأنه حمل الحديث على معنى الكلمة،
فأنث لهذه العلة، وهذا كقول الشاعر:
إني أتتني لسان لا أسر بها * من علو لا عجب منها ولا سخر [1]
فأنث لأنه جعل اللسان ههنا بمعنى الرسالة أو القولة أو الصحيفة المتضمنة
لذلك، والدليل على أن المراد باللسان ههنا ما ذكرناه قول الآخر [2]:
ندمت على لسان كان مني * وددت بأنه في جوف عكم
ولو لم يرد الكلام لم يصح المعنى، لان الندم لا يكون على الأعيان
والاشخاص، وإنما يكون على الأقوال والأفعال.
ومن غرائب القرآن وبدائعه وعجائبه وغوامضه، قوله سبحانه
في هذه السورة: (بكلمة منه اسمه المسيح)، فذكر على المعنى الذي

(1) من قصيدة لا عشى باهلة يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي لما
جاءه الخبر بتقطيعه عضوا عضوا حتى قتل، صنع به ذلك قوم صلاءة بن العنبر
الحارثي ثأروا بصلاءة لما أسره المنتشر وصنع به ذلك. (اللسان): قال
المبرد في كامله: (يقال: هو اللسان وهي اللسان، فمن ذكر فجمعه
السنة كحمار وأحمرة، ومن أنث قال: لسان والسن كذراع وأذرع، لا تبالي
أمضموم الأول كان أو مفتوحا أو مكسورا إذا كان مؤنثا... قال: وأراد
باللسان ههنا: الرسالة) انتهى ملخصا. غلو الشئ: أرفعه نقيض أسفله،
اي: اتتني رسالة من أعلى نجد أو البلاد. وفي الصحاح (علو في البيت:
يروي بضم الواو وفتحها وكسرها) والأرجح الضم - كما أثبتناه - على أن يكون
مبنيا كقبل وبعد.
(2) الحطيئة العبسي: العكم: بالكسر، العدل ما دام فيه المتاع ونمط
تجعل المرأة فيه ذخيرتها، وبالفتح داخل الجنب، والظاهر هو المراد.
101

ذكرناه، لأنه سبحانه لو قال: اسمها المسيح، لألبس اللفظ، إذ لم
يتقدم من ذكر المسيح (ع) ما يؤمن معه الالباس، فلما جاء في السورة
التي يذكر فيها النساء ما أمن معه الالباس، أعطى سبحانه الكلمة حقها
ووفاها قسطها، فأنث ضميرها، لان ذكر المسيح (ع) قد تقدم،
فأمن اللبس وارتفع الشك قال سبحانه: (إنما المسيح عيسى بن
مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه...) [1]
فقال: ألقاها، ولم يقل: ألقاه، لما تقدمت أسماء المسيح وتعريفاته
التي تؤمن من الالباس: وهي المسيح، وعيسى بن مريم، وإذا
نظرت بعين عقلك بان لك ما بين الموضعين من التمييز البين والفرق النير،
وعجبت من عمائق قعر هذا الكتاب الشريف الذي لا يدرك غورها،
ولا ينضب بحرها، فإنه كما وصفه سبحانه (بقوله) [2]: (لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه...) [3]، ومن أحسن ما قيل
في تفسير ذلك (انه لا يشبه كلاما تقدمه ولا يشبهه كلام تأخر عنه،
ولا يتصل بما قبله ولا يتصل به ما بعده، فهو الكلام القائم بنفسه
البائن من جنسه، العالي على كل كلام قرن إليه وقيس به)، وإنه (ليرى
فيه) (4) عند الانفراد بتلاوته: من غرائب الفصاحة وثواقب البلاغة
ونوادر الكلم وينابيع الحكم، ما يعجز الخواطر عن الكلام عليه

(1) النساء: 171
(2) وفي (خ): بقول
(3) فصلت: 42
(4) وفي (خ): (ليمضى برقية) وفي أخرى:
(ليمضي برقية)، والظاهر ما أثبتناه.
102

و (الانصياح) (1) عن عجائب ما فيه، فمن ذلك ما تنبه عليه خاطري
منذ ليال، وقد بلغت من وظيفة التلاوة إلى السورة التي يذكر فيها الشورى،
وهي (حم عسق)، وذلك قوله تعالى في آخر هذه السورة:
(لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا
ويهب لمن يشاء الذكور - 49)، فانظر إلى لطيف فرقه تعالى
بين الإناث والذكور، بأن جعل الإناث نكرة والذكور معرفة، فقال:
(إناثا) ثم قال: (الذكور)!، لأنهم أعرف سمات وأعلى
طبقات، وهذا من لطائف الحكمة وشرائف البلاغة. وفيه من
أمثال ما ذكرناه ما لا تحصى أعداده ولا تبلغ آماده، ولعلي أن
أورد في أثناء هذا الكتاب بتوفيق الله من هذا المعنى ما يكون غررا
شارخة (2) ولمعا ثاقبة، منبها على غوامضه ومشيرا إلى مواضعه، مما
لا أعلم سابقا سبقني إلى استنباطه، ولا راميا رمى قبلي في أغراضه،
إن شاء الله تعالى. وفي ما ذكرناه من هذه المسألة كاف بعون الله وتوفيقه.

(1) الانصياح: التشقق، ويراد به ان الخواطر تعجز عن أن تكون
منشقة عن عجائبه، وفي (خ): الايضاح.
(2) أراد: ناتئة وبارزة.
103

11 - مسألة
(نسبة الامتراء إلى النبي!)
الجواب عن الشبهة - معنى سؤال النبي من تقدمه من الرسل -
حديث (ليس منا من غشنا) - معاني (من) الجارة.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (الحق من ربك فلا
تكن من الممترين - 60)، فقال: ظاهر هذا الخطاب
للنبي صلى الله عليه وآله، فكيف يجوز عليه الامتراء والشك، وقد
باشر برد اليقين، وتلقى عن الروح الأمين؟، والشاك لا يكون نبيا،
ولا عن الله مؤديا!.
فالجواب: أن في ذلك أقوالا:
1 - أحدها، أن الله تعالى خاطب النبي بمثل هذا الخطاب
ونظائره، والمراد به أمته، وذلك في القرآن كثير: كقوله تعالى:
(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك..) [1]، والمراد بذلك من يشك من أمة
النبي صلى الله عليه وآله، وأوضح ما ورد في القرآن من هذا الضرب: مما يدل

(1) يونس: 94
104

على أن المخاطب به الأمة دون النبي صلى الله عليه وآله، قوله تعالى: (يا أيها
النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن... الآية) [2]،
فوحد ثم جمع، ليعلم أن الخطاب للأمة، وإنما يبتدئ تعالى بخطاب
النبي قبلها، إذ كان المؤدي عنه إليها، والسفير بينه وبينها، والشهيد
له عليها، واللسان الناطق عنها، ولان مثل هذا القول لا يلتبس على
العقلاء، لأنهم إذا رجعوا إلى أدلة العقول علموا أن الأنبياء لا يجوز عليهم
الامتراء في الدين، والشك بعد اليقين، فيصرفون الخطاب إلى
منصرفه، ويحملونه على الوجه الأليق به، وهو: أن يكون خطابا
للأمة التي يجوز عليها المرية، ويدخل عليها الوهن والنقيصة، ألا ترى
أنهم لما سمعوا قوله في السورة التي يذكر فيها الزخرف مخاطبا للنبي صلى الله عليه وآله:
(وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن
آلهة يعبدن - 45)، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وآله لا يمكنه مسألة من
تقدم من الرسل، وقد عمهم الله برضوانه ونقلهم إلى جنانه - (2) تأولوا ذلك
على ما يسوغ أن يكون مرادا، فقالوا: معنى ذلك: فاستعلم ما في
كتب الأنبياء قبلك، وتعرف ما خلد في أساطيرهم وحفظ من أحكامهم
وشرائعهم، فإنك تجد فيها ما يدلك على أنه لا إله مع الله تعالى!، فجعلوا
استقراء ما في كتب الأنبياء كمسألة الأنبياء، لأنه عليه السلام لو أمكن
أن يسألهم عن ذلك لما أجابوا إلا بما بقوا في كتبهم، وخلدوا في قصصهم
وأساطيرهم التي حفظها ثقات أممهم، ونقلها ديانو قومهم.

(1) الطلاق: 1
105

وقد قيل: إن معنى ذلك واسأل تباع من أرسلنا، فحذف التباع وأقام
المرسلين مقامهم، وهذا أيضا مطابق للغرض الذي أردناه. وقد قال
بعضهم في ذلك: إن المراد به واسأل الأنبياء الذين في السماء، ويحتمل
أن يكون ذلك قبل اجتماعه (ع) معهم في ليلة المعراج، على ما جاءت به
الاخبار، قال: والسؤال واقع بالأرواح، وكأنه تعالى قال: واسأل
أرواحهم، وقال غيره: السؤال واقع بالاشخاص. وفي هذا الوجه
نظر، والصحيح في ذلك الوجهان الأولان.
2 - وقد قيل في المسألة وجه آخر، وهو: (أن يكون تعالى
أمر نبيه (ع) بالثبات على ما هو عليه وترك الشك فيه، (ليألوا) [1]
عليه لزوم طريقته، كما يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فتعمد بري،
ولعبده: أن كنت عبدي فاسمع لي وأطع أمري، وإنما يريد القائل
بذلك تقرير الولد والعبد بوجوب حقه واستدامتهما على بره وطاعته).
وهذا القول غير سديد، والتمثيل بما يقوله الرجل لابنه وعبده غير
مستقيم، لان الرجل إنما يقول لابنه وعبده هذا، استزادة لهما، وعند
ظهور أمر يكرهه منهما، ونحن لا نطلق على النبي صلى الله عليه وآله مقاربة فعل
يكرهه الله سبحانه منه، فيقول تعالى له ما قال تثبيتا على أمره، وردا
له عن مواقعة فعل لا يليق بمثله!.

(1) من ألوت الشئ ألوا، اي: ما تركته، فيكون المراد ليديم
عليه لزوم طاعته، وفي النسخ: (ليولوا) وهي غير ظاهرة المعنى، فأبدلناها
بأقرب كلمة لها يصح بها المعنى
106

3 - وقال بعضهم: ليس المراد بقوله تعالى: (فلا تكن
من الممترين) للنبي صلى الله عليه وآله، ولكنه خاطب السامع للبرهان: من
المكلفين كائنا من كان، فكل من سمعه منهم كان خطابا له
ومصروفا إليه.
4 - وفي ذلك وجه آخر، وهو: أنه يجوز أن يكون تعالى
أمر النبي صلى الله عليه وآله بألا يكون من الممترين، ليس بأنه داخل معهم في
المرية والشك، ولكنه سبحانه أمره بألا يكون منهم بالمقاربة لهم والصبر
عليهم والمقارة على قبيح فعلهم، كما قلنا في ما تقدم من كتابنا هذا.
وقد اعترض تأويل قوله تعالى - حاكيا عن يونس (ع) -:
(سبحانك إني كنت من الظالمين) [1] أي: كنت منهم بالمساكنة
والمقاربة والممازجة والمناسبة، لا بالدخول معهم في ظلمهم، والرضا
بذميم طريقهم (1)، وذلك كقول النبي صلى الله عليه وآله: (ليس منا من غشنا) [2]،
قال بعض العلماء في ذلك: (أرأيت لو كان معه مائة كر برا (ثم) [3]
خلط بها مكوكا من شعير أكان يبرأ من الاسلام؟!، ولكن معناه
ليس من أخلاقنا أوليس من أفعالنا أوليس ممن نتولاه ونحبه ونحمد
طريقته ومذهبه، أي: هو مناف لخلائقنا وسائر طرائقنا)، وروي
عن أمير المؤمنين علي (ع): أنه قال: (ليس منا ههنا معناه: ليس

(1) الأنبياء: 87.
(2) وفي (خ): (عنتنا) بدل (غشنا)،
وخطأ من النساخ والرواية المشهورة عنه صلى الله عليه وآله هكذا (من غشنا
فليس منا)، ورويت بعبارات اخر متقاربة اللفظ، وحدها ما في المتن.
(3) زيادة في بعض النسخ.
107

مثلنا)، وهذا أحسن ما قيل في هذا المعنى، ومثل ذلك قوله تعالى
لنوح (ع) في ابنه: (ليس من أهلك) [1]، أي: ليس من
أهلك المقتدين بك والسالكين لمذاهبك، ثم قال تعالى - حاكيا
عن إبراهيم (ع) -: (فمن تبعني فإنه مني) [2]، وأكثر من
اتبعه من لم يكن من أهله، وإنما أراد أنهم منه بلزوم طرائقه والتخلق
بخلائقه، فإذا كانت (من) تتصرف على وجوه كثيرة قد أشرنا إلى
بعضها، جاز أن نتأول قوله تعالى: (فلا تكن من الممترين) على
الوجه الذي ذكرناه آنفا. على أن أصح الأقاويل في ذلك، القول الذي
أوردناه أولا: من أن لفظ الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله ومعناه لامته، لان
نظائر ذلك كثيرة، وهذا مقنع بتوفيق الله تعالى.

(1) هود: 46
(2) إبراهيم: 36
108

12 - مسألة
(دعاء الأنفس في آية المباهلة)
دعاء الأنفس مصروف إلى علي (ع) - الآمر لا يجوز دخوله
تحت امره - سؤال المأمون عن دعاء الأنفس واحتجاجه وجواب
الرضا (ع) - اطلاق النفس على ابن العم والقريب والأخ في الدين -
تسمية ابن البنت ابنا - صحة دخول الصبي في المباهلة.
ومن سأل عن قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد
ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم... الآية - 61)، فقال:
أما دعاء الأبناء والنساء فالمعنى فيه ظاهر، فما دعاء الأنفس؟ والانسان
لا يصح أن يدعو نفسه كما لا يصح أن يأمر وينهى نفسه!
فالجواب عن ذلك: أن العلماء أجمعوا والرواة أطبقوا على أن رسول
الله صلى الله عليه وآله لما قدم عليه وفد نصارى نجران، وفيهم الأسقف (وهو أبو
حارثة بن علقمة) والسيد والعاقب [1] وغيرهم من رؤسائهم، فدار

(1) العاقب: الذي يخلف السيد وهو ثانيه في الرتبة، واسم
هذا: عبد المسيح، واسم السيد الأيهم.
109

بينهم وبين رسول الله في معنى المسيح (ع) ما هو مشروح في كتب
التفاسير (ولا حاجة بنا إلى استقصاء شرحه لأنه خارج عن غرضنا في
هذا الكتاب)، فلما دعاهم صلى الله عليه وآله إلى الملاعنة، أقعد بين يديه
أمير المؤمنين عليا، ومن ورائه فاطمة، وعن يمينه الحسن، وعن يساره
الحسين، عليهم السلام أجمعين، ودعاهم (هو) [1] صلى الله عليه وآله
إلى أن يلاعنوه، فامتنعوا من ذلك خوفا على أنفسهم، وإشفاقا من عواقب
صدقه وكذبهم، وكان دعاء الأبناء مصروفا إلى الحسن والحسين عليهما
السلام، ودعاء النساء مصروفا إلى فاطمة عليها السلام، ودعاء الأنفس
مصروفا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، إذ لا أحد في الجماعة يجوز أن يكون
ذلك متوجها إليه غيره لان دعاء الانسان نفسه لا يصح، كما لا يصح
أن يأمر نفسه [2].

(1) زيادة في بعض النسخ.
(2) ولم يدع النبي صلى الله عليه وآله أحدا غير علي (ع) من بني هاشم ولا
من الصحابة. كما لم يدع غير فاطمة من النساء وغير الحسن والحسين من
البنين. على ما نص عليه المؤرخون وعلماء التفسير: منهم (احمد) في
مسنده ج 1 ص 185. (ومسلم) في صحيحه ج 2 ص 237. و (الحاكم) في
المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 150 طبع حيدر آباد الدكن. و (الترمذي)
في سننه في فضائل علي. (وأبو نعيم) الأصبهاني في دلائل النبوة ص 124 طبع
حيدر آباد الدكن. و (ابن الصباغ) المالكي في الفصول المهمة ص 129.
وفي (الصواعق) لابن حجر ص 87، 93. و (تاريخ الخلفاء) للسيوطي ص 65.
. و (كامل ابن الأثير) ج 2 ص 112. (وكنز العمال) ج 6 ص 407
وفي ترجمة علي من كتاب (أسد الغابة)، ومن (الإصابة) ومن (تهذيب
الأسماء واللغات). وفي تفسير هذه الآية من (تفسير الرازي الكبير)،
و (الدر المنثور) للسيوطي، و (الكشاف)، و (البيضاوي)، و (لباب
التأويل) للخازن، و (معالم التنزيل) للبغوي بهامش لباب التنزيل، و (أسباب
النزول) للواحدي.. إلى غير ذلك مما لا يحصى.
110

ولأجل ذلك قال الفقهاء: إن الآمر لا يجوز أن يدخل تحت
الامر، لان من حقه أن يكون فوق المأمور في الرتبة، ويستحيل
أن يكون فوق نفسه، ومما يوضح ذلك ما رواه الواقدي في كتاب
(المغازي): (من أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أقبل من بدر ومعه أسارى
المشركين، كان سهيل بن عمرو مقرونا إلى ناقة النبي فلما صار من المدينة
على أميال (انتشط) [1] نفسه من القرن وهرب، فقال النبي صلى الله عليه وآله:
من وجد سهيل بن عمرو فليقتله!، وافترق القوم في طلبه، فوجده
النبي صلى الله عليه وآله من بينهم، منقبعا إلى جذم شجرة (2)، فلم يقتله وأعاده إلى
الوثاق)، لأنه لم يصح دخوله تحت أمر نفسه، ولو وجده غيره من
أصحابه لوجب عليه أن يقتله، لما صح ان يدخل تحت امر النبي صلى الله عليه وآله.
ويفرق الفقهاء بين ذلك وبين الخبر العام، لأنهم يجوزون دخول
المخبر تحته، وعلى هذا قالوا: إن الامام إذا قال: من قتل قتيلا فله
سلبه، فإنه يدخل تحت ذلك، إلا أن يخرج نفسه منه بقوله: من
قتل منكم قتيلا فله سلبه، فيخرج نفسه حينئذ من ذلك.

(1) انتشط: اجتذب. وفي (خ): أنشط. والقرن: حبل يجمع به
البعيران
(2) انقبع: استتر وانزوى. والجذم: الأصل.
111

ومن شجون (1) هذه المسألة ما حكي عن القاسم بن سهل النوشجاني و
قال: كنت بين يدي المأمون في إيوان أبي مسلم بمرو، وعلي بن موسى
الرضا (ع) قاعد عن يمينه، فقال لي المأمون: يا قاسم! أي فضائل
صاحبك أفضل؟ فقلت: ليس شئ منها أفضل من آية المباهلة، فان
الله سبحانه جعل نفس رسوله صلى الله عليه وآله ونفس علي واحدة، فقال لي: إن
قال لك خصمك: إن الناس قد عرفوا الأبناء في هذه الآية والنساء،
وهم: الحسن والحسين وفاطمة، وأما الأنفس فهي نفس رسول الله
وحده، بأي شئ تجيبه!، قال النوشجاني: فأظلم علي ما بينه وبيني
وأمسكت لا اهتدي بحجة، فقال المأمون للرضا عليه السلام: ما تقول
فيها يا أبا الحسن؟، فقال له: في هذا شئ لا مذهب عنه، قال:
وما هو؟، قال: هو انه رسول الله صلى الله عليه وآله داع ولذلك قال الله سبحانه:
(قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم.. إلى آخر الآية) والداعي لا يدعو
نفسه إنما يدعو غيره، فلما دعا الأبناء والنساء ولم يصح ان يدعو نفسه
لم يصح ان يتوجه دعاء الأنفس إلا إلى علي بن أبي طالب (ع)، إذ
لم يكن بحضرته - بعد من ذكرناه - غيره ممن يجوز توجه دعاء الأنفس
إليه، ولو لم يكن ذلك كذلك لبطل معنى الآية. قال النوشجاني:
فانجلى عن بصري، وامسك المأمون قليلا، ثم قال له: يا أبا الحسن إذا
أصيب الصواب انقطع الجواب!.

(1) جمع شجن بالتحريك، وهو الشعبة من كل شئ، ومنه المثل:
(الحديث ذو شجون)
112

وقال بعض العلماء: إن للعرب في لسانها أن تخبر عن ابن العم
اللاصق والقريب المقارب: بأنه نفس ابن عمه، وأن الحميم نفس
حميمه، ومن الشاهد على ذلك قول الله تعالى: (ولا تلمزوا
أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب..) [1]، أراد تعالى: ولا تعيبوا
إخوانكم المؤمنين، فأجرى الاخوة بالديانة مجرى الاخوة في القرابة،
وإذا وقعت النفس عندهم على البعيد النسب كانت أخلق ان تقع على
القريب السبب، وقال الشاعر [2]:
كأنا يوم قرى * إنما نقتل إيانا
أراد: كأنما نقتل أنفسنا بقتلنا إخواننا، فأجرى نفوس أقاربه
مجرى نفسه، لشوابك العصم [3] ونوائط اللحم (4) وأطيط (5)

(1) الحجرات: 11
(2) الشاعر: ذو الإصبع العدواني، وبعده:
قتلنا منهم كل... فتى ابيض حسانا
وقرى: موضع أو واد، ويقال له: قرى سحبل، وهو في بلاد الحارث بن كعب،
ومنه يوم قرى. قال جعفر بن علبة الحارثي:
ألهفي بقرى سحبل حين أجلبت * علينا الولايا والعدو المباسل!
وأنشد أبو علي القالي لطفيل:
غشيت بقرى فرط حول مكمل * رسوم ديار من سعاد ومنزل
وفي مجمع الأمثال: يوم سحبل وهو للحارث بن كعب.
(3): جمع عصمة بالكسر. قال في اللسان: عصمة النكاح: عقدته. قال عروة بن الورد:
اذن لملكت عصمة أم وهب * على ما كان من حسك الصدور
(4) النوائط: جمع نائط: اسم فاعل من ناط الشئ: إذا علقه.
اللحم: جمع لحمة بالضم: القرابة.
(5): حنين.
113

الرحم، ولما يخلج من القربى القريبة، ويتحرك من الأعراق
الوشيجة [1]. فأما قول الله تعالى في النور [2]: (فإذا دخلتم بيوتا
فسلموا على أنفسكم... الآية - 61)، فيمكن أن يجري هذا المجرى،
لأنه جاء في التفسير: أن معنى ذلك فليسلم بعضكم على بعض
لاستحالة أن يسلم الانسان على نفسه، وإنما ساغ هذا القول، لان
نفوس المؤمنين تجري مجرى النفس الواحدة، للاجتماع في عقد الديانة،
والخطاب بلسان الشريعة، فإذا سلم الواحد منهم على أخيه كان كالمسلم
على نفسه، لارتفاع الفروق واختلاط النفوس.
وفي هذه الآية أيضا دليل على أن ابن البنت يسوغ تسميته ابنا في
لسان العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى: (قل تعالوا ندع أبناءنا
وأبناءكم...)، وقد أجمع العلماء على أن المراد بذلك الحسن والحسين
عليهما السلام، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال للحسن: إن

(1): المشتبكة المتصلة.
(2) خالف المؤلف هنا ما جرت عادته به من التعبير عن السور، فقد
التزم غالبا أن يعبر عن أسماء السور بقوله: (السورة التي يذكر فيها كذا)،
ولعله عدل هنا للطف هذه التسمية، وعمد الايهام المستهجن الذي أشرنا إليه صفحة (1)
. وهذا يدلنا على أنه لم يكن التزامه بهذا التعبير استنادا لتلك الرواية الضعيفة
التي ذكرناها هناك، وله تعبيران آخران: التعبير المعروف عند الناس. وأن يقول
: (السورة التي في كذا). وعدوله عن التعبير المشهور قد لا يكون لدفع
الايهام المستهجن، كما في مثل (سورة البقرة والفيل) بل لدفع ايهام نسبة
السورة لمن أضيفت إليه حيث يكون من أسماء الرجال كيوسف وإبراهيم.
114

ابني هذا سيد. وقد قال بعضهم: أن هذا مخصوص في الحسن
والحسين أن يسميا ابني رسول الله دون غيرهما، قال: ومن الدليل
على خصوص ذلك فيهما قول النبي صلى الله عليه وآله: (كل سبب ونسب ينقطع
يوم القيامة إلا سببي ونسبي)، وليس يتوجه قوله: (ونسبي)،
إلا إلى من ولدته فاطمة ابنته (ع)، إذ ليس هناك ولد ذكر من
صلبه اتصل نسبه وضرب عرقه، فالنسب إليه من ولد ابنته.
وروى الحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة، عنه: (إن من
أوصى لولد فلان، وله ولد ابن وولد بنت، دخل ولد البنت في
الوصية)، فعلى هذا القول يسوغ أن يسمى ابن البنت ولدا [1].
وقال لي شيخنا أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي: رواية الحسن بن زياد في
ذلك تخالف قول محمد بن الحسن، فان محمدا يقول في هذه المسألة: (إن
الوصية لولد الابن دون ولد البنت).
فان قال قائل: كيف صح دخول الحسن والحسين في المباهلة (وهي:
الملاعنة)، وهما صغيران، والأطفال لا يستحقون اللعن، ولو كانوا
أطفال المشركين، لأنهم لا ذنوب لهم استحقوا بها ذلك [2]؟ فالذي

(1) ولهذا أفتى المرتضى (ره) بجواز اخذ الخمس الهاشمي لأولاد الهاشميات،
وإن لم يكن آباؤهم هاشميين.
(2) احتج ابن أبي علان من شيوخ المعتزلة بهذه الآية، على أن المباهلة تجوز
مع غير البالغين، لان الحسنين (ع) لم يكونا بالغين، فقد خالف من يقول: ان المباهلة
لا تصح الا مع البالغين، ولكن الامامية على ما وقفت عليه في جملة ما لدي من
التفاسير أجابوا - بعد أن سلموا بان البلوغ لا يشترط في المباهلة -: بأنها إنما
تتوقف على كمال العقل والتمييز وإن لم يحصل البلوغ، وقد كان الحسنان عليهما السلام في
سن لا يمتنع معها ان يكونا كاملي العقل فيما بين الخمس والسبع، وأكملوا جوابهم
بأنه يجوز ان يخرق الله سبحانه العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم
غيرهم، إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانتهم. ومن غريب امر المؤلف انه اخذ على
نفسه في كتابه هذا الابتعاد عن الانشقاقات المذهبية والتحيز إلى الفئات. والطوائف
الاسلامية، فإنك قلما تجد في علماء التفسير من مر على هذه الآية الكريمة ولم
تتمرد عليه عقيدته ولم تطوح به سريرته، فيتطلع كيده ويتأبر أديمه ما عدى
المؤلف، وعقيدته معروفة، فإنه ذهب في كتابه هذا على العدوة المثلى والخطة
البريئة، وهكذا كان يتنزه في سائر مؤلفاته عن التحيز والميل إلى فئة لعلو
نفسه الجبارة وتطلعه طلع الحق رحمه الله.
115

أجاب به قاضي القضاة أبو الحسن في هذا: أن العقوبات النازلة في تكذيب
الأنبياء (ع) على وجه الاستئصال تكون عامة تدخل فيها الصغار، وإن
كان ما ينالهم على وجه المحنة لا على وجه العقوبة، ويجري ذلك مجرى
ما ينزل بهم من الأمراض والأسقام والجرائح العظام وطوارق الحمام، وقد
أومأ أبو علي إلى هذا الجواب في تفسيره.
وقال أيضا: (مما يدل على أنه تعالى لم يعن الصغار باللعن قوله:
(فنجعل لعنة الله على الكاذبين)، والأطفال لا يدخلون تحت هذا
الاسم، لان الكاذبين هم الذين كذبوا على الله ورسوله، والأطفال
ليسوا بهذه الصفة، فقد خرجوا من استحقاق اللعنة).
ومعنى قوله تعالى: (فنجعل لعنة الله على الكاذبين)، أي: نسأل
وتسألون الله سبحانه في دعائنا ودعائكم أن يلزم اللعنة الكاذب منا ومنكم،
116

لان لعنة الله سبحانه لا يقدر أحد أن يحلها بأحد، ولا يجعلها على أحد، حتى
يكون - تعالى جده - هو الذي يحلها بمستحقها ويلحقها بمستوجبها. وقد
يجوز أن يكون المراد فنجعل اسم الله على الكاذبين، وإن كان الله
سبحانه هو الذي يفعل معناها بهم، وهو: النقمة والعذاب والابعاد
والاطراد، وما ذكرناه في هذه المسألة كاف بحمد الله ومنه وفضله.
13 - مسألة
(شرك أهل الكتاب في العبادة)
الجواب عن الشبهة - اعتقاد النصارى بالمسيح انه آله مع الله -
اختصاصه الآية بالنصارى وامكان تعميمها لليهود - وقوع كلمة (بعض)
على المؤنث - اكتساب المضاف من المضاف إليه تأنيثا وتذكيرا -
استعمال الرب بمعنى السيد والمالك - نصرة صفوان وهو مشرك للنبي
يوم حنين.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمة سواء بيننا وبينكم... إلى قوله تعالى ولا يتخذ بعضنا
بعضا أربابا من دون الله... - 64)، فقال: إن أهل الكتاب
117

ما كانت عبادتهم لغير الله سبحانه، ولا جاء عنهم ولا عرف منهم
أنهم عبدوا غيره، بل كانوا يطعنون في رأي من عبد غير الله تعالى.
من مشركة الأمم ومؤلهي الصنم!.
فالجواب عن ذلك: 1 - أن أهل الكتاب عظموا رؤساءهم
ورجبوا [1] علماءهم، وقلدوهم في التحليل والتحريم والتأخير والتقديم،
وتقحموا ما قحموهم من الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الرديئة، فكأنهم
جعلوهم - لما ذكرنا - بمنزلة الرب المعبود الذي يعظم قدره ويطاع أمره
فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يدعوهم إلى ألا يعظموا غير الله ولا يعبدوا
سواه، ولا يستحلوا غير ما أحل، ولا يحرموا غير ما حرم. فهذا وجه.
2 - وقال بعضهم: معنى ذلك: أن النصارى كانوا يعتقدون
ان رهبانهم وديانيهم وصلحاءهم ومتبتليهم يقدرون على إحياء الموتى
وإبراء المرضى فكأنهم بهذا الاعتقاد فيهم جعلوهم بمنزلة الأرباب
الخالقين، وهم المربوبون المخلوقون، وليس حال هؤلاء فيما وصفنا كحال
عيسى (ع)، لان عيسى كان نبيا مرسلا أعطاه سبحانه علم التصديق [2]،
وهو المعجز الذي بان به ممن ليس بنبي، وكان إحياؤه الموتى وإبراؤه
المرضى تصديقا لنبوته، وليس هذه صفة الأحبار والرهبان من بعده.
وكيف ينكر السائل أن يكون من أهل الكتاب من عبد غير الله،
وقد علم وعلمنا ان النصارى اعتقدوا أن المسيح (ع) إله مع الله، حتى

(1) رجبه: هابه وعظمه.
(2) اي: العلم بأمور غيبية سماوية توجب له التصديق.
118

قال سبحانه: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون
الله... الآية) [1]، ومن اعتقدت إلهيته استحسنت عبادته
ومن الدليل على أن المراد بأهل الكتاب ههنا النصارى قوله تعالى في
السورة التي يذكر فيها براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا
من دون الله والمسيح بن مريم... الآية - 31)، وقد يمكن
أن يكون المراد بأهل الكتاب في الآية المتقدمة اليهود والنصارى معا،
لان المعنى الذي ذكرناه في النصارى: من تعظيم الرؤساء وتقليد العلماء،
موجود فيهم، وإن لم ينتهوا بهم إلى الغاية التي ينتهى النصارى بعلمائهم
إليها: من اعتقادهم فيهم أن لهم الحرائج [2] الباهرة، والآيات
الظاهرة.
ومما يدل على تعظيم اليهود كبراءهم وتقليدهم علماءهم قول تعالى في
السورة التي يذكر فيها المائدة: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين
يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن
قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين
لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم
هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا... - 41) وقوله تعالى:
(سماعون لقوم آخرين لم يأتوك)، قال المفسرون: يريد بذلك تعالى:
أحبارهم وعلماءهم. و (لم يأتوك): من صفة (قوم آخرين)، وعليه
الوقف الصحيح، ألا ترى إلى قوله تعالى: (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه

(1) المائدة: 116.
(2) جمع حريجة وهي: الحرمة.
119

وإن لم تؤتوه فاحذروا)، فأخبر أن علماءهم يأمرونهم بما شاءوا من الاخذ والترك
والاعطاء والمنع، وقوله تعالى: (سماعون لقوم آخرين) يدل على كثرة
سماعهم منهم وقولهم عنهم، لان فعالون يدل على كثرة الفعل منهم،
ولم يقل: سامعون، فينبئ عن القلة، وإذا كانوا من تعظيم رؤسائهم
والسماع لأقوالهم، إلى الحد الذي أو مأنا إليه، جاز أن يلحقوا بالنصارى
في النهي بألا يتخذوا بعضهم أربابا، على الوجه الذي ذكرناه.
وقال قاضي القضاة أبو الحسن [1]: قد يجوز أن يكون إنما
خوطب اليهود بذلك لان فيهم مشبهة والمشبه في حكم المشرك.
قلت أنا: وهذا يستقيم في قوله تعالى: (ألا نعبد إلا الله ولا
نشرك به شيئا) [2]، فيكون خطابا لليهود مع النصارى، على ما ذهب
إليه قاضي القضاة في جواز إطلاق اسم المشرك على المشبهة من اليهود. فاما
قوله تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)، فليس يدخل
اليهود تحت الخطاب به، إلا على المعنى المتقدم الذي ذكرناه: من جريهم
مجرى النصارى في تعظيم الرؤساء وترجيب العلماء، لان معنى ذلك
الانقياد لغير الله على وجه التزام الطاعة له، حتى تحل ما أحل وتحرم
ما حرم، وتقلده في الاقدام والكف والاعطاء والمنع

(1) ما ذكره قاضي القضاة ضعيف، لان المقصود بالخطاب كل اليهود من أهل الكتاب
لا خصوص طائفة منهم، لان الاحتجاج إن كان مع اليهود فهو معهم كافة،
إلا أن يكون المقصود دخولهم جميعا في جملة الآية: المشبهة منهم في قوله:
(لا نعبد ولا نشرك)، والباقي في: (ولا يتخذ).
(2) بعض من آية المسألة
120

3 - ووجه آخر. روي عن عكرمة صاحب ابن عباس (رضي الله عنه)
في قوله تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)، قال: نهاهم
عن سجود بعضهم لبعض، والنصارى يستعملون هذا المعنى من السجود
والتكفير والتضاؤل والخضوع لكبرائهم وديانيهم وأولي التقدم في
دينهم.
4 - ووجه آخر. قال بعضهم: إنما نهاهم بذلك عن عبادة
المسيح (ع) خصوصا، وجاز أن يطلق عليه اسم البعض، لأنه
بعض الأمة وواحد من الخليقة، والبعض يقع على الواحد، كما يقع على
الجماعة إذا كانوا بعضا لغيرهم، وقد يقع أيضا على المؤنث كما يقع على
المذكر، وقد استشهد على ذلك بقول لبيد:
أو يعتلق بعض النفوس حمامها [1]
وأراد: نفسه، وهي مؤنثة. وليس الامر عندي على ما قيل.
من ذلك، لأنه لما أضاف البعض إلى النفوس، وهي مؤنثة، جعل
الراجع إليها ضمير المؤنث، ومثل ذلك قول الآخر:
مر الليالي أسرعت في نقضي [2]

(1) هذا من معلقته المشهورة، وصدره:
تراك أمكنة إذا لم ارضها
(يعتلق) هذا هو الرواية المشهورة، وروي: (يرتبط) و (ويعتقى)
(2) هذا الشعر من أبيات الشواهد في باب (ان المضاف إليه قد يكسب المضاف
تأنيثا أو تذكيرا)، وقد اختلفت الرواية في البيت وفي قائله، فالجاحظ في البيان
قال: (رأى معاوية هزاله وهو متعر فقال...) وقال العيني: للأغلب العجلي، وفي
(شواهد كتاب سيبويه للزمخشري: (هذا للأغلب وقيل للعجاج). اما الشعر فالذي
هنا: (مر الليالي...)، وفي العيني: (طول...)، وفي البيان:
(أرى...)، وعجزه في المغنى وشواهد العيني: نقضن كلي ونقضن بعضي
وفي البيان: أخذن بعضي وتركن بعضي
وفي غيرها: حنين طولي وطوين عرضي
121

وقول الآخر [1]:
كما شرقت صدر القناة من الدم
وهو كثير في كلامهم.
5 - ووجه آخر. قال بعضهم: الأرباب هنا: ملاك
الامر، وأصحاب الحل والعقد، وسادة القوم، أي: لا تجعلوا قوما
يملكون أمورنا في ديننا، ويلزموننا قبول قولهم واتباع امرهم فيما
يضرنا، إذ لا تجب علينا طاعة لاحد سوى الله وحده، أو أمرنا الله
سبحانه بطاعته، فتلك أيضا طاعة الله جل اسمه، ومن الدليل على
ذلك قوله تعالى: (يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه
خمرا...) [2]، وإنما أراد: سيده ومالك امره الذي يربه، ومن الدليل
على ذلك أيضا قوله تعالى: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون
خير أم الله الواحد القهار) (3)، فدل على أنه ههنا من يقع عليه
هذا الاسم أريد به معنى السيادة وملك الامر، إلا أنه لا يجوز أن
يطلق هذا الاسم لغير الله إطلاقا مجردا، إلا مع القرائن التي يؤمن معها

(1) للأعشى وصدره: (وتشرق بالقول الذي قد أذعته)
والمراد يشرق القناة: جمود الدم عليها.
(2) يوسف: 41.
(3) يوسف: 39.
122

اللبس، فإذا عدمت تلك القرائن فلا يجوز الاطلاق، لأجل الابهام.
ومما جاء من الاخبار شاهدا على ذلك قول صفوان بن أمية الجمحي في
يوم حنين، وهو مع النبي صلى الله عليه وآله، وحضر ذلك اليوم ولم يسلم بعد،
وإنما حضر محاميا عن الأصل لا منافحا عن الدين، في جماعة كانت
هذه صفتهم من بطون قريش، فقال له بعض من يسر عداوة النبي صلى الله عليه وآله
- لما رأى كثرة جموع العدو من هوازن كالشامت بتلك الحال -: (اليوم
لا تبقى لفلان باقية)، يعني النبي صلى الله عليه وآله، فقال له صفوان: (اسكت
لا أم لك! فلئن ير بني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من
هوازن)، يعني: مالك بن عوف النصري، لأنه كان يومئذ جار القوم
وقائدهم ومالك تدبيرهم، وإنما أراد: لئن يملك أمري ويلي علي رجل
من قريش أحب إلي من أن يملك أمري رجل من غيرهم. وقال الشاعر
في ذلك (وهو: الحارث بن حلزة):
وهو الرب والشهيد على يو... م (الحيارين) [1] والبلاء بلاء
وما ذكرناه من ذلك كاف بتوفيق الله.

(1) التصحيح عن رواية الخطيب والزوزني وعليها المطبوع من المعلقات
وفي بعض نسخ الكتاب: (الجبارين)، وفي أخرى (الحوارين) مصححة،
وهي الرواية التي عن ابن الأعرابي.
123

14 - مسألة
(أمانة أهل الكتاب وخيانتهم)
الجواب عن الشبهة - معنى الأمي - اليهود يستحلون أموال غيرهم
- الفرق بين (ليس علي فيه سبيل) وبين (ليس علي له سبيل) -
التفريق بين النصارى واليهود بالأمانة والخيانة - يدخل في الآية العين
والدين - دلالة الآية على قبول شهادة أهل الكتاب.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من
إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار
لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس
علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون
- 75)، فقال: كيف خص تعالى أهل الكتاب بهذه الصفة وقد
علمنا أن في غيرهم أيضا الخائن والأمين والثقة والظنين [1]؟!
فالجواب: 1 - أنه سبحانه إنما أخبرنا عن أهل الكتاب بما
أخبرنا به، لنحذرهم على أموالنا ولا نغتر بظاهر (إحسانهم) [2] لنا
وتقربهم الينا، ثم أعلمنا مع ذلك أن فيهم من يؤدي الأمانة ولو في الشئ

(1) الظنين المتهم، من التهمة.
(2) وفي (خ): أحبابهم مصدر أحب
124

الكثير كما أن منهم من يخونها ولو في الشئ القليل، لئلا يبخسهم تعالى
حقا يجب لهم، على كفرهم به وإلحادهم في دينه، وهو الشهادة بما يعلمه
الله من بعضهم: من أداء الأمانة والبعد عن الخيانة، ولنعتقد ذلك فيهم
أيضا، فلا تمنعنا المشاقة لهم [1]، والانحراف عنهم من أن نشهد أن فيهم
الثقة وإن كانت الظنة أغلب عليهم، وأن فيهم الأمين وإن كانت الخيانة
أشبه بطرائقهم، وبين تعالى تأويلهم في خيانة أماناتهم، فقال: (ذلك
بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل) يعنون: العرب الذين أسلموا،
اي: لا حرج علينا في الذهاب بأموالهم وانتهاك حرماتهم لخلافهم علينا
ومباينة دينهم لديننا، وإنما سموهم أميين، لاعتقادهم أن لا كتاب لهم
كما يسمون من لا يحسن الكتابة (أميا)، وعلى هذا جاء في الخبر أن
رسول الله صلى الله عليه وآله كان يكره ان يظهر الأميون على أهل الكتاب، يريد:
فارس على الروم، لان الروم لهم كتاب وفارس لا كتاب لهم، وقد
ذكرنا معنى قولهم: (أمي) في ما تقدم من هذا الكتاب، فلا معنى
لإعادته.
2 - وقال بعضهم: كان بين اليهود وبين أقوام من العرب
بيوع وقروض، فلما أسلموا قالوا: ليس علينا ان نقضيكم أموالكم، لأنكم
قد انتقلتم عن دينكم واستبدلتم بمعتقدكم، وإنما قالوا هذا القول على سبيل
الحيلة لدفع الحقوق ومطال الديون، (لا أن) [2] ذلك شئ يرونه في
دينهم أو يجدونه في كتبهم.

(1) من الشقاق وهو الخلاف.
(2) وفي النسخ: (لان) والظاهر ما أثبتناه
125

3 - وقال بعضهم: إنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فالخلائق
غيرنا عبيد لنا ومنخفضون عن علونا، فليس علينا جناح في اكل أموال
عبيدنا ومن هم في الرتبة دوننا. قال صاحب هذا القول: واليهود يتدينون
باستحلال أموال كل من خالفهم، باستعمال الغش في معاملاتهم، ويدعون
أن ذلك فرض عليهم في دينهم، وليس تأولهم لذلك على حد ما يتأوله
المسلمون في أهل الحرب.
4 - وذهب أبو علي إلى: (ان قولهم: (ليس علينا في
الأميين سبيل)، إنما يعنون به ليس علينا لهم سلطان ولا قدرة، فلا
يجب علينا اتباعهم، ولا النزول تحت حكمهم، يريدون بذلك النبي صلى الله عليه وآله
وأصحابه، فلذلك استحلوا أموالهم). وهذا اختيار أبي علي مما فسرت
به هذه الآية.
قلت انا: أما قوله: (إنهم قالوا لا سلطان للأميين علينا فلا يلزمنا أن
نتبعهم) وقوله: (فلذلك استحلوا أموالهم) (كلام) [1] غير سديد، لأنه
لا تعلق لعدم سلطان الأميين عليهم باستحلال أموالهم، ولكن الأصوب
(في) [2] ذلك أن يكون إنما قالوا: ليس علينا سلطان للأميين، فلا
نخاف من الذهاب بأموالهم والمدافعة لهم عن حقوقهم، لان أيديهم تقصر
عنا وسلطانهم لا يجري علينا، فقد أمنا تبعات لي حقهم وأخذ مالهم.
على أن قول أبي علي: إن معنى (ليس علينا في الأميين سبيل)،
معناه: ليس علينا لهم سلطان، غير مستقيم أيضا، لان الامر لو كان

(1) وفي (خ) فهو.
(2) وفي (خ): من.
126

كما قال لكان وجه الكلام أن يقولوا: (ليس علينا للأميين سبيل)،
ونظير ذلك قول القائل: ليس علي سبيل لفلان، إذا نفى أن يكون
له حجة أو قدرة، وأما قولهم: في الأميين سبيل، فهو يعرب عن معنى غير
المعنى الأول، لان هذا القول في لسان أهل العربية يدل على نفي الاثم
والتبعة عن الانسان في الفعل الذي يقدم عليه، ونظيره قول القائل:
ليس علي في هذا المال سبيل إن أنفقته، ولا في هذا الطعام سبيل إن
اكلته، اي: لا إثم علي في ذلك ولا تبعة، الا ترى إلى قوله تعالى:
(ليس على الذين آمنوا وعلموا الصالحات جناح فيما طعموا..) [1]
والى قوله سبحانه: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم
به...) [2]!، فقد بان أن مراد أهل الكتاب أنه ليس عليهم
في اكل أموال الأميين والذهاب بحقوقهم تبعة ولا إثم، وهذا خلاف
ما ذهب إليه أبو علي، فوجب ان يحمل الكلام عليه دون غيره.
5 - وقال بعضهم: قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من
إن تأمنه بقنطار يؤده إليك)، يعني به: النصارى، وقوله تعالى:
(ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما)، يعني:
اليهود، لأنهما جميعا يقع عليهما اسم أهل الكتاب، فيجوز ان يعود
بعض الذكر على هؤلاء وبعضه على هؤلاء، فعاد على النصارى من هذا القول
أليقه بهم وأشبهه بمذهبهم: (من) [3] التسليم والتلمس [4]، وإن

(1) المائدة: 93.
(2) الأحزاب: 5
(3) في (خ): في
(4): التملص والتخلص.
127

كان كفارا ضلالا، وعاد على اليهود منه ما هو أشبه بطرائقهم وألصق
بخلائقهم، في اعتقاد الغش والخيانة وإضمار الحيلة والغيلة، وأيضا فان
النصارى ليس من مذهبهم ان يعتقدوا أن لا حرج عليهم في أخذ أموال غيرهم
والذهاب بحقوق مخالطيهم ومعامليهم، فعلمنا أن هذا القول راجع على
اليهود، لأنه من اعتقادهم ومن قواعد دينهم.
* * *
ويدخل تحت قوله تعالى: (من إن تأمنه بقنطار) و (من إن
تأمنه بدينار) العين والدين، لان الانسان قد يأتمن غيره على مبايعة
ومقارضة وغير ذلك، كما يأتمنه على وديعة وعارية وغير ذلك، وليس
في الآية بيان أحد الامرين من الآخر، وإن كان المروي عن ابن عباس
أنه تأول ذلك على المعاوضة بالأثمان التي يلزمهم دفعها إلى أربابها، والكلام
يحتمل الامرين معا.
ومن الناس من يحتج بهذه الآية في قبول شهادة بعض أهل الكتاب
على بعض، لان بعضهم قد وصف بالأمانة، والشهادة ضرب من
الأمانة، بل الأمانة أصل في الشهادة وشرط فيها، كما أن بعض المسلمين
لما كان مأمونا جازت شهادته، فكذلك الكتابي إذا كان موصوفا
بالأمانة دل ذلك على جواز قبول شهادته على الكفار. فان قال قائل:
فهذا أيضا يوجب جواز قبول شهادتهم على المسلمين، لان بعضهم قد وصف
بأداء الأمانة إلى المسلم إذا ائتمنه عليها. قيل له: كذلك يقتضي الظاهر،
إلا أنه مخصوص بالاتفاق، وقد اتفقوا على أنه لا يجوز قبول شهادة
128

الكافر على المسلم، وأيضا، فان الآية إنما دلت على قبول شهادة
أهل الكتاب للمسلمين، لان أداء أمانتهم حق لهم، لا حق عليهم،
فليس في الآية إذن دليل على قبول شهادتهم على المسلمين.
فصل
(ما دمت عليه قائما)
فأما قوله تعالى: (إلا ما دمت عليه قائما) فمعناه: إلا ما دمت
له متقاضيا، في قول بعضهم. وقال بعضهم: أي: ما دمت مستوثقا من
حقك، حتى لا يجد من هو في ضمنه [1] طريقا إلى منعك منه وغضبك
عليه. وقال بعضهم - وهو السدي -: الا ما دمت قائما على رأسه
بالملازمة له.
وفحوى الكلام يحتمل التقاضي والملازمة، على أن أحدهما
داخل في الآخر، لان الملازمة في الأكثر لا تكون الا مع تقاض، وقد
يكون تقاض بغير ملازمة، فحمل الكلام على الملازمة أولى لانتظامها
الامرين جميعا، وفي هذه الآية دليل على جواز ملازمة الطالب للمطلوب بالدين،
فأما قول السدي ان معنى ذلك إلا ما دمت قائما على رأسه بالملازمة، فهو قول
مفلس من بضاعة العربية، قليل البصر بتصاريف لسان أهل اللغة، لان

(1) الضمن: الضمان.
129

قائما ههنا ليس يراد به القيام الذي هو ضد القعود، لان الملازم في
الحقوق قد يسمى (قائما) [1]، كان قاعدا أو قائما، ولو قلت إن القاعد أبلغ في باب الملازمة، لكان قولا سائغا، لان قعوده أدل على
المطاولة والمداومة [2]، ومكانه أغلظ على من الدين عليه من مكان
القائم المستوفز والمعذر غير المصمم. ولا معول على هذا القول أيضا،
وإنما أوردناه مقابلة لقول السدي.
والصحيح: أن معنى القيام المراد في هذه الآية الدوام على اقتضاء
الدين. واصله من السكون، ومنه الحديث: (لا يبولن أحدكم في
الماء الدائم) أي: الساكن، فأما قوله تعالى: (أفمن هو قائم
على كل نفس بما كسبت...) [3] فمعناه: مطالب لكل نفس
بما جنته ولا يعجز أخذه ولا يفوت طلبه (4). وللقيام أيضا في لغة
العرب معنى آخر، وهو أن يريدوا به تحقق الشئ وصحته، وبلوغ

(1) وفي النسخ: (ملازما) ولعلها من غلط النساخ، والصحيح ما أثبتناه
(2) وفي (خ): المداولة.
(3) الرعد: 33.
(4) والى هذا المعنى ذهب خداش بن زهير العاملي بقوله:
ولولا رجال من علي أعزة * سرقتم ثياب البيت والله قائم
وقوله: (رجال من علي) يريد به: بني عبد مناة بن كنانة، وإنما نسبوا
إلى رجل من غسان كفلهم بعد أبيهم اسمه علي فغلب على اسم أبيهم، وهم الذين
عناهم بقول أمية بن الصلت في قصيدته المشهورة:
لله در بني علي... أيم منهم وناكح
(منه) عن خطه
130

غايته فمن ذلك قولهم: قد قامت السوق، أي: استحر بيعها وبلغت
غايتها، وكذا قولهم: قد قامت القيامة، أي: قد تبين أمرها وصح
وظهر ووضح، فأما قولهم: قد قامت الحرب، فمعناه: أشتد بأسها
وعظم مراسها، وهذا أراد الشاعر بقوله:
وقامت الحرب بنا على ساق
وقد يمكن أن يرد هذا أيضا إلى الأصل المتقدم فيقال: معناه: أن
الحرب قد بلغت الغاية في الشدة، وكذلك قولهم: قام فلان وقعد،
عند الامر المهم ينزل به، كناية عن شدة ارتماضه [1] وقلقه، وقولهم:
أقمت فلانا على رجل، أي: أقلقته وأزعجته، ولا قيام هناك أكثر من
بلوغ الغاية في الانزعاج والقلق، وإنما قالوا ذلك لان أكثر أحوال
القلق المنزعج والخائف الوجل أن يكون مستوفزا غير مطمئن ومتقلقلا
غير مستتر فيكون إلى حال القيام أقرب منه إلى حال القعود، فلما كان
ذلك هو الأصل أجروا هذا الوصف على كل من كان شديد القلق والاضطراب
والجزع والارتماض، وإن كان قاعدا غير قائم، بل مضطجعا غير
قاعد، وكذلك قيام الحرب عندي، إنما أصله قيام أهلها فيها، لان
المحارب لا يكون قط إلا قائما، فقالوا: قامت الحرب، كما قالوا: ليل
نائم، أي ينام فيه، وكذلك نهار ساكن، أي: يسكن الناس فيه،
وأمثال ذلك كثيرة [2]. وفي ما ذكرناه منه كفاية بحمد الله.

(1) ارتمض من الحزن: احترق
(2) ومثل قول الشاعر: (شرب الدهر عليهم واكل)
اي: شرب أهله بعدهم وأكلوا. (منه) عن خطه.
131

15 - مسألة
(أخذ ميثاق النبيين للأنبياء بعدهم!)
الجواب عن الشبهة - دلالة الاخبار على اخذ ميثاق النبيين لنبينا -
تقدير الآية: جاءكم ذكر رسول - معنى نصرة النبيين لنبينا -
الميثاق اخذه الأنبياء على أممهم - إضافة المصدر إلى فاعله ومفعوله -
المأخوذ ميثاق أمم الأنبياء - التغليب في التثنية والجمع - تسمية
القبيلة باسم رجل واحد - آية (على خوف من فرعون..) -
معنى تصديق نبينا للشرايع السابقة مع مخالفتها لشريعته.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين
لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول
مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه... الآية - 81)،
فقال: فحوى هذا الكلام يدل على أنه سبحانه أخذ ميثاق الأنبياء
السالفين أن يؤمنوا بالأنبياء الخالفين، فكيف، يجوز أن يكون الكلام على
ظاهره!. [2] مع قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم)، والرسل
لا يبعث إليهم رسول إلا من الملائكة! فما مجاز هذا القول عندكم؟

(1) هذا هو سؤال ثان لا من تتمة السؤال السابق، كما قد يبدو لأول
وهلة، ويكون معنى (مع...): أيضا كيف يكون قوله (ثم جاءكم...) على ظاهره.
ويشهد إلى انهما سؤالان ما سيأتي من تصريح المؤلف قريبا.
132

فالجواب: أن في ذلك اختلافا بين أهل التفسير:
فمنهم من يقول. إن الخطاب في قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول
مصدق لما معكم) للأنبياء، دون أممهم - على ما ذكره السائل -. ومنهم
من يقول: إن الخطاب بذلك متوجه إلى أمم الأنبياء دونهم. فإن كان
ذلك على الوجه الأخير فالمعنى مكشوف القناع غير محتاج إلى زيادة كشف
وإظهار خب ء، وإن كان في اللفظ عدول عن الظاهر وتنكب للطريق
الواضح. وإن كان على الوجه الأول احتيج فيه إلى إيضاح الغرض
المقصود وإظهار ما فيه من الغموض، وإن كان اللفظ على ظاهره، وغير
محوج إلى تأوله.
وتلخيص ذلك: ان الوجه الأول ملبس اللفظ مفهوم المعنى،
والوجه الآخر ملبس المعنى مفهوم اللفظ، فأما من قال: إن الخطاب بذلك
متوجه إلى الأنبياء دون أممهم، فإنه روى في ذلك روايات واعتمد على
آثار وأخبار [1]: فمن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام [2]
أنه قال: (لم يبعث الله سبحانه نبيا من لدن آدم (ع) إلى محمد صلى الله عليه وآله
إلا اخذ عليه العهد في محمد: لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه،
وكذا روي عن الحسن البصري وعن السدي في معنى هذه الآية. وروي عن
ابن عباس وعن طاوس [3]: أن الذين اخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون

(1) منها ما يدل على أن الميثاق هذا مختص بمحمد صلى الله عليه وآله ومنها ما يعم
غيره، والأول هو المروي عن أمير المؤمنين (ع)، وفي تفسير الرازي: (وعن
ابن عباس وقتادة والسدي) وفي مجمع البيان: (وابن عباس وقتادة).
(2) أخرجه ابن جرير
(3) رواه الرازي والطبرسي عن سعيد بن جبير والحسن وطاوس.
133

أممهم، ليصدق بعضهم بعضا، ويشهد بعضهم لبعض.
وفائدة ذلك أن يعلمنا سبحانه أن الأنبياء وإن جلت اقدارهم وفانت
غاياتهم، خصوا بمزايا شرف الرسالة ومعالي كرم النبوة، فإنهم بشر
وعبيد يجب عليهم ما يجب على سائر العباد: من طاعة من يأمرهم الله
بطاعته، وشقاق من يؤمهم بمشاقته، وليدل تعالى بذلك على خطأ
ما ذهبت النصارى إليه في المسيح (ع): من الذهاب في تعظيمه إلى الحد
الذي يكفر قائله ويضل معتقده.
ويجري هذا الكلام مجرى قول الرجل لصاحبه - وقد أراد سفرا -:
أتضمن لي إني ان زودتك وحملتك وأنهضتك وأعنتك، حتى تصل
إلى مقصدك، ثم تتم غرضك، ثم جاءك كتابي في كيت وكيت - أن تعمل
به وتنفذ الامر الذي حددته فيه؟. ليس يريد الاخبار بأنه لا محالة
كاتب إليه، ولكن ليختبر طاعته ويتحقق مسارعته.
وقال بعضهم: على هذا يكون قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول) ثم
إن جاءكم رسول، وفي هذا دليل على أن قوله سبحانه: (لما آتيتكم)
لئن آتيتكم، لان قوله: (ثم جاءكم) منسوق عليه [1] (فتأويلهما
جميعا واحد، وهذا قول فيه نظر.
وقال بعضهم: إنما أخذ الله ميثاق النبيين بأن يؤمنوا برسل الله بعدهم،
لأنهم إذا آمنوا بهم لزم أممهم الاقتداء بهم في ذلك فسلكوا سبيلهم واتبعوا
دليلهم.

(1) اي: معطوف عطف نسق.
134

وقال بعضهم: إنما أراد تعالى بذلك: أن يعلم أهل الكتاب أنه
وإن ميز الرسل بعظم الاخطار وعلو الاقدار وإيتاء الكتب والاصفاء
بالحكم، فقد أمرهم أن ينقادوا ويخضعوا ويطيعوا ويسمعوا إن أرسل
لهم رسولا يأمرهم وينهاهم، واخذ ميثاقهم بنصره وتصديقه وتعظيمه وترجيبه،
فأهل الكتاب اذن أولى بالطاعة والانقياد لأنبيائهم، وبألا يأنفوا من
اتباع من يجب عليهم اتباعه ويلزمهم الخضوع له.
وقال أبو علي: (عنى تعالى بذلك الميثاق الذي اخذه على النبيين
وهو الايمان بالله سبحانه، وكأنه قال: لتبلغن الناس ما آتيتكم من
كتاب وحكمة، وحذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه، لان لام القسم
إنما يقع على الفعل، فلما كان هناك دلالة على الفعل حذفه اختصارا وايجازا،
وقال تعالى بعد ذلك: (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به
ولتنصرنه)، وعنى به نبينا محمد صلى الله عليه وآله، وأراد سبحانه بقوله (مصدق
لما معكم) أي: بكتبكم المنزلة عليكم). وقد أغفل أبو علي أن يورد
فقه المسألة ويكشف عن حقيقة تقدير الكلام في هذه الآية، لأنه إذا
ذهب إلى أن الكلام على ظاهره، وأن الأنبياء هم المأخوذ عليهم
الميثاق لان يؤمنوا بالرسول المصدق لما معهم، إذا جاءهم دون أممهم،
فالمسألة قائمة بحالها، وما انكشف موضوع السؤال فيها، لان السائل
قال: كيف يصح ايمان النبيين الماضين بالنبي الآتي؟ وكيف يجوز
أن يكون الكلام على ظاهره في قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول مصدق لما
معكم)؟ والرسل لا تبعث إليهم الرسل!.
135

وحقيقة الكلام عندنا، أن فيه تقدير مضاف محذوف، فكأنه
سبحانه قال: ثم جاءكم ذكر رسول أو علم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن
به، ومعنى جاءكم ذلك اي: وجدتموه في كتبكم وعرفتموه من الوحي
النازل عليكم، كما قال تعالى: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل...) [1]، ولذلك في القرآن نظائر كثيرة: منها قوله
سبحانه: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة...) [2]
أي: كخلق نفس واحدة وبعثها، وقوله سبحانه: (واسأل من
أرسلنا من قبلك من رسلنا...) (3) أي: اسأل أمم من أرسلنا أو
أتباع من أرسلنا، هذا على أحد التأويلين، وقد ذكرنا ذلك متقدما
في شجون الكلام. والتأويل الآخر ما قاله بعضهم وهو: أن معنى
ذلك واستنبط ما في كتب من أرسلنا قبلك من رسلنا فكأنك إذا عرفت
ذلك قد لقيتهم وسألتهم.
فان قال قائل: فهذا التأويل يتم لكم في قوله تعالى: (لتؤمنن
به) لان الايمان بالرسول قد يصح وإن لم يحن بعد حينه، ولم يأت
زمانه، إذا علم أن الله سيبعثه، لان الايمان يراد به ههنا التصديق، وهذا
كما جاءت الاخبار بأن جماعة من العرب آمنوا بنبينا صلى الله عليه وآله قبل مبعثه،
لما كانوا يجدون ذكره في الكتب القديمة، ويتلقونه من القرون
السالفة، كزيد بن عمرو (بن نفيل) وورقة بن نوفل وغيرهما، فكيف

(1) الأعراف: 157
(2) لقمان: 28
(3) تقدمت الآية صفحة 105
(4) زيادة في بعض النسخ.
136

يتم لكم مثل ذلك في قوله تعالى: (ولتنصرنه)؟، وهل يصح
نصرهم من لم يروا له شخصا ولم يشهدوا معه حربا؟!.
فجوابنا: أن النصر في اللغة على ضروب قد ذكرنا جملا منها في ما تقدم،
فالمراد منها ههنا النصر بمعنى: التصديق والايمان والاقرار والاعتراف،
وتقوية الحجة، والتبيين للأمة، وهذه الأمور من أبلغ أسباب النصر،
وقد يسمى الانسان مجاهدا، إذا كان ذابا عن دين الله بلسانه، كما يذب
المحارب بسنانه، وعلى ذلك قوله تعالى: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم
به جهادا كبيرا) (1)، قال كثير من المفسرين: إن المراد بهذا الجهاد
إقامة الحجة بالقرآن عليهم، حتى يقروا بصحته، ويعترفوا بمعجزه،
فكذلك يسمى القائم بحجة غيره، والدال على صدق قوله، والداعي
إلى الايمان به: ناصرا، كما سمي فاعل الأمور المقدم ذكرها: مجاهدا،
لتفاوت المعنيين.
وقد قال بعض العلماء: قوله تعالى: (ولتنصرنه) يريد به:
بقايا كل أمة وأعقابها، كأنه قيل لموسى (ع) ومن معه من بني إسرائيل:
سيجيئكم رسول مصدق لما معكم من كتابكم، فآمنوا به وانصروه، وإنما
المراد بذلك من يكون في زمان محمد صلى الله عليه وآله من اليهود الذين هم أعقاب قوم
موسى، ولم يرد به من كان منهم في زمان موسى (ع).
وقال أبو مسلم بن بحر: (معنى قوله تعالى: (وإذ أخذ الله
ميثاق النبيين) أراد به: الميثاق الذي اخذه الأنبياء على أممهم عند

(1) الفرقان: 52
137

إيمانهم بهم، على أن يؤمنوا بكل ما في الكتب المنزلة عليهم، وفيها
ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله، وأن الله سبحانه سيبعثه على أعقاب الرسل،
مصدقا لما معهم من التوحيد والخلاص والنور والبرهان). قال: (ومثل
قوله تعالى: (ميثاق النبيين) - يريد: الذي اخذه النبيون على
قومهم - قوله سبحانه: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا
يقولوا على الله إلا الحق...) [1] اي: الميثاق المأخوذ عليهم
بالكتاب). قال: (والمخاطبة بقوله تعالى: (لما آتيتكم من كتاب
وحكمة)، وبقوله سبحانه: (أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري
...) [2] راجعة إلى أهل الكتاب الذين خوطبوا بقوله سبحانه: (يا أهل
الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) [3] وغير ذلك مما في معناه،
فهذه المخاطبة آخرا لاحقة بما سبق من نظائرها أولا، وقوله تعالى:
(فاشهدوا) راجعة إلى النبيين، لأنه لائق بهم، وهم الذين يشهدون
على الأمم بحقائق أفعالهم). قال: (وغير جائز بالعقل ولا في اللغة
أن يكون المخاطبون بقوله تعالى: (لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم
رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) الأنبياء، وقد قبضهم الله
تعالى إلى كرامته، ونقلهم إلى جنته قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وآله لان من
تقدم موته لا يؤمر بنصر من يتأخر مولده).
فأما ما ذهب إليه أبو مسلم من حمل هذا الخطاب على أنه لأمم الأنبياء
دونهم، فقد سبق إليه جماعة من أهل التأويل. وأما قوله: (إن المراد

(1) الأعراف 169.
(2) من تتمة آية المسألة
(3) آل عمران: 71
138

بقوله تعالى: (ميثاق النبيين) الميثاق الذي اخذوه على أممهم) فبإضافة
الميثاق إليهم يحتمل أن يكون مأخوذا منهم، ويحتمل أن يكون مأخوذا لهم
من غيرهم، فلذلك اختلفوا فيه على ما تقدم ذكره:
فقال بعضهم: هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيين، أن
يصدقوا بالرسول المبعوث بعدهم، يعني بذلك: نبينا صلى الله عليه وآله، ويصدق
بعضهم ببعض. وقال الفريق الآخر: بل المراد بذلك ما أخذه
الأنبياء على أممهم الذين عرفوا الكتاب والحكمة، بأن يصدقوا بالرسول
الذي يجئ بعدهم آخرا، ويوصوا بنصره من يبقى من أعقابهم متأخرا.
ويجري كون الميثاق مضافا إلى النبيين في أنه يصلح أن يكون مأخوذا
منهم وأن يكون مأخوذا لهم من غيرهم، مجرى إضافة المصدر إلى الفاعل
والمفعول على حد سواء، لأنه يجوز أن يضاف إلى كل واحد منهما،
فتقول: أعجبني ضرب عمرو خالدا، إذا كان عمرو فاعلا، و: أعجبني
ضرب عمرو خالد، إذا كان عمرو مفعولا، فمن اضافته إلى الفاعل
قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض...) [1]، ومن
إضافته إلى المفعول من غير أن يذكر معه الفاعل قوله تعالى: (لا يسأم
الانسان من دعاء الخير...) (2) وقوله عز اسمه: (لقد ظلمك بسؤال
نعجتك إلى نعاجه...) (3)، ومما جاء من اضافته إلى المفعول ومعه
الفاعل في الشعر قول الشاعر [4]:

(1) البقرة: 251
(2) فصلت: 49.
(3) ص: 24.
(4) هذا البيت مطلع قصيدة للحطيئة مدح بها سعيد بن العاص الأموي لما كان واليا لعثمان بالكوفة.
139

أمن رسم دار مربع ومصيف * لعينيك من ماء الشؤون وكيف؟
وقال لي شيخنا أبو الفتح عثمان بن جني، عند بلوغي عليه في القراءة
من كتاب الايضاح لأبي علي الفارسي، إلى باب المصادر، وقد مضى
في أثنائه ذكر هذا البيت - فقال: كأن الشاعر قال: أمن أن رسم دارا
مربع ومصيف بكيت لها؟، فالمربع والمصيف فاعلان في المعنى.
وقال بعضهم [1]: قد يجوز أن يكون في قوله تعالى: (ميثاق
النبيين) مضاف محذوف، كأنه تعالى قال: ميثاق اتباع النبيين أو أمم
النبيين فحذف اتباع وأقام النبيين مقامهم، كما قال تعالى: (وأشربوا في
قلوبهم العجل) [2]، أي: حب العجل. قال: ومما يشهد
بذلك أنها في قراءة ابن مسعود: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين
أوتوا الكتاب)، ومما يقوي أن قوله سبحانه: (ميثاق النبيين)
يريد به: ميثاق أمم النبيين من أهل الكتاب في المعنى - كما ذكر من
ذهب إلى هذا الوجه دون الوجه الأول - أن الميثاق إذا أخذ على النبيين
فقد أخذ على قومهم، وعامة ما يشرع للأنبياء فقد شرع لأممهم وأتباعهم،
لأنهم كالأزمة التي يقاد بها والرؤوس التي يتبعها ما وراءها، فإذا خوطبوا
بأمر سرى الخطاب إلى من دونهم من اتباعهم، وتعداهم إلى المنجذبين
بقيادهم، وكانوا كالرعاة التي إذا أمرت بمراشدها [3] في اعتماد ماء أو ارتياد

(1) وهو المروي عن الصادق عليه السلام - كما أرسله في مجمع البيان -
قال. (وتقديره: وإذ اخذ الله ميثاق أمم النبيين بتصديق نبيها والعمل
بما جاءهم به..)
(2) البقرة 93
(3) المراشد: مقاصد الطرق وما استقام منها، ولا واحد له من لفظه.
140

كلا، فان ذلك الامر من حيث عاد على ما يرعاه من إبل أو شاء بالمصلحة
في الأبدان والريف في الأعطان، كأنه امر لكافة ذلك الجنس، إذا
كان متبعا عقب راعيه، وموجفا خلفه، إلى طرق مصالحه ومناجيه [1]،
وكذلك الولاة ورعاياها يجري امرها على هذا السبيل، وتدخل من
وراها من الرعية معها في مثل هذه الأمور.
ولان الأنبياء (ع) من حيث كانوا أسبابا لايمان أممهم الذين استحقوا معه
أن يخاطبوا بالشرائع، ويدلوا على المصالح، كان الأمم كالمضافين إليهم والملصقين
بهم، فكان خطاب الأنبياء بما يجوز دخول أممهم معهم فيه خطابا للأمم
معهم، ألا ترى أن الفروض التي تلزم نبينا صلى الله عليه وآله تلزمنا، والواجبات التي
تجب عليه في الأكثر تجب علينا!. ومن هناك جاء قوله تعالى:
(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء...) [2]، فجمع سبحانه النبي
صلى الله عليه وآله ومن تبعه في الخطاب الواحد، وقد ذكرنا جملة من هذا المعنى في
ما تقدم عند حال اقتضته، فكفانا ذلك أن نتكلف اعادته.
ووجه آ خر ذكره الكسائي، قال: (معنى قوله: (وإذ اخذ الله ميثاق
النبيين يريد: ميثاق القوم الذين منهم النبيون، يعني: بني إسرائيل،
لان الأنبياء كثروا فيهم، فسمي اتباع النبيين بأسمائهم لكثرتهم
فيهم). وفي هذا القول ضعف واضطراب للالباس الذي فيه، وكأن
قائله ذهب في ذلك إلى أحد الوجهين اللذين ينشد عليهما قول الشاعر [3]:

(1) جمع منجاة بالفتح: الباعث على النجاة.
(2) الطلاق: 1
(3) وبعده: (ليس الأمير بالشحيح الملحد). وهذا من أرجوزة لحميد
الأرقط، وقيل لأبي نخيلة، وقيل لغيرهما. ومعنى قدني: حسبي وكفاني.
141

(قدني من نصر الخبيبين قدي)
فان العلماء ينشدون ذلك على وجهين، ولهما معنيان، فمن أنشد
الخبيبين بالتثنية فإنما يعني به: عبد الله بن الزبير واخاه مصعبا. إذ
كانت احدى كنيتي عبد الله أبا خبيب، باسم ابن له سمي خبيبا، وأخرج
الشاعر ذلك مخرج قولهم: العمران والزهدمان (1) والقمران، وما في
معنى ذلك، لتغليب الأشهر منهما، ولم يقل الشاعر أبوي خبيب، تخفيفا
واكتفى بالاسم من الكنية، ومماثلة لما ورد من نظائر ذلك مما
ذكرناه من قولهم: القمران والعمران، ولم يرد في هذا الباب إلا تثنية
الاسم دون الكنية، فمضى الشاعر على هذه الطريقة وثنى الاسم مكتفيا
به من الكنية. فأما من انشد: الخبيبين، على الجمع، فقالوا في
ذلك: إنما أراد عبد الله بن الزبير وأهل بيته والمنسوبين إلى
(حرمه) (2)، فقال: الخبيبين، لان الأشهر منهم يعرف بهذا
الاسم فغلبه على الباقين، وسماهم به دون أسمائهم التي هي في الشهرة دونه،
فإلى هذا ذهب الكسائي في تأويله على بعد مأخذه.

(1) الزهدمان: اخوان من عبس هما: زهدم وكردم، وقيل زهدم
وقيس غلب اسم الأول على الثاني، قال قيس بن زهير (وأنشده السيد المرتضى
في أماليه):
جزاني الزهدمان جزاء سوء * وكنت المرء يجزى بالكرامة
وفي بعض نسخ الكتاب: (الزهديان) والظاهر أنه خطأ من النساخ والصحيح الأولى
(2) حرم الرجل: ما يحميه ويدافع عنه، وفي النسخ (جرمه) والظاهر أنه
خطأ من النساخ، فغيرنا الكلمة إلى أقرب لفظة يصح بها المعنى، ويحتمل
أن تكون الكلمة (جذمه) اي: أصله
142

وقد قال غير الكسائي في ذلك قولا هو أقرب من قوله، وإن كان بعيدا
أيضا، قال: (معنى النبيين ههنا معنى أممهم، فصار ذكر النبيين
كالقبيلة لهم، كما يقال: قيس، وتميم، وعقيل ونمير، وهي أسماء
رجال بأعيانهم نسب إليهم أولادهم، فصاروا قبائل، ومنه قوله تعالى:
(على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم..) [1]، وإنما
قال: وملئهم، بالجمع، لأنه جعل فرعون كالقبيلة لأصحابه وأهل دينه،
ومنه قول الشاعر [2]:
أتسألني السوية وسط زيد * ألا إن السوية أن تضاموا!
فزيد هنا اسم قبيلة، فلذلك قال: وسط زيد).
وهذا الوجه أيضا غير مستقيم لما ذكرته أولا. فاما قول هذا القائل:
انه تعالى جعل فرعون كالقبيلة لأصحابه ولذلك قال: وملئهم، فذلك خطأ
لأنه لو كان الامر ما قاله لكان وجه الكلام أن يقول: (على خوف
من فرعون وملئهم أن يفتنوهم) إذا كان فرعون عنده في تأويل الجمع
بمنزلة اسم أبي القبيلة، كما يقول القائل: جاورت تميما فاستاقت سرحي
وسلبت مالي، فيؤنث، لأنه يريد القبيلة، أو يقول: استاقوا سرحي
وسلبوا مالي، إذا أراد أعداد القبيلة ورجالها، فأما أن يقول:

(1) يونس: 83.
(2) أبو ثمامة، والشعر من أبيات الحماسة وقبله:
وقلت لمحرز لما التقينا *: تنكب لا يقطرك الزحام
محرز اسم رجل. السوية: الاستواء والانصاف. وزيد قبيلة محرز.
والمعنى انه يستهزئ بمحرز ويقول له: أتطلب مني انصافك وأنت وسط عشيرتك!
الا ان الانصاف ان نقهركم حتى تنقادوا وتخضعوا لنا!
143

جاورت تميما فاستاق سرحي وأخذ مالي، وهو يريد جماع القبيلة، فذلك
خطأ فاحش ليس من كلام أهل اللسان الفصيح والنهج المستقيم.
فاما قوله تعالى: (على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) ففيه
قولان: أضعفهما [1] انه نسب الملا إلى فرعون إلا أنه قال: وملئهم،
لأنه كان ملكا عظيم البسطة نافذ القدرة، فكنى عنه كما يكنى عن الملوك
في ذكرها أو الخطاب عنها بالجمع.
وذلك فاسد من وجهين: (أحدهما) ان قول الله سبحانه ذلك ليس
بحكاية لقول أحد فيجوز أن يتأول على تفخيم الخطاب، وإنما هو كلام
له تعالى انفرد به، ولا يجوز أن ينسب إليه سبحانه ذكر فرعون - وهو
مقيم على كفره وضلاله - بما فيه تعظيم لامره أو تفخيم لقدره، بل لا يجوز
أن نجيز عليه تعالى ذكر أحد من خلقه على هذه السبيل من المؤمنين ولا
غيرهم، لان هذا القول - إذا صح انه يذكر على وجه التفخيم للملوك - فليس
يستعمله معم إلا من ينخفض من طبقاتهم، ويكون كالتابع لهم، لا العالي
عليهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (الوجه الآخر) ان هذا
النحو من القول إنما يستعمله الملوك في خطابهم أو يستعمل في الكتاب
عنهم، بأن يقول الواحد منهم: فعلنا وصنعنا، وأمرنا ونهينا، وأما
أن يقول غيرهم عند ذكر الواحد منهم: إن فلانا الملك فعلوا وصنعوا،

(1) والقول الثاني انه نسب الملا إلى الذرية من قوله تعالى في هذه الآية:
(فما آمن لموسى الا ذرية من قومه على خوف من..)، وإنما قال تعالى:
(ان يفتنهم) فأفرد الضمير، للدلالة على أن الخوف من الملا كان بسبب فرعون.
144

فهو محال من قائله وسفاه من مستعمله.
فان قال قائل: كيف يصح قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول مصدق لما
معكم) وهو يريد به نبينا صلى الله عليه وآله، وقد خالف شرعه شرع من تقدمه أشد
مخالفة، وباينه أعظم مباينة؟!
قيل له: إن اختلاف الشرائع في الحقيقة لا يكون اختلافا في متفردات
العقول، لأنه وارد بحسب المصالح، وكما أنا لا نسمي الناسخ والمنسوخ
اختلافا (بل نعد ذلك مطابقة ووفاقا، ونقول: إن بعضه يصدق بعضا)
فكذلك نقول في سائر الشرائع، فالمراد بقوله تعالى: (مصدق لما معكم)
أي: من جمل التوحيد والنبوات والشرائع الواردة بحسب مصالح العباد،
وهذه حال نبينا (ع)، فهو اذن مصدق لمن تقدمه من الأنبياء، غير
مناقض لهم في جملة، ولا مخالف في عقيدة.
فصل
قراءة (لما آتيتكم)
وقد اختلف القراء في قراءة: (لما آتيتكم من كتاب وحكمة)،
فقرأنا لحمزة بن حبيب (لما) مكسورة، لأنها لام الإضافة، وقرأنا لباقي
القراء السبعة (لما) مفتوحة، لأنها لام الابتداء، وروى هبيرة عن
حفص عن عاصم (لما) مكسورة مثل حمزة، وقال (ابن 1) مجاهد في

(1) زيادة في بعض النسخ وهي الصحيحة.
145

كتاب (القراءات 1) السبعة: (وذلك غير محفوظ عن حفص) [2].
فأما قوله تعالى: (آتيتكم من كتاب وحكمة)، فقرأ نافع وحده
(آتيناكم) على خطاب التعظيم، وقرأ باقي السبعة (لما آتيتكم) على التوحيد
ووجه قراءة حمزة (لما) بالكسر: أنه يتعلق بالأخذ، وكأن المعنى
أخذ ميثاقهم لهذا الامر، لان الذين يؤتون الكتاب والحكمة يؤخذ عليهم
الميثاق لما أوتوه من ذلك، لأنهم الأماثل والاعلام، والقادة والحكام.
وقال سيبويه (3): سألته (يعني: الخليل) عن قوله تعالى: (وإذ
اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق
لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه)، فقال: ما ههنا بمنزلة (إن 4)، ودخلتها اللام
كما دخلت على إن حين قلت: لئن فعلت لأفعلن، فاللام التي في (ما) تمثل
اللام التي في (إن)، واللام التي في الفعل هناك كهذه التي في الفعل ههنا،
واللام الداخلة على (ما) لا تكون المتلقية للقسم ولكن تكون بمنزلة اللام في
قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض...) [5]،
واللام المتلقية للقسم قوله تعالى: (لتؤمنن به) كما انها في (لئن لم ينته
المنافقون) قوله سبحانه: (لنغرينك بهم). وهذه اللام الداخلة
على إن في (لئن) لا يعتمد القسم عليها [6]، فلذلك جاز حذفها تارة

(1) الزيادة منا
(2) وقال الطبرسي: قرأ حمزة وحده بكسر اللام
(3) الآية من مشكلات القرآن اعرابا وللنحويين فيها آراء متضاربة وتخريجات
غريبة أحصى جملة منها في (روح المعاني)، ولعل ما نقله سيبويه من أوضحها
وأقربها.
(4) في النسخ: (الذي)، ولا معنى لها، فوضعنا بدلها (ان) وفقا
لسياق الكلام
(5) الأحزاب: 60.
(6) وتسمى الموطئة للقسم والمؤذنة به.
146

وإثباتها تارة، كقوله تعالى: (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن
الذين كفروا... الآية) [1]
وقال بعضهم: معنى اللام - في قراءة من قرأ بكسرها - معنى بعد،
وجواب الشرط في معنى التقديم، والشرط في معنى التأخير، فكأنه
تعالى قال: (وإذ اخذ الله ميثاق النبيين قال لهم لتؤمنن بالرسول
ولتنصرنه لما آتيتكم من كتاب وحكمة)، أي: بعد ما آتيتكم ذلك،
فتأويل اللام ههنا تأويل بعد، كما قال النابغة [2]:
تبينت آيات لها فعرفتها * لستة أعوام وذا العام سابع
أي: بعد ستة أعوام. وفي هذا القول نظر [3]. وما ذكرناه في
هذه المسألة مجزئ بتوفيق الله تعالى.

(1) المائدة: 53
(2): الذبياني، وصدر البيت في ديوانه المطبوع ببيروت: (توهمت
آيات لها ما عرفتها) ورواه صاحب كتاب (الصناعتين) كما هنا. وقال في
ص 35 من المطبوع بالآستانة: (كان ينبغي أن يقول لسبعة أعوام ويتم البيت
بكلام آخر يكون فيه فائدة فعجز عن ذلك فحشا البيت بما لا وجه له).
(3) لأن هذه اللام التي تكون بمعنى بعد مختصة بالتأريخ ولهذا قد تسمى لام
التأريخ ومنه قولهم في تأريخ أيام الشهر: لليلة خلت ولليلتين... إلى لأربع
عشرة. ومثلها اللام التي بمعنى قبل من قولهم: لأربع عشرة بقيت... إلى
لليلة بقيت. واللام التي بمعنى عند أو في من قولهم: لليلتين ولثلاث ولاربع...
من دون خلت ولا بقيت، إذا أريد تأريخ الفعل الواقع في الليلة الثانية أو
الثالثة أو الرابعة...
على أن الشيخ الرضي نجم الأئمة في شرحه الكبير في باب العدد أنكر أن تكون
هذه اللام بمعنى بعد أو قبل أو في، وقال: (هي المفيدة للاختصاص الذي
هو أصلها والاختصاص ههنا على ثلاثة اضرب: اما ان يختص الفعل بالزمان لوقوعه
فيه نحو كتبت لغرة كذا، أو يختص به لوقوعه بعده نحو لليلة خلت أو يختص
به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت وذلك بحسب القرينة). قلت: وهذا حسن
جدا وقد حقق علماء الأصول المتأخرون أن جميع المعاني التي تذكر لكل
حرف ترجع إلى معنى حقيقي واحد غالبا وإنما تلك المعاني وافقت ذلك المعنى الحقيقي
ووقعت مصداقا له من دون ان يستعمل الحرف فيها فقالوا: ان ذكر هذه المعاني
من باب اشتباه المفهوم بالمصداق.
147

16 - مسألة
(الاسلام لله تعالى كرها)
الجواب عن الشبهة - معاني الاسلام وأقسامه - اطلاق الجمع
والعام على الواحد - اسلام الكافر عند الموت - سجود ظلال الكافرين -
الاسلام كرها يختص باهل الأرض ومنهم البهائم - اطلاق (من) الموصولة
على ما لا يعقل بالتغليب - معنى اسلام ما لا يعقل - جواز أن يكون أسلم
بمعنى: سلم.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (وله أسلم من في السماوات
والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون - 83) فقال: معنى
الاسلام طوعا معروف، فما معناه كرها؟ وهل يصح ذلك مع قوله تعا 0 ى:
148

(لا إكراه في الدين) [1]؟
فالجواب: ان في ذلك وجوها:
1 - (أحدها) [2]، أن يقال: معنى (وله أسلم من في السماوات
والأرض) أي: ألقوا إليه السلم بما يظهر من حاجتهم إلى ارفاقه وفقرهم
إلى أرزاقه، ونقائصهم التي لا تتم إلا بحسن تدبيره لهم، ونعمه السابغة
عليهم، فقد دانوا له طوعا وكرها، وولهوا إليه [3] فقرا وضعفا،
فالذين أسلموا له طوعا الملائكة والنبيون، وبعدهم المؤمنون والصديقون،
والذين أسلموا كرها إبليس وأشياعه من الجن والإنس، ويصدق ذلك
قول إبليس: (رب فأنظرني إلى يوم يبعثون) [4] فدل استنظاره
له تعالى على اقراره بأنه مملوك مدبر، ومصرف مسخر، وأنه لا يعتصم
من الله بمذهب، ولا ينجو بمهرب، ولا يبقى إلا أن يبقيه، ولا يأمن
إلا أن يؤمنه، فبهذا الوجه عد من المستسلمين له تعالى، وإن كان
شاذا عن طاعته شاردا، وصادا عن أمره صادفا.
وقد جاء الاسلام بمعنى الاستسلام والخضوع في كلامهم كثيرا،
فمن ذلك في التنزيل قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم
تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا...) [5]، أي: استسلمنا،
وقوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا

(1) البقرة: 256.
(2) وفي (خ): فأحدها.
(3) يقال: وله الصبي إلى أمه: فزع إليها.
(4) الحجر: 36 وص 79
(5) الحجرات: 14.
149

فيها غير بيت من المسلمين) [1] قال بعض المفسرين: المراد
بذلك غير بيت من المستسلمين خوف الهلاك، وذهب جماعة من أهل التأويل
في معنى هذه الآية إلى غير ما ذكره هذا الانسان، وليس هذا موضع
إيراد ما قيل في ذلك إذ الغرض غيره.
ويقولون: أسلم فلان نفسه إلى العدو اسلاما سريعا، وقد كان
يمكنه أن يدافع ويمانع، أو ينحاز ويبعد ولا يسلم نفسه، وإنما يراد بذلك
أنه ذل لهم وخضع وانقاد ولم يمتنع، وقد كان يمكنه الامتناع
عليهم والحياص (2) عنهم، ولكنه جبن فأوبقه (3) جبنه وأسلمه
حينه، فهذا في مذهب اللغة اسلام باكتساب واختيار، لا بإلجاء واضطرار،
إلا أن سببه كان الخوف والفرق. ويقولون أيضا: إن فلانا (جار 4)
العسكر، لما أطمع في الرغائب ومني بالفوائد، أسلم العسكر بأسره، وهذا
أيضا اسلام باختيار ولكن سببه الرجاء والطمع، فخالف الاسلام الأول في
السبب. ويقال (5) أيضا: فلان أسلم نفسه للموت، وأسلمه أهله للحين،
إذا ألقى بيده ولم يمكنه المدافعة عن نفسه، ولم يمكن أهله المنافحة عنه ولا
المحاجزة دونه، فهذا اسلام بكره واضطرار، لا بمشيئة واختيار [6].

(1) الذاريات 35، 36
(2) الحياص: المغالبة والمراوغة.
(3) أوبقه:
ذلله أو حبسه. وفي (خ): (فأربقه) ونرجح عدم صحتها لعدم استعمال
أربق من ربق.
(4): من الجوار نعت لفلانا والمراد: الحليف والناضر، وفي (خ):
(جاز) والأقرب ما أثبتناه.
(5) وفي (خ): يقولون
(6) غرض المؤلف بيان
صحة استعمال الاسلام فيما كان بسبب الاختيار وما كان بسبب الاضطرار والمراد
به في الآية هو الثاني ولكن ما كان بسبب الاضطرار له قسمان: عن طوع
ورضا وعن كره وبغض على ما يذكره المؤلف.
150

فقوله سبحانه: (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها)
يكون المراد به في الجملة الاستسلام الذي هو الانقياد والخضوع والذل
والخشوع، إذ هم منقادون لامره، غير ممتنعين من تدبيره، وما يحدثه
تعالى فيهم من القبح والدمامة (1) والجمال والوسامة، والمصاح والأسقام
واللذات والآلام، ثم ينقسم هذا الاستسلام منهم: فمنه ما يكون طوعا،
ومنه ما يكون كرها، فالطوع مثل خلقه سبحانه الانسان وسيما جميلا
ومكثرا غنيا، فهو محب لتلك الحال غير كاره لها، والكره مثل خلقه
تعالى الانسان قبيحا دميما [2] ومقلا معدما، فهو يكره ما هو عليه
ويحب الانتقال عنه، وكلا الفريقين قد أسلم لله خاضعا، وذل لتدبيره
ضارعا، وذلك اسلام اضطرار لا اختيار، وإن كان هذا الاسلام
يختلف مواقعه منهم على ما ذكرناه: فبعضه يصدر عن رضا ومحبة، وبعضه
يصدر عن إباء وكراهة.
2 - وقال بعضهم [3]: (وله أسلم من في السماوات والأرض)
جائز أن يوقع الخبر على الكل والمعنى واقع على البعض كقوله تعالى:
(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم...) (4)
وإنما يريد تعالى: بعض الناس، على قول من قال: إن المراد بذلك
نعيم بن مسعود الأشجعي، لأنه كان المخبر لرسول الله صلى الله عليه وآله بتألب

(1) وفي النسخ: (الذمامة) والمرجح ما أثبتناه.
(2) وفي النسخ: (ذميما) والمرجح ما أثبتناه.
(3) هذا الجواب
لا يدفع شبهة المسألة فأن الاسلام كرها حتى من شخص واحد لا يتفق مع قوله
تعالى: (لا اكراه في الدين)
(4) آل عمران: 173.
151

قريش عليه وإجماعهم على الرجوع بعد وقعة بدر، وكان المعني بهذا
القول واحدا من الناس، ومثل ذلك قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة
يا مريم...) [1]، والمراد: بعض الملائكة، لان بعضهم كلمها
لا جميعهم.
3 - وقال الشعبي (2): معنى (وله أسلم من في السماوات والأرض
طوعا وكرها): هو قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن
الله...) (3) أي: لا يقدرون على جحد خلقه لهم وملكه إياهم، وإن
ذهبوا عن أوامره، وأقدموا على زواجره، فكأنهم يقرون بأنه تعالى
خالقهم كرها، من غير خضوع لطاعته ولا تقرب إليه بعبادته، بل
بمنازعة عقولهم إلى الاقرار بربوبيته.
4 - وقال بعضهم (4): المراد بذلك إسلام المؤمن طوعا،
واسلام الكافر عند موته كرها، كما قال تعالى: (فلم يك ينفعهم
إيمانهم لما رأوا بأسنا...) (5)، وكقوله سبحانه في قصة
فرعون: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا
الذي آمنت به بنو إسرائيل.. إلى قوله تعالى: ألآن وقد
عصيت قبل وكنت من المفسدين) (6)، فأعلم الله تعالى أن
إيمانه في تلك الحال لا يغني عنه، لأنه أسلم كرها وقال ما قال مضطرا.

(1) آل عمران: 45
(2) نقل الطبرسي ما يشبه هذا القول عن مجاهد وأبي العالية، ونقل المعنى الأول عن الشعبي فراجع!.
(3) الزخرف: 87
(4) يروى هذا القول عن قتادة واختاره البلخي.
(5) المؤمن: 85.
(6) يونس: 90، 91.
152

5 - وقال بعضهم: معنى ذلك أن المسلم كرها أسلم بحاله الناطقة
عنه، والشاهدة عليه من آثار الصنعة وأعلام الصبغة والدلائل التي
جعلت في عقله على ذلك تقوده إلى الاقرار به طوعا أو كرها، والتسليم
له ضميرا أو قولا.
6 - وقال بعضهم: معنى ذلك سجود المؤمنين طائعين، وسجود
ظلال الكفار كارهين، على ما جاء في التنزيل من قوله تعالى: (ولله
يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو
والآصال) [1]، وهذه الآية يدل فحوى الكلام فيها على أن ظلال المؤمنين
والكافرين جميعا يسجد، لأنه قال تعالى: (وظلالهم) فجاء به عموما،
فكأن ظلال المؤمنين يسجد بسجودهم، وظلال الكافر [2] يسجد على
الاباء منهم، والخلاف لهم، وهذا معنى قوله سبحانه: (وكرها) [3].
7 - وقال بعضهم: المراد بذلك: من دخل في الاسلام كرها
مخافة السيف، وهم مسلمة العرب والمؤلفة قلوبهم من سائر الأمم الذين
كان اسلامهم تعوذا، وطاعتهم تحرزا [4]
ومهما كان من هذه الوجوه، فليس يرجع قوله تعالى: (وكرها) إلا
إلى أهل الأرض دون أهل السماء، لان أهل السماء هم الملائكة،

(1) الرعد: 15.
(2) وفي (خ): الكافرين.
(3) ومعنى سجود الظلال ههنا على أصح الأقوال: ما يظهر في ظل الشخص من عجائب
الحكمة التي يلزم الخضوع لفاعلها، والاخبات لخالقها ومقدرها. وقد استقصينا
الكلام على ذلك في كتاب (تلخيص البيان عن مجازات القرآن). (منه) عن خطه
(4) وفي (خ): تحذرا.
153

والملائكة لا يجوز عليهم الاسلام كرها بوجه، فقد خلص لهم صفة
الاسلام طوعا، وكان أهل الأرض يشتركون في استحقاق الصفتين جميعا:
فمنهم من أسلم طوعا ومنهم من أسلم كرها. وقد يجوز ان يراد باسلام من
في الأرض - إذا كان بمعنى الاستسلام ههنا - غير العقلاء: من
الأطفال والبهائم، على ما سنبينه من بعد، وعبر عن هذين الجنسين
ب‍ (من)، لاختلاط العقلاء بهما في استيطان الأرض، لان العقلاء
إذا اختلط بهم من ليس بصفتهم، جاز أن يغلب صفة العقلاء على غيرهم،
فيعبر عنهم ب‍ (من) دون (ما)
(ثم (1) (من) لفظها واحد مذكر، إلا أنها إذا وقعت تقع على الواحد
والاثنين والجماعة من المؤنث والمذكر، فإذا [2] وقعت على شئ من ذلك
كنت فيه بالخيار: إن شئت أجريت اللفظ عليها في نفسها، وإن شئت
أجريته على معناها في التثنية والجمع والتأنيث، ألا ترى إلى قول الله تعالى:
(ومنهم من يستمع إليك) (3) وقوله سبحانه: (ومنهم من
يستمعون إليك) [4]، وقال الفرزدق:
تعش (5) فان عاهدتني لا تخونني * نكن مثل من - يا ذئب - يصطحبان

(1) في النسخ: (لان)، ولكن لا موقع لهذا التعليل أصلا ولا
يرتبط بوجه مما سبق من الكلام، ونحن وضعنا (ثم) مكانها ليصح الكلام في
الجملة، ويكون جملة معترضة، ذكرت استطرادا للفائدة من احكام (من) الموصولة،
وقد وضعنا هذه الجملة المعترضة بين قوسين لتتميز
(2) وفي (خ): فان.
(3) الانعام: 25.
(4) يونس: 42
(5) في ديوانه وبعض كتب الأدب ككتاب (ليس في كلام العرب): (تعسال)، وفي كتب النحو: (تعش) كما هنا
154

فثنى اسم (من) على المعنى).
وعلى هذا قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم
من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي
على أربع...) (1) والذي يمشي على بطنه وعلى أربع ليس ممن يعقل،
فغلب ما يعقل لاختلاطه بما لا يعقل، وعلى هذا النحو قول لبيد:
فعلا فروع الأيهقان فأطفلت * بالجلهتين ظباؤها ونعامها (2)
والنعام لا تطفل، ولكنها تبيض، إلا أنه لما خلط ما يلد بما
لا يلد أجراه مجراه في الصفة، لان ما يلد أعلى طبقة مما لا يلد. وقد
قيل في قوله تعالى: (فمنهم من يمشي على بطنه...) قول آخر
وهو: أنه لما قال: (فمنهم) وإن كان فيهم ما لا يعقل صاروا كلهم
كأنهم يعقلون، فأجرى على كل صنف منهم (من) عند التفصيل.
فأما المعنى في استسلام ما لا يعقل فهو تعذر امتناع من هذه صفته مما
ينزله تعالى به: من الآلام والشدائد والمخامص والمجاهد [3]، مع
كراهته لذلك، فإذا تعذر على من هذه حاله الامتناع من هذه الأمور، صار
مستسلما كرها، فالمراد إذن بقوله تعالى: (وله أسلم) الاستسلام الذي

(1) النور: 45
(2) الأيهقان: عشب يطول شامخا في السماء وله وردة
حمراء وورقه عريض، ونقل أبو حنيفة عن أبي زياد: ان لبيد غيره عن (النهق)
ولم يسمه أحد بالأيهقان الا لبيد. وفي (اللسان): ان ما ذكره أبو حنيفة خطأ،
لان سيبويه قد حكى الأيهقان في الأمثلة الصحيحة. وأطفلت المرأة والظبية والنعام
صارت ذات طفل. والجلهتان: ناحيتا الوادي وضفتاه. وقال النظر بن شيل.
(الجله) بفتحتين: نجوات من الوادي أشرفن على السيل.
(3): من المخمصة والجهد.
155

لا يراد به المدح، لأنه لو كان من أسماء المدح لما وصف بعض فاعليه
بالكره، فهو على الوجه الذي بيناه، ولهذا صلح أن يدخل تحته من
يعقل ومن لا يعقل. ولا يدخل تحت ذلك الجمادات على ما يزعمه من
لا علم له من الحشوية، لان الاستسلام على الوجه الذي ذكرناه لا يصح
منها على الحقيقة.
وقد يجوز عندي أن يكون قوله تعالى: (وله أسلم) ههنا بمعنى:
سلم، كما يقال: أعلم وعلم بمعنى واحد، فيكون المعنى: وله سلم من
في السماوات والأرض، أي، اعترف بعجزه عن مثل قدرته أو انتحال
شئ من صنعته، وضعف عن مقاومته ومقاهرته، كما يقول القائل:
قد سلمت لأمرك، أي: عجزت عن مغالبتك، وأقررت بالضعف عن
مساواتك ومطاولتك، وهو أيضا راجع إلى معنى القول الأول، إلا أن
الفرق بينهما أن أسلم ههنا بمعنى التسليم وهو هناك بمعنى الاستسلام.
وقال قاضي القضاة أبو الحسن (أما قول من حمل (وله أسلم من في
السماوات والأرض طوعا وكرها) على أن جميعهم يعترف بأنه الرب المعبود،
وإن كان فيهم من يصدق هذا الاعتراف بالعمل الموافق له ومنهم من
لا يصدقه، فبعيد، لان في المكلفين من لا يؤمن بالله تعالى أصلا،
إذ المعرفة به تعالى مكتسبة غير ضرورية. وأما قول من حمله على وقوع الاعتراف
بذلك من الكفار عند الموت وحال الالجاء، فقريب (1) لان حال
المعاينة (2) وزوال التكليف والعبادة يعلم الله تعالى العبد نفسه باضطرار،

(1) وفي النسخ: (فغريب)، والظاهر الذي أثبتناه.
(2) غرضه حال حضور الموت.
156

فيحصل مستسلما كرها على هذا الوجه. وأما من حمله على من أسلم كرها
حذر السيف، فالصحيح انه لا إكراه هناك في الحقيقة [1]). وفي
ما ذكرناه من ذلك مقنع بتوفيق الله تعالى.
17 - مسألة
(عدم قبول توبة المرتد)
كيف لا تقبل توبة المرتد! - الجواب عن الشبهة - الحجة
صحيحة وداحضة كالتوبة - التوبة النصوح - من شروط قبول التوبة
العزم على ترك المعاودة - نزول الآية - رأي المؤلف في الآية -
دخول شبهة على بعض العلماء
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد
إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون - 90)
فقال: فحوى هذه الآية مخالفة لقولكم في وجوب التوبة، لان من
مذهبكم أنه سبحانه لابد أن يقبل توبة التائب مع بقاء التكليف، وقد

(1) وبيان المعنى: أن المؤمنين يسلمون لله تعالى فيما يتعلق بالدين طوعا
ويسلمون له في سائر ما ينزله بهم من الآلام والمشاق كرها، لأنهم ينقادون
لذلك مع مخالفته لطباعهم وثقله على أجسادهم، والكافرون ينقادون له تعالى
على كل حال كرها إذا كانوا لا يقع منهم اسلام في معنى الدين طوعا. (منه) عن خطه
157

قال سبحانه: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده...) [1]،
وظاهر هذا الكلام يدل على أن قبول التوبة غير واجب، وأنه سبحانه
متفضل بذلك وله ألا يفعله كسائر ما يتفضل به!
فالجواب: أن اطلاق اسم التوبة ههنا من غير صفة تدل على صحتها
أو بطلانها لا تعلق فيه لخصومنا، لان التوبة عندنا لها شرائط، متى
لم تكن مطابقة لها وواقعة عليها كانت غير مقبولة، ويجري ذلك مجرى
قولهم: (حجة)، في أنها قد تكون صحيحة لازمة، وقد تكون باطلة
داحضة، فإذا كانت على الوجوه التي يجب أن تكون عليها، وصفت
بالصحة والثبات، وإن كانت على ضد ذلك وصفت بالبطلان
والاندحاض، ألا ترى إلى قوله تعالى: (حجتهم داحضة عند
ربهم...) [2] فسماها: حجة، ووصفها مع ذلك بأنها داحضة
لا تنصر قائلها ولا تنفع المدلي بها.
فلهذا قد تسمى التوبة: توبة، مع ذلك غير مقبولة، لأنها لم تقع
مطابقة لشرائطها، وعلى ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
توبوا إلى الله توبة نصوحا...) [3]، وقرأ أبو بكر بن عياش منفردا
عن سائر القراء (عن) [4] عاصم نصوحا بضم النون، ومعناه، توبة
تنصحون فيها نصوحا، وهو مصدر نصح، ومن قرأ نصوحا بفتح
النون، فإنما أراد به صفة التوبة: ومعناه: توبة مبالغة في النصح

(1) الشورى: 25.
(2) الشورى: 16.
(3) التحريم: 8
(4) وفي (خ): غير.
158

لأنفسكم، وفعول: من أسماء الفاعلين يستعمل للمبالغة في الوصف،
يقال: رجل شكور وصبور، وسيف قطوع، وجمل حمول، فإذا
كان نصوحا صفة للتوبة - والمراد به المبالغة على ما قلنا - علمنا أن هناك
توبة قد تقع على غير هذه الصفة، ويشملهما جميعا اسم التوبة، حتى
يصح أن يوصف إحداهما بالمبالغة، وإلا لم يكن لزيادة هذه الصفة معنى،
فبان أن التوبة قد تقع على وجوه فتكون مقبولة، وقد تقع على خلاف
تلك الوجوه فتكون غير مقبولة، وهذا يوضح الغرض الذي رمينا إليه.
وبعد، فإنه سبحانه أخبر في هذه الآية التي كلامنا فيها: انه لا يقبل
توبة القوم الذي وصفهم بما وصفهم به، ولم يخبر سبحانه على أي وجه
وقعت توبتهم، وقد ثبت أنه لا يجب قبول كل ما يقع عليه اسم التوبة،
ألا ترى أن التائب لو تاب من القبيح لا لقبحه بل لامر آخر لم تكن تلك
التوبة مقبولة!، وكذلك المعاين عند حضور أجله، وانقطاع أمله [1]
وزوال لوازم التكليف عنه، وحصوله مضطرا إلى المعرفة ملجأ إلى
التحرز من ضرر العقوبة، لا تقبل توبته، ويصحح ذلك قوله سبحانه:
(وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم
الموت قال إني تبت الآن...) [2]، وكذلك توبة أهل النار،
لأنهم ملجئون إلى ألا يفعلوا القبيح، ولذلك لا يلزم من أساء إليه غيره
أن يقبل اعتذاره، وهو عاجز عن الإساءة في المستقبل.
فإذا صح ذلك فمن أين للخصوم أنه سبحانه لا يقبل توبة هؤلاء الذين

(1) وفي (خ): أكله.
(2) النساء: 17
159

تابوا وقد وقعت توبتهم على الوجه الذي يوجب قبولها منهم! فظاهر هذا
الكلام على ما قدمناه لا يدل على ذلك، لأنه تعالى أضاف التوبة إليهم
وهي لا تقع منهم على كل وجه يصحح وقوعها، فادعاء العموم في جهاتها
لا يصح.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أن التوبة المتقدمة التي كانت
قبل الكفر وقبل الازدياد منه لا تقبل منهم، وقد ازدادوا الآن
كفرا، لأنه تعالى قد أخبر أنهم كانوا قبل ذلك مؤمنين بقوله: (كفروا
بعد أيمانهم) فبين سبحانه بهذا أن توبتهم وقعت محبطة بالكفر الذي
ردفها ووقع في عقبها، وإنما تكون التوبة نافعة إذا استمر التائب على
طريقة الصلاح، وبعد من قبائح الأفعال، وخرج عن الأصباب (1)
والاصرار، إلى الاشفاق والحذار، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فاغفر
للذين تابوا واتبعوا سبيلك) [1] فلم يجتز بقوله: (تابوا) حتى قال: (واتبعوا
سبيلك)، أي: لازموا الطريقة الصالحة، وفارقوا الاعمال الموبقة.
ويحتمل ذلك أيضا أن يكون هؤلاء القوم أظهروا التوبة ولم يعتقدوها
بل عزموا في المستقبل على اثبات أمثال ما تابوا منه، ولم يندموا على
ما فعلوه لقبحه، وهذان الأمران - أعني: الندم على فعل القبيح
لأنه قبيح، والعزم على ترك معاودة مثله في المستقبل - طنبا التوبة

(1) الأصباب بالمهملة: مصدر أصب، إذا اخذ في الصبب بفتحتين وهو
ما انحدر من الأرض ويحتمل الاضباب بالمعجمة من أضب الشئ أو على الشئ
إذا لزمه فلم يفارقه أو امسكه فيكون بمعنى الاصرار
(2) المؤمن: 7.
160

وعموداها اللذان بهما تقوم وعليهما تستقيم، فإذا أخل بهما أو بواحد منهما
كانت التوبة معتلة غير سليمة، ومعوجة غير قويمة.
وقد روي: أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا مع الحارث بن سويد
ابن الصامت الأنصاري ولحقوا بمكة، ثم راجع الحارث الاسلام ووفد
إلى المدينة، فتقبل النبي صلى الله عليه وآله توبته، فقال من بقي من أصحابه
على الردة: (نقيم بمكة ما أردنا، فإذا صرنا [1] إلى أهلنا رجعنا إلى
المدينة وأظهرنا التوبة، فقبلت منا كما قبلت من الحارث قبلنا)، فهذا
الخبر يدل على أنهم عزموا على إظهار التوبة بألسنتهم عياذا [2]،
وليسوا بعاقدين عليها اخلاصا فلذلك قال سبحانه: (وأولئك هم
الضالون)، لأنهم لو حققوا التوبة وأخلصوا فيها، لكانت مقبولة
منهم ومحسوبة لهم.
يبين ذلك قوله تعالى أمام هذه الآية: (إلا الذين تابوا من
بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم - 89) ومعنى الاصلاح
ههنا: الاخلاص في التوبة، حتى يكون الباطن كالظاهر والخافي كالعالن،
فأخبر سبحانه أنه لا يقبل من التوبة إلا ما عقدت عليه القلوب والضمائر،
وصدقته الأفعال والظواهر.
وقال بعضهم: إنما قال سبحانه: (لن تقبل توبتهم)، لأنهم تابوا من
الكفر الزائد، وثبتوا على الأصل الثابت، فلذلك كانت توبتهم غير
مقبولة. وقيل: بل تابوا من الكفر الأول ولم يتوبوا من الكفر

(1) وفي (خ): عدنا.
(2) اي: التجاء.
161

الثاني، فكان كفرهم واقعا بعد التوبة، فلذلك لم يقبل منهم.
وقد يجوز عندي - والله أعلم - أن يكون المراد بذلك (لن تقبل توبتهم
وأولئك هم الضالون) أي: لا تقبل توبتهم وهم على هذه الصفة من
كونهم ضالين، فيكون قوله تعالى: (وأولئك هم الضالون) حالا، ولا
يكون ابتداء وخبرا، فنفى تعالى قبول التوبة منهم وهم في حال الضلال،
لان التوبة - كما بينا أولا - لا يجب قبولها إلا مع الاخلاص والتحقيق، وبقاء
العقد والضمير، ألا ترى إلى قوله تعالى في الآية التي فيها يذكر النساء: (إلا
الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله
فأولئك مع المؤمنين... الآية - 145)، فذكر تعالى بعد ذكر التوبة،
الاصلاح والاخلاص، لان التوبة إن لم يتبعها ذلك لم تسم توبة ولم
تسقط عقوبة.
وقد دخلت على بعض العلماء [1] شبهة، فزعم أنه لا يجوز أن
يكون أراد بقوله تعالى: (لن تقبل توبتهم) عند حضور الموت، وجعل
علته في ذلك أن الكافر إذا أسلم قبل موته ولو بطرفة عين، فحكمه
حكم من أسلم قبل ذلك بالأيام الكثيرة والمدة الطويلة: في الصلاة عليه
والدفن له، وفي الموارثة، وسائر الأحكام الجارية في الشريعة، وذهب
عليه انه قد يجوز تعبدنا بذلك كله فيه مع كونه ملجأ إلى إظهار الايمان، كما
تعبدنا في المنافقين باجراء احكام المسلمين عليهم، وإن كانوا كفارا بنفاقهم،
فكان العمل على صلاح الظواهر مع العلم بفساد البواطن.

(1) هو: ابن جرير.
162

فصل
(ثم ازدادوا كفرا)
فأما معنى قوله تعالى: (ثم ازدادوا كفرا) فقد ذكرت فيه وجوه:
1 - أحدها: أن هذه الآية نزلت في اليهود [1]، لأنهم
كانوا يبشرون بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله بالحلي والأوصاف،
والسمات والاخلاق، والورود بعد الفترة، والجهاد والهجرة، فلما
ظهر صلى الله عليه وآله مصدقا لتلك البشائر، ومحققا لتلك الشواهد، كذبه أعداء
الله حسدا له ونفاسة على العرب بمثله، فأنزل الله تعالى فيهم: (إن الذين
كفروا بعد إيمانهم) أي: بمحمد صلى الله عليه وآله (ثم ازدادوا كفرا)
أي: بما أنزل عليه من القرآن فكفروا كفرا مجددا (لن تقبل توبتهم)
أي: عند موتهم.
وأراد سبحانه ههنا بذكر إيمانهم: تصديقهم بالنبي صلى الله عليه وآله، لان
أصل الايمان في اللغة هو: التصديق، إلا أنه من الأسماء المنقولة عن الأصل،
لأنه في الشرع اسم من أسماء المدح، وهذا يفيد استحقاق الثواب مع ضرب
من التعظيم، ومما يكشف ما ذكرنا من كونه في الأصل اسما للتصديق
قوله سبحانه - حاكيا عن بني يعقوب (ع) -: (وما أنت بمؤمن لنا
ولو كنا صادقين) [2] أي: بمصدق لنا ولو صدقنا، لشدة تهمتك لنا.

(1) وفي (خ): يهود.
(2) يوسف: 17.
163

2 - وقيل في ذلك: إنهم اليهود كفروا بعيسى (ع) وما
أنزل عليه ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وآله، فلن تقبل توبتهم عند
موتهم، وذلك مروي عن قتادة. وقيل: لن تقبل توبة هؤلاء من
كفرهم بالمسيح (ع) مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وآله.
3 - وقيل أيضا: إنهم اليهود والنصارى من أهل الكتاب
كفروا بعد إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وآله عند إعطاء صفاته وذكر علاماته،
ثم ازدادوا كفرا بذنوب واقعوها، فلا تنفع توبتهم منها، وهم مقيمون
على كفرهم الأصلي الذي كان قبلها.
4 - وقيل أيضا: (ثم ازدادوا كفرا) أي: أقاموا على
كفرهم إلى وقت حضور آجالهم، ثم تابوا حين لا تنفع التوبة، ولا تماط
الحوبة. وفي ما ذكرناه من ذلك كاف بحمد الله تعالى.
164

18 - مسألة
(زيادة الواو في (ولو افتدى به))
الجواب عن شبهة زيادة الواو - مذهب المبرد في الحروف المزيدة في
القرآن - الشعر يدخله النقص والزيادة دون النثر - بلاغة أمير المؤمنين (ع)
ونهج البلاغة - القرآن لا يقاس به كلام - جواب المبرد عن سؤال زيادة واو
(ولينذروا به) - الجواب عن الاحتجاج بزيادة (ما) في (فبما
رحمة) والواو في (وفتحت أبوابها) - موضعان آخران جاءت فيهما
هذه الواو - الجواب عن الاحتجاج ببيت للهذلي - فائدة هذه الواو في
الآية ومعناها.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم
كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به... - 91)
فقال: وجه الكلام أن يقول: (لو افتدى به)، بغير واو،
فما معنى دخول الواو ههنا، والكلام غير مضطر إليها!
فالجواب: أن في ذلك أقوالا للعلماء: فمنها - هو أضعفها - أن
تكون الواو ههنا مقحمة كاقحامها في قوله تعالى: (حتى إذا جاؤوها
وفتحت أبوابها) [1]، والمراد به فتحت أبوابها.
وأقول: إن لأبي العباس المبرد مذهبا في جملة الحروف المزيدة في

(1) الزمر: 73.
165

القرآن، أنا اذهب إليه وأتبع نهجه فيه، وهو: اعتقاد أنه ليس
شئ من الحروف جاء في القرآن إلا لمعنى مفيد، ولا يجوز أن يكون
لقى مطرحا، ولا خاليا من الفائدة صفرا، وذلك أن الزيادات والنقائص
في الكلام إنما يضطر إليها ويحمل عليها الشعر الذي هو مقيد بالأوزان
والقوافي، وينتهي إلى غايات ومرام، فإذا نقصت أجزاء كلامه قبل
لحاق القافية التي هي الغاية المطلوبة، اضطر الانسان إلى أن يزيد في
الحروف، فيمد المقصور ويقطع الموصول [1] وما أشبه ذلك، وإذا
زاد كلامه - وقد هجم على القافية فاستوقفته عن أن يتقدمها وأخذت بمخنقه
دون تجاوزها - اضطر صاحبه إلى النقصان من الحروف، فقصر الممدود،
ووصل المقطوع، وما أشبه ذلك، حتى يعتدل الميزان وتصح الأوزان.
فأما إذا كان الكلام محلول العقال مخلوع العذار، ممكنا من الجري في
مضماره، غير محجور بينه وبين غاياته، فإن شاء صاحبه أرسل عنانه، فخرج
جامحا، وأن شاء قدع [2] لجامه، فوقف جانحا، لا يحصره امد دون امد،
ولا يقف به حد دون حد - فلا تكون الزيادات الواقعة فيه إلا عيا واستراحة،
ولغوبا وإلاحة [3]، وهذه منزلة ترفع عنها كلام الله سبحانه الذي هو
المتعذر المعوز، والممتنع المعجز، وكل كلام إنما هو مصل خلف سبقه،
وقاصر عن بلوغ أدنى غاياته، بل قد يرتفع عن هذه المنزلة كلام الفصحاء،

(1) اي: يجعل همزة الوصل كهمزة القطع
(2) قدعه: كبحه أو كفه وفي (خ): (قذع) والصحيح ما أثبتناه.
(3) يقال ألاح على الشئ: أي: اعتمد
عليه فتقارب الإلاحة حينئذ معنى الاستراحة ويحتمل أن يكون من ألاح: إذا أشفق وخاف.
166

المتقدمين، والبلغاء المحذقين، فضلا عما هو أعلى طبقات الكلام
وابعد مقدورات الأنام.
وإني لأقول أبدا: إنه لو كان كلام يلحق بغباره، أو يجري في مضماره
- بعد كلام الرسول صلى الله عليه وآله - لكان ذلك كلام أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام، إذ كان منفردا بطريق [1] الفصاحة،
لا تزاحمه عليها المناكب، ولا يلحق بعقوه [2] فيها الكادح الجاهد،
ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك، فلينعم النظر في كتابنا
الذي ألفناه ووسمناه ب‍ (نهج البلاغة)، وجعلناه يشتمل على مختار
جميع الواقع الينا، من كلام أمير المؤمنين (ع) في جميع الأنحاء
والأغراض، والأجناس والأنواع: من خطب وكتب ومواعظ وحكم،
وبوبناه أبوابا ثلاثة، لتشتمل على هذه الأقسام مميزة مفصلة، وقد عظم
الانتفاع به، وكثر الطالبون له، لعظيم قدر ما ضمنه: من عجائب
الفصاحة وبدائعها، وشرائف الكلم ونفائسها، وجواهر الفقر [3]
وفرائدها.
وكلامه (ع) مع ما ذكرناه من علو طبقته وحلو طريفته [4]،
وانفراد طريقته، فإنه إذا حول ليلحق غاية من أداني غايات القرآن،
وجدناه ناكصا متقاعسا، ومقهقرا راجعا، وواقفا بليدا [5]،

(1) وفي (خ): بطريقة
(2) اي: بسموه وارتفاعه.
(3) جمع فقرة بكسر فسكون وهي: النكتة في الكلام والجملة المختارة
منه. ومن أغلاط العامة استعمال الفقرة بفتحتين
(4) الطريفة: الكلام النادر المستحسن وفي (خ): وخلو طريقه
(5) اي لا ينشط لتحريك.
167

وواقعا بعيدا، على أنه الكلام الذي وصفناه بسبق المجارين والعلو على
المسامين، فما ظنك بما دون ذلك من كلام الفصحاء وبلاغات البلغاء،
الذي يكون بالقياس إليه هباء منثورا، وسرابا غرورا!. وهذا الذي
ذكرناه أيضا من معجزات القرآن إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المفكر، إذ كان
الكلام المتناهي الفصاحة العالي الذروة البعيد المرمى والغاية، إذا قيس
إليه وقرن به، شال في ميزانه وقصر عن رهانه، وصار بالإضافة إليه
قالصا بعد السبوغ [1]، وقاصرا بعد البلوغ، ليصدق فيه قول أصدق
القائلين سبحانه إذ يقول: (... وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [2].
وقد ذهبنا عن غرض المسألة بعيدا للداعي الذي دعانا، والمعنى
الذي حدانا، ونحن نعود إلى عمود القول فيها بإذن الله فنقول:
وقد كان بعض من رام كسر المذهب الذي تقدم ذكرنا له عن المبرد
واختيارنا طريقته فيه، سأله عن قول الله سبحانه: (هذا بلاغ
للناس ولينذروا به) [3]، فقال: قد علمنا أن هذه اللام لام
كي، فما معنى إدخال الواو عليها إن لم نقدرها مزيدة؟. فقال
أبو العباس لسائله:
ألست تعلم أن قوله تعالى: (هذا بلاغ) مصدر وقوله: (ولينذروا
به) فعل موضوع في موضع المصدر، لان الأفعال تدل على مصادرها؟!

(1) اي: صار منكمشا منقبضا بعد أن كان طويلا ضافيا
(2) فصلت: 42.
(3) إبراهيم: 52.
168

فالتقدير أن يكون هذا بلاغ للناس وإنذار، فبطل أن تكون الواو جاءت
لغير معنى. وقد أحسن أبو العباس في هذا الجواب غاية الاحسان.
فأما احتجاج من احتج في تجويز ورود الحروف لغير معنى في القرآن
بل على طريق الزيادة والاقحام، بقوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت
لهم...) [1]، وقوله: إن (ما) ههنا زائدة، والمراد: فبرحمة
من الله لنت لهم - فليس الامر على ما ظنه، لان (ما) ههنا لها فائدة
معلومة، وذلك أن معناها تفخيم قدر الرحمة التي لان بها لهم، فكأنه
قال تعالى فبرحمة عظيمة من الله لنت لهم، وموقع (ما) ههنا كموقعها في
قوله تعالى: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) [2] فمن قولنا انه
تعالى أراد: تعظيم ما غشيهم من موج البحر، ولو لم تكن فيه هذه
الفائدة لكان عيا لا يجوز على الحكيم تعالى أن يأتي بمثله، وكان
يجري مجري قول القائل: أعطيت فلانا ما أعطيته، إذا لم يرد تفخيم
العطية.
وأما استشهاد من استشهد على أن الواو زائدة في قوله تعالى: (ولو
افتدى به) بقوله سبحانه: (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها)، ولم
يرد بعد ذلك خبر [3] (إذا) - فليس الامر على ما ظنه لان تقدير ذلك
عند المحققين من العلماء: (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها) دخلوها
(وقال لهم خزنتها سلام عليكم)، لان في تفتيح الأبواب

(1) آل عمران: 159.
(2) طه: 78.
(3) أي جواب وجزاء وسيأتي أيضا اطلاق لفظ الخبر على الجزاء متكررا في كلامه.
169

لهم دليلا على دخولهم، فترك ذكر الدخول لما في الكلام من الدلالة
عليه. وقد يسقط من القرآن كلم وحروف، ويدل فحوى الخطاب عليها
اختصارا وحذفا، وإبعادا في مذاهب البلاغة، وإغراقا في منازع
الفصاحة، ولان فيما يبقى أدلة على ما يلقى، إذ كانت البلاغة عند أهل
اللسان لمحة دالة، وإشارة مقنعة، ولا يجوز أن تزاد فيه الكلم والحروف
التي ليس فيها زيادة معان أو أدلة على معان، على ما قدمناه من كلامنا في هذا
المعنى، لان ذلك من قبيل العي والفهاهة، كما أن الأول من دلائل
الاقتدار والفصاحة.
وفي القرآن موضعان آخران جاءت فيهما هذه الواو التي قدر أنها مزيدة،
ما رأيت أحدا ينبه عليهما، وإنما عثرت انا بهما عند الدرس، لان
العادة جرت بي في التلاوة أن أتدبر غرائب القرآن وعجائبه وخفاياه
وغوامضه، فلا أزال أعثر فيه بغريبه، وأطلع على عجيبه، وأثير
منه سرا لطيفا، واطلع خبيا طريفا
وأحد الموضعين المذكورين، في السورة التي يذكر فيها يوسف (ع)،
وذلك قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في
غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون 15)
فلم يرد بعد (فلما) خبر لها، وهذا مثل الآية التي في الزمر سواء، إلا
أن تلك تداول الناس الاستشهاد في هذا الموضع بها، وهذه خفيت عنهم
فترك ذكرها، وتأويل هذه كتأويل تلك لا خلاف بينهما، لان في قوله
تعالى: (وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب) دليلا على جعله فيه، بقوة العزم
170

منهم والاجماع المنعقد بينهم، وكأنه تعالى قال: (حتى إذا ذهبوا به
واجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب) جعلوه هناك (وأوحيناه إليه)،
فالموضعان متفقان في المعنى.
والموضع الآخر قوله تعالى في الصافات: (فلما أسلما وتله للجبين 103
وناديناه أن يا إبراهيم 104 قد صدقت الرؤيا... - 105)،
فلم يكن بعد قوله تعالى: (فلما) ما يجوز أن يكون خبرا لها، فالمواضع
الثلاثة إذن متساوية.
فأما استشهادهم [1] ببيت الهذلي [2]، وهو آخر القصيدة ولم
يرد بعده ما يجوز أن يكون خبرا له وذلك قوله:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة * شلا كما تطرد الجمالة الشردا
(وقتائدة: اسم موضع [3]. والجمالة: أصحاب الجمال كما
يقال: الحمارة والبغالة لأصحاب الحمير والبغال. والشل: الطرد.
والشرد: الإبل الشاردة)، فليس الامر أيضا على ما قدروه في هذا
البيت، وذلك أن معناه عند المحققين كمعنى الآيتين المذكورتين سواء،
لان الشاعر لما جاء بالمصدر الذي هو قوله: (شلا) كان فيه دلالة على
الفعل، وكأنه قال: حتى إذا أسلكوهم في هذا الموضع شلوهم شلا،
فاكتفى بذكر المصدر عن ذكر الفعل، لان فيه دلالة عليه.

(1) بناء على أن العامل في (شلا) أسلكوهم، وعليه يكون الجزاء غير
مذكور فيحمل على زيادة إذا اي: حتى أسلكوهم.
(2) وهو: عبد مناف بن ربع.
(3) وفي الصحاح: انه عقبة أو هو ثنية معروفة أو كل ثنية بالغم.
171

فإذا ثبت ما قلنا رجعنا إلى ذكر قول العلماء المحققين في معنى هذه
الواو، إذ كانت عندهم واردة لفائدة لو لاها لم تعلم، فنقول:
إن معنى ذلك عندهم (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من
أحدهم ملء الأرض ذهبا) على وجه الصدقة والقربة ما كانوا مقيمين على
كفرهم، ثم قال تعالى: (ولو افتدى بهذا المقدار أيضا - على عظم قدره -
من العذاب المعد له ما قبل منه)، فكأنه تعالى لما قال: (فلن يقبل
من أحدهم ملء الأرض ذهبا) عم وجوه القبول بالنفي ثم فصل سبحانه
لزيادة البيان [1]، ولو لم ترد هذه الواو لم يكن النفي عاما لوجوه القبول،
وكان القبول كأنه مخصوص بوجه الفدية، دون غيرها من وجوه القربة،
فدخلت هذه الواو للفائدة التي ذكرناها من التفصيل [2] بعد الجملة.
فأما من استشهد على زيادة الواو ههنا بقوله تعالى في الانعام:
(وليكون من الموقنين 75)، وقدر ان الواو هناك زائدة،
فليس الامر على ما قدره، لان الواو هناك عاطفة على محذوف في
التقدير، فكأنه تعالى قال: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت
السماوات والأرض) لضروب من العبر (وليكون من الموقنين).
فان قال قائل: قد وردت في القرآن آيات تدل على أن نفي القبول
منهم لما لو قدروا عليه لبذلوه إنما هو في الافتداء من العذاب لا غير،

(1) فتكون الآية من نحو قولهم: (لا تغتر بعدوك وان ضحك إليك)
(2) وفي (خ): (من نفي التفصيل) والصحيح ما هو مثبت في المتن.
172

فوجب أن يكون ذلك أيضا في هذه الآية التي نحن في تأويلها مختصا بهذا
الوجه، دون وجه الصدقة والقربة، فيصح أن الواو ههنا زائدة. فمن
الآيات المشار إليها قوله تعالى في المائدة: (إن الذين كفروا لو أن
لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم
القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم 36) ومنها أيضا قوله
سبحانه في الرعد: (للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم
يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا
به... الآية 18).
قيل له: قد ورد في القرآن أيضا ما يدل على نفي القبول منهم لما
يبذلونه في وجوه القرب والصدقات: فمن ذلك قوله تعالى في براءة: (قل
أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما
فاسقين 53 وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا
بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم
كارهون 54)، فإذا وجدنا القرآن قد دل في مواضع على نفي القبول منهم
لما يبذلونه على وجه القربة، وما يبذلونه على وجه الفدية والقربة،
لم يكن مخالفنا أولى بحمل ذلك على وجه القربة منا بحمله على وجه الفدية
والقربة جميعا، إذ كان فيهما زيادة معنى، وكنا مع هذه الحال نافين
عن كلام الله تعالى ما لا يليق به من ايراد الزوائد المستغنى عنها، والتي
لا يستعين بمثلها إلا من يضطره ضيق العبارة إليها أو يحمله فضل العي
عليها، وذلك مزاح عن كلام الله سبحانه، فكلما حملت حروفه على زيادات
173

المعاني والأغراض كان ذلك أليق به من حمله على نقصان المعاني، مع
زيادات الألفاظ، وفي ما ذكرناه من ذلك مقنع بحمد الله تعالى.
19 - مسألة
(أول بيت وضع للناس)
الجواب عن الشبهة في تقدم وضع البيت - البيت الحرام اقدم من بيت
المقدس - جواب للمؤلف مبتكر - اعراب (مباركا) في الآية ومعناه -
جواب قاضي القضاة.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس
للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين - 96)، فقال: كيف
جاز هذا القول، وقد جاء في الاخبار أن آدم عليه السلام وبعض أولاده
ابتنوا بيوتا ومساكن، واتخذوا دورا ومدائن، والبيت الحرام إنما
بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؟!
فالجواب: أن للعلماء في هذه المسألة أقوالا:
1 - منها، أن يكون المراد بذلك أن أول بيت وضع لعبادة المكلفين
- قبلة لصلاتهم وغاية لحجهم ومؤدى لمناسكهم - هذا البيت ببكة،
174

وإن كان من قبله بيوت ليست هذه صفتها. وهذا القول مروي عن
أمير المؤمنين علي عليه السلام.
2 - وقال بعضهم: إن أول بيت وضع للناس مباركا هذا البيت،
فكأن قوله تعالى: (مباركا) حال للوضع، فانفرد بالحال المميزة من سائر
البيوت المتقدمة وأسباب بركته كثيرة: منها أنه متعبد من متعبدات الله
العظام التي إذا اخرج المؤمن من الحق الواجب عليه فيها صلاة وحجا،
استحق الثواب وأمن العقاب. ومنها أن جعل حكم من دخله أن
يأمن مما يخافه حتى يخرج منه، على اختلاف العلماء في (معنى 1) ذلك.
ومنها أمان الوحش والطير فيه، فلا يختلها خاتل، ولا يقتنصها حابل،
وما يجري مجرى ذلك.
3 - وقيل: إن هذه الآية نزلت على سبب، وذلك أن اليهود
قالوا: (بيت المقدس أعظم قدرا من الكعبة، لأنه مهاجر النبيين
وقرارة الصديقين)، فنزلت: (إن أول بيت وضع للناس... الآية).
وبعد، فالبيت الحرام من بناء إبراهيم (ع)، وأول من اختط بيت
المقدس واتخذه مسجدا داود (ع)، وبناه سليمان من بعده فشاد بنيانه
وفسح أعطانه [2]، وجاء في الخبر: (انه أصاب بني إسرائيل على
عهد داود طاعون أسرع فيهم وذهب بعامتهم، فخرج داود بالناس إلى
موضع بيت المقدس، فدعا الله سبحانه ان يرفع عنهم ذلك الموتان،

(1) زيادة في (خ).
(2) جمع عطن بفتحتين وهو المناخ حول الورد كالمعطن، اما في مكان آخر فمراح ومأوى.
175

فاستجيب له، فاتخذ ذلك الموضع مسجدا تبركا به وتعظيما له، وبدأ
ببنائه فنودي قبل أن يستتمه، فأوصى إلى سليمان (ع) باستتمامه،
فعامته من بناء سليمان)، فثبت ان البيت الحرام اقدم وضعا من بيت
المقدس، إذ كان باني ذلك إبراهيم وإسماعيل، وباني هذا داود
وسليمان، وبين داود وسليمان، وبين جدهما إبراهيم قرون خالية وأمم
متناسخة.
4 - وقال بعضهم: معنى (إن أول بيت وضع للناس): أن
الله سبحانه تولى وضع أساسه بالملائكة، وسائر البيوت تولى بناءها
الناس، واستدل صاحب هذا القول بقوله تعالى: (وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل...) [1]، فجعل هناك
قواعد كانت مقررة قبل بناء إبراهيم فرفعها إبراهيم عليه السلام.
5 - وقد يجوز عندي أيضا - والله أعلم - أن يكون المراد
بذلك أن أول بيت امر الله تعالى ببنائه البيت الحرام، لما أراد الله
سبحانه من تعظيم قدره وإسناء ذكره ونفع الناس به، ومما يقوي ذلك
قول إبراهيم وإسماعيل: (ربنا تقبل منا) فدل ذلك على أنهما جعلا
بناء البيت جهة من جهات القربة إلى الله سبحانه في اتباع امره والعمل
لوجهه، فكان فحوى هذا الكلام يحتمل أن يكونا أمرا بأمر فاتبعاه
ونصا [2] إلى مدى فبلغاه، وهذا القول مما خطر لي ولم أجده لمن تقدمني.
وقوله تعالى: (مباركا) ينتصب من وجهين (أحدهما) ب‍ (وضع

(1) البقرة: 127.
(2) نص فلان فلانا: لستحثه وحركه.
176

للناس)، على الحال من الضمير الذي فيه، وفي هذا الوجه يجوز أن
يكون قد تقدمه بيوت غيره، فاختص به هو وتميز، بأنه وضع
مباركا. (والوجه الآخر) ينتصب بالظرف من (بكة)، على معنى
الذي استقر ببكة مباركا، وفي هذا الوجه لا يجوز أن يكون قد وضع قبله
بيت غيره، كما جاز في الوجه الأول لان الوضع ههنا لا تعلق له بالحال التي هي
قوله: (مباركا)، فكأنه أول بيت وضع للناس على الاطلاق، فلا
حال تميزه من غيره.
ومعنى قوله تعالى: (مباركا) أي: ثابت النفع للناس، لان
أصل البركة مأخوذ من الاستقرار والثبوت، وهو قولهم: برك بركا
وبروكا، إذا ثبت على حاله، والبركة: ثبوت الخير واستقراره
وزيادته ونماؤه، ومنه قولهم: (تبارك الله) أي: ثبت ولم يزل
ولا يزال، ومنه قيل للصدر: البرك، لثبوت المحفوظات فيه، ومنه
(بركاء الحرب) [1] اي: الثبوت فيها أو ثبوتها واستقرار شدتها.
وقد يمكن - على ما قدمناه - أن يكون معنى كونه مباركا ثبوت العبادة فيه
ولزومها واستمرارها واتصالها، على ما يحكى من أن الطواف به لا يكاد
ينقطع ليلا ولا نهارا، أو التوجه إليه في الصلاة متصل على وجه الدهر
لا انقطاع له ولا زوال.
6 - وقال قاضي القضاة أبو الحسن: اختلف الناس في المراد

(1) كذا في النسخ، والثابت في كتب اللغة براكاء (بفتح الباء
وبروكاء (بفتح فضم).
177

بقوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا): فمنهم
من يقول إنه أول بيت بني. ومنهم من يقول: أول بيت بني للعبادة
كالصلاة والحج والمناسك، ثم اختلفوا في أول من تولى بناءه، فقال
بعضهم: إبراهيم وإسماعيل (ع)، وقال آخرون: بل كان مبنيا من
قبل، ثم زال البناء بالغرق أيام الطوفان، وإنما أعاد بناءه إبراهيم
وإسماعيل، حتى أن فيهم من يقول: إنه كان موضعا لتعبد الملائكة
قبل خلق آدم عليه السلام، ويذكر في ذلك اخبارا كثيرة.
والذي ثبت بالقرآن أن إبراهيم وإسماعيل بنياه، فذلك
يقين، وما تقدم موقوف على الخبر الصحيح، والصحيح: أنه أول
بيت وضع للعبادة لا للسكنى، ودليل ذلك أنه تعالى اضافه إلى الناس
إضافة مطلقة، والاطلاق يقتضي أن تكون الإضافة إلى الناس في حكم
يشتركون فيه، وليس يصح ذلك إلا بأن يكون قبلة لهم، وموضعا لقضاء
حجهم ومناسكهم، لأنا نعلم أن الأبنية قد كانت من قبل إبراهيم وإسماعيل
بالزمان الطويل والمدى البعيد.
178

فصل
(آيات بينات مقام إبراهيم)
الجواب عن شبهة ابدال المفرد (مقام) من الجمع (آيات) - معاني المقام -
آيات الحرم - تألف الوحوش والسباع - اثر قدم إبراهيم بالصخرة -
ذهاب حصى الجمار - امتناع الطير من العلو فوق البيت - اختلاط الطير
والوحش بالناس - تعجيل عقوبة منتهك الحرم سابقا - اختصاص المعجز
بزمان النبي - مرجع ضمير (فيه آيات) - استمرار المعجز بعد النبي
فان قال قائل: كيف قال سبحانه: (فيه آيات بينات)،
ثم قال: (مقام إبراهيم)، ومقام إبراهيم بدل من آيات بينات،
وهذا واحد وتلك جمع، وينبغي أن يكون البدل على حد المبدل منه!.
قيل له: إن في ذلك أقوالا:
1 - أحدها، ما روي عن ابن عباس: أنه قرأ (فيه آية
بينة مقام إبراهيم) فجعل البدل على حد المبدل، فسقط سؤال السائل
على قراءة من قرأ ذلك. - 2 - وإما رفع مقام إبراهيم بأن يكون على اضمار:
هي مقام إبراهيم.
3 - وقال قائلون: المعنى منها مقام إبراهيم [1]

(1) هذا الجواب كسابقه لا يكون على نحو البدل الاصطلاحي، ويحتمل
أن يكون رفع (مقام) على أنه بدل بعض من كل وبه يسقط السؤال، والتقدير
مقام إبراهيم منها كقوله تعالى في هذه الآية (ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا) اي منهم، ولعل هذا هو مراد هذا القائل.
179

4 - وقال بعض العلماء (وهو من الأقوال الغريبة): إن
قوله تعالى: (مقام إبراهيم) جمع مقامة، كما جمعوا معونة على معون [1]
ومنه قوله الشاعر (2):
بثين الزمي (لا) إن (لا) إن لزمته * على كثرة الواشين أي معون
اي: الزمي قول: (لا) إظهارا لجحد ما بيننا وغطاء على مكنون
ودنا، فان ذلك أعظم معونة على الواشين بنا والماشين علينا، وإذا
كان مقام إبراهيم في معنى الجمع على هذا القول سقط سؤال السائل.
5 - وقال بعضهم: معنى (فيه آيات بينات) اي: علامات
ظاهرات، وهي المناسك والشعائر التي بين الله للناس مواضعها، ليقضوا
متعبداتهم عندها، ولم يرد تعالى بذلك: الآيات التي هي الاعلام الخارقة
للعادات كما يقوله عامة المفسرين، وقال صاحب هذا القول [3]: (إن المراد
بمقام إبراهيم الحرم كله، لا الموضع المخصوص من الصخرة التي أثر فيها
قدمه) إذ كان مقام إبراهيم عنده في تأويل الجمع، وتقديره: مقامات
إبراهيم، إلا أنه قال: (مقام)، لان المصدر بمعنى الجمع، كما

(1) قال في اللسان: (ومن العرب من يحذف الهاء (اي من معونة)
فيقول: المعون، وهو شاذ لأنه ليس في كلام العرب مفعل بغير هاء. قال الكسائي
لا يأتي في المذكر مفعل بضم العين الا حرفان جاءا نادرين لا يقاس عليهما
(المعون والمكرم) ثم استشهد بالبيت ثم فسره بقوله: يقول نعم المعون قولك
(لا) في رد الوشاة وان كثروا، وقال الآخر: (ليوم مجد وفعال مكرم)
وقيل هما جمع معونة ومكرمة قاله الفراء) ومثله في انتاج وأدب الكاتب في
باب شواذ البناء.
(2) هو جميل بثنية.
(3) الظاهر هو: المبرد
180

قال تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم...) [1] أي: أسماعهم،
وكذلك قوله سبحانه: (لا يرتد إليهم طرفهم...) [2] لأنه على
معنى: طروفهم [3]، وعلى ذلك قول الشاعر [4]:
- إن العيون التي في طرفها مرض * قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فكأنه جعل الآيات البينات ما بينه إبراهيم (ع) للناس بأمر الله
تعالى في تلك المواضع: من مناسكهم ومواضع متعبداتهم، فكانت
المناسك كلها داخلة في مقام إبراهيم.
والمقام أيضا: المجلس (وهو من غرائب التفسير) وذلك
قوله تعالى في قصة سليمان: (قال عفريت من الجن أنا آتيك به
قبل أن تقوم من مقامك...) [5] اي: من مجلسك، وقوله:
(قبل أن تقوم) يدل على أنه كان قاعدا، وإنما سمي المجلس: مقاما، لان
فيه يكون قيام الجالس بعد قعوده، وهذا من عجائب كلامهم، وغوامض
مصارف لسانهم. والمقامة أيضا: الجماعة من الناس، ومنه قول لبيد:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم * جن البدي رواسيا أقدامها [6]

(1) البقرة: 7.
(2) إبراهيم: 43
(3) كذا، والطرف
لا يجمع ولا يثني، وإنما طروف جمع طرف بكسر فسكون
(4) جرير
(5) النمل: 39
(6) جمع المؤلف رحمه الله بين صدر بيت للشاعر
وعجز بيت آخر له، قال لبيد في معلقته:
غلب تشذر بالذحول كأنها * جن البدي رواسيا اقدامها
فاخذه منه عجزه وقال في أخرى:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم * جن لدى باب الحصير قيام
فاخذ منه صدره ولا يخفى ما بين البيتين من تشابه. تشذر (بتشديد
الذال): تتوعد. البدي: البادية. الغلب: الغلاظ. الحصير: الملك المحجوب
عن الناس أو السجن.
181

أي: جماعة هذه صفتهم.
* * *
قال بعضهم: ومن آيات الحرم التي لا توجد في غيره أن الوحش
والسباع إذا دخلته وصارت في حدوده لا يقتل بعضها بعضا، ولا يؤذي
بعضها بعضا، ولا تصطاد فيه الكلاب والسباع سوانح الوحش التي
جرت عادتها بالاصطياد لها، ولا تعدو عليها في ارض الحرم، كما
تعدو عليها إذا صادفتها خارج الحرم، فهذه دلالة عظيمة وحجة بينة على
أن الله تعالى هو الذي أبان هذا البيت وما حوله، بهذه الآية، من
سائر بقاع الأرض، لأنه لا يقدر أن يجعل هذه البقعة التي ذكرناها، على ما وصفناه منها، وأن يحول بين السباع فيها وبين مجاري عاداتها،
وحوافز [1] طبائعها وعمل النفوس السليطة [2] التي ركبت فيها، حتى
تمتنع من مواقعة الفرائس، وقد أكثبت لها [3] وصارت أخذ أيديها،
بل تأنس بأضدادها، وتأنس الأضداد بها - إلا الله سبحانه، لان هذا
خارج عن مقدار قوى المخلوقين وتدابير المربوبين.
ومن الآيات التي خص الله تعالى هذا الموضع بها مقام إبراهيم (ع)
في الصخرة، من حيث ألان الله سبحانه له أصلادها [4] بعد الصلابة،
وخلخل اجزاءها بعد الكثافة، حتى أثرت قدمه فيها راسخة، وتغلغلت
سائخة، كما يتغلغل في الأشياء الرخوة والأرض الخوارة [5]

(1) جمع حافزة من حفزه: إذا دفعه من خلفه.
(2) الشديدة.
(3) أكثب له وهنه: دنا منه
(4) جمع صلد وهو: الصلب.
(5) السهلة اللينة.
182

ومنها ذهاب حصى الجمار وعدمه وخلو مواضعه منه، على كثرة الرامين
به واجتماعه في مواضعه، ولولا أنه سبحانه جعل تقليل كثيره وإعدام
موجوده من بعض آيات تلك البقعة، لساوى الجبال أظلالا، وجعل
(البطحاء) جبالا، لا سيما وليس موضع الجمرتين الأولتين خاصة موضع
مسيل ماء ولا طريق سيل، فيظن الظان أن السيول تذهب بحصاهما [1]،
وتفرق ما يجتمع فيهما.
ومنها امتناع الطير من العلو على البيت الحرام، حتى لا يطير طائر إلا
حوله من غير أن يعلو فوقه. ثم استشفاء المريض من الطيب [2] به على
ما تناصر الخبر بذكره [3]
فأما الذي شاهدته أنا عند مقامي بمكة في السنة التي حججت فيها،
فامتناع الطير من التحليق فوق البيت، حتى لقد كنت أرى الطائر يدنو
من المطرح السحيق والمنزع البعيد، في أحد طيرانه وأسرع خفقان
جناحه، حتى أقول: قد قطع البيت عاليا عليه وجائزا به، فما هو إلا
أن يقرب منه حتى ينكسر [4] منحرفا ويرجع متيامنا أو متياسرا، فيمر
عن شمال البيت أو يمينه، كأن لافتا يلفته أو عاكسا يعكسه، وهذا
من اطرف ما شاهدته وجربته.
فأما اختلاط الطير بالناس هناك، حتى لا تنفر من ظلالهم، ولا
تتباعد عن همس أقدامهم، فهو شئ بين واضح، ولعهدي بجماعات من

(1) وفي (خ): بحصبائهما.
(2) وفي (خ): الطبيب
(3) وفي (خ): بذلك
(4) وفي (خ) يكسر.
183

المصلين في المسجد الحرام، وهم يكفكفون الطير بأيديهم عن مواضع
سجودهم، لشدة قربها منهم واختلاطها بهم، ولقد رأيت ظبيا
وحشيا يتخرق الأسواق، ويقف على جماعة من بائعي الأقوات، فربما
انتشط [1] نشطة، أو اجتذب الشئ بعد الشئ خلسة، وعليه سيماء
الساكن ودعة المطمئن الآمن، حتى ربما طرد فلم يرعه الطرد ولم يفزعه
الايماء باليد. وقيل لي - ولم أره -: إنه إذا جاوز أنصاب الحرم [2]
خرج كالسهم المارق، أو البرق الخاطف، كأن الروعة إنما أدركته بعد
خروجه من حدود الحرم ودخوله في أراضي الحل، فتبارك الله رب العالمين!
ومنها تعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته، على عادة كانت جارية
بذلك فيما تقدم، قبل استقرار الشرع ووروده بالأمر والنهي - فأما الآن
فلا يجب على القديم تعالى عندنا المنع من الظلم في دار التكليف، وفي ذلك
كلام طويل ليس هذا موضع ذكره - ومثل ذلك ما فعله الله تعالى في الجاهلية
بمن قصد البيت الحرام لاحرابه، والحرم لانتهاكه، عام الفيل، من
تعجيل النقمات وإنزال المثلات [3]، وبروك الفيل بالمغمس [4]، حتى
لم يقدم به الزجر الشديد والسوق العنيف. وحديث ذلك يطول.
قال قاضي القضاة أبو الحسن: (ومثل ذلك لا يكون إلا معجزا
في زمن نبي، فأما تمكن من تمكن من تخريبه ورميه بالأحجار وإحراقه
بالنار، في أيام بني مروان، فلان النبوة قد ارتفعت، فلا يصح ظهور المعجز
حينئذ، وإنما يصح ذلك في أزمان الأنبياء. واختلف العلماء في أن الهاء

(1) اختلس بفمه
(2) اي حدوده.
(3) جمع مثلة بفتح وضم وهي العقوبة.
(4) موضع بطريق الطائف.
184

من قوله تعالى: (فيه آيات بينات) على ماذا ترجع؟، فقال بعضهم:
ترجع إلى البيت إلا أن يكون هناك دليل يدل على رجوعها إلى غيره.
ومنهم من يقول: ترجع إلى بكة، وهي موضع البيت (1). وقيل: هي
الحرم كله. وكلا المذكورين مظهران (2)، فلا يمتنع رجوع الكناية (3)
إليهما). قال: (ظاهر قوله تعالى: (ومن دخله) يقتضي أن
يكون المراد البيت، لان إطلاق الدخول يصح فيه دون البقعة).
قلت أنا: وهذا القول غير سديد، لأنه قد يصح أن يقال:
دخلت المدينة، كما يقال: دخلت البيت، وذلك أظهر في كلامهم من
أن يشار إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من
أقطارها) [4]، وأطبق العلماء - لا يتعاجمون (5) - على أن المعني
بذلك مدينة الرسول صلى الله عليه وآله، وعدوا ذلك من أبواب الفصاحة
العجيبة، لأنه أراد سبحانه المدينة، ولم يجر لها في السورة التي هي
الأحزاب ذكرا قبل الآية المذكورة ومثل ذلك قوله سبحانه في ص:
(حتى توارت بالحجاب 32)، وإنما أراد به [6]: الشمس، ولم
يجر لها في جميع السورة ذكر.
وقد قال تعالى أيضا ما هو أوضح مما ذكرناه في ذلك، وهو قوله سبحانه:

(1) غرضه من هذه العبارة الإشارة إلى تصحيح عود الضمير إلى بكة مذكرا
(2) المظهر يقابل المضمر في اصطلاح النحاة وغرضه من المذكورين: البيت وبكة.
(3) الكناية: الضمير.
(4) الأحزاب: 14.
(5) أي لا ينسب
أحدهم للآخر العجمة والابهام، وغرضه أنهم اتفقوا لا يتناكرون
(6) وفي (خ): بها.
185

(ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها...) (1) وقال
سبحانه: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله
لكم...) (2)، فسمى دخول الأرض دخولا، كما يسمى
دخول الأبنية دخولا، ومثل ذلك في كلامهم كثير، فعلى ما بينا يصح
قولهم: دخلت البيت والدار، كما يقولون: دخلت المدينة والسوق.
فان قال قائل: فكيف يكون ما ذكرتموه من آيات البيت مستمرا
إلى الآن، على قول من يقول: إن ذلك لا يكون إلا في أزمان الأنبياء،
ولا نبي في هذا الزمان؟!
قيل له: إن بقاء المعجز قد يصح في غير زمن الأنبياء عليهم
السلام، فلا يمتنع كون ذلك معجزا لبعض الأنبياء ثم دام واتصل، كما
نقوله في الطلسمات وحجر المغناطيس (3) وغير ذلك، ويفارق اتصال
المعجز وبقاؤه استينافه وابتداءه، لان الابتداء لا يصح إلا في زمان
الأنبياء، والبقاء يصح (4) في غير أزمان الأنبياء، وهذا واضح
بحمد الله.

(1) القصص: 15.
(2) المائدة: 21.
(3) في ضعاف الانباء انهما معجزتان لبعض الأنبياء، ويحتمل انه أراد
بالتشبيه: أن الخاصية وجدت فيهما واستمرت، لا أنهما من معاجز الأنبياء.
(4) كالقرآن الذي هو المعجزة الخالدة.
186

فصل
(ومن دخله كان آمنا)
واختلف الناس في قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا)، فبعض
العلماء ذهب إلى أنه أمان كان وانقطع، وبعضهم ذهب إلى أنه أمان
مستمر غير منقطع، ثم اختلفوا: فمنهم من يقول: إنه أمان على الخصوص،
ومنهم من يقول: أمان على العموم ومنهم من جعله من جملة الآيات وتفسيرا
لما أجمله تعالى من قوله: (فيه آيات بينات)، ومنهم من جعله ابتداء حكم.
واختلفوا بعد ذلك: فمنهم من جعله خبرا، ومنهم من جعله تعبدا وأمرا.
فمن قال: إن هذا الأمان إنما كان في الجاهلية دون الاسلام، فإنما
عنى به دفع الله سبحانه عن ساكنه وداخله ظلم الظالمين واعتداء الجبارين،
وما وقص [1] تعالى من رقاب البغاة دونه، وجذ [2] من أيدي
الظلمة عنه، حتى أن ذلك كالعادة المستمرة: تجري على اتساق وتسري
بلا انقطاع وتستبطأ إذا تأخرت بعض التأخر، ثقة بأنها جارية على
أذلالها [3] وواقعة على عاداتها، لا شك في ذلك وإن أبطأت يسيرا
وجنحت قليلا. وقال أيضا صاحب هذا القول: (إن الله سبحانه
جعل أمن من دخله - على ذلك العهد - من الانس والوحش، آية

(1) وقص رقبته: كسرها.
(2) الجذ: القطع المستأصل.
(3): جمع ذل بالكسر، وهو: المحجة والجادة من الطريق التي وطئت وسهلت،
يقال: الأمور جارية على اذلالها وجارية اذلالها، اي: على مجاريها
187

لإبراهيم (ع) عند قومه، ليزدادوا إيمانا به وتعظيما للبيت الحرام من
اجله، وإنه في ذلك مباين لبيت المقدس وغيره، لان هذا المعنى
من الامن لا يحصل فيه). وقد ذكرنا في ما تقدم: أن هذا النظام
اختل في الاسلام للعلل التي أومأنا إليها وهتفنا ببعضها، فصار هذا
الأمان - على قول صاحب هذا القول - مما كان فانقطع، لا مما دام واستمر
ومن قال منهم: (إنه أمان مستمر غير منقطع في الجاهلية والإسلام)
فإنما عنى به أن من دخله - وهو خائف على نفسه من ظلم ظالم أو غشم
غاشم - امن على نفسه لما يجب من تعظيم الحرم وإيجاب حرمته وتكريم
بقعته وترك ترويع من لجأ إلى ظله واعتصم بحبله، وهذا من طريق
الحكم والامر والتمييز لبقعته من بقاع الأرض، وأما من جنى الجنايات
واستوجب البوار والقصاص (1)، فان أمانه فيه غير مطلق، بل هو
بشروط وقيود، وعلى أوصاف وحدود، نحن بمشيئة الله نشير إليها
ونذكر طرفا منها.
ومن قال: (إنه أمان على الخصوص). فإنه يذهب إلى أن
ظاهر قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) الخبر، لأنه كالوصف، وهو
الغرض المقصود، دون تعريف الاحكام والشروط، وإذا كان
كذلك - ولم يمكن أن يكون قوله تعالى: (كان آمنا) محمولا على كل
آمن، لان المتعالم (2) فيمن دخله أنه لا يأمن من الظلم ولا يأمن من

(1) البوار: الهلاك، والقصاص أعم منه لأنه قد يكون فيه البوار وقد
لا يكون
(2) اي: الذي يعلمه الناس بالتعلم ويستفيدونه بالتجارب والاختيار.
188

قبل الله تعالى البلوى بالشدائد والفقر وإنزال الأمراض والموت إلى غير
ذلك - فالمراد به اذن أمن مخصوص، وهو: دفاع الله عنه من يريد
انتهاك حرمته وإخفار ذمته وإبطال ما خصه الله تعالى به من التعظيم
لقدره و (الإشادة 1) بذكره (2)، إذ يقول عز من قائل: (ومن
يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) (3)
ومن قال: (إنه أمان عام للناس وغيرهم) فإنما جوز أن يدخل
في صفة الامن به الوحش والطير أيضا، لان لفظة (من) إذا أريد بها
ما يعقل وما لا يعقل صح أن يعبر بها عن الجنسين جميعا، إذا جاز
دخولهما تحتها، كما ذكرنا في ما مضى من كلامنا (4)، وذلك قوله تعالى:
(والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي
على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) [5]، فقال: (منهم) وهي
عبارة عما يعقل، ثم قال: (يمشي على بطنه) و (على أربع)، وهما صفتان لما لا
يعقل وقد أتى فيهما بمن، وإنما جاز ذلك لتغليب ما يعقل على ما لا يعقل
عند الاشتراك في الصفات، فإنه سبحانه لما قال: (فمنهم) وهي
كناية عما يعقل، جاز أن يعبر بمن عما لا يعقل، لوقوع الاشتراك.
وهذا يدلك أيضا على قوة غلبة صفات ما يعقل لصفات مالا يعقل في

(1) وفي النسخ: (الإشارة)
(2) فكان داخله يأمن فيه هذا الجنس من المخاوف، لان الحرم إذا أومن من مثل ذلك أمنه المقيم فيه واللاجي
إليه. (منه) عن خطه
(3) الحج: 25
(4) تقدم في صفحة 154 من هذا الكتاب.
(5) تقدمت الآية صفحة 155
189

كلامهم، وإن كان جنس ما يعقل في اللفظ المذكور أقل من جنس مالا
يعقل، ألا ترى أنه تعالى في هذه الآية جاء بثلاث صفات: واحدة منها
يختص بها ما يعقل، واثنتان يختص بهما ما لا يعقل.
وفي الناس أيضا من ذهب في هذه الامن إلى العموم من وجه آخر
وهو: أنه حمل قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) على البيت خصوصا،
لا على المسجد والحرم، وحرم أن يقام الحد عليه في نفس البيت،
فحمل الكلام على عمومه في كل جان إذا اعتصم به ولجأ إليه.
وقال قاضي القضاة أبو الحسن: قد ظن بعضهم أن قوله تعالى:
(ومن دخله كان آمنا) لا يجوز أن يكون خبرا لأنه لو كان كذلك لوجب
ألا يوجد مخبره على خلافه، فأوجب من هذا الوجه أن يكون تعبدا وأمرا.
وهذا بعيد، لان الخبر قد يجوز ان يختص [1] - كما يجوز ذلك في الامر -
وقد يدخله الشرط، فما الذي يمنع أن يجعل ذلك خبرا! إلا أن
يثبت بالدليل خلافه، ومما يبين [2] أنه لا ظاهر لذلك أن العبد لا يخلو
من خوف، فلا يصح أن يوصف بأنه آمن على الاطلاق، وما هذه حاله
من الأوصاف لابد أن يكون في حكم المجمل المحتاج إلى البيان.
وقال بعض العلماء: لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله تعالى:
(ان أول بيت وضع للناس) موجودة في جميع الحرم، ثم قال سبحانه:
(ومن دخله كان آمنا)، وجب أن يكون مراده بذلك جميع الحرم،
واستدل على ذلك بقوله تعالى: (أولم نمكن لهم حرما آمنا

(1) وفي (خ): يخص
(2) وفي (خ): يتبين
190

يجبى إليه ثمرات كل شئ...) [1]، وبقوله سبحانه: (أولم
يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم..) [2]،
وهذا نص على أمان الحرم كله.
ومعنى قوله تعالى: (آمنا)، أي: يؤمن فيه، لان الحرم
نفسه يستحيل أن يوصف بالخوف أو الامن، وإنما يأمن أهله ويخافون،
وهذا كثير في كلامهم: كما قالوا: ليل نائم، أي: ينام فيه، ويوم [3]
ساكن، أي: يسكن فيه، وعيش غافل، أي: يغفل فيه، وشباب إبله،
أي: يتبله صاحبه فيه ذهولا في سكرته ورسوبا في غمرته، قال
الراجز [4]:
لما رأتني خلق المموه * براق أصلاد الجبين الأجله
بعد غداني الشباب الأبله
والى قريب من هذا المعنى ذهب بعض المفسرين في قوله تعالى:
(والشجرة الملعونة في القرآن...) [5]، فقال: المراد بذلك
الملعون آكلها، لان الشجرة نفسها يستحيل أن تلعن وتذم. وهذا
من غرائب التفسير، وإن كان كثير من العلماء على خلافه، إذ حملوا

(1) القصص: 57.
(2) العنكبوت: 67.
(3) وفي (خ): تصر
(4) هو: رؤبة. (المموه) المزين من التزيين، والمراد به الوجه.
(أصلاد الجبين): الموضع الذي لا شعر فيه (الأجله): المنحسر شعره عن مقدم
رأسه، وفي القاموس: (الضخم الجبهة المتأخر منابت الشعر). (الغداني):
الناعم، يقال: (أتذكر إذ شعرك غدا في وشبابك غداني).
(5) الأسرى: 60
191

اللفظ على غير ظاهره، فيتأولون الشجرة ههنا على أنها كناية عن بني أمية
بأخبار كثيرة ينصونها إلى الرسول صلى الله عليه وآله، وقد يعبر بالشجرة
عن جماع القوم ومجتمع أصلهم وجمهور نسبهم وقبيلتهم، كما يقال:
شجرة بني فلان، إذا أرادوا بها ذلك، فكأنه تعالى قال: والقبيلة الملعونة،
فيكون اللعن حينئذ متوجها إلى من يجوز أن يستحقه.
وقال صاحب القول الذي ذكرناه: إن قوله تعالى: (ومن دخله
كان آمنا) يقتضي أمنه على نفسه، سواء كان جانيا قبل دخوله، أو
جنى بعد دخوله، إلا أن الفقهاء متفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم
في النفس وما دونها، ومعلوم أن قوله تعالى: (ومن دخله كان
آمنا) هو أمر، وإن كان في صورة الخبر، كأنه قال سبحانه: هو آمن
في حكم الله وفيما امر به، فكان في ذلك أمر لنا بايمانه [1] وحظر
دمه في مكانه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ولا تقاتلوهم عند
المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم
...) [2]، فأخبر بجواز وقوع القتل فيه، وأمرنا بقتل المشركين إذا
قاتلونا عنده. قال: ولو كان قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا)
خبرا، لما جاز ألا يوجد مخبره على ما أخبر به، فثبت بذلك أن
قوله سبحانه: (ومن دخله كان آمنا) هو أمر لنا بحقن دمه ونهي
لنا عن قتله، ولا يخلو ذلك من أن يكون أمرا لنا: بأن نؤمنه من
الظلم والقتل اللذين لا يستحقهما، أو أن نؤمنه من قتل يستحقه بجناية

(1) من الأمان
(2) البقرة: 191.
192

جناها، فلما كان حمله على الايمان من قتل غير مستحق بل بفعل على
وجه العدوان والظلم يسقط فائدة تخصيص الحرم - لان الحرم وغيره في
ذلك سواء، إذ كانت الأماكن والبقاع كلها لا تختلف في ذلك احكامها
ونحن متعبدون بالمنع من إيقاع الظلم في جميعها، من قبلنا وقبل غيرنا،
إذا كان ذلك ممكنا لنا - علمنا أن المراد بذلك الامر بايمانه من
قتل مستحق
والظاهر يقتضي أن نؤمنه من القتل المستحق بجنايته في الحرم وفي غيره،
إلا أن الدلالة قد قامت باتفاق العلماء على أنه إذا قتل في الحرم قتل،
وقال تعالى: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فان
قاتلوكم فاقتلوهم)، ففرق تعالى بين الجاني في الحرم، وبين الجاني في
غيره إذا لجأ إليه واعتصم به.
فصل
(حكم الجاني خارج الحرم)
وقد اختلف الفقهاء فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إليه، فقال أهل العراق
- أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف ومحمد بن الحسن وزفر والحسن
ابن زياد اللؤلؤي -: إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يقتص منه
ما دام فيه، ولكنه لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يسقى، إلى أن يخرج
من هناك فيقتص منه، وإن قتل في الحرم قتل فيه، وإن جنى فيما دون
193

النفس في الحرم أو في غيره ثم دخله، اقتص منه فيه [1].
وقال أهل المدينة - مالك والشافعي -: يقتص منه في الحرم في
ذلك كله.
وأهل العراق يعتمدون - فيما يذهبون إليه: من ترك قتل من جنى
في غير الحرم ثم لجأ إليه - على ما روي عن ابن عباس، وابن عمر،
وعبيد بن عمير، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي،
فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم: انه لا يقتل.
قال ابن عباس: (ولكنه لا يجالس ولا يؤوى، ولا يبايع
ولا يشارى، حتى يخرج من الحرم، فيقتل، فان فعل ذلك في الحرم أقيم
عليه الحد فيه)، ولم يختلف السلف ومن بعدهم من الفقهاء، في أنه إذا
جنى في الحرم كان مأخوذا بجنايته، ويقام عليه الحد فيما يستحقه من
قتل أو غيره.
واما الجناية فيما دون النفس واخذ الجاني بها - وإن لجأ إلى الحرم -،
فإنهم يقيسونها على الدين يكون عليه، فيقولون: ألا ترى أنه لو كان
عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به والحبس في الدين عقوبة، لقوله
عليه السلام: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)، وفسر إحلال
العرض ههنا: باستحلال دمه، والعقوبة: بالحبس له، فجعل عليه السلام

(1) المعروف عند علماء الإمامية انه لا يقتص من الجاني في غير الحرم
مطلقا سواء جنى بما يوجب حدا أو تعزيرا أو قصاصا نعم يضيق عليه في المطعم
والمشرب حتى يخرج من الحرم فيؤخذ بجنايته.
194

الحبس عقوبة، وهو فيما دون النفس، فكل حق وجب عليه فيما دون
النفس أخذ به، وإن لجأ إلى الحرم، قياسا على الحبس في الدين،
وفي ما ذكرناه من ذلك كاف بحمد الله تعالى.
20 - مسألة
(تارك الحج كافر!)
الجواب عن الشبهة في كفر تارك الحج - الكفر معناه التغطية -
الصحيح في الجواب - تارك الحج يموت يهوديا أو نصرانيا! -
الوعيد في الحج مع القول بجواز تأخيره - ان الله غني عن العالمين.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (.. ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني
عن العالمين - 97)، فقال: قد أقام سبحانه قوله: (ومن كفر)
ههنا مقام قوله: (فمن لم يفعل الحج) ومعلوم أن تارك الحج مع اعتقاد
الاسلام لا يسمى: كافرا، فما معنى ذلك عندكم؟
فالجواب: أن في ذلك أقوالا:
1 - منها، ما روي [1]: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله

(1) روى ابن جرير ان الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال:
يا رسول الله من تركه كفر!، قال: (من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا
يرجو ثوابه، فهو ذاك)، وكأن المؤلف نقلها بالمعنى.
195

عن معنى هذه الآية: فقال: (هو أن يكون المأمور بفعل الحج إن
حج لا يرجو ثوابه وإن جلس لا يخاف عقابه)، فكان معنى هذا أن
من لم يعتقد أن الحج مفترض عليه ولازم له فقد كفر، وذلك صحيح.
2 - وقال بعضهم: إنما قيل هذا في اليهود، لأنهم جحدوا كون
البيت قبلة ومنسكا، وادعوا ذلك لبيت المقدس، فكأنه سبحانه
قال: ((ومن كفر) بما أمر الله به من حج الكعبة واتخاذها قبلة
(فان الله غني عن العالمين)).
والصحيح: أن العلماء لم يختلفوا في أن المراد بهذا الكفر ما يكون
متعلقا بالحج، فهو كفر مخصوص، واختلفوا من بعد: فمنهم من قال:
المراد فمن كفر بوجوب الحج عليه، ولم يلتزم ما ألزمه الله سبحانه من
فرضه، لان قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) إلزام لهم
أن يحجوه، وفرض عليهم أن يقصدوه، وهذه اللفظة يعبر بها
عن وجوب الواجبات وفرض المفترضات، أعني: (ولله على الناس)،
ونظائرها في القرآن كثيرة تدل على ما قلناه: مثل قوله تعالى: (كتب
عليكم) في مواضع عدة [1]، ومعنى ذلك: فرض عليكم، وهو
نظير قوله سبحانه: (ولله على الناس)، في أن معناه [2] ايجاب
الامر وإلزام الفعل.
ومنهم من قال: المراد: ومن كفر فلم يطع الله في الحج وقضاء

(1) البقرة: 178، 180، 183، 216، 246
(2) وفي (خ): معناها
196

النسك، والعلل منزاحة، والشرائط متكاملة، ولا عذر يقطع، ولا
حاجز يمنع.
3 - وقال بعضهم: معنى ذلك من كفر بالآيات التي تقدم ذكرها
من قوله تعالى: (فيه آيات بينات).
4 - وقال بعضهم: ومن كفر ههنا محمول على أصله في اللغة،
لان الكفر في الأصل هو: التغطية، ومنه سمي الدارع كافرا،
لتكفره بالدرع أي: تغطيه، فكأنه تعالى قال: ومن غطى كونه مستطيعا
لحجه وكتم هذه الحالة من نفسه، ليجعلها سببا للقعود عن الحج وأداء
الفرض، (فان الله غني عن العالمين).
وفي هذا الوجه بعد وتعسف، فالصحيح من الوجوه ما ذكرناه
أولا، وقد ثبت أن المصدق بوجوب الحج وبسائر العبادات وصحة النبوة
والشريعة لا يجعل [1] كافرا بألا يحج، كما (لا 2) يكفر بألا يفعل
سائر العبادات الواجبة عليه، فيجب حمل الكفر ههنا على الجاحد
بوجوب الحج، أو بايجاب الرسول صلى الله عليه وآله له، لان ذلك معلوم من
دينه اضطرارا، فمن جحده [3] صار مكذبا له، فيكفر من
هذا الوجه.
* * *
فان قال قائل: فما المعنى فيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (من

(1) في: النسخ (يحصل) ولعل الصحيح ما أثبتناه.
(2) زيادة في بعض النسخ وهي الصحيحة
(3) وفي (خ): جحد
197

مات ولم يحج غير عذر فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا)؟.
قيل له: إن الاكفار لا يصح الحكم به والقطع عليه بأخبار الآحاد،
إذ كانت ضعيفة السند واهية العمد، لان الكافر إنما يوصف بذلك
لاستحقاقه قدرا من العقاب عظيما، ومقادير العقاب لا تثبت إلا بأدلة
قاطعة وحجج ظاهرة. ومع ذلك، فلهذا الحديث - إن صح - تأويل يمكن
اجراؤه عليه وحمله على معناه، فنقول: إن الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وآله
في ذلك لابد أن يريد به تشبيه من مات ولم يحج، باليهودي والنصراني،
لان بترك الحج لا يصير يهوديا ولا نصرانيا على الحقيقة، وهذا معلوم
باضطرار، فإذا صح فالمراد به تغليظ العقوبة لتارك الحج. ويحتمل أن
يريد به من مات ولم يحج وهو منكر لوجوب الحج، لأنه في استحقاق
العقوبة يقارب حاله حال اليهود والنصارى.
فان قال: كيف يصح الوعيد في الحج مع القول بجواز
تأخيره [1]؟. قيل له: إنما يصح ذلك إذا كان المرء لا يحج ولا
يأتي بالعزم على الحج بدلا منه، فأما إذا فعل العزم بدلا من الحج فلا
حرج عليه، ما لم ينته إلى حد تظهر فيه عنده أمارات الضعف ودلائل
العجز، ويعلم أنه متى أخر الحج فاته، فان عند ذلك يلزمه التقديم
ولا يسوغ له التأخير.

(1) هذا القول منسوب إلى الشافعي والأوزاعي والثوري، وجميع من
عداهم على وجوبه فورا ولا خلاف في هذا عند علماء أهل البيت، وليس
لأبي حنيفة في المقام نص.
198

فأما قوله تعالى: (فان الله غني عن العالمين) فإنما يريد به تعالى:
إعلام عباده أن تكليفهم العبادات وأمرهم بالطاعات، لامر يعود عليهم
نفعه وتعمهم فائدته: من التعريض لمنازل الثواب، والعصمة من
من نوازل العقاب، لا لامر له تعالى فيه منفعة، لان الحاجة
تستحيل عليه، والمنافع والمضار لا تصل إليه، وعلى ذلك قوله
تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالايمان لن يضروا الله
شيئا.. الآية) [1]، والله تعالى غني لنفسه لا يلحقه نفع بطاعة ولا ضرر
بمعصية، وإنما أراد سبحانه أن يبين للعبد أنه إنما كلفه
لمنافعه، وأجراه في مضمار تعبده لمصالحه، فان أحسن القيام بما
كلف كان محسنا إلى نفسه، وإن أخل بالواجب عليه من ذلك لم
يضر إلا نفسه، من حيث حرمها الثواب وجر عليها العقاب،
وهذا واضح في المعنى الذي ذكرناه بحمد الله تعالى.

(1) آل عمران: 177
199

21 - مسألة
(اتقوا الله حق تقاته)
الجواب عن شبهة التكليف بما لا يطاق - القول بنسخ الآية
بآية أخرى - ابطال القول بالنسخ
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون - 102)، فقال:
كيف امرهم تعالى بأن يتقوه حق تقاته، وذلك داخل فيما لا يستطاع،
وأنتم تقولون: إنه تعالى لا يكلف عباده ما يخرج عن الوسع ويفصل
عن الطوق؟، فما مخرج الكلام عندكم؟
فالجواب: أن في ذلك أقوالا كلها تخرجه [1] تعالى عن أن
يكون مكلفا فوق الطاقة، وآمرا بغير الاستطاعة:
1 - فمنها، قول بعضهم: إن معنى ذلك اتقوا الله في القيام
بأداء ما فرض عليكم، واستعملت به أبدانكم وجوارحكم.
2 - وقال بعضهم: (اتقوا الله حق تقاته) على مقدار طاقتكم
وغاية ما تصلون إليه باجتهادكم.

(1) وفي (خ): يخرجه
200

3 - وقال بعضهم: (معنى ذلك: أن يطاع فلا يعصى،
ويذكر فلا ينسى) [1]، ومعنى ذلك أن يذكر عند أوامره فتفعل، وعند
نواهيه فتترك، (لا أن) [2] العبد مأخوذ بذكره تعالى ابدا، فان
ذلك غير مستطاع، لان الغفلات تخلله، والشهوات تتوسطه، والنوم
والاغماء وما في معنى ذلك من الأمراض تحول دونه.
4 - وقال بعضهم: المراد بذلك: التوكيد، كقوله تعالى:
(وإنه لحق اليقين) [3]، وكقول القائل: (هو الرجل حقا)،
إلى غير ذلك
5 - وقال بعضهم: هذا القول على سبيل التغليظ وطريق
التشديد، ليهابوا بلوغ أدنى حدود المعصية، ويقفوا عند أول مراتب
السيئة، كما روي عن بعض الصالحين. أنه قال: (اجعل بينك وبين
الحرام حاجزا من الحلال، فإنك متى استوفيت جميع الحلال تاقت نفسك
إلى فعل الحرام، وإذا كثرت الزواجر كانت على المعاصي أردع، والى فعل
الطاعات أحوش [4] وأجذب).
6 - وقال بعضهم: لما قال تعالى: (اتقوا الله حق تقاته)
كان في الآية دليل على أنه لم يأمرهم إلا بما لهم السبيل إليه، وفيهم القوة

(1) الظاهر أن هذا القول هو المروي عن أبي عبد الله الصادق عليه
السلام وعن ابن عباس وابن مسعود وغيرهم، الا ان المروي هكذا: (ان
يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى).
(2) وفي النسخ: (لان) والظاهر ما أثبتناه.
(3) الحاقة: 51.
(4) من حاش الشئ إذا جمعه واخذه.
201

عليه، غير ممنوعين من فعله، ولا محمولين على خلافه، وأنه لو أمرهم
بما لا سبيل لهم إلى فعله، لجاز أن يأمرهم بنزح مياه البحار، ونقل
صخور الجبال، والعروج إلى السماء والطيران في الهواء، ويكلف
الأعمى الابصار، والأصم الاستماع، والمقعد القيام، والمنقوص
التمام، وهذه صفة لا تليق بالله سبحانه، لأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها
وإلا دون الطاقة منها [1].
7 - وقال بعضهم: (إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
(فتقوا الله ما استطعتم...) [2]، وبقوله تعالى: (لا
يكلف الله نفسا إلا وسعها..) [3] و (لا يكلف الله
نفسا إلا ما آتاها...) [4]). وأنكر أبو علي الجبائي وأبو القاسم
البلخي ذلك، وعظما خطأ قائله، وقال أبو علي خاصة: (لا يجوز
أن يكون ذلك منسوخا، لان نسخ مثل هذا لا يكون إلا بأن يبيح تعالى
للناس [5] أن يفعلوا بعض المعاصي، وهذا مما لا يجوز عليه تعالى،
والذي حمل القائل بهذا على قوله، ظنه أن الناس غير قادرين على أن يتقوا
الله حق تقاته، وهذا جهل عظيم ممن ظنه، لان من جانب جميع [6]
ما نهاه الله عنه فقد اتقى الله حق تقاته، ولا يجوز أن يكون أحد لا يقدر

(1) لا يبعد أن يكون مراد القائل ان لآية لما كانت بظاهرها
دالة على التكليف بما لا يطاق - وهو محال عليه تعالى - كان ذلك قرينة
عقلية على أن المراد الامر بالقوى التي لنا سبيل إليها.
(2) التغابن: 16.
(3) البقرة: 286.
(4) الطلاق: 7.
(5) وفي (خ): الناس
(6) وفي (خ): جمع.
202

على أن يتقي [1] جميع ما نهي عنه عنه من المعاصي، ومعنى الآيتين معنى
واحد، لان من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته، لأنه تعالى
لا ينهى أحدا عما لا يقدر على فعله وعلى تركه، ومتى لم يشترط الاستطاعة
نطقا فهي مشروطة عقلا).
وأما أبو القاسم فإنه أنكر أن يكون في السلف من قال بذلك، واحتج
بما روي عن معاذ بن جبل: (أن النبي صلى الله عليه وآله قال له: هل تدري ما
حق الله على العباد؟ هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) قال:
وليس ذلك مما يجوز أن ينسخ، فكذلك الآية.
وقال بعضهم: جائز أن يكون ذلك منسوخا، بأن يكون المراد
بقوله تعالى: (حق تقاته) القيام بحقوق الله تعالى في حال الخوف
والأمن، وترك التقية فيهما على كل وجه، ثم نسخ ذلك في حال التقية
والاكراه، وبقي في حال الامن والاختيار، ويكون معنى قوله تعالى
في الآية الأخرى: (ما استطعتم)، أي: اتقوه فيما لا تخافون
فيه على أنفسكم: من المشاق العظيمة والآلام المتلفة، لأنه قد يطلق
نفي الاستطاعة فيما يشق على الانسان فعله، كقوله تعالى: (وكانوا لا
يستطيعون سمعا) [2]، وإنما المراد بذلك المبالغة في ذكر المشقة، كما
يقول القائل: (ما أستطيع أن أرى فلانا)، عبارة عن بلوغ الغاية
في البغضاء له والازورار عنه). وقد كررنا هذا المعنى في عدة مواضع.
من كتابنا هذا.

(1) وفي (خ): يبقى
(2) الكهف: 101
203

وقال قاضي القضاة أبو الحسن - حرسه الله -: قد جوز بعضهم
دخول النسخ في ذلك، بأن يكون الاتقاء اللازم مغلظا، فيخفف عنهم،
ويكون المراد بحق تقاته التشديد والتغليظ عليهم، والمراد بقوله تعالى:
(فاتقوا الله ما استطعتم)، أي: بقدر ما تطيقونه ولا يجحف بكم،
ويكون ذلك مطابقا لقوله تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي
كانت عليهم...) [1]، كناية عن تسهيل التكليف وتحميل العبء
الخفيف، وعلى ذلك قوله عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة).
قال: وهذا القول بعيد، لان الذي يجب أن يتقي [2] - إذا كانت حاله
ثابتة كحاله أولا - لم يجز أن يختلف التكليف فيه بالتثقيل مرة وبالتخفيف
تارة، وليس ذلك كالنسخ، لان النسخ يسقط وجوب أشياء كانت
واجبة من قبل، فالنسخ إذن يكون داخلا في هذه الواجبات، لا في
الاتقاء، كما لو نقص من الصلاة والواجبة بعضها، (و 3) لم يكن
النسخ داخلا في الايمان [4]، وإنما يدخل في هذا الفرض خاصة. وبعد،
فان الذي قاله زيادة على الظاهر، لان قوله تعالى: (فاتقوا الله ما
استطعتم) و (حق تقاته) لا يفهم منها بحكم العقل إلا مراد واحد،
فلا يجوز اذن دخول النسخ فيما هذه حاله، ولا وجه لحمل ذلك على
التوكيد، وله مساغ في زيادة فائدة

(1) الأعراف: 157.
(2) وفي (خ): تبقى.
(3) زيادة في بعض النسخ: وهي الصحيحة.
(4) مراده من الايمان: الاتقاء المأمور به.
204

فان قيل: فما تلك الزيادة التي وقع الايماء إليها، قيل: إن
الاتقاء في التحقيق هو اتقاء العقاب بفعل الطاعات واجتناب الموبقات
وقد علم أن الزيادة والنقصان في ذلك ممكنان، لان المتقي قد يتقي
الأقل، وقد يتقي الأكثر وقد يتقي الكل من غير استظهار [1]،
وقد يتقي الكل على طريق الاستظهار، فإذا صح ذلك صح التزايد
فيه، وما يصح فيه التزايد يجب أن يحمل على أن المراد به بلوغ النهاية،
فيما يمكن من الاتقاء والاخذ فيه بوثيقة الاستظهار.
فصل
(ولا تموتن الا وأنتم مسلمون)
فأما قوله تعالى - في عجز هذه الآية -: (ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون) فقد استوفينا الكلام في معناه عند ذكرنا قوله تعالى: (إن
الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون - 132)
في البقرة، إلا أنا نذكر منه ههنا لمعة ساطعة، ونطفة ناقعة [2]،
لئلا يخلو هذا الموضع من إزاحة العلة وكشف قناع الشبهة، فنقول:

(1) اي: احتياط.
(2) النطفة: الماء الصافي قل أو كثر، قيل: (وهو بالقليل أخص) وغرض المؤلف القليل. والماء الناقع: الناجع.
205

إن لفظ النهي في الظاهر واقع على الموت، والمعنى واقع على الامر
بالإقامة على الاسلام، أي: دوموا على الاسلام، فإذا ورد عليكم
الموت صادفكم على هذه الحالة، وإنما جاز هذا لأنه لا لبس في الكلام،
إذ كان معلوما أنهم لا ينهون عما ليس من فعلهم، وإنما يتوجه النهي
إلى المعنى الذي هو في مقدورهم.
وتلخيص ذلك: أن المرء قد كتم عنه اجله، لما في كتمانه من
المصلحة له، فهو لا يعرف متى تكون منيته؟، وعلى أي جنب صرعته؟،
فإذا ثبت ذلك صار تعالى كأنه ألزمه في كل حال أن يكون مسلما، من
حيث لا يأمن في كل حال أن يموت عبطة [1] أو هرما. وأيضا، فان
من جملة كمال إسلام المرء التوبة، واستدراك الذنوب الفارطة فكأنه
سبحانه ألزمه - مع التمسك بفرائض الوقت وطاعاته، واجتناب محارمه (2)
ومقبحاته - استدراك الماضي بالتوبة، لكي لا يموت إلا وهو مقطوع
باسلامه، غير مشكوك في إخلاصه، وما ذكرناه من ذلك كاف
بحمد الله.

(1) أي: شابا صحيحا
(2) وفي (خ) مخارجه وفي أخرى: مخارجه ولعل الصحيح ما أثبتناه.
206

22 - مسألة
(والى الله ترجع الأمور)
كيف ترجع الأمور إلى الله تعالى ولازم ذلك خروجها أولا! -
الجواب عن الشبهة - معنى آية (وجعلكم ملوكا) - الاعتقاد الذي سبب
الغلو بالبشر والأصنام - أصل الرجوع لغة - وجهان في الجواب للمؤلف
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما
في الأرض وإلى الله ترجع الأمور 109) فقال: ما معنى رجوع الأمور
إليه، وهي غير خارجة عن سلطانه وقدرته، وتقلب العباد جميعا في
قبضته وملكته (1)!، وهذا يدل على أن الأمور تخرج عن تدبيره،
حتى يصح أن توصف بالرجوع إليه بعد الخروج عنه.
فالجواب: أنا قد ذكرنا في ما تقدم من كلامنا في السورة المتقدمة ما
يكشف عن المراد بهذا القول عند اعتراض ما يقتضيه، إلا أننا نورد
منه ههنا ما يكون أنقع للغلة وأكشف للشبهة بمشيئة الله، فنقول: قد
قال العلماء في ذلك أقوالا:
1 - منها، أن الله تعالى ملك الناس في دار التكليف أمورا

(1) الملكة: الاحتواء على الشئ قادرا على الاستبداد به.
207

تملكوها ووصفوا بالملك لها، وسمى تعالى بعضهم: ملوكا على هذا المعنى،
فقال تعالى: (اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم
أنبياء وجعلكم ملوكا...) [1]، قال بعض المفسرين:
(معنى ذلك: انه جعلكم تملكون أمركم، لا يغلبكم عليه غالب،
ولا يحول بينكم وبينه حائل)، وقال بعضهم: (معنى ذلك: أنه
جعل لكم من الأحوال والأموال ما لا تحتاجون معه إلى سؤال الناس)،
وقال بعضهم: (جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم فيها إلا باذن،
والمعنى راجع إلى ملك الامر).
فإذا ثبت ما قلنا: من صفة كثير من المخلوقين بتملك الأمور في دار
التكليف، جاز أن يقال - عند تقوض هذه الدار وانتقال هذه
الأحوال -: إن الأمور كلها رجعت إلى الله تعالى في الآخرة، بمعنى:
أنها صارت إلى حيث لا يملكها مالك غيره، ولا يحكم فيها حاكم سواه،
كما كان تعالى قبل أن يخلق خليقته، ويبرئ بريئته، ولا مالك للأمور
غيره، فرجعت الحال بعد انقضاء التكليف إلى حيث كانت قبل ابتداء
التكليف، وصار الامر في الانتهاء مثله في الابتداء.
2 - وقال بعضهم: لما كانت الأمور بعد انقضاء الدنيا
متقضية ذاهبة ببطلانها وتلاشيها وتقوض مبانيها، وكان الله تعالى
يعيدها للجزاء على الاعمال، والأعواض على الآلام، جاز أن
توصف بأنها ترجع إليه تعالى، لما أعادها بعد التقضي، واستأنفها بعد التولي

(1) المائدة: 20.
208

3 - وقال بعضهم: (معنى (والى الله ترجع الأمور):
تؤول إلى علم الله تعالى، إذ كان قد علم مصائرها ومصادرها، وإلام ترجع
رواجعها وأواخرها، فكأنها رجعت إلى ما كان علم تعالى أنها ترجع إلى
عاقبته، وتجري إلى غايته) وفي هذا القول وعيد للمكلفين، معناه:
أنكم إذا علمتم أنه تعالى يعلم عواقب الأمور، وإلام تصير وتؤول،
فاتقوا أن توافوه بمعاصيكم، وتلقوه وقد أقدمتم على ما حظره عليكم.
4 - وقال بعضهم: معنى ذلك: أن إليه مصير الأمور،
يريد تعالى أنه يجازي عليها بالخير ثوابا وبالشر عقابا، لان ذلك مما لا
يملكه إلا هو سبحانه.
5 - وقال بعضهم: معنى ذلك: أن الناس في دار التكليف
ربما اعتقد بعضهم في بعض - على سبيل الاغترار - أنه يملك الضر والنفع
والاعطاء والمنع، بانفراده، من غير أن يكون الله تعالى وهو الذي أقدره
وملكه وخوله وموله، حتى أن هذا الاعتقاد غلا ببعضهم (إلى أن) [1]
عبد البشر ضلالا وغيا وعمى وعمها، وربما تجاوز بعضهم تعظيم من
يعتقد فيه مثل ذلك من الناس إلى اعتقاد مثله في الأصنام والأوثان
والصخور والجماد، فاعتقد - لعدوله عن طريق المعقول ومخالفته نهج
الدليل - أنها تملك النفع والضر، وتقسم الرزق والأجل، وعلى ذلك
مخرج قول إبراهيم (ع) لأبيه - لما ذهب فيها إلى هذا الاعتقاد -: (يا أبت
لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) [2]،

(1) في (خ): حتى
(2) مريم: 42.
209

وقوله في موضع آخر: (أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم
شيئا ولا يضركم) [1]، فلدخول الشبهة على الطوائف التي
ذكرناها (كانوا) [2] يضيفون أفعال الله تعالى إلى غيره، ويخلعون
صفاته على خلقه، فإذا انحسر قناع الشك، وانكشف غطاء الرأس،
واضطر الناس إلى المعارف، وارتفع تكليف المكلف، وتقوض بناء
الدنيا، وانقطعت أعمال الورى - علم الجميع أن لا خالق إلا الله تعالى:
يضر وينفع ويعطي ويمنع، فانتهت إليه الرغبات، وانقطعت من غيره
الآمال والأطماع، وعلم أن رجاء غيره غرور، والمشير إلى سواه مغرور،
فجاز أن يقول تعالى على هذا المعنى: (والى الله ترجع الأمور).
6 - وقال بعضهم: معنى ذلك: أن الأمور كلها في ملكه،
وتصريفها على مشيئته، ومن غير أن يكون هناك على الحقيقة خروج عنه،
فيكون رجوع إليه، وعلى هذا قولهم: (قد رجعت في فلان أشباه أبيه)،
أي: خرج إليه في محاسن خلقه، أو في كرائم خلقه، وليس يريد
القائل لذلك أن أمرا كان هناك فانتقل ثم رجع، وفقد ثم وجد، وإنما
مراده ما ذكرناه، ومثل ذلك قول القائل: (قد رجع على فلان
عتب من فلان، وعاد عليه من جهته لوم) يريد: اصابه منه عتب
ولوم لا غير، إذ كان ذلك واقعا على سبيل الابتداء، ومثله قول الشاعر [3]:

(1) الأنبياء: 66
(2) وفي (خ): (ما) والصحيح ما أثبتناه
(3) هو كعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثي بها أخاه شبيبا. وقال
أبو علي القالي في أماليه: بعض الناس يروى هذه القصيدة لكعب
ابن سعد الغنوي، والمرثى من قومه وليس بأخيه، ويكنى ابا المغوار واسمه هرم
وبعضهم يقول: اسمه شبيب ويحتج ببيت روى في هذه القصيدة:
(أقام وخلى الظاعنين شبيب).
210

فان تكن الأيام أحسن مرة * إلي فقد عادت لهن ذنوب
ومعنى ذلك: أن الأيام أساءت إلى بعد احسان، ونقصتني بعد
تمام، لا أنه أراد أن الأيام كن أذنبن إلي ونزعن ثم عاودن ورجعن،
فكيف يظن به ذلك، وقد ذكر أن إحسانها كان متقدما، وإنما جاء
ذمها متأخرا.
والصحيح في ذلك: أن أصل الرجع والرجوع - في اللغة -: إنما
هو انعطاف الشئ إليك، وانقلابه نحوك، لا أنه كان عندك ففارقك،
ثم رجع إليك، وإنما استعمل في المعنى الأخير مجازا، وحقيقته ما ذكرناه،
وفي كلامهم الرجعة: المرة الواحدة، ومن ذلك قولهم: رجعت إليه
القول، أي: خاطبته وصرفت قولي إليه; ويقولون: هل جاءتك
رجعة كتابك ورجعانه اي جوابه، وقال الشاعر [1]:
كأن من عسل رجعان منطقها * إن كان رجع كلام يشبه العسلا
قال تعالى: (أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا...) [2]
وكل ذلك يدل على المعنى الذي قلناه.

(1) هو الحكم بن ريحان من بني عمرو بن كلاب، وروى الجاحظ
في (البيان والتبيين) البيت هكذا:
كأنما عسل رجعان منطقها * إن كان رجع الكلام يشبه العسلا
(2) طه: 89.
211

7 - وقال بعضهم: يجوز أن يكون المراد بذلك أن المقدورات
تعود إلى قدرته، لان ما أفناه من مقدوراته الباقية [1]: كالجواهر والاعراض
الباقية، يصح منه تعالى إعادته بعد توليه، وإيجاده بعد تقضيه، لأنه
يرجع إلى قدرته [2]، وإن كان ذلك يمتنع في مقدورات البشر، وإن
كانت باقية، لما دل عليه الدليل من اختصاص مقدور القدر [3] باستحالة
العود إليها، من حيث لم يجز فيها التقديم والتأخير (4)، وهذا الحكم أيضا
ينفرد به تعالى من سائر القادرين (5).
8 - وعندي في ذلك وجه آخر، وهو: أنه يجوز أن يكون
المراد بقوله تعالى: (والى الله ترجع الأمور) ما تعبد العباد به من الاستثناء
بمشيئة الله تعالى، في كل امر عزموا على فعله في المستقبل، وعلى هذا

(1) اي التي من شأنها البقاء
(2) لان قدرته تعالى أزلية أبدية لا تنقطع آنا ما، ولا يكون لها
كون متجدد، وكما أن الشئ بها يوجد فإنه بها يعود واليها يرجع.
(3) جمع قدرة.
(4) توضيحه: ان قدرة البشر على ايجاد مقدوراتهم إنما تكون قبل
الفعل أو معه، ولا تتأخر عنه، بل تنقطع عند وجوده، فإذا فرض انهم
أوجدوه ثانيا بعد فنائه فلا بد أن يكون ذلك بقدرة أخرى من سنخ الأولى،
وهذا معنى أن قدرة البشر لا يجوز عليها التقديم والتأخير، اي التقديم على الفعل
والتأخر عنه معا، بخلاف قدرته تعالى فإنها متقدمة على الفعل ومتأخرة عنه
لسرمديتها، ولذا لو عاد الفاني يصح حقيقة وواقعا انه عاد إلى قدرته.
(5) يريد انه تعالى كما هو مختص بأنه قادر على إعادة المقدورات دون البشر
فكذلك هو منفرد بان قدرته يجوز عليها التقديم والتأخير معا، دون القدرة
الحادثة البشرية التي تنقطع بعد وجود المقدور.
212

قوله تعالى: (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء
الله..) (1)، ومعنى الاستثناء بالمشيئة: رد الأمور إلى الله تعالى
تطامنا لعظمته، واحتياجا إلى معونته، والتجاء إلى حوله وقوته.
9 - وقد يجوز أيضا أن يكون معنى ذلك الاتكال على الله سبحانه في
الأمور، والتفويض إليه في الخطوب، كما يقول القائل: قد رددت
أمري إلى الله توكلا عليه، وانقطاعا إليه، فقوله رددت أمري إلى
الله، كقوله: رجعت أمري إلى الله، ومعنى (والى الله ترجع الأمور)
كمعنى والى الله ترد الأمور. فهذان الوجهان لم أعثر بهما لاحد ممن تقدم.
فصل
(إقامة الظاهر مقام المضمر في الآية)
قال قائل: ما معنى تكرير اسم الله تعالى في هذه الآية، وكان ذكره
في الموضع الأول يغني عن إعادته فيما بعد، وكان وجه الكلام إن يقول
تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض واليه ترجع الأمور)؟!
قيل له. إنما أعيد اسم الله تعالى ههنا للتفخيم والتأكيد، ومن
عادة العرب إذ أجروا ذكر الآمر، يعتمدون تفخيمه ويقصدون

(1) الكهف: 23، 24
213

تعظيمه، بأن يعيدوا لفظه مظهرا غير مضمر، إذا كان الاضمار يطأطئ من
الاسم ويضائله، بقدر ما يرفع منه الاظهار ويفخمه، وعلى ذلك قول
الشاعر [1]:
لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فلو قال: يسبقه شئ، لكان مستقيما [2] ولكنه أعاد
الاسم تفخيما، ولم يرض أن ثنى ذكره حتى ثلثه، مبالغة في الغرض الذي
رماه، والمعنى الذي نحاه، ومثل ذلك قول أبي النشناش النهشلي [3]
فعش معدما أو مت كريما فإنني * أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه
وقال أبو الحسن الأخفش: (وهذا كقولهم: أما زيد فقد ذهب
زيد)، وقد تقدم ما حكيناه عن شيخنا أبي الفتح النحوي من كلامه
في قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم
فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء.. الآية) [4]، وهو
قوله: (إنما كرر تعالى ذكر الذين ظلموا، ولم يقل: وأنزلنا عليهم
لان ذلك أشد مبالغة في ذمهم، وأدخل في باب التفحيش لذكرهم،
ولان إظهار اسم المستحق للعقاب مع الاخبار بوقوعه به، أبلغ من
إضماره، وأجدر بخوف الخائف من مشاركته في وجه استحقاقه).
وفي الجملة فالمظهر أفخم من المضمر، وينبغي ألا يوضع اسم الله إلا مواضع

(1) انشده سيبويه، وقائله سوادة بن عدي، وقيل عدي بن زيد،
ويروى بدل (يسبق): يشبه.
(2) اي في المعنى لا في الوزن.
(3) رواه له أبو تمام في الحماسة من جملة أبيات
(4) البقرة: 59.
214

التفخيم، ومظان التعظيم، فلذلك حسن تكريره في هذه الآية، لان
قوله تعالى: (والى الله ترجع الأمور) دال على عظم ملكه وقوة
سلطانه، وذلك موضع تفخيم، فحسن فيه التكرير، وليس ذلك نظير
قول الشاعر في البيت الذي تقدم ذكره، وهو قوله: (لا أرى الموت
يسبق الموت شئ)، لان هذا الشعر مفتقر إلى الضمير، والآية
مستغنية عنه، وإنما احتاج إليه البيت، لان الخبر الذي هو جملة لا
يتصل بالمخبر عنه إلا بضمير يعود إليه، فقد فارق الآية من هذا الوجه.
وقال بعضهم إنما حسن التكرير في ذلك لان قوله تعالى: (ولله ما في
السماوات وما في الأرض) خبر مكتف بنفسه، وقوله: (والى الله ترجع
الأمور) خبر آخر مفارق للأول، فلذلك حسن التكرير في الخبرين،
لان كل واحد منها مستقل بنفسه، وغير محتاج إلى غيره، وفي ما
ذكرناه من ذلك كاف بتوفيق الله.
215

23 - مسألة
(كنتم خير أمة)
وجه الكلام أن يقول: (أنتم خير أمة)! - الجواب عن ذلك -
معنى الكنتي - زيادة كان - لكان أربعة مواضع.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت
للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.. الآية - 110)،
فقال: فحوى هذا الكلام يدل على فعل ماض، ووصف متقض،
أفتقولون: إن هذا الثناء الجميل والمدح الجليل من الله سبحانه لهذه
الأمة منقطع بانقطاع سببه، أم مستمر باستمرار موجبه؟ فإن كان مستمرا فما
معنى قوله تعالى (كنتم)، وهو يدل على حال تغيرت وصفة انتقلت!
وإنما كان وجه الكلام أن يقول: (أنتم خير أمة أخرجت للناس)
ليدل تعالى بذلك على أن سبب المدح باق لم يزل، ولازم لم ينتقل.
فالجواب: أن في ذلك أقوالا [1]:

(1) ربما يجعل من جملة الأقوال ان (كان) هنا للاستقبال كما هو أحد
معانيها على ما قاله في القاموس واستشهد بقوله تعالى في سورة الانسان: (ويخافون
يوما كان شره مستطيرا) وذكر أيضا ان (كان) تأتي للحال واستشهد بآية
المسألة فيكون أيضا أحد الأقوال في المقام.
216

1 - أحدها، أن يكون معنى (كنتم) ههنا معنى الحدوث والوجود
فكأنه تعالى قال: خلقتم أو وجدتم خير أمة [1]، وذلك كقوله تعالى:
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة...) [2] أي: فان
وجد أو وقع أو حدث ذو عسرة، ويسمي النحويون هذه: كان
التامة، لأنها لا تحتاج إلى خبر، وعلى ذلك قول الشاعر في بعض
الروايات [3]:
إذا كان الشتاء فأدفئوني * فان الشيخ يهدمه الشتاء
أي: إذا حدث ووقع، ومثل ذلك قول الرجل: قد كان ما خفت
أن يكون، بمعنى قد حدث ووقع، وليس يريد أنه قد مضى وانقطع،
وهذا أكشف عن هذا المعنى
2 - وقال بعضهم [4]: معنى (كنتم خير أمة)، أي:
كنتم عند الله في اللوح المحفوظ على هذه الصفة، لتقدم علم الله فيكم بذلك.
3 - وقال بعضهم: أراد تعالى: كنتم على هذه الصفة في
الكتب المتقدمة، فلا تخالفوا ذلك وحققوه بأفعالكم، ليكون أوكد
لحجتكم على أعدائكم من أهل الكتاب الذين وجدوا في كتبهم صفاتكم فان
خالفتم تلك الصفات وأخلفتم العدات، وجد الطاعن مطعنا والغامز مغمزا.

(1) فيكون (خير أمة) منصوبا على الحال لا على الخبر لكان.
(2) البقرة: 280.
(3) والرواية الثانية: (إذا جاء...)
وقائله الربيع بن ضبع الفزاري. و (يهدمه) في رواية: يهرمه. وقد فسر
بعضهم (كان) في البيت بجاء، وفسرها في القاموس بحدث كما هنا.
(4) ينقل هذا القول عن الفراء والزجاج.
217

4 - وقال أبو مسلم بن بحر: (قوله: (كنتم خير أمة أخرجت
للناس) يحتمل وجهين: أحدهما، أن يكون معناه صرتم خير أمة
بأمركم بالمعروف، ونهيكم عن المنكر. والوجه الآخر أن يقدر هذا
القول تابعا لقوله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي
رحمة الله هم فيها خالدون 107)، فكأنه تعالى قال: ويقال
لهم - عند مصيرهم إلى الرحمة والخلود في الجنة -: كنتم في دنياكم خير
أمة أخرجت للناس، فاستحققتم الآن ما أنتم فيه من عظيم الرحمة ودوام
النعمة، ويكون ما عرض بين أول القصة وتمامها، كما لا يزال يعرض
في القرآن من نظائر ذلك وأمثاله).
فأقول: إن قوله في الوجه الأول: (معنى (كنتم خير أمة) اي صرتم
خير أمة) ففيه بعد شديد عن سنن فصاحة اللسان العربي، وذلك أن (كان)
بمعنى صار وإن استعملت [1] على بعض الوجوه، فليس بالفصيح الجيد
ولا يحمل القرآن إلا على اللغة الفصحى والطريقة المثلى.
فأما الوجه الآخر الذي ذكره، ففيه فضل تعسف واستكراه وإن كان
اصلح من الوجه الأول على كال حال.
5 - وقال بعضهم: إنما قال تعالى: (كنتم خير أمة) لما
كان يسمع به من الخبر الكائن في هذه الأمة على سبيل البشارة بذلك قبل
كون الأمة. وهذا المعنى يشبه قول من قال: إن معنى ذلك أنكم كنتم
عند الله بهذه الصفة، أو في اللوح المحفوظ، أو في كتب الأنبياء

(1) وفي (خ): استعمل.
218

المتقدمة، لأن هذه المعاني كلها ترمي إلى غرض، وتجري إلى
أمد، ويروى هذا القول عن الحسن البصري، وكان يقول:
(نحن آخرها وأكرمها على الله)، ومثل ذلك ما روي عن
النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (أنكم تتممون [1] سبعين أمة أنتم خيرها
وأكرمها على الله عز وجل، فهو موافق لمعنى (أنتم خير أمة)، إلا
أنه تعالى قال: (كنتم) لتقدم البشارة بهذا الحال.
6 - وقد روي عن الحسن أيضا: أنه كان يقول: (هكذا والله كانوا
مرة)، وبعض المسلمين كان يقول: (أعوذ بالله أن أكون كنتيا)،
أي: ممن يقال له: كنت تفعل الخير فيما مضى [2]، لان ذلك دليل
على ترك فعله في المستقبل، فهدا القول الأخير المروي عن الحسن يدل على
أنه ذهب إلى أن حال القوم تغيرت في المستقبل، وكانت في الماضي
على السنة [3] المحمودة، والطريقة السديدة، وهذا معنى قوله:
(هكذا والله كانوا مرة).
إلا أن الامر إذا بين حق التبيين، وجد غير مطابق لما ذهب إليه
الحسن، لان هذا الخطاب إنما خوطب به المؤمنون في زمن النبي صلى الله عليه وآله

(1) رواه في مجمع البيان (أنتم وفيتم...)
(2) الكنتي كما في معاجم اللغة: الشيخ الكبير، ويسمى كنتيا لأنه يقول
كنت، أو يقال له كنت، وعن الفراء: (الكنتي في الجسم والكاني في الخلق)
وعن ابن الأعرابي: (إذا قال كنت شابا وشجاعا فهو كنتي، وإذا قال كان
لي مال فكنت أعطي منه فهو كأني)، وعنه أيضا: وكنت في خلقه (بفتح الخاء)
وكان في خلقه (بضم الخاء) فهو كنتي وكأني)
(3) وفي (خ): الصفة.
219

المتمسكون بأديانهم، وهو دال مع هذه الحال على صفة حال متقدمة،
والسؤال مبني على ذلك، واختلاف العلماء إنما هو في التأول لهذا
الخطاب، وكيف يصح فيه لفظ (كنتم)، والمراد به المؤمنون الحاضرون،
وهم مقيمون على ايمانهم، متمسكون بأديانهم!، وقول الحسن: (هكذا
كانوا مرة) يشير إلى أن الحال تغيرت في زمانه، وأنها كانت على
المحمود منها قبل ذلك، ومفهوم الخطاب يخالف هذا القول، لأنه
كما ذكرنا يدل بظاهره على مثل ما ذهب إليه الحسن في أيام الرسول صلى الله عليه وآله،
وليس هذه الآية نازلة على عهد الحسن فيصح ما قاله من أن القوم كانوا
أولا على صفة تغيرت وانتقلت على عهده، فاذن التخليط ناطق من
أثناء هذا القول المروي عنه. وعندي أن الصحيح عنه ما ذكرناه امام
هذا القول، وإلا فلم يكن يذهب عليه مثله، مع نفاذ بصيرته، وثقوب
معرفته، والأولى أن تنسب مثل هذه التخاليط إلى الرواة والناقلين، لا
إلى العلماء المحققين.
7 - وقال بعضهم: [1]: (معنى ذلك: أنتم خير أمة أخرجت
للناس)، وذلك كقوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل
مستضعفون في الأرض...) [2]، وقال سبحانه في موضع آخر:
(واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم...) [3] فالمعنيان

(1) مآل هذا الوجه إلى زيادة (كان) في الابتداء وقد أنكره جماعة
منهم أبو البقاء وابن الأنباري.
(2) الأنفال: 26
(3) الأعراف: 86
220

واحد، إلا أن دخول (كان) في بعض المواضع يفيد الاستمرار على
الحال المذكرة، وذلك كقوله تعالى: (وكان الله غفورا
رحيما)، فأفاد هذا القول من استمراره تعالى على الغفران والرحمة ما لا
يفيده لو كان بدلا منه (والله غفور رحيم). ومما استشهدوا به على
وقوع (كان) ملغاة في الكلام لا حكم لها قول الشاعر [1]:
فكيف إذا رأيت ديار قوم [2] * وجيران لنا - كانوا - كرام
وقالوا: المراد بذلك: وجيران لنا كرام، لا غير، وأنشدنا
شيخنا أبو الفتح النحوي في مثل ذلك [3]:
سراة بني أبي بكر تسامى * على - كان - المسومة العراب
وأنشدنيه الشيخ أبو الحسن علي بن عيسى النحوي: (على كان
المسومة الجياد)، وقال لي في القراءة عليه: إن لكان أربعة
مواضع: أحدها أن تكون مستقلة بالفاعل غير مفتقرة إلى الخبر،
نحو: كان الامر، أي حدث ووقع. والثاني، أن تكون ممنوعة من
الحديث مفتقرة إلى الخبر، نحو: كان زيد منطلقا، ويكون عمرو شاخصا.
والثالث، أن تكون زائدة، مثل قولهم: زيد - كان منطلق، وما - كان -
أحسن زيدا، أي ما أحسن زيدا، كقول الشاعر: (وجيران لنا
كانوا كرام) إذا لم تجعل (لنا) الخبر، وجعلته صفة (جيران)، كأنك

(1) الفرزدق.
(2) في ديوانه المطبوع: (قومي)
(3) روى البيت في المفصل هكذا: (جياد بني...) قال النعساني
في تعليقته على المفصل: (ولم يعرف له قائل على شهرته وكثرة تداوله في
كتب النحو).
221

قلت: (وجيران لنا كرام كانوا). والرابع، أن تكون كصار،
تقول: كان زيد منطلقا، أي صارت حاله هذه، تريد: هو الآن
كذا، لا فيما مضى، وأنشد قول الشاعر [1]:
بفيفاء قفر والمطي كأنها * قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
يريد: صارت فراخا.
قلت أنا: والصحيح في رواية هذا البيت (قد صارت فراخا
بيوضها)، وإنما غير ليوافق الاستشهاد، فلأجل ذلك ضعف هذا
القسم من بين أقسام (كان).
8 - وقال بعضهم: معنى ذلك: كنتم مذ كنتم خير أمة (خير أمة) [2]
أخرجت للناس، فيجري ذلك مجرى قول الرجل للرجل - وقد نازعه
في تقدم نباهته وأشار إلى قرب العهد برئاسته -: (ما كنت مذ
كنت إلا نبيها ورئيسا)، فكذلك معنى الآية: (لم تزالوا خير أمة
وكنتم مذ كنتم خير أمة)، فكان المعنى أنكم معروفون بهذا الوصف
الجميل، والمدح الشريف، مذ كنتم لا أن هناك حالا انتقلت، ولا
صفة تغيرت.

(1) هو: ابن احمر. وقد روى البيت صاحب المفصل والشيخ الرضي
في شرحه: (بتيهاء قفر...)
(2) الزيادة في بعض النسخ
222

فصل
(من هو المراد بخطاب كنتم؟)
وقد اختلف العلماء فيمن أريد بهذه الآية، فروي عن ابن عباس
رضي الله عنه: أنه قال: قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس...
الآية) نزلت فيمن خرج مع النبي صلى الله عليه وآله من مكة، وهاجر بعد هجرته
إلى المدينة. وحكى: أن بعض الصحابة كان يقول: لو شاء الله لقال: أنتم،
فكنا كلنا كذلك، ولكن خرج ذلك في خاصته من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله
وروي عن مجاهد: أنه قال: المعنى أنكم كنتم خير أمة، على
شريطة أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله،
فأنتم كذلك ما التزمتم هذه الشرائط.
وروي عن الحسن: (أن ذلك إشارة إلى الصحابة، دون من
بعدهم: ممن تغيرت أحواله، واختلفت أوصافه). وفي الناس من
حمل ذلك على أمة محمد صلى الله عليه وآله عامة، ولم يخص كونهم على هذه الصفة
في حال دون حال، وقدر قوله تعالى: (كنتم) تقدير قوله:
(أنتم)، كما ذكرنا فيما مضى.
ثم اختلفوا، فمنهم من قال: (كنتم خير أمة، أي: بالإضافة إلى
سائر الأمم، لان جماعة هذه الأمة خير من جماعة كل أمة). ومنهم
من قال: (المراد بذلك أنهم أكثر الأمم خيارا، وأقومها بالعدل،
223

وأعملها بالحق): ومنهم من قال: (لم يدخل تحت ذلك إلا الخيار
منهم دون غيرهم: ممن ليس على صفتهم، فالمراد به الحقيقة، وإن
كان ذكر الأمة ههنا على سبيل الاتساع والمجاز).
وقال قاضي القضاة أبو الحسن: الذي يدل الظاهر عليه أن الأمة هي
الجماعة، وإن كان الأغلب أن المراد بذلك أمة محمد صلى الله عليه وآله، بمعنى
المصدقين به، فإذا حمل الكلام على هذا الوجه فالضرورة تقود إلى قولنا:
إن المراد بذلك أكثرهم خيارا، وإن الخير فيهم أظهر منه في غيرهم،
ومتى حمل على جماعة مطلقة لم يمتنع أيضا ألا يدخل فيهم إلا الخيار
والبررة، الذين يستحقون الثناء والمدح الجميل من الوصف.
قلت أنا: وليس يمتنع أن يحمل الامر في ذلك على الأغلب،
كما يستعمل هذا الحكم في كثير من الأشياء في الشريعة يطول تعدادها،
فقال تعالى: (كنتم خير أمة) وفيهم من ليس بخير، إلا أنه
الأقل، والصالحون الأخيار فيهم الأكثر الأعم، فلذلك حسن
أن يسموا بالأغلب عليهم، ويوصفوا بالأظهر عنهم. وفي ما ذكرناه
من ذلك كاف بتوفيق الله تعالى (1).
224

24 - مسألة
(لن يضروكم الا اذى)
كيف يستقيم استثناء الشئ من نفسه! - الجواب عن ذلك - معنى
ابطال الصدقات بالمن والأذى ومعنى اجر غير ممنون - الاستثناء في
الآية منقطع والجواب عن ذلك.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (لن يضروكم إلا أذى...
الآية 111)، فقال: قد علمنا أن كل اذى ضرر، فكان تقدير
الكلام لن يضروكم إلا ضررا،
وهذا غير مستقيم ولا منتظم، بل هو
متناقض متغاير!
فالجواب: أن في ذلك أقوالا للعلماء:
1 - أحدها، ان الأذى المستثنى وإن كان من قبيل الضرر،
فإنه أخف من الضرر ههنا، والمراد به ما يقولونه بألسنتهم من
التعريض بكم، والتغيير لكم، دون ما يفعلونه بأيديهم من الايقاع
الغليظ، والمكروه الشديد، فحسن استثناء الضرر الأخف من الضرر
الأثقل، لما كان بالإضافة إليه غير مؤثر ولا مجحف، ومن الدليل
على أن الأذى ههنا يراد به من جنس الأقوال دون الأفعال قوله تعالى:
225

(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله
مما قالوا...) [1]، ففسر تعالى الأذى بأنه قول ههنا، فدلنا على
أن ما آذوه به كان قولا، ولم يكن فعلا، لقوله تعالى: (فبرأه الله مما قالوا)،
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن
والأذى...) [2]، فالمراد بذلك - والله أعلم - لا تتبعوا صدقاتكم بما
يبطلها من الأقوال التي تتضمن التبجح بها، والامتنان بفعلها، لان في ذلك
أذى لمن تقصدونه بالعطاء، يغض من الصنيعة وينقصها، ويكسف ضياءها
وينغصها [3] ألا تسمعه سبحانه يقول: (لهم أجر غير ممنون) [4]
اي: لا يكدر عندهم بمنة عليهم، وهذا أحد تأويلي هذه الآية (وقد
قيل: إن المراد أجر غير مقطوع، من قولهم: حبل منين وممنون،
إذا كان منقطعا) وعلى هذا قول العرب في مدح الرجل منهم: (زاد
فلان غير ممنون) إذا كان ممن لا يتبع طعامه منا، ولا يتبجح به
لؤما وضنا.
2 - وقال بعضهم: معنى (إلا اذى) أي: إلا ضررا
يسيرا، وهو ما يلحقكم إذا سمعتم شركهم وكفرهم، وبين هذا بقوله
تعالى: (وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون) [5]،
فأعلم تعالى: أن ذلك الأذى شئ دون القتال، ودون المضار

(1) الأحزاب: 69.
(2) البقرة: 264.
(3) اي يكدرها، وفي (خ): يغمصها، اي يعيبها.
(4) فصلت: 8.
(5) تتمة آية المسألة.
226

العظام. وهذا القول قريب المعنى من القول المذكور أمامه،
3 - وقال بعضهم: معنى ذلك: أنهم يؤذونكم بالكذب
والتحريف والبهتان والجحود، مثل قولهم: عزير ابن الله، والمسيح
ابن الله، وما يجري مجرى ذلك، وأما العاقبة فتكون للمتقين، وذلك
اذى قليل عند سلامة العواقب، وحميد الخواتم والمصائر.
4 - وقال بعضهم: أخبر الله تعالى بهذا القول: أن المؤمنين
لا يستضرون من جهة الكفار، بغلبة لهم ولا قوة عليهم في حرب وقتال
وكيد ومحال [1]، إلا أذى، وهو ما تجري به ألسنتهم من سب
وتنديد، أو تخويف ووعيد، لا غير ذلك، ومتى بلغ الامر إلى
المدافعة، وانتهى الوعيد إلى المواقعة، كان المؤمنون أقوى ظهورا
وأشد استظهارا، والكفار أوهن أعضادا، وأضعف عمادا. وذلك من
من دلائل صحة النبوة، لان هذا القول مما وجد مخبره على ما أخبره به
لان الآية واردة في اليهود، ولم يوافقوا المسلمين قط في حرب إلا منحوهم
أكتافهم، وأجزروهم لحومهم، كبني قريظة، والنضير، وبني
قينقاع، ويهود خيبر.
5 - وقال بعضهم: (قوله تعالى: (إلا أذى) استثناء منقطع
عن أول الكلام، كقولهم: ما اشتكى شيئا إلا خيرا). والى هذا
ذهب أبو القاسم البلخي وبعض المفسرين. وقد دفع هذا القول
المحققون من العلماء، وقالوا: ليس ذلك باستثناء منقطع، لان حمله

(1) المحال: الاحتيال
227

على الاستثناء الصحيح ممكن، فلا يجوز حمله على الاستثناء المنقطع، والمعنى:
لن يضروكم إلا ضررا يسيرا، فالأذى وقع موقع المصدر الأول، الذي
تقديره: أن يكون ضررا دون صفة الضرر الذي هو يسير، واما الاستثناء
المنقطع فلا يكون فيه الثاني مخصصا للأول، نحو ما بالدار أحد إلا حمارا،
وكذلك ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر، وكيف يجوز أن
يجعل هذا بمنزلة الاستثناء المنقطع، والأذى على كل حال من قبيل الضرر،
وإن قلنا إنه ضرر يسير، وليس كذلك حكم ما جعلوه شاهدا عليه من
قولهم ما اشتكى شيئا إلا خيرا، لان الخير لا يجوز أن يكون من قبيل
ما يشتكي منه فيكون الاستثناء صحيحا، وإنما أحوج [1] الكلام إلى
حمله على الاستثناء المنقطع لما لم يسغ فيه ما ذكرنا، وقد بينا أن المراد
بهذا الأذى هو: الضرر الذي يلحق قلوب المؤمنين باظهار الكفار كلمة الكفر،
ومجاهرتهم بالدعاء إلى الضلال عن الدين، وافسادهم قلوب الضعفة من
المسلمين، إلى غير ذلك مما في معناه، وذلك اجمع من باب الضرر الذي
إذا لحق قلوب المؤمنين غمهم وأكثر همهم، فقد صح إذن كون ذلك
ضررا، ووضح كون الاستثناء صحيحا لا منقطعا، وفي ما ذكرناه من
ذلك كاف بحمد الله.

(1) وفي (خ): اخرج.
228

25 - مسألة
(ليس لك من الامر شئ)
شبهة الجبر في الآية - الجواب عن ذلك - نزول الآية - في الآية -
تقديم وتأخير - نزول الآية أيضا - الوجه الصحيح - كلام قاضي القضاة
ومن سأل من المجبرة عن معنى قوله تعالى: (ليس لك من الامر
شئ... الآية - 128)، فقال: هذا نص في موضع الخلاف
من مذهبنا، وهو دليل على أن جميع تصرف العبد من فعل الله تعالى،
كما نقول، والخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله، وإذا كانت تلك حاله فهي
إذن حال غيره!
فالجواب - 1 - أن المتعلق بهذه الآية في تصحيح قوله الفاسد،
وإقامة مذهبه الواهي المتهافت، واقع بعيدا من بغيته، ومحجوز بينه
وبين إرادته، أولا يرى هذا السائل أن الله سبحانه أمر نبيه أن يدعو
الكفار إلى الله تعالى، مكررا على أسماعهم دعاءه، وناهجا لهم طريق
الايمان ومناره، ومنذرا لهم ومحذرا وموقظا ومنبها، وآخذا
بحجزهم [1] من التهافت في النار، ومنهنها [2] لهم عن حلول دار البوار!

(1) جمع حجزة (بضم وسكون) وهي معقد الإزار
(2) نهنهه: كفه وزجره.
229

وذلك من أجل الأمور المجعولة له والمنوطة به، فكيف يمكن السائل
حمل القول في الآية على ما ظنه مع ما ذكرناه!
فالمراد إذن بقوله تعالى: (ليس لك من الامر شئ)، أي: لست بمالك
شيئا من عقابهم، أو ثوابهم، أو استئصالهم، أو استصلاحهم، أو تدبير
مصالحهم في أوقاتها، أو تقديم آجالهم أو تأخيرها، أو المعرفة بما تصلح
عليه أحوالهم في الدين، أو تفسد من تبقية مع كفر، لانتظار إيمان،
أو اخترام مع ايمان لعاقبة ضلال، وما يجري مجرى ذلك، وكان صلى الله عليه وآله إذا رأى من
الكفار التشدد في تكذيبه، والمبالغة في إطفاء نوره، سأل الله تعالى أن
يأذن له في الدعاء عليهم بالاستئصال وتعجيل العذاب، على عادة الأنبياء
قبله، فقال الله تعالى ذلك، تسكينا له، وتثبيتا لقلبه، وبين له:
أنه سبحانه العالم بمصائر الأمور، وعواقب التدبير، وأنه إنما لم يأذن
له في الدعاء عليهم، لعلمه أن من يؤمن منهم ويتوب، ويراجع ويثوب،
يكون [1] زائدا في عداده، وعضدا من أعضاده، أو يكون من ظهره
من يقوى به الدين، ويزيد في المسلمين، لأنه سبحانه يعلم من مغارس الأشجار
مطلع الثمار، ومن أوائل التلاقح والتزاوج عواقب التولد والنتائج،
فيجري سبحانه التدبير على أوضاع المصالح وقواعدها، ودلائل العواقب
وشواهدها، وعلى ذلك قرر سبحانه موارد الرسل، ومعاقد الدول،
وجعل سراء قوم مقفوة بضراء، وضراء قوم مكشوفة بسراء، على

(1) وفي (خ): (ويكون) بزيادة واو وعليها يتعين اسقاط (ان)
في قوله: (لعلمه (ان) من يؤمن...)
230

حسب المصالح والمفاسد، وعلم العواقب والمصائر.
ويكشف عما قلناه قوله تعالى - عقيب هذا الكلام -: (أو يتوب
عليهم أو يعذبهم) فبين أن من كفر به يصير في العاقبة إلى أحد
أمرين: إما أن يتوب، فيقبل الله توبته ويغفر خطيئته، وإما أن
يموت مصرا، فيكون ما يفعله الله به من عذاب الآخرة أعظم مما صرفه
عنه من عذاب الدنيا، فلم يجز الاذن له صلى الله عليه وآله في الدعاء عليهم، لما
في ذلك من الاقتطاع عن التوبة بعذاب الاستئصال، وقطع الآجال.
وقيل: إن هذه الآية نزلت يوم أحد عندما أقدم عليه المشركون،
من ارتكاب العظيمة من رسول الله صلى الله عليه وآله: كشج جبهته، وكسر
رباعيته، واستقطار دمه على صفحته، وهو مع ذلك حريص على دعائهم،
ومجتهد في إنقاذهم من ضلالهم، فقال صلى الله عليه وآله: (كيف يفلح قوم
صنعوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى عبادة ربهم)، فنزلت هذه
الآية للغرض الذي قدمنا القول فيه، وروي ذلك عن أنس بن مالك،
وابن عباس، والحسن وقتادة، والربيع.
وقيل: إنما نزلت الآية لما استأذن صلى الله عليه وآله في الدعاء عليهم بعذاب
الاستئصال بعد يوم أحد، لما ركبوا منه العظائم، وبلغوا منه المبالغ.
2 - وقال بعضهم: معنى (ليس لك من الامر شئ) أن
ما يكون في الحرب بالقوة والجلد أو الضعف والفشل، إليه سبحانه
وليس إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا إلى غيره شئ منه.
3 - وقال أبو مسلم بن بحر: قوله تعالى: (ليس لك من الامر
231

شئ) معطوف على قوله سبحانه: (وما النصر إلا من عند الله) أي:
ليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شئ، وإنما هو من عند الله تعالى،
وذلك شبيه بقوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما
رميت إذ رميت ولكن الله رمى...) [1].
4 - وقال الزجاج: هذه الآية نزلت يوم أحد بعد مصاب
النبي صلى الله عليه وآله بما أصيب به، وقوله - وهو يمسح الدم عن وجهه -:
(كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم)، فكأن
الله سبحانه أعلمه أن فلاحهم ليس إليه، وإنما عليه أن يبلغ الرسالة،
ويجاهد حتى يقرر الشريعة، ليس له ولا عليه غير ذلك. وهذا
القول قريب من بعض الأقوال التي ذكرناها في هذا المعنى.
5 - وقال بعضهم: هذا على التقديم والتأخير، فكأنه تعالى
قال: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم، فينقلبوا خائبين، أو يتوب
عليهم أو يعذبهم ليس لك من الامر شئ، أي: ليس لك من عقوبتهم
شئ إلا أن يجعله الله إليك، فان جعله إليك فأنت مخير بين العقوبة
لهم أو العفو عنهم.
6 - وقيل أيضا: إن سبب نزول هذه الآية [2] من قتله عامر
ابن الطفيل ولفيفه ببئر معونة من الأنصار الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وآله

(1) الأنفال: 17.
(2) ينسب هذا القول إلى مقاتل.
قال الرازي: (وهو بعيد لان أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في
قصة أحد، وسياق الكلام يدل عليه، والقاء قصة أجنبية عن أول الكلام
وآخره فيه غير لائق بكلامه).
232

ليعلموا الناس القرآن ويعرفوهم الاسلام، وحديث قتلهم على شرح
مذكور (في كتاب المغازي) [1]، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله على قاتليهم
أربعين صباحا، يقنت عليهم في صلاته، فنزلت: (ليس لك من
الامر شئ)، أي: ليس لك تعجيل الانتقام منهم، لكن الله يفعل ما هو
الأصلح لخلقه، من تبقية لهم، ليفيئوا أو يراجعوا، أو اخترام لهم
أن أصروا أو تتابعوا، وقد نبه الله تعالى على علة تبقيتهم إن بقاهم
بقوله: (أو يتوب عليهم) فدل بذلك على وجه الصلاح في تبقيتهم لما
يعلمه من توبة بعضهم.
7 - وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وآله وإن كان إليه شئ
من أمر العباد على بعض الوجوه، فذلك قدر يسير لا يعتد به في تدبيرهم
بالإضافة إلى تدبير الله تعالى لهم وما يملكه منهم، فلذلك جاز أن يقال:
(ليس لك من الامر شئ)، وإن كان له منه شئ على بعض الوجوه،
لان الحكم للأغلب والقول على الأعم الأكثر.
والأصح من هذه الوجوه في نفسي أن يكون الامر ههنا بمعنى
السلطان والقدرة، وعلى هذا قول أصحاب بلقيس ملكة سبأ في
جوابها [2]: (والامر إليك فانظري ماذا تأمرين) [3]،
أي: السلطان لك فأمري بما شئت يطع [2] أمرك، ومثله قولهم:
كان ذلك بعد أن تقلد الامر فلان الخليفة أو فلان الأمير، أي: بعد

(1) زيادة في بعض النسخ.
(2) وفي (خ): في جواب حوارها.
(3) النمل: 33.
(4) وفي (خ): نطع.
233

(أن 1) ملك السلطان ودبر الزمان، وكذلك قولهم: انتقل الامر
عن فلان إلى فلان، أي: السلطان والتدبير، فيكون معنى قوله
تعالى: (ليس لك من الامر شئ) أي: ليس لك من السلطان
والقدرة شئ، وإنما ذلك لله تعالى دون أحد من خلقه، وإن كان
له صلى الله عليه وآله أمر في تدبير الأمة من غير جنس السلطان والقدرة الحقيقيين
اللذين لا يوصف بحقيقتهما إلا الله تعالى، ومن وصف بذلك من العباد
وصف مجازا واتساعا.
وقال قاضي القضاة أبو الحسن - حرسه الله -: ظاهر قوله تعالى:
(ليس لك من الامر شئ) يقتضي أن يكون واردا في أمر كان صلى الله عليه وآله
يفعل فيه ما يكون هذا القول كالمنع منه، فلذلك وقع الاختلاف في
سبب نزوله، وما كان يفعله صلى الله عليه وآله في ذلك لا بد من أن يكون حسنا: من
دعاء على قوم مخصوصين مستحقين للعقاب، لكن أدعية الأنبياء بالهلاك
المعجل والعذاب المرسل يقتضي الإجابة، وإلا أدت الحال إلى التنفير
عنهم، فلا يمتنع أن يكون عليه السلام هم بذلك وعزم عليه واستأذن
فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية مبينا له أن الصواب عدوله عن هذا
الدعاء، لما في عاقبة الامر من المصلحة، وهو ما يعلمه تعالى من توبة
بعضهم، فيكون ذلك سببا لنجاته، ويكون التبقية وجه الصلاح
في حياته.
فأما قول من قال: إن ذلك نزل في لعنه صلى الله عليه وآله الكفار والمشركين

(1) الزيادة منا والظاهر أنها سقطت من قلم النساخ.
234

ودعائه عليهم، فقد أخطأ الصواب، وذلك أنه عليه السلام مأمور بأن
يلعن الكفار معلنا، ويدعو عليهم مجتهدا، فلا يجوز أن يقال
- والحال هذه -: (ليس لك من الامر شئ)، والمراد يتعلق
بما ذكرنا، وإنما كان (ع) يدعو عليهم بعقاب الآخرة مشروطا،
والشرط: إن لم يتوبوا، فلا يوجب ذلك ألا تقع منهم إنابة ولا توبة
إذا كان دعاؤه يقتضي طلب العقوبة لهم في الآخرة، بشرط الموافاة وهم
مصرون على المعاصي، وإن دعا عليهم بايقاع المستحق من العقاب في
الحال، فتوبتهم أيضا إن وقعت من بعد ذلك كانت غير مؤثرة في
حسن الدعاء.
ثم يقال للسائل: إذا لم يكن للنبي (ع) من الامر شئ على زعمك،
فلماذا استحق المدح والسمعة، والاجلال والرفعة! ولماذا خص بما
ليس لغيره في باب لزوم الطاعة! ولماذا يلزم اتباعه واقتفاؤه، ويجري
على العباد أحكامه، ويكون قوله مسموعا وإيماؤه متبوعا!. وإن كان
جميع ما يفعله بمنزلة لونه وهيئته وأعضائه وصورته ليس له فيه شئ ولا إليه
منه شئ، فكيف يستحق المدح بأفعاله، والحمد على صالح أعماله!.
على أن الامر في الحقيقة هو قول القائل لمن دونه في الرتبة: (افعل)،
فيجب أن يقتضي ظاهر ذلك أنه صلى الله عليه وآله ليس له أن يأمر وينهى في حال
من الأحوال، وذلك ما لا يجوز أن يقوله من فيه مسكة، أو عنده
للدين عقيدة.
ومما يكشف عما ذكرنا أن الله قد أمر النبي بطاعته ونهاه عن
235

معصيته، ولولا أنه كان قادرا على الطاعة والمعصية بما جعل فيه من
الاستطاعة للامرين جميعا، لما كان لهذا الأمر والنهي معنى، ألا ترى
إلى قوله تعالى - والمراد بذلك [1] الرسول -: (ولو تقول علينا بعض
الأقاويل. لاخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين) [2]،
فليس معنى قوله تعالى: (ليس لك من الامر شئ)، أي: أنك لا
تستطيع أن تعمل خيرا ولا شرا، وكيف يظن ذلك وقد أمره تعالى
بأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجاهد الكفار حتى
ينقادوا للشريعة، وكل ذلك من الأمور العظيمة، وإنما أراد تعالى بذلك:
أنه ليس لك من الحكم في قومك، ولا في غيرهم شئ، وإنما عليك
أن تمضي لامر الله تعالى فيهم وتنفذ [3] احكامه عليهم، وأن تنذر
وتبصر وتصدع بما تؤمر.
فصل
الوجه في نصب (أو يتوب عليهم)
فأما ما انتصب عليه قوله تعالى: (أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم
ظالمون)، فهو على ضربين: أحدهما، أن يكون عطفا على قوله تعالى:
(ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم...) ثم قال:
(أو يتوب عليهم أو يعذبهم)، فيكون قوله تعالى: (ليس لك من

(1) وفي (خ): به.
(2) الحاقة: 44 - 46
(3) وفي (خ): تنفيذ.
236

الامر شئ) اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه، كما يقول القائل:
ضربت زيدا - فافهم - وعمرا.
والوجه الثاني، أن تكون (أو) هي التي بمعنى: (إلا أن)،
فكأنه قيل له: ليس لك من الامر شئ إلا أن يتوب الله عليهم أو يعذبهم،
فيكون أمرك تابعا لامر الله تعالى في ذلك، لرضاك بمصارف أقداره
ومواقع تدابيره أو تكون بمعنى (حتى)، كأنه قال: حتى يتوب عليهم
أو يعذبهم، كما يقول القائل: لا أزال ملازمك أو تعطيني ديني، أي:
حتى تعطيني ديني.
وقد قيل في ذلك وجه آخر، وهو أن يكون تقدير الكلام:
ليس لك من الامر شئ أو من أن يتوب عليهم، فأضمر (من) ههنا
اكتفاء بمن الأولى، وأضمر (أن) لبيان معناها، وهي مع الفعل
الذي بعدها بمنزلة المصدر. وهذا مذهب غير سديد، وقول غير
مستقيم، لأنه ليس من كلام العرب قولك: عجبت من أخيك وتقوم،
على معنى من أخيك ومن أن تقوم، والدلائل على فساد ذلك كثيرة لا يحتمل
الموضع شرحها. وفي ما ذكرناه من ذلك كاف بحمد الله.
237

26 - مسألة
(جنة عرضها السماوات والأرض)
ما معنى العرض وما الفائدة في ذكره بدون الطول؟ - الجواب
عن ذلك - معاني العرض - آية (فذو دعاء عريض) -
جواب النبي صلى الله عليه وآله عمن سأله عن مكان الجنة - آية (ومن الانعام
حمولة وفرشا) والرد على ابن بحر.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من
ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين
- 133)، فقال: ما معنى (عرضها السماوات)؟ وأي فائدة في
ذكر العرض ههنا بدلا من الطول؟
فالجواب: أن في ذلك وجوها:
1 - منها، ما روي عن ابن عباس والحسن البصري: أن
المراد عرضها كعرض السماوات والسبع والأرضين السبع، إذا ضم بعضهن
إلى بعض مبسوطات، وقد بين تعالى ذلك في الآية التي في الحديد،
وهي قوله تعالى: (... وجنة عرضها كعرض السماء والأرض
... - 21)، فصارت هذه الآية أصلا لتلك، تحمل عليه وترد
إليه، والشواهد على جواز حذف ما هذه سبيله كثيرة، وقد ذكرنا
238

كثيرا من ذلك في عدة مواضع من هذا الكتاب، ومن أوضح ما
ذكرناه قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس
واحدة...) [1]، والمراد: إلا كبعث نفس واحدة وخلقها.
2 - وقال بعضهم: العرض في كلام العرب على وجوه: فمن
ذلك، العرض: الجبل. والعرض الحشيش. والعرض الجيش.
والعرض خلاف الطول. والعرض السعة، ومن ذلك قوله تعالى: (وجنة
عرضها السماوات والأرض)، أي سعتها، ولذلك يقولون: (وفي
الأرض العريضة مذهب)، لا يريدون العرض الذي هو خلاف الطول،
وإنما يريدون السعة، وعلى ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله - للذين هربوا يوم
أحد فرارا من الزحف عند رجوعهم إلى المدينة -: (لقد ذهبتم فيها
عريضة) اي واسعة، ويعني (ع) الأرض، وعلى ذلك قول الشاعر [2]:
ودون يد الحجاج من أن تنالني * بساط لأيدي الناعجات عريض
وقال الآخر [3]:
بلاد عريضة وأرض أريضة * مدافع غيث في فضاء عريض
أراد: واسعا، والشواهد على ذلك كثيرة جدا.

(1) تقدمت الآية صفحة 136.
(2) قال المبرد في كامله: وكان العديل
ابن الفرج العجلي هاربا من الحجاج، فجعل لا يحل ببلدة الا ريع لاثر يراه من
آثار الحجاج فيهرب، حتى أبعد، ففي ذلك يقول العديل:
يخشونني الحجاج حتى كأنما * يحرك عظم في الفؤاد مهيض
ودون يد الحجاج من أن تنالني * بساط لأيدي اليعملات عريض
والناعجات: النوق السريعة. واليعملات: النوق النجيبة المطبوعة.
(3) امرؤ القيس.
239

3 - وحكى بعض أصحاب محمد بن يزيد المبرد عنه: أنه سئل عن
ذلك فقال: يحتمل أن يكون المراد عرضها كطول السماوات والأرض،
لأنك إذا قلت لغيرك: عرض ثوبي ثوبك، جاز أن يكون عرض هذا
كطول الآخر. فقيل له: فما قولك في قوله تعالى في الموضع الآخر: (وجنة
عرضها كعرض السماء والأرض)؟، فقال: هذا عرض كعرض،
ويحتمل أن يكون المراد بالعرض ههنا السعة - على ما تقدم -، والناس
يقولون: فلان عريض الجاه والقدر، ولا يستعملون فيهما الطول، إذا
أرادوا السعة، إذ العريض يدل على السعة، فيجمع ماله عرض الطول
والعرض، وليس لكل طويل عرض يذكر.
4 - ووجه آخر. قال بعضهم: إنما ذكر تعالى عرض الجنة
ولم يذكر طولها، لينبهنا سبحانه على أن طولها أعظم من عرضها،
فكأنه تعالى قال: إذا كان هذا عرضها فما ظنكم بطولها، ومثل ذلك
قوله تعالى: (متكئين على فرش بطائنها من إستبرق...) [1]،
فدلنا سبحانه على جلالة الظهائر [2] بتعظيم قدر البطائن، فكأنه
سبحانه قال: إذا كانت هذه صفة بطائنها فما ظنكم بجلالة ظهائرها.
وقد تعلق بعضهم أيضا بقوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الانسان
أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) [3]،
فقال: (لو قال: فذو دعاء طويل، لكان أوجه وأبلغ، لان المعروف

(1) الرحمن: 54
(2): جمع الظهارة، وهي من الثوب نقيض البطانة.
(3) فصلت: 51.
240

في كلامهم أن يصفوا ما لا طول له ولا عرض في الحقيقة بالطول دون العرض
فيقولون: حديث طويل، وكلام طويل، وأمر طويل، ولا يستعملون
عريضا إلا فيما يجمع الطول والعرض).
وليس الامر على ما ظنه هذا القائل، وذلك أن المراد بعريض ههنا
ما تقدم ذكره من المبالغة في الوصف بالسعة والكثرة، وقولنا:
(عريض) أدل على هذا المعنى من قولنا: (طويل)، لان الطويل
لا يدل إلا على طول: إما مجرد من عرض، على مذهب القائلين بالخط
المجرد من عرض [1]، أو على عرض ما غير معين، في مذهب من
يمنع من حدوث طول بلا عرض وإن قل، والعرض لا يكون إلا بطول
أكثر منه، وإلا كان الطول هو العرض، وإنما خص العرض بالذكر،
لدلالته على أن الطول أزيد منه، ولو ذكر الطول لم يدل على هذا المعنى،
وقد روي: أن رسولا لهرقل عظيم الروم سأل النبي صلى الله عليه
وآله، فقال: سمعناك تدعو إلى جنة عرضها السماوات والأرض،
فأين النار إذن!، فقال [ص]: سبحان الله! إذا جاء النهار فأين
الليل!. وهذه المعارضة تسقط المسألة، لان القادر على أن يذهب
بالليل حيث شاء قادر على أن يجعل النار حيث شاء.
وروي في حديث آخر: أن المشركين سألوه صلى الله عليه وآله عن مكان

(1) وهم القائلون بامكان وجود الجزء الذي لا يتجزأ الذي لا طول له
ولا عرض ولا عمق، فيتألف الخط من اجزاء لا تتجزأ ويكون له طول
فقط، وعلى خلافهم من يمنع من الجزء الذي لا يتجزأ، فلا بد للخط من
عرض على قوله.
241

هذه الجنة إذا كانت عرضها كعرض السماوات والأرض، فأنزل الله
تعالى: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن
يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) [1]، فكان هذا الجواب
ناقعا للغليل، وقاطعا للخصوم، كما تقدمه في [2] جواب من ضرب مثلا ونسي
خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قال سبحانه: (قل
يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي
جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون...
إلى آخر السورة)، فبين تعالى أن احياء الأموات وإعادة الرفات
ليس بأعجب من اخراج النار من العود الأخضر، والجمع بين المحرق
والمورق، فتبارك الله رب العالمين!
وكان ما ذكره تعالى من هذه الأمثال جوابا عن قول من قال
من المشركين: (إذا كانت الجنة كالسماوات والأرض فأين النار)،
لأنه تعالى قادر على أن يخلق الجنة فوق السماء، ويخلق النار تحت
الأرض، وهما على ما هما على، أو يزيد تعالى في سعة السماوات
والأرض، فيخلق فيها الجنة والنار، وتكون سعة الجنة خصوصا على مقدار
سعة السماوات والأرض، قبل أن يزيد فيها، فلا يمنع كون الجنة بهذه
الصفة من صحة وجود النار على تلك الصفة، وهذا معنى ما روي من
تشبيهه (ع) الجنة والنار بالليل والنهار، وذلك لان النهار عبارة عن الأوقات
التي تظهر الشمس فيها، مع السلامة من حائل، والتخلص من عائق،

(1) يس: 81.
(2) في (خ): من
242

فينحسر قناعها ويبدو شعاعها، والليل عبارة عن الأوقات التي تغيب
الشمس فيها، فتخبو أنوارها، وينضم انتشارها، ومعلوم ان الشمس
إذا دارت حصل النهار وصار الليل في آخر، فلا يتمانعان في قدرة الله،
فكذلك الجنة والنار.
5 - وقال أبو مسلم بن بحر في ذلك: (وللعرض وجه آخر من
التأويل، وهو: أن يكون معنى ذلك أن الجنة لو عرضت بالسموات
والأرض، وجاز أن يكون لها مالك غير الله تعالى، لكانتا ثمنا لها،
وهذا من عرضك الشئ للبيع والمقابضة، وإذا أقمت الشئ بإزاء الشئ
لتعرف موافقته له، قلت: عرضته [1] عليه وعارضته به، فصار العرض
كما ترى يوضع موضع المساواة بين الشيئين والتوفيق بينهما، لاعتبار حالتيهما،
وكذلك معنى القيمة التي توقع على الشئ وهي تقدير الثمن، وإنما هي لفظة
مشتقة من مقاومة الشئ للشئ، حتى يكون كل واحد منهما مثل الآخر وقائما
مقامه).
فأقول: إن هذا التأويل من اعتساف أبي مسلم وخبطه واستكراهه
وتعمقه، وقد قال الشاعر: (وعند التعمق الزلل) [2]، ويكفي
(في 3) فساد قوله هذا، إجماع الأمة على خلافه، مع ما فيه من
شواهد التعسف ودلائل التكلف.
وليس ذلك أعجب [4] من ذهابه إلى أن معنى قوله تعالى في الانعام:

(1) في النسخ: عرضه، والظاهر ما أثبتناه.
(2) هذا من بيت المتنبي: أبلغ ما يطلب النجاح به الطبع وعند التعمق الزلل
(3) زيادة في بعض النسخ.
(4) وفي (خ): بأعجب.
243

(ومن الانعام حمولة وفرشا... - 142) هو ما يفترش للذبح.
فهل رأيت قولا أعدل عن الجادة، وأشد انحرافا عن المحجة، وأدل على
خبط قائله، وتخليط متأوله، من هذا؟! وهل يجوز أن يذهب فكر
سليم ويرمي رأي مستقيم إلى مثل هذا القول؟! وأي شئ في قوله تعالى
ههنا: (حمولة وفرشا) مما يجوز أن يستدل به على ما يذبح؟! وهل سمع في
لسانهم فرش بمعنى ذبح، فيقول: إن الفرش مما [1] يذبح؟!.
ولو كان الامر على ما ظنه - على بعده وبرده - لكان، على قوله،
يجب أن يكون حمولة وافتراشا، لأنه قال: المراد بذلك ما يفترشونه
للذبح، وفسر الافتراش بأنه الاضجاع للنحر، ونظر ذلك بقوله تعالى:
(فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها..) [2]، أي: سقطت
على جنوبها. وخطؤه في هذا التمثيل أعظم من خطئه في ذلك التأويل،
فإنه سبحانه دل بقوله: (فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا
وجبت جنوبها فكلوا منها)، على أن نحر الإبل يكون وهي قائمة، ثم
تسقط بعد نحرها وهو معنى قوله: (صواف)، وأبو مسلم قال: معنى
ذلك ما يفترش للذبح أي يضجع، فجعل نحرها بعد اضجاعها، ولم
يرض بذلك حتى جعل الشاهد على قوله ما هو ضد قوله وإن أراد أن في
الانعام ما ينحر مضجعا، فما كان ينبغي أن يجعل النظير له ما ينحر
منتصبا.
هذا، على أن جميع العلماء في الفرش على قولين لا ثالث لهما: أحدهما،

(1) وفي (خ): ما
(2) الحج: 36.
244

أن يكون المراد به صغار الإبل، لأنهم يسمون صغارها: فرشا.
والاخر، أن يكون اسم الفرش على ظاهره، فيكون المراد ما ينسج
من أصوافها وأوبارها، ويفترش ويمتهد، والدليل على ذلك قوله
تعالى: (ومن أصوافها وأوبارها أثاثا ومتاعا إلى حين) [1]،
وروي أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام سئل عن الحين المراد ههنا،
فقال: (إلى حين بلائها وتهافتها). وهذا من حسن القول. ولو
ذهبنا إلى ذكر نظائر ما أوردناه عن أبي مسلم لا تسع نطاق القول، ولعلنا
نشير إلى ذلك إذا جاء في مواضعه مستأنفا بتوفيق الله تعالى.
فصل
الجنة والنار مخلوقتان أم تخلقان؟
في ذكر الجنة والنار، هل هما مخلوقتان الآن أم تخلقان بعد فناء العباد.
وقد اختلف العلماء في ذلك [2]: فمنهم من قال: هما الآن مخلوقتان
وقال بعضهم: إن الجنة خاصة مخلوقة، والصحيح انهما تخلقان بعد.

(1) النمل: 80.
(2) الخلاف في خلق الجنة والنار الآن أو
انهما يخلقان يوم الجزاء مأثور عن قدماء المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، فقد ذهب
الأشاعرة وأبو علي الجبائي وبشر بن المعتمر وأبو الحسن البصري إلى انهما مخلوقتان
وهو مذهب أكثر علماء الإمامية، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك كعباد الضمري
وضرار بن عمر وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، واليه مال الشريف المرتضى
طاب ثراه كأخيه هنا.
245

ومما [1] يستدل به على ذلك قوله تعالى في وصف الجنة: (أكلها
دائم وظلها...) [2]، وقد دل الدليل على أن كل مخلوق الآن
لابد أن يفنى، وإذا لاقحنا بين هذين الدليلين، كان نتاجهما أن
الجنة والنار غير مخلوقتين، ألا ترى إلى قوله تعالى: (يوم نطوي
السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده
وعدا... الآية)! [3] فإذا انقضت بنية السماء وطويت كطي
الكتاب، وجب أن ينتقض أيضا بنية ما يتصل بها، ويكون مستقرا
عليها، وقد ثبت أن الجنة تخلق (في 4) السماء أو عليها، وتكون
السماء مكانا لها أو عمادا تحتها، وقد وصفها الله تعالى كما ذكرنا بدوام
الأكل وبقاء الظل، فلو كانت الآن مخلوقة في السماء لا نطوت لانطوائها
وانتقض بناؤها بانتقاض بنائها.
فأما ما ذكره الله تعالى من أن آدم (ع) كان في الجنة، فاهبط منها
إلى الأرض، وما جاءت به الاخبار من أن الأنبياء ينقلون إلى الجنان
وينعمون إلى حين فناء العباد، فهو غير قادح فيما ذكرناه، لان المراد
بهذه الجنان غير جنة الخلد التي هي قرار المآب وجنة الثواب، والجنة
في أصل اللغة يعبر بها عن الرياض والمنابت والأشجار والحدائق
والكروم المعروشة والنخيل المتهدلة، وعلى هذا قوله تعالى: (ولولا
إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله...) [5]، أراد تعالى الحديقة

(1) وفي (خ): ما.
(2) الرعد 35
(3) الأنبياء: 104
(4) وفي (خ): من
(5) الكهف: 39.
246

وما في معناها، ولا يمتنع كون مثل هذه الأماكن في السماء وتكون
موضعا للملائكة ولكثير من الأنبياء عليهم السلام، ويكون خلق
جنة الخلد والنار بعد انقضاء التكليف واستحقاق الثواب والعقاب،
فيكون النعيم دائما غير منقطع، والعذاب متصلا غير منفصل، من
غير أن يتوسط خلقهما وبقاءهما نقض داريهما، ثم اعادتهما، وإبطال
محليهما، ثم استئنافهما.
فاما الاخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وآله في صعوده إلى السماء، ودخوله
الجنة وما شاهد فيها من الأشجار والثمار، حتى وصف نبقها بأنه كالقلال
وقول (ع): (دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها البله)، وما حكي
عنه (ع) من اجتماعه مع بعض الأنبياء فيها، إلى غير ذلك مما يطول
ذكره - فهي أخبار آحاد ولا يعتمد عليها في هذا الباب، وليس طريقها
العلم، وإنما يجب أن يعمل في ذلك على القطع والتحقق، كالدلالة التي
ذكرناها، ولو ثبت ذلك وصح نقله، لم يمتنع أن يكون المراد به بعض الجنان
التي ذكرنا أنها من مواضع الملائكة والأنبياء، لا جنة الخلد والثواب.
فأما قوله صلى الله عليه وآله: (دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها البله)، فيحتمل
وجهين من التأويل: أحدهما، أن يكون (ع) قال ذلك وأراد به
الدخول في المستقبل، وإنما عبر عنه بعبارة الكائن الواقع لقوة علمه
بأن ذلك سيكون في المستأنف، كما قيل - في قوله تعالى: (ونادى
أصحاب النار أصحاب الجنة...) (1) -: إن ذلك لصحته وتحقق

(1) الأعراف: 50
247

وقوعه كأنه قد كان، فعبر عنه بعبارة الكائن الواقع. والوجه الآخر،
أن يكون أراد (ع) بذلك أنني تصورت بعلمي ورأيت بعين قلبي الجنة،
فرأيت أكثر من فيها تلك صفتهم، فجعل يقينه لما يحدث عنه لتحققه
له كالشئ الذي شاهده وباشره، لما قوي في علمه أن الامر يكون كذلك
لا محالة.
ومعنى البله ههنا الغافلون عن أذى الناس والاضرار بهم، لا الناقصو
العقول، كما يظن بعض الناس، وليس ذلك من صفات الذم، ولكنه
من صفات المدح، وعلى ذلك قول الشاعر:
بعد غداني الشباب الأبله [1]
اي: الغافل صاحبه عن مواقع الهموم، وطوارق الخطوب، فقد وضع
البله ههنا موضع الثناء والمدح، لا موضع العيب والذم.
فان قال قائل: كيف رغب تعالى المكلفين في ذكر جنة ما خلقها،
ولا أوجد جملتها. قيل: إن ذلك جائز سائغ لان خلق الجنة مقدور له
تعالى، وهو متمكن منه، وقادر عليه، فمتى شاء أو جدها غير
متعذر عليه إيجادها، ولا صعب قيادها، كما رغبهم تعالى في ثواب لم
يوجده بعد، وحسن ذلك، لان وعده صادق وأمره واقع، وعلى
أنه لولا السمع الوارد والدليل الواضح اللذين أشرنا إليهما، لكان
يصح خلقه تعالى جنة الخلد قبل انقطاع التكليف، ولكن السمع منع
من ذلك، وفي ما ذكرناه من الكلام على هذه المسألة كاف بتوفيق
الله تعالى.

(1) تقدم صفحة 191
248

27 - مسألة
(معنى رؤية الموت)
في الآية ثلاث مسائل الأولى في رؤية الموت - نسبة الرؤية إلى أسباب
الموت - كيف صدق إبراهيم الرؤيا وهو لم يذبح ولده! - آية (إذا
حضر أحدكم الموت...) تفسير الرؤية بالعلم.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت
من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون - 143)،
فقال: ما معنى رؤية الموت ههنا وليس الموت مما يرى بالأعين، ويثبت
بالتأمل والتبيين.
فالجواب: أن هذه الآية تشتمل على ثلاث مسائل: إحداها،
التي ذكرها السائل. والثانية، أن يقال: كيف قال تعالى: (فقد
رأيتموه وأنتم تنظرون)! والرؤية تكفي من النظر، فاذن لا فائدة
في ذكر النظر بعد ذكر الرؤية. الثالثة، أن يقال: إن تمني
المسلمين الموت ههنا معناه القتل في الجهاد، فكان تمنيهم لذلك هو تمن
لان يقتلهم المشركون، ويتمكن منهم الكافرون، وقتلهم لهم كفر،
فكيف جاز للمؤمنين أن يتمنوا الكفر!.
والجواب عن المسألة الأولى: أن يقال: رؤية الموت ههنا
249

يراد بها رؤية أسباب الموت، لا الموت نفسه، وأسباب الموت يصح
عليها الرؤية: مثل الطعن بالرماح، والضرب بالصفاح، والرشق
بالسهام، والقذف بالسلام [1]، وكل ذلك يصح أن يرى ويشاهد،
ألا ترى إلى قول القائل - إذا لقي أمرا صعبا تعظم مشقته وتصعب
خطته -: (قد رأيت الموت عيانا)! يريد أنه باشر أسباب الموت
هولا وشدة وكربا وضغطة، وهذا معروف في كلامهم، وعلى ذلك
قول الشاعر:
ومحلما يمشون تحت لوائهم * والموت تحت لواء آل محلم
يريد أسبابا الموت وعلاماته، وعلى ذلك قول كثير:
إذا أخذوا أدراعهم وتسربلوا * مقلص مسروداتها ومذالها [2]
رأيت المنايا شارعات فلا تكن * لها سننا قصدا وخل مجالها
أراد: رأيت أسباب المنايا: من بطل دارع، وسيف قاطع، وفرس
مسوم [3]، وذابل مقوم.
ومثل ذلك جوابنا عن قصة إبراهيم في ذبح ولده إسماعيل عليهما السلام،
إذا قال القائل: كيف قال إبراهيم لابنه: (إني أرى في المنام أني
أذبحك... إلى قوله تعالى: فلما أسلما وتله للجبين ونادينا أن يا إبراهيم
قد صدقت الرؤيا) [4]؟ فهل يكون مصدقا للرؤيا ولم يذبحه!. فنقول:

(1) السلام: جمع سلمة وهي الحجارة الصلبة.
(2) المقلص: المجتمع، والمذال: ضده. والدرع المسرودة: المنسوخة.
(3) اي عليه ستومة بالضم وهي: العلامة ونيسوم أيضا: المرسل.
(4) تقدمت صفحة 171
250

إن المراد بذلك أن يفعل أسباب الذبح لا الذبح نفسه، كالاضجاع على الأرض،
وأخذ المدية، والربط، وما في معنى ذلك، فيكون بسبيل الذابح،
لان من عادتهم أن يسموا سبب الشئ باسمه، على الوجه الذي قدمنا ذكره.
ومما يقوي ذلك: (أن المراد بالذبح ههنا ما ذكرناه) قوله:
(اني أذبحك)، ولم يقل: اني ذبحتك، لان قوله: (اني أذبحك)
يصلح للحال والاستقبال، حتى تدخل السين أو سوف عليه، فتخصصه
للاستقبال، فيكون المعنى أني عازم على ذبحك وآخذ فيه ومريد له، بتعاطي
الأسباب التي ذكرناها، فصح حينئذ أن يقول سبحانه - وإن لم يحقق
إبراهيم الذبح -: (قد صدقت الرؤيا)، ولو قال: إني أرى أني
ذبحتك، لم يكن مصدقا لذلك، حتى يوقع الذبح نفسه، فافهم الفصل
بين الامرين فإنه واضح بين وجلي نير!.
ومثل ذلك قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم
الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين...) [1]،
وإنما أراد به تعالى: إذا حضرتكم أسباب الموت، ورأيتم أماراته،
وأحسستم بمقدماته، لان المراد لو كان الموت نفسه لاستحال ان يقدر
الانسان على الوصية، كما يستحيل من الميت الأمر والنهي والقول والفعل.
وقال بعضهم: يجوز أن يكون المراد بقوله: (فقد رأيتموه) أي:
علمتموه، كقول القائل: رأيت فلانا عاقلا، ورأيت فلانا جاهلا،
أي: علمته على هذه الصفة، وقد يقول الأعمى: رأيت زيدا قويا

(1) البقرة: 180
251

جليدا، وعمرا واهنا ضعيفا، أي: علمتهما كذلك، فكأنه تعالى
أراد: انكم علمتم الموت بالمواجهة والعيان، لا بالخير والسماع.
وقال بعضهم: معنى ذلك: أنكم كنتم تمنون القتال ولقاء العدو،
وذلك سبب الموت، فقد رأيتموه بأعينكم (وأنتم تنظرون) أي: تنتظرون
ذلك، ومما يقوي أن قوله تعالى: (تنظرون) ههنا بمعنى تنتظرون،
ذكره التمني في أول الكلام، والتمني هو الترجي للشئ، ومع الترجي
يكون الانتظار في الأكثر.
فصل
(الفرق بين النظر والرؤية)
والجواب عن المسألة الثانية (وهي قول السائل. إذا كان النظر بمعنى
الرؤية، فما معنى تكرير اللفظ!): أن يقال: لسنا نسلم أن النظر
معناه معنى الرؤية، فيكون اللفظ مكررا، بل النظر عندنا غير الرؤية
وهو يقع على وجوه:
أحدها، ما قدمنا ذكره من كونه بمعنى الانتظار: و (النظر):
التفكر في الأدلة، ومنه قولهم: فلان من أهل النظر. و (النظر):
التدبر والتأمل، ومنه قوله تعالى (انظر كيف ضربوا لك
الأمثال..) [1] أي تأمل ذلك، وقد يتعدى هذا بالجار وهو

(1) الأسرى: 48، والفرقان: 9
252

قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) [1]،
والمراد به الحض على التأمل والتدبر. و (النظر): تقليب الحدقة
الصحيحة في جهة المرئي التماسا لرؤيته، وهو المراد في هذا الموضع، وكل
راء ناظر، وليس كل ناظر رائيا، فكان حقيقته الطلب، لان الناظر
يطلب الرؤية، والمفكر يطلب المعرفة، والناظر - بمعنى المنتظر -
يطلب الشئ الذي ينتظره، ويعلق خوفه أو رجاه به. وأنشدنا شيخنا
أبو الفتح عثمان بن جني عن أبي علي الفارسي قول ذي الرمة:
فيامي هل يجزي بكائي بمثله * مرارا وأنفاسي إليك الزوافر
واني متى أشرف من الجانب الذي * به أنت من بين الجوانب ناظر
قال: وكان يستشهد بهذا الشعر على أن الرؤية غير النظر،
ويقول: لو كان النظر بمعنى الرؤية لم يطلب الشاعر عليه الجزاء، لان
المحب لا يستثيب [2] على النظر إلى محبوبه ثوابا، ولا يستجزي عليه
جزاء، إذا كان ذلك مراده ومناه وقصده ومغزاه، ألا ترى أنهم يتمنون
رؤية أحبابهم ومسارقة النظر إلى أشجانهم [3]، ويشتاقون ذلك في
أسجاعهم واشعارهم، لان فيه قضاء إربهم وبلال غللهم، وإنما
يعبرون في اشعارهم بالنظر عن الرؤية، لأنه سببها ومقدمتها والرائد
المطرق لها [4]، الا فالرؤية مقصدهم، واليها مرمى غرضهم،

(1) الغاشية: 17.
(2) اي: لا يطلب الثواب وكذلك أراد بيستجزي: يطلب الجزاء.
(3) جمع شجن (بفتحتين) والمراد به: الحبيب
وفي (خ): أشباحهم.
(4) طرق له: جعل له طريقا.
253

وذلك ألذ شئ عندهم، وأجل موقعا من قلوبهم، ومثل ذلك لا يطلب
المحب ثوابا عليه وجزاء به، وإنما يطلب ذلك على ما عليه فيه مشقة
وكلفة، كالتلفت إلى الأظعان، وتكرير النظر إلى الديار، واستقطار
الدمع في الرسوم والآثار، ألا ترى إلى قول الشاعر:
ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة * إلا وذكرك يثني دائبا عنقي
وقول الآخر: [1]
تلفت نحو الحي حتى وجدتني * وجعت من الاعياء ليتا وأخدعا
والاشعار في ذلك أكثر من أن تستوعب وتستوفي، فإذا وضح ما
ذكرناه كان قول ذي الرمة مشيرا إلى هذا المعنى، فيكون طلبه الجزاء
والثواب من محبوبه إنما هو على المشقة التي عليه في بكائه، وتصاعد
أنفاسه، ومتابعة النظرات إلى الجانب الذي به أحبابه وفيه أشجانه،
من غير أن يكون هناك رؤية يلتذ بها، أو لقية يستروح إليها.
وفي هذا الشعر أيضا دليل على بعد دار من يهواه من داره، لقوله:
(واني متى أشرف من الجانب الذي * به أنت...)، ولا يكون اشراف
البقاع في الأكثر إلا لتطلب رؤية مرمى سحيق، ومسقط حي بعيد، وذلك
أيضا أعظم مشقة على الناظر، وأصعب كلفة على الطالب، وهو أجدر لمشقته
بأن يطلب عليه الثواب ويلتمس به الجزاء. فأما قول الشاعر [2]:
فلما بدا حوران والآل دونه * نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا

(1) الصمة بن عبد الله. الليت صفحة العنق والأخدع عرق فيها و (الاعياء)
في ديوان الحماسة بدلها (الاصغاء).
(2) امرؤ القيس. وفي رواية
(بدت) و (دونها) وحوران: جبل مشهور بالشام.
254

فليس بدليل لهم على أن الرؤية هي النظر لان النظر لو كان بمعنى الرؤية
لكان في قوله: (نظرت) دليل على أنه قد رأى، وكان قوله
بعد ذلك: (فلم تنظر بعينيك منظرا) مناقضه، ولكن قوله:
(نظرت) الأول خارج على حقيقته، وهو تقليب الحدقة في جهة المرئي
طلبا لرؤيته، وقوله: (فلم تنظر بعينيك منظرا) يحتمل وجهين:
أحدهما، أن يكون سمى الرؤية نظرا على طريق المجاز والاتساع، ولان
النظر سببها وطريقها، فجاز أن تسمى باسمه، ولذلك نظائر كثيرة قد أشرنا
إليها في عدة مواضع من هذا الكتاب. والوجه الآخر، أن يكون
مخرج النظر على حقيقته أيضا، وأراد أنك قلبت طرفك فتعذر عليك تقليبه
في جهة [1] المرئي، لغلبة الدمع على عينيك، فلم يصح لك النظر
المفضي إلى الرؤية، وهذا على مثل قول الآخر [2]:
نظرت كأني من وراء زجاجة * إلى الدار من أعلام مية ناظر
وقال بعضهم: معنى (فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) أن ذلك كان
قريبا منكم وبمرئى من عيونكم، لان النظر فيه معنى المقاربة، وكأنه
تعالى قال: (فقد رأيتموه وأنتم تقربون منه)، ومثل ذلك قولهم:
دور بني فلان تتناظر، أي تتقابل وتتقارب، وهذا مذهب المبرد في
هذه الآية.
وقال الأخفش: النظر ههنا بمعنى الرؤية، وأنما كرره تعالى
توكيدا وتشديدا. قال: وذلك كقوله تعالى: (فإنها لا تعمى

(1) وفي (خ): وجه.
(2) ينسب لأبي حية.
255

الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [1]، وقد
علم أن القلب لا يكون إلا في الصدر، وإنما بين تعالى هذا البيان
على طريق التوكيد، وذلك كما يقول القائل: رأيته بعيني، وسمعته
بأذني، لئلا يتوهم ذلك رؤية القلب وسمع العلم.
وقال بعضهم: معنى ذلك فقد رأيتموه وأنتم بصراء، لان الضرير قد
يقول رأيت الشئ بمعنى علمته، فلما كانت الرؤية بمعنى العلم وبمعنى العيان
ثم قال تعالى: (فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)، على أنها رؤية العيان.
وقال بعضهم: معنى (وأنتم تنظرون) أي: تتأملون الحال في
ذلك الامر على حقيقتها، أي هي رؤية تثبت وتأمل، لا رؤية
شك وتخييل.
فصل
(تمني الموت بالقتل في الجهاد تمن للكفر)
فأما الجواب عن السؤال الثالث في هذه المسألة (وهو قول القائل:
كيف تمنى المؤمنون الموت، ومعناه ههنا القتل في الجهاد، وقتل الكفار
لهم كفر، فكأنهم تمنوا الكفر)، فهو أن يقال: إن المؤمنين
لم يتمنوا ان يقتلهم الكفار، وإنما تمنوا الموت، والموت غير القتل،
لان الموت فعل الله تعالى لا يقدر عليه غيره، والقتل فعل القاتل،
وهو نقض البنية [2] التي تحتاج الحياة إليها، وقد اجرى الله تعالى

(1) الحج: 46.
(2) وفي (خ): الهيئة.
256

العادة بأنه يفعل الموت عند فقدها ونقضها، ولذلك جاز تمنيهم أن
يميتهم الله تعالى في الجهاد، وذلك حسن، وإنما كان قبيحا لو تمنوا
أن يقتلهم الكفار، لان ذلك في حكم تمني الكفر، فقبح من هذا الوجه،
ولا يجوز للمؤمن أن يتمنى الكفر أو يريده أو يرضى به، كما أن رجلا لو
تمنى ما فعله المشركون بالنبي صلى الله عليه وآله: من إدماء صفحته وكسر رباعيته،
لكان مقدما على عظيم.
وإنما تمنوا الموت الذي هو من فعل الله تعالى، لكي يموتوا في
الجهاد، فيكونوا إلى رضوان الله أقرب وبثوابه أسعد، وهذا تحريض
للمؤمنين على الجهاد، وايسار لهم على الأعادي.
وكان سبب نزول هذه الآية أن قوما من أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله - ممن لم يشهد بدرا - كانوا يتمنون يوما مثل يوم بدر يستدركون فيه
ما فاتهم، من شرف المسعاة، وفضل الشهادة المبتغاة، فلما استنهضوا
للجهاد في يوم أحد نكص بعضهم وفر بعضهم، فعاتبهم الله سبحانه على
ذلك، وأثنى على الصابرين منهم والقائمين بجهاد عدوهم.
وقال بعضهم: إنما تمنى القوم مقدمات القتل، لا نفس القتل، لان
القتل لا يجوز تمنيهم له على ما تقدم القول فيه، وكأنهم أنما تمنوا الأحوال
التي تبلغ في عظم المشقة والخطر وشدة الخوف والوجل، إلى حال القتل
ومعاينته، دون وقوع كنهه وحقيقته. وفي ما ذكرناه من الكلام
على السؤالات الثلاثة مقنع بتوفيق الله تعالى.
257

28 - مسألة
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها)
الجواب عن الشبهة في الآية - الآية مخصوصة ومعناها التبعيض -
رجوع هاء التأنيث إلى الثواب - لا تنافي بين ثوابي الدنيا والآخرة -
نكتة قرآنية - تعلق بعضهم بآية (كلوا واشربوا)
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (ومن يرد ثواب الدنيا
نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي
الشاكرين - 145)، فقال: كيف أطلق تعالى هذا القول على
العموم، ونحن نرى كثيرا ممن يريد ثواب الدنيا ويتمناه ويقرع الأبواب
توصلا إليه وحرصا عليه، فلا ينال منه نصيبا ولا يبلغ منه مأمولا!
فالجواب: أن في ذلك أقوالا:
1 - أحدها، أن يكون المعنى أن من أراد ثواب الدنيا منفردا
عن ثواب الآخرة آتيناه ما اراده أو بعضه، وحرمناه ثواب الآخرة الذي
هو الدائم الباقي، والخالص الصافي، والمراد بثواب الدنيا ههنا منافع
الدنيا ولذاتها، وإنما سميت ثوابا على طريق المجاز وتشبيها بالثواب،
لما كانت في حكم المستحق عند أمور جعلت أسبابا لذلك.
258

وتلخيص ما ذكرناه: أن من أقبل على الدنيا بوجهه ونأى عن
الآخرة بعطفه وكدح للدنيا جاهدا ولم يعمل للآخرة صالحا، جاز أن
تقول فيه: إنه يريد عاجل الدنيا ومنافعها دون نعيم الآخرة ومنازلها،
لا أنه أراد الدنيا على قصد، ولم يرد ثواب الآخرة على عمد، بل لو جمع
له الأمران لكان أحب إليه وأجل موقعا عنده، ولكنه لما تشاغل
بعمل الدنيا دون عمل الآخرة ساغ أن نصفه - على طريق الاتساع - بأنه
يريد عاجل الدنيا دون آجل الآخرة، وهذا كقوله تعالى: (من كان
يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم
يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها
سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) [1]،
وكقوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب
الدنيا والآخرة...) [2]، فظاهر ذلك يدل على أن من أراد ثواب الدنيا
أي منافعها فقط، بعمل يعمله وجهاد يمارسه، لا نصيب له في الآخرة،
وإنما يفوز بثواب الآخرة من جعل عمله خالصا طلبا للزلفة لديه
والقربة إليه.
2 - وقال أبو علي: معنى ذلك: من أراد بجهاده الغنيمة نؤته
منها، ومن أراد ثواب الآخرة وهو النعيم الدائم نؤته منه، وجعل
سبحانه ذلك ترغيبا في طلب ثواب الآخرة وتزهيدا في طلب نعيم
الدنيا. قال: وذلك لطف في المحافظة على الجهاد، لان من قصد

(1) الأسرى: 18، 19.
(2) النساء: 134.
259

بجهاده طلب نعيم الآخرة لم يزل مقدما على الأعداء، صابرا على اللاواء،
ومن كان مراده الغنيمة العاجلة ضعف صبره، ولم يؤمن فشله، وكان
ثباته قليلا، فشله مدخولا.
3 - وقال أبو القاسم البلخي: يجوز أن يكون ذلك خالصا في
المنافقين يوم أحد، فخبر سبحانه أنه ينيلهم بعض ما يريدونه من عرض
الدنيا، امتحانا لهم لا رضا عنهم، ومما يقوي أن ذلك مخصوص أنا
نرى كثيرا من الكفار يريدون عرض الدنيا، ولا ينالونه، ويريدون
منها الكثير فينالون القليل، فدل ذلك على كونه مخصوصا. ويحتمل
أيضا - لما قال سبحانه: (نؤته منها)، ولم يقل نؤته إياها - أن
يكون المراد بذلك إيتاء القليل والبعض، لا إيتاء الكثير والكل،
لان (من) للتبعيض ههنا، وقل أحد إلا وقد أوتي من منافع الدنيا
شيئا: كثر أو قل، ودق أو جل.
وليس لقائل أن يقول: (فقد قال سبحانه: (ومن يرد ثواب
الآخرة نؤته منها)، وهذا أيضا يلزمكم أن يكون المؤتى قليلا)،
لان (من) إذا كانت ههنا للتبعيض، فهي دالة على الاعطاء
من الجنس المذكور، ويحتمل ذلك الكثرة والقلة، فيتميز ذلك باستحقاق
المعطى، فإن كان عمله جزيلا كان ثوابه جزيلا، وإن كان قليلا كان
قليلا، وعلى أنه لا بد من ذكر (من) ههنا للدلالة على التبعيض، لأنه
سبحانه على الحقيقة يعطي كل عامل على قدر عمله من ثواب الآخرة،
ولو لم يقل (نؤته منها) وقال: نؤته إياها، لا وهم أنه يؤتي من يريد
260

ثواب الآخرة (جميع ثوابها) [1]، وهذا غير صحيح.
والهاء في قوله تعالى: (نؤته منها) في الموضعين راجعة إلى الدنيا
والآخرة، وهي في المعنى راجعة إلى الثواب، لأنه معروف في كلام
العرب أن يقول القائل: اللهم ارزقني الآخرة، وهو يريد ثواب الآخرة،
فلما كان ذلك كذلك كان رجوع الهاء على الآخرة كرجوعها على ثواب
الآخرة، ألا ترى أنهم قد يؤنثون فعل الاسم المذكر متقدما عليه لأنه
مضاف إلى المؤنث، وقد جاء ذلك في اشعارهم كثيرا، فلئن يؤنثوا
الضمير الراجع إلى المؤنث الذي أضيف إليه المذكر متأخرا عنه، أحرى،
فمما أنثوا فيه فعل المذكر المضاف إلى المؤنث متأخرا عنه قول الشاعر:
مر الليالي أسرعت في نقضي [2]
وإنما ساغ له ذلك لان مر الليالي في الحقيقة من جملة الليالي، وهي
مؤنثة، فأنث الفعل حملا على المعنى، ومما أنثوا فيه فعل المذكر
المضاف إلى المؤنث متأخرا عنه (وهو أكثر من الباب الأول) قول
ذي الرمة [3]:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته * كما شرقت صدر القناة من الدم
وقول جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع

(1) وفي (خ): جميعها.
(2) تقدم هذا الشطر صفحة (121) فراجع.
(3) تقدم ص (122) منافي التعليقة ان هذا للأعشى، ولم نجده في ديوان ذي الرمة المطبوع.
261

4 - وقال بعضهم: معنى ذلك أن من طلب بعمله الدنيا أعطي
منها، وكل نعمة على العبد فهي تفضل من الله سبحانه، وعطاء منه،
ومن كان قصده بعمله الآخر آتاه الله منها مستحقه، وليس في هذا دليل
على أنه يحرمه خير الدنيا مع إعطائه من نعيم الآخرة، لأنه سبحانه لم
يقل: ومن يرد ثواب الآخرة لم نؤته إلا منها.
5 - وقال بعضهم: معنى ذلك ومن يرد ثواب الدنيا متعرضا له
بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر يجز بها في الدنيا من غير حظ في الآخرة،
لاحباط عمله بفسقه.
6 - وقال بعضهم: معنى ذلك أن من كان يقصد طلب الدنيا
فقد أعطاه الله من الدنيا ما إن طلب به ثواب الآخرة آتاه ذلك، وإن
لم يطلب ثواب الآخرة فقد أعطاه تعالى من الدنيا ما امتحنه به وابتلاه
فيه، وكل مكلف فقد أعطي من الدنيا حظا، إن صرفه إلى معاده
نال ما عند الله به، وإن لم يفعل ذلك فقد نال ما طلب من الدنيا،
وكان وبالا عليه.
وقال قاضي القضاة أبو الحسن: الأقرب في ذلك أن يكون
معناه: أن من أراد بجهاده طريقة الدنيا نؤته من الدنيا ما هو صلاح
له، لا أن المراد بذلك أن نفس ما يطلبه المرء بعينه يفعله الله تعالى به،
لان ذلك لا يكاد يتم: لا في الجهاد ولا في غيره، إذ كان قدر ما
يطلبه العبد من غنيمة أو غيرها لا يكاد يجده، حتى يصير مطلوبه وفقا
لمراده غير فاضل عنه ولا قاصر دونه، وهذه طريقة أبناء الدنيا فيما
262

يريدونه منها.
وقوله تعالى: (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) أي: من
نعيم الآخرة والثواب المعد لأهلها، وهذا أيضا لا يدل على أن كل
مطلوبه يناله لأنه لو طلب أزيد من مستحقه لم يكن لينال ذلك إلا قدرا ما
من التفضل.
فان قال قائل: فهل يتنافى حصول ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة؟
قيل له: إن ذلك لا يتنافى، لان من يريد الآخرة بجهاده قد تحصل
له الغنيمة في الدنيا، فيكون الله سبحانه جامعا له بين الامرين، ويدل على
ذلك قوله تعالى من بعد: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن
ثواب الآخرة والله يحب المحسنين)، فأما قوله تعالى: (من
كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد
حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) [1]،
فلا يعترض به على صحة اجتماع ثواب الآخرة ومنافع الدنيا لبعض العباد،
لان معنى هذه الآية أن من كان يريد حرث الدنيا غير عامل للآخرة نؤته
من الدنيا شيئا ونحرمه ثواب الآخرة، وما ذكرناه في ذلك أولا يدل
على أن من أراد الآخرة بجهاده يؤتيه الله سبحانه ثواب منها، ويرزقه
أيضا من فوائد الدنيا ومنافعها ما يكون فضلا على مراده ونيفا
على استحقاقه.
وقوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه)

(1) الشورى: 20
263

نظير قوله سبحانه: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه
له...) [1] وقوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر
أمثالها...) [2]، وإنما قال سبحانه ذلك، ترغيبا في العمل
للآخرة، إذا كان يضاعف الاستحقاق عليه ويتكفل في الزيادة فيه،
تعظيما لقدر ثواب الآخرة، ألا تراه تعالى كيف وصفه بالحسن ولم
يصف ثواب الدنيا بذلك! لان حاليهما مختلفان، فقال سبحانه:
(فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة)، وهذا من غوامض
القرآن فاستيقظ له!.
ومما ينظر إلى هذا المعنى ويرمي إلى هذا المغزى قوله تعالى لأهل الجنة:
(كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) [3]،
فأمرهم بالأكل والشرب مطلقا، من غير استثناء للاسراف فيه أو
الوقوف على حد لا يجوز التجاوز له، وقال لأهل الدنيا: (يا بني
آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا
تسرفوا... الآية) [4]، فاستثنى سبحانه عليهم الاسراف في
الأكل والشرب، علما منه تعالى بأن ذلك مفسدة لهم ومقطعة
عن عبادة ربهم، إلى كثير من مضار الاسراف العائدة عليهم، ولما
كانت هذه الأمور منتفية عن أهل الجنة أطلقهم سبحانه في الأكل
والشرب إطلاقا غير مقيد، وأمرهم به أمرا غير متعقب، وهذا

(1) البقرة: 245.
(2) الانعام: 160.
(3) الحاقة: 34.
(4) الأعراف: 31.
264

أيضا من خبايا القرآن وخفايا هذا الكلام.
وقد تعلق قوم بقوله تعالى لأهل الجنة: (كلوا واشربوا)،
وقالوا: هذا امر يدل على إرادة المباح، وليس ذلك من قولكم،
لأنكم تقولون: إنه سبحانه لا يريد من عباده إلا ما يستحقون به الثواب،
وإلا كانت الإرادة عبثا.
والجواب عما تعلقوا به من ذلك: أن وجه الفائدة في هذه الإرادة
المخرج لها عن أن تكون عبثا، أنه سبحانه إذا أراد من أهل
الجنة أن يأكلوا ويشربوا - وليست الحال حال تكليف - كسبهم ذلك
سرورا إذا علموه سبحانه مريدا لأكلهم وشربهم، فيكون مراده
تعالى حصول تلك المسرة لهم، فتخرج الإرادة حينئذ من كونها عبثا،
وذلك لا يتأتى في المباح. وفي ما ذكرناه من ذلك كاف بتوفيق الله.
265

29 - مسألة
(الانسان مختار في فعل ما كتب عليه؟)
الجواب عن شبهة الجبر في الآية - معنى كتب: علم - معنى
كتب: فرض، وإضافة المصدر إلى مفعوله - تسمية المنكح بالمضجع
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم
لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.. الآية - 154)،
فقال: فحوى هذا الكلام يدل على ضد ما تدعونه من أن الانسان قد
يمتنع من فعل ما كتب عليه وعلم منه، وهو قادر على ذلك غير
عاجز عنه!.
فالجواب: أن الذي ادعاه الخصم على مخالفيه غير صحيح عنهم،
ولا هو قول لأحدهم، وذلك أن أهل الحق لا يقولون: إن أحدا من
العباد يجوز أن يقع منه خلاف لما علم الله سبحانه أنه يفعله، ومع
ذلك فمن قولهم أن العباد وإن كانوا سيفعلون ما علم الله أنهم يفعلونه
لا محالة، فإنهم غير مضطرين ولا مقهورين، بل قادرون مختارون [1]،
وبعد، فليس في وقوع المعلوم من فعل الفاعل دليل على اضطراره

(1) لان الشئ كيفما يكون يعلم، لا كيفما يعلم يكون، فالعلم تابع
للمعلوم لا المعلوم تابع للعلم.
266

وعدم اختياره، لان المسلمين مجمعون على أن ما علم الله سبحانه أنه يفعله فهو
فاعل له لا محالة، وليس يوجب ذلك أن يكون مضطرا ولا مضطهدا، وإن
كان تعالى على ضد ما يعلم أنه يفعله قادرا، فقد بطل إذن ما ظنه السائل
من القدح في قوله سبحانه: (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم)،
ولم يمتنع أن يكون الذين برزوا إلى مضاجعهم مختارين غير مضطرين،
كما أن الله سبحانه مختار لإماتة عباده وبعثهم إلى معاده، وقادر على ضد
ذلك فيهم، وإن كان سبحانه لابد أن يفعل الفناء والإماتة والبعث
والإعادة، دون أضداد ذلك، وهذا مما لا يدفعه دافع ولا يجحده
جاحد.
وقال بعضهم: الخطاب في ذلك للمنافقين، فكأنه سبحانه قال:
لو أخلدتم إلى لزوم بيوتكم فلم تخرجوا إلى عدوكم ونصر نبيكم، لبرز
المؤمنون إلى نصره وترافدوا على منعه، ومعنى (برزوا) أي: خرجوا
إلى البراز، وهو: الضاحي [1] من الأرض، اي: لأوصلتهم [2]
الأسباب التي عنها يكون القتل إلى مضاجعهم.
فكان تلخيص الكلام أنه لو قعد عن القتال المنافقون، لخرج إليه
وقام به المؤمنون، ولم يرد تعالى بقوله: (كتب عليهم القتل) - على
هذا التأويل - معنى: فرض، وإنما أراد معنى: علم ذلك منهم،
أو سبق اثباته في اللوح المحفوظ قبل وقوع القتل بهم، كما قال تعالى:
(ستكتب شهادتهم ويسألون) [3]، وكما قال تعالى:

(1) الضاحي: البارز للشمس.
(2) وفي (خ): لا وصفتهم.
(3) الزخرف: 19.
267

(سنكتب ما قالوا..) [1] ومعنى هذا: سنثبت ما قالوا
لنجازيهم عليه، ولا وجه لتأول (كتب) على (فرض) ههنا
إلا على وجه سنذكره فيما بعد بمشيئة الله تعالى، ولم يرد تعالى بذلك
أن القتل الواقع بهم من قبله، لأنه لو كان من قبله لما جاز أن ينهى
فاعليه من الكفار عنه ويذمهم عليه ويرصد لهم العقاب على فعله.
وقد قيل في ذلك وجه آخر، وهو: أن يكون معنى (كتب
عليهم القتل) أي: فرض عليهم قتل الكافرين، فيكون القتل
واقعا منهم لا بهم، والمصادر - على ما ذكرناه في عدة مواضع من
كتابنا هذا - يجوز اضافتها [2] إلى الفاعلين دفعة، والى المفعولين
مرة، وإنما يتخصص بإحدى الجهتين عندما ينضاف إليها من القرائن،
ويتصل بها من الدلائل، وقد يجوز أن يكون القتل ههنا بمعنى القتال [3]،
فكأنه تعالى قال: (لبرز الذين كتب عليهم القتال)، وعلى
ذلك قراءة من قرأ: (فان قتلوكم فاقتلوهم) [4]، المراد: فان
قاتلوكم فاقتلوهم، على بعض التأويلات.
فان قال قائل: إذا كان الامر على ما ذكرتموه، فما معنى قوله
تعالى: (إلى مضاجعهم) فأضاف المضاجع إليهم! والمضاجع على

(1) آل عمران: 181.
(2) أراد: يجوز نسبتها، لا الإضافة باصطلاح النحاة.
(3) التعبير ب‍ (قد يجوز) يشعر بوهن هذا الاحتمال
ولعله لعدم ورود استعمال الفعل الثلاثي بمعنى الرباعي (وهو ههنا قتل بمعنى قاتل)
وان ورد العكس.
(4) هذه قراءة حمزة والكسائي، قيل: وهي
اتباع للمصحف، وقرأ الباقون بالألف محتجين بأن الألف يحذف في المصاحف
خطأ كما في الرحمن.
268

قولكم هذا إنما تكون لأعدائهم، لا لهم.
قيل له: في ذلك جوابان: (أحدهما)، أن الخبر جاء أن المنافقين
كانوا يثبطون المؤمنين عن الخروج يوم أحد، ويقولون: إنما تخرجون
إلى مضاجعكم ومساقط رءوسكم، تهييبا لهم وتجبينا لقلوبهم، فخاطبهم
الله تعالى على حد ما قالوا، فكأنه سبحانه قال: (لو كنتم في بيوتكم
لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى المواضع التي ذكرتم انها مضاجعهم
وظننتم أنها مصارع جنوبهم)، وهذا كقوله تعالى: (ذق إنك أنت
العزيز الكريم) [1] أي: إنك كنت في ظنك أوفي اعتقاد
اتباعك بمنزلة العزيز الكريم.
و (الوجه الآخر)، أن تكون المضاجع عائدة إلى الذين قتلوا، لا إلى
الذين قتلوا، ويكون في ذكره تعالى القتل الذي هو مصدر - وقد قدرنا
أنه واقع على المفعولين ههنا دون الفاعلين - دلالة على أن هناك مقتولين،
فحسن لذلك أن يقول: (إلى مضاجعهم) ويرد الضمير فيها إليهم. وهذا
قول لي، ولم يمض (بي 2) لاحد من العلماء.
والعرب تسمي المناكح: المضاجع، لان المضاجع من أسبابها، كما يسمون
النكاح: فراشا، والمرأة: فراشا على مثل ذلك، وقال الشاعر [3]:

(1) الدخان: 49.
(2) زيادة في (خ).
(3) وهو: يزيد بن الحكم الكلابي، والبيت من الحماسة، وقبله:
سمعنا الآباء شينا وكلنا * إلى حسب في قومه غير واضع
ومعنى البيتين: نظرنا فإذا نحن وأنتم سواء في شرف الآباء ولكننا أكرم
أمهات منكم.
269

ولما بلغنا الأمهات وجدتم * بني عمكم كانوا كرام المضاجع
أراد: كرام المناكح.
ومن شجون هذه المسألة ما ذكر عن أبي الأسود الدؤلي أنه قال
لامرأته: (الحمد لله الذي جعلك لي فراشا وكفى بالفراش ذلا)،
فقالت له: (الحمد لله الذي جعلك لي غطاء وكفى [1] بالوقاية مهانة).
وفي ما ذكرناه من الجواب عن هذه المسألة مقنع بتوفيق الله.
30 - مسألة
(الشيطان يخوف أولياءه)
الجواب عن شبهة تخويف الشيطان أولياءه - جواز أن يكون
المراد بالشيطان بعض الانس - المخوفون هم أولياء الشيطان
على الحقيقة - يراد بالشيطان الجنس
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف
أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين - 175)،
فقال: المعلوم أن الشيطان يخوف أعداءه لا أولياءه، فما معنى هذا
الكلام؟.

(1) وفي (خ): فكفى.
270

فالجواب: أن هذه الآية نزلت على سبب، كما جاءت به الرواية،
وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله ندب الناس ثاني يوم أحد إلى اتباع
المشركين، تقوية لقلوب أصحابه، وتجلدا على أعدائه، وكان بالمسلمين من
جوائح [1] الجراح ومواقع السلاح ما انتزع قواهم [2] وأثر في تماسكهم، حتى
كان بعضهم يحمل بعضا عند خروجهم في هذا الوجه، ضعفا عن الاستمرار
على المشي، والدوام على السعي، فلما ندب صلى الله عليه وآله الناس إلى الخروج قال
المنافقون للمؤمنين - على طريق التهييب لهم والمكر بهم -: قد رأيتم ما لقيتم
بالأمس من أعدائكم، وأنتم في باحات دياركم ومدارج أقدامكم، حتى لم يفلت
منكم إلا الشريد ولم ينج منكم إلا القليل، أفتصحرون لهم اليوم وقد
قل عددكم وضعف جلدكم وأسرع القتل في رجالكم!، فأوقع الشيطان
قول المنافقين في قلوب بعض المؤمنين، فأنزل الله سبحانه (إنما ذلكم
الشيطان يخوف أولياءه) والمراد يخوفكم من أوليائه الذين هم
المشركون، أو يخوفكم بكثرة عدتهم، وحدة شوكتهم.
وقد يجوز أن يكون المراد ههنا بالشيطان بعض الانس، لان
هذا الاسم يقع على الجني والانسي جميعا، قال سبحانه: (شياطين
الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض... الآية) [3].
ثم قال سبحانه: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) أراد تعالى:

(1): جمع جائحة، وهي: الهلكة أو لبلية، وفي (خ): جوائف
جمع جائفة وهي: الطعنة التي تبلغ الجوف.
(2) وفي (خ): ما أسرع في قواهم.
(3) الانعام: 112.
271

لا تستكينوا لقولهم ولا تقعدوا عن القتال لتخويفهم، أي لا تكن منكم
الامارات التي تدل على الخوف: من ظهور الفشل والاخلاد إلى العلل،
إذ كان سبحانه قد وعدكم النصر عليهم والظفر بهم، ولم يرد تعالى نهيهم،
عن الخوف الذي يرد على قلوبهم من قول المنافقين، لان ذلك مما
لا يمكنهم الامتناع منه في أول وهلة إلا بعد زوال الشبه ومراجعة القوى
والمنن، وإنما نهاهم تعالى عن إظهار شواهد الخوف ودلائل الروع
وذلك في طاقتهم، كما نقوله في النهي عن البكاء على الميت أنه متوجه
إلى النحيب والنشيج، لان الانسان متمكن من الامتناع من ذلك،
فأما إرسال الدموع فلن يستطيع الامتناع منه، لأنه فعل الله تعالى فيه.
فعلم ما ذكرنا من نزول هذه الآية على سبب، يكون (عليه 1)
تقدير الكلام: أن الشيطان يخوف المؤمنين بأوليائه الذين هم المشركون
فلما أسقط الباء وصل الفعل إلى الأولياء فنصبهم، وعلى ذلك قول
الشاعر:
وأيقنت التفرق يوم قالوا * تقسم مال أربد بالسهام
أراد: وأيقنت بالتفرق. أو يكون تقدير الكلام: إنما ذلكم
الشيطان يخوفكم أولياءه، فحذف المفعول الأول واكتفى بالثاني، كما
يقول القائل: فلان يعطي الأموال ويكسو الثياب، والمعنى يعطي الناس
الأموال ويكسوهم الثياب، فحذف ذلك لشهادة الحال به ودلالتها عليه،
وعلى ذلك قوله تعالى: (لينذر بأسا شديدا من لدنه...) [2]،

(1) في النسخ: (على) والظاهر أن الصحيح ما أثبتناه.
(2) الكهف: 2.
272

أي: لينذركم بأسا شديدا، فاقتصر على المفعول الثاني من المفعول
الأول، ومثله قوله تعالى: (لينذر يوم التلاق) [1] أي:
لينذركم ذلك اليوم.
والى هذا التأويل المذكور ذهب ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
وذهب كثير من العلماء المتقدمين، منهم الحسن، والسدي، وجماعة من
المتأخرين، منهم أبو مسلم بن بحر، وقاضي القضاة أبو الحسن، إلى:
ان قوله تعالى: (يخوف أولياءه) على ظاهره، وأن المخوفين هم أولياء
الشيطان على الحقيقة، ومعنى ذلك: أن الذين يكون خوفهم على
ختل الشيطان ووسوسته ومكره وخديعته، إنما هم المنافقون ومن لا حقيقة
لايمانه ولا عقدة ليقينه. واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى في سورة
النحل: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم
يتوكلون 99 إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به
مشركون 100).
وإنما جعلهم أولياءه من حيث ركنوا إلى وسوسته وانقادوا
لغوايته، ومن كان بهذه الصفة فهو ولي الشيطان، بمعنى تولي القبول
والركون، لا تولي العبادة والدين، والمؤمن مخالف لهذه الطريقة،
لأنه عند الخواطر السيئة من الشيطان ومن غيره يرجع إلى يقينه ويتوكل
على ربه. وفي ذلك دليل على أن وسوسة الشيطان لا تؤثر إلا فيمن
يقبل منه وينقاد له، ولو كان تأثيرها عاما لم يخص الله تعالى أولياءه

(1) المؤمن: 15
273

بالذكر، لان المعلوم من حاله أنه يخوف سائر من يتمكن من تخويفه،
ولكن أولياءه لما اختصوا بالقبول منه صار ذلك خاصا لهم، لان من
لا يتولاه إذا لم يقبل خديعته لم يسم خائفا منه.
فان قيل: فإذا كان المعنى على هذا التأويل المذكور خيرا، فما معنى
قوله تعالى: (فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين)؟، وإنما كان
ذلك خطابا مستقيما على التأويل الأول الذي معناه تخويف المؤمنين
من المشركين!
ففي ذلك جوابان: أحدهما، أن يكون قوله تعالى (فلا تخافوهم)
عائدا على القوم الذين بهم خوف الشيطان أولياءه وهم المشركون، لان
الشيطان إنما يخوف المنافقين والضعفة من المسلمين بشدة شوكة المشركين وكثرة
عددهم ووفور مددهم، ولا يكون مع هؤلاء القوم من قوة الدين واشتداد
معاقد اليقين ما يعتصمون به من كيده، وينفون به خواطر وسوسته،
بل يصغون إلى قوله ويضعفون في يده، ويكونون في ذلك بخلاف الصفة
التي يكون المؤمنون عليها، كما ذكرنا أمام كلامنا هذا، فيصح حينئذ
معنى قوله تعالى للمؤمنين: (فلا تخافوهم) إذا كان عائدا على المشركين.
والجواب: الآخر: أن يكون الشيطان ههنا بمعنى الجنس، أي:
لا تخافوا هذا القبيل من الجن، وهذا كقوله تعالى: (والعصر إن
الانسان لفي خسر)، ثم استثنى سبحانه الذين آمنوا من الجملة،
فقال: (إلا الذين آمنوا)، فدل على أن الانسان ههنا بمعنى الجمع.
فان قيل: فكان يجب أن يكون وجه الكلام على قولكم إنما
274

ذلكم [1] الشيطان يخوفون... أولياءه) على اللفظ [2]، ويقول:
(فلا تخافوهم) على المعنى، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وإنا
إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها) [3] ثم قال سبحانه:
(وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم)، فجاء بقوله (فرح بها)
على اللفظ، وبقوله (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم) على
المعنى، ثم رد تعالى آخر الآية على أولها، ليكون الطرفان شاهدين على
حقيقة المراد بالوسط، فقال سبحانه: (فإن الانسان كفور)
إعلاما لنا أن المراد بالإنسان ههنا الجمع. وهذا أيضا من المواضع العجيبة
الفصاحة، التي لا تبلغها البشر ولا تقوم بها القوى والقدر.
فأما قوله تعالى في عجز هذه الآية: (ان كنتم مؤمنين)، فيحتمل
معنيين: أحدهما، أن يكون المراد بذلك إن كنتم متمسكين بجملة
الايمان، آخذين به في السر والاعلان. والآخر، أن يكون المعنى
أن كنتم موقنين بنصرتي، مصدقين بألطافي ومعونتي. وفي ما ذكرناه
من هذه المسألة كاف بتوفيق الله تعالى.

(1) كذا في النسخ وصحيح العبارة وإنما أولئكم الشيطان.
(2) كذا في النسخ، وفي العبارة سقط ومعناه هكذا: (فجوابه
أنه يقول (يخوف أولياءه) على اللفظ الخ) فوضعنا الأصفار مكان الساقط.
(3) الشورى: 48.
275

31 - مسألة
(إنما نملي لهم ليزدادوا اثما)
ظاهر الآية ان الله يريد المعصية من الكفار - الجواب عن
ذلك - قاعدة رد المتشابه على المحكم - ورود اللام بمعنى العاقبة -
ورود الآية في الجهاد - خير معناها التفضيل - إضافة المنهي عنه
إلى الناهي - اللام والفاء يجريان مجرى واحد والرد على هذا
القول - قراءات الآية وما يترتب عليها.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما
نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم
عذاب مهين - 178)، فقال: فحوى هذا الكلام يدل على أنه
تعالى يريد الكفر من الكفار، لأنه سبحانه قد ذكر أن إن إملاءه لهم إنما
هو ليزدادوا إثما ويحتقبوا وزرا، وهذه اللام كاللام في قوله تعالى:
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [1]، فكما دل
بتلك على أنه تعالى يريد من الخلق طاعته، فكذلك يجب أن يدل بهذه
على أنه يريد من الكفار معصيته. وبين أيضا أن هذا الاملاء ليس
بخير لهم، وهو مقو لما ذكرناه، ونهاهم سبحانه أن يحسبوا ذلك

(1) الذاريات 56.
276

الاملاء خيرا لهم وسببا لمنفعتهم.
فالجواب: أن ما تقدم في كتابنا هذا مكررا ومرددا من
الأدلة على حكمة الله سبحانه وصفة عدله ونفي القبائح عن فعله، يغني عن
الجواب فيما تعلق به هذا السائل، إلا أننا نذكر بتوفيق الله تعالى
جملة من أقوال العلماء في تأويل هذه الآية ليكون ذلك أقطع للعلل وأنقع
للغلل بمشيئة الله، فنقول:
1 - إنا قد قدمنا في صدر هذا الكتاب - عند الكلام في أصول المحكم
والمتشابه - قاعدة يجب أن يقع البناء عليها، والرجوع إليها، وهي:
أن الآيات المتشابهات إذا وردت وجب ردها إلى الآيات المحكمات،
والآية التي نحن في الكلام عليها من المتشابه، وأصلها الذي يجب حملها
عليه هو الآية المحكمة التي عارضنا بها السائل، وهي قوله تعالى: (وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). وإنما [1] صارت هذه الآية من
المحكم الموافق لدلالة العقل، من أجل أن اللام في قوله تعالى: (ليعبدون)
دخلت على ما يصح أن يكون مرادا، وهو عبادة الجن والإنس،
وصارت الآية الأولة [2] من المتشابه المخالف لدلالة العقل لدخول اللام
في قوله تعالى (ليزدادوا إثما) على ما لا يصح أن يكون مرادا، وهو
زيادة الاثم، فاحتجنا حينئذ إلى حملها على الوجوه التي (تظاهر) [3]

(1) وفي (خ): ولما، وعليها يكون جواب الشرط قوله: (فاحتجنا...)
(2) تقدم الكلام في كلمة (الأولة) صفحة 83.
(3) في النسخ (نظائر) والظاهر أنها خطأ من النساخ، والأقرب ما أثبتناه.
277

أدلة العقل وقواعد العد ل. وهذا أصل من أصول الدين يجب العمل
عليه والوقف عنده.
وكيف يجوز أن يتوهم العاقل انه سبحانه أعطى الكفار الصحة
والسلامة والاملاء والإقامة، ليفتروا عليه ويكفروا به! وكيف يجوز
أن يسخط عليهم بفعل ما خلقهم من أجله وحاشهم [1] إلى فعله، على
قول الخصوم! أولا يستمعون إلى قوله تعالى: (إن الله يأمر
بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي...) [2]! والحكيم لا يأمر إلا بما يريده
ولا ينهى إلا عما يكرهه، لان أمره بالشئ يدل على حسنه، ونهيه عن
الشئ يكشف عن قبحه.
وبعد، فان ظاهر هذه الآية لا يدل على أنه تعالى أراد الكفر
منهم، وإنما يدل على أنه أراد العقوبة لهم، لان ظاهر الخطاب ينبئ عن
الجزاء لا عن نفس الفعل في العرف، ويؤيد ذلك ما يتصل به من قوله
تعالى: (ولهم عذاب مهين)، ونحن لا نمنع من أن يريد تعالى
عقوبتهم، وإنما نمنع من إرادته الكفر والمعاصي منهم، وهذه
اللام وإن كانت ترد في كلامهم بمعنى كي، فإنها ترد أيضا بمعنى المصير
والعاقبة، وليس حملها على الوجه الأول بأولى من حملها على الوجه
الثاني، لا سيما إذا انضمت إليها القرائن التي تخصصها به وتحيزها

(1) حاشهم: صرفهم.
(2) النحل: 90.
278

إليه، وقد قدمنا طرفا من الكلام على هذا المعنى في أول كتابنا هذا.
فما ورد في التنزيل مما يدل على دخول هذه اللام للعاقبة قوله تعالى:
(وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله...) [1]، والقوم على
الحقيقة إنما اتخذوا الآلهة ليقربوهم إلى الله سبحانه على زعمهم، وليعتمدوا
بذلك إصابة الحق في دينهم، فلما كان ذلك صائرا إلى الضلالة ومؤديا
إلى الخسار، جاز وصفهم بأنهم فعلوا ذلك للضلال، وقد تكرر ذكرنا
لما قيل في ذلك من الاشعار التي منها قول الشاعر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها * ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقول الآخر:
وللمنايا تربي كل مرضعة * وللخراب تجد الناس عمرانا
والناس يربون أولادهم لان يحيوا لا لان يموتوا، ولان ينجو الا لان
يعطبوا، ويبنون دورهم لان تعمر لا لان تخرب، ولان تبقى لا لان
نذهب، ويجمعون أموالهم لينتفعوا بها هم لا لينتفع بها غيرهم، وليبلغوا
بها آرابهم [2] لا ليحظى بها وراثهم، ولكن العواقب والمصائر لما
كانت تؤول إلى خراب الديار وتوريث الأموال وفقدان الأولاد، حسن
أن يقول الشاعر ما قال.
2 - وقيل: إن المراد بقوله تعالى: (إنما نملي لهم ليزدادوا
اثما) اخبار عن عاقبة امرهم ومصيره ومرجعه ومآله، وأنهم غير
منتفعين بما أعطوه من الاملاء والانظار لتمام الابتلاء والاختبار.

(1) إبراهيم: 30.
(2) اي: حاجاتهم.
279

3 - وقال بعضهم: إن المراد بذلك: (ولا يحسبن الذين كفروا
أن تبقيتهم إذا ضامها [1] الاصرار على الكفر تكون خيرا لهم)،
فكأنه تعالى نفى أن تكون التبقية مع شغلهم لها بالكفر خيرا لهم،
وإن كانت خيرا في نفسها، ولكنهم بما اختاروه من الارتكاس في
الغواية والاصرار على الضلالة أثروا بالتبقية، فأخرجوها عن صفتها
وعكسوها عن طريقتها [2]، فجعلوها شرا عليهم، وإن كان سبحانه
إنما أراد بها الخير لهم ليتوبوا ويقلعوا ويثيبوا ويرجعوا، فكانوا كما
قال تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا...) [3]،
وذلك كقول القائل لغيره - وقد منحه الأموال العظيمة والرغائب
الجسيمة، فصرف ذلك في المحارم والمعاصي -: (إن الذي منحتك
شر لك ووبال عليك)، لما صرفه في الوجوه العائدة عليه بذلك،
وإن كان المعطي منعما والمانح محسنا مجملا، فبين تعالى أن حال الكافرين
بما اختاروه في مدد أعمارهم، من التقاعد عن الجهاد والنكوص عن
الأعادي، ليست بخير لهم من حال المؤمنين الذين ثبتوا على الدفاع عن
دينهم وأصيبوا في سبيل ربهم، لان حال من أقعد عن الجهاد وثبط
عنه خلاف من ثبت عليه ورغب فيه. وما سبق من الآيات التي وردت
أمام هذه الآية تدل على أنها واردة في معنى الجهاد، فأراد سبحانه أن
يبين لنا أن بقاء الكافرين في الدنيا، وهو إملاء الله تعالى لهم ليس

(1) ضامها: جمعها إلى نفسه.
(2) وفي (خ): طريقها.
(3) إبراهيم: 28.
280

بخير لهم من أن يموتوا كما مات المؤمنون في القتال مع الرسول صلى الله عليه وآله
شهداء في يوم أحد، بل كان الموت خيرا لهم من الطاعة من البقاء
والاملاء مع المعصية.
4 - وقال بعضهم: معنى ذلك: ولا يحسبن الذين كفروا أن املاءنا
لهم رضا بأفعالهم، بل هو شر لهم، لأنا نملي لهم ويزدادون إثما،
فيستحقون به طويل العقاب وأليم العذاب، وكيف يجوز أن يكون
إملاء الله لهم ليزدادوا إثما، لا ليؤمنوا أو يهتدوا، على القول الذي ذهب
إليه من عشا عن نور الحق، وخبط في طريق الجهل، والرسول صلى الله عليه وآله
دائب يدعوهم إلى الايمان، وينهاهم عن العدوان، ويحوشهم إلى
المصالح، ويصدهم عن المفاسد، ويحاربهم على الزيغ عن الدين،
ويدلهم على الحق المبين، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا!
5 - وقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي
لهم بخير كان من أنفسهم استحقوه بفعلهم، أي: فلا يغتروا بذلك
فيظنوا انه لمنزلة لهم، لأنهم كانوا يقولون: لو لم يرد الله ما نحن
عليه لم يمهلنا، فإنه تعالى قال بل املاؤنا لهم بخير من قبلنا ونعمة من
عندنا، فازدادوا بالاملاء إثما وبالانظار كفرا. وفي هذا القول
اختلاف واضطراب.
6 - وقال أبو علي: ويدل على أن الله تعالى أراد بقوله:
(ولا يحسبن الذين كفروا أنا نملي لهم خير لأنفسهم) أي: لا
يحسبوا أن إملاءنا لهم خير من أن يموتوا كما مات المؤمنون في الحرب
281

والجهاد، ولم يرد تعالى بذلك أن هذا الاملاء ليس بخير جملة، وأنه
ضرر ولا نفع فيه بتة، لان معنى خير في قول القائل: هذا خير لزيد،
لا بد من أن يكون معناه في اللغة أنه خير لزيد من كذا، لان معناه
في العربية هو أفعل، وكذلك لو قيل: هذا شر لزيد، كان يجب
أن يكون شرا له من كذا، لان المراد به كالمراد بالأول، وإنما حذفت
همزة افعل منه على سبيل الاستخفاف اصطلاحا على غير قياس، ومعناهما
على الحقيقة إنما هو أنفع وأضر، فكما لا يجوز أن يقول القائل:
هذا أنفع لزيد، إلا والمراد به أنفع له من كذا، ولا هذا أضر
لزيد إلا والمراد به أضر له من كذا، فكذلك أراد تعالى أن الاملاء
ليس بخير لهم من أن يموتوا في الحرب شهداء، أي ليس بأنفع لهم من
ذلك، فكما لو قال تعالى: (ليس بأنفع لهم من أن يموتوا في الحرب)
لم يدل ذلك على أن الاملاء ليس بنفع، فكذلك لا يوجب ألا يكون
هذا الاملاء خيرا، كما لا يوجب ألا يكون نفعا، وإن كان ليس بخير مما
ذكرنا ولا أنفع، فإنه أيضا خير ونفع، لأنه من نعم الله عليهم
وإحسانه إليهم، وقد يجب عليهم أن يشكروا الله سبحانه عليه، والشكر
لا يجب إلا على نعمة، والنعمة لا بد من أن تكون خيرا ونفعا.
قال وإنما بين الله سبحانه بقوله: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) المعنى
الذي من أجله لم يكن الاملاء خيرا لهم من أن يموتوا، كما مات المؤمنون
في الحرب، وهوانهم يزدادون عند إملاء الله سبحانه لهم إثما، فلذلك
لم يكن الاملاء خيرا لهم من أن يموتوا في سبيل الله كما مات المؤمنون
282

واستشهد الصالحون، ولو كانوا عند الاملاء يؤمنون لكان الاملاء خيرا
لهم من أن يموتوا كما مات المؤمنون في الجهاد، لأنهم كانوا يزدادون
عند ذلك إيمانا، فيزدادون ثوابا.
7 - وقال بعضهم: إنما حسن إضافة الفعل في قوله تعالى:
(إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) إلى الله سبحانه، لما كان كفرهم وإثمهم
واقعين بعد تأخير الله لهم وتبقيته إياهم، وهو تعالى لم يبقهم ليأثموا ويكفروا
وإنما بقاهم ليؤمنوا وليتذكروا، كما قال سبحانه: (أو لم نعمركم
ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير..) [1]، إلا أن الكلام
خرج على عادة العرب في لسانها، ومن عادتها أن تضيف الفعل المنهي عنه
إلى الناهي إذا كان إبلاغه في النهي لا يزيل المنهي عما كان عليه، فيقول
القائل: ما زادتك موعظتي إلا شرا، وما ازددت بتبصيري لك إلا غيا.
8 - وقال بعضهم: إنه سبحانه لما أنعم عليهم ليشكروه وأحسن إليهم
ليطيعوه، فتمادوا وتتابعوا في ضلالهم فتركهم وما فعلوا، وخلى بينهم
وبين ما اختاروا، فلم يمنعهم من ذلك اجبارا، ولم يحل بينهم وبينه
اقتسارا - كان جائزا في اللغة أن يسمى ذلك الترك إملاء، ويقول: ليس
هذا الاملاء بخير لهم، وإنما هو ليزدادوا اثما، ويريد بذلك تعالى
أنه كلما أجراهم في المضمار، وأجرهم طول الانظار، ولم يعاجلهم بمستحق
العقاب، تمادوا غيا وازدادوا إثما. وهذا إخبار منه تعالى عن عواقب
الحال ومراجع الامر.

(1) فاطر: 37
283

ومثل ذلك في عرف كلام العرب أن رجلا لو قطعت يده في سرقة،
فقال قائل: ما دعا فلانا إلى هذا الفعل القبيح والامر الفظيع، لجاز
لقائل أن يقول: فعل ذلك لتقطع يده وليخزيه الله ويفضحه، وقد علمنا
أنه لم يسرق لتقطع يده في الحقيقة، وإنما سرق لينتفع لا ليستضر،
وليزداد لا لينتقص، فلما صار آخر أمره إلى قطع اليد، وآلت عاقبة
حاله إلى الفضيحة والخزي، جاز في عادة أهل اللغة أن يقال: إنما
سرق لتقطع يده وليفضحه الله وليخزيه.
9 - وقال بعضهم: فحوى هذه الآية تدل على أن تبقية المكلف
قد لا تكون خيرا له، إذا لم يشغلها بطاعة الله تعالى لان كون ذلك
خيرا يتعلق بأمرين: أحدهما، من قبله سبحانه بالتمكين والالطاف
وغيرهما. والآخر، من قبل العبد بالانقياد والقبول وما في معناهما،
فإذا لم يحصل ذلك من العبد جاز أن يقال: إن التبقية ليس بخير له.
10 - وقال بعضهم: هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله
عن خاصة من الكفار كان النبي صلى الله عليه وآله يرى أن تأخير إنزال العقوبة بهم،
ليتوب منهم تائب ويرجع راجع، فأخبره تعالى أنهم لا يتوبون ولا يرجعون،
لئلا يطمع في هذه الحال منهم وينتظرها من جهتهم، وأراد تعالى بقوله:
(ليزدادوا اثما) اي: ليزدادوا عداوة للنبي صلى الله عليه وآله واجلابا عليه
وارصادا له، وذلك أيضا راجع إلى معنى المصير والعاقبة.
11 - وقال بعضهم: معنى (ليزدادوا اثما) ههنا: فيزدادوا
اثما، والزيادة في الاثم من قبلهم، وليست موجبة عن الاملاء لهم.
284

قال: وهذه اللام المكسورة قد وردت بمعنى الفاء، ووردت الفاء
بمعناها في مواضع كثيرة من القرآن: فمن ذلك قوله تعالى: (ثم جعلناكم
خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) [1]،
وقال تعالى: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم
في الأرض فينظر كيف تعملون) [2]، فموضع اللام والفاء
يجريان مجرى واحد، ومن ذلك قوله تعالى: (إني أريد أن تبوء
بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار...) [3]. قال:
فتكون ههنا معناها لتكون.
وهذا القول غير مستقيم، لأن هذه اللام المكسورة لها موضعان قد ذكرناهما
قبل: أحدهما، أن ترد بمعنى كي، والاخر، أن ترد بمعنى العاقبة،
والفاء لا تستعمل في أحد هذين الموضعين، ولا تقوم فيه مقام اللام،
لأنه غير جائز أن يقول القائل: أعطيتك فتشكرني، بمعنى أعطيتك
لتشكرني، أي: كي تشكرني، كما لا يجوز أن يقول: (وما خلقت
الجن والإنس الا فيعبدون) ويريد به ليعبدون، ولا يجوز أن يقيم
الفاء مقام اللام إذا أردنا بها العاقبة، فبطل ما ظنه هذا القائل.
وبعد، فلو كان الامر على ما قدره كان موضع (فيزدادوا) رفعا،
وكان يجب أن يكون (فيزدادون اثما) لأنا إذا أقمنا اللام ههنا مقام
الفاء، سقط المعنى الناصب لها، وهو كونها بمعنى كي، فوجب أن

(1) يونس: 14.
(2) الأعراف: 129.
(3) المائدة: 29.
285

يكون موضعها رفعا، كما يقول القائل: إنما نعطيهم فتأخذون ونطعمهم
فيأكلون، أي: فهم يأخذون ويأكلون، ولا يجوز أن يقول: فيأخذوا
ويأكلوا، لان الاعطاء والاطعام ههنا ليسا بعلة الاخذ والأكل،
فافهم ذلك فإنه واضح.
12 - وقال بعضهم: (إنما نملي لهم ليزدادوا اثما) معنى
الاستفهام الذي هو من الله توبيخ أو تقرير، وكأنه سبحانه قال: (لا يحسبوا
أنما نملي لهم ليزدادوا اثما إنما نملي لهم لغير ذلك)، ويكون هذا الكلام
منقطعا من الكلام الأول مبتدأ مستأنفا بعده، وقد مضى في هذا
الكتاب ذكر شاهد من الشعر على جواز سقوط همزة الاستفهام وهي
مرادة، إلا أنه ليس حكم القرآن حكم الشعر على ما قدمنا، لان
الشعر يسوغ فيه ما لا يسوغ في القرآن، فلذلك كان هذا القول غير
سديد، لا سيما إذا قدرنا انفصال الكلام الثاني عن الكلام الأول،
فان الجمع بينهما حينئذ يكون كالمتناقض، لان الكلام الأول دل على
أن الاملاء ليس بخير لهم، وتقدير الكلام الثاني على أن موضعه استفهام،
وهو من الله تعالى ههنا توبيخ لهم على ظنهم أن الاملاء لهم إنما هو ليزدادوا
اثما فكأنه تعالى قال: لا يحسبوا أن املاءنا خير لهم، ثم قال:
وليس املاؤنا شرا عليهم، لأنه وبخهم على تقديرهم أن الاملاء لهم
ليزدادوا اثما وذلك شر لهم.
13 - وقال بعضهم: تقدير (إنما نملي لهم ليزدادوا اثما)
أن تكون ان مفصلة عن ما، ويكون المعنى النفي، فكأنه تعالى قال:
286

ما نملي لهم ليزدادوا إثما ويكون معنى إن ههنا معنى نعم واجل كقول
الشاعر [1]:
وتقول شيب قد علا.. ك وقد كبرت فقلت إنه
وكأنه قال تعالى: أجل ما نملي لهم ليزدادوا إثما. وهذا الوجه أيضا
مع تعسفه يقتضي التناقض كما قلنا في الوجه الأول.
14 - وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه
يوم أحد حين ظهروا عند أنفسهم على المؤمنين، فقال تعالى: (ولا
يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم) مع استظهارهم وقوتهم وعديدهم
وعدتهم (خير لأنفسهم) إن لم يراجعوا أو يتوبوا (إنما نملي لهم
ليزدادوا إثما) ما أقاموا على كفرهم ثم تكون عليهم الدائرة ولهم سوء العاقبة.
15 - وقال بعضهم: معناه كذلك أن حكم الله تعالى أن من
تمادى في رد أمره وأقام على كفره ازداد إثما، ومن تمسك بأمره
وانزجر بزجره كان فائزا غانما، وعلى ذلك قوله تعالى في صدر الآية،
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم) أي: إذا
تمسكوا بالكفر، فان ذلك الاملاء يكون وبالا عليهم وضررا لهم.
16 وقال بعضهم: هذا الكلام على التقديم والتأخير، والمعنى:
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا اثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم
وذلك كقوله تعالى: (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم

(1) هو عبد الله بن قيس الرقيات، ولقب بالرقيات لأنه شبب بنسوة
اسم كل واحدة منهن رقية ويروي: (ويقان..)
287

تول عنهم فانظر ماذا يرجعون) [1] والمراد: فانظر ماذا
يرجعون ثم تول عنهم، وكقوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون
ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ
وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين) [2]
والمراد: ولا تطرد الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين ما عليك من
حسابهم من شئ فتطردهم، فأخر (فتكون) وهو مقدم في المعنى،
وقدم (فتطرد) باللفظ وهو مؤخر في المعنى.
وقد ذكر هذا الوجه أبو جعفر الإسكافي من المتكلمين، وأبو الحسن
الأخفش من النحويين. وهذا القول لا يسوغ على قراءة من قرأ:
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم) بفتح الهمزة، لان التقدم والتأخر
لا يغير الكلام عما هو عليه فيما يستحقه الاعراب والبناء، كما أنك إذا
قلت: ضرب زيد عمرا، وكان زيد فاعلا كان مرفوعا في التقديم
والتأخير، وكان المفعول منصوبا كذلك، فلم يكن للتقديم والتأخير
تأثير فيما يجب من الاعراب للفاعل والمفعول، فلو كان الامر ههنا على ما
ذكر من التقديم والتأخير، لوجب أن تكون القراءة بفتح الهمزة في
إنما الثانية وكسرها في إنما الأولى، لان وقوع فعل لا يحسبن على
الثانية ههنا، فكأنه تعالى قال: (لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم
ليزدادوا إثما - بفتح الهمزة - إنما نملي لهم خير لأنفسهم - بكسرها -)،
وكان يجب أيضا أن يكون خير ههنا منصوبا مع كسرهم إنما، فلما لم يجز

(1) النمل 28.
(2) الانعام: 52.
288

في قراءة أحد فتح الهمزة في إنما الأخيرة، ولم يقرأها قارئ إلا بالكسر
علم أن فعل يحسبن لم يقع عليها وأنها مبتدأة، فلذلك لم نجز فيها
غير الكسر.
فأما إنما الأولى فقد قرئت بالفتح والكسر معا، فمن قرأ (لا تحسبن)
بالتاء - على اختلافهم في فتح السين والباء من تحسبن وكسرهما وليس
هذا موضع استقصاء ذلك - وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة من السبعة،
كان قوله تعالى: (الذين كفروا) على هذه القراءة في موضع نصب،
فإنه المفعول الأول، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول في
المعنى، فلا يجوز إذن فتح ان من قوله (إنما نملي لهم)، لان املاءهم
لا يكون إياهم. ومن قرأ (يحسبن) بالياء، وهي قراءة باقي السبعة،
فلا يجوز في قراءته كسر (ان) من قوله (إنما نملي لهم خير لأنفسهم)،
وقد جاء شاذا، وحكاه عن (أبي 1) مجاهد، ووجه ذلك أن إن
يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء، وتدخل كل واحد منهما على
المبتدأ والخبر، فكسرت [2] إن بعد يحسبن، وعلق عنها الحسبان،
كما يفعل ذلك مع اللام، فقال تعالى: (لا يحسبن الذين كفروا إنما)
بالكسر، كما يقال: لا يحسبن الذين كفروا للآخرة خير لهم.
وقال الزجاج: ذلك جائز على قبحه، ووجه جوازه أن الحسبان ليس بفعل
حقيقي، فعمله يبطل مع إن، كما يبطل مع اللام، تقول: حسبت لعبد الله
منطلق، ولذلك قد يجوز - على بعد - حسبت إن عبد الله منطلق.

(1) زيادة في (خ).
(2) وفي (خ): كسرت.
289

وقال الفراء: من قرأ (لا تحسبن) بالتاء وفتح الهمزة من (إنما
نملي لهم)، فإنه أراد التكرير، فكأنه قال: ولا تحسبنهم، لا تحسبن
أنما نملي لهم خير لأنفسهم، وذلك كقوله تعالى: (هل ينظرون
إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) [1]، على التكرير، وكأنه تعالى
قال: (فهل ينظرون (2) إلا الساعة هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة).
وفي ما ذكرناه من الكلام على هذه المسألة كفاية وبلاغ بتوفيق الله تعالى.

(1) الزخرف: 66
(2) وفي (خ): ينتظرون
290

السورة التي يذكر فيها النساء
1 - مسألة
(فانكحوا ما طاب لكم)
شبهة عدم الارتباط في الآية - الجواب عن ذلك - تجنب العرب
في صدر الاسلام مخالطة اليتامى - تفسير (ذلك أدنى الا تعولوا) -
مؤاخذات على الشافعي - دفاع البعض عنه ورده - باقي الأقوال في
الجواب عن شبهة الآية - الفرق بين اللائي واللاتي.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في
اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث
ورباع - 3)، فقال: ليس آخر هذا الكلام طبقا لأوله، لأنه تعالى
وصل خوفهم من الجور في أمر اليتامى بأمره إياهم أن ينكحوا هذا العدد
المخصوص من النساء، فلا يسوغ في الظاهر أن يكون الكلام الآخر
جوابا للكلام الأول.
فالجواب: أن هذا الكلام بحمد الله متسق النظام، سديد الانتظام وليس
على ما ظنه السائل من مباينة صدره لعجزه، وانفراج ما بين أوله وآخره، وذلك أنه
روي عن جدنا الباقر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام: أن العرب
291

كانوا في صدر الاسلام يتجنبون مخالطة اليتامى تحرجا فيهم وإشفاقا على
دينهم، فلا يأكلون لهم طعاما ولا يلبسون لهم ثوبا، حتى أن الرجل
منهم كان لا يستظل بجدار اليتيم احترازا لدينه واستظهارا ليقينه. وقيل: إن
ذلك إنما فعله المسلمون وأخذوا أنفسهم به لما أنزل سبحانه: (إن الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
وسيصلون سعيرا 10)، فتجنبوا حينئذ مخالطة اليتامى واستنكاح
النساء منهم، وعزل كل من كان يربي يتيما ويكفله، ذلك اليتيم في بيت
أفرده به، وأخدمه خادما منقطعا إليه، فشق على المسلمين عزلة اليتامى
وترك مخالطتهم وتجنب مطاعمتهم ومشاربتهم، فشكوا ذلك إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله، فنزلت: (وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى... الآية)
وقد تأول العلماء معناها بعد هذه المقدمة التي [1] قدمناها على وجهين:
أحدهما، أن يكون المراد بذلك فان كنتم تتحرجون من مخالطة اليتامى
مخافة ألا تقسطوا فيهم فتحرجوا من الجمع بين النساء من غير أن تعدلوا
بينهن، لأن النساء في حجور الأزواج، كما أن اليتامى في حجور الولاة،
فالجامع بين البابين الحجر، فقيل لهم: أقلوا من الجمع بين النساء لتتمكنوا
من العدل، بينهن، كما تحبون أن تعدلوا بين اليتامى، فانكحوا ما
طاب لكم منهن، فوصل النكاح بالخوف [2] لهذه العلة، وذلك أن أحدهم
كان يتزوج الجماعة من النساء، ثم لا يقسم منهن إلا لبعض دون بعض،

(1) في النسخ: (الذي) والصواب ما أثبتناه.
(2) اي وصلة الجزاء بالشرط.
292

وربما جار عليهن وفضل بعضهن في المآكل والمشارب والملابس
والمناكح [1] وحسن العشرة وإجمال الصحبة، فكأنه تعالى قال:
فان تحرجتم من أمر اليتامى فتحرجوا أيضا من امر النساء، فانكحوا
ما طاب لكم منهن، وذكر تعالى العدد المخصوص إلى أن انتهى إلى ذكر
الواحدة والى الاقتصار على ملك اليمين دون الحرائر والمهاير [2]، إذا
خاف الناكح ألا يفي بما يلزمه للنساء من توفية الحقوق والتسوية بينهن
في الأمور، ولذلك قال تعالى: (ذلك أدنى ألا تعولوا) أي:
أقرب ألا تميلوا إلى بعض دون بعض أو على بعض لبعض، والعول ههنا
الميل وعليه قول الشاعر [3]:
بميزان عدل لا يخيس شعيرة * ووزان صدق وزنه غير عائل
أراد: غير مائل.
والتأويل الآخر، أنهم كانوا إذا كفل الواحد منهم جماعة
من يتامى النساء تزوج منهن بالعدد الكثير رغبة فيما لهن من الأموال،

(1) وفي (خ): المنايح، ولعل ما أثبتناه هو الأصوب، لان المنيحة
بمعنى العطية لا تجمع على منايح بل على منح، والذي يجمع على منايح هي منيحة
وهي: منيحة اللبن كالناقة والشاة تعطيها غيرك ليحتلبها ثم يردها إليك، وهذا
المعنى بعيد عن سوق المقام.
(2) المهاير جمع مهيرة وهي: الحرة من النساء الغالية المهر.
(3) البيت لأبي طالب (رضي الله عنه) من قصيدة له شهيرة، وقد أورده
الطبرسي هكذا: (بميزان قسط لا يخيس شعيرة) وأورده الرازي: (بميزان قسط
لا يغل شعيرة). ويخيس: ينقص. ويغل من غل أو اغل: خان
293

فيمنعهن حقوقهن، ويمتنعن عليه لضعفهن، فكأنه تعالى قال:
(فانكحوا ما طاب لكم من النساء من غيرهن، وإن كن من جملة النساء)،
وذلك كقولك: جاءني الأحنف وبنو تميم، وجاءني المهلب والأزد،
وبنو تميم والأزد يشتملون على الرجلين، ولكنك لما قلت:
الأحنف، علمنا أن قولك: وبنو تميم، لم يدخل الأحنف فيه ثانية،
فهذا مثل لما قلنا.
وقيل أيضا: كان ولي اليتامى يحبسهن ويمتنع من أن يزوجهن، رغبة
في إمساك أموالهن ليأكل منها وينتفع بها.
والقول الأول عن سعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك والربيع.
والقول الثاني (وهو المتعلق بنكاح اليتامى وانكاحهن) مروي عن
الحسن، وهو قول أبي علي وأبي العباس المبرد.
وعن قتادة: أنه قال: معنى ذلك انكم إن تحرجتم فتركتم ولاية
اليتامى استظهارا لدينكم، فكذلك فتحرجوا من الزنى وانكحوا الحلال
من النساء وهو معنى ما طاب لكم.
وقد حكي عن الشافعي قول في تأويل (ذلك أدنى ألا تعولوا) وهم
فيه، خالف أهل اللسان في الذهاب إليه، وذلك أنه قال: (ألا تعولوا)
ههنا معناه ألا [1] يكثر من تعولون. وهذا خطأ بين، لان الامر [2]
لو كان على ما ظنه لكان وجه الكلام: (ألا تعيلوا) أي تكثروا
عيالكم، مثل قولهم: أمشى الرجل، إذا كثرت ماشيته، وأثرى،

(1) وفي (خ): لئلا.
(2) وفي (خ): المراد.
294

إذا كثر ماله فصار كالثرى كثرة، وكذلك يقال: أعال الرجل إعالة،
إذا كثر عياله، ويقال: علت من الفقر عيلة [1]. فإن كان أراد هذا
الوجه أيضا فهو خطأ، لأنه كان يجب أن يقول [2]: (ذلك أدنى
ألا تعيلوا)، وشاهد ذلك قول الشاعر [3]:
وما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل
اي: يفتقر. ويقال: علت العيال عولا، إذا قمت بهم، فإن كان
أراد هذا الوجه أيضا فهو فاسد، لان ذلك لا دليل فيه على كثرة العيال،
لأنه يقال ذلك فيمن كثر عياله أو قلوا [4] بعد أن يكون قائما بعدة
ما منهم. وليس هذا الغرض الذي رمى إليه، لأنه قد فسره بقوله:
(إنما أريد به لئلا يكثر من تعولون)،
فدل ذلك على أن المراد الذي
اراده هو معنى عال الرجل كما قلنا أولا، فكان يجب أن يقول:
الا تعيلوا [5].
والشافعي وإن كان له موضع من العلم لا ينكر وحق فيه لا يدفع،
فليس ينبغي أن يعجب من وهمه، فيما يجري هذا المجرى من لغة العرب

(1) وفي (خ): عيلا.
(2) وفي (خ): يكون.
(3) استشهد بالبيت أكثر المفسرين ولم ينسبوه.
(4) وفي (خ): أقلوا.
(5) حكي عن طاوس انه كان يقرأ: (ذلك أدنى الا تعيلوا)، ونقل
عن الكسائي في عال الرجل يعول إذا افتقر: أنه قال: (ومن العرب الفصحاء
من يقول عال يعول إذا كثر عياله). قال الأزهري: (وهذا يؤيد ما ذهب
إليه الشافعي في تفسير الآية. لان الكسائي لا يحكي عن العرب الا ما حفظه
وضبطه)، وكذا نقل هذا عن الأصمعي.
295

ومصارف لسانها ومواقع بيانها، فان ذلك لا يسلم منه الا من أوغل في تلك
المضائق وثبتت [1] قدمه على تلك المزالق، ولو لم ينحله أصحابه التقدم
في معرفة العربية والاضطلاع بغوامضها والقيام على حقائقها، حتى أنهم
قالوا: إن الأصمعي قرأ عليه شعر الهذليين، إلى غير ذلك مما
يستهجن ذكره ويستبعد مثله - لأضربنا عما أو مأنا إليه من كشف
وهمه في تأويل هذه الآية، ولكن العذر ما ذكرناه.
وقد كان أبو عبد الله محمد بن يحيى بن مهدي الجرجاني الفقيه
العراقي المقدم في الفقه. جاراني على وجه المذاكرة في المعنى الذي أشرت
إليه من امر الشافعي وما يردده أصحابه من ذكر تقدمه في علم اللغة،
مضافا إلى علم الشريعة، بذكر مواضع اخذت على الشافعي في كتبه،
ولا يقولها إلا من لاحظ له في علم اللغة ولا درية [2] بهذه الطريقة:
(منها)، قوله: (إن الواو توجب الترتيب)، ولم يقل ذلك أحد
من علماء العربية [3]، بل اجمعوا (كلهم 4) على أنها توجب الاشتراك
والجمع. وقال في بعض كلامه: (لي ثوب يسوى كذا)، وهذا
خطأ فاحش، لأنه إنما يقال: ساوي كذا، ولا يقال: يسوى،
وقد ذكر هذا المعنى أحمد بن يحيى في (كتاب الفصيح) [5] وغيره

(1) وفي (خ): وثبت.
(2) وفي (خ): روية.
(3) وفي (خ): العرب
(4) زيادة في بعض النسخ.
(5) الموجود في النسخة المخطوطة من هذا الكتاب المنقولة عن خط أبي الحسن علي بن عبيد الله السمسي اللغوي في باب الحروف المفردة هكذا: (وتقول هذا يساوي ألفا).
296

من علماء اللغة. وقال أيضا: (إن معنى قولهم أشليت اي أغريت)،
وهذا خلاف كلامهم، لان الأشلاء عندهم الدعاء، قال الشاعر [1]:
أشليت عنزي ومسحت قعبي
اي دعوتها لأحتلبها. قلت انا: وأغرب ما مربي في هذا المعنى عن
بعض علماء العربية أنه قال: (معنى أشليت الكلب اي دعوته لأرسله
على الصيد) فجعل الأشلاء اسما للدعاء على صفة وشريطة وهي الارسال،
والأعرف ما عليه الجمهور من أن المراد بذلك الدعاء، وان جاز الوجه الآخر
على ضعف فيه.
قال أبو عبد الله: وفسر أيضا قول النبي صلى الله عليه وآله في الرهن: (له
غنمه وعليه غرمه) بأن الغرم ههنا يريد به هلاك الرهن. وخطأ هذا القول
غير خاف، وذلك أنه لم يقل أحد من أهل اللغة ان الغرم بمعنى الهلاك، وإنما
هو عندهم في الأصل بمعنى اللزوم والالظاظ [2] بالشئ، ثم صار في
العرف عبارة عما يلزم الانسان الخروج منه من حق أو غيره، وفيه ثلم
له ونقص من ماله، ومن ذلك سمي الغريم غريما لملازمته من عليه
الدين، وسمي الملازم أيضا غريما لثباته [3] مع المطالب، وحصولهما
جميعا في حكم الثابتين، وإن اختلفت حالا ثباتهما، فصاحب الدين
مانع مطالب، والذي عليه الدين ممنوع مطالب، ولذلك قيل: تلازما

(1) هو أبو نخيلة، وعجزه: (ثم تهيأت لشرب قأبى) والقأب صفة
للشرب، وهو شرب جميع ما في الاناء.
(2) من ألظ بالشئ: لزمه.
(3) وفي (خ): لثبوته.
297

وإن كانا لم يعطيا المفاعلة حقها، فان من حقها أن يفعل كل واحد من الاثنين
بصاحبه مثل الذي يفعله به صاحبه، وقد علمنا أن من عليه الدين
لا يلازم ولا يثابت، بل مراده أن يفلت من الربقة ويخلص من الضغطة،
وإنما قيل: تلازما، على المعنى الذي ذكرنا، ألا ترى إلى قول العرجي
وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان:
فتلازما عند الفراق صبابة * أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فبين أن صاحب الدين هو المانع الحابس، والمعسر هو الممنوع المحتبس.
وقول الله تعالى: (إن عذابها كان غراما) [1] معناه: دائما
لازما، وقد يحتج أصحاب الوعيد بذلك على خلود الفساق في النار نعوذ
بالله منها!
قال أبو عبد الله: (و 2) قد ذكر أيضا فيمن قطع أنملة انسان، ثم قطع
أنملة ثانية من تلك الإصبع، أن عليه كذا وكذا، فسمى المفصل الثاني
أنملة، وإنما الأنامل أطراف الأصابع، لا مفاصلها، ورواجبها التي
هي عقودها، وما حكي عن أحد من أهل اللغة أنه سمى عقود الأصابع
ومفاصلها أنامل، فيسلك سبيله ويتبع دليله.
قال: وقال أيضا في بعض كتبه: ماء مالح، وهذا لم يقله أحد
قط، إنما هو ملح وعذب، قال تعالى: (هذا عذب فرات
وهذا ملح أجاج...) [3].

(1) الفرقان: 65.
(2) زيادة في (خ)
(3) الفرقان: 52.
298

وكفى بهذه الأقوال لقائلها بعدا عن علم اللغة وغربة عن وطن
العربية. وقد بعدنا عن غرضنا كثيرا ونحن نرجع إليه بتوفيق الله تعالى
فنقول في تمام الكلام على فساد قول من قال معنى (ألا تعولوا) ألا
يكثر من تعولونه:
إن ما قاله تعالى قبيل هذا الكلام يشهد بخلاف ما ظنه من ذهب إلى ذلك،
لأنه تعالى قال: (فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) فأطلق
(المائنين) [1] من مالك اليمين من الأقل والأكثر [2]، وهن
كلهن عيال تثقل بهن المئونة وتعظم الكلفة، سواء كان كثرة العيال
من الحرائر أو الإماء، فبان فساد قوله.
ودليل آخر، وهو انه تعالى قال: (فإن خفتم ألا تعدلوا
فواحدة) ولم يقل: فان خفتم ان تفتقروا، فكان الجواب معطوفا على
هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل وهو الجور، فوجب أن
يكون معنى (ألا تعولوا) ههنا: ألا تميلوا وتجوروا.
فأما احتجاج من احتج لنصرة مذهب الشافعي في ذلك بأن قال:
قد سمع من بعض العرب: عال الرجل وأعال، إذا كثر عياله، وبأن
العرب يقول الواحد منهم: لبست قميصا فعالني، يريد كان أطول
مني، وعلته، يريد كنت أطول منه، وبأنهم يقولون: عال الامر

(1) جمع مائن اسم فاعل من مان يمون إذا قام بالمؤونة وفي النسخ هكذا
(المامين) من غير اعجام، والظاهر فيه ما أثبتناه.
(2) (من) الثانية متعلقة بأطلق والأولى متعلقة بالمائنين، ويكون مفاد الجملة
ان الله سبحانه أطلق المائنين من جهة ملك اليمين من قيد الأقل والأكثر.
299

إذا ثقل حمله وأعيا حامله - فلا حجة في جميع ذلك له: [و 1] أما
قوله: قد سمع العرب عال وأعال إذا كثر عياله، فهي دعوى لا شاهد
عليها، وما ذكر ذلك في كتاب من كتب علماء اللغة الثقاة، وكل من
صنف كتابا في فعلت وأفعلت منهم فإنما ذكر فيه: عال الرجل إذا افتقر
وأعال إذا كثر عياله، وما قاله هذا المدعي لا حجة فيه له. وقال المؤرج
السدوسي: (الا تعولوا) بمعنى ألا تميلوا، وهي لغة جرهم.
وأما قوله: إنهم يقولون: عالني القميص إذا طالني، والرجل إذا
كثر عياله ضعف عن القيام بهم وعجز عن كفالتهم، فكأن ثقلهم
بهضه وأمرهم طاله وغلبه - فهو فاسد أيضا، لان الامر لو كان على ما
قيل من أن عالني بمعنى طالني وأعجزني لكان وجه الكلام ان يقال:
(ذلك أدنى ألا تعالوا)، لان ذلك الامر هو الذي يعيلهم ويعجزهم
ليس هم الذين يفعلون ذلك بغيرهم، وإلا حصل تقدير الكلام:
(ذلك أدنى ألا تعجزوا وتطولوا)، وهذا ضد ما أراده الخصم، لان
موضوع الحال أن يكون هذا الامر عائلا لهم وهم معولون، مثل راعهم الامر
فهم مروعون [2]، لا أن يكون هم العائلين (3) لغيرهم.
وأما احتجاج الخصم بقولهم: عال الامر إذا ثقل حمله واعيا حامله،
فلا حجة له أيضا، لان الكلام في ذلك كالكلام في الفصل المتقدم
سواء، الا ترى أنه لو كان الامر على ما ذكره لكان يجب أن يكون:

(1) كذا في النسخ، والظاهر زيادة الواو.
(2) وفي (خ): مرعون.
(3) وفي (خ): عائلين.
300

(ذلك أدنى الا تعالوا) أي: لا تثقلوا، ولم يقل: الا تعولوا،
فيكون الفعل في الأثقال لهم لا للامر، وذلك محال.
وحقيقة العول واصله في اللغة: الخروج عن الحد والمجاوزة للقدر،
فالعول في الفريضة: خروج عن حد السهام المسماة لأهلها، والفقر أيضا
كذلك: خروج عن الحد في قصور الحال ودقتها، والثقل أيضا كذلك،
لأنه تجاوز لمقدار احتمال الناهض به حتى يستكره عليه طاقته ويستفرغ فيه قوته،
وقال بعضهم: المراد بقوله تعالى: (فواحدة أو ما ملكت ايمانكم ذلك أدنى
ألا تعولوا) اي: احذروا الا يكون منكم ميل إلى واحدة دون الأخرى، لان
الواحدة إذا كانت بانفرادها لم تكن معها من النساء من يلزمه العدل بينهما
في الأيام التي يقسمها لهما، وكذلك إذا كانت واحدة وكان معها
واحدة من ملك اليمين، أو كان له عدد كثير من ملك اليمين، لم يلزمه
أن يعدل بينهن في الأيام، ولا بينهن وبين الحرة، فذلك أقرب إلى
عدم الميل منه، وقد قال تعالى في هذه السورة أيضا ما يكشف عن
المراد بما ذكرنا، وهو قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا
بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها
كالمعلقة... 129)، فذكر الميل مع العدل كما ذكر في الموضع
الأول العول مع العدل، وهذا كله كلام بعضه من بعض.
وقال بعضهم: المراد بذلك: فان ختم الاثم بألا تعدلوا في اليتامى
اللاتي نكحتموهن لضعفهن، ولان نكاحهن أدعى لكم إلى ظلمهن.
301

فانكحوا من غيرهن ممن تمتنع (1) عليكم بأوليائهن، وجعل تعالى
غاية عدد المباح من النكاح أربعا وأدناه واحدة، ونبه سبحانه
بذلك على ما بين العددين، فكأنه قال: (فان خفتم ألا تعدلوا في
نكاح الأربع فانكحوا ثلاثا، فان خفتم هذا المعنى في نكاح الثلاث
فانكحوا اثنتين، فان خفتم ذلك في نكاحهما فانكحوا واحدة)، فصارت
غاية العدد أربعا وأدناه واحدة، لان ذكر الطرفين يدل في مثل ذلك
على الوسائط، وهذا كقوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فأصلحوا بينهما... إلى قوله تعالى: فقاتلوا التي تبغي...) [2]
فنبه سبحانه بذكر الاصلاح والقتال اللذين هما أول الأمر والمقصود وآخره
على ما بين هذين الطرفين من الوسائط، والطرفان هما الاصلاح والقتال.
وقال بعضهم: المراد باليتامى ههنا النساء، إلا أنه تعالى ذكر المعنى في
الآية بلفظين مختلفين، كما قال الله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء
أموالكم... - 5) يعني النساء والصبيان فكما وصف هذان
الضربان بالسفه وصفن [3] باليتم، فكان تقدير الكلام: (فان
خفتم ألا تقسطوا في النساء فانكحوا ما طاب لكم منهن). وإنما قال
تعالى: (من النساء) لفصل البيان، إذ كان الاسم الأول الواقع
عليهن - أعني اليتامى - ربما ألبس على السامع، فكرره بما لا يلبس،
وحسن ذلك لاختلاف اللفظين وإن كان المعنى واحد، ومن الشاهد
على أن اليتامى عبارة عن النساء ههنا قوله تعالى في هذه السورة:

(1) وفي (خ): (من تمنع).
(2) الحجرات: 9.
(3) وفي (خ): وصفا.
302

(وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن
ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن.. - 127) ثم قال
تعالى من بعد، (وأن تقوموا لليتامى بالقسط..)، فكأنه عائد
إلى النساء أيضا، وإنما سمى النساء يتامى لضعفهن، لان أصل
(اليتيم الضعيف) [1]، قال الشاعر:
إن القبور تنكح الأيامى * النسوة الأرامل اليتامى
وروي: أن امرأة جاءت إلى الشعبي فقالت: إني امرأة يتيمة،
فضحك أصحابه من قولها، فقال الشعبي: مم تضحكون؟ النساء كلهن
يتامى. وأنشد الأصمعي لبعض العرب:
أحب اليتامى البيض من آل سامة * وأبغض منهن اليتامى الفواركا
ولا ذنب لي فيما أحب وإنما * يفئ علي اللوم لو عفت ذلكا
أراد: أحب النساء البيض من آل سامة.
وكان المفضل الضبي يخالف في أصل اليتيم (2) فيقول: (هو الانفراد
وكل منفرد يتيم). قال: (ويقال للرملة المنفردة عن الرمال: يتيمة
ويقال للبيت المنفرد من الشعر: يتيم، ويقال الدرة [3] اليتيمة، يراد
بذلك المنفردة عن اشكالها ونظائرها لجلالة قدرها).
وقال بعضهم: المراد بذلك أنكم إن خفتم إذا وليتم على اليتيم
ألا تعدلوا في حضانته فانكحوا النساء ليغنيكم الله سبحانه ويرزقكم من فضله

(1) وفي (خ): اليتم الضعف.
(2) وفي (خ): اليتيم.
(3) وفي (خ): للدرة.
303

فتستغنوا عن تطرف [1] مال اليتيم أو الثلم له، كما قال تعالى: (وانكحوا
الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا
فقراء يغنهم الله من فضله..) [2]، فجعل النكاح سببا من أسباب
الغنى بعد الفقر والسعة بعد الضيق. ومن شجون ذلك ما روي: أن رجلا
من خاصة الحسن بن علي (ع) قال له في كثرة نكاح النساء ثم تخلية سبيلهن،
فقال (ع): (طلبت الغنى المضمون بكلا الامرين، فنكحت طلبا للغنى
إذ يقول سبحانه: (ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)، وطلقت
طلبا للغنى إذ يقول سبحانه، (وإن يتفرقا يغن الله كلا من
سعته..) [3]). وهذا حسن جدا.
وقال بعضهم: المعنى إن كنتم تكرهون الولاية على اليتيم والنظر في
ماله خوفا ألا تعدلوا فأقلوا من النكاح لئلا تكثر أولادكم فيصيروا يتامى
بعدكم ويبتلوا بهذه الحالة من غيركم.
* * *
ومن شعب الكلام على هذه المسألة تبيين الفرق بين قولهم (اللائي)
بالياء و (اللاتي) بالتاء، وذلك قوله سبحانه: (وما يتلى عليكم
في الكتاب في يتامى النساء..) [4]، وكان شيخنا أبو الفتح
النحوي رحمه الله يقول: إن اللاتي واللائي جميعا جمعان للتي، إلا أن

(1) التطرف: التحيف وهو: تنقص الشئ من نواحيه وأطرافه.
(2) النور: 32.
(3) النساء: 130.
(4) النساء: 127.
304

أن اللاتي بالتاء المعجمة من فوقها للجمع القليل، واللائي بالياء المعجمة من تحتها
للجمع الكثير. قال: ومن الدليل على ذلك أن كل جمع يضارع واحده
من جهة من جهات المضارعة فهو أدل على ما قرب من واحده في باب العدد، ألا
ترى أن جمع السلامة إنما هو موضوعه أن يقع على القليل دون الكثير بمجيئه
على طريقة الواحد في البناء!. ودليل آخر، وهو انك إذا قلت:
نسوتك فعلت، كان ذلك دليلا على القلة، فان أردت الكثرة قلت:
نسوتك فعلن، لان فعلت أصله للواحدة، فلما جئت به للجمع دللت
على أن مرادك أقرب من الواحد في باب العدد، فبان ما قلناه.
فصل
وجه العدول عن (من) إلى (ما)
فأما قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء)، ولم يقل من
طاب، فالوجه فيه أنه بمعنى المصدر كأنه تعالى قال: (فانكحوا من
النساء الطيب) أي الحلال، أو (انكحوا خيرتكم وشهوتكم من النساء
أو العدد الذي يطيب لكم من النساء)، ومعنى هذا القول عن الفراء،
وعن مجاهد، أن معنى ذلك فانكحوا النساء نكاحا طيبا.
وقال بعضهم: المراد بذلك فانكحوا الطيبات من النساء. وقال
بعضهم: إن (ما) حلت ههنا محل (من)، لان الموضع موضع إبهام،
305

وذلك مستعمل في المبهمات، يقال للرجال: ما في الدار؟ فيقول:
رجل، أو امرأة، أو صبي، أو شيخ، أو ما أشبه ذلك، لان السائل
لا يقصد قصد التفصيل والتخصيص، وإنما قصد الصفات والأجناس
ويحسن في ذلك أن يقال (ما)، كما يقال في الاشخاص من الآدميين
(من)، وهذا كما تقول لغيرك: (ما 1) عندك؟ فيقول: رجل
أو فرس، فهذا بين بحمد الله.
فصل
(اعراب مثنى وأخواته ومعناها)
فأما قوله: (مثنى وثلاث ورباع)، فنحن نتكلم على اعرابه
ومعناه بتوفيق الله:
فأما إعرابه فإنه غير منصرف [2]، لأنه اجتمع فيه علتان من
العلل المانعة للصرف: فإحدى العلتين انه معدول عن اثنين اثنين وثلاث
ثلاث وأربع أربع إلى مثنى وثلاث ورباع. والعلة الأخرى انه عدل
عن تأنيث. وهذا الوجه هو الذي اعتمد عليه الزجاج.
وقال بعضه النحويين: علتاه أنه معدول وأنه صفة.
وقال قوم: هو معرفة، لان الألف واللام لا يدخلانه [3].
والصحيح عند أهل التحقيق انه نكرة، لأنه قد جاء صفة للنكرة والنكرة

(1) وفي (خ): من.
(2) وفي (خ): معروف.
(3): لا تدخلانه.
306

لا توصف بالمعرفة، وذلك قوله تعالى: (جاعل الملائكة رسلا
أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع..) [1]، ومحال ان يريد أولى
أجنحة الاثنين والثلاثة والأربعة، لامتناع وصف النكرة بالمعرفة،
فثبت ان المراد به أولي أجنحة اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.
وقال أبو عبيدة العرب لا تجاوز في هذا الباب رباع إلى ما فوقه فلا
يقولون: خماس وما زاد عليه، إلا أن الكميت بن زيد الأسدي جاوز
ذلك فقال:
فلم يستريثوك حتى رميت * فوق الرجاء جلالا عشارا
والمستقيم ما عليه الجمهور.
فأما الكلام على معنى ذلك، فان محمد بن يزيد المبرد قيل له: هل
في عدل ذلك عن اثنين وثلاثة وأربعة زيادة معنى لم تكن فيما عدل عنه،
فأجاب بما ذكرناه من أن معناه معنى التكثير، أي: اثنتين اثنتين
وثلاث ثلاث وأربع أربع. قال: وإنما صار معناه على ذلك،
لأنه خطاب للجميع [2]، فكأنه تعالى قال: لينكح كل واحد منكم
اثنتين إن شاء أو ثلاثا ان شاء أو أربعا، وهذا كقوله تعالى:
(فاجلدوهم ثمانين جلدة..) [3] اي: اجلدوا كل واحد منهم
بهذه العدة. وفسر المبرد قوله تعالى: (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع)
بأن قال: المراد بذلك إن الاثنين يقابلان الاثنين والثلاثة تقابل الثلاثة

(1) فاطر: 1.
(2) وفي (خ): للجمع.
(3) النور: 4.
307

والأربعة تقابل الأربعة، ومثل ذلك قول الشاعر [1]:
ألا إنما أهلي بواد أنيسه * ذئاب تبغي الناس مثنى وموحد
قال: فهذا لا يكون أبدا لاثنين فحسب ولا لواحد فحسب، إنما هو اثنان
اثنان وواحد واحد. ثم حكى المبرد ان الجاحظ سئل عن قوله تعالى:
(أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع)، فقيل له: كيف تكون الأجنحة
ثلاثة، فقال: واحد في الوسط، فضحك منه وعلم أنه لا علم له
بهذا الجنس.
ولعمري إن الجاحظ لا يشق غبار محمد بن يزيد في علوم القرآن
والتفنن فيه واستنباط غوامض معانيه! وحكى لي [2] عن أبي بكر
ابن مجاهد: أنه كان يقول: ما رأيت أحسن جوابا من المبرد في معاني
القرآن لا سيما فيما ليس فيه قول لمتقدم. ومن غريب كلامه في تأويل القرآن
تفسيره أول آية في هذه السورة التي نحن في الكلام على متشابهها، وهي
قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس
واحدة..)، قال: معناه على هيئة واحدة. قال: ومثل ذلك قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم..) (3) اي:
مثلكم، وقوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم..) (4) اي،
أمثالكم، كأنه تعالى قال، ليقتل بعضكم بعضا. قال ومعنى (وخلق
منها زوجها) اي، جعل زوجها من جنسها، ليسكن إليها وتسكن

(1) وهو ساعد بن جوية الهذلي.
(2) وفي (خ): أبي، وفي أخرى: له.
(3) التوبة: 128 (4) البقرة: 54.
308

إليه ولا يستوحش منها ولا تستوحش منه. وعامة المفسرين على خلاف قوله
في ذلك لأنهم يقولون: إن معنى قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة)
يعني به آدم عليه السلام، (وخلق منها زوجها) يريد انه سبحانه
انتزع ضلعا من أضلاع آدم (ع) فخلق منه حواء. وقول أبي العباس
أحسن مقيسا [1] وأثبت على الطريقة قدما.
فأما الاستدلال بهذه الآية على جواز نكاح التسع، فهو مذهب
لبعض علماء أهل البيت عليهم السلام [2]، إلا أنه يضعف في نفسي
من وجوه:
أحدها، أن مثنى وما بعده لا يصلح في عرف أهل اللغة إلا لاثنين
اثنين واثنتين اثنتين على التفريق، لا على الجمع والضم، فإذا ثبت
ذلك كان تقدير الكلام: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى
وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى وانكحوا رباع في غير الحالين).
ومنها، أن كلامه تعالى أفصح الكلام وأشده [3] انخراطا في سلوك

(1) وفي (خ): مقتبسا
(2) وجوب الاقتصار على الأربع في النكاح الدائم وحرمة الزيادة عليها مجمع عليه بين علماء
الاسلام الا ما ينقل عن القاسمية احدى فرق الزيدية من جواز التسع لمكان الواو،
ويمكن أن تكون الإشارة إليهم، وفي نسبة هذا البعض إلى علماء أهل البيت ايهام لا يسوغ
لمثل المؤلف. قال الحسن بن يوسف بن المطهر الشهير بالعلامة الحلي في كتاب تذكرة
الفقهاء: (وحكي عن القاسم بن إبراهيم انه أجاز العقد على التسع واليه ذهب القاسمية من
الزيدية. قال الشيخ رحمه الله هذه حكاية الفقهاء عنهم ولم أجد أحدا من الزيدية يعترف
بذلك بل أنكروها أصلا) قلت ويعني بالشيخ أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي، وهو
معاصر للمؤلف وتلميذ لأخيه الشريف المرتضى.
(3) وفي (خ) أسده.
309

الفصاحة وإبعادا في مرامي البلاغة، وليس من البلاغة إن يقول القائل
- إذا أراد أن يعلمنا انه أعطى زيدا تسعة دراهم -: أعطيت زيدا
درهمين وثلاثة وأربعة، فيفرق العدد في مثل هذه الحال، لان قوله:
أعطيته تسعة دراهم، أخصر وأقصر، وهو بمذاهب البلغاء أشبه وأليق،
وليس موضع هذا القول من مواضع الاسهاب والاطناب فيكون بسط الكلام فيه
أبلغ وإطالته أشفى وأنقع، كما يقول في قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها
الحج: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة
فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ 15)
والضمير في قوله تعالى: (أن لن ينصره الله) للنبي صلى الله عليه وآله، ومعنى ذلك
على عامة قول المفسرين: أن من ظن من المشركين ان الله خاذل نبيه
ومذل دينه فليقتل نفسه بحسرة ذلك، فلن يتحقق ظنه ابدا، وقوله
تعالى: (فليمدد بسبب إلى السماء) السبب ههنا الحبل، والسماء ههنا سقف
البيت الذي يحله، فكأنه تعالى قال: فليربط حبلا بسقف بيته وليختنق
به إلى أن ينقطع الحبل من فرط تراجعه فيه وجذبه إياه، فلينظر هل يذهب
ما يفعله بنفسه من ذلك ما غاظه من قوة أمر الرسول، ووري زناده،
وارتفاع عماده [1]، ألا ترى إلى هذا الاسهاب في هذا المكان، كيف وقع
موقعه، وأصاب غرضه! وقد كان تعالى قادرا على أن يقول: من
كان يظن أن لن ينصر الله رسوله فليخنق نفسه غيظا، ولكن لما كان

(1) وقال صاحب العين: قطع الرجل بحبل إذا اختنق، قال: وبلغنا عن
الكلبي في قول الله عز وجل: (ثم ليقطع) اي ليختنق. (منه عن خطه)
310

في بسط هذا الكلام، والاتساع في مذاهبه، من زيادة الغمة على
المراد به، وفرط الغيظ للمقصود باسماعه [1] حسن البسط والتوسع فيه،
ألا ترى إلى مقدار الفرق بين قول القائل لضد ينازعه، وعدو يقارعه
إن كنت مغيظا من نعمة الله علي وحسن بلائه عندي فاقتل نفسك،
وبين قوله له: فاجزر [2] انا ملك، وافقأ عينك، واجدع انفك،
وأذبح نفسك، أو يزيد في ذلك تفحيش صفة الذبح عليه بقوله: فخذ مدية
حادة فقطع بها أوداجك، واجزر [2] حلقومك، وأسل دماءك،
وبين الموضعين فرق واضح وتمييز ظاهر، فافهم ذلك فإنه من اسرار
القرآن الخفية، وبدائعه العجيبة التي تزداد على النزح جماما (3)، وعلى
القدح اضطراما.
ومن غريب ذلك ما عثرت عليه عند التلاوة آنفا، وهو قوله
تعالى مخاطبا لموسى وهارون في الشعراء: (كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم
مستمعون 15) فقال (اذهبا) فثنى، ثم قال تعالى (معكم) فجمع. وهذا
مما يمكن أن يستشهد به من يقول أن الاثنين جماعة. ثم قال تعالى في
طه: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى 46)، فلما فخم تعالى
في الموضع الأول ذكره سبحانه بقوله (انا) فخم ذكرهما فقال (معكم)، ولما
ترك ذلك في الموضع الآخر فقال: (انني) قال (معكما) بلا تفخيم في الذكرين

(1) وفي (خ): باستماعه.
(2) وفي (خ): فاجزز، والأنسب في المقام فاحزز ولعل النسخ مصحفة عنها في الموضعين.
(3) الجمام مثلث الجيم: الامتلاء.
311

جميعا، وهذا من المقاصد الشريفة والغوامض اللطيفة فتبارك الله رب العالمين!
ونعود بتوفيق الله تعالى إلى تمام الكلام على معنى مثنى وثلاث
ورباع. ومما يفسد قول من قال: المراد بذلك نكاح تسع، ان الامر
لو كان على ما ظنه لم يجز للواحد منا أن ينكح اثنتين على الانفراد ولا
ثلاثا ولا أربعا كذلك، ولم يكن يجوز له إلا أن ينكح تسعا أو واحدة
لان القائل إذا قال لك - وطاعته واجبة عليك -: خذ عشرة،
لم يكن لك ان تأخذ تسعا ولا ما هو أقل من ذلك إلا عاصيا،
فكان قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) لا معنى له،
لان ما طاب إنما هو ما بين الواحد إلى الأربع، فان طاب اثنتان للواحد
نكحهما، وإن طاب ثلاث أو أربع نكحهن، وإن خاف الميل
الذي هو جور اقتصر على الواحدة أو ملك اليمين. وهذا أوضح من
أن يلتبس على ذي فهم، لان الكلام لو كان على ما ظنه المخالف لكان
جامعا بين عي اللفظ وفساد المعنى.
وبيان ذلك وتلخيصه: أن المراد لو كان نكاح الاثنتين والثلاث
والأربع على الاجتماع لم يكن لقوله تعالى: (فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة)
معنى، لأنه لا يجب عند الخوف من ترك العدل في نكاح التسع ان يترك
إلى واحدة الا بعد واسطة في العدد، فدل ذلك على أن المراد إما مثنى
وإما ثلاث واما رباع، فان خاف الناكح ألا يعدل في أحد هذه
الاعداد اقتصر على واحدة، أو النكاح بملك اليمين. ولا يليق
بالكلام ههنا إلا ما أشرنا إليه، لأنه تعالى شرط ذلك فيما طاب للناكح
312

ثم ذكر الاعداد الثلاثة فنبه بذلك على طريقة التخيير. وبعد، فان
العلم بأنه لا يسوغ نكاح ما فوق الأربع في حال واحدة كالضرورة من فحوى
الآية ومن دين الرسول صلى الله عليه وآله، فلا معنى لإطالة الكلام في ذلك. وفي ما
ذكرناه منه كاف بتوفيق الله تعالى.
فصل
(وآتوا النساء صدقاتهن)
وربما سألوا بعد ذلك فقالوا: كيف قال الله تعالى: (وآتوا النساء
صدقاتهن نحلة)، والنحلة هبة والصداق واجب [1]!
فالجواب: انه سبحانه فرض الصداق للنساء، فكان هبة منه
سبحانه لهن، لا هبة من أزواجهن، وقد كان الآباء يأخذون ذلك
لنفوسهم، ألا ترى إلى قوله تعالى في قصة موسى (ع): (إني أريد أن،
أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) [2]
فاستخدمه بمهر ابنته، فجعل تعالى ذلك للنساء دون آبائهن وذلك
واضح بمشيئة الله.

(1) هذا السؤال مبنى على ما هو ظاهر لفظ النحلة. ولكن بعض المفسرين
فسرها بالفريضة.
(2) القصص: 27.
313

2 - مسألة
(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم)
شبهتان في الآية - الجواب عن ذلك - الاستثناء في الآية منقطع -
مرجع ضمير انه كان فاحشة - الا مضارعة للواو ههنا - نكاح ابن أمية زوجة أبيه
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم
من النساء إلا ما قد سلف.. - 22)، فقال في ظاهر هذا القول
دلالة على إباحة ما قد سلف من هذا النكاح، ومع ذلك ففيه استثناء
فعل ماض من فعل مستقبل وذلك غير مستقيم، لان قوله: (ولا تنكحوا)
يدل على الاستقبال، وقوله: (إلا ما قد سلف) عبارة عن الماضي!
فالجواب: أنا قد أوردنا في السورة التي يذكر فيها البقرة عند قوله
تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا
منهم.. - 150) ما هو الجواب عما ذكره السائل ههنا، لكننا نذكر
من ذلك طرفا، ليكون أكشف للغمة وأجلى للشبهة بمشيئة الله،
فنقول بتوفيق الله:
1 - إن معنى ذلك: لا تفعلوا من هذا النكاح سوى ما قد
سلف أو بعد ما قد سلف مما فعلتموه، وهذا كقول الرجل لوكيل
314

وكله في بيع متاع له، ثم اعترضه رأي في ألا يبيع ما بقي من ذلك بعد
أن باع طرفا منه: (لا تبع من متاعي إلا ما بعت) والمراد به:
سوى ما بعت أو بعد ما بعت، لا يجوز أن يكون غير هذا، لان النهي
لا يتناول المواضي من الأمور، وإنما يقع في المستقبلات منها، فبطل
بذلك ما قدره السائل من أن في الكلام استثناء فعل ماض من فعل
مستقبل.
2 - وقال بعضهم: معناه [1] ولا تنكحوا نكاح آبائكم،
اي كنكاح آبائكم، فيدخل في هذا النهي حظر نكاح حلائل الآباء،
وكل نكاح كان فاسدا فيما تقدم وكانت العرب تستجيزه، وقال: إن
هذا التأويل هو الوجه، لأنه لو كان المراد بما ههنا نكاح حلائل الآباء
دون غير ذلك من الأنكحة، لكان الصواب أن يقول: ولا تنكحوا
من نكح آباؤكم، لان حلائل الآباء من العقلاء، وإنما قال تعالى
(ما)، لأنه أراد به جنس النكاح الفاسد كما يقول القائل لغيره: لا تبع
ما ابتاع أبوك من الإماء، وإنما أراد الجنس.
3 - وقال بعضهم: (إلا ما قد سلف) استثناء منقطع،
وليس آخر الكلام فيه مستثنى من أوله كما يكون في الاستثناء غير المنقطع،
مثل قولهم: قام الناس إلا زيدا، فزيد مستثنى من الناس، لأنه
واحد منهم، فأما (2) قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من

(1) روي في مجمع البيان ان هذا المعنى اختيار الطبري.
(2) وفي (خ): واما.
315

النساء الا ما قد سلف) لو كان استثناء غير منقطع، لكان آخر
الكلام مستثنى من أوله، وكان قد أطلق لهم ما سلف منه، لأنه
تعالى إذا حظر شيئا ثم استثنى منه فالمستثنى غير محظور، كما انا إذا
قلنا: قام القوم إلا زيدا، كان زيد غير قائم، فلما كان ما سلف من هذا
النكاح غير مباح، بل كان محظورا أيضا، علمنا أنه ليس باستثناء من
أول الكلام، ولكنه منقطع عنه، فكأنه تعالى قال: لا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء، ثم قال: لكن ما قد سلف وهو محظور غير مباح، والمعنى:
أنه منهي عنه كله، فما قد سلف محظور عليكم اليوم أن تقيموا عليه، ومحظور
عليكم ان تستأنفوا أيضا نكاح شئ منه بعد الحظر له، والنهي عنه.
4 - وقال بعضهم: هو استثناء منقطع، ويحتمل أن يكون
معناه إلا ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به كما تؤاخذون في المستقبل بفعله،
ويحتمل أن يكون الا ما قد سلف فدعوه فهو جائز لكم
5 - وقال أبو القاسم البلخي: إنه تعالى نهاهم عن أن ينكحوا
نساء آبائهم مستأنفا ولم يحل لهم من ذلك ما كان سالفا، فكأنه تعالى
قال: الا ما قد فعلتم فيما مضى من هذا النكاح المذكور، ف‍ (إنه كان
فاحشة ومقتا وساء سبيلا). قال: وذلك كقول القائل: لا تأكل
من هذا الطعام إلا ما أكلت.
قال: ويجوز أيضا أن يكون المراد إلا ما سلف من ذلك في الجاهلية
فليس بفاحشة، فكأنه تعالى قدم وأخر، والمراد: ولا تنكحوا
ما نكح آباؤكم من النساء انه كان فاحشة الا ما قد سلف، فإنه ليس
316

بفاحشة لما لم تكن الحجة عليهم في تحريمه قائمة، لئلا يقال فيمن ولد
من هذا النكاح: أنه من زنية وفاحشة، لان نكاحهم في الجاهلية لا
يطلق عليه اسم الزناء والفاحشة، وكذلك كل نكاح كان بين رجل وامرأة
على السنة التي يستن بها أهل ملتهما أي ملة كانت ملل أهل الكتاب
وأهل الشرك، فليس بزناء وإن كان مخالفا لما حده الله وفرضه، والزناء
والفاحشة هو: نكاحهما على غير سنة أهل ملتهما، وذلك ما يتعاير
به الناس مما ليس على سنة واضحة ولا عادة جارية، فالضمير في قوله تعالى:
(فإنه كان فاحشة) يحتمل وجهين: أحدهما، أن يعود على النكاح
المستأنف بعد وقوع النهي ونزول الزجر. والآخر، ان يعود على النكاح
الذي كان عليه أهل الجاهلية من قبل، ولا يكون ذلك الا وقد قامت
عليهم الحجة بتحريمه من جهة الرسل (ع)، على خلاف في ذلك.
6 - وقال بعض الكوفيين: إلا مضارعة للواو ههنا، والتقدير
ولا ما قد سلف. وكان الفراء يبطل هذه الوجه، ويقول: إلا
لا تجري مجرى الواو إلا بعد تقدم الاستثناء، ولم يتقدم ههنا استثناء.
قال: ويحتمل أن يكون المعنى لكن ما قد سلف، فإنه كان فاحشة
وهو غير محلل لكم.
وحكي عن بعض العرب: أنه قال: (ما نشتكي إلا خيرا). ولهذا
القول تأويلان: أحدهما، الاستثناء المنقطع كأنه قال: ما نشتكي شيئا
لكن خيرا نجده ولا نفقده. والتأويل الآخر، أن يكون معناه ما
نشتكي إلا الخير ومن يشتكي الخير فلا شكاية له، وهذا أيضا كما
317

يقولون: ما لفلان عيب إلا السخاء اي من السخاء عيبه فلا عيب له.
وقوله تعالى في هذه السورة من بعد: (وأن تجمعوا بين الأختين
إلا ما قد سلف) متأول على ما تؤول عليه قوله تعالى: (ولا تنكحوا
ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)، وأحد الموضعين يشهد
للآخر.
7 - وقال بعضهم: الفائدة في قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) إذا
كان معناه سوى ما قد سلف - على قول بعض العلماء - قطع المخاطب عن العادة
التي قد ألفها، فيفارق من هذا الوجه ابتداء التحريم، لان ذلك لا
يتضمن قطعا من عادة مألوفة وسبيل مسلوكة.
قال: ويحتمل أن يكون الاستثناء ههنا راجعا إلى معنى النهي،
لأنه [1] يتضمن الوعيد فقوله تعالى: (إلا ما قد سلف) استثناء
للسالف مما وقع التوعد عليه والنهي عنه، لان الوعيد والنهي يثبتان
في المستقبلات ويزولان عن الماضيات، وقوله تعالى (إنه كان فاحشة)
لا يجوز ان يرجع إلا إلى المحرم، والمحرم هو المستقبل، فيجب أن
يكون هو المراد به الوصف. قال ويبعد أن يريد بقوله سبحانه (انه كان
فاحشة) ما قد سلف من هذا النكاح، والحجة لم تقم عليهم بذلك،
لان تحريم امرأة الابن إنما ثبت من جهة الرسول صلى الله عليه وآله
بهذه الآية، ولم يكن قبله رسول في العرب يحرم ويحلل، فتكون الحجة
في التحليل والتحريم. فالصحيح إذن في قوله تعالى. (انه كان

(1) وفي (خ): من أنه.
318

فاحشة) أن يكون إشارة إلى المحرم، والفاحشة عبارة عن القبيح إذا عظم،
وإنما يعظم على قدر موقع النهي ومبلغ الزجر.
وظن بعضهم ان ما قد سلف من نكاح الابن امرأة الأب مما يجوز
أن يقر عليه، فحمل المعنى على ذلك، وهذا بعيد، لان من أسلم
على زوجة هي امرأة أبيه لم يحل له أن يستمر على نكاحها كما لا يحل له
الابتداء بنكاحها، وهكذا القول في كل امرأة بعينها، فبطل
ما تأوله من ذهب إلى ذلك.
8 - وقال بعضهم: المعنى إلا ما قد سلف، فان السلامة منه الاقلاع
عنه بالتوبة والإنابة. ومن نكاح المقت الذي كان في الجاهلية، نكاح
أبى عمرو بن أمية زوجة أبيه وأم اخوته: العاص، وأبي العاص، والعيص،
وأبي العيص، وعدة من الإناث، وهم [1] بنوا أمية بن عبد شمس،
فأولدها أبو عمرو أبا معيط. وهي آمنة بنت أبان بن كلب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وإياها عنى النابعة
الجعدي بقوله:
وشاركنا قريشا في تقاها * وفي أنسابها شرك العنان [2]
بما ولدت نساء بني هلال * وما ولدت نساء بني ابان

(1) اي اخوة أبي عمر وأخواته.
(2) الشرك والشركة بمعنى، وشركة العنان أن تكون بين اثنين في شئ خاص دون سائر مالهما. ومراد الشاعر انهم شاركوا قريشا في الأنساب لأنهم نكحوا في بني ابان وهم من قريش، ونكحت
قريش في بني هلال وهم من بني عامر بن صعصعة وتفصيل هذه المناسل موكول
إلى محله. وفي بعض النسخ: (أسبابها) بدل (أنسابها).
319

فصل
(انه كان فاحشة)
فأما معنى قوله: (انه كان فاحشة ومقتا) فقد اختلفت العلماء في
موضع كان ههنا، فقال محمد بن يزيد المبرد: يجوز أن تكون زائدة،
ويكون المعنى انه فاحشة ومقت، وأنشد في ذلك قول الشاعر:
فكيف إذا حللت بدار قوم * وجيران لنا كانوا كرام
وخطأه الزجاج في ذلك وقال: لو كانت كان زائدة في الآية لم ينصب
خبرها، والدليل على ذلك هذا البيت الذي انشده فان (كان) لما كانت
زائدة فيه لم تعمل فقال: (وجيران لنا كانوا كرام) ولم يقل كراما.
وقال بعضهم: يجوز أن تكون كان ههنا كقوله تعالى: (وكان
الله غفورا رحيما)، وكان الله عليما حكيما)، وما أشبه ذلك،
فدخلت كان لتدل على أن هذا الامر من قبل هذه الحال كان كذا ولم يحدث
الآن، فلو قال قائل: الله غفور رحيم، والله عليم حكيم، لم يدل على كونه
تعالى على هذه الصفة فيما مضى من الزمان، فلما قال: وكان الله غفورا رحيما،
وعليما حكيما، وما أشبه ذلك، دل على أنه تعالى لم يزل كذلك.
وفيه قول آخر، وهو من الغريب المستحسن، قيل: إنما يجيئ قوله
تعالى: وكان الله عليما حكيما وسميعا عليما وما أشبه هذه الصفات، بعد اخبار
أو فرائض أو ما يجري هذا المجرى، فالمعنى: وكان الله عليما حكيما
320

فيما فرض، وغفورا رحيما فيما فعل، وعليما خبيرا فيما أخبر، وأشباه ذلك.
وقد ذكر لنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جني النحوي في ذلك وجها
آخر، قال: إن العادة قد جرت إذا مدح الانسان أو تمدح أن يذكر
أسلافه وقديمه وبينه وأوليته، أو يذكر له ذلك، كما قال عدي بن زيد:
نحن كنا قد علمتم قبلكم * عمد البيت وأوتاد الإصار [1]
يعني: أن أحد أجداده قد ملك العرب قبل ملك النعمان بن المنذر الذي
خاطبه بهذا الشعر، وحديث ذلك يطول، وكما قال الفرزدق عند تعديده
مفاخر آبائه ومآثر أسلافه:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فلما أريد مثل ذلك في الثناء على القديم تعالى ولم يكن له مثل ولا
ند ولا أب ولا جد فيقال سلفك كذا وأولك كذا، عدل عن ذلك إلى
ذكر تقادم مجده وملكوته وسلطانه وجبروته، فقال الراجز مشيرا إلى
هذا الغرض:
فكنت إذا كنت إلهي وحدكا * لم يك شئ يا إلهي قبلكا
وقال سبحانه مريدا هذا المعنى: وكان الله سميعا عليما وعزيزا
حكيما، وغفورا رحيما، وما أشبه ذلك، فجعل سبحانه تقادم العهد
بوحدانيته وربوبيته مكان ذكر السلف الأول الذي يتعالى عن مثله. وهذا
أيضا من الأقوال الغريبة والاستنباطات اللطيفة وقد مضى من الكلام
في هذه المسألة ما فيه كفاية وبلاغ بحمد الله.

(1) الإصار بالكسر الحبل الذي يشد به أسفل الخباء.
321

فصل
(فابعثوا حكما من أهله)
وربما سأل سائل في هذه السورة عن قوله تعالى: (فابعثوا
حكما من أهله وحكما من أهلها.. - 35) فقال: لم لم يقل:
(حاكما) بدل قوله: (حكما)؟.
والجواب: انه سبحانه إنما سمى المبعوثين من أهل الرجل والمرأة
حكمين، لنقصان تصرفهما ولو ملكا التصرف من جميع الوجوه لسماهما
حاكمين، ألا ترى أن من مذهب [1] أهل العراق انه ليس للحكمين
التفريق إلا بوكالة وهو أحد قولي الشافعي. وهذا يدل على نقصان
تصرفهما فلذلك سميا حكمين، والعرب تسمي الرجل حكما إذا تنافر إليه
الرجلان ففضل أحدهما على صاحبه، وإنما سمي حكما، لأنه ليس يتجاوز
أن يعلمهما أن أحدهما أفضل من الآخر، وليس هناك إلزام امر ولا
امضاء حكم كما يفعل الحكام، فلذلك لم يسم حاكما وهذا واضح
بحمد الله.

(1) وهو مذهب الإمامية أيضا قال في مجمع البيان: (الذي رواه أصحابنا:
ان ليس للحكمين ذلك (اي الجمع والتفريق)، الا بعد أن يستأمراهما ويرضيا بذلك)
وروي عن علي (ع) وابن عباس من طريق الجمهور: ان لهما ذلك ولم يصح ذلك عندهم.
322

3 - مسألة
(ولا يكتمون الله حديثا)
الشبهة في الآية - الجواب عن ذلك - كذب بمعنى الزم وشواهد ذلك -
الوجه في ترخيم (يا مال) في احدى القراءات - تأويل أبي علي للآية.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا
وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله
حديثا 42)، فقال: كيف ذكر تعالى عنهم أنهم يتمنون ألا يكتمونه
حديثا، وقد أخبرنا أنهم قد يكتمون بعض الأحاديث بقولهم:
(والله ربنا ما كنا مشركين)، حتى قال سبحانه رادا عليهم:
(انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كنوا يفترون) [1]
فما مجاز هذا الكلام عندكم والمخرج منه والعذر له؟!.
فالجواب: ان في ذلك عدة وجوه:
1 - فمنها، أن يكون قوله تعالى: (ولا يكتمون الله حديثا) ليس
المراد به أنهم صرحوا [2] بكوامن عقائدهم وبواطن ضمائرهم طوعا واختيارا،
ولكن الله سبحانه لما أظهر في ذلك اليوم سرائرهم وكشف بواطنهم،

(1) الانعام: 24.
(2) وفي (خ): بأنهم خرجوا.
323

ظهرت خباياهم ووضحت خفاياهم، ولم يلط [1] دون اسرارهم ستر ولم
يخف لهم سر، كانوا في حكم من باح بسرائره وخبر بدخائله، وذلك
مثل قول القائل لصاحبه: أخف عني ما شئت أن تخفيه فوالله ما تستطيع
أن تكتمني [2] حديثك ولا تستر عني مكنونك، يريد لإحاطتي علما
بغيبك ووقوفي على جلية امرك فما يكتم عني سرك وإن كتمته ولا يخفى
وإن أخفيته، وعلى هذا قول الشاعر:
تحدثني عيناك ما القلب كاتم * ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر
ألا ترى كيف قال: (تحدثني عيناك) ونحن نعلم أنه ما تعمد
أن يدل بشواهد عينه على ما أضمرته نفسه وكتمه قلبه! وكيف يكون
ذلك، وقد نطق الشاعر بأن قلبه كاتم ولسانه كاظم! ولكن البغضاء
لما ظهرت في طرفه ونطقت عن لحظه، صار كأنه نطاق بها ومحدث
عنها. فلا يعتد بكتمان هؤلاء الكفار في الآخرة، إذا كان سرهم
عند الله تعالى ظاهرا وإضمارهم باديا.
2 - ووجه آخر، قيل: إن الآخرة مواطن ومقامات، كما أن العقاب
والثواب منازل ودرجات، واختلاف كلامهم إنما يكون لاختلاف
أحوال القيامة ومواطنها: فموطن لا يعلو به الجرس ولا يسمع فيه إلا
الهمس وهو: الصوت الخفي ونقل حركة الاقدام. وموطن يتكلمون
فيه ويكذبون، وذلك قوله: (ما كنا نعمل من سوء) فقال

(1) من لط الباب إذا أغلقه، وفي (خ): بنط.
(2) وفي (خ): تكتمن.
324

تعالى رادا عليهم: (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) [1]
وقولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)، فقال تعالى مكذبا لأقوالهم:
(انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)،
وموطن يعترفون فيه بالخطايا ويسألون الرجعة إلى دار الدنيا فيقولون:
(يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) [2]
وقيل: إن آخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتشهد عليهم
جلودهم وأعظاؤهم. نعوذ بالله من هول ذلك المقام وخزي ذلك الكلام!
ومعنى هذا القول مروي عن الحسن البصري.
3 - ووجه آخر. قيل: إن المراد بذلك انهم لا يكتمون
أسرارهم في الآخرة، كما كانوا يكتمونها في الدنيا، لأنهم مضطرون
إلى الصدق وقول الحق.
4 - ووجه آخر، قيل: إن قوله: ولا يكتمون الله
حديثا) داخل في باب التمني، بعد ما نطقت جوارحهم بفضائحهم،
وشهدت عليهم بجرائمهم. وهذا الوجه محكي عن ابن عباس رحمه الله.
وتلخيص ذلك: أنهم ودوا لو أن الأرض استوت عليهم وكانوا كما
كانوا أمواتا تحتها وانهم لم يكتموا الله ما كذبتهم به شهادات جوارحهم
وإقرار جلودهم وأعضائهم، وذلك كقول القائل: ليتني أجد
أموالا أمنحها الطالبين وثيابا أكسوها العارين، فيكون الثاني داخلا
في معنى الأول، كما يقول الرجل لغيره: وددت أنك تركتني ولم تذهب

(1) النحل: 28.
(2) الانعام: 27.
325

بي إلى حيث ذهبت بي، اي: جمعت لي بين هذين الامرين،
فكذلك هؤلاء تمنوا هذين الامرين جميعا، وهو ألا يكتموا الله حديثا
وان تسوى بهم الأرض، فالتمني في هذا الوجه منتظم للامرين كليهما،
وهو في الوجه الأول متعلق بتسوى الأرض بهم حسب، وهو منتهى
وقوع التمني وصار ما بعد ذلك مستأنفا، فكأنه تعالى قال: وهم
لا يكتمون الله حديثا.
5 - ووجه آخر، قيل: معنى (ولا يكتمون الله حديثا)
انهم لا يقصدون الكذب، لان دواعي الكذب قد ارتفعت عنهم في
الآخرة، فقولهم على ذلك: (والله ربنا ما كنا مشركين) معناه
أنهم عند أنفسهم في الدنيا لم يكونوا كذلك، لأنهم كانوا يعتمدون ان
عبادة الأصنام تقربهم إلى الله تعالى، وكانوا عند نفوسهم موحدين
مؤمنين وهم ضالون مشركون.
6 - ووجه آخر، قال بعضهم: معنى ذلك انهم أملوا أملا
فخاب أملهم وانعكس عليهم ولم يقع الامر بمحبتهم. وذلك أن من عادة
الناس في الدنيا أنهم إذا عوقبوا فتضوروا واستغاثوا وتألموا، فان العذاب
يسهل عليهم بعض السهولة بتكرر الكلام وشكوى الآلام، كتألم
المضروب واسترواح المكروب، فقولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)،
وقولهم: (ربنا ظلمنا أنفسنا) [1] وقولهم: (ربنا أرنا
الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا) [2]،

(1) الأعراف: 23.
(2) فصلت: 29.
326

وما شاكل ذلك، إنما هو من جنس الضجيج والاضطراب والتغوث
والاسترواح وطلب تخفيف العذاب، على ما اعتادوه في دار الدنيا،
فلم ينفعهم ذلك بل عاد بخلاف ما أملوه وضد ما حاولوه، فقال تعالى:
(انظر كيف كذبوا على أنفسهم) يريد كذبوا فيما أملوه من سهولة
العذاب عليهم وتخفيفه عنهم، وهذا معروف في كلامهم أن يقولوا:
كذب فلانا أمله [1]، إذا امل أمرا فلم يعط ما أمله، وعليه قول
الشاعر [2]:
- كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة ما دام للسيف قائم -
قال: والمعنى كذبتم آمالكم [3] في ذلك، ولم يرد الشاعر انهم
قالوا قولا فكذبوا فيه. (قلت) ولا يمتنع أن يكونوا قالوا: سنأخذها
مراغمة، فرد الشاعر عليهم قولهم، فقال: كذبتهم فيما قلتموه من أخذها
قسرا وحيازتها قهرا. وقال أبو دؤاد الأيادي في طرده عيرا لصيده
ويعني فرسه والعير:
قلت لما فصلا من قنة * كذب العير وإن كان برح [4]

(1) المشهور من كلامهم: (كذب أمله وأكدى رجاؤه).
(2) هو عمرو بن براق أو براقة، والبيت من قصيدة، مشهورة قصتها في
كتب الأدب ومطلعها:
تقول سليمى لا تعرض لتلفة * وليلك عن ليل الصعاليك نائم
(3) هكذا في النسخ والظاهر: كذبتكم آمالكم، أو كذبتم في آمالكم.
(4) رواه في (التاج): قلت لما نصلا...). القنة من كل شئ
أعلاه وقلة الجبل، وقد فسر في التاج كذب في البيت بفتر وأمكن. قال: (ويجوز
أن يكون اغراء اي عليك العير فصده وإن كان برح).
327

فأراد كذب العير أمله، لان العير لا يجوز أن ينسب إليه الكذب
الحقيقي الذي هو ضد الصدق، المعنى أنه آمل أن ينجو من اقتناصي،
فكذبه أمله، لأنه ظن أنه إذا مر بارحا [1] - وهو ان يأخذ من جهة
الشمال إلى جهة اليمين - لم يتمكن الفارس من طعنه، فلما قلب الرمح
فطعنه جاز أن يقول: كذبه أمله فيما ظنه من النجاة.
قال صاحب هذا القول: (فان قيل كيف أكذبهم [2] الله في
قولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)، وقد حلفوا على حق عندهم!.
قيل له: ليس قوله تعالى: (كذبوا) ههنا من الكذب الذي هو
ضد الصدق، وإنما هو من الايجاب والالزام، فكأن معناه: انظر
كيف ألزموا أنفسهم الكفر وأوجبوا عليها الشرك. وعلى هذا قول
بعض العرب: (كذب عليك الحج) [3] يريد إلزم الحج. وكما شكى
رجل إلى بعض الصحابة ألم رجله [4] فقال: (كذب عليك العسل)

(1) الظاهر بقرينة التفسير الذي ذكره المؤلف ان البارح مأخوذ من البروج
ومنه قولهم: برح الظبي. والبارح عند العرب: ما مر من اليمين إلى اليسار، ويقابله
السانح وهو ما مر من اليسار إلى اليمين. والعرب تتطير بالمبارح وتتيمن بالسانح
وهذا يخالف ما ذكره المؤلف، لكن ابن رشيق حكى في العمدة عن بعضهم: ان
السانح عند أهل الحجاز ما أتى عن اليمين إلى اليسار والبارح عكسه. وهم يتيمنون
بالبارح ويتشأمون بالسانح. وأهل نجد بالضد من ذلك.
(2) وفي (خ): كذبهم.
(3) نسب في القاموس وشرحه هذه
الكلمة إلى عمر وقال في الشرح: قيل: معناها وجب عليك.
(4) قال في اللسان: عمرو بن معدي كرب اشتكى إلى عمر المعص فقال:
كذب عليك العسل. يريد العسلان وهو مشي الذئب، اي عليك بسرعة المشي.
والمعص بالعين المهملة: التواء في عصب الرجل.
328

اي الزم السعي، والعسل والعسلان ضرب من المشي فيه همز [1] ومنه
قول الشاعر [2]:
(.. كما عسل الطريق الثعلب)
ومن الشاهد على أن قولهم: (كذب عليك كذا)، بمعنى الزم
كذا، قول الشاعر [3]:
كذب العتيق وماء شن بارد * إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
اي: الزم العتيق وماء شن بارد، ومثل قول الآخر [4]:
وذبيانية وصت بنيها * بأن كذب القراطف والقروف
أي عليكم بالقراطف والقروف فالزموها والقراطف: القطف [5].
والقروف: جمع قرف، وهو: وعاء من أدم يكون فيه الخلع: طعام
للعرب [6] والقرف أيضا بالتحريك: الأديم الأحمر، كأنه قرف

(1) يراد ههنا الاندفاع والسرعة. وفي (خ): همر بالمهملة، يقال: همر
الجواد الأرض ضربها بحوافره شديدا.
(3) بعض بيت لساعد بن جوية الهذلي والبيت:
لدن يهز الكف يعسل متنه * فيه كما عسل الطريق الثعلب
(2) قيل: هو عنترة العبسي يخاطب زوجته عبلة. وقيل: لخزز بن لوذان
السدوسي. قال في التاج: والبيت موجود في ديوانيهما وهو من شواهد سيبويه. وأنشده
الشيخ الرضي في مبحث أسماء الأفعال شاهدا على أن (كذب) في الأصل فعل،
وقد صار اسم فعل بمعنى الزم: قيل: ومضر تنصب العتيق بعد كذب على الاغراء،
واليمن ترفعه. والعتيق: التمر اليابس، قال في اللسان: يقول لها عليك بأكل
العتيق وشرب الماء البارد ولا تتعرضي لغبوق اللبن.
(4) هو معقر بن حمار البارقي. وفي رواية: (وذبيانية أوصت بنيها)
(5) القطف: جمع قطيفة وهي الدثار المخمل. وفي النسخ: القطن، والصواب
ما أثبتناه.
(6) هو ان يؤخذ لحم الجزور ويطبخ بشحمه ثم يجعل فيه توابل ثم يفرغ في هذا الوعاء من الأدم.
329

فبدت حمرته).
وفي هذا الوجه المذكور ضعف وتخليط، وغيره أقوى منه وأجدر
بالاعتماد عليه، وذلك أن القول الذي تقوله الكفار يوم القيامة
مثل (والله ربنا ما كنا مشركين) و (ربنا أرنا الذين أضلانا)
وما يجري هذا المجرى، لو كانوا يقولونه على سبيل التخليط والتضور
وطلب التخفيف من الألم، لما كان سبحانه يحكيه عنهم ويورد في
عقبه أجوبة لهم، فيقول: (اخسئوا فيها ولا تكلمون) [1] ويقول
- تعالى بعقب [2] قوله: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا
نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) -: (أولم نعمركم
ما يتذكر فيه من تذكر.. الآية) (3)، وما يجري هذا
المجرى. ولو كان هذا الكلام لا يخرج منهم إلا على الوجه الذي
حكاه صاحب هذا القول من طلبهم به تخفيف ألمهم وتسهيل عذابهم
لما حكى عنهم ولا اعتد (به منهم) (4)، ولما كان بعده
جواب لهم.
وأيضا فقول هذا القائل: إن قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا
على أنفسهم) ليس المراد به الكذب المعروف، وإنما معناه انهم ألزموا
أنفسهم الكفر وأوجبوا عليها الزجر، واستشهاده بما استشهد به من
الشعر على صحة ذلك - غير سديد ولا مستقيم، لأنه عدول عن الأعرف

(1) المؤمنون: 108.
(2) وفي (خ): عقيب
(3) فاطر: 37
(4) وفي (خ): يهم.
330

والأظهر إلى الأخفى والأغمض، بلا دليل هاد ولا أمر داع وفيه
إلغاز وإيهام يتعالى الله سبحانه عنهما ولا يحتاج إليهما.
وعلى ذكرنا قول الله سبحانه: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل
صالحا غير الذي كنا نعمل)، فقد كان شيخنا أبو الفتح النحوي عمل في
آخره عمره كتابا يشتمل على الاحتجاج بقراءة الشواذ، ناحيا به نحو أبي
علي الفارسي في عمله كتاب الحجة، وهو الاحتجاج للقراءة السبعة، فقال
فيه محتجا لقراءة من قرأ في الزخرف: (ونادوا يا مال ليقض
علينا ربك.. - 77) بالترخيم، بعد ذكره وجوها في ذلك:
(يجوز أن يكون إنما ذكر ذلك على وجه الحكاية لكلام الكفار
وهم في أطوار العذاب، لأنهم لشدة آلامهم وإطباق العذاب عليهم قد
ضعفت قواهم وخفيت أصواتهم وضعفوا عن تتميم اسم مالك عند ندائهم
له ضعف أنفاس وخفوت أصوات، فحكى سبحانه قولهم ذلك على وجهه)
وكان يعلو به التغلغل في استنباط المعاني والتولج إلى غامضاتها
والغوص على قرارتها، إلى أن يورد مثل هذا الذي ربما خدش به
فضله، الذي لا مغمز فيه ولا مطعن عليه، ومع ذلك فهو في هذا
العلم السابق المسوم [1] والأول المقدم والبحر الجموم [2] والدليل المأموم.
وقد كان بعض علماء الوقت خاوضني في ذلك، فقال في كلامه:
(ترى شيخنا ابا الفتح لم يسمع قول الله سبحانه في صفة الكفار المعذبين
في نار جهنم نعوذ بالله منها: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا

(1) المعلم.
(2) كثير الماء.
331

منها نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل)، والاصطراخ ضد ما توهمه من
خوفت أصواتهم وانقطاع أنفاسهم، ومن يمكنه رفع الصوت بالضجيج
والصراخ الشديد لا يمكنه (1) أن يتمم اسما في الندا، حتى ينقص
منه ضعفا وقصورا وذبولا وخفوتا). فحكيت هذا القول لأبي الفتح
فقال: (وما ينكر من هذا؟ ألا تعلم أن أهل النار ينتهي بهم العذاب
إلى حد لا يبقى معه فضل في جسومهم ولا في نفوسهم حتى تبدل جلودهم
وتعاد قواهم، ليتكرر العذاب عليهم، كما ذكر تعالى في كتابه فقال:
(كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب
..) (2)، فما ينكر هذا المعترض من أن يكون ضعفهم عن تتميم الكلام
في حال ذهاب القوى وتلاشي النفوس، واصطراخهم وضجيجهم في
حال إعادة القوى وتبديل الجلود (وهدء النفوس) (3). وهذا لعمري قول!
أقول: ومن شجون هذا الكلام ما روي عن أبي عبيدة أنه سئل عن
وجه هذه القراءة وفي قوله تعالى: (ونادوا يا مال ليقض علينا ربك)
فقال: (إن أهل النار لفي شغل عن الترخيم). يؤمي بذلك إلى أن
الترخيم من اتساعات الكلام ومصارف اللسان، لا يكاد يستعمل
إلا عند فراغ البال وطلب الانسان الأغراب في الخطاب. وبعد فليس
هو بأس ولا أصل (4)، وإنما هو نيف (5) وفضل، فالخطاب
الأعم الأكثر إنما يجب أن يكون بالأعراف الأظهر لا الأقل الأغمض.

(1) وفي (خ): لا يمكنهم
(2) النساء: 56
(3) زيادة في (خ)
(4) وفي (خ) بأصل ولا أس
(5) كسيد وقد يخفف وهو الزيادة.
332

7 - واما أبو علي فإنه يؤول قوله تعالى: (ولا يكتمون الله
حديثا) على وجهين: أحدهما، أنهم لا يكتمون الله تعالى في الآخرة
أمرهم عند ظهور الشهادات والامارات ونطق الأعضاء الصامتات، فلا بد
مع ذلك من وقوع الاعتراف والاقرار والتسليم والاذعان. والآخر،
أنهم لا يكتمون الله تعالى أحوالهم في الدنيا، بمعنى ان ذلك لا يتأتى
لهم، لأنه تعالى المطلع على السرائر والمستبطن للضمائر، فكان في هذا
القول تحذير لهم من استعمال الرياء وإضمار النفاق وابطان الأمور المنكرات،
فان ذلك وإن صح كتمانه عن العباد فلا يصح كتمانه عن رب العباد.
فإن كان قوله تعالى: (ولا يكتمون الله حديثا) داخلا في باب تمنيهم
- على قول من قال ذلك - فالمراد انهم تمنوا يوم القيامة ان يكونوا لم
يكتموا الله تعالى حديثا في الدنيا، لان في الآخرة لا يصح منهم كتمان حديثهم
وقد أصحرت السرائر وظهرت الضمائر، فلا وجه لتمني ذلك منهم.
فان قيل: إذا لم يجز أن يفعلوا في الآخرة القبيح فكيف يجوز منهم
أن يتمنوا ما لا يكون!. فجوابه: أن تمنيهم لما لا يكون لا يقبح منهم
فلا يجب ان يمنعوا منه بالالجاء لفعل القبيح، وربما كان التمني زائدا
في الحسرة ومضاعفا للغصة، وهذا كقوله تعالى: (يريدون أن
يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) (1)
لأن هذه الإرادة لا يكاد ينفعك منها من عركه البلاء وعضته الضراء، فكذلك
لا يكاد ينفك من مثل التمني المقدم ذكره.

(1) المائدة: 37
333

فصل
(لو تسوى بهم الأرض)
يذكر فيه اختلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (لو تسوى بهم الأرض)
واختلاف القراء في قراءة هذا الحرف.
فنقول: إن العلماء مختلفون في معنى ذلك، فقال بعضهم: إنما
تمنوا البقاء على ما كانوا عليه في قبورهم وانهم لم يبعثوا بعد موتهم، وإذا
كانوا كذلك فالأرض مستوية بهم، لأنهم إذا أخرجوا منها اختلفت
أوصاف الأرض، فكانت مواضع القبور منبوثة [1]، وباقي الأرض
مستو على الحال المعهودة، فتمنيهم لان تسوى بهم الأرض هو التمني
لبقائهم فيها على حالهم.
وقال بعضهم: تمنوا أن يكونوا ترابا، فيختلطوا بتراب الأرض،
حتى لا يفرق بين الترابين، فيكونا مستويين، اي متساويين،
والشاهد على ذلك قوله تعالى: (ويقول الكافر يا ليتني كنت
ترابا) (2) اي: مختلطا بأجزاء الأرض لم ابعث ولم أعد. وقيل:
إن الكفار إنما يتمنون أن يكونوا ترابا عند مشاهدتهم ما يفعله الله في
البهائم: من تصيرها ترابا بعد إعادتها وتوفر الأعواض عليها، فيتمنون
حينئذ أن يكونوا منها، ليستريحوا من العذاب ويخلصوا من العقاب.
وقال بعضهم: إنما تمنوا ابتلاع الأرض لهم واخذها إياهم،

(1) اي منبوشة
(2) النبأ: 40
334

لتنقطع عنهم آلام العذاب، وذلك كما يقول القائل عند خجله أو وجله:
وددت أن الأرض ابتلعتني وأن موضعي منها ساخ بي ولم يكن ما خنته
واتقيته.
وعندي في ذلك وجه آخر لم يمض بي لمن تقدم، وهو أنه يجوز أن
يكون معنى قوله: (لو تسوى بهم الأرض) انهم تمنوا إعادتهم إلى دار
الدنيا وردهم إلى الحال الأولى، فيكون معنى تسوية الأرض بهم إعادتها إلى
حالهما وهيئتها، لان بنية السماوات والأرض في يوم القيامة تنتقض
وأوضاعها تتغير، ألا ترى إلى قوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير
الأرض والسماوات..) [1] وما يقوي ذلك أيضا ما ذكره الله
تعالى عن الكفار في عدة آيات من تمنيهم الرجعة ومسألتهم الكرة كقوله
تعالى: (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)
وكقوله سبحانه: (قال رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما
تركت..) [2]، وكقوله تعالى: (فارجعنا نعمل صالحا إنا
موقنون) (3) لي غير ذلك من الآيات.
فأما اختلاف القراء في قراءة هذه الحرف، فان ابن كثير وعاصما وأبا
عمرو قرأوا (تسوى) مضمومة التاء خفيفة السين، وقرأ نافع وابن عامر
(تسوى) مفتوحة التاء مشددة السين، وقرأ حمزة والكسائي
(تسوى) مفتوحة التاء مخففة السين والواو ممالة مشددة. فمن قرأ

(1) إبراهيم: 48.
(2) المؤمنون: 100.
(3) السجدة: 12.
335

(تسوى) أراد تفعل من التسوية، والمعنى - كما قلنا أولا - أنهم تمنوا
لو يجعلون والأرض سواء، ومن هذا قوله تعالى: (بلى قادرين
على أن نسوي بنانه) [1] على أحد التأويلين، اي (2): نجعلها صفحة
واحدة لا ينفصل بعضها عن بعض كخف البعير، فتعجز لذلك عما يستعان
عليه بالبنان مباشرة الاعمال اللطاف: كالكتابة والنساجة والبناء
والصياغة ونحو ذلك، ومن أقسام العرب المذكورة عنهم: (والذي
شقهن خمسا من واحدة) يعنون البنان من الكف.
ومن قرأ (لو تسوى) بتشديد السين، فإنما أراد لو تتسوى،
فأدغم التاء في السين لقربها منها، وذلك مطاوع لو تسوى لأنك تقول:
سويته فتسوى. ولا ينبغي أن نكره اجتماع التشديدين ههنا لأنه قد جاء
في القرآن مثله، وذلك قوله تعالى: (اطيرنا بك وبمن معك..) [3]
وقوله: (لعلهم يذكرون) [4] ونحو ذلك.
وفي هذا الوجه ضرب من الأنساع، لان الفعل فيه قد أسند إلى
الأرض، وليس المراد انهم تمنوا لو تصير الأرض مثلهم فتسوي بهم،
وإنما تمنوا أن يصيروا مثلها فيستووا بها، وجاز [5] ذلك، لأمان
الالتباس وارتفاع الايهام، كقولهم: ادخل فوه الحجر، وإنما المراد
دخل الحجر فاه، ولكن قالوا ذلك لزوال الالتباس.

(1) القيامة: 4
(2) وفي (خ): أن.
(3) النمل: 47.
(4) الأعراف: 26، 130 والأنفال: 57.
(5) وفي (خ): كان.
336

وأما من قرأ (لو تسوى) خفيفة السين، فان معناه معنى الأول،
وإنما حذف التاء التي أدغمها من قرأ تسوى بتشديد السين، لأنها لما
اعتلت بالادغام سهل حذفها. وفي ما ذكرناه من الكلام على هذه المسألة
بلاغ وكفاية بتوفيق الله تعالى.
4 - مسألة
(لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)
ظاهر الآية الاقرار على السكر والرضا به - الجواب عن ذلك - تسمية
الشئ باسم الشئ المصاحب له وشاهده من القرآن - ان هذه الآية منسوخة
- المراد من السكر السكر من النوم - الصحيح ان الآية منسوخة -
حكم المسكر غير الخمر - رواية شرب ابن أبي ليلى النبيذ عن علي (ع)
وتكذيبها - قول قاضي القضاة ان السكران لا يكلف.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون.. الآية - 43)
فقال: مفهوم هذا الخطاب يقتضي تأخير الصلاة مع السكر، والاقرار
على بلوغ حد السكر، وفي الاقرار عليه دليل على الرضا، فلو لم تكن
337

الحال كذلك لعقب سبحانه بالتعيير وأفصح بالنكير.
فالجواب: أن في ذلك أقوالا للعلماء.
1 - منها، أن هذه الآية نزلت بسبب، وذلك أن جماعة
من الصحابة اجتمعوا على مأدبة، فأكلوا وشربوا الخمر - وهي إذ ذاك غير
محرمة - وحضر وقت الصلاة، فقدموا رجلا منهم ليؤم بهم، فقرأ
(يا أيها الكافرون.. أعبد ما تعبدون..) باسقاط أحرف
الجحد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فساءه وبلغ منه، ولم يبعد أن
نزل الوحي بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى حتى تعلموا ما تقولون).
2 - وقال بعضهم: المراد بذلك لا تقربوا موضع الصلاة وأنتم
بهذه الصفة، وموضع الصلاة المسجد، فحذف الموضع وأقام الصلاة
مقامه، ومثل ذلك كثير في التنزيل وكلام العرب. وله أيضا وجه
آخر، وهو أن الشئ قد يسمى باسم الشئ إذا كثرت مصاحبته له،
فيكون تسمية المسجد صلاة، على هذا المعنى، لكثرة وقوع الصلاة
فيه ألا ترى إلى قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها
اسم الله كثيرا..) [1]، وعامة المفسرين ان الصلاة ههنا يعني
بها مصليات اليهود، وسميت بذلك لكثرة صلاتهم فيها على الوجه
الذي ذكرناه.

(1) الحج: 40.
338

وإنما جعل ذلك خاصا لليهود من وجهين: أحدهما، أن ما يتفرد
به المسلمون من مواضع الصلاة قد ذكر وهو المساجد، وما يتفرد به
النصارى قد عين أيضا وهو البيع [1] والصوامع، وبقي ما يخص اليهود
وهم بقية أهل الكتاب، فجعل ذلك خاصا لهم. والوجه الآخر، وهو
أن اليهود كانوا يسمون موضع صلاتهم: صلوتا [2]، ومرادهم به موضع
الصلاة. وقد قرأ بعض القراء من الشواذ ذلك على مثل لغتهم، وهو خطأ
غير معتد به. فلما عرب ذلك وافتصل عن أوضاع لغتهم، قيل:
صلوات، والمراد به مواضع الصلوات. وهذا القول أيضا مبني على أن
هذه الآية نزلت والخمر غير محرمة ثم حرمت من بعد.
3 - وقال بعضهم: هذه الآية منسوخة بالآية التي في المائدة
وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
لعلكم تفلحون 90)، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة.
4 - وقال الضحاك: المراد به السكر من النوم خاصة، لان النوم
الغالب يجري مجرى السكر في كثير من أحواله، لأنه يبطل أكثر
عمل الجوارح فيعقل اللسان الطليق ويحل العقد الوثيق، وينحل الأعضاء

(1) البيع جمع بيعة بكسر الباء: معبد النصارى. وعن بعض اللغويين انها معبد
لليهود وللنصارى، وليس في أصل المعنى ما يقتضي الاختصاص بأحد الفريقين.
(2) قال السيوطي في الاتقان في الفصل الذي ذكر فيه ما جاء في القرآن
بغير لغة العرب: (قال الجواليقي: هي صلوات بالعبرانية كنائس اليهود واصلها
(صلوتا). واخرج ابن أبي حاتم نحوه عن الضحاك.
339

السوية ويكدر الأذهان الصافية، ألا ترى ان العرب قد أكثرت في
اشعارها من تشبيه النوم بالسكر لاجتماعهما في الأوصاف التي ذكرناها،
حتى سموا الركب المدلجين نشاوى وسكارى، ووصفوا أعناقهم بالتمايل
والتولي والاضطراب والتثني، حتى قال شاعرهم (في ذلك) [1]:
وركب سروا حتى كأن رقابهم * من السكر في الظلماء خيطان خروع [2]
فشبه أعناقهم لشدة تثنيها من السهر بعيدان الخروع، وهو: النبت المعروف
ويسمون أيضا كل نبت لين: خروعا، وإنما سمي خروعا لما فيه من
اللين والاسترخاء، والواو زائدة، وأصله الاسترخاء واللين، ومنه
قولهم: امرأة خريع، إذا كانت ناعمة الجسم، وقيل أيضا للمرأة
الفاجرة [3]: خريع، من هذا، لأنها تلين لكل جاذب وتنثني
لكل قائد. ومما قيل أيضا من الشعر في ذلك قول بعضهم:
كأن هامهم، والنوم واضعها * على المناكب، لم تعمد بأعناق
ومنه قول ذي الرمة في صفة ركب ادلجوا، فأثر فيهم السهر،
وأحسن في التشبيه كل الاحسان:
بركب سروا حتى كأن اضطرابهم * على شعب الميس اضطراب الغدائر (4)
والغدائر: الذوائب. فقد شبهوا القوم المتمايلين من شدة السهر - كما ترى -
بتحرك الذوائب مرة، وشبهوهم أيضا بنوس القرطة (5) في الآذان

(1) زيادة في (خ).
(2) الخيطان: جمع خوط بالفتح وهو الغصن.
(3) وفي (خ): الفاسدة.
(4) الميس: شجر عظيم يتخذ منه الرحال، حتى قال العرب: الميس الرحل.
(5) النوس بالفتح: تذبذب الشئ متدليا. والقرطة: جمع القرط.
340

مرة، وبغير ذلك مما يطول الكلام باستقصاء ذكره. والشعر في
هذا المعنى أكثر من أن نحيط بأقطاره أو نجمعه من أطرافه.
ومما يقوى به قول من قال: (إن السكر ههنا من النوم لا من الخمر) أن
النوم والسكر من الشراب يرجعان إلى أصل واحد، وذلك الأصل هو السهو،
وإنما تتغير أسماؤه لاختلاف الأحوال به، فإذا قارن السهو استرخاء واستراحة
سمي نوما، وإن قارنه ضعف أو علة سمي إغماء، وإذا استمر بالإنسان مع استمرار
الصحة سمي جنونا، وإذا قارنه فتور ونشاط سمي سكرا، ولا يمتنع في المعاني
أن تختلف احكامها وأسماؤها لوقوعها على وجوه مختلفة وأنحاء مفترقة.
فان قال قائل: هلا قلتم: إن النوم هو استرخاء الجسم على وجه
الاستراحة إذا قارنه السهو! ولم (1) صرتم بأن تجعلوه اسما للسهو على
الوجه الذي قلتموه أولى (2) من أن تجعلوه اسما للاسترخاء على هذا
الوجه؟. قيل له: إن الحال في الاسترخاء تختلف على الجسم، ولا تختلف
حاله في كونه نائما إذا حصل فيه ما قلنا من السهو، ولو اختلفت حال
السهو لم يوصف بذلك، فعلم أن النوم هو السهو إذا كان على الصفة
المذكورة، فصح أن المراد ههنا بالسكر هو غلبة النوم على الانسان
حتى يعقل لسانه وينقص بيانه، ولذلك قال تعالى: (حتى تعلموا
ما تقولون)، اي: حتى تزول عنكم أغباش (3) النعاس. وتتحققوا
مخاريج الكلام، إلا أن تسمية السكران من الشراب حقيقة، وتسمية

(1) وفي (خ): ولو.
(2) وفي (خ) لكان أولى.
(3) الأغباش: جمع غبش بفتحتين وهو: ظلمة آخر الليل.
341

السكران من النوم مجاز وعلى طريق التشبيه بالسكران من الشراب،
وحمل الكلام على حقائقه أولى من حمله على مجازاته.
5 - وقال بعضهم: السكران من الشراب لا تجوز صلاته،
وهو الذي يزول عقله حتى يصير في حد من لو كان كذلك من غير شراب
لزال تكليفه. ومن علاماته أيضا اختلاط كلامه حتى لا يدري ما يقول،
فإن كان كلامه منتظما لا اختلاط فيه، فليس بسكران، لأنه تعالى جعل
أمارة زوال السكران يعلم الانسان ما يقول، وإنما ذكر تعالى هذه العبارة
ليعلمهم أن من صلى في مثل هذه الحال فصلاته فاسدة وعليه الإعادة، وكما
لا تجوز صلاته فكذلك لا تكون طاعة، إذ لو صح كونها طاعة منه لصح
ان يلزمه فرضها، ولا يجوز زوال تكليفه في الصلاة الا وسائر التكاليف زائلة
عنه. قال: وذلك يوجب ألا يجوز له طلاق ولا نكاح، وأن يكون
بمنزلة الصبي والمجنون، ولا يلزمه إن قذف حد، ولا يصح له شراء
ولا بيع، إلا أن الدية تلزمه إذا قتل كما يلزم النائم إذا انقلب على الشئ
فكسره أن يغرمه. وقد يجوز أن يكون هذا الخطاب غير متناول
للسكران على حقيقته، وإنما يتناول السكران الذي لم يبلغ إلى حد زوال
التكليف عنه، بل هو في حكم النشوان ومعه مسكة العقل وصحته وثميلة
الرأي (1) وبقيته، وكأنه تعالى امرهم ألا يقربوا الصلاة، وهم في
الغاية القصوى من السكر وهي التي لا يحصل معها الكلام ولا يصح الافهام،
وقد يسمى الانسان سكرانا وإن لم يبلغ إلى ذلك الحد مجازا وتقريبا،

(1) ثميلة بمعنى بقية.
342

فيكون الخطاب متوجها إلى من هذه صفته دون من تلك صفته.
6 - وقال بعضهم: ويحتمل أن يكون المراد بذلك نهيهم عن
التعرض لتناول ما يسكرون منه، فيؤديهم ذلك إلى ترك الصلاة الواجبة
عليهم، إذ قد جعل تعالى فعلهم الصلاة مشروطا بألا يكونا سكارى غير
مقيمين لكلامهم، ولا محصلين لأمرهم، فكان محصول الكلام
النهي عن السكر جملة، لان الصلاة إذا كانت واجبة لا بد من فعلها،
وكانت لا تفعل مع السكر الذي يفسدها، حصل في أيدينا من ذلك النهي
عن الحال التي يجوز لنا فعل الصلاة معها، لأننا متعبدون بفعل الصلاة
في أوقاتها، منهيون عن تركها عند وجوبها، فإذا قيل لنا: لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى، وقد علمنا أن هذا القول غير ناسخ لغرض
الصلاة، علمنا في مضمون هذا اللفظ النهي عما يوجب السكر عند
أوقات الصلاة.
كما أنا لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث بقوله تعالى: (إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم..) [1]، وبقوله تعالى: (ولا
جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا..)، وبقول النبي صلى الله عليه وآله:
(لا يقبل الله صلاة من غير طهور)، كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة،
ولم يكن نهيا عن فعل الصلاة، ولم يوجب كون الانسان جنبا أو محدثا
سقوط فرض الصلاة عنه، وإنما نهي عن فعلها على هذه الحال وهو مأمور
مع ذلك بفعل الطهارة ليصح له فعل الصلاة بعدها، فكذلك النهي عن

(1) المائدة: 6.
343

الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر الشرب الذي يوجب السكر
قبل الصلاة.
وليس لقائل أن يقول: (إن فحوى هذا الكلام يدل على نهيه
تعالى عن السكر قبل وقت الصلاة، حتى إذا حضر وقتها دخل المخاطب
فيها وهو خال من السكر، مباح له فيما عدا أوقات الصلاة). وذلك
أن تحريم السكر عليه في كل حال مما يعلم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله،
وإنما أوقات الصلاة متقاربة، فإذا كان منهيا عن دخوله في فعل كل
صلاة وهو سكران مع تقارب أوقات الصلاة، فهو منهي عن السكر جملة،
لأنه إن سكر بعد صلاة الظهر لم ينتبه إلى صلاة العصر في الأغلب إلا
وهو سكران، لتقارب الوقتين، وكذلك حاله إن سكر بعد الصلاة
العصر ودخل في وقت المغرب، فعلم أن النهي عن السكر عام.
7 - وقال بعضهم: إنما تضمن هذا النهي الدلالة على أن الصلاة
تجب إعادتها في حال الصحو إذا فعلت في حال السكر. فان قال قائل:
إذا حمل معنى هذه الآية على أن المراد السكران الذي لم يبلغ إلى حد
يوجب زوال التكليف عنه، فكيف يجوز أن يكون منهيا عن فعل الصلاة
في هذه الحال، مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة فيها!.
قيل له: يجوز أن يكون هذا النهي متوجها إلى الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وآله
أو في الجماعة تعظيما للنبي، وتوقيرا للجماعة وتنزيها لها عن معاينة
السفه والخلاعة، وهذا قبل تحريم الخمر، فكأنه تعالى إنما نهاهم عن
حضور الجماعة أو الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله، وهم على تلك الحال من
344

السكر، وإن لم يكونوا قد بلغوا إلى حد زوال العقل.
وقال بعض العلماء: السكر سكران: أحدهما يكون مع زوال العقل.
والآخر هو أن يستحسن الانسان ما كان يستقبحه: من تصفيق يد
أو تبذل في مقعد إلى ما يجري هذا المجرى، وفيه بقية من التماسك والتحصيل
ونهية [1] من الرأي الأصيل.
وعلى كل الأحوال، فالصحيح أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
لعلكم تفلحون) وبقوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر
قل فيهما إثم كبير.. الآية) [2] وكل كبير محرم باجماع الأمة،
فقد بان تحريم الخمر قليلها وكثيرها بذلك، وتحريم السكر من كل شراب
بقوله صلى الله عليه وآله: (حرمت الخمرة بعينها والسكر من كل شراب) [3].
ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف في شرب غير الخمر من غير بلوغ حد السكر،
فإذا كان السكر محرما بالاجماع من الخمر وغيرها، فكل ما يسمى سكرا داخل
تحت ذلك، فإن كان القدر الذي ذكره صاحب هذا القول يقارنه
بضع التماسك والوقار من غير ذهاب العقل جملة، يسمى سكرا، فهو
محرم أيضا، لان الألف واللام في هذا الخبر لاستغراق الجنس،

(1) اسم من النهي.
(2) البقرة: 219.
(3) كذا جاء في النسخ والموجود من لفظ الحديث (المسكر)، ويوافقه
ما روي عن أهل البيت من قولهم (حرم الله الخمر بعينها وحرم رسول الله المسكر من كل
شراب جاز الله له ذلك). ولكن النسخ في هذا المقام وفيما قبله وبعده
متفقة على لفظ السكر فثبتناه على ما وجدناه.
345

فكل ما يسمى سكرا يدخل تحت ذلك.
وقد أقدم بعض الناقلين على رواية خبر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
يتعلق بأمير المؤمنين علي (ع) في معنى السكر، لا يقدم على روايته غير
طاعن عليه ولا مشير إلى القدح فيه إلا من رق دينه وضعف يقينه، وقد
ذكره أبو الحسن الكرخي في كتاب الأشربة من مختصره وخرج له وجها
يغطي بعض عواره (وقد قرأت بعض هذا الكتاب أعني مختصر أبي
الحسن علي القاضي أبي محمد عبد الله بن محمد الأسدي الأكفاني، وأجاز لي
رواية باقيه [1]، وكان سمعه من أبي الحسن الكرخي، وقرأت على هذا
القاضي أيضا قطعة من كتاب المزني في علم الشافعي وأجاز لي رواية باقيه
وطريقه في سماعه عال جدا لأنه يرويه عن أبيه عن جده عن أبي إبراهيم
المزني، وهو عراقي المذهب [2]، إلا أن جده وأباه كانا على مذهب
الشافعي على ما حكي لي).
حدثني القاضي أبو محمد، قال حدثنا أبو الحسن الكرخي، قال
حدثنا عبد الله بن الرازي، قال حدثنا أبو عبد الرحمن (يعني ابن عمار
الفقيه)، قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، عن فطر بن خليفة
عن عبد الأعلى الثعلبي [3]، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شربت
عند علي بن أبي طالب (ع) نبيذا فخرجت من عنده عند المغرب فأرسل
معي قنبرا مولاه يهديني إلى بيتي.

(1) وفي (خ): ما فيه.
(2) اي على مذهب الحنفية.
(3) وفي (خ): التغلبي وهؤلاء الأربعة ابن عمار والفضل وفطر
والثعلبي كأنهم مطعون في روايتهم تجد ترجمتهم في فهرس الاعلام.
346

وقال أبو الحسن عقيب ذلك: فنضع الامر على أنه لم يقصد به إلى هذه
الحال فآلت حاله إلى هذا المعنى بشئ عرض له من هواء أو غيره.
وأقول: إن هذا الخبر واهن القاعدة [1] مضطرب الرواية،
لان بعض ناقليه منهم علي أمير المؤمنين (ع) [2]، ولان المعلوم الظاهر

(1) وفي (خ): واهي الألفاظ.
(2) الظاهر أنه يعني عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن الجنيد، أو عبد الله بن عيسى بن هامان الرازي،
لأنه كان منحرفا عن علي (ع) وكان يرى أن عمار بن ياسر كان فاسقا لخروجه معه
حكى ذلك العسقلاني عن محمد بن حميد الرازي وعنه أنه قال سمعت منه عشرة آلاف
حديث فرميت بها. وقد يضم إليه في الاتهام الفقيه الموصلي فلقد كان مع ضعفه
منحرفا أيضا. اما عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبوه فقد كانا من ثقاته غير متهمين عليه
ولكن عبد الرحمن قتل أبوه بصفين وما كان عمر ولده يتجاوز اثنين وعشرين عاما
وما كان علي (ع) لينادم شابا أنصاريا مثله مع وجود أبيه، أو يقره على الشرب
في بيته وهو يومئذ خليفة قد نصب نفسه قدوة لعامة المسلمين شاهدهم وغائبهم، وهذا من
أبين الدلائل على وضع الحديث وافتعاله. اما إذا صح فإنه يجب حمله على شرب النبيذ
الذي تواتر عن أئمة الحديث رواية ان النبي صلى الله عليه وآله كان يشربه في جميع أيام حياته
وهو نبيذ التمر والزبيب يصنع غدوة ويشرب عشية ويصنع عشية ويشرب غدوة.
وهذا ليس بمسكر ولا محرم وقد شربه الصحابة والتابعون وكثير من الأئمة،
وعسى أن يكون عبد الرحمن عندما شربه عرض له من باب الاتفاق ريح في بطنه
أو دوار في رأسه فاحتاج إلى من يهديه إلى بيته،
اما ما أشرنا إليه من الرواية في شرب النبي (ص) فقد رواه مسلم في صحيحه
عن عائشة وعن ابن حزن القشيري عنها وعن غيرهما، ورواه النسائي في صحيحه
عنها وعن عبد الله بن ديلمي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله، وروى أصحاب الصحاح
والسنن أيضا عن ابن عباس وعن البهراني وغيرهما (ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان
يشرب النبيذ إلى ثلاث أيام من يوم ينبذ فان بقي منه شئ بعد ذلك سقاه الخادم
أو امر به فأهريق) قال الحافظ العسقلاني في شرح البخاري حاكيا عن أبي
المنذر: ان الشراب المدة التي ذكرتها عائشة يشرب حلوا واما في الصفة التي ذكرها
ابن عباس فقد ينتهي إلى الشدة والغليان ولكن يحمل ما ورد عن امر الخده
بشربه على أنه لم يبلغ الشدة وان قرب منها والا كان مسكرا حراما مطلقا.
عبد الحسين الحلي
347

والمنقول المتداول ان أمير المؤمنين والأخيار من ولده (ع) لم يزنوا [1]
قط بمثل هذه الفعلة ولا عرفوا بهذه الخلة. ولو حكي مثل ما أفصح عنه
هذا الخبر: من خروج السكارى المعلومين والذين قد غمرت عقولهم
وتهافتت قواهم، حتى احتاجوا إلى أن يدلوا على منازلهم ويصحبوا في
مذاهبهم، عن دار بعض السفهاء المعروفين بقلة التماسك وكثرة
التهالك - لكان كافيا في الذم ومقنعا في العار والعيب، وقد نزه
الله سبحانه عن هذا المقام زاهد الزهاد وبدل الابدال وتابع كل فضيلة
وخالع كل رذيلة [2].

(1) من أزن بتشديد النون - فلانا بكذا: اتهمه به.
(2) روى القطان في تفسيره على ما نقله عنه ابن شهرآشوب في كتاب (المناقب)
عن عمر بن حمران عن سعيد عن قتادة عن الحسن البصري، قال (اجتمع
عثمان بن مظعون وأبو طلحة وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبو
دجانة في منزل سعد بن أبي وقاص فأكلوا شيئا ثم قدم إليهم شيئا من الفضيخ (وهو
عصير العنب وشراب يتخذ من البسر وحده من غير أن تمسه النار) فقام علي (ع)
ليخرج من بينهم فقالوا له في ذلك فقال: لعن الله الخمر والله لا اشرب شيئا يذهب
بعقلي ويضحك بي من رآني وأزوج كريمتي من لا أريد، وخرج من بينهم فاتى
المسجد وهبط جبرئيل بهذه الآية (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر..) فقال
علي (ع) تبا لها - يعني الخمرة - والله يا رسول الله لقد كان بصري فيها نافذا مذ
كنت صغيرا). قال الحسن: والله الذي لا إله إلا هو ما شربها علي قبل تحريمها
ولا ساعة قط. (قلت): أفهل يتصور عاقل انه لا يشربها قبل التحريم مع التفاته
إلى مفاسدها ويشربها بعده أو يرضى لصاحبه ان يشربها في بيته ثم يخرجه نشوانا
طافحا لا يهتدي إلى منزله. نعوذ بالله من عواقب الافتراء ونستعين به على مقاومة
الأهواء!. عبد الحسين الحلي.
348

وقال قاضي القضاة أبو الحسن: ظاهر هذا الكلام نهي للسكران
عن أن يقرب الصلاة، ومعلوم أن السكران لا يجوز أن يؤمر وينهى،
فيجب أن يكون المراد خلاف الظاهر. فان قيل: ومن أين أن السكران
لا يجوز أن يؤمر وينهى؟ قيل: لان عقله مختل مضطرب، فكما لو حصل
بهذه الصفة لا عن شرب مسكر لم يجز أن يكلف، فكذلك إذا كان عن شرب
المسكر، لان كل صفة تمنع من التكليف متى وجدت، قبح التكليف
من أي وجه وجدت تلك الصفة.
فليس لقائل أن يقول: هو الجاني على نفسه والمزيل لعقله،
فيجب أن يحسن تكليفه لان ما ذكرناه مانع من ذلك، ولا فرق
بين من زال عقله لا من جهته وبين من زال عقله من جهته، في قبح
تكليفه ومؤاخذته بذنوبه، ولأن هذه العلة توجب في القاطع رجل نفسه جانيا
عليها أن يحسن تكليفه القيام، وفي الفاعل مثل ذلك بلسانه أن يحسن تكليفه
الكلام، وإن لم يحسن ذلك فيه إذا كان بطلان التي كلامه وقيامه من
فعل غيره.
ومتى قيل: فإذا لم يجز تكليف السكران فيجب ألا يؤاخذ بجناياته:
من قتل وإتلاف ومن طلاق وظهار، ولا يجوز شراؤه وبيعه وعقده
وحله. قيل: إن كثيرا من العلماء يذهبون إلى ذلك فيجعلون قول
السكران كقول المجنون والنائم في العقود والايقاعات، ويجعلون قتله
كقتل الصبي في اسقاط القود عنه. فاما لزوم الغرم في المال فمما لا يتعلق
349

بكمال العقل، وإذا كان الامر كذلك فالسكر لا يمنع منه. فان قيل:
إذا كان نفس السكر يوجب الحد فكيف يجوز ألا يكون السكران مؤاخذا
مكلفا!. قيل: إن المحصل من العلماء لا يقول بذلك، بل يقول: إنما يلزمه
الحد يأخذ ما يسكر إذا شربه والعقل ثابت، لان ذلك من فعله (و 1)
محرم عليه، فيجوز أن يؤاخذ به، وليس كذلك السكر، لأنه ليس من
قبله [2] فلا يجوز ان يحد عليه. فان قيل: فمن أين قلتم أن السكر
ليس من قبله [2]؟ قيل: لأنه غير واقع بحسب دواعيه واختياره
ولذلك قد يريد أن يسكر بالقليل فيتعذر عليه وألا يسكر بالكثير فلا
يتم ذلك له، ويجب أيضا إزالة السكر ومراجعة الصحو فلا يتمكن
من ذلك. وبعد فمعلوم ان من شرط التكليف كمال العقل فإذا لم
يحصل ذلك مع السكر فلا تكليف، كما إذا زال عقله بشرب بعض
الأدوية يجب الا يكون مكلفا. فان قيل: فإذا لم يصح خطاب
السكران فما معنى الآية؟ فقيل: انه تعالى خاطب المؤمنين وهم على
غير حال السكر فالمعنى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة في
المستقبل وأنتم سكارى) وإذا كان الامر كذلك وجب إن يكون
الخطاب منعا مما يؤدي إلى السكر. وفي ما ذكرناه من الكلام على هذه
المسألة كفاية بحمد الله.

(1) زيادة في (خ).
(2) وفي (خ): فعله.
350

5 - مسألة
(من قبل أن نطمس وجوها)
الشبهة في الآية - الجواب عن ذلك - معنى إيتاء الكتاب من وراء الظهر
وبالشمال - معنى اللعن في الشريعة - رأي المؤلف في أن معنى الوجوه ههنا
الأعيان والذوات - انتقال الخطاب في الآية من المواجهة إلى الغيبة.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها
فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت
وكان أمر الله مفعولا 47)، فقال: هذا القول وعيد لهم على
ترك الايمان والمقام على الضلال، وقد وجدنا أهل الكتاب مستمرين
في الكفر على طريقتهم ومتبعين سنن عاداتهم، ولم يكن ما توعدوا به
من طمس وجوههم وتغير خلقهم!
فالجواب: ان في ذلك أقوالا للعلماء:
1 - منها، أن جماعة من أهل الكتاب الذين خوطبوا بهذا الخطاب
آمنوا طوعا ودخلوا في الاسلام اختيارا: منهم عبد الله بن سلام وثعلبة
ابن سعية [1] وأسد بن عبيد ومخيريق [2] وغيرهم، وأسلم كعب

(1) وفي (خ): شعبة.
(2) وفي (خ): مخيرق، والموجود في
كتب الرجال مخرقة.
351

الأحبار في أيام عمر بن الخطاب لما قرعت هذه الآية سمعه خوفا من صحة
مخبرها وتحقيق أمرها [1]، ومثل ذلك روي عن عبد الله بن سلام
أنه لما قدم من الشام أتى النبي صلى الله عليه وآله فأسلم قبل أن يأتي أهله، وقال:
يا رسول الله ما كنت أرى اني أصل إليك عند سماعي هذه الآية حتى
يحول وجهي.
2 - وقول آخر، وهو المروي عن ابن عباس، قال: المراد
بذلك من قبل أن نطمس الوجوه عن بصائر الهدى فنردها على ادبارها،
أي: في ضلالتها، ويكون ذلك بالحكم والتسمية والخذلان بعد المعصية،
ويجعل سبحانه هذا من قبيل العقوبة لهم، كما تقدم من كلامنا في باب
الضلال والاضلال.
3 - وقول آخر، قال بعضهم: إن الوعيد بطمس الوجوه على سبيل
العقوبة ورد مشروطا بإقامة جميعهم على الكفر، فلما آمن بعضهم سقط
هذا الوعيد عنهم، ألا ترى إلى قوله تعالى. (فمنهم من آمن
به ومنهم من صد عنه..) [2]
4 - وقال بعضهم: ليس في الآية أنه ينزل بهم هذه العقوبة
في الدنيا، وإنما فيها أنه يفعل بهم هذا إن لم يؤمنوا، ويجوز أن
يكون ذلك في الآخرة ويكون من قبيل ما يزاد [3] به الكفار في يوم القيامة
خزاية ومثلة، ويزدادون معه ندما وحسرة، ومما يبين ذلك [4]

(1) وفي (خ): امرها.
(2) النساء: 55.
(3) في النسخ يراد. ولعله محرف من النساخ.
(4) ذكر الرازي هذا جوابا مستقلا وتلخيصه: ان الله تعالى لما ألزمهم
بالايمان في مدد أعمارهم وقبله منهم إلى حلول آجالهم، علمنا أنه يراد من لفظة
قبل معنى يلائم طلب ايمان في جميع مدة العمر ولا يكون ذلك الا إذا كان إنزال
العقوبة عند انقطاع التكليف في الدنيا.
352

أنه تعالى قال: (آمنوا من قبل أن ينزل بكم هذا العقاب)، ومعلوم
أن سائر الأوقات التي يبقون فيها على تكليفهم داخل تحت هذه اللفظة التي
هي (قبل)، ومعلوم في جميع عمرهم انه وقت للايمان، فجاز من هذا
الوجه أن يكون الوعيد بالطمس متأخرا عن حال الدنيا.
5 - وقال بعضهم: معنى طمس الوجوه هو إزالة رسومها وتنكير
معارفها، وهو معنى قوله: (فنردها على أدبارها)، أي: نشبه الوجوه
في محو الأسارير وإزالة التخاطيط بأقفائها، فقوله تعالى: (فنردها على
أدبارها) تفسير لطمس الوجوه. وهذا المعنى - والله أعلم - هو المراد
بقوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره) [1] فان الوجوه
إذا جعلت اقفاء كان إيتاء الانسان كتابه من وراء ظهره، على الحقيقة،
ومن حيث يكون وجهه وفيه لسانه وطرفه، لأنه إنما ينظر إلى كتابه
بعينه ويقرأ مضمونه بلسانه، وذلك كله في وجهه. وهذا أحد العذابين
اللذين أوعد بهما الله تعالى فيكون وقوع الطمس على الوجه المذكور في
الآخرة، ويكون المقدم في الدنيا هو اللعن لهم [2] وإلحاق الذم بهم، كما
قال تعالى: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت). والى هذا المعنى
قصد أبو مسلم بن بحر في الكلام على هذه الآية، وكنت أظن أنه من
اختراعاته حتى مضى بي لأبي العباس المبرد، وقد زاد فيه أن قال:

(1) الانشقاق: 10.
(2) وهذا هو العذاب الآخرة.
353

وتغير شمائلهم فيعطون بها كتبهم، فيكون ذلك هو المراد بقوله تعالى:
(وأما من أوتي كتابه بشماله..) [1]، لان الوجه إذا قلب
صارت الشمال مكان اليمين واليمين مكان الشمال، فسمي الشمال باسمها
الذي كان لها قبل قلب الوجه، وإن كانت في تلك الحال بمنزلة اليمين للمرء.
6 - وقال بعضهم: المعنى: نمحو آثار الوجوه ونجعل العيون
في الانيئاء فيمشون القهقري، فهو معنى قوله تعالى (فنردها على ادبارها).
7 - وقال بعضهم: معنى (أن نطمس وجوها) أي: نجعل
الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة والخنازير، وبيان هذا قوله تعالى:
(من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير..) [2]
أي: صيرهم لاشتباه وجوههم بوجوه هذين الجنسين كأنهم منهما، لا انهم
صاروا على الحقيقة قرودا وخنازير.
8 - وقال بعضهم: إنما قال سبحانه: (آمنوا من قبل أن
نطمس وجوها أو نلعنهم)، ومعنى ذلك افعلوا الايمان من قبل أن يكون
أحد هذين الامرين وقد كان أحدهما، وهو اللعن. وهذا للفظ - أعني
اللعن - وإن كان أصله في اللغة الطرد والابعاد، فإنها [3] من الأسماء المنقولة
عن أصولها في الشريعة، فقد صارت الآن اسما لمجموع أشياء منها العقوبة
والإهانة والخذلان والبراءة، فيكون المستحق للعن مخصوصا بذلك
في حياته ثم يتبعه لسان الذم بعد وفاته.

(1) الحاقة: 25.
(2) المائدة: 60.
(3) هكذا في النسخ والصواب: (فإنه).
354

فان قال قائل: إن اللعن قد كان مخصوصا بهم قبل نزول هذه
الآية والوعيد على الفعل لا بد من أن يتضمن أمرا مجددا. قيل له: إن
لعنة الله تعالى لهم من بعد ظهور هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في
خزيهم وأبلغ في ألم قلوبهم، فتكون الزيادة في ذلك هي المتجددة وهي
الفائدة المرادة.
9 - وقال بعضهم: الوجوه ههنا استعارة وتمثيل، والمعنى من قبل
أن نضلهم عن طرق الثواب جزاء لما هم عليه من الكفر والعناد، وهذا
كما يقول القائل: إن فلانا رد وجهي عن حاجتي وصرف وجهي دون بغيتي،
وليس هناك على الحقيقة وجه يصرف ولا يد تصرف، وإنما المراد أنه
رده عن طلبته وحال بينه وبين بغيته.
10 - ويجوز عندي في ذلك وجه آخر، وهو أن يكون المراد
بالوجوه ههنا غير هذه الأبعاض المخصوصة، بل تكون محمولة على
معنيين: أحدهما، أن يكون المراد بها أماثل القوم ورؤساءهم كما
يقال: هؤلاء وجوه القوم، أي: المعتمد عليهم من بينهم والمنظور
إليهم من جميعهم. والمعنى: من قبل أن نهلك رؤساءكم ومتقدمي دينكم
أو نلعنهم، وإنما جاء تعالى بلفظ الطمس كناية عن الاهلاك، لأنه
أشبه بذكر الوجوه من لفظ الاهلاك. وهذا من الاغراق في
منازع الفصاحة، والاحكام لمعاقد البلاغة. ومما يكشف عن ذلك
قوله تعالى بعد ذكر الوجوه: (أو نلعنهم)، ولو حمل الكلام على ظاهره
لكان (أو نلعنها)، فقوي أن المراد بالوجوه ما ذكرنا. وقوله تعالى:
355

(فنردها على ادبارها) اي: نركسها ونرديها، وعلى ذلك قوله تعالى:
(أما فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على
عقبيه فلن يضر الله شيئا..) (1) وقوله سبحانه: (ونرد
على أعقابنا بعد إذ هدانا الله..) (2)، والمراد الارتكاس
في الغي والرجوع عن الرشد، ولفظ الاعقاب مجاز، وليس هناك
على الحقيقة أقدام ترجع على أعقابها، ولا وجوه ترد على أدبارها.
والمعنى الآخر، أن يكون المراد بالوجوه ههنا الأعيان والذوات،
لا الأعضاء والأبعاض، كما يقال: هذا وجه الامر وهذا وجه الرأي،
والمراد به نفس الشئ المؤمى إليه، فيكون المعنى أيضا قريبا مما قلناه في
الوجه المتقدم، أي: آمنوا من قبل أن نهلك أعيانكم وذواتكم ونركسكم
على أدباركم. وإنما عبر تعالى بالطمس عن الاهلاك والاركاس،
لما جاء بلفظ الوجوه، إزواجا للكلام وجريا على سنن عادات أهل
اللسان، كما قلنا في الوجه الأول، ومما يشهد لذلك تأويلنا قوله تعالى:
(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [3] على أن المراد به
الجمل والذوات، لا الأبعاض المخصوصات، لأن هذه الصفة تليق
بجملتهم لا لأبعاضهم، لان البعض [4] لا يكون ناظرا، كما لا يكون فاعلا
ويزيد ذلك بيانا قوله تعالى من بعد: (ووجوه يومئذ باسرة 24 تظن
أن يفعل بها فاقرة 25) فعلق سبحانه بها الظن الذي لا يليق إلا بالجملة

(1) آل عمران: 144.
(2) الانعام: 71.
(3) القيامة: 23.
(4) وفي (خ): التبعيض.
356

العالمة، فعلمنا أن المراد بذلك الأعيان والذوات دون غيرها، وعلى
هذا الوجه قال تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة. لسعيها راضية) [1]
فنبه سبحانه بذكر رضا السعي على أن المراد بهذا الكلام ذوات الناس
دون الأبعاض التي هي الوجوه على الحقيقة، لان الامر لو لم يكن كذلك لكان إضافة السعي إلى الاقدام أولى من اضافته إلى الوجوه. وهذا
نبين ولله المنة!.
فان قيل: كيف انتقل الخطاب من المواجهة إلى الغيبة، فقال
سبحانه: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب)، ثم قال: (أو نلعنهم).
قيل: في ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها، أن يكون الكلام على مثال قوله تعالى: (حتى
إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة..) (2)،
وذلك مما يرد في كلام العرب واشعارها. فتعرف به قدرتها على التصرف
في أقطار الكلام، والتفسح في أعطان الخطاب، فتارة يكون مواجهة
لأنه أبلغ في المخاطبة، وتارة يكنى عن المخاطبين كما يكنى عن الغائبين، لان
ذلك أشد تصرفا وأغرب طريقة ومذهبا، وعلى ذلك قول الشاعر (3):
يا لهف نفسي كان جدة خالد * وبياض وجهك للتراب الأعفر
فانتقل من الغيبة إلى المواجهة شجاعة في البلاغة وإبعادا في مسالك الفصاحة
والجواب الثاني، أن يكون الضمير عائدا على أصحاب الوجوه،

(1) الغاشية: 9.
(2) يونس: 22.
(3) نسبه الشريف المرتضى في الجزء الرابع أماليه إلى أبي كبير الهذلي.
357

فإنهم بمنزلة المذكورين وإن لم يذكروا.
والجواب الثالث، أن يكون الضمير عائدا على الوجوه الذين هم أماثل
أهل الكتاب ورؤساؤهم، كما قلنا فيما تقدم، فيكون تلخيص الكلام:
(آمنوا من قبل أن نهلك أمثالكم ورؤساءكم أو نلعنهم كما لعنا أصحاب
السبت). وذلك واضح بحمد الله.
فصل
(وكان امر الله مفعولا)
واما قوله تعالى في آخر هذه الآية: (وكان أمر الله مفعولا)،
فالمراد به ما يريده تعالى من أفعال نفسه، فان ذلك واقع لا محالة،
لا يحجزه حاجز ولا يلفته لافت، فأما ما يريده سبحانه من أفعال خلقه،
فيجوز ان يقع ويجوز ألا يقع، لأنهم ممكنون من الفعل والترك لايجاب
الحجة وإزاحة العلة.
ووجه آخر، وهو أن يكون المراد بذلك ما يلزمه تعالى عباده
من طريق الاجبار والاضطرار، لا من طريق الفسحة والاختيار،
وذلك واقع بغير مانع، وكائن بغير دافع: كاعلال الأجسام وقبض
الأرواح وقلب الأرضين وارسال الحجارة على المعاقبين ومسخ الخلق
وإنزال النقم.
358

ووجه آخر، وهو أن يكون المراد بذلك ما يرسل به تعالى
الملائكة: من عقوبات الأمم وتحمل الوحي إلى الرسل، إذ كانت
الملائكة لا يعصون أمره، ولا يخالفون حكمه مباينين بذلك سائر من
خلقه، لقوله تعالى فيهم: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون
ما يؤمرون) [1]، فأخبر تعالى عن علمه بهم وعن وجوه [2] كل
ما يأمرهم بفعله، خلاف غيرهم.
ووجه آخر، وهو أن يكون المراد بذلك أن كل امر من أموره
تعالى: من مخبرات الاخبار ووعد الأبرار ووعيد الفساق والكفار،
على ما أخبر به تعالى.
ووجه آخر، قيل: (إن معنى ذلك وكان مأمور الله مفعولا
اي: الذي يأمره بقوله: (كن) فيكون. ونظير كون الامر ههنا
بمعنى المأمور كون العلم في موضع آخر بمعنى المعلوم). وهذا الوجه
ضعيف فاسد، وذلك انا لا نقول إن الله تعالى يخاطب ما يريد خلقه
بقوله تعالى: (كن)، لأنه في تلك الحال معدوم والمعدوم لا يخاطب،
وإنما قال تعالى ذلك على طريق المجاز دالا به على سرعة خلقه للأشياء
من غير إبطاء بخلقها ولا استعمال للروية فيها، ومذهب أهل اللسان
في مثل ذلك معلوم، وما قيل من الاشعار فيه معروف مشهور، وقد
تقدم في كتابنا هذا من ذكر ذلك ما فيه غنى ومقنع.
ومما يبين ما ذكرنا، أن الامر غير المأمور به، (فان امر) [3]

(1) التحريم: 6.
(2) وفي (خ): وجه، ولعل الأصوب مما في النسخ (وجود).
(3) وفي (خ): فأمر.
359

الله تعالى فعله والمأمور به فعل المأمور، لان الله سبحانه قد أمر عباده
بطاعته وأشفاهم [1] إلى عبادته بقوله تعالى: آمنوا، واسلموا، وصلوا،
وصوموا، وما يجرى هذا المجرى، وهذا مما لا يجوز أن يفعله تعالى، لان الطاعة
فعل الطائع والخضوع فعل الخاضع والصلاة فعل المصلي والزكاة فعل المزكي،
ولا يجوز أن يكون الامر ههنا بمعنى المأمور، لأنه ليس كل ما امر به
تعالى لا على سبيل الاجبار والاضطرار، يكون واقعا لا محالة.
فالصحيح أن المراد بأمره تعالى ههنا ما توعد به من عقوبة أهل الكتاب
إن لم يؤمنوا، لان ذلك ورد عقيب قوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على
ادبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) ثم قال تعالى: (وكان
أمر الله مفعولا)، أي: امره النازل بهذه العقوبة واقع لا يدفعه دافع
ولا يصرفه صارف إذا شاء الله تعالى ذلك. وفيما ذكرناه من الكلام
على هذه المسألة كفاية وبلاغ بتوفيق الله.

(1) كذا، ولعله من أشفى المريض إذا وصف له الدواء الذي فيه شفاؤه،
يتضمن معنى الهداية فلذا عداه بإلى.
360

6 - مسألة
(ويغفر ما دون ذلك)
شبهة المرجئة في الآية - الجواب عنها - مقارنة هذه الآية بالآية المبينة لها
في سورة واحدة - الوجوه التي استدل بها المرجئة - استقصاء الجواب عنها
- كلام ابن بحر في المقام - رواية عن الصادق (ع) في معنى (وما يؤمن
أكثرهم بالله إلا وهم مشركون).
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك
به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى
إثما عظيما 48)، فقال: ظاهر هذه الآية يدل على خلاف قولكم
في وعيد الفساق ومرتكبي الكبائر مع الاصرار، لأنها تدل على أنه
تعالى يغفر ما دون الشرك والكبائر كلها داخلة فيما دون الشرك، فما
تأويلكم في ذلك؟.
فالجواب: أن هذه الآية قد استقصى الأجوبة عنها شيوخ أهل العدل
في كتبهم، عند الكلام المتعلق بالوعيد، لأنها من أقوى الأطراف
التي تتشبث بها مخالفوهم من المرجئة، إلا أنا نذكر ههنا طرفا من الكلام
عليها، يكون قليله دليلا على الكثير، ووجيزه كافيا من القول
361

المبسوط، بمشيئة الله فنقول:
إنه لا حجة للقائلين بالارجاء في هذه الآية، لان الامر لو كان على
ما ظنوه من الغفران لأهل الكبائر الذين يموتون غير مقلعين، ولا نادمين
بل مصرين متتابعين، لكان وجه القول أن يكون. ويغفر ما دون
ذلك إن شاء)، فأما وهو تعالى يقول: (ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء)، فقد وجب انه تعالى يغفر لبعضهم وهم الذين يشاء ان يغفر
لهم، ودل ذلك على أن ممن يرتكب ما دون الشرك من لا يشاء ان يغفر له،
فلما دلت الآية على أنه سبحانه يغفر لبعض من يرتكب ما دون الشرك
ولا يغفر لبعضهم، علمنا أنه لا يجوز في حكمته وعدله أن يكون البعض
الذين يغفر لهم أهل الكبائر، والبعض الذين لا يغفر لهم أهل
الصغائر، أو أن يغفر لعبد ويعذب عبدا، والذنبان متساويان وهما في
المعصية سيان، لان هذا هو معنى المحاباة التي يتعالى سبحانه عن فعلها،
إذ لا هوادة [1] بينه وبين أحد ولا علاقة قرابة ولا نسب، ولا تدركه
الرقة ولا تميل به الشفقة، لان جميع ذلك من صفات الأجسام المصنوعة،
ودلائل الأعيان المخترعة وهو تعالى خالق الخلق ومنشئ الكل.
فإذا كان الامر على ما ذكرنا فقد صح أن البعض [2] الذي لا يشاء

(1) الهوادة: الرفق واللين.
(2) هذا هو رأي المعتزلة الذين عبر عنهم في صدر المسألة بشيوخ أهل العدل، واما الامامية وهم من أهله أيضا فالمعروف عنهم غفران الكبيرة مع عدم التوبة لمن شاء الله أن يغفرها له تفضلا. اما مع التوبة فالجميع على الغفران: اما تفضلا كما هو المعروف عند الإمامية أو وجوبا هو كما
مذهب المعتزلة.
362

أن يغفر لهم ممن أتى ما دون الشرك، هم أهل الكبائر الذين ماتوا على
جهة الاصرار وذهبوا عن الندم والاقلاع، وأن بالعض الذي يشاء
تعالى أن يغفر لهم هم أهل الصغائر ومن مات تائبا من أهل الكبائر.
وروي ان الحسن بن أبي الحسن سأله رجل فقال: ما تقول فيمن
قتل مؤمنا متعمدا؟. قال: أقول فيه ما قال الله ثم لا أقول بخلافه حتى
ألقى الله: (من قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها
.. الآية) [1]. قال السائل: فأين قوله تعالى: (ان الله لا يغفر أن
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)؟ فقال الحسن: أوما بين تعالى
مشيئته حيث يقول: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر
عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) [2]!
وأقول: إنه من الحكمة العجيبة واللطائف الشريفة إجراء هذه الآية مع
الآية التي قبلها في مضمار واحد، وذلك أن الآيتين اللتين إحداهما مبهمة
وهي الأولة والأخرى مبينة وهي الثانية، جمعا في هذه السورة، وإنما
فعل تعالى ذلك - والله أعلم - لئلا تبعد المسافة بين القول المبهم والقول
الموضح، والكلام المجمل والكلام المبين، ولا يخرج التالي من
هذه السورة إلا وقد نقعت غلته وأزاحت علته، فكانت هي المبهمة
وهي المبينة، وهي المجملة وهي المفصلة، ولم يجعل تعالى هذه الآية
التي هي بيان الآية الأخرى في غير هذه السورة، فيتطوح [3] طلب

(1) النساء: 93.
(2) النساء: 31.
(3) اي يبعد ويتيه.
363

الطالب ويتوانى [1] كدح المرتاد الباحث، إلى أن يجد ما يجلو غمته
ويحل شبهته، بعد امتحان الآي الطويلة، وتقري [2] السور الكثيرة.
ذلك تقدير العزيز العليم!.
ونحن نزيد الكلام على هذه الآية وضوحا بأن نذكر من كم وجه
تعلق المخالفون بها واعتمدوا عليها، ونفسد [3] تلك الوجوه بأجمعها،
ليكون الكلام أجلى وجها والفائدة أكثر توجها، لان الغرض بما
نذكر من ذلك أن تخرج هذه الآية من أن يكون للمخالفين بها تعلق أو
عليها معول، لا أن ندعي أنها دلالة لنا وشاهدة بصحة قولنا، لأن هذه
الآية من أقوى ما اعتمد القوم عليه وتعلقوا به، فنقول:
1 - إنهم قالوا: قد بين تعالى أن ما دون الشرك يغفره لمن يشاء،
وذلك يوجب أن لا أحد منهم إلا وجائز أن يغفر سبحانه له من غير
اختصاص. وكذلك نقول في عصاة أهل الصلاة لأنا نرجئ أمرهم إلى الله
تعالى، ونجوز ان يتفضل عليهم بالعفو وان يعاقبهم بالذنب. قالوا:
ومتى حمل ذلك على الصغائر لم يصح، لان فيه تخصيص قوله: (ما دون
ذلك لمن يشاء) لأنه عام في كل ما عدا الشرك، فحمله على بعضه غير
مستقيم.
2 - وربما تعلقوا بذلك من وجه آخر، فقالوا: قد علمنا أنه
سبحانه لم يرد بقوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) على كل حال،

(1) وفي (خ): يتوالى، والكدح: الكد.
(2) التقري: التتبع.
(3) وفي (خ): نفتد.
364

لأنهم عند استقبال التوبة ومحو الحوبة يجب ان يغفر لهم، فالمراد إذن
أن الله لا يغفر أن يشرك به تفضلا، فإذا كان ذلك هو المراد فيما
بني عليه يجب أن يكون مشروطا فيه، فكأنه تعالى قال: يغفر ما دون
ذلك لمن يشاء تفضلا، وذلك يوجب أن يكون المراد به الكبائر، لان
الصغائر يجب أن تكون مغفورة بالاستحقاق [1] لا بالتفضل.
3 - وربما تعلقوا بذلك من وجه آخر، فقالوا: لا يحسن من
الحكيم أن يتمدح بأنه لا يتفضل بأمر، لكنه بفعل الواجب الذي لا بد في
الحكمة أن يفعله، فقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) مقرون
بأنه يغفر ذلك مع التوبة، فكأنه تعالى قال: إنه لا يغفر ذلك تفضلا لعظمه
وإن غفره بالتوبة، فلا يصح أن يعقب ذلك بأن يقول: ويغفر الصغائر
باستحقاق، مع أنه يغفر الكبائر باستحقاق أيضا، فحق الكلام أن
يكون المراد به: ويغفر ما دون ذلك تفضلا من غير استحقاق.
4 - وربما تعلقوا بذلك من وجه آخر، وهو ان يقولوا:
إنه تعالى قال: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، فأضاف الغفران إليه
وأضافه إلى مشيئته، والواجب المستحق لا يصح ذلك فيه، لان
الصغيرة مغفورة في نفسها لا تقع إضافة غفرانها إلى أحد، ولا يتعلق
بمشيئة أحد.
فهذه الوجوه من أوجه ما يمكن ان يتعلق به في ذلك، ونحن بمشيئة

(1) وقد أورد بهذا على المعتزلة وأجاب المؤلف عنه آنفا بالفرق بين قوله
ان شاء وقوله لمن يشاء.
365

الله نورد الأجوبة عن جميع الفصول التي تعلق بها، ومن الله نستمد
التوفيق والتسديد بمنه ولطفه، فنقول:
إن قوله تبارك اسمه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء) مجمل غير مبين، ومبهم غير ملخص [1]، لأنه تعالى
علقه بالمشيئة [2] على وجه يقتضي ظاهره أنه لا يغفر كل ما دون ذلك،
وإنما يغفر بعضه دون بعض، لأن الظاهر يقتضي ما أومأنا إليه،
فصار الكلام من هذا الوجه في حكم المجمل، لأنه لا يدل على أمر
بعينه، ولأنه لا معصية دون الكفر إلا ويجوز أن تكون مما يشاء
غفرانه، ويجوز أن تكون مما لا يشاء غفرانه، وكما يحتمل أن يكون
المراد بذلك الكبائر يحتمل ان يراد به الصغائر أو بعض كل
واحد منهما، وما هذه حاله يجب الا يكون دلالة على موضع يقع فيه
التنازع، ومنزلته في ذلك منزلة ما تقرر في العقول قبل الشرع: من
أن هذه المعاصي يجوز من الله تعالى غفران بعضها دون بعض، وعلى هذا
الوجه أجاب الحسن من سأله عن هذه الآية بما قدمنا ذكره، وفي بعض الأخبار
أنه قال للسائل: يا لكع! أما بين الله مشيئته بقوله:
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)!، فبنى تلك
الآية لاجمالها [3] على هذه الآية لبيانها، وجعل الآيتين كأن إحداهما
موصولة بالأخرى، فكأنه تعالى قال: ويغفر ما دون ذلك من

(1) وفي (خ): مخلص.
(2) تقدم منه دعوى أن ظاهر الكلام لا يقتضي التعليق عليها، ولعل ما ذكره هنا مجاراة للخصوم في ظهوره بالتعليق على المشيئة.
(3) وفي (خ) وفي (خ): لاحتمالها.
366

السيئات لمن اجتنب الكبائر.
فان قيل: فيجب ألا يكون في الكلام فائدة إذا كان لا يعلم به
إلا ما كان مقررا في العقل [1] من قبله. قلنا: ليس الامر كذلك،
لأنه قد كان يجوز في العقل الا يكون في المعاصي ما يغفر البتة، وإنما
يعلم ذلك بهذه الآية، لأنها قد دلت على أن فيها ما يغفر وإن كان
لا يغفر إلا بالاستحقاق.
وبعد، فان ذلك يدل على أنه تعالى قادر على الغفران، ويصح
ذلك منه، وأنه يشاء غفران بعض الذنوب، وذلك بمنزلة قوله تعالى:
(إن الله على كل شئ قدير)، في أنه لا يفعل كلما يقدر عليه
مما تمنع الحكمة منه. وبعد، فإذا علم تعالى أن الصلاح للمكلف ان
يتوقف في هذه الآية عند ورودها، ويجوز الغفران في بعض المعاصي دون
بعض، لم يمتنع ان يخاطب بها لهذا الغرض الراجع إلى مصلحة المكلف.
على أنه قد ثبت أن المشيئة إذا دخلت في الكلام الذي يدل ظاهره
على الامر المراد، أوجبت التوقف، ولذلك أمرنا تعالى على طريق التأديب
لنا فيما نخبر به عن المستقبل من أفعالنا ان نقيده بمشيئة الله سبحانه; فإذا
صح ذلك فيجب [2] أن يكون دخول مشيئته في هذا الكلام يقتضي
التوقف، وفي ذلك إبطال تعلقهم بظاهر الخطاب، وإنما كان يصح تعلقهم
به لو قال: (ويغفر ما دون ذلك)، مطلقا، فأما إذا قال: (لمن يشاء)
فالتعلق به لا يصح. على أنه لو قال: (ويغفر ما دون ذلك)،

(1) وفي (خ) بالعقل.
(2) وفي (خ): صح.
367

مطلقا من غير تقييد بالمشيئة، كان لا يمتنع أن يخص [1] بما قدمناه من
الأدلة، وبقوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم)، لأنه أعم من حيث كان متناولا لكل ما دون الشرك،
فيجب أن يبنى على ما هو أخص منه مما يدل على تمييزه [2] ما يغفره مما
لا يغفره، وهذا واجب في الكلام، فإذا كان، لو كان مطلقا لوجب ذلك
فيه، فهو بأن يجب إذا كان مقيدا بالمشيئة أولى.
فأما قولهم: إن إضافة المغفرة إليه تعالى تمنع من حمل الكلام على
الصغائر، فبعيد، لأنه تعالى هو الغافر لها، فان كانت المغفرة مستحقة
فما الذي يمنع - والحال هذه - من صحة هذه الإضافة، وقد ثبت انه
لا فصل بين التكفير والغفران، وقد قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر
ما تنهون عنه نكفر عنكم) فأضاف تكفيرها إلى نفسه وهي صغائر، فما
الذي يمنع من مثله في إضافة الغفران إليه تعالى وإن كانت الذنوب صغائر.
وبعد، فعلى هذا القول يجب بطلان قولهم: إنه تعالى أراد بقوله:
(إن الله لا يغفر أن يشرك به) تفضلا، لان زيادة ذكر التفضل ههنا
لا وجه له ان كانت المغفرة لا تضاف إليه إلا تفضلا، وكان يجب ألا
يصح أن يقول: ويغفر الشرك مع التوبة، لان الغفران عندها
واجب، فلا وجه للإضافة، وهذا يبين سقوط ما قالوه.
على أن المغفرة عندنا تتضمن الإثابة [3] لأنه تعالى إنما يغفر

(1) وفي (خ): يخصه.
(2) وفي (خ): تمييزها.
(3) هذا هو مذهب لأخيه الشريف المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء)
ولا نعلم له موافقا من الامامية.
368

السيئات بفعل الثواب، فيصير كالساتر للمعاصي، وهذه حقيقة الغافر في أصل
اللغة، وقد علمنا أن الغفران على هذا الحد لا يصح إلا للتائبين ولأصحاب
الصغائر، لأنه يصح في كلا الوجهين اثبات الثواب، وفي غفران
الكبائر لا يصح ذلك، فلو جعل هذا الوجه كالدلالة على صحة ما تأولنا الآية
عليه حتى تكون دالة على ما نقوله، لكان أقرب.
فان قالوا: انه سبحانه وإن كان يغفر الذنوب ويضاف الغفران إليه،
فلا وجه - إذا كان واجبا - لتعليقه بالمشيئة. قيل لهم: إذا كان
كل ما يفعله تعالى من واجب وتفضل لا بد من أن يكون مريدا له ولا بد
في الثواب أيضا من أن يكون معه فاعلا له على وجه مخصوص يقتضي انه
مريد له على وجوه، فما الذي يمنع من إضافة ذلك إلى المشيئة؟.
وبعد، فان المشيئة في مثل هذه الحال إنما تدخل لتمييز امر من امر
ولا يكون المقصد بها ظاهرها، فما الذي يمنع من ذلك أيضا؟
فأما قولهم: إذا كان تعالى في صدر الكلام قد أراد التفضل
فكذلك يجب فيما بعده، فجوابه أن يقال لهم: ولماذا يجب ذلك؟.
فان قالوا: لان الحكيم لا يجوز ان يتكلم بجملتين من الكلام فيشترط في
أولاهما ما لا يشترط في الثانية. قيل لهم: ولم يجب ذلك وإحدى
الجملتين مستقلة بنفسها مستغنية عما يبني عليها، فلها حكمها! فما الذي
يمنع من كونها مشروطة دون الجملة الثانية! يبين ذلك أنه لو ذكر الشرط
فيها مصرحا ولم يذكره في الثانية لكان ذلك غير ممتنع، فإذا صح
ما قلنا كان أولى بألا يمتنع فيما يثبت من الشرط بالدلالة، فما المانع من
369

أن يكون التفضل مضمرا في قوله تعالى: (إن الله لا يغفر ان يشرك
به) تفضلا ولما تقع التوبة (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)! ولو أنه
تعالى صرح بما ذكرناه كان غير ممتنع أيضا، فنقول: (إن الله
لا يغفر أن يشرك به) تفضلا ولما تقع التوبة (ويغفر ما دون ذلك)
من الصغائر واجبا، من حيث جانب فاعلها الكبائر، فإذا كان صرح
تعالى بذلك كان الكلام صحيحا غير فاسد، فما الذي يمنع من أن ينزل
الدليل بهذه المنزلة!.
وبعد، فلا فرق بين من قال ما ذكروه وبين من قلب الكلام
عليهم فنزله على ما يضاد قولهم، وهو أن يقول: قوله تعالى: (إن
الله لا يفغر ان يشرك به) لا بد من أن يكون مشروطا بالاستحقاق،
فكأنه تعالى قال: إن الله لا يغفر الشرك بمجانبة غيره استحقاقا ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء بمجانبة غيره، فيكون هذا التقرير في الكلام
أصح مما ذكروه.
وبعد، فلو قيل: انه تعالى كأنه قال: إن الله لا يغفر أن
يشرك به بلا توبة ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء بلا توبة، ونزل هذا
التنزيل، لكان أقرب مما قاله الخصوم [1].
وأيضا فلو قيل [2]: إنه تعالى لما ذكر الجملة الأولى على وصف،

(1) يريد انه أقرب من غيره من التوجيهات السابقة، والا فهو نفسه قول الخصوم
(2) يريد أن هذا القول أيضا أقرب مما قاله الخصوم، وكأن جواب (لو)
محذوف تقديره: لكان أقرب.
370

أراد أن يبين مفارقة الجملة الأخرى لها من وجه، لان هذا هو الواجب
في موضع ما جرى هذا المجرى من الكلام، فإذا كانت الجملة الأولى
مشروطة بفقد [1] التوبة، فيجب أن تكون الثانية غير مشروطة بذلك،
فكأنه تعالى بين أن ما دون الشرك قد يكون فيه ما يغفر بمجانبة الكبائر،
وانه مخالف للشرك في ذلك، ولم يرد تعالى أن يميز ما هذه حاله،
لان ذلك لا يمكن الا بتعريف الصغائر، وتعريف الصغائر [2] غير
جائز، لما فيه من الاغراء بالمعاصي وتسهيل الطريق في التخطي من
الصغائر إلى الكبائر. ولأجل هذا روي (عن 3) بعض العلماء الصالحين
أنه قال: (اجعل بينك وبين الحرام حاجزا من الحلال، فإنك إذا
استوفيت الحلال كله تاقت نفسك إلى الحرام ففعلته) [4].
فاما تعلقهم بأن الحكيم لا يجوز أن يتمدح بأنه لا يغفر الشرك
تفضلا [و 5] بأنه يغفر ما دونه واجبا، فالجواب عنه: أن الغفران
لا يتضمن الوجوب ولا التفضل، وإنما يتضمن الفعل المخصوص فقط،
وهو بمنزلة قول القائل: (لا أعطي زيدا مالا)، في أنه لا يتضمن
وجوبا ولا تفضلا، فإذا قال: وأعطي مالا من أشاء من أولادي،
لم يجب ان يريد بذلك التفضل دون الواجب، وذلك بين.
وقد اتت هذه الجملة من وراء شبه المخالفين، وإنما غرضهم بهذه

(1) وفي (خ): بفعل.
(2) وفي (خ): تعريفها.
(3): الزيادة منا.
(4) تقدمت هذه الكلمة صفحة 201 مع زيادة عما هنا وتغيير.
(5) زيادة في (خ).
371

الزيادات تصحيح الاستدلال بأمور يضمونها إلى الظاهر وذلك غير موات
لهم ولا مجد عليهم، إذا كان اعتمادهم في هذا الكلام على التعلق
بالظاهر دون ما عداه.
ومما يؤيد الكلام على هذه الآية بيانا أن يقال للخصوم فيها: قد عرفتم أن
الله تعالى قال في كتابه: إنه يفعل أشياء إن شاء، (ثم بين) [1] لنا أنها مما
يشاء أن يفعله، فلم يشكك في أنها يفعلها، وإن كان قد شرط فيها المشيئة:
فمن ذلك قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله
وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر
لمن يشاء ويعذب من يشاء..) [2] ومنه قوله سبحانه: (ويعذب
المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم..) [3]، فلم يجب - لمكان اشتراط
المشيئة في عذاب اليهود والنصارى والمنافقين - أن نشك في عذابهم، لما
قال تعالى في آيات أخر: (إن الله لعن الكافرين واعد لهم سعيرا) [4]
وقال سبحانه: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه
الجنة ومأواه النار.. الآية) [5]. فعلمنا بذلك أنهم لو كانوا
مما يشاء ان يغفر لهم باشتراط المشيئة لما أخبر تعالى بتعذيبهم في المواضع
الاخر قطعا، بإلغاء ذكر المشيئة، ثم أخبر تعالى انه يعذب قاتل المؤمن
والزاني وآكل الربا وقاذف المحصنات وغيرهم من أهل الكبائر، فعلمنا

(1) وفي (خ): لم يبين.
(2) المائدة: 18.
(3) الأحزاب: 24.
(4) الأحزاب: 64
(5) المائدة: 72.
372

أن جميع هؤلاء ليس ممن يشاء ان يغفر لهم، ما [1] ذكره تعالى انه يعذبهم
عليه من هذه الذنوب التي دون الشرك، إذ كان تعالى قد أعلمنا انه يعذبهم
كما أعلمنا أنه يعذب الكفار بعد قوله تعالى: (يغفر لمن يشاء ويعذب
من يشاء..) [2]، فكان من يغفر لهم ما دون ذلك هم أهل الصغائر،
الذين وعدهم غفرانها باجتناب الكبائر في قوله تعالى: (ان تجتنبوا
كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)، فلم يجب - لاشتراط مشيئة
الغفران لما دون الشرك - أن نشك في غفران الصغائر لمجتنبي الكبائر، كما لم
يجب أن نشك في تعذيب أهل الكبائر التي هي دون الشرك، لاشتراط
المشيئة في الغفران لهم.
ومما يدل على ذلك أنا قد اجمعنا على أن قوله تعالى: (إن الله
لا يغفر أن يشرك به) معناه: انه يعذب على الشرك به، فوجب أن
يكون اخباره بأنه يعذب القاتل والزاني ومن أشبههما من أهل الكبائر
هو إخبار بأنه لا يغفر لهم، إذ كان (لا يغفر) معناه (يعذب)،
فكذلك قوله تعالى: (يعذب) هو إخبار بأنه لا يغفر، فإذا صح
ذلك بأنه لا يغفر الشرك، ولا يغفر ما قال: إنه يعذب عليه مما
دون ذلك من الكبائر التي ليست بشرك، وإذا كان هذا هكذا،
فقد وجب انه لا يغفر الشرك ولا ما دونه من الكبائر التي ليست بشرك،
لاستواء كل واحد من الدليلين في نفي الغفران وايقاع العذاب.

(1) (ما) هذه مصدرية ظرفية.
(2) آل عمران: 129. والمائدة: 18. والفتح: 14.
373

ولا تناقض بين قوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعا) [1]
كما ظنه الجهال، لان ذلك مشروط بالتوبة، وإنما قال تعالى ذلك
لئلا يظن ظان أن من الذنوب ما لا يغفره مع التوبة منه، وقد نبه
تعالى بأول هذه الآية وبما بعدها على ما ذكرنا، فقال تعالى: (قل
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
إن الله يغفر الذنوب جميعا..) وقال سبحانه في الآية التي تليها،
(وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له..)، فأعلمنا أن الغفران
إنما يكون بالإنابة وبالاقلاع والتوبة.
وقال أبو مسلم بن بحر: تلخيص المعنى في ذلك أنه سبحانه لا يغفر
الشرك للمقيم عليه ولا يغفر معه شيئا من الذنوب صغيرا ولا كبيرا:
فالصغائر المغفورة للمؤمنين غير محطوطة عن المشركين، وذلك من أجل
شركهم، ومعنى (أن) في قوله تعالى: (أن يشرك به) معنى
(من أجل)، أي: من أجل الشرك لا يغفر لهم، فإذا فارقوه
وكان منهم الذنب الذي هو دونه غفر ذلك لهم بالتوبة، المعنيون بقوله
تعالى: (من يشاء) التائبون، ويدل على ذلك قوله تعالى (إن
رحمة الله قريب من المحسنين) [2]. قال: ونظير هذا الاختصار
قوله تعالى: (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهم ثلثا ما ترك..) [3]
والأمة مجمعة على أن للاثنين مثل ما لمن فوقهما، فدل ذلك على

(1) الزمر: 53
(2) الأعراف: 56
(3) النساء: 11.
374

أن الكلام خرج فيه على الاختصار. فان سألوا لم قيل لكل كافر
مشرك؟ قلنا: كما قيل لمن عاند النبي صلى الله عليه وآله كافر، وإن لم يجحد شيئا
من نعم الله سبحانه، إلا أنه لما استكبر على رسول الله صلى الله عليه وآله
عنادا ولم يخضع له انقيادا صار عظيم جرمه كعظيم جرم من جحد نعم الله
سبحانه، فكذلك سمي كل كافر مشركا، لأنه قد بلغ بعظم جرمه مبلغ
جرم الذي أله الأصنام وعبد مع الله الأوثان.
ومن شعب هذه المسألة ما روي أن سائلا سأل جعفر بن محمد الصادق عليهما
السلام [1] عن قوله سبحانه: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا
وهم مشركون) [2]، فقال (ع): المراد بذلك شرك طاعة لا
شرك عبادة، كما يقول القائل: لولا الله وفلان لفعلت كذا وأقدمت
على كذا، وكطاعة الرجل فيما لا يحل وتعظيمه من لا يستحق، وما سمى
الله سبحانه النصارى مشركين إلا في آية واحدة، وهي قوله تعالى:
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن
مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه
عما يشركون) (3) فأجرى سبحانه عليهم اسم الشرك كما اجرى عليهم
اسم الكفر. وفي ما ذكرناه من ذلك كفاية ومقنع بتوفيق الله تعالى.
تم الجزء الخامس من كتاب حقائق التأويل في متشابه التنزيل.

(1) وروي ذلك أيضا في تفسير علي بن إبراهيم مسندا عن أبي جعفر
محمد الجواد بن علي الرضا عليهما السلام.
(2) يوسف: 106.
(3) التوبة: 31.
375

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم، ويتلوه
في الجزء الذي يليه (وهو الجزء السادس من كتاب حقائق التأويل في متشابه
التنزيل) مسألة. ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (ان الذين كفروا
بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها
ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما).
صورة المكتوب على آخر النسخة الرضوية:
ووافق الفراغ من ذلك بكور الجمعة حادي عشرين رجب شهر
الله الأصب سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة نقل على نسخة قرئت على
مصنفه السيد الشريف السعيد الرضي أعلى الله درجته وألحقه بالأئمة
المعصومين، وعليها خطه، وحكايته: (قرئ علي هذا الجزء من
أوله إلى آخره وصح إلا ما أغفل القارئ من تصحيحه وكتب محمد
بن الحسين الموسوي بخطه في شعبان من سنة اثنين وأربعمائة).
ووجدت في الكتاب حواش بخطه فنقلتها والله المشكور.
وتجده في راموز الصفحة الأخيرة
376