الكتاب: التبيان
المؤلف: الشيخ الطوسي
الجزء: ١٠
الوفاة: ٤٦٠
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: تحقيق وتصحيح : أحمد حبيب قصير العاملي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤٠٩
المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي
ردمك:
ملاحظات: دار إحياء التراث العربي

التبيان
في تفسير القرآن
تأليف
شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
385 - 460 ه‍
تحقيق وتصحيح
أحمد حبيب قصير العاملي
المجلد العاشر
دار
احياء التراث العربي
1

62 - سورة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
(يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس
العزيز الحكيم (1) هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو
عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا
من قبل لفي ضلال مبين (2) وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو
العزيز الحكيم (3) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم (4) مثل الذين حملوا التورية ثم لم يحملوها كمثل
الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله
والله لا يهدي القوم الظالمين) (5) خمس آيات بلا خلاف.
لا خلاف بين القراء في هذه السورة إلا ما روي عن الأعمش انه قرأ
(الجمعة) بسكون الميم. الباقون بضمها. وقد بينا معنى قوله (يسبح لله ما في السماوات
وما في الأرض) وبينا وجه التكرار فيه. وإنما جاء - ههنا - على لفظ المضارعة.
وقوله (الملك) يعني المالك للأشياء كلها ليس لأحد منعه منها (القدوس) المستحق
3

للتعظيم بتطهير صفاته من كل صفة نقص (العزيز) معناه القادر الذي لا يقهر
ولا يغلب (الحكيم) في جميع افعاله.
وقوله (هو الذي بعث) يعني الله الذي وصفه بالصفات المذكورة هو
الذي أرسل (في الأميين) قال قتادة ومجاهد: الأميون العرب. وقال قوم: هم
أهل مكة، لأنها تسمى أم القرى، والأمي منسوب إلى أنه ولد من أمه لا يحسن
الكتابة. ووجه النعمة في جعل النبوة في أمي موافقة ما تقدمت البشارة به في كتب
الأنبياء السالفة، ولما فيه من أنه أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة.
وقوله (رسولا) مفعول (بعث) و (منهم) يعني من سميتهم الأميين
ومن جملتهم (يتلو عليهم) أي يقرأ عليهم (آياته) أي حججه وبيناته من
القرآن وغيرها (ويزكيهم) أي ويطهرهم من دنس الشرك بما يهد بهم إلى الايمان
فيجعلهم أزكياء. وإنما يجعلهم كذلك بأن يدعوهم إلى طاعة الله التي يقع فيها الإجابة
لأنه لو دعاهم ولم يجيبوا لما قيل: إنه زكاهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة) قال قتادة:
يعلمهم القرآن والسنة، والحكمة نعم الكتاب والسنة، وكل ما أراده الله، فان
الحكمة هي العلم الذي يعمل عليه فيما يخشى أو يحبب من أمر الدين والدنيا (وإن
كانوا من قبل) يعني من قبل أن يبعث فيهم ويتلو عليهم القرآن (لفي ضلال مبين)
أي في عدول عن الحق جائرين عن الصراط المستقيم مبين أي ظاهر.
وقوله (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال ابن زيد ومجاهد: هم كل من
بعد الصحابة إلى يوم القيامة، فان الله بعث النبي منهم وشريعته تلزمهم، وإن لم
يلحقوا بزمان الصحابة. (وآخرين) نصب على تقدير ويزكي آخرين منهم، لما يلحقوا
بهم. ويجوز أن يكون جرا، وتقديره هو الذي بعث في الأميين وفي آخرين،
(وهو العزيز) الذي لا يغالب (الحكيم) في جميع أفعاله وما يأمر به.
4

وقوله (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (ذلك) إشارة إلى بعث الرسول
بين الله تعالى ان إرساله الرسول (فضل) من (الله) ونعمة (يؤتيه) أي يعطيه
(من يشاء) بحسب ما يعلمه من صلاحه مبعثه، وتحمل أعباء الرسالة (والله ذو
الفضل العظيم) على عباده بما يفعل بهم من التفضل والاحسان ساعة بعد ساعة.
وقوله (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها) معنا (مثل الذين حملوا
التوراة) يعني العمل بها وبما فيها، فحفظوها ودونوها في كتبهم ثم لم يعملوا بما فيها
(كمثل الحمار يحمل أسفارا) قال ابن عباس: الاسفار الكتب واحدها سفر، لأنها
تكشف عن المعنى باظهار حاله، يقال: سفر الرجل عن عمامته إذا كشف، وسفرت
المرأة عن وجهها وهي سافرة، وإنما مثلهم بالحمار لان الحمار الذي يحمل كتب
الحكمة على ظهره لا يدري بما فيها، ولا يحس بها كمثل من يحفظ الكتاب ولا يعمل
به، وعلى هذا من تلا القرآن ولم يفهم معناه وأعرض عن ذلك اعراض من لا يحتاج
إليه كان هذا المثل لاحقا به. وإن من حفظه وهو طالب لمعناه وقد تقدم حفظه فليس
من أهل هذا المثل.
وقوله (بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) معناه بئس القوم قوم
هذا مثلهم، وهم الذين كذبوا بحجج الله وبيناته.
ثم قال (والله لا يهدي القوم الظالمين) يعني الذين يظلمون نفوسهم بارتكاب
المعاصي لا يحكم بهدايتهم، ولا يرشدهم إلى طريق الجنة. قوله تعالى:
(قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من
دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (6) ولا يتمنونه
5

أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (7) قل إن الموت
الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب
والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (8) يا أيها الذين آمنوا إذا
نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع
ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا
في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم
تفلحون (10) وإذا رأوا تجارة أو لهوا أنفضوا إليها وتركوك قائما
قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين (11)
ست آيات.
هذا أمر من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله أن يخاطب اليهود، فيقول لهم (إن
زعمتم انكم أولياء لله) فالزعم قول عن ظن أو علم، ولهذا صارت من أخوات
(ظن) في الظن والعلم وعملت ذلك العمل من الاعراب قال الشاعر:
فان تزعميني كنت أجهل فيكم * فأني شريت الحلم بعدك بالجهل (1)
والأولياء جمع ولي، وهو الحقيق بالنصرة التي يوليها عند الحاجة، فالله
ولي المؤمنين، لأنه يوليهم النصرة عند حاجتهم. والمؤمن ولي الله لهذه العلة. ويجوز
أن يكون لأنه يولي المطيع له بنصرته عند حاجته، فقال الله لهؤلاء اليهود: إن
كنتم تظنون على زعمكم أنكم أنصار الله وأن الله ينصركم (فتمنوا الموت ان كنتم

(1) مر في 8 / 168.
6

صادقين) في ادعائكم أنكم أولياؤه دون الناس، فالتمني هو قول القائل - لما كان -
ليته لم يكن، ولما لم يكن: ليته كان. وهو من صفات الكلام. وقال بعضهم: هو
معنى في النفس.
ثم اخبر تعالى عن حالهم وكذبهم واضطرابهم في دعواهم، وانهم غير
واثقين بما يدعونه فقال (ولا يتمنونه ابدا بما قدمت أيديهم) ومعناه لا يتمنون الموت
أبدا فيما بعد (بما قدمت أيديهم) مما لا يرجعون فيه إلى ثقة من التكذيب
بالنبي صلى الله عليه وآله والتحريف لصفته في التوراة (والله عليم بالظالمين) أي عالم بأحوالهم
وافعالهم، لا يخفى عليه شئ منها.
وفي الآية دليل على النبوة لأنه اخبر بأنهم لا يتمنون الموت ابدا، وما
تمنوه فكان ذلك اخبارا بالصدق قبل كون الشئ، وذلك لا يعلمه، إلا الله تعالى.
وفيها بطلان ما ادعوه من أنهم أولياء الله.
ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله (قل) لهم (إن الموت الذي تفرون منه) أي تهربون
منه (فإنه ملاقيكم) وإنما قال (فإنه) بالفاء، وسواء فروا منه أو لم يفروا منه
فإنه ملاقيهم، مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه لأنه إذا كان الفرار منه
بمنزلة السبب في ملاقاته فلا معنى للتعرض له لأنه لا يباعد منه قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * ولو رام أن يرقى السماء بسلم (1)
وهن ينلنه هابها أولم يهبها، ولكنه إذا كانت هيبته بمنزلة السبب للمنية كان
لا معنى للهيبة، وقال قوم: تقديره قل إن الموت هو الذي تفرون منه فجعلوا (الذي)
في موضع الخبر لا صلة: ويكون (فإنه) مستأنف.
وقوله (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة) معناه ثم ترجعون إلى الله تعالى

(1) مر في 5 / 526.
7

يوم القيامة الذي يعلم سركم وعلانيتكم وظاهركم وباطنكم، لا يخفى عليه شئ من
أحوالكم (فينبئكم) أي يخبركم (بما كنتم تعملون) في دار الدنيا ويجازيكم بحسبها على
الطاعة بالثواب وعلى المعاصي بالعقاب، ثم خاطب المؤمنين فقال (يا أيها الذين آمنوا
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) معناه إذا سمعتم، أذان يوم
الجمعة فامضوا إلى الصلاة. قال قتادة: معناه امضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين
وبه قال ابن زيد والضحاك. وقال الزجاج: المعنى فامضوا إلى السعي الذي هو الاسراع
قال وقرأ ابن مسعود (فامضوا) إلى ذكر الله ثم قال: لو علمت الاسراع لا سرعت
حتى يقع ردائي عن كتفي. قال: وكذلك كان يقرأ (وأن ليس للانسان إلا ما
سعى وأن سعيه سوف يرى) (1) يريد مضى فيه دون الاسراع. ومثله قوله (إن
سعيكم لشتى) (2) وفرض الجمعة لازم على جميع المكلفين إلا صاحب العذر: من
سفر أو مرض أو عمى أو عرج أو آفة وغير ذلك. وعند اجتماع شروط وهي:
كون سلطان عادل أو من نصبه السلطان للصلاة، وتكامل العدد - عندنا - سبعة،
وعند قوم أربعين. وعند آخرين أربعة، وثلاثة. وقد بينا الخلاف في ذلك في
(خلاف الفقهاء)
وظاهر الآية متوجه إلى المؤمنين وإنما يدخل فيه الفاسق على التغليب، كما
يغلب المذكر على المؤنث، هذا على قول من يقول إن الفاسق ليس بمؤمن. فأما
من قال: إنه مؤمن مع كونه فاسقا، فالآية متوجهة إليهم كلهم. وقال مجاهد وسعيد
ابن المسيب: المراد بالذكر موعظة الامام في خطبته. وقال غيرهما: يعني الصلاة التي
فيها ذكر الله.
وقوله (وذروا البيع) معناه إذا دخل وقت الصلاة اتركوا البيع والشراء.

(1) سورة 53 النجم آية 39
(2) سورة 92 الليل آية 4.
8

قال الصحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وقال الحسن: كل بيع تفوت
فيه الصلاة يوم الجمعة فإنه بيع حرام، لا يجوز، وهو الذي يقتضيه ظاهر مذهبنا،
لان النهي يدل على فساد المنهي عنه. ثم قال (ذلكم) يعني ما ذكره من السعي
إلى الصلاة (خير لكم) في دينكم وانفع لكم عاقبة (إن كنتم تعلمون) صحة
ما قلناه أي اعلموه.
وقوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) أي إذا صليتم الجمعة
فانتشروا في الأرض طلبا لرزق الله. وصورته صورة الامر وهو إباحة وإذن ورخصة
- في قول الحسن والضحاك وابن زيد وغيره - (وابتغوا من فضل الله) أي
اطلبوا من فضل الله بعمل الطاعة والدعاء به (واذكروا الله كثيرا) يا محمد على
إحسانه وبالشكر على نعمه والتعظيم لصفاته (لعلكم تفلحون) ومعناه لتفلحوا
وتفوزوا بثواب النعيم.
ثم اخبر تعالى عن حال جماعة كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وهو يخطب وهم معه
يصلي بهم، فقال (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) قال جابر بن عبد الله
والحسن: قدم عير لدحية الكلبي فيها طعام المدينة بعدما أصابتهم مجاعة، فاستقبلوه
باللهو والمزامير والطبول - في قول جابر بن عبد الله ومجاهد - وكانوا مع النبي صلى الله عليه وآله
في الصلاة فلما سمعوا صوت الطبول والمزامير (انفضوا) أي تفرقوا إلى العير
يبصرونه وتركوا النبي صلى الله عليه وآله وحده قائما، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله (قل) لهم يا محمد
(ما عند الله) من الثواب على سماع الخطبة وحضور الموعظة (خير من اللهو
ومن التجارة) وانفع واحمد عاقبة (والله خير الرازقين) أي ليس يفوتهم بترك
البيع شئ من رزق الله والتقدير وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك
9

أي إليه، وإنما قيل (إليها) لأنها كانت أهم إليهم، ذكره الفراء. وقيل: تقديره وإذا
رأوا لهوا أو تجارة انفضوا إليها، فرد الضمير إلى أقرب المذكورين، لأنه كان أهم
إليهم، وكذلك قرأ ابن مسعود في مصحفه.
63 - سورة المنافقون
مدنية بلا خلاف وهو قول ابن عباس وعطا والضحاك وهي احدى عشرة
آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله
يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1) اتخذوا
أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2)
ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3)
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم
خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم
قاتلهم الله أنى يؤفكون (4) وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم
10

رسول الله لووا رؤسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) (5)
خمس آيات.
قرأ (خشب) خفيفة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي. وقرأ الباقون
(خشب) مثقل. وقرأ نافع وروح وزيد (لووا رؤسهم) خفيفة. الباقون
(لووا) مشددة.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله (إذا جاءك) يا محمد (المنافقون) وهم الذين
يطهرون الايمان ويبطنون الكفر (قالوا نشهد إنك لرسول الله) أي أخبروا بأنهم
يعتقدون إنك رسول الله. فقال الله تعالى لنبيه (والله يعلم انك لرسوله) على
الحقيقة (والله يشهد ان المنافقين لكاذبون) في قولهم إنهم يعتقدون
إنك لرسول الله، وكان إكذابهم في اعتقادهم وأنهم يشهدون ذلك بقلوبهم
ولم يكونوا فيما يرجع إلى ألسنتهم، لأنهم شهدوا بها بألسنتهم وهم صادقون في ذلك
وفي ذلك دلالة على بطلان قول من يقول إن المعرفة ضرورية. وكسرت (إن)
لأجل اللام التي هي لام الابتداء التي في الخبر، لان لها صدر الكلام. وإنما زحلقت
عن موضعها إلى موضع الخبر لئلا تجمع بين حرفي تأكيد، وكانت أحق بالتأخير،
لأنها غير عامة. وإنما كان لها صدر الكلام، لأنها نقلت الجملة إلى معنى التأكيد
وكل حرف نقل الجملة عن معنى إلى معنى كان له صدر الكلام، لئلا تختلط الجمل.
ثم اخبر تعالى عن هؤلاء المنافقين فقال (اتخذوا أيمانهم جنة) أي سترة
يتسترون بها من الكفر لئلا يقتلوا ولا يسبوا ولا تؤخذ أموالهم. والجنة السترة
المتخذة لدفع الأذية كالسلاح المتخذ لدفع الجراح، فالجنة السترة، والجنة البستان
الذي يجنه الشجر. الجنة والجنون الذي يغطي على العقل. واصل ذلك كله الستر
(فصدوا عن سبيل الله) أي منعوا غيرهم عن اتباع سبيل الحق. وقال الضحاك:
11

أيمانهم حلفهم إنهم لمنكم. وقرئ (إيمانهم) بكسر الهمزة بمعنى أنهم اتخذوا تصديقهم
ظاهرا جنة، فقال تعالى) انهم ساء ما كانوا يعملون) ومعناه بئس الذي يعملونه
من اظهار الايمان مع إبطان الكفر والصد عن السبيل. وقال زيد بن أرقم: نزلت
الآية في عبد الله بن أبي بن سلول، لما قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى
ينفضوا وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأغر منها الأذل، فملا وقف على ذلك
جحده وحلف انه ما قاله حتى نزلت السورة. وقوله) ذلك بأنهم آمنوا) بألسنتهم
عند الاقرار ب‍ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) (ثم كفروا) بقلوبهم لما كذبوا بهذا
وهو قول قتادة (فطبع على قلوبهم) أي ختم عليها بسمة تميز الملائكة بينهم وبين
المؤمنين على الحقيقة (فهم لا يفقهون) ذلك بجحدهم توحيد الله ونفاقهم وإنكارهم
نبوة رسوله الذي دعاهم إلى الحق.
ثم قال: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) بحسن منظرهم وجميل زيهم (وان
يقولوا) يعنى هؤلاء المنافقون (تسمع لقولهم) أي تصغي إليهم وتسمع ما يقولون
بحسن بيانهم وبلاغة لسانهم، فقال تعالى (كأنهم خشب مسندة) فشبههم الله
بالخشب المسندة، قيل: إنهم شبهو بخشب نخرة متأكلة لا خير فيها إلا أنها مسندة
يحسب من يراها أنها صحيحة سليمة. وخشب جمع خشبة مثل بدن وبدنة فيمن
سكن. ومن ضم قال: مثل ثمرة وثمر ثم وصفهم بالخور والهلع فقال (يحسبون
كل صحيحة عليهم) أي يظنون أنها مهلكتهم، وأنهم المقصودون بها جبنا وخورا.
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (هم العدو) لك وللمؤمنين (فاحذرهم) وتوقهم (قاتلهم الله)
وقيل: معناه أخزاهم الله. وقيل: معناه أحلهم الله محل من يقاتله عدو قاهر له،
وهذا أشد ما يكون من الذم والبلاء الذي ينزل بهم وأبلغ ما يكون في البيان عن
مكروههم (أنى يؤفكون) أي كيف يصرفون عن الحق. وإنما قال (فاحذرهم)
12

لأنهم كانوا ينقلون الاسرار إلى الكفار ويحيون من قدروا عليه من أهل الكفر.
ثم اخبر تعالى فقال (وإذا قيل لهم) يعني لهؤلاء المنافقين (تعالوا) أي
هلموا (يستغفر لكم رسول الله لووا رؤسهم) ومعناه أكثروا تحريكها بالهز لها
استهزاء بدعائهم إلى ذلك.
فمن شدد أراد تكثير الفعل. وممن خفف فلانه يدل على القليل والكثير.
ثم قال: ورأيتهم يا محمد (يصدون) عن سبيل الحق (وهم مستكبرون) أي
يطلبون الكبر ويتجبرون عن اتباع الحق.
قوله تعالى:
(سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر ا لله
لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين (6) هم الذين يقولون لا تنفقوا
على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض
ولكن المنافقين لا يفقهون (7) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن
المنافقين لا يعلمون (9) يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا
أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (9)
وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول
رب لولا أخر تني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10)
13

ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون) (11)
ست آيات.
قرأ أبو عمرو وحده (وأكون) بالواو، الباقون (واكن) وفى المصاحف
بلا واو فقيل لأبي عمرو: لم سقطت من المصاحف؟. فقال كما كتبوا: (كلهن) وقرأ
يحيى عن أبي بكر (يعملون) بالياء. الباقون بالتاء. ومن قرأ بالياء فعلى الخبر، ومن
قرأ بالتاء فعلى الخطاب.
لما اخبر الله تعالى عن حال المنافقين، وانه (إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم
رسول الله) حركوا رؤسهم استهزاء بهذا القول، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله (سواء
عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) أي يتساوى الاستغفار لهم وعدم الاستغفار
(فلن يغفر الله لهم) لأنهم يبطنون الكفر وإن أظهروا الايمان، وبين انه تعالى
(لا يهدي القوم الفاسقين) إلى طريق الجنة، فلهذا يجب ان ييأسوا من
المغفرة بالاستغفار.
وقال الحسن: اخبر الله تعالى أنهم يموتون على النفاق، فلم يستغفر لهم بعد.
وقيل: المعنى لا يحكم الله بهدايتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله يستغفر لهم على ظاهر
الحال بشرط حصول التوبة وأن يكون باطن المستغفر له مثل ظاهره، فبين بها أن
ذلك لا ينفع مع ابطانهم الكفر والنفاق.
ثم حكى تعالى عنهم فقال (هم الذين يقولون) يعني بعضهم لبعض لا تنفقوا
على من عند رسول الله صلى الله عليه وآله من المؤمنين المحتاجين (حتى ينفضوا) عنه ومعناه
حتى يتفرقوا عنه لفقرهم وحاجتهم. والانفضاض التفرق، وفض الكتاب إذا فرقه
ونشره، وسميت الفضة فضة لتفرقها في أثمان الأشياء المشتراة.
14

فقال الله تعالى (ولله خزائن السماوات والأرض) بمعنى له مقدوراته في
السماوات والأرض، لان فيها كل ما يشاء إخراجه، وله خزائن السماوات والأرض
يخرج منهما ما يشاء. وهي داخلة في مقدوراته، والخزانة - بكسر الخاء - موضع
يخبأ فيه الأمتعة، وإذا كان لله خزائن السماوات والأرض، فلا يضرك يا محمد ترك
انفاقهم بل لا يضرون إلا أنفسهم دون أولياء الله والمؤمنين الذين يسبب الله قوتهم
ولو شاء الله تعالى لاغنى المؤمنين، ولكن فعل ما هو أصلح لهم وتعبدهم بالصبر على
ذلك لينالوا منزلة الثواب (ولكن المنافقين لا يفقهون) ذلك على الحقيقة لجهلهم
بعقاب الله تعالى.
ثم اخبر عنهم فقال (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز)
يعنون نفوسهم (منها الأذل) يعنون رسول الله والمؤمنين. وقيل: إن القائل
لذلك في غزوة المريسيع، كان عبد الله بن أبي بن سلول، فقال الله تعالى (ولله
العزة ولرسوله وللمؤمنين) دون المنافقين والكفار (ولكن المنافقين لا يعلمون) ذلك
فيظنون ان العزة لهم، وذلك بجهلهم بصفات الله وما يستحقه أولياؤه وما يعمل
بهم. والأعز الأقدر على منع غيره وأصل الصفة المنع فلذلك لم يكن أحد أعز من
الله ولا أذل من المنافق.
ثم خاطب المؤمنين فقال (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم) أي
لا تشغلكم أموالكم (ولا أولادكم عن ذكر الله) قال قوم: الذكر المأمور به هو
ذكر الله بالحمد والشكر والتعظيم بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، ويقال: ألهيته عن
الامر إذا صرفته عنه بما يمنعه قال امرؤ القيس:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع * فألهيتها عن ذي تمائم محول (1)

(1) ديوانه (السندوبي) 147.
15

وقال قوم: ذكر الله جميع فرائضه ثم قال (ومن يفعل ذلك) أي من
شغله ماله أو ولده عن ذكر الله (فأولئك هم الخاسرون) الذين خسروا ثواب الله
وحصل لهم عقابه. ثم أمرهم بأن ينفقوا مما رزقهم الله فيما تجب عليهم النفقة فيه من
الزكاة والجهاد والحج والكفارات وغير ذلك من الواجبات. وفي ذلك دليل على أن
الحرام ليس برزق من الله، لان الله لا يأمر بالمعصية بالانفاق، ولأنه ينهى عن
التصرف فيه بلا خلاف (من قبل ان يأتي أحدكم الموت فيقول لولا أخرتني إلى
اجل قريب) أي هلا. وقيل: معناه إنه يتمنى أن يرد إلى دار الدنيا، وإنما جاز
التمني ب‍ (لولا)، لان أصلها التقدير، والتمني تقدير الخير للاستمتاع (فاصدق)
ومعناه فأتصدق، وانفق في سبيل الله (وأكن من الصالحين) أي من الذين يعملون
الأفعال الحسنة. وفي ذلك دليل على أن القدرة قبل الفعل، لأنهم تمنوا ان
يؤخروا ليعملوا ما كانوا قادرين عليه متمكنين منه. ودليل على أن الله تعالى
لا يخلق الكفر والنفاق فيهم، لأنه لو فعل ذلك كان لا معنى لتمني التأخير والرد
بل الواجب أن يطلبوا منه تعالى ان يكف عنهم الكفر ويخلق فيهم الايمان وقدرته
بدل الكفر وقدرته.
وقوله (فاصدق) انتصب بأنه جواب التمني بالفاء، وكل جواب بالفاء
نصب، إلا جواب الجزاء، فإنه رفع على الاستئناف، لان الفاء في الجزاء وصلة إلى
الجواب بالجملة من الابتداء والخير. وإنما نصب الجواب بالفاء للايذان بأن الثاني
يجب بالأول بدلالة الفاء في الجواب، وليس يحتاج إلى ذلك في الجزاء من قبل ان
حرف الجزاء يكفي في الدلالة. ومن قرأ (واكن) فجزم عطف على موضع الفاء،
لأنها في موضع جزم. ومن قرأ (وأكون) عطف على لفظ (فأصدق).
ثم قال (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) يعني الأجل المطلق الذي
16

حكم بأن الحي يموت عنده. والأجل المقيد هو الوقت المحكوم بأن العبد يموت عنده
ان لم يقتطع عنه أولم يزد عليه أو لم ينقص منه على ما يعلمه الله من المصلحة. ثم
قال (والله خبير) أي عالم (بما يعملون) فمن قرأ بالياء أراد عالم بعملهم على لفظ
الغيبة. ومن قرأ بالتاء أراد بعملكم على الخطاب أي قل لهم.
64 - سورة التغابن.
مدنية بلا خلاف - في قول ابن عباس وعطاء والضحاك - وهي ثمان عشرة آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم.
(يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله
الحمد وهو على كل شئ قدير (1) هو الذي خلقكم فمنكم
كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير (2) خلق السماوات
والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير (3)
يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله
عليم بذات الصدور (4) ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل
فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذبا أليم) (5) خمس آيات.
17

قد فسرنا معنى قوله (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) وأن
المراد بها ما في خلق السماوات والأرض، وما فيهما من الأدلة الدالة على توحيده
وصفاته التي باين بها خلقه، وأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ وأنه منزه عن
القبائح وصفات النقص، فعبر عن ذلك بالتسبيح من حيث كان معنى التسبيح التنزيه
لله عما لا يليق به.
وقوله (له الملك) معناه انه المالك لجميع ذلك والمتصرف فيه بما شاء، ولا
أحد يمنعه منه، وله الحمد على جميع ذلك، لان خلق ذلك اجمع للاحسان إلى خلقه
به والنفع لهم فاستحق بذلك الحمد والشكر (وهو على كل شئ قدير) يعني مما يصح
أن يكون مقدورا له، فلا يدخل في ذلك مقدور العباد، لأنه يستحيل أن يكون
مقدورا لله.
وقوله (هو الذي خلقكم) معناه هو الذي اخترعكم وأنشأكم بأن أخرجكم
من العدم إلى الوجود (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) معناه فمنكم من يختار الكفر بسوء
اختياره ومنكم مؤمن بحسن اختياره للايمان. وقال الحسن: فيه محذوف وتقديره
فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق. وقال غيره: ليس فيه حذف، لان الغرض
ذكر الطرفين لا المنزلة بين المنزلتين كما أن قوله (خلقكم) خطاب يتوجه إلى جميع
الخلق. وإن كان منهم الأطفال والمجانين الذين لا حكم لهم بالايمان ولا بالكفر
وقال الزجاج: معناه (فمنكم كافر) بالله بأن الله خلقه (ومنكم مؤمن) بذلك.
وقوله (والله بما تعملون بصير) معناه - ههنا - أنه خلق الكافر، وهو عالم
بما يكون منه من الكفر، وكذلك خلق المؤمن وعلم بما يكون منه من الايمان،
وكل ذلك على وجه الاحسان في الفعل الذي يستحق به الحمد والشكر. ثم قال
(خلق السماوات والأرض) بمعنى اخترعهما وأنشأهما (بالحق) أي للحق وهو انه
18

خلق العقلاء تعريضا لهم للثواب العظيم، وما عداهم خلق تبعا لهم لما فيه من
اللطف، وهذا الغرض لا يتأتى إلا على مذهب العدل، وأما على مذهب الجبر فلا.
(وصوركم متوجه إلى البشر كلهم (فأحسن صوركم) معناه من الحسن الذي يقتضيه العقل لا في قبول الطبع له عند رؤيته، لان فيهم من ليس بهذه الصفة. وقال
قوم: لا بل هو من تقبل الطبع لأنه إذا قيل: حسن الصورة لا يفهم منه إلا تقبل
الطبع، وسبيله كسيل قوله لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم) (1) وإن
كان فيهم المشوه الخلق لان هذا عارض لا يعتد به في هذا الوصف، والله تعالى
خلق الانسان على أحسن صورة الحيوان كله. والصورة عبارة عن بنية مخصوصة
كصورة الانسان والفرس والطير وما أشبه ذلك.
ثم قال (واليه المصير) يعني إليه المرجع يوم القيامة واليه المآل. ثم قال (يعلم)
يعني الله تعالى بعلم (ما في السماوات والأرض) من الموجودات (ويعلم ما تسرون
وما تعلنون) أي ما تظهرونه وما تخفونه. وقيل: ما يسره بعضكم إلى بعض وما
تخفوه في صدوركم عن غيركم. والفرق بين الاسرار والاخفاء أن الاخفاء أعم
لأنه قد يخفى شخصه وقد يخفى المعنى في نفسه والاسرار والمعنى دون الشخص (والله
عليم بذات الصدور) معناه وهو عالم بأسرار الصدور وبواطنها.
ثم خاطب نبيه صلى الله عليه وآله والمؤمنين فقال (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل)
يعني من قبل هؤلاء الكفار (فذاقوا وبال أمرهم) أي بما سلطه الله عليهم بأن
أهلكهم الله عاجلا واستأصلهم (ولهم عذاب اليم) أي مؤلم يوم القيامة.
قوله تعالى:
(ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا

(1) سورة 95 التين آية 4.
19

أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد (6) زعم
الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئون
بما عملتم وذلك على الله يسير (7) فآمنوا بالله ورسوله والنور
الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير (8) يوم يجمعكم ليوم الجمع
ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه
سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا
ذلك الفوز العظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك
أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) (10) خمس آيات.
قرأ رويس عن يعقوب (نجمعكم) بالنون على الاخبار من الله عن نفسه.
الباقون بالياء على تقدير يوم يجمعكم الله.
(أبشر) لفظه لفظ الواحد والمراد به الجمع بدلالة قوله (يهدوننا) لأنه على
طريق الجنس الذي لا يجمع ولا يثنى.
لما قرر الله تعالى خلقه بأنهم جاءهم اخبار من مضى من الكفار وأن الله
تعالى أهلكهم بكفرهم، بين لم أهلكهم فقال (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم)
أي تجيئهم رسلهم من الله بالحجج الواضحات (فقالوا) لهم (أبشر يهدوننا) وقد
بينا أن لفظ (بشر) واحد والمراد به الجمع، ومعناه أخلق مثلنا يهدوننا إلى الحق؟!
متعجبين من ذلك مستهزئين به (فكفروا) بالله وجحدوا رسله (وتولوا) أي
اعرضوا عن القبول منهم (واستغنى الله) ومعناه أن الله لم يدعهم إلى عبادته لحاجته
إليهم، لان الله تعالى غني عنهم وعن غيرهم، وإنما دعاهم لما يعود عليهم بالنفع حسب
20

ما تقتضيه حكمته في تدبيرهم (والله غني) عن جميع خلقه (حميد) على جميع افعاله
لأنها كلها إحسان. وقيل (حميد) يدل على أنه يجب على عباده أن يحمدوه.
ثم حكى ما يقول الكفار فقال (زعم الذين كفروا بالله) وجحدوا رسله
فقال المؤرج: (زعم) معناه كذب في لغة حمير. وقال شريح (زعم) كنية الكذب
والحدة كنية الجهل (أن لن يبعثوا) أي لا يحشرهم الله في المستقبل للحساب والجزاء
ف‍ (قل) لهم يا محمد صلى الله عليه وآله (بلى وربي) أي وحق ربي، على وجه القسم (لتبعثن)
أي لتحشرن (ثم لتنبؤن) أي لتخبرن (بما عملتم) من طاعة ومعصية (وذلك
على الله يسير) سهل لا يتعذر عليه ذلك، وإن كثروا وعظموا فهو كالقليل الذي
لا يشق على من يأخذه لخفة أمره، ومثله قوله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس
واحدة) (1) واصله من تيسير الشئ بمروره على سهولة.
ثم قال (فآمنوا بالله) معاشر العقلاء (ورسوله) أي وآمنوا برسوله
(النور الذي أنزلنا) يعني القرآن، سماه نورا لما فيه من الأدلة والحجج الموصلة
إلى الحق فشبهه بالنور الذي يهتدى به على الطريق (والله بما تعملون خبير) أي
عالم بأعمالكم لا يخفى عليه خافية منها.
وقوله (يوم يجمعكم) تقديره واذكروا يوم يجمعكم (ليوم الجمع) وهو
يوم القيامة. وقوله (ذلك يوم التغابن) والتغابن هو التفاوت في اخذ الشئ بدون
القيمة، والذين اخذوا الدنيا بالآخرة بهذه الصفة في أنهم اخذوا الشئ بدون
القيمة، فقد غبنوا أنفسهم بأخذ النعيم المنقطع بالدائم واغبنهم الذين اشتروا الآخرة
بترك الدنيا المنقطع إليها من هؤلاء الذين تغابنوا عليها، وقال مجاهد وقتادة: يوم
التغابن غبن أهل الجنة أهل النار.
ثم قال (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا) أي من يصدق بالله ويعترف

(1) سورة 31 لقمان آية 28.
21

بوحدانيته وإخلاص العبادة له ويقر بنبوة نبيه ويضيف إلى ذلك افعال الطاعات
(يكفر عنه سيئاته) أي يكفر عنه سيئاته التي هي دونها، ويتفضل عليه باسقاط
عقاب ما دونها من المعاصي (ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) يعني بساتين
تجرى من تحت أشجارها الأنهار (خالدين فيها) أي مؤبدين لا يفنى ما هم فيه من
النعيم أبدا (ذلك الفوز العظيم) أي النجاح الذي ليس وراءه شئ من عظمه.
ثم قال (والذين كفروا) بالله وجحدوا وحدانيته وأنكروا نبوة نبيه
وكذبوا بمعجزاته التي هي آيات الله (أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير)
أي بئس المآل والمرجع. وقرأ (نكفر، وندخله) بالنون أهل المدينة وأهل الشام
على وجه الاخبار من الله تعالى عن نفسه. الباقون بالياء على تقدير يكفر الله
عنهم ويدخلهم.
قوله تعالى:
(ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد
قلبه والله بكل شئ عليم (11) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فان
توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين (12) الله لا إله إلا هو
وعلى الله فليتوكل المؤمنون (13) يا أيها الذين آمنوا إن من
أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا
وتغفروا فان الله غفور رحيم (14) إنما أموالكم وأولادكم فتنة
والله عنده أجر عظيم) (15) خمس آيات.
يقول الله تعالى مخاطبا لخلقه انه ليس يصيبكم مصيبة إلا بإذن الله. والمصيبة
22

المضرة التي تلحق صاحبها كالرمية التي تصيبه. ومنه الصواب بأنه أصابه الحق
كالرمية في إصابة البغية. وقيل: إنما عمم قوله (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله)
وفي المصائب ما هو ظلم، والله لا يأذن في الظلم، لأنه لا يحسن في الحكمة، الا ترى
انه ليس منها إلا ما أذن الله في وقوعه أو التمكن منه وذلك أذن للملك الموكل
به كأنه قبل له لا تمنع من وقوع هذه المصيبة. وقد يكون ذلك بفعل التمكن من
الله كأنه يأذن له أن يكون. وقال البلخي: معناه إلا بتخلية الله بينكم وبين من
يريد فعلها. وقال قوم: هو خاص فيما يفعله الله تعالى أو يأمر به، ويجوز أيضا أن يكون
المراد بالاذن - ههنا - العلم، فكأنه قال لا يصيبكم من مصيبة إلا والله تعالى عالم
بهاه ثم قال (ومن يؤمن بالله) أي من يصدق بالله ويعترف بوحدانيته (يهد قلبه)
أي يحكم بهدايته. ويجوز أن يكون المراد يشرح صدره للايمان. وقيل: معناه
يهدي قلبه بأن المصيبة بإذن الله ذكره ابن عباس وعلقمة - قال هو الرجل
تصيبه المصيبة فيسلم ويرضى ويعلم أنها من عند الله، وقال الفراء: هو أن يقول: إنا
لله وإنا إليه راجعون، وقال غيره: معناه إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر،
وإذا ظلم غفر.
وقرأ أبو بكر (يهد قلبه) - بفتح الدال - بمعنى يسكن قلبه (والله بكل
شئ عليم) لا يخفى عليه شئ من ذلك. ثم أمرهم فقال (وأطيعوا الله) فيما
أمركم به (وأطيعوا الرسول) فيما أمركم به ونهاكم عنه (فان توليتم) أي فان أعرضتم
عن القبول منه وتوليتم عن الحق فليس على رسولنا قهركم إلى الرد إلى الحق (فإنما
على الرسول البلاغ المبين) الظاهر، وحذف ايجازا ثم قال (الله) الذي يحق له
العبادة (لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون) فالتوكل هو تفويض الامر إلى
الله بأنه يتولاه على الحق فيه وقد أمر الله بالتوكل عليه فينبغي للمسلم أن يستشعر
23

ذلك في سائر أحواله وقال قوم: التوكل تفويض الامر إلى مالكه لتدبره بالحق
فيه. والوكيل المالك للتدبير فيمن فوض الامر إليه فيه.
ثم خاطب تعالى المؤمنين فقال (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم
عدوا لكم فاحذروهم) قال ابن عباس: نزلت الآية في قوم اسلموا بمكة وأرادوا
الهجرة فمنعوهم من ذلك، وقال عطاء بن بشار: نزلت في قوم أرادوا البر فمنعهم
هؤلاء. وقال مجاهد: هي في قوم إذا أرادوا طاعة الله منعهم أزواجهم وأولادهم
فبين الله تعالى أن في هؤلاء من هو عدو لكم في الدين فاحذروهم فيه. و (من)
دخلت لتبعيض لأنه ليس حكم جميع الأزواج والأولاد هذا الحكم. والعداوة
المباعدة من الخير بالبغضة ونقيضها الولاية وهي المقاربة من الخير بالمحبة. والاذن
الاطلاق في الفعل، تقول: يسمع بالاذن، فهذا أصله، ثم قد يتسع فيه بما يقارب
هذا المعنى.
ثم قال (وإن تعفوا) يعني تتركوا عقابهم (وتصفحوا) وتعرضوا عما
كان منهم (وتغفروا) أي تستروا ذنوبهم إذا تابوا واقلعوا عنها (فان الله غفور)
أي ستار على خلقه (رحيم) بهم.
ثم قال (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) اي محنة وابتلاء. وقال قتادة:
يعني بلاء. والفتنة المحنة التي فيها مشقة تمنع النفس عما تدعو إليه الشهوة (والله
عنده أجر عظيم) أي ثواب جزيل على الصفح والعفو وغيرهما من الطاعات.
قوله تعالى:
(فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا
لا نفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (16) إن
24

تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم (17)
عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) (18) ثلاث آيات.
هذا أمر من الله تعالى للمكلفين يأمرهم بأن يتقوه بأن يتركوا معاصيه ويفعلوا
طاعاته. فالاتقاء الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو إليه الهوى. يقال: اتقاه
بالترس إذا امتنع منه بأن جعله حاجزا بينه وبينه. وقوله (ما ستطعتم) معناه
اتقوه بحسب طاقتكم، فان الله تعالى لا يكلف نفسا ما لا تطيقه، وإنما يكلفها ماتسعه
له، ولا ينافي هذا قوله (اتقوا الله حق تقاته) (1) لان كل واحد من الامرين
إنما هو إلزام ترك جميع معاصيه فمن ترك جميع المعاصي فقد اتقى عقاب الله، لان
من لم يفعل قبيحا ولا أخل بواجب فلا عقاب عليه إلا أن في أحد الكلامين تبيين
أن التكليف لا يلزم العبد إلا فيما يطيق. وهذا يقتضي أن اتقاءه فيما وقع من
القبيح ليس بأن لا يكون وقع وإنما هو بالندم عليه مع العزم على ترك معاودته. وكل
أمر يأمر الله به فلا بد من أن يكون مشروطا بالاستطاعة، فان كانت الاستطاعة
غير باقية على مذهب من يقول بذلك، فالامر بما يفعل في الثالث. وما بعده مشروط
بأن يفعل له استطاعة قبل الفعل بوقت وإلا لا يكون مأمورا بالفعل، وإن كانت
ثابتة فالامر على صفة الاستطاعة، لأنه لا يصح الشرط بالموجود، لان الشرط
يحدث، فليس يخلو من أن يكون على شريطة وقوع القدرة أو على صفة وجود القدرة
وقال قتادة قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) ناسخ لقوله (اتقوا الله حق تقاته)
كأنه يذهب إلى أن فيه رخصة لحال التقية وما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة

(1) سورة 3 آل عمران آية 102.
25

وإن كانت معه القدرة على الحقيقة. وقال غيره: ليس بناسخ، وإنما هو مبين
لامكان العمل بهما جميعا. وهو الصحيح، لان تقديره: اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم
قوله (واسمعوا) أي اصغوا إلى ما يأمركم الله به (وأطيعوا) فيما آمركم
به (وانفقوا) فيما أمركم بالانفاق فيه من الزكاة والانفاق فيه سبيل الله وغير ذلك
(خيرا لا نفسكم) انتصب (خيرا) بفعل محذوف يدل عليه (انفقوا) وتقديره
وأنفقوا الانفاق خيرا لا نفسكم، ومثله انتهوا خيرا لكم، وهو كقولهم: وذاك
أوسع لك لأنك إذا أمرته بشئ فهو مضمن بأن يأتي خيرا له.
وقوله (ومن يوق شح نفسه) أي من منع ووقى شح نفسه. والشح منع
الواجب في الشرع. وقيل: الشح منع النفع على مخالفة العقل لمشقة البذل، ومثله
البخل يقال: شح يشح شحا فهو شحيح وشحاح. وقال ابن مسعود: من الشح
أن تعمد إلى مال غيرك فتأكله.
وقوله (فأولئك هم المفلحون) معنان إن من وقى شح نفسه وفعل ما أوجبه
الله عليه فهو من جملة المنجحين الفائزين بثواب الله. وقوله (إن تقرضوا الله قرضا
حسنا) والقرض أخذ قطعة من المال بتمليك الاخذ له على رد مثله وأصله القطع: من
قرض الشئ يقرضه قرضا إذا قطع منه قطعة. وذكر القرض في صفة الله تلطفا في
الاستدعاء إلى الانفاق في سبيل الله، وهو كالقرض في مثله مع اضعافه ولا يجوز
أن يملك الله - عز وجل - لأنه مالك للأشياء من غير تمليك ولان المالك لا يملك
ما هو مالكه. وقوله (يضاعفه لكم) أي يضاعف ثوابه لكم بأمثاله. ومن قرأ
(يضعفه) بالتشديد، فلان الله تعالى بذل بالواحد عشرة إلى سبعين وسبعمائة
(ويغفر لكم) أي ويستر عليكم ذنوبكم ولا يفضحكم بها (إن الله شكور حليم)
أي يجازي على الشكر (حليم) لا يعاجل العباد بما يستحقونه من العقاب. وقوله
26

(عالم الغيب والشهادة) أي يعلم السر والعلانية وهو (العزيز) الذي لا يغالب
(الحكيم، في جميع افعاله و (الشكور) في صفة الله مجاز ومعناه إنه يعامل المطيع
في حسن الجزاء معاملة الشاكر و (الحلم) ترك المعاجلة بالعقوبة لداعي الحكمة.
و (الغيب) كون الشئ بحيث لا يشاهده العبد. و (الغائب) نقيض الشاهد وهو
(الحكيم) في جميع أفعاله.
وقرأ (يضعفه) بالتشديد ابن كثير وابن عامر. الباقون (يضاعفه) وقد
مضى تفسيره.
65 - سورة الطلاق
مدنية في قول ابن عباس وعطاء والضحاك وغيرهم وهي اثنتا عشرة آية في
الكوفي والمدنيين وعشر في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن
وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله
فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1) فإذا
27

بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف و أشهدوا
ذوي عدل منكم وأقموا الشهادة الله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه
من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ
أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا (3) واللائي يئسن من المحيض
من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل
له من أمره يسرا (4) ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله
يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا) (5) خمس آيات.
قرأ حفص عن عاصم ونافع (بالغ أمره) على الإضافة. الباقون
(بالغ) منون (أمره) منصوب. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. وقيل: إنه
إذا نون معناه انه تعالى بالغ مراده، وإذا أضيف فمعناه أن امره تعالى يبلغ، فيكون
إضافة إلى الفاعل.
يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه والمراد به أمته (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء)
ومعناه إذا أردتم طلاق النساء، كما قال (إذا قمتم إلى الصلاة) (1) وروي عن ابن
عباس أنه قال: نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة، فيكون الخطاب للنبي
والمراد به الأمة من ذلك. وقال قوم: تقديره يا أيها النبي قل لامتك إذا طلقتم

(1) سورة المائدة آية 7.
28

النساء، فعلى هذا القول: النبي يكون خارجا من الحكم. وقال آخرون: هو على
خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الاتباع، فعلى هذا حكم النبي حكم أمته في هذا الحكم
وأجمعت الأمة على أن حكم النبي حكم الأمة في الطلاق. والطلاق في الشرع عبارة
عن تخلية المرأة بحل عقدة من عقد النكاح بأن يقول: أنت طالق يخاطبها أو يقول
هذه طالق ويشير إليها أو فلانة طالق بنت فلان. وعندنا لا يقع الطلاق إلا بهذا
اللفظ المخصوص، ولا يقع بشئ من الكنايات طلاق أراد بها الطلاق أو لم يرد.
وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف. واما الفراق فقد يحصل بغير الطلاق، كالارتداد
واللعان والخلع - عند كثير من أصحابنا - وإن لم يسم ذلك طلاقا. وأما فسخ
النكاح بالرد بالعيب. فقد يحصل بأشياء ولا يسمى طلاقا. ومن شرط وقوع
الطلاق - عندنا - أن تكون المرأة طاهرا طهرا لم يقر بها فيه بجماع بمحضر من شاهدين،
ويقصد به ايقاع الطلاق، ويتلفظ بما قدمناه، فحينئذ يقع طلاقه تطليقة واحدة
وهو أملك برجوعها ما لم تخرج من العدة. فان خرجت قبل ان يراجعها كان كواحد
من الخطاب. ومتى تلفظ بثلاث تطليقات، فان كانت المرأة طاهرا مع باقي الشروط
وقعت واحدة. وخالف جميع الفقهاء في ذلك. وقالوا: يقع الثلاث. ثم اختلفوا
فقال الشافعي، ومن وافقه: ويكون ذلك مسنونا. وقال أهل العراق: المسنون
ان يطلقها طلقة واحدة بلفظ واحد، ومتى أوقع ثنتين أو ثلاثا وقع. وأما غير
المدخول بها فعند جميعهم يقع الثلاث، ولا عدة عليها، وعندنا لا يقع إلا واحدة،
وفي أصحابنا من يقول: من تلفظ بالثلاث لا يقع شئ، والاعتماد على ما قلناه
أولا، ومتى طلقها ثلاثا أو واحدة، وهي حائض وكان قد دخل بها ولا يكون
غائبا عنها شهرا فصاعدا لا يقع عندنا شئ أصلا. وقال جميع الفقهاء: هو بدعة.
وتبين المرأة بذلك.
29

وقوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) معناه أن يطلقها وهي طاهر من غير
جماع ويستوفي باقي الشروط. وقال ابن عباس: هو أن يطلقها طاهرا من غير جماع.
وبه قال مجاهد والحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي، فعلى هذا متى
طلقها في الحيض فلا يقع طلاقها، لأنه خلاف المأمور به، وهو منهي عنه، والنهي
يدل على فساد المنهي عنه وعند الفقهاء إنه يقع الطلاق، وإن كان بدعة.
ثم قال (واحصوا العدة) فالعدة قعود المرأة عن الزواج حتى تنقضي المدة
المرتبة في الشريعة، وعدة المرأة على ضروب:
أحدها - عدة التي لم تبلغ المحيض، ومثلها لا تحيض، وهي التي لم تبلغ تسع
سنين، فهذه لا عدة عليها - عند أكثر أصحابنا - وفيهم من قال عدتها بالشهور،
وبه قال باقي الفقهاء. وعدة التي لا تحيض ومثلها تحيض ثلاثة اشهر بلا خلاف.
وعدة التي تحيض ثلاثة أقراء وهي الأطهار - عندنا وعند كثير من الفقهاء -
وعند قوم انها الحيض.
وعدة التي ارتفع حيضها ومثلها تحيض ثلاثة اشهر بلا خلاف. وقد حد
ذلك أصحابنا بأن يكون سنها أقل من خمسين سنة.
وعدة الآيسة من المحيض ومثلها لا تحيض، فلا عدة عليها - عند أكثر
أصحابنا - وقال قوم: عدتها بالأشهر، وحد ذلك أصحابنا بأن يزيد سنها على خمسين
سنة، والقرشية حدوها بستين سنة فصاعدا.
وعدة الحامل وضع ما في بطنها إذا كانت عدة الطلاق، فان كانت عدة
الوفاة فأبعد الأجلين من وضع الحمل أو مضي أربعة اشهر وعشرة أيام. وهو
مذهب علي عليه السلام وابن عباس. وقال الفقهاء عدة المتوفى عنها زوجها وضع ما في بطنها
وقوله (واحصوا العدة) يعني مدة زمان العدة.
30

ثم قال (واتقوا الله ربكم) بان لا ترتكبوا المعاصي (لا تخرجوهن من
بيوتهن ولا يخرجن) يعني زمان العدة، لأنه لا يجوز إخراجها من بيتها - وعندنا
وعند جميع الفقهاء - يجب عليه السكنى والنفقة والكسوة إذا كانت المطلقة رجعية،
فان كانت بائنا فلا نفقة لها ولا سكنى. وقال الشافعي: فلا نفقة لها ولا سكنى
إذا كانت بائنا. وقال أهل العراق: لها السكنى والنفقة.
وقوله (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) من فتح الياء أراد فاحشة أظهرت.
ومن خفض الياء أراد بفاحشة ظاهرة. وقال عطاء والضحاك وقتادة: لا يجوز ان
تخرج من بيتها حتى تنقضي عدتها إلا عند الفاحشة. وقال الحسن وعامر والشعبي
ومجاهد وابن زيد: الفاحشة - ههنا - الزنا تخرج لإقامة الحد. قال ابن عباس:
الفاحشة النداء على أهلها، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وقال قتادة:
الفاحشة هو النشوز. وقال ابن عمر: هو خروجها قبل انقضاء العدة - وفي رواية
عن ابن عباس - ان كل معصية لله ظاهرة فهي فاحشة.
وقوله (وتلك حدود لله) يعني ما تقدم ذكره من كيفية الطلاق والعدة
وترك إخراجها عن بيتها إلا عند فاحشة حدود الله، فالحدود نهايات تمنع أن
يدخل في الشئ ما ليس منه أو يخرج منه ما هو منه، فقد بين الله بالأمر والنهي
الحدود في الطاعات والمعصية بما ليس لأحد ان يدخل في شئ من ذلك ما ليس منه
أو يخرج عنه ما هو منه.
وقوله تعالى (ومن يتعد حدود الله) معناه من يجاوز حدود الله بأن
يخرج عن طاعته إلى معصيته، فقد تعدى حدا من حدود الله وكذلك من دخل
في معصية، فقد خرج عن الطاعة. وليس كل من دخل في طاعة فقد خرج إليها
عن معصية، لأنها قد تكون نافلة. ثم بين تعالى فقال: ومن يجاوز حدود الله
31

(فقد ظلم نفسه) بأن فعل ما يستحق معه العقاب ويحرم معه الثواب
وقوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) قال قوم: معناه لا تدري
لعل الله يغير رأي الزوج في محبة الطلاق، فتكون مطلقة على ما أمر الله به ويملك
الرجعة فيما بين والواحدة والثانية وما بين الثانية والثالثة. وقال الضحاك والسدي
وابن زيد (لعل الله يحدث بعد ذلك امرا) يعني الرجعة في العدة. وقيل معناه
(لعل الله يحدث بعد ذلك) شهوة المراجعة.
وقوله (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف) معناه فإذا قاربن أجلهن
الذي هو الخروج عن عدتهن، لأنه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن،
لأنه عند انقضاء أجلهن لا يملك رجعتها. وقد ملكت نفسها وقد بانت منه بواحدة.
ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره. وإنما المعنى إذا قاربن الخروج من عدتهن
فامسكوهن بأن تراجعوهن بمعروف بما يجب لها من النفقة والكسوة والمسكن وحسن
الصحبة (أو فارقوهن بمعروف) بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة.
وقوله (واشهدوا ذوي عدل منكم) فعند أصحابنا أن الاشهاد شرط في
وقوع الطلاق، لان ظاهر الامر بذلك يقتضيه. والامر عندنا على الوجوب.
وقال قوم: إن ذلك راجع إلى الرجعة، وتقديره واشهدوا على الامساك إن
أمسكتم ذوي عدل منكم وهو الرجعة - في قول ابن عباس. وقال الشافعي:
الاشهاد على الرجعة أولى. ويجوز عند أكثرهم بغير إشهاد، وإنما ذكر الله الاشهاد
كما ذكر في قوله (واشهدوا إذا تبايعتم) (1) وهو على الندب، وهذا ترك الظاهر
ومتى حملنا الاشهاد على الفراق، وهو الطلاق حملناه على ظاهره من الوجوب وجعلناه

(1) سورة 2 البقرة آية 282.
32

شرطا في وقوع الطلاق. ثم قال (وأقيموا الشهادة لله) إذا طولبتم بإقامتها (ذلكم)
معاشر المكلفين (يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) فالوعظ معنى يدعو إلى الحق
بالترغيب والترهيب. وإنما أضاف الوعظ إلى من يؤمن بالله واليوم الآخر دون غيره، لأنه
الذي ينتفع به دون الكافر الجاحد لذلك، فالطاعة الواجبة فيها وعظ بالترغيب فيها باستحقاق
الثواب وفي تركها بالعقاب. والمندوبة فيها وعظ باستحقاق المدح والثواب على فعلها
والمعاصي فيها وعظ بالزجر عنها والتخويف من فعلها باستحقاق العقاب والذم على
فعلها والترغيب في تركها بما يستحق على الاخلال به من الثواب.
ثم قال (ومن يتق الله) يعني باجتناب معاصيه (يجعل له مخرجا) من
عقابه (ويرزقه من حيث لا يحتسب) أي من حيث لا يتوقعه ولا يظنه (ومن
يتوكل على الله) أي من اسند أمره إلى الله ووثق بحكمه وسكن إلى رحمته (فهو
حسبه) أي كافيه جميع ذلك (إن الله بالغ أمره) أي يبلغ ما يريد ويشاء من
أمره وتدبيره (قد جعل الله لكل شئ قدرا) أي قدر الله لكل شئ مقدارا
واجلا، لا زيادة فيه ولا نقصان.
ثم بين كيفية العدد باختلاف أحوال النساء، فقال (واللائي يئسن من
المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهم ثلاثة اشهر) يعني ان اليائسة من المحيض إذا
كانت ترتاب بنفسها ولا تدري أرتفع حيضها لكبر أو عارض (فعدتها ثلاثة اشهر)
وهي التي قلنا أولا أن مثلها تحيض، لأنها لو كانت في سن من لا تحيض لم يكن
لريبتها معنى. وقال الزهري وعكرمة وقتادة (إن ارتبتم) فلم تدروا: للكبر أو
لدم الاستحاضة، فالعدة ثلاثة اشهر. وقال قوم: ان ارتبتم فلم تدروا الحكم في ذلك
فعدتهن ثلاثة اشهر.
33

وقوله (واللائي لم يحضن) تقديره واللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة
اشهر، وحذف لدلالة الكلام الأول عليه والكلام فيها كالكلام في اليائسة.
وقال قتادة: اللائي يئسن الكبار، واللائي لم يحضن الصغار.
ثم قال (وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن) بين ان عدة الحامل
من الطلاق وضع الحمل الذي معها، فان وضعت عقيب الطلاق فقد ملكت نفسها.
ويجوز لها أن تعقد لغيره على نفسها، غير أنه لا يجوز له وطؤها، لان نفاسها كالحيض
سواء، وإذا طهرت من نفاسها حل له ذلك، فان كانت حاملا باثنين ووضعت واحدا
لم تحل للأزواج حتى تضع جميل الحمل، لقوله تعالى (أن يضعن حملهن) فاما انقطاع
الرجعة، فقد روى أصحابنا أنها إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الأول،
ولا يجوز لها العقد بغيره حتى تضع الاخر. فاما إذا توفى عنها زوجها، فعدتها - عندنا -
أبعد الأجلين إن وضعت قبل الأربعة أشهر وعشر استوفت أربعة اشهر وعشرة
أيام، وإن مضى بها أربعة اشهر وعشر ولم تضع انتظرت وضع الحمل. وقال ابن
عباس: الآية في المطلقة خاصة، كما قلناه. وقال ابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة
والسدي وأكثر الفقهاء: إن حكم المطلقة والمتوفى عنها زوجها واحد في أنها متى
وضعت حلت للأزواج. والذي اخترناه هو مذهب علي عليه السلام.
ثم قال (ومن يتق الله) باجتناب معاصيه (يجعل له من أمره يسرا)
يعني سهولة في أموره ولا يعسر عليه أمره.
وقوله (ذلك أمر الله أنزله إليكم) يعني حكم الطلاق والرجعة والعدة فيما
أنزله الله وحكم به وأمركم بالعمل به.
ثم قال (ومن يتق الله) باجتناب معاصيه وفعل طاعاته (يكفر عنه سيئاته)
التي هي دونها ويتفضل عليه باسقاط عقابها (ويعظم له اجرا) على ذلك يعني ثوابه
34

ونعيمه في الجنة.
قوله تعالى:
(أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن
لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن
حملهن فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم
بمعروف وإن تعاسر تم فستر ضع له أخرى (6) لينفق ذو سعة من سعته
ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتيه الله لا يكلف الله نفسا إلا
ما آتيها سيجعل الله بعد عسر يسرا (7) وكأين من قرية عتت
عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8)
فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا (9) أعد الله لهم عذابا
شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم
ذكرا) (10)
خمس آيات في الكوفي والبصري والمدني الأخير: وست آيات في المدني
الأول. عدوا (يا أولى الألباب) رأس آية.
قرأ (من وجدكم) بكسر الواو، روح. الباقون بضمها، و هما لغتان.
وحكى الفراء - فتح الواو - لغة ولم يحك الكسر. وحكى الزجاج: الكسرة ولم
يحك بالفتحة. وقرأ ابن كثير (وكأين) خفيفة على وزن (كاهن) الباقون
35

(كأين) مشددة الياء، والأصل (أي) إلا أنه حذف للتضعيف، كما يحذف من
رب، وقدمت الياء وأخرت الهمزة نحو شاك وشائك. ثم قلبت الياء ألفا، لأنها في
موضع حركة وقبلها فتحة نحو: رمي، وإنما احتمل هذا التغيير للعدول به عن معنى
الاستفهام إلى معنى (كم) في التكثير على وجه الابهام. وقال قوم: في (كأين)
لغتان (كأين) مشددة الياء و (كاين) على وزن (قايل) وقد قرأ بهما. وحكي
ان أهل الحجاز يقولون: بكاين تبيع هذا الثوب. أي بكم تبيعه.
يقول: الله تعالى مخاطبا لمن طلق زوجته يأمره أن يسكنها حيث يسكنه،
وقد بينا أن السكني والنفقة يجب للرجعية بلا خلاف. فاما البائنة فلا سكنى لها
ولا نفقة - عندنا - وهذا مذهب الحسن. وقد روت فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه قال: لا نفقة للمبتوتة. وقال الشافعي ومالك لها السكنى والنفقة وهو قول معاوية
وابن مسعود وعمر بن الخطاب.
وقوله (من وجدكم) قال السدي معناه من ملككم. وقال ابن زيد: هو
إذا قال صاحب المسكن لا أترك هذه في بيتي فليس من وجده. ويجوز له حينئذ
أن ينقلها إلى غيره، والوجد ملك ما يجده المالك، وذلك أنه قد يملك المالك ما
يغيب عنه. وقد يملك ما هو حاضر له، فذلك وجده، يقال: وجدت في المال
وجدا ووجدة، ووجدت الضالة وجدانا، ووجدت الرجل صالحا وجودا.
وقوله (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) معناه لا تدخلوا الضرر عليهن
بالتقصير في النفقة والسكنى والكسوة وحسن العشرة لتضيقوا عليهن في السكنى
والنفقة، وأمر بالسعة. والمضارة المعاملة بما يطلب به ايقاع الضرر والمضارة المعاملة
بما يطلب به إيقاع الضرر بصاحبه. وقد تكون المضارة من واحد كما يقال: طارقت
النعل، وعافاه الله، ويمكن أن يكون من كل واحد منهما لصاحبه. والتضيق تقليل
36

ما يحتاج إلى التصرف فيه عن مقدار الكفاية. وقد يكون التضييق في الرزق وفى
المكان وفى الامر. و (ان كن) يعني النساء المطلقات (أولات حمل فانفقوا عليهن
حتى يضعن حملهن) أمر من الله تعالى بالانفاق على الحامل المطلقة سواء كانت
رجعية أو مبتوتة، ولا خلاف في ذلك، وإنما يجب ان ينفق عليها بسبب ما في
بطنها، وإنما تسقط نفقتها بالوضع. والحمل - بفتح الحاء - يكون على الظهر وفى
البطن، ويقال للعدل - الحمل - بكسر الحاء.
وقوله (فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) أمر من الله تعالى بأن الام
المطلقة متى ولدت ورغبت في رضاع ولدها، كان على الأب أجرة الرضاع أجرة
المثل، فان رضيت الأجنبية بشئ معلوم لأجرة الرضاع ورضيت بمثله الام كانت
الام أولى، وإن لم ترض الام بذلك القدر كان للأب تسليمه إلى الأجنبية، وإن كان
الولد لا يقبل إلا لبن الام أجبرت عليه. وإلا أدى إلى هلاك الولد.
والرضاع سقي المرأة من لبنها للولد. ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله (يحرم من الرضاع ما يحرم
من النسب) يعني ان المرضعة تصير بمنزلة الام، وأمها بمنزلة الجدة وأختها خالة،
وبنتها أختا وابنها أخا، وهكذا سائر المحرمات.
وقوله (وأتمروا بينكم بمعروف) فالائتمار أمر كل واحد لصاحبه بفعل
من الافعال كالائتمار بالمعروف الذي يصطلحان عليه.
وقوله (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) خطاب للرجل ولزوجته المطلقة
أنهما متى اختلفا في رضاع الصبي واجرته أرضعته امرأة أخرى فالتعاسر التمانع
يتعذر من الامر كالتمانع بما يتعسر به رضاع الام، فمتى كان كذلك فالحكم فيه أن ترضعه
امرأة أخرى ثم امر تعالى فقال (لينفق ذو سعة من سعته...) ومعناه ان كل
انسان يجب عليه النفقة بحسب حاله فالغنى ينبغي ان يوسع في النفقة والفقير بحسب حاله.
37

وقوله (ومن قدر عليه زرقه) معناه من ضيق عليه، لأنه أتى على مقدار
البلغة التي تضيق عن غيره، فمن هذه صورته (فلينفق مما آتاه الله) على حسب امكانه
وطاقته (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) يعني إلا بقدر ما أعطاها من الطافه.
وفي ذلك دلالة على أنه تعالى لا يكلف أحدا مالا يقدر عليه ولا يطيفه.
ثم قال (سيجعل الله بعد عسر يسرا) أي سيفعل الله بعد شدة سهولة، فاليسر
اتيان الامر من غير مشقة، وهو سهولة الامر، وضده العسر، وهو صعوبة الامر.
وقوله (وكأين من قرية) معناه و (كم من قرية) على التكثير، لأنه يخبر
ب‍ (كم) عن الكثرة (عتت عن امر ربها) والعتو الخروج إلى فاحش الفساد. والمعنى
كم من أهل القرية كفروا بالله وتجبروا عن طاعته وخرجوا بذلك إلى أفحش الفساد
(ورسله) معناه عتوا عن امر الله وامر رسوله (فحاسبناها حسابا شديدا) فالحساب
الاعمال مقابلة ما يستحق على الطاعة وبما يستحق على المعصية والحساب الشديد مقابلة
ذلك من غير تجاوز عن صغيرة ولا عفو عن ذنب، وذلك أن الكافر يعاقب على
كل صغيرة وكبيرة من حيث إنه لا طاعة معه تكفر معاصيه. وقوله (وعذبناها
عذابا نكرا) معناه عذبنا أهل تلك القرية العاتية عذابا نكرا، وهو الذي ينكره
الطبع وتأباه النفوس لصعوبته وشدته. والامر النكر الذي ينكره العقل. وقوله
(فذاقت وبال أمرها) فالوبال عاقبة السوء، أسند الفعل إلى القرية، فلذلك أنث
قوله (فذاقت) ولو قال: (عتوا، عن أمر ربهم، وعذبناهم فذاقوا) على المعنى
كان جائزا. والوبال ثقل العائد من الضر. وقيل: ان معنى نكر أنه متجاوز في
الشدة لكل ما عرفوه في الدنيا من العقوبة (وكان عاقبة أمرها حسرا) أي وكان
آخر أمر تلك القرية العاتية خسرا أي هلاك أنفسهم، وأصله هلاك رأس المال.
ثم بين مالهم في الآخرة، فقال (أعد الله لهم عذابا شديدا) من عذاب النار
38

يعاقبهم به على طريق التأبيد موجعا شديد الألم (فاتقوا الله) يا معاشر العقلاء
(يا أولوا الألباب الذين آمنوا) يعني المؤمنين منهم، وخصهم بالذكر والخطاب،
لأنهم المنتفعون بذلك دون الكفار. وقوله تعالى (قد أنزل الله إليكم ذكرا) قال
قوم: أراد بالذكر القرآن لأنه سماه ذكرا في قوله (إنا نحن نزلنا الذكر) (1)
ذهب إليه السدي وابن زيد، فعلى هذا تقديره انزل الله إليكم ذكرا وارسل إليكم
رسولا، وسماه ذكرا لأنه يتذكر به ما يجب العمل به والانتهاء عنه. وقيل إن
معنى الذكر الشرف كأنه قال: أنزل الله إليكم شرفا. وقيل: المراد بالذكر الرسول
لقوله (فاسألوا أهل الذكر) (2) ذهب إليه الحسن، فعلى هذا يكون (رسولا) بدلا
منه، وتقديره أنزل الله إليكم ذكرا هو رسوله. قال الزجاج: تقديره فأنزل الله
إليك ان ذكر رسولا هو جبرائيل عليه السلام.
قوله تعالى:
(رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين
آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله
ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا (11) الله الذي خلق سبع سماوات
ومن الأرض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل
شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما) (12) آيتان.

(1) سورة 15 الحجر آية 9
(2) سورة 16 النحل آية 43 وسورة 21 الأنبياء آية 7.
39

قرئ (ندخله) مدني وشامي على وجه الاخبار من الله تعالى عن نفسه.
الباقون بالياء بمعنى يدخل الله. والياء أشبه بما قبله.
قيل في انتصاب قوله (رسولا) وجهان:
أحدهما - أن يكون بدلا من ذكر، وهو بدلا الاشتمال، ويكون الذكر
القرآن، كأنه قال رسولا ذكرا.
الثاني - أن يكون الذكر بمعنى الشرف، فيكون الذكر هو الرسول، كما قال
(وإنه لذكر لك ولقولك) (1)
وفيه وجه ثالث وهو أنه لما قال: انزل ذكرا دل على أنه جعل رسولا،
وكأنه قيل وبعث رسولا كما قال الشاعر:
يا رب غير آيهن مع البلى * إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج اما سواء قذاله * فبدا وغيب ساره المغراء (2)
لأنه لما قال: إلا رواكد دل على أن بها رواكد فحمل مشجج على المعنى.
وقال الزجاج: يحتمل أن يكون نصبا بذكر، كأنه قال ذكر رسول، بمعنى أن ذكرا
رسولا، يكون ذكر مصدر، والذي انزل جبرائيل لقوله (نزل به الروح الأمين) (4)
وقوله (يتلو عليكم) أي يقرأ عليكم آيات الله يعني دلائله وحججه مبينات
أي واضحات في من يفتح الياء ومن كسرها أراد انها تبيين الآيات والتلاوة.
من قولهم جاء فلان ثم تلاه فلان أي جاء بعده، ومنه قوله تعالى (ويتلوه شاهد
منه) (3) أي يأتي بعده، فالتلاوة جعل كلمة بعد كلمة على ما وضعت عليه من
المرتبة في اللغة. والقراءة جمع كلمة إلى كلمة بما يسمع من الحروف المفصلة، وهو قولهم

(1) سورة 43 الزخرف آية 44
(2) قد مر في 2 / 125
(3) سورة 11 هود آية 7 1
(4) سورة 26 الشعراء آية 193.
40

قرأت النجوم إذا اجتمعت وظهرت، ويقولون: ما قرأت الناقة سلاقط أي ما
جمعت رحمها على ولد. والبيان هو الأدلة. وقيل: هو ما أبان المعنى للنفس بما
يفصل من غيره، وهو من قولهم: أبان العضو من غيره إذا قطعه منه.
وقوله (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات) يعني ظلمات
الكفر إلى نور الايمان، وذلك يدل على فساد قول المجبرة: إن الله تعالى بعث الأنبياء
ليكفر بهم قوم ويؤمن آخرون. وإنما خص (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
بالاخراج، لأنهم الذين خرجوا بدعائهم من الكفر إلى الايمان. والنور - ههنا -
نور الحق الذي يهدي إلى الرشد والجنة، كما يهدي نور الشمس إلى المواضع المقصودة
والظلمة - ههنا - الباطل الذي يعود إلى الغي، كما يعود الظلام من مر فيه من غير
دليل إلى الهلاك.
ثم قال (ومن يؤمن بالله) أي من يصدق بوحدانيته وإخلاص العبادة له
(ويعمل صالحا) أي يعمل الاعمال الصالحات (يدخله جنات تجري من تحتها
الأنهار) جزاء على ذلك وثوابا عليه (خالدين فيها) نصب على الحال (أبدا)
أي مؤبدين لا آخر لنعيمهم (قد أحسن الله لهم رزقا) أي أجزل الله لهم ما ينتفعون
به ولا يمنعون منه، فالرزق النفع الجاري في الحكم، فلما كان النفع للمؤمنين في الجنة
جاريا في حكم الله كان رزقا لهم منه.
وقوله (الله الذي خلق سبع سماوات) اخبار من الله تعالى انه الذي أنشأ
سبع سماوات (ومن الأرض مثلهن) أي وخلق من الأرض مثلهن في العدد لا في
الكيفية، لان كيفية السماء مخالفة لكيفية الأرض. والمثل ما سد مسد غيره فيما يرجع
إلى ذاته.
41

وقوله (يتنزل الامر بينهن) معناه يتنزل الامر بالتدبير من الله بين
السماوات وبين الأرضين، بحياة بعض وموت بعض، وغنى إنسان وفقر غيره،
وسلامة حي وهلاك آخر، وتصريف الأمور على الحكمة لا يكون إلا من قادر عالم
وهو معنى قوله (لتعلموا ان الله على كل شئ قدير) فالقادر، هو من كان له
مقدور يصح منه إيقاعه على بعض الوجوه كما أن السامع هو من له مسموع موجود
والقدير عبارة عمن يجب أن يكون قادرا على ما يصح أن يكون مقدورا له ك‍ (سميع)
يفيد أنه على صفة يجب ان يسمع لا جلها ما يصح أن يكون مسموعا.
وقوله (وإن الله قد أحاط بكل شئ علما) معناه إن معلوماته متميزة له
بمنزلة ما قد أحاط به فلم يفته منه شئ، ومثله (ولا يحيطون به علما) (1) أي إنه
ليس بمنزلة ما يحضره العلم بمكانه، فيكون كأنه قد أحاط به وقوله (ولا يحيطون
بشئ من علمه إلا بما شاء) (2) معناه ولا يحيطون بشئ من معلومه إلا بما شاء
أن يضطرهم إليه أو يدلهم عليه، فهو تذكير بالنعمة أي لا ينالون هذه المنزلة إلا
بمشيئة، ولولا ذلك لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا بما شاء، لكن لما دخل التذكير
بالنعمة حسن من هذه الجهة وليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع،
غير هذه - ذكره الجبائي - وقوله (لتعلموا ان الله على كل شئ قدير) دليل
على بطلان مذهب المجبرة في أن الله أراد من قوم أن يجهلوا كونه على هذه الصفة،
لأنه تعالى بين انه ذكر ما تقدم وصفه ليعلم المكلفون أجمعون (أن الله على كل شئ
قدير وانه) تعالى قادر (قد أحاط بكل شئ علما) وعلى مذهب المجبرة إن الله
تعالى أراد من جماعة الكفار خلاف ذلك وأراد منهم ان يجهلوه ويجهلوا صفاته
وذلك خلاف الظاهر. وقوله (علما) نصب على المصدر ودل عليه قوله تعالى

(1) سورة 20 طه آية 110
(2) سورة 2 البقرة آية 255.
42

(أحاط بكل شئ علما) كأنه قال: علم كل شئ علما.
66 - سورة التحريم
مدنية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما وهي اثنتا عشرة آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات
أزواجك والله غفور رحيم (1) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم
والله موليكم وهو العليم الحكيم (2) وإذ أسر النبي إلى بعض
أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض
عن بعض فلما نبأها به قالت من أنباك هذا قال نبأني العليم
الخبير (3) إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه
فان الله هو موليه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك
ظهير (4) عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن
مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات
43

وأبكارا) (5) خمس آيات.
قرأ أهل الكوفة (تظاهرا) خفيفة. الباقون بالتشديد، يعني (تتظاهرا)
فأدغم. ومن خفف حذف أحداهما. وقرأ الكسائي وحده (عرف بعضه) خفيفا
وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن، وكان أبو عبد الرحمن إذا قرأ إنسان بالتشديد
خطأه. وقرأ ابن كثير (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همزة. وقرأ
- بكسر الجيم والراء من غير همز - نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم.
وقرأ بفتح الجيم والراء وكسر الهمزة مقصور على وزن (جحمرش) أبو بكر عن
عاصم. وقرأ بفتح الجيم والراء مهموزة بين الراء والياء على وزن (خزعيل) حمزة
والكسائي وقد بينا الوجه في ذلك في سورة البقرة. قال أبو علي: جبريل - بكسر
الجيم - بلا همزة على وزن (قنديل) وبفتح الجيم والراء والهمزة مع المد على وزن
(عندليب) وبفتح الجيم والراء وكسر الهمزة على وزن (جحمرش) وليس في
العربية على وزن (قنديل) بفتح القاف غير أنه جاء خارجا على أوزان العربية.
هذا خطاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وعتاب له على تحريم ما أباحه الله له
وأحله له، ولا يدل على أنه وقعت منه معصية، لان العتاب قد يكون على أمر
قد يكون الأولى خلافه، كما يكون على ترك الواجب.
وقيل في سبب نزول قوله (يا أيها النبي) قولان:
أحدهما - قال زيد بن أسلم ومسروق وقتادة والشعبي وابن زيد والضحاك:
ان النبي صلى الله عليه وآله حرم على نفسه مارية القبطية بيمين انه لا يقربها طلبا لمرضاة حفصة
زوجته، لأنها غارت عليه من أجلها، وقال الحسن: حرم رسول الله أم ولده
إبراهيم، وهي مارية القبطية على نفسه فأسر بذلك إلى زوجته حفصة فأفضت به إلى
44

عائشة وكانت حفصة بنت عمر قد زارت عائشة، فحلا بيتها، فوجه رسول الله إلى
مارية القبطية، وكانت معه وجاءت حفصة فأسر إليها التحريم.
والقول الثاني - ما رواه عبد الله بن شداد بن الهلال: ان النبي صلى الله عليه وآله كان
شرب عند زينب شراب عسل كانت تصلحه له، فكان يطول مكثه عندها فكره
ذلك عائشة وحفصة، فقالت له إنا نشم منك ريح المغافير، وهي بقلة متغيرة الرائحة
- في قول المفسرين - وقال الزجاج: هي بقلة منتنة، فحرم النبي صلى الله عليه وآله شراب
العسل الذي كان يشربه عند زوجته زينب بنت جحش. وقيل: ذكرت ذلك
له حفصة، فحرمه النبي صلى الله عليه وآله على نفسه. ومن قال: انها نزلت بسبب مارية قال:
أنه قال: هي علي حرام، فجعل الله فيه كفارة يمين - ذكره ابن عباس والحسن -
ومن قال: إن التحريم كان في شراب كان يعجبه قال: إنه حلف على أنه لا يشربه
فعاتبه الله على تحريم ما أحل الله له.
والتحريم تبيين ان الشئ حرام لا يجوز، ونقيضه الحلال. والحرام هو القبيح
الممنوع بالنهي عنه، والحلال الحسن المطلق بالاذن فيه. وعندنا أنه لا يلزم بقوله
أنت علي حرام شئ، ووجوده كعدمه، وهو مذهب مسروق. وفيه خلاف بين
الفقهاء ذكرناه في الخلاف. وإنما أوجب الله الكفارة، لأنه صلى الله عليه وآله كان حلف ألا
بقرب جاريته أو لا يشرب الشراب المذكور، فعاتبه الله على ذلك وأوجب عليه
ان يكفر عن يمينه ويعود إلى استباحة ما كان يفعله. وبين أن التحريم لا يحصل إلا
بأمر الله ونهيه، وليس يصير الشئ حراما بتحريم محرم، ولا باليمين على تركه،
فلذلك قال (لم تحرم ما أحل الله لك).
وقوله (تبتغي مرضات أزواجك) معناه إنك تطلب رضاء أزواجك في
تحريم ما أحله الله لك. فالابتغاء الطلب، ومنه البغي طلب الاستعلاء بغير حق،
45

والبغية معتمد الطلب والبغي الفاجرة لطلبها الفاحشة.
وقوله (والله غفور رحيم) معناه ارجع إلى الأولى والأليق، فان الله يرجع
للتائب إلى التولي، لأنه غفور رحيم.
وقوله (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي قد قدر الله تعالى ما تحلون به
يمينكم إذا فعلتموه، وذلك يدل على أنه صلى الله عليه وآله كان حلف دون أن يكون قال: هي
علي حرام، لان ذلك ليس بيمين - عند أكثر الفقهاء - وقال الحسن: فرض الله
تحلة اليمين في الكفارة للمؤمنين. فأما النبي صلى الله عليه وآله فلا كفارة عليه، لان الله تعالى
غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وتحلة اليمين هو فعل ما يسقط تبعته في اليمين
إما بكفارة أو بتناول شئ من المحلوف عليه، فمن حلف ألا يأكل من هذا الطعام،
فمتى أكله حنث، ولزمته كفارة، وينحل اليمين بها، ومن حلف أنه يأكل من
هذا الطعام وأكل منه شيئا قليلا فقد انحلت يمينه، فلذلك سمي تحلة اليمين.
وقوله (والله مولاكم) معناه الله ناصركم، وهو أولى بكم منكم بأنفسكم،
ومن كل أحد (وهو العليم) بجميع الأشياء (الحكيم) في جميع أفعاله.
وقوله (وإذ أسر النبي) معناه واذكروا حين أسر النبي (إلى بعض أزواجه
حديثا) فالاسرار ألقاه المعنى إلى نفس المحدث على وجه الاخفاء عن غيره، يقال:
أسر إليه كذا وكذا إسرارا والاسرار نقيض الاعلان. وقيل: إنه كان أسر إلى
حفصة ألا تخبر عائشة بكونه مع مارية في يوم عائشة وقال إنه حرمها على نفسه،
فأطلعت عليه عائشة. وقيل: إنه كان يوم حفصة، فأطلعت عليه عائشة فاستكتمها النبي فأخبرت حفصة بذلك فانتشر الخبر فعاتبهم الله على ذلك. وقال الزجاج
والفراء: أسر إليها بأنه سيلي الامر بعده أبو بكر وعمر وعثمان فتباشروا بذلك
فانتشر الخبر. وروى أصحابنا انه أسر إلى عائشة بما يكون بعده من قيام من
46

يقوم بالامر ورفع علي عليه السلام عن مقامه فبشرت بذلك أباها فعاتبهم الله على ذلك.
وقوله (فلما نبأت به واظهره الله عليه عرف بعضه واعرض عن بعض) معناه
لما أخبرت التي أسر إليها الذي خبرها به إلى غيرها وأعلم الله تعالى نبيه ذلك واظهره
له (عرف بعضه وأعرض عن بعض) فمن قرأ بالتخفيف قال الفراء: معناه إنه عاتب
على بعض ذلك وصفح عن الباقي. وروي انه طلق حفصة تطليقة جزاء على ذلك ثم
راجعها بأمر الله تعالى، وقيل: معنى قراءة من شدد أراد انه صلى الله عليه وآله أعلمها جميع
ذلك وعرفها إياه، فلما نبأها به يعني لما أخبر النبي صلى الله عليه وآله، زوجته بذلك وعرفها
أنها أفشت سره (قالت) له في الجواب (من أنبأك هذا) أي من أخبرك بهذا
فقال النبي صلى الله عليه وآله (نبأني) أي اخبرني بذلك واعلمني (العليم) بجميع المعلومات
(الخبير) بسرائر الصدور الذي لا يخفى عليه شئ من أمور عباده ظاهرا وباطنا.
ثم خاطبهما يعني عائشة وحفصة وقال قل لهما (إن تتوبا إلى الله) وترجعا
إلى طاعته (فقد صغت قلوبكما) قال ابن عباس ومجاهد: معناه زاغت قلوبكما إلى
الاثم. وقال عمر بن الخطاب وجميع أهل التأويل: انه عنى عائشة وحفصة، وقال
بعضهم: معناه مالت قلوبكما إلى ما كرهه الله من تحريم ما حرمه. وقوله (فقد صغت
قلوبكما) من صلة (إن تتوبا إلى الله) والجواب محذوف، وتقديره إن تتوبا إلى
الله قبلت توبتكما، وقال قوم (فقد صغت قلوبكما) جواب كقول القائل إن تتابع
المجئ إلي فلقد جفوتني وقطعتني دهرا أي يحق لك ان تفعل ذلك، فقد صرمت
فيما قبل. وإنما قال (قلوبكما) مع أن لهما قلبين، لان كلما تثبت الإضافة فيه معنى
التثنية، فلفظ الجمع أحق به، لأنه أمكن واخف باعراب الواحد وقلة الزائد. وذلك
في كل شيئين من شيئين، ويجوز التثنية لأنها الأصل، كما قال الراجز:
47

ظهراهما مثل ظهور الترسين (1)
فجمع المذهبين. وقوله (وإن تظاهرا عليه) معناه وإن تعاونا على خلافه
(فان الله هو مولاه) يعني الله الذي يتولى حفظه وحياطته ونصرته (وجبريل)
أيضا معين له وناصره (وصالح المؤمنين) قال الضحاك: يعنى خيار المؤمنين. وقال
قتادة: يعني أتقياء المؤمنين. وقال الزجاج: (صالح المؤمنين) واحد في موضع
الجمع، وقال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني: هو صالحوا المؤمنين على الجمع، غير أنه
حذفت الواو للإضافة، وهذا غلط، لان النون سقطت للإضافة، فكان يجب ان
يثبت الواو في الحظ، وفي المصاحف بلا واو،
وروت الخاصة والعامة أن المراد بصالح المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
وذلك يدل على أنه أفضلهم، لان القائل إذا قال: فلان فارس قومه أو شجاع
قبيلته أو صالحهم، فإنه يفهم من جميع ذلك أنه أفرسهم وأشجعهم وأصلحهم.
وقوله (والملائكة بعد ذلك ظهير) معناه إن الملائكة بعد من ذكره معينون
له، فالظهير المعين الذي هو كالظهر له في القوة.
وقوله (عسى ربه إن طلقكن) معاشر نساء النبي (ان يبدله أزواجا خيرا
منكن) فمن خفف الدال، فلانه يدل على القليل والكثير، ومن شدد أراد ان
الله يبدلهن أكثر منهن. ومعنى (خيرا منكن) أي أفضل منكن وأصلح له. ثم
وصفهن تعالى فقال (مسلمات) وهن اللواتي يظهرن الاسلام والشهادتين مستسلمات
لما أمر الله به (مؤمنات) أي مصدقات بتوحيد الله واخلاص العبادة له مقرات
بنبوة نبيه صلى الله عليه وآله وقيل: معناه مصدقات في قولهن وفعلهن (قانتات) أي خاضعات
متذللات لله تعالى. وقيل: معنى (قانتات) راجعات إلى الله بفعل ما يجب له

(1) مر في 3 / 513.
48

- عز وجل - (عابدات) لله بما تعبدهن به من العبادات متذللات له (سائحات)
معناه ماضيات في طاعة الله. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: معنى سائحات
صائمات. وقال زيد ابن اسلم: معنى (سائحات) مهاجرات، وهو اختيار الجبائي
وقيل: للصائم سائح، لأنه يستمر في الامساك عن الطعام والشراب، كما يستمر
السائح في الأرض (ثيبات) وهن الراجعات من عند الأزواج بعد افتضاضهن
مشتق من ثاب يثوب إذا رجع (وأبكارا) جمع بكر، وهي التي على أول حالها
قبل الافتضاض.
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها
الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون (6) يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم
إنما تجزون ما كنتم تعملون (7) يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى
الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم
جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين
آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم
لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير (8) يا أيها النبي
جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأويهم جهنم وبئس
49

المصير (9) ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة
لوط كانتا تحت عبد ين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم
يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) (10)
قرأ (نصوحا) بضم النون حماد ويحيى الباقون بفتحها، وهما لغتان.
وقال قوم: من فتح النون جعله نعتا للتوبة وحمله على الكثرة. ومن ضمه جعله مصدرا
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين الذين صدقوا بتوحيد الله واخلاص
العبادة له وأقروا بنبوة نبيه صلى الله عليه وآله يأمرهم بأن يقوا أنفسهم أي يمنعونها، ويمنعون
أهليهم نارا، وإنما يمنعون نفوسهم بأن يعملوا الطاعات، ويمنعون أهليهم بأن
يدعوهم إليها ويحثوهم على فعلها، وذلك يقتضي أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
ينبغي أن يكون للأقرب فالأقرب. وقال مجاهد وقتادة: معنى (قوا أنفسكم وأهليكم
نارا) مروهم بطاعة الله وانهوهم عن معصيته.
ثم وصف تعالى النار التي حذرهم منها فقال (وقودها الناس والحجارة)
قيل حطب تلك النار الناس والحجارة كوقود الكبريب وهو أشد ما يكون من
العذاب (عليها ملائكة غلاظ) في الأخلاق وإن كانوا رقاق الأجسام، لأن الظاهر
من حال الملك انه روحاني فخروجه عن الروحانية كخروجه عن صورة الملائكة
(شداد) في القوى (لا يعصون الله ما أمرهم) به. وفي ذلك دلالة على أن
الملائكة الموكلين بالنار وبعقاب العصاة معصومون عن فعل القبيح لا يخالفون الله
في أمره ويمتثلون كل ما يأمرهم به، وعمومه يقتضي انهم لا يعصونه في صغيرة ولا
كبيرة. وقال الرماني: لا يجوز أن يعصي الملك في صغيرة ولا كبيرة لتمسكه بما يدعو
إليه العقل دون الطبع. وكل من تمسك بما يدعو إليه العقل دون الطبع، فإنه لا يقع
50

منه قبيح. وقد اختارهم الله على ما في المعلوم منهم وقيل: هم غلاظ شداد يعذبون
على قدر قواهم بأنواع العذاب. وقال الجبائي قوله (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون
ما يؤمرون) يعني - في دار الدنيا - لان الآخرة ليست دار تكليف. وإنما هي
دار جزاء. وإنما أمرهم الله بتعذيب أهل النار على وجه الثواب لهم بأن جعل
سرورهم ولذاتهم في تعذيب أهل النار، كما جعل سرور المؤمنين ولذاتهم في الجنة.
ثم حكى ما يقال للكفار يوم القيامة فان الله تعالى يخاطبهم فيقول (يا أيها
الذين كفروا) نعمتي وجحدوا ربوبيتي وأشركوا في عبادتي من لا يستحقها،
وكذبوا أنبيائي ورسلي (لا تعتذروا اليوم) فان اليوم دار جزاء لا دار توبة واعتذار
(إنما تجزون) على قدر (ما كنتم تعملون) في الدنيا على الطاعات بالثواب ولا
طاعة معكم، وعلى المعاصي بالعقاب ودخول النار، وأنتم مستحقون لذلك.
ثم عاد إلى خطاب المؤمنين في دار التكليف فقال (يا أيها الذين آمنوا توبوا
إلى الله) من معاصيه وأرجعوا إلى طاعته (توبة نصوحا) أي توبة خالصة لوجه
الله. فمن قرأ - بضم النون - وهو أبو بكر عن عاصم أراد المصدر، ومن فتح
النون جعله صفة للتوبة ونعتا لها. والتوبة النصوح هي التي يناصح فيها الانسان نفسه
باخلاص الندم مع العزم على ألا يعود إلى مثله في القبح. وقوله (عسى ربكم أن
يكفر عنكم سيئاتكم) معناه متى تبتم توبة نصوحا كفر الله عنكم سيئاتكم، وغفر لكم
فان (عسى) من الله واجبة (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) مضافا
إلى تكفير السيئات والعفو عنها (يوم لا يخزي الله النبي) ولا يخزي (الذين آمنوا
معه) أي لا يذلهم ولا يعاقبهم بل يعزهم بادخال الجنة.
ثم وصف النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين معه فقال (يسعى نورهم بين أيديهم وبايمانهم)
قال ابن عباس: معناه يسعى نور كتابهم الذي فيه البشرى (يقولون ربنا) في
51

موضع الحال، وتقديره قائلين (ربنا أتمم لنا نورنا) قال: يقول ذلك المؤمنون
حين يطفئ نور المنافقين ويبقون في الظلمة فيسأل المؤمنون حينئذ إتمام نورهم (واغفر
لنا) أي استر علينا معاصينا ولا تهلكنا بها (إنك على كل شئ قدير)
لا يعجزك شئ.
ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله فقال (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) قيل:
معناه جاهد الكفار بالقتال والحرب، والمنافقين بالقول الذي يردع عن القبيح لا بالحرب
إلا أن فيه بذل المجهود، فلذلك سماه جهادا. وفي قراءة أهل البيت (جاهد الكفار
بالمنافقين) لأنه صلى الله عليه وآله كان يجاهد الكفار وفي عسكره جماعة من المنافقين يقاتلون معه
وقوله (واغلظ عليهم) أي اشدد عليهم. قال الحسن: أكثر من كان يصيب
الحدود في ذلك الزمان المنافقون. فأمر الله أن يغلظ عليهم في إقامة الحدود. ثم
قال (ومأواهم) يعني مأوى الكفار والمنافقين ومستقرهم (جهنم وبئس المصير)
لما فيها من أنواع العقاب.
وقوله (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين
من عبادنا صالحين) قال ابن عباس: كانت امرأة نوح وامرأة لوط منافقتين (فخانتاهما)
قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس انه مجنون، وكانت امرأة
لوط تدل على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما لهما، وما زنت امرأة نبي قط، لما في ذلك
من التنفير عن الرسول وإلحاق الوصمة به، فمن نسب أحدا من زوجات النبي إلى
الزنا، فقد أخطأ خطأ عظيما، وليس ذلك قولا لمحصل. ثم قال (فلم يغنيا
عنهما، أي لم يغن نوح ولوط عن المرأتين (من الله شيئا) أي لم ينجياهما من عقاب
الله وعذابه (وقيل) لهما يوم القيامة (ادخلا النار مع الداخلين من الكفار.
وقال الفراء: هذا مثل ضربه الله تعالى لعائشة وحفصة، وبين انه لا يغنيهما ولا
52

ينفعهما مكانهما من رسول الله إن لم يطيعا الله ورسوله، ويمتثلا أمرهما، كما لم ينفع
امرأة نوح وامرأة لوط كونهما تحت نبيين. وفي ذلك زجر لهما عن المعاصي وامر
لهما أن يكونا كآسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران في طاعتهما لله تعالى وامتثال
أمره ونهيه.
قوله تعالى:
(وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت
رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني
من القوم الظالمين (11) ومريم ابنت عمران التي أحصنت
فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه
وكانت من القانتين) (12) آيتان.
قرأ أهل البصرة وحفص عن عاصم ونافع في رواية خارجة (وكتبه) على
الجمع. الباقون (وكتابه) على واحد، لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير.
والفائدة في هذه الآية، وفي الآية التي قبلها: أن أحدا لا ينفعه إلا عمله ولا يؤخذ
بجرم غيره، ولا يثاب على طاعة غيره، وإن كان خصيصا به وملازما له. وتبين ان
امرأة نوح وامرأة لوط لم ينفعهما قربهما من نبيين واختصاصهما والتصاقهما بهما، لما
كانتا كافرتين عاصيتين لله تعالى بل عاقبهما الله بالنار بكفرهما وسوء أفعالهما.
وبين في هذه الآية أن كفر فرعون لم يتعد إلى زوجته لما كانت مؤمنة
طائعة لله تعالى خائفة من عقابه، بل نجاها الله من عقابه وأدخلها الجنة على إيمانها
وطاعتها، فضرب المثل الأول للكفار لما كانت المرأتان كافرتين، وضرب المثل
53

الثاني للمؤمنين، لما كانت امرأة فرعون مؤمنة، فقال (وضرب الله مثلا للذين آمنوا
امرأة فرعون) واسمها آسية. والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأول. فهذه
الآية فيها قول فيه تشبيه حال المؤمنة التي زوجها كافر بحال امرأة فرعون في أنه
لا يضرها كفره مع قربها منه، كما أن امرأة نوح وامرأة لوط، لم ينفعهما نبوتهما
وإيمانهما حين كانتا كافرتين.
وقوله (إذ قالت) أي حين قالت امرأة فرعون داعية الله (رب ابن لي
عندك بيتا في الجنة ونجني) أي وخلصني (من فرعون وعمله) يعني من مثل سوء
عمله (ونجني من القوم الظالمين) يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالله واستحقوا
لذلك العقاب. وإنما دعت بالخلاص من عمل الكفار بأن سألت الله تعالى أن يلطف
لها في التمسك بالايمان، وألا تعتر بتمكين الله لفرعون وكفار قومه وطول سلامته
وسوابغ نعمته عليهم والانس به لطول مخالطته وصحبته، فربما أفتنت من هذه
الوجوه، فدعت بهذا ليلطف الله لها في ذلك وتبقى على التمسك بالايمان.
وقوله (ومريم ابنت عمران) يحتمل أن يكون عطفا على قوله (امرأة
فرعون) فلذلك نصبه. والعامل (وضرب) فكأنه قال: وضرب مثلا مريم ابنت
عمران، ويحتمل أن يكون نصبا على تقدير واذكر أيضا مريم بنت عمران (التي أحصنت
فرجها) فاحصان الفرج منعه من دنس المعصية يقال: أحصن يحصن إحصانا، ومنه
الحصن الحصين، لأنه بناء منيع، والفرس الحصان الذي يمنع من ركوبه إلا مقتدرا
على تلك الحال، وامرأة حصان - بفتح الحاء - لأنها تمنع من لمس الحرام.
وقوله (فنفخنا فيه من روحنا) قال قتادة معناه فنفخنا في جيبها من روحنا
وقال الفراء: كل شق فهو فرج فأحصنت فرجها منعت جيب درعها من جبرائيل عليه السلام
والظاهر أنه أراد الفرج الذي يكنى عنه. وقوله (فيه) يعني في الفرج، فلذلك
54

ذكر في الأنبياء (فيها) لأنه رده إلى التي أحصنت فرجها. وقيل: إن جبرائيل عليه السلام
نفخ في فرجها، فخلق الله - عز وجل - فيه المسيح (وصدقت بكلمات ربها) يعني
بما تكلم الله به، وأوحاه إلى أنبيائه وملائكته (وكتبه) أي وصدقت بكتبه التي
أنزلها على أنبيائه. فمن قرأ (وكتبه) جمع لأنها كتب مختلفة. ومن وحد ذهب
إلى الجنس، وهو يدل على القليل والكثير (وكانت من القانتين) وإنما لم يقل
من القانتات لتغليب المذكر على المؤنث، فكأنه قال من القوم القانتين، فالقانت
المقيم على طاعة الله. وقيل: معناه الداعي لله في كل حال. وقال الحسن: رفع الله
آسية امرأة فرعون إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب وتنعم فيها إلى يوم القيامة،
فنجاها الله أكرم النجاة. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (حسبك من نساء العالمين
أربع: مريم ابنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة
بنت محمد صلى الله عليه وآله) وروي أن فرعون امر أن تسمر آسية بأربع مسامير ويرفع فوقها
حجر الرخام، فان رجعت عن قولها وإلا أرسل عليها الحجر فأراها الله منزلها من
الجنة، فاختارت الجنة فنزع الله روحها، فلما ارسل الحجر وقع على جسد ميت
55

67 - سورة الملك
مكية في قول ابن عباس والضحاك وعطاء وغيرهم وهي ثلاثون آية في الكوفي
والبصري والمدني الأول واحد وثلاثون في المدني الأخير وقال الفراء: سورة الملك تسمى
المنجبة لأنها تنجي قاريها من عذاب القبر وروي إن في التوراة مثل (سورة الملك)
بسم الله الرحمن الرحيم.
(تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير (1)
الذي خلق الموت والحياة وليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو
العزيز الغفور (2) الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق
الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم
ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (4)
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين
وأعتدنا لهم عذاب السعير) (5) خمس آيات.
قرأ حمزة والكسائي (من تفوت) بتشديد الواو بلا ألف. الباقون (تفاوت)
على وزن تفاعل. ومعناهما واحد. وهو مثل: تصعر وتصاعر، وتعهد وتعاهد.
والتفاوت اختلاف التناقض، وهو تباعد ما بين الشيئين في الصحة. والتباين
56

امتناع كل واحد من المعنيين ان يصح مع الاخر.
يقول الله تعالى مخبرا عن عظمته وعلو شأنه (تبارك الذي بيده الملك)
فمعنى تبارك بأنه الثابت الذي لم يزل ولا يزال. وأصل الصفة من الثبوت من
البرك وهو ثبوت الطائر على الماء. ومنه البركة ثبوت الخير بنمائه. وقيل: معناه
تعاظم بالحق من لم يزل ولا يزال، وهو راجع إلى معنى الثابت الدائم. وقيل:
المعنى تبارك من ثبوت الأشياء به إذ لولاه لبطل كل شئ لأنه لا يصح شئ سواه
إلا مقدوره أو مقدور مقدوره، الذي هو القدرة، لان الله تعالى هو الخالق لها.
وقيل: إن معناه تبارك لان جميع البركات منه، إلا أن هذا المعنى مضمن في الصفة غير
مصرح به، وإنما المصرح به تعالى باستحقاق التعظيم.
وقوله (الذي بيده الملك) معناه الذي يجب كونه قادرا وانه السلطان العظيم
الذي كل ملك له، ليس من ملك إلا داخل فيه لان الله تعالى مالك الملوك، وممكنهم
منها. والملك هو اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير.
وقوله (وهو على كل شئ قدير) معناه إن الذي بيده الملك والسلطان
القادر على كل شئ يصح أن يكون مقدورا له وهو أخص من قولنا: وهو بكل
شئ عليم، لأنه تعالى يعلم كل ما يصح أن يكون معلوما في نفسه، ولا يوصف بكونه
قادرا إلا على ما يصح أن يكون مقدورا له، لان مقدور القدرة لا يصح أن يكون
مقدورا له، وكذلك ما تقضى وقته مما لا يبقى لا يصح أن يكون مقدورا في نفسه.
ثم وصف تعالى نفسه فقال (الذي خلق الموت والحياة) أي خلق الموت
للتعبد بالصبر عليه، والحياة للتعبد بالشكر عليها. وقيل: وجه خلق الموت والحياة
للابتلاء هو ما فيها من الاعتبار المؤدي إلى تثبيت قادر على الأضداد مع التحذير
57

في كل حال من مجيئ الموت الذي ينقطع به استدراك ما فات، ومع التسوية بين
الغني والفقير والملك والسوقة في الموت بما يقتضي قاهرا للجميع قد عمهم بحسن التدبير
فقد أذل الله ابن آدم بالموت ليكون أبعد من الطغيان في حال التمكين من العصيان.
وفى كون الموت معنى خلاف بين الشيخين: أبي، وأبي هاشم.
وقوله (ليبلوكم) معناه ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر والنهي فيجازي كل
عامل على قدر عمله، الابتلاء الاختبار. وقال الفراء والزجاج: في الكلام اضمار
وتقديره ليبلوكم فيعلم أيكم، لان حروف الاستفهام لا تشغل إلا بفعل يتعلق بالجملة
على تقدير المفرد كقولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو، وتقديره وقد علمت أن
أحدهما في الدار (وعرفت، ونظرت) بمنزلة (علمت) في هذا، لأنها توافقها في
(عرفت انه في الدار) و (نظرت بقلبي انه في الدار) ومثله (سلهم أيهم بذلك
زعيم) (1) أي سؤال من يطلب ان يعلم أيهم بذلك زعيم، ولو قلت اضرب أيهم
ذهب لم يكن إلا نصبا، لأنه بمعنى الذي. والقديم تعالى وإن كان عالما بالأشياء
قبل كونها، فإنما يبتلي الخلق ويختبرهم اختبار من يطلب العلم، حتى يجازي على الفعل
بحسبه، ولما كان لم يحسن الثواب والعقاب والتعظيم والا جلال إلا بعد وجود الطاعة
والمعصية لم يكن بد من التكليف، والأمر والنهي فاجرى عليه الاختبار مجازا.
وقوله (وهو العزيز) في انتقامه من أعدائه والكافرين لنعمه، لا يقدر
أحد على مغالبته ومقاهرته، غفور لمن تاب إليه، أو إن يريد التفضل باسقاط عقابه
ولا يصح التكليف إلا مع الترغيب والترغيب، لان التمكين من الحسن والقبيح يقتضي
ذلك، والتكليف تحميل المشقة في الأمر والنهي.
ثم عاد إلى صفات نفسه فقال (الذي خلق سبع سماوات طباقا) أي أنشأ

(1) سورة 68 القلم آية 40.
58

واخترع سبع سماوات واحدة فوق الأخرى (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)
يعني من اختلاف وتناقض، وذلك يدل على أن ما فيه تفاوت من الكفر والمعاصي
ليس من خلق الله، لأنه نفى نفيا عاما أن يكون فيما خلقه تفاوت. وتفاوت وتفوت
مثل تصاغر وتصعر.
ثم نبه تعالى العاقل على صحة ما قاله من أنه ليس في خلق الله تفاوت.
فقال (فارجع البصر) أي فرد البصر وأدرها في خلق الله من السماوات (هل
ترى من فطور) أي من شقوق وصدوع يقال: فطره يفطره، فهو فاطر إذا شقه
ومنه قوله (تكاد السماوات يتفطرن منه) (1) أي يتصدعن. وقال ابن عباس:
معناه هل ترى من وهن، وقال قتادة: من خلل. وقال سفيان: من شقوق. ثم
أكد ذلك بقوله (ثم ارجع البصر كرتين) أي دفعة ثانية، لان من نظر في
الشئ كرة بعد أخرى بان له ما لم يكن بايناله.
ثم بين انه إذا فعل ذلك وتردد بصره في خلق الله انقلب إليه بصره ورجع
إليه خاسئا يعني ذليلا صاغرا - في قول ابن عباس - وذلك كذلة من طلب شيئا لم
يجده وأبعد عنه (وهو حسير) قال قتادة: معناه كال معيى، فالحسير الكليل، كما
يحسر البعير.
ثم أقسم الله تعالى بقوله (ولقد زينا السماء الدنيا...) لان لام (لقد) هي التي
يتلقى بها القسم بأنه زين السماء أي حسنها وجملها أي السماء الدنيا بالمصابيح، يعني
الكواكب وسميت النجوم مصابيح لاضاءتها، وكذلك الصبح. والمصباح السراج
وواحد المصابيح مصباح. قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاث خصال: أحدها
زينة السماء. وثانيها رجوما للشياطين. وثالثها علامات يهتدى بها، فعلى هذا يكون

(1) سورة 19 مريم آية 91.
59

تقديره وجعلنا فيها.
وقوله (واعتدنا لهم عذاب السعير) معناه إنا جعلنا الكواكب رجما للشياطين
اعتدنا لهم وادخرنا لأجلهم عذاب السعير يعني النار المسعرة، فالسعير النار المسعرة
المشتعلة. وقيل: ينفصل من الكواكب شهاب بأن يكون رجوما للشياطين، فأما
الكوكب نفسه، فليس يزول إلى أن يريد الله فناءه، ففي هذه الآيات بيان ما يجب
من تعظيم الله تعالى لم يزل ولا يزال، وأن له الملك الكبير، وانه على كل شئ
قدير. وفيها بيان ما يجب اعتقاده من أن جميع ما خلقه الله فللابتلاء، بما يصح معه
التكليف للعمل الذي يوجب الثواب جزاء على الاحسان مع رحمة من تاب بالغفران
وشدة الانتقام ممن أقام على معصيته وفيها بيان ما يجب اعتقاده من أن جميع
ما خلقه الله محكم لا تفاوت فيه، لأنه على ما تقتضيه الحكمة في المتعة والعبرة وما يصح
به الزجر من السيئة. وفيها بيان ما يجب اعتقاده مما اقتضت الحكمة فيه التلاؤم من
غير فطور، ولا عدول عن الصواب من أمر السماوات والأفلاك والنجوم، وما خلق
فيها من المصابيح زينة لها ورجوما للشياطين مع أن عاقبتهم إلى عذاب السعير.
قوله تعالى:
(وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير (6)
إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور (7) تكاد تميز من الغيظ
كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا
بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم
إلا في ضلال كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في
60

أصحاب السعير (10) فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير) (11)
ست آيات.
قرأ أبو جعفر والكسائي (فسحقا) بضم الحاء مثقل. الباقون بالتخفيف،
وهما لغتان.
لما ذكر الله تعالى ما أعد للشياطين من عذاب السعير، ذكر عقيبه وعيد
الكفار وما أعد لهم لاتصال ذلك بوعيد النار، فقال (وللذين كفروا) يعني بتوحيد
الله وإخلاص عبادته وجحدوا نبوة رسله وما جاءوا به (عذاب جهنم) ثم قال
(وبئس المصير) أي بئس المآل والمرجع. وإنما وصفه ب‍ (بئس) وهي من صفات
الذم، والعقاب حسن، لما في ذلك من الضرر الذي يجب على كل عاقل أن
يتقيه بغاية الجهد واستفراغ الوسع ومع هذا ليس يخفى المراد في ذلك على أحد
ولا يجوز قياسا على ذلك أن يوصف به الفاعل، لأنه لا يوصف به الفاعل إلا على
وجه الذم، لأنه لا يقال: بئس الرجل إلا لمن كان مستحقا للذم من حيث أن
القادر قادر على الضدين.
ووجه الحكمة في فعل العقاب ما فيه من الزجر المتقدم للمكلف، ولا يمكن
أن يكون مزجورا إلا به ولولاه لكان مغرى بالقبيح.
ثم قال تعالى (إذا ألقوا فيها) ومعناه إذا طرح الكفار في النار (سمعوا
لها) يعني للنار (شهيقا) وصوتا فظيعا بنفس كالنزع، فإذا اشتد لهيب النار سمع
لها ذلك الصوت كأنها تطلب الوقود، قال رؤبة:
حشرج في الجوف سحيلا أو شهق * حتى يقال ناهق وما نهق (1)

(1) مر في 6 / 67.
61

وقال أبو العالية: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق وقوله (وهي
تفور) أي ترتفع، فالفور ارتفاع الشئ بالغليان، يقال: فارت القدر تفور فورا
ومنه الفوارة لارتفاعها بالماء ارتفاع الغليان. وفار الدم فورانا، وفار الماء يفور فورا.
وقوله (تكاد تميز من الغيظ) أي تكاد النار تتفرق وتنقطع من شدتها، وسمى
شدتها والتهابها غيظا لان المغتاظ هو المتقطع بما يجد من الألم الباعث على الايقاع لغيره،
فحال جهنم كحال المغتاظ، فالتميز التفرق والتمييز التفريق. وقال ابن عباس
(تميز) أي تفرق، وهو قول الضحاك وابن زيد.
وقوله (كلما القي فيها فوج) يعني كلما طرح في النار فوج من الكفار (سألهم
خزنتها ألم يأتكم نذير) يعني تقول لهم الملائكة الموكلون بالنار على وجه التبكيت
لهم في صيغة الاستفهام: ألم يجئكم مخوف من جهة الله يخوفكم عذاب هذه النار؟!
فيقولون في جوابهم (بلى قد جاءنا نذير) أي مخوف معلم (فكذبنا) ولم نصدقه
ولم نقبل منه (وقلنا ما أنزل الله من شئ) مما تدعوننا إليه وتحذروننا منه فتقول
لهم الملائكة (ان أنتم إلا في ضلال كبير) أي لستم اليوم إلا في عذاب عظيم.
(وقالوا) أيضا يعني الكفار (لو كنا نسمع) من النذر ما جاؤنا به (أو نعقل)
ما دعونا إليه وعملنا به (ما كنا في أصحاب السعير) فقال الله تعالى (فاعترفوا
بذنبهم) يعني أقر أهل النار بمعاصيهم في ذلك الوقت الذي لم ينفعهم الاعتراف.
فالاعتراف هو الاقرار بالشئ عن معرفة، وذلك أن الافرار مشتق من قر الشئ
يقر قرا إذا ثبت، فالمقر في المعنى مثبت له والاعتراف مأخوذ من المعرفة. فقال
الله تعالى (فسحقا لأصحاب السعير) أي بعدا لهم عن الخير وعن ثواب الله ونعمه،
فكأنه قال اسحقهم الله سحقا أو ألزمهم الله سحقا عن الخير فجاء المصدر على غير
62

لفظه، كما قال الله تعالى (والله أنبتكم من الأرض نباتا) (1) وتقديره فأسحقهم
الله إسحاقا لأنه مأخوذ منه فأما سحقته سحقا فمعناه باعدته بالتفريق عن حال اجتماعه
بما صار إليه كالغبار. وليس لاحد أن يقول: ما وجه اعترافهم بالذنب مع ما عليهم
من الفضيحة به؟! وذلك أنهم قد علموا انهم قد حصلوا على الفضيحة اعترفوا أو
لم يعترفوا وانهم سواء عليهم أجزعوا أم صبروا، فليس يدعوهم إلى أحد الامرين
إلا بمثل ما يدعوهم إلى الاخر في أنه لا فرج فيه، فلا يصلح أن يقال لم جزعوا
إلا بمثل ما يصلح أن يقال لم صبروا، وكذلك لم اعترفوا بمنزلة لم لم يعترفوا على ما
بيناه، والذنب مصدر لا يثنى ولا يجمع، ومتى جمع فلاختلاف جنسه، كما يقال
غطاء الناس وأغطيتهم.
قوله تعالى:
(إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر
كبير (12) وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور (13)
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14) هو الذي جعل لكم
الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه
النشور) (15) أربع آيات.
لما وصف الله تعالى الكفار وما أعده لهم من أليم العقاب، ذكر المؤمنين
وما أعده لهم من جزيل الثواب، فقال (إن الذين يخشون ربهم) أي يخافون
عذاب ربهم باتقاء معاصيه وفعل طاعاته (بالغيب) أي على وجه الاستسرار بذلك

(1) سورة 17 نوح آية 17.
63

لان الخشية متي كانت بالغيب على ما قلناه كانت بعيدة من النفاق، وخالصة لوجه
الله. وخشية الله بالغيب تنفع بأن يستحق عليها الثواب، والخشية في الظاهر وترك
المعاصي لا يستحق بها الثواب وإنما لا يستحق عليها العقاب. وإنما الخشية في الغيب
أفضل لا محالة.
وقوله (لهم مغفرة وأجر كبير) أي لمن خشي الله واتقاه بالغيب ستر
الله على معاصيه ولهم ثواب كبير لا فناء له. وقيل: معنى (يخشون ربهم بالغيب) أي
يخافونه، وهم لا يرونه. وقيل (بالغيب) أي في سرهم وباطنهم، ومن علم ضمائر
الصدور علم إسرار القائل إلى غيره. وقال الحسن: معناه يخشون ربهم بالآخرة
لأنها غيب يؤمنون به، وكل من خشي ربه بالغيب خشيه بالشهادة، وليس كل
من خشيه بالشهادة يخشى بالغيب.
ثم قال مهددا للعصاة (وأسروا قولكم أو اجهروا به) ومعناه إن شئتم
أظهروه وإن شئتم ابطنوه فإنه عالم بذلك ل‍ (انه عليم بذات الصدور) فمن علم
ضمائر الصدور علم إسرار القول.
وقوله (ألا يعلم من خلق) معناه من خلق الصدور يعلم ما في الصدور
ويجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأشياء ما في الصدور. وقيل تقديره ألا
يعلم سر العبد من خلقه يعني من خلق العبد، ويجوز أن يكون المراد ألا يعلم سر
من خلق، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ولا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم
من خلق افعال القلوب، لأنه لو أراد ذلك لقال ألا يعلم ما خلق، لأنه لا يعبر عما
لا يعقل ب‍ (من) ولا يدل ذلك على أن الواحد منا لا يخلق أفعاله من حيث أنه
لا يعلم الضمائر، وإنا بينا أن المراد ألا يعلم من خلق الصدور أي خلق الأشياء
والواحد منا لا يخلق ذلك فلا يجب أن يكون عالما بالضمائر.
64

وقوله (وهو اللطيف الخبير) معناه هو اللطيف بعباده من حيث يدبرهم
بلطف التدبير، فلطيف التدبير هو الذي يدبر تدبيرا نافذا لا يخفو عن شئ يدبره
به (الخبير) معناه العالم بهم وبأعمالهم.
ثم قال تعالى ممتنا على خلقه ومعددا لأنواع نعمه عليهم (هو الذي جعل
لكم الأرض ذلولا) يعني سهلا سهلها لكم تعملون فيها ما تشتهون (فامشوا في
مناكبها) قال مجاهد: مناكبها طرقها وفجاجها. وقال ابن عباس وقتادة: مناكبها
جبالها (وكلوا من رزقه) صورته صورة الامر والمراد به الإباحة والاذن، أذن
الله تعالى أن يأكلوا مما خلقه لهم وجعله لهم رزقا على الوجه الذي أباحه لهم (واليه
النشور) أي إلى الله المرجع يوم القيامة واليه المآل والمصير فيجازي كل واحد
حسب عمله. وفي ذلك تهديد.
قوله تعالى:
(أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي
تمور (16) أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا
فستعلمون كيف نذير (17) ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف
كان نكير (18) أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن
ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير (19) أمن هذا الذي
هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في
غرور (20) أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في
65

عتو ونفور) (21) ست آيات.
قرأ ابن كثير (واليه النشور وأمنتم) بواو في الوصل قلبا لهمزة الاستفهام
واوا لضم ما قبلها. وقرأ أهل الكوفة وأهل الشام بهمزتين على أصولهم. الباقون
بتحقيق الأولى وتخفيف الثانية.
يقول الله تعالى مهددا للمكلفين وزاجرا لهم عن ارتكاب معاصيه والجحد
لربوبيته على لفظ الاستفهام والمراد به تفخيم الامر وتعظيم التبكيت (أأمنتم من في
السماء) فالا من هو اطمينان النفس إلى السلامة من الخوف، والامن علم بسلامة
النفس من الضرر يقال أمن يأمن أمنا وأمنه يؤمنه إيمانا وأمانا، والمعنى أأمن من
في السماء سلطانه وأمره ونهيه كما قال (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم
سركم وجهركم) (1) أي وهو الله في السماوات وفي الأرض معلومه، لا يخفى عليه
شئ منه. وقيل: أيضا يجوز أن يكون المراد (أأمنتم من في السماء) يعني الملك
الكائن في السماء (ان يخسف بكم الأرض) بأمر الله، فإذا هي تمور أي تردد،
فالمور هو التردد في الذهاب والمجيئ، يقال: مار يمور مورا فهو مائر، ومثله ماج
يموج موجا.
وقوله (أأمنتم من السماء أن يرسل عليكم حاصبا) فالحاصب الحجارة
التي يرمى بها كالحصباء، حصبه بالحصباء يحصبه حصبا إذا رماه بها. ويقال الذي
يرمى به حاصب أي ذو حصب كأن الحجر هو الذي يحصب. وقيل: تقديره آمنوا
قبل ان يرسل عليكم حاصبا، كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء.
وقوله (فستعلمون كيف نذير) فيه تهديد أي ستعرفون كيف تخويفي

(1) سورة 6 الانعام آية 3.
66

وترهيبي إن عصيتموني إذا صرتم إلى عذاب النار. ثم قال مقسما (ولقد كذب
الذين من قبلهم) أي جحد من قبل هؤلاء الكفار من الأمم وحدانيتي وأشركوا
بي غيري في العبادة وكذبوا رسلي (فأهلكتهم) واستأصلتهم (فكيف كان نكير)
أي ألم أهلكهم بضروب النقمات والمثلاث.
ثم قال منبها لهم على توحيده (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) أي
مصطفاة فوق رؤسهم في الجو باسطات أجنحتهم (ويقبضن) أي يضربن بها.
أي من الطير ما يضرب بجناحيه فيدف، ومنه الصفيف والدفيف (ما يمسكهن إلا
الرحمن) أي ليس يمنعهن من السقوط إلى الأرض إلا الرحمن الذي خلق لهم
الآلات التي يصفون بها ويدفون، وما خلق فيها من القدرة على ذلك، ولولا ذلك
لسقطت إلى الأرض. وقيل معنى ما يمسكهن إلا الرحمن بتوطئة الهواء لها، ولولا
ذلك لسقطت، وفي ذلك أكبر دلالة، وأوضح عبرة بأن من سخر الهواء هذا
التسخير هو على كل شئ قدير. والصف وضع الأشياء المتوالية على خط مستقيم،
والقبض جمع الشئ من حال البسط. والامساك اللزوم المانع من السقوط.
وقوله (إنه بكل شئ بصير) اخبار منه تعالى انه عالم بجميع الأشياء لا يخفى
عليه شئ منها (بصير) بما للخلق من النفع والضر. ثم قال (أمن هذا الذي
هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) أي من لكم معاشر الكفار يدفع عنكم عذاب
الله إذا حل بكم (إن الكافرون إلا في غرور) معناه ليس الكافرون بالله العابدون
للأوثان إلا في غرور أي يتوهمون أن ذلك أنفع لهم والامر على خلاف ذلك
من المكروه.
ثم قال (أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك) الله (رزقه) بأنت يزيله
ويمنعه منكم، فينزل عليكم رزقه (بل لجوا في عتو ونفور) فاللجاج تقحم الامر
67

كثيرا ردا للصارف عنه، يقال لجج في الامر يلج لجاجا، وقد لاجه ملاجة ولجج
فلان في الحرب فهو يلج تلجيجا. ولما كان لهؤلاء المشركين صوارف كثيرة من
عبادة الأوثان وهم يتقحمون على ذلك العصيان كانوا قد لجوا في عتوهم. والعتو
الطغيان وهو الخروج إلى فاحش الفساد، يقال: عتا يعتو عتوا فهو عات وجمعه
عتاة. والنفور الخروج عن الشئ هربا من الشعور بضرورة، ونقيض النفور القبول
وقال الجبائي: قوله (أمن هذا الذي) إلى قوله (إن امسك رزقه) تعريف
حجة عرفها الله لعباده فعرفوا وأقروا بها، ولم يردوا لها جوابا فقال الله (بل لجوا
في عتو ونفور).
قوله تعالى:
(أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على
صراط مستقيم (22) قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع
والابصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (23) قل هو الذي ذرأكم
في الأرض وإليه تحشرون (24) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم
صادقين (25) قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين) (26)
خمس آيات.
قوله (أفمن يمشي....) مثل ضربه الله قال ابن عباس: هو مثل ضربه
الله عز وجل للكافر وشبهه بمن يمشى مكبا على وجهه. والمؤمن شبهه بمن يمشي سويا
على صراط مستقيم. وقال قتادة: الكافر يحشر يوم القيامة يمشي على وجهه مكبا،
والمؤمن يمشى على صراط مستقيم.
68

وفى الآية دلالة على وجوب النظر في الدين، لأنه تعالى ضرب المثل بالناظر
في ما يسلكه حتى خلص إلى الطريق المستقيم فمدحه بهذا وذم التارك للنظر مكبا
على وجهه لا يثق بسلامة طريقه، يقال: أكب يكب اكبابا فهو مكب في مالا يتعدى
قال الأعشى:
مكبا على روقيه يحفر عرقها * على ظهر عريان الطريقة أهيما (1)
فإذا تعدى قيل: كببت فلانا على وجهه، وأكبه الله لوجهه. ثم قال تعالى
لنبيه صلى الله عليه وآله (قل) لهؤلاء الكفار إن الله تعالى (هو الذي أنشأكم) بأن أخرجكم
من العدم إلى الوجود واخترعكم (وجعل لكم السمع والابصار) تسمعون بالسمع
المسموعات وتبصرون بالبصر المبصرات (والأفئدة) يعني القلوب تعقلون فيها
أي بما فيها من المعلوم تعلمون بها وتميزون بها، فهذه نعم من الله تعالى يجب عليكم
أن تشكروها وتحمدوا الله عليها فأنتم (قليلا ما تشكرون) أي قليلا شكركم،
ويجوز أن يكون المعنى إنكم تشكرون قليلا.
ثم قال (قل) لهم يا محمد (هو) الله تعالى (الذي ذرأكم في الأرض)
أي خلقكم أولا وأوجدكم (واليه تحشرون) أي تبعثون إليه يوم القيامة فيجازيكم
على أعمالكم على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. ثم حكى تعالى ما كان يقوله
الكفار فإنهم كانوا (يقولون) مستهزئين مكذبين بأنه من عند الله (متى هذا
الوعد) الذي تعدوننا به من العذاب والهلاك (إن كنتم صادقين) معاشر
المؤمنين والمسلمين، فقال الله تعالى (قل) لهم يا محمد (إنما العلم عند الله) يعني علم
وقت قيام الساعة على اليقين عند الله لم يطلع عليه أحدا من البشر، كما قال (إن
الله عنده علم الساعة) (2) (وإنما أنا نذير) لكم مخبر مخوف من عقاب الله تعالى

(1) ديوانه (دار بيروت) 188
(2) سورة 31 لقمان آية 34.
69

(مبين) مالكم فيه من الصلاح والنجاة من العقاب. والنذير هو الدال على موضع
المخافة فكل من دعا إلى حق إما رغبة أو رهبة فهو نذير إلا أنه صار علما في صفات
الأنبياء عليهم السلام.
قوله تعالى:
(فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا
الذي كنتم به تدعون (27) قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي
أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم (28) قل هو الرحمن
آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين (29) قل
أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) (30)
أربع آيات.
قرأ يعقوب (تدعون) خفيفة. الباقون بالتشديد. وقرأ الكسائي (فسيعلمون
من هو) بالياء على الغيبة. الباقون بالتاء على الخطاب، أي قل لهم.
لما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم استبطأوا عذاب الله واهلاكه لهم مستهزئين
بذلك، فقالوا متي هذا الوعد، قال الله تعالى حاكيا عنهم إذا رأوا ما يوعدون به
(فلما رأوه زلفة) قال الحسن: معناه معاينة. وقال مجاهد: يعني قريبا. والزلفة
المنزلة القريبة والأصل فيه القرب، يقال: أزدلف إليه إزدلافا إذا تقرب إليه.
ومنه (مزدلفة) لأنها منزلة قريبة من مكة، وجمع زلفة زلف، قال العجاج:
ناج طواه الأين مما وجفا * طي الليالي زلفا فزلفا
70

سماوة الهلال حتى احقوقفا (1)
وقوله (سيئت وجوه الذين كفروا، أي ظهر فيها ما يفهم من الكآبة والحزن
تقول: ساء يسوء سوأ، ومنه السوائي، ومنه أساء يسئ إساءة، فهو مسئ إذا
فعل قبيحا يؤدي إلى الغم (وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) أي ويقال لهؤلاء
الكفار إذا شاهدوا العذاب (هذا الذي كنتم به تدعون) أي تطلبون به خلاف
ما وعدتم به على طريق التكذيب بالوعد: كأنه قيل هذا الذي كنتم به تكذبون
في إدعائكم انه باطل. والادعاء الاخبار بما يوعد إليه القائل دون المعنى، فإذا ظهر
دليله خرج من الادعاء لأنه حينئذ يدعو إليه المعنى، وكذلك الاخبار بما يدعو إلى
نفسه في الفعل ليس بدعوى، قال الزجاج: (تدعون) يجوز أن يكون يريد
يفعلون من الدعاء، ويجوز أن يكون من الدعوى، قال الفراء: والتشديد والتخفيف
واحد مثل تذكرون وتذكرون وتدخرون وتدخرون.
ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله (قل) لهم يا محمد (أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي)
بان يميتنا (أو رحمنا) بتأخير آجالنا ما الذي ينفعكم من ذلك في رفع العذاب الذي
استحققتموه من الله فلا تعللوا في ذلك بما لا يغني عنكم شيئا. وقيل إن الكفار
كانوا يتمنون موت النبي وموت أصحابه فقيل لهم (أرأيتم إن أهلكني الله) بإماتتي
وإماتة أصحابي فما الذي ينفعكم ذلك في النجاة من عذاب أليم. وقل لهم (فمن)
الذي (يجير الكافرين من عذاب أليم) حتى لا يعذبوا ولا يعاقبوا، فلا يمكنهم
الإحالة على من يجيرهم من الله ويخلصهم من عذابه.
ثم قال (قل) لهم على وجه الانكار عليهم والتوبيخ لهم على فعلهم (هو
الرحمن) يعني الله تعالى هو الذي عمت نعمه جميع الخلائق واستحق الوصف بالرحمن

(1) مر في 6 / 79 و 8 / 29 و 9 / 280، 370.
71

(آمنا به) أي صدقنا بوحدانيته (وعليه توكلنا) أي اعتمدنا عليه وفوضنا أمورنا
إليه، فالتوكل الاعتماد على تفضل الله وحسن تدبيره وقل لهم (فستعلمون) معاشر
الكفار (من) الذي (هو في ضلال مبين) أي بين. ومن قرأ بالياء معناه فسيعلم
الكفار ذلك.
ثم قال (قل) لهم يا محمد (أرأيتم) معاشر الكفار (إن أصبح ماؤكم غورا) أي
غائرا وصف الغائر بالغور الذي هو المصدر مبالغة، يقال ماء غور، وما آن غور، ومياه
غور كما يقال: هؤلاء زور فلان وضيفه، لأنه مصدر - في قول الفراء وغيره - (فمن
يأتيكم بماء معين) معناه من الذي يجيئكم بماء معين إذا غارت مياهكم. قال قوم:
الماء المعين الذي تراه العيون. وقال قتادة والضحاك: هو الجاري، فالأول مفعول
من العين، كمبيع من البيع، والثاني من الامعان في الجرى، ووزنه (فعيل) كأنه
قال ممعن في الجرى والظهور، وقال الحسن أصله من العيون. قال الجبائي قوله
(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا) تعريف حجة الله لعباده عرفوها وأقروا بها
ولم يردوا لها جوابا.
72

68 سورة القلم
مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما وهي اثنتان وخمسون آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(ن والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2)
وإن لك لأجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4) فستبصر
ويبصرون (5) بأيكم المفتون (6) إن ربك هو أعلم بمن ضل
عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (7) فلا تطع المكذبين (8) ودوا
لو تدهن فيدهنون (9) ولا تطع كل حلاف مهين (10) هماز مشاء
بنميم (11) مناع للخير معتد أثيم (12) عتل بعد ذلك زنيم (13)
أن كان ذا مال وبنين (4) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير
الأولين (15) سنسمه على الخرطوم) (16) ست عشرة آية.
قرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم (ن والقلم) بالاخفاء. الباقون بالاظهار.
والاظهار أقوى، لأن النية بها الوقف إذ هي حرف هجاء. ويجوز ادغام النون الثانية
73

في الواو المقارنة على قياس (من واقد) ولم يقرأ به أحد. وقرأ (آن كان ذا
مال) بهمزة واحدة ممدودة يعقوب وأبو جعفر وابن عامر - وبهمزتين - حمزة
وأبو بكر، الباقون بهمزة واحدة. واختلفوا في معنى (ن) في هذا الموضع.
فقال قوم: هو اسم من أسماء السورة مثل (حم، والم وص، وق) وما أشبه
ذلك. وهو الذي قلنا إنه أقوى الأقوال. وقال ابن عباس - في رواية عنه -
إن النون الحوت الذي عليه الأرضون. وفي رواية أخرى عنه إن النون الدواة.
وهو قول الحسن وقتادة، وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (نون) لوح من
نور. وقال قوم: تقديره ورب نون والقلم. والقلم آلة مبرية للكتابة. والمقلمة وعاء
القلم، وجمعه أقلام، ومنه قلامة الظفر، لأنه يؤخذ منه كالاخذ بالقط. وانجر القلم
بالقسم. وقوله (وما يسطرون) (ما) في موضع جر بالعطف على (والقلم) وكان
القسم بالقلم وما يسطر بالقلم، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، وتقديره: ن والقلم
وسطركم، فيكون القسم بالكتابة، وعلى الأول بالمكتوب والسطر الكتابة، وهو
وضع الحروف على خط مستقيم: سطر يسطر سطرا إذا كتب، وأسطر إذا كتب.
وجمع السطر سطور واسطار، قال رؤبة:
اني وأسطار سطرن سطرا (1)
والمسطرة آلة التسطير. وقوله (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) هو المحلوف
عليه، وهو جواب القسم، ومعناه لست يا محمد بمجنون بنعمة ربك، كما تقول
ما أنت بنعمة ربك بجاهل، وجاز تقديم معمولها بعد الباء، لأنها زائدة مؤكدة في
ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وتقديره انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، وإنما قال
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون) مع أن الجنة قد تكون نعمة، لان الجنة لا تكون

(1) مر في 4 / 110.
74

نعمة من حيث هي جنة، وإنما تكون نعمة من حيث تؤدي إلى مصلحة في الدين.
والعافية تكون نعمة من حيث هي عافية، فلهذا حسن ما أنت بنعمة ربك بمجنون
والجنون غمور العقل بستره عن الادراك به بما يخرج عن حكم الصحيح، وأصله
الستر من قوله (جن عليه الليل) (1) إذا ستره. وقيل إن قوله (ما أنت بنعمة
ربك بمجنون) جواب لقول المشركين حين قالوا (يا أيها الذي نزل عليه الذكر
إنك لمجنون) (2) فقال الله تعالى (ما أنت بنعمة ربك بمجنون)
وقوله (وإن لك) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله يقول له (وإن لك) يا محمد (لاجرا)
أي ثوابا من الله على قيامك بالنبوة وتحملك بأعبائها (غير ممنون) أي غير مقطوع
من قولهم منه السير يمنه منا إذا قطعه، ويقال: ضعفت منتي عن السفر، ورجل
منين أي ضعيف، ويجوز أن يكون المراد به إنه غير مكدر بالمن الذي يقطع عن
لزوم الشكر، من قولهم: المنة تكدر الصنيعة. وقال الحسن: معناه لا يمن عليك
بأجرك. ثم وصف النبي صلى الله عليه وآله فقال (وإنك) يا محمد (لعلى خلق عظيم) قال
الحسن: على دين عظيم، وهو الاسلام. وقيل أدب القرآن. وقال المؤرج:
معناه على دين عظيم بلغة قريش. وقالت عائشة: كانت خلق النبي صلى الله عليه وآله ما تضمنه
العشر الأول من سورة (المؤمنون)، فالخلق المرور في الفعل على عادة، فالخلق الكريم
الصبر على الحق وسعة البذل، وتدبير الأمور على مقتضى العقل وفي ذلك الرفق
والأناة والحلم والمداراة. ومن وصفه الله بأنه على خلق عظيم فليس وراء مدحه
مدح. وقيل: وإنك لعلى خلق عظيم بحكم القرآن وكل ذلك عطف على جواب القسم.
وقوله (فستبصر ويبصرون) معناه فستعلم يا محمد يوم القيامة ويعلمون،
يعني هؤلاء الكفار الذين يرمونك بالجنون تارة وبالكهانة أخرى (بأيكم المفتون)

(1) سورة 6 الانعام آية 76
(2) سورة 15 الحجر آية 6.
75

وقيل في معناه قولان:
أحدهما - باي فرقكم المفتون بما يجري مجرى الجنون.
والثاني - أن يكون معنى (بأيكم المفتون) كما يقال: ليس له معقول أي
عقل وتقديره ستعلم ويعلمون بمن منكم الجنون، وقيل: معنى الباء (في) وكأنه قال
في أيكم الجنون المفتون المبتلى بتخييل الرأي كالمجنون، وذلك كما يبتلى بشدة الهوى
المجنون. فيقال: فتن فلان بفلانة، وعلى هذا المعنى قال ابن عباس: بأيكم المجنون
وقال قتادة: معناه أيكم أولى بالشيطان جعل الباء زائدة كما قال الراجز:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج * نضرب بالسيف ونرجوا بالفرج (1)
ومعناه ونرجوا الفرج. وقال مجاهد: معناه أيكم المفتون كأنه قال في أيكم
المفتون. ثم قال (ان ربك يا محمد هو أعلم بمن ضل عن سبيله) الذي هو سبيل
الحق أي بمن عدل عنها وجار عن السلوك فيها (وهو اعلم بالمهتدين) أي بمن اهتدى
إليها وعمل، بموجبها. ثم نهى النبي صلى الله عليه وآله فقال له (فلا تطع المكذبين) بتوحيد الله
والجاحدين لنبوتك ولا توافق ما يريدونه. وقوله (ودوا لو تدهن فيدهنون) قال
ابن عباس: معناه ودوا لو تكفر فيكفرون، وهو قول الضحاك، وفى رواية أخرى
عن ابن عباس: إن معناه ود هؤلاء الكفار لوتلين في دينك، فيلينون في دينهم،
فشبه التليين في الدين بتليين الدهن. وقيل: معناه ودوا لو تركن إلى عبادة الأوثان
فيما لونك. والادهان الجريان في ظاهر الحال على المقاربة مع إضمار العداوة. وهو
مثل النفاق. ورفع (فيدهنون) بالعطف على قوله (لو تدهن) ولم يجعله
جواب التمني.
ثم قال له صلى الله عليه وآله (ولا تطع) يا محمد (كل حلاف) أي من يقسم كثيرا

(1) مر في 7 / 118، 358 و 8 / 81.
76

بالكذب (مهين) يعني مكشار في الشر - في قول الحسن وقتادة - والمهين الوضيع
باكثاره من القبيح، ومن عرف بأنه يحلف على الكذب، فهو مهين. وقال البلخي:
المهين الفاجر - في هذا الموضع -.
وقوله (هماز مشاء بنميم) أي وقاع في الناس بما لي له أن يعيبهم به.
والأصل فيه الدفع بشدة اعتماد، ومنه الهمزة حرف من حروف المعجم، وهي همزة
تخرج من الصدر بشدة اعتماد، وقال ابن عباس: الهماز المغتاب. وقوله (مشاء
بنميم) فالنميم التضريب بين الناس بنقل الكلام يغلظ لقلوب بعضهم على بعض
ومنه النمام المشموم، لأنه يجد ريحه كالمخبر عن نفسه، والنميم والنميمة مصدران.
وهو نقل الأحاديث بالتضريب: نم ينم نميما ونميمة (مناع للخير) أي يمنع خيره
ونفعه، فلا ينتفع أحد به (معتد) قال قتادة: معناه متجاوز للحد في المعاملة (أثيم)
أي آثم فهو (فعيل) بمعنى (فاعل) وهو الذي فعل ما يأثم به (عتل بعد ذلك)
فالعتل الجافي الغليظ. ومنه قوله (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم) (1) أي اذهبوا
به بعنف وغلظة يقال: عتله يعتله ويعتله عتلا إذا زعزعه بغلظ وجفاء. وقال
ذو الإصبع:
والدهر يغدو معتلا جذعا (2)
وقيل: العتل الفاحش اللئيم. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله ذلك. و (الزنيم)
الدعي وهو الملصق بالقوم، وليس منهم. وأصله الزنمة وهي الهينة التي تتحرك تحت
حلق الجدي وقال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (3)

(1) سورة 44 الدخان آية 47
(2) مجاز القرآن 2 / 264
(3) ديوانه 160 اللسان (زنم).
77

و (بعد) هاهنا معناه (مع) وقال آخر
زنيم ليس يعرف من أبوه * بغي الام ذو حسب لئيم (1)
ويقال للتيس: زنيم له زنمتان، والزنيم الدعي - عن ابن عباس - وقيل:
هو الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقوله (أن كان ذا مال وبنين) من قرأ على الاستفهام، وهو حمزة وأبو
بكر عن عاصم أراد، ألان كان ذا مال وبنين؟! على وجه التوبيخ له (إذا تتلى
عليه آياتنا قال أساطير الأولين) ويحتمل أن يكون المراد لان كان ذا مال وبنين
يطاع. وقيل: كان له ألف دينار وعشرة بنين (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير
الأولين) أي أحاديث الأولين التي سطرت وكتبت لا أصل لها وواحد الأساطير
أسطورة - في قول الزجاج. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم (أأن كان ذا مال
وبنين) بهمزتين. وقرأ ابن عامر بهمزة ممدودة. الباقون بهمزة واحدة. وقد
فسرناه. فقال الله تعالى مهددا له ومتوعدا (سنسمه على الخرطوم) أي سنعلم على
أنفه علامة يعرف بها الملائكة انه من أهل النار، فالسمة العلامة المفرقة بالرؤية بين
الأشياء المختلطة، كسمة الخيل إذا أرسلت في المروج، وسمه يسمه توسما وسمة،
فهو مرسوم. والخرطوم الانف، وهو الناتئ في الوجه الذي يقع به الشم. ومنه
خرطوم الفيل، وخرطمه إذا قطع أنفه وجعله خراطيم. وقال ابن عباس: معنى
(سنسمه على الخرطوم) نحطمه بالسيف في القتال، كما فعل بهم يوم بدر. وقال
قتادة: معناه سنعلمه بشئ يبقى على الأبد. وقال بعضهم معناه: سنسود وجهه
فعبر عن الوجه بالخرطوم، لأنه فيه.
وقيل: نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل: نزلت

(1) تفسير الطبري 29 / 14 والقرطبي 18 / 234.
78

في الأخنس بن شريق الثقفي، كانت به زنمة يعرف بها - ذكره ابن عباس -
قوله تعالى:
(إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا
ليصر منها مصبحين (17) ولا يستثنون (18) فطاف عليها طائف
من ربك وهم نائمون (19) فأصبحت كالصريم (20) فتنادوا
مصبحين (21) أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين (22)
فانطلقوا وهم يتخافتون (23) أن لا يدخلنها اليوم عليكم
مسكين (24) وغدوا على حرد قادرين) (25) تسع آيات.
يقول الله تعالى (إنا بلوناهم) يعني هؤلاء الكفار أي اختبرناهم (كما بلونا
أصحاب الجنة) يعني البستان
(إذ أقسموا) أي حين اقسموا فيما بينهم (ليصر منها
مصبحين) ووجه الكلام إنا بلونا أهل مكة بالجدب والقحط، كما بلونا أصحاب
الجنة بهلاك الثمار التي كانت فيها حين دعا النبي صلى الله عليه وآله عليهم، فقال (اللهم أشدد
وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) فالبلوى المحنة بشدة التعبد
على ما يقتضيه الحال في صحة التكليف. والصرم قطع ثمر النخل: صرم النخلة
يصرمها صرما، فهو صارم، ومنه الصريمة القطيعة عن حال المودة. وهم عشرة
أولاد كانوا لرجل من بني إسرائيل، وكان يأخذ من بستانه كفاية سنته ويتصدق
بالباقي، فقال أولاده: ليس يكفينا، وحلفوا أنهم يصرمون بستانهم ليلا وأبى
عليهم أبوهم، فأقسموا أنهم ليصرمون ثمر نخل البستان إذا أصبحوا، ولم يستثنوا،
ومعناه لم يقولوا إن شاء الله فقول القائل: لا فعلن كذا إلا أن يشاء الله استثناء
ومعناه إن شاء الله منعي أو تمكين ما نعي، فقال الله تعالى (فطاف عليها) يعني على
79

تلك الجنة (طائف من ربك) أي طرقها طارق من أمر الله، فالطائف الطارق
ليلا، فإذا قيل أطاف به صلح في الليل والنهار، وانشد الفراء:
اطفت به نهارا غير ليلى * والهي ربها طلب الرخال (1)
الرخال أولاد الضان واحدها رخل وفى الأنثى رخلة (وهم نائمون) أي
في حال نومهم (فأصبحت) يعني الجنة (كالصريم) أي كالليل الأسود - في قول
ابن عباس - وانشد أبو عمرو بن العلا:
ألا بكرت وعاذلني تلوم * تجهلني وما انكشف الصريم (2)
وقال:
تطاول ليلك الجون البهيم * فيما ينجاب عن صبح صريم
إذا ما قلت اقشع أو تناهى * جرت من كل ناحية غيوم (3)
وقال قوم: الصريم هو المصروم، وقال سعيد بن جبير: الصريم أرض
معروفة باليمين لا نبات فيها تدعى صروان، وإنما قيل لليل صروم، لأنه يقطع
بظلمته عن التصرف في الأمور. وقيل: إنما فعل الله بهم ذلك لأنهم منعوا الحقوق
اللازمة من ثمار هذه الجنة. والصرم قطع الثمر. والصريم المصروم جميع ثماره.
وقوله (فتنادوا مصبحين) اخبار عن حالهم أنهم لما أصبحوا نادى بعضهم
بعضا يا فلان يا فلان، والتنادي دعاء بعض الناس بعضا بطريقة يا فلان وأصله من
الندى بالقصر، لان النداء الدعاء بندى الصوت الذي يمتد على طريقة يا فلان، لان
الصوت إنما يمتد للانسان بندى حلقه. والنادي مجلس الرفد وهو الندي (ان
اغدوا على حرثكم) أي نادى بعضهم بعضا بأن اغدوا، أو قالوا: (اغدوا على
حرثكم) والحرث الزرع الذي قد حرثت له الأرض، حرث يحرث حرثا والحراث

(1) تفسير الطبري 19 / 17 واللسان (صرم).
(2) تفسير الطبري 19 / 17 واللسان (صرم).
(3) تفسير الطبري 19 / 17 واللسان (صرم).
80

الذي يحرث الأرض، ومنه الحارث، ومنه الحرث، كناية عن الجماع. ويقال:
احترث لأهله إذا اكتسب بطلب الرزق، كما يطلب الحراث (إن كنتم صارمين)
أي قاطعين لثماركم، فالصارم قاطع ثمر الشجر على الاستئصال. وأكثر ما يستعمل
ذلك في النخل، ويجوز في الشجر، وأصله القطع. وقد تصرم النهار إذا مضى قطعة
قطعة حتى انقضى. وقيل: معناه إن كنتم حاصدين زرعكم. ثم قال (فانطلقوا)
أي ذهبوا، وهم (يتخافتون) فالتخافت التقابل في اخفاء الحركة، وأصله الخفاة
من خفت فلان يخفت إذا اخفى نفسه ومعناه - ههنا - يتسارون بينهم (ألا
يدخلنها اليوم عليكم مسكين) في - قول قتادة - وقوله (وغدوا على حرد) فالحرد
القصد، حرد يحرد حردا فهو حارد. قال الشاعر:
اقبل سيل جاء من أمر الله * يحرد حرد الجنة المغلة (1)
أي يقصد، وقال الحسن: معناه على جهة من الفاقة. وقال مجاهد: معناه
على جد من أمرهم، وهو قول قتادة وابن زيد: وقال سفيان: معناه على حنق،
وذلك من قول الأشهب بن رميلة:
اسود شرى لاقت اسود خفية * فساقوا على حرد دماء الأساود (2)
أي على غضب. وقيل: معناه على منع من قولهم حاردت السنة إذا منعت
قطرها، وحاردت الناقة إذا منعت لبنها. والأصل القصد.
وقوله (قادرين) معناه مقدرين انهم يصرمون ثمارهم، ويجوز أن يكون
المراد وغدوا على حرد قادرين عند أنفسهم على صرام جنتهم.

(1) مر في 6 / 217
(2) اللسان (حرد).
81

قوله تعالى:
(فلما رأوها قالوا إنا لضالون (26) بل نحن محرومون (27)
قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون (28) قالوا سبحان
ربنا إنا كنا ظالمين (29) فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون (30)
قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين (31) عسى ربنا أن يبد لنا خيرا منها
إنا إلى ربنا راغبون (32) كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر
لو كانوا يعلمون) (33) ثمان آيات.
يقول الله تعالى مخبرا إن أولئك الكفار بنعم الله لما نادى بعضهم بعضا
وانطلقوا إلى صرم ثمارهم وتساروا ألا يدخل عليهم مسكين يطلب منهم (فلما
رأوها) أي حين جاؤوا وجدوا البستان كالليل الأسود قالوا أهلكه الله وطرقه طارق
من أمر الله فأهلكه، فلما رأوا تلك الجنة على تلك الصورة (قالوا إنا لضالون) أي
اعترفوا بأنهم قد عدلوا عن طريق الحق وجازوا عن سبيل الواجب وذهبوا عن
طريق الرشاد. ثم استدركوا فقالوا (بل نحن محرومون) ما كان لنا في جنتنا،
وتقديره إنا لضالون عن الحق في أمرنا فلذلك عوقبنا بذهاب ثمرها، والضلال
الذهاب عن طريق الرشاد إلى طريق الهلاك بالفساد. والحرمان منع الخير الذي كان
ينال لولا ما حدث من سبب الانقطاع، يقال: حرمه يحرمه حرمانا فهو محروم في
خلاف المرزوق. وقال قتادة: معنى قوله (إنا لضالون) أي أخطأنا الطريق ما هذه
جنتنا، فقال بعضهم لبعض (بل نحن محرومون) وقوله (قال أوسطهم) معناه
قال أعدلهم قولا - في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك - والأوسط
82

الكائن بين الأكبر والأصغر. والمراد ههنا بين الأكبر والأصغر في الخروج عن
القصد (ألم أقل لكم) على وجه التهجين لهم أما قلت لكم (لولا تسبحون) أي هلا
تستثنون، والتسبيح التنزيه لله عما لا يجوز عليه من صفة، وهو التنزيه عن كل صفة
ذم ونقص، فلذلك جاز أن يسمى الاستثناء بأن يشاء الله تسبيحا. وقيل معناه
لولا تصلون.
ثم حكى انهم (قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين) ومعناه إنهم اعترفوا أن
الله لم يظلمهم وانهم ظلموا أنفسهم في عزمهم على حرمان المساكين من حصتهم عند
الصرام من غير استثناء، فحرموا قطعها والانتفاع بها،
ثم قال (فاقبل بعضهم على بعض يتلاومون) أي يلوم بعضهم بعضا ويذم
بعضهم بعضا. ثم (قالوا يا ويلنا) والويل غلظ المكروه الشاق على النفس، والويس
دونه. والويح وسط بينهما، وإنما نودي بالويل بيانا عن حال الشدة، كأنه يقول
يا ويل تعال فإنه من أحيانك (إنا كنا طاغين) أي علونا في الظلم وتجاوزنا الحد
فيه، فالطغيان العلو في الظلم والداعي إليه طلب الارتفاع بغير استحقاق بالقهر
والاعتصاب. وقيل: الطاغي المتجاوز للحد في الفساد وقال عمر وبن عبيد: يجوز
أن يكون ذلك منهم توبة وإيمانا، ويجوز أن يكون ذلك على حد ما يقول الكافر إذا
وقع في الشدة. ثم قالوا (عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها) أي لما تابوا ورجعوا
إلى الله قالوا لعل الله تعالى يخلف علينا ويولينا خيرا من الجنة التي هلكت (إنا إلى
ربنا راغبون) أي ترغب إليه ونسأله ونتوب إليه مما فعلناه. فالتبديل تثبيت شئ
مكان غيره مما ينافيه، بدله تبديلا فهو مبدل. ومثله التغير إلا أن التبديل لا يكون
إلا في شيئين والتغير قد يكون للشئ الواحد.
وقرئ بالتشديد والتخفيف، فالتخفيف من الابدال، والتشديد من التبديل
83

ومعناهما واحد.
وقوله (كذلك العذاب) معناه مثل ما فعلنا بهؤلاء هذا العذاب عاجلا
في دار الدنيا، ثم قال (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) إن هناك عقابا
وعذابا. وخير من كذا أي أعظم نفعا منه وأحسن في العقل، ومثله الأصلح والأولى
والأجل، والأكبر هو الذي يصغر مقدار غير منه بالإضافة إليه. وقد يكون أكبر
شأنا وأكبر شخصا.
قوله تعالى:
(إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم (34) أفنجعل
المسلمين كالمجرمين (35) مالكم كيف تحكمون (36) أم لكم
كتاب فيه تدرسون (37) إن لكم فيه لما تخيرون (38) أم لكم
أيمان علينا بالغة إلى يوم القيمة إن لكم لما تحكمون (39) سلهم
أيهم بذلك زعيم) (40) سبع آيات.
لما اخبر الله تعالى ما حل بالكفار، وما هو معد لهم في الآخرة أخبر بما
للمؤمنين من أهل الطاعات، فقال (ان للمتقين) يعني للذين أمنوا عقاب الله باتقاء
معاصيه وفعل طاعاته (عند ربهم جنات النعيم) أي بساتين يتنعمون فيها ويتلذذون بها.
ثم قال على وجه الانكار على الكفار وانه لا يسوى بينهم وبين المؤمنين فقال (أفنجعل
المسلمين) الذين أسلموا لله وانقادوا لطاعته وامتثلوا ما أمرهم به (كالمجرمين)
أي مثل من عصاه وخرج عن طاعته وارتكب ما نهاه عنه؟! فهذا لا يكون أبدا.
وقوله (مالكم كيف تحكمون) تهجين لهم وتوبيخ. ومعناه أعلى حال الصواب أم
84

على حال الخطاء؟ وعلى حال الرشاد أم الغي، فعلى أي حال تحكمون في الأحوال
التي تدعون إلى الفعل أحال الباطل أم حال الحق؟ وقوله (أم لكم كتاب فيه
تدرسون) معناه ألكم كتاب تدرسون فيه خلاف ما قد قامت عليكم الحجة به فأنتم
متمسكون به ولا تلتفتون إلى خلافه؟! وليس الامر على ذلك فإذ قد عدمتم الثقة
بما أنتم عليه، وفي هذا عليكم أكبر الحجة وأوكد الموعظة، لان الكتاب الذي تقوم
به الحجة حتى لا يجوز خلافه إلى أن تقوم الساعة هو الذي تشهد له المعجزة من غير
إجازة نسخ له في حال ثانية، وهو القرآن الذي فيه معنى الاعجاز من غير نسح له
فيما بعد في باقي الزمان.
وقوله (إن لكم فيه لما تخيرون) يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون تقديره أم لكم كتاب فيه تدرسون بأن لكم ما تخيرون
إلا أنه حذفت الباء وكسرت (إن) لدخول اللام في الخبر،
الثاني - أن يكون ذلك خرج مخرج التوبيخ، وتقديره وإن لكم لما تخيرون
عند أنفسكم، والامر بخلاف ظنكم،، لأنه لا يجوز أن يكون ذلك خبرا مطلقا.
وقوله (أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون) كسرت
(إن) لدخول اللام في الخبر، والحكم خبر بمعنى يفصل الامر على جهة القهر والمنع
وأصله المنع من قول الشاعر:
ابني حنيفة احكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم ان اغضبا (1)
أي امنعوهم. ومنه الحكمة، لأنها معرفة تمنع الفساد يصرفها عنه بما يذم به.
والحكمة في الفعل المنعة من الفساد منه، ومنه حكمة الدابة لمنعها إياها من الفساد.
وقوله (سلهم أيهم بذلك زعيم) قال ابن عباس وقتادة: زعيم أي كفيل

(1) مر تخريجه في 2 / 188.
85

والزعيم والكفيل والضمين والقبيل نظائر والمعنى سلهم أيهم زعيم ضامن يدعي
علينا ان لهم علينا أيمانا بالغة؟ فلا يمكنهم ادعاء ذلك.
قوله تعالى:
(أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين (41)
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42)
خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم
سالمون (43) فذرني (ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من
حيث لا يعلمون (44) وأملي لهم إن كيدي متين) (45)
خمس آيات.
قوله (أم لهم شركاء) توبيخ لهؤلاء الكفار وإنكار عليهم اتخاذ إله مع الله
وتوجيه عبادتهم إليه، فقال (أم لهم شركاء) في العبادة مع الله (فليأتوا بشركائهم
إن كانوا صادقين) أي شركاؤهم الذين تقوم بهم الحجة، فلا سبيل لهم إلى ذلك
فالحجة لازمة عليهم لان كل دعوى لم يكن صاحبها أن يقيم البينة عليها فيلزمه أن
يقيمها بغيره. والشريك عبارة عمن يختص بمعنى هو له ولغيره من غير انفراد به.
وإنما قلنا من غير انفراد به لنفرق بين ما هو له ولغيره وهوله أيضا كالغفران هو
لهذا التائب ولتائب آخر، ولهذا التائب مطلقا، فليس فيه شريك، وكذلك هذا
العبد هو ملك لله تعالى، ولهذا المولى، وهو لله على الاطلاق، فليس في هذا شركة
وإنما قيل الشركاء في الدعوى، لأنها مما لو انفرد بعضهم عن أن يدعيها لم يدعها
الاخر، كأنهم تعاونوا عليها، فعلى هذا يحتمل أن يكون المعنى في الآية أم لهم
86

شركاء يدعون مثل ما يدعيه هؤلاء الكفار، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين أي
شركاء هم الذين تقوم بهم الحجة، ولا سبيل لهم إلى ذلك فهو لازم عليهم.
وقوله (يوم يكشف عن ساق) قال الزجاج: هو متعلق بقوله (فليأتوا
بشركائهم.. يوم يكشف عن ساق) وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير
وقتادة والضحاك: معنا يوم يبدو عن الامر الشديد كالقطيع من هول يوم القيامة.
والساق ساق الانسان وساق الشجرة لما يقوم عليه بدنها وكل نبت له ساق فهو شجر
قال الشاعر:
للفتى عقل يعيش به * حيث يهدي ساقه قدمه (1)
فالمعنى يوم يشتد الامر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يقوم على ساق، وقد
كثر في كلام العرب حتى صار كالمثل فيقولون: قامت الحرب على ساق وكشفت
عن ساق قال (زهير بن جذيمة).
فإذا شمرت لك عن ساقها * فويها ربيع ولا تسأم (2)
وقال جد أبي طرفة:
كشفت لهم عن ساقها * وبدا من الشر الصراح (3)
وقال آخر:
قد شمرت عن ساقها فشدوا * وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وتر غرد (4)
وقوله (ويدعون إلى السجود) قيل: معناه إنه يقال لهم على وجه التوبيخ:
اسجدوا (فلا يستطيعون) وقيل: معناه إن شدة الامر وصعوبة الحال تدعوهم

(1) اللسان (سوق)
(2) مجاز القرآن 2 / 266
(3) اللسان (سوق) والقرطبي 18 / 248
(4) القرطبي 18 / 48.
87

إلى السجود، وإن كانوا لا ينتفعون به. ثم قال (خاشعة أبصارهم) أي ذليلة
أبصارهم لا يرفعون نظرهم عن الأرض ذلة ومهانة (ترهقهم ذلة معناه تغشاهم ذلة
يقال: رهقه يرهقه رهقا، فهو رهق إذا غشيه، ورهقه الفارس إذا أدركه،
وراهق الغلام إذا أدرك.
وقوله (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) يعني دعاهم الله تعالى
إلى السجود والخضوع له في دار الدنيا وزمان التكليف، فلم يفعلوا، فلا ينفعهم السجود
في ذلك الوقت.
وقوله (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) تهديد، ومعناه ذرني والمكذبين
أي أوكل أمرهم إلي كما يقول القائل ادعني وإياه.
وقوله (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) معناه سآخذهم إلى العقاب حالا
بعد حال.
وقوله (وأملي لهم) أي وأطيل آجالهم وأؤخرها (إن كيدي متين) أي
قوي، فكأنه قال سنستدرج أعمالهم إلى عقابهم وإن أطلناها لهم نستخرج ما عندهم
قليلا قليلا. وأصله من الدرجة، لان الراقي ينزل منها مرقاة مرقاة فأشبه هذا.
ووجه الحكمة في ذلك أنهم لو عرفوا الوقت الذي يؤخذون فيه لكانوا آمنين إلى
ذلك الوقت، وصاروا مغربين بالقبيح، والله تعالى لا يفعل ذلك.
قوله تعالى:
(أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (46) أم عندهم
الغيب فهم يكتبون (47) فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب
الحوت إذ نادى وهو مكظوم (48) لولا أن تداركه نعمة من ربه
88

لنبذ بالعراء وهو مذموم (49) فاجتبيه ربه فجعله من
الصالحين (50) وإن يكاد الذين كفروا ليزلفونك بابصارهم لما
سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون (51) وما هو إلا ذكر
للعالمين) (52) ست آيات.
قرأ نافع وحده (ليزلقونك) بفتح الياء من زلفت. الباقون بضمها من
أزلقت، وهما لغتان: زلقت، وأزلفت. قال الفراء: يقولون: زلقت شعره وأزلقته
إذا حلقته. والمعنى ليرمون بك ويلقونك.
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله على وجه التوبيخ للكفار (أم تسألهم) اي
هل تسألهم (أجرا) يعني ثوابا وجزاء على دعائك إياهم إلى الله وتخويفك إياهم
من المعاصي وأمرك إياهم بطاعة الله (فهم من مغرم) أي هم من لزوم ذلك
(مثقلون) أي محملون، فالاجر القسط من الخير الذي يستحق بالعمل. والمغرم
ما يلزم من الدين الذي يلج في اقتضائه. وأصله اللزوم بالالحاح، ومنه قوله (إن
عذابها كان غراما) (1) أي لازما ملحا قال الشاعر:
يوم الجفار ويوم النسار * كانا عذابا وكانا غراما (2)
وقولهم دفع مغرم أي دفع الاقتضاء بالالحاح. والغرم ما يلزم بالاقتضاء على
وجه الالحاح فقط. والمثقل المحمل للثقل وهو ما فيه مشقة على النفس كالمشقة بالحمل
الثقيل على الظهر، يقال: هو مثقل بالدين، ومثقل بالعيال ومثقل بما عليه من

(1) سورة 25 الفرقان آية 65
(2) مر في 7 / 505 و 9 / 505.
89

الحقوق اللازمة والأمور الواجبة.
وقوله (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) معناه هل عندهم علم اختصوا به
لا يعلمه غيرهم، فهم يكتبونه ويتوارثونه بصحة ما يدعونه فينبغي ان يبرزوه
ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله (فاصبر لحكم ربك) الذي حكم عليك بالصبر وأمهلهم
إلى وقت آجالهم (ولا تكن كصاحب الحوت) يعني ولا تكن في استعجال عقابهم
مثل يونس حين طلب من الله تقديم عقاب قومه وإهلاكهم، ولا تخرج من بين
ظهراني قومك قبل ان يأذن الله لك في ذلك كما فعل يونس (إذ نادى
وهو مكظوم) قال ابن عباس ومجاهد: معناه مغموم، كأن الغم قد حبسه عن الانبساط
في أمره، والمكظوم المحبوس عن التصرف في الأمور، ومنه كظمت رأس القربة إذا
شددت رأسها، وكظم غيظه إذا حبسه بقطعه عما يدعو إليه. وقال قتادة: لا تكن
مثله في العجلة والمغاضبة، حتى نادى يونس وهو ممنوع بقطعه عن شفاء غيظه،
والذي نادى به (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فجعله الله من
الصالحين، بما بين لعباده من صلاحه، ويجوز بما لطف له حتى صلح في كل ما امره
الله به. وفي الكلام حذف، وتقديره: ولا تكن كصاحب الحوت في استعجاله
الخروج من بين قومه انتظارا لنزول العذاب بهم، فلما رفع الله عنهم العذاب مضى
على وجهه، فعاتبه على ذلك وحبسه في بطن الحوت، فلجأ إلى الله تعالى. وقوله
(إذ نادى) متعلق بتقدير: إذكر يا محمد حاله إذ نادى. ولا يجوز أن يكون
متعلقا بقوله (ولا تكن كصاحب الحوت) حين نادى، لان الله لا ينهى نبيه أن
يقول مثل ما قال يونس من الدعاء.
وقوله (لولا أن تداركه نعمة من ربه) معناه لولا أن الله رحم يونس ولحقته
نعمة من جهته (لنبذ بالعراء) أي لطرح بالصحراء الواسعة (وهو مذموم) قالوا
90

هي الأرض العارية من النبات والأبنية وكل حال ساترة. وقال الفراء: الفضاء من
الأرض العاري، قال الشاعر وهو قيس بن جعدة:
ورفعت رجلا لا أخاف عثارها * ونبذت بالبلد العراء ثيابي (1)
وقوله (وهو مذموم) قال ابن عباس: وهو مليم أي أتى بما يلام عليه،
ولكن الله تعالى تداركه برحمة من عنده، فطرح بالعراء وهو غير مذموم. وقوله
(فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) معناه اختار الله يونسا فجعله من جملة الصالحين
المطيعين لله التاركين لمعاصيه.
وقوله (وإن يكاد الذين كفروا) قال النحويون: (إن) هذه المخففة عن
الثقيلة، لأنها لو كانت للشرط لجزم (يكد) وتقديره، وإن يكاد الذين كفروا أي
قارب الذين كفروا (ليزلقونك بابصارهم) أي يرمون بك عند نظرهم غيظا عليك
قال الشاعر:
يتلاحظون إذا التقوا في محفل * نظرا يزيل مواقع الاقدام (2)
ويكاد يصرعه بحدة نظره. وقيل كان الرجل إذا أراد ان يصيب صاحبه
بالعين تجوع ثلاثة أيام ثم نظره فيصرعه بذلك، والمفسرون كلهم على المراد
بازلاقهم له بأبصارهم من الإصابة بالعين. وقال الجبائي منكرا لذلك: إن هذا ليس
بصحيح، لان هذا من نظر العداوة وذلك عندهم من نظر المحبة على أن إصابة العين
ليس بصحيح. قال الرماني: وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع أن
يكون الله تعالى أجرى العادة بصحة ذلك لضرب من المصلحة، فلا وجه للامتناع
من ذلك، وعليه اجماع المفسرين، وهو المعروف بين العقلاء والمسلمين وغيرهم،
فينبغي أن يكون مجوزا. وروي أن أسماء بنت عيس قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) مر في 8 / 530
(2) القرطبي 18 / 256 وهو مروي مع اختلاف.
91

إن بني جعفر يصيبهم العين، فأسترقي لهم، قال: نعم، فلو كان شئ سابق القدر
سبقة العين.
وقيل: إنهم كانوا يقولون ما اظهر حججه، وما افصح كلامه، وما أبلغ
خطابه، يريدون بذلك ان يعينوه به، قال البلخي: المعنى إنهم كانوا ينظرون إليه
نظر عداوة وتوعد، ونظر من بهم به، كما يقول القائل: يكاد يصرعني بشدة نظره
قال الشاعر:
يتعارضون إذا التقوا في موطن * نظرا يزيل مواضع الاقدام (1)
أي ينظر بعضهم إلى بعض نظرا شديدا بالبغضاء والعداوة، ونظر يزيل
الاقدام عن مواضعها أي يكاد يزيل.
وقوله (لما سمعوا الذكر) يعني القرآن (ويقولون) مع ذلك (إنه لمجنون)
قد غلب على عقله، قالوا ذلك فيه مع علمهم بوقارة عقله تكذبا عليه ومعاندة له،
فقال الله تعالى ردا عليهم (وما هو) أي ليس هذا القرآن (إلا ذكر للعالمين)
أي شرف إلى أن تقوم الساعة.

(1) مر في الصفحة التي قبلها. وقد روي في غير هذا الكتاب مع هذا
الاختلاف في الكلمات..
92

69 - سورة الحاقة:
مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما وهي اثنتان وخمسون آية
في الكوفي والمدنيين. واحدى وخمسون في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(الحاقة (1) ما الحاقة (2) وما أدريك ما الحاقة (3) كذبت
ثمود وعاد بالقارعة (4) فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية (5) وأما عاد
فأهلكوا بريح صرصر عاتية (6) سخرها عليهم سبع ليال وثمانية
أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (7)
فهل ترى لهم من باقية (8) وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات
بالخاطئة (9) فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية) (10) عشر آيات
قرأ أهل البصرة والكسائي (ومن قبله) بكسر القاف. الباقون بفتحها.
قال ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد وغيرهم: إن الحاقة اسم من أسماء القيامة
وسميت بذلك لأنها الساعة التي يحق فيها الجزاء على الاعمال: الضلال والهدى.
وقال الفراء: تقول العرب الحقة متى هربت والحقة والحاقة، كل ذلك بمعنى واحد.
والعامل في (الحاقة) أحد شيئين:
93

أحدهما - الابتداء، والخبر (ما الحاقة) كأنه قال: الحاقة أي شئ هي.
الثاني - أن يكون خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل هذه الحاقة، ثم قيل أي
شئ الحاقة، تفخيما لشأنها، وتقديره هذه سورة الحاقة وقوله (ما أدراك ما الحاقة)
قال سفيان: يقال للمعلوم ما أدراك، ولما ليس بمعلوم: وما يدريك في جميع القرآن.
وإنما قال لمن يعلمها: ما أدراك لأنه إنما يعلمها بالصفة، فعلى ذلك قال تفخيما لشأنها
أي كأنك لست تعلمها إذا لم تعاينها وترى ما فيها من الأهوال.
وقوله (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) اخبار من الله تعالى أن ثمود - وهم
قوم صالح - وعادا - وهم قوم هود - كذبوا بيوم القيامة فأنكروا البعث والنشور
والثواب والعقاب. قال ابن عباس وقتادة: القارعة اسم من أسماء القيامة، وسميت
القارعة، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الامن. وإنما
حسن أن يوضع القارعة موضع الكنية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها
الحاقة، وإلا كان يكفي ان يقول: كذبت ثمود وعاد بها. وقوله الحاقة، والطامة (1)
والصاخة (2)، أسماء يوم القيامة. والوقف على الحاقة حسن وأتم منه (ما الحاقة)
و (ما أدراك) كل ما في القرآن بلفظ الماضي، فقد أدراه صلى الله عليه وآله، وما كان بلفظ
يدريه، فلم يعلمه، يقال: دريت الشئ دراية أي علمته، ودريت الصيد أي ختلته
ودرأته دفعته.
ثم اخبر تعالى عن كيفية إهلاكهم، فقال (فاما ثمود فأهلكوا بالطاغية)
فالطاغية مصدر مثل العاقبة، والمعنى فأهلكوا بطغيانهم - في قول أبي عبيدة - وقيل:
معناه أهلكوا بالخصلة المتجاوزة لحال غيرها في الشدة، أهلك الله تعالى بها أهل
الفساد. وقد مضى فيما تقدم أن الله أهلك ثمود بالصيحة العظيمة التي أصبحوا بها

(1) سورة 79 النازعات آية 34
(2) سورة 80 عبس آية 33.
94

جاثمين (1) أي ميتين هالكين قال الزجاج: تقديره فأهلكوا بالرجفة الطاغية.
ثم اخبر تعالى عن كيفية هلاك عاد، فقال (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر)
فالريح عبارة عن الهواء إذا كانت فيها حركة باعتماد ظاهرة فإذا سكن لا يسمى ريحا
واشتقاقه من راح يروح روحا إذا رجع إلى منزله. والصرصر الريح الشديدة الصوت
بما يسمع لها من الصرير في شدة حركتها، يقال: صر وصرصر، كأنه مضاعف
منه فالصرصر الشديد العصوف المجاوزة لحدها المعروف وقال قتادة: صرصر باردة
فكأنه يصطل الأسنان بما يسمع من صوتها لشدة بردها، ويقال: صرصر وصلصل
إذا تكرر الصوت، وهو مضاعف صر وصل - في قول الزجاج -
وقوله (عاتية) قيل عتت تلك الرياح على خزانها في شدة الهبوب. والعاتي
الخارج إلى غلظ الامر الذي يدعو إليه قساوة القلب، يقال: عتا يعتو عتوا فهو عات
والريح عاتية تشبيها بحال العاتي في الشدة.
وقوله (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام) اخبار منه تعالى انه أهلكهم
بهذه الريح في مدة سبع ليال، وثمانية أيام، لما في ذلك من الارهاب والتخويف،
وما يتعلق به من المصلحة لغيرهم في التكليف.
وقوله (حسوما) أي قاطعة قطع عذاب الاستئصال، واصله القطع حسم
طمعه من كذا إذا قطعه، حسم يحسم حسما إذا قطع، وانحسم الشر إذا انقطع.
وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة: معنى (حسوما) تباعا
متوالية مأخوذا من حسم الداء بمتابعة الكي عليه، فكأنه تتابع الشر عليهم حتى
استأصلهم. وقيل (حسوما) قطوعا لم يتق منهم أحد، ونصب (حسوما) على
المصدر أي يحسمهم حسوما.

(1) انظر 4 / 485 و 6 / 22.
95

ثم قال (فترى القوم فيها) أي تشاهد القوم الهلكى في تلك الأيام والليالي
صرعى مطرحين (كأنهم أعجاز نخل خاوية) أي كأنهم أصول نخل نخرة - في قول
قتادة - وقال السدي: الخاوي الفارغ.
وقوله (فهل ترى لهم من باقية) أي من نفس باقية، وقيل: معناه فهل
ترى لهم من بقاء، فالباقية بمعنى المصدر مثل العافية والطاغية. ومعناه فهل ترى
لهم من بقية.
وقوله (وجاء فرعون ومن قبله) أي جاء فرعون ومن معه من قومه، على
قراءة من قرأ (قبله) بكسر القاف وفتح الباء، ومن قرأ بفتح القاف وسكون
الباء أراد والذين قبله من الكفار (والمؤتفكات) يعني وجاء أهل القرى المؤتفكات
أي المنقلبات بأهلها - في قول قتادة - وهي قرى قوم لوط (بالخاطئة) أي بالافعال
الخاطئة أو بالنفس الخاطئة، وقيل بالخاطئة أي أخطأت الحق إلى الباطل والفساد
(فعصوا رسول ربهم فاخذهم) الله على كفرهم وعصيانهم (أخذة رابية) أي
زائدة في الشدة من ربا يربو إذا زاد، وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم
(ومن قبله) بكسر القاف وفتح الباء. الباقون بفتح القاف وسكون الباء. وحجة
أبي عمرو أن في قراءة أبي (جاء فرعون ومن معه). وقرأ أبو موسى (ومن تلقاه).
وأراد الباقون انه جاء فرعون ومن قبل فرعون من الكفار.
قوله تعالى:
إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية (11) لنجعلها لكم
تذكرة وتعيها أذن واعية (12) فإذا نفخ في الصور نفخة
واحدة (13) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14)
96

فيومئذ وقعت الواقعة (15) وانشقت السماء فهي يومئذ واهية (16)
والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية (17)
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) (18) ثمان آيات.
قرأ (لا يخفى) بالياء أهل الكوفة، لان تأنيث (خافية) ليس بحقيقي.
وقد فصل بينها وبين الفعل فاصل. الباقون بالتاء على لفظ التأنيث. والتقدير لا يخفى
عليه شئ منكم نفس خافية.
يقول الله تعالى مخبرا عما فعل بقوم نوح وفرعون وقومه على وجه الامتنان
على خلقه بما فعل بهم من الهلاك الذي فيه زجر لغيرهم عن الكفر وارتكاب المعاصي
(إنا لما طغى الماء) ومعناه لما تجاوز الماء الحد المعروف في العظم حتى غرقت الأرض
بمن عليها إلا من شاء الله نجاته، وذلك في زمن نوح عليه السلام وغرق فرعون وقومه
بانطباق البحر عليهم، وقال ابن عباس ومجاهد: معنى طغى الماء كثر، وغرق الله
- عز وجل - قوم نوح. وقال قتادة: ارتفع على كل شئ خمس عشرة ذراعا. وقوله
(حملناكم في الجارية) أي حملنا أباكم نوحا ومن كان معه من ولده المؤمنين في
السفينة، فالجارية السفينة التي من شأنها أن تجري على الماء، ومنه قوله (وله الجوار
المنشآت في البحر كالاعلام) (1) والجارية المرأة الشابة تسمى بذلك، لأنها يجري
فيها ماء الشباب. والحمل امساك الشئ بالوضع على غيره، تقول حملته حملا، والحمل
- بفتح الحاء - ما كان في البطن أو الشجر - وبكسر الحاء - ما كان على الظهر.

(1) سورة 5، الرحمن آية 24.
97

ووجه التذكرة بذلك أن نجاة من فيها وتغريق من سواهم يقتضي أنه من مدبر مختار
وفي امر لم تجربه عادة، فيلتبس انه من فعل الطبيعة. ثم بين تعالى الغرض بما فعله
فقال (لنجعلها) يعني السفينة (لكم تذكرة) تتذكرون بها أنعم الله وتشكرونه
عليها وتتفكرون فيها (وتعيها أذن واعية) أي وتحفظها اذن حافظة، يقال: وعيت
العلم، وأوعيت المتاع في الوعاء، ويقال: وعي قلبه العلم يعيه وعيا، وقال الشاعر
إذا لم تكن واعيا حافظا * فجمعك للكتب لا ينفع
فمعنى (واعية) ممسكة ما يحصل فيها. وقال ابن عباس: حافظة. وقيل
قابلة سامعة. وقيل: إنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وآله (اللهم اجعلها اذن
علي عليه السلام) ورواه الطبري باسناده عن مكحول. ثم قال علي عليه السلام (فما سمعت من
رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا فنسيته) ورى الحلواني عن ابن كثير (وتعيها) بسكون
العين جعله مثل فخذ وفخذ. الباقون بكسرها، لأنه مضارع وعى يعي. واصله يوعي
فحذفت الواو لوقوعها بين فتحة وكسرة
ومعنى الآية تحفظها كل أذن ليكون عظة
لمن يأتي بعدهم. روى الطبري باسناده عن عكرمة عن بريدة قال: سمعت رسول
الله عليه وآله يقول لعلى عليه السلام (يا علي أن الله أمرني ان أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك)
وقوله (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة) فهي النفخة الأولى التي يصعق
لها من في السماوات ومن في الأرض (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة)
قال: ابن زيد: ضرب بعضها على بعض حتى صارتا غبارا. وقيل: معناه بسطتا
بسطة واحدة، ومنه الدكان، ويقال: اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره.
وقيل: المعنى حملت الأرض والجبال فصك بعضها على بعض حتى تندك، وإنما قيل:
فدكتا لأنه جعل الجبال جملة والأرض جملة. ومثله (أن السماوات والأرض كانتا
98

رتقا) (1) لان السماوات جملة واحدة.
ثم قال (فيومئذ) أي يوم تدك السماوات والأرض وتنفخ النفخة الواحدة
(وقعت الواقعة) يعني القيامة وسميت واقعة لشدة وقعتها بما ليس لغيرها مثل
تلك الشدة.
ثم قال (وانشقت السماء) أي انفرج بعضها عن بعض، يقال: انشق الشئ
ينشق انشقاقا، وتشقق تشققا إذا تفطر واشتق منه كذا اشتقاقا، ومنه اشتقاق
الصفة من المصدر، لان معناه وحروفه فيها دون صورته، فهي مأخوذة منه على
هذا الوجه.
وقوله (فهي يومئذ واهية) أي شديدة الضعف بانتقاض بنيتها ولا ينظر
أهول من رؤية السماء في هذه الهيأة، يقال: وهي الشئ يهي وهيا، فهو واه أي
لا يستمسك لضعفه بنقض بنيته. وقيل: هو تغير السماء بعد صلابتها بمنزلة الصوف
في الوهي والضعف، وقيل: السماء مكان الملائكة، فإذا وهت صارت في نواحيها.
وقوله (والملك على أرجائها) فالارجاء النواحي واحدها رجا، مقصور
وتثنى رجوان بالواو، والرجا جانب البئر قال الشاعر:
فلا ترمي بي الرجوان اني * أقل القوم من يغني مكاني (2)
وهو من رجوت، لان الجانب يرجى فيه السلامة مع خوف السقوط،
والملائكة ذلك اليوم على جوانب السماء تنتظر ما تؤمر به في أهل النار من السوق
إليها، وفي أهل الجنة من التحية والتكرمة فيها.
وقوله (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) يعني فوق الخلائق (يومئذ)
يعني يوم القيامة (ثمانية) من الملائكة. وقيل: على أرجائها، لان الناس إذا رأوا

(1) سورة 21 الأنبياء آية 30
(2) تفسير القرطبي 18 / 266.
99

جهنم بدروا هاربين فتردهم الملائكة - في قول الضحاك - وقال الحسن وقتادة وسفيان
(على أرجائها) يعني نواحيها. وقال ابن عباس (يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ
ثمانية) صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله. وروي في خبر مرفوع عن
النبي صلى الله عليه وآله أنه يحمل العرش ثمانية أملاك، وهو قول ابن زيد، والمعنى في حمل العرش
بثمانية أملاك. هو الاخبار بأنه عظيم محتاج أن يحمله من كل زاوية ملكان، لا يفي
به لعظمه أقل من ذلك، وبهذا يتصور عظمه في النفس.
وقوله (يومئذ تعرضون) يعني يوم القيامة تعرضون معاشر المكلفين (لا يخفى
منكم خافية) فروى في خبر مرفوع - ذكره ابن مسعود وقتادة - ان الخلق يعرضون
ثلاث عرضات اثنتان فيها معاذير وجدال، والثالثة تطاير الصحف في الأيدي فآخذ
بيمينه وآخذ بشماله، وليس يعرض الله الخلق ليعلم من حالهم ما لم يعلمه بل هو عالم
بجميع ما كان منهم، لأنه عالم لنفسه لكن ليظهر ذلك لخلقه.
قوله تعالى:
فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه (19)
إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في
جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما
أسلفتم في الأيام الخالية) (24) ست آيات
قال الفراء: نزلت هذه الآية في أبي سلمة بن عبد الأسود، وكان مؤمنا،
وكان أخوة الأسود بن عبد الأسود كافرا، نزلت فيه الآية التي بعدها.
قسم الله تعالى حال المكلفين يوم القيامة، فقال (فأما من أوتي) أي أعطي
100

(كتابه) الذي فيه أعماله (بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا) قال ابن زيد: يقول المكلف
تعالوا اقرأوا (كتابيه) ليعلمهم انه ليس فيه إلا الطاعات، فلا يستحيون أن
ينظر، فيها غيرهم، وأهل الحجاز يقولون: ها يا رجل، وللاثنين هاؤما، وللجمع
هاءموا، وللمرأة هاء - بهمزة - وليس بعدها ياء، وللمرأتين هاؤما، وللجماعة
هاؤن يانسوة. وتميم وقيس يقولون: ها يا رجل مثل قول أهل الحجاز، وللاثنين
هاءا، وللثلاثة هاءوا، وللمرأة هائي، وربما قالوا: هاء يا هذه، وللثلاثة هان.
وبعض العرب يجعل مكان الهمزة كافا، فيقول: هاك بغير همزة، ويؤمر بها ولا ينهى
و (هاء) بمنزلة خذ وتناول. ووقف الكسائي على (هاؤم) وابتدأ (اقرأوا كتابيه)
ويقول أيضا (اني ظننت أني ملاق حسابيه) قال ابن عباس ومجاهد
وقتادة: معناه إني علمت، وإنما حسن هذا فيما يلزم العمل فيما يلزم العمل به لتأكد امره بالظن،
كما يلزم بالعلم مع مقاومة الظن للعلم بالقوة في النفس إلا أن العلم معه قوة ينتهي إلى
الثقة الثابتة بسكون النفس. والمعنى اني كنت متيقنا في دار الدنيا بأني ألقى حسابي
يوم القيامة، واعلم أني أجازي على الطاعة بالثواب وعلى المعاصي بالعقاب، وأعمل
بما يجب علي من الطاعات واجتناب المعاصي.
ثم اخبر تعالى عن حال من أعطي كتابه بيمينه فقال (فهو في عيشة راضية) أي
في عيشة مرضية تقول: عاش يعيش عيشا وعيشة، وهي الحالة التي تستمر بها الحياة
ومنه المعاش الذي يطلب التصرف له بعائد النفع عليه، وراضية معناه مرضية.
ف‍ (فاعلة) بمعنى (مفعولة) لأنه في معنى ذات رضا، كما قيل: لابن وتامر، أي
ذو لبن وذو تمر. قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (1)

(1) مر في 5 / 368 و 6 / 90، 329 و 8 / 122، 567.
101

أي ذو نصب، فكأن العيشة أعطيت حتى رضيت، لأنها بمنزلة الطالبة كما
أن الشهوة بمنزلة الطالبة للمشتهى. وقيل: هو كقولهم: ليل نائم وسر كاتم وماء
دافق، على وجه المبالغة في الصفة من غير التباس في المعنى: فعلى هذا جاء عيشة راضية
ولا. يجوز على هذا القياس زيد ضارب بمعنى مضروب لأنه يلتبس به.
وقوله (في جنة عالية) أي بستان أجنه الشجر مرتفعة، فالعلو الجهة المقابلة
لجهة السفل. والعلو والسفل متضمن بالإضافة فيكون الغلو سفلا إذا أضفته إلى ما
فوقه، ويكون علوا إذا أضيف إلى ما تحته،
وقوله (قطوفها دانية) أي اخذ ثمرها، فالقطف اخذ الثمرة بسرعة من
موضعها من الشجر، وهو قطوفها، كأنه قال دانية المتناول، قطف يقطف قطفا
فهو قاطف، وقطف تقطيفا. والدنو القرب، دنا يدنو دنوا فهو دان، وتدانيا تدانيا
وأحدهما أدنى الينا من الاخر. وقال قتادة: معناه قطوفها دانية لا يرد أيديهم عن
ثمرها بعد ولا شوك.
ثم حكى تعالى ما يقال لهم فإنه يقال لهم (كلوا واشربوا هنيئا
بما أسلفتم) وصورته صورة الامر والمراد به الإباحة، كما قال (وإذا حللتم
فاصطادوا) (1) وقال قوم: انه أمر على الحقيقة، لان الله يريد من أهل الجنة
الأكل والشرب لما لهم في ذلك من زيادة السرور إذا علموا ذلك. وإنما لا يريد
ذلك في الدنيا، لأنه عبث لا فائدة فيه.
وقوله (هنيئا) معناه مريئا ليس فيه ما يؤذي، فليس يحتاج فيه إلى اخراج
فضل لغائط ولا بول.
وقوله (بما أسلفتم) أي جزاء على ما عملتموه من الطاعة (في الأيام الخالية)

(1) سورة المائدة آية 3.
102

أي الماضية في دار التكليف.
قوله تعالى:
(وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت
كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه (26) يا ليتها كانت القاضية (27)
ما أغني عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه (29) خذوه فغلوه (30)
ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا
فاسلكوه (32) إنه كان لا يؤمن بالله العظيم (33) ولا يحض
على طعام المسكين (34) فليس له اليوم ههنا حميم (35) ولا
طعام إلا من غسلين (36) لا يأكله إلا الخاطؤن) (37) ثلاث
عشرة آية.
لما حكى الله تعالى قصة أهل الجنة وشرح أحوالهم، حكى - ههنا - قصة أهل
النار وشرح أحوالهم، فقال (وأما من أوتي كتابه) يعني من أعطي كتابه الذي
فيه أعماله مثبتة (بشماله) وإنما يعطي الله هؤلاء كتابهم بشمالهم، لأنه جعل ذلك
إمارة للملائكة والخلائق على أن صاحبه من أهل النار، فهو إذا أعطي كتابه في
شماله يقول عند ذلك متميا متحسرا على ما فرط (يا ليتني لم أوت كتابيه....)
أي ليتني لم اعط هذا الكتاب، والتمني هو قول القائل لما كان: ليته لم يكن،
ولما لم يكن: ليته كان: فهو من صفات الكلام. وقال قوم: هو معنى في النفس
فهؤلاء الذين يعطون كتابهم بشمالهم يتمنون أن لم يعطوا كتابهم أصلا، ولم يعلموا
103

ما لهم وما عليهم، لان اعمالهم كلها معاصي، وهم يستحقون العقاب لا غير فلذلك
يتمنون أن لا يعرفوا حسابهم، والحساب اخراج الكثير مما تضمن معنى العدة،
وهو محتمل الزيادة والنقصان، والتمني في قول الكفار معناه التحسر والتندم وإن
خرج مخرج التمني.
ثم حكى تعالى أنهم لعظم ما دفعوا إليه من العقاب والأهوال ينتدمون
ويتحسرون ويتمنون أن لو كانت القاضية بدلا مما هم فيه. قال الفراء: معناه ليت
الموتة الأولى التي متناها لم نجئ بعدها. والقاضية الفاصلة بالأمانة، يقال: قضى
فلان إذا مات، واصله فصل الامر، ومنه قضية الحاكم، وجمعها قضايا، ومنه
قضاء الله وهو الاخبار بأنه يكون على القطع والهاء في (يا ليتها) كناية عن الحالة
التي هم فيها، وقيل كناية عن الموتة. قال قتادة: يعني الموت ولم يكن عنده في الدنيا
شئ اكره منه.
ثم حكى انه يقول (ما أغنى عني ماليه) ومعناه ما كفاني في صرف المكروه
ولا صرف عني شيئا من عقاب الله تعالى يقال: أغنى يغني غنى واغناء، قال ابن
زيد: معناه ما نفعني ملكي الذي كان لي في الدنيا.
وقوله (هلك عني سلطانيه) قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: هلك عني
حجتي. وقال الحسن: قد جعل الله لكل إنسان سلطانا على نفسه ودينه وعيشه.
وقال قوم: معناه هلك عني تسلطي وأمري ونهيي في دار الدنيا على ما كنت مسلطا
عليه لا أمر لي ولا نهي، فالهلاك ذهاب الشئ بحيث لا يقع عليه احساس، هلك يهلك هلوكا، فهو هلك، قال الزجاج: والوجه أن يوقف على هذه الهاءات، ولا
توصل، لأنها أدخلت للوقف، وقد حذفها قوم. وفي ذلك مخالفة المصحف، فلا
أحب حذفها. قال: ولا أحب ان أصل وأثبت الهاء، فان هذه رؤس الآي فالوجه
104

الوقف عندها، وكذلك قوله (وما ادراك ما هية) وقد وصل بلا هاء الكسائي.
الباقون بالهاء في الحالين.
ثم حكى ما يقول الله تعالى للملائكة ويأمرهم به، فإنه يقول لهم (خذوه)
يعني الكفار الذي أعطي كتابه بشماله (فغلوه) أي أوثقوه بالغل، وهو أن يشد
احدى يديه أو رجليه إلى عنقه بجامعة (ثم الجحيم صلوه) فالجحيم هي النار الغليظة
لان النار قد تكون ضعيفة كنار السراج ونار القدح، وقد تكون قوية كنار الحريق
فلا يقال لنار السراج: جحيم، وهو اسم علم على نار جهنم التي أعدها الله للكفار
والعصاة، والتصلية إلزام النار، ومنه الاصطلاء وهو القعود عند النار للدفا، واصله
لزوم الامر، فمنه المصلي الذي في أثر السابق ومنه قول الشاعر:
وصلى على دنها وارتسم (1)
أي لزم الدعاء لهاء. وقوله (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه)
تقديره: ثم اسلكوه في سلسلة طولها سبعون ذراعا فاسلكوه فيها، فالسلسلة حلق
منتظمة كل واحدة منها في الأخرى، ومنه يقال: سلسل كلامه إذا عقده شيئا
بعد شئ، وتسلسل إذا استمر شيئا قبل شئ على الولاء والانتظام. والذرع اخذ
قدر الذراع مرة أو أكثر، ذرع الرجل الثوب يذرعه ذرعا، فهو ذراع، والثوب
مذروع، مأخوذ من الذراع وهو العضو الذي يكون في طرف الكف من الانسان.
وقيل: اسلكوه في السلسلة، لأنه يأخذ عنقه فيها، ثم يجر بها. وقال الضحاك:
إنها تدخل في فيه وتخرج من دبره. وقيل: المعنى ثم اسلك السلسلة فيه فقلب كما
يقال: أدخلت القلنسوة في رأسي، وإنما أدخل رأسه فيها، وكما قال الأعشى:

(1) مر تخريجه في 2 / 41.
105

(غضوب من السوط زيافة) * إذا ما أرتدي بالسراه الاكم) (1)
وإنما السراة ترتدي بالاكم، ولكنه قلب، فهو يجري مجرى التقديم والتأخير
اتساعا في اللغة من غير اخلال بالمعنى. ويقولون أيضا: أدخلت الخاتم في يدي،
والخف في رجلي، وإنما تدخل اليد والرجل في الخاتم والخف، فقلب:
ثم بين تعالى لم فعل به ذلك؟ وعلى أي شئ استحقه، فقال (إنه كان
لا يؤمن بالله) أي لم يكن يوحد الله في دار التكليف ولم يصدق بالله (العظيم) في
صفاته التي لا يشاركه فيها غيره (ولا يحض على طعام المسكين) أي لا يحث على
ذلك مما يجب عليه من الزكاة والكفارات والنذور.
ثم قال تعالى (فليس له) يعني للكافر (اليوم ههنا) يعني يوم القيامة (حميم)
وهو القريب الذي يحمي لغضب صاحبه (ولا طعام الا من غسلين) يعنى من
صديد أهل النار وما يجري منهم، فالطعام هو ما هيئ للاكل، فلذلك لا يسمى
التراب طعاما للانسان، والخشب طعام الأرضة، وليس من طعام أكثر الحيوان.
فلما هيئ الصديد لاكل أهل النار كان ذلك طعاما لهم. والغسلين هو الصديد الذي
يتغسل بسيلانه من أبدان أهل النار. ووزنه (فعلين) من الغسل وقال ابن عباس:
هو صديد أهل النار. وقيل: أهل النار طبقات منهم من طعامه الضريع، ومنهم من
طعامه الغسلين، لأنه قال في موضع آخر (ليس لهم طعام الامن ضريع) (2) وقال
قطرب: يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين، فعبر عنه بعبارتين، وقال قوم:
يجوز أن يكون المراد ليس لهم طعام إلا من ضريع ولا شراب الا من غسلين، فسماه
طعاما كما قال الشاعر:

(1) ديوانه (دار بيروت) 197
(2) سورة 88 الغاشية آية 6.
106

علفتها بتنا وماء باردا (1)
ثم قال تعالى (لا يأكله) أي لا يأكل هذا الغسلين (إلا الخاطئون) وهم
الجائرون عن طريق الحق عامدين. والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن المخطئ قد
يكون من غير تعمد لما وقع به من ترك إصابة المطلوب، وخطئ خطأ فهو خاطئ
قال امرؤ القيس:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا * القائلين الملك الحلا حلا (2)
فهؤلاء الكفار قد جاروا عن طريق الحق وضلوا عن الصراط المستقيم وتبعوا
الضلال في الدين.
قوله تعالى:
(فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39) إنه
لقول رسول كريم (40) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41)
ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون (42) تنزيل من رب
العالمين (43) ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لا خذنا منه
باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه
حاجزين (47) وإنه لتذكرة للمتقين (48) وإنا لنعلم أن منكم
مكذبين (49) وإنه لحسرة على الكافرين (50) وإنه لحق اليقين (51)

(1) مر في 1 / 65 و 3 / 456 و 5 / 469 وعجزه: حتى شتت همالة عيناها
(2) ديوانه 176 واللسان (حلل)..
107

فسبح باسم ربك العظيم) (52) خمس عشرة آية.
قرأ (قليلا ما يؤمنون، ويذكرون) بالياء فيهما مكي شامي ويعقوب،
وسهل على الخبر عن الكفار. الباقون بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم.
وقيل في قوله (فلا اقسم) ثلاثة أقوال:
أحدها - قال الفراء: انه رد لكلام قائل، فكأنه قال: ليس الامر على
ما يقال أقسم إنه (لقول رسول كريم).
والثاني - قال قوم (لا) صلة مؤكدة وتقديره فأقسم.
الثالث - قال قوم: إنها نفي للقسم، ومعناه لا يحتاج إلى القسم لوضوح الحق
في أنه (لقول رسول كريم) وفى هذا الوجه يقع جوابه كجواب غيره من القسم.
وقيل: هو كقول القائل: لا والله لافعل ذاك، ولا والله لأفعلن ذاك. وقال قتادة:
أقسم تعالى بالأشياء كلها ما يرى ومالا يرى، وقال الجبائي: إنما أراد إنه لا يقسم
بالأشياء المخلوقات ما يرى وما لا يرى، وإنما يقسم بربها، لان القسم لا يجوز إلا
بالله. وقوله (إنه لقول رسول كريم) جواب القسم، قال الجبائي: هو قول الله
على الحقيقة، وإنما الملك وجبرائيل والرسول يحكون ذلك، وإنما أسنده إليهم
من حيث أن ما يسمع منهم كلامهم ولما كان حكاية كلام الله قيل: هو كلام الله
على الحقيقة في العرف، وقرئ (إنه من قول رسول كريم) جواب القسم. وقال
الحسن: فالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله الذي أتى بهذا القرآن. وقال غيره: هو
جبرائيل عليه السلام والأول أظهر، والكريم الخليق بالخير الواسع من قبله، يقال: كرم
يكرم كرما فهو كريم، وضده لؤم يلؤم لؤما، فهو لئيم.
ولما اقسم تعالى أن هذا القرآن هو قول رسول كريم نفى بعده أن يكون
108

قول شاعر فقال (وما هو بقول شاعر) فالشاعر هو المبتدئ بانشاء الشعر، ولا
يكون حاكي الشعر شاعرا، كما يكون حاكي الكلام متكلما، لأنه يحكي شعرا أنشأه
غيره، وإنما نزه الله تعالى نبيه عن الشعر ومنعه منه، لان الغالب من حال الشاعر
أنه يدعو إلى الهوى، والرسول بأني بالحكمة التي يدعو إليها العقل للحاجة إلى العمل
عليها والاهتداء بها، مع أنه بين أن القرآن صنف من الكلام خارج عن الأنواع
المعتادة، وذلك أدل على إعجازه لبعده عما جرت به العادة في تأليف الكلام قال
قتادة: طهر الله نبيه من الشعر والكهانة وعصمه منهما.
وقوله تعالى (قليلا ما تؤمنون) معناه قليلا بما ذكرناه إيمانكم (وما) مصدرية
وقال قوم (ما) صلة، وتقديره قليلا تؤمنون بما ذكرناه أي لستم تؤمنون به.
وقوله (ولا بقول كاهن) فالكاهن هو الذي يسجع في كلامه على ضرب
من التكلف لتشاكل المقاطع، وهو ضد ما توجبه الحكمة في الكلام، لأنها تقتضي
أن يتبع اللفظ المعنى، لأنه إنما يحتاج إلى الكلام للبيان به عن المعنى، وإنما البلاغة
في الفواصل التي يتبع اللفظ فيها المعنى، فتشاكل المقاطع على ثلاثة أضرب: فواصل
بلاغة، وسجع كهانة، وقواف تتبع الزنة، والكاهن الذي يزعم أن له خدمة من
الجن تأتيه بضرب من الوحي. وقوله (قليلا ما تذكرون) أي تتفكرون قليلا فيما
ذكرناه، فلذلك لا تعلمون صحة ما قلناه، ولو أنعمتم النظر لعلمتم صحته.
ثم قال (تنزيل من رب العالمين) أي هو تنزيل نزله الله رب العالمين
على رسوله.
وقوله (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) اخبار من الله تعالى على وجه
القسم أن هذا الرسول الذي حكى بأن القرآن نزل عليه من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وآله
لو تقول على الله في بعض كلامه، ومعناه لو كذب علينا في بعض ما لم يؤمر به،
109

فالتقول تكلف القول من غير رجوع إلى حق، والتقول والتكذب والتزيد بمعنى واحد
(لاخذنا منه باليمين) جواب القسم، ومعناه أحد وجهين:
أحدهما - لاخذنا بيده التي هي اليمين على وجه الاذلال، كما يقول السلطان
يا غلام خذ بيده فإنه على وجه الإهانة، قال الحسن: معناه لقطعنا يده اليمين.
والثاني - لاخذنا منه بالقوة كما قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين (1)
وقوله (لقطعنا منه الوتين) قال ابن عباس وسعيد بن جبير: الوتين نياط
القلب. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: هو عرق في القلب متصل بالظهر إذا قطع
مات الانسان، قال الشماخ بن ضرار الثعلبي:
إذا بلغتني وحملت رحلي * عرابة فأشر في ندم الوتين (2)
وقوله (فما منكم من أحد عنه حاجزين) معناه ليس أحد يمنع غيره من
عقاب الله بأن يكون حائلا بينه وبينه، فالحاجز هو الحائل بين الشيئين. وإنما قال
(حاجزين) بلفظ الجمع، لان (أحدا) يراد به الجمع وإن كان بصيغة الواحد.
ثم قال (وانه لتذكرة للمتقين) قسم من الله تعالى أن هذا القرآن تذكرة وعظة
للمتقين، وهو قول قتادة، وإنما اضافه إلى المتقين، لأنهم المنتفعون به، فالتذكرة
العلامة التي يذكر بها المعنى، ذكره تذكرة، فهو مذكر، كقولك جزاه تجزية وجزاه
تجزية، فالمتقي يتذكر القرآن بأن يعمل عليه في أمر دينه في اعتقاد أو عمل به فيتميز
الجائز مما لا يجوز، والواجب مما ليس بواجب، والصحيح مما لا يصح.
وقوله (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) عطف على جواب القسم، ومعناه

(1) مر في 8 / 512 و 9 / 46 وقائله الشماخ
(2) مجاز القرآن 2 / 268 والطبري 21 / 37.
110

التحذير من التكذيب بالحق وأنه ينبغي أن يتذكر أن الله تعالى يعلمه ويجازي عليه.
وقوله (وانه لحسرة على الكافرين) معناه إن هذا القرآن حسرة على الكافرين
يوم القيامة حيث لم يعملوا به في الدنيا، فالحسرة الغم من أجل ما انحسر وقته كيف
فات العمل الذي كان ينبغي فيه أن يفعل، فيحسر السرور عن النفس إلى الغم
بانحساره. وقيل: إن التكذيب به حسرة على الكافرين.
ثم اقسم تعالى فقال (وانه) يعني القرآن الذي أنزله والاخبار بما اخبر
به وذكره (لحق اليقين) ومعناه الحق اليقين، وإنما اضافه إلى نفسه، والحق هو
اليقين، كما قيل مسجد الجامع ودار الآخرة وبارحة الأولى ويوم الخميس وما أشبه
ذلك، فيضاف الشئ إلى نفسه إذا اختلف لفظه كما اختلف الحق واليقين. والحق
هو الذي معتقده على ما اعتقده، واليقين هو الذي لا شبهة فيه،
ثم قال لنبيه (فسبح) يا محمد والمراد به جميع المكلفين ومعناه نزه الله تعالى
(باسم ربك العظيم) ومعناه نزهه عما لا يجوز عليه من صفات خلقه و (العظيم)
هو الجليل الذي يصغر شأن غيره في شأنه بما يستحق من أوصافه. وروي انه لما
نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وآله: اجعلوها في ركوعكم.
111

70 - سورة المعارج:
مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما وهي أربع وأربعون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(سأل سائل بعذاب واقع (1) للكافرين ليس له
دافع (2) من الله ذي المعارج (3) تعرج الملائكة والروح إليه
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة (4) فاصبر صبرا جميلا (5)
إنهم يرونه بعيدا (6) ونريه قريبا (7) يوم تكون السماء
كالمهل (8) وتكون الجبال كالعهن (9) ولا يسئل حميم
حميما) (10) عشر آية.
قرأ أهل المدينة وأهل الشام (سال) بغير همز وهو يحتمل أمرين:
أحدهما - أن يكون من السيل تقول: سال يسيل سيلا فهو سائل، وسايل
واد في جهنم، كما قال (أعوذ برب الفلق) والفلق جب في جهنم. واجمعوا على
همزة (سائل) لأنه ولو كان من (سال) بغير همز، فالياء تبدل همزة إذا وقعت بعد
الألف مثل البائع والسائر من (باع، وسار).
والثاني - بمعنى سأل بالهمزة، لأنها لغة يقولون سلت أسال، وهما يتسألان.
112

قال الشاعر:
سالت هذيل رسول الله فاحشة * ضلت هذيل بما سالت ولم تصب (1)
فهي لغة أخرى، وليست مخففة من الهمزة الباقون بالهمز من السؤال
الذي هو الطلب. وقرأ الكسائي وحده (يعرج) بالياء، لان تأنيث الملائكة ليس
بحقيقي، الباقون - بالتاء وقرأ ابن كثير - في رواية البزي - وعاصم في رواية
البرجمي عن أبي بكر (ولا يسأل) بضم الياء. الباقون بفتح الياء اسندوا السؤال
إلى الحميم.
حكى الله تعالى انه (سأل سائل بعذاب واقع) قال الفراء: الداعي بالعذاب
هو النضر بن كلدة أسر يوم بدر وقتل صبرا، هو وعقبة بن أبي معيط. وقال:
تقديره سأل سائل بعذاب (واقع للكافرين) قال ابن: خالويه قال النحويون:
إن الباء بمعنى (عن) وتقديره: سأل سائل عن عذاب واقع وانشد:
دع المعمر لا تسأل بمصرعه * واسأل بمصقله البكري ما فعلا (2)
أي لا تسأل عن مصرعه، وهذا الذي سأل العذاب الواقع إنما تجاسر عليه
لما كذب بالحق ليوهم أنه ليس فيه ضرر، ولم يعلم أنه لازم له من الله. وقال مجاهد:
سؤاله في قوله (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء) (3) وقال الحسن: سأل المشركون، فقالوا: لمن هذا العذاب الذي يذكره
محمد؟ فجاء جوابهم بأنه (للكافرين ليس له دافع) وقيل: معناه دعا داع بعذاب
للكافرين، وذلك الداعي هو النبي صلى الله عليه وآله، واللام في قوله (للكافرين) قيل في

(1) تفسير القرطبي 18 / 280
(2) قائله الأخطل اللسان (صقل)
(3) سورة 8 الأنفال آية 32.
113

معناها قولان: أحدهما - إنها بمعنى (على) وتقديره سأل سائل بعذاب واقع على الكافرين،
ذهب إليه الضحاك.
والثاني - إنها بمعنى (عن) أي ليس له دافع عن الكافرين، وإنما ذكر
وعيد الكافر - ههنا - مع ذكره في غير هذا الموضع، لان فيه معنى الجواب لمن
سأل العذاب الواقع، فقيل له: ليس لعذاب الكافرين دافع، فاعمل على هذا، وتقدم
نظيره وتأخر، والدافع هو الصارف للشئ عن غيره باعتماد يزيله، عنه دفعه عن
كذا يدفعه دفعا، فهو دافع وذاك مدفوع.
وقوله (من الله ذي المعارج) يعني مصاعد الملائكة. وقيل: معناه ذي
الفواضل العالية، فيكون وصفا لله تعالى، وتقديره من الله ذي المعالي التي هي
الدرجات التي يعطيها أولياءه من الأنبياء والمؤمنين في الجنة، لأنه يعطيهم درجات
رفيعة ومنازل شريفة، والمعارج مواضع العروج، واحدها معرج، عرج يعرج عروجا
والعروج الصعود مرتبة بعد مرتبة، ومنه الأعرج لارتفاع احدى رجليه عن الأخرى
وقال قتادة: معنى ذي المعارج ذي الفواضل والنعم، لأنها على مراتب. وقال
مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معالي الدرجات التي يعيها الله تعالى أولياءه
في الجنة. وقال الحسن: معناه ذي المراقي إلى السماء. والذي اقتضى ذكر المعارج
البيان عن العقاب الذي يجب ان يخافه، على خلاف هذا الجاهل الذي سأل العذاب
الواقع على من كفر نعمته.
وقوله (تعرج الملائكة) معناه تصعد الملائكة (والروح) أي يصعد الروح
أيضا معهم (إليه) والمعنى تعرج الملائكة والروح الذي هو جبرائيل إلى الموضع الذي
يعطيهم الله فيه الثواب في الآخرة (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) لعلو
114

درجاتهم، وإنما قال (إليه) لأنه هناك يعطيهم الثواب، كما قال في قصة إبراهيم
(اني ذاهب إلى ربي) (1) أي الموضع الذي وعدني ربي، وكذلك الموضع الذي وعدهم
الله بالثواب فيه. وقيل: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره من عروج غيرهم
خمسين الف سنة، وذلك من أسفل الأرضين السبع إلى فوق السماوات السبع - ذكره مجاهد -
وقوله (يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره الف
سنة مما تعدون) (2) فهو لما بين السماء الدنيا والأرض في الصعود والنزول الف
سنة: خمسمائة صعودا وخمسمائة نزولا - ذكره مجاهد - أيضا. وقيل: المعنى ان
يوم القيامة يفعل فيه من الأمور ما لو فعل في الدنيا كان مقداره خمسين الف سنة.
وقال قوم: المعنى إنه من شدته وهو له وعظم العذاب فيه على الكافرين كأنه خمسون
الف سنة، كما يقول القائل: ما يومنا إلا شهر أي في شدته، وعلى هذا قول
امرء القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل * بصبح وما الاصباح منك بأمثل
ويا لك من ليل كأن نجومه * بكل مغار الفتل شدت بيذبل (3)
ويؤكد هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه لما نزلت هذه الآية قيل له ما أطول
هذا اليوم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (والذي بعثني بالحق نبيا إنه ليخف على المؤمن
حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا) وقال الضحاك وقتادة:
هو يوم القيامة. وقال الزجاج: يجوز أن يكون (يوما) من صلة (واقع) فيكون
المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين الف سنة وذلك العذاب
يقع يوم القيامة. وقال الحسن: تعرج الملائكة بأعمال بني آدم في الغمام، كما قال

(1) سورة 37 ص آية 99
(2) سورة 32 ألم السجدة آية 5
(3) ديوانه 152.
115

(ويوم تشقق السماء بالغمام) (1) وقال الزجاج: سماه يوما، لان الملائكة تعرجه
في مقدار يوم واحد. ثم أمر نبيه فقال (فاصبر صبرا جميلا) أي لا شكوى فيه
على ما تقاسيه من أذى قومك، وتكذيبهم إياك فيما تخبر به من أمر الآخرة. قال
الزجاج: ذلك قبل أن يؤمر بالقتال.
وقوله تعالى (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) اخبار من الله تعالى أنه يعلم
مجئ يوم القيامة وحلول العقاب بالكفار قريبا، ويراه أي يظنه الكفار بعيدا، لأنهم
لا يعتقدون صحته، وكل ما هو آت قريب، وهذا على وجه الانكار عليهم استبعادهم
يوم الجزاء، وتوهمهم أنه بعيد. وبين أنه تعالى يراه قريبا بما يعلمه من حصوله، وإنما
جاز أن يقال في توهمهم: يرونه لأنهم يتوهمونه، وهم عند أنفسهم يرونه، فجاء على
مزاوجة الكلام الذي ينبئ عن المعنى من غير اخلال. وقيل: معنى إنهم يرون
العذاب الذي سألوا عنه بعيدا، لأنهم لا يؤمنون به، ونراه قريبا لان كل ما هو
آت قريب.
ثم وصف الله تعالى يوم القيامة فقال (يوم تكون السماء كالمهل) قال الزجاج:
المهل دردي الزيت، وقال مجاهد: هو عكر الزيت. وقال قوم: هو الصفر المذاب.
وقال قوم: المهل هو الجاري بغلظة وعكرة على رفق: من أمهله إمهالا، وتمهل تمهلا
(وتكون الجبال كالعهن) فالعهن الصوف المنفوش، وذلك أن الجبال تقطع حتى تصير
بهذه الصفة، كما أن السماء تشقق بالغمام وتكون كالمهل.
وقوله (ولا يسأل حميم حميا) فالحميم القريب النسب إلى صاحبه الذي يحمى
لغضبه وأصله القرب قال الشاعر:
احم الله ذلك من لقاء * أحاد آحاد في الشهر الحلال (2)

(1) سورة 25 الفرقان آية 25
(2) مر 8 / 503، 575.
116

وقال مجاهد: لا يسأل حميم حميما لشغل كل إنسان بنفسه عن غيره. وقال
الحسن: لا يسأله ان يحمل عنه من أوزار ليأسه من ذلك في الآخرة. وقيل
(لا يسأل حميم حميما) لأنه (يعرف المجرمون بسيماهم) (1) ومن ضم الياء أراد
لا يطالب قريب بأن يحضر قريبه كما يفعل أهل الدنيا بأن يؤخذ الحميم بحميمه والجار
بجاره، لأنه لا جور هناك، ويجوز أن يكون المراد لا يسأل حميم عن حميمه ليعرف
شأنه من جهته، كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه، والقريب من قريبه.
ثم يحذف الجار ويوصل الفعل إلى المفعول به، ويقوي ذلك قوله (يبصرونهم)
أي يبصر الحميم حميمه. والفعل فيه قبل تضعيف العين بصرت به، كما قال حكاية عن
السامري (بصرت بما لم يبصروا به) (2).
قوله تعالى:
(يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ
ببنيه (11) وصاحبته وأخيه (12) وفصيلته التي تأويه (13) ومن
في الأرض جميعا ثم ينجيه (14) كلا إنها لظى (15) نزاعة
للشوى (16) تدعو من أدبر وتولى (17) وجمع فأوعى (18) إن
الانسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه
الخير منوعا (21) إلا المصلين (22) الذين هم على صلاتهم
دائمون (23) والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل

(1) سورة 55 الرحمن آية 41
(2) سورة 20 طه آية 96.
117

والمحروم) (25) خمس عشرة آية.
قرأ (نزاعة) - بالنصب - حفص عن عاصم على الحال. الباقون بالضم
جعلوه بدلا من (لظى) و (لظى) اسم من أسماء جهنم معرفة، و (نزاعة) نكرة
فلذلك نصبه حفص على الحال ومن جعلها بدلا من (لظى) وتقديره كلا إنها
لظى، كلا إنها نزاعة للشوى، وضعف أبو علي نصبه على الحال، قال: لأنه ليس في
الكلام ما يعمل في الحال، ولظى اسم معرفة لا يمكن أن يكون بمعنى التلظي، فلا
يعمل فيه الاعلى وجه ضعيف بأن يقال: مع أنها معرفة فمعناها بمعنى التلظي. قال
والأجود أن ينصب بفعل آخر، وتقديره أعني نزاعة.
لما وصف الله تعالى القيامة وأهوالها، واخبر أن الحميم لا يسأل حميا لشغله
بنفسه، قال (يبصرونهم) قال ابن عباس وقتادة: يعرف الكفار بعضهم بعضا،
ثم يفر بعضهم عن بعض، وقال مجاهد: يعرفهم المؤمنون، وقال قوم: يعرف اتباع
الضلال رؤساءهم، وقول ابن عباس أظهر، لأنه عقيب ذكر الكفار. وقال هو كناية
ينبغي ان يرجع إليهم.
وقوله (يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه) أي بتمني العاصي،
فالمودة مشتركة بين التمني وبين المحبة تقول: وددت الشئ إذا تمنيته ووددته إذا
أحببته أود فيهما جميعا، وصفة ودود من المحبة. وقوله (لو يفتدي)، فالافتداء
افتداء الضرر عن الشئ يبدل منه، فهؤلاء تمنوا سلامتهم من العذاب النازل بهم
باسلام كل كريم عليهم. والفرق بين (يود لو يفتدي) و (يود أن يفتدي) أن
(لو) تدل على التمني من جهة أنها لتقدير المعنى، وليس كذلك (أن) لأنها
لاستقبال الفعل و (لو) للماضي، فلما كان الاعتماد على تصور المعنى صار في حكم
118

الواقع، فلو قال قائل: حسبت أن يقوم زيد، لما دل على التمني، ولو قال حسبت
لو يقوم زيد لدل على التمني فبان الفرق بينهما.
وقوله (ببنيه) يعني بأولاده الذكور (وصاحبته) يعني زوجته (وأخيه)
يعني ابن أبيه وأمه (وفصيلته التي تؤويه) فأفصيلة هي المنقطعة عن جملة القبيلة
برجوعها إلى أبوة خاصة، وهي الجماعة التي ترجع إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة (ومن
في الأرض جميعا ثم ينجيه) أي يتمنى هذا الكافر بان يتخلص من بعذاب الله بأن
يفتدى بهؤلاء كلهم، فقال الله تعالى (كلا) أي ليس ينجيه من عقاب الله شئ
وقال الزجاج (كلا) ردع وتنبيه أي لا ينجيه أحد من هؤلاء فارتدعوا.
وقوله (إنها لظى) فلظى اسم من أسماء جهنم مأخوذ من التوقد، ومنه
قوله (فأنذرتكم نارا تلظى) (1) وموضع (لظى) رفع، لأنها خبر (ان) و (نزاعة
للشوى) خبر آخر - على قول من رفع - ومن نصب جعله حالا، ويجوز أن تكون
الهاء في (إنها) عمادا،، و (لظى) ابتداء وخبرها (نزاعة) إذا رفع، قال الزجاج:
ويجوز أن يكون كقولهم: هذا حلو حامض، وتقديره النار لظى، وهي انزاعة أيضا.
ومعنى نزاعة كثيرة النزع وهو اقتلاع عن شدة. والاقتلاع أخذ بشدة اعتماد،
والشوى جلدة الرأس. والشوى الكوارع والأطراف، والشوى ما عدا المقتل من
كل حيوان، يقال: رمى فأشوى إذا أصاب غير المقتل، ورمى فأصمى إذا أصاب
المقتل، ومنه الشوي، لان النار تأخذ الجلدة والأطراف بالتغير. والشوى الخسيس
من المال. وقيل: ان جهنم تنزع جلدة الرأس وأطراف البدن، والشوى جمع سواة
قال الأعشى:
قالت قتيلة ماله * قد حللت شيبا شواته (2)

(1) سورة 92 الليل آية 14
(2) اللسان (شوا).
119

وقال ابن عباس: نزاعة للشوى للجلد وأم الرأس. وقال أبو صالح: لحم
الساق، وقال قتادة: الهام والأطراف. وقال الفراء: كل ما كان غير مقتل فهو
شوى. وقال أبو عمر الدوري: كان الكسائي لا يقف على (كلا) في شئ من
القرآن إلا على هذين في هذه السورة. وقال ابن خالويه: أعلم أن في القرآن ثلاثا
وثلاثين موضعا (كلا) فليس في النصف الأول منه شئ، فمن وقف عليه جعله
رد للكلام. ومن لم يقف جعله بمعنى حقا، قال الشاعر:
يقلن لقد بكيت فقلت كلا * وهل تبكي من الطرب الجليد (1)
فالطرب خفة تصيب الانسان لشدة الخوف قال الشاعر:
وأراني طربا في أثرهم * طرب الواله أو كالمختبل (2)
وقال في السرور:
اطربا وأنت قنسري * والدهر بالانسان دواري (3)
يقول أطربا وأنت شيخ. وقوله تعالى (تدعو من أدبر وتولى) قيل في
معناه قولان:
أحدهما - إنه لا يفوت هذه النار كافر، فكأنها تدعوه فيجيبها كرها.
والثاني - ان يخرج لسان من النار فيتناوله كأنها داعية بأخذها، وهو كقوله
(تكاد تميز من الغيظ) (4) وقال الفراء: وغيره: إن النار تدعو الكافر والفاسق،
فتقول إلي إلي، وهذا يجوز إذا فعل الله تعالى فيها الكلام، ويضاف إليها مجازا.
وقال قتادة: تدعو من أدبر وتولى عن طاعة الله. وقال مجاهد: من تولى عن الحق
وقيل: معناه تدعو زبانيتها من أدبر وتولى عن طاعة الله. وقوله (وجمع فاوعى)

(1) مقاييس اللغة 3 / 454
(2) مر في 3 / 21 و 5 / 247
(3) مر في 4 / 377، 505 و 8 / 63
(4) سورة 67 الملك آية 8.
120

معناه عمل فجمع المال في الدنيا وأدبر عن الحق وتولى، فالنار تدعوه بما يظهر فيها
من أنه أولى بها. وقال مجاهد (جمع) المال (فاوعى) ولم يخرج حق الله منه،
فكأنه جعله في وعاء على منع الحقوق منه.
وقوله (إن الانسان خلق هلوعا) اخبار منه تعالى بان الانسان خلق هلوعا
والهلوع هو الشديد الحرص، الشديد الجزع من الضجر - في قول ابن عباس وعكرمة -
وقيل: معناه خلق ضعيفا عن الصبر على الجزع والهلع، لأنه لم يكن في ابتداء خلقه
يهلع ولا يجزع ولا يشعر بذلك حال الطفولية، وإنما جاز ان يخلق الانسان على هذه
الصفة المذمومة، لأنها تجري مجرى خلق سهوه القبيح ليجتنب المشتهى، لان المحنة
في التكليف لا تتم إلا بمنازعة النفس إلى القبيح ليجتنب على وجه الطاعة لله تعالى،
كما لا يتم إلا بتعريف الحسن من القبيح في العقل ليجتنب أحدهما ويفعل الاخر
(إذا مسه الشر جزوعا) لو كان منقطعا عن الأول لكان مرفوعا، والجزع ظهور الفزع
بحال تنبئ عنه (وإذا مسه الخير منوعا) معناه إذا نال الانسان الخير والسعة في
الدنيا منع حق الله فيه من الزكاة وغيرها مما فرض الله عليه، فالمس الملاقاة من غير
فعل، ويقال: مسه يمسه، وتماسا إذا التقيا من غير فعل، وماسه مماسة. والمنع هو
القطع عن الفعل بما لا يمكن وقوعه معه، وهو على وجهين: أحدهما - منع القادر ان
يفعل. والاخر - منع صاحب الحق أن يعطى حقه. والبخل منع الحق صاحبه.
لما وصف الله تعالى الانسان بالصفات المذمومة استثنى من جملتهم من
لا يستحق الذم، لان الانسان عبر به عن الناس، فهو لعموم الجنس، كما قال (إن
الانسان لفي خسر ألا الذين) (1) وكذلك - ههنا - قال (إلا المصلين الذين هم

(1) سورة 103 العصر آية 2.
121

على صلاتهم دائمون) ومعناه الذين يستمرون على أداء الصلاة التي أوجبها الله عليهم
لا يخلون بها ولا يتركونها. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن ذلك في النوافل يديمون
عليها وقوله (والذين هم على صلواتهم يحافظون) (1) في الفرائض والواجبات (والذين
في أموالهم حق معلوم) فالحق وضع الشئ في موضعه على ما يقتضيه العقل والشرع
من قولهم: حق الشئ يحق حقا، وحقه كقولك تحققه. والمال عبارة في الشرع
عن مقدار معين من العين أو الورق يتعلق به وجوب الزكاة وأكثر ما يستعمل في
اللغة في المواشي من الإبل والبقر والغنم. وقال ابن عباس: الحق المعلوم هو البر
الذي يخرج في صدقة أو صلة رحم. وقال قتادة: هو الزكاة المفروضة (للسائل
والمحروم) والسائل هو الذي يسأل ويطلب. والمحروم، قال ابن عباس: هو المحارف
وقال الحسن: هو الذي حرم أن يعطى الصدقة بتركه المسألة. وقيل: هو الذي قد
حرم الرزق وهو لا يسأل الناس.
وقوله (عذاب يومئذ) قرئ بالفتح والكسر من (يومئذ) فمن كسر الميم فعلى
أصل الإضافة، لان الذي أضيف إليه الأول مخفوض أيضا بالإضافة فهذا مضاف
إلى مضاف. ومن فتح فلانه مضاف إلى غير متمكن مضاف إلى (إذ) و (إذ) مبهمة
ومعناه يوم إذ يكون كذا ويكون كذا فلما كانت مبهمة وأضيف إليها بني المضاف
إليها على الفتح وانشد:
لم يمنع الشرب منها غيران نطقت * حمامة في غصون ذات أو قال (2)
لما أضاف (غير) إلى (ان) بناها على الفتح، وهي في موضع رفع، وروي
(غير أن) نطقت بالرفع.

(1) سورة 23 المؤمنون آية 9
(2) مر في 4 / 479 و 8 / 51 و 9 / 383.
122

قوله تعالى:
(والذين يصدقون بيوم الدين (26) والذين هم من
عذاب ربهم مشفقون (27) إن عذاب ربهم غير مأمون (28) والذين
هم لفروجهم حافظون (29) إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم
فإنهم غير ملومين (30) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (31)
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (32) والذين هم بشهاداتهم
قائمون (33) والذين هم على صلاتهم يحافظون (34) أولئك في جنات
مكرمون) (35) عشر آيات.
قرأ (شهاداتهم) على الجمع حفص ويعقوب وعياش وسهل، لاختلاف
الشهادات. الباقون (بشهادتهم) على التوحيد، لأنه لفظ جنس يقع على القليل
والكثير. وقرأ ابن كثير وحده (لأمانتهم) على التوحيد، لأنه اسم جنس. الباقون
على الجمع لاختلاف الأمانات.
عطف الله تعالى على صفات المؤمنين وزاد في مدحهم، فقال (والذين يصدقون
بيوم الدين) أي يؤمنون بأن يوم الجزاء والحساب يوم القيامة حق، ولا يشكون في
ذلك، والتصديق الاقرار بأن الخبر صادق، فلما كان المؤمنون قد أقروا ان كل
من اخبر بصحة يوم الدين فهو صادق، كانوا مصدقين به، فأما المصدق بيوم الدين
تقليدا، فمن الناس من قال: هو ناج. ومنهم من قال: لا يطلق عليه مصدق بيوم
الدين، لأنها صفة مدح، وذلك أنه من أخلص هذا المعنى على جهة الطاعة لله تعالى
123

به استحق المدح والثواب، والمقلد عاص بتقليده، لأنه لا يرجع فيه إلى حجة.
وقوله (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) فالاشفاق رقة القلب عن
تحمل ما يخاف من الامر، فإذا قسا قلب الانسان بطل الاشفاق، وكذلك إذا أمن
كحال أهل الجنة إذ قد صاروا إلى غاية الصفة بحصول المعارف الضرورية. وقيل:
من أشفق من عذاب الله لم يتعد له حدا ولم يضيع له فرضا.
وقوله (إن عذاب ربهم غير مأمون) اخبار منه تعالى بأن عذاب الله
لا يوثق بأنه لا يكون، بل المعلوم أنه كائن لا محالة. والمعنى إن عذاب الله غير
مأمون على العصاة، يقال: فلان مأمون على النفس والسر والمال، وكل ما يخاف
انه لا يكون، ونقيضه غير مأمون.
وقوله (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)
ومعناه إنهم يمنعون فروجهم على كل وجه وسبب إلا على الأزواج وملك الايمان
فكأنه قال: لا يبذلون الفروج إلا على الأزواج أو ملك الايمان، فلذلك جاز ان
يقول (حافظون إلا على أزواجهم) وهم حافظون لها على الأزواج، فإنما دخلت
(إلا) للمعنى الذي قلناه، وقال الزجاج تقديره: إلا من أزواجهم ف‍ (على) بمعنى
(من) أو تحمله على المعنى، وتقديره فإنهم غير ملومين على أزواجهم ويلامون على
غير أزواجهم، وقال الفراء: لا يجوز أن تقول: ضربت من القوم إلا زيدا، وأنت
تريد إلا أني لم اضرب زيدا. والوجه في الآية أن نحملها على المعنى، وتقديره والذين
هم لفروجهم حافظون، فلا يلامون إلا على غير أزواجهم. ومثله أن يقول القائل:
أصنع ما شئت إلا على قتل النفس، فإنك غير معذب، فمعناه إلا إنك معذب في
قتل النفس.
وقوله (فإنهم غير ملومين) أي لا يلامون هؤلاء إذا لم يحفظوا فروجهم
124

من الأزواج، وما ملكت أيمانهم من الإماء على ما أباحه الله لهم.
ثم قال (فمن ابتغى وراء ذلك) ومعناه فمن طلب وراء ما أباحه الله له من
الفروج إما بعقد الزوجية أو بملك اليمين (فأولئك هم العادون) الذين تعدوا
حدود الله وخرجوا عما أباحه الله لهم فالابتغاء الطلب ومعنى (وراء ذلك) ما خرج
عن حده من أي جهة كان، وقد يكون وراءه بمعنى خلفه نقيض أمامه إلا أنه
- ههنا - الخارج عن حده كخروج ما كان خلفه. والعادي الخارج عن الحق،
يقال: عدا فلان فهو عاد إذا اعتدى، وعدا في مشيه يعدو عدوا إذا أسرع فيه،
وهو الأصل. والعادي الظالم بالاسراع إلى الظلم.
وقوله (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) فالأمانة المعاقدة بالطمأنينة على
حفظ ما تدعو إليه الحكمة. وقيل: الأمانة معاقدة بالثقة على ما تدعو إليه الحكمة.
وقد عظم الله أمر الأمانة بقوله (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان) (1) ومن وحد لفظ الأمانة، فلأنها
للجنس تقع على القليل والكثير، ومن جمع أراد اختلاف ضروبها. وقال قوم: المراد
بالأمانة الايمان وما أخذه الله على عباده من التصديق بما أوجب عليهم والعمل بما يجب
عليهم العمل به، ويدخل في ذلك الايمان وغيره، وقوله (راعون) معناه حافظون.
وقوله (والذين هم بشهاداتهم قائمون) مدح للمؤمنين بأنهم يقيمون الشهادة
التي يلزمهم إقامتها. ومن وحد لفظ الشهادة، فكما قلناه في الأمانة سواء، والشهادة
الاخبار بالشئ على أنه على ما شاهده، وذلك أنه يكون عن مشاهدة للخبر به،
وقد يكون عن مشاهدة ما يدعو إليه.
وقوله (والذين هم على صلاتهم يحافظون) وصف لهم بأنهم يحافظون على

(1) سورة 33 الأحزاب آية 72.
125

صلاتهم فلا يضيعونها وقيل إنهم يحافظون على مواقيتها فلا يتركونها حتى تفوت ثم
قال (أولئك) يعني المؤمنين الذين وصفهم بالصفات المتقدمة (في جنات) أي بساتين
يجنها الشجر (مكرمون) أي معظمون مبجلون بما يفعل بهم من الثواب والاكرام
وهو الاعظام على الاحسان، والاكرام قد يكون بالاحسان، وقد يكون بكبر الشأن
في صفة العالم القادر الغني الذي لا يجوز عليه صفات النقص، فالاعظام بالاحسان وبكبر
الشأن في أعلى المراتب لله تعالى لا يستحقه سواه.
قوله تعالى:
فمال الذين كفروا قبلك مهطعين (36) عن اليمين
وعن الشمال عزين (37) أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة
نعيم (38) كلا إنا خلقناهم مما يعلمون (39) فلا أقسم برب
المشارق والمغارب إنا لقادرون (40) على أن نبدل خيرا منهم
وما نحن بمسبوقين (41) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا
يومهم الذي يوعدون (42) يوم يخرجون من الأجداث سراعا
كأنهم إلى نصب يوفضون (43) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة
ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون) (44) تسع آيات.
قرأ (نصب) بضمتين أهل الشام، وحفص عن عاصم، وسهل، على أنه
جمع (نصب) مثل رهن ورهن - في قول أبي عبيدة - وقال غيره: هما لغتان، مثل
ضعف وضعف. الباقون بفتح النون خفيفة. والنصب الصنم الذي كانوا يعبدونه،
126

سمي بذلك. وقيل: النصب نصب الصنم الذي كانوا يعبدونه. وقيل: معناه إلى
علم يسبقون إليه قد نصب لهم. وقرأ الأعشى (يخرجون) بضم الياء. الباقون
بفتحها أضافوا الخروج إليهم.
يقول الله تعالى على وجه الانكار على الكفار (فما للذين كفروا) ومعناه
أي شئ للذين كفروا بتوحيد الله وجحدوا نبوتك (قبلك مهطعين) أي نحوك
مسرعين - في قول أبي عبيدة - وقال الحسن: معناه منطلقين. وقال قتادة: عامدين
وقال ابن زيد: معناه لا يطرقون أي شاخصون. وجميع ذلك بمعنى الاسراع إلى
الشئ فمرة بتشوقه ومرة بقصده ومرة بشخوصه. وقال الزجاج: المهطع المقبل
ببصره على الشئ لا يزايله، وذلك من نظر العدو، وإنما أنكر عليهم الاسراع إليه
لأنهم أسرعوا إليه ليأخذوا الحديث منه ثم يتفرقون عزين بالتكذيب عليه - ذكره
الحسن - وقيل: أسرعوا إليه شخوص المتعجب منه. وقيل: أسرعوا إليه لطلب
عيب له. وقيل: معناه فما للذين كفروا مسرعين في نيل الجنة مع الإقامة على الكفر
والاشراك بالله في العبادة.
وقوله (عن اليمين وعن الشمال عزين) قال ابن عباس: عن اليمين
والشمال معرضين يستهزؤن، ومعنى (عزين) جماعات في تفرقة نحو الكراريس
واحدهم عزة، وجمع بالواو والنون، لأنه عوض مما حذف منه، ومثله سنة وسنون
وأصل عزة عزوة من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره، وكل واحدة من هذه الجماعة
مضافة إلى الأخرى، وقال الراعي:
أخليفة الرحمن إن عشيرتي * أمسى سوامهم عزين فلولا (1)
وقوله (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم) فمن ضم الياء،

(1) مجاز القرآن 2 / 27 والطبري 29 / 47.
127

وهم أكثر القراء جعل الفعل لما لم يسم. فاعله. وفتح الحسن الياء لأنهم إذا أدخلوا
فقد دخلوا. ومعنى الآية الانكار عليهم قولهم: إن دخل أصحاب محمد الجنة، فانا
ندخلها قبلهم لا محالة، فقيل وأي شئ لكم عند الله يوجب هذا؟ ولم تحتقرون
هؤلاء؟ وقد خلقناهم جميعا مما يعلمون أي من تراب.
وقوله (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) قال الحسن: خلقناهم من النطفة.
وقال قتادة: إنما خلقت من قذر يا بن آدم فاتق الله. وقال الزجاج: أي من
تراب، ثم من نطفة، فأي شئ لهم يدخلون به الجنة، وهم لك على العداوة، وهذا
حجاج لان خلقهم من ماء مهين يقتضى أنهم خلقوا للعبادة، فجعل في خلقهم من
هذا عبرة، ولولا ذلك لابتدأهم في نعيم الجنة، ولم يكن لتنقلهم في الصور والأحوال
معنى في الحكمة، وقال بعضهم: المعنى خلقناهم من الذين يعلمون أو من الخلق أو
الجنس الذي يعلمون ويفقهون، وتلزمهم الحجة، ولم يخلقهم من الجنس الذي
لا يفقه كالبهائم والطير، وإنما قال (مما يعلمون) فجمع، لأنه قال قبل ذلك
(خلقناهم) فجمع (يعلمون) ووجه أخر وهو أنه خلقهم من أجل ما يعلمون من
الثواب والعقاب والتكليف للطاعات تعريضا للثواب، كما يقول القائل: غضبت عليك
مما تعلم أي من أجل ما تعلم قال الأعشى:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا * وشطت على ذي هوى أن تزاوا (1)
على أنه لم يزمع من عندهم، وإنما أزمع من أجلهم للمصير إليهم.
وقوله (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) قسم من الله تعالى برب المطالع
والمغارب، و (لا) مفخمة وقد بينا القول في ذلك. وقال ابن عباس: الشمس لها
ثلاثمائة وستون مطلعا كل يوم مطلع لاتعود إليه إلا إلى قابل. وقوله (إنا لقادرون)

(1) ديوانه 80 واللسان (زمع).
128

جواب القسم وفيه إخبار من الله تعالى بأنه قاد (على أن نبدل) بالكفار (خيرا
منهم) فالتبديل تصبير الشئ موضع غيره، بدله تبديلا وأبدله إبدالا، والبدل
الكائن في موضع غيره. وقوله (وما نحن بمسبوقين) عطف على جواب القسم،
ومعناه إن هؤلاء الكفار لا يفوتون بأن يتقدموا على وجه يمنع من لحاق العذاب بهم
فلم يكونوا سابقين، ولا العقاب مسبوقا منهم، فالسبق نقدم الشئ في وقت قبل
وقت غيره. والتقدير وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم، وكأنه لوفاتهم عقابنا لكنا
قد سبقنا، وما نحن بمسبوقين. وقيل: معناه وما أهل سلطاننا بمسبوقين. وقيل:
وما نحن بمغلوبين بالفوت. ثم قال على وجه التهديد لهم بلفظ الامر للنبي صلى الله عليه وآله
(فذرهم) أي اتركهم (يخوضوا ويلعبوا) فان وبال ذلك عائد عليهم
والعقاب المستحق على كفرهم حال بهم، واللعب عمل للترويج عن النفس بما هو حقير في
العقل، كلعب الصبيان ومن جرى مجراهم من ناقصي العقل، ولا يجوز من الحكيم أن
يفعل اللعب لغيره، لأنه عمل وضيع في الحكمة (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون)
ومعناه حتى يروا اليوم الذي يوعدون فيه بالعقاب على المعاصي والثواب على الطاعات
ثم بين صفة ذلك اليوم، فقال (يوم يخرجون من الأجداث) يعني من
القبور وأحدها جدث وجدث. ونصب (سراعا) على الحال، ومعناه مسرعين
(كأنهم إلى نصب يوفضون) شبههم في اسراعهم من قبورهم إلى أرض المحشر بمن
نصب له علم أو صنم يستبقون إليه، والايفاض الاسراع أوفض يوفض ايفاضا إذا
أسرع قال رؤبة.
يمشي بنا الجد على أو فاض (1)

(1) اللسان (وفض).
129

إي على عجلة. والنصب نصب الصنم الذي كانوا يعبدونه. وقيل اسم
الصنم نصب وجمعه نصب مثل رهن ورهن - في قول أبي عبيدة - وأنشد الفراء
في الايفاض:
لانعتن نعامة ميفاضا * خرجاء ظلت تطلب الافاضا (1)
فخرجاء ذات لونبن، ويقال للقميص المرقع برقعة حمراء أخرج، لأنه خرج
عن لونه، والافاض طلب ملجأ يلجأ إليه، وقال بشر بن أبي حازم:
أهاجك نصب أم بعينك منصب
وقال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * لعافية والله ربك فاعبدا (2)
وقوله (خاشعة أبصارهم) أي ذليلة خاضعة (ترهقهم ذلة) أي يغشاهم
ويركبهم ذل وصغار وخزي لما يرون نفوسهم مستحقة للعقاب واللعن من الله.
ثم قال تعالى (ذلك هو اليوم الذي كانوا يوعدون) به في دار التكليف
فلا يصدقون به ويجحدونه، وقد شاهدوه في تلك الحال.
وقوله (إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم) لا يدل على أنه تعالى
قادر على أن يبدل بالكفار من هو خيرا منه ولم يخلقهم، فيكون قد أخل بالأصلح
لأنه اخبر عن انه قادر على خير منهم وقد خلق قوما آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وبذلوا
نفوسهم وأموالهم.

(1) اللسان (وفض)
(2) مر في 1 / 465 و 4 / 18.
130

71 - سورة نوح:
مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما. وهي ثمان وعشرون آية
في الكوفي، وتسع عشرون في البصري، وثلاثون في المدنيين
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن
يأتيهم عذاب اليم (1) قال يا قوم إني لكم نذير مبين (2) أن
اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم
إلى أجل مسمى إن أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون (4)
قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا (5) فلم يزدهم دعائي إلا
فرارا) (6) ست آيات.
قرأ (ان عبدوا الله) بكسر النون عاصم وحمزة وأبو عمرو، على أصل
التقاء الساكنين. الباقون بالضم اتباعا للضمة على الباء في (عبدوا الله) وقرأ الفراء
(دعائي) ممدودا إلا شبلا عن ابن كثير، فإنه قصر، وفتح الياء مثل عصاي
قال أبو علي: فتح الياء وإسكانها حسنان، فاما قصر الكلمة فلم اسمعها، ويجوز أن
131

تكون لغة.
يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه (إنا أرسلنا نوحا) أي بعثنا نوحا نبيا (إلى
قومه أن انذر قومك) أي بأن انذر قومك، فموضع (أن) نصب بسقوط الباء.
وقال قوم: موضعه الجر لقوة حذفها مع (أن). وقال آخرون: يجوز أن تكون
(أن) بمعنى أي المفسرة، فلا يكون لها موضع من الاعراب. وقرأ ابن مسعود
(أرسلنا نوحا إلى قومه أنذر) بلا (أن) لان معنى الارسال معنى القول فكأنه
قال: قلنا له: أنذر قومك. والانذار التخويف بالاعلام بموضع المخافة ليتقى.
ونوح عليه السلام قد انذر قومه بموضع المخافة وهي عبادة غير الله، وانتهاك محارمه،
وأعلمهم وجوب طاعته وإخلاص عبادته. وقوله (من قبل أن يأتيهم عذاب اليم)
معناه اعلمهم وجوب عبادة الله وخوفهم خلافه من قبل أن ينزل عليهم العذاب
المؤلم، فإنه إذا نزل بهم العذاب لم ينتفعوا با لانذار ولا تنفعهم عبادة الله حينئذ،
لأنهم يكونون ملجئين إلى ذلك. وقال الحسن: أمره بأن ينذرهم عذاب الدنيا
قبل عذاب الآخرة.
ثم حكى أن نوحا عليه السلام امتثل ما أمره الله به و (قال) لقومه (يا قوم إني
لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه) أي مخوفكم عبادة غير الله أو أحذركم معصية الله
مظهر ذلك لكم (واتقوه) بترك معاصيه (وأطيعون) فيما أمركم به لان طاعتي مقرونة
بطاعة الله، وتمسككم بطاعتي لطف لكم في التمسك بعبادة الله، واتقاء معاصيه،
فلذلك وجب عليكم ما أدعوكم إليه على وجه الطاعة، وطاعة الله، واجبة عليكم لمكان
النعمة السابغة عليكم التي لا يوازيها نعمة منعم.
ثم بين لهم ما يستحقون على طاعة الله وطاعة رسوله فقال متى فعلتم ذلك
(يغفر لكم من ذنوبكم) ودخلت (من) زائدة وقيل (من) معناها (عن)
132

والتقدير يصفح لكم عن ذنوبكم، وتكون عامة. وقيل: إنها دخلت للتبعيض، ومعناها
يغفر لكم ذنوبكم السالفة، وهي بعض الذنوب التي تضاف إليهم، فلما كانت ذنوبهم
التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها مطلقا - لما في ذلك من الاغراء بالقبيح -
قيدت هذا التقييد. وقيل: معناها (يغفر لكم من ذنوبكم) بحسب ما تكون التوبة
متعلقة بها، فهذا على التبعيض إن لم يقلعوا إلا عن البعض. وهذا على مذهب من
يقول: تصح التوبة من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه. وقال الزجاج:
دخلت (من) لتخص الذنوب من سائر الأشياء، لا لتبعيض الذنوب.
وأكثر النحويين وأكثر القراء على إظهار الراء عند اللام في (يغفر لكم)
وأختار أبو عمرو الادغام، لان إذهاب التكرير لا يخل، لان الثاني مثل الأول.
وإنما يخل إذهاب ماله حس في المسموع، كالذي لحروف الصفير وبحروف المد واللين
وقوله (ويؤخركم إلى أجل مسمى) عطف على الجزاء فلذلك جزمه، والمعنى
إنكم إن أطعتم الله ورسوله غفر لكم ذنوبكم وأخركم إلى الأجل المسمى عنده وفي
الآية دليل على الأجلين، لان الوعد بالأجل المسمى مشروط بالعبادة والتقوى،
فلما لم يقع اقتطعوا بعذاب الاستئصال قبل الأجل الأقصى بأجل أدنى. وكل ذلك
مفهوم هذا الكلام. وقيل تقديره إن الأجل الأقصى لهم إن آمنوا، وليس لهم إن لم
يؤمنوا، كما أن الحنة لهم إن آمنوا وليست لهم إن لم يؤمنوا.
ثم اخبر (ان أجل الله) الأقصى إذا جاء لا يؤخر (لو كنتم تعلمون)
صحة ذلك وتؤمنون به، ويجوز ذلك أن يكون اخبارا من الله عن نفسه، ويجوز أن يكون
حكاية عن نوح أنه قال ذلك لقومه.
ثم حكى تعالى ما قال نوح لله تعالى فإنه قال يا (رب اني دعوت قومي ليلا
ونهارا) إلى عبادتك وخلع الأنداد من دونك والى الاقرار بنبوتي (فلم يزدهم دعائي
133

الا فرارا) أي لم يزدادوا بدعائي الا فرارا عن قبوله وبعدا عن استماعه، وإنما سمي
كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر، لأنهم كانوا على كفر بالله وضلال عن حقه، ثم
دعاهم نوح إلى الاقرار به وحثهم على الاقلاع عن الشرك، فلم يقبلوا، فكفروا
بذلك، فكان ذلك زيادة في الكفر، لان الزيادة إضافة شئ إلى مقدار بعد حصوله
منفردا، ولو حصلا ابتداء في وقت واحد لم يكن أحدهما زيادة على الاخر، ولكن
قد يكون زيادة على العطية. قيل: وإنما جاز أن يكون الدعاء إلى الحق يزيد الناس
فرارا منه للجهل الغالب على النفس، فتارة يدعو إلى الفرار مما نافره، وتارة يدعو
إلى الفساد الذي يلائمه ويشاكله فمن ههنا لم يمتنع وقوع مثل هذا، والفرار ابتعاد
عن الشئ رغبة عنه أو خوفا منه، فلما كانوا يتباعدون عن سماع دعائه رغبة عنه
كانوا قد فروا منه.
قوله تعالى:
(وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابهم في آذانهم
واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (7) ثم إني دعوتهم
جهارا (8) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا (9) فقلت
استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء عليكم
مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل
لكم أنهارا (12) مالكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد خلقكم
أطوارا) (14) ثمان آيات.
134

لما حكى الله تعالى عن نوح أنه قال يا رب اني دعوت قومي إلى طاعتك ليلا
ونهارا فلم يزدادوا عند دعائي إلا بعدا عن القبول قال (وإني كلما دعوتهم) إلى
اخلاص عبادتك (لتغفر لهم) معاصيهم جزاء على ذلك (جعلوا أصابعهم في
آذانهم) لئلا يسمعوا كلامي ودعائي (واستغشوا ثيابهم) أي طلبوا ما يستترون
به من الثياب ويختفون به لئلا يرونه. وقال الزجاج: معناه إنهم كانوا يسدون آذانهم
ويغطون وجوههم لئلا يسمعوا كلامه. فالاستغشاء طلب الغشى، فلما طلبوا التغشي
بثيابهم فرارا من الداعي لهم، كانوا قد استغشوا (وأصروا) أي أقاموا على
كفرهم ومعاصيهم عازمين على فعل مثله، فالاصرار الإقامة على الامر بالعزيمة عليه
فلما كانوا مقيمين على الكفر بالعزم عليه كانوا مصرين. وقيل إن الرجل منهم كان
يذهب بابنه إلى نوح، فيقول لابنه: احذر هذا لا يغوينك، فان أبي قد ذهب بي إليه
وأنا مثلك، فحذرني كما حذرتك، ذكره قتادة. وقوله (واستكبروا استكبارا) أي
طلبوا بامتناعهم من القبول مني واخلاص عبادتك تجبرا في الأرض وعلوا فيها.
ثم حكى أنه قال (ثم اني دعوتهم جهارا) أي اعلانا (ثم اني أعلنت لهم) أي
أظهرت الدعاء لهم إلى عبادتك تارة (وأسررت لهم) أي وأخفيت لهم الدعاء
إلى مثل ذلك كرة أخرى (فقلت) لهم (واستغفروا ربكم) أي اطلبوا المغفرة
على كفركم ومعاصيكم من الله تعالى (إنه كان غفارا) لكل من طلب منه المغفرة
ويغفر فيما بعد لمن يطلب منه ذلك ومتى فعلتم ذلك وأطعمتوه ورجعتم عن كفركم
ومعاصيكم (يرسل) الله تعالى (السماء عليكم مدرارا) أي كثيرة الدرور بالغيث
والمطر، وقيل: إنهم كانوا قحطوا وأجدبوا وهلكت أولادهم ومواشيهم، فلذلك
رغبهم في ترك ذلك بالرجوع إلى الله، والدرور تجلب الشئ حالا بعد حال على
الاتصال يقال: در درا ودرورا فهو دار، والمطر الكثير الدرور مدرارا. وقيل:
135

ان عمر لما خرج يستسقي لم يزد على الاستغفار وتلا هذه الآية. وقوله (ويمددكم
بأموال وبنين) عطف على الجزاء. وتقديره إنكم متى أطعتموه وعبدتموه مخلصين
أرسل عليكم المطر مدرارا وأمدكم بأموال وبنين، فالامداد إلحاق الثاني بالأول
على النظام حالا بعد حال، يقال: أمده بكذا يمده امدادا، ومد النهر وأمده نهر
آخر. والأموال جمع الحال، وهو عند العرب النعم. والبنون جمع ابن، وهو الذكر
من الولد (ويجعل لكم جنات) أي بساتين تجنها الأشجار (ويجعل لكم أنهارا)
وهو جمع نهر وهو المجرى الواسع للماء دون سعة البحر وفوق الجدول في الاتساع
لان الجدول النهر الصغير يرى شدة جرية لضيقه ويخفى في النهر ضربا من الخفاء لسعته
ثم قال لهم على وجه التبكيت (مالكم) معاشر الكفار (لا ترجون لله
وقارا) أي عظمة - في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - والمراد - ههنا - سعة
مقدوراته تعالى، وأصل الوقار ثبوت ما به يكون الشئ عظيما من الحكم والعلم
الذي يمتنع معه الخرق، ومنه قره في السمع ووعاه في القلب إذا ثبت في السمع وحفظه
القلب. وقيل: معنى ترجون تخافون. قال أبو ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وخالفها في بيت نوب عوامل (1)
أي لم يخف، وكأنه قال: مالكم لا ترجون لله عاقبة عظيمة من الثواب بالخلود
في النعيم أو تخافون عاقبة عصيانه بالدخول في عذاب النار (وقد خلقكم أطوارا)
فالأطوار انتقال الأحوال حالا بعد حال. وقيل: معناه صبيا ثم شابا ثم شيخا ثم
غير عاقل ثم عاقلا وضعيفا ثم قويا. وقال: ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك
وابن زيد: نطفة ثم علقة ثم مضغة. وقيل: معناه على ألوان مختلفة بيضاء وسوداء
وشقراء وصفراء.

(1) مر في 2 / 210 و 3 / 315 و 7 / 491 و 8 / 187.
136

قوله تعالى:
(ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا (15) وجعل
القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من
الأرض نباتا (17) ثم يعيد كم فيها ويخرجكم إخراجا (18) والله
جعل لكم الأرض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا) (20)
ست آيات.
يقول الله تعالى مخاطبا لخلقه المكلفين، ومنبها لهم على توحيده وإخلاص عبادته
(ألم تروا) ومعناه ألم تعلموا (كيف خلق الله سبع سماوات) أي اخترع سبع سماوات
(طباقا) أي واحدة فوق الأخرى فالطباق مصدر طابقت مطابقة وطباقا
والطباق منزلة فوق منزلة. ونصب (طباقا) على أحد وجهين:
أحدهما - على الفعل وتقديره وجعلهن طباقا.
والاخر - جعله نعتا ل‍ (سبع). وجعل (القمر فيهن نورا) روي أن
الشمس يضئ ظهرها لما يليها من السماوات، ويضئ وجهها لأهل الأرض،
وكذلك القمر. والمعنى وجعل الشمس والقمر نورا في السماوات والأرض. وقال
قوم: معنى (فيهن) معهن، وحروف الصفات بعضها يقوم مقام بعض. وقال
قوم: معناه في حيزهن، وإن كان في واحدة منها، كما يقول القائل: إن في هذه
الدور لبئرا وإن كان في واحدة منها، وكذلك يقولون: هذا المسجد في سبع قبائل
وإن كان في إحداها. والجعل حصول الشئ على المضي بقادر عليه. وقد يكون
137

ذلك بحدوث نفسه. وقد يكون بحدوث غيره له. والجعل على أربعة أوجه:
أولها - أحداث النفس، كجعل البناء والنساجة وغير ذلك.
والثاني - بقلبه، كجعل الطين خزفا.
والثالث - بالحكم كجعله كافرا أو مؤمنا
والرابع - بالدعاء إلى الفعل كجعله صادقا وداعيا.
والنور جسم شعاعي فيه ضياء كنور الشمس، ونور القمر، ونور النار،
ونور النجوم، وشبه بذلك نور الهدى إلى الحق، فالله تعالى جعل القمر ضياء في
السماوات السبع - في قول عبد الله بن عمر - وقيل: جعله نورا في ناحيتهن (وجعل
الشمس سراجا) فالسراج جسم يركبه النور للاستصباح به، فلما كانت الشمس
قد جعل فيها النور للاستضاءة به كانت سراجا، وهي سراج العالم كما أن المصباح
سراج هذا الانسان.
وقوله (والله أنبتكم من الأرض نباتا) فالانبات إخراج النبات من الأرض
حالا بعد حال. والنبات هو الخارج بالنمو حالا بعد حال، والتقدير في (أنبتكم
نباتا) أي فنبتم نباتا، لان أنبت يدل على نبت، من جهة انه متضمن به.
وقوله (ثم يعيدكم فيها) فالإعادة النشأة الثانية، فالقادر على النشأة الأولى
قادر على الثانية، لأنه باق قادر على اختراعه من غير سبب يولده، والمعنى إن الله
يردكم في الأرض بأن يميتكم فتصيروا ترابا كما كنتم أول مرة (ويخرجكم اخراجا)
منها يوم القيامة كما قال (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) (1)
ثم قال (والله جعل لكم الأرض بساطا) أي مبسوطة يمكنكم المشي عليها
والاستقرار فيها. وبين أنه إنما جعلها، كذلك (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) فالفجاج

(1) سورة 20 طه آية 55.
138

جمع (فج) وهي الطريقة المتسعة المتفرقة، وقيل: طرقا مختلفة - ذكره ابن عباس -
والفج المسلك بين جبلين، ومنه الفج الذي لم يستحكم أمره، كالطريق بين جبلين.
وإنما عدد تعالى هذه الضروب من النعم امتنانا على خلقه وتنبيها لهم على استحقاقه
للعبادة الخالصة من كل شرك، ودلالة لهم على أنه عالم بمصالح خلقه، ومدبر لهم على
ما تقتضيه الحكمة، فيجب أن يشكروه على هذه النعمة ولا يقابلونها بالكفر والجحود.
قوله تعالى:
(قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله
وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارا (22) وقالوا لا تذرن
آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا * ولا يغوث ويعوق ونسرا (23)
وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا (24) مما خطيئاتهم
أغرقوا فادخلوا نارا * فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا (25)
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (26) إنك
إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27) رب
اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات
ولا تزد الظالمين إلا تبارا) (28).
قرأ (ماله وولده) بالفتح نافع وعاصم وابن عامر. والباقون بضم الواو
وسكون اللام، وهما لغتان مثل حزن وحزن ونخل ونخل وعدم وعدم. وقال قوم:
الولد - بالضم - جمع ولد مثل رهن ورهن وعرب وعرب وعجم وعجم. وقرأ نافع
139

(ودا) بضم الواو. الباقون بفتحها، وهما لغتان، وهو اسم الصنم. وقال قوم:
بالضم المحبة، وبالفتح الصنم. والسواع - ههنا - صنم، وفى غير هذا الساعة من
الليل. ومثله السعواء. وقرأ أبو عمرو (خطاياهم) على جمع التكسير. الباقون
(خطيئاتهم) على جمع السلامة.
حكى الله تعالى عن نوح أنه (قال) داعيا الله (يا رب انهم) يعني قومه
(عصوني) فيما آمرهم به وأنهاهم عنه، فالمعصية مخالفة المراد إلى المكروه المزجور عنه.
ومخالفة ما أراده الحكيم تكون على وجهين:
أحدهما - على المأذون فيه من غير أن يريده.
والاخر - إلى المكروه المزجور عنه، فهو بالأول مقصر عن ما هو الأولى فعله.
وبالثاني عاص.
وقوله (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) تمام الحكاية عن نوح
أنه وصف به قومه بأنهم عصوه فيما دعاهم إليه واتبعوا الذي لم يزده ماله وولده إلا
خسارا يعني هلاكا، فالخسار الهلاك بذهاب رأس المال ففيه معنى الهلاك وليس
كذلك الخسران، لأنه محتمل للقليل الذي لا يجحفه ذهابه والكثير الذي يجحف
وأما الخسار ففيه معنى ذهاب الكثير، ولهذا بني على صفة الهلاك.
وقوله (ومكروا مكرا كبارا) فالمكر الفتل بالحيلة الخفية إلى خلاف الجهة
الموافقة بما فيها من المضرة، مكر يمكر مكرا، فهو ماكر، والشئ ممكور به، قال
ذو الرمة:
عجزاء ممكورة خمصانة قلق * عنها الوشاح وتم الجسم والقصب (1)
أي ملتفة مفتولة. والكبار الكبير - في قول مجاهد وابن زيد - يقولون عجيب

(1) مر في 4 / 513، 541 و 5 / 128.
140

. وعجاب بالتخفيف والتشديد. ومثله جميل وجمال وجمال وحسن وحسان. (وقالوا)
يعني الكفار بعضهم لبعض (لا تذرن آلهتكم) أي لا تتركوا عبادة أصنامكم (ولا
تذرن ودا ولا سواعا) وهما صنمان لهم كانوا يعبدونهما، فكانت (ود) لكلب
(وسواع) لهمدان (ويغوث) لمذحج (ويعوق) لكنانة (ونسرا) لحمير - في
قول قتادة -.
وقوله (قد أضلوا كثيرا) معناه ضل بهم خلق كثير. وقيل: معناه إن
عبادتهم أضلت خلقا عن الثواب لمن استحق العقاب، وأضلهم بالذم والتحسر عن
حال أهل الفلاح، وإنما جمع الأصنام بالواو لما أسند إليها ما يسند إلى العالم من
استحقاق العبادة، ولم يصرفوا (يغوث) و (يعوق) لأنه على لفظ المضارع من
الافعال، وهي معرفة، وقد نونهما الأعمش، واخراجهما مخرج النكرات أي صنما
من الأصنام.
ثم قال نوح (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) ومعناه إلا عذابا وسمي العذاب
ضلالا كقوله (إن المجرمين في ضلالا وسعر) (1) وقيل: كانت هذه الأصنام
المذكورة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب فيما بعد - في قول ابن عباس وقتادة
والضحاك وابن زيد - ولا يجوز في صفة الحكيم الاضلال عن الايمان.
وقوله (مما خطاياهم) (ما) صلة وتقديره من خطاياهم بمعنى من أجل ما ارتكبوه
من الخطايا والكفر (أغرقوا) على وجه العقوبة (فادخلوا) بعد ذلك (نارا)
ليعاقبوا فيها (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) أي من يدفع عنهم ما نزل بهم من
العقاب المستحق على كفرهم.
ثم حكى ما قال نوح أيضا فإنه قال (رب لا تذر على الأرض من الكافرين

(1) سورة 54 القمر آية 47.
141

ديارا) قال قتادة: ما دعا عليهم إلا بعد ما أنزل عليه (أنه لن يؤمن من قومك
إلا من قد آمن) (1) فلذلك قال (إنك) يا رب (ان تذرهم) يعني تتركهم
ولا تهلكهم (يضلوا عبادك) عن الدين بالاغواء عنه والدعاء إلى خلافه (ولا يلدوا
إلا فاجرا كفارا) وإلا فلم يعلم نوح الغيب، وإنما قال ذلك بعد أن اعلمه الله ذلك
وإنما جاز أن يقول (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) فيسيمهم بالكفر والفجور قبل
أن يعملوه، لأنه على وجه الحكاية والاخبار بما يكون منهم لو وجدوا لا على وجه
الذم لهم، لاقتضاء العقل على أنه لا يذم على الكفر من لم يكن منه كفر، فكأنه قال
ولا يلدوا إلا من إذا بلغ كفر، و (الديار) فيعال من الدوران، أي ولا تذر
على الأرض منهم أحدا يدور في الأرض بالذهاب والمجئ قال الشاعر:
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا * ألا يجاورنا إلاك ديار (2)
أي إلا إياك، فجعل المتصل موضع المنفصل ضرورة. وقال الزجاج: تقول
ما في الدار أحد، ولا بها ديار، وأصله ديوار (فيعال) فقلبت الواو ياء. وأدغمت
إحداهما في الأخرى. والفاجر من فعل الفجور، وهي الكبيرة التي يستحق بها
الذم. و (الكفار) من أكثر من فعل الكفر لأنه لفظ مبالغة. وكافر يحتمل
القليل والكثير.
ثم حكى ان نوحا سأل الله تعالى فقال (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل
بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) قيل المراد بالبيت مسجده. وقيل أراد سفينته.
وذلك على وجه الانقطاع إليه تعالى، لأنه لا يفعل معصية يستحق بها العقاب.
فأما والده والمؤمنون والمؤمنات الذين استغفر لهم فيجوز أن يكون منهم معاص يحتاج
أن يستغفرها لهم.

(1) سورة 11 هود آية 36
(2) أوضح المسالك 1 / 60.
142

وقوله (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) فالتبار الهلاك والعقاب، وكل من
أهلك فقد تبر، ولذلك سمي كل شئ مكسر تبرا، ويجوز أن يكون معناه لا تزدهم
إلا ضالا أي عذابا على كفرهم. وقال البلخي: لا تزدهم إلا منعا من الطاعات
عقوبة لهم على كفرهم، فإنهم إذا ضلوا استحقوا منع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين
فيطيعون عندها، ويمتثلون أمر الله، ولا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق، لأنه
سفه فتعال الله عن ذلك علوا كبيرا.
143

72 - سورة الجن
مكية في قول قتادة وابن عباس والضحاك وغيرهم وهي ثمان وعشرون آية
ليس فيها اختلاف. قال الحسن: نزلت هذه السورة فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله على
نفر من الجن فآمنوا به فأتوا قومهم فقالوا (إنا سمعنا قرآنا عجبا) وكان يقول بعث
الله محمدا إلى الجن والإنس وقال غيرهم من المفسرين: لما رميت الشياطين بالشهب
ومنعوا من صعود السماء، قال لهم إبليس ما هذا الحادث؟ فبث شياطينه في الأرض
فبعث قوما من جن اليمن فلقوا النبي صلى الله عليه وآله بمكة يصلي بأصحابه ويقرأ القرآن
فأعجبهم ذلك وآمنوا به، وأخبروا قومهم فقال إبليس لهذا رجمتم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا
قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (2)
وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا (3) وأنه كان يقول
سفيهنا على الله شططا (4) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على
الله كذبا (5) وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن
144

فزادوهم رهقا (6) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله
أحدا (7) وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا
وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الان
يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم
أراد بهم ربهم رشدا) (10) عشر آيات.
قال الفراء: قرأ حوبة بن عابد (قل أحي إلي) أراد وحي إلي مثل وعد
فقلبت الواو همزة، كما قلبها في قوله (وإذا الرسل اقتت) (1) وأصله وقتت.
والعرب تقول: وحيت إليه، وأوحيت بمعنى واحد وومأت إليه وأومأت،
قال الراجز:
وحى لها القرار فاستقرت (2)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (قل أوحى إلى أنه استمع) و (أن لو استقاموا)
(وأن المساجد لله) و (أنه لما قام عبد الله) أربعة أحرف - بفتح الألف - والباقي
من أول السورة إلى ههنا بكسر الألف. وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر
كذلك، إلا قوله (وانه لما قام عبد الله) فإنه قرأ بالكسر. الباقون بفتح جميع ذلك إلا
ما جاء بعد (قول) أو (فاء جزاء) فإنهم يكسرونه من فتح جميع ذلك جعله
عطفا علي (أوحي إلي انه) وأنه. ومن كسر عطف على قوله (إنا) وإنا. قال

(1) سورة 77 المرسلات آية 11
(2) مر في 2 / 459 و 3 / 84 و 4 / 61 و 6 / 403.
145

قوم: ومن نصب فعلى تقدير آمنا به وبكذا فعطف عليه. قال الزجاج: إن عطف
على الهاء كان ضعيفا، لان عطف المظهر على المضمر ضعيف، ومن جعله مفعول (آمنا)
فنصبه به كأنه قال: آمنا بكذا وكذا، وأسقط الباء فنصب على المعنى، لان معنى
(آمن) صدق، فكأنه قال: صدقنا بكذا وكذا، وحذف الجار. ومن كسر من
هؤلاء بعد القول أو فاء الجزاء، فلانه لا يقع بعد القول والفاء إلا ما هو ابتداء،
أو ما هو في حكم الابتداء. ومن كسر جميع ذلك جعله مستأنفا، ولم يوقع (آمنا)
عليه، وما نصب من ذلك جعله مفعولا بايقاع فعل عليه. فأما قوله (أوحي إلي
انه استمع) فمفعول (أوحي) لا غير بلا خلاف. وقرأ أبو جعفر (أن لن تقول
الانس) على معنى تكذب. الباقون بتخفيف الواو من القول.
يقول الله تعالى آمرا لمحمد نبيه صلى الله عليه وآله (قل) يا محمد لقومك ومن بعثت
إليه (أوحي إلي) فالايحاء القاء المعنى إلى النفس خفيا كالالهام، وانزال الملائكة به
لخفائه عن الناس إلا على النبي الذي انزل إليه كالايماء الذي يفهم به المعنى. والمراد
- ههنا - انزال الملك به عليه. ثم بين ما أوحي إليه فقال (انه استمع نفر من الجن)
فالاستماع طلب سماع الصوت بالاصغاء إليه، وهو تطلب لفهم المعنى، وتطلب ليستدل
به على صاحبه. وقيل: ان الجن لما منعوا من استراق السمع طافوا في الأرض،
فاستمعوا القرآن، فآمنوا به، فأنزل بذلك الوحي على النبي صلى الله عليه اله ذكره ابن عباس
ومجاهد والضحاك وغيرهم. والنفر الجماعة. والجن جيل رقاق الأجسام خفية على
صور مخصوصة بخلاف صورة الملائكة والناس. وقيل: العقلاء من الحيوان ثلاثة
أصناف: الملائكة، والناس، والجن. والملك مخلوق من النور، والانس من الطين
والجن من النار.
ثم ذكر انه قالت الجن بعضها لبعض (إنا سمعنا قرآنا عجبا) والعجب هو
146

كل شئ لا يعرف سببه. وقيل: هو ما يدعو إلى التعجب منه لخفاء سببه وخروجه
عن العادة في مثله، فلما كان القرآن قد خرج بتأليفه عن العادة في الكلام، وخفي
سببه عن الأنام كان عجبا،
وقوله (يهدي إلى الرشد) حكاية ما قالت الجن ووصفت به القرآن، فإنهم
قالوا: هذا القرآن يهدي إلى ما فيه الرشاد والحق (فآمنا به) أي صدقنا بأنه من
عند الله (ولن نشرك) فيما بعد (بربنا أحدا) فنوجه العبادة إليه بل نخلص
العبادة له تعالى (وانه تعالى جد ربنا) من كسر الهمزة عطفه على قوله (إنا سمعنا)
وحكى أنهم قالوا (إنه) ويجوز أن يكون استأنف الاخبار عنهم، ومن فتح فعلى
تقدير فآمنا بأنه تعالى جد ربنا، ومعناه تعالى عظمة ربنا، لانقطاع كل شئ عظمة
عنها لعلوها عليه. ومنه الجد أبو الأب، والجد الحظ لانقطاعه بعلو شأنه. والجد
ضد الهزل لانقطاعه عن السخف، ومنه الجديد لأنه حديث عهد بالقطع في غالب
الامر. وقال الحسن - في رواية - ومجاهد وقتادة: معناه تعالى جلالته وعظمته.
وفى رواية أخرى عن الحسن: تعالى غني ربنا، وكل ذلك يرجع إلى معنى وصفه
بأنه عظيم غني. ويقال: جد فلان في قومه إذا عظم فيهم. وروي عن أحدهما عليهم السلام أنه قال
: ليس لله جد وإنما قالت ذلك الجن بجهلها فحكاه كما قالت. وقال الحسن:
ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله إلى الأنفس والجن، وانه لم يرسل رسولا قط من
الجن ولا من أهل البادية، ولا من النساء، لقوله (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا
نوحي إليهم من أهل القرى) (1).
وقوله (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) على ما قال قوم من الكفار.
وقوله (وانه كان يقول سفيهنا على الله شططا) من كسر استأنف. ومن

(1) سورة 12 يوسف آية 109.
147

نصب عطف على قوله (وانه تعالى جد ربنا) ونصب ذلك بتقدير آمنا، وقدر
للباقي فعلا يليق به، ويمكن أن يعمل فيه، كما قال الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما * وزججن الحواجب والعيونا (1)
على تقدير: وكحلن العيون، وقال مجاهد وقتادة: أرادوا ب‍ (سفيههم)
إبليس و (الشطط) السرف في ظلم النفس والخروج عن الحق، فاعترفوا بأن إبليس
كان يخرج عن الحد بما يغري به الخلق ويدعوهم إلى الضلال.
وقوله (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) اخبار عن
اعترافهم بأنهم ظنوا أن لا يقول أحد من الجن والإنس كذبا على الله في اتخاذ الشريك
معه والصاحبة والولد، وأن ما يقولونه من ذلك صدق حتى سمعنا القرآن وتبينا الحق به.
وقوله (وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن) قال البلخي:
قال قوم: المعنى إنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الانس من أجل
الجن، لان الرجال لا يكون إلا في الناس دون الجن. ومن قال بالأول قال في الجن
رجال مثل ما في الانس. وقال الحسن وقتادة ومجاهد: كان الرجل من العرب إذا
نزل الوادي في سفره قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه. ومعنى
(يعوذون) يستجيرون، وهذا اخبار من الله تعالى عن نفسه دون الحكاية عن
الجن. والعياذ الاعتصام وهو الامتناع بالشئ من لحاق الشر. والرجال جمع رجل
وهو الذكر البالغ من الذكران. والانسان يقع على الذكر والمرأة، والصغير والكبير
ثم ينفصل كل واحد بصفة تخصه وتميزه من غيره.
وقوله (فزادوهم رهقا) أي اثما إلى اثمهم الذي كانوا عليه من الكفر والمعاصي
- في قول ابن عباس وقتادة - وقال مجاهد: يعني طغيانا. وقال الربيع وابن زيد:

(1) مر في 9 / 492.
148

يعني فرقا. وقيل سفها. قال الزجاج: يجوز أن يكون الجن زادوا الانس، ويجوز أن
يكون الانس زادوا الجن رهقا. والرهق لحاق الاثم، وأصله اللحوق. ومنه راهق
الغلام إذا لحق حال الرجال قال الأعشى:
لا شئ ينفعني من دون رؤيتها * هل يشتفى وامق ما لم يصب رهقا (1)
أي لم يعش اثما. ثم حكى تعالى (وأنهم ظنوا كما ظننتم) معاشر الانس
(ان لن يبعث الله أحدا) أي لا يحشره يوم القيامة ولا يحاسبه. وقال الحسن:
ظن المشركون من الجن، كما ظن المشركون من الانس (ان لن يبعث الله أحدا)
لجحدهم بالبعث والنشور، واستبعدوا ذلك مع اعترافهم بالنشأة الأولى، لأنهم
رأوا إمارة مستمرة في النشأة الأولى، ولم يروها في النشأة الثانية، ولم ينعموا النظر
فيعلموا أن من قدر على النشأة الأولى يقدر على النشأة الأخرى.
وقال قتادة: ظنوا أن لا يبعث الله أحدا رسولا.
ثم حكى ان الجن قالت (إنا لمسنا السماء) أي مسسناها بأيدينا. وقال
الجبائي: معناه إنا طلبنا الصعود إلى السماء، فعبر عن ذلك باللمس مجازا، وإنما
جاز من الجن تطلب الصعود مع علمهم بأنهم يرمون بالشهب لتجويزهم أن يصادفوا
موضعا يصعدون منه ليس فيه ملك يرميهم بالشهب، أو اعتقدوا أن ذلك غير
صحيح، ولم يصدقوا من أخبرهم بأنهم رموا حين أرادوا الصعود (فوجدناها ملئت
حرسا شديدا وشهبا) نصب (حرسا) على التمييز و (شديدا) نعته و (شهبا)
عطف على (حرسا) فهو نصب أيضا على التمييز. وتقديره ملئت من الحرس.
والشهب جمع شهاب، وهو نور يمتد من السماء من النجم كالنار. قال الله تعالى
(ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) (2) والحرس جمع

(1) ديوانه (دار بيروت) 124
(2) سورة 67 الملك آية 5.
149

حارس. وقيل: إن السماء لم تحرس قط إلا لنبوة أو عقوبة عاجلة عامة.
ثم حكى أنهم قالوا أيضا (إنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الان
يجد له شهابا رصدا) أي لم يكن فيما مضى منع من الصعود في المواضع التي يسمع
منها صوت الملائكة وكلامهم، ويسمع ذلك، فالان من يستمع منا ذلك يجدله
شهابا يرمى به ويرصد و (شهابا) نصب على أنه مفعول به و (رصدا) نعته.
ثم حكى انهم قالوا (وإنا لا ندري) بما ظهر من هذه الآية العجيبة (أشر
أريد بمن في الأرض) من الخلق أي اهلاكا لهم بكفرهم وعقوبة على معاصيهم
(أم أراد بهم ربهم رشدا) وهداية إلى الحق بأن بعث نبيا، فان ذلك خاف عنا
وقال قوم: إنا الشهب لم تكن قبل النبي صلى الله عليه وآله وإنما رموا به عند بعثه صلى الله عليه وا له وقال
آخرون: الشهب معلوم أنها كانت فيما مضى من الزمان، ولكن كثرت في زمن
النبي صلى الله عليه وآله وعمت لا أنها لم تكن أصلا. قال البلخي: الشهب كانت لا محالة غير أنه
لم تكن تمتنع بها الجن عن صعود السماء، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله منع الجن من الصعود
قوله تعالى:
(وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدادا (11)
وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا (12)
وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا
ولا رهقا (13) وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك
تحروا رشدا (14) وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (15) وأن لو
استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا (17) لنفتنهم فيه ومن
150

يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا (17) وأن المساجد لله فلا
تدعوا مع الله أحدا (18) وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون
عليه لبدا (19) قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا) (20) عشر آيات.
قرأ أهل الكوفة ويعقوب وسهل (يسلكه) بالياء بمعنى يسلكه الله. الباقون
بالنون على وجه الاخبار منه تعالى عن نفسه بنون العظمة. وقرأ أبو جعفر وعاصم
وحمزة (قل إنما ادعوا ربي) بلفظ الامر. الباقون (قال) على فعل ماض. وقرأ
هشام بن عماد عن ابن عامر (لبدا) بضم اللام. الباقون بكسر اللام. واللبد
واللبد بمعنى واحد، وجمع اللبدة لبد، مثل ظلمة وظلم. ويقال: لابد ولبد، مثل
راكع وركع.
يقول الله تعالى في تمام الحكاية عما قالته الجن الذين امنوا عند سماع القرآن
فإنهم قالوا (وانا منا الصالحون) وهم الذين عملوا الصالحات وسمي صالحا، لأنه عمل
ما يصلح به حاله في دينه. وأما المصلح فهو فاعل الصلاح الذي يقوم به أمر من
الأمور، ولهذا وصف تعالى بأنه مصلح، ولم يجز وصفه بأنه صالح. والصلاح يتعاظم
استحقاق المدح عليه والثواب كما يختلف استحقاق الشكر بالنعم، ففي النعم ما
يستحق به العبادة وفيها ما لا يستحق به ذلك وإن استحق به الشكر، فلذلك قال
(ومنادون ذلك) والمعنى ان منا الصالحين في مراتب عالية ومنادون ذلك في الرتبة.
وقوله (كنا طرائق قددا) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني على مذاهب
مختلفة: مسلم، وكافر، وصالح، ودون الصالح. والطرائق جمع طريقة وهي الجهة
151

المستمرة مرتبة بعد مرتبة. والمعنى فيها إنا كنا في طرق مختلفة. والقدد جمع قدة.
وهي المستمرة بالقد في جهة واحدة. والقدد مضمن بجعل جاعل، وهو القاد،
وليس كذلك الطريقة في تضمن الصفة، وإنما هي كالمذهب الذي يمكن فيه على
استمرار إلى حيث انتهى إليه. والمعنى إنا كنا على طرائق متباينة كل فرقة يتباين
صاحبها كما بين المقدود بعضه من بعض.
وقوله (وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض) فالظن - ههنا - بمعنى العلم
والمعنى اعترافهم بأن علموا أنه لا يفوت الله شئ يذهب في الأرض، ولا إذا هرب
منه بسائر ضروب الهرب، واعترفوا أيضا فقالوا (وانا لما سمعنا الهدى) يعنون
القرآن الذي فيه هدى كل حي (آمنا به) أي صدقناه. ثم قالوا (فمن يؤمن بربه)
أي من يصدق بتوحيد الله وعرفه على صفاته (فلا يخاف بخسا) أي نقصانا فيما
يستحقه من الثواب (ولا رهقا) أي ولا يخاف ظلما، فالرهق لحاق السرف في
الامر، وكأنه قال لا يخاف نقصا قليلا ولا كثيرا، وذلك أن اجره وثوابه موفر
على أتم ما يكون فيه. وقال ابن عباس: معناه لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة
في سيئاته، وهو قول الحسن وقتادة وابن زيد، والتقدير فمن يؤمن بربه فإنه لا يخاف
ثم قالوا أيضا (وانا منا المسلمون) يعني الذين استسلموا لما أمرهم الله به،
وانقادوا له (ومنا القاسطون) يعني الجائرون عن طريق الحق. والقاسط الجائر
عن طريق الحق (فمن اسلم) أي استسلم لامر الله (فأولئك تحروا رشدا) أي طلبوا
الهدى إلى الحق، (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) أي استحقوا بذلك أن
يكونوا وقود النار يوم القيامة يحرقون بها. وقوله (وأن لو استقاموا على الطريقة)
اخبار من الله تعالى عن نفسه. وقيل (ان) يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، فيكون
محمولا على الوحي، فكأنه قال (أوحي إلي أن لو استقاموا) وفصل لو بينها وبين
152

الفعل، كما فصل (السين) و (لا) في قوله (علم أن سيكون منكم مرضى) (1)
وقوله (ان لا يرجع إليهم) (2) ويحتمل أن تكون (لو) بمنزلة اللام في قوله (لئن
لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم) (3)
فيسقط مرة ويلحق أخرى، لان (لو) بمنزلة فعل الشرط، فكما لحقت اللام
زائدة قبل (إن) الداخلة على الشرط قبل فعل الشرط، كذلك لحقت (أن) هذه
قبل (لو) ومعنى (وأن لو استقاموا) أحد أمرين:
أحدهما - لو استقاموا على طريقة الهدى بدلالة قوله (ولو أنهم أقاموا
التوراة والإنجيل وما انزل إليهم من ربهم لا كلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (4)
وقوله (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
ولكن كذبوا) (5)،
الثاني - لو استقاموا على طريقة الكفر بدلالة قوله (ولولا أن يكون الناس
أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) (6) وقيل: انه دخلت
(ان) في (وأن لو استقاموا) لأنه جواب القسم. ويجوز أن يحذف، كما
قال الشاعر:
فأقسم لو شئ أتانا رسوله * سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (7)
وقال آخر:

(1) سورة 73 المزمل آية 20
(2) سورة 20 طه آية 89
(3) سورة 33 الأحزاب 60
(4) سورة 5 المائدة آية 69
(5) سورة 7 الأعراف آية 95
(6) سورة 43 الزخرف آية 33
(7) مر في 5 / 529 و 6 / 253 و 7 / 341 و 9 / 12.
153

اما والله إن لو كنت حرا * وما بالحر أنت ولا العتيق (1)
والاستقامة الاستمرار في جهة العلو. والمستقيم من الكلام المستمر على
طريقة الصواب. وهو نقيض المحال. والاستقامة على طريق الحق التي يدعو إليها
العقل طاعة الله. والمعنى - ههنا - في قول أكثر المفسرين: إنه لو استقام العقلاء
على طريقة الهدى استمروا عليها وعملوا بموجبها لجازاهم على ذلك بأن أسقاهم ماء
غدقا، يعني كثيرا. والغدق بفتح الدال المصدر، وبكسرها اسم الفاعل، وفي ذلك
ترغيب في الهدى. قال الفراء: معناه وأن لو استقاموا على طريقة الكفر لفعلنا بهم
ما ذكرناه تغليظا للمحنة في التكليف، ولذلك قال (لنفتنهم فيه) أي نختبرهم بذلك
ونبلوهم به وغدق المكان يغدق غدقا إذا كثر فيه الماء والندى، وهو غدق - في
قول الزجاج - وقوله (لنفتنهم فيه) معناه لنختبرهم ونعاملهم معاملة المختبر في شدة
التعبد بتكليف الانصراف عما تدعو شهواتهم إليه، على ما تقتضيه الحكمة في ذلك
والفتنة المحنة الشديدة، والمثوبة على قدر المشقة في الصبر عما تدعوا إليه الشهوة.
ثم قال تعالى مهددا لهم ومتوعدا (ومن يعرض عن ذكر ربه) والمعنى
من يعدل عن الفكر فيما يؤديه إلى معرفة الله وتوحيده واخلاص عبادته، فالذكر حضور
المعنى الدال على المذكور للنفس، وضده السهو، ومثله حضور المعنى بالقلب. والفكر
في وجوه السؤال عن المعنى طلب للذكر له. والفكر في البرهان طلب للعلم بصحة المعنى
المذكور وأنه حق ونقيضه باطل. وقوله (يسلكه عذبا صعدا) أي متصعدا في
العظم. وقيل: متصعدا قد غمره وأطبق عليه. ومعناه عذبا أشهد العذاب من قوله
(سأرهقه صعودا) (2) فاما قول العرب: تنفس الصعداء على وزن (فعلاء) أكثر
كلامهم، ومنه قيل تنفس صعدا على وزن غرب والصعود العقبة الشاقة. وقال الفراء:

(1) تفسير القرطبي 18 / 17
(2) سورة 74 المدثر آية 17.
154

الصعود صخرة ملساء في النار ويكلف الصعود عليها، فكلما بلغ رأسها أحد هوى إلى
أسفلها وقوعا.
وقوله (وان المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا) عطف عند جميع المفسرين
على قوله (أوحي) كأنه قال: أوحي إلي أن المساجد لله، وقال الخليل: التقدير،
ولان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا مثل قوله (وان هذه أمتكم) وتقديره:
ولأن هذه أمتكم (أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (1) والمعنى الاخبار منه تعالى
بأن لا يذكر مع الله في المساجد - وهي المواضع التي وضعت للصلاة - أحد على وجه
الاشتراك في عبادته، كما يدعوا النصارى في بيعهم والمشركون في الكعبة. وقال
الحسن: من السنة إذا دخل المسجد أن يقول: لا إله الا الله، لا أدعو مع الله
أحدا. وقيل: معناه إنه يجب أن يدعوه بالوحدانية. وقال الفراء والزجاج: المساجد
مواضع السجود من الانسان: الجبهة، واليدان، والرجلان وزاد أصحابنا عيني
الركبتين. والمعنى انه لا ينبغي أن يسجد بهذه الأعضاء لاحد سوى الله تعالى.
وقوله (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) معناه إنه لما
قام محمد صلى الله عليه وآله يدعو الله، فيقول: لا إله الا الله كادوا يكونون عليه جماعات
متكاثفات بعضها فوق بعض ليزيلوه بذلك عن دعوته باخلاص الإلهية. وقال
ابن عباس والضحاك: معناه إن الجن كادوا يركبونه حرصا على سماع القرآن منه.
وقال الحسن وقتادة: معناه تلبدت الإنس والجن على هذا الامر ليطفئوه فأبى الله الا
أن ينصره ويظهره على من ناواه، كما قال (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله
متم نوره ولو كره الكافرون) (2) وقال ابن عباس: هذا من قول الجن، لما رجعوا
إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله وائتمامهم به في الركوع

(1) سورة 21 الأنبياء آية 92
(2) سورة 61 الصف آية 8.
155

والسجود، وهو قول سعيد بن جبير: واللبد القطع المتكاثفة على الشئ واحدها لبد،
ومنه اللبد لتكاثف صفوفه بعضه على بعض. ولبد رأسه إذا ألصق بعض شعره ببعض
قال عبد مناف بن ربع:
صابوا بستة أبيات وأربعة * حتى كأن عليهم جابيا لبدا. (1)
فالجابي الجراد الذي يجبي كل شئ يأكله.
ثم حكى ان النبي صلى الله عليه وآله قال (إنما ادعوا ربي) ومن قرأ (قل) فمعناه إن الله
أمره بأن يقول: إنما أدعو ربي وحدة ولا أشرك به أحدا من الأصنام والأوثان.
والمعنيان متقاربات، لان الله تعالى إذا أمره بأن يقول فإنه يقول لا محالة فقد
حصل الأمران.
قوله تعالى:
(قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا (21) قل إني لن
يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا (22) إلا بلاغا من
الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين
فيها أبدا (23) حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف
ناصرا وأقل عددا (24) قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل
له ربي أمدا (25) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا
من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه

(1) اللسان (لبد).
156

رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم
وأحصى كل شئ عددا) (28) ثمان آيات.
قرأ (ليعلم) بضم الياء يعقوب. الباقون بفتح الياء. أمر الله تعالى نبيه
محمد صلى الله عليه وآله أن يقول للمكلفين (اني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) ومعناه إني لا
أقدر على دفع الضرر عنكم ولا إيصال الخير إليكم، وإنما يقدر على ذلك الله تعالى.
وإنما أقدر على أن أدعوكم إلى الخير وأهديكم إلى طريق الرشاد، فان قبلتم نلتم
الثواب والنفع، وان رددتموه نالكم العقاب وأليم العذاب، ثم قال أيضا (قل) لهم
يا محمد (اني لن يجيرني من الله أحد) أي لا يقدر أن يجير على الله حتى يدفع عنه ما
يريده به من العقاب (ولن أجد) أيضا انا (من دنه) أي من دون الله (ملتحدا) يعنى
ملتجأ ألجأ إليه أطلب به السلامة مما يريد الله تعالى فعله من العذاب والألم. وأضافه إلى
نفسه، والمراد به أمته، لأنه لا يفعل قبيحا فيخاف العقاب. والمعنى ليس من دون
الله ملتحد أي ملجأ.
وقوله (الابلاغ من الله ورسالاته) معناه لكن أملك البلاغ من الله الذي هو
بلاغ الحق لكل من ذهب عنه وأعرض عن اتباعه بأن أرشده إلى الأدلة التي نصبها
الله له وأمر بالدعاء إليها سائر عباده المكلفين، كما أمر أنبياءه بتبليغ رسالاته، فيكون
التقدير لا أملك إلا بلاغا من الله ورسالاته. وقيل يجوز أن يكون المراد لن يجيرني
من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته، فيكون نصب البلاغ على اضمار فعل من الجزاء،
كقولك إن لا قياما فقعودا وان لا عطاء فردا جميلا فتكون (لا) منفصلة من (إن)
وتقديره إن لا أبلغ بلاغا من الله ورسالاته
. ثم قال (ومن يعص الله ورسوله) بأن خالف ما أمراه به وارتكب ما نهياه
157

عنه (فان له نار جهنم) جزاء على ذلك (خالدين فيها ابدا) أي مقيمين فيها على وجه
التأبيد والقراء على كسر (فان) على الابتداء. وروي عن طلحة بن مصروف انه
فتح على تقدير فجزاءه أن له. وقال ابن خالويه: سألت ابن مجاهد عن ذلك،
فقال: هو لحن. وقال بعض أهل النظر: زعم أبو عبيدة: ان ما كان من قول
الجن فهو مكسور نسقا على قوله (إنا سمعنا) ومن فتح فعلى قوله (قل أوحي)
إلي، وهو اختيار ابن خالويه. وقوله (حتى إذا رأوا ما يوعدون) يعني ما يوعدون به من العقاب على
المعاصي (فسيعلمون) عند ذلك (من أضعف ناصرا) يدفع منه عقاب الله ومن
(أقل عددا) يستنصر بهم الكفار أم المؤمنون؟. وقيل معناه أجند الله أم الذين
عبده المشركون؟ وإنما قال (من أضعف ناصرا) ولا ناصر لهم في الآخرة، لأنه
جاء على جواب من توهم انه إن كانت لهم أخوة فناصرهم أقوى وعددهم أكثر.
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (قل إن أدري) أي قل لهم لست اعلم (أقريب
ما توعدون) به من العقاب (أم يجعل له ربي أمدا) أي غاية ينتهي إليها بعينها أم
يؤخره الله تعالى إلى مدة لا يعلمها بعينها إلا الله تعالى الذي هو (عالم الغيب فلا يظهر
على غيبه أحدا) ثم قال (إلا من ارتضى من رسول) فإنه ربما أطلعه على ما غاب
عن غيره من الخلائق بأن يوحي إليهم بما شاء من الغيب - ذكره قتادة - (فإنه
يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) ومعناه إن الله إذا نزل الملك بالوحي ارسل
معه رصدا يحفظون الملك من أن يأتي أحد من الجن ويسمع الوحي، ونصب (رصدا)
على المفعول، كأنه قال يجعل رصدا يسلك من بين يديه ومن خلفه (ليعلم ان قد
ابلغوا) معناه ليظهر المعلوم من التبليغ. وقال قتادة: معناه ليعلم محمد أن الرسل قبله
قد أبلغوا رسالات ربهم. وقال سعيد بن جبير: ليعلم الرسل أن قد أبلغوا رسالات
158

ربهم على إحاطة بهم وتحصين لما بلغوا من رسالاته. وقال الزجاج: ليعلم الله أن قد أبلغوا.
وقوله (وأحاط بما لديهم) معناه انه يعلم ما عندهم فيحيط بما لديهم فيصير
في معلومه بمنزلة ما أحيط به (وأحصى كل شئ عددا) معناه انه يعلم الأشياء مفصلة
بمنزلة من يحصيها ليعلمها كذلك. وقال الزجاج: نصب (عددا) يحتمل شيئين
أحدهما - وأحصى كل شئ في حال العدد، فيكون العدد بمعنى المعدود، كما
يقال: للمنقوص نقص، فلا يخفى عليه شئ من الأشياء، لا سقوط ورقة، ولا حبة
في ظلمات الأرض.
والثاني - أن يكون بمعنى المصدر، وتقديره وأحصى كل شئ احصاء. وقال
الجبائي معنى (ليعلم ان قد أبلغوا) أي ليبلغوا (رسالات ربهم) فعبر عن المعلوم
بالعلم كما يقال: ما علم الله مني ذلك أي ما فعلته، لأنه لو فعله لعلم الله ذلك (وأحصى
كل شئ عددا) معناه انه لا شئ يعلمه عالم أو يذكره ذاكر إلا وهو تعالى عالم به
ومحص له. والاحصاء فعل، وليس هو بمنزلة العلم، فلا يجوز ان يقال أحصى مالا
يتناهى كما يجوز ان يقال: علم ما لا يتناهى، لان الاحصاء مثل المحصي لا يكون إلا
فعلا متناهيا، فإذا لم يجز ان يفعل ما لا يتناهى لم يجز ان يقال يحصي ما لا يتناهى.
والفرق بينهما واضح.
159

73 - سورة المزمل:
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي عشرون آية في الكوفي والمدني
الأول وتسع عشرة في البصري وثماني عشرة في المدني الأخير
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو
انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنا
سنلقي عليك قولا ثقيلا (5) إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم
قيلا (6) إن لك في النهار سبحا طويلا (7) واذكر اسم ربك
وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو
فاتخذه وكيلا (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا
جميلا) (10) عشر آيات.
قرأ ابن عامر وأبو عمرو (وطاء) بكسر الواو والمد جعله مصدرا ل‍ (واطأ)
يواطئ مواطأة، ووطاء. ومعناه إن ناشئة الليل وعمل ناشئة الليل يواطئ لسمع
القلب أكثر مما يواطئ ساعات النهار، لان البال أفرغ للانقطاع عن كثير مما يشغل
160

بالنهار. الباقون - بفتح الواو - مقصورة، وروي عن الزهري - بكسر الواو -
مقصورة، ومنه قوله صلى الله عليه وآله: اللهم اشدد وطاءك على مضر، وقرأ (رب المشرق) بالجر
كوفي غير حفص ويعقوب بدلا من (ربك). الباقون بالرفع على الاستئناف،
فيكون رفعا بالابتداء وخبره (لا إله إلا هو) ويجوز أن يكون خبر الابتداء بتقدير
هو رب المشرق.
هذا خطاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وقيل: إن المؤمنين داخلون فيه
على وجه لتبع. يقول الله له (يا أيها المزمل) ومعناه الملتف في ثيابه، يقال تزمل
في ثيابه، فهو متزمل إذا التف. والأصل (متزمل) فأدغم التاء في الزاي لان
الزاي قريبة المخرج من التاء، وهو ابدى في المسموع من التاء. وقال قتادة: معناه
المتزمل بثيابه، وقال عكرمة: المتزمل بعباء النبوة، وكل شئ لفف، فقد تزمل،
قال امرء القيس:
كأن ابانا في أفانين ودقه * كبير أناس في بجاد مزمل (1)
يعني كبير أناس مزمل في يجاد وهو الكساء، وجره على المجاورة للبجاد.
وقوله (قم الليل إلا قليلا) أمر من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله بقيام الليل إلا
القليل منه، وقال الحسن: إن الله فرض على النبي والمؤمنين أن يقوموا ثلث الليل
فما زاد، فقاموه حتى تورمت أقدامهم، ثم نسخ تخفيفا عنهم. وقال غيره: هو نفل
لم ينسخ، لأنه لو كان فرضا لما كان مخيرا في مقداره - ذكره الجبائي - وإنما بين
تخفيف النفل. وقال قوم: المرغب فيه قيام ثلث الليل أو نصف الليل أو الليل كله
إلا القليل. ولم يرغب بالآية في قيام جميعه لأنه تعالى قال (إلا قليلا نصفه

(1) ديوانه (السندوبي) 158.
161

أو انقص منه قليلا أو زد عليه) يعني على النصف. وقال الزجاج (نصفه) بدل من
(الليل) كقولك ضربت زيدا رأسه. والمعنى: قم نصف الليل إلا قليلا أو انقص
منه قليلا. والمعنى قم نصف الليل أو انقص من نصف الليل أو زد على نصف
الليل، وذلك قبل ان يتعبد بالخمس صلوات. وقال ابن عباس والحسن وقتادة:
كان بين أول السورة وآخرها - الذي نزل فيه التخفيف - سنة. وقال سعيد بن جبير:
عشر سنين. وقال الحسن وعكرمة: نسخت الثانية بالأولى. والأولى أن يكون على
ظاهره، ويكون جميع ذلك على ظاهرة مرغبا في جميع ذلك إلا أنه ليس بفرض
وإن كانت سنة مؤكدة. والنصف أحد قسمي الشئ المساوي للاخر في المقدار.
والقليل من الشئ الناقص عن قسمه الاخر، وكلما كان أنفص كان أحق باطلاق
الصفة، وما لا يعتد به من النقصان لا يطلق عليه.
(ورتل القرآن ترتيلا) أمر من الله تعالى له بأن يرتل القرآن والترتيل
ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها، وتثبت فيها، والحدر هو الاسراع فيها
وكلاهما حسنان إلا أن الترتيل - ههنا - هو المرغب فيه. وقال مجاهد: معناه ترسل
فيه ترسلا. وقال الزجاج: معناه بينه تبيينا أي بين جميع الحروف، وذلك لا يتم
بأن يعجل في القراءة.
وقوله (انا سنلقي عليك قولا ثقيلا) اخبار من الله تعالى لنبيه أنه سيطرح
عليه قولا ثقيلا. وقال الحسن وقتادة: إنه يثقل العمل به لمشقة فيه. وقال ابن
زيد: معناه العمل به ثقيل في الميزان والاجر، ليس بشاق. وقيل: معناه قول عظيم
الشأن، كما تقول هذا الكلام رزين، وهذا قول له وزن إذا كان واقعا موقعه.
وقوله (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ) قال مجاهد: ناشئة الليل التهجد في
الليل. وقال الحسن وقتادة: هو ما كان بعد العشاء الآخرة، وعن أبي جعفر
162

وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا: هو القيام آخر الليل إلى صلاة الليل. وقال قوم:
ناشئة الليل ابتداء عمل الليل شيئا بعد شئ إلى آخره. والناشئة الظاهرة بحدوث
شئ بعد شئ، واضافته إلى الليل توجب انه من عمل الليل الذي يصلح أن
ينشأ فيه.
وقوله (هي أشد وطأ) من قرأ - بالفتح - مقصورا، قال معناه: لقوة
الفكر فيه أمكن موقعا. وقيل: هو أشد من عمل النهار، وقال مجاهد: معناه واطأ
اللسان القلب مواطأة ووطاء والوطاء المهاد المذلل للتقلب عليه، فكذلك عمل الليل
الذي هو أصلح له فيه تمهيد للتصرف في الدلائل وضروب الحكم ووجوه المعاني.
وقوله (وأقوم قيلا) أي أشد استقامة وصوابا لفراغ البال، وانقطاع
ما يشغل القلب. والمعنى إن عمل الليل أشد ثباتا من عمل النهار، وأثبت في القلب
من عمل النهار، والأقوم الأخلص استقامة، لأنه القول يشمل المعنى على ما فيه استقامة.
وفيه اضطراب. وقد يقل ذلك ويكثر، وهو في القول ظاهر كما هو في الخط،
ففيه الحرف المقوم وفيه الحرف المضطرب. وقال ابن زيد: معناه أقوم قراءة لفراغه
من شغل الدنيا، وقال أنس: معناه أصوب. وقال مجاهد: معناه أثبت.
وقوله (إن لك في النهار سبحا طويلا) قال قتادة: معناه إن لك يا محمد في
النهار متصرفا ومنقلبا أي ما تقضي فيه حوائجك. وقرأ يحيى ابن معمر بالخاء،
وكذلك الضحاك، ومعناه التوسعة. يقال اسبخت القطن إذا وسعته للندف: ويقال
لما تطاير من القطن وتفرق عند الندف سبائخ، والسبح المر السهل في الشئ، كالمر
في الماء، والسبح في عمل النهار هو المر في العمل الذي يحتاج فيه إلى الضياء. وأما
عمل اللياء فلا يحتاج فيه إلى ضياء لتمكن ذلك العمل كالفكر في وجوه البرهان وتلاوة
القرآن. وقال الجبائي في نوادره (لك في النهار سبحا) أي نوما، وقال الزجاج:
163

معناه إن فاتك شئ بالليل فلك في النهار فراغ تقضيه.
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (واذكر اسم ربك) يعني أسماء الله الحسنى التي تعبد
بالدعاء بها (وتبتل إليه تبتيلا) أي انقطع إليه انقطاعا، فالتبتل الانقطاع إلى عبادة
الله، ومنه مريم البتول وفاطمة البتول، لانقطاع مريم إلى عبادة الله، وانقطاع فاطمة
عن القرين، ومنه قول الشاعر:
كأن لها في الأرض نسيا تقصه * إذا ما غدت وإن تكلمك تبلت (1)
أي بقطع كلامها رويدا رويدا، وقيل: الانقطاع إلى الله تأميل الخير من
جهته دون غيره، وجاء المصدر على غير الفعل، كما قال (أنبتكم من الأرض
نباتا) (2) وقيل: تقديره تبتل نفسك إليه تبتيلا، فوقع المصدر موقع مقاربه. وقوله
(رب المشرق والمغرب) من رفع فعلى انه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: هو
رب المشرق، ومن جر جعله بدلا من قوله (ربك) وتقديره إذكر اسم رب المشرق
وهو مطلع الشمس موضع طلوعها ورب المغرب، يعني موضع غروبها، وهو
المتصرف فيها والمدبر لما بينهما (لا إله إلا هو) أي لا أحد تحق له العبادة سواه
(فاتخذه وكيلا) أي حفيظا للقيام بأمرك فالوكيل الحفيظ بأمر غيره. وقيل:
معناه اتخذه كافلا لما وعدك به.
ثم قال (واصبر) يا محمد (على ما يقول) هؤلاء الكفار من أذاك وما يشغل
قلبك (واهجرهم هجرا جميلا) فالهجر الجميل اظهار الجفوة من غير ترك الدعاء إلى الحق
على وجه المناصحة.

(1) مر في 7 / 117
(2) سورة 71 نوح آية 17.
164

قوله تعالى:
(وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا (11) إن
لدينا أنكالا وجحيما (12) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما (13) يوم
ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا (14) إنا
أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون
رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا (16)
فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء
منفطر به كان وعده مفعولا (18) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ
إلى ربه سبيلا) (19) تسع آيات.
لما امر الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله بالصبر على اذى قومه، وأن يهجرهم هجرا جميلا
قال على وجه التهديد للكفار (وذرني) يا محمد (والمكذبين) الذين يكذبونك فيما
تدعوهم إليه من التوحيد وإخلاص العبادة والاعتراف بالبعث والنشور، والثواب
والجزاء، كما يقول القائل: دعني وإياه إذا أراد أن يهدده، يقال: يذر بمعنى
يترك، ويدع، ولا يستعمل ماضيه، ولا ماضي (يدع) ولا يقال: وذر، ولا
ودع، استغناء بقولهم ترك عن ذلك، لان الابتداء بالواو عندهم مكروه، ولذلك
أبدلوا منها الهمزة في قولهم (أقتت) والأصل (وقتت)، وقالوا (تخمة) والأصل
(وخمة) وكذلك كل ما يصرف منه مما في أوله واو إلا قولهم: وادع من الدعة
فلم يستغنوا عنه بتارك.
165

وقوله (اولي النعمة) معناه ذوي النعمة أي أصحاب النعمة، والنعمة - بفتح
النون - لين الملمس وضدها الخشونة، ومعناه (وذرني والمكذبين) أي ارض بعقاب
المكذبين لست تحتاج إلى أكثر من ذلك كما يقال: دعني وإياه، فإنه يكفيه ما ينزل
به من غير تقصير مما يقع به، وهذا تهدد شديد.
وقوله (ومهلهم قليلا) أي اخرهم في المدة قليلا فالتمهيل التأخير في المدة،
وقد يكون التأخير في المكان، فلا يسمى تمهيلا، فإذا كان في المدة فهو تمهيل كما أن
التأخير في الأجل تأجيل آخر.
وقوله (إن لدينا انكالا) أي قيودا - في قول مجاهد وقتادة - واحدها
نكل (وجحيما) أي نارا عظيمة، وجحيم اسم من أسماء جهنم (وطعاما ذا غصة)
قال ابن عباس: معناه ذا غصة بشوك يأخذ الحلق، فلا يدخل ولا يخرج. وقيل:
معناه يأخذ بالحلقوم لخشونته وشدة تكرهه (وعذابا أليما) أي عقابا موجعا مؤلما.
ثم بين متى يكون ذلك فقال (يوم ترجف الأرض) أي اعتدنا هذه الأنواع من
العذاب في يوم ترجف الأرض أي تتحرك باضطراب شديد (والجبال) أي وترجف
الجبال معها أيضا (وكانت الجبال كثيبا مهيلا) قال ابن عباس: تصير الجبال رملا
سائلا متناثرا، فالكثيب الرمل المجتمع الكثير، ومهيل مفعول من هلت الرمل اهيله
وذلك إذا حرك أسفله فسال أعلاه، ويقال: مهيول كما يقال مكيل ومكيول،
وانهال الرمل انهيالا و (الغصة) تردد اللقمة في الفم لا يسيغها الذي يروم أكلها
قال الشاعر:
لو بغير الماء حلقي شرق * كنت كالغصان بالماء اعتصاري (1)

(1) مر في 1 / 130، 421 و 6 / 151.
166

يقال غص بريقه يغص غصصا، وفي قلبه غصة من كذا، وهي كاللدغة التي
لا يسيغ معها الطعام ولا الشراب.
وقوله (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم) اخبار من الله تعالى وخطاب
للمكلفين في عصر النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده بأنه أرسل إليهم رسولا يدعوهم إلى عبادته
وإخلاص توحيده (شاهدا عليكم) بقبولهم إن قبلوا وعليهم إن لم يقبلوا (كما
أرسلنا) أي أرسلناه إليكم مثل ما أرسلنا (إلى فرعون رسولا) يعني موسى ابن
عمران عليه السلام. ثم اخبر عن فرعون فقال (فعصى فرعون الرسول) يعني موسى،
فلم يقبل منه ما أمره به ودعاه إليه (فأخذناه أخذا وبيلا) أي اخذا ثقيلا شديدا
عقوبة له على عصيانه موسى رسول الله، وكل ثقيل وبيل، ومنه: كلا مستوبل
أي متوخم لا يستمرء لثقله، ومنه الوبل، والوابل، وهو المطر العظيم القطر،
ومنه الوبال وهو ما يغلظ على النفس وأصله الغلظ قال طرفة:
فمرت كهاة ذات خيف جلالة * عقيلة شيخ كالوبيل يلندد (1)
الوبيل - ههنا - الغليظ من العصى و (كهاة) ناقة مسنة و (الخيف) جلد
الضرع و (يلندد) شديد الخصومة.
قوله (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا) أي إن كفرتم بالله
وجحدتم نعمه، وكذبتم رسوله، وإنما جعل الولدان، وهم الأولاد الصغار شيبا
لشدته، وعظم أهواله، كما يقال: قد حدث أمر تشيب منه النواصي. وقيل:
(يوما يجعل الولدان شيبا) على وجه المثل، والشيب جمع أشيب، يقال: شاب
الانسان يشيب شيبا إذا ابيض شعره. ثم زاد في صفة شدة ذلك اليوم أيضا فقال
(السماء منفطر به) أي متصدع بشدة ذلك اليوم، وإنما لم يقل منفطرة، لأنه جرى

(1) ديوانه 38 وتفسير القرطبي 18 / 48.
167

على طريق النسبة أي ذات انفطار، ولم يجر على طريق (فاعلة) كما قالوا للمرأة:
مطفل أي ذات طفل. وقال الزجاج: تقديره السماء منفطر باليوم مثقلة به. وقال
الحسن: معناه السماء مثقل به. وقال غيره: السماء مثقلة بذلك اليوم من شدته.
وقال قوم: معناه متشقق بالامر الذي يجعل الولدان شيبا. والسماء يؤنث ويذكر،
فمن ذكر أراد السقف.
وقوله (كان وعده مفعولا) معناه إن ما وعد الله به فلا بد من كونه،
فلذلك عبر عنه بلفظ الماضي فكأنه قد وجد. ثم قال (إن هذه تذكرة) أي هذه
القصة التي ذكرناها وبيناها (تذكرة) أي عظة لمن انصف من نفسه وفكر فيها،
فالتذكرة التبصرة، وهي الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه.
وقوله (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) معناه إن من شاء من المكلفين اتخذ
إلى ثواب ربه سبيلا، لأنه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب. والله
تعالى قد دعاه إلى ما يوصله إليه ورغبه فيه، وبعث رسولا يدعوه أيضا إليه. وإن لم
يفعل فسبوء اختياره انصرف عنه.
قوله تعالى:
(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه
وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن
لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر من القرآن علم أن
سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من
فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه
168

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما
تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا
واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) (20) آية واحدة. قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر (ونصفه وثلثه) بكسر الفاء والثاء بمعنى
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه ومن ثلثه أي وادني من
نصفه وأدنى من ثلثه. الباقون بالنصب بمعنى أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم
نصف وثلثه. والثلث يخفف ويثقل، لغتان، ومثله ربع وعشر. وقال أبو عبيدة:
الاختيار الخفض في (ثلثه ونصفه) لأنه قال (علم أن لن تحصوه) وكيف يقدرون
على أن يقوموا نصفه أو ثلثه، وهم لا يحصونه، وقال غيره: ليس المعنى على ما قال.
وإنما المعنى علم أن لن يطيقوه، يعني قيام الليل، فخفف الله ذلك، قال والاختيار
النصب، لأنها أوضح في النظر، لأنه قال لنبيه صلى الله عليه وآله (قم الليل إلا قليلا) ثم نقله
عن الليل، كله إلا شيئا يسيرا ينام فيه، وهو الثلث. والثلث يسير عند الثلثين.
ثم قال (نصفه) أي قم نصفه (أو انقص منه قليلا) أي قم نصفه، واكتفى بالفعل
الأول من الثاني، لأنه دليل عليه أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث (أو زد)
هكذا إلى الثلثين جعله موسعا عليه. وفى الناس من قال: هذه الآية ناسخة لما ذكره
في أول السورة من الامر الحتم بقيام الليل إلا قليلا أو نصفه أو انقص منه. وقال
آخرون: إنما نسخ ما كان فرضا إلى أن صار نفلا.
وقد قلنا: ان الامر في أول السورة على وجه الندب، فكذلك - ههنا - فلا
وجه للتنافي حتى ينسخ بعضها ببعض يقول الله تعالى لنبيه ان ربك يا محمد ليعلم انك
169

تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه ومن ثلثه فيمن جر ذلك، ومن نصب
فمعناه إنك تقوم أقل من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه وتقوم طائفة من الذين معك
على الايمان (والله يقدر الليل والنهار) لتعملوا فيه بالصواب على ما يأمركم به (علم
أن لن تحصوه) قال الحسن: معناه علم أن لن تطيقوه (فتاب عليكم) أي لم
يلزمكم إثما كما لا يلزم التائب أي رفع التبعة فيه كرفع التبعة عن التائب. وقوله
(فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى) فتاب عليكم بما رغبتم فيه
وذلك يقتضي التخفيف عنكم (وآخرون يضربون في الأرض) أي ومنكم قوم آخرون
يضربون أي يسافرون في الأرض ومنكم قوم (آخرون يقاتلون في سبيل الله) وكل ذلك
يقتضي التخفيف عنكم (فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ومعناه
أقيموا الصلاة بحدودها التي أوجبها الله عليكم واستمروا عليها وأعطوا ما وجب عليكم
من الزكاة المفروضة (وأقرضوا الله قرضا حسنا) أي وانفقوا في سبيل الله والجهات
التي أمركم بها وندبكم إلى النفقة فيها، وسمي ذلك (قرضا) تلطفا في القول، لان
الله تعالى من حيث أنه يجازيهم على ذلك بالثواب، فكأنه استقرض منهم ليرد عوضه
وإنما قال (حسنا) أي على وجه لا يكون فيه وجه من وجوه القبح.
ثم قال (وما تقدموا لأنفسكم من خير) أي ما فعلتم من الطاعات (تجدوه)
أي تجدوا ثوابه وجزاءه (عند الله) وقوله (هو خيرا وأعظم أجرا) أي
تجدوه خيرا لكم، وهو أفضل وأعظم ثوابا، وهو عطف على (خير). ثم قال
(واستغفروا الله) على معاصيكم معاشر المكلفين (إن الله غفور) أي ستار لذنوبكم
صفوح لاجرامكم إذا تبتم واقلعتم ورجعتم إليه (رحيم) بكم منعم عليكم. وقال
ابن زيد: القرض في الآية النوافل سوى الزكاة.
170

74 - سورة المدثر:
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك هي مدنية وهي خمسون وست آيات
في الكوفي والبصري والمدني الأول، وخمس في المدني الأخير. وقال أبو سلمة
ابن عبد الرحمن أول ما نزل من القرآن (يا أيها المدثر) وحكى ذات أبو سلمة
عن جابر بن عبد الله. قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله (جاوزت بحراء فنوديت
فنظرت عن يميني فلم أر شيئا فنظرت عن شمالي فلم أر شيئا فنظرت أمامي فلم أر
شيئا فنظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فلم أر شيئا، فاتيت خديجة
فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا قال فدثروني فصبوا علي ماء باردا فنزلت
(يا أيها المدثر) وقال الزهري: أول ما نزل قوله (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3)
وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5) ولا تمنن تستكثر (6)
ولربك فاصبر (7) فإذا نقر في الناقور (8) فذلك يومئذ يوم
عسير (9) على الكافرين غير يسير) (10) عشر آيات.
171

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله يقول له (يا أيها المدثر) واصله
المتدثر بثيابه، فأدغمت التاء في الدال، لأنها من مخرجها مع أن الدال أقوى بالجهر
فيها، يقال: تدثر تدثرا ودثره تدثيرا، ودثر الرسم يدثر دثورا إذا محي أثره، فكأنه
قال: يا أيها الطالب صرف الأذى بالدثار اطلبه بالانذار.
وقوله (قم فأنذر) أمر من الله تعالى له أن يقوم وينذر قومه، والانذار
الاعلام بموضع المخافة ليتقى، فلما كان لا مخافة أشد من الخوف من عقاب الله كان
الانذار منه اجل الانذار، وتقديره قم إلى الكفار فأنذر من النار.
وقوله (وربك) منصوب ب‍ (كبر) والتكبير وصف الأكبر على اعتقاد
معناه كتكبير المكبر في الصلاة بقوله الله أكبر، والتكبير نقيض التصغير، ومثله
التعظيم. والكبير الشأن هو المختص باتساع المقدور والمعلوم من غير مانع من الجود
فالله تعالى قادر لا يعجزه شئ، وعالم لا يخفى عليه شئ لا يمنعه من الجود على عباده
شئ، فهو أكبر من كل كبير بما لا يساويه شئ، واختصاصه بالمقدور والمعلوم بأنه
ما صح من مقدور أو معلوم فهو قادر عليه عالم به فهو لنفسه كبير وأكبر من كل
كبير سواه.
وقوله (وثيابك فطهر) أي وطهر ثيابك فهو منصوب به. والطهارة النظافة
بانتفاء النجاسة، لان النظافة قد تكون بانتفاء الوسخ من غير نجاسة، وقد تكون
بانتفاء النجاسة. فالطهارة في الآية هو القسم الأخير. وقال ابن عباس (وثيابك
فطهر) معناه من لبسها على معصيته، كما قال سلامة بن غيلان الثقفي - انشده
ابن عباس:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست ولا من غدة أتقنع (1)

(1) مر في 6 / 489.
172

وقال الزجاج: معناه لم أكن غادرا، قال يقال: للغادر دنس الثياب أي
لم أعص قط وقيل: معناه شمر ثيابك - وفي رواية عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة -
ان معناه وثيابك فطهر من الذنوب. وقال ابن سيرين وابن زيد: اغسلها بالماء.
وقيل معناه شمر ثيابك، وقيل: معناه وثيابك فطهر للصلاة فيها.
وقوله (والرجز) منصوب بقوله (فاهجر) وقال الحسن: كل معصية رجز
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري: معناه فاهجر الأصنام. وقال إبراهيم
والضحاك: الرجز الاثم. وقال الكسائي: الرجز - بكسر الراء - العذاب، وبفتحها
الصنم والوثن. وقالوا: المعنى اهجر ما يؤدي إلى العذاب، ولم يفرق أحد بينهما.
وبالضم قرأ حفص ويعقوب وسهل. الباقون بالكسر إما لأنهما لغتان مثل الذكر
والذكر أو بما قاله الكسائي. وقال قوم: الرجز بالضم الصنم. وقال: كان الرجز
صنمين: أساف ونائلة، نهى الله تعالى عن تعظيمهما.
وقوله (ولا تمنن تستكثر) قال ابن عباس وإبراهيم والضحاك وقتادة
ومجاهد: معناه لا تعط عطية لتعطى أكثر منها، وقال الحسن والربيع وانس: معناه
لا تمنن حسناتك على الله مستكثرا لها، فينفصل ذلك عبد الله. وقال ابن زيد:
معناه لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة والقرآن مستكثرا به الاجر من الناس.
وقال ابن مجاهد: معناه لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعتك، وقال قوم: معناه
لا تمنن على الناس بما تنعم به عليهم على سبيل الاستكثار لذلك. وقال جماعة من النحويين:
إن (تستكثر) في موضع الحال ولذلك رفع. وأجاز الفراء الجزم على أن يكون جوابا
للنهي، والرفع هو الوجه. والمن ذكر النعمة بما يكدرها، ويقطع حق الشكر بها،
يقال: من بعطائه يمن منا إذا فعل ذلك، فأما من على الأسير إذا أطلقه، فهو قطع
أسباب الاعتقال عنه. ويقال: لمن أنعم على وجه المن، لأنه بهذه المنزلة، وأصله
173

القطع من قوله (فلهم أجر غير ممنون) (1) أي غير مقطوع. والاستكثار طلب
الكثرة يقال: استكثر فلان من المال والعلم، والمراد - ههنا - هو طلب ذكر
الاستكثار للعطية.
وقوله (ولربك فاصبر) قال إبراهيم: من أجل ربك فاصبروا على عطيتك.
وقال مجاهد: لأجل الله فاصبر على أذى المشركين. وقيل: معناه (ولربك فاصبر)
على ما أمرك به من أداء الرسالة وتعليم الدين، وما ينالك من الأذى والتكذيب،
فاحتمله لتنال الفوز من الله بالنعيم والصبر الذي هو طاعة الله هو الصبر على الضرر
الذي يدعو إليه العقل، لان ما يدعو إليه العقل فخالق العقل يريده، لأنه بمنزلة دعاء
المر إلى الفعل، والسبب الذي يتقوى به على الصبر هو التمسك بداعي العقل دون
داعي الطبع، لان العقل يدعو بالترغيب فيما ينبغي أن يرغب فيه. والطبع داعي الهوى
يدعو إلى خلاف ما في العقل.
وقوله (فإذا نقر في الناقور) معناه إذا نفخ في الصور، وهو كهيأة البوق
- في قول مجاهد - وقيل: ان ذلك في أول النفختين، وهو أول الشدة الهائلة
العامة، والناقور على وزن (فاعول) من النقر، كقولك: هاضوم من الهضم
وحاطوم من الحطم، وهو الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به.
وقوله (فذلك يومئذ) يعني اليوم الذي ينفر فيه في الناقور (يوم عسير)
أي يوم شديد عسر (على الكافرين) لنعم الله الجاحدين لآياته (غير يسير)
فاليسير القليل الكلفة، ومنه اليسار وهو كثرة المال لقلة الكلفة به في الانفاق، ومنه
تيسر الامر لسهولته وقلة الكلفة فيه. وقال الزجاج: قوله (يوم عسير) مرتفع بقوله
(فذلك) والمعنى فذلك يوم عسير يوم النفخ في الصور، ويومئذ يجوز أن يكون

(1) سورة 95 التين آية 6.
174

نصبا على معنى فذلك يوم عسير في يوم ينفخ في الصور، ويجوز الرفع، وإنما بني على
الفتح لاضافته إلى (إذ) لان (إذ) غير متمكنة.
قوله تعالى:
(ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12)
وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15)
كلا إنه كان لا يأتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17) إنه
فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20)
ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال
إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر) (25) خمس
عشرة آية.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله على وجه التهديد للكافر الذي وصفه (ذرني ومن
خلقت وحيدا) ومعناه دعني وإياه فاني كاف في عقابه كما تقول العرب: دعني وإياه
لا أن الله تعالى يجوز عليه المنع حتى يقول: ذرني وإياه. ولكن المعنى ما قلناه.
وقوله (وحيدا) قال الزجاج: يحتمل أن يكون من صفة الخالق، ويحتمل أن
يكون من صفة المخلوق، فإذا حملناه على صفة الخالق كان معناه دعني ومن خلقته
متوحدا بخلقه لا شريك لي في خلقه وجعلته على الأوصاف التي ذكرتها، وإذا حمل
على صفه المخلوق، كان معناه ومن خلقته في بطن أمه وحده لا شئ له ثم جعلت
له كذا وكذا - ذكره مجاهد وقتادة - وقوله (وجعلت له مالا ممدودا) أي مالا
كثيرا له مدد يأتي شيئا بعد شئ، فوصفه بأنه ممدود يقتضي هذا المعنى. وقال مجاهد
175

وسعيد بن جبير: نزلت الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي. وقالا: كان ماله ألف دينار
. وقال سفيان: كان ماله أربعة آلاف دينار. وقال النعمان بن سالم: كان
أبرص. وقال عطاء عن عمر: كان غلة شهر شهر. وقال مجاهد: كان بنوه
عشرة (وبنين شهودا) أي وأولادا ذكورا معه يستمتع بمشاهدتهم، وينتفع
بحضورهم. وقيل كان بنوه لا يغيبون عنه لغنائهم عن ركوب السفر في التجارة بخلاف
من هو غائب عنهم.
وقوله (ومهدت له تمهيدا) أي سهلت له التصرف في الأمور تسهيلا وقد
يكون التسهيل من المصيبة ليخف الحزن بها، وقد يكون لما يتصرف فيه من المبالغة.
وقوله (ثم يطمع أن أزيد) أي لم يشكرني على هذه النعم، وهو مع ذلك يطمع
ان أزيد في إنعامه. والتمهيد والتوطئة والتذليل والتسهيل نظائر.
ثم قال تعالى على وجه الردع والزجر (كلا) كأنه قال: ارتدع عن هذا
وانزجر كما أن (صه) بمنزلة اسكت (ومه) بمنزلة اكفف. إنما هي أصولت سمي
الفعل بها، فكأنه قال: انزجر، فليس الامر على ما تتوهم.
ثم بين لم كان كذلك فقال (إنه كان لا يأتنا) أي إنما لم أفعل به ذلك،
لأنه لحجتنا وأدلتنا (عنيدا) أي معاندا، فالعنيد الذاهب عن الشئ على طريق
العداوة له، يقال عند العرق يعند عنودا، فهو عاند إذا نفر، وهو من هذا،
والمعاندة منافرة المضادة، وكذلك العناد، وهذا الكافر يذهب عن آيات الله ذهاب
نافر عنها. وقيل معنى (عنيد) عنود أي جحود بتكذيب المعاندة - في قول ابن
عباس وقتادة - وقيل: معناه معاند، وبعير عنود أي نافر قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا * إني كبير لا أطيق العندا (1)

(1) مر في 6 / 14، 283.
176

أي نفرا، وقوله (سأرهقه صعودا) فالارهاق الاعجال بالعنف والصعود
العقبة التي يصعب صعودها، وهي الكؤد والكدود في ارتقائها ونقيض الصعود
الهبوط، وقيل: صعود جبل من نار في جهنم يؤخذون بارتقائه، فإذا وضع يديه
ذابت، فإذا رفعها عادت وكذلك رجلاه، في خبر مرفوع. وقيل: صعود جبل
في جهنم من نار يضرب بالمقامع حتى يصعد عليه، ثم يضرب حتى ينزل ذلك
دأبه ابدا.
ثم قال (إنه فكر) أي فكر فكرا يحتال به للباطل، لأنه لو فكر على وجه
طلب الرشاد لم يكن مذموما بل كان ممدوحا، ولذلك مدح الله قوما فقال (إن في
ذلك لايات لقوم يتفكرون) (1) أي على وجه طلب الحق. وقوله (وقدر) أي
قدر فقال: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب باعتبار ما أتى به، وإن قلنا كاهن لم
يصدقونا، لان كلامه لا يشبه كلام الكهان، فنقول ساحر يأثر ما أتى به عن غيره
من السحرة. فقال الله تعالى (فقتل) أي لعن (كيف قدر) هذا. ثم كرر تعالى
فقال (ثم قتل كيف قدر) أي عوقب بعقاب آخر كيف قدر من ابطال الحق
تقديرا آخر. وقيل: لعن بما يجري مجرى القتل، ومثله (قتل الخراصون) (2)
وقال الحسن: هو شتم من الله لهذا الكافر.
وقوله (ثم نظر) نظر من ينكر الحق وبدفعه، ولو نظر طلبا للحق كان
ممدوحا وكان نظره صحيحا. وقوله (ثم عبس) أي قبض وجهه تكرها للحق،
يقال: عبس يعبس عبوسا، فهو عابس وعباس فالعبوس والتكليح والتقطيب نظائر

(1) سورة 13 الرعد آية 3 وسورة 30 الروم آية 21 وسورة 39 الزمر آية 42
وسورة 45 الجائية آية 12
(2) سورة 51 الذاريات آية 10.
177

في اللغة، وضده الطلاقة والبشاشة. وقوله (وبسر) فالبسور بدو التكره الذي
يظهر في الوجه وأصله من قولهم: بسر بالامر إذا عجل به قبل حينه، ومنه البسر
لتعجيل حاله قبل الارطاب قال توبة:
وقد رابني منها صدود رأيته * وإعراضها عن حاجتي وبسورها (1)
فكأنه قيل: قبض وجهه وبدي التكره فيه. وقوله (ثم أدبر) فالادبار الاخذ
في جهة الدبر خلاف جهة الاقبال، فذلك ادبار وهذا إقبال، يقال: دبر يدبر
دبورا وأدبر إدبارا، وتدبر نظر في عاقبة الامر، ودبره أي عمله على إحكام العاقبة
وكل مأخوذ من جهة الخلف مدبر.
وقوله (واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر) أي طلب كبرا ليس له،
ولو طلب كبرا هو له لم يكن مذموما، وفي صفات الله تعالى (الجبار المتكبر) (2)
لان له الكبرياء، وهو كبير الشأن في أعلى المراتب لاختصاصه باتساع مقدوراته
والمعلوم في أعلى المراتب. وقيل: ان الوليد قال في القرآن: والله ليعلو وما يعلا
وما هو بشعر ولا كهانة، ولكنه سحر يؤثر من قول البشر، والسحر حيلة
يخفى سببها فيوهم الشئ على خلاف ما هو به وذلك منفي عن كل ما يشاهد ويعلم انه
قد خرج عن العادة مما لا يمكن عليه معارضة، ولو كان القرآن من قول البشر لا مكنهم
أن يأتوا بمثله، كما لو كان قلب العصا حية من فعل ساحر لا مكن السحرة أن يأتوا
بمثله. ثم قال يعني الوليد (إن هذا إلا قول البشر) أي ليس هذا إلا قول البشر
وليس من كلام الله عنادا منه وبهتانا.

(1) مجاز القرآن 2 / 275 والقرطبي 19 / 74
(2) سورة 59 الحشر آية 23.
178

قوله تعالى:
(سأصليه سقر (26) وما أدريك ما سقر (27) لا تبقي
ولا تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة عشر (30) وما جعلنا
أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا
ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب
الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض
والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي
من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر (31)
كلا والقمر (32) والليل إذ أدبر (33) والصبح إذا أسفر (35) إنها
لا حدى الكبر) (35) عشر آيات.
قرأ نافع وحمزة وحفص عن عاصم (إذ أدبر) باسكان الذال وقطع الهمزة
من (أدبر) الباقون بفتح الذال والألف معها (دبر) بغير الف. وقرأ ابن
مسعود بزيادة الف، ومن قال (دبر، وأدبر) فهما لغتان. قيل: هو مثل قبل واقبل
والاختيار عندهم (أدبر) لقوله (إذا أسفر) ولم يقل إذا سفر، لان ابن عباس،
قال لعكرمة: حين دبر الليل، لان العرب تقول: دبر فهو دابر، وحجة نافع
وحمزة قول النبي صلى الله عليه وآله (إذا اقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر
الصيام) ثم قال أبو عبيدة: أدبر ولى، ودبرني جاء خلفي.
لما حكى الله تعالى صفات الكافر الذي ذكره، وهو الوليد بن المغيرة، وانه
179

فكر وقدر إلى أن قال: هذا القرآن سحر مأثور، وهو قول البشر، قال الله تعالى
مهددا له ومتوعدا (سأصليه سقر) أي ألزمه جهنم، والاصلاء إلزام موضع النار
أصلاه يصليه إصلاه واصطلى فهو يصطلي اصطلاء، وصلاه يصليه، واصله اللزوم.
وسقر اسم من أسماء جهنم، ولم يصرف للتعريف والتأنيث وأصله من سقرته الشمس
تستقره سقرا إذا آلمت دماغه. وقد سميت النار سقر لشدة إيلامها، ومنه الصقر
بالسين والصاد، لان شدته في نفسه كشدة الألم في أذى صيده.
وقوله (وما أدراك ما سقر) إعظاما للنار وتهويلا لها أي ولم يعلمك الله
سقر على كنهها وصفتها، ثم وصف بعض صفاتها فقال (لا تبقي ولا تذر) وقال
مجاهد: معناه لا تبقي من فيها حيا، ولا تذره ميتا. وقال غيره: لا تبقي أحدا من
أهلها إلا تناولته، ولا تذره من العذاب. والابقاء ترك شئ مما اخذ، يقال أبقى
شيئا يبقيه ابقاء، وأبقاه الله أي أطال مدته. والباقي هو المستمر الوجود.
وقوله (لواحة للبشر) أي مغيرة لجلد الانسان الذي هو البشرة - في قول
مجاهد - وقال المؤرج: لواحة بمعنى حراقة، وبه قال الفراء. وقال غيرهما: معناه
تلوح لجميع الخلق حتى يروها، كما قال (وبرزت الجحيم لمن يرى) (1) لأنه لا يجوز
أن يصفها بأنها تسود البشرة مع قوله (إنها لا تبقي ولا تذر) والتلويح تغير اللون إلى
الأحمر والتلويح بالنار تغير بشرة أهلها إلى الاحمرار، يقال: لوحته الشمس تلوحه تلويحا
فهي لواحة على المبالغة في كثرة التلويح، والبشر جمع بشرة، وهي ظاهر الجلدة،
ومنه سمي الانسان بشرا، لأنه ظاهر الجلدة، بتعريه من الوبر والريش والشعر الذي
يكون في غيره من الحيوان في غالب أمره.
وقوله (عليها تسعة عشر) أي على سقر تسعة عشر من الملائكة. وإنما
خص بهذه العدة لتوافق صحة الخبر لما جاء به الأنبياء قبله صلى الله عليه وآله، ويكون في

(1) سورة 79 النازعات آية 36.
180

ذلك مصلحة للمكلفين. وقد بين ذلك بقوله (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة
وما جعلنا عدتهم) أي لم نجعل من يتولى تدبير النار إلا من الملائكة ولم نجعلهم على
هذه العدة (إلا فتنة) ومحنة وتشديدا في التكليف (للذين كفروا) نعم الله وجحدوا
ربوبيته ليلزمهم النظر في ذلك، فلما كانت هذه العدة التي جعلت عليها الملائكة يظهر
عندها ما كان في نفس الكافر مما يقتضيه كفره، كان فتنة له، لان الفتنة هي المحنة
التي تخرج ما في النفس من خير أو شر باظهار حاله كاظهار الحكاية للمحكي والملك
عبارة عما كان على خلاف صورة الجن والإنس من المكلفين. وقال قوم: لا يكون
ملكا إلا رسولا لأنه من الرسالة، كما قال الهذلي:
الكني إليها وخير الرسو * ل أعلمهم بنواحي الخبر (1)
واصله ملاك بالهمز كما قال الشاعر:
فلست لا نسي ولكن بملاك * تنزل من جو السماء يصوب (2)
والملك عظيم الخلق شديد البطش كريم النفس. والأصل نفسه منشرحة
بالطاعة انشراح الكريم بالجود، وأصله من النور، ووجه دلالة هذه العدة من الملائكة
على نبوة النبي صلى الله عليه وآله هو انه إذا كان الله - عز وجل - قد اخبر به في الكتب المتقدمة
ولم يكن محمد صلى الله عليه وآله ممن قرأها ولا تعلمها من أحد من الناس دل على أن الله أعلمه
وانزل عليه به وحيا أبانه به من جميع الخلق ليدل على صدقه مع أنه أحد الأشياء التي
أخبر بها على هذه الصفة (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) والتقدير ليعلم أهل الكتاب
يقينا ان محمدا صادق من حيث اخبر بما هو في كتبهم من غير قراءة لكتبهم ولا تعلم
منهم (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) أي ويزداد بذلك أيضا المؤمنون الذين عرفوا
الله إيمانا مضافا إلى ايمانهم. ووجه المحنة على الكفار بتكليفهم ان يستدلوا حتى

(1) مر في 8 / 11، 299
(2) اللسان (ملك).
181

يعرفوا ان الله تعالى قادر ان يقوي هذه العدة من الملائكة بما يفي بتعذيب أهل
النار على ما هم عليه من الكثرة (ولا يرتاب) أي لا يشك (الذين أوتوا الكتاب)
في خبره ولا يرتاب أيضا (المؤمنون) في خبره.
وقوله (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون) ومعناه لئلا يقول الذين في قلوبهم
شك ونفاق (ماذا أراد الله بهذا مثلا) اي أي شئ أراد الله بهذا مثلا، وقيل
اللام في قوله (وليقول الذين في قلوبهم مرض) لام العاقبة كما قال (فالتقطه آل فرعون
ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) فقال الله تعالى (كذلك يضل الله من يشاء ويهدى
من يشاء) أي مثل ما فضح الله هؤلاء الكفار وذمهم مثل ذلك يضل من يشاء
من الكفار. والاضلال - ههنا - اظهار فضيحة الكفار بما يوجب الذم، ومعناه الحكم
عليهم بالضلال عن الحق، والاخبار بأنهم يستحقون اللعن بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وآله،
وما انزل عليه. ونقيضه الهداية أي ويحكم بهداية المؤمنين إلى الحق ومصيرهم إلى
الطاعة، وتصديقهم بالحق عند نزوله وقبولهم له. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك:
عدة الملائكة الموكلين بالنار في التوراة والإنجيل تسعة عشر.
ثم اخبر تعالى فقال (وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي لا يعلم جنود الله
إلا الله. ثم قال (وما هي إلا ذكرى للبشر) قيل معناه إن النار في الدنيا تذكير
بالنار في الآخرة. وقال قتادة ومجاهد: النار الموصوفة بهذه الصفة ذكرى للبشر
وعظة لهم. وقال البلخي: إلا ذكرى للبشر أي الجنود ذكرى أي عظة للبشر، لان
الله تعالى لا يحتاج إلى ناصر ومعين.
ثم قال (كلا والقمر) أي حقا ثم اقسم بالقمر (والليل إذ ادبر) قيل
معناه إذا ولى يقال: دبر وادبر، وقد قرئ بهما. وقيل: إنما دبر الليل بان جاء

(1) سورة 28 القصص آية 8.
182

بعده النهار وآخره. وتقول العرب: قبح الله ما قبل منك وما دبر (والصبح إذا
أسفر) أي أضاء وأنار - في قول قتادة - وهو قسم آخر. وقال قوم: التقدير ورب
هذه الأشياء، لان اليمين لا يكون إلا بالله. وقال قوم: معنى قوله (والصبح إذا
أسفر) أي كشف عن الظلام وأنار الأشخاص. وقوله (انها لإحدى الكبر)
جواب القسم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: معناه إن النار لإحدى
الكبر. وقال قوم: ان هذه الآية لإحدى الكبر. والكبر جمع الكبرى، وهي العظمى
وروي عن ابن كثير أنه (قرأ إنها لحدي الكبر) لا يهمزه ولا يكسر يسقط الهمزة
تخفيفا، كقولهم في زيد الأحمر زيد لحمر. وفي أصحاب الأيكة أصحاب ليكة.
والاختيار قطع الألف، لان العرب إذا حذفت مثل هذا نقلت حركة الهمزة إلى
ما قبلها، واللام قبل هذه الهمزة متحركة، واللام في الأحمر لام التعريف ساكنة.
قوله تعالى:
(نذيرا للبشر (36) لمن يشاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (37)
كل نفس بما كسبت رهينة (38) إلا أصحاب اليمين (39) في
جنات يتساءلون (40) عن المجرمين (41) ما سلككم في سقر (42)
قالوا لم نك من المصلين (43) ولم نك نطعم المسكين (44) وكنا
نخوض مع الخائضين (45) وكنا نكذب بيوم الدين (46) حتى
أتينا اليقين (47) فما تنفعهم شفاعة الشافعين (48) فما لهم عن
التذكرة معرضين (49) كأنهم حمر مستنفرة (50) فرت من
183

قسورة (51) بل يريد كل امرئ منهم إن يؤتى صحفا منشرة (52)
كلا بل لا يخافون الآخرة (53) كلا إنه تذكرة (54) فمن شاء
ذكره (55) وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل
المغفرة) (56) احدى وعشرون آية.
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (مستنفرة) بفتح الفاء. الباقون بكسرها
ومعناهما متقارب، لان من فتح الفاء أراد أنه نفرها غيرها، ومن كسر الفاء أراد
أنها نافرة، وانشد الفراء:
امسك حمارك إنه مستنفر * في أثر أحمرة عمدن لغرب (1)
والنفور الذهاب عن المخوف بانزعاج، نفر عن الشئ ينفر نفورا فهو نافر،
والتنافر خلاف التلاؤم، واستنفر طلب النفور (ومستنفرة) طالبة للنفور. وقرأ
نافع ويعقوب (وما تذكرون) بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر.
لما اخبر الله تعالى ان الآية التي ذكرها لإحدى الكبر، بين أنه بعث النبي
(نذيرا للبشر) أي منذرا مخوفا معلما مواضع المخافة، والنذير الحكيم بالتحذير عما
ينبغي ان يحذر منه، فكل نبي نذير، لأنه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى على معاصيه.
(ونذيرا) نصب على الحال. وقال الحسن: إنه وصف النار وقال ابن زيد: هو
وصف النبي. وقال أبو رزين: هو من صفة الله تعالى، فمن قال: هو للنبي قال كأنه
قيل: قم نذيرا. وقوله (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) معناه إن هذا الانذار
متوجه إلى من يمكنه ان يتقي عذاب النار بأن يجتنب معاصيه ويفعل طاعاته، فيقدر

(1) اللسان (نفر).
184

على التقدم والتأخير في أمره بخلاف ما يقوله المجبرة الذين يقولون بتكليف ما لا يطاق
لمنع القدرة. وقال قتادة: معناه لمن شاء منكم أن يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها
بمعصيته. والمشيئة هي الإرادة.
وقوله (كل نفس بما كسبت رهينة) معناه إن كل نفس مكلفة مطالبة بما
عملته وكسبته من طاعة أو معصية، فالرهن أخذ الشئ بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج
منه رهنه يرهنه رهنا قال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له * يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (1)
وكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له. قال الرماني: في ذلك
دلالة على القائلين باستحقاق الذم، لأنه عم الارتهان بالكسب في هذا الموضع، وهم
يزعمون أنه يرتهن بأن لم يفعل ما وجب عليه من غير كسب شئ منه، فكانت الآية
حجة على فساد مذهبهم. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لان الذي في الظاهر أن
الانسان رهن بما كسبت يداه. ولم يقل: ولا يرهن إلا بما كسب له إلا من جهة دليل
الخطاب الذي هو فاسد عند أكثر الأصوليين، على أن الكسب هو ما يجتلب به نفع
أو يدفع به ضرر، ويدخل في ذلك الفعل، وألا يفعل، فلا تعلق في الآية.
ولما ذكر تعالى أن (كل نفس بما كسبت رهينة) استثنى من جملة النفوس
فقال (إلا أصحاب اليمين) والاستثناء منقطع، لان أصحاب اليمين ليسوا من
الضلال الذين هم رهن بما كسبوه، وتقديره لكن أصحاب اليمين (في جنات) أي
بساتين آجنها الشجر، وأصحاب اليمين هم كل من لم يكن من الضالين: وقال الحسن:
هم أصحاب الجنة. وقال قوم: هم الذين ليس لهم شئ من الذنوب. وقال قوم:

(1) ديوانه 39 (دار بيروت).
185

هم أطفال المؤمنين. وقوله (يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضا (عن المجرمين)
العصاة في طاعة الله، فيقولون لهم (ما سلككم في سقر) أي ما أدخلكم في جهنم
فالمجرم هو القاطع بالخروج عن أمر الله ونهيه إلى ارتكاب الكبائر من القبيح، والجاروم
القاطع. والسلوك الدخول. وسقر اسم من السماء جهنم. ثم حكى ما يجيبهم به
أصحاب النار فإنهم يقولون لهم: أدخلنا في النار لأنا (لم نك من المصلين) أي لم
نك نصلى ما أوجب علينا من الصلاة المفروضة على ما قررها الشرع، وفي ذات دلالة
على أن الخلال بالواجب يستحق به الذم والعقاب، لأنهم لم يقولوا انا فعلنا تركا للصلاة
بل علقوا استحقاقهم للعقاب بالاخلال بالصلاة وفيها دلالة على أن الكفار مخاطبون بالعبادة.
لان ذلك حكاية عن الكفار بدلالة قوله في آخر الآية (كنا نكذب بيوم الدين).
وقوله (ولم نك نطعم المسكين) أي لم نكن نخرج الزكوات التي وجبت
علينا، والكفارات التي يلزمنا دفعها إلى المساكين. وهم الفقراء. وهم الفقراء، فالمسكين الذي
سكنته الحاجة إلى ما في أيدي الناس عن حال النشط. وحال الفقير أشد من حال
المسكين. قال الله تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) (1) فسماهم
الله مساكين مع أن لهم مركبا في البحر قال الشاعر:
أنا الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد (2)
(وكنا نخوض مع الخائضين) قال قتادة: معناه كلما غوي غاويا لدخول
في الباطل غوينا معه أي كنا نلوث أنفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض
فلما كان هؤلاء يخرجون مع من يكذب بالحق مشيعين لهم في القول كانوا خائضين
معهم (وكنا) مع ذلك (نكذب بيوم الدين) اي كنا نجحد يوم الجزاء وهو
يو القيامة، فالتكذيب تنزيل الخبر على أنه كذب باعتقاد ذلك فيه أو الحكم به.

(1) سورة 18 الكهف آية 80
(2) مر تخريجه في 5 / 283.
186

فهؤلاء اعتقدوا ان الخبر يكون يوم الدين كذب. والدين الجزاء، وهو الايصال
إلى كل من له شئ أو عليه شئ ما يستحقه، فلذلك يوم الدين، وهو يوم الجزاء
وهو يوم أخذ المستحق بالعدل. وقوله (حتى أتانا اليقين) معناه حتى جاءنا العلم
واليقين الذي يوجد برد الثقة به في الصدر أو دليله، يقال: وجد فلان برد اليقين
وثلج في صدره، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن، فقال الله تعالى لهم (فما
تنفعهم شفاعة الشافعين) الذين يشفعون لهم، لان عذاب الكفر لا يسقطه الله
بالشفاعة بالاجماع. ثم قال (فما لهم عن التذكرة) أي أي شئ لهم؟ ولم أعرضوا
وتولوا عن النبوة والرشد؟! ولم يتعظوا به إلى أن صاروا إلى جهة الضلال على وجه
الانكار عليهم. ثم شبههم، فقال (كأنهم حمر مستنفرة) أي مثلهم في النفور عما
تدعوهم إليه من الحق واعراضهم، مثل الحمر إذا نفرت ومرت على وجهها إذا (فرت
من قسورة) وهو السبع يعني الأسد، يقال نفر، واستنفر، مثل علامتنه واستعلاه
وسمع إعرابي رجلا يقرأ (كأنهم حمر مستنفرة) فقال: طلبها قسورة، فقيل له:
ويحك إن في القرآن (فرت من قسورة) قال (مستنفرة) إذا، فالفرار الذهاب
عن الشئ خوفا منه، فريفر فرا وفرارا، فهو فار إذا هرب والفار الهارب.
والهرب نقيض الطلب، واصل الفرار الانكشاف عن الشئ، ومنه فر الفرس يفره
فرا إذا كشف عن سنه. والقسورة الأسد. وقيل: هو الرامي للصيد. وأصله
الاخذ بالشدة من قسره يقسره قسرا أي قهره. وقال ابن عباس: القسورة الرماة
وقال سعيد بن جبير: هم القناص. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: جماعة الرجال
وقال أبو هريرة: هو الأسد. وهو قول زيد بن اسلم، وفى رواية عن ابن عباس
وأبي زيد: القسور بغير هاء تأنيث.
وقوله (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) اخبار من الله
187

تعالى بأنهم ليسوا كالحمر المستنفرة الفارة من القسورة، بل لان كل رجل منهم يريد
أن يعطى صحفا منشرة. قال قال الحسن وقتادة ومجاهد: انهم يريدون صحفا منشرة اي كتبا
تنزل من السماء كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان: أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله. وقيل: إنهم
قالوا كانت بنو إسرائيل إذا أذنب منهم مذنب أنزل الله كتابا أن فلانا أذنب فما
بالنا لا ينزل علينا مثل ذلك إن كنت صادقا به؟ والصحف جمع صحيفة، وهي الورقة
التي من شأنها ان تقلب من جهة إلى جهة، لما فيها من الكتابة، وتجمع الصحيفة صحفا
وصحائف، ومنه مصحف ومصاحف. والنشر بسط ما كان مطويا أو ملتفا من
غير التحام. وقيل: معناه إنهم يريدون صحفا من الله تعالى بالبراءة من العقوبة
واسباغ النعمة حتى يؤمنوا وإلا أقاموا على أمرهم. وقيل: تفسيره ما ذكره الله تعالى
في قوله (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) (1) فقال الله تعالى
(كلا) أي حقا ليس الامر على ما قالوه (بل لا يخافون) هؤلاء الكفار (الآخرة)
بجحدهم صحته. ثم قال (انه تذكرة) يعني القرآن تبصرة وموعظة لمن عمل به
واتعظ بما فيه، وهو قول قتادة. ثم قال (فمن شاء ذكره) أي من شاء أن يتعظ
بما فيه وهو يتذكر به، فعل، لأنه قادر عليه. ثم قال (وما يذكرون إلا أن يشاء الله)
من قرأ بالتاء، فعلى الخطاب، ومن قرأ بالياء، فعلى الاخبار عنهم. ومعناه ليس
يتذكرون ولا يتعظون بالقرآن إلا أن يشاء الله، ومعناه إلا والله شاءه له، لأنه
طاعة والله يريد الطاعات من خلقه. وقوله (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) معناه
هو أهل ان يتقى عقابه، وأهل ان يعمل بما يؤدي إلى مغفرته. وقيل: معناه هو أهل
ان يغفر المعاصي إذا تاب المذنب من معاصيه.

(1) سورة 17 الاسرى آية 93.
188

75 - سورة القيامة:
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي أربعون آية في الكوفي وتسع
وثلاثون في البصري والمدنيين.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(لا أقسم بيوم القيمة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة (2)
أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوي
بنانه (4) بل يريد الانسان ليفجر أمامه يسئل أيان يوم
القيمة (6) فإذا برق البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع
الشمس والقمر (9) يقول الانسان يومئذ أين المفر) (10)
عشر آيات.
قرأ (برق) بفتح الراء أهل المدينة وأبان عن عاصم، الباقون بكسر الراء
وقرأ القواس عن ابن كثير (لا قسم) باثبات القسم جعل اللام لام تأكيد، واقسم،
والاختيار لمن قصد هذا (لا قسمن) وقد روي ذلك عن الحسن، قال: لان الله
تعالى اقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة. وقال مقاتل: لم يقسم الله تعالى
189

بالقيامة إلا في هذه السورة فقط. الباقون (لا اقسم) التقدير بنفي اليمين في اللفظ
واختلف في ذلك النحويون فقال أبو عبيدة والكسائي (لا) صلة والتقدير اقسم.
وقال قوم (لا) تزيدها العرب لا ابتداء، لكن (لا) ههنا رد لقوم أنكروا البعث
وكفروا بالتنزيل. فقال الله (لا) أي ليس كما تقولون. ثم قال (اقسم بيوم
القيامة) قال ابن خالويه: (لا) تنقسم أربعين قسما ذكرته في كل مفرد.
قوله (لا أقسم) معناه اقسم و (لا) صلة في قول سعيد بن جبير. وقال
ابن عباس (لا) تأكيد كقولك: لا والله. بلى والله ما كان كذا، فكأنه قال لا،
اقسم بيوم القيامة ما الامر على ما توهموه. والقسم تأكيد الخبر بما جعله في حيز
المتحقق. والمعنى اقسم بيوم القيامة ويوم القيامة هو النشأة الأخيرة التي تقوم فيها
الناس من قبورهم للمجازاة، وبذلك سميت القيامة، ويومها يوم عظيم، على خطر
عظيم جسيم.
وقوله (ولا اقسم بالنفس اللوامة) قسم ثان، ومعناه معنى الأول. وقال
الحسن: أقسم تعالى بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة، بل نفى ان يقسم بها.
قال الرماني: وهذا يضعف، لأنه يخرج عن تشاكل الكلام. وقيل: ان جواب
القسم محذوف، وتقديره ما الامر على ما تتوهمون. وقال قوم: جواب القسم قوله
(بلى قادرين)
واللوامة الكثيرة اللوم لقلة رضاها بالامر وتمييز ما يرضى مما
لا يرضى، وما يلام عليه مما لا يلام عليه. وقال ابن عباس: اللوامة من اللوم.
وقال مجاهد: تلوم على ما مضى وفات. وقال قتادة: اللوامة الفاجرة،
كأنه قال ذات اللوام الكثير. وقال سعيد بن جبير: هي التي تلوم على الخير والشر
وقيل: معناه لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها، فهي كثيرة اللوم فيها. وقال
190

الحسن: اللوامة هي التي تلوم نفسها على ما ضيعت من حق الله يوم القيامة، وهي
نفس الكافر. وقيل: معناها أنها تلوم نفسها في الآخرة على الشر لم عملته وعلى الخير
هلا استكثرت منه.
وقوله (أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه) صورته صورة الاستفهام ومعناه
الانكار على من أنكر البعث والنشور، فقال الله له أيظن الانسان الكافر أن لن
نجمع عظامه ونعيده إلى ما كان أولا عليه. ثم قال: ليس الامر على ما ظنه (بلى
قادرين على أن نسوي بنانه) قال ابن عباس: يجعل بنانه كالخف والحافر فيتناول
المأكول بفيه، ولكننا مننا عليه. وقال قتادة كخف البحير أو حافر الدابة. ونصب
(قادرين) على أحد وجهين:
أحدهما - على تقدير بلى نجمعها قادرين.
والاخر - بلى نقدر قادرين إلا أنه لم يظهر (نقدر) لدلالة (قادرين)
عليه، فاستغني به. وقيل: معناه بلى قادرين على أن نسوي بنانه حتى نعيده على
ما كان عليه خلقا سويا.
وقوله (بل يريد الانسان ليفجر أمامه) اخبار منه ان الانسان يفجر أمامه
ومعناه يمضي أمامه راكبا رأسه في هواه - في قول مجاهد - أي فهذا الذي يحمله على
الاعراض عن مقدورات ربه، فلذلك لا يقر بالبعث والنشور. وقال الزجاج:
إنه يسوف بالتوبة ويقدم الاعمال السيئة. قال: ويجوز أن يكون المراد ليكفر بما
قدامه من البعث بدلالة قوله (يسأل أيان يوم القيامة) فهو يفجر أمامه بأن يكذب
بما قدامه من البعث. وقوله (يسأل أيان يوم القيامة) معناه ان الذي يفجر أمامه
يسأل متى يكون يوم القيامة؟ فمعنى (أيان) (متى) إلا أن السؤال ب‍ (متى) أكثر
من السؤال ب‍ (أيان)، فلذلك حسن ان يفسر بها لما دخلها من الابهام الذي يحتاج
191

فيه إلى بيان ما يتصل بها من الكلام. والسؤال على ضربين: سؤال تعجيز، وسؤال
طلب للتبيين.
وقوله (فإذا برق البصر) فالبرق اللمعان بالشعاع الذي لا يلبث، لأنه
مأخوذ من البرق، يقال: برق يبرق برقا، وإنما قيل (برق البصر) لان ذلك
يلحقه عند شدة الامر، والبارقة الذين تلمع سيوفهم إذا جردوها كالبرق، وانشد
أبو عبيدة للكلابي:
لما اتاني ابن عمير راغبا * أعطيته عيسا صهابا فبرق (1)
بكسر الراء وانشد الفراء:
نعاني حنانة طوبا له * يسف يبسا من العشرق
فنفسك فانع ولا تنعنى * وداو الكلوم ولا تبرق (2)
بالفتح، أي لا تفزع من هول الجراح، و (حنانة) اسم رجل و (طويا) له
نعجة، وقال ابن خالويه: من كسر قال: لان (برق) بالفتح لا يكون إلا في الضوء
يقال برق البرق إذا لمع، وبرق الحنظل، فاما برق بالكسر، فمعناه تحير والذي
قاله أهل اللغة إنهما لغتان، وتقول العرب، لكل داخل: برقة أي دهشة. وقال
الزجاج: برق إذا فزع وبرق إذا حار.
وقوله (وخسف القمر) أي ذهب نوره بغيبة النور عن البصر، وخسف
وكسف بمعنى كأنه يذهب نوره في خسف من الأرض فلا يرى.
وقوله (وجمع الشمس والقمر) أي جمعا في ذهاب نورهما بما يراه الانسان
والجمع جعل أحد الشيئين مع الاخر. والجمع على ثلاثة أقسام: جمع في المكان، وجمع

(1) مجاز القرآن 2 / 277 والقرطبي 19 / 94
(2) قائله طرفة بن العبد ديوانه 70 (دار بيروت) البيت الثاني فقط.
192

في الزمان، وجمع الاعراض في المحل. وجمع الشيئين في حكم أو صفة مجاز،
وقوله (يقول الانسان يومئذ أين المفر) اخبار من الله تعالى بأن الانسان
يقول في ذلك الوقت: أين المهرب؟ والفرار بفتح الفاء. وروي عن ابن عباس
(أين المفر) بكسر الفاء، قال الزجاج: المفر بفتح الفاء مصدر، وبالكسر مكان
الفرار. وهذا سؤال تعجيز عن وجود مفر يهرب إليه من عذاب الله في ذلك اليوم.
وقيل فيه معنى جواب هذا السائل، كأنه قيل يوم القيامة إذا برق البصر وخسف
القمر وجمع الشمس والقمر. والمفر مصدر. ويجوز فيه الكسر، ومثله مدب ومدب
وقال البصريون: الكسر لمكان الفرار. وقال الفراء الفتح والكسر لغتان.
قوله تعالى:
(كلا لا وزر (11) إلى ربك يومئذ المستقر (12) ينبأ
الانسان يومئذ بما قدم وأخر (13) بل الانسان على نفسه
بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره (15) لا تحرك به لسانك لتعجل
به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18)
ثم إن علينا بيانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون
الآخرة (21) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه
يومئذ باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة) (25) خمس عشرة آية
قرأ (كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة) بالياء فيهما ابن كثير
193

وأبو عمرو وابن عامر على وجه الاخبار عنهم. الباقون بالتاء على وجه الخطاب لهم،
لما حكى الله تعالى عن الكافر انه يقول يوم القيامة (أين المفر) والمهرب
حكى ما يقال له، فإنه يقال له (كلا لا وزر) أي لا ملجأ. والوزر الملجأ من
جبل يتحصن به أو غيره من الحصون المنيعة. ومنه الوزير المعين الذي يلجأ إليه في
الأمور، يقال وزرت الحائط إذا قويته بأساس يعتمد عليه. وقال ابن عباس
ومجاهد: لا وزر، معناه لا ملجا. وقال الحسن: لا جبل، لان العرب إذا دهمتهم
الخيل بغتة، قالوا: الوزر، يعنون الجبل، قال ابن الدمينة:
لعمرك ما للفتى من وزر * من الموت ينجو به والكبر (1)
وقال الضحاك: معناه لا حصن. وقيل معناه لا منجا ينجو إليه، وهو مثل
الملجأ. ثم قال تعالى (إلى ربك يومئذ المستقر) أي المرجع الذي يفر فيه. ومثله
المأوى والمثوى، وخلافه المرتحل. والمستقر على وجهين: مستقر إلى أمد، ومستقر
على الأبد.
وقوله (ينبأ الانسان يومئذ بما قدم واخر) أي يخبر بجميع ما عمله، وما
تركه من الطاعات والمعاصي، فالنبأ الخبر بما يعظم شأنه، وحسن في هذا الموضع
لان ما جرى مجرى اللغو والمباح لا يعتد به في هذا الباب. وإنما الذي يعظم شأنه
من عمل الطاعة والمعصية هو ما يستحق عليه الجزاء. فأما ما وجوده كعدمه، فلا
اعتبار به. والتقديم ترتيب الشئ قبل غيره. وضده التأخير وهو ترتيب الشئ
بعد غيره، ويكون التقديم والتأخير في الزمان، وفى المكان، وفى المرتبة، كتقديم المخبر عنه في
المرتبة، وهو مؤخر في الذكر، كقولك: في الدار زيد، وكذلك الضمير في (غلامه
ضرب زيد) وهو مقدم في اللفظ ومؤخر في المرتبة. وقال ابن عباس: ينبأ بما قدم

(1) مجاز القرآن 2 / 277 والقرطبي 19 / 96.
194

من المعصية وأخر من الطاعة. وقال مجاهد: يعني بأول عمله وآخره. وقال ابن
زيد: ما أخذ وترك. وفي رواية عن ابن عباس، وهو قول ابن مسعود: بما قدم
قبل موته، وما اخر من سنة يعمل بها بعد موته، وقيل ما قدم وأخر جميع أعماله التي
يستحق بها الجزاء.
وقوله (بل الانسان على نفسه بصيرة) أي شاهد على نفسه بما تقوم به
الحجة - ذكره ابن عباس - كما يقال: فلان حجة على نفسه. وقد قال تعالى (اقرأ
كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (1) وقال الزجاج: معناه بل الانسان
تشهد عليه جوارحه كما قال (يوم تشهد عليهم) (2) والهاء في (بصيرة) مثل الهاء
في (علامة) للمبالغة. وقيل شهادة نفسه عليه أولى من اعتذاره. وقيل تقديره بل
الانسان على نفسه من نفسه بصيرة: جوارحه شاهدة عليه يوم القيامة ولو اعتذر كان
شاهدا عليه من يكذب عذره. وقوله (ولو القى معاذيره) معناه ولو أقام الاعتذار عند
الناس، وفى دار التكليف واستسر بالمعاصي بارخاء الستر. وقال ابن عباس: معناه
ولو اعتذر. وقال السدي: معناه ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب. وقال الزجاج:
معناه لو أتى بكل حجة عنده. والمعاذير التنصل من الذنوب بذكر العذر، واحدها
معذرة من قوله (لا ينفع الظالمين معذرتهم) (3) وقيل: المعاذير ذكر مواقع تقطع
عن الفعل المطلوب. والعذر منع يقطع عن الفعل بالامر الذي يشق. والاعتذار
الاجتهاد في تثبيت العذر.
وقوله (لا تحرك به لسانك لتعجل به) قال ابن عباس وسعيد بن جبير
والضحاك: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه،

(1) سورة 17 الاسرى آية 14
(2) سورة 24 النور آية 24
(3) سورة 40 المؤمن آية 52.
195

فنهاه الله عن ذلك. والتحريك تغيير الشئ من مكان إلى مكان أو من جهة إلى
جهة بفعل الحركة فيه والحركة ما به يتحرك المتحرك. والمتحرك هو المنتقل من
جهة إلى غيرها. واللسان آلة الكلام. والعجلة طلب عمل الشئ قبل وقته الذي
ينبغي أن يعمل فيه. ونقيضه الابطاء، والسرعة عمل الشئ في أول وقته الذي هو
له، وضده الأناة.
وقوله (إن علينا جمعه وقرآنه) قال ابن عباس والضحاك: معناه ان
علينا جمعه في صدرك، وقراءته عليك حتى يمكنك تلاوته. وقال قتادة: معناه إن
علينا جمعه في صدرك وتأليفه على ما نزل عليك. وقال ابن عباس - في رواية أخرى -
إن معناه إن علينا بيانه من حلاله وحرامه بذكره لك. وقال قتادة: معناه نذكر
احكامه ونبين لك معناه إذا حفظته. وقال البلخي: الذي أختاره انه لم يرد القرآن
وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة، لان ما قبله وبعده يدل على ذلك، وليس
فيه شئ يدل على أنه القرآن، ولا على شئ من أحكام الدنيا، وفي ذلك تقريع للعبد
وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة. والقرآن من الضم والتأليف، قال عمرو بن كلثوم:
ذراعي عيطل أدماء بكر * هجان اللون لم تقرأ جنينا (1)
أي لم تضم رحما على ولد. وقوله (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) قال ابن عباس:
معناه إذا قرأناه أي تلوناه فاتبع قراءته بقرائتك، وقال قتادة والضحاك: معناه
بأن يعمل بما فيه من الاحكام والحلال والحرام. وقيل: معناه فإذا قرأه جبرائيل
عليك فاتبع قراءته. والاتباع مراجعة الثاني للأول في ما يقتضيه، ومثله الاقتداء
والاحتذاء والائتمام، ونقيضه الخلاف. والبيان إظهار المعنى للنفس بما يتمير به من
غيره بان الشئ يبين إذا ظهر وأبانه غيره أي أظهره بيانا وإبانة، ونقيض البيان

(1) مر تخريجه في 2 / 238.
196

الاخفاء والاغماض. وقال قتادة (ثم إن علينا بيانه) معناه إنا نبين لك معناه
إذا حفظته.
وقوله (كلا بل تحبون العاجلة) معناه الاخبار من الله تعالى أن الكفار
يريدون المنافع العاجلة ويركنون إليها ويريدونها (وتذرون الآخرة) أي وتتركون
عمل الآخرة الذي يستحق به الثواب، وتفعلون ما يستحق به العقاب من
المعاصي والمحارم.
ثم قسم تعالى أهل الآخرة فقال (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)
أي مشرقة مضيئة، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملأ القلب سرورا عند الرؤية
نضر وجهه ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة،
وضده العبوس والبسور، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله
عليها من النور علامة للخلق، والملائكة على أنهم مؤمنون مستحقون الثواب. وقوله
(إلى ربها ناظرة) معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه ان يصل إليهم. وقيل (ناضرة)
أي مشرفة (إلى) ثواب ربها (ناظرة) وليس في ذلك تنغيص لان الانتظار إنما
يكون فيه تنغيص إذا كان لا يوثق بوصوله إلى المنتظر أو هو محتاج إليه في الحال.
والمؤمنون بخلاف ذلك، لأنهم في الحال مستغنون منعمون، وهم أيضا واثقون انهم
يصلون إلى الثواب المنتظر. والنظر هو تقليب الحدقة الصحية نحو المرئي طلبا للرؤية
ويكون النظر بمعنى الانتظار، كما قال تعالى (واني مرسلة إليهم بهدية فناظرة) (1)
أي منتظرة وقال الشاعر:
وجوه يوم بدر ناظرات * إلى الرحمن تأتي بالفلاح (2)
أي منتظرة للرحمة التي تنزل عليهم، وقد يقول القائل: إنما عيني ممدودة

(1) سورة 27 النمل آية 35
(2) مر في 1 / 229.
197

إلى الله، والى فلان، وانظر إليه أي انتظر خيره ونفعه وأؤمل ذلك من جهته،
وقوله (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) (1) معناه لا ينيلهم رحمته. ويكون النظر بمعنى
المقابلة، ومنه المناظرة في الجدل، ومنه نظر الرحمة أي قابله بالرحمة، ويقال: دور
بني فلان تتناظر أي تتقابل، وهو وينظر إلى فلان أي يؤمله وينتظر خيره، وليس
النظر بمعنى الرؤية أصلا، بدلالة انهم يقولون: نظرت إلى الهلال فلم أره فلو كان
بمعنى الرؤية لكان متناقضا، ولأنهم يجعلون الرؤية غاية للنظر يقولون: ما زلت أنظر
إليه حتى رأيته، ولا يجعل الشئ غاية لنفسه لا يقال: بما زلت أراه حتى رأيته،
ويعلم الناظر ناظرا ضرورة، ولا يعلم كونه رائيا بل يسأل بعد ذلك هل رأيت أم لا؟
ودخل (إلى) في الآية لا يدل على أن المراد بالنظر الرؤية، ولا تعليقه بالوجوه
يدل على ذلك، لأنا أنشدنا البيت، وفيه تعليق النظر بالوجه وتعديه بحرف (إلى)
والمراد به الانتظار، وقال جميل بن معمر:
وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك جدتني نعماء (2)
والمراد به الانتظار والتأميل، وأيضا، فإنه في مقابلة قوله في صفة أهل النار
(تظن أن يفعل بها فاقرة) فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب،
والكفار يظنون الفاقرة، وكله راجع إلى فعل القلب، ولو سلمنا أن النظر يعد الرؤية
لجاز أن يكون المراد أنها رؤية ثواب ربها، لان الثواب الذي هو أنواع اللذات من
المأكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته. ويجوز أيضا أن يكون إلى واحد إلا لاء
وفى واحدها لغات (ألا) مثل قفا، و (إلى) مثل معي و (إلى) مثل حدى و (إلى)
مثل حسي، فإذا أضيف إلى غيره سقط التنوين، ولا يكون (إلى) حرفا في الآية
وكل ذلك يبطل قول من أجاز الرؤية على الله تعالى.

(1) سورة 3 آل عمران آية 77
(2) مر في 1 / 229.
198

وليس لاحد ان يقول: إن الوجه الأخير يخالف الاجماع، أعني اجماع
المفسرين، وذلك لأنا لا نسلم لهم ذلك، بل قد قال مجاهد وأبو صالح والحسن
وسعيد بن جبير والضحاك: إن المراد نظر الثواب. وروي مثله عن علي عليه السلام،
وقد فرق أهل اللغة بين نظر الغضبان ونظر الراضي، يقولون: نظر غضبان، ونظر
راض، ونظر عداوة ونظر مودة، قال الشاعر:
تخبرني العينان ما الصدر كاتم * ولا حن بالبعضاء والنظر الشزر
والرؤية ليست كذلك فإنهم لا يضيفونها، فدل على أن النظر غير الرؤية،
والمرئي هو المدرك، والرؤية هي الادراك بالبصر، والرائي هو المدرك، ولا تصح
الرؤية وهي الادراك إلا على الأجسام أو الجوهر أو الألوان. ومن شرط المرئي
أن يكون هو أو محله مقابلا أو في حكم المقابل، وذلك يستحيل عليه تعالى، فكيف
تجيز الرؤية عليه تعالى؟!!!
ثم ذكر القسم الاخر فقال (وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة)
يعني وجوه أهل الكفر. والبسور ظهور حال الغم في الوجه معجلا قبل الاخبار عنه
ومثله العبوس إلا أنه ليس فيه معنى التعجيل. والفاقرة الكاسرة لفقار الظهر بشدة
ومثل الفاقرة الداهية والابدة. وقال الحسن: ناظرة بهجة حسنة. وقال مجاهد:
مسرورة. وقال ابن زيد: ناعمة. وقال مجاهد وقتادة: معنى باسرة كاشرة كالحة.
وقال مجاهد: الفاقرة الداهية. وقال ابن زيد الابدة بدخول النار.
قوله تعالى:
(كلا إذا بلغت التراقي (26) وقيل من راق (27) وظن
أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى ربك يومئذ
199

المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب وتولى (32)
ثم ذهب إلى أهله يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم أولى لك
فأولى (35) أيحسب الانسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة
من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه
الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي
الموتى) (40) خمس عشرة آية.
قرأ ابن عامر وحفص ورويس (من مني يمنى) بالياء على التذكير ردوه إلى
المني. الباقون بالتاء حملا على النطفة.
يقول الله تعالى (كلا إذا بلغت) يعني النفس أو الروح، ولم يذكر لدلالة الكلام
عليه كما قال (ما ترك على ظهرها) (1) يعني على ظهر الأرض. وإنما لم يذكر لعلم
المخاطب به، و (التراقي) جمع ترقوة وهي مقدم الحلق من أعلى الصدر، تترقى إليه
النفس عند الموت، واليها يترقى البخار من الجوف، وهناك تقع الحشرجة، وقوله
(وقيل من راق) فالراق طالب الشفاء يقال: رقاه يرقيه رقية إذا طلب له شفاء
بأسماء الله الجليلة وآيات كتابه العظيمة. وأما العوذة فهي رفع البلية بكلمات الله
تعالى. وقال أبو قلابة والضحاك وابن زيد وقتادة: معنى (راق) طبيب شاف.
أي أهله يطلبون له من يطببه ويشفيه ويداويه فلا يجدونه. وقال ابن عباس وأبو
الجوزاء: معناه قالت الملائكة: من يرقا بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العقاب.

(1) سورة 35 فاطر آية 45.
200

وقال الضحاك: أهل الدنيا يجهزون البدن، وأهل الآخرة يجهزون الروح.
وقوله (وظن أنه الفراق) معناه علم عند ذلك أنه فراق الدنيا والأهل
والمال والولد. والفراق بعاد الآلاف وهو ضد الوصال يقال: فارقه يفارقه فراقا.
وقد صار علما على تفرق الأحباب وتشتت الآلاف.
وقوله (والتفت الساق بالساق) قال ابن عباس ومجاهد: معناه التفت شدة
أمر الآخرة بأمر الدنيا. وقال الحسن: التفت حال الموت بحال الحياة. وقال الشعبي
وأبو مالك: التفت ساقا الانسان عند الموت - وفي رواية أخرى عن الحسن - أنه قال
: التفات الساقين في الكفن. وقيل: ساق الدنيا بساق الآخرة. وهو شدة كرب
الموت بشدة هول المطلع. وقال الحسن: معناه التفت شدة أمر الدنيا بشدة أمر
الآخرة. وقيل: معناه اشتداد الامر عند نزع النفس حتى التفت ساق على ساق
عند تلك الحال، يقولون: قامت الحرب على ساق عند شدة الامر قال الشاعر:
فإذا شمرت لك عن ساقها * فويها ربيع ولا تسأم (1)
وقوله (إلى ربك يومئذ المساق) معناه إن الخلائق يساقون إلى المحشر الذي
لا يملك فيه الامر. النهي غير الله. والمساق مصدر مثل السوق.
وقوله (فلا صدق ولا صلى) قال الحسن: معناه لم يتصدق ولم يصل (ولكن
كذب) بالله (وتولى) عن طاعته. وقال قوم (فلا صدق) بربه (ولا صلى)
وقال قتادة: معناه فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله (ولكن كذب) به (وتولى)
عن طاعته. وقال قوم: معناه (فلا صدق) بتوحيد الله، ولا نبيه بل كذب به.
والصدقة العطية للفقراء والزكاة الصدقة الواجبة على المال المعلق بنصاب مخصوص.

(1) تفسر الطبري 29 / 107 وقد مر في 10 / 87.
201

والصلاة عبادة أولها التكبير وآخرها التسليم، وفيها قراءة وأركان مخصوصة. والتولي
هو الاعراض عن الشئ، فلما كان هذا الجاهل معرضا عن الحق بتركه إلى خلافه
من الباطل لزمه الذم بهذا الوصف.
وقوله (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) فالتمطي تمدد البدن من الكسل إما كسل
مرض أو كسل تثاقل عن الامر. والذم بكسل التثاقل عن الداعي إلى الحق. وقال
مجاهد وقتادة: معنى يتمطى بتختر. وقيل: الأصل في يتمطى يلوي مطاه، والمطاء
الظهر، ونهي عن مشية المطيطيا، وذلك أن يلقي الرجل بدنه مع التكفي في مشيه.
وقيل: نزلت الآية في أبي جهل بن هشام بن المغيرة المخزومي.
وقوله (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) قال قتادة: هو وعيد على
وعيد. وقيل معنى (أولى لك) وليك الشر يا أبا جهل، وقيل: معناه الذم أولى
لك من تركه إلا أنه حذف، وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك. وصار
من المتروك المحذوف الذي لا يجوز اظهاره. وقيل أولى لك، فأولى لك على الأول
والذم لك على الثاني والثالث. والأولى في العقل هو الأحق بالقرب من داعي
العقل، كأنه أحق بوليه.
ثم قال على وجه الوعيد والتهديد للكفار (أيحسب الانسان) ومعناه أيظن
الانسان الكافر بالبعث والنشور الجاحد لنعم الله (أن يترك سدى) ومعناه أن
يترك مهملا عن الأمر والنهي، فالسدي همل من غير أمر يؤخذ به، ويكون فيه
تقويم له، واصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره وأجمل به في دنياه وآخرته.
وقال ابن عباس ومجاهد: معنى (أن يترك سدى) أي هملا لا يؤمر ولا ينهى.
وقيل: أيحسب الانسان أن يترك مهملا فلا يؤمر ولا ينهى مع كمال عقله وقدرته.
ثم قال على وجه التنبيه على أن الله خلقه للتكليف والعبادة، وعلى انه قادر
202

على اعادته واحيائه بعد موته (ألم يك نطفة من مني يمني) فالمني نطفة الذكر التي
يجيئ منها الولد (ثم كان علقة) أي قطعة من الدم المنعقد جامدة لا تجري فخلق
الله منها هذا الانسان الذي هو في أحسن تقويم، فسبحان من قدر على ذلك. وقوله
(فخلق فسوى) أي خلق من العلقة خلق سويا شق له السمع والبصر. وقال الفراء:
معنى (فسوى) فسواه (فجعل منه) من ذلك المني (الزوجين الذكر والأنثى)
فمن قدر على ذلك لا يقدر على أن يحيي الموتى بعد ان كانوا أحياء؟! بلى والله قادر
على ذلك، لان جعل النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظما وكسو
العظم لحما ثم إنشاؤه خلقا آخر حيا سليما مركبا فيه الحواس الخمس كل واحدة
منها يصلح لما لا يصلح له الأخرى، وخلق الذكر والأنثى اللذين يصح منهما التناسل
على ما قدره الله أعجب وأبدع من إعادة الميت إلى ما كان من كونه حيا، فمن قد ر
على الأول أولى بأن يكون قادرا على الثاني، فالاحياء ايجاد الحياة، والإماتة
ايجاد الموت عند من قال أن الموت معنى، ومن قال: ليس بمعنى، قال: هو نقض
بنية الحي على وجه الاختراع.
وقوله (فجعل منه) قيل يعني من الانسان (الزوجين الذكر والأنثى) وقيل
من المني (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وا له
إذا ختم السورة، يقول: سبحانك الله بلى، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام
وفي الآية دلالة على صحة القياس العقلي، وهو أن من قدر على احياء
الانسان قادر على احيائه بعد الإماتة، وقال الفراء: يجوز في العربية يحيي الموتى
بالادغام بأن ينقل الحركة إلى الحاء وتدغم احدى اليائين في الأخرى وانشد:
وكأنها بين النساء سبيكة * تمشي بسدة بيتها بتعي (1)

(1) مر في 5 / 147.
203

76 - سورة الدهر:
وتسمى سورة الانسان، وتسمى سورة الأبرار، وهي مكية في قول ابن عباس
والضحاك وغيرهما. وقال قوم: هي مدنية وهي احدى وثلاثون آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورا (1) إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه
سميعا بصيرا (2) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3)
إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا (4) إن الأبرار
يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5) عينا يشرب
بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر ويخافون يوما
كان شره مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا
ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء
ولا شكورا (9) إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) (10)
عشر آيات.
قرأ (سلاسلا) منونا نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم اتباعا للمصحف
204

ولتشاكل ما جاوره من رأس الآية. الباقون بغير تنوين، لان مثل هذا الجمع
لا ينصرف في معرفة ولا في نكرة، لأنه على (فعائل) بعد الفه حرفان.
يقول الله تعالى (هل أتي على الانسان) قال الزجاج: معناه ألم يأت على
الانسان (حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) يعني قد كان شيئا إلا أنه لم يكن
مذكورا، لأنه كان ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح. وقال قوم (هل) يحتمل
معناه أمرين: أحدهما - أن يكون بمعنى (قد أتى) والثاني أن يكون معناها اتى
على الانسان، والأغلب عليها الاستفهام والأصل فيها معنى (قد) لتجرى على نظائرها
بمعنى ضمن معنى الألف واصله من ذلك قول الشاعر:
أم هل كبير بكى لم تقض عبرته * أثر الأحبة يوم البين مشكوم
والمعنى بالانسان - ههنا - آدم - في قول الحسن - والمعنى قد أنى على آدم
(حين من الدهر) وبه قال قتادة وسفيان. وقيل: ان آدم لما خلق الله جثته بقي
أربعين سنة لم تلج فيه الروح كان شيئا، ولم يكن مذكورا، فلما نفخ فيه الروح
وبلغ إلى ساقه كاد ينهض للقيام، فلما بلغ عينيه ورأي ثمار الجنة بادر إليها ليأخذها
فلذلك قال الله تعالى (خلق الانسان من عجل) (1) وقال غيره: هو واقع على
كل إنسان، والانسان في اللغة حيوان على صورة الانسانية، وقد تكون الصورة
الانسانية، ولا إنسان، وقد يكون حيوان ولا إنسان، فإذا حصل المعنيان صح
إنسان لا محالة. والانسان حيوان منتصب القامة على صورة تنفصل من كل بهيمة.
و (الحين) مدة من الزمان، وقد يقع على القليل والكثير. قال الله سبحانه (فسبحان
الله حين تمسون وحين تصبحون) (2) أي وقت تمسون ووقت تصبحون. وقال
(تؤتي أكلها كل حين) يعني كل ستة أشهر، وقال قوم: كل سنة. وقال - ههنا

(1) سورة 21 الأنبياء آية 37
(2) سورة 30 الروم آية 17.
205

(هل أتى على الانسان حين) أي مدة طويلة. والدهر مرور الليل والنهار وجمعه
أدهر ودهور، والفرق بين الدهر والوقت أن الوقت مضمن بجعل جاعل، لان الله
جعل لكل صلاة مفروضة وقتا، وجعل للصيام وقتا معينا، وقد يجعل الانسان لنفسه
وقتا يدرس فيه ما يحتاج إلى درسه ووقتا مخصوصا لغذائه.
وقوله (لم يكن شيئا مذكورا) أي لم يكن ممن ذكره ذاكر، لأنه كان
معدوما غير موجود، وفي الآية دلالة على أن المعدوم لا يسمى شيئا، وإنما سمى
زلزلة الساعة شيئا مجازا. والمعنى إنها إذا وجدت كانت شيئا عظيما.
وقوله (إنا خلقنا الانسان من نطفة) اخبار من الله تعالى أنه خلق الانسان
سوى آدم وحواء من نطفة، وهو ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منهما الولد، فالنطفة
الماء القليل في إناء كان أو غير إناء قال الشاعر:
وما النفس إلا نطفة بقراره * إذا لم تكدر صار صفوا غديرها
وقوله (أمشاج) قال ابن عباس أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة. وقال
الحسن والربيع بن أنس ومجاهد مثل ذلك. وقال قتادة: معنى أمشاج أطوار طورا
نطفة وطورا مضغة وطورا عظما إلى أن صار إنسانا ليختبره بهذه الصفات. وقال
مجاهد: معناه ألوان النطفة. وقال عبد الله: عروق النطفة وواحد الأمشاج مشيج،
وهو الخلط، وسمى النطفة بذلك، لأنه جعل فيها اخلاطا من الطبائع التي تكون في
الانسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. ثم عداها له، ثم بناه البنية
الحيوانية المعدلة الاخلاط. ثم جعل فيها الحياة ثم شق له السمع والبصر فتبارك الله
رب العالمين، وذلك قوله (فجعلناه سميعا بصيرا).
وقوله (نبتليه) أي نختبره بما نكلفه من الافعال الشاقة لننظر ما طاعته وما
عصيانه فنجازيه بحسب ذلك، ويقال مشجت هذا بهذا إذ اخلطته به، وهو ممشوج به
206

ومشيج أي مخلوط به قال رؤبة:
يطرحن كل معجل نشاج * لم تكس جلدا في دم أمشاج (1)
وقال أبو ذؤيب:
كأن الريش والفوقين منه * خلاف النصل سيط به مشيج (2)
وقوله (إنا هديناه السبيل) معناه انا أرشدناه إلى سبيل الحق وبيناه له
ودللناه عليه. وقال الفراء: معناه هديناه إلى السبيل أو للسبيل. والمعنى واحد.
وقوله (اما شاكرا واما كفورا) قال الفراء: معناه إن شكر وإن كفر على الجزاء
ويجوز أن يكون مثل قوله (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) (3) والمعنى اما يختار
يحسن اختياره الشكر لله تعالى والاعتراف بنعمه فيصيب الحق، واما أن يكفر نعمه
ويجحد إحسانه فيكون ضالا عن الصواب، وليس المعنى انه مخير في ذلك، وإنما
خرج ذلك مخرج التهديد، كما قال (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (4) بدلالة
قوله (انا اعتدنا للظالمين نارا) وإنما المراد البيان عن انه قادر عليهما فابهما اختار
جوزي بحسبه.
وفي الآية دلالة على أنه تعالى قد هدى جميع خلقه المكلفين، لان قوله (انا
هديناه السبيل) عام في جملتهم وذلك يبطل قول المجبرة: إن الله لم يهد الكافر
بنصب الدلالة له على طريق الحق واجتناب الباطل، وليس كل من ترك الشكر كان
كافرا، لأنه قد يترك في بعض الأحوال على سبيل التطوع، لان الشكر قد يكون
تطوعا كما يكون واجبا، وإنما لم يذكر الله الفاسق، لأنه اقتصر على أعظم الحالين

(1) مجاز القرآن 2 / 279 والطبري 29 / 109
(2) مجاز القرآن 2 / 279 والقرطبي 19 / 119
(3) سورة 9 التوبة آية 107
(4) سورة 18 الكهف آية 29.
207

وألحق الأدون على التبع، ويجوز أن يدخل في الجملة، ولا يفرد، فليس للخوارج أن
يتعلقوا بذلك في أنه ليس بين الكفر والايمان واسطة. ثم بين انه تعالى إنما ذكره
على وجه التهديد بقوله (انا اعتدنا للكافرين) أي ادخرنا لهم جزاء على كفرهم
ومعاصيهم وعقوبة لهم (سلاسل وأغلالا وسعيرا) يعذبهم بها يعاقبهم فيها،
والسلاسل جمع سلسلة والاغلال جمع غل، والسعير هي النار المسعرة الملهبة.
ولما اخبر بما للكافرين من العقوبات على كفرهم، ذكر أيضا ما للمؤمنين على
إيمانهم فقال (إن الأبرار) وهو جمع البر، وهو المطيع لله المحسن في أفعاله (يشربون
من كأس) والكاس اناء الشراب إذا كان فيه، ولا يسمى كأسا إذا لم يكن فيه
شراب - ذكره الزجاج - قال الشاعر:
صددت الكأس عنا أم عمرو * وكان الكأس مجراها اليمينا (1)
وقوله (كان مزاجها كافورا) قيل ما يشم من ريحها لا من جهة طعمها
وقوله (عينا يشرب بها عباد الله) قوله (عينا) نصب على البدل من (كافورا) ويجوز
أن يكون على تقدير ويشربون عينا، ويجوز أن يكون نصبا على الحال من (مزاجها)
وقال الزجاج: معناه من عين. وقال الفراء: شربها وشرب منها سواء في المعنى كما
يقولون: تكلمت بكلام حسن وكلاما حسنا. وقيل: يمزج بالكافور، ويختم بالمسك
وقيل: تقديره يشربون بها وأنشد الفراء:
شربن بماء البحر ثم ترفعت * متى لجج خضر لهن نئيج (2)
متى لجج. أي من لجج. وعين الماء حفيرة في الأرض ينبع منها، وهذه العين
المذكورة في أرض الجنة في كونها فوارة بالماء متعة، لأهلها. ثم يفجر فيجري لهم

(1) القرطبي 19 / 123 والشوكاني 5 / 336
(2) الطبري 29 / 112 والقرطبي 19 / 125.
208

إلى حيث شاؤوا منها. قال مجاهد: معناه إنهم يقودونها حيث شاؤوا والتفجير تشقيق
الأرض بجري الماء ومنه انفجار الصبح، وهو انشقاقه من الضوء، ومنه الفجور،
وهو الخروج من شق الالتئام إلى الفساد. وعباد الله المراد به المؤمنون المستحقون للثواب
ثم وصف هؤلاء المؤمنين فقال (يوفون بالنذر ويخافون) ويجوز أن يكون
ذلك في موضع الحال، فكأنه قال يشرب بها عباد الله الموفون بالنذر الخائفون
(يوما كان شره مستطيرا) فالمستطير الظاهر. والتقدير القائلون إنما نطعمكم القائلون
إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا، ويجوز أن يكون على الاستئناف، وتقديره
هم الذين يوفون بالنذر وكذلك في ما بعد، فالوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه
فالوفاء إمضاء العقد على الامر الذي يدعو إليه العقل، ومنه قوله (يا أيها الذين آمنوا
أوفوا بالعقود) (1) أي الصحيحة، لأنه لا يلزم أحدا أن يفي بعقد فاسد، وكل
عقد صحيح يجب الوفاء به، يقال أوفي بالعقد، ووفى به، فأوفى لغة أهل الحجاز
وهي لغة القرآن، و (وفى) لغة أهل تميم وأهل نجد، وقد بينا فيما مضى شواهده.
والنذر عقد على فعل على وجه البر بوقوع أمر يخاف ألا يقع، نذر ينذر نذرا فهو
ناذر، وقال عنترة:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما * والناذرين إذا لم ألقهما دمي (2)
أي يقولان: لئن لقينا عنترة لنقتلنه، ومنه الانذار وهو الاعلام بموضع
المخافة ليعقد على التحرز منها. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (لا نذر في معصية)
وعند الفقهاء إن كفارة النذر مثل كفارة اليمين. والذي رواه أصحابنا إن كفارة
النذر مثل كفارة الظهار، فإن لم يقدر عليه كان عليه كفارة اليمين. والمعنى انه إذا

(1) سورة 5 المائدة آية (1) مر في 4 / 526.
209

فات الوقت الذي نذر فيه صار بمنزلة الحنث. وقوله (ويخافون يوما) من صفة المؤمنين (كان شره مستطيرا) أي
منتشرا فاشيا ذاهبا في الجهات بلغ أقصى المبالغ، قال الأعشى:
فبانت وقد أورثت في الفؤاد * صدعا على نأيها مستطيرا (1)
والمراد بالشر - ههنا - أهوال القيامة وشدائدها.
وقوله (ويطعمون الطعام على حبه) قال مجاهد: معناه على شهوتهم له،
ويحتمل أن يكون المراد على محبتهم لله (مسكينا) أي يطعمونه فقيرا (ويتيما)
وهو الذي لا والد له من الأطفال (وأسيرا) والأسير هو المأخوذ من أهل دار
الحرب - في قول قتادة - وقال مجاهد: وهو المحبوس. وقوله (إنما نطعمكم لوجه
الله) اخبار عما يقوله المؤمنون بأنا إنما نطعمكم معاشر الفقراء واليتامى والأسرى لوجه
الله، ومعناه لله، وذكر الوجه الذكره بأشرف الذكر تعظيما له، ومنه قوله (فأينما تولوا فثم
وجه الله) وقيل: معناه فثم جهة الله التي ولاكم إليها ومنه قوله (ويبقى وجه ربك) (2)
أي ويبقي الله. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: علم الله ما في قلوبهم فأثنى عليهم من
غير أن يتكلموا به (لا نريد منكم جزاء) أي لا نطلب بهذا الاطعام مكافأة عاجلة
(ولا شكورا) أي لا نطلب أن تشكرونا عليه عند الخلائق بل فعلناه لله (إنا
نخاف من ربنا) أي من عقابه (يوما عبوسا) أي مكفهرا عابسا (قمطريرا) أي
شديدا، والقمطرير الشديد في الشر. وقد اقمطر اليوم اقمطرارا، وذلك أشد الأيام
وأطوله في البلاء والشر، ويوم قمطرير وقماطير كأنه قد التف شر بعضه على بعض،
قال الشاعر:

(1) ديوانه 85 (دار بيروت)
(2) سورة 55 الرحمن آية 27.
210

بني عمنا هل تذكرون بلاءنا * عليكم إذا ما كان يوم قماطر (1)
وقد روت الخاصة والعامة أن هذه الآيات نزلت في علي عليه السلام وفاطمة والحسن
والحسين عليهم السلام، فإنهم آثروا المسكين واليتيم والأسير ثلاث ليال على إفطارهم
وطووا عليهم السلام، ولم يفطروا على شئ من الطعام فأثنى الله عليهم هذا الثناء الحسن،
وأنزل فيهم هذه السورة وكفاك بذلك فضيلة جزيلة تتلى إلى يوم القيامة، وهذا يدل
على أن السورة مدنية.
قوله تعالى:
(فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا (11)
وجزيهم بما صبروا جنة وحريرا (12) متكئين فيها على الأرائك
لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13) ودانية عليهم ظلالها وذللت
قطوفها تذليلا (14) ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت
قواريرا (15) قوارير من فضة قدروها تقديرا (16) ويسقون فيها
كأسا كان مزاجها زنجبيلا (17) عينا فيها تسمى سلسبيلا (18)
ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا (19)
وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) (20) عشر آيات.
قرأ الشعبي وعبيد بن عمير (قدروها) بضم القاف. الباقون بفتحها. من
فتح القاف قال معناه قدروها في أنفسهم، فجاءت كما قدروا، ومن ضم أراد ان

(1) الشوكاني 5 / 338 والقرطبي 19 / 133.
211

ذلك قدر لهم أي قدره الله لهم كذلك. قرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم
(قواريرا قواريرا) بالتنوين فيهما. وقرأ بغير تنوين ولا الف في الوقف حمزة وابن
عامر، وقرأ الأولى بالتنوين والثانية بغير تنوين ابن كثير. وقرأ أبو عمرو فيهما
بغير تنوين إلا أنه يقف عليه بالألف. من نون الأولى اتبع المصحف، ولأنه رأس
آية، ثم كرهوا أن يخالفوا بينهما فنونوا الثانية، وكذلك قرأ الكسائي (ألا ان ثمودا
كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) (1) صرفهما لئلا يخالف بينهما مع قربهما، ومن لم
يصرفهما فعلى موجب العربية، لأنه جمع على (فواعيل) بعد ألفه حرفان. ومن
صرف الأولى فلأنها رأس آية ولم يصرف الثانية على أصل العربية.
لما اخبر الله تعالى عن المؤمنين الذين وصفهم في الآيات الأولى وما أوفوا
به من النذر في إطعامهم لوجه الله ما أطعموه وإيثارهم على نفوسهم المسكين واليتيم
والأسير وإنهم فعلوا ذلك لوجه الله خالصا، ومخافة من عذاب يوم القيامة، اخبر
بما أعد لهم من الجزاء على ذلك، فقال (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) أي كفاهم
الله ومنع عنهم أهوال يوم القيامة وشدائده، فالوقاء المنع من الأذى يقال: وقاه
يقيه وقاء، فهو واق، ووقاه توقية قال رؤبة.
إن الموقي مثل ما وقيت (2)
ومنه اتقاه اتقاء وتوقاه توقيا، والشر ظهور الضر، وأصله الظهور من قولهم:
وحتى أشرت بالأكف المصاحف (3)
أي أظهرت، ومنه شررت الثوب إذا أظهرته للشمس أو الريح، ومنه شرار

(1) سورة 11 هود آية 68
(2) اللسان (وقى)
(3) قائله كعب بن جعيل، مقاييس اللغة 3 / 181 وصده:
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم.
212

النار لظهوره بتطايره وانتشاره، وقيل: الشر الضر والقبيح، ويستعار في غيره،
وليس ما يوجب هذا. والمراد - ههنا - أهوال يوم القيامة وشدائده فالوقاء المنع من
الأذى يقال: وقاه يقيه وقاء فهو واق ووقاه توقية وقوله (ولقاهم نضرة وسرورا)
مغنى لقاهم استقبلهم به، والنضرة حسن الألوان، ومنه نبت نضر وناضر ونضر
والنضار الذهب. وقيل: ناضرة ناعمة. وقيل: حسنة الصورة. والسرور اعتقاد
وصول المنافع إليه في المستقبل. وقال قوم: هو لذة في القلب بحسب متعلقه بما فيه
النفع، سره يسره سرورا وكل سرور فلا بدله من متعلق، كالسرور بالمال والولد
والسرور بالا كرام والا جلال، والسرور بالشكر والحمد، والسرور بالثواب.
وقوله (وجزاهم بما صبروا) أي كافاهم وأثابهم على صبرهم على محن الدنيا
وشدائدها وتحمل مشاق التكليف (جنة) أي بستانا أجنة الشجر (وحريرا)
يلبسونه. وقوله (متكئين) نصب على الحال (فيها) يعني في الجنة (على
الأرائك) وهي الحجال فيها الأسرة - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - واحدها
أريكة وهي الحجلة سرير عليه شبه القبة. وقال الزجاج: الأريكة كل ما يتكأ عليه
من مسورة أو غيرها، وقد شوق الله تعالى إلى تلك الحال وهي غاية الرفاهية
والامتاع (لا يرون فيها) يعني في الجنة (شمسا) يتأذون بحرها (ولا زمهريرا)
يتأذون ببرده، فالزمهرير أشد ما يكون من البرد، وقال مجاهد: الزمهرير البرد الشديد
وقوله (ودانية عليهم ظلالها) يعني افياء أشجار تلك الجنة قريبة منهم، ونصب
(دانية) بالعطف على (متكئين) ويجوز أن يكون عطفا على موضع (لا يرون فيها
شمسا) فان موضعها النصب على الحال، ويجوز على المدح كقولهم عند فلان جارية جميلة
وشابة طرية. وقوله (وذللت قطوفها تذليلا) معناه إن قام ارتفعت بقدرة الله وإن قعد
نزلت حتى ينالها وإن اضطجع نزلت حتى ينالها - ذكره مجاهد - وقيل: معناه لا يرد
213

أيديهم عنها بعد ولا شوك.
وقوله (ويطاف عليهم) يعني على هؤلاء المؤمنين الذين وصفهم الله (بآنية
من فضة وأكواب) وهو جمع كوب وهو إناء الشراب من غير عروة. وقال
مجاهد: الأكواب الاقداح. وقال ابن عباس ومجاهد: هي صغار القوارير وهي
فضة، فلذلك قال (كانت قواريرا) وقيل: الأكواب الأباريق التي ليس لها
خراطيم. وقيل: الأكواب من فضة في صفاء القوارير لا تمنع الرؤية. وقوله (قوارير
من فضة) أي هي من فضة. وقوله (قدروها تقديرا) معناه إنها على قدر ما يشتهون
من غير زيادة ولا نقصان حتى تستوفي الكمال، ويجوز ان يكونوا قدروها قبل مجيئها
على صفة فجاءت على ما قدروا جنسه لشبه التمني، وقال الحسن: على قدرهم،
والتقدير وضع المعنى على المقدار الذي يتخيل فيه المساواة للاعتبار بالمعاني العقلية
بقدر عرف التقدير على طريقة لو كان كذا لكان كذا، وإذا كان كذا كان كذا،
وبهذا يظهر القياس يميز به ما يلزم على الأصل مما لا يلزم، والطوف الدور بالنقل
من واحد إلى واحد. وقد يكون الدور بالطبع من غير تنقل من واحد إلى آخر،
فلا يكون طوافا، طاف يطوف طوفا، وأطاف بها إطافة وتطوف تطوفا وأطوف اطوافا
وقوله (ويسقون فيها) يعني في الجنة (كأسا) وهي الآنية إذا كان فيها
شراب (كان مزاجها زنجبيلا) فالزنجبيل ضرب من القرفة طيب الطعام يلذع اللسان
يربى بالعسل يستدفع به المضار إذا مزج به الشراب فاق في الالذاذ. والعرب تستطيب
الزنجبيل جدا قال الشاعر:
كأن القرنفل والزنجبيل * باتا بفيها واريا مشورا (1)
قيل: إن هذا الشراب في برد الكافور وذكاء المسك ولذع الزنجبيل، كما

(1) قائله الأعشى ديوانه 85 واللسان (شور) وفيه اختلاف في الرواية..
214

قال في صفة القوارير إنها في صفاء الفضة وجوهرها يرى ما وراءها كالقوارير.
وقيل: الكافور والزنجبيل من أسماء العين التي يسقون منها وقوله (عينا) نصب على أنه
بدل من الزنجبيل (فيها تسمى سلسبيلا) فالسلسبيل الشراب السهل اللذيذ،
وقيل: سلسبيل معناه منقاد ماؤها حيث شاؤوا - عن قتادة - وقيل شديد الحربة.
وقيل: يتسلسله. وقيل: سمي سلسبيلا من لزوم الطيب والالذاذ بها، وانشد يونس:
صفراء من نبع يسمى سهمها * من طول ما صرع الصيود الصيب (1)
فرفع الصيب على صفة السهم. وقيل: اسم العين معرفة إلا أنه نون لأنه
رأس آية. ثم قال (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) قال قتادة: لا يموتون. وقال
الحسن: خلدوا على هيئة الوصفاء، فلا يشبون أبدا. وقيل: مخلدون مستورون
بلغة حمير قال بعض شعرائهم:
ومخلدات باللجين كأنما * أعجازهن اقاوز الكثبان (2)
وكأنه يرجع إلى بقاء الحسن (إذا رأيتهم) يعني إذا رأيت هؤلاء الولدان
(حسبتهم لؤلؤا منثورا) أي من كثرتهم وحسنهم، فكأنهم اللؤلؤ المنثور - ذكره
قتادة - وقوله (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) تقديره وإذا رأيت
الأشياء ثم رأيت نعيما لأهل الجنة عظيما وملكا كبيرا. قال سفيان: من الملك
الكبير استئذان الملائكة عليهم واستقبالهم لهم بالتحية. وقوله (وإذا رأيت ثم) ف‍ (ثم)
يريد به الجنة. والعامل فيه معنى (رأيت) وتقديره وإذا رأيت ببصرك ثم رأيت
نعيما وملكا كبيرا. وقال الفراء: وإذا رأيت ماثم رأيت نعيما. وانكره الزجاج
وقال (ما) موصولة يتم على تفسيره، ولا يجوز اسقاط الموصول مع بقاء الصلة، ولكن
(رأيت) متعد في المعنى إلى (ثم).

(1) تفسير الطبري 29 / 118
(2) مقاييس اللغة 2 / 208 واللسان (خلد، قوز).
215

قوله تعالى:
(عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من
فضة وسقيهم ربهم شرابا طهورا (21) إن هذا كان لكم جزاء
وكان سعيكم مشكورا (22) إنا نحن نزلنا عليك القران
تنزيلا (23) فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا (24)
واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا (25) ومن الليل فاسجد له
وسبحه ليلا طويلا (26) إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم
يوما ثقيلا (27) نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا
أمثالهم تبديلا (28) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه
سبيلا (29) وما تشاؤن إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما (30)
يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) (31)
احدى عشرة آية.
قرأ (عاليهم) باسكان الياء أهل المدينة وحمزة وعاصم - في رواية حفص
وأبان والمفضل - جعلوه اسما لا ظرفا كما تقول: فوقك واسع ومنزلك باب البرد،
بأن يجعل الباب هو المنزل، وكذلك يجعل الثياب هي العالي. الباقون بالنصب على
الظرف، لأنه ظرف مكان. وهو الأحسن، لان الثاني غير الأول. وإنما يجوز في
مثل ما كان آخر الكلام هو الأول كقولهم: أمامك صدرك، وفوقك رأسك،
216

فان قلت فوقك السقف وأمامك الأسد بالنصب لا غير. وقرأ نافع وحفص عن
عاصم (خضر وإستبرق) بالرفع فيهما. وقرأ حمزة والكسائي بالجر فيهما. وقرأ
ابن كثير وعاصم - في رواية أبي بكر (خضر) جرا (وإستبرق) رفعا. وقرأ
ابن عامر وأبو عمرو (خضر) رفعا و (إستبرق) جرا، من رفعهما جعل (خضر) نعتا للثياب، وعطف عليه (وإستبرق) ومن جرهما جعل (خضر) من نعت
(سندس) وعطف عليه (إستبرق) وتقديره عاليهم ثياب إستبرق. ومن رفع
الأول جعله من نعت الثياب وجر الثاني على أنه عطف على (سندس) كأن عليهم
ثياب سندس. ومن جعل (خضر) نعتا ل‍ (سندس)، فلانه اسم جنس يقع
على الجميع، فلذلك قال (خضر) ومن جعله نعتا للثياب فعلى اللفظ. وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو (وما يشاؤن) بالياء على الخبر عن الغائب. الباقون بالتاء
على الخطاب.
لما قال الله تعالى على وجه التعظيم لشأن المؤمنين الذين وصفهم وعظم ما
أعطوا من أنواع النعيم والولدان وأنواع الشراب وغير ذلك مما وصف، ووصف
ذلك بأنه ملك كبير قال (عاليهم) وقيل معناه عالي حجالهم السندس. وفى نصب
(عاليهم) قولان: قال الفراء: هو نصب على الظرف كقولك: فوقهم، وحكى ان
العرب تقول: قومك داخل الدار. وانكر الزجاج ذلك وقال نصبه لا يجوز إلا
على الحال من الضمير في (عاليهم) أو من ضمير الولدان في (رايتهم) وإنما انكر ذلك
لأنه ليس باسم مكان كقولك هو خارج الدار وداخل الدار، وهذا لا يجوز على
الظرف عند سيبويه، وما حكاه الفراء شاذ لا يعول عليه. ومن أسكن الياء أراد
رفعه على الابتداء وخبره (ثياب سندس) والسندس الديباج الرقيق الفاخر الحسن
217

وهو (فعلل) مثل برثن. وقوله (خضر) فمن جر جعله صفة ل‍ (سندس) خضر
ووصف (سندس) بخضر وهو لفظ جمع، لان سندنا اسم جنس يقع على الكثير
والقليل. ومن رفعه جعله نعتا ل‍ (ثياب) كأنه قال: ثياب خضر من سندس.
وقوله (وإستبرق) من رفعه عطفه على (ثياب سندس) فكأنه قال عليهم ثياب
سندس، وعاليهم إستبرق. ومن جره عطفه على (سندس) فكأنه قال: عاليهم ثياب
سندس وثياب إستبرق.
والإستبرق الديباج الغليظ الذي له بريق، فهم يتصرفون في فاخر اللباس
كما يتصرفون في لذيذ الطعام والشراب. وقيل الإستبرق له غلظ الصفاقة لا غلظ
السلك كغلظ الديبقي، وإن كان رقيق السلك.
وقوله (وحلوا أساور من فضة) فالتحلية الزينة بما كان من الذهب والفضة
والتحلية تكون للانسان وغير الانسان كحلية السيف وحلية المركب والفضاضة الشفافة هي
التي يرى ما وراءها كما يرى البلورة، وهي أفضل من الدر والياقوت، وهما أفضل
من الذهب فتلك الفضة أفضل من الذهب، والفضة والذهب في الدنيا هما أثمان
الأشياء، وإن كان قد ثمن بغيرهما شاذا. وقيل: يحلون الذهب تارة وتارة الفضة
ليجمعوا محاسن الحلية، كما قال تعالى (يحلون فيها من أساور من ذهب) (1) والفضة
وإن كانت دنية في الدنيا، فهي في غاية الحسن خاصة إذا كانت بالصفة التي ذكرها
والغرض في الآخرة ما يكثر الالتذاذ والسرور به لا بأكثر الثمن، لأنه ليست هناك
أثمان. وفى الناس من ترك صرف (إستبرق) وهو غلط، لان الأعجمي إذا عرب
في حال تنكيره انصرف، ودليله الإستبرق، وهما مما يحكى عن ابن محيص.
وقوله (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) قيل معناه يسقون شرابا طهورا ليس

(1) سورة 18 الكهف آية 31 وسورة 22 الحج آية 23 وسورة 35 فاطر آية 33.
218

كالذي يخالطه الأنجاس من أنهار الدنيا. وإن قل ذلك وكان مغمورا. وقيل إنه
ليس كشراب الدنيا الذي قد نجسه الفساد الذي فيه، وهو السكر الداعي إلى
القبائح، فقد طهره الله في الجنة من ذلك لتخلص به اللذة، كما قال (من خمر لذة
للشاربين) (1) وقيل: شرابا طهورا لا ينقلب إلى البول بل يفيض من أعراضهم
كرشح المسك ذكره إبراهيم التيمي.
وقوله (إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) اخبار من الله تعالى
انه يقال للمؤمنين إذا فعل بهم ما تقدم من أنواع اللذات وفنون الثواب: إن هذا
كان لكم جزاء على طاعاتكم واجتناب معاصيكم في دار التكليف، وإن سعيكم في
مرضات الله وقيامكم بما أمركم الله به كان مشكورا أي جوزيتم عليه، فكأنه شكر
لكم فعلكم.
ثم اخبر تعالى عن نفسه فقال (إنا نحن نزلنا عليك) يا محمد (القرآن
تنزيلا) فيه شرف وتعظيم لك. ثم أمره بالصبر على ما أمره من تحمل أعباء الرسالة
فقال (فاصبر) يا محمد (لحكم ربك ولا تطع منهم) يعني من قومه الذين بعث إليهم
(آثما أو كفورا) وهو نهي عن الجمع والتفريق أي لا تطع آثما ولا كفورا، كما
يقول القائل: لا تفعل معصية صغيرة أو كبيرة أي لا تفعلهما ولا واحدة منهما.
ثم امره بان يذكر الله بما يستحقه من الصفات والأسماء الحسنى، فقال
(واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) والبكرة الغداة والأصيل العشي، وهو أصل الليل
وجمعه آصال.
وقوله (ومن الليل فاسجد) دخلت (من) للتبعيض بمعنى فاسجد له في بعض
الليل، لأنه لم يأمره بقيام جميع الليل، كما قال (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من

(1) سورة 47 محمد آية 15.
219

ثلثي الليل ونصفه وثلثه) (1) والسجود وضع الجبهة على الأرض على وجه الخضوع
وأصله الانخفاض كما قال الشاعر:
ترى الاكم فيها سجدا للحوافر (2)
والسجود من العبادة التي اكد الله الامر بها لما فيها من صلاح العباد. ثم
قال (وسبحه ليلا طويلا) أي نزهه عمالا يليق به في الليل الطويل. ثم قال (إن
هؤلاء) يعني الكفار والذين يجحدون نبوتك (يحبون العاجلة) أي يؤثرون اللذات
والمنافع العاجلة في دار الدنيا من ارتكاب شهواتهم. والعاجلة المقدمة قبل الكرة
الثانية (ويذرون) أي ويتركون (وراءهم) أي خلفهم (يوما ثقيلا) أي هو
ثقيل على أهل النار أمره، وإن خف على أهل الجنة للبشارة التي لهم فيه. والثقيل
ما فيه اعتمادات لازمة إلى جهة السفل على جهة يشق حمله. وقد يكون ثقيلا على
انسان خفيفا على غيره بحسب قدرته، فيوم القيامة مشبه بهذا. وقيل: معنى
(وراءهم) أي خلف ظهورهم العمل للآخرة. وقيل (وراءهم) أمامهم الآخرة،
وكلاهما محتمل، والأول أظهر.
ثم قال تعالى (نحن خلقناهم) أي نحن الذين اخترعنا هؤلاء الخلائق (وشددنا
أسرهم) قال ابن عباس الأسر الخلق، وهو من قولهم: أسر هذا الرجل فأحسن
اسره أي خلق فأحسن خلقه أي شد بعضه إلى بعض أحسن الشد، وقال أبو هريرة:
الأسر المفاصل. وقال ابن زيد: الأسر القوة. وقولهم: خذ بأسره أي بشدة
قبل ان يحل، ثم كثر حتى جاء بمعنى خذ جميعه قال الأخطل:

(1) سورة 73 المزمل آية 20
(2) مر في 1 / 148، 263، 311 و 4 / 233، 383 و 6 / 95 وغيرها.
220

من كل مجتلب شديد أسره * سلس القياد تخاله مختالا (1)
واصل الأسر الشد، ومنه قتب مأسور أي مشدود، ومنه الأسير، لأنهم
كانوا يشدونه بالقيد، وجاء في التفسير وشددنا مفاصلهم. ثم قال (وإذا شئنا بدلنا
أمثالهم تبديلا) معناه إذا شئنا أهلكنا هؤلاء وأمثالهم وجئنا بقوم آخرين بدلهم
نخلفهم ونوجدهم.
وقوله (إن هذه تذكرة) قال قتادة: معناه إن هذه السورة تذكرة، والتذكرة
دلالة تخص بها المعاني الحكمية، وكل موعظة تدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الافعال
تذكرة (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) أي اتخذ إلى رضا ربه طريقا بأن يعمل بطاعته
وينتهي عن معصيته، وذلك يدل على أنه قادر على ذلك قبل ان يفعله بخلاف ما
يقوله المجبرة.
وقوله (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله) أي وليس تشاؤن شيئا من العمل بطاعته
وبما يرضاه ويوصلكم إلى ثوابه إلا والله يشاؤه ويريده لأنه يريد من عباده أن يطيعوه،
وليس المراد أن يشاء كل ما يشاؤه العبد من المعاصي والمباحات، لان الحكيم لا يجوز
أن يريد القبائح ولا المباح، لان ذلك صفة نقص ويتعالى الله عن ذلك. وقد قال
الله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (2) والمعصية والكفر من أعظم
العسر فكيف يكون الله تعالى مشيئا له وهل ذلك إلا تناقض ظاهر؟!
وقوله (إن الله كان عليما حكيما) اخبار بأنه - عز وجل - كان عالما بجميع
المعلومات وبما يفعله عباده من الطاعة والمعصية (حكيما) في جميع ما يفعله ويأمر به.
ثم قال (يدخل من يشاء في رحمته) من الجنة وثوابها إذا أطاعوه في عمل ما رغبهم

(1) القرطبي 19 / 149 والطبري 29 / 122
(2) سورة 2 البقرة آية 185.
221

فيه (والظالمين أعد لهم عذابا أليما) نصب (الظالمين) على تقدير وعاقب الظالمين
باعداد العذاب الأليم أي أعد للظالمين أعد لهم، وحذف لدلالة الثاني عليه ولا يظهر
ذلك، لان تفسيره يغني عن إظهاره.
77 - سورة المرسلات:
مكية في قول ابن عباس وهي خمسون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
والمرسلات عرفا (1) فالعاصفات عصفا (2) والناشرات
نشرا (3) فالفارقات فرقا (4) فالملقيات ذكرا (5) عذرا أو
نذرا (6) إنما توعدون لواقع (7) فإذا النجوم طمست (8) وإذا
السماء فرجت (9) وإذا الجبال نسفت (10) وإذا الرسل أقتت (11)
لأي يوم أجلت (12) ليوم الفصل (13) وما أدريك ما يوم
الفصل (14) ويل يومئذ للمكذبين) (15) خمس عشرة آية.
قرأ (عذرا) مثقل أبو جعفر والبرجمي وقرأ (أو نذرا) خفيف أهل الكوفة
غير أبي بكر وأبو عمرو. من ثقل الأول فلان الثاني مثقل، ومن خفف الثاني فلان
222

الأول مخفف. والعذر بالتخفيف والنذر بمعنى الاعذار والانذار. ومن ثقل (نذرا)
أراد جمع نذير. والعذر والمعذرة والتعذير بمعنى قال أبو علي النحوي: النذر بالتثقيل
والنذير مثل النكر والنكير جميعا مصدران، ويجوز في النذر أمران: أحدهما - أن يكون
معناه المنذر. والثاني - أن يكون مصدرا. وقرأ أبو عمرو وحده (وقتت) بالواو
على الأصل، وافقه أبو جعفر في ذلك إلا أنه خفف الواو. الباقون (أقتت) بالهمزة
أبدلوها من الواو كراهة الضمة على الواو، كما قالوا في (وحد) وقال الشاعر:
يحل أخيذه ويقال ثعل * بمثل تمول منه افتقار (1)
هذا قسم من الله تعالى بالمرسلات، كما اقسم بصاد وقاف ويس وغير ذلك
وقال قوم: تقديره ورب المرسلات، لأنه لا يجوز القسم إلا بالله. وقال ابن مسعود
وابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح: المرسلات - ههنا - الرياح، وفى رواية
أخرى عن ابن مسعود وأبي صالح انها الملائكة. وقال قوم (المرسلات عرفا)
الأنبياء جاءت بالمعروف. والارسال نقيض الامساك ومثله الاطلاق ونقيضه التقييد
والارسال أيضا انفاد الرسول. وقوله (عرفا) أي متتابعة كعرف الفرس. وقيل:
معروفا إرسالها. وإرسال الرياح اجراء بعضها في أثر بعض (فالعاصفات عصفا)
يعني الرياح الهابة بشدة. والعصوف مرور الريح بشدة، عصفت الريح تعصف عصفا
وعصوفا إذا اشتدت هبوبها، فعصوف الريح شدة هبوبها. وقوله (والناشرات
نشرا) قال ابن مسعود ومجاهد وقتادة وأبو صالح: هي الرياح، لأنها تنشر السحاب
للغيث، كما تلحقه للمطر. وقال أبو صالح - في رواية - هي الملائكة تنشر الكتب
عن الله. وفي رواية أخرى عن أبي صالح إنها الأمطار لأنها تنشر النبات. وقيل
الرياح تنشر السحاب في الهواء.

(1) الطبري 29 / 126.
223

وقوله (فالفارقات فرقا) قال ابن عباس وأبو صالح: هي التي تفرق بين
الحق والباطل، وهي الملائكة وقال قتادة: هي آيات القرآن. وقال الحسن: هي آي
القرآن تفرق بين الهدى والضلال (فالملقيات ذكرا) قال ابن عباس وقتادة هم
الملائكة. والالقاء طرح الشئ على غيره، والالقاء الشئ على غيره، فالذكر
يلقى بالبيان والافهام وهو من صفة الملائكة فيما تلقيه إلى الأنبياء، ومن صفة الأنبياء
فيما تلقيه إلى الأمم، ومن صفة العلماء فيما تلقيه إلى المتعلمين وقيل لما جمعت الأوصاف
للرياح لاختلاف فوائدها. وقال بعضهم (المرسلات عرفا) الأنبياء جاءت بالمعروف
(فالعاصفات عصفا) الرياح (والناشرات نشرا) الأمطار نشرت النبات
(فالفارقات فرقا) آي القرآن (فالملقيات ذكرا) الملائكة تلقي كتاب الله تعالى
إلى الأنبياء.
وقوله (عذرا أو نذرا) يحتمل نصبه وجهين:
أحدهما - على أنه مفعول له أي للاعذار والانذار.
والثاني - مفعول به أي ذكرت العذر والنذر. واختار أبو علي أن يكون بدلا
من قوله (ذكرا) وقيل معناه اعذارا من الله وانذارا إلى خلقه ما ألقته الملائكة
من الذكر إلى أنبيائه والعذر أمر في امر ظهوره دفع اللوم بأنه لم يكن يستحق لأجل
تلك الحال مع وقوع خلاف المراد. فالعقاب على القبيح بعد الانذار يوجب العذر في
وقوعه. وإن كان بخلاف مراد العبد الذي استحقه. قال الحسن (عذرا) معناه
يعتذر به إلى عباده في العقاب أنه لم يكن الا على وجه الحكمة. والنذر والانذار وهو
الاعلام بموضع المخافة ليتقي. ومن خفف (عذرا) كره توالي الضمتين.
وقوله (إنما توعدون لواقع) جواب القسم ومعناه إن الذي وعدكم الله به
من البعث والنشور والثواب والعقاب: كائن لا محالة. وقيل: الفرق بين الواقع
224

والكائن أن الواقع لا يكون إلا حادثا تشبيها بالحائط الواقع، لأنه من أبين الأشياء
في الحدوث، والكائن أعم منه لأنه بمنزلة الموجود الثابت يكون حادثا وغير حادث.
وقوله (فإذا النجوم طمست) معناه محيت آثارها وذهب نورها. والطمس
محو الأثر الدال على الشئ فالطمس على النجوم كالطمس على الكتاب، لأنه يذهب
نورها والعلامات التي كانت تعرف بها (وإذا السماء فرجت) أي شققت وصدعت
(وإذا الجبال نسفت) نسف الجبال إذهابها حتى لا يبقى لها في الأرض أثر،
والنسف تحريك الشئ بما يخرج ترابه وما اختلط به مما ليس منه، ومنه سمي المنسف
ونسف الحبوب كلها تجري على هذا الوجه، وقوله (نسفت) من قولهم: انسفت الشئ
إذا اخذته بسرعة.
وقوله (وإذا الرسل أقتت) أي أعلمت وقت الثواب ووقت العقاب،
فالتوقيت تقدير الوقت لوقوع الفعل، ولما كانت الرسل عليهم السلام قد قدر إرسالها
لأوقات معلومة بحسب صلاح العباد فيها كانت قد وقتت لتلك الأوقات بمعنى أعلمت
وقت الثواب ووقت العقاب. وقال مجاهد وإبراهيم وابن زيد: أقتت بالاجتماع
لوقتها يوم القيامة قال تعالى (يوم يجمع الله الرسل) (1) والمواقيت الآجال ومثله
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (2) وقيل: معنى اقتت أجلت
لوقت ثوابها، وهو يوم الفصل. وقيل: معناه أجلت فيما بينها وبين أمتها (ليوم
الفصل) ثم بين تعالى فقال (لأي يوم أجلت) أي أخرت إلى اجل فالتأجيل
التأخير إلى أجل، فالرسل قد أجلت بموعودها إلى يوم الفصل، وهو يوم القيامة
وسمي يوم الفصل، لأنه يفصل فيه بين حال المهتدي والضال بما يعلم الله لأحدهما من

(1) سورة 5 المائدة آية 112
(2) سورة 2 البقرة آية 189.
225

حال الثواب بالاجلال والاكرام، وللاخر من حال العقاب بالاستخفاف والهوان
بما لا يخفى على انسان. وقيل: الوجه في تأجيل الموعود إلى يوم الفصل تحديد الامر
للجزاء على جميع العباد فيه بوقوع اليأس من الرد إلى دار التكليف، لان في تصور
هذا ما يتأكد به الدعاء إلى الطاعة والانزجار عن المعصية.
وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) تهديد ووعيد لمن جحد يوم القيامة وكذب
بالثواب والعقاب، وإنما خص الوعيد في الذكر بالمكذبين لان التكذيب بالحق يتبعه
كل شئ، فخصال المعاصي تابعة له وإن لم يذكر معه، مع أن التكذيب قد يكون في
القول والفعل المخالف للحق، ومنه قولهم: حمل فما كذب حتى لقي العدو فهزمه.
قوله تعالى:
(ألم نهلك الأولين (16) ثم نتبعهم الآخرين (17) كذلك
نفعل بالمجرمين (18) ويل يومئذ للمكذبين (19) ألم نخلقكم
من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22)
فقدرنا فنعم القادرون (23) ويل يومئذ للمكذبين (24) ألم نجعل
الأرض كفاتا (25) أحياء وأمواتا (26) وجعلنا فيها رواسي
شامخات وأسقيناكم ماء فراتا (27) ويل يومئذ للمكذبين (28)
ثلاث عشرة آية.
قرأ أهل المدينة والكسائي (فقدرنا) مشددة. الباقون بالتخفيف وهما
لغتان. ومن اختار التخفيف فلقوله (فنعم القادرون).
يقول الله تعالى على وجه التهديد للكفار (ألم نهلك الأولين) يعني قوم نوح
226

وعاد وثمود، والآخرون قوم لوط وإبراهيم إلى فرعون ومن معه من الجنود أهلكهم
الله تعالى بأنواع الهلاك جزاء على كفرهم لنعم الله وجحدهم لتوحيده واخلاص عبادته
وقوله (ثم نتبعهم الآخرين) إنما رفعه عطفا على موضع (ألم) كأنه قال:
لكنا نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين. وقال المبرد تقديره ثم نحن نتبعهم لا يجوز
غيره. لان قوله (ألم نهلك) ماض، وقوله (ثم نتبعهم) مستقبل فلا يكون عطفا
على الأول ولا على موضعه. والاهلاك إبطال الشئ بتصييره إلى حيث لا يدرى أين
هو إما باعدامه أو باخفاء مكانه. وقد يكون الاهلاك بالإماتة، وقد يكون بالنقل
إلى حال الجمادية. والأول هو الكائن قبل غيره. والثاني هو الكائن بعد غيره.
والأول قبل كل شئ هو الله تعالى الذي لم يزل. (والأولين) في الآية هم الذين
تقدموا على أهل العصر الثاني، والاخر الكائن بعد الأول من غير بقية منه، وبهذا
ينفصل عن الثاني، لان الثاني قد يكون بعد بقية من الشئ ثالثا ورابعا وخامسا إلى
حيث انتهى، فإذا صار إلى الاخر فليس بعده شئ كالكتاب الذي هو أجزاء كثيرة
وقوله (كذلك نفعل بالمجرمين) أي مثل ما فعلنا بأولئك نفعل مثله بالعصاة
ثم قال (ويل يومئذ) يعني يوم الجزاء والثواب والعقاب (للمكذبين) فإنهم
يجازون بأليم العقاب. والاتباع الحاق الثاني بالأول بدعائه إليه، والتبع الحاق
الثاني بالأول باقتضائه له، تبع تبعا فهو تابع وأتبع اتباعا.
وقوله (ألم نخلقكم من ماء مهين) والمهين القليل الغناء، ومثله الحقير الذليل
وفى خلق الانسان على هذا الكمال من الحواس الصحيحة والعقل والتميز من ماء
مهين أعظم الاعتبار وأبين الحجة على أن له مدبرا وصانعا وخالقا خلقه وصنعه
فمن جحده كان كالمكابر لما هو من دلائل العقول.
ثم قال الله تعالى مبينا انه جعل ذلك الماء المهين الحقير (في قرار مكين)
227

فالقرار المكان الذي يمكن أن يطول فيه مكث الشئ، ومنه قولهم: قر في المكان إذا
ثبت على طول المكث فيه يقر قرارا، ولا قرار لفلان في هذا المكان أي لا ثبات له.
وقوله (إلى قدر معلوم) فالقدر المقدار المعلوم الذي لا زيادة فيه ولا نقصان
وكأنه قال إلى مقدار من الوقت المعلوم، والقدر مصدر من قولهم: قدر يقدر
قدرا وقدر يقدر - بالتخفيف، والتشديد - إلا أن التشديد للتكثير. وقوله
(فقدرنا فنعم القادرون) معناه في قول من خفف فقدرنا من القدرة، فنعم
القادرون على تدبيره. ومن شدد أراد فقدرنا، فنعم المقدرون لأحوال النطفة
ونقلها من حال إلى حال حتى صارت إلى حال الانسان. والعرب تقول: قدر عليه
الموت وقدر: بالتخفيف والتشديد. ومن شدد وقرأ القادرون جمع بين اللغتين كما
قال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت * من الحوادث إلا الشيب والصلعا (1)
وقوله (ألم نجعل الأرض كفاتا) نصب (كفاتا) على الحال، وتقديره ألم
نجعل الأرض لكم ولهم كفاتا، والكفات الضمام فقد جعل الله الأرض للعباد تكفتهم
(احياء وأمواتا) أي تضمهم في الحالين كفت الشئ يكفته كفتا وكفاتا إذا ضمه
وقيل (كفاتا) وعاء وهذا كفته أي وعاؤه، ويقال كفيته أيضا، وقال الشعبي
ومجاهد: فظهرها للاحياء وبطنها للأموات، وهو قول قتادة ونصب أحياء وأمواتا
على الحال، ويجوز على المفعول به، قال أبو عبيدة وغيره (كفاتا) أي أوعية يقال:
هذا النحى كفت هذا وكفيته.
وقوله (احياء وأمواتا) أي منه ما ينبت، ومنه ما لا ينبت.
وقوله (وجعلنا فيها رواسي شامخات) أي وجعلنا في الأرض جبالا ثابتة

(1) مر في 6 / 28.
228

عالية، فالشامخات العاليات، شمخ يشمخ شمخا، فهو شامخ، ومنه شمخ بأنف إذا رفعه
كبرا، وجبل شامخ وشاهق وبازخ كله بمعنى واحد والرواسي الثوابت.
وقوله (وأسقيناكم ماء فراتا) أي وجعلنا لكم شرابا من الماء الفرات،
وهو العذاب وهو صفة يقال: ماء فرات وماء زلال وماء غدق وماء نمير كله من
العذوبة والطيب، وبه سمي النهر العظيم المعروف بالفرات قال الشاعر:
إذا غاب عنا غاب عنا فراتنا * وإن شهد أجدى فضله وجداوله (1)
وقال ابن عباس أصول الأنهار العذبة أربعة: جيحان ومنه دجلة، وسيحان
نهر بلخ، وفرات الكوفة، ونيل مصر. وقوله (ويل يومئذ للمكذبين)
قد فسرناه.
قوله تعالى:
(إنطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون (29) إنطلقوا إلى ظل ذي
ثلث شعب (30) لا ظليل ولا يغني من اللهب (31) إنها ترمي
بشرر كالقصر (32) كأنه جمالت صفر (33) ويل يومئذ
للمكذبين (34) هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم
فيعتذرون (36) ويل يومئذ للمكذبين (37) هذا يوم الفصل
جمعناكم والأولين (38) فإن كان لكم كيد فكيدون (39) ويل
يومئذ للمكذبين) (40) اثنتا عشرة آية.

(1) مر في 4 / 194.
229

قرأ رويس (انطلقوا إلى ظل) على فتح اللام بلفظ الماضي. وقرأ أهل الكوفة
إلا أبا بكر (جمالة) وضم الجيم يعقوب. الباقون (جمالات) من قرأ
(جمالة) على لفظ الواحد قال معناه الجمع لقوله (صفر) ومن قرأ (جمالات).
بكسر الجيم قال: جمالة وجمالات جميعا جمعان، كأنه جمع الجمع مثل: رجال
ورجالات، وبيوت وبيوتات، والهاء في قوله (كأنه) كناية عن الشرر.
وهذا حكاية ما يقول الله تعالى للكفار المكذبين بيوم الدين يوم القيامة فإنه
يقول لهم (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) من العقاب على الكفر ودخول النار
جزاء على المعاصي، فكنتم تجحدون ذلك وتكذبون به ولا تعترفون بصحته، فامضوا
اليوم إليه. فالانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث الاعتقال، وهو
من الاطلاق خلاف التقييد، والانتقال من حال إلى حال، ومن اعتقاد إلى اعتقاد
لا يسمى انطلاقا. ثم ذكر الموضع الذي أمرهم بالانطلاق إليه، فقال (انطلقوا إلى)
ظل ذي ثلاث شعب) قيل: معناه يتشعب من النار ثلاث شعب: شعبة فوقه، وشعبة
عن يمينه وشعبة عن شماله فيحيط بالكافر. وقال مجاهد وقتادة (ظل) دخان من
جهنم ينقسم ثلاث شعب كما قال تعالى (أحاط بهم سرادقها) (1) أي من الدخان
الاخذ بالأنفاس (لا ظليل) معناه غير مانع من الأذى يستر عنه، فالظليل المانع
من الأذى بستره عنه، ومثله الكنين، فالظليل من الظلة، وهي السترة، والكنين
من الكن، فظل هذا الدخان لا يغني الكفار من حر النار شيئا. وبين ذلك بقوله
(ولا يغني من اللهب) والاغناء إيجاد الكفاية بما يكون وجود غيره وعدمه سواء
يقال: أغنى عنه أي كفى في الدفع عنه. واللهب ارتفاع الشرر، وهو اضطرام
النار، التهب يلتهب التهابا وألهبتها إلهابا ولهبا.

(1) سورة 18 الكهف آية 29.
230

وقوله (انها) يعني النار (ترمي بشرر) وهي قطع تطاير من النار في الجهات
وأصله الظهور من شررت الثوب إذا أظهرته للشمس والشرر يظهر متبددا من
النار. وقوله (كالقصر) أي ذلك الشرر كالقصر أي مثله في عظمه، وهو يتطاير
على الكافرين من كل جهة - نعوذ بالله منه - والقصر واحد القصور من البنيان - في
قول ابن عباس ومجاهد - وفي رواية أخرى عن ابن عباس وقتادة والضحاك: القصر
أصول الشجر واحدته قصرة مثل جمرة وجمر، والعرب تشبه الإبل بالقصور،
قال الأخطل:
كأنه برج رومي يشيده * لز بجص وآجر وأحجار (1)
والقصر في معنى الجمع إلا أنه على طريق الجنس. ثم شبه القصر بالجمال،
فقال (كأنه جمالات صفر) قال الحسن وقتادة: كأنها انيق سود، لما يعتري سوادها
من الصفرة. وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: قلوس السفن، وفي رواية
أخرى عن ابن عباس: هي قطع النحاس. قال الزجاج (جمالات) بالضم جمع
جمالة وهو القلس من قلوس البحر، ويجوز أن يكون جمع (جمل) وجمالات، كما
قيل (رحال) جمع (رحل) ومن كسر فعلى انه جمع جمالة، وجمالة جمع جمل
مثل حجر وحجارة، وذكر وذكارة. وقرئ في الشواذ (كالقصر) بفتح الصاد جمع
كأنها أعناق الإبل (وجمالات) جمع جمل كرجل ورجالات، وبيت وبيوتات،
ويجوز أن يكون جمع جمالة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (جملة)
بغير الألف على التوحيد لأنه لفظ جنس يقع على القليل والكثير. الباقون جمالات
بألف، مكسور الجيم.
وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) قد فسرناه ثم قال تعالى (هذا يوم لا ينطقون

(1) مر في 7 / 53.
231

ولا يؤذن لهم فيعتذرون) اخبار من الله تعالى أن ذلك اليوم لا ينطق الكفار.
وقيل في معناه قولان:
أحدهما - ان ذلك اليوم مواطن، فموطن لا ينطقون، لأنهم مبلسون من هول
ما يرونه، وموطن يطلق فيه عن ألسنتهم فينطقون، فلذلك حكى عنهم أنهم (قالوا
ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) (1)
وقد يقال هذا يوم لا ينطقون إذا لم ينطقوا في بعضه كما يقال: كان كذا يوم قدم فلان
وإن كان قدم في بعضه، لان المعنى مفهوم.
والثاني - انهم ينطقون بنطق لا ينتفعون به، وكأنهم لم ينطقوا، وأضاف
الزمان إلى الافعال كقولك أتيتك يوم قدم زيد، وآتيك يوم يخرج عمرو، وأجاز
النحويون هذا يوم لا ينطقون بالنصب على أنه يشير إلى الجزاء، ولا يشير إلى اليوم
وقوله (ولا يؤذن لهم) فالاذن الاطلاق في الفعل، تقول: يسمع بالاذن
فهذا أصله وقد كثر استعماله حتى صار كل دليل ظهر به أن للقادر أن يفعل كذا
فهو أذن له، وكل ما أطلق الله فيه بأي دليل كان، فقد أذن فيه.
وقوله تعالى (فيعتذرون) فالاعتذار الانتفاء من خلاف المراد بالمانع من
المراد، وليس لاحد عذر في معصية الله، لأنه تعالى لا يكلف نفسا ما لا يطاق. وقد
يكون له عذر في معصية غيره، لأنه قد يكلف خلاف الصواب وقد يكلف ما
لا يمكن لعارض من الأسباب.
وقوله (فيعتذرون) رفع عطفا على قوله (لا يؤذن) قال الفراء: تقديره
لا ينطقون ولا يعتذرون، وقد يجوز في مثله النصب علي جواب النفي، ومعنى الآية
لا يؤذن لهم في الاعتذار فكيف يعتذرون.

(1) سورة 40 المؤمن آية 11.
232

وقوله (هذا يوم الفصل) يعني يفصل بين الخلائق بالحكم لكل أحد بما له
وعليه. والفصل قطع علق الأمور بتوفية الحقوق، وهذا الفصل الذي هو فصل
القضاء يكون ذلك في الآخرة على ظاهر الامر وباطنه، وأما في الدنيا، فهو على
ظاهر الامر، لان الحاكم لا يعرف البواطن.
وقوله (جمعناكم والأولين) معناه إن الله يجمع فيه الخلائق في يوم واحد
في صعيد واحد، والجمع جعل الشئ مع غيره إما في مكان واحد أو محل واحد أو
في يوم واحد أو وقت واحد، أو يجعل مع غيره في حكم واحد أو معنى واحد
كجمع الجماد والحيوان في معنى الحدوث.
وقوله (فإن كان لكم كيد فكيدون) معناه توبيخ من الله تعالى وتقريع
للكفار واظهار عجزهم عن الدفع عن أنفسهم فضلا عن أن يكيدوا غيرهم، وإنما هو على أنكم
كنتم في دار الدنيا تعملون ما يغضبني، فالان عجزتم عن ذلك وحصلتم على وبال
ما عملتم. وقيل: المعنى إن كان لكم حيلة تحتالونها في التخلص فاحتالوا. والكيد الحيلة
و (ويل يومئذ للمكذبين) قد مضى تفسيره.
قوله تعالى:
(إن المتقين في ضلال وعيون (41) وفواكه مما يشتهون (42)
كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (43) إنا كذلك نجزي
المحسنين (44) ويل يومئذ للمكذبين (45) كلوا وتمتعوا قليلا
إنكم مجرمون (46) ويل يومئذ للمكذبين (47) وإذا قيل لهم
233

اركعوا لا يركعون (48) ويل يومئذ للمكذبين (49) فبأي حديث
بعده يؤمنون) (50) عشر آيات.
لما ذكر الله تعالى الكفار وما أعد لهم من ضروب العقاب وأنواع العذاب
ترهيبا وتزهيدا في مثله، ذكر المؤمنين المتقين للمعاصي وبين ما أعده لهم من أنواع
النعيم وضروب اللذات فقال (إن المتقين) ومعناه الذين اتقوا عقاب الله باجتناب
معاصيه وطلبوا ثوابه بفعل طاعاته (في ظلال) وهو جمع ظل، وهو الحجاب العالي
المانع من كل أذى، فلاهل الجنة حجاب من كل أذى لان هواء الجنة مناف لكل
أذى، فهم من طيبة على خلاصة. وقيل في ظلال من قصور الجنة وأشجارها
(وعيون) وهي ينابيع الماء التي تجري في ظل الأشجار. وقيل: ان تلك العيون
جارية في غير أخدود، لان ذلك امتع بما يرى من حسنه وصفائه على كنهه من
غير ملابسة شئ له، وليس هناك شئ إلا على أحسن صفاته، لان الله تعالى قد
شوق إليه أشد التشويق ورغب فيه أتم الترغيب (وفواكه) وهي جمع فاكهة، وهي
ثمار الأشجار التي من شأنها أن تؤكل، وقد يكون من الثمر ما ليس كذلك كالثمر
المر، فإنه ليس من الفاكهة.
وقوله (مما يشتهون) يعني لهم فاكهة من جنس ما يشتهونه.
ثم قال تعالى (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون) صورته صورة الامر
والمراد به الإباحة. وقال قوم: هو أمر على الحقيقة، لان الله تعالى يريد منهم الأكل والشرب
في الجنة، وإنهم إذا علموا ذلك زاد في سرورهم، فلا تكون إرادته لذلك
عبثا، والهنئ هو الذي لا أذى فيه فيما بعد. وقيل: الهنئ النفع الخالص من شائب
الأذى. والشهوة معنى في القلب إذا صادفت المشتهى كان لذة، وضده النفار إذا
234

صادفه كان ألما، وجاء الكلام على التقابل للكافرين من قوله (في ظل ذي ثلاث
شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب) مقابل أهل الجنة في ظلال قصور الجنة وأشجارها
وقوله (انا كذلك نجزي المحسنين) اخبار منه تعالى أنه كما جازى هؤلاء
المتقين بما ذكره من النعيم مثل ذلك يجازي كل محسن عامل بطاعة الله. وفى ذلك
دلالة على أن كل احسان خالص للعبد فله به الثواب والحمد، وانه طاعة لله، وإن
ما ليس باحسان من فعل خارج عن هذا الحكم. وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) قد
مضى تفسيره.
ثم عاد إلى خطاب الكفار فقال لهم على وجه التهديد والوعيد (كلوا وتمتعوا)
في دار الدنيا وتلذذوا بما تريدون وانتفعوا بما تشتهون (قليلا) لان أيام الدنيا
قليلة، فالتمتع الحصول في أحوال تلذ، تمتع تمتعا واستمتع استمتاعا وأمتعه غيره امتاعا
والتمتع والتلذذ واحد ونقيضه التألم.
وقوله (إنكم مجرمون) اخبار منه تعالى للكفار بأنكم وإن تمتعتم قليلا في
الدنيا فإنكم عصاة وكفار وما لكم إلى النار وعذابها. والاجرام فعل ما يقطع المدح
ويحصل بدله الذم، يقال: أجرم إجراما واجترم اجتراما وتجرم عليه أي تطلب له
الجرم (ويل يومئذ للمكذبين) بينا معناه.
وقوله (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) فالركوع هو الانخفاض على وجه
الخضوع، ويعبر به عن نفس الصلاة ويقال: قد ركعت وبقي على ركوع أي صلاة
والمراد به ههنا - الصلاة، والمعنى إن هؤلاء الكفار إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون
لجهلهم بما في الصلاة من الخير والبركة. وقيل: انه يقال لهم ذلك في الآخرة كما
قال (يدعون إلى السجود فلا يستطيعون) ذكره ابن عباس. وقال قتادة، يقال لهم
ذلك في الدنيا، فان الصلاة من الله بمكان. وقال مجاهد: عنى بالركوع - هنا - الصلاة
235

وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) قد فسرناه، فكأنه قيل لهم يجب عليكم الركوع
بالخضوع لله فاركعوا فأخبر عنهم أنهم لا يركعون تكذيبا بهذا الخبر، فلذلك قال
عقيب ذلك (ويل يومئذ للمكذبين) وإلا فقوله (اركعوا) أمر من الله تعالى،
ولا يقال فيمن أمر بالشئ فلم يفعل انه كذب، وقيل: إن ما تكرر في هذه السورة
من قول (ويل يومئذ للمكذبين) ليس على وجه التكرار في المعنى، لان معناه ويل
للمكذبين بما ذكره قبله من الاخبار، وقيل يريد أنه كذب بالمخبر الذي يليه، وهو
وجه القول الثاني والثالث والرابع إلى آخر السورة، على هذا المنهاج من أنه يلزمه
الويل بالتكذيب بالذي يليه والذي قبله على التفصيل لا على الاجمال في أنه لا يلزمه
حتى يكذب بالجميع. وقوله (فبأي حديث بعده يؤمنون) معناه إنه إذا أتى القرآن
باظهر البرهان وكفروا به فليس ممن يفلح بالايمان بكلام غيره، لان من لم يؤمن بما
فيه المعجزة الظاهرة والآية الباهرة لا يؤمن بغيره.
236

78 - سورة النبأ:
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي أربعون آية في الكوفي والمدنيين
واحدى وأربعون في البصري
بسم الله الرحمن الرحيم
(عم يتساءلون (1) عن النبأ العظيم (2) الذي هم فيه
مختلفون (3) كلا سيعلمون (4) ثم كلا سيعلمون (5) ألم نجعل
الأرض مهادا (6) والجبال أوتادا (7) وخلقناكم أزواجا (8) وجعلنا
نومكم سباتا (9) وجعلنا الليل لباسا (10) وجعلنا النهار
معاشا (11) وبنينا فوقكم سبعا شدادا (12) وجعلنا سراجا
وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا (14) لنخرج به
حبا ونباتا (15) وجنات ألفافا) (16) ست عشرة آية.
وقف يعقوب على (عم) بالهاء، الباقون بلا هاء
وقرأ ابن عامر (كلا ستعلمون) بالتاء على الخطاب فيهما أي قل لهم
ستعلمون عاقبة أمركم الباقون - بالياء - على الغيبة، وهو الأقوى لقوله (عم
237

يتساءلون) وقوله (الذي هم فيه مختلفون) ولم يقل أنتم، وإن كانت التاء جائزة
لان العرب تنتقل من غيبة إلى خطاب، ومن خطاب إلى غيبة.
قيل في سبب نزول هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا حدث قريشا
وعرفهم أخبار الأمم السالفة ووعظهم كانوا يهزؤن بذلك، فنهاه الله تعالى أن
يحدثهم فقال (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء)
إلى قوله (حتى يخوضوا في حديث غيره) (1) فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحدث أصحابه
فإذا أقبل واحد من المشركين أمسك فاجتمعوا على بكرة أبيهم وقالوا: والله يا محمد
إن حديثك عجب، وكنا نشتهي أن نسمع كلامك وحديثك، فقال إن رب نهاني
أن أحدثكم، فأنزل الله تعالى (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) وقوله (عم
يتساءلون) أصله عن ما، فحذفت الألف لاتصالها بحرف الجر حتى صارت كالجزء
منه لتدل على شدة الاتصال مع تخفيف المركب في الكلام، فحذف حرف الاعتلال
وأدغمت النون في الميم لقربها منها من غير أخلال، وصورته صورة الاستفهام والمراد
تفخيم القصة والانكار والتهديد. وقوله (يتساءلون) معناه عن ماذا يسأل بعضهم
بعضا، فالتساؤل سؤال أحد النفيسين للاخر، تساءلا تساؤلا وسأله مسألة، والسؤال
طلب الاخبار بصيغة مخصوصة في الكلام، وكل ما يزجر العقل عنه بما فيه من
الداعي إلى الفساد لا يجوز السؤال عنه كسؤال الجدل لدفع الحق ونصرة الباطل،
وكالسؤال الذي يقتضي فاحش الجواب، لأنه كالأمر بالقبيح. والنبأ معناه الخبر
العظيم الشأن كمعنى الخبر عن التوحيد في صفة الاله وصفة الرسول، والخبر عما يجوز
عليه وما لا يجوز. وقال مجاهد: النبأ العظيم الشأن القرآن، وقال قتادة وابن زيد:
هو السؤال عن البعث بعد الموت، لأنهم كانوا يجمعون على التكذيب بالقرآن

(1) سورة 4 النساء آية 139 وقريب منه في سورة 6 الانعام آية 68.
238

(الذي هم فيه مختلفون) قال قتادة: معناه الذي هم فيه بين مصدق ومكذب، فقال
الله سبحانه مهدد الهم ومتوعدا (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) ومعنى (كلا) ردع وزجر،
كأنه قال ارتدعوا وانزجروا ليس الامر كما ظننتم. وقال قوم: معناه حقا سيعلمون عاقبة
أمرهم وعائد الوبال عليهم. وقال الضحاك: معناه كلا سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم،
وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. وقال قوم: كلا سيعلمون ما ينالهم يوم القيامة من
العذاب، ثم كلا سيعلمون ما ينالهم في جهنم من العذاب، فلا يكون تكرارا.
والاختلاف ذهاب كل واحد من النفيسين إلى نقيض ما ذهب إليه الاخر، يقال:
اختلفا في المعنى فذهب أحدهما إلى كذا، وذهب الاخر إلى كذا.
ثم نبههم على وجه الاستدلال على صحة ذلك فقال (ألم نجعل الأرض مهادا)
أي وطاء، وهو القرار المهيأ للتصرف فيه من غير أذية. وقال قتادة: للهاد البساط
ومهد الأرض تمهيدا مثل وطأه توطئة، لان ذلك لا يقدر عليه غير الله، لأنه الذي
يسكن الأرض حالا بعد حال حتى يمكن الاستقرار عليها والتصرف فيها (والجبال
أوتادا) أي وجعلنا الجبال أوتادا للأرض لئلا تميد بهم، فالجبال جمع جبل،
وهو بغلظه وثقله يبلغ أن يكون ممسكا للأرض عن أن تميد بثقله، فعلى ذلك دبره
الله، وذكر العباد به وما فيه من العبرة بعظمة من يقدر عليه. والوتد المسمار إلا
أنه أغلظ منه، لذلك يقال: مسامير العناء إذا دقت كالمسمار من الحديد في القوة
والدقة، ولو غلظت صارت أوتادا فكذلك وصفت الجبال بأنها أوتاد للأرض إذ
جعلت بغلظها ممسكة لها عن أن تميد باهلها.
وقوله (وجعلناكم أزواجا) أي اشكالا كل واحد يشاكل الاخر. وقيل:
معناه ذكرا وأنثى حتى يصح منكم التناسل.
وقوله (وجعلنا نومكم سباتا) أي نعاسا في أوله تطلب النفس الراحة به.
239

وقيل: معناه جعلنا نومكم راحة. وقيل: معناه جعلنا نومكم طويلا ممتدا
تعظم به راحة أبدانكم ويكثر به انتفاعكم، ومنه سبت من الدهر أي مدة طويلة
منه. وقال أبو عبيدة: معناه جعلنا نومكم سباتا ليس بموت، ورجل مسبوت فيه
روح، والسبات قطع العمل للراحة، ومنه سبت أنفه إذا قطعه، ومنه يوم السبت
أي يوم قطع العمل للراحة على ما جرت به العادة في شرع موسى، وصار علما على
اليوم الذي بعد الجمعة بلا فصل.
وقوله (وجعلنا الليل لباسا) فاللباس غطاء ساتر مماس لما ستر، فالليل ساتر
للاشخاص بظلمته مماس لها بجسمه الذي فيه الظلمة قال الشاعر:
فلما لبسن الليل أوجن نصبت * له من حذا آذانها وهي جنح (1)
(وجعلنا النهار معاشا) أي متصرفا للعيش والعيش الانعاش الذي تبقى
معه الحياة على حال الصحة عاش يعيش عيشا والنهار اتساع الضياء المنبث في الآفاق
وأصله من انهر الدم إذا وسع مجراه، ومنه النهر وهو المجرى الواسع من مجاري
الماء، ومنه الانتهار الاتساع في الاغلاظ، وفى خلق النهار تمكين من التصرف
للمعاش وفي ذلك أعظم النعمة وأكبر الاحسان.
وقوله (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) يعني سبع سماوات. والبناء جعل الطاق
الاعلى على الأدنى، فالسماء مبنية كهيئة القبة مزينة بالكواكب المضيئة، فسبحان
الذي زينها وخلقها وبناها على هذه الصفة لعباده. وإنما جعلها سبع سماوات لما في
ذلك من الاعتبار للملائكة، ولما في تصور الطبقات من عظم القدرة، وهول تلك
الأمور، وما فيه من تمكين البناء حتى وقفت سماء فوق سماء، فسبحان من يمسكها بما
هو قادر عليها ومدبر لها.

(1) الطبري 30 / 3.
240

وقوله (وجعلنا سراجا وهاجا) يعني الشمس جعلها الله سراجا للعالم
يستضيئون به، فالنعمة عامة لجميع الخلق. والوهاج الوقاد، وهو المشتعل بالنور العظيم
وقال مجاهد وقتادة: يعني وهاجا متلألئا.
وقوله (وأنزلنا من المعصرات) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني
الرياح، كأنها تعصر السحاب. وقيل هي السحاب تتحلب بالمطر. وقوله (ماء
ثجاجا) فالثجاج الدفاع في انصبابه كثج دماء البدن، يقال ثججت دمه أثجه ثجا، وقد
ثج الدم يثج ثجوجا (لنخرج به حبا ونباتا) أي نخرج بذلك الماء حبا وهو كل ما تضمنه
الزرع الذي يحصد. والنبات الكلأ من الحشيش والزرع (وجنات الفافا) أي بساتين
ملتفة بالشجر يخرجها الله تعالى لعباده بالمطر. وإنما قال (جنات) لان الشجر
يجنها أي يسترها و (الالفاف) الاخلاط المتداخلة يدور بعضها على بعض واحدها
(لف) يقال: شجر ملتف وأشجار ملتفة. والمعاني الملففة المتداخلة باستتار بعضها
ببعض حتى لا تبين إلا في خفى. وقيل: واحده لف ولفف. وقيل: في واحده
شجرة لفا، وشجر لف. وقال مجاهد وقتادة وابن عباس: ألفافا ملتفة. والتقدير
فيه ويخرج به شجر جنات الفافا ملتفة إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه.
قوله تعالى:
(إن يوم الفصل كان ميقاتا (17) يوم ينفخ في الصور
فتأتون أفواجا (18) وفتحت السماء فكانت أبوابا (19) وسيرت
الجبال فكانت سرابا (20) إن جهنم كانت مرصادا (21) للطاغين
241

مآبا (22) لا بثين فيها أحقابا (23) لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا (24)
إلا حميما وغساقا (25) جزاء وفاقا (26) إنهم كانوا لا يرجون
حسابا (27) وكذبوا بآياتنا كذابا (28) وكل شئ أحصيناه
كتابا (29) فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) (30) اربع عشرة آية.
قرأ (وفتحت) بالتخفيف أهل الكوفة إلا الأعشى والبرجمي. الباقون
بالتشديد. وقرأ حمزة وروح (لبثين فيها) بغير الف مثل (مزجين، وفرهين)
الباقون (لا بثين) بألف على اسم الفاعل، وهو الأجود، لأنه من (لبث) فهو
(لابث) وحجة حمزة أنه مثل (طمع) و (طامع). واللبث البطئ. وقرأ أهل
الكوفة إلا عاصما عن المفضل (غساقا) مشددة. الباقون بالتخفيف، وهما لغتان.
فالغساق صديد أهل النار - في قول إبراهيم وقتادة وعكرمة وعطية - وقال أبو عبيدة:
الغساق ماء وهو من الغسل أي سيال. وقال غيره: هو البارد. وقيل: المنتن.
يقول الله تعالى (إن يوم الفصل) يعني يوم الدين وهو يوم القيامة الذي
يفصل الله فيه بالحكم بين الخلائق (كان ميقاتا) أي جعله الله وقتا للحساب والجزاء
فالميقات منتهى المقدار المضروب لوقت حدوث أمر من الأمور، وهو مأخوذ من
الوقت، كما أن الميعاد من الوعد، والميزان من الوزن والمقدار من القدر. والمفتاح
من الفتح.
وقوله (يوم ينفخ في الصور) فالنفخ إخراج ريح الجوف من الفم، ومنه نفخ الزق،
والنفخ في البوق، ونفخ الروح في البدن يشبه بذلك، لأنها تجري فيه كما تجري الريح،
يجرى مجرى الريح في الشئ، والصور قرن ينفخ فيه في حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله
242

وقال الحسن: هو جمع صورة. وبه قال قتادة. ومعناه: إذكر يوم ينفخ في الصور
(فتأتون أفواجا) فالفوج جماعة من جماعة. والأفواج جماعات من جماعات،
فالناس يأتون على تلك الصفة إلى أن يتكاملوا في أرض القيامة. وكل فريق يأتي مع
شكله. وقيل تأتي كل أمة مع نبيها، فلذلك جاؤوا أفواجا أي زمرا.
وقوله (وفتحت السماء فكانت أبوابا) معناه وشققت السماء، فكانت كقطع
الأبواب. وقيل: صار فيها طرق ولم يكن كذلك قبل.
وقوله (وسيرت الجبال فكانت سرابا) معناه زيلت الجبال عن أماكنها
وأذهب بها حتى صارت كالسراب.
وقوله (ان جهنم كانت مرصادا) إخبار منه تعالى بأن جهنم تكون يومئذ
مرصادا. والمرصاد هو المعد لامر على ارتقابه الوقوع فيه، وهو مفعال من الرصد.
وقيل: المعنى ذات ارتقاب لأهلها تراصدهم بنكالها. والرصد عمل ما يترقب
به الاختطاف.
وقوله (للطاغين) يعني جهنم للذين طغوا في معصية الله وتجاوزوا الحد
(مآبا) أي مرجعا، وهو الموضوع الذي يرجع إليه، فكأن المجرم قد كان باجرامه
فيها ثم رجع إليها، ويجوز أن يكون كالمنزل الذي يرجع إليه.
وقوله (لابثين فيها أحقابا) أي ماكثين فيها أزمانا كثيرة، وواحد
الأحقاب حقب من قوله (أو أمضي حقبا) (1) أي دهرا طويلا. وقيل واحده
حقب، وواحد الحقب حقبة، كما قال الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وإنما قال (لابثين فيها احقابا) مع أنهم مخلدون مؤبدون: لا انقضاء لها

(1) سورة 18 الكهف آية 61.
243

إلا أنه حذف للعلم بحال أهل النار من الكفار باجماع الأمة عليه (لابثين فيها احقابا
لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا) ثم يعذبون بعد ذلك بضرب
آخر كالزقوم والزمهرير ونحوه من أصناف العذاب، ومن قرأ (لبثين) بلا الف استشهد
في تعدي (فعل) بقول الشاعر:
ومسحل سح عضاده سحج * بسراتها ندب له وكلوم (1)
وقال ابن عباس: الحقب ثمانون سنة. وقال الحسن: سبعون سنة. وقال
قوم: هو أكثر من ذلك.
وقوله (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا) قال أبو عبيدة: البرد ههنا النوم
قال الكندي:
فيصدني عنها وعن قبلتها البرد
أي النوم، فكأنهم لا ينامون من شدة ما هم فيه من العذاب، ولا يجدون
شرابا يشربوه (إلا حميما وغساقا) فالحميم الحار الشديد الحرارة والغساق صديد
أهل النار - في قول إبراهيم وقتادة وعطية وعكرمة - يقال: غسقت القرحة غسقا
إذا سال صديدها، وكذلك الجروح، ومنه قوله (ومن شر غاسق إذا وقب) (2)
والغاسق الليل إذا لبس الأشياء بظلمته. كأنه يسيل عليه بظلامه، وقال الحسن:
الجنة والنار مخلوقتان في الأيام الستة الأول، وهي الجنة التي سكنها آدم، وهي الجنة
التي يسكنها المتقون في الآخرة. ثم يفنيها الله لهلاك الخلائق. ثم يعيدها، فلا يفنيها
أبدا. وقال قوم: المخلوقتان، ولا يفنيهما الله. وقال آخرون: هما غير مخلوقتين.
والجنة التي كان فيها جنة أخرى ليست جنة الخلد.
وقوله (جزاء وفاقا) قال ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة: معناه وافق

(1) تفسير الطبري 30 / 7
(2) سورة 113 الفلق آية 3.
244

الجزاء أعمالهم، فالوفاق الجاري على المقدار، فالجزاء وفاق لأنه جار على مقدار
الاعمال في الاستحقاق، وذلك أنه يستحق على الكفر أعظم مما يستحق على الفسق
الذي ليس بكفر. ويستحق على الفسق أعظم مما يستحق على الذنب الصغير.
وقوله (إنهم كانوا لا يرجون حسابا) أي لا يرجون المجازاة على الاعمال ولا
يتوقعونه - وهو قول الحسن وقتادة - وقيل: معناه إنهم كانوا: لا يرجون حسن
الجزاء في الحساب لتكذيبهم فالرجاء التوقع لوقوع أمر يخاف ألا يكون، فهؤلاء
كان يجب عليهم أن يتوقعوا الحساب على يقين أنه يكون، فلم يفعلوا الواجب في
هذا، ولا قاربوه لاعتقادهم أنه لا يكون فاللوم أعظم لهم والتقريع لهم أشد. وقيل:
معنى لا يرجون لا يخافون كما قال الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وحالفها في بيت نوب عوامل (1)
وقوله (وكذبوا بآياتنا كذابا) معناه جحدوا بآيات الله وحججه، ولم
يصدقوا بها. وإنما جاء المصدر على فعال للمبالغة مع اجرائه على نظيره الذي يطرد قبل
آخره الف نحو الانطلاق والاقتدار والاستخراج والقتال والكرام، والمصدر الجاري
على فعل التفعيل نحو التكذيب والتحسين والتقديم، وقد خرج التفعيل عن النظير لما
تضمن من معنى التكثير، كما خرج التفاعل والمفاعلة للزيادة على أقل الفعل، فإنه من
اثنين. ومثل كدأب، حملته حمالا وحرقته حراقا.
وقوله (وكل شئ أحصيناه كتابا) معناه وأحصينا كل شئ أحصيناه في
كتاب، فلما حذف حرف الجر نصبه، وقيل: إنما نصبه لان في أحصيناه معنى
كتبناه، فكأنه قال كتبناه كتابا، ومثل كذبته كذابا قصيته قصاء قال الشاعر:

(1) مر في 2 / 210 و 3 / 315 و 7 / 491 و 8 / 187.
245

لقد طال ما تبطتني عن صحابتي * وعن جوح قصاؤها من شقائيا (1)
والوجه في إحصاء الأشياء في الكتاب ما فيه من الاعتبار للملائكة بموافقة
ما يحدث لما تقدم به الاثبات مع أن تصور ذلك يقتضي الاستكثار من الخير
والاجتهاد فيه، كما يقتضي إذا قيل للانسان ما تعمله فإنه يكتب لك وعليك.
وقوله (فذوقوا) أي يقال لهؤلاء الكفار ذوقوا ما كنتم فيه من العذاب
(فلن نزيدكم إلا عذبا) لان كل عذاب يأتي بعد الوقت الأول فهو زائد عليه.
قوله تعالى:
(إن للمتقين مفازا (31) حدائق وأعنابا (32) وكواعب
أترابا (33) وكأسا دهاقا (34) لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا (35)
جزاء من ربك عطاء حسابا (36) رب السماوات والأرض وما بينهما
الرحمن لا يملكون منه خطابا (37) يوم يقوم الروح والملائكة
صفا لا يتكلمون إلا من أذنت له الرحمن وقال صوابا (38) ذلك اليوم
الحق فمن شاء اتخذا إلى ربه مآبا (39) إنا أنذرناكم عذابا قريبا *
يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت
ترابا) (40) إحدى عشرة آية في البصري وعشر آيات عند الباقين
قرأ (ولا كذابا) خفيفا الكسائي (رب السماوات) بالرفع محارب وأبو
بكر، و (الرحمن) جرا عن عاصم وابن عامر ويعقوب وسهل.

(1) القرطبي 19 / 179 والطبري 30 / 10.
246

لما ذكر الله تعالى حال الكفار وما أعده لهم من أنواع العقاب ذكر ما للمؤمنين المتقين
لمعاصي الله تعالى، فقال (إن للمتقين) الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه
وفعل طاعته (مفازا) وهو موضع الفوز بخلوص الملاذ. وأصل الفوز النجاة إلى
حال السلامة والسرور، ومنه قيل للمهلكة مفازة على وجه التفاؤل، لأنه قيل منجاة
وقيل مفازا منجى إلى مبرة. ثم بين ذلك فقال (حدائق وأعنابا) فالحدائق جمع
حديقة، وهي البستان المحوط، ومنه أحدق به حائطه. والحديقة الجنة المحوطة،
ومنه أحدق القوم بفلان إذا أطافوا به، وسميت الحدقة حدقة لما يحيط بها من جفنها
والأعناب جمع عنب، وهو ثمر الكرم قبل أن يجف فإذا جف فهو الزبيب، ونظيره
الرطب ثمر النخل قبل أن يصير تمرا فإذا صار تمرا زال عنه اسم الرطب.
وقوله (وكواعب أترابا) قال ابن عباس: الكواعب النواهد، والكاعب
الجارية قد نهد ثدياها، يقال: كعب ثدي الجارية ونهد إذا ابتدأ بخروج حسن.
والأتراب جمع ترب، وهي التي تنشأ مع لدتها على سن الصبي الذي يلعب بالتراب
فكأنه قيل هم على سن واحدة قال قتادة: أترابا يعني في سن واحدة.
وقوله (وكأسا دهاقا) فالكأس الاناء إذا كان فيه شراب. وقيل الكاس
إناء الخمر الذي يشرب منه، قال الشاعر:
يلذه بكأسه الدهاق (1)
فإن لم يكن فيه الخمر لم يسم كأسا، والدهاق ملاى بشدة الضغط، والدهق شدة
الضغط في الكأس ملاى مترعة ليس فيها فرجة ليستوفي حال اللذة. وقال قتادة:
دهاقا مترعة. وقال مجاهد: معناه متتابعة على شاربها مأخوذ من متابعة الشد
في الدهن.

(1) القرطبي 19 / 181.
247

وقوله (لا يسمعون فيها لغوا) أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه
(ولا كذابا) أي ولا تكذيب بعضهم لبعض. ومن قرأ (كذابا) بالتخفيف أراد
مصدر كاذبه مكاذبة، وكذابا قال الشاعر:
فصدقتني وكذبتني * والمرء ينفعه كذابه (1)
وقال الفراء: قال اعرابي في طريق مكة: يا رب القصار أحب إليك أم الحلق
يريد أقصر شعري أم احلق.
وقوله (جزاء من ربك عطاء حسابا) أي فعلنا بالمؤمنين المتقين ما فعلنا
جزاء على تصديقهم بالله ونبيه، فالجزاء إعطاء المستحق بعمل الطاعة أو المعصية.
وقوله (عطاء حسابا) أي بحساب العمل كل إنسان على قدر عمله من
النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، ثم سائر أخيار المؤمنين، وعند الله المزيد.
وقيل: معناه عطاء كافيا من قولهم: أعطاني ما أحسبني أي كفاني، وحسبك أي
اكتف، وحسبي الله أي كفاني الله. وقال الحسن: معناه إنه أعطاهم ذلك محاسبة.
وقوله (رب السماوات والأرض) من رفع استأنف الكلام وجعله مبتدأ.
وقوله (الرحمن) خبره، ومن جره رده على قوله (من ربك) رب السماوات،
وجعل (الرحمن) جرا بأنه نعته. ومن رفع الرحمن وجر الأول قطعه عن الأول
وتقديره: هو الرحمن. والمعنى إن الذي يفعل بالمؤمنين ما تقدم ذكره هو الله رب
السماوات والأرض ومديرهما، ومدبر ما بينهما، والمصرف لهما على ما يريده
(لا يملكون منه خطابا) ومعناه لا يملكون أن يسألوا إلا فيما أذن لهم فيه، كما قال
(لا يشفعون إلا لمن ارتضى) (2) وفي ذلك أتم التحذير من الاتكال. والخطاب
توجيه الكلام إلى مدرك بصيغة مبينة كاشفة عن المراد بخلاف صيغة الغائب عن الادراك

(1) مر في 8 / 390 و 9 / 425
(2) سورة 21 الأنبياء آية 28.
248

على طريقة أنت وبك. والاضمار على ثلاثة أضرب: إضمار المتكلم، وإضمار المخاطب
وإضمار الغائب.
وقوله (يوم يقوم الروح والملائكة) معناه إذكر يوم يقوم الروح، قال
الضحاك والشعبي: الروح هو جبرائيل عليه السلام وقال ابن مسعود وابن عباس: هو ملك
من أعظم الملائكة خلقا، وهو المروي في أخبارنا. وقال الحسن وقتادة: الروح
بنو آدم وقال ابن عباس: أرواح بني آدم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل رد
الأرواح إلى الأجساد.
وقوله (والملائكة صفا لا يتكلمون) أي مصطفين لا يتكلم أحد بشئ (إلا من
أذن له الرحمن) أي أذن الله له في الكلام (وقال صوابا) والصواب موافقة الغرض
الحكمي كأنه إصابة ذلك الغرض الذي تدعو إليه الحكمة. ونقيضه الخطأ، وهو
مخالفة الغرض الحكمي ولما كانت الحكمة قد تدعو إلى أمر بأوكد مما تدعو إلى أمر،
كدعائها إلى الفعل الأصلح، والفعل الأدون، صح ان صوابا أصوب من صواب.
ثم قال (ذلك اليوم) يعني اليوم الذي وصفه وأخبر عنه هو (الحق) الذي
لا شك في كونه وحصوله.
وقوله (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) فيه دلالة على أن العباد قادرون على
اتخاذ المآب وتركه. وإنما قال (فمن شاء اتخذ) لأنه قادر عليه ومزاح العلة فيه.
والمآب المرجع، وهو (مفعل) من آب يؤب أوبا. وقال سفيان: معناه مرجعا.
قال عبيد:
وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب (1)

(1) مر في 6 / 468.
249

وقوله (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) معناه الاخبار من الله تعالى أنه خوف
عباده وأعلمهم المواضع التي ينبغي أن يحذروها. ثم بين ما يكون بعد ذلك فقال
(يوم ينظر المرؤ ما قدمت يداه) ومعناه ينتظر جزاء ما قدمه، فان قدم طاعة انتظر
الثواب، وإن قدم معصية انتظر العقاب (ويقول الكافر) في ذلك اليوم (يا ليتني
كنت ترابا) أي يتمنى أن لو كان ترابا لا يعاد ولا يحاسب ليتخلص من عقاب
ذلك اليوم، لأنه ليس معه شئ يرجوه من الثواب. وقيل: ان الله يحشر البهائم
وينتصف للجماء من القرناء فإذا انصف بينها جعلها ترابا فيتمنى الكافر عند ذلك
لو كان مثل أولئك ترابا. وقيل: هو مثل قوله (يا ليتني لم أوت كتابيه) (1)
79 - سورة النازعات
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي ست وأربعون آية في الكوفي
وخمس وأربعون في البصري والمدنيين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا (2) والسابحات
سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) يوم ترجف

(1) سورة 69 الحاقة آية 25.
250

الراجفة (6) تتبعها الرادفة (7) قلوب يومئذ واجفة (8) أبصارها
خاشعة (9) يقولون أإنا لمردودون في الحافرة (10) أإذا كنا عظاما
نخرة (11) قالوا تلك إذا كرة خاسرة (12) فإنما هي زجرة
واحدة (13) فإذا هم بالساهرة) (14) أربع عشرة آية.
قرأ أهل الكوفة إلا حفصا (عظاما ناخرة) بألف، الباقون (نخرة) بلا ألف
من قرأ (ناخرة) اتبع رؤس الآي نحو (الساهرة، والحافرة) ومن قرأ نخرة
- بلا ألف - قال لأنه الأكثر في كلام العرب، ولما روي عن علي عليه السلام انه قرأ
(نخرة) وقال النحويون: هما لغتان مثل ياخل وبخل، وطامع وطمع وقال الفراء
النخرة البالية والناخرة المجوفة.
وقوله (والنازعات) قسم من الله تعالى بهذه الأشياء التي عددها. وقال
قوم: تقديره ورب النازعات وما ذكر بعدها، لأنه لا يجوز اليمين إلا بالله تعالى.
وهو ترك الظاهر. وقد روينا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أن لله تعالى أن يقسم
بما يشاء من خلقه، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به. وإنما كان كذلك، لأنه من
باب المصالح التي يجوز أن تختلف به العبادات، وإنما جاز أن يقسم هو تعالى بما شاء
من خلقه، للتنبيه على موضع العبرة فيه إذ القسم يدل على عظم شأن المقسم به.
ومعنى (النازعات) الملائكة تنزع الأرواح من الأبدان، فالنازعات الجاذبات الشئ
من أعماق ما هو فيه. وقال الحسن وقتادة: هي النجوم أي تنزع من أفق السماء
إلى أفق آخر. وقال عطاء: هي القسي تنزع بالسهم. وقال السدي: هي النفوس
تنزع بالخروج من البدن.
251

وقوله (غرقا) معناه إغراقا أي ابعادا في النزع.
وقوله (والناشطات نشطا) قيل: هي الخارجات من بلد إلى بلد بعيد
الأقطار ينشط كما ينشط الوحش بالخروج من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها
أي تخرج به من حال إلى حال، قال هيبان بن قحافة:
أمست همومي تنشط المناشطا * الشام طورا ثم طورا واسطا (1)
وقال ابن عباس: هي الملائكة أي تنشط بأمر الله إلى حيث كان. وقال
قوم: هو ملك الموت ينشط روحه من خلقه، وقال قوم: هي النجوم تنشط من
المشرق إلى المغرب. وقال عطاء: هي الوحش تنشط من بلد إلى بلد قال رؤية:
تنشط منها كل معلاه الوهق.
يعني بقر الوحش. قال الفراء: تنشط نفس المؤمن كما ينشط العقال من
يد البعير. قال ابن خالويه، وأكثر ما سمعته أنشطته بالألف، قالوا: كأنه أنشط
من عقال. فإذا شددت الحبل في يد البعير قلت: نشطته وإذا حللته قلت أنشطته.
وقوله (والسابحات سبحا) معناه المارات بغوص معظمها في المائع وقد يكون ذلك في
الماء وقد يكون فيما جرى مجراه، وذلك كسبح دود الخل، وقد يكون السبح في الهواء
تشبيها بالماء. وقال مجاهد: السابحات الملائكة، لأنها تسبح في نزولها بأمر الله كما يقال:
الفرس يسبح في جريه إذا أسرع. وقال قتادة: هي النجوم أي تسبح في فلكها.
وقال عطاء: هي السفن. وقال قوم: هو ملك الموت يقبض روح المؤمن وحده
سهلا سرحا كالسابح في الماء.
وقوله (فالسابقات سبقا) يعني الكائنات قبل غيرها على معنى صفة من
الصفات. وقال مجاهد: هي الملائكة، لأنها سبقت إلى طاعة الله. وقال قوم: لأنها

(1) القرطبي 19 / 190 ومجاز القرآن 2 / 284.
252

تسبق الشياطين إلى الوحي. وقال عطاء: هي الخيل السابقة. وقيل: هي النجوم
- ذكره قتادة - أي يسبق بعضها بعضا في السير.
وقوله (فالمدبرات أمرا) قال ابن عباس وقتادة وعطاء بن السائب: هي
الملائكة تدبر الأشياء. وقيل: تدبير الملائكة في ما وكلت به من الرياح والأمطار
ونحو ذلك من الأمور. وجواب القسم محذوف، كأنه قال: ليبعثن للجزاء والحساب
ثم بين أي وقت يكون الجزاء والثواب والعقاب، فقال (يوم ترجف الراجفة)
فالرجف حركة الشئ من تحت غيره بترديد واضطراب، وهي الزلزلة العظيمة رجف
يرجف رجفا ورجفا ورجوفا، وأرجفوا إذا أزعجوا الناس باضطراب الأمور، كما
ينزعج الذي يرجف ما تحته، ومنه الرجفة وهي الزعزعة الشديدة من تحت ما كان من
الحيوان. وقيل: ان الأرض مع الجبال تتزعزع.
وقوله (تتبعها الرادفة) ومعناه تتبع الراجفة الرادفة أي تجئ بعدها،
وهي الكائنة بعد الأول في موضع الردف من الراكب، ردفهم الامر ردفا فهو
رادف، وارتدف الراكب إذا اتخذ رديفا، وقال الحسن وقتادة: هما النفختان: أما
الأولى فتميت الاحياء، وأما الثانية فتحي الموتى بإذن الله.
وقوله (قلوب يومئذ واجفة) أي كائنة على الانزعاج والاضطراب، وجفت
تجف وجفا ووجيفا وأوجف في السير إذا أزعج الركاب فيه. وقال ابن عباس:
معنى (واجفة) أي خائفة.
وقوله (أبصارها خاشعة) أي خاضعة ذليلة من هول ذلك اليوم قال الشاعر:
لما اتى خبر الزبير تهدمت * سور المدينة والجبال الخشع (1)
وقوله (يقولون أإنا لمرددون في الحافرة) حكاية عما قاله الكافرون

(1) مر في 1 / 312، 204 و 7 / 152، 209 و 8 / 369.
253

المنكرون للبعث والنشور، فإنهم ينكرون النشر ويتعجبون من ذلك، ويقولون على
وجه الانكار أئنا لمردودون في الحافرة. وقيل: حافرة، بمعنى محفورة، مثل (ماه
دافق) (1) بمعنى مدفوق. وقال ابن عباس والسدي: الحافرة الحياة الثانية.
وقيل: الحافرة الأرض المحفورة. أي نرد في قبورنا بعد موتنا احياء؟! قال الشاعر:
احافرة على صلع وشيب * معاذ الله من جهل وعار (2)
فالحافرة الكائنة على حفر أول الكرة يقال: رجع في حافرته إذا رجع من
حيث جاء، وذلك كرجوع القهقرى، فردوا في الحافرة أي ردوا كما كانوا أول
مرة، ويقال: رجع فلان على حافرته أي من حين جاء. وقولهم: النقد عند
الحافرة معناه إذا قال بعتك رجعت عليه بالثمن. وقال قوم: معناه النقد عند
حافر الدابة.
وقوله (فإنما هي زجرة واحدة) أي النفخة الثانية (فإذا هم بالساهرة)
أي على وجه الأرض، فالعرب تسمي وجه الأرض من الفلاة ساهرة أي ذات سهر
لأنه يسهر فيها خوفا قال أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر * وما فاهوا به لهم مقيم (3)
وقال آخر:
فإنما قصرك ترب الساهرة * ثم تعود بعدها في الحافرة
من بعد ما كانت عظاما ناخرة (4)
وقال الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك: الساهرة وجه الأرض. وقال قوم

(1) سورة 86 الطارق آية 8
(2) تفسير القرطبي 19 / 195 والطبري 30 / 19
(3) القرطبي 19 / 197
(4) اللسان (نخر).
254

(بالساهرة) أي من بطن الأرض إلى ظهرها. وقالوا أيضا منكرين للبعث
(أئذا كنا عظاما نخرة) نرد ونبعث. والعظام جمع عظم، وهي مأخوذة من العظم
وذلك لعظم صلابتها وعظمها في نفسها والنخرة البالية بما حدث فيها من التغيير
واختلال البنية، جذع نخر إذا كان بهذه الصفة، وإذا لم تختل بنيته لم يكن نخرا
وإن بلي بالوهن والضعف وقيل: ناخرة مجوفة ينخر الرياح فيها بالمرور في جوفها
وقيل: ناخرة ونخرة سواء، مثل ناخل ونخل، ونخرة أوضح في المعني، وناخرة
أشكل برؤس الاى. وقيل: نخرة بالية مجوفة بالبلى.
ثم حكى أيضا ما قالوه، فإنهم (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) فالكرة المرة
من المر وهي الواحدة من الكر، كر يكر كرة، وهي كالضربة الواحدة من الضرب،
والخاسر الذاهب رأس ماله فتلك الكرة كأنه قد ذهب رأس المال منها، فكذلك
الخسران. وإنما قالوا (كرة خاسرة) أي لا يجئ منها شئ كالخسران الذي
لا يجئ منه فائدة. وكأنهم قالوا: هو كالخسران بذهاب رأس المال، فلا يجئ
به تجارة، فكذلك لا يجئ بتلك الكرة حياة. وقيل معنا (تلك إذا كرة خاسرة)
على ما تعدنا من العذاب. وقال الحسن: معناه كاذبة ليست كائنة.
قوله تعالى:
(هل أتيك حديث موسى (15) إذ ناديه ربه بالواد المقدس
طوى (16) اذهب إلى فرعون إنه طغى (17) فقل هل لك إلى أن
تزكى (18) وأهديك إلى ربك فتخشى (19) فأريه الآية
الكبرى (20) فكذب وعصى (21) ثم أدبر يسعى (22) فحشر
255

فنادى (23) فقال أنا ربكم الاعلى (24) فأخذه الله نكال الآخرة
والأولى) (25) احدى عشرة آية.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع (طوى اذهب) غير منونة. الباقون
(طوى اذهب) منونة. وقرأ نافع (تزكى) مشددة الزاي بمعنى تتزكى، فادغم
التاء في الزاي. الباقون خفيفة الزاي، فحذفت احدى التاءين. قال أبو عمرو:
يقال: تزكى مشددا إذا أردت تتصدق، ولم يدع موسى فرعون إلى أن يتصدق،
وهو كافر. وإنما قال له هل لك ان تصير زاكيا، قال: فالتخفيف هو الاختيار.
ومن نون (طوى) جعله اسم واد، ومن لم ينون جعله اسم الأرض، لأنه معدول
من (طاو). ومن كسر الطاء قال: قدس مرتين، وتبين فيه البركة مرتين، مثل
ثنى وعدى.
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله يقول له (وهل اتاك) يا محمد
(حديث موسى) فلفظه لفظ الاستفهام والمراد به التقرير (إذ ناداه ربه) أي حين
ناداه الله (بالواد المقدس طوى) فالنداء الدعاء على طريقة يا فلان، والندا مد
الصوت بندائه، فمعنى (ناداه) قال له يا موسى. ثم أمره بالذهاب إلى فرعون
الطاغي و (الوادي المقدس) يعني المطهر و (طوى) قال مجاهد وقتادة: واد،
وقيل طوى التقديس. وقرأ الحسن (طوى) بكسر الطاء. وقيل طوي بالبركة
والتقديس بندائه مرتين، قال طرفة بن العبد:
أعاذل إن اللوم في غير كنهه * علي طوى من غيك المتردد (1)
أي اللوم المكرر، و (طوى) غير مصروف، لأنه اسم البقعة من الوادي

(1) مر في 7 / 165.
256

وهو معرفة، ويجوز أن يكون معدولا من (طاوى) في قول الزجاج.
وقوله (اذهب إلى فرعون إنه طغى) اخبار من الله - عز وجل - عن
حال فرعون بأنه طغى، ومعناه تجاوز الحد في الاستعلاء، والتمرد والفساد، يقال
طغى يطغى طغيانا فهو طاغ، ونظيره البغي، بغى على الناس يبغي بغيا فهو باغ
وهم البغاة والطغاة، ونظير الطغيان العدوان، وهو المجاوزة لحد الصغيرة، وكل
من طغى فقد عتا واستدى.
ثم ذكر ما أمره أن يقول له بأن قال (فقل هل لك إلى أن نزكي) أي
ادعوه إلى الله وطريق الجنة، و (قل) على وجه التلطف في الكلام (هل لك إلى
أن تزكى) وتطهر من المعاصي، فالتزكي طلب الطالب أن يصير زاكيا، تزكي
يتزكى تزكيا، والزاكي النامي في الخير، والزكاء النماء في الخير، ولو نمى في الشر لم
يكن زاكيا (وأهديك إلى ربك فتخشى) معناه وأهديك إلى طريق الحق الذي
إذا سلكته وصلت إلى رضى الله وثوابه، فالهداية الدالة على طريق الرشد من الغي.
وقد يكون دلالة على معنى ليس برشد ولا غي كالدلالة على الحركة فقط. وقوله
(فتخشى) فالخشية توقع المضرة من غير قطع بها لا محالة، والخشية والخوف والتقية
نظائر، يقال: خشي يخشى خشية، فهو خاش، وذاك مخشي. وفى الكلام حذف
وتقديره فأتاه فدعاه (فأراه الآية الكبرى) وقوله (فكذب وعصى) حكاية عن
فرعون أنه كذب موسى في ما دعاه إليه وجحد نبوته وعصاه في ما أمره به من طاعة
الله (ثم أدبر يسعى) أي ولى فرعون الدبر بعد ذلك، فالادبار تولية الدبر، ونقيضة
الاقبال وأقبل فلان إذا استقامت له الأمور على المثل أي هو كالمقبل إلى الخير،
وأدبر فلان إذا اضطربت عليه حاله، ففرعون ولى الدبر ليطلب ما يكسر به حجة
257

موسى عليه السلام في الآية الكبرى، وهي المعجزة العظيمة، فما ازداد إلا غواية، لأنه
لا يقاوم الضلال الحق.
وقوله (ثم ادبر يسعى، فالسعي الاسراع في المشي، وفي إدباره يسعى في
هذه الحال دليل على خوفه. وقيل: إنه لما رأى العصا انقلبت حية في عظمها
خاف منه، فادبر يسعى.
وقوله (فحشر فنادى) فالحشر الجمع من كل جهة، وقد يكون الجمع بضم
جزء إلى جزء، فلا يكون حشرا، فإذا جمع الناس من كل جهة، فذلك الحشر،
ولهذا سمى يوم الحشر. والحاشر الذي يجمع الناس من كل جهة إلى الخراج، وإنما
طلب السحرة، فلما اجتمعوا ناداهم فقال لهم (أنا ربكم الاعلى) فالأعلى المختص
بعلو معنى صفته على غيره مما لا يناله بكيد وينال هو به، ومن هنا خرج بالغلو إلى
التعظيم، ولم يكن مثل ذلك في جهة من الجهات، وكأنه قال: أنا الذي أنال
بالضرر من شئت ولا ينالني غيري. وكذب - لعنه الله - إنما هذه صفة الذي خلقه
وخلق جميع الخلق، ومعنى (نادى) ههنا قال: يا معشر الناس أنا ربكم الاعلى، إذ
نادى بهذا القول. وقيل: كلمته الأولى (ما علمت لكم من إله غيري) (1) وقوله
الاخر هذا (أنا ربكم الاعلى) ذكره ابن عباس ومجاهد والشعبي والضحاك.
ثم حكى تعالى ما عامله به من العقاب فقال (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى)
فالنكال عقاب بنكل من الاقدام على سببه بشدته، نكل به تنكيلا إذا شوه به في
عقابه بما يكون زاجرا لغيره عن مثل حذيه أشد الزجر الذي يزعج النفس. وقال
الحسن وقتادة: معناه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وقال مجاهد: أول عمله وآخره
وقال بعضهم: نكاله فعلته الأولى، وهو قوله (ما علمت لكم من إله غيري)

(1) سورة 28 القصص آية 38.
258

وفعلته الأخيرة هو قوله (أنا ربكم الاعلى) وقال قوم: معناه نكال الدنيا بالغرق
ونكال الآخرة ما صار إليه بعد الموت من العقاب. وقال الحسن (الآية الكبرى)
اليد البيضاء. وقال غيره: قلب العصا حية.
قوله تعالى:
(إن في ذلك لعبرة لمن يخشى (26) أأنتم أشد خلقا أم
السماء بنيها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج
ضحاها (29) والأرض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها
ومرعاها (31) والجبال أرساها (32) متاعا لكم ولأنعامكم (33)
ثمان آيات.
يقول الله تعالى بعد ما ذكر ما تقدم من قصة موسى وفرعون وما فعله الله
بقوم فرعون من الاهلاك والدمار (إن في ذلك لعبرة) يعني فيما قصه واخبر به
دلالة يمكن أن يعتبر بها العامل العاقل، فيعرف الحق ويميز بينه وبين الباطل،
يقال: اعتبرته اعتبارا وعبرة، ومنه العبارة لأنه يعبر بالمعنى فيها إلى نفس المخاطب
للأفهام، ومنه عبور النهر وتعبير الرؤيا باخراج ما فيها بعبورها المعنى إلى النفس
السائلة عنها.
وقوله (لمن يخشى) إنما خص من يخشى بالعبرة، لأنه الذي يعتبر بها
وينتفع بالنظر فيها دون الكافر الذي لا يخشى عذاب الله، كما قال (هدى
للمتقين) (1).

(1) سورة 2 البقرة آية 2.
259

ثم خاطب الكفار الجاحدين بالله تعالى على وجه التبكيت لهم والتوبيخ (أأنتم
أشد خلقا) ومعناه أأنتم أشد أمرا بصغر حالكم (أم السماء) في عظم جرمها وشأنها
في وقوفها وسائر نجومها وأفلاكها. قال بعض النحويين (بناها) من صلة السماء.
والمعنى أم التي بناها. وقال آخرون (السماء) ليس مما يوصل، ولكن المعنى أأنتم
أشد خلقا أم السماء أشد خلقا. ثم بين كيف خلقها فقال (بناها) والله تعالى لا يكبر
عليه خلق شئ أشد من خلق غيره، وإنما أراد أنتم أشد خلقا عندكم وفى ظنكم مع
صغركم أم السماء مع عظمها وشدة إحكامها؟ وبين انه تعالى بنى السماء و (رفع
سمكها) يعني ارتفاعها، فالسمك مقابل للعمق، وهو ذهاب الجسم بالتأليف في
جهة العلو، وبالعكس منه العمق. والطول ذهاب الجسم في جهة الطول. والعرض
ذهابه في جهة العرض، وهو بالإضافة إلى ما يضاف إليه.
وقوله (فسواها) فالتسوية جعل أحد الشيئين على مقدار الاخر على نفسه
أو في حكمه، وكل ما جعل في حقه على ترتيبه مع غيره فقد سوي، فلما كان كل
شئ من السماء مجعولا في صفة على ترتيبه مع غيره كانت قد سويت على هذا الوجه.
وقوله (واغطش ليلها) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد:
معناه أظلم ليلها. وقال أبو عبيدة: كل أغطش لا يبصر. وقال: ليلها أضاف الظلام
إلى السماء لان فيها ينشأ الظلام والضياء بغروب الشمس وطلوعها على ما دبرها الله.
وقوله (واخرج ضحاها) قال مجاهد والضحاك أخرج نورها.
وقوله (والأرض بعد ذلك دحاها) قال مجاهد والسدي: معناه دحاها مع
ذلك، كما قال (عتل بعد ذلك) أي مع ذلك. وقال ابن عباس: ان الله دحا
الأرض بعد السماء، وإن كانت الأرض خلقت قبل السماء، ومعنا دحاها بسطحها
دحا يدحو دحوا ودحيت ادحي دحيا لغتان، قال أمية بن أبي الصلت:
260

دار دحاها ثم أعمر بابها * واقام بالأخرى التي هي أمجد (1)
وقال أوس بن حجر:
ينفي الحصا عن جديد الأرض مبترك * كأنه فاحص أو لاعب داح (2)
وقوله (اخرج منها) يعني من الأرض (ماءها) يعني المياه التي تخرج من
الأرض وفيها منافع جميع الحيوان، وبه قوام حياتهم كما قال (وجعلنا من الماء كل
شئ حي) (3) (ومرعاها) أي واخرج المرعى من الأرض، وهو النبات الذي يصلح
أن ترعاه الماشية، فهي ترعاه بأن تأكله في موضعه، رعت ترعى رعيا ومرعى، وسمي
النبات الذي يصلح أن يرعى به.
وقوله (والجبال أرساها) أي وأثبت الجبال في الأرض. والارساء الاثبات
بالثقل. فالسفينة ترسو أي تثبت بثقلها فلا تزول عن مكانها، وربما أرست بالبحر
بما يطرح لها. فأما الجبال فإنها أوتاد الأرض، وأرسيت بثقلها، وفى جعلها على الصفة
التي هي عليها أعظم العبرة.
وقوله (متاعا لكم ولأنعامكم) أي خلقنا ما ذكرناه من الأرض وما يخرج
منها من المياه والمراعي نفعا ومتعة تنتفعون بها معاشر الناس وينتفع بها أنعامكم: الإبل
والبقر والغنم، ففي الأشياء التي عددها أعظم دلالة وأوضح حجة على توحيد الله،
لان الأرض مع ثقلها الذي من شأنه ان يذهب سفلا هي واقفة بامساك الله تعالى،
وهي على الماء. ومن شأن الماء أن يجري في المنحدر، وهي وافقة بامساك الله تعالى
فقد خرجت عن طبع الثقيل، وذلك لا يقدر عليه غير القادر لنفسه الذي يخترع

(1) تفسير الطبري 30 / 26
(2) ديوانه 16 ومقاييس اللغة 1 / 230
(3) سورة 21 الأنبياء آية 30.
261

الأشياء اختراعا، دون القادر بقدرة الذي لا يقدر أن يفعل في غيره إلا على وجه
التولية بأن يعتمد عليه، فدل ذلك على أن الفاعل لهذه الأشياء لا يشبه الأشياء
ولا تشبهه. وفى اخراج الماء من الأرض عبر لا تحصى كثرة بما فيه من المنفعة،
وما له من المادة على موضع الحاجة، وسد الخلة مع ما فيه من المنفعة والتوفيق في
السير إلى المكان البعيد بالسهولة، كل ذلك من الله تعالى به على خلقه وأنعم
به عليهم.
وقوله (متاعا) نصب على المفعول له، وتقديره اخرج منها ماءها ومرعاها
للامتاع لكم لان معنى أخرج منها ماءها ومرعاها امتع بذلك.
قوله تعالى:
(فإذا جاءت الطامة الكبرى (34) يوم يتذكر الانسان ما
سعى (35) وبرزت الجحيم لمن يرى (36) فأما من طغى (37) وآثر
الحياة الدنيا (38) فان الجحيم هي المأوى (40) وأما من خاف
مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فان الجنة هي المأوى 41)
يسئلونك عن الساعة أيان مرساها (42) فيم أنت من ذكراها (43)
إلى ربك منتهاها (44) إنما أنت منذر من يخشاها (45) كأنهم
يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) (46) ثلاث عشرة آية.
قرأ أبو جعفر وعياش عن أبي عمرو (إنما أنت منذر من يخشاها) بالتنوين.
الباقون على الإضافة. والمعنى واحد. فمن نون جعل (من) في موضع النصب.
262

وإنما اختار ذلك، لأنه جعله (منذرا) في الحال. ومن اضافه استخف ذلك كما
استخف في قوله (عارضا مستقبل أوديتهم) (1) والتنوين مقدر، لان المعنى إنه
منذر في الحال، وفيما بعد. ومن أضاف جعلها في موضع جر. والمنذر النبي صلى الله عليه وآله
قال الله تعالى (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) (2) قال قوم: المنذر النبي صلى الله عليه وآله
والهادي علي عليه السلام. وقيل (لكل قوم هاد) داع يدعوهم إلى الخلق.
يقول الله تعالى مهددا للمكلفين من خلقه (فإذا جاءت الطامة الكبرى)
قال ابن عباس: الطامة القيامة. وقال الحسن: الطامة هي النفخة الثانية. وقيل: هي
الصيحة التي تطم على كل شئ، وهي الصيحة التي يقع معها البعث والحساب والعقاب
والثواب وقيل هي الطامة الغامرة الهائلة، وفى المثل: ما من طامة إلا وفوقها طامة
قال الفراء: يقال: تطم على كل شئ يطم. وقال قوم: الطامة الغامرة، لما يتدفق
بغلظها وكثرتها. وقيل: هي الغاشية المجللة التي تدفق الشئ بالغلظ، ثم بين متى
مجيئها فقال (يوم يتذكر الانسان ما سعى) ومعناه تجيئ الطامة في يوم يتذكر الانسان
ما عمله في دار التكليف من خير أو شر وسعى فيه، ويعلم ما يستحقه من ثواب
وعقاب (وبرزت الجحيم لمن يرى) أي لمن يراها ويبصرها شاهدا، فالتبريز
اظهار الشئ بمثل التكشيف الذي يقضي إليه بالاحساس، ويقال: فلان مبرز في
الفضل إذا ظهر به أتم الظهور، وبارز قرنه أي ظهر إليه من بين الجماعة.
ثم قسم أحوال الخلق في ذلك اليوم من العصاة والمطيعين، فقال (فأما من
طغى) بأن تجاوز الحد الذي حده الله، وارتكب المعاصي والطغيان والعصيان بمجاوزة
الحد فيه إلى الافراط فيه، فكل كافر طاغ بافراطه في ظلم نفسه، وظلم النفس كظلم
غيرها في التعاظم، وقوله (وآثر الحياة الدنيا) معناه اختار منافع الحياة الدنيا

(1) سورة 46 الأحقاف آية 24 (3) سورة 13 الرعد آية 8.
263

بارتكاب المعاصي وترك ما وجب عليه، فالايثار إرادة الشئ على طريقة التفضيل له
على غيره، ومثله الاختيار، لأنه يختاره على أنه خير من غيره، فمن آثر الأدنى
على الأولى فهو منقوص بالحاجة، كما أن من آثر القبيح على الحسن كان منقوصا.
وقيل: المعنى من آثر نعيم الحياة الدنيا على نعيم الآخرة والحياة حياتان: حياة الدنيا
وهي المنقطعة الفانية، وحياة الآخرة، وهي الدائمة، فمن آثر الباقي الدائم على الفاني
المنقطع كان حسن الاختيار، ومن آثر الفاني على الباقي كان سيئ الاختيار مقبحا.
ثم بين تعالى ما له في الآخرة فقال (فان الجحيم هي المأوى) اي النار مثواه
ومستقره وموضع مقامه.
ثم ذكر من هو بضد ذلك فقال (وأما من خاف مقام ربه) ومعناه من
خاف مقام مسألة ربه عما يجب فعله أو تركه وعمل بموجب ذلك بأن فعل الطاعة
وأمتنع من المعصية (ونهى نفسه عن الهوى) وما تدعو إليه شهواته، فالهوى أريحية
في النفس تدعو إلى ما لا يجوز في العقل، فاتباع الهوى مذموم، وليس يجوز أن
يعمل شيئا لداعي الهوى وإن عمل لداعي العقل على موافقة الهوى لم يضره. وقيل:
هم قوم صغرت الدنيا في عينهم حين رأوا الآخرة - ذكره قتادة - وقيل: الزهد في
الدنيا، والرغبة في الآخرة هو التمسك بطاعة الله واجتناب معصيته.
ثم بين تعالى ما له في مقابلة ذلك من الثواب فقال (فان الجنة هي المأوى)
أي هي مقره ومأواه، فالألف واللام تعاقب الضمير كقولهم مررت بحسن الوجه
أي حسن وجهه. وقال الزجاج: تقديره هي المأوى له ولا يكون بدلا من الهاء
كما لا يكون بدلا من الكاف في قولك غض الطرف، وقال: وقال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير * فلا سعدا بلغت ولا كلابا (1)

(1) مر في 9 / 341.
264

ويروى (فلا كعبا) والجنة البستان الذي يجنه الشجر فجنة الخلد بهذه الصفة
على ما فيها من القصور والأبنية الحسنة التي قد جمعت كل تحفة وطرفة مما تشتهي
الأنفس وتلذ الأعين، من غير أذى ملحق بحال في عاجل ولا آجل. وروي أن
قصورها مبنية بفاخر الجوهر من الياقوت والزبرجد، ومنه ما هو بلبنة من فضة
ولبنة من ذهب، فتعظيم الله لها وتشويقه إليها يدل على أنها على اجل حال تشتهي
فيها مع أنه لا يتعاظم في مقدور الله - عز وجل -.
ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله، فقال (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) أي
متى يكون قيامها على ما وصفها ف‍ (أيان) بمعنى (متى) الا أن (متى) أكثر
استعمالا في السؤال عن الزمان ونظيرها (أين) في السؤال عن المكان. ولذلك
فسرت (أيان) ب‍ (متى) والارساء الثبوت من قولهم: رست السفينة ترسو رسوا
فهي راسية إذا ثبتت ومنه. قوله (أرساها) ويجوز أن يكون المراد بالمرسى المصدر.
ويجوز أن يكون وقت الارساء والمعنى متى ثبت أمرها بقيامها.
وقوله (فيم أنت من ذكراها) أي انه ليس عندك علم متى تكون، وإنما
عندك علم أنها تكون - ذكره الحسن - وقال غيره: هي حكاية قولهم، أي قد أكثرت
من ذكرها، فمتى تكون؟. وقوله (إلى ربك منتهاها) أي قل لهم إلى الله تعالى
إجراؤها، فالمنتهى موضع بلوغ الشئ، وكأنه قيل: إلى ربك منتهى أمرها بإقامتها
لان منتهى أمرها بذكرها ووصفها والاقرار بها إلى الرسول بإقامتها، ومنتهى أمرها
اقامتها إلى الله تعالى لا يقدر عليه إلا الله تعالى. وقيل: المعنى إلى ربك منتهى علمها
أي لا يعلم إلا هو متى وقت قيامها - ذكره الحسن -
وقوله (إنما أنت منذر من يخشاها) خطاب من الله للنبي صلى الله عليه وآله بأنه إنما
265

يخوف من يخاف ذلك اليوم وهو يوم القيامة، وإنما خص الانذار بمن يخشى، لأنه
لما كان المنتفع بالانذار من يخشى فكأنه خص بالانذار. والكافر لما لم ينتفع بذلك
فكأنه لم ينذر أصلا.
ثم بين تعالى سرعة مجيئها وقرب حضورها فقال (كأنهم يوم يرونها لم
يلبثوا إلا عشية أوضحاها) وقال قتادة: معناه إنهم إذا رأوا الآخرة صغرت الدنيا
في أعينهم حتى كأنهم لم يقيموا بها إلا مقدار عشية أو مقدار ضحاها يعني ضحى
العشية. وأضيف الضحى إلى العشية، وضحوة الضحى اليوم الذي يكون فيه، فإذا
قلت أتيتك صباحا ومساء، فالمعنى أتيتك العشية أو غداتها، قال الفراء: وأنشدني
بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها * عشية الهلال أو سرارها.
قبل اصفرار الشمس واحمرارها (1)
أراد عشية الهلال أو عشية سرار العشية فهذا أشد من ذلك،

(1) القرطبي 19 / 208 والطبري 30 / 28.
266

80 - سورة عبس
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي اثنتان وأربعون آية في
الكوفي والمدنيين واحدى وأربعون في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
(عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2) وما يدريك لعله
يزكى (3) أو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من استغنى (5)
فأنت له تصدى (6) وما عليك ألا يزكى (7) وأما من جاءك
يسعى (8) وهو يخشى (9) فأنت عنه تلهى) (10) عشر آيات.
قرأ عاصم وحده (فتنفعه الذكرى) بالنصب على أنه جواب (لعل) فجرى مجرى
جواب الأمر والنهي، لان (لعل) للترجمي فهي غير واجبة، كما أن الامر غير
واجب في حصول ما تضمنه. الباقون بالرفع عطفا على (يذكر). وقرأ نافع وابن
كثير (تصدى) مشددة الصاد على أن معناه تتصدى فأدغم، إحدى التائين في الصاد
لقرب مخرجهما. الباقون (تصدى) بتخفيف الصاد باسقاط إحدى التائين.
وقرأ ابن أبي بزة وابن فليح عن ابن كثير (تلهى) بتشديد اللام بمعنى
تتلهي، فأدغم احدى التائين في اللام. الباقون بتخفيف اللام وحذف احدى التائين
267

يقول الله تعالى (عبس وتولى) ومعناه قبض وجهه وأعرض، فالعبوس
تقبض الوجه عن تكره، والعبوس البسور وهو التقطيب وعبس فلان في وجه فلان
مثل كلح، ومنه اشتق اسم عباس، ومعنى (تولى) أعرض وذهب بوجهه عنه فصرفه
عن أن يليه يقال: تولى عنه بمعنى أعرض عنه، وتولاه بخلاف تولى عنه، فان تولاه
بمعنى عقد على نصرته، وتولى عنه أعرض.
وقوله (أن جاءه الأعمى) معناه عبس لان جاءه الأعمى، وقال ابن خالويه:
تقديره إذ جاءه الأعمى المراد به عبد الله بن أم مكتوم - في قول ابن
عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد - وقال الفراء: كانت أم مكتوم أم أبيه.
وقال غيره: كانت أمه. وقال ابن خالويه أبوه يكنى أبا السرج. واختلفوا فيمن
وصفه الله تعالى بذلك، فقال كثير من المفسرين وأهل الحشو: إن المراد به النبي صلى الله عليه وآله
قالوا وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله كان معه جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم قد خلا بهم
فاقبل ابن أم مكتوم ليسلم فأعرض النبي صلى الله عليه وآله عنه كراهية أن تكره القوم إقباله
عليه فعاتبه الله على ذلك. وقيل: إن ابن أم مكتوم كان مسلما، وإنما كان يخاطب
النبي صلى الله عليه وآله وهو لا يعلم أن رسول الله مشغول بكلام قوم، فيقول يا رسول الله.
وهذا فاسد، لان النبي صلى الله عليه وآله قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف
يصفه بالعبوس والتقطيب، وقد وصفه بأنه (على خلق عظيم) (1) وقال (ولو كنت
فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك) (2) وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله
تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (3) ومن
عرف النبي صلى الله عليه وآله وحسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق وحسن

(1) سورة 68 القلم آية 4
(2) سورة 3 آل عمران آية 159
(3) سورة 6 الانعام آية 52.
268

الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح أحدا قط فينزع يده من يده، حتى يكون ذلك
الذي ينزع يده من يده. فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب
الاسلام، على أن الأنبياء عليهم السلام منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها لما
في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والاصغاء إل دعائهم، ولا يجوز مثل هذا على
الأنبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم.
وقال قوم: إن هذه الآيات نزلت في رجل من بني أمية كان واقفا مع
النبي صلى الله عليه وآله، فلما اقبل ابن أم مكتوم تنفر منه، وجمع نفسه وعبس في وجهه
وأعرض بوجهه عنه فحكى الله تعالى ذلك وانكره معاتبة على ذلك.
وقوله (وما يدريك) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وتقديره (قل) يا محمد (وما
يدريك لعله يزكى) وإنما أضاف العبوس إلى النبي صلى الله عليه وآله من أضاف (وما يدريك)
أنه رآه متوجها إليه ظن أنه عتب له دون أن يكون متوجها إليه على أن يقول لمن
فعل ذلك ويوبخه عليه. ومعنى قوله (يزكى) أي يتزكى بالعمل الصالح، فأدغم
التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله (يذكر) ومعناه يتذكر، ولا يجوز
وإدغام الزاي في التاء، لأنها من حروف الصفير، وهي الصاد والسين والزاي.
وقوله (أو يذكر) معناه أو يتذكر ما أمره الله تعالى به، ويفكر فيما أمره
بالفكر فيه. وقد حث الله تعالى على التذكير في غير موضع من القرآن فقال) وذكر
فان الذكرى تنفع المؤمنين) (1) وقال (إنما يتذكر أولو الألباب) (2) وينبغي
للانسان أن يستكثر من ذكر ما يدعو إلى الحق ويصرف عن الباطل.
ثم بين انه متى يذكر (فتنفعه الذكرى) أي الفكر فيما أمره الله به من

(1) سورة 51 الذاريات آية 55
(2) سورة 23 الرعد آية 21 وسورة الزمر آية 9.
269

القرآن وغيره من الأدلة.
وقوله (أما من استغنى) معناه أما من كان غنيا أو وجدته موسرا،
فالاستغناء الاكتفاء بالامر فيما ينفي الضرر وقد يكتفى الاناء في ملئه بما فيه، فلا
يستغني استغناء في الحقيقة. وقوله (فأنت له تصدي) فالتصدي هو التعرض للشئ
كتعرض العطشان للماء. وأصله الصدى، وهو العطش. ورجل صديان أي عطشان
والصدى الصوت الذي يرده الجبل أو الحمام ونحوهما، قال مجاهد: المراد ب‍ (من
استغنى) عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة. وقال سفيان: نزلت في العباس، فقال
الله تعالى (وما عليك ألا يتزكى) أي قل له وما عليك ألا يتزكى، فالتزكي هو
التطهر من الذنوب، واصله الزكاء وهو النماء، فلما كان الخير ينمي للانسان بالتطهر
من الذنوب كان تزكيا.
ثم قال (وأما من جاءك يسعى وهو يخشى) يعني عبد الله بن أم مكتوم
جاء إلى النبي صلى الله عليه اله، وهو يخشى معصية الله والكفر، والخشية هي الحذر من مواقعة
المعصية خوفا من عقاب الله تعالى (فأنت عنه تلهى) أي تعرض عنه فالتلهي
عن الشئ هو التروح بالاعراض عنه والتلهي به التروح والاقبال عليه ومنه قولهم
إذا استأثر الله بشئ فاله عنه أي اتركه وأعرض عنه.
قوله تعالى:
(كلا إنها تذكرة (11) فمن شاء ذكره (12) في صحف
مكرمة (13) مرفوعة مطهرة (14) بأيدي سفرة (15) كرام
بررة (16) قتل الانسان ما أكفره (17) من أي شئ خلقه (18)
من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) ثم أماته
270

فأقبره (21) ثم إذا شاء أنشره (22) كلا لما يقض ما أمره)
(23) ثلا ث عشرة آية.
يقول الله تعالى (كلا) أي ليس الامر ينبغي أن يكون على هذا، وقوله
(إنها تذكرة) أي كلا إن السورة تذكرة (فمن شاء ذكره) أي التنزيل أو الوعظ.
وقال قوم: الهاء عماد، والمبتدأ محذوف وتقديره إنها هي تذكرة. والتذكرة حضور
الموعظة ففيها أعظم الفائدة وفي الغفلة أكبر الآفة.
والفرق بين التذكرة والمعرفة أن التذكرة ضد الغفلة والمعرفة تضاد الجهل
والسهو، فكلاهما يتعاقبان على حال الذكر دون السهو، كتعاقب العلم وأضداده على
حال الذكر دون السهو، والذكر معظم، لأنه طريق إلى العلم بالحق من الباطل
والصحيح من الفاسد. وقيل: إن قوله (كلا) دال على أنه ليس له ان يفعل
ذلك في ما يستأنف. فاما الماضي فلم يدل على أنه معصية، لأنه لم يتقدم النهي عنه.
وقوله (فمن شاء ذكره) دليل على بطلان مذهب المجبرة في أن القدرة مع
الفعل، وأن المؤمن لا قدرة له على الكفر، وأن الكافر لا يقدر على الايمان، لأنه تعالى:
بين أن من شاء ان يذكره ذكره لأنه قادر عليه.
وقوله (في صحف مكرمة) أي ما ذكرناه تذكرة في صحف مكرمة أي
معظمة مبجلة، ووصفت الصحف بأنها مكرمة تعظيما لما تضمنته على الحكمة. وقوله
(مرفوعة مطهرة) أي مصونة عن أن تنالها أيدي الكفار الأنجاس. وقال الحسن:
مطهرة من كل دنس. وقوله (مرفوعة مطهرة) أي رفعها الله عن دنس الأنجاس
ونزهها عن ذلك. وقوله (بأيدي سفرة) قيل السفرة ملائكة موكلون بالاسفار
من كتب الله. والسفرة الكتبة لأسفار الحكمة، واحدهم سافر، كقولك كاتب
271

وكتبة، وواحد الاسفار سفر. وأصله الكشف من الامر، سفرت المرأة إذا كشفت
عن وجهها، فالكاتب يسفر بالكتاب عما في النفس. وقال ابن عباس: السفرة
الكتبة، وفي رواية أخرى عنه إنها الملائكة. وقال قتادة: هم القراء: وقيل: هم
الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله، وسفير القوم الذي يسفر بينهم في
الصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم، قال الشاعر:
ولم أدع السفارة بين قومي * وما أمشي بغش إن مشيت (1)
واسفر الصبح إذا أضاء. وقوله (كرام بررة) من صفة السفرة، وصفهم
الله بأنهم كرام، وهو جمع كريم، وهو الذي من شأنه أن يأتي بالخير من جهته مهنا
من غير شائب يكدره. وهي صفة مدح ومنه أخذت الكرمة لشرف ثمرتها، والكرم
يتعاظم فالنبي أكرم ممن ليس بنبي، والمؤمن أكرم ممن ليس بمؤمن. و (البررة)
جمع بار، تقول بر فلان فلانا يبره فهو بار إذا أحسن إليه ونفعه. والبر فعل النفع
اجتلابا للمودة. والبار فاعل البر، وجمعه بررة مثل كاتب وكتبة. وأصله اتساع
النفع منه ومنه البر سمي به تفاؤلا باتساع النفع به، ومنه البر لاتساع النفع به.
ورجل بر، وامرأة برة والجمع بررة ولا يجمع الا على هذا استغنى به.
وقوله (قتل الانسان ما أكفره) معناه لعن الانسان، قال مجاهد: وهو
الكافر. وقيل: معناه إنه حل محل من يدعى عليه بالقتل في ما له بقبح الفعل،
فيخرجه مخرج الدعاء عليه ولا يقال: إن الله دعا عليه بالقتل لقبح اللفظ بذلك لما
يوهم من تمني المدعو به. ومعنى (ما أكفره) أي شئ أكفره؟! على وجه التقريع
له والتوبيخ. وقيل معناه النفي، وتقديره ما أجحده لنعم الله مع ظهورها (من أي

(1) الطبري 30 / 30 والقرطبي 19 / 214.
272

شئ خلقه) تعجيبا له، لأنه يعلم أن الله خلقه من نطفة، ثم بين تعالى مماذا خلقه
فقال (من نطفة خلقه فقدره) فالتقدير جعل الشئ على مقدار غيره، فلما كان
الانسان قد جعل على مقدار ما تقتضيه الحكمة في أمره من غير زيادة ولا نقصان
كان قد قدر أحسن التقدير، ودبر أحسن التدبير (ثم السبيل يسره) أي سهل
له سبيل الخير في دينه ودنياه بأن بينه له وأرشده إليه ورغبه فيه، فهو يكفر هذا
كله ويجحده ويضيع حق الله عليه في ذلك من الشكر وإخلاص العبادة. وقال ابن
عباس وقتادة والسدي: يسر خروجه من بطن أمه. وقال مجاهد: سهل له طريق
الخير والشر، كقوله (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (1). وقال
الحسن: سبيل الخير، وقال ابن زيد: سبيل الثواب، وقال الحسن (يسره) معناه بصره
طريق الهدى والضلال. وقيل يسر خروجه من بطن أمه، فإنه كان رأسه إلى رأس أمه
ورجلاه إلى رجليها، فقلبه الله عند الولادة ليسهل خروجه منها. وقالوا: يسرى ويسراة
جمعوه على (فعلة) وأجروه مجرى (فاعل) من الصحيح.
وقوله (ثم أماته فأقبره) فالإماتة أحداث الموت. وفي الناس من قال:
الإماتة عرض يضاد الحياة مضادة المعاقبة على الحال الواحدة، وهي حال تعديل
البنية الحيوانية، وذلك أن ما لا يصح أن تحله حياة لا يصح أن يحله موت. وقال
قوم: الموت عبارة عن نقض البنية الحيوانية أو فعل ما ينافي ما تحتاج إليه الحياة من
الرطوبات والمعاني. وقوله (فأقبره) الاقبار جعل القبر لدفن الميت فيه، يقال:
أقبره إقبارا، والقبر الحفر المهيأ للمدفن فيه، ويقال: أقبرني فلانا أي جعلني اقبره
فالمقبر هو الله تعالى يأمر عباده أن يقبروا الناس إذا ماتوا، والقابر الدافن للميت

(1) سورة 76 الانسان آية 3.
273

بيده قال الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى نحرها * عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر (1)
وقوله (ثم إذا شاء انشره) فالانشار الاحياء للتصرف بعد الموت كنشر
الثوب بعد الطي انشر الله الموتى فنشروا كقولهم أحياهم فحيوا، والمشيئة هي الإرادة
والمعنى إذا شاء الله تعالى أن يحيي الميت أحياه - وهو قول الحسن - للجزاء
بالثواب والعقاب.
وقوله (كلا لما يقض ما أمره) معناه كلا لما لم يقض ما عليه مما أمره
الله به، لأنه قد أمره بأشياء واجبة فلم يفعلها: من إخلاص عبادته وشكره بحسب
مقتضى نعمه. وقال مجاهد: لا يقضي أحد أبدا كل ما افترض الله عليه.
قوله تعالى:
(فلينظر الانسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا 25)
ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا
وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة
وأبا (31) متاعا لكم ولأنعامكم) (32) تسع آيات.
قرأ أهل الكوفة (أنا صببنا) بفتح الألف على البدل من) طعامه) أو على أنه
خبر مبتدإ محذوف. الباقون بالكسر على الاستئناف.
يقول الله تعالى لخلقه منبها لهم على قدرته على احياء الخلق بعد موتهم ونشرهم

(1) قد مر في 4 / 460 و 7 / 496 وهو في ديوانه 93.
274

ومجازاتهم بأن أمره ان ينظر إلى طعامه الذي يأكله ويتقوته، ويفكر كيف يخلقه
الله ويوصله إليه ويمكنه من الانتفاع به. وبين كيفية ذلك فقال (إنا صببنا الماء
صبا) أي أنزلنا الغيث إنزالا (ثم شققنا الأرض شقا) فالشق قطع الشئ طولا
ومثله الصدع والفرج والفطر، ومن ذلك شق الأرض وشق الخشبة وشق الشعرة
فأما قطع الليطة، وقطع الشجر، فعلى خلاف ذلك، فبين تعالى أنه يشق الأرض
ويخرج منها ما أنبته من أنواع النبات. ومن فتح (أنا) على البدل، فعلى انه بدل
اشتمال، ويكون موضعه جرا فتقديره فلينظر إلى أنا صببنا. وقال آخرون: موضعه
نصب، لان الأصل ب‍ (أنا) و (لأنا) فلما أسقط الخافض نصب على المعنى،
فتقديره فلينظر الانسان إلى حدوث طعامه أو نبات طعامه، لأنه موضع الاعتبار.
وقال المبرد: تقديره فلينظر الانسان إلى طعامه، لأنا صببنا فأخرجنا أي لهذه
العلة كان طعامه، لان قوله (إنا صببنا) ليس من الطعام في شئ، وقال أبو علي:
وهو بدل الاشتمال، لان ما ذكره يشتمل على الطعام فهو بمنزلة قوله (قتل أصحاب
الأخدود النار) (1).
وقوله (فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا...) فالانبات إخراج النامي
حالا بعد حال، يقال أنبته الله إنباتا فنبت نباتا، ففاعل النبات والانبات واحد إلا
أن الانبات يؤخذ منه صفة المنبت، والنبات يؤخذ منه النابت. وليس النبات فاعلا
لكنه الصائر على تلك الصفة بتصيير غيره، غير أنه لما أسند الفعل إليه اشتق له منه
اسم الفاعل. والحب جمع الحبة مثل الشعير والحنطة والسمسم والدخن والأرز وغير
ذلك، وكذلك يسمى حب اللؤلؤ تشبيها بذلك في تدويره. والقضب الرطبة - في
قول الضحاك، والفراء - وأهل مكة يسمون القث قضبا. وأصله فيما يقطع رطبا من

(1) سورة 85 البروج آية 4 - 5.
275

قولهم: قضبته وأقضبته قضبا إذا قطعته رطبا، ومنه القضيب والمقتضب. والزيتون
معروف. وإنما ذكره الله تعالى لعظم النفع به والدهن الذي يكون منه (ونخلا)
أي وأنبتنا من الأرض نخلا وهو شجر الرطب والتمر (وحدائق غلبا) فالحديقة
البستان المحوط وجمعه حدائق، ومنه أحدق به القوم إذا أحاطوا به، ومنه الحدقة
لما أحاط بها من جفنها. والغلب جمع أغلب وغلبا، وهي الغلاظ بعظم الأشجار،
وشجرة غلباء إذا كانت غليظة قال الفرزدق:
عوى فأثار أغلب ضيغميا * فويل ابن المراغة ما استثارا (1)
وقوله (وفاكهة وأبا) يعني ثمر الأشجار التي فيها النفع والالذاذ، يقال
تفكه بكذا إذا استعمله للاستمتاع به والفاكهة تكون رطبة ويابسة. والأب المرعى
من الحشيش وسائر النبات الذي ترعاه الانعام والدواب، ويقال أبا إلي سيفه
فاستله كقولك هب إليه وبدر إليه، فيكون كبدور المرعى بالخروج قال الشاعر:
جدنا قيس ونجد دارنا * ولنا الأب بها والمكرع (2)
وقوله (متاعا لكم ولانعامكم) فالمتاع كل شئ فيه الذاذ الامساس من
مأكل أو منظر أو مشمم أو ملمس، وأصله المصدر من قولهم: أمتعته امتاعا ومتاعا
ومتع النهار إذا ارتفع، لان ارتفاعه يستمتع به. فبين تعالى انه خلق ما خلق وأنبت
ما انبت من الأرض لامتاع الخلق به من المكلفين وأنعامهم التي ينتفعون بها.
والانعام الماشية بنعمة المشي من الإبل والبقر والغنم بخلاف الحافر بشدة وطئه بحافره
من الخيل والبغال والحمير.
قوله تعالى:
(فإذا جاءت الصاخة (33) يوم يفر المرء من أخيه (34)

(1) ديوانه 2 / 443
(2) القرطبي 19 / 220.
276

وأمه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه (36) لكل امرئ منهم يومئذ
شأن يغنيه (37) وجوه يومئذ مسفرة (38) ضاحكة مستبشرة (39)
ووجوه يومئذ عليها غبرة (40) ترهقها قترة (41) أولئك هم الكفرة
الفجرة) (42) عشر آيات.
قوله (فإذا جاءت الصاخة) قال ابن عباس: هي القيامة. وقيل: هي النفخة
الثانية التي يحيا عندها الناس. وقال الحسن: الصاخة هي التي يصيخ لها الخلق،
وهي النفخة الثانية. والصاخة هي الصاكة بشدة صوتها الاذان فتصمها، صخ يصخ
صيخا، فهو صاخ. وقد قلبها المضاعف باكراهه التضعيف، فقال: أصاخ يصيخ
اصاخة قال الشاعر:
يصيخ للنبأة أسماعه * إصاخة الناشد للمنشد (1)
ومثله تظنيت، والأصل تظننت. ثم بين شدة أهوال ذلك اليوم
فقال (يوم يفر المرء من أخيه و) من (أمه وأبيه و) من (صاحبته) التي هي
زوجته في الدنيا (وبنيه) يعني أولاده الذكور نفر من هؤلاء حذرا، من مظلمة تكون
عليه. وقيل: لئلا يرى ما ينزل به من الهوان والذل والعقاب. وقيل: نفر منه
ضجرا به لعظم ما هو فيه. وقيل: لأنه لا يمكنه ان ينفعه بشئ ولا ينتفع منه بشئ
وقوله (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) فالمراد به الذكر من الناس
وتأنيثه امرأة، فالمعنى إن كل انسان مكلف مشغول بنفسه لا يلتفت إلى غيره،
من صعوبة الامر وشدة أهواله. والشأن الامر العظيم، يقال: لفلان شأن من

(1) القرطبي 19 / 222.
277

الشأن أي له أمر عظيم، وأصله الواحد من شؤون الرأس، وهو موضع الوصل من
متقابلاته التي بها قوام أمره. ومعنى (يغنيه) أي يكفيه من زيادة عليه أي ليس
فيه فضل لغيره لما هو فيه من الامر الذي قد اكتنفه وملا صدره، فصار كالغني
عن الشئ في أمر نفسه لا تنازع إليه.
ثم قسم تعالى أحوال العصاة والمؤمنين، فقال (وجوه يومئذ مسفرة) أي
مكشوفة مضيئة، فالأسفار الكشف عن ضياء من قولهم: أسفر الصبح إذا أضاء،
وسفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها، ومنه السفر، لأنه يكشف عن أمور تظهر
به، قال توبة الحميري.
وكنت إذا فاجأت ليلى تبرقعت * فقد رابني منها الغداة سفورها (1)
أي كشفها قناعها. وقوله (ضاحكة مستبشرة) أي من فرحها بما أعددنا
لها من الثواب تكون ضاحكة مسرورة. والضحك الاستبشار وإن أضيف إلى
الوجه، فالمراد به أصحاب الوجوه، فأما الاسفار والاشراف فيجوز أن يكون
للوجوه خاصة بما جعل الله فيها من النور، لتفرق الملائكة بين المؤمنين والكفار.
ثم قال (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) أي يكون على تلك الوجوه
غبار وجمعه غبرة (ترهقها) أي تغشاها (قترة) وهي ظلمة الدخان، ومنه قترة الصائد
موضعه الذي يدخن فيه للتدفي به.
ثم اخبر أن من كان على وجهه الغبرة التي تغشاها القترة (هم الكفرة) جمع
كافر (الفجرة) جمع فاجر، كما أن كاتبا يجمع كتبة، وساحرا يجمع سحرة. وليس
في ذلك ما يدل على مذهب الخوارج من أن من ليس بمؤمن لابد أن يكون كافرا
من حيث أن الله قسم الوجوه هذين القسمين. وذلك أنه تعالى ذكر قسمين من

(1) الطبري 30 / 34.
278

الوجوه متقابلين، وجوه المؤمنين ووجوه الكفار، ولم يذكر وجوه الفساق من
أهل الملة. ويجوز أن يكون ثم صفة أخرى بخلاف ما لهذين، بان يكون عليها غبرة
لا يغشاها قترة أو يكون عليها صفرة، ولو دل ذلك على ما قالوه لوجب أن يدل قوله
(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (1) على أن كل من لا يبيض وجهه من
المؤمنين يجب أن يكون مرتدا، لأنه تعالى قال لهم (أكفرتم بعد إيمانكم) (2)
والخوارج لا تقول ذلك، لان من المعلوم ان - ههنا - كفارا في الأصل ليسوا
مرتدين عن الايمان.
81 - سورة التكوير
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي تسع وعشرون آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا الشمس كورت (1) وإذا النجوم انكدرت (2) وإذا
الجبال سيرت (3) وإذا العشار عطلت (4) وإذا الوحوش حشرت (5)
وإذا البحار سجرت (6) وإذا النفوس زوجت (7) وإذ الموؤودة

(1) سورة 3 آل عمران آية 106.
(2) سورة 3 آل عمران آية 106.
279

سئلت (8) بأي ذنب قتلت (9) وإذا الصحف نشرت (10)
وإذا السماء كشطت (11) وإذ الجحيم سعرت (12) وإذا الجنة
أزلفت (13) علمت نفس ما أحضرت (14) أربع عشرة آية.
قرأ ابن كثير وأهل البصرة (سجرت) خفيفة الجيم. الباقون بتشديدها وقرأ
أهل المدينة وابن عامر وحفص عن عاصم (نشرت) خفيفة الشين. الباقون
بالتشديد. وقرأ نافع وباقي أهل المدينة وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم إلا
يحيى ورويس (سعرت) بتشديد العين. الباقون بتخفيفها. وقرأ أبو جعفر (قتلت)
مشددة التاء، الباقون بتخفيفها.
يقول الله تعالى مخبرا عن وقت حضور القيامة وحصول شدائدها (إذا
الشمس كورت) فاللفظ وإن كان ماضيا فالمراد به الاستقبال، لأنه إذا اخبر تعالى
بشئ فلابد من كونه، فكأنه واقع. والفعل الماضي يكون بمعنى المستقبل في الشرط
والجزاء، وفى أفعال الله، وفى الدعاء إذا تكرر كقولك حفظك الله وأطال بقاءك.
ومعنى كورت) - في قول ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة والضحاك - ذهب
نورها. وقال الربيع بن خيثم: معناه رمي بها، والتكوير تلفيف على جهة الاستدارة
ومنه كور العمامة، كور يكور تكويرا، ومنه الكارة، ويقال: كورت العمامة على
رأسي اكورها كورا وكورتها تكويرا. ويقال: طعنه فكوره أي رمى به، ذكره
الأزهري، ومنه قولهم: أعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من النقصان بعد الزيادة
فالشمس تكور بأن يجمع نورها حتى يصير كالكارة الملقاة فيذهب ضوءها ويجدد
الله - عز وجل - للعباد ضياء غيرها.
وقوله (وإذا النجوم انكدرت) فالنجوم جمع نجم، وهو الكوكب وجمعه
280

كواكب. ومنه نجم النبت إذا طلع ينجم نجما فهو ناجم، وكذلك نجم القرن،
ونجم السن. والانكدار انقلاب الشئ حتى يصير الاعلى الأسفل بما لو كان ماء
لتكدر. وقيل: أصل الانكدار الانصباب. قال العجاج:
أبصر خربان فضاء فانكدر (1)
وقال مجاهد والربيع بن خيثم وقتادة وأبو صالح وابن زيد: انكدرت معناه
تناثرت. وقوله (وإذا الجبال سيرت) فمعنى تسيير الجبال تصييرها هباء وسرابا
وقوله (وإذا العشار عطلت) فالعشار جمع عشراء، وهي الناقة التي قد أنى عليها
عشرة اشهر من حملها، وهو مأخوذ من العشرة. والناقة إذا وضعت لتمام ففي
سنة، وقال الفراء: العشار لقح الإبل التي عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الجبائي:
معناه ان السحاب يعطل ما يكون فيها من المياه التي ينزلها الله على عباده في الدنيا.
وحكى الأزهري عن أبي عمرو أنه قال: العشار الحساب. قال الأزهري: وهذا
لا اعرفه في اللغة. والمعنى إن هذه الحوامل التي يتنافس أهلها فيها قد أهملت
وقوله (وإذا الوحوش حشرت) قال عكرمة: حشرها موتها. وغيره
قال: معناه تغيرت الأمور بأن صارت الوحوش التي تشرد في البلاد تجتمع مع الناس
وذلك أن الله تعالى يحشر الوحوش ليوصل إليها ما تستحقه من الاعواض على الآلام
التي دخلت عليها، وينتصف لبعضها من بعض، فإذا عوضها الله تعالى، فمن قال:
العوض دائم قال تبقى منعمة على الأبد. ومن قال: العوض يستحق منقطعا اختلفوا
فمنهم من قال: يديمها الله تفضلا لئلا يدخل على العوض غم بانقطاعه. ومنهم من
قال: إذا فعل بها ما تستحقه من الاعواض جعلها ترابا.

(1) مر في 8 / 146.
281

وقوله (وإذا البحار سجرت) معناه ملئت نارا كما يسجر التنور، وأصل
السجر الملا قال لبيد:
فتوسطا عرض السري وصدعا * مسجورة متجاوز أقدامها (1)
أي مملوءة، ومنه (البحر المسجور) (2) قال ابن عباس وأبي بن كعب:
سجرت أو قدت، فصارت نارا. وقال شمر بن عطية: صارت بمنزلة التنور المسجور
وقال الحسن والضحاك: معناه ملئت حتى فاضت على الأرضين فتنسقها حتى تكون
لحج البحار ورؤس الجبال بمنزلة واحدة، وقيل: معنى (سجرت) جعل ماؤها
شرابا يعذب به أهل النار. وقال الفراء: معناه افضي بعضها إلى بعض فصارت بحرا
واحدا. ومن ثقل أراد التكثير، ومن خفف، فلانه يدل على القليل والكثير.
وقوله (وإذا النفوس زوجت) معناه ضم كل واحد منها إلى شكله،
والنفس قد يعبر به عن الانسان ويعبر به عن الروح، وقال عمر بن الخطاب وابن
عباس ومجاهد وقتادة: كل إنسان بشكله من أهل النار وأهل الجنة. وقال عكرمة
والشعبي: معنى زوجت ردت الأرواح إلى الأجساد. وقيل: معناه يقرن الغاوي
بمن أغواه من شيطان أو إنسان
وقوله (وإذا الموؤودة سئلت) فالموؤودة المقتولة بدفنها حية، فكانت العرب
تئد البنات خوف الاملاق، وأدها يئدها وأدا، فهي موؤودة أي مدفونة حية، وعلى
هدا جاء قوله (ولا تقتلوا أولادكم من املاق) (3) وقال قتادة: جاء قيس ابن
عاصم التميمي إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: اني وأدت ثماني بنات في الجاهلية، فقال
النبي صلى الله عليه وآله (فاعتق عن كل واحدة رقبة) قال إني صاحب أبل. قال (فاهد إلى

(1) مر في 7 / 118 و 9 / 403
(2) سورة 52 الطور اية 6
(3) سورة 6 الانعام آية 151.
282

من شئت عن كل واحدة بدنة) وقيل موؤودة للثقل الذي عليها من التراب وقوله
(ولا يؤوده حفظهما) (1) أي لا يثقله، قال الفرزدق:
ومنا الذي منع الوائدات * وأحيا الوئيد فلم يوأد (2)
وإنما يسأل عن الموؤودة على وجه التوبيخ لقاتلهما، وهو أبلغ من سؤاله،
لان هذا مما لا يصلح إلا بذنب، فأي ذنب كان لك، فإذا ظهر انه لا ذنب لها
جاءت الطامة الكبرى على قاتلها، لأنه رجع الامر إليه بحجة يقربها. وقال قوم:
تقديره سئلت قتلها بأي ذنب قتلت، فالكناية عنها أظهر. وروي في الشواذ، وهو
المروي عن ابن عباس وغيره من الصحابة أنهم قرءوا (وإذا المؤودة سألت بأي
ذنب قتلت) جعلوها هي السائلة عن سبب قتلها لا المسؤولة وهو المروي في اخبارنا
وقوله (وإذا الصحف نشرت) فالنشر بسط المطوي، والنشر للصحف
والثياب ونحوها. والصحف جمع صحيفة وهي الصحيفة التي فيها اعمال الخلق من
طاعة ومعصية، فتنشر عليه ليقف كل انسان على ما يستحقه.
وقوله (وإذا السماء كشطت) فالكشط القلع عن شدة التزاق كشط جلدة
الرأس يكشطها كشطا إذا قلعها فقلع السماء عن مكانها على شدة ما فيها من اعتماد كقلع
جلدة الرأس عن مكانها، والكشط والنشط واحد. وفى قراءة عبد الله (وإذا
السماء نشطت).
وقوله (وإذا الجحيم سعرت) معناه اشتعلت وأضرمت، فالتسعير تهيج
النار حتى تتأجج، ومنه السعر، لأنه حال هيج الثمن بالارتفاع والانحاط، وأسعرت
الحرب والشر بين القوم من هذا ومن شدد أراد التكثير، ومن خفف فلانه يدل على
القليل والكثير. وقال قتادة: يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم.

(1) سورة 2 البقرة آية 255
(2) ديوانه 1 / 203 واللسان (وأد).
283

وقوله (وإذا الجنة أزلفت) أي قربت من أهلها يوم القيامة فالازلاف
إدناء ما يجب، ومنه الزلفة القربة، وأزدلف إلى الامر اقترب منه. ومنه المزدلفة
لأنها قريب من مكة. وقوله (علمت نفس ما أحضرت) هو جواب (إذا الشمس
كورت) وما بعدها من الشروط، والمعنى إن عند ظهور الأشياء التي ذكرها
وعددها تعلم كل نفس ما عملته من طاعة أو معصية، وقد كان غافلا عنه. وهو
كقوله (أحصاه الله ونسوه) (1)،
قوله تعالى:
(فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16) والليل
إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18) إنه لقول رسول كريم (19)
ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) وما صاحبكم
بمجنون (22) ولقد رآه بالأفق المبين (23) وما هو على الغيب
بضنين (24) وما هو بقول شيطان رجيم (25) فأين تذهبون (26)
إن هو إلا ذكر للعالمين (27) لمن شاء منكم أن يستقيم (28) وما
تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين (29) خمس عشرة آية.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس (بظنين) بالظاء أي ليس على
الغيب، بمتهم، والغيب هو القرآن، وما تضمنه من الاحكام وغير ذلك من اخباره
عن الله. الباقون بالضاد - بمعنى انه ليس بخيلا لا يمنع أحدا من تعليمه ولا يكتمه

(1) سورة 58 المجادلة آية 6.
284

دونه. وفى المصحف بالضاد.
قوله (فلا اقسم بالخنس) معناه إقسم و (لا) صلة. وقد بينا نظائره فيما
مضى. و (الخنس) جمع خانس، وهو الغائب عن طلوع، خنست الوحشية في
الكناس إذا غابت فيه بعد طلوع. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أن الخنس
النجوم لأنها تخنس بالنهار وتبدو بالليل. وقيل: تخنس في مغيبها بعد طلوعها، وبه
قال الحسن ومجاهد. وقال ابن مسعود وسعيد بن جبير والضحاك: هي الظباء.
وقيل: القسم بالنجوم الخنس بهرام وزحل والمشتري وعطارد والزهرة. وقوله
(الجوار الكنس) معناه النجوم التي تجري في مسيرها ثم تغيب في مغاربها على ما
دبره تعالى فيها ففي طلوعها، ثم جريها في مسيرها، ثم غيبتها في مواقفها من الآية
العظيمة والدلالة الباهرة المؤدية إلى معرفته تعالى ما لا يخفى على متأمل معرفته وعظيم
شأنه، فالجارية النجوم السيارة، والجارية السفن في البحار، والجارية المرأة الشابة.
وقوله (الكنس) نعت ل‍ (الجوار) وهو جمع (كانس) وهي الغيب في مثل
الكناس، وهو كناس الوحشية بيت تتخذه من الشجرة تختفي فيه، قال طرفة:
كأن كناسي ضالة مكنفانها * واطرقسي تحت صلب مؤيد (1)
وقوله (والليل إذا عسعس) قسم آخر، ومعنى (عسعس) أدبر بظلامه
- في قول أمير المؤمنين علي عليه السلام وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد -
وقال الحسن ومجاهد في رواية والفضل بن عطية: أقبل بظلامه، وتقول العرب:
عسعس الليل إذا أدبر بظلامه. قال علقمة بن قرط:
حتى إذا الصبح لها تنفسا * وانجاب عنها ليلها وعسعسا (2)

(1) ديوانه 25 وتفسير القرطبي 19 / 236
(2) مجاز القرآن 2 / 288 والطبري 30 / 43.
285

وقيل: عسعس دنا من أوله واظلم، والعس طلب الشئ بالليل، عس يعس
عسا، ومنه أخذ العسس. وقال صاحب العين: العس نقض الليل عن أهل الريبة
والعس قدح عظيم من خشب أو غيره، وكأن أصله امتلاء الشئ بما فيه، فقدح اللبن
من شأنه أن يمتلئ به، ويمتلي، الليل بما فيه من الظلام، وعسعس أدبر بامتلاء
ظلامه. وقال الحسن (والليل إذا عسعس) معناه إذا أظلم والصبح إذا تنفس
إذا أسفر.
وقوله (والصبح إذا تنفس) قسم آخر بالصبح إذا أضاء وامتد ضوءه يقال:
تنفس الصبح وتنفس النهار إذا امتد بضوئه، والتنفس امتداد هواء الجوف بالخروج
من الفم والانف يقال: تنفس الصعداء
وقوله (إنه لقول رسول كريم) جواب الاقسام التي مضت، ومعنى (انه
لقول) يعني القرآن (رسول كريم) وهو جبرائيل عليه السلام - في قول قتادة والحسن -
بمعنى إنه سمعه من جبرائيل، ولم يقله من قبل نفسه. وقال: يجوز أن يراد به
محمد صلى الله عليه وآله فإنه أتى به من عند الله. وقوله (ذي قوة) معناه قوي على أمر
الله. وقيل: معناه قوي في نفسه - في قول من قال: عنى به جبرائيل - لان من
قوته قلبه قريات لوط بقوادم أجنحته.
وقوله (عند ذي العرش) معناه عند الله صاحب العرش (مكين) أي
متمكن عنده وفي الكلام تعظيم للرسول بأنه كريم، وأنه مكين عند ذي العرش
العظيم وأن الله تعالى أكد ذلك أتم التأكيد. وقوله (مطاع ثم أمين) من
قال المراد بالرسول جبرائيل، قال معناه إنه مطاع في الملائكة، أمين على وحي
الله. وقال: عنى به الرسول صلى الله عليه وآله قال: معناه إنه يجب أن يطاع وأن من
أطاعه فيما يدعوه إليه كان فائزا بخير الدنيا والآخرة. ويرجو بطاعته الثواب ويأمن
286

من العقاب، وإنه صلى الله عليه وآله كان يدعى الأمين قبل البعث فالأمين هو الحقيق بأن
يؤتمن من حيث لا يخون، ولا يقول الزور، ويعمل بالحق في الأمور.
ثم خاطب تعالى جماعة الكفار فقال (وما صاحبكم بمجنون) أي ليس صاحبكم
الذي يدعوكم إلى الله وإخلاص عبادته بمؤف العقل على ما ترمونه به من الجنون.
والمجنون المغطى على عقله حتى لا يدرك الأمور على ما هي به للآفة الغامرة له، فبغمور
الآفة يتميز من النائم، لان النوم ليس بآفة ولا عاهة.
وقوله (ولقد رآه بالأفق المبين) معناه إن النبي صلى الله عليه وآله رأى جبرائيل عليه السلام
على صورته التي خلقه الله عليها بالأفق المبين، فالأفق ناحية من السماء يقال: هو
كالنجم في الأفق، وفلان ينظر في أفق السماء. وقوله (مبين) أي هو ظاهر انه
في أفاق السماء من غير تخيل لا يرجع إلى يقين. وقال الحسن وقتادة: الأفق
المبين حيث تطلع الشمس. وقوله (وما هو على الغيب بضنين) قال ابن عباس
وسعيد بن جبير وإبراهيم والضحاك:، معناه ليس على وحي الله وما يخبر به من
الاخبار بمتهم أي ليس ممن ينبغي أن يظن به الريبة، لان أحواله ناطقة بالصدق
والأمانة، ومن قرأ بالضاد معناه ليس ببخيل على الغيب.
وقوله (وما هو بقول شيطان رجيم) معناه أنه ليس هذا القرآن قولا
لشيطان رجيم، قال الحسن: معناه رجمه الله باللعنة. وقيل رجيم بالشهب طردا
من السماء، فهو (فعيل) بمعنى (مفعول). وقوله (فأين تذهبون) معناه أين
تذهبون عن الحق الذي قد ظهر أمره وبدت أعلامه إلى الضلال الذي فيه البوار
والهلاك، وهو استبطاء لهم في القعود عن النبي صلى الله عليه وآله، والعمل بما يوجبه القرآن،
فالذهاب هو المصير عن شئ إلى شئ بالنفوذ في الامر. قال بعض بني عقيل:
287

تصيح بنا حنفية إذ رأتنا * وأي الأرض نذهب بالصباح (1)
يعني إلى أي الأرض، وقيل معناه فأي طريق يسلكون أبين من الطريق
الذي بينه لكم (إن هو إلا ذكر للعالمين) يمكنكم أن تتوصلوا به إلى الحق. والذكر
ضد السهو وعليه يتضاد العلم وأضداده، لان الذاكر لا يخلو من أن يكون عالما أو
جاهلا مقلدا أو شاكا، ولا يصح شئ من ذلك مع السهو الذي يضاد الذكر.
وقال الرماني: الذكر إدراك النفس الذي يضاد للمعنى بما يضاد السهو. و (العالمين) جمع
عالم. وقد فسرناه في ما مضى.
وقوله (لمن شاء منكم ان يستقيم) على أمر الله ووعظ. وقوله (وما تشاؤه
إلا أن يشاء الله رب العالمين) قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها - وما تشاؤن من الاستقامة إلا وقد شاءها الله، لأنه قد جرى ذكرها
فرجعت الكناية إليها، ولا يجوز أن يشاء العبد الاستقامة إلا وقد شاءها الله، لأنه
أمر بها ورغب فيها أتم الترغيب، ومن ترغيبه فيه إرادته له.
والثاني - وما تشاؤن شيئا إلا أن يشاء الله تمكينكم منه، لان الكلام يقتضي
الاقتدار على تمكينهم إذا شاء ومنعهم إذا شاء.
الثالث - وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ان يلطف لكم في الاستقامة لما في
الكلام من معنى النعمة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال شيبتني (هود) وأخواتها (الواقعة) و (إذا
الشمس كورت) وهو جميع ما وعظ الله به عباده.
فان قيل: أليس ان أنسا لما سئل هل اختضب رسول الله صلى الله عليه وآله قال ما شأنه
الشيب، فقال: أو شين هو يا أبا حمزة. فقال كلكم يكرهه؟

(1) تفسير القرطبي 19 / 241.
288

قيل عنه جوابان أحدهما - أنه روي أن عليا عليه السلام لما غسل رسول الله صلى الله عليه وآله
وجد في لحيته شعرات بيضاء، وما لا يظهر إلا بعد التفتيش لا يكون
شيبا. الثاني - أنه أراد لو كان أمر يشيب منه إنسان لشبت من قراءة ما في هذه
السورة، وما فيها من الوعيد كما قال (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت
وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) (1) وإنما أراد
عظم الأهوال على ما بيناه.
82 - سورة الانفطار
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا السماء انفطرت (1) وإذا الكواكب انتثرت (2) وإذا
البحار فجرت (3) وإذا القبور بعثرت (4) علمت نفس ما قدمت
وأخرت (5) يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم (6) الذي خلقك
فسواك فعدلك (7) في أي صورة ما شاء ركبك (8) كلا بل

(1) سورة 22 الحج آية 2.
289

تكذبون بالدين (9) وإن عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11)
يعلمون ما تفعلون) (12) اثنتا عشرة آية.
قرأ أهل الكوفة (فعدلك) خفيفا. الباقون مشددا. وقرأ أبو جعفر (بل
يكذبون) بالياء على الخبر الباقون بالتاء على الخطاب. وادغم حمزة والكسائي اللام
في التاء ووافقهم الحلواني عن هشام.
هذا خطاب من الله تعالى للمكلفين من عباده، وفيه تهديد ووعيد فإنه يقول
(إذا السماء انفطرت) يعني انشقت، فالانفطار انقطاع الشئ من الجهات مثل
تفطر، ومنه الفطير قطع العجين قبل بلوغه بما هو مناف لاستوائه، فطره يفطره إذا
أوجده بما هو لقطع ما يصد عنه. والانفطار والانشقاق والانصداع واحد.
وقوله (وإذا الكواكب انتثرت) معناه إذا النجوم تساقطت وتواقعت،
فالانتثار تساقط الشئ من الجهات يقال: انتثر ينثر انتثارا ونثره ينثره نثرا، واستنثر
استنثارا والنثر من الكلام خلاف النظم (وإذا البحار فجرت) أي خرق بعض
مواضع الماء إلى بعض يقال فجر الأنهار يفجرها تفجيرا، ومنه الفجر لانفجاره
بالضياء، ومنه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج إلى كثير من الذنوب. وقال قتادة
معنى فجرت أي تفجر عذبها في مالحها، ومالحها في عذبها
وقوله (وإذا القبور بعثر) معناه بحثر يقال: بعثر فلان حوضه وبحثره
بمعنى واحد إذا جعل أسفله أعلاه، والبحثرة إثارة الشئ بقلب باطنه إلى ظاهره.
وقل ابن عباس: بعثرت بحثت.
وقوله (علمت نفس ما قدمت وأخرت) جواب الشرط في قوله (إذا
السماء انفطرت) وما بعده من الشروط. ومعنى (ما قدمت وأخرت) ما اخذت
290

وتركت مما يستحق به الجزاء. وقيل: معناه كل ما يستحق به الجزاء مما كان في أول
عمره أو آخره. وقيل: معناه ما قدمت من عملها وما أخرت من سنة سنتها يعمل
بها - ذكره القرطي - وقال ابن عباس وقتادة: معناه ما قدمت من طاعة أو تركت
وقيل ما قدمت بعمله.
وقوله (يا أيها الانسان) خطاب لجميع الناس من المكلفين يقول الله لهم
لكل واحد منهم (ما غرك بربك الكريم) أي أي شئ غرك بخالقك حتى عصيته
فيما أمرك به ونهاك عنه، فالغرور ظهور أمر يتوهم به جهل الأمان من المحذور تقول:
غر يغر غرورا واغتره يغتره اغترارا قال الحلوث ابن حلزة:
لم يغروكم غرورا ولكن * رفع الال جمعهم والضحاء (1)
والكريم القادر على التكرم من غير مانع، ومن هذه صفته لا يجوز الاغترار
به، لان تكرمه على ما يقتضيه الحكمة من مجازاة المحسن باحسانه والمسيئ بإساءته.
قال قتادة: غر الشيطان غرورا، وقيل: غره بجهله الوجه في طول الامهال، وقوله
(الذي خلقك فسواك) نعت ل‍ (ربك)، وهو في موضع الجر. وقوله (فسواك)
التسوية التعديل، والمراد - ههنا - تسوية الله تعالى آلته من اليدين والرجلين
والعينين ونحو ذلك (فعدلك) في المزاج على وجه يصح معه وجود الحياة. ومن
خفف الدال أراد صرفك إلى أي صورة شاء من حسن أو قبح، ومن ثقل أراد
جعلك معدل الخلق معتدلا. واختار الفراء التشديد، لان (في) مع التعديل أحسن
و (إلى) مع العدل.
قوله (في أي صورة ما شاء ركبك) فالصورة البنية التي تميل بالتأليف
إلى ممايلة الحكاية وهي من صاره يصوره صورا إذا ماله، ومنه قوله (فصرهن

(1) مر في 8 / 322.
291

إليك) (1) أي املهن إليك، ولو كانت بنية من غير ممايلة لم يكن صورة. وقال
مجاهد: معناه (في أي صورة ما شاء ركبك) من شبه أب أو أم أو خال أو عم.
وقال قوم: معناه في أي صورة ما شاء ركبك من ذكر أو أنثى وجسيم أو نحيف
وطويل أو قصير ومستحسن أو مستقبح، ومن قال: الانسان غير هذه الجملة
أستدل بقوله (في أي صورة ما شاء ركبك) قالوا لأنه بين أنه يركب القابل في
أي صورة شاء، فدل على أنه غير الصورة. وقد بينا القول في تأويل ذلك، على أن
عندهم أن ذلك الحي لا يصح عليه التركب والله تعالى بين أنه يركبه كيف شاء،
وفي أي صورة شاء وذلك خلاف مذهبهم.
ثم قال (كلا بل تكذبون بالدين) ومعنى (كلا) الردع والزجر أي ارتدعوا
وانزجروا، وقيل: معناه حقا بل تكذبون معاشر الكفار بالدين الذي هو الجزاء من
الثواب والعقاب لانكاركم البعث والنشور - ذكره مجاهد وقتادة - وقيل: بل
تكذبون بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله ثم قال مهددا لهم (وإن عليكم لحافظين)
يعني من الملائكة يحفظون عليكم ما تعملون من الطاعة والمعصية. ثم وصفهم فقال
(كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) أي لا يخفى عليهم شئ من الذي تعملونه
فيثبتون ذلك كله. وقيل: إن الملائكة تعلم ما يفعله العبد إما باضطرار كما تعلم أنه
يقصد إلى خطابنا وأمرنا ونهينا وإما باستدلال إذا رآه وقد ظهر منه الأمور التي
لا تكون إلا عن علم وقصد من نحو التحري في الوزن والكيل، ورد الوديعة وقضاء
الدين مما يتعمد فيه أهل الحقوق دون غيرهم، وقال الحسن: يعلمون ما تفعلون من
الظاهر دون الباطن. وقيل: بل هو على ظاهر العموم لان الله تعالى يعلمهم إياه.

(1) سورة 2 البقرة آية 260.
292

قوله تعالى:
(إن الأبرار لفي نعيم (13) وإن الفجار لفي جحيم (14)
يصلونها يوم الدين (15) وما هم عنها بغائبين (16) وما أدريك
ما يوم الدين (17) ثم ما أدريك ما يوم الدين (18) يوم لا تملك
نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله) (19) سبع آيات.
قرأ ابن كثير وأهل البصرة (يوم لا تملك) برفع الميم. الباقون بالنصب
على الظرف، ويجوز أن ينصبه باضمار فعل أي نقول يوم لا تملك، ومن رفع استأنف
ويجوز أن يجعله بدلا مما يفعله. وقيل: ان (يوم) إذا أضيف إلى فعل مضارع رفع
وإذا أضيف إلى فعل ماض نصب، نحو قولهم: يوم يفعل، ويوم فعل، وقال أبو
علي: من رفع جعله خبر ابتداء محذوف، وتقديره هو يوم: ومن نصب فعلى أن
يكون الخبر على الجزاء، فكأنه قال الجزاء يوم لا تملك نفس.
يقول الله تعالى مخبرا (إن الأبرار لفي نعيم) وهم الذين يفعلون الطاعات التي يستحقون بها الجنة والثواب بأنواع اللذات جزاء على طاعاتهم، واخبر أيضا
(وإن الفجار) وهم الذين خرجوا عن طاعة الله إلى معصيته والمراد به - ههنا - الكفار
(لفي جحيم) جزاء على كفرهم ومعاصيهم (يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين)
يعني لا يكونون غائبين عن الجحيم بل يكونون مؤبدين فيها، وليس يدل ذلك على
أن فساق أهل الملة لا يخرجون من النار، لأنا بينا أن الآية مخصوصة بالكفار من
حيث بينا في غير موضع أن معهم ثوابا دائما على - إيمانهم لم ينحبط لبطلان القول
بالتحابط، فإذا لابد من إخراجهم من النار ليوفوا ثوابهم. وقوله (يصلونها يوم
293

الدين) معناه إن الفجار يصلون في الجحيم يو م الجزاء على الاعمال. وسمي الاسلام
دينا لأنه يستحق به الجزاء لان أصل الدين الجزاء، ودين اليهودية وغيرها يستحق
بها العقاب. ومعنى قوله (يصلونها) يلزمونها بكونهم فيها ومنه المصطلي الملازم للنار
متدفيا، صلى يصلي صلا واصطلي يصطلي اصطلاء.
وقوله (وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين) تعظيم ليوم
الجزاء بلفظ الاستفهام، والغرض فيه التنبيه على عظم حاله وما يستحق به من
ثواب وعقاب ليعمل العباد بما يؤديهم إلى الثواب والجنة والنجاة من العقاب،
وعظم يوم الدين لشدة الحاجة إلى نعيم الجنة، والنجاة من النار ومن جملة العصاة،
فلا يوم أعظم من ذلك.
ثم فسر تعالى ذلك وبينه بعد أن عظمه فقال (يوم لا تملك نفس لنفس
شيئا) ومعناه لا يملك أحد الدفاع عن غيره ممن يستحق العقاب كما يملك كثير من
الناس ذلك في الدنيا، فان الامر في ذلك اليوم لله وحده لم يملك أحدا شيئا من
الأمور كما ملكهم أشياء كثيرة في دار الدنيا. وقيل: معناه إنه لا يمكن أحدا أن
يجازي أحدا إلا بالحق بأمر الله تعالى.
294

83 - سورة المطففين
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك هي مدنية
وهي ست وثلاثون آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالوا على الناس
يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3) ألا يظن
أولئك أنهم مبعوثون (4) ليوم عظيم (5) يوم يقوم الناس لرب
العالمين) (6) ست آيات.
(ويل) كلمة موضوعة للوعيد والتهديد، ويقال ذلك لمن وقع في هلاك
وعقاب. وقيل: إن ويلا واد في جهنم قعره سبعون سنة. وقيل (ويل) دعاء
عليهم. وقال ابن عباس: كان أهل المدينة من أخبث الناس كلا إلى أن انزل
الله تعالى (ويل للمطففين) فأحسنوا الكيل، فهدد الله تعالى بهذا الخطاب كل من
بخس غيره وحقه ونقصه ماله من مكيل أو موزون، فالمطفف المقلل حق صاحبه بنقصانه
عن الحق في كيل أو وزن. والطفيف النزر القليل، وهو مأخوذ من طف الشئ
وهو جانبه، والتطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن، وأما التنقيص
295

في ما يرجع إلى مقدار الحق فلا يكون تطفيفا، ولفظة (المطفف) صفة ذم لا تطلق
على من طفف شيئا يسيرا إلى أن يصير إلى حال تتفاحش، وفي الناس من قال:
لا يطلق حتى يطفف أقل ما يجب فيه القطع في السرقة، لأنه المقطوع على أنه كبيرة.
وقوله (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) فالاكتيال الاخذ بالكيل
ونظيره الاتزان وهو الاخذ بالوزن، والاعتداد الاخذ بالعدد، يقال: اكتال يكتال
اكتيالا، وكاله يكيله كيلا وكايله مكايلة وتكايل تكايلا، وإنما ذكر في الذم (إذا
اكتالوا على الناس يستوفون) ليبين منزلتهم في تعدي الحق بأنهم لم ينقصوا الناس
عن طريق مسامحة يعاملون الناس بمثل ذلك بل على محض الظلم في البخس. ويقال:
اكتالوا ما عليهم بمعنى اخذوا ما عليهم، واكتالوا منهم أي استوفوا منهم. وقيل:
على الناس، فكنى عنهم. وقوله (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) كان عيسى
ابن عمر يجعل (هم) فصلا في موضع رفع بمعنى الفاعل. والباقون يجعلونه في موضع
نصب، وهو الصحيح، وهو قول أكثر المفسرين. وأهل الحجاز يقولون:
وزنتك حقك وكلتك طعامك. وغيرهم يقولون: كالوا لهم ووزنوا لهم، وفي الكتاب
(كالوهم أو وزنوهم) بلا الف. ومن قال تقديره: كالوا لهم أو وزنوا لهم، قال
حذف (لهم) للايجاز من غير اخلال بالمعنى، ويقال أخسر وخسر لغتان إذا
نقص الحق.
وقوله (ألا يظن أولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم) تبكيت للكافر ولكل
ظالم وباخس حق غيره في صورة الاستفهام. و (الظن) ههنا بمعنى العلم، وتقديره
ألا يعلم أنه يبعث يوم القيامة ويجازى على افعاله من طاعة أو معصية فيجازى بحسبها
في اليوم الذي وصفه بأنه يوم عظيم. ويحتمل أن يكون المراد بالظن الحسبان أيضا
من ظن الجزاء والبعث وقوي في نفسه ذلك، وإن لم يكن عالما يجب عليه أن
296

يتحرز ويجتنب المعاصي خوفا من العقاب الذي يجوزه ويظنه، كما أن من ظن العطب
في سلوك طريق وجب أن يتجنب السلوك فيه. قال البلخي: قال قوم:، المعنى أفما
يوقنون انهم مبعوثون، جعله خطايا للمؤمنين المصدقين بالبعث. ثم زاد في صفة يوم
القيامة الذي وصفه بأنه يوم عظيم وبينه فقال (يوم يقوم الناس لرب العالمين) أي
يوم يبعثون يوم تقوم الناس من قبورهم ويجتمعون في ارض المحشر، وإنما يقومون
من قبورهم إلى ارض المحشر لجزاء رب العالمين، وحذف ذلك الدلالة عليه، ويحتمل
(يوم يقوم) ثلاث أوجه: النصب على ذلك اليوم يقوم أو مبعوثون يوم يقوم. والرفع
على الاستئناف، والجر على البدل من (ليوم عظيم) وقال قتادة: يقومون مقدار
ثلاثمائة سنة ويقصر على المؤمنين حتى يكون كإحدى صلاة المكتوبة، وروي في الخبر
عن النبي صلى الله عليه وآله ان أحدهم ليغيب في رشجه إلى انصاف أذنيه.
قوله تعالى:
(كلا إن كتاب الفجار لفي سجين (7) وما أدريك ما
سجين (8) كتاب مرقوم (9) ويل يومئذ للمكذبين 10) الذين
يكذبون بيوم الدين (11) وما يكذب به إلا كل معتد أثيم (12)
إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين (13) كلا بل ران على
قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) كلا إنهم عن ربهم يومئذ
لمحجوبون (15) ثم إنهم لصالوا الجحيم (16) ثم يقال هذا الذي
كنتم به تكذبون) (17) احدى عشرة آية.
297

روى حفص عن عاصم والمسيبئ إلا هبة (بل ران) باظهار اللام. الباقون
بالادغام. وأمال أهل الكوفة إلا الأعشى والبرجمي (ران)
قيل في أصل قوله (كلا) قولان:
أحدهما - إنها كلمة واحدة من غير تركيب وضعت المردع والزجر، وجرى
ذلك مجرى الأصوات من نحو (صه، ومه) وما أشبههما
والثاني - أن يكون الكاف للتشبيه دخلت على (لا) وشددت للمبالغة في
الزجر مع الايذان بتركيب اللفظ.
ومعنى الآية ارتدعوا أيها الكفار والعصاة وانزجروا عن المعاصي معاشر
الكفار، ليس الامر على ما تظنون بل (إن كتاب الفجار) يعني كتابهم الذي نبتت
أعمالهم من المعاصي والفجور (لفي سجين) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني
في الأرض السابغة السفلى، وهو قول الضحاك. وقال مجاهد: تحت صخرة في
الأرض السابعة السفلى، وروي في الخبر أن (سجين) جب في جهنم. وقال أبو
عبيدة: سجين شديد، وأنشد:
ضربا تواصى به الابطال سجينا (1)
يعني شديدا، فكأنه كشدة السجن، ويكون معناه شديد عذابه. وقيل:
السجين هو السجن على التخليد فيه، فهو (فعيل) من سجنته أسجنه سجنا، وفيه
مبالغة، كما يقال: شريب من الشرب، وسكير من السكر، وشرير من الشر.
وقيل: الوجه في جعل كتاب الفجار في سجبن أن تخليده فيه يقوم مقام التقريع
وإن عقابهم لا يفنى ولا يبيد كما لا يفنى كتاب سيئاتهم ولا يبيد، ثم قال
على وجه التعظيم والتفخيم و (ما أدراك ما سجين) أي تفصيله لا تعلمه وإن علمته

(1) مر في 6 / 45.
298

مجملا. ثم قال مفسرا لذلك (كتاب مرقوم) فالرقم طبع الخط بما فيه علامة لامر
يقال: رقمه يرقمه رقما فهو راقم والشئ مرقوم ومنه قمت الثوب بعلامة لئلا يختلط، والمعنى
إن هذا الكتاب الذي هو في السجن كتاب قد كتب فيه جميع أفعاله من المعاصي والكفر.
ثم قال (ويل يومئذ للمكذبين) فهو تهديد لمن كذب بيوم الجزاء ولم
يصدق بصحة الخبر بكونه، ثم فسر من عنى من المكذبين، فقال (الذين يكذبون بيوم
الدين) يعني يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، لان من كذب بالباطل وجحده لا يتوجه
إليه الوعيد بل هو ممدوح فلو أطلق كان فيه إبهام. ثم قال (وما يكذب به) أي
ليس يكذب بيوم الجزاء (الا كل معتد أثيم) فالمعتدي المتجاوز الحق إلى الباطل،
يقال: اعتدى اعتداء، فهو معتد. والعادي الخارج عن الحق، عدا يعدو عدوانا
وأصله مجاوزة الحد ومن ذلك العداوة وهي مجاوزة الحد في الابغاض، والعدو
مجاوزة الحد في اسراع المشي، والأثيم مكتسب القبيح أثم يأثم إثما فهو آثم وأثيم
وأثمه تأثيما إذا نسبه إلى الاثم، وتأثم من فعل كذا كقولك تحرج منه للإثم به
وقال قتادة: أثيم في مريته، ثم وصف المعتدي الأثيم، فقال (إذا تتلى عليه آياتنا)
أي إذا قرئت عليه حجج الله من القرآن وما فيه من الأدلة (قال أساطير الأولين)
فواحد الأساطير أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث. وقيل: معناه أباطيل الأولين.
وقيل: معناه هذا ما سطره الأولون أي كتبوه، ولا أصل له. ثم قال تعالى
(كلا بل ران على قلوبهم) معناه ليس الامر على ما قالوه بل غلب على قلوبهم
يقال منه: رانت الخمر على عقله ترين رينا إذا سكر فغلبت على عقله، فالرين غلبة
السكر على القلب. قال أبو زبيد الطائي:
ثم لما رأوه رانت به الخمر * وإن لا يرينه بالقاء
أي مخافة يسكر، فهي لا تبقيه وقال الراجز:
299

لم تروحني نكرت ورين بي * ورين بالسافي الذي أمسى معي
وقال الحسن: وقتادة: الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب. وقال
ابن زيد: غلبت الذنوب على القلوب، فلا يخلص إليها خير العلوم. وقيل: معنى (ران)
غطى وعشى. وقوله (ما كانوا يكسبون) (ما) في موضع رفع، لأنها الفاعلة لران
وما يكسبون يعني من المعاصي، لان الطاعات وان كسبوها فما رانت على قلوبهم
قال البلخي: وفي ذلك دلالة على صحة ما يقوله أهل العدل في تفسير الطبع والختم
والاضلال، لأنه تعالى اخبر انهم الذين يجعلون الرين على قلوبهم.
ثم قال (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) قال الحسن وقتادة: هم
محجوبون عن احسانه. وقيل: عن كرامته. وقيل: لممنوعون. وأصل الحجب
المنع. ومنه قولهم: الاخوة تحجب الام عن الثلث إلى السدس.
ثم بين تعالى ما يفعل بهم فقال (ثم إنهم لصالوا الجحيم) ومعناه لازموا
الجحيم بكونهم فيها لا يغيبون عنها يقال: صلى بالنار يصلي صليا، فهو صال والمصطلي
الملازم للنار للتدفي بها.
ثم حكى انه يقال لهم على وجه التقريع والتبكيت: هذا الذي فعل بكم من
العقاب (هو الذي كنتم به تكذبون) في دار التكليف، وإنما سمي مثل هذا الخطاب
تقريعا لأنه خبر بما يقرع بشدة الغم على وجه الذم، فكل خبر على هذا الوصف
فهو تقريع وتوبيخ.
قوله تعالى:
(كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين (18) وما أدريك ما
عليون (19) كتاب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) إن الأبرار
300

لفي نعيم (22) على الأرائك ينظرون (23) تعرف في وجوههم نضرة
النعيم (24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختامه مسك وفي ذلك
فليتنا فس المتنافسون (26) ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب
بها المقربون) (28) احدى عشرة آية. قرأ الكسائي وحده (خاتمه مسك) بألف قبل التاء. الباقون (ختامه
مسك) فالختام مصدر، والخاتم صفة، ونظيره: رجل كريم الطابع والطباع
قال الفرزدق:
فبتن خبابتي مصرعات * وبت افض اغلاق الختام (1)
وقرأ أبو جعفر ويعقوب (تعرف) بضم التاء وفتح الراء (نضرة) بالرفع
على ما لم يسم فاعله. الباقون بفتح التاء وكسر الراء ونصب (نضرة).
لما ذكر الله تعالى الفجار وما أعده لهم من أنواع العقاب وأليم العذاب
ذكر الأبرار وهو جمع بر مثل جبل واجبال. والأبرار الذين فعلوا الطاعات واجتنبوا
المعاصي، واخبر (إن كتاب الأبرار لفي عليين) أي مراتب عالية محفوفة بالجلالة،
فقد عظمها الله تعالى بما يدل على عظم شأنها في النعمة، وجمعت بالواو والنون تشبيها
بمن يعقل في الفضل وعظم الشأن. وقال ابن عباس: العليون الجنة. وقال كعب
وقتادة ومجاهد والضحاك: أرواح المؤمنين في السماء السابعة، وقال الضحاك - في
رواية - عليون سدرة المنتهى، وهي التي إليها ينتهي كل شئ من أمر الله تعالى.
وقيل: عليون علو على علو مضاعف، ولهذا جمع بالواو والنون تفخيما لشأنه

(1) ديوانه 2 / 665 والقرطبي 19 / 263.
301

قال الشاعر:
فأصبحت المذاهب قد أذاعت * به الاعصار بعد الوابلينا
يريد مطرا بعد مطر غير محدود العدد، وكذلك تفخيم شأن العد الذي
ليس على الواحد، نحو ثلاثين إلى تسعين، وجرت العشرون عليه. وقيل: عليون
أعلى الأمكنة. وقال الحسن: معنى في عليين في السماء. وقال الجبائي: معناه في جملة
الملائكة العليين، فلذلك جمع بالواو والنون.
ثم قال تعالى على وجه التعظيم لشأن هذه المنازل وتفخيم أمرها (وما ادراك
ما عليون) لان تفصيلها لا يمكن العلم بها إلا بالمشاهدة دون علم الجملة. ثم قال
(كتاب مرقوم) أي الكتاب الذي ثبت فيه طاعتهم (مرقوم) أي مكتوب
فيه جميع طاعاتهم بما تقربه أعينهم وتوجب سرورهم بضد الكتاب الذي للفجار، لان
فيه ما يسؤهم ويسخن أعينهم (يشهده المقربون) أي يشهد هذا الكتاب الملائكة
المقربون أي يشاهدون جوائزهم ويرونها. ومعنى المقربون - ههنا - هم الذين قربوا إلى
كرامة الله في أجل المراتب.
ثم اخبر تعالى (إن الأبرار) وهم أهل البر الذين فعلوه لوجهه خالصا من
وجوه القبح، فالبر النفع الذي يستحق به الشكر والحمد يقال: بر فلان بوالده فهو بار به
وبر به، وجمعه أبرار (لفي نعيم) أي ويحصلون في ملاذ وأنواع من الفنع (على
الأرائك ينظرون) قال ابن عباس: الأرائك الأسرة. وقال مجاهد: هي من
اللؤلئ والياقوت، واحدها أريكة، وهو سرير في حجلة ينظرون إلى ما أعطاهم الله
من الملك والكرامة، والحجلة كالقبة على الأسرة، ثم قال (تعرف في وجوههم
نضرة النعيم) أي تتبين في وجوههم إشراق النعمة والسرور بها.
وقوله (بسقون من رحيق) فالرحيق الخمر الصافية الخالصة من كل غش.
302

قال الخليل: هي أفضل الخمر وأجودها قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم * بردا يصفق بالرحيق السلسل
وقوله (مختوم) قيل إن هذا الخمر مختوم في الآنية بالمسك، وهو غير
الذي يجري في الأنهار. وقوله (ختامه مسك) قيل في معناه قولان:
أحدهما - ان مقطعه مسك بأن يوجد ريح المسك عند خاتمة شربه - ذكره
ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك.
والثاني - أنه ختم اناؤه بالمسك بدل الطين الذي يختم بمثله الشراب في
الدنيا - ذكره مجاهد وابن زيد - ومن قرأ (خاتمه) مسك أراد آخر شرابه مسك
ويفتح التاء في (خاتمه لان العرب تقول: خاتم وخاتم وخاتام وخيتام. ومن قرأ
(ختامه) أراد شرابهم مختوم بالمسك. والمسك معروف، وهو أجل الطيب
سمي مسكا، لأنه يمسك النفس لطيب ريحه والمسك - بالفتح - الجلد لامساكه ما فيه
(وفي ذلك) يعني في ذلك النعيم الذي وصفه الله (فليتنافس المتنافسون)
فالتنافس تمني كل واحد من النفسين مثل الشئ النفيس الذي للنفس الأخرى أن
يكون له تنافسوا في الشئ تنافسا ونافسه فيه منافسة، والجليل الذي ينفس بمثله
نفيس، ونفس عليه بالامر ينفس نفاسة إذا ضن به لجلالته.
وقوله (ومزاجه) أي مزاج ذلك الشراب الذي وصفه (من تسنيم)
فالمزاج خلط المائع بالمائع كما يمزج الماء الحار بالبارد، والشراب بالماء. يقال أمزجه
مزجا وامتزج امتزاجا ومازجه ممازجة وتمازجا تمازجا. والتسنيم عين الماء يجري من
علو إلى سفل يتسنم عليهم من الغرف، واشتقاقه من السنام، وقال عكرمة: من
تشريف، ويقال: سنام البعير لعلوه من بدنه.
وقوله (عينا يشرب بها المقربون) قيل في نصب (عين) وجوه:
303

أولها - أن (تسنيم) معرفة و (عينا) قطع منها، أو حال.
الثاني - أن يكون (تسنيم) مصدرا فيجري مجرى (أو إطعام في يوم ذي
مسغبة يتيما) (1).
الثالث - على تقدير أعني عينا، مدحا.
الرابع - يسقون عينا، والباء زائدة، يقال: شربت عينا وشربت العين وقد
فسرناه في (هل أتى).
قوله تعالى:
(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون (29)
وإذا مروا بهم يتغامزون (30) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا
فكهين (31) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون (32) وما أرسلوا
عليهم حافظين (33) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون (34)
على الأرائك ينظرون (35) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) (36)
ثمان آيات.
قرأ حفص (فكهين) بغير الف بمعنى فرحين مرحين. الباقون (فاكهين)
بألف بمعنى لاهين، وهو بمنزلة طامع وطمع، فالفاكه الطالب ما يتفكه به من
نوادر الأمور والفاكه الناعم المعجب بحاله والتفكه التمتع بالمأكول من غير أخذه
للقوت. وقرأ أبو عمرو - في رواية هارون - وحمزة والكسائي (هل ثوب)
بالادغام، لقرب مخرج اللام من الثاء، الباقون واليزيدي عن أبي عمرو بالاظهار.

(1) سورة 9 البلد آية 15.
304

قيل إن هذه الآية نزلت في جماعة من كفار قريش كانوا يعيرون جماعة
من المسلمين الذين سبقوا إلى الايمان، ويهزؤون منهم، فقال الله تعالى مخبرا بأن
المجرمين كانوا من الذين آمنوا بالله. ووحدوه وأخلصوا له العبادة وصدقوا أنبياءه
(يضحكون) على وجه الاستهزاء بهم والسخرية منهم (وإذا مروا بهم) يعني
إذا مر بهم المؤمنون وجازوا عليهم غمز بعضهم بعضا عليهم على وجه التعجب منهم
والسخرية (وإذا انقلبوا إلى أهلهم) يعني الكفار إذا انقلبوا إلى أهلهم وأصحابهم
(انقلبوا فاكهين) أي لاهين. ومن قرأ (فكهين) أراد مرجين (معجبين)
بحالهم (وإذا رأوهم) يعني الكفار إذا رأوا المؤمنين في دار الدنيا (قالوا) يعني
بعضهم لبعض (إن هؤلاء) وأشاروا به إلى المؤمنين (لضالون) عن طريق الحق
وعادلون عن الاستقامة، فقال الله تعالى (وما أرسلوا عليهم حافظين) أي لم
يرسل هؤلاء الكفار حافظين على المؤمنين، فيحفظون ما هم عليهم، والمراد بذلك
الذم لهم بعيب المؤمنين بالضلال من غير أن كلفوا منعهم من المراد وأن ينطقوا في
ذلك بالصواب، فضلوا بالخطأ في نسبهم إياهم إلى الضلال، فكانوا ألوم منهم
لو أخطئوا فيه، وقد كلفوا الاجتهاد.
ثم قال (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) معناه إن يوم القيامة
الذي يجازي الله تعالى كل أحد على عمله فيجازي المؤمن بالثواب والنعيم، ويجازي
الكافر بالعذاب والجحيم، ففي ذلك اليوم يضحك المؤمنون من الكفار، كما كان
الكفار يضحكون من المؤمنين في الدنيا، وقيل الوجه في ضحك أهل الجنة من
أهل النار أنهم لما كانوا أعداء الله تعالى وأعداءهم جعل لهم سرورا في تعذيبهم
ولو كان العفو قد وقع عنهم لم يجز أن يجعل السرور في ذلك، لأنه مضمن بالعداوة
305

وقد زالت بالعفو.
وقوله (على الأرائك ينظرون) معناه إن المؤمنين على سرر في الحجال
واحدها أريكة ينتظرون ما يفعله الله بهم من الثواب والنعيم في كل حال، وما ينزل
بالكفار من اليم العقاب وشديد النكال.
ثم قال (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) وقيل في معناه قولان:
أحدهما - هل جوزي الكفار إذا فعل بهم هذا الذي ذكر بما كانوا يفعلون.
الثاني - ينظرون هل جوزي الكفار، فيكون موضعه نصبا ب‍ (ينظرون) والأول
استئناف لا موضع له. وإنما قال (هل ثوب) لان الثواب في أصل اللغة الجزاء
الذي يرجع على العامل بعمله، وإن كان الجزاء بالنعيم على الاعمال في العرف،
يقال: ثاب الماء يثوب ثوبا إذا رجع، وثاب إليه عقله إذا رجع. ومنه التثاؤب.
وقال قوم: يقول المؤمنون بعضهم لبعض: هل جوزي الكفار ما كانوا يفعلون
سرورا بما ينزل بهم. ويجوز أن يكون ذلك من قول الله أو قول الملائكة للمؤمنين
تنبيها لهم على أنه جوزي الكفار على كفرهم وسخريتهم بالمؤمنين وهزئهم، بأنواع
العذاب ليزدادوا بذلك سرورا إلى سرورهم.
306

84 - سورة الانشقاق
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي خمس وعشرون آية في
الكوفي والمدنيين وثلاث في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا السماء انشقت (1) وأذنت لربها وحقت (2) وإذا
الأرض مدت (3) وألقت ما فيها وتخلت (4) وأذنت لربها
وحقت (5) يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (6)
فأما من أوتي كتابه بيمينه (7) فسوف يحاسب حسابا يسيرا (8)
وينقلب إلى أهله مسرورا) (9) تسع آيات.
يقول الله تعالى لنبيه وهو متوجه إلى جميع المكلفين على وجه الوعيد لهم
والتخويف من عقابه والتنبيه لهم على قرب أو ان مجيئه (إذا السماء انشقت) وتقديره
اذكر إذا السماء انشقت، ومعناه إذا انفطرت السماء وتصدعت وانفرجت،
فالانشقاق افتراق امتداد عن التئام، فكل انشقاق افتراق وليس كل افتراق انشقاقا
وقيل: الانشقاق الانفطار، والانصداع الانفراج.
وقوله (وأذنت لربها وحقت) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد
307

وقتادة: معناه سمعت وأطاعت أي كأنها سمعت بأذن وأطاعت بانقياد لتدبير الله.
تقول العرب أذن لك هذا الامر أذنا بمعنى أسمع لك قال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بددن، إن همي في سماع وأذن
وقال آخر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم اذنوا (1)
أي سمعوا وقال عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ما ذي مشار 2)
وقيل إن معنى و (حقت) حق لها أن تأذن بالانقياد لامر ربها، يقال: حق له
أن يكون على هذا الامر بمعنى جعل ذلك حقا.
وقوله (وإذا الأرض مدت روي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: (تمد الأرض
يوم القيامة مثل الأديم) ومعنى (مدت) بسطت إن الله تعالى يأمر بأن تمد مد
الأديم العكاظي حتى يزيد في سعتها. وقيل معناه إنها تبسط باندكاك جبالها وآكامها
حتى تصير كالصحيفة الملساء.
وقوله (وألقت ما فيها وتخلت) معناه القت ما فيها من المعادن وغيرها،
وتخلت منها، وذلك مما يؤذن بعظم الامر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدة وقال
قتادة ومجاهد: أخرجت الأرض أثقالها. وقوله (وأذنت لربها وحقت) قد فسرناه
وليس هذا على وجه التكرار، لان الأول في صفة السماء والثاني في صفة الأرض فليس
بتكرار وهذا كله من أشراط الساعة وجلائل الأمور التي تكون فيها. وجواب (إذا السماء
انشقت) محذوف وتقديره إذا كانت هذه الأشياء التي ذكرها وعددها رأى الانسان
ما قدم من خير أو شر، وقيل جوابه في (إنك كادح) قال ابن خالويه الفاء مقدرة

(1) مر في 5 / 44
(2) مر في 5 / 287.
308

والتقدير إذا السماء انشقت إلى قوله (وحقت) فيا أيها الانسان إنك كادح. وقال
البلخي: الواو زائدة وجواب قوله (أذنت لربها) (وحقت) وهو كقوله (حتى إذا
جاؤها وفتحت أبوابها) والأول هو الوجه.
وقوله (يا أيها الانسان) خطاب لجميع المكلفين من البشر من ولد آدم يقول
الله لهم ولكل واحد منهم (يا أيها الانسان إنك كادح) والكدح السعي الشديد
في الامر يقال: كدح الانسان في أمره يكدح، وفيه كدوح وخدوش أي آثار من
شدة السعي في الامر، ومعنى (كادح إلى ربك كدحا) أيها الانسان إنك في امرك
بشدة ومشقة إلى أن تلقى جزاء عملك من ربك، فأنت لا تخلو في الدنيا من مشقة،
فلا تعمل لها، واعمل لغيرها فيما تصير به إلى الراحة من الكدح، فالغني والفقير كل
واحد منهما يكدح ما يقتضيه حاله. وقوله (فملاقيه) تفخيم لشأن الامر الذي يلقى
من جهته، فجعل لذلك لقاء جزائه، لقاءه وهذا من المعاني العجيبة والحكمة البالغة
والهاء في (فملاقيه) يحتمل أمرين: أن تكون كناية عن الله، وتقديره فملاقي ربك
أي تلاقى جزاء ربك، ويحتمل أن تكون كناية عن الكدح، وتقديره فملاقي كدحك
الذي هو عملك. وقال تميم بن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى ابتغى العيش اكدح (1)
أي ادؤب وأسعى في طلب العيش. ثم قسم تعالى أحوال الخلق يوم القيامة
فقال (فأما من أوتي كتابه بيمينه) يعني من أعطي كتابه الذي فيه ثبت أعماله
من طاعة أو معصية بيده اليمنى (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) أي يواقف على
ما عمل من الحسنات وماله عليها من الثواب، وما حط عنه من الأوزار إما بالتوبة
أو المغفرة، فالحساب اليسير التجاوز عن السيئات، والاحتساب بالحسنات. ومن

(1) مر في 3 / 212 و 4 / 77 و 8 / 243.
309

نوقش بالحساب هلك، روي عن النبي صلى الله عليه وآله،
وقوله (وينقلب إلى أهله مسرورا أي فرحا مستبشرا. وقيل المراد
بالأهل - ههنا - هم الذين أعد الله لهم من الحور العين، ويجوز أن يكون المراد
أقاربه إذا كانوا من أهل الجنة والسرور هو الاعتقاد أو العلم بوصول نفع إليه في
المستقبل أو دفع ضرر عنه وقال قوم: هو معنى في القلب يلتذ لأجله بنيل المشتهى
يقال: سر بكذا من مال أو ولد أو بلوغ أمل يسر سرورا.
قوله تعالى:
(وأما من أوتي كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعو ثبورا (11)
ويصلي سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13) إنه ظن أن لن
يحور (14) بلى إن ربه كان به بصيرا) (15) ست آيات.
قرأ نافع وابن عامر وابن كثير والكسائي (يصلى) بضم الياء وفتح الصاد
وتشديد اللام. الباقون بفتح الياء وإسكان الصاد خفيفة. وأماله أهل الكوفة
إلا عاصما.
لما ذكر الله تعالى حكم من يعطى كتابه بيمينه من المؤمنين وأهل الطاعات
وما أعدلهم من أنواع النعيم وانقلابه إلى أهله مسرورا، ذكر حكم الكفار الذين
يعطون كتاب أعمالهم وراء ظهورهم، وروي أنه يخرج شماله من ظهره، ويعطي
كتابه فيه. والوجه في ذلك ما قدمناه من كون ذلك امارة للملائكة والخلائق أنه من
أهل النار كما أن إعطاء الكتاب باليمين علامة على أنه من أهل الجنة.
ثم حكى ما يحل به فقال (فسوف يدعو ثبورا) فالثبور الهلاك أي يقول
واهلاكاه. والمثبور الهالك. وقيل: إنه يقول وا ثبوراه. وقال الضحاك يدعو
310

بالهلاك. وأصل الثبور الهلاك يقال: ثبره الله يثبره ثبرا إذا أهلكه. ومثبر الناقة
الموضع الذي تطرح ولدها فيه، لأنها تشفي به على الهلاك، وثبر البحر إذا جزر لهلاكه
بانقطاع مائه، يقال: تثابرت الرجال في الحرب إذا تواثبت، لاشفائها على الهلاك
بالمواثبة. والمثابر على الشئ المواظب عليه لحمله نفسه على الهلاك بشدة المواظبة.
وثبير جبل معروف والمثبرة تراب شبيه بالنورة إذا وصل عرق النخل إليه وقف، لأنه
يهلكه، وإنما يقول: وا ويلاه وا لهفاه وا هلاكاه، لأنه ينزل به من المكروه لأجله
مثل ما ينزل بالمتفجع عليه.
وقوله (ويصلى سعيرا) معناه إن من هذه صفته يلزم الكون في السعير،
وهي النار المتوقدة على وجه التأبيد.
وقوله (إنه كان في أهله مسرورا) معناه إنه اقتطعه السرور بأهله عما
يلزمه أن يقدمه. فهو ذم له بهذا المعنى، ولو لم يكن إلا السرور بأهله لم يذم عليه
وقيل: معناه إنه كان في أهله مسرورا بمعاصي الله ثم اخبر عنه (إنه ظن) في
دار التكليف (أن لن يحور) أي لن يبعثه الله للجزاء، ولا يرجع حيا بعد أن
يصير ميتا يقال: حار يحور حورا إذا رجع، وتقول: كلمته فما أحار جوابا أي
مارد جوابا. وفى المثل (نعوذ بالله من الحور بعد الكور) أي من الرجوع إلى
النقصان بعد التمام، وحوره إذا رده إلى البياض والمحور البكرة، لأنه يدور حتى
يرجع إلى مكانه، والمعنى إنه ظن أن لن يرجع إلى حال الحياة في الآخرة، فلذلك
كان يرتكب المآثم وينتهك المحارم. فقال الله ردا عليه ليس الامر على ما ظنه (بلى)
إنه يرجع حيا ويجازي على أفعاله.
وقوله (إنه كان به بصيرا) معناه إنه يخبر عن أنه لن يجوز، بلى ويقطع
الله عليه بأنه يجوز على أنه بصير به وبجميع الأمور.
311

قوله تعالى:
(فلا أقسم بالشفق (16) والليل وما وسق (17) والقمر إذا
اتسق (18) لتركبن طبقا عن طبق (19) فما لهم لا يؤمنون (20)
وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (21) بل الذين كفروا
يكذبون (22) والله أعلم بما يوعون (23) فبشرهم بعذاب أليم (24)
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) 25)
عشر آيات.
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء من (لتركبن) ومعناه لتركبن
أنت يا محمد. الباقون بضم الباء على أن يكون خطابا للجميع.
يقول الله تعالى مقسما بالشفق، وقد بينا أن (لا) صلة في مثل هذا، والتقدير
أقسم، وقد بينا أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لاحد أن يقسم
إلا بالله. وقال بعضهم: أقسم برب الشفق، والشفق هو الحمرة التي تبقى عند المغرب
في الأفق، وقال الحسن وقتادة: الشفق الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة. وقال
قوم: هو البياض. والصحيح أن الشفق هو الحمرة الرقيقة في المغرب بعد مغيب الشمس
وأصله الشفق في العمل، وهو الرقة على خلل فيه، وأشفق على كذا إذا رق عليه
وخاف هلاكه. واشفق إذا رق بالخوف من وقوعه. قال الفراء: سمعت بعض
العرب يقول: علي ثوب كأنه الشفق يريد حمرة. والاعتبار بالشفق أنه علامة لوقت
بعينه لا يختلف اقتضى اثبات علم به.
وقوله (والليل وما وسق) قسم آخر بالليل واتساقه. وقيل: معنى وسق
312

جمع إلى مسكنه ما كان منتشرا بالنهار في تصرفه، يقال: وسقته أسقه وسقا إذا
جمعته، وطعام موسوق أي مجموع في الغرائر والأوعية. والوسق الطعام المجتمع
وقدره ستون صاعا.
وقوله (والقمر إذا اتسق) قسم آخر بالقمر واتساقه أي اجتماعه على تمام
وهو افتعال من الوسق، فإذا تم نور القمر واستمر في ضيائه، فذلك الاتساق له.
وقال قتادة: معناه إذا استدار. وقال مجاهد: إذا استوى.
وقوله (لتركبن طبقا عن طبق) جواب القسم، ومعناه منزلة عن منزلة وطبقة
عن طبقة وذلك أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على
فساد دعاه إلى فساد فوقه، لان كل شئ يحن إلى شكله. وقيل: معنى (طبقا عن
طبق) جزاء عن عمل. وقيل: معناه شدة عن شدة. وقيل: طبقات السماء بعروج
الأرواح. وقيل: معناه حالا عن حال من أحياء وإماتة، ثم أحياء. وقيل:
معناه لتصيرن إلى الآخرة عن الدنيا. وقال أبو عبيدة: معناه لتركبن سنة الأولين
ومن كان قبلكم. ثم قال على وجه التبكيت لهم والتفريع (فما لهم لا يؤمنون) أي
أي شئ لهم لأجله لا يصدقون بالله واليوم الآخر ولا يعترفون بالثواب والعقاب.
وقيل: معناه ما لهم لا يؤمنون أي ما وجه الارتياب الذي يصرفهم عن الايمان.
وقوله (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) عطف على قوله (لا يؤمنون)
والمعنى ما الذي يصرفهم عن الايمان وعن السجود لله والخضوع له والاعتراف
بوحدانيته إذا بلي عليهم القرآن الذي أنزلته على محمد صلى الله عليه وآله الذي يلين القلب للعمل
من الوعظ والوعد والوعيد يميز به بين الحق والباطل، وهو مع ذلك معتذر عليهم
الاتيان بمثله، فهو معجز له صلى الله عليه وآله.
313

ثم قال تعالى (بل الذين كفروا يكذبون) معناه إن الذي يمنعهم من
السجود عند تلاوة القرآن تكذيبهم جهلا بما عليهم وعدولا عن الحق. وفي ذلك
التحذير من الجهل والحث على طلب العلم. وقيل: معناه ما لهم لا يؤمنون، ولا بد
من الجزاء على الاعمال ثم قال: تكذيبهم عن جهل منهم يصرفهم عن ذلك.
وقوله (والله أعلم بما يوعون) قال قتادة ومجاهد: معناه بما يوعون في صدورهم
وإنما قال: يوعون، لأنهم يحملون الآثام في قلوبهم، فشبه ذلك بالوعاء، يقال:
أوعيت المتاع ووعيت العلم، قال الفراء: الأصل جعل الشئ في وعاء، والقلوب شبه
أوعية لما يحصل فيها من معرفة أو جهل.
ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله (فبشرهم) يا محمد جزاء على كفرهم (بعذاب اليم) أي
مؤلم. ثم استثنى من جملة من يخاطبه فقال (إلا الذين آمنوا) بالله (وعملوا)
الاعمال (الصالحات لهم أجرا غير ممنون) أي غير منقوص، في قول ابن عباس
وقال غيره: غير مقطوع، وقيل: غير منغص بالمن الذي يؤذي. وإنما قيل له:
من، لأنه قطع له عن شكر النعمة. قال الزجاج: تقول العرب: مننت الحبل إذا
قطعته قال لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه * غبس كواسب ما يمن طعامها (1)
أي ما ينقص، وقيل ما يكدر، وكان ابن مجاهد ومحمد بن القاسم الأنباري
يقفان على قوله (فبشرهم بعذاب اليم) ويبتدؤون بقوله (إلا الذين آمنوا) قال ابن
خالويه: فسألتهما عن ذلك فقالا: الاستثناء منقطع ومعناه (لكن).

(1) مر في 1 / 322.
314

85 - سورة البروج
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي اثنتان وعشرون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
(والسماء ذات البروج (1) واليوم الموعود (2) وشاهد
ومشهود (3) قتل أصحاب الأخدود (4) النار ذات الوقود (5)
إذ هم عليها قعود (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) وما
نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذي له ملك
السماوات والأرض والله على كل شئ شهيد (9) إن الذين فتنوا
المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب
الحريق) (10) عشر آيات.
قوله: (السماء ذات البروج) قسم من الله تعالى بالسماء، ومنهم من قال
تقديره برب السماء. وقد بينا ما في ذلك في غير موضع. ثم وصف السماء بأنها
ذات البروج. فالبروج المنازل العالية. والمراد - ههنا - منازل الشمس والقمر
- في قول المفسرين - ومثل ذلك قوله (ولو كنتم في بروج مشيدة) (1) أي في

(1) سورة 4 النساء آية 77.
315

منازل عالية. وقيل: السماء اثنى عشر برجا يسير القمر في كل برج منها يومين
وثلثا، فذلك ثمانية وعشرون منزلا. ثم يستتر ليلتين، ومسير الشمس في كل
برج منها شهر. وقيل: البروج النجوم التي هي منازل الشمس والقمر.
وقوله (واليوم الموعود) قسم آخر بهذا اليوم. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه
اليوم الذي يجازى فيه ويفصل فيه القضاء، وهو يوم القيامة - وهو قول الحسن
وقتادة وابن زيد -.
قوله (وشاهد ومشهود) قسم آخر بالشاهد والمشهود، فالشاهد النبي صلى الله عليه وآله
والمشهود يوم القيامة - في قول الحسن بن علي عليه السلام وتلا قوله (فكيف إذا جئنا
من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (1) وقال (ذلك يوم مجموع له
الناس وذلك يوم مشهود) (2)، وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب، وفي رواية
أخرى عن ابن عباس إن الشاهد هو الله، والمشهود يوم القيامة. وقال قتادة:
الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. وقال الجبائي: الشاهد هم الذين يشهدون
على الخلائق، والمشهود هم الذين يشهدون عليهم، قال: ويجوز أن يكون المراد
المدركين والمدركات. وجواب القسم محذوف، وتقديره الامر حق في الجزاء على
الاعمال. وقيل الجواب قوله (قتل أصحاب الأخدود) وقال الأخفش: يجوز أن
يكون على التقديم والتأخير، وتقديره (قتل أصحاب الأخدود.. والسماء ذات
البروج) وقوله (قتل أصحاب الأخدود) معناه لعن. وقيل لعنوا بتحريقهم في
الدنيا قبل الآخرة. وقال الجبائي: يحتمل أن يكون المعنى بذلك القاتلين، ويحتمل
أن يكون المقتولين، فإذا حمل على القاتلين، فمعناه لعنوا بما فعلوه من قتل المؤمنين
وإن حمل على المقتولين، فالمعنى انهم قتلوا بالاحراق بالنار. وذكر الله هؤلاء.

(1) سورة 4 النساء آية 40
(2) سورة 11 هود آية 104.
316

المؤمنين بحسن بصيرتهم في الصبر على دينهم حتى أحرقوا بالنار، لا يعطون التقية
بالرجوع عن الايمان. والأخدود هو الشق العظيم في الأرض، ومنه ما روي في
معجزة النبي صلى الله عليه وآله أن الشجرة دعاها النبي صلى الله عليه وآله فجعلت تخد الأرض خدا، حتى
اتته. ومنه الخد المجاري الدموع. والمخدة لوضع الخد عليها، وتخدد لحمه إذا صار
فيه طرائق كالشقوق.
وقوله (النار ذات الوقود) فجر النار على البدل من الأخدود، وهو بدل
الاشتمال، ووصفها بأنها ذات الوقود، فالوقود - بفتح الواو - ما يشعل من الحطب
وغيره - وبضم الواو - الايقاد. وإنما وصفها بأنها ذات الوقود مع أن كل نار
ذات وقود لامرين:
أحدهما - انه قد يكون نار ليست ذات وقود كنار الحجر ونار الكبد.
والثاني - انه أراد بذلك وقودا مخصوصا، لأنه معروف، فكأنه أراد الوقود
بأبدان الناس، كما قال (وقودها الناس والحجارة) (1)
وقوله (إذ هم عليها قعود) أي حين هم قعود عليها أي بالقرب منها، وقال
الربيع بن أنس: الكفار الذين كانوا قعودا على النار خرج لسان منها فأحرقهم عن
آخرهم. وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام (أنهم كانوا من المجوس) وقال الضحاك:
كانوا من بني إسرائيل. وقيل: كانوا من اليمين. ومعناه هم عليها قعود حين كان
أولئك الكفار قعودا عند النار. والقعود جمع قاعد كقولك: شاهد وشهود،
وراكع وركوع، والقعود أيضا مصدر قعد يقعد قعودا.
وقوله (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) أي حضور على مشاهدتهم
لهم، فكل حاضر على ما شاهده إما بسمع أو بصر، فهو شاهد. والمشاهد هو

(1) سورة 2 البقرة آية 24 وسورة 66 التحريم آية 6.
317

المدرك بحاسة.
وقوله (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) معناه انه لم ينقم
هؤلاء الكفار من أولئك المؤمنين الذين أحرقوهم بالنار إلا لايمانهم بالله تعالى القاهر
الذي لا يقهر (الحميد) في جميع أفعاله، فالنقمة ايجاب مضرة على حال مذمومة.
ونقيض النقمة النعمة، فهؤلاء الجهال نقموا حال الايمان، لأنهم جعلوها بجهلهم حالا
مذمومة قال الشاعر:
ما نقموا من بني أمية * إلا أنهم يحلمون إن غضبوا (1)
والداعي لهم إلى أن ينقموا من الايمان الجهل والخلاف، لان ما سبقوا إليه
من الجهل يدعوهم إلى عداوة من خالفهم وسخف آرائهم، وإن ذلك يفسد عليهم
ملكهم. ويصرف الوجوه عنهم.
وقوله (الذي له ملك السماوات والأرض) صفة (العزى الحميد) والمعنى ان
هؤلاء الكفار نقموا من المؤمنين إيمانهم بالله تعالى العزيز، ومعناه القاهر الذي لا يغالب
الحميد ومعناه المستحق للحمد على جميع أفعاله (الذي له ملك السماوات والأرض)
ومعناه له التصرف في السماوات والأرض ولا اعتراض لاحد عليه. ثم قال
(والله على كل شئ شهيد) أي عالم بجميعه لا يخفى عليه شئ من ذلك.
وقوله (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) قال ابن عباس وقتادة والضحاك:
حرقوهم بالنار (ثم لم يتوبوا) إنما شرط عدم التوبة، لأنهم لو تابوا لما توجه إليهم
الوعيد، وإن لم يتوبوا توجه إليهم الوعيد بقوله (فلهم عذاب جهنم) يعني في
الآخرة (ولهم عذاب الحريق) في الدنيا - في قول الربيع - قال الفراء: لما خددوا
للمؤمنين الأخاديد وطرحوا فيها النار وطرحوا فيها المؤمنين ارتفعت النار عليهم،

(1) مر في 3 / 559، 570 و 5 / 304.
318

فأحرقتهم فرق الأخاديد ونجا المؤمنون.
وقال قوم (إن الذين فتنوا المؤمنين) جواب القسم في أول السورة، وهذا
غير صحيح، لان الكلام قد طال وانقطع بالاخبار ما بينها، وقال الزجاج: لهم
عذاب بكفرهم، وعذاب باحراقهم المؤمنين
قوله تعالى:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من
تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير (11) إن بطش ربك لشديد (12)
إنه هو يبدئ ويعيد (13) وهو الغفور الودود (14) ذو العرش
المجيد (15) فعال لما يريد (16) هل أتيك حديث الجنود (17)
فرعون وثمود (18) بل الذين كفروا في تكذيب (19) والله من
ورائهم محيط (20) بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ) (22)
اثنتا عشرة آية.
قرأ حمزة والكسائي إلا قتيبة وخلف (المجيد) بالخفض جعلوه نعتا للعرش.
الباقون بالرفع على أنه نعت لله تعالى، وقرأ نافع (محفوظ) بالرفع. الباقون بالخفض
نعتا للوح. ومن رفع جعله نعتا القرآن.
اخبر الله تعالى عن صفة المؤمنين، فقال (إن الذين آمنوا) أي صدقوا
بتوحيد الله واخلاص عبادته (وعملوا الصالحات) من الاعمال، واجتنبوا القبائح
(لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) أي لهم بساتين تجري من تحت أشجارها
319

الأنهار (ذلك الفوز الكبير) فالفوز النجاة بالنفع الخالص، وأصله النجاة، وقيل
للمهلكة مفازة تفاؤلا كأنه قيل: منجاة، وفاز فلان بكذا أي خلص له نفعه، يفوز
فوزا. ولا يقال إلا في تعظيم النفع الذي صار له، وإنما ذكر الكبير - ههنا - لان
النعيم لهؤلاء العاملين كبير بالإضافة إلى نعيم من لا عمل له ممن يدخل الجنة، لما فيه
من الاجلال والاكرام والمدح والاعظام. وقيل: الفوز الحظ الواقع من الخير.
ثم قال متوعدا ومتهددا للكفار والعصاة (إن بطش ربك لشديد) يا محمد
والبطش الاخذ بالعنف، بطش به يبطش بطشا ويبطش أيضا، فهو باطش، وإذا وصف
بالشدة فقد تضاعف مكروهه وتزايد إيلامه. وقوله (إنه هو يبدئ ويعيد) قال ابن
عباس: معناه إنه يبدأ العذاب ويعيده لاقتضاء ما قبله ذلك. وقال الحسن والضحاك
وابن زيد: يبدأ الخلق ويعيده لان الأظهر في وصفه تعالى بأنه المبدئ المعيد
العموم في كل مخلوق (وهو الغفور) يعني الستار على خلقه معاصيهم (الودود) أي
وادلهم ومحب لمنافع خلقه (ذو العرش المجيد) ومعناه صاحب العرش، العظيم المجيد
وقال ابن عباس: معناه الكريم. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما المجيد بالجر جعلوه نعتا
للعرش. ومعناه ذو العرش الرفيع. الباقون بالرفع جعلوه نعتا للغفور أي هو الغفور
الودود المجيد ذو العرش، قال المبرد: يجوز أن يكون نعتا لقوله (ان بطش ربك....
المجيد) فيكون قد فصل بينهما، وفيه بعد لأنه قال (لشديد) وقال (أنه هو يبدئ ويعيد،
وهو الغفور الودود ذو العرش) وفصل بهذا كله، يقال: مجدت الإبل تمجد مجودا
إذا رعيتها فرعت وشبعت. ولا فعل لك، أو أمجدتها أمجدها إمجادا إذا أشبعتها
من العلف وملأت بطونها ولا فعل لها في ذلك، وفي المثل في كل شجر نار واستمجد
المرح والغفار. ومعناه كثر ناره لأنه ليس في الشجر أكثر نارا من الغفار.
وقوله تعالى (فعال لما يريد) معناه ما يشاؤه ويريده من أفعال نفسه يفعله
320

لا يمنعه من ذلك مانع ولا يعترض عليه معترض، ولا يجوز أن يكون المراد إنه
فعال لكل ما يريد لان ذلك يقتضي انه فعال لكل ما يريد أن يفعله العباد، وذلك أنه
يستحيل أن يفعل ما يريد أن يفعله العباد، لان في ذلك ابطال الأمر والنهي
والطاعة والمعصية والثواب والعقاب، إذ لا يأمرهم أن يفعلوا ما قد فعله، ولا ينهاهم
عنه، ولأنه قد أراد من الكفار أن يؤمنوا، لأنه قد أمرهم بالايمان وما فعل إيمانهم
وقد قال الله تعالى (وما الله يريد ظلما للعالمين) (1) ولو فعل ظلمهم لكان قد أراد
ظلمهم. وقوله (هل اتاك حديث الجنود فرعون وثمود) معناه تذكر يا محمد حديثهم
تذكر معتبر، فإنك تنتفع به، وهذا من الايجاز الحسن والتفخيم الذي لا يقوم مقامه
التصريح لما يذهب الوهم في أمرهم كل مذهب ويطلب الاعتبار كل مطلب.
وقوله (بل الذين كفروا في تكذيب) معناه بل هؤلاء الكفار الذين كفروا
كذبوا بالبعث والنشور فاعرضوا عما يوجبه الاعتبار بفرعون وثمود، واقبلوا على
ما يوجبه الكفر والتكذيب من التأكيد، ولم يعلموا أن (الله من ورائهم محيط) يقدر
أن ينزل بهم ما انزل بفرعون. وقيل المعنى (هل أتاك حديث الجنود) وما كان
منهم إلى أنبيائهم فاصبر كما صبر الرسل قبلك (بل الذين كفروا في تكذيب) ايثارا
منهم لأهوائهم واتباعا لسنن آبائهم.
وقوله (والله من ورائهم محيط) أي هم مقدور عليهم كما يكون فيما أحاط
الله بهم، وهذا من بلاغة القرآن.
وقوله (بل هو قرآن مجيد) أي كريم فالمجيد الكريم العظيم الكريم بما يعطي
من الخير، فلما كان القرآن يعطي المعاني الجليلة والدلائل النفيسة كان كريما مجيدا بما

(1) سورة 3 آل عمران 108.
321

يعطي من ذلك، لان جميعه حكم. وقيل: الحكم على ثلاثة أوجه لا رابع لها: معنى
يعمل عليه فيما يخشى ويتقى، وموعظة تلين القلب للعمل بالحق، وحجة تؤدي إلى
تمييز الحق من الباطل في علم دين أو دنيا، وعلم الدين أشرفهما وجميع ذلك موجود
في القران.
وقوله (في لوح محفوظ) عن التغيير والتبديل والنقصان والزيادة. وقال
مجاهد: المحفوظ أم الكتاب، وقيل: انه اللوح المحفوظ الذي كتب الله جميع ما كان
ويكون فيه - ذكره أنس بن مالك - أي كأنه بما ضمن الله من حفظه في لوح محفوظ
ومن رفع (محفوظ) جعله صفة القرآن. ومن قرأه بالخفض جعله صفة اللوح.
86 - سورة الطارق
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي سبع عشرة آية في الكوفي
والبصري والمدني الأخير وست عشرة آية في المدني الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
(والسماء والطارق (1) وما أدريك ما الطارق (2) النجم
الثاقب (3) إن كل نفس لما عليها حافظ (4) فلينظر الانسان
مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب
322

والترائب (7) إنه على رجعه لقادر (8) يوم تبلى السرائر (9) فما له
من قوة ولا ناصر) (10) عشر آيات.
قرأ (لما) بالتشديد عاصم وحمزة وابن عامر بمعنى (إلا) وقد جاء (لما)
مشددا بمعنى (إلا) في موضعين: إن، والقسم، كقولهم سئلتك لما فعلت بمعنى إلا فعلت
قال قوم: تقديره لمما، فحذفت إحدى الميمات كراهة اجتماع الأمثال. وقرأ الباقون
بالتخفيف جعلوا (ما) صلة مؤكدة. وتقديره لعليها حافظ، واللام لام الابتداء التي
يدخل في خبر (إن) و (أن) مخففة من الثقيلة.
هذا قسم من الله تعالى بالسماء وبالطارق، وقد بينا القول فيه فالطارق هو
الذي يجيئ ليلا وقد فسره الله تعالى وبينه بأنه (النجم الثاقب) فالنجم هو الكوكب
قال الحسن: المراد بالنجم جميع النجوم. وقال ابن زيد: هو زحل.
وقوله (وما أدراك) معناه أنه لم تدر حتى أعلمتك، وكل ما يعلمه الانسان
فالله أعلمه بالضرورة أو بالدليل قال قتادة: طروق النجم ظهورها بالليل
وخفاؤها بالنهار.
وقوله (والطارق) تبيين عن معنى وصفه بالطارق. وقوله (النجم الثاقب)
تبيين عن ماهيته نفسه يقال: طرقني فلان إذا أتاني ليلا وأصل الطرق الدق، ومنه
المطرقة، لأنه يدق بها، والطريق لان المارة تدقه بأرجلها، والطارق لأنه يحتاج إلى
الدق للتنبيه، والنجم هو الكوكب الطالع في السماء، يقال لكل طالع ناجم تشبيها
به، ونجم النجم إذا طلع، وكذلك السن والقرن. ويوصف بالطالع والغارب،
لأنه إذا طلع من المشرق غاب رقيبه من المغرب، والثاقب المضئ المنير، وثقوبه
توقده وتنوره، تقول العرب: أثقب نارك أي أشعلها حتى تضئ. وثقب لسانها
323

بخروج الشعاع منها والثاقب أيضا العالي الشديد العلو، تقول: العرب للطائر إذا
ارتفع ارتفاعا شديدا قد ثقب. كله كأنه ثقب الجو الاعلى. وقال مجاهد وقتادة وابن
عباس: الثاقب المضئ. وقال ابن زيد: هو العالي وهو زحل.
وقوله (إن كل نفس لما عليها حافظ) جواب القسم و (إن) ههنا المخففة
من الثقيلة التي يتلقى بها القسم، والمعنى إن كل نفس لعليها حافظ - فيمن خفف -
ومن شدد قال: (ان) بمعنى (ما) وتقديره ليس كل نفس إلا عليها حافظ. وقال
قتادة: حافظ من الملائكة يحفظون عمله ورزقه وأجله، فالحافظ المانع من هلاك الشئ
حفظه يحفظه حفظا واحتفظ به احتفاظا فأما أحفظه فمعناه أغضبه، وتحفظ من الامر
إذا أمتنع بحفظ نفسه منه وحافظ عليه إذا واظب عليه بالحفظ.
وقوله (فلينظر الانسان مم خلق) أمر من الله تعالى للمكلفين من الناس
أن يفكروا ويعتبروا مماذا خلقهم الله. ثم بين تعالى مماذا خلقهم فقال (خلق من
ماء دافق) فالدفق هو صب الماء الكثير باعتماد قوي، ومثله الدفع، فالماء الذي يكون
منه الولد يكون دفقا وهي النطفة التي يخلق الله منها الولد إنسانا أو غيره، وماء دافق
معناه مدفوق، ومثله شر كاتم، وعيشة راضية.
ثم بين ذلك من أي موضع يخرج هذا الماء، فقال (يخرج من بين الصلب
والترائب) فالصلب هو الظهر، والترائب جمع تريبة وهو موضع القلادة من صدر
المرأة - في قول ابن عباس - وهو مأخوذ من تذليل حركتها كالتراب. قال المثقب.
ومن ذهب يشن إلى تريب * كلون العاج ليس بذي غصون (1)
وقال آخر:،
والزعفران على ترائبها * شرقا به اللبات والنحر (2)

(1) اللسان والتاج (ترب) ومجاز القرآن 2 / 294
(2) قائله المخبل تفسير القرطبي 20 / 5.
324

وقيل: إن نطفة الرجل تخرج من ظهره، ونطفة المرأة من صدرها، فإذا
غلب ماء الرجل خرج الولد إلى شبه أهل بيت أبيه وإذا غلب ماء المرأة خرج إلى
شبه أهل بيت أمه.
وقوله (إنه على رجعه لقادر) قال عكرمة ومجاهد: معناه إنه تعالى على رد
الماء في الصلب قادر. وقال الضحاك: إنه على رد الانسان ماء كما كان قادر، والرجع
الماء وأنشد أبو عبيدة: للمنخل في صفة سيف:
ابيض كالرجع رسوب إذا * ما ثاخ في محتفل يختلي (1)
ومعنى الآية إن الذي ابتدأ الخلق من ماء دافق أخرجه من بين الصلب
والترائب حيا قادر على اعادته (يوم تبلى السرائر) لان الإعادة أهون من ابتداء.
النشأة، وقال الحسن وقتادة معناه أنه على رجع الانسان بالاحياء بعد الممات قادر.
وقوله (يوم تبلى السرائر) معناه تختبر باظهارها وإظهار موجبها لان الابتلاء
والاختبار والاعتبار كله إنما هو باظهار موجب المعنى، ففي الطاعة الحمد والثواب وفى المعصية
الذم والعقاب، وواحد السرائر سريرة وهي الطوية في النفس، وهو اسرار المعنى
في النفس، وقد يكون الاسرار من واحد بعينه مع اطلاع غيره عليه فلا يكون
سريرة. وقيل: إن الله يفضح العاصي بما كان يستر من معاصيه ويجل المؤمن باظهار
ما كان يسره من طاعته ليكرمه الناس بذلك ويجلوه.
ثم بين تعالى أنه لا قدرة لهذا الانسان الذي يعيده الله - على معاصيه -
ويعاقبه على دفع ذلك عن نفسه ولا ناصر له يدفعه فالقدرة هي القوة بعينها.

(1) تفسير القرطبي 20 / 10.
325

قوله تعالى:
(والسماء ذات الرجع (11) والأرض ذات الصدع (12)
إنه لقول فصل (13) وما هو بالهزل (14) إنهم يكيدون كيدا (15)
وأكيد كيدا (16) فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) (17) سبع آيات.
هذا قسم من الله تعالى بالسماء ذات الرجع. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة
والضحاك: ذات المطر. وقال ابن زيد: يعني شمسها وقمرها ونجومها تغيب ثم تطلع.
وقيل: رجع السماء إعطاؤها الخير يكون من جهتها حالا بعد حال على مرور الأزمان
رجعه يرجعه رجعا إذا أعطاه مرة بعد مرة. وقيل: الرجع الماء الكثير تردده بالرياح
التي تمر عليه قال المنخل في صفة سيف:
أبيض كالرجع رسوب إذا * ما ثاخ في محتفل يختلى.
وقال الفراء: تبتدئ بالمطر ثم ترجع به في كل عام. وقوله (والأرض
ذات الصدع) قسم آخر بالأرض ذات الصدع. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك
وابن زيد: ذات الصدع انشقاقها بالنبات لضروب الزروع والأشجار: صدع يصدع
صدعا وتصدع الشئ تصدعا وانصدع انصداعا وصدعه تصديعا
(وقوله إنه لقول فصل) جواب القسم، ومعناه ان ما ذكره من إعادة
الخلق وإنشائهم النشأة الثانية قول فصل أي هو قول يفصل الحق من الباطل. ومثله
فصل القضاء، وكل معنى فإنه يحتاج فيه إلى فصل حقه من باطله. ثم قال (وما هو
بالهزل) أي مع أنه فصل ليس بهزل والهزل نقيض الجد ومثله اللهو واللعب والعبث
326

يقال: هزل يهزل هزلا.
ثم اخبر تعالى عن الكفار فقال (إنهم يكيدون كيدا) أي يحتالون في رفع
الحجج وإنكار الآيات ويفعلون ما يوجب الغيظ يقال: كاده يكيدا كيدا وكايده
مكايدة وتكايد القوم تكايدا أي يحتالون في رفع الحجج وإنكار الآيات، فقال
تعالى (وأكيد كيدا) أي أجازيهم على كيدهم، وسمي الجزاء على الكيد باسمه
لازدواج الكلام. وقيل: المعنى أنهم يحتالون لهلاك النبي وأصحابه، وأنا أسبب لهم
النصر والغلبة وأقوي دواعيهم إلى القتال، فسمى ذلك كيدا من حيث يخفى
عليهم ذلك.
وقوله (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله بأن يمهلهم قليلا
وأجرى المصدر على غير لفظه كما قال (أنبتكم من الأرض نباتا) (1) و (رويدا)
معناه إمهالا يقال: أرودته اروادا وتصغيره رويد. وقال قتادة: معناه قليلا،
والمعنى لا تعجل على طلب هلاكهم بل اصبر عليهم قليلا، فان الله يهلكهم لا محالة
بالقتل والذل في الدنيا وما ينزل عليهم في الآخرة من أنواع العقاب، وإن ما وعدتك
لا يبعد عنهم.

(1) سورة 71 نوح آية 17.
327

87 - سورة الاعلى
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك هي مدنية، وهي تسع
عشرة آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(سبح اسم ربك الاعلى (1) الذي خلق فسوى (2) والذي
قدر فهدى (3) والذي أخرج المرعى (4) فجعله غثاء أحوى (5)
سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7)
ونيسرك لليسرى (8) فذكر إن نفعت الذكرى (9) سيذكر من
يخشى) (10) عشر آيات.
قرأ الكسائي وحده (قدر فهدى) خفيفا. الباقون بالتشديد وهما لغتان على
ما فسرناه فيما مضى.
هذا امر من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله ويدخل في ذلك جميع أمته يأمرهم بأن
يسبحوا الله، ومعناه ان ينزهوه عن كل ما لا يليق به من الصفات المذمومة والافعال
القبيحة والاخلال بالواجبات، لان التسبيح هو التنزيه لله عما لا يجوز عليه كوصفه
بأنه لا إله إلا هو، فينفي ما لا يجوز في صفته من شريك في عبادته مع الاقرار بأنه
328

لا إله إلا هو وحده. وقال ابن عباس وقتادة: معنا (سبح...) قل سبحان ربي الأعلى
، وروي أنه لما نزلت هذه السورة، قال النبي صلى الله عليه وآله ضعوا هذا في سجودكم
وقيل: معناه أن نزه اسم ربك بأن لا تسمي به سواه. وقيل: معناه نزه ربك عما
يصفه به المشركون وأراد بالاسم المسمى، وقيل معناه صل باسم ربك الاعلى.
وقيل: ذكر الاسم والمراد به تعظيم المسمى، كما قال الشاعر:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (1)
والأعلى معناه القادر الذي لا قادر أقدر منه. وصفة الاعلى منقولة إلى معنى
الاقدر حتى لو بطل معنى علو المكان لم يبطل أن يفهم بحقيقتها أو هي غير مضمنة بغيرها
ولم ينقل إلى صفة الا رفع وإنما يعرف في رفعة المكان.
وقوله (الذي خلق فسوى) نعت لقوله (ربك) وموضعه الجر ومعناه
الذي خلق الخلق فسوى بينهم في باب الاحكام. وقيل: معنا فسوى أي عدل
خلقهم، فالتسوية الجمع بين الشيئين بما هما فيه (والذي قدر فهدى) فالتقدير
تنزيل الشئ على مقدار غيره، فالله تعالى خلق الخلق وقدرهم على ما اقتضته الحكمة
(فهدى) معناه أرشدهم إلى طريق الرشد من الغي، وهدى كل حيوان إلى ما فيه
منفعته ومضرته حتى أنه تعالى هدى الطفل إلى ثدي أمه وميزه من غيره، وأعطى
الفرخ حتى طلب الرزق من أبيه وأمه. والعصفور على صغره يطلب مثل ذلك
بهداية الله تعالى له إلى ذلك (والذي اخرج المرعى) معناه الذي أنبت الحشيش
من الأرض لمنافع جميع الحيوان (فجعله غثاء أحوى) فالغثاء ما يقذف به السيل على
جانب الوادي من الحشيش والنبات. والاحوى الأسود، والحوة السوداء قال ذو الرمة:

(1) مر في 5 / 569.
329

لمياء في شفتيها حوة لعس * وفي اللثات وفي أنيابها شنب (1)
وقيل: أحوى معناه يضرب إلى السواد وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير
وتقديره الذي أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء، وقيل: الغثاء الهشيم اليابس المتفتت
اسود من احتراقه بعد خضرته ونعمته، قال ذو الرمة:
فرخاء حواء أشراطية وكفت * فيها الذهاب وحفتها البراعيم (2)
وقوله (سنقرئك فلا تنسى) معناه سنأخذ عليك قراءة القرآن، فلا تنسى
ذلك، فالأقراء اخذ القراءة على القاري بالاستماع لتقويم الزلل، والقراءة التلاوة
والقاري التالي، والنسيان ذهاب المعنى عن النفس بعد إن كان حاضرا لها، ونقيضه
الذكر، ومثله السهو، يقال: نسي ينسى نسيانا فهو ناس، والشئ منسي.
والتذكير لما نسي والتنبيه لما غفل. وقيل (فلا تنسى إلا ما شاء الله) أي ما شاء
نسيانه مما لا يكلفك القيام بأدائه، لان التكليف مضمن بالذكر. وقيل: إلا ما شاء
الله كالاستثناء في الايمان، وإن لم يقع مشيئة النسيان وقيل: معناه إلا ما شاء الله.
أن يؤخر انزاله. وقال الفراء: لم يشأ الله أن ينسى شيئا فهو كقوله (خالدين فيها
ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) ولا يشاء. ويقول القائل: لأعطينك
كل ما سألت إلا ما شئت وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية ألا يمنعه، ومثله الاستثناء
في الايمان.
وقوله (إنه يعلم الجهر وما يخفى) معناه إن الله تعالى يعلم السر والعلانية،
فالجهر رفع الصوت ونقيضه الهمس، وهو ضعف الصوت أي يحفظ عليك ما جهرت
به وما أخفيته مما تريد أن تعيه، جهر بالقراءة يجهر جهرا. ومنه قوله (ولا تجهر

(1) مر في 1 / 15 و 5 / 308
(2) اللسان والصحاح والتاج (ذهب، برعم).
330

بصلاتك ولا تخافت بها) (1).
قوله (ونيسرك لليسرى) أي نسهل لك العمل المؤدي إلى الجنة فاليسرى عبارة عن الجنة هنا، واليسرى الكبرى في تسهيل الخير بها واليسرى الفعلي من
اليسر، وهو سهولة عمل الخير. وقوله (فذكر) أمر للنبي صلى الله عليه وآله أن يذكر الخلق
ويعظهم (إن نفعت الذكرى) وإنما قال ذلك، وهي تنفع لا محالة في عمل الايمان
والامتناع من العصيان، كما يقال: سله إن نفع السؤال أي فيما يجوز عندك، وقيل:
معناه ذكرهم ما بعثتك به قبلوا أولم يقبلوا، فان إزاحة علتهم تقتضي اعلامهم وتذكيرهم
وإن لم يقبلوا. وقوله (سيذكر من يخشى) معناه سيتعظ وينتفع بدعائك وذكرك
من يخاف الله ويخشى عقابه: لان من لا يخافه لا ينتفع بها.
قوله تعالى:
(ويتجنبها الأشقى (11) الذي يصلي النار الكبرى (12)
ثم لا يموت فيها ولا يحيى (13) قد أفلح من تزكى (14) وذكر
اسم ربه فصلى (15) بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة
خير وأبقى (17) إن هذا لفي الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم
وموسى) (19) تسع آيات.
قرأ أبو عمرو وحمزة (بل يؤثرون) بالياء على الخبر عن الغائب. الباقون بالتاء
على الخطا ب للمواجهين، وأدغم اللام في التاء حمزة والكسائي إلا قتيبة والحلوائي عن
هشام في كل موضع.
لما أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله بالتذكرة وبين انه ينتفع بها من يخاف عقابه

(1) سورة 17 الاسرى آية 110.
331

ذكر - ههنا - يتجنبها أي يتجنب الذكرى الأشقى، فالتجنب المصير في جانب
عن الشئ بما ينافي كونه، فهذا الشقي تجنب الذكرى بأن صار بمعزل عنها بما ينافي كونها، فالشقوة حالة تؤدي إلى شدة العقاب ونقيضها السعادة، شقي يشقى شقوة
وشقاء وأشقاه الله يشقيه اشقاء عاقبه عقابا بكفره وسوء عمله.
ثم بين ان هذا الشقي هو (الذي يصلى النار الكبرى) يعني نار جهنم، ووصفها
بالكبرى لان الحاجة إلى اتقائها أشد وذلك من كبر الشأن إذ الكبير الشأن هو
المختص بشدة الحاجة إليه أولى باتقائه، فكلما كان أكبر شأنا فالحاجة إليه أشد. وقال
الحسن: النار الكبرى نار جهنم، والنار الصغرى نار الدنيا، وقال الفراء: النار
الكبرى التي في الطبقة السفلى من جهنم.
وقوله (ثم لا يموت فيها ولا يحيى) معناه إن هذا الشقي لا يموت في النار
فيتخلص من العذاب، ولا يحيى حياة له فيها لذة، بل هو في ألوان العذاب وفنون
العقاف. وقيل: لا يجد روح الحياة. وقوله (قد أفلح من تزكى) معناه قد فاز
من تزكى يعني صار زاكيا بأن عمل الطاعات - في قول ابن عباس والحسن - وقال أبو
الأحوص وقتادة: يعني من زكى ماله (وذكر اسم ربه) على كل حال (وصلى) على ما أمره الله به. ثم خاطب الخلق فقال (بل تؤرون الحياة الدنيا) أي تختارون
الحياة الدنيا على الآخرة بأن تعملوا الدنيا ولا تعملوا للآخرة، وذلك على وجهين:
أحدهما - يجوز للرخصة. والاخر - محظور معصية لله
ثم قال تعالى (والآخرة خير وأبقى) أي منافع الآخرة من الثواب وغيره
خير من منافع الدنيا وأبقى، لأنها باقية وهذه فانية منقطعة.
وقوله (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) يعني ما ذكره
الله وفصله من حكم المؤمن والكافر وما أعد الله لكل واحد من الفريقين مذكور في
332

كتب الأولين في الصحف المنزلة على إبراهيم والتوراة المنزلة على موسى: وقيل من
قوله (قد أفلح من تزكى) إلى آخر السورة هو المذكور فيها، وقيل (من تزكى
وذكر اسم ربه فصلى) فهو ممدوح في الصحف الأولى، كما هو ممدوح في القرآن.
وقيل: كتب الله كلها أنزلت في شهر رمضان فأما القرآن فإنه أنزل لأربع عشرة
منه. وفى ذلك دلالة على أن إبراهيم كان قد أنزل عليه كتاب بخلاف قول من
ينكر نبوته ويزعم أنه لم ينزل عليه كتاب، ولا يكون نبي إلا ومعه كتاب، حكي
ذلك عن النصارى أنهم قالوا: لم يكن إبراهيم نبيا، وإنما كان رجلا صالحا.
88 - سورة الغاشية
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي ست وعشرون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
(هل أتيك حديث الغاشية (1) وجوه يومئذ خاشعة (2)
عاملة ناصبة (3) تصلى نارا حامية (4) تسقى من عين آنية (5)
ليس لهم طعام إلا من ضريع (6) لا يسمن ولا يغني من جوع (7)
وجوه يومئذ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) في جنة عالية) (10)
عشر آيات.
333

قرأ أهل البصرة وأبو بكر عن عاصم (تصلى) بضم التاء على ما لم يسم فاعله
يعني تصلى الوجوه (نارا حامية) الباقون بفتح التاء على أن تكون الوجوه هي الفاعلة
هذا خطاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله يقول له هل أتاك يا محمد ومعناه قد
أتاك (حديث الغاشية) قال ابن عباس والحسن وقتادة: الغاشية يوم القيامة تغشى
الناس بالأهوال. وقال سعيد بن جبير: الغاشية النار تغشى وجوه الكفار بالعذاب
والشواظ. والغاشية المجللة لجميع الجملة، غشيت تغش غشيانا فهي غاشية، وأغشاها
غيرها إغشاء إذا جعلها تغشى. وغشاها تغشية، وتغشى بها تغشيا.
وقوله (وجوه يومئذ خاشعة) معناه إن وجوه العصاة والكفار في ذلك ذليلة
خاضعة من ذلك المعاصي التي فعلتها في دار الدنيا. والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه
وإنما ذكر الوجوه، لان الذل والخضوع يظهر فيها.
وقوله (عاملة ناصبة) قال الحسن وقتادة: معناه لم تعمل لله في الدنيا،
فاعمالها في النار. وقال قوم: معناه عاملة ناصبة في دار الدنيا بما يؤديها إلى النار،
وهو مما اتصلت صفتهم في الدنيا بصفتهم في الآخرة. ومعنى الناصبة والنصبة التعبة
وهي التي أضعفها الانتصاب للعمل يقال: نصب الرجل ينصب نصبا إذا تعب في العمل
ثم بين تعالى ما يعمل بمن وصفه من ذوي الوجوه، فقال (تصلى نارا حامية).
أي تلزم الاحراق بالنار الحامية التي في غاية الحرارة و (تسقى) أيضا (من عين
آنية) قال ابن عباس وقتادة: آنية بالغة النهاية في شدة الحر.
وقوله (ليس لهم طعام الا من ضريع) فالضريع نبات تأكله الإبل يضر
ولا ينفع كما وصفه الله (لا يسمن ولا يغني من رجوع) وإنما يشتبه الامر عليهم
فيتوهموا انه كغيره من النبت الذي ينفع، لان المضارعة المشابهة، ومنه أخذ الضرع
وقيل: الضريع الشرق. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هو سم. وقال الحسن:
334

لا أدري ما الضريع لم أسمع من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فيه شيئا. وقال قوم: ضريع
بمعنى مضرع أي يضرعهم يذلهم. وقيل: من ضريع يضرع آكله في الاعفاء
منه لخشونته وشدة كراهته.
ثم بين وجوه المطيعين المؤمنين الذين عملوا الطاعات فقال (وجوه يومئذ
ناعمة) أي منعمة في أنواع اللذات (لسعيها راضية) بما أداها إليه من الثواب
والجزاء والكرامة جزاء لطاعاته التي عملها في الدنيا. وقوله (في جنة عالية) أي
في بستان أجنه الشجر على الشرف والجلالة وعلو المكان والمنزلة، بمعنى أنها مشرفة
على غيرها من البساتين وهي انزه ما يكون.
قوله تعالى:،
(لا تسمع فيها لاغية (11) فيها عين جارية (12) فيها
سرر مرفوعة (13) وأكواب موضوعة (14) ونمارق مصفوفة (15)
وزرابي مبثوثة (16) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17)
وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19)
وإلى الأرض كيف سطحت) (20) عشر آيات.
قرأ (لا يسمع) بالياء المضمومة (فيها لاغية) رفعا على ما لم يسم فاعله لان
التأنيث ليس بحقيقي وقد فصل بينهما ب‍ (فيها) ابن كثير وأب وعمرو وريس. وقرأ نافع
وحده (لا تسمع) بالتاء مضمومة (لاغية) مرفوعة، لان اللفظ لفظ التأنيث.
الباقون بفتح التاء على الخطاب (لاغية) منصوبة، لأنها مفعول بها.
لما ذكر الله تعالى ان المؤمنين يحصلون في جنة عالية في الشرف والمكان
335

بين انه (لا يسمع فيها) في تلك الجنة (لاغية) وهي كلمة لا فائدة فيها قال الشاعر:
عن اللغا ورفث التكلم (1)
واللغو واللغا بمنزلة واحدة، ولغي يلغي، ولغا يلغو، والغاه ألغاه. وقيل
(لاغية) بمعنى ذات لغو، كقولهم نابل ودارع أي ذو نبل ودرع، وتامر ذو
تمر قال الحطيئة:
وغررتني وزعمت إنك * لابن باليضف تأمر (2)
وقيل: إنها المصدر مثل العاقية. ويجوز أن يكون نعتا، وتقديره لا يسمع
فيها كلمة لاغية والأول أصح، لقوله (لا لغو فيها ولا تأثيم) (3) وإنما نفي اللاغية
عن الجنة، لان في سماع ما لا فائدة فيه ثقلا على النفس، ثم بين أن فيها أيضا أي
في تلك الجنة عينا من الماء جارية، لان في العين الجارية متعة ليس في الواقف.
وقوله (فيها سرر مرفوعة) ليرى المؤمن بجلوسه عليها جميع ما حوله من الملك.
وقوله (وأكواب موضوعة) أي على حافة العين الجارية، كلما أراد شربها وجدها
مملوءة، فالأكواب جمع كوب، وهي الأباريق التي ليس لها خراطيم، فهي للشراب
من الذهب والفضة والجوهر يتمتعون بالنظر إليها بين أيديهم ويشربون بها
ما يشتهون من لذيذ الشراب، وهي كأفخر الأكواز التي توضع بين يدي الملوك.
وقيل: الأكواب كالأباريق لا عرى لها ولا خراطيم وهي آنية تتخذ للشراب فاخرة
حسنة الصورة. وقوله (ونمارق مصفوفة) قال قتادة: النمارق الوسائد واحدها
نمرقة وهي الوسادة، وهي تصلح للراحة، ورفع المنزلة. وقوله (وزرابي مبثوثة) فالزرابي
البسط الفاخرة واحد هما زربية. وقيل قد سمع (نمرقة) بضم النون والراء وكسرهما

(1) مر في 2 / 132، 164، 230 و 7 / 38 و 8 / 193 و 9 / 120
(2) مر في 8 / 468
(3) سورة 52 الطور آية 23.
336

ثم نبه تعالى على الأدلة التي يستدل بها على توحيده ووجوب إخلاص العبادة
له فقال (أفلا ينظرون) أي أفلا يتفكرون بنظرهم (إلى الإبل كيف خلقت)
ويعتبرون بما خلقه الله عليه من عجيب الخلق، ومع عظمه وقوته يذلله الصبي الصغير
فينقاد له بتسخير الله ويبركه ويحمل عليه ثم يقوم، وليس ذلك في شئ من
الحيوان، بتسخير الله لعباده ونعمته به على خلقه (وإلى السماء) أي وينظرون إلى
السماء (كيف رفعت) رفعها فوق الأرض وجعل بينهما هذا الفضاء الذي به
قوام الخلق وحياتهم. ثم ما خلقه فيه من عجائب الخلق من النجوم والشمس والقمر
والليل والنهار الذي بجميع ذلك ينتفع الخلق وبه يتم عيشهم ونفعهم (والى الجبال كيف
نصبت) * أي ويفكرون في خلق الله تعالى الجبال أوتاد الأرض ومسكه لها ولولاها
لمادت الأرض بأهلها، ولما صح من الخلق التصرف عليها (وإلى الأرض كيف
سطحت) أي وينظرون إلى الأرض كيف بسطها الله وسطحها ووسعها ولولا ذلك
لما صح الانتفاع بها والاستقرار عليها، وهذه نعم من الله تعالى على خلقه لا يوازيها
نعمة منعم، ولا يقاربها إحسان محسن فيجب أن يقابل ذلك بأعظم الشكر.
قوله تعالى:
(فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22)
إلا من تولى وكفر (23) فيعذبه الله العذاب الأكبر (24) إن
إلينا إيابهم (25) ثم إن علينا حسابهم) (26) ست آيات.
قرأ أبو عمرو والكسائي بمسيطر بالسين باختلاف عنهما. الباقون بالصاد إلا
حمزة، فإنه أشم الصاد زايا.
337

لما بين الله تعالى الدلالة على وحدانيته ونبه على الاستدلال بها، قال لنبيه
محمد صلى الله عليه وا له (فذكر) يا محمد (إنما أنت مذكر) فالتذكير التعريف للذكر بالبيان
الذي يقع به الفهم، والنفع بالتذكير عظيم، لأنه طريق للعلم بالأمور التي نحتاج إليها
وملين القلب للعمل بها، ومذكر يعني بنعم الله تعالى عندهم وما يجب عليهم في مقابلتها
من الشكر والعبادة فقد أوضح الله تعالى طريق الحجج في الدين وأكده غاية التأكيد
بما لا يسع فيه التقليد بقوله (إنما أنت مذكر) وقوله (وذكر فان الذكرى تنفع
المؤمنين) (1) وقوله (إن في ذلك لآية لقوم يعقلون) (2) و (آية لقوم
يتفكرون) (3) و (آية لقوم يذكرون) (4) و (لايات لأولي الألباب) (5) وقوله
(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (6) وقوله (وجادلهم بالتي هي أحسن) (7)
ومحاجة إبراهيم عليه السلام للكافر بربه (8) وقوله (فاعتبروا يا أولى الابصار) (9)
وقوله (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها) (10)
وقوله (لست عليهم بمسيطر) فالمسيطر المسلط على غيره بالقهر له يقال تسيطر
فلان على فلان، وسيطر إذا تسلط، وعلى وزن مسيطر مبيطر. وقال أبو عبيدة:
لا ثالث لهما من كلام العرب، وقيل: كان هذا قبل فرض الجهاد، ثم نسخ،

(1) سورة 51 الذاريات آية 55
(2) سورة 16 النحل آية 67
(3) سورة 16 النحل آية 11، 69
(4) سورة 16 النحل آية 13
(5) سورة 3 آل عمران آية 190
(6) سورة 2 البقرة آية 111 وسورة 27 النمل آية 64
(7) سورة 16 النحل آية 25
(8) انظر 2 / 316 من هذا الكتاب
(9) سورة 59 الحشر آية 2
(10) سورة 47 محمد آية 24.
338

ويجوز أن يكون غير منسوخ، لان الجهاد ليس باكراه القلوب.
وقوله (إلا من تولى وكفر) قيل في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما - انه منقطع وتقديره، لكن من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر
الثاني - إلا من تولى فإنك مسلط عليه بالجهاد، فالله يعذبه العذاب الأكبر.
وقال الحسن المعنى: إلا من تولى وكفر، فكله إلى الله. وقيل معناه إلا من تولى
وكفر فلست له بمذكر، لأنه لا يقبل منك، فكذلك لست تذكرة.
وقوله (إن الينا إيابهم) فالاياب الرجوع، آب يؤب أوبا وإيابا وتأوب
تأوبا وأوب يؤوب تأويبا، ويقال: أيب إيابا على (فيعل، فيعالا) من الاوب
وعلى هذا قرئ في الشواذ (إيابهم) بالتشديد، قال عبيد:
وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب (1)
والمعنى ان مرجع الخلق يوم القيامة - إلى الله فيحاسبهم ويجازي كل واحد
منهم على قدر عمله، فحساب الكفار مقدار ما لهم وعليهم من استحقاق العقاب،
وحساب المؤمن بيان ما له وعليه حتى يظهر استحقاق الثواب.

(1) مر في 6 / 468.
339

89 سورة الفجر
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك هي مدنية وهي ثلاثون آية في
الكوفي وتسع وعشرون في البصري واثنتان وثلاثون في المدنيين
بسم الله الرحمن الرحيم
(والفجر (1) وليال عشر (2) والشفع والوتر (3) والليل إذا
يسر (4) هل في ذلك قسم لذي حجر (5) ألم تر كيف فعل ربك
بعاد (6) إرم ذات العماد (7) التي لم يخلق مثلها في البلاد (8)
وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) وفرعون ذي الأوتاد (10)
الذين طغوا في البلاد (11) فأكثروا فيها الفساد (12) فصب عليهم
ربك سوط عذاب (13) إن ربك لبالمرصاد) (14) أربع عشرة آية
قرأ حمزة والكسائي وخلف (والوتر) بكسر الواو. الباقون بفتحها وهما
لغتان. قال أبو عبيدة: الشفع الزكا والوتر الخسا. وقرأ نافع وأبو عمرو (يسري)
بياء في الوصل دون الوقف. وقرأ ابن كثير بياء في الوصل والوقف، وكذلك
(بالوادي) الباقون بغير ياء في وصل ولا وقف. من أثبت الياء، فلأنها الأصل
ومن حذفها، فلأنها رأس آية والفواصل تحذف منها الياءات.
340

هذا قسم من الله تعالى بالفجر وليال عشر، وقسم منه بالشفع والوتر والليل
إذا يسري، وجواب القسم قوله (إن ربك لبالمرصاد) و (الفجر) شق عمود
الصبح فجره الله لعباده يفجره فجرا إذا أظهره في أفق المشرق ومبشرا بادبار الليل
المظلم وإقبال النهار المضئ، والفجر فجران: أحدهما المستطيل، وهو الذي يصعد
طولا كذنب السرحان، ولا حكم له في الشرع، والاخر هو المستطير، وهو الذي
ينشر في أفق السماء، وهو الذي يحرم عنده الأكل والشرب لمن أراد الصوم في
شهر رمضان، وهو ابتداء اليوم. وقال عكرمة والحسن: الفجر فجر الصبح.
وقوله (وليال عشر) قال ابن عباس والحسن وعبد الله بن الزبير ومجاهد
ومسروق والضحاك وابن زيد: وهي العشر الأول من ذي الحجة شرفها الله تعالى
ليسارع الناس فيها إلى عمل الخير واتقاء الشر على طاعة الله في تعظيم ما عظم
وتصغير ما صغره، وينالون بحسن الطاعة الجزاء بالجنة. وقال قوم: هي العشر من
أول محرم، والأول هو المعتمد.
وقوله (والشفع والوتر) قال ابن عباس وكثير من أهل العلم: الشفع الخلق
بما له من الشكل والمثل، والوتر الخالق الفرد الذي لا مثل له، وقال الحسن: الشفع
الزوج، والوتر الفرد من العدد، كأنه تنبيه على ما في العدد من العبرة بما يضبط
لأنه من المقادير التي يقع بها التعديل. وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الشفع
يوم النحر، والوتر يوم عرفه، ووجه ذلك أن يوم النحر مشفع بيوم نحر بعده، وينفرد
يوم عرفه بالموقف وفي رواية أخرى عن ابن عباس ومجاهد ومسروق وأبي صالح:،
أن الشفع الخلق، والوتر الله تعالى. وقال ابن زيد: الشفع والوتر كله من الخلق.
فقال عمران بن حصين: الصلاة فيها شفع وفيها وتر، وقال ابن الزبير: الشفع:
اليومان الأولان من يوم النحر والوتر اليوم الثالث. وفي رواية أخرى عن ابن
341

عباس: الوتر آدم والشفع زوجته. قال أبو عبيدة: يقال أوترت ووترت.
وقوله (والليل إذا يسري) معناه يسير ظلاما حتى ينقضي بالضياء المبتدئ
ففي تسييره على المقادير المرتبة، ومجيئه بالضياء عند تقضيه في الفصول أدل دليل على
أن فاعله يختص بالعز والاقتدار الذي يجل عن الأشباه والأمثال.
وقوله (هل في ذلك قسم لذي حجر) أي لذي عقل - في قول ابن عباس
ومجاهد وقتادة والحسن - وقيل العقل الحجر، لأنه يعقل عن المقبحات ويزجر عن
فعلها، يقال: حجر يحجر حجرا إذا منع من الشئ بالتضييق، ومنه حجر الرجل
الذي يحجر على ما فيه، ومنه الحجر لامتناعه بصلابته.
وقوله (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) خطاب من الله تعالى
للنبي صلى الله عليه وآله، وتنبيه للكفار على ما فعل بالأمم الماضية لما كفروا بوحدانية الله، واعلام
لهم كيفية إهلاكهم. وقيل: عاد الأولى عاد ابن آرم. وقيل: إن (إرم) بلد
منه الإسكندرية - في قول القرطي - وقال المعري: هو دمشق. وقال مجاهد: هم
أمة من الأمم. وقال قتادة: هم قبيلة من عاد. وقوله (ذات العماد) قال ابن
عباس ومجاهد: ذات الطول من قولهم: رجل معمد إذا كان طويلا. وقيل ذات
عمد للابيات ينتقلون من مكان إلى مكان، للانتجاع - ذكره قتادة - وقال ابن
زيد: ذات العماد في إحكام البنيان. وقال الضحاك: معناه ذات القوى الشداد.
وقال الحسن: العماد الأبنية العظام. وقيل: ان (ارم) هو سام بن نوح، وترك صرفه
لأنه أعجمي معرفة.
وقوله (التي لم يخلق مثلها في البلاد) يعني في عظم أجسامهم وشدة قوتهم
وقوله (وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي) موضع (ثمود) جر بالعطف على
قوله (بعاد) أي وثمود ولم يجره لأنه أعجمي معرفة، ومعنى (جابوا الصخر) أي
342

قطعوا الصخر من الجبال بشدة قوتهم، يقال: جاب يجوب إذا قطع قال النابغة:
اتاك أبو ليلي يجوب به الدجى * دجى الليل جواب الغلاة غشمشم
قال مجاهد: قطعوا الجبال بيوتا كما قال (وتنحتون من الجبال بيوتا
فارهين) (1) وقوله (وفرعون ذي الأوتاد) قال ابن عباس: معناه ذي الجنود
الذين كانوا يشدون أمره. وقال مجاهد: كان يوتد الأوتاد في أيدي الناس. وقال
قتادة: ملاعب كان يلعب له فيها، ويضرب تحتها بالأوتاد. وقيل: ذي الأوتاد
لكثرة الأوتاد التي كانوا يتخذونها للمضارب ولكثرة جموعهم، وكان فيهم أكثر
منه في غيرهم، وقيل: إن فرعون كان إذا غضب على الرجل مده بين أربعة أوتاد
حتى يموت.
وقوله (الذين طغوا في البلاد) معناه إن هؤلاء الذين ذكرناهم تجاوزوا
في الظلم الحد في البلاد، وخرجوا عن حد القلة وفسر ذلك بقوله (فأكثروا فيها
الفساد) يعني أكثروا في البلاد الفساد، ثم بين ما فعل بهم عاجلا فقال (فصب
عليهم ربك) يا محمد صلى الله عليه وآله (سوط عذاب) أي قسط عذاب كالعذاب بالسوط
الذي يعرف إلا أنه أعظم، ويجوز أن يكون عنى قست عذاب يخالط اللحوم والدماء
كما يخالط بالسوط من قولهم: ساطه يسوطه سوطا فهو سائط قال الشاعر:
أحارث إنا لو تساط دماؤنا * تزايلن حتى لا يمس دم دما (2)
وقيل: المعنى إنه جعل سوطه الذي ضربهم به انه صب عليهم العذاب. وقوله
(إن ربك لبالمرصاد) معناه إن ربك يا محمد لا يفوته شئ من اعمال العباد كما
لا يفوت من بالمرصاد. والمرصاد مفعال من رصده يرصده رصدا، فهو راصد إذا
راعى ما يكون منه ليقابله بما يقتضيه، وقيل لأمير المؤمنين عليه السلام أين كان ربنا قبل

(1) سورة 26 الشعراء آية 149
(2) تفسير الشوكاني 5 / 424.
343

أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال: (أبن) سؤال عن مكان، وكان الله
ولا مكان. وقيل لا عرابي: أين ربك يا اعرابي؟! قال بالمرصاد. وقال ابن عباس
معناه إنه يسمع ويرى أعمال العباد. وقال الحسن والضحاك: لبالمرصاد بانصاف
المظلوم من الظالم، ومعناه لا يجوزه ظلم ظالم حتى ينصف المظلوم منه.
قوله تعالى:
(فأما الانسان إذا ما ابتليه ربه فأكرمه ونعمه فيقول
ربي أكرمن (15) وأما إذا ما ابتليه فقدر عليه رزقه فيقول
ربي أهانن (16) كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون
على طعام المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19)
وتحبون المال حبا جما (20) كلا إذا دكت الأرض دكا
دكا (21) وجاء ربك والملك صفا صفا (22) وجئ يومئذ بجهنم
يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى (23) يقول يا ليتني
قدمت لحياتي (24) فيومئذ لا يعذب عذابه أحد (25) ولا يوثق
وثاقه أحد (26) يا أيتها النفس المطمئنة (27) إرجعي إلى ربك
راضية مرضية (28) فادخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي) (30)
ست عشرة آية.
قرأ ابن عامر وأبو جعفر (فقدر) مشدد الدال. وقرأ أبو عمرو وأهل
344

البصرة (بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث)
ثلاثتهن بالياء. الباقون ثلاثتهن بالتاء. والأول على وجه الخبر عن الذين تقدم ذكرهم
من الكفار. والثاني على وجه الخطاب، وتقديره قل لهم يا محمد صلى الله عليه وآله. وقرأ أهل الكوفة
(تحاضون) بالتاء والألف. الباقون بغير الف والياء في جميع ذلك مفتوحة يقال:
حضضته وحثثته و (تحاضون) مثل فاعلته وفعلته إلا أن المفاعلة بين اثنين فأكثر
وقرأ الكسائي ويعقوب (فيومئذ لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد)
على ما لم يسم فاعله، والفعل مسند إلى (أحد)، والمعنى لا يعذب عذابه أحد فداء
له من العذاب، لأنه المستحق له، فلا يؤخذ بذنب غيره. الباقون بكسر الذال
(ولا يوثق) بكسر الثاء وتأويله لا يعذب عذاب الله أحد، ولا يوثق وثاقه أحد
وهو قول الحسن وقتادة.
لما توعد الله تعالى الكفار وجميع العصاة بما قدمه من الوعيد على المعاصي
وأخبرهم بما فعل بالأمم الماضية جزاء على كفرهم. وحكى أنه لبالمرصاد لكل عاص
قسم أحوال الخلق من البشر، فقال (فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه) أي اختبره
والابتلاء هو إظهار ما في العبد من خير أو شر من الشدة والرخاء والغنى والفقر
حسب ما تقتضيه المصلحة، فان عمل بداعي العقل ظهر الخير، وإن عمل بداعي
الطبع ظهر الشر. ومثل الابتلاء الامتحان والاختبار.
وقوله (فأكرمه ونعمه) معناه أعطاه الخير وأنعم عليه به، والاكرام إعطاء الخير
للنفع به على ما تقتضيه الحكمة إلا إنه كثر فيما يستحق بالاحسان، ونقيض الاكرام الهوان
(فيقول) العبد عند ذلك (ربي أكرمني) أي أنعم علي وأحسن إلي. ومن أثبت
الياء، فلأنها الأصل ومن حذفها فلأنها رأس آية، واجتزأ بكسرة والنون الدالة على حذفها.
345

ثم قال (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) أي اختبره بعد ذلك بأن
يضيق عليه رزقه قدر البلغة والأصل القدر، وهو كون الشئ على
مقدار، ومنه تقدير الشئ طلب قدره من مقدار غيره (فيقول) العبد عند ذلك
(ربي أهانني) فقال الله تعالى ردا لتوهم من ظن أن الاكرام بالغنى والإهانة بالفقر
بأن قال (كلا) ليس الامر على ما توهمه. وإنما الاكرام في الحقيقة بالطاعة،
والإهانة بالمعصية، وقوله (كلا) معناه ليس الامر على ما ظن هذا الانسان الكافر
الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر - ذكره قتادة - ثم بين ما يستحق به الهوان
بقوله (بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين) أي الهوان لهذا، لا
لما توهمتم، تقول: حضضته بمعنى حثثته و (تحاضون) بمعنى تحضون فاعلته وفعلته
إلا أن المفاعلة بين اثنين فأكثر. وقال الفراء: لا تحاضون بمعنى لا تحافضون، واصله
تتحاضون، فحذف إحدى التائين.
وقوله (وتأكلون التراث، أكلا لما) أي جمعا، يقال لممت ما على اهوان
ألمه لما إذا أكلته اجمع، والتراث الميراث. وقيل: هو من يأكل نصيبه ونصيب
صاحبه. وقوله (وتحبون المال حبا جما) قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد: معناه
كثيرا شديدا يقال: جم الماء في الحوض إذا أجتمع وكثر قال زهير:
فلما وردن الماء زرقا جماعه * وضعن عصي الحاضر المتخيم (1)
وقوله (كلا إذا دكت الأرض دكا دكا) معناه التهديد والوعيد الشديد أي حقا إذا
دكت الأرض بأن جعلت مثل الدكة مستوية لا خلل فيها ولا تلول، كما قال (لا ترى فيها
عوجا ولا أمتا) (2) وهو يوم القيامة، فالدك حط المرتفع بالبسط، يقال اندك سنام البعير
إذا انفرش في ظهره وناقة دكاء إذا كانت كذلك، ومنه الدكان لاستوائه فكذلك

(1) مر في 7 / 143
(2) سورة 20 طه آية 107.
346

الأرض إذا دكت استوت في فراشها فذهبت دورها، وقصورها وسائر أبنيتها حتى
تصير كالصحراء الملساء بها. قال ابن عباس: يوم القيامة تمد الأرض مدا كالأديم.
وقوله (وجاء ربك والملك صفا صفا) معناه وجاء أمر الله أو عذاب الله
وقيل: معناه وجاء جلائل آياته، فجعل مجيئ جلائل الآيات مجيئا له تفخيما لشأنها
وقال الحسن: معناه وجاء قضاء الله، كما يقول القائل: جاءتنا الروم أي سيرتهم.
وقال بعضهم: معنى (جاء) ظهر بضرورة المعرفة، كما توصف الآية إذا وقعت ضرورة
تقوم مقام الرؤية.
وقوله (والملك صفا صفا) معناه كصفوف الناس في الصلاة يأتي الصف الأول
ثم الصف الثاني ثم الثالث على هذا الترتيب، لان ذلك أشكل بحال الاستواء من
التشويش والتخليط بالتعديل في الأمور، والتقويم أولى.
وقوله (وجيئ يومئذ بجهنم) أي أحضرت جهنم ليعاقب بها المستحقون
لها ويرى أهل الموقف هو لها، وعظم منظرها. وقوله (يتذكر الانسان) اخبار
منه تعالى بأن الانسان يتذكر ما فرط فيه في دار التكليف من ترك الواجب وفعل
القبيح ويندم عليه. ثم قال تعالى (وأنى له الذكرى) ومعناه من أين له الذكرى
التي كان أمر بها في دار الدنيا، فإنها تقوده إلى طريق الاستواء وتبصره الضلال
من الهدى، فكأنه قال وأنى له الذكرى التي ينتفع بها، كما لو قيل يتندم وأنى
له الندم.
ثم حكى ما يقول الكافر المفرط الجائي على نفسه ويتمناه، فإنه يقول (يا ليتني
قدمت لحياتي) أي يتمنى انه كان عمل الصالحات لحياته بعد موته أو عمل للحياة التي
تدوم له، فكان أولى بي من التمسك بحياة زائلة. ثم قال (فيومئذ لا يعذب عذابه
أحد) معناه في قراءة من كسر الذال إخبار من الله تعالى أنه لا يعذب عذاب الله
347

أحد في ذلك اليوم. ومن فتح الذال قال: المعنى لا يعذب عذاب الجائي الكافر الذي
لم يقدم لحياته أحد من الناس لأنا علمنا أن إبليس أشد عذابا من غيره بحسب إجرامه
وإذا أطلق الكلام لقيام الدلالة على ذلك قيل معناه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره،
لأنه المستحق للعذاب ولا يؤاخذ الله أحدا بجرم غيره.
وقوله (ولا يوثق وثاقه) أي لا يشد بالسلاسل والاغلال (أحد) على المعنيين
اللذين ذكرناهما.
وقوله (يا أيتها النفس المطمئنة) قال ابن زيد عن أبيه: إن النفس
المطمئنة التي فعلت طاعة الله وتجنبت معاصيه تبشر عند الموت ويوم البعث بالثواب
والنعيم. وقيل: ان المطمئنة بالمعرفة لله وبالايمان به - في قول مجاهد - وقيل:
المطمئنة بالبشارة بالجنة. وقال الفراء: تقديره يا أيتها النفس المطمئنة بالايمان والمصدقة
بالثواب والبعث (ارجعي) تقول لهم الملائكة إذا أعطوهم كتبهم بايمانهم (ارجعي
إلى ربك) أي إلى ما أعده الله لك من الثواب، وقد يجوز أن يقولوا لهم هذا
القول يريدون ارجعوا من الدنيا إلى هذا المرجع.
ثم بين ما يقال لها وتبشر به بأنه يقال لها (ارجعي إلى ربك) أي إلى الموضع
الذي يختص الله تعالى بالأمر والنهي به دون خلقه (راضية) بثواب الله وجزيل
عطائه (مرضية) الافعال من الطاعات، وإنه يقال لها (ادخلي في عبادي) الذين
رضيت عنهم ورضيت أفعالهم (وادخلي جنتي) التي وعدتكم بها وأعددت نعيمكم
فيها، وروي عن ابن عباس أنه قرأ ادخلي في عبدي بمعنى في جسم عبدي، قال
ابن خالويه: هي قراءة حسنة. قال المبرد: تقديره يا أيتها الروح ارجعي إلى ربك
فادخلي في عبادي في كل واحد من عبادي تدخل فيه روحه.
348

90 - سورة البلد
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك، أنزلت حين افتتحت مكة
وهي عشرون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
(لا أقسم بهذا البلد (1) وأنت حل بهذا البلد (2) ووالد
وما ولد (3) لقد خلقنا الانسان في كبد (4) أيحسب أن لن يقدر عليه
أحد (5) يقول أهلكت مالا لبدا (6) أيحسب أن لم يره أحد (7)
ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين (9) وهديناه النجدين) (10)
عشر آيات.
قرأ أبو جعفر (لبدا) بتشديد الباء. الباقون بالتخفيف.
قوله (لا اقسم) معناه أقسم، ولا صلة، كما قال الشاعر:
ولا ألوم البيض ان لا تسخرا (1)
أي ان تسخر. وقيل: هي ردا لكلام على طريق الجواب، لمن قد ظهر منه

(1) مر في 1 / 45.
349

الخلاف أي ليس الامر على ما يتوهم. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. فإذا أثبت
انه اقسم، فلا ينافي قوله (وهذا البلد الأمين) لان هذا قسم آخر مثله. وإنما
يكون مناقضة لو أراد نفي القسم بقوله (لا اقسم) فأما إذا كان الامر على ما بيناه
فلا تنافي بينهما. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: يعني بالبلد مكة.
وقوله (وأنت حل بهذا البلد) فمعناه في قول ابن عباس أنه حلال لك به
قتل من رأيت حين أمر بالقتال، فقتل ابن حنظل صبرا، وهو آخذ بأستار الكعبة
ولم يحل لاحد بعده. وبه قال مجاهد وابن زيد والضحاك. وقال عطاء: لم يحل إلا
لنبيكم ساعة من النهار. وقال الحسن: معناه وأنت فيه محسن وأنا عنك راض.
وقيل: معناه أنت حل بهذا البلد أي أنت فيه مقيم، وهو محلل. والمعنى بذلك التنبيه
على شرف البلد بشرف من حل فيه من الرسول الداعي إلى تعظيم الله وإخلاص
عبادته المبشر بالثواب والمنذر بالعقاب، ويقال: رجل حل أي حلال وقالوا: حل
معناه حال. أي ساكن.
وقوله (ووالد وما ولد) قسم آخر بالوالد وما ولد، قال ابن عباس وعكرمة:
المعني بذلك كل والد وما ولد يعني العاقل. وقال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك
وسفيان وأبو صالح: يعني آدم وولده. وقال أبو عمران الحوبي: يعني به
إبراهيم عليه السلام وولده.
وقوله (لقد خلقنا الانسان في كبد) جواب القسم، ومعنى كبد قال ابن
عباس والحسن: في شدة. وقال قتادة: معناه يكابد الدنيا والآخرة. قال مجاهد وأبو
صالح وإبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد: معناه في انتصاب قامة، فكأنه في شدة
قوام مخصوص بذلك من سائر الحيوان، قال لبيد:
350

يا عين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام الخصوم في كبد (1) أي في شدة نصب، فالكبد في اللغة شدة الامر يقال: تكبد اللبن إذا غلظ
واشتد، ومنه الكبد، كأنه دم يغلظ ويشتد، وتكبد الدم إذا صار كالكبد، والانسان
مخلوق في شدة أمر بكونه في الرحم. ثم في القماط والرباط. ثم على خطر عظيم عند
بلوغه حال التكليف، فينبغي له أن يعلم أن الدنيا دار كد ومشقة، وأن الجنة هي
دار الراحة والنعمة.
وقوله (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) معناه أيظن هذا الانسان أن لن يقدر
على عقابه أحد إذا عصى الله تعالى وارتكب معاصيه فبئس الظن ذلك. وقيل: إنها
نزلت في رجل يقال له أبو الاسدين كان من القوة بحيث يقف على أديم عكاظي
فيجري العسرة من تحته، فتنقطع ولا يبرح من عليه فقال الله تعالى (أيحسب)
لشدته وقوته (أن لن يقدر عليه أحد) ثم حكى ما يقول هذا الانسان من قوله
(أهلكت مالا لبدا) قال الحسن: معناه يقول أهلكت مالا كثيرا، فمن يحاسبني عليه،
حميق ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته، اللبد الكثير الذي قد تراكب بعضه على بعض،
ومنه تلبد القطن والصوف إذا تراكب بعضه على بعض، وكذلك الشعر ومنه اللبد
ومن قرأ (لبدا) بتشديد الباء، فهو جمع لابد.
وقوله (أيحسب أن لم يره أحد) أيظن هذا الانسان انه لم يبصره أحد فيطالبه
من أين كسب هذا المال، وفي أي شئ أنفقه - ذكره قتادة - وقيل: معنا أيظن أن
لم يره أحد في انفاقه، لأنه كاذب.. وقال الحسن: يقول: أنفقت مالا كثيرا فمن
يحاسبني عليه. وقيل الآية نزلت في رجل من بني جمح يكنى أبا الاسدين، وكان
قويا شديدا.

(1) ديوانه 1 / 19 ومجاز القرآن 2 / 299.
351

ثم نبهه تعالى على وجوه النعمة التي أنعم بها عليه ليستدل بها على توحيده
وخلع الأنداد دونه بقوله (ألم نجعل له عينين) ليبصر بهما (ولسانا وشفتين)
لينطق بهما (وهديناه النجدين) ليستدل بهما. وفي ذلك دليل واضح على أنه
صادر من مختار لهذه الأفعال التي فعلها بهذه الوجوه، فأحكمها لهذه الأمور، فالمحكم
المتقن لا يكون إلا من عالم، وتعليقه بالمعاني لا يكون إلا من مختار، لأنه لا يعلق
الفعل بالمعاني إلا في الإرادة. وقال ابن مسعود: وابن عباس: معنى هديناه
النجدين: نجد الخير والشر، وبه قال الحسن ومجاهد والضحاك وقتادة، وفي رواية
عن ابن عباس أنهما الثديان، والنجدان الطريقان للخير والشر. وأصل النجد للعلو
ونجد بلد سمي نجد العلوة عن انجفاض تهامة، وكل عال من الأرض نجد، والجمع
نجود، ورجل نجد بين النجدة إذا كان جلدا قويا، لاستعلائه على قوته، واستنجدت
فلانا فانجدني أي استعنته على خصمي فأعانني، والنجد الكرب والغم، والنجاد
ما على العاتق من حمالة السيف، وشبه طريق الخير والشر بالطريقين العاليين لظهوره فيهما.
قوله تعالى:
فلا اقتحم العقبة (11) وما أدريك ما العقبة (12) فك رقبة (13)
أو إطعام في يوم ذي مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) أو مسكينا
ذا متربة (16) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا
بالمرحمة (17) أولئك أصحاب الميمنة (18) والذين كفروا
بآياتنا هم أصحاب المشئمة (19) عليهم نار مؤصدة) (20)
عشر آيات.
352

قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (فك رقبة أو أطعم في يوم ذي مسغبة)
بغير الف على أنه فعل ماض. الباقون (فك رقبة) على الإضافة ويكون الإضافة
إلى مفعول (أو إطعام) فوجه الأول قوله (فلا أقتحم العقبة فك رقبة) الثاني
أنه على جواب و (ما أدراك ما العقبة) فيكون الجواب بالاسم وتلخيصه هلا اقتحم
العقبة ولا يجوز الصراط إلا من كان بهذه الصفة يفك رقبة أو يطعم يتيما في يوم
ذي مسغبة مجاعة، فلا اقتحم بمعنى لم، كما قال (فلا صدق ولا صلى) (1) ومعناه
لم يصدق ولم يصل، وإنما لم يكرر (لا) لان معنا (ثم كان من الذين آمنوا) يدل
على أنه لم يقتحم ولم يؤمن، وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص وخلف (مؤصدة)
بالهمز. الباقون بغير همز وهما لغتان، يقال: أصدت الباب أو صده إيصادا فهو
مؤصد بالهمز، وأوصدته فهو موصد بغير همز. والوصيد الباب من أوصدت.
لما نبه الله تعالى الانسان على وحدانيته وإخلاص عبادته بقوله (ألم نجعل
له عينين ولسانا وشفتين) وما فيهما من الدلالة على قدرته وعلمه وانه هدى الانسان
طريق الخير والشر ورغبه في اتباع الخير وزجره عن اتباع الشر، قال حاثا له على
فعل الخير بقوله (فلا أقتحم العقبة) قال الحسن: عقبة - والله شديدة - مجاهدة الانسان
نفسه وهواه وعدوه والشيطان، ولم يكرر (لا) في اللفظ، وهي بمنزلة المكرر في المعنى
كأنه قال: أفلا اقتحم العقبة وحذف الاستفهام، والمراد به التنبيه، والاقتحام
الدخول على الشدة يقال اقتحم اقتحاما، واقحم إقحاما تقحم تقحما وقحم تقحيما
ونظيره الادخال والايلاج. والمعنى هلا دخل في البر على صعوبة كصعوبة اقتحام
العقبة، والعقبة الطريقة التي ترتقى على صعوبة. ويحتاج فيها إلى معاقبة الشدة بالتضييق

(1) سورة 75 القيامة آية 31.
353

والمخاطرة، وقيل: العقبة الننئة الضيقة في رأس الجبل يتعاقبها الناس، فشبهت بها
العقبة في وجوه البر التي ذكرها الله تعالى. وعاقب الرجل صاحبه إذا صار في موضعه
بدلا منه. وقال قتادة: فلا اقتحم العقبة إنها قحمة شديدة، فاقتحموها بطاعة الله.
وقال أبو عبيدة: معناه فلم يقتحم في الدنيا.
ثم فسر العقبة فقال (وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو اطعام في يوم ذي
مسغبة) وتقديره اقتحام العقبة فك رقبة، لان العقبة جثة والفك حدث، فلا يكون
خبرا عن جثة. قال أبو علي و (لا) إذا كانت بمعنى (لم) لم يلزم تكرارها.
ثم بين تعالى ما به يكون اقتحام العقبة فقال (فك رقبة) فالفك فرق يزيل
المنع، ويمكن معه أمر لم يكن ممكنا قبل، كفك القيد والغل، لأنه يزول به المنع،
ويمكن به تصرف في الأرض لم يكن قبل، ففك الرقبة فرق بينها وبين حال الرق
بايجاب الحرية وإبطال العبودية. وقوله (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) فالمسغبة
المجاعة سغب يسغب سغبا إذا جاع، فهو ساغب قال جرير:
تعلل وهي ساغبة بنيها * بأنفاس من الشبم القراح (1)
وقوله (يتيما) نصب ب‍ (إطعام) في قراءة من نون نصبه بالمصدر. ومن
قرأ على الفعل الماضي نصبه به، فهو مفعول به في الحالين، واليتيم الصبي الذي قد
مات أبوه وأمه، والأغلب في اليتيم من الأب في الناس. وقوله (ذا مقربة) معناه
ذا قرابة، ولا يقال: فلان قرابتي وإنما يقال ذو قرابتي، لأنه مصدر، كما
قال الشاعر:
يبكي الغريب عليه حين يعرفه * وذو قرابته في الناس مسرور
وقوله (أو مسكينا) عطف على يتيما. و (ذا متربة) معناه ذا حاجة شديدة

(1) اللسان (قرح).
354

من قولهم: ترب الرجل إذا افتقر - في قول ابن عباس - أيضا ومجاهد، يقال:
أترب الرجل إذا استغنى، وترب إذا افتقر.
وقوله (ثم كان من الذين آمنوا) معناه كان الانسان من جملة المؤمنين إذا
فعل ذلك وعقد الايمان، ثم أقام على إيمانه (وتواصوا) أي وصى بعضهم بعضا
(بالصبر) على الشدائد والمحن والمصائب (وتواصوا) أيضا (بالمرحمة) أي وصى
بعضهم بعضا بأن يرحموا الفقراء وذوي المسكنة.
وقوله (أولئك أصحاب الميمنة) معناه إنهم متى فعلوا ذلك كانوا أصحاب
الميمنة الذين يعطون كتابهم بأيمانهم أو يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، والميمنة
اليمن والبركة، والمرحمة حال الرحمة.
وقوله (والذين كفروا بآياتنا) معناه إن الذين يجحدون نعم الله ويكذبون
أنبياءه (هم أصحاب المشأمة) أي ذات الشمال فيؤخذ بهم إلى النار، ويعطون
كتابهم بشمالهم، واشتقاقه من الشؤم خلاف البركة (عليهم نار مؤصدة) قال ابن
عباس ومجاهد والضحاك: معناه عليهم نار مطبقة.
355

91 - سورة الشمس
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي خمس عشرة آية في الكوفي
والبصري وست عشرة في المدنيين
بسم الله الرحمن الرحيم
(والشمس وضحيها (1) والقمر إذا تليها (2) والنهار إذا
جليها (3) والليل إذا يغشيها (4) والسماء وما بنيها (5) والأرض
وما طحيها (6) ونفس وما سويها (7) فألهمها فجورها وتقويها (8)
قد أفلح من زكيها (9) وقد خاب من دسيها) (10) عشر آيات.
قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم (وضحاها) بفتح أواخر هذه السورة.
وقرأ الكسائي بإمالة ذلك كله. وقرأ أبو عمرو ونافع جميع ذلك بين الكسر والفتح.
وقرأ حمزة (وضحها) كسرا وفتح (تلاها) و (طحاها) فمن فتح، فلانه
الأصل، والإمالة تخفيف. وبين بين تخفيف يشعر بالأصل. فأما حمزة فأمال بنات
الياء. وفخم بنات الواو.
هذا قسم من الله تعالى بالشمس وضحاها، وقد بينا أن له تعالى أن يقسم
بما شاء من خلقه تنبيها على عظم شأنه وكثرة الانتفاع به، فلما كانت الشمس قد
عظم الانتفاع بها وقوام العالم من الحيوان والنبات بطلوعها وغروبها، جاز القسم
356

بها، ولما فيها من العبرة بنشئ الضوء حتى تقوى تلك القوة العظيمة بإذن الله.
وقوله (وضحا) يعني ضحاها الشمس، وهو صدر وقت طلوعها، وضحى
النهار صدر وقت كونه، قال الشاعر:
أعجلها اقدحي الضحاء ضحى * وهي تناصي ذوائب السلم (1)
وأضحى يفعل كذا إذا فعله في وقت الضحى، ويقال: ضحى بكبش أو غيره
إذا ذبحه في وقت الضحى من أيام الأضحى. ثم كثر حتى قيل لو ذبحه آخر النهار.
وقوله (والقمر إذا تلاها) قسم آخر بالقمر وتلوه الشمس ووجه
الدلالة من جهة تلو القمر للشمس من جهة المعاقبة على أمور مرتبة في النقصان.
والزيادة، لأنه لا يزال ضوء الشمس ينقص إذا غاب جرمها، ويقوى ضوء القمر
حتى يتكامل كذلك دائبين، تسخيرا من الله للعباد بما ليس في وسعهم أن يجروه على
شئ من ذلك المنهاج. وقال ابن زيد: القمر إذا اتبع الشمس في النصف الأول
من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر بالطلوع، وفى آخر الشهر يتلوها في الغروب
وقال الحسن (والشمس وضحاها) أي يضئ نورها (والقمر إذا تلاها) يعني ليلة
الهلال. وقيل: تلاها في الضوء.
وقوله (والنهار إذا جلاها) قسم آخر بالنهار إذا جلاها يعني الشمس
بضوءها المبين بجرمها. وقيل معناه إذا جلا الظلمة، فالهاء كناية عن الظلمة، ولم
يتقدم لها ذكر لأنه معروف غير ملتبس (والليل إذا يغشاها) قسم آخر بالليل إذا
يغشاها يعني الشمس بظلمته عند سقوط الشمس.
وقوله (والسماء وما بناها) قال قتادة: معناه والسماء وبنائها جعل (ما)
مع ما بعدها بمنزلة المصدر. وقال مجاهد والحسن: معنى والسماء وما بناها والسماء

(1) قائله النابغة الجعدي اللسان (ضحا).
357

من بنى السماء وهو الله تعالى. وقوله (والأرض وما طحاها) قسم آخر بالأرض
ما طحاها، ويحتمل ذلك وجهين:
أحدهما - أن يكون المعنى والأرض وطحوها.
والثاني - والأرض ومن طحاها، وهو الله تعالى ومعنى طحاها بسطها حتى
مكن التصرف عليها. وقال مجاهد والحسن: طحاها ودحاها واحد، بمعنى بسطها
يقال طحى يطحو طحوا ودحا يدحو دحوا وطحا بك عمك. ومعناه انبسط بك
إلى مذهب بعيد، فهو يطحو بك طحوا قال علقمة:
طحا بك قلب في الحسان طروب.
ويقال: القوم يطحي بعضهم بعضا عن الشئ أي يدفع دفعا شديد الانبساط
والطواحي النسور تنبسط حول القتلى، وأصل الطحو البسط الواسع. وقوله (ونفس
وما سواها قسم آخر بالنفس وما سواها، وهو محتمل أيضا لامرين: أحدهما -
ونفس وتسويتها، والثاني - ونفس ومن سواها، وهو الله تعالى. وقال الحسن يعني
بالنفس آدم ومن سواها الله تعالى. وقيل: ان (ما) في هذه الآيات بمعنى (من)
كما قال (فانكحوا ما طاب لكم) (1) وإنما أراد (من) وقال أبو عمرو بن العلا: هي
بمعنى الذي، وأهل مكة يقولون إذا سمعوا صوت الرعد: سبحان ما سبحت له
بمعنى سبحان من سبحت له.
وقوله (فألهمها فجورها وتقواها، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك
وسفيان: معناه عرفها طريق الفجور والتقوى ورغبها في التقوى وزهدها في الفجور.
وقال قوم: خذلها حتى اختارت الفجور وألهمها تقواها بأن وفقها لها. وقوله (قد
أفلح من زكاها) جواب القسم واللام مقدرة، وتقديره لقد أفلح من زكاها أي

(1) سورة 4 النساء آية 3.
358

من زكى نفسه بالصدقة، وقد خاب من دساها وأخفى عن التصديق، والمعنى قد أفلح
من زكى نفسه بالعمل الصالح أو اجتناب المعصية - وهو قول ابن عباس ومجاهد
وقتادة - وقال قوم: معناه قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دساها نفسه
وقوله (وقد خاب من دساها) معناه قد خاب أي خسر من دس نفسه في معاصي
الله منهمكا في القبائح التي نهاه الله عنها. وقيل: معناه دساها بالبخل، لان البخيل
يخفي نفسه ومنزلة لئلا يطلب نائله، ودسا نفسه نقيض زكاها بالعمل الصالح، وكذلك
دساها بالعمل الفاسد حتى صيرها في محاق وخسران. ويقال دسا فلان يدسو دسوا
ودسوة فهو داس نقيض زكا يزكو زكا فهو زاك. وقيل معنى دساها أي دسها، بمعنى
حملها ووضع منها بمعصية. وأبدل من إحدى السينين ياء، كما قالوا تظنيت بمعنى تظننت
قال الشاعر:
تقضي البازي إذا الباري كسر (1)
بمعنى تقضض.
قوله تعالى:
(كذبت ثمود بطغواها (11) إذ انبعث أشقاها (12) فقال
لهم رسول الله ناقة الله وسقياها (13) فكذبوه فعقروها (14) فدمدم
عليهم ربهم بذنبهم فسواها (15) ولا يخاف عقبيها) (16) ست آيات
قرأ أهل المدينة وابن عامر (فلا يخاف) بالفاء وكذلك هي في مصاحف أهل
المدينة وأهل الشام. الباقون بالواو، وكذلك في مصاحفهم.
يقول الله تعالى مخبرا عن ثمود وهم قوم صالح (كذبت ثمود بطغواها) قال

(1) مر في 1 / 286 و 7 / 358 و 8 / 146.
359

ابن عباس: يعني بعذابها أي بعذاب الطاغية فأتاها ما كذبت به. وقال مجاهد: بمعصيتها
- وهو قول ابن زيد - وهو وجه التأويل، والطغوى والطغيان مجاوزة الحد في
الفساد وبلوغ غايته، تقول: طغى يطغي إذا جاوز الحد، ومنه قوله (لما طغى
الماء) (1) أي لما تجاوز المقدار على ما جرت به العادة وكثر. وقوله (إذا انبعث
أشقاها) أي كان تكذيبها حين انبعث أشقى ثمود، وقيل اسمه قدار بن سالف.
وقال قوم: عقر الناقة الناقة هو تكذيبهم. وقيل: لان، بل هو غيره. وقيل: كانوا أقروا
بأن لها شربا ولهم شرب غير مصدقين بأنه حق. والشفاء شدة الحال في مقاساة
الآلام، فالاشقا هو الأعظم شقاء، ونقيض الشقاء السعادة، ونقيض السعود النحوس
يقال: شقي يشقى شقاء، فهو شقي نقيض سعيد، واشقاه الله اشقاء.
وقوله (فقال لهم رسول الله) يعني صالحا، فإنه قال لهم: ناقة الله وتقديره
فاحذروا، ناقة الله، فهو نصب على الاغراء كما تقول: الأسد الأسد، أي احذره
(وسقياها) فالسقاء الحظ من الماء. وهو النصيب منه، كما قال تعالى (لها شرب
ولكم شرب يوم معلوم) (2) والسقي التعريض للشرب.
وقوله (فكذبوه) أي كذب قوم صالح صالحا ولم يلتفتوا إلى قوله (فعقروها)
يعني الناقة. فالعقر قطع اللحم بما يسيل الدم عقره يعقره عقرا فهو عاقر، ومنه
عقر الحوض وهو أصله، والعقر نقض الشئ عن أصل بنية الحيوان، وعاقر الناقة
أحمر ثمود، وهم يروه وكلهم رضوا بفعله. فعمهم البلاء بأن عاقبهم الله تعالى
لرضاهم بفعله. وقوله (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها) معناه أهلكهم الله تعالى
عقوبة على ذنوبهم من تكذيب صالح وعقر الناقة. وقيل: معنى دمدم عليهم دمر

(1) سورة 69 الحاقة آية 11
(2) سورة 26 الشعراء آية 155.
360

عليهم. وقيل: معناه أطبق عليهم بالعذاب يقال دمدمت على الشئ إذا ضيقت
عليه، وناقة مدمدمة قد ألبسها الشحم، فإذا كررت الاطباق قلت دمدمت. وقيل
(دمدم عليهم) أي غضب عليهم، فالدمدمة ترديد الحال المتكرهة، وهي مضاعفة
ما فيه المشقة، فضاعف الله تعالى على ثمود العذاب بما ارتكبوا من الطغيان.
وقوله (فسواها) أي جعل بعضها على مقدار بعض في الاندكاك واللصوق
بالأرض، فالتسوية تصيير الشئ على مقدار غيره.
وقوله (ولا يخاف عقابها) قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد: معناه
لا يخاف الله تعالى تبعة الدمدمة. وقال الضحاك: معناه لم يخف الذي عقرها عقباها
والعقبى والعاقبة واحد، وهو ما أدى إليه الحال الأولى، قال أبو علي: من قرأ
بالفاء فللعطف على قوله (فكذبوه فعقروها) فلا يخاف كأنه تبع تكذيبهم عقرهم أي
لم يخافوا. ومن قرأ (ولا) بالواو جعل الجملة في موضع الحال، وتقديره فسواها
غير خائف عقباها أي غير خائف أن يتعقب عليه في شئ مما فعله.
361

92 - سورة الليل
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي إحدى عشرون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(والليل إذا يغشى (1) والنهار إذا تجلى (2) وما خلق
الذكر والأنثى (3) إن سعيكم لشتى (4) فأما من أعطى واتقى (5)
وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8)
وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغني عنه ماله
إذا تردى (11) إن علينا للهدى (12) وإن لنا للآخرة والأولى) (13)
ثلاث عشرة آية.
هذا قسم من الله تعالى بالليل إذا غشية الظلام، فاظلم وادلهم وغشى الأنام لما
في ذلك من الهول المحرك للنفس بالاستعظام.
ثم اقسم بالنهار إذا تجلى، ومعناه إذا أنار وظهر للابصار لما في ذلك من
الاعتبار. وقيل التقدير والليل إذا يغشى النهار، فيذهب بضوئه (والنهار إذا
تجل) أي جلى الليل، فأذهب ظلمته، ذكره الحسن. والغشي إلباس الشئ ما يغمر
ويستر جملته، وإنما كرر ذكرهما في السورتين لعظم شأنهما، وجلالة موقعهما في باب
362

الدلالة على توحيد الله - ذكره قتادة -.
وقوله (وما خلق الذكر والأنثى) للتناسل بينهما. ويحتمل أن يكون المراد
ومن خلق الذكر والأنثى، وفى قراءة عبد الله (والذي خلق الذكر والأنثى)
لان (ما) بمعني الذي، وهو الله، فيكون القسم بالله. وعلى الأول يكون القسم
بخلق الله. وقيل: المراد بالذكر والأنثى آدم وحواء عليهما السلام.
وقوله (إن سعيكم لشتى) جواب للقسم، ومعناه إن سعيكم لمختلف، فسعي
المؤمن خلاف سعي الكافر. ومعنى (شتى) أي متفرق على تباعد ما بين الشيئين
جدا، ومنه شتان أي بعد ما بينهما جدا كبعد ما بين الثرى والثريا. ويقال:
تشتت أمر القوم وشتتهم ريب الزمان.
وقوله (فاما من اعطى واتقى) معناه من أعطى حق الله واتقى محارم الله
- ذكره قتادة - (وصدق بالحسنى) قال ابن عباس وعكرمة: وصدق بالخلف.
وقال الضحاك: صدق بتوحيد الله، وقال مجاهد والحسن: يعني صدق بالجنة. وقال
قتادة: بوعد الله، والحسنى النعمة العظمى بحسن موقعها عند صاحبها، وهذه صفة
الجنة التي أعدها الله تعالى للمتقين وحرمها من كذب بها.
وقوله (فسنيسره لليسرى) معناه يسهل عليه الامر، فالتيسير تصيير الامر
سهلا. ومثله التسهيل والتخفيف، ونقيض التيسير والتعسير وهو تصير الامر صعبا.
واليسير نقيض العسير، يقال: أيسر إذا كثر ماله ويوسر ايسارا. وتقديره فسنيسره
للحال اليسرى، فلذلك أنث فحال اليسير اليسرى، وحال العسير العسرى
والتيسير لليسرى يكون بأن يصيرهم إلى الجنة، والتيسير للعسرى بأن يصبرهم إلى
النار. ويجوز أن يكون ا لمراد بالتمكين من سلوك طريق الجنة، والتمكين من سلوك
طريق النار. ومعناه إنا لسنا نمنع المكلفين من سلوك أحد الطريقين ولا نضطرهم
363

إليه، وإنما نمكنهم بالاقرار عليهما ورفع المنع، والترغيب في إحداهما، والتزهيد في
الأخرى. فان أحسن الاختيار اختار ما يؤديه إلى الجنة. وإن أساء فاختار ما يؤد
به إلى النار فمن قبل نفسه أتى.
وقوله (وأما من بخل واستغنى) يعني به من منع حق الله الذي أوجب
عليه من الزكاة والحقوق الواجبة في ماله، واستغنى بذلك وكثر ماله، فسنيسره
للعسرى يعني طريق النار. وقد بينا كيفية تيسير الله لذلك من التمكين أو التصيير
فلا حاجة لإعادته. والعسرى البلية العظمى بما تؤدي إليه، ونقيضها اليسرى، وهو
مأخوذ من العسر واليسر، فحال العسر العسرى وحال اليسر اليسرى، ومذكره
الأيسر، والامر الأعسر. وقال الفراء: المعنى فسنيسره للعود إلى الصالح من
الاعمال ونيسره من الاعمال للعسرى على مزاوجة الكلام. والأولى أن تكون
الآيتان على عمومهما في كل من يعطي حق الله، وكل من يمنع حقه، لأنه ليس
- ههنا - دليل قاطع على أن المختص بها إنسان بعينه، وقد روي أنها نزلت في أبي
الدحداح الأنصاري، وسمرة بن حبيب، ورووا في ذلك قصة معروفة. وروي
في غيره
وقوله (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) معناه أي شئ يغني عن هذا الذي
بخل بماله، ولم يخرج حق الله منه (إذا تردى) يعني في نار جهنم - في قول قتادة
وأبي صالح - وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. وقال مجاهد: معناه إذا مات.
وقال قوم: معناه (إذا تردى) في القبر أي شئ يغنيه. وقيل (إذا تردى) في
النار فما الذي يغنيه.
وقوله (إن علينا للهدى قال قتادة: معناه إن علينا لبيان الطاعة من المعصية
وقيل في قوله (إن علينا للهدى) دلالة على وجوب هدى المكلفين إلى الدين، وإنه
364

لا يجوز إضلالهم منه. وقوله (وإن لنا للآخرة) معناه الاخبار من الله بأن له
دار الآخرة والجزاء فيها على الاعمال، والأمر والنهي ليس لأحد سواه، لان دار
الدنيا قد ملك فيها أقواما التصرف، وقوله (والأولى) معناه وإن لنا الأولى أيضا
يعني دار الدنيا فإنه الذي خلق الخلق فيها، وهو الذي مكنهم من التصرف فيها
وهو الذي ملكهم ما ملكهم، فهي أيضا ماله على كل حال.
قوله تعالى:
(فأنذرتكم نارا تلظى (14) لا يصليها إلا الأشقى (15)
الذي كذب وتولى (16) وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله
يتزكى (18) وما لاحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء
وجه ربه الاعلى (20) ولسوف يرضى) 21) ثمان آيات.
قوله (فأنذرتكم نارا تلظى) وعيد من الله تعالى للمكلفين. تقول خوفتكم
المعاصي التي تؤديكم إلى نار تلظى.
وقرأ ابن كثير (نارا تلظى) بتشديد التاء أدغم احدى التاءين في الأخرى،
لان الأصل تتلظى. وقيل: انه أدغم نون التنوين في التاء. الباقون بالتخفيف
فحذفوا احدى التاءين. والتلظي تلهب النار بشدة الايقاد تلظت النار تتلظى تلظيا
ولظى اسم من أسماء جهنم.
وقوله (لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب) وقصر عما أمرته كما تقول: لقي
فلان العدو فكذب: إذا نكل ورجع - ذكره الفراء - فكأنه كذب في الطاعة أي
لم يتحقق. وقال المفسرون فيها قولان:
365

أحدهما - الانذار بنار هذه صفتها، وهي درك مخصوص من أدراك جهنم
فهي تختص هذا المتوعد الذي كذب بآيات الله وجحد توحيده (وتولى) عنها بأن
لم ينظر فيها أو رجع عنها بعد أن كان نظر فيها فصار مرتدا. والثاني محذوف لما
صحبه من دليل الآي الاخر، كأنه قال ومن جرى مجراه ممن عصى فعلى هذا
لا متعلق للخوارج في أن مرتكب الكبيرة كافر.
وقوله (وسيجنبها الأتقى) معناه سيبعد من هذه النار من كان اتقى الله
باجتناب معاصيه (الذي يؤتي ماله) أي يعطي ماله (يتزكى) يطلب بذلك طهارة
نفسه، فالتجنب تصيير الشئ في جانب عن غيره، فالأتقى يصير في جانب الجنة عن
جانب النار يقال: جنبه الشر تجنيبا وتجنب تجنبا وجانبه مجانبة، ورجل جنب،
وقد أجنب إذا أصابه ما يجانب به الصلاة حتى يغتسل.
وقوله (وما لاحد عنده من نعمة تجزى) معناه ليس ذلك ليد سلفت تكافي
عليها ولا ليد يتخذها عند أحد من العباد، وقوله (إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى)
معناه بل إنما فعل ذلك طلب رضوان الله، وذكر الوجه طلبا لشرف الذكر. والمعنى
إلا ابتغاء ثواب الله وطلب رضوانه. وقوله (ولسوف يرضى) معناه إن هذا العبد
الذي فعل ما فعله لوجه الله سوف يرضى بما يعطيه الله على ذلك من الثواب وجزيل
النعيم يوم القيامة.
366

93 - سورة الضحى
مكية في قول ابن عباس الضحاك، وهي إحدى عشرة آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما
قلى (3) وللآخرة خير لك من الأولى (4) ولسوف يعطيك ربك
فترضى (5) ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7)
ووجدك عائلا فأغنى (8) فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السائل
فلا تنهر (10) وأما بنعمة ربك فحدث) (11) احدى عشرة آية.
روي أن عروة ابن الزبير قرأ (ما ودعك ربك بالتخفيف من قولهم:
ودع يدع أي ترك يترك، وهو قليل، لان سيبويه قال: استغنوا ب‍ (ترك) عن
(ودع) فلم يستعملوه. والباقون بالتشديد.
هذا قسم من الله تعالى بالضحى، وهو صدر النهار، وهو الضحى المعروف
- في قول قتادة - وقال الفراء: هو النهار كله من قولهم: ضحى فلان للشمس إذا
ظهر لها. وفي التنزيل (وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (1).

(1) سورة 20 طه آية 119.
367

وقوله (والليل إذا سجى) قسم آخر، وقال الحسن: معنى (سجى) غشي
بظلامه وقال قتادة: معنى (سجى) سكن وهذا من قولهم: بحر ساج أي ساكن، وبه
قال الضحاك، يقال: سجا يسجو سجوا إذا هدئ وسكن، وطرف ساج قال الأعشى:
فما ذنبنا ان جاش بحر ابن عمكم * وبحرك ساج لا يواري الدعا مصا (1)
وقال الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج * وطرق مثل ملاء النساج (2)
وقوله (ما ودعك ربك وما قلى) جواب القسم. وقيل: إنه لما تأخر عنه
الوحي خمس عشرة ليلة، قال قوم من المشركين: ودع الله محمدا وقلاه، فأنزل الله
تعالى هذه السورة تكذيبا لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله، لأنه كان اغتم بانقطاع الوحي
عنه - ذكره ابن عباس وقتادة والضحاك - ومعنى (ما ودعك) ما قطع الوحي
عنك، ومعنى (قلى) أبغض - في قول ابن عباس والحسن وابن زيد - والقالي المبغض
يقال: قلاه يقلاه قلا إذا أبغضه. والعقل دال على أنه لا يجوز ان يقلا الله أحدا
من أنبيائه، والتقدير ما قلاك، فحذف الكاف لدلالة الكلام عليه، ولان روس الآي
بالياء، فلم يخالف بينها، ومثله (فآوى، وفهدى، وفأغنى) لان الكاف في جميع
ذلك محذوفة، ولما قلناه.
وقوله (وللآخرة خير لك من الأولى) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى
له إن ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها خير لك من الأولى يعني من الدنيا، والكون
فيها لكونها فانية. قال ابن عباس: له في الجنة الف قصر من اللؤلؤ ترابه المسك،
وفيه من كل ما يشتهي على أعم الوصف.

(1) تفسير القرطبي 20 / 91 وديوانه 100
(2) مجاز القرآن 2 / 302 واللسان (سحى) والكامل 204.
368

وقوله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وعد من الله له أن يعطيه من
النعيم والثواب وفنون النعم ما يرضى النبي صلى الله عليه وآله به ويؤثره.
ثم عدد عليه النعمة في دار الدنيا فقال (ألم يجدك يتيما فآوى) ومعناه
تقريره على نعم الله عليه حين مات أبوه وبقي يتيما فآواه بأن سخر له عبد المطلب
أولا، ولما مات عبد المطلب آواه إلى أبي طالب، وسخره للاشفاق عليه والحنين على
حفظه ومراعاته.
وقوله (ووجدك ضالا فهدى) قيل في معناه أقوال:
أحدها - وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه بأن نصب لك الأدلة وأرشدك
إليها حتى عرفت الحق، وذلك من نعم الله.
وثانيها - وجدك ضالا عما أنت عليه الان من النبوة والشريعة، فهداك إليها
وثالثها - وجدك في قوم ضلال أي فكأنك واحد منهم.
ورابعها - وجدك مضلولا عنك فهدى الخلق إلى الاقرار بنبوتك والاعتراف
بصدقك فوجدك ضالا بمعنى مضلول كما قيل ماء دافق بمعنى مدفوق، وسر كاتم
بمعنى مكتوم.
وخامسها - أنه لما هاجر إلى المدينة ضل في الطريق، وضل دليله فأرشدهم الله
إلى الطريق الواضح حتى وصلوا فإذا قيل: السورة مكية أمكن أن يقال: المراد
بذلك الاستقبال والاعلام له أنه يكون هذا على وجه البشارة له به، ولم يكن فعلا
له معصية، لأنه ليس ذهابا عما كلف.
وقوله (ووجدك عائلا فأغنى) فالعائل الفقير، وهو ذو العيلة من غير جدة
عال يعيل عيلة إذا كثر عياله وافتقر قال الشاعر:
369

وما يدرى الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل (1)
أي متى يفتقر. وقيل إن ذكر النعم من المنعم يحسن على وجهين:
أحدهما - التذكير للشكر وطلب الزيادة منها فهذا جود وكرم.
والاخر - عند كفر المنعم عليه، فهذا التذكير على الوجه الأول.
وقوله (فاما اليتيم فلا تقهر) أي لا تقهره لظلمه بأخذ ماله فكذلك من
لا ناصر له لا تغلظ في أمره، والخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وهو نهي لجميع المكلفين
وقيل: معناه لا تقهره على ماله.
وقوله (وأما السائل فلا تنهر) فالانتهار هو الصياح في وجه السائل الطالب
للرفد، يقال: نهره وانتهره بمعنى واحد، وهو متوجه إلى جميع المكلفين.
وقوله (وأما بنعمة ربك فحدث) معناه اذكر نعم الله وأظهرها وتحدث بها.
وقد قيل: من شكر النعمة الحديث بها.
فان قيل: في هذا ونظائره مما عدده الله على خلقه من النعم وامتنائه عليهم
كيف يمنن الله تعالى على خلقه بالنعم وذلك من فعل النجل، لان الواحد منا لو من
على غيره بما يسدي إليه كان مقبحا؟!
قبل: إنما يقبح الامتنان إذا كان الغرض الازراء بالنعم عليه والتفضيل به،
فاما إذا كان الغرض تعريف النعمة وتعديدها وإعلامه وجوهها ليقابلها بالشكر
فيستحق به الثواب والمدح، فإنه نعمة أخرى وتفضل آخر يستحق به الشكر فبطل
ما قالوه.

(1) مجاز القرآن 2 / 302 وقد مر في 3 / 109 و 5 / 235.
370

94 - سورة الانشراح
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي ثمان آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وزرك (2)
الذي أنقض ظهرك (3) ورفعنا لك ذكرك (4) فان مع العسر
يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6) فإذا فرغت فانصب (7) وإلى
ربك فارغب) (8) ثمان آيات.
روى أصحابنا ان ألم نشرح من الضحى سورة واحدة لتعلق بعضها ببعض
ولم يفصلوا بينهما ب‍ (بسم الله الرحمن الرحيم) وأوجبوا قراءتهما في الفرائض في ركعة
وألا يفصل بينهما. ومثله قالوا في سورة (ألم ترك كيف) و (الإيلاف) وفى المصحف
هما سورتان فصل بينهما ببسم الله.
والمعني بهذه الآيات تعداد نعم الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله في الامتنان بها
عليه فقال (ألم نشرح لك صدرك) فالشرح فتح الشئ باذهاب ما يصد عن
إدراكه فالله تعالى قد فتح صدر نبيه باذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق
وتعظيمه بما يجب له. ومنه قول القائل: أشرح صدري لهذا الامر. وشرح فلان
كتاب كذا، ومنه تشريح اللحم إذا فتحه ورققه، ومنه قوله (أفمن شرح الله صدره
371

للاسلام) (1) وقال البلخي: كان النبي صلى الله عليه وآله ضاق صدره بمغاضبة الجن والإنس
له فآتاه الله من آياته ووعده ما اتسع قلبه لكل ما حمله الله وأمره به. وقال الجبائي:
شرح الله صدره بأن فعل له لطفا بسنن منه إلى ما كلفه الله وسهل عليه، وكان ذلك
ثوابا على طاعاته لا يجوز فعله بالكفار. وعكسه ضيق الصدر كما قيل في قوله (فمن
يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا
كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) (2) والصدر
الموضع الا رفع الذي فيه القلب، ومنه أخذ صدر المجلس تشبيها بصدر الانسان.
وصدرته بكذا إذا جعلته في أول كلامك. والصدر لان الأوامر تصدر عنه.
وصادره إذا اخذ ما يصدر عنه والأصل الانصراف عن الشئ.
وقوله (ووضعنا عنك وزرك) قال الحسن: يعني بالوزر الذي كان عليه في
الجاهلية قبل النبوة. وقال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: يعني ذنبك. قالوا:
وإنما وصفت ذنوب الأنبياء بهذا الثقل مع أنها صغائر مكفرة لشدة اغتمامهم بها وتحسرهم
على وقوعها مع ندمهم عليها. وهذان التأويلان لا يصحان على مذهبنا، لان الأنبياء عليهم السلام
لا يفعلون شيئا من القبائح لا قبل النبوة ولا بعدها ولا صغيرة ولا كبيرة، فإذا
ثبت هذا، فمعنى الآية هو أن الله تعالى لما بعث نبيه وأوحى إليه وانتشر أمره
وظهر حكمه كان ما كان من كفار قومه وتتبعهم لأصحابه باذاهم له وتعرضهم إياهم
ما كان يغمه ويسؤه ويضيق صدره ويثقل عليه، فأزال الله ذلك بأن أعلى كلمته
وأظهر دعوته وقهر عدوه. وأنجز وعده ونصره على قومه، فكان ذلك من أعظم
المنن وأجزل النعم.
فإذا قيل: السورة مكية، وكان ما ذكرتموه بعد الهجرة؟!

(1) سورة 39 الزمر آية 22
(2) سورة 6 الانعام آية 125.
372

قيل: ليس يمنع أن يكون الله أخبره بأن ذلك سيكون فيما بعد ليبشره به
ويسليه عما هو عليه فجاء بلفظ الماضي وأراد الاستقبال، كما قال (ونادى أصحاب
الجنة أصحاب النار) (1) وكما قال (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) (2) والوزر
الثفل في اللغة، ومنه اشتق اسم الوزير لتحمله أثقال الملك. وإنما سميت الذنوب
أوزارا لما فيها من العقاب العظيم.
وقوله (الذي انقض ظهرك) نعت الوزر، ووصفه بأنه انقض ظهره
بمعنى أثقله، والانقاض الأثقال الذي ينتقض به ما حمل عليه. أنقض ينقض إنقاضا
والنقض والهدم واحد، ونقض المذهب إبطاله بما يفسده. وقال الحسن ومجاهد وقتادة
وابن زيد: معنى انقض أثقل، وبعير نقض سفر إذا أثقله السفر.
وقوله (ورفعنا لك ذكرك) قال الحسن ومجاهد وقتادة: معناه إني لا اذكر
إلا ذكرت معي يعني ب‍ (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله).
وقوله (فان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا) يدل على أن التأويل في
قوله (ووضعنا عنك وزرك) ما قلناه، لان الله بشره أنه يكون مع العسر يسرا
وروي عن ابن عباس أنه قال: لن يغلب عسر واحد يسرين، لأنه حمل العسر
في الآيتين على أنه واحد لكونها بالألف واللام، واليسر منكر في تثنية الفائدة، والثاني
غير الأول، والعسر صعوبة الامر وشدته، واليسر سهولته.
ثم قال له (فإذا فرغت فانصب) قال ابن عباس: معناه فإذا فرغت من
فرضك فانصب إلى ما رغبك الله فيه من العمل. وقال قتادة: معناه فإذا فرغت من
صلاتك فانصب إلى ربك في الدعاء. وقال مجاهد: معناه فإذا فرغت من أمر دنياك
فانصب إلى عبادة ربك. ومعنى (فانصب) ناصب يقال: ناله هم ناصب أي ذو

(1) سورة 7 الأعراف آية 43
(2) سورة 43 الزخرف آية 77.
373

نصب. ويقال: أنصبني الهم فهو منصب قال الشاعر:
تعناك هم من أميمة منصب (1)
وقال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب (2)
أي فيه نصب كقوله (عيشة راضية) (3) أي ذات رضى. والخطاب وإن
كان متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله فالمراد به جميع المكلفين من أمته، والفراغ انتفاء كون
الشئ المضاد لكون غيره في المحل. ونقيضه الشغل، وهو كون الشئ المضاد في المحل
ومنه أخذ شغل الافعال، ولهذا لا يوصف تعالى بأنه يشغله شئ عن شئ، لأنه
تعالى يخترع ما شاء من الافعال.
وقوله (وإلى ربك فارغب) حث له على الرغبة في الطلب من الله تعالى
دون غيره.

(1) مر في 8 / 567
(2) مر في 5 / 368 و 6 / 95 329 و 8 / 122، 567
(3) سورة 69 الحاقة آية 21 وسورة 101 القارعة آية 7.
374

95 - سورة التين
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي ثمان آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد
الأمين (3) لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم (4) ثم رددناه
أسفل سافلين (5) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر
غير ممنون (6) فما يكذبك بعد بالدين (7) أليس الله بأحكم
الحاكمين) (8) ثمان آيات.
هذا قسم من الله تعالى بالتين والزيتون، وقال الحسن ومجاهد وعكرمة
وقتادة:، هو التين الذي يؤكل والزيتون الذي يعصر. وقال ابن زيد: التين مسجد
دمشق والزيتون بيت المقدس. قال الفراء: سمعت رجلا من أهل الشام، وكان
صاحب تفسير، قال: التين جبال ما بين حلوان إلى همدان، والزيتون الذي يعصر
(وطور سينين) هو قسم آخر، وقال مجاهد وقتادة (الطور) جبل. و (سينين)
معناه مبارك، فكأنه قيل: جبل فيه الخير الكثير، لأنه أضافه إضافة تعريف. وقال
الحسن: طور سينين هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، فهو عظيم
375

الشأن. وقيل: سينين بمعنى حسن، لأنه كثير النبات والشجر - في قول عكرمة -
وقوله (وهذا البلد الأمين) قسم آخر، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة
وابن زيد وإبراهيم: البلد الأمين مكة، والأمين بمعنى آمن، كما قال الله تعالى
(أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) (1) قال الشاعر:
ألم تعلمي يا اسم ويحك انني * حلفت يمينا لا أخون أميني (2)
يريد أمني، وقوله (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم) جواب القسم
قال ابن عباس: خلق الله تعالى الانسان في أحسن تقويم منتصب القامة وسائر الحيوان
منكب. وقال الفراء: معناه إنا لنبلغ بالآدمي أحسن تقويمه، وهو اعتداله واستواء
شبابه، وهو أحسن ما يكون. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: معناه في أحسن صورة
والتقويم تصبير الشئ على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف والتعديل، قومه تقويما
فاستقام، وتقوم.
وقوله (ثم رددناه أسفل سافلين) قال ابن عباس وإبراهيم وقتادة: معناه
إلى أرذل العمر، وقال الحسن ومجاهد وابن زيد: ثم رددناه إلى النار في أقبح صورة
ثم استثنى من جملتهم (إلا الذين آمنوا) بالله تعالى وأخلصوا العبادة له (وعملوا
الصالحات) أي وأضافوا إلى ذلك الاعمال الصالحات، وبين أن من هذه صفته
(لهم أجر) أي ثواب على طاعاتهم (غير ممنون) أي غير منقوص. وقيل
غير مقطوع، وقال مجاهد: غير محسوب، وقيل غير مكدر بما يوذي ويغم.
وقوله (فما يكذبك بعد بالدين) معناه أي شئ يكذبك أيها الانسان بعد
هذه الحجج بالدين الذي هو الجزاء. وقال قتادة: معناه فمن يكذبك أيها الانسان

(1) سورة 29 العنكبوت آية 67
(2) تفسير القرطبي 20 / 113.
376

بعدها بالدين الذي هو الجزاء والحساب، وهو قول الحسن وعكرمة.
وقوله (أليس الله بأحكم الحاكمين) تقرير للانسان على الاعتراف بأنه تعالى
أحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا، لأنه لا خلل فيه ولا اضطراب يخرج عما تقتضيه الحكمة
وفى ذلك دلالة على فساد مذهب المجبرة في أن الله يخلق الظلم والفساد. والحكم الخبر
بما فيه فائدة بما تدعو إليه الحكمة، فإذا قيل: حكم جائر فهو بمنزلة حجة داحضة مجازا
بمعنى أنه حكم عند صاحبه كما أنها حجة عنده. وليست حجة في الحقيقة. وقيل:
المعنى أي شئ يكذبك بالدين: ويحملك على جحد الجزاء يوم القيامة وأنا أحكم
الحاكمين. وروي عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ (أليس الله بأحكم الحاكمين)
قال: سبحانك اللهم بلى. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (إذا قرأ أحدكم
والتين والزيتون فأتى على آخرها فليقل: بلى).
377

96 - سورة العلق
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي تسع عشرة آية في الكوفي
والبصري وعشرون في المدنيين
بسم الله الرحمن الرحيم
(إقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الانسان من علق (2)
إقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الانسان ما لم
يعلم (5) كلا إن الانسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7) إن إلى
ربك الرجعى (8) أرأيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى) (10)
عشر آيات.
روي عن عائشة ومجاهد وعطاء وابن سيار: ان أول آية نزلت قوله (إقرأ
باسم ربك الذي خلق) وهو قول أكثر المفسرين. وقال قوم: أول ما نزل قوله
(يا أيها المدثر) وقد ذكرناه فيما مضى.
هذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ان يقرأ باسم ربه الذي خلق الخلق،
وأن يدعوه بأسمائه الحسنى. وفى تعظيم الاسم تعظيم المسمى، لان الاسم وصف
ليذكر به المسمى بما لا سبيل إلى تعظيمه إلا بمعناه، فلهذا لا يعظم اسم الله حق
378

تعظيمه إلا من هو عارف به ومعتقد العبادة ربه فهو معتقد بتعظيم المسمى لا وجه
له يعتد به إلا تعظيم المسمى، ولهذا قال الله تعالى (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى) (1) وقال (فسبح باسم ربك) (2) وقال الله تعالى
(تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام) (3) والباء زائدة، وتقديره اقرأ
اسم ربك.
وقوله (الذي خلق) في موضع جر، نعت ل‍ (ربك) الذي خلق الخلائق
وأخرجهم من العدم إلى الوجود. وقوله (خلق الانسان من علق) تخصيص لبعض
ما ذكره بقوله (الذي خلق) لأنه يشتمل على الانسان وغيره، وإنما أفرد الانسان
بالذكر تشريفا له وتنبيها على ما خصه الله به من سائر الحيوان، وبين أنه مع ذلك
خلقه الله من علق، وهو القطعة الجامدة من الدم، وإنما قال (علق) وهو جمع علقة
لان المراد بالانسان الجمع، لأنه اسم جنس، وسمي به قطع العدم التي تعلق لرطوبتها بما
تمر به، فإذا جفت لا تسمى علقا، وواحدها (علقة) مثل شجرة وشجر. وعلق
في معنى الجمع، لان الانسان جمع على طريق الجنس، والنطقة تستحيل في الرحم علقة
ثم مضغة ويسمى ضرب من الدود الأسود العلق، لأنه يعلق على الشفتين لداء يصيبها
فيمتص الدم. وفي خلق الانسان من علق دليل على ما يصح أن ينقلب إليه الجوهر.
وقوله (اقرأ وربك الأكرم) معناه اقرأ القرآن وربك الأكرم ومعنى الأكرم:
الأعظم كرما وفي صفة الله تعالى معناه الأعظم كرما بما لا يبلغه كرم، الذي يثيبك على
عملك بما يقتضيه كرمه، لأنه يعطي من النعم ما لا يقدر على مثله غيره، فكل نعمة
من جهته تعالى، إما بأن اخترعها أو سيبها وسهل الطريق إليها.

(1) سورة 17 الاسرى آية 110
(2) سورة 69 الحاقة آية 52
(3) سورة 55 الرحمن آية 78.
379

وقوله (الذي علم بالقلم) (الذي) في موضع رفع، لأنه نعت لقوله (وربك)
والمعنى إنه تعالى امتن على خلقه بما علمهم من كيفية الكتابة بالقلم، لما في ذلك من
كثرة الانتفاع لخلقه، فقد نوه الله بذكر القلم إذ ذكره في كتابه، وقد وصف بعض
الشعراء القلم فقال:
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه * وأري الجنا اشتارته أيد عواسل
وقوله (علم الانسان ما لم يعلم) امتنان من الله تعالى على خلقه بأن علمهم
ما لم يكونوا عالمين به إما بخلق العلوم في قلوبهم من الضروريات أو بنصب الأدلة
لهم على الوصول إليها فيما لم يعلموه ضرورة، وذلك من أعظم نعم الله تعالى على
خلقه، وفي ذلك دلالة على أنه تعالى عالم لان العلم لا يقع إلا من عالم.
وقوله (كلا) ردع وزجر وتقديره ارتدعوا وانزجروا معاشر المكلفين، ثم
اخبر (إن الانسان ليطغي) ويحتمل أن يكون بمعنى حقا على وجه القسم بأن
الانسان ليطغى أي ليجاوزا الحد في العصيان والخروج عن الطاعة (أن رآه استغنى)
أي إذا كثر ماله واستغنى بطر وطغى، وخرج عن الحد الحدود له، ويجوز أن
يقال: زيد رآه استغنى من الرؤية بمعنى العلم، ولا يجوز من رؤية العين، زيد (رآه)
حتى تقول رأى نفسه، لان الذي يحتاج إلى خبر جاز فيه الضمير المتصل لطول
الكلام بلزوم المفعول الثاني. وقرأ أبو عمرو (رآه) بفتح الراء وكسر الهمزة.
وقرأ نافع وحفص عن عاصم بالفتح فيهما. الباقون بفتح الراء وبعد الهمزة الف
على وزن (وعاه) على إمالة الفتحة، وأبو عمرو يميل الألف.
ثم قال على وجه التهديد لهم (ان إلى ربك الرجعى) فالرجعى والمرجع
والرجوع واحد أي مصيرهم ومرجعهم إلى الله فيجازيهم الله على أفعالهم على الطاعات
بالثواب، وعلى المعاصي بالعقاب.
380

وقوله (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) تقرير للنبي صلى الله عليه وآله وإعلام له
ما يفعله بمن ينهاه عن الصلاة. وقيل: إن الآيات نزلت في أبي جهل بن هشام،
والمراد بالعبد في الآية النبي صلى الله عليه وآله فان أبا جهل كان ينهى النبي صلى الله عليه وآله عن الصلاة
وكان النبي صلى الله عليه وآله لما قال أبو جهل: ألم أنهك عن الصلاة انتهره واغلظ له، فقال
أبو جهل، أنا أكثر أهل هذا الوادي ناديا - ذكره ابن عباس وقتادة - والمعنى
أرأيت يا محمد صلى الله عليه وآله من فعل ما ذكرناه من منع الصلاة، وينهى المصلين عنها؟
ماذا يكون جزاؤه؟ وما يكون حاله عند الله؟ وما الذي يستحقه من العقاب؟
قوله تعالى:
(أرأيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12)
أرأيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) كلا
لئن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كاذبة خاطئة (16)
فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) كلا لا تطعه واسجد
واقترب) (19) تسع آيات.
لما قال للنبي صلى الله عليه وآله (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) بين ما ينبغي أن
يقال له فإنه يقال له (أرأيت إن كان) هذا الذي صلى (على الهدى) والطريقة
الصحيحة (أو أمر بالتقوى) أي بأن يتقي معاصي الله كيف يكون حال من ينهاه عن
الصلاة ويزجره عنها؟! ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله (أرأيت إن كذب وتولى) بما يقال
له وأعرض عن قبوله. والاصغاء إليه (ألم يعلم بأن الله يرى) أي يعلم ما يفعله
ويدرك ما يصنعه، فالهدى البيان عن الطريق المؤدي إلى الغرض الحكمي يقال:
381

هداه إلى الحق في الدين يهديه هدى، والعمل بالبيان عن طريق الرشد هدى،
وكذلك باللطف فيه. والتقوى تجنب ما يؤدي إلى الردى، اتقاه اتقاء وتقوى
والأصل وقيا. فأبدلت الواو تاء، والياء واوا، لان التاء أحسن أولا من الواو
مع مناسبتها بالقرب وامتناع المخرج، والتقدير أرأيت الذي فعل هذا الفعل ما الذي
يستحق بذلك من الله من العقاب. ثم قال على وجه التهديد (كلا لئن لم ينته)
عن هذا الفعل والقول (لنسفعا بالناصية) أي لنغيرن بها إلى حال تشويه، يقال:
سفعته النار والشمس إذا غيرت وجهه إلى حال تشويه، وقيل: هو أن يجر بناصيته
إلى النار، والناصية شعر مقدم الرأس. وهو من ناصي يناصي مناصاة إذا واصل
قال الراجز:
قي يناصيها بلاد قي (1)
فالناصية متصلة بشعر الرأس. وقوله (ناصية) بدل من (الناصية)
بدل النكرة من المعرفة ووصفها بأنها (كاذبة خاطئة) ومنعاه أن صاحبها كاذب
في أقواله خاطئ في أفعاله وأضاف الفعل إليها لما ذكر الخبر بها، وقوله (فليدع
ناديه) وعيد للذي قال: أنا أكثر هذا الوادي ناديا بأن قيل له (فليدع ناديه)
إذا حل عقاب الله به. وقال أبو عبيدة: تقديره، فليدع أهل ناديه، كقوله (واسأل
القرية) (2) والنادى الفناء ومنه قوله (وتأتون في ناديكم المنكر) (3) ثم قال (سندع)
نحن (الزبانية) يعني الملائكة الموكلين بالنار - في قول ابن عباس وقتادة ومجاهد
والضحاك - وقال أبو عبيدة: واحد الزبانية زبينة، وقال الكسائي واحدهم زبني.
وقال الأخفش: واحدهم زابن. وقيل: زبنية. ويجوز أن يكون اسما للجمع مثل

(1) مر في 6 / 11 و 9 / 477، 508
(2) سورة 12 يوسف آية 82
(3) سورة 29 العنكبوت آية 29.
382

أبابيل، والزبن الدفع، والناقة تزبن الحالب أي تركضه برجلها، وقال الشاعر:
ومستعجب مما يرى من أناتنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ثم قال (كلا) أي ارتدع وانزجر (فلا تطعه) أي لا تطع هذا الكافر،
فإنه ليس الامر على ما يظن هذا الكافر وهو أبو جهل الذي نزلت الآيات فيه
(واسجد) لله تعالى وأطعه (واقترب) من ثوابه بطاعته. وقيل: معناه تقرب
إليه بطاعته دون الرياء والسمعة. والسجود - هنا - فرض وهو من العزائم، وهي
أربعة مواضع: ألم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك. وما عداها
في جميع القرآن مسنون ليس بمفروض. وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.
383

97 - سورة القدر
مدنية في قول الضحاك. وقال عطاء الخراساني هي مكية، وهي
خمس آيات بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) وما أدريك ما ليلة القدر (2)
ليلة القدر خير من ألف شهر (3) تنزل الملائكة والروح فيها باذن
ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر) (5) خمس آيات
قرأ الكسائي وخلف (مطلع الفجر) بكسر اللام على معنى وقت طلوعه.
الباقون بالفتح على المصدر، وروي عن ابن عباس انه قرأ (من كل امرئ) بمعنى
من الملائكة. الباقون (من كل أمر) بمعنى الواحد من الأمور.
يقول الله تعالى مخبرا انه أنزل القرآن في ليلة القدر، فالهاء كناية عن
القرآن، وإنما كنى عما لم يجر له ذكر، لأنه معلوم لا يشتبه الحال فيه. وقال ابن عباس:
أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر. وقال الشعبي: إنا ابتدأنا
إنزاله في ليلة القدر، وليلة القدر هي الليلة التي يحكم الله فيها و. يقضي بما يكون في
السنة بأجمعها من كل أمر - في قول الحسن ومجاهد - يقال: قدر الله هذا الامر
يقدره قدرا إذا جعله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة. وقيل: فسر الله تعالى ليلة
384

القدر بقوله (فيها يغرق كل أمر حكيم) (1) وقيل: سميت ليلة القدر لعظم شأنها
وجلالة موقعها من قولهم: فلان له قدر والأول أظهر، وليلة القدر في العشر الأواخر
من شهر رمضان بلا خلاف، وهي ليلة الافراد بلا خلاف. وقال أصحابنا هي احدى
الليلتين إما ليلة احدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، وجوز قوم: أن يكون سائر
ليالي الافراد إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين
وتسع وعشرين، وجوزوا أيضا تقديمها في سنة وتأخيرها في أخرى، وإنما لم تعين
هذه الليلة ليتوفر العباد على العمل في سائر الليالي. والقدر كون الشئ على مساواة
غيره من غير زيادة ولا نقصان، ففي ليلة القدر تجدد الأمور على مقاديرها جعلها
الله في الآجال والأرزاق والمواهب التي يجعلها الله للعباد، ويقع فيها غفران
السيئات ويعظم منزلة الحسنات على ما لا يقع في ليلة من الليالي، فينبغي للعاقل أن
يرغب فيما رغبة الله بالمبادرة إلى ما أمر به على ما شرط فيه. والأوقات إنما يفضل
بعضها على بعض بما يكون من الخير الجزيل والنفع الكثير فيها دون غيرها فلما
جعل الله تعالى الخير الكثير يقسم في ليلة القدر بما جعله الله فيها من هذا المعنى،
ولذلك قال (وما أدراك ما ليلة القدر) تعظيما لشأنها وتفخيما، وانك يا محمد لا تعلم
حقيقة ذلك.
ثم بين تعالى ذلك فقال (ليلة القدر خير من الف شهر) والمعنى إن الثواب
على الطاعة فيها خير يفضل على ثواب كل طاعة تفعل في الف شهر ليس فيها ليلة
القدر. وقيل إن الله يتفضل على خلقه في هذه الليلة وينعم عليهم بما لا يفعل في الف
شهر ليس فيها ليلة القدر وبما لا يكون مثله في الف شهر وكانت أفضل من الف شهر

(1) سورة 44 الدخان آية 4.
385

ليس فيها ليلة القدر. والشهر في الشرع عبارة عن ما بين هلالين من الأيام، وسمي
شهرا لاشتهاره بالهلال. وقد يكون الشهر ثلاثين ويكون تسعة وعشرين إذا كانت
هلالية، فإن لم تكن هلالية فهي ثلاثون. وقوله (تنزل الملائكة والروح فيها) معناه
تنزل الملائكة والروح الذي هو جبرائيل بكل أمر في ليلة القدر إلى سماه الدنيا حتى
يعلمه أهل سماء الدنيا، فيكون لطفا لهم وحتى يتصوره العباد ينزل بأمر الله إليها،
فتنصرف آمالهم إلى ما يكون منها فيقوى رجاؤهم بما يتجدد من تفضل الله فيها.
وقيل: إن نزولها بالسلامة والخير والبركة إلى تلك الساعة (باذن ربهم من كل
أمر) أي ما ينزلون به كله بأمر الله، ويكون الوقف - ههنا - تاما على ما قرأ به
القراء المشهورون، وعلى ما حكيناه عن ابن عباس وهو قول عكرمة والضحاك:
لا يكون تاما.
وقوله (سلام هي حتى مطلع الفجر) قل هو سلام الملائكة عليهم السلام بعضهم
على بعض إلى طلوع الفجر. وقيل: معناه سلام هي من الشر حتى مطلع الفجر
- ذكره قتادة - وقيل إن فضل الصلاة فيها والعبادات على الف شهر يراد بها إلى
وقت طلوع الفجر، وليست كسائر الليالي التي فضلت بالعبادة في بعضها على بعض
والمطلع الطلوع، والمطلع موضع الطلوع، وجر (مطلع) ب‍ (حتى) لأنها إذا كانت
بمعنى الغاية خفضت الاسم باضمار (إلى) ونصبت الفعل باضمار (إلى أن) كقولك:
دخلت الكوفة حتى مسجدها، أي حتى انتهيت إلى مسجدها، والفعل كقولك:
أسير حتى ادخلها، بمعنى إلى أن أدخلها.
386

98 - سورة البينة
مدنية في قول ابن عباس والضحاك، وهي ثمان آيات في الكوفي
والمدنيين، وتسع في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
(لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين
حتى تأتيهم البينة (1) رسول من الله يتلو صحفا مطهرة (2) فيها
كتب قيمة (3) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد
ما جاءتهم البينة (4) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين *
حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (5) إن
الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين
فيها أولئك هم شر البرية (6) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أولئك هم خير البرية (7) جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا * رضي الله عنهم ورضوا عنه
ذلك لمن خشي ربه) (8) ثمان آيات.
387

قرأ نافع وابن عامر - في رواية ابن ذكوان (خير البرية) و (شر البرية)
مهموزتان الباقون بغير همز. من همز جعله من (برأ الله الخلق يبرؤهم) ومنه البارئ
ومن لم يهمز يجوز أن يكون خفف. ويجوز أن يكون من البري الذي هو التراب،
كما يقال: بغاك من سار إلى القوم البرئ، وروى أبو نشيط من طريق القرطي
(لمن خشي ربه) بضم الهاء من غير اشباع. الباقون بضم الهاء، ووصلها بواو في اللفظ
يقول الله تعالى (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين
حتى تأتيهم البينة) قال الحسن وقتادة معناه لم يكونوا منتهين عن كفرهم حتى تأتيهم
البينة. وقال قوم: معناه لم يكونوا منفكين من كفرهم أي زائلين. وقيل: معناه لم
يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها الحجة عليهم
وقال الفراء: منعاه لم يكونوا منفكين من حجج الله بصفتهم للنبي صلى الله عليه وآله أنه في كتابهم
وقيل معناه لم يكونوا زائلين من الدنيا، والانفكاك على وجهين: على لا يزال ولابد
لها من خبر وحرف الجحد. ويكون على الانفصال فلا يحتاج إلى خبر ولا حرف
جحد، كقولك انفك الشئ من الشئ قال ذو الرمة:
قلايص ما تنفك إلا مناخة * على الخسف أو يرمى بها بلدا قفرا (1)
فجعله الفراء من (انفك الشئ من الشئ) وجعله غيره من (ما يزال) إلا
أنه ضرورة. والانفكاك انفصال عن شدة اجتماع. وأكثر ما يستعمل ذلك في
النفي كما أن (ما زال) كذلك تقول: ما انفك من هذا الامر أي ما انفصل منه
لشدة ملابسته له والمعني أن هؤلاء الكفار من أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى
ومن المشركين يعني عباد الأصنام لا يفارقون الكفر إلى أن تأتيهم البينة يعني الحجج
الظاهرة التي يتميز بها الحق من الباطل، وهي من البينونة. وفصل الشئ من غيره

(1) ديوانه 173 (كمبريج) وروايته (حرجح) بدل (قلايص).
388

فالنبي صلى الله عليه وآله حجة وبينة، وإقامة الشهادة العادلة بينة، وكل برهان ودلالة فهو بينة،
وقوله (رسول من الله) هو بيان تلك البينة، بينها بأنه رسول من قبل الله
يتلو عليهم صحفا مطهرة، يعني في السماء لا يمسها إلا الملائكة المطهرون من الأنجاس
وقوله (فيها كتب قيمة) معناه في تلك الصحف كتب جمع كتاب (قيمة)
فالقيمة المستمرة في جهة الصواب، فهو على وزن (فيعلة) من قام الامر يقوم به
إذا أجراه في جهة الاستقامة. وقال قتادة: صحفا مطهرة يعني من الباطل وهو
القرآن يذكره بأحسن الذكر ويثني عليه بأحسن الثناء.
وقوله (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جائتهم البينة) اخبار
من الله تعالى أن هؤلاء الكفار لم يختلفوا في نبوة النبي صلى الله عليه وآله لأنهم مجمعين على نبوته
بما وجدوه في كتبهم من صفاته، فلما أتاهم بالبينة الظاهرة والمعجزة القاهرة، تفرقوا
واختلفوا، فآمن بعضهم وكفر بعضهم. وفى ذلك دلالة على بطلان قول من
يقول: إن الكفار خلقوا كفارا في بطون أمهاتهم، لأنه تعالى بين أنهم لم يختلفوا
في ذلك قبل مجئ معجزاته وأدلته، ولا يلزم على ذلك أن يكون مجيئ الآيات
مفسدة من حيث وقع الفساد عندها، لأنه ليس حد المفسدة ما يقع عنده الفساد،
بل حده ما يقع عنده الفساد ولولاه لم يقع، من غير أن يكون تمكينا، وههنا المعجزات
تمكين فلم يكن مفسدة.
ثم قال تعالى (وما أمروا) أي لم يأمرهم الله تعالى (إلا ليعبدوا الله) وحده
ولا يشركوا بعبادته غيره (مخلصين له الدين) لا يخلطون بعبادته عبادة سواه.
وقوله (حنفاء) جمع حنيف، وهو المائل إلى الحق، والحنفية الشريعة المائلة إلى
الحق، وأصله الميل، ومن ذلك الأحنف: المائل القدم إلى جهة القدم الأخرى.
وقيل: أصله الاستقامة، وإنما قيل للمائل القدم أحنف على وجه التفاؤل (وقوله
389

(ويقيموا الصلاة) أي يدوموا عليها ويقوموا بحدودها (ويؤتوا الزكاة) المفروضة
من أموالهم. ثم قال (وذلك دين القيمة) أي ذلك الذي تقدم ذكره دين القيمة
وتقديره ذلك دين الملة القيمة والشريعة القيمة.
وقوله (وما أمروا إلا ليعبدوا الله) دليل على فساد مذهب المجبرة: ان
الله خلق الكفار ليكفروا به، لأنه صرح ههنا أنه خلقهم ليعبدوه. وليس في الآية
دلالة على أن أفعال الجوارح من الايمان، ولا من الدين، لأنه يجوز أن يكون
المراد (وذلك) إشارة إلى الدين، وتقديره والدين بذلك هو دين القيمة، لان
من لا يعتقد جميع ذلك ويؤمن بجميع ما يجب عليه فليس بمسلم. وقد تقدم قوله
(مخلصين له الدين) ثم قال (وذلك) يعني وذلك الدين (دين القيمة) وليس
يلزم أن يكون راجعا إلى جميع ما تقدم، كما لا يلزم على مذهبهم في قوله (ومن
يفعل ذلك يلق أثاما) (1) أن يكون راجعا إلى الشرك، وقتل النفس والزنا،
بل عندهم يرجع إلى كل واحد من ذلك، فكذلك - ههنا - وقد استوفينا ما يتعلق
بذلك في كتاب الأصول.
وفي الآية دلالة على وجوب النية في الطهارة، لأنه بين تعالى أنه أمرهم بالعبادة
على الاخلاص، ولا يمكن ذلك إلا بالنية والقربة، والطهارة عبادة لقوله صلى الله عليه وآله
(الوضوء شطر الايمان) وما هو شطر الايمان لا يكون إلا عبادة.
ثم اخبر تعالى عن حال الكفار والمشركين فقال (إن الذين كفروا من
أهل الكتاب والمشركين) يعني من جحد توحيد الله وأنكر نبوة نبيه وأشرك معه إلها
آخر في العبادة (في نار جهنم) معاقبين فيها جزاء على كفرهم (خالدين فيها) أي
مؤبدين لا يفنى عقابهم. ثم قال (أولئك هم شر البرية) أي شر الخليقة، والبرية

(1) سورة 25 الفرقان آية 68.
390

(فعيلة) من برأ الله الخلق إلا أنه ترك فيهما الهمز، ومن همز فعلى الأصل. ويجوز
أن يكون (فعيلة) من البري وهو التراب
ثم أخبر عن حال المؤمنين فقال (إن الذين آمنوا) بالله وأقروا بتوحيده
واعترفوا بنبوة نبيه (وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) أي هم أحسنهم
حالة. وإنما أطلق بأنهم خير البرية، لان البرية هم الخلق، ولا يخلوا أن لا يكونوا
مكلفين، فالمؤمن خير منهم لا محالة. وإن كانوا مكلفين: فاما أن يكونوا مؤمنين
أو كافرين أو مستضعفين، فالمؤمن خيرهم أيضا لا محالة بما معه من الثواب.
وقوله (جزاءهم عند ربهم) يعني جزاء إيمانهم وطاعاتهم عند الله يوفيهم الله
يوم القيامة. ثم فسر ذلك الجزاء فقال (جنات عدن) أي بساتين إقامة (خالدين
فيها) أي مؤبدين فيها (أبدا رضي الله عنهم) أي رضي أفعالهم (ورضوا عنه)
بما فعل بهم من الثواب. والرضا هو الإرادة، إلا أنها لا تسمى بذلك إلا إذا وقع
مرادها، ولم يتعقبها كراهية، فتسمى حينئذ رضا، فأما الإرادة لما يقع في الحال أو
فيما يفعل بعد، فلا تسمى رضا، فرضى الله عن العباد إرادته منهم الطاعات التي
فعلوها، ورضاهم عنه إرادتهم الثواب الذي فعله بهم، ثم قال (ذلك لمن خشي
ربه) أي ذلك الرضا والثواب والخلود في الجنة لمن خاف الله فترك معاصيه
وفعل طاعاته.
391

99 - سورة الزلزال
مدنية في قول ابن عباس وقال الضحاك مكية، وهي ثمان آيات في الكوفي
والمدني الأول، وتسع آيات في البصري والمدني الأخير
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا زلزلت الأرض زلزالها (1) وأخرجت الأرض
أثقالها (2) وقال الانسان مالها (3) يومئذ تحدث أخبارها (4)
بأن ربك أوحى لها (5) يومئذ يصدر الناس أشتاتا * ليروا أعمالهم (6)
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا
يره) (8) ثمان آيات.
قرأ عاصم في رواية أبان عنه (خيرا يره وشرا يرده) بضم الياء فيهما بمعنى
انه يريه غيره. الباقون بفتح الياء بمعنى أنه يراه ويبصره. وقرأ ابن عامر - في
رواية هشام - وابن عامر والكسائي عن أبي بكر - بسكون الهاء - في قوله (خيرا
يره، وشرا يره) الباقون بالاشباع فيهما. قال أبو علي: الاشباع هو الأصل، وهو
الوجه، كما تقول: اكرمهو، وضربهو. وإنما يجوز إسكانها في الشعر. وقد
حكى أبو الحسن أنها لغة رديئة فمن سكن فعلى هذه اللغة. وقرأ أبو جعفر من طريق
392

ابن العلاف وروح - بضم الياء - من غير صلة بواو فيهما وقد بينا الوجه فيه.
يقول الله تعالى مخوفا لعباده أهوال يوم القيامة ومنذرا لهم بالآيات الباهرة
بأن قال (إذا زلزلت الأرض زلزالها) فالزلزلة شدة الاضطراب بما يهدم البنيان
زلزل يزلزل زلزالا، فكأنه مكرر (زل، يزل) للتكثير والتعظيم، والزلزال - بكسر
الزاي - المصدر، وبالفتح الاسم. وقال الحسن: زلزلت ورجت ورجفت بمعنى واحد
وقوله (وأخرجت الأرض أثقالها) قال ابن عباس ومجاهد: معناه أخرجت
موتاها، وأثقال الأرض ما فيها مدفون من الموتى وغيرها، فان الأرض تلفظ بكل
ما فيها عند انقضاء أمر الدنيا، وتجديد أمر الآخرة.
وقوله (وقال الانسان مالها) معناه يقول الانسان: أي شئ اصارها إلى
هذه الحالة التي ترى بها، يقول الانسان ذلك متعجبا من عظم شأنها وأنه لامر
عظيم لفظت بما فيها، وتخلت من جميع الأمور التي استودعها. وقوله (يومئذ
تحدث أخبارها) قيل معناه يظهر بالدليل الذي يجعله الله فيها ما يقوم مقام اخبارها
بأن أمر الدنيا قد انقضى وأمر الآخرة قد أتى، وانه لابد من الجزاء وأن الفوز
لمن اتقى وأن النار لمن عصى. وقيل: معناه تحدث أخبارها بمن عصا عليها إما بأن
يقلبها حيوانا قادرا على الكلام فتتكلم بذلك أو يحدث الله تعالى الكلام فيها، ونسبه
إليها مجازا أو يظهر فيها ما يقوم مقام الكلام فعبر عنه بالكلام، كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني (1)
وقال آخر:

(1) مر في 1 / 231 و 8 / 85، 369، 47 و 9 / 111، 369.
393

وقالت له العينان سمعا وطاعة (1)
ويقولون عيناك تشهد لسهرك، وغير ذلك مما قد مضى نظائره. وقال ابن
مسعود: الأرض تتكلم يومئذ، فتقول أمرني الله بهذا. وقوله (بأن ربك أوحى
لها) معناه إن الأرض تحدث بهذا، فتقول: إن ربك يا محمد أوحى إليها.
قال العجاج:
وحى لها القرار فاستقرت (2)
أي أوحى إليها بمعنى القى إليها من جهة تخفى يقال: أوحى ووحى بمعنى
واحد، ثم قال تعالى (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) اخبار من الله
تعالى بأن ذلك اليوم يصدر الناس اشتاتا أي مختلفين (ليروا أعمالهم) أي ليجازوا
على أعمالهم أو ليريهم الله جزاء أعمالهم. وقيل: معنى رؤية الاعمال المعرفة بها
عند تلك الحال، وهي رؤية القلب، ويجوز أن يكون التأويل على رؤية العين بمعنى
ليروا صحائف أعمالهم يقرؤن ما فيها لقوله (وقالوا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة
ولا كبيرة إلا أحصاها) وقيل ليروا جزاء اعمالهم حسب ما قدمناه. وقيل يرى
الكافر حسناته فيتحسر عليها، لأنها محبطة، ويرى المحسن سيئاته مكفرة وحسناته مثبتة
ثم قال تعالى على وجه الوعيد (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل
مثقال ذرة شرا يره) قال أبو عبيدة: مثقال ذرة شرا يره أي يرى ما يستحق عليه
من العقاب، ويمكن أن يستدل بذلك على بطلان الاحباط، لان عموم الآية يدل
أنه لا يفعل شيئا من طاعة أو معصية إلا ويجازي عليها وعلى مذهب القائلين
بالاحباط بخلاف ذلك، فان ما يقع محبطا لا يجازى عليه ولا يدل على أنه لا يجوز

(1) مر في 1 / 431 و 6 / 45 و 8 / 471، 479
(2) مر في 2 / 459 و 3 / 84 و 4 / 61 و 6 / 403.
394

أن يعفي عن مرتكب كبيرة، لان الآية مخصوصة بلا خلاف، لأنه ان تاب عفى عنه
وقد شرطوا أن لا يكون معصية صغيرة، فإذا شرطوا الامرين جاز أن نخص من يعفو
الله عنه.
100 - سورة العاديات
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك: هي مدنية، وهي
إحدى عشرة آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم.
(والعاديات ضبحا (1) فالموريات قدحا (2) فالمغيرات
صبحا (3) فأثرن به نقعا (4) فوسطن به جمعا (5) إن الانسان
لربه لكنود (6) وإنه على ذلك لشهيد (7) وإنه لحب الخير
لشديد (8) أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) وحصل ما في
الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ لخبير) (11) احدى عشرة آية.
قوله (والعاديات ضبحا) قسم من الله تعالى بالعاديات. قال ابن عباس
ومجاهد وقتادة وعطاء: يعني الخيل تضبح ضبحا، فضبحا نصب على المصدر. وقال
395

عبد الله بن مسعود: يعني الإبل، فعلى قول ابن عباس أراد ضبح الخيل في الجهاد
والحرب. وقال ابن مسعود: أراد ضبح الإبل في طريق الحج. وروي عن
علي عليه السلام أن المراد به الإبل، لأنه لم يكن يومئذ خيل للمسلمين. والضبح في الخيل
اظهر عند أهل اللغة. وروي عن علي عليه السلام أن الضبح في الخيل الحمحمة عند العدو
وقيل الضبح شدة النفس عند العدو. وضبحت الخيل تضبح ضبحا وضباحا. وقال
أبو عبيدة: ضبح وضبع بمعنى واحد أي تمد أضباعها في السير.
وقوله (فالموريات قدحا) معناه المظهرات بسنابكها النار قدحا، يقال:
أورى القادح النار يوري ايراء إذا قدح قدحا، وتسمى تلك النار نار الحباحب
لضعفها، قال النابغة:
تجذ السلوقي المضاعف نسبحه * ويوقدن بالصفاح نار الحباحب (1)
وهو رجل بخيل كانت ناره ضعيفة لئلا براها الأضياف. وقال قتادة
والضحاك وعطاء (فالموريات قدحا) الخيل حين توري النار بسنابكها، وقال ابن
عباس: هم الذين يورون النار بعد انصرافهم من الحرب، وقال مجاهد: يعني ابطال
الرجال. وقال عكرمة: الأسنة.
وقوله (فالمغيرات صبحا) قال ابن عباس: يعني الخيل في سبيل الله. وقيل:
إنما ذكر (صبحا) لأنهم كانوا يسيرون إلى العدو ليلا فيأتوهم صبحا، وقيل: إنهم
لعزهم أغاروا نهارا. وقيل إنما أقسم بالمغيرات صبحا لعظم شأنها في الغارة على أعداء
الله من المشركين ومعناه أمر الغارة عظيم، وإنما القسم تنبيه على عظم الشأن
وتأكيد للاخبار.
وقوله (فأثرن به نقعا) إخبار منه تعالى أن هذه الخيل تثير الغبار بعدوها

(1) مر في 6 / 71.
396

وسمي الغبار النقع، لأنه يغوص فيه صاحبه كما يغوص في الماء يقال: نقعه ينقعه
نقعا، فهو ناقع، واستنقع استنقاعا وانتقع انتقاعا. وقال قتادة: النقع الغبار.
وقيل: الهاء في قوله (به) عائد إلى معلوم أي بالمكان أو بالوادي.
وقوله (فوسطن به جمعا) قال قتادة: يعني وسطن بذلك المكان جمع العدو.
وقال مجاهد: يعني جمع الفريقين. وقوله (إن الانسان لربه لكنود) جواب القسم
ومعناه - في قول ابن عباس وقتادة والحسن ومجاهد وابن زيد - لكفور، فالكنود الكفور
ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا، وأصله منع الحق والخير، قال الأعشى:
احدث لها تحدث لوصلك إنها * كند لوصل الزائر المعتاد (1)
وقيل: إنها سميت كند لقطعها إياها عن سماك.
وقوله (وإنه على ذلك لشهيد) قال الحسن: معناه إن حسن الانسان على
ذلك لشاهد. وقال قتادة: تقديره وإن الله على ذلك لشهيد. وقوله (وإنه لحب
الخير لشديد) قيل تقديره وإنه لشديد الحب للخير. وقيل: معناه وإنه لشديد الحب
للمال، فهو يظلم الناس بمنعه. وقال الحسن: لشديد معناه لشحيح يمنع منه حق
الله. وقال المبرد والربيع: معناه من أجل حب الخير الذي هو المال أو الملك لبخيل
ثم قال على وجه التنكير على الانسان والوعيد له (أفلا يعلم) يعني الانسان الذي
وصفه (إذا بعثر ما في القبور) معناه أثير ما في القبور وأخرج، ومثله بحثر. وقوله
(وحصل ما في الصدور) قال سفيان: معناه ميز الحق من الباطل. وقال غيره:
معناه جمع وأبرز.
وقوله (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) اخبار من الله تعالى واعلام لخلقه ان
الذي خلقهم ودبرهم في ذلك اليوم بهم لعالم خبير بأحوالهم لا يخفى عليه شئ

(1) مجاز 2 / 307.
397

من ذلك.
وكان سبب نزول هذه السورة أن النبي صلى الله عليه وآله بعث سرية إلى حيين من كنانة
واستعمل عليهم أحد النقباء: المنذر بن عمرو الأنصاري، فغابت عن النبي صلى الله عليه وآله
ولم يعلم لها مخبر فأنزل الله تعالى السورة وأخبر بحال القوم.
101 - سورة القارعة.
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي إحدى عشرة آية في الكوفي.
وعشر في المدنيين وثمان في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
(القارعة (1) ما القارعة (2) وما أدريك ما القارعة (3)
يوم يكون الناس كالفراش المبثوث (4) وتكون الجبال كالعهن
المنفوش (5) فأما من ثقلت موازينه (6) فهو في عيشة راضية (7)
وأما من خفت موازينه (8) فأمه هاوية (9) وما أدراك ما هيه (10)
نار حامية) (11) احدى عشر آية.
قرأ حمزة ويعقوب (ما هي) بحذف الهاء في الوصل، الباقون باثباتها، ولم
398

يختلفوا في الوقف أنه بالهاء. ومعنى (القارعة) البلية التي تقرع القلب بشدة المخافة
تقول: قرع يقرع قرعا وهو الصوت بشدة اعتماد، ومنه انشقت القرعة، وتقارع
القوم في القتال إذا تضاربوا بالسيوف، وقرع رأسه إذا ضرب في أعلى الشعر حتى
يذهبه، والقرعة كالضرب بالفال. وقال وكيع: القارعة، والواقعة، والحاقة القيامة.
وقوله (وما أدراك ما القارعة) تعظيم لشأنها، وتفخيم لأمرها وتهويل
لشدتها. ومعناه وأي شئ القارعة ومعناه إنك يا محمد صلى الله عليه وآله لا تعلم كبر وصفها
وحقيقة أمرها على التفصيل وإنما تعلمها على طريق الجملة، ثم وصفها الله تعالى فقال
(يوم تكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش) والمعنى إن
القارعة التي وصفها وذكرها تقرع القلوب يوم تكون الناس بهذه الصفة. والفراش
الجرات الذي ينفرش ويركب بعضه بعضا، وهو غوغاء الجراد - في قول الفراء -
وقال أبو عبيدة: هو طير يتفرش وليس بذباب، ولا بعوض. وقال قتادة: الفراش
هو هذا الطير الذي يتساقط في النار والسراج. والمبثوث المتفرق في الجهات، كأنه
محمول على الذهاب فيها، يقال: بثه يبثه إذا فرقه، وأبثثته الحديث إذا ألفيته إليه
كأنك فرقته بأن جعلته عند اثنين.
وقوله (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) فالعهن الصوف الألوان - في
قول أبي عبيدة - قال زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل * نزلن به حب الفنا لم يحطم (1)
ويقال: عهن وعهنة. وقيل: إن الخلائق لعظم ما يرونه من الأهوال
ويغشاهم من العذاب يهيم كل فريق على وجهه، ويذهب في غير جهة صاحبه.
وقوله (فاما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية) قال الفراء الموازين

(1) ديوانه 77 (دار بيروت).
399

والأوزان واحد، يقولون: هل لك في درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك.
وقال الحسن: في الآخرة ميزان له كفتان. وهو قول الجبائي وأكثر المفسرين.
ثم اختلفوا فمنهم من قال: يجعل الله تعالى في احدى الكفتين نورا علامة للطاعات
وفي الأخرى ظلمة علامة لمعاصي فأيهما رجح على الاخر حكم لصاحبه به. وقال
آخرون: إنما يوزن صحف الاعمال فما فيها الطاعات نجعل في كفة وما فيها المعاصي
في كفة أخرى فأيهما رجح حكم لصاحبه به. وقال قوم: الميزان عبارة عن العدل
ومقابلة الطاعات بالمعاصي، فأيهما كان أكثر حكم له به وعبر عن ذلك بالثقل مجازا
لان الاعمال أعراض لا يصح وزنها ولا وصفها بالثقل والخفة، قال الشاعر:
لقد كنت قبل لقائكم ذا مرة * عندي لكل مخاصم ميزانه (1)
يريدون كلامه في معارضته، فبين الله تعالى أن من كانت طاعته أكثر كان
ثوابه أعظم، فيكون صاحبها (في عيشة راضية) أي مرضية، ففاعل - ههنا - بمعنى
المفعول، لان معناه ذو رضا كقولهم (نابل) أي ذو نبل، قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (2)
أي ذو نصب وقال آخر:
وغررتني وزعمت أنك * لابن بالصيف تأمر (3)
أي ذو لبن وذو تمر.
وقال مجاهد (ثقلت موازينه) على جهة الميل، ثم بين من كانت معاصيه
أكثر وقلت طاعاته (فأمه هاوية) أي مأواه هاوية يعني، جهنم، وإنما سماها

(1) القرطبي 20 / 166 والشوكاني 5 / 472
(2) في مر 5 / 368 و 6 / 95، 329 و 8 / 122، 567
(3) مر في 8 / 468.
400

(أمه) لأنه يأوى إليها كما يأوى الولد إلى أمه، وسميت هاوية - لما قال قتادة
وأبو صالح - من أن المعاصي يهوي إلى أم رأسه في النار.
ثم قال على وجه التفخيم والتعظيم لا مرها (وما أدراك) يا محمد صلى الله عليه وآله
(ما هيه) أي انك تعلمها على الجملة ولا تعلم تفصيلها وأنواع ما فيها من العقاب.
والهاء في قوله (ما هيه) للسكت إلا أنه أجري الوصل معها مجرى الوقف، ويجوز
فيها الحذف، ثم فسر الله تعالى فقال (نار حامية) أي هي نار حامية شديدة الحرارة
102 - سورة التكاثر
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي ثمان آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألهيكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر (2) كلا سوف
تعلمون (3) ثم كلا سوف تعلمون (4) كلا لو تعلمون علم
اليقين (5) لترون الجحيم (6) ثم لترونها عين اليقين (7) ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم) (8) ثمان آيات.
قرأ ابن عامر (آلهاكم) ممدود، وروي عن الكسائي - بهمزتين - والمراد به الانكار
401

وقرأ ابن عامر والكسائي (لترون) مضمومة التاء (ثم لترونها) مفتوحة التاء.
الباقون بالفتح فيهما. قال أبو علي: وجه الضم أنهم يحشرون إليها فيرونها في حشرهم
إليها فيرونها، ولذلك قرأ الثانية بالفتح، كأنه أراد لترونها. ومن فتح فعلى انهم
يرونها. وقوله (ثم لترونها) مثل الأول في أنه من إبصار العين. وقيل: إن
هذه السورة نزلت في حيين من قريش، وهما بنو أسهم وبنو عبد مناف، تفاخروا
حتى ذكروا الأموات، فقال الله تعالى مخاطبا لهم (ألهاكم التكاثر) فالالهاء الصرف
إلى اللهو واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى، يقال: لها يلهو لهوا، ولهى
عن الشئ، يلهي لهيا، ومنه قوله (إذا استأثر الله بشئ فاله عنه) والتكاثر التفاخر
بكثرة المناقب، يقال: تكاثروا إذا تعادوا ما لهم من كثرة المناقب، والمتفاخر متكبر
لأنه تطاول بغير حق. فالتكاثر التباهي بكثرة المال والعدد. وقيل: ما زالوا يتباهون
بالعز والكثرة حتى صاروا من أهل القبور وماتوا - ذكره قتادة -.
وقوله (حتى زرتم المقابر) فالزيارة إتيان الموضع، كاتيان المأوى في الالغة
على غير إقامة، زاره يزوره زيارة، ومنه زور تزويرا إذا شبه الخط في ما يوهم أنه خط
فلان وليس به، والمزورة من ذلك اشتقت. وقيل في معناه قولان: أحدهما حتى
ذكرتم الأموات. وقال الحسن: معناه حتى متم.
وقوله (كلا سوف تعلمون، ثم كلا) معناه ارتدعوا وانزجروا
(سوف تعلمون) في القبر (ثم كلا سوف تعلمون) بعد الموت - روي ذلك عن
علي عليه السلام - وقيل إنه يدل على عذاب القبر.
وقوله (كلا لو تعلمون علم اليقين) نصب (علم اليقين) على المصدر، ومعناه
ارتدعوا وانزجروا، لو تعلمون علم اليقين، وهو الذي يثلج الصدر بعد اضطراب الشك
ولهذا لا بوصف الله بأنه متيقن.
402

وقوله (لترون الجحيم) يعني قبل دخولهم إليها في الموقف.
وقوله (ثم لترونها) بعد الدخول إليها.
وقوله (عين اليقين) كقولهم هذا محض اليقين. والمعنى إنكم لو تحققتم
وتيقنتم أنكم ترون الجحيم وأنكم إذا عصيتم وكفرتم عوقبتم، لشغلكم هذا عن طلب التكاثر
في الأموال في الدنيا، ولا يجوز همز واو (لترون) لأنها واو الجمع ومثله، واو
(لتبلون) لا تهمز. وقوله (ثم لتسئلن) يعني معاشر المكلفين (يومئذ عن
النعيم) قال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال سعيد بن جبير
وقتادة: النعيم في المأكل والمشرب وغيرهما من الملاذ. وقال عبد الله بن مسعود
ومجاهد: النعيم الصحة. وقال قوم: يسألهم الله عن كل نعمة. والفرق بين النعيم
والنعمة أن النعمة كالانعام في التضمين لمعنى منعم، أنعم انعاما ونعمة، وكلاهما
يوجب الشكر. والنعيم ليس كذلك، لأنه من نعم نعيما فلو عمل ذلك بنفسه لكان
نعيما لا يوجب شكرا. والنعمة - بفتح النون - من نعم - بضم العين - إذا لان.
وقيل المعنى (لتسألن يومئذ عن النعيم) عن ولاية علي عليه السلام. وقيل: عن شرب
الماء البارد. وقيل عن الامن والصحة. وقيل عن النورة في الحمام. وروي ذلك عن
عمر بن الخطاب.
403

103 - سورة العصر
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي ثلاث آيات بلا خلاف في
جملتها وإن اختلفوا في تفصيلها.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(والعصر (1) إن الانسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (3) ثلاث آيات.
هذا قسم من الله تعالى بالعصر. قال ابن عباس: المراد بالعصر - ههنا -
الدهر. وهو قول الكلبي. وقال الحسن وقتادة: هو العشئ وكلاهما فيه العبرة
من جهة مرور الليل والنهار. وأصل العصر عصر الثواب ونحوه، وهو فتله لاخراج
مائه، فمنه عصر الدهر، لأنه الوقت الذي يمكن فتل الأمور كفتل الثوب.
قال العجاج:
عصرا وحضنا عيشة المعذلجا.
أي الناعم، وقال في العشي:
يروح بنا عمر وقد قصر العصر * وفي الروحة الأولى الغنيمة والاجر (1)
وبه سميت العصر، لأنها تعصر بالتأخير، والعصارة ما يعتصر من العنب.

(1) القرطبي 20 / 179 والشوكاني 5 / 488.
404

وغيره، و (المعصرات) السحائب التي تنعصر بالمطر. والاعصار غبار كالعمود
يصعد إلى السماء. والعصر الالتجاء إلى الملجأ. والعصر الجارية التي قد دنا بلوغها
لأنه عصر شبابها، وانعصار ماء الشباب منها. والاعتصار استخراج المال من
الانسان، لأنه ينحلب كما ينحلب ما يعصر. والعصران الغداة والعشي، والعصران
الليل والنهار. قال الشاعر:
ولن يلبث العصران يوم وليلة * إذا طلبا ان يدركا ما تيمما (1)
وقوله (إن الانسان لفي خسر) جواب القسم. وفيه اخبار من الله أن
الانسان يعنى الكافر (لفي خسر) أي لفي نقصان بارتكاب المعاصي وكفره بالله
والخسر هلاك رأس المال للانسان وبارتكاب المعاصي في هلاك نفسه خسران، وهو
أكبر من رأس ماله.
وقوله (الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) استثناء من جملة الناس المؤمنين
المصدقين بتوحيد الله باخلاص عبادته العاملين بالطاعات (وتواصوا بالحق) أي
تواصي بعضهم بعضا بأتباع الحق واجتناب الباطل (وتواصوا بالصبر) تواصي بعضهم
بعضا بالصبر على تحمل المشاق في طاعة الله. وقال الحسن وقتادة: الصبر على طاعة
الله. والصبر حبس النفس عما تنازع إليه من الامر حتى يكون الداعي إلى الفعل.
وقد أمر الله تعالى بالصبر والتواضع. والحق ما دعا إليه العقل.

(1) القرطبي 20 / 179.
405

104 - سورة الهمزة
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي تسع آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(ويل لكل همزة لمزة (1) الذي جمع مالا وعدده (2) يحسب
أن ماله أخلده (3) كلا لينبذن في الحطمة (4) وما أدريك ما
الحطمة (5) نار الله الموقدة (6) التي تطلع على الأفئدة (7)
إنها عليهم مؤصدة (8) في عمد ممددة) (9) تسع آيات.
قرأ حمزة والكسائي وخلف وابن عامر وأبو جعفر وروح (جمع) بالتشديد
على التكثير. الباقون بالتخفيف، لأنه يقع على القليل والكثير. ومن شدد أراد
جمعه من وجوه شتى شيئا بعد شئ (وعدده) أي جعله عدة. ومن قرأ مخففا
أراد جمع مالا وعددا أي وقوما ذوي عدد أنصارا. وقرأ أهل الكوفة إلا حفصا
(عمد) بضمتين جعلوه جمع عمود وعمد، مثل قدوم وقدم، وزبون وزبن. الباقون
بفتح العين والميم، لأنهم قد قالوا في جمع عمود عمد، كما قالوا في جمع أديم أدم.
وفى جمع أهاب أهب.
هذا وعيد من الله تعالى وتهديد (لكل همزة لمزة) فالهمزة الكثير الطعن
406

على غيره بغير حق، العائب له بما ليس فيه عيب لجهله وسفهه وشدة إقدامه على مكاره
غيره، يقال: همز الناس يهمزهم همزا، وهو همزة. ومثله ضحكة أي كثير الضحك
وعيبة أي كثير العيب. فكذلك همزة كثير الهمز بالطعن. ومنه الهمزة في الكلام
لأنها تخرج كالطعنة بقوة اعتماد. وقال ابن عباس: الهمزة الطعان. واللمزة المغتاب
وقال زياد الأعجم:
تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا * وإن تغيبت فأنت الهامز اللمز (1)
وقال ابن عباس: الهمزة اللمزة المشاء بالنميمة، المفرق بين الأحبة الباغي
المبرئ العيب بالمكابرة. وقيل: نزلت في مشرك بعينه كان يعيب الناس ويلمزهم
- ذكره ابن عبا س - وقال قوم: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال السدي:
نزلت هذه السورة في الأخنس ابن شريق، وكان يهمز النبي صلى الله عليه وآله ويلمزه. وقيل:
نزلت في جميل بن عامر الجهني. وقال مجاهد وورقاء وابن عباس: ليست خاصة لاحد
بل هي عامة.
وقوله (الذي جمع مالا وعدده) نعت للهمزة الذي تقدم ذكره في أنه يجمع
المال ويحبه، ولا يخرج حق الله منه.
وقوله (يحسب أن ماله أخلده) معناه يظن هذا الذي جمع المال، ولا يخرج
حق الله منه أنه سيخلده. وقوله (أخلده) يخلده كما قيل أهلك إذا حدث به
سبب الهلاك من غير أن يقع هلاكه بعد. وإنما ذلك بمعنى أوجب إخلاده وهلاكه
وقيل: ليس المراد أنه يظن أنه لا يموت، ولكن يجب أنه يبقى من ماله إلى أن
يموت. وقيل: معناه إنه يعمل عمل من يحسب أن ماله أخلده. وقال الحسن:
معناه يحسب أن ماله أخلده حتى يفنيه.

(1) مجاز القرآن 25 / 311.
407

وقوله (كلا لينبذن في الحطمة) معناه ليقذفن وليطرحن من وصفناه بجمع
المال ومنع حق الله في الحطمة. ثم قال (وما أدراك ما الحطمة) تفخيما لها. ثم
فسرها فقال (نار الله الموقدة) أي هي نار الله الموقدة. الحطمة الكثيرة الحطم
أي الاكل، ورجل حطمة، وحطم الشئ إذا كسره. وأذهبه، وتحطم إذا تكسر
وأصله الكسر المهلك.
وقوله (التي تطلع على الأفئدة) معناه يبلغ ألمها ووجعها الأفئدة، تقول:
اطلعت على أرض كذا إذا بلغتها، وقوله (إنها) يعني النار (عليهم) يعني
الكفار (مؤصدة) أي مطبقة، يقال اصدت الباب أوصده إذا أطبقته، وأوصدته
إيصادا لغتان. ومنه قوله (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) (1) وأبو عمرو يهمز
(مؤصدة) إذا لين الهمز، لئلا يخرج من لغة إلى لغة أخرى.
وقوله (في عمد ممددة) فالعمد جمع عمود، وقيل: جمع عماد، كقولك:
أهاب وأهب، ويجوز عمد، والعمود عمود مستدير مستطيل قوي على شدة الاعتماد.
وقال ابن مسعود: معناه إن النار مطبقة بعمد ممددة. وقال ابن عباس: في عمد
مغللبن بها. وقال قتادة: في عمد يعذبون بها. وقيل: الاطباق بالعمد الممددة ليتأكد
يأسهم من الخروج منها.

(1) سورة 18 الكهف آية 18.
408

105 - سورة الفيل
مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي خمس آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (1) ألم يجعل
كيدهم في تضليل 2) وأرسل عليهم طيرا أبابيل (3) ترميهم
بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مأكول) (5) خمس آيات
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله ويتوجه إلى جميع المكلفين من
قومه، يقول لهم على وجه التنبيه على عظم الآية التي أظهرها والمعجزة التي فعلها،
منبها بذلك على توحيده ووجوب إخلاص العبادة له، فقال (ألم تر) ومعناه ألم
تعلم، فالرؤية - ههنا - بمعنى العلم، لان رؤية البصر لا تتعلق بما قد تقضى وعدم،
كأنه قال: ألم تعلم (كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) الذين قصدوا هدم البيت
وهلاك أهله، فأهلكهم الله تعالى، وكان الذي قصد لهدم البيت أبرهة ابن الصباح.
وهو المعروف بأبرهة الأشرم، ويكنى أبا يكسوم. وقيل: إنه لم يسلم من قومه
غيره، فولى إلى أهله فكل ما نزل منزلا تساقط منه عضو فلما وصل إليهم أخبرهم
الخبر ثم هلك، وكان أبرهة رجلا من اليمن ملكته الحبشة عليهم، وكان سبب
قصده إياها لتخريبها أنه بنى كنيسة عظيمة أراد ان يحج إليها بدل الكعبة. وقال
409

الحسن: كان السبب في ذلك أن العرب هدمت كنيسة للحبشة، وهم نصارى،
فأراد تخريب الكعبة في مقابلة ذلك، فاقبل في جمع كثيف معه أفيلة، فجعل الله كيدهم
في تضليل عما قصدوا له من تخريب الكعبة (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) فمعنى
أبابيل جماعات في تفرقة زمرة وزمرة لا واحد لها - في قول أبي عبيدة والفراء -
كما لا واحد للعباديد والشماطيط. وزعم أبو جعفر الرواسي أنه يسمع في واحدها
أبالة. وقال الكسائي: سمعت النحويين يقولون واحده (أبول) مثل (عجول) وقال
بعضهم: (ابيل) وقال ابن عباس معنى أبابيل يتبع بعضها بعضا. وقال قتادة:
معنى أبابيل كثيرة متتابعة. وقيل: إنها كانت سود الجرية تحمل في مناقيرها واكفها
الحجارة - في قول عبيد بن عمير - وقيل: كان مع كل طائر ثلاثة أحجار اثنان
في رجليه وواحد في منقاره، وقال موسى بن أبي عائشة: كانت الحجارة أكبر
من العدسة وأصغر من الحمصة وقيل كان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره.
وقيل: إن المعروف بأبرهة الأشرم الذي ملكته الحبشة كان يكنى أبا يكسوم
وقيل: إنه لم يسلم من قومه غيره فولى إلى أهله وكلما نزل منزلا تساقط منه عضو
فلما وصل إليهم اخبرهم الخبر ثم هلك.
وقيل كان الفيل إذا وجهوه نحو مكة وقف ولم يسر، وإذا وجهوه إلى جهة
غيرها سار إنذارا من الله لهم وموعظة، وكان هذا من أعظم المعجزات في ذلك
الوقت أظهره الله تعالى ليدل به على وجوب معرفته وإخلاص عبادته. وقال قوم:
إنه كان معجزة لنبي كان في ذلك الزمان، ويجوز أن يكون ذلك خالد بن سنان.
وقيل إنه كان ذلك توطيئا لنبوة نبينا صلى الله عليه وآله، لأنه كان ولد في عام الفيل.
وقوله (ترميهم بحجارة) أي تقذفهم بحجارة (من سجيل) قال أبو عبيدة
كل شديد سجيل. قال ابن مقبل:
410

ضربا تواصى به الابطال سجيلا (1)
وقيل هي حجارة من الجحيم وهي (سجين) ثم أبدلت النون لاما، كما قالوا
في أصيلان اصيلال. وقيل: معنى من (سجيل) أي من طين مطبوخ كالاجر.
وقيل: هو (سنل وكل) بلغة الفرس. فأعرب، وكذلك روي عن ابن عباس
وقوله (فجعلهم كعصف مأكول) العصف ورق الزرع - في قول أبي
عبيدة - وهو عصيفة، لان الريح تعصفه أي تذهب به يمينا وشمالا، وقيل: معنى
(كعصف مأكول) أي مأكول الثمرة كما يقال: فلان حسن أي حسن الوجه،
فاجري مأكول على العصف من أجل اكل ثمرته، لان المعنى معلوم للايجاز. وقال
قتادة: العصف التبن، ومعنى مأكول قد أكلت بعضه المواشي وكسرت بعضه.
وقال الزجاج: معنى مأكول وقع فيه الاكال. وقيل العصف التبن بلغة بني حنيفة،
وبلسان قريش النحالة.
وقصة أصحاب الفيل من الأدلة الواضحة والحجج اللائحة على الملحدين،
ومن أنكر الصانع، لأنه لا يمكن نسب ذلك إلى طبيعة ولا موجب كما تأولوا
الزلازل والرياح والخسوف وغير ذلك مما أهلك الله به الأمم، لأنه ليس في الطبيعة
إقبال طير بأحجار وتقصد أقواما دون غيرهم حتى تهلكهم بما ترميهم به، ولا تعدى
إلى غيرهم، بل ذلك من أوضح الأدلة على أنه من فعل الله تعالى، وليس لاحد أن
يضعف ذلك وينكر الخبر به، لان النبي صلى الله عليه وآله لما قرأ على أهل مكة هذه السورة،
كانوا قريبي عهد بالفيل، فلو لم يكن كذلك ولم يكن له أصل لأنكروه، فكيف وهم
أرخوا به كما أرخوا بنيان الكعبة وموت قصي وغيره، وقد نظم الشعراء في قصة
الفيل الشعر ونقلته الرواة، فلا يمكن جحد ذلك، لأنه مكابرة.

(1) مر في 6 / 45.
411

106 - سورة قريش
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك هي مدنية وهي أربع آيات
في الكوفي والبصري وخمس في المدنيين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(لايلاف قريش (1) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (2)
فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من
خوف) (4) اربع آيات.
قرأ ابن عامر (لالاف قريش) بقصرها، ولم يجعل بعد هذه الهمزة ياء على
وزن (لعلاف)، (إيلافهم) بياء بعد الهمزة خلاف لفظ الأول. الباقون (لايلاف
قريش إيلافهم) جميعا بهمزة بعدها ياء. وقرأ أبو جعفر وابن فليح (إلا فهم)
بهمزة بلا ياء بعدها مثل (علافهم) ورواه أبو الحسن حماد - بهمزتين مكسورتين -
بعدها ياء. الباقون بهمزة بعدها ياء ساكنة مثل (عيلافهم) قال الأزهري:
الايلاف الإجارة بالحفارة يقال: أولف يولف وألف يؤلف إذا أجار الإبل
بالحفارة. والفت المكان ألفة والفا وألفته إيلافا بمعنى واحد. وقد قدمنا القول فيما
(رواه أصحابنا أن (ألم تر كيف) و (لايلاف) سورة واحدة، مثل (الضحى وألم
412

نشرح) فعلى هذا العامل في (لايلاف) قوله (فجعلهم كعصف مأكول لايلاف قريش)
وهو قول الحسن: ومن قال: هما سورتان لم يجز ذلك، فقال العامل فيها، قوله
(فليعبدوا) فكأنه قال لذلك الانعام (فليعبدوا) ومثله في تقديم القول فيه قوله
(أفغير الله تأمروني) (1) لان تأمروني اعتراض على هذا التفسير، إنما جاز أن
يعمل ما بعد الفاء فيما قبله لأنها زائدة غير عاطفة، كقولك زيدا فاضرب، وتريد
فاضربه، فهي على شبه الجواب الذي يجوز فيه تقديم المعمول كقولك زيدا:
إن يأتني زيدا أكرمه. ولو كانت عطفا لم يجز التقديم، كما لا يجوز في الواو، ولا
(ثم). وقيل العامل فيه (اعجبوا) لايلاف قريش إلا أنه حذف لدلالة الكلم عليه.
وقيل هو على (ألم تر كيف فعل ربك... لايلاف قريش) أي فعل ذلك لايلافهم
والايلاف أصحاب الألف بحسن التدبير والتلطف، يقال: ألف يألف ألفا، والفه
يؤلفه إيلافا إذا جعله يألف، وائتلف القوم ائتلافا وتآلفوا تألفا وألفهم تأليفا. والايلاف
نقيض الايحاش، ونظيره الايناس. والف الشئ لزومه على عادة في سكون النفس إليه.
وقوله (رحلة الشتاء والصيف) قال ابن زيد والكلبي: كانت لهم رحلتان
رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن في التجارة. والرحلة حال السير على
الراحلة وهي الناقة القوية على السفر، ومنه الحديث المروي (الناس كابل مئة لا يوجد
فيها راحلة) والرجل متاع السفر والارتحال احتمال الرحل للمسير في السفر. والشتاء
أوان شدة البرد. والصيف زمان شدة الحر. وفصول السنة أربع: ربيع، وصيف
وخريف، وشتاء.
وقوله (فليعبدوا رب هذا البيت) أمر من الله تعالى للمكلفين أن يوجهوا
عبادتهم إلى الله رب البيت الحرام دون غيره من الأصنام (الذي أطعمهم من

(1) سورة 39 الزمر آية 64.
413

جوع) بما أعطاهم من الأموال وسبب لهم من الأرزاق بالسعي في التجارة في رحلة
الشتاء ورحلة الصف (وآمنهم من خوف) الغارة بالحرم الذي جبل قلوب العرب
على تعظيمه. وقيل (آمنهم) من الجذام. قال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام بالكوفة
يقرأ (ألم تر، ولايلاف) ولا يفرق بينهما.
107 - سورة الماعون
وتسمى سورة (أرأيت) مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك
مدنية وهي سبع آيات في الكوفي والبصري وست في المدنيين. عد
أهل الكوفة والبصري (يراؤن) رأس آية، يجوز أن يقال (أريت)
بحذف الهمزة. ولا يجوز ان يقال (ريت) لان ألف
الاستفهام يصير غيرها
بسم الله الرحمن الرحيم
(أرأيت الذي يكذب بالدين (1) فذلك الذي يدع
اليتيم (2) ولا يحض على طعام المسكين (3) فويل للمصلين (4)
الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم يراؤن (6) ويمنعون
الماعون) (7) سبع آيات.
414

قوله (أرأيت) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله على وجه التعجيب له من الكافر (الذي
يكذب بالدين) وذهابه عن الايمان به مع وضوح الامر فيه وقيام الدلالة على صحته
والمراد بالدين الجزاء من الثواب والعقاب، فالتكذيب بالجزاء من أضر شئ على
صاحبه، لأنه يعدم به أكثر الدواعي إلى الخير، والصوارف عن الشر، فهو
يتهالك في الاسراع إلى الشر الذي يدعوه إليه طبعه لا يخاف عاقبة الضرر فيه.
وقوله (فذلك الذي يدع اليتيم) وصف الذي يكذب بالدين، فبين أن
من صفته أنه يدع اليتيم، ومعناه يدفعه عنفا، وذلك لأنه لا يؤمن بالجزاء عليه،
فليس له رادع عنه، كما لمن يقر بأنه يكافئ عليه، دعه يدعه دعا إذا دفعه دفعا
شديدا، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة (يدع اليتيم) معناه يدفعه عن حقه. وقوله
(ولا يحض على طعام المسكين) معناه ولا يجث على طعام المسكين بخلا به، لأنه
لو كان لا يحض عليه عجزا عنه لم يذم به، وكذلك لو لم يحض عليه من غير قبيح
كان منه لم يذم عليه، لان الذم لا يستحق إلا بما له صفة الوجوب إذ أخل به أو
القبيح إذا فعله على وجه مخصوص.
وقوله (فويل للمصلين) تهديد لمن يصلي على وجه الرياء والسمعة. إنما
أطلق مع أنه رأس آية يقتضي تمام الجملة، لأنه معرف بما يدل على أنه أراد من يصلي
على جهة الرياء والنفاق. ثم بين ذلك بقوله (الذين هم عن صلاتهم ساهون) قال
ابن عباس ومسروق: معناه يؤخرونها عن وقتها، وقال قتادة: معناه غافلون
وقال مجاهد: لاهون كأنهم يسهون للهوهم عنها واللهو يوجب تأخيرها عن وقتها
لأنه قال عن صلاتهم. وقيل: ساهون فيها (الذين هم يراؤن) معناه إنه يراؤن
بصلاتهم الناس دون أن يتقربوا بها إلى الله. وإنما ذم السهو في الصلاة مع أنه ليس
من فعل العبد بل هو من فعل الله، لان الذم توجه في الحقيقة على التعرض للسهو
415

بدخوله فيها وجه الرياء وقلبه مشغول بغيرها، لا يرى لها منزلة تقتضي صرف
الهم إليها.
وقوله (ويمنعون الماعون) قال أبو عبيدة: كل ما فيه منفعة، فهو الماعون.
وقال الأعشى:
بأجود منه بما عونه * إذا ما سماؤهم لم تغم (1)
وقال الراعي:
قوم على الاسلام لما يمنعوا * ماعونهم ويضيعوا التنزيلا (2)
وقال اعرابي في ناقة: إنها تعطيك الماعون أي تنقاد لك، والماعون أصله
القلة من قولهم: المعن القليل قال الشاعر:
فان هلاك مالك غير معن
أي غير قليل، فالماعون القليل القيمة مما فيه منفعة من آلة البيت نحو الفاس
والمقدحة والإبرة والدلو - وهو قول ابن مسعود وابن عباس وإبراهيم وأبي مالك وسعيد
ابن جبير - وسئل عكرمة فقيل له: من منع ذلك فالويل له؟ قال: لا، ولكن من
جمع ذلك بأن صلى ساهيا مرائيا ومنع هذا
وقوله (فويل للمصلين) وهو يعني المنافقين، فدل على أن السورة مدنية
لأنه لم يكن بمكة نفاق، ويقال: معن الوادي إذا جرت مياهه قليلا قليلا. والماء
المعين الجاري قليلا قليلا. وأمعن في الامر إذا أبعد فيه قليلا قليلا. وروي عن
علي عليه السلام أنه قال: الماعون الزكاة، وهو قول ابن عمر والحسن وقتادة والضحاك
وقال الشاعر:

(1) ديوانه (199 واللسان (معن) ومجاز القرآن 2 / 313
(2) اللسان (معن) ومجاز القرآن 2 / 315 وقد مر في 7 / 373.
416

بمج صبيره الماعون صبا (1)
فالصبير السحاب. وقال أنس بن مالك: الحمد لله الذي لم يجعلها في صلاتهم
وإنما جعلها عن صلاتهم، فتأولها من تركها متعمدا. والمراد بالصلاة هنا الفرض.
108 - سورة الكوثر
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك مدنية، وهي ثلاث آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنا أعطيناك الكوثر (1) فصل لربك وانحر (2) إن
شانئك هو الأبتر) (3) ثلاث آيات
هذا خطاب من الله لنبيه صلى الله عليه وآله على وجه تعداد نعمه عليه. يقول (إنا
أعطيناك الكوثر) فالاعطاء إخراج الشئ إلى آخذ له، وهو على وجهين: اعطاء
تمليك واعطاء غير تمليك. فاعطاء الكوثر إعطاء تمليك، كاعطاء الاجر، وأصله التناول
من عطا يعطوا إذا تناول. و (الكوثر) الشئ الذي من شأنه الكثرة، والكوثر
الخير الكثير. وهو (فوعل) من الكثرة، قال عطاء: هو حوض النبي صلى الله عليه وآله الذي

(1) القرطبي 20 / 219 والشوكاني 5 / 487.
417

يكثر الناس عليه يوم القيامة. وقال ابن عباس: هو الخير الكثير. وروى عن
عائشة: أن الكوثر نهر في الجنة جانباه قباب الدر والياقوت، وقال الحسن: الكوثر
القرآن. وقال ابن عمر: هو نهر يجري في الجنة على الدر والياقوت وقوله (فصل
لربك) أمر من الله تعالى لنبيه ويدخل معه جميع المكلفين يأمرهم بالصلاة وأن ينحروا
وقال ابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد وعطاء: معنى وانحر انحر البدن متقربا إلى
الله بنحرها خلافا لمن نحرها للأوثان. وقيل: معناه (فصل لربك) صلاة العيد
(وانحر) البدن والأضاحي. وقيل: معناه صل لربك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة
بنحرك. تقول العرب: منازلنا نتناحر هذا ينحر هذا أي مستقبلة، وانشد بعضهم:
أبا حكم ها أنت عم مجالد * وسيد أهل الأبطح المتناحر (1) وروي عن علي عليه السلام أن معناه ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر - وهذه
الرواية غير صحيحة - والمروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أن معناه وانحر
البدن والأضاحي.
وقوله (إن شانئك هو الأبتر) فالشانئ المبغض تقول: شنئته اشنؤه شناء
إذا أبغضته، وقال ابن عباس: معناه عدوك، وهو قول سعيد بن جبير، وقال:
هو العاص بن وائل السهمي، فإنه قال في النبي صلى الله عليه وآله إنه أبتر لا عقب له، فقال
الله تعالى (إن شانئك هو الأبتر) يعني الذي انقطع عنه كل خير. وقيل: إنه
أراد به انه لا ولد له على الحقيقة، وأن من ينسب إليه ليس بولد له، والأبتر هو
المنقطع عن الخير. وقيل: هو الذي لا عقب له - ذكره مجاهد - وقال قتادة: معناه
الأقل الأذل بانقطاعه عن الخير. وقيل: قوله (إن شانئك هو الأبتر) جواب
لقول قريش انه أبتر لا ولد له ذكر إذا مات قام مقامه يدعو إليه، وقد انقطع أمره.

(1) القرطبي 20 / 219 والشوكان 5 / 489.
418

فقيل: إن شانئك هو الأبتر الذي ينقطع ما هو عليه من كفره بموته، فكان الامر كما
اخبر به، وقيل: الحمار الأبتر المقطوع الذنب، فشبه به. وقيل: في السورة تشاكل
المقاطع للفواصل وسهولة مخارج الحروف بحسن التأليف وتقابل المعاني بما هو أولى
لان قوله (فصل لربك) أحسن من صل لنا، لأنه يجب أن يذكر في الصلاة بصفة
الربوبية (وانحر) ههنا أحسن من قوله (وانسكه) لأنه على بريعم بعد بريخص.
و (الأبتر) أحسن من (الاخس) لأنه أدل على الكناية في النفس، فهذه الحروف
القليلة قد جمعت المحاسن الكثيرة. ومالها في النفس من المنزلة أكثر بالفخامة والجزالة
وعظم الفائدة التي يعمل عليها وينتهي إليها.
109 - سورة الكافرون
مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك مدنية، وهي ست آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(قال يا أيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2) ولا أنتم
عابدون ما أعبد (3) ولا أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عابدون
ما أعبد (5) لكم دينكم ولي دين) (6) ست آيات.
419

قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي (ولي دين) ساكنة الياء. الباقون بفتحها
من فتح الياء فلخفة الفتحة ومن أسكنها فإنه كره الحركة على حرف العلة. وقرأ
(ديني) بياء في الحالين يعقوب. الباقون بلا ياء فيهما. من أثبت الياء، فلأنها
الأصل. ومن حذفها اجتزأ بالكسرة الدالة عليها. وقيل: إن هذه السورة نزلت
جوابا لقول جماعة من المشركين دعوا النبي صلى الله عليه وا له إلى أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا هم
إلهه سنة. وفيهم نزل قوله (أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) (1) هذا
قول ابن عباس. وقيل: إنهم قالوا: نشركك في أمرنا، فإن كان الذي في أيدينا
خيرا كنت قد أخذت بحظ منه، وإن كان الذي في يدك خيرا قد أخذنا بحظ
منه. وقيل: إن الذي قال ذلك الوليد ابن المغيرة والعاص ابن وائل والأسود
ابن المطلب وأمية ابن خلف. وقيل: إنهم قالوا: نتداول العبادة ليزول ما بيننا
من البغضاء والعداوة، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهم (لا أعبد ما تعبدون
ولا أنتم عابدون ما أعبد) ومعناه لا أعبد ما تعبدون لفساد عبادة الأوثان، ولا
أنتم عابدون ما أعبد لجهلكم بوجوب اخلاص العبادة لله، لان العقل يقتضي
أنه صلى الله عليه وآله لهذا امتنع وامتنعوا، وإنما كرر ذكر العبادة لتصريفها في الفوائد المختلفة
وقد نفى عبادة المؤمن للوثن كيف تصرفت الحال في ماض أو حاضر أو مستقبل
لقبحها، ونفي عبادة الكافر لله مع إقامته على الجهل بوجوب إخلاص العبادة له.
وقيل: في وجه التكرير في السورة أن ظاهر ذلك وإن كان تكريرا، فليس في الحقيقة
تكريرا أصلا، ولا تكرير في اللفظ إلا في موضع واحد سنبينه بعد بيان المعنى
إن شاء الله، وذلك أن قوما من المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله مناقلة العبادة سنة
يعبدون فيها ما يعبده صلى الله عليه وآله وسنة يعبد هو ما يعبدون لزوال العادة بوقوع العبادة

(1) سورة 39 الزمر آية 64.
420

على هذه الجهلة فجاء الكلام على طريق الجواب لانكار ما سألوا، فقيل (لا أعبد
ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) وهذا نفي منه لما يعبدون في الاستقبال ثم
قال (ولا أنا عابد ما عبدتم) على نفي العبادة لما عبدوا في الماضي، وهذا واضح في
أنه لا تكرير في لفظه ولا معناه. وقوله (ولا أنتم عابدون ما أعبد) فعلى التكرير
في اللفظ دون المعنى من قبل أن التقابل يوجب أن معناه ولا أنتم عابدون ما عبدت
إلا أنه عدل بلفظه إلى اعبد للاشعار أن ما عبدت هو ما أعبد، واستغني بما يوجبه
التقابل من معنى عبدت عن الافصاح به،. وعدل عن لفظه لتضمين معنى آخر فيه،
وكان ذلك أكثر في الفائدة وأولى بالحكمة، لأنه دل على (عبدت) دلالة التصريح باللفظ
فان قيل فهلا قال: ما عبدت ليتقابل اللفظ، كما تقابل المعنى؟ قيل: هو في
حكم التقابل في اللفظ من حيث هو دال عليه إلا أنه عدل عن الافصاح به للاشعار بأن معبوده واحد كيف تصرفت الحال، وكان هذا أبعد في الايهام أن معبوده فيما
مضى غير معبوده فيما يستقبل. وقد يجوز في الماضي والمستقبل ان يقع أحدهما موقع
الاخر إذا كان في الكلام ما يدل عليه، كما قال (ونادى أصحاب الجنة أصحاب
النار) (1) على معنى ينادون، ومنه قولهم: يدعوهم ابن رسول الله فلا يجيبونه،
ويدعوهم ابن زياد إلى الباطل فيسرعون إليه.
فان قيل: فهلا دل على اختلاف المعنى باختلاف اللفظ إذ هو الأصل في حسن
البيان؟ قيل: إن التقابل في ذلك قد صير اللفظ في حكم المختلف، لأنه مقيد به،
ودلالة المقيد خلاف دلالة المطلق نحو: زيد قائم بالتدبير على خلاف معنى زيد قائم.
فان قيل: فهلا دل على ذلك من أصول مختلفة إذ هو أدل على خلاف المعنى
بصريح الجهة؟ قيل: إنه لما أريد نفي العبادة على تصريف الأحوال صرف لفظ

(1) سورة 7 الأعراف آية 43.
421

العبادة لتصريف المعنى، ولم يصلح فيه أصول مختلفة، لئلا يوهم النفي نفي معنى غير
تصريف عبادة الله على الوجوه والأسباب كلها، وكان تصريف لفظ العبادة لتصريف
معناها أحق وأولى من تصريف معناها في غير لفظها لما فيه من التشاكل المنافي للتنافر،
ولفظة (الكافرون) في السورة مخصوصة بمن علم الله من حاله أنه يموت على كفره.
ولا يجوز أن يكون المراد العموم لأنا علمنا دخول كثير ممن كان على الكفر ثم دخل
في الاسلام، وقيل: ان الألف واللام في الآية للمعهود، لان (أيا) لا يوصف إلا
بالجنس، فخرج اللفظ على الجنس من حيث هو صفة ل‍ (أي) ولكن (أيا) للمخاطبين
من الكفار بأعيانهم فآل إلى معنى المعهود في أنه يرجع إلى جماعة بعينها، ونحوه يا أيها
الرجال ادخلوا الدار، فلم تأمر جميع الرجال، ولكن أمرت الذي أشرت إليهم
باقبالك عليهم. وقيل: يجوز أن تكون الآية عامة، والتقدير ولا أنتم عابدون ما
أعبد بالشرط الذي ذكرتموه من أني أعبد إلهكم، لان هذا الشرط لا يكون ابدا،
ولكن يجوز أن يؤمنوا فيما بعد بغير هذا الشرط.
فان قيل: ما فائدة الكلام؟
قيل الانكار لما لا يجوز من مناقلة العبادة على ما توهمه قوم من الكفار لتقوم
الحجة به من جهة السمع كما كانت من جهة العقل مع الاعجاز الذي فيه. فان قال
قائل: من أي وجه تضمن الاعجاز؟ قيل: له من جهة الاخبار بما يكون في مستقبل
الأوقات مما لا سبيل إلى علمه إلا بوحي الله إلى من يشاء من العباد، فوافق المخبر
بما تقدم به الخبر، وفي ذلك أكبر الفائدة وأوضح الدلالة.
فان قيل: ما معنى (لكم دينكم ولي دين)؟
قيل معناه لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبك بجزاء دينهم وبالا وعقابا
كما حسبك بجزاء دينه نعيما وثوابا.
422

فان قيل: لم لا ذكرت الحجة في أن ما يدعون إليه لا يجوز.
قيل له: تقبيحا لها من حيث أخرجت مخرج مقالة يكفي العلم بفسادها، حكايتها
مع الاستغناء بما في العقول عن الدلالة على بطلانها.
فان قيل: فهلا أنكر عليهم من طريق أن كل ما دعوا إليه لا يجوز للايجاز؟
قيل: لأنه إنكار متصل على حد ما يسألوا ولو أنكر انكارا مجملا لم يبين به
تفصيل ما سألوه إلا بأن يحكى على انفراده. ثم يحمل الانكار به فحينئذ يفهم منه
معنى المفصل.
فان قيل: فهلا بين ذكرهم بصفة غير منكر؟
قيل: قد بين ذلك بعلم التعريف له إلا أنه بصفات الذم التي فيها معنى الزجر
وهي دالة على أحوالهم فيما دعوا له من الباطل، وتقحموا من أحوال الجاهل.
فان قيل: فلم قال (لكم دينكم ولي دين) مع ما يقتضي ظاهره التسليم؟
قيل: مظاهرة في الانكار، كما قال تعالى (اعملوا ما شئتم) (1) لما صاحبه
من الدليل على التمكين وشدة الوعيد بالقبح لأنه إذا اخرج الكلام مخرج التسليم
للامر دل على أن الضرر لا يلحق إلا المسلم إليه، فكأنه قيل له: أهلك نفسك إن كان
ذلك خيرا لك.
فان قال: فلم قيل: ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولم يقل من أعبد؟
قيل له: لأنه مقابل لقوله (ولا أنا عابد ما عبدتم) من الأصنام، ولا يصلح
ههنا إلا (ما) دون (من) لأنه يعني ولا أنا عابد ما عبدتم من الأصنام ثم حمل الثاني
على الأول للتقابل حتى لا يتنافر. وقيل: ان معناه ولا أنا عابد عبادتكم ولا أنتم
عابدون عبادتي، لان عبادته متوجهة إلى الله، وعبادتهم متوجهة إلى الأصنام

(1) سورة 41 (فصلت) حم السجدة آية 40.
423

ف‍ (ما) ههنا مع ما بعدها بمنزلة المصدر.
فان قيل: فلم انكر ما لا يجوز في الحكمة بألين النكير مع خروجه إلى أفحش القبح؟
قيل: ليس ذلك بألين النكير في المعنى وإن خرج لفظه ذلك المخرج، لأنه
إنما عومل تلك المعاملة ليجعل في حيز ما يكفي فيه التنبيه، حتى يظهر انه أقبح قبيح
وهذا ضرب من البلاغة عجيب يفهمه كل عاقل له أدنى فطنة، ويعلم موضعه في الحكم
فان قيل: ما الدليل على أن تأويل السورة ما ذكرتم دون غيره من التأويلات
قيل: الدليل على أن ذلك الكلام إذا احتمل وجهين فصاعدا في اللغة، وأحد
الوجهين يجوز، والاخر لا يجوز، وجب أن يكون تأويله ما يجوز عليه تعالى ويليق به
دون ما لا يليق به ولا يجوز عليه، تعالى الله.
110 - سورة النصر
مدنية في قول ابن عباس والضحاك، وهي ثلاث آيات بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في
دين الله أفواجا (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3)
ثلاث آيات.
424

هذا وعد من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله بالنصر بالفتح قبل وقوع الامر وقال
الحسن ومجاهد: وعده الله فتح مكة ونصرته على كفار قريش، فيجئ النصر وقوعه على
التوقع له، والنصر المعونة على العدو للظهور عليه، لان المعونة قد تكون بالمال على
نوائب الزمان، وقد تكون على العدو، وهي النصر دون المعونة الأخرى. والفتح
الفرج الذي يمكن معه الدخول في الامر بملك العدو الناصب للحرب، وقد يكون
الفرج بالفرق فقط، فلا يكون الفتح بذهاب العدو الذي صار علما على هذا المعنى.
وقوله تعالى (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) يعني في طاعة
الله وطاعتك: من الاسلام والتزام الاحكام واعتقاد صحته وتوطين النفس على العمل
به. وأصل الدين الجزاء. ثم يعبر به عن الطاعة التي يستحق بها الجزاء، كما قال
(في دين الملك) (1) أي في طاعته. والفوج جماعة من جماعة، والأفواج جماعات
من جماعات. وهكذا كان الناس يدخلون في الدين جماعة بعد جماعة، من جملة القبيلة
حتى يتكامل اسلام الجميع.
وقوله (فسبح بحمد ربك واستغفره) امر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله بأن
ينزهه عما لا يليق به من صفات النقص، وأن يستغفره. ووجه وجوب ذلك بالنصر
والفتح، أن النعمة به تقتضي القيام بحق النعمة المنافى للمصيبة. فكأنه قال قد حدث
أمر يقتضي الاستغفار مما جدده الله لك فاستغفره بالتوبة يقبل ذلك منك، ومخرجه
مخرج الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وهو تعليم لجميع أمته. ومعنى (فسبح بحمد ربك) نزهه
عما لا يجوز عليه مع شكرك إياه. وقيل معناه: صل شكرا له على ما جدد لك من
نعمة. والاستغفار قد يكون عند ذكر المعصية بما ينافي الاصرار، وقد يكون على

(1) سورة 12 يوسف آية 76.
425

وجه التسبيح، والانقطاع إلى الله.
وقوله (إنه كان توابا) معناه إنه يقبل توبة من بقي كما قبل توبة من مضى.
والتواب في صفة الله الكثير القبول للتوبة، وفى صفة العباد الكثير الفعل للتوبة. وقال
قتادة: عاش النبي صلى الله عليه وآله بعد هذا سنتين ثم توفي صلى الله عليه وآله
111 - سورة اللهب
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي خمس آيات بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
(تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2)
سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها
حبل من مسد) (5) خمس آيات.
قرأ عاصم (حمالة الحطب) نصبا على الذم. الباقون بالرفع على أنه خبر
الابتداء، ويجوز أن يكون ارتفع (امرأته) على أنه فاعل (سيصلي) فكأنه قال سيصلى
أبو لهب وامرأته نارا ذات لهب. وقرأ ابن كثير (يدا أبي لهب) ساكنة الهاء
على التخفيف، كما قالوا في نهر: نهر. الباقون بالتثقيل.
وروي أن أبا لهب كان قد عزم على أن يرمي النبي صلى الله عليه وآله بحجر فمنعه الله
426

من ذلك، وقال تبت يداه للمنع الذي وقع به. ثم قال (وتب) بالعقاب الذي
ينزل به فيما بعد، وقيل في قوله (تبت يدا أبي لهب) أنه الدعاء عليه نحو قوله
(قاتلهم الله انى يؤفكون) (1) فاما قوله (وتب) فإنه خبر محض، كأنه قال:
وقد تب. وقيل: إنه جواب لقول أبي لهب: تبا لهذا من دين، حين نادى النبي صلى الله عليه وآله
بني عبد المطلب، فلما اجتمعوا له قال لهم: إن الله بعثني إلى الناس عاما وإليكم
خاصا، وأن اعرض عليكم ما إن قبلتموه ملكتم به العرب والعجم قالوا وما ذلك
يا محمد صلى الله عليه وآله قال: أن تقولوا لا إله إلا الله واني رسول الله. فقال أبو لهب تبا لهذا
من دين. فأنزل الله تعالى قوله (تبت يدا أبي لهب) والتباب الخسران المؤدي
إلى الهلاك تبه يتب تبا، والتباب الهلاك. وفي (تبت يدا) مع أنه إخبار ذم لأبي
لهب لعنة الله. وإنما قال: تبت يداه ولم يقل: تب، مع أنه هو الهالك في الحقيقة
لأنه جار مجرى قوله كسبت يداه، لان أكثر العمل لما كان باليدين أضيف ذلك
اليهما) على معنى الخسران الذي أدى إليه العمل بهما.
وقوله (ما أغني عنه ماله وما كسب) معناه ما نفعه ماله ولا الذي كسبه من
الأموال، ولا دفع عنه عقاب الله حين نزل به، فالاغناء عنه الدفع عنه، فأما الاغناء
بالمال ونحوه فهو دفع وقوع المضار به.
وقوله (سيصلى نارا ذات لهب) خبر من الله تعالى أن أبا لهب سيصلى نارا
ذات لهب، وهي نار جهنم الملتهبة. وفى ذلك دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله، لأنه
اخبر بأنه يموت على كفره، وكان الامر على ذلك.
وقوله (وامرأته حمالة الحطب) قال ابن عباس والضحاك وابن زيد: ان
امرأة أبي لهب كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وآله إذا خرج إلى الصلاة

(1) سورة 9 التوبة آية 31 وسورة 63 المنافقون آية 4.
427

وقال عكرمة ومجاهد وقتادة: إنما وصفت بحمالة الحطب، لأنها كانت تمشي بالنميمة
وقيل: حمالة الحطب في النار. وفى ذلك دلالة أيضا قاطعة على أنها تموت على
الكفر. وامرأة أبي لهب أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان عمة معاوية،. وقوله
(في جيدها حبل من مسد) فالمسد حبل من ليف، وجمعه أمساد وإنما وصفت بهذه
الصفة تخسيسا لها وتحقيرا والجيد العنق، قال ذو الرمة:
فعيناك عيناها ولونك لونها * وجيدك إلا أنه غير عاطل
وقال أبو عبيدة: المسد حبل يكون من ضروب، قال الراجز:
ومسد امر عن أيانق * صهب عناق ذات منح زاهق (1)
والمسد الليف لان من شأنه أن يفتل للحبل. وأصل المسد المحور من حديد،
لأنه يدور بالفتل. وقال قوم: هو أليف المفتل.
فان قيل: ما الذي كان يجب على أبي لهب حين سمع هذه السورة؟ أكان
يجب عليه ان يؤمن؟ فلو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله بأنه سيصلى نارا ذات
لهب، وإن لم يجب عليه الايمان فذلك خلاف الاجماع؟!!
قيل: خبر الله مشروط بأنه سيصلي نارا ذات لهب إن لم يؤمن، ويجب عليه
أن يعلم ذلك، وهذا أبين الأجوبة وأظهرها. والله أعلم.

(1) مجاز القرآن 2 / 315.
428

112 - سورة الاخلاص
مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك مدنية، وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3)
ولم يكن له كفوا أحد) (4) اربع آيات
قرأ أبو عمرو - في رواية هارون عنه - (أحد الله الصمد) بغير تنوين في
الوصل. وقرأ في رواية نصر عن أبيه وأحمد بن موسى عنه بالتنوين، وجه ترك
التنوين أنه ينوى به الوقف، لأنه رأس آية مع أنه قد يحذف التنوين لالتقاء
الساكنين، والوجه تحريكه، قال الشاعر:
فألفتيه غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا (1)
وقرأ (كفؤا) بسكون الفاء - مهموزا - حمزة ونافع على خلاف عن نافع.
الباقون بضم الفاء مهموزا. وإنما قال في أوائل هذه السور (قل) وهي أو امر
من الله تعالى، لان المعنى قال لي جبرائيل (قل هو الله أحد) فحكى النبي صلى الله عليه وآله
ما قيل له. وقيل لسورة الاخلاص وقل يا أيها الكافرون (المقشقشتان) ومعناهما
المبرئتان من الكفر والنفاق، كما يقشقش الهناء الجرب.

(1) مر 2 / 76 و 3 / 215 و 5 / 239، 393.
429

وهذا امر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لجميع المكلفين (هو الله) الذي
نحق له العبادة (أحد) ومعناه واحد، فقوله (هو) كناية عن اسم الرب، لأنهم
قالوا ما ربك؟ قال هو الله أحد. وقال الكسائي (هو) عماد، وقوله (الله)
ابتداء، وخبره (أحد) وانكر الفراء أن يكون العماد مستأنفا، واصل (أحد) وحد
فقلبت الواو همزة، كما قيل: وناه وأناه، لان الواو مكروهة أولا، وقد جاء
وحد على الأصل قال الشاعر:
كأن رجلي وقد زال النهار بنا * بذي الجليل على مستأنس وحد (1)
وحقيقة الوحد شئ لا ينقسم في نفسه أو معنى صفته، فإذا أطلق أحد
من غير تقدم موصوف، فهو واحد نفسه، فإذا جرى على، موصوف، فهو أحد في
معنى صفته، فإذا قيل: الجزء الذي لا يتجزأ واحد، فهو واحد في معنى صفته،
وإذا وصف تعالى بأنه أحد، فمعناه أنه المختص بصفات لا يشاركه فيها غيره: من
كونه قديما وقادرا لنفسه وعالما وحيا وموجودا كذلك، وأنه تحق له العبادة لا تجوز
لاحد سواه. ولا يجوز أن يكون (أحد) هذه هي التي تقع في النفي، لأنها أعم العام
على الجملة أحد، والتفصيل، فلا يصلح ذلك في الايجاب، كقولك ما في الدار أحد
أي ما فيها واحد فقط ولا أكثر، ويستحيل هذا في الايجاب، وفى قوله (الله أحد)
دليل فساد مذهب المجسمة، لان الجسم ليس ب‍ (أحد إذ هو اجزاء كثيرة، وقد دل
الله بهذا القول على أنه أحد، فصح انه ليس بجسم.
وقوله (الله الصمد) معناه الذي تحق له العبادة هو الموصوف بأنه (الصمد)
وقيل: في معناه قولان:
أحدهما - قال ابن عباس وشقيق وأبو وائل: إنه السيد المعظم، كما قال الأسدي:

(1) اللسان (وحد، انس).
430

الا بكر الناعي بخيري بني أسد * بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد (1)
وقال الزبر قان:
ولا رهينة إلا السيد الصمد.
الثاني - ان معناه الذي يصمد إليه في الحوائج ليس فوقه أحد، يقال: صمدت
إليه أصمد إذا قصدت إليه ألا أن في الصفة معنى التعظيم كيف تصرفت الحال.
ومن قال: الصمد بمعنى المصمت، فقد جهل الله، لان المصمت هو المتضاغط الاجزاء
وهو الذي لا جوف له وهذا تشبيه وكفر بالله تعالى.
وقوله (لم يلد) نفي منه تعالى لكونه والد إله ولد.
وقوله (ولم يولد) نفي لكونه مولود إله والد، لان ذلك من صفات الأجسام
وفيه رد على من قال: إن عزيز والمسيح أبناء الله تعالى، وإن الملائكة بنات الله،
وقوله (ولم يكن له كفوا أحد) نفي من الله تعالى أن يكون له مثل أو شبيه أو
نظير، والكفور والكفاء والكفي واحد، وهو المثل والنظير، قال النابغة:
لا تقذفني بركن لا كفاء له * ولو تأثفك الأعداء بالرفد
و (أحد) مرفوع لأنه اسم (كان) و (كفوا) نصب، لأنه نعت نكرة
متقدمة، كما تقول:، عندي ظريفا غلام، تريد عندي غلام ظريف، فلما قدمت
النعت على المنعوت نصبته على الحال - في قول البصريين - وعلى الظرف في قول
الكوفيين - والتقدير في الآية ولم يكن له كفوا، وأخص منه ولم يكن أحد كفوا
له، وإنما قدم الظرف الملغى مع أن تأخير الملغى أحسن في الكلام لأنه أفضل بذكر
الانبه الأعرف، كما يتقدم الظرف الذي هو خبر وموضعه التأخير لهذه العلة في
مثل قولهم: لزيد مال وله عبد.

(1) مجاز القرآن الشاهد 950: 2 / 316.
431

ولا حي من الاحياء إلا وله مثل إلا الله تعالى، فلذلك قال (ولم يكن له
كفوا أحد) وروي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقف عند آخر كل آية من هذه السورة،
وكذلك كان يقرأ ابن مجاهد في الصلاة ابتداء.
113 - سورة الفلق
مكية في قول ابن عباس وقال الضحاك هي مدنية، وهي خمس آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق (2) ومن شر
غاسق إذا وقب (3) ومن شر النفاثات في العقد (4) ومن شر حاسد
إذا حسد) (5) خمس آيات.
روى قتيبة إمالة (حاسد)
هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله ومتوجه إلى جميع الخلق المكلفين
بان يستعيذوا من شر ما خلق، فالفلق الصبح - في قول ابن عباس والحسن وسعيد
ابن جبير وجابر ومجاهد وقتادة وابن زيد - وفي رواية عن ابن عباس: إن الفلق
432

الخلق. وقال قوم من أهل اللغة: الفلق الخلق، لأنه مفلوق. ومنه (فالق
الاصباح) (1) و (فالق الحب والنوى) (2) وقيل للداهية فلقة، لأنها تفلق الظهر
وأصل الفلق الفرق الواسع من قولهم: فلق رأسه بالسيف يفلقه فلقا إذا فرقه فرقا
واسعا. ويقال: أبين من فلق الصبح، لان عموده ينفلق بالضياء عن وفرق الصبح
الظلام. وقيل له فجر لانفجاره بذهاب ظلامه.
وقوله (من شر ما خلق) عام في جميع ما خلقه الله فإنه ينبغي أن يستعاذ
من شره ممن يجوز أن يحصل منه الشر، وقيل: المراد من شر الأشياء التي خلقها
مثل السباع والهوام والشياطين وغير ذلك.
وقوله (ومن شر غاسق إذا وقب) قال ابن عباس والحسن ومجاهد: من
شر الليل إذا دخل بظلامه، وقيل: الغاسق كل هاجم بضرر كائنا ما كان،
فالغاسق في اللغة هو الهاجم بضرره، وهو هنا الليل، لأنه يخرج السباع من آجامها
والهوام من مكامنها، وأصله الجريان بالضرر من قولهم: غسقت القرحة
إذا جرى صديدها. والغساق صديد أهل النار لسيلانه بالعذاب، وغسقت عينه
غسقانا إذا جرى دمعها بالضرر في الخلق، والليل غاسق لجريانه بالضرر في اخراج
السباع وقال كعب: الغسق بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من
شدة حره، ومعنى (وقب) دخل، وقب يقب وقوبا إذا دخل. ومنه الوقبة
النقرة، لأنه يدخل فيها.
وقوله (ومن شر النفاثات في العقد) قال الحسن وقتادة: يعني السحرة
الذين كل ما عقدوا عقدا نفثوا فيه، وهو شبيه بالنفخ، فأما الثفل فنفخ بريق،

(1) سورة 6 الانعام آية 95 - 96.
(2) سورة 6 الانعام آية 95 - 96.
433

فهذا الفرق بين النفث والتفل، قال الفرزدق:
هما نفثا في في من فمويهما * على النابح العاوي أشد رجام (1)
وقيل في شر النفاثات قولان: أحدهما - إيهامهم أنهم يمرضون ويعافون،
ويجوز ذلك مما يخيل رأي الانسان من غير حقيقة لما يدعون من الحيلة بالأطعمة
الضارة والأمور المفسدة. الثاني - أنه بضرب من خدمة الجن يمتحن الله تعالى بتخليتهم
بعض الناس دون بعض. ولا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله سحر على ما رواه القصاص
الجهال، لان من يوصف بأنه مسحور، فقد خبل عقله. وقد أنكر الله تعالى ذلك
في قوله (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) (2) ولكن قد يجوز أن يكون
بعض اليهود اجتهد في ذلك فلم يقدر عليه، فأطلع الله نبيه على ما فعله حتى استخرج
ما فعلوه من التمويه، وكان دلالة على صدقه ومعجزة له.
وقوله (ومن شر حاسد إذا حسد) فالحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة
عن صاحبها، وإن لم يردها لنفسه. والغبطة أن يريد من النعمة لنفسه مثل ما لصاحبه
وأن لم يرد زوالها عنه، فالغبطة محمودة والحسد مذموم. وفي السورة ما يستدفع به
الشرور بإذن الله على تلاوة ذلك بالاخلاص فيه، والاتباع لامر اله. وكان
النبي صلى الله عليه وآله كثيرا ما يعوذ به الحسن والحسين وبهاتين السورتين. وقيل إن اللواتي
سحرن النبي صلى الله عليه وآله بنات لبيد بن أعضم اليهودي، سحرنه في إحدى عشرة عقدة،
فأنزل الله تعالى السورتين، وهما إحدى عشرة آية فحل بكل آية عقدة.

(1) ديوانه 771 (نشر الصاوي)
(2) سورة 17 الاسرى آية 47 وسورة 25 الفرقان آية 8.
434

114 - سورة الناس
وهي ست آيات بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس (3)
من شر الوسواس الخناس (4) الذي يوسوس في صدور الناس (5)
من الجنة والناس) (6) ست آيات.
كان الكسائي في رواية أبي عمير يميل (الناس) لكسرة السين، وهو حسن
الباقون يتركون الإمالة، وهو الأصل.
هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله ويدخل فيه المكلفون، يأمرهم أن
يستعيذوا (برب الناس) وخالقهم الذي هو (ملك الناس) ومدبرهم وإلههم
(من شر الوسواس) وأن يقولوا هذا القول الذي هو (أعوذ برب الناس...)
إلى آخرها و (رب الناس) هو الذي خلقهم ودبرهم على حسب ما اقتضته الحكمة
وقوله (ملك الناس) إنما خص بأنه ملك الناس مع أنه ملك الخلق أجمعين لبيان
أن مدبر جميع الناس قادر أن يعيذهم من شر ما استعاذوا منه مع أنه أحق بالتعظيم
من ملوك الناس.
والفرق بين (ملك) و (مالك) حتى جازا جميعا في فاتحة الكتاب ولم يجز
435

- ههنا - إلا ملك، لان صفة ملك تدل على تدبير من يشعر بالتدبير، وليس كذلك
مالك، لأنه يجوز أن يقال: مالك الثوب، ولا يجوز ملك الثوب، ويجوز أن يقال:
ملك الروم، ولا يجوز مالك الروم، فجرت - في فاتحة الكتاب - على معنى الملك
في يوم الجزاء، ومالك الجزاء، وجرت في سورة الناس على (ملك) تدبير من
يعقل التدبير، فكأن هذا أحسن وأولى.
وقوله (إله الناس) معناه أنه الذي يجب على الناس أن يعبدوه، لأنه الذي
تحق له العبادة دون غيره (من شر الوسواس) حديث النفس بما هو كالصوت الخفي
وأصله الصوت الخفي من قول الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت * كما استعان بريح عشرق زجل (1)
وقال روبة:،
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق * سرا وقد أون تأوين العقق (2)
والوسوسة كالهمهمة ومنه قولهم: فلان موسوس إذا غلبت عليه الوسوسة
لما يعتريه من المرة. وسوس يوسوس وسواسا ووسوسة وتوسوس توسوسا. وفى
معنى قوله (من شر الوسواس) ثلاثة أقوال:
أحدها - من شر الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، فأمر بالتعوذ من
شر الجن والإنس.
الثاني - من شر ذي الوسواس وهو الشيطان، كما قال في الأثر: انه يوسوس
فإذا ذكر العبد ربه خنس، فيكون قوله (من الجنة والناس) بيان انه منهم، كما قال
(إلا إبليس كان من الجن) (3) فأما (والناس) فعطف عليه كأنه قيل من الشيطان

(1) مر في 4 / 397
(2) مر في 4 / 397 و 9 / 363
(3) سورة 18 الكهف آية 51.
436

الذي هذه صفته والناس الذين هذه صفتهم.
الثالث - من شر ذي الوسواس الخناس على العموم، ثم يفسر بقوله - عز
وجل - من (الجنة والناس) كما يقال: نعوذ بالله من كل مارد: من الجن والإنس
وقوله (الخناس) معناه الكثير الاختفاء بعد الظهور، خنس يخنس خنوسا، ومنه
قوله (فلا اقسم بالخنس) (1) أي بالنجوم التي تخفى بعد ما تظهر بتصريف الحكيم
الذي أجراها على حق حسن التدبير، ومنه الخنس في الانف لخفائه بانخفاضه عندما
يظهر بنتوئه. قال مجاهد: إذا ذكر العبد ربه خنس، فإذا غفل وسوس إليه وقوله
(الذي يوسوس في صدور الناس) قيل: ان الشيطان يعتري الانسان بكلام خفي بفعله
يصل مفهومه إلى قلبه من غير سماع صوته، كانسان يتكلم من وراء حجاب بكلام
يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع الصوت، وهذه حالة معقولة تقع عليها الوسوسة
وأما الانسان فإنما يوسوس غيره بأن يدعوه إلى الفساد ويحسن ذلك ويغويه به
ويسوفه التوبة ويمنيه العفو. وقوله (من الجنة والناس) بيان لمن يكون منه الوسوسة
وقد بين الله تعالى أنه يكون من قبيل الجن ومن قبيل الانس. والناس أصله من
الاناس، فحذفت الهمزة التي هي فاء ويدل على ذلك الانس والاناس. واما في
تحقيره نويس، فان الألف لما كانت ثانية زائدة اشبهت الف فاعل فلما قلبت واوا
شبهة بألف فاعل كذلك جازت الإمالة في المواضع التي أميل الاسم فيها لذلك، ومن
سأل عن قوله (قل أعوذ برب. وقل يا أيها الكافرون. وسبح اسم ربك) وما
أشبه ذلك من الأوامر المتوجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: كيف جاز من النبي صلى الله عليه وآله أن
يقول: قل للأمة؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يقول الانسان لغلامه قل لزيد كذا
فيقول غلامه لزيد: قل كذا. وهذا خلاف الغرض.

(1) سورة 81 التكوير آية 15.
437

قلنا عنه جوابان:
أحدهما - ان الامر وإن كان متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله فالمراد به أمته معه، فكأنه
خاطب الجميع بان يقولوا ذلك وأن يسبحوا وغير ذلك، فلا سؤال على هذا.
والثاني - ان الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه وآله بأن يفعل الذي أمره وأمره أيضا بتلاوة
كلامه، فلما كان قوله (قل، وسبح) من كلام الله وجب عليه أن يتلوه على وجهه ولو
كان مأمورا بالفعل دون التلاوة لما وجب أن يأتي بلفظة (قل) في هذه المواضع كلها
وجميع أي القرآن في البصري ست آلاف ومئتان وأربع آيات.
وفي المدني الأول ست آلاف ومئتان وسبع عشرة آية.
وفي الكوفي ست آلاف ومئتان وست وثلاثون آية.
وفي المدني الأخير ست آلاف ومئتان وأربع عشرة آية.
وجميع ما نزل بمكة خمس وثمانون سورة لا خلاف في ذلك.
وبالمدينة تسع وعشرون سورة لا خلاف في ذلك.
فذلك مئة وأربع عشرة سورة.
وعلى ما رويناه على أصحابنا وعن جماعة متقدمين مئة واثنتا عشرة سورة.
وعدد جميع كلمات القرآن تسع وسبعون ألفا ومئتان وسبع وسبعون كلمة.
ويقال سبع وثمانون كلمة. ويقال تسع وثلاثون كلمة.
وجميع حروفه ثلاثمائة الف حرف وثلاثة وعشرون الف وخمسة عشر الف.
وعدد نقطه مئة الف وست وخمسون ألفا وإحدى وثمانون نقطة.
تم المجلد العاشر وبه تم الكتاب والحمد لله
438