الكتاب: تفسير جوامع الجامع
المؤلف: الشيخ الطبرسي
الجزء: ٣
الوفاة: ٥٤٨
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢١
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-١٥٨-٥
ملاحظات:

978
تفسير
جوامع الجامع
للمفسر الكبير والمحقق النحرير
الشيخ أبي علي الفضل بن حسن الطبرسي قدس سره
المتوفي من أعلام القرن السادس الهجري
الجزء الثالث
تحقيق
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

شابك 5 - 158 - 470 - 964
- - - - - - - - - - - - - -
ISBN 964 - 470 - 158 - 5
جوامع الجامع
(ج 3)
تأليف: المفسر الكبير الشيخ الفضل بن حسن الطبرسي قدس سره
تحقيق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الموضوع: تفسير
عدد الأجزاء: 3 أجزاء
الطبعة: الأولى
المطبوع: 2000 نسخة
التاريخ: 1421 ه‍.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

سورة الروم
مكية (1) إلا آية منها، وهي قوله: (فسبحان الله حين تمسون) (2) وهي ستون
آية، (ألم) كوفي، (بضع سنين) غيرهم.
في حديث أبي: " من قرأها كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك
سبح الله بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 226: هي مكية في قول مجاهد وقتادة، ليس فيها
ناسخ ولا منسوخ. وقال الحسن: كلها مكية إلا قوله: (فسبحان الله) إلى قوله: (وحين
تظهرون). وهي ستون آية كوفي وبصري ومدني الأول وشامي، وتسع وخمسون في المدني
الأخير والمكي.
وفي الكشاف: ج 3 ص 466: مكية إلا آية 17 فمدنية، وآياتها 60 نزلت بعد الانشقاق.
وفي تفسير الآلوسي: ج 21 ص 16 ما لفظه: مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير،
بل قال عطية وغيره: لا خلاف في مكيتها ولم يستثنوا منها شيئا، وقال الحسن: هي مكية إلا
قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون) الآية وهو خلاف مذهب الجمهور والتفسير
المرضي، وآياتها ستون، وعند بعض تسع وخمسون.
(2) الآية: 17.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 489 مرسلا.
3

سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح
المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشآء وهو العزيز الرحيم (5) وعد الله
لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظهرا من
الحيواة الدنيا وهم عن الآخرة هم غفلون (7) أولم يتفكروا في أنفسهم
ما خلق الله السموات والأرض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى وإن
كثيرا من الناس بلقآى ربهم لكفرون (8))
(الأرض) أرض العرب، لأن المعهودة عند العرب أرضهم، والمعنى: (غلبت
الروم في أدنى) أرض العرب منهم، وهي أطراف أرض الشام، وقيل: هي أرض
الجزيرة، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس (1).
والبضع: ما بين الثلاث إلى العشر، قيل: احتربت الروم وفارس بين أذرعات
وبصرى، فغلبت فارس الروم، فبلغ الخبر مكة، فشق على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
والمسلمين، لأن فارس مجوس والروم أهل كتاب، وفرح المشركون وقالوا: أنتم
والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس لا كتاب لنا، وقد ظهر إخواننا على
إخوانكم، ولنظهرن نحن عليكم، فنزلت: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) يعني: أن
الروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبونهم (في بضع سنين) (2). وهذه من
الآيات الشاهدة على صحة نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله)، وأن القرآن من عند الله سبحانه؛ لأنه
أنبأ بما سيكون وهو الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وعن أبي سعيد الخدري قال: التقينا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومشركي العرب،
والتقت الروم وفارس، فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر الله الروم على

(1) قاله مجاهد. راجع الكشاف: ج 3 ص 466.
(2) قاله عكرمة. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 164.
4

المجوس ففرحنا (بنصر الله) إيانا على المشركين، ونصر أهل الكتاب على
المجوس، فذلك قوله: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) وهو يوم بدر (1).
(من قبل ومن بعد) أي: في أول الوقتين وآخرهما، حين غلبوا وحين
يغلبون، يعني: أن كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا، ليس إلا بأمر الله وقضائه
(ويومئذ) ويوم يغلب الروم فارس (يفرح المؤمنون) بنصر الله، وتغليبه من له
كتاب على من لا كتاب له، وقيل: نصر الله أنه ولى بعض الظالمين بعضا وفرق بين
كلمتهم، وفي ذلك قوة للإسلام (2). (وعد الله) مصدر مؤكد، كقولك: له علي ألف
درهم اعترافا؛ لأن معناه: اعترفت لك بها اعترافا، ووعد الله ذلك وعدا لأن الكلام
المتقدم في معنى " وعدتم ".
ثم ذمهم الله تعالى بأنهم بصراء بأمور الدنيا، يعلمون منافعها ومضارها،
غافلون عن أمور الدين، وعن الحسن: بلغ من علم أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم
على ظفره فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي (3).
وقوله: (يعلمون) بدل من (لا يعلمون)، وفي هذا الإبدال إيذان بأن عدم
العلم الذي هو الجهل، ووجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا، مستويان في أنفسهم.
يحتمل أن يكون ظرفا، فيكون المعنى: أولم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة
من الفكر؟ والتفكر لا يكون إلا في القلوب ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين،
كما يقال: اعتقد في قلبه، أي: أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول أو فيعلموا ذلك؟
ويحتمل أن يكون صلة للتفكر، فيكون المعنى: أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي

(1) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 1 ص 163.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 467.
(3) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 196.
5

أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات فيتدبروا ما أودعها الله من غرائب الحكم
الدالة على التدبير دون الإهمال؟
وقوله: (إلا بالحق وأجل مسمى) أي: ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض
صحيح، وإنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة وبتقدير أجل مسمى لابد أن
ينتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الجزاء والحساب، والمراد بلقاء ربهم: الأجل
المسمى، والباء في (بالحق) مثلها في قولك: اشتريت الفرس بسرجه ولجامه.
(أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم
كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروهآ أكثر مما عمروها
وجآءتهم رسلهم بالبينت فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون (9) ثم كان عقبة الذين أسوا السوأى أن كذبوا بايت الله
وكانوا بها يستهزءون (10) الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون
(11) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون (12) ولم يكن لهم من
شركآئهم شفعؤا وكانوا بشركآئهم كفرين (13) ويوم تقوم الساعة
يومئذ يتفرقون (14) فأما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فهم في
روضة يحبرون (15) وأما الذين كفروا وكذبوا بايتنا ولقآى الآخرة
فأولئك في العذاب محضرون (16))
هذا تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المهلكين من الأمم الخالية
بتكذيبهم الرسل، ثم وصف أحوالهم وأنهم (كانوا أشد منهم قوة وأثاروا
الارض) أي: حرثوا الأرض، وسمي الثور لإثارته الأرض، والبقرة لبقرها، وهو
الشق (وعمروهآ أكثر مما) عمر هؤلاء (فما كان الله ليظلمهم) بتدميره إياهم،
لأن حاله منافية للظلم ولكنهم ظلموا أنفسهم بفعلهم ما أوجب تدميرهم.
6

وقرئ: (عقبة) بالنصب والرفع (1)، و (السوأى) تأنيث " الأسوء "، وهو
الأقبح، كما أن " الحسنى " تأنيث " الأحسن "، والمعنى: أنهم عوقبوا في الدنيا
بالدمار ثم كانت عاقبتهم السوأى، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، فمن نصب
(عقبة) جعلها الخبر، والسوأى: هي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في القيامة
وهي جهنم، و (أن كذبوا) بمعنى " لأن كذبوا ".
(ثم إليه) أي: إلى ثوابه أو عقابه (ترجعون) وقرئ بالتاء والياء (2).
والإبلاس: أن يبقى يائسا ساكنا متحيرا، و " شركاؤهم " الذين عبدوهم من دون
الله (وكانوا بشركآئهم كفرين) يكفرون بإلهيتهم ويجحدونها. والضمير في
(تفرقون) للمسلمين والكافرين، يدل على ذلك ما بعده، يتفرقون فرقة لا
اجتماع لها. (في روضة) في بستان وهي الجنة، ونكرت للتفخيم والإبهام، أي:
في روضة وأي روضة، والروضة عند العرب: كل أرض ذات نبات وماء، وفي
المثل " أحسن من بيضة في روضة " (يحبرون) يسرون، وقيل: هو السماع في
الجنة (3). (محضرون) لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم.
(فسبحن الله حين تمسون وحين تصبحون (17) وله الحمد في
السموات والارض وعشيا وحين تظهرون (18) يخرج الحى من
الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الارض بعد موتها وكذا لك
تخرجون (19) ومن ءايته أن خلقكم من تراب ثم إذآ أنتم بشر
تنتشرون (20) ومن ءايته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا

(1) وبالرفع قرأه أهل الحجاز والبصرة والبرجمي والسموني والكسائي عن أبي بكر. راجع
التبيان: ج 8 ص 230.
(2) وبالياء قرأه أبو عمرو وروح ويحيى والعليمي. راجع المصدر السابق: ص 234.
(3) قاله ابن كثير. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 173.
7

إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذا لك لآيت لقوم يتفكرون (21)
ومن ءايته خلق السموات والارض واختلف ألسنتكم وألوانكم إن
في ذلك لايت للعلمين (22) ومن ءايته منامكم باليل والنهار
وابتغآؤكم من فضله إن في ذلك لايت لقوم يسمعون (23) ومن ءايته
يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السمآء مآء فيحيي به الارض بعد
موتهآ إن في ذا لك لايت لقوم يعقلون (24) ومن ءايته أن تقوم السمآء
والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذآ أنتم تخرجون (25))
ثم عقب سبحانه ذكر الوعد والوعيد بما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد،
والمراد بالتسبيح: ظاهره الذي هو تنزيه الله جل اسمه من السوء وذكره في هذه
الأوقات، وقيل: هو الصلاة (1). وقيل لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في
القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية: (تمسون) صلاة المغرب والعشاء و (تصبحون)
صلاة الصبح (وعشيا) صلاة العصر (وحين تظهرون) صلاة الظهر (2).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: (فسبحن الله
حين تمسون) إلى قوله: (وكذا لك تخرجون) ومثل ذلك الإخراج تخرجون من
القبور وتبعثون " (3).
(خلقكم) أي: خلق أصلكم من تراب، و (إذا) للمفاجأة، والتقدير: ثم
فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض، كقوله: (وبث منهما رجالا كثيرا
ونساء) (4). (من أنفسكم) أي: من شكل أنفسكم وجنسها لا من جنس آخر

(1) قاله ابن عباس وابن جبير والضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 303.
(2) تفسير الطبري: ج 10 ص 174.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 472 مرسلا.
(4) النساء: 1.
8

(أزواجا) لتطمئنوا إليها وتألفوا بها، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد
من الإلف والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر (وجعل بينكم
مودة ورحمة) أي: توادا وتراحما بعد أن لم يكن بينكم معرفة ولا سبب
يوجب التحاب والتعاطف من القرابة والرحم. والألسنة: اللغات أو أجناس
المنطق وأشكاله. خالف سبحانه بين هذه الأشياء حتى لا يكاد يسمع بين منطقين
متفقين في شيء من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها (1) والألوان
وتنويعها، ولهذا الاختلاف وقع التعارف، ولو اتفقت وتشاكلت لوقع الالتباس،
و (في ذا لك) آية بينة في حكمة الصانع وكمال قدرته، وقرئ: (للعلمين) بفتح
اللام وكسرها (2)، ويشهد للكسر قوله: (وما يعقلها إلا العلمون) (3).
(منامكم باليل والنهار) هو من باب اللف وترتيبه (ومن ءايته منامكم،
وابتغآؤكم من فضله) بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين
الآخرين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد، من إعانة اللف على
الاتحاد، ويجوز أن يكون المراد: منامكم في الزمانين وابتغاؤكم من فضله فيهما،
والأول أظهر لتكرره في القرآن.
وفي (يريكم) وجهان: أحدهما: إضمار، والآخر: إنزال الفعل منزلة المصدر
وفسر المثل: " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " على الوجهين (خوفا) من
الصاعقة أو من الإخلاف (وطمعا) في الغيث، وقيل: خوفا للمسافر وطمعا

(1) في نسخة: " تخليطها ".
(2) قراءة حفص عن عاصم بكسرها والباقون جميعا بفتحها. راجع التبيان: ج 8 ص 239.
(3) العنكبوت: 43.
9

للحاضر (1)، وهما منصوبان على المفعول له، وكأ نه قيل: يجعلكم رائين البرق
خوفا وطمعا، أو تقديره: إرادة خوف وإرادة طمع، فحذف المضاف، ويجوز أن
يكونا حالين أي: خائفين وطامعين.
(ومن ءايته) قيام السماوات والأرض واستمساكهما بغير عمد (بأمره)
أي: بقوله: كونا قائمين، والمراد بإقامته لهما: إرادته لكونهما على صفة القيام دون
الزوال، وقوله: (إذا دعاكم) بمنزلة (يريكم) في أن الجملة وقعت موقع المفرد
على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السماوات والأرض (ثم) خروج الموتى
من القبور إذا دعاهم (دعوة) واحدة: يا أهل القبور أخرجوا، والمراد: سرعة
وجود ذلك من غير تلبث كما يجيب المدعو داعيه المطاع، وتقول: دعوت زيدا
من أعلى الجبل فنزل علي، ودعوته من أسفل الجبل فطلع إلي، و (إذا) الأولى
للشرط، والثانية للمفاجأة.
(وله من في السموات والارض كل له قنتون (26) وهو الذي
يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى في السموات
والارض وهو العزيز الحكيم (27) ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم
من ما ملكت أيمنكم من شركآء في ما رزقنكم فأنتم فيه سوآء
تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذا لك نفصل الايت لقوم يعقلون (28)
بل اتبع الذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما
لهم من نصرين (29))
(قنتون) أي: مطيعون منقادون لوجود أفعاله فيهم. (وهو أهون عليه)
كما يجب عندكم أن من أعاد منكم صنعة شيء كان أهون عليه وأسهل من إنشائها،

(1) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 177.
10

وتسمون الماهر في صناعته معاودا، بمعنى: أنه عاودها كرة بعد أخرى حتى مرن
عليها، وذكر الضمير لأن المراد: وأن يعيده أهون عليه، وقيل: الأهون بمعنى
الهين (1)، كقول الشاعر:
لعمرك ما أدري وإني لاوجل (2)
أي: لوجل (وله المثل الأعلى) أي: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله،
قد وصف به (في السموات والارض) وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء
من إنشاء وإعادة (وهو العزيز) القاهر (الحكيم) المحكم لأفعاله. وعن قتادة:
المثل الأعلى قول: " لا إله إلا الله " وهو الوصف بالوحدانية (3).
(ضرب لكم مثلا من أنفسكم) أي: أخذ لكم مثلا وانتزعه من أقرب شيء
منكم وهو أنفسكم، ف‍ " من " هنا لابتداء الغاية (هل لكم مما ملكت أيمنكم من
شركآء) أي: هل ترضون لأنفسكم وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد أن
يشاركوكم فيما (رزقنكم) من الأموال تكونون أنتم وهم فيه على السواء من
غير تفرقة بينكم وبينهم، تهابون أن تستبدوا بالتصرف دونهم كما يهاب بعضكم
بعضا من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف ترضون لرب الأرباب
ومالك الرقاب من العبيد والأحرار أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء (كذا لك)
يعني: مثل هذا التفصيل (نفصل الآيت) أي: نبينها، لأن التمثيل مما يوضح
المعاني الخفية، ويكون كالتشكيل والتصوير لها. (بل اتبع الذين ظلموا) أي:

(1) قاله ابن عباس. راجع التبيان: ج 8 ص 245.
(2) وعجزه: على أينا تغدو المنية أول. والبيت منسوب لمعن بن أوس. وهو واضح المعنى.
راجع الحماسة البصرية: ج 2 ص 6.
(3) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 181.
11

أشركوا، لقوله: (إن الشرك لظلم عظيم) (1)، (أهوآءهم بغير علم) أي: جاهلين،
لأن العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه، والجاهل يهيم على وجهه كالبهيمة
لا يكفه شيء (فمن يهدى من أضل الله) أي: خذله ولم يلطف به لعلمه أنه ممن
لا لطف له، أي: فمن يقدر على هداية مثله، ويدل على أن المراد بالإضلال
الخذلان قوله: (وما لهم من نصرين).
(فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا
تبديل لخلق الله ذا لك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)
منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلواة ولا تكونوا من المشركين (31) من
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32) وإذا
مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذآ أذاقهم منه رحمة إذا فريق
منهم بربهم يشركون (33) ليكفروا بمآ ءاتينهم فتمتعوا فسوف تعلمون
(34) أم أنزلنا عليهم سلطنا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون (35) وإذآ
أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم
يقنطون (36) أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن في
ذلك لايت لقوم يؤمنون (37))
أي: قوم وجهك للدين وعدله غير ملتفت عنه يمينا وشمالا، وهو تمثيل لثباته
على الدين واستقامته عليه واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بشيء قوم له وجهه،
وسدد إليه نظره، وأقبل عليه بكله (حنيفا) حال من المأمور، أو من " الدين "
(فطرت الله) أي: الزموا فطرة الله، أو: عليكم فطرة الله.
وقوله: (منيبين إليه) حال من الضمير في " الزموا "، ولذلك أضمر على

(1) لقمان: 13.
12

خطاب الجماعة، وقوله: (واتقوه وأقيموا الصلواة ولا تكونوا) معطوف على هذا
المضمر، والفطرة: الخلقة، ألا ترى إلى قوله: (لا تبديل لخلق الله) والمعنى:
أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام، غير نائين عنه، ولا منكرين له، حتى لو
تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الجن والإنس.
ومنه الحديث: " خلقت عبادي حنفاء، فاحتالتهم الشياطين عن دينهم،
وأمروهم أن يشركوا بي غيري " (1).
وقوله (عليه السلام): " كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه
وينصرانه " (2).
(لا تبديل لخلق الله) أي: لا ينبغي أن تبدل تلك الفطرة وتغير. وخوطب
الرسول (صلى الله عليه وآله) أولا فوحد، ثم جمع ثانيا لأن خطابه (عليه السلام) خطاب لأمته.
(من الذين) بدل من (المشركين)، " فارقوا دينهم " (3) أي: دين الإسلام
وقرئ: (فرقوا) أي: جعلوه أديانا مختلفة لاختلاف أهوائهم (وكانوا شيعا)
أي: فرقا، كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها (كل حزب) منهم فرح بمذهبه
مسرور، يحسب باطله حقا. ويجوز أن يكون (من الذين) منقطعا عما قبله،
والمعنى: من المفارقين دينهم، كل حزب فرحين بما لديهم، لكنه رفع (فرحون)
على الوصف ل‍ (كل).
(وإذا مس الناس ضر) أي: مرض أو قحط أو شدة انقطعوا (إلى الله)
وأنابوا إليه (ثم إذآ أذاقهم... رحمة) بأن يخلصهم مما أصابهم قابلوا النعمة
بالكفران. واللام في (ليكفروا) مجاز، مثلها في (ليكون لهم عدوا وحزنا) (4)،

(1) تلبيس إبليس لابن الجوزي: ص 24.
(2) المعجم الكبير للطبراني: ج 1 ص 260.
(3) الظاهر أن المصنف اعتمد هنا على القراءة بالألف وتخفيف الراء تبعا للكشاف.
(4) القصص: 8.
13

(فتمتعوا) نظير (اعملوا ما شئتم) (1)، (فسوف تعلمون) وبال تمتعكم.
والسلطان: الحجة (فهو يتكلم) مجاز، كما يقال: كتابه ينطق بكذا، ومعناه
الدلالة، كأنه قال: فهو يشهد بصحة شركهم، و " ما " مصدرية، أي: بكونهم بالله
يشركون، ويجوز أن تكون موصولة ويرجع الضمير إليها، ومعناه: فهو يتكلم بالأمر
الذي بسببه يشركون.
" وإذا أذقناهم رحمة " أي: نعمة من مطر أو غنى أو صحة (فرحوا بها وإن
تصبهم سيئة) أي: بلاء من جدب أو فقر أو مرض بسبب معاصيهم قنطوا من
الرحمة، ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه الباسط القابض فما لهم (يقنطون) من
رحمته، ولا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها حتى
يعيد إليهم رحمته؟
(فات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين
يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون (38) ومآ ءاتيتم من ربا ليربوا
في أموال الناس فلا يربوا عند الله ومآ ءاتيتم من زكوا ة تريدون وجه
الله فأولئك هم المضعفون (39) الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم
ثم يحييكم هل من شركآئكم من يفعل من ذا لكم من شىء سبحنه
وتعلى عما يشركون (40))
عن أبي سعيد الخدري أنه قال: لما نزلت الآية أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة
فدكا وسلمه إليها، وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) (2).
ولما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب فعله وذكر
ما يجب تركه. وحق ذي القربى: صلة الرحم، وحق المسكين وابن السبيل:

(1) فصلت: 40.
(2) أنظر التبيان: ج 8 ص 253.
14

نصيبهما الذي سمي لهما (يريدون وجه الله) أي: يقصدون جهة التقرب إليه
خالصا لا جهة أخرى.
(ومآ ءاتيتم من ربا) قيل: إنه ربا الحلال، وهو أن تعطي العطية أو تهدي
الهدية لتثاب أكثر منها فليس فيه أجر ولا وزر (1)، وهو المروي عن الباقر (عليه السلام)،
وقيل: هو مثل (يمحق الله الربوا ويربى الصدقات) أي: ليزيد ويزكو في أموال
الناس ولا يزكو (عند الله) ولا يبارك فيه (2). (ومآ ءاتيتم من زكوا ة) تبتغون به
(وجه الله) خالصا لا تطلبون مكافأة (فأولئك هم) ذوو الإضعاف من
الحسنات، ونظير المضعف المقوي والموسر لذوي القوة واليسار، وقرئ: " ما أتيتم
من ربا " وهو يؤول في المعنى إلى قراءة من مد (3)، وهو كما يقول: أتيت الخطأ
وآتيت الصواب، ولم يختلفوا في (مآ ءاتيتم من زكوا ة) أنه بالمد، وقرئ:
" لتربوا " (4) أي: لتزيدوا في أموالهم، أو: لتصيروا ذوي زيادة فيما آتيتم من أموال
الناس أي: تجتلبونها وتستدعونها.
وقوله: (فأولئك هم المضعفون) التفات حسن، كأنه قال: فأولئك الذين
يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون، فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم
المضعفون، والضمير الراجع إلى " ما " محذوف، أي: هم المضعفون به.
(الله) مبتدأ، وخبره (الذي خلقكم)، أي: الله هو فاعل هذه الأفعال التي
لا يقدر عليها غيره، ثم قال: (هل من شركآئكم) الذين اتخذتموهم آلهة من يفعل

(1) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم والضحاك وطاووس. راجع تفسير
الطبري: ج 10 ص 187 - 188.
(2) قاله الحسن. راجع التبيان: ج 8 ص 254. والآية من البقرة: 276.
(3) قرأ ابن كثير وحده بالقصر والباقون بالمد. راجع التبيان: ج 8 ص 251.
(4) قرأه نافع وأبو جعفر. راجع المصدر السابق.
15

شيئا من تلك الأفعال حتى يصح ما ذهبتم إليه؟ ثم نزه نفسه عن أن يشرك معه
غيره في العبادة.
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض
الذي عملوا لعلهم يرجعون (41) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف
كان عقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين (42) فأقم وجهك للدين
القيم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون (43) من
كفر فعليه كفره ومن عمل صلحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزى الذين
ءامنوا وعملوا الصلحت من فضله إنه لا يحب الكافرين (45))
المراد ب‍ (الفساد في البر والبحر) هو القحط وقلة الريع في المزروعات
والبياعات (1)، ومحق البركات من كل شيء (بما كسبت أيدي الناس) يعني:
كفار مكة، يريد: بسبب كفرهم وشؤم معاصيهم. وعن الحسن: أن المراد بالبحر
مدن البحر وقراه التي على شاطئه (2). وعن عكرمة: أن العرب تسمي الأمصار
البحار (3). ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك، والأول
أوجه (ليذيقهم بعض الذي عملوا) أي: وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن
يعاقبهم بجميعها في الآخرة (لعلهم يرجعون) عما هم عليه.
ثم أكد سبحانه تسبيب المعاصي لغضب الله ونكاله، حيث أمر بأن يسيروا في
الأرض وينظروا كيف أهلك الله الأمم بمعاصيهم وشركهم.
القيم: المستقيم، البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج، وتعلق من الله
ب‍ (- يأتي) بمعنى: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد، كقوله تعالى:

(1) في نسخة: " الزراعات والصناعات ".
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 482.
(3) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 191.
16

(فلا يستطيعون ردها) (1)، أو: بمرد على معنى: لا يرده هو بعد أن يجيء به،
فلا رد له من جهته (يصدعون) يتصدعون أي: يتفرقون فيه: فريق في الجنة
وفريق في السعير. (من كفر فعليه) عقوبة (كفره)، (فلأنفسهم يمهدون) أي:
يوطنون لأنفسهم منازلهم كما لنفسه يوطئ من مهد فراشه وسواه كيلا يصيبه في
مضجعه ما ينغص عليه مرقده، ويجوز أن يريد: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم
في الشفيق: " أم فرشت فأنامت " (2)، وتقديم الظرفين للدلالة على أن ضرر الكفر
ومنفعة الإيمان والصلاح لا يتعديان الكافر والمؤمن.
وقوله: (ليجزى) متعلق ب‍ (يمهدون) لتعليله (من فضله) أي: مما يتفضل
عليهم بعد توفية الواجب من الثواب، أو: أراد من عطائه وفواضله وهو الثواب.
وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أن الفلاح للمؤمن الصالح عنده، وقوله: (إنه
لا يحب الكافرين) تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس.
(ومن ءايته أن يرسل الرياح مبشرا ت وليذيقكم من رحمته
ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (46) ولقد
أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين
أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين (47) الله الذي يرسل الريح
فتثير سحابا فيبسطه في السمآء كيف يشآء ويجعله كسفا فترى الودق
يخرج من خلله فإذا أصاب به من يشآء من عباده إذا هم يستبشرون
(48) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين (49) فانظر إلى
ءاثر رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتهآ إن ذا لك لمحي الموتى
وهو على كل شىء قدير (50) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من

(1) الأنبياء: 40.
(2) يضرب في بر الرجل بصاحبه. راجع مجمع الأمثال: ج 1 ص 24.
17

بعده يكفرون (51) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا
ولوا مدبرين (52) ومآ أنت بهد العمى عن ضللتهم إن تسمع إلا من
يؤمن بايتنا فهم مسلمون (53))
عدد سبحانه الغرض في إرسال رياح الرحمة، وهو أن يبشر بالغيث والإذاقة
من الرحمة - وهي المطر - وحصول الخصب الذي يتبعه والروح الذي مع هبوب
الريح، وغير ذلك (ولتجري الفلك) في البحر عند هبوبها، وإنما زاد (بأمره)
لأن الريح قد تهب ولا تكون موافقة (ولتبتغوا من فضله) يريد: تجارة البحر
ولتشكروا نعمة الله فيها، ويجوز أن يتعلق (وليذيقكم) بمحذوف تقديره:
وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلها، وأن يكون معطوفا على (مبشرات) كأنه
قال: ليبشركم وليذيقكم.
وفي قوله: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) تعظيم للمؤمنين ورفع شأنهم
حيث جعلهم مستحقين لأن ينصرهم ويظهرهم.
(فيبسطه) متصلا تارة (ويجعله كسفا) أي: قطعا متفرقة تارة (فترى الودق
يخرج من خلله) في التارتين جميعا، والمراد ب‍ (السمآء): سمت السماء كقوله:
(وفرعها في السمآء) (1)، وبإصابة العباد إصابة أراضيهم وبلادهم. (من قبله)
من باب التكرير للتوكيد كقوله: (فكان عقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) (2).
وقرئ: " إلى أثر " (3)، (إن ذا لك) للقادر الذي يحيي الناس من بعد موتهم.
(فرأوه) أي: فرأوا أثر رحمة الله التي هي الغيث وأثره النبات، ومن قرأ بالجمع
فالضمير يرجع إلى معناه، لأن معنى آثار الرحمة: النبات، واسم النبات يقع على

(1) إبراهيم: 24.
(2) الحشر: 17.
(3) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات
لابن مجاهد: ص 508.
18

القليل والكثير؛ لأنه مصدر سمي به ما ينبت. واللام في (لئن) هي الموطئة
للقسم، و (لظلوا) جواب القسم سد مسد الجوابين (مصفرا) بعد الخضرة
والنضرة. ذمهم الله سبحانه بأنه إذا حبس عنهم القطر قنطوا وأبلسوا، فإذا رزقوا
المطر استبشروا وابتهجوا، فإذا أرسل ريحا فضربت زروعهم بالصفار كفروا بنعمة
الله، وقيل: معناه: فرأوا السحاب مصفرا لأنه إذا كان كذلك لم يمطر (1).
(الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل
من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشآء وهو العليم القدير (54) ويوم
تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذا لك كانوا يؤفكون
(55) وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتب الله إلى يوم
البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون (56) فيومئذ لا ينفع
الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون (57) ولقد ضربنا للناس في
هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم
إلا مبطلون (58) كذا لك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59)
فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (60))
(من ضعف) قرئ بفتح الضاد وضمها (2)، يعني: أن بنيتكم مجبولة على
الضعف (وخلق الإنسان ضعيفا) (3) أي: ابتدأناكم في أول الأمر ضعافا وذلك
حال الطفولية حتى بلغتم وقت الشبيبة والفتار (4) تلك حال القوة إلى وقت
الاكتهال، ثم ردكم إلى الضعف وهو حال الشيخوخة والهرم، وفي ذلك أوضح
دلالة على الصانع العليم القدير.

(1) حكاه علي بن عيسى كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 321.
(2) وبالضم قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي. راجع كتاب السبعة في
القراءات لابن مجاهد: ص 508.
(3) النساء: 28.
(4) الفتار: ابتداء النشوة، (لسان العرب: مادة فتر).
19

(ما لبثوا غير ساعة) أرادوا لبثهم في الدنيا، أو في القبور، أو في ما بين فناء
الدنيا إلى البعث، وإنما قدروا وقت لبثهم ساعة على وجه الاستقصار له، أو ينسون
ويخمنون (كذا لك) أي: مثل ذلك الإفك - وهو الصرف - كانوا يصرفون عن
الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق.
القائلون هم الملائكة أو الأنبياء أو المؤمنون (في كتب الله) في علم الله
المثبت في اللوح المحفوظ، أو: في علم الله وقضائه الذي أوجبه بحكمته ردوا ما
قالوه وحلفوا عليه، ثم قرعوهم على إنكار البعث بقولهم: (فهذا يوم البعث
ولكنكم كنتم لا تعلمون) إنه حق، فلا ينفعكم العلم به الآن.
(فيومئذ) لا يمكنون من الاعتذار، ولو اعتذروا لم تقبل معذرتهم، ولا
يطلب منهم الإعتاب، يقال: استعتبني فلان فأعتبته، أي: استرضاني فأرضيته،
وحقيقة " أعتبته ": أزلت عتبه، والمعنى: لا يقال لهم ارضوا ربكم بتوبة وطاعة.
(ولقد) وصفنا لهم (كل) صفة كأنها (مثل) في غرابتها، وقصصنا عليهم
كل قصة عجيبة كقصة المبعوثين يوم القيامة وما يقولونه وما يقال لهم، ولكنهم
لقسوة قلوبهم وعنادهم إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا: جئتنا بزور وباطل.
(كذا لك) أي: مثل ذلك الطبع (يطبع الله على قلوب) الجهلة فيمنعهم ألطافه
الشافية (1) للصدور حتى سموا المحقين مبطلين.
(فاصبر) على عداوتهم (إن وعد الله) بنصرك وإظهار دينك على كل
الأديان (حق) ولا يحملنك على الخفة والجزع من كفرهم وعنادهم فإنهم قوم
ظانون (لا يوقنون) بأنهم يبعثون.
* * *

(1) في نسخة: " الشارحة ".
20

سورة لقمان
مكية (1) سوى أربع آيات، وهي أربع وثلاثون آية، (ألم) كوفي،
(مخلصين له الدين) (2) بصري.
في حديث أبي: " من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة،
وأعطي من الحسنات عشرا عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن
المنكر " (3).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة لقمان في ليلة وكل الله به في ليلته ثلاثين ملكا
يحفظونه من إبليس وجنوده حتى يصبح، فإن قرأها بالنهار حفظوه من إبليس
وجنوده حتى يمسي " (4).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 268: هي مكية في قول مجاهد وقتادة، ليس فيها
ناسخ ولا منسوخ، وقال الحسن: هي مكية إلا آية واحدة وهي قوله: (الذين يقيمون
الصلواة ويؤتون الزكواة) لأن الصلاة والزكاة مدنيتان، وهي ثلاث وثلاثون آية حجازي،
وأربع وثلاثون آية فيما عدا الحجازي.
وفي الكشاف: ج 3 ص 489: مكية إلا الآيات 27 و 28 و 29 فمدنية، وآياتها 34 وقيل:
33، نزلت بعد الصافات.
(2) الآية: 32.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 505 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 136.
21

بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم (1) تلك ءايت الكتب الحكيم (2) هدى ورحمة للمحسنين
(3) الذين يقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالأخرة هم يوقنون (4)
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5) ومن الناس من
يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا
أولئك لهم عذاب مهين (6) وإذا تتلى عليه ءايتنا ولى مستكبرا كأن لم
يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم (7) إن الذين ءامنوا
وعملوا الصلحت لهم جنت النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو
العزيز الحكيم (9) خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض
رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السمآء مآء
فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق
الذين من دونه بل الظالمون في ضلل مبين (11))
(هدى ورحمة) بالنصب على الحال في الآيات، والعامل فيها ما في تلك
من معنى الإشارة. وقرئ بالرفع (1) على أنه خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف
(للمحسنين) للذين يعملون الحسنات، وهم الذين وصفهم بإقامة الصلاة وإيتاء
الزكاة والإيقان بالآخرة، كما يحكى (2) عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي،
فأنشد قول أوس بن حجر:

(1) قرأه حمزة وحده. راجع التبيان: ج 8 ص 268.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 489.
22

الألمعي الذي يظن بك الظن * كأن قد رأى وقد سمعا (1)
ولم يزد، أو: للذين يعملون ما يحسن من الأعمال، ثم خص منهم القائمين
بهذه الثلاث لفضلها.
واللهو: كل باطل ألهى عن الخير، و (لهو الحديث): هو الطعن في الحق
والاستهزاء به، والتحدث بالخرافات والمضاحيك، والغناء والمعازف. والإضافة
بمعنى " من " ومعناها التبيين، والمعنى: (من يشترى) اللهو من الحديث، وهو
إضافة الشيء إلى ما هو منه كباب ساج وثوب خز.
وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يتجر إلى فارس فيشتري كتب
الأعاجم ويحدث بها قريشا ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود،
فأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون
استماع القرآن (2).
فعلى هذا يكون (يشترى) من الشراء، وعلى الأول يكون من قوله:
(اشتروا الكفر بالأيمان) (3) أي: استبدلوه منه واختاروه عليه، وعن قتادة:
اشتراؤه: استحبابه، أي: يختار حديث الباطل على حديث الحق (4)، وقرئ:
(ليضل) بضم الياء وفتحها (5)، وقرئ: (يتخذها) بالرفع (6) والنصب، فالرفع

(1) وهو من قصيدة يرثي بها أحد بني أسد وهو فضالة بن كلدة ومطلعه:
أيتها النفس أجملي جزعا * إن الذي تحذرين قد وقعا
ومعناه واضح. أنظر الكامل للمبرد: ج 3 ص 1400، وديوان أوس: ص 53.
(2) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 2 ص 326.
(3) آل عمران: 177.
(4) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 202.
(5) وبالفتح قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب العنوان في القراءات لابن خلف: ص 152.
(6) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب
السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 512.
23

للعطف على (يشترى)، والنصب للعطف على (ليضل) والضمير ل‍ " السبيل "
لأنها مؤنثة. وقوله: (بغير علم) معناه: بغير علم بالتجارة، وبغير بصيرة بها حيث
يشتري الباطل بالحق، والضلال بالهدى، ونحوه قوله: (فما ربحت تجارتهم وما
كانوا مهتدين) (1) أي: ما كانوا بصراء بالتجارة. (ولى مستكبرا) رافعا نفسه
فوق مقدارها، لا يعبأ بآياتنا، يشبه حاله حال من لم يسمعها وهو سامع (كأن في
أذنيه) ثقلا. وقوله: (كأن لم يسمعها) في محل نصب حال من (مستكبرا)
و (كأن) مخففة، والأصل: كأنه، والضمير للشأن (وكأن في أذنيه وقرا) حال
من (كأن لم يسمعها)، ويجوز أن يكونا جميعا استئنافين.
(وعد الله حقا) مصدران مؤكدان، الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره،
لأن قوله: (لهم جنت النعيم) في معنى: وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى
الوعد بالوعد. وأما (حقا) فدال على معنى الثبات، أكد به معنى الوعد، ومؤكدهما
جميعا قوله: (لهم جنت النعيم)، (وهو العزيز) الذي يقدر على كل شيء
فيعطي النعيم من يشاء والبؤس من يشاء (الحكيم) الذي لا يشاء إلا ما توجبه
الحكمة. هذا إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته.
والخلق بمعنى المخلوق، و (الذين من دونه): آلهتهم بكتهم بأن هذه الأشياء
العظيمة مما خلقه الله (فأروني) ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم
العبادة. ثم أضرب عن تبكيتهم إلى الشهادة عليهم بالتورط في ضلال ظاهر
وعدول عن الحق.
(ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر
لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد (12) وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه

(1) البقرة: 16.
24

يبنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13) ووصينا الانسان
بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصله في عامين أن اشكر لي
ولوا لديك إلى المصير (14) وإن جهداك على أن تشرك بي ما ليس لك
به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب
إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (15) يبنى إنها إن تك
مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض
يأت بها الله إن الله لطيف خبير (16) يبنى أقم الصلواة وأمر بالمعروف
وانه عن المنكر واصبر على مآ أصابك إن ذا لك من عزم الامور (17)
ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل
مختال فخور (18) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر
الأصوات لصوت الحمير (19))
الأظهر أن لقمان لم يكن نبيا وكان حكيما، وقيل: كان نبيا (1)، وقيل: خير بين
النبوة والحكمة فاختار الحكمة، وكان ابن أخت أيوب أو ابن خالته (2)، وقيل: إنه
عاش ألف سنة وأدرك داود (عليه السلام) وأخذ منه العلم (3)، وقيل: إنه دخل عليه وهو
يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما
أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال لقمان: الصمت حكم، وقليل
فاعله، فقال داود: بحق ما سميت حكيما (4).
(أن) هي المفسرة؛ لأن إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه عن اسمه على

(1) قاله عكرمة. راجع التبيان: ج 8 ص 275.
(2) قاله قتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 331.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 492.
(4) المصدر السابق: ص 493.
25

أن الحكمة الحقيقية والعلم الأصلي هو العمل بما هو عبادة الله والشكر له، حيث
فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر (فإن الله غنى) لا يحتاج إلى الشكر
(حميد) حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.
وقرئ: (يبنى) بفتح الياء وكسرها (1) كل القرآن، و " يا بني " (2)، ومن كسر
فهو على قولك: يا غلام أقبل، ومن فتح على قولك: يا غلاما، أبدلت الألف من ياء
الإضافة ثم حذفت الألف للتخفيف، ومن أسكن الياء في الوصل فإنه أجرى الوصل
مجرى الوقف (إن الشرك لظلم عظيم) لأن التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه
وبين من لا نعمة منه البتة ولا يتصور أن يكون منه نعمة ظلم لا يحاط بكنهه.
(حملته أمه) تهن (وهنا على وهن) وهو مثل قولك: رجع عودا على بدء.
وهو في موضع الحال، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأن الحمل كلما عظم
ازدادت المرأة ثقلا وضعفا (أن اشكر) تفسير ل‍ (وصينا).
(ما ليس لك به علم) أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء،
كقوله: (ما يدعون من دونه من شىء) (3). (معروفا) أي: صحابا معروفا حسنا
بخلق جميل واحتمال وبر وصلة وما تقتضيه المروة (واتبع سبيل من أناب إلى)
من المؤمنين في دينك، ولا تتبعهما في دينهما وإن أمرت بحسن مصاحبتهما
(في الدنيا)، (ثم إلى) مرجعك ومرجعهما فأجازيهما على كفرهما وأجازيك
على إيمانك. وهذا كلام وقع في أثناء وصية لقمان على سبيل الاستطراد، تأكيدا
لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك.
ولما وصى بالوالدين ذكر ما تقاسيه الأم من المشاق في مدة الحمل والفصال؛

(1) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة
في القراءات لابن مجاهد: ص 513.
(2) وهي قراءة ابن كثير. راجع المصدر السابق.
(3) العنكبوت: 42.
26

إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا وتذكيرا بعظيم حقها مفردا.
وقرئ: (مثقال حبة) بالرفع (1) والنصب، فمن نصب كان الضمير للهنة من
الإساءة أو الاحسان، أي: إن كانت مثلا في الصغر كحبة الخردل وكانت مع صغرها
في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة (أو) حيث كانت (في السموات أو
في الأرض يأت بها الله) يوم القيامة فيحاسب بها عاملها (إن الله لطيف) يصل
علمه إلى كل خفي (خبير) عالم بكنهه. ومن رفع ف‍ (تك) تامة، وأنث (مثقال)
لإضافته إلى (حبة) كما قيل:
كما شرقت صدر القناة من الدم (2)
وهو من باب ما اكتسب فيه المضاف من المضاف إليه التأنيث.
الصادق (عليه السلام): " إياكم والمحقرات من الذنوب فإن لها من الله طالبا، لا يقولن
أحدكم: أذنب وأستغفر الله، إن الله تعالى يقول: (إن تك مثقال حبة) الآية " (3).
(واصبر على ما أصابك) من الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(إن ذا لك) مما عزمه الله من الأمور، أي: قطعه قطع إيجاب وإلزام.
ومنه الحديث: " إن الله يحب أن يؤخذ برخصته كما يحب أن يؤخذ بعزائمه " (4).
وقيل: من الأمور التي يجب الثبات عليها (5). وأصله من معزومات الأمور
ومقطوعاتها، أو: من عازمات الأمور، من قوله: فإذا عزم الأمر، كقولك: جد الأمر

(1) قرأه نافع. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 544.
(2) والبيت للأعشى، وصدره:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته
انظر ديوان الأعشى: ص 186 تحقيق كامل سليمان.
(3) رواه العياشي في تفسيره عن ابن مسكان كما في كنز الدقائق: ج 8 ص 32.
(4) أخرجه الهيثمي في المجمع: ج 3 ص 163.
(5) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 338.
27

وصدق القتال، فهو مصدر وصف به الفاعل أو المفعول، وفيه دلالة على أن هذه
الطاعات كانت مأمورا بها في سائر الأمم.
وقرئ: " تصاعر " (1) و (تصعر) من صاعر خده وصعرها. ومعناه: أقبل على
الناس بوجهك تواضعا ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعل المتكبر (مرحا) نصب
على الحال بمعنى: ولا تمش تمرح مرحا، أو أراد: ولا تمش لأجل المرح والأشر،
لا يكن غرضك في المشي البطر والبطالة لا لكفاية مهم ديني أو دنيوي، والمختال:
مقابل للماشي مرحا، و " الفخور " للمصعر خده كبرا.
(واقصد في مشيك) إعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين، لا تدب دبيب
المتماوتين، ولا تثب وثوب الذعار (واغضض من صوتك) أنقص منه (إن أنكر
الأصوات) أي: أوحشها من قولهم: شيء نكر: إذا أنكرته النفوس ونفرت
واستوحشت منه.
(ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض
وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجدل في الله بغير
علم ولا هدى ولا كتب منير (20) وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا
بل نتبع ما وجدنا عليه ءابآءنآ أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب
السعير (21) ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة
الوثقى وإلى الله عقبة الأمور (22) ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم
فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم
نضطرهم إلى عذاب غليظ (24) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض
ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (25) لله ما في السموات

(1) قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 513.
28

والأرض إن الله هو الغنى الحميد (26) ولو أنما في الأرض من شجرة
أقلم والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمت الله إن الله عزيز
حكيم (27) ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير (28))
(ما في السموات) الشمس والقمر والنجوم (وما في الأرض) الحيوان
والنبات والبحار والأنهار وغير ذلك، وقرئ: " نعمة " (1) و (نعمه)، والنعمة: كل
نفع قصد به وجه الإحسان، والله سبحانه خلق العالم كله نعمة، فما ليس بحيوان
نعمة على الحيوان ينتفع به، وأما الحيوان فإيجاده حيا نعمة عليه، لأنه لولا إيجاده
حيا لما صح منه الانتفاع، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة، والنعمة
الظاهرة: كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة: ما لا يعلم إلا بدليل أو غاب عن العباد
علمه فلا يهتدون إليها.
(أولو كان الشيطان) معناه: أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى
العذاب؟ أي: في حال دعاء الشيطان إياهم.
(ومن يسلم وجهه إلى الله) أي: يفوض أمره إليه ويتوكل عليه (فقد
استمسك بالعروة الوثقى) هو من باب التمثيل، مثلت حال المتوكل بحال من
تدلى من موضع عال فاستمسك بعروة حبل وثيق يأمن انقطاعه.
وقرئ (فلا يحزنك) و " يحزنك " (2) من حزن وأحزن، والذي عليه
الاستعمال: أحزنه، ويحزنه، والمعنى: لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإن الله
سبحانه ينتقم منه (إن الله) يعلم ما في صدور عباده، لا يخفى عليه شيء.
(نمتعهم) زمانا قليلا بدنياهم (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) شبه إلزامهم

(1) وهي قراءة أبي عمرو برواية علي بن نصر وعبيد بن عقيل عنه. راجع كتاب السبعة في
القراءات لابن مجاهد: ص 513.
(2) وهي قراءة نافع وحده. راجع كتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 365.
29

التعذيب باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه، والمراد
بالغلظ: الشدة والثقل على المعذب.
(قل الحمد لله) إلزام لهم على إقرارهم بأن الذي خلق السماوات والأرض
هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر، وأن لا يعبد معه غيره
(بل أكثرهم لا يعلمون) أن ذلك يلزمهم. (إن الله هو الغنى) عن حمد
الحامدين، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.
وقرئ: " والبحر " بالنصب (1) عطفا على اسم " إن "، وبالرفع عطفا على محل
" إن " ومعمولها، أي: ولو ثبت كون الأشجار أقلاما، وثبت البحر ممدودا بسبعة
أبحر، أو: على الابتداء والواو للحال على معنى: ولو أن الأشجار أقلام في حال
كون البحر ممدودا، وهي من الأحوال التي حكمها حكم الظروف، ولا يعود منها
ضمير إلى ذي الحال، كبيت امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها * بمنجرد قيد الأوابد هيكل (2)
جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي
تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع، فمعناه: ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر
ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، لنفدت الأقلام
والمداد وما نفدت كلمات الله.
وقرأ الصادق (عليه السلام): " والبحر مداده " (3) ويقوي الوجه الثاني.
والأولى أن يكون (كلمات الله) عبارة عن مقدوراته ومعلوماته، لأنها

(1) قرأه البصريان (أبو عمرو ويعقوب). راجع كتاب العنوان في القراءات لابن خلف: ص 152.
(2) والبيت من معلقته المشهورة، وفيه يتمدح بالفروسية ويتفاخر بها، يقول: ربما باكرت
الصيد قبل نهوض الطير من أوكارها على فرس ماض في سيره، قليل شعره، عظيم لوحه.
راجع ديوان امرئ القيس: ص 51.
(3) حكاها عنه (عليه السلام) القرطبي في تفسيره: ج 14 ص 77.
30

إذا كانت لا تتناهى فالكلمات التي تقع عبارة عنها أيضا لا تتناهى.
(ما خلقكم ولا بعثكم إلا) كخلق نفس واحدة وبعثها، والمعنى: أنه يستوي
في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، إذ لا يشغله فعل عن فعل وشأن عن
شأن (إن الله سميع) يسمع كل مسموع (بصير) يبصر كل مبصر في حال واحدة
لا يشغله بعض عن بعض، فكذلك الخلق والبعث.
(ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر
الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير
(29) ذا لك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه البطل وأن الله هو
العلى الكبير (30) ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمت الله ليريكم
من ءايته إن في ذلك لايت لكل صبار شكور (31) وإذا غشيهم موج
كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجلهم إلى البر فمنهم مقتصد
وما يجحد بايتنآ إلا كل ختار كفور (32) يا أيها الناس اتقوا ربكم
واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده
شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور
(33) إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت
إن الله عليم خبير (34))
أي: كل واحد من (الشمس والقمر) يجري في فلكه على وتيرة واحدة،
ويقطعه إلى وقت معلوم: الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر، وعن
الحسن: الأجل المسمى: يوم القيامة، لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذ (1).

(1) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 285.
31

(ذا لك) الذي وصف من آثار صنعته وحكمته بسبب أن الله هو الحق، الثابت
إلهيته، وأن الذي يدعونه من دونه باطل، وأنه (العلى الكبير) عن أن يشرك به.
(بنعمت الله) أي: بإحسانه ورحمته ليريكم بعض دلالاته على كمال قدرته
(إن في ذا لك لايت لكل صبار شكور) أي: لكل مؤمن صبار على بلائه
شكور لنعمائه.
الظلل: جمع الظلة، وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب (فمنهم مقتصد)
في الإخلاص الذي كان عليه، وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في
البحر (1)، والختار: الغدار، والختر: أسوأ الغدر وأقبحه.
(لا يجزى) أي: لا يقضي (والد عن ولده شيئا): والمعنى: " لا يجزي فيه "
فحذف، و (الغرور): الشيطان.
(إن الله عنده علم الساعة) استأثر به ولم يطلع عليه أحدا (وينزل الغيث)
في أيامه (2)، ويعلم نزوله في مكانه وزمانه (ويعلم ما في) أرحام الحوامل، أتام
أو ناقص، أذكر أم أنثى، أواحد أم أكثر (وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا) من
خير أو شر (وما تدرى نفس) أين (تموت) وجعل العلم لله، والدراية للعبد لما
في الدراية من معنى الختل والحيلة، أي: لا تعرف نفس وإن عملت حيلتها ما
يختص بها من كسبها وعاقبتها، فمن أين له معرفة ما عداهما؟
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): " مفاتيح الغيب خمس " وتلا هذه الآية (3).
* * *

(1) قاله ابن عباس والنقاش. راجع تفسير القرطبي: ج 14 ص 80.
(2) في نسخة: " آياته ".
(3) أخرجه البخاري في الصحيح: ج 6 ص 71 ح 144، وأحمد في المسند: ج 2 ص 122.
32

سورة السجدة
مكية (1) غير ثلاث آيات، من قوله: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) (2)
إلى تمام الآيات، تسع وعشرون آية بصري، ثلاثون آية غيرهم.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة ألم تنزيل وسورة الملك فكأنما أحيا ليلة
القدر " (3). وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة السجدة في ليلة كل جمعة أعطاه الله
كتابه بيمينه ولم يحاسبه بما كان منه، وكان من رفقاء محمد وأهل بيته (عليهم السلام) " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم (1) تنزيل الكتب لا ريب فيه من رب العلمين (2) أم يقولون
افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 291: مكية في قول قتادة ومجاهد وغيرهما،
وقال الكلبي ومقاتل: ثلاث آيات منها مدنية، قوله: (أفمن كان مؤمنا) إلى تمام ثلاث
آيات، وهي ثلاثون آية كوفي وحجازي وشامي، وتسع وعشرون آية بصري.
وفي الكشاف: ج 3 ص 506: مكية إلا من آية (6) إلى غاية آية (20) فمدنية، وآياتها
(30) وقيل: (29) نزلت بعد " المؤمنون ".
(2) الآية: 18.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 517 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 136.
33

لعلهم يهتدون (3) الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في
ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه ى من ولى ولا شفيع أفلا
تتذكرون (4) يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم
كان مقداره ألف سنة مما تعدون (5))
(تنزيل) مبتدأ وخبره (من رب العلمين)، و (لا ريب فيه) إعتراض
أثبت أولا: أن تنزيل الكتاب من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، ثم
أضرب عن ذلك إلى قوله: (أم يقولون افتراه): لأن (أم) هذه منقطعة إنكارا
لقولهم، وتعجيبا منه لظهور الأمر في عجزهم عن الإتيان بسورة منه، ثم أضرب
عن الإنكار إلى إثبات أنه (الحق من ربك) وقوله: (لتنذر قوما ما أتهم من
نذير من قبلك) يعني: قريشا، إذ لم يأتهم نبي قبل نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) (لعلهم يهتدون)
استعار لفظ الترجي للإرادة
(ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع) هو على معنيين: أحدهما: أنكم إذا
جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا، أي: ناصرا ينصركم ولا شفيعا يشفع لكم،
والآخر: أنه سبحانه وليكم الذي يتولى مصالحكم، وشفيعكم أي: ناصركم على
سبيل المجاز؛ لأن الشفيع ينصر المشفوع له.
(يدبر الأمر) أي: أمر الوحي، فينزله مع جبرائيل من السماء إلى الأرض
(ثم يعرج إليه) ما كان من قبول الوحي أو رده مع جبرائيل في وقت هو في
الحقيقة (ألف سنة)، كأن المسافة في الهبوط والصعود مسيرة ألف سنة، لأن ما
بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة، وهو يوم من أيامكم، فيقطع جبرئيل
مسيرة ألف سنة مما يعده البشر في يوم واحد، وقيل: معناه: يدبر أمر الدنيا كلها
34

من السماء إلى الأرض، لألف سنة، وهو يوم من أيام الله (1) (ثم يعرج) الأمر
(إليه) أي: يصير إليه، ويثبت عنده، ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من
أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم (يدبر)
أيضا ليوم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة، وقيل: يدبر المأمور به من الطاعات
وينزله مدبرا من السماء إلى الأرض، فلا يصعد إليه ذلك لقلة عمال الله المخلصين
وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص (2).
(ذلك علم الغيب والشهدة العزيز الرحيم (6) الذي أحسن كل
شىء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من
ماء مهين (8) ثم سوله ونفخ فيه من روحه ى وجعل لكم السمع
والأبصار والأفدة قليلا ما تشكرون (9) وقالوا أءذا ضللنا في
الارض أءنا لفي خلق جديد بل هم بلقآء ربهم كافرون (10) * قل
يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون (11) ولو
ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا
فارجعنا نعمل صلحا إنا موقنون (12))
وقرئ: (خلقه) بفتح اللام وسكونها (3)، فالأول على الوصف لكل شيء،
بمعنى: أن كل شيء خلقه فقد أحسنه، والثاني على البدل، أي: أحسن خلق كل
شيء، وأحسن بمعنى " حسن "، يعني: أن جميع خلقه ومخلوقاته حسنة وإن
تفاوتت إلى حسن وأحسن منه، كما قال: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن

(1) قاله ابن عباس والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 231.
(2) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 507.
(3) وبالسكون قرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو. راجع كتاب التيسير في القراءات للداني:
ص 177.
35

تقويم) (1) وقيل: معناه: علم كيف يخلقه وأحسن معرفته، أي: عرفه معرفة حسنة
بتحقيق وإتقان (2). ومنه: " قيمة كل امرئ ما يحسنه " (3).
وسميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه أي: تنفصل منه. (ثم سوه) أي: قومه،
وأضاف " الروح " إلى ذاته إيذانا بأنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو.
(أءذا ضللنا في الأرض) أي: صرنا ترابا وذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا
نتميز منه كما يضل الماء في اللبن، أو: غبنا في الأرض بالدفن فيها، كقول
النابغة (4):
وآب مضلوه بعين جلية * وغودر بالجولان حزم ونائل (5)
وقرى: (أءذا) و (أءنا)، بالاستفهام (6) وتركه، وروي عن علي (عليه السلام) وابن
عباس: " صللنا " بالصاد وكسر اللام (7)، من صل اللحم وأصل: إذا أنتن، وقيل:
صرنا من جنس الصلة وهي الأرض (8) وانتصب الظرف بما دل عليه قوله:

(1) التين / 4.
(2) قاله ابن عباس ومقاتل وقتادة. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 498.
(3) نهج البلاغة: المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) القصار، حكمة (81).
(4) النابغة ويراد به الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن ذبيان، من بني مضر،
حكم عكاظ، وأحد فحول الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية. أنظر الشعر والشعراء لابن
قتيبة: ص 74 وما بعده.
(5) والبيت من قصيدة طويلة يرثي بها النعمان بن الحارث الغساني. انظر ديوان النابغة:
ص 212 وفيه " مصلوه " بالصاد.
(6) تقدمت الإشارة إلى أن المصنف قد اعتمد في تفسيره هذا - تبعا للكشاف - على نسخة
مصحف لغير قراءة حفص عن عاصم، وبالاستفهام فيهما هي قراءة عاصم وحمزة. راجع
كتاب السبعة في القراءات: ص 485 و 516.
(7) حكاها الآلوسي في تفسيره: ج 21 ص 125.
(8) قاله أبو خلف. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 357.
36

(أءنا لفي خلق جديد) وهو " نبعث " أو " يجدد خلقنا "، (لقاء ربهم) هو الوصول
إلى العاقبة من تلقي ملك الموت وما ورائه.
ولما ذكر كفرهم بالإنشاء أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر، وهو أنهم
كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالإنشاء وحده، ألا ترى كيف خوطبوا
بالتوفي وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين للجزاء؟ وهذا معنى " لقاء الله "
والتوفي: استيفاء النفس وهي الروح، وهي أن تقبض كلها لا يترك منها شيء،
من قولهم: توفيت حقي واستوفيته.
وعن ابن عباس: جعلت الدنيا لملك الموت مثل الجام، يأخذ منها ما يشاء إذا
حان القضاء (1).
وعن قتادة: إن له أعوانا من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، أي: يتوفاهم
ومعه أعوانه (2). وقيل: يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها (3).
(ولو ترى) خطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجواب (لو) محذوف، أي:
لرأيت أمرا فظيعا عظيما وحالا سيئة، ويجوز أن يكون خطابا لكل أحد، كما يقال:
فلان لئيم إن أكرمته أهانك، ولا يريد مخاطبا بعينه؛ و (إذ) ظرف للرؤية (ناكسوا
رءوسهم) مطرقوها ومطأطئوها حياء وذلا، يستغيثون بقولهم: (ربنا أبصرنا
وسمعنا) فلا يغاثون، والمعنى: أبصرنا صدق وعدك ووعيدك، وسمعنا منك
تصديق رسلك، أو: كنا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا (فارجعنا) إلى الدنيا نعمل
صالحا (إنا موقنون) اليوم.

(1) تفسير ابن عباس: ص 348.
(2) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 236.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 509.
37

(ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن
جهنم من الجنة والناس أجمعين (13) فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم
هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون (14) إنما يؤمن
بايتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا
يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا
وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفس مآ أخفى لهم من قرة
أعين جزآء بما كانوا يعملون (17) أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا
يستوون (18) أما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فلهم جنت المأوى
نزلا بما كانوا يعملون (19) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا
أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به
تكذبون (20) ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم
يرجعون (21))
يريد: أنا بنينا أمر التكليف على الاختيار دون الاضطرار (ولو شئنا لأتينا كل
نفس هداها) على طريق القسر والإجبار (ولكن حقت كلمة العذاب) (1) أي:
على أهل الضلال والعمى لاستحبابهم العمى على الهدى.
ثم قال: (فذوقوا) بنسيانكم العاقبة، وقلة مبالاتكم بها، وترك استعدادكم
لها، والمراد بالنسيان خلاف التذكر (إنا نسيناكم) أي: جازيناكم جزاء نسيانكم،
وقيل: هو بمعنى الترك، أي: تركتم الفكر في العاقبة فتركناكم من الرحمة (2).
وفي استئناف قوله: (إنا نسيناكم) وبناء الفعل على " أن " واسمها تشديد في

(1) الزمر: 71.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 348.
38

الانتقام منهم، أي: فذوقوا العذاب، أي: ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والغم
والخزي بسبب نسيان اللقاء.
وذوقوا عذاب الخلد في جهنم بسبب ما عملتم و (ذكروا بها) أي: وعظوا
فتذكروا واتعظوا بأن سجدوا شكرا لله سبحانه على أن هداهم لمعرفته وتواضعا
وخشوعا (وسبحوا) ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه، وأثنوا عليه حامدين له.
(تتجافى جنوبهم) أي: ترتفع وتتنحى عن المضاجع، وهي الفرش ومواضع
النوم والاضطجاع، وهم المتهجدون بالليل الذين يقومون لصلاة الليل (يدعون
ربهم) لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته.
وعن بلال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم،
وإن قيام الليل قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء
عن الجسد " (1).
وعنه (عليه السلام): " شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه كف الأذى عن الناس " (2).
وقرئ: " ما أخفى لهم " على البناء للفاعل (3)، وهو الله عز وجل، و (ما)
بمعنى " الذي " أو بمعنى " أي "، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " قرات أعين " (4)، أي:
لا تعلم النفوس كلهن، ولا نفس واحدة منهن، ولا ملك مقرب، ولا نبي مرسل أي
نوع عظيم من الثواب خبئ وادخر لأولئك، أو: أي ذلك أخبئ وأدخر لهم مما تقر
به عيونهم، ولا مزيد على هذه العدة ولا مطمع لهمة وراءها.

(1) رواه الحاكم في المستدرك: ج 1 ص 308 والهيثمي في المجمع: ج 2 ص 251.
(2) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق: ج 4 ص 45 والزبيدي في الاتحاف: ج 8 ص 169.
(3) قرأه حمزة ويعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 613.
(4) أنظر مختصر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 119.
39

ومثله الحديث: " يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه، اقرأوا إن شئتم:
(فلا تعلم نفس) الآية " (1).
(كان مؤمنا) و (كان فاسقا) محمولان على لفظ " من "، و (لا يستوون)
محمول على معناه، بدليل قوله: ف‍ (أما الذين ءامنوا) (وأما الذين فسقوا)
و (جنت المأوى) نوع من الجنان. وعن ابن عباس: تأوي إليها أرواح
الشهداء (2). وقيل: هي عن يمين العرش (3) (نزلا) عطاء بأعمالهم، والنزل:
عطاء النازل، ثم صار عاما.
(فمأواهم النار) أي: النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمن (كنتم به
تكذبون) فيه دلالة: أن المراد بالفاسق هنا الكافر
و (العذاب الأدنى) عذاب الدنيا من القتل والأسر، وما محنوا به من السنة
سبع سنين حتى أكلوا الجيف، وقيل: هو القتل يوم بدر بالسيف (4)، وقيل: الدابة
والدجال (5)، وقيل: عذاب القبر (6)، و (العذاب الأكبر) عذاب الآخرة (لعلهم
يرجعون) أي: يتوبون عن الكفر، أو: لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله:
(فأرجعنا نعمل صلحا) (7) وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام
قياما في قوله: (إذا قمتم إلى الصلوة) (8).

(1) أخرجه البخاري في الصحيح: ج 6 ص 145.
(2 و 3) حكاهما الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 513.
(4) وهو قول عبد الله والحسن بن علي وأبي بن كعب، راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 246
و 247.
(5) رواه محمد بن العباس باسناده عن الصادق (عليه السلام) راجع تأويل الآيات: ص 437.
(6) قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 247 ح 28283.
(7) الآية: 12 المتقدمة.
(8) المائدة: 6.
40

(ومن أظلم ممن ذكر بايت ربه ثم أعرض عنها إنا من
المجرمين منتقمون (22) ولقد ءاتينا موسى الكتب فلا تكن في مرية
من لقائه وجعلنه هدى لبني إسراءيل (23) وجعلنا منهم أئمة يهدون
بأمرنا لما صبروا وكانوا بأيتنا يوقنون (24) إن ربك هو يفصل بينهم
يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (25) أولم يهد لهم كم أهلكنا من
قبلهم من القرون يمشون في مسكنهم إن في ذلك لأيت أفلا
يسمعون (26) أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به
زرعا تأكل منه أنعمهم وأنفسهم أفلا يبصرون (27) ويقولون متى هذا
الفتح إن كنتم صادقين (28) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم
ولا هم ينظرون (29) فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (30))
معنى (ثم): الاستبعاد لإعراضهم عن آيات الله مع وضوحها بعد التذكير بها.
و (الكتب) للجنس، والضمير في (لقائه) له، والمعنى: إنا آتينا موسى مثل ما
آتيناك من الكتاب، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله، إذ لقيناك مثل ما لقيناه من
الوحي ونحوه (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) (1) وقيل: إن الضمير
في (لقائه) لموسى (2)، والتقدير: من لقائك موسى أو لقاء موسى إياك ليلة
الإسراء بك إلى السماء
فقد روي أنه (عليه السلام) قال: " رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم
طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة " (3).
وعلى هذا فيكون قد وعد (عليه السلام) أن يلقى موسى قبل أن يموت (و) جعلنا

(1) النمل: 6.
(2) قاله ابن عباس. راجع تفسيره: ص 349.
(3) رواه أحمد في المسند: ج 1 ص 245 و 259، والبخاري في الصحيح: ج 4 ص 141.
41

الكتاب المنزل على موسى (هدى) لقومه (وجعلنا منهم أئمة) يقتدى بأقوالهم
وأفعالهم (يهدون) الناس إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه (لما صبروا)
أي: لصبرهم، وكذلك: لنجعلن الكتاب المنزل إليك " نورا وهدى " ولنجعلن بعدك
في أمتك أئمة يهدون الناس مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين،
وثبتوا عليه من الحق اليقين. وقرئ: (لما صبروا) (1) ومعناه: لما صبروا
جعلناهم أئمة، وعن الحسن: صبروا عن الدنيا (2).
(إن ربك هو يفصل بينهم) أي: يقضي فيميز المحق من المبطل، و (هو)
فصل. ويجوز ذلك في المضارع لأنه يشبه الاسم، ولو قلت: إن زيدا هو فعل لم يجز.
الواو في (أولم يهد لهم) للعطف على معطوف عليه منوي من جنس
المعطوف، وقرئ بالنون (3) والياء، والفاعل ما دل عليه (كم أهلكنا) لأن " كم " لا
تقع فاعلة، وتقديره: (أولم يهد لهم) كثرة إهلاكنا القرون؟ أو: هذا الكلام كما هو
بمضمونه، ومعناه كما تقول: تعصم " لا إله إلا الله " الدم والمال. ويجوز أن يكون
فيه ضمير " الله " بدلالة القراءة بالنون، والضمير في (لهم) لأهل مكة، و (القرون)
عاد وثمود وقوم لوط يمشي أهل مكة (في مسكنهم) وديارهم وبلادهم.
(الجرز): الأرض التي جرز نباتها أي: قطع، إما لعدم الماء وإما لأنه رعي،
ولا يقال للأرض التي لا تنبت: جرز، ويدل عليه قوله: (فنخرج به زرعا) والضمير
في " به " للماء، (تأكل) من الزرع (أنعامهم) من عصفه و (أنفسهم) من حبه.

(1) تقدمت الإشارة إلى أن المصنف رحمه الله قد اعتمد في تصنيفه هذا على نسخة مصحف
لغير قراءة حفص عن عاصم.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 516.
(3) نسبها ابن خالويه إلى علي (عليه السلام) وابن عباس والسلمي. راجع مختصر شواذ القرآن: ص 119.
42

الفتح: النصر أو الفصل بالحكومة من قوله: (ربنا افتح بيننا) (1) وكانوا
يستمعون المسلمين ويستفتحون الله عليهم ويقولون: يفتح الله بيننا وبينكم، فقالوا
لهم: (متى هذا الفتح)؟ أي: في أي وقت يكون (إن كنتم صادقين) في أنه
كائن؟ و (يوم الفتح) يوم القيامة، وقيل: يوم بدر (2)، وقيل: هو يوم فتح مكة (3).
وغرضهم في السؤال عن وقت الفتح هو التكذيب والاستهزاء، فوقع جوابهم على
حسب ما عرف من مرادهم في سؤالهم، فكأنه قال: لا تستعجلوا به، فإن ذلك اليوم
ستؤمنون ولا ينفعكم الإيمان كما لم ينفع فرعون إيمانه عند حلول النازل،
وستنظرون ولا تنظرون.
(وانتظر) حكم الله فيهم وانتظر النصرة عليهم وهلاكهم ف (إنهم
منتظرون) هلاككم والغلبة عليكم.
* * *

(1) الأعراف: 89.
(2) قاله السدي. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 504.
(3) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 2 ص 333.
43

سورة الأحزاب
مدنية (1)، ثلاث وسبعون آية.
في حديث أبي: " من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطي
الأمان من عذاب القبر " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة
في جوار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه " (3).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 311: مدنية في قول مجاهد والحسن، وهي ثلاث
وسبعون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 3 ص 518: مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية، نزلت بعد آل عمران.
وروت العامة أن هذه السورة تعدل سورة البقرة، وكانت فيها آية الرجم " الشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم "، ذكره أبو بكر الأنباري عن أبي بن
كعب، وهذا يعني أنه سبحانه رفع من الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا!! كما وردت
بالإسناد عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مائتي آية،
فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن!! أنظر تفسير القرطبي: ج 14 ص 113.
قال المصنف في مقدمة تفسيره الكبير: والكلام في زيادة القرآن ونقصانه مما لا يليق
بالتفسير، أما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا
وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييرا ونقصانا. والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه،
وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء. مجمع البيان: ص 15 الفن
الخامس.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 565 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 137.
45

بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان
عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون
خبيرا (2) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (3) ما جعل الله لرجل من
قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم الائي تظهرون منهن أمهاتكم وما
جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذا لكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو
يهدى السبيل (4) ادعوهم لأبآئهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا
ءابآءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم
به ى ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (5))
ناداه سبحانه بالنبي وبالرسول، وترك نداءه باسمه كما قال: يا آدم، يا داود،
ويا موسى، إجلالا لمحله وتشريفا له (اتق الله) أي: دم على ما أنت عليه من
التقوى، وأثبت عليه وازدد منه (ولا تطع الكافرين والمنفقين) ولا تساعدهم
على شيء، ولا تقبل منهم رأيا ومشورة.
وقرئ: " بما يعملون " بالياء (1)، أي: بما يعمل المنافقون من الكيد والمكر.
(وتوكل على الله) وفوض أمرك إليه وكله إليه (وكفى بالله وكيلا) موكولا إليه
كل أمر.
(ما جعل الله) قلبين في جوف رجل، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة
ودعوة في رجل. والمعنى: أن الله عز اسمه كما ليس في حكمته أن يجعل للإنسان
قلبين، لأ نه لو كان ذلك لكان لا ينفصل إنسان واحد من إنسانين، إذ كان يؤدي إليه

(1) وهي قراءة أبي عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 615.
46

أن يكون الجملة الواحدة متصفة بكونها مريدة كارهة لشيء واحد في حالة واحدة
إذا أريد بأحد القلبين وكره بالآخر، فكذلك لا تكون المرأة الواحدة اما لرجل
وزوجة له، ولا يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له؛ لأن الابن هو العريق في
النسب، والدعي لاصق في التسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء أن يكون أصيلا
وغير أصيل.
وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة، وهو رجل من كلب، سبى في
الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهبته له، وقيل: بل اشتراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسوق عكاظ وأسلم، فقدم أبوه
حارثة بن شراحيل الكلبي بمكة واستشفع بأبي طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن
يبيعه منه، فقال (عليه السلام): هو حر فليذهب حيث شاء، فأبى زيد أن يفارق
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال أبوه: يا معشر قريش، اشهدوا أن زيدا ليس بابني، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشهدوا أن زيدا ابني، فكان يدعى زيد بن محمد، فلما تزوج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش - وكانت تحت زيد بن حارثة - قالت اليهود
والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله عز وجل
هذه الآية، قوله: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله) (1).
وقرئ: (الئى) بهمزة ممدودة مشبعة بعدها ياء. وقرئ: " اللآء " بهمزة
ممدودة مختلسة لا ياء بعدها (2)، وقرئ: " اللاي " بغير همزة ولا مد حيث
كانت من القرآن (3)، وقرئ: (تظهرون) من: ظاهر، و " تظاهرون " من:

(1) وهو ما رواه القمي في تفسيره: ج 2 ص 172 باسناده عن الصادق (عليه السلام)، والآية: 40 منها.
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو جعفر. راجع التبيان: ج 8 ص 312.
(3) وهي قراءة ابن كثير برواية ابن فليح عن أصحابه عنه، وكذلك قرأها أبو عمرو راجع كتاب
السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 518.
47

اظاهر (1) بمعنى تظاهر، و " تظهرون " من: اظهر (2) بمعنى. تظهر، وأصل الظهار
أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يقال: ظاهر من امرأته، وكان
ذلك طلاقا في الجاهلية، يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنب المطلقة،
فكان معنى قولهم: تظاهر منها: تباعد منها بجهة الظهار، وتظهر منها: تحرز منها،
وظاهر منها: حاذر منها. ونظيره: آلى من امرأته لما ضمن معنى التباعد منها،
عدي ب‍ " من ".
ومعنى قولهم: أنت علي كظهر أمي، أنهم أرادوا أن يقولوا كبطن أمي في
التحريم، فكنوا عن البطن بالظهر، لأن ذكر البطن يقارب ذكر الفرج.
(ذلكم) النسب هو (قولكم بأفواهكم): هذا ابني، ولا حقيقة له عند الله
(والله يقول الحق) أي: لا يقول إلا الذي يوافق الحقيقة (وهو يهدى السبيل)
ولا يهدي إلا سبيل الحق، فقال ما هو الحق، وهدى إلى ما هو سبيل الحق،
وهو قوله: (ادعوهم لابآئهم هو أقسط عند الله) أي: أعدل حكما وقولا (فإن لم
تعلموا) لهم آباء فهم (إخوانكم في الدين) وأولياؤكم، أي: بنو أعمامكم
وناصروكم، وقيل: (ومواليكم): معتقوكم إذا أعتقتموهم فلكم ولاؤهم (3)
(وليس عليكم جناح) أي: إثم (فيما أخطأتم به) إذا نسبتموهم إلى المتبني
لظنكم أنه أبوه، و (ما تعمدت) في محل الجر عطفا على (ما أخطأتم)، ويجوز
أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح،
ويجوز أن يكون المراد العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم، كقوله (عليه السلام):

(1) قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 8 ص 312.
(2) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو. راجع المصدر السابق.
(3) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 315.
48

" وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه " (1)، ويتناول خطأ التبني
وعمده لعمومه.
(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله من المؤمنين والمهجرين
إلا أن تفعلوا إلى أولياءكم معروفا كان ذلك في الكتب مسطورا (6) وإذ
أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن
مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7) ليسئل الصدقين عن صدقهم وأعد
للكافرين عذابا أليما (8) يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ
جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما
تعملون بصيرا (9) إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت
الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك
ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11))
(النبي أولى بالمؤمنين) في كل شيء من أمور الدين والدنيا، ولذلك أطلق
ولم يقيد، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من
حكمها، وحقه أوجب عندهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أكثر من شفقتهم عليها،
وأن يبذلوها دونه إذا حل خطب، ويجعلوها فداه إذا لقحت حرب.
وروي عن أبي وابن مسعود وابن عباس أنهم قرأوا: " النبي أولى بالمؤمنين
من أنفسهم وهو أب لهم " وروي ذلك عن الباقر والصادق (عليهما السلام) (2).

(1) أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 1 ص 659 ح 2043 و 2045 من طرقه عن ابن عباس
وأبي ذر الغفاري.
(2) أنظر سنن البيهقي: ج 7 ص 69، وتفسير الآلوسي: ج 21 ص 152.
49

وعن مجاهد: كل نبي أب لأمته (1)، ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأن النبي
أبوهم في الدين، وأزواجه أمهاتهم في تحريم النكاح، كما قال: (ولا أن تنكحوا
أزواجه من بعده أبدا) (2) ولسن بأمهات لهم على الحقيقة، إذ لو كن كذلك لكانت
بناتهن أخوات، فكان لا يحل للمؤمن من التزويج بهن (وأولوا الأرحام) أي:
ذوو الأنساب (بعضهم أولى ببعض) في الميراث بحق القرابة، وكان المسلمون
في صدر الإسلام يتوارثون بالمؤاخاة في الدين وبالهجرة، فصارت هذه الآية
ناسخة للتوارث بالهجرة والمؤاخاة (في كتب الله) في اللوح المحفوظ، أو: في
القرآن (من المؤمنين) يجوز أن يكون بيانا لأولي الأرحام، أي: لأقرباء من
هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية،
أي: أولي الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق المؤاخاة، ومن
المهاجرين بحق الهجرة (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) عنى بذلك وصية
الرجل لإخوانه في الدين، وعدي (تفعلوا) ب‍ " إلى " لأنه في معنى " تسدوا " و
" تزلوا "، (كان ذلك) المشار إليه من نسخ الميراث بالهجرة ورده إلى أولي
الأرحام مكتوبا في اللوح أو القرآن أو التوراة.
واذكر حين أخذنا (من النبيين) جميعا (ميثاقهم) بتبليغ الرسالة والدعاء
إلى التوحيد (ومنك) خصوصا (ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى) وإنما
فعلنا ذلك ليسأل الله تعالى يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا
عهدهم فيشهد الأنبياء لهم بأنهم صدقوا عهدهم وكانوا مؤمنين، أو: ليسأل الأنبياء
ما الذي أجابتهم به أممهم كقوله: (ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) (3)،

(1) تفسير مجاهد: ص 546.
(2) الآية: 53.
(3) المائدة: 116.
50

أو: ليسأل الذين صدقوا ماذا قصدتم بصدقكم وجه الله أم غيره؟ وفيه تهديد
للكاذب.
قال الصادق (عليه السلام): إذا سئل الصادق عن صدقه على أي وجه فيجازى بحسبه،
فكيف يكون حال الكاذب؟!
والميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا، والغلظ استعارة، والمراد:
عظم الميثاق وجلالة قدره في بابه.
(اذكروا نعمة الله عليكم) يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق (إذ جاءتكم
جنود) وهم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (فأرسلنا عليهم
ريحا) وهي الصبا أرسلت عليهم حتى أكفأت قدورهم، ونزعت فساطيطهم،
وسفت التراب في وجوههم.
وفي الحديث: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " (1).
(وجنودا لم تروها) وهم الملائكة، وحين سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقبالهم
ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي، ثم خرج ومعه ثلاثة
آلاف من المسلمين، فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، واشتد الخوف في
المسلمين، ورفعت الذراري والنساء في الآطام، ونجم النفاق من المنافقين،
وكانت قريش قد أقبلت حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من
أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وأقبلت غطفان
ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد وقائدهم عيينة بن حصين
وعامر بن الطفيل ومالأتهم اليهود من قريظة والنضير، وأقام المشركون بضعا

(1) أخرجه أحمد في المسند: ج 1 ص 228 و 324 و 341، والبخاري في الصحيح: ج 2
ص 41 و ج 4 ص 132.
51

وعشرين ليلة لم يكن بينهم وبين المسلمين قتال إلا الرمي بالنبل والحجارة، غير
أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي
لهب، ونوفل بن عبد الله خرجوا على خيولهم حتى مروا ببني كنانة فقالوا: تهيأوا
للحرب فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتى وقفوا على
الخندق فقالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا
من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا، ونادى عمرو وكان يعد بألف فارس: من
يبارز؟ فقام علي (عليه السلام) وهو مقنع في الحديد فقال له: أنا له يا رسول الله، فقال: إنه
عمرو، اجلس، ونادى عمرو الثانية والثالثة يقول: ألا رجل؟ أين جنتكم التي
تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ فقام علي (عليه السلام)، فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه ذا الفقار، وعممه عمامته السحاب، وقال: اللهم
احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه، ومن تحت
قدميه، وتجاولا فضربه عمرو في الدرقة فقدها وأصاب رأسه فشجه، وضربه
علي (عليه السلام) وثارت بينهما عجاجة، فسمع علي (عليه السلام) يكبر، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قتله
والذي نفسي بيده، فجز علي رأسه وأقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجهه يتهلل،
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أبشر يا علي، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
لرجح عملك بعملهم (1).
(إذ جاءوكم من فوقكم) من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان
(ومن أسفل منكم) من أسف الوادي من قبل المغرب قريش (وإذ زاغت
الأبصر) مالت عن سننها حيرة وشخوصا، وقيل: عدلت عن كل شيء فلم تلتفت

(1) أنظر تفسير القمي: ج 2 ص 176 - 188.
52

إلا إلى عدوها لشدة الخوف (1)، و (الحناجر) جمع الحنجرة وهي منتهى
الحلقوم، قالوا: إذا انتفخت الرئة من فزع أو غم أو غضب ربت وارتفع القلب
بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ولذلك قيل للجبان: انتفخ سحره. ويجوز أن يكون
ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة (وتظنون
بالله الظنونا) المختلفة، زيدت الألف في الفاصلة كما زادوها في القافية، نحو
قوله:
أقل اللوم عاذل والعتابا (2)
وكذلك " الرسولا " و " السبيلا " (وزلزلوا زلزالا شديدا) أي: أزعجوا أشد
إزعاج.
(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله
ورسوله إلا غرورا (12) وإذ قالت طائفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم
فارجعوا ويستئذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي
بعورة إن يريدون إلا فرارا (13) ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا
الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا (14) ولقد كانوا عهدوا الله من
قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا (15) قل لن ينفعكم الفرار
إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا (16) قل من ذا
الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون
لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17) قد يعلم الله المعوقين منكم

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 526.
(2) لجرير، وعجزه: وقولي إن أصبت لقد أصابا. والبيت مطلع قصيدة طويلة يهجو بها عبيدا
الراعي النميري والفرزدق. انظر خزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 69 وما بعده.
53

والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا (18) أشحة
عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى
عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على
الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعملهم وكان ذلك على الله
يسيرا (19) يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الاحزاب يودوا لو
أنهم بادون في الاعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قتلوا
إلا قليلا (20))
قيل: إن القائل معتب بن قشير وأضرابه من المنافقين قالوا: كان محمد يعدنا
كنوز كسرى وقيصر، ونحن لا نقدر أن نذهب إلى الغائط، هذا والله الغرور (1).
(يثرب) اسم المدينة، وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها (2). قرئ:
(لا مقام لكم) بضم الميم وفتحها (3)، أي: لا قرار لكم ها هنا ولا مكان تقيمون
فيه أو تقومون (فارجعوا) إلى المدينة، أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله،
وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفارا وأسلموا محمدا وإلا فليست يثرب لكم بمكان (4)،
(إن بيوتنا عورة) أي ذوات عورة، والعورة: الخلل، اعتذروا بأن بيوتهم مكشوفة
ليست بحصينة، أو: خالية من الرجال يخشى عليها السراق، فكذبهم سبحانه بقوله:
(وما هي بعورة) بل هي حصينة، وإنما يريدون الفرار.
(ولو دخلت عليهم) المدينة أو بيوتهم، من قولهم: دخلت على فلان بيته
(من أقطارها) أي: جوانبها، يريد: ولو دخلت هذه العساكر مدينتهم وبيوتهم من

(1) وهو قول السدي، راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 268.
(2) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 134.
(3) قرأ حفص وحده بضم الميم والباقون بفتحها، راجع التبيان: ج 8 ص 321.
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 528.
54

نواحيها كلها ينهبونهم (ثم سئلوا) عند ذلك الفزع و (الفتنة) أي: الردة والرجعة
إلى الكفر ومقاتلة المسلمين لأتوها أي: لجاؤوها وفعلوها، وقرئ: (لآتوها) (1)
أي: لأعطوها (وما تلبثوا بها) أي: وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم (إلا يسيرا)
فإن الله يهلكهم، وقيل: وما تلبثوا بها أي: ما لبثوا عطاءها وإجابتهم إليها إلا يسيرا،
ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف (2).
(كانوا عاهدوا الله) ورسوله (من قبل) ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون
منه أنفسهم (مسئولا) أي: مطلوبا يسألون عنه في الآخرة. (قل لن ينفعكم
الفرار) مما لا بد لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل، وإن ينفعكم الفرار -
مثلا - فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا زمانا قليلا.
(المعوقين) المثبطون عن رسول الله، وهم المنافقون يقولون (لإخوانهم)
من ضعفة المسلمين: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم
هؤلاء، فخلوهم و (هلم إلينا) أي: تعالوا وقربوا أنفسكم إلينا، وهي لغة الحجاز
يستوون فيه بين الواحد والجماعة، وأما تميم فيقولون: هلم، هلما، هلموا، وهي
صوت سمي به فعل متعد مثل: احضر وقرب (إلا قليلا) أي: إتيانا قليلا،
يخرجون مع المؤمنين ولا يبارزون ولا يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه،
كقوله: و (ما قاتلوا إلا قليلا).
(أشحة عليكم) في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون حولكم كما يفعل

(1) تقدمت الإشارة إلى أن المصنف قد اعتمد في تفسيره هذا على نسخة مصحف لغير قراءة
حفص عن عاصم. وممن قرأها بالقصر ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو جعفر. راجع التبيان:
ج 8 ص 321.
(2) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 528.
55

الرجل بالذاب عنه المحامي دونه عند الخوف، وقيل: معناه: أشحة بالقتال معكم
ولا ينصرونكم (1)، (فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك) في تلك الحالة كما
ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك (فإذا ذهب
الخوف) وحيزت الغنائم نقلوا ذلك الشح عنكم إلى الخير وهو المال والغنيمة
وقالوا: وفروا علينا قسمتنا، فإنا قد شاهدناكم وبمكاننا غلبتم أعداءكم، ونصب
(أشحة) على الحال أو على الذم. والسلق: أصله الضرب، سلقه بالكلام أسمعه
المكروه، أي: آذوكم، وخاصموكم بألسنة سليطة ذربة.
(يحسبون الاحزاب) لم ينهزموا وقد انهزموا، (وإن يأت الاحزاب) كرة
ثانية تمنوا لخوفهم ما تمنوا به هذه الكرة، أنهم خارجون إلى البدو، و (يسئلون
عن) أخباركم (ولو كانوا) معكم و (فيكم) ووقع قتال لم يقاتلوا معكم إلا
قدرا يسيرا رياء وسمعة ليوهموا أنهم من جملتكم لا لنصرتكم.
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله
واليوم الأخر وذكر الله كثيرا (21) ولما رءا المؤمنون الاحزاب قالوا
هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ومآ زادهم إلا إيمانا
وتسليما (22) من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم
من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) ليجزى الله
الصدقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله
كان غفورا رحيما (24) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى
الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25))
(لمن كان يرجوا الله) بدل من (لكم) وهو مثل قولك: رجوت زيدا فضله،

(1) قاله ابن كامل كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 385.
56

أي: فضل زيد، و " الأسوة " من الايتساء كالقدوة من الاقتداء، أي: كان لكم به
اقتداء لو اقتديتم به في النصرة والصبر عند مواطن الكفاح كما فعل هو يوم أحد إذ
كسرت رباعيته وشج وجهه وقتل عمه، فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلا فعلتم مثل
ما فعله هو (وذكر الله كثيرا) أي: قرن الرجاء بالطاعات الكثيرة، والمؤتسى به
من كان كذلك.
وعدهم عز اسمه أن يزلزلوا حتى يستغيثوه في قوله: (أم حسبتم أن تدخلوا
الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) (1)، فلما جاء الأحزاب واضطربوا
(قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) وأيقنوا بالنصر، وهذا إشارة إلى البلاء (وما
زادهم إلا إيمانا) بالله (وتسليما) لقضائه.
(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) بأنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ثبتوا
وقاتلوا حتى يستشهدوا (فمنهم من قضى نحبه) أي: قتل فوفى بنذره من الثبات
مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن ابن عباس: هو حمزة بن عبد المطلب ومن قتل معه،
وأنس بن النضر وأصحابه (2) (ومنهم من ينتظر) النصرة والشهادة على ما مضى
عليه أصحابه (وما بدلوا تبديلا) وما غيروا العهد، لا المستشهد ولا من ينتظر
الشهادة.
وعن علي (عليه السلام): فينا نزلت، وأنا والله المنتظر وما بدلت تبديلا (3).
(ليجزى الله الصدقين بصدقهم) في عهودهم (ويعذب المنفقين) بنقض
العهد (إن شاء أو يتوب عليهم) يعني: إن شاء قبل توبتهم وأسقط عقابهم،

(1) البقرة: 214.
(2) انظر تفسير ابن عباس: ص 352.
(3) رواه الصدوق في الخصال: ص 376 ح 58 قطعة، والحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2
ص 1.
57

وإن شاء لم يقبل توبتهم وعذبهم، والظاهر يقتضي بما يقتضيه العقل من الحكم
(ورد الله الذين كفروا) يعني: الأحزاب (بغيظهم) مغيظين، كقوله: (تنبت
بالدهن) (1) (لم ينالوا خيرا) غير ظافرين. وهما حالان بتداخل أو تعاقب،
ويجوز أن يكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا (وكفى الله المؤمنين القتال)
بالريح والجنود.
وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ: " وكفى الله المؤمنين القتال بعلي " (2).
(وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتب من صياصيهم وقذف في
قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم
وديرهم وأموا لهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء
قديرا (27))
(من صياصيهم) من حصونهم، والصيصية: ما تحصن به، يقال لقرن الظبي
والبقر: صيصية، ولشوكة الديك التي في ساقه، ولشوكة الحائك أيضا، قال:
كوقع الصياصي في النسيج الممدد (3)
وقرئ: (الرعب) بضم العين (4) وسكونها.
وروي أن جبرائيل (عليه السلام) نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صبيحة الليلة التي
انصرف عن الخندق إلى المدينة فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح،
إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم، فعزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة

(1) المؤمنون: 20.
(2) انظر تفسير التبيان: ج 8 ص 331.
(3) لدريد بن الصمة، وصدره: فجئت إليه والرماح تنوشه. والبيت من قصيدة حماسية طويلة
يرثي بها أخاه عبد الله وقد قتلته بنو عبس. انظر ديوان دريد: ص 45.
(4) قرأه ابن عامر والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 363.
58

حتى أجهدهم الحصار، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بأن يقتل
مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، وتغنم أموالهم، وتكون عقارهم للمهاجرين
دون الأنصار، فالأنصار ذوو عقار وليس للمهاجرين عقار، فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقال لسعد: " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة " (1) والرفيع: اسم
سماء الدنيا، فقتل مقاتلتهم وكانوا ستمائة مقاتل، وقيل: أربعمائة وخمسين، وسبي
سبعمائة وخمسون (2).
(وأرضا لم تطئوها) بأقدامكم بعد، وسيفتحها الله عليكم، وهي خيبر، وقيل:
مكة (3)، وقيل: فارس والروم (4)، وقيل: هي كل أرض تفتح إلى يوم القيامة (5)
وقيل: هي كل ما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب (6).
(يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحيوة الدنيا وزينتها
فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله
ورسوله والدار الأخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29)
ينسآء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضعف لها العذاب ضعفين
وكان ذلك على الله يسيرا (30) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل
صلحا نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (31) ينسآء النبي
لستن كأحد من النسآء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في

(1) رواه القمي في التفسير: ج 2 ص 189.
(2) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 393.
(3) قاله قتادة. راجع المصدر السابق.
(4) قاله قتادة والحسن. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 288.
(5) وهو قول عكرمة. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 393.
(6) قاله عكرمة أيضا كما في تفسير البغوي: ج 4 ص 525.
59

قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج
الجهلية الأولى وأقمن الصلوة وءاتين الزكوة وأطعن الله ورسوله
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33)
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله وا لحكمة إن الله كان لطيفا
خبيرا (34))
قالوا: إن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في
النفقة وتغايرن، فآذى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآلى منهن، وصعد إلى غرفة فمكث
فيها شهرا، فنزلت آية التخيير (1) (فتعالين) أي: أقبلن بإرادتكن واختياركن
لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كما تقول: أقبل يخاصمني، وذهب
يكلمني. (أمتعكن) أعطكن متعة الطلاق (وأسرحكن) أطلقكن (سراحا
جميلا) طلاقا بالسنة من غير ضرار.
(للمحسنات) المريدات الإحسان المطيعات لله منكن.
واختلف في حكم التخيير، والمروي عن أئمة الهدى (عليهم السلام) أن ذلك كان خاصا
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو اخترن أنفسهن لبن منه من غير طلاق، وليس لغيره ذلك (2).
والفاحشة: السيئة البليغة في القبح، وهي الكبيرة، والمبينة: الظاهر فحشها.
والمراد: كل ما اقترفن من الكبائر. قرئ: " يضعف " (3)، و (يضاعف) بالياء
على بناء الفعل للمفعول، و (نضعف) بالنون والبناء للفاعل (4)، وإنما ضوعف
عذابهن لزيادة نعمة الله عليهن بنزول الوحي في بيوتهن وبمكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

(1) وهو قول أبي الزبير وقتادة وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 289 و 290.
(2) أنظر الكافي: ج 6 ص 136 ح 1 - 3 من كتاب الطلاق.
(3) قرأه أبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 521.
(4) قرأه ابن كثير وابن عامر. راجع المصدر السابق.
60

منهن، وزيادة قبح المعصية تتبع زيادة النعمة على المعاصي من المعصي، ومتى
ازداد الفعل قبحا ازداد عقابه شدة، ولذلك تكون المعصية من العالم أقبح، وذم
العقلاء له أكثر (وكان ذلك على الله يسيرا) إيذان بأن كونهن نساء النبي لا يغني
عنهن شيئا.
وقرئ: (من يأت) (ومن يقنت) " ويعمل " بالياء والتاء (1) و (نؤتها)
بالياء (2) والنون، أي: نعطها ثوابها مثلي ثواب غيرها، كما يكون عذابها ضعف
عذاب غيرها، والقنوت: الطاعة.
و " أحد " في الأصل: وحد، بمعنى الواحد، ثم وضع في النفي العام فيستوي
فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، ومعنى قوله: (لستن كأحد من النساء)
لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والسابقة (إن اتقيتن) أي:
إن كنتن متقيات وأردتن التقوى (فلا تخضعن بالقول) لا ترققن الكلام للرجال
مثل كلام المريبات والمومسات (فيطمع الذي في قلبه مرض) أي: نفاق وفجور
(وقلن قولا معروفا) بعيدا من التهمة مستقيما بجد وخشونة من غير تخنث، أو:
قولا حسنا مع كونه خشنا.
(وقرن) قرئ بكسر القاف (3) وفتحها، فالكسرة من: وقر يقر وقارا، أو من:
قر يقر قرارا، حذفت الراء الأولى من " أقررن " ونقلت كسرتها إلى القاف كما يقال:
ظلن في " ظللن "، والفتح أصله: " أقررن " حذفت الراء ونقلت الحركة إلى القاف

(1) قرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالياء، والباقون كذلك إلا (تعمل) بالتاء. راجع المصدر
نفسه.
(2) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع نفس المصدر المتقدم.
(3) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. راجع المصدر السابق نفسه:
ص 522.
61

مثل: " ظلن "، (ولا تبرجن تبرج الجهلية الأولى) وهي القديمة التي يقال لها:
الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم (عليه السلام)، كانت المرأة تلبس
الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وقيل: ما بين
آدم ونوح (1)، وقيل: هي جاهلية الكفر قبل الإسلام (2).
(أهل البيت) نصب على النداء أو على المدح، و (الرجس) مستعار
للذنوب، و " الطهر " للتقوى، لأن عرض المقترف للقبيح يتدنس به كما يتلوث
جسده بالأرجاس.
واتفقت الأمة على أن المراد أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) (3).

(1) قاله الحكم والحسن، راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 294، وتفسير الماوردي: ج 4
ص 400.
(2) وهو قول ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 295.
(3) الخطاب في قوله تعالى: (عنكم) بالجمع المذكر يدل على أن الآية الشريفة من قوله:
(إنما يريد الله) الخ، في حق غير زوجات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلا فسياق الآيات يقتضي
التعبير بخطاب الجمع المؤنث، أعني: " عنكن " و " يطهركن " فالعدول عنهما إلى الخطاب
بالجمع المذكر يشهد بأن المراد من أهل البيت غير الزوجات، وهم الخمسة النجباء (عليهم السلام)،
وباقي الأئمة أيضا مراد بإجماع الإمامية واتفاقهم. وما يقال: إن التعبير بالجمع المذكر إنما هو
باعتبار " الأهل " كما تفوه به بعض النواصب فمما لا يعبأ به، فإن على ما ادعاه أيضا لابد وأن
يكون في العدول إلى الخطاب بالجمع المذكر سببا ومرجحا، فإن " الأهل " يذكر ويؤنث
لا أنه يذكر فقط كما صرح به العلامة الزمخشري في الكشاف في تفسير آية: (هذه القرية
الظالم أهلها) في سورة النساء، فبناء على أن الأهل يؤنث أيضا كان الأولى التعبير بحسب
سياق الآيات، وصدر هذه الآية نفسها هو الخطاب بالجمع المؤنث، فالعدول ليس إلا لما
ذكرناه.
وأضف إلى ذلك أنه إن كان المراد من " الأهل " هو " الأهل " في قوله تعالى: (أهل
البيت) فهذا لا يصحح مراده، لان الأهل تابع (عنكم) والتابع لا يؤثر في المتبوع لا تذكيرا
ولا تأنيثا. وإن كان المراد من " الأهل " هو " الأهل " المنتزع من النساء، فهذا يقتضي أن
تكون الضمائر السابقة أيضا بالتذكير، والحال أن الضمائر كلها بالتأنيث، فما وجه العدول
في ذيل الآية إلى التذكير؟ مع أنك عرفت أن " الأهل " يذكر ويؤنث.
ثم إنا نقول: إنه هل المراد من إذهاب الرجس عن أهل البيت هو دفع الرجس أو رفعه؟
فإن كان الأول فالزوجات خارجات عن حكم الآية، فإن أكثرهن - إن لم يكن كلهن - كن في
الرجس قبل الإسلام، وإن كان الثاني فلا محيص من القول بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن
حكم الآية، فإنه لم يكن فيه رجس أصلا لا قبل البعثة ولا بعدها باتفاق الأمة الإسلامية
قاطبة، مع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) داخل في حكم الآية قطعا بالاتفاق، فلا يمكن القول بخروج
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكمها. فثبت الأول وانتفى الثاني وخرجت الزوجات عن حكم الآية
قطعا، وهو المطلوب " ق ".
62

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " نزلت في خمسة: في وفي
علي والحسن والحسين وفاطمة " (1).
وعن أم سلمة قالت: جاءت فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل حريرة لها، قال:
ادعي زوجك وابنيك، فجاءت بهم فطعموا، ثم ألقى عليهم كساء خيبريا وقال:
هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فقلت: يا
رسول الله، وأنا معهم؟ قال: أنت على خير (2).
(واذكرن) ولا تنسين (ما يتلى في بيوتكن) من القرآن الذي هو آيات الله
البينات والحكمة التي هي العلوم والشرائع، واعملن بموجبهما (إن الله كان لطيفا
خبيرا) حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم.
(إن المسلمين والمسلمت والمؤمنين والمؤمنت والقنتين
والقنتت والصدقين والصدقت والصبرين والصبرات
والخشعين والخشعت والمتصدقين والمتصدقت والصائمين

(1) رواه الطبري باسناده في تفسيره: ج 10 ص 296 ح 28487، والماوردي الشافعي في
تفسيره: ج 4 ص 401 وزاد أنس بن مالك وعائشة وأم سلمة.
(2) أخرجه الترمذي في السنن: ج 5 ص 351 ح 3205 باختلاف يسير والطبراني في المعجم
الكبير: ج 3 ص 48 و ج 9 ص 11.
63

والصائمات والحفظين فروجهم والحفظت والذاكرين الله كثيرا
والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35) وما كان لمؤمن ولا
مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن
يعص الله ورسوله فقد ضل ضللا مبينا (36) وإذ تقول للذي أنعم الله
عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما
الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها
وطرا زوجنكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم
إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37))
قيل: إن أم سلمة قالت: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن بخير، أفما فينا
خير فنذكر به؟ فنزلت الآية (1). وقيل: إن القائلة أسماء بنت عميس لما رجعت من
الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب (2).
المسلم: الداخل في السلم، المنقاد غير المعاند، وقيل: المستسلم لأوامر الله،
والمفوض أمره إلى الله (3). والمؤمن: المصدق بالله وبرسوله وبما يجب أن يصدق
به، و القانت: القائم بالطاعة الدائم عليها، والصادق: الذي يصدق في قوله وعمله
ونيته، والصابر: الذي يصبر على الطاعة وعن المعصية، والخاشع: المتواضع لله
بقلبه وجوارحه، والمتصدق: الذي يزكي ماله، والذاكر الله كثيرا: من لا يخلو من
ذكر الله بقلبه أو بلسانه أو بهما.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل

(1) رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 300 باسناده إلى ابن عباس ومجاهد عنها.
(2) حكاه البغوي في تفسيره: ج 3 ص 529.
(3) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 539.
64

فتوضآ وصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (1).
وعن الصادق (عليه السلام): " من بات على تسبيح فاطمة (عليها السلام) كان من الذاكرين الله
كثيرا والذاكرات ".
والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف لأن الظاهر يدل عليه، وعطف
الإناث في الآية على الذكور من نحو قوله: (ثيبات وأبكارا) (2) في أنهما جنسان
مختلفان إذا اشتركا في حكم فلابد من أن يتوسط حرف العطف بينهما. وأما عطف
الزوجين على الزوجين فإنه من عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان
معناه: إن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم مغفرة.
خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش الأسدية على زيد بن حارثة
مولاه وكانت بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، فأبت وأبى أخوها عبد الله بن
جحش، فنزل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى) الآية (3)، أي: وما صح
لرجل ولا امرأة من أهل الإيمان إذا قضى الله ورسوله أمرا من الأمور أن يكون
لهم الاختيار من أمرهم على اختيار الله لهم، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا
لرأيه، والخيرة ما يتخير، فلما نزلت قالا: رضينا يا رسول الله، فأنكحها زيدا وساق
عنه إليها مهرها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا
وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وقرئ: (يكون) بالتاء والياء (4).
(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) بتوفيقك لعتقه ومحبته (وأنعمت عليه)

(1) أخرجه أبو داود في السنن: ج 2 ص 33 ح 1309.
(2) التحريم: 5.
(3) انظر تفسير الطبري: ج 10 ص 301.
(4) قرأ الكوفيون وحدهم بالياء والباقون بالتاء، راجع التبيان: ج 8 ص 343.
65

بما وفقك الله فيه من اختصاصه وتبنيه وهو زيد بن حارثة (أمسك عليك
زوجك) يعني زينب بنت جحش، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى منزل زينب
ذات يوم، فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها، فدفع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الباب فوقع بصره عليها فقال: سبحان الله خالق النور، تبارك الله
أحسن الخالقين، ورجع، فجاء زيد فأخبرته زينب بما كان، فقال لها: لعلك وقعت
في قلب رسول الله، فهل لك أن أطلقك؟ فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء زيد وقال: يا رسول الله، أريد أن أفارق صاحبتي، فقال:
مالك؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا، والله ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم علي
لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك (واتق الله) ثم طلقها بعد فلما
اعتدت قال رسول الله: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، أخطب علي زينب، قال
زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها، فلما رأيتها عظمت في نفسي حتى ما
أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرها، فوليتها ظهري
وقلت: يا زينب أبشري، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطبك، ففرحت بذلك، وقالت: ما
أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن (زوجنكها)
فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها،
ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار.
وقوله: (واتق الله) يريد: لا تطلقها، وهو نهي تنزيه لا نهي تحريم؛ لأن
الأولى أن لا يطلق، وقيل: أراد اتق الله فلا تذمها بالنسبة إلى الأذى والكبر (1).
وقوله: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس) قيل: أخفى في
نفسه أنه إن طلقها زيد تزوجها، وخشى لائمة الناس أن يقولوا: أمره بطلاقها

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 541.
66

ثم تزوجها (1) وقيل: إن الذي أخفاه هو الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه
وأن زيدا سيطلقها (2) فأبدى سبحانه ما أخفاه في نفسه بقوله: (زوجنكها)، ولم
يرد سبحانه بقوله: (والله أحق أن تخشه) خشية التقوى؛ لأنه صلوات الله عليه
كان يتقي الله حق تقاته ويخشاه فيما يجب أن يخشاه فيه. ولكن المراد خشيته
الاستحياء، لأن الحياء من الشيمة الكريمة، وقد يستحي الإنسان ويتحفظ من
شيء هو في نفسه مباح حلال عند الله، لئلا يطلق الجهال الذين لا يعرفون حقائق
الأمور ألسنتهم فيه، ألا ترى أنهم إذا طعموا في بيوته كانوا يستأنسون بالحديث
ولا يريمون (3)، فكان يؤذيه قعودهم، ويصده الحياء أن يأمرهم بالانتشار حتى
نزلت: (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم) (4) فأخبر الله سبحانه الناس
بما كان يضمره الرسول صلوات الله عليه وآله وعاتبه عليه، وكأنه سبحانه أراد منه
أن يقول لزيد: أنت أعلم بشأنك، أو يصمت عند قوله: أريد مفارقتها ليكون ظاهره
مطابقا لباطنه.
كما جاء في حديث إرادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح
وقد كان أهدر دمه قبل ذلك، واعترض عثمان له بالشفاعة: أن عباد بن بشير قال
له: يا رسول الله، كان عيني إلى عينك انتظار أن تومئ إلي فأقتله، فقال (عليه السلام): " إن
الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين " فلم يستجز الإشارة بقتل كافر وإن كان مباحا.
والواو في (وتخفى في نفسك)، (وتخشى الناس)، (والله أحق أن

(1) المصدر السابق.
(2) قاله الحسن كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 406.
(3) رام يريمه ريما للمكان: أي برحه. (الصحاح مادة ريم).
(4) الآية: 53.
67

تخشه): واو الحال، أي: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيا في نفسك إرادة
أن لا يمسكها، وتخفي خاشئا مقالة الناس، وتخشى الناس حقيقا في ذلك بأن
تخشى الله. أو: واو العطف كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك: " أمسك " وإخفاء خلافه
وخشية الناس.
(فلما قضى زيد منها وطرا) أي: فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وطاب عنها
نفسه وطلقها وانقضت عدتها (زوجنكها)، وقراءة أهل البيت (عليهم السلام)
" زوجتكها "، وعن الصادق (عليه السلام): " ما قرأتها على أبي إلا كذلك، إلى أن قال: وما
قرأ علي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا كذلك " (1).
ثم بين سبحانه الغرض والمصلحة العامة في تزويجه إياها بقوله: (لكي لا
يكون على المؤمنين حرج) أي: ضيق وإثم (في) أن يتزوجوا (أزواج
أدعيآئهم) وهم الذين تبنوهم (إذا قضوا) من نسائهم (وطرا) أي: بلغوا منهن
حاجتهم وفارقوهن، فلا يجرونهم في تحريم النساء (2) مجرى الابن من النسب
والرضاع (وكان أمر الله مفعولا) جملة اعتراضية، أي: كان أمر الله الذي يريد أن
يكونه مكونا لا محالة.
وروي أن زينب كانت تقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأدل عليك بثلاث ليس من
نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وزوجنيك الله، والسفير
جبرائيل (عليه السلام) (3).
(ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين

(1) أنظر مختصر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 120، والكشاف: ج 3 ص 543.
(2) في نسخة: " نسائهم ".
(3) رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 303 ح 28526 باسناده عن الشعبي.
68

خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38) الذين يبلغون رسلت
الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39) ما كان
محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله
بكل شىء عليما (40))
(فرض الله له) أي: قسم الله وأوجب من التزوج بامرأة المتبنى، ليبطل حكم
الجاهلية في الأدعياء، ومنه فرض لفلان في الديوان كذا (سنة الله) اسم وضع
موضع المصدر المؤكد لقوله تعالى: (ما كان على النبي من حرج) كأنه قيل: سن
الله ذلك سنة في الذين خلوا من الأنبياء الماضين، وهو أن لا يحرج عليهم فيما
أباح لهم الإقدام عليه من النكاح وغيره، وقد كان لداود مائة امرأة وثلاثمائة
سرية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية.
(الذين يبلغون) يحتمل الوجوه الثلاثة من الإعراب: الجر على الوصف
للأنبياء، والرفع والنصب على المدح، أي: هم الذين يبلغون، أو: أعني الذين
يبلغون. وقرئ: " رسالة الله " (1).
(وكان أمر الله) المنزل على أنبيائه (قدرا مقدورا) حكما مبتوتا وقضاء
مقضيا (2).
(ولا يخشون أحدا إلا الله) فيما يتعلق بالتبليغ والأداء (3).
(وكفى بالله حسيبا) كافيا للمخاوف، وقيل: حافظا لأعمال خلقه

(1) وهي قراءة أبي بن كعب. أنظر مختصر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 120.
(2) كذا وجدنا هذه العبارة المتعلقة بالآية: 38 المتقدمة محشوة بين العبائر المتعلقة بتفسير
الآية: 39 بلا مناسبة في جميع النسخ، الا نسخة قد أشرنا إليها في الهامش: التالي.
(3) في نسخة العبارة هكذا: " أعني: الذين يبلغون رسالة الله فيما يتعلق بالتبليغ والأداء ".
69

محاسبا مجازيا عليها (1).
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) أي: لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة
حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح
(ولكن) كان (رسول الله) وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير
والتعظيم له عليهم، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من
رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة، وكان حكمه حكمهم (وخاتم النبيين)
آخرهم، ختمت النبوة به، فشريعته باقية إلى آخر الدهر. وكان صلوات الله عليه أبا
للحسن والحسين لقوله: " ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا " (2) وهما من رجاله
لا من رجالهم. وقرئ: (خاتم النبيين) بفتح التاء (3) بمعنى الطابع.
(يأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة
وأصيلا (42) هو الذي يصلى عليكم وملئكته ليخرجكم من الظلمت
إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43) تحيتهم يوم يلقونه سلم وأعد
لهم أجرا كريما (44) يأيها النبي إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا
ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه ى وسراجا منيرا (46) وبشر المؤمنين
بأن لهم من الله فضلا كبيرا (47) ولا تطع الكافرين والمنفقين ودع
أذلهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48))
(اذكروا الله) أثنوا عليه بضروب الثناء من التحميد والتهليل والتمجيد

(1) وهو قول البغوي في تفسيره: ج 3 ص 533.
(2) أنظر المناقب لآل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 394.
(3) أشرنا سابقا بأن المصنف رحمه الله قد اعتمد في تفسيره هذا على نسخة مصحف لغير قراءة
حفص عن عاصم تبعا للزمخشري. وفتح التاء هي قراءة عاصم وحده، والباقون بالكسر.
أنظر التبيان: ج 8 ص 343.
70

والتسبيح والتكبير، وأكثروا ذلك.
وعن الصادق (عليه السلام): " من سبح تسبيح فاطمة (عليها السلام) فقد ذكر الله ذكرا كثيرا " (1).
وعنهم (عليهم السلام): " من قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثلاثين
مرة فقد ذكر الله ذكرا كثيرا " (2).
(وسبحوه) التسبيح من جملة الذكر، واختصه من بين أنواعه اختصاص
جبرئيل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه:
تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، ويجوز أن يريد بالذكر
وإكثاره تكثير الطاعات، فإن كل طاعة من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح
(بكرة وأصيلا) وهو الصلاة في جميع أوقاتها؛ لفضل الصلاة على غيرها، أو:
صلاة الفجر والعشاءين لأن أداءها أشق، ومراعاتها أشد.
ولما كان من شأن المصلي أن ينعطف وينحني في ركوعه وسجوده استعير لمن
انعطف على غيره حنوا عليه، واستعمل في الرحمة والترؤف، ومنه قولهم: " صلى
الله عليه وآله وسلم " أي: ترحم عليه وترأف. وأما صلاة الملائكة فهي قولهم:
" اللهم صل على المؤمنين " جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة
والرأفة. ونظيره قولهم: " حياك الله " أي: أحياك وأبقاك، و " حييته " أي: دعوت له
بأن يحييه الله ويبقيه، لأنه لاتكاله على إجابة دعوته كأنه يبقيه على الحقيقة،
وعليه قوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلوا
عليه) (3) أي: ادعوا الله بأن يصلي عليه. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم
ويترأف حيث يأمركم بإكثار الخير والتوفر على الطاعة ليخرجكم من ظلمات

(1) الكافي: ج 2 ص 500 ح 4.
(2) قرب الإسناد: ص 79.
(3) الآية: 56.
71

المعصية إلى نور الطاعة، وفي قوله: (وكان بالمؤمنين رحيما) دلالة على أن
المراد بالصلاة الرحمة.
(تحيتهم) هو من باب إضافة المصدر إلى المفعول، أي: يحيون يوم لقائه:
ب‍ (سلم)، وعن البراء بن عازب: لا يقبض ملك الموت روح مؤمن إلا سلم
عليه (1). وقيل: هو سلام الملائكة عند الخروج من القبور (2)، وقيل: عند دخول
الجنة (3)، كما قال: (والملئكة يدخلون عليهم من كل باب سلم عليكم) (4)،
والأجر الكريم: الجنة.
(إنآ أرسلنك شهدا) على أمتك فيما يفعلونه، مقبولا قولك عند الله لهم
وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل، وهو حال مقدرة كمسألة الكتاب: مررت
برجل معه صقر صائدا به غدا، أي: مقدرا به الصيد غدا (بإذنه) مستعار للتسهيل
والتيسير، وفيه إيذان بأن دعاء أهل الشرك إلى التوحيد والشرائع أمر صعب لا
يتسهل إلا بتيسير الله (وسراجا منيرا) يهتدى بك في الدين كما يهتدى بالسراج
في ظلام الليل، أو: يمد بنور نبوتك نور البصائر كما يمد بنور السراج نور الأبصار.
والفضل الكبير: الزيادة على ما يستحقونه من الثواب، ويجوز أن يكون المراد
أن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم.
(ولا تطع الكافرين) معناه: الدوام على ما كان عليه أو التهيج. (ودع
أذلهم) أي: ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله،

(1) حكاه عنه النحاس في إعراب القرآن: ج 3 ص 319.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 546.
(3) قاله الكلبي. راجع تفسير السمرقندي: ج 3 ص 54.
(4) الرعد: 23 و 24.
72

ويكون المصدر مضافا إلى المفعول. قيل: وذلك قبل أن يؤمر بالقتال (1)، وقيل:
معناه: ودع ما يؤذونك به، فيكون مضافا إلى الفاعل (2)، (وتوكل على الله) فإنه
يكفيكهم (وكفى بالله وكيلا) كافيا مفوضا إليه.
(يأيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنت ثم طلقتموهن من قبل أن
تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا
جميلا (49) يأيها النبي إنآ أحللنا لك أزواجك التي ءاتيت أجورهن
وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك وبنات عمك وبنات عمتك وبنات
خالك وبنات خللتك التي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها
للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد
علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمنهم لكيلا يكون
عليك حرج وكان الله غفورا رحيما (50))
(تعتدونها) تستوفون عددها من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، وكلت
الشيء فاكتاله. وفيه دليل على أن العدة حق واجب للرجال على النساء
(فمتعوهن) إذا لم تفترضوا لهن صداقا (وسرحوهن سراحا جميلا) من غير
ضرار ولا منع واجب.
(أجورهن) أي: مهورهن، لأن المهر أجر على البضع، وإيتاؤها: إعطاؤها
عاجلا وفرضها وتسميتها في العقد. وقد اختار الله عز وجل لرسوله الأفضل
والأولى وهو تسمية المهر في العقد وسوق المهر إليها عاجلا، فإنه أفضل من أن
يسميه ويؤجله، ولذلك كان التعجيل ديدنهم وسنتهم. وكذلك الجارية إذا كانت

(1) وهو قول الكلبي كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 411.
(2) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 547.
73

سبية مالكها ومما غنمه الله من دار الحرب كانت أحل وأطيب مما يشترى، وذلك
قوله: (مما أفآء الله عليك)، وكذلك النساء (التي هاجرن) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه، وأحللنا لك (امرأة)
مصدقة بتوحيد الله (إن وهبت نفسها) لك بغير صداق إن آثر النبي نكاحها ورغب
فيها (خالصة لك) أي: خاصة لك (من دون المؤمنين) أي: لا يحل لغيرك
وهو لك حلال.
شرط سبحانه في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أن يطلب نكاحها ويرغب فيه، فكأنه قال: أحللناها لك إن
وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته هي قبول الهبة، وعدل عن
الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأنه مما خص به، ومجيئه على لفظ " النبي " للدلالة
على أن هذا الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تقرير لاستحقاقه
الكرامة لنبوته.
(خالصة) مصدر مؤكد، مثل: وعد الله، وصبغة الله، أي: خلص لك إحلال ما
أحللناك خالصة، بمعنى خلوصا (قد علمنا) ما فرضنا على المؤمنين في
أزواجهم وإمائهم وعلى أي حد وصفة يجب أن يفرض عليهم، وآثرناك
بالاختصاص بما خصصناك به (لكيلا يكون عليك حرج) أي: ضيق في دينك
ودنياك (وكان الله غفورا) لذنوب عباده (رحيما) بالتوسعة عليهم.
(ترجى من تشآء منهن وتئوى إليك من تشآء ومن ابتغيت ممن
عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بمآ
ءاتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (51)
لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك
74

حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شىء رقيبا (52) يأيها
الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير
نظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا
مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبي فيستحىى منكم والله لا
يستحىى من الحق وإذا سألتموهن متعا فسألوهن من ورآء حجاب
ذا لكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن
تنكحوا أزواجه من بعده ى أبدا إن ذا لكم كان عند الله عظيما (53) إن
تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شىء عليما (54))
(ترجى) بهمز وغير همز. تؤخر (وتئوى) تضم، يعني: تترك مضاجعة من
تشاء منهن وتضاجع من تشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، أو: لا تقسم
لأيتهن شئت، وتقسم لمن شئت، وكان (عليه السلام) يقسم بين أزواجه فأبيح له ترك ذلك،
أو: تترك تزوج من شئت من نساء أمتك، وتتزوج من شئت، وكان (عليه السلام) إذا خطب
امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يدعها، وروي أن عائشة قالت: إني أرى ربك
يسارع في هواك! (1).
(ومن ابتغيت) أن تضمها إليك (ممن) عزلتهن (فلا جناح عليك) في
ابتغائها (ذلك) التفويض إلى اختيارك ومشيئتك (أدنى) إلى قرة عيونهن وقلة
حزنهن ورضائهن جميعا، لأنه إذا سوى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل
والابتغاء، ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى، وعلمن
أن هذا التفويض من عند الله سكنت نفوسهن، وذهب التنافس، وحصل التراضي

(1) رواه الحاكم في مستدركه: ج 2 ص 419، والبغوي الشافعي في تفسيره: ج 3 ص 538،
والزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 551.
75

(كلهن) تأكيد لنون (يرضين)، (والله يعلم ما في قلوبكم) فيه وعيد لمن
لم يرض منهن بما فوض الله إلى مشيئة رسوله، وبعث على طلب رضاه (عليه السلام)
(وكان الله عليما) بمصالح عباده (حليما) لا يعاجلهم بالعقوبة.
وقرئ: (لا يحل) بالتاء (1) والياء، أي: لا تحل لك (النسآء من بعد) النساء
اللواتي أحللناهن لك من الأجناس: من اللواتي أعطيت مهورهن، ومن
المهاجرات من القرائب، ومن الإماء المسبية (2)، ومن وهبت نفسها له بجميع
ما شاء من العدد، (ولآ أن تبدل بهن) أي: بالمسلمات الكتابيات، لأ نه لا ينبغي
أن يكن أمهات المسلمين (إلا ما ملكت يمينك) من الكتابيات، وقيل: إن التبدل
المحرم هو ما كان يفعل في الجاهلية، يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك أبادلك
بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه (3).
ويحكى أن عيينة بن حصين دخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده عائشة من غير
استئذان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا عيينة، أين الاستئذان "؟ قال: يا رسول الله،
ما استأذنت على رجل قط منذ أدركت، ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟
فقال (عليه السلام): " هذه عائشة بنت أبي بكر "، قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟
قال (عليه السلام): " قد حرم ذلك "، فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ فقال:
" أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه " (4).
وقيل: معناه: لا يحل لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن فاخترن الله
ورسوله وهن التسع، ولا أن تستبدل بهن أزواجا أخر (5) (ولو أعجبك حسنهن)
واستثنى ممن حرم عليه الإماء.

(1) قرأه أبو عمرو وحده. راجع التبيان: ج 8 ص 354.
(2) في نسخة: " المستترات ".
(3) قاله ابن زيد. راجع التبيان: ج 8 ص 356.
(4) أخرجه الدار قطني في السنن: ج 3 ص 218.
(5) وهو قول ابن عباس وقتادة. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 316.
76

(أن يؤذن لكم) في معنى الظرف، تقديره: إلا وقت أن يؤذن لكم (غير
نظرين) حال من (لا تدخلوا) وقع الاستثناء على الوقت والحال معا، كأنه قال:
لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين. وهؤلاء قوم
كانوا يتحينون أي: يتعرضون طعام رسول الله فيدخلون ويقعدون منتظرين
لإدراكه، والمعنى: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا أن يؤذن لكم إلى
طعام. وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصا لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إلا أن يؤذن له إذنا خاصا إلى طعام فحسب. و (إناه) إدراكه ونضجه، يقال: أنى
الطعام إنى، وقيل: إناه: وقته (1)، أي: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.
وروي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولم على زينب بتمر وسويق وذبح شاة فأمر
أنسا أن يدعو أصحابه، فترادفوا أفواجا، يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج، إلى أن
قال: يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم وتفرق
الناس وبقى ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليخرجوا، فطاف
بالحجرات ورجع فإذا الثلاثة جلوس مكانهم، وكان صلوات الله عليه شديد
الحياء فتولى، فلما رأوه متوليا خرجوا، فرجع ونزلت الآية (2).
(مستأنسين) مجرور عطف على: (نظرين)، أو منصوب على: ولا
تدخلوها (مستأنسين) أي: يستأنس بعضكم ببعض لأجل حديث يحدثه به،
أو: مستأنسين حديث أهل البيت، واستئناسه: تسمعه وتوجسه. ولا بد في قوله:
(فيستحىى منكم) من تقدير مضاف، أي: من إخراجكم، بدليل قوله: (والله
لا يستحىى من الحق) ومعناه: أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيي منه،

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 554.
(2) رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 323 باسناده عن أنس بن مالك.
77

ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال قيل: والله لا يستحيي من الحق،
بمعنى: لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم، وهذا أدب أدب الله به الثقلاء.
وعن عائشة قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم وقال: (فإذا طعمتم
فانتشروا) (1).
والضمير في (سألتموهن) لنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يذكرن لأن الحال ينطق
بذكرهن (فاسألوهن) المتاع.
وقيل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل
منهم يد عائشة، فكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، فنزلت آية الحجاب (2).
وروي أن بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء الحجاب؟! لئن
مات محمد، لأتزوجن عائشة (3) وعن مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله فنزلت: (وما
كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (4)؛ أي: وما صح لكم إيذاء رسول الله ولا نكاح
(أزواجه من بعده) وسمي نكاح أزواجه بعده (عظيما) تعظيما
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإيجابا لحرمته حيا وميتا عليه أفضل الصلاة والسلام.
(إن تبدوا شيئا) من نكاحهن على ألسنتكم (أو تخفوه) في صدوركم فإن
الله يعلم ذلك.
(لا جناح عليهن في ءابآبهن ولا أبنآبهن ولا إخوانهن ولا أبنآء
إخوانهن ولا أبنآء أخوا تهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمنهن واتقين
الله إن الله كان على كل شىء شهيدا (55) إن الله وملئكته يصلون على

(1) أورده الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 555.
(2) قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 325.
(3) رواه القرطبي في تفسيره: ج 14 ص 228 باسناده عن قتادة.
(4) أنظر تفسير البغوي: ج 3 ص 541.
78

النبي يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56) إن الذين
يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة وأعد لهم عذابا
مهينا (57) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنت بغير ما اكتسبوا فقد
احتملوا بهتنا وإثما مبينا (58))
لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أو
نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت (1).
أي: لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن عن هؤلاء، ولم يذكر العم والخال لأنهما
يجريان مجرى الوالدين، وقد سمى الله العم أبا في قوله: (وإله ءابآئك إبراهيم
وإسمعيل وإسحق) (2) وإسماعيل عم يعقوب، وقيل: كره ترك الاحتجاب
عنهما لأنهما يصفانهن لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم (3) (واتقين الله) في نقل
الكلام من الغيبة إلى الخطاب دلالة على فضل تشديد فيما أمرن به من الاحتجاب
والاستتار، أي: واسلكن طريق التقوى فيما أمرتن به واحتطن فيه، وكان الله
(على كل شىء) من السر والعلن، وظاهر الحجاب وباطنه (شهيدا) لا تتفاوت
الأحوال في علمه.
صلاة الله على النبي (عليه السلام) هي ما يفعله به من إعلاء درجاته ورفع منازله
وتعظيم شأنه وغير ذلك من أنواع كراماته، وصلاة الملائكة عليه مسألتهم الله عز
اسمه أن يفعل به مثل ذلك (صلوا عليه) أي: قولوا: اللهم صل على محمد وآل
محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم (وسلموا) له في الأمور (تسليما)
أي: انقادوا لأمره وأطيعوه، أو: سلموا عليه بأن تقولوا: السلام عليك يا رسول الله.

(1) أنظر التبيان: ج 10 ص 358.
(2) البقرة: 133.
(3) قاله قتادة وعكرمة والشعبي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 420، والتبيان: ج 10
ص 358.
79

(يؤذون الله ورسوله) أذى الله تعالى عبارة عن أذى رسوله وأوليائه،
وإنما أضافه إلى نفسه مبالغة في تعظيم المعصية.
وعن علي (عليه السلام): حدثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخذ بشعره فقال: " من آذى
شعرة منك فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فعليه لعنة الله " (1).
وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات بعد أن أطلق إيذاء الله ورسوله، لأن إيذاء الله
ورسوله لا يكون إلا بغير حق أبدا. ومعنى (بغير ما اكتسبوا) بغير جناية
واستحقاق للأذى (بهتانا) أي: كذبا، أي: فعلوا ما هو في الإثم مثل البهتان؛ يعني
بذلك أذية اللسان.
(يأيها النبي قل لازواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن
من جلبيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا
رحيما (59) لبن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون
في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا (60) ملعونين
أينمآ ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61) سنة الله في الذين خلوا من قبل
ولن تجد لسنة الله تبديلا (62)).
الجلباب: ثوب واسع، أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها
وتبقي منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس: الرداء الذي يستر من فوق إلى
أسفل (2)، وقيل: الجلباب: الملحفة وكل ما يتستر به من كساء أو غيره (3). قال
الشاعر:

(1) رواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 97 ح 776.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 559.
(3) قاله الحسن. راجع التبيان: ج 8 ص 361.
80

مجلبب من سواد الليل جلبابا (1)
ومعنى (يدنين عليهن من جلبيبهن): يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن
وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك. وذلك أن
النساء كن في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية مبتذلات يبرزن في درع
وخمار، لا فرق بين الحرة والأمة، وكان أهل الشطارة والريبة يتعرضون للإماء،
فربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن من زي الإماء لئلا يطمع
فيهن طامع، وذلك قوله: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أي: أقرب إلى أن لا
يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن. و (من) في: (جلبيبهن) للتبعيض، بمعنى:
تجلببن ببعض جلابيبهن أو يرخين بعض جلبابهن على الوجه (وكان الله غفورا
رحيما) لما سلف منهن في ذلك.
(والذين في قلوبهم مرض) أي: ضعف في الإيمان، وقيل: هم الزناة وأهل
الفجور (2)، من قوله: (فيطمع الذي في قلبه مرض) (3)، (والمرجفون في
المدينة) بالأخبار المضعفة لقلوب المسلمين عن سرايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقولون:
هزموا وقتلوا، وأصله من الرجفة، وهي الزلزلة لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت،
والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عدواتهم وكيدهم، والفسقة عن إيذاء النساء،
والمرجفون عما يؤلفونه (4) من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم ما يسوؤهم
وينوؤهم ويضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، ثم لا يساكنونك في المدينة

(1) وصدره: أهلا بضيف أني ما استفتح البابا والبيت منسوب لأبي زبيد، وفيه مبالغة في
التمدح بإكرام الضيف وقريه. أنظر شرح شواهد الكشاف للأفندي: ص 192.
(2) قاله عكرمة وقتادة وأبو صالح. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 333.
(3) الآية: 32.
(4) في نسخة: يقولونه.
81

إلا زمانا قليلا، فسمى ذلك عن إغراء وهو التحريش (1) على سبيل المجاز.
(ملعونين) نصب على " الشتم " أو الحال، أي: (لا يجاورونك) إلا ملعونين.
دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا، كما مر ذكره في قوله: (إلا أن
يؤذن لكم إلى طعام غير نظرين إناه) (2) وقيل: إن (قليلا) منصوب على
الحال أيضا، أي: أقلاء أذلة (3)، و (لا يجاورونك) عطف على (لنغزينك)،
فهو جواب آخر للقسم.
(سنة الله) مصدر مؤكد، أي: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا
أينما ثقفوا.
(يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل
الساعة تكون قريبا (63) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (64)
خالدين فيهآ أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (65) يوم تقلب وجوههم في
النار يقولون يليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66) وقالوا ربنآ إنآ
أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأظلونا السبيلا (67) ربنآ ءاتهم ضعفين من
ا لعذاب وا لعنهم لعنا كبيرا (68) يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين
ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69))
كان المشركون يسألون (عن الساعة) ووقت قيامها استعجالا على سبيل
الإنكار والهزء، واليهود يسألون ذلك امتحانا، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم
بأنه علم قد استأثر الله به، ثم قال: لعلها (تكون قريبا) مجيئها، أو: شيئا قريبا،
أو: في زمان قريب.

(1) التحريش: الإغراء بين القوم، وكذلك بين الكلاب. (الصحاح: مادة حرش).
(2) الآية: 53.
(3) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 236.
82

و " السعير ": النار المسعورة. وتقليب الوجوه معناه: تصريفها في الجهات، كما
أن البضعة من اللحم تدور في القدر من جهة إلى جهة إذا استجمعت غليا، أو
تغييرها عن أحوالها، أو طرحها في النار منكوبين مغلوبين (1)، وخص الوجوه
بالذكر لأن الوجه أكرم الأعضاء، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة.
وانتصب (يوم) ب‍ (يقولون)، أو ب‍ (اذكر) و (يقولون) حال.
وقرئ: " ساداتنا " (2) وهم رؤساء الكفار الذين أضلوهم، وزيادة الألف
لإطلاق الصوت، جعل فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على
أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف.
وقرئ (كبيرا) بالباء والثاء (3)، والكثرة أشبه بالموضع لأنهم يلعنون مرة بعد
مرة، والكبير بمعنى: الشديد العظيم، أي: (ءاتهم ضعفين من العذاب) ضعفا
لضلالهم وضعفا لإضلالهم.
(لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى) (عليه السلام): قيل: نزلت في شأن زيد وزينب
وما سمع فيه من مقالة بعض الناس (4). وقيل: في أذى موسى (عليه السلام): هو حديث
المومسة التي حملها قارون على قذفه بنفسها (5). وقيل: اتهامهم إياه بقتل هارون،
وقد كانا صعدا الجبل فمات هارون، فحملته الملائكة ومروا به على بني إسرائيل
ميتا، حتى عرفوا أنه قد مات ولم يقتل (6). وقيل: قذفوه بعيب في جسده، من

(1) في نسخة: " منكوسين مقلوبين ".
(2) قرأه ابن عامر ويعقوب. راجع التبيان: ج 8 ص 364.
(3) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد:
ص 523.
(4) حكاه النقاش كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 426.
(5) قاله أبو العالية. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 545.
(6) رواه ابن عباس عن علي (عليه السلام) كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 427.
83

برص أو أدرة (1)، فأطلعهم الله على أنه بريء منه (2). (وجيها) ذا جاه ومنزلة
عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم، ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم (3)، كما يفعل
الملوك بمن له عندهم وجاهة، والمعنى: (فبرأه الله) من قولهم أو من مقولهم،
فيكون " ما " مصدرية أو موصولة. والمراد بالقول أو المقول مضمونه ومؤداه،
وهو الأمر المعيب، كما سموا السبة (4) بالقالة، والقالة بمعنى القول.
(يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم
أعملكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا
عظيما (71) إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبآل فأبين
أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا (72)
ليعذب الله المنفقين والمنفقت والمشركين والمشركت ويتوب
الله على المؤمنين والمؤمنت وكان الله غفورا رحيما (73))
(قولا سديدا) أي: قاصدا إلى الحق، والسداد: القصد إلى الحق والقول
بالعدل (5)، يقال: سدد السهم نحو الرمية، كما قالوا: سهم قاصد. وقيل: إن المراد
نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير عدل في القول (6)، وهو البعث
على أن يسد قولهم في كل باب، لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله.

(1) الأدرة: نفخة في الخصية، يقال: رجل آدر بين الأدرة. (الصحاح: مادة أدر).
(2) ما رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 337 باسناده إلى أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبه
قال سعيد.
(3) الوصم: العيب والعار. (الصحاح: مادة وصم).
(4) يقال: صار هذا الأمر سبة عليه أي: عارا. (لسان العرب: مادة سبب).
(5) في نسخة: " القول العدل ".
(6) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 564.
84

والمعنى: احفظوا ألسنتكم وسددوا قولكم، فإنكم إذا فعلتم ذلك أعطاكم الله غاية
مطلوبكم من تزكية أعمالكم، وتقبل حسناتكم، ومغفرة سيئاتكم.
ولما علق سبحانه طاعته وطاعة رسوله بالفوز العظيم أتبعه قوله: (إنا عرضنا
الأمانة) وهو يريد بالأمانة: الطاعة، فعظم أمرها، والمعنى: أن هذه الأجرام العظام
قد انقادت لأمر الله فلم تمتنع على مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية على أشكال
متنوعة وصفات مختلفة، وأما الإنسان فلم يكن حاله فيما يصح منه من الطاعة
ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل
حال تلك الجمادات فيما يصح منها من الانقياد وعدم الامتناع.
والمراد بالأمانة: الطاعة؛ لأنها لازمة الأداء، وعرضها على الجمادات
وإباؤها وإشفاقها مجازا، وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل الأمانة
ومحتمل لها، تريد لا يؤديها إلى صاحبها حتى يخرج من عهدتها، لأن الأمانة
كأنها راكبة للمؤتمن عليها، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولم يكن هو حاملا لها.
فالمعنى: (فأبين) أن لا يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها،
ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإغفاله ما يسعده مع تمكنه
من ذلك بأن يؤدي الأمانة.
واللام في (ليعذب) لام التعليل على طريق المجاز، لأن التعذيب نتيجة
حمل الأمانة، كما أن التأديب في قولك: ضربته للتأديب نتيجة الضرب، أي: ليعذب
الله حامل الأمانة (ويتوب الله) على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا تيب على
الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر.
* * *
85

سورة سبأ
مكية (1) وهي أربع وخمسون آية.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلا كان له يوم
القيامة رفيقا ومصافحا " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ الحمدين جميعا - سبأ وفاطر - في ليلته لم يزل
في ليلته في حفظ الله وكلاءته، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه فيه مكروه، وأعطي
من خير الدنيا والآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغه مناه " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الارض وله الحمد
في الأخرة وهو الحكيم الخبير (1) يعلم ما يلج في الارض وما يخرج

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 372: مكية في قول مجاهد وقتادة والحسن
وغيرهم، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقيل: إن آية واحدة منها مدنية وهي قوله: (وترى
الذين أوتوا) الآية. وهي أربع وخمسون آية عند الكل إلا الشامي فإنها عنده خمس
وخمسون آية.
وفي الكشاف: ج 3 ص 566: مكية إلا آية 6 فمدنية وآياتها 54، نزلت بعد لقمان.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 594 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 137 وفيه: " يبلغ ".
87

منها وما ينزل من السمآء ومآ يعرج فيها وهو الرحيم الغفور (2) وقال
الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم علم الغيب لا
يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ولا أصغر من ذلك
ولا أكبر إلا في كتب مبين (3) ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصلحت
أولئك لهم مغفرة ورزق كريم (4) والذين سعو في ءايتنا معجزين
أولئك لهم عذاب من رجز أليم (5))
(ما في السموات وما في الأرض) كله نعمة من الله سبحانه، فكأنه سبحانه
وصف نفسه بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، فمعناه: أنه المحمود على نعم الدنيا
(وله الحمد في الآخرة) إيذان بأنه المحمود على نعم الآخرة، وهي الثواب
الدائم والنعيم المقيم (وهو الحكيم) الذي أحكم أمور الدارين (الخبير) بكل
كائن وبكل ما سيكون. (يعلم ما يلج في الأرض) من مطر أو كنز أو ميت (وما
يخرج منها) من نبات أو جوهر أو حيوان (وما ينزل من السماء) من ملك
أو مطر أو رزق (وما يعرج فيها) أي: ما يصعد من الملائكة وأعمال العباد،
وهو مع كثرة نعمه وسبوغ فضله (الرحيم الغفور) لعباده المقصرين في أداء
الواجب من شكره.
قال منكر البعث: (لا تأتينا الساعة) وهو نفي أو استبطاء على طريق الهزء
(قل بلى وربى) أوجب ما بعد النفي ببلى على معنى: أن ليس الأمر إلا إتيانها، ثم
أكده بالقسم بالله عز وجل، ثم أكد التوكيد القسمي بما أتبعه من وصف المقسم به
بأنه (علم الغيب) لا يفوته (مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض)
فيندرج تحته علمه بوقت قيام الساعة. ثم أتبع القسم الحجة القاطعة وهو
(ليجزى) لأنه ركب في العقول أن المحسن لابد له من ثواب، والمسيء
88

مستوجب العقاب، فاتصل (ليجزى) بقوله: (لتأتينكم) تعليلا له، وقرئ: (علم
الغيب) و " علام الغيب " (1) بالجر صفة ل‍ (ربي) وقرئ: " علم " (2) بالرفع على
المدح، (ولا أصغر من ذلك) إشارة إلى (مثقال)، وارتفع (أصغر) على أصل
الابتداء، وهو كلام منقطع عما قبله، ولا يجوز أن يكون (أصغر) عطفا على
(مثقال) لأن حرف الاستثناء تأباه.
(سعو في آيتنا) أي: عملوا بجهدهم في إبطال حججنا وبيناتنا مقدرين
إعجاز ربهم، أو: ظانين أنهم يفوتونه. وقرئ: " معجزين " (3) وقد مر ذكره في
سورة الحج (4). وقرئ: (أليم) بالرفع والجر (5)، والرجز أسوأ العذاب، والجر في
(أليم) أبين صفة ل‍ (رجز).
(ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق
ويهدى إلى صراط العزيز الحميد (6) وقال الذين كفروا هل ندلكم على
رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على
الله كذبا أم به ى جنة بل الذين لا يؤمنون بالأخرة في العذاب والضلل
البعيد (8) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والأرض
إن نشأ نخسف بهم الارض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء إن في
ذلك لأية لكل عبد منيب (9))

(1) قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 621.
(2) وهي قراءة نافع وابن عامر. راجع المصدر السابق.
(3) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع المصدر نفسه.
(4) في ج 2 ص 565 فراجع.
(5) وبالجر قرأه نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب
السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 526.
89

(يرى) في موضع الرفع، أي: ويعلم (الذين أوتوا العلم) وهم أصحاب
رسول الله، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا (الذي أنزل إليك... الحق) وهما
مفعولان ل‍ (يرى) وهو فصل. وقيل: (ويرى) في موضع النصب عطفا على
(ليجزى) (1)، أي: وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يتخالجه
ريب، و (الذي أنزل إليك) هو القرآن، (ويهدى) القرآن (إلى صراط العزيز)
الذي لا يغالب، (الحميد) على جميع أفعاله وهو الله سبحانه.
والعامل في (إذا) ما دل عليه قوله: (إنكم لفي خلق جديد) وقد مر نظيره،
و " الممزق " مصدر أو مكان. وأسقطت الهمزة في قوله: (افترى) دون قوله:
(السحر) وكلتاهما همزة وصل؛ لأن القياس طرحها، ولكن لم تطرح هناك
لخوف التباس الاستفهام بالخبر، لكون همزة الوصل مفتوحة، وهي مكسورة هنا
فلا التباس، أي: أهو مفتر على الله (كذبا) فيما ينسب إليه (أم به جنة) جنون
يوهمه ذلك، ثم قال: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، بل هؤلاء
الكافرون بالبعث واقعون (في) عذاب النار (والضلل) عن الحق وذلك أجن
الجنون، ولما كان العذاب من لوازم الضلال جعلا كأنهما مقترنان. ووصف الضلال
ب‍ (البعيد) من الإسناد المجازي؛ لأن " البعيد " صفة الضال إذا بعد عن الجادة.
(أفلم يروا) أي: أعموا فلم ينظروا إلى (السمآء والأرض) وأنهما - حيثما
كانوا - محيطتان بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما؟ وقيل: أفلم يتفكروا فيهما
ولم يستدلوا بذلك على قدرتنا؟ (2) ثم ذكر سبحانه قدرته على إهلاكهم بأن
يخسف (بهم الارض) كما خسف بقارون، أو يسقط (عليهم) قطعة (من

(1) قاله النحاس في إعراب القرآن: ج 3 ص 332.
(2) قاله قتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 434.
90

السمآء إن في ذلك) النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما لدلالة (لكل عبد)
مطيع لله راجع إليه. وقرئ: (إن نشأ) (نخسف) و (نسقط) بالياء (1) والنون
في الجميع، وأدغم الكسائي الفاء في الباء في (نخسف بهم) (2) وليس بقوي.
(ولقد ءاتينا داوود منا فضلا يجبال أوبي معه والطير وألنا له
الحديد (10) أن اعمل سبغت وقدر في السرد واعملوا صلحا إنى بما
تعملون بصير (11) ولسليمن الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا
له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم
عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشآء من محريب
وتمثيل وجفان كالجواب وقدور راسيت اعملوا ءال داوود شكرا وقليل
من عبادي الشكور (13) فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته ى إلا
دآبة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون
الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14))
(يا جبال) إما أن يكون بدلا من (فضلا) وإما من (آتينا) بتقدير قولنا: يا
جبال، أو قلنا: يا جبال (أوبي) من التأويب، أي: رجعي معه التسبيح، ويجوز أن
يكون الله سبحانه خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع من
الجبال التسبيح كما يسمع من المسبح؛ معجزة لداود. وقرئ: (والطير) رفعا (3)
ونصبا عطفا على لفظ الجبال ومحلها. وجوزوا أن ينتصب بالعطف على (فضلا)
بمعنى: وسخرنا له الطير، وعلى (4) أنه مفعول معه، (وألنا له الحديد) وجعلناه له

(1) قرأهن بالياء جميعا حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2
ص 622.
(2) أنظر المصدر السابق.
(3) قرأه الأعرج وعبد الوارث عن أبي عمرو. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 122.
(4) في نسخة: " أو على ".
91

لينا كالطين والشمع يصرفه بيده كيف شاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة.
(أن اعمل سابغات) أي: دروعا واسعة صافية، وهو أول من اتخذها، وكانت
قبل صفائح (وقدر في السرد) أي: في نسج الدروع، فلا تجعل مساميرها دقاقا
فتغلق، ولا غلاظا فتقصم الحلق (واعملوا) الضمير لداود وأهله
(و) سخرنا (لسليمن الريح) وقرئ: " الريح " بالرفع (1)، أي: ولسليمان
الريح مسخرة، أو: وله تسخير الريح (غدوها شهر) جريها بالغداة مسيرة شهر،
وجريها بالعشي كذلك (وأسلنا له عين القطر) أي: أذبنا له معدن النحاس
وأظهرناه له، ينبع كما ينبع الماء من العين، ولذلك سماه: " عين القطر " تسمية بما آل
إليه، كما قال: (إني أراني أعصر خمرا) (2)، (و) سخرنا له (من الجن من
يعمل) بحضرته ما يأمرهم به من الأعمال (ومن يزغ) أي: ومن يعدل منهم عما
أمرناهم به من طاعة سليمان (نذقة من عذاب السعير) في الآخرة، وقيل: في
الدنيا، وقد وكل الله به ملكا بيده سوط يضربه ضربة تحرقه (3).
والمحاريب: البيوت الشريفة، وقيل: هي المساجد والقصور يتعبد فيها (4)،
(وتمثيل) قيل: كانت غير صور الحيوان، كصور الأشجار وغيرها، لأن التماثيل:
كل ما صور على صورة غيره من حيوان وغير حيوان (5)، وروي ذلك عن
الصادق (عليه السلام) (6). وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه،

(1) قرأه أبو بكر والمفضل. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 622.
(2) يوسف: 36.
(3) قاله يحيى بن سلام. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 438.
(4) قاله الحارث وقتادة وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 354.
(5) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 572.
(6) أنظر الكافي: ج 6 ص 527 ح 7.
92

وإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أضله النسران بأجنحتهما
من الشمس (1). والجوابي: الحياض الكبار لأن الماء يجيء فيها أي: يجمع، جعل
الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة، والقياس أن تثبت الياء، فيه، ومن
حذف الياء في الوقف أو في الوصل والوقف فلأنه مشبه بالفاصلة (اعملوا)
حكاية ما قيل لآل داود، وانتصب (شكرا) على أنه مفعول له، والمعنى: اعملوا لله
واعبدوه على وجه الشكر لنعمه، وفيه دلالة على أن العبادة يجب أن تؤدى على
وجه الشكر (2)، أو على الحال، أي: شاكرين أو على تقدير: اشكروا شكرا، لأن
" اعملوا " فيه معنى الشكر من حيث إن العمل للمنعم شكرا له، و (الشكور):
المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، وقد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه
اعتقادا واعترافا وكدحا.
(فلما) حكمنا على سليمان (الموت) ما دل الجن (على موته إلا دآبة
الأرض) وهي الأرضة (تأكل منسأته) وهي العصا الكبيرة يسوق بها الراعي
غنمه، من: نسأته إذا زجرته، وقرئ: " منسأته " بتخفيف الهمزة (3) (تبينت الجن)
من تبين الشيء إذا ظهر وتجلى، و (أن) مع صلتها بدل من (الجن) وهو بدل
الاشتمال، تقول: تبين زيد جهله. أي: ظهر أن الجن (لو كانوا يعلمون الغيب ما
لبثوا في العذاب المهين)، أو: علم الجن كلهم علما بينا بعد التباس الأمر على
عامتهم وتوهمهم أن كبارهم يعلمون الغيب، وعنهم (عليهم السلام): " تبينت الإنس " (4)،

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 572.
(2) ليس في نسخة: " وفيه دلالة... ".
(3) وهي قراءة نافع وأبي عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 622.
(4) أنظر التبيان: ج 8 ص 384.
93

وهو قراءة أبي (1)، ويكون الضمير في (كانوا) للجن في قوله: (ومن الجن من
يعمل بين يديه) أي: علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من
علمهم الغيب ما لبثوا، وفي قراءة ابن مسعود: " تبينت الإنس أن الجن لو كانوا
يعلمون " (2). وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاث عشرة
سنة، فمدة ملكه أربعون سنة.
(لقد كان لسبإ في مسكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من
رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا
عليهم سيل العرم وبدلنهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل
وشىء من سدر قليل (16) ذلك جزينهم بما كفروا وهل نجزى إلا
الكفور (17) وجعلنا بينهم وبين القرى التي بركنا فيها قرى ظهرة
وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما ءامنين (18) فقالوا ربنا بعد
بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلنهم أحاديث ومزقنهم كل ممزق إن
في ذلك لأيت لكل صبار شكور (19) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه
فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20))
سبأ: أبو عرب اليمن كلهم (في مسكنهم) أي: بلدهم. وقرئ: " مساكنهم " (3)
(جنتان) بدل من (ءاية) أو خبر مبتدأ محذوف، أي: الآية جنتان، ومعنى كونهما
آية: أن أهلهما أعرضوا عن شكر الله عليهما فخربهم (4) الله وأبدلهم عنهما الخمط

(1) نسبها إليه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 574.
(2) أنظر المصدر السابق.
(3) قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في
القراءات لابن مجاهد: ص 528.
(4) في بعض النسخ: " فخربهما ".
94

والأثل (1) آية وعبرة لهم ولغيرهم، وقيل: إن الآية أنه لم يكن في بلدهم بعوضة
ولا ذباب ولا عقرب ولا حية، وكان الغريب إذا دخل في بلدهم وفي ثيابه قمل
ماتت (2). ولم يرد بستانين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البستانين، جماعة
عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربهما
وتضامهما كأنهما جنة واحدة، أو: أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه
وشماله، كما قال: (جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب) (3)، (كلوا من رزق
ربكم) إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو: لما قال لهم لسان
الحال (بلدة طيبة) أي: هذه البلدة بلدة طيبة مخصبة، نزهة أرضها عذبة ليست
بسبخة، (ورب غفور) أي: ربكم الذي رزقكم وطلب شكركم غفور لمن شكره.
(فأعرضوا) عن الحق ولم يشكروا الله عز اسمه (فأرسلنا عليهم سيل العرم)
والعرم: اسم الجرذ الذي نقب عليهم السكر، ضربت لهم (4) بلقيس الملكة بسد ما
بين الجبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا
على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا سلط الله على سدهم الخلد (5)
فنقبه من أسفله فغرقهم، وقيل: العرم: جمع عرمة وهي الحجارة المركومة (6)،

(1) تعددت الأقوال في معنى الخمط، فعن الليث: هو ضرب من الأراك له حمل يؤكل، وقال
الزجاج: إنه يقال لكل نبت قد أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله، وقال الفراء: الخمط
في التفسير ثمر الأراك وهو البرير، وقيل: شجر له شوك، وقيل: هو شجر قاتل أو سم قاتل،
وقيل: هو الحمل القليل من كل شجرة. وأما الاثل فهو ضرب من الخشب كالطرفاء، وقيل:
هو الطرفاء. انظر لسان العرب: مادة " خمط " و " أثل ".
(2) قاله عبد الرحمن بن زيد. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 443.
(3) الكهف: 32.
(4) في نسخة: " عليهم ".
(5) الخلد: ضرب من الجرذان أعمى. (الصحاح: مادة خلد).
(6) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 576.
95

ويقال للكدس من الطعام: عرمة، والمراد: المسناة التي عقدوها سكرا. وقيل:
العرمة اسم واد كان يجتمع فيه السيول (1)، وقيل: العرم: المطر الشديد (2). وقرئ:
(أكل) بالضم والسكون (3)، وبالتنوين والإضافة (4)، ومن نون فالأصل. ذواتي
أكل أكل خمط، فحذف " أكل " المضاف، أو: وصف الأكل بالخمط، فكأنه قال:
ذواتي أكل بشع، ومن أضاف فكأنه قال: ذواتي برير (5)، لأن أكل الخمط في معنى
البرير، و " الأثل " و " السدر " معطوفان على (أكل) لا على (خمط)، لأن الأثل
لا أكل له، وتسمية البدل (جنتين) لأجل المشاكلة، وفيه ضرب من التهكم، وعن
الحسن: قلل السدر لأنه أكرم ما بدلوا (6). وقرئ: (وهل نجزى) بالنون (7)،
والمعنى: ومثل هذا الجزاء لا يستحقه إلا الكافر، وهو العقاب العاجل.
(وجعلنا بينهم وبين) قرى الشام (التي بركنا فيها) بالماء والشجر (قرى
ظهرة) متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو
راكبة متن الطريق ظاهرة للسائلة (8)، (وقدرنا فيها السير) من القرية إلى القرية
مقدارا واحدا، كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ
الشام، لا يخاف جوعا ولا عطشا ولا عدوا، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء.

(1) قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 362.
(2) وهو قول ابن عباس أيضا. راجع تفسير القرطبي: ج 14 ص 286.
(3) وبسكون الكاف قرأه نافع وابن كثير وعباس عن أبي عمرو. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 528.
(4) وبالإضافة هي قرارة أبي عمرو وحده. راجع المصدر السابق.
(5) البرير: ثمر الأراك، واحدتها بريرة. (الصحاح: مادة برر).
(6) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 576.
(7) الظاهر من العبارة أن المصنف يميل إلى القراءة بالياء هنا، وهي قراءة الجمهور الا
الكوفيين فقد قرؤوها بالنون.
(8) في نسخة: " للسابلة ".
96

(سيروا) أي: وقلنا لهم: سيروا ولا قول ثم، لكن لما سهلت لهم أسباب السير
فكأنهم أمروا به، والمعنى: سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها
لا يختلف باختلاف الأوقات، أو: سيروا فيها (ءامنين) لا يخافون وإن تطاولت
مدة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي.
(فقالوا ربنا بعد) وبعد على الدعاء، بطروا النعمة وملوا العافية فطلبوا الكد
والتعب، وقرئ: " ربنا باعد بين أسفارنا " (1) وهو قراءة الباقر (عليه السلام)، " ربنا " مبتدأ
والمعنى خلاف الأول، وهو أنهم استبعدوا مسائرهم على قصرها لفرط تنعمهم
(فجعلنهم أحاديث) يتحدث الناس بهم، وفرقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا
مضروبا، يقولون: ذهبوا أيدي سبأ، وتفرقوا أيادي سبأ، قال كثير:
أيادي سبأ يا عز ما كنت بعدكم * فلم يحل بالعينين بعدك منظر (2)
(إن في ذلك لايت) وعبرا (لكل صبار) عن المعاصي (شكور) للنعم
بالطاعات.
وقرئ: (صدق) بالتشديد والتخفيف (3)، فمن شدد فعلى: حقق عليهم
إبليس ظنه، أو: وجده صادقا، ومن خفف فعلى: صدق في ظنه. وقرئ: " صدق "
بالتشديد " إبليس " بالنصب " ظنه " بالرفع (4)، والمعنى: وجد ظنه صادقا حين

(1) وهي قراءة محمد بن الحنفية وأبي العالية وأبي صالح ونصر بن عاصم ويعقوب ويروى عن
ابن عباس، راجع تفسير القرطبي: ج 14 ص 290.
(2) وهو من أبيات يرثي بها عبد العزيز بن مروان، ومعناه واضح. انظر ديوان كثير عزة: ص 100.
(3) وبالتخفيف قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 529.
(4) وهي قراءة أبي الهجهاج، قال أبو حاتم الرازي: لا وجه لهذه القراءة عندي. وقد أجازها
الفراء والزجاج. ونسبها القرطبي إلى جعفر بن محمد (عليهما السلام) راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 3
ص 343، وتفسير القرطبي: ج 14 ص 292.
97

قال: (لاحتنكن ذريته إلا قليلا) (1) (ولا تجد أكثرهم شاكرين) (2)
(ولاغوينهم أجمعين) (3)، والضمير في (عليهم) يعود إلى أهل سبأ، وقيل: يعود
إلى الناس كلهم إلا من أطاع الله (4) وذلك قوله: (إلا فريقا من المؤمنين).
(وما كان له عليهم من سلطن إلا لنعلم من يؤمن بالأخرة ممن هو
منها في شك وربك على كل شىء حفيظ (21) قل ادعوا الذين زعمتم
من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما
لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفعة عنده
إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق
وهو العلى الكبير (23) قل من يرزقكم من السموات والارض قل
الله وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلل مبين (24) قل لا تسئلون
عمآ أجرمنا ولا نسئل عما تعملون (25)).
أي: لم يكن لإبليس عليهم من سلطنة واستيلاء يتمكن بها من إجبارهم على
الغي والضلال، كما قال: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم) (5)
وتمكينه من الاستغواء بالوسوسة لغرض صحيح وحكمة بالغة، وذلك أن يتميز
المؤمن بالآخرة من الشاك فيها، وعلل ذلك بالعلم والمراد ما تعلق به العلم،
والحفيظ: المحافظ، وفعيل ومفاعل متأخيان.
وأحد مفعولي (زعمتم) الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول،

(1) الإسراء: 62.
(2) الأعراف: 17.
(3) الحجر: 39.
(4) قاله مجاهد كما في تفسير القرطبي: ج 14 ص 292.
(5) إبراهيم: 22.
98

والمفعول الثاني: إما أن يكون (من دون الله) أو (لا يملكون) أو محذوفا،
فلا يصح الأول لأن قولك: " هم من دون الله " لا يلتئم كلاما، ولا الثاني لأنهم ما
كانوا يزعمون ذلك، فبقي أن يكون محذوفا تقديره: زعمتموهم آلهة من دون الله،
فحذف الموصوف لكونه مفهوما، وأقام صفته مقامه، فمفعولا (زعمتم) محذوفان
كما ترى بسببين مختلفين. ثم أخبر عن آلهتهم بأنهم (لا يملكون) زنة ذرة من
خير وشر ونفع وضر (في السموات ولا في الأرض) وليس لهم في شيء منهما
نصيب ولا (شرك) وليس لله (منهم من ظهير) على خلق شيء منهما.
يقال: الشفاعة لزيد على معنى: أنه الشافع، وعلى معنى أنه المشفوع له،
فيحتمل قوله: (ولا تنفع الشفعة عنده إلا) كائنة (لمن أذن له) من الشافعين
ومطلقة له، مثل: الملائكة والأنبياء والأولياء، أو: لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن
له أي: لشفيعه، وهذا تكذيب لقولهم: (هؤلاء شفعؤنا عند الله) (1)، واتصل قوله:
(حتى إذا فزع عن قلوبهم) بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظارا للإذن وفزعا
من الراجين للشفاعة، والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن، وأنه لا يطلق الإذن إلا
بعد تربص وتوقف، فكأنه قال: يتربصون مليا فزعين (حتى إذا فزع عن قلوبهم)
أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بأن يأذن رب العزة في
الشفاعة تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضا: (ماذا قال ربكم؟ قالوا) القول
(الحق) وهو الإذن بأن يشفعوا لمن ارتضى. وقرئ: (أذن له) أي: أذن الله له،
و " أذن له " (2) على البناء للمفعول، وقرئ: (فزع) على البناء للفاعل (3) وهو الله

(1) يونس: 18.
(2) قرأه حمزة والكسائي والأعشى. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 624.
(3) قرأه ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 530.
99

وحده (وهو العلى الكبير) ذو العلو والكبرياء، لا يملك أحد أن يتكلم في ذلك
اليوم إلا بإذنه.
ثم أمره عز اسمه أن يقررهم بقوله: (من يرزقكم) ثم أمره أن يتولى الإجابة
والإقرار عنهم بقوله: يرزقكم (الله) وذلك للإعلام بأنهم مقرون به بقلوبهم إلا أنه
ربما لم يتكلموا به عنادا، وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام: (وإنآ أو إياكم لعلى هدى
أو في ضلل مبين) معناه: أن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى
أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من كلام المنصف الذي كل من سمعه قال
للذي خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقديم ما قدم من التقرير
البليغ دلالة على من هو على الهدى ومن هو في الضلال المبين من الفريقين،
ونحوه قول القائل لغيره: إن أحدنا لكاذب، وإن كان الكاذب معلوما، ومنه قول
حسان:
أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء (1)
(عمآ أجرمنا) من المعاصي (ولا نسئل عما) تعملونه، بل كل إنسان يسأل
عما يعمله ويجازى على فعله دون فعل غيره.
(قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل
أروني الذين ألحقتم به ى شركآء كلا بل هو الله العزيز الحكيم (27)
ومآ أرسلنك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا
يعلمون (28) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (29) قل لكم
ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30)).

(1) والبيت من قصيدة طويلة يهجو بها أبا سفيان أنظر ديوان حسان: ج 1 ص 18.
100

(يفتح بيننا) أي: يحكم ويفصل بالحق (وهو الفتاح) الحاكم (العليم)
بالحكم. ومعنى قوله: (أروني) وقد كان يراهم ويعرفهم، أنه أراد بذلك أن يريهم
الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وينبئهم عن ضلالهم في ذلك، و (كلا) ردع
لهم عن مذهبهم، ونبه على غلطهم الفاحش بقوله: (بل هو الله العزيز الحكيم)
كأنه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات إذ هي لله عز اسمه وحده.
(إلا كآفة للناس) أي: إلا رسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا عمتهم فقد
كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، قال الزجاج: معناه: أرسلناك جامعا للناس في
الإنذار والإبلاغ (1)، فجعله حالا من الكاف، والتاء للمبالغة كتاء " الراوية "
و " العلامة "، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ما لهم في اتباعك من الثواب،
وما عليهم من مخالفتك من العقاب، أو: لا يعلمون رسالتك لإعراضهم عن النظر
في معجزتك.
(ميعاد يوم) أي: ميقات يوم ينزل بكم فيه ما وعدتموه، وهو إضافة تبيين
ك‍ " سحق ثوب " و " باب ساج "، سألوا على طريق التعنت فأجيبوا على طريق
التهديد أنهم مرصدون بيوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه.
(وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو
ترى إذ الظلمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول
يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31) قال
الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددنكم عن الهدى بعد إذ
جآءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل
مكر الليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا

(1) معاني القرآن: ج 4 ص 254.
101

الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلل في أعناق الذين كفروا هل
يجزون إلا ما كانوا يعملون (33) ومآ أرسلنا في قرية من نذير إلا قال
مترفوهآ إنا بمآ أرسلتم به ى كافرون (34) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولدا
وما نحن بمعذبين (35))
(الذي بين يديه) كتب الله المتقدمة، وقيل: هو يوم القيامة (1)، ومعناه: أنهم
جحدوا أن يكون القرآن من قبل الله، وأن يكون للبعث والجزاء حقيقة، ثم أخبر
سبحانه عن عاقبة أمرهم بأن قال: (ولو ترى) يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو: أيها السامع
موقفهم في الآخرة وهم يراجعون المجادلة بينهم، لرأيت أمرا عجيبا، فحذف
جواب (لو).
و (الذين استضعفوا) هم الأتباع، و (الذين استكبروا) هم الرؤساء
والقادة. وقوله: (أنحن صددنكم عن الهدى) إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم
عن الإيمان، وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه باختيارهم، كأنهم قالوا:
أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين اختياركم؟ بل أنتم آثرتم الضلال على الهدى،
وأمر الشهوة على أمر النهي فكنتم مجرمين كافرين، وقوله: (بعد إذ جآءكم)
أضيف (بعد) إلى (إذ) اتساعا مع كونها من الظروف اللازمة، كما أضيفت هي
إلى الجملة التي هي (جآءكم) فقد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره، فأضيف
إليه الزمان وأضيف إلى الجمل نحو: " حينئذ " و " يومئذ "، و " جئتك أوان الحجاج
أمير " و " حين خرج زيد ".
ثم كر المستضعفون على المستكبرين بقولهم: (بل مكر الليل والنهار)
فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 584.
102

مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا، وحملكم إيانا على الكفر واتخاذ الأنداد. والمعنى:
مكركم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به في إضافة
المكر إليه، أو: جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي. والضمير في
(وأسروا) ضمير الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين،
وهم الظالمون في قوله سبحانه: (إذ الظللمون موقوفون) فندم الرؤساء على
ضلالهم وإضلالهم، والأتباع على ضلالهم. والمعنى: أخفوا الندامة، وقيل:
أظهروها (1)، وهو من الأضداد، وقد فسر على الوجهين بيت امرئ القيس:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا * علي حراصا لو يسرون مقتلي (2)
(في أعناق الذين كفروا) أي: في أعناقهم فجاء بالمظهر للتنويه بذمهم.
(قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر ولكن أكثر الناس لا
يعلمون (36) ومآ أموا لكم ولا أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من
ءامن وعمل صلحا فأولئك لهم جزآء الضعف بما عملوا وهم في
الغرفت ءامنون (37) والذين يسعون في ءايتنا معجزين أولئك في
العذاب محضرون (38) قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ى
ويقدر له ومآ أنفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39) ويوم
يحشرهم جميعا ثم يقول للملئكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا
سبحنك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 585.
(2) والبيت من معلقته المشهورة التي مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
أنظر ديوان امرئ القيس: ص 39.
103

مؤمنون (41) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين
ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون (42))
(وما أموالكم) التي خولتموها (ولا أولادكم) التي رزقتموها بالجماعة
التي (تقربكم عندنا) قربة، والزلفى والزلفة كالقربى والقربة، ومحل (زلفى)
نصب على المصدر، فهو كقوله: (والله أنبتكم من الأرض نباتا) (1)، (إلا من
ءامن) استثناء من " كم " في (تقربكم) والمعنى: إن الأموال لا تقرب أحدا إلا
المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحدا إلا من رشحهم
للصلاح وعلمهم الدين (فأولئك لهم جزاء الضعف) بأن يضاعف لهم حسناتهم
فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا فصاعدا إلى سبعمائة وأكثر، و " جزاء الضعف " من
إضافة المصدر إلى المفعول. وأصله: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، ثم جزاء
الضعف ثم جزاء الضعف. وقرئ: " جزاء الضعف " (2) على: فأولئك لهم الضعف
جزاء، وقرئ: " في الغرفة " على التوحيد (3)، و (في الغرفت) على الجميع (4)،
وهي البيوت فوق الأبنية (ءامنون) من الغير (5) والآفات والموت والحزن.
(والذين يسعون) يجتهدون (في) إبطال (ءايتنا معجزين) لأنبيائنا،
ومعجزين: مثبطين غيرهم عن طاعتهم (أولئك) محصلون في العذاب أحضروا
فيه.
وكرر قوله: (قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشآء) لأن الأول خوطب به

(1) نوح: 17.
(2) قرأه رويس. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 624.
(3) وهي قراءة حمزة وحده. راجع المصدر السابق.
(4) في نسخة: " الجمع ".
(5) غير الدهر: أحواله المتغيرة من الصلاح إلى الفساد. (لسان العرب: مادة غير).
104

الكفار، والثاني وعظ للمؤمنين، فكأنه قال: ليس إغناء الكفار لكرامتهم، وإغناء
المؤمنين يجوز أن يكون زيادة في سعادتهم بأن ينفقوها في سبيل الله، ويدل عليه
قوله: (ومآ أنفقتم من شىء فهو يخلفه) أي: يعوضه، ويعقبكم (1) خلفه إما عاجلا
بزيادة النعمة، وإما آجلا بالثواب الذي كل خلف دونهم (2).
(ويوم يحشرهم جميعا) الغرض من سؤال الملائكة أن يقول ويقولوا،
ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريع الكفار أبلغ وتعييرهم أشد، ويكون اقتصاص ذلك
زجرا للسامع ولطفا له، ونحوه قوله: (يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس
اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) (3) والموالاة مفاعلة من الولي وهو القرب،
كما أن المعاداة مفاعلة من العدو وهي البعد، والولي يقع على الموالي والموالى
جميعا، والمعنى: أنت الذي تواليه من دونهم إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فبينوا بإثبات
موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا لعبادتهم لهم (بل كانوا يعبدون
الجن) يريدون الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله.
(وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينت قالوا ما هذآ إلا رجل يريد أن
يصدكم عما كان يعبد ءابآؤكم وقالوا ما هذآ إلا إفك مفترى وقال الذين
كفروا للحق لما جآءهم إن هذآ إلا سحر مبين (43) ومآ ءاتينهم من
كتب يدرسونها ومآ أرسلنآ إليهم قبلك من نذير (44) وكذب الذين من
قبلهم وما بلغوا معشار مآ ءاتينهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير (45)
قل إنمآ أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما
بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (46) قل ما

(1) في نسخة: " ويعطيكم ".
(2) في بعض النسخ: " دونه ".
(3) المائدة: 116.
105

سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شىء
شهيد (47) قل إن ربى يقذف بالحق علم الغيوب (48))
(هذا) الأول إشارة إلى رسول الله، والثانية إلى القرآن، والثالثة إلى الحق،
والحق أمر النبوة كله ودين الإسلام كما هو، وفي قوله: (وقال الذين كفروا) ولم
يقل " قالوا "، وفي قوله: (للحق لما جآءهم) وما في اللامين من الإشارة إلى
القائلين والمقول فيه وما في " لما " من المبادهة بالكفر، دليل على أن الكلام صدر
عن إنكار عظيم وغضب شديد، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجرأتهم
على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق الواضح قبل أن يختبروه ويتدبروه: (إن هذا
إلا سحر مبين) فقضوا بأنه سحر ظاهر.
(وما ءاتينهم) كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك، ولا (أرسلنآ
إليهم) نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا كما قال: (أم أنزلنا عليهم سلطنا فهو
يتكلم بما كانوا به يشركون) (1) أو أراد: ليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعث
رسول، فهم أميون أهل جاهلية لا ملة لهم، كما قال: (أم ءاتينهم كتبا من قبله
فهم به مستمسكون) (2) ثم توعدهم على تكذيبهم فقال: (وكذب الذين من
قبلهم) كما كذبوا، وما بلغ هؤلاء (معشار) ما آتينا أولئك من طول الأعمار
وكثرة الأموال وعظم الأجسام، فحين كذبوا (رسلي) جاءهم نكيري، أي:
عقوبتي وتغييري لأحوالهم بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما استظهروا به
من القوة والثروة، فما بال هؤلاء لا يحذرون أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك من
النقمة؟
(قل إنما أعظكم) بخصلة (واحدة)، وفسرها بقوله: (أن تقوموا لله مثنى)

(1) الروم: 35.
(2) الزخرف: 21.
106

على أنه عطف بيان لها، وأراد بقيامهم: إما القيام عن مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتفرقهم عنه، وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين ولكن الانتصاب في
الأمر والنهوض فيه بالهمة، والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق،
وهي أن تقوموا لوجه الله خالصا اثنين اثنين وواحدا واحدا (ثم تتفكروا) في
أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء به بعدل وإنصاف من غير عناد ومكابرة.
وأراد بقوله: (ما بصاحبكم من جنة) أن هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك
الدنيا والآخرة جميعا لا يتصدى لادعاء مثله إلا أحد رجلين: إما مجنون لا يبالي
بافتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز، وإما عاقل كامل مرشح للنبوة مؤيد من عند
الله بالآيات والحجج، وقد علمتم أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ما به من جنون، بل علمتموه
أرجح الناس عقلا، وأصدقهم قولا، وأجمعهم للمحامد. و (ما) للنفي، ويكون
استئناف كلام تنبيها من الله على طريقة النظر في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويجوز أن
يكون المعنى: (ثم تتفكروا) فتعلموا ما بصاحبكم من جنة. ويجوز أن يكون
(ما) استفهامية بمعنى: أي شيء به من جنة؟ وهل رأيتم من منشئه إلى مبعثه
وصمة فيه تنافي النبوة؟ (إن هو إلا نذير) أي: مخوف (بين يدي عذاب شديد)
يوم القيامة.
(ما سألتكم) تقديره: أي شيء سألتكم (من أجر فهو لكم) وفيه معنيان:
أحدهما: نفي مسألة الأجر رأسا كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئا فخذه،
وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا، والمراد: لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئا من عرض
الدنيا فتتهموني، والآخر: أن يريد بالأجر ما يريده في قوله: (قل ما أسئلكم عليه
من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) (1) وفي قوله: (قل لا أسئلكم عليه

(1) الفرقان: 57.
107

أجرا إلا المودة في القربى) (1)؛ لأن اتخاذ السبيل إلى الله يصيبهم، ونفعه عائد
إليهم، وكذلك المودة في القربى؛ لأن ذخرها لهم دونه (إن أجرى إلا على الله)
أي: ليس ثواب عملي إلا على الله فهو يثيبني عليه.
القذف: الرمي، وهو مستعار لمعنى الإلقاء، ومعنى (يقذف بالحق): يلقيه
وينزله إلى أنبيائه، أو: يلقيه على الباطل (فيدمغه) ويزهقه (علم الغيوب) رفع
محمول على محل (إن) مع اسمها، وهو خبر مبتدأ محذوف.
(قل جآء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (49) قل إن ضللت فإنمآ
أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربي إنه سميع قريب (50)
ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51) وقالوا ءامنا
به ى وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به ى من قبل
ويقذفون بالغيب من مكان بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما
فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب (54))
الحي: إما أن يبدأ فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يكن منه إبداء ولا إعادة، فجعلوا
قولهم: " لا يبدئ ولا يعيد " مثلا للهلاك، ومنه قول عبيد:
أقفر من أهله عبيد * فاليوم لا يبدي ولا يعيد (2)
والمعنى: (جاء الحق) وهلك الباطل، وعن ابن مسعود قال: دخل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود
في يده ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق

(1) الشورى: 23.
(2) لعبيد بن الأبرص الأسدي، ومعناه: أن الهالك لم يبق له إبداء ولا إعادة كما يقال: لا يأكل
ولا يشرب. أنظر ديوان عبيد: ص 11.
108

وما يبدئ الباطل وما يعيد " (1).
(قل إن ضللت) عن الحق كما زعمتم (فإنمآ أضل على نفسي) أي: فإنما
يرجع وبال الضلال علي لأن المأخوذ به دون غيري (وإن اهتديت) إلى الحق
فبفضل (ربى) حيث أوحى (إلى) فله المنة بذلك علي.
(ولو ترى) جوابه محذوف والتقدير: لرأيت أمرا عظيما. و (لو) و (إذ)
والأفعال التي هي (فزعوا... وأخذوا... وحيل بينهم) كلها للمضي، والمراد بها
الاستقبال؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه، ووقت
الفزع: وقت البعث (فلا فوت) لا يفوت منهم أحد، والمكان القريب يعني به القبر،
وقيل: هو فزعهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب لقبض الأرواح (2)، وقيل:
يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فرارا (3)، وقيل: هو جيش يخسف
بهم بالبيداء، يؤخذون من تحت أقدامهم (4)، (وأخذوا) عطف على (فزعوا)
أي: فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم، أو: على (لا فوت) أي: إذ فزعوا فلم يفوتوا
وأخذوا. (وقالوا) أي: ويقولون في ذلك الوقت: (ءامنا به) أي: بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؛
لأن ذكره مر في قوله: (ما بصاحبكم من جنة)، (وأنى لهم التناوش) وهو
التناول السهل لشيء قريب، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم
إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، مثلت حالهم بحال من
يريد تناول الشيء من مكان بعيد مثل ما يتناوله الآخر من موضع قريب تناولا

(1) رواه عنه مسلم في صحيحه: ج 3 ص 1408 ح 1781.
(2) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 388.
(3) قاله السدي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 458.
(4) وهو قول سعيد بن جبير. راجع المصدر السابق.
109

سهلا، وقرئ: " التناؤش " (1) همزت الواو المضمومة كما همزت واو " أدؤر " (2)،
وقيل: هو من " النأش " وهو الطلب (3)، قال رؤبة:
إليك نأش القدر... (4)
النؤوش والنئيش: الحركة في الإبطاء، قال:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني * وقد حدثت بعد الأمور أمور (5)
أي: أخيرا، فنصبه على الظرف. (ويقذفون) عطف على (كفروا) على
حكاية الحال الماضية، أي: وكانوا يرمون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالظنون الكاذبة، ويأتون
به (من مكان بعيد)، وهو قولهم: إنه ساحر وشاعر وكذاب ومجنون، وقد أتوا به
من (مكان بعيد) أي: من جهة بعيدة من حاله، لأن أبعد شيء مما جاء به: السحر،
والشعر، والجنون، وأبعد شيء من عادته الكذب، والزور.
(وحيل بينهم) أي: فرق بينهم وبين مشتهياتهم (كما فعل بأشياعهم)
بأشباههم من كفرة الأمم وموافقيهم وأهل دينهم، أنهم كانوا (في شك مريب)
أي: مشكك، كما قالوا: عجب عجيب.
* * *

(1) قرأه حمزة والكسائي وأبو عمرو. راجع التبيان: ج 8 ص 408.
(2) في نسخة: " أذؤد "، وأخرى: " أدؤد "، وثالثة: " داؤد "، والظاهر أن الصحيح ما أثبتناه عن
نسخة وما في الكشاف. والأدؤر والأدور: جمع دار كما في اللسان.
(3) حكاه القيسي في الكشف: ج 2 ص 218.
(4) والبيت:
أقحمني جار أبي الخاموش * إليك نأش القدر النؤوش
أنظر مجاز القرآن: ج 2 ص 151.
(5) لنهشل بن حري من أبيات في عبد له قد عصاه فندم، يقول: أنه تمنى في الأخير وبعد
الفوت أن لو أطاعني، فطاعته جاءت في وقت لا تنفعه بعد ما حدثت أمور وأمور. أنظر لسان
العرب: مادة " نأش ".
110

سورة فاطر
أو سورة الملائكة (1)، مكية (2) إلا آيتين، وهي خمس وأربعون آية، (لهم
عذاب شديد) (3)، و (أن تزولا) (4)، و (تبديلا) (5) ثلاثهن بصري جديد،
و (البصير) (6) و (النور) (7) غيرهم (8).
في حديث أبي: " من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب من
أبواب الجنة: أن أدخل من أي الأبواب شئت " (9).
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله فاطر السموات والارض جاعل الملئكة رسلا أولى

(1) في بعض النسخ: " سورة الملائكة ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 410: مكية في قول مجاهد وقتادة، لا ناسخ فيها
ولا منسوخ وبه قال الحسن، إلا آيتين قوله: (إن الذين يتلون كتاب الله) إلى قوله: (الفضل
الكبير) وهي خمس وأربعون آية عراقي وحجازي إلا إسماعيل، وست وأربعون في عدد
إسماعيل والشاميين.
وفي الكشاف: ج 3 ص 595: مكية وهي خمس وأربعون آية نزلت بعد الفرقان.
(3) الآية: 7.
(4) الآية: 41.
(5) الآية: 43.
(6) الآية: 19.
(7) الآية: 20.
(8) أي غير البصري.
(9) أورده الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 619 مرسلا.
111

أجنحة مثنى وثلث وربع يزيد في الخلق ما يشآء إن الله على كل
شىء قدير (1) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك
فلا مرسل له من بعده ى وهو العزيز الحكيم (2) يأيها الناس اذكروا
نعمت الله عليكم هل من خلق غير الله يرزقكم من السمآء والأرض
لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك
وإلى الله ترجع الامور (4) يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم
الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (5))
(فاطر السموات) إن جعلت الإضافة لفظية - بأن تكون في تقدير الانفصال
- فهو بدل، وإن جعلتها معنوية فهو صفة (مثنى وثلث وربع) صفة ل‍ (أجنحة)
عدلت عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ومعنى العدل: أنك أردت
بمثنى ما أردت باثنين اثنين، والأصل أن تريد بالكلمة معناها دون كلمة
أخرى، والعدل: أن تلفظ بكلمة وأنت تريد كلمة أخرى، والمعنى: أنه جعل من
الملائكة خلقا أجنحتهم اثنان اثنان، أي: لكل واحد جناحان، وخلقا أجنحتهم
ثلاثة ثلاثة، وخلقا أجنحتهم أربعة أربعة (يزيد في) خلق الأجنحة وفي غير ذلك
(ما يشآء) مما تقتضيه حكمته ومشيئته. والآية مطلقة تتناول كل زيادة في
الخلق من: طول قامة، واعتدال صورة، وقوة في البطش، وحصافة في العقل... إلى
غير ذلك، وقيل: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن (1).
(ما يفتح الله) يعني: أي شيء يطلق الله (من رحمة) أي: من نعمة رزق
أو مطر أو عافية أو صحة أو غير ذلك من أصناف نعمه (فلا) أحد يقدر على

(1) قاله القشيري كما في تفسير القرطبي: ج 14 ص 320، وأورده الزمخشري في الكشاف:
ج 3 ص 596 مرويا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
112

إمساكها، وأي شيء (يمسك) الله فلا أحد يقدر على إطلاقه، والفتح مستعار
للإطلاق والإرسال بدلالة قوله: (فلا مرسل له) مكان " لا فاتح له "، وإنما نكر
" الرحمة " لإرادة الشياع، كأنه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، وأنث
الضمير أولا وذكره ثانيا وهو يرجع في الحالين معا إلى ما حملا على اللفظ
والمعنى، ولأن الأول فسر بالرحمة فتبع الضمير التفسير، والثاني لم يفسر فترك
على أصل التذكير، ولأن تفسير الثاني يحتمل أن يكون مطلقا في كل ما يمسكه من
غضبه ورحمته. وإنما فسر الأول دون الثاني ليدل على أن رحمته سبقت غضبه.
و (اذكروا نعمت الله عليكم) بالقلب واللسان، واحفظوها عن الغمط
والكفران، واشكروها بالاعتراف بها وطاعة موليها! (هل من خلق غير الله)
قرئ: (غير) بالرفع والجر (1) على الوصف لفظا ومحلا، و (يرزقكم) يجوز أن
يكون في محل جر بأن يكون صفة ل‍ (خلق)، وأن لا يكون له محل بأن يكون
محل (من خلق) رفعا بإضمار " يرزقكم "، ويفسره هذا الظاهر، أو يكون كلاما
مستأنفا بعد قوله: (هل من خلق غير الله)، وعلى هذا الوجه الثالث يكون فيه
دلالة على أن الخالق لا يطلق على غير الله عز وجل، وأما على الوجهين المتقدمين
من الوصف والتفسير فلا دليل فيه على اختصاص الاسم بالله عز وجل؛ لأنه تقيد
بالرزق من السماء والأرض (2) وخرج من الإطلاق، والرزق من السماء بالمطر
ومن الأرض بالنبات (لا إله إلا هو) جملة مفصولة لا محل لها (فأنى تؤفكون)
فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك، وعن الحق إلى الباطل؟ وقيل:
كيف تصرفون عن هذه الدلالة التي أقيمت (3) لكم على التوحيد مع وضوحها؟

(1) وبالجر قرأه حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 8 ص 411.
(2) في نسخة: " إلى الأرض ".
(3) في نسخة: " الأدلة التي أقمتها لكم ".
113

الأصل: (وإن يكذبوك) فتأس بتكذيب الرسل من قبلك، فوضع (فقد
كذبت رسل من قبلك) موضع " فتأس به " استغناء بالسبب عن المسبب، أعني:
بالتكذيب عن التأسي، ونكر (رسل) لأن تقديره: رسل ذوو عدد كثير وأولو
آيات ومعجزات، ونحو ذلك.
(إن وعد الله) الذي هو البعث والنشور والجنة والنار والجزاء والحساب
(حق فلا) تخدعنكم (الحيوة الدنيا) فتغتروا بملاذها، فإنها عن قليل تنفد
وتبيد، و (الغرور): الشيطان، أو الدنيا وزينتها.
(إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من
أصحب السعير (6) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين ءامنوا
وعملوا الصلحت لهم مغفرة وأجر كبير (7) أفمن زين له سوء عمله ى
فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشآء ويهدى من يشآء فلا تذهب نفسك
عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون (8) والله الذي أرسل الريح
فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك
النشور (9) من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم
الطيب والعمل الصلح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب
شديد ومكر أولئك هو يبور (10))
لما ذكر الكافرين والمؤمنين قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفمن زين له سوء عمله)
من هذين الفريقين كمن لم يزين له؟ فكأن النبي (عليه السلام) قال: لا، فقال: (فإن الله يضل
من يشآء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) ومعنى تزيين العمل
والإضلال واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة لا يجدي عليه اللطف
فيستوجب أن يخليه الله وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال فيرى القبيح حسنا
114

والحسن قبيحا، وإذا خذله الله فمن حق الرسول صلوات الله عليه أن لا يهتم بأمره
ولا يتحسر. وعن الزجاج: أن المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم
حسرة؟ فحذف لدلالة (فلا تذهب نفسك) عليه، أو: أفمن زين له سوء عمله كمن
هداه الله؟ فحذف لدلالة (فإن الله يضل من يشآء ويهدى من يشآء) عليه (1).
و (حسرت) مفعول له، أي: ولا تهلك نفسك للحسرات، و (عليهم) صلة
(تذهب) كما تقول: هلك عليه حبا، ويجوز أن يكون حالا، كأن كلها صارت
حسرات لفرط التحسر.
(فتثير سحابا) أي: تهيجه، وجاء على لفظ المضارع دون ما قبله وما بعده
لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة
على كمال القدرة الربانية، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض
بالمطر بعد موتها لما كان من الدلائل على القدرة، قال: (فسقناه... فأحيينا)
معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص، والكاف في
(كذلك) في محل الرفع، أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات.
تقديره: من يريد العزة فليطلبها عند الله، فوضع قوله: (فلله العزة جميعا)
موضعه استغناء به عنه؛ لدلالته عليه، فإن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه،
ومعناه: العزة كلها مختصة بالله: عزة الدنيا وعزة الآخرة، فمن أراد العزة فليتعزز
بطاعة الله.
ويدل عليه ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن ربكم يقول كل يوم: أنا
العزيز، فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز " (2).

(1) معاني القرآن: ج 4 ص 264.
(2) رواه البيهقي في الصفات والأسماء: ص 34.
115

ثم عرف سبحانه أن ما يطلب به العزة عنده هو الإيمان والعمل الصالح بقوله:
(إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصلح يرفعه) والكلم: جمع كلمة، وكل جمع
ليس بينه وبين واحده إلا الهاء جاز فيه التذكير والتأنيث، يقول: هذا كلم وهذه
كلم، ومعنى الصعود هنا هو القبول، وكل ما يتقبله الله تعالى من الطاعات يوصف
بالرفع والصعود، لأن الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ويرفعونها إلى حيث يشاء
الله تعالى، كما في قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين) (1)، و (الكلم
الطيب): تمجيده وتقديسه وتحميده، وأطيب الكلم: لا إله إلا الله (والعمل
الصلح يرفعه) أي: يرفع الكلم الطيب إلى الله، فالهاء ضمير (الكلم)، وقيل:
معناه: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب (2)، أي: لا ينفع العمل إلا إذا صدر عن
التوحيد، وقيل: معناه: والعمل الصالح يرفعه الله لصاحبه (3). فعلى الوجهين
الأخيرين يكون الهاء ضمير (العمل).
(والذين يمكرون) المكرات (السيئات) أو أصناف المكر السيئات،
فهي صفة للمصدر أو لما في حكمه، وقيل: عنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا
في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى المكرات الثلاث: إما إثبات رسول الله،
وإما قتله، وإما إخراجه، كما حكى الله عنهم في قوله: (وإذ يمكر بك الذين
كفروا) الآية (4)، (5) (ومكر أولئك) الذين مكروا تلك المكرات (هو)
خاصة (يبور) أي: يكسد ويفسد دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة
وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع الله عليهم مكراتهم.

(1) المطففين: 18.
(2) قاله الحسن البصري في تفسيره: ج 2 ص 224.
(3) قاله قتادة والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 464.
(4) الأنفال: 30.
(5) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 603.
116

(والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل
من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ى إلا
في كتب إن ذلك على الله يسير (11) وما يستوي البحران هذا عذب
فرات سآبغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا
وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ى
ولعلكم تشكرون (12) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل
وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له
الملك والذين تدعون من دونه ى ما يملكون من قطمير (13) إن تدعوهم
لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيمة يكفرون
بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14) يأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله
والله هو الغنى الحميد (15) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (16)
وما ذلك على الله بعزيز (17))
(أزوجا) أي: أصنافا وضروبا، أو: ذكرانا وإناثا، ولا (تحمل) من الإناث
حاملة ولدها في بطنها (ولا تضع إلا بعلمه) إلا وهو عالم بذلك (وما يعمر من
معمر) معناه: وما يعمر من أحد، وإنما سماه معمرا بما هو صائر إليه (ولا ينقص
من عمره) بأن يذهب بعضه بمضي الليل والنهار (إلا وهو في كتب) محفوظ
أثبته الله قبل كونه، وقيل: معناه: لا يطول عمر ولا يقصر إلا في كتاب الله، وهو أن
يكتب في اللوح المحفوظ: لو أطاع الله فلان بقي إلى وقت كذا، وإذا عصى نقص
من عمره الذي وقت له (1). وإليه أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: " إن الصدقة

(1) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 2 ص 368.
117

وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار " (1).
ثم ضرب " البحرين ": العذب والملح مثلين للمؤمن والكافر، ثم قال على
سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمة (ومن) كل واحد منهما
(تأكلون لحما طريا) وهو السمك (وتستخرجون حلية) وهو اللؤلؤ والمرجان
(من فضله) من فضل الله، ولم يجر له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر
ذكره لم يشكل؛ لدلالة المعنى عليه، وحرف الرجاء مستعار بمعنى الإرادة؛ كأنه
قيل: لتبتغوا ولتشكروا. ويحتمل غير طريقة الاستطراد وهو أن يشبه الجنسين
بالبحرين، ويفضل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك العذب في منافع: من
السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه، والكافر خال من النفع.
(ذلكم) مبتدأ، و (الله ربكم له الملك) أخبار مترادفة، و القطمير: قشر
النواة. (لا يسمعوا دعاءكم) لأنهم جماد (ولو سمعوا) على سبيل الفرض
والتقدير ل‍ (ما استجابوا لكم) لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية (ويوم
القيمة يكفرون) بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم، يقولون: (ما كنتم إيانا
تعبدون) (2)، (ولا ينبئك مثل خبير) ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير عالم به،
يريد أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين،
والمعنى: أن ما أخبرتكم به من حال معبوديهم هو الحق، لأني عالم خبير بما
أخبرتكم به.
وعرف الفقراء ليريهم سبحانه أنهم جنس الفقراء لشدة افتقارهم إليه، ولو نكر
لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء، ولما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم ذكر (الحميد)

(1) رواه المنذري في الترغيب والترهيب: ج 3 ص 335.
(2) يونس: 28.
118

ليدل به على أنه الغني النافع خلقه بغناء المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن
يحمدوه، و " العزيز ": الممتنع.
(ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه
شىء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا
الصلوة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ى وإلى الله المصير (18) وما
يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل
ولا الحرور (21) وما يستوي الاحيآء ولا الأموات إن الله يسمع من
يشآء ومآ أنت بمسمع من في القبور (22) إن أنت إلا نذير (23) إنآ
أرسلنك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24) وإن
يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر
وبالكتب المنير (25) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير (26))
وزر الشيء: حمله (ولا تزر) أي: لا تحمل نفس وزارة يوم القيامة إلا
وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بوزر غيرها. وفيه دلالة على أنه سبحانه لا
يؤاخذ نفسا بغير ذنبها (وإن تدع) نفس (مثقلة) بالآثام غيرها إلى أن تحمل
شيئا من إثمها لم تجب ولم تغث ولم يحمل شيء من حملها ولو كان المدعو بعض
قرابتها وأقرب الناس إليها، فكل نفس بما كسبت رهينة.
وقوله: (بالغيب) حال من الفاعل أو المفعول، أي: (يخشون ربهم) غائبين
عن عذابه، أو: يخشون عذابه غائبا عنهم (ومن تزكى) ومن تطهر بفعل الطاعات
وترك المعاصي، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة
التزكي، (وإلى الله المصير) وعد لمن تزكى بالثواب.
119

(وما يستوي الأعمى والبصير) الفرق بين الواوات أن بعضها ضمت شفعا
إلى شفع، وبعضها ضمت وترا إلى وتر، والواو ربما قرن بها " لا " في النفي؛ لتأكيد
معنى النفي. و (الحرور) و " السموم ": الريح الحارة، وقيل: إن الأعمى والبصير
مثل للمؤمن والمشرك، و " الظلمات والنور " للشرك والإيمان، و " الظل والحرور "
للجنة والنار و " الأحياء والأموات " للمؤمنين والكفار (1)، أو العلماء والجهال (2).
(إن أنت إلا نذير) أي: ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن
يسمع نفعه إنذارك، وإن كان من المصرين فلا عليك إلا التبليغ (بالحق) حال من
أحد الضميرين، بمعنى: محقا أو محقين، أو صفة للمصدر أي: إرسالا مصحوبا
بالحق، أو صلة (بشيرا ونذيرا) أي بشيرا بالوعد الحق، ونذيرا بالوعيد الحق،
واكتفى في آخر الآية بذكر النذير عن البشير؛ لأن النذارة لما كانت مقرونة
بالبشارة دلت إحداهما على الأخرى، لا سيما قد اشتملت الآية على ذكرهما.
(بالبينات) يريد: المعجزات الدالة على النبوة (وبالزبر) يريد: الصحف
(وبالكتاب المنير) يريد: التوراة والإنجيل.
(ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ى ثمرات مختلفا
ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)
ومن الناس والدوآب والانعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله
من عباده العلمؤا إن الله عزيز غفور (28) إن الذين يتلون كتب الله
وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن
تبور (29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ى إنه غفور شكور (30))

(1) قاله قتادة والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 469.
(2) وهو قول ابن قتيبة. راجع المصدر السابق.
120

(ألوانها) أجناسها من التين والرمان والعنب وغيرها. أو هيئاتها من الصفرة
والخضرة والحمرة ونحوها، و " الجدد ": الخطط والطرائق، وجدة الحمار هي
الخطة السوداء على ظهره و (غرابيب) معطوف على (بيض) أو على (جدد)،
كأنه قال: (ومن الجبال) مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد:
غرابيب (1). وعن عكرمة: هي الجبال الطوال السود (2). والوجه في قوله:
(وغرابيب سود) مع أن " الغرابيب " يكون تأكيد الأسود، أن يضمر المؤكد قبله
ويكون (سود) الظاهر تفسيرا للمضمر، كقول النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها * ركبان مكة بين الغيل والسند (3)
وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي
الإظهار والإضمار جميعا، ولابد من تقدير حذف المضاف في قوله: (ومن الجبال
جدد بيض) أي: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود غرابيب، حتى يؤول إلى
قوله: (ومن الجبال... مختلف ألوانها) كما قال: (ثمرات مختلفا ألوانها).
(ومن الناس والدوآب والانعام مختلف ألوانه) يعني: ومنهم بعض مختلف
ألوانه كذلك، أي: كاختلاف الثمرات والجبال، وتم الكلام ثم قال: (إنما يخشى
الله من عباده العلمؤا) والمعنى: أن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء
دون غيرهم، إذ عرفوه حق معرفته، وعلموه حق علمه.
وعن الصادق (عليه السلام): " يعني بالعلماء من صدق فعله قوله، ومن لم يصدق

(1) كذا في النسخ وفي الكشاف أيضا. وفي بعض حواشي الكشاف: " لعله غربيب ".
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 609.
(3) من قصيدة يمدح بها النعمان ملك الحيرة، وهو أحسن شعره، ولهذا ألحقوها بالقصائد
المعلقات. أنظر ديوان النابغة الذبياني: ص 28 وفيه: " السعد " بدل " السند ".
121

فعله قوله فليس بعالم " (1).
(إن الذين يتلون كتب الله) أي: يداومون على تلاوته، وهي شأنهم
وديدنهم، وعن مطرف: هي آية القراء (2). و (يرجون) خبر (إن)، (لن تبور)
لن تكسد ولن تفسد، وتعلق به (ليوفيهم) أي: تجارة تنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها
عنده (أجورهم) وهي ما استحقوه من الثواب (ويزيدهم) على قدر (3)
استحقاقهم (من فضله)، وإن شئت جعلت (يرجون) في موضع الحال، بمعنى:
فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق راجين تجارة مربحة ليوفيهم،
وخبر (إن) قوله: (إنه غفور شكور) أي: غفور لهم وشكور لأعمالهم.
(والذي أوحينا إليك من الكتب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن
الله بعباده ى لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتب الذين اصطفينا من
عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ى ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن
الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنت عدن يدخلونها يحلون فيها من
أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي
أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذيأحلنا دار المقامة من
فضله ى لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35))
(من الكتب) يعني: القرآن، و (من) للتبيين، أو يريد الجنس و (من)
للتبعيض، (مصدقا) حال مؤكدة؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق (لما بين
يديه) أي: لما تقدمه من الكتب، إنه (بعباده لخبير بصير) يعني: إنه خبرك وأبصر
شمائلك فرآك أهلا لما أوحاه إليك من الكتاب المعجز.

(1) رواه الكليني في الكافي: ج 1 ص 36 ح 2 بإسناده عن الحارث بن المغيرة.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 611.
(3) في نسخة: " قلة ".
122

(ثم أورثنا الكتب) المعنى: إنا أوحينا إليك القرآن مصدقا لما قبله من
الكتب موافقا لما بشرت به تلك الكتب من حاله وحال من أتى به، ثم أورثناه
الذين اصطفينا من عبادنا بعدك وهم علماء الأمة، لما ورد في الحديث: " أن
العلماء ورثة الأنبياء " (1)، والمروي عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: " هي لنا
خاصة، وإيانا عنى " (2). وهذا هو الصحيح؛ لأن الوصف بالاصطفاء أليق بهم،
إذ هم ورثة الأنبياء، وقدوة العلماء، المستحفظون للكتاب، العارفون بحقائقه.
(فمنهم ظالم لنفسه) وعن ابن عباس والحسن: أن الضمير للعباد (3)، واختاره
المرتضى قدس روحه قال: علل تعليقه سبحانه وراثة الكتاب بالمصطفين من
عباده بأن فيهم من هو ظالم لنفسه ومن هو (مقتصد) ومن هو (سابق
بالخيرت) (4). وقيل: إن الضمير للذين اصطفاهم الله (5).
وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الظالم لنفسه منا: من لا يعرف حق الإمام،
والمقتصد منا: العارف بحق الإمام، والسابق بالخيرات: هو الإمام " (6).
وكلهم مغفور لهم، وذلك لاصطفاء وإيراث الكتاب، أو: ذلك السبق بالخيرات
هو (الفضل الكبير).
(جنت عدن) بدل من (الفضل الكبير) الذي هو السبق بالخيرات، لأنه لما
كان السبب في نيل الثواب نزله منزلة المسبب، كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه

(1) رواه الترمذي في سننه: ج 5 ص 49 ذ ح 2682، والدارمي أيضا في سننه: ج 1 ص 98
كلاهما عن أبي الدرداء.
(2) المناقب لابن شهر آشوب: ج 4 ص 130.
(3) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 223، تفسير القرطبي: ج 14 ص 346.
(4) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة): ص 102.
(5) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 473.
(6) رواه الصدوق في معاني الأخبار: 104.
123

(جنت عدن) وقرئ: " يدخلونها " على البناء للمفعول (1)، (من أساور): " من "
للتبعيض، أي: (يحلون) بعض أساور، كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق
المسورون به غيرهم.
وفي ذكر " الشكور " دلالة على كثرة حسناتهم و (المقامة) بمعنى الإقامة
(من فضله) من عطائه وأفضاله. و النصب: العناء والمشقة التي تصيب المنتصب
للأمر المزاول له، واللغوب: الإعياء والفتور الذي يلحق بسبب النصب، فاللغوب
نتيجة النصب.
(والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف
عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور (36) وهم يصطرخون فيها ربنآ
أخرجنا نعمل صلحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من
تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما للظلمين من نصير (37) إن الله علم
غيب السموات والارض إنه عليم بذات الصدور (38) هو الذي
جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكفرين
كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكفرين كفرهم إلا خسارا (39) قل
أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من
الأرض أم لهم شرك في السموات أم ءاتينهم كتبا فهم على بينت منه
بل إن يعد الظلمون بعضهم بعضا إلا غرورا (40))
(فيموتوا) جواب النفي (كذلك) أي: مثل ذلك الجزاء (نجزى) وقرئ:
" يجزى " (2). (وهم يصطرخون) أي: يتصارخون (فيها) يفتعلون من الصراخ

(1) قرأه أبو عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 534.
(2) قرأه أبو عمرو. راجع التيسير في القراءات للداني: ص 182.
124

وهو الصياح باستغاثة وجهد وشدة. والفائدة في قولهم: (غير الذي كنا نعمل)
من غير اكتفاء بقولهم: (صلحا) أنه للتحسر على ما عملوا من غير الصالح مع
الاعتراف به، ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة فقالوا: (أخرجنا نعمل
صلحا غير الذي كنا) نحسبه صالحا فنعمله: (أولم نعمركم) توبيخ من الله،
فيقول لهم وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، وإن
كان التوبيخ في المتطاول أعظم، وقد قيل: إنه ستون سنة (1)، وقيل: أربعون (2)،
وقيل: ثماني عشرة سنة (3) (وجآءكم النذير) عطف على معنى (أولم نعمركم)
كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو القرآن، وقيل: النذير:
الشيب (4)، وقيل: موت الأهل والأقارب (5) (فذوقوا) العذاب.
(إنه عليم بذات الصدور) كالتعليل، لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى
ما يكون فقد علم كل غيب في العالم، وذات الصدور: مضمراتها وهي تأنيث
" ذو "، وذو موضوع بمعنى الصحبة، فالمضمرات تصحب الصدور.
والخلائف: جمع خليفة وهو المستخلف (فعليه كفره) أي: ضرر كفره
وعقاب كفره، والمقت: أشد البغض، وقيل لمن نكح امرأة أبيه: مقتي لكونه ممقوتا
في كل قلب.
(أروني) بدل من (أرأيتم) لأن معنى " أرأيتم ": أخبروني، فكأنه قال:
أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به العبادة، أروني أي جزء (من)

(1) وهو قول علي (عليه السلام). راجع التبيان: ج 8 ص 434.
(2) قاله ابن عباس ومسروق. راجع المصدر السابق.
(3) قاله قتادة وعطاء والكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 573.
(4) حكاه الفراء والطبري كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 476.
(5) ذكره الماوردي في تفسيره.
125

أجزاء (الأرض) خلقوه بأنفسهم (أم لهم) مع الله شركة في خلق (السموت)
والأرض أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاء (فهم على) حجة من ذلك
الكتاب؟ أو يكون الضمير للمشركين كقوله: (أم ءاتينهم كتبا) من قبل أم أنزلنا
عليهم سلطانا (بل إن يعد) أي: ما يعد (الظلمون بعضهم) وهم الرؤساء
(بعضا) وهم الأتباع (إلا غرورا) وهو قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
(إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتآ إن
أمسكهما من أحد من بعده ى إنه كان حليما غفورا (41) وأقسموا بالله
جهد أيمنهم لبن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما
جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42) استكبارا في الأرض ومكر السيىء
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ى فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن
تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43) أولم يسيروا
في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم
قوة وما كان الله ليعجزه من شىء في السموات ولا في الأرض إنه كان
عليما قديرا (44) ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها
من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان
بعباده ى بصيرا (45))
(أن تزولا) كراهة أن تزولا، أو: يمنعهما من أن تزولا، لأن الإمساك منع
(إنه كان حليما غفورا) غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما، وكانتا جديرتين
بأن تهدا هدا لعظم كلمة الشرك كما يقال: (تكاد السموت يتفطرن منه وتنشق
126

الأرض) (1)، و (إن أمسكهما) جواب القسم سد مسد جواب الشرط في (ولئن
زالتا)، و (من) الأولى مزيدة والثانية للابتداء: " من بعد إمساكه ".
أي: أقسموا بأيمان غليظة (لئن جآءهم نذير) من جهة الله (ليكونن أهدى)
إلى قبول قوله (من إحدى الأمم) الماضية، يعنون اليهود والنصارى. (ما
زادهم) إسناد مجازي لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم (نفورا) من الحق.
(استكبارا) بدل من (نفورا)، أو مفعول له بمعنى: إلا أن نفروا لاستكبارهم
ومكرهم، أو حال يعني: مستكبرين وماكرين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين.
ويجوز أن يكون (ومكر السييء) معطوفا على (نفورا) وأصله: وإن مكروا
السيء أي: المكر السيء ثم ومكر السيء، ويدل عليه: (ولا يحيق المكر السيء
إلا بأهله).
وعن كعب الأحبار أنه قال لابن عباس: قرأت في التوراة أنه من حفر مغواة
وقع فيها، قال: إني وجدت ذلك في كتاب الله، وقرأ الآية (2).
وفي أمثال العرب: " من حفر جبا وقع فيه منكبا " (3).
وقرأ حمزة: " ومكر السيء " بسكون الهمزة (4)، وذلك لاستثقاله الحركات مع
الياء والهمزة، ولعله اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة (فهل ينظرون إلا)
عادة الله في (الأولين) المكذبين للرسل، وهو إنزال العذاب بهم وإهلاكهم؟ جعل
استقبالهم لذلك انتظارا له منهم، والتبديل: تصيير الشيء مكان غيره، والتحويل:

(1) مريم: 90.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 619. والمغواة: بئر تحفر وتغطى للسبع أو للضبع
والذئب، ويجعل فيها جدي إذا نظر السبع إليه سقط عليه يريده فيصاد.
(3) أنظر جمهرة الأمثال للعسكري: ج 2 ص 289.
(4) أنظر التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 628.
127

تصيير الشيء في غير المكان الذي كان فيه. والتغيير: تصيير الشيء على خلاف
ما كان (ليعجزه) أي: ليسبقه ويفوته.
(بما كسبوا) من الشرك والتكذيب. الضمير في (ظهرها) للأرض وإن لم
يجر لها ذكر لعدم الالتباس، أي: ما ترك على ظهر الأرض (من دآبة) أي: نسمة
تدب عليها، يريد: بني آدم، وقيل: ما ترك بني آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم
كفرهم ومعاصيهم (1) (إلى أجل مسمى) إلى يوم القيامة (كان بعباده بصيرا)
وعيد بالجزاء.
* * *

(1) قاله ابن مسعود. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 479.
128

سورة يس
مكية (1) إلا آية، وهي ثلاث وثمانون آية كوفي، واثنتان غيرهم، (يس)
كوفي.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة يس يريد بها وجه الله عز وجل غفر الله له،
وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة. وأيما مريض قرئت عنده
سورة يس نزل عليه بعدد كل حرف منها عشرة أملاك، يقومون بين يديه صفوفا،
ويستغفرون له، ويشهدون قبضه، ويتبعون جنازته، ويصلون عليه، ويشهدون
دفنه " إلى آخر الخبر (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس، فمن قرأها في
نهاره كان من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن
ينام وكل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم، ومن كل آفة، وإن مات

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 440: في قول مجاهد وقتادة والحسن: ليس فيها
ناسخ ولا منسوخ، وقال ابن عباس: آية منها مدنية وهي قوله: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما
رزقكم الله).
وفي الكشاف: ج 4 ص 3: مكية إلا آية 45 فمدنية، وآياتها 83، نزلت بعد الجن.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 32 مرسلا.
129

في يومه أدخله الله الجنة... " الخبر بطوله (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
(يس (1) والقرءان الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صراط
مستقيم (4) تنزيل العزيز الرحيم (5) لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم فهم
غفلون (6) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7) إنا جعلنا في
أعنقهم أغللا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين
أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشينهم فهم لا يبصرون (9) وسوآء
عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10))
قرئ (ياسين) بالإمالة والتفخيم (2) في " يا "، وبإظهار النون وإخفائها (3)،
وكذلك نون والقلم. وعن ابن عباس: معناه " يا إنسان " (4)، وعن الحسن: معناه " يا
رجل " (5)، وقيل: يا سيد الأولين والآخرين (6). وعن علي (عليه السلام): هو اسم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (7).
(والقرآن الحكيم) ذي الحكمة، أو: لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي،

(1) ثواب الأعمال للصدوق: ص 138.
(2) قرأ الكسائي ويحيى عن أبي بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بإمالة الياء، وقرأها
إسماعيل عن نافع وحمزة بين اللفظين وهما إلى الفتح أقرب، وفتحها بالتفخيم الباقون.
راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 629.
(3) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص والأعشى ونافع بإظهار النون في " ياسين " وفي
(والقرآن)، وأدغمها الباقون. راجع المصدر السابق.
(4) تفسير ابن عباس: ص 369.
(5) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 228.
(6) قاله بكر الوراق. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 5.
(7) رواه الكليني في الكافي: ج 6 ص 20 ح 13، والصدوق في الأمالي: ص 381 ح 1.
130

أو: لأنه كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به (إنك لمن المرسلين) جواب القسم
(على صراط مستقيم) خبر بعد خبر، أو صلة ل‍ (المرسلين) (1) أي: إنك لمن
الرسل الثابتين على طريق ثابت وشريعة واضحة.
وقرئ: (تنزيل) بالرفع (2) على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على:
أعني.
(لتنذر قوما) لم ينذر (ءاباؤهم) قبلهم، لأنهم كانوا في زمان الفترة بين
عيسى ونبينا (عليهما السلام)، ومثله: (لتنذر قوما ماءاتهم من نذير من قبلك) (3) (وما
أرسلنا إليهم قبلك من نذير) (4) فيكون (ما أنذر ءاباؤهم) في موضع نصب على
الصفة. وقد فسر (ما أنذر) على إثبات الإنذار بأن جعل " ما " مصدرية بمعنى:
لتنذر قوما إنذار آبائهم، أو: موصولة منصوبة على المفعول الثاني بمعنى: لتنذر قوما
ما أنذر آباؤهم من العذاب كقوله: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) (5). وقوله: (فهم
غافلون) على التفسير الأول يتعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، على أن
عدم إنذارهم سبب غفلتهم، وعلى الثاني يتعلق بقوله: (إنك لمن المرسلين)
لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره فإنه غافل.
(لقد حق القول على أكثرهم) وهو قوله سبحانه: (لأملأن جهنم من الجنة
والناس أجمعين) (6) أي: ثبت عليهم هذا القول ووجب لأنهم ممن علم من حالهم
أنهم يموتون على الكفر.

(1) ليس في نسختين: " أو صلة للمرسلين ".
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 539.
(3) القصص: 46.
(4) سبأ: 44.
(5) النبأ: 40.
(6) هود: 119.
131

ثم مثل تصميمهم على الكفر بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين، في أنهم لا
يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدين. (لا
يبصرون) ما بين أيديهم وما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا استبصار (فهي إلى
الأذقان) معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان، فلا تخليه يطأطئ رأسه فلا يزال
مقمحا، وهو الذي يرفع رأسه ويغض بصره، ويقال: قمح البعير: إذا رفع رأسه ولم
يشرب الماء، وأقمحتها أنا، وبعير قامح، وإبل قماح، قال الشاعر يصف سفينة:
ونحن على جوانبها قعود * نغض الطرف كالإبل القماح (1)
وعن ابن عباس: أن المعني بذلك ناس من قريش هموا بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم
يستطيعوا أن يبسطوا إليه يدا، وخرج إليهم وطرح التراب على رؤوسهم وهم لا
يبصرونه (2). وعلى هذا فيكون معنى " السدين " أنه جعلهم لا يبصرونه، ومعنى
(فأغشيناهم): جعلنا على أبصارهم غشاوة وحلنا (3) بينهم وبينه.
(إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة
وأجر كريم (11) إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وءاثرهم وكل
شىء أحصينه في إمام مبين (12) واضرب لهم مثلا أصحب القرية إذ
جآءها المرسلون (13) إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث
فقالوا إنآ إليكم مرسلون (14) قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل
الرحمن من شىء إن أنتم إلا تكذبون (15) قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم
لمرسلون (16) وما علينآ إلا البلغ المبين (17) قالوا إنا تطيرنا بكم لبن

(1) البيت منسوب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي. راجع مجاز القرآن: ج 2 ص 175.
(2) حكاه عنه ابن مردويه كما في الدر المنثور: ج 7 ص 44.
(3) في نسخة: " وجعلناه ".
132

لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم (18) قالوا طائركم معكم
أبن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون (19) وجآء من أقصا المدينة رجل
يسعى قال يقوم اتبعوا المرسلين (20) اتبعوا من لا يسلكم أجرا وهم
مهتدون (21))
أي: (إنما) ينتفع بإنذارك (من اتبع) القرآن (وخشى) الله متلبسا
(بالغيب) يعني في حال غيبته عن الناس (فبشر) من هذه صفته (بمغفرة) من
الله لذنوبه (وأجر كريم) ثواب عظيم خالص من الشوب.
(نحى الموتى) نبعثهم يوم القيامة للجزاء، وعن الحسن: إحياؤهم أن
يخرجهم من الشرك إلى الإيمان (1). (ونكتب) ما أسلفوا من الأعمال الصالحة
وغيرها (وءاثرهم) أي: وأعمالهم التي صارت سنة من بعدهم يقتدى فيها بهم
حسنة كانت أم قبيحة، ومن الآثار الحسنة: علم علم أو كتاب في الدين صنف أو
صدقة أجريت أو وقف وقف أو مسجد لله بني... ونحو ذلك، ومن الآثار السيئة:
وظيفة ضارة على المسلمين وظفت أو شيء صاد عن ذكر الله من الملاهي
والألحان أحدث... ونحو ذلك، ومثله قوله تعالى: (ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم
وأخر) (2) أي: قدم من أعماله وأخر من آثاره، وقيل: هي آثار المشائين إلى
المساجد (3).
وقال (عليه السلام): " إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم " (4).
والإمام المبين: هو اللوح المحفوظ، وقيل: هو صحائف الأعمال سماه مبينا

(1) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 228.
(2) القيامة: 13.
(3) قاله مجاهد. راجع التبيان: ج 8 ص 447.
(4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 4 ص 63 و ج 10 ص 78.
133

لأنه لا يندرس أثره (1).
(واضرب لهم مثلا) مثل لهم من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من
هذا المثال، والمعنى: واضرب لهم مثلا مثل (أصحاب القرية) والمثل الثاني بيان
للأول، و (إذ) بدل من (أصحب القرية)، والقرية: أنطاكية، والمرسلون: رسل
عيسى (عليه السلام) إلى أهلها، بعثهم دعاة إلى الحق، وكانوا عبدة الأوثان، وإنما أضاف
سبحانه إرسالهم إلى نفسه لأنه أرسلهم بأمره (فعززنا) فقويناهما وشددنا
ظهورهما برسول ثالث، يقال: المطر يعزز الأرض أي: يلبدها ويشدها، وقرئ:
" فعززنا بثالث " بالتخفيف (2) من: عزه يعزه إذا غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا بثالث.
وترك ذكر المفعول به لأن الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون الصفا رأس
الحواريين.
(قالوا إنا إليكم مرسلون) أولا و (إنا إليكم لمرسلون) ثانيا، لأن الأول
ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار، قوله: (ربنا يعلم) جار مجرى القسم في
التوكيد، ومثله قولهم: شهد الله وعلم الله، وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على
سبيل التوكيد لأنهم حققوه بقوله: (وما علينا إلا البلاغ المبين) وهو الظاهر
المكشوف بالآيات والمعجزات الشاهدة بصحته، وإلا فلو قال المدعي: والله إني
لصادق فيما أدعي، ولم يحضر البينة لكان قبيحا.
(قالوا إنا تطيرنا) أي: تشأمنا (بكم) وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه
نفوسهم (لئن لم تنتهوا) عما تدعونه من الرسالة (لنرجمنكم) بالحجارة
أو لنشتمنكم، قال الرسل: (طائركم معكم) أي: سبب شؤمكم معكم، وهو

(1) حكاه الثعالبي في تفسيره: ج 3 ص 31 ونسبه إلى فرقة.
(2) قرأه أبو بكر والمفضل عن عاصم. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 629.
134

إقامتكم على الكفر والشرك، فأما الدعاء إلى الإيمان والتوحيد ففيه غاية اليمن
والبركة (أئن ذكرتم) أي: أتطيرون إن ذكرتم، وقرئ: " أن ذكرتم " بالفتح (1)،
بمعنى: أتطيرتم لان ذكرتم، (بل أنتم قوم مسرفون) في العصيان، فمن ثم أتاكم
الشؤم لا من قبل الرسل وتذكيرهم إياكم، بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم،
متمادون في غوايتكم حيث تتشأمون بمن يتبرك به.
(رجل يسعى) هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان منزله عند (أقصى)
باب من أبواب المدينة، فلما بلغه أن قومه هموا بقتل الرسل (جاء) يعدو ويشتد.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي
طالب عليه الصلاة والسلام، وصاحب ياسين، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون،
وعلي (عليه السلام) أفضلهم " (2).
وقوله: (من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون) كلمة جامعة في الترغيب فيهم،
أي: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فتفوزون بخير الدنيا
والآخرة.
(وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) ءأتخذ من دونه ى
ءالهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفعتهم شيئا ولا ينقذون (23)
إنى إذا لفي ضلل مبين (24) إنى ءامنت بربكم فاسمعون (25) قيل ادخل
الجنة قال يليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربى وجعلني من
المكرمين (27) ومآ أنزلنا على قومه ى من بعده ى من جند من السمآء

(1) وهي قراءة الماجشون. راجع تفسير القرطبي: ج 15 ص 17.
(2) أخرجه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 10، وفي الكاف الشاف في تخريج أحاديث
الكشاف: ص 140 ما لفظه: أخرجه الثعلبي والعقيلي والطبراني وابن مردويه من طرق عن
ابن عباس.
135

وما كنا منزلين (28) إن كانت إلا صيحة وا حدة فإذا هم خمدون (29)
يحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به ى يستهزءون (30))
أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم تلطفا لهم،
فكأنه قال: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ ألا ترى إلى قوله: (وإليه ترجعون)
ولم يقل: وإليه أرجع، ثم ساق كلامه ذلك المساق إلى أن قال: (إني آمنت بربكم
فاسمعون) يريد: فاسمعوا قولي وأطيعوني فقد نبهتكم على الحق الصريح والدين
الصحيح الذي لا محيص عنه، وهو أن العبادة لا تصح إلا لمن أنشأ خلقكم (1)
وأوجدكم وإليه مرجعكم، ومن أنكر الأشياء في العقل أن تؤثروا على عبادته
عبادة أشياء، إن أرادكم هو (بضر) وشفع لكم هؤلاء لم ينفعكم شفاعتهم ولم
يقدروا على إنقاذكم، إنكم في هذا الاختيار لواقعون (في ضلال) ظاهر بين لا
يخفى على ذي حجى.
ثم إن قومه لما سمعوا منه ذلك القول وطؤوه بأرجلهم حتى مات، فأدخله الله
الجنة وهو حي فيها يرزق، وذلك قوله: (قيل ادخل الجنة)، وقيل: إنهم قتلوه
على أن الله سبحانه أحياه وأدخله الجنة، فلما دخلها (قال يا ليت قومي يعلمون
بما غفر لي ربى) (2) تمنى أن يعلم قومه ما أعطاه الله تعالى من المغفرة وجزيل
الثواب ليرغبوا في مثله، ويؤمنوا لينالوا ذلك. وورد في حديث مرفوع: " أنه نصح
قومه حيا وميتا " (3).
و " ما " في (بما غفر لي) مصدرية أو موصولة، أي: بمغفرة ربي لي، أو: بالذي

(1) في بعض النسخ: " أنشأكم ".
(2) قاله ابن مسعود ومجاهد. راجع تفسير ابن كثير: ج 3 ص 547.
(3) أورده الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 11.
136

غفره ربي لي من الذنوب، ويجوز أن تكون استفهامية أي: بأي شيء غفر لي؟
يريد ما كان منه معهم من المصابرة على الجهاد في إعزاز دين الله حتى قتل،
إلا أنه على هذا الوجه " بم غفر لي " بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزا.
(وما أنزلنا على قومه من) بعد قتله (من جند) أي: لم تنزل لإهلاكهم جندا
من جنود السماء كما فعلنا يوم بدر (وما كنا) منزليهم على الأمم إذ أهلكناهم.
(إن كانت إلا صيحة وحدة) أي: لم تكن مهلكتهم عن آخرهم إلا بأيسر أمر
(صيحة وحدة) أخذ جبرائيل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة فماتوا
من آخرهم، لا يسمع لهم حس، كالنار إذا طفئت. وكأنه قال عز اسمه: إن إنزال
الجنود من السماء من عزائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك يا محمد، حيث
أنزلوا يوم بدر والخندق وما كنا نفعله بغيرك. وقرئ: " إلا صيحة " بالرفع (1)
على " كان " التامة، أي: ما وقعت إلا صيحة، والقياس التذكير؛ لأن المعنى: ما وقع
شيء إلا صيحة، ولكن جوز ذلك لأن " الصيحة " في حكم فاعل الفعل، ومثله بيت
ذي الرمة:
وما بقيت إلا الضلوع الجراشع (2)
والقراءة بالنصب على معنى: إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة.
(يا حسرة على العباد) نوديت الحسرة كأنها قيل لها: تعال يا حسرة فهذا
من أوقاتك التي حقك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل، والمعنى:
أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون، أو: هم متحسر عليهم من جهة الملائكة

(1) وهي قراءة أبي جعفر كما في شواذ القرآن لابن خالويه: ص 125.
(2) وصدره: طوى النحز والأجراز ما في غروضها. والبيت من قصيدة طويلة يصف ناقة له.
راجع ديوان ذي الرمة: ص 447.
137

والمؤمنين، ويجوز أن يكون من جهة الله تعالى على سبيل الاستعارة في معنى
تعظيم ما جنوه على أنفسهم، وفرط إنكاره له وتعجبه منه. وروي عن أبي بن كعب
وابن عباس وعلي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام): " يا حسرة العباد " (1) على
الإضافة إليهم لاختصاصها بهم من حيث إنها موجهة إليهم.
(ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون (31)
وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32) وءاية لهم الأرض الميتة
أحيينها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنت من
نخيل وأعنب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره ى وما عملته
أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحن الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت
الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36) وءاية لهم الليل نسلخ منه
النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجرى لمستقر لها ذا لك تقدير
العزيز العليم (38) والقمر قدرنه منازل حتى عاد كالعرجون
القديم (39) لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار
وكل في فلك يسبحون (40))
(ألم يروا) ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في (كم) لأن " كم " لا يعمل
فيها عامل قبلها، سواء كانت للاستفهام أم للخبر؛ لأن أصلها للاستفهام، و (أنهم
إليهم لا يرجعون) بدل من (كم أهلكنا) على المعنى لا على اللفظ، والتقدير: أولم
يروا كثرة إهلاكنا القرون قبلهم كونهم غير راجعين إليهم، أي: لا يعودون إلى الدنيا،
أفلا يعتبرون بهم؟

(1) انظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 125.
138

وقرئ: " لما " بالتخفيف (1) على أن يكون " ما " صلة للتوكيد، و (إن) مخففة
من الثقيلة والتقدير: إن كلهم لمجموعون محشورون محضرون للحساب. وقرئ:
(لما) بالتشديد بمعنى " إلا " كمسألة الكتاب: نشدتك بالله لما فعلت، و (إن)
نافية والتقدير: ما كل إلا مجموعون محضرون لدينا، والتنوين في (كل) عوض
من المضاف إليه، وال‍ (جميع) فعيل بمعنى مفعول، يقال: حي جميع، وجاؤوا
جميعا.
والقراءة بالميتة مخففة أشيع وأسلس على اللسان، و (أحييناها) استئناف،
بيان لكون الأرض الميتة آية، ودلالة لهم على قدرة الله على البعث، وكذلك
(نسلخ) ويجوز أن يكون صفتين ل‍ (الأرض) و (الليل) لأنه أريد بهما
الجنسان مطلقين، لا " أرض " ولا " ليل " بأعيانهما، فعوملا معاملة النكرات في
وصفهما بالجمل، ونحوه:
ولقد أمر على اللئيم يسبني (2)
أي: أحييناها بالنبات، و (أخرجنا منها) كل حب يتقوتونه مثل: الحنطة
والشعير والأرز ونحوها (فمنه يأكلون) قدم الظرف للدلالة على أن الحب هو
الذي يتعلق به معظم العيش ويتقوم بالإرزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء
القحط.
وخص النخيل والأعناب لكثرة أنواعهما ومنافعهما (وفجرنا) في الأرض
أو في الجنات من عيون الماء (ليأكلوا من ثمره) والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله

(1) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي. انظر التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2
ص 630.
(2) وعجزه: فمضيت ثمة قلت لا يعنيني. والبيت منسوب لرجل من بني سلول، وقيل: لشمر
بن عمرو الحنفي. وقد تقدم شرح البيت وتخريجه في ج 1 ص 58 فراجع.
139

من الثمر، ومما (عملته أيديهم) من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من
الأعمال، إلى أن بلغ الثمر منتهاها وأوان أكلها. وقرئ: (ثمره) و " ثمره " بفتحتين
وضمتين (1) وضمة وسكون (2)، وأصله: " من ثمرنا " كما قال: (وجعلنا)
و (فجرنا) فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات، ويجوز أن
يكون الضمير ل‍ " النخيل " وتترك " الأعناب " غير مرجوع إليها الضمير؛ لأنها في
حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره، ويجوز أن يراد به: من ثمره المذكور وهو
الحبات، كما قال رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق (3)
فسئل عنه فقال: أردت كأن ذلك. ويجوز أن يكون (ما) في (ما عملته)
نافية، أي: ولم يعمل تلك الثمار أيديهم ولا يقدرون عليه، وقرئ على الوجه
الأول: " وما عملت أيديهم " من غير هاء (4).
و (الأزوج): الأشكال والأصناف والأجناس من الأشياء (ومما
لا يعلمون) أي: ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها، ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق
من طرق العلم، ولا يبعد أن يخلق الله من الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر
طريقا إلى العلم به في بطون الأرض وقعر البحار.
سلخ الشاة: كشط جلدها عنها، فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل

(1) وبالضمتين قرأه الأخوان (حمزة والكسائي). راجع العنوان في القراءات لابن خلف:
ص 159.
(2) وهي قراءة الأعمش كما في تفسير القرطبي: ج 15 ص 25.
(3) البيت من قصيدة مرجزة مشهورة لرؤبة بن العجاج يصف دابة. راجع خزانة الأدب
للبغدادي: ج 1 ص 88 وما بعده.
(4) قرأه الكوفيون إلا حفصا. راجع العنوان في القراءات: ص 159.
140

وملقى ظله (فإذا هم مظلمون) أي: داخلون في ظلام الليل لا ضياء لهم فيه.
(والشمس تجرى لمستقر لها) أي: لحد لها موقت مقدر تنتهي إليه من فلكها
في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو: منتهى لها من المشارق
والمغارب حتى تبلغ أقصاها فذلك مستقرها لأنها لا تعدوه، أو: لحد لها من
مسيرها كل يوم في مرائي عيوننا وهو المغرب، وقرأ ابن مسعود: " لا مستقر
لها " (1) وهو قراءة أهل البيت (عليهم السلام) (2) ومعناه: أنها لا تزال تجري لا تستقر ذلك
الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي يكل الفطن عن استخراجه،
تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم.
وقرئ: (والقمر) بالرفع (3) على الابتداء أو عطفا على (الليل) أي: ومن
آياته القمر، وبالنصب بفعل مضمر يفسره (قدرنه). والمعنى: قدرنا مسيره
(منازل) وهي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطؤه ولا
يتقاصر عنه، على تقدير مستو (حتى عاد كالعرجون القديم) وهو عود العذق
الذي تقادم عهده حتى يبس وتقوس، وقيل: إنه يصير كذلك في كل ستة أشهر (4)،
قال الزجاج: هو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف (5) والقديم يدق وينحني
ويصفر، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.
(لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر) في سرعة سيره فإنها تقطع منازلها

(1) حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 127.
(2) ذكرها ابن خالويه في الشواذ ونسبها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي البحر المحيط لأبي حيان: ج 7
ص 336: عن الإمام زين العابدين وولده الباقر والصادق (عليهم السلام).
(3) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 540.
(4) كما روي عن الإمام علي (عليه السلام) كما في إرشاد المفيد: ص 118، وعن الرضا (عليه السلام) كما في
تفسير القمي: ج 2 ص 215.
(5) معاني القرآن: ج 4 ص 288.
141

في سنة والقمر يقطعها في شهر، ولأن الله سبحانه باين بين فلكيهما ومجاريهما،
فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر (ولا الليل سابق النهار) أي: ولم يسبق الليل
النهار (وكل) التنوين فيه عوض من المضاف إليه، وكلهم: الشمس والقمر
والنجوم (في فلك يسبحون) أي: يسيرون فيه بانبساط، وإنما قيل بالواو والنون
لما أضيف إليها ما هو من فعل العقلاء. وعن ابن عباس: معناه: يجري كل واحد
منهما في فلكه كما يدور المغزل في الفلكة (1).
(وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم
من مثله ى ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون
(43) إلا رحمة منا ومتعا إلى حين (44) وإذا قيل لهم اتقوا ما بين
أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من ءاية من ءايت
ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله
قال الذين كفروا للذين ءامنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه و إن أنتم إلا
في ضلل مبين (47) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صدقين (48) ما
ينظرون إلا صيحة وا حدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون
توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50))
قرئ: (ذريتهم) على التوحيد و " ذرياتهم " على الجمع (2)، وهم أولادهم
ومن يهمهم حمله، وقيل: إن اسم الذرية يقع على النساء لأنهن مزارعها (3).
وفي الحديث: " أنه نهى عن قتل الذراري، وخصهم بالحمل لضعفهم، ولأنه

(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 18.
(2) وهي قراءة نافع وابن عامر ويعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 630.
(3) وهو قول الإمام علي (عليه السلام) فيما رواه عنه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 19.
142

لا قوة لهم على السفر كقوة الرجال " (1).
(وخلقنا لهم من) مثل الفلك (ما يركبون) يعني الإبل، وهي سفن البر،
وقيل: (الفلك المشحون) سفينة نوح (2)، و (من مثله) أي: مثل ذلك الفلك ما
يركبون من السفن والزوارق. (فلا صريخ لهم) أي: لا مغيث لهم، أو: لا إغاثة،
يقال: أتاهم الصريخ. (إلا رحمة منا) أي: لرحمة منا ولتمتع بالحياة إلى أجل
يموتون فيه لابد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق.
وجواب (إذا) محذوف يدل عليه قوله: (إلا كانوا عنها معرضين)، كأنه
قال: (وإذا قيل لهم اتقوا) أعرضوا، ثم قال: وعادتهم الإعراض عند كل آية
وموعظة. وعن الصادق (عليه السلام): " معناه: اتقوا (ما بين أيديكم) من الذنوب (وما
خلفكم) من العقوبة "
(إن أنتم إلا في ضلال مبين) قول الله سبحانه، أو حكاية قول المؤمنين لهم،
أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين.
وقرئ: (وهم يخصمون) بإدغام التاء من " يختصمون " في الصاد مع فتح
الخاء (3)، وكسرها وإتباع الياء الخاء في الكسر، و " يخصمون " (4) من خصمه
يخصمه. أي: يختصمون في أمورهم ويتبايعون في أسواقهم، يعني: أن القيامة
تأتيهم بغتة فلا يقدرون على الإيصاء بشيء، ولا يرجعون إلى منازلهم من الأسواق.
(ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51)

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 18.
(2) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 444.
(3) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وورش عن نافع. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد:
ص 541.
(4) وهي قراءة حمزة وحده، راجع المصدر السابق.
143

قالوا يويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق
المرسلون (52) إن كانت إلا صيحة وا حدة فإذا هم جميع لدينا
محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم
تعملون (54) إن أصحب الجنة اليوم في شغل فكهون (55) هم
وأزواجهم في ظلل على الأرآئك متكون (56) لهم فيها فكهة ولهم
ما يدعون (57) سلم قولا من رب رحيم (58) وامتزوا اليوم أيها
المجرمون (59) ألم أعهد إليكم يبنى ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه
لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61))
(الأجداث) القبور (ينسلون) يعدون، وهي النفخة الثانية. (من بعثنا من
مرقدنا) من حشرنا من منامنا الذي كنا فيه نياما؟ لأن إحياءهم كالإنباه من
الرقاد، وقيل: إنهم عدوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى أهوال القيامة رقادا (1).
وروي عن علي (عليه السلام) أنه قرأ: " من بعثنا " (2) على " من " الجار، والمصدر (هذا)
مبتدأ و (ما وعد) خبره " وما " مصدرية أو موصولة. ويجوز أن يكون (هذا)
صفة ل‍ (مرقدنا) و (ما وعد) خبر مبتدأ محذوف أي: هذا وعد الرحمن. وعن
قتادة: أول الآية قول الكافر، وآخر الآية (هذا ما وعد الرحمن) قول المسلم (3)،
وقيل: هو كلام الكافرين أيضا يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم
أو يجيب بعضهم بعضا (4). وإذا جعلت " ما " موصولة فتقديره: هذا الذي وعده
الرحمن والذي صدقه المرسلون، أي: صدقوا فيه، من قولهم: صدقوهم القتال،

(1) ذكره البغوي في تفسيره: ج 4 ص 15 ونسبه إلى أهل المعاني.
(2) أنظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 126.
(3) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 451.
(4) قاله ابن زيد. راجع المصدر السابق.
144

والمثل: " صدقني سن بكره " (1)، أي: هو الذي وعده الله في كتبه المنزلة على
ألسنة رسله الصادقين، وليس ببعث النائم من مرقده بل هو البعث الأكبر، أي:
لم تكن تلك المدة إلا مدة صيحة واحدة، فإذا الأولون والآخرون مجموعون
(لدينا) في عرصات القيامة، محصلون في موقف الحساب (فاليوم لا تظلم
نفس شيئا).
(إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) حكاية ما يقال لهم في ذلك
اليوم، وفي مثل هذه الحكاية تصوير للموعود، وتمكين له في النفوس، وترغيب
في الحرص على العمل بما يثمره ويؤدي إليه (في شغل) وقرئ: " في شغل "
بسكون الغين (2) وهما لغتان، أي: في أي شغل لا يحاط بوصفه، وهو النعيم الذي
شملهم وشغلهم عما فيه أهل النار فلا يذكرونهم وإن كانوا أقاربهم، وقيل: شغلوا
بافتضاض العذارى وباستماع الألحان (3). وقرئ: (فاكهون) و " فكهون " (4)
والمعنى واحد، أي: متنعمون متلذذون، ومنه الفاكهة لأنها مما يتلذذ به، وقيل:
فرحون طيبو النفوس معجبون بما هم فيه من الفكاهة وهي المزاح والأحاديث
الطيبة (5).

(1) يضرب للرجل يكذب في الأمر يدل بعض أحواله على الصدق فيه. وأصله: أن رجلا ساوم
رجلا ببعير فسأل عن سنه، فأخبره أنه بكر - والبكر: الفتي - ففر عنه فوجده هرما فقال:
صدقني سن بكره وكذبني هو. راجع جمهرة الأمثال للعسكري: ج 1 ص 575.
(2) قرأه الحرميان وأبو عمرو. راجع التذكرة في القراءات: ص 631.
(3) وهو قول ابن مسعود والحسن وسعيد بن جبير وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 5
ص 24.
(4) قرأه ابن مسعود والسلمي وأبو المتوكل وقتادة وأبو الجوزاء والنخعي وأبو جعفر المدني.
راجع تفسير القرطبي: ج 15 ص 44.
(5) قاله ابن عباس ومجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 25.
145

(هم) يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون تأكيدا للضمير في (شغل) وفي
(فاكهون) على أن (أزوجهم) تشاركهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء
(على الأرآئك) تحت الظلال، وقرئ: " في ظلل " (1) وهو جمع ظلة، والأريكة:
السرير في الحجلة، وقيل: كل ما اتكئ عليه فهو أريكة (2) (ولهم ما يدعون)
أي: يتمنون ويشتهون، من قولهم: ادع علي ما شئت، يعني: تمنه علي، وقيل: هو
يفتعلون من الدعاء، أي: يدعون به لأنفسهم (3)، كقوله: اشتوى إذا شوى لنفسه.
(سلم) بدل من (ما يدعون) كأنه قال لهم: سلام، يقال لهم (قولا) من
جهة (رب رحيم)، والمعنى: أن الله سبحانه يسلم عليهم بواسطة الملك أو بغير
واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم، ولهم ذلك ما يمنعونه، وقيل: (ما
يدعون) مبتدأ، وخبره (سلم) بمعنى: ولهم ما يدعون سلام خالص لا شوب
فيه، ف‍ (قولا) مصدر مؤكد لقوله: (ولهم ما يدعون سلم)، أي: عدة من رب
رحيم (4).
(وامتزوا) أي: انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر
المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة، يقال: مزته فامتاز وانماز، وعن قتادة: اعتزلوا
عن كل خير (5) وعن الضحاك: لكل كافر بيت في النار يدخله فيردم بابه لا يرى
ولا يرى (6).
هذا إشارة إلى ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان وطاعة الرحمن

(1) قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 631.
(2) قاله الأزهري في تهذيب اللغة: ج 10 ص 353.
(3) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 22.
(4) قاله الزمخشري أيضا.
(5 و 6) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 23.
146

(هذا صرط مستقيم) بليغ في استقامته، حقيق بأن يوصف بالكمال في بابه.
(ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62) هذه ى جهنم
التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64) اليوم
نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا
يكسبون (65) ولو نشآء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى
يبصرون (66) ولو نشآء لمسخنهم على مكانتهم فما استطعوا مضيا
ولا يرجعون (67) ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68) ومآ
علمنه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين (69) لينذر من
كان حيا ويحق القول على الكفرين (70))
(جبلا) قرئ بضمتين (1) وبضمة وسكون (2) وبضمتين وتشديدة (3)
وبكسرتين وتشديدة، ومعناهن جميعا: الخلق الكثير الذي جبلوا على خليقته
أضلهم الشيطان بأن دعاهم إلى الضلال (4) وأغواهم.
(اصلوها اليوم) أي: الزموها وصيروا صلاها، أي: وقودها بسبب كفركم
وتكذيبكم الأنبياء.
(فاستبقوا الصرط) أي: إلى الصراط، فحذف الجار وأوصل الفعل، أو ضمن
" استبقوا " معنى: " ابتدروا "، أو: نصب (الصرط) على الظرف، والمعنى: ولو نشاء
لمسخنا أعينهم، فلو حاولوا أن يستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه إلى

(1) قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 542.
(2) وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر. راجع المصدر السابق.
(3) قرأه روح عن يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 632.
(4) في نسخة زيادة: " وحملهم عليه ".
147

مقاصدهم كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم لم يقدروا، فكيف
(يبصرون) ويعلمون جهة السلوك وقد أعميناهم؟
والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. وقرئ (على مكانتهم)
و " مكاناتهم " (1) على التوحيد والجمع، أي: لمسخناهم مسخا يجمدهم على
مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه، بمضي ولا رجوع بأن يجعلهم حجارة، وقيل:
لمسخناهم قردة وخنازير في منازلهم فلا يستطيعون (مضيا) عن العذاب ولا
رجوعا إلى الخلقة الأولى بعد المسخ (2).
(ومن نعمره ننكسه) (3) أي: نقلبه في الخلق فنخلقه على عكس ما خلقناه
قبل، إذ كان يتزايد في القوة والعقل والعلم إلى أن استكمل قوته وبلغ أشده، وإذا
انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي
في ضعف الجسد وقلة العقل والعلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله، كما
قال: (ثم رددناه أسفل سافلين) (4) ثم (يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد
علم شيئا) (5) وقرئ: " ننكسه " من التنكيس.
(وما علمناه) بتعليم القرآن (الشعر) ومعناه: أن القرآن ليس بشعر، ولا
مناسبة بينه وبين الشعر، لأن الشعر كلام موزون مقفى، وليس القرآن منه في شيء
(وما ينبغى له) أي: وما يصح له، وما ينطلب لو طلب، فلو أراد أن يقول الشعر
لم يتأت له ولم يتسهل، حتى لو تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا،

(1) وهي قراءة أبي بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة: ص 542.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 272.
(3) يظهر من العبائر التالية أن القراءة المعتمدة عند المصنف بالتخفيف وهي قراءة ابن كثير
ونافع وأبي عمرو وابن عامر والكسائي وعاصم برواية. راجع كتاب السبعة: ص 543.
(4) التين: 5.
(5) الحج: 5.
148

كما روي أنه كان يتمثل بهذا البيت:
كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر: إنما قال الشاعر: " كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا " أشهد أنك
رسول الله (1).
وأما قوله (عليه السلام):
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب (2)
وما روي من نحوه فإن ذلك كلام من جنس كلامه الذي كان يرمى به على
السليقة من غير صفة فيه، إلا أنه اتفق أن جاء موزونا من غير قصد منه كما يتفق في
كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ومحاوراتهم أشياء موزونة ولا يسميها أحد
شعرا، ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنه شعر، على أن الخليل لم يكن يعد
المشطور من الرجز شعرا (3).
ولما نفى سبحانه أن يكون القرآن شعرا قال: (إن هو إلا ذكر) أي: ما هو إلا
ذكر من الله يوعظ به الإنس والجن كما قال: (إن هو إلا ذكر للعلمين) (4) وما
هو إلا قرآن يقرأ في المحاريب، وينال بقراءته والعمل بما فيه فوز الدارين.
(لينذر) القرآن أو الرسول (من كان حيا) أي: عاقلا متأملا؛ لأن غير العاقل
كالميت، أو من المعلوم من حاله أن يؤمن فيحيا بالإيمان (ويحق القول) أي:
ويجب الوعيد (على الكفرين) بكفرهم.

(1) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 71 وعزاه إلى ابن سعد وابن أبي حاتم
والمرزباني في معجم الشعراء عن الحسن بن علي (عليهما السلام).
(2) رواه ابن سعد في طبقاته: ج 1 ص 25 و ج 4 ص 51 باسناده عن البراء بن عازب أنه
سمعه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول هذا البيت يوم حنين.
(3) أنظر كتاب العين: مادة " رجز ".
(4) يوسف: 104.
149

(أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعما فهم لها
ملكون (71) وذللنها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها
منفع ومشارب أفلا يشكرون (73) واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم
ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75) فلا
يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون (76))
(مما عملت أيدينا) أي: ما تولينا خلقه وإنشاءه ولم يقدر على توليه غيرنا
(فهم لها ملكون) أي: خلقنا (أنعاما) لأجلهم فملكناهم إياها (فهم)
متصرفون فيها تصرف الملاك، أو: فهم لها ضابطون قاهرون، لم نخلقها وحشية
نافرة منهم لا يقدرون على ضبطها، فهي مسخرة لهم، وهو قوله: (وذللنها لهم)،
والركوب والركوبة: ما يركب، كما أن الحلوب والحلوبة: ما يحلب، أي: فمنها ما
ينتفعون بركوبه ومنها ما ينتفعون بذبحه وأكله (ولهم فيها منفع ومشارب) منها
لبس أصوافها وأوبارها وأشعارها، وشرب ألبانها إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع
بها، والمشارب: جمع المشرب وهو موضع الشراب والشرب.
(اتخذوا... ءالهة) يعبدونها طمعا في أن ينصروهم، ويدفعوا عنهم، ويشفعوا
لهم عند الله، والأمر على عكس ما قدروا فإنهم يوم القيامة (جند محضرون)
لعذابهم لأنهم يجعلون وقود النار، أو: اتخذوهم طمعا في أن يتقووا بهم، والأمر
بالضد مما توهموه، إذ هم جند لآلهتهم يخدمونهم ويذبون عنهم، والآلهة ليس لهم
قدرة على نصرهم، فلا يهمنك قولهم في تكذيبك وأذاهم إياك، فإنا عالمون بما
(يسرون) من عداوتهم (وما يعلنون) وإنا نجازيهم على ذلك.
(أولم ير الانسان أنا خلقنه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77)
150

وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحى العظم وهى رميم (78) قل
يحييها الذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم
من الشجر الأخضر نارا فإذ آ أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق
السموات والأرض بقدر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلق
العليم (81) إنمآ أمره إذ آ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)
فسبحن الذي بيده ى ملكوت كل شىء وإليه ترجعون (83))
روي: أن أبي بن خلف والعاص بن وائل جاءا بعظم بال متفتت، وقالا: يا
محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟! فقال: نعم، فنزلت (1).
قبح الله سبحانه إنكارهم البعث تقبيحا عجيبا، حيث قرره بأن خلقهم من
النطفة التي هي أخس شيء، ثم عجب من حالهم بأن يتصدوا مع مهانة مبدئهم
لمخاصمة الجبار ويقولوا: من يقدر على إحياء الميت بعدما رمت عظامه؟ ثم
يكون خصامه في ألزم وصف له، وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر الإنشاء من
الموات!! فهذه مكابرة لا مطمح وراءها، وقيل: معناه: (فإذا هو) بعد ما كان ماء
مهينا رجل مميز منطيق قادر على هذا الخصام، معرب عما في نفسه فصيح (2).
وسمي قوله: (من يحى العظم وهى رميم) مثلا لما دل عليه من قصة عجيبة
شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، أو: لما فيه من
التشبيه؛ لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله بالقدرة عليه بدليل النشأة الأولى.
فإذا قيل: من يحيي العظام وهي رميم على طريق (3) الإنكار لأن يكون ذلك مما

(1) رواه الواحدي في أسباب النزول: ص 308 ح 758 و 759.
(2) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 477.
(3) في بعض النسخ: " سبيل الإنكار ".
151

يوصف سبحانه بالقدرة عليه، كان تعجيزا لله وتشبيها له بخلقه في أنهم غير
موصوفين بالقدرة عليه. والرميم: ما بلي من العظام، ومثله: " الرمة " و " الرفات "،
وهو اسم غير صفة فلذلك لم يؤنث.
ويريد ب‍ (الشجر الأخضر) المرخ والعفار، وهما شجرتان تتخذ الأعراب
زنودها (1) منهما، فبين سبحانه أن من قدر على أن يجعل في الشجر الذي هو في
غاية الرطوبة نارا حتى إذا حك بعضه ببعض خرجت منه النار، قدر أيضا على
الإعادة.
وقرئ: " يقدر " (2) أيضا هنا وفي الأحقاف (3)، واحتمل قوله: (أن يخلق
مثلهم) معنيين: أن يخلق مثلهم في القمأة والصغر بالإضافة إلى السماوات
والأرض، أو: أن يعيدهم لأن الإعادة مثل الابتداء وليس به إنما شأنه (إذا أراد)
تكوين شيء (أن يقول له كن) معناه أن يكونه من غير توقف (فيكون)
فيحدث، أي: فهو كائن لا محالة. وحقيقته: أنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات؛
لأنها بمنزلة المأمور المطيع، إذا ورد عليه أمر من الأمر المطاع، و (يكون) خبر
مبتدأ محذوف تقديره: فهو يكون، فهي جملة معطوفة على جملة هي: أمره أن
يقول له كن. ومن قرأ بالنصب (4) فللعطف على (يقول) والمعنى: أنه لا يجوز
عليه شيء مما يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئا من الأفعال مما تقدر عليه
من المباشرة بمحال القدرة واستعمال الآلات، وما يتبع ذلك من التعب واللغوب

(1) الزنود جمع الزند: وهو العود الذي يقدح به النار. (الصحاح: مادة زند).
(2) وهي قراءة رويس عن يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 633.
(3) الآية: 33.
(4) وهي قراءة ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 544.
152

(إنما أمره) وهو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل فيتكون الفعل،
فكيف يعجز عز اسمه عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟
(بيده ملكوت كل شىء) أي: هو مالك كل شيء، والمتصرف فيه بموجب
مشيئته وقضايا حكمته، أي: فتنزيها له عن نفي القدرة على الإعادة وعن كل ما لا
يليق بصفاته.
وعن ابن عباس: كنت لا أعلم كيف خصت سورة يس بالفضائل التي رويت
في قراءتها، فإذا إنه لهذه الآية (1).
* * *

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 32.
153

سورة الصافات
مكية (1)، وهي مائة وإحدى وثمانون آية بصري، اثنتان غيرهم، (وما كانوا
يعبدون) (2) غير البصري.
في حديث أبي: " من قرأ سورة الصافات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد
كل جني وشيطان، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبرأ من الشرك، وشهد له
حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة الصافات في كل جمعة لم يزل محفوظا من
كل آفة، مدفوعا عنه كل بلية في حياة الدنيا، مرزوقا بأوسع ما يكون من الرزق،
ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ولا من جبار عنيد،
وإن مات في يومه أو في ليلته بعثه الله شهيدا وأدخله الجنة مع الشهداء " (4).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 480: مكية في قول مجاهد وقتادة والحسن، وهي
مائة واثنان وثمانون آية في المدنيين، وإحدى وثمانون في البصري، وليس فيها ناسخ
ومنسوخ.
وفي الكشاف: ج 4 ص 33: مكية وهي مائة وإحدى وثمانون آية، وقيل: اثنتان وثمانون،
نزلت بعد الأنعام.
(2) الآية: 22.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 69 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 139.
155

بسم الله الرحمن الرحيم
(والصفت صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتليت ذكرا (3) إن
إلهكم لوا حد (4) رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشرق (5)
إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطن مارد (7)
لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب (8) دحورا ولهم
عذاب واصب (9) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب (10)).
قرئ بإدغام التاء في الصاد، وفي الزاي (1)، وفي الذال (2) (3) والأكثر
الإظهار. أقسم الله سبحانه بالملائكة تصف صفوفا في السماء، أو تصف أقدامها في
الصلاة كما يصف المؤمنون، أو أجنحتها في الهواء منتظرة لأمر الله، وبالملائكة
التي تزجر الخلق عن المعاصي زجرا أو تزجر السحاب وتسوقها. وقيل: هي
آيات القرآن الزاجرة عن القبائح (4). و التاليات: الملائكة تتلو كتاب الله الذي كتبه
لها وفيه ذكر الحوادث، فتزداد يقينا بوجود المخبر على وفق الخبر، وقيل: هي
نفوس العلماء العمال (5).
(الصفت) أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات
(فالزجرت) المواعظ والنصائح (فالتليت) آيات الله الدارسات شرائعه،
وقيل: هي نفوس الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد

(1) أي التاء من (فالزاجرات) في الزاي من (زجرا).
(2) أي التاء من (فالتليت) في الذال من (ذكرا).
(3) وهي قراءة حمزة وأبي عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 546.
(4) قاله قتادة. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 22.
(5) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 33.
156

وتتلو الذكر، مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل، كما يحكى عن علي (عليه السلام) (1).
(رب السموت) خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر (ورب المشرق)
مشارق الشمس: مطالعها، تطلع كل يوم من مشرق وتغرب في مغرب، وخص
المشارق بالذكر لأن الشروق قبل الغروب.
(السمآء الدنيا) أي: القربى منكم (بزينة الكواكب) الزينة مصدر كالنسبة،
أو اسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة، فإن أردت المصدر فهي
مضافة إلى الفاعل، أي: بأن زانتها الكواكب، وأصله: بزينة الكواكب، أو إلى
المفعول أي: بأن زان الله الكواكب وحسنها لأنها إنما زينت السماء بحسنها في
ذواتها، وأصله: بزينة الكواكب وهي قراءة أبي بكر بن عياش (2). وإن أردت
الاسم فللإضافة وجهان: أن يقع بيانا للزينة؛ لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها
مما يزان به، وأن يراد ما زينت به الكواكب، وجاء عن ابن عباس: بزينة الكواكب:
بضوء الكواكب (3). ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة، كشكل بنات نعش والثريا
وغير ذلك من مسائرها ومطالعها، وقرئ على هذا المعنى (بزينة الكواكب)
بتنوين " زينة " وجر " الكواكب " على الإبدال، ويجوز في نصب " الكواكب " أن
يكون بدلا من محل " بزينة ".
(وحفظا) محمول على المعنى، لأن معناه: خلقنا الكواكب زينة للسماء
وحفظا من الشياطين، كما قال: (ولقد زينا السمآء الدنيا بمصبيح وجعلنها
رجوما للشيطين) (4). ويجوز تقدير فعل معلل به، أي: وحفظا من كل شيطان

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 34.
(2) أنظر التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 635.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 35.
(4) الملك: 5.
157

زيناها بالكواكب، وقيل: حفظناها حفظا من كل شيطان (1) (مارد) خارج من
الطاعة متملس منها. والضمير في (لا يسمعون) ل‍ (كل شيطن)، لأنه في معنى
الشياطين، وقرئ بالتخفيف (2) والتشديد، وأصله " يتسمعون "، والتسمع: طلب
السماع، يقال: تسمع فسمع أو فلم يسمع، وهو كلام منقطع مما قبله، فيه اقتصاص
حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمعوا
إليه، وهم مقذفون (من كل جانب) من جوانب السماء بالشهب مدحورون عن
ذلك أي: مدفوعون بالعنف مطرودون (ولهم) مع ذلك (عذاب واصب) أي:
دائم يوم القيامة (إلا من) أمهل حتى (خطف) خطفة، أو استرق استراقة،
فعندها يعاجله الهلاك بإتباع الشهاب الثاقب وهو النير المضيء، والفرق بين
قولك: " سمعت فلانا يتحدث "، و " سمعت إليه يتحدث " أن المعدى بنفسه يفيد
الإدراك، والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك. و (الملأ الاعلى) الملائكة،
لأنهم يسكنون السماوات، والإنس والجن الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض،
وعن ابن عباس: هم أشراف الملائكة (3)، وعنه: الكتبة من الملائكة (4).
و (دحورا) في موضع الحال، أي: مدحورين، أو مفعول له أي: يقذفون للدحور،
و (من خطف) مرفوع الموضع بدل من الواو في (لا يسمعون) أي: لا يتسمع
الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة.
(فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ إنا خلقنهم من طين

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 35.
(2) وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب
السبعة في القراءات: ص 547.
(3 و 4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 35.
158

لازب (11) بل عجبت ويسخرون (12) وإذا ذكروا لا يذكرون (13) وإذا
رأوا ءاية يستسخرون (14) وقالوا إن هذآ إلا سحر مبين (15) أءذا متنا
وكنا ترابا وعظما أءنا لمبعوثون (16) أو ءابآؤنا الأولون (17) قل نعم
وأنتم داخرون (18) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون (19) وقالوا
يويلنا هذا يوم الدين (20) هذا يوم الفصل الذي كنتم به ى
تكذبون (21) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22)
من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23) وقفوهم إنهم
مسولون (24) مالكم لا تناصرون (25) بل هم اليوم مستسلمون (26))
أي: فاستخبرهم (أهم أشد خلقا) أي: أقوى خلقا وأصعب خلقا (أم من
خلقنآ) من الملائكة والسماوات والأرض والكواكب، وغلب ما يعقل فقال: (أم
من خلقنآ)، (إنا خلقنهم من طين لازب) يعني: آدم (عليه السلام)، فإنهم نسله وذريته،
واللازب: الملتصق من الطين الحر، وهذه شهادة عليهم بالضعف والرخاوة، لأن
ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة.
(بل عجبت) من إنكارهم البعث وهم (يسخرون) من أمر البعث، أو:
عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك، وقرئ: " بل عجبت " (1) وهو
قراءة علي (عليه السلام) عليه الصلاة والسلام وابن عباس (2)، ومعناه: بلغ من كثرة آياتي
وعظم مخلوقاتي أن عجبت من إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون
ممن يصفني بالقدرة على البعث، ويكون العجب المسند إلى الله تعالى بمعنى
الاستعظام.

(1) وهي قراءة أهل الكوفة إلا عاصما. راجع التبيان: ج 8 ص 485.
(2) أنظر المصدر السابق، وتفسير القرطبي: ج 15 ص 65.
159

وقد جاء في الحديث: " عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته
إياكم " (1).
وقيل: معناه: قل يا محمد: بل عجبت (2). (وإذا ذكروا) أي: خوفوا بالله
ووعظوا بالقرآن لا يتعظون (وإذا رأوا ءاية) من آيات الله معجزة كانشقاق القمر
وغيره (يستسخرون) أي: يبالغون في السخرية، أو: يستدعي بعضهم بعضا
للسخرية، أو: يعتقدونه سخرية كما يقال: استقبحه أي: اعتقده قبيحا.
(أو ءاباؤنا) عطف على الضمير في (مبعوثون)، وجوز العطف عليه للفصل
بهمزة الاستفهام، أو عطف على موضع " إن " واسمه، يعنون: أن آباءهم أقدم فبعثهم
أبعد، وقرئ: " أو آباؤنا " (3) ومثله في سورة الواقعة (4). (قل نعم) تبعثون (وأنتم
دخرون) صاغرون أشد الصغار.
و (إنما) جواب شرط مقدر. والتقدير: إذا كان ذلك فما هي إلا (زجرة
وحدة) أي: صيحة واحدة من إسرافيل وهي نفخة البعث (فإذا هم) أحياء بصراء
(ينظرون) وهي ضمير مبهم لا يرجع إلى شيء ويوضحها خبرها، ويجوز أن
يكون: فإنما البعثة زجرة واحدة. (وقالوا) أي: ويقولون معترفين على نفوسهم
بالمعصية (يويلنا) من العذاب (هذا يوم) الحساب والجزاء. (هذا يوم
الفصل) أي: القضاء بين الخلائق وتميز الحق من الباطل (الذي كنتم به

(1) رواه أبو عبيد الهروي في غريب الحديث: ج 2 ص 118، وابن الأثير في غريب الأثر: ج 1
ص 61 مادة " ألل " وقال: الإل: شدة القنوط، ويجوز أن يكون من رفع الصوت بالبكاء،
والمحدثون يروونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عند أصل اللغة الفتح وهو أشبه.
(2) وهو قول المبرد كما حكاه في التبيان: ج 8 ص 487.
(3) وهي قراءة نافع وابن عامر. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 636.
(4) الآية: 48.
160

تكذبون) يقولون ذلك بعضهم لبعض، وقيل: هو كلام الملائكة جوابا لهم (1).
(احشروا) خطاب الله للملائكة، أو: خطاب بعض الملائكة لبعض
(وأزوجهم) أي: ضرباءهم وأشباههم من العصاة، أهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل
الخمر مع أهل الخمر، وقيل: وأزواجهم الكافرات (2)، وقيل: وقرناءهم من
الشياطين (3). (فاهدوهم) فعرفوهم طريق النار حتى يسلكوها.
(وقفوهم) واحبسوهم عن دخول النار (إنهم مسئولون) عما دعوا إليه من
البدع، وقيل: عن أعمالهم وخطيئاتهم (4)، وعن أبي سعيد الخدري وسعيد بن
جبير: عن ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) (5). يقال: وقفت أنا، ووقفت غيري.
(ما لكم لا تناصرون) هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا
على خلاف ذلك في الدنيا متناصرين. (بل هم اليوم مستسلمون) قد أسلم
بعضهم بعضا وخذله.
(وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون (27) قالوا إنكم كنتم تأتوننا
عن اليمين (28) قالوا بل لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من
سلطن بل كنتم قوما طغين (30) فحق علينا قول ربنآ إنا لذآبقون (31)
فأغوينكم إنا كنا غوين (32) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون (33)
إنا كذا لك نفعل بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله
يستكبرون (35) ويقولون أبنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون (36) بل جآء

(1) قاله علي بن سليمان كما في تفسير القرطبي: ج 15 ص 70.
(2) وهو قول عمر بن الخطاب. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 43.
(3) قاله الضحاك ومقاتل. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 25.
(4) قاله القرظي والكلبي وهو المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 480،
وتفسير القرطبي: ج 15 ص 74.
(5) تفسير الماوردي: ج 5 ص 44.
161

بالحق وصدق المرسلين (37) إنكم لذآبقوا العذاب الأليم (38) وما
تجزون إلا ما كنتم تعملون (39) إلا عباد الله المخلصين (40))
(يتسآءلون) يتعاتبون ويتلاومون، يقول الغاوي للذي أغواه: لم أغويتني؟
ويقول ذلك المغوي له: لم قبلت مني؟ و (اليمين) مستعارة لجهة الخير وجانبه،
ومعناه: (إنكم كنتم تأتوننا) من قبل الدين فتروننا أن الحق والدين ما تضلوننا به،
وقيل: إنها مستعارة للقوة والقهر، لأن اليمين موصوفة بالقوة وبها يقع البطش (1)،
ومعناه: أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر فتجبروننا على الضلال، فأجابوهم بأن
قالوا: بل اللوم لازم لكم إذ لم يكن (لنا عليكم) قدرة نجبركم بها على تخيركم
الغي (بل كنتم قوما طغين) متجاوزين الحد في الكفر. (فحق علينا) فلزمنا
(قول ربنآ) ووعيده: بأنا ذائقون لعذابه لا محالة؛ لعلمه بحالنا واستحقاقنا
العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ
المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول الشاعر:
لقد زعمت هوازن قل مالي (2)
ولو حكى قولها لقال: قل مالك. (فإنهم) أي: فإن المتبوعين والتابعين
جميعا (يومئذ) في ذلك اليوم (مشتركون) في العذاب والإهانة، كما كانوا
مشتركين في الغواية.
(يستكبرون) أي: يأنفون من قول: (لا إله إلا الله)، ويستخفون بمن
يدعوهم إلى هذه المقالة. (إنكم) أيها المشركون (لذآئقوا العذاب الأليم) على

(1) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 2 ص 384.
(2) وعجزه: وهل لي غير ما أنفقت مال. لم نعثر على قائله، وهوازن امرأته. أنظر الكشاف:
ج 4 ص 40.
162

كفركم ونسبتكم رسول الله إلى الشعر والجنون، (وما تجزون إلا) بما عملتم
جزاء سيئا بعمل سيئ (إلا عباد الله) لكن عباد الله على الاستثناء المنقطع.
(أولئك لهم رزق معلوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) في جنت
النعيم (43) على سرر متقبلين (44) يطاف عليهم بكأس من معين (45)
بيضآء لذة للشربين (46) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47) وعندهم
قصرات الطرف عين (48) كأنهن بيض مكنون (49) فأقبل بعضهم على
بعض يتسآءلون (50) قال قآبل منهم إنى كان لي قرين (51) يقول أءنك
لمن المصدقين (52) أءذا متنا وكنا ترابا وعظما أءنا لمدينون (53) قال
هل أنتم مطلعون (54) فاطلع فرءاه في سوآء الجحيم (55) قال تالله إن
كدت لتردين (56) ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين (57) أفما نحن
بميتين (58) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين (59) إن هذا لهو الفوز
ا لعظيم (60) لمثل هذا فليعمل العملون (61))
حكم لهم سبحانه بالرزق المعلوم المقدر، ثم فسر ذلك الرزق بالفواكه، وهي
كل ما يتلذذ به ولا يتقوت به لحفظ الصحة، والمعنى: أن رزقهم كله فواكه، لأنهم
مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات، إذ أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد، فلا
يأكلون ما يأكلون إلا للتلذذ، وقيل: معلوم الوقت (1)، كقوله: (ولهم رزقهم فيها
بكرة وعشيا) (2)، (وهم مكرمون) هو ما قاله الشيوخ في حد الثواب أنه النفع
المستحق المقارن للتعظيم والإجلال. (متقبلين) يستمتع بعضهم بالنظر إلى
وجوه بعض، وهو أتم للأنس والسرور. (بكأس) هو الإناء بما فيه من الشراب،

(1) حكاه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 27. (2) مريم: 62.
163

وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر (1) (من معين) من شراب جار
في أنهار ظاهرة للعيون، وصف بما يوصف به الماء لأنه يجري في الجنة كما
يجري الماء. (بيضآء) صفة للكأس (لذة) هي تأنيث " اللذ " ووزنه " فعل " مثل:
" صب " و " طب "، وقال يصف النوم:
ولذ كطعم الصرخدي تركته * بأرض العدى من خشية الحدثان (2)
أو: وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وذاتها. (لا فيها غول) لا يغتال عقولهم
فتذهب بها، ولا يصيبهم منها وجع (ولا هم عنها ينزفون) من نزف الشارب: إذا
ذهب عقله، ويقال للمطعون إذا خرج دمه كله: نزف فمات، وقرئ: " ينزفون " (3)
من أنزف الشارب: إذا ذهب عقله أو شرابه، ومعناه: صار ذا نزف، ومثله: أقشع
السحاب وقشعته الريح، وأكب الرجل وكببته، وحقيقتهما: دخلا في القشع والكب.
(قصرت الطرف) قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم، أو: لا
يفتحن أعينهن دلالا (كأنهن بيض مكنون) في الأداحي، وهي بيض النعام،
والعرب تشبه بها النساء وتسميهن ببيضات الخدود.
(فأقبل بعضهم) معطوف على (يطاف عليهم) والمعنى: يشربون
فيتحادثون على الشراب فيقبل (بعضهم على بعض يتسآءلون) عما جرى عليهم
ولهم في الدنيا، إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله عز اسمه في إخباره. (قال
قآئل منهم إنى كان لي قرين) في دار الدنيا أي: صاحب يختص بي (يقول)

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 42.
(2) البيت منسوب لابن الأعرابي، يقول: ورب شيء لذيذ - يعني النوم - طعمه كطعم الشراب
الطيب تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بي. أنظر لسان العرب: مادة " لذذ ".
(3) قرأ حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 636.
164

لي على وجه الإنكار علي والتهجين لي: (أئنك لمن المصدقين) بالبعث
والحساب. (لمدينون) أي: لمجزيون، من الدين الذي هو الجزاء، أو: لمسوسون
مربوبون، من دانه إذا ساسه.
وفي الحديث: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " (1).
(قال) أي: ذلك القائل لإخوانه في الجنة: (هل أنتم مطلعون) إلى النار
لأريكم ذلك القرين؟ وقيل: إن القائل هو الله (2)، وقيل: بعض الملائكة (3)، يقال:
طلع علينا فلان واطلع وأطلع بمعنى واحد، عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه
(فاطلع) هو بعد ذلك فرأى قرينه (في سوآء الجحيم) في وسطها. (قال) له:
(تالله إن كدت لتردين) " إن " هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، أي: إنك
كدت تهلكني بما قلته لي ودعوتني إليه (ولولا نعمة ربي) علي بالعصمة
والتوفيق (لكنت من المحضرين) الذين أحضروا العذاب معك في النار.
والفاء عاطفة على محذوف تقديره: أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين
ولا معذبين؟! والمعنى: أن هذه حال المؤمنين أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى،
بخلاف الكفار فإنهم في آلام وغموم وأحوال يتمنون فيها الموت كل ساعة، وإنما
يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله بمسمع من قرينه ليكون توبيخا له، ويجوز أن يكون
قولهم جميعا. وكذلك قوله: (إن هذا لهو الفوز العظيم) أي: إن هذا الأمر الذي
نحن فيه، وقيل: هو من قول الله عز وجل اسمه تقريرا لقولهم (4).

(1) أخرجه أحمد في مسنده: ج 4 ص 24، والبيهقي في سننه: ج 3 ص 369 بسندهما عن
شداد بن أوس.
(2 و 3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 44.
(4) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 500.
165

تمت قصة المؤمن وقرينه (1)
(أذا لك خير نزلا أم شجرة الزقوم (62) إنا جعلنها فتنة
للظلمين (63) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها كأنه
رءوس الشيطين (65) فإنهم لأكلون منها فمالون منها البطون (66) ثم
إن لهم عليها لشوبا من حميم (67) ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم (68)
إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين (69) فهم على ءاثرهم يهرعون (70) ولقد
ضل قبلهم أكثر الأولين (71) ولقد أرسلنا فيهم منذرين (72) فانظر كيف
كان عقبة المنذرين (73) إلا عباد الله المخلصين (74))
ثم عاد سبحانه إلى ذكر الرزق المعلوم فقال: (أذلك خير نزلا) أي: خير
حاصلا، وأصل النزل: الفضل والريع في الطعام، فاستعير للحاصل من الشيء،
وحاصل الرزق المعلوم: اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم والنقم (2).
و (نزلا) منصوب على التمييز أو الحال، والنزل: ما يقام للنازل بالمكان من
الرزق، ومعنى الأول: أن للرزق المعلوم نزلا، ولشجرة الزقوم نزلا، فأيهما خير
نزلا؟ ومعنى الثاني: أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة، وشجرة الزقوم نزل أهل
النار، فأيهما خير في كونه نزلا؟
(فتنة للظلمين) افتتنوا بها إذ كذبوا بكونها، وقيل: عذابا لهم (3)، من قوله:
(يوم هم على النار يفتنون) (4).
والطلع يكون للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها، وشبه

(1) في نسخة زيادة: " ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال: ".
(2) في نسخة: " الغم ".
(3) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 46.
(4) الذاريات: 13.
166

ب‍ (رءوس الشيطين) دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر، لأن الشيطان
مكروه مستقبح في طباع الناس، وقيل: الشيطان: حية عرفاء قبيحة المنظر هائلة
جدا (1) وقيل: إن شجرا يقال له: الأستن خشنا منتنا مرا منكر الصورة يسمى ثمره:
رؤوس الشياطين (2) (لأكلون منها) أي: من طلعها (فمالئون) بطونهم منه
لشدة ما يلحقهم من الجوع، فتغلي بطونهم فيعطشون فيسقون بعد ملي ما هو أحر،
وهو الشراب المشوب بالحميم (ثم إن مرجعهم) بعد أكل الزقوم وشرب الحميم
(لإلى الجحيم) وذلك أنهم يوردون الحميم كما يورد الإبل الماء، ثم يردون إلى
الجحيم وهي النار المتوقدة.
(إنهم) صادفوا (ءاباءهم) ذاهبين عن الحق، فهم يسرعون (على
ءاثرهم) ويتبعونهم اتباعا، أي: ضل قبل هؤلاء الكفار عن طريق الهدى أكثر
الأولين من الأمم الخالية، وفيه دلالة على أن أهل الحق في كل زمان كانوا أقل من
أهل الباطل.
ولما ذكر إرسال المنذرين من الأنبياء والرسل، وسوء عاقبة المنذرين
المكذبين عقبه سبحانه بقصة نوح ودعائه إياه حين يئس من قومه فقال:
(ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون (75) ونجينه وأهله من الكرب
العظيم (76) وجعلنا ذريته هم الباقين (77) وتركنا عليه في
الأخرين (78) سلم على نوح في العلمين (79) إنا كذلك نجزى
المحسنين (80) إنه من عبادنا المؤمنين (81) ثم أغرقنا الأخرين (82)
وإن من شيعته ى لإبراهيم (83) إذ جآء ربه بقلب سليم (84) إذ قال لأبيه

(1) حكاه القرطبي في تفسيره: ج 15 ص 87 ونسبه إلى الزجاج والفراء.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 46.
167

وقومه ى ماذا تعبدون (85) أبفكا ءالهة دون الله تريدون (86) فما ظنكم
برب العلمين (87) فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إنى سقيم (89)
فتولوا عنه مدبرين (90) فراغ إلى ءالهتهم فقال ألا تأكلون (91) مالكم لا
تنطقون (92) فراغ عليهم ضربا باليمين (93) فأقبلوا إليه يزفون (94) قال
أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما تعملون (96))
أي: (فلنعم المجيبون) نحن، واللام جواب قسم محذوف (هم الباقين) هم
الذين بقوا وقد فني غيرهم، وهم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة، فالناس
كلهم من ولد نوح، فالعرب والعجم من أولاد سام بن نوح، والسودان من أولاد
حام بن نوح، والترك والخزر ويأجوج من أولاد يافث بن نوح. (وتركنا عليه في
الأخرين) من الأمم هذه الكلمة وهي (سلم على نوح في العلمين) أي:
يسلمون عليه تسليما إلى يوم القيامة، وهو من الكلام المحكي. ومعنى قوله: (في
العلمين): الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا. وعلل مجازاة نوح بتلك
الكرامة من تبقية الذكر، وتسليم العالمين إلى آخر الدهر بأنه كان محسنا، ثم علل
كونه محسنا بأنه كان عبدا من عباده (المؤمنين)، ليريك جلالة محل الإيمان.
(من شيعته) أي: ممن شايعه على أصول الدين، أو: شايعه على التصلب في
دين الله ومصابرة المكذبين، وتعلق (إذ) بما في الشيعة بمعنى المشايعة، أي: وإن
ممن شايعه على دينه وتقواه حين (جآء ربه بقلب سليم) لإبراهيم، أو: بمحذوف
هو " اذكر "، ومعناه: حين أخلص الله قلبه من كل ما سواه، فلم يتعلق بشيء غيره،
فضرب المجيء مثلا لذلك.
" إفكا " مفعول له، والتقدير: أتريدون آلهة من دون الله إفكا؟ وإنما قدمه
للعناية، وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يواجههم بأنهم
168

على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون " إفكا " مفعولا به، أي: أتريدون به
إفكا؟ ثم فسر الإفك بقوله: " آلهة من دون الله " على أنها إفك في نفسها، ويجوز أن
يكون حالا، أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟! (فما ظنكم) بمن هو الحقيق
بالعبادة؟ لأن من كان رب العالمين استحق عليهم أن يعبدوه حتى تركتم عبادته
إلى عبادة الأصنام، والمعنى: أنه لا يقدر في ظن ولا وهم ما يصد عن عبادته، أو:
فما ظنكم به؟ فماذا يفعل بكم وقد عبدتم غيره؟
(فنظر نظرة في النجوم) في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها، لأنهم
كانوا يتعاطون علم النجوم فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه
يسقم (فقال إنى سقيم) أي: مشارف للسقم، وهو من معاريض الكلام، وإنما نوى
به أن من كان آخر أمره الموت سقيم. وروي عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أنهما قالا:
" والله ما كان سقيما ولا كذب " (1) (فتولوا عنه) فأعرضوا عنه وتركوه وخرجوا
إلى عيدهم (فراغ إلى ءالهتهم) فمال إلى أصنامهم في خفية (فقال ألا تأكلون ما
لكم لا تنطقون) استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها (فراغ عليهم) فأقبل
عليهم يضربهم (ضربا)، أو: فراغ عليهم ضربا بمعنى: ضاربا (باليمين) أي:
ضربا شديدا قويا، لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما بالقوة، وقيل: بسبب
الحلف (2) وهو قوله: (تالله لأكيدن أصنامكم) (3).
(فأقبلوا) بعد الفراغ من عيدهم إلى إبراهيم، قرئ: " يزفون " (4) يسرعون،

(1) رواه الكليني في الكافي: ج 8 ص 368 ح 559 قطعة منه، والصدوق في معاني الأخبار:
ص 210 ح 1.
(2) حكاه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 503 عن بعض أهل العربية.
(3) الأنبياء: 57.
(4) قرأه حمزة والمفضل عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 548.
169

من زفيف النعام، و (يزفون) من أزف: إذا دخل في الزفيف، أو: من أزفه إذا
حمله على الزفيف، أي: يزف بعضهم بعضا، و " يزفون " (1) خفيفا، من وزف يزف
(قال) محتجا عليهم: (أتعبدون) ما تنحتونه بأيديكم (والله خلقكم) وخلق ما
تعملونه من الأصنام، يقال: عمل النجار الباب والكرسي، وعمل الصائغ السوار
والخاتم، والمراد: عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام
جواهر وأشكال، فخالق جواهرها هو الله، وعاملو أشكالها مصوروها ومشكلوها
بنحتهم، و (ما تعملون) ترجمة عن قوله: (ما تنحتون)، و " ما " في: (ما
تنحتون) موصولة ولا مقال فيها، فالعدول بها عن أختها تعسف.
(قالوا ابنوا له بنينا فألقوه في الجحيم (97) فأرادوا به ى كيدا
فجعلنهم الأسفلين (98) وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين (99) رب
هب لي من الصلحين (100) فبشرنه بغلم حليم (101) فلما بلغ معه
السعي قال يبنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال
يأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شآء الله من الصبرين (102) فلمآ
أسلما وتله للجبين (103) وندينه أن يإبراهيم (104) قد صدقت الرءيآ
إنا كذا لك نجزى المحسنين (105) إن هذا لهو البلؤا المبين (106)
وفدينه بذبح عظيم (107) وتركنا عليه في الأخرين (108) سلم على
إبراهيم (109) كذلك نجزى المحسنين (110) إنه من عبادنا
المؤمنين (111) وبشرنه بإسحق نبيا من الصلحين (112) وبركنا
عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه ى مبين (113)).

(1) وهي قراءة الضحاك ويحيى بن عبد الرحمن المقرئ وابن أبي عبلة. راجع شواذ القرآن لابن
خالويه: ص 128.
170

لما لزمته الحجة (قالوا ابنوا له بنينا) وعن ابن عباس: بنوا حائطا من
الحجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وعرضه عشرون ذراعا، وملؤوه نارا
وألقوه فيها (فجعلنهم الأسفلين) بأن أهلكناهم ونجيناه وسلمناه (1).
(وقال) إبراهيم: (إنى ذاهب إلى ربى) أي: مهاجر إلى حيث أمرني ربي
بالمهاجرة إليه من أرض الشام. أي (رب هب لي) بعض (الصلحين) يريد
الولد، لأن لفظ " الهبة " على الولد أغلب وإن كان قد جاء في الأخ حيث قال:
(ووهبنا له من رحمتنآ أخاه هرون) (2) قال سبحانه: (ووهبنا له يحيى) (3)
(ووهبنا له إسحق ويعقوب) (4) و (بشرناه بغلم حليم) اشتملت البشارة على
أن الولد ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم، وأي حلم أعظم من
حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال: (ستجدني إن شاء الله من الصبرين) ثم
استسلم لذلك معه.
بيان: كأنه لما قال: (فلما بلغ معه السعي) أي: الحد الذي يقدر فيه على
السعي، قيل: مع من؟ قال: مع أبيه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة، أتي في
المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحي فلهذا قال: (إنى أرى في المنام
أني أذبحك) والأولى أن يكون قد أوحي إليه في حال اليقظة، وتعبد بأن يمضي ما
يؤمر به في حال النوم (فانظر ماذا) تراه، أو: أي شيء ترى من الرأي، فيكون
(ماذا) في موضع نصب بمنزلة اسم واحد، وعلى الأول يكون " ذا " بمعنى
" الذي "، أي: ما الذي تبصره من رأيك؟ و " ما " مبتدأ، والموصول مع صلته خبره،

(1) تفسير ابن عباس: ص 377.
(2) مريم: 53.
(3) الأنبياء: 90.
(4) الأنعام: 84، الأنبياء: 72، العنكبوت: 27.
171

وقرئ: " ماذا تري " (1) بضم التاء وكسر الراء، معناه: أجلدا تري على ما تحمل
عليه أم خورا؟ (افعل ما تؤمر) أي: ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من
قولهم:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به (2).
أو: " أمرك " على إضافة المصدر إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمرا.
وقرأ علي (عليه السلام) وابن عباس: " سلما "، يقال: سلم لأمر الله وأسلم واستسلم: إذا
انقاد وخضع، وحقيقة معناه: أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له وخالصة. وعن
قتادة في (أسلما): أسلم هذا ابنه، وأسلم هذا نفسه (3)، وجواب " لما " محذوف،
وتقديره: (فلما أسلما وتله للجبين، وندينه أن يإبراهيم قد صدقت الرءيآ)
كان ما كان مما لا يحيط به الوصف من شكرهما لله على ما أنعم به عليهما من دفع
البلاء العظيم بعد حلوله، وما فازا به من رضوان الله واكتساب الثواب والأعواض
الجليلة، والتل: الصرع، يقال: وضع جبينه على الأرض لئلا يرى وجهه فيلحقه رقة
الآباء. (قد صدقت الرؤيا) أي: فعلت ما أمرت به في الرؤيا.
وقوله: (إنا كذلك نجزى المحسنين) تعليل لتخويل ما خولهما الله من الفرج
بعد الشدة. (إن هذا لهو البلؤا المبين) أي: الامتحان الظاهر والمحنة الصعبة
التي لا محنة أصعب منها، أو: الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم.
(وفدينه بذبح) وهو المهيأ لأن يذبح (عظيم) ضخم الجثة سمين، والمفتدى

(1) قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 637.
(2) وعجزه: فقد تركتك ذا مال وذا نسب. لعباس بن مرداس السلمي، وقيل: لعمرو بن
معديكرب، وقيل لخفاف بن ندبة وقيل لغيرهم. تقدم شرح البيت في ج 2 ص من سورة
الحجر آية: 94 فراجع.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 55.
172

منه هو الله عزو جل لأنه الآمر بالذبح، والفادي هو إبراهيم (عليه السلام)، وهب الله سبحانه
له الكبش ليفدى به. وإنما قال: (وفدينه) إسنادا للفداء إلى السبب الذي هو
الممكن من الفداء بهبته.
واختلف في الذبيح على قولين: أحدهما: أنه إسحاق، والأظهر في الروايات
أنه إسماعيل، ويعضده قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا ابن الذبيحين " (1) وكذلك قوله
سبحانه بعد قصة الذبح: (وبشرنه بإسحق نبيا من الصلحين) ولا بد من تقدير
مضاف محذوف، أي: بوجود إسحاق، و (نبيا) حال مقدرة، والمعنى: بأن يوجد
مقدرة نبوته، والعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة، فيكون نظير قوله:
(فادخلوها خلدين) (2)، وقوله: (من الصلحين) حال ثانية وردت على سبيل
الثناء والتقريظ، لأن كل نبي لابد أن يكون من الصالحين.
(وبركنا عليه وعلى إسحق) أي: جعلنا ما أعطيناهما من الخير دائم البركة
ثابتا ناميا، ويجوز أن يكون المراد كثرة ولدهما وبقاءهم قرنا بعد قرن إلى أن تقوم
الساعة.
(ولقد مننا على موسى وهرون (114) ونجينهما وقومهما من
الكرب العظيم (115) ونصرنهم فكانوا هم الغلبين (116) وءاتينهما
الكتب المستبين (117) وهدينهما الصراط المستقيم (118) وتركنا
عليهما في الأخرين (119) سلم على موسى وهرون (120) إنا كذا لك
نجزى المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122))
(الكرب العظيم) تسخير قوم فرعون إياهم، واستعمالهم في الأعمال

(1) رواه ابن عساكر في تاريخه: ج 2 ص 150.
(2) الزمر: 73.
173

الشاقة (ونصرنهم) الضمير لهما ولقومهما في قوله: (ونجينهما وقومهما)،
و (الكتب المستبين) البليغ في بيانه وهو التوراة.
(وإن إلياس لمن المرسلين (123) إذ قال لقومه ى ألا تتقون (124)
أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخلقين (125) الله ربكم ورب ءابآبكم
الأولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127) إلا عباد الله
المخلصين (128) وتركنا عليه في الأخرين (129) سلم على إل
ياسين (130) إنا كذا لك نجزى المحسنين (131) إنه من عبادنا
المؤمنين (132))
اختلف في (إلياس) فقيل: هو إدريس النبي (1)، وقيل: هو من بني إسرائيل
من ولد هارون بن عمران ابن عم اليسع (2)، وقيل: إنه استخلف اليسع على بني
إسرائيل ورفعه الله وكساه الريش فصار إنسيا ملكيا وأرضيا سماويا (3)، وقيل: إن
إلياس صاحب البراري، والخضر صاحب الجزائر، ويجتمعان كل يوم عرفة
بعرفات (4). وبعل: صنم لهم كانوا يعبدونه. وقرئ: " الله ربكم " بالرفع (5) على
الابتداء، وبالنصب على البدل. (فإنهم لمحضرون) للحساب أو في العذاب أو في
النار. واستثنى من جملة قومه الذين أخلصوا عبادتهم لله. وقرئ: (سلم على
إل ياسين) على أنه لغة في " إلياس "، وقرأ ابن مسعود والأعمش " وإن إدريس "
و " على إدراسين " (6)، ولعل لزيادة الياء والنون معنى في السريانية، ولو كان جمعا

(1) قاله ابن عباس وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 64.
(2) قاله الطبري في تفسيره: ج 10 ص 520.
(3) وهو قول محمد بن إسحاق. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 41.
(4) وهو قول الحسن البصري. راجع تفسيره: ج 2 ص 243.
(5) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 549.
(6) انظر التبيان: ج 8 ص 524، وشواذ القرآن لابن خالويه: ص 128.
174

- كما قيل - لعرف بالألف واللام، وقرئ: " على آل ياسين " (1) ووجد في المصحف
مفصولا من " ياسين "، وفي فصله منه دلالة على أن " آل " هو الذي تصغيره
" أهيل "، قاله أبو علي الفارسي.
وعن ابن عباس: آل ياسين: آل محمد، وياسين اسم من أسمائه (2).
(وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجينه وأهله أجمعين (134) إلا
عجوزا في الغبرين (135) ثم دمرنا الأخرين (136) وإنكم لتمرون
عليهم مصبحين (137) وبالليل أفلا تعقلون (138) وإن يونس لمن
المرسلين (139) إذ أبق إلى الفلك المشحون (140) فساهم فكان من
المدحضين (141) فالتقمه الحوت وهو مليم (142) فلولا أنه كان من
المسبحين (143) للبث في بطنه ى إلى يوم يبعثون (144) فنبذنه بالعرآء
وهو سقيم (145) وأنبتنا عليه شجرة من يقطين (146) وأرسلنه إلى
مائة ألف أو يزيدون (147) فامنوا فمتعنهم إلى حين (148))
(لتمرون) على منازلهم في متاجركم إلى الشام (مصبحين) داخلين في
الصباح (وبالليل) عطف عليه، أي: وممسين (أفلا) تعتبرون بها.
(إذ أبق) أي: هرب من قومه إلى السفينة المملوءة من الناس والأحمال
خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم فيهم (فساهم) القوم أي: قارعهم (فكان
من المدحضين) أي: من المغلوبين المقروعين، والمراد: من الملقين في البحر.
(فالتقمه الحوت) أي: ابتلعه (وهو مليم) داخل في الملامة على خروجه من

(1) قرأه نافع وابن عامر ويعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 638.
(2) تفسير ابن عباس: ص 378.
175

بين قومه من غير أمر ربه. (من المسبحين) الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح
والتقديس (للبث في بطنه) حيا (إلى يوم) البعث، وعن قتادة: لكان بطن
الحوت قبرا له إلى يوم القيامة (1). (فنبذنه) فطرحناه بالعراء، وهو المكان
الخالي الذي لا نبت فيه ولا شجر (وهو) مريض.
واليقطين: كل نبت ينبسط على وجه الأرض ولا ساق له كشجر البطيخ
والقثاء، وهو " يفعيل " من قطن بالمكان: إذا أقام به، وقيل: هو القرع (2)، وفائدته
أن الذباب لا يجتمع عنده، وقيل: هو التين (3)، وقيل: هو شجرة الموز، تغطى
بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها (4). ومعنى (أنبتنا عليه): أنبتنا
فوقه كما يطنب البيت على الإنسان.
(وأرسلنه إلى مائة ألف) عن قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض
الموصل (5) (أو يزيدون) في مرأى الناظر، إذا رآهم (6) الرائي قال: هي مائة
ألف أو أكثر. وقرأ الصادق (عليه السلام): " ويزيدون فآمنوا وأنابوا ". (فمتعنهم) إلى
انقضاء آجالهم، يحتمل أن يكون أرسل إلى قوم بعد قومه، ويجوز أن يكون أرسل
إلى الأولين.
(فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملئكة
إنثا وهم شهدون (150) ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله
وإنهم لكذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153) مالكم كيف

(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 68.
(2) قاله ابن عباس وقتادة. راجع التبيان: ج 8 ص 530.
(3 و 4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 62.
(5) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 43.
(6) في بعض النسخ: " رآها ".
176

تحكمون (154) أفلا تذكرون (155) أم لكم سلطن مبين (156) فأتوا
بكتبكم إن كنتم صدقين (157) وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد
علمت الجنة إنهم لمحضرون (158) سبحن الله عما يصفون (159)
إلا عباد الله المخلصين (160))
(فاستفتهم) معطوف على مثله (1) في السورة وإن تباعد ما بينهما، أمر الله
رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا، ثم ساق الكلام موصولا بعضه
ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة التي قسموها ضيزى حيث جعلوا لله
الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله مع كراهتهم لهن ووأدهم
إياهن. (أم خلقنا) بل أخلقنا (الملائكة إنثا وهم شهدون) حاضرون خلقنا
إياهم، أي: كيف جعلوهم إناثا ولم يشهدوا. ولقد ارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر في
ذلك: أحدها: التجسيم؛ لأن الولادة مختصة بالأجسام، والثاني: تفضيل أنفسهم
على ربهم حيث اختاروا البنين لأنفسهم والبنات لله، والثالث: أنهم استهانوا
بالملائكة حيث أنثوهم.
(أصطفى البنات) دخلت همزة الاستفهام على همزة الوصل فسقطت همزة
الوصل، ونحوه قول ذي الرمة:
أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا * أم راجع القلب من أطرابه طرب (2)
(ما لكم كيف تحكمون) لله بالبنات ولأنفسكم بالبنين (أفلا) تنتهون من
مثل هذا القول (أم لكم سلطان مبين) أي: حجة نزلت عليكم من السماء بأن
الملائكة بنات الله (فأتوا بكتبكم) الذي أنزل عليكم في ذلك.

(1) الآية: 11.
(2) وهي من قصيدة طويلة جدا (126 بيتا)، وهي أحسن شعره. أنظر ديوان ذي الرمة: ص 20.
177

(وجعلوا) بين الله (وبين الجنة نسبا) وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله،
فأثبتوا بذلك جنسية جامعة له وللملائكة، وسموا: جنة لاستتارهم عن العيون،
وقيل: هو قول الزنادقة: إن الله خالق الخير، وإبليس خالق الشر (1)، (ولقد علمت
الجنة) أي: الملائكة (أنهم) في ذلك كاذبون (محضرون) النار معذبون بما
يقولون، ثم نزه سبحانه نفسه عما وصفوه به. (إلا عباد الله) استثناء منقطع من
الواو في (يصفون) أي: يصفه هؤلاء بذلك، ولكن (المخلصين) براء من أن
يصفوه به.
(فإنكم وما تعبدون (161) مآ أنتم عليه بفتنين (162) إلا من هو
صال الجحيم (163) وما منآ إلا له مقام معلوم (164) وإنا لنحن
الصآفون (165) وإنا لنحن المسبحون (166) وإن كانوا ليقولون (167)
لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168) لكنا عباد الله المخلصين (169)
فكفروا به ى فسوف يعلمون (170) ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا
المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم
الغلبون (173) فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف
يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فسآء
صباح المنذرين (177) وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف
يبصرون (179) سبحن ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلم على
المرسلين (181) والحمد لله رب العلمين (182))
الضمير في (عليه) لله عز اسمه، والمعنى: فإنكم ومعبوديكم (ما أنتم) وهم

(1) قاله الكلبي وعطية العوفي. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 70.
178

جميعا (بفتنين) على الله، أي: لستم تفتنون على الله أحدا بإغوائكم
واستهزائكم (1)، من قولك: فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه (إلا من
هو صال الجحيم) أي: إلا من سبق في علم الله أنه يستوجب صلي الجحيم بسوء
أعماله. ويحتمل أن يكون الواو في (وما تعبدون) بمعنى: " مع "، فيجوز
السكوت على: (وما تعبدون)، كما يجوز السكوت على قولك: كل رجل
وضيعته، فيكون المعنى: فإنكم مع معبوديكم، أي: فإنكم قرناؤهم. والضمير في
(عليه) ل‍ (ما تعبدون)، أي: فما أنتم على ما تعبدون (بفتنين) بباعثين، أي:
حاملين على طريق الفتنة والإضلال (إلا من) يصلى (الجحيم) بسوء اختياره،
ويحترق بها مثلكم (وما منآ إلا له مقام معلوم) أي: وما منا ملك، فحذف
الموصوف وأقيم الصفة مقامه، كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا (2)
أي: مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه، أو: مقام في العبادة والانتهاء إلى
أمر الله لا يتجاوز ما أمر به ورتب له، كما روي: فمنهم سجود لا يركعون، وركوع
لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون. (لنحن الصآفون) نصف أقدامنا في الصلاة،
أو أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين، أو في الهواء منتظرين أمر الله، وقيل: إن
المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية (3) وليس يصطف أحد من
أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين. و (المسبحون): المصلون، أو المنزهون.

(1) في نسخة: " واستهوائكم ".
(2) وعجزه: متى أضع العمامة تعرفوني. اختلف في قائله فقيل: لسحيم بن وثيل الرياحي،
وقيل: لمثقب وقيل لغيرهما. راجع خزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 255 وما بعده. وقد
تقدم شرحه في ج 2 ص 91.
(3) وهو قول أبي مالك. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 72.
179

(إن) هي المخففة من الثقيلة، وهم مشركو قريش كانوا يقولون: (لو أن
عندنا ذكرا) كتابا (من) كتب (الأولين) الذين نزل عليهم التوراة أو (1)
الإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولما خالفنا كما خالفوا، فجاءهم الذكر (2) الذي
هو سيد الأذكار، وهو المعجز من بين الكتب (فكفروا به فسوف يعلمون) عاقبة
كفرهم.
الكلمة هي قوله: (إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغلبون) سماها
كلمة وإن كانت كلمات عدة؛ لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة
مفردة. و " هم " في: (لهم) فصل، والمراد: الوعد بعلوهم على عدوهم في الدنيا،
وعلوهم عليهم في الآخرة.
(فتول عنهم) وأغض عليهم أذاهم (3) (حتى حين) إلى مدة يسيرة هي مدة
الكف عن القتال (وأبصرهم) وما يقضى عليهم من القتل والأسر عاجلا،
والعذاب الأليم آجلا (فسوف يبصرون) - ك وما يقتضى لك من النصرة والتأييد
اليوم والثواب والنعيم غدا، والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة
الموعودة الدالة على أنها كائنة لا محالة، قريبة الوقوع كأنها قدام ناظريك، وفي
ذلك تسلية له صلوات الله عليه وآله.
وكانت العرب تفاجئ أعداءها بالغارة صباحا، فخرج الكلام على عادتهم،
فكأن العذاب الذي ينزل بساحتهم جيش نزل بساحتهم فشن عليهم الغارة، ولأن
الله سبحانه أجرى العادة بتعذيب الأمم وقت الصباح، كما قال: (إن موعدهم
الصبح) (4) والمعنى: (فسآء صباح المنذرين) وصباحهم.

(1) في بعض النسخ: واو بدل " أو ".
(2) في نسخة: " القرآن ".
(3) في نسخة: " وأغض على قذاهم واصبر على أذاهم "، يقال: أغضى عينا على قذى: صبر
على أذى، المعجم الوسيط: 655.
(4) هود: 81.
180

إنما كرر قوله: (وتول عنهم) ليكون تسلية على تسلية، وتأكيدا لحصول
الوعد على تأكيد، وقيل: أريد بأحدهما الدنيا وبالآخر الآخرة (1)، وفي قوله:
(أبصر)، و (يبصرون) من غير تقييد بالمفعول فائدة زائدة، أي: ما لا يحيط به
الوصف من ضروب المسرة لك، وأنواع المساءة لهم.
(رب العزة) أضاف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، كأنه قال: ذو العزة، أو:
لأنه لا عزة لأحد إلا وهو مالكها، كما قال: (وتعز من تشاء) (2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى فليكن آخر
كلامه في مجلسه: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) إلى آخر السورة " (3)
* * *

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 69.
(2) آل عمران: 26.
(3) الكافي: ج 2 ص 497 ح 3، الدر المنثور: ج 7 ص 141 وعزاه إلى حميد بن زنجويه في
ترغيبه.
181

سورة ص
مكية (1) وهي ثمان وثمانون آية كوفي، ست بصري، عد الكوفي (ذي
الذكر) (2) و (غواص) (3).
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة ص أعطي من الأجر بوزن كل جبل سخره
الله لداود حسنات " (4).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأها في ليلة الجمعة أعطي من خير الدنيا والآخرة
ما لم يعط أحد من الناس إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، وأدخله الله الجنة، وكل من
أحب من أهل بيته " (5)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 540: مكية في قول مجاهد وقتادة والحسن، ليس
فيها ناسخ ولا منسوخ، وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي، وخمس وثمانون في البصري،
وست في المدني.
وفي الكشاف: ج 4 ص 70: مكية، وهي ست وثمانون آية، وقيل: ثمان وثمانون آية،
نزلت بعد القمر.
(2) الآية: 1.
(3) الآية: 37.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 109 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 139 وزاد: " حتى خادمه الذي يخدمه وإن لم يكن في حد
عياله ولا في حد من يشفع فيه ".
183

بسم الله الرحمن الرحيم
(ص والقرءان ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2) كم
أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (3) وعجبوا أن جآءهم
منذر منهم وقال الكفرون هذا سحر كذاب (4) أجعل الالهة إلها
واحدا إن هذا لشىء عجاب (5) وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا
على ءالهتكم إن هذا لشىء يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الأخرة إن
هذآ إلا اختلق (7) أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى
بل لما يذوقوا عذاب (8))
إن جعلت (ص) حرفا من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه
على الإعجاز، فقوله: (والقرءان ذي الذكر) قسم محذوف الجواب لدلالة
التحدي عليه، فكأنه قال: والقرآن ذي الذكر إنه لكلام معجز، وإن جعلت (ص)
خبر مبتدأ محذوف على أنها اسم للسورة، فكأنه قال: هذا (ص) أي السورة التي
أعجزت الفصحاء والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو
المشهور بالجود والله، وإن جعلتها قسما فكمثله، كأنه قال: أقسمت بصاد والقرآن
ذي الذكر إنه لمعجز، وإن جعلتها مقسما به وعطفت عليها (والقرءان ذي الذكر)
جاز أن تريد بالقرآن القرآن كله، وأن تريد السورة بعينها فيكون معناه: أقسم
بالسورة الشريفة وبالقرآن ذي الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنفس
الشريفة، ولا تريد بالنفس غير الرجل، والذكر: الشرف، أو الذكرى والموعظة،
أو ذكر ما يحتاج إليه من الشرائع وغيرها من التوحيد وذكر الأنبياء وأخبار الأمم
وأحوال القيامة.
184

(بل الذين كفروا) من أهل مكة (في عزة) أي: في تكبر عن قبول الحق
(وشقاق) وخلاف وعداوة شديدة.
(كم أهلكنا) وعيد لذوي العزة والشقاق (فنادوا) فدعوا واستغاثوا عند
وقوع الهلاك بهم (ولات) هي لاء المشبهة ب‍ " ليس "، زيدت عليها تاء التأنيث
كما زيدت على " رب " و " ثم " للتأكيد، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا
على الأحيان، ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وامتنع بروزهما جميعا، فتقديره:
ولات الحين (حين مناص) أي: وليس الحين حين مناص، ولو رفع لكان
تقديره: ولات حين مناص حاصلا لهم، والمناص: الملجأ. (وقال الكفرون)
ولم يقل: وقالوا، إظهارا للغضب عليهم، ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا
الكافر المتمادي للكفر. (أجعل الآلهة إلها وحدا) ومعنى الجعل: التصير في القول
على سبيل الدعوى، كأنهم قالوا: أجعل الجماعة واحدا في قوله وزعمه: (إن هذا
لشىء) بليغ في العجب.
و (الملا): أشراف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبي طالب لما أتوه
وهم خمسة وعشرون رجلا فيهم الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبو جهل، وأبي
ابن خلف، وأخوه أمية وعتبة وشيبة، والنضر بن الحارث، فقالوا: أتيناك لتقضي
بيننا وبين ابن أخيك، فإنه سفه أحلامنا وشتم آلهتنا، فقال أبو طالب: يا بن أخي،
هؤلاء قومك يسألونك فيقولون: دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك، فقال (عليه السلام): أتعطونني
كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم؟ فقال أبو جهل: لله أبوك نعطيك ذلك
وعشر أمثالها، فقال: قولوا: لا إله إلا الله، فقاموا قائلين بعضهم لبعض: (امشوا
واصبروا) فلا حيلة لكم في أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
185

وروي: أنه (عليه السلام) استعبر ثم قال: يا عم، والله لو وضعت الشمس في يميني
والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه، فقال له أبو طالب:
امض لأمرك، فوالله لا أخذلك أبدا (1).
و (أن) هي المفسرة بمعنى: " أي "، لأن انطلاقهم من مجلس التقاول يتضمن
معنى القول (إن هذا) الأمر (لشىء يراد) أي: يريده الله تعالى وما أراد الله كونه
فلا مرد له، ولا ينفع فيه إلا الصبر، وقيل: معناه: أن هذا الأمر الذي نراه من زيادة
أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لشيء من نوائب الدهر يراد بنا ولا انفكاك لنا منه (2)
ومعنى (واصبروا على آلهتكم): اصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى
لا تزالوا عنها.
(ما سمعنا بهذا) في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأن النصارى يقولون:
ثالث ثلاثة ولا يوحدون، أو: في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا، أو: ما سمعنا
بهذا كائنا في الملة الآخرة، على أن يكون (في الملة الآخرة) حالا من (هذا)
فلا يتعلق ب‍ (ما سمعنا) كما في الوجهين، والمعنى: أنا لم نسمع من أهل الكتاب
ولا الكهان أنه يحدث التوحيد في الملة الآخرة. ما (هذا إلا اختلق) أي: افتعال
وكذب.
ثم أنكروا أن يختص (عليه السلام) بشرف النبوة من بين رؤسائهم، وينزل عليه الكتاب
دونهم (بل هم في شك من) القرآن المنزل، ووصفهم له بالاختلاق مخالف
لاعتقادهم فيه، وإنما يقولونه على سبيل الحسد (بل) لم (يذوقوا) عذابي بعد،
فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد.

(1) رواه البيهقي في دلائل النبوة: ج 2 ص 187.
(2) قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 49.
186

(أم عندهم خزآبن رحمة ربك العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك
السموات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسبب (10) جند ما
هنالك مهزوم من الاحزاب (11) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو
الأوتاد (12) وثمود وقوم لوط وأصحب ليكة أولئك الاحزاب (13)
إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة
ما لها من فواق (15) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16))
أي: ليس (عندهم خزآئن) الرحمة، وما بأيديهم مفاتيح النبوة فيضعوها
حيث شاؤوا ويختاروا لها من شاؤوا. (أم لهم ملك السموت والأرض) حتى
يتكلموا في التدابير الربانية والأمور الإلهية التي يختص بها رب العزة. ثم تهكم
بهم سبحانه فقال: فإن كان إليهم تدبير الخلائق وعندهم الحكمة التي بها يعرفون
من هو أحق بالنبوة (فليرتقوا في الأسبب) فليصعدوا في معارج السماء وطرقها
التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا (1) عليه، ويدبروا أمر العالم، وينزلوا
الوحي إلى من يختارونه. ثم أخبر عن حاله (2) وما لهم فقال: (جند ما هنالك)
يريد: ما لهم إلا جند من الكفار المتحزبين على الله (3) (مهزوم) مكسور
عما قريب فلا تبال بهم، و " ما " مزيدة، وفيها معنى الاستعظام، كما في قول امرئ
القيس:
وحديث ما على قصره (4)

(1) في نسخة: " يستولوا ".
(2) في نسخة: " حالهم ".
(3) في نسخة: " رسول الله ".
(4) وصدره: وحديث الركب يوم هنا. والبيت من قصيدة له، يقول: إن اليوم الذي تحدثوا فيه
وسروا به كان قصيرا لأن يوم السرور قصير بعكس يوم الكدر فهو طويل. انظر ديوان امرئ
القيس: ص 103.
187

إلا أنه على سبيل الهزء، و (هنالك) إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من
الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، كما يقول لمن ينتدب لأمر ليس من أهله: لست
هنالك، وقيل: إشارة إلى مصارعهم، وجاء تأويله يوم بدر (1).
(ذو الأوتاد) مستعار لثبات ملكه، كما قال الأسود:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة * في ظل ملك ثابت الأوتاد (2)
وقيل: كان يعذب الناس بالأوتاد (3). (أولئك الأحزاب) وقصد بهذه
الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم
الذين وجد منهم التكذيب، وذكر تكذيبهم على وجه الإبهام في الجملة الخبرية،
ثم أوضح ذلك في الجملة الاستثنائية، بأن كل واحد من الأحزاب (كذب) جميع
(الرسل) لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم (فحق عقاب) أي:
فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم.
(وما ينظر) أي: وما ينتظر هؤلاء، يعني كفار مكة (إلا صيحة وحدة)
ما لتلك الصيحة (من فواق) قرئ بفتح الفاء وضمها (4)، أي: ما لها من توقف
مقدار فواق، وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع، يعني: إذا جاء وقتها لم
تستأخر هذا المقدار من الوقت، وعن ابن عباس: ما لها من رجوع وترداد (5)، من
أفاق المريض: إذا رجع إلى الصحة، وفواق الناقة: ساعة يرجع الدر إلى ضرعها،

(1) قاله قتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 80.
(2) للأسود بن يعفر الأيادي يندب قوما عاشوا ونعموا ثم صاروا إلى البلى والفناء، فكأنه يقول:
لا أتمنى شيئا من الدنيا بعدهم. أنظر أمالي المرتضى: ج 1 ص 35.
(3) قاله أنس والسدي. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 556.
(4) وبالضم قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 643.
(5) تفسير ابن عباس: ص 381.
188

يريد: أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد.
(عجل لنا قطنا) أي: نصيبنا من العذاب الذي وعدته، أو: عجل لنا صحيفة
أعمالنا ننظر فيها، والقط: القسط من الشيء، لأنه قطعة منه، من قطه: إذا قطعه،
ولذلك قيل لصحيفة الجائزة: قط؛ لأنها قطعة من القرطاس.
(اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا
سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل
له أواب (19) وشددنا ملكه وءاتينه الحكمة وفصل الخطاب (20) *
وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داوود
ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا
بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط (22) إن هذآ أخي له تسع
وتسعون نعجة ولى نعجة وا حدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23)
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ى وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي
بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت وقليل ما هم
وظن داوود أنما فتنه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له
ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن ماب (25))
(ذا الأيد) ذا القوة على العبادة، المضطلع بأعباء النبوة، وقيل: ذا القوة على
الأعداء (1)، لأنه رمى بحجر من مقلاعه صدر الرجل فأنفذه من ظهره فأصاب
آخر فقتله، يقال: فلان أيد وذو أيد وذو آد، وأياد كل شيء: ما يتقوى به (إنه
أواب) تواب رجاع عن كل ما يكره الله إلى ما يحب، وقيل: مسبح مطيع (2).

(1) قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 83.
(2) قاله ابن زيد والسدي. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 562.
189

(يسبحن) حال، واختير على " مسبحات " وإن كان في معناه ليدل على
حدوث التسبيح من الجبال حالا بعد حال. وكان داود إذا سبح جاوبته الجبال
بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها: كل واحد من الجبال
والطير (له) لأجل داود، اي: لأجل تسبيحه؛ لأنها كانت تسبح بتسبيحه وضع
" الأواب " موضع " المسبح " إما لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع: رجاع لأنه
يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع، وإما لأن " الأواب " وهو التواب يكثر الرجوع
إلى مرضاة الله ويديم تسبيحه وذكره، وقيل: الضمير في (له) " لله " أي: كل من
داود والجبال والطير لله مسبح يرجع التسبيح (1).
(وشددنا ملكه) قويناه (وءاتينه الحكمة) وهي الزبور وعلم الشرائع،
وقيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة (2)، و (فصل الخطاب) فصل بمعنى:
مفصول ك‍ " ضرب الأمير "، وهو الكلام البين الملخص الذي تبينه من يخاطب به
ولا يلتبس عليه، أو بمعنى: " فاصل " ك‍ " صوم " و " زور "، أي: الفاصل من
الخطاب الذي يفصل بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، وهو كلامه في
القضايا والحكومات وتدابير الملك. وعن علي (عليه السلام): هو قوله: " البينة على المدعي
واليمين على المدعى عليه " (3)، وهو من الفصل بين الحق والباطل، ويدخل فيه
قول بعضهم: هو قوله: " أما بعد ".
(وهل أتك نبؤا الخصم) ظاهره الاستفهام، ومعناه: الدلالة على أنه من
الأنباء العجيبة التي حقها أن لا تخفى، والخصم: الخصماء، وهو يقع على الواحد

(1) قاله الجبائي. راجع التبيان: ج 8 ص 550.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 80.
(3) رواه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف.
190

والجمع كالضيف؛ لأنه مصدر في الأصل، أي: فريقان خصيمان، ومثله قوله:
(هذان خصمان اختصموا) (1)، وانتصب (إذ) بمحذوف تقديره: وهل آتاك نبأ
تحاكم الخصم حين (تسوروا المحراب) أي: تصعدوا سوره ونزلوا إليه، والسور:
الحائط المرتفع، ونظيره: " تسنمه " إذا علا سنامه، و " تفزعه " إذا فزعه.
(إذ دخلوا) بدل من (إذ) الأولى، (خصمان) خبر مبتدأ محذوف أي: نحن
خصمان (ولا تشطط) أي: ولا تجر، قال:
ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي (2)
(أخي) بدل من (هذآ) أو خبر ل‍ (إن)، والمراد أخوة الدين أو أخوة
الصداقة والألفة والخلطة (أكفلنيها) وملكنيها، وحقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل
ما تحت يدي (وعزني) أي: غلبني في مخاطبة الحجاج والجدال، أو أراد:
خطبت المرأة وخطبها هو، فخاطبني خطابا أي: غالبني في الخطبة فغلبني حيث
زوجها دوني، وعلى هذا فيكون " النعجة " مستعارة من المرأة، كما استعير لها
" الشاة " في نحو قوله:
يا شاة ما قنص لمن حلت له * حرمت علي وليتها لم تحرم (3)
(لقد ظلمك) جواب قسم محذوف، و " سؤال " مصدر مضاف إلى المفعول،
كقوله: من دعاء الخير، وقد ضمن معنى الإضافة فعدي تعديتها، كأنه قال: " بإضافة
نعجتك إلى نعاجه " على وجه السؤال والطلب. وما في قوله: (وقليل ما هم)
الإبهام، وفيه تعجب من قلتهم (وظن داوود) لما كان غلبة الظن كالعلم استعيرت

(1) الحج: 19.
(2) وعجزه: ويزعمن أن أودى بحقي باطلي. والبيت منسوب للأحوص. انظر الكامل للمبرد:
ج 1 ص 109.
(3) البيت لعنترة بن شداد من معلقته المشهورة أنظر ديوان عنترة: ص 17.
191

له، أي: وعلم داود وأيقن (أنما فتنه) أي: اختبرناه وابتليناه لا محالة بامرأة
أوريا، قيل: إن أهل زمان داود كانوا قد اعتادوا أن ينزل بعضهم لبعض عن امرأته
إذا أعجبته، فاتفق أن عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له: أوريا فأعجبته،
فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده ففعل، فتزوجها، فقيل له: إنك على (1)
ارتفاع منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة
واحدة النزول عنها (2). وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها (3).
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه قال: " لا أوتى برجل يزعم أن داود تزوج
امرأة أوريا إلا جلدته حدين: حدا للنبوة وحدا للإسلام " (4).
وروي: أن التحاكم كان بين ملكين (5)، وقيل: كانا من الإنس، وكانت الخصومة
على الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان
كثيرة من السراري والمهائر، والثاني معسرا ماله إلا امرأة واحدة فاستنزله عنها (6)،
وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وإنما عوتب
على عجلته في الحكم قبل تثبت، وكان من حقه حين سمع الدعوى من أحدهما
أن يسأل الآخر عنده فيها. وعن مجاهد: مكث ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه
إلا لصلاة مكتوبة، أو لحاجة لابد منها (7)، وقد يعبر عن السجود بالركوع.

(1) في بعض النسخ: " مع " بدل " على ".
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 80.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ص 81.
(4) رواه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 555، والماوردي البصري في تفسيره: ج 5
ص 89 باختلاف فيهما.
(5) وهو المشهور بين جمهور المفسرين، وفي العيون: ج 1 ص 154 ح 1 عن الرضا (عليه السلام).
(6) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 88.
(7) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 574.
192

(يداوود إنا جعلنك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله
لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) وما خلقنا السمآء
والأرض وما بينهما بطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من
النار (27) أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في
الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28) كتب أنزلنه إليك مبرك
ليدبروا ءايته ى وليتذكر أولوا الالبب (29))
أي: (جعلنك خليفة) ممن كان قبلك من الأنبياء، أو: استخلفناك على الملك
في الأرض (بما نسوا) أي: بنسيانهم (يوم الحساب)، أو: لهم عذاب يوم
القيامة بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن سبيل الله.
(بطلا) أي: خلقا باطلا لا لغرض صحيح وحكمة بالغة، أو: مبطلين عابثين
ذوي باطل، أو وضع (بطلا) موضع " عبثا "، كما وضع " هنيئا " موضع المصدر
وهو صفة، أي: وما خلقناهما وما بينهما للعبث ولكن للحق المبين، وهو أنا خلقنا
نفوسا أودعناها العقل والتمييز، وعرضنا للمنافع العظيمة، بالتكليف، وأعددنا لها
الجزاء على حسب أعمالها (ذلك) إشارة إلى خلقها باطلا، والظن بمعنى
المظنون، أي: خلقها للعبث لا للحكمة، والغرض الصحيح مظنون (الذين كفروا)،
ولما كان إنكارهم للبعث مؤديا إلى أن خلقها عبث جعلوا كأنهم يظنون ذلك، لأن
الجزاء هو الذي ساق إليه الحكمة في خلق العالم، فمن أنكره فقد أنكر الحكمة،
ومن أنكر الحكمة في خلق العالم فقد أظهر أنه لا يقدره حق قدره.
(أم) منقطعة، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمعنى: أنه لو بطل الجزاء
193

لاستوت عند الله حال الصالح والطالح، والمحسن والمسيء، ومن سوى بينهم
لم يكن حكيما.
وقرئ: " لتدبروا " (1) على الخطاب، وتدبر الآيات: التفكر فيها والاتعاظ
بمواعظها، والمبارك: الكثير النفع والخير.
(ووهبنا لداوود سليمن نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه
بالعشي الصفنت الجياد (31) فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر
ربى حتى توارت بالحجاب (32) ردوها على فطفق مسحا بالسوق
والأعناق (33) ولقد فتنا سليمن وألقينا على كرسيهى جسدا ثم
أناب (34) قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغى لأحد من بعدي إنك
أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح تجرى بأمره ى رخآء حيث
أصاب (36) والشيطين كل بنآء وغواص (37) وءاخرين مقرنين في
الأصفاد (38) هذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له
عندنا لزلفى وحسن ماب (40))
أي: (نعم العبد) هو المخصوص بالمدح محذوف، وعلل كونه ممدوحا
بكونه أوابا رجاعا إلى الله عز اسمه في أموره، أو مؤوبا مرجعا لتسبيحه وتقديسه
لأن كل مؤوب أواب، و (الصفنت): الخيل القائمة على ثلاث قوائم، الواضعة
طرف السنبك الرابع على الأرض (الجياد) السريعة المشي، الواسعة الخطو، جمع
سبحانه بين وصفيها المحمودين واقفة وجارية، وضمن (أحببت) معنى فعل متعد
ب‍ " عن "، فكأنه قال: أنبت حب الخير عن ذكر ربي أو: جعلت حب الخير مغنيا

(1) وهي قراءة عاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 553.
194

عن ذكر ربي، والخير: المال كما في قوله: (وإنه لحب الخير لشديد) (1) وقوله:
(إن ترك خيرا) (2). والمال هنا: الخيل التي شغلته، وسمى الخيل خيرا كأنها نفس
الخير لتعلق الخير بها، كقوله (عليه السلام): " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم
القيامة " (3).
وقال (عليه السلام) في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: " أنت زيد الخير " (4).
(حتى توارت بالحجاب) الضمير للشمس أي: غربت، وهو مجاز عن تواري
الملك بحجابه، ويدل عليه مرور ذكر " العشي "، ولا بد للمضمر من جري ذكر أو
دليل ذكر، وقيل: الضمير ل‍ (الصفنت) أي: حتى توارت بحجاب الليل يعني:
الظلام (5). (فطفق مسحا) أي: فجعل يمسح مسحا، أي: يمسح بالسيف سوقها
وأعناقها يعني: يقطعها، يقال: مسح علاوته: إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر
الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه، وقيل: مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها ثم
جعلها مسبلة في سبيل الله (6)؛ والسوق: جمع الساق، كأسد في جمع الأسد،
واتصل قوله: (ردوها على) بمحذوف تقديره: " قال: ردوها علي "، فأضمر ما هو
جواب له، كأن قائلا قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء

(1) العاديات: 8.
(2) البقرة: 180.
(3) أخرجه أحمد في مسنده: ج 2 ص 13 و 28، ومالك في موطئه: ج 2 ص 467 بالاسناد عن
ابن عمر.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 92. وزيد هذا هو زيد بن مهلهل بن يزيد الطائي
من الشعراء الفرسان المخضرمين قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " إن فيك لخصلتين يحبهما الله
ورسوله: الأناة والحلم " أصابته الحمى فمات في أثرها. أنظر الأغاني لأبي فرج الإصفهاني:
ج 6 ص 46 وما بعده.
(5) حكاه ابن عيسى كما في تفسير الماوردي: ج 5 ص 93.
(6) قاله ابن عباس. راجع التبيان: ج 8 ص 561.
195

ظاهرا، وهو اشتغال نبي الله بأمر الدنيا حتى تفوته الصلاة عن وقتها. وقيل: إنما
ذبحها تقربا إلى الله تعالى ليتصدق بلحومها (1)، وقيل: معناه: أنه سأل الله تعالى أن
يرد الشمس عليه فردها عليه حتى صلى العصر، والهاء في (ردوها) للشمس (2).
(فتنا سليمن) اختبرناه وشددنا المحنة عليه، واختلف في الجسد الذي
ألقي على كرسيه، فقيل: إنه قال ذات يوم: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تلد كل
امرأة منهن غلاما، يضرب بالسيف في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فطاف
عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة وجاءت بشق ولد، فهو الجسد الذي ألقي
على كرسيه (3). وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال " والذي نفس محمد بيده لو قال: إن
شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا " (4)، (ثم أناب) إلى الله وفزع إلى الصلاة
والدعاء على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه، وقيل: إنه ولد له ابن فاسترضعه في
المزن - وهو السحاب - إشفاقا عليه من كيد الشيطان، فلم يشعر إلا وقد وضع على
كرسيه ميتا، تنبيها له على أن الحذر لا ينفع من القدر (5).
قدم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء في تقديم أمر
الدين على أمور الدنيا (ملكا لا ينبغى) أي: لا يتكون ولا يتسهل، ومعنى (من
بعدي): دوني، طلب من ربه سبحانه ملكا زائدا على الممالك، زيادة تبلغ حد
الإعجاز، ليكون دليلا على صحة نبوته، فذلك معنى قوله: (لا ينبغى لأحد من

(1) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 92.
(2) وهو قول البغوي في تفسيره: ج 4 ص 61.
(3) قاله أنس. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 96.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه: ج 3 ص 1275 ح 1654 وما بعده، والنسائي في سننه: ج 7
ص 25 عن أبي هريرة مرفوعا.
(5) قاله الشعبي كما في تفسير الماوردي: ج 5 ص 96.
196

بعدي)، وقيل: كان ملكا عظيما فخاف أن يعطى غيره مثله فلا يحافظ على حدود
الله فيه، كما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها) (1) (2).
(رخآء) أي: لينة طيبة لا تزعزع (3)، وقيل: مطيعة له (4) (تجرى) إلى
حيث يشاء، وقوله: (حيث أصاب) معناه: حيث قصد وأراد. و (الشيطين)
عطف على (الريح)، و (كل بناء) بدل من (الشيطين) (وءاخرين) عطف
على (كل) داخل في حكم البدل، وهو بدل الكل من الكل. كانوا يبنون له ما
يشاء من الأبنية الرفيعة، ويغوصون له في البحر على اللالئ والجواهر،
فيستخرجون ما شاء منها، وهو أول من استخرج الدر من البحر، وكان يقرن مردة
الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والأغلال، ويجمع بين اثنين وثلاثة منهم في
سلسلة يؤدبهم إذا تمردوا، والصفد: القيد، وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم
عليه، وفرقوا بين الفعلين فقالوا: صفده: قيده، وأصفده: أعطاه.
هذا الذي أعطيناك من الملك والبسط (عطآؤنا... بغير حساب) أي: جما
كثيرا لا يقدر على حسبه وحصره، أو: لا يحاسب يوم القيامة على ما تعطي وتمنع،
(فامنن) فأعط منه ما شئت من المنة وهي العطاء (أو أمسك) مفوضا إليك
التصرف فيه، أو: فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق وأمسك من شئت
منهم في الوثاق (بغير حساب) لا حساب عليك في ذلك. (وإن له عندنا)
النعمة الباقية في الآخرة، وهي الزلفة والقربى وحسن المآب.

(1) البقرة: 30.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 95.
(3) زعزع الشيء: إذا حركه ليقلعه. (لسان العرب: مادة زعع).
(4) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 382.
197

(واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسني الشيطن بنصب
وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له
أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الالبب (43) وخذ بيدك ضغثا
فاضرب بهى ولا تحنث إنا وجدنه صابرا نعم العبد إنه أواب (44))
(أيوب) عطف بيان، و (إذ) بدل الاشتمال منه، (أنى) أي: بأني
(مسني) حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال: بأنه مسه، وقرئ:
(بنصب) بضم النون، وبفتح النون والصاد (1)، وضمها (2)، والنصب والنصب:
التعب والمشقة، كالرشد والرشد، والنصب: تثقيل " نصب "، والعذاب الأليم يريد
مرضه وما كان يقاس فيه من أنواع الوصب. وقيل: النصب: الضر في البدن،
والعذاب: في ذهاب الأهل والمال (3)، وإنما نسبه إلى الشيطان لما كان يوسوس به
إليه من تعظيم ما نزل به من البلاء ويغريه على الجزع، فالتجأ إلى الله سبحانه في
أن يكفيه ذلك بكشف البلاء.
(اركض برجلك) على تقدير القول، أي: قلنا له: ادفع برجلك الأرض هذا ما
تغتسل به (4) وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك، وقيل: إنه نبعت عينان فاغتسل
من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله (5).
(رحمة منا وذكرى) مفعول لهما، والمعنى: أن الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولي
الألباب، لأنهم إذا سمعوا بذلك رغبوا في الصبر على البلاء.

(1) قرأه عاصم الجحدري والسدي ويعقوب بن إسحاق. راجع شواذ القرآن لابن خالويه:
ص 130.
(2) أي: " بنصب " بضمتين، وهي قراءة أبي جعفر المدني والحسن. راجع المصدر السابق.
(3) قاله السدي. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 101.
(4) في نسخة: " هذا ماء تغتسل به ".
(5) قاله الحسن البصري وقتادة. راجع التبيان: ج 8 ص 568.
198

(وخذ) معطوف على (اركض)، (ضغثا) هو ملء الكف من
الشماريخ (1)، وذلك أنه حلف على امرأته لقول أنكره منها لئن عوفي ليضربنها
مائة جلدة، فاضربها دفعة واحدة (ولا تحنث) في يمينك (إنا وجدنه) علمناه
(صابرا) على البلاء الذي ابتليناه به.
(واذكر عبدنآ إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي
والأبصر (45) إنآ أخلصنهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا
لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسمعيل واليسع وذا الكفل وكل من
الأخيار (48) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن ماب (49) جنت عدن
مفتحة لهم الأبواب (50) متكين فيها يدعون فيها بفكهة كثيرة
وشراب (51) وعندهم قصرات الطرف أتراب (52) هذا ما توعدون
ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ماله من نفاد (54))
(إبرهيم وإسحق ويعقوب) عطف بيان ل‍ (عبدنآ) ومن قرأ " عبدنا " (2)
جعل (إبرهيم) وحده عطف بيان، وعطف (إسحق ويعقوب) على " عبدنا "،
(أولى الأيدي والأبصر) أولي الأعمال الدينية والفكر العلمية، كان الذين لا
يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي الديانات في حكم الزمنى، الذين
لا يقدرون على إعمال جوارحهم، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم،
والأبصار: جمع البصر وهو العقل.
(إنآ أخلصنهم) جعلناهم لنا خالصين (بخالصة) بخصلة خالصة لا شوب

(1) الشماريخ: جمع الشمراخ وهو العثكول والعثكال: وهو ما عليه البسر من عيدان الكباسة،
وهو في النخل بمنزلة العنقود في العنب، (الصحاح: مادتي عثكل وشمرخ) وفي الفارسية:
خوشه خرما.
(2) قرأه ابن كثير. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 554.
199

فيها، ثم فسرها ب‍ (ذكرى الدار) شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء، وأن
الكدورة منتفية عنها. وقرئ: " بخالصة ذكرى " على الإضافة (1)، والمعنى: بما
خلص من ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهم آخر، إنما همهم
ذكرى الدار لا غير، ومعنى (ذكرى الدار): ذكرهم الآخرة دائما ونسيانهم إليها
ذكر الدنيا، أو: تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها وتزهيدهم في الدنيا كما هو شأن
الأنبياء، وقيل: ذكرى الدار: الثناء الجميل في الدنيا، ولسان الصدق الذي ليس
لغيرهم (2) والمعنى: أخلصناهم بسبب هذه الخصلة وبأنهم من أهلها، أو:
أخلصناهم بتوفيقهم لها. (لمن المصطفين) أي: المختارين من بين أبناء جنسهم
(الأخيار) جمع خير أو خير على التخفيف، كأموات في جمع " ميت " أو " ميت ".
(واليسع) كان حرف التعريف دخل على " يسع "، وقرئ: " والليسع " (3)
كان حرف التعريف دخل على " اليسع " فيعل من " اللسع "، والتنوين في (وكل)
عوض عن المضاف إليه، أي: وكلهم من الأخيار.
(هذا ذكر) أي: نوع من الذكر وهو القرآن، ولما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه
قال: (هذا ذكر) كما يقال: هذا باب، ثم ذكر عقيبه الجنة وأهلها فقال: (وإن
للمتقين لحسن مآب) أي: حسن منقلب ومرجع، ولما أتم ذكر الجنة وأراد أن
يعقبه بذكر أهل النار قال: (هذا وإن للطغين لشر مآب)، وقيل: معناه: هذا ذكر
جميل وشرف يذكرون به أبدا (4). وعن ابن عباس: هذا ذكر من مضى من

(1) وهي قراءة نافع وحده. راجع المصدر السابق.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 99.
(3) أي بلامين الأولى ساكنة والثانية مفتوحة مشددة مع إسكان الياء، قرأه حمزة والكسائي.
راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 404.
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 100.
200

الأنبياء (1). (جنت عدن) معرفة كقوله: (جنت عدن التي وعد الرحمن
عباده) (2)، وهي عطف بيان ل‍ (حسن مآب)، و (مفتحة) حال، والعامل فيها ما
في (للمتقين) من معنى الفعل، وفي (مفتحة) ضمير " الجنات "، و (الأبواب)
بدل من الضمير تقديره: مفتحة هي الأبواب كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل،
وهو من بدل الاشتمال.
(أتراب) جمع ترب، كأنهن سمين أترابا لأن التراب مسهن في وقت واحد،
وإنما جعلن على سن واحدة لأن التحاب بين الأقران أثبت، وقيل: هن أتراب
لأزواجهن أسنانهن كأسنانهم (3).
وقرئ: (توعدون) بالتاء والياء (4) (ليوم الحساب) لأجل يوم الحساب،
كما يقال: هذا ما تدخرونه ليوم الحساب، أي: ليوم تجزى كل نفس بما كسبت (إن
هذا) الذي ذكرنا (لرزقنا) أي: عطاؤنا الجاري المتصل (ما له من نفاد) أي:
فناء وانقطاع.
(هذا وإن للطغين لشر ماب (55) جهنم يصلونها فبئس
المهاد (56) هذا فليذوقوه حميم وغساق (57) وءاخر من شكله ى
أزواج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار (59)
قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60) قالوا ربنا
من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61) وقالوا ما لنا لا نرى
رجالا كنا نعدهم من الأشرار (62) أتخذنهم سخريا أم زاغت عنهم

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف المتقدم.
(2) مريم: 61.
(3) قاله ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 106.
(4) وبالياء قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 644.
201

ا لابصر (63) إن ذا لك لحق تخاصم أهل النار (64) قل إنمآ أنا منذر وما
من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب السموات والارض وما بينهما
العزيز الغفر (66))
أي: الأمر هذا، أو: هذا كما ذكر إن للذين طغوا على الله (لشر مآب)،
(جهنم) عطف بيان له (فبئس المهاد) شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي
يفترشه النائم. أي: (هذا) حميم فليذوقوه، أو: العذاب هذا فليذوقوه ثم ابتدأ
فقال: هو (حميم وغساق)، أو: ليذوقوا هذا (فليذوقوه) مثل قوله: (فإياى
فارهبون) (1)، وقرئ: (وغساق) بالتشديد والتخفيف (2) حيث كان، وهو ما
يغسق من صديد أهل النار أي: يسيل، يقال: غسقت العين إذا سالت دموعها،
ويقال: الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده. " وأخر " (3) أي: ومذوقات أخر
من شكل هذا المذوق، أي: مثله في الفظاعة والشدة، (أزوج) أي: أجناس،
وقرئ: (وآخر) أي: وعذاب آخر أو مذوق آخر، و (أزوج) صفة ل‍ (ءاخر)
لأنه يجوز أن يكون ضروبا أو صفة للثلاثة وهي: (حميم) و (غساق) و (آخر
من شكله).
(هذا فوج مقتحم معكم) هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أي: دخل
النار في صحبتكم، وهو حكاية كلام الطاغين بعضهم لبعض أي: يقولون هذا،

(1) النحل: 51.
(2) وبالتخفيف قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب
السبعة في القراءات: ص 555.
(3) الظاهر أن المصنف هنا اعتمد على قراءات ضم الهمزة من غير مد تبعا للزمخشري في
الكشاف، وهي قراءة أبي عمرو وحده وفي رواية عن ابن كثير. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 555.
202

والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم النار
(لا مرحبا بهم) دعاء منهم على أتباعهم، أي: لا نالوا رحبا وسعة (إنهم) لازموا
(النار) فيقول الأتباع: (بل أنتم) لا اتسعت لكم أماكنكم، أنتم حملتمونا على
ما أوجب لنا النار، والضمير في (قدمتموه) للعذاب، تقول لمن تدعو له: مرحبا،
أي: أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا، أو: رحبت بلادك رحبا، ثم تدخل عليه " لا " في
دعاء السوء، و (بهم) بيان للمدعو عليهم.
قال الأتباع أيضا: (ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا) أي: مضاعفا،
ومعناه: ذا ضعف، وهو أن يزيد على عذابه ضعفه أي: مثله فيصير ضعفين كقوله:
(ربنا ءاتهم ضعفين من العذاب) (1).
(لا نرى رجالا) يعنون فقراء المؤمنين الذين لا يؤبه بهم (من الأشرار)
الذين لا خير فيهم، ولأنهم كانوا على خلاف دينهم فعدوهم أشرارا.
وعن الباقر (عليه السلام): " يعنونكم، لا يرون والله واحدا منكم في النار ".
(أتخذنهم سخريا) قرئ بلفظ الإخبار (2) على أنه صفة ل‍ (رجالا)،
وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم،
وقوله: (أم زاغت عنهم الأبصر) فيه وجهان: أحدهما: أن يتصل بقوله: (ما لنا)
أي: ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم
وهم فيها، والثاني: أن يتصل ب‍ (أتخذنهم سخريا) ويكون (أم) متصلة بمعنى:
أي الفعلين فعلنا بهم: الاستسخار منهم أم تحقيرهم وازدراءهم، وأن أبصارنا كانت
تحتقرهم على معنى: إنكار الأمرين على أنفسهم، أو منقطعة بعد مضي (أتخذنهم

(1) الأحزاب: 68.
(2) قرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 556.
203

سخريا) على الخبر أو على الاستفهام، كما يقول: إنها الإبل أم شاة، و: أزيد عندك
أم عندك عمرو. ويجوز أيضا أن تقدر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير
الهمزة؛ لأن " أم " تدل عليها، فلا تفترق القراءتان في المعنى. (إن ذلك) الذي
حكينا عنهم (لحق) لابد أن يتكلموا به، ثم بين بقوله: (تخاصم أهل النار) شبه
ما يجري بينهم من التقاول بما يجري بين المتخاصمين فسماه تخاصما.
(قل هو نبؤا عظيم (67) أنتم عنه معرضون (68) ما كان لي من علم
بالملا الاعلى إذ يختصمون (69) إن يوحى إلى إلا أنمآ أنا نذير
مبين (70) إذ قال ربك للملئكة إنى خلق بشرا من طين (71) فإذا
سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له سجدين (72) فسجد الملئكة
كلهم أجمعون (73) إلا إبليس استكبر وكان من الكفرين (74) قال
يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من
العالين (75) قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76) قال
فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78) قال
رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المنظرين (80) إلى
يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك
منهم المخلصين (83) قال فالحق والحق أقول (84) لأملأن جهنم منك
وممن تبعك منهم أجمعين (85) قل مآ أسلكم عليه من أجر ومآ أنا من
المتكلفين (86) إن هو إلا ذكر للعلمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88))
أي: هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا وأن الله واحد وأمر القيامة نبأ عظيم
لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة، وقيل: النبأ العظيم هو القرآن (1).

(1) قاله مجاهد والسدي. راجع التبيان: ج 8 ص 579.
204

(ما كان لي من علم) بكلام (الملا الأعلى) وقت اختصامهم. و (إذ قال) بدل
من (إذ يختصمون). و (الملا الأعلى) هم أصحاب القصة المذكورة بعد: عن
الملائكة وآدم وإبليس، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم. قرئ:
" إنما " (1) بالكسر على الحكاية، أي: ما (يوحى إلى إلا) هذا القول، وهو أن أقول
لكم: (إلا أنمآ أنا نذير مبين)، وقرئ: (أنما) بالفتح أي: لأنما، ومعناه: ما يوحى
إلي إلا للإنذار، فحذف اللام فوصل الفعل، ويجوز أن يكون مرفوع الموضع، أي:
ما يوحى إلي إلا هذا القول، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك.
(لما خلقت بيدي) لما توليت خلقه بنفسي من غير واسطة، وذلك أن الإنسان
لما كان يباشر أكثر أعماله بيده غلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي بغيرها
حتى قالوا في عمل القلب: هذا مما عملت يداك، وقالوا لمن لا يدين له: " يداك
أوكتا وفوك نفخ " (2)، ومنه قوله تعالى: (مما عملت أيدينا) (3) (ولما خلقت
بيدي). وقيل: إن العرب تطلق لفظة " اليدين " للقدرة والقوة (4)، كما قال الشاعر:
تحملت من عفراء ما ليس لي به * ولا للجبال الراسيات يدان (5)
(أستكبرت) أو رفعت نفسك فوق قدرها أم كنت من الذين علت أقدارهم
عن السجود؟ (فاخرج منها) من الجنة، وقيل: من السموات (6)، وقيل: من

(1) وهي قراءة أبي جعفر المدني. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 131.
(2) وأصله: أن رجلا أراد أن يعبر بحرا على زق قد نفخ فيه فلم يحسن إحكامه حتى إذا توسط
البحر انحل وكاؤه وخرجت منه الريح فغرق، فاستغاث فقيل له ذلك، ويضرب لمن يجني
على نفسه. أنظر مجمع الأمثال للميداني: ج 2 ص 378.
(3) يس: 71.
(4) وهو قول علي بن عاصم. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 111.
(5) لعروة بن حزام. والبيت واضح المعنى، وفي النسخ: " زلفاء " والصحيح ما أثبتناه. راجع
تفسير الماوردي: ج 5 ص 111.
(6) قاله الحسن البصري. راجع التبيان: ج 8 ص 584.
205

الخلقة التي افتخرت بها فاسود وأظلم بعد أن كان أبيض نورانيا (1).
وقرئ: (فالحق) بالرفع والنصب (2)، فالرفع على أن يكون خبر مبتدأ
محذوف أي: فأنا الحق، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: فالحق قسمي، والنصب على
أنه مقسم به والتقدير: الحق لأملأن، نحو: الله لأفعلن (الحق أقول) اعتراض بين
المقسم به والمقسم عليه، والمراد بالحق: إما اسمه جل وعز الذي في قوله: (أن
الله هو الحق المبين) (3) أو: الحق الذي هو نقيض الباطل عظمه الله سبحانه
بإقسامه به. (منك) أي: من جنسك وهم الشياطين (وممن تبعك منهم) من
ذرية آدم، والمعنى: (لأملأن جهنم) من المتبوعين والتابعين (أجمعين).
(مآ أسئلكم عليه) أي: على القرآن (من أجر) تعطونيه (ومآ أنا من
المتكلفين) من الذي يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا
ينال، ويقول ما لا يعلم " (4).
وما (هو) يعني القرآن (إلا ذكر) للخلق أجمعين. (ولتعلمن) خبر صدقه
وحقيقة حقه، (بعد) الموت، أو بعد ظهور أمر الدين وفشو الإسلام.
* * *

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 107.
(2) وبالنصب قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 557.
(3) النور: 25.
(4) أخرجه البيهقي في شعب الايمان: ج 4 ص 157 ح 4647، والصدوق في الخصال:
ص 121 عن أبي عبد الله (عليه السلام).
206

سورة الزمر
مكية (1) سوى آيات، وهي خمس وسبعون آية كوفي، اثنتان بصري. فيما فيه
يختلفون غير الكوفي: (مخلصا له الدين) (2) الثاني و (مخلصا له ديني) (3)
و (من هاد) (4) الثاني و (فسوف تعلمون) (5) أربعتهن كوفي.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاه، وأعطاه ثواب
الخائفين " خافوا الله (6).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة الزمر أعطاه الله شرف الدنيا والآخرة، وأعزه
بلا مال ولا عشيرة حتى يهابه من يراه، وحرم جسده على النار " (7) تمام الخبر.

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 3: وتسمى أيضا سورة الغرف، وهي مكية في قول
مجاهد وقتادة والحسن، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، عدد آياتها خمس وسبعون آية في
الكوفي، وثلاث وسبعون شامي، وسبعون حجازي وبصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 110: مكية إلا قوله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) الآية،
وتسمى سورة الغرف، وهي خمس وسبعون آية، وقيل: ثنتان وسبعون آية، نزلت بعد سورة
سبأ.
(2) الآية: 11.
(3) الآية: 14.
(4) الآية: 36.
(5) الآية: 39.
(6) ليس في نسخة: " خافوا الله ".
(7) ثواب الأعمال للصدوق: ص 139، وزاد: " ويبنى له في الجنة ألف مدينة، في كل مدينة
ألف قصر، في كل قصر مائة حوراء وله مع هذا عينان تجريان، وعينان نضاختان وعينان
مدهامتان وحور مقصورات في الخيام وذواتا افنان ومن كل فاكهة زوجان ".
207

بسم الله الرحمن الرحيم
(تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم (1) إنآ أنزلنآ إليك
الكتب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص
والذين اتخذوا من دونه ى أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى إن
الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كذب
كفار (3) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبحنه
هو الله الواحد القهار (4) خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل
على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى
لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفر (5))
(تنزيل) مبتدأ أخبر عنه بالظرف، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل
الكتاب، والجار صلة (تنزيل) كما تقول: نزل من عند الله، أو غير صلة فيكون
خبرا بعد خبر، أو حالا من (تنزيل) عمل فيها معنى الإشارة.
(مخلصا له الدين) من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر. (الدين
الخالص) ما لا يشوبه الرياء والسمعة، وعن قتادة: هو شهادة أن لا إله إلا الله (1)،
وقيل: هو الاعتقاد الواجب من التوحيد والعدل والنبوة، والعمل بموجب الشرائع،
والبراءة من كل دين سواها (2). (والذين اتخذوا من دون الله أوليآء) قائلين:
(ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله) أي: ليشفعوا لنا إليه، و (زلفى) اسم أقيم مقام
المصدر، وخبر (الذين) قوله: (إن الله يحكم بينهم)، والمراد بمنع الهداية:

(1) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 611.
(2) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 5
208

منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين، ولم يرد
به الهداية إلى الإيمان كقوله: (أما ثمود فهدينهم) (1) وكذبهم قولهم: إن الملائكة
بنات الله، ولذلك عقبه بقوله: (لو أراد الله أن يتخذ ولدا) أي: لو أراد اتخاذ الولد
لامتنع ولم يصح ولم يتأت ذلك لكونه محالا، إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم
ويقربهم، كما يختص الرجل ولده ويقربه، ثم تنزه نفسه عن اتخاذ الولد بقوله:
(سبحنه) أي: تنزيها له عن ذلك.
ثم دل بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين (2) على
الآخر، وتسخير النيرين (3) وجريهما (لأجل مسمى)، وبث الناس على كثرتهم
(من نفس وحدة) وخلق الأنعام على أنه واحد لا ثاني له في القدم، قهار لا
يغالب. والتكوير: اللف واللي، يقال: كار العمامة على رأسه وكورها، والمعنى:
يغشي الليل النهار، يذهب هذا ويغشي مكانه هذا، فكأنه لفه عليه كما يلف اللباس
على اللابس، وقيل: معناه: أن كل واحد منهما يغيب الآخر: إذا طرأ عليه، فشبه
بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الناظر (4).
(خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من
الانعم ثمنية أزواج يخلقكم في بطون أمهتكم خلقا من بعد خلق في
ظلمت ثلث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى
تصرفون (6) إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن

(1) فصلت: 17.
(2) الملوان: الليل والنهار، والواحد: ملى، مقصور. (الصحاح: مادة ملى).
(3) النيران: الشمس والقمر.
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 113.
209

تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم
فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (7) * وإذا مس
الانسن ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعوا
إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله ى قل تمتع بكفرك قليلا إنك
من أصحب النار (8) أمن هو قنت ءانآء الليل ساجدا وقآبما يحذر
الأخرة ويرجوا رحمة ربهى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا
يعلمون إنما يتذكر أولوا الألبب (9) قل يعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم
للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله وا سعة إنما يوفى
الصبرون أجرهم بغير حساب (10))
أي: (خلقكم من نفس) آدم، وخلق حواء زوجه من قصيراه، وعطف ب‍ " ثم "
للدلالة على مباينة هذه الآية - التي لم تجر العادة بمثلها - للآية الأولى التي هي
إيجاد الخلق الكثير من نفس واحدة في الفضل والمزية، وقيل: أخرج ذرية آدم من
ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء (1) (وأنزل لكم) أي: قضى لكم وقسم، لأن
قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ: كل
كائن يكون، وقيل: لأن الحيوان لا يعيش إلا بالنبات، والنبات لا ينبت إلا بالماء،
وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها (2) (ثمنية أزوج) ذكرا وأنثى، من الإبل ومن البقر
والضأن والمعز (خلقا من بعد خلق) حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من
بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف والظلمات الثلاث: ظلمة
البطن والرحم والمشيمة (ذلكم) الذي هذه أفعاله هو (الله ربكم... فأنى

(1) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 7.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 114.
210

تصرفون) فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره (فإن الله غنى عنكم)
وعن إيمانكم، وأنتم المحتاجون إليه (ولا يرضى لعباده الكفر) به؛ رحمة لهم
لأنه سبب هلاكهم (وإن تشكروا) يرض الشكر لكم لأنه سبب فوزكم وفلاحكم،
وإنما كره كفركم ورضي شكركم لأجل نفعكم وصلاحكم، لا لمنفعة راجعة إليه،
والهاء في (يرضه) ضمير " الشكر " الذي دل عليه (إن تشكروا).
(منيبا إليه) راجعا إليه وحده لا يرجو سواه (ثم إذا خوله) أي: أعطاه،
وأصله: جعله خائل مال وخال مال، وهو أن يكون متعهدا له حسن القيام به، أو:
جعله يخول أي: يختال ويفتخر، ومنه المثل: " الغني طويل الذيل مياس " (1)
(نسي) الضر الذي (كان يدعوا) الله إلى كشفه، وقيل معناه: نسي ربه الذي كان
يتضرع إليه (2)، و (ما) بمعنى " من "، كما في قوله: (وما خلق الذكر
والانثى) (3)، وقرئ: (ليضل) بفتح الياء (4) وضمها، يعني: أن نتيجة جعله لله
أندادا ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله، والنتيجة قد يكون غرضا في الفعل وقد
يكون غير غرض، (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحب النار) أمر في معنى
الخبر، كقوله: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (5) كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبول
ما أمرت به من الإيمان، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه مبالغة
في خذلانه وتخليته وشأنه.

(1) أي صاحب المال والغنى لا يستطيع أن يكتم غناه عن الآخرين لأنه يظهر في جميع أفعاله
وخصوصا في مشيته. والمياس: المتبختر المختال في مشيته. راجع مجمع الأمثال للميداني:
ج 1 ص 36.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 116.
(3) الليل: 3.
(4) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع العنوان في القراءات لابن خلف: ص 165.
(5) أخرجه البغدادي في تاريخه: ج 12 ص 136، وابن كثير في البداية والنهاية: ج 12 ص 54.
211

قرئ: (أمن هو قنت) بالتخفيف والهمزة للاستفهام (1)، وبالتشديد على
إدخال " أم " على " من " والتقدير: أمن هو قانت كغيره، ف (من) مبتدأ محذوف
الخبر لدلالة الكلام عليه، وهو جري ذكر الكافر قبله، وقوله بعده: (قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، وقيل: معناه: أهذا أفضل أم من هو قانت؟ أو:
أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر (2)؟ (آناء الليل) ساعاته (ساجدا وقآئما)
يسجد تارة للصلاة ويقوم أخرى، يريد صلاة الليل والقنوت في الوتر وهو دعاء
المصلي قائما، وفي الحديث: " أفضل الصلاة طول القنوت " (3). وأراد بالذين
يعلمون: العاملين من علماء الدين، كأنه جعل من لا يعمل بعلمه غير عالم، أو
يريد: لا يستوي القانتون وغيرهم كما لا يستوي العالمون والجاهلون.
وعن الصادق (عليه السلام): " نحن (الذين يعلمون)، وعدونا (الذين لا يعلمون)
وشيعتنا (أولوا الألبب) (4) ".
قوله: (في هذه الدنيا) يتعلق ب‍ (أحسنوا) لا ب‍ (حسنة)، والمعنى: الذين
أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة، وهي دخول الجنة، أي: حسنة لا
يحاط بكنهها، وقيل: يتعلق ب‍ (حسنة) أي: لهم على ذلك حسنة في هذه الدنيا
وهي الثناء الحسن والمدح والصحة والعافية والرزق الواسع (5) (وأرض الله
وسعة) معناه: لا عذر للمفرطين في الإحسان حتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكنون
منه في أوطانهم قيل لهم: فأرض الله واسعة، وبلاده كثيرة، فتحولوا إلى بلاد أخر،

(1) قرأه ابن كثير ونافع وحمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 561.
(2) حكاه الزجاج في معانيه: ج 4 ص 347.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه: ج 1 ص 520 ح 756.
(4) رواه في الكافي: ج 8 ص 735 ضمن ح 6 باسناده عن أبي بصير.
(5) قاله السدي ومقاتل. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 622.
212

واقتدوا بالأنبياء وخيار المؤمنين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا
إلى إحسانهم (إنما يوفى الصبرون أجرهم) ثوابهم على طاعتهم وصبرهم على
الشدائد (بغير حساب) لكثرته لا يمكن عده وحسابه. وعن ابن عباس: لا
يهتدي إليه حساب الحساب (1).
وعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا نشرت الدواوين
ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان " وتلا هذه
الآية (2).
(قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (11) وأمرت لان
أكون أول المسلمين (12) قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم
عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه ى
قل إن الخسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة ألا ذا لك
هو الخسران المبين (15) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل
ذلك يخوف الله به ى عباده يعباد فاتقون (16) والذين اجتنبوا الطغوت
أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم
أولوا الألبب (18) أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في
النار (19) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية
تجرى من تحتها الانهر وعد الله لا يخلف الله الميعاد (20))
أي: (أمرت) بإخلاص الدين لله (وأمرت) بذلك (لأن أكون أول

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 118.
(2) رواه العياشي في تفسيره كما في مجمع البيان: ج 8 ص 492.
213

المسلمين) أي: سابقهم ومقدمهم في الدنيا والآخرة، والمعنى: أن الإخلاص له
السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقا.
وكرر في قوله: (قل الله أعبد مخلصا له ديني) لأن الأول للإخبار بأنه مأمور
بالعبادة والإخلاص، والثاني: للإخبار بأنه يخص الله بعبادته مخلصا له دينه، ولذلك
قدم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأول، فالكلام أولا في الفعل نفسه، وثانيا
فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله: (فاعبدوا ما شئتم من دونه)،
(قل إن) الكاملين في الخسران هم (الذين خسروا أنفسهم) بأن قذفوها في
الجحيم (و) خسروا (أهليهم) الذين أعدوا لهم في جنة النعيم، ثم ذكر ان
خسرانهم بلغ الغاية في قوله: (ألا ذلك هو الخسران المبين) بأن صدر الجملة
بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرف الخسران ووصفه بالمبين.
(لهم من فوقهم ظلل) جمع ظلة وهي السترة العالية أي: أطباق من النار
(ومن تحتهم) أطباق وهي (ظلل) للآخرين، لأن النار أدراك (ذلك) الذي
وصف من العذاب (يخوف الله به عباده) ليتقوا عذابه بامتثال أوامره (يعباد
فاتقون) فقد ألزمتكم الحجة.
و (الطغوت) تطلق على الشيطان والشياطين لكونها مصدرا، والمراد بها
هنا الجمع، (أن يعبدوها) بدل من (الطغوت) وهو بدل الاشتمال، وأراد
بعباده: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا
لا غيرهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، أراد: أنهم نقاد في الدين، يميزون بين
الحسن والأحسن، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها وأقواها.
التقدير: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ) ه تخلصه من (النار)
فوضع الظاهر موضع المضمر، وقيل: إن الوقف على كلمة (العذاب) أي: أفهو
214

كمن وجبت له الجنة، ثم ابتدأ: (أفأنت تنقذ) (1). والمراد بكلمة " العذاب " قوله:
(لأملأن جهنم) الآية، ومعناه: أنك لا تقدر على إدخال الإسلام في قلوبهم قسرا.
(لهم غرف) أي: علالي، بعضها فوق بعض (وعد الله) مصدر مؤكد، لأن
قوله: (لهم غرف) في معنى: وعدهم الله ذلك.
(ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينبيع في الأرض ثم
يخرج به ى زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطما إن
في ذلك لذكرى لأولي الألبب (21) أفمن شرح الله صدره للاسلم
فهو على نور من ربه فويل للقسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في
ضلل مبين (22) الله نزل أحسن الحديث كتبا متشبها مثاني تقشعر
منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله
ذا لك هدى الله يهدى به ى من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد (23)
أفمن يتقى بوجهه ى سوء العذاب يوم القيمة وقيل للظلمين ذوقوا
ما كنتم تكسبون (24) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث
لا يشعرون (25))
(فسلكه) أي: فأدخل ذلك الماء (ينبيع) ينبع منها الماء (في الأرض)
مثل العيون والأنهار والقنى (زرعا مختلفا ألونه) أي: صنوفه من البر والشعير
والأرز ونحوها، وقيل: ألوانه من أخضر وأصفر وأبيض وأحمر (2) (ثم يهيج)
أي: يجف (ثم يجعله حطما) أي: رفاتا متفتتا (إن في ذلك) لتذكيرا (لأولي)
العقول السليمة في معرفة الصانع المحدث للعالم.

(1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 349 - 350.
(2) قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 75.
215

(أفمن) عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام
وقبله كمن لا لطف به، فهو حرج الصدر قاسي القلب، ونور الله لطفه، وهو نظير
(أمن هو قنت) في حذف الخبر في ذكر الله، أي: من أجل ذكر الله، أي: إذا ذكر
الله وآياته عندهم اشمأزوا وازدادت قلوبهم قسوة.
(كتبا) بدل من (أحسن الحديث) أو حال منه، (متشبها) هو مطلق في
مشابهة بعضه بعضا، فيتناول تشابه معانيه في الصحة والإحكام ومنفعة الأنام،
وتشابه ألفاظه في التناسب والتناصف في التخير والإصابة وتجارب النظم
والتأليف في الإعجاز (مثاني) جمع مثنى، بمعنى المردد والمكرر لما ثني من
قصصه وأحكامه ومواعظه، وقيل: لأنه مثنى في التلاوة فلا يمل (1)، كما جاء في
وصفه: " لا يتفه ولا يتشان " (2) " ولا يخلق على كثرة الرد " (3)، وإنما وصف
الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا
غير. ويجوز أن يكون " المثاني " منصوبا على التمييز من (متشبها) كما تقول:
رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانية، والفائدة في التكرير والتثنية
أن النفوس تنفر عن النصيحة والمواعظ، فما لم يكرر عليها عودا بعد بدء لم يرسخ
فيها (تقشعر) أي: تتقبض (منه) جلودهم تقبضا شديدا، يقال: اقشعر جلده من
الخوف: وقف شعره، ومعناه: أنهم إذا سمعوا القرآن وآيات الوعيد فيه أصابتهم
خشية شديدة، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وسعة مغفرته لانت جلودهم، وضمن

(1) قاله ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 123.
(2) وهو من حديث ابن مسعود في وصف القرآن. راجع النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 192 مادة
" تفه " أي: لا يصير حقيرا ولا ييبس فيغدو عديم الفائدة.
(3) وهو من حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف كتاب الله المروي في النهج: ص 219 خطبة
(156) ضبط صبحي الصالح.
216

" لان " معنى فعل متعد ب‍ " إلى "، فكأنه قال: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله، لينة
غير متقبضة، راجية غير خائفة، واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة، لأن
رحمته سبقت غضبه، فأصل أمره الرحمة والرأفة، فكأنه قال: إذا ذكروا الله -
ومبنى أمره على الرحمة والرأفة - استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة
لينا في جلودهم (ذلك) إشارة إلى الكتاب وهو (هدى الله) يوفق (من يشآء)
من عباده المتقين حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، أو: ذلك الكائن
من الخشية والرجاء هدى الله أي: أثر هداه وهو لطفه، فسماه: " هدى " لأنه حاصل
بالهدى، يهدي بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعني: من صحب أولئك ورآهم
خائفين وراجين اقتدى بسيرتهم (ومن يضلل الله) أي: من لم يؤثر فيه لطف الله
لقسوة قلبه (فما له من هاد) أي: مؤثر فيه.
(أفمن يتق بوجهه سوء العذاب) كمن أمن العذاب، فحذف الخبر، يقال:
اتقاه بترسه: استقبله فوقى بها نفسه إياه. والمعنى: أن الإنسان إذا لقي مخوفا
استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار
مغلولا يداه إلى عنقه لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف
بغيره وقاية له، وقيل: المراد بالوجه الجملة (1) (من حيث لا يشعرون) من الجهة
التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.
(فأذاقهم الله الخزي في الحيواة الدنيا ولعذاب الأخرة أكبر لو
كانوا يعلمون (26) ولقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كل مثل لعلهم
يتذكرون (27) قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28) ضرب الله
مثلا رجلا فيه شركآء متشكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا

(1) حكاه الزمخشري: في الكشاف: ج 4 ص 125.
217

الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29) إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم
إنكم يوم القيمة عند ربكم تختصمون (31))
(قرءانا عربيا) حال مؤكدة كما يقال: جاءني زيد رجلا صالحا، أو ينتصب
على المدح (غير ذي عوج) أي: مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف، والعوج
مخصوص بالمعاني دون الأعيان
أي: رجلا مملوكا قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع، كل واحد منهم
يدعي أنه عبده فيتعاورونه في خدمتهم (ورجلا) آخر قد سلم لمالك واحد
وخلص له، فهو معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد: أي هذين العبدين أحسن
حالا وأصلح أمرا. والمراد بذلك تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه على
قضية مذهبه من أن يدعي كل واحد منهم عبوديته ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا،
ويبقى هو متحيرا ضائعا لا يدري أيهم يعبد وعلى أيهم يعتمد، وحال من لم يثبت
إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وأسخطه، و (فيه) تعلق
ب‍ (شركآء)، كأنه قال: اشتركوا فيه، والتشاكس والتشاخس: الاختلاف، يقال:
تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه، والسالم: الخالص، وقرئ: (سلما) و
" سلما " (1) وهما مصدران، يقال: سلم سلما وسلما وسلامة، والمعنى: ذا سلامة
لرجل، أي: ذا خلوص له من الشركة من قولهم: سلمت له الضيعة.
(هل يستويان مثلا) أي: صفة منصوب على التمييز، والمعنى: هل يستوي
صفتاهما وحالاهما (الحمد لله) أي: يجب أن يكون الحمد موجها إلى الله الذي
لا شريك له وحده دون كل معبود سواه (بل أكثرهم لا يعلمون) فيشركون به غيره.

(1) وهي قراءة ابن كثير والبصريان (أبي عمرو ويعقوب) راجع التذكرة في القراءات لابن
غلبون: ج 2 ص 647.
218

أي: إنك وإياهم وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، لأن ما هو كائن فكأن
قد كان. (ثم إنكم) أي: إنك وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب
(تختصمون) فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت فكذبوا.
وعن عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من الدهر ونحن نرى أن هذه الآية فينا
وفي أهل الكتاب، وقلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وكتابنا واحد، حتى رأيت
بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها فينا نزلت (1).
(فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه أليس في
جهنم مثوى للكفرين (32) والذي جآء بالصدق وصدق به ى أولئك هم
المتقون (33) لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين (34)
ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا
يعملون (35) أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ى ومن
يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله
بعزيز ذي انتقام (37) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن
الله قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن
كشفت ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكت رحمته ى قل حسبي
الله عليه يتوكل المتوكلون (38) قل يقوم اعملوا على مكانتكم إنى
عمل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب
مقيم (40))
(كذب على الله) بزعمه أن له ولدا وشريكا (وكذب بالصدق) و (2)

(1) رواه الحاكم في المستدرك: ج 4 ص 572.
(2) ليس في نسخة: الواو.
219

بالقرآن والتوحيد، ثم هدد من هذه صفته بأن في جهنم مثواه، والاستفهام للتقرير.
(والذي جآء بالصدق) وصدق به هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء بالحق وامن به وأراد
به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه ومن تبعه في قوله: (ولقد ءاتينا موسى
الكتب لعلهم يهتدون) (1) ولذلك قال: (أولئك هم المتقون)، إلا أن هذا في
الصفة وذاك في الاسم ويجوز أن يريد الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهم
الرسول والذين صدقوا به من المؤمنين.
و (أسوأ الذي عملوا) هو الشرك والمعاصي التي عملوها قبل إيمانهم،
و (أحسن الذي كانوا يعملون) هو المفروض والمندوب إليه من أعمالهم، فإن
المباح يوصف بالحسن أيضا.
(أليس الله بكاف عبده) وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وقرئ: " عباده " (2) وهم
الأنبياء. وقرئ: (كشفت ضره) و (ممسكت رحمته) بالتنوين (3) على
الأصل، وبالإضافة على التخفيف، وأنثهن بعد التذكير في قوله: (ويخوفونك
بالذين من دونه) ليضعفهن ويعجزهن، زيادة تضعيف وتعجيز عم طالبهم به من
كشف الضر وإمساك الرحمة، لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة، كما أن الذكورة
من باب الشدة والصلابة، فكأنه قال: الإناث اللاتي هن اللات والعزى ومناة
أضعف مما تدعونه لهن وأعجز.
(اعملوا على مكانتكم) على حالتكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة
التي تمكنتم منها، والمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت عن العين للمعنى كما

(1) المؤمنون: 49.
(2) قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 648.
(3) قرأه أبو عمرو وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 562.
220

يستعار: " هنا " و " حيث " للزمان وهما للمكان، وحق الكلام: فإني عامل على
مكانتي، فحذف للاختصار. و (يخزيه) صفة ل‍ (عذاب) أي: عذاب مخز له،
وهو يوم بدر (ويحل عليه عذاب مقيم) دائم يوم القيامة.
(إنآ أنزلنا عليك الكتب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ى ومن
ضل فإنما يضل عليها ومآ أنت عليهم بوكيل (41) الله يتوفى الأنفس
حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت
ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لأيت لقوم يتفكرون (42)
أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيا ولا
يعقلون (43) قل لله الشفعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه
ترجعون (44) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون
بالأخرة وإذا ذكر الذين من دونه ى إذا هم يستبشرون (45))
(الكتب) القرآن (للناس) لجميع الناس ولأجل حاجتهم إليه.
(الله يتوفى الأنفس حين موتها) بأن يسلبها ما هي به حية حساسة دراكة من
صحة أجزائها وسلامتها (و) يتوفى الأنفس (التي لم تمت في منامها) أي:
يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن
الموتى كذلك (فيمسك) الأنفس (التي قضى عليها الموت) الحقيقي، أي:
لا يردها في وقتها حية (ويرسل الأخرى) النائمة (إلى أجل مسمى) إلى وقت
ضربه وسماه لموتها.
(أم) منقطعة، أي: بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار (من دون الله) من
دون إذنه حيث قالوا: (هؤلاء شفعؤنا عند الله) (1) ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه

(1) يونس: 18.
221

(أولو كانوا) معناه: أيشفعون ولو كانوا (لا يملكون شيئا) ولا عقل لهم؟!
(قل لله الشفعة جميعا) فلا يملكها أحد إلا بتمليكه.
(وإذا ذكر الله وحده) يدور المعنى على " وحده " والمعنى: إذا أفرد الله عز
اسمه بالذكر ووحد اشمأزوا، أي: نفروا وتقبضوا، وإذا ذكر معه آلهتهم استبشروا،
فقابل الاشمئزاز وهو أن يمتلئ القلب غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في الوجه
بالاستبشار وهو أن يمتلئ القلب سرورا حتى تنبسط له بشرة الوجه، والعامل في
(إذا ذكر) المفاجأة، وتقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجؤوا وقت الاستبشار.
(قل اللهم فاطر السموات والأرض علم الغيب والشهدة أنت
تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46) ولو أن للذين ظلموا
ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ى من سوء العذاب يوم القيمة
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47) وبدا لهم سيات ما
كسبوا وحاق بهم ما كانوا به ى يستهزءون (48) فإذا مس الانسن ضر
دعانا ثم إذا خولنه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم بل هي فتنة
ولكن أكثرهم لا يعلمون (49) قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم
ما كانوا يكسبون (50) فأصابهم سيات ما كسبوا والذين ظلموا من
هؤلاء سيصيبهم سيات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51))
أمر الله سبحانه نبيه (عليه السلام) أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقونه، فقال له: ادع
بهذا الدعاء، أي: أنت تقدر على الحكم بيني وبينهم، وفيه بشارة له بالنصر والظفر،
لأنه إنما أمره به للإجابة لا محال.
وعن سعيد بن المسيب: إني لأعرف موضع آية لم يقرأها أحد قط فسأل الله
تعالى شيئا إلا أعطاه وقرأ الآية (1).

(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 130.
222

(وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) وعيد لا يحاط بكنهه، ونظيره في
الوعد قوله: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (1).
وعن محمد بن المنكدر أنه جزع عند موته، فقيل له في ذلك فقال: أخشى آية
من كتاب الله وتلاها، ثم قال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسب.
وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء (2).
(وبدا لهم سيئات) أعمالهم التي كسبوها، أو: سيئات كسبهم حين تعرض
صحائفهم وكانت خافية عليهم كقوله: (أحصه الله ونسوه) (3)، أو: جزاء
سيئاتهم من أنواع العذاب سماها سيئات كما قال: (جزآء سيئة سيئة مثلها) (4)،
(وحاق بهم) أحاط بهم ونزل بهم جزاء استهزائهم، يقال: خوله شيئا إذا أعطاه
على غير جزاء.
قال: (إنمآ أوتيته على علم) أي: على علم مني بأني أعطيته لما في من
الفضل والاستحقاق، أو: على علم من الله باستحقاقي فلذلك آتاني ما آتاني، أو:
على علم مني بوجوه الكسب كما قال قارون: (على علم عندي) (5) وذكر
الضمير العائد إلى (نعمة) في (أوتيته) لأنه أراد شيئا من النعمة أو قسما منها،
ويمكن أن يكون " ما " في (إنمآ) موصولة لا كافة، فيرجع الضمير إليه (بل هي
فتنة) إنكار لذلك القول، أي: ليس كما تقول بل هي فتنة أي: ابتلاء واختبار له
أيشكر أم يكفر؛ ذكر الضمير أولا على المعنى، وأنث هنا على اللفظ، أو: لأن
الخبر مؤنث.

(1) السجدة: 17.
(2) أنظر الكشاف: ج 4 ص 133.
(3) المجادلة: 6.
(4) الشورى: 40.
(5) القصص: 78.
223

والضمير في (قالها) راجع إلى قوله: (إنمآ أوتيته على علم) لأنها كلمة
أو جملة من القول، و (الذين من قبلهم) هم قارون وقومه حيث قال: أوتيته
على علم عندي وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها ويجوز أن يكون فيمن مضى
من الأمم قوم قائلون مثلها فصارت وبالا عليهم وأصابهم جزاء سيئاتهم.
(أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن في ذا لك
لأيت لقوم يؤمنون (52) قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا
تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور
الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم
لا تنصرون (54) واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن
يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون (55) أن تقول نفس يحسرتى
على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن السخرين (56) أو تقول لو
أن الله هداني لكنت من المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن
لي كرة فأكون من المحسنين (58) بلى قد جآءتك ءايتى فكذبت بها
واستكبرت وكنت من الكفرين (59) ويوم القيمة ترى الذين كذبوا
على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60)).
(يغفر الذنوب جميعا) للتائب، فإن مات الموحد من غير توبة فهو في مشيئة
الله إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله كما قال: (ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء) (1). (وأنيبوا إلى ربكم) ارجعوا إليه من الشرك والمعاصي (وأسلموا
له) أي: انقادوا له بالطاعة، وقيل: اجعلوا أنفسكم خالصة له (2). (أحسن مآ أنزل
إليكم) هو أن يأتي المأمور به ويترك المنهي عنه.

(1) النساء: 48 و 116.
(2) قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 85.
224

(أن تقول نفس) أي: كراهة أن تقول نفس، وإنما نكرت لأن المراد بها بعض
الأنفس، وهي نفس الكافر أو نفس متميزة من الأنفس. وقرئ: " يا حسرتاي " (1)
على الجمع بين العوض والمعوض عنه، والجنب: الجانب، قالوا: فرطت في جنبه
وفي جانبه أي: في حقه، قال:
أما تتقين الله في جنب وامق * له كبد حرى عليك تقطع (2)
وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل فقد أثبته فيه،
قالوا: لمكانك فعلت كذا، أو: من جهتك فعلت، أي: لأجلك، فالتقدير: فرطت في
ذات الله، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، سواء قيل: " في جنب الله " أو " في
الله " فإن المعنى: فرطت في طاعة الله وعبادة الله ونحوهما، و " ما " في (ما
فرطت) مصدرية، (وإن كنت لمن السخرين) " إن " مخففة من الثقيلة، قال
قتادة: لم يكفه أن ضيع في طاعة الله حتى سخر من أهلها (3) والجملة في موضع
الحال، فكأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي: فرطت في حال سخريتي.
(أو تقول لو أن الله هدنى) إنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدي
عليه، كما حكى الله تعالى عنهم تعللهم بإغواء الرؤساء والشياطين، وقوله:
(بلى قد جآءتك ءايتى) رد عليه من الله عز اسمه، والمعنى: بلى قد هديت
بالقرآن فكذبت به واستكبرت عن قبوله وكفرت به، وإنما صح وقوع " بلى " جوابا
عن غير المنفي لأن معنى قوله: (لو أن الله هدنى) ما هديت. (كذبوا على الله)
وصفوه بما لا يجوز عليه، فأضافوا إليه الولد والشريك وقالوا: (هؤلآء شفعؤنا

(1) وهي قراءة أبي جعفر. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 131.
(2) لجميل بثينة. من قصيدة يستعطف بها صاحبته. راجع ديوان جميل: ص 52.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 138.
225

عند الله) (1) و (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) (2) والله أمرنا بهذا، ولا يبعد عنهم
من ينسب فعل القبائح إلى الله ويثبت معه قدماء.
وعن الباقر (عليه السلام): كل إمام انتحل إمامة ليست له من الله فهو من أهل هذه
الآية، قيل: وإن كان علويا فاطميا؟ قال: وإن كان (3).
وعن الصادق (عليه السلام): من حدث عنا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما، فإن صدق
علينا فإنما يصدق على الله وعلى رسوله، وإن كذب علينا فإنما يكذب على الله
وعلى رسوله، لأنا إذا حدثنا لا نقول: قال فلان وقال فلان، وإنما نقول: قال الله
وقال رسوله ثم تلا هذه الآية (4).
(وجوههم مسودة) في موضع الحال إن كان (ترى) من رؤية البصر،
ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب.
(وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم
يحزنون (61) الله خلق كل شىء وهو على كل شىء وكيل (62) له
مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بايت الله أولئك هم
الخسرون (63) قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجهلون (64) ولقد
أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لبن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن
من الخسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشكرين (66) وما قدروا
الله حق قدره ى والارض جميعا قبضته يوم القيمة والسموات
مطويت بيمينه ى سبحنه وتعلى عما يشركون (67))

(1) يونس: 18.
(2) الزخرف: 20.
(3) رواه الصدوق في ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص 254 ح 1، والكليني في الكافي:
ج 1 ص 372 ح 1 عن سورة بن كليب.
(4) رواه العياشي في تفسيره كما في البرهان: ج 4 ص 82.
226

وقرئ: " بمفازاتهم " على الجمع (1)، والمفازة والفوز واحد، ومن جمع فلأن
المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها. وقرئ: " ينجي " (2) و (ينجى)، وتفسير
المفازة قوله: (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون)، أو: أراد بسبب منجاتهم
وهو العمل الصالح، فقوله: (لا يمسهم) على التفسير الأول لا محل له لأنه كلام
مستأنف، وعلى الثاني محله نصب على الحال.
(له مقاليد السموت والأرض) أي: هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب
الكناية، لأن حافظ الخزائن هو الذي يملك مقاليدها، والمقاليد: المفاتيح لا واحد
لها من لفظها (والذين كفروا) متصل بقوله: (وينجي الله الذين اتقوا)،
واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء والمهيمن عليها، فلا يخفى عليه ما يستحق
على الأعمال من الجزاء، (والذين) جحدوا أن يكون الأمر كذلك (أولئك هم
الخسرون).
(أفغير الله) منصوب ب‍ (أعبد)، و (تأمرونى) اعتراض، فالمعنى: أفغير
الله أعبد بأمركم؟ وذلك حين قال له المشركون: استسلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك،
أو: منصوب بما يدل عليه جملة قوله: (تأمرونى أعبد) لأنه في معنى " تعبدونني
وتقولون لي: اعبد " فكذلك: أفغير الله تأمرونني أن أعبد، وقرئ: (تأمرونى)
بالتشديد للإدغام، وجاز الإدغام لأن قبل النون المدغمة حرف لين وهو الواو،
و " تأمرونني " بنونين (3) على الأصل، و " تأمروني " بحذف النون الثانية (4)
لأن الأولى علامة الرفع، وفتح الياء وإسكانها معا سائغ.

(1) قرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 563.
(2) وهي قراءة يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 648.
(3) قرأه ابن عامر. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 649.
(4) وهي قراءة نافع وحده. راجع المصدر السابق.
227

(ولقد أوحى إليك) لئن أشركت (وإلى الذين من قبلك) مثله، أو: أوحي
إليك وإلى كل واحد منهم (لئن أشركت) كقوله: وكسانا حلة أي: كل واحد منا،
واللام الأولى لتوطئة القسم، والثانية لام الجواب، وهذا الكلام إنما أتى على سبيل
الفرض، والتقدير: فإن رسل الله منزهون عن الشرك، والمحال يصح فرضه لغرض
فكيف ما هو دونه؟
(بل الله فاعبد) رد لما أمروه به من استسلام بعض آلهتهم كأنه قال: لا تعبد
ما أمروك بعبادته، بل إن كنت قد تثبت فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم
المفعول عوضا عنه.
لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق
تقديره عظمه حق تعظيمه، قال سبحانه: (وما قدروا الله حق قدره) بمعنى: وما
عظموه كنه تعظيمه اذ عبدوا غيره وأمروا نبيه بعبادة غيره، ثم نبههم على عظمته
على طريق التخييل فقال: (والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسموت
مطويت بيمينه) وهو تصوير لجلالته وعظمة شأنه لا غير، من غير أن تصور
قبضته بهن، ويمين لا حقيقة ولا مجازا وأكد " الأرض " بقوله: (جميعا) قبل
مجيء الخبر، ليعلم أن الخبر لا يقع عن أرض واحدة، والمعنى: والأرضون جميعا
ذوات قبضة يقبضهن قبضة واحدة، أي: أنها بأجمعها مع عظمها لا تبلغ إلا قبضة
واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة. قوله: (مطويت) من الطي
الذي هو ضد النشر، كما قال: (يوم نطوى السمآء كطى السجل للكتب) (1)
والعادة أن يطوى السجل باليمين، وقيل: قبضته: ملكه بلا منازع، وبيمينه:

(1) الأنبياء: 104.
228

بقدرته (1)، وقيل: مطويات بيمينه: مفنيات بقسمه (2) وهذا قول مرغوب عنه.
(ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا
من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68) وأشرقت
الأرض بنور ربها ووضع الكتب وجاىء بالنبيين والشهدآء وقضى
بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم
بما يفعلون (70) وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها
فتحت أبوا بها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم
ءايت ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة
العذاب على الكفرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خلدين فيها
فبئس مثوى المتكبرين (72) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا
حتى إذا جآءوها وفتحت أبوا بها وقال لهم خزنتها سلم عليكم طبتم
فادخلوها خلدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا
الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العملين (74) وترى
الملئكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم
بالحق وقيل الحمد لله رب العلمين (75))
(صعق): مات بحال هائلة (إلا من شآء الله) هم الملائكة الأربعة، وقيل:
هم الشهداء (3) (أخرى) أي: نفخة أخرى، ويحتمل النصب على قراءة من قرأ:
" نفخة واحدة "، وحذفت " نفخة " لدلالة " أخرى " عليها، ولكونها معلومة بذكرها
في غير مكان. (ينظرون) يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا عراه

(1 و 2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 144.
(3) قاله سعيد بن جبير. راجع التبيان: ج 9 ص 46.
229

خطب، وقيل: ينتظرون ما يفعل بهم (1). ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف
والجمود في مكان لتحيرهم.
قد استعار سبحانه النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من كتابه، وهذا
من ذلك، والمعنى: (وأشرقت الأرض) بما يقيمه فيها من الحق والعدل،
و (الكتب): صحائف الأعمال، وهو اسم الجنس.
(زمرا) أفواجا متفرقة بعضها في إثر بعض (قالوا بلى) أتانا الرسل وتلوا
علينا الآيات والحجج، ولكن وجبت علينا (كلمة) ربنا: (لأملأن جهنم) (2)
بسوء أعمالنا. (مثوى المتكبرين) فاعل (بئس) واللام للجنس، والمخصوص
بالذم محذوف وهو " جهنم ". (حتى) هي التي يحكى بعدها الجمل، والجملة
المحكية التي بعدها هي الشرطية، إلا أن جزاءها محذوف، وإنما حذف لأنه في
صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وموضعه بعد
قوله: (خلدين)، وقيل: (حتى إذا جآءوها وفتحت أبوبها) أي: مع فتح
أبوابها (3)، والمراد بسوق أهل النار طردهم إليها بعنف وإهانة، والمراد بسوق أهل
الجنة سوق مراكبهم وحثها سراعا بهم إلى منزل الكرامة والرضوان، وقيل: إن
أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فيقدم فتحها بدليل
قوله: (مفتحة لهم الأبوب) فلذلك جيء بالواو، كأنه قيل: وقد فتحت أبوابها (4).
(سلم عليكم) دعاء لهم بالسلامة والخلود (طبتم) بالعمل الصالح في الدنيا،
وطابت أعمالكم وزكت (فادخلوها) جعل دخولهم الجنة مسببا عن الطيب

(1) قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 87.
(2) الأعراف: 18، هود: 119.
(3) حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 364.
(4) قاله النحاس في إعراب القرآن: ج 4 ص 23، والآية من سورة ص: 50.
230

والزكاة، لأنها دار الطيبين، طهرها الله من كل دنس، فإنما يدخلها من اتصف
بصفتها، وما أبعد أحوالنا عن اكتساب هذه الصفة إلا أن يتغمدنا الله بفضله ورحمته
(خلدين) مقدرين الخلود.
والأرض عبارة عن المكان الذي اتخذوه مقرا ومبوءا، وأورثناها: ملكناها،
وجعلنا ملوكها وأطلق لنا التصرف فيها؛ تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يشاء
مما يرثه.
(حآفين) أي: طائفين (من حول العرش) محدقين بها يذكرون الله بصفاته
العلى (وقضى) بين الخلائق بالعدل، وقيل: بين الأنبياء والأمم (1)، وقيل: بين
أهل الجنة والنار (2) (وقيل الحمد لله) على قضائه بيننا بالحق، وقيل: إنه من
كلام الله عز اسمه (3)، وقد قال من (4) ابتداء الخلق: (الحمد لله الذي خلق
السموت والأرض) (5) تعليما لخلقه في ابتداء كل أمر بالحمد وختمه بالحمد.
* * *

(1) قاله الكلبي. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 139.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 364.
(3) قاله مقاتل. راجع تفسير السمرقندي: ج 3 ص 159.
(4) في نسخة: " في " بدل " من ".
(5) الأنعام: 1.
231

سورة غافر (1)
مكية إلا آيتين (2)، خمس وثمانون آية كوفي، اثنتان بصري، عد الكوفي
(حم تنزيل الكتب) (3)، (يسبحون) (4)، (كنتم تشركون) (5)، وعد البصري
(كظمين) (6).
وعن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحواميم ديباج القرآن " (7)
وفي حديث أبي: " من قرأ حم المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا مؤمن
إلا صلوا عليه واستغفروا له " (8).

(1) في بعض النسخ: سورة المؤمن.
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 52: مكية في قول مجاهد وقتادة، ليس فيها ناسخ
ولا منسوخ، وقال الحسن: هي مكية إلا آية واحدة وهي قوله: (وسبح بحمد ربك بالعشي
والإبكار) يعني بذلك صلاة الفجر والمغرب وقد ثبت أن فرض الصلاة كان بالمدينة. وهي
خمس وثمانون آية في الكوفي وأربع في المدنيين واثنتان في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 148: وهي خمس وثمانون آية، وقيل: ثنتان وثمانون، نزلت
بعد الزمر.
(3) الآية: 1 و 2.
(4) الآية: 7.
(5) الآية: 73.
(6) الآية: 18.
(7) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 269 وعزاه إلى أبي الشيخ وأبي نعيم
والديلمي. والحاكم في مستدركه: ج 2 ص 437.
(8) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 183 مرسلا.
233

وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ حم المؤمن في كل ليلة ثلاث مرات غفر الله له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر، وألزمه كلمة التقوى، وجعل الآخرة خيرا له من الدنيا " (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
(حم (1) تنزيل الكتب من الله العزيز العليم (2) غافر الذنب
وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير (3) ما
يجدل في ءايت الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلد (4)
كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم
ليأخذوه وجدلوا بالبطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان
عقاب (5))
قرئ بإمالة الألف من " حا " وبالتفخيم (2)، و (التوب) والتوب والأوب
أخوات في معنى الرجوع، (الطول) الإنعام الذي يطول لبثه على صاحبه، وطال
عليه وتطول أي: تفضل (غافر الذنب وقابل التوب) معرفتان وإضافتهما حقيقة؛
لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين في الحال والاستقبال بل أريد ثبوت ذلك ودوامه
فهما صفتان (3). وأما (شديد العقاب) فتقديره: شديد عقابه، وقيل: إنه بدل (4)،
والوجه أن يكون صفة وإنما حذف الألف واللام من (شديد) ليوافق ما قبله وما
بعده لفظا، وذكر بعد (غافر الذنب) لئلا يعول المكلف على الغفران بل يكون
مرجأ بين الرجاء والخوف (ذي الطول) ذي النعم السابغة على عباده دينا ودنيا.

(1) ثواب الأعمال للصدوق: ص 140، وليس فيه: " ثلاث مرات ".
(2) قرأ أهل الكوفة إلا حفصا وابن ذكوان بالإمالة، والباقون بالفتح وتفخيمه من غير إمالة.
راجع التبيان: ج 9 ص 53.
(3) وبه قال الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 5.
(4) وهو قول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 366.
234

و (ما يجادل) أي: ما يخاصم في دفع حجج الله إلا الكفار (فلا يغررك
تقلبهم) بالتجارات والمكاسب (في البلاد) فإن مصير ذلك إلى الزوال والنفاد،
فلا يفوتون الله على حال.
ثم ضرب سبحانه لتكذيبهم بالرسل وجدالهم بالباطل مثلا ما كان من نحو
ذلك من الأمم الماضية فقال: (كذبت قبلهم قوم نوح) رسولهم (والأحزاب)
الذين تحزبوا على أنبيائهم وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم (وهمت
كل أمة) من هذه الأمم (برسولهم ليأخذوه) ليتمكنوا من قتله وإهلاكه أو
تعذيبه، ويقال للأسير: أخيذ (فأخذتهم) أي: قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على
إرادة أخذه أن أخذتهم (فكيف كان عقاب) هذا تقرير فيه معنى التعجب.
(وكذا لك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحب
النار (6) الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم
ويؤمنون به ى ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة
وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7) ربنا
وأدخلهم جنت عدن التي وعدتهم ومن صلح من ءابآبهم وأزواجهم
وذريتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8) وقهم السيات ومن تق
السيات يومئذ فقد رحمته وذا لك هو الفوز العظيم (9) إن الذين كفروا
ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمن
فتكفرون (10) قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا
فهل إلى خروج من سبيل (11) ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن
يشرك به ى تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير (12))
(أنهم أصحب النار) في محل الرفع بدل من (كلمت ربك)، أي: ومثل
235

ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار، والمعنى: كما وجب
إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كذلك وجب إهلاكهم في الآخرة بعذاب
النار، أو في محل النصب على حذف لام التعليل وإيصال الفعل، و (الذين كفروا)
كفار مكة أي: كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء، لأن علة
واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار، وقرئ: " كلمات " على الجمع (1).
ثم ذكر سبحانه بعد ذكر حال الكفار حال المؤمنين الأبرار وأن الملائكة
المقربين يمدونهم بالاستغفار فقال: (الذين يحملون العرش) على عواتقهم
امتثالا لأمر الله (ومن) حول العرش من الملائكة المطيفين به وهم الكروبيون
وسادة الملائكة (يسبحون بحمد ربهم) وينزهونه عما يصفه به هؤلاء
المجادلون، أو: يسبحونه بالتسبيح المعهود، أي يقولون: (ربنا) وهذا المضمر (2)
في محل الرفع بيانا ل‍ (يستغفرون) أو نصب حالا، (وسعت كل شىء رحمة
وعلما) الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل: وسع كل
شئ رحمتك وعلمك، فأسند الفعل إلى صاحبهما وأخرجا منصوبين على التمييز
للإغراق في وصفه بالرحمة، كأن ذاته سبحانه رحمة وعلم واسعان كل شيء
(فاغفر للذين) علمت منهم التوبة واتباع (سبيلك) وسبيل الله: الحق الذي دعا
عباده إليه، وفي هذا دلالة على أن قبول التوبة وإسقاط العقاب عندها تفضل من
الله تعالى، إذ لو كان واجبا لما احتيج فيه إلى الدعاء والسؤال.
(وقهم السيئات) أي: العقوبات، سماها سيئات اتساعا، أو: جزاء السيئات
فحذف المضاف.

(1) قرأه نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 567.
(2) في نسخة: " الضمير ".
236

(إن الذين كفروا ينادون) يوم القيامة فيقال لهم: (لمقت الله أكبر من
مقتكم) والتقدير: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم، فاستغنى بذكرها
مرة، و (إذ تدعون) منصوب بالمقت الأول، والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة:
كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى
الإيمان فتأبون وتختارون عليه الكفر، أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار، إذا
أوقعتكم فيها باتباعكم هواهن، وقيل: معناه: لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت
بعضكم لبعض، و (إذ تدعون) تعليل (1)، والمقت أشد البغض، فوضع في موضع
أشد الإنكار.
(اثنتين) أي: إماتتين وإحياءتين، أو: موتين وحياتين أراد بالإماتتين:
خلقهم أمواتا أولا وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءتين: الإحياءة الأولى
وإحياءة البعث، وقيل: الإماتتان هما: التي في الدنيا بعد الحياة والتي في القبر قبل
البعث، والإحياءتان هما: التي في القبر للمساءلة والتي في البعث (2) (فاعترفنا
بذنوبنا) التي اقترفناها في الدنيا (فهل إلى خروج) أي: إلى نوع من الخروج
(من سبيل) قط، أو: اليأس حاصل دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه. (ذلكم)
أي: ذلكم الذي أنتم فيه وأن لا سبيل لكم إلى الخروج بوجه من الوجوه بسبب
أنكم كفرتم بالتوحيد وآمنتم بالإشراك (فالحكم لله) حيث حكم عليكم
بعذاب الأبد.
(هو الذي يريكم ءايته ى وينزل لكم من السمآء رزقا وما يتذكر
إلا من ينيب (13) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكفرون (14)

(1) حكاه ابن عيسى كما في تفسير الماوردي: ج 5 ص 145.
(2) قاله السدي. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 45.
237

رفيع الدرجت ذو العرش يلقى الروح من أمره ى على من يشآء من
عباده ى لينذر يوم التلاق (15) يوم هم برزون لا يخفى على الله منهم
شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16) اليوم تجزى كل نفس
بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17) وأنذرهم يوم
الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كظمين ما للظلمين من حميم ولا
شفيع يطاع (18) يعلم خآئنة الأعين وما تخفي الصدور (19) والله
يقضى بالحق والذين يدعون من دونه ى لا يقضون بشىء إن الله هو
السميع البصير (20))
(آياته) أي: مصنوعاته الدالة على كمال قدرته وتوحيده (وما يتذكر) وما
يتفكر في حقيقتها ولا يتعظ بها (إلا من ينيب) أي: يرجع إلى الله ويقبل إلى
طاعته، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه. ثم قال لمن ينيب: (فادعوا الله)
أي: اعبدوه (مخلصين له الدين) من الشرك (ولو كره) ذلك أعداؤكم الكفار.
(رفيع الدرجت ذو العرش يلقى الروح) ثلاثة أخبار لقوله: (هو) مترتبة
على قوله: (الذي يريكم)، أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفا
وتنكيرا. و (رفيع الدرجت) مثل قوله: (ذي المعارج) (1) وهي مصاعد
الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وهي دليل على عزته وملكوته، وعن سعيد بن جبير:
سماء فوق سماء والعرش فوقهن (2)، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أنبياءه
وأولياءه في الجنة (3)، وقيل: هو عبارة عن رفعة شأنه وعلو سلطانه، كما أن ذات

(1) المعارج: 3.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 156.
(3) قاله يحيى بن سلام. راجع تفسير القرطبي: ج 15 ص 299.
238

العرش عبارة عن ملكه (1) (يلقى الروح) الذي هو سبب الحياة للقلب (من
أمره) يريد الوحي الذي هو أمر بالخير، وقيل: إن الروح جبرائيل (2) (لينذر)
الله أو الملقي عليه وهو الرسول أو الروح، وقرئ: " لتنذر " بالتاء (3) لأن الروح
مؤنث، أو: على خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (يوم التلاق) يوم القيامة لأن الخلائق
تلتقي فيه، أو: يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والأولون والآخرون.
والمعنى: أنهم كانوا يظنون إذا استتروا أن الله لا يراهم فهم اليوم صائرون من
البروز إلى حال لا يتوهمون ذلك (لمن الملك اليوم لله الوحد القهار) حكاية لما
يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به، أي: ينادي مناد: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه
أهل الحشر: لله الواحد القهار، أو يكون المنادي هو المجيب. ولما قروا أن الملك لله
وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك، وهي: أن (كل نفس) تجزى (بما كسبت)
وأن (لا ظلم) من أحد على أحد، ولا ينقص من ثواب أحد، ولا يزاد في عقاب
أحد، وأن الحساب لا يبطئ لأنه سبحانه لا يشغله حساب عن حساب.
و (الآزفة): الدانية وهي القيامة، لأن كل ما هو آت قريب دان، و
(كظمين) نصب على الحال من أصحاب القلوب، لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى
حناجرهم كاظمين عليها، ويجوز أن يكون حالا من (القلوب) وأن القلوب
كاظمة على كرب وغم فيها مع بلوغها الحناجر، ولما وصفها بالكظم الذي هو من
أوصاف العقلاء جمع " كاظم " جمع سلامة، و (يطاع) مجاز في الشفيع، لأن
الطاعة لا تكون إلا لمن فوقك.

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 156.
(2) قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 148.
(3) قرأه رويس. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 651.
239

والخائنة: مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، أو: صفة للنظرة،
والمراد: استراق النظر إلى ما لا يحل، وقوله: (يعلم خآئنة الأعين) خبر من
أخبار (هو) في قوله: (هو الذي يريكم) مثل: (يلقى الروح) ولكن قد علل
سبحانه (يلقى الروح) بقوله: (لينذر يوم التلاق) ثم استطرد ذكر أحوال يوم
التلاق إلى قوله: (ولا شفيع يطاع) فبعد لذلك عن أخواته.
(والله يقضى بالحق) لاستغنائه عن الظلم (والذين يدعون) قرئ
بالتاء (1) والياء يعني آلهتهم (لا يقضون بشىء) وهذا تهكم بهم، لأن ما لا يوصف
بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي.
(أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين كانوا من
قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم
وما كان لهم من الله من واق (21) ذا لك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم
بالبينت فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب (22) ولقد أرسلنا
موسى بايتنا وسلطن مبين (23) إلى فرعون وهمن وقرون فقالوا
سحر كذاب (24) فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين
ءامنوا معه واستحيوا نسآءهم وما كيد الكفرين إلا في ضلل (25)
وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم
أو أن يظهر في الأرض الفساد (26) وقال موسى إنى عذت بربى
وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (27))
(هم) في (كانوا هم) فصل، والفصل لا يقع إلا بين معرفتين، فالوجه هنا أن
(أشد منهم) ضارع المعرفة في أنه لا يدخله الألف واللام فأجري مجراه،

(1) قرأه نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 568.
240

وقرئ: " أشد منكم قوة " (1)، والمراد بالآثار: حصونهم وقلاعهم وعدودهم مما
يوصف بالشدة.
(فقالوا) هذا (سحر كذاب) فسموا السلطان المبين سحرا وكذبا.
(بالحق) أي: بالدين الحق، أو بالنبوة (قالوا اقتلوا) عن ابن عباس: أي أعيدوا
عليهم القتل كالذي كان أولا (2) يريد أن هذا قتل غير القتل الأول (في ضلل)
أي: ضياع وذهاب لم يجد عليهم.
(وليدع ربه) فيه دلالة على خوف فرعون من موسى (عليه السلام) ومن دعوته ربه،
وأن قوله: (ذرونى أقتل موسى) تمويه منه على قومه، وإيهام أنهم كانوا هم
المشيرين عليه بأن لا يقتله، وما كان يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من الفزع،
وقرئ: " وأن يظهر " بالواو وفتح الياء " الفساد " بالرفع (3)، والمعنى: إني أخاف
فساد دينكم ودنياكم معا.
(وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمنه أتقتلون رجلا أن
يقول ربى الله وقد جآءكم بالبينت من ربكم وإن يك كذبا فعليه كذبه
وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدى من هو
مسرف كذاب (28) يقوم لكم الملك اليوم ظهرين في الأرض فمن
ينصرنا من بأس الله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ
أهديكم إلا سبيل الرشاد (29) وقال الذي ءامن يقوم إنى أخاف عليكم
مثل يوم الاحزاب (30) مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من

(1) قرأه ابن عامر وحده. راجع المصدر السابق.
(2) تفسير ابن عباس: ص 395.
(3) وهي قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 568.
241

بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد (31) ويقوم إنى أخاف عليكم يوم
التناد (32) يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله
فما له من هاد (33) ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبينت فما زلتم في
شك مما جآءكم به ى حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده ى رسولا
كذا لك يضل الله من هو مسرف مرتاب (34))
(من ءال فرعون) صفة ل‍ (رجل) أو صلة ل‍ (يكتم) أي: (يكتم إيمانه)
من آل فرعون، واسمه حبيب أو خربيل (1) أو خزبيل (أن يقول) لان يقول، أي:
أترتكبون قتل رجل بأن يقول الكلمة الصادقة التي نطق بها وهي قوله: (ربى
الله) مع أنه أحضر لتصحيح قوله بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية وهو
ربكم لا ربه وحده؟! استدرجهم إلى الاعتراف به، ثم احتج عليهم على طريقة
التقسيم بأن قال: لا يخلو من أن يكون صادقا أو كاذبا (فإن يك كذبا فعليه كذبه)
أي: يعود عليه ضرر كذبه (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) وفي ذلك
البعض هلاككم. وهذا كلام من ينصف في مقاله ليسمع منه، لأنه حين فرضه صادقا
فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه (يصبكم بعض الذي يعدكم)
ليهضمه بعض حقه في الظاهر، وليريهم أنه ليس بكلام من يتعصب له.
(ظهرين في الأرض) أي: عالين في أرض مصر على بني إسرائيل (قال
فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى) أي: ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله، يعني:
لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب (ومآ أهديكم) بهذا الرأي
(إلا سبيل الرشاد) والصواب (2) عندي.
(مثل يوم الاحزاب) أي: مثل أيامهم، لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسر

(1) ليس في نسخة: " خربيل ".
(2) في نسخة: " والثواب ".
242

الأحزاب بقوم نوح وعاد وثمود ولم يلتبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار،
اقتصر على الواحد عن الجمع؛ لأن المضاف إليه أغنى عن ذلك، كقوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا (1).
ودأبهم: دؤوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب والمعاصي، وكون ذلك دائبا
دائما منهم لا يفترون عنه، ولابد من حذف مضاف أي: " مثل جزاء دأبهم " وإنما
انتصب (مثل) الثاني بأنه عطف بيان مثل الأول، لأن آخر ما تناولته الإضافة
" قوم نوح "، ولو قلت: " أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود " لم يكن إلا
عطف بيان لإضافة " قوم " إلى أعلام، فسري ذلك الحكم إلى أول ما تناولته
الإضافة (وما الله يريد ظلما للعباد) فتدميرهم كان عدلا منه إذ استوجبوه
بأعمالهم.
والتنادي: ما حكاه الله في سورة الأعراف من قوله: (ونادى أصحاب الجنة
أصحاب النار) (2) (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) (3). وقيل: ينادي
بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور (4)، وقيل: ينادى فيه كل أناس بإمامهم (5).
(يوم تولون) أي: يوم تعرضون عن النار (مدبرين) فارين مقدرين أن الفرار
ينفعكم.
(يوسف) هو يوسف بن يعقوب، قيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف،

(1) وعجزه: فإن زمانكم زمن خميص. لم يعلم قائله، يقول: اقتصروا على بعض ما يشبعكم،
ولا تملئوا بطونكم من الطعام فينفد طعامكم، فإذا نفد احتجتم إلى أن تسألوا الناس أن
يطعموكم شيئا، لأن زمانكم زمن القحط والجوع. انظر خزانة الأدب للبغدادي: ج 7 ص 559
وما بعده.
(2 و 3) الأعراف: 44 و 50.
(4) قاله ابن جريج. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 154.
(5) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 75.
243

عمر إلى زمنه (1)، وقيل: هو فرعون آخر (2) (كذلك) أي: مثل ذلك الضلال
(يضل الله من هو مسرف) على نفسه كافر (مرتاب) شاك في التوحيد ونبوة
الأنبياء.
(الذين يجدلون في ءايت الله بغير سلطن أتلهم كبر مقتا عند
الله وعند الذين ءامنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (35)
وقال فرعون يهمن ابن لي صرحا لعلى أبلغ الاسبب (36) أسبب
السموات فأطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه كذبا وكذا لك زين
لفرعون سوء عمله ى وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب (37)
وقال الذي ءامن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد (38) يقوم إنما
هذه ى الحيواة الدنيا متع وإن الأخرة هي دار القرار (39) من عمل
سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صلحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب (40))
(الذين يجدلون) بدل من قوله: (من هو مسرف) لأنه في معنى: كل
مسرف، وفاعل (كبر) ضمير (من هو مسرف) على اللفظ، ويجوز أن يكون
(الذين يجدلون) مبتدأ ويكون قوله: (كبر مقتا عند الله) على حد قولك: نعم
رجلا زيد، والمخصوص بالذم محذوف وهو جدالهم، وتكون الجملة خبر المبتدأ،
ولا يكون " جدالهم " فاعلا ل‍ (كبر) فيمتنع حذفه على ما ذكره جار الله (3)،
وقرئ: " قلب " بالتنوين (4)، وجاز وصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه موضعهما

(1 و 2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 166.
(3) الكشاف: ج 4 ص 167.
(4) قرأه أبو عمرو والأخفش والداجوني عن هشام وقتيبة. راجع التبيان: ج 9 ص 74.
244

ومنبعهما، كما قال سبحانه: (فإنه آثم قلبه) (1)، والإثم هو الجملة، أو يكون على
حذف المضاف أي: على كل ذي قلب (متكبر)، ومن قرأ على الإضافة فالمعنى:
يطبع الله على القلوب إذا كانت قلبا من كل متكبر، وحذف " كل " لتقدم ذكره
كما جاء في المثل: " ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة " (2) فحذف " كل " لتقدم
ذكره.
والصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، من صرح الشيء
إذا ظهر، وهامان: وزير فرعون وصاحب أمره، وأسباب السماوات: طرقها
وأبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أوصلك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه.
وفائدة التكرير أنه لما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم
أوضحها (فأطلع) قرئ بالرفع (3) والنصب، للعطف على (أبلغ)، والنصب على
جواب الترجي تشبيها للترجي بالتمني (وكذلك) أي: ومثل ذلك التزيين وذلك
الصد (زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل)، وقرئ: " صد " على البناء
للفاعل (4) بمعنى: أنه صد نفسه أو صد غيره (وما كيد فرعون) في إبطال آيات
موسى (عليه السلام) (إلا في تباب) أي: خسار لا ينفعه.
ثم عاد إلى ذكر نصيحة مؤمن آل فرعون فأجمل لهم بأن قال: (أهدكم سبيل
الرشاد)، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتحقير شأنها، لأن الركون إليها أصل لكل شر
وإثم، وجالب لسخط الله وعقابه، ثم ثنى بتعظيم الآخرة فإنها (دار القرار)

(1) البقرة: 283.
(2) انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 2 ص 236.
(3) قرأه عاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 570.
(4) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع المصدر السابق.
245

والإقامة، ثم ذكر الأعمال السيئة والحسنة وما يستحق على كل واحدة منهما.
وقوله: (بغير حساب) في مقابل (إلا مثلها)، معناه: أن جزاء السيئة له
حساب وتقدير، فلا يزيد على المستحق، وأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير
وحساب، بل هو زائد على المستحق بما شئت من الزيادة والكثرة.
(ويقوم مالى أدعوكم إلى النجوة وتدعوننى إلى النار (41)
تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ى ما ليس لي به ى علم وأنا أدعوكم إلى
العزيز الغفر (42) لا جرم أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة في الدنيا
ولا في الأخرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصحب
النار (43) فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير
بالعباد (44) فوقاه الله سيات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء
العذاب (45) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة
أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب (46))
يقال: دعاه إلى الشيء وللشيء، كما قيل: هداه إلى الطريق وللطريق. (ليس
لي به) أي: بربوبيته (علم) والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، كأنه قال: وأشرك به
ما ليس بإله و " ما ليس " كيف يصح أن يعلم إلها؟!
(لا جرم) سياقه على مذهب البصريين أن يجعل " لا " ردا لما دعاه إليه
قومه، و " جرم " فعل بمعنى " حق "، و " أن " مع ما في حيزه فاعله، أي: حق ووجب
بطلان دعوته (1)، أو: بمعنى " كسب " أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته،
على معنى: أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته (2)، وقيل: " لا جرم " نظير

(1) وهو قول الخليل. حكاه عنه تلميذه سيبويه في كتابه: ج 1 ص 469.
(2) وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 376.
246

" لابد " فعل من الجرم وهو القطع (1)، كما أن " بدا " فعل من التبديد وهو التفريق،
فكما أن معنى " لابد أنك تفعل كذا " بمعنى " لا بد لك من فعله " فكذلك (لا جرم أن
لهم النار) (2) بمعنى " لا قطع لذلك " أي: يستحقون النار أبدا، لا انقطاع
لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي: لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك
فينقلب حقا، ومعناه: (أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة) إلى نفسه قط، ولا يدعي
إلهية، وقيل: ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة أو دعوة
مستجابة (3)، جعل الدعوة التي لا منفعة لها كلادعوة، أو سميت الاستجابة باسم
الدعوة كما سمي الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قولهم: " كما تدين تدان " (4).
(فستذكرون) عند نزول العذاب بكم، أو يوم القيامة صحة (مآ أقول لكم)
من النصح، وأسلم (أمرى إلى الله) وأتوكل عليه.
(النار) بدل من (سوء العذاب)، أو: خبر مبتدأ محذوف أي: هو النار، أو:
مبتدأ خبره (يعرضون عليها غدوا وعشيا) أي: يعذبون بها في هذين الوقتين،
وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم، فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس
عنهم، فإذا قامت القيامة قيل لهم: " ادخلوا (5) يا آل فرعون أشد عذاب جهنم "
وقرئ: (أدخلوا) أي: يقال لخزنة جهنم: أدخلوهم. وفي هذه الآية دلالة على
صحة عذاب القبر.
(وإذ يتحآجون في النار فيقول الضعفؤا للذين استكبروا إنا كنا

(1) قاله المفضل. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 157.
(2) النحل: 62.
(3) قاله السدي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 99.
(4) أي: كما تجازي تجازى. انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 2 ص 100.
(5) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بضم الخاء وألف موصولة تبعا للزمخشري
في الكشاف.
247

لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (47) قال الذين استكبروا
إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد (48) وقال الذين في النار لخزنة
جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب (49) قالوا أولم تك
تأتيكم رسلكم بالبينت قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعؤا الكفرين إلا
في ضلل (50))
واذكر وقت تحاجهم في النار (تبعا) أي: أتباعا، جمع " تابع " ومثله " خدم "
جمع " خادم "، أو: ذوي تبع أي: أتباع، أو: هو وصف بالمصدر و (كل) معرفة،
والتنوين فيه عوض من المضاف إليه، أي: كلنا فيها لخزنة جهنم، ولم يقل:
" لخزنتها " لأن في ذكر جهنم تهويلا، ويحتمل أن تكون جهنم هي أبعد النار قعرا،
من قولهم: بئر جهنام: بعيدة القعر. (أولم تك تأتيكم) إلزام للحجة وتوبيخ (قالوا
فادعوا) أنتم فإنا لا ندعو إلا بإذن الله ولم يؤذن لنا فيه.
(إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحيواة الدنيا ويوم يقوم
الاشهد (51) يوم لا ينفع الظلمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء
الدار (52) ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسراءيل
الكتب (53) هدى وذكرى لأولي الألبب (54) فاصبر إن وعد الله حق
واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكر (55) إن الذين
يجدلون في ءايت الله بغير سلطن أتلهم إن في صدورهم إلا كبر
ماهم ببلغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (56) لخلق السموات
والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57)
وما يستوي الأعمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصلحت ولا
المسىء قليلا ما تتذكرون (58) إن الساعة لأتية لا ريب فيها ولكن
248

أكثر الناس لا يؤمنون (59) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين
يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60))
أي: نغلب (رسلنا) في الدارين بالظفر على مخالفيهم وبالحجة، ولو غلبوا
في بعض الأحايين فالعاقبة لهم، و " اليوم " الثاني بدل من الأول، و الأشهاد: جمع
شاهد وهم الملائكة والأنبياء والأولياء، وقرئ: (لا ينفع) بالتاء (1) والياء.
والمراد ب‍ (الهدى): ما آتاه الله في باب الدين من المعجزات والتوراة
والشرائع (وأورثنا) وتركنا على (بني إسرائيل) من بعده (الكتب) أي:
التوراة (هدى وذكرى) أي: إرشادا وتذكرة، وهما مفعول لهما أو حالان.
(فاصبر إن وعد الله حق) في ضمان نصرة رسله، واستشهد بحال موسى
ونصرته على فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل، فإن الله ينصرك
كما نصره (واستغفر لذنبك) تعبده سبحانه بالدعاء والاستغفار ليزيد في
درجاته، ويصير سنة لأمته.
(إن في صدورهم إلا كبر) أي: تكبر، وهو إرادة التقدم والرئاسة، وأن لا
يكون أحد فوقهم، ولذلك عادوك ودفعوا معجزاتك، وذلك أن النبوة تحتها كل ملك
ورئاسة، أو: إرادة أن تكون لهم النبوة دونك (ما هم ببلغيه) أي: ببالغي موجب
الكبر ومقتضيه، وهو متعلق إرادتهم من الرئاسة أو النبوة (فاستعذ بالله) من
شرهم (إنه هو السميع) لأقوالهم (البصير) بأحوالهم، وفيه تهديد.
ولما كان جدالهم وحجاجهم في آيات الله مشتملا على إنكار البعث، حجوا
بخلق السماوات والأرض، لأنهم كانوا يقرون بأنه سبحانه خالقهما، وخلق الناس

(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 572.
249

بالقياس إليهما أهون. ثم ضرب (الأعمى والبصير) مثلا للمحسن والمسيء،
وقرئ: (تتذكرون) بالتاء والياء (1).
(لا ريب فيها) لابد من مجيئها، وليس بمرتاب فيها لأنه لا بد من الجزاء.
(ادعوني أستجب لكم) إذا اقتضت المصلحة إجابتكم، وقيل: معناه: ادعوني
أثبكم (2).
وفي الحديث: " الدعاء هو العبادة " وقرأ هذه الآية (3).
وعن الباقر (عليه السلام): " هو الدعاء، وأفضل العبادة الدعاء " (4).
(الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو
فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61) ذا لكم الله ربكم
خلق كل شىء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62) كذا لك يؤفك الذين
كانوا بايت الله يجحدون (63) الله الذي جعل لكم الأرض قرارا
والسمآء بنآء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبت ذا لكم
الله ربكم فتبارك الله رب العلمين (64) هو الحي لا إله إلا هو
فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العلمين (65) قل إنى نهيت
أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءنى البينت من ربى وأمرت
أن أسلم لرب العلمين (66) هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم
من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم
من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67) هو الذي

(1) وبالياء هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. راجع المصدر السابق.
(2) قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 103.
(3) أخرجه أحمد في مسنده: ج 4 ص 271.
(4) الكافي: ج 2 ص 466 ح 1 باسناده عن زرارة.
250

يحىى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (68))
(مبصرا) من الإسناد المجازي، ومعناه: لتبصروا فيه (إن الله لذو فضل)
لا يوازنه فضل، وكرر ذكر " الناس " تخصيصا لكفران النعم بهم، وأنهم هم الذين
لا يشكرونه. (ذلكم) المعلوم المختص بهذه الأفعال هو (الله ربكم خلق كل
شىء لا إله إلا هو) هي أخبار مترادفة، أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية
والربوبية وإنشاء الأشياء والوحدانية (فأنى تؤفكون) فكيف تصرفون عن
عبادته إلى عبادة الأصنام؟! ثم ذكر أن كل من جحد (بآيت الله) أفك كما أفكوا.
ثم وصف نفسه بأفعال أخر خاصة به، وهي أنه (جعل... الأرض) مستقرا
(والسمآء بنآء) أي: قبة، ومضارب العرب: أبنيتهم؛ لأن السماء في منظر العين
كالقبة المضروبة على الأرض. (فادعوه مخلصين له) الطاعة من الشرك في
دعائه وعبادته، قائلين: (الحمد لله رب العلمين). (أن أسلم) أي: استسلم
لأمر (رب العلمين).
(لتبلغوا أشدكم) متعلق بفعل محذوف، والتقدير: ثم يبقيكم لتبلغوا، وكذلك
(لتكونوا شيوخا)، ويفعل ذلك (لتبلغوا أجلا مسمى) وهو وقت الموت، أو يوم
القيامة، وقوله: (من قبل) يريد: من قبل الشيخوخة، أو: من قبل هذه الأحوال
(ولعلكم تعقلون) هذه الأغراض المذكورة، وتتفكرون في العبر والحجج (فإذا
قضى أمرا فإنما) يكونه من غير كلفة، جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء
والإماتة وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنه لا يمتنع عليه شيء من
المقدورات، فكأنه قال: فلذلك الاقتدار (إذا قضى أمرا) تيسر له ولم يمتنع عليه،
وكان أهون شيء وأسرعه.
251

(ألم تر إلى الذين يجدلون في ءايت الله أنى يصرفون (69)
الذين كذبوا بالكتب وبمآ أرسلنا به ى رسلنا فسوف يعلمون (70) إذ
الأغلل في أعنقهم والسلسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار
يسجرون (72) ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73) من دون الله قالوا
ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيا كذلك يضل الله
الكفرين (74) ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم
تمرحون (75) ادخلوا أبواب جهنم خلدين فيها فبئس مثوى
المتكبرين (76))
(أنى يصرفون) أي: من أي جهة يقلبون عن الحق إلى الضلال. (إذ الأغلل
في أعنقهم) المعنى على: إذ إن أخباره سبحانه لما كانت متيقنة عبر عن الأمور
المستقبلة فيها بلفظ ما قد كان ووجد، و (يسحبون) حال (في حميم) في الماء
الذي انتهت حرارته (ثم في النار يسجرون) ويقذفون فيها وتوقد بهم.
(بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) أي: تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا
نعبد بعبادتهم شيئا (كذلك) أي: مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم الله عن آلهتهم
حتى لو طلبوها أو طلبتهم لم يتصادفوا. (ذلكم) الإضلال بسبب ما كان لكم من
الفرح (في الأرض) والمرح (بغير الحق) وهو الشرك وعبادة الأوثان.
(فبئس مثوى المتكبرين) مثواكم أي: جهنم.
(فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك
فإلينا يرجعون (77) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك
ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى باية إلا بإذن الله
فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون (78) الله الذي
252

جعل لكم الأنعم لتركبوا منها ومنها تأكلون (79) ولكم فيها منفع
ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون (80)
ويريكم ءايته ى فأى ءايت الله تنكرون (81))
الأصل: " فإن نرينك "، و " ما " مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت
النون بالفعل، لا يقال: إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك، وقوله:
(فإلينا يرجعون) يتعلق ب‍ (نتوفينك)، وجزاء (نرينك) محذوف وتقديره:
(فإما نرينك بعض الذي نعدهم) من العذاب في حياتك وهو القتل يوم بدر فذاك
(أو نتوفينك) قبل أن يحل بهم ذلك (فإلينا يرجعون) يوم القيامة نفعل بهم ما
يستحقونه، ولا يفوتنا منهم.
(من قصصنا عليك) ذكرهم وأخبارهم (ومنهم من لم نقصص عليك)
ذكرهم. (لتركبوا منها) إلى الحج والغزو والهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو
طلب علم، وهذه أغراض دينية تتعلق بها إرادة الحكيم، فأما الأكل فمن جنس
المنافع المباحة التي لا تتعلق بها إرادته، وعلى الأنعام (وعلى الفلك) في البر
والبحر (تحملون ويريكم ءايته) أي حججه وبيناته (فأى ءايت الله تنكرون)
توبيخ لهم على الجحد.
(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم
كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا في الأرض فمآ أغنى عنهم ما كانوا
يكسبون (82) فلما جآءتهم رسلهم بالبينت فرحوا بما عندهم من العلم
وحاق بهم ما كانوا به ى يستهزءون (83) فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله
وحده وكفرنا بما كنا به ى مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمنهم لما رأوا
بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده ى وخسر هنالك الكفرون (85))
253

آثارهم: أبنيتهم العظيمة التي بنوها، وقصورهم ومصانعهم، وقيل: مشيهم
بأرجلهم لعظم أجرامهم (1) (فما أغنى): " ما " نافية أو استفهامية في محل نصب
و " ما " الثانية مصدرية أو موصولة في محل رفع معناه: أي شيء أغنى عنهم
مكسوبهم أو كسبهم.
(فرحوا بما عندهم من العلم) قيل فيه وجوه: أحدها: أنه ورد على طريق
التهكم، كما في قوله: (بل ادارك علمهم في الآخرة) (2) وعلمهم في الآخرة أنهم
كانوا يقولون: لا نبعث، وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علم الأنبياء (3). والآخر:
أن المراد علم الفلاسفة كانوا يصغرون علم الأنبياء إلى علمهم (4).
وعن سقراط أنه قيل: ائت موسى (عليه السلام) وكان في زمانه، فقال: نحن قوم
مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهدينا (5).

(1) قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 81.
(2) النمل: 66.
(3) وهو قول مجاهد. راجع تفسير الطبري السابق: ص 82.
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 182.
(5) في هامش النسخة المطبوعة كلام للمعلق، يقول: " نقل العلامة المصنف رحمه الله هذه
القصة تبعا للعلامة الزمخشري في الكشاف، ونقلها منهما مع تبحرهما وكونهما من أهل
البحث والتحقيق في غاية الغرابة: فإن سقراط توفي قبل ميلاد المسيح (عليه السلام) بأربعمائة سنة،
وله ثمانون سنة أو أزيد، وكان موسى (عليه السلام) قبل سقراط بأزيد من ألف عام، فإن بين زمان
موسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام) الف وستمائة سنة على ما في تفسير الشيخ الثقة علي بن إبراهيم
رحمه الله أو كان أزيد منها على ما في بعض كتب التواريخ، فأين سقراط - وهو الحكيم
الإلهي الذي كان يدعو قومه إلى التوحيد مع جهاده ونضاله الدائم طيلة حياته مع عبدة
الأوثان حتى سقوه سما - من زمان موسى (عليه السلام)؟! وما ذكرناه غير خفي على الباحث المنقب،
فلاحظ التواريخ والتفاسير وكتب الحديث حتى تجد صدق ما قلناه، ولا تغتر بجلالة
المصنف وصاحب الكشاف، وترحم بما يقال قديما: (كم ترك الأول للآخر). وذكر في بعض
الكتب مثل هذه القصة الواهية في حق أفلاطون الإلهي أو جالينوس مع عيسى (عليه السلام) ".
254

وقيل: إن الفرح للرسل (1) والمعنى: أن الرسل لما رأوا استهزاءهم بالحق
وجهلهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه (وحاق) بالكافرين جزاء
جهلهم واستهزائهم، وقيل: إن المراد علمهم بأمور الدنيا (2) كما قالوا: (يعلمون
ظاهرا من الحياة الدنيا) (3) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات لم يلتفتوا إليها، إذ
كانت باعثة على رفض الشهوات وترك الدنيا، واعتقدوا أن لا علم أنفع من علمهم
ففرحوا به. (فلم يك ينفعهم إيمنهم) أي: لم يصح أن ينفعهم إيمانهم (لما رأوا)
بأس الله (سنت الله) بمنزلة " وعد الله " ونحو ذلك من المصادر المؤكدة، و
(هنالك) مكان مستعار للزمان، أي: وخسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله:
(وخسر هنالك المبطلون) بعد قوله: (فإذا جآء أمر الله قضى بالحق) أي:
خسروا وقت مجيء أمر الله، أو: وقت القضاء بالحق.
* * *

(1) حكاه ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 165.
(2) قاله السدي. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 82.
(3) الروم: 7.
255

سورة فصلت (1)
مكية (2) آياتها أربع وخمسون آية كوفي، اثنتان بصري، عد الكوفي
(حم) (3) آية، (عاد وثمود) (4) آية.
وفي حديث أبي: " ومن قرأ حم السجدة أعطي من الأجر بعدد كل حرف منها
عشر حسنات " (5).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ حم السجدة كانت له نورا يوم القيامة مد بصره،
وسرورا، وعاش في هذه الدنيا مغبوطا محمودا " (6).
بسم الله الرحمن الرحيم
(حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتب فصلت ءايته قرءانا

(1) في نسخة " سورة السجدة "، وأخرى: " سورة حم السجدة ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 103: مكية في قول قتادة ومجاهد، وليس فيها
ناسخ ولا منسوخ، وهي أربع وخمسون آية كوفي، وثلاث في المدنيين، واثنتان وخمسون في
البصري والشامي.
وفي الكشاف: ج 4 ص 184 ما لفظه: مكية وآياتها (54) وقيل: (53) نزلت بعد غافر.
(3) الآية: 1.
(4) الآية: 13.
(5) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 207 مرسلا.
(6) ثواب الأعمال للصدوق: ص 140.
257

عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4)
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونآ إليه وفي ءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك
حجاب فاعمل إننا عملون (5) قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ
إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين
لا يؤتون الزكوة وهم بالأخرة هم كفرون (7) إن الذين ءامنوا وعملوا
الصلحت لهم أجر غير ممنون (8))
(تنزيل) مبتدأ و (كتب) خبره، أو: (تنزيل) خبر مبتدأ محذوف و
(كتب) بدل من (تنزيل)، أو: خبر بعد خبر. (قرءانا عربيا) نصب على المدح،
أي: أعني بالكتاب المفصل قرآنا بهذه الصفة، وقيل: نصب على الحال (1) أي:
(فصلت ءايته) في حال كونه قرآنا عربيا (لقوم يعلمون) ما نزل عليهم من
الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي، لا يلتبس عليهم شيء منه، وتعلق اللام
ب‍ (فصلت) أو ب‍ (تنزيل)، أي: فصلت آياته لهم، أو: تنزيل من الرحمن لأجلهم،
وأجود منهما أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي: قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب
لئلا يفرق بين الصفات والصلات. (بشيرا) يبشر المؤمن بما تضمنه من الوعد
(ونذيرا) يندر الكافر بما فيه من الوعيد (فهم لا يسمعون) لا يقبلون ولا
يطيعون.
(قلوبنا في أكنة) أي: أغطية (مما تدعونآ إليه) فلا نفقه ما تقول (وفي
ءاذاننا) ثقل وصمم على استماع القرآن، (ومن بيننا وبينك حجاب) ساتر
وحاجز منيع، وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن قبول الحق (فاعمل) على دينك إنا
(عملون) على ديننا، أو: فاعمل في ابطال أمرنا إنا عاملون في إبطال أمرك.

(1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 379.
258

والفائدة في زيادة " من " في قوله: (ومن بيننا) أنه لو قال: " وبيننا وبينك
حجاب " لكان المعنى: أن حجابا حاصل وسط الجهتين، ومعنى (من بيننا وبينك
حجاب): أن الحجاب ابتداء منا وابتداء منك. فالمسافة المتوسطة بجهتك وجهتنا
مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.
وقوله: (إنمآ أنا بشر مثلكم) جواب لقولهم: (قلوبنا في أكنة) لأن المعنى:
إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي (إلى) دونكم، وإذا صحت
بالوحي نبوتي وجب عليكم اتباعي (فاستقيموا) فاستووا (إليه) بالتوحيد
وإخلاص العبادة (واستغفروه) من الشرك.
وخص من أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة، لأن أحب
الأشياء إلى الإنسان ماله، فإذا بذله لله دل ذلك على ثباته في الدين وصدق نيته،
وفيه حث شديد على أداء الزكاة، وتخويف من منعها، حيث جعله مقرونا بالكفر
بالآخرة. (لهم أجر غير ممنون) أي: غير مقطوع بل هو متصل دائم، أو: هو
خالص من المنة.
(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له
أندادا ذا لك رب العلمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبرك فيها
وقدر فيهآ أقواتها في أربعة أيام سوآء للسآئلين (10) ثم استوى إلى
السمآء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا
طآئعين (11) فقضهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سمآء
أمرها وزينا السمآء الدنيا بمصبيح وحفظا ذا لك تقدير العزيز
العليم (12) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صعقة مثل صعقة عاد وثمود (13)
إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا
259

لو شآء ربنا لأنزل ملئكة فإنا بمآ أرسلتم به ى كفرون (14) فأما عاد
فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن
الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بايتنا يجحدون (15))
(أئنكم لتكفرون) استفهام تعجب، أي: كيف تستجيزون أن تكفروا بمن
(خلق الارض) مقدار (يومين وتجعلون له أندادا) أمثالا وأشباها تعبدونهم
(ذلك) الذي قدر على الخلق (رب العلمين) ومالك التصرف فيهم.
(وجعل فيها) أي: في الأرض جبالا (رواسي) أي: ثوابت (من فوقها)
جعلها فوق الأرض لتكون منافعها حاصلة لمن طلبها (وبرك فيها) وأكثر
خيرها (وقدر فيهآ أقوتها) أي: أرزاق أهلها ومنافعهم ومعائشهم (في) تتمة
(أربعة أيام) من حين ابتداء الخلق، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة
مستوية بلا زيادة ولا نقصان، وقرئ: (سوآء) بالحركات الثلاث (1)، فالجر على
الوصف ل‍ (أيام)، والنصب على " استوت سواء " أي: استواء، والرفع على " هي
سواء "، وتعلق قوله: (للسآئلين) بمحذوف فكأنه قال: هذا الحصر لأجل من سأل
في كم خلقت الأرض وما فيها، أو: يقدر أي: قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها
المحتاجين إليها من المقتاتين.
(ثم استوى إلى السمآء) من قولك: استوى إلى مكان كذا: إذا توجه إليه
توجها لا يلوي على شيء، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونحوه
قولهم: استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله: (فاستقيموا إليه) (2) والمعنى: ثم دعاه

(1) قرأ زيد بن علي (عليه السلام) والحسن وابن أبي إسحاق ويعقوب بالجر، وأبو جعفر بالرفع، والباقون
بالنصب. راجع التبيان: ج 9 ص 106، والبحر المحيط: ج 7 ص 476.
(2) الآية: 6.
260

داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه
عن ذلك.
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان، وقولهما: (أتينا طآئعين) أنه أراد
تكوينهما وإنشائهما فلم تمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وليس هناك أمر على
الحقيقة ولا جواب، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل، بمعنى: أنهما كانتا
كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، وخلق سبحانه جرم الأرض غير
مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال: (والأرض بعد ذلك دحاها) (1)
فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا من الشكل والوصف: ائتي يا أرض مدحوة
قرارا لسكانك، وائتي يا سماء سقفا مبنيا عليهم، ومعنى الإتيان: الحصول
والوقوع، كما يقال: أتى عمل فلان مقبولا، وقوله: (طوعا أو كرها) مثل للزوم
تأثير قدرته فيهما، وانتصابهما على الحال، أي: طائعتين أو مكرهتين، ولما
خوطبن جعلن مجيبات ووصفن بالطوع والكره، وقيل: " طائعين " في موضع
" طائعات " (2) نحو قوله: (كل في فلك يسبحون) (3)، (رأيتهم لي ساجدين) (4).
(فقضاهن) يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى (السمآء) على المعنى، ويجوز
أن يكون ضميرا مبهما مفسرا ب‍ (سبع سموات)، والفرق بينهما أن " سبع
سماوات " على الوجه الأول نصب على الحال، وفي الثاني نصب على التمييز
(وأوحى) أي: خلق أوامر (في كل سمآء أمرها) ما أمر به فيها ود بره من خلق
الملائكة والنيرات وغير ذلك، أو: شأنها وما يصلحها (وزينا السماء الدنيا

(1) النازعات: 30.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 381.
(3) الأنبياء: 33، يس: 40.
(4) يوسف: 4.
261

بمصبيح) يهتدى بها (وحفظا) أي: وحفظناها حفظا من استراق السمع
بالثواقب، ويجوز أن يكون مفعولا له أي: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.
(فإن أعرضوا) بعدما تتلو عليهم من هذه الحجج الدالة على الوحدانية
والقدرة فحذرهم أن تصيبهم (صعقة) أي: عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة.
(إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم) يريد: أتوهم من كل جانب فلم
يروا منهم إلا العتو، وقيل: معناه: أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم، ومن
عذاب الآخرة، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمان
الماضي، وما جرى فيه على أمثالهم، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم (1).
(أن) في (أن لا تعبدوا) بمعنى: أي، أو: مخففة من الثقيلة، وأصله " بأن لا
تعبدوا " أي: بأن الشأن والحديث قولنا لكم: لا تعبدوا، ومفعول (شاء) محذوف،
أي: لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة.
وحقيقة القوة زيادة القدرة، وهي في الإنسان صحة البنية والاعتدال والشدة
والصلابة (وكانوا بآياتنا يجحدون) كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوها كما
يجحد المودع الوديعة، وهو معطوف على (فاستكبروا).
(فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب
الخزى في الحيوة الدنيا ولعذاب الأخرة أخزى وهم لا ينصرون (16)
وأما ثمود فهدينهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صعقة
العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17) ونجينا الذين ءامنوا وكانوا
يتقون (18) ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا
ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصرهم وجلودهم بما كانوا

(1) قاله الحسن. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 174.
262

يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي
أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) وما كنتم
تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصركم ولا جلودكم ولكن
ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22) وذا لكم ظنكم الذي ظننتم
بربكم أرداكم فأصبحتم من الخسرين (23))
(ريحا صرصرا) عاصفة تصرصر، أي: تصوت، والصرة: الصيحة، وقيل:
باردة تحرق ببردها (1)، من الصر وهو البرد الذي يصر أي: يجمع ويقبض
(نحسات) قرئ بكسر الحاء وسكونها (2)، يقال: نحس نحسا فهو نحس،
فالنحس يجوز أن يكون مخفف " نحس "، وأن يكون وصفا بالمصدر، نحو: رجل
عدل. و (عذاب الخزى) أضاف " العذاب " إلى " الخزي " وهو الذل والهوان،
على أنه وصف للعذاب، كأنه قال: " عذاب خزي " كما تقول: " فعل السوء " تريد:
الفعل السيئ، والدليل عليه قوله: (ولعذاب الأخرة أخزى) وهو أبلغ في الوصف،
فإن قولك: هو شاعر، وله شعر شاعر، بينهما بون بعيد.
(وأما ثمود فهدينهم) أي: دللناهم على طريقي الضلالة والرشد، وبينا لهم
سبيلي الخير والشر، كقوله: (وهدينه النجدين) (3)، (فاستحبوا العمى على
الهدى) فاختاروا الكفر على الإيمان، والضلال على الرشد (فأخذتهم صعقة
العذاب) أي: قارعة العذاب، وواهية العذاب، و (الهون): الهوان، وصف به
العذاب مبالغة أو أبدله منه، وفي هذا حجة بالغة على المجبرة.

(1) قاله عكرمة وسعيد بن جبير كما في تفسير الماوردي: ج 5 ص 174.
(2) وبالسكون قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 576.
(3) البلد: 10.
263

(ويوم يحشر) قرئ بالياء على البناء للمفعول و (أعدآء الله) بالرفع، و
" يحشر " على البناء للفاعل و " أعداء " بالنصب (1)، (فهم يوزعون) يحبس
أولهم على آخرهم، أي: تستوقف سوابقهم حتى يدركهم لواحقهم.
و " ما " في قوله: (إذا ما جآءوها) مزيدة للتأكيد، أي: لابد أن يكون وقت
مجيئهم النار وقت الشهادة عليهم. وأما كيفية نطق الجوارح فإن الله ينطقها كما
أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما، وقيل: إن الجلود كناية عن الفروج (2)، وأراد
ب‍ (كل شىء) من الحيوان، ومعناه: أن نطقنا ليس بعجيب من قدرة الله (الذي
أنطق كل) حيوان (وهو) أنشأكم (أول مرة) وهو القادر على إعادتكم
ورجعكم إلى جزائه.
(وما كنتم تستترون) بالحجب عند ارتكاب المعاصي مخافة (أن يشهد
عليكم) جوارحكم لأنكم لم تعلموا أنها تشهد عليكم (ولكن ظننتم أن الله لا
يعلم كثيرا) من أعمالكم، وعن ابن عباس: أنهم قالوا: إن الله لا يعلم ما في نفوسنا،
إنما يعلم ما يظهر (3). و (ذلكم) رفع بالابتداء و (ظنكم) و (أرداكم) خبران،
ويجوز أن يكون (ظنكم) بدلا من (ذلكم) و (أرداكم) الخبر.
وعن الصادق (عليه السلام): " إن الله عند ظن عبده: إن خير فخير، وإن شر فشر " (4).
(فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من
المعتبين (24) وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم

(1) هذه القراءة ذكرها الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 195 وتبعه المصنف رحمه الله في
ذلك، ولم نعثر هكذا قراءة في المصادر المعتمدة لدينا.
(2) قاله ابن زيد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 176.
(3) تفسير ابن عباس: ص 402.
(4) الكافي: ج 8 ص 302 ذ ح 462 باسناده عن سنان بن طريف.
264

وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم
كانوا خسرين (25) وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان وا لغوا
فيه لعلكم تغلبون (26) فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم
أسوأ الذي كانوا يعملون (27) ذا لك جزآء أعدآء الله النار لهم فيها دار
ا لخلد جزآء بما كانوا بايتنا يجحدون (28) وقال الذين كفروا ربنآ
أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من
الاسفلين (29) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقموا تتنزل عليهم
الملئكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30)
نحن أوليآؤكم في الحيواة الدنيا وفي الأخرة ولكم فيها ما تشتهى
أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم (32))
أي: (فإن يصبروا) لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار (وإن)
يسألوا العتبى ويطلبوا الرضا لم يعتبوا ولم يجابوا إلى العتبى، ولم يعطوا الرضا.
(وقيضنا) أي: وقدرنا (لهم قرنآء) أخدانا (1) من الشياطين، جمع قرين وهو
كقوله: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) (2) والمعنى:
أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى
الشياطين (فزينوا لهم) ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها، أو: (ما بين
أيديهم) من أمر الدنيا واتباع الشهوات (وما خلفهم) من أمر العاقبة، وأن لا بعث
ولا حساب (وحق عليهم القول) أي: كلمة العذاب (في أمم) في جملة أمم،
ومثله قول الشاعر:

(1) في بعض النسخ: " إخوانا ".
(2) الزخرف: 36.
265

إن تك عن أحسن المروءة مأ * فوكا ففي آخرين قد أفكوا (1)
يريد: فأنت في جملة آخرين، أو: في عداد آخرين لست في ذلك بأوحد،
و (في أمم) في محل النصب على الحال من الضمير في (عليهم)، (إنهم كانوا
خاسرين) تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير في (لهم) للأمم.
(وقال الذين كفروا) بعضهم لبعض (لا تسمعوا لهذا القرءان) الذي يقرأه
محمد ولا تصغوا إليه (والغوا فيه) يقال: لغي يلغى، واللغو: الساقط من الكلام
الذي لا طائل تحته، أي: واشتغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات وبالزجر
والهذيان حتى تشوشوا عليه قراءته لتغلبوه بذلك، ولا يتمكن أصحابه من
الاستماع.
(النار) عطف بيان للجزاء، أو: خبر مبتدأ محذوف (لهم فيها دار الخلد)
معناه: أن النار في نفسها دار الخلد، كقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة) (2) معناه: أن رسول الله أسوة حسنة، وتقول: لك في هذا الدار دار السرور،
وأنت تعني الدار بعينها (جزآء بما كانوا) يلغون فيها، فذكر الجحود الذي هو سبب
اللغو.
وقرئ: " أرنا " بسكون الراء (3) لثقل الكسرة، كما قيل: " فخذ " في " فخذ "، أي
الشيطانين اللذين (أضلانا من الجن والإنس) لأن الشيطان ضربان: جني
وإنسي (نجعلهما تحت أقدامنا) في النار، والمراد به: ندوسهما ونطؤهما بأقدامنا
ليكونا أشد عذابا منا.

(1) لعروة بن أذينة الكناني، يقول: إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك أيضا.
أنظر ديوان عروة: ص 343.
(2) الأحزاب: 21.
(3) قرأه الابنان (ابن كثير وابن عامر) وأبو بكر والسوسي ويعقوب. راجع التذكرة في القراءات
لابن غلبون: ج 2 ص 657.
266

(ثم استقموا) ثم استمروا عليه وثبتوا على مقتضياته من أنواع الطاعة.
وسأل محمد بن الفضيل علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) عن الاستقامة فقال:
هي والله ما أنتم عليه.
(تتنزل عليهم الملئكة) عند الموت بالبشرى (أن لا تخافوا) بمعنى
" أي "، أو: مخففة من الثقيلة، وأصله: بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن، والخوف:
غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن: غم يلحق لوقوعه من فوت نفع أو حصول
ضرر، والمعنى: أن الله كتب لكم الأمان من كل خوف وغم، وكما أن الشياطين
قرناء من تقدم، فالملائكة أولياء هؤلاء وأحباؤهم في الدارين (ولكم فيها ما
تدعون) أي: تتمنون من النعيم، وفي بشراهم بولاية الملائكة إياهم في دنياهم
وأخراهم، وإنالتهم في الجنة مشتهاهم وغاية متمناهم، دلالة على شرف هذه
الطاعة التي هي الاستقامة، وأنها أجل الديانات والدرجة القصوى فيها. والنزل:
رزق النزيل وهو الضيف، وانتصب على الحال من الموصول، أو من الضمير
المنصوب المحذوف، لأن التقدير: ما تدعونه.
(ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل صلحا وقال إننى من
المسلمين (33) ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن
فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم (34) وما يلقلهآ إلا الذين
صبروا وما يلقلهآ إلا ذو حظ عظيم (35) وإما ينزغنك من الشيطن
نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم (36) ومن ءايته الليل والنهار
والشمس وا لقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي
خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37) فإن استكبروا فالذين عند ربك
يسبحون له باليل والنهار وهم لا يسمون (38))
267

من (دعآ إلى الله) هو رسول الله، والأئمة الدعاة إلى الحق القائمون مقامه،
وقيل: هم المؤذنون (1)، والآية عامة في كل من جمع بين الأوصاف الثلاثة: أن
يكون موحدا معتقدا للحق عاملا للخير داعيا إليه.
والمعنى: أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فلا تستوي الأعمال
الحسنة والأعمال السيئة، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك
حسنتان ف (ادفع) بها السيئة الواردة عليك من بعض أعدائك، ومثال ذلك: أن
الحسنة أن تعفو عنه (والتى هي أحسن) أن تحسن إليه في مقابلة إساءته، مثل أن
يذمك فتمدحه، فإنك إذا فعلت ذلك صار الذي هو عدوك المناوئ مثل الولي
الحميم المناسب المصافي. وما يلقى هذه الخصلة الحميدة والسجية المرضية التي
هي مقابلة الإساءة بالإحسان ولا يؤتاها (إلا الذين صبروا) على كظم الغيظ
واحتمال المكاره، و (إلا ذو) نصيب و (حظ عظيم) من الثواب والخير.
والنزع والنسخ بمعنى، وهو شبه النخس، وكان الشيطان ينخس الإنسان: إذا
بعثه على بعض المعاصي، وأسند الفعل إلى النزغ كما قالوا: جد جده، أو: وصف
الشيطان وتسويله بالمصدر، والمعنى: وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من
الدفع بالتي هي أحسن (فاستعذ بالله) من شره ولا تطعه.
(ومن ءايته) أي: حججه وأدلته الدالة على وحدانيته (الليل والنهار)
وتقديرهما على حد مستقر ونظام مستمر (والشمس والقمر) وما ظهر فيهما من
التدبير والتسيير في فلك التدوير. والضمير في (خلقهن) لجميعها؛ لأن حكم
جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، تقول: الدور رأيتها ورأيتهن، أو: لأنها

(1) وهو قول عائشة. راجع الدر المنثور للسيوطي: ج 7 ص 325 وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن
المنذر وابن مردويه.
268

في معنى الآيات فلذلك قال: (خلقهن). وموضع السجدة عند الشافعي (1)
(تعبدون) وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) (2)، وعند أبي حنيفة (يسئمون) (3).
وقوله: (عند ربك) عبارة عن قرب المنزلة والكرامة والزلفى.
(ومن ءايته ى أنك ترى الأرض خشعة فإذ آ أنزلنا عليها المآء
اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء
قدير (39) إن الذين يلحدون في ءايتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى في
النار خير أم من يأتى ءامنا يوم القيمة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون
بصير (40) إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم وإنه لكتب عزيز (41) لا
يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه ى تنزيل من حكيم حميد (42) ما
يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب
أليم (43) ولو جعلنه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءايته ءاعجمى
وعربى قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون في ءاذانهم
وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد (44) ولقد ءاتينا
موسى الكتب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم
وإنهم لفي شك منه مريب (45))

(1) ذكره المصنف رحمه الله تبعا للزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 200، وإلا فالمشهور عن
الشافعي عند قوله: (يسئمون). راجع على سبيل المثال: الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1
ص 430، وعمدة القاري: ج 7 ص 97، وأحكام القرآن لابن العربي: ج 4 ص 87. نعم في
المجموع: ج 4 ص 60 للعلامة النووي الشافعي ما لفظه: سجدة حم السجدة فيها وجهان
لأصحابنا حكاهما القاضي والبغوي وغيرهما أصحهما عند (يسئمون) وبهذا قطع
الأكثرون، والثاني: أنها عند قوله تعالى: (تعبدون).
(2) أنظر التبيان: ج 9 ص 128.
(3) أنظر الفتاوى الهندية: ج 1 ص 132، والمجموع: ج 4 ص 60.
269

والخشوع في وصف الأرض مستعار لكونها يابسة غير ممطورة، لا نبات
فيها، وهو خلاف وصفها بالاهتزاز، والربو وهو الانتفاخ: إذا أخصبت وتزينت
بالنبات تشبيها لها بالمختال في زيه، وشبهت قبل بالذليل الخاضع في الأطمار
الرثة، وقرئ: " وربأت " (1) أي: ارتفعت.
ولحد الحافر وألحد: إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فاستعير للانحراف
في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة، وقرئ باللغتين (2) (لا يخفون
علينا) وعيد. وقوله: (إن الذين كفروا) بدل من قوله: (إن الذين يلحدون في
ءايتنا)، والذكر: القرآن لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا تأويله (وإنه لكتب
عزيز) منيع محمي بحماية الله. (لا يأتيه البطل) مثل، أي: لا يتطرق إليه الباطل
من جهة من الجهات، ونحوه: (وإنا له لحفظون) (3)، وعن السيدين الباقر
والصادق (عليهما السلام): " ليس في أخباره عما مضى، ولا في أخباره عما يكون في
المستقبل باطل، بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها ".
(ما يقال لك) أي: ما يقول لك كفار قومك (إلا) مثل ما قال للرسل كفار
قومهم من الكلمات المؤذية (إن ربك لذو مغفرة) لمن آمن بك (وذو عقاب
أليم) لمن كذبك، أو يكون المعنى: ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك،
والمقول: إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم.
(ولو) جعلنا القرآن (أعجميا) بغير لغة العرب، وسموا من لم يبين كلامه

(1) وهي قراءة أبي جعفر المدني وخالد. راجع تفسير القرطبي: ج 15 ص 365.
(2) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبو عمرو بضم الياء وكسر الحاء في جميع القرآن،
وحمزة وحده بفتح الياء والحاء، والكسائي في النحل مثل حمزة والباقي كما قرأه الجمهور
من السبعة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 298.
(3) الحجر: 9.
270

من أي صنف كان من الناس أعجم، قال عنترة:
حزق يمانية لأعجم طمطم (1)
(لقالوا لولا فصلت ءايته) أي: بينت بلسان تفهمه (2) (ءأعجمى وعربى)
والهمزة للإنكار، أي: قرآن أعجمي ورسول عربي، أو مرسل إليه عربي، لأن مبنى
الإنكار على تنافي حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد
أو جماعة (قل هو) الضمير للقرآن (هدى) و (3) إرشاد إلى الحق (وشفاء لما
في الصدور) (4) من الشك، أو: شفاء من الأدواء، و (الذين لا يؤمنون) إن
عطفته على (الذين ءامنوا) كان في موضع جر على معنى قولك: وهو للذين لا
يؤمنون (في ءاذانهم وقر)، إلا أن فيه عطفا على عاملين وقد أجازه
الأخفش (5)، وإن جعلته مبتدأ فالخبر: هو (في ءاذانهم وقر) على حذف " هو "،
أو: في آذانهم منه وقر، و (ينادون من مكان بعيد) يعني: أنهم لا يقبلونه ولا
يرعونه أسماعهم، فمثلهم في ذلك مثل من يصوت به من مكان بعيد، لا يسمع من
مثله الصوت فلا يسمع النداء.
(فاختلف فيه) أي: آمن به قوم وكذب به آخرون، وهو تسلية لنبينا (عليه السلام)
(ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير العذاب عن قومك لفرغ من عذابهم
واستئصالهم، وهي كقوله: (بل الساعة موعدهم) (6).

(1) وصدره: تأوي له قلص النعام كما أوت. والبيت من معلقته المشهورة وهو يصف ناقته. انظر
ديوان عنترة بن شداد: ص 59. والحزق: جماعات الإبل، والطمطم: الأعجمي الذي لا يفهم
كلامه.
(2) في نسخة: " تفقهه ".
(3) في نسخة: " أي " بدل الواو.
(4) القمر: 46.
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 203.
(6) يونس: 57.
271

(من عمل صلحا فلنفسه ى ومن أسآء فعليها وما ربك بظلم
للعبيد (46) إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرا ت من أكمامها وما
تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ى ويوم يناديهم أين شركآءى قالوا
ءاذنك مامنا من شهيد (47) وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا
مالهم من محيص (48) لا يسم الانسن من دعآء الخير وإن مسه
الشر فيوس قنوط (49) ولئن أذقنه رحمة منا من بعد ضرآء مسته
ليقولن هذا لى ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربى إن لى
عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب
غليظ (50) وإذآ أنعمنا على الانسن أعرض ونا بجانبه ى وإذا مسه
الشر فذو دعآء عريض (51) قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به ى
من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52) سنريهم ءايتنا في الافاق وفي
أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شىء
شهيد (53) ألا إنهم في مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل شىء محيط (54))
(فلنفسه) نفع صلاحه (فعليها) وبال إساءته دون غيرها.
(إليه يرد علم الساعة) أي: إذا سئل عنها قيل: الله يعلم، أو: لا يعلمها إلا الله،
الأكمام جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الثمرة، وقرئ: (من ثمرت) على
الجمع (1) (أين شركآءى) أضافهم إليه على زعمهم، وفيه تقريع على طريق
التهكم (ما منا من شهيد) أي: ما منا أحد اليوم يشهد بأنهم شركاؤك، وما منا أحد
يشاهدهم، وذلك أنهم ضلوا عنهم، ومعنى (ءاذنك): أنك تعلم من نفوسنا ذلك،

(1) الظاهر من عبارة المصنف رحمه الله أنه اعتمد هنا على قراءة المفرد تبعا للزمخشري في
الكشاف.
272

أو: هو كما تقول: أعلم الملك أنه كان كيت وكيت، وعلق (ما منا من شهيد) معنى
الإعلام؛ لأن النفي له حكم الاستفهام في أن له صدر الكلام. وكذا قوله: (وظنوا
ما لهم من محيص) والمعنى: علموا أن لا مخلص لهم من عذاب الله، عبر بالظن
عن العلم.
(من دعآء الخير) من طلب السعة في المال والصحة (وإن مسه) البلاء
والشدة (فيئوس قنوط) شديد اليأس مقطوع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذه
صفة الكافر بدلالة قوله: (ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (1).
(ليقولن هذا لى) أي: هذا حقي وصل إلي، لأني استوجبته بما عندي من
فضل، أو: هذا لي دائما أبدا (وما أظن الساعة قائمة) كائنة (ولئن رجعت إلى
ربى) على ما يقوله المسلمون (إن لى عنده) الحالة الحسنى وهي الجنة، أي:
سيعطيني في الآخرة مثل ما أعطاني في الدنيا.
(فذو دعآء عريض) استعار العرض لكثرة الدعاء ودوامه كما استعار الغلظ
لشدة العذاب. وقرئ: " ونأى " بإمالة الألف وكسر النون (2)، " ونآء " (3) على
القلب كما قيل: " راء " في " رأى "، ويريد (بجانبه) نفسه وذاته، فكأنه قال: ونأى
بنفسه، أو يريد (بجانبه) عطفه، ومعناه: انحرف وازور، كما قيل: ثنى عطفه (4)،
و (تولى بركنه) (5).
(أرءيتم) أخبروني (إن كان) القرآن (من عند الله) وقد (كفرتم به) وكان

(1) يوسف: 87.
(2) قرأه الكسائي وحمزة برواية خلف عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 577.
(3) وهي قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان عنه. راجع المصدر السابق.
(4) أي: أعرض عنك.
(5) الذاريات: 39.
273

الكسائي يحذف همزة " رأى " إذا كان مع همزة الاستفهام، نحو: " أريتم " و
" أريتكم " في جميع القرآن استثقالا للهمزتين، ولا يحذف في غيرها، نحو: " رأى
القمر " و " رأى الشمس " (من أضل) منكم وأنتم بلغتم الغاية في المشاقة
والمناصبة؟ فوضع (ممن هو في شقاق بعيد) موضع " منكم " بيانا لصفتهم.
(سنريهم ءايتنا) في نصرة رسولنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (في) آفاق الدنيا من
الفتوح ومن الإظهار على الأكاسرة والملوك وتغليب العدد القليل على الكثير،
والأمور الخارجة عن المعهود (وفي أنفسهم) يوم بدر، أو: يوم فتح مكة،
(بربك) مرفوع المحل بأنه فاعل، و (أنه على كل شىء شهيد) بدل منه على
الموضع (1)، وتقديره: أولم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، والمعنى: أن
الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبينون
عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد، أي: مطلع
مهيمن، يستوي عنده غيبه وشهادته، فيكفيهم ذلك دليلا على أنه حق وأنه من
عنده.
* * *

(1) ليس في نسخة: " على الموضع ".
274

سورة الشورى (1)
مكية (2) غير آيات منها، وهي ثلاث وخمسون آية كوفي، خمسون في الباقي،
عد الكوفي (حم) و (عسق) و (كالأعلم) (3).
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة،
ويستغفرون له " (4).
عن الصادق (عليه السلام): " من قرأها بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر "،
الخبر بطوله (5).

(1) في بعض النسخ: " سورة حم عسق ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 140: مكية في قول قتادة ومجاهد، وليس فيها
ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وخمسون آية في الكوفي، وخمسون في البصري والمدنيين.
وفي تفسير الماوردي: ج 5 ص 191: مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر،
وقاله ابن عباس وقتادة إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة (قل لا أسألكم عليه أجرا) إلى
آخرها.
وفي الكشاف: ج 4 ص 208: مكية إلا الآيات 23 و 24 و 25 و 27 فمدنية، وآياتها (53)
نزلت بعد سورة فصلت.
(3) الآية: 32.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 235 مرسلا.
(5) أنظر ثواب الأعمال للصدوق: ص 140.
275

بسم الله الرحمن الرحيم
(حم (1) عسق (2) كذا لك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله
العزيز الحكيم (3) له ما في السموات وما في الأرض وهو العلى
العظيم (4) تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملئكة يسبحون
بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور
الرحيم (5) والذين اتخذوا من دونه ى أوليآء الله حفيظ عليهم ومآ أنت
عليهم بوكيل (6) وكذا لك أوحينآ إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن
حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في
السعير (7) ولو شآء الله لجعلهم أمة وا حدة ولكن يدخل من يشآء في
رحمته ى والظلمون مالهم من ولى ولا نصير (8) أم اتخذوا من دونه ى
أوليآء فالله هو الولى وهو يحى الموتى وهو على كل شىء قدير (9)
وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ذا لكم الله ربى عليه توكلت
وإليه أنيب (10))
(كذلك) أي: مثل ذلك الوحي يوحي إليك وإلى الأنبياء (من قبلك الله)
يعني: أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من
السور، وأوحاه إلى من قبلك، على معنى: أن الله كرر هذه المعاني في القرآن وفي
جميع الكتب السماوية، لما فيها من المنافع الدينية لعباده، وقرئ: " يوحى
إليك " (1)، وعلى هذا فإنما يرتفع اسم " الله " بما دل عليه " يوحى "، فكأن قائلا
قال: من الموحى؟ فقيل: الله.

(1) قرأه ابن كثير وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 580.
276

(تكاد) قرئ بالتاء والياء (1)، وقرئ: " ينفطرن " (2) و (يتفطرن) ومعناه:
يتشققن من علو شأن الله وعظمته، بدلالة مجيئه بعد قوله: (العلى العظيم)، وقيل:
من دعائهم له ولدا (3) (من فوقهن) أي: يكاد يبتدأ الانفطار من جهتهن الفوقانية
التي هي أعظم آيات الجلال والعظمة، وهي العرش والكرسي، وقيل: من فوق
الأرضين (4)، وعن الصادق (عليه السلام): (ويستغفرون لمن في الأرض) من المؤمنين.
(الله حفيظ) يحفظ عليهم أعمالهم ولم توكل لحفظها، فلا يضيقن صدرك
لتكذيبهم إياك. (وكذلك) ومثل ذلك (أوحينا إليك): و " ذلك " إشارة إلى معنى
الآية قبلها من أن الله هو الحفيظ عليهم وما أنت بحفيظ عليهم ولكن نذير لهم، لأنه
قد تكرر ذكره في مواضع من التنزيل، فالكاف مفعول ل‍ (أوحينآ) و (قرءانا
عربيا) حال من المفعول به، أي: أوحيناه إليك وهو قرآن عربي، ويجوز أن يكون
(ذلك) إشارة إلى مصدر (أوحينآ) أي: ومثل ذلك الإيحاء البين أوحينا إليك
قرآنا عربيا بلسانك (لتنذر) أهل (أم القرى) وهي مكة (ومن حولها) من
سائر الناس، وتنذرهم (يوم الجمع) وهو يوم القيامة، يجمع الله فيه الأولين
والآخرين، يقال: أنذرته كذا وأنذرته بكذا، وقد عدى الأول إلى المفعول الأول
والثاني إلى المفعول الثاني وهو يوم الجمع، وقيل: يجمع فيه بين الأرواح
والأجساد (5)، وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله (6)، و (لا ريب فيه) اعتراض
لا محل له.

(1) وبالياء قرأه نافع والكسائي. راجع المصدر السابق.
(2) وهي قراءة أبي عمرو وعاصم برواية أبي بكر. راجع المصدر نفسه.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 208.
(4) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 406.
(5 و 6) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 210.
277

(ولو شآء الله) مشيئة قدرة لأجبرهم جميعا على الإيمان، ولكنه شاء مشيئة
حكمة أن يكلفهم، وبنى أمرهم على الاختيار ليدخل المؤمنين (في رحمته).
(أم) منقطعة، ومعنى الهمزة فيها الإنكار (فالله هو الولى) هو الذي يجب
أن يتولى وحده، ويعتقد أنه الحقيق بالولاية دون غيره، والفاء جواب شرط مقدر
كأنه قال بعد إنكار كل ولي سواه: إن أرادوا وليا بحق فالله هو الولي الحق، ومن
شأن هذا الولي أنه (يحى الموتى وهو على كل شىء قدير) فهو الحري بأن يتخذ
وليا دون من لا يقدر على شيء.
(وما اختلفتم فيه من شىء) حكاية قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للمؤمنين، ومعناه:
ما تختلفون فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض (إلى الله) يثيب
المحق ويعاقب المبطل (ذلكم) الحاكم (الله) هو (ربى عليه توكلت) في رد
كيد الأعداء (وإليه أنيب) في جميع الأمور.
(فاطر السموات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن
الانعم أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله ى شىء وهو السميع البصير (11)
له مقاليد السموات والارض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل
شىء عليم (12) شرع لكم من الدين ما وصى به ى نوحا والذي أوحينآ
إليك ومآ وصينا به ى إبرا هيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا
تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشآء
ويهدى إليه من ينيب (13) وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا
بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وإن
الذين أورثوا الكتب من بعدهم لفي شك منه مريب (14) فلذا لك فادع
واستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتب
278

وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنآ أعملنا ولكم أعملكم لا حجة
بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15))
(فاطر) خبر بعد خبر ل‍ (ذلكم)، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: خلق لكم من
جنسكم (أزوجا) وخلق (الأنعم) أيضا من أجناسها (أزوجا يذرؤكم)
يكثركم (فيه) في هذا التدبير، وهو أن جعل بين الذكور والإناث من الناس
والأنعام التوالد والتناسل، والضمير في (يذرؤكم) يرجع إلى المخاطبين والأنعام
(ليس كمثله شىء) وهو كقولهم: مثلك لا يبخل، والمراد: نفي البخل عن ذاته،
وهو من باب الكناية، لأنهم إذا نفوا الشيء عمن يسد مسده فقد نفوه عنه، فالمعنى:
نفي المماثلة عن ذاته سبحانه، فلا فرق بين أن يقال: ليس كالله شيء، وأن يقال:
ليس كمثله شيء، إلا فائدة الكناية، وقيل: كررت كلمة التشبيه للتأكيد (1) كما
كررت في قول الشاعر:
وصاليات ككما يؤثفين (2)
(شرع لكم من الدين) دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء، ثم فسر
المشروع الذي اشترك هؤلاء الرسل فيه بقوله: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)
والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وحججه
وباليوم الآخر، ومحل (أن أقيموا) نصب بدل من مفعول (شرع) والمعطوفين
عليه (كبر على المشركين) أي: عظم عليهم وشق (يجتبى إليه) والضمير
ل‍ (الدين) أي: يجتلب إليه بالتوفيق (من يشاء) من يجدي عليهم لطفه.

(1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 395.
(2) لخطام الريح المجاشعي الراجز، وهو خطام بن نصر بن عياض، وقيل: اسمه بشر، والبيت
من قصيدة له يصف فيها آثار ديار مهجورة. راجع خزانة الأدب للبغدادي: ج 2 ص 313.
279

(وما تفرقوا) يعني: أهل الكتاب بعد أنبيائهم (إلا من بعد) أن علموا أن
الفرقة ضلال وفساد (ولولا كلمة سبقت من ربك) وهي عدة التأخير (إلى) يوم
القيامة (لقضى بينهم) حين افترقوا لعظم ما اقترفوا (وإن الذين أورثوا الكتاب
من بعدهم) وهم أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله (لفي شك) من
كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان. وقيل: وما تفرق أهل الكتاب إلا من بعد ما
جاءهم العلم بمبعث رسول الله، (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم) العرب،
والكتاب: القرآن (1). (فلذلك) أي: فلأجل ذلك التفرق (فادع) إلى الاتفاق
والائتلاف على الملة الحنيفة (واستقم) عليها وعلى الدعوة إليها (كمآ أمرت ولا
تتبع أهوآءهم) المختلفة الباطلة (وقل ءامنت بما أنزل الله) من الكتب على
الأنبياء قبلي (وأمرت لأعدل بينكم) في الدعاء إلى الحق ولا أحابي أحدا، أو:
أعدل بينكم في جميع الأشياء (لا حجة بيننا وبينكم) أي: لا خصومة لأن الحق
قد ظهر، والحجة قد لزمتكم فلا حاجة إلى المحاجة، والمعنى: لا إيراد حجة بيننا
وبينكم (الله يجمع بيننا) يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم.
(والذين يحآجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة
عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16) الله الذي أنزل
الكتب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17) يستعجل
بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها
الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلل بعيد (18) الله لطيف
بعباده ى يرزق من يشآء وهو القوى العزيز (19) من كان يريد حرث

(1) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 407.
280

الأخرة نزد له في حرثه ى ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته ى منها وماله
في الأخرة من نصيب (20))
(الذين يحآجون في) دين (الله من بعد ما استجيب له) أي: استجابوا
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما دعاهم إليه ودخلوا في الإسلام لظهور حجته بالمعجزات
والآيات التي أظهرها الله سبحانه فيه (حجتهم داحضة) أي: باطلة، سمى شبهتهم
حجة على حسب اعتقادهم.
(الله الذي أنزل) جنس (الكتب... والميزان) أي: وأنزل العدل والتسوية
في كتبه المنزلة، وقيل: الميزان الذي يوزن به أنزله من السماء (1) (بالحق)
متلبسا بالحق مقترنا به، أو: بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة، أو: بالواجب من
التحريم والتحليل وغير ذلك (الساعة) في تأويل البعث، فلذلك قال: (قريب)،
أو: لعل مجيء الساعة قريب.
(يمارون) يلاجون ويخاصمون في مجيء الساعة (لفي ضلل بعيد) من
الحق؛ لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة القادر بالذات، ولدلالة الكتاب
المعجز على أنها آتية لا ريب فيها، ولقيام دليل العقل على أنه لابد من دار جزاء
(الله لطيف بعباده) أي: بر بهم، بليغ البر، قد وصل بره إلى جميعهم، وإلى حيث
لا يبلغه وهم أحد منهم.
سمى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثا على المجاز، وفرق بين عمل
العاملين بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته، ومن عمل للدنيا
أعطى شيئا منها لا ما يبتغيه (وما له... نصيب) قط في الآخرة، ولم يذكر في معنى

(1) قاله الجبائي. راجع التبيان: ج 9 ص 154.
281

عامل الآخرة: " وله في الدنيا نصيب " مع أن رزقه المقسوم له لابد أن يصل إليه؛
للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من الفوز والسعادة في المآب.
(أم لهم شركؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة
الفصل لقضى بينهم وإن الظلمين لهم عذاب أليم (21) ترى الظلمين
مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين ءامنوا وعملوا الصلحت في
روضات الجنات لهم ما يشآءون عند ربهم ذا لك هو الفضل
الكبير (22) ذا لك الذي يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا
الصلحت قل لا أسلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف
حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23) أم يقولون افترى على
الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله البطل ويحق الحق
بكلمته ى إنه عليم بذات الصدور (24) وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ى
ويعفوا عن السيات ويعلم ما تفعلون (25) ويستجيب الذين ءامنوا
وعملوا الصلحت ويزيدهم من فضله ى والكفرون لهم عذاب
شديد (26) ولو بسط الله الرزق لعباده ى لبغوا في الأرض ولكن ينزل
بقدر ما يشآء إنه بعباده ى خبير بصير (27))
(أم لهم شركوءا) الهمزة في " أم " للتقريع والتقرير، وشركاؤهم: شياطينهم
الذين زينوا لهم الشرك، والعمل للدنيا، وإنكار الحشر والجزاء وما لم يأمر الله به
ولا أذن فيه (ولولا كلمة الفصل) في تأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة
(لقضى بينهم) أي: فرغ من عذابهم في الدنيا.
(ترى الظلمين) في الآخرة (مشفقين) خائفين خوفا شديدا، أرق قلوبهم
(مما كسبوا) من السيئات (وهو واقع بهم) وجزاؤه وباله واقع بهم، واصل
282

إليهم، أشفقوا أو لم يشفقوا، والضمير لكسبهم الذي دل عليه " ما كسبوا "، والروضة:
الأرض الخضرة لحسن النبات، وكأن (روضات الجنات) أطيب البقاع فيها
وأنزهها (لهم ما يشآءون) ويشتهون، وانتصب (عند ربهم) بالظرف لا
ب‍ (يشآءون)، (ذلك) الثواب (هو الفضل) العظيم، والنعيم المقيم الذي
يستأهل أن يسمى كبيرا
(ذلك) الثواب (الذي يبشر الله به عباده) فحذف الجار كما في قوله:
(واختار موسى قومه) (1)، ثم حذف الضمير العائد إلى الموصول، أو: ذلك
التبشير الذي يبشر الله به عباده المؤمنين الصالحين ليستبشروا بذلك في الدنيا.
وقرئ: (يبشر) من: بشره، و " يبشر " (2) من: أبشره.
وروي: أن المشركين قالوا فيما بينهم: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه
أجرا؟ ونزلت الآية (3)، (قل لا أسئلكم) على تبليغ الرسالة (أجرا إلا المودة في
القربى) يجوز أن يكون استثناء متصلا، أي: لا أسألكم أجرا إلا هذا، وهو أن
تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة لأن قرابته قرابتهم، فكانت
صلتهم لازمة لهم في المروءة، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا، أي: لا أسألكم
أجرا قط ولكن أسألكم أن توادوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم، ومعنى
(في القربى) أنه جعلهم مكانا للمودة ومقرا لها، كما تقول: لي في آل فلان مودة؛
و: لي فيهم حب شديد، تريد: أحبهم، و: هم مكان حبي ومودتي، وليست (في)
بصلة ل‍ (المودة) كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف كما

(1) الأعراف: 155.
(2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 205.
(3) رواه الواحدي النيسابوري في أسباب النزول: ص 315 ذ ح 778 عن قتادة.
283

يتعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلا المودة ثابتة في القربى.
وعن ابن عباس: أنها لما نزلت قالوا: من قرابتك هؤلاء الذين أمرنا الله
بمودتهم؟ قال: " علي وفاطمة وولدهما " (1).
وروى زاذان عن علي (عليه السلام) قال: " فينا من آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا كل
مؤمن " ثم قرأ هذه الآية (2). وإلى ذلك أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في آل حم آية * تأولها منا تقي ومعرب (3)
(ومن يقترف حسنة) عن السدي: أن الحسنة المودة في آل رسول الله (4)
وزيادة حسنها من جهة الله عز اسمه: مضاعفتها، كقوله: (فيضعفه له أضعافا
كثيرة) (5)، و " الشكور " في صفة الله عز وجل مجاز للاعتداد بالطاعة وتوفية
ثوابها، والتفضل على المثاب.
(أم) منقطعة، ومعنى الهمزة فيها: التوبيخ، كأنه قال: أينسبون مثله إلى
الافتراء، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أفحش الفرى وأعظمها (فإن يشأ الله)
يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب، فإنه لا يجترئ على
افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد
الافتراء من مثله، وأنه في البعد مثل الشرك بالله، والدخول في جملة المختوم على
قلوبهم. ثم أخبر سبحانه أنه يبطل ما يقولونه بقوله: (ويمحو الله البطل) أي:

(1) شواهد التنزيل للحسكاني: ج 2 ص 130، المعجم الكبير للطبراني: ج 1 ص 125
ح 113، مناقب ابن المغازلي الشافعي: ص 307، ذخائر العقبى للطبري: ص 24، المناقب
لابن حنبل: ص 218 مخطوط.
(2) شواهد التنزيل: ج 2 ص 142، الصواعق المحرقة: ص 101، كنز العمال: ج 1 ص 208.
(3) أنظر القصائد الهاشميات والقصائد العلويات: ص 30.
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 221.
(5) البقرة: 245.
284

ومن عادة الله أن يمحو الباطل (ويحق الحق) ويثبته (بكلمته) بوحيه
أو بقضائه، كما قال: (بل نقذف بالحق على البطل فيدمغه) (1)، فهو يمحو
الباطل الذي هم عليه من تكذيبك والبهت عليك، ويثبت الحق الذي أنت عليه
وينصرك عليهم.
يقال: قبلت الشيء منه وقبلته عنه، فمعنى قبلته منه: أخذته منه وجعلته مبدأ
قبولي، ومعنى قبلته عنه: عزلته عنه وأبنته عنه.
والتوبة: أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب، بأن يندم عليها ويعزم على
أن لا يعاودهما في المستقبل، لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب، وإن كان
فيه لعبد حق لم يكن بد من التقصي (2) على طريقه، وقرئ (ما تفعلون) بالتاء
والياء (3).
(ويستجيب الذين آمنوا) ويستجيب لهم فحذف اللام كما حذف في قوله:
(وإذا كالواهم) (4)، أي: يقبل طاعاتهم وعباداتهم (ويزيدهم) على ما
يستحقونه من الثواب تفضلا، وإذا دعوه استجاب لهم دعاءهم وزادهم على
مطلوبهم.
وعن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: (ويزيدهم من فضله) إنه الشفاعة
لمن وجبت له النار ممن أحسن إليهم في الدنيا (5).
(ولو بسط الله الرزق) أي: لو وسع الله الرزق على عباده على حسب
ما يطلبونه (لبغوا) وظلموا (في الأرض) أي: يظلم هذا ذاك، وذاك هذا، لأن

(1) الأنبياء: 18.
(2) في بعض النسخ: " التفصي ".
(3) وبالياء قرأه ابن كثير ونافع وعاصم برواية أبي بكر وابن عامر وأبو عمرو. راجع كتاب
السبعة في القراءات: ص 580.
(4) المطففين: 3.
(5) أخرجه ابن كثير في تفسيره: ج 4 ص 117 وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
285

الغنى مأشرة مبطرة وكفى بحال قارون عبرة، ولكنه (ينزل بقدر) أي: بتقدير.
وفي الحديث: " أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها " (1).
ويجوز أن يكون من البغي الذي هو البذخ والتكبر، أي: لتكبروا في الأرض
وفعلوا ما يدعو إليه الكبر من الفساد فيها، ولا شبهة أن كلا الأمرين مع الفقر أقل
ومع البسط أكثر (إنه خبير) بأحوال عباده (بصير) بمصالحهم ومفاسدهم.
(وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولى
الحميد (28) ومن ءايته ى خلق السموات والأرض وما بث فيهما من
دآبة وهو على جمعهم إذا يشآء قدير (29) ومآ أصبكم من مصيبة فبما
كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (30) ومآ أنتم بمعجزين في الأرض وما
لكم من دون الله من ولى ولا نصير (31) ومن ءايته ى الجوار في البحر
كالاعلم (32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ى إن في
ذا لك لأيت لكل صبار شكور (33) أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن
كثير (34) ويعلم الذين يجدلون في ءايتنا مالهم من محيص (35))
يريد برحمته: بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب بإخراج
النبات والثمار، ويجوز أن يريد: رحمته في كل شيء، أي: (ينزل الغيث) وينشر
غيرها من رحمته الواسعة.
(وما بث) يجوز أن يكون مجرورا ومرفوعا عطفا على المضاف إليه
أو المضاف، وقال فيهما: " والدواب في الأرض " لأن الشيء يجوز أن ينسب إلى
جميع المذكور وإن كان ملتبسا ببعضه، كقوله (يخرج منهما اللولؤ والمرجان) (2)
وإنما يخرج من الملح، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفوا

(1) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 149.
(2) الرحمن: 22.
286

بالدبيب كما يوصف به الإنسان، ولا يبعد أن يكون في السماوات من يمشي فيها
كما يمشي الأناسي في الأرض.
وقرئ: " بما كسبت " بغير فاء (1) وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة (2)،
على أن يكون " بما كسبت " خبر المبتدأ الذي هو (ما أصبكم) من غير تضمين
معنى الشرط، والآية مخصوصة بالمجرمين، ولا يمتنع أن يستوفي الله بعض عقاب
المجرم في الدنيا ويعفو عن بعض، فأما من لا جرم له من المعصومين أو غير
المكلفين من الأطفال والمجانين، فإذا أصابهم شيء من الآلام من مرض وغيره
فللعوض الموفى عليه والغرض الذي هو المصلحة.
وعن علي (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " خير آية في كتاب الله هذه الآية، يا
علي ما من خدش عود ولا نكبة (3) قوم إلا بذنب، وما عفا الله عنه في الدنيا فهو
أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على
عبده " (4).
والأعلام: الجبال، واحدها علم، قالت الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار (5)
(الجوار) وقرئ بحذف الياء وإثباتها (6)، والقياس الإثبات، وحذف هذه

(1) قرأه نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 581.
(2) أنظر المصدر السابق.
(3) في نسخة: " نكتة ".
(4) ورد الحديث بألفاظ مختلفة فانظر الكافي: ج 2 ص 445 ح 6، والدر المنثور: ج 7
ص 354 وعزاه إلى أحمد وابن راهويه وابن منيع وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبي
يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم.
(5) والبيت من قصيدة طويلة ترثي بها أخاها صخرا. أنظر ديوان الخنساء: ص 49.
(6) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بياء في الوصل، ويقف ابن كثير بالياء ونافع وأبو عمرو بغير
ياء. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 581.
287

الياءات قد كثر في كلامهم فصار مثل القياس، وهي السفن الجارية (إن يشأ) الله
(يسكن الريح) فتبقى السفن راكدة واقفة (على) ظهر الماء، فجعل سبحانه
بكمال قدرته هبوب الريح في الجهة التي تسير إليها السفينة (لكل صبار) على
بلاء الله (شكور) لنعمائه، وهما صفتا المؤمن المخلص. (أو يوبقهن) أي:
يهلكهن بأن يرسل الريح عاصفة فيغرقهن بسبب (ما كسبوا) من الذنوب
(ويعف عن كثير) منها، وعطف (يوبقهن) على (يسكن) لأن المعنى: إن يشأ
يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها.
وقرئ: (ويعلم) بالنصب والرفع (1) فأما النصب فللعطف على تعليل
محذوف، وتقديره: لننتقم منهم ويعلم الذين يجادلون، ونحوه كثير في التنزيل، منه
قوله: (ولنجعلك ءاية للناس) (2) (ولتجزى كل نفس بما كسبت) (3)، وأما الرفع
فعلى الاستئناف.
(فمآ أوتيتم من شىء فمتع الحيوة الدنيا وما عند الله خير وأبقى
للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون (36) والذين يجتنبون كبائر الإثم
والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم
وأقاموا الصلوة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقنهم ينفقون (38)
والذين إذ آ أصابهم البغى هم ينتصرون (39) وجزاؤا سيئة سيئة مثلها
فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظلمين (40) ولمن انتصر
بعد ظلمه ى فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين
يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب
أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذا لك لمن عزم الامور (43) ومن يضلل

(1) وبالرفع هي قراءة نافع وابن عامر. راجع المصدر السابق.
(2) البقرة: 259.
(3) الجاثية: 22.
288

الله فماله من ولى من بعده ى وترى الظلمين لما رأوا العذاب يقولون
هل إلى مرد من سبيل (44) وتراهم يعرضون عليها خشعين من الذل
ينظرون من طرف خفي وقال الذين ءامنوا إن الخسرين الذين خسروا
أنفسهم وأهليهم يوم القيمة ألا إن الظلمين في عذاب مقيم (45)
وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له
من سبيل (46))
وقرئ: " كبير الإثم " على التوحيد (1) وجاز أن يراد به الجمع كما في قوله:
(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (2).
وفي الحديث: " منعت العراق درهمها وقفيزها " (3).
(والذين يجتنبون) عطف على (الذين ءامنوا) وكذلك ما بعده، (هم
يغفرون) أي: هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب، لا يغول الغضب أحلامهم
كما يغول أحلام غيرهم من الناس، فهذه فائدة " هم " وإيقاعه مبتدأ، ومثله
(هم ينتصرون).
والشورى: مصدر بمعنى التشاور، أي: (وأمرهم شورى بينهم) وقيل: إن
المعني بالآية أن الأنصار تشاوروا في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ورد النقباء عليهم
من عنده، فاجتمعوا في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له (4). والمنتصرون
هم المؤمنون الذين أخرجوا من مكة وبغى عليهم الكفار، ثم مكنهم الله فانتصروا
منهم.

(1) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 581.
(2) إبراهيم: 34، النحل: 18.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه: ج 4 ص 2220 ح 33 عن أبي هريرة.
(4) قاله الضحاك. راجع تفسير القرطبي: ج 16 ص 37.
289

(وجزؤا سيئة سيئة مثلها) سمى سبحانه كلتا الفعلتين: الأولى وجزاءها
سيئة؛ لأنها تسوء من تنزل به. ومعناه: أنه إذا قوبلت الإساءة وجب أن يقابل بمثلها
من غير زيادة (فمن عفا) عما له المؤاخذة به (وأصلح) أمره فيما بينه وبين ربه،
أو: بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء (فأجره على الله) عدة مبهمة لا يحاط
بكنهها في العظم (إنه لا يحب الظلمين) فيه دلالة على أن الانتصار لا يؤمن فيه
تجاوز النصفة والسوية والاعتداء، ولا سيما في حال الغضب، فربما كان المنتصر
ظالما من حيث لا يشعر.
وفي الحديث: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره على الله
فليدخل الجنة، فيقال: من ذا الذي أجره على الله؟ فيقال: العافون عن الناس
يدخلون الجنة بغير حساب " (1).
(بعد ظلمه) أضاف المصدر إلى المفعول، أي: بعد أن ظلم وتعدي عليه
(فأولئك) إشارة إلى معنى " من " دون لفظه (ما عليهم من سبيل) للمعاقب ولا
للعائب (إنما السبيل) أي: العقاب والذم (على الذين يظلمون الناس) ابتداء.
(ولمن صبر) على الظلم والأذى (وغفر) ولم ينتصر (إن ذلك) الصبر والمغفرة
منه (لمن عزم الامور) وحذف الراجع؛ للعلم به كما حذف من قولهم: السمن
منوان بدرهم، و عزم الأمور: هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب والأ جر.
(خشعين) متواضعين متضائلين مما يلحقهم (من الذل ينظرون من
طرف خفي) أي: يبتدئ نظرهم من تحريك ضعيف لأجفانهم، خفي بمسارقة،
كما ترى المصبور (2) ينظر إلى السيف لا يملأ أجفانه منه كما يفعله الناظر إلى

(1) أخرجه السيوطي في الدر: ج 7 ص 359 وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي
في الشعب عن أنس.
(2) المصبور: المحبوس للقتل (لسان العرب: مادة صبر).
290

ما يحبه، وقوله: (يوم القيمة) إن تعلق ب‍ (خسروا) كان قول المؤمنين واقعا
في الدنيا، وإن تعلق ب‍ (قال) فالمعنى: يقولون يوم القيامة: (إن الخسرين) في
الحقيقة هم الذين فوتوا (أنفسهم) الانتفاع بنعيم الجنة (و) خسروا (أهليهم)
وأولادهم وأزواجهم إذ حيل بينهم وبينهم، وأهليهم (1) من الحور العين.
(استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله مالكم من
ملجإ يومئذ وما لكم من نكير (47) فإن أعرضوا فمآ أرسلنك عليهم
حفيظا إن عليك إلا البلغ وإنآ إذ آ أذقنا الانسن منا رحمة فرح بها
وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الانسن كفور (48) لله ملك
السموات والارض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إنثا ويهب لمن
يشآء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإنثا ويجعل من يشآء عقيما إنه
عليم قدير (50) وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآى
حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ى ما يشآء إنه على حكيم (51)
وكذا لك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتب ولا
الايمن ولكن جعلنه نورا نهدى به ى من نشآء من عبادنا وإنك لتهدى
إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السموات وما في
الأرض ألا إلى الله تصير الامور (53))
(من الله): " من " صلة (لا مرد) أي: لا يرده الله بعدما حكم به، أو: " من "
صلة (يأتى) أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده، والنكير:
الإنكار والتغيير.
والمراد بالإنسان هنا الجمع لا الواحد لقوله: (وإن تصبهم) والمعني بهم

(1) في بعض النسخ: " أو أهليهم ".
291

المجرمون، لأن إصابة السيئة (بما قدمت أيديهم) لا يستقيم إلا فيهم، والمراد
بالرحمة: النعمة من الصحة والعافية والغنى والأمن، وبالسيئة: البلاء من القحط
والمرض والفقر والمخاوف، والكفور: البليغ في الكفران، ولم يقل: فإنه كفور
ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال: (إن الانسن لظلوم
كفار) (1)، (إن الانسن لربه لكنود) (2) أي: يذكر البلاء وينسى النعم.
ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها عقب ذلك بأن له
(ملك السموت والارض) وأنه يقسم كيف شاء النعمة والبلاء، و (يهب) كيف
أراد لعباده الأولاد فيخص بعضهم بالإناث، وبعضهم بالذكور، وبعضهم بالصنفين
جميعا، ويعقم منهم من يشاء فلا يهب له ولدا.
(وما كان لبشر) وما صح لأحد من البشر (أن يكلمه الله) إلا على أحد
ثلاثة أوجه: إما على طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام، كما
أوحى إلى أم موسى، وإلى إبراهيم في ذبح ولده، وأوحى إلى داود الزبور في
صدره، وإما أن يسمعه كلامه الذي يحدثه في بعض الأجرام من غير أن يبصر
السامع من يكلمه، لأنه في ذاته غير مرئي، وقوله: (من ورآء حجاب) مثل أي:
كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء حجاب فيسمع صوته ولا
يرى شخصه، وذلك كما كلم سبحانه موسى ويكلم الملائكة، وإما على أن يرسل
إليه رسولا من الملائكة فيوحي الملك إليه، كما كلم غير موسى من الأنبياء على
ألسنتهم وقيل: (وحيا) كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملك، أو يرسل رسولا نبيا
كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم (3)، و (وحيا) و " أن يرسل " مصدران وقعا
موقع الحال، كما يقال: جئت ركضا، و: أتيت مشيا، لأن " أن يرسل " في معنى

(1) إبراهيم: 34.
(2) العاديات: 6.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 233.
292

" إرسالا "، و (من وراء حجاب) ظرف وقع موقع الحال أيضا كقوله: (دعانا
لجنبه أو قاعدا أو قآئما) (1)، وتقديره: وما صح أن يكلم الله واحدا إلا موحيا أو
مسمعا (من وراء حجاب) أو مرسلا رسولا. ويجوز أن يكون (وحيا) موضوعا
موضع " كلاما " لأن الوحي كلام خفي في سرعة، كما يقول: لا أكلمه إلا جهرا، لأن
الجهر ضرب من الكلام، وكذلك " إرسالا " جعل الكلام على لسان الرسول بمنزلة
الكلام بغير واسطة، تقول: قلت لفلان كذا، وإنما قاله وكيلك أو رسولك، وقوله: (أو
من وراء حجاب) معناه: أو إسماعا من وراء حجاب. ومن جعل (وحيا) في
معنى " أن يوحي " وعطف (أو يرسل) عليه على معنى: وما كان لبشر أن يكلمه
إلا بأن يوحي أو بأن يرسل، فلا بد أن يقدر قوله: (أو من وراء حجاب) تقديرا
يطابقهما عليه، نحو: أو أن يسمع من وراء حجاب. وقرئ: " أو يرسل فيوحى "
بالرفع (2) على: " أو هو يرسل "، أو: هو بمعنى " مرسلا " عطفا على (وحيا) في
معنى " موحيا " (إنه على) عن صفات المخلوقين (حكيم) يجري أفعاله عن
الحكمة، فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بغير واسطة: إما إلهاما أو خطابا.
(روحا من أمرنا) يعني: القرآن، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد
بالروح، وقيل: هو روح القدس (3)، وقيل: هو ملك أعظم من جبرائيل أو ميكائيل
كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (4) (ولا الايمن) يعني: معالم الإيمان من الشرائع.
* * *

(1) يونس: 12.
(2) قرأه نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 582.
(3) وهو قول الربيع كما في تفسير البغوي: ج 4 ص 132 وفيه ذكر " جبرئيل " بناء على أن
" روح القدس " هو جبرئيل (عليه السلام) وهو مذهب العامة.
(4) وهو المروي عن أهل البيت (عليهم السلام)، أنظر الكافي: ج 1 ص 273 باب الروح التي يمدد الله بها
الأئمة (عليهم السلام).
293

سورة الزخرف
مكية (1)، وقيل: إلا آيات، وروي أن قوله: (وسئل من أرسلنا) (2) نزلت
ببيت المقدس (3)، وقيل: إن قوله: (فإما نذهبن بك) (4) الآيات نزلت في حجة
الوداع (5). تسع وثمانون آية (حم) كوفي، (هو مهين) (6) بصري.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة:
(يعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) " (7).
وعن الباقر (عليه السلام): " من أدمن قراءة حم الزخرف آمنه الله في قبره من هوام
الأرض، ومن ضمة القبر " (8).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 179: مكية في قول مجاهد وقتادة، وهي تسع
وثمانون آية بلا خلاف في جملتها.
وفي الكشاف: ج 4 ص 235: مكية، وقال مقاتل: إلا قوله: (وسئل من أرسلنا من قبلك
من رسلنآ) وهي تسع وثمانون آية، نزلت بعد الشورى.
(2) الآية: 45.
(3) وهو قول مقاتل كما في تفسير الآلوسي: ج 25 ص 63.
(4) الآية: 41 وما بعدها.
(5) وهو قول جابر بن عبد الله الأنصاري. راجع شواهد التنزيل للحسكاني: ج 2 ص 216
ح 851.
(6) الآية: 52.
(7) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 268 مرسلا، والآية: 68 منها.
(8) ثواب الأعمال للصدوق: ص 141 وزاد: " حتى يقف بين يدي الله عزوجل، ثم جاءت
حتى تكون هي التي تدخله الجنة بأمر الله تبارك وتعالى ".
295

بسم الله الرحمن الرحيم
(حم (1) والكتب المبين (2) إنا جعلنه قرءا نا عربيا لعلكم
تعقلون (3) وإنه في أم الكتب لدينا لعلى حكيم (4) أفنضرب عنكم
الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5) وكم أرسلنا من نبى في
الأولين (6) وما يأتيهم من نبى إلا كانوا به ى يستهزءون (7) فأهلكنآ أشد
منهم بطشا ومضى مثل الأولين (8) ولئن سألتهم من خلق السموات
والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9) الذي جعل لكم الارض مهدا
وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10))
(الكتب المبين) القرآن، وهو البين للذين أنزل عليهم، لأنه بلغتهم، وقيل:
الذي أبان طريق الهدى وما تحتاج إليه الأمة من الحرام والحلال وشرائع
الإسلام (1). و (إنا جعلنه) جواب القسم، وهو بمعنى " صيرناه " فتعدى إلى
مفعولين، أو تعدى إلى مفعول واحد على معنى " خلقناه "، و (قرءنا عربيا) حال،
و " لعل " مستعار بمعنى الإرادة لتلاحظ معناها ومعنى (2) الترجي، أي: خلقناه
عربيا غير عجمي إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا: (لولا فصلت ءايته) (3).
وقرئ: " إم الكتاب " بكسر الهمزة (4) وهو اللوح، كقوله: (بل هو قرءان مجيد
في لوح محفوظ) (5) سمي بأم الكتاب لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب،

(1) قاله مقاتل. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 214.
(2) لعله: " أو معنى ".
(3) فصلت: 44.
(4) قرأه الأخوان (حمزة والكسائي). راجع العنوان في القراءات السبع لابن خلف: ص 171.
(5) البروج: 21 و 22.
296

منه تنقل وتستنسخ (لعلى) أي: عال رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزا من
بينها، (حكيم) ذو حكمة بالغة، أي: منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه، وهو
مثبت في أم الكتاب هكذا.
(أفنضرب عنكم الذكر) أي: أفننحي (1) عنكم الذكر ونذوده عنكم على
سبيل المجاز، من قولهم: " ضرب الغرائب عن الحوض " (2) والفاء للعطف على
محذوف تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر (صفحا) على وجهين: إما مصدر
من: صفح عنه إذا أعرض، انتصب على أنه مفعول له على معنى: أفنعزل عنكم
إنزال القرآن وإلزام الحجة إعراضا عنكم، وإما بمعنى الجانب فانتصب على الظرف
كما تقول: فلان يمشي جانبا (أن كنتم) لان كنتم. وقرئ " إن كنتم " (3) وإنما
استقام معنى الشرط وقد كانوا (مسرفين) على القطع، لأنه من الشرط الذي
يصدر عن المدل أي: المظهر بصحة الأمر المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن
كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في
الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له.
(وما يأتيهم) حكاية حال ماضية مستمرة، وهي تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن استهزاء قومه. الضمير في (أشد منهم) للمسرفين، لأنه صرف الخطاب عنهم
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره عنهم (ومضى مثل الأولين) أي: سلف في القرآن
في مواضع منه ذكر قصتهم التي سارت مسير المثل، وهذا وعد لرسول الله ووعيد

(1) في نسخة: " أفنحمي ".
(2) في المجمع: " ضربه ضرب غرائب الإبل " وذلك أن الغريبة تزدحم على الحياض عند
الورود، وصاحب الحوض يطردها ويضربها بسبب إبله. والمثل يضرب في دفع الظالم عن
ظلمه بأشد ما يمكن. راجع مجمع الأمثال: ج 1 ص 432.
(3) قرأه نافع وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 584.
297

لهم. (ليقولن خلقهن العزيز العليم) لينسبن خلقها إلى الله العزيز، وليسندنه إليه.
(والذي نزل من السمآء مآء بقدر فأنشرنا به ى بلدة ميتا كذا لك
تخرجون (11) والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعم
ما تركبون (12) لتستووا على ظهوره ى ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم
عليه وتقولوا سبحن الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) وإنآ
إلى ربنا لمنقلبون (14) وجعلوا له من عباده ى جزءا إن الانسن لكفور
مبين (15) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16) وإذا بشر
أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17) أومن
ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18) وجعلوا الملئكة
الذين هم عبد الرحمن إنثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهدتهم
ويسلون (19) وقالوا لو شآء الرحمن ما عبدنهم مالهم بذا لك من
علم إن هم إلا يخرصون (20))
(بقدر) بمقدار الحاجة ولم يكن طوفانا يضر بالبلاد والعباد. و (الازوج):
الأصناف و (ما تركبون) أي: تركبونه في البر والبحر، يقال: ركبوا الأنعام وركبوا
في الفلك، فغلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة وإن كان الجنسان
مذكورين. (لتستووا على ظهوره) أي: على ظهور ما تركبونه، و (تذكروا نعمة
ربكم) عليكم، وهو أن تعترفوا بها في قلوبكم مستعظمين لها، ثم تحمدوه عليها
بألسنتكم.
وهو ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبر
ثلاثا وقال: (سبحن الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)
اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى والعمل بما ترضى، اللهم هون علينا
298

سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم
إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال، وإذا
رجع قال: آيبون تائبون لربنا حامدون (1).
وعن الصادق (عليه السلام) قال: " ذكر النعمة أن تقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام،
وعلمنا القرآن، ومن علينا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقول بعده: (سبحن الذي سخر لنا
هذا) إلى آخره " (2).
(مقرنين) أي: مطيقين، وحقيقة " أقرنه ": وجده قرينته وما يقرن به؛ لأن
الصعب لا يقرن بالضعيف، ولما كان الركوب مباشرة أمر ذي خطر، فمن حق
الراكب أن لا ينسى انقلابه إلى الله، ولا يدع ذكر ذلك حتى يكون مستعدا للقاء الله.
(وجعلوا له من عباده جزءا) متصل بقوله: (ولئن سألتهم) أي: إن سألتهم
عن الخالق اعترفوا به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا بأن قالوا:
الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا منه، كما يكون الولد بضعة من والده،
فوصفوه بصفة المخلوقين (إن الإنسن لكفور) جحود النعمة (مبين) ظاهر
جحوده؛ لأن نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله.
(أم اتخذ) بل اتخذ، الهمزة للإنكار تجهيلا لهم وتعجيبا من نشأتهم (3)
حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءا، حتى جعلوا ذلك الجزء أدون
الجزأين، وهو الإناث دون الذكور، على أنهم أمقت خلق الله للإناث حتى أنهم
كانوا يئدونهن. (وإذا بشر أحدهم) بالجنس الذي جعله الله (مثلا) أي: شبها،

(1) أخرجه مسلم في صحيحه: ج 2 ص 978 ح 1342 عن ابن عمر.
(2) رواه العياشي كما في تفسير البرهان للبحراني: ج 4 ص 147 ح 5.
(3) في بعض النسخ: " شأنهم ".
299

لأنه إذا جعل الملائكة جزءا له وبعضا منه فقد جعله من جنسه ومماثلا له، لأن
الولد إنما يكون من جنس الوالد (ظل وجهه مسودا) غيظا وأسفا (وهو كظيم)
مملوء من الكرب. ثم قال: (أو) يجعل للرحمن من الولد من هذه صفته وهو أنه
(ينشؤا في الحلية) أي: يتربى في الزينة والنعمة، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة
الخصوم ومخاصمة الرجال كان (غير مبين) ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان
يحج به من خاصمه، وذلك لضعف عقول النساء.
وقرئ: " عند الرحمن " (1) وهو مثل لاختصاصهم وزلفاهم و (عبد
الرحمن) وقرئ: " ينشأ " (2) و (ينشؤا)، ومعنى (جعلوا) سموا وقالوا: إنهم
إناث، وقرئ " أأشهدوا " بهمزتين مفتوحة ومضمومة (3)، و " آأشهدوا " بألف بين
الهمزتين (4)، وهذا تهكم بهم، يعني: أنهم كانوا يقولون ذلك بغير علم ودليل، فلم
يبق إلا أن يشاهدوا (خلقهم) فأخبروا عن المشاهدة (ستكتب شهادتهم) التي
شهدوا بها على الملائكة (ويسئلون) وهذا وعيد.
(وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدنهم) هما نوعان من الكفر: عبادتهم
الملائكة، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئة الله كما قال إخوانهم المجبرة، ثم كذبهم
سبحانه بقوله: (إن هم إلا يخرصون) أي: يكذبون.
(أم ءاتينهم كتبا من قبله ى فهم به ى مستمسكون (21) بل قالوا إنا
وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثرهم مهتدون (22) وكذا لك مآ

(1) قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 585.
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع المصدر السابق.
(3) وهي قراءة نافع وعاصم برواية المفضل. راجع المصدر السابق نفسه، وفي شواذ القرآن
لابن خالويه: ص 135 نسبها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
(4) وهي قراءة المسيبي عن نافع. راجع كتاب السبعة السابق.
300

أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا
على أمة وإنا على ءاثرهم مقتدون (23) قل أولو جئتكم بأهدى مما
وجدتم عليه ءابآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به ى كفرون (24) فانتقمنا منهم
فانظر كيف كان عقبة المكذبين (25) وإذ قال إبرا هيم لأبيه وقومه ى إننى
برآء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرنى فإنه سيهدين (27) وجعلها كلمة
باقية في عقبه ى لعلهم يرجعون (28) بل متعت هؤلاء وءابآءهم حتى
جآءهم الحق ورسول مبين (29) ولما جآءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا
به ى كفرون (30))
أي: أهذا شيء يخرصونه (أم ءاتينهم كتبا) قبل هذا الكتاب نسبنا فيه
الكفر إلينا فهم (مستمسكون) به، بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم: (إنا
وجدنا ءابآءنا على أمة) أي: دين وملة وطريقة (وإنا على ءاثرهم مهتدون)
خبران ل‍ " إن " أو الظرف صلة (مهتدون). و (مترفوهآ): الذين أترفتهم النعمة،
أي: أبطرتهم فآثروا الترفه على طلب الحجة، وعافوا مشاق التكليف، وكل فريق
يقلد أسلافه.
وقرئ " قل " (1) و (قال) أي: قال لهم النذير، و " قل " حكاية لما أوحي إلى
النذير، أي: قل لهم (أولو جئتكم)، وقرئ: " جئناكم " (2)، أي: أتبعون آباءكم ولو
جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ (قالوا إنا) ثابتون على دين آبائنا وإن جئتنا
بما هو أهدى.

(1) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة
في القراءات: ص 585.
(2) قرأه أبي وأبو جعفر وأبو شيخ الهنائي. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 136.
301

(برآء) يستوي فيه الواحد والاثنان والجماعة، والمذكر والمؤنث؛ لأنه
مصدر، يقال: نحن البراء منك والخلاء منك. (الذي فطرنى) يجوز أن يكون
منصوبا على أنه استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني وأنشأني فإنه
(سيهدين)، وأن يكون مجرورا بدلا من المجرور ب‍ " من " كأنه قال: إني براء مما
تعبدون إلا من الذي فطرني. وعن قتادة: كانوا يقولون: الله ربنا مع عبادتهم
الأصنام (1)، ويجوز أن يكون " ما " موصوفة في (ما تعبدون)، و (إلا) صفة
بمعنى " غير "، ويكون التقدير: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني.
(وجعلها) أي: جعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها (كلمة باقية في
عقبه) في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، وقيل: وجعلها
الله (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم القيامة " (3).
وعن السدي: هم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (4).
(لعلهم يرجعون) لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم. (بل
متعت هؤلاء) يعني: أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة،
فاغتروا بالمهلة، وشغلوا باتباع الشهوات عن كلمة التوحيد (حتى جاءهم الحق)
وهو القرآن (ورسول مبين) الرسالة واضحها بما معه من المعجزات، فكذبوه
وسموه ساحرا وما جاء به سحرا.

(1) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 193.
(2) قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 179.
(3) معاني الأخبار للصدوق: ص 131 - 132.
(4) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 194، والماوردي في تفسيره: ج 5
ص 222.
302

(وقالوا لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم (31)
أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجت ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت
ربك خير مما يجمعون (32) ولولا أن يكون الناس أمة وا حدة لجعلنا
لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33)
ولبيوتهم أبوا با وسررا عليها يتكون (34) وزخرفا وإن كل ذا لك لما
متع الحيوة الدنيا والأخرة عند ربك للمتقين (35) ومن يعش عن ذكر
الرحمن نقيض له شيطنا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن
السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جآءنا قال يليت بينى
وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم
أنكم في العذاب مشتركون (39) أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى
ومن كان في ضلل مبين (40))
القريتان: مكة والطائف (من القريتين) من إحدى القريتين، وقيل: من
رجلي القريتين وهما: الوليد بن المغيرة من مكة، وحبيب بن عمرو الثقفي من
الطائف عن ابن عباس (1)، والوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي عن
قتادة (2)، وأراد بعظم الرجل رئاسته في الدنيا.
(أهم يقسمون رحمت ربك) الهمزة للإنكار والتعجب من اعتراضهم
وتحكمهم، أي: أهم المدبرون لأمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها،
والمتولون لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بحكمته، ثم ضرب لهم مثلا

(1) تفسير ابن عباس: ص 413.
(2) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 195.
303

فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير مصالحهم في دنياهم، وأنه سبحانه قسم بينهم
معيشتهم وقدرها، وفضل بعضهم على بعض فيها فجعل منهم أغنياء ومحاويج،
وأقوياء وضعفاء، ليستخدم (بعضهم بعضا) وليسخروهم في أشغالهم حتى يصلوا
إلى منافعهم، ولم يولهم ذلك التدبير ولم يفوضه إليهم مع قلة خطره، فكيف يكون
اختيار النبوة إليهم مع جلالة قدرها وعظم خطرها وكونها رحمة الله الكبرى؟ ثم
قال: (ورحمت ربك) يريد: وهذه الرحمة التي هي دين الله وما يتبعه من الفوز
والثواب (خير مما) يجمع هؤلاء من حطام الدنيا.
ثم أخبر سبحانه عن هوان الدنيا وقلة خطرها عنده فقال: (ولولا أن يكون
الناس أمة وحدة) أي: لولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر (لجعلنا) للكفار سقوفا
ومصاعد، و (أبوبا وسررا) من فضة (و) جعلنا لهم (زخرفا) أي: زينة من كل
شيء، والزخرف: الذهب والزينة. ويجوز أن يكون الأصل: " سقفا من فضة
وزخرف " يعني: بعضها من فضة وبعضها من ذهب، فنصب (زخرفا) عطفا على
محل (من فضة). وقوله: (لبيوتهم) بدل اشتمال من قوله: (لمن يكفر)
وقرئ: " سقفا " بفتح السين وسكون القاف (1)، و (سقفا) بضمهما، جمع سقف
ك‍ " رهن " و " رهن "، و (معارج) جمع معرج، أو: اسم جمع لمعراج وهي
المصاعد إلى العلالي، (عليها يظهرون) أي: على المعارج، يظهرون السطوح:
يعلونها كما في قوله: (فما اسطعوا أن يظهروه) (2) وقرئ (لما) بالتخفيف (3)
والتشديد، فالتخفيف على أن اللام هي المفارقة بين النفي والإثبات، و (إن)

(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 585.
(2) الكهف: 97.
(3) قرأه نافع وابن كثير والكسائي وأبو عمرو وابن عامر برواية ابن ذكوان. راجع كتاب السبعة:
ص 586.
304

هي المخففة من الثقيلة و " ما " مزيدة، والتشديد على أن (لما) بمعنى " إلا "،
و (إن) هي النافية.
يقال: عشا يعشو: إذا نظر نظر المعشي ولا آفة به، وعشى يعشي: إذا حصلت
الآفة في بصره، أي: من يتعام (عن ذكر الرحمن) فيعرف أنه حق ويتجاهل
(نقيض له شيطنا) نخذله ونخل بينه وبين الشياطين، كقوله: (وقيضنا لهم
قرناء) (1)، (ألم تر أنا أرسلنا الشيطين) (2). وقرئ " يقيض " بالياء (3)، وجمع
ضمير " من " وضمير " الشيطان " في قوله: (وإنهم ليصدونهم) لأن " من " مبهم
في جنس العاشي وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه، فلما جاز أن يتناولا
لإبهامهما غير واحدين جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعا.
(حتى إذا جآءنا) العاشي، وقرئ " جاءانا " (4) على أن الفعل له ولشيطانه،
قال لشيطانه: (يا ليت بينى وبينك بعد المشرقين) يريد: المشرق والمغرب،
فغلب، كما قيل: " القمران " للقمر والشمس، قال:
أخذنا بآفاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع (5)
وبعدهما: تباعدهما، الأصل: بعد المشرق من المغرب، والمغرب من المشرق.
(أنكم) في موضع رفع، أي: (لن ينفعكم) كونكم مشتركين (في العذاب)،
(إذ ظلمتم) معناه: إذا صح ظلمكم وتبين.

(1) فصلت: 25.
(2) مريم: 83.
(3) وهي قراءة علي (عليه السلام) والسلمي وعاصم برواية حماد والأعمش. راجع شواذ القرآن لابن
خالويه: ص 136.
(4) أي بألف بعد الهمزة على التثنية، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم برواية
أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 586.
(5) البيت للفرزدق من قصيدة يفخر بقومه ويذم جريرا. راجع ديوان الفرزدق: ج 2 ص 73.
305

(أفأنت تسمع) إنكار تعجيب، والمراد: أنت لا تقدر على إكراههم على
الإيمان.
(فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينك الذي وعدنهم
فإنا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صرا ط
مستقيم (43) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسلون (44) وسل من
أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون (45))
" ما " في قوله (فإما نذهبن) بمنزلة لام القسم في أنها (1) إذا دخلت معها
النون الثقيلة، والمعنى: إن قبضناك وتوفيناك (فإنا... منتقمون) منهم بعدك. وعن
الحسن وقتادة: أن الله أكرم نبيه بأن لم يره تلك النقمة، وقد كان ذلك بعده (2).
وقد روي أنه (عليه السلام) أري ما تلقى أمته بعده، فما زال منقبضا ولم ينبسط ضاحكا
حتى قبض (3).
وروى جابر بن عبد الله قال: إني لأدناهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة
الوداع بمنى حين قال: " لا ألفينكم، ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب
بعض، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم " ثم التفت إلى
خلفه فقال: " أو علي أو علي " ثلاث مرات، فرأينا أن جبرائيل (عليه السلام) غمزه فأنزل الله
تعالى على أثر ذلك: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون) بعلي بن أبي
طالب (عليه السلام) " (4).
وإن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب فإنهم تحت قدرتنا لا يفوتوننا،

(1) كذا في النسخ، والظاهر: إذا دخلت دخلت معها النون، كما في الكشاف ج 4 ص 254.
(2) حكاه عنهما الطبري في تفسيره: ج 11 ص 190.
(3) رواه أنس، أخرجه الحاكم في مستدركه: ج 2 ص 447.
(4) أمالي الشيخ الطوسي: ج 2 ص 116 - 117، شواهد التنزيل للحسكاني: ج 2 ص 216 ح
851، المناقب لابن المغازلي الشافعي: ص 274 ح 321.
306

وقيل: إنه (عليه السلام) رأى نقمة الله منهم يوم بدر بأن أسر منهم وقتل (1).
(فاستمسك) أي: تمسك بما أوحينا (إليك) والعمل به (إنك على صرط
مستقيم) لا يحيد عنه إلا ضال. (وإنه) وإن الذي أوحي إليك (لذكر لك)
لشرف لك (ولقومك) لقريش أو للعرب، يختص بذلك الشرف الأقرب منهم
فالأقرب، ول‍ (سوف تسئلون) يوم القيامة عن قيامكم بحقه، وشكركم على أن
رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين.
والمراد بسؤال الرسل النظر في أديانهم والفحص عنها: هل جاءت عبادة
الأوثان قط في شيء من مللهم؟ وهذا كما قيل: سل الأرض من شق أنهارك،
وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا، وقيل:
إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمهم، وقيل له:
سلهم، فلم يشكك ولم يسأل (2).
(ولقد أرسلنا موسى بايتنآ إلى فرعون وملايه فقال إنى رسول
رب العلمين (46) فلما جآءهم بايتنآ إذا هم منها يضحكون (47) وما
نريهم من ءاية إلا هى أكبر من أختها وأخذنهم بالعذاب لعلهم
يرجعون (48) وقالوا يأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا
لمهتدون (49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50) ونادى
فرعون في قومه ى قال يقوم أليس لى ملك مصر وهذه ى الانهر تجرى
من تحتى أفلا تبصرون (51) أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا
يكاد يبين (52) فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جآء معه الملئكة

(1) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 414.
(2) قاله ابن عباس وابن زيد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 228.
307

مقترنين (53) فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فسقين (54) فلمآ
ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقنهم أجمعين (55) فجعلنهم سلفا ومثلا
للاخرين (56))
ما أجابوه به عند قوله: (إنى رسول رب العلمين) محذوف دل عليه قوله:
(فلما جاءهم بآيتنا) وهو مطالبتهم إياه بالدلالة على دعواه، وأجيب (لما)
ب‍ (إذا) المفاجأة، لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها،
كأنه قال: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم. (وما نريهم من ءاية) من
آياته المترادفة عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس (إلا
هى أكبر من أختها) التي قبلها (لعلهم يرجعون) أي: إرادة أن يرجعوا عن الكفر
إلى الإيمان.
(بما عهد عندك) أي: بعهده عندك من النبوة، وأن دعوتك مستجابة، أو: بما
عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى، وقولهم: (إننا لمهتدون) وعد قد نووا
خلافه، فما كانت تسميتهم إياه بالساحر بمنافية لقولهم: (إننا لمهتدون).
(ونادى فرعون في قومه) جعلهم محلا لندائه، والمعنى: أنه أمر بالنداء في
محافلهم من نادى فيها بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللص: إذا أمر
بقطعه (وهذه الأنهر) من النيل وغيره (تجرى من) تحت أمري، مبتدأ وخبر،
ويجوز أن يكون (الأنهر) عطفا على (ملك مصر) و (تجرى) نصب على
الحال منها. (أم أنا خير): " أم " هذه متصلة، لأن المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون،
إلا أنه وضع قوله: (أنا خير) موضع (تبصرون) لأنهم إذا قالوا له: أنت خير فهم
عنده بصراء، ويجوز أن تكون منقطعة على معنى: بل أنا خير، والهمزة للتقرير
والمعنى: أثبت عندكم واستقر أني أنا خير مع أني على هذه الحالة (من هذا الذي
308

هو مهين) أي: ضعيف حقير (ولا يكاد يبين) الكلام؛ لما به من الرتة (1).
وعن الحسن: كانت العقدة زالت عن لسانه كما قال: (واحلل عقدة من
لسانى) وإنما عيره بما كان في لسانه قبل النبوة (2).
وقرئ: " أساورة " (3) وهي جمع أسوار على تعويض التاء من ياء " أساوير "،
و " أسورة " جمع " سوار " (مقترنين) به، من قولك: قرنته به فاقترن به، أو: من
قولك: اقترنوا بمعنى " تقارنوا ".
(فاستخف قومه) فاستفزهم، وحقيقته: حملهم على أن يخفوا له ولما أراده
منهم، وكذلك " استفزه " فإن الفز هو الخفيف. (فلما ءاسفونا) أي: أغضبونا،
وغضبه سبحانه على العصاة هو إرادة عقابهم، وقيل: معناه: آسفوا رسلنا (4)، لأن
في الأسف معنى الحزن (5). وقرئ: (سلفا) جمع سالف، و " سلفا " (6) جمع
سليف، أي: جعلناهم قدوة لمن أتى بعدهم من الكفار يقتدون بهم في استحقاق
مثل عقابهم لإتيانهم بمثل أفعالهم (ومثلا) أي: حديثا عجيب الشأن، سائرا مسير
المثل، يشبه غيرهم بهم.
(ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا

(1) الرتة: عجلة في الكلام وقلة أناة، وقيل: هو أن يقلب اللام ياء، وقيل: هي العجمة في الكلام
والحكلة فيه، (لسان العرب: مادة رتت).
(2) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 9 ص 208، والآية من سورة طه: 27.
(3) وهي قراءة الجمهور من السبعة إلا حفصا. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 587.
(4) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 232.
(5) قال الخليل: الأسف: الحزن في حال، والغضب في حال، فإذا جاءك أمر ممن هو دونك
فأنت أسف أي: غضبان، وإذا جاءك ممن فوقك أو من مثلك فأنت أسف أي: حزين. انظر
كتاب العين: مادة " أسف ".
(6) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 587.
309

ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) إن هو
إلا عبد أنعمنا عليه وجعلنه مثلا لبنى إسراءيل (59) ولو نشآء لجعلنا
منكم ملئكة في الأرض يخلفون (60) وإنه لعلم للساعة فلا تمترون بها
واتبعون هذا صراط مستقيم (61) ولا يصدنكم الشيطن إنه لكم عدو
مبين (62) ولما جآء عيسى بالبينت قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم
بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربى
وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64) فاختلف الاحزاب من بينهم
فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65))
قرئ: (يصدون) بضم الصاد (1) وكسرها، واختلفوا في معنى الآية على
وجوه:
أحدها: أنه لما نزل قوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) (2)
قالوا: ألست تزعم أن عيسى نبي؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونه، وعزير يعبد،
والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا في
النار معهم!! والمعنى: ولما ضربوا عيسى بن مريم مثلا بعبادة النصارى إياه إذا
قريش من هذا المثل (يصدون) بالكسر، أي: يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا
وجدلا وضحكا، وبالضم من الصدود أي: يصدون عن الحق ويعرضون عنه من
أجل هذا المثل، وقيل: من الصديد وهو الجلبة (3)، وهما لغتان (وقالوا ءألهتنا خير
أم هو) أي: ليست آلهتنا عندك خيرا من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب النار

(1) وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي. راجع المصدر السابق.
(2) الأنبياء: 98.
(3) وهو قول الجوهري في الصحاح: مادة " صدد ".
310

كان أمر آلهتنا هينا!! ما ضربوا هذا المثل لك إلا لأجل الجدل والغلبة في القول
لا لطلب المعرفة (بل هم قوم خصمون) دأبهم الخصومة (1) واللجاج. وذلك أن
قوله: (إنكم وما تعبدون) (2) ما أريد به إلا الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء
والملائكة.
وثانيها: أنهم لما سمعوا أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، قالوا: نحن أهدى من
النصارى؛ لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة، فنزلت (3). فعلى هذا يكون
في قولهم: (ءألهتنا خير أم هو) تفضيل آلهتهم على عيسى!! وما قالوا هذا القول
إلا للجدل، أو يكون (جدلا) حالا بمعنى: جدلين.
وثالثها: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما مدح المسيح وأمه قالوا: ما يريد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
بهذا إلا أن نعبده كما عبدت النصارى المسيح (4). ومعنى (يصدون): يضجرون
ويضجون، والضمير في (أم هو) لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وغرضهم بالموازنة بينه وبين
آلهتهم السخرية والاستهزاء.
والمروي عن أهل البيت (عليهم السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: جئت إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إلي ثم قال: " يا علي، إنما مثلك
في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم، أحبه قوم وأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه
قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا " فعظم ذلك عليهم
وضحكوا، فنزلت الآية (5).
(إن هو إلا عبد) أي: ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد (أنعمنا عليه) حيث

(1) في نسخة: " الخصومة والجدال ".
(2) الأنبياء: 98.
(3) أسباب النزول للواحدي: ص 317 ح 783.
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 260.
(5) تفسير فرات الكوفي: ص 151.
311

(جعلنه) آية بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم، وشرفناه بالنبوة، وصيرناه
عبرة (1) عجيبة كالمثل السائر (لبنى إسرءيل).
(ولو نشاء) لقدرتنا على عجائب الأمور (لجعلنا منكم) أي: لولدنا منكم
يا رجال (ملائكة) يخلفونكم (في الأرض) كما يخلفكم أولادكم، كما ولدنا
عيسى من أنثى من غير فحل، أو: لجعلنا بدلا منكم يا بني آدم ملائكة يخلفونكم
في الأرض ويكون (منكم) في الآية مثل ما في قول الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة * مبردة باتت على الطهيان (2)
أو: لجعلناكم أيها البشر ملائكة، فيكون (منكم) من باب التجريد، ويكون
فيه إشارة إلى قدرته على تغيير بنية البشر إلى بنية الملائكة.
(وإنه) وإن عيسى (لعلم للساعة) أي: شرط من أشراطها تعلم به، فسمي
الشرط علما لحصول العلم به، وقرأ ابن عباس: " وإنه لعلم " (3) أي: علامة وأمارة
(فلا تمترن بها) فلا تشكوا فيها ولا تكذبوا بها.
وفي الحديث: " أن عيسى (عليه السلام) ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها:
أفيق، وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة وبها يقتل الدجال، فيأتي
بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام (عليه السلام) يؤم بهم، فيتأخر الإمام فيقدمه
عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم يقتل الخنازير، ويكسر

(1) في بعض النسخ: " غير ".
(2) البيت ليعلى بن مسلم الأحول الأزدي من شعراء الدولة الأموية، من قصيدة نظمها وهو
محبوس بمكة عند نافع بن علقمة في خلافة عبد الملك بن مروان، وقيل: البيت لعمرو بن أبي
عمارة الأزدي، وقيل غير ذلك. راجع خزانة الأدب: ج 5 ص 277 - 278 و ج 9 ص 453.
(3) بفتح العين واللام. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 136 وزاد: أبو هريرة وقتادة
والضحاك وجماعة.
312

الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به " كذا وجدته
في الكشاف (1).
وعن الحسن: أن الضمير للقرآن وبه تعلم الساعة لأن فيه الإعلام بها (2)،
(واتبعون) هو أمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوله، أي: واتبعوا شرعي وهداي،
أو: معناه: واتبعوا رسولي.
(ولما جاء عيسى بالبينات) أي: بالمعجزات الدالة على نبوته (ولابين لكم
بعض الذي تختلفون فيه) وهو ما احتاجوا إليه من أمور الدين وما تعبدوا
بمعرفته دون ما اختلفوا فيه من أمور الدنيا، و (الأحزاب): الفرق المتحزبة بعد
عيسى.
(هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66)
الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يعباد لا خوف
عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) الذين ءامنوا بايتنا وكانوا
مسلمين (69) ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70) يطاف عليهم
بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم
فيها خلدون (71) وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72)
لكم فيها فكهة كثيرة منها تأكلون (73) إن المجرمين في عذاب جهنم
خلدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75) وما ظلمنهم ولكن
كانوا هم الظلمين (76) ونادوا يملك ليقض علينا ربك قال إنكم

(1) الكشاف: ج 4 ص 261. وكذا أورده مرسلا البغوي في تفسيره: ج 4 ص 144، والبيضاوي
في أنوار التنزيل: ج 2 ص 370 ط مصر.
(2) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 275.
313

مكثون (77) لقد جئنكم بالحق ولكن أكثركم للحق كرهون (78) أم
أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم
بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80))
(أن تأتيهم) بدل من (الساعة)، (بغتة) أي: فجأة (وهم لا يشعرون)
معناه: وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم. (يومئذ) ينتصب ب‍ (عدو) أي:
ينقطع في ذلك اليوم كل خلة فينقلب عداوة إلا خلة (المتقين) المتخالين في الله،
فإنها الخلة الباقية تزداد وتتأكد.
(الذين ءامنوا) منصوب الموضع صفة ل‍ (عبد) لأنه منادى مضاف
(وكانوا مسلمين) مستسلمين لأمرنا خاضعين منقادين، جاعلين نفوسهم سالمة
لطاعتنا. (أنتم وأزوجكم) اللاتي كن مؤمنات مثلكم (تحبرون) أي: تسرون
سرورا، يظهر حباره - أي: أثره - على وجوهكم، كقوله: (تعرف في وجوههم
نضرة النعيم) (1). والصحاف: القصاع، والأكواب: الكيزان لا عرى لها، وقيل: هي
الآنية المستديرة الرؤوس (2)، وفيها الضمير ل‍ (الجنة)، وقرئ " ما تشتهي " (3)
و (ما تشتهيه) وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها: إما مشتهاة في القلوب، وإما
مستلذة في العيون.
(وتلك) إشارة إلى الجنة المذكورة، وهي مبتدأ و (الجنة) خبر، و (التي
أورثتموها) صفة ل‍ (الجنة)، أو: (الجنة) صفة ل‍ (تلك) و (التي أورثتموها)
خبر، و (بما كنتم تعملون) خبر المبتدأ والباء يتعلق بمحذوف، وفي الوجه الأول

(1) المطففين: 24.
(2) قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 238.
(3) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة
في القراءات: ص 589.
314

يتعلق ب‍ (أورثتموها) وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة.
(منها تأكلون): " من " للتبعيض، أي: لا تأكلون إلا بعضها.
وفي الحديث: " لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا ثبت مكانها مثلها " (1).
(مبلسون) آيسون من كل خير. وروي عن علي (عليه السلام) وابن مسعود: " يا
مال " بحذف الكاف للترخيم (2)، أي: (يملك) سل (ربك) أن يقضي علينا أي:
يميتنا لنتخلص ونستريح مما بنا، فيقول مالك: (إنكم مكثون) لابثون دائمون.
(لقد جئنكم بالحق) هو كلام مالك، وإنما قال: " جئناكم " لأنه من الملائكة،
وقيل: إنه كلام الله عز وجل (3)، وعلى هذا فيكون في (قال) ضميرا " لله "، لما
سألوا مالكا أن يسأل الله القضاء عليهم أجابهم الله بذلك.
(أم) منقطعة أي: بل أبرموا، أي: أأحكم الملأ من قريش (أمرا) أي: كيدا
في الخلاف عن أمرك (فإنا مبرمون) كيدنا كما أبرموا كيدهم والسر: ما حدث به
الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، و النجوى: ما تكلموا به فيما بينهم، وقيل:
السر: ما يضمر الإنسان في نفسه، والنجوى: ما يحدث به غيره في الخفية (بلى)
نسمعهما ونطلع عليهما (ورسلنا) الحفظة مع ذلك عندهم (يكتبون) ما يكيدونه
ويبيتونه. وقد روي عنهم (عليهم السلام) السبب في نزول الآيتين (4).
(قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العبدين (81) سبحن رب

(1) أخرجه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 146.
(2) شواذ القرآن لابن خالويه: ص 137، وزاد: والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
(3) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 265.
(4) وهو ما رواه الكليني في أصول الكافي: ص 420 ح 43 بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفي الروضة: ص 179 ح 202 بإسناده عن أبي بصير عن أبي
عبد الله (عليه السلام) أيضا.
315

السموات والارض رب العرش عما يصفون (82) فذرهم يخوضوا
ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون (83) وهو الذي في السمآء
إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم (84) وتبارك الذي له ملك
السموات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85)
ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفعة إلا من شهد بالحق وهم
يعلمون (86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87)
وقيله ى يرب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88) فاصفح عنهم وقل سلم
فسوف يعلمون (89))
(إن كان للرحمن ولد) إن صح ذلك وثبت ببرهان صحيح (فأنا أول) من
يعظم ذلك الولد ويطيعه كما يعظم الرجل الولد الملك لتعظيم أبيه، وهو وارد على
سبيل الفرض والتقدير للمبالغة في نفي الولد لأنه تعليق للعبادة بكينونة الولد، وهو
محال، فالمعلق به محال مثله، فهو في صورة الإثبات والمراد النفي على أبلغ
الوجوه، وقيل: معناه: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين
الموحدين لله المكذبين قولكم (1)، وقيل: فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد أو
من عبادته، لأن من كان له ولد لا يكون إلا محدثا جسما غير مستحق للعبادة، من:
عبد يعبد: إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد (2). وقيل: هي " إن " النافية، أي: ما كان
للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله (3). ثم نزه نفسه عما يصفونه من اتخاذ الولد.
التقدير: وهو الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، ف‍ (إله) خبر المبتدأ

(1) قاله مجاهد. راجع التبيان: ج 9 ص 219.
(2) قاله الكسائي وابن قتيبة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 241.
(3) وهو قول ابن زيد وابن أسلم وقتادة. راجع التبيان: ج 9 ص 219.
316

العائد إلى الموصول، وهو اسم ضمن معنى الوصف، فلذلك علق به الظرف في
قوله: (في السمآء... وفي الأرض) كما يقول: " هو حاتم في طي وحاتم في
تغلب " على تضمين معنى الجواد الذي هو مشهور به، ومثله قوله: (وهو الله في
السموت وفي الأرض) (1) فكأنك قلت: هو المعبود أو المالك أو نحو ذلك،
وحذف " هو " العائد لطول الكلام بالصلة كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، وزاده
طولا هاهنا أن المعطوف داخل في حيز الصلة.
(ولا يملك) آلهتهم (الذين) يدعونهم من دون الله (الشفعة) كما زعموا
أنهم شفعاؤهم عند الله لكن (من شهد بالحق) وهو توحيد الله، وهو يعلم ما
يشهد به عن بصيرة وإخلاص هو الذي يملك الشفاعة، وهو استثناء منقطع،
ويجوز أن يكون متصلا لأن في جملة: " الذين يدعون من دون الله " الملائكة،
وقرئ: " تدعون " بالتاء (2).
(وقيله) قرئ بالنصب (3) والجر، وعن مجاهد: بالرفع والنصب (4) للعطف
على موضع (الساعة)، والجر على اللفظ، أي: " وعنده علم الساعة وقيله " كما
تقول: عجبت من ضرب زيد وعمروا أو عمرو، والمعنى: يعلم الساعة ومن يصدق
بها ويعلم قيله (5)، لأن " الساعة " ليست بظرف وإنما هي مفعول بها، والرفع للعطف
أيضا على تقدير حذف المضاف أي: وعلم قيله، أو: على الابتداء والخبر محذوف

(1) الأنعام: 3.
(2) وهي قراءة علي (عليه السلام) والسلمي كما في شواذ القرآن لابن خالويه: ص 137.
(3) قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 589.
(4) نسب الرفع إليه كما في تفسير الآلوسي: ج 25 ص 108، والنصب كما في اعراب القرآن
للنحاس: ج 4 ص 123.
(5) واليه ذهب الزجاج في معانيه: ج 4 ص 421.
317

والتقدير: وقيله يا رب مسموع ومتقبل، أو: وقيله قيل يا رب، وحمل الأخفش
النصب على (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم) وقيله (1)، وعنه أيضا أنه على
تأويل: " وقال قيله " (2). وقال جار الله: الجر والنصب على إضمار حرف القسم
وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، ولعمرك، ويكون قوله: (إن هؤلاء قوم لا
يؤمنون) جواب القسم، فكأنه قال: وأقسم بقيله يا رب، أو: قيله يا رب قسمي
(إن هؤلآء قوم لا يؤمنون) (3).
(فاصفح) أي: أعرض عنهم بصفحة وجهك (وقل) لهم (سلم) أي: تسلم
منكم ومتاركة (فسوف يعلمون) وعيد، وقرئ بالتاء (4) أيضا.
* * *

(1 و 2) حكاه عنه الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 421.
(3) الكشاف: ج 4 ص 268.
(4) قرأه نافع وابن عامر برواية هشام بن عمار. راجع كتاب السبعة: ص 589.
318

سورة الدخان
مكية (1)، وهي تسع وخمسون آية، سبع بصري، (حم) و (إن هؤلاء
ليقولون) (2) كوفي.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة غفر الله له " (3).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه ونوافله بعثه الله من الآمنين يوم
القيامة، وأظله تحت ظل عرشه، وحاسبه حسابا يسيرا، وأعطي كتابه بيمينه " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(حم (1) وا لكتب المبين (2) إنآ أنزلنه في ليلة مبركة إنا كنا
منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنآ إنا كنا

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 223: هي مكية في قول قتادة ومجاهد، وهي تسع
وخمسون آية في الكوفي، وسبع في البصري، وست في المدنيين والشامي.
وفي الكشاف: ج 4 ص 269: مكية إلا قوله: (إنا كاشفو العذاب قليلا) الآية، وهي سبع
وخمسون آية وقيل: تسع وخمسون، نزلت بعد سورة الزخرف.
(2) الآية: 34.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 283 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 141 وفيه: " أعطاه " بدل " أعطي ".
319

مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) رب السموات
والارض وما بينهمآ إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا هو يحىى ويميت
ربكم ورب ءابآبكم الاولين (8) بل هم في شك يلعبون (9)).
(إنا أنزلنه) جواب القسم (في ليلة مبركة) هي ليلة القدر وهو الصحيح،
وقيل: ليلة النصف من شعبان (1). ومعنى إنزال الله القرآن في ليلة القدر أنه أنزله
جملة واحدة إلى السماء الدنيا فيها، فكان جبرئيل ينزله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
نجوما، وقيل: كان ينزل ما يحتاجون إليه في كل سنة: في هذه الليلة، ثم كان ينزله
شيئا فشيئا وقت الحاجة (2). وسميت مباركة لأن فيها يقسم الله نعمه على عباده
فتدوم بركاتها، والبركة: نماء الخير، والمباركة: الكثيرة الخير والبركة، ولو لم يوجد
فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة. (فيها يفرق) أي: يفصل ويكتب (كل أمر
حكيم) كل شأن ذي حكمة، أي: مفعول على ما تقتضيه الحكمة من أرزاق العباد
وآجالهم وغير ذلك من أمور السنة إلى الليلة الأخرى القابلة، ووصف الأمر
بالحكيم مجاز؛ لأن " الحكيم " صفة صاحب الأمر على الحقيقة.
وقوله: (إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم) جملتان مستأنفتان
ملفوفتان فسر بهما جواب القسم، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار،
وأنزلناه في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة
مفرق كل أمر حكيم.
(أمرا من عندنا) نصب على الاختصاص، أي: أعني أمرا حاصلا من عندنا
على ما اقتضته حكمتنا وتدبيرنا، ويجوز أن يراد به الأمر ضد النهي فوضع موضع

(1) وهو قول عكرمة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 244.
(2) قاله قتادة وابن زيد. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 148.
320

مصدر (يفرق) من حيث أن الأمر والفرقان واحد، لأن من حكم بالشيء وكتبه
فقد أمر به وأوجبه، أو: جعل حالا من أحد الضميرين في (أنزلنه) أي: أنزلناه
في حال كونه أمرا بما يجب أن يفعل، أو: أنزلناه آمرين (إنا كنا مرسلين) يجوز أن
يكون بدلا من: (إنا كنا منذرين)، و (رحمة من ربك) مفعول له والمعنى: إنا
أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم،
وأن يكون تعليلا ل‍ (يفرق)، أو: لقوله: (أمرا من عندنا) و (رحمة) مفعولا به،
أي: يفرق في هذه الليلة كل أمر، أو: تصدر الأوامر من عندنا، لأن من عادتنا أن
نرسل رحمتنا، وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة، وكذلك
الأوامر الصادرة من جهته عز وجل؛ لأن الغرض من تكليف العباد تعريضهم
للمنافع، والأصل: إنا كنا مرسلين رحمة منا، فوضع الظاهر موضع المضمر إيذانا
بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين (إنه هو السمع العليم) وما بعده
تحقيق لربوبيته وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه.
وقرئ: " رب السموات " و " ربكم ورب آبائكم " بالجر (1) بدلا من (ربك)،
(إن كنتم موقنين) أي: إن كان إقراركم بأن للسماوات والأرض ربا وخالقا عن
معرفة وإيقان. ثم رد كونهم موقنين بقوله: (بل هم في شك يلعبون) أي: إقرارهم
لا يصدر عن علم وحقيقة بل هو قول مخلوط بلعب وهزء.
(فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا
عذاب أليم (11) ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12) أنى لهم
الذكرى وقد جآءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم

(1) وهي قراءة ابن أبي إسحاق وابن محيصن والكسائي في رواية الحجازي. راجع شواذ
القرآن لابن خالويه: ص 138.
321

مجنون (14) إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عآئدون (15) يوم نبطش
البطشة الكبرى إنا منتقمون (16) ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجآءهم
رسول كريم (17) أن أدوا إلى عباد الله إنى لكم رسول أمين (18) وأن لا
تعلوا على الله إنى ءاتيكم بسلطن مبين (19) وإنى عذت بربى وربكم
أن ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون (21))
(يوم تأتى) مفعول به (فارتقب) يقال: رقبته وارتقبته. واختلف في
" الدخان " فقيل: إنه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع
الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ (1)، ويعتري المؤمن منه كهيئة
الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص (2)، ويمتد ذلك
أربعين يوما، روي ذلك عن علي (عليه السلام) وابن عباس والحسن (3) وقيل: إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا على قومه لما كذبوه فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر،
واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز (4)،
وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل فيسمع
كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشدوه بالله والرحم،
وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم،

(1) في الصحاح: حنذت الشاة حنذا أي: شويتها وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها فهي
حنيذ.
(2) الخصاص: شبه كوة في قبة ونحوها إذا كان واسعا قدر الوجه، وبعضهم يجعلها للواسع
والضيق حتى قالوا لخروق المصفاة والمنخل: خصاص، وكذلك كل خلل وخرق يكون في
السحاب. (لسان العرب).
(3) تفسير الطبري: ج 11 ص 227، التبيان: ج 9 ص 226.
(4) العلهز: طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة. (الصحاح).
322

روي ذلك عن ابن مسعود (1).
(يغشى الناس) أي: يشملهم ويلبسهم، وهو في محل الجر صفة ل‍ (دخان)
أي: يقولون: (هذا عذاب أليم) إلى قوله: (مؤمنون)، و " يقولون " المحذوف
نصب على الحال أي: قائلين ذلك. و (إنا مؤمنون) موعدة بالإيمان إن كشف
العذاب عنهم (أنى لهم الذكرى) كيف يذكرون ويتعظون ويفون بوعدهم
(وقد جآءهم) ما هو أعظم من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات القاهرة، فلم يذكروا
و (تولوا عنه) وبهتوه، بأن غلاما أعجميا اسمه عداس هو الذي علمه، ونسبوه
إلى الجنون.
ثم قال: (إنا كاشفوا العذاب) الجوع والدخان (قليلا إنكم عآئدون) أي:
ريثما يكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم، لا تلبثون غب الكشف على ما
أنتم عليه من الابتهال والتضرع. ومن جعل الدخان قبل يوم القيامة قال في قوله:
(إنا كاشفوا العذاب): إنه إذا أتت السماء بالدخان تضرع المعذبون به وقالوا: ربنا
اكشف عنا العذاب إنا منيبون مؤمنون، فيكشفه الله عنهم، فريثما يكشفه عنهم
يرتدون.
ثم قال: (يوم نبطش البطشة) يريد: يوم القيامة، كقوله: (فإذا جآءت الطامة
الكبرى) (2)، (إنا منتقمون) ننتقم منهم في ذلك اليوم، فانتصب (يوم نبطش)
بما دل عليه (إنا منتقمون)، لأن ما بعد " إن " لا يعمل فيما قبلها. وقرئ:
(نبطش) بضم الطاء (3) وكسرها.

(1) رواه عنه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 225.
(2) النازعات: 34.
(3) وهي قراءة الحسن وأبي جعفر المدني. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 138.
323

(ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون) معنى الفتنة: أنه أمهلهم ووسع عليهم الرزق،
وكان ذلك سببا لانهماكهم في المعاصي، وابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا،
فاختاروا الكفر على الإيمان (وجآءهم رسول كريم) على الله، أو: كريم الأخلاق
والأفعال. (أن أدوا) هي " أن " المفسرة، لأنه لا يجيء الرسول قومه إلا مبشرا
ونذيرا، فيتضمن معنى القول، وهي مخففة من الثقيلة أي: جاءهم بأن الشأن
والحديث أدوا إلي، و (عباد الله) مفعول به وهم بنو إسرائيل، أي: أدوهم إلي
وأرسلوهم معي، أو: أدوا إلي يا عباد الله ما يجب عليكم من الإيمان بي وقبول
دعوتي، وعلل ذلك بأنه (رسول أمين) قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته. (وأن
لا تعلوا): " أن " هذه مثل الأولى، أي: لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله
ووحيه.
وقرئ: " عت " بالإدغام (1) ومعناه: أنه عائذ بربه، معتصم به من كيدهم، فلا
يكترث بتهددهم بالقتل والرجم. (فاعتزلون) يريد: (إن لم تؤمنوا بى) فتنحوا
عني واقطعوا أسباب الوصلة بيني وبينكم، أو: فخلوني كفافا لا علي ولا لي، ولا
تتعرضوا لي بشرككم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه صلاحكم
وفلاحكم ذلك.
(فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) فأسر بعبادى ليلا إنكم
متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) كم تركوا من
جنت وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها
فكهين (27) كذا لك وأورثنها قوما ءاخرين (28) فما بكت عليهم

(1) قرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع برواية إسماعيل بن جعفر. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 570.
324

السمآء والارض وما كانوا منظرين (29) ولقد نجينا بنى إسراءيل من
العذاب المهين (30) من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31) ولقد
اخترنهم على علم على العلمين (32) وءاتينهم من الأيت ما فيه
بلؤا مبين (33))
(فدعا ربه) قال: (إن هؤلاء قوم مجرمون) أي: مشركون لا يؤمنون.
(فأسر بعبادى) فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء " فقال: أسر "، وأن يكون
جواب شرط محذوف نحو: إن كان الأمر كما تقول فأسر بعبادي.
(رهوا) فيه وجهان: أحدهما: أنه الساكن (1)، قال الأعشى:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة * ولا الصدور على الأعجاز تتكل (2)
أي: مشيا ساكنا على هينته، أراد موسى (عليه السلام) لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه
فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمره سبحانه أن يتركه ساكنا قارا على حاله من
انتصاب الماء وكون الطريق يبسا ليدخله القبط فيغرقوا، وقيل: الرهوة: الفجوة
الواسعة (3)، أي: تركه مفتوحا على حاله (ومقام كريم) ومجلس خطير ومنزل
بهي ونعمة وتنعم وسعة في العيش.
(كذلك) الكاف منصوبة على معنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، أو:
في موضع الرفع، أي الأمر كذلك (وأورثنها قوما ءاخرين) ليسوا منهم في شيء
من قرابة ولا دين. (فما بكت عليهم السماء والأرض) فيه تهكم بهم وبحالهم
المنافية لحال من يجل رزؤه ويعظم فقده فيقال فيه: بكت عليه السماء (وما كانوا

(1) وهو قول الكلبي والأخفش وقطرب. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 250.
(2) كذا نسبه تبعا للزمخشري، والمشهور للقطامي الضبعي من أبيات يصف إبلا يمشين مشيا
على هينة وسكينة. أنظر الصحاح: مادة " رها ".
(3) قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 250.
325

منظرين) أي: ممهلين من فرعون، بدل من قوله: (من العذاب المهين) كأنه في
نفسه كان عذابا مهينا لإفراطه في تعذيبهم، ويجوز أن يكون (من فرعون) حالا
من (العذاب) أي: واقعا من جهة فرعون (عاليا من المسرفين) أي: كبيرا رفيع
الطبقة من بينهم بليغا في إسرافه، أو: عاليا متكبرا، و (من المسرفين) خبر ثان
كأنه قال: كان متكبرا مسرفا.
(على علم) في موضع الحال أي: عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء
بالاختيار (على العلمين) عالمي زمانهم (وءاتينهم من) الدلالات
والمعجزات (ما فيه بلؤا مبين) نعمة ظاهرة (1) أو اختبار ظاهر لننظر كيف
يعملون.
(إن هؤلاء ليقولون (34) إن هى إلا موتتنا الأولى وما نحن
بمنشرين (35) فأتوا بابآبنآ إن كنتم صدقين (36) أهم خير أم قوم تبع
والذين من قبلهم أهلكنهم إنهم كانوا مجرمين (37) وما خلقنا
السموات والارض وما بينهما لعبين (38) ما خلقنهمآ إلا بالحق
ولكن أكثرهم لا يعلمون (39) إن يوم الفصل ميقتهم أجمعين (40) يوم
لا يغنى مولى عن مولى شيا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه
هو العزيز الرحيم (42) إن شجرت الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل
يغلى في البطون (45) كغلى الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سوآء
الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه ى من عذاب الحميم (48) ذق إنك أنت
العزيز الكريم (49) إن هذا ما كنتم به ى تمترون (50))

(1) في التبيان: ج 9 ص 235: قال الفراء: البلاء قد يكون بالعذاب وقد يكون بالنعمة، وهو ما
فعل الله بهم من إهلاك فرعون وقومه وتخليصهم منه وإظهار نعمه عليهم شيئا بعد شيء.
326

ثم رجع سبحانه إلى ذكر من ذكرهم في أول السورة من كفار قريش، فقال:
(إن هؤلاء ليقولون إن هى) أي: ما الموتة (إلا موتتنا الأولى) نموتها في الدنيا
ثم لا بعث بعدها (وما نحن بمنشرين) بمبعوثين ولا معادين. (فأتوا بآبائنا)
الذين ماتوا قبلنا وأعيدوهم (إن كنتم صدقين) في أن الله يعيد الأموات، وقائله
أبو جهل قال: إن كنت صادقا فابعث جدك قصي بن كلاب!! وهذا جهل من أبي
جهل؛ لأن النشأة الثانية إنما وجبت للجزاء لا للتكليف، وليست هذه الدار بدار
جزاء بل دار تكليف، فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم
للتكليف!! فلذلك عدل عن مقابلته إلى الوعيد والوعظ بما هو أعود عليه فقيل:
(أهم خير أم قوم تبع) أي: أهم أكثر عددا وعدة ونعمة وقوة؟! كقوله: (أكفاركم
خير من أولئكم) (1) بعد ذكر آل فرعون، وهو تبع الحميري، كان مؤمنا وقومه
كافرين، وهو الذي سار بالجيوش حتى حير الحيرة، ثم أتى سمرقند فهدمها ثم
بناها، وكان إذا كتب كتب: " باسم الله الذي ملك برا وبحرا وضحا وريحا " ذم الله
قومه ولم يذمه.
وعن الصادق (عليه السلام): أن تبع قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا حتى يخرج
هذا النبي، أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه (2).
(وما بينهما) يريد: وما بين الجنسين. (إن يوم الفصل) ميقات حسابهم
وجزائهم (أجمعين). (يوم لا يغنى مولى) أي مولى كان من قرابة وغيرها
(عن) أي (مولى) كان شيئا من إغناء (ولا هم ينصرون) الضمير للموالي؛
لأنهم في المعنى كثير لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى. (من رحم الله)

(1) القمر: 43.
(2) رواه الصدوق في كمال الدين: ج 1 ص 170 ح 26.
327

في محل الرفع على البدل من الواو في (ينصرون)، أي: لا يمنع من العذاب إلا من
رحمه الله: إما بأن يسقط عقابهم ابتداء، أو يأذن بالشفاعة فيهم لمن علت درجته
عنده فيسقط عقاب المشفوع له بشفاعته (إنه هو العزيز) في انتقامه من أعدائه
(الرحيم) بالمؤمنين، ويجوز أن يكون (من رحم الله) منصوبا على الاستثناء.
و (الأثيم): الآثم، وقيل: هو أبو جهل (1)، وروي أنه أتى بتمر وزبد فجمع
بينهما وأكل وقال: هذا هو الزقوم الذي يخوفنا محمد به ونحن نتزقمه أي: نملأ
أفواهنا به (2). (كالمهل) وهو المذاب من النحاس، وقيل: هو دردي الزيت (3)،
وقرئ: (يغلى) بالياء والتاء (4)، فمن قرأ بالتاء فعلى " الشجرة "، ومن قرأ بالياء
حمله على " الطعام "، لأن الطعام هو الشجرة في المعنى، ولا يحمل على " المهل "
بل على المشبه بالمهل، والكاف في محل الرفع خبر بعد خبر، وكذلك يغلي.
يقال للزبانية: (خذوه فاعتلوه) فقودوه بعنف، وهو أن يؤخذ بتلابيب (5)
الرجل فيجر إلى قتل أو حبس، ومنه: " العتل "، وقرئ بكسر التاء وضمها (6)
(إلى سوآء الجحيم) إلى وسطها ومعظمها، وسمي وسط الشيء سواء لاستواء
المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به. ويجوز أن يكون " الصب " على طريق
الاستعارة كقول الشاعر:

(1) قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 243.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 281 عن ابن الزبعرى.
(3) قاله ابن عباس وابن عمر وسعيد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 243 - 245.
(4) وبالتاء قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر. راجع
كتاب السبعة في القراءات: ص 592.
(5) لببت الرجل تلبيبا: إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحوه في الخصومة ثم جررته. (الصحاح:
مادة لبب).
(6) بالضم قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر. راجع المصدر السابق.
328

صبت عليه صروف الدهر من صبب (1)
وكقوله: (أفرغ علينا صبرا) (2) يقال: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) على
سبيل الهزء والتهكم لمن كان يتعزز ويتكرم على قومه.
وروي أن أبا جهل قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما بين جبليها أعز ولا أكرم
مني " (3).
وقرئ: " أنك " بالفتح (4) أي: لأنك. (إن هذا) العذاب، أو: إن هذا الأمر
هو (ما كنتم به تمترون) أي: تشكون فيه، أو: تتمارون وتتلاجون بسببه.
(إن المتقين في مقام أمين (51) في جنت وعيون (52) يلبسون من
سندس وإستبرق متقبلين (53) كذا لك وزوجنهم بحور عين (54)
يدعون فيها بكل فكهة ءامنين (55) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة
الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذا لك هو الفوز
العظيم (57) فإنما يسرنه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم
مرتقبون (59))
قرئ (مقام) بالفتح (5) وهو موضع القيام، وبالضم (6) - مقام - وهو موضع
الإقامة، و " الأمين " في وصف المكان مستعار، لأن المكان المخيف كأنما يخوف
صاحبه مما يلقى فيه من المكاره.

(1) وصدره: كم امرئ كان في خفض وفي دعة. لم نعثر على قائله، قد ذكره صاحب الكشاف،
ومعناه واضح.
(2) البقرة: 250.
(3) رواه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 246 عن قتادة.
(4) وهي قراءة الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 593.
(5) أي فتح الميم الأولى.
(6) وهي قراءة نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 593.
329

قالوا: السندس: ما رق من الديباج، والاستبرق: ما غلظ منه (1)، وهو معرب
" استبر "، وإنما ساغ وقوع اللفظ الأعجمي في القرآن لأن معنى التعريب أن يجعل
عربيا بالتصرف فيه، وإجرائه على وجوه الإعراب (2). (كذلك) الكاف مرفوعة،
أي: الأمر كذلك، أو: منصوبة أي: مثل ذلك آتيناهم (وزوجنهم) وعن الأخفش:
هو التزويج المعروف (3)، وعن غيره: لا يكون في الجنة تزويج، والمعنى:
وقرناهم (بحور عين) (4). (يدعون) أي: يستدعون فيها أي ثمرة شاؤوها
واشتهوها (ءامنين) من نفادها ومضرتها، غير خائفين فوتها.
أي: (لا يذوقون فيها الموت) ألبتة، فوضع قوله: (إلا الموتة الأولى)
موضع ذلك، لأن الموتة الماضية لا يمكن ذوقها في المستقبل، وهو من باب
التعليق بالمحال، فكأنه قال: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل
فإنهم يذوقونها. (فضلا من ربك) أي: تفضلا منه وعطاء وثوابا. يعني: كل ما
أعطي المتقين من نعيم الجنة والنجاة من النار (فإنما يسرنه) معناه: ذكرهم
بالكتاب المبين فإنما سهلناه (بلسانك) بلغتك، حيث أنزلناه عربيا ليسهل عليك
وعلى قومك تفهمه والتذكر به. (فارتقب) فانتظر ما يحل بهم (إنهم مرتقبون)
ما يحل بك ومتربصون بكم (5) الدوائر، وقيل: انتظر نصرك عليهم فإنهم ينتظرون
خلافه بزعمهم (6).
* * *

(1) وهو قول عكرمة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 258.
(2) وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 282.
(3) معاني القرآن للأخفش: ج 2 ص 691.
(4) وهو ما قاله يونس كما في تفسير الرازي: ج 27 ص 253.
(5) في نسخة: " بك ".
(6) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 251.
330

سورة الجاثية
مكية (1) إلا آية نزلت بالمدينة: (قل للذين ءامنوا يغفروا) (2) سبع وثلاثون
آية كوفي، ست في غيرهم، (حم) كوفي.
في حديث أبي: " ومن قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته عند
الحساب " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا، وهو مع
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(حم (1) تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم (2) إن في السموات

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 244: مكية في قول قتادة ومجاهد، وهي سبع
وثلاثون آية في الكوفي وست في البصري والمدنيين.
وفي تفسير الماوردي ج 5 ص 260: مكية كلها في قول الحسن وجابر وعطاء وعكرمة،
وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي (قل للذين ءامنوا يغفروا).
وفي الكشاف: ج 4 ص 284: مكية إلا آية (14) فمدنية، وآياتها (37) وقيل: (36) آية،
نزلت بعد الدخان.
(2) الآية: 14.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 294 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 141، وفيه بعد " أبدا ": " ولا يسمع زفير جهنم ولا شهيقها ".
331

والارض لأيت للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دآبة ءايت
لقوم يوقنون (4) واختلف الليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من
رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الريح ءايت لقوم
يعقلون (5) تلك ءايت الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله
وءايته ى يؤمنون (6))
(إن في السموت) يجوز أن يكون على ظاهره، وأن يكون بمعنى " إن في
خلق السموات " لقوله: (وفي خلقكم). وقرئ: (ءايت) بالرفع والنصب (1) في
الموضعين: فأما الأول فعلى قولك: إن في الدار لزيدا وفي البيت عمرا، أو: في
البيت عمر. وأما الثاني وهو قوله: (ءايت لقوم يعقلون) فمن العطف على عاملين
مختلفين سواء نصبت أو رفعت، فالعاملان إذا نصبت هما: " إن " و " في "، وإذا
رفعت فالعاملان: الابتداء و " في "، عمل الابتداء الرفع في (ءايت) وعمل في
الجر في (اختلف)، والعطف على عاملين سديد سائغ على مذهب الأخفش (2)،
فأما سيبويه فلا يجيزه (3)، ومخرج الآية على مذهبه أن يقدر " في " ويضمر، لأن
ذكره قد تقدم في الآيتين قبله كما قدره سيبويه في قول الشاعر:
أكل امرء تحسبين امرأ * ونار تأجج بالليل نارا (4)
وقال: إن " كل " في حكم الملفوظ واستغني عن إظهاره بتقدم ذكره (5)،

(1) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 594.
(2) انظر معاني القرآن: ج 1 ص 332 - 333.
(3) أنظر كتاب سيبويه: ج 1 ص 65 - 66.
(4) لأبي داود الإيادي. والبيت واضح المعنى. راجع ديوان أبي داود: ص 353، والكامل
للمبرد: ج 1 ص 376 وفيهما بدل " تأجج ": " توقد ".
(5) كتاب سيبويه: ج 1 ص 66.
332

أو: يحمل (واختلف الليل) على " في " المتقدم ذكرها ويجعل (ءايت) على
التكرر لطول الكلام، كما قيل في الثانية في قوله تعالى: (ألم يعلموا أنه من يحادد
الله ورسوله فإن له نار جهنم) (1)، أو: ينتصب على الاختصاص بعد انقضاء
المجرور معطوفا على ما قبله، ويرتفع بإضمار " هي "، فهذه ثلاثة أوجه.
(تلك) إشارة إلى الآيات المتقدمة، أي: تلك الآيات آيات الله، و (نتلوها)
في محل الحال أي: متلوة عليك بالحق، والعامل في الحال معنى الإشارة (بعد الله
وءايته) أي: بعد آيات الله كما قالوا: أعجبني زيد وكرمه. والمراد: أعجبني كرم
زيد. ويجوز أن يراد: (فبأى حديث بعد) حديث (الله) وهو كتابه وقرآنه كقوله:
(الله نزل أحسن الحديث) (2) وآياته أي: أدلته الفاصلة بين الحق والباطل.
(ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع ءايت الله تتلى عليه ثم يصر
مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من ءايتنا شيا
اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورآبهم جهنم ولا يغنى
عنهم ما كسبوا شيا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب
عظيم (10) هذا هدى والذين كفروا بايت ربهم لهم عذاب من رجز
أليم (11) الله الذي سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ى ولتبتغوا
من فضله ى ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في السموات وما في
الأرض جميعا منه إن في ذا لك لايت لقوم يتفكرون (13))
الأفاك: الكثير الإفك، وهو الكذب. (يصر) يقبل على كفره ويقيم عليه
(مستكبرا) عن الإيمان بالآيات، وعن الانقياد للحق (كأن) مخففة من الثقيلة

(1) التوبة: 63.
(2) الزمر: 23.
333

أي: كأنه (لم يسمعها) والضمير ضمير الشأن والحديث، والجملة في محل
النصب على الحال، أي: يصر مثل غير السامع
(وإذا) بلغه شيء (من ءاياتنا) وعلم أنه منها (اتخذها) أي: اتخذ الآيات
(هزوا) ولم يقل: اتخذه؛ للإيذان بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة
الآيات التي أنزلها الله على رسوله استهزأ بجميع الآيات، ولم يقتصر على
الاستهزاء بما بلغه (أولئك) إشارة إلى كل أفاك أثيم.
والوراء: اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، والمعنى: من
قدامهم جهنم (ولا يغنى عنهم ما كسبوا) أي: ما اكتسبوه وحصلوه من الأموال
في متاجرهم (ولا ما اتخذوا من دون الله) من الأصنام.
(هذا) إشارة إلى القرآن (هدى) أي: دلالة موصلة إلى الحق كاملة في
الهداية، كما تقول: زيد رجل، أي: كامل في الرجولية وأي رجل، والرجز: أشد
العذاب، وقرئ بجر (أليم) ورفعه (1).
ثم دل سبحانه على توحيده فقال: (الله الذي سخر لكم البحر لتجرى
الفلك) أي: السفن (فيه)، (ولتبتغوا من فضله) بالتجارة أو بالغوص على
اللؤلؤ والمرجان، واستخراج اللحم الطري وغير ذلك من منافع البحر. وقوله:
(منه) واقعة موقع الحال، والمعنى: سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من
عنده، والمعنى: أنه مكونها وموجدها بقدرته ومسخرها لخلقه، ويجوز أن يكون
خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي جميعا منه، وأن يكون (وما في الأرض) مبتدأ
و (منه) خبره.

(1) قرأ ابن كثير وعاصم برواية حفص بالرفع والباقون بجره. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 594.
334

(قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما
كانوا يكسبون (14) من عمل صلحا فلنفسه ى ومن أسآء فعليها ثم إلى
ربكم ترجعون (15) ولقد ءاتينا بنى إسراءيل الكتب والحكم والنبوة
ورزقنهم من الطيبت وفضلنهم على العلمين (16) وءاتينهم بينت
من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم إن ربك
يقضى بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون (17) ثم جعلنك على
شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن
يغنوا عنك من الله شيا وإن الظلمين بعضهم أوليآء بعض والله ولى
المتقين (19) هذا بصبر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20))
أي: (قل للذين ءامنوا) اغفروا (يغفروا) فحذف المقول لدلالة جوابه عليه
(للذين لا يرجون أيام الله) أي: لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه، وهو من قولهم:
أيام العرب؛ لوقائعهم، وقيل: لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين
ووعدهم الفوز فيها (1)، (ليجزى قوما) تعليل الأمر بالمغفرة، أي: إنما أمروا بأن
يغفروا لما أراده الله من توفيتهم جزاء مغفرتهم في الآخرة، ونكر (قوما) والمراد
به الذين آمنوا؛ للثناء عليهم، كأنه قال: ليجزي قوما أيما قوم، أو: قوما مخصوصين
لصبرهم وإغضائهم على أذى أعدائهم (بما كانوا يكتسبون‍) - ه من الثواب العظيم
باحتمال المكاره وكظم الغيظ، وقرئ: " لنجزي " (2) بالنون، وقرئ: " ليجزي
قوما " (3) على معنى: ليجزي الجزاء قوما.

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 288.
(2) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 595.
(3) وهي قراءة شيبة وأبي جعفر المدني. راجع البحر المحيط لأبي حيان: ج 8 ص 45.
335

(ورزقنهم من الطيبت) يريد ما أحله لهم وأطاب من الأرزاق
(وفضلنهم على العلمين) في كثرة الأنبياء منهم، (وءاتينهم بينت) آيات
معجزات (من الأمر) من أمر الدين (فما اختلفوا فيه) فما وقع بينهم الخلاف
في الدين (إلا من بعد ما جآءهم) ما يوجب دفع (1) الخلاف وهو (العلم)،
وإنما اختلفوا لبغي حدث بينهم، أي: لعداوة وحسد.
(ثم جعلناك على شريعة) أي: طريقة ومنهاج (من) أمر الدين، وأصله:
الشريعة التي هي الطريق إلى الماء (فاتبعها) أي: فاتبع شريعتك الثابتة بالبراهين
والمعجزات (ولا تتبع أهوآء) الجهال من قومك (الذين لا يعلمون) الحق
(إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) إن اتبعت أهواءهم.
(هذا) القرآن (بصئر للناس) جعل سبحانه ما فيه من معالم الدين
والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعله روحا وحياة (وهدى) وهو هدى
للناس (ورحمة) من الله.
(أم حسب الذين اجترحوا السيات أن نجعلهم كالذين ءامنوا
وعملوا الصلحت سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون (21) وخلق
الله السموات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا
يظلمون (22) أفرءيت من اتخذ إلهه هوله وأضله الله على علم وختم
على سمعه ى وقلبه ى وجعل على بصره ى غشوة فمن يهديه من بعد الله
أفلا تذكرون (23) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ
إلا الدهر وما لهم بذا لك من علم إن هم إلا يظنون (24) وإذا تتلى عليهم
ءايتنا بينت ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بابآبنآ إن كنتم

(1) في بعض النسخ: " رفع ".
336

صدقين (25) قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيمة
لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26) ولله ملك السموات
والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27))
(أم) منقطعة، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان، والاجتراح: الاكتساب
(أن نجعلهم) أن نصيرهم، وهو من " جعل " الذي يتعدى إلى مفعولين، فالأول
الضمير والثاني الكاف، والجملة التي هي (سوآء محياهم ومماتهم) بدل من
الكاف؛ لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا، فكانت في حكم المفرد. ومن قرأ (1)
(سوآء) بالنصب جعل " سواء " مثل " مستويا " ويكون (محياهم ومماتهم) رفعا
على الفاعلية، والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياهم وأن
يستووا مماتا؛ لافتراق أحوالهم أحياء حيث عاشوا على الحالتين المختلفتين:
هؤلاء على الطاعات وأولئك على المعاصي، وأمواتا حيث مات هؤلاء على
البشرى بالرحمة والوصول إلى رضوان الله وثوابه، وأولئك على اليأس من رحمة
الله والوصول إلى سخطه وعقابه، وقيل: معناه: إنكار أن يستووا في الممات كما
استووا في الحياة، لأن المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحة
وإنما يفترقون في الممات (2)، وقيل: " سواء محياهم ومماتهم " كلام مستأنف على
معنى: أن محيا المسيئين ومماتهم سواء، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم، كل
يموت على ما عاش عليه (3).

(1) الظاهر من عبارة المصنف رحمه الله هنا أنه يميل إلى قراءة الرفع، وهي قراءة ابن كثير
ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 595.
(2 و 3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 290.
337

(ولتجزى) عطف على (بالحق) لأن فيه معنى التعليل، أو على معلل
محذوف تقديره: وخلق الله السماوات والأرض ليدل على قدرته ولتجزى
(كل نفس).
(من اتخذ إلهه هواه) أي: اتخذ معبوده ما يهواه، فهو مطواع له يتبع ما
يدعوه إليه (وأضله الله) أي: تركه عن الهداية واللطف وخذله (على علم) أي:
عالما بأن ذلك لا يجدي عليه وأنه ممن لا لطف له، أو: مع علمه بوجوه الهداية
وإحاطته بأنواع الألطاف (فمن يهديه من بعد) إضلال (الله).
(نموت ونحيا) أي: نموت نحن ويحيا أولادنا، أو: يموت بعض منا ويحيا
بعض، أو: يصيبنا الأمران: الموت والحياة، يريدون: الحياة في الدنيا والموت
بعدها، وليس وراء ذلك حياة (وما يهلكنآ إلا الدهر) أي: وما يميتنا إلا الأيام
والليالي، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر، ويجعلونه المؤثر في هلاك
النفوس.
ومنه قوله (عليه السلام): " لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر " (1). أي: فإنه الفاعل
للحادث لا الدهر.
وسمى ما ليس بحجة من مقالتهم الباطلة حجة؛ لأنهم أدلوا به كما يدلى
بالحجة، وساقوه مساقها فسمي حجة على سبيل التهكم، أو: لأنه في أسلوب
قولهم:
تحية بينهم ضرب وجيع (2)

(1) أخرجه أحمد في مسنده: ج 2 ص 395 و 491 و 496 و 499.
(2) وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل. لعمرو بن معديكرب. تقدم شرحه في ج 1 ص 73
فراجع.
338

كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي الحجة. وإنما وقع
قوله: (قل الله يحييكم) جوابا لقولهم: (ائتوا بآبائنا) لأنهم لما أنكروا البعث
ألزموا ما هم به مقرون من أن الله هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وضم إلى ذلك إلزام
ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وهو جمعهم (إلى يوم القيمة) ومن كان قادرا
على ذلك قدر على الإتيان بآبائهم. وعامل النصب في (يوم تقوم الساعة):
(يخسر)، و (يومئذ) بدل من (يوم تقوم الساعة).
(وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتبها اليوم تجزون ما
كنتم تعملون (28) هذا كتبنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم
تعملون (29) فأما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فيدخلهم ربهم في
رحمته ى ذا لك هو الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن ءايتى
تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) وإذا قيل إن وعد الله
حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما
نحن بمستيقنين (32) وبدا لهم سيات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به ى
يستهزءون (33) وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هذا
ومأواكم النار وما لكم من نصرين (34) ذا لكم بأنكم اتخذتم ءايت
الله هزوا وغرتكم الحيواة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم
يستعتبون (35) فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب
العلمين (36) وله الكبريآء في السموات والارض وهو العزيز
الحكيم (37))
(وترى) يوم القيامة أهل (كل) ملة باركة على ركبها مستوفزة، وعن
339

قتادة: (جاثية) جماعات (1)، من الجثوة وهي الجماعة وجمعها: " جثى ".
وفي الحديث: " من جثى جهنم " (2).
(كل أمة تدعى إلى كتابها) أي: إلى كتب أعمالها التي كانت تستنسخ لها،
فاكتفى باسم الجنس كما في قوله: (ووضع الكتب) (3)، وقيل: إلى كتابها المنزل
على رسولها ليسألوا عما عملوا به (4)، والأول أصح (اليوم تجزون) محمول
على القول. (هذا كتبنا) إنما أضيف إليهم وإلى الله عز وجل لأن الإضافة تكون
للملابسة، وقد لابسهم لأن أعمالهم مثبتة فيه، ولابسه سبحانه لأنه الآمر ملائكته
أن يكتبوا فيه أعمال العباد (ينطق عليكم) يشهد عليكم بما عملتم (بالحق)
بلا زيادة ونقصان (إنا كنا نستنسخ) الملائكة، أي: نستكتبهم أعمالكم. (في
رحمته) أي: في جنته وثوابه، وقرأ الباقر (عليه السلام): " ينطق عليكم " على البناء
للمفعول.
(وأما الذين كفروا) جوابه محذوف، والتقدير: فيقال لهم: (أفلم تكن
ءايتى تتلى عليكم) والمعنى: ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟
فحذف المعطوف عليه (فاستكبرتم) فتعظمتم عن قبولها (وكنتم قوما
مجرمين) أي: كافرين، كما قال: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) (5).

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 292.
(2) ونص الحديث: عن الحارث الأشعري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من دعا بدعوى
الجاهلية فإنه من جثى جهنم، قال رجل: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال: نعم، فادعوا
بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله ". أخرجه السيوطي في الدر المنثور:
ج 6 ص 81 وعزاه إلى الطيالسي وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم.
(3) الكهف: 49، الزمر: 69.
(4) وهو المحكي عن الجاحظ. راجع التبيان: ج 9 ص 262.
(5) القلم: 35.
340

وقرئ: (والساعة) بالرفع والنصب (1). فالرفع محمول على موضع (إن)
وما عملت فيه، والنصب على لفظة (إن)، و (لا ريب فيها) في موضع الرفع،
(ما الساعة) أي: وأي شيء الساعة (إن نظن إلا ظنا) والأصل: نظن ظنا.
ومعناه: إثبات الظن، فأدخل حرف النفي وحرف الاستثناء ليفيد إثبات الظن مع
نفي ما سواه، وزاد نفي ما سوى الظن تأكيدا لقوله: (وما نحن بمستيقنين).
(وبدا لهم) أي: ظهر لهم (سيئات ما عملوا) أي: قبائح أعمالهم، أو:
عقوبات سيئاتهم كقوله: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (2).
(اليوم ننساكم) أي: نترككم في العذاب كما تركتم عدة (لقآء يومكم هذا)
وهي الطاعة، أو: نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي الذي لا يبالي به كما لم تبالوا بلقاء
يومكم هذا، وإضافة " اللقاء " إلى " اليوم " كإضافة " المكر " في قوله: (بل مكر
الليل والنهار) (3) أي: نسيتم لقاء الله ولقاء جزائه في يومكم هذا. (ذلكم)
المفعول بكم (بأنكم اتخذتم) بسبب استهزائكم بآيات الله واغتراركم بالدنيا
(ولا هم يستعتبون) ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي: يرضوه.
(فلله الحمد) فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات
والأرض والعالمين وكبروه، فقد ظهرت آثار كبريائه في الجميع، فإن مثل هذه
الربوبية الشاملة العامة توجب الثناء والحمد والتكبير والتعظيم على المربوبين.
* * *

(1) وبالنصب قراءة حمزة وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 595.
(2) الشورى: 40.
(3) سبأ: 33.
341

سورة الأحقاف
مكية (1) غير آيات، وهي خمس وثلاثون آية كوفي، أربع في الباقين، (حم)
كوفي.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كل رمل في
الدنيا عشر حسنات ورفع له عشر درجات " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها كل ليلة أو كل جمعة لم يصبه الله بروعة في
الحياة الدنيا، وآمنه من فزع يوم القيامة " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(حم (1) تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا
السموات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 266: مكية بلا خلاف، وهي خمس وثلاثون آية
في الكوفي، وأربع وثلاثون في البصري والمدنيين، عد أهل الكوفة (حم) آية ولم يعده
الباقون، والباقي لا خلاف فيه.
وفي الكشاف: ج 4 ص 294: مكية إلا الآيات 10 و 15 و 35 فمدنية، وآياتها (34)
وقيل: (35) آية، نزلت بعد الجاثية.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 314 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 141.
343

عمآ أنذروا معرضون (3) قل أرءيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا
خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتونى بكتب من قبل
هذآ أو أثرة من علم إن كنتم صدقين (4) ومن أضل ممن يدعوا من
دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيمة وهم عن دعآبهم غفلون (5)
وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كفرين (6) وإذا تتلى
عليهم ءايتنا بينت قال الذين كفروا للحق لما جآءهم هذا سحر مبين (7)
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيا هو أعلم
بما تفيضون فيه كفى به ى شهيدا بينى وبينكم وهو الغفور الرحيم (8))
(إلا بالحق) أي: إلا خلقا ملتبسا بالحق والحكمة والغرض الصحيح، ولم
يخلقها عبثا ولا باطلا (وأجل مسمى) وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه وهو يوم
القيامة (والذين كفروا عما أنذروا) من يوم القيامة والجزاء (معرضون)
لا يؤمنون به ولا يستعدون له، ولابد من انتهائهم وانتهاء كل خلق إليه، ويجوز أن
يكون " ما " مصدرية أي: عن الإنذار.
(قل) لهم (أرأيتم) ما تعبدونهم من الأصنام وتدعونهم مع الله آلهة
(أرونى ماذا خلقوا من الأرض) حتى استحقوا به العبادة وتوجيه القرب إليهم،
بل (لهم شرك في) خلق (السموت) فإنهم لا يقدرون على ادعاء ذلك،
(ائتونى بكتب) أنزله الله يدل على صحة قولكم في عبادتكم غيره (أو أثرة
من علم) أو بقية من علم تؤثر من كتب الأولين، وفي الشواذ عن علي (عليه السلام):
" أو أثرة " بسكون الثاء (1)، وعن ابن عباس: " أثرة " بفتحتين (2)، فالأثرة: المرة

(1) أنظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 140.
(2) حكاه عنه أبو حيان في البحر المحيط: ج 8 ص 55.
344

من مصدر أثر الحديث أي: رواه، والأثرة بمعنى الأثارة أيضا، أي: خاصة من علم
أوثرتم به وخصصتم الإحاطة به لغيركم.
(ومن أضل) معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كله (1) أبلغ
ضلالا من عبدة الأصنام حيث يدعون جمادا (لا يستجيب) لهم ولا يقدر على
استجابة أحد ما دامت الدنيا وإلى تقوم الساعة، ويتركون دعاء القادر على كل
شيء، السميع المجيب. (وإذا حشر الناس كانوا) عليهم ضدا و (لهم أعدآء)
فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة منهم.
(بينت) جمع بينة، وهي الحجة والشاهد، أو: واضحات مبينات، واللام في
(للحق) مثلها في قوله: (للذين ءامنوا لو كان خيرا) (2) أي: لأجل الحق ولأجل
الذين آمنوا، والمراد بالحق: الآيات، وبالذين كفروا: المتلو عليهم، فوضع
الظاهران موضع المضمرين للتسجيل عليهم بالكفر وللتملق بالحق (لما جآءهم)
أي: بادهوه (3) بالجحود ساعة أتاهم وأول ما سمعوه من غير فكر ونظر وسموه
سحرا مبينا ظاهرا لظلمهم وعنادهم.
(أم يقولون افتراه) إعراض وإضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى
ذكر قولهم: إن محمدا افتراه، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المنكر العجيب،
وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يتقوله ويفتريه على الله، ولو اختص
بالقدرة عليه من بين سائر العرب الفصحاء لكانت قدرته عليه معجزة خارقة
للعادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب
فلا يكون مفتريا، والضمير في (افتراه) ل‍ (الحق) والمراد به الآيات (قل إن

(1) في بعض النسخ: " كلهم ".
(2) الآية: 11.
(3) بادهه بالأمر: فاجأه به. (الصحاح: مادة بده).
345

افتريته) على سبيل الفرض عاجلني الله لا محالة بعقوبة الافتراء عليه (فلا
تملكون) دفع شيء من عقابه عني، فكيف أتعرض لعقابه؟! يقال: فلان لا يملك
إذا غضب، ومثله: (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن
مريم) (1)، ثم قال: (هو أعلم بما تفيضون فيه) أي: تندفعون فيه من القدح في
وحي الله والطعن في آياته (كفى به شهيدا بينى وبينكم) يشهد لي بالصدق
والبلاغ ويشهد عليكم بالكذب والجحود، ومعنى ذلك (2) العلم والشهادة وعيد
بمجازاتهم (وهو الغفور الرحيم) وعد بالرحمة والمغفرة إن رجعوا عن الكفر
وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوه.
(قل ما كنت بدعا من الرسل ومآ أدرى ما يفعل بى ولا بكم إن أتبع
إلا ما يوحى إلى ومآ أنا إلا نذير مبين (9) قل أرءيتم إن كان من عند الله
وكفرتم به ى وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله ى فامن واستكبرتم
إن الله لا يهدى القوم الظلمين (10) وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو
كان خيرا ما سبقونآ إليه وإذ لم يهتدوا به ى فسيقولون هذآ إفك
قديم (11) ومن قبله ى كتب موسى إماما ورحمة وهذا كتب مصدق
لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12) إن الذين قالوا
ربنا الله ثم استقموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك
أصحب الجنة خلدين فيها جزآء بما كانوا يعملون (14) ووصينا
الانسن بوالديه إحسنا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصله
ثلثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن

(1) المائدة: 17.
(2) في بعض النسخ: " ذكر ".
346

أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صلحا ترضاه
وأصلح لى في ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين (15) أولئك
الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سياتهم في أصحب
الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16))
البدع: البديع، وهو مثل الخف بمعنى الخفيف، أي: (ما كنت بدعا من
الرسل) فآتيكم بكل ما تقترحونه من الآيات، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من
المغيبات التي لم يوح بها إلي، فإن الرسل ما كانوا يأتون من الآيات إلا بما آتاهم
الله، ولا كانوا يخبرون من الغيوب إلا بما أوحاه إليهم (وما أدرى) ما يفعله (الله
بى ولا بكم) فيما يستقبل من الزمان، وما يقدره لي ولكم من أفعاله وقضاياه،
وقيل: وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، ومن الغالب منا
والمغلوب (1)، ووجه الكلام: ما يفعل بي وبكم، لأنه مثبت غير منفي، ولكن النفي
في " ما أدري " لما كان مشتملا عليه لتناوله " ما " وما في حيزه صح ذلك وحسن،
و " ما " في (ما يفعل) يجوز أن يكون موصولة منصوبة، وأن يكون استفهامية
مرفوعة.
(قل أرءيتم إن كان من عند الله) جواب الشرط محذوف، والتقدير: إن كان
القرآن من عند الله (وكفرتم به) ألستم ظالمين؟ ويدل على هذا المحذوف قوله:
(إن الله لا يهدى القوم الظلمين)، والشاهد من بني إسرائيل عبد الله بن سلام،
لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة نظر إلى وجهه وتأمله، وسأله عن مسائل ثلاث
لا يعلمهن إلا نبي، وتحقق أنه النبي المنتظر فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، ثم
قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني

(1) قاله الحسن البصري، راجع تفسيره: ج 2 ص 283.
347

بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي (عليه السلام): أي رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا:
خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أرأيتم إن أسلم
عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، قال: هذا ما كنت أخاف يا
رسول الله (1).
قال سعد بن أبي وقاص: ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لأحد يمشي على
وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل (وشهد شاهد من
بنى إسرءيل على مثله) (2) والضمير للقرآن، أي: على مثله في المعنى، وهو ما في
التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن، ويدل عليه قوله: (وإنه لفي زبر
الأولين) (3)، (إن هذا لفي الصحف الأولى) (4). ويجوز أن يكون المعنى:
وشهد شاهد على نحو ذلك، يعني: على كونه من عند الله.
ونظم هذا الكلام أن الواو الأولى عاطفة ل‍ (كفرتم) على فعل الشرط،
وكذلك الواو الأخيرة عاطفة ل‍ (استكبرتم) على (شهد)، فأما الواو في
(وشهد) فقد عطفت جملة قوله: (وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله فآمن
واستكبرتم) على جملة قوله: (كان من عند الله وكفرتم به)، والمعنى: قل
أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بني
إسرائيل على نزول مثله بإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل
الناس وأظلمهم؟ وجعل الإيمان في قوله: (فآمن) مسببا عن الشهادة على مثله،

(1) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 279 و 280 عن ابن عباس والضحاك والحسن.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره أيضا: ج 11 ص 279.
(3) الشعراء: 196.
(4) الأعلى: 18.
348

لأنه لما علم أن مثله أنزل على موسى (عليه السلام)، وأنه وحي وليس من كلام البشر فشهد
عليه واعترف، كان إيمانه نتيجة ذلك.
(وقال الذين كفروا للذين ءامنوا) أي: لأجلهم قالوا: عامة أتباع
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سقاط، فلو (كان) ما جاء به (خيرا) لما سبقنا (إليه) هؤلاء،
وقيل: لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، قالت بنو عامر بن صعصعة وغطفان
وأسد وأشجع: لو كان دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا ما سبقنا إليه عامة البهم (1). والعامل
في (إذ) محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم
(فسيقولون هذا إفك قديم) وهو كقولهم: (أساطير الأولين) (2).
(كتب موسى) مبتدأ، (ومن قبله) خبر مقدم، و (إماما) حال من الظرف
كقولك: في الدار زيد قائما، أي: مؤتما به قدوة في دين الله (ورحمة) لمن آمن به
(وهذا) القرآن (كتب مصدق) لكتاب موسى، أو: لما تقدمه من الكتب،
و (لسانا عربيا) حال من ضمير " الكتاب " في (مصدق) والعامل فيه
(مصدق)، أو: حال من (كتب) لتخصصه بالصفة ويعمل فيه معنى الإشارة،
وقرئ (لتنذر) بالتاء (3) والياء، و (بشرى) في محل النصب عطفا على محل
(لتنذر) لأنه مفعول له.
وقرئ: " حسنا " (4) و (إحسنا)، و (كرها) بضم الكاف وفتحها (5) وهما

(1) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 273.
(2) الأنعام: 25، الأنفال: 31 وغيرهما.
(3) وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير على رواية. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 596.
(4) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع المصدر السابق.
(5) وبفتح الكاف هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو. راجع المصدر نفسه.
349

لغتان، وانتصب على الحال أي: ذات كره، أو: على أنه صفة للمصدر أي: حملا ذا
كره (وحمله وفصله ثلثون شهرا) أي: ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا،
وقرئ: (وفصله) (1)، والفصل والفصال في معنى الفطم والفطام، والمراد: بيان
مدة الرضاع لا الفطام. ولكن عبر عنه بالفصال لما كان الرضاع يليه الفصال وينتهي
به، وفيه فائدة وهي: الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال ووقته. وبلوغ
الأشد: أن يكتهل ويستوفي السن التي يستحكم فيها قوته وعقله وتميزه، وذلك إذا
أناف على الثلاثين وناهز الأربعين، وعن ابن عباس وقتادة: ثلاث وثلاثون
سنة (2)، ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد وغايته الأربعين، وذلك وقت إنزال
الوحي على الأنبياء (رب أوزعنى) أي: ألهمني، والمراد بالنعمة التي استوزع
الشكر عليها: نعمة الدين (وأصلح لى في ذريتى) سأله سبحانه أن يجعل ذريته
مظنة للصلاح، كأنه قال: هب لي الصلاح في ذريتي، وأوقعه فيهم. (وإنى من
المسلمين) المنقادين لأمرك.
وقرئ " يتقبل " و " يتجاوز " و " أحسن " بالرفع (3)، و (نتقبل) و (نتجاوز)
بالنون و (أحسن) بالنصب، و (في أصحب الجنة) من نحو قولك: أكرمني
الأمير في ناس من أصحابه، تريد: أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في
عدادهم، وهو في محل النصب على الحال على معنى: كائنين في أصحاب الجنة،
معدودين فيهم. (وعد الصدق) مصدر مؤكد لأن قوله: (نتقبل عنهم) وعد من
الله لهم بتقبل أعمالهم، وبالتجاوز عن سيئاتهم.

(1) قرأه الحسن والجحدري. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 140.
(2) حكاه عنهما الطبري في تفسيره: ج 11 ص 284.
(3) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة
في القراءات: ص 597.
350

(والذي قال لوا لديه أف لكمآ أتعداننى أن أخرج وقد خلت القرون
من قبلى وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هذآ
إلا أسطير الاولين (17) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد
خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خسرين (18) ولكل
درجت مما عملوا وليوفيهم أعملهم وهم لا يظلمون (19) ويوم يعرض
الذين كفروا على النار أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها
فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق
وبما كنتم تفسقون (20))
(الذي قال) مبتدأ وخبره: (أولئك الذين حق عليهم القول) والمراد بالذي
قال الجنس القائل ذلك القول، ولذلك جاء الخبر بلفظ الجمع، و (أف) كلمة
تضجر، واللام للبيان، معناه: هذا التأفيف (لكمآ) ولأجلكما خاصة دون غيركما
(أتعدانني أن أخرج) أي: أبعث وأخرج من الأرض (وهما يستغيثان الله)
يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك (ويلك) دعاء عليه بالثبور، والمراد به
التحريص على الإيمان لا حقيقة الهلاك. (إن وعد الله) بالبعث والجزاء (حق
فيقول) في جوابهما: (ما هذآ) القرآن أو الذي تدعونني إليه (إلا أسطير
الأولين) سطروها وليس لها حقيقة.
(في أمم) مثل قوله: (في أصحب الجنة) (ولكل) من الجنسين
المذكورين (درجت) على مراتبهم ومقادير أعمالهم من الخير والشر، أو: من
أجل أعمالهم الحسنة والقبيحة، وإنما قال: " درجات " وقد جاء: " الجنة درجات
والنار دركات " على وجه التغليب؛ لاشتمال كل على الفريقين. (وليوفيهم)
تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه، كأنه قال: وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم
351

حقوقهم، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب
دركات.
(ويوم يعرض) انتصب بالقول المضمر قبل (أذهبتم)، وعرضهم على النار:
تعذيبهم بها، كما يقال: عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به. ومنه قوله: (النار
يعرضون عليها) (1)، أو يكون المعنى: عرضت النار عليهم، كما يقال: عرضت
الناقة على الحوض، وإنما يعرض الحوض عليها، وهو من القلب. ويدل عليه
تفسير ابن عباس: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها (2) (أذهبتم طيبتكم) أي: ما
كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم وقد ذهبتم به وأخذتموه
فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها، وقيل: معناه: أنفقتم طيبات ما رزقتم
في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا ولم تنفقوها في مرضاة الله عز اسمه (3).
وروي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم وما
يجدون لها رقاعا، فقال: " أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في
أخرى، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة "؟
قالوا: نحن يومئذ خير؟ قال: " بل أنتم اليوم خير " (4).
وقرئ: " أأذهبتم " (5) بهمزة الاستفهام، و " آأذهبتم " بألف بين همزتين (6).
(واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين
يديه ومن خلفه ى ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم
عظيم (21) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من

(1) غافر: 46.
(2) تفسير ابن عباس: ص 425.
(3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 425.
(4) رواه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 289.
(5) قرأه ابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 598.
(6) قرأه ابن كثير. راجع المصدر السابق.
352

الصدقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم مآ أرسلت به ى ولكنى
أراكم قوما تجهلون (23) فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا
عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ى ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر
كل شىء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مسكنهم كذا لك نجزى القوم
المجرمين (25) ولقد مكنهم فيمآ إن مكنكم فيه وجعلنا لهم سمعا
وأبصرا وأفدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصرهم ولا أفدتهم
من شىء إذ كانوا يجحدون بايت الله وحاق بهم ما كانوا به ى
يستهزءون (26) ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الايت
لعلهم يرجعون (27) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا
ءالهة بل ضلوا عنهم وذا لك إفكهم وما كانوا يفترون (28))
(أخا عاد) هود (عليه السلام)، الأحقاف: جمع حقف وهو الرمل المستطيل (1)
المرتفع فيه انحناء، من: احقوقف الشيء إذا اعوج. وكانت عاد بين رمال مشرفة
على البحر بالشحر (2) من بلاد اليمن، وقيل: بين عمان ومهرة (3). (4) و (النذر)
جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار (من بين يديه ومن خلفه) من قبل هود ومن
بعده، أي: قال لهم: (لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم) العذاب، وقوله: (وقد
خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) اعتراض.

(1) أي: الذي استطال وارتفع.
(2) في الكشاف: بأرض يقال لها: الشحر، انتهى. وفي معجم البلدان: ج 3 ص 327: هو صقع
على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، قال الأصمعي: هو بين عدن وعمان.
(3) قال في المعجم: ج 2 ص 700: قال العمراني: هي بلاد تنسب إليهم الإبل المهرية، وباليمن
لهم مخلاف بينه وبين عمان نحو شهر.
(4) قاله ابن عباس. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 290.
353

(قالوا أجئتنا لتأفكنا) لتصرفنا عن عبادة (ءالهتنا فأتنا بما تعدنا) من
العذاب. (قال إنما العلم عند الله) معناه: إني لا أعلم الوقت الذي فيه يكون
تعذيبكم حكمة وثوابا (1)، إنما علم ذلك عند الله، فكيف أدعوه بأن يأتيكم بعذابه
في هذا الوقت؟ (وأبلغكم) أي: وأنا أبلغكم (مآ أرسلت به) وأمرت بتبليغه
إليكم (ولكنى أركم قوما تجهلون) حيث لا تجيبون إلى ما فيه صلاحكم
ونجاتكم، وتستعجلون العذاب الذي فيه هلاككم.
(فلما رأوه) الضمير يعود إلى (ما تعدنا)، أو: هو ضمير مبهم قد وضح
بقوله: (عارضا) إما تمييزا وإما حالا، والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق
من آفاق السماء، ومثله: العنان من: عن إذا عرض، والحبي من: حبا، وإضافة
(مستقبل) و (ممطر) غير حقيقية لكونهما نكرتين وإن أضيفا إلى المعرفتين،
ألا ترى أن كليهما وصف للنكرة، وفي تقدير الانفصال كأنه قال: عارضا مستقبلا
أوديتهم وهذا عارض ممطر إيانا (بل هو) أي: قال هود: ليس هو كما توهمتم
(بل هو ما استعجلتم به) هي (ريح فيها عذاب) مؤلم. (تدمر) أي: تهلك
(كل شىء) من نفوس عاد وأموالهم و دوابهم الكثيرة، فعبر عن الكثرة بالكلية
" فأصبحوا لا ترى " أيها الرائي " إلا مسكنهم "، وقرئ: (لا يرى) على البناء
للمفعول (إلا مسكنهم) بالرفع (2).
(فيمآ إن مكنكم فيه): " إن " نافية أي: فيما ما مكناكم فيه من قوة الأجسام
وطول العمر وكثرة المال، إلا أن " إن " أحسن في اللفظ لما في تكرير " ما " من

(1) في نسخة: " وصوابا ".
(2) الظاهر من عبارة المصنف رحمه الله أنه يميل إلى القراءة الأخرى المشهورة " لا ترى إلا
مساكنهم " وهي قراءة السبعة إلا عاصما وحمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 598.
354

البشاعة، ألا ترى أنهم قلبوا الألف من " ما " هاء في " مهما " وأصله " ماما " لبشاعة
التكرير (من شىء) من الإغناء، وهو القليل منه، وانتصب (إذ كانوا) بقوله:
(فمآ أغنى) وجرى مجرى التعليل، ألا ترى أن قولك: ضربته لإساءته، و: ضربته
إذ أساء يستويان في المعنى، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربت فيه
لوجود إساءته فيه.
(ولقد أهلكنا ما حولكم) يا أهل مكة (من القرى) نحو حجر ثمود وقرية
سدوم وغيرهما، والمراد: أهل القرى، ولذلك قال: (لعلهم يرجعون). (فلولا)
أي: فهلا نصر هؤلاء المهلكين الذين اتخذوهم شفعاء متقربا بهم إلى الله حيث
قالوا: (هؤلاء شفعؤنا عند الله) (1) وأحد مفعولي " اتخذ " المحذوف الراجع إلى
" الذين " والثاني: (ءالهة) و (قربانا) حال، والمعنى: فهلا منعهم من الهلاك
آلهتهم (بل ضلوا عنهم) أي: غابوا عن نصرتهم و (ذلك) إشارة إلى امتناع
نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم، أي: (وذلك) أثر (إفكهم) الذي هو اتخاذهم
إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء.
(وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه
قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يقومنآ إنا
سمعنا كتبا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق
وإلى طريق مستقيم (30) يقومنآ أجيبوا داعى الله وءامنوا به ى يغفر لكم
من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعى الله فليس
بمعجز في الأرض وليس له من دونه ى أوليآء أولئك في ضلل
مبين (32) أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض ولم يعى

(1) يونس: 18.
355

بخلقهن بقدر على أن يحىى الموتى بلى إنه على كل شىء قدير (33)
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا
قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولوا العزم
من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا
ساعة من نهار بلغ فهل يهلك إلا القوم الفسقون (35))
(صرفنا إليك نفرا من الجن) أي: أملناهم إليك من بلادهم بالتوفيق
والألطاف حتى أتوك، والنفر: دون العشرة، وجمعه: أنفار. وعن ابن عباس:
صرفناهم إليك عن استراق سمع السماء برجوم الشهب فقالوا: ما هذا الذي حدث
في السماء إلا لأجل شيء حدث في الأرض، فضربوا في الأرض حتى وقفوا على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببطن نخلة عامدا إلى عكاظ وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن
ونظروا كيف يصلي (1). والضمير في (حضروه) للقرآن أو لرسول الله (قالوا)
أي: قال بعضهم لبعض: (أنصتوا) أي: اسكتوا مستمعين (فلما قضى) أي: فرغ
من التلاوة (ولوا) انصرفوا (إلى قومهم منذرين) يخوفونهم من عذاب الله إن
لم يؤمنوا.
قالوا: (من بعد موسى) لأنهم كانوا على اليهودية (أجيبوا داعى الله)
محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، دعاهم إلى توحيده (وءامنوا به) الهاء ل‍ " الله "، فجاءوا إلى
رسول الله وآمنوا وعلمهم شرائع الإسلام، وأنزل الله سبحانه سورة الجن، وكانوا
يفدون إليه في كل وقت وفيه دلالة على أنه كان مبعوثا إلى الجن والإنس. (فليس
بمعجز في الأرض) أي: لا ينجي منه مهرب ولا يسبقه سابق (وليس له من دونه
أوليآء) أي: أنصار يدفعون عنه عذاب الله إذا نزل بهم.

(1) أخرجه عنه الترمذي في السنن: ج 5 ص 426 ح 3323.
356

(بقدر) محله الرفع لأنه خبر (أن) وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في
أول الآية على " أن " وما في حيزها، كأنه قال: أليس الله بقادر؟ ألا ترى أن
(بلى) مقررة لكونه سبحانه قادرا على كل شيء لا لرؤيتهم؟ وقرئ: " يقدر " (1).
(ولم يعى بخلقهن) يقال: عيي فلان بأمره: إذا لم يهتد له ولم يعرف وجهه، ومنه
(أفعيينا بالخلق الاول) (2).
(أليس هذا بالحق) محكي بعد قول مضمر، وهذا المضمر هو الناصب
للظرف، و (هذا) إشارة إلى العذاب بدلالة قوله: (فذوقوا العذاب) وهو توبيخ
لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده.
(أولوا العزم) أولو الجد والثبات والصبر، قيل: إن " من " للتبيين (3)،
والمراد: جميع الرسل، والأظهر أن " من " للتبعيض، وأولو العزم من الرسل: من أتى
بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه، وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين (ولا تستعجل لهم) العذاب،
أي: لا تدع لهم بتعجيله فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وإنهم مستقصرون حينئذ
مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها (ساعة من نهار)، و (بلغ) أي: هذا بلاغ،
والمعنى: هذا القرآن بما فيه من البيان كفاية، أو: هذا تبليغ من الرسول (فهل يهلك
إلا القوم) الخارجون من أمر الله تعالى، المتمردون في الفسق والمعاصي؟ وعن
الزجاج: ما جاء في رحمة الله شيء أبلغ من هذه الآية (4).
* * *

(1) وهي قراءة يعقوب. راجع التبيان: ج 9 ص 285.
(2) ق: 15.
(3) أنظر الكشاف: ج 4 ص 313.
(4) معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 448.
357

سورة محمد
مدنية (1) وهي أربعون آية بصري، ثمان وثلاثون كوفي، عد البصري
(أوزارها) (2) و (للشربين) (3).
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حقا على الله أن يسقيه
من أنهار الجنة " (4).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها لم يدخله شك في دينه أبدا، ولم يزل محفوظا
من الشرك والكفر حتى يموت " (5)، تمام الخبر (6).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 288: هي مدنية كلها إلا آية واحدة، قال ابن
عباس وقتادة: فالآية الواحدة نزلت حين خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة وجعل ينظر إلى البيت
وهو يبكي حزنا عليه فنزل قوله: (فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك) الآية، وهي
ثمان وثلاثون آية في الكوفي وتسع وثلاثون في المدنيين وأربعون في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 314: مدنية عند مجاهد، وقال الضحاك وسعيد بن جبير: مكية،
وهي سورة القتال، وهي تسع وثلاثون آية، وقيل: ثمان وثلاثون، نزلت بعد الحديد.
(2 و 3) الآية: 4 و 15 على التوالي.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 331 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 142.
(6) وفي نسخة زيادة: " وفي حديث آخر: من قرأ هذه السورة كان له بعدد كل مؤمن وكافر
حسنات ودرجات في جنات، وكان له بعدد كل حرف منها عتق الف ذرية مؤمنة مع ما له
عند الله من المزيد. وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قرأ سورة (الذين كفروا)
لم يرتب أبدا، ولم يدخله شك في دينه أبدا، ولا ينله الله بفقر أبدا ولا خوف من سلطان أبدا،
ولم يزل محفوظا من الشك والكفر أبدا حتى يموت، فإذا مات وكل الله في قبره ألف يصلون
في قبره، ويكون ثواب صلاتهم له، ويشيعونه حتى يوقفونه موقف الأمن عند الله عزوجل،
ويكون في أمان الله وأمان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، تمام الخبر ".
359

بسم الله الرحمن الرحيم
(الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعملهم (1) والذين
ءامنوا وعملوا الصلحت وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من
ربهم كفر عنهم سياتهم وأصلح بالهم (2) ذا لك بأن الذين كفروا اتبعوا
ا لبطل وأن الذين ءامنوا اتبعوا الحق من ربهم كذا لك يضرب الله
للناس أمثلهم (3) فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذ آ
أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فدآء حتى تضع الحرب
أوزارها ذا لك ولو يشآء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض
والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعملهم (4) سيهديهم ويصلح
بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6))
(أضل أعملهم) أحبط الله أعمالهم التي ظنوها خيرا وقربة، يسمونها مكارم
الأخلاق من صلة الأرحام وقرى الأضياف وحفظ الجوار ونحو ذلك، وأذهبها
وأبطلها كأنها لم تكن، وقيل: هم العشرة في وقعة بدر أطعم كل واحد منهم الجند
يوما (1)، وقيل: هو عام في كل من صد وأعرض عن الدخول في دين الإسلام
أو صد غيره عنه (2). وحقيقة " أضلها ": جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها
ويثيب عليها، كالضالة من الإبل التي هي بمضيعة لا حافظ لها.

(1) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 427.
(2) قاله الطبري في تفسيره: ج 11 ص 304.
360

وقوله: (وءامنوا بما نزل على محمد) (صلى الله عليه وآله وسلم) اختصاص للإيمان بما نزل
على رسول الله من بين ما يجب الإيمان به تعظيما لشأنه، وإيذانا بأن الإيمان لا
يتم إلا به، وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله: (وهو الحق من ربهم)،
وقيل: معناه: أن دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الحق إذ لا يرد عليه النسخ وهو ناسخ
لغيره (1)، (وأصلح بالهم) أي: حالهم وشأنهم بأن نصرهم على أعدائهم في
الدنيا، ويدخلهم الجنة في العقبى.
(ذلك) مبتدأ، أي: ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين، وتكفير
سيئات الآخرين وإصلاح بالهم كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق،
ويجوز أن يكون (ذلك) خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك بهذا السبب، فيكون
محل الجار والمجرور منصوبا على هذا الوجه، ومرفوعا على الأول،
و (البطل): ما لا ينتفع به، وعن قتادة: الباطل: الشيطان (2) (كذلك) أي: مثل
ذلك الضرب (يضرب الله للناس أمثلهم) والضمير راجع إلى (الناس) أو إلى
المذكورين، قيل: من الفريقين (3)، أي: يضرب أمثالهم للناس لأجل الناس
ليعتبروا بهم، وضرب المثل هو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكافرين،
وإصلاح البال مثلا لفوز المؤمنين، أو: في أن جعل الحق كأنه دعا المؤمنين إلى
نفسه فأجابه، والباطل كأنه دعا الكافرين إلى نفسه فأجابه.
(فإذا لقيتم) هو من اللقاء بمعنى الحرب (فضرب الرقاب) أصله: فاضربوا
الرقاب ضربا، فحذف الفعل وقدم المصدر وأنيب منابه مضافا إلى المفعول،

(1) قاله السمرقندي في تفسيره: ج 3 ص 239.
(2) في الكشاف: ج 4 ص 315 عن مجاهد.
(3) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 6.
361

وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد، لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل
بالنصبة التي فيه، وضرب الرقاب عبارة عن القتل، لأن الواجب أن يضرب الرقاب
خاصة دون غيرها من الأعضاء في القتل، وإن جاز الضرب في سائر المواضع
(حتى إذآ أثخنتموهم) أي: أكثرتم قتلهم وأغلظتموه، من: الشيء الثخين وهو
الغليظ، أو: أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض (فشدوا
الوثاق) أي: فأسروهم وأحكموا وثاقهم، والوثاق - بالفتح والكسر -: اسم ما
يوثق به (فإما منا بعد وإما فداء) هما منصوبان بفعليهما مضمرين أي: فإما
تمنون منا وإما تفدون فداء، والمعنى: التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم
فيطلقوهم، وبين أن يفادوهم بأسارى المسلمين أو بالمال.
والمروي (1) عن أئمتنا (عليهم السلام): أن الأسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل
انقضاء القتال والحرب قائمة، فالإمام مخير فيهم بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف، وضرب يؤخذون بعد انقضاء القتال، فالإمام مخير فيهم بين
المن والفداء: إما بالمال أو بالنفس، وبين الاسترقاق، وبين ضرب الرقاب (2).
(حتى تضع الحرب أوزارها) وأوزار الحرب: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا
بها كالسلاح والكراع (3). وسميت أوزارها لأنها لم يكن لها بد من جرها فكأنها
تحملها. فإذا انقضت فكأنها وضعتها، وقيل: أوزارها: آثامها، يعني: حتى يترك
أهل الحرب - وهم المشركون - شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا فلا يبقى إلا الإسلام
خير الأديان، ولا يعبد الأوثان (4). وعن الفراء: حتى لا يبقى إلا مسلم

(1) أنظر الكافي: ج 5 ص 32 ح 1.
(2) أنظر التبيان: ج 9 ص 291.
(3) الكراع: السلاح، وقيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح. (لسان العرب: مادة كرع).
(4) قاله الكلبي. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 293.
362

أو مسالم (1). وعن الزجاج: يعني: اقتلوهم وأسروهم حتى يؤمنوا، فما دام الكفر
باق فالحرب قائمة أبدا (2) (ذلك) أي: الأمر ذلك، أو: افعلوا ذلك (ولو يشآء الله
لانتصر منهم) ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو حاصب أو غرق
أو موت خارق (ولكن) أمركم بقتالهم (ليبلوا) المؤمنين بالكافرين بأن
يجاهدوا ويصبروا، أو: يبذلوا أنفسهم في إحياء الدين حتى يستوجبوا الثواب
العظيم " والذين قاتلوا في سبيل الله " (3) أي جاهدوا. وقرئ: (قتلوا)، (فلن
يضل أعملهم) بل يتقبلها ويثيبهم عليها جزيل الثواب.
(سيهديهم) إلى طريق الجنة (ويصلح) حالهم. (عرفها لهم) أعلمها لهم
وبينها بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة، وعن مجاهد: يهتدي أهل
الجنة إلى مساكنهم لا يخطئون، كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا (4). وعن مقاتل: أن
الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه
الله (5). وقيل: معناه: طيبها لهم، من العرف وهو طيب الرائحة (6).
(يأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7)
والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعملهم (8) ذا لك بأنهم كرهوا مآ أنزل
الله فأحبط أعملهم (9) أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان
عقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكفرين أمثلها (10) ذا لك بأن

(1) معاني القرآن للفراء: ج 3 ص 57.
(2) معاني القرآن وإعرابه: ج 5 ص 6.
(3) الظاهر من العبارة أن المصنف رحمه الله يميل إلى هذه القراءة هنا " قاتلوا " بألف بعد القاف
مع فتحها وهي قراءة الجمهور إلا حفصا وأبا عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 600.
(4) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 310.
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 318.
(6) قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 179.
363

الله مولى الذين ءامنوا وأن الكفرين لا مولى لهم (11) إن الله يدخل
الذين ءامنوا وعملوا الصلحت جنت تجرى من تحتها الانهر
والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعم والنار مثوى لهم (12)
وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك أهلكنهم فلا
ناصر لهم (13) أفمن كان على بينة من ربهى كمن زين له سوء عمله ى
واتبعوا أهوآءهم (14))
(إن تنصروا) دين الله (ينصركم) على عدوكم (ويثبت أقدامكم) في
مواطن الحرب، أو: على محجة الإسلام. (والذين كفروا) مبتدأ (وأضل
أعملهم) عطف على الفعل الذي هو الخبر، وانتصب به (تعسا) أي: فقضي تعسا
لهم، أو: فقال: تعسا لهم أي: أتعسهم الله فتعسوا تعسا، ونقيض " تعسا له ": لعا له،
قال الأعشى:
فالتعس أولى لها من أن يقال لعا (1)
والمراد: فالعثور والانحطاط أقرب لها من الانتعاش والثبوت، وعن ابن
عباس: يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار (2). (ذلك بأنهم
كرهوا) القرآن و (مآ أنزل الله) فيه من الأحكام، لأنهم قد ألفوا الإهمال فشق
عليهم التكاليف. قال الباقر (عليه السلام): " كرهوا ما أنزل الله في علي (عليه السلام) " (3).
(دمر الله عليهم) أي: أهلكهم، ومعناه: دمر عليهم وأهلك ما اختص بهم من
أنفسهم وأولادهم وأموالهم (وللكفرين أمثلها) الضمير للعاقبة المذكورة، أو:

(1) وصدره: بذات لوث عفرناة إذا عثرت. والبيت من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي،
ويثني على من عزم زيارته. راجع ديوان الأعشى: ص 111.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 319.
(3) تفسير القمي: ج 2 ص 302.
364

للهلكة؛ لأن التدمير يدل عليها. (ذلك) الذي فعلناه بالفريقين بسبب (أن الله
مولى الذين ءامنوا) أي: وليهم وناصرهم والدافع عنهم، (وأن الكفرين لا مولى
لهم) ينصرهم ويدفع عنهم.
(والذين كفروا يتمتعون) وينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياما قلائل
(ويأكلون) غافلين غير مفكرين في العاقبة (كما تأكل الأنعم) في مسارحها
ومعالفها غافلة عما هي بصدده من الذبح والنحر (والنار مثوى لهم) أي: منزل
لهم ومقام.
(من قرية) أي: أهل قرية، ولذلك قال: (أهلكنهم)، فكأنه قال: وكم من
قوم هم أشد قوة من قومك الذين أخرجوك من مكة أهلكناهم، ومعنى
" أخرجوك ": كانوا سبب خروجك (فلا ناصر لهم) يجري مجرى الحال
المحكية بمعنى: فهم لا ينصرون.
(أفمن كان على بينة من ربه) أي: على حجة من عند ربه وبرهان وهي
القرآن المعجز وسائر المعجزات، يريد: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كمن زين له سوء
عمله) يريد: أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ولرسوله،
وقال: (سوء عمله) و (اتبعوا) حملا على لفظ " من " ومعناه.
(مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهر من مآء غير ءاسن
وأنهر من لبن لم يتغير طعمه وأنهر من خمر لذة للشربين وأنهر من
عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خلد
في النار وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم (15) ومنهم من يستمع إليك
حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال ءانفا أولئك
الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوآءهم (16) والذين اهتدوا
365

زادهم هدى وءاتاهم تقولهم (17) فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم
بغتة فقد جآء أشراطها فأنى لهم إذا جآءتهم ذكراهم (18) فاعلم أنه لا
إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنت والله يعلم متقلبكم
ومثواكم (19) ويقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة فإذ آ أنزلت سورة
محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك
نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم (20))
قوله: (مثل الجنة... كمن هو خلد) كلام في صورة الإثبات، والمعنى: النفي
والإنكار؛ لانطوائه تحت كلام مصدر بحرف الإنكار ودخوله في حيزه، وهو قوله:
(أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله) فكأنه قال: أمثل الجنة
كمثل جزاء من هو خالد في النار، وفي تعريته من حرف الإنكار زيادة تصوير
لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والمتبع لهواه، وأنه بمنزلة من يسوي بين
الجنة التي فيها تلك الأنهار وبين النار التي يسقى أهلها الحميم، ونظيره قول
القائل:
أفرح أن ارزأ الكرام وأن * أورث ذودا شصائصا نبلا (1)
فإنه إنكار للفرح برزئة الكرام ووراثة الذود مع تعري الكلام عن حرف
الإنكار، لانطوائه تحت حكم قول من قال له: أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله؟
فكأنه قال: أمثلي يفرح بذلك! وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار، و (مثل
الجنة) صفة الجنة العجيبة الشأن، وهو مبتدأ وخبره (كمن هو خلد)، وقوله:
(فيها أنهر) داخل في حكم الصلة كالتكرير لها. ويجوز أن يكون في محل

(1) البيت منسوب لحضرمي بن عامر من أبيات يخاطب بها جزء بن سنان حين اتهمه بفرحه
وسروره بأخذ دية أخيه القتيل. راجع شرح شواهد الكشاف للأفندي: ص 271.
366

النصب على الحال، أي: مستقرة فيها أنهار. وفي قراءة علي (عليه السلام): " أمثال الجنة " (1)
أي: ما صفاتها كصفات النار، وقرئ: " أسن " (2) يقال: أسن الماء وأجن: إذا تغير
طعمه وريحه، فهو آسن وأسن. (من لبن لم يتغير طعمه) كما يتغير ألبان الدنيا،
فلا يصير قارصا ولا حازرا (3) (لذة) تأنيث " لذ " وهو اللذيذ، أو: وصف بمصدر
أي: يلتذون بها ولا يتأذون بعاقبتها بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المرارة
والخمار والصداع (مصفى) أي: خالص من الشمع والقذى والأذى (ولهم) مع
ذلك (فيها من كل الثمرت ومغفرة من ربهم) أي: ستر لذنوبهم وإنساء لسيئاتهم،
حتى لا يتنغص عليهم النعيم (وسقوا مآء حميما) شديد الحر، روي: أنه إذا دني
منهم شوى وجوههم وانمازت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم (4).
(ومنهم من يستمع إليك) وهم المنافقون، أي: يستمعون إلى كلامك
فيسمعونه ولا يعونه، فإذا (خرجوا من عندك قالوا للذين) آتاهم الله (العلم) من
المؤمنين (ماذا قال ءانفا) أي شيء قال الساعة؟ وإنما قالوه استهزاء وقلة مبالاة
به، يعنون: أنا لم نشتغل بوعيه وفهمه، قال الزجاج: هو من [قولك:] استأنفت
الشيء إذا ابتدأته، والمعنى: ماذا قال في أول وقت يقرب منا؟! (5)
وعن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال: إنا كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخبرنا
بالوحي، فأعيه أنا ومن يعيه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا.

(1) حكاه عنه (عليه السلام) الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 60.
(2) وهي قراءة ابن كثير وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 600.
(3) قال الجوهري: القارص: اللبن الذي يحذي اللسان، وفي المثل: " عدا القارص فحزر " أي:
جاوز إلا أن حمض. الصحاح: مادة " قرص ".
(4) رواه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 315 باسناده إلى أبي أمامة الباهلي.
(5) معاني القرآن وإعرابه: ج 5 ص 10.
367

(والذين اهتدوا زادهم) الله (هدى) بالتوفيق (وءاتهم) جزاء
(تقولهم)، أو: أعانهم عليها، وقيل: الضمير في (زادهم) لقول الرسول، أو:
لاستهزاء المنافقين أي: زادهم استهزاؤهم بصيرة وتصديقا لنبيهم (1).
(فهل ينظرون) أي: ينتظرون (أن تأتيهم) بدل اشتمال من (الساعة)
، (فقد جآء أشراطها) أي: علاماتها، وقيل: هي مبعث محمد خاتم الأنبياء
صلوات الله عليه وآله ونزول آخر الكتب وانشقاق القمر والدخان (2)، وقيل: قطع
الأرحام وشهادة الزور وكثرة اللئام وقلة الكرام (3) (فأنى لهم) أي: فمن أين لهم
وكيف لهم الذكرى والاتعاظ والتوبة (إذا جآءتهم) الساعة؟ أي: لا تنفعهم الذكرى
يومئذ.
ثم خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد أمته قال: إذا علمت سعادة هؤلاء وشقاوة
هؤلاء فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله عز اسمه وعلى التواضع
وهضم النفس بالاستغفار (لذنبك) مع كمال عصمتك لتستن أمتك بسنتك
(وللمؤمنين والمؤمنت) أمره بالاستغفار لذنوبهم تكرمة لهم، إذ هو الشفيع
المجاب فيهم (والله يعلم متقلبكم) في معايشكم ومتاجركم (ومثواكم)
ومستقركم في (4) منازلكم، أو: متقلبكم في حياتكم ومثواكم في القبور أو: في (5)
الجنة والنار، أو: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومقامكم في
الأرض، ومثله حقيق بأن يتقى ويخشى.

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 323.
(2) قاله الحسن والضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 299.
(3) قاله الكلبي. راجع الكشاف: ج 4 ص 323.
(4 و 5) في بعض النسخ: " من " بدل " في ".
368

وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به:
(فاعلم أنه لا إله إلا الله) ف‍ (استغفر لذنبك) فأمر بالعمل بعد العلم، وقال:
(اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) (1) ثم قال: (سابقوا إلى مغفرة) (2)،
وقال: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) (3) ثم قال: (فاحذروهم) (4) (5).
(لولا نزلت سورة) أي: هلا نزلت سورة، كانوا يدعون الحرص على الجهاد
ويقولون: هلا نزلت سورة في معنى الجهاد (فإذا أنزلت سورة محكمة) مبينة غير
متشابهة، وأوجب عليهم فيها القتال وأمروا به (رأيت الذين في قلوبهم) شك
(ينظرون إليك) أي: يشخصون نحوك بأبصارهم (نظر المغشى عليه من
الموت) كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت جبنا وهلعا، (فأولى لهم) وعيد
بمعنى: فويل لهم، وهو أفعل من الولي وهو القرب، ومعناه: وليهم وقاربهم ما
يكرهون.
(طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا
لهم (21) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصرهم (23)
أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ (24) إن الذين ارتدوا على
أدبرهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطن سول لهم وأملى لهم (25)
ذا لك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله
يعلم إسرارهم (26) فكيف إذا توفتهم الملئكة يضربون وجوههم

(1 و 2) الحديد: 20 و 21.
(3) الأنفال: 28.
(4) التغابن: 14.
(5) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 324.
369

وأدبرهم (27) ذا لك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه
فأحبط أعملهم (28) أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج
الله أضغنهم (29) ولو نشآء لارينكهم فلعرفتهم بسيمهم ولتعرفنهم
في لحن القول والله يعلم أعملكم (30) ولنبلونكم حتى نعلم
المجهدين منكم والصبرين ونبلوا أخباركم (31))
هذا استئناف كلام، أي: (طاعة وقول معروف) خير لهم، وقيل: هي حكاية
قولهم (1) يعني: قالوا: طاعة وقول معروف، أي: أمرنا طاعة وقول معروف، أي:
حسن لا تنكره العقول (فإذا عزم الأمر) أي: جد، وإنما العزم والجد لأصحاب
الأمر، وأسند إلى الأمر مجازا (فلو صدقوا) فيما زعموا من الحرص على
الجهاد، أو: في إيمانهم بأن يواطئ فيه قلوبهم ألسنتهم (لكان خيرا لهم) من
نفاقهم.
(فهل عسيتم) أي: يتوقع منكم يا معشر المنافقين (إن توليتم) أي:
تسلطتم وملكتم أمور الناس وتأمرتم عليهم وجعلتم ولاة (أن تفسدوا في
الأرض) بسفك الدم الحرام وأخذ الرشا (وتقطعوا أرحامكم) تهالكا على ملك
الدنيا، فيقتل بعضكم بعضا، ويقطع بعضكم رحم بعض. (أولئك) إشارة إلى
المذكورين الذين لعنهم الله لإفسادهم في الأرض وقطعهم الأرحام، فمنعهم ألطافه
وخذلهم حتى صموا عن استماع الموعظة، وعموا عن إبصار طريق الهدى.
(أفلا يتدبرون القرءان) ويتصفحونه ويعتبرون به ويقضون ما عليهم من
الحقوق (أم على قلوب أقفالهآ) هي " أم " المنقطعة، ومعنى الهمزة فيه: التسجيل
عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر، ومعنى تنكير القلوب: أنها قلوب

(1) قاله ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 301.
370

قاسية مبهم أمرها، أو: بعض القلوب وهي قلوب المنافقين. وأما إضافة الأقفال
إليها فلأن المراد الأقفال المختصة بها، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تفتح.
(إن الذين ارتدوا على أدبارهم) بأن رجعوا عن الحق والإيمان (من بعد
ما تبين لهم الهدى) وظهر لهم طريق الحق (الشيطان سول لهم) جملة من مبتدأ
وخبر، وقعت خبرا ل‍ (إن) ومعناه: الشيطان سول لهم ركوب العظائم من الذنوب،
من السول وهو الاسترخاء (وأملى لهم) ومد لهم في الآمال.
(ذلك) بسبب (أنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله) من القرآن، وعن
الصادق (عليه السلام): في ولاية علي (عليه السلام) (1). (سنطيعكم في بعض الأمر) أي: في بعض
ما تأمرون به وتريدونه " والله يعلم أسرارهم " وقرئ: (إسرارهم) بكسر
الهمزة (2)، أي: ما أسره بعضهم إلى بعض من القول، وما أسروه في أنفسهم من
الاعتقاد. (فكيف) يعملون وما حيلتهم (إذا توفتهم الملئكة) وقبضت
أرواحهم (يضربون وجوههم وأدبارهم)؟؟ (ذلك) التوفي الموصوف (ب‍)
تلك الصفة بسبب (أنهم اتبعوا ما أسخط الله) من عظائم الأمور، (وكرهوا
رضونه فأحبط الله أعملهم) التي كانوا يعملونها من صلاة وغيرها لأنها في
غير إيمان.
بل (أحسب الذين في قلوبهم مرض أن يخرج الله أضغنهم) أحقادهم على
المؤمنين، وإخراجها: إبرازها لرسول الله وللمؤمنين المخلصين، وإظهارهم على
نفاقهم. (ولو نشاء لأرينكهم) يا محمد حتى تعرفهم بأعيانهم، وقوله:
(فلعرفتهم بسيمهم) بعلامتهم، وعن أنس: ما خفي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد

(1) الكافي: ج 1 ص 420 ح 43.
(2) الظاهر أن المصنف رحمه الله يعتمد على قراءة فتح الهمزة هنا تبعا لصاحب الكشاف.
371

هذه الآية أحد من المنافقين، وكان يعرفهم بسيماهم (1).
والفرق بين اللامين في: (فلعرفتهم)، (ولتعرفنهم): أن الأولى هي الداخلة
في جواب " لو " كالتي في (لارينكهم) ثم كررت في المعطوف، واللام في
(ولتعرفنهم) وقعت مع النون في جواب القسم المحذوف، (في لحن القول)
أي: تعرفهم في فحوى كلامهم ومغزاه ومعناه، وعن أبي سعيد الخدري: لحن القول:
بغضهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2). وعن جابر مثله (3).
وعن عبادة بن الصامت: كنا نبور (4) أولادنا بحب علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشدة (5).
وقيل: اللحن أن تلحن بكلامك أي: تميله إلى نحو من الأنحاء ليتفطن له
صاحبك كالتعريض والتورية (6)، قال:
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا * واللحن يعرفه ذوو الألباب (7)

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 327.
(2) أخرجه عنه ابن المغازلي الشافعي في المناقب: ص 315، والسيوطي في الدر المنثور: ج 7
ص 504 وعزاه إلى ابن مردويه وابن عساكر. وأخرج أيضا عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف
المنافقين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ببغضهم علي بن أبي طالب.
(3) أخرجه عنه الحافظ أحمد في الفضائل: ص 171، والذهبي في التذكرة: ج 1 ص 262،
وابن عبد البر في الاستيعاب: ج 2 ص 464.
(4) باره يبوره: أي جربه واختبره، والابتيار مثله. (الصحاح: مادة بور).
(5) أخرجه عنه الجزري الشافعي في أسنى المطالب: ص 57 و في أسمى المناقب: ص 56،
وابن عساكر في تاريخ دمشق: ج 2 ص 224، والعيني في مناقب علي (عليه السلام): ص 42،
والهروي في كتاب الأربعين: ص 54.
(6) قاله محمد بن يزيد. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 5 ص 191.
(7) وكذا في الكشاف، وفي الصحاح واللسان:
ولقد وحيت لكم لكي ما تفهموا * ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
للقتال الكلابي. أنظر الصحاح واللسان: مادة " لحن ".
372

وإنما قيل للمخطئ: لاحن؛ لأنه يعدل بكلامه عن الصواب. (ولنبلونكم)
بمشاق الأمور والتكاليف.
وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا
فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا (1).
(ونبلو أخباركم) أي: ما يحكى عنكم وما يخبر به عن أعمالكم لنعلم حسنه
من قبيحه، لأن الخبر على حسب المخبر عنه. وقرئ: " وليبلونكم " و " يعلم "
و " يبلو " بالياء (2)، وهو قراءة الباقر (عليه السلام)، وقرئ: " ونبلو " بالنون وسكون
الواو (3)، والنون على معنى: ونحن نبلو.
(إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشآقوا الرسول من بعد ما
تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيا وسيحبط أعملهم (32) يأيها
الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعملكم (33) إن
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله
لهم (34) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن
يتركم أعملكم (35) إنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا
يؤتكم أجوركم ولا يسلكم أموا لكم (36) إن يسلكموها فيحفكم تبخلوا
ويخرج أضغنكم (37) هأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله
فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ى والله الغنى وأنتم
الفقرآء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثلكم (38))

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 328.
(2) وهي قراءة عاصم وحده برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 601.
(3) قرأه رويس وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 685.
373

(من بعد ما تبين لهم الهدى) وظهر لهم الحق إنما ضروا أنفسهم (1)، و (لن
يضروا الله) بذلك (وسيحبط أعملهم) التي عملوها فلا يرون لها في الآخرة
ثوابا.
(ولا تبطلوا أعملكم) بمعصية الله والرسول، أو: بالشك والنفاق. وعن ابن
عباس: لا تبطلوها بالرياء والسمعة (2). (فلا تهنوا) أي: فلا تضعفوا ولا تتوانوا
في قتال أعداء الله، (و) لا (تدعوا إلى السلم) قرئ بالفتح والكسر (3) وهما
المسالمة (وأنتم الأعلون) أي: الأغلبون الأقهرون، وقيل: إن الواو للحال، أي: لا
تدعوهم إلى الصلح والحال أنكم الغالبون القاهرون لهم، و (تدعوا) مجزوم
لدخوله في حكم النهي كما ذكرنا، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار " أن "، (ولن
يتركم أعملكم) هو من: وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا أو حربته (4)، وحقيقته:
أفردته من حميمه أو ماله، من الوتر وهو الفرد.
ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ومن فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " (5)،
أي: أفرد عنهما قتلا ونهبا، فشبه سبحانه إضاعة عمل العامل وإبطال ثوابه بوتر
الواتر، وهو من فصيح الكلام.
(وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم) أي: ثواب إيمانكم وتقواكم (ولا
يسئلكم أمولكم) أي: ولا يسألكم جميعها في الصدقة، وإنما أوجب عليكم الزكاة

(1) في بعض النسخ: " نفوسهم ".
(2) تفسير ابن عباس: ص 430.
(3) أي بكسر السين، وهي قراءة حمزة وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 601.
(4) حربه يحربه حربا: إذا أخذ ماله وتركه بلا شيء، وحرب ماله أي: سلبه. (الصحاح: مادة
حرب).
(5) أخرجه مالك في الموطأ: ج 1 ص 12 ح 21، وابن ماجة في السنن: ج 1 ص 224 ح 685
بإسنادهما إلى ابن عمر.
374

في بعضها، واقتصر منه على القليل وهو ربع العشر، وقيل: لا يسألكم الرسول على
أداء الرسالة أموالكم أن تدفعوها إليه (إن يسألكموها فيحفكم) أي: فيجهدكم
بمسألة جميعها (1)، والإخفاء: المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء، يقال: أحفاه في
المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، ومنه: إحفاء الشارب وهو استئصال شعره
(تبخلوا ويخرج أضغنكم) أي: تضطغنون على رسول الله وتضيق صدوركم
لذلك، والضمير في (يخرج) لله عز وجل، أي: يضغنكم بطلب أموالكم، أو: للبخل
لأنه سبب الاضطغان.
(هؤلاء) موصول صلته (تدعون)، أي: ها أنتم الذين تدعون، أو: أنتم يا
مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، كأنهم قالوا: وما وصفنا؟ فقال:
(تدعون لتنفقوا في سبيل الله) كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم
وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون
به، ثم قال: (ومن يبخل) بالصدقة وأداء الفريضة فلا يتعداه ضرر بخله، وإنما
(يبخل عن نفسه) إذ يلزمها العقاب الأليم ويحرمها الثواب العظيم، يقال: بخلت
عليه وعنه، وضننت عليه وعنه. وفي الآية إشارة إلى أن معطي المال أحوج إليه من
الفقير الآخذ، فبخله به بخل على نفسه. (والله الغنى) عما عندكم من الأموال
(وأنتم الفقراء) إلى ما عند الله من الرحمة والثواب (وإن تتولوا) معطوف على
(وإن تؤمنوا وتتقوا)، (يستبدل قوما غيركم) على خلاف صفتكم، راغبين في
الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما (ثم لا يكونوا أمثلكم) بل خيرا منكم
وأطوع لله.

(1) قاله الطبري في تفسيره: ج 11 ص 328.
375

روي: أنهم قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من هؤلاء؟ فضرب (عليه السلام) يده على فخذ
سلمان فقال: " هذا وقومه، لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من
فارس " (1).
وعنهم (عليهم السلام): (إن تتولوا) يا معشر العرب (يستبدل قوما غيركم) يعني:
الموالي (2).
* * *

(1) أخرجه الترمذي في السنن: ج 5 ص 383 ح 3260 بإسناده إلى أبي هريرة، والسيوطي
في الدر المنثور: ج 7 ص 506 وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم وابن مردويه وعبد الرزاق وعبد بن حميد والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة أيضا
وآخر عن جابر.
(2) أنظر تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2 ص 309 عن الصادق (عليه السلام).
376

سورة الفتح
مدنية (1) وهي تسع وعشرون آية.
في حديث أبي: " من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح
مكة (2) ". وفي رواية أخرى (3): " فكأنما كان مع من بايع محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت
الشجرة " (4).
وعن الصادق (عليه السلام): " حصنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف
بقراءة (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) فإنه إذا كان ممن يدمن قراءتها ناداه مناد يوم
القيامة: أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي، فأسكنوه
جنات النعيم، واسقوه من الرحيق المختوم بمزاج الكافور " (5).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 312: مدنية بلا خلاف، وهي تسع وعشرون آية
بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 331: مدنية، نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية،
وآياتها (29)، نزلت بعد الجمعة.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 348 مرسلا، وكذا الفتني في التذكرة: ص 81.
(3) في نسخة زيادة: " من قرأ هذه السورة كان له بعدد من قام لله راكعا وساجدا مدائن في الجنة
وما فيها من النعيم من أنواع فضائل الله تعالى، مع ماله عند الله تعالى من المزيد. وفي رواية
أخرى ".
(4) التذكرة في الموضوعات للفتني: ص 81.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 142، وفيه " أدخلوه " بدل " أسكنوه ".
377

بسم الله الرحمن الرحيم
(إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما
تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما (2) وينصرك الله نصرا
عزيزا (3) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمنا مع
إيمنهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما (4)
ليدخل المؤمنين والمؤمنت جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين
فيها ويكفر عنهم سياتهم وكان ذا لك عند الله فوزا عظيما (5) ويعذب
المنفقين والمنفقت والمشركين والمشركت الظآنين بالله ظن
السوء عليهم دآئرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم
وسآءت مصيرا (6) ولله جنود السموات والارض وكان الله عزيزا
حكيما (7))
اختلف في هذا الفتح، فقيل: هو فتح مكة وعده الله ذلك عند انكفائه من
الحديبية (1)، وعن جابر: ما كنا نعلم فتح مكة إلا يوم الحديبية (2). وجاء به على
لفظ الماضي على عادته عز اسمه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة
الكائنة الموجودة، وقيل: هو فتح الحديبية (3)، فروي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما
رجع من الحديبية قال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت وصد
هدينا! فقال (عليه السلام): " بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن

(1) قاله قتادة. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 188.
(2) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 334.
(3) قاله أنس وجابر وأبو وائل والبراء بن عازب. راجع تفسير الطبري المتقدم.
378

يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ورغبوا إليكم في الأمان، وقدروا
منكم ما كرهوا " (1). وعن الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن
المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم
في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام (2).
والحديبية بئر نفد ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فأتاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس
على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ومجه فيها، فدرت بالماء
حتى أصدرت جميع من معه وركابهم (3).
وعن سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يوم الشجرة؟ قال: كنا ألفا
وخمسمائة، وذكر عطشا أصابهم ثم قال: فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بماء في تور
فوضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنه العيون، قال: فشربنا وسقانا
وكفانا، ولو كنا مائة ألف كفانا (4).
وقيل: المراد بالفتح هنا فتح خيبر (5)، وذكر مجمع بن حارثة الأنصاري -
وهو أحد القراء - في حديثه: لما انصرفنا من الحديبية أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فوجدناه واقفا عند كراع الغنم وقرأ (إنا فتحنا) السورة، فقال عمر: أو فتح هو؟!
قال: " نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح " فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل
فيها أحد إلا من شهدها (6).

(1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة: ج 4 ص 160.
(2) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 188.
(3) رواه البراء كما في تفسير البغوي المتقدم.
(4) أخرجه ابن كثير في تفسيره: ج 4 ص 188 وعزاه إلى البخاري ومسلم.
(5) قاله مجاهد. راجع تفسير البغوي المتقدم آنفا.
(6) أخرجه عنه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 508 وعزاه إلى ابن أبي شيبة وأحمد
وأبي داود وابن المنذر والحاكم وابن مردويه والبيهقي. وفيها بدل " فقال عمر ": " فقال رجل "
و " فقال بعض الناس ".
379

(ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) لأصحابنا فيه وجهان (1) من
التأويل: أحدهما: أن المراد: يغفر لك ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر بشفاعتك.
وحسنت إضافة ذنوب أمة إليه للاتصال بينه وبينهم، ويعضده ما رواه المفضل بن
عمر عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن هذه الآية فقال: والله ما كان له ذنب ولكن الله
سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي (عليه السلام) ما تقدم وما تأخر.
والآخر: ذكره المرتضى (2) قدس الله روحه: أن الذنب مصدر، والمصدر
يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول، والمراد هنا: ما تقدم من ذنبهم إليك في
إخراجهم إياك من مكة وما تأخر من صدك عن المسجد الحرام، أي: ليغفر ما أذنبه
قومك إليك من إخراجك من مكة وصدك عنها، فالذنب مضاف إلى المفعول هنا،
ويعدى بنفسه حملا على الإخراج والصد اللذين هو في معناهما، ولذلك جعل
المغفرة علة للفتح وغرضا فيه. والمراد بالمغفرة على هذا إزالة أحكام المشركين
وفتحها (3) عنه، وستر تلك الوصمة عليه بما يفتح له من مكة بأن يدخلها فيما بعد،
ولو أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لكون المغفرة غرضا في الفتح معنى (ويتم نعمته
عليك) في الدنيا بإعلاء أمرك وإظهارك على الدين كله وبقاء شريعتك، وفي
الآخرة برفع محلك (ويهديك صرطا مستقيما) ويرشدك طريقا يؤدي سالكه
إلى الجنة ويثبتك عليها. (وينصرك الله نصرا عزيزا) تمتنع به من كل جبار عنيد،
وصف النصر بالعزيز لأن فيه العزة والمنعة، أو: يعني عزيزا صاحبه، أو: وصفه بصفة
المنصور إسنادا مجازيا.

(1) حكاهما الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 314.
(2) في كتاب تنزيه الأنبياء: ص 118.
(3) في نسخة: " ونسخها ".
380

(السكينة) السكون، أي: أنزل الله السكون (في قلوب المؤمنين)
والطمأنينة بسبب الصلح والأمن، ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف
فيزدادوا يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح وعلو كلمة الإسلام وفق ما وعدوا
(ولله جنود السموت والأرض وكان الله عليما حكيما) يسلط بعضها على بعض
على ما يقتضيه علمه وحكمته. ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح
الحديبية، ووعدهم أن يفتح لهم مكة ليعرف المؤمنون نعمة الله في ذلك ويشكروها
فيثيبهم. (ويعذب المنفقين) والكافرين.
ومعنى (ظن السوء): أن الله لا ينصر الرسول والمؤمنين ولا يرجعهم إلى
مكة ظافرين فاتحين إياها، والسوء: عبارة عن رداءة الشيء وفساده، كما يقع
الصدق عبارة عن جودة الشيء وصلاحه (عليهم دآئرة السوء) أي: ما يظنونه
ويتربصونه بالمؤمنين فهو دائر عليهم، حائق بهم، وهو الهلاك والدمار، وقرئ:
(دآئرة السوء) بفتح السين وضمها (1) وهما لغتان من " ساء " كالكره والكره،
والضعف والضعف، إلا أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ضمه من كل
شيء، والمضموم جار مجرى الشر الذي هو نقيض الخير، يقال: أراد به السوء،:
وأراد به الخير، ولذلك أضيف " الظن " إلى المفتوح لكونه مذموما، وكانت
" الدائرة " محمودة فكان حقها أن لا تضاف إليه إلا على التأويل الذي ذكرناه
(وغضب الله عليهم ولعنهم) بأن أبعدهم من رحمته.
وكرر قوله: (ولله جنود السموت والأرض) لأن الأول اتصل بذكر
المؤمنين، أي: فله الجنود التي يقدر على أن يعينهم بها، والثاني اتصل بذكر

(1) وبالضم قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 603.
381

الكافرين، أي: فله الجنود التي يقدر على الانتقام منهم بها (وكان الله عزيزا)
في قهره وانتقامه من أعدائه (حكيما) في فعله وقضائه.
(إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله ى
وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9) إن الذين يبايعونك إنما
يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ى ومن
أوفى بما عهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10) سيقول لك
المخلفون من الاعراب شغلتنآ أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون
بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيا إن أراد
بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11) بل ظننتم
أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذا لك في
قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12) ومن لم يومن بالله
ورسوله ى فإنآ أعتدنا للكفرين سعيرا (13) ولله ملك السموات
والارض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء وكان الله غفورا
رحيما (14))
وقرئ: (لتؤمنوا) وما بعده بالتاء والياء (1)، فالتاء على الخطاب لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأمته، والياء على أن الضمير في الجميع للناس (وتعزروه) أي:
تقووه بالنصرة (وتوقروه) أي: تعظموه وتطيعوه (وتسبحوه) من التسبيح أو:
من السبحة، والضمائر لله عز اسمه، والمراد بتعزيز الله: تعزيز دينه ورسوله.
(إن الذين يبايعونك) يريد: بيعة الحديبية وهي بيعة الرضوان، أي: بايعوا

(1) وبالياء هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 603.
382

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الموت (إنما يبايعون الله) هو كقوله: (من يطع الرسول
فقد أطاع الله) (1) ثم أكده تأكيدا بقوله: (يد الله فوق أيديهم) كأن يد رسول الله
التي تعلو أيدي المبايعين يد الله، إذ هو جل جلاله منزه عن صفات الأجسام
(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) لا يعود ضرر نكثه إلا عليه، ويقال: وفيت
بالعهد وأوفيت به، وقرئ: (فسيؤتيه) بالنون (2) والياء.
(سيقول لك المخلفون من الأعراب) وهم الذين تخلفوا عن صحبة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الحديبية لما أراد المسير إلى مكة معتمرا، وذلك في ذي القعدة من
سنة ست من الهجرة، فاستنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي
ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، وأحرم
بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من
الأعراب فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه فقتلوا كثيرا من أصحابه، فتخلفوا
عنه واعتلوا بالشغل، وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة ويهلك، و (يقولون بألسنتهم
ما ليس في قلوبهم) هو تكذيب لهم في اعتذارهم، وإخبار عن ضمائرهم
وأسرارهم، وأنهم لا يبالون استغفر لهم الرسول أم لا (قل فمن يملك لكم من الله
شيئا) أي: فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه (إن أراد بكم) ما يضركم من قتل
أو موت (أو أراد بكم نفعا) من ظفر وغنم، وقرئ: " ضرا " (3) وهما لغتان، كالفقر
والفقر، وقيل: إن الضر خلاف النفع، والضر: سوء الحال (4).

(1) النساء: 80.
(2) قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 603.
(3) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع المصدر السابق: ص 604.
(4) قاله أبو عبيد. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 4 ص 199.
383

والأهلون: جمع أهل، وأما الأهالي فاسم للجميع (1) كالليالي، والبور: جمع
بائر كعائذ وعوذ، وقيل: إنه مصدر " بار " كالهلك مصدر " هلك "، ولذلك وصف به
الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (2). والمعنى: (وكنتم قوما) فاسدين في
أنفسكم وقلوبكم ونياتكم، وهالكين عند الله، لا خير فيكم، ومستوجبين لسخطه
وعقابه.
(للكافرين) أقيم مقام " لهم " ليعلم أن من لم يجمع بين الإيمانين وهو
الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر، ونكر (سعيرا) إيذانا بأنها نار مخصوصة لهم، كما
نكر قوله: (نارا تلظى) (3).
(سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم
يريدون أن يبدلوا كلم الله قل لن تتبعونا كذا لكم قال الله من قبل
فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (15) قل للمخلفين
من الاعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقتلونهم أو يسلمون
فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم
عذابا أليما (16) ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا
على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنت تجرى من تحتها
الانهر ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17) لقد رضى الله عن المؤمنين
إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثبهم
فتحا قريبا (18) ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19))

(1) في بعض النسخ: " للجمع ".
(2) حكاه أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 72 - 73.
(3) الليل: 14.
384

(سيقول) الذين تخلفوا عن الحديبية (إذا انطلقتم إلى مغانم) خيبر
لتأخذوها (ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلم الله) وقرئ: " كلم الله " (1) أي:
موعد الله لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر عوضا من مغانم مكة (قل لن تتبعونا
كذلكم قال الله من قبل) مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر عوضا لمن شهد الحديبية
لا يشركهم فيها غيرهم (فسيقولون بل تحسدوننا) أن نصيب معكم من الغنائم
ونشارككم فيها (بل كانوا) قوما (لا يفقهون) أي: لا يفهمون (إلا) فهما
(قليلا) وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين، والفرق بين حرفي الإضراب:
أن الأول إضراب من أن يكون ذلك حكم الله وإثبات للحسد، والثاني إضراب من
وصفهم المؤمنين بالحسد وإثبات لجهلهم.
(قل للمخلفين) الذين تخلفوا عن الحديبية (ستدعون) فيما بعد (إلى قوم
أولى بأس شديد) وهم هوازن وثقيف (أو يسلمون) معطوف على
(تقاتلونهم)، أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة أو الإسلام، لا ثالث لهما،
(فإن تطيعوا) وتجيبوا إلى قتالهم يأجركم الله، (وإن تتولوا) عن قتالهم (كما
توليتم من قبل) عن الخروج إلى الحديبية (يعذبكم الله) في الآخرة.
(ليس على الأعمى حرج) نفى الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في
التخلف عن الغزو، وقرئ (يدخله) و (يعذبه) بالنون (2) والياء.
إنما سميت بيعة الرضوان بهذه الآية، بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحديبية تحت
الشجرة المعروفة وهي الشجرة السمرة (3) (فعلم ما في قلوبهم) من صدق النية

(1) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 604.
(2) قرأه نافع وابن عامر. راجع المصدر السابق.
(3) السمرة: ضرب من شجر الطلح ومنه الحديث: " يا أصحاب السمرة ". (النهاية: مادة طلح).
385

في القتال والصبر والوفاء، وكان عددهم ألفا وخمسمائة أو ثلاثمائة (فأنزل
السكينة عليهم) والضمير للمؤمنين، والسكينة: هي اللطف المقوي لقلوبهم
كالطمأنينة (1) (وأثبهم فتحا قريبا) يعني: فتح خيبر (ومغانم كثيرة يأخذونها)
وهي مغانم خيبر وكانت مشهورة بكثرة الأموال والعقار (2).
(وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه ى وكف أيدى
الناس عنكم ولتكون ءاية للمؤمنين ويهديكم صرا طا مستقيما (20)
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شىء
قديرا (21) ولو قتلكم الذين كفروا لولوا الادبر ثم لا يجدون وليا ولا
نصيرا (22) سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله
تبديلا (23) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من
بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24) هم الذين كفروا
وصدوكم عن المسجد الحرام وا لهدى معكوفا أن يبلغ محله ولولا
رجال مؤمنون ونسآء مؤمنت لم تعلموهم أن تطوهم فتصيبكم منهم
معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته ى من يشآء لو تزيلوا لعذبنا الذين
كفروا منهم عذابا أليما (25))
(وعدكم الله مغانم كثيرة) هي جميع ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة
(فعجل لكم هذه) المغانم يعني: غنائم خيبر (وكف أيدى الناس عنكم) يعني:
أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم (فقذف) الله

(1) في بعض النسخ: " والطمأنينة ".
(2) العقار: الأرض والضياع والنخل، والمعقر: الرجل الكثير العقار. (الصحاح).
386

(في قلوبهم الرعب) (1) فنكصوا، وقيل: يريد أيدي أهل مكة بصلح الحديبية (2)
(ولتكون) هذه الكفة والهدنة والغنيمة التي عجلت (ءاية للمؤمنين) وعبرة
يعرفون بها أنهم من الله بمكان، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم، وذلك لأن
الصلح وقع: على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، وعلى أن
من قدم مكة من المسلمين فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش
فهو آمن على دمه وماله، ومن أحب أن يدخل في عقد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهده دخل
فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فقالت خزاعة: نحن
في عقد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهده، وقالت كنانة: نحن في عقد قريش، فقال سهيل بن
عمرو لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا
رددته إلينا، ومن جاءنا ممن معك لا نرده عليك، فقال المسلمون: سبحان الله!
كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فقال (عليه السلام): من جاءهم منا فأبعده الله،
ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ولو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا، فقال
سهيل: وعلى أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة، فإذا كان العام القابل
خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا فلا تدخلها بالسلاح إلا
والسيوف في القراب، وعلى أن هذا الهدي حيث ما حسبناه محله لا تقدمه علينا،
فقال (عليه السلام): نحن نسوق وأنتم تردون؟! قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ
أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: ألست نبي الله؟ قال: بلى، قلت: ألسنا
على الحق وعدونا على الباطل؟ فقال: بلى، قلت: فلم تعطي الدنية في ديننا إذا؟
قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا

(1) الأحزاب: 26، الحشر: 2.
(2) قاله أنس وعبد الله بن مغفل المزني والكلبي. راجع تفسير القرطبي: ج 16 ص 281.
387

سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك
تأتيه، فتطوف به، فنحر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدنة ودعا بحالقه فحلق شعره (1).
وعن محمد بن كعب: كان كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصلح علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، فلما قال له: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن
عمرو، وجعل علي يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا: محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال (عليه السلام):
فإن لك مثلها، تعطيها وأنت مضطهد، فكتب (2).
ولما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة ثم
خرج إلى خيبر فأعطى اللواء أبا بكر وبعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم ثم
انكشف هو وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم بعث عمر بن الخطاب
ونهض بمن نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر فانكشف هو وأصحابه فرجعوا
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجبنه أصحابه ويجبنهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لاعطين
الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع
حتى يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون بجملتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح
قال: أين علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فقالوا: هويا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشتكي عينيه،
فقال: أرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم
يكن به وجع، فأعطاه الراية، فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب (3)

(1) أنظر تاريخ الطبري: ج 2 ص 633 - 634 من حوادث سنة ست من الهجرة.
(2) سيرة ابن إسحاق: ص 231، وتفسير القمي: ج 2 ص 320.
(3) قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب * إذا الليوث أقبلت تحرب
كان حماي كالحمى لا يقرب
388

الأبيات، فقال علي (عليه السلام):
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره (1)
فضرب مرحبا فقتله، وكان الفتح (2).
وقوله: (ولتكون ءاية للمؤمنين) اعتراض، أي: وليكون ذلك آية فعل ذلك،
ويجوز أن يكون المعنى: وعدكم المغانم فجعل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم
بها، ولتكون آية للمؤمنين إذا وجدوا وعد الله بها صادقا؛ لأن الإخبار بالمغيبات
معجزة وآية (ويهديكم صراطا مستقيما) أي: ويزيدكم بصيرة وثقة - بفضل الله -
ويقينا. (وأخرى) أي: ووعدكم الله مغانم أخرى (لم تقدروا عليها) بعد، وهي
مغانم هوازن في غزوة حنين (قد أحاط الله بها) أي: قد قدر عليها واستولى،
وأظهركم عليها وغنمكموها.
(ولو قتلكم الذين كفروا لولوا الأدبر) هذا من العلم بالمعدوم، علم
سبحانه ما لم يكن أن لو كان كيف يكون. (سنة الله) في موضع المصدر المؤكد،
أي: سن الله جل جلاله غلبة أنبيائه سنة، وهو كقوله: (كتب الله لأغلبن أنا
ورسلى) (3).
(وهو الذي كف أيديهم) يعني: أيدي أهل مكة (عنكم وأيديكم عنهم)
بالنهي (ببطن مكة) يوم الحديبية، وذلك أنهم بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من
المسلمين، فأسروا فخلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبيلهم.

(1) السندرة: مكيال كبير.
(2) أنظر تاريخ الطبري: ج 3 ص 11 وما بعده من حوادث سنة سبع من الهجرة عن بريدة
الأسلمي.
(3) المجادلة: 21.
389

وعن عبد الله بن المغفل: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا في ظل شجرة وبين
يديه علي (عليه السلام) يكتب كتاب الصلح، فخرج ثلاثون شابا عليهم السلاح، فدعا
عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ الله أبصارهم، فقمنا فأخذناهم، فخلى (عليه السلام)
سبيلهم (1).
وقرئ: (بما تعملون) بالتاء والياء (2). (والهدى) عطف على الضمير
المنصوب في (وصدوكم) أي: وصدوا (الهدى معكوفا) محبوسا عن (أن
يبلغ محله) وهو مكانه الذي يحل فيه نحره، أي: يجب، وبعض الحديبية من
الحرم، وروي: أن مضارب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في الحل ومصلاه في الحرم (3).
(ولولا رجال مؤمنون) مستضعفون كانوا بمكة بين الكفار (ونسآء مؤمنت)
كذلك (لم تعلموهم) صفة لرجال ونساء جميعا، و (أن تطئوهم) بدل اشتمال
منهم، أو: من الضمير المنصوب في (تعلموهم)، (فتصيبكم منهم معرة) هي
مفعلة، من: عره يعره: إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه (بغير علم) متعلق ب‍ (أن
تطئوهم) يعني: أن تطئووهم غير عالمين بهم، والوطء عبارة عن الإيقاع
والإبادة، وقال:
ووطئتنا وطأ على حنق * وطأ المقيد نابت الهرم (4)

(1) أخرجه عنه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 532 وعزاه إلى احمد والنسائي والحاكم
وابن جرير وأبي نعيم وابن مردويه.
(2) وبالياء هي قراءة أبي عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 604.
(3) رواه أحمد في مسنده: ج 4 ص 326 باسناده إلى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم
ضمن حديث طويل.
(4) للحارث بن وعلة الذهلي، وفي اللسان نسبه إلى زهير ولم نعثر عليه في ديوانه. أنظر شرح
شواهد الكشاف للأفندي: ص 291.
390

والمعنى: لولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين مختلطين
بهم، وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كف (أيديهم
عنكم وأيديكم عنهم) فحذف جواب " لولا " لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون
(لو تزيلوا) كالتكرير ل‍ (لولا رجال مؤمنون) لرجوعهما إلى معنى واحد،
ويكون الجواب (لعذبنا)، والمعرة التي كانت تصيبهم إذا قتلوهم هي وجوب
الدية والكفارة وسوء مقالة المشركين: إنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا،
وقوله: (ليدخل الله في رحمته) تعليل لما دلت عليه الآية، كأنه قال: كان الكف
ومنع التعذيب ليدخل الله في توفيقه للخير والطاعة مؤمنيهم، أو: ليدخل في
الإسلام من رغب فيه من مشركيهم (لو تزيلوا) لو تفرقوا وتميز بعضهم من
بعض، من: زاله يزيله (لعذبنا الذين كفروا) من أهل مكة بأيديكم وبالسيف،
ولكن الله يدفع عن الكفار بالمؤمنين وحرمة اختلاطهم بهم.
(إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجهلية فأنزل الله
سكينته على رسوله ى وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق
بها وأهلهآ وكان الله بكل شىء عليما (26) لقد صدق الله رسوله الرءيا
بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله ءامنين محلقين رءوسكم
ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذا لك فتحا
قريبا (27) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله وكفى بالله شهيدا (28) محمد رسول الله والذين معه أشدآء
على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله
ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذا لك مثلهم في التوراة
ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطه فازره فاستغلظ فاستوى
391

على سوقه ى يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين ءامنوا
وعملوا الصلحت منهم مغفرة وأجرا عظيما (29))
(إذ) يتعلق بما قبله، أي: لعذبناهم إذ (1) صدوكم عن المسجد الحرام حين
جعلوا (في قلوبهم) الأنفة التي تحمي الإنسان، و (حمية الجهلية) قولهم: قد
قتل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه أبناءنا وإخواننا، ويدخلون علينا في منازلنا، لا
يتحدث (2) العرب بذلك، وقيل: هي أنفتهم من الإقرار لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة
و (3) الاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم حين قالوا: ما نعرف هذا، ولكن اكتب:
باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله (4). (فأنزل الله) سبحانه
(سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) فتوقروا وحلموا وصبروا على الدخول
تحت ما أرادوه (وألزمهم كلمة التقوى) وهي قوله: لا إله إلا الله وقيل: هي
بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله قد اختارها الله لنبيه والمؤمنين (5).
ومعنى إضافتها إلى التقوى أنها سبب التقوى وأساسها (وكانوا أحق) بالسكينة
(وأهلها) أو: أحق بتلك الكلمة من المشركين، أو: أحق بمكة ودخولها. (لقد
صدق الله رسوله الرؤيا) أي: صدقه في رؤياه تعالى وتقدس عن الكذب وعن
كل قبيح، فحذف الجار وأوصل الفعل، وقوله: (بالحق) تعلق ب‍ (صدق) أي:
صدقة فيما رأى وفي حصوله صدقا ملتبسا بالحق، أي: بالحكمة والغرض
الصحيح، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المخلصين والمنافقين، ويجوز أن
يتعلق ب‍ (الرءيا) أي: صدقه الرؤيا ملتبسة بالحق. (لتدخلن) جواب قسم

(1) في بعض النسخ: " أو " بدل " إذ ".
(2) في المجمع: " فتتحدث ".
(3) في بعض النسخ: " أو " بدل الواو.
(4) قاله الزهري. راجع التبيان: ج 9 ص 334.
(5) وهو قول الزهري أيضا. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 204.
392

محذوف: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية: أن
المسلمين يدخلون المسجد الحرام، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، فلما انصرفوا
من الحديبية ولم يدخلوا مكة قال المنافقون: ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا
المسجد الحرام، فنزلت (1). أخبرهم بأن منامه حق وصدق، وأكد الدخول بالقسم.
وفي دخول (إن شاء الله) وجوه: أن يريد: لتدخلن جميعا إن شاء الله ولم يمت
منكم أحد، ويريد: تعليم عباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب الله،
أو: هو متعلق ب‍ (ءامنين محلقين رءوسكم ومقصرين) أي: يحلق بعضكم ويقصر
بعض وهو أن يؤخذ بعض الشعر، (فعلم ما لم تعلموا) من الحكمة والصلاح في
الصلح المبارك لموقعه وتأخير فتح مكة (فجعل من دون ذلك) أي: من دون فتح
مكة (فتحا قريبا) وهو فتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر
الفتح الموعود.
و (هو الذي أرسل رسوله بالهدى) أي: بالقرآن وبالدليل الواضح (ودين
الحق) وهو الإسلام (ليظهره) ليعليه على جنس (الدين كله)، يريد: الأديان
المختلفة من أديان المشركين وأهل الكتاب، وهذا توكيد لما وعده سبحانه من
الفتح، وتوطين لنفوس المؤمنين على أن الله تعالى سيفتح لهم من البلاد ما
يستقلون إليه فتح مكة، وقيل: إن تمام ذلك عند خروج المهدي عجل الله فرجه فلا
يبقى في الأرض دين غير دين الإسلام (2) (وكفى بالله شهيدا) على أن ما وعده
كائن لا محالة.
(محمد) إما خبر مبتدأ أي: هو محمد؛ لتقدم قوله: (هو الذي أرسل

(1) رواه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 367 عن مجاهد وقتادة وابن زيد.
(2) أنظر تفسير القمي: ج 2 ص 317.
393

رسوله)، وإما مبتدأ و (رسول الله) عطف بيان، (والذين معه) أصحابه
(أشدآء على الكفار رحمآء بينهم) جمع " شديد " و " رحيم ". وعن الحسن: بلغ
من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن يلزق بثيابهم ومن
أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أن كان لا يرى مؤمن مؤمنا
إلا صافحه وعانقه (1). ومثله قوله: (أذلة على المؤمنين أعزة على
الكفرين) (2)، (تراهم ركعا سجدا) إخبار عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها
(يبتغون) أي: يلتمسون بذلك زيادة نعمة من الله يطلبون مرضاته.
(سيماهم) علامتهم (في وجوههم) يريد: السمة التي تحدث في جبهة
السجاد من كثرة السجود، يفسرها قوله: (من أثر السجود) أي: من التأثير الذي
يؤثره السجود، وكان يقال لعلي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): ذو الثفنات؛ لأنه
كان قد ظهر في مواضع سجوده أشباه ثفنات البعير. وعن سعيد بن جبير: هي ندى
الطهور وتراب الأرض (3). (ذلك) الوصف (مثلهم) أي: وصفهم العجيب
الشأن (في التوراة) وتم الكلام، ثم ابتدأه: (ومثلهم في الإنجيل كزرع)،
وقيل: معناه: ذلك مثلهم في الكتابين جميعا (4)، ثم ابتدأ فقال: (كزرع) أي: هم
كزرع (أخرج شطئه) أي: فراخه، يقال: أشطأ الزرع إذا أفرخ. وقرئ: " شطأه "
بفتح الطاء (5). (فآزره) من المؤازرة وهي المعاونة. وعن الأخفش: أنه أفعل (6)،

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 346.
(2) المائدة: 54.
(3) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 323.
(4) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 5 ص 29.
(5) وهي قراءة ابن كثير وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 604.
(6) معاني القرآن: ج 2 ص 695.
394

أي: شده وأعانه وقواه، وقرئ: " فأزره " (1) أي: شد أزره (فاستغلظ) فصار من
الدقة إلى الغلظة (فاستوى على سوقه) جمع ساق أي: فاستقام على قصبه، وهذا
مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي وعلا أمره (يعجب
الزراع) أي: يروع ذلك الزرع الأكرة الذين زرعوه (ليغيظ بهم الكفار) هذا
تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع في نمائهم وترقيهم في القوة والاستكمال
وتظاهرهم، ويجوز أن يكون تعليلا لقوله: (وعد الله الذين ءامنوا) لأن الكفار إذا
سمعوا ما أعد الله لهم في الآخرة من الأجر مع ما ينيلهم في الدنيا من العز غاظهم
ذلك، أي: وعد الله من أقام منهم على الإيمان والعمل الصالح (مغفرة) لذنوبهم
وثوابا (عظيما) ونعيما مقيما.
* * *

(1) وهي قراءة ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 605.
395

سورة الحجرات
مدنية (1) وهي ثمان عشرة آية.
في حديث أبي: " من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر عشر حسنات
بعدد من أطاع الله ومن عصاه " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في كل يوم أو في كل ليلة كان من زوار
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله ى واتقوا الله
إن الله سميع عليم (1) يأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق
صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 339: مدنية إلا آية واحدة وهي قوله تعالى: (يا
أيها الناس إنا خلقناكم) الآية 11 إلى آخرها، وقال قوم: كلها مدنية، وهي ثمان عشرة آية بلا
خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 349: مدنية وآياتها (18)، نزلت بعد المجادلة.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 379 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 142.
397

أعملكم وأنتم لا تشعرون (2) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول
الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3)
إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم
صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5))
(لا تقدموا) يجوز أن يكون من: قدم بمعنى: " تقدم "، مثل: وجه وبين
بمعنى: " توجه " و " تبين "، ويعضده قراءة من قرأ: " لا تقدموا " (1)، أي: لا تتقدموا
فحذف أحد التاءين، ويجوز أن يكون متعديا، يقال: قدمه وأقدمه، فحذف المفعول
ليتناول كل ما يقدم، والمعنى: لا تقطعوا أمرا دون أن يأذن الله ورسوله فيه، وعن
ابن عباس: لا تتكلموا قبل أن يتكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا سئل عن مسألة فلا
تسبقوه بالجواب حتى يجيب أولا (2). وعن الحسن: نزل في قوم ذبحوا الأضحية
قبل صلاة العيد فأمرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإعادة (3). وعلى الجملة فالمراد: كونوا
تبعا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخروا أقوالكم وأفعالكم عن قوله وفعله، ولا تعملوا شيئا
من ذات أنفسكم حتى تستأمروه (واتقوا الله) فإنكم إن اتقيتموه لم تسبقوا
رسوله بقول ولا فعل حتى يأمركم به (إن الله سميع) لأقوالكم (عليم)
بأعمالكم.
ثم أعاد سبحانه النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل
خطاب وارد: (لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي) يعني: إذا نطق ونطقتم
فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه صوته (ولا تجهروا له

(1) وهي قراءة يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 689.
(2) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 377.
(3) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 294.
398

بالقول كجهر بعضكم لبعض) أي: لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض،
وهذا يدل على أنهم نهوا عن جهر موصوف بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم،
وهو أن يكون خاليا من مراعاة حشمة النبوة وجلالة مقدارها، وقيل: معناه: ولا
تقولوا: يا محمد يا أحمد، كما يخاطب بعضكم بعضا، بل خاطبوه بالتعظيم وقولوا:
يا رسول الله (1).
وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر، وكان
جهوري الصوت، فكان إذا كلمه رفع صوته وربما تأذى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بصوته (2).
وعن أنس: لما نزلت الآية فقد ثابت، فتفقده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبر بشأنه،
فدعاه فسأله، فقال: يا رسول الله، لقد أنزلت هذه الآية وإني رجل جهير الصوت
فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لست هناك، إنك تعيش
بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة " (3).
(أن تحبط أعملكم) مفعول له، ومعناه: انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط
أعمالكم أي: لخشية حبوطها، فحذف المضاف (وأنتم لا تشعرون) أن أعمالكم
حبطت.
(إن الذين يغضون أصوتهم) أي: يخفضونها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إجلالا له
(أولئك الذين امتحن الله قلوبهم) أي: اختبرها فأخلصها (للتقوى) من قولهم:

(1) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 70، والزجاج أيضا في معاني القرآن وإعرابه: ج 5
ص 32.
(2) رواه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 353.
(3) أخرجه عنه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 548 وعزاه إلى أحمد والبخاري ومسلم
وأبو يعلى والبغوي وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي.
399

امتحن فلان لأمر كذا وجرب فهو مضطلع به غير مقصر فيه، أو: وضع الامتحان
موضع المعرفة؛ لأن الشيء إنما يتحقق بالاختبار، فكأنه قال: عرف الله قلوبهم
للتقوى، ويكون اللام متعلقة بمحذوف كما في قولك: أنت لهذا الأمر، أي: كائن له
ومختص به، قال:
أعداء من لليعملات على الوجى (1)
وهي مع معمولها في موضع الحال. (إن الذين ينادونك من ورآء الحجرت)
من خلفها وقدامها، و " من " لابتداء الغاية، وإن النداء إنشاء من ذلك المكان،
والحجرة: البقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وهي فعلة بمعنى
مفعولة كالغرفة والقبضة. والمراد حجرات نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروي: أن وفد بني تميم أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقت الظهيرة وهو راقد
فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا! فاستيقظ فخرج، فنزلت (2).
(أكثرهم لا يعقلون) سجل عليهم بالسفه والجهل لما أقدموا عليه. (ولو أنهم
صبروا) في محل رفع على الفاعلية، لأن المعنى: ولو ثبت صبرهم، والصبر: حبس
النفس عن أن تنازع إلى هواها، وقولهم: " صبروا عن كذا " حذف منه المفعول
وهو النفس، وهو حبس فيه شدة على المحبوس، ولذلك قيل للحبس على اليمين
أو القتل: صبر، والفائدة في قوله: (إليهم) أنه لو خرج ولم يكن خروجه لأجلهم

(1) وعجزه: وأضياف بيت بيتوا لنزول. لعتبة بن مالك العقيلي يرثي عداء صاحبه ويصفه بأنه
كان معدا لإغاثة المطايا الكثيرات العمل، ولأضياف بيته الذين كانوا يبيتون عنده لطلب
الاستراحة. انظر شرح شواهد الكشاف للأفندي: ص 188.
(2) أخرجه الواحدي في أسباب النزول: ص 330 ح 805 عن جابر بن عبد الله. وفيه عن ابن
أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قدم
عليه ركب من بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر برجل آخر
فارتفعت أصواتهما في ذلك فنزلت.
400

للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم ولأجلهم (لكان خيرا لهم)
في " كان ": إما ضمير مصدر الفعل (1) المضمر بعد " لو " وإما ضمير مصدر
(صبروا) كقولهم: من كذب كان شرا له.
(يأيها الذين ءامنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما
بجهلة فتصبحوا على ما فعلتم ندمين (6) واعلموا أن فيكم رسول الله
لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الايمن
وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم
الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8) وإن طآئفتان
من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى
فقتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما
بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة
فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10))
الفاسق هو الوليد بن عقبة (2)؛ أخو عثمان لأمه، وهو الذي ولاه عثمان
الكوفة، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الصبح أربعا ثم قال: أزيدكم فإني
نشيط؟! بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدقا (3) إلى بني المصطلق، وكانت بينه وبينهم

(1) في الكشاف: " فاعل الفعل ".
(2) في التهذيب: أسلم يوم الفتح بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على صدقات بني المصطلق، وولاه عمر
صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة ثم عزله، وقال ابن عبد البر: ولا خلاف بين أهل
العلم بالتأويل أن قوله: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ...) نزلت في الوليد بن عقبة،
قال: وله أخبار فيها نكارة وشناعة، وخبر صلاته بأهل الكوفة وهو سكران وقوله: " أزيدكم
بعد أن صلى الصبح أربعا "!! مشهور من حديث الثقات. تهذيب التهذيب: ج 11 ص 142 -
143.
(3) المصدق: الذي يأخذ صدقات الغنم. (الصحاح).
401

إحنة (1) فاستقبلوه فظن أنهم هموا بقتله فرجع وقال: إنهم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة،
فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم أن يغزوهم فنزلت (2).
وفي تنكير " الفاسق " و " النبأ " معنى الشياع، والمراد: أي فاسق جاءكم بأي
نبأ كان (فتبينوا) صدقه من كذبه، وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا
تعتمدوا قول الفاسق، وقرئ: " فتثبتوا " (3) وروي ذلك عن الباقر (عليه السلام)، والتثبت
والتبين متقاربان وهما التوقف وطلب الثبات والبيان (أن تصيبوا) مفعول له أي:
كراهة إصابتكم (قوما بجهلة) حال بمعنى: جاهلين بحقيقة الأمر، كقوله: (ورد
الله الذين كفروا) (4) بغيظهم (فتصبحوا) أي: فتصيروا (على ما فعلتم) من
إصابتهم بالخطأ (ندمين) والندم ضرب من الغم، وهو أن تغتم على ما وقع منك
تتمنى أنه لم يقع.
(لو يطيعكم) هذه الجملة المصدرة ب‍ " لو " حال من أحد الضميرين في
(فيكم) المرفوع المستكن أو المجرور الظاهر، والمعنى: إن فيكم رسول الله على
حالة يجب عليكم تغييرها، أو: أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها، وهي أنكم
تحاولون منه أن يعمل في الحوادث ما تستصوبونه فعل التابع لغيره المطواع له، ولو
فعل ذلك (لعنتم) أي: لوقعتم في الإثم والهلاك، وهذا يدل على أن بعض
المؤمنين زينوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تصديق قول الوليد والإيقاع ببني المصطلق،

(1) الإحنة: الحقد في الصدر (لسان العرب: مادة أحن).
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 383 - 384 عن أم سلمة وابن عباس ومجاهد
وقتادة ويزيد بن رومان.
(3) قرأه ابن مسعود وحمزة والكسائي. راجع الكشاف: ج 4 ص 360، والتذكرة في القراءات
لابن غلبون: ج 2 ص 378.
(4) الأحزاب: 25.
402

وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم يريمهم (1) التقوى عن
الحسادة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان)
أي: إلى بعضكم، وهم (الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى)، والمعنى في تحبيب
الله وتكريهه: اللطف والإمداد بالتوفيق، وكل عاقل يعلم أن الرجل لا يكون
ممدوحا بفعل غيره، وإذا حملت الآية على ظاهرها أدى ذلك إلى أن الله جل وعز
أثنى عليهم بفعل نفسه، و (الكفر): تغطية نعم الله تعالى وغطيها بالجحود
(والفسوق) الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب المعاصي، وقيل: هو
الكذب (2) وهو المروي عن الباقر (عليه السلام) (3) (والعصيان) المعصية (أولئك هم
الرشدون) المهتدون إلى محاسن الأمور، المستقيمون على الحق. (فضلا)
مفعول له أو مصدر من غير فعله، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام.
وعن ابن عباس قال: وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على مجلس بعض الأنصار وهو
على حمار، فراث (4) الحمار فأمسك عبد الله بن أبي بأنفه فقال: خل سبيل
حمارك فقد آذانا نتنه، فقال عبد الله بن رواحة: والله لحمار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب
ريحا منك، ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطال الخوض بينهما حتى استبا وجاء
قومهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي فرجع إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصلح
بينهم، فنزلت، وقرأها عليهم فاصطلحوا (5).
والبغي: الاستطالة والظلم، والفيء: الرجوع، وقد يسمى به الظل والغنيمة؛ لأن
الظل يرجع، والغنيمة: ما ترجع إلى المسلمين من أموال الكفار (فإن فاءت) أي:

(1) الريم: البراح، يقال: رام يريم إذا برح. (لسان العرب).
(2) قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 212.
(3) تفسير العياشي: ج 1 ص 96 ح 260.
(4) الروث: رجيع ذي الحافر. (لسان العرب).
(5) أخرجه البخاري في صحيحه: ج 5 ص 218 ح 2691 كتاب الصلح.
403

رجعت وأنابت إلى طاعة الله (فأصلحوا بينهما) بين الطائفتين بالعدل
(وأقسطوا) أي: اعدلوا (إن الله يحب المقسطين) أي: العادلين.
(إنما المؤمنون إخوة) في الدين (فأصلحوا بين أخويكم) بين كل رجلين
تقاتلا وتخاصما، أي: كفوا الظالم عن المظلوم وأعينوا المظلوم.
وفي الحديث: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " (1).
وقيل: المراد بالأخوين: الأوس والخزرج (2)، وقرئ: " بين إخوتكم " على
الجمع (3) (واتقوا الله) فإنكم إن فعلتم ذلك حملكم التقوى على التواصل
والائتلاف، فتصل عند ذلك رحمة الله إليكم، وتشمل رأفته عليكم.
(يأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا
منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم
ولا تنابزوا بالالقب بئس الاسم الفسوق بعد الايمن ومن لم يتب
فأولئك هم الظلمون (11) يأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن
إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن
يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)
يأيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا وقبآئل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13) قالت
الاعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمن
في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعملكم شيا إن الله
غفور رحيم (14))

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 6 ص 94.
(2) قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 388.
(3) وهي قراءة يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 689.
404

القوم: رجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء، وهو في الأصل جمع " قائم "،
كصوم وزور في جمع " صائم " و " زائر "، قال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء (1)
والمعنى (لا يسخر) بعض الرجال من بعض، ولا بعض النساء من بعض،
وقوله: (عسى أن يكونوا خيرا منهم) كلام مستأنف، وقد ورد مورد جواب
المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه، والمعنى: أن المسخور منه ربما كان
عند الله خيرا من الساخر، فينبغي أن لا يستهزئ أحد بمن يراه رث الحال أو ذا
عاهة، فلعله أتقى عند الله وأخلص ضميرا ممن هو على ضد صفته، فيكون قد حقر
من وقره الله. (ولا تلمزوا أنفسكم) أي: لا يطعن بعضكم على بعض، ومثله
(لا تقتلوا أنفسكم) (2) لأن المؤمنين كنفس واحدة، أي: حصنوا أنفسكم بالانتهاء
عن عيبها والطعن فيها، ولا عليكم أن يعتبوا (3) غيركم ممن لا يدين بدينكم.
وفي الحديث: " اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس " (4).
واللمز: الطعن والعيب في المشهد، والهمز: في الغيب، وقيل: إن اللمز ما يكون
باللسان وبالعين والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان (5). (ولا تنابزوا
بالألقب) أي: لا تداعوا بها، وهو تفاعل من النبز، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون

(1) البيت من قصيدة طويلة يهجو فيها قوما من بني غليب، يقول: سأبحث عن حقيقة أمر
هؤلاء الناس أرجال هم أم نساء! وهذا هزء بهم وتوعد لهم. راجع ديوان زهير بن أبي سلمى:
ص 12.
(2) النساء: 29.
(3) في نسخة: " تعيبوا ".
(4) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء: ج 1 ص 114 و ج 2 ص 492، وابن حجر في الكاف
الشاف: ص 157، والشهيد الثاني في كشف الريبة: ص 79.
(5) قاله الطبري كما في تفسير القرطبي: ج 16 ص 327.
405

بمعنى، والتلقيب المنهي عنه هو ما يدخل على المدعو به كراهة لكونه ذما له
وشينا، فأما ما يحبه وما يزينه وينوه به فلا بأس به.
وفي الحديث: " من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه " (1).
وعن ابن عباس: أن أم سلمة ربطت حقويها بسبيبة - وهي ثوب أبيض -
وسدلت طرفها خلفها فكانت تجره، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجر خلفها
كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتها (2). وقيل: إنها عيرتها بالقصر وأشارت
بيدها أنها قصيرة (3).
وقيل: إن صفية بنت حيي أتت رسول الله تبكي وقالت: إن عائشة تعيرني
وتقول: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هلا قلت إن أبي
هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " فنزلت (4).
(بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) الاسم هنا بمعنى الذكر من قولهم: طار
اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، أي: صيته وذكره، وحقيقته: ما سما من ذكره
وارتفع بين الناس، كأنه قال: بئس الاسم المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه
الجرائر أن يذكروا بالفسوق. وفي قوله: (بعد الايمن) ثلاثة أوجه: أحدها:
استقباح الجمع بين الإيمان والفسق، كما يقال: بئس الشأن بعد الكبر الصبوة.
والثاني: أن يكون المعنى: بئس الذكر أن يذكر الرجل بالفسق بعد إيمانه، وذلك أنهم
كانوا يقولون لمن أسلم من اليهود: يا يهودي يا فاسق، فنهوا عنه، وتكون الجملة

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 369.
(2) تفسير ابن عباس: ص 436.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 395 عن حسان بن المخارق.
(4) قاله ابن عباس. راجع أسباب النزول للواحدي: ص 334 ح 812 وأورده القمي علي بن
إبراهيم في تفسيره: ج 2 ص 329.
406

على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز، والثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن،
كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة.
(اجتنبوا كثيرا من الظن) وهو أن يظن بأهل الخير سوءا، يقال: جنبه الشر إذا
أبعده عنه، وحقيقته: جعله منه في جانب، فيعدى إلى مفعولين، ومطاوعته: اجتنب
الشر، فتعدى إلى مفعول واحد (إن بعض الظن إثم) أي: ذنب يستحق به العقاب
(ولا تجسسوا) والتجسس - بالجيم والحاء - واحد، والجيم تفعل من الجس، كما
أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس، والحاء بمعنى التعرف من الحس، ولتقاربهما
قيل لمشاعر الإنسان: الحواس، بالحاء والجيم، والمراد: النهي عن تتبع عورات
المسلمين ومعائبهم (ولا يغتب بعضكم بعضا) يقال: غابه واغتابه كغاله واغتاله،
والغيبة من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال، وهي ذكر السوء في الغيبة.
وسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الغيبة فقال: " أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه
فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته " (1).
(أيحب أحدكم) تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على
أفظع وجه. وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره
لحم أخيك وهو حي (2). و (ميتا) نصب على الحال من (لحم أخيه) أو من
" الأخ "، ولما قرر سبحانه بأن أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله:
(فكرهتموه) أي: فتحققت بوجوب الإقرار عليكم كراهتكم له ونفور طباعكم
منه، فاكرهوا ما هو نظيره من الغيبة.

(1) أخرجه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 2001 ح 2589، وفي مجموعة ورام: ص 95 بألفاظ
متقاربة، والشهيد الثاني في كشف الريبة: ص 52.
(2) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 396.
407

وروي: أن أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليأتي لهما بطعام،
فبعثه إلى أسامة بن زيد - وكان خازن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على رحله - فقال: ما
عندي شيء، فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة، ولو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار
ماؤها، ثم انطلقا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في
أفواهكما؟ قالا: يا رسول الله، ما تناولنا اليوم لحما! قال: ظللتم تأكلون لحم
سلمان وأسامة، فنزلت (1).
(واتقوا الله) بترك ما أمرتم باجتنابه، والندم على ما وجد منكم منه (إن الله
تواب) يقبل توبتكم.
(إنا خلقنكم من ذكر وأنثى) من آدم وحواء، وقيل: خلقنا كل واحد منكم
من أب وأم، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر (2)، فلا وجه
للتفاخر والتفاضل في النسب (وجعلناكم شعوبا) جمع شعب وهو الطبقة الأولى
من طبقات الست مثل مضر وربيعة (وقبائل) وهي دون الشعوب كبكر بن (3)
ربيعة وتميم بن (4) مضر، ثم العمارة دون القبيلة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة
(لتعارفوا) أي: لتتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا بنسبه وأبيه وقومه، لا لأن
تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاوت والتفاضل، ثم بين سبحانه الخصلة
التي يكتسب الإنسان بها الكرم والشرف عند الله تعالى ويفضل غيره فقال:
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أي: أرفعكم منزلة عند الله وأكثركم ثوابا أتقاكم
لمعاصيه، وأعملكم بطاعته.

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 374 عن ابن عباس ولم يذكر اسم الرجلين إلا
بلفظ " رجلين من الصحابة ".
(2) قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 397.
(3 و 4) في نسخة " من " بدل " بن ".
408

الإيمان: هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس، والإسلام: الدخول في السلم،
والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله:
(ولما يدخل الإيمن في قلوبكم). وضع قوله (لم تؤمنوا) موضع " كذبتم "
بدلالة قوله في صفة المخلصين: (أولئك هم الصادقون) تعريضا بأن هؤلاء هم
الكاذبون، (ولكن قولوا أسلمنا) ولم يقل: " ولكن أسلمتم " ليكون خارجا مخرج
الزعم والدعوى، كما كان قولهم: (ءامنا) كذلك، (لا يلتكم) أي: لا ينقصكم ولا
يظلمكم (من) ثواب (أعملكم شيئا) يقال: ألته حقه يألته ألتا، ولاته يليته
بمعناه، وقرئ (لا يلتكم) و " لا يألتكم " (1) على اللغتين.
وعن ابن عباس: أن نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا
الشهادة، وأغلوا أسعار المدينة، وهم يغدون ويروحون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والذراري،
يريدون الصدقة ويمنون عليه، فنزلت (2).
(إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ى ثم لم يرتابوا وجهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصدقون (15) قل أتعلمون
الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شىء
عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلمكم بل الله
يمن عليكم أن هداكم للايمن إن كنتم صدقين (17) إن الله يعلم غيب
السموات والارض والله بصير بما تعملون (18))

(1) قرأه البصريان (أبو عمرو ويعقوب) بهمزة ساكنة، لكن أبو عمرو يقلبها ألفا إذا ترك الهمز.
راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 689.
(2) تفسير ابن عباس: ص 437.
409

(ثم لم يرتابوا) ثم لم يشكوا بعد ثلج صدورهم بالإيمان بأن يعترضهم
الشيطان أو بعض المضلين فيشككهم ويقذف في قلوبهم ما يثلم اليقين
(وجهدوا) العدو المحارب أو الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء (أولئك هم)
الذين صدقوا في قولهم: آمنا، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد، وهم الذين
إيمانهم إيمان صدق وحق.
(قل أتعلمون الله بدينكم) أي: أتخبرون الله بدينكم، والمعنى: أنه عالم
بذلك، ومحيط بضمائركم، ولا يحتاج إلى إخباركم به؛ لأنه (يعلم) جميع
المعلومات لذاته، فلا يحتاج إلى علم يعلم به ولا إلى من يعلمه.
يقال: من عليه بيد أسداها إليه: إذا اعتدها عليه إنعاما، أي: لا تعتدوا على بما
ليس جديرا بالاعتداد به من حديثكم الذي حق تسميته أن يقال له: إسلام لا إيمان
(بل الله) يعتد (عليكم) بأن أمدكم بتوفيقه حين (هداكم للايمن) على ما
زعمتم وادعيتم: أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له، إن صح زعمكم وصدقت دعواكم،
لا أنكم تزعمون: ما الله عالم بخلافه! وفي إضافة " الإسلام " إليهم وإيراد
" الإيمان " غير مضاف ما لا يخفى على متأمله، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما
قبله عليه، تقديره: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان فلله المنة عليكم.
وقرئ: (بما تعملون) بالتاء والياء (1) وفيه إشارة إلى كونهم غير صادقين
في دعواهم، أي: لا يخفى عليه شيء من أسراركم فكيف لا يظهر على صدقكم
وكذبكم؟
* * *

(1) وبالياء هي قراءة ابن كثير وعاصم برواية أبان عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 606.
410

سورة ق
مكية (1) إلا آية (2)، وهي خمس وأربعون آية.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة ق هون الله عليه سكرات الموت " (3).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ في فرائضه ونوافله سورة ق وسع الله عليه في
رزقه، وأعطاه الله كتابه بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ق والقرءان المجيد (1) بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال
الكفرون هذا شىء عجيب (2) أءذا متنا وكنا ترابا ذا لك رجع بعيد (3)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 356: مكية بلا خلاف، وهي خمس وأربعون آية
بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 379: مكية إلا آية (38) فمدنية، وآياتها (45) نزلت بعد
المرسلات.
وفي تفسير القرطبي: ج 17 ص 1: مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر.
قال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله تعالى: (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما
في ستة أيام) الآية.
(2) في نسخة: " يقال إلا آية ".
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 394 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 142 وفيه: " من أدمن " بدل " من قرأ ".
411

قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق
لما جآءهم فهم في أمر مريج (5) أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف
بنينها وزينها ومالها من فروج (6) والارض مددنها وألقينا فيها
رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد
منيب (8) ونزلنا من السمآء مآء مبركا فأنبتنا به ى جنت وحب
الحصيد (9) والنخل باسقت لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به ى
بلدة ميتا كذا لك الخروج (11))
الكلام في (ق والقرءان المجيد) مثل الكلام في (ص والقرءان ذى
الذكر) (1) لأنهما في أسلوب واحد، و (المجيد): ذو المجد والشرف على غيره
من الكتب الكريمة على الله.
(بل عجبوا) أي: تعجبوا مما ليس بعجب وهو (أن جآءهم رجل منهم) قد
عرفوا أمانته وعدالته ينذرهم بالمخوف من البعث والجزاء (فقال الكفرون)
وضع الظاهر موضع الضمير ليدل على أنهم في قولهم: (هذا شىء عجيب)
مقدمون على كفر عظيم. و (هذا) إشارة إلى الرجع، و (إذا) منصوب بمضمر،
والمعنى: أحين نموت ونصير ترابا نبعث ونرجع؟! (ذلك رجع بعيد) مستبعد
مستنكر، كما تقول: هذا قول بعيد، أي: بعيد من الوهم والعادة.
و (قد علمنا) رد لاستبعادهم الرجع، أي: علمنا ما تأكل (الأرض) من
لحومهم وتبليه من عظامهم، فلا يتعذر علينا رجعهم أحياء، وعن السدي: (ما
تنقص الأرض منهم) ما يموت فيدفن في الأرض منهم (2). (وعندنا كتب

(1) ص: 1.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 380.
412

حفيظ) أي: محفوظ عن البلى والدروس، وهو كتاب الحفظة، أو: كتاب حافظ
لما أودع وكتب فيه.
(بل كذبوا) إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو
أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب (بالحق) الذي هو النبوة المؤيدة بالمعجزات
(فهم في أمر مريج) أي: مختلط مضطرب، يقال: مرج الخاتم في إصبعه وخرج،
فمرة يقولون: مجنون، وتارة: ساحر، وتارة: شاعر.
(أفلم ينظروا) حين كفروا بالبعث (إلى) آثار قدرة الله في بناء (السمآء)
مع عظمها وحسن انتظامها (كيف بنينها) بغير علاقة وعماد (وما لها من
فروج) أي: شقوق وفتوق، كقوله: (هل ترى من فطور) (1). (والارض
مددنها) دحوناها وبسطناها، (وألقينا فيها روسى) أي: جبالا ثوابت (من كل
زوج بهيج) من كل صنف تبتهج به لحسنه. (تبصرة) ليبصر به ويذكر كل (عبد
منيب) راجع إلى ربه، مفكر في بدائع خلقه.
(ماء مبركا) أي: مطرا وغيثا يكثر النفع به والبركة (فأنبتنا به جنت) أي:
بساتين فيها أشجار تشتمل على الفواكه (وحب الحصيد) أي: وحب الزرع الذي
من شأنه أن يحصد، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما (و) أنبتنا
به (النخل باسقت) طوالا في السماء (لها طلع نضيد) منضود، نضد بعضه على
بعض، يريد: كثرة الطلع وتراكمه وكثرة ما فيه من الثمر. (رزقا) مفعول له، أي:
أنبتناها لنرزقهم (2)، أو: مصدر (أنبتنا) لأن الإنبات في معنى الرزق، و (كذلك
الخروج) أي: كما (أحيينا به بلدة ميتا) لا تنبت شيئا فنبتت وعاشت كذلك
تخرجون أحياء بعد موتكم، والكاف في موضع الرفع على الابتداء.

(1) الملك: 3.
(2) في بعض النسخ: " لرزقهم ".
413

(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحب الرس وثمود (12) وعاد وفرعون
وإخوان لوط (13) وأصحب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق
وعيد (14) أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد (15)
ولقد خلقنا الانسن ونعلم ما توسوس به ى نفسه ونحن أقرب إليه من
حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17)
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18) وجآءت سكرة الموت بالحق
ذا لك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصور ذا لك يوم الوعيد (20))
كل من هؤلاء المذكورين كذبوا (الرسل) الذين بعثوا إليهم (فحق) أي:
وجب وحل (وعيد) وهو كلمة العذاب، وفيه تسلية لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ووعيد للكفار.
(أفعيينا) الهمزة للإنكار، يقال: عيي بالأمر: إذا لم يهتد له، والمعنى: إنا لم
نعجز عن الخلق (الاول) كما علموا حتى نعجز عن الثاني (بل هم في لبس من
خلق جديد) يعني: أنهم لم ينكروا قدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط
وشبهة من البعث بعد الموت، قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم بأن سول إليهم أن
إحياء الأموات أمر خارج عن العادة.
والوسوسة: الصوت الخفي، ووسوسة النفس: ما يخطر ببال الإنسان ويهجس
في ضميره من حديث النفس، والباء مثلها في قولك: صوت بكذا، ويجوز أن يكون
للتعدية، والضمير ل‍ (الانسن) أي: ما تجعله موسوسا، و " ما " مصدرية؛ لأنهم
يقولون: حدث نفسه بكذا، كما يقولون: حدثته به نفسه، قال لبيد:
واكذب النفس إذا حدثتها * إن صدق النفس يزري بالأمل (1)

(1) البيت من قصيدة طويلة يذكر فيها مآثره ومواقفه ولا تخلو من حكم، ومنها هذا البيت،
يقول: حدث نفسك بالظفر وبلوغ الأمل دائما لتنشطها على الإقدام والعمل راجع ديوان
لبيد بن ربيعة العامري: ص 141.
414

(ونحن أقرب إليه) يريد: قرب علمه منه وتعلقه بالأحوال حتى لا يخفى
عليه شيء منها، فكأن ذاته قريبة منه (وحبل الوريد) مثل في فرط القرب، كما
قالوا: هو مني معقد العذار، والحبل: العرق، والوريدان: عرقان مكتنفان بصفحتي
العنق في مقدمها يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه.
(إذ) منصوب ب‍ (أقرب) والمعنى: أنه سبحانه يعلم خطرات النفس وهو
أقرب إلى الإنسان من كل قريب حين (يتلقى المتلقيان) أي: المكان الحافظان
يأخذان ما يتلفظ به، وهذا إيذان باستغنائه عز اسمه عن استحفاظ الملكين، إذ هو
مطلع على أخفى الخفيات، وإنما ذلك لحكمة تقتضيه، وهي ما في ذلك من زيادة
اللطف في انتهاء العباد عن القبائح والرغبة في العبادات، والتلقي: التلقن، والقعيد:
القاعد كالجليس، وتقديره: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فترك
أحدهما لدلالة الثاني عليه، كقول الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريا ومن جول الطوي رماني (1)
(ما يلفظ من قول إلا لديه) ملك يرقب عمله (عتيد) حاضر معه.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات
على يساره، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل حسنة كتبها
ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع
ساعات لعله يسبح أو يستغفر " (2).

(1) البيت لابن أحمر، وقيل: للأزرق بن طرفة الفراصي، يقول: رماني بأمر عاد إليه قبحه لأن
الذي يرمي من جول البئر يعود ما رمى به عليه. أنظر لسان العرب: مادة " جول ".
(2) أخرجه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 223 عن أبي أمامة.
415

(وجآءت سكرة الموت) أي: شدته الذاهبة بالعقل، والباء في (بالحق)
للتعدية، أي: وأحضرت شدة الموت حقيقة الأمر من السعادة أو الشقاوة، وقيل:
بالحق الذي خلق له الإنسان (1)، ويجوز أن يكون الباء مثلها في قوله: (تنبت
بالدهن) (2) أي: جاءت ملتبسة بالحق أي: بحقيقة الأمر أو بالحكمة والغرض
الصحيح، وقرئ: " سكرة الحق بالموت " (3) وروي ذلك عن أئمتنا (عليهم السلام) (4)،
أضيفت " السكرة " إلى " الحق " دلالة على أنه السكرة المكتوبة على الإنسان،
وأنها حكمة، والباء للتعدية؛ لأنها سبب زهوق الروح لشدتها، أو: لأن الموت
يعقبها، فكأنها جاءت به، ويجوز أن يكون المعنى: جاءت ومعها الموت، وقيل:
سكرة الحق: سكرة الله أضيفت إليه تعظيما وتفظيعا لشأنها (5) (ذلك) إشارة إلى
الموت، والخطاب للإنسان في قوله: (ولقد خلقنا الإنسن) على طريق الالتفات،
أو: إلى الحق، والخطاب للفاجر (تحيد) أي: تهرب وتنفر، (ذلك) إشارة إلى
مصدر (نفخ) أي: وقت ذلك يوم الوعيد فحذف المضاف.
(وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من
هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد (22) وقال قرينه هذا ما
لدى عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد
مريب (25) الذي جعل مع الله إلها ءاخر فألقياه في العذاب
الشديد (26) قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولكن كان في ضلل

(1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 45.
(2) المؤمنون: 20.
(3) وهي قراءة أبي بكر وابن مسعود. راجع التبيان: ج 9 ص 365.
(4) أنظر المصدر السابق.
(5) حكاه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 418.
416

بعيد (27) قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد (28) ما يبدل
القول لدى ومآ أنا بظلم للعبيد (29) يوم نقول لجهنم هل امتلأت
وتقول هل من مزيد (30) وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما
توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشى الرحمن بالغيب وجآء بقلب
منيب (33) ادخلوها بسلم ذا لك يوم الخلود (34) لهم ما يشآءون فيها
ولدينا مزيد (35))
(معها سآئق) من الملائكة يحثها على السير إلى الحساب (وشهيد) منهم
أيضا يشهد عليها بما يعلم من حالها، و (معها سآئق) في موضع الحال من (كل)
لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، أي: يقال له: (لقد كنت في غفلة من
هذا) اليوم في الدنيا، وجعلت الغفلة كأنها غطاء لك وغشاوة لعينك (فكشفنا
عنك) الغطاء وزالت عنك الغفلة فرجع (بصرك) الكليل عن الإبصار حديدا
لتيقظه.
(وقال قرينه) وهو الشيطان الذي قيض له في قوله سبحانه: (نقيض له
شيطنا فهو له قرين) (1) وقيل: هو الملك الشهيد عليه (2) وهو المروي
عنهم (عليهم السلام) (هذا ما لدى عتيد): إن كان المراد بالقرين الشيطان فالمعنى: هذا
شيء لدي وفي ملكتي عتيد لجهنم أعتدته وهيأته لها بإغوائي وإضلالي، وإن كان
المراد الملك فالمعنى: هذا شيء حاضر عندي من عمله كتبته عليه إذ وكلتني به،
يقول لله سبحانه، و (ما) موصوفة و (عتيد) صفة لها، وإن جعلتها موصولة
ف‍ (عتيد) بدل أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف.

(1) الزخرف: 36.
(2) قاله الحسن وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 350.
417

(ألقيا في جهنم) خطاب من الله للملكين: السائق والشهيد، ويجوز أن يكون
خطابا للواحد بأن ينزل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل، كأنه قيل: ألق ألق، أو: لأن
العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان فكثر على ألسنتهم أن يقولوا: " يا صاحبي "
و " خليلي " و " قفا " حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، كما ورد عن الحجاج
أنه كان يقول: يا حرسي اضربا عنقه، أو: يكون الألف بدلا من النون الخفيفة للتأكيد
إجراء للوصل مجرى الوقف.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا كان يوم القيامة يقول الله
لي ولعلي (عليه السلام): ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا الجنة من أحبكما، وذلك قوله
عز اسمه: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) (1). والعنيد: المعاند، المجانب للحق،
المعادي لأهله.
(مناع للخير) كثير المنع للمال عن حقوقه، أو: مناع لجنس الخير أن يصل
إلى أهله، يحول بينه وبينهم، قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة حين استشاره بنو
أخيه في الإسلام فمنعهم (2) (معتد) ظالم متعد للحق (مريب) شاك في الله
وفي دينه، وقيل: متهم بفعل ما يرتاب بفعله مثل المليم (3) (الذي جعل) مبتدأ
مضمن معنى الشرط، وخبره: (فألقياه)، ويجوز أن يكون بدلا من (كل كفار)
ويكون (فألقياه) تكريرا للتأكيد.
(قال قرينه ربنا ما أطغيته) أي: ما جعلته طاغيا، وما أوقعته في الطغيان،

(1) أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 261 ج 895 ومن طريق آخر أيضا
عنه في ص 264 ح 896، وابن المغازلي الشافعي في المناقب: ص 427، والشيخ الطوسي
في الأمالي: ج 1 ص 296، وفرات الكوفي في التفسير: ص 167.
(2) وهو قول الضحاك. راج تفسير الماوردي: ج 5 ص 352.
(3) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 351.
418

ولكنه طغى واختار الضلال على الهدى، كقوله: (وما كان لى عليكم من سلطن
إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) (1). (قال) أي: يقول الله عز اسمه لهم: (لا
تختصموا لدى) أي: لا يخاصم بعضكم بعضا عندي في دار الجزاء فلا فائدة في
اختصامكم (وقد قدمت إليكم بالوعيد) على ألسنة رسلي، ثم قال: لا تطمعوا أن
أبدل قولي ووعيدي لكم في تكذيب رسلي ومخالفة أمري بغيره (وما أنا بظلم
للعبيد) في عقابي (2)، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب القبائح، والباء في
(بالوعيد) مزيدة، مثلها في قوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (3) أو
متعدية إن كان " قدم " بمعنى " تقدم "، والجملة التي هي: (وقد قدمت إليكم)
وقعت موقع الحال من (لا تختصموا)، بمعنى: وقد صح عندكم أني قدمت إليكم
بالوعيد.
(يوم نقول) قرئ بالنون والياء (4)، وانتصب (يوم) ب‍ (ظلم) أو
ب‍ (نفخ) وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل (5) الذي يقصد به تصوير المعنى
في القلب، وفيه معنيان: أحدهما: أنه تمتلئ مع تباعد أطرافها حتى لا يزاد على
امتلائها، والثاني: أنها من السعة بحيث يدخلوها من يدخلها وفيها موضع للمزيد،

(1) إبراهيم: 22.
(2) في بعض النسخ: " عقابهم ".
(3) البقرة: 195.
(4) وبالياء هي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 607.
(5) ومثله في الأدب الانساني كثير كقول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني
وفي الشعر الفارسي كقوله في المثنوي:
دوزخ است اين نفس و دوزخ اژدهاست * كو بدرياها نگردد كم و كاست
عالمي را لقمه كرد و دركشيد * معده اش نعره زنان هل من مزيد
419

والمزيد: مصدر كالمجيد، أو: اسم مفعول كالمبيع. (غير بعيد) نصب على الظرف
أي: مكانا غير بعيد، أو على الحال، وإنما ذكر لأنه على زنة المصدر، والمصادر
يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث، أو: على حذف الموصوف أي: شيئا غير
بعيد، ومعناه التوكيد كما تقول: هو قريب غير بعيد.
(هذا ما توعدون) جملة اعتراضية (لكل أواب) بدل من (المتقين)
بتكرير الجار، و (هذا) إشارة إلى الثواب أو إلى مصدر (أزلفت)، و " الأواب ":
التواب الرجاع إلى الله وطاعته، والحفيظ: الحافظ لحدوده. (من خشى الرحمن)
بدل بعد بدل تابع ل‍ (كل) ويجوز أن يكون بدلا عن موصوف (أواب) و
(حفيظ)، ولا يجوز أن يكون في حكم (أواب) و (حفيظ) لأن " من " لا
يوصف به، ولا يوصف بشيء من الموصولات إلا ب‍ (الذي) وحده، ويجوز أن
يكون مبتدأ وخبره يقال لهم: (ادخلوها بسلم) لأن " من " في معنى الجمع،
و (بالغيب) حال من المفعول أي: خشيه وهو غائب، أو: صفة لمصدر " خشيه "
أي: خشيه خشية ملتبسة بالغيب حتى خشي عقابه وهو غائب، أو: من الفاعل أي:
وهو في الخلوة حيث لا يراه أحد (وجآء بقلب منيب) راجع إلى الله مقبل عليه،
يقال لهم: ادخلوها سالمين من العذاب، أو: مسلما عليكم بسلام الله وملائكته
عليكم (ذلك يوم) تقدير (الخلود)، كقوله: (فادخلوها خلدين) (1) أي:
مقدرين الخلود (ولهم ما) يريدون وما يشتهون من أنواع النعيم في الجنة
(ولدينا مزيد) على (ما يشآءون‍) - ه مما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم،
أو: (مزيد) على قدر استحقاقهم.

(1) الزمر: 73.
420

(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلد هل
من محيص (36) إن في ذا لك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع
وهو شهيد (37) ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام
وما مسنا من لغوب (38) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل
طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود
(40) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون
الصيحة بالحق ذا لك يوم الخروج (42) إنا نحن نحىى ونميت وإلينا
المصير (43) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذا لك حشر علينا
يسير (44) نحن أعلم بما يقولون ومآ أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان
من يخاف وعيد (45))
(فنقبوا) أي: فتحوا المسالك (في البلد)، من النقب وهو الطريق،
والمعنى: دوخوا البلاد ونقروا عن أمورها، قال حارث بن حلزة:
نقبوا في البلاد من حذر الموت * وجالوا في الأرض كل مجال (1)
والفاء للتسبيب عن قوله: (هم أشد منهم بطشا) أي: شدة بطشهم أقدرتهم
على التنقيب وقوتهم عليه، ويجوز أن يكون المعنى: فنقب أهل مكة في بلاد تلك
القرون فهل رأوا لهم محيصا من الله أو من الموت حتى يأملوا مثله لنفوسهم؟
(إن في ذلك لذكرى) أي: تذكرة واعتبارا (لمن كان له قلب) واع، لأن من
لا يعي قلبه فكأنه بلا قلب، وعن ابن عباس: القلب هنا العقل (2) (أو ألقى
السمع) بأن يصغي ويستمع (وهو شهيد) حاضر بفطنته، لأن من لا يحضر ذهنه

(1) كذا تبعا للكشاف منسوب إلى الحارث بن حلزة، ولم نجده في ديوانه المطبوع في دار
الكتاب العربي - لبنان.
(2) تفسير ابن عباس: ص 440.
421

فهو كالغائب، أو: وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله.
واللغوب: النصب والإعياء، أكذب الله تعالى اليهود بقوله: (وما مسنا من
لغوب) حيث قالوا: استراح الله يوم السبت! (فاصبر على) ما يقوله المشركون
من إنكار البعث وتكذيبك، واحتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج (وسبح بحمد
ربك) التسبيح: محمول على ظاهره وعلى الصلاة، فالصلاة (قبل طلوع
الشمس) صلاة الصبح (وقبل الغروب) الظهر والعصر (ومن الليل) العشاءين،
وقيل: صلاة الليل (1) فيدخل فيها المغرب والعشاء، (وأدبر السجود) التسبيح
في أعقاب الصلوات، والسجود والركوع قد يعبر بهما عن الصلاة، وقيل: النوافل
بعد المغرب (وأدبر النجوم) الركعتان قبل صلاة الفجر (2). وروي: " أن من
صلاها بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين " (3). والأدبار: جمع دبر،
وقرئ بكسر الهمزة (4)، من أدبرت الصلاة: إذا انقضت وتمت، والمعنى: وقت
انقضاء السجود، كما يقال: آتيك خفوق النجم.
(واستمع) لما أخبرك به من حال يوم القيامة، وفيه تهويل لشأن المخبر به،
وانتصب (يوم يناد) بما دل عليه (ذلك يوم الخروج) أي: يوم ينادي المنادي
يخرجون من قبورهم، و (يوم يسمعون) بدل من (يوم يناد المناد)، والمنادي:
إسرافيل، ينفخ في الصور وينادي: أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم

(1) قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 357.
(2) وهو قول أبي هريرة وابن عباس والشعبي وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وروي عن
علي والحسن (عليهما السلام)، وابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 436 -
437، وسنن الترمذي: ج 5 ص 392 ح 3275.
(3) رواه القرطبي في تفسيره: ج 17 ص 25 عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
(4) قرأه ابن كثير ونافع وحمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 607.
422

المتمزقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. (من مكان قريب) من صخرة
بيت المقدس، وهي أقرب الأرض من السماء، و (الصيحة) هي النفخة الثانية
(بالحق) يتعلق ب‍ (الصيحة) والمراد به البعث والحشر للجزاء (ذلك يوم
الخروج) من القبور إلى أرض الموقف. (إنا نحن نحى) الخلق ونميتهم بعد
الحياة (وإلينا المصير) يوم القيامة.
وقرئ: (تشقق) بإدغام التاء في الشين وبحذف التاء (1) أي: تتصدع
(الأرض عنهم) فيخرجون عنها (سراعا) بلا تأخير، وهو حال من الضمير
المجرور في (عنهم)، والحشر: الجمع بالسوق من كل جهة (علينا يسير) تقديم
الظرف يدل على الاختصاص، يعني: لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على
القادر بالذات الذي لا يشغله شأن عن شأن.
(نحن أعلم بما يقولون) تهديد لهم وتسلية لنبينا (عليه السلام) (وما أنت عليهم
بجبار) أي: متسلط تجبرهم على الإيمان إنما أنت داع ومنذر، كقوله: (لست
عليهم بمصيطر) (2) يقال: جبره وأجبره على الأمر، و " على " بمنزلته في قولك:
هو عليهم: إذا كان واليهم ومالك أمرهم (من يخاف وعيد) كقوله: (إنمآ أنت
منذر من يخشها) (3) خص التذكير بهم لأنه لا ينفع إلا فيهم.
* * *

(1) أي: تشقق، وأصلها: تتشقق، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر. راجع المصدر السابق.
(2) الغاشية: 22.
(3) النازعات: 45.
423

سورة الذاريات
مكية (1) وهي ستون آية.
في حديث أبي: " من قرأ سورة الذاريات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد
كل ريح هبت وجرت في الدنيا " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " ومن قرأها في يوم أو ليلة أصلح الله له معيشته، وآتاه
برزق واسع، ونور له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والذاريت ذروا (1) فالحملت وقرا (2) فالجريت يسرا (3)
فالمقسمت أمرا (4) إنما توعدون لصادق (5) وإن الدين لواقع (6)
والسمآء ذات الحبك (7) إنكم لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من
أفك (9) قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة ساهون (11) يسلون
أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هذا

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 378: مكية بلا خلاف، وهي ستون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 394: مكية، وآياتها (60) نزلت بعد الأحقاف.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 407 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 143.
425

الذي كنتم به ى تستعجلون (14))
(الذاريت) الرياح، لأنها تذرو التراب (1) وغيره، كما يقال: (تذروه
الريح) (2) وقرئ بإدغام التاء في الذال (3). (فالحملت وقرا) هي السحاب
تحمل المطر. (فالجريت) هي السفن (يسرا) أي: جريا ذا يسر وسهولة.
(فالمقسمت أمرا) هي الملائكة تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها،
أو: تفعل التقسيم مأمورة بذلك، وهذا التفسير مروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (4)
وعن ابن عباس (5)، وعن مجاهد: تتولى الملائكة تقسيم أمر العباد: جبرئيل
للغلظة، وميكائيل للرحمة، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ، وقد
حملت على الكواكب السبعة (6).
أقسم سبحانه بهذه الأشياء لما تضمنته من الدلالة على وحدانيته وبديع
حكمته وكمال قدرته. وعنهم (عليهم السلام): " لا يجوز لأحد أن يقسم إلا بالله، وله عز
اسمه أن يقسم بما يشاء من خلقه " (7). وجواب القسم: (إنما توعدون)، و " ما "
موصولة أو مصدرية، والموعود: البعث (لصادق) أي: ذو صدق ك‍ (- عيشة
راضية) (8). و (الدين) الجزاء (لواقع) أي: حاصل كائن. و (الحبك)
الطرائق مثل حبك الرمل والماء: إذا ضربته الريح، وكذلك: حبك الشعر: آثار تثنيه
وتكسره، والدرع محبوكة لأن حلقها مطرق بطرائق، وعن الحسن: حبكها:

(1) في بعض النسخ: " السحاب ".
(2) الكهف: 45.
(3) أي التاء من (الذاريت) في الذال من (ذروا) وهي قراءة حمزة وأبي عمرو. راجع
التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 693.
(4) تفسير القمي: ج 2 ص 336، تفسير الطبري: ج 11 ص 442 - 443.
(5) تفسير ابن عباس: ص 440.
(6) تفسير مجاهد: ص 617.
(7) رواه الشيخ في التبيان: ج 9 ص 379 عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام).
(8) الحاقة: 21، القارعة: 7.
426

نجومها (1)، وعن علي (عليه السلام): حسنها وزينتها (2). ويجوز أن تكون النجوم تزينها
كما تزين الموشى طرائق الوشي، وهي جمع حباك، ك‍ " - مثال " و " مثل "، وحبيكة
ك‍ " طريقة ".
(إنكم لفي قول مختلف) هو قولهم في الرسول (عليه السلام): شاعر وساحر
ومجنون، وفي القرآن: إنه سحر وكهانة وأساطير الأولين، وعن قتادة: منكم مصدق
ومكذب، ومقر ومنكر (3).
(يؤفك عنه) الضمير للرسول أو القرآن، أي: يصرف عنه من صرف الصرف
الذي لا صرف أشد منه وأعظم، كقوله (عليه السلام): " لا يهلك على الله إلا هالك " (4).
وقيل: يصرف عنه من هو مصروف عن الخير في سابق علم الله (5). ويجوز أن
يكون الضمير ل‍ (- ما توعدون) ومعناه: يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو
المأفوك.
(قتل الخراصون) دعاء عليهم، وأصله: الدعاء بالقتل والهلاك، ثم أجري
مجرى: لعن وقبح، أي: لعن الكذابون المقدرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول
المختلف. واللام إشارة إليهم، كأنه قيل: قتل هؤلاء الخراصون (الذين هم في
غمرة) أي: جهل يغمرهم (ساهون) غافلون عما أمروا به. (يسئلون) فيقولون:
(أيان يوم الدين) أي: متى يوم الجزاء؟ ومعناه: أيان وقوع يوم الدين؟
(يوم هم على النار يفتنون) أي: يحرقون ويعذبون، ومنه: الفتين، وهي

(1) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 301.
(2) حكاه عنه (عليه السلام) الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 362.
(3) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 363.
(4) أخرجه أحمد في المسند: ج 1 ص 279 عن ابن عباس.
(5) حكاه السمرقندي في تفسيره: ج 3 ص 276.
427

الحرة لأن حجارتها كأنها محرقة، و (يوم) يجوز أن يكون مفتوحا لإضافته إلى
غير متمكن، فيكون محله رفعا على: هو يوم هم... يفتنون، أو: نصبا بفعل مضمر دل
عليه السؤال، أي: يقع في ذلك اليوم، ويجوز أن يكون منصوبا في الأصل بالمضمر
الذي هو " يقع ".
(ذوقوا فتنتكم) في محل الحال، أي: مقولا لهم هذا القول (هذا) مبتدأ
و (الذي) خبره، أي: هذا العذاب هو الذي (كنتم به تستعجلون).
(إن المتقين في جنت وعيون (15) ءاخذين مآ ءاتاهم ربهم إنهم
كانوا قبل ذا لك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17)
وبالاسحار هم يستغفرون (18) وفي أموا لهم حق للسآبل
والمحروم (19) وفي الأرض ءايت للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا
تبصرون (21) وفي السمآء رزقكم وما توعدون (22) فورب السمآء
والارض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون (23))
(ءاخذين) أي: قابلين ما أعطاهم (ربهم) من النعيم والكرامة، راضين به
(إنهم كانوا) في دار التكليف (محسنين) قد أحسنوا أعمالهم. وتفسير إحسانهم
ما بعده، و " ما " مزيدة أي: كانوا يهجعون في زمان قليل من الليل إن جعلت
(قليلا) ظرفا، ويجوز أن يكون صفة للمصدر أي: هجوعا قليلا. ويجوز أن يكون
" ما " مصدرية أو موصولة على: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، أو: ما يهجعون فيه
هجوعا، فيكون فاعل (قليلا) وفيه ضروب من المبالغة بلفظ: " الهجوع " وهو
الفرار من النوم، قال:
قد حصت البيضة رأسي فما * أطعم نوما غير تهجاع (1)

(1) لأبي قيس بن الأسلت من أبيات له في الفخر والحماسة يقول: قد حلقت البيضة - وهي
ما تلبس على الرأس في الحرب - شعر رأسي من دوام لبسها، والتهجاع: التغافل قليلا لطرد
النوم. راجع شرح شواهد الكشاف: ص 181.
428

وقوله: (قليلا) و (من الليل) وزيادة (ما) المؤكدة لذلك، أي: يحيون
الليل متهجدين فإذا سحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم،
وقوله: (هم يستغفرون) فيه: أنهم هم المختصون بالاستغفار لاستدامتهم له.
السائل: هو المستجدي، والمحروم: الذي يحسب غنيا فيحرمه الناس لتعففه.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان،
قالوا: فمن هو؟ قال: الذي لا يجد ولا يتصدق عليه (1). وقيل: هو المحارف الذي
لا ينمى له مال (2).
(وفي الأرض ءايت) دلالات دالة على الصانع وكمال قدرته وبدائع
حكمته بما فيها من السهل والجبل والبر والبحر، وأنواع النبات والأشجار، بالثمار
المختلف ألوانها وطعومها وروائحها، الموافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم
ومصالحهم، وما أنبت في أقطارها من أنواع الحيوان المختلفة الصور والأشكال،
وغير ذلك (للموقنين) الموحدين الناظرين المتأملين ببصائرهم.
(وفي أنفسكم) في مبتدأ أحوالها وتنقلها من حال إلى حال، وما ركب في
ظواهرها وبواطنها من عجائب الفطر وبدائع الحكم ما تحار فيه العقول، وحسبك
بالقلوب وما ذكر فيها من لطائف المعاني، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف،
وبالصور والطبائع والألوان واختلافها في كل إنسان، وبالأسماع والأبصار وسائر
الجوارح، وما رتب فيها من فنون الحكمة:

(1) أخرجه أحمد في المسند: ج 2 ص 393 و 457 عن أبي هريرة.
(2) قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك. راجع التبيان: ج 9 ص 384.
429

وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد (1)
(وفي السمآء رزقكم) وهو المطر لأنه سبب الأقوات (وما توعدون)
الجنة، أو أراد: ما ترزقونه في الدنيا وما توعدونه في العقبى، كله مقدر مكتوب في
السماء. (مثل مآ أنكم تنطقون) وقرئ: " مثل " بالرفع (2) صفة ل‍ (لحق) أي:
حق مثل نطقكم، وبالنصب على أنه: حق حقا مثل نطقكم، ويجوز أن يكون فتحا
لإضافته إلى غير متمكن. و (ما) مزيدة بنص الخليل (3) وهذا مثل قولهم: إن هذا
لحق كما أنك ترى وتسمع، ومثل ما أنك ها هنا، والضمير في (إنه) لما ذكر من
الآيات والرزق، أو: للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو: (لما توعدون) والمعنى: أنه في صدقه
وتحققه كالذي تعرفه ضرورة.
(هل أتلك حديث ضيف إبرا هيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه
فقالوا سلما قال سلم قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله ى فجآء بعجل
سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27) فأوجس منهم خيفة قالوا لا
تخف وبشروه بغلم عليم (28) فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها
وقالت عجوز عقيم (29) قالوا كذا لك قال ربك إنه هو الحكيم

(1) لأبي العتاهية من أبيات له قالها ردا على من رماه بالزندقة، وهي:
ألا إننا كلنا بائد * وأي بني آدم خالد
وبدؤهم كان من ربهم * وكل إلى ربه عائد
فيا عجبا كيف يعصى إلاله * أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة * وفي كل تسكينة شاهد
وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد
(2) قرأه حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 609.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 400.
430

العليم (30) قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنآ أرسلنآ إلى
قوم مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك
للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها
غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيهآ ءاية للذين يخافون العذاب
الأليم (37) وفي موسى إذ أرسلنه إلى فرعون بسلطن مبين (38)
فتولى بركنه ى وقال سحر أو مجنون (39) فأخذنه وجنوده فنبذنهم في
اليم وهو مليم (40))
(هل أتك) تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما
عرفه بالوحي، والضيف واحد وجمع، كالصوم والفطر، لأنه في الأصل مصدر ضافه،
سماهم ضيفا لأنهم كانوا في صور الضيف، حيث أضافهم إبراهيم (عليه السلام) وكانوا اثني
عشر ملكا، وقيل: ثمانية (1)، وقيل: ثلاثة (2) وإكرامهم: أن إبراهيم خدمهم بنفسه
وعجل لهم القرى (3)، أو: لأنهم عند الله مكرمون. (إذ دخلوا) نصب
ب‍ (المكرمين) إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم، وإلا فيما في " ضيف " من معنى الفعل
(سلما) مصدر سد مسد الفعل، وأصله: نسلم عليكم سلاما، و (سلم) على
معنى: عليكم سلام، عدل به إلى الرفع ليدل على ثبات السلام، كأنه أراد أن يحييهم
بأحسن مما حيوه به أخذا بأدب الله، وقرئ " سلم " (4) كما في سورة هود (5).

(1) قاله محمد بن كعب. راجع تفسير البغوي: ج 2 ص 392.
(2) قاله ابن عباس وعطاء. راجع المصدر السابق.
(3) قريت الضيف قرى وقراء: أحسنت إليه، إذا كسرت القاف قصرت، وإذا فتحت مددت.
(الصحاح: مادة قرا).
(4) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 337.
(5) الآية: 69.
431

(قوم منكرون) أي: قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نعرفهم.
(فراغ إلى أهله) فذهب إليهم في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن
يخفي أمره، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرا من أن يكفه،
وعن قتادة: كان عامة مال نبي الله إبراهيم البقر (فجاء بعجل) (1). والهمزة في
(ألا تأكلون) للإنكار، أنكر عليهم ترك الأكل أو: حثهم عليه. (فأوجس)
فأضمر. وعن ابن عباس: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب (2) (وبشروه
بغلم عليم) يكون عالما نبيا وهو إسحاق، وعن مجاهد: هو إسماعيل (3). (في
صرة) في صيحة، من: صر الجندب، وصر القلم والباب، وهو في محل الحال، أي:
جاءت صارة، وعن الحسن: أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، لأنها
وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء (4)، وقيل: فضربت بأطراف أصابعها
جبهتها فعل المتعجب (5) (وقالت عجوز) أي: أنا عجوز (عقيم) فكيف ألد؟!
قالوا: (كذلك) مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به (قال ربك) أي: إنما نخبرك عن
أمر الله، والله قادر على ما تستبعدين.
ولما علم إبراهيم أنهم رسل الله (قال فما خطبكم) أي: فما شأنكم وما
طلبكم؟ سماهم: " مسرفين " كما سماهم " عادين " لإسرافهم في الفواحش
وعدواتهم فيها. (فأخرجنا من كان فيها) أي: في قرى قوم لوط، ولم يجر لها ذكر
لكونها معلومة، وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام في الحقيقة واحد، وأنهما صفتا

(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 370.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 402.
(3) تفسير مجاهد: ص 619.
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 402.
(5) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 442.
432

مدح، والإيمان هو التصديق بما أوجب الله التصديق به، والإسلام هو الاستسلام
لما أوجبه الله وألزمه. والبيت: لوط وبنتاه، وصفهم الله بالإيمان والإسلام جميعا،
وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر (1). (وتركنا فيها ءاية) أي:
علامة يعتبر بها الخائفون دون الذين قست قلوبهم.
(وفي موسى) معطوف على (وفي الأرض ءايت). (فتولى بركنه) أي:
فأعرض فرعون بما كان يتقوى به من جنوده (وقال) هو (سحر). (وهو
مليم) حال من الضمير في (فأخذنه) أي: آت بما يلام عليه من الكفر والعتو.
(وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (41) ما تذر من شىء أتت
عليه إلا جعلته كالرميم (42) وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين (43)
فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصعقة وهم ينظرون (44) فما استطعوا
من قيام وما كانوا منتصرين (45) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما
فسقين (46) والسمآء بنينها بأييد وإنا لموسعون (47) والارض
فرشنها فنعم المهدون (48) ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم
تذكرون (49) ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين (50) ولا تجعلوا مع
الله إلها ءاخر إنى لكم منه نذير مبين (51) كذا لك مآ أتى الذين من
قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به ى بل هم قوم
طاغون (53) فتول عنهم فمآ أنت بملوم (54) وذكر فإن الذكرى تنفع
المؤمنين (55) ومآ خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) مآ أريد
منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 402.
433

المتين (58) فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحبهم فلا
يستعجلون (59) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون (60))
(العقيم) التي عقمت عن أن تأتي بخير من إنشاء سحاب أو إلقاح شجر أو
منفعة، إذ هي ريح الهلاك. (كالرميم) كالشيء البالي المتفتت من العظم والنبات
أو غير ذلك. (تمتعوا حتى حين) تفسيره قوله: (تمتعوا في داركم ثلثة أيام) (1)
(فأخذتهم الصعقة) بعد مضي الأيام الثلاثة، وقرئ: " الصعقة " (2) وهي المرة
من: صعقتهم الصاعقة (وهم ينظرون) إليها جهارا. (فما استطعوا من قيام)
كقوله: (فأصبحوا في ديرهم جثمين) (3) أي: لم ينهضوا من تلك الصرعة (وما
كانوا منتصرين) أي: ممتنعين من العذاب. (قوم نوح) على معنى: وأهلكنا قوم
نوح، لأن ما قبله يدل عليه (من قبل) عاد وثمود.
(و) بنينا (السمآء بنينها) أي: رفعنا بناءها (بأييد) بقوة، والأيد والآد:
القوة (وإنا لموسعون) لقادرون، من الوسع وهو الطاقة، وعن الحسن: لموسعون
الرزق على الخلق بالمطر (4). (فرشنها) أي: بسطناها (فنعم المهدون) نحن إذ
فعلنا ذلك لمنافع الخلق لا لجر نفع أو دفع ضرر. (ومن كل شىء) من الحيوان
(خلقنا زوجين) ذكرا وأنثى، وعن الحسن: السماء والأرض، والليل والنهار،
والبر والبحر، والشمس والقمر، وعدد أشياء وقال: كل اثنين منها زوج، والله جل
جلاله فرد لا مثل له (5). (لعلكم تذكرون) أي: فعلنا ذلك كله من: بناء السماء
وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه.

(1) هود: 65.
(2) قرأه الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 609.
(3) هود: 67 و 94.
(4) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 304.
(5) حكاه عند الطبري في تفسيره: ج 11 ص 473.
434

(ففروا إلى الله) أي: طاعة الله وثوابه من معصيته وعقابه بتوحيده
وإخلاص العبادة له. وكرر قوله: (إنى لكم منه نذير مبين) عند الأمر بالطاعة
والنهي عن الشرك، ليعلم أن العلم والعمل مقترنان، وبالجمع بينهما يفوز الإنسان.
(كذلك) أي: الأمر مثل ذلك، و " ذلك " إشارة إلى تكذيبهم الرسول وقولهم:
هو (ساحر أو مجنون)، وقوله: (مآ أتى) تفسير لما أجمل.
(أتواصوا به) الضمير للقول، والمعنى: أتواصى الأولون والآخرون بهذا
القول حتى قالوه جميعا متفقين عليه (بل هم قوم طاغون) أي: لم يتواصوا به
لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد (بل) جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان
حملهم عليه.
(فتول عنهم) فأعرض عمن دعوتهم فلم يجيبوا، فلا لوم في إعراضك عنهم
بعدما بلغت الرسالة وبذلت وسعك في الدعوة والإبلاغ. (وذكر) ولا تدع التذكير
والموعظة (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذين يعرفون الله ويوحدونه. وعن
علي (عليه السلام) أنه لما نزل: (فتول عنهم) اشتد ذلك علينا، فلما نزل: (وذكر) طابت
نفوسنا (1).
المعنى (وما خلقت الجن والإنس إلا) لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم
إلا إياها، والغرض في خلقهم تعريضهم للثواب، وذلك لا يحصل إلا بأداء
العبادات. (مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون) أي: لا أستعين بهم في
تحصيل أرزاقهم ومعايشهم بل أتفضل عليهم برزقهم وبما يصلحهم، وما أريد أن
يطعموا أحدا من خلقي، وإنما أسند إلى نفسه لأن الخلق كلهم عياله، ومن أطعم

(1) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 624 وعزاه إلى ابن راهويه وأحمد بن منيع
والهيثم بن كليب وابن جرير وغيرهم.
435

عيال أحد فكأنما أطعمه. (إن الله هو الرزاق) لعباده وللخلائق كلهم، فلا يحتاج
إلى معين (ذو القوة) الذي لا يتطرق إليه العجز والضعف (المتين) الشديد
القوة، البليغ الاقتدار على كل شيء، يقال: متن متانة فهو متين.
والذنوب: الدلو العظيم، وهذا تمثيل، وأصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون
لهذا ذنوب ولهذا ذنوب، قال:
لنا ذنوب ولكم ذنوب * فإن أبيتم فلنا القليب (1)
والمعنى: (فإن للذين ظلموا) بتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصيبا من عذاب الله
(مثل) نصيب (أصحبهم) ونظرائهم من القرون المهلكة (فلا يستعجلون)
بإنزال العذاب فإنهم لا يفوتونني. (من يومهم الذي يوعدون) هو يوم القيامة.
* * *

(1) لم نعثر على قائله. والقليب: البئر، يقول: إنا كرام نشاطر شريبنا، فإن أبى ولم يرض إلا
البغي قلنا له ذلك. راجع شرح شواهد الكشاف: ص 92.
436

سورة الطور
مكية (1)، آياتها تسع وأربعون آية كوفي، ثمان بصري، (دعا) (2) كوفي.
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة الطور كان حقا على الله عز وجل أن يؤمنه
من عذابه، وأن ينعمه في جنته " (3).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة الطور جمع الله له خير الدنيا والآخرة " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والطور (1) وكتب مسطور (2) في رق منشور (3) وا لبيت
المعمور (4) والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6) إن عذاب ربك
لواقع (7) ما له من دافع (8) يوم تمور السمآء مورا (9) وتسير الجبال
سيرا (10) فويل يومئذ للمكذبين (11) الذين هم في خوض يلعبون (12)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 401: مكية بلا خلاف وهي تسع وأربعون آية في
الكوفي، وثمان في البصري، وسبع في المدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 408: مكية، وهي تسع وأربعون، وقيل: ثمان وأربعون آية، نزلت
بعد السجدة.
(2) الآية: 13.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 415 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 143.
437

يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه ى النار التى كنتم بها
تكذبون (14) أفسحر هذآ أم أنتم لا تبصرون (15) اصلوها فاصبروا
أو لا تصبروا سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون (16))
أقسم سبحانه بالجبل الذي كلم عليه موسى بالأرض المقدسة. (وكتب
مسطور) مكتوب (في رق منشور) والرق: الصحيفة، وقيل: هو التوراة (1)
وقيل: هو صحائف الأعمال (2) وقيل: هو القرآن مكتوب عند الله في اللوح
المحفوظ (3). ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب، كقوله: (ونفس
وما سولها) (4).
(والبيت المعمور) هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة تعمره الملائكة
بالعبادة. وعن علي (عليه السلام): يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه
أبدا (5). وروي: أن اسمه الضراح (6). وقيل: هو الكعبة لكونها معمورة بالحجاج
والعمار (7).
(والسقف المرفوع) السماء (والبحر المسجور) المملوء، وقيل: هو
الموقد المحمى (8)، من قوله: (وإذا البحار سجرت) (9).

(1) قاله الكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 236.
(2) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 91.
(3) وهو قول الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 377.
(4) الشمس: 7.
(5) رواه عنه (عليه السلام) الطبري في تفسيره: ج 11 ص 480 و 481 من طرق عن خالد بن عرعرة.
(6) رواه الطبري أيضا بسنده عن علي (عليه السلام). راجع المصدر السابق.
(7) قاله الحسن في تفسيره: ج 2 ص 305.
(8) وهو قول علي (عليه السلام) وشمر بن عطية ومجاهد وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 11
ص 482 - 483.
(9) التكوير: 6.
438

(لوقع) لنازل. (يوم تمور السمآء) ظرف ل‍ (وقع)، ومعنى (تمور):
تضطرب وتجيء وتذهب وتستدبر. (وتسير الجبال) وتزول عن أماكنها حتى
تستوي الأرض.
(فويل) في ذلك اليوم لمن كذب الله ورسوله. والخوض: الاندفاع في
الباطل. (يوم يدعون) أي: يدفعون دفعا بعنف وجفوة، وذلك أن خزنة النار
يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار
دفعا على وجوههم، وزخا (1) في أقفيتهم، يقال لهم: (هذه النار)، (أفسحر
هذآ) معناه: أنكم كنتم تقولون للوحي: هذا سحر، أفسحر هذا؟ والمراد: أهذا
المصداق أيضا سحر؟ وإنما دخلته الفاء لهذا المعنى (أم أنتم لا تبصرون) كما
كنتم لا تبصرون في الدنيا؟ أي: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن
الخبر؟ والصلي: لزوم النار، يقال: صلي يصلى صليا، أي: ألزموها (سوآء عليكم)
الصبر وعدمه.
(إن المتقين في جنت ونعيم (17) فكهين بمآ ءاتاهم ربهم
ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيا بما كنتم
تعملون (19) متكين على سرر مصفوفة وزوجنهم بحور عين (20)
والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمن ألحقنا بهم ذريتهم ومآ ألتنهم
من عملهم من شىء كل امرئ بما كسب رهين (21) وأمددنهم بفكهة
ولحم مما يشتهون (22) يتنزعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23)
ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24) وأقبل بعضهم على

(1) زخه: أي دفعه في وهدة (الصحاح).
439

بعض يتسآءلون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله
علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر
الرحيم (28) فذكر فمآ أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون (29) أم
يقولون شاعر نتربص به ى ريب المنون (30) قل تربصوا فإنى معكم من
المتربصين (31) أم تأمرهم أحلمهم بهذآ أم هم قوم طاغون (32))
(في جنت) أي: في أية جنات (و) أي (نعيم)، أو: في جنات مخصوصة
خلقت لهم خاصة ونعيم اختص بهم. وقرئ: (فكهين)، و " فكهين " (1) وهو
منصوب على الحال، أي: متلذذين (بما ءاتاهم ربهم)، (ووقهم ربهم عذاب
الجحيم) يجوز أن يكون الواو للحال و " قد " مضمرة، ويجوز أن تعطفه على
(ءاتاهم) إذا جعلت " ما " مصدرية، فيكون المعنى: فاكهين بإيتائهم ربهم
ووقايتهم العذاب.
يقال لهم: (كلوا واشربوا) أكلا وشربا (هنيئا)، أو: طعاما وشرابا هنيئا لا
تنغيص فيه. (وزوجنهم) أي: قرناهم (بحور) نقيات البياض في حسن وكمال
(عين) واسعة العيون في صفاء وبهاء.
(والذين ءامنوا) عطف على (حور عين) أي: وبالذين آمنوا، أي: بالرفقاء
والجلساء منهم، فيتمتعون تارة بملاعبة الحور العين، وتارة بمؤانسة الإخوان.
وقرئ: (واتبعتهم ذريتهم)، و " ذرياتهم " (2)، و " أتبعناهم ذرياتهم " (3)، وقرئ:
(ألحقنا بهم ذريتهم) و " ذرياتهم " (4).

(1) قرأه الحسن. راجع تفسير القرطبي: ج 17 ص 65.
(2) قرأه ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 612.
(3) وهي قراءة أبي عمرو. راجع المصدر السابق.
(4) وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو. راجع المصدر نفسه.
440

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة " وقرأ هذه الآية (1).
فالمعنى: أن الله سبحانه يجمع لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم،
وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين المتقابلين، وباجتماع
أولادهم ونسلهم معهم، ثم قال: (بإيمن) أي: بسبب الإيمان الرفيع المحل، وهو
إيمان الآباء، ألحقنا بدرجاتهم ذرياتهم وإن كانوا لا يستأهلونها؛ تفضلا عليهم
وعلى آبائهم، ليتم سرورهم وتقر بهم عيونهم (وما ألتنهم) وما نقصناهم (من
عملهم) من ثواب عملهم (من شىء)، وقيل: معناه: ما نقصناهم من ثواب عملهم
شيئا نعطيه الأبناء بل ألحقناهم بهم على سبيل التفضل (2)، وقرئ: " ما ألتناهم "
بكسر اللام (3)، من: ألت يألت، ويكون لغة في: ألت يألت (كل امرئ بما كسب
رهين) أي: مرهون، والمعنى: كل نفس رهين عند الله بالعمل الصالح الذي هو
مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فكها وخلصها
وإلا أوبقها.
(وأمددناهم) أي: وزدناهم حالا بعد حال بما يشتهونه من (فكهة
ولحم). (يتنازعون) يتعاطون (4) ويتعاورون (كأسا) خمرا " لا لغو " (5)
في شربها " ولا تأثيم " أي: لا يتكلمون في أثناء شربها بالكلام الذي لا طائل فيه،
ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله، أي: ينسب إلى الإثم من الكذب والفواحش،

(1) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 633. وعزاه إلى عبد الله بن أحمد في زوائد
المسند عن علي (عليه السلام).
(2) قاله ابن عباس. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 382.
(3) قرأه ابن كثير. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 612.
(4) في نسخة: " يتعاملون ".
(5) الظاهر أن المصنف رحمه الله قد اعتمد هنا على قراءة النصب تبعا لصاحب الكشاف، وهي
القراءة المروية عن ابن كثير وأبي عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 612.
441

وإنما يتكلمون بالحكمة والكلام الحسن لأنهم حكماء علماء، وقرئ: (لا لغو
ولا تأثيم) بالرفع.
(غلمان لهم) مملوكون لهم مخصوصون بهم (كأنهم لؤلؤ مكنون) في
الصدف لأنه رطب صاف، أو: مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين النفيس.
وسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال صلوات الله عليه وآله:
" والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر
الكواكب " (1).
(يتسآءلون) أي: يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا عن أحواله وعما استوجب
به ذلك. (مشفقين) أي: أرقاء القلوب من خشية الله. (عذاب السموم) عذاب
النار ولفحها، والسموم: الريح الحارة التي تدخل المسام، فسميت بها نار جهنم.
(إنا كنا من قبل) لقاء الله والمصير إليه أي: في الدنيا (ندعوه) أي: ندعو الله
ونوحده ونعبده (إنه هو البر) المحسن (الرحيم) الكثير الرحمة، وقرئ: " أنه "
بالفتح (2) بمعنى: " لأنه ".
(فذكر) يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أي: فاثبت على تذكير الناس ووعظهم، ولا تترك
دعوتهم وإن أساؤوا القول فيك فإنه قول باطل، و (مآ أنت) بحمد الله وإنعامه
عليك (بكاهن ولا مجنون) كما يقولون، بل أنت نبي صادق.
وريب المنون: حوادث الدهر، وقيل: المنون: الموت (3)، فعول من " منه "
إذا قطعه، كما سموه شعوب، قالوا: ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله

(1) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره: ج 11 ص 492 عن قتادة.
(2) قرأه نافع والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 613.
(3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 444.
442

من الشعراء (فإنى معكم من المتربصين) أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي.
(أحلمهم) بهذا التناقض في القول وهو قولهم: كاهن وشاعر مع قولهم:
مجنون. وكانت قريش يدعون أهل النهى والأحلام (أم هم قوم طاغون)
مجاوزون الحد في العناد (1)، حملهم طغيانهم وعنادهم على تكذيبك مع ظهور
الحق لهم.
(أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث مثله ى إن كانوا
صدقين (34) أم خلقوا من غير شىء أم هم الخلقون (35) أم خلقوا
السموات والارض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزآبن ربك أم هم
المصيطرون (37) أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطن
مبين (38) أم له البنت ولكم البنون (39) أم تسلهم أجرا فهم من
مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا
فالذين كفروا هم المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحن الله عما
يشركون (43) وإن يروا كسفا من السمآء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44)
فذرهم حتى يلقوا يومهم الذي فيه يصعقون (45) يوم لا يغنى عنهم
كيدهم شيا ولا هم ينصرون (46) وإن للذين ظلموا عذابا دون ذا لك
ولكن أكثرهم لا يعلمون (47) واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح
بحمد ربك حين تقوم (48) ومن الليل فسبحه وإدبر النجوم (49))
أي: افتعله واختلقه من تلقاء نفسه، والضمير للقرآن (بل لا يؤمنون)
ولعنادهم وكفرهم يقولون ذلك مع علمهم بأنه ليس بمتقول. (فليأتوا بحديث)

(1) في نسخة: " الفساد ".
443

مثل القرآن في نظمه وفصاحته (إن كانوا صدقين)، وإذا لم يقدروا على الإتيان
بمثله - وما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا واحد منهم - فليعلموا أنه لم يتقوله، بل أ (خلقوا) أي:
أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم (من غير شىء) من غير مقدر (أم
هم) الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق (بل لا يوقنون) وهم شاكون
فيما يقولونه، وقيل: أخلقوا باطلا من أجل غير شيء من جزاء و (1) حساب؟ (2)
بل أ (عندهم خزآئن) الرزق فيرزقوا النبوة من شاؤوا؟ أو: عندهم خزائن علمه
حتى يختاروا لها من اختياره حكمة وصلاح؟ " أم هم المسيطرون " (3) الأرباب
المسلطون على الناس حتى يدبروا أمر الربوبية؟ وقرئ: (المصيطرون) بالصاد.
(سلم) أي: مرقى ومصعد منصوب إلى السماء (يستمعون فيه) إلى كلام
الملائكة، فوثقوا بما هم عليه وردوا ما سواه (بسلطن مبين) بحجة واضحة
تصدق استماع مستمعهم. (أم له البنت ولكم البنون) وهذا تسفيه لأحلامهم،
حيث أضافوا إلى الله تعالى ما أنفوا منه، وهذا غاية في جهلهم إذ جوزوا عليه الولد
ثم ادعوا أنه اختار الأدون على الأعلى.
(أم تسئلهم أجرا) على ما جئتهم به من الدين (فهم من) جهة (مغرم)
فدحهم (4) (مثقلون) أثقلهم ذلك المغرم الذي سألتهم فزهدهم في اتباعك. (أم
عندهم الغيب) أي: اللوح المحفوظ (فهم يكتبون) ما فيه حتى قالوا: لا نبعث
ولا نعذب.
(أم يريدون كيدا) وهو كيدهم في دار الندوة (فالذين كفروا هم) الذين

(1) في نسخة: " أو " بدل الواو.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 65.
(3) الظاهر أن المصنف اعتمدها على قراءة السين دون الصاد التي هي قراءة الجمهور إلا ابن
عامر برواية الحلواني والكسائي برواية الفراء عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 613.
(4) يقال: فدحه الدين أي: أثقله، وأمر فادح: إذا عاله وبهظه. (الصحاح).
444

يعود عليهم وبال كيدهم، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر، و (المكيدون): المغلوبون في
الكيد، من: كايدته فكدته. (وإن يروا كسفا) أي: قطعة (من السمآء ساقطا)
لقالوا (هذا سحاب مركوم) بعضه فوق بعض " يصعقون " (1) أي: يموتون، وقرئ
(يصعقون) من: صعقته فصعق وأصعقته لغة، وذلك عند النفخة الأولى.
(وإن) لهؤلاء الظلمة (عذابا دون ذلك) دون يوم القيامة وهو القتل يوم
بدر، والقحط سبع سنين، أو عذاب القبر.
(لحكم ربك) بإمهالهم وما يلحقك فيه من الكلفة والمشقة (فإنك بأعيننا)
مثل أي بحيث نراك ونكلؤك، وجمع " العين " لأن الضمير ضمير الجمع، وقال في
موضع آخر: (ولتصنع على عينى) (2)، (وسبح بحمد ربك حين تقوم) من أي
مكان قمت فيه، وقيل: من منامك (3)، وقيل: واذكر الله حين تقوم إلى الصلاة
المفروضة إلى أن تدخل في الصلاة (4). (ومن الليل فسبحه) يعني: صلاة الليل
إذا قام من النوم (وإدبر النجوم) يعني: ركعتي الفجر قبل الفريضة (5)، وقيل: هي
الفريضة (6)، أي: حين تدبر النجوم وتغيب بضوء الصبح، وقرئ: " وأدبار " (7) بفتح
الهمزة، مثل: أعقاب النجوم.
* * *

(1) يظهر من المصنف هنا أنه اعتمد على قراءة فتح الياء على البناء للفاعل تبعا للزمخشري
في الكشاف، وهي قراءة الجمهور إلا عاصما وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات
لابن مجاهد: ص 613.
(2) طه: 39.
(3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 445.
(4) قاله الكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 243.
(5) وهو قول ابن عباس وقتادة وعائشة والمروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام). راجع تفسير
الطبري: ج 11 ص 501.
(6) قاله الضحاك وابن زيد. راجع المصدر السابق.
(7) وهي قراءة الأعمش. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 147.
445

سورة النجم
مكية (1) اثنتان وستون آية كوفي (2)، وآية غيرهم، (من الحق شيئا) (3)
كوفي.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد
من صدق بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وجحد به " (4).
وعن الصادق (عليه السلام): " من كان يدمن قراءة (والنجم) في كل يوم أو ليلة
عاش محمودا بين الناس محببا " (5).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 420: هي مكية، وهي اثنتان وستون آية في
الكوفي، وستون في البصري والمدنيين.
وفي تفسير الماوردي: ج 5 ص 389: مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر،
وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي (الذين يجتنبون كبائر الإثم) الآية.
وفي الكشاف: ج 4 ص 416: مكية إلا آية (32) فمدنية، وآياتها (62) وقيل: (61) آية،
نزلت بعد الإخلاص.
(2) في بعض النسخ: " مكية وعن الحسن مدنية، ستون وآيتان كوفي... ".
(3) الآية: 28.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 430 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 143 وفيه بعد " الناس ": " وكان مغفورا له، وكان محبوبا بين
الناس "، وليس فيه: " محببا ".
447

بسم الله الرحمن الرحيم
(والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن
الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى (4) علمه شديد القوى (5) ذو مرة
فاستوى (6) وهو بالأفق الاعلى (7) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين
أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده ى مآ أوحى (10) ما كذب الفؤاد ما رأى (11)
أفتمرونه على ما يرى (12) ولقد رءاه نزلة أخرى (13) عند سدرة
المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16)
ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من ءايت ربه الكبرى (18))
النجم: الثريا، اسم غالب لها، قال:
فوردن والعيوق مقعد رابئ * الضرباء فوق النجم لا يتتلع (1)
أو: جنس النجوم (إذا هوى) إذا غرب أو انتثر يوم القيامة، أو: النجم الذي
يرجم به إذا انقض، أو: النجم من نجوم القرآن وقد نزل منجما في نيف وعشرين
سنة (إذا هوى) إذا نزل: (ما ضل صاحبكم) يعني: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والخطاب
لقريش، وهو جواب القسم، أي: هو هاد مهتد راشد مرشد، وليس كما زعمتم في
نسبتكم إياه إلى الضلال والغي. وما آتاكم به من الدين والقرآن ليس بمنطق صادر
عن رأيه وهواه. ما (هو إلا وحى) من عند الله (يوحى) إليه.
(علمه) ملك (شديد القوى) أي: شديد قواه، وهو جبرئيل (عليه السلام)،
والإضافة لفظية لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها. (ذو مرة) ذو حصافة في

(1) لأبي ذؤيب خويلد بن خالد بن محرث الهذلي من قصيدة في رثاء سبعة أبناء له ماتوا في
يوم واحد. أنظر جمهرة أشعار العرب: ص 313 فصل المراثي.
448

عقله ورأيه، ومتانة في دينه، وصحة في جسمه (فاستوى) فاستقام على صورة
نفسه الحقيقية دون الصور التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان يأتيه في
صورة الآدميين، فأحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يراه في صورته التي جبل عليها
فاستوى له. (وهو بالأفق الأعلى) يعني: أفق الشمس فملأ الأفق، وقيل: ما رآه
أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رآه مرتين: مرة في الأرض
ومرة في السماء (1).
(ثم دنا) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (فتدلى) فتعلق عليه في الهواء، وهو مثل
في القرب. (فكان قاب قوسين) مقدار قوسين، والقاب والقيب والقاد والقيد
والقاس والقيس: المقدار، وأصله: فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين،
فحذفت هذه المضافات، كما قال الشاعر:
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا (2)
أي: ذا مقدار مسافة إصبع أو أدنى من ذلك. (فأوحى إلى عبده) الضمير لله،
وإن لم يجر ذكر لاسمه سبحانه لأنه لا يلتبس (مآ أوحى) تفخيم للوحي الذي
أوحي إليه، و " ما " مصدرية، ويجوز أن يكون موصولة، وقيل: فأوحى جبرائيل
إلى عبد الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أوحى الله إليه (3)، وقيل: أوحى إليه أن الجنة محرمة
على الأنبياء حتى تدخلها أنت، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك (4).
(ما كذب) فؤاد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رآه ببصره من صورة جبرائيل (عليه السلام)، أي:

(1) وهو قول ابن مسعود. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 392.
(2) وصدره: فأدرك إبقاء العرادة ظلعها. للكلحبة العريني من أبيات يفخر بها على بني تغلب
ورئيسهم حزيمة بن طارق، والعرادة: اسم فرس الكلحبة. راجع خزانة الأدب للبغدادي: ج
1 ص 388 و ج 4 ص 401.
(3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 446.
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 420.
449

ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه، يعني: أنه رآه
بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أنه حق، وقرئ: " ما كذب " (1) أي: صدقه ولم
يشك أنه جبرائيل بصورته.
(أفتمرونه) من المراء وهو الجدال والملاحاة، واشتقاقه من: " مرى
الناقة "، كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه، وقرئ:
" أفتمرونه " (2) من: ماريته فمريته، أي: أفتغلبونه في المراء؟ ولذلك عدي
ب‍ " على "، كما تقول: غلبته على كذا. وقيل: أفتمرونه: أفتجحدونه؟ (3)
(ولقد رءاه) يعني: رأى جبرئيل (عليه السلام) (نزلة أخرى) يعني: مرة أخرى، من
النزول، أي: نازلا عليه من السماء نزلة أخرى في صورة نفسه. (عند سدرة
المنتهى) وهي شجرة نبق عن يمين العرش فوق السماء السابعة، ثمرها كقلال
هجر (4)، وورقها كآذان الفيول، يسير الركب في ظلها سبعين عاما. والمنتهى:
موضع الانتهاء ولم يجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم، لا يعلم
أحد ما وراءها، وقيل: ينتهي إليها أرواح الشهداء (5)، وقيل: هي شجرة طوبى
كأنها في منتهى الجنة (6). (عندها جنة المأوى) وهي جنة الخلد يصير إليها
المتقون، وقيل: يأوي إليها أرواح الشهداء (7)، وعن علي (عليه السلام) وأبي الدرداء: " جنه

(1) قرأه هشام وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 697.
(2) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 614.
(3) وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 72.
(4) القلال: جمع قلة وهي الجرة الكبيرة. وهجر: قرية قريبة من المدينة كانت تعمل بها القلال.
لسان العرب: مادة " قلل ".
(5) قاله الربيع بن أنس. راجع تفسير القرطبي: ج 17 ص 95.
(6) قاله مقاتل. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 248.
(7) قاله مقاتل والكلبي. راجع المصدر السابق.
450

المأوى " بالهاء (1)، وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام)، ومعناه: ستره بظلاله ودخل فيه.
(إذ يغشى السدرة) من النور والبهاء (ما يغشى) مما لا يكتنهه الوصف،
وقيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة (2).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله عز
وجل " (3).
ومعناه: أنه رأى جبرئيل على صورته ليلة المعراج في الحال التي غشي
السدرة فيها ما غشيه (4) من الخلائق الدالة على جلال الله وعظمته. (ما زاغ)
بصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وما طغى) أي: أثبت ما رآه إثباتا صحيحا من غير أن
يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه، أو: ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها، وما
جاوز الحد الذي حد له. (لقد رأى) أي: والله لقد رأى (من ءايت ربه) التي
هي كبراها وعظماها حين عرج به إلى السماء فأري عجائب الملكوت. و " من "
للتبعيض لأنها كانت بعض آيات الله.
(أفرءيتم اللت والعزى (19) ومنواة الثالثة الاخرى (20) ألكم
الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هى إلا أسمآء
سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطن إن يتبعون إلا الظن
وما تهوى الأنفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى (23) أم للانسن
ما تمنى (24) فلله الأخرة والاولى (25) وكم من ملك في السموات لا
تغنى شفعتهم شيا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى (26)

(1) حكاه عنهما ابن جني في المحتسب: ج 2 ص 293.
(2) قاله مقاتل. راجع تفسير البغوي المتقدم.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 518 عن ابن زيد.
(4) كذا في النسخ، والظاهر أن الصحيح " ما غشيها ".
451

إن الذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمون الملئكة تسمية الأنثى (27) وما
لهم به ى من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق
شيا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة
الدنيا (29) ذا لك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ى
وهو أعلم بمن اهتدى (30))
ثم خاطب سبحانه المشركين فقال: (أفرءيتم) أيها الزاعمون أن (اللت
والعزى ومنوة) آلهة؟ وهي مؤنثات، فاللات كانت لثقيف بالطائف، وقيل: كانت
بنخلة يعبدها قريش (1)، والعزى كانت لغطفان، ومناة كانت لهذيل وخزاعة. وقيل:
هن أصنام من حجارة كانت في الكعبة يعبدونها (2)، و (الأخرى) صفة
ل‍ (منوة)، وهي ذم، أي: المتأخرة الوضيعة المقدار، ويمكن أن تكون الأولية
والتقدم عندهم اللات والعزى.
وكانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، فقيل لهم: (ألكم الذكر
وله الأنثى)، ويمكن أن يراد: أن الأصنام الثلاثة إناث وقد جعلتموهن شركاء لله،
وقد استنكفتم من أن يولد لكم الإناث وينسبن إليكم، فكيف سميتم الإناث آلهة
وأنتم قوم لو خيرتم لاخترتم الذكور؟! (تلك إذا قسمة ضيزى) جائرة غير
معتدلة، من: ضازه يضيزه إذا ضامه، والأصل: " ضوزى " ففعل بها ما فعل
ب‍ " بيض " و " عين " لتسلم الياء، وقرئ بالهمزة (3) من: ضأزه.
و (هى) ضمير الأصنام، والمعنى: ما (هى إلا أسمآء) ليس تحتها في

(1) قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 520.
(2) حكاه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 521 ونسبه إلى بعض أهل البصرة.
(3) قرأه ابن كثير وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 615.
452

الحقيقة مسميات، لأنكم تسمون آلهة ما هو أبعد شيء منها، أو: ضمير اللات
والعزى ومناة، أي: ما هذه الأسماء التي سميتموها بهواكم وزعمتم أن اللات من
" الله " والعزى من " العزيز "، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان
تتمسكون به، يقال: سميته زيدا وبزيد (إن يتبعون إلا الظن) إلا توهم أن ما هم
عليه حق، وما تهواه أنفسهم، ويتركون ما جاءهم من (الهدى) والأدلة على أن
ما هم عليه باطل.
(أم للانسن ما تمنى) هي " أم " المنقطعة، والهمزة للإنكار، أي: ليس
للإنسان ما تمنى من نعيم الدنيا والآخرة، بل يفعله تعالى بحسب المصلحة. (فلله
الآخرة والأولى) يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء، يعني: أن الملائكة مع
كثرتهم وقربهم ومنزلتهم من الله (لا تغنى شفعتهم) عن أحد (شيئا إلا) بعد
(أن يأذن الله) لهم في الشفاعة إليه (لمن يشآء ويرضى) لهم أن يشفعوا فيه من
أهل الإيمان والتوحيد، فكيف تشفع الأصنام إليه لعابديهم؟!
(يسمون الملئكة تسمية الأنثى) بقولهم: إن الملائكة بنات الله. (وما لهم
به) أي: بما يقولون (من علم)، (وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا) لأن حقيقة
الشيء إنما تدرك بالعلم والتيقن لا بالظن والتوهم.
(فأعرض عن) دعوة (من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا)
ومنافعها ولذاتها. (ذلك مبلغهم من العلم) أي: ذلك منتهى علمهم، وهو مبلغ
خسيس لا يرضى به لنفسه عاقل (إن ربك هو أعلم) بالضال والمهتدي
فيجازيهما على حسب ما يستحقانه.
(ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزى الذين أسوا بما
عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى (31) الذين يجتنبون كبائر الإثم
453

والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من
الارض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم
بمن اتقى (32) أفرءيت الذي تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34)
أعنده علم الغيب فهو يرى (35) أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36)
وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس
للانسن إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزآء
الأوفى (41))
تعلق قوله: (ليجزى) بما قبله، لأن المعنى: أنه سبحانه إنما خلق (ما في
السموات وما في الأرض) لهذا الغرض، وهو أن يجازي المسيئين والمحسنين
بالإساءة والإحسان، أو: يتعلق بقوله: (هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم
بمن اهتدى) لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدي جزاؤهما بأعمالهما، ومعنى
(الحسنى): المثوبة الحسنى، وهي الجنة. ويجوز أن يريد بسبب ما عملوا من
السوء وبسبب الأعمال الحسنى.
(الذين يجتنبون كبائر الاثم) أي: عظائم الذنوب (والفوحش) جمع
الفاحشة، وقرئ: " كبير الإثم " (1) أي: النوع الكبير منه، (إلا اللمم) وهو ما قل
منه، ومنه اللمم: المس من الجنون، وألم الرجل بالمكان: إذا قل فيه لبثه، وألم
بالطعام: إذا قل منه أكله، وهو استثناء منقطع أو صفة، كأنه قال: كبائر الإثم غير
اللمم، وقيل: هو النظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا من الذنوب (2)،

(1) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 615.
(2) قاله ابن عباس وابن مسعود وأبو هريرة ومسروق والشعبي. راجع تفسير الطبري: ج 11
ص 526 و 527.
454

وعن السدي: الخطرة من الذنب (1)، وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا
ولا عقابا (2) (إن ربك واسع المغفرة) تسع مغفرته الذنوب ولا يضيق عنها حين،
(أنشأكم) أي: أنشأ أباكم آدم (من) أديم (الأرض) وفي وقت كونكم (أجنة)
في الأرحام، فهو يعلم ميل طباعكم إلى اللمم (فلا تزكوا أنفسكم) فلا تنسبوها
إلى الزكاة والطهارة من المعاصي، ولا تثنوا عليها فقد علم الله الزكي منكم والتقي
أولا وآخرا، وقيل: كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وزكاتنا
وصيامنا وعباداتنا... فنزلت (3)، وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء.
روي (4): أن عثمان كان يعطي ماله، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو
أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء، فقال له عثمان: إن لي ذنوبا
وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله، فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا
أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء، فنزلت:
(أفرءيت الذي تولى) عن الخير (وأعطى قليلا وأكدى) وقطع عطيته وأمسك،
وأصله من: أكدى الحافر إذا بلغ الكدية، وهي صلابة كالصخرة إذا بلغ الحافر إليها
يئس من الماء فأمسك عن الحفر. (أعنده علم الغيب) أي: ما غاب عنه من أمر
العذاب (فهو يرى) أي: يعلم أن ما قاله له أخوه من احتمال أوزاره حق؟ ألم
يخبر (بما في صحف موسى) من أسفار التوراة (و) في صحف (إبرهيم الذي
وفى) أي: تمم ووفر ما أمر به، وإنما أطلق ليتناول كل توفية من: تبليغ الرسالة،

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 426.
(2) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 352.
(3) وهو قول الكلبي ومقاتل. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 253.
(4) رواه ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب بن شريك كما في أسباب النزول للواحدي:
ص 338 ح 822.
455

والصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود... وغير ذلك من قيامه بالأوامر، وعن
الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفى به (1). (أن لا تزر) هي المخففة من الثقيلة،
والمعنى: أنه لا تزر، والضمير للشأن، ومحل " أن " وما في حيزها الجر بدلا من
(ما في صحف موسى)، أو: الرفع على: هو أن لا تزر، كأن قائلا قال: وما في
صحف موسى وإبراهيم؟ فقال: أن لا تزر، (وأن ليس للإنسن إلا) سعيه، و " ما "
مصدرية.
وأما ما جاء في الأخبار من الصدقة عن الميت والحج عنه والصلاة فإن ذلك
وإن كان سعي غيره فكأنه سعي نفسه لكونه قائما مقامه وتابعا له، فهو بحكم
الشريعة كالوكيل النائب عنه. (ثم يجزله الجزآء الأوفى) أي: ثم يجزى العبد
سعيه، يقال: جزاه الله عمله، و: جزاه على عمله، والمعنى: أنه يرى سعيه يوم
القيامة ثم يجزيه أوفى الجزاء.
(وأن إلى ربك المنتهى (42) وأنه هو أضحك وأبكى (43) وأنه
هو أمات وأحيا (44) وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى (45) من نطفة
إذا تمنى (46) وأن عليه النشأة الاخرى (47) وأنه هو أغنى وأقنى (48)
وأنه هو رب الشعرى (49) وأنه أهلك عادا الاولى (50) وثمودا فمآ
أبقى (51) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة
أهوى (53) فغشاها ما غشى (54) فبأى ءالاء ربك تتمارى (55)
هذا نذير من النذر الاولى (56) أزفت الأزفة (57) ليس لها من دون
الله كاشفة (58) أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون

(1) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 310.
456

ولا تبكون (60) وأنتم سمدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62))
الفتح في (أن) وما بعده على معنى: أن هذا كله في صحف موسى وإبراهيم،
و (المنتهى) مصدر بمعنى الانتهاء، أي: ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه كقوله:
(وإلى الله المصير) (1).
ومعنى (أضحك وأبكى): خلق قوتي الضحك والبكاء، أو: فعل سبب
الضحك والبكاء من السرور والحزن، وقيل: أضحك الأشجار بالأنوار وأبكى
السحاب بالأمطار.
(إذا تمنى) إذا تدفق في الرحم، يقال: مني وأمنى، وقيل: معناه: تخلق (2).
قال:
حتى يبين ما يمني لك الماني (3)
أي: يقدر لك المقدر. وقرئ: " النشآة " بالمد (4)، يريد: أنها واجبة عليه في
الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة. (وأقنى) أي: أعطى القنية وهي المال
المؤثل المدخر، وقيل: (أغنى): مول، (وأقنى): أرضى بما أعطى (5).
(رب الشعرى) أي: خالقها وكانت خزاعة تعبدها، سن لهم ذلك أبو كبشة
رجل من أشرافهم، وكان أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل أمهاته، وكانت قريش

(1) آل عمران: 28، النور: 42، فاطر: 18.
(2) قاله الأخفش كما في تفسير الماوردي: ج 5 ص 405.
(3) لأبي قلابة الهذلي، وصدره: ولا تقولن لشيء سوف أفعله. وقيل لسويد بن عامر
المصطلقي، وصدره: واسلك طريقك فيها غير محتشم. راجع خزانة الأدب للبغدادي: ج 4
ص 418.
(4) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 498.
(5) قاله مجاهد في تفسيره: ص 628.
457

يسمونه (عليه السلام): " ابن أبي كبشة " لمخالفته إياهم في الدين، كما خالف أبو كبشة غيره
في عبادة الشعرى.
وعاد الأولى: قوم هود، وعاد الأخرى: إرم، وقيل: الأولى القدماء لأنهم أولى
الأمم هلاكا بعد قوم نوح (1). وقرئ: " عاد لولى " بإدغام التنوين في اللام وطرح
همزة " أولى " ونقل ضمتها إلى لام التعريف (2). وقرئ: " وثمودا " (3) (وثمود).
(و) أهلكنا (قوم نوح من قبل) عاد وثمود (إنهم كانوا هم أظلم وأطغى)
لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك، وما أثر فيهم دعاؤه قريبا
من ألف سنة.
(والمؤتفكة) أي: والقرى التي ائتفكت بأهلها أي: انقلبت، وهم قوم لوط
(أهوى) أي: رفعها إلى السماء على جناح جبرئيل ثم أهواها إلى الأرض أي:
أسقطها، (فغشها) أي: فألبسها من العذاب (ما غشى) وهو تهويل لما صب
عليها من العذاب وأمطر عليها من الحجارة المسومة. (فبأي ءالاء ربك تتمارى)
تتشكك أيها الإنسان؟ وقد عدد سبحانه نعما ونقما وسماها كلها آلاء؛ لما في نقمه
من العبر للمعتبرين.
(هذا) القرآن إنذار من جنس الإنذارات (الأولى)، أو: هذا الرسول منذر
من المنذرين الأولين، وإنما قال: (الأولى) على تأويل الجماعة.
(أزفت الآزفة) قربت الموصوفة بالقرب في قوله: (اقتربت الساعة) (4).

(1) قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 538.
(2) قرأه نافع وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة: ص 615.
(3) والتنوين هي قراءة الجمهور إلا حمزة وعاصما برواية حفص عنه. راجع المصدر السابق.
(4) القمر: 1.
458

(ليس لها) نفس (كاشفة) أي: مبينة متى تقوم، كقوله: (لا يجليها لوقتهآ إلا
هو) (1)، أو: ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله، غير أنه لا يكشفها.
وقيل: " كاشفة " مصدر بمعنى الكشف كالعافية والخائنة (2)، أي: ليس لها من دون
الله كشف، والمراد: لا يكشف عنها غيره.
(أفمن هذا الحديث) وهو القرآن (تعجبون) إنكارا. (وتضحكون)
استهزاء (ولا تبكون) انزجارا لما فيه من الوعيد. وعن الصادق (عليه السلام): أن المراد
بالحديث ما تقدم من الأخبار. (وأنتم سامدون) لاهون لاعبون، وقال بعضهم
لجاريته: اسمدي لنا أي: غني (3). (فاسجدوا لله واعبدوا) مخلصين ولا تعبدوا
الآلهة.
* * *

(1) الأعراف: 187.
(2) وهو قول الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 103.
(3) روي عن ابن عباس قال: السمود: الغناء بلغة حمير، يقال للقينة: أسمدينا أي أليهنا بالغناء.
أنظر لسان العرب: مادة " سمد ".
459

سورة القمر
مكية (1)، وهي خمس وخمسون آية.
وفي حديث أبي: " من قرأها في كل غب بعث يوم القيامة ووجهه على صورة
القمر ليلة البدر " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها أخرجه الله من قبره على ناقة من نوق
الجنة " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا
سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر (3) ولقد

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 442: مكية بلا خلاف، وهي خمس وخمسون آية
بلا خلاف.
وفي تفسير الماوردي: ج 5 ص 408: مكية في قول الجمهور، وقال مقاتل: إلا ثلاث
آيات من قوله: (أم يقولون نحن جميع منتصر) إلى قوله: (والساعة أدهى وأمر)
وفي الكشاف: ج 4 ص 430 ما لفظه: مكية إلا الآيات 44 و 45 و 46 فمدنية، وآياتها
(55) نزلت بعد الطارق.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 442 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 143.
461

جآءهم من الانبآء ما فيه مزدجر (4) حكمة بلغة فما تغن النذر (5) فتول
عنهم يوم يدع الداع إلى شىء نكر (6) خشعا أبصرهم يخرجون من
الأجداث كأنهم جراد منتشر (7) مهطعين إلى الداع يقول الكفرون
هذا يوم عسر (8) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون
وازدجر (9) فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر (10) ففتحنآ أبواب السمآء
بمآء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى المآء على أمر قد
قدر (12) وحملنه على ذات ألواح ودسر (13) تجرى بأعيننا جزآء لمن
كان كفر (14) ولقد تركنهآ ءاية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي
ونذر (16))
انشقاق القمر من معجزات نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) الباهرة (1)، رواه كثير من الصحابة (2)
منهم: حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأنس، وابن عباس، وابن عمر
وغيرهم.
قال حذيفة: إن الساعة قد اقتربت، وإن القمر قد انشق على عهد
نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) (3).

(1) أخرج المحدث البحراني في البرهان: ج 4 ص 259 ح 5 عن عمر بن إبراهيم الأوسي
قال: قال ابن مسعود: انشقاق القمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورد الشمس لعلي بن أبي طالب لأن كل
فضل أعطى الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى مثله لوليه إلا النبوة، وقيل: هذا خاتم النبيين وهذا خاتم
الوصيين.
(2) قال المحدث الثقة ابن شهر آشوب في مناقبه: أجمع المفسرون والمحدثون سوى عطاء
والحسين والبلخي في قوله: (اقتربت الساعة وانشق القمر) أنه اجتمع المشركون ليلة بدر
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، قال: إن فعلت تؤمنون؟ قالوا:
نعم، فأشار إليه بإصبعه فانشق شقتين، رؤي حراء بين فلقتيه. المناقب: ج 1 ص 122.
(3) أخرجه عنه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 672 وعزاه إلى ابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وعبد الله بن احمد وابن جرير وابن مردويه وأبي نعيم.
462

قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده رأيت حراء بين فلقتي القمر (1).
وعن ابن عباس: انشق القمر فلقتين ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي: " يا فلان ويا
فلان اشهدوا " (2) (3).
(وإن يروا ءاية يعرضوا) عن الانقياد لصحتها (ويقولوا سحر مستمر) (4)
قوي محكم، من قولهم: استمر مريرة، وقيل: مستمر: مار ذاهب يزول ولا يبقى؛
تمنية لنفوسهم وتعليلا (5). (واتبعوا أهوآءهم) وما زين لهم الشيطان من دفع
الحق بعد ظهوره (وكل أمر مستقر) أي: كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية ليستقر
عليها، وإن أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل،
وسيظهر لهم عاقبته. وقرئ: " مستقر " بالجر (6) عطفا على (الساعة) أي: اقتربت
الساعة واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله.
(ولقد جآءهم من الأنبآء) أي: من القرآن المودع أنباء الآخرة، أو أنباء
القرون الماضية (ما فيه مزدجر) أي: ازدجار، أو: موضع ازدجار عن الكفر
وتكذيب الرسل. (حكمة بلغة) بدل من " ما "، أو: على هو حكمة (فما تغن
النذر) نفي أو إنكار، معناه: وأي غناء تغني النذر.
(فتول عنهم) لعلمك بأن الإنذار لا يغني فيهم (يوم يدع الداع) انتصبت

(1) أخرجه عنه السيوطي أيضا في الدر وعزاه إلى احمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم
وابن مردويه وأبي نعيم.
(2) أخرجه عنه كذلك السيوطي في الدر وعزاه إلى أبي نعيم في الحلية.
(3) أخرج الطبري في تفسيره: ج 11 ص 547 باسناده عن مجاهد: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأبي
بكر: " اشهد يا أبا بكر ".
(4) في نسخة زيادة: " دائم مطرد وقيل: مستمر ".
(5) قاله مجاهد في تفسيره: ص 633.
(6) قرأه أبو جعفر المدني. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 148.
463

ب‍ (يخرجون)، وقرئ بإسقاط الياء من " الداعي " اكتفاء بالكسرة عنها (1).
(إلى شىء نكر) منكر فظيع تنكره النفوس، وهو هول يوم القيامة. وقرئ " نكر "
بالتخفيف (2)، والداعي هو إسرافيل.
(خشعا أبصرهم)، وقرئ: " خاشعا " (3) على: يخشعن أبصارهم، ويخشع
أبصارهم، وهو حال من (يخرجون)، و (خشعا) على لغة من قال: أكلوني
البراغيث وهم طيىء، أو: فيه ضمير " هم " و (أبصرهم) بدل عن ذلك الضمير
تقول: مررت برجال حسن أوجههم وحسان أوجههم. وخشوع الأبصار كناية عن
الذلة، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز يظهران في عيونهما (من الأجداث) من القبور
(كأنهم جراد منتشر) شبههم بالجراد لكثرتهم وتموجهم، يقال للجيش الكثير
المائج بعضه في بعض: جاءوا كالجراد. (مهطعين إلى الداع) أي: مسرعين إلى
إجابة الداعي، مادي أعناقهم إليه.
(كذبت) قبل أهل مكة (قوم نوح فكذبوا عبدنا) نوحا تكذيبا على عقيب
تكذيب (وقالوا) هو (مجنون وازدجر) وانتهر بالشتم والضرب والوعيد
بالرجم في قولهم: (لتكونن من المرجومين) (4). (فدعا ربه) بأني (مغلوب)
غلبني قومي ولم يسمعوا مني، ويئست من إجابتهم لي (فانتصر) فانتقم منهم
بعذاب تنزله عليهم. (ففتحنا أبوب السمآء) قرئ بالتشديد (5) والتخفيف (بمآء

(1) قرأه ابن كثير ونافع في الوصل فقط، وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في الوصل
والوقف معا. راجع كتاب السبعة في القراءات ص 617. والظاهر أن المصنف رحمه الله يعتمد
قراءة إثبات الياء هنا تبعا لصاحب الكشاف.
(2) أي سكون الكاف، وهي قراءة ابن كثير وحده. راجع كتاب السبعة المتقدم.
(3) قرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع المصدر السابق نفسه: ص 618.
(4) الشعراء: 116.
(5) وهي قراءة ابن عامر وحده. راجع المصدر السابق نفسه.
464

منهمر) منصب في كثرة وتتابع، لم ينقطع أربعين يوما. (وفجرنا الأرض)
شققناها بالماء (عيونا) أي: جعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة (1)، (فالتقى
المآء) أي: مياه السماء والأرض (على أمر قد قدر) على حال قدرها الله كيف
شاء، وقيل: على حال جاءت مقدرة مستوية، وهي أن قدر ما أنزل من السماء
كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء (2).
(على ذات ألوح ودسر) يعني: السفينة، وهي صفة نائب مناب الموصوف،
ونحوه قول الشاعر:
... ولكن * قميصي مسرودة من حديد (3)
أراد: ولكن قميصي درع. والدسر: جمع دسار وهو المسمار، فعال من دسره:
إذا دفعه. (تجرى بأعيننا) أي: بمرأى منا (جزآء) مفعول له، أي: فعلنا ذلك
(جزآء لمن كان كفر) وهو نوح (عليه السلام)، جعله مكفورا لأن الرسول نعمة من الله
ورحمة، فكان نوح نعمة مكفورة. (ولقد تركنها) الضمير للسفينة أو للفعلة
(ءاية) يعتبر بها، والمدكر: المعتبر. و " النذر ": جمع نذير وهو بمعنى الإنذار.
(ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (17) كذبت عاد فكيف
كان عذابى ونذر (18) إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس
مستمر (19) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان
عذابى ونذر (21) ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (22) كذبت
ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا منا وا حدا نتبعه إنآ إذا لفي ضلل

(1) في بعض النسخ: " تنفجر ".
(2) قاله ابن قتيبة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 412.
(3) وصدره: مفرشي صهوة الحصان ولكن. لم نعثر على قائله، يريد أنه من أهل الغزو والتجلد
في المعيشة ولم يكن من أهل التنعم والترف. راجع شرح شواهد الكشاف: ص 56.
465

وسعر (24) أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25) سيعلمون
غدا من الكذاب الأشر (26) إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم
واصطبر (27) ونبئهم أن المآء قسمة بينهم كل شرب محتضر (28)
فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابى ونذر (30) إنآ
أرسلنا عليهم صيحة وا حدة فكانوا كهشيم المحتظر (31))
(يسرنا القرءان للذكر) أي: سهلناه للحفظ، وأعنا عليه من أراد حفظه حتى
يقرأه ظاهرا (فهل من مدكر) أي: طالب لحفظه ليعان عليه؟ أو: هيأناه للذكر من:
يسر ناقته للسفر إذا رحلها، قال:
وقمت إليه باللجام ميسرا * هنالك يجزيني الذي كنت أصنع (1)
وروي: أنه ليس من كتب الله المنزلة كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن (2).
وقيل: معناه: سهلناه للادكار والاتعاظ بأن شحناه بالمواعظ الشافية والزواجر
الكافية (3) (فهل من) متعظ؟
(ونذر) أي: وإنذار أتى لهم بالعذاب قبل نزوله، أو: إنذار أتى في تعذيبهم
لمن بعدهم. (ريحا صرصرا) شديدة الهبوب، أو: شديدة البرد، من: الصر وهو
البرد (في يوم نحس) شؤم (مستمر) دائم الشؤم قد استمر عليهم حتى أهلكهم،
أو: استمر على كبيرهم وصغيرهم حتى لم يبق منهم نسمة، وكان في أربعاء في آخر
الشهر لا تدور؛ وروي ذلك عن الباقر (عليه السلام). (تنزع الناس) تقلعهم عن أماكنهم
(كأنهم أعجاز نخل منقعر) يعني: أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا وهم

(1) للأعرج الخارجي، في وصف فرس له. أنظر شرح الشواهد: ص 139.
(2) ذكره البغوي في تفسيره: ج 4 ص 261 عن سعيد بن جبير.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 435.
466

جثث طوال عظام كأنهم أصول نخل منقعر عن أماكنه ومغارسه، وقيل: شبهوا بذلك
لأن الريح قطعت رؤوسهم فبقوا أجسادا بلا رؤوس (1). وذكر صفة (نخل) على
اللفظ، ولو أنث حملا على المعنى لجاز، كما قال: (أعجاز نخل خاوية) (2).
(أبشرا منا) نصب بفعل يفسره (نتبعه)، أنكروا أن يتبعوا مثلهم في
الجنسية، وقالوا: (منا) لتكون المماثلة أقوى، وقالوا: (وحدا) إنكارا لان تتبع
الأمة رجلا واحدا ليس بأشرفهم (إنا إذا لفي ضلل) كأنه قال لهم: إن لم تتبعوني
كنتم في ضلال عن الحق (وسعر) أي: ونيران، جمع سعير، فعكسوا عليه فقالوا:
إن اتبعناك كنا إذا كما تقول، وقيل: الضلال: الخطأ والبعد عن الصواب، والسعر:
الجنون (3). (أءلقي الذكر عليه من بيننا) أي: أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا
من هو أحق منه بالاختيار للنبوة؟! (بل هو كذاب أشر) بطر متكبر، يريد أن
يتعظم علينا بادعاء النبوة. (سيعلمون غدا) عند نزول العذاب بهم، أو: يوم القيامة
(من الكذاب الأشر) أصالح أمن كذبه؟
(إنا مرسلوا الناقة) أي: باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا (فتنة
لهم) وامتحانا وابتلاء (فارتقبهم) فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون
(واصطبر) على ما يصيبك من أذاهم، ولا تعجل حتى يأتيك أمري. (ونبئهم أن
المآء قسمة) مقسوم بينهم، لها شرب يوم ولهم شرب يوم، وقال: (بينهم) تغليبا
للعقلاء (كل شرب محتضر) محضور يحضره أهله لا يحضره الآخر معه، وقيل:
يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها (4). (فنادوا صاحبهم) قدار بن سالف

(1) قاله مجاهد. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 4 ص 292.
(2) الحاقة: 7.
(3) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 89.
(4) قاله مجاهد في تفسيره: ص 635.
467

أحيمر ثمود (فتعاطى) واجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مبال به، فأحدث
العقر بالناقة، أو: فتعاطى السيف فعقرها.
(صيحة وحدة) هي صيحة جبرائيل (عليه السلام)، والهشيم: الشجر اليابس المتهشم
المتكسر، و (المحتظر) الذي يعمل الحظيرة، وما يحتظر به ييبس وتتوطؤه
البهائم فيتهشم.
(ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (32) كذبت قوم لوط
بالنذر (33) إنآ أرسلنا عليهم حاصبا إلا ءال لوط نجينهم بسحر (34)
نعمة من عندنا كذا لك نجزى من شكر (35) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا
بالنذر (36) ولقد راودوه عن ضيفه ى فطمسنآ أعينهم فذوقوا عذابى
ونذر (37) ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابى
ونذر (39) ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (40) ولقد جآء ءال
فرعون النذر (41) كذبوا بايتنا كلها فأخذنهم أخذ عزيز مقتدر (42))
(حاصبا) ريحا تحصبهم أي: ترميهم بالحصباء (1) (نجينهم بسحر) هو
السدس الأخير من الليل، وصرف لأنه نكرة، وتقول: لقيته سحرا تريد: في سحر
يومك. (نعمة) أي: إنعاما وهو مفعول له (كذلك نجزى من شكر) نعمة الله
بإيمانه وطاعته.
(ولقد أنذرهم) لوط (بطشتنا) أخذتنا بالعذاب (فتماروا) أي: فشكوا
بالإنذارات. (ولقد رودوه عن ضيفه) أي: طلبوا منه أن يسلم إليهم ضيفه
(فطمسنآ أعينهم) فمحوناها حتى صارت ممسوحة كسائر الوجه لا يرى لها

(1) في الصحاح: الحصباء: الحصى، وحصبت المسجد تحصيبا: إذا فرشته بها، والمحصب:
موضع الجمار بمنى.
468

شق، صفقهم جبرئيل بجناحه صفقة تركتهم يتردون، لا يهتدون إلى الباب حتى
أخرجهم لوط (فذوقوا) فقلت لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا (عذابى ونذر).
(ولقد صبحهم) أي: أتاهم صباحا (بكرة) وباكرة أي: أول النهار، هي كقوله:
(مشرقين) (1) و (مصبحين) (2)، (عذاب مستقر) ثابت قد استقر عليهم.
والفائدة في تكرير قوله: (فذوقوا عذابى ونذر ولقد يسرنا القرءان...) الآية
أن يجددوا (3) عند استماع كل نبأ من أنباء الأمم ادكارا واتعاظا إذا سمعوا الحث
على ذلك، وأن تقرع لهم العصا مرارا حتى لا تغلبهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير
في قوله: (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) عند ذكر كل نعمة عدت في سورة
" الرحمن "، وقوله: (ويل يومئذ للمكذبين) في " المرسلات "، وهكذا حكم
تكرير الأنباء والقصص في أنفسها، ليكون كل منها حاضرة للقلوب غير منسية.
(ولقد جآء ءال فرعون النذر) موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء لأنهما
عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون، أو: هو جمع نذير وهو الإنذار (كذبوا بآيتنا
كلها) وهي الآيات التسع التي جاءهم بها موسى (فأخذناهم أخذ عزيز)
لا يغالب (مقتدر) على ما يشاء.
(أكفاركم خير من أولئكم أم لكم برآءة في الزبر (43) أم يقولون
نحن جميع منتصر (44) سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة
موعدهم والساعة أدهى وأمر (46) إن المجرمين في ضلل وسعر (47)
يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شىء

(1) الحجر: 73، الشعراء: 60.
(2) الحجر: 66 و 83، الصافات: 137، القلم: 17 و 21.
(3) في نسخة: " يحذروا ".
469

خلقنه بقدر (49) ومآ أمرنآ إلا وا حدة كلمح بالبصر (50) ولقد أهلكنآ
أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شىء فعلوه في الزبر (52) وكل صغير
وكبير مستطر (53) إن المتقين في جنت ونهر (54) في مقعد صدق عند
مليك مقتدر (55))
(أكفاركم) يا أهل مكة (خير) وأقوى (من أولئكم) الكفار المعدودين:
قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون؟ أي: أهم خير قوة وآلة ومكانة في الدنيا
أو أقل كفرا وعنادا؟ والمراد: أن هؤلاء مثل أولئك بل شر منهم (أم) أنزلت (لكم
برآءة) في الكتب المتقدمة: أن من كفر منكم وكذب الرسل كان آمنا من عذاب الله
فآمنتم بتلك البراءة؟ (نحن جميع) أي: جماعة أمرنا مجتمع (منتصر) ممتنع
لا نرام ولا نضام.
ويروى (1): أن أبا جهل ضرب فرسه يوم بدر وقال: نحن ننتصر اليوم من
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، فنزلت: (سيهزم الجمع) يريد: كفار مكة (ويولون
الدبر) أي: الأدبار، كما قال:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا (2)
أي: ينهزمون فيولونكم أدبارهم، وكانت هذه الهزيمة يوم بدر. (بل الساعة)
أي: يوم القيامة (موعدهم) للعذاب (والساعة أدهى) وأشد وأفظع، (وأمر)
من الهزيمة والقتل والأسر ببدر.
(في ضلل وسعر) أي: هلاك ونيران، أو: في ضلال عن الحق في الدنيا

(1) رواه مقاتل. راجع تفسير القرطبي: ج 17 ص 146.
(2) وعجزه: فإن زمانكم زمن خميص. لم نعثر على قائله، وفيه دعوة إلى العفة عن مسائلة
الناس أن يطعموهم شيئا. أنظر خزانة الأدب للبغدادي: ج 7 ص 559 وما بعده.
470

ونيران في الآخرة. (ذوقوا) على إرادة القول (مس سقر) هو مثل قولهم: وجد
مس الحمى، وذاق طعم الضرب، لأن النار إذا أصابتهم بحرها وشدتها فكأنها
مستهم مسا بذلك كما يمس الحيوان بما يؤذي ويؤلم، و (سقر): علم لجهنم، من:
سقرته النار وصقرته إذا لوحته.
(كل شىء خلقناه) منصوب بمضمر يفسره هذا الظاهر، والقدر: التقدير أي:
خلقنا كل شيء مقدرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة. (ومآ أمرنآ إلا
وحدة) أي: كلمة واحدة سريعة التكوين (كلمح بالبصر) والمراد قوله: " كن ".
والمراد: أنا إذا أردنا تكوين شيء لم يلبث كونه.
(ولقد أهلكنآ أشياعكم) أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم الماضية
(وكل شىء فعلوه) في دواوين الحفظة (وكل صغير وكبير) من أعمالهم مسطور
عليهم مكتوب، أو: كل ما هو كائن من الآجال والأرزاق وغيرهما مكتوب في
اللوح المحفوظ.
(ونهر) أي: أنهار، اكتفى باسم الجنس، وقيل: هو السعة والضياء من
النهار (1). (في مقعد صدق) في مكان مرضي، وقيل: في مجلس حق لا لغو
فيه (2) (عند مليك) أي: مقربين عند مقتدر، لا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته.
* * *

(1) قاله الضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 266.
(2) وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 461.
471

سورة الرحمن
مكية (1)، وقيل: مدنية (2) وهي ثمان وسبعون آية كوفي، ست بصري، عد
الكوفي (الرحمن) (3) و (المجرمون) (4).
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة الرحمن رحم الله ضعفه، وأدى شكر ما
أنعم الله عليه " (5).
وعن (6) الصادق (عليه السلام): " أحب أن يقرأ الرجل سورة الرحمن يوم الجمعة،

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 462: قال قوم: هي مكية، وقال آخرون هي مدنية،
وهي ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي، وسبع وسبعون عند الحجازيين، وست وسبعون
في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 442: مدنية وآياتها (78) نزلت بعد الرعد.
(2) وهو قول ابن عباس برواية النحاس وابن ضريس، وقتادة برواية الأنباري، وابن الحصار
في منظومته، والبيهقي في الدلائل. راجع الإتقان للسيوطي: ج 1 ص 48.
(3 و 4) الآية: 1 و 43.
(5) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 454 مرسلا.
(6) في نسخة زيادة: " أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتدعوا قراءة سورة الرحمن والقيام
بها فإنه لا تقوى في قلوب المنافقين، وتأتي يوم القيامة في صورة آدمي في أحسن صورة
وأطيب ريح حتى تقف من الله موقعا لا يكون أحد أقرب به إلى الله منها فيقول لها: من الذي
كان يقوم بك في الحياة الدنيا، ومن قرأك؟ فتقول: يا رب فلان وفلان، فتبيض وجوههم،
فيقول: اشفعوا فيمن أحببتم، فيشفعون حتى لا يبقى لهم غاية، ولا أحد يشفعون له فيقول لهم:
ادخلوا الجنة وأسكنوا فيها حيث شئتم. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قرأ سورة الرحمن
فقال عند كل آية: (فبأى ءالاء ربكما تكذبان): لا بآلائك أكذب، فإن قرأها ليلا ثم مات؛
مات شهيدا، وإن قرأها نهارا ثم مات؛ مات شهيدا ".
473

وكلما قرأ (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) قال: لا بشيء من آلائك رب أكذب " (1).
وعن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لكل شىء
عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن " (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
(الرحمن (1) علم القرءان (2) خلق الانسن (3) علمه البيان (4)
الشمس وا لقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسمآء
رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن
بالقسط ولا تخسروا الميزان (9) والارض وضعها للأنام (10) فيها
فكهة والنخل ذات الأكمام (11) والحب ذو العصف والريحان (12)
فبأى ءالاء ربكما تكذبان (13))
(الرحمن): الذي وسعت رحمته كل شيء. لما أراد سبحانه أن يعدد نعمه
وآلاءه في هذه السورة قدم هذا الاسم ليعلم أن جميع نعمائه وأفعاله الحسنى
صدرت من الرحمة التي شملت خلقه، وهو مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها بعده
أخبار مترادفة، وإخلاؤها من حرف العطف لمجيئها على نمط التعديد، وعد أول
كل شيء نعمة الدين التي هي أجل النعم، وقدم منها ما هو في أعلى مراتبها،
وهو تعليمه القرآن وتنزيله لأنه أعظم وحي الله منزلة، وهو مصداق الكتب الإلهية.

(1) ثواب الأعمال للصدوق: ص 144.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الايمان: ج 2 ص 490 ح 2494 باسناده عن علي (عليه السلام) عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
474

وقد أخر (خلق الانسن) عن ذكره ليعلم أنه إنما خلقه ليعلم وحيه، فما خلق
الإنسان من أجله كان مقدما عليه.
ثم ذكر ما يميز به الإنسان من سائر الحيوان من (البيان) وهو النطق المعرب
عما في الضمير، وقيل: إن (الإنسن) آدم (عليه السلام)، و (البيان) اللغات كلها وأسماء
كل شيء (1). وقيل: (الإنسن) محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و (البيان) ما كان وما يكون (2).
وعن الصادق (عليه السلام): (البيان) الاسم الأعظم الذي علم به كل شىء.
(الشمس والقمر بحسبان) بحساب معلوم وتقدير سوي يجريان في
بروجهما ومنازلهما، وفي ذلك منافع عظيمة للناس منها: علم السنين والحساب.
(والنجم): النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول (والشجر): الذي
له ساق، وسجودهما: انقيادهما لله تعالى فيما خلقا له، أو: ما فيهما من الدلالة على
حدوثهما، وأن لهما صانعا محدثا. واتصلت هاتان الجملتان ب‍ (الرحمن)
اتصالا معنويا، وهو ما علم أن الحسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، فكأنه قال:
بحسبانه ويسجدان له.
(والسمآء رفعها) خلقها مرفوعة مسموكة، حيث جعلها منشأ أحكامه،
ومنتزل أوامره ونواهيه، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على رسله
(ووضع الميزان) وهو كل ما يوزن به الأشياء، ويعرف مقاديرها، ليوصل به إلى
الإنصاف والانتصاف، وقيل: المراد به العدل (3). (أن لا تطغوا) لئلا تطغوا، أو:
هي " أن " المفسرة. (وأقيموا الوزن بالقسط) أي: قوموا وزنكم بالعدل،

(1) قاله ابن عباس وقتادة والحسن كما في تفسير القرطبي: ج 17 ص 152.
(2) وهو قول ابن عباس أيضا وابن كيسان. راجع المصدر السابق.
(3) قاله مجاهد وقتادة والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 424.
475

(ولا تخسروا الميزان) ولا تنقصوه، وهذا أمر بالتسوية، ونهى عن الطغيان الذي
هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان. وكرر لفظ " الميزان "
تشديدا للتوصية به وتأكيدا.
(والأرض وضعها) خفضها مدحوة على الماء (للأنام) للخلق، وهو كل ما
على ظهرها من دابة، وعن الحسن: للإنس والجن (1)، فهي كالمهاد لهم يتصرفون
فوقها. (فيها فكهة) ضروب مما يتفكه به (ذات الأكمام) وهي كل ما يكم أي:
يغطى من ليف النخل وسعفه وكفراه (2)، وينتفع بجميعه كما ينتفع بالمكموم من
ثمره وجماره وجذوعه. وقيل: الأكمام: أوعية الثمر، والواحد " كم " بكسر
الكاف (3).
و (العصف): ورق الزرع، وقيل: التين (4) و (الريحان) الرزق، وهو اللب،
أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه، وما هو الجامع بين التلذذ والتغذي، وهو ثمر
النخل وما يتغذى به، وهو الحب. وقرئ: " والريحان " بالكسر (5) ومعناه: والحب
ذو العصف الذي هو علف الأنعام والريحان الذي هو مطعم الناس، وبالضم على:
وذو الريحان، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: معناه: وفيها
الريحان الذي يشم (6)، وقرئ: " والحب ذا العصف والريحان " بالنصب (7)، أي:

(1) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 314.
(2) الكفر والكفرى والكفرى والكفرى والكفرى: وعاء طلع النخل وقشره الأعلى. (لسان
العرب: مادة كفر).
(3) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 466. وإليه ذهب الجوهري في الصحاح: مادة " كمم ".
(4) قاله الضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 268.
(5) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 629.
(6) قاله الحسن وابن زيد. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 268.
(7) وهي قراءة ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة المتقدم.
476

وخلق الحب والريحان، أو: وأخص الحب والريحان.
(فبأي ءالاء ربكما) أيها الثقلان (تكذبان)، ويدل على أن الخطاب لهما
قوله: (للأنام) وقوله: (سنفرغ لكم أيه الثقلان) (1).
(خلق الانسن من صلصل كالفخار (14) وخلق الجآن من مارج
من نار (15) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (16) رب المشرقين ورب
المغربين (17) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (18) مرج البحرين
يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (21)
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (23) وله
الجوار المنشات في البحر كالأعلم (24) فبأى ءالاء ربكما
تكذبان (25) كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلل
والاكرام (27) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (28) يسله من في
السموات والارض كل يوم هو في شأن (29) فبأى ءالاء ربكما
تكذبان (30))
الصلصال: الطين اليابس لتصلصله، و الفخار: الطين المطبوخ بالنار وهو
الخزف. وفي موضع آخر: (من حمأ مسنون) (2) و (من طين لازب) (3)
والمعنى: أنه خلقه من تراب جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا.
و (الجان) أبو الجن، وقيل: هو إبليس (4)، والمارج: الصافي من لهب النار
لا دخان فيه، وقيل: هو المختلط بسواد النار (5)، و " من " للبيان، فكأنه قال:

(1) الآية: 31.
(2) الحجر: 26 و 28 و 33.
(3) الصافات: 11.
(4) قاله الحسن. راجع التبيان: ج 9 ص 468.
(5) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 99.
477

من صاف من نار أو مختلط من نار.
والمشرقان والمغربان: مشرقا الشتاء والصيف، أو: مشرقا الشمس والقمر
ومغرباهما.
(مرج البحرين) أرسل البحر العذب والبحر الملح متجاورين متلاقيين
لا فصل بينهما في مرأى العين. (بينهما برزخ) حاجز من قدرة الله لا يتجاوزان
حديهما، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة. (يخرج منهما) كبار الدر
وصغاره، وقيل: (المرجان) خرز أحمر كالقضبان (1) وهو البسذ، وقرئ:
" يخرج " (2) من: أخرج، وقال: (منهما) وإنما يخرجان من الملح لأنهما لما
التقيا صارا كالشيء الواحد، فكأنه قال: يخرج من البحر ولا يخرجان من جميع
البحر ولكن من بعضه، كما تقول: خرجت من البلد وإنما خرجت من بعضه، وقيل:
إنهما يخرجان من ملتقى الملح والعذب.
والجواري: السفن، وقرئ: (المنشآت) بفتح الشين وكسرها (3)، وهي
المرفوعات الشرع، وبالكسر: الرافعات الشرع، أو: اللواتي تنشئ الأمواج
بجريهن، والأعلام: جمع علم وهو الجبل الطويل.
(كل من عليها) أي: على الأرض (فان) أي: هالك، يفنون ويخرجون من
الوجود إلى العدم (ويبقى وجه ربك) أي: ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة
والذات (ذو الجلال والاكرام) صفة للوجه الذي يجل عن التشبيه بخلقه وعن
أفعالهم، أو: من عنده الجلال والإكرام لأوليائه وأصفيائه، وهذه الصفة من عظيم
صفات الله عز اسمه.

(1) قاله ابن مسعود. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 431.
(2) قرأه نافع وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 619.
(3) وبالكسر هي قراءة حمزة وحده. راجع المصدر السابق.
478

وفي الحديث: " الظوا بيا ذا الجلال والإكرام " (1).
والنعمة في الفناء أن عقيبه مجيء وقت الجزاء. (يسئله) أهل (السموات)
ما يتعلق بدينهم (و) أهل (الأرض) ما يتعلق بدينهم ودنياهم، فكل من فيهما
مفتقرون إليه لا يستغنون عنه، (كل يوم هو في شأن) أي: كل وقت وحين يحدث
أمورا ويجدد أحوالا، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه تلاها، فقيل له: وما ذلك
الشأن؟ فقال: " من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين " (2).
(سنفرغ لكم أيه الثقلان (31) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (32)
يمعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات
والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطن (33) فبأى ءالاء ربكما
تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (35)
فبأى ءالاء ربكما تكذبان (36) فإذا انشقت السمآء فكانت وردة
كالدهان (37) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (38) فيومئذ لا يسل عن ذنبه ى
إنس ولا جآن (39) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (40) يعرف المجرمون
بسيمهم فيؤخذ بالنواصى والاقدام (41) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (42)
هذه ى جهنم التى يكذب بها المجرمون (43) يطوفون بينها وبين حميم
ءان (44) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (45))
(سنفرغ لكم) مستعار من قول الرجل لمن يهدده: سأفرغ لك أي: سأتجرد
للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه، ويجوز أن يكون

(1) أخرجه أحمد في المسند: ج 4 ص 177. وفي النهاية: يقال: ألظ بالشيء يلظ إلظاظا: إذا
لزمه وثابر عليه.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 592 مسندا عن منيب بن عبد الله الأزدي عن أبيه،
وفيه " أقواما ".
479

المراد: ستنتهي الدنيا وينتهي عند ذلك شؤون الخلق فلا يبقى إلا شأن واحد وهو
جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا على طريق التمثيل، وقرئ: (سيفرغ) بالياء (1) أي:
الله عز وجل، وسمي الإنس والجن " الثقلين " لأنهما ثقلان على الأرض، وكل
شيء له وزن وقدر فهو ثقل.
ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي " (2)
سماهما " ثقلين " لعظم شأنهما وعلو مكانهما.
(يا معشر الجن والإنس) كالترجمة لقوله: (أيه الثقلان)، (إن استطعتم
أن) تهربوا من قضائي وتخرجوا من أرضي وسمائي فافعلوا، ثم قال: لا تقدرون
على النفوذ من نواحيهما (إلا بسلطن) أي: بقهر وقوة وغلبة، وأنى لكم ذلك،
ونحوه: (ومآ أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السمآء) (3).
(شواظ) بالضم، وقرئ بالكسر (4)، وهو اللهب الخالص، والنحاس:
الدخان، وقيل: الصفر المذاب يصب على رؤوسهم (5). وعن ابن عباس: إذا
خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر (6)، قرئ (نحاس) بالرفع عطفا

(1) قراه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 620.
(2) قد تواتر حديث الثقلين إلى حد الاستفاضة في كتب الفريقين: الشيعة وأهل العامة، منها -
على سبيل المثال -: مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 17، المعجم الكبير للطبراني: ج 5
ص 190 و 205 و 210، والمعجم الصغير له أيضا: ج 1 ص 131 و 135، مستدرك الحاكم:
ج 3 ص 148، مشكل الآثار للطحاوي: ج 4 ص 368، أمالي الطوسي: ص 548 المجلس
العشرون، كمال الدين: ج 1 ص 239، كشف الغمة: ج 1 ص 43.
(3) العنكبوت: 22.
(4) أي بكسر الشين، قرأه ابن كثير وحده. راجع كتاب السبعة: ص 621.
(5) قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 597.
(6) تفسير ابن عباس: ص 184.
480

على (شواظ)، وبالجر (1) عطفا على (نار)، (فلا تنتصران) فلا تمتنعان.
(انشقت السمآء) تصدعت وانفك بعضها من بعض (فكانت وردة) حمراء
(كالدهان) كدهن الزيت، كما قال: (كالمهل) (2) وهو دردي الزيت، وهو اسم
ما يدهن به كالأدام، أو: جمع دهن، وقيل: الدهان: الأديم الأحمر (3).
(إنس) أي: بعض من الإنس (ولا جآن) أي: ولا بعض من الجن، فوضع
الذي هو أبو الجن موضع الجن، كما يقال: هاشم ويراد ولده، وعاد الضمير موحدا
في قوله: (عن ذنبه) لكونه في معنى البعض، والمعنى: لا يسألون لأن المجرمين
يعرفون بسيماهم من سواد الوجوه، وزرقة العيون وقيل: لا يسألون عن ذلك ليعلم
من جهتهم، بل يسألون سؤال توبيخ (4)، وعن قتادة: قد كانت مسألة ثم ختم على
أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (5).
(فيؤخذ بالنوصى والاقدام) عن الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في
سلسلة من وراء ظهره (6)، وقيل: يسحبون تارة بأخذ النواصي وتارة بالأقدام (7).
(حميم ءان) ماء حار قد انتهى حره ونضجه، أي: تعاقب عليهم بين التصلية بالنار
وبين شرب الحميم، ليس لهم من العذاب أبدا فرج.
(ولمن خاف مقام ربهى جنتان (46) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (47)
ذواتآ أفنان (48) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان

(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة: ص 621.
(2) الكهف: 29، الدخان: 45، المعارج: 8.
(3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 452.
(4) قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 272.
(5) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 436.
(6) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 451.
(7) حكاه الزمخشري في الكشاف أيضا.
481

تجريان (50) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (51) فيهما من كل فكهة
زوجان (52) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (53) متكين على فرش بطآئنها
من إستبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (55)
فيهن قصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن (56) فبأى ءالاء
ربكما تكذبان (57) كأنهن الياقوت والمرجان (58) فبأى ءالاء ربكما
تكذبان (59) هل جزآء الاحسن إلا الاحسن (60) فبأى ءالاء ربكما
تكذبان (61) ومن دونهما جنتان (62) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (63)
مدهآمتان (64) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (65) فيهما عينان
نضاختان (66) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (67) فيهما فكهة ونخل
ورمان (68) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (69) فيهن خيرات حسان (70)
فبأى ءالاء ربكما تكذبان (71) حور مقصورات في الخيام (72) فبأى
ءالاء ربكما تكذبان (73) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن (74) فبأى
ءالاء ربكما تكذبان (75) متكين على رفرف خضر وعبقرى حسان
(76) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (77) تبرك اسم ربك ذى الجلل
والاكرام (78))
(خاف مقام ربه) موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة، ونحوه:
(ذلك لمن خاف مقامى) (1)، أو: يريد بمقام ربه: أن الله قائم عليه أي: حافظ
مهيمن، من قوله: (أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت) (2) فهو يراقب ذلك
ولا يجسر على معصيته، أو: يكون مقاما مقحما، كما تقول: أخاف جانب فلان،
و: فعلت ذلك لمكانك أي: لأجلك، (جنتان): جنة يثاب بها، وجنة زائدة يتفضل

(1) إبراهيم: 14.
(2) الرعد: 33.
482

عليه بها كقوله تعالى: (الحسنى وزيادة) (1). أو: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك
المعاصي، لأن التكليف يدور على الأمرين، أو: يكون على خطاب الثقلين فكأنه
قال: لكل خائفين منكما جنتان: جنة للخائف من الإنس، وجنة للخائف من الجن.
(ذواتآ أفنان) وهي الأغصان، خصها بالذكر لأنها تثمر ومنها تمتد الظلال، وقيل:
الأفنان: ألوان النعم مما تشتهيه الأنفس (2).
(فيهما عينان تجريان) حيث شاءوا في الأعالي والأسافل. (زوجان)
صنفان: صنف معروف وصنف غريب، أو: متشاكلان كالرطب واليابس، لا يقصر
يابسه عن رطبه في الفضل والطيب. (متكئين) نصب على المدح للخائفين، أو:
حال منهم، لأن " من خاف " في معنى الجمع أي: قاعدين كالملوك على (فرش
بطآئنها من إستبرق) ديباج ثخين، وإذا كانت البطائن من استبرق فما ظنك
بالظهائر؟! وقيل: إن ظهائرها من سندس (3)، وقيل: من نور (4). (وجنى الجنتين
دان) أي: ثمرها المجتنى قريب يناله القائم والقاعد والنائم.
(فيهن) أي: في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش
والجنى، أو: في الجنتين لاشتمالهما على قصور ومجالس (قصرت الطرف)
نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم (لم) يطمث
الإنسيات منهن أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن، أي: لم يفتضهن ولم
يطأهن أحد فهن أبكار، وفيه دليل على أن الجن يطمث كما يطمث الإنس، وقرئ:
" لم يطمثهن " بضم الميم (5). (كأنهن الياقوت والمرجان) يعني: أنهن في صفاء

(1) يونس: 26.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 452.
(3) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 480.
(4) قاله سعيد بن جبير. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 274.
(5) وهي قراءة أبي عمرو الدوري وقتيبة. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 707.
483

الياقوت وبياض المرجان وصفار (1) الدر أنصع بياضا. (هل جزآء الاحسن)
في العمل (إلا الاحسن) في الثواب.
(ومن دونهما) ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين (جنتان)
لمن دونهم من أصحاب اليمن. (مدهآمتان) قد ادهامتا من شدة الخضرة، وكل
نبت أخضر، فتمام خضرته أن يضرب إلى السواد (نضاختان) فوارتان بالماء،
والنضخ أكثر من النضح، لأن النضح مثل الرش.
وإنما عطف " النخل " و " الرمان " إلى الفاكهة وإن كانا منهما بيانا لفضلهما،
فكأنهما لمزيتهما في الفضل جنسان آخران، كقوله: (جبريل وميكل) (2)، أو:
لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه. (خيرت)
أي: خيرات، فخفف لأن " الخير " الذي هو بمعنى " أخير " لا يأتي منه " خيرون "
ولا " خيرات "، والمعنى: فاضلات الأخلاق حسان الخلق. (مقصورت)
مخدرات، قصرن في خدورهن، امرأة قصيرة ومقصورة أي: مخدرة (في
الخيام) في الحجال.
وفي الحديث: " الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا، في كل زاوية
منها أهل للمؤمن لا يراه الآخرون " (3).
والضمير في (قبلهم) لأصحاب الجنتين لدلالة ذكر " الجنتين " عليهم.
والرفرف: ضرب من البسط، وقيل: الرفرف رياض الجنة (4) والواحدة:

(1) في نسخة: " وصفاء ".
(2) البقرة: 98.
(3) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 719 وعزاه إلى البخاري ومسلم وغيرهما.
(4) قاله ابن جبير. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 443.
484

رفرفة، وقيل: الوسائد (1)، وقيل: كل ثوب عريض رفرف (2) (وعبقرى حسان)
منسوب إلى عبقر، والعرب تزعم أنه بلد الجن فتنسب إليه كل شيء عجيب، وعن
ابن عباس وقتادة: يريد الزرابي (3)، وعن مجاهد: الديباج (4). وقرئ في الشواذ:
" رفارف خضر وعباقري " (5) كمدائني، وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (6). وإن شذ
في القياس ترك صرف " عباقري " فلا يستنكر مع استمراره في الاستعمال.
وقرئ: " ذو الجلال " بالواو (7) صفة ل‍ (اسم).
* * *

(1) قاله الحسن في تفسيره: ج 2 ص 320.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 471.
(3) حكاه عنهما الطبري في تفسيره: ج 11 ص 620 مسندا.
(4) المصدر السابق.
(5) وهي قراءة عثمان ونصر بن علي وعاصم الجحدري. راجع المحتسب لابن جني: ج 2
ص 305.
(6) رواه عثمان عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع المصدر السابق.
(7) وهي قراءة ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 620.
485

سورة الواقعة
مكية (1) (2) سبع وتسعون آية بصري، ست كوفي. عد البصري: (فأصحب
الميمنة) (3) (وأصحب المشئمة) (4) (وأصحب اليمين) (5) (وأصحب
الشمال) (6)، وعد الكوفي. (موضونة) (7) (وحور عين) (8) (أنشأنهن
إنشآء) (9).
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الواقعة كتب أنه ليس من الغافلين ".
وعن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم يصبه
فاقة أبدا " (10).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة الواقعة قبل أن ينام لقي الله ووجهه كالقمر
ليلة البدر " (11).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 487: هي مكية بلا خلاف، وهي تسع وتسعون آية
حجازي وشامي، وسبع وتسعون بصري، وست وتسعون كوفي، وسبع وتسعون في المدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 455: مكية إلا آيتي 81 و 82 فمدنيتان، وآياتها (96) وقيل:
(97) نزلت بعد طه.
(2) في نسخة زيادة: " إلا آيات ".
(3 و 4) الآية 8 و 9.
(5) الآية: 27.
(6) الآية: 41.
(7) الآية: 15.
(8) الآية: 22.
(9) الآية: 35.
(10) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 471 مرسلا.
(11) ثواب الأعمال للصدوق: ص 144.
487

وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في كل ليلة جمعة أحبه الله وحببه إلى الناس،
ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا، ولا فقرا، ولا آفة من آفات الدنيا، وكان من رفقاء
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذه السورة لأمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة، لا يشركه فيها
أحد " (1)، تمام الخبر (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا
رجت الأرض رجا (4) وبست الجبال بسا (5) فكانت هبآء منبثا (6)
وكنتم أزواجا ثلثة (7) فأصحب الميمنة مآ أصحب الميمنة (8)
وأصحب المشمة مآ أصحب المشمة (9) والسبقون
السبقون (10) أولئك المقربون (11) في جنت النعيم (12) ثلة من
الاولين (13) وقليل من الأخرين (14) على سرر موضونة (15)
متكين عليها متقبلين (16))
(إذا) ظرف من معنى (ليس) لأن التقدير: لا يكون (لوقعتها كاذبة)، أو:
هو ظرف لمحذوف، والتقدير: (إذا وقعت) خفضت قوما ورفعت آخرين، ويدل
عليه قوله: (خافضة رافعة). وقال ابن جني: (إذا) الأولى مرفوعة الموضع
بالابتداء، و (إذا) الثانية خبر عن الأولى، وقد فارقتا الظرفية، والمعنى: وقت
وقوع الواقعة وقت رج الأرض (3) والمراد: إذا كانت الكائنة وحدثت الحادثة

(1) المصدر السابق.
(2) وعن الصادق (عليه السلام): من اشتاق إلى الجنة وصفتها فليقرأ الواقعة، ومن أحب أن ينظر إلى صفة
أهل النار فليقرأ سورة لقمان ". راجع المصدر السابق.
(3) حكاه عنه أبو حيان الأندلسي في النهر الماد المطبوع بهامش البحر المحيط: ج 8 ص 201.
488

وهي يوم القيامة، وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة.
(ليس لوقعتها) نفس (كاذبة) تكذب على الله، وتكذب في تكذيب
الغيب، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب
مكذبات، واللام مثلها في قوله تعالى: (قدمت لحياتى) (1). وقيل: (كاذبة)
كالعافية بمعنى التكذيب من قولهم: حمل فلان على قرنه فما كذب، أي: فما
جبن (2)، وحقيقته: فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له، قال زهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا * ما الليث كذب عن أقرانه صدقا (3)
أي: إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد. (خافضة) خبر مبتدأ محذوف
أي: هي خافضة رافعة.
(إذا رجت الأرض رجا) أي: حركت تحريكا شديدا حتى ينهدم كل شيء
فوقها من جبل وبناء. (وبست الجبال بسا) وفتتت حتى تعود كالسويق، أو:
سيقت وسيرت، من: بس الغنم إذا ساقها. (فكانت هبآء منبثا) متفرقا، وينتصب
(إذا رجت) ب‍ (خافضة رافعة)، أو: على البدل من (إذا وقعت).
(وكنتم أزوجا) أي: أصنافا (ثلثة)، (فأصحب الميمنة) الذين يعطون
صحائفهم بأيمانهم، (وأصحب المشئمة) الذين يعطونها بشمائلهم، أو: معناهما:
أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية، من قولهم: فلان من فلان باليمين
أو بالشمال: إذا وصفوه بالرفعة عنده أو بالضعة، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشؤمهم

(1) الفجر: 24.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 107.
(3) البيت من قصيدة طويلة يمدح فيها رجلا شجاعا، وعثر: اسم موضع، يقول: إذا كذب
الفارس - أي جبن - عن أقرانه في الحرب صدق هو ونفذ عزمه وقتل قرنه.
أنظر ديوان زهير: ص 43 وفيه: " ما كذب الليث عن... ".
489

بالشمائل، ولذلك اشتقوا من اليمن: اليمنى لليمين، ومن الشؤم: الشؤمى للشمال،
وتفألوا بالسانح وتطيروا بالبارح، وقيل: يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين، وبأهل
النار ذات الشمال (1). (ما أصحب الميمنة) و (ما أصحب المشئمة) تعجيب
من حال الفريقين في السعادة والشقاوة، كما يقال: هم، ما هم؟ والمعنى: أي شيء
هم؟ (والسبقون السبقون) أي: والسابقون من عرفت حالهم وبلغك صفتهم،
كقول الشاعر:
أنا أبو النجم وشعري شعري
أي: شعري ما عرفته وسمعت بفصاحته. (أولئك المقربون) مبتدأ وخبر، أي:
الذين قربت درجاتهم (في جنت النعيم) أي: أعلى المراتب.
والثلة: الأمة الكثيرة من الناس، وهي من " الثل " وهو الكسر، كما أن الأمة من
" الأم " وهو الشج، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم، والمعنى: أن
السابقين كثير (من الاولين) وهو الأمم من لدن آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (وقليل
من الآخرين) وهم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: (من الأولين) من متقدمي هذه
الأمة، ومن الآخرين: من متأخريها (2). وهذا في السابقين، وقال في أصحاب
اليمين: (وثلة من الأخرين)، وعن الحسن: سابقو الأمم أكثر من سابقي أمتنا،
وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمة (3). و (ثلة) خبر مبتدأ محذوف، أي: هم ثلة.
(على سرر موضونة) أي: منسوجة مرمولة بالذهب مشبكة بالدر
والياقوت، كما توضن حلق الدروع فيدخل بعضها في بعض، وقيل: متواصلة أدني

(1) قاله السدي. راجع تفسير القرطبي: ج 17 ص 198.
(2) قاله الحسن في تفسيره: ج 2 ص 322 ورفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
(3) المصدر السابق: ص 323.
490

بعضها من بعض (1). (متكئين) حال من الضمير في (على) أي: استقروا عليها
متكئين (متقبلين) لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، وصفهم سبحانه بتهذيب
الأخلاق وحسن المعاشرة.
(يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من
معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفكهة مما يتخيرون (20)
ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22) كأمثل اللؤلو
المكنون (23) جزآء بما كانوا يعملون (24) لا يسمعون فيها لغوا ولا
تأثيما (25) إلا قيلا سلما سلما (26) وأصحب اليمين مآ أصحب
اليمين (27) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل
ممدود (30) ومآء مسكوب (31) وفكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا
ممنوعة (33) وفرش مرفوعة (34) إنآ أنشأنهن إنشآء (35) فجعلنهن
أبكارا (36) عربا أترابا (37) لاصحب اليمين (38) ثلة من
الاولين (39) وثلة من الأخرين (40))
(يطوف عليهم) وصفاء وغلمان للخدمة (مخلدون) مبقون أبدا على شكل
الولدان، وحد الوصافة لا يتحولون عنه، وقيل: مقرطون والخلدة: القرط (2)،
وقيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا
عليها (3) روي ذلك عن علي (عليه السلام) (4).

(1) قاله الضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 280.
(2) قاله الفراء. راجع التبيان: ج 9 ص 493.
(3) قاله الحسن في تفسيره: ج 2 ص 324.
(4) رواه عنه (عليه السلام) القرطبي في تفسيره: ج 17 ص 203 مرسلا.
491

وسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أطفال المشركين، فقال: " هم خدام أهل الجنة " (1).
الأكواب: قداح واسعة الرؤوس بلا عرى ولا خراطيم، جمع كوب،
والأباريق: التي لها خراطيم. (لا يصدعون عنها) أي: بسببها، وحقيقته: لا يصدر
صداعهم عنها ولا يفرقون (2) عنها. (مما يتخيرون) أي: يأخذون خيره وأفضله،
و (يشتهون) يتمنون.
وقرئ: (وحور عين) بالرفع على: وفيها حور عين، كبيت الكتاب (3):
بادت وغير آيهن مع البلى * إلا رواكد جمرهن هباء
ومثجج أما سواء قذاله * فبدا وغير ساره المغراء (4)
لأن المعني بها: " رواكد " و " مثجج " أو: العطف على (ولدن)، وبالجر (5)
عطف على (جنت النعيم) كأنه قال: هم في جنات وفاكهة ولحم وحور، وقرأ
أبي وابن مسعود: " وحورا عينا " بالنصب (6) على: ويؤتون حورا. (جزآء)
مفعول له أي: يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم.
(سلما سلما) بدل من (قيلا) بمعنى: لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما،

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 459 مرسلا.
(2) في نسخة: لا ينزفون.
(3) أراد كتاب سيبويه الذي ألفه بعد موت أستاذه الخليل سنة 160 ه‍ لأجل إحياء علم
الخليل، وبلغ من شهرته وفضله عند النحويين فكان يقال: قرأ فلان الكتاب، فيعلم أنه يريد
كتاب سيبويه.
(4) لذي الرمة، وقيل: للشماخ. والرواكد: الأحجار التي توضع عليها القدر، والمثجج: وتد
الخباء الذي تثجج رأسه من الدق فبرز حول رأسه أطراف تشبه الشعر، يقول: هلكت تلك
الديار وبليت آثارها ولم يبق إلا محل للنار والرماد وبقية أوتاد الأخبية. أنظر ديوان ذي
الرمة: ص 617.
(5) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 623.
(6) حكاه عنهما ابن جني في المحتسب: ج 2 ص 309.
492

أو: مفعول به ل‍ (قيلا) بمعنى: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا: سلاما سلاما،
والمراد: أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاما بعد سلام.
والسدر: شجر النبق، والمخضود: الذي لا شوك له كأنما خضد شوكه، وعن
مجاهد: هو الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله (1)، من: خضد الغصن إذا ثناه
رطبا. والطلح: شجر الموز، وقيل: هو شجر أم غيلان، وله نوار كثير طيب
الرائحة (2). وعن السدي: هو شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من
العسل (3). والمنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق
بارزة.
(وظل ممدود) ممتد منبسط لا يتقلص كظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع
الشمس. (وماء مسكوب) يسكب لهم أين شاءوا وكيف شاءوا ولا يتعنون فيه،
وقيل: دائم الجرية لا ينقطع (4)، وقيل: مصبوب يجري على وجه الأرض في غير
أخدود (5). (لا مقطوعة) أي: هي دائمة لا تنقطع في بعض الأزمان كفواكه الدنيا
(ولا ممنوعة) بوجه من وجوه المنع من بعد متناول أو شوك، أو حظر عليها كما
يحظر على بساتين الدنيا.
(وفرش) جمع فراش (مرفوعة) نضدت حتى ارتفعت، أو: مرفوعة على
الأسرة، وقيل: هي النساء؛ لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك (6)،

(1) تفسير مجاهد: ص 641.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 112.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 461.
(4) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 125.
(5) قاله الثوري. راجع تفسير ابن كثير: ج 4 ص 291.
(6) قاله أبو عبيدة. راجع البحر المحيط لأبي حيان: ج 8 ص 207.
493

ويدل عليه قوله: (إنا أنشانهن إنشاء). وعلى التفسير الأول أضمر " لهن " لأن
ذكر الفرش - وهي المضاجع - دل عليهن.
(أنشأنهن إنشاء) ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة، فإما أن يراد:
اللاتي ابتدئ إنشاؤهن، أو اللاتي أعيد إنشاؤهن.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لأم سلمة: " هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز
شمطا رمصا، جعلهن الله بعد الكبر (أترابا) على ميلاد واحد في الاستواء، كلما
أتاهن أزواجهن وجدوهن (أبكارا) " فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه!
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس هناك وجع " (1).
(عربا) جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها، وقرئ: " عربا "
بالتحفيف (2)، (أترابا) مستويات في السن، وأزواجهن كذلك.
وفي الحديث: " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين، أبناء
ثلاث وثلاثين " (3).
واللام في (لاصحب اليمين) من صلة " أنشأنا " و " جعلنا ".
(وأصحب الشمال مآ أصحب الشمال (41) في سموم
وحميم (42) وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل
ذا لك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46) وكانوا
يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظما أءنا لمبعوثون (47) أو ءابآؤنا

(1) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 641 باسناده عن الحسن إلى قوله: " بعد الكبر "
وزاد بعده: " فجعلهن عذارى ".
(2) وهي قراءة حمزة وإسماعيل ويحيى. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 709.
(3) أخرجه أحمد في المسند: ج 2 ص 295 عن أبي هريرة وزاد: " على خلق آدم ستون ذراعا
في عرض سبع أذرع! "، وفي ج 5 ص 243 عن معاذ وليس فيه: " بيضا جعادا ".
494

الاولون (48) قل إن الاولين والاخرين (49) لمجموعون إلى ميقت
يوم معلوم (50) ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون (51) لأكلون من شجر
من زقوم (52) فمالون منها البطون (53) فشربون عليه من
ا لحميم (54) فشربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين (56)
نحن خلقنكم فلولا تصدقون (57) أفرءيتم ما تمنون (58) ءأنتم تخلقونه
أم نحن الخلقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن
بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثلكم وننشئكم في مالا تعلمون (61)
ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون (62) أفرءيتم ما تحرثون (63)
ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشآء لجعلنه حطما فظلتم
تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرءيتم المآء
الذي تشربون (68) ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو
نشآء جعلنه أجاجا فلولا تشكرون (70) أفرءيتم النار التى تورون (71)
ءأنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشون (72) نحن جعلنها تذكرة
ومتعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74))
(في سموم) في ريح حارة تدخل مسامهم (وحميم) في ماء مغلي حار
انتهت حرارته وتناهت (وظل من يحموم) دخان أسود بهيم. (لا بارد ولا
كريم) نفي لصفتي " الظل " عنه، يعني: أنه ظل حار ضار لا كسائر الظلال.
و (الحنث): الذنب، ومنه قولهم: بلغ الغلام الحنث أي: الحلم ووقت
المؤاخذة بالمآثم. (أو ءاباؤنا) دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف،
وقرئ: " أو آباؤنا " (1).

(1) قرأه نافع سوى ورش وابن عامر. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 636.
495

(إلى ميقات يوم معلوم) إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة
بمعنى: من، ك‍ " خاتم فضة "، والميقات: ما وقت به الشيء أي: حد، ومنه مواقيت
الإحرام.
(من شجر من زقوم): " من " الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبيين، وأنث
ضمير " الشجر " على المعنى، وذكره على اللفظ، في قوله: (منها) و (عليه).
(شرب الهيم) قرئ بفتح الشين (1) وضمها، وهما مصدران. والهيم: الإبل
التي بها الهيام، وهو داء تشرب منه ولا تروى، جمع " أهيم " و " هيماء ". وقيل:
الهيم: الرمال (2) فيكون جمع الهيام بفتح الهاء، جمع على " فعل " كسحاب
وسحب، ثم فعل به ما فعل بجمع " أبيض " (3)، والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع
ما يضطرهم إلى أكل الزقوم، فإذا ملؤوا منها البطون سلط عليهم من العطش ما
يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم.
والنزل: الرزق الذي يعد للنازل تكرمة له، وفيه تهكم، كقوله: (فبشرهم
بعذاب أليم) (4). (فلولا تصدقون) تحضيض على التصديق بالبعث، لأن من قدر
على الإنشاء قدر على الإعادة، يريد: (ما تمنونه) أي: تقذفونه في الأرحام من
النطف، (تخلقونه) تقدرونه وتصورونه. (نحن قدرنا بينكم الموت) تقديرا
على تفاوت، كما اقتضته الحكمة فاختلفت أعماركم. وقرئ: " قدرنا "
بالتخفيف (5)، يقال: سبقته على الشيء إذا غلبته عليه وأعجزته عنه.

(1) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 623.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 454.
(3) وهو أن خفف وكسر أوله لأجل الياء، فصارا " هيما " و " بيضا ".
(4) آل عمران: 21.
(5) قرأه ابن كثير وحده. راجع كتاب السبعة: ص 623.
496

فمعنى قوله: (وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم): إنا قادرون على
ذلك لا تغلبونني عليه، و (أمثلكم) جمع " مثل "، أي: على أن نبدل أمثالكم
ومكانكم أشباهكم من الخلق، وعلى أن (ننشئكم في) خلق لا تعلمونها وما
عهدتم بمثلها، يعني: إنا نقدر على الأمرين جميعا: على خلق ما يماثلكم وما لا
يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟! ويجوز أن يكون " أمثال " جمع " مثل "، أي:
على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في
صفات لا تعلمونها. وقرئ: (النشأة) و " النشآة " (1).
ما تحرثونه من الطعام أي: تبذرون حبه وتعملون في أرضه (ءأنتم
تزرعونه) تنبتونه وتجعلونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ غايته؟
وفي الحديث: " لا يقولن أحدكم: زرعت وليقل: حرثت " (2).
والحطام: ما تحطم وصار هشيما (فظلتم) أي: فظللتم (تفكهون) تتعجبون
مما أصابكم، وعن الحسن: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو: على ما
اقترفتم من المعاصي التي بسببها أصابكم ذلك (3)، وتقولون: (إنا لمغرمون) أي:
ملزمون غرامة ما أنفقنا، أو: مهلكون لهلاك رزقنا، من: " الغرام " وهو الهلاك.
(بل نحن) قوم (محرومون) محارفون محدودون لاحظ لنا ولا بخت، ولو كنا
مجدودين (4) لما أصابنا هذا.
و (المزن) السحاب، والأجاج: الملح الزعاق الذي لا يقدر على شربه،
وحذف اللام من جواب " لو " هنا اختصارا، وهي ثابتة في المعنى.

(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 601.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 652 عن أبي هريرة وفيه: " لا تقولن ".
(3) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 331.
(4) أي: محظوظين، يقال: صرت ذا جد أي: ذا حظ. (الصحاح: مادة جدد).
497

تورونها: أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب تقدح بعودين،
تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: الزند، والأسفل: الزندة. (أنشأتم
شجرتها) التي منها الزناد وأنبتموها. (تذكرة) تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها
أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس
ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به، أو: جعلناها أنموذجا من جهنم (ومتاعا)
ومنفعة (للمقوين) الذين ينزلون القواء، وهو القفر، أو: الذين خلت بطونهم
أو مزاودهم من الطعام.
(فسبح باسم ربك) أي: فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك، و (العظيم): صفة
للمضاف أو للمضاف إليه، وهو أن تقول: سبحان الله؛ تنزيها عما يقول الظالمون
الجاحدون نعمه، أو: تعجبا من أمرهم، أو: شكرا على هذه النعم التي عددها
سبحانه ونبه عليها.
(فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه
لقرءان كريم (77) في كتب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون (79)
تنزيل من رب العلمين (80) أفبهذا الحديث أنتم مدهنون (81)
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82) فلولا إذا بلغت الحلقوم (83)
وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85)
فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونهآ إن كنتم صدقين (87) فأمآ إن
كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأمآ إن كان من
أصحب اليمين (90) فسلم لك من أصحب اليمين (91) وأمآ إن كان
من المكذبين الضآلين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إن
هذا لهو حق اليقين (95) فسبح باسم ربك العظيم (96))
498

المعنى: فأقسم، و " لا " مزيدة مؤكدة، وقرأ الحسن: " فلأقسم " (1)، ومعناه:
فلأنا أقسم (بموقع النجوم) بمساقطها ومغاربها، أو: بمنازلها ومسائرها. وقوله:
(وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) اعتراض بين القسم والمقسم عليه، وقوله: (لو
تعلمون) اعتراض في اعتراض، اعترض به بين الموصوف والصفة، وقيل:
(موقع النجوم): أوقات وقوع نجوم القرآن أي: أوقات نزولها (2)، وقرئ:
" بموقع " على الإفراد (3) لأنه اسم جنس يؤدي مؤدى الجمع.
(إنه لقرءان كريم) عند الله أكرمه وأعزه، أو: كريم عام المنافع كثير الخير
ينال الثواب العظيم بتلاوته والعمل بما فيه، أو: خطير معجز مرضي في جنسه من
الكتب. (في كتب مكنون) مصون من غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه
من سواهم، وهم المطهرون من جميع الأدناس، إن جعلت الجملة صفة ل‍ (كتب
مكنون) وهو اللوح المحفوظ، وإن جعلته صفة ل‍ (قرءان) فالمعنى: (لا يمسه
إلا) من هو على الطهارة من الناس، يعني: مس المكتوب منه. (تنزيل) صفة
أخرى للقرآن، أي: منزل (من رب العلمين)، أو: وصف بالمصدر لأنه نزل
نجوما من بين سائر كتب الله، فكأنه في نفسه تنزيل، ولذلك جرى مجرى بعض
أسمائه حين قالوا: نطق التنزيل بكذا، وجاء في التنزيل كذا، أو: هو تنزيل،
على حذف المبتدأ.
(أفبهذا الحديث) يعني القرآن (أنتم مدهنون) أي: متهاونون به كمن يدهن
في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به. (وتجعلون رزقكم) على
حذف المضاف، أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب؟! والمعنى: أوضعتم

(1) حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 152.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 455.
(3) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة: ص 624.
499

التكذيب موضع الشكر؟! وعن علي (عليه السلام) أنه قرأ: " وتجعلون شكركم " (1) وروي
ذلك عن الباقر (عليه السلام) والصادق (عليه السلام) (2) أي: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم
تكذبون به، أو: تجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله
حيث تنسبونه إلى النجوم؟ وقرئ: " تكذبون " (3) وهو قولهم في القرآن: سحر
وشعر وافتراء، وفي المطر: هو من الأنواء، ولأن كل مكذب بالحق كاذب.
(فلولا إذا بلغت الحلقوم) ترتيبه: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم
غير مدينين، ف‍ " لولا " الثانية مكررة للتوكيد، والضمير في (ترجعونهآ) للنفس
وهي الروح، وفي (أقرب إليه) للمحتضر. وقوله: (غير مدينين) من: دان
السلطان الرعية إذا ساسهم، أي: غير مربوبين مملوكين. (ونحن أقرب إليه منكم)
يا أهل الميت بعلمنا وقدرتنا، أو: بملائكتنا الذين يقبضون روحه، والمعنى: إنكم
في جحودكم آيات الله سبحانه قد بلغتم كل مبلغ: إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم:
سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولا صادقا قلتم: ساحر (4) كذاب، وإن رزقكم
مطرا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا! فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد
بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في كفركم بالله وتعطيلكم؟!
(فأما إن كان) المتوفى (من المقربين) السابقين (فروح) فله استراحة
(وريحان) ورزق، وقرئ: " فروح " بالضم (5) وهو مروي عن الباقر (عليه السلام) (6)،

(1) حكاه عنه (عليه السلام) ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 152.
(2) أنظر تفسير القمي: ج 2 ص 349.
(3) وهي قراءة المفضل عن عاصم. راجع كتاب السبعة: ص 624.
(4) في نسخة: " ساحر شاعر ".
(5) وهي قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن عباس وقتادة والحسن. راجع المحتسب لابن جني: ج 2
ص 310.
(6) حكاه عنه (عليه السلام) أبو حيان في البحر: ج 8 ص 215.
500

أي: فرحمة لأن الرحمة كالحياة للمرحوم، وقيل: هو البقاء (1)، أي: فهذان له معا،
وهو الخلود مع الرزق.
(فسلم لك من أصحب اليمين) أي: فسلام لك يا صاحب اليمين من
إخوانك أصحاب اليمين أي: يسلمون عليك، كقوله: (إلا قيلا سلما سلما).
(فنزل من حميم) مثل قوله: (هذا نزلهم يوم الدين) (2). (إن هذا) الذي
أنزل في هذه السورة (لهو حق اليقين) أي: هو الحق الثابت من اليقين.
* * *

(1) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 253.
(2) الآية: 56.
501

سورة الحديد
مدنية (1)، وهي تسع وعشرون آية، عد الكوفي: (من قبله العذاب) (2)
والبصري: (الانجيل) (3).
وفي حديث أبي بن كعب: " ومن قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله
ورسوله " (4).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك
القائم، وإن مات كان في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (5).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة فريضة
أدمنها لم يعذبه الله حتى يموت أبدا، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءا أبدا " (6).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 517: مدنية بلا خلاف، وهي تسع وعشرون آية
في الكوفي والبصري، وثمان وعشرون في المدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 471: مدنية وهي تسع وعشرون آية، نزلت بعد الزلزلة.
(2) الآية: 13.
(3) الآية: 27.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 484 مرسلا وفيه: " ورسله ".
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 146. والمسبحات: هي السور التي تبدأ ب‍ " سبح " و " يسبح "،
وهن ست في القرآن: الحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن، والأعلى.
(6) المصدر السابق: ص 145 وزاد بعده: " ولا خصاصة في بدنه ".
503

بسم الله الرحمن الرحيم
(سبح لله ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (1) له
ملك السموات والارض يحىى ويميت وهو على كل شىء قدير (2) هو
الاول والأخر والظهر والباطن وهو بكل شىء عليم (3) هو الذي خلق
السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج
في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو
معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4) له ملك السموات
والارض وإلى الله ترجع الامور (5) يولج الليل في النهار ويولج النهار
في الليل وهو عليم بذات الصدور (6))
(سبح) يعدى بنفسه وباللام، وأصله التعدي بنفسه كما مر في قوله تعالى:
(وتسبحوه) (1) لأن معنى " سبحته ": بعدته عن السوء، منقول من: سبح إذا ذهب
وبعد، واللام مثلها في قولهم: نصحته ونصحت له، أو: بمعنى: أحدث التسبيح لأجل
الله ولوجهه خالصا (ما في السموت والأرض) مما يصح منه أن يسبح.
(يحى) يجوز أن يكون مرفوع المحل على: هو يحيي، ومنصوبا على الحال
من المجرور في (له)، والجار يعمل فيه، وأن يكون جملة برأسها لا محل لها
كقوله: (له ملك السموت).
(هو الاول) القديم السابق لجميع الموجودات بما لا يتناهى من الأوقات
أو تقدير الأوقات، (والاخر) الذي يبقى بعد فناء كل شيء (والظهر) بالأدلة

(1) الفتح: 9.
504

الدالة عليه (والباطن) من إحساس خلقه لا يدرك بالحواس، وقيل: معناهما:
العالم بما ظهر والعالم بما بطن (1). (وهو معكم) بالعلم (أينما كنتم) لا يخفى
عليه شيء من أحوالكم.
(ءامنوا بالله ورسوله ى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين
ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول
يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثقكم إن كنتم مؤمنين (8) هو الذي
ينزل على عبده ى ءايت بينت ليخرجكم من الظلمت إلى النور وإن
الله بكم لرءوف رحيم (9) ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث
السموات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقتل
أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقتلوا وكلا وعد الله
الحسنى والله بما تعملون خبير (10))
(وأنفقوا) من أموالكم التي (جعلكم) الله خلفاء في التصرف فيها، ومتعكم
بها، فليست هي بأموالكم على الحقيقة، وإنما أنتم بمنزلة الوكلاء من جهة الله فيها،
فليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الإنسان الإنفاق من مال الغير إذا أذن له
فيه، أو: (جعلكم مستخلفين) ممن كان قبلكم بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم
حيث انتقل منهم إليكم، وسينتقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به واستوفوا
حظكم منه قبل أن يصير لغيركم.
(لا تؤمنون) حال من معنى الفعل في (ما لكم) كما تقول: ما لك قائما؟
بمعنى: ما تصنع قائما؟ أي: وما لكم كافرين بالله؟ والواو في (والرسول
يدعوكم) واو الحال أيضا، فهما حالان متداخلتان، والمعنى: وأي عذر لكم في

(1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 122.
505

ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه، ويتلو عليكم القرآن المعجز؟
(و) قبل ذلك (قد أخذ) الله (ميثقكم) بالإيمان حيث ركب فيكم العقول،
ونصب لكم الأدلة، ومكنكم من النظر فيها، فإذا لم يبق لكم علة بعد أدلة العقول
وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون (إن كنتم مؤمنين) لموجب ما، فإن هذا
الموجب لا مزيد عليه، وقرئ: " أخذ ميثاقكم " (1) على البناء للمفعول.
(ليخرجكم) الضمير لله أو للرسول، أي: ليخرجكم الله بآياته وأدلته، أو الرسول
بدعوته من ظلمات الكفر إلى نور الايمان.
(ما لكم ألا تنفقوا) في أن لا تنفقوا (ولله ميرث السموت والأرض) يرث
كل شيء فيهما، لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره. والمعنى: وأي غرض لكم
في ترك الإنفاق في سبيل الله، والجهاد مع رسول الله، والله مميتكم ووارث
أموالكم؟ ثم بين التفاوت بين المنفقين فقال: (لا يستوى منكم من أنفق) قبل فتح
مكة، قبل عز الإسلام وقوة أهله " ومن أنفق من بعد الفتح " فحذف للعلم به،
(أولئك) الذين أنفقوا قبل الفتح (أعظم درجة... وكلا) وكل واحد من الفريقين
(وعد الله) المثوبة (الحسنى) وهي الجنة مع تفاوت الدرجات، وقرئ
بالرفع (2) على: وكل وعده الله الحسنى، وقيل: المراد: فتح الحديبية (3).
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له وله أجر
كريم (11) يوم ترى المؤمنين والمؤمنت يسعى نورهم بين أيديهم
وبأيمنهم بشراكم اليوم جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها

(1) قرأه أبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 625.
(2) قرأه ابن عامر وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 711.
(3) قاله عامر الشعبي. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 674.
506

ذا لك هو الفوز العظيم (12) يوم يقول المنفقون والمنفقت للذين
ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظهره من قبله ى
العذاب (13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم
وتربصتم وارتبتم وغرتكم الامانى حتى جآء أمر الله وغركم بالله
الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأوئكم
النار هى مولكم وبئس المصير (15))
قرئ: " فيضعفه " (1) و (فيضعفه) (2) وقرئا منصوبين ومرفوعين، أي:
يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا من فضله (وله أجر كريم) جزاء خالص
لا يشوبه ما ينغصه (3).
(يوم ترى) ظرف لقوله: (وله أجر كريم)، (يسعى نورهم بين أيديهم
وبأيمنهم) لأنهم أوتوا صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، فجعل النور في
الجهتين شعارا لهم وآية لسعادتهم وفلاحهم، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على
الصراط يسعون، سعى ذلك النور بسعيهم، ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة:
(بشراكم اليوم جنت) وعن ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم،
فمنهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفأ مرة ويتقد
أخرى (4).

(1) هي قراءة ابن كثير وابن عامر، إلا أن الأول يرفعه والآخر ينصبه. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 625.
(2) بالرفع قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع المصدر السابق.
(3) في نسخة: " ينقضه ".
(4) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 295.
507

(يوم يقول) بدل من (يوم ترى)، (انظرونا) انتظرونا لأنهم يسرع بهم
إلى الجنة، أو: انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين
أيديهم فيستضيئون به، وقرئ: " أنظرونا " (1) من النظرة وهي الإمهال، جعل
اتئادهم (2) في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم (نقتبس من نوركم) نصب
منه، ونستضيء به (قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا) تهكم بهم وطرد لهم، أي:
ارجعوا إلى حيث أعطينا هذا النور فاطلبوه هناك، فمن ثم يقتبس، أو: ارجعوا إلى
الدنيا فالتمسوا النور منها فإنا كسبنا النور هناك، وقيل: إن (ورآءكم) اسم
ل‍ (ارجعوا)، وليس بظرف للرجوع، كما تقول: وراءك بمعنى: ارجع، والتقدير:
ارجعوا ارجعوا (فضرب) بين المؤمنين والمنافقين (بسور) أي: حائط حائل
بين شق الجنة وشق النار، لذلك السور (باب) لأهل الجنة يدخلون منه،
(باطنه) باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة (فيه الرحمة) أي:
الجنة، (وظاهره) ما ظهر لأهل النار (من قبله) من عنده ومن جهته (العذاب)
وهو النار.
(ينادونهم ألم نكن معكم) يريدون موافقتهم في الظاهر، قال المؤمنون:
(بلى) كنتم معنا تصلون وتصومون (ولكنكم فتنتم أنفسكم) محنتموها بالنفاق
وأهلكتموها (وتربصتم) بالمؤمنين الدوائر (وارتبتم) وشككتم (وغرتكم
الامانى) التي تمنيتموها (حتى جآء أمر الله) وهو الموت (وغركم بالله
الغرور) الشيطان، وقيل: الدنيا (3).

(1) قرأه حمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 625.
(2) التؤدة - بسكون الهمزة وفتحها -: التأني والتمهل، يقال: اتأد في مشيه وتوأد: إذا تمهل فيه
وتأنى. (لسان العرب: مادة وأد).
(3) قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 476.
508

(فاليوم لا يؤخذ) قرئ بالياء والتاء (1) (فدية) ما يفتدى به (مأواكم
النار) أي: مقركم الذي تأوون أنتم إليه (هى مولكم) أولى بكم، كما قال لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها (2)
والمعنى: أنها تلي عليكم وتملك أمركم، فهي أولى بكم من كل شيء.
(ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من
الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتب من قبل فطال عليهم الأمد
فقست قلوبهم وكثير منهم فسقون (16) اعلموا أن الله يحى الأرض
بعد موتها قد بينا لكم الأيت لعلكم تعقلون (17) إن المصدقين
والمصدقت وأقرضوا الله قرضا حسنا يضعف لهم ولهم أجر
كريم (18) والذين ءامنوا بالله ورسله ى أولئك هم الصديقون والشهدآء
عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بايتنآ أولئك
أصحب الجحيم (19) اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وزينة
وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولد كمثل غيث أعجب الكفار
نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطما وفي الأخرة عذاب شديد
ومغفرة من الله ورضوان وما الحيواة الدنيآ إلا متع الغرور (20)
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والارض
أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ى ذا لك فضل الله يؤتيه من يشآء والله
ذو الفضل العظيم (21))
أنى الأمر يأني: إذا جاء أناه أي: وقته، وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا

(1) قرأه ابن عامر في رواية هشام. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 626.
(2) البيت من معلقته المشهورة. أنظر ديوان لبيد بن ربيعة: ص 173.
509

وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين (1). وعن ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب
المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن بهذه الآية (2). وعن
محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين فلما هاجروا أصابوا الريف (3) والنعمة،
فتغيروا عما كانوا عليه، فقست قلوبهم فنزلت (4). والمعنى: ألم يحن للمؤمنين أن
تلين قلوبهم وترق إذا ذكر الله وتلي القرآن عندهم؟ أو: لما يذكرهم الله به من
مواعظه وما نزله من القرآن؟ وقرئ: (نزل) و " نزل " (5) بالتخفيف والتشديد
(ولا يكونوا) عطف على (تخشع)، وقرئ: " ولا تكونوا " بالتاء (6) على
الالتفات، ويجوز أن يكون نهيا عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب، بعد أن
وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا
التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء
والقسوة، واختلفوا، وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره، و (الأمد): الأجل.
(اعلموا أن الله يحى الأرض بعد موتها) هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب،
وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض، أو: يحييها الله بعد موتها، ويلينها بعد القسوة
بالألطاف والتوفيقات.
(إن المصدقين) قرئ بتشديد الصاد بمعنى: " المتصدقين "، وبتخفيفها (7)
بمعنى: الذين يصدقون الله ورسوله، وعطف قوله: (وأقرضوا الله) على معنى

(1 و 2) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 297.
(3) الريف: أرض فيها زرع وخصب، يقال: أرافت الأرض: أي أخصبت. (الصحاح: مادة ريف).
(4) أوردها القرطبي في تفسيره: ج 17 ص 250.
(5) بالتشديد قرأها ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر.
راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 262.
(6) هي قراءة رويس. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 712.
(7) قرأه ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة السابق.
510

الفعل في (المصدقين) لأن اللام بمعنى " الذين "، واسم الفاعل بمعنى:
" اصدقوا " أو " صدقوا ". كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا، وقرئ:
(يضعف) و " يضعف " (1).
(والذين ءامنوا بالله ورسله) هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، وهم
الذين سبقوا (2) إلى التصديق، ورسخت أقدامهم فيه، والذين استشهدوا في سبيل
الله (لهم أجرهم ونورهم) أي: لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم.
وعن الصادق (عليه السلام): إن المؤمن شهيد، وقرأ هذه الآية.
ويجوز أن يكون (والشهدآء) مبتدأ و (لهم أجرهم) خبره.
ثم زهد سبحانه المؤمنين في الدنيا فقال: ليست (الحيوة الدنيا) إلا
محقرات من الأمور، وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، ثم شبه حالها
وسرعة انقضائها وقلة جدواها بنبات أنبته الغيث و (أعجب) الكفار وهم الزراع
أو الكافرون نعمة الله، (ثم يهيج) ويصفر ويصير (حطما)، (وفي الأخرة)
أمور عظام وهي: العذاب الشديد، ومغفرة الله، ورضوانه.
(سابقوا) أي: بادروا مبادرة السابقين لأقرانهم في المضمار (إلى مغفرة من
ربكم) منجية من العذاب الشديد، وإلى (جنة عرضها كعرض) السبع السموات
وسبع الأرضين. وذكر العرض دون الطول لأن كل ما له عرض وطول فإن عرضه
أقل من طوله، فإذا كان العرض مثل السموات والأرض فطولها لا يعلمه إلا الله.
وعن الحسن: أن الله يفني الجنة ثم يعيدها على ما وصفه، فلذلك صح وصفها بأن
عرضها كعرض السماء والأرض (3) (أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله) أي:

(1) هي قراءة ابن كثير وحده. راجع المصدر نفسه: ص 184.
(2) في بعض النسخ: " صدقوا ".
(3) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 532.
511

هيئت وادخرت للمؤمنين المصدقين ذلك الموعود من المغفرة والجنة (فضل
الله) عطاؤه، ولأن الأسباب الموصلة إلى الثواب من التكليف والتعريض
والتمكين والألطاف كلها تفضل (يؤتيه من يشآء) وهم المؤمنون.
(مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتب من
قبل أن نبرأهآ إن ذا لك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم
ولا تفرحوا بمآ ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (23) الذين
يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغنى
الحميد (24) لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وأنزلنا معهم الكتب وا لميزان
ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنفع للناس
وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز (25) ولقد
أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب فمنهم مهتد
وكثير منهم فسقون (26) ثم قفينا على ءاثرهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن
مريم وءاتينه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة
ورهبانية ابتدعوها ما كتبنها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها
حق رعايتها فاتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثير منهم فسقون (27))
المصيبة في الأرض مثل القحط ونقص الثمار، وفي الأنفس مثل الأمراض
والثكل بالأولاد، والكتاب: اللوح المحفوظ (من قبل أن نبرأهآ) الضمير للأنفس
أو المصيبة (إن) تقدير (ذلك) وإثباته في كتاب (على الله يسير) هين.
ثم علل ذلك وبين وجه الحكمة فيه بقوله: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) من
نعم الدنيا (ولا تفرحوا بمآ ءاتكم) الله عز اسمه منها. والمعنى: أنكم إذا علمتم أن
كل شيء مقدر مكتوب عند الله قل حزنكم على الفائت وفرحكم على الآتي، وكذا
إذا علمتم أن شيئا منها لا يبقى لم تهتموا لأجله واهتممتم لأمور الآخرة التي تدوم
512

ولا تبيد (والله لا يحب كل مختال فخور) لأن من فرح بشيء من زخارف الدنيا
وعظم قدره عنده اختال وافتخر به وتكبر على الناس. وقرئ: " بمآ ءاتكم "
و " أتاكم " (1) من الإيتاء والإتيان.
(الذين يبخلون) بدل من قوله: (كل مختال فخور)، كأنه قال: لا يحب
الذين يبخلون ويحملون الناس على البخل يرغبونهم فيه، وذلك كله نتيجة فرحهم
بزينة الدنيا (ومن يتول) عن أوامر الله ونواهيه (فإن الله هو الغنى) عنه وعن
طاعته (الحميد) في جميع أفعاله، وقرئ: " فإن الله الغني " (2).
(بالبينت) بالدلائل والمعجزات، و (الكتب): الوحي وما يحتاج الخلق
إليه من الحلال والحرام (والميزان): العدل، وقيل: هو الميزان ذو الكفتين (3)
وروي: أن جبرائيل (عليه السلام) نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به (4).
(وأنزلنا الحديد) أي: خلقناه وأنشأناه كقوله: (وأنزل لكم من الانعم ثمنية
أزوج) (5)، وذلك أن أوامره تنزل من السماء إلى الأرض وأحكامه.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن الله عز وجل أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض:
أنزل الحديد والنار والماء والملح " (6).
(فيه بأس شديد) وهو القتال به (ومنفع للناس) في معائشهم

(1) قرأه أبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 626.
(2) أي بحذف " هو " وهي قراءة نافع وابن عامر، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام.
راجع المصدر السابق: ص 627.
(3) وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 534.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 480 مرسلا.
(5) الزمر: 6.
(6) رواه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 299 بسند إلى ابن عمر يرفعه.
513

وصنائعهم (1)، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها (وليعلم الله من ينصره
ورسله) باستعمال السيوف وسائر الأسلحة في مجاهدة أعداء الدين (بالغيب)
غائبا عنهم، عن ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه (2)، (إن الله قوى) بقدرته
(عزيز) يهلك من أراد هلاكه، فهو غني عن خلقه، وإنما كلفهم الجهاد ليصلوا
بامتثال أمره إلى الثواب.
خص سبحانه نوحا وإبراهيم بالذكر لأنهما أبوا الأنبياء. (والكتب):
الوحي، وعن ابن عباس: الخط بالقلم (3) (فمنهم) فمن الذرية، أو: من المرسل
إليهم، ودل عليه ذكر الإرسال والمرسلين، أي: فمنهم (مهتد) ومنهم فاسق،
والغلبة للفساق.
وقرئ: " رآفة " (4) والمعنى: وفقناهم للتعاطف والتراحم بينهم، والرهبانية:
ترهبهم في الجبال والصوامع، وانفرادهم عن الجماعة للعبادة، ومعناها: الفعلة
المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف، فعلان من رهب، أي خاف، كخشيان من
خشي، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر، والتقدير: ابتدعوا رهبانية
(ابتدعوها) أي: وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها (ما كتبنها عليهم) لم
نفرضها نحن عليهم (إلا ابتغآء رضون الله) استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها
(ابتغآء رضون الله فما رعوها حق رعايتها) كما يجب على الناذر رعاية نذره
لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه. (فآتينا الذين ءامنوا منهم) بعيسى، وهم أهل

(1) في نسخة: " ومنافعهم ".
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 481.
(3) حكاه عنه الزمخشري أيضا في الكشاف.
(4) على زنة " فعالة " بإبدال الهمزة ألفا وهي قراءة أبي عمرو والأعشى. راجع كتاب التذكرة
في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 565.
514

الرأفة والرحمة (أجرهم وكثير منهم فسقون) لم يحافظوا على نذرهم، وقيل:
معناه: فما رعوها حق رعايتها إذ لم يؤمنوا بنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بعث (1)، فآتينا
الذين آمنوا به منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون أي: كافرون.
(يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله ى يؤتكم كفلين من
رحمته ى ويجعل لكم نورا تمشون به ى ويغفر لكم والله غفور رحيم (28)
لئلا يعلم أهل الكتب ألا يقدرون على شىء من فضل الله وأن الفضل
بيد الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم (29))
(يا أيها الذين ءامنوا) بموسى وعيسى (اتقوا الله وءامنوا برسوله) أي:
بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (يؤتكم) الله (كفلين) نصيبين (من رحمته) لإيمانكم
بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبمن تقدمه من الأنبياء (ويجعل لكم) يوم القيامة (نورا تمشون
به ويغفر لكم) ما أسلفتموه من المعاصي.
(لئلا يعلم): " لا " مزيدة أي: لأن يعلم أو: ليعلم (أهل الكتب) الذين لم
يؤمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن لا يقدرون): " أن " مخففة من الثقيلة، وأصله: أنه لا
يقدرون، والضمير للشأن (على شىء من فضل الله) أي: لا ينالون شيئا مما ذكر
من فضله من الكفلين والنور والمغفرة، لأنهم لم يؤمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم ينفعهم
إيمانهم بمن تقدمه من الأنبياء، وقيل: إن (لا) ليست بزائدة، والمعنى: لئلا يعلم
اليهود أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله (2)، أي: يعلمون أنهم
يقدرون عليه ولم يعلموا خلافه، والضمير في (يقدرون) للنبي والمؤمنين.
* * *

(1) قاله ابن عباس والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 691 و 692.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 131.
515

سورة المجادلة
مدنية (1) اثنتان وعشرون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة "
الخبر (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
(قد سمع الله قول التى تجدلك في زوجها وتشتكى إلى الله والله
يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير (1) الذين يظهرون منكم من
نسآئهم ما هن أمهتهم إن أمهتهم إلا الى ولدنهم وإنهم ليقولون
منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور (2) والذين يظهرون من

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 539: مدنية بلا خلاف، وهي اثنا وعشرون آية في
الكوفي والبصري والمدني الأول، وإحدى وعشرون في المدني الأخير.
وفي الكشاف: ج 4 ص 484: مدنية وآياتها (22) نزلت بعد " المنافقون ".
وفي تفسير القرطبي: ج 17 ص 269: مدنية في قول الجميع إلا رواية عن عطاء: أن
العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى:
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) نزلت بمكة.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 497 مرسلا وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) في
سورة الحديد المباركة، فراجع.
517

نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا ذا لكم
توعظون به ى والله بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذا لك
لتؤمنوا بالله ورسوله ى وتلك حدود الله وللكفرين عذاب أليم (4) إن
الذين يحآدون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنآ
ءايت بينت وللكفرين عذاب مهين (5))
نزلت في خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة، رآها ساجدة،
فلما انصرفت من صلاتها راودها فأبت، فغضب، وكان به خفة ولمم (1)، فظاهر
منها، فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في،
فلما خلا سني ونثرت بطني - أي: كثر ولدي - جعلني عليه كأمه، فقال عليه وآله
السلام: ما أراك إلا حرمت عليه، فقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقا، وإنه أبو ولدي،
وجعلت تقول: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، فنزلت (2): (قول التى
تجدلك) أي: تراجعك الكلام في أمر (زوجها) وشأنه، تظهر شكواها وما بها
من المكروه (إلى الله والله يسمع تحاوركما) تخاطبكما.
وقرئ: " يظاهرون " (3) و " يظهرون " (4) وأصلهما: يتظاهرون ويتظهرون،
وقرئ: (يظهرون) من المظاهرة والظهار (منكم) فيه توبيخ للعرب، إذ كان
الظهار من أيمانهم، والمعنى: إن من يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ملحق
في كلامه هذا امرأته بأمه وجاعلها مثلها. وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين.

(1) اللمم: المتقارب من الذنوب، واللمم أيضا: طرف من الجنون. (الصحاح).
(2) أسباب النزول للواحدي: ص 347.
(3) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 628.
(4) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو. راجع المصدر السابق.
518

(إن أمهتهم) أي: ما أمهاتهم على الحقيقة (إلا الئى ولدنهم) وغيرهن
ملحقات بهن لدخولهن في حكمهن، فالمرضعات دخلن بالرضاع في حكم
الأمهات، وكذلك أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمهات المؤمنين، لأن الله تعالى حرم
نكاحهن على الأمة، فدخلن بذلك في حكم الأمهات. وأما الزوجات فأبعد شيء
من الأمومة، لأنهن لسن بأمهات على الحقيقة، ولا بداخلات في حكم الأمهات،
فكان قول المظاهر (منكرا من القول) تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية،
(وزورا) وكذبا باطلا منحرفا عن الحق (وإن الله لعفو غفور) لما سلف منه إذا
تيب منه.
(ثم يعودون لما قالوا) فيه وجوه: أحدها: أن المراد: والذين كانوا يقولون
هذا القول المنكر فتركوه بالإسلام ثم يعودون لمثله، فكفارة من عاد أن يحرر رقبة
- أي: يعتقها - ثم يماس امرأته التي ظاهر منها، لا يحل له مماستها إلا بعد تقديم
الكفارة. وثانيها: أن المعنى: ثم يتداركون ما قالوا، لأن المتدارك للأمر عائد إليه،
ومنه المثل: " عاد غيث على ما أفسد " أي: تداركه بالإصلاح. ومعناه: أن تدارك
هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى يرجع حالهما كما كانت قبل الظهار. وثالثها: أن
يكون المراد بما قالوا: ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للمقول منزلة
المقول فيه، نحو ما ذكر في قوله تعالى: (ونرثه ما يقول) (1)، ومعناه: ثم يريدون
العود للتماس، وهو الاستمتاع بها من جماع أو لمس بشهوة (ذلكم) الحكم
(توعظون به) لأن الحكم بالكفارة دليل على ركوب الإثم والجناية، فينبغي أن
يتعظوا بهذا الحكم حتى لا يعودوا إلى الظهار.

(1) مريم: 80.
519

(فمن لم يجد) الرقبة فعليه (صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا)
فإن صام بعض الشهرين ثم وجد الرقبة لا يلزمه الرجوع إليها، وإن رجع كان
أفضل (فمن لم يستطع) الصوم لعلة أو كبر فعليه (إطعام ستين مسكينا) لكل
مسكين نصف صاع، فإن لم يقدر فمد (ذلك) البيان والتعليم للأحكام (لتؤمنوا
بالله ورسوله) في العمل بشرائعه (وتلك حدود الله) التي لا يجوز تعديها
(وللكفرين) المتعدين حدود الله (عذاب أليم).
(يحادون) يعادون ويشاقون (كبتوا) أي: أذلوا وأخزوا كما أخزي الذين
من قبلهم من أعداء الرسل.
(يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصله الله ونسوه
والله على كل شىء شهيد (6) ألم تر أن الله يعلم ما في السموات
وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا
هو سادسهم ولا أدنى من ذا لك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم
ينبئهم بما عملوا يوم القيمة إن الله بكل شىء عليم (7) ألم تر إلى
الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتنجون بالإثم
والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جآءوك حيوك بما لم يحيك به ى الله
ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها
فبئس المصير (8) يأيها الذين ءامنوا إذا تنجيتم فلا تتنجوا بالإثم
والعدوان ومعصيت الرسول وتنجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي
إليه تحشرون (9) إنما النجوى من الشيطن ليحزن الذين ءامنوا وليس
بضآرهم شيا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (10))
520

(يوم) نصب ب‍ (مهين) أو ب‍ " لهم " (1)، أي: يبعثهم الله كلهم، لا يترك منهم
أحدا غير مبعوث، أو: مجتمعين في حالة واحدة كما يقال: حي جميع. (فينبئهم
بما عملوا) توبيخا لهم وتخجيلا على رؤوس الأشهاد (أحصه الله) عليهم
وأثبته في كتاب أعمالهم، (ونسوه).
(ألم تر) استفهام معناه: التقرير (ما يكون) قرئ بالتاء (2) والياء وهي
" كان " التامة، و (من) مزيدة، والنجوى: التناجي، وهو مضاف إلى (ثلثة) أي:
من نجوى ثلاثة نفر، أو: موصوف ب‍ (ثلثة) أي: من أهل نجوى ثلاثة، فحذف
" أهل " وذكر عز اسمه " الثلاثة " و " الخمسة "، وقال: (ولآ أدنى من ذلك) فدل
على الاثنين والأربعة، وقال: (ولا أكثر) فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه.
وقرئ: (ولا أكثر) بالنصب ليدل على أن " لا " لنفي الجنس، ويجوز أن يكون
" ولا أكثر " مرفوعا (3) معطوفا على محل (لا) مع (أدنى) كما يقال: " لا حول
ولا قوة إلا بالله " بفتح الأول ورفع الثاني، ويجوز أن يكونا مرفوعين على
الابتداء، أو: عطفا على محل (من نجوى)، ومعنى كونه (معهم): أنهم يتناجون
وهو يعلم نجواهم لا يخفى عليه شىء منها، فكأنه يشاهدهم.
و (الذين نهوا عن النجوى) اليهود والمنافقون، كانوا يتناجون فيما بينهم
وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فكان ذلك يحزن المؤمنين، فنهاهم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، فعادوا لمثل فعلهم، وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان
للمؤمنين، وتواص بمعصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومخالفته، وقرئ: " وينتجون " (4)

(1) بتقدير: استقر لهم العذاب المهين في ذلك اليوم وهو يوم البعث.
(2) هي قراءة أبي جعفر المدني. راجع التبيان: ج 9 ص 546.
(3) كذا قرأها يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 715.
(4) قرأه حمزة ورويس. راجع المصدر السابق.
521

" فلا تنتجوا " (1) من الانتجاء، افتعال من " النجوى ".
(وإذا جآءوك حيوك بما لم يحيك به الله) يقولون في تحيتك: " السام عليك "
والسام: الموت، والله تعالى يقول (2): (وسلام على عباده الذين اصطفى) (3).
(ويقولون في أنفسهم): لو كان نبيا فهلا (يعذبنا الله بما نقول) فقال الله سبحانه:
(حسبهم جهنم) عذابا (يصلونها) يوم القيامة (فبئس المصير) والمآل.
(يأيها الذين ءامنوا) بألسنتهم إن كان الخطاب للمنافقين، وإن كان
للمؤمنين فالمراد: (إذا تنجيتم) فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر
(وتنجوا بالبر والتقوى).
وفي الحديث: " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك
يحزنه " (4). وروي: " دون الثالث " (5).
(إنما النجوى) اللام إشارة إلى النجوى بالإثم والعدوان بدليل قوله:
(ليحزن الذين ءامنوا) والمعنى: أن الشيطان يزينها لهم فكأنها منه ليغيظ الذين
آمنوا ويحزنهم (وليس) الشيطان أو الحزن (بضآرهم شيئا إلا بإذن الله) أي:
بمشيئة الله، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم كما كانوا يوهمون المؤمنين ذلك
إذا تناجوا، وقرئ: " ليحزن " (6) من: أحزنه.
(يأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا

(1) هي قراءة رويس وحده. راجع المصدر نفسه.
(2) في نسخة بدل " والله تعالى يقول ": " وتحية الله تعالى ".
(3) النمل: 59.
(4) رواه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 1718 ح 2184 وما بعده عن ابن مسعود.
(5) وهو ما رواه البخاري في الصحيح: ج 8 ص 117 ح 6290 من طريقه إلى ابن مسعود،
وفي ح 6288 بلفظ " إذا كانوا " عن ابن عمر.
(6) وهي قراءة نافع على ما في تفسير السمرقندي: ج 3 ص 336.
522

يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين ءامنوا منكم
والذين أوتوا العلم درجت والله بما تعملون خبير (11) يأيها الذين
ءامنوا إذا نجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة ذا لك خير
لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (12) ءأشفقتم أن تقدموا
بين يدى نجواكم صدقت فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا
الصلواة وءاتوا الزكواة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما
تعملون (13) ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ماهم منكم
ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون (14) أعد الله لهم عذابا
شديدا إنهم سآء ما كانوا يعملون (15) اتخذوا أيمنهم جنة فصدوا عن
سبيل الله فلهم عذاب مهين (16) لن تغنى عنهم أموا لهم ولا أولدهم
من الله شيا أولئك أصحب النار هم فيها خلدون (17))
(تفسحوا في المجلس) توسعوا فيه، وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم:
افسح عني أي: تنح، ولا تتضاموا. وهو مجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتضامون فيه
حرصا على القرب منه ليستمعوا منه كلامه، وقرئ: (في المجلس) على
الجمع (1) وقيل: هو المجلس من مجالس القتال، وهي مراكز الغزاة كقوله: (مقعد
للقتال) (2) وكان الرجل يأتي الصف فيقول: تفسحوا فيأبون لحرصهم على
الشهادة (3) وقوله: (يفسح الله لكم) مطلق في كل ما يطلب الفسحة فيه من
الرزق والمكان والقبر وغير ذلك (وإذا قيل انشزوا) انهضوا عن مجلس

(1) الظاهر أن المصنف رحمه الله قد اعتمد هنا - تبعا للكشاف - على قراءة المفرد، وهي قراءة
الجمهور إلا عاصما. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 628.
(2) آل عمران: 121.
(3) قاله الحسن البصري في تفسيره: ج 2 ص 340.
523

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو: انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال البر (فانشزوا) قرئ بضم
الشين وكسرها (1) (يرفع الله) المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله والعالمين
منهم خاصة (درجت) وكان عبد الله بن مسعود إذا قرأها قال: يا أيها الناس
افهموا هذه الآية، ولترغبكم في العلم (2).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " بين العالم والعابد مائة درجة، بين كل درجتين حضر
الجواد المضمر سبعين سنة " (3).
وعنه (عليه السلام): " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر
الكواكب " (4).
وعنه (عليه السلام): " يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء " (5)
فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن الزهري: العلم ذكر فلا يحبه إلا الذكورة من الرجال (6).
وروي: أن الناس أكثروا مناجاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أملوه، فأمروا بالصدقة قبل
المناجاة، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته، فلم يناجه إلا علي (عليه السلام) قدم دينارا
فتصدق به، ثم نزلت آية الرخصة (7).

(1) وبالكسر قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 629.
(2) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 309 - 310.
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: ج 1 ص 27.
(4) أخرجه الترمذي في السنن: ج 5 ص 48 - 49 ضمن ح 2682 عن أبي الدرداء.
(5) أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 2 ص 1443 ح 4313 عن عثمان بن عفان.
(6) حكاه عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: ج 1 ص 25.
(7) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 21 قريبا منه، من طرق عن علي (عليه السلام) وابن عباس
ومجاهد.
524

وعن علي (عليه السلام): إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد
بعدي، كان لي دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم (1). قال الكلبي:
تصدق في عشر كلمات سألهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وعن ابن عمر: كان لعلي (عليه السلام) ثلاث لو كانت لي واحدة منهن أحب إلي من
حمر النعم: تزويجه فاطمة (عليها السلام)، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى (3).
(ذلك) التقديم (خير لكم) في دينكم (وأطهر) لأن الصدقة تطهير. وعن
ابن عباس: هي منسوخة بالآية التي بعدها (4). (ءأشفقتم) أخفتم تقديم
الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي يعدكم الشيطان به الفقر والعيلة، (فإذ لم
تفعلوا) ما أمرتم به وشق عليكم (وتاب الله عليكم) تقصيركم وتفريطكم فيه
(فأقيموا الصلوة) فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات (بما
تعملون) قرئ بالتاء والياء في الموضعين (5).
كانوا يتولون اليهود وهم (الذين غضب الله عليهم) في قوله: (من لعنه الله
وغضب عليه) (6) ويناصحونهم (ما هم منكم) يا مسلمون (ولا منهم) ولا من
اليهود كقوله: (مذبذبين بين ذلك) (7)، (ويحلفون على الكذب) أي: يقولون:

(1) أخرجه في المستدرك على الصحيحين: ج 2 ص 482، وفي أرجح المطالب: ص 80،
والطبري في تفسيره: ج 12 ص 20.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 494.
(3) أخرجه ابن الجوزي في التذكرة: ص 21، وفي مرآة المؤمنين: ص 61، وفي منال الطالب:
ص 124 مخطوط.
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 494، وفي تفسير الطبري: ج 12 ص 21
عن عكرمة مولى ابن عباس والحسن البصري أنهما قالا ذلك.
(5) أي في الآية: 11 و 13. وبالياء هي قراءة أبي عمرو برواية عباس عنه. راجع شواذ القرآن
لابن خالويه: ص 154.
(6) المائدة: 60.
(7) النساء: 143.
525

والله إنا مسلمون (وهم يعلمون) أن المحلوف عليه كذب. (اتخذوا أيمانهم)
التي حلفوا بها (جنة) أي: سترة يدفعون بها عن نفوسهم الظنة إذا ظهرت منهم.
(يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون
أنهم على شىء ألا إنهم هم الكذبون (18) استحوذ عليهم الشيطن
فأنسهم ذكر الله أولئك حزب الشيطن الا إن حزب الشيطن هم
الخسرون (19) إن الذين يحآدون الله ورسوله أولئك في
الاذلين (20) كتب الله لأغلبن أنا ورسلى إن الله قوى عزيز (21) لا تجد
قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو
كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في
قلوبهم الايمن وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنت تجرى من تحتها
الانهر خلدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله
ألا إن حزب الله هم المفلحون (22))
أي: (فيحلفون) لله تعالى في الآخرة بأنهم كانوا مؤمنين في الدنيا (كما
يحلفون) اليوم (لكم ويحسبون أنهم على شىء) من النفع. وعن الحسن: في
القيامة مواطن: فموطن يعرفون فيه قبح الكذب ضرورة فيتركونه، وموطن
يكونون فيه كالمدهوشين فيتكلمون بكلام الصبيان: الكذب وغير الكذب (1).
(استحوذ عليهم الشيطن) استولى عليهم، من: حاذ الحمار العانة (2): إذا
جمعها وساقها غالبا عليها، وهو أحد ما جاء على الأصل، ومثله: استصوب
واستنوق، أي: ملكهم الشيطان حتى جعلهم رعيته (فأنسهم) أن يذكروا (الله)

(1) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 554.
(2) العانة: القطيع من حمر الوحش، والجمع: عون. (الصحاح: مادة عون).
526

أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم (أولئك حزب الشيطن) أي: جنده. (في
الأذلين) أي: في جملة من هو أذل خلق الله.
(كتب الله) في اللوح المحفوظ (لأغلبن أنا ورسلى) بالحجج والسيف أو
بأحدهما. (لا تجد قوما) هو من باب التخييل، خيل أن من الممتنع المحال أن
تجد قوما مؤمنين يوالون من خالف الله ورسوله، والغرض به أنه لا ينبغي أن
يكون ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه، ثم أكد ذلك بقوله:
(ولو كانوا ءابآءهم) وزاده تأكيدا بقوله: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمن)
وقابل قوله: (أولئك حزب الشيطن) بقوله: (أولئك حزب الله) فلا شىء أدخل
في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، بل هو الإخلاص بعينه،
ومعنى (كتب في قلوبهم الايمن): أثبته فيها بما وفقهم فيه، وشرح صدورهم له
(وأيدهم بروح منه) بلطف من عنده حييت به قلوبهم، وقيل: بروح من الإيمان
لأن القلوب تحيا به (1).
* * *

(1) قاله السدي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 313.
527

سورة الحشر
مدنية (1) وهي أربع وعشرون آية.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الحشر لم يبق جنة ولا نار ولا عرش ولا
كرسي ولا السموات ولا الأرضون إلا صلوا عليه واستغفروا له " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ إذا أمسى الرحمن والحشر وكل الله بداره ملكا
شاهرا سيفه حتى يصبح ".
بسم الله الرحمن الرحيم
(سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم (1)
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتب من ديرهم لأول الحشر
ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 558: مدنية بلا خلاف، وهي أربع وعشرون آية
بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 498: مدنية، وهي أربع وعشرون آية، نزلت بعد البينة.
(2) ثواب الأعمال للصدوق: ص 145 وفيه بعد " ولا كرسي ": " ولا الحجب والسماوات السبع
والأرضون السبع والهواء والريح والطير والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة "، وزاد
في آخره: " وإن مات في يومه أو ليلته مات شهيدا ".
529

من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم
وأيدى المؤمنين فاعتبروا يأولى الأبصر (2) ولولا أن كتب الله
عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الأخرة عذاب النار (3) ذا لك
بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب (4)
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله وليخزى
الفسقين (5) ومآ أفآء الله على رسوله ى منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل
ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شىء
قدير (6))
نزلت في إجلاء بني النضير من اليهود، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات
إلا آل حيي بن أخطب وآل أبي الحقيق فإنهم لحقوا بخيبر، وذلك أنهم صالحوا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن لا يكونوا عليه ولا له، ثم نقضوا العهد، وخرج كعب بن
الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة وحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر (عليه السلام)
محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا ذات ليلة غيلة - وكان أخاه من الرضاعة -
ثم صبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى أعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن
يحقن دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا
وسقاء (1).
واللام في (لأول الحشر) يتعلق ب‍ (أخرج) وهي اللام في قولك: جئت
لوقت كذا. والمعنى: أخرج الذين كفروا عند أول الحشر، ومعنى " أول الحشر ": أن
هذا أول حشرهم إلى الشام وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، وهم أول من

(1) السقاء: ظرف الماء من الجلد، وقيل: هو القربة للماء واللبن (لسان العرب).
530

أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، أو: هذا أول حشرهم، وآخر
حشرهم حشر يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام. (ما ظننتم أن يخرجوا)
لشدة بأسهم، ووثاقة حصونهم، وكثرة عددهم وعدتهم، (وظنوا) أن حصونهم
تمنعهم من بأس الله (فأتهم) أمر (الله من حيث لم يحتسبوا) من حيث لم يظنوا
ولم يخطر ببالهم، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، وذلك مما أضعف قلوبهم
وسلبها الأمن والطمأنينة (وقذف) فيها (الرعب) وهو الخوف الذي يرعب
الصدر أي: يملؤه وقرئ: (يخربون) و " يخربون " (1) من الإفعال والتفعيل، أي:
يهدمون بيوتهم من داخل ويخربون ما يستحسنونه منها حتى لا يكون للمسلمين،
ويخربها المسلمون من خارج، ولما عرضوا المسلمين للتخريب وكانوا السبب
فيه، فكأنهم أمروهم بذلك وكلفوهم إياه، (فاعتبروا) يا أهل البصائر بما دبر الله
سبحانه من أمر إخراجهم، وتسليط المؤمنين عليهم من غير قتال.
(ولولا) أنه (كتب الله عليهم الجلاء) واقتضته حكمته (لعذبهم في
الدنيا) بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة (ولهم في الأخرة عذاب النار)
سواء أجلوا أو قتلوا.
و اللينة: النخلة، وياؤها واو لأنها من: " اللون "، وقيل: هي النخلة الكريمة (2)،
من: " اللين "، و (من لينة) بيان ل‍ (- ما قطعتم) ومحل (ما) نصب ب‍ (قطعتم)
كأنه قال: أي شيء قطعتم؟ وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله: (أو تركتموها)
لأنه في معنى " اللينة "، (فبإذن الله) فقطعها بإذن الله وأمره، (وليخزى
الفسقين) وليذل اليهود وليغيظهم في قطعها، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أن

(1) وهي قراءة أبي عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 632.
(2) قاله سفيان. راجع التبيان: ج 9 ص 561.
531

يقطع نخلهم وتحرق، فقالوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما
بال قطع النخل وتحريقها؟ فكأن في أنفس المسلمين من ذلك شيئا فنزلت (1).
يعني: أن الله سبحانه أذن في قطعها ليزيدكم غيظا إذا رأيتموهم يتحكمون في
أموالكم كيف شاؤوا وأحبوا. وعن ابن مسعود: قطعوا منها ما كان موضعا
للقتال (2).
ف‍ (ما أفاء الله على رسوله) أي: جعله فيئا له خاصة، والإيجاف: من
الوجيف وهو السير السريع، والمعنى: (فمآ أوجفتم) على تحصيله وتغنيمه خيلا
ولا ركابا وإنما مشيتم إليه على أرجلكم فلم تحصلوا أموالهم بالقتال والغلبة
(ولكن الله يسلط) رسوله عليهم، وخوله أموالهم كما كان يسلط (رسله على)
أعدائهم، فالأمر فيه إليه يضعه حيث يشاء والركاب: الإبل التي تحمل القوم،
واحدتها: راحلة.
(مآ أفآء الله على رسوله ى من أهل القرى فلله وللرسول ولذى
القربى واليتمى والمسكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين
الاغنيآء منكم ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) للفقرآء المهجرين الذين أخرجوا
من ديرهم وأموا لهم يبتغون فضلا من الله ورضوا نا وينصرون الله
ورسوله أولئك هم الصدقون (8) والذين تبوءو الدار والايمن من
قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه ى

(1) أسباب النزول للواحدي: ص 354 ح 856.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 501.
532

فأولئك هم المفلحون (9) والذين جآءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولاخواننا الذين سبقونا بالايمن ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا
ربنآ إنك رءوف رحيم (10))
(من أهل القرى) من أموال كفار أهل القرى (فلله) يأمركم فيه بما أحب
(وللرسول) بتمليك الله إياه (ولذى القربى) أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقرابته وهم بنو هاشم (واليتمى والمسكين وابن السبيل) منهم، وعن
علي بن الحسين (عليه السلام): " هي قرباؤنا ومساكيننا وأبناء سبيلنا " (1). (كى لا يكون
دولة) قرئ بالنصب والرفع (2)، فالنصب على معنى: كيلا يكون الفيء جدا بين
الأغنياء يتكاثرون به، أو: كيلا يكون دولة جاهلية بينهم يستأثر به الرؤساء وأهل
الدولة والغلبة وأنشد في ذلك:
لك المرباع منها والصفايا * وحكمك والنشيطة والفضول (3)
وقيل: الدولة اسم ما يتداول (4) كالغرفة اسم ما يغترف، أي: كي لا يكون
الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه، ومنه الحديث: " اتخذوا عباد الله
خولا ومال الله دولا " (5)، أي: غلبة، من غلب منهم سلبه. والرفع على " كان "

(1) رواه العياشي في تفسيره: ج 2 ص 63 ح 63 وذكر لفظ: " ليتامانا " بدل " قرباؤنا ".
(2) أي برفع " دولة " و " تكون " بالتاء، وهي قراءة هشام وحده. راجع التذكرة في القراءات
لابن غلبون: ج 2 ص 717.
(3) المرباع: ما يأخذه الرئيس وهو ربع الغنيمة، والصفايا: ما يصطفيه الرئيس لنفسه،
والنشيطة: ما أصاب من الغنيمة قبل أن يصير إلى مجتمع الحي، والفضول: ما عجز أن يقسم
لقلته وخص به. والبيت لعبد الله بن عثمة الضبيي. راجع لسان العرب: مادة (ربع).
(4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 146.
(5) والحديث بتمامه: بالاسناد عن أبي ذر الغفاري قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا بلغ
بنو أبى العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا ودين الله دغلا، فأنكر
ذلك عليه، فشهد علي بن أبي طالب: اني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما أظلت الخضراء
ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، وأشهد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاله. أخرجه
الحاكم في المستدرك: ج 4 ص 480. ومن طريق آخر عنه أيضا يقول: إذا بلغت بنو أمية
أربعين اتخذوا... الخ.
533

التامة، أي: كي لا يقع دولة جاهلية، أو: كي لا يكون شيء يتداوله الأغنياء بينهم.
(ومآ ءاتكم الرسول) من قسمة غنيمة أو فيء (فخذوه وما نهاكم عنه) من
أخذه منها (فانتهوا) عنه (واتقوا الله) أن تخالفوه (إن الله شديد العقاب) لمن
خالف رسوله.
والأولى أن يكون عاما في كل ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهى عنه، ولهذا
قسم (عليه السلام) أموال خيبر ومن عليهم في رقابهم، وأجلى بني النضير وبني قينقاع
وأعطاهم شيئا من المال، وقتل رجال بني قريظة وسبى ذراريهم ونساءهم، وقسم
أموالهم على المهاجرين خاصة، ومن على أهل مكة فأطلقهم.
وعن الصادق: ما أعطى الله نبيا من الأنبياء إلا وقد أعطى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله،
قال لسليمان (عليه السلام): (امنن أو أمسك بغير حساب) وقال له (عليه السلام): (مآ ءاتاكم
الرسول فخذوه) الآية (1).
(للفقرآء) بدل من قوله: (لذى القربى)، والمعطوف عليه (أولئك هم
الصدقون) في إيمانهم وجهادهم. (والذين تبوءوا) معطوف على
(المهجرين) وهم الأنصار، ومعناه: (تبوءوا الدار) أي: المدينة، وأخلصوا
(الايمن) كقوله: " علفتها تبنا وماء باردا ". أو: وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا
لهم لتمكنهم فيه واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك، أو: أراد دار الهجرة
ودار الإيمان فأقام لام التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف

(1) بصائر الدرجات: ص 382. والآية (39) من سورة ص.
534

من " دار الإيمان " ووضع المضاف إليه مقامه (من قبلهم) من قبل المهاجرين
لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان (ولا يجدون) ولا يعلمون في
أنفسهم (حاجة ممآ أوتوا) أي: طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء
وغيره، والمحتاج إليه قد يسمى حاجة. يقال: خذ منه حاجتك، و: أعطاه من ماله
حاجته، يعني: أن نفوسهم لم تطمح إلى شيء مما أعطوا يحتاج إليه (ولو كان بهم
خصاصة) أي: خلة، من: خصاص البيت وهي فروجه، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قسم أموال بني النضير على المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر
كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن
الصمة، وقال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم
وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم
لكم شيء من الغنيمة، فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم
بالقسمة ولا نشاركهم فيها، فنزلت (1). والشح: اللؤم، وأن تكون نفس المرء
حريصة على المنع، كما قال الشاعر:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة * إذا هم بالمعروف قالت له مهلا (2)
وقد أضيف إلى " النفس " لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو منع نفسه، والمعنى:
ومن غلب ما أمرته به نفسه وخالف هواها بتوفيق الله وعونه (فأولئك هم)
الظافرون بما أرادوا. وقيل: (الذين تبوءوا) مبتدأ، وخبره (يحبون من هاجر
إليهم) لأنه (عليه السلام) لم يقسم لهم في بني النضير إلا للثلاثة (3).

(1) رواه الواحدي في أسباب النزول: ص 356 ح 860 عن يزيد بن الأصم.
(2) لم نعثر على قائله. والبيت يصف رجلا بالبخل، وكزة: أي شحيحة منقبضة عن فعل الخير.
(3) ذكره النحاس في إعراب القرآن: ج 4 ص 396.
535

(والذين جآءو من بعدهم) وهم الذين هاجروا من بعد، وقيل: التابعون
بإحسان (1) (غلا) أي: حقدا وعداوة.
(ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل
الكتب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن
قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكذبون (11) لئن أخرجوا لا
يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبر
ثم لا ينصرون (12) لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذا لك بأنهم
قوم لا يفقهون (13) لا يقتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من ورآء
جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذا لك بأنهم قوم لا
يعقلون (14) كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب
أليم (15) كمثل الشيطن إذ قال للانسن اكفر فلما كفر قال إنى برىء
منك إنى أخاف الله رب العلمين (16) فكان عقبتهمآ أنهما في النار
خلدين فيها وذا لك جزاؤا الظلمين (17))
ثم ذكر سبحانه المنافقين (يقولون لإخونهم) الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر،
وهم يهود بني النضير، كانوا يوالونهم في السر (ولا نطيع) في قتالكم (أحدا)
يعنون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه. وفي هذا دلالة على صحة النبوة لأنه إخبار
بالغيب، وعلى أنه سبحانه كما يعلم ما يكون فإنه يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف
يكون، والتقدير: ولئن نصرهم المنافقون على الفرض والتقدير لينهزمن المنافقون
(ثم لا ينصرون) بعد ذلك، أي: يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم.

(1) قاله مقاتل. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 507.
536

(رهبة) مصدر " رهب " المبني للمفعول، كأنه قال: أشد مرهوبية. وفي قوله:
(في صدورهم) دلالة على نفاقهم، والمعنى: أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف
الله وأنتم أهيب في صدورهم من الله (لا يفقهون) أي: لا يعلمون الله حتى
يخشوه حق خشيته.
(لا يقتلونكم) لا يقدرون على مقاتلتكم (جميعا) مجتمعين يعني: اليهود
والمنافقين (إلا) كائنين (في قرى محصنة) بالخنادق والدروب (أو من ورآء
جدر) دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم؛ لأن الله عز اسمه قذف الرعب في
قلوبهم، وقرئ: " جدار " (1) (بأسهم بينهم شديد) أي: قوتهم وشوكتهم فيما بينهم
شديدة، فإذا لاقوكم جبنوا ولم يبق لهم بأس وشدة، لأن الشجاع يجبن عند
محاربة الله ورسوله (تحسبهم جميعا) مجتمعين ذوي ألفة واتحاد في الظاهر
(وقلوبهم شتى) متفرقة مختلفة لا ألفة فيها (لا يعقلون) ما فيه الرشد.
(كمثل الذين من قبلهم) أي: مثلهم كمثل الذين قتلوا ببدر في زمان قريب،
وذلك قبل إجلاء بني النضير بستة أشهر، وانتصب (قريبا) ب‍ (مثل) على معنى:
كوجود مثل أهل بدر قريبا، وعن ابن عباس: إن الذين من قبلهم بنو قينقاع (2)،
وذلك أنهم نقضوا العهد فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدر فأمرهم (عليه السلام) أن يخرجوا،
فقال عبد الله بن أبي: لا تخرجوا فإني أدخل معكم الحصن فكان هؤلاء في ترك
نصرتهم كأولئك (ذاقوا وبال أمرهم) سوء عاقبة كفرهم في الدنيا (ولهم عذاب
أليم) في الآخرة.
مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ثم

(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 632.
(2) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 569.
537

إخلافهم (كمثل الشيطن) إذا (1) استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة،
كما استغوى قريشا يوم بدر بقوله لهم: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار
لكم) إلى قوله: (إنى برىء منكم) (2). (خلدين فيها) حال.
(يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا
الله إن الله خبير بما تعملون (18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله
فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفسقون (19) لا يستوى أصحب النار
وأصحب الجنة أصحب الجنة هم الفآئزون (20) لو أنزلنا هذا
القرءان على جبل لرأيته خشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثل
نضربها للناس لعلهم يتفكرون (21) هو الله الذي لا إله إلا هو علم
الغيب والشهدة هو الرحمن الرحيم (22) هو الله الذي لا إله إلا هو
الملك القدوس السلم المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحن
الله عما يشركون (23) هو الله الخلق البارئ المصور له الاسمآء
الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (24))
نكر سبحانه " النفس " لاستقلال الأنفس الناظرة فيما تقدمه للآخرة، فكأنه
قال: (ولتنظر نفس) واحدة في ذلك. ونكر " الغد " لتعظيم أمره، أي: لغد لا يعرف
كنهه لعظمه، والمراد بالغد يوم القيامة، وعن الحسن: لم يزل يقربه حتى جعله
كالغد (3). نحوه في تقريب الزمان الماضي قوله: (كأن لم تغن بالأمس) (4).

(1) كذا في النسخ وفي الكشاف أيضا، ولعله " إذ " لمطابقة الآية الكريمة.
(2) الأنفال: 48.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 508.
(4) يونس: 24.
538

وكرر قوله: (اتقوا الله) لأن الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل، والثاني
في ترك المقبحات لأنه مقرون بالوعيد.
(نسوا الله) نسوا حقه فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان، حتى لا يسعوا
لها بما ينفعهم عنده، أو: فأراهم من أهوال يوم القيامة فأنسوا فيه أنفسهم، كقوله:
(لا يرتد إليهم طرفهم) (1).
وقوله: (لا يستوى) تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وإيثارهم الدنيا
على الآخرة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبون بين أصحابهما، فمن
حقهم أن ينبهوا على ذلك، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا
يعرفه فتنبهه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف.
التصدع: التفرق بعد التلاؤم، وهذا تمثيل وتخييل كما مر في قوله: (إنا عرضنا
الامانة) (2)، يدل عليه قوله: (وتلك الامثل نضربها للناس)، والغرض: توبيخ
الإنسان على قلة تدبره للقرآن، وتعقله لزواجره ومواعظه.
(علم الغيب والشهدة) عالم المعدوم والموجود، وقيل: ما غاب عن
الخلق وما شاهدوه (3)، أو: السر والعلانية (4)، وعن الباقر (عليه السلام): ما لم يكن وما
كان (5) (القدوس) المنزه عن القبائح، الطاهر من كل عيب ونقص، ونظيره:
" السبوح "، (السلم) بمعنى السلامة، وصف سبحانه به مبالغة في وصف كونه
سليما من النقائص، أو: في إعطائه السلامة (المؤمن) واهب الأمن (المهيمن)

(1) إبراهيم: 43.
(2) الأحزاب: 72.
(3) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 512.
(4) وهو قول ابن عباس. راجع المصدر السابق.
(5) حكاه عنه (عليه السلام) الآلوسي في تفسيره: ج 28 ص 62، وفي معاني الأخبار للصدوق: ص 146
عن الصادق (عليه السلام).
539

الرقيب على كل شىء والحافظ له، وقيل: الأمين الذي لا يضيع لأحد عنده
حق (1)، مفيعل من " الأمن " إلا أن همزته قلبت هاء (الجبار) القاهر الذي جبر
خلقه على ما أراد، وقيل: العظيم الشأن في الملك والسلطان (2)، ولا يطلق هذا
الوصف على غيره إلا على وجه الذم (المتكبر) البليغ الكبرياء والعظمة
(الخلق) المقدر لما يوجده (البارئ) المميز بعضه من بعض بالأشكال
المختلفة (المصور) الممثل.
وسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اسم الله الأعظم، فقال: عليك بآخر سورة الحشر (3)
* * *

(1) قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي المتقدم.
(2) قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 327.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 510 عن أبي هريرة.
540

سورة الممتحنة
مدنية (1)، وهي ثلاث عشرة آية.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء
يوم القيامة " (2).
وعن علي بن الحسين (عليهما السلام): " من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه ونوافله
امتحن الله قلبه للإيمان ونور له بصره، ولا يصيبه فقر أبدا، ولا جنون في بدنه
ولا في ولده " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أوليآء تلقون إليهم

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 575: مدنية بلا خلاف، وهي ثلاث عشرة آية
بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 510: مدنية، وهي ثلاث عشرة آية، نزلت بعد الأحزاب.
وفي تفسير القرطبي: ج 18 ص 49 ما لفظه: الممتحنة بكسر الحاء، اي المختبرة، أضيف
الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة " براءة " المبعثرة والفاضحة؛ لما كشفت من عيوب
المنافقين. ومن قال بفتح الحاء فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها وهي أم كلثوم بنت
عقبة بن أبي معيط... وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 521 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 145.
541

بالمودة وقد كفروا بما جآءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن
تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهدا في سبيلى وابتغآء مرضاتى
تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم ومن يفعله منكم
فقد ضل سوآء السبيل (1) إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم
أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون (2) لن تنفعكم أرحامكم ولا
أولدكم يوم القيمة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير (3) قد كانت
لكم أسوة حسنة في إبرا هيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم
ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة
والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبرا هيم لأبيه لاستغفرن
لك ومآ أملك لك من الله من شىء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك
المصير (4) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنآ إنك أنت
العزيز الحكيم (5))
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن
هاشم أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها: أمسلمة جئت؟
قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت
الموالي، تعني قتلوا يوم بدر، فاحتجت حاجة شديدة، فحث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني
عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير
وكتب معها كتابا إلى أهل مكة، نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة،
اعلموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريدكم، فخذوا حذركم، ونزل جبرائيل بالخبر، فبعث
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) وعمارا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد
- وكانوا كلهم فرسانا - وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها
542

كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، فخرجوا حتى أدركوها في ذلك
المكان فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع، فقال علي (عليه السلام): والله ما كذبنا ولا كذب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا - والله - لأضربن عنقك،
فأخرجته من عقاص شعرها (1).
وروي: أن حاطبا قال: يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت، ولكني كنت
عزيزا في قريش - أي: غريبا - ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين
لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد
علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، فعذره (2).
" العدو " وقع موقع الجمع (تلقون) حال من الضمير في (لا تتخذوا)،
أو صفة ل‍ (أوليآء)، أو استئناف. والإلقاء: عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها
إليهم، والباء في (بالمودة) إما مزيدة مؤكدة للتعدي مثلها في قوله: (ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة) (3)، وإما ثابتة على أن مفعول (تلقون) محذوف، معناه:
تلقون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وكذلك قوله: (تسرون
إليهم بالمودة) أي: تفضون إليهم بمودتكم سرا، أو: تسرون إليهم أسرار
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب المودة (وقد كفروا) حال من (تلقون)، أي: توادونهم
وهذه حالهم (يخرجون الرسول وإياكم) هو كالتفسير لكفرهم، أو: حال من
(كفروا)، و (أن تؤمنوا) تعليل ل‍ (يخرجون) أي: يخرجونكم لإيمانكم
(إن كنتم خرجتم) شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه، وهو متعلق
ب‍ (لا تتخذوا). والمعنى: إن كنتم أوليائي فلا تتولوا أعدائي (تسرون إليهم

(1) أنظر أسباب النزول للواحدي: ص 358 ح 863.
(2) رواه عبيد الله بن أبي رافع عن علي (عليه السلام). راجع المصدر السابق: 864.
(3) البقرة: 195.
543

بالمودة) استئناف والمعنى: أي فائدة في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء
والإعلان سيان في علمي، وأنا أطلع رسولي على ما تسرونه؟ (ومن) يفعل هذا
الإسرار فقد أخطأ طريق الحق وجاز عن القصد.
(إن يثقفوكم) أي: يظفروا بكم (يكونوا لكم أعدآء) خالصي العداوة
(ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء) بالقتال والشتم، وتمنوا (لو)
ترتدون عن دينكم.
(لن تنفعكم أرحامكم) أي: أقرباؤكم (ولا أولدكم) الذين توالون الكفار
بسببهم، وتتقربون إليهم من أجلهم، ثم قال: (يوم القيمة يفصل بينكم) وبين
أقاربكم وأولادكم، فما لكم عصيتم الله لأجلهم؟! وقرئ: (يفصل) و " يفصل " (1)
على البناء للفاعل وهو الله عز وجل، أي: يميز بعضكم من بعض في ذلك اليوم، فلا
يرى القريب المؤمن في الجنة قريبه الكافر في النار، وقيل: معناه: يقضي بينكم
من: فصل القضاء (2).
(قد كانت لكم أسوة) أي: قدوة (حسنة) ومذهب حسن يؤتى به ويتبع
أثره (في إبرهيم) وقومه، وهو قولهم لكفار قومهم حيث كاشفوهم بالعداوة: (إنا
برءؤا منكم ومما تعبدون‍) - ه من الأصنام، أو: ومن عبادتكم، أي: لا نعتد بشأنكم
ولا بشأن آلهتكم، وما أنتم عندنا على شىء، والسبب في عداوتنا إياكم كفركم بالله
(كفرنا بكم) أي: جحدنا دينكم، والعداوة قائمة (بيننا وبينكم) حتى تصدقوا
بوحدانية الله. (إلا قول إبرهيم) استثناء من قوله: (أسوة حسنة) لأن المراد
بالأسوة الحسنة قولهم الذي يجب أن يؤتى به ويتخذ سنة، أي: فلا تقتدوا

(1) قرأه حمزة والكسائي بالتشديد وكسر الصاد على البناء للفاعل. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 633.
(2) حكاه السمرقندي في تفسيره: ج 3 ص 352.
544

بإبراهيم (عليه السلام) في قوله لأبيه: (لاستغفرن لك)، فإنما ذلك ل‍ (موعدة وعدها
إياه) (1) بالإيمان (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) (2)، وقوله: (وما أملك
لك) تابع لوعده بالاستغفار، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في وسعي وطاقتي
إلا الاستغفار (ربنا عليك توكلنا) يجوز أن يتصل بما قبل الاستثناء فيكون من
قول إبراهيم وقومه، ويجوز أن يكون تعليما من الله سبحانه لعباده أن يفوضوا
أمورهم إليه بأن يقولوه، فيكون المعنى: قولوا ربنا.
(لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر
ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد (6) عسى الله أن يجعل بينكم
وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم (7) لا
ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من
ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما
ينهاكم الله عن الذين قتلوكم في الدين وأخرجوكم من ديركم
وظهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم
الظلمون (9) يأيها الذين ءامنوا إذا جآءكم المؤمنت مهجرات
فامتحنوهن الله أعلم بإيمنهن فإن علمتموهن مؤمنت فلا ترجعوهن
إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وءاتوهم مآ أنفقوا
ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ ءاتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا
بعصم الكوافر وسلوا مآ أنفقتم وليسلوا مآ أنفقوا ذا لكم حكم الله
يحكم بينكم والله عليم حكيم (10))
كرر سبحانه الحث على الاقتداء بإبراهيم (عليه السلام) وقومه تأكيدا عليهم، ولذلك

(1 و 2) التوبة: 114.
545

جاء به مصدرا بالقسم (لمن كان يرجوا الله) بدل من قوله: (لكم) وذلك نوع من
التأكيد، وكذلك قوله: (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) أي: ومن أعرض
عن الايتاء بإبراهيم فإن الله هو الغني عن جميع خلقه لا يضره ذلك، وإنما ضروا
أنفسهم.
ولما نزلت هذه الآيات تشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأقربائهم من
المشركين، فلما رأى الله سبحانه منهم الجد والصبر على الوجه الشديد، رحمهم
ووعدهم تيسير ما تمنوه من إسلام أقاربهم، وحصول التصافي والتواد بينهم.
و (عسى) وعد من الله على عادات الملوك، حيث يقولون في بعض
الحوائج: " عسى " أو " لعل "، فلا يبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك، أو: قصد به
إطماع المؤمنين، (والله قدير) على تقليب القلوب وتسهيل الأمور.
(أن تبروهم) بدل من (الذين لم يقتلوكم)، وكذلك (أن تولوهم) بدل من
(الذين قتلوكم) والمعنى: (لا ينهكم) عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي
هؤلاء. وهذا أيضا رحمة لهم لتشددهم وجدهم في العداوة، حيث رخص لهم في
صلة من يجاهد (1) منهم بالقتال والإخراج من الديار، وهم خزاعة، وكانوا
صالحوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وعن مجاهد: هم
الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا (2). (وتقسطوا إليهم) أي: وتعدلوا فيما بينكم
وبينهم، وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، أوصى سبحانه باستعمال القسط مع
المشركين والتحامي عن ظلمهم، فما ظنك بحال من اجترأ على ظلم أخيه المسلم؟!
(إذا جآءكم المؤمنت) سماهن مؤمنات لتصديقهن بألسنتهن ونطقهن بكلمة
الشهادة (فامتحنوهن) فاختبروهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على

(1) في نسخة: " يجاهر ".
(2) تفسير مجاهد: ص 655.
546

ظنونكم صدق إيمانهن، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول للممتحنة: بالله الذي لا إله
إلا هو ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، بالله
ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله. (الله أعلم
بإيمنهن) منكم لأنكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم وإن
استحلفتموهن ورزتم أحوالهن، وعند الله حقيقة العلم به (فإن علمتموهن
مؤمنت) العلم الذي يبلغه وسعكم، وهو غالب الظن بظهور الأمارات (فلا)
تردوهن (إلى) أزواجهن (الكفار) لأنه لا حل بين المشرك والمؤمنة،
(وءاتوهم) وأعطوا أزواجهن (ما أنفقوا) أي: ما دفعوا إليهن من المهر.
ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهن أجورهن - أي:
مهورهن - لأن المهر أجر البضع (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) قرئ بالتخفيف
والتشديد (1)، العصمة: ما يعتصم به من عقد أو سبب، أي: لا يكن بينهم وبين
الكافرات عصمة، ولا علقة زوجية، سواء كن حربيات أو ذميات، (وسئلوا ما
أنفقتم) من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار، (وليسئلوا ما أنفقوا) من مهور
نسائهم المهاجرات (ذلكم حكم الله) يعني جميع ما ذكر في هذه الآية (يحكم
بينكم) كلام مستأنف، أو: حال من (حكم الله) على حذف الضمير، أي: يحكمه
الله، أو: جعل الحكم حاكما، على المبالغة.
(وإن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فاتوا الذين
ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به ى مؤمنون (11)
يأيها النبي إذا جآءك المؤمنت يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيا

(1) وبالتشديد أي: (تمسكوا) هي قراءة أبي عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 634.
547

ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولدهن ولا يأتين ببهتن يفترينه بين
أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن
الله غفور رحيم (12) يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله
عليهم قد يبسوا من الأخرة كما يبس الكفار من أصحب القبور (13))
لما نزلت الآية المتقدمة أدى المؤمنون ما أمروا به من نفقات المشركين على
نسائهم، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين،
فنزلت: (وإن فاتكم) أي: وإن سبقكم وانفلت (شىء) منكم (من أزوجكم)
أحد منهن (إلى الكفار)، وفي قراءة ابن مسعود: " أحد " (1) (فعاقبتم) من:
" العقبة " وهي النوبة، شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء
مهور نساء أولئك تارة، وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه
كما يتعاقب في الركوب وغيره. ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر، (فآتوا)
فأعطوا من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا تعطوه
زوجها الكافر، وهكذا عن الزهري: يعطى من صداق من لحق بهم (2)، وقال
الزجاج: (فعاقبتم) فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم (3). والذي ذهبت
زوجته كان يعطى من الغنيمة المهر، وقرئ في الشواذ: " فأعقبتم " (4) أي: دخلتم
في العقبة " فعقبتم " بالتشديد (5) من: عقبه إذا قفاه، لأن كل واحد من المتعاقبين

(1) أي: " وإن فاتكم أحد من أزواجكم " بتبديل " أحد " بموضع " شيء " قال الفراء: يصلح هذا
في الناس، فإذا كانت " شيء " في غير الناس لم يصلح " أحد " في موضعها. راجع معاني
القرآن للفراء: ج 3 ص 151.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 519.
(3) معاني القرآن: ج 5 ص 160.
(4) قرأه مجاهد والحسن، راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 156.
(5) وهي قراءة حميد الأعرج. راجع المصدر السابق.
548

يقفي صاحبه، " فعقبتم " (1) من: عقبه يعقبه. وقال الزجاج في تفسير جميعها:
فكانت العقبى لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم (2). وقيل: إن جميع من لحق
المشركين من نساء المهاجرين ست نسوة، وأعطاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مهورهن
من الغنيمة (3).
(ولا يقتلن أولادهن) يريد: وأد البنات أو الإسقاط، (ولا يأتين ببهتن يفترينه
بين أيديهن وأرجلهن) كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك.
كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن المولود الذي تلصقه بزوجها كذبا،
لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين (ولا
يعصينك في معروف) فيما تأمرهن به من المحسنات، وتنهاهن عنه من
المقبحات، وكل ما دل عليه العقل أو الشرع على وجوبه أو ندبه فهو معروف.
وروي (4) في كيفية المبايعة أنه (عليه السلام) دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ثم
غمسن أيديهن فيه، وقيل: كان يبايعهن من وراء الثوب (5).
(لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) وهم اليهود، كان قوم من فقراء المسلمين
يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنهوا عن ذلك (قد يئسوا من) أن يكون لهم
حظ في (الأخرة) لتكذيبهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنادا وهم يعلمون أنه الرسول
المنعوت في التوراة (كما يئس الكفار) من موتاهم أن يبعثوا.
* * *

(1) قرأه النخعي ومسروق، الا أن الأول فتح القاف والثاني كسرها. راجع المصدر نفسه.
(2) معاني القرآن: ج 5 ص 160.
(3) قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 334.
(4) رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: ج 2 ص 364 عن أبي جعفر (عليه السلام).
(5) قاله عامر الشعبي. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 524.
549

سورة الصف
مدنية (1)، وهي أربع عشرة آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة عيسى كان عيسى (عليه السلام) مصليا عليه مستغفرا
له ما دام في الدنيا، وهو يوم القيامة رفيقه " (2).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة الصف وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله
صفه الله تعالى مع ملائكته وأنبيائه المرسلين " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم (1)
يأيها الذين ءامنوا لم تقولون مالا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 590: مدنية بلا خلاف، وهي أربع عشرة آية
بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 522: مدنية وآياتها (14) نزلت بعد التغابن.
وفي تفسير القرطبي: ج 18 ص 77: مدنية في قول الجميع فيما ذكر الماوردي: وقيل:
إنها مكية، ذكره النحاس عن ابن عباس، وهي أربع عشرة آية.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 529 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 145 وزاد في آخره: " إن شاء الله ".
551

تقولوا مالا تفعلون (3) إن الله يحب الذين يقتلون في سبيله ى صفا
كأنهم بنين مرصوص (4) وإذ قال موسى لقومه ى يقوم لم تؤذوننى وقد
تعلمون أنى رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا
يهدى القوم الفسقين (5) وإذ قال عيسى ابن مريم يبنى إسراءيل إنى
رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى
من بعدى اسمه أحمد فلما جآءهم بالبينت قالوا هذا سحر مبين (6)
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلم والله
لا يهدى القوم الظلمين (7) يريدون ليطفوا نور الله بأفواههم والله
متم نوره ى ولو كره الكفرون (8) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين
الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9))
عن ابن عباس: كان ناس من المؤمنين يقولون قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم
أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه، فدلهم الله سبحانه على الجهاد في سبيله،
فولوا يوم أحد فعيرهم (1) وقيل: نزلت في قوم قالوا: أبلينا وفعلنا ولم يفعلوا وهم
كذبة (2). وقصد في (كبر) التعجب من غير لفظ، وأسند إلى (أن تقولوا)، ونصب
(مقتا) على التفسير دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه،
والمقت: أشد البغض، ولم يقتصر سبحانه على أن جعل البغض كبيرا حتى جعله
أشده وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا كبر مقته عند الله فقد تناهى كبره
وشدته. وذكر أنه قيل لبعض السلف: حدثنا، فسكت ثم قال: تأمرونني أن أقول
ما لا أفعل، فأستعجل مقت الله. وفي قوله سبحانه: (يحب الذين يقتلون في

(1) حكاه عنه بالاسناد الطبري في تفسيره: ج 12 ص 79 - 80.
(2) قاله قتادة والضحاك. راجع المصدر السابق: ص 80.
552

سبيله) دليل على أن المقت تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في القتال فلم يفوا.
(صفا) صافين أنفسهم، أو: مصفوفين كأنهم في تراصهم من غير فرجة
(بنين) رص بعضهم إلى بعض ورصف، وقيل: إنه يدل على فضل القتال راجلا،
لأن الرجالة يصطفون على هذه الصفة (1). وقوله: (صفا كأنهم بنين مرصوص)
حالان متداخلتان.
(وإذ قال) ظرف لأذكر (تؤذوننى) آذوه بأنواع الأذى، من قولهم: (اذهب
أنت وربك) (2)، (اجعل لنا إلها) (3)، وطلبهم رؤية الله جهرة، وعبادتهم العجل
وغير ذلك (وقد تعلمون) في موضع الحال، أي: تؤذونني عالمين (أنى رسول
الله) وقضية علمكم بنبوتي ورسالتي تعظيمي وتوقيري لا إيذائي، (فلما زاغوا)
عن الحق (أزاغ الله قلوبهم) بأن منعهم ألطافه (والله لا يهدى القوم الفسقين)
لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف، أو: لا يهديهم إلى الجنة التي وعدها
المؤمنين.
(مصدقا لما بين يدى) أي: أرسلت إليكم في حال تصديقي لما تقدمني من
التوراة، وفي حال تبشيري (برسول يأتى من بعدى) وقرئ بسكون الياء
وفتحها (4)، وسيبويه والخليل يختاران الفتح (5).
وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله، هل بعدنا من أمة؟ قال:
نعم، أمة أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حكماء علماء أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 523.
(2) المائدة: 24.
(3) الأعراف: 138.
(4) وبفتح الياء في " بعدي " قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب
السبعة في القراءات: ص 635.
(5) حكاه عنهما الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 525.
553

باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل (1).
وقرئ: " هذا ساحر " (2)، وأي الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان
نبيه إلى الإسلام الذي فيه السعادة الأبدية فيجعل مكان إجابته إليه افتراء على الله
الكذب بقوله لكلامه: (هذا سحر)؟!
(ليطفئوا) هذه اللام تزاد مع فعل الإرادة فتجعل تأكيدا له، والأصل: يريدون
أن يطفئوا، كما في سورة التوبة (3)، وإطفاء (نور الله بأفوههم) تهكم بهم في
إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: (هذا سحر) فأشبهت حالهم حال من
ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه. (والله متم نوره) قرئ مضافا، وبالتنوين
ونصب " نوره " (4)، أي: يتم الله الحق ويبلغه غايته.
و (دين الحق) الملة الحنيفية (ليظهره على الدين كله) أي: ليعليه (5) على
جميع الأديان المخالفة له.
وعن علي (عليه السلام): والذي نفسي بيده لا تبقى قرية إلا وينادى فيها بشهادة أن
لا إله إلا الله بكرة وعشيا (6).
(يأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجرة تنجيكم من عذاب
أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله ى وتجهدون في سبيل الله بأموالكم
وأنفسكم ذا لكم خير لكم إن كنتم تعلمون (11) يغفر لكم ذنوبكم

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 525.
(2) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 249.
(3) الآية: 32.
(4) قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة: ص 635.
(5) في نسخة: " ليغلبه ".
(6) رواه العياشي كما في مجمع البيان: ج 9 ص 280.
554

ويدخلكم جنت تجرى من تحتها الانهر ومسكن طيبة في جنت
عدن ذا لك الفوز العظيم (12) وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب
وبشر المؤمنين (13) يأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال
عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن
أنصار الله فامنت طآئفة من بنى إسراءيل وكفرت طآئفة فأيدنا
الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظهرين (14))
(تنجيكم) قرئ بالتشديد (1) والتخفيف. (تؤمنون) استئناف، كأنهم قالوا:
كيف نعمل؟ فقيل لهم: تؤمنون، وهو خبر في معنى الأمر، ولهذا أجيب بقوله: (يغفر
لكم)، وفي قراءة عبد الله: " آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا " (2)، وإنما جيء به على
لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد
موجودين، ومثله قولهم: " غفر الله لك " و " يرحمك الله " (ذلكم) الإيمان
والجهاد (خير لكم) من أموالكم وأنفسكم، والمعنى: (إن كنتم تعلمون) أنه خير
لكم كان خيرا لكم حينئذ، لأنكم إذا علمتم ذلك أحببتم الإيمان والجهاد فوق
ما تحبون أنفسكم وأموالكم فتفوزون.
(وأخرى تحبونها) أي: ولكم مع هذه النعمة المذكورة الآجلة من المغفرة
والثواب والنعيم في الجنة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله: (نصر
من الله وفتح قريب) وهو فتح مكة، وقيل: فتح فارس والروم وسائر فتوح الإسلام
على العموم (3). وفي قوله: (تحبونها) ذرو من التوبيخ على محبة العاجل

(1) وهي قراءة ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 635.
(2) حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 156.
(3) قاله عطاء. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 338.
555

(وبشر المؤمنين) معطوف على (تؤمنون) لأنه في معنى الأمر، فكأنه قال:
آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم (وبشر) يا رسول الله (المؤمنين) بذلك.
وقرئ: (كونوا أنصار الله) و " أنصارا لله " (1)، والمعنى: كونوا أنصار الله كما
كان الحواريون أنصار عيسى (عليه السلام) حين قال لهم: (من أنصارى إلى الله) أي: من
أنصاري متوجهين إلى نصرة الله؟ ومعناه: من الأنصار الذين يختصون بي
ويكونون معي في نصرة الله؟ (قال الحواريون نحن أنصار الله) أي: نحن الذين
ينصرون الله. فإضافة (أنصارى) خلاف إضافة (أنصار الله)، ولا يصح أن
يكون معناه: من ينصرني مع الله؛ لأنه لا يطابق الجواب (فآمنت طائفة) منهم
بعيسى (وكفرت) به (طآئفة فأيدنا) مؤمنيهم (على) كفارهم فظهروا عليهم
أي: غلبوا، وقيل: معناه: فآمنت طائفة منهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكفرت به طائفة،
فأصبح المؤمنون غالبين بالحجة والقهر (2).
* * *

(1) وبالتنوين قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو، راجع كتاب السبعة: ص 635.
(2) قاله إبراهيم ومجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 87.
556

سورة الجمعة
مدنية (1)، وهي إحدى عشرة آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد
من أتى الجمعة وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من الواجب على كل مؤمن أن يقرأ في ليلة الجمعة
بالجمعة و (سبح اسم ربك الأعلى) وفي صلاة الظهر في الجمعة بالجمعة
والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكأنما يعمل بعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان ثواب
جزائه على الله الجنة ".
بسم الله الرحمن الرحيم
(يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس
العزيز الحكيم (1) هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلوا عليهم
ءايته ى ويزكيهم ويعلمهم الكتب وا لحكمة وإن كانوا من قبل لفي

(1) قال الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 529: مدنية، وآياتها (11) نزلت بعد الصف.
وفي تفسير القرطبي: ج 18 ص 91: مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 537 مرسلا.
557

ضلل مبين (2) وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم (3)
ذا لك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم (4) مثل الذين
حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل
القوم الذين كذبوا بايت الله والله لا يهدى القوم الظلمين (5))
في قوله: (سبح) تارة، و (يسبح) أخرى إشارة إلى دوام تنزيهه عز اسمه
في الماضي والمستقبل. والأميون هم العرب، لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون
من بين الأمم، وقيل: بدئت الكتابة بالطائف، أخذوها من أهل الحيرة (1). والمعنى:
أنه بعث في قوم أميين رجلا أميا (منهم) أي: من أنفسهم، يعلمون نسبه وأحواله
(يتلوا) يقرأ (عليهم ءايته) مع كونه أميا مثلهم، لم يعهد منه قراءة ولم يعرف
بتعلم، وقراءة أمي أخبار القرون الماضية بغير تعلم على وفق ما في الكتب آية
معجزة (ويزكيهم) ويطهرهم من الشرك وأدناس الجاهلية (ويعلمهم الكتب
والحكمة) القرآن والشرائع (وإن كانوا) هي " إن " المخففة من الثقيلة، واللام هي
الفارقة، أي: كانوا (في ضلل) لا ضلال أعظم منه.
(وءاخرين) عطف على (الأميين) أي: بعثه في الأميين الذين على
عهده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي آخرين لم (يلحقوا بهم) بعد وسيلحقون بهم.
وروي: أنه لما قرأ هذه الآية قيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان
فقال: " لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء " (2).
وقيل: هم الذين يأتون بعده إلى يوم القيمة (3). ويجوز أن يكون نصبا عطفا

(1) حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 169 وزاد: وذكر أهل الحيرة أنهم تعلموا الكتابة
من أهل الأنبار.
(2) رواه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 1972 ح 2546 وما بعده عن أبي هريرة.
(3) قاله ابن زيد ومجاهد. راجع التبيان: ج 10 ص 4.
558

على الضمير في (ويعلمهم) أي: ويعلمهم ويعلم آخرين، لأن التعليم إذا تناسق
إلى آخر الزمان وكان كله مستندا إلى أوله فكأنه (عليه السلام) تولى كل ما وجد منه (وهو
العزيز الحكيم) في تمكينه رجلا أميا من هذا الأمر العظيم، واختياره إياه من بين
سائر الخلق.
(ذلك) الفضل الذي أعطاه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو النبوة لكافة خلق الأولين
والآخرين إلى يوم القيامة هو (فضل الله يؤتيه) يعطيه (من يشآء) إعطاءه
وتقتضيه حكمته (والله ذو الفضل العظيم) على خلقه ببعثه.
و (مثل الذين حملوا التورة) وهم اليهود الذين قرؤوها وحفظوها (ثم لم
يحملوها) بكونهم غير عاملين (1) بها، ولا منتفعين بآياتها، لأن فيها صفة نبينا
ونعته والبشارة به ولم يؤمنوا به (كمثل الحمار يحمل أسفارا) أي: كتبا كبارا من
كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد، وكذا
كل من علم علما ولم يعمل بموجبه فهذا مثله، و (بئس) مثلا (مثل القوم الذين
كذبوا بيت الله) وهم اليهود كذبوا بالتوراة، أو: بالقرآن، أو: بآيات الله الدالة على
نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومعنى قوله: (حملوا التورة): كلفوا علمها والعمل بها (ثم لم يحملوها) ثم
لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها. وقوله: (يحمل أسفارا) في محل نصب
على الحال، أو: جر وصفا ل‍ (الحمار) لأنه مثل " اللئيم " (2) في قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني (3)

(1) في نسخة: " عالمين ".
(2) يريد: أن المراد فيها الجنس، فتعريفه وتنكيره سواء، فجاز وصفه بالجملة وإن كانت لا
يوصف بها إلا النكرة.
(3) وعجزه: فمضيت ثمة قلت لا يعنيني. لرجل من بني سلول وقيل: لشمر بن عمرو الحنفي.
وقد تقدم شرح البيت في ج 1 ص 58.
559

(قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس
فتمنوا الموت إن كنتم صدقين (6) ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم
والله عليم بالظلمين (7) قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم
ثم تردون إلى علم الغيب والشهدة فينبئكم بما كنتم تعملون (8) يأيها
الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله
وذروا البيع ذا لكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9) فإذا قضيت الصلواة
فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم
تفلحون (10) وإذا رأوا تجرة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما
عند الله خير من اللهو ومن التجرة والله خير الرازقين (11))
(هادوا) تهودوا وسموا يهودا وكانوا يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه) (1)
يعني: إن كان قولكم حقا (فتمنوا الموت) وأن ينقلكم الله إلى دار كرامته التي
أعدها لأوليائه. ثم قال: (ولا يتمنونه أبدا) بسبب ما قدموه من الكفر، وقد قال
لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منهم إلا غص بريقه " (2). فلولا
أنهم عرفوا صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم لتمنوا، ولم يتمن
أحد منهم، فكان هذا أحد معجزاته (صلى الله عليه وآله وسلم).
(قل إن الموت الذي) لا تجرؤون (3) أن تتمنوه (فإنه ملقيكم) لا
تفوتونه، والفاء لتضمن الذي معنى الشرط، يعني: إن رمتم الفرار منه فإنه ملاقيكم
(ثم تردون إلى) الله سبحانه فيجازيكم (بما) تستحقونه.

(1) المائدة: 18.
(2) رواه ابن عباس في تفسيره: ص 471.
(3) في نسخة: " لا تجسرون ".
560

و (الجمعة) كان يقال لها العروبة (1)، وقيل: إن أول من سماها جمعة
كعب بن لؤي (2)، وقيل: إن الأنصار قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة
أيام، فهلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله عز وجل ونصلي، فقالوا: يوم
السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى سعد بن
زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه،
فأنزل الله تعالى آية الجمعة، فهي أول جمعة كانت في الإسلام (3).
فأما أول جمعة جمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصحابه فهي أنه لما قدم المدينة
نزل قباء على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر
ربيع الأول وأسس مسجدهم، وأقام بها إلى يوم الجمعة، ثم خرج عامدا إلى
المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن العوف في بطن واد لهم - قد اتخذ
اليوم هناك مسجد - فخطب وصلى الجمعة (4).
(إذا نودى) معناه: إذا أذن لصلاة الجمعة (فاسعوا) أي: فامضوا إلى
الصلاة مسرعين غير متثاقلين (5)، وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس:

(1) قال ابن منظور: الجمعة والجمعة والجمعة، وهو يوم العروبة، سمي بذلك لاجتماع الناس
فيه... وذكر السهيلي: أن كعب بن لؤي جد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أول من جمع يوم العروبة،
ولم تسم العروبة الجمعة إلا مذ جاء الاسلام، وهو أول من سماها الجمعة، فكانت قريش
تجتمع إليه - اي إلى كعب جد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي،
ويعلمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، وينشد في هذا أبياتا منها:
يا ليتني شاهد فحواء دعوته * إذا قريش تبغي الحق خذلانا
انظر لسان العرب: مادة " جمع ".
(2) قاله أبو سلمة كما في تفسير القرطبي: ج 18 ص 97.
(3) قاله ابن سيرين. راجع تفسير القرطبي: ج 18 ص 98 وفيه " أسعد " بدل " سعد ".
(4) أنظر السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 137.
(5) في نسخة: " متشاغلين ".
561

" فامضوا " (1)، وروي ذلك عن أئمة الهدى (عليهم السلام)، وعن الحسن: ليس السعي
على الأقدام ولكنه على النيات والقلوب (2).
وفي الحديث: " إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد،
بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب، يكتبون الأول فالأول على مراتبهم " (3).
وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين
إلى الجمعة يمشون بالسرج، وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى
الجمعة (4)، وعن ابن مسعود: أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه فاغتم وأخذ يعاتب
نفسه يقول: أراك رابع أربعة وما رابع أربعة بسعيد (5). (إلى ذكر الله) إلى الخطبة
التي تتضمن ذكر الله (وذروا البيع) وتجارة الدنيا وبادروا إلى تجارة الآخرة.
فالظاهر يقتضي: أن البيع في وقت النداء فاسد؛ لأن النهي يدل على فساد المنهي
عنه، وكذا جميع التصرفات، وإنما خص البيع بالنهي عنه لكونه من أعم التصرفات
في أسباب المعائش.
وفرض الجمعة يلزم جميع المكلفين إلا أصحاب الأعذار من: السفر والمرض
والعمى، والنساء، والشيوخ الذين لا حراك بهم، والعبيد، ومن كان على رأس أكثر
من فرسخين.
وعند حصول الشروط لا تجب إلا عند حضور السلطان العادل أو من نصبه

(1) حكاه عنهم ابن جني في المحتسب: ج 2 ص 321 وزاد: علي (عليه السلام) وأبي وابن عمر.
(2) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 347.
(3) رواه الزمخشري بهذا اللفظ في الكشاف: ج 4 ص 533، وأخرج نحوه النسائي في السنن:
ج 3 ص 97 عن أبي هريرة.
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 534.
(5) أخرجه عنه ابن ماجة في السنن: ج 1 ص 348 ح 1094 بالإسناد إلى علقمة. وفيه:
" ببعيد " بدل " بسعيد ".
562

للصلاة. ولا تنعقد إلا بثلاثة سوى الإمام عند أبي حنيفة (1)، وبأربعين عند
الشافعي (2)، وبسبعة (3) عند أهل البيت (4) (عليهم السلام) (5).
(فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الأرض) هذا إطلاق بعد الحظر في
الانتشار وابتغاء الرزق مع الوصية بإكثار ذكر الله، وأن لا يلهيهم شىء من تجارة
ولا غيرها عنه؛ لأن الفلاح منوط به، وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من
الدنيا، إنما هو عيادة المرضى، وحضور الجنائز، وزيارة أخ في الله (6). وعن
الحسن وسعيد: طلب العلم (7).
وعن الصادق (عليه السلام): " الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت " (8).
وعن جابر بن عبد الله: أقبل عير ونحن نصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجمعة،
فانفض الناس إليها، فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا منهم (9).
وعن الحسن: قدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة من زيت الشام

(1) المبسوط للسرخسي: ج 2 ص 24، بداية المجتهد: ج 1 ص 153.
(2) كتاب الأم: ج 1 ص 190، الاستذكار: ج 2 ص 324.
(3) وإنما تنعقد الجمعة بخمسة نفر جوازا وبسبعة تجب عليهم عند أصحابنا. أنظر الخلاف
للشيخ الطوسي: ج 1 ص 598 المسألة (359).
(4) أما على السبعة ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال: " تجب الجمعة على سبعة
نفر من المسلمين ولا تجب على أقل منهم " أنظر من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 267
ح 1222. وأما على الخمسة ما رواه الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " أدنى ما
يجزي في الجمعة سبعة أو خمسة أدناه ". أنظر الكافي: ج 3 ص 419 ح 5.
(5) في نسخة زيادة: " أو بخمسة ".
(6) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 536.
(7) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 348، والكشاف: ج 4 ص 536.
(8) أخرجه الصدوق في من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 424 ح 1253 عن أبي أيوب الخزاز.
(9) أخرجه عنه مسلم في الصحيح: ج 2 ص 590 ح 36.
563

والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه، فلم يبق
مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا رهط، فنزلت الآية، فقال (عليه السلام): " والذي نفس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده
لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا " (1).
وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وهو المراد باللهو، وعن
قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير، كل ذلك يوافق يوم الجمعة (2).
والتقدير: (وإذا رأوا تجرة) انفضوا إليها (أو لهوا) انفضوا إليه، فحذف أحدهما
لدلالة الآخر عليه، وعن الصادق (عليه السلام): انصرفوا إليها (3) (وتركوك قآئما) تخطب
على المنبر (قل) لهم (ما عند الله) من الثواب على سماع الخطبة والثبات
والصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (خير) وأحمد عاقبة.
* * *

(1) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 348 - 349.
(2) حكاه عنه الرازي في تفسيره الكبير: ج 30 ص 10.
(3) رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: ج 2 ص 367.
564

سورة المنافقون (1)
مدنية (2)، وهي إحدى عشرة آية.
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة المنافقين برئ من النفاق " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا جآءك المنفقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك
لرسوله والله يشهد إن المنفقين لكذبون (1) اتخذوا أيمنهم جنة
فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون (2) ذا لك بأنهم ءامنوا ثم
كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3) وإذا رأيتهم تعجبك
أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل

(1) كذا في المصحف الشريف، وفي النسخ: " المنافقين ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 10: مدنية بلا خلاف، وهو قول ابن عباس وعطاء
والضحاك، وهي احدى عشرة آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 538: مدنية، وهي إحدى عشرة آية، نزلت بعد الحج.
وفي تفسير الآلوسي: ج 28 ص 108: مدنية، وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف،
ووجه اتصالها - في المصحف - أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون، وهذه ذكر فيها أضدادهم
وهم المنافقون.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 545 مرسلا.
565

صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قتلهم الله أنى يؤفكون (4) وإذا قيل
لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم
مستكبرون (5) سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله
لهم إن الله لا يهدى القوم الفسقين (6))
(قالوا نشهد إنك لرسول الله) شهادة يوافق فيها السر الإعلان، ويواطئ
القلب اللسان، (والله يعلم إنك لرسوله) على الحقيقة (والله يشهد) إنهم
(لكذبون) في ادعائهم المواطأة، أو: كاذبون في قولهم وشهادتهم؛ لأنها إذا
خلت عن المواطأة لم تكن شهادة حقيقة.
(اتخذوا أيمنهم جنة) يستترون بها من الكفر لئلا يقتلوا، ويجوز أن يكون
قولهم: (نشهد إنك لرسول الله) يمينا من أيمانهم الكاذبة، لأن الشهادة تجري
مجرى الحلف، وقرأ الحسن: " إيمانهم " (1) أي: ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم
(سآء ما كانوا يعملون) من نفاقهم وصدهم الناس (عن سبيل الله)، وفي
(سآء) معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين.
(ذلك) إشارة إلى قوله: (سآء ما كانوا يعملون)، أي: ذلك القول الشاهد
عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا (ب‍) سبب (أنهم ءامنوا ثم كفروا)، أو: إلى ما
وصف من حالهم في النفاق والاستجنان بالإيمان، أي: ذلك كله بسبب (أنهم
ءامنوا ثم كفروا)، أي: نطقوا بكلمة الشهادة ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بما اطلع عليه
من قولهم: إن كان ما يقوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حقا فنحن حمير! ونحوه: (لا تعتذروا
قد كفرتم بعد إيمنكم) (2) (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلمهم) (3) أو:

(1) حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 157.
(2) التوبة: 66.
(3) التوبة: 74.
566

نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر إذا خلوا بأشباههم (فطبع على
قلوبهم) فجسروا على كل عظيمة.
وكان عبد الله بن أبي رجلا جسيما فصيحا صبيحا، وقوم من المنافقين في
مثل صفته، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيستندون فيه، فشبههم الله
سبحانه في عدم الانتفاع بحضورهم وإن كانت هياكلهم معجبة وألسنتهم ذليقة
بالخشب المسندة إلى الحائط، أو: بالأصنام المنحوتة من الخشب، والخطاب في
(رأيتهم تعجبك) لرسول الله، أو: لكل من يخاطب. وقوله: (كأنهم خشب) كلام
مستأنف لا محل له، أو: في محل رفع على: هم كأنهم خشب، وقرئ: " خشب " (1)
و (خشب)، والتحريك لغة أهل الحجاز واحدتها: خشبة، كبدنة وبدن، وثمرة
وثمر، (عليهم) مفعول ثان، أي: (يحسبون كل صيحة) واقعة عليهم لجبنهم إذا
نادى مناد في العسكر، أو: أنشدت ضالة ظنوه إيقاعا بهم، ويوقف على (عليهم)
ويبتدأ (هم العدو) أي: الكاملون في العداوة (فاحذرهم) ولا يغررك ظاهرهم
(قتلهم الله) دعاء عليهم، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم، أو: تعليم
للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك (أنى يؤفكون) كيف يصرفون عن الحق مع وفور
أدلته.
(لووا رؤوسهم) عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارا، قرئ
بالتخفيف (2) والتشديد للتكثير، أي: يستوي استغفارك لهم وعدم استغفارك لهم
لأنهم لا يعتدون به لكفرهم، أو: لأن الله لا يغفر لهم.

(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والمفضل عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 636.
(2) وهي قراءة نافع والمفضل عن عاصم. راجع المصدر السابق.
567

(هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا
ولله خزآبن السموات والارض ولكن المنفقين لا يفقهون (7)
يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة
ولرسوله ى وللمؤمنين ولكن المنفقين لا يعلمون (8) يأيها الذين
ءامنوا لا تلهكم أموا لكم ولا أولدكم عن ذكر الله ومن يفعل ذا لك
فأولئك هم الخسرون (9) وأنفقوا من ما رزقنكم من قبل أن يأتى
أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن
من الصلحين (10) ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلها والله خبير بما
تعملون (11))
ازدحم على الماء في غزاة بني المصطلق رجل من المهاجرين ورجل من بني
عوف بن الخزرج واقتتلا، فغضب عبد الله بن أبي وقال: والله، ما مثلنا مثلهم إلا
كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
الأعز منها الأذل) يعني: بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله، ثم قال لقومه: ماذا
فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؟ أما والله لو أمسكتم
عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفقوا عليهم (حتى ينفضوا) من حول
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمع بذلك زيد بن أرقم - وهو حدث - فقال: أنت والله الذليل
القليل المبغض في قومك، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عز من الرحمن ومودة وقوة من
المسلمين، فقال عبد الله: اسكت، فإنما كنت ألعب، فأخبر زيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فأرسل إلى عبد الله وقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: والله الذي أنزل عليك
الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا لكاذب، وذلك قوله تعالى: (اتخذوا
أيمنهم جنة) وقال الحاضرون: يا رسول الله، شيخنا وكبيرنا، لا تصدق عليه كلام
568

غلام، عسى أن يكون قد وهم، فعذره، وفشت الملامة من الأنصار لزيد، فلما نزلت
لحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زيدا من خلفه فعرك أذنه وقال: وفت أذنك يا غلام إن الله
صدقك وكذب المنافقين، فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد،
فاذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أومن
فآمنت، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فنزلت: (وإذا قيل لهم تعالوا) (1)، ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات
(ينفضوا) أي: يتفرقوا (ولله خزآئن السموت والأرض) وبيده الأرزاق فهو
يرزقهم منها (ولكن) عبد الله وأمثاله جاهلون (لا يفقهون) ذلك.
(ولله العزة) أي: الغلبة والقوة ولمن أعزه الله وأيده.
وعن الحسن بن علي (عليهما السلام): أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها!
قال: ليس بتيه ولكنه عزة، وتلا هذه الآية (2).
(لا تلهكم) لا تشغلكم (أمولكم) والتصرف فيها وابتغاء التلذذ بها
(ولا أولدكم) وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بما يصلحهم (عن ذكر الله
ومن يفعل ذلك) يريد الشغل بالدنيا عن الدين (فأولئك هم الخسرون) في
تجارتهم، إذ باعوا الخطير الباقي بالحقير الفاني.
(من ما رزقنكم): " من " للتبعيض أي: أنفقوا الواجب منه (من قبل أن
يأتى أحدكم الموت) فيرى دلائله ويتعذر عليه الإنفاق، ويتحسر على المنع،
ويفقد ما كان متمكنا منه (فيقول رب لولا أخرتنى) وقرئ: " أخرتن " (3)، أي:

(1) أسباب النزول للواحدي: ص 366 ح 875 عن زيد بن أرقم.
(2) أورده الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 543، والرازي في تفسيره الكبير: ج 30 ص 17،
وابن شهر آشوب في المناقب: ج 4 ص 9.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 544.
569

هلا أخرت موتي (إلى أجل قريب) إلى زمان قليل (فأصدق) فأتصدق، وقرئ:
(وأكن) عطفا على محل (فأصدق)، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقرئ:
" وأكون " (1) على اللفظ.
وعن ابن عباس: تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا يقبل توبة
ولا ينفع عمل (2). وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج
أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها (3).
وقيل: نزلت في مانعي الزكاة (4).
وعن الحسن: ما من أحدكم لم يزك ولم يحج ولم يصم إلا سأل ربه
الرجعة (5).
(ولن يؤخر الله) نفي للتأخير على وجه التأكيد، والمعنى: إذا علمتم أن
تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه، وأن الله عليم بأعمالكم، لم يبق إلا
المسارعة إلى أداء الواجبات. وقرئ: (تعملون) بالياء (6) والتاء، فالتاء على
عود الضمير إلى قوله: (نفسا) لأنه في معنى الجمع.
* * *

(1) قرأه أبو عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 637.
(2) تفسير ابن عباس: ص 473.
(3) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 110.
(4) وهو قول ابن عباس. راجع البحر المحيط: ج 8 ص 274.
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 544.
(6) وهي قراءة أبي بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 637.
570

سورة التغابن
مختلف فيها (1)، وهي ثمان عشرة آية.
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة " (2)
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم
القيامة، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثم لا تفارقه حتى يدخل الجنة " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد
وهو على كل شىء قدير (1) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن

(1) كذا تبعا للكشاف. وقال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 17: مدنية بلا خلاف في
قول ابن عباس وعطاء والضحاك، وهي ثمان عشرة آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 545: مختلف فيها، وهي ثمان عشرة آية، نزلت بعد التحريم.
وفي تفسير القرطبي: ج 18 ص 131: مدنية في قول الأكثرين، وقال الضحاك: مكية،
وقال الكلبي: هي مكية ومدنية، وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت
بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جفاء أهله وولده فأنزل الله
عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) إلى آخر السورة.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 551.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 146.
571

والله بما تعملون بصير (2) خلق السموات والارض بالحق وصوركم
فأحسن صوركم وإليه المصير (3) يعلم ما في السموات والارض ويعلم
ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور (4) ألم يأتكم نبؤا
الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم (5) ذا لك بأنه
كانت تأتيهم رسلهم بالبينت فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا
واستغنى الله والله غنى حميد (6) زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل
بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذا لك على الله يسير (7) فامنوا
بالله ورسوله ى والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير (8) يوم
يجمعكم ليوم الجمع ذا لك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صلحا
يكفر عنه سياته ى ويدخله جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين
فيهآ أبدا ذا لك الفوز العظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بايتنآ أولئك
أصحب النار خلدين فيها وبئس المصير (10))
(له الملك) على الحقيقة دون غيره لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والمهيمن
عليه (وله الحمد) دون غيره لأن أصول النعم وفروعها منه (1)، وأما ملك غيره
فتسليط منه واسترعاء، وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده.
(فمنكم) آت بالكفر وفاعل له (ومنكم) آت بالإيمان وفاعل له (والله...
بصير) بكفركم وإيمانكم اللذين هما من جملة أعمالكم. والمعنى: هو الذي تفضل
عليكم بأصل النعم الذي هو الإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر
الصحيح فتكونوا مؤمنين موحدين، فما فعلتم ذلك مع تمكنكم، بل تفرقتم أمما
(فمنكم كافر ومنكم مؤمن)، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم.

(1) في نسخة زيادة: " دون غيره ".
572

(بالحق) أي: بالغرض الصحيح والحكمة البالغة (وصوركم فأحسن
صوركم) بأن جعلكم أحسن الحيوان وأبهاه، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون
صورته على صورة جنس آخر من الحيوان.
نبه سبحانه بعلمه (ما في السموت والأرض) ثم بعلمه ما يسره العباد وما
يعلنونه ثم بعلمه ذوات الصدور أن شيئا من الكليات والجزئيات لا يعزب (1) عن
علمه ولا يخفى عليه، فحقه أن يتقى ويحذر من معصيته.
(ألم يأتكم) خطاب للكفار. و (ذلك) إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي
ذاقوه في الدنيا، وما أعده الله لهم من عذاب الآخرة (بأنه) بأن الشأن والحديث
(كانت تأتيهم رسلهم بالبينت)، (أبشر يهدوننا) أنكروا أن يكون الرسل بشرا،
ولم ينكروا أن يكون الله (2) حجرا. و " البشر " يقع على الواحد والجمع (قالوا مآ
أنتم إلا بشر مثلنا) (3)، (واستغنى الله) أطلق اللفظ ليتناول كل شيء، ومن
جملته: إيمانهم... وطاعتهم، والمراد: وظهر استغناء الله حيث لم يضطرهم إلى
الإيمان مع قدرته على ذلك.
الزعم: ادعاء العلم. وفي الحديث: " زعموا " مطية الكذب (4). (أن لن
يبعثوا) أنهم لن يبعثوا، أو: سد مسد مفعولي (زعم)، (بلى) إثبات لما بعد
(لن) وهو البعث (وذلك على الله يسير) لا يصرفه عنه صارف.
(والنور الذي أنزلنا) هو القرآن. وقرئ: " نجمعكم " (5)، و " نكفر عنه "،

(1) في نسخة: " لا يغرب ".
(2) في نسخة: " الإله ".
(3) يس: 15.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 548 مرسلا.
(5) بالنون هي قراءة يعقوب وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 722.
573

" وندخله " بالياء والنون (1)، (يوم يجمعكم) ظرف لقوله: (لتنبؤن) أو:
ل‍ (خبير) لما فيه من معنى الوعيد، كأنه قال: والله معاقبكم يوم يجمعكم (ليوم
الجمع) ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون، و (التغابن) مستعار من: تغابن
القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء
ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد
حسرة " (2).
وهو من معنى (ذلك يوم التغابن) فيظهر في ذلك اليوم الغابن والمغبون،
فالتغابن فيه هو التغابن على الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن عظمت وجلت
(صلحا) صفة للمصدر، أي: عملا صالحا.
(مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله
بكل شىء عليم (11) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما
على رسولنا البلغ المبين (12) الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل
المؤمنون (13) يأيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولدكم عدوا
لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم (14)
إنمآ أموا لكم وأولدكم فتنة والله عنده أجر عظيم (15) فاتقوا الله ما
استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه ى
فأولئك هم المفلحون (16) إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضعفه لكم
ويغفر لكم والله شكور حليم (17) علم الغيب والشهدة العزيز
الحكيم (18))

(1) وبالنون قرأه نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم. راجع المصدر السابق.
(2) أخرجه البخاري في الصحيح: ج 2 ص 124. عن أبي هريرة.
574

(بإذن الله) بتقديره ومشيئته، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه (يهد قلبه)
يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير، وعن ابن عباس: يهد قلبه
للاسترجاع عند المصيبة (1). وعن مجاهد: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن
ظلم غفر (2). وعن الضحاك: يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن
ما أخطأه لم يكن ليصيبه (3).
(إن من أزوجكم) أزواجا يعادينكم ويخاصمنكم، ومن (أولدكم) أولادا
يعادونكم ويعقونكم (فاحذروهم) الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعا،
أي: فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرورهم (وإن تعفوا) عنهم إذا
اطلعتم منهم على عداوة، وتتجاوزوا عنهم، وتستروا ما فرط منهم عليهم (فإن
الله) يغفر لكم ذنوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم.
(إنما أمولكم وأولدكم فتنة) (4) أي: بلاء ومحنة وسبب لوقوعكم في
الجرائم والعظائم، وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال
والأولاد (5). (فاتقوا الله ما استطعتم) جهدكم ووسعكم، أي: ابذلوا فيها جهدكم
واستطاعتكم (واسمعوا) ما توعظون به (وأطيعوا) فيما تؤمرون به وتنهون
عنه (وأنفقوا) في الوجوه التي تجب عليكم النفقة فيها (خيرا) منصوب
بمحذوف، والتقدير: ائتوا خيرا لأنفسكم، أي: افعلوا ما هو خير لها وأنفع. وهذا

(1) تفسير ابن عباس: ص 474.
(2) حكاه الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 161.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 549.
(4) روى النحاس عن ابن زيد عن أبيه قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب فرأى الحسن والحسين
يعبران (يعثران - خ) فنزل من على المنبر وضمهما إليه وتلا هذه الآية. إعراب القرآن لأبي
جعفر النحاس: ج 4 ص 445 - 446.
(5) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 182.
575

تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان، لأن هذه الأمور خير لأنفسكم من
الأموال والأولاد، وما أقبلتم عليه من زبارج الدنيا ولذاتها الفانية.
وذكر القرض تلطف في الاستدعاء (يضعفه لكم) يكتب لكم بالواحد عشر
أو (1) سبعمائة إلى ما شاء من الأضعاف المضاعفة (شكور) مجاز، أي: يفعل بكم
ما يفعله المبالغ في الشكر من الأجر الجزيل والثواب العظيم (حليم) لا يعاجل
بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم.
* * *

(1) في بعض النسخ: " إلى " بدل " أو ".
576

سورة الطلاق (1)
مدنية (2)، وهي إحدى عشرة آية بصري، واثنتا عشرة غيرهم، لم يعد
البصري: (يجعل له مخرجا) (3).
في حديث أبي: " من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (4).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فرائضه أعاذه الله من
أن يكون يوم القيامة ممن يخاف أو يحزن، وعوفي من النار، وأدخله الله الجنة
بتلاوته إياهما ومحافظته عليهما، لأ نهما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " (5).
بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة

(1) في المجمع: وتسمى سورة النساء القصرى.
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 27: مدنية في قول ابن عباس وعطاء والضحاك
وغيرهم، وهي اثنتا عشرة آية في الكوفي والمدنيين، وعشر في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 551: مدنية وهي إحدى عشرة أو اثنتا عشرة أو ثلاث عشرة
آية، نزلت بعد الإنسان.
(3) الآية: 2.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 561 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 146.
577

واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين
بفحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا
تدرى لعل الله يحدث بعد ذا لك أمرا (1) فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن
بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا
الشهدة لله ذا لكم يوعظ به ى من كان يؤمن بالله واليوم الاخر ومن
يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل
على الله فهو حسبه إن الله بلغ أمره ى قد جعل الله لكل شىء قدرا (3)
والى يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم فعدتهن ثلثة أشهر
والئى لم يحضن وأؤلت الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق
الله يجعل له من أمره ى يسرا (4) ذا لك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله
يكفر عنه سياته ى ويعظم له أجرا (5))
خص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنداء، وعم بالخطاب كما يقال للرئيس المتقدم في القوم:
يا فلان افعلوا كذا، إظهارا لتقدمه واعتبارا بأنه وحده في حكم جميعهم، والمعنى:
إذا أردتم تطليق النساء، كقوله: (إذا قمتم إلى الصلوة) (1)، (وإذا قرأت
القرءان) (2) تنزيلا للمقبل على الأمر منزلة الشارع فيه (فطلقوهن لعدتهن) أي:
لزمان عدتهن، والمراد: أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه، وهو الطلاق للعدة، لأنها
تعتد بذلك الطهر من عدتها، والمعنى: لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، وهو
مذهب الشافعي (3) وأهل البيت (عليهم السلام) (4). وقيل: إن المعنى: فطلقوهن مستقبلات

(1) المائدة: 6.
(2) الاسراء: 45.
(3) كتاب الأم للشافعي: ج 5 ص 180، ومختصر المزني: ص 191.
(4) الخلاف للشيخ الطوسي: ج 4 ص 446 المسألة (2)، الانتصار للشريف المرتضى: ص 132.
578

لعدتهن، كقولك: أتيته لليلة خلت من الشهر (1)، فتكون العدة الحيض، وهو مذهب
أبي حنيفة (2) (وأحصوا العدة) واضبطوها بالعدد وعدوها ثلاثة أقراء، وإنما أمر
بإحصاء العدة لأن للمرأة فيها حقا، وهو النفقة والسكنى، وللزوج فيها حقا وهو
المراجعة ومنعها من الأزواج.
(ولا تخرجوهن) حتى تنقضي عدتهن (من بيوتهن) من مساكنهن التي
يسكنها (3) قبل العدة، وهي بيوت الأزواج، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من
حيث السكنى (ولا يخرجن) بأنفسهن إن أردن ذلك (إلا أن يأتين بفحشة
مبينة) قرئ بفتح الياء (4) وكسرها، أي: مظهرة أو ظاهرة، وعن الحسن ومجاهد:
الفاحشة: الزنا (5)، وعن ابن عباس: هي البذاء على أهلها (6)، وروي ذلك عن
أئمة الهدى (عليهم السلام) (7). (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) وهو أن يغير رأي الزوج
ويوقع في قلبه أن يراجعها. والمعنى: فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة لعلكم
ترغبون فيهن بعد الرغبة عنهن فتراجعون.
(فإذا بلغن أجلهن) وهو آخر العدة وشارفنه فأنتم بالخيار: فراجعوهن إن
شئتم وأمسكوهن بالمعروف والإحسان (أو فارقوهن) إن شئتم بترك الرجعة
(بمعروف) بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة فيهن منكم (وأشهدوا ذوى
عدل منكم) والظاهر يقتضي وجوب الإشهاد على ما ذهب إليه أصحابنا في

(1) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 552.
(2) المبسوط للسرخسي: ج 6 ص 8.
(3) في بعض النسخ: " تسكنها ".
(4) وهي قراءة ابن كثير وأبي بكر عن عاصم. راجع العنوان في القراءات لابن خلف: ص 192.
(5) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 351، وتفسير مجاهد: ص 663.
(6) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 29 وزاد: والشافعي.
(7) أنظر التبيان: ج 10 ص 31.
579

الطلاق (1)، (وأقيموا الشهدة لله) أي: لوجه الله لا لغرض من الأغراض سوى
إقامة الحق. (ذلكم) الأمر بالحق، أو: الحث على إقامة الشهادة، (يوعظ به)
المؤمنون (ومن يتق الله) فطلق للسنة، واحتاط في إيقاعه على الوجه المأمور،
وأشهد عليه (يجعل الله له مخرجا) من كل هم وضيق (ويرزقه من حيث
لا يحتسب) فتكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق، ويجوز أن تكون جملة أتي
بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: (ذلكم يوعظ به) ويكون المعنى: ومن
يتق الله يجعل له مخلصا من غموم الدنيا والآخرة.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم: (ومن يتق الله)
فما زال يقرأها ويعيدها (2).
وقرئ: (بلغ أمره) بالإضافة، و " بالغ أمره " بالنصب (3)، أي: يبلغ ما يريده،
لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب (قد جعل الله لكل شىء قدرا) أي: تقديرا
وتوقيتا، وفيه بيان لوجوب التوكل على الله، لأنه إذا علم أن كل شيء بتقديره
وتوقيته لم يبق إلا التسليم لذلك والتفويض إليه.
(والئى يئسن من المحيض من نسآئكم) فلا يحضن (إن ارتبتم) فلا
تدرون، لكبر ارتفع حيضهن أم لعارض (فعدتهن ثلثة أشهر) فهذه عدة المرتاب
بها، وقدر ذلك بما دون خمسين سنة وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) (4). (والئى

(1) أنظر كتاب الخلاف للشيخ الطوسي: ج 4 ص 453 المسألة (5)، وقال: وخالف جميع
الفقهاء في ذلك، ولم يعتبر أحد منهم الشهادة.
(2) أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 2 ص 1411 ح 4220 عن أبي ذر. وفيه: " لأعرف " بدل
" لأعلم ".
(3) وهي قراءة الجمهور إلا عاصما. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 639.
(4) وهو ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ثلاث يتزوجن على كل
حال... (إلى أن قال): والتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض، قلت: وما حدها؟ قال:
إذا كان لها خمسون سنة. أنظر تهذيب الأحكام: ج 8 ص 137 ح 478.
580

لم يحضن) أي: لم يبلغن المحيض من الصغائر، والمعنى: إن ارتبتم أيضا في أن
مثلها تحيض فعدتهن ثلاثة أشهر، فحذف لدلالة المذكور قبل عليه، وقدر ذلك
بتسع سنين فما زاد (1).
(وأولت الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وعن ابن عباس: هي في
المطلقات خاصة (2)، وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) (3). فأما المتوفى عنها زوجها
إذا كانت حاملا فعدتهن أبعد الأجلين (4)، فإن مضت بها أربعة أشهر وعشر ولم
تضع انتظرت وضع الحمل (يجعل له من أمره يسرا) أي: يتيسر عليه أمور الدنيا
والآخرة بسبب التقوى.
(ذلك أمر الله) يريد: ما علم من حكم المعتدات، والمعنى: (ومن يتق الله)
في العمل بما (أنزله) من الأحكام في الطلاق والرجعة والعدة، وحافظ على
الحقوق الواجبة عليه من الإسكان والنفقة وترك الضرار (يكفر) الله (عنه
سيئاته ويعظم له أجرا) في الآخرة وهو ثواب الجنة.
(أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضآروهن لتضيقوا
عليهن وإن كن أولت حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن
أرضعن لكم فاتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم

(1) أنظر موثقة عبد الرحمن المتقدمة في التهذيب.
(2) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 34.
(3) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 135 باسناده عن الشعبي عن علي (عليه السلام)، وما رواه
عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) في الرجل يطلق امرأته وهي حبلى، قال: أجلها أن تضع
حملها. أنظر تهذيب الأحكام: ج 8 ص 134 ح 464.
(4) اي: أجل وضع الحمل واجل الأربعة أشهر وعشرة أيام.
581

فسترضع له أخرى (6) لينفق ذو سعة من سعته ى ومن قدر عليه رزقه
فلينفق ممآ ءاتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا مآ ءاتاها سيجعل الله بعد
عسر يسرا (7) وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله ى فحاسبنها
حسابا شديدا وعذبنها عذابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرها وكان عقبة
أمرها خسرا (9) أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يأولى الالبب
الذين ءامنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا (10) رسولا يتلوا عليكم ءايت
الله مبينت ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصلحت من الظلمت إلى
النور ومن يؤمن بالله ويعمل صلحا يدخله جنت تجرى من تحتها
الانهر خلدين فيهآ أبدا قد أحسن الله له رزقا (11) الله الذي خلق
سبع سموا ت ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله
على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما (12))
بين سبحانه كيف يعمل بالتقوى في أمر المعتدات فقال: (أسكنوهن من حيث
سكنتم) أي: بعض مكان سكناكم كما قال: (يغضوا من أبصرهم) (1) أي: بعض
أبصارهم، وعن قتادة: إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه (2)
(من وجدكم) عطف بيان لقوله: (من حيث سكنتم) وتفسير له، كأنه قال:
أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما يطيقونه، والوجد: الوسع والطاقة.
والسكنى والنفقة واجبتان للمطلقة الرجعية بلا خلاف، وعندنا: أن المبتوتة (3)

(1) النور: 30.
(2) حكاه عنه السيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 207 وعزاه إلى عبد بن حميد.
(3) البت: القطع، يقال: لا أفعله بتة وألبتة، لكل أمر لا رجعة فيه، وكذلك: طلقها ثلاثا بتة.
(الصحاح: مادة بتت).
582

لا سكنى لها ولا نفقة (1)، وحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال
لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا سكنى لك ولا نفقة " (2) يدل عليه.
(ولا تضآروهن) ولا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في السكنى والنفقة،
(لتضيقوا عليهن) حتى تضطروهن إلى الخروج، وقيل: هو أن يراجعها إذا بقي
من عدتها يومان ليضيق عليها أمرها (3). (وإن كن أولت حمل) أي: حوامل،
(فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) سواء كن رجعيات أو مبتوتات (فإن
أرضعن لكم) يعني: هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولدا منهن أو من غيرهن بعد
انقطاع عصمة الزوجية (فآتوهن أجورهن) فأعطوهن أجرة الرضاع، (وأتمروا
بينكم بمعروف) يقال: ائتمر القوم وتآمروا: إذا أمر بعضهم بعضا. والمعنى: وليأمر
بعضكم بعضا، والخطاب للآباء والأمهات (بمعروف) بجميل في إرضاع الولد،
وهو: المسامحة، وأن لا يماكس (4) الأب، ولا تعاسر الأم، لأنه ولدهما معا، وهما
شريكان فيه. (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) أي: الأب، أي: سيجد الأب
مرضعة غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه.
(لينفق) كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه، يريد: ما أمر به من
الإنفاق على المطلقات والمرضعات، وهو مثل قوله: (ومتعوهن على الموسع
قدره وعلى المقتر قدره) (5)، (سيجعل الله بعد عسر يسرا) هذا موعد لفقراء

(1) لرواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن المطلقة ثلاثا على السنة هل لها
سكنى أو نفقة؟ قال: " لا " أنظر الكافي: ج 6 ص 104 باب المطلقة ثلاثا لا سكنى لها
ولا نفقة.
(2) أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 1 ص 656 ح 2036 عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس.
(3) قاله أبو الضحى. راجع تفسير القرطبي: ج 18 ص 168.
(4) المكس: النقص، وانتقاص الثمن واستحطاطه والمنابذة في المعاملة. (لسان العرب).
(5) البقرة: 236.
583

ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو: لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه
ولم يقصروا.
(وكأين) أي: وكم من أهل (قرية) أعرضوا (عن أمر) ربهم عتوا وعنادا،
وجاوزوا الحد في المخالفة (حسابا شديدا) بالاستقصاء والمناقشة (عذابا
نكرا) أي: منكرا عظيما. والمراد: حساب الآخرة وعذابها وما يذوقون فيها من
الوبال، ويلقون من الخسران، وجيء به على لفظ الماضي كقوله: (ونادى أصحب
الجنة... ونادى أصحب النار) (1) ونحو ذلك، لأن ما هو كائن فكان.
قد (أعد الله لهم عذابا شديدا) تكرير للتوعيد، وبيان لكونه مترقبا، ويجوز
أن يراد إحصاء السيئات عليهم في الدنيا وهو إثباتها في صحائف أعمالهم، وإعداد
العذاب الشديد (2) لهم في الآخرة، وأن يكون (عتت) وما عطف عليه صفة
للقرية، و (أعد الله) جواب ل‍ (كأين).
(رسولا) هو جبرئيل (عليه السلام)، أبدل من (ذكرا) لأنه وصف بتلاوة آيات الله
عز اسمه، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، فلذلك صح إبداله منه، أو: أريد بالذكر
الشرف كما في قوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) (3)، فأبدل منه، كأنه في نفسه
شرف، إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو شرف ومجد عند الله، أو: أريد: ذا
ذكر، أي: ملكا مذكورا في الأمم، أو: دل قوله: (أنزل الله إليكم ذكرا) على: أرسل،
فكأنه قال: أرسل رسولا، أو: أعمل (ذكرا) في (رسولا) (4) أي: أنزل الله أن
ذكر رسولا أو: ذكره رسولا، ويجوز أن يكون المراد على هذا بقوله: (رسولا)

(1) الأعراف: 44 و 50.
(2) في نسخة: " الشدائد " بدل " العذاب الشديد ".
(3) الزخرف: 44.
(4) أي: إعمال المصدر في المفاعيل. كذا في الكشاف.
584

محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) (ليخرج الذين ءامنوا) بعد إنزاله لأنهم كانوا وقت الإنزال غير
مؤمنين، وإنما آمنوا وأصلحوا بعد الإنزال والتبليغ، أو: ليخرج الذين عرف منهم
أنهم يؤمنون، وقرئ: (يدخله) بالياء والنون (1) (قد أحسن الله له رزقا) فيه
معنى التعجب والتعظيم لما يرزق المؤمن في الجنة من أنواع النعيم.
(الله الذي خلق) مبتدأ وخبر، و (مثلهن) عطف على (سبع سموت)،
قالوا: ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية (2). (يتنزل الأمر
بينهن) أي: يجري أمر الله وحكمه بينهن، ويدبر تدبيراته فيهن، (لتعلموا)
بالتدبير في خلق السموات والأرض أن الله الذي أنشأهما وأوجدهما (على كل
شىء قدير) لكونه قادرا لذاته (وأن الله قد أحاط بكل شىء علما) لكونه عالما
لذاته.
* * *

(1) وبالنون قرأه نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 639.
(2) وممن قاله: ابن مسعود والربيع بن أنس ومجاهد وقتادة، ورووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع
تفسير الطبري: ج 12 ص 145 - 146.
585

سورة التحريم
مدنية (1)، وهي اثنتا عشرة آية.
في حديث أبي: " من قرأ سورة التحريم أعطاه الله توبة نصوحا ".
بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك
والله غفور رحيم (1) قد فرض الله لكم تحلة أيمنكم والله مولاكم
وهو العليم الحكيم (2) وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه ى حديثا فلما
نبأت به ى وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به ى
قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير (3) إن تتوبآ إلى الله فقد
صغت قلوبكما وإن تظهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصلح
المؤمنين والملئكة بعد ذا لك ظهير (4) عسى ربه إن طلقكن أن يبدله
أزواجا خيرا منكن مسلمت مؤمنت قنتت تائبت عبدات سبحت

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 43: مدنية في قول ابن عباس والضحاك
وغيرهما، وهي اثنتا عشرة آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 562: مدنية، وتسمى سورة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي اثنتا عشرة آية،
نزلت بعد الحجرات.
587

ثيبت وأبكارا (5) يأيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها
الناس والحجارة عليها ملئكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون (6) يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما
تجزون ما كنتم تعملون (7))
روي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة
فقال لها: " اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي، فأخبرها أنه يملك من بعده
أبو بكر وعمر، فأرضاها بذلك واستكتمها، فلم تكتم وأعلمت عائشة الخبر،
وحدثت كل واحدة منهما أباها بذلك، فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك، فطلقها (1)
واعتزل نساءه، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية (2).
وروي: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة
وحفصة فقالتا له: إنا نشم منك ريح المغافير. وكان يكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التفل،
وحرم العسل (3).
والمعنى: (لم تحرم مآ أحل الله لك) من ملك اليمين، أو من العسل (تبتغى)
حال من (تحرم)، أو: تفسير له، أو: استئناف، أي: تطلب به رضاء نسائك وهن
أحق بطلب مرضاتك منك، وليس هذا بزلة منه صلوات الله وسلامه عليه كما
زعمه جار الله (4)، لأن تحريم الإنسان بعض الملاذ بنفسه بسبب أو غير سبب
ليس بقبيح ولا زلة، ويمكن أن يكون (عليه السلام) عوتب على ذلك لأنه كان تركا للأولى

(1) أي: طلق حفصة.
(2) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 148 و 149 عن ابن عباس من عدة طرق.
(3) أخرجه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 563، ونحوه رواه البخاري في الصحيح: ج 7
ص 56 عن عائشة. والمغافير واحدتها مغفور: وهي بقلة متغيرة الرائحة فيها حلاوة.
(4) في الكشاف: ج 4 ص 564 قال: وكان هذا زلة منه! لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله!!
588

والأفضل، ويحسن أن يقال لتارك النفل: لم لم تفعله؟
(قد فرض الله لكم تحلة أيمنكم) أي: شرع لكم تحليل أيمانكم بالكفارة،
وعن مقاتل: أمر الله نبيه أن يكفر عن يمينه ويراجع وليدته، فأعتق رقبة وعاد إلى
مارية (1)، وعن الحسن: أنه لم يكفر وإنما هو تعليم للمؤمنين (2).
وفي الحديث: " لا يموت لمؤمن ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم " (3).
وهو عبارة عن القلة، كقول ذي الرمة:
قليلا كتحليل الألي (4)
وقيل: معناه: شرع لكم الاستثناء من قولهم: حلل فلان عن يمينه إذا استثنى
فيها، وذلك أن يقول: " إن شاء الله " عقيبها حتى لا يحنث (5). (والله مولكم)
سيدكم ومتولي أموركم (وهو العليم) بمصالحكم (الحكيم) يشرع لكم ما
توجبه الحكمة، وقيل: (مولكم) أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم
من نصائحكم لأنفسكم (6).
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزوجه) وهي حفصة (حديثا) أي: كلاما أمرها
بإخفائه (فلما نبأت به) وأفشته وأخبرت غيرها به (وأظهره الله عليه) وأطلع
الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إفشاء الحديث بالوحي (عرف) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حفصة، أي:
أعلمها بعض الحديث، يعني: بعض ما اطلع عليه من ذلك (وأعرض عن بعض)

(1) حكاه عنه الرازي في تفسيره الكبير: ج 30 ص 44.
(2) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 46.
(3) أخرجه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 2028 ح 2632 وما بعده عن أبي هريرة، وفيه: بدل
" لمؤمن " " لأحد من المسلمين ".
(4) لم نجده في ديوان ذي الرمة المطبوع في بيروت.
(5) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 564.
(6) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 46.
589

منه وصفح عنه، أو: عن بعض ما جرى من الأمر فلم يخبرها به تكرما، قال سفيان:
ما زال التغافل من فعل الكرام (1). وقرئ: " عرف " بالتخفيف (2)، أي: جازى
عليه، من قولك للمسيء: لأعرفن لك ذلك، و: قد عرفت ما صنعت، (أولئك الذين
يعلم الله ما في قلوبهم) (3)، وكان جزاؤه تطليقه إياها (فلما نبأها)
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أظهره الله عليه (قالت) حفصة (من) أخبرك ب‍ (هذا)؟
(إن تتوبآ إلى الله) خطاب لعائشة وحفصة (4) على طريق الالتفات ليكون
أبلغ في معاتبتهما (فقد صغت قلوبكما) فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو
ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حب ما يحبه وكراهة
ما يكرهه.
وعن الصادق (عليه السلام): (إن تتوبآ إلى الله) مما هممتما من السم (فقد) زاغت
(قلوبكما) (5).
وقرئ: (تظهرا) و (تظاهرا) بالتشديد (6) والتخفيف، والأصل: إن
تتظاهرا، فخفف بالإدغام وبالحذف، أي: وإن تتعاونا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإيذاء
وبما يسوء فلم يعدم هو (صلى الله عليه وآله وسلم) من يظاهره، وكيف يعدم المظاهر من الله
(موله) أي: وليه والمتولي حفظه ونصرته، وزيادة (هو) تؤذن بأن نصرته

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 565.
(2) وهي قراءة الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 640.
(3) النساء: 63.
(4) لا اختلاف في أنهما عائشة وحفصة ابنتا أبي بكر وعمر، فانظر الروايات المسندة إلى عمر
نفسه حين سأله ابن عباس عن المتظاهرتين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الطبري: ج 12
ص 153.
(5) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2 ص 393.
(6) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 163.
590

عزيمة من عزائم الله، وأنه يتولى ذلك بذاته وجبرائيل: رأس الكروبيين (1)، وقرن
ذكره بذكره من بين سائر الملائكة تعظيما له، وإظهارا لمكانته عنده، (وصلح
المؤمنين) ومن صلح من المؤمنين، وعن سعيد بن جبير: من برئ منهم من
النفاق (2)، وعن قتادة: الأتقياء (3). ويجوز أن يكون واحدا أريد به الجمع، كما
يقال: لا يفعل هذا الصالح من الناس، يراد الجنس، أي: من صلح منهم (4). ويجوز
أن يكون الأصل: " صالحو المؤمنين " بالواو، فكتب بغير واو على اللفظ (5).
وروي من طريق الخاص والعام أنها لما نزلت أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد
علي (عليه السلام) وقال: " يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين " (6).
(والملئكة) على تكاثر عددهم (بعد ذلك) بعد نصرة الله وجبريل
وصالح المؤمنين (ظهير) فوج مظاهر له، كأنهم يد واحدة على من يعاديه
ويخالفه، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟! وقرأ موسى بن
جعفر (عليهما السلام): " وإن تظاهروا عليه ".

(1) الكروبيون: هم سادة الملائكة منهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل (عليهم السلام) هم المقربون، وقيل:
أقرب الملائكة إلى حملة العرش. (لسان العرب).
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 566.
(3) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 48.
(4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 193.
(5) قاله أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني. راجع التبيان: ج 10 ص 48.
(6) فمن العامة - على سبيل المثال لا الحصر - أنظر: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2
ص 341 وما بعده من طرق وأسانيد متعددة: وتفسير ابن أبي حاتم كما رواه عنه السيوطي
في مسند علي: ص 313 ح 1150، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص 137 ب 30،
والصواعق المحرقة لابن حجر: ص 144، وفضائل الخمسة: ج 1 ص 271، والثعلبي في
تفسيره: ج 4 ص 269 (مخطوط). وابن كثير في تفسيره: ج 4 ص 390 عن مجاهد. ومن
الخاصة أنظر: تفسير القمي: ج 2 ص 393، والتبيان: ج 10 ص 48.
591

(عسى ربه إن طلقكن) يا أزواج النبي (أن يبدله) بالتشديد (1) والتخفيف
(أزوجا خيرا منكن) موصوفات بهذه الصفات من: الاستسلام لأمر الله،
والتصديق لله ولرسوله، والقيام بطاعة الله في طاعة رسوله، والرجوع إلى أمره
والتذلل له (سئحت) صائمات، وقيل: مهاجرات (2)، وعن زيد بن أسلم: لم
يكن في هذه الأمة سياحة إلا الهجرة (3). وقيل: ماضيات في طاعة الله
ورسوله (4). ووسط بين " الثيبات " و " الأبكار " بالواو لأنهما صفتان متنافيتان،
لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات.
(قوا أنفسكم) بترك المعاصي وفعل الطاعات (وأهليكم) بأن تأخذوهم
بما تأخذون به أنفسكم، وعن مقاتل: هو أن يؤدب المرء أهله وخدمه، فيعلمهم
الخير وينهاهم عن الشر (5)، وذلك حق على كل مسلم.
وفي الحديث: " رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم، صيامكم، زكاتكم،
مسكينكم، ويتيمكم، جيرانكم، لعل الله يجمعهم معه في الجنة " (6).
(نارا وقودها الناس والحجارة) نوعا من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة
كما يتقد غيرها من أنواع النيران بالحطب. (عليها) أي: يلي أمرها (ملئكة
غلاظ شداد) في أجرامهم غلظة وشدة، أي: جفاء وقوة، أو: في أفعالهم جفاء
وخشونة، لا تأخذهم رأفة في الغضب لله ورأفة (7) لأهل النار، وهم الزبانية التسعة

(1) قرأه نافع وأبو عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 514.
(2) قاله زيد بن أسلم والجبائي. راجع التبيان: ج 10 ص 49.
(3) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 42.
(4) وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 49.
(5) حكاه عنه الرازي في تفسير الكبير: ج 30 ص 46.
(6) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 568 مرسلا.
(7) في نسخة: " ورحمة " بدل " ورأفة ".
592

عشر (1). (مآ أمرهم) في محل نصب على البدل، أي: لا يعصون أمر الله، أو: معناه:
لا يعصون الله فيما أمرهم به. والمعنى الأول: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها،
والمعنى الثاني: أنهم يؤدون ما يؤمرون به. ويمكن أن يكون الخطاب في الآية
للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، لأن الله عز اسمه جعل هذه النار الموصوفة
بأن وقودها الناس والحجارة معدة للكافرين في موضع آخر من التنزيل (2)،
ويعضده قوله تعالى على أثره: (يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) أي: يقال
لهم عند دخولهم النار: لا تعتذروا، لأنه لا عذر لكم، أو: لأنه لا ينفعكم العذر.
(يأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن
يكفر عنكم سياتكم ويدخلكم جنت تجرى من تحتها الانهر يوم لا
يخزى الله النبي والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم
وبأيمنهم يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا واغفر لنآ إنك على كل شىء
قدير (8) يأيها النبي جهد الكفار والمنفقين واغلظ عليهم ومأواهم
جهنم وبئس المصير (9) ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح
وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صلحين فخانتا هما فلم يغنيا
عنهما من الله شيا وقيل ادخلا النار مع الداخلين (10) وضرب الله
مثلا للذين ءامنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا في
الجنة ونجنى من فرعون وعمله ى ونجنى من القوم الظلمين (11)
ومريم ابنت عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت
بكلمت ربها وكتبه ى وكانت من القنتين (12))

(1) إشارة إلى قوله تعالى: (وما أدرك ما سقر لا تبقى ولا تذر عليها تسعة عشر) المدثر:
27 - 30.
(2) الآية: 24 من سورة البقرة.
593

وصف التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، والنصح صفة التائبين وهو أن
ينصحوا أنفسهم بالتوبة، فيتوبوا عن القبائح لقبحها، نادمين عليها، عازمين على
أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع، موطنين أنفسهم
على ذلك.
وعن علي (عليه السلام): إن التوبة يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة
وللفرائض الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود،
وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في معصية الله، وأن تذيقها مرارة
الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي (1).
وقيل: (نصوحا) من: نصاحة الثوب أي: توبة ترقع خروقك في دينك وترم
خلك (2)، وقيل: توبة تنصح الناس أي: تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في
صاحبها، واستعماله الجد في العمل على مقتضياتها (3). وقرئ: " نصوحا "
بالضم (4) وهو مصدر " نصح "، أي: ذات نصوح، أو: تنصح نصوحا، أو: توبوا لنصح
أنفسكم على أنه مفعول له، والنصح والنصوح مثل: الشكر والشكور، والكفر
والكفور (عسى ربكم) إطماع من الله لعباده، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون
على عادة الملوك في الإجابة ب‍ " عسى " و " لعل " وإيقاع ذلك موقع القطع والبت،
والثاني: أن يكون على تعليم عباده الترجح بين الخوف والرجاء. (يوم لا يخزى
الله) نصب ب‍ (يدخلكم) وهو تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والنفاق،
واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم، أي: لا يذل النبي

(1) رواه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 569.
(2 و 3) حكاه الزمخشري في الكشاف.
(4) قرأه أبو بكر عن عاصم. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 724.
594

والمؤمنين معه، بل يعزه ويكرمه بالشفاعة، ويعز المؤمنين بإدخال الجنة، وقيل:
(والذين ءامنوا معه) مبتدأ وما بعده خبر (1) أي: يسعى نورهم على الصراط،
وعن الصادق (عليه السلام): يسعى أئمة المؤمنين يوم القيامة بين أيديهم وبأيمانهم حتى
ينزلوهم منازلهم من الجنة (2) (يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا) في موضع نصب على
الحال، أو: خبر بعد خبر. وعن الحسن: الله متمه لهم، ولكنهم يدعون تقربا إلى
الله (3)، كقوله: (واستغفر لذنبك) (4) وهو مغفور له، وإنما قال تقربا، وليست
الدار دار تقرب، لأن حالهم يشبه حال المقربين حيث يطلبون من الله سبحانه ما
هو حاصل لهم، وقيل: إن النور يكون على قدر أعمالهم، فأدناهم منزلة في ذلك
يسأل إتمامه تفضلا (5) (واغفر لنآ) أي: استر علينا ذنوبنا ولا تهلكنا بها.
(جهد الكفار) بالسيف (والمنفقين) بالقول الرادع وبالاحتجاج، وقرأ
الصادق (عليه السلام): جاهد الكفار بالمنافقين، وقال: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقاتل منافقا قط إنما
كان يتألفهم (6)، وعن قتادة: بإقامة الحدود عليهم (7)، وعن الحسن: أكثر من كان
يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون، فأمر أن يغلظ عليهم في إقامة الحد (8).
مثل الله حال الكفار والمنافقين في أنهم يعاقبون على كفرهم ونفاقهم من غير
إبقاء ولا محاباة ولا اعتبار بالعلائق والوصل بحال (امرأت نوح وامرأت لوط)

(1) قاله النحاس في إعراب القرآن: ج 4 ص 464.
(2) رواه على بن إبراهيم القمي في تفسيره: ج 2 ص 395 باسناده إلى صالح بن سهل.
(3) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 355.
(4) غافر: 55، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): 19.
(5) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 473 بلفظ قريب.
(6) أنظر التبيان: ج 10 ص 52.
(7) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 571.
(8) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 52.
595

لما نافقتا وخانتا الرسولين، لم يغن الرسولان (عنهما) بحق ما بينهما من وصلة
الزوجية (شيئا) من عذاب الله (وقيل) لهما عند موتهما أو: يوم القيامة (ادخلا
النار مع) سائر (الداخلين) الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، ومثل حال
المؤمنين في القيامة في أن وصلة الكافرين لا تضرهم، ولا تنقص شيئا من ثوابهم
وزلفاهم عند الله بحال (امرأت فرعون) ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعظم
الكافرين، القائل: (أنا ربكم الاعلى) (1) (ومريم ابنت عمرن) وما أتيت من
كرامة الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كافرين.
وفي طي التمثيلين تعريض بزوجتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المذكورتين في أول
السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله بما كرهه، وتحذير لهما على
أغلظ وجه وأشده، لما في التمثيل من ذكر الكفر، وإشارة إلى أن من حقهما أن لا
تتكلا على أنهما زوجا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما
مؤمنتين مخلصتين، والتعريض بحفصة أكثر لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت
حفصة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ففي قوله: (عبدين من عبادنا صلحين) إشارة إلى أن عبدا من العباد
لا يرجح عنده إلا بالصلاح، وبه ينال الفوز لا غير (فخانتاهما) بالنفاق والتظاهر
على الرسولين: فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط دلت على
ضيفانه، وعن الضحاك: خانتاهما بالنميمة إذا أوحى الله إليهما أفشتاه إلى
المشركين (2)، ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور لأنه نقيصة عند كل أحد، سمج
في كل طبيعة، بخلاف الكفر لأن الكفار لا يستسمجونه، وعن ابن عباس: ما زنت

(1) النازعات: 24.
(2) حكاه عنه الماوردي البصري في تفسيره: ج 6 ص 46.
596

امرأة نبي قط؛ لما في ذلك من التنفير عن الرسول، وإلحاق الوصمة به (1).
وامرأة فرعون: آسية بنت مزاحم، آمنت حين سمعت بتلقف عصا موسى
الإفك، فعذبها فرعون بأن وتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس،
وأضجعها على ظهرها ووضع رحى على صدرها، ولما قالت: (رب ابن لى عندك
بيتا في الجنة) أريت بيتها في الجنة يبنى، وقيل: رفعها الله إلى الجنة، فهي فيها
تأكل وتشرب وتنعم فيها (2)، (ونجنى من) نفس (فرعون) الخبيثة (و) من
(عمله) الذي هو الكفر والظلم والتعذيب بغير جرم (ونجنى من القوم
الظلمين) من القبط كلهم.
(أحصنت فرجها) عفت عن الحرام، وقيل: منعت فرجها من الأزواج
(فنفخنا فيه) أي: في الفرج (وصدقت بكلمت ربها) وهي ما تكلم سبحانه به
وأوحاه إلى أنبيائه (وكتبه) أي: وبالكتب التي أنزلها على أنبيائه، وقرئ:
" وكتابه " (3) وهو الإنجيل (وكانت من القنتين) ولم يقل: من القانتات؛ تغليبا
للذكور، و " من " للتبعيض، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من
القانتين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى (عليه السلام).
* * *

(1) تفسير ابن عباس: ص 478.
(2) قاله الحسن البصري في تفسيره: ج 2 ص 355.
(3) قرأه ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 641.
597

سورة الملك
مكية (1)، وتسمى المنجية تنجي صاحبها من عذاب القبر، والواقية تقي
قارئها من عذاب القبر، ثلاثون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة تبارك فكأنما أحيا ليلة القدر " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة تبارك في المكتوبة قبل أن ينام لم يزل في
أمان الله حتى يصبح، وفي أمانه يوم القيامة حتى يدخل الجنة ".
بسم الله الرحمن الرحيم
(تبرك الذي بيده ى الملك وهو على كل شىء قدير (1) الذي خلق
الموت والحيوة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور (2)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 56: مكية في قول ابن عباس والضحاك وعطاء
وغيرهم، وهي ثلاثون آية في الكوفي والبصري والمدني الأول، واحد وثلاثون في المدني
الأخير، وقال الفراء: سورة الملك تسمى المنجية لأنها تنجي قاريها من عذاب القبر، وروي
أن في التوراة مثل سورة الملك.
وفي الكشاف: ج 4 ص 574: مكية وهي ثلاثون آية، نزلت بعد الطور. وتسمى الواقية
والمنجية لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 583 مرسلا.
599

الذي خلق سبع سموا ت طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفوت
فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك
ا لبصر خاسئا وهو حسير (4) ولقد زينا السمآء الدنيا بمصبيح وجعلنها
رجوما للشيطين وأعتدنا لهم عذاب السعير (5) وللذين كفروا بربهم
عذاب جهنم وبئس المصير (6) إذ آ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى
تفور (7) تكاد تميز من الغيظ كلمآ ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم
يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من
شىء إن أنتم إلا في ضلل كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في
أصحب السعير (10) فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحب السعير (11))
(تبرك) أي: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين بأنه الثابت، الذي ثبوت
الأشياء به، وجميع البركات منه (الذي بيده الملك) على كل موجود (وهو على
كل شىء) لم يوجد مما يدخل تحت القدرة (قدير)، وذكر اليد مجاز عن
الاستيلاء على الملك والإحاطة به.
(الذي خلق الموت والحيوة) قدم ذكر الموت لأنه إلى القهر أقرب، والحياة:
ما يوجب كون الشيء حيا، والحي هو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر، والموت
عدم ذلك فيه، ومعنى خلق الموت والحياة: إيجاد ذلك المصحح وإعدامه.
والمعنى: خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون (ليبلوكم) وسمى علم الواقع منهم
باختيارهم بلوى - وهي الخبرة - استعارة من فعل المختبر (أيكم أحسن عملا)
يتعلق ب‍ (يبلوكم) لأن البلوى تتضمن معنى العلم، فكأنه قال: ليعلم أيكم أحسن
عملا. والجملة وقعت موقع الثاني من المفعولين، كما تقول: علمته أزيد أحسن
عملا أم هو، وهذا لا يسمى تعليقا، لأن التعليق إنما يكون بأن يوقع بعده ما يسد
600

المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيهما عمرو، و (أحسن عملا) أي: أخلص
وأصوب، والخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على الوجه
المأمور به.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه تلاها ثم قال: " أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم
الله، وأسرع في طاعة الله " (1) والمعنى: أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه.
والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلط عليكم الموت
الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأن وراء الموت البعث
والجزاء. (وهو العزيز) الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل (الغفور) لمن
يتفضل عليه من أهل الإساءة.
(طباقا) من: طابق النعل: إذا خصفها طبقا على طبق، أي: مطابقة بعضها فوق
بعض، وهو وصف بالمصدر، أو: ذات طباق، أو: طوبقت طباقا (من تفوت)
وقرئ: " من تفوت " (2) ومعناهما واحد، مثل: تظاهر وتظهر، وتعاهد وتعهد، يريد:
من اختلاف واعوجاج واضطراب في الخلقة، إنما هي مستقيمة ومستوية كلها،
وحقيقة التفاوت عدم التناسب، كأن بعضه يفوت بعضا ولا يلائمه، ونقيضه:
متناصف، وأصله: ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيما
لخلقهن، وتنبيها على أن سبب سلامتهن من التفاوت أنهن خلق الرحمان.
والخطاب فيما ترى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكل مخاطب (فارجع البصر) وأدرها
في خلق الرحمان حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة (هل ترى من فطور)
من صدوع وشقوق، جمع " فطر " وهو الشق، وقرئ بإدغام اللام في التاء (3)

(1) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 7 ص 7 باسناده عن ابن عمر.
(2) قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 644.
(3) قرأه أبو عمرو وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 1 ص 233.
601

نحو: هترى، لأن اللام قريبة المخرج من التاء.
(ثم ارجع البصر كرتين) أي: ثم كرر البصر فيهن متصفحا ومتتبعا هل تجد
عيبا وخللا (ينقلب إليك) أي: إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك
بصرك بما طلبته من إدراك الخلل، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور أي: بالبعد
عن إصابة الملتمس، كأنه طرد عن ذلك طردا بالصغار والقماءة وبالإعياء والكلال
لطول الترديد، ومعنى التثنية في قوله: (كرتين) التكرير بكثرة، كقولهم: لبيك
وسعديك، بمعنى: إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض، ونحوه: قولهم في المثل:
" دهدرين سعد القين " (1) أي: باطلا بعد باطل.
(السمآء الدنيا) أي: القربى إلى الناس، ومعناها: السماء الدنيا منكم (ولقد
زينا السمآء الدنيا) التي اجتمعتم فيها (بمصبيح) أي: بأي مصابيح؟! لا
توازيها مصابيحكم إضاءة، يريد: الكواكب، (وجعلنها رجوما) لأعدائكم
الشياطين الذين يسترقون السمع، وذلك بأن ينفصل من نور الكواكب شهب تنقض
لرميهم، كالقبس يؤخذ من النار والنار ثابتة، والرجوم: جمع رجم، وهو مصدر
سمي به ما يرجم به، وقيل: معناه: وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين
الإنس وهم المنجمون (2) (وأعتدنا لهم) بعد الإحراق بالشهب في الدنيا
(عذاب) الآخرة و (السعير) النار المسعرة.

(1) الدهدرين: اسم لكل باطل تعارف عند العرب، وأصله أن بعض العجم كان يتجر بالدر ولم
يكن يحسن العربية، فإذا أراد أن يعبر عن العشرة قال: ده، وعن الاثنين قال: دو، وفي بعض
الأيام أراد بيع خرز فلبس عليهم فقال: ده دو درين، ففتشوا عنه فوجدوه كاذبا فيما زعم،
وضموا اليه سعد القين المعروف بالكذب عند العرب فصار مثلا لكل من جمع باطلا إلى
باطل. انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 277.
(2) قاله محمد بن كعب. راجع تفسير القرطبي: ج 18 ص 211.
602

(وللذين كفروا) ولكل من كفر بالله (عذاب جهنم). (إذآ ألقوا فيها) أي:
طرحوا كما يطرح الحطب في النار (سمعوا لها) أي: للنار (شهيقا) شبه
حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق (وهى تفور) أي: تغلي بهم غليان المرجل بما
فيه. (تكاد تميز) أي: تنقطع وتنشق (1) (من الغيظ) عليهم، جعلها كالمغتاظة
عليهم لشدة غليانها بهم، ويجوز أن يكون المراد غيظ الزبانية (كلمآ) طرح (فيها
فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير) وهو توبيخ لهم ليزدادوا عذابا إلى عذابهم،
و (خزنتها): مالك وأعوانه من الزبانية. (قالوا بلى) اعتراف منهم بعدل الله
وبعثه الرسل، وبأنهم أوتوا من قبل أنفسهم. ويجوز أن يكون بمعنى الإنذار،
والمعنى: ألم يأتكم أهل نذير. (إن أنتم إلا في ضلل كبير) أي: قلنا للرسل: ما
أنتم إلا في ذهاب عن الصواب كبير، وقيل: هو من قول الملائكة للكفار حكاية لما
كانوا عليه من الضلال في الدنيا (2)، أو أرادوا بالضلال الهلاك.
(وقالوا لو كنا نسمع) الإنذار سماع الطالب للحق (أو نعقل) عقل الناظر
المتأمل، وقيل: جمع بين السمع والعقل لأن التكليف يدور عليهما وعلى
أدلتهما (3) (فاعترفوا بذنبهم) في تكذيبهم الرسل (فسحقا) قرئ بالتخفيف
والتثقيل (4)، أي: فبعدا لهم اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم.
(إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير (12) وأسروا
قولكم أو اجهروا به ى إنه عليم بذات الصدور (13) ألا يعلم من خلق

(1) في نسخة: " تشقق ".
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 579.
(3) حكاه الرازي في تفسيره الكبير: ج 30 ص 65.
(4) وبالتثقيل (أي: بضم الحاء) قرأه الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 644.
603

وهو اللطيف الخبير (14) هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في
مناكبها وكلوا من رزقه ى وإليه النشور (15) ءأمنتم من في السمآء أن
يخسف بكم الأرض فإذا هى تمور (16) أم أمنتم من في السمآء أن
يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير (17) ولقد كذب الذين من
قبلهم فكيف كان نكير (18) أولم يروا إلى الطير فوقهم صفت ويقبضن
ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شىء بصير (19) أمن هذا الذي هو
جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكفرون إلا في غرور (20)
أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور (21))
(يخشون ربهم بالغيب) أي: يخافونه غائبين عن مرآة الناس، حيث لا
يرونه فيتركون المعاصي. (وأسروا قولكم أو اجهروا به) ظاهره الأمر بأحد
الأمرين: الإسرار والإجهار، ومعناه: ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله
بهما، ثم علله ب‍ (إنه عليم بذات الصدور) أي: بضمائرها قبل أن يترجم الألسنة
عنها، فكيف لا يعلم ما تكلمتم به؟! ثم أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر
والمجهر من خلق الأشياء وحاله إنه (اللطيف الخبير) العالم بما ظهر من خلقه
وما بطن، ويجوز أن يكون (من خلق) منصوبا بمعنى: ألا يعلم مخلوقه وهذه
حاله؟ وعن ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخبره به جبرائيل (عليه السلام)،
فقالوا: أسروا قولكم كي لا يسمع إله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت (1).
(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) مذللة موطأة للتصرف فيها والمصير (2)
عليها (فامشوا في مناكبها) هو مثل لفرط التذليل، لأن المنكبين من البعير

(1) أسباب النزول للواحدي: ص 377.
(2) في نسخة: " المسير " بالسين.
604

مما يصعب على الراكب وطؤه بقدمه، وقيل: مناكبها: جبالها، أي سهل لكم السلوك
فيها (1)، وقيل: جوانبها (2) (وإليه النشور) فيسألكم عن شكر ما أنعم به عليكم.
ثم هدد سبحانه العصاة فقال: (ءأمنتم من في السماء) وفيه وجهان:
أحدهما: من ملكوته في السماء؛ لأنها مسكن ملائكته، ومنها ينزل قضاياه
وأوامره.
والثاني: أنهم كانوا يعتقدون التشبيه، وأنه في السماء، فقيل على حسب
اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان أن يعذبكم
بخسف أو بحاصب؟ (فإذا هى تمور) أي: تضطرب وتتحرك بهم حتى تلقيهم إلى
أسفل. (فستعلمون) حينئذ (كيف نذير) أي: كيف إنذاري حيث لا ينفعكم العلم.
و (نكير) إنكاري عليهم وتغييري ما بهم من النعم.
(صفت) أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها (ويقبضن)
ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن، ولم يقل: وقابضات، لأن أصل الطيران صف
الأجنحة، والقبض طارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فقيل: ويقبضن،
أي: ويكون منهن القبض تارة بعد تارة، كما يكون من السابح في الماء (ما
يمسكهن إلا الرحمن) بقدرته وبتوطئة الهواء لهن (إنه بكل شىء بصير) يعلم
كيف يخلق ويدبر العجائب.
(أم من) يشار إليه فيقال: (هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون) الله
إن أرسل عليكم عذابه. (أم من) يشار إليه فيقال: (هذا الذي يرزقكم إن
أمسك) الله (رزقه) وهذا على التقدير، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع

(1) قاله ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 54.
(2) قاله مجاهد والسدي راجع المصدر السابق.
605

الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب، ويرزقون ببركة آلهتهم، فكأنهم
الجند الناصر والرازق، ونحوه: قوله: (أم لهم ءالهة تمنعهم من دوننا) (1) (بل
لجوا في عتو ونفور) بل تمادوا في عناد وشراد عن الحق، وبعاد من الإيمان.
(أفمن يمشى مكبا على وجهه ى أهدى أمن يمشى سويا على صراط
مستقيم (22) قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصر
والافدة قليلا ما تشكرون (23) قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه
تحشرون (24) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صدقين (25) قل إنما
العلم عند الله وإنمآ أنا نذير مبين (26) فلما رأوه زلفة سيت وجوه
الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به ى تدعون (27) قل أرءيتم إن
أهلكنى الله ومن معى أو رحمنا فمن يجير الكفرين من عذاب
أليم (28) قل هو الرحمن ءامنا به ى وعليه توكلنا فستعلمون من هو في
ضلل مبين (29) قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء
معين (30))
يقال: كبيته فأكب، وهو شاذ، ومثله: قشعت الريح السحاب فأقشع. والمعنى:
من يمشي معتسفا في مكان غير مستو فيعثر ويخر على وجهه منكبا، فحاله نقيض
حال (من يمشى سويا) سالما من العثار على طريق مستو، وهو مثل للمؤمن
والكافر.
(فلما رأوه زلفة) الضمير للوعد، والزلفة: القربة، وانتصابها على الحال
أو الظرف أي: رأوه ذا زلفة، أو: مكانا ذا زلفة (سيئت وجوه الذين كفروا) أي:
ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة وغشيتها آثار الغم كما يكون وجوه

(1) الأنبياء: 43.
606

من يقاد إلى القتل، يعني: يوم القيامة، وعن مجاهد: يوم بدر (1) (تدعون)
تفتعلون من " الدعاء "، أي: تطلبون وتستعجلون به، وقيل: هو من الدعوى (2)،
أي: كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون، وقرئ: " تدعون " (3).
كانوا يتمنون هلاك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، فأمر بأن يقول لهم: إن أهلكنا الله
كما تمنون ونحن مؤمنون فننقلب إلى الجنة (أو رحمنا) بتأخير آجالنا (فمن)
يجيركم وأنتم كافرون (من عذاب) النار، لا مخلص لكم منه. والمعنى: أنكم
تطلبون لنا الهلاك الذي فيه الفوز والسعادة، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك
مثله، ولا تطلبون الخلاص منه. أو: إن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم من النار بعد
موت من يأخذ بحجزكم منها، وإن رحمنا بالإمهال والنصرة عليكم فمن يجيركم
من القتل على أيدينا.
(قل هو الرحمن) الذي عمت نعمته ورحمته جميع الخلق (ءامنا به وعليه
توكلنا) قدم مفعول (توكلنا) وأخر مفعول (ءامنا) لوقوع (ءامنا) تعريضا
بالكافرين الذين تقدم ذكرهم، فكأنه قال: آمنا به ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال:
(وعليه توكلنا) خصوصا، لا نتكل على غيره.
(غورا) أي: غائرا ذاهبا في الأرض، ناضبا في الآبار والعيون، وهو وصف
بالمصدر ك‍ " عدل " و " رضا "، والمعين: الظاهر للعيون، وعن ابن عباس: بماء
جار (4).
* * *

(1) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 373.
(2) قاله مقاتل والكلبي. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 57.
(3) هي قراءة يعقوب وحده. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 725.
(4) حكاه عنه البغوي في تفسيره المتقدم.
607

سورة القلم
مكية (1)، وعن ابن عباس وقتادة: بعضها مكي، وبعضها مدني (2)، اثنتان
وخمسون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن
أخلاقهم " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه أو نوافله أمنه الله أن يصيبه في
حياته فقر أبدا، وأعاذه من ضمة القبر " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ن والقلم وما يسطرون (1) مآ أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 73: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
اثنتان وخمسون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 584: مكية، وهي اثنتان وخمسون آية، نزلت بعد العلق.
(2) قال ابن عباس: من أولها إلى قوله سبحانه: (سنسمه على الخرطوم) مكي، ومن بعد ذلك
إلى قوله تعالى: (لو كانوا يعلمون) مدني، ومن بعد ذلك إلى قوله: (يكتبون) مكي، ومن
بعد ذلك إلى قوله: (من الصالحين) مدني، وباقي السورة مكي. انظر تفسير الماوردي: ج 6
ص 59.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 597 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 147.
609

لأجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4) فستبصر ويبصرون (5)
بأييكم المفتون (6) إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ى وهو أعلم
بالمهتدين (7) فلا تطع المكذبين (8) ودوا لو تدهن فيدهنون (9) ولا
تطع كل حلاف مهين (10) هماز مشآء بنميم (11) مناع للخير معتد أثيم
(12) عتل بعد ذا لك زنيم (13) أن كان ذا مال وبنين (14) إذا تتلى عليه
ءايتنا قال أسطير الاولين (15) سنسمه على الخرطوم (16))
قرئ: (نون) بالبيان والإدغام (1)، هو الحرف من حروف المعجم، وقيل: هو
الحوت الذي عليه الأرضون (2)، وقيل: هو الدواة (3)، وقيل: هو نهر في الجنة، قال
الله تعالى له: كن مدادا فجمد، وكان أشد بياضا من اللبن وأحلى من الشهد، ثم قال
للقلم: اكتب، فكتب القلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة. روي ذلك عن
الباقر (عليه السلام) (4) (والقلم) الذي يكتب، أقسم الله به لما فيه من المنافع والفوائد
(وما يسطرون) ما يسطره الحفظة، و " ما " موصولة أو مصدرية، ويجوز أن
يكون المراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في (يسطرون) يرجع إليهم كأنه
قال: وأصحاب القلم ومسطوراتهم، أو: يريد: وسطرهم.

(1) قرأ نافع برواية يعقوب بن جعفر عنه وعاصم برواية أبي بكر عنه والكسائي بالإدغام
(بإخفاء النون الثانية) والباقون بالإظهار والبيان. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 646.
(2) قاله ابن عباس ومجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 176، ورواه ابن عباس عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في الدر المنثور: ج 8 ص 241.
(3) قاله ابن عباس في رواية أخرى والحسن وقتادة. راجع المصدر السابق. ورواه أبو هريرة
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في الدر المتقدم.
(4) رواه على بن إبراهيم القمي في تفسيره: ج 2 ص 379 باسناده عن عبد الرحمن القصير عن
أبي عبد الله (عليه السلام)، والصدوق أيضا في معاني الأخبار: ص 22 - 23. وفي علل الشرائع:
ص 402 عنه (عليه السلام).
610

(بنعمة ربك) في محل نصب على الحال، والمعنى: ما أنت بمجنون منعما
عليك بذلك، وهو جواب لقولهم: (يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) (1)
(وإن لك) على تحمل أعباء الرسالة وقيامك بواجبها (لأجرا) لثوابا (غير
ممنون) غير مقطوع كقوله: (عطآء غير مجذوذ) (2)، أو: غير ممنون عليك به
لأنه ثواب تستحقه على عملك.
(وإنك لعلى خلق عظيم) استعظم سبحانه خلقه لفرط احتماله الممضات (3)
من قومه، وحسن مخالفته لهم، وقيل: هو الخلق الذي أمره الله به في قوله:
(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهلين) (4).
وفي الحديث: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " (5).
وعنه أيضا (عليه السلام): " أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين
يألفون ويؤلفون، وأبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان،
الملتمسون للبراء العثرات " (6).
(فستبصر) يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (ويبصرون) أيكم (المفتون) المجنون لأنه
فتن أي: محن بالجنون، والباء مزيدة، أو: (المفتون) مصدر كالمعقول والمجلود،
أي: بأيكم الجنون، أو: بأي الفريقين منكم الجنون، أبفريق المؤمنين أم بفريق
الكافرين، أي: في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم، وهو تعريض بأبي جهل

(1) الحجر: 6.
(2) هود: 108.
(3) أي: الموجعات من المصائب. (الصحاح: مادة مضض).
(4) أخرجه الصفار القمي في بصائر الدرجات: ص 378 ب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قطعة ح 3 باسناده عن القاسم بن محمد. والآية: 199 من الأعراف.
(5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 10 ص 191 - 192 عن أبي هريرة.
(6) أخرجه الزبيدي في اتحاف السادة المتقين: ج 7 ص 562 بهذا اللفظ وما يقاربه.
611

والوليد بن المغيرة وأضرابهما، وهو مثل قوله: (سيعلمون غدا من الكذاب
الأشر) (1).
(إن ربك هو أعلم) بالمجانين على الحقيقة، وهم الذين ضلوا (عن سبيله
وهو أعلم) بالعقلاء وهم المهتدون، أو: يكون وعيدا ووعدا، وإنه أعلم بجزاء
الفريقين.
وعن الضحاك: لما رأت قريش تقديم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا قالوا: افتتن به
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله تعالى: (ن والقلم) إلى قوله (بمن ضل عن سبيله)،
وهم النفر الذين قالوا ما قالوا (وهو أعلم بالمهتدين) علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2).
(فلا تطع المكذبين) تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم فيما يريدون.
(ودوا لو تدهن) تلين وتصانع (فيدهنون) أي: فهم يدهنون حينئذ، أو: ودوا
إدهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك.
(ولا تطع كل حلاف) كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به زجرا لمن
اعتاد الحلف (مهين) من المهانة، وهي القلة والحقارة، يريد: القلة في الرأي
والتدبير، أو: أراد الكذاب لأ نه حقير عند الناس. (هماز) عياب طعان، وعن
الحسن: يلوي بشدقيه في أقفية الناس (3) (مشآء بنميم) قتات نقال للحديث من
قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم، والنميم والنميمة: السعاية. (مناع
للخير) بخيل، والخير: المال، وعن ابن عباس: مناع عشيرته عن الإسلام وهو
الوليد بن المغيرة، كان موسرا وله عشرة بنين فكان يقول لهم وللحمية: من أسلم

(1) القمر: 26.
(2) أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 359 ح 1006 بالإسناد عنه،
والسيد البحراني عنه أيضا في غاية المرام: ص 441 ب 233.
(3) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 63.
612

منكم منعته رفدي (1). وعن مجاهد: هو الأسود بن عبد يغوث (2)، وعن السدي:
الأخنس بن شريق (3). (معتد) مجاوز للحق ظلوم، (أثيم) آثم كثير الإثم.
(عتل) غليظ جاف (بعد ذلك) بعد ما عدده من المثالب (زنيم) دعي،
قال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (4)
وكان الوليد دعيا في قريش ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده، جعل
جفاءه ودعوته أشد معائبه، لأن من جفا وقسا قلبه اجترأ على كل معصية، ولأن
النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها، ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يدخل الجنة ولد
الزنا، ولا ولده، ولا ولد ولده " (5).
وعنه (عليه السلام): " لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري، ولا عتل زنيم " (6).
والزنيم: من " الزنمة " وهي الهنة من جلد الماعزة، تقطع فتعلق في حلقها، لأنه
زيادة معلقة بغير أهله. (أن كان ذا مال) يتعلق بقوله: (ولا تطع) يعني: ولا تطعه
مع هذه المثالب لأن كان ذا مال، أي: ليساره وحظه من الدنيا، ويجوز أن يتعلق بما

(1) تفسير ابن عباس: ص 481.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 587.
(3) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 63.
(4) من قصيدة يخاطب الوليد بن المغيرة، حيث شبهه بالقدح المنفرد الفارغ المعلق خلف
الراكب. أنظر ديوان حسان بن ثابت: ج 1 ص 398، وفيه: " وكنت دعيا نيط في آل هاشم ".
(5) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير: ج 2 ص 257، وفي التاريخ الصغير: ج 1 ص 263،
وأبو نعيم في حلية الأولياء: ج 2 ص 308.
(6) أخرجه أحمد في المسند: ج 4 ص 227، والزبيدي في الاتحاف: ج 5 ص 356.
والجواظ: الكثير اللحم الجافي الغليظ الضخم المختال في مشيته، وقيل: المتكبر الجافي،
وقيل: الفاجر، وقيل: الصيحاح الشرير. والجعظري: المتكبر الجافي عن الموعظة، وقيل:
القصير الغليظ، وقيل: الفظ الغليظ. (لسان العرب).
613

بعده على معنى: لكونه متمولا مستظهرا بالبنين كذب بآياتنا، ولا يعمل فيه.
(قال) الذي هو جواب (إذا) لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما
دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. وقرئ: (أن كان) على الاستفهام
بهمزتين (1) وبهمزة ممدودة (2) أي: آلأن كان ذا مال كذب؟
و (الخرطوم) الأنف، والوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع
من الوجه، ولذلك جعلوه مكان العزة والحمية، واشتقوا منه: الأنفة فقالوا: " حمي
أنفه "، و " شمخ بأنفه "، و " الأنف في الأنف " فعبر سبحانه بالوسم على الخرطوم
عن غاية الإذلال والإهانة، لأن الوسم على الوجه شين وإذالة (3)، فكيف به على
أكرم موضع منه، وفي لفظ (الخرطوم) استهانة به، وقيل: معناه: سنعلمه يوم
القيامة بعلامة مشوهة يبين بها عن سائر الكفرة كما عادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عداوة
بان بها عنهم (4).
(إنا بلونهم كما بلونآ أصحب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها
مصبحين (17) ولا يستثنون (18) فطاف عليها طآئف من ربك وهم
نآئمون (19) فأصبحت كالصريم (20) فتنادوا مصبحين (21) أن اغدوا
على حرثكم إن كنتم صرمين (22) فانطلقوا وهم يتخفتون (23) أن لا
يدخلنها اليوم عليكم مسكين (24) وغدوا على حرد قدرين (25) فلما
رأوها قالوا إنا لضآلون (26) بل نحن محرومون (27) قال أوسطهم ألم
أقل لكم لولا تسبحون (28) قالوا سبحن ربنآ إنا كنا ظلمين (29) فأقبل

(1) قرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 646.
(2) قرأه ابن عامر وحمزة برواية أبي عبيد عنه. راجع المصدر السابق.
(3) كذا، تبعا للكشاف، ولم نجد لها وجها في كتب اللغة.
(4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 207.
614

بعضهم على بعض يتلومون (30) قالوا يويلنآ إنا كنا طغين (31) عسى
ربنآ أن يبدلنا خيرا منهآ إنآ إلى ربنا راغبون (32) كذا لك العذاب
ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون (33))
إنا بلونا أهل مكة بالجوع والقحط بدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما بلونآ
أصحب الجنة) وهم قوم كان لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين، فكان
يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي، وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل،
وما في أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط الذي
يبسط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم شيء كثير، فلما مات قال بنوه: إن
فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال، فحلفوا (ليصرمنها
مصبحين) داخلين في وقت الصباح خفية عن المساكين. ولم يستثنوا أي: لم
يقولوا: إن شاء الله في يمينهم، فأحرق الله جنتهم، وإنما سمي ذلك استثناء وهو
شرط لأن معنى قولك: لأخرجن إن شاء الله، ولأخرج إلا أن يشاء الله واحد.
(فطاف عليها) إهلاك أو بلاء (طآئف) في حال نومهم. (فأصبحت
كالصريم) كالمصرومة لهلاك ثمرها، وقيل: كالليل المظلم أي: احترقت
فاسودت (1) (فتنادوا) أي: نادى بعضهم بعضا وقت الصباح (أن اغدوا على
حرثكم) أي: أقبلوا عليه باكرين (إن كنتم صرمين) حاصدين وقاطعين النخل.
(فانطلقوا) فمضوا (وهم يتخفتون) يتسارون فيما بينهم. (أن لا يدخلنها):
" أن " مفسرة، والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه، أي: لا تمكنوه
من الدخول حتى يدخل، كقولك: لا أرينك ها هنا.
(وغدوا على حرد) وهو من: حاردت السنة: إذا منعت خيرها، والمعنى:

(1) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 481.
615

وغدوا قادرين على نكد وذهاب خير عاجزين عن النفع، أو: لما قالوا: اغدوا على
حرثكم وقد فسدت نيتهم عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها، فلم
يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد. و (قدرين) من عكس الكلام للتهكم،
أي: قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين، و (على حرد)
ليس بصلة للقادرين، وقيل: (على حرد) على قصد إلى جنتهم بسرعة ونشاط
(قدرين) عند أنفسهم يقولون: نحن نقدر على صرامها (1)، أو: مقدرين أن يتم
لهم مرادهم من الصرام والحرمان.
(فلما) رأوا جنتهم على تلك الصفة (قالوا) في بديهة وصولهم (إنا
لضآلون) ضللنا جنتنا وما هي بها، فلما تأملوا عرفوا أنها هي. قالوا: (بل نحن
محرومون) حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا. (قال أوسطهم) أعدلهم
وخيرهم، يقال: هو من وسط قومه (لولا تسبحون) هلا تذكرون الله وتتوبون إليه
من خبث نيتكم؟ (قالوا سبحن ربنا إنا كنا ظلمين) تكلموا بما دعاهم إلى
التكلم به، نزهوا الله سبحانه عن الظلم وعن كل قبيح، ثم اعترفوا بظلمهم في منع
المعروف وترك الاستثناء.
(يتلومون) أي: يلوم بعضهم بعضا على ما فرط منهم. (إنا كنا طغين)
متجاوزين الحد في الظلم. (أن يبدلنا) قرئ بالتشديد (2) والتخفيف (إنآ إلى
ربنا رغبون) طالبون منه الخير. مثل ذلك (العذاب) الذي بلونا به أهل مكة
وأصحاب الجنة عذاب الدنيا (ولعذاب الاخرة) أشد وأعظم منه.
وعن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيرا منها (3). وعن ابن مسعود: بلغني أنهم

(1) قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 191.
(2) وهي قراءة نافع وأبي عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 397.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 592.
616

أخلصوا، وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب
يحمل البغل منه عنقودا (1).
(إن للمتقين عند ربهم جنت النعيم (34) أفنجعل المسلمين
كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون (36) أم لكم كتب فيه
تدرسون (37) إن لكم فيه لما تخيرون (38) أم لكم أيمن علينا بلغة
إلى يوم القيمة إن لكم لما تحكمون (39) سلهم أيهم بذا لك زعيم (40)
أم لهم شركآء فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صدقين (41) يوم يكشف
عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) خشعة أبصرهم
ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سلمون (43) فذرنى
ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (44)
وأملى لهم إن كيدى متين (45) أم تسلهم أجرا فهم من مغرم
مثقلون (46) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (47) فاصبر لحكم ربك ولا
تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم (48) لولا أن تداركه نعمة
من ربهى لنبذ بالعرآء وهو مذموم (49) فاجتبه ربه فجعله من
الصلحين (50) وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصرهم لما سمعوا
الذكر ويقولون إنه لمجنون (51) وما هو إلا ذكر للعلمين (52))
(جنت النعيم) جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص لا يشوبه ما ينقصه، كما
يشوب جنات الدنيا. وكان المشركون يقولون: إن كان بعث وجزاء كما يقوله
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن حالنا يكون مثل ما هي في الدنيا، فأخبره سبحانه أن ذلك
لا يكون أبدا ثم خاطبهم على طريقة الالتفات فقال: (ما لكم كيف تحكمون)

(1) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 381.
617

هذا الحكم الباطل، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم.
(أم لكم كتب) من السماء تدرسون (فيه) أن ما تختارونه لكم. والأصل:
تدرسون أن لكم ما تخيرون، بفتح " أن " لأنه مدروس، فلما جاءت اللام كسرت
" إن "، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو قوله: (وتركنا عليه في الاخرين
سلم على نوح في العلمين) (1)، وتخير الشيء: أخذ خيره، ومثله: اختاره، نحو:
تنخله وانتخله: أخذ منخوله.
(أم لكم أيمن) مغلظة متناهية في التوكيد ثابتة (علينا... إلى يوم القيمة)
لا تخرج عن عهدتها إلى يوم القيامة، إذا أعطيناكم ما تحكمون، ويجوز أن يتعلق
(إلى) ب‍ (بلغة) على معنى: أنها تبلغ ذلكم اليوم وتنتهي إليه، وافرة لم تبطل
منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه، وهو قوله: (إن لكم لما تحكمون).
(سلهم أيهم بذلك) الحكم (زعيم) أي: كفيل، وهو: أن لهم في الآخرة ما
للمسلمين. (أم لهم شركآء) في هذا القول يشاركونهم فيه، ويوافقونهم عليه
(فليأتوا) بهم (إن كانوا صدقين) في دعواهم، يريد: أن أحدا لا يسلم لهم هذا،
كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به.
(يوم يكشف عن ساق) هو عبارة عن شدة الأمر، وأصله في الحرب (2)
والهزيمة بتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب، قال:
كشفت لكم عن ساقها * وبدا من الشر الصراخ (3)
والمعنى: يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا ساق ثم ولا كشف وإنما هو مثل،

(1) الصافات: 78 و 79.
(2) في الكشاف: " الروع ".
(3) في نسخة: " الصراع " بدل " الصراخ ". والبيت لسعد بن مالك جد طرفة بن العبد الشاعر
الشهير. أنظر معاني القرآن للفراء: ج 3 ص 177 وفيه: " لهم " بدل " لكم "، و " البراح " بدل
" الصراخ ".
618

وإنما جاء منكرا للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة، خارج عن العادة. والعامل
في (يوم): (فليأتوا)، أو: هو على: يوم يكشف عن ساق يكون كيت وكيت،
فحذف للتهويل والتنبيه على أن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمته (ويدعون
إلى السجود) تعنيفا لا تكليفا (فلا يستطيعون) حيل بينهم وبين الاستطاعة
تحسيرا لهم وتنديما على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود وهم سالمو
الأصلاب والمفاصل متمكنون. وفي الحديث: " يبقى أصلابهم طبقا واحدا " (1)
أي: فقارة واحدة لا تثنى.
(فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث) يعني: القرآن، يقال: ذرني وإياه، أي:
كله إلي فإني سأكفيكه، والمراد: حسبي مجازيا لمن يكذب بكتابي، فلا تشغل
قلبك بشأنه.
وفي الأثر: " كم من مستدرج بالإحسان إليه! وكم من مغرور بالستر عليه!
وكم من مفتون بحسن القول فيه! " (2).
سمى جل اسمه إحسانه وتمكينه كيدا، كما سماه استدراجا وهو الاستنزال
إلى الهلاك درجة درجة حتى يتورط فيه، لكون ذلك في صورة الكيد من حيث
كان السبب في الهلاك.
والمغرم: الغرامة، أي: لم تطلب منهم على الهداية والتعليم (أجرا) فيثقل
عليهم حمل الغرامات في أموالهم فثبطهم ذلك عن الإيمان.
(أم عندهم الغيب) أي: اللوح المحفوظ (فهم يكتبون) منه ما يحكمون به
(فاصبر لحكم ربك) هو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم (ولا تكن كصاحب
الحوت) يونس (عليه السلام) (إذ نادى) في بطن الحوت (وهو مكظوم) مملو غما من:

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 595 بهذا اللفظ مرسلا.
(2) المأثور عن الحسن البصري. راجع تفسيره: ج 2 ص 361.
619

كظم السقاء إذا ملأه، والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة
لقومه. (لولا أن تدركه) رحمة (من ربه) بإجابته (1) وتخليصه من بطن الحوت
حيا (لنبذ بالعرآء) لطرح بالفضاء، وحسن تذكير (تدركه) لفصل الضمير.
(فاجتبه ربه) أي: اختاره (فجعله من) الأنبياء المطيعين لله، وعن ابن عباس:
رد الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه (2).
(وإن) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وقرئ: (ليزلقونك) بضم
الياء وفتحها (3)، وزلقه وأزلقه بمعنى، والمعنى: يكاد الكفار من شدة تحديقهم
ونظرهم إليك شزرا بعيون البغضاء والعداوة يزلون قدمك أو يهلكونك، من قولهم:
نظر إلي نظرا يكاد يصرعني، وقيل: كانت العين في بني أسد، فكان الرجل منهم
يتجوع ثلاثة أيام، فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله، إلا عانه، فأرادوا
أن يقول بعضهم في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل ذلك فعصمه الله منه (4). وعن الحسن:
دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية (5). (لما سمعوا الذكر) أي:
القرآن لم يملكوا أنفسهم على ما أوتيت من النبوة (ويقولون إنه لمجنون) حيرة
في أمرك، وتنفيرا عنك. (وما هو) أي: وليس القرآن (إلا ذكر) وموعظة
(للعلمين) وهداية لهم إلى الرشد، فكيف يجنن من جاء بمثله؟! وقيل: (ذكر)
شرف (للعلمين) إلى أن تقوم الساعة (6).

(1) في بعض النسخ: " بإجابة دعائه ".
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 596.
(3) وبالفتح هي قراءة نافع وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 647.
(4) قاله الكلبي فيما حكاه عنه الواحدي في أسباب النزول: ص 378 ح 894. وعانه: أي
أصابه بالعين فهو عائن، والمصاب معين ومعيون (لسان العرب).
(5) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 385.
(6) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 92.
620

سورة الحاقة
مكية (1) وهي إحدى وخمسون آية بصري، اثنتان غيرهم، عد الكوفي
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحآقة) الأولى.
في حديث أبي: " من قرأ سورة الحآقة حاسبه الله حسابا يسيرا " (2).
وعن الباقر (عليه السلام): " أكثروا من قراءة الحآقة، فإن قراءتها في الفرائض والنوافل
من الإيمان بالله ورسوله، ولن يسلب قارئها دينه حتى يلقى الله عز وجل " (3).
(الحآقة (1) ما الحآقة (2) ومآ أدراك ما الحآقة (3) كذبت ثمود
وعاد بالقارعة (4) فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية (5) وأما عاد فأهلكوا
بريح صرصر عاتية (6) سخرها عليهم سبع ليال وثمنية أيام حسوما

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 93: مكية في قول ابن عباس والضحاك
وغيرهما، وهي اثنتان وخمسون آية في الكوفي والمدنيين، وإحدى وخمسون في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 598: مكية، وآياتها (52) نزلت بعد الملك.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 607 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 147 وفيه بعد لفظه " ورسوله ": " لأنها إنما أنزلت في
أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعاوية ".
621

فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (7) فهل ترى لهم من
باقية (8) وجآء فرعون ومن قبله والمؤتفكت بالخاطئة (9) فعصوا
رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية (10) إنا لما طغا المآء حملنكم في
الجارية (11) لنجعلها لكم تذكرة وتعيهآ أذن واعية (12) فإذا نفخ في
الصور نفخة واحدة (13) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة
واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة (15) وانشقت السمآء فهى يومئذ
واهية (16) والملك على أرجآئها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ
ثمنية (17) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (18))
(الحآقة) الساعة الواجبة المجيء الثابتة الوقوع، التي هي آتية لا ريب فيها،
أو: التي هي ذات الحواق من الأمور مثل: الحساب والثواب والعقاب، أو: الصادقة
الواجبة الصدق تعرف فيها الأمور على الحقيقة. وهي مرتفعة على الابتداء،
وخبرها (ما الحاقة)، والأصل: [الحاقة] (1) ما هي؟ أي: أي شىء هي؟ تفخيما
لشأنها وتعظيما لهولها، فوضع الظاهر موضع المضمر لذلك. (ومآ أدرك) أي
شىء أعلمك (ما الحآقة): (ما) مبتدأ و (أدرك) معلق عنه لتضمنه معنى
الاستفهام، والمعنى: أنها من العظم والهول بحيث لا يبلغه دراية أحد، فمن أين لك
العلم بكنهها ومدى عظمها؟
والقارعة: التي تقرع الناس بالأهوال والأفزاع، وضعت موضع الضمير لتدل
على معنى القرع في " الحاقة " زيادة في وصف شدتها.
ولما ذكرها وعظم أمرها أخبر سبحانه عن إهلاك من كذب بها تذكيرا لأهل

(1) زيادة يقتضيها السياق.
622

مكة وتخويفا لهم من أن يصيبهم مثل ما أصابهم (بالطاغية) بالواقعة المجاوزة
للحد في الشدة، وهي الرجفة، أو الصيحة، أو الصاعقة، وقيل: " الطاغية " مصدر (1)
أي: بطغيانهم. والصرصر: الشديدة الصوت لها صرصر، وقيل: الباردة من: " الصر "
كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق لشدة بردها (2) (عاتية) عتت على
خزانها فخرجت بلا كيل ولا وزن، أو: عتت على عاد بشدة عصفها فلم يقدروا
على التوقي منها.
(سخرها عليهم) سلطها عليهم (سبع ليال وثمنية أيام) وهي أيام العجوز،
وذلك أن عجوزا من عاد دخلت سربا فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها،
وقيل: سميت أيام العجوز لأنها في عجز الشتاء وهو آخره (3) (حسوما) مصدر
أو: جمع " حاسم "، فإن كان مصدرا فهو صفة، أي: ذات حسوم، أو: منصوب بفعله
المضمر أي: تحسم حسوما بمعنى: تستأصل استئصالا، وإن كان جمعا فالمعنى:
متتابعة ليست لها فترة أو: نحسات حسمت كل خير، حال من الضمير في
(سخرها)، والأول تشبيه بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء حتى
ينحسم (فترى القوم فيها) أي: في مهابها، أو: في الليالي والأيام (كأنهم
أعجاز) أصول (نخل خاوية) نخرة خالية الأجواف. (فهل ترى لهم من باقية)
من بقية، أو: من نفس باقية، أو: من بقاء مصدر كالعافية، وقد قرئ بإدغام اللام
في التاء (4).

(1) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 267، والزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 213.
(2) قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 207 - 208.
(3) قاله البيضاوي الشافعي في تفسيره: ج 2 ص 499.
(4) وهي قراءة أبي عمرو وحده، وهو المعروف مذهبه في الادغام. راجع التذكرة في
القراءات: ج 1 ص 233.
623

" ومن قبله " (1) يريد: ومن عنده من حشمه وأتباعه، وقرئ: (ومن قبله)
أي: ومن تقدمه (والمؤتفكت) المنقلبات بأهلها، وهي قرى قوم لوط
(بالخاطئة) بالخطيئة العظيمة التي هي الشرك والفاحشة، أو: بالأفعال أو الفعلة
ذات الخطأ الكبير (فأخذهم) ربهم (أخذة رابية) شديدة زائدة في الشدة،
كما زادت قبائحهم في القبح، يقال: ربا يربو إذا زاد. (حملنكم) حملنا آباءكم
(في الجارية) في سفينة نوح، لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين كان
حمل آبائهم منة عليهم؛ لأن نجاتهم سبب ولادتهم.
(لنجعلها) الضمير للفعلة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين (تذكرة)
عبرة وموعظة (وتعيهآ) أي: تحفظها (أذن وعية) شأنها أن تعي وتحفظ ما
سمعت به، ولا تضيعه بترك العمل به، وكل ما حفظته في نفسك فقد وعيته، وما
حفظته في غير نفسك فقد أوعيته، كما يوعى الشيء في الظرف.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام) عند نزول هذه الآية: سألت الله عز اسمه أن
يجعلها أذنك يا علي، قال: فما نسيت شيئا بعد، وما كان لي أن أنسى (2).
وإنما نكر (أذن) ووحد ليؤذن بقلة الوعاة ويوبخ الناس بذلك، وليدل على

(1) الظاهر أن المصنف رحمه الله قد اعتمد هنا على قراءة كسر القاف وفتح الباء تبعا للكشاف،
وهي قراءة أبي عمرو والكسائي وعاصم برواية أبان. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 648.
(2) قد تواترت هذه الرواية عن العامة والخاصة إلى حدد الاستفاضة وعلى سبيل المثال لا
الحصر راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2 ص 361 ح 1007 وما بعده من طرق
عدة، وابن المغازلي الشافعي في المناقب: ص 318 ح 363، والحمويني في فرائد السمطين:
ج 1 ص 198، والعاصمي في كتابه زين الفتى: ص 605، وابن جرير الطبري في تفسيره: ج
12 ص 213، والسيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 267 وعزاه إلى ابن جرير وسعيد بن
منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
624

أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، ولا
مبالاة بما سواها وإن ملأوا ما بين الخافقين. وقرئ: " وتعيها " بسكون العين (1)
للتخفيف، وشبه " تعي " بكبد.
(فإذا نفخ) أسند إلى (نفخة) وذكر للفصل، وهي النفخة الأولى، وقيل: هي
الأخيرة (2)، ووصفت النفخة بواحدة وهي لا تكون إلا مرة؛ تأكيدا، كقوله: (إلهين
اثنين) (3)، وقالوا: أمس الدابر. (وحملت الأرض والجبال) رفعت عن أماكنها
بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحملها، أو: بخلق من الملائكة، أو: بقدرة الله من
غير سبب (فدكتا) أي: فدكت الجملتان: جملة الأرضين وجملة الجبال، فضرب
بعضها ببعض حتى تندك وتندق وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثا، والدك أبلغ من
الدق، وقيل: فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضا مستوية لا ترى فيها عوجا ولا
أمتا (4) من قولهم: بعير أدك: إذا تفرق سنامه، وناقة دكاء.
(فيومئذ) فحينئذ (وقعت الواقعة) نزلت النازلة وهي القيامة (وانشقت
السمآء) انفرجت (فهى يومئذ واهية) مسترخية ساقطة القوة بانتقاض بنيتها
بعد أن كانت مستمسكة محكمة. (والملك) أي: والخلق الذي يقال له الملك،
ولذلك رد الضمير مجموعا في قوله: (فوقهم) على المعنى، وهو أعم من الملائكة
(على أرجآئها) أي: جوانبها، الواحد " رجا " مقصور، يعني: أن السماء تنشق
وهي مسكن الملائكة فينضوون إلى أطرافها وحافاتها (ويحمل عرش ربك...

(1) قرأه ابن كثير برواية الحلواني وقنبل برواية أبي ربيعة. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 648.
(2) قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب ومقاتل. راجع البحر المحيط: ج 8 ص 322.
(3) النحل: 51.
(4) قاله الرماني. راجع التبيان: ج 4 ص 533.
625

ثمنية) من الملائكة، وروي: أنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله
بأربعة آخرين فيكونون ثمانية (1). (يومئذ تعرضون) العرض: عبارة عن
المحاسبة والمساءلة، شبه ذلك بعرض السلطان جنوده لتعرف أحوالهم (لا تخفى
منكم خافية) سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا.
(فأما من أوتى كتبه بيمينه ى فيقول هآؤم اقرءوا كتبيه (19) إنى
ظننت أنى ملق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة
عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيا بمآ أسلفتم في الأيام
الخالية (24) وأما من أوتى كتبه بشماله ى فيقول يليتنى لم أوت
كتبيه (25) ولم أدر ما حسابيه (26) يليتها كانت القاضية (27) مآ أغنى
عنى ماليه (28) هلك عنى سلطنيه (29) خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم
صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه (32) إنه كان
لا يؤمن بالله العظيم (33) ولا يحض على طعام المسكين (34) فليس
له اليوم ههنا حميم (35) ولا طعام إلا من غسلين (36) لا يأكله إلا
الخطون (37))
(فأما) تفصيل للعرض في ذلك اليوم (هآ) صوت يصوت به فيفهم منه
معنى: خذ، و (كتبيه) منصوب ب‍ (هآؤم) عند الكوفيين، وعند البصريين
ب‍ (اقرءوا) لأنه أقرب العاملين، وأصله: هاؤم كتابي اقرأوا كتابي، فحذف الأول
لدلالة الثاني عليه، ونظيره: (ءاتونى أفرغ عليه قطرا) (2)، قالوا: ولو كان العامل
الأول لقيل: " اقرأه " و " أفرغه ". والهاء في (كتبيه) و (حسابيه) و (ماليه)

(1) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 216 عن ابن زيد.
(2) الكهف: 96.
626

و (سلطنيه) للسكت، وحقها أن تسقط في الوصل، وقد استحب الوقف إيثارا
لثبات الهاءات في المصحف.
(إنى ظننت) أي: علمت، أجري مجرى العلم لأن غلبة الظن تقوم مقام العلم
في الأحكام. (فهو في عيشة راضية) في حالة من العيش منسوبة إلى الرضا،
فهو كالدارع والنابل، والنسبة نسبتان: نسبة بالحرف، ونسبة بالصيغة، أو: جعل
الفعل لها مجازا وهو لصاحبها. (في جنة عالية) مرتفعة المكان والقدر، أو: عالية
المباني والقصور والأشجار. (قطوفها دانية) ينالها القاعد والنائم، يقال لهم:
(كلوا واشربوا) أكلا وشربا (هنيئا)، أو: هنئتم هنيئا، على المصدر (بمآ
أسلفتم) أي: قدمتم من الأعمال الصالحة (في الأيام) الماضية من أيام الدنيا،
وعن مجاهد: أيام الصيام (1)، أي: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل
والشرب لوجه الله.
(يليتها) الضمير للموتة أي: يا ليت الموتة التي متها (كانت القاضية) أي:
القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما لقيت، أو: للحالة أي: ليت هذه الحالة
كانت الموتة التي قضيت علي، لأنه رأى تلك الحالة أشد وأمر مما ذاقه من مرارة
الموت وشدته، فتمنى الموت عندها. (مآ أغنى) نفي أو استفهام على وجه
الإنكار أي: أي شىء أغنى (عنى) ما كان لي من اليسار. (هلك عنى سلطنيه)
أي: ملكي وتسلطي على الناس وأمري ونهيي، وعن ابن عباس: ضلت عني
حجتي وبطلت (2).
(خذوه فغلوه) فأوثقوه بالغل (ثم الجحيم صلوه) ثم لا تصلوه إلا الجحيم،

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 603.
(2) انظر تفسير ابن عباس: ص 483.
627

وهي النار العظمى، لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس، يقال: صلى النار، وصلاه
النار.
سلكه في السلسلة: أن تلوى على جسده حتى يلتف عليه أثناؤها، وهو فيما
بينها مرهق مضيق عليه لا يقدر على حركة، وجعلها سبعين ذراعا وصف لها
بالطول، لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد، والمعنى: ثم لا تسلكوه إلا في هذه
السلسلة، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم. والمعنى في (ثم)
في الموضعين: الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية، وما بينهما وبين السلك
في السلسلة، لا على تراخي المدة.
(إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) تعليل على طريق الاستئناف، كأنه قيل: ما له
يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بذلك. وفي قوله: (ولا يحض على طعام
المسكين) دليلان على عظم الجرم في حرمان المسكين: أحدهما: عطفه على
الكفر وجعله قرينة له، والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه
المنزلة، فكيف بتاركي الفعل؟
وعن أبي الدرداء: أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين،
وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الآخر؟ (1).
(حميم) قريب يدفع عنه ويحزن عليه. والغسلين: غسالة أهل النار وما
يسيل من أبدانهم من الصديد والدم، فعلين من الغسل. (الخطئون) الآثمون،
أصحاب الخطايا، وخطئ الرجل: إذا تعمد الذنب، وهم المشركون، وقرئ:
" الخاطيون " بإبدال الهمزة ياء (2) و " الخاطون " بطرحها (3)، وقيل: هم الذين

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 605.
(2) قرأه موسى بن طلحة. راجع المحتسب لابن جني: ج 2 ص 329.
(3) وهي قراءة ابن عباس وابن مسعود. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 161.
628

يتخطون الحق إلى الباطل (1).
(فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39) إنه لقول رسول
كريم (40) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41) ولا بقول كاهن قليلا
ما تذكرون (42) تنزيل من رب العلمين (43) ولو تقول علينا بعض
الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما
منكم من أحد عنه حجزين (47) وإنه لتذكرة للمتقين (48) وإنا لنعلم أن
منكم مكذبين (49) وإنه لحسرة على الكفرين (50) وإنه لحق
اليقين (51) فسبح باسم ربك العظيم (52))
أقسم سبحانه بالأشياء كلها على العموم، لأنها قسمان: مبصر وغير مبصر، وقد
فسر بالخلق والخالق، وبالإنس والجن، وبالأجسام والأرواح، وبالدنيا والآخرة،
وبالنعم الظاهرة والباطنة (2) أن هذا القرآن (لقول رسول كريم) يقول ويتكلم به
على وجه الرسالة من عند الله، وقيل: هو جبرائيل (عليه السلام) (3). وقوله: (وما هو بقول
شاعر) دليل على أنه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن المعنى على إثبات أنه رسول لا شاعر
ولا كاهن، وأسند القول إليه لأن ما يسمع منه كلامه، ولما كان حكاية لكلام الله
قيل: هو كلام الله، والكريم: الجامع لخصال الخير، و " القلة " في معنى العدم أي:
لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتة، والمعنى: ما أكفركم! وما أغفلكم!
أي: هو (تنزيل) بين أنه منزل (من) عنده على رسوله. التقول: افتعال
القول واختلاقه، وفيه معنى التكلف، وسمى الأقوال المتقولة أقاويل تحقيرا لها،
كما يقال: الأعاجيب والأضاحيك، كأنه جمع أفعولة من القول، والمعنى: ولو

(1) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 107.
(2) أنظر هذه الأقوال في تفسير البغوي: ج 4 ص 390.
(3) قاله الكلبي ومقاتل. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 86.
629

ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم، فصور
قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته، وخص اليمين
لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في
جيده وأن يكفحه بالسيف أخذ بيمينه، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف،
والمعنى: (لأخذنا) بيمينه (ثم لقطعنا) وتينه، و (الوتين): نياط القلب،
وهو حبل الوريد، إذا قطع مات صاحبه.
(فما منكم) الخطاب للناس، والضمير في (عنه) لرسول الله، أو: للقتل،
أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل، أو: لا تقدرون أن تحجزوا عن ذلك
وتدفعوا عنه، و (حجزين) صفة ل‍ (أحد) لأنه في معنى الجماعة، وهو اسم يقع
في النفي العام، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومنه قوله تعالى:
(لا نفرق بين أحد من رسله) (1) (لستن كأحد من النسآء) (2)، و (من أحد)
في موضع رفع بأنه اسم (ما). وقيل: إن الخطاب للمسلمين (3)، وكذلك في قوله:
(وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) والمعنى: أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن.
(وأنه) الضمير للقرآن (لحسرة على الكفرين) به المكذبين له إذا رأوا
ثواب المصدقين به، أو: للتكذيب. (و) إن القرآن لليقين (حق اليقين) كما يقال:
هو العالم حق العالم، والمعنى: لعين اليقين ومحض اليقين لا شبهة ولا ريب فيه.
(فسبح) بذكر (باسم ربك العظيم) الذي يتضاءل كل شىء لعظمته؛ شكرا على
ما أوحاه إليك من القرآن الكريم.
* * *

(1) البقرة: 285.
(2) الأحزاب: 32.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 607.
630

سورة المعارج
مكية (1) وهي أربع وأربعون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة (سأل سآئل) أعطاه الله ثواب الذين هم
لأماناتهم وعهدهم راعون " (2).
وعن الباقر (عليه السلام): " من أدمن قراءة (سأل سآئل) لم يسأله الله يوم القيامة عن
ذنب عمله، وأسكنه جنته مع محمد وآله (عليهم السلام) " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(سأل سآئل بعذاب واقع (1) للكفرين ليس له دافع (2) من الله ذى
المعارج (3) تعرج الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين
ألف سنة (4) فاصبر صبرا جميلا (5) إنهم يرونه بعيدا (6) ونراه قريبا (7)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 112: مكية في قول ابن عباس والضحاك
وغيرهما، وهي أربع وأربعون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 608: مكية، وآياتها (44) نزلت بعد الحآقة.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 614 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 147 وفيه: " أكثروا من قراءة (سأل سائل) فإن من أكثر
قراءتها... "، وزاد بعدها: " إن شاء الله ".
631

يوم تكون السمآء كالمهل (8) وتكون الجبال كالعهن (9) ولا يسل
حميم حميما (10) يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ
ببنيه (11) وصحبته ى وأخيه (12) وفصيلته التى تويه (13) ومن في
الارض جميعا ثم ينجيه (14) كلا إنها لظى (15) نزاعة للشوى (16)
تدعوا من أدبر وتولى (17) وجمع فأوعى (18) إن الانسن خلق
هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21))
أي: دعا داع (بعذاب واقع) ضمن (سأل) معنى: دعا فعداه تعديته، يقال:
دعا بكذا: إذا طلبه واستدعاه، ومنه: (يدعون فيها بكل فكهة ءامنين) (1). وعن
مجاهد: هو النضر بن الحارث، قال: (إن كان هذا هو الحق...) الآية (2). وقرئ:
" سال " بغير همز (3) جعل الهمزة بين بين. (للكفرين) صفة ل‍ " عذاب " أي:
بعذاب واقع كائن للكافرين، أو: صلة ل‍ " دعا " أي: دعا للكافرين (ليس له دافع
من الله) أي: من جهته إذا جاء وقته، وأوجبت الحكمة وقوعه، أو: معناه: بعذاب
واقع من الله أي: من عنده (ذى المعارج) ذي المصاعد، جمع " معرج ".
ثم وصف المعارج وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال: (تعرج الملئكة
والروح) يعني: جبرائيل (عليه السلام)، خصه بالذكر تشريفا له (إليه) إلى عرشه ومهبط
أوامره (في يوم كان مقداره) كمقدار مدة (خمسين ألف سنة) مما يعده الناس،
وذلك من أسفل الأرضين إلى فوق السماوات السبع. وقوله: (في يوم كان مقداره
ألف سنة) (4) هو من الأرض إلى السماء الدنيا خمسمائة، ومنها إلى الأرض

(1) الدخان: 55.
(2) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 89. والآية: 32 من الأنفال.
(3) قرأه نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 650.
(4) السجدة: 5.
632

خمسمائة، والمعنى: لو قطع الإنسان هذا المقدار الذي قطعته الملائكة في يوم
واحد، لقطعه في هذه المدة، وهو معنى قول مجاهد (1). وقيل: إن قوله: (في
يوم)، من صلة (واقع)، أي: يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من
سنيكم، وهو يوم القيامة (2)، إما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار، وإما لأنه
على الحقيقة كذلك، قيل: فيه خمسون موطنا، كل موطن ألف سنة (3). وما قدر ذلك
على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.
وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: لو ولي الحساب غير الله تعالى لمكثوا فيه
خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة.
وعنه (عليه السلام): لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار
في النار.
(فاصبر) يتعلق ب‍ (سأل سائل) لأنهم استعجلوا العذاب استهزاء وتكذيبا
بالوحي، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر عليه.
والضمير في (يرونه) للعذاب الواقع، أو: ليوم القيامة، يريد: أنهم يستبعدونه
على جهة الإحالة (و) نحن (نره قريبا) هينا في قدرتنا، غير بعيد علينا
ولا متعذر.
(يوم تكون) نصب ب‍ (قريبا)، أي: يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم، أو:
بمضمر أي: يقع في ذلك اليوم لدلالة (واقع) عليه، أو: هو بدل عن (في يوم)،
(يوم تكون السمآء كالمهل) وهو دردي الزيت، وعن ابن مسعود: كالفضة

(1) الذي حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 115.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 220.
(3) قاله القمي في تفسيره: ج 2 ص 386، ورواه الكليني في روضة الكافي: ص 143 ح 108
باسناده عن حفص بن غياث عن الصادق (عليه السلام).
633

المذابة (1). (وتكون الجبال كالعهن) كالصوف المصبوغ ألوانا، لأن الجبال
(جدد بيض وحمر... وغرابيب سود) (2)، فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت
العهن المنقوش إذا طيرته الريح.
(ولا يسئل حميم حميما) ولا يقول له: كيف حالك، ولا يكلمه، لأن كل
إنسان مشغول بنفسه عن غيره. (يبصرونهم) أي: يبصرون الأحماء والأقرباء فلا
يخفون عليهم، فلا يمنعهم من المساءلة أن بعضهم لا يبصر بعضا، وإنما يمنعهم
التشاغل، وقرئ: " ولا يسأل " على البناء للمفعول (3)، أي: لا يقال لحميم: أين
حميمك؟ ولا يطلب منه، لأنهم يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب. وهو
كلام مستأنف، كأنه لما قال: ولا يسأل حميم حميما قيل: لعله لا يبصره، فقيل:
يبصرونهم، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم.
قرئ: (يومئذ) بالجر والفتح (4) على البناء للإضافة إلى غير متمكن، أي:
يتمنى (المجرم لو يفتدى من عذاب) ذلك اليوم بإسلام كل كريم عليه من أبنائه
وزوجته وأقربائه (وفصيلته) عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم (تئويه) أي:
تضمه انتماء إليها أو لياذا بها في النوائب. (ينجيه) عطف على (يفتدى) أي:
يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، وقوله: (ومن في الأرض) و (ثم) لاستبعاد
الإنجاء، والمعنى: يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه،
ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه.

(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 92.
(2) فاطر: 27.
(3) هي قراءة ابن كثير برواية البزي عنه وأبي جعفر وشيبة. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 650.
(4) وبفتح الميم قرأه الكسائي ونافع في بعض الروايات. راجع المصدر السابق.
634

(كلا) ردع وتنبيه على أن الافتداء لا ينجي ولا ينفع (إنها) الضمير للنار
وإن لم يجر لها ذكر، لأن ذكر العذاب دل عليها، أو: هو ضمير مبهم ترجم عنه
الخبر، أو: ضمير القصة، و (لظى) علم للنار، منقول من " اللظى " يعني: اللهب،
ويجوز أن يراد اللهب. " نزاعة " (1) خبر بعد خبر ل‍ (إن) أو: خبر ل‍ (لظى) إن
كانت الهاء ضمير القصة، أو: صفة له إن أريد بها اللهب، والتأنيث لأنه في معنى
النار، أو: خبر مبتدأ محذوف للتهويل أي: هي نزاعة، وقرئ: (نزاعة) بالنصب
على الحال المؤكدة، أو: على الاختصاص للتهويل، والشوى: الأطراف، أو: جمع
شواة وهي جلدة الرأس تنزعها نزعا ثم تعاد.
(تدعوا) إلى نفسها (من أدبر) عن الإيمان (وتولى) عن طاعة الله
تعالى، تقول لهم: إلي إلي، وقيل: إنه مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم
فتحضرهم (2)، ونحوه قول ذي الرمة:
تدعو أنفه الريب (3)
وقوله [أيضا]:
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه (4)

(1) الظاهر ان المصنف رحمه الله يميل إلى قراءة الرفع تبعا للزمخشري في الكشاف، وهي
قراءة جمهور القراء إلا حفصا فقد قرأها بالنصب. راجع المصدر نفسه.
(2) قاله النحاس في إعراب القرآن: ج 5 ص 31.
(3) وتمام البيت:
أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه * من ذي الفوارس يدعو أنفه الربب
من قصيدته البائية الشهيرة، والربب: نبت، كأن الربب يدعو الثور - والكلام فيه - إليها،
والربب لا تدعوه. أنظر ديوان ذي الرمة: ص 39.
(4) وعجزه: كأنني ضارب في غمرة لعب. من قصيدته البائية أيضا. ويطبيني: يدعوني ويميل
بي. راجع ديوانه: ص 27.
635

(وجمع) المال (فأوعى) أمسكه في الوعاء وكنزه، ولم يؤد الزكاة
والحقوق الواجبة منه، ولم ينفقه في الطاعة.
(إن الانسن) يريد: الجنس (خلق هلوعا) جزوعا، من: الهلع وهو سرعة
الجزع عند مس المكروه، وناقة هلواع: سريعة السير، ثم فسره سبحانه بقوله: (إذا
مسه الشر جزوعا) يريد: إذا ناله الفقر والضر أظهر شدة الجزع، وإذا أصابه الغنى
منع من المعروف وشح بماله، والمعنى: أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما
منه، كأنه مجبول عليهما مطبوع، وكأنه أمر ضروري غير اختياري.
(إلا المصلين (22) الذين هم على صلاتهم دآئمون (23) والذين
في أموالهم حق معلوم (24) للسآئل والمحروم (25) والذين يصدقون
بيوم الدين (26) والذين هم من عذاب ربهم مشفقون (27) إن عذاب
ربهم غير مأمون (28) والذين هم لفروجهم حفظون (29) إلا على
أزواجهم أو ما ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين (30) فمن ابتغى ورآء
ذا لك فأولئك هم العادون (31) والذين هم لامنتهم وعهدهم
راعون (32) والذين هم بشهداتهم قآئمون (33) والذين هم على
صلاتهم يحافظون (34) أولئك في جنت مكرمون (35) فمال الذين
كفروا قبلك مهطعين (36) عن اليمين وعن الشمال عزين (37) أيطمع
كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم (38) كلا إنا خلقنهم مما يعلمون (39)
فلا أقسم برب المشرق والمغرب إنا لقدرون (40) على أن نبدل
خيرا منهم وما نحن بمسبوقين (41) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا
يومهم الذي يوعدون (42) يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم
636

إلى نصب يوفضون (43) خشعة أبصرهم ترهقهم ذلة ذا لك اليوم الذي
كانوا يوعدون (44))
استثنى سبحانه من جنس الإنسان الموصوف بالجمع والمنع والشح والهلع
الموحدين المطيعين، الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على الطاعات، وظلفوها
عن الشهوات، حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين.
ومعنى قوله: (دائمون) أنهم يداومون عليها، ويواظبون على أدائها
لا يتركونها. وفي الحديث: " أفضل العمل أدومه " (1).
وعن الباقر (عليه السلام): إن هذا في النوافل، وقوله: (على صلتهم يحافظون)
في الفرائض والواجبات (2).
وقيل: إن معنى محافظتهم عليها: أن يراعوا مواقيتها، ويسبغوا الوضوء لها،
ويقيموا أركانها (3). فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة، والمحافظة على أحوالها.
والحق المعلوم هو الزكاة لأنها مقدرة معلومة.
وعن الصادق (عليه السلام): هو الشيء تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة، وإن شئت
كل يوم، ولكل ذي فضل فضله (4).
وعنه أيضا: هو أن تصل القرابة، وتعطي من حرمك، وتصدق على من عاداك.
والسائل: الذي يسأل، والمحروم: الذي يتعفف ولا يسأل فيحسب غنيا
فيحرم. (والذين يصدقون بيوم الدين) لا يشكون فيه، ويستعدون له، ويشفقون

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 612 - 613 مرسلا وزاد بعده: " وإن قل ".
(2) رواه الكليني في الكافي: ج 3 ص 269 - 270 ح 12 بإسناده عن الفضيل عنه (عليه السلام).
(3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 485.
(4) رواه في الكافي: ج 3 ص 498 و 499 قطعة ح 8 و 9 بإسناده عن سماعة بن مهران وأبي
بصير كلاهما عنه (عليه السلام).
637

من عذاب ربهم. واعترض بقوله: (إن عذاب ربهم غير مأمون) أي: لا ينبغي
لأحد وإن بالغ في الطاعة والعبادة أن يأمن عذاب الله، وينبغي أن يكون مترجحا
بين الخوف والرجاء.
وقرئ: " بشهادتهم " (1) و (بشهدتهم) والشهادة من جملة الأمانات،
وخصها من بينها إبانة لفضلها، لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها، وفي
كتمانها تضييعها وإبطالها.
(فمال الذين كفروا قبلك) عندك يحتفون بك (مهطعين) مسرعين نحوك،
مادين أعناقهم إليك. (عن اليمين وعن الشمال عزين) جماعات متفرقين فرقة
فرقة، جمع " عزة " وأصلها: " عزوة " كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه
الأخرى. وكانوا يحدقون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستمعون إلى كلامه، ويستهزئون
ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دخلناها قبلهم.
(كلا) ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة، ثم علل ذلك بقوله: (إنا
خلقنهم مما يعلمون) إلى آخر السورة، وهو كلام دال على إنكارهم البعث، فكأنه
قال: كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء، فمن أين يطمعون في دخول الجنة؟ وذلك
أنه احتج سبحانه عليهم بالنشأة الأولى، وأنه خلقهم (مما يعلمون) أي: من
النطف، وبأنه قادر على أن يهلكهم ويبدل ناسا خيرا منهم، وأنه ليس بمسبوق على
ما يريد تكوينه ولا يعجزه شىء، والغرض أن من قدر على ذلك لم يعجزه
الإعادة. وقيل: معناه: إنا خلقناهم من النطفة المذرة، فهي أصلهم ومنصبهم الذي
لا منصب أوضع منه، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون: لندخلن الجنة

(1) قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبى بكر عنه.
راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 651.
638

قبلهم؟ (1) وقيل: معناه إنا خلقناهم من النطف كما خلقنا سائر بني آدم، وحكمنا
بأن لا يدخل الجنة منهم إلا من آمن، فلم يطمع الكافر أن يدخلها؟ (2) وقيل: (مما
يعلمون) أي: من أجل ما يعلمون وهو الطاعة (3)، والمضاف محذوف.
(يوم يخرجون من الأجداث) من القبور (سراعا) مسرعين، وقرئ: " إلى
نصب " (4) و (نصب)، وهو كل ما نصب فعبد من دون الله، وقيل: إنهما العلم
والراية (5)، وقيل: إن " النصب " الراية، و " النصب " الأصنام المعبودة (6)
(يوفضون) يسعون ويسرعون إلى الداعي مستبقين، كما أنهم كانوا يستبقون إلى
أنصابهم. (خشعة أبصرهم) لا يستطيعون النظر من هول ذلك اليوم.
* * *

(1) قاله قتادة والزجاج. راجع التبيان: ج 10 ص 128.
(2) وهو قول الحسن. راجع المصدر نفسه.
(3) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 128.
(4) وهي قراءة الجمهور إلا حفصا وابن عامر فإنهما قرأها بضمتين. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 651.
(5) قاله الكلبي. راجع تفسير البغوي في تفسيره: ج 4 ص 396.
(6) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 270.
639

سورة نوح
مكية (1) ثمان وعشرون آية كوفي، تسع بصري، عد الكوفي: (ونسرا) (2)
والبصري (سواعا) (3) (فأدخلوا نارا) (4).
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة نوح (عليه السلام) كان من المؤمنين الذين تدركهم
دعوة نوح (عليه السلام) " (5).
وعن الصادق (عليه السلام): " من كان يؤمن بالله ويقرأ كتابه فلا يدع أن يقرأ سورة
(إنآ أرسلنا نوحا)، فأي عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه الله
تعالى مساكن الأبرار، وأعطاه ثلاث جنان مع جنته كرامة من الله له، وزوجه
مائتي حوراء " (6).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 131: مكية في قول ابن عباس والضحاك
وغيرهما، وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي، وتسع وعشرون في البصري، وثلاثون في
المدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 615: مكية، وهي ثمان وعشرون آية، نزلت بعد النحل.
(2) الآية: 23.
(3) الآية: 23.
(4) الآية: 25.
(5) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 622 مرسلا.
(6) ثواب الأعمال للصدوق: ص 147، وزاد في آخره: " وأربعة آلاف ثيب إن شاء الله ".
641

بسم الله الرحمن الرحيم
(إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه ى أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم
عذاب أليم (1) قال يقوم إنى لكم نذير مبين (2) أن اعبدوا الله واتقوه
وأطيعون (3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل
الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون (4) قال رب إنى دعوت قومى ليلا
ونهارا (5) فلم يزدهم دعآءى إلا فرارا (6) وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم
جعلوا أصبعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا
استكبارا (7) ثم إنى دعوتهم جهارا (8) ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم
إسرارا (9) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السمآء
عليكم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنت ويجعل
لكم أنهرا (12) مالكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد خلقكم أطوارا (14))
أي: بعثنا (نوحا) رسولا (إلى قومه أن أنذر) أي: بأن أنذر، فحذف الجار،
وهي " أن " الناصبة للفعل، والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له: أنذر، ويجوز أن تكون
مفسرة لأن الإرسال فيه معنى القول. و (أن اعبدوا الله) مثل: (أن أنذر) في
الوجهين.
(يغفر لكم من ذنوبكم): " من " مزيدة، وقيل: للتبعيض (1)، أي: يغفر لكم
ذنوبكم السالفة (ويؤخركم إلى أجل مسمى) فيه دلالة على ثبوت أجلين، مثل أن
يكون قد قضى الله سبحانه أن يعمر قوم نوح إن آمنوا ألف سنة، وإن بقوا على
كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة، فقال لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى،

(1) قاله الكلبي. راجع البحر المحيط: ج 8 ص 338.
642

يعني الوقت الذي سماه الله تعالى وضربه أمدا ينتهون إليه لا يتجاوزونه، وهو تمام
الألف سنة. ثم أخبر أنه (إذا جآء) ذلك الأمد (لا يؤخر) كما يؤخر هذا الوقت،
ولم يكن لكم حيلة.
(إنى دعوت قومى ليلا ونهارا) أي: دائما دائبا من غير فتور. (فلم يزدهم
دعآئى إلا فرارا) من قبوله، ونفارا منه، جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار. والمعنى:
أنهم ازدادوا عنده فرارا، ونحوه قوله: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (1). (كلما
دعوتهم لتغفر لهم) أي: ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم، فذكر المسبب الذي هو
حظهم خالصا ليكون أقبح لإعراضهم عنه (جعلوا أصبعهم في ءاذانهم) لئلا
يسمعوا كلامي ودعائي (واستغشوا ثيابهم) تغطوا بها لئلا يروني، كأنهم طلبوا أن
يغشاهم ثيابهم (وأصروا) وداوموا على كفرهم (واستكبروا) وأخذتهم العزة
من اتباعي، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استكبارهم وعتوهم.
ابتدأ (عليه السلام) في دعوتهم بالأهون وترقى إلى الأشد، وذلك أنه ناصحهم في السر،
فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم يؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان.
ومعنى (ثم) الدلالة على تباعد الأحوال، فإن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع
بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما. و (جهارا) مصدر (دعوتهم) لأنه أحد
نوعي الدعاء، فنصب به كما ينصب القرفصاء (2) ب‍ (قعد)، لكونها أحد أنواع
القعود، أو: لأنه أراد ب‍ (دعوتهم) جاهرتهم، ويجوز أن يكون صفة لمصدر
" دعوت " أي: دعاء جهارا مجاهرا به.

(1) التوبة: 125.
(2) قال في الصحاح: القرفصاء: ضرب من القعود، يمد ويقصر، فإذا قلت: قعد فلان القرفصاء
فكأنك قلت: قعد قعودا مخصوصا وهو أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي
بيديه يضعهما على ساقيه كما يحتبى بالثوب، تكون يداه مكان الثوب. (مادة: قرفص).
643

(فقلت استغفروا ربكم) أي: اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم (إنه
كان غفارا) لطالبي المغفرة. (يرسل السمآء عليكم مدرارا) قيل: إنهم لما طال
إصرارهم على الكفر والتكذيب بعد تكرير دعوتهم، حبس الله عنهم القطر فقحطوا
حتى هلكت أموالهم وأولادهم، فلذلك وعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب
ورفع عنهم ما كانوا فيه (1). وعن الحسن: أن رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر
الله، وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه،
فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا
ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية (2).
وسأل رجل الباقر (عليه السلام) فقال: جعلت فداك، إني رجل كثير المال وليس يولد
لي ولد، فهل من حيلة؟ قال: نعم، استغفر ربك سنة في آخر الليل مائة مرة، فإن
ضيعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار، فإن الله تعالى يقول: (استغفروا ربكم...) إلى
آخر الآية (3).
والمدرار: المطر الكثير الدرور، مفعال، يستوي فيه المذكر والمؤنث. (ما لكم
لا ترجون لله وقارا) أي: تأملون له توقيرا أي: تعظيما. والمعنى: ما لكم لا تكونون
على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الكرامة؟ و (لله) بيان للموقر، ولو
تأخر كان صلة ل‍ " الوقار ".
وقوله: (وقد خلقكم أطوارا) في موضع الحال، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون
بالله والحال هذه، وهي أنه خلقكم تارات: ترابا، ثم نطفا، ثم علقا، إلى أن أنشأكم

(1) قاله مقاتل. راجع تفسير القرطبي: ج 18 ص 302.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 617.
(3) رواه الكليني في الكافي: ج 6 ص 8 ح 4 بإسناده عن بعض أصحابه (عليه السلام) بألفاظ متقاربة.
644

خلقا آخر، وهذه موجبة للإيمان به. وعن ابن عباس: ما لكم لا تخافون لله
عظمة؟ (1) وعنه: لا تخافون الله عاقبة (2)، لأن العاقبة حال استقرار الأمور
وثبات الثواب والعقاب، من: وقر إذا ثبت واستقر، وقيل: لا تخافون لله حلما
وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا (3).
(ألم تروا كيف خلق الله سبع سموا ت طباقا (15) وجعل القمر
فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من الأرض
نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18) والله جعل لكم
الارض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا (20) قال نوح رب إنهم
عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكرا
كبارا (22) وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث
ويعوق ونسرا (23) وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظلمين إلا ضللا (24)
مما خطيتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله
أنصارا (25) وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكفرين
ديارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27)
رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنت
ولا تزد الظلمين إلا تبارا (28))
نبههم أولا على النظر في أنفسهم، وثانيا على النظر في العالم وما فيه من
العجائب والبدائع الدالة على الصانع القادر العالم، قال: (وجعل القمر فيهن)

(1) تفسير ابن عباس: ص 487.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 618.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف المتقدم.
645

وهو في السماء الدنيا لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق، واحدة فوق
الأخرى كالقباب، فجاز أن يقال: فيهن كذا، كما يقال: في المدينة كذا، وهو في
بعض نواحيها (وجعل الشمس سراجا) يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر
أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، والقمر ليس كذلك إنما
هو نور لم يبلغ قوة ضياء الشمس.
(والله أنبتكم) استعار الإنبات للإنشاء كما يقال: زرعك الله للخير، والمعنى:
أنبتكم فنبتم نباتا، أو: نصب (أنبتكم) لتضمنه معنى " نبتم ". (ثم يعيدكم فيها)
أمواتا مقبورين (ويخرجكم) منها عند البعث، وأكده بالمصدر كأنه قال:
يخرجكم لا محالة. (والله جعل لكم الأرض بساطا) مبسوطة تتقلبون عليها كما
يتقلب الرجل على بساطه، والفجاج: الطرق الواسعة المنفجة.
جعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم في الدنيا إلا وجاهة زائدة (خسارا)
في الآخرة، وجعل ذلك سمة يعرفون بها، وصفة لازمة لهم، أي: اتبعوا رؤوسهم
المقدمين أصحاب الأموال وتركوا اتباعي، وقرئ: (وولده)، " وولده " (1).
(ومكروا) معطوف على (لم يزده) وجمع الضمير الراجع إلى (من) على
المعنى، والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم: كيدهم لنوح (عليه السلام)، وصد الناس عن
الاستماع منه، وقولهم لهم: (لا تذرن ءالهتكم)، (مكرا كبارا) قرئ
بالتخفيف (2) والتثقيل. والكبار: أكبر من الكبير، والكبار بالتشديد: أكبر من الكبار.

(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع برواية خارجة عنه. راجع كتاب السبعة
في القراءات: ص 652.
(2) يعني " كبارا " من غير تشديد، وقد قرأه عيسى وأبو السمال وابن محيصن، غير أن الأخير
كسر الكاف. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 162.
646

(ولا تذرن ودا) قرئ بضم الواو (1) وفتحها، وكانت هذه الأصنام (2)
المذكورة أسماؤها أعظم أصنامهم عندهم فخصوها بعد قولهم: (لا تذرن
ءالهتكم)، وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب: فكان ود لكلب، وسواع لهمدان،
ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير، ولذلك سميت العرب ب‍ " عبد ود "
و " عبد يغوث ". (وقد أضلوا) الضمير للرؤساء، ومعناه: وقد أضلوا (كثيرا)
قبل هؤلاء، أو: قد أضلوا بإضلالهم قوما كثيرا.
(ولا تزد الظلمين) معطوف على قوله: (رب إنهم عصونى) أي: قال
نوح: (رب إنهم عصونى) وقال: (ولا تزد الظلمين إلا ضللا) والمراد
بالضلال: أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من
إيمانهم، أو: يريد به الهلاك والضياع كقوله: (ولا تزد الظلمين إلا تبارا).
وقدم سبحانه قوله: (مما خطيئتهم) لبيان أن إغراقهم ما كان إلا من أجل
خطاياهم، وكذا إدخالهم النار. وقرئ: (خطيئتهم) بالهمزة، و " خطياتهم " بقلب
الهمزة ياء وإدغامها (3) و " خطاياهم " (4)، و " ما " مزيدة، وقال: (فأدخلوا)
بالفاء لأن دخولهم النار كأنه متعقب لإغراقهم، كأنه قد كان لاقترابه أو: لإرادة
عذاب القبر، وعن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب (5).
وتنكير النار: إما لتعظيمها، وإما لأن الله سبحانه أعد لهم نوعا من النار.
يقال: ما بالدار ديار، وهو فيعال من الدور، وأصله: ديوار، ففعل به ما فعل

(1) وهي قراءة نافع وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 653.
(2) قد تقدم شرح مختصر عن أحوال هذه الأصنام المزعومة في ج 2 ص 117 - 118.
(3) قرأه أبو رجاء العطاردي. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 162.
(4) وهي قراءة أبي عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 653.
(5) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 400.
647

بأصل " سيد " و " هين "، ولو كان على وزن فعال لكان " دوارا "، ولا يستعمل
إلا في النفي العام.
(ولا يلدو إلا فاجرا كفارا) إنما قال ذلك بعد أن أخبره الله عز وجل أنه (لن
يؤمن من قومك إلا من قد ءامن) (1) وأنهم لا يلدون مؤمنا، وقد أعقم الله أرحام
نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، فلم يكن فيهم صبي
وقت العذاب، فلذلك دعا نوح (عليه السلام) عليهم بما دعا به. ومعنى: (ولا يلدوا يلد إلا
فاجرا كفارا): لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر، فوصفهم بما يصيرون إليه،
كقوله (عليه السلام): " من قتل قتيلا فله سلبه " (2).
(ولولدى) اسم أبيه: ملك بن متوشلخ، واسم أمه: شمخا بنت أنوش، وكانا
مؤمنين (ولمن دخل بيتي) أي: داري، وقيل: مسجدي (3)، وقيل: سفينتي (4).
خص أولا من يتصل به لأنهم أحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات (ولا تزد
الظلمين إلا تبارا) هلاكا ودمارا.
* * *

(1) هود: 36.
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 7 ص 296.
(3) قاله الضحاك والكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 400.
(4) حكاه البغوي في تفسيره المتقدم.
648

سورة الجن
مكية (1) ثمان وعشرون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة الجن أعطي بعدد كل جني صدق
بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذب به عتق رقبة " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من أكثر قراءة (قل أوحى) لم يصبه في حياته شىء من
أعين الجن ولا من نفثهم وكيدهم، وكان مع محمد وآله (عليهم السلام) " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا
عجبا (1) يهدى إلى الرشد فامنا به ى ولن نشرك بربنآ أحدا (2) وأنه
تعلى جد ربنا ما اتخذ صحبة ولا ولدا (3) وأنه كان يقول سفيهنا على

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 144: مكية في قول قتادة وابن عباس والضحاك
وغيرهم، وهي ثمان وعشرون آية، ليس فيها اختلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 622: مكية، وآياتها (28) نزلت بعد الأعراف.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 633 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 148 وفيه: " وكان مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: يا رب لا أريد به
بدلا، ولا أريد أن أبغي عنه حولا ".
649

الله شططا (4) وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا (5)
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6)
وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا (7) وأنا لمسنا السمآء
فوجدنها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقعد للسمع
فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندرى أشر أريد بمن
في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (10) وأنا منا الصلحون ومنا دون
ذا لك كنا طرآئق قددا (11) وأنا ظننآ أن لن نعجز الله في الأرض ولن
نعجزه هربا (12) وأنا لما سمعنا الهدى ءامنا به ى فمن يؤمن بربه فلا
يخاف بخسا ولا رهقا (13) وأنا منا المسلمون ومنا القسطون فمن
أسلم فأولئك تحروا رشدا (14) وأما القسطون فكانوا لجهنم
حطبا (15))
(أنه استمع) بالفتح لأنه فاعل (أوحى)، و (إنا سمعنا) بالكسر لأنه مبتدأ
محكي بعد القول، ثم يحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من
قول الجن كسر، وكلهن من قولهم، إلا الثنتين الأخيرتين: (وأن المسجد
لله) (1)، (وأنه لما قام عبد الله) (2)، ومن فتح كلهن فللعطف على محل الجار
والمجرور في (ءامنا به) كأنه قيل: صدقنا به، وصدقنا (أنه تعلى جد ربنا)،
(وأنه كان يقول سفيهنا) وكذلك البواقي.
(نفر من الجن) جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: كانوا من بني
الشيصبان وهم أكثر الجن عددا، وهم عامة جنود إبليس (3)، وقيل: كانوا سبعة نفر

(1 و 2) الآية: 18 و 19.
(3) قاله أبو حمزة اليماني. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 173.
650

من جن نصيبين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأرسلهم إلى سائر الجن (1) (فقالوا إنا
سمعنا) أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله: (فلما قضى ولوا إلى قومهم
منذرين) (2)، قالوا: (إنا سمعنا قرءانا) كتابا (عجبا) بديعا مباينا لكلام الخلق،
قائما، فيه دلائل الإعجاز، " عجب " مصدر يوضع موضع " العجيب "، وهو ما خرج
من حد أشكاله ونظائره.
(يهدى إلى الرشد) يدعو إلى الصواب وإلى التوحيد والإيمان (فآمنا به)
الضمير للقرآن. ولما كان الإيمان به إيمانا بوحدانية الله تعالى قالوا: (ولن نشرك
بربنآ أحدا) أي: ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به، ويجوز أن يكون الضمير
لله، لأن قوله: (بربنآ) يفسره (تعلى جد ربنا) أي: تعالى جلال ربنا وعظمته
عن اتخاذ الصاحبة والولد، من قولك: جد فلان في عيني: إذا عظم. وقيل: (جد
ربنا) سلطانه وملكه وغناه (3)، من الجد الذي هو الدولة، والبخت مستعار منه،
وقوله: (ما اتخذ صحبة ولا ولدا) بيان لذلك.
(وأنه كان يقول سفيهنا) وهو إبليس أو غيره من مردة الجن (على الله
شططا) أي: بعيدا من القول، وهو الكذب في التوحيد والعدل، والشطط: مجاوزة
الحد، ومنه: أشط في القول إذا أبعد فيه، أي: يقول قولا هو في نفسه شطط لفرط ما
أشط فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله. (وأنا ظننآ) أن أحدا من الجن
والإنس لن يكذب على الله، ولن يقول عليه ما ليس بحق، فكنا نصدقهم فيما
أضافوه إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم (كذبا) قولا كذبا أي: مكذوبا فيه،

(1) قاله ابن عباس. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 297.
(2) الأحقاف: 29.
(3) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 272.
651

وانتصب انتصاب المصدر لأن الكذب بعض القول ونوع منه، وقرئ: " لن
تقول " (1) وعلى هذا فيكون: (كذبا) مصدرا وقع موقع " تقولا "، لأن التقول
لا يكون إلا كذبا.
ومعنى قوله: (كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن): أن العرب
كان إذا أمسى أحدهم في واد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي
من سفهاء قومه، يريد: الجن وكبيرهم (فزادوهم رهقا) أي: فزاد الجن الإنس
رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم، أو: فزاد الإنس الجن رهقا أي: طغيانا
واستكبارا لاستعاذتهم بهم، يقولون: سدنا الجن والإنس، والرهق: غشيان
المحارم. (وأنهم ظنوا) أي: وأن الإنس ظنوا (كما ظننتم) وهو من كلام الجن
يقوله بعضهم لبعض، وقيل: الآيتان من جملة الوحي، والضمير في: (وأنهم ظنوا)
للجن، والخطاب في: (كما ظننتم) لكفار قريش (2).
(وأنا لمسنا السمآء) اللمس: المس، فاستعير للطلب لأن الماس طالب
متعرف، قال:
مسسنا من الآباء شيئا وكلنا * إلى نسب في قومه غير واضع (3)
ولمسه والتمسه وتلمسه: كطلبه واطلبه وتطلبه، والمعنى: طلبنا بلوغ السماء
واستماع كلام الملائكة (فوجدنها ملئت حرسا شديدا) أي: حفظة من الملائكة
شدادا. والحرس: اسم مفرد، كالخدم في معنى الحراس والخدام، ولذلك وصف

(1) قرأه يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 736.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 624.
(3) لزيد بن الحاكم الكلابي من أبيات يمدح بها قومه ويذم آخرين من بني عمومته، يقول: لا
تفاخر بيننا وبينكم من جهة الآباء بل التفاخر من جهة أمهاتنا وأمهاتكم. راجع شرح شواهد
الكشاف للأفندي: ص 424.
652

ب‍ " شديد "، ونحوه:
أخشى رجيلا أو ركيبا غاديا (1)
لأن " الرجل " و " الركب " مفردان في معنى الرجال والركاب. والرصد: مثل
الحرس، اسم جمع للراصد على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم
الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب، أو: يكون صفة ل‍ " شهاب " بمعنى الراصد،
والمعنى: يجد شهابا راصدا له، أي: لأجله. والصحيح: أن الرجم بالنجوم، وقد كان
قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا، وقد جاء ذكره في أشعارهم، قال بشير:
والعير يرهقها الغبار وجحشها * ينقض خلفهما انقضاض الكوكب (2)
ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثر
الرجم وزاد، ومنعت الشياطين الاستراق أصلا. وعن معمر: قلت للزهري: أكان
يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أرأيت قوله: (وإنا كنا نقعد منها
مقعد...) قال: غلظ وشدد أمرها حين بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3). وفي قوله: (ملئت)
دليل على أن الحادث هو الملء والكثرة، وكذلك قوله: (نقعد منها مقعد)، أي:
كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها،
وهذا الذي حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
واستمعوا قراءته.
يقولون: لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم والمنع الكلي من الاستراق

(1) وعجزه: والذئب أخشاه وكلبا عاويا. لم نعثر على قائله يقول: لهرمي وضعفي صرت أخاف
الرجل الصغير والركب القليل الغادي وكذا الذئب أخافه والكلب العاوي. راجع شرح
الشواهد: ص 398.
(2) لبشير بن أبي خازم من أبيات يصف فيها حمارا وحشيا تجري وجحشها يسرع خلفها
كإسراع شهاب الرجم. راجع المصدر السابق: 411.
(3) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 626.
653

قلنا: ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل (الأرض) ولا يخلو من أن يكون شرا أو
(رشدا) أي: عذابا أو رحمة. (وأنا منا الصلحون) الأبرار المتقون (ومنا دون
ذلك) أي: ومنا قوم دون ذلك في الرتبة، فحذف الموصوف وهم المقتصدون في
الصلاح، أو: أرادوا الطالحين (كنا طرآئق قددا) أي: ذوي مذاهب مختلفة،
وهو بيان للقسمة المذكورة، أو: كنا في طرائق مختلفة كقوله:
كما عسل الطريق الثعلب (1).
أو: كانت طرائقنا طرائق قددا، على حذف المضاف الذي هو " طرائق " وإقامة
الضمير المضاف إليه مقامه. والقدة من: قد، كالقطعة من: قطع.
وقوله: (في الأرض) و (هربا) حالان. أي: لن نعجز الله كائنين في الأرض
أينما كنا، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء، وقيل: لن نعجزه في الأرض إن أراد
بنا أمرا، ولن نعجزه في الأرض هربا إن طلبنا (2). والظن: بمعنى اليقين، وهذه صفة
الجن وأحوالهم وعقائدهم، فمنهم أخيار وأشرار ومقتصدون، واعتقادهم أن الله
عزيز لا يفوته مطلب، ولا ينجي عنه مهرب.
(وأنا لما سمعنا الهدى) وهو القرآن (ءامنا به فمن يؤمن بربه) فهو
(لا يخاف بخسا) أي نقصانا فيما يستحقه من الثواب (ولا رهقا) أي: لحاق
ظلم، وقيل: لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته، وروي ذلك عن ابن
عباس والحسن وقتادة (3)، ودخلت الفاء لأن الكلام في تقدير المبتدأ والخبر،
ولولا ذلك لقيل: لا يخف، والفائدة في إدخال الفاء وتقدير الابتداء الدلالة

(1) وصدره: لدن بهز الكف يعسل متنه... فيه كما. لساعدة بن جؤية الهذلي من قصيدة طويلة
له، وشعره محشو بالغريب والمعاني الغامضة أنظر المؤتلف والمختلف: ص 83.
(2) قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 403.
(3) راجع التبيان: ج 10 ص 152.
654

على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، وأنه المختص بذلك دون غيره.
(منا المسلمون) المستسلمون لأمر الله، المنقادون له (ومنا القسطون)
الكافرون الجائرون عن طريق الحق (فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) أي:
توخوا الرشد وتعمدوا إصابة الحق. (وأما القسطون فكانوا لجهنم حطبا) توقد
بهم، وتحرقهم كما تحرق النار الحطب.
وروي: أن سعيد بن جبير لما أراد الحجاج قتله قال له: ما تقول في؟ قال:
قاسط وعادل، فقال القوم: وما أحسن ما قال! فقال الحجاج: يا جهلة، إنه سماني
ظالما مشركا، وتلا لهم: (وأما القسطون...) الآية، [وقوله:] (1) (ثم الذين
كفروا بربهم يعدلون) (2).
(وألو استقموا على الطريقة لاسقينهم مآء غدقا (16) لنفتنهم فيه
ومن يعرض عن ذكر ربهى يسلكه عذابا صعدا (17) وأن المسجد لله
فلا تدعوا مع الله أحدا (18) وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون
عليه لبدا (19) قل إنمآ أدعوا ربى ولا أشرك به ى أحدا (20) قل إنى لا
أملك لكم ضرا ولا رشدا (21) قل إنى لن يجيرنى من الله أحد ولن أجد
من دونه ى ملتحدا (22) إلا بلغا من الله ورسلته ى ومن يعص الله
ورسوله فإن له نار جهنم خلدين فيهآ أبدا (23) حتى إذا رأوا ما
يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا (24) قل إن أدرى
أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى أمدا (25) علم الغيب فلا يظهر
على غيبه ى أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه

(1) زيادة لابد منها.
(2) رواه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 628. والآية: من سورة الأنعام.
655

ومن خلفه ى رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسلت ربهم وأحاط بما
لديهم وأحصى كل شىء عددا (28))
(أن) مخففة من الثقيلة، أي: أوحي إلي أنه - والضمير للشأن والحديث -
لو استقام الإنس والجن على طريقة الإيمان لأنعمنا عليهم وأوسعنا رزقهم، وذكر
الماء الغدق لأنه أصل المعاش وسعة الرزق. (لنفتنهم فيه) ولنختبرهم كيف
يشكرون ما خولوا منه، ومثله: (ولو أنهم أقاموا التورة والإنجيل) إلى قوله:
(لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) (1).
وعن الباقر (عليه السلام) في الاستقامة: هو والله ما أنتم عليه، ثم تلا الآية.
وعن الصادق (عليه السلام) قال: لأفدناهم علما كثيرا يتعلمونه من الأئمة.
(ومن يعرض عن ذكر ربه) عن موعظته، أو: عن وحيه، أو: عن معرفته
والإخلاص في عبادته (يسلكه) أي: يدخله (عذابا) والأصل: يسلكه في
عذاب، كقوله: (ما سلككم في سقر) (2) فعدي إلى مفعولين: إما بحذف الجار
وإيصال الفعل، وإما بتضمينه معنى " يدخله "، يقال: سلكه وأسلكه، قال:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة * مثلا كما تطرد الجمالة الشردا (3)
وقرئ: (يسلكه) بالياء والنون (4). و " الصعد " مصدر " صعد " وصف به
العذاب لأنه يتصعد المعذب أي: يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. (وأن المسجد لله)

(1) المائدة: 66.
(2) المدثر: 42.
(3) لعبد مناف بن ربع الجربي، من قصيدة يصف بها واقعة حدثت لقومه. وقتائدة: اسم عقبة.
راجع خزانة الأدب للبغدادي: ج 7 ص 39 وما بعده، وفيه: " شلا " بدل " مثلا ".
(4) وبالنون هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 656.
656

هو من جملة الموحى، وقيل: معناه: ولأن المساجد لله (1) (فلا تدعوا) على أن
اللام يتعلق ب‍ (- لا تدعوا) أي: فلا تدعوا مع الله أحدا في المساجد لأنها لله
خاصة ولعبادته، وعن الحسن: يعني: الأرض كلها لأنها جعلت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
مسجدا (2). وسأل المعتصم أبا جعفر الثاني (عليه السلام) عنها فقال: هي أعضاء السجود
السبعة (3).
(وأنه لما قام عبد الله) وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يقل: رسول الله، لأن تقديره:
وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله، فلما كان واقعا في كلامه جيء به على ما يقتضيه
التواضع والتذلل (يدعوه) أي: يعبده، يريد: قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه
الجن فاستمعوا لقراءته (كادوا يكونون عليه لبدا) أي: يزدحمون عليه متراكمين
تعجبا مما رأوا من عبادته، وإعجابا بما كان يتلوه من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا
مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا بمثله، وقيل: معناه: لما قام رسولا (صلى الله عليه وآله وسلم) يعبد الله
وحده، كاد المشركون لتظاهرهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين (4)
(لبدا) جمع " لبدة "، وهي ما يلبد بعضه على بعض، وقرئ: " لبدا " بضم اللام (5)،
واللبدة في معنى اللبدة، وعن قتادة: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه،
فأبى الله إلا أن يتم نوره (6). ومن قرأ: " وإنه " بالكسر (7)، جعله من كلام الجن،

(1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 236.
(2) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 368.
(3) رواه العياشي في تفسيره: ج 1 ص 319 ح 109 عن زرقان صاحب ابن أبي داود
وصديقه. وأبو جعفر الثاني هو الإمام الجواد (عليه السلام).
(4) قاله الحسن البصري في تفسيره: ج 2 ص 369.
(5) قرأه ابن عامر برواية هشام عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 656.
(6) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 404.
(7) وهي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر والمفضل كلاهما عنه. راجع كتاب السبعة المتقدم.
657

قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم يحكون ما رأوا من صلاته وازدحام أصحابه عليه
في ائتمامهم به.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للذين تظاهروا عليه: (إنمآ ادعوا ربى) يريد: ما أتيتكم
بأمر منكر، إنما أعبد ربي وحده (ولا أشرك به أحدا) وليس ذلك بموجب
مظاهرتكم على شقاقي وعداوتي، أو: قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس
ما ترونه من عبادتي لله وحده بأمر يتعجب منه، أو: قال الجن لقومهم ذلك حكاية
عن رسول الله.
(قل) يا محمد (إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) أي: نفعا، لا أستطيع أن
أضركم وأن أنفعكم، وإنما الضار والنافع هو الله، أو: أراد بالضر الغي أي: لا أستطيع
أن أجبركم على الغي والرشد، وإنما يقدر الله على ذلك. و (إلا بلغا) استثناء منه،
أي: لا أملك إلا بلاغا من الله. و (قل إنى لن يجيرنى) إلى قوله: (ملتحدا) جملة
اعتراضية، اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه، على معنى:
أن الله سبحانه إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما لم يصح أن يجيره منه
أحد، أو: يجد من دونه ملاذا يأوي إليه، والملتحد: الملتجأ. وقيل: (بلغا) بدل
من (ملتحدا) أي: لم أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أنزله إلي فأقول: قال
الله كذا، وأبلغ رسالته من غير زيادة ونقصان (1). و (من) ليست بصلة للتبليغ
وإنما هو بمنزلة (من) في قوله: (برآءة من الله) (2) والتقدير: بلاغا كائنا من الله
(خلدين) محمول على معنى " من "، وتعلق (حتى) بقوله: (يكونون عليه
لبدا)، على: أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة، ويستضعفون أنصاره، ويستقلون

(1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 237.
(2) التوبة: 1.
658

عدده (حتى إذا رأوا ما يوعدون) يوم بدر، أو: يوم القيامة (فسيعلمون) حينئذ
أيهم (أضعف ناصرا وأقل عددا)، ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال،
كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون، وكأ نهم أنكروا
هذا الموعود وقالوا: متى يكون؟ فقيل: (قل) يا محمد: إنه كائن لاريب فيه،
وأما وقته فما (أدرى) متى يكون، لأن الله سبحانه لم يبينه لي، والأمد: الغاية
والنهاية والمهلة.
(علم الغيب) أي: هو عالم الغيب (فلا) يطلع (على غيبه أحدا) من
عباده. (إلا من ارتضى من رسول) تبيين لمن ارتضى، يعني: المرتضى للنبوة
لا كل مرتضى (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) حفظة من الملائكة
يحفظونه من الشياطين، يطردونهم عنه ويعصمونه عن وساوسهم حتى يبلغ
ما أوحي به إليه.
(ليعلم) الله، أي: ليظهر معلومه على ما كان عالما به (أن قد) أبلغ الأنبياء
(رسلت ربهم) وحد أولا على اللفظ في قوله: (من بين يديه ومن خلفه)، ثم
جمع على المعنى كقوله: (فإن له نار جهنم خلدين فيهآ)، والمعنى: ليبلغوا
رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان. وقرئ: " ليعلم " على البناء
المفعول (1) (وأحاط) الله (بما لديهم) بما عند الرسل من الشرائع وغيرها،
لا يفوته منها شيء (وأحصى كل شىء عددا) من الصغير والكبير، والقليل
والكثير، مما كان وما يكون، و (عددا) حال بمعنى: معدودا محصورا، أو: مصدر
بمعنى: إحصاء.
* * *

(1) قرأه يعقوب. راجع التبيان: ج 10 ص 157.
659

سورة المزمل
مختلف فيها (1)، وقيل: بعضها مكي وبعضها مدني (2). تسع عشرة آية بصري،
عشرون كوفي، عد الكوفي (المزمل).
في حديث أبي: " ومن قرأ المزمل دفع عنه العسر في الدنيا والآخرة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في عشاء الآخرة أو في آخر الليل، كان له
الليل والنهار مع السورة شاهدين، وأحياه الله حياة طيبة وأماته ميتة طيبة " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 160: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
عشرون آية في الكوفي والمدني الأول، وتسع عشرة في البصري، وثمانية عشرة في المدني
الأخير.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 124: مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر،
وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها: قوله: (واصبر على ما يقولون) والتي بعدها.
وفي الكشاف: ج 4 ص 634: مكية إلا الآيات 10 و 11 و 20 فمدنية، وآياتها (19)
وقيل: (20) نزلت بعد القلم.
(2) في نسخة بدل " مختلف فيها... وبعضها مدني ": " مدنية ويقال: مكية إلا آيتان وهي ".
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 644 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 148، وفيه: " كان له الليل والنهار شاهدين مع سورة المزمل ".
661

أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا (4) إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا (5) إن
ناشئة الليل هى أشد وطا وأقوم قيلا (6) إن لك في النهار سبحا
طويلا (7) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8) رب المشرق والمغرب
لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا (9) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا
جميلا (10) وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا (11) إن لدينآ
أنكالا وجحيما (12) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما (13) يوم ترجف
الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا (14))
(يأيها المزمل) في ثيابه المتلفف بها، أدغم التاء في الزاي، وكذلك
(المدثر) أصله: المتدثر، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتزمل بالثياب في أول ما جاءه
جبرائيل (عليه السلام) حتى أنس به، فخوطب بهذا.
وروي أنه دخل على خديجة وقد جأث (1) فرقا فقال: زملوني، فبينا هو على
ذلك إذ ناداه جبرائيل (عليه السلام): (يأيها المزمل) (2).
وعن عكرمة: أن معناه: يا أيها الذي زمل أمرا عظيما أي: حمله (3). والزمل:
الحمل، وازدمله: احتمله. (قم الليل) للصلاة، (نصفه) بدل من (الليل) و
(إلا قليلا) استثناء من " النصف "، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل (أو انقص
منه قليلا أو زد عليه) خيره بين النقصان منه والزيادة عليه، وقيل: إن (نصفه)
بدل من (قليلا) (4)، وعلى هذا فيكون تخييرا بين ثلاثة أشياء: بين قيام النصف
بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه. وإنما وصف النصف بالقلة

(1) جأث: أي فزع، فهو مجؤوث أي: مذعور. (الصحاح).
(2) رواه الطبري في تاريخه: ج 2 ص 47.
(3) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 278.
(4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 239.
662

بالنسبة إلى الكل. ويعضد هذا القول ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: القليل:
النصف، أو انقص من القليل قليلا، أو زد على القليل قليلا (1).
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير، وكان
الرجل منهم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين،
حتى خفف الله عنهم بآخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان
فريضة، وعن سعيد بن جبير: كان بين أول السورة وآخرها الذي نزل فيه التخفيف
عشر سنين (2).
(ورتل القرءان) أي: اقرأه على رتل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع
الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيها بالثغر المرتل وهو المفلج (3).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): بينه تبيانا ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل،
ولكن اقرع به القلوب القاسية، ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة (4).
وعن ابن عباس: لأن أقرأ البقرة أرتلها، أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله (5).
وعن الصادق (عليه السلام) في الترتيل: هو أن تتمكث فيه، وتحسن به صوتك.
وقال: إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنة، وإذا مررت بآية فيها
ذكر النار فتعوذ بالله من النار (6).

(1) أنظر تفسير القمي: ج 2 ص 414.
(2) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 279.
(3) يقال: رجل مفلج الثنايا اي: منفرجها، وهو خلاف المتراص الأسنان.
(4) رواه الكليني في الكافي: ج 2 ص 614 ح 1 باسناده عن عبد الله بن سليمان عن
أبي عبد الله (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام). وفيه: " افزعوا قلوبكم " بدل " اقرع به القلوب ".
(5) رواه عنه البيهقي في السنن: ج 3 ص 13.
(6) رواه الكليني في الكافي: ج 2 ص 617 و 618 قطعة ح 2 و 5.
663

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق، ورتل
كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها (1).
وسئلت عائشة عن قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: لا كسردكم هذا، لو أراد
السامع أن يعد حروفه لعدها (2).
وقوله: (ترتيلا) تأكيد في إيجاب الأمر، وأنه مما لابد منه للقارئ.
(إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا) هذه الآية اعتراض، وعنى بالقول الثقيل القرآن
وما فيه من الأوامر والتكاليف الشاقة الصعبة. وأما ثقلها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فلأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته، فهي أبهظ له لما يلحقه خاصة من الأذى فيه.
وأراد بهذا الاعتراض: أن ما كلفه من القيام بالليل من جملة التكاليف الثقيلة، من
حيث إن الليل وقت الراحة والهدوء، فلابد لمن أحياه من مجاهدة لنفسه، وقيل:
قولا ثقيلا في الميزان يوم القيامة، عظيم الشأن عند الله، له وزن ورجحان (3)،
وقيل: قولا ثقيلا نزوله (4)، لأنه (عليه السلام) كان إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشديد
البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليرفض عرقا، وإن كان ليوحى له وهو على راحلته
فيضرب بجرانها.
(ناشئة الليل) هي النفس الناشئة بالليل، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة،
أي: تنهض وترتفع، من: نشأت السحابة: إذا ارتفعت، أو: قيام الليل على أن
(ناشئة) مصدر من: نشأ إذا قام ونهض، ويدل عليه ما روي عن عبيد بن عمير
قال: قلت لعائشة: رجل قام من أول الليل، أتقولين له: قام ناشئة الليل؟ قالت: لا،

(1) رواه البيهقي في السنن: ج 2 ص 53 بإسناده عن عبد الله بن عمرو.
(2) حكاه عنها الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 637.
(3) قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 281.
(4) قاله عروة بن الزبير وعائشة. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 126.
664

إنما الناشئة القيام بعد النوم (1)، أو: العبادة التي تنشأ بالليل أي: تحدث وترتفع،
وقيل: هي ساعات الليل كلها لأنها تحدث واحدة بعد أخرى (2)، (هى أشد
وطئا) هي خاصة دون ناشئة النهار، أشد مواطأة أي: موافقة، يواطئ قلبها لسانها
إن أردت النفس، أو: يواطئ فيها قلب القائم لسانه إن أردت القيام أو العبادة أو
الساعات، أو: أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص، وعن الحسن: أشد
موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق (3). وقرئ: " أشد وطاء " (4)
والمعنى: أشد ثبات قدم، وأبعد من الزلل، أو: أثقل وأشد على المصلي من صلاة
النهار (وأقوم قيلا) وأثبت قراءة وأشد مقالا لهدوء الأصوات وانقطاع الشواغل.
(إن لك في النهار سبحا) أي: تصرفا وتقلبا في مهماتك ومشاغلك ولا
تفرغ إلا بالليل، فاجعل الليل لعبادتك ومناجاة ربك لتفوز بخير الدنيا والآخرة.
(واذكر اسم ربك) ودم على ذكره، والذكر يتناول كل تحميد وصلاة وتلاوة
قرآن وعبادة (وتبتل إليه) وانقطع إليه، وقال: (تبتيلا) لأن معنى " تبتل ": بتل
نفسه، فجيء به على معناه مراعاة للفواصل.
(رب المشرق) رفع على المدح (فاتخذه وكيلا) مسبب على التهليل، أي:
هو الذي يجب - لتفرده بالوحدانية والربوبية - أن توكل إليه الأمور، وقيل:
(وكيلا) كفيلا بما وعدك من النصر (5).
والهجر الجميل: أن يخالفهم بقلبه وهواه، ويخالفهم في الظاهر بلسانه ودعوته

(1) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 638.
(2) قاله ابن قتيبة. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 127.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 639.
(4) قرأه ابن عامر وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 658.
(5) قاله الفراء والزجاج كل منهما في كتابه معاني القرآن: ج 3 ص 198 و ج 5 ص 241 على
الترتيب.
665

إياهم إلى الحق بالمداراة وترك المكافأة، وعن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه
أقوام ونضحك إليهم، وإن قلوبنا لتقليهم (1).
(وذرنى والمكذبين) أي: ودعني وإياهم ووكل أمرهم إلي، واستكفني
شرهم فإن في ما يفرغ بالك (أولى النعمة) أي: التنعم في الدنيا، وهم صناديد
قريش كانوا أهل ثروة وترفه. والنعمة بالكسر: الإنعام، وبالضم: المسرة، يقال:
نعم، ونعمة عين.
(إن لدينا) ما يضاد تنعمهم من " أنكال " وهي القيود الثقال، الواحد: نكل،
ومن " جحيم " وهي النار الشديدة الحر، ومن " طعام ذي غصة " ينشب في الحلق
فلا ينساغ، يعني: الضريع والزقوم، ومن " عذاب أليم " من سائر أنواع العذاب،
فننتقم لك منهم بذلك.
(يوم ترجف) منصوب بما في (لدينآ) من معنى الفعل، والرجفة: الزلزلة
والحركة العظيمة والاضطراب الشديد، والكثيب: الرمل السائل المتناثر، والمهيل:
الذي هيل هيلا أي: نثر وأسيل.
(إنآ أرسلنآ إليكم رسولا شهدا عليكم كمآ أرسلنآ إلى فرعون
رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذنه أخذا وبيلا (16) فكيف
تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السمآء منفطر به ى كان
وعده مفعولا (18) إن هذه ى تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربهى سبيلا (19)
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطآئفة من
الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم
فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن سيكون منكم مرضى وءاخرون

(1) حكاه عنه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج 1 ص 222 وفيه: " لتلعنهم " بدل " لتقليهم ".
666

يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وءاخرون يقتلون في سبيل
الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأقرضوا الله
قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا
وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (20))
يخاطب قريشا (شهدا عليكم) في الآخرة بتكذيبكم وكفركم. (فعصى
فرعون الرسول) يعني: موسى (عليه السلام)، أدخل لام التعريف إشارة إلى المذكور قبله
(فأخذنه أخذا وبيلا) شديدا ثقيلا من قولهم: كلا وبيل: وخيم غير مستمرئ
لثقله. والوبيل: العصاء الضخمة.
(يوما) مفعول به، أي: وكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على
الكفر ولم تؤمنوا، ويجوز أن يكون ظرفا، أي: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة
إن كفرتم في الدنيا، أو: مفعولا ل‍ (كفرتم) على تأويل: (فكيف تتقون) الله إن
جحدتم يوم القيامة والجزاء، لأن التقوى هو خوف عقاب الله، وقوله: (يجعل
الولدن شيبا) مثل كما يقال: يوم يشيب النواصي.
(السمآء منفطر به) وصف لليوم بالشدة أيضا، وأن السماء على عظمها
وإحكامها تنفطر فيه، والمعنى: ذات انفطار، أو: السماء شيء منفطر، والباء في
(به) مثلها في: فطرت العود بالقدوم، بمعنى: أنها منفطر بشدة ذلك اليوم وهوله
كما ينفطر الشيء بما يفطر به (وعده) مضاف إلى المفعول، والضمير لليوم، أو: إلى
الفاعل والضمير لله عز اسمه وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما.
(أن هذه) الآيات الناطقة بالوعيد الشديد (تذكرة) موعظة لمن أنصف من
نفسه (فمن شآء) اتعظ بها و (اتخذ إلى ربه سبيلا) بالتقوى والخشية.
(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل) أقل منهما، استعار الأدنى
وهو الأقرب للأقل، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأخيار،
667

وإذا بعدت كثر ذلك، قرئ: (ونصفه وثلثه) بالنصب على معنى: أنك تقوم أقل من
ثلثين وتقوم النصف والثلث، وقرئ: (ونصفه وثلثه) بالجر (1) أي: وأقل من
النصف والثلث (وطآئفة من الذين معك) وتقوم ذلك جماعة من أصحابك، وعن
ابن عباس: علي (عليه السلام) وأبو ذر (2). (والله يقدر الليل والنهار) ولا يقدر على ذلك
غيره، فيعلم القدر الذي يقومونه من الليل (علم أن لن تحصوه) الضمير لمصدر
(يقدر) أي: علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات، ولا يتأتى حسابها لكم
بالتعديل والتسوية إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك يشق عليكم (فتاب
عليكم) عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر.
(فاقرءوا ما تيسر من القرءان) عبر عن الصلاة بالقراءة، لأنها بعض أركانها،
يريد: فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل، وقيل: هي قراءة القرآن
بعينها، ثم اختلفوا بالقدر الذي تضمنه الأمر، وعن سعيد بن جبير: أنه خمسون آية،
وعن ابن عباس: مائة آية، وعن السدي: مائتا آية (3). ثم بين سبحانه وجه الحكمة
في التخفيف، وهي تعذر القيام بالليل على المرضى، والضاربين في الأرض
للتجارة، والمجاهدين في سبيل الله، وسوى سبحانه بين المجاهدين والمسافرين
لطلب الحلال. والقرض الحسن: إخراج المال من أطيب وجوهه وأعوده على
الفقراء وابتغاء وجه الله به، وصرفه إلى المستحق (تجدوه عند الله هو خيرا) هو:
فصل وقع بين مفعولي " وجد "، وجاز وإن لم يقع بين معرفتين؛ لأن " أفعل " من
أشبه المعرفة في امتناعه من حرف التعريف.

(1) قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 658.
(2) رواه عنه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 387 باسناده عن أبي صالح وآخر
عن عطاء كلاهما عنه.
(3) أنظر هذه الأقوال في تفسير الماوردي: ج 6 ص 133، وتفسير القرطبي: ج 19 ص 53.
668

سورة المدثر
مكية (1) ست وخمسون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة المدثر أعطي عشر حسنات بعدد من صدق
بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذب به بمكة " (2).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقا على الله أن
يجعله مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في درجته، ولا يدركه في الحياة الدنيا شقاء " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(يأيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4)
والرجز فاهجر (5) ولا تمنن تستكثر (6) ولربك فاصبر (7) فإذا نقر في
الناقور (8) فذا لك يومئذ يوم عسير (9) على الكفرين غير يسير (10)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 171: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
هي مدنية وهي خمسون وست آيات في الكوفي والبصري والمدني الأول، وخمس في
المدني الأخير. وقال أبو سلمة ابن عبد الرحمن: أول ما نزل من القرآن (يا أيها المدثر)
وحكى ذلك أبو سلمة عن جابر بن عبد الله.
وفي الكشاف: ج 4 ص 644: مكية وهي ست وخمسون آية، نزلت بعد المزمل.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 657 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 148 وزاد بعده: " أبدا إن شاء الله ".
669

ذرنى ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12) وبنين
شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15) كلا إنه كان
لايتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17) إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف
قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر
واستكبر (23) فقال إن هذآ إلا سحر يؤثر (24) إن هذآ إلا قول
البشر (25) سأصليه سقر (26) ومآ أدراك ما سقر (27) لا تبقى ولا
تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة عشر (30))
(المدثر): المتدثر بثيابه، وهو لابس الدثار، وهو ما فوق الشعار، والشعار:
الثوب الذي يلي الجسد، ومنه الحديث: " الأنصار شعار والناس دثار " (1). (قم)
من نومك (فأنذر) قومك، أو: قم قيام عزم وتصميم فحذر قومك من عذاب الله
إن لم يؤمنوا، والأوجه أن يكون المعنى: فافعل الإنذار، من غير تخصيص.
(وربك فكبر) واختص ربك بالتكبير، وهو أن تصفه بالكبرياء، أو: قل: الله أكبر،
وقد حمل أيضا على التكبير في الصلاة، ودخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنه قال:
وما كان فلا تدع تكبيره.
(وثيابك فطهر) ها من النجاسات، لأن طهارة الثياب شرط في صحة
الصلاة، وعن قتادة: الثياب عبارة عن النفس، أي: ونفسك فطهر مما يستقذر من
الأفعال (2)، يقال: فلان طاهر الثياب ونقي الجيب والذيل، إذا وصف بالنقاء من
المعائب والرذائل، لأن الثوب يشتمل على الإنسان فكنى به عنه، كما قيل:

(1) رواه مسلم في الصحيح: ج 2 ص 738 قطعة ح 1061 باسناده عن عبد الله بن زيد. ومعنى
الحديث: أن الأنصارهم البطانة والخاصة، وهم ألصق الناس بي من سائر الناس.
(2) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 298.
670

أعجبني زيد ثوبه، وقيل: معناه: وثيابك فقصر (1)، إذ لا يؤمن في تطويلها إصابة
النجاسة.
(والرجز) قرئ بكسر الراء (2) وضمها، وهو العذاب، والمعنى اهجر ما
يؤدي إليه عبادة الأوثان وغيرها، أي: واثبت على هجره لأنه صلوات الله عليه
كان منزها عنه.
(ولا تمنن تستكثر) أي: ولا تعط مستكثرا، رائيا لما تعطيه كثيرا، أو طالبا
للكثير، نهي عن الاستغزار، وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب
له أكثر من الموهوب، وهذا جائز. ومنه الحديث: " المستغزر يثاب من هبته " (3).
وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون نهيا خاصا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن الله عز اسمه
اختار له أحسن الأخلاق، والآخر: أن يكون نهي تنزيه لا نهي تحريم. (ولربك
فاصبر) ولوجه ربك فاستعمل الصبر على أذى المشركين وعلى أداء الطاعات.
والفاء في (فإذا نقر في الناقور) للتسبيب، كأنه قال: فاصبر على أذاهم فبين
أيديهم (يوم عسير) يلقون فيه مغبة أذاهم، والفاء في (فذلك) للجزاء، وانتصب
(إذا) بما دل عليه الجزاء، لأن المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على
الكافرين، ولا يجوز وقوع (يومئذ) ظرفا ل‍ (عسير) لأن الصفة لا تعمل فيما
قبل الموصوف، وإنما يتعلق ب‍ (ذلك) لأن (ذلك) كناية عن المصدر، والتقدير:
فذلك النقر في ذلك اليوم نقر يوم عسير، وعن مجاهد: معناه: فإذا نفخ في
الصور (4)، واختلف في أنها النفخة الأولى أم الثانية. وإنما قال: (غير يسير)

(1) قاله طاووس. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 137.
(2) وهي قراءة الجمهور إلا حفصا. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 659.
(3) انظر النهاية لابن الأثير: مادة " غزر " وقال: المستغزر: الذي يطلب أكثر مما يعطي.
(4) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 304.
671

وقوله: (عسير) يغني عنه، ليؤذن أنه لا يكون عليهم يسيرا كما يكون على
المؤمنين، فيكون جمعا بين وعيد الكافرين ووعد المؤمنين.
(ذرنى ومن خلقت‍) - ه (وحيدا) أي: متوحدا بخلقه، يعني: وليد بن المغيرة،
يريد: دعني وإياه، وخل بيني وبينه، فإني أجزئك في الانتقام منه عن كل منتقم،
فهو حال من الله على معنيين: بمعنى: ذرني وحدي معه، أو خلقته وحدي، أو:
حال من المخلوق بمعنى: خلقته وهو وحيد فريد لا مال له. وروي عن الباقر (عليه السلام)
أن الوحيد من لا يعرف له أب (1).
(مالا ممدودا) أي: مبسوطا كثيرا، عن ابن عباس (2): هو ما كان له بين مكة
والطائف من صنوف الأموال، من الإبل المؤبلة، والخيل المسومة، والمستغلات
التي لا تنقطع غلاتها، وكان له مائة ألف دينار، وعشر (بنين شهودا) أي: حضورا
معه بمكة لا يغيبون عنه؛ لغناهم عن ركوب السفر للتجارة، أسلم منهم ثلاثة:
خالد بن الوليد، وهشام، وعمارة. (ومهدت له تمهيدا) أي: وبسطت له الجاه
العريض والرئاسة في قومه. (ثم يطمع أن أزيد) استبعادا لطمعه وحرصه.
(كلا) ردع له وقطع لطمعه (إنه كان لايتنا عنيدا) تعليل للردع على وجه
الاستئناف، أي: كان معاندا لحججنا وآياتنا مع معرفته بها، كافرا بذلك لنعمنا،
والكافر لا يستحق المزيد، وروي: أنه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان
من ماله حتى هلك (3). (سأرهقه صعودا) سأغشيه عقبة شاقة المصعد، وهو مثل
لما يلقى من العقوبة الشديدة التي لا تطاق.
(إنه فكر) تعليل للوعيد، أو: بدل من (إنه كان لايتنا عنيدا)، بيانا لكنه

(1) رواه العياشي في تفسيره كما في مجمع البيان: ج 10 ص 387.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 647.
(3) رواه مقاتل. راجع البحر المحيط لأبي حيان: ج 8 ص 373.
672

عناده، ومعناه: إنه فكر ماذا يقول في القرآن (وقدر) في نفسه ما يقول له وهيأه.
(فقتل كيف قدر) تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحز (1) ورميه فيه الغرض،
أو: ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به، يقول القائل: قتله الله ما أشجعه! وقاتله الله
ما أشعره! ومعناه: أنه حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك.
وروي (2): أن الوليد قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما، ما
هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه
لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى، فقالت قريش: صبا (3) والله الوليد،
والله ليصبأن قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا وكلمه بما
أحماه (4)، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق؟
وتقولون: إنه كاهن، فهل رأيتموه يحدث فيما يتحدث به الكهنة؟ وتزعمون أنه
شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط؟ وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا
من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك: اللهم لا، قالوا له: فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلا
ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما يقوله (سحر
يؤثر) عن أهل بابل، فتفرقوا معجبين متعجبين منه. (ثم نظر) في وجوه الناس
(ثم) قطب وجهه مدبرا، وتشاوس مستكبرا لما خطرت بباله هذه الكلمة الشنعاء
وقيل: (قدر) ما يقوله (ثم نظر) فيه (ثم عبس) لما ضاقت عليه الحيل
ولم يدر ما يقول (5).

(1) أي: القطع. (لسان العرب).
(2) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 309 عن ابن عباس.
(3) صبا: أي مال. (الصحاح).
(4) أحماه: أي أثار حميته وعصبيته. (لسان العرب).
(5) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 649.
673

(سأصليه سقر) بدل من (سأرهقه صعودا)، (لا تبقى) شيئا يلقى فيها إلا
أهلكته (ولا تذر) ه من الهلاك، بل كل ما يلقى فيها هالك لا محالة. (لواحة)
من: لوح الهجير، والبشر: أعالي الجلود، أي: مغيرة للجلود، وقيل: لافحة لها حتى
تدعها أشد سوادا من الليل (1). (عليها تسعة عشر) من الملائكة هم خزنتها،
وقيل: تسعة عشر صنفا (2).
(وما جعلنآ أصحب النار إلا ملئكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة
للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتب ويزداد الذين ءامنوا إيمنا
ولا يرتاب الذين أوتوا الكتب وا لمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم
مرض والكفرون ماذآ أراد الله بهذا مثلا كذا لك يضل الله من يشآء
ويهدى من يشآء ومآ يعلم جنود ربك إلا هو وما هى إلا ذكرى
للبشر (31) كلا والقمر (32) والليل إذ أدبر (33) والصبح إذ آ أسفر (34)
إنها لأحدى الكبر (35) نذيرا للبشر (36) لمن شآء منكم أن يتقدم أو
يتأخر (37) كل نفس بما كسبت رهينة (38) إلا أصحب اليمين (39) في
جنت يتسآءلون (40) عن المجرمين (41) ما سلككم في سقر (42) قالوا
لم نك من المصلين (43) ولم نك نطعم المسكين (44) وكنا نخوض مع
الخآئضين (45) وكنا نكذب بيوم الدين (46) حتى أتانا اليقين (47)
فما تنفعهم شفعة الشفعين (48) فما لهم عن التذكرة معرضين (49)
كأنهم حمر مستنفرة (50) فرت من قسورة (51) بل يريد كل امرئ منهم
أن يؤتى صحفا منشرة (52) كلا بل لا يخافون الأخرة (53) كلا إنه

(1) قاله مجاهد. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 416.
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 650.
674

تذكرة (54) فمن شآء ذكره (55) وما يذكرون إلا أن يشآء الله هو أهل
التقوى وأهل المغفرة (56))
روي: أن أبا جهل قال لقريش بعد نزول الآية: أتسمعون أن ابن أبي كبشة
يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم الشجعاء، أفيعجز كل عشرة منكم
أن يبطشوا بواحد منهم؟! فقال أبو الأسد الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشرة فاكفوني
أنتم اثنين! فنزل (1): (وما جعلنآ أصحب النار إلا ملئكة) أي: وما جعلناهم
رجالا من جنسكم فتطيقونهم (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) أي: وما
جعلناهم على هذا العدد إلا فتنة للذين لم يؤمنوا بالله وبحكمته، ولم يذعنوا إذعان
المؤمنين فيتعرضون ويستهزئون. كأنه قال: جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن
بها لأجل استيقان أهل الكتاب، لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين (2)، فإذا
سمعوا أيقنوا أنه منزل من الله، وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك، ولما رأوا
من تصديق أهل الكتاب به، وانتفاء ارتياب أهل الكتاب والمؤمنين.
وأفاد اللام في (ليقول) معنى السبب وإن لم يكن غرضا، و (مثلا) تمييز أو
حال، والعامل معنى الإشارة في (هذا)، وسموه (مثلا) استعارة من المثل
المضروب؛ استغرابا منهم لهذا العدد، يعنون: أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟
وأي غرض في أن جعلهم تسعة عشر لا عشرين؟ ومرادهم الإنكار، والكاف في
موضع نصب، أي: مثل ذلك الإضلال والهدى (يضل الله) الكافرين (ويهدى)
المؤمنين. والمعنى: أنه يفعل فعلا حسنا على مقتضى الحكمة، فيراه المؤمنون
صوابا حسنا فيزيدهم إيمانا وهدى، وينكره الكافرون فيزيدهم كفرا وضلالا.

(1) رواه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 417 عن ابن عباس والضحاك، وفيه: " أبو الأشد
الجمحي ".
(2) أراد: التوراة والإنجيل.
675

(وما يعلم جنود ربك) وما عليه كل جند من العدد وما فيه من الحكمة
(إلا هو)، ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، كما لا يعرف الحكمة في أعداد
السماوات والكواكب والبروج، وأعداد الصلوات والنصب في الزكوات، وغير
ذلك، أو: (ما يعلم جنود ربك) لفرط كثرتها (إلا هو) فلا يعز عليه تتميم الزبانية
عشرين، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا يعلمها إلا هو (وما هى إلا
ذكرى للبشر) متصل بوصف (سقر)، و (هى) ضميرها، أي: وما سقر وصفتها
إلا تذكرة للبشر، أو: ضمير الآيات التي ذكرت فيها.
(كلا) إنكار بعد أن جعلها ذكرى، أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون.
" دبر " و " أدبر " بمعنى واحد، ومنه قولهم: صاروا كأمس الدابر، وقيل: هو من: دبر
الليل النهار: إذا خلفه (1)، وقرئ: " إذا دبر " (2). (إنها لإحدى الكبر): " الكبرى "
تأنيث " الأكبر "، جعلت ألف التأنيث كتائها، فكما جمعت " فعلة " على " فعل "
جمعت " فعلى " على " فعل "، أي: لإحدى الدواهي الكبر، بمعنى: أنها واحدة في
العظم من بينهن لا نظيرة لها. (نذيرا) تمييز من (إحدى) على معنى: إنها
لإحدى البلايا إنذارا، كما يقال: فلانة إحدى النساء عفافا. وقيل: هي حال (3).
(أن يتقدم) في موضع الرفع بالابتداء، و (لمن شاء) خبر مقدم عليه،
كما تقول: لمن توضأ أن يصلي، ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم
(أو يتأخر)، والمراد بالتقدم والتأخر: السبق إلى الخير والتأخر عنه، ونحوه:
(فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر) (4)، ويجوز أن يكون (لمن شاء) بدلا من

(1) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 275.
(2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 659.
(3) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 249.
(4) الكهف: 29.
676

(للبشر) على أنها منذرة للمكلفين الممكنين الذين إن شاؤوا تقدموا ففازوا وإن
شاؤوا تأخروا فهلكوا.
و (رهينة) ليست بتأنيث " رهين " لأن " فعيلا " بمعنى " مفعول " يستوي فيه
المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى " الرهن " كالشتيمة بمعنى " الشتم "، كأنه
قال: (كل نفس بما كسبت) رهين، ومثله بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب * رهينة رمس ذي تراب وجندل (1)
أي: رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله، غير مفكوك.
(إلا أصحب اليمين) فإنهم فكوا رقابهم عنه بإيمانهم وطاعاتهم كما يفك الراهن
رهنه بأداء الحق. (في جنت) أي: هم في جنات لا يكتنه وصفها (يتسآءلون)
يسأل بعضهم بعضا (عن المجرمين)، أو: يتساءلون غيرهم عنهم، كقوله: دعوته
وتداعيناه. (ما سلككم في سقر) هذه حكاية قول المسؤولين عن المجرمين
لأنهم يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون: قلنا لهم: ما
سلككم في سقر؟ (قالوا لم نك من المصلين) إلا أنه جاء على الحذف
والاختصار. (وكنا نخوض) أي: نشرع في الباطل ونغوي مع الغاوين. وأخر
التكذيب على معنى: أنهم بعد ذلك كله مكذبين (بيوم الدين) تعظيما للتكذيب.
(حتى أتنا اليقين) وهو الموت ومقدماته. (فما تنفعهم شفعة الشفعين) من
الملائكة والنبيين وغيرهم كما ينفع الموحدين.
(فما لهم عن التذكرة) عن التذكير وهو القرآن وغيره من المواعظ
(معرضين) حال، كما تقول: ما لك قائما؟ (كأنهم حمر مستنفرة) شديدة النفار

(1) لعبد الرحمن بن زيد العذري، قد قتل أبوه فعرض عليه فيه سبع ديات فأبى إلا الثأر وأنشأ
يقوله. والنعف: المكان المرتفع والجبل، والكويكب: جبل بعينه. راجع شرح شواهد
الكشاف: ص 553.
677

وحشية، كأنها تطلب النفار من نفوسها في حملها عليه، وقرئ بفتح الفاء (1) وهي
المنفرة المحمولة على النفار. (فرت من قسورة) هربت من أسد، وهي فعولة من
" القسر " وهو القهر والغلبة، وقيل: القسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها (2).
(صحفا منشرة) قراطيس تنشر وتقرأ، وكتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة
ساعة كتبت منشرة على أيديها لم تطو بعد، وذلك أنهم قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لن
نؤمن لك حتى تأتي كل واحد منا كتابا من السماء عنوانها: " من رب العالمين إلى
فلان ابن فلان " نؤمر فيها باتباعك!
(كلا) ردع لهم عن تلك الإرادة، وعن اقتراح الآيات (بل لا يخافون
الآخرة) فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف. (كلا) ردع عن
إعراضهم عن التذكرة (إنه تذكرة) مبهم أمرها، بليغة كافية في بابها. (فمن شآء)
أن يذكره ولا ينساه، ويجعله نصب عينيه فعل. والضمير في: (إنه) و (ذكره)
للتذكرة في قوله: (فما لهم عن التذكرة معرضين)، وإنما ذكر لأنها في معنى
الذكر أو القرآن.
(وما يذكرون إلا أن يشآء الله) إجبارهم على الذكر، لأنه علم أنهم
لا يشاؤونه اختيارا (هو أهل التقوى) هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه
فيؤمنوا ويطيعوا (وأهل المغفرة) وحقيق بأن يغفر لهم ذنوبهم إذا آمنوا به وأطاعوه.
وعن أنس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية فقال: " قال الله تعالى: أنا أهل أن
أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له " (3).

(1) قرأه نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 660.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 493.
(3) أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 2 ص 1437 ح 4299.
678

سورة القيامة
مكية (1)، وهي أربعون آية كوفي، تسع وثلاثون غيرهم، عد الكوفي:
(لتعجل به) (2).
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبرائيل يوم القيامة
أنه كان مؤمنا بيوم القيامة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من أدمن قراءة: (لا أقسم)، وكان يعمل بها بعثه الله معه
في قبره في أحسن صورة، يبشره ويضحك في وجهه حتى يجوز الصراط
والميزان " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(لا أقسم بيوم القيمة (1) ولا أقسم بالنفس اللوامة (2) أيحسب

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 189: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
أربعون آية في الكوفي، وتسع وثلاثون في البصري والمدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 657: مكية، وآياتها (40) نزلت بعد القارعة.
(2) الآية: 16.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 665 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 148 وفيه بدل " بعثه الله معه في قبره ": " بعثه الله عز وجل مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبره ".
679

الإنسن ألن نجمع عظامه (3) بلى قدرين على أن نسوى بنانه (4) بل
يريد الانسن ليفجر أمامه (5) يسل أيان يوم القيمة (6) فإذا برق
البصر (7) وخسف القمر (8) وجمع الشمس والقمر (9) يقول الانسن
يومئذ أين المفر (10) كلا لا وزر (11) إلى ربك يومئذ المستقر (12)
ينبؤا الانسن يومئذ بما قدم وأخر (13) بل الانسن على نفسه ى
بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره (15) لا تحرك به ى لسانك لتعجل به ى (16)
إن علينا جمعه وقرءانه (17) فإذا قرأنه فاتبع قرءانه (18) ثم إن علينا
بيانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الأخرة (21))
عن ابن عباس: معناه: أقسم بيوم القيامة (1)، و (لا) صلة، وقد استفاض
إدخال " لا " النافية على فعل القسم، قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري * لا يدعي القوم أني أفر (2)
وقال غيره:
فلا بك ما أبالي (3)
وفائدتها توكيد القسم، والوجه أن يقال: إنها للنفي، والمعنى: أنه لا يقسم
بالشيء إلا إعظاما له، كقوله: (فلا أقسم بموقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون
عظيم) (4)، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بمعنى: أنه يستأهل
فوق ذلك. وقيل: إن (لا) نفي لكلام ورد له قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث

(1) تفسير ابن عباس: ص 493.
(2) من قصيدته الطويلة في وصف صيده وفرسه. راجع ديوان امرئ القيس: ص 109 وفيه:
" فلا وأبيك ".
(3) وتمام البيت: ألا نادت أمامة باحتمال... لتحزنني، لغوثة بن سلمى بن ربيعة. راجع شرح
شواهد الكشاف: ص 578.
(4) الواقعة: 75 و 76.
680

فقيل: لا، أي: ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل: (أقسم بيوم القيمة) (1).
وقرئ: " لأقسم " (2)، على أن اللام للابتداء، و (أقسم) خبر مبتدأ محذوف، أي:
لأنا أقسم.
(النفس اللوامة) التي تلوم النفوس في يوم القيامة على تقصيرهن في
التقوى، أو: التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان، وعن الحسن: أن
المؤمن لا تراه إلا لائما نفسه، وأن الفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه (3). وجواب
القسم ما دل عليه قوله:
(أيحسب الإنسن أن لن نجمع عظامه) وهو ليبعثن، أي: نجمعها بعد تفرقها
ورجوعها رفاتا مختلطا بالتراب. (بلى) إيجاب لما بعد النفي وهو الجمع، فكأنه
قال: بلى نجمعها، و (قدرين) حال من الضمير في (نجمع)، أي: نجمع العظام
قادرين على إعادتها إلى التركيب الأول، إلى (أن نسوى بنانه) أي: أصابعه التي
هي أطرافه كما كانت أولا على صغرها ولطافتها، فكيف كبار العظام؟ وقيل: معناه:
(بلى) نجمعها ونحن قادرون (على أن نسوى) أصابع يديه ورجليه، أي:
نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يمكنه أن يعمل شيئا
مما كان يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من البسط والقبض وأنواع
الأعمال (4).
(بل يريد الانسن) عطف على: (أيحسب) فيجوز أن يكون استفهاما

(1) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 207.
(2) قرأه الحسن البصري وعبد الرحمن الأعرج وقنبل عن ابن كثير. راجع التذكرة في القراءات
لابن غلبون: ج 2 ص 742.
(3) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 377.
(4) قاله ابن عباس وعكرمة والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 12
ص 328.
681

مثله، وأن يكون إيجابا (ليفجر أمامه) ليدوم على فجوره فيما بين يديه من
الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن سعيد بن جبير: يقدم الذنب
ويؤخر التوبة ويقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أعماله (1).
(يسئل) سؤال متعنت مستبعد ليوم القيامة في قوله: (أيان يوم القيمة)
ونحوه: (ويقولون متى هذا الوعد) (2).
(فإذا برق البصر) أي: شخص البصر وتحير من شدة الفزع، وأصله من: برق
الرجل: إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، وقرئ: " برق " (3) من البريق أي: لمع من
شدة شخوصه. (وخسف القمر) ذهب نوره. (وجمع الشمس والقمر) حيث
يطلعهما الله من المغرب، وقيل: جمعا في ذهاب الضوء (4). (أين المفر) أين
الفرار.
(كلا) ردع من طلب المفر (لا وزر) لا ملجأ ولا مهرب، والوزر: ما
يتحصن به من جبل أو غيره. (إلى ربك) خاصة (يومئذ المستقر) مستقر العباد
أي: استقرارهم، لا يقدرون أن ينصبوا إلى غيره، أو: إلى حكمه يرجع أمور العباد
لا يحكم فيها غيره، أو: معناه: مفوض إلى مشيئة ربك يومئذ موضع قرارهم من
جنة أو نار، من شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار. (ينبؤا الإنسن يومئذ بما
قدم) من عمل الخير والشر (و) بما (أخر) من سنة حسنة أو سيئة عمل بها

(1) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 421.
(2) يونس: 48، الأنبياء: 38، النمل: 71، وغيرها.
(3) قرأه نافع وأبان عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 661.
(4) وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 192 وقال: والجمع: جعل أحد الشيئين مع
الآخر، والجمع على ثلاثة أقسام: جمع في المكان، وجمع في الزمان، وجمع الأعراض في
المحل. وجمع الشيئين في حكم أو صفة مجاز.
682

بعده، أو: بما قدم من ماله لنفسه وبما خلفه لورثته بعده، وعن مجاهد: بأول عمله
وآخره (1).
(بل الانسن على نفسه بصيرة) أي: حجة بينة وصفت بالبصارة على
المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله: (فلما جاءتهم ءاياتنا مبصرة) (2)،
أو: عين بصيرة. والمعنى: أنه ينبأ بأعماله، وإن لم ينبأ ففيه ما يجزي عن التنبئة (3)،
لأنه شاهد عليها بما عملت لأن جوارحه تشهد عليه. (ولو ألقى معاذيره) ولو
جاء بكل معذرة يتعذر بها عن نفسه ويجادل عنها، وعن السدي: ولو أرخى
ستوره (4)، والمعاذير: الستور، واحدها: معذار، لأن الستر يمنع رؤية المحتجب
كما أن المعذرة تمنع عقوبة المذنب.
(لا تحرك به لسانك) الضمير للقرآن، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لقن الوحي
نازع جبرائيل (عليه السلام) القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ، وخوفا من
النسيان (5)، فأمر أن يستنصت له، ملقيا إليه بقلبه وسمعه حتى يقضى إليه وحيه.
والمعنى: لا تحرك بقراءة الوحي لسانك ما دام جبرائيل يقرأ (لتعجل به) لتأخذه
على عجلة ولئلا ينفلت منك. ثم علل النهي عن العجلة بقوله: (إن علينا جمعه)
في صدرك وإثبات قراءته في لسانك. (فإذا قرأنه) جعل قراءة جبرائيل قراءته،
والقرآن: القراءة (فاتبع قرءانه) فكن مقفيا له فيه ولا تراسله، فنحن في ضمان
تحفيظه لك. (ثم إن علينا بيانه) إذا أشكل عليك شيء من معانيه، كأنه (عليه السلام)

(1) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 10 ص 195.
(2) النمل: 13.
(3) في نسخة: " البينة ".
(4) حكاه عنه الشيخ في التبيان المتقدم.
(5) أورد هذه العبارة المصنف رحمه الله عن الكشاف، ولا يخفى ما فيه، إذ لا يجوز - على
مذهبنا - عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الخطأ ولا النسيان أبدا.
683

كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا.
(كلا) ردع لرسول الله عن عادة العجلة، وحث له على تكرير القراءة على
قومه بالتؤدة ليتقرر ذلك في قلوبهم، لأنهم غافلون عن الأدلة، لا يتدبرون القرآن
وما فيه من البيان. " بل يحبون العاجلة " (1) أي يختارون الدنيا ويتركون الاهتمام
بأمور الآخرة، فلا غنى بك معهم من إعادة القول وتكريره، وزيادة التنبيه
وتقريره، وقرئ: (تحبون) و (تذرون)، بالتاء على معنى: قل لهم.
(وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ
باسرة (24) تظن أن يفعل بها فاقرة (25) كلا إذا بلغت التراقى (26) وقيل
من راق (27) وظن أنه الفراق (28) والتفت الساق بالساق (29) إلى
ربك يومئذ المساق (30) فلا صدق ولا صلى (31) ولكن كذب
وتولى (32) ثم ذهب إلى أهله ى يتمطى (33) أولى لك فأولى (34) ثم
أولى لك فأولى (35) أيحسب الانسن أن يترك سدى (36) ألم يك
نطفة من منى يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38) فجعل منه
الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذا لك بقدر على أن يحىى
الموتى (40))
الوجه: عبارة عن الجملة، والناضرة: من نضرة النعيم والبهجة. (إلى ربها
ناظرة) تنظر إلى ربها خاصة، لا تنظر إلى غيره، وهذا هو المعنى في تقديم
المفعول، ألا ترى إلى قوله: (إلى ربك يومئذ المستقر) (2) (إلى ربك يومئذ

(1) الظاهر أن المصنف يميل إلى قراءة الياء فيهما، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر.
راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 661.
(2) الآية: 12 المتقدمة.
684

المساق) (1) (إلى الله المصير) (2) (عليه توكلت وإليه أنيب) (3) كيف دل
التقديم فيها وفي أمثالها على معنى الاختصاص. ومعلوم أنهم ينظرون في المحشر
إلى أشياء كثيرة لا يحيط بها الحصر، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان سبحانه
منظورا إليه محال، فلابد من حمله على معنى يصح فيه الاختصاص، وذلك أن
يكون من باب قولهم: أنا إليك ناظر ما تصنع به، يريدون معنى الرجاء والتوقع،
ومنه قول جميل (4):
وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك زدتني نعما (5)
وقول الآخر:
إني إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر (6)
وعلى هذا فيكون معناه: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما
كانوا في الدنيا، كذلك لا يخافون ولا يرجون إلا إياه، وقيل: إن (إلى) اسم، وهو
واحد " الآلاء " التي هي النعم (7)، وهو منصوب الموضع، أي: نعمة ربها منتظرة،
وقيل: هو على حذف المضاف، والمراد: إلى ثواب ربها ناظرة (8).

(1) الآية: 30.
(2) آل عمران: 28، النور: 42، فاطر: 18.
(3) هود: 88، الشورى: 10.
(4) كذا في النسخ، والصحيح هو من قول طريح بن إسماعيل الثقفي شاعر البلاط الأموي،
الذي أكثر من مدح الوليد بن يزيد الأموي. ولعله من شطحات النساخ.
(5) يقول: وإذا رجوت مكارمك زدتني نعما، فالنظر إليه كناية عن ذلك. وقوله: البحر دونك
اي: أقل منك في الخيرات والمكارم. راجع شرح شواهد الكشاف: ص 508.
(6) لجميل بن معمر المشهور بجميل بثينة، والبيت من قصيدة له معاتبا إياها على تخلفها
وعدها له.
انظر ديوان جميل بثينة: ص 40، وفيه: " المكثر " بدل " الموسر ".
(7) قاله بعض المعتزلة. راجع مشكل اعراب القرآن للقيسي: ص 779.
(8) حكاه ابن عطية عن بعض المعتزلة. راجع البحر المحيط لأبي حيان: ج 8 ص 389.
685

(ووجوه يومئذ باسرة) أي، كالحة، عابسة، شديدة العبوس. (تظن) أي:
تتوقع (أن يفعل بها) فعل هو في فظاعته وصعوبته (فاقرة) داهية تقصم فقار
الظهر، كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير وكرامة.
(كلا) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قال: ارتدعوا عن ذلك،
وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده، وتذرون العاجلة، وتنتقلون إلى
الآجلة وتبقون فيها، والضمير في (بلغت) للنفس وإن لم يجر لها ذكر لدلالة
الكلام عليه كما في قول حاتم:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (1)
(التراقى) العظام المكتنفة لثغرة النحر. (وقيل من راق) أي: وقال من
حضره من أهل أو صديق بعضهم لبعض: أيكم يرقيه مما به؟ وقيل: هو من كلام
ملائكة الموت: أيكم يرقى بروحه، ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ (2) (وظن)
هذا المحتضر (أنه الفراق) أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة. (والتفت)
ساقه بساقه والتوت عليها، وعن قتادة: ماتت رجلاه فلا تحملانه وقد كان عليهما
جوالا (3)، وعن ابن عباس: التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا (4)، على أن الساق
مثل في الشدة. (إلى) حكم (ربك يومئذ) مساقه ومساق الخلائق.

(1) البيت من قصيدة يخاطب بها امرأته ماوية بنت عبد الله بعدما هجرته مغضبة لإسرافه في
العطاء. انظر ديوان حاتم الطائي: ص 83. وفيه: " أماوي " بدل " لعمرك "، و " نفس " بدل
" يوما ".
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 494.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 663.
(4) تفسير ابن عباس: ص 494.
686

(فلا صدق ولا صلى) أي: لم يتصدق ولم يصل، أو: لم يصدق بالرسول
والقرآن، قيل: نزلت في أبي جهل (1). (يتمطى) أي: يتبختر، وأصله: يتمطط أي:
يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه، والمعنى: (ولكن كذب) برسول الله وكتابه
(وتولى) وأعرض. (ثم ذهب إلى) قومه يختال في مشيته ويتبختر افتخارا
بذلك. (أولى لك فأولى) بمعنى: ويل لك فويل، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره.
وقيل: وليك الشر في الدنيا فوليك، ثم وليك الشر في الآخرة فوليك، والتكرار
للتأكيد (2).
(أن يترك سدى) أي: مهملا لا يؤمر ولا ينهى، والهمزة للإنكار. (ألم يك
نطفة) أي: كيف يحسب أن يهمل وهو يرى في نفسه من تنقل الأحوال ما يستدل
به على أن له صانعا حكيما، أكمل عقله وأقدره، وخلق فيه الشهوة؟ فيعلم أنه لا
يجوز أن يكون مخلى عن التكليف (يمنى) أي: يقدر خلق الإنسان منه، وقيل:
يصب في الرحم (3)، وقرئ بالتاء (4)، حملا على: " نطفة " (فخلق) منها خلقا في
الرحم (فسوى) فعدل صورته وأعضاءه الظاهرة والباطنة في بطن أمه، أو: فسواه
إنسانا بعد الولادة. (فجعل منه) من الإنسان (الزوجين) الصنفين (الذكر
والأنثى أليس ذلك) الذي أنشأ هذا الإنشاء (بقدر) على الإعادة؟
وفي الحديث: أنه (عليه السلام) كان إذا قرأها قال: " سبحانك اللهم وبلى " (5).

(1) قاله مجاهد وابن زيد وقتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 351.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 254.
(3) قاله الضحاك وعطاء. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 255.
(4) قرأه ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 662.
(5) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 363 عن أبي هريرة، وعزاه إلى ابن مردويه.
687

سورة الإنسان (1)
مختلف فيها (2)، والصحيح أنها مدنية، وقيل: إن قوله: (إنا نحن نزلنا...) إلى
آخر السورة مكي، والباقي مدني (3). إحدى وثلاثون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله جنة
وحريرا " (4).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة (هل أتى) في كل غداة خميس زوجه الله
من الحور العين مائة عذراء، وأربعة آلاف ثيب وحورا من الحور العين، وكان مع
محمد وآله عليهم السلام " (5).

(1) في بعض النسخ: " سورة هل أتى ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 204: وتسمى سورة الانسان، وتسمى سورة
الأبرار، وهي مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما، وقال قوم: هي مدنية وهي إحدى
وثلاثون آية بلا خلاف.
وفي تفسير البغوي: ج 4 ص 426: قال عطاء: هي مكية، وقال مجاهد وقتادة: مدنية،
وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية الا آية وهي قوله: (فاصبر لحكم ربك...) الآية، وهي
إحدى وثلاثون آية.
وفي الكشاف: ج 4 ص 665: مدنية، وآياتها (31)، نزلت بعد الرحمن.
(3) أنظر تفسير الماوردي: ج 6 ص 161.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 676 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 148 - 149. وفيه: " ثمانمائة عذراء " و " كان مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ".
689

بسم الله الرحمن الرحيم
(هل أتى على الانسن حين من الدهر لم يكن شيا مذكورا (1)
إنا خلقنا الانسن من نطفة أمشاج نبتليه فجعلنه سميعا بصيرا (2) إنا
هدينه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (3) إنآ أعتدنا للكفرين سلسلا
وأغللا وسعيرا (4) إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5)
عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر ويخافون
يوما كان شره مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما
وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا (9) إنا
نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا (10) فوقاهم الله شر ذا لك اليوم
ولقلهم نضرة وسرورا (11) وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (12)
متكين فيها على الارآئك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13)
ودانية عليهم ظللها وذللت قطوفها تذليلا (14))
(هل) بمعنى " قد " في الاستفهام خاصة، والأصل: " أهل " بدلالة قوله:
أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم (1)
فالمعنى: أقد أتى، على التقرير والتقريب جميعا، أي: (أتى على الانسن)
قبل زمان قريب (حين من الدهر لم يكن) فيه (شيئا مذكورا) أي: كان شيئا
غير مذكور. وعن حمران بن أعين قال: سألت الصادق (عليه السلام) عنه، فقال: كان شيئا
مقدورا ولم يكن مكونا (2). والمراد بالإنسان جنس بني آدم، بدليل قوله:

(1) وصدره: سائل فوارس يربوع بشدتنا. لزيد الخيل الذي سماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زيد الخير.
يقول: سل بني يربوع عن قوتنا وصولاتنا عليهم. انظر شرح شواهد الكشاف: ص 478.
(2) رواه العياشي في تفسيره كما في مجمع البيان: ج 10 ص 406. ونحوه في الكافي: ج 1
ص 147 ح 5 باسناده عن مالك الجهني عن أبي عبد الله (عليه السلام).
690

(إنا خلقنا الإنسان من نطفة) وقيل: المراد به آدم (عليه السلام) (1).
وعن عمر بن الخطاب: أنها تليت عنده فقال: ليتها تمت (2). أراد تلك الحالة
تمت ولم يخلق ولم يكلف.
و (نطفة أمشاج) مثل: برمة أعشار، ويقال: نطفة مشج، وليس " أمشاج "
بجمع له، بل هما مثلان في الإفراد، يوصف المفرد بهما، ومشجه ومزجه بمعنى،
والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان: ماء الرجل وماء المرأة، وعن قتادة:
أمشاج: أطوار: طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما، إلى أن صار
إنسانا (3). (نبتليه) في محل النصب على الحال، أي: خلقناه مبتلين له، أي:
مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي: قاصدا به الصيد
غدا. (شاكرا) و (كفورا) حالان من الهاء في (هدينه) أي: بينا له الطريق،
ونصبنا له الأدلة، وأزحنا العلة ومكناه في حالتيه جميعا.
ولما ذكر " الشاكر " و " الكافر " أتبعهما الوعيد والوعد. قرئ: (سلسلا)
منونا (4) وغير منون، وفي التنوين وجهان: أحدهما: أن تكون هذه النون بدلا
من حرف الإطلاق، وأجري الوصل مجرى الوقف، والآخر: أنه صرف غير
المنصرف على عادة الشعراء.
(الأبرار) جمع " بر " أو " بار " ك‍ " رب " و " أرباب "، و " صاحب "

(1) قاله قتادة وسفيان. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 353.
(2) رواه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 426.
(3) حكاه عنه الشيخ في التبيان: ج 10 ص 206.
(4) هي قراءة نافع والكسائي وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 663.
691

و " أصحاب ". وقد أجمع أهل البيت (عليهم السلام) (1) وأكثر المفسرين (2) على أن المراد
بهم: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام).
وروى علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد الله بن ميمون، عن
الصادق (عليه السلام) قال: كان عند فاطمة (عليها السلام) شعير فجعلوه عصيدة، فلما وضعوها بين
أيديهم جاء مسكين فقال: رحمكم الله، فقام علي (عليه السلام) فأعطاه ثلثها، فلم يلبث أن
جاء يتيم، فقال اليتيم: رحمكم الله، فقام علي (عليه السلام) فأعطاه الثلث، ثم جاء أسير،
فقال الأسير: رحمكم الله، فأعطاه الثلث الباقي وما ذاقوها، فأنزل الله الآيات
فيهم، وهي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز اسمه (3).
وروي أيضا: أنهم أطعموا الطعام في ثلاث ليال وطووها (عليهم السلام) ولم يفطروا
على شيء من الطعام، وكانوا قد نذروا هم وجارية لهم - تسمى فضة - صوم هذه
الأيام، فأوفوا بنذرهم فنزلت في الثناء عليهم (4)، وأعظم بها شرفا وفضلا.
والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر، وتسمى الخمر نفسها كأسا
(مزاجها) ما يمزج بها (كافورا) ماء كافور، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في
بياض الكافور ورائحته وبرده، و (عينا) بدل منه. وعن مجاهد: ليس ككافور

(1) انظر تفسير فرات الكوفي: ص 196، وأمالي الصدوق: ص 212 ح 11، والخرائج
والجرائح: ج 2 ص 539 ح 15.
(2) أورده الحاكم الحسكاني في الشواهد: ج 2 ص 405 وما بعده عن ابن عباس ومجاهد
وسعيد بن جبير وعطاء وزيد بن أرقم والحسن البصري وعكرمة. وزاد ابن شهر آشوب في
المناقب: ج 4 ص 2: ابن مسعود ومقاتل والليث وابن مهران وعمرو بن شعيب والواحدي
والثعلبي والنحاس والقشيري.
(3) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2 ص 422 - 423.
(4) رواه الصدوق في الأمالي: ص 212 ح 11 باسناده من طريقين عن ابن عباس وآخر عن
الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام). ورواه أيضا الحاكم الحسكاني في الشواهد: ج 2 ص 398 وما
بعده من طرق عن ابن عباس.
692

الدنيا (1)، وعن قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك (2)، وقيل: تخلق
فيها رائحة الكافور وبياضه وبرده فكأنها مزجت بالكافور (3). و (عينا) على
هذين القولين بدل من " كأسا " على تقدير حذف مضاف، كأنه قال: ويسقون فيها
خمرا خمر عين، أو: نصب على الاختصاص. (يشرب بها) أي: يشرب عباد الله
بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل (يفجرونها) يجرونها حيث شاءوا من
منازلهم (تفجيرا) سهلا لا يمتنع عليهم. (يوفون بالنذر) حال أو استئناف،
يقال: وفى بنذره وأوفى به (كان شره مستطيرا) أي: فاشيا منتشرا، والمراد
بالشر: أهوال ذلك اليوم وشدائده.
(ويطعمون الطعام على حبه) الضمير للطعام، أي: مع اشتهائه والحاجة إليه،
ونحوه: (وءاتى المال على حبه) (4) وقيل: على حب الله تعالى (5).
وعن الحسن: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض
المسلمين فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين والثلاثة (6).
وعن قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه (7).
وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون (8).
(إنما نطعمكم) على إرادة القول، وعن سعيد بن جبير ومجاهد: أنهم لم

(1) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 427.
(2) نفس المصدر السابق.
(3) حكاه البغوي في تفسيره المتقدم ونسبه إلى أهل المعاني.
(4) البقرة: 177.
(5) قاله الفضيل بن عياض. راجع البحر المحيط: ج 8 ص 395.
(6) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 668.
(7) رواه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 360.
(8) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 668.
693

يتكلموا بذلك، ولكن علم الله ما في قلوبهم فأثنى به عليهم (1). أي: لا نطلب بهذا
الإطعام مكافأة عاجلة، ولا أن تشكرونا عليه، إذ هو مفعول لوجه الله، فلا معنى
لمكافأة الخلق، و " الشكور " مصدر كالشكر، مثل: الكفور والكفر. (إنا نخاف)
يحتمل أن يراد: أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا للمكافأة، وأن
يراد: إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة
(يوما عبوسا) مثل قولك: نهارك صائم، وصف اليوم بصفة أهله، أو: شبه اليوم في
شدته بالأسد العبوس (قمطريرا) صعبا شديدا.
(فوقهم الله شر ذلك اليوم) أي: كفاهم شدائده وأهواله (ولقهم نضرة
وسرورا) أي: أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في
القلوب، وهذا يدل على أن " اليوم " موصوف بعبوس أهله. (وجزاهم بما
صبروا) أي: وجزاهم بصبرهم على الإيثار وبما يؤدي إليه، من الجوع والعري
(جنة) فيها مأكل هنيء (وحريرا) فيه ملبس بهي.
(لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) يعني: أن هواءها معتدل لا حر شمس
يحمي ولا زمهرير يؤذي. (ودانية عليهم ظللها) يجوز أن تكون معطوفة على
الجملة التي قبلها، وتكون حالا مثلها. والتقدير: غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا
ودانية عليهم ظلالها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين جميعا لهم، فكأنه
قال: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد ودنو الظلال عليهم.
ويجوز أن يكون (متكئين) و (لا يرون) و (دانية) كلها صفات الجنة، هذا
قول جار الله (2)، وعندي أنه ليس بالوجه، لأن اسم الفاعل إذا وصف به وكان

(1) رواه عنهما الطبري في تفسيره: ج 12 ص 361.
(2) في الكشاف: ج 4 ص 671.
694

فعلا لغير الموصوف وجب إبراز الضمير الذي فيه، وليس الاتكاء والدنو في الآية
للجنة، فالصحيح هو القول الأول. ويجوز في (ودانية) أن تنتصب على: وجزهم
جنة ولبس حرير ودخول جنة دانية عليهم ظلالها، فحذف المضاف (وذللت
قطوفها) أي: جعلت ثمارها مذللة لقطافها لا تمتنع عليهم كيف شاءوا، أو: جعلت
ذليلة لهم، خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل: إذا كان قصيرا، وعن مجاهد:
إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد أو اضطجع تذللت حتى تنالها يده (1).
(ويطاف عليهم بانية من فضة وأكواب كانت قواريرا (15)
قواريرا من فضة قدروها تقديرا (16) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها
زنجبيلا (17) عينا فيها تسمى سلسبيلا (18) ويطوف عليهم ولدان
مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا (19) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما
وملكا كبيرا (20) عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من
فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21) إن هذا كان لكم جزآء وكان
سعيكم مشكورا (22))
قرئ: (قواريرا قواريرا) غير منونين، وبالتنوين فيهما (2) وبالتنوين في
الأول منهما (3). وهذا التنوين بدل من حرف الإطلاق لأنه كالفاصلة من الشعر،
وفي الثاني لإتباعه الأول. ومعنى قوله: (قواريرا من فضة) أنها مخلوقة من
فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها، ومعنى (كانت):
أنها تكونت قوارير بتكوين الله إياها، وهو تفخيم لتلك الخلقة العجيبة الجامعة

(1) رواه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 364.
(2) قرأه عاصم برواية أبي بكر عنه ونافع والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 663 - 664.
(3) وهي قراءة ابن كثير وحده. راجع المصدر السابق.
695

بين صفتي الجوهرين المتباينين، ومثله: " كان " في قوله: (كان مزاجها كافورا)،
نحو " يكون " في قوله: (كن فيكون) (1). (قدروها) صفة ل‍ (قواريرا)
والمعنى: أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب
شهواتهم، فجاءت كما قدروا، وقيل: إن الضمير " للطائفين " بها عليهم، أي: قدروا
شرابها على قدر الري، وهو ألذ للشارب لكونه على قدر حاجته (2). وعن مجاهد:
لا تغيض ولا تفيض (3). وقرئ: " قدروها " بضم القاف (4)، والوجه فيه: أن يكون
من: " قدر " منقولا من " قدر "، تقول: قدرت الشيء، و: قدرنيه فلان: إذا جعلك
قادرا له، ومعناه: جعلوا قادرين لها كيف شاءوا على حسب ما اشتهوا.
(كان مزاجها زنجبيلا) العرب تستطيب الزنجبيل وتستلذه، قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبي‍ل * باتا بفيها وأريا مشورا (5)
وعن ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة ليس مثله في الدنيا،
ولكن سماه بما يعرف (6). وسميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها، يعني: أنها
في طعمه وليس فيها لذعة، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة، يقال: شراب سلسل
وسلسال وسلسبيل زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ودلت

(1) البقرة: 117، آل عمران: 47 و 59، الانعام: 73.
(2) قاله سعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 12
ص 367.
(3) رواه عنه الطبري في تفسيره المتقدم.
(4) قرأه ابن عباس والسلمي والشعبي ورووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام). راجع شواذ القرآن
لابن خالويه: ص 166.
(5) من قصيدة طويلة يمدح فيها هوذة بن علي الحنفي. والزنجبيل: نبات طيب الرائحة،
والأري: العسل، والمشهور: المجموع، انظر ديوان الأعشى: ص 87 وفيه: " كأن جنيا "،
و " خالط فاها " بدلا من " باتا بفيها ".
(6) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 430.
696

على غاية السلاسة، و (عينا) بدل من (زنجبيلا) وقيل: يمزج كأسهم
بالزنجبيل (1)، أو: يخلق الله طعمه فيها (2)، فعلى هذا القول يكون (عينا) بدلا من
(كأسا) كأنه قال: ويسقون فيها كأس عين، أو: منصوبة على الاختصاص.
(حسبتهم لؤلؤا منثورا) شبه الولدان المخلدون في حسنهم وصفاء ألوانهم
وانبثاثهم في مجالسهم للخدمة باللؤلؤ المنثور، أو: باللؤلؤ الرطب إذا نثر من
صدفه، لأنه أصفى ما يكون وأحسن. (وإذا رأيت): لا مفعول ل‍ (- رأيت) هنا،
لا ظاهرا ولا مقدرا، فكأنه قال: وإذا وجدت الرؤية (ثم)، والمعنى: أن بصر
الرائي أينما وقع لم يقع إلا على نعيم كثير وملك كبير، و (ثم) في محل نصب على
الظرف، أي: في الجنة (ملكا كبيرا) واسعا دائما لا يزول، وقيل: إذا أرادوا شيئا
كان (3)، وقيل: تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم (4).
(عليهم) وقرئ بالسكون (5) على أنه مبتدأ خبره (ثياب سندس) أي:
ما يعلوهم من اللباس ثياب سندس، وقرئ بالنصب على الحال، و (ثياب)
مرفوع به، أو: أجري " عال " مجرى " فوق " فانتصب على الظرف وسد مسد
الحال، أو: هو على معنى: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب، وقرئ: (خضر
وإستبرق) بالرفع حملا على " الثياب "، وبالجر (6) حملا على (سندس)، وقرئ:

(1) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 368.
(2) قاله ابن شجرة. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 170.
(3) قاله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: ج 2 ص 207.
(4) قاله مقاتل والكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 430.
(5) أي: بسكون الياء وكسر الهاء تبعا لذلك، وهي قراءة نافع وحمزة وأبان والمفضل كلاهما
عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 664.
(6) أي: بجرهما، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي عمرو برواية عبيد عنه. راجع المصدر
السابق: ص 665.
697

(وإستبرق) بالرفع (1) على معنى: ثياب سندس وثياب إستبرق، فحذف المضاف
وأقام " إستبرق " مقامه، وقرئ بالجر أيضا (2)، (وحلوا) عطف على (ويطاف
عليهم)، (أساور من فضة) لا يكتنه وصفها، يرى ما وراؤها، وقيل: إن الفضة في
الجنة أفضل من الذهب ومن الدر والياقوت (3)، وقيل: إنهم يحلون بالذهب تارة،
وبالفضة أخرى، أو: بهما جميعا على الجمع (4) (وسقهم ربهم شرابا طهورا)
وليس برجس كخمر الدنيا، وقيل: يطهرهم من كل شيء سوى الله (5).
(إن هذا) و " هذا " إشارة إلى ما تقدم من عطاء الله، وما وصفه من النعيم
والتعظيم (كان لكم جزآء) على أعمالكم المقبولة وطاعاتكم المبرورة (وكان
سعيكم) في مرضاة الله (مشكورا) مرضيا، والشكر مجاز.
وروي: أن جبرائيل لما تلا الآيات قال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل
بيتك (6).
(إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنزيلا (23) فاصبر لحكم ربك
ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا (24) واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا (25)
ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا (26) إن هؤلاء يحبون العاجلة
ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا (27) نحن خلقنهم وشددنآ أسرهم وإذا شئنا

(1) أي: بجر " خضر " ورفع " إستبرق "، وهي قراءة ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع
المصدر المتقدم.
(2) أي: برفع " خضر " وجر " إستبرق "، وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر. راجع المصدر نفسه.
(3) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 218.
(4) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 674.
(5) رووه عن علي (عليه السلام). راجع تفسير ابن كثير: ج 4 ص 457.
(6) رواه الحاكم الحسكاني في الشواهد: ج 2 ص 403 ذ ح 1054 باسناده عن عطاء عن
ابن عباس، والسيوطي في اللآلي: ج 1 ص 192 نقلا عن ابن الجوزي.
698

بدلنآ أمثلهم تبديلا (28) إن هذه ى تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه
سبيلا (29) وما تشآءون إلا أن يشآء الله إن الله كان عليما حكيما (30)
يدخل من يشآء في رحمته ى والظلمين أعد لهم عذابا أليما (31))
كرر سبحانه الضمير الذي هو اسم ل‍ " إن " للتأكيد، فكأنه قال: ما نزل (عليك
القرءان تنزيلا) مفرقا مفصلا إلا أنا لا غيري. (فاصبر لحكم ربك) الصادر عن
الحكمة والصواب على مكافتهم واحتمال أذاهم إلى أن يأتيك الأمر بالقتال
(ولا تطع منهم) أحدا، قلة صبر منك على أذاهم، وقيل: إن " الآثم " عتبة بن
ربيعة، و " الكفور " الوليد بن المغيرة، قالا: ارجع عن أمرك ونحن نرضيك بالمال
والتزويج (1). ولو قال: ولا تطع آثما وكفورا لجاز أن يطيع أحدهما، فإذا أتي
ب‍ " أو " ومعناه: ولا تطع أحدهما، علم أن الناهي عن طاعة أحدهما ناه عن
طاعتهما جميعا.
(واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) أي: صباحا ومساء. (ومن الليل) وبعض
الليل (فاسجد له) أي: فصل لله، وقيل: يعني: المغرب والعشاء الآخرة (2)
(وسبحه ليلا طويلا) وتهجد له هزيعا طويلا من الليل: ثلثيه أو نصفه أو ثلثه.
(إن هؤلاء) الكفرة (يحبون العاجلة) ويؤثرونها على الآخرة (ويذرون
ورآءهم) قدامهم، أو: خلف ظهورهم لا يعبؤون به (يوما ثقيلا) عسيرا شديدا،
مستعار من الشيء الثقيل الباهظ لحامله. (وشددنآ أسرهم) أي: شددنا توصيل
عظامهم بعضها ببعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب، من الأسر الذي هو الربط
والتوثيق بالإسار وهو القد، وفرس مأسور الخلق، كما قيل: جارية معصوبة الخلق،

(1) قاله مقاتل. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 431.
(2) قاله أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن: ج 4 ص 355.
699

وقيل: معناه: كلفناهم وشددناهم بالأمر والنهي. (وإذا شئنا) أهلكناهم و (بدلنآ
أمثلهم) في شدة الأسر، يعني: النشأة الأخرى، وقيل: معناه: بدلنا غيرهم ممن
يطيع (1)، وحقه أن يكون: " وإن شئنا " ب‍ " إن "، لا ب‍ " إذا " (2)، كقوله: (وإن تتولوا
يستبدل قوما غيركم) (3).
(هذه) إشارة إلى السورة، أو: إلى الآيات القريبة (تذكرة) تذكير وعظة
(فمن شآء) فمن اختار الخير (اتخذ إلى ربه سبيلا) بأن يتقرب إليه بالطاعات.
(وما تشآءون) الطاعة (إلا أن يشآء الله) يجبرهم عليها، وقرئ بالتاء
والياء (4)، و (أن يشآء الله) منصوب المحل على الظرف، والأصل: إلا وقت
مشيئة الله. (والظلمين) منصوب بفعل مضمر يفسره: (أعد لهم)، نحو: أوعد
وكافأ ونحوهما.
* * *

(1) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 496.
(2) قال علي (عليه السلام): " واتهموا عليه (القران) آراءكم... " نهج البلاغة: الخطبة 176.
(3) محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): 38.
(4) أي: " وما يشاءون " بالياء قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برواية هشام عنه. راجع
كتاب السبعة في القراءات: ص 665.
700

سورة المرسلات
مكية (1)، وهي خمسون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة (والمرسلت) كتب: ليس من
المشركين " (2).
وعن الصادق (عليه السلام) " من قرأها عرف الله بينه وبين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والمرسلت عرفا (1) فالعصفت عصفا (2) والنشرات نشرا (3)
فالفرقت فرقا (4) فالملقيت ذكرا (5) عذرا أو نذرا (6) إنما توعدون
لواقع (7) فإذا النجوم طمست (8) وإذا السمآء فرجت (9) وإذا الجبال

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 222: مكية في قول ابن عباس، وهي خمسون
آية بلا خلاف.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 175: مكية من قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر،
وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها، وهي قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون)
فمدنية.
وفي الكشاف: ج 4 ص 677: مكية إلا آية (48) فمدنية، وآياتها (50)، نزلت بعد الهمزة.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 683 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 149.
701

نسفت (10) وإذا الرسل أقتت (11) لاى يوم أجلت (12) ليوم
الفصل (13) ومآ أدراك ما يوم الفصل (14) ويل يومئذ للمكذبين (15)
ألم نهلك الاولين (16) ثم نتبعهم الأخرين (17) كذا لك نفعل
بالمجرمين (18) ويل يومئذ للمكذبين (19) ألم نخلقكم من مآء
مهين (20) فجعلنه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم
القدرون (23) ويل يومئذ للمكذبين (24) ألم نجعل الأرض كفاتا (25)
أحيآء وأمواتا (26) وجعلنا فيها رواسى شمخت وأسقينكم مآء
فراتا (27) ويل يومئذ للمكذبين (28))
(المرسلت) الملائكة أرسلت بالمعروف فعصفت في مضيها كما تعصف
الرياح. (والنشرات) هي الملائكة نشرت أجنحتها في الجو عند انحطاطها
بالوحي، أو: نشرت الشرائع في الأرض. (فالفرقت فرقا) فرقت بين الحق
والباطل. (فالملقيت ذكرا) إلى الأنبياء. (عذرا) للمحقين (أو نذرا)
للمبطلين.
وقيل: (المرسلت) رياح العذاب أرسلت متتابعة كعرف الفرس فعصفت في
شدة هبوبها. (والنشرت) رياح الرحمة نشرت السحاب في الجو (نشرا)
للغيث ففرقت بينها وبددته، كقوله: (ويجعله كسفا) (1)، أو: هي السحاب نشرت
الأرض الميتة ففرقت بين من يشكر الله وبين من يكفر، فألقت ذكرا: إما (عذرا)
للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث
ويشكرونها، وإما (نذرا) إنذارا للذين يغفلون عن الشكر لله (2).

(1) الروم: 48.
(2) قاله علي (عليه السلام) وابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد وقتادة. راجع تفسير الطبري:
ج 12 ص 377 - 380.
702

وانتصاب (عرفا) في المعنى الأول على أنه مفعول له، أي: أرسلن
للإحسان، وانتصابه في المعنى الثاني على الحال. و (عذرا) و (نذرا) مصدران
من: عذر إذا محا الإساءة، ومن: أنذر إذا خوف، وانتصابهما على البدل أو: على
المفعول له. وقرئا مخففين ومثقلين (1).
إن الذي (توعدون‍) - ه من مجيء يوم القيامة (ل‍) - كائن (وقع) لا
محالة، وهو جواب القسم.
(طمست) أي: محيت ومحقت، وقيل: ذهب بنورها (2). (فرجت) أي:
شقت، وصدعت، وفتحت فكانت أبوابا. (نسفت) كالحب إذا نسفت بالمنسف،
ونحوه: (وبست الجبال بسا) (3) قيل: أخذت بسرعة من أماكنها (4). (أقتت):
وقتت، وهو الأصل، ومعنى توقيت الرسل: تبيين وقتها الذي يحضرون فيه
للشهادة على أممهم. والتأجيل من الأجل، كالتوقيت من الوقت (لاى يوم
أجلت) تعجيب من هول اليوم وتعظيم له. (ليوم الفصل) بيان ليوم التأجيل، وهو
اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، وقيل: وقتت: بلغت ميقاتها الذي كانت منتظرة
وهو يوم القيامة (5). و (أجلت): أخرت.
(ويل) في الأصل مصدر منصوب ساد مسد فعله، لكنه عدل به إلى الرفع
للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه.

(1) وبالتثقيل - أي: بضم الذال فيهما - قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر
عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 666.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 497.
(3) الواقعة: 5.
(4) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 266.
(5) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 678.
703

(ألم نهلك الاولين) قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (ثم نتبعهم) بالرفع
على الاستئناف، وهو وعيد لقريش، والمراد: ثم نفعل بأمثالهم مثل ما فعلنا بهم؛
لأنهم كذبوا كتكذيبهم. (كذلك) مثل ذلك الفعل (نفعل) بكل من أجرم وكذب.
(من مآء مهين) حقير قليل الغناء. (فجعلنه في قرار مكين) يعني: الرحم.
(إلى قدر) مقدار من الوقت (معلوم) قد علمه الله وهو تسعة الأشهر أو ما
دونها. (فقدرنا) ذلك تقديرا (فنعم) المقدرون له نحن، أو: (فقدرنا) على ذلك
(فنعم القدرون) عليه نحن، والأول أولى لقراءة من قرأ: " فقدرنا "
بالتشديد (1)، ولقوله: (من نطفة خلقه فقدره) (2).
الكفات: من: كفت الشيء إذا جمعه وضمه، وهو اسم ما يكفت، كالضمام
والجماع لما يضم ويجمع، وبه انتصب (أحياء وأمواتا)، كأنه قال: كافتة أحياء
وأمواتا، أو: بفعل مضمر يدل عليه وهو " تكفت "، والمعنى: تكفت أحياء على
ظهرها وأمواتا في بطنها. والتنكير للتفخيم، يعني: أحياء لا يحصرون وأمواتا
كذلك، أو: لكونهما حالين من الضمير، لأن المعنى: تكفتكم أحياء وأمواتا.
(روسى شمخت) أي: جبالا ثابتة عالية، (وأسقينكم) وجعلنا لكم سقيا من
ماء عذب.
(انطلقوا إلى ما كنتم به ى تكذبون (29) انطلقوا إلى ظل ذى ثلث
شعب (30) لا ظليل ولا يغنى من اللهب (31) إنها ترمى بشرر
كالقصر (32) كأنه جملت صفر (33) ويل يومئذ للمكذبين (34) هذا
يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36) ويل يومئذ

(1) قرأه نافع والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 666.
(2) عبس: 19.
704

للمكذبين (37) هذا يوم الفصل جمعنكم والأولين (38) فإن كان لكم
كيد فكيدون (39) ويل يومئذ للمكذبين (40) إن المتقين في ظلل
وعيون (41) وفواكه مما يشتهون (42) كلوا واشربوا هنيا بما كنتم
تعملون (43) إنا كذا لك نجزى المحسنين (44) ويل يومئذ
للمكذبين (45) كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون (46) ويل يومئذ
للمكذبين (47) وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون (48) ويل يومئذ
للمكذبين (49) فبأى حديث بعده يؤمنون (50))
أي: يقول لهم الخزنة: (انطلقوا إلى) ما كذبتم (به) وجحدتموه من عذاب
النار، والانطلاق: الذهاب من مكان إلى مكان من غير مكث، و (انطلقوا) الثاني
تكرير، وقرئ بلفظ الماضي (1) إخبارا بعد الأمر من علمهم بموجبه واضطرارهم
إلى فعله. (إلى ظل) يعني: دخان جهنم، كقوله: (وظل من يحموم) (2)، (ذى
ثلث شعب) يتشعب لعظمه ثلاث شعب: شعبة فوقهم، وشعبة عن أيمانهم، وشعبة
عن شمائلهم. (لا ظليل) تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم يضاد ظل المؤمنين
(ولا يغنى) في محل جر، أي: غير مغن عنهم (من) حر (اللهب) شيئا.
(إنها ترمى بشرر) متطاير في الجهات (كالقصر) أي: كل شرارة كالقصر
من القصور في عظمها، وقيل: هو الغليظ من الشجر (3)، والواحدة: قصرة، نحو:
جمرة وجمر، وقرئ: " كالقصر " بفتحتين (4) وهي أعناق الإبل. " كأنه جمالات " (5)

(1) قرأه رويس عن يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 748.
(2) الواقعة: 43.
(3) قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والحسن. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 388.
(4) قرأه ابن عباس. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 167.
(5) الظاهر أن المصنف (رحمه الله) قد اعتمد هنا على قراءة الجمع وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي
عمرو وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 666.
705

جمع جمال، وقرئ: (جملت) جمع جمل، شبهت بالقصور ثم بالجمال لبيان
التشبيه، كما شبه عنترة ناقته بالقصر في قوله:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها * فدن لاقضي حاجة المتلوم (1)
وقرئ: " جمالات " بالضم (2)، وهي قلوس سفن البحر، وقيل: قلوس
الجسور (3)، الواحدة: جمالة، وقيل: (صفر) لإرادة الجنس (4)، وقيل: (صفر)
سود تضرب إلى الصفرة (5).
(هذا يوم لا ينطقون) بما ينفعهم، جعل نطقهم ك‍ " لأنطق " لأنه لا ينفع
ولا يجدي، أو: ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ويوم القيامة طويل له
مواطن ومواقيت، ولذلك ورد الأمران في القرآن، ألا ترى إلى قوله: (ثم إنكم يوم
القيمة عند ربكم تختصمون) (6)؟ فيتكلمون ويختصمون ثم يختم على أفواههم
وتتكلم أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون. (فيعتذرون) عطف على (يؤذن)
أي: ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له من غير أن يكون الاعتذار مسببا عن
الإذن، ولو نصب لكان مسببا عنه لا محالة.
(هذا يوم الفصل) أي: يوم الحكم والقضاء بين الخلق، والانتصاف للمظلوم
من الظالم، (جمعنكم والأولين) بيان له، لأن الفصل إذا كان بين الأشقياء
والسعداء، وبين الأنبياء وأممهم، فلابد من جمع الأولين والآخرين حتى يقع ذلك

(1) البيت من معلقته الميمية، والفدن: القصر. راجع ديوان عنترة بن شداد: ص 12.
(2) قرأه رويس وحده. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 749.
(3) قاله سعيد بن جبير ومجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 390، والقلوس: الحبال.
(4) قاله الشيخ في التبيان: ج 10 ص 231.
(5) قاله الحسن وقتادة ومجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 389 - 390.
(6) الزمر: 31.
706

الفصل بينهم. (فإن كان لكم كيد فكيدون) تقريع لهم على كيدهم لدين الله وأهله،
وتسجيل عليهم بالمهانة والعجز.
(كلوا واشربوا) في موضع الحال من ضمير (المتقين) في قوله: (في
ظلل) أي: مقولا لهم ذلك. و (كلوا وتمتعوا) حال من المكذبين، أي: الويل
ثابت لهم في حال ما يقال لهم: كلوا وتمتعوا، أي: كنتم أحقاء في حياتكم بأن
يدعى لكم بذلك، ويجوز أن يكون (كلوا) كلاما مستأنفا، خطابا للمكذبين
في الدنيا.
(وإذا قيل لهم اركعوا) أي: صلوا، لا يصلون، وقيل: نزلت في ثقيف (1) حين
أمرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال (عليه السلام): " لا خير
في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " (2). (فبأى حديث) بعد القرآن (يؤمنون)
وهو الآية المبصرة، والمعجزة الباهرة، والبرهان المبين!
وكرر (ويل يومئذ للمكذبين) في السورة عشر مرات، علق كل واحدة منها
بقصة تخالف أخواتها، فعقب كلا منها بإثبات الويل للمكذب بما في ضمنها.
* * *

(1) قاله مقاتل. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 181.
(2) أخرجه البيهقي في السنن: ج 2 ص 444 - 445 عن عثمان بن أبي العاص.
707

سورة النبأ (1)
مكية (2) وهي أربعون آية كوفي، إحدى وأربعون بصري (عذابا قريبا) (3)
بصري.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة (عم يتسآءلون) سقاه الله برد الشراب يوم
القيامة " (4).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها لم تخرج سنته، إذا كان يدمنها في كل يوم،
حتى يزور البيت الحرام " (5).
بسم الله الرحمن الرحيم
(عم يتسآءلون (1) عن النبإ العظيم (2) الذي هم فيه مختلفون (3)

(1) في بعض النسخ: " سورة عم يتسآءلون ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 237: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
أربعون آية في الكوفي والمدنيين، وإحدى وأربعون في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 683: مكية، وتسمى سورة النبأ، وهي أربعون أو إحدى وأربعون
آية، نزلت بعد المعارج.
(3) الآية: 40.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 692 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 149 وزاد في آخره: " إن شاء الله ".
709

كلا سيعلمون (4) ثم كلا سيعلمون (5) ألم نجعل الأرض مهدا (6)
والجبال أوتادا (7) وخلقنكم أزواجا (8) وجعلنا نومكم سباتا (9) وجعلنا
الليل لباسا (10) وجعلنا النهار معاشا (11) وبنينا فوقكم سبعا شدادا (12)
وجعلنا سراجا وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجا (14) لنخرج
به ى حبا ونباتا (15) وجنت ألفافا (16) إن يوم الفصل كان ميقتا (17)
يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا (18) وفتحت السمآء فكانت
أبوا با (19) وسيرت الجبال فكانت سرابا (20))
دخلت " عن " على " ما " الاستفهامية فأدغم النون في الميم وحذفت الألف،
ونحوه: " بم " و " فيم " و " مم " و " لم " و " إلام " و " علام " و " حتام " (1). ومعنى هذا
الاستفهام تفخيم الشأن، كأنه قال: عن أي شيء (يتسآءلون) أي: يسأل بعضهم
بعضا، أو: يتساءلون غيرهم نحو: يتداعونهم. (عن النبإ العظيم) بيان للشأن
المفخم، وهو نبأ يوم القيامة والبعث، أو: أمر الرسالة ولوازمها. (الذي هم فيه
مختلفون) قيل: الضمير للكفار (2)، وقيل: الكفار والمسلمين جميعا (3).
(كلا) ردع للمتسائلين (سيعلمون) وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أن ما
يتساءلون عنه ويستهزئون به حق لأنه واقع لا ريب فيه، أو: (سيعلمون) عاقبة
تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. والتكرير به تشديد في الأمر وتكرير
للوعيد، و (ثم) إشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول.
(ألم نجعل الأرض مهدا) أي: فراشا، وأرسيناها بالجبال كما يرسى البيت

(1) " إلام " و " علام " و " حتام "، أصلها على الترتيب: إلى ما، وعلى ما، وحتى ما.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 495.
(3) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 396.
710

بالأوتاد. (وخلقنكم) أشكالا متشاكلين، أو: ذكرانا وإناثا، أو: أصنافا، (وجعلنا
نومكم سباتا) أي: راحة ودعة لأجسادكم، وقيل: موتا، من السبت وهو القطع؛
لأنه مقطوع عن الحركة (1)، والنوم أحد الموتين. والمعنى: أن من خلق هذه
الخلائق العجيبة الدالة على كمال القدرة والحكمة فلا وجه لإنكار قدرته على
البعث، ولأنه يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعله، والحكيم لا يفعل فعلا عبثا.
(وجعلنا الليل لباسا) يستركم عن العيون، وتخفون فيه ما لا تحبون الاطلاع
عليه من أموركم. (وجعلنا النهار معاشا) أي: وقت معاش، أو: مطلب معاش
تستيقظون فيه لحوائجكم، وتتصرفون في مكاسبكم. (سبعا) أي: سبع سماوات
(شدادا) محكمة، جمع شديدة. (سراجا وهاجا) وقادا متلالئا، يعني: الشمس،
وتوهجت النار: إذا تلظت.
و (المعصرت) السحائب إذا أعصرت، أي: شارفت أن تعصرها الرياح
فتمطر، مثل: أجز الزرع أي: حان له أن يجز منه، ومنه: أعصرت الجارية: إذا حان
أن تحيض، وعن مجاهد: المعصرات: الرياح ذوات الأعاصير لأنها تنشئ
السحاب وتدر أخلافه (2). (مآء ثجاجا) منصبا بكثرة، يقال: ثجه وثج بنفسه.
وفي الحديث: " أفضل الحج العج والثج " (3). فالعج: رفع الصوت بالتلبية،
والثج: صب دماء الهدي.
(حبا ونباتا) يعني: ما يتقوت به من نحو الحنطة والشعير، وما يعتلف به من

(1) حكاه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 183.
(2) تفسير مجاهد: ص 694.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 400، وابن حجر في التلخيص: ج 2 ص 239
مرسلا. والعج: رفع الصوت للتلبية، والثج: سيلان دماء الهدي.
711

التبن والحشيش كما قال: (كلوا وارعوا أنعامكم) (1). والألفاف: الملتفة،
لا واحد لها كالأخياف، وقيل: [بل] (2) واحدها لف (3).
(كان ميقتا) كان في حكم الله حدا وقت به الدنيا تنتهي عنده، أو: حدا
للخلائق ينتهون عنده. (يوم ينفخ) بدل من (يوم الفصل)، أو: عطف بيان له
(فتأتون أفواجا) من القبور إلى موقف الحساب أمما، كل أمة مع إمامهم، وقيل:
جماعات مختلفة (4).
وعن معاذ: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، فقال: " يحشر عشرة أصناف من
أمتي أشتاتا، قد ميزهم الله من المسلمين وبدل صورهم: فبعضهم على صورة
القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون: أرجلهم فوق رؤوسهم
يسحبون عليها، وبعضهم عمي، وبعضهم صم بكم، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي
مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم
مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا
من الجيف، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين
على صورة القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل
السحت، وأما المنكسون على رؤوسهم فأكلة الربا، وأما العمي فالذين يجورون
في الحكم، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم
فالعلماء والقصاص الذين خالف أقوالهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم
وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة
بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات

(1) طه: 54.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) وهو قول الكسائي. راجع تفسير القرطبي: ج 19 ص 174.
(4) قاله مجاهد في تفسيره: ص 695.
712

واللذات ويمنعون حق الله في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر
والفخر والخيلاء " (1).
(وفتحت) قرئ بالتشديد (2) والتخفيف، والمعنى: كثرت أبوابها المفتحة
لنزول الملائكة، كأنها ليست إلا أبوابا مفتحة، كقوله: (وفجرنا الأرض عيونا) (3)،
كأن كلها عيون مفجرة، وقيل: الأبواب: الطرق والمسالك تكشط فينفتح مكانها
ويصير طرقا لا يسدها شيء (4). (فكانت سرابا) كقوله: (فكانت هبآء منبثا) (5)
أي: يصير شيئا كلا شيء لتفرق أجزائها.
(إن جهنم كانت مرصادا (21) للطغين مابا (22) لبثين فيهآ
أحقابا (23) لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا (24) إلا حميما وغساقا (25)
جزآء وفاقا (26) إنهم كانوا لا يرجون حسابا (27) وكذبوا بايتنا
كذابا (28) وكل شىء أحصينه كتبا (29) فذوقوا فلن نزيدكم إلا
عذابا (30) إن للمتقين مفازا (31) حدآئق وأعنبا (32) وكواعب
أترابا (33) وكأسا دهاقا (34) لا يسمعون فيها لغوا ولا كذا با (35) جزآء
من ربك عطآء حسابا (36) رب السموات والارض وما بينهما
الرحمن لا يملكون منه خطابا (37) يوم يقوم الروح والملئكة صفا
لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا (38) ذا لك اليوم الحق
فمن شآء اتخذ إلى ربه مابا (39) إنآ أنذرنكم عذابا قريبا يوم ينظر

(1) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 393 بطوله وعزاه إلى ابن مردويه. وفيه:
" القضاة " بدل " القصاص ".
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 668.
(3) القمر: 12.
(4) حكاه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 402.
(5) الواقعة: 6.
713

ا لمرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يليتنى كنت ترا با (40))
المرصاد: الحد الذي يكون فيه الرصد، أي: هي حد (للطغين) يرصدون
فيه للعذاب وهي مآبهم (1)، أو: هي مرصاد لأهل الجنة يرصدهم الملائكة الذين
يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها، وهي مآب للطاغين، وعن الحسن وقتادة:
طريقا وممرا لأهل الجنة (2).
وقرئ: (لبثين) و " لبثين " (3) واللبث أقوى، لأن اللابث: من وجد منه
اللبث، واللبث من شأنه اللبث كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفك منه (أحقابا)
حقبا بعد حقب، كلما مضى حقب تبعه حقب إلى غير نهاية، وقيل: الحقب: ثمانون
سنة (4)، وقيل: معناه: لابثين فيها أحقابا غير ذائقين (بردا ولا شرابا إلا حميما
وغساقا) ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق (5). وروي عن الباقر (عليه السلام)
أنه قال: هذه في الذين يخرجون من النار (6).
وعن ابن عمر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث
فيها أحقابا. [قال ابن عمر:] (7) فلا يتكلن أحد أن يخرج من النار (8).

(1) في نسخة: " مأواهم ".
(2) رواه عنهما الطبري في تفسيره: ج 12 ص 405.
(3) قرأه حمزة وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 668.
(4) وهو قول علي (عليه السلام) وابن عباس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس. راجع
تفسير الطبري: ج 12 ص 404، ورواه الصدوق في معاني الأخبار: ص 220 عن
الصادق (عليه السلام).
(5) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 273.
(6) رواه العياشي في تفسيره كما في مجمع البيان: ج 10 ص 424، وفي تفسير القمي: ج 2
ص 402 بالسند عن حمران عن الصادق (عليه السلام).
(7) زيادة لابد منها.
(8) أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 395 عنه وعزاه إلى البزار وابن مردويه والديلمي.
714

والاستثناء منقطع، والمعنى: لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفس عنهم حر
النار، ولا شرابا يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميما وغساقا. وقيل:
البرد: النوم (1)، قالوا: منع البرد البرد، وقرئ: (غساقا) بالتخفيف (2) والتشديد،
وهو ما يغسق أي: يسيل من صديد أهل النار. (جزآء وفاقا) وصف بالمصدر، أو:
أريد: ذا وفاق يوافق أعمالهم.
(كذابا) أي: تكذيبا، و " فعال " قياس في مصدر " فعل " مثل: " فعلال "
ل‍ " فعلل "، وقرئ بالتخفيف (3)، روي ذلك عن علي (عليه السلام) (4)، وهو مصدر " كذب "،
قال الأعشى:
فصدقتها، وكذبتها * والمرء ينفعه كذابه (5)
فيكون مثل: (أنبتكم من الأرض نباتا) (6)، يعني: وكذبوا بآياتنا كذابا، أو:
انتصب ب‍ (كذبوا) لأنه يتضمن معنى " كذبوا "، لأن كل مكذب بالحق كاذب.
(كتبا) مصدر في موضع " إحصاء "، أو: يكون: " أحصينا " في معنى:
" كتبنا "، لالتقائهما في معنى الضبط والتحصيل، أو: يكون حالا في معنى: مكتوبا
في اللوح وفي صحف الحفظة. والمعنى: إحصاء معاصيهم، وهو اعتراض.
وقوله: (فذوقوا) مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات. وعن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار " (7). وحسبك ب‍ (لن

(1) قاله مجاهد والسدي وأبو عبيدة. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 187.
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 669.
(3) قرأه الكسائي وحده. راجع المصدر السابق.
(4) رواه عنه النحاس في إعراب القرآن: ج 5 ص 133.
(5) لم نجده في ديوانه المطبوع، ومعناه واضح. انظر الكامل للمبرد: ج 2 ص 747.
(6) نوح: 17.
(7) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 690 مرسلا.
715

نزيدكم) وبمجيئها على طريق الالتفات شاهدا على أن الغضب قد بلغ الغاية.
(إن للمتقين مفازا) فوزا وظفرا بالبغية، أو: موضع فوز، وقيل: نجاة مما فيه
أولئك (1)، أو: موضع نجاة، وفسر " المفاز " بما بعده. والحدائق: البساتين فيها
أنواع الشجر المثمر، والأعناب: الكروم. والكواعب: اللاتي تكعب ثديهن
وتفلكت، والأتراب: اللدات. والدهاق: المترعة المملوءة، وأدهق الحوض: ملأه.
(ولا كذا با) ولا تكذيب بعضهم لبعض، وقرئ بالتخفيف أيضا (2) بمعنى الكذب
أو المكاذبة، (جزآء) مصدر مؤكد منصوب، بمعنى قوله: (إن للمتقين مفازا)،
كأنه قال: جازى المتقين بمفاز وعطاء، منصوب " جزآء " نصب المفعول به، أي:
جزاهم (عطآء)، و (حسابا) صفة بمعنى: كافيا، من: أحسبني الشيء: إذا كفاني
حتى قلت: حسبي، وقيل: على حسب أعمالهم (3).
قرئ: (رب السموت) و (الرحمن) بالرفع (4) على: هو رب السموات
الرحمن، أو: " رب السموات " مبتدأ و " الرحمن " صفته و (لا يملكون) خبر، أو:
هما خبران، وبالجر على البدل من (ربك)، وبجر الأول ورفع الثاني (5) على أنه
مبتدأ خبره (لا يملكون)، أو: هو الرحمن. والضمير في (لا يملكون) لأهل
السماوات والأرض، أي: لا يملكون أن يسألوا إلا فيما أذن لهم فيه، كقوله:
(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (6)، (لا تكلم نفس إلا بإذنه) (7).

(1) قاله مجاهد وقتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 410.
(2) وهي قراءة الكسائي وحده كما تقدم في كتاب السبعة.
(3) قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 413 - 414.
(4) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 669.
(5) وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع المصدر السابق.
(6) الأنبياء: 28.
(7) هود: 105.
716

و (يوم يقوم) يتعلق ب‍ (- لا يملكون)، أو: ب‍ (لا يتكلمون)، و (الروح)
ملك ما خلق الله مخلوقا أعظم منه يقوم وحده صفا، وتقوم الملائكة صفا، وقيل: إن
الروح خلق من خلق الله ليسوا بملائكة ولا ناس يقومون صفا والملائكة صفا،
وهما سماطا رب العالمين يوم القيامة (1)، وقيل: هو جبرائيل (2) (صفا) أي:
مصطفين، ومعنى الكلام هنا الشفاعة.
وعن الصادق (عليه السلام): نحن والله المأذونون لهم يوم القيامة، والقائلون [صوابا،
أي] نمجد ربنا، ونصلي على نبينا، ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربنا (3).
(وقال صوابا) من القول، موافقا للغرض الحكمي. (ذلك اليوم الحق)
الذي لا شك في حصوله وكونه (فمن شآء اتخذ إلى ربه مآبا) مرجعا بالطاعة
والعمل الصالح، فقد أزيحت العلل، وأوضحت السبل، وبلغت الرسل.
وقيل: إن المراد بالمرء: الكافر (4)، لقوله: (إنآ أنذرنكم عذابا قريبا)،
و " الكافر " في قوله: (ويقول الكافر) ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم
(ما قدمت يداه) من الشر، كقوله: (ذلك بما قدمت أيديكم) (5)، و " ما "
استفهامية منصوبة ب‍ (قدمت) أي: ينظر أي شيء قدمت يداه، أو: موصولة
منصوبة ب‍ (ينظر) يقال: نظرته بمعنى: نظرت إليه، والراجع من الصلة عام،
وقيل: إن (المرء) عام، وخصص منه الكافر (6)، وعن قتادة: هو المؤمن (7)

(1) قاله مجاهد وأبو صالح والأعمش. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 415 - 416.
(2) قاله الضحاك والشعبي. راجع المصدر السابق.
(3) رواه البرقي في المحاسن: ص 183 ح 183 باسناده عن معاوية بن وهب.
(4) قاله عطاء. راجع تفسير الرازي: ج 31 ص 25.
(5) آل عمران: 182.
(6) قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 440.
(7) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 692.
717

(يليتنى كنت ترابا) في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو: ياليتني كنت ترابا في هذا
اليوم ولم أبعث، وقيل: يحشر الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء
ثم ترد ترابا، فيتمنى الكافر أن يكون كذلك (1)، وقيل: إن المراد بالكافر إبليس،
عاب آدم بأن خلق من تراب وافتخر بالنار، فإذا رأى يوم القيامة كرامة المؤمنين
من ولد آدم قال: ياليتني كنت ترابا (2).
* * *

(1) وهو قول عبد الله بن عمر وأبي هريرة، ورووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع تفسير الطبري: ج 12
ص 418 - 419.
(2) حكاه الثعلبي عن أبي القاسم بن حبيب. راجع تفسير القرطبي: ج 19 ص 189.
718

سورة النازعات
مكية (1)، وهي ست وأربعون آية كوفي، خمس غيرهم، (ولانعمكم) (2)
كوفي.
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة النازعات لم يكن حسابه يوم القيامة إلا
كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها لم يمت إلا ريانا، ولم يبعث إلا ريانا، ولم
يدخل الجنة إلا ريانا " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والنزعت غرقا (1) والنشطت نشطا (2) والسبحت سبحا (3)
فالسبقت سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) يوم ترجف الراجفة (6) تتبعها

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 250: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
ست وأربعون آية في الكوفي، وخمس وأربعون في البصري والمدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 692: مكية، وهي خمس أو ست وأربعون آية، نزلت بعد النبأ.
(2) الآية: 33.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 700 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 149، وفقه الرضا (عليه السلام): ص 46.
719

الرادفة (7) قلوب يومئذ واجفة (8) أبصرها خشعة (9) يقولون أءنا
لمردودون في الحافرة (10) أءذا كنا عظما نخرة (11) قالوا تلك إذا كرة
خاسرة (12) فإنما هى زجرة واحدة (13) فإذا هم بالساهرة (14) هل
أتلك حديث موسى (15) إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى (16)
اذهب إلى فرعون إنه طغى (17) فقل هل لك إلى أن تزكى (18) وأهديك
إلى ربك فتخشى (19) فأراه الاية الكبرى (20) فكذب وعصى (21)
ثم أدبر يسعى (22) فحشر فنادى (23) فقال أنا ربكم الاعلى (24) فأخذه
الله نكال الاخرة والاولى (25) إن في ذا لك لعبرة لمن يخشى (26))
أقسم عز اسمه بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة، كما
يغرق النازع في القوس فيبلغ غاية المد، وبالملائكة التي " تنشطها " أي: تخرجها،
من قولهم: نشط الدلو من البئر: إذا أخرجها، وبالملائكة التي تسبح في مضيها، أي:
تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فيدبروا أمور العباد من السنة إلى السنة.
وقيل: إنها خيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعا، تغرق فيها الأعنة لطول
أعناقها، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، من قولهم: ثور ناشط: إذا
خرج من بلد إلى بلد، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الظفر
والغلبة (1).
وقيل: إنها النجوم التي تنزع من أفق إلى أفق، وإغراقها في النزع أن تقطع
الفلك كله، والتي تخرج من برج إلى برج، والتي تسبح في الفلك من السيارة
فيسبق بعضها بعضا في السير، فتدبر أمرا قضى الله سبحانه به (2).

(1) قاله عطاه في الجملة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 420 - 424.
(2) قاله الحسن وقتادة. راجع المصدر السابق.
720

والمقسم عليه محذوف وهو: لتبعثن، و (يوم ترجف) منصوب بهذا المضمر،
و (الراجفة): الصيحة التي ترجف عندها الأرض والجبال، وهي النفخة الأولى،
وصفت بما يحدث بحدوثها. (تتبعها الرادفة) وهي النفخة الثانية تردف الأولى،
والجملة في محل النصب على الحال، والمعنى: لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع
فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت وهو وقت النفخة الأخيرة. ويجوز
أن ينتصب (يوم ترجف) بما دل عليه (قلوب يومئذ واجفة) أي: يوم ترجف
وجفت القلوب، والوجيف والوجيب أخوان، والمعنى: أنها قلقة مضطربة غير
هادئة لما عاينت من هول ذلك اليوم.
(أبصرها خشعة) أي: ذليلة، و (قلوب) مبتدأ، (واجفة) صفتها، و
(أبصرها خشعة) خبره، وأضاف " الأبصار " إلى " القلوب "، والمراد: أبصار
أصحابها، يدل عليه: (يقولون أءنا لمردودون في الحافرة) أي: في الحالة الأولى،
يعنون الحياة بعد الموت، وأصلها: رجع فلان في حافرته، أي: في طريقته التي
جاء فيها فحفرها أي: أثر فيها، بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفرا، وقيل: حافرة كما
قيل: (عيشة راضية) (1) أي: منسوبة إلى الحفر وإلى الرضا (2)، ثم قيل لمن كان
في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته، أي: إلى طريقته وحالته الأولى،
قال:
أحافرة على صلع وشيب * معاذ الله من سفه وعار (3)

(1) الحاقة: 21، والقارعة: 7.
(2) قاله ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 195.
(3) أنشده ابن الأعرابي، يقول: أبعد الشيب والهرم أعود إلى طريقتي الأولى من الشباب
والصبا حيث الطيش والجهل؟ أنظر شرح شواهد الكشاف: ص 466.
721

يريد: أرجوعا إلى حافرة؟ وقالوا: النقد عند الحافرة، يريدون: عند الحالة
الأولى، وهي الصفقة. قرئ: (نخرة) و " ناخرة " (1) يقال: نخر العظم فهو نخر
وناخر، و " فعل " أبلغ من " فاعل "، وهو البالي الأجوف الذي يمر فيه الريح فيسمع
له نخير. و (إذا) منصوب بمحذوف، والتقدير: إذا كنا عظاما بالية متفتتة نبعث
ونرد أحياء؟ (قالوا تلك) الكرة (إذا كرة خاسرة) منسوبة إلى الخسران، أو:
خاسر أصحابها بمعنى: أنها إن صحت فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا
استهزاء منهم.
وتعلق قوله: (فإنما هى زجرة وحدة) بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها ولا
تحسبوها صعبة على الله (فإنما هى زجرة) أي: صيحة (وحدة) هينة سهلة في
قدرته، وهي النفخة الثانية. (فإذا هم) أحياء على وجه الأرض بعد أن كانوا
أمواتا في جوفها، و (الساهرة) الأرض البيضاء المستوية، وسميت ساهرة لأن
السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة: جارية الماء، و " نائمة " ضدها، قال:
وساهرة يضحي السراب مجلا * لأقطارها قد جبتها متلثما (2)
أو: لأن سالكها لا ينام خوف الهلاك.
(اذهب إلى فرعون) على إرادة القول. تقول: هل لك في كذا، و: هل لك
إلى كذا، كما تقول: هل ترغب فيه، و: هل ترغب إليه (تزكى) تتزكى، أي: تتطهر
من الشرك، وقرئ: " تزكى " بالإدغام (3). (وأهديك) وأرشدك (إلى) معرفة

(1) قرأه حمزة وعاصم برواية أبي بكر عنه. وأما الكسائي فكان الدوري يروي عنه: أنه كان لا
يبالي كيف قرأها بألف أم بغير ألف. أي: كان يقرأ الوجهين. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 670 - 671.
(2) للأشعث بن قيس يصف أرضا بيضاء كان يجوبها متلثما لخوف الحر والرياح. راجع شرح
شواهد الكشاف: ص 487.
(3) أي بتشديد الزاي، قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو برواية عباس عنه. راجع كتاب السبعة
في القراءات: ص 671.
722

(ربك فتخشى) لأن الخشية لا تكون إلا بعد المعرفة: (إنما يخشى الله من عباده
العلماء) (1) أي: العلماء به. بدأ في مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض، كما
يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف
ويستنزله بالمداراة من عتوه، كما أمر بذلك في قوله: (فقولا له قولا لينا) (2).
و (الآية الكبرى) قلب العصا حية لأنها كانت الأصل، و " الآية
الأخرى " (3) كالتبع لها، أو: أراد العصا واليد البيضاء وجعلهما واحدة، لأن الثانية
كأنها من الأولى لكونها تابعة لها. (فكذب) بموسى والآية، وسماهما: ساحرا
وسحرا (وعصى) الله. (ثم أدبر) لما رأى الثعبان مرعوبا (يسعى) في مشيته،
أو: أدبر وتولى عن موسى يسعى ويجتهد في كيده. (فحشر) فجمع السحرة
(فنادى) في المقام الذي اجتمعوا فيه معه، أو: أمر مناديا ينادي في الناس بذلك.
(نكال الاخرة والاولى) مصدر مؤكد، ك‍ (وعد الله) (4)، و (صبغة
الله) (5)، كأنه قال: نكل الله به نكال الآخرة والأولى، والنكال بمعنى التنكيل،
كالسلام والكلام، يعني: الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة، وعن ابن عباس:
نكال كلمتيه: كلمته الأولى: (ما علمت لكم من إله غيرى) (6)، والأخيرة:
(أنا ربكم الأعلى) (7)، وكان بين الكلمتين أربعون سنة، وقيل: عشرون (8).

(1) فاطر: 28.
(2) طه: 44.
(3) أراد قوله تعالى: (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء من غير سوء آية أخرى)
طه: 22.
(4) وردت في مواضع كثيرة من القرآن.
(5) البقرة: 138.
(6) القصص: 38.
(7) تفسير ابن عباس: ص 500.
(8) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 696.
723

(ءأنتم أشد خلقا أم السمآء بناها (27) رفع سمكها فسولها (28)
وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والارض بعد ذا لك دحاهآ (30)
أخرج منها مآءها ومرعاها (31) والجبال أرسلها (32) متعا لكم
ولانعمكم (33) فإذا جآءت الطآمة الكبرى (34) يوم يتذكر الانسن
ما سعى (35) وبرزت الجحيم لمن يرى (36) فأما من طغى (37) وءاثر
الحيوة الدنيآ (38) فإن الجحيم هى المأوى (39) وأما من خاف مقام
ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هى المأوى (41)
يسلونك عن الساعة أيان مرسلها (42) فيم أنت من ذكراهآ (43) إلى
ربك منتهاهآ (44) إنمآ أنت منذر من يخشاها (45) كأنهم يوم يرونها
لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها (46))
الخطاب لمنكري البعث، أي: (ءأنتم) أيها المشركون أصعب (خلقا)
وإنشاء (أم السمآء)؟ ثم بين كيف خلق السماء فقال: (بنها)، ثم بين البناء
فقال: (رفع سمكها) أي: جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديدا رفيعا
(فسولها) فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور، أو: فتممها بما علم أنها تتم به
وأصلحها، من قولك: سوى فلان أمر فلان. (وأغطش ليلها) يقال: أغطش الليل
وأغطشه الله، (وأخرج ضحها) أبرز ضوء شمسها، يدل عليه قوله: (والشمس
وضحها) (1) يريد: وضوئها، وأضاف " الليل " و " الضحى " إلى السماء لأن منها
منشأ الظلام والضياء بغروب الشمس وطلوعها.
(والارض) منصوب بإضمار: دحا، وهو الإضمار قبل الذكر على شريطة

(1) الشمس: 1.
724

التفسير، وكذا قوله: (والجبال أرسها) ولم يدخل حرف العطف على (أخرج)
لأنه فسر الدحو الذي هو التمهيد للأرض والبسط للسكنى بما لابد منه في تأتي
سكناها، من: تسوية أمر المأكل والمشرب، وإمكان القرار عليها بإخراج الماء
والمرعى، وإرساء الجبال أوتادا لها لتستقر ويستقر عليها. وأراد ب‍ (مرعها) ما
يأكل الإنسان والأنعام، واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله: (نرتع
ونلعب) (1)، وقرئ: " نرتع " (2) من الرعي، ولهذا قيل: دل الله سبحانه بذكر الماء
والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض (3). (متعا لكم)
أي: فعل ذلك تمتيعا لكم (ولانعمكم) لأن منفعة ذلك واصلة إلى الجميع.
(الطآمة): الداهية التي تطم على الدواهي، أي: تعلو وتغلب، وفي المثل:
" جرى الوادي فطم على القري " (4)، وهي القيامة. (يوم يتذكر) بدل من (إذا
جآءت)، (ما سعى) أي: ما عمله من خير وشر إذا رآه مدونا في كتابه تذكره
وكان قد نسيه، كقوله: (أحصه الله ونسوه) (5). (وبرزت الجحيم) أي: أظهرت
إظهارا مكشوفا بينا لكل أحد.
فأما جواب قوله: (فإذا) أي: (فإذا جآءت الطآمة): فإن الأمر كذلك،
والمعنى: فإن الجحيم مأواه، كما تقول للرجل: غض الطرف أي: طرفك، وليس

(1) القراءة بالنون هنا في سورة يوسف: 12 إنما هي قراءة أبي عمرو وابن عامر. وذكره
المصنف تبعا للكشاف، وإلا فقراءة حفص عن عاصم وعامة أهل الكوفة بالياء والجزم.
راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 346.
(2) أي: بالنون وكسر العين من: ارتعى يرتعي بمعنى: رعى، نفتعل من الرعي. وهي قراءة
ابن كثير. راجع المصدر السابق: ص 345.
(3) قاله القتبي. راجع تفسير السمرقندي: ج 4 ص 445.
(4) أي: جرى سيل الوادي فدفن القري، والقري: مجرى الماء في الروضة، والجمع: أقرية
وقريان، يضرب عند تجاوز الشر حده. انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 166.
(5) المجادلة: 6.
725

الألف واللام بدلا من الإضافة كما قال بعضهم (1)، ولكن لما علم أن الطاغي
هو صاحب (المأوى) تركت الإضافة، ودخول حرف التعريف في (المأوى)
لأنه معروف. و (هى) فصل أو مبتدأ. (ونهى النفس) الأمارة بالسوء (عن
الهوى) المردي، وهو اتباع الشهوات وضبطها بالصبر.
(أيان مرسها) متى إرساؤها أي: إقامتها، والمراد: متى يقيمها الله ويكونها
ويثبتها. (فيم أنت) في أي شىء أنت من أن تذكر وقتها لهم؟ والمراد: ما أنت من
ذكرها لهم وتبين وقتها في شيء. (إلى ربك) منتهى علمها، لم يؤت علمها أحدا
من خلقه، وقيل: (فيم) إنكار لسؤالهم، أي: فيم هذا السؤال (2)، ثم قيل: أنت
(من ذكراهآ) أي: إرسالك - وأنت خاتم الأنبياء المبعوث إلى قيام الساعة - ذكر
من ذكراها وعلاماتها، فكفاكم بذلك دليلا على اقترابها ووجوب الاستعداد لها،
ولا معنى لسؤالهم عنها.
وقرئ: (منذر) منونا (3) وبالإضافة، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال،
وإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة. والمعنى: أنك لم تبعث لتعلمهم بوقت
الساعة، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفا لهم في الخشية منها.
(كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا) في الدنيا، أو: في القبور (إلا عشية أو ضحها)
أضاف " الضحى " إلى " العشية " لاجتماعهما في نهار واحد، ومثله: (كأن لم يلبثوا
إلا ساعة من النهار) (4)، والمعنى: إلا قدر آخر نهار أو أوله.
* * *

(1) وهو مذهب الكوفيين. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 4 ص 47.
(2) وهو قول ابن عباس. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 200.
(3) قرأه أبو عمرو برواية عباس عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 671.
(4) يونس: 45.
726

سورة عبس
مكية (1) وهي اثنتان وأربعون آية كوفي، وآية بصري عد الكوفي
(ولأنعمكم) (2).
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك
مستبشر " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة عبس و (إذا الشمس كورت) كان في
ظل الله وكرامته في جنانه " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(عبس وتولى (1) أن جآءه الاعمى (2) وما يدريك لعله يزكى (3)
أو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من استغنى (5) فأنت له تصدى (6)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 267: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
اثنتان وأربعون آية في الكوفي والمدنيين، وإحدى وأربعون في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 700: مكية، وآياتها (42) وقيل: (41) نزلت بعد النجم.
(2) الآية: 32.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 706 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 149 وفيه بلفظ: " كان تحت جناح الله من الخيانة، وفي ظل
الله وكرامته، وفي جنانه، ولا يعظم ذلك على ربه إن شاء الله ".
727

وما عليك ألا يزكى (7) وأما من جآءك يسعى (8) وهو يخشى (9) فأنت
عنه تلهى (10) كلا إنها تذكرة (11) فمن شآء ذكره (12) في صحف
مكرمة (13) مرفوعة مطهرة (14) بأيدي سفرة (15) كرام بررة (16) قتل
الانسن مآ أكفره (17) من أي شىء خلقه (18) من نطفة خلقه
فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) ثم أماته فأقبره (21) ثم إذا شآء
أنشره (22) كلا لما يقض مآ أمره (23))
أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن شريح بن مالك الفهري، وهو ابن أم مكتوم،
وعنده صناديد قريش: أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة،
والعباس بن عبد المطلب، وأبي وأمية ابنا خلف، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن
يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر
ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعه لكلامه، وعبس،
وأقبل على القوم يكلمهم (1)، فنزلت، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكرمه ويقول إذا رآه
" مرحبا بمن عاتبني فيه ربي " واستخلفه على المدينة مرتين (2) (3).

(1) قال الشيخ الطوسي تعليقا على هذه الرواية: وهذا فاسد لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أجل الله قدره
عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب وقد وصفه بأنه على خلق عظيم؟!
وقال الشريف المرتضى في جوابه على هذه الآية: أما ظاهر الآية فغير دال على توجهها
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا فيها ما يدل على أنه خطاب له (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هي خبر محض لم يصرح
بالمخبر عنه، وفيها ما يدل عند التأمل على أن المعني بها غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه وصفه
بالعبوس وليس هذا من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قرآن ولا خبر مع الأعداء المنابذين فضلا عن
المؤمنين المسترشدين. انظر التبيان: ج 10 ص 268، وتنزيه الأنبياء للشريف المرتضى
علم الهدى: ص 118 - 119.
(2) أنظر أسباب النزول للواحدي: ص 385 ح 903.
(3) في المجمع بعد نقله هذه الرواية وجواب علم الهدى قال: وقد روي عن الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها
نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر منه
وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.
728

(أن جآءه) منصوب ب‍ (تولى) و (عبس) على اختلاف المذهبين،
ومعناه: عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك، وروي أنه (عليه السلام) ما عبس بعدها في
وجه فقير قط، ولا تصدى لغني (1) (وما يدريك) أي: وأي شيء يجعلك داريا
بحال هذا الأعمى (لعله يزكى) أي: يتطهر بما يتلقن من الشرائع ويتعلم. (أو
يذكر) أو يتعظ (فتنفعه) ذكراك أي: موعظتك، وقيل: إن الضمير في (لعله)
للكافر (2). والمعنى: إنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يتذكر ويقبل الحق، وما
يدريك أن ما طمعت فيه كائن؟ وقرئ: (فتنفعه) بالرفع (3) عطفا على (يذكر)،
وبالنصب جوابا ل‍ " لعل ".
(فأنت له تصدى) تتصدى أي: تتعرض بالإقبال عليه، وقرئ: " تصدى "
بإدغام التاء في الصاد (4)، وقرأ الباقر (عليه السلام): " تصدى " و " تلهى " بضم التاء
فيهما (5)، والمعنى: يدعوك داع إلى التصدي له من الحرص على إسلامه، ويلهيك
شأن الصناديد عنه. (وما عليك ألا يزكى) وليس عليك بأس، أو: أي شيء عليك
في أن لا يتزكى بالإسلام، (إن عليك إلا البلغ) (6).
(وأما من جآءك يسعى) في طلب الخير (وهو يخشى) الله، أو: يخشى
الكفار. وإذا هم في إتيانك (فأنت عنه تلهى) تتشاغل، من: لهى عنه وتلهى.

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 701 مرسلا.
(2) قاله ابن إسحاق. راجع تفسير الثعالبي: ج 3 ص 442.
(3) هي قراءة الجمهور إلا عاصما وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 672.
(4) قرأه ابن كثير ونافع. راجع المصدر السابق.
(5) أنظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 169.
(6) الشورى: 48.
729

(كلا) ردع عن معاودة مثله (إنها تذكرة) أي: موعظة يجب الاتعاظ بها.
(فمن شآء ذكره) أي: كان حافظا له غير ناس، وذكر الضمير لأن " التذكرة "
في معنى " الذكر ".
(في صحف) صفة ل‍ (تذكرة) يعني: أنها مثبتة في صحف منتسخة من
اللوح (مكرمة) عند الله. (مرفوعة) في السماء، أو: مرفوعة المقدار (مطهرة)
منزهة عن الشياطين، لا يمسها إلا (أيدي) ملائكة مطهرين (سفرة) كتبة
ينتسخون الكتب من اللوح. (كرام) على ربهم (بررة) أتقياء، وقيل: هي صحف
الأنبياء (1)، كقوله: (إن هذا لفي الصحف الأولى) (2).
(قتل الانسن) دعاء عليه (ما أكفره) تعجب من إفراطه في كفران نعم الله
عز اسمه. ثم وصف حاله منذ (3) مبدأ حدوثه إلى منتهاه، وما هو مغمور فيه من
أصول النعم وفروعها الداعية إلى الإيمان والتوحيد، الموجبة للشكر والعبادة،
فقال: (من أي شىء خلقه) أي: من أي شيء حقير مهين أنشأه وابتدأه؟ ثم بين
ذلك الشيء فقال: (من نطفة خلقه فقدره) فهيأه لما يصلح له ويختص به حالا بعد
حال، وطورا بعد طور: نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه. (ثم السبيل يسره): نصب
(السبيل) بمضمر يفسره: (يسره) ومعناه: ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن
أمه، أو: السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر بإقداره وتمكينه،
ونحوه: (وهديناه النجدين) (4)، وعن ابن عباس: بين له سبيل الخير والشر (5).
(فأقبره) فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحا بالعراء جزرا

(1) قاله قتادة. راجع تفسير عبد الرزاق: ج 2 ص 216.
(2) الأعلى: 18.
(3) في بعض النسخ: " من " بدل " منذ ".
(4) البلد: 10.
(5) تفسير ابن عباس: ص 502.
730

للسباع والطير. (أنشره) أنشأه النشأة الأخرى.
(كلا) ردع للإنسان عما هو عليه (لما يقض) بعد تطاول الدهور من لدن
آدم إلى هذه الغاية (مآ أمره) الله تعالى حتى يخرج عن جميع أوامره ويؤدي حق
نعمه عليه مع كثرتها، ولما يعبده حق عبادته.
(فلينظر الانسن إلى طعامه ى (24) أنا صببنا المآء صبا (25) ثم
شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا
ونخلا (29) وحدآئق غلبا (30) وفكهة وأبا (31) متعا لكم
ولانعمكم (32) فإذا جآءت الصآخة (33) يوم يفر المرء من أخيه (34)
وأمه وأبيه (35) وصحبته ى وبنيه (36) لكل امرئ منهم يومئذ شأن
يغنيه (37) وجوه يومئذ مسفرة (38) ضاحكة مستبشرة (39) ووجوه
يومئذ عليها غبرة (40) ترهقها قترة (41) أولئك هم الكفرة الفجرة (42))
لما عدد سبحانه النعم في نفسه أتبعها بذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال:
(فلينظر الانسن إلى طعامه) الذي يتقوته كيف هيأناه لرزقه (أنا صببنا) قرئ
بالكسر (1) على الاستئناف، وبالفتح على البدل من " الطعام "، ويعني بالماء: الغيث
(ثم شققنا الأرض) بالنبات. وأراد بالحب: جنس الحبوب التي يتعذى بها.
وخص " العنب " لكثرة منافعه، و " القضب ": الرطبة تقتضب مرة بعد أخرى لعلف
الدواب. (وحدآئق غلبا) ملتفة الشجر، وأصلها: الغلب الرقاب لغلاظها، فاستعير.
والأب: المرعى لأنه يؤب أي: يؤم وينتجع، والأب والأم أخوان، قال:
جذمنا قيس ونجد دارنا * ولنا الأب به والمكرع (2)

(1) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 672.
(2) لم نعثر على قائله، وفيه يفخر الشاعر بأصله وقومه. والجذم: الأصل، والمكرع: الماء
الصالح للشرب. أنظر لسان العرب: مادة " أبب ". وفيه ما يجدر ايراده، قال: وفي حديث
أنس: أن عمر بن الخطاب قرأ قوله: (وفاكهة وأبا) وقال: فما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا وما
أمرنا بهذا!!
731

(متعا لكم) أي: تمتيعا. و (الصآخة): صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان،
تبالغ في سماعها حتى تكاد تصمها. (يوم يفر المرء من) أقرب الخلق إليه،
لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، أو: للحذر من مطالبتهم بالتبعات، يقول الأخ: لم
تواسني بمالك، والأبوان: قصرت في برنا، والصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت
وصنعت، والبنون: لم ترشدنا ولم تعلمنا. (يغنيه) يكفيه في الاهتمام به.
(وجوه... مسفرة) مضيئة متهللة، من: أسفر الصبح: إذا أضاء، وعن ابن عباس: من
قيام الليل (1).
وفي الحديث: " من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " (2).
والغبرة: الغبار. (ترهقها) أي: تعلوها (قترة) وهي السواد كالدخان.
* * *

(1) تفسير ابن عباس: ص 502.
(2) أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 1 ص 422 ح 1333 عن جابر.
732

سورة التكوير (1)
مكية (2) وهي تسع وعشرون آية.
في حديث أبي: " من قرأ إذا الشمس كورت أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر
صحيفته " (3) (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا الشمس كورت (1) وإذا النجوم انكدرت (2) وإذا الجبال
سيرت (3) وإذا العشار عطلت (4) وإذا الوحوش حشرت (5) وإذا البحار
سجرت (6) وإذا النفوس زوجت (7) وإذا الموءودة سئلت (8) بأي ذنب
قتلت (9) وإذا الصحف نشرت (10) وإذا السمآء كشطت (11) وإذا الجحيم
سعرت (12) وإذا الجنة أزلفت (13) علمت نفس مآ أحضرت (14))

(1) في نسخة: " سورة كورت " وأخرى: " إذا الشمس كورت ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 279: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
تسع وعشرون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 706: مكية، وآياتها (29) نزلت بعد المسد.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 714 مرسلا.
(4) وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) عن فضلها عند الحديث عن فضل سورة عبس.
733

(الشمس) مرفوع بالفاعلية، رافعها فعل مضمر يفسره: (كورت)، لأن
(إذا) يطلب الفعل لتضمنه معنى الشرط، وكذا الجميع. وعن ابن عباس:
(كورت): ذهب نورها وضوؤها (1). وفيه وجهان: أن يكون من تكوير العمامة
وهو لفها، أي: يلف ضوؤها فيذهب انتشاره وانبساطه في الآفاق، وهي عبارة عن
إزالتها والذهاب بها، أو: يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها لأن الثوب إذا أريد
رفعه لف وطوي، وأن يكون من: طعنه فكوره: إذا ألقاه، أي: تلقى وتطرح عن
فلكها، كما وصف النجوم بالانكدار وهو الانقضاض، وعن مجاهد: (انكدرت)
تناثرت وتساقطت (2). (سيرت) عن وجه الأرض وأبعدت، أو: سيرت في الجو
تسيير السحاب. كقوله: (وهى تمر مر السحاب) (3).
و (العشار) جمع " العشراء " كالنفاس في جمع " النفساء "، وهي التي أتى
على حملها عشرة أشهر فصاعدا، وهي أنفس ما تكون عند أهلها (عطلت) تركت
مسيبة مهملة لاشتغال أهلها بنفوسهم. (حشرت) جمعت حتى يتقص لبعضها من
بعض، ويوصل إليها ما استحقته من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا.
وعن ابن عباس: حشرها: موتها (4). (سجرت) قرئ بالتشديد والتخفيف (5)
من: سجر التنور: إذا ملاها بالحطب، أي: ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى يصير
بحرا واحدا، وقيل: أوقدت فصارت نارا تضطرم (6). (زوجت) قرنت كل نفس

(1) تفسير ابن عباس: ص 502.
(2) رواه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 458.
(3) النمل: 88.
(4) تفسير ابن عباس: ص 502.
(5) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 673.
(6) قاله أبي بن كعب وابن عباس وابن زيد وشمر بن عطية وسفيان، ورووه عن علي (عليه السلام). راجع
تفسير الطبري: ج 12 ص 460.
734

بشكلها، وقيل: قرنت الأرواح بالأجساد (1)، وقيل: قرنت نفوس الصالحين
بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين (2).
وأد يئد مقلوب من: آد يؤود: إذا ثقل لأنه إثقال بالتراب. والمعنى في سؤال
(الموءودة) عن ذنبها الذي قتلت به: التبكيت والتوبيخ لقاتلها، ويجري مجرى
قوله سبحانه لعيسى: (ءأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله) (3).
وعن علي (عليه السلام) أنه قرأ: " سألت بأي ذنب قتلت " وهي قراءة ابن عباس
ومجاهد (4)، أي: خاصمت عن نفسها وسألت الله، أو: قاتلها.
وعن الباقر والصادق (عليهما السلام): (وإذا الموءودة سئلت) والمراد به: الرحم
والقرابة، وأنه يسأل قاطعها عن سبب قطعها (5). وقالا: هو من قتل في مودتنا
وولايتنا (6). وعلى هذا فيكون من باب حذف المضاف.
وقرئ: " قتلت " بالتشديد (7). وفي الآية دليل على أن أطفال المشركين لا
يعذبون بذنوب آبائهم، وأن التعذيب لا يكون إلا بالذنب، وإذا بكت الله الكافر
ببراءة الموءودة من الذنب فما أقبح بأن يكر عليها بعد هذا التبكيت فيعذبها، وعن
ابن عباس: أنه سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية (8).
(نشرت) قرئ بالتخفيف والتشديد (9)، والمراد: صحف الأعمال، تطوى

(1) قاله عكرمة والشعبي. راجع المصدر السابق: ص 463.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 502.
(3) المائدة: 116.
(4) أنظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 169.
(5) تفسير فرات الكوفي: ص 204.
(6) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2 ص 407، و تفسير فرات: ص 203.
(7) قرأه أبو جعفر المدني. راجع التبيان: ج 10 ص 280.
(8) حكاه النحاس في إعراب القرآن: ج 5 ص 158.
(9) وبالتشديد قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 673.
735

صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: يحشر الناس حفاة عراة، فقالت أم سلمة: كيف
بالنساء؟ فقال: شغل الناس يا أم سلمة، فقالت: وما شغلهم؟ قال: نشر الصحف
وفيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل (1).
ويجوز أن يراد: نشرت بين أصحابها، أي: فرقت بينهم. (كشطت) كشفت
وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء. (سعرت) قرئ
بالتخفيف (2) والتشديد: أوقدت إيقادا شديدا، قيل: سعرها غضب الله وخطايا
بني آدم (3). (أزلفت) أي: قربت من أهلها بما فيها من النعيم. (علمت) هو عامل
النصب في: (إذا الشمس كورت) وفيما عطف عليه.
وعن ابن مسعود: أن قارئا قرأها عنده، فلما بلغ: (علمت نفس مآ أحضرت)
قال: وانقطاع ظهرياه! (4)
(فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16) والليل إذا عسعس (17)
والصبح إذا تنفس (18) إنه لقول رسول كريم (19) ذى قوة عند ذى العرش
مكين (20) مطاع ثم أمين (21) وما صآحبكم بمجنون (22) ولقد رءاه
بالأفق المبين (23) وما هو على الغيب بضنين (24) ومآ هو بقول شيطن
رجيم (25) فأين تذهبون (26) إن هو إلا ذكر للعلمين (27) لمن شآء

(1) أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 423 وعزاه إلى الطبراني في الأوسط.
(2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب
السبعة في القراءات: ص 673.
(3) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 466.
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 710.
736

منكم أن يستقيم (28) وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العلمين (29))
(الخنس) النجوم الخمسة الرواجع (1)، بينا ترى الكواكب في آخر البرج إذا
كر راجعا إلى أوله. و " الجواري ": السيارة، و (الكنس): الغيب، من: كنس
الوحشي: إذا دخل كناسه، فخنوسها: رجوعها، وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوء
الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس
بالليل أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها (2). (عسعس) الليل وسعسع: إذا
أدبر، وقيل: عسعس: إذا أقبل ظلامه (3). و (تنفس) امتد ضوؤه، والمعنى فيه: أن
الصبح إذا أقبل، أقبل النسيم بإقباله، فجعل ذلك كالنفس له.
(إنه) الضمير للقرآن (لقول رسول كريم) على ربه، وهو جبرائيل (عليه السلام).
(ذى قوة) هو كقوله: (شديد القوى ذو مرة) (4)، (عند ذى العرش مكين)
متمكن عند صاحب العرش وهو الله جل جلاله. (مطاع ثم) أي: في السماء،
يطيعه ملائكة السماء، يصدرون عن أمره (أمين) على وحي الله إلى أنبيائه.
(وما صاحبكم بمجنون) وهو معطوف على جواب القسم. (ولقد) رأى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبرائيل على صورته التي خلقه الله تعالى عليها (بالأفق المبين)
بمطلع الشمس الأعلى.
(وما) محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (على) ما يخبر به من (الغيب) والوحي " بظنين " (5)

(1) في الصحاح: هي: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد.
(2) قاله الحسن وبكر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن زيد، ورووه عن علي (عليه السلام). راجع تفسير
الطبري: ج 12 ص 467.
(3) قاله الحسن وعطية. راجع المصدر السابق: ص 470.
(4) النجم: 5 و 6.
(5) الظاهر أن المصنف (رحمه الله) قد اعتمد هنا - تبعا للكشاف - على القراءة بالظاء، وهي قراءة ابن
كثير وأبي عمرو والكسائي، والباقون بالضاد. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 673.
737

بمتهم، فإن أحواله ناطقة بالصدق والأمانة، وهو من: الظنة وهي التهمة، وقرئ:
(بضنين) بالضاد، من: الضن وهو البخل، أي: لا يبخل بالوحي بأن يسأل تعليمه
فلا يعلمه، أو: يزوي بعضه فلا يبلغه. والفرق بين الضاد والظاء: أن مخرج الضاد من
أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وهي
إحدى الحروف الشجرية: أخت الجيم والشين (1). والظاء مخرجها من طرف
اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي إحدى الحروف الذولقية (2): أخت الذال والتاء.
(وما) القرآن (بقول شيطن رجيم) مرجوم بالشهب، كما زعم الكفار أن
الشيطان يلقى إليه كما كان يلقى إلى أوليائه من الكهنة، (فأين تذهبون)
استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادة اعتسافا: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في
تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل. (إن هو) الضمير للقرآن (إلا ذكر) أي:
عظة وتذكرة (للعلمين).
(لمن شآء منكم) بدل من (للعلمين)، وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاءوا
الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم
وإن كانوا موعوظين جميعا. (وما تشآءون) الاستقامة يا من تشاؤونها (إلا)
بتوفيق (الله) ولطفه، أو: ما تشاؤونها أنتم يا من لا تشاؤونها إلا بإلجاء الله
وقسره.
* * *

(1) وسميت بالشجرية لخروجها من الشجر وهو مخرج الفم، ويقال: هي الشين والجيم والقاف
والكاف والياء. (المنجد: مادة " شجر ").
(2) وسميت بالذولقية لكون مخرجها طرف اللسان والشفتين، من: ذلق الشيء: حده، وذلق
اللسان: طرفه. ويقال لها أيضا: أحرف الذلاقة. (المنجد: مادة " ذلق ").
738

سورة الانفطار (1)
مكية (2)، وهي تسع عشرة آية.
في حديث أبي: " من قرأها أعطاه الله بعدد كل قطرة من السماء حسنة، وبعدد
كل قبر حسنة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ هاتين السورتين: (إذا السمآء انفطرت) و (إذا
السمآء انشقت) وجعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة والنافلة، لم يحجبه من
الله حجاب، ولم يزل ينظر إلى الله وينظر الله إليه حتى يفرغ من حساب
الناس " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا السمآء انفطرت (1) وإذا الكواكب انتثرت (2) وإذا البحار

(1) في بعض النسخ: " سورة انفطرت ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 289: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
تسع عشرة آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 714: مكية، وآياتها (19) نزلت بعد النازعات.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 717 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 149 وفيه: " لم يحجبه الله من حاجته، ولم يحجزه الله من
حاجز ".
739

فجرت (3) وإذا القبور بعثرت (4) علمت نفس ما قدمت وأخرت (5)
يأيها الانسن ما غرك بربك الكريم (6) الذي خلقك فسواك
فعدلك (7) في أى صورة ما شآء ركبك (8) كلا بل تكذبون بالدين (9)
وإن عليكم لحفظين (10) كراما كتبين (11) يعلمون ما تفعلون (12) إن
الأبرار لفي نعيم (13) وإن الفجار لفي جحيم (14) يصلونها يوم
الدين (15) وما هم عنها بغآئبين (16) ومآ أدراك ما يوم الدين (17) ثم
مآ أدراك ما يوم الدين (18) يوم لا تملك نفس لنفس شيا والأمر
يومئذ لله (19))
(انفطرت): انشقت وانقطعت. و (انتثرت): تساقطت وتهافتت.
(فجرت) فتح بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا واختلط الملح بالعذب.
(بعثرت) بحثت وأخرج موتاها، و " بعثر " و " بحثر " أخوان ركبا من: " بعث "
و " بحث " مع راء ضم إليهما. (علمت نفس ما قدمت) من خير أو شر (و) ما
(أخرت) من سنة استن بها بعده، وهو مثل قوله: (ينبؤا الإنسن يومئذ بما قدم
وأخر) (1).
(ما غرك بربك) أي شىء خدعك بخالقك حتى عصيته وخالفته؟ وعن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " غره جهله " (2)، وعن الحسن: غره والله شيطانه الخبيث (3)، قال له:
افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أولا وهو متفضل عليك
آخرا، فورطه في المعاصي.

(1) القيامة: 13.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 715 مرسلا.
(3) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 403.
740

وقيل للفضيل بن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال: (ما غرك بربك
الكريم) فماذا تقول؟ قال: أقول: غرتني ستورك المرخاة (1). وعن يحيى بن
معاذ: أقول: غرني بك برك بي سالفا وآنفا (2). وعن غيره (3): أنه سبحانه إنما ذكر
(الكريم) من بين سائر أسمائه لأنه كأنه لقنه الإجابة حتى يقول: غرني كرم
الكريم.
كما يروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه، فنظر فإذا
هو بالباب فقال له: ما لك لم تجبني؟ فقال: لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك،
فاستحسن جوابه وأعتقه (4).
(فسواك) فجعلك سويا سالم الأعضاء " فعدلك " (5) فصيرك معتدلا
متناسب الخلق، وقرئ: (فعدلك) بالتخفيف، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون
بمعنى المشدد، أي: عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت، والآخر: فصرفك
عن خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة، يقال: عدله عن الطريق أي: صرفه. " ما " في
(ما شآء) مزيدة، أي: (ركبك) في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من
الصور المختلفة في الحسن والقبح، والطول والقصر، والشبه ببعض الأقارب
وخلاف الشبه، وهذه الجملة بيان ل‍ " عدلك ". وتعلق الجار والمجرور
ب‍ (ركبك) على معنى: وضعك في بعض الصور، ويجوز أن يتعلق ب‍ (عدلك)

(1) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 455.
(2) المصدر السابق.
(3) نسبه البغوي في تفسيره: ص 456 إلى بعض أهل الإشارة، وفي الكشاف: ج 4 ص 715
إلى الحشوية.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 715.
(5) الظاهر أن المصنف قد اعتمد هنا - تبعا للكشاف - على قراءة التشديد، وهي قراءة
الجمهور غير الكوفيين راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 674.
741

ويكون في معنى التعجب، أي: فعدلك في أي صورة عجيبة، ثم قال: (ما شآء
ركبك)، أي: ركبك ما شاء من التراكيب، يعني: تركيبا حسنا.
(كلا) أي: ارتدعوا من الاغترار بالله (بل تكذبون بالدين) أصلا، وهو
الجزاء، أو: دين الإسلام. (وإن عليكم لحفظين) من الملائكة يكتبون عليكم
أعمالكم لتجازوا بها (إن) أولياء الله (الأبرار لفي نعيم وإن) الذين يكذبون
بالدين (الفجار لفي جحيم يصلونها) أي: يلزمونها بكونهم فيها. (وما هم عنها
بغآئبين) مثل قوله: (وما هم بخرجين منها) (1).
(ومآ أدرك ما يوم الدين) يعني: أن أمر يوم الدين بحيث لا تدرك دراية
دار كنهه في الهول والشدة، وكيفما تصورته فهو فوق ذلك، والتكرير لزيادة
التهويل. ثم أجمل القول في وصفه فقال: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) أي: لا
تستطيع دفعا عنها، ولا نفعا لها، ولا شفاعة إلا بإذنه وأمره (والأمر يومئذ)
والحكم في الجزاء والثواب والعفو والعقوبة (لله) وحده. وقرئ: " يوم لا تملك "
بالرفع (2) على البدل من (يوم الدين)، أو: على تقدير: هو يوم لا تملك،
وبالنصب على إضمار: يدانون، لأن (الدين) يدل عليه، أو: ترك ما يكون عليه
في أكثر الأمر من كونه ظرفا (3)، وهو في محل الرفع، ونحوه: (يوم هم على النار
يفتنون) (4) يوم يكون الناس.
* * *

(1) المائدة: 37.
(2) قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 674.
(3) يريد: أن " اليوم " مما جرى في أكثر الأمر ظرفا ترك عليه.
(4) الذاريات: 13.
742

سورة المطففين
مختلف فيها (1) (2) ستة وثلاثون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأها سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من كانت قراءته في الفريضة: (ويل للمطففين) أعطاه
الله يوم القيامة الأمن من النار، ولم تره ولا يراها، ولا يمر على جسر جهنم
ولا يحاسب " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (2)

(1) في نسخة: " مكية إلا ست آيات ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 295: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
هي مدنية. وهي ست وثلاثون آية بلا خلاف.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 225: مكية في قول ابن مسعود والضحاك ويحيى بن
سلام، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل، قال مقاتل: هي أول سورة نزلت بالمدينة.
وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثماني آيات، من قوله تعالى: (إن الذين أجرموا) إلى
آخرها مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد: قد نزلت بين مكة والمدينة.
وفي الكشاف: ج 4 ص 718: مكية، وآياتها (36) نزلت بعد العنكبوت، وهي آخر سورة
نزلت بمكة.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 724 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 149 وزاد في آخره: " يوم القيامة ".
743

وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون (4)
ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العلمين (6) كلا إن كتب الفجار لفي
سجين (7) ومآ أدراك ما سجين (8) كتب مرقوم (9) ويل يومئذ
للمكذبين (10) الذين يكذبون بيوم الدين (11) وما يكذب به ى إلا كل
معتد أثيم (12) إذا تتلى عليه ءايتنا قال أسطير الاولين (13) كلا بل
ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) كلا إنهم عن ربهم يومئذ
لمحجوبون (15) ثم إنهم لصالوا الجحيم (16) ثم يقال هذا الذي كنتم
به ى تكذبون (17) كلا إن كتب الأبرار لفي عليين (18) ومآ أدراك ما
عليون (19) كتب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) إن الأبرار لفي
نعيم (22) على الارآئك ينظرون (23) تعرف في وجوههم نضرة
النعيم (24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختمه مسك وفي ذا لك
فليتنافس المتنفسون (26) ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب بها
المقربون (28) إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون (29)
وإذا مروا بهم يتغامزون (30) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين (31)
وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضآلون (32) ومآ أرسلوا عليهم
حفظين (33) فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون (34) على
الارآئك ينظرون (35) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون (36))
التطفيف: نقص المكيال والميزان والبخس فيهما، لأن ما يبخس في الكيل
والوزن شيء طفيف نزر. ولما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة كانوا أخبث الناس
كيلا، فنزلت، فأحسنوا الكيل بعد ذلك (1).

(1) أنظر أسباب النزول: ص 388 ح 907 عن ابن عباس.
744

وقال (عليه السلام) لهم: " خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم
عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة
إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، وما منعوا
الزكاة إلا حبس عنهم القطر " (1).
(اكتالوا على الناس) لما كان اكتيالهم اكتيالا يضر الناس أبدل " على "
مكان " من " للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق (على) ب‍ (يستوفون) وتقدم
المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: (يستوفون) على الناس خاصة، فأما
أنفسهم فيستوفون لها. وقال الفراء: " من " و " على " تعتقبان في هذا الموضع لأنه
حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت
منك، فكأنه قال: استوفيت منك (2). والضمير في (كالوهم أو وزنوهم) ضمير
منصوب راجع إلى (الناس)، وفيه وجهان: أن يراد: كالوا لهم أو وزنوا لهم،
فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا * ولقد نهيتك عن نبات الأوبر (3)
[وفي المثل:] (4) " والحريص يصيدك لا الجواد " (5). والمعنى: جنيت لك،
و: يصيد لك. وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه،

(1) أخرجه الطبراني في المعجم: ج 11 ص 38 باسناده عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه.
(2) معاني القرآن: ج 3 ص 246.
(3) لم نعثر على قائله، والأكمؤ: جمع كمأة، والعساقل: جمع عسقول وهو نوع صغير منها جيد
أبيض، ونبات الأوبر: نوع ردئ منها يكون أسود مزغبا. والبيت من باب التمثيل لحال من
أغري إلى الطيب فعدل إلى الخبيث ثم يتندم على عاقبته. انظر شرح الشواهد: ص 552.
(4) زيادة يقتضيها السياق.
(5) أراد: أن الذي له هوى وحرص على شأنك هو الذي يقوم به، لا القوي عليه ولا هوى
ولا حرصا له فيك. أنظر مجمع الأمثال: ج 1 ص 216.
745

والمضاف هو المكيل أو الموزون، ولا يجوز أن يكون ضميرا مرفوعا للمطففين
لأنه يصير المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم
على الخصوص أخسروا، وهذا الكلام متنافر؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في
المباشر، ومعنى (يخسرون): ينقصون، يقال: خسر الميزان وأخسره.
(ألا يظن أولئك) تعجيب وإنكار عظيم عليهم في الاجتراء على التطفيف،
كأنه لا يخطر ببالهم (أنهم مبعوثون) ومحاسبون، وعن قتادة: أوف يا بن آدم كما
تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك (1).
وذكر: أن أعرابيا قال لعبد الملك بن مروان: قد سمعت ما قال الله في
المطففين؟ أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه هذا الوعيد العظيم، فما ظنك
بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن؟ (2)
وقيل: إن الظن بمعنى اليقين (3). و (يوم يقوم) ظرف ل‍ (مبعوثون).
(كلا) ردع عن التطفيف والغفلة عن ذكر الحساب والبعث (إن كتب
الفجار) أي: ما يكتب من أعمالهم (لفي سجين) قيل: هو جب في جهنم (4).
و (كتب مرقوم) خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو كتاب، أي: هو موضع كتاب،
فحذف المبتدأ والمضاف جميعا، وقيل (5): (سجين) كتاب جامع هو ديوان
الشر، دون الله فيه أعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو (كتب مرقوم)
مسطور بين الكتابة، أو: معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، والمعنى: أن ما كتب

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 720.
(2) ذكره الرازي في تفسيره: ج 31 ص 89.
(3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 504.
(4) رواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 488.
(5) قاله قتادة وابن زيد راجع المصدر السابق: ص 489.
746

من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وهو " فعيل " من " السجن " لأنه سبب
الحبس والتضييق في جهنم، أو: لأنه مطروح - كما روي (1) - تحت الأرض
السابعة في موضع وحش يشهده الشياطين كما يشهد ديوان الخير الملائكة
المقربون، وهو اسم علم منقول من وصف ك‍ " حاتم ". (الذين يكذبون) مما
وصف به للذم لا للبيان، كما تقول: فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث.
(كلا) ردع للمعتدي الأثيم عن قوله، ومعنى (ران على قلوبهم): ركبها كما
يركب الصدأ، وغلب عليها، وهو أن يصر على الكبائر حتى يطبع على قلبه فلا يقبل
الخير ولا يميل إليه، وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب (2). يقال:
ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا. والرين والغين: الغيم. وران فيه النوم: رسخ
فيه، ورانت به الخمر: ذهبت به. وقرئ: (بل ران) بإدغام اللام في الراء
والإظهار، والإدغام أجود، وبإمالة الألف وتفخيمها (3).
(كلا) ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم، وكونهم " محجوبين عن ربهم "
تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين،
وعن ابن عباس: عن رحمة ربهم وكرامته (4).
(كلا) ردع عن التكذيب، و (كتب الأبرار) ما كتب من أعمالهم، وعليون:

(1) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 488 باسناده عن البراء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
(2) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 404، وفيه: " يموت القلب ".
(3) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وقنبل ونافع برواية إسحاق بالإدغام مع فتح الراء
تفخيما، وقرأ أبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع وحمزة والكسائي بالادغام أيضا لكن
بكسر الراء ممالا، وروى عباس عن أبي عمرو بأنه لم يكسر الراء ويشبه الإدغام وليس
بالإدغام. وقراءة نافع المشهورة هي الإظهار، وأما حفص عن عاصم فكان يقطع فيقف عند
(بل) ثم يبتدئ ب‍ (ران) فيصل الراء غير مدغمة. راجع كتاب السبعة: ص 675 - 676.
(4) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 300.
747

علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عمله المقربون، والأبرار: المتقون من
الإنس والجن، منقول من جمع " علي " فعيل من العلو، سمي بذلك: إما لأنه سبب
الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة تحت
العرش حيث يسكن الكروبيون، ويدل عليه قوله: (يشهده المقربون)، وقيل:
سدرة المنتهى (1). والأرائك: الأسرة في الحجال (ينظرون) إلى ما شاءوا مد
أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما آتاهم الله من النعيم والكرامة، وإلى أعدائهم
يعذبون في النار. (تعرف في وجوههم) بهجة (النعيم) ونضرته وماءه، وقرئ:
" تعرف " على البناء للمفعول، و " نضرة النعيم " بالرفع (2).
(يسقون من رحيق) خمر صافية خالصة من كل غش (مختوم) أوانيه
بمسك مكان الطينة. وقيل: (ختمه مسك) مقطعة رائحة مسك إذا شرب (3)،
وقيل: يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك (4). وقرئ: " خاتمه " بفتح التاء (5)،
أي: ما يختم به ويقطع. (وفي ذلك فليتنافس المتنفسون) فليرغب الراغبون،
ونحوه: (لمثل هذا فليعمل العملون) (6). ومزاج ذلك الشراب (من تسنيم)
وهو علم لعين بعينها، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر: " سنمه " إذا رفعه: إما لأنها
أرفع شراب في الجنة، وإما لأنها تأتيهم من فوق، وعن قتادة: هو نهر يجري في
الهواء فينصب في أواني أهل الجنة (7). (عينا) نصب على المدح، وقال الزجاج:

(1) قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 229.
(2) قرأه أبو جعفر ويعقوب. راجع التبيان: ج 10 ص 301.
(3) قاله ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك. راجع المصدر السابق: ص 303.
(4) قاله قتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 230.
(5) وهي قراءة الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 676.
(6) الصافات: 61.
(7) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 461.
748

نصب على الحال (1).
(إن الذين أجرموا) هم المشركون (كانوا... يضحكون) من عمار وخباب
وصهيب وغيرهم من فقراء المؤمنين، ويستهزئون بهم.
وروي: أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) جاء في نفر من المسلمين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا
اليوم الأصلع فضحكنا منه، فنزلت قبل أن يصل علي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وروى أبو صالح عن ابن عباس: (إن الذين أجرموا) منافقو قريش
(يتغامزون) يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم (3). قرئ: (فكهين) و
" فاكهين " (4) أي: متلذذين بذكرهم والسخرية منهم. (ومآ أرسلوا) على
المؤمنين (حفظين) موكلين بهم يحفظون أحوالهم عليهم، ولو اشتغلوا بما كلفوا
لكان ذلك أولى بهم.
(فاليوم) يعني: يوم القيامة (الذين ءامنوا... يضحكون) من الكفار كما
ضحك الكفار منهم في الدنيا، روي: أنه يفتح باب للكفار إلى الجنة فيقال لهم:
اخرجوا إليها، فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم. يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم
المؤمنون (5). (ينظرون) إليهم على سرر في الحجال، وهي: (الارآئك)،

(1) معاني القرآن: ج 5 ص 301.
(2) رواه مقاتل والكعبي. راجع مناقب الخوارزمي: ص 186، وتفسير الرازي: ج 31
ص 101. ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 328 ح 1084 باسناده عن
أبي عبد الله (عليه السلام) وفي ص 329 ح 1086 باسناده عن الضحاك عن ابن عباس، وفي ح 1087
عن تفسير مقاتل مسندا.
(3) رواه الحاكم الحسكاني في الشواهد: ج 2 ص 328 ح 1085، والحبري في تفسيره:
ص 320 ح 50 عنه.
(4) وهي قراءة الجمهور إلا حفصا. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 676.
(5) رواه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 462 عن أبي صالح.
749

(ينظرون) حال من (يضحكون) أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم على
الأرائك آمنون. (هل ثوب) هل جوزي (الكفار) إذا فعل بهم هذا (ما كانوا
يفعلون‍) - ه من السخرية بالمؤمنين؟ يقال: ثوبه وأثابه: إذا جازاه، قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب * وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي (1)
* * *

(1) من قصيدة يمدح بها امرأة ويثني عليها، ويذكر يدها عنده. أنظر ديوان أوس بن حجر:
ص 27، وفيه: " وقصرك " بدل " وحسبك " وهما بمعنى.
750

سورة الانشقاق (1)
مكية (2) وهي خمس وعشرون آية كوفي، ثلاث بصري. (كتبه بيمينه) (3)،
(ورآء ظهره) (4)، كلاهما كوفي.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة انشقت أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء
ظهره " (5). (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا السمآء انشقت (1) وأذنت لربها وحقت (2) وإذا الأرض
مدت (3) وألقت ما فيها وتخلت (4) وأذنت لربها وحقت (5) يأيها
الانسن إنك كادح إلى ربك كدحا فملقيه (6) فأما من أوتى كتبه

(1) في بعض النسخ: " سورة انشقت " وأخرى: " السمآء انشقت ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 307: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
خمس وعشرون آية في الكوفي والمدنيين، وثلاث في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 725: مكية، وآياتها (25)، نزلت بعد الانفطار.
(3) الآية: 7.
(4) الآية: 10.
(5) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 728 مرسلا.
(6) وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) في فضلها عند الحديث عن فضائل سورة الانفطار الآنفة.
751

بيمينه ى (7) فسوف يحاسب حسابا يسيرا (8) وينقلب إلى أهله ى
مسرورا (9) وأما من أوتى كتبه ورآء ظهره ى (10) فسوف يدعوا
ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله ى مسرورا (13) إنه ظن
أن لن يحور (14) بلى إن ربه كان به ى بصيرا (15) فلا أقسم بالشفق (16)
والليل وما وسق (17) والقمر إذا اتسق (18) لتركبن طبقا عن طبق (19)
فما لهم لا يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرءان لا يسجدون (21) بل
الذين كفروا يكذبون (22) والله أعلم بما يوعون (23) فبشرهم بعذاب
أليم (24) إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم أجر غير ممنون (25))
(انشقت) تصدعت وانفرجت، وجواب (إذا) ما دل عليه قوله:
(فملقيه) أي: إذا انشقت السماء لاقى الإنسان كدحه، أو: حذف الجواب
ليذهب المقدر كل مذهب. والمعنى: إذا انشقت السماء بالغمام، كما في قوله:
(ويوم تشقق السمآء بالغمم) (1). والأذن: الاستماع، قال عدي:
في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ماذي مشار (2)
ومنه قوله (عليه السلام): " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن " (3).
والمعنى: أنها فعلت في انقيادها حين أراد انشقاقها فعل المطيع إذا ورد الأمر
عليه من المطاع: أذعن له وأنصت ولم يمتنع، كقوله: (أتينا طئعين) (4). (وحقت)
من قولك: هو محقوق بكذا، وحقيق به. والمعنى: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تأبى.

(1) الفرقان: 25.
(2) لعدي بن زيد العبادي، والماذي: العسل الأبيض، ومعناه واضح. أنظر العقد الفريد: ج 5
ص 409.
(3) أخرجه الدارمي في السنن: ج 2 ص 473 عن أبي هريرة، وزاد: " وجهر به ".
(4) فصلت: 11.
752

(مدت) أي: بسطت بأن تزال جبالها وكل أمت فيها حتى تمتد وتنبسط،
كقوله: (قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) (1). (وألقت ما فيها) ورمت
بما في جوفها مما دفن فيها من الأموات والكنوز، مثل: (وأخرجت الأرض
أثقالها) (2)، (وتخلت) وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها، كأنها
تكلفت أقصى جهدها في الخلو، كقولهم: تكرم وتشجع ونحوهما. والمعنى: بلغ
الجهد فيه، وتكلف فوق ما في طبعه.
والكدح: الكد في العمل، وجهد النفس فيه حتى يؤثر فيها، من: كدح جلده إذا
خدشه، والمعنى: (إنك) جاهد (إلى) لقاء (ربك) وهو الموت وما بعده من
الحال الممثلة باللقاء، (فملقيه) فملاق له لا محالة، لا مفر لك منه، وقيل: الضمير
في (ملقيه) للكدح (3). (حسابا يسيرا) أي: سهلا هينا لا يناقش فيه، وروي:
أن الحساب اليسير هو الإثابة على الحسنات والتجاوز عن السيئات، ومن نوقش
في الحساب عذب (4). (وينقلب إلى أهله) من الحور العين في الجنة، أو: إلى
أولاده وعشائره وقد سبقوه إلى الجنة.
(ورآء ظهره) لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، وشماله خلف ظهره، فيؤتى كتابه
بشماله من وراء ظهره. (فسوف يدعوا ثبورا) ويقول: يا ثبوراه، والثبور: الهلاك.
(ويصلى سعيرا) ويصير صلاء للنار المسعرة، وقرئ: " ويصلى " (5) كقوله:
(وتصلية جحيم) (6). (إنه كان في أهله) فيما بين أظهرهم أو: معهم، على أنهم

(1) طه: 106 و 107.
(2) الزلزلة: 2.
(3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 502.
(4) أخرجه أحمد في المسند: ج 6 ص 127 عن عائشة.
(5) قرأه نافع برواية خارجة وعاصم برواية أبان بضم الياء، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر
والكسائي بضمها وتشديد اللام. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 677.
(6) الواقعة: 94.
753

كانوا جميعا مسرورين، والمعنى: أنه كان مترفا في الدنيا بطرا، ما كان يهمه أمر
الآخرة ولا يفكر فيها. (إنه ظن أن لن يحور) لن يرجع إلى الله، تكذيبا بالبعث،
فارتكب المآثم وانتهك المحارم، قال لبيد:
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (1)
(بلى) إيجاب لما بعد النفي، أي: بلى ليحورن وليبعثن، وليس الأمر كما ظنه،
(إن ربه كان به بصيرا) وبأعماله، لا يخفى عليه شيء منها، فلابد أن يرجعه
ويجازيه عليها.
والشفق: الحمرة التي تبقى عند المغرب بعد سقوط الشمس، وبسقوطه يخرج
وقت المغرب. (وما وسق) وما جمع وضم مما كان منتشرا بالنهار، يقال: وسقه
فاتسق واستوسق. (والقمر إذا اتسق) إذا اجتمع واستوى وتم ليلة أربع عشرة.
(لتركبن) جواب القسم، قرئ بضم الباء وفتحها (2). فالفتح على خطاب الإنسان
في: (يأيها الانسن) والضم على خطاب الجنس، لأن النداء للجنس، والطبق:
ما طابق غيره، يقال: ما هذا بطبق لذا، أي: لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء: الطبق، ثم
قيل للحال المطابقة لغيرها: طبق، ومنه قوله: (طبقا عن طبق) أي: حالا بعد حال،
كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول. ويجوز أن يكون جمع: طبقة، وهي
المرتبة، على معنى: لتركبن أحوالا بعد أحوال، وهي طبقات بعضها أرفع من بعض،
وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة، و (عن طبق) صفة، أي: طبقا مجاوزا

(1) وصدره: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه. من قصيدة يرثي بها أخاه أربد. وهو من أشعار
الحكمة، يقول: كل امرئ يخبو بعد توقد وذلك حين تدركه المنية، كالنار تكون ساطعة
الضوء ثم تصبح رمادا. أنظر ديوان لبيد بن ربيعة: ص 88.
(2) وبفتحها قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 677.
754

لطبق، أو: حال من الضمير في (لتركبن) أي: مجاوزين، أو: مجاوزا، وعن
مكحول: لتحدثن أمرا لم تكونوا عليه في كل عشرين سنة (1). وعن أبي عبيدة:
لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين وأحوالهم (2)، وروي ذلك عن
الصادق (عليه السلام) (3).
(فمالهم) تبكيت وتقريع للكفار، والمعنى: أي عذر لهم في ترك الإيمان
والسجود لله إذا تلي (عليهم القرءان) مع وضوح الدلائل؟
وروي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ ذات يوم: (واسجد واقترب) فسجد ومن معه
من المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر، فنزلت (4).
(يوعون) يجمعون في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من الكفر والحسد
والبغي، أو: يجمعون في صحفهم من الأعمال السيئة ويدخرون لأنفسهم من أنواع
العذاب. (إلا الذين ءامنوا) استثناء منقطع (غير ممنون) غير منقوص ولا
مقطوع.
* * *

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 728.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة: ج 2 ص 292.
(3) رواه الصدوق في كمال الدين: ص 480.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 728، والآية: 19 من سورة العلق.
755

سورة البروج
مكية (1)، وهي اثنتان وعشرون آية.
في حديث أبي: " من قرأها أعطاه الله من الأجر بعدد كل يوم جمعة وكل يوم
عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات " (2). وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في
فرائضه كان محشره وموقفه مع النبيين فإنها سورة النبيين " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والسمآء ذات البروج (1) وا ليوم الموعود (2) وشاهد
ومشهود (3) قتل أصحب الأخدود (4) النار ذات الوقود (5) إذ هم
عليها قعود (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) وما نقموا منهم
إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذي له ملك السموات
والارض والله على كل شىء شهيد (9) إن الذين فتنوا المؤمنين

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 315: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
اثنتان وعشرون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 729: مكية، وآياتها (22)، نزلت بعد الشمس.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 733 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 150 وزاد بعد " النبيين ": " والمرسلين والصالحين ".
757

والمؤمنت ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (10) إن
الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم جنت تجرى من تحتها الانهر
ذا لك الفوز الكبير (11) إن بطش ربك لشديد (12) إنه هو يبدئ
ويعيد (13) وهو الغفور الودود (14) ذو العرش المجيد (15) فعال لما
يريد (16) هل أتلك حديث الجنود (17) فرعون وثمود (18) بل الذين
كفروا في تكذيب (19) والله من ورآئهم محيط (20) بل هو قرءان
مجيد (21) في لوح محفوظ (22))
هي (البروج) الاثنا عشر التي هي قصور السماء، منازل الشمس والقمر
والكواكب. (واليوم الموعود) يوم القيامة. (وشاهد) في ذلك اليوم
(ومشهود) فيه، وقد اختلف أقوال المفسرين فيه: فروي عن الحسن بن
علي (عليهما السلام) وابن عباس: أن الشاهد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله عز اسمه: (إنآ أرسلنك
شهدا) (1)، والمشهود يوم القيامة لقوله تعالى: (وذلك يوم مشهود) (2) (3).
وعن ابن عباس أيضا: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة (4). وعن أبي
الدرداء: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة (5). وقيل: الحجر الأسود
والحجيج (6). وقيل: الأيام والليالي وبنو آدم (7).

(1) الأحزاب: 45.
(2) هود: 103.
(3) رواه عنهما الطبري في تفسيره: ج 12 ص 521.
(4) تفسير ابن عباس: ص 506.
(5) حكاه عنه الرازي في تفسيره: ج 31 ص 114.
(6) قاله أبو بكر العطار. راجع تفسير القرطبي: ج 19 ص 286.
(7) وهو ما رواه أبو نعيم عن معقل بن يسار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في تفسير القرطبي: ج 19
ص 284.
758

جواب القسم محذوف يدل عليه قوله: (قتل أصحب الأخدود)، كأنه قال:
أقسم بهذه الأشياء أنهم الملعونون، يعني: كفار قريش، كما لعن أصحاب الأخدود،
وذلك لأن السورة وردت في تثبيت المؤمنين، وتذكيرهم بما جرى على من
تقدمهم من التعذيب على الإيمان مع صبرهم وثباتهم حتى يقتدوا بهم، ويصبروا
على ما يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم بمنزلة أولئك المحرقين بالنار،
ملعونون معذبون، أحقاء بأن يقال فيهم: قتلوا كما قتل أصحاب الأخدود،
و (قتل) دعاء عليهم، أي: لعنوا بتحريقهم المؤمنين، والأخدود: الخد في
الأرض، وهو الشق، ونحوهما بناء ومعنى: الخق والأخقوق، ومنه الحديث:
" فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان " (1).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضم إليه
غلاما ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه وأعجبه كلامه، ثم
رأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان
الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، ثم كان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه
والأبرص ويشفي من الأمراض، فأخذ الملك الغلام فقال: ارجع عن دينك، فأبى،
فأمر أن يذهب به إلى جبل فيطرح من ذروته، فدعا فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت،
فرجفت بهم الخيل ونجا، فذهب به إلى قرقور (2) فلججوا به ليغرقوه، فدعا
فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا، فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في
صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول: بسم الله رب الغلام،
ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات، فقال الناس: آمنا

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 730 مرسلا.
(2) القرقور: السفينة الطويلة. (الصحاح: مادة قرقر).
759

برب الغلام، فقيل للملك: قد نزل بك ما كنت تخاف: آمن الناس! فأمر بأخاديد
على أفواه السكك وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها، حتى
جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أماه، اصبري فإنك
على الحق، فاقتحمت " (1).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد
البلاء " (2).
وعن ابن عباس: أدخل أرواحهم الجنة قبل أن تصل أجسادهم إلى النار (3).
(النار) بدل الاشتمال من (الأخدود)، (ذات الوقود) وصف لها بأنها نار
عظيمة كثيرة الحطب، أو: ظرف ل‍ (قتل) أي: لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين
حولها. ومعنى (عليها): على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كقول الأعشى:
وبات على النار الندى والمحلق (4)
والشهود: جمع شاهد، أي: وهم يشهدون على إحراق المؤمنين، وكلوا بذلك
ليشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به. (وما نقموا
منهم) وما عابوا منهم، وما أنكروا (إلا) الإيمان، كقول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم (5)

(1) أخرجه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 2299 ح 3005 عن صهيب.
(2) أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 467 عن الحسن وعزاه إلى ابن أبي شيبة في مصنفه.
(3) تفسير ابن عباس: ص 507.
(4) وصدره: تشب لمقرورين يصطليانها. من قصيدة طويلة يمدح المحلق بن خنثم وكان فقيرا
وله عشر بنات لا يرغب فيهن أحد لفقرهن، فنزل به الأعشى وأحسن قراه فعظم عنده
ومدحه في عكاظ، فلم يلبث حتى خطبت بناته. أنظر ديوان الأعشى: ص 125.
(5) وعجزه: بهن فلول من قراع الكتائب. للنابغة الذبياني من أبيات يصف فرسانا. وقد تقدم
شرح البيت في ج 1 ص 689.
760

وذكر الأوصاف التي استحق سبحانه بها أن يؤمن به ويعبد، وهو كونه
" عزيزا " أي: غالبا قادرا قاهرا " حميدا " أي: منعما، محمودا على نعمه، له التصرف
في (السموت والأرض والله على كل شىء شهيد) وعيد لهم.
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) أي: أحرقوهم وعذبوهم بالنار، وهم
أصحاب الأخدود (فلهم) في الآخرة (عذاب جهنم) بكفرهم (ولهم عذاب
الحريق) في الدنيا، لما روي: أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم (1). ويجوز أن
يريد: (الذين فتنوا المؤمنين) أي: بلوهم بالأذى على العموم، لهم عذابان في
الآخرة لكفرهم ولفتنتهم.
البطش: الأخذ بالعنف، فإذا وصفه بالشدة فقد تضاعف وتفاقم. (إنه هو
يبدئ) البطش (ويعيد) ه، أي: يبطش بهم في الدنيا والآخرة، أو: هو وعيد
للكفار بأنه يعيدهم كما أبدأهم، ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا
بالإعادة. و (الودود): الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود. قرئ: (المجيد)
بالجر (2) صفة ل‍ (العرش)، ومجده: علوه وعظمه، كما أن مجد الله عظمته،
وبالرفع. (فعال) خبر مبتدأ محذوف.
(فرعون وثمود) بدل من (الجنود)، وأراد بفرعون إياه وآله، كما قال:
(من فرعون وملئهم) (3)، والمعنى: قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل،
وما نزل بهم لتكذيبهم.
(بل الذين كفروا) من قومك (في تكذيب) لك واستيجاب للعذاب.

(1) وهو ما رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 525 عن الربيع بن أنس.
(2) قرأه حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 678.
(3) يونس: 83.
761

(والله) عالم بأحوالهم وقادر عليهم، والإحاطة (من ورآئهم) مثل لأنهم لا
يفوتونه ولا يعجزونه، ومعنى الإضراب: أن أمرهم أعجب من أمر أولئك، لأنهم
سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم ولم يعتبروا، وكذبوا أشد من تكذيبهم. (بل)
هذا الذي كذبوا به (قرءان مجيد) شريف جليل القدر، كثير الخير، عالي الطبقة في
الكتب، وفي نظمه وإعجازه، وقرئ: (محفوظ) بالرفع (1) صفة للقرآن، وبالجر
صفة لللوح.
* * *

(1) قرأه نافع وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 678.
762

سورة الطارق
مكية (1)، وهي سبع عشرة آية.
في حديث أبي: " من قرأها أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر
حسنات " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من كانت قراءته في الفريضة ب‍ (السمآء والطارق) كان
له يوم القيامة عند الله جاه ومنزلة، وكان من رفقاء النبيين وأصحابهم " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والسمآء والطارق (1) ومآ أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3)
إن كل نفس لما عليها حافظ (4) فلينظر الانسن مم خلق (5) خلق من
مآء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترآئب (7) إنه على رجعه ى
لقادر (8) يوم تبلى السرآئر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10) والسمآء

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 322: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
سبع عشرة آية في الكوفي والبصري والمدني الأخير، وست عشرة آية في المدني الأول.
وفي الكشاف: ج 4 ص 734: مكية، وآياتها (17)، نزلت بعد البلد.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 737 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 150، وزاد في آخره: " في الجنة ".
763

ذات الرجع (11) والارض ذات الصدع (12) إنه لقول فصل (13) وما هو
بالهزل (14) إنهم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) فمهل الكفرين
أمهلهم رويدا (17))
الطارق: الذي يجيء ليلا، كأنه عز اسمه أراد أن يقسم ب‍ " النجم الثاقب " أي:
المضيء الذي يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، لما فيه من عجيب القدرة ولطيف
الحكمة، فأتى بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره، وهو (الطارق) ثم فسره
بقوله: (النجم الثاقب) إظهارا لفخامة شأنه. وجواب القسم قوله: (إن كل نفس
لما عليها حافظ) لأن من قرأ (لما) مشددة ف‍ (إن) هي النافية. و " لما " بمعنى:
" إلا "، ومن قرأها مخففة (1) ف‍ " ما " صلة، و " إن " هي المخففة من الثقيلة، وكلاهما
مما يتلقى به القسم، والمعنى: ما كل نفس إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ
عملها ويحصي عليها ما كسبت من خير أو شر، أو: حافظ رقيب عليها وهو الله
عز وجل (وكان الله على كل شىء رقيبا) (2)
(فلينظر الانسن مم خلق) هذه توصية للإنسان بالنظر في بدء أمره حتى
يعلم أن من أنشأ النشأة الأولى قادر على إعادته، فيعمل ليوم الإعادة، و (مم
خلق) استفهام، جوابه: (خلق من مآء دافق) أي: ذي دفق، كاللابن والتامر،
والدفق: صب فيه دفع، ولم يقل: ماءين، لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين
ابتدئ في خلقه. (يخرج من بين) صلب الرجل وترائب المرأة، وهي عظام
الصدر.
(إنه) الضمير للخالق لدلالة (خلق) عليه، ومعناه: أن ذلك الذي خلق

(1) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 678.
(2) الأحزاب: 52.
764

الإنسان ابتداء من نطفة (على رجعه) على إعادته خصوصا (لقادر) لبين
القدرة، لا يعجز عنه.
(يوم تبلى السرآئر) منصوب ب‍ (رجعه)، وعن مجاهد: أنه على رد الماء
إلى مخرجه من الصلب والترائب لقادر (1). وعلى هذا فيكون الظرف منصوبا
بمضمر (يوم تبلى السرآئر) أي: تختبر السرائر في القلوب من العقائد والنيات
وغيرها، وما أسر وما أخفى من الأعمال، فيميز بين ما طاب منها وما خبث. (فما
له) أي: فما للإنسان (من قوة) من منعة في نفسه يمتنع (ولا ناصر) يمنعه.
(والسماء ذات الرجع) وهو المطر، سمي بالمصدر لأن الله يرجعه وقتا
فوقتا. و (الصدع) ما يتصدع الأرض عنه من النبات. (إنه) الضمير للقرآن
(لقول فصل) فاصل بين الحق والباطل، كما قيل له: فرقان. (وما هو بالهزل)
بل هو الجد لا هوادة فيه، فمن حقه أن يكون معظما في القلوب مهيبا في الصدور،
ومن حق قارئه وسامعه أن لا يلم بهزل ولعب، ويقرر في نفسه أن إلهه وربه
جل جلاله يخاطبه، فيأمره وينهاه، ويعده ويوعده، فإذا مر بآية الوعد تضرع إليه
راجيا أن يكون من أهلها، وإذا مر بآية الوعيد تعوذ به خائفا أن يكون من أهلها.
(إنهم يكيدون) يحتالون في إيقاع المكروه بك وبمن معك. (وأكيد كيدا)
أدبر ما ينقض كيدهم واحتيالهم من حيث يخفى عليهم، (فمهل الكفرين) لا
تدع بهلاكهم ولا تستعجل به، وارض بتدبير الله فيهم و (أمهلهم) أراد التوكيد
وكره التكرير، فخالف بين اللفظين، ولما زاد في التوكيد أتى بالمعنى وترك اللفظ
فقال: (رويدا) أي: إمهالا يسيرا.
* * *

(1) تفسير مجاهد: ص 720.
765

سورة الأعلى (1)
مكية (2)، وقيل: مدنية (3)، تسع عشرة آية.
في حديث أبي: " من قرأها أعطاه الله من الأجر عشر حسنات بعدد كل حرف
أنزله على إبراهيم وموسى ومحمد (عليهم السلام) " (4).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ (سبح اسم ربك الاعلى) في فريضة أو نافلة
قيل له يوم القيامة: ادخل من أي أبواب الجنان شئت " (5).
بسم الله الرحمن الرحيم
(سبح اسم ربك الاعلى (1) الذي خلق فسوى (2) والذي قدر
فهدى (3) والذي أخرج المرعى (4) فجعله غثآء أحوى (5) سنقرئك

(1) في بعض النسخ: " سورة سبح اسم ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 329: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
هي مدنية، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 737: مكية، وآياتها (19)، نزلت بعد التكوير.
(3) وفي الإتقان: ج 1 ص 52: الجمهور على أنها - أي سورة الأعلى - مكية، وقال ابن الفرس:
وقيل: إنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 741 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 150 وزاد في آخره: " إن شاء الله ".
767

فلا تنسى (6) إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7) ونيسرك
لليسرى (8) فذكر إن نفعت الذكرى (9) سيذكر من يخشى (10) ويتجنبها
الأشقى (11) الذي يصلى النار الكبرى (12) ثم لا يموت فيها
ولا يحيى (13) قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15) بل
تؤثرون الحيوة الدنيا (16) والاخرة خير وأبقى (17) إن هذا لفي
الصحف الاولى (18) صحف إبرا هم وموسى (19))
عن ابن عباس: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قرأ (سبح اسم ربك الاعلى) قال:
" سبحان ربي الأعلى " (1). ومعناه: نزه ربك عن كل ما لا يليق به من الصفات التي
هي إلحاد في أسمائه: كالجبر والتشبيه ونحو ذلك. و (الاعلى) يجوز أن يكون
صفة للرب وللاسم، وهو بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار.
وفي الحديث: لما نزل: (سبح اسم ربك الاعلى) قال: اجعلوها في
سجودكم، ولما نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم) (2) قال: اجعلوها في
ركوعكم (3).
(الذي خلق) كل شيء (فسوى) خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتا غير
ملتئم، ولكن على إحكام وانتظام ليدل على أنه صادر من عالم حكيم. (والذي
قدر) لكل حيوان ما يصلحه (فهدا) ه وعرفه وجه الانتفاع به، حتى إنه هدى
الطفل إلى ثدي أمه، والفرخ إلى طلب الزق من أمه. وهدايات الله للإنسان إلى ما
لا يحد ولا يعد من مصالحه في أغذيته وأدويته، وفي أمور دنياه وآخرته،
وإلهامات البهائم والطيور والحيوانات باب واسع لا يحاط بكنهه، فسبحان ربنا

(1) تفسير ابن عباس: ص 508.
(2) الواقعة: 74 و 96، الحاقة: 52.
(3) أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 1 ص 287 ح 887 عن عقبة بن عامر الجهني.
768

الأعلى تبارك وتعالى. وقرئ: " قدر " بالتخفيف (1)، وهو قراءة علي (عليه السلام) (2)
والمعنى واحد. (أحوى) صفة ل‍ (غثاء)، أي: (أخرج المرعى فجعله) بعد
خضرته ورفيفه (غثاء أحوى) أي: درينا أسود، ويجوز أن يكون (أحوى) حالا
من (المرعى) أي: أخرجه أحوى: أسود من شدة الخضرة والري، فجعله غثاء
بعد حوته.
(سنقرئك فلا تنسى) هذه بشارة بشر نبيه عليه الصلاة والسلام بها، وهو أن
يقرأ عليه جبرائيل (عليه السلام) ما يقرؤه من الوحي، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فيحفظه
ولا ينساه. (إلا ما شآء الله) فذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته، كما قال:
(أو ننسها نأت بخير منها) (3)، وهذه آية بينة ومعجزة دالة على نبوته.
(إنه يعلم الجهر وما يخفى) معناه: أنه يعلم ما تجهر بقراءته مع جبرائيل
مخافة التفلت وما تخفي في نفسك، أو: يعلم ما أعلنتم وما أخفيتم من أقوالكم
وأفعالكم وأعمالكم، وما ظهر وما بطن من أحوالكم، وما هو مصلحة في دينكم
وما هو مفسدة فيه.
(ونيسرك لليسرى) معطوف على: (سنقرئك)، وقوله: (إنه يعلم الجهر
وما يخفى) اعتراض، والمعنى: ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، يعني:
حفظ الوحي وتسهيله، وقيل للشريعة الحنيفية: السمحة التي هي أيسر الشرائع
وأسهلها مأخذا.
(فذكر إن نفعت الذكرى) أي: ذكر الخلق وعظهم، وكرر التذكير بعد إلزام

(1) قرأه الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 680.
(2) حكاه عنه (عليه السلام) الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 256.
(3) البقرة: 106.
769

الحجة إن نفعت ذكراك وإلا فأعرض عنهم، وقيل: معناه: ذكرهم ما بعثتك له إن
نفعت ذكراك وإن لم ينفع، فإن إزاحة علتهم تقتضي تذكيرهم وإن لم يقبلوا (1).
(سيذكر) سيقبل التذكرة وينتفع بها (من يخشى) الله، فينظر ويفكر حتى تعوده
النظر إلى اتباع الحق. (ويتجنبها) ويتجنب الذكرى ويتحاماها (الأشقى) الذي
كفر بالله وبتوحيده. (الذي يصلى النار الكبرى) نار جهنم، والصغرى نار الدنيا.
(ثم لا يموت فيها) فيستريح، (ولا يحيى) حياة ينتفع بها.
(قد أفلح من تزكى) أي: تطهر من الشرك وقال: لا إله إلا الله، وقيل:
(تزكى) تطهر للصلوات فصلى الصلوات الخمس (2)، وقيل: أعطى زكاة ماله (3)،
وقيل: أراد زكاة الفطر وصلاة العيد (4). وعن الضحاك: (وذكر اسم ربه) في
طريق المصلى (فصلى) صلاة العيد (5). (بل تؤثرون) تختارون (الحياة
الدنيا) على الآخرة، ولا تتفكرون في أمور الآخرة. وقرئ: " يؤثرون " بالياء
على الغيبة (6)، (والآخرة خير وأبقى) أفضل في نفسها وأدوم.
وفي الحديث: " من أحب آخرته أضر بدنياه، ومن أحب دنياه أضر
بآخرته " (7).
(إن هذا) الذي ذكر من قوله: (قد أفلح) إلى قوله: (وأبقى) والمراد:

(1) قاله الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي. راجع تفسير الآلوسي: ج 30 ص 108.
(2) قاله ابن عباس. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 548.
(3) قاله أبو الأحوص وقتادة. راجع المصدر السابق: ص 547.
(4) وهو قول أبي العالية. راجع المصدر نفسه.
(5) حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 740.
(6) وهي قراءة أبي عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 680.
(7) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 3 ص 370 عن أبي موسى الأشعري.
770

أن معنى هذا الكلام وارد في تلك (الصحف)، وقيل: (هذا) إشارة إلى ما في
السورة كلها (1).
وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبي
وأربعة وعشرون ألف نبي، قلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم المرسلون منهم؟ قال:
ثلاثمائة وثلاثة عشر، قلت: كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة وأربعة كتب: أنزل
منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ - وهو
إدريس - ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحف،
والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان " (2)
* * *

(1) قاله ابن العربي في أحكام القرآن: ج 4 ص 382.
(2) أخرجه الطبري في تاريخه: ج 1 ص 151 و 152 و 312 - 313 عن أبي إدريس الخولاني
عن أبي ذر.
771

سورة الغاشية
مكية (1) وهي ست وعشرون آية.
في حديث أبي: " من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من أدمن قراءة الغاشية في فريضة أو نافلة غشاه الله
رحمته في الدنيا والآخرة، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(هل أتلك حديث الغشية (1) وجوه يومئذ خشعة (2) عاملة
ناصبة (3) تصلى نارا حامية (4) تسقى من عين ءانية (5) ليس لهم طعام
إلا من ضريع (6) لا يسمن ولا يغنى من جوع (7) وجوه يومئذ ناعمة (8)
لسعيها راضية (9) في جنة عالية (10) لا تسمع فيها لغية (11) فيها عين
جارية (12) فيها سرر مرفوعة (13) وأكواب موضوعة (14) ونمارق

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 333: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
ست وعشرون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 741: مكية، وآياتها (26)، نزلت بعد الذاريات.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 745 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 150 وفيه: " آتاه " بدل " أعطاه ".
773

مصفوفة (15) وزرابى مبثوثة (16) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف
خلقت (17) وإلى السمآء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف
نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20) فذكر إنمآ أنت مذكر (21)
لست عليهم بمصيطر (22) إلا من تولى وكفر (23) فيعذبه الله العذاب
الأكبر (24) إن إلينآ إيابهم (25) ثم إن علينا حسابهم (26))
(الغشية) القيامة تغشى الناس بأهوالها وشدائدها، وقيل: هي النار (1)، من
قوله: (وتغشى وجوههم النار) (2). (يومئذ) يوم إذ غشيت، (خشعة) ذليلة
بالعذاب الذي يغشاها. (عاملة ناصبة) عاملة في النار عملا تتعب فيه، وهو
جرها في السلاسل والأغلال، وارتقاؤها دائبة في صعود منها وهبوطها في حدور
منها، وقيل: عملت ونصبت في الدنيا في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة (3)
(أولئك الذين حبطت أعملهم) (4) (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (5)،
عن سعيد بن جبير: وهم الرهبان وأصحاب الصوامع وأهل البدع، لا يقبل الله
أعمالهم (6).
وعن الصادق (عليه السلام): كل عدو لنا وإن تعبد واجتهد يصير إلى هذه الآية (7).
قرئ: (تصلى) بفتح التاء وضمها (8) (حامية) حميت فهي تتلظى على

(1) قاله سعيد بن جبير. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 550.
(2) إبراهيم: 50.
(3) قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 478.
(4) آل عمران: 22.
(5) الكهف: 104.
(6) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 478.
(7) رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: ج 2 ص 419 باسناده عن أبي حمزة، والصدوق
في ثواب الاعمال: ص 247 ح 3 باسناده عن أبان بن تغلب.
(8) وبضم التاء قرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 681.
774

أعداء الله. (عين ءانية) حارة بلغت منتهاها في الحر. الضريع: يبيس الشبرق،
وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس تحامته، وهو سم قاتل.
(لا يسمن) مرفوع المحل أو مجروره، على وصف (طعام) أو (ضريع)،
يعني: أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك، والشوك مما
ترعاه الإبل، وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه، ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه، وهما:
إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن، وقيل: إن كفار قريش قالت: إن
الضريع لتسمن عليه إبلنا، فنزلت: (لا يسمن ولا يغنى من جوع) (1).
(ناعمة) منعمة من أنواع النعيم، أو: ذات بهجة وحسن. (لسعيها راضية)
رضيت بعملها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب. (في جنة عالية)
مرتفعة القصور والدرجات، أو: عالية المقدار. (لا تسمع) الوجوه، أو: هو خطاب
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لغية) أو لغوا، أو: كلمة ذات لغو، أو: نفسا تلغو، لا يتكلم أهل
الجنة إلا بالحكمة وحمد الله، وقرئ: " لا يسمع " على البناء للمفعول بالياء
والتاء (2). (فيها عين جارية) يريد: عيونا في غاية الكثرة، كقوله: (علمت
نفس) (3). (سرر مرفوعة) مرتفعة المقدار أو السمك ليرى المؤمن بجلوسه عليه
جميع ما خوله ربه من الملك. (وأكواب موضوعة) على حافات العيون الجارية،
أو: كلما أراد المؤمن شربها وجدها مملوءة حاضرة لا يحتاج إلى أن يدعو بها.
(ونمارق مصفوفة) أي: وسائد صف بعضها إلى جنب بعض، مساند ومطارح
أينما أراد أن يجلس جلس على مسورة، واستند إلى أخرى. (وزرابى) بسط

(1) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 317.
(2) والياء مبنيا للمفعول قرأه ابن كثير وأبو عمرو، وبالتاء كذلك قرأه نافع وابن كثير برواية شبل
عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 681.
(3) التكوير: 14.
775

عراض فاخرة، وقيل: طنافس لها خمل رقيق (1)، جمع زريبة (مبثوثة)
مبسوطة، أو: مفرقة في المجالس.
(أفلا ينظرون إلى الإبل) نظر اعتبار (كيف خلقت) خلقا عجيبا، فهي تنقاد
لكل من اقتادها بأزمتها، وتبرك حتى تحمل أحمالها، ثم تنهض بها إلى البلاد
الشاسعة، وليس ذلك في غيرها من ذوات الأربع، وصبرت على احتمال العطش
حتى أن أظماءها (2) ترتفع إلى العشر فصاعدا، إذ جعلت سفائن البر. (كيف
رفعت) رفعا بعيد المدى بلا مساك وبغير عمد. (كيف نصبت) نصبا ثابتا فهي
راسخة لا تزول. (كيف سطحت) سطحا فهي مهاد يتقلب عليها. وروي: أن
عليا (عليه السلام) قرأ: " خلقت " و " رفعت " و " نصبت " و " سطحت " على البناء للفاعل
وتاء الضمير (3)، والتقدير في الجميع: فعلتها، فحذف المفعول. والمعنى: أفلا
ينظرون إلى هذه المخلوقات الدالة على الصانع القادر العالم حتى لا ينكروا
اقتداره على البعث والإعادة، ويؤمنوا برسوله، ويستعدوا للقائه؟
(فذكر) يعني: أنهم لم ينظروا فذكرهم ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا
يذكرون، و (إنما أنت مذكر) كقوله: (إن عليك إلا البلغ) (4). (لست عليهم
بمصيطر) أي: بمتسلط، كقوله: (ومآ أنت عليهم بجبار) (5) (إلا من تولى)
استثناء منقطع، أي: لست بمستول عليهم، ولكن من تولى منهم فإن لله الولاية
والقهر، فهو يعذبه (العذاب الأكبر) الذي هو عذاب جهنم، وقيل: هو استثناء

(1) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 258.
(2) الظمء: ما بين الوردين، وهو حبس الإبل عن الماء إلى غاية الورد، والجمع: أظماء.
(الصحاح: مادة ظمأ).
(3) حكاه عنه (عليه السلام) ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 173.
(4) الشورى: 48.
(5) ق: 45.
776

من قوله: (فذكر) إلا من انقطع طمعك عن إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر،
وما بينهما اعتراض (1).
وقرئ: " إيابهم " بالتشديد (2)، وأصله: أواب، من: أوب، ثم قلب الواو ياء
ك‍ " ديوان "، ثم فعل به ما فعل بأصل " سيد " و " هين "، والمعنى في تقديم الظرف:
التشديد في الوعيد، وإن (إيابهم) ليس إلا إلى القهار المقتدر على الانتقام، وإن
(حسابهم) ليس بواجب إلا عليه.
* * *

(1) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 258.
(2) وهي قراءة أبي جعفر المدني. راجع شواذ القرآن: ص 173.
777

سورة الفجر
مكية (1)، ثلاثون آية كوفي، تسع وعشرون بصري، عد الكوفي: (في
عبدى) (2).
في حديث أبي: " من قرأها في ليال عشر غفر له، ومن قرأها في سائر الأيام
كانت له نورا يوم القيامة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة
حسين بن علي عليه الصلاة والسلام، من قرأها كان مع الحسين (عليه السلام) يوم القيامة
في درجته من الجنة " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والفجر (1) وليال عشر (2) والشفع والوتر (3) والليل إذا يسر (4)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 340: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
هي مدنية. وهي ثلاثون آية في الكوفي، وتسع وعشرون في البصري، واثنتان وثلاثون في
المدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 746: مكية، وآياتها (30) وقيل: (29)، نزلت بعد الليل.
(2) الآية: 29.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 753 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 150 وزاد: " إن شاء الله ".
779

هل في ذا لك قسم لذى حجر (5) ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات
العماد (7) التى لم يخلق مثلها في البلد (8) وثمود الذين جابوا الصخر
بالواد (9) وفرعون ذى الأوتاد (10) الذين طغوا في البلد (11) فأكثروا
فيها الفساد (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب (13) إن ربك
لبالمرصاد (14) فأما الانسن إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول
ربى أكرمن (15) وأمآ إذا ما ابتلله فقدر عليه رزقه فيقول ربى
أهنن (16) كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحضون على طعام
المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المال حبا
جما (20) كلا إذا دكت الأرض دكا دكا (21) وجآء ربك والملك صفا
صفا (22) وجاىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسن وأنى له الذكرى
(23) يقول يليتنى قدمت لحياتى (24) فيومئذ لا يعذب عذابه أحد (25)
ولا يوثق وثاقه أحد (26) يأيتها النفس المطمئنة (27) ارجعى إلى
ربك راضية مرضية (28) فادخلى في عبدى (29) وادخلى جنتى (30))
الفجر: شق عمود الصبح، أقسم عز اسمه به كما أقسم بالصبح في قوله: (والصبح
إذا أسفر) (1). (والصبح إذا تنفس) (2)، (وليال عشر) يعني: عشر ذي الحجة،
وقيل: هي العشر الأواخر من شهر رمضان (3)، وإنما نكرت لأنها ليال مخصوصة
من بين جنس الليالي العشر وبعض منها، أو: مخصوصة بفضائل ليست لغيرها.
(الشفع والوتر) إما الأشياء كلها شفعها ووترها، وإما شفع هذه الليالي
ووترها، أو: (الشفع): يوم النحر لأنه عاشر أيامها (والوتر) عرفة لأنها تاسع

(1) المدثر: 34.
(2) التكوير: 18.
(3) قاله ابن عباس برواية أبي ظبيان عنه. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 481.
780

أيامها، أو: (الشفع): يوم التروية (والوتر): يوم عرفة، وروي ذلك عن
الأئمة (عليهم السلام)، وقرئ: (والوتر) بفتح الواو (1) وهما لغتان في العدد، وفي " الترة "
الكسر لا غير.
(والليل إذا يسر) إذا يمضي، كقوله: (والليل إذا أدبر) (2) ويحذف ياء
" يسري " في الدرج اجتزاء عنها بالكسرة، فأما في الوقف فيحذف الياء والكسرة،
وقيل: معنى " يسري ": يسرى فيه (3).
(هل في ذلك) أي: هل في ما أقسمت به من هذه الأشياء (قسم) أي:
مقسم به (لذى حجر) يريد: لذي عقل لأن العقل يحجر عن القبيح، ولذلك سمي
عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى، أي: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه؟
وجواب القسم محذوف، وهو: ليعذبن، يدل عليه قوله: (ألم تر كيف فعل ربك)
إلى قوله: (سوط عذاب)، وقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح:
عاد، كما قيل لبني هاشم: هاشم، ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، وإرم تسمية
لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة، ف‍ " إرم " في قوله: (بعاد إرم) عطف
بيان ل‍ " عاد "، وقيل: إرم: بلدتهم التي كانوا فيها (4)، ويدل عليه قراءة من قرأ:
" بعاد إرم " على الإضافة (5)، وتقديره: بعاد أهل إرم، و (ذات العماد) إذا كانت
صفة للقبيلة فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو: طوال الأجسام على تشبيه
قدودهم بالأعمدة، وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين.

(1) الظاهر أن المصنف (رحمه الله) قد اعتمد هنا على قراءة كسر الواو تبعا للكشاف، وهي قراءة حمزة
والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 683.
(2) المدثر: 33.
(3) قاله القتبي. راجع تفسير السمرقندي: ج 3 ص 475.
(4) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 566.
(5) قرأه ابن الزبير والحسن، إلا أن الثاني فتح " عاد ". راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 173.
781

وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد، فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص
الأمر لشداد فملك الدنيا، وسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض
صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة،
قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف
الأشجار والأنهار المطردة، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها
على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا (1).
وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له في الصحاري، فوقع عليها،
فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه، فبعث إلى
كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك
أحمر أشقر قصير، على حاجبيه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له،
ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل (2).
(لم يخلق مثلها) أي: مثل عاد (في البلد) عظم أجرام وقوة، أو: لم يخلق
مثل مدينة شداد في جميع البلاد. (جابوا الصخر) أي: قطعوا صخر الجبال
واتخذوا فيها بيوتا، كقوله: (وتنحتون من الجبال بيوتا) (3). وقيل لفرعون:
" ذو الأوتاد " لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو: لتعذيبه
بالأوتاد كما فعل بآسية.
(الذين طغوا) نصب على الذم، أو: رفع على: هم الذين طغوا، أو: جر صفة
للمذكورين: عاد وثمود وفرعون. يقال: صب عليه السوط وغشاه وقنعه،
وذكر السوط إشارة إلى أن ما أجله بهم في الدنيا من العذاب بالقياس إلى ما أعده

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 748.
(2) رواه ابن كثير في تفسيره: ج 4 ص 509 عن وهب بن منبه عنه وعزاه إلى الثعلبي وابن أبي
حاتم.
(3) الشعراء: 149.
782

لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به، وكان الحسن إذا أتى على
هذه الآية قال: إن عند الله أسواطا كثيرة فأخذهم بسوط منها (1).
(المرصاد) المكان الذي يترقب (2) فيه الرصد، مفعال من: رصده. وهذا
مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه، وعن عمرو بن عبيد: أنه قرأ هذه
السورة عند المنصور حتى بلغ هذا الموضع فقال: (إن ربك لبالمرصاد) يا أبا
جعفر. عرض له في هذا النداء بأنه من جملة من توعد بذلك من الجبابرة (3).
وعن ابن عباس في هذه الآية: أن على جسر جهنم سبعة محابس، يسأل الله
عز وجل العبد عند أولها عن شهادة لا إله إلا الله، وعند الثاني عن الصلاة، وعند
الثالث عن الزكاة، وعند الرابع عن الصوم، وعند الخامس عن الحج، وعند
السادس عن العمرة، فإن أجاب بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم، فإن
خرج منها وإلا يقال: انظروا، فإن كان له تطوع أكمل به أعماله، فإذا فرغ انطلق به
إلى الجنة (4).
واتصل قوله: (فأما الانسن) بقوله: (إن ربك لبالمرصاد) كأنه قال: إن
الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي، فأما الإنسان فلا
يهمه إلا العاجلة، فإذا (ابتله ربه) وامتحنه و (أكرمه ونعمه) بما وسع عليه
من المال (فيقول ربى أكرمن) وهو خبر المبتدأ الذي هو (الانسن)، ودخول
الفاء لما في (أما) من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في
تقدير التأخير، والتقدير: مهما يكن من شيء فالإنسان قائل: ربي أكرمني وقت
الابتلاء، وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره: ابتلاء، لأن كل واحد منهما

(1) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 417.
(2) في الكشاف: " يترتب ".
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 748.
(4) أنظر تفسير ابن عباس: ص 510.
783

لاختبار العبد أيشكر أم يكفر عند البسط، أو يصبر أم يجزع عند التقتير، فالحكمة
فيهما واحدة، ونحوه قوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (1)، وقرئ:
(قدر) بالتخفيف والتشديد (2)، وقرئ: " أكرمن " و " أهانن " بسكون النون في
الوقف (3) في من ترك الياء في الدرج مكتفيا منها بالكسرة.
(كلا) ردع عن هذا القول، أي: ليس الأمر كما قال، فإني لا أغني المرء
لكرامته علي ولا أفقره لمهانته عندي، ولكني أبسط الرزق لمن أشاء وأقدر بحسب
ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة (بل) يفعلون ما يستحقون به الإهانة، فلا
يؤدون ما يلزمهم في المال إذا أكرمتهم بالإكثار منه، من: إكرام اليتيم وحض
الأهل على (طعام المسكين)، و " يأكلون " أكل الأنعام، ويحبونه فيبخلون به.
وقرئ: (تكرمون) وما بعده بالتاء على الخطاب (4). وقرئ: " ولا يحاضون " (5)،
أي: يحض بعضكم بعضا.
(أكلا لما) ذا لم، وهو الجمع بين الحلال والحرام، أي: يجمعون في أكلهم بين
نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم، وكانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون
تراثهم مع تراثهم، وقيل: (يأكلون التراث) فيما يشتهون أكلا واسعا،
ولا يخرجون ما وجب عليهم فيه من الحقوق (6). (حبا جما) أي: كثيرا شديدا

(1) الأنبياء: 35.
(2) قرأه ابن عامر وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 765.
(3) قرأه أبو عمرو برواية علي بن نصر وعباس وعبيد كلهم عنه. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 684 - 685.
(4) الظاهر أن المصنف رحمه الله قد اعتمد هنا على قراءة الياء على الغائب، وهي قراءة أبي
عمرو وحده. راجع كتاب السبعة: ص 685.
(5) قرأه ابن مسعود وزيد بن علي (عليه السلام) وابن المبارك والكسائي برواية الشيرازي عنه. راجع
البحر المحيط: ج 8 ص 471.
(6) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 751.
784

مع الحرص والشره (1).
(كلا) ردع عن ذلك وإنكار لفعلهم، ثم أتى بالوعيد، وذكر تحسرهم عندما
فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة. و (يومئذ) بدل من (إذا دكت الأرض) وظرف
ل‍ (يتذكر). (دكا دكا) أي: دكا بعد دك، أي: كرر عليها دك جبالها وأنشازها
حتى استوت قاعا صفصفا.
(وجآء ربك) هذا تمثيل لظهور آيات قهره وسلطانه، مثل ذلك بحال الملك
إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور من سواه
من جنوده وخواصه. (والملك صفا صفا) أي: ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون
صفا بعد صف، (وجاىء يومئذ بجهنم) كقوله: (وبرزت الجحيم) (2).
وعن أبي سعيد الخدري: أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعرف
في وجهه، حتى اشتد على أصحابه، فأخبروا عليا (عليه السلام)، فجاء فاحتضنه من خلفه،
ثم قبل بين عاتقيه ثم قال: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، ما الذي حدث اليوم؟ فقال:
جاء جبرائيل (عليه السلام) اليوم فأقرأني، وتلا الآية عليه، فقال له علي (عليه السلام): كيف يجاء
بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو
تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم أتعرض لجهنم فتقول: مالي ولك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقد حرم الله لحمك علي، فلا يبقى أحد إلا يقول: نفسي نفسي، وإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: أمتي أمتي (3).
(يومئذ يتذكر الانسن) ما فرط فيه، أو: يتعظ (وأنى له الذكرى) أي:
ومن أين له منفعة الذكرى، لابد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين (يتذكر)

(1) في نسخة: " والشدة ".
(2) الشعراء: 91، والنازعات: 36.
(3) أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 511 عن أبي سعيد وعزاه إلى ابن مردويه.
785

وبين (أنى له الذكرى) تناقض. (يقول يليتنى قدمت لحياتى) هذه، وهي
حياة الآخرة، أو: وقت حياتي في الدنيا، كقولك: جئته لخمس ليال مضين من شهر
كذا، وفيه أوضح دلالة على أنهم كانوا مختارين لأفعالهم غير مجبرين عليها،
وإلا فما معنى التحسر.
وقرئ: " يعذب " و " يوثق " بالفتح (1)، والضمير للإنسان الموصوف، وقيل:
هو أبي بن خلف، أي: لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه لتناهيه
في كفره وعناده (2) أو: لا يحمل عذابه أحد، كقوله: (ولا تزر وازرة وزر
أخرى) (3)، وقرئ بالكسر، والضمير لله، أي: لا يتولى عذاب الله أحد؛ لأن الأمر
لله وحده في ذلك اليوم، أو: للإنسان أي: لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه.
(يأيتها النفس) على إرادة القول، أي: يقول الله للمؤمن: يا أيتها النفس
إكراما له، كما كلم موسى (عليه السلام)، أو: على لسان ملك، و (المطمئنة) الآمنة التي
لا يستفزها خوف ولا حزن، أو: المطمئنة إلى الحق التي سكنها روح العلم وثلج
اليقين فلا يخالجها شك، وإنما يقال لها ذلك عند الموت، أو: عند البعث، أو: عند
دخول الجنة، على معنى: (ارجعى إلى) موعد (ربك راضية) بما أوتيت
(مرضية) عند الله. (فادخلى في) جملة (عبدى) الصالحين، (وادخلى جنتى)
معهم. وقيل: النفس: الروح (4) والمعنى: فادخلي في أجساد عبادي، وقرأ ابن
عباس: " في عبدي " (5)، وقال: ارجعي إلى صاحبك فادخلي في جسد عبدي (6).

(1) قرأه الكسائي وعاصم برواية المفضل عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 685.
(2) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 511.
(3) الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7.
(4) قاله ابن عباس والضحاك وعكرمة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 582.
(5) حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 174.
(6) تفسير ابن عباس: ص 511.
786

سورة البلد
مكية (1)، عشرون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأها أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من كان قراءته في الفريضة (لا أقسم بهذا البلد) كان
في الدنيا معروفا أنه من الصالحين، وكان في الآخرة معروفا أن له من الله مكانا،
وكان من رفقاء النبيين والشهداء والصالحين " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(لا أقسم بهذا البلد (1) وأنت حل بهذا البلد (2) ووالد وما
ولد (3) لقد خلقنا الانسن في كبد (4) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد (5)
يقول أهلكت مالا لبدا (6) أيحسب أن لم يره أحد (7) ألم نجعل له
عينين (8) ولسانا وشفتين (9) وهدينه النجدين (10) فلا اقتحم

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 349: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
أنزلت حين افتتحت مكة، وهي عشرون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 753: مكية، وآياتها (20) نزلت بعد ق.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 757 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 151.
787

العقبة (11) ومآ أدراك ما العقبة (12) فك رقبة (13) أو إطعم في يوم
ذى مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) أو مسكينا ذا متربة (16) ثم كان من
الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة (17) أولئك أصحب
الميمنة (18) والذين كفروا بايتنا هم أصحب المشمة (19) عليهم
نار مؤصدة (20))
أقسم سبحانه ب‍ (البلد) الحرام، وهو مكة، وب‍ (والد وما ولد) وهو آدم
وذريته من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم، وقيل: هو إبراهيم وولده (1)، وقيل: هو
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ولده (2). أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه
إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه، وقيل: هو كل والد وولده (3).
وجواب القسم: (لقد خلقنا الانسن في كبد) أي: نصب وشدة، فهو مغمور في
مكابدة المشاق والشدائد. واعترض بقوله: (وأنت حل بهذا البلد) بين القسم
وجوابه، يعني: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك تستحل بهذا البلد الحرام
كما يستحل الصيد في غير الحرم، وقد استحلوا إخراجك وقتلك، وقيل: إنه وعد له
بفتح مكة (4)، أي: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر،
بأن يفتحه الله عليك ويحله لك. والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدا فهو كبد:
إذا وجعت كبده، ثم استعمل في كل تعب ومشقة.
والضمير في (أيحسب) لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

(1) قاله أبو عمران الجوني. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 587.
(2) قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 754.
(3) قاله ابن عباس وعكرمة. راجع تفسير الطبري المتقدم.
(4) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 511.
788

يكابد منهم ما يكابد، والمعنى: أيظن هذا المتعزز القوي في قومه (أن لن يقدر)
على الانتقام منه وعلى مكافأته أحد؟ (يقول أهلكت مالا لبدا) كثيرا، يريد: كثرة
ما أنفقه فيما كانوا يسمونها مكارم الأخلاق. (أيحسب أن لم يره أحد) حين كان
ينفق ما ينفق رياء الناس؟ يعني: أن الله كان يراه، وقيل: هو أبو الأشد، رجل من
جمح وكان قويا، بحيث يقف على أديم عكاظي فيجره العشرة من تحته فيقطع ولا
يبرح من مكانه (1).
(ألم نجعل له عينين) يبصر بهما المرئيات. (ولسانا) يترجم به عما في
ضميره (وشفتين) يطبق بهما على فيه، ويستعين بهما على النطق والأكل
والشرب وغير ذلك. (وهدينه النجدين) أي: طريقي الخير والشر، وقيل:
الثديين (2). (فلا اقتحم العقبة) أي: فلم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال
الصالحة من: فك الرقاب، وإطعام اليتامى والمساكين، مع الإيمان الذي هو أصل
كل طاعة، وأساس كل خير، بل غمط النعم وكفر بالمنعم؟ والمعنى: أن الإنفاق على
هذا الوجه هو الإنفاق النافع المرضي عند الله، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء
والفخار. وقوله: (ثم كان من الذين ءامنوا) يدل على أن المعنى: فلا اقتحم العقبة
ولا أمن، والاقتحام: الدخول بشدة ومشقة، والقحمة: الشدة، وجعل سبحانه
الأعمال الصالحة عقبة، وعملها اقتحاما لها لما في ذلك من معاناة الشدة ومجاهدة
النفس، وعن الحسن: عقبة والله شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه
الشيطان (3). وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره. وقرئ: " فك رقبة

(1) قاله ابن عباس في تفسيره المتقدم.
(2) قاله ابن عباس والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 592.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 756.
789

أو أطعم " (1) على الإبدال من: (اقتحم العقبة).
وقوله: (ومآ أدراك ما العقبة) اعتراض، والمعنى: أنك لم تدر كنه ثوابها
وكنه صعوبتها على النفس؟ وكل واحدة من: (مسغبة) و (مقربة) و (متربة)
مفعلة من: سغب إذا جاع، وقرب في النسب، وترب إذا افتقر والتصق بالتراب،
ووصف " اليوم " ب‍ (ذى مسغبة) كما قيل: هم ناصب: ذو نصب.
وقوله: (ثم كان من الذين ءامنوا) إنما جاء ب‍ (ثم) لتراخي الإيمان
وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، لأن الإيمان هو
السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به (وتواصوا بالصبر وتواصوا
بالمرحمة) أي: وصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه، أو: بالصبر
عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن والبلايا بأن يكونوا متراحمين، أو: بما
يؤدي إلى رحمة الله تعالى، أو: بالرحمة على أهل الحاجة. و (الميمنة) و
(المشئمة): اليمين والشمال، أو: اليمن والشؤم، أي: أصحاب اليمن والبركة على
نفوسهم، وأصحاب الشؤم عليها. وقرئ: (مؤصدة) بالهمزة وترك الهمز (2)، من:
أوصدت الباب وآصدته: إذا أطبقته، يعني: أن أبوابها عليهم مطبقة لا يخرج منها
غم، ولا يدخل فيها روح إلى آخر الأبد.
* * *

(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 686.
(2) قرأه ابن كثير وابن عامر ونافع والكسائي وعاصم برواية أبي بكر عنه راجع كتاب السبعة
في القراءات: ص 686.
790

سورة الشمس
مكية (1) خمس عشرة آية.
في حديث أبي: " من قرأها فكأنما تصدق بكل شىء طلعت عليه الشمس
والقمر " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من أكثر قراءة (والشمس وضحها)، (والليل إذا
يغشى)، و (والضحى)، و (ألم نشرح) في يومه أو ليلته لم يبق شىء بحضرته
إلا شهد له يوم القيامة، حتى شعره وبشره ولحمه وعروقه وجميع ما أقلت الأرض
منه، ويقول الرب تبارك وتعالى: قبلت شهادتكم لعبدي وأجزتها له، انطلقوا به إلى
جناني حتى يتخير منها حيث ما أحب فأعطوه إياها غير من مني ولكن رحمة
وفضلا، فهنيئا لعبدي " (3).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 356: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
خمس عشرة آية في الكوفي والبصري، وست عشرة في المدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 758: مكية، وآياتها (15)، نزلت بعد القدر.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 761 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 151، وفيه بعد " وعروقه ": " وعصبه وعظامه "، وفيه " رحمة
مني وفضلا عليه "، وكرر لفظة " هنيئا " مرتين.
791

بسم الله الرحمن الرحيم
(والشمس وضحاها (1) والقمر إذا تلاها (2) والنهار إذا
جللها (3) والليل إذا يغشاها (4) والسمآء وما بناها (5) والارض وما
طحاها (6) ونفس وما سولها (7) فألهمها فجورها وتقولها (8) قد أفلح
من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10) كذبت ثمود بطغوهآ (11) إذ
انبعث أشقاها (12) فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقيها (13) فكذبوه
فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسولها (14) ولا يخاف عقبها (15))
(ضحها) امتداد ضوئها وانبساطه وإشراقه، ولذلك قيل: وقت الضحى،
وقيل: الضحوة: ارتفاع النهار، والضحى: فوق ذلك، والضحاء - بالفتح والمد -:
فوق ذلك إذا قارب النصف (1). (إذا تلها) طلع عند غروبها آخذا من نورها،
وذلك في النصف الأول من الشهر. (إذا جلها) عند انبساط النهار مجليا لها
لظهور جرمها فيه وتمام انجلائها، وقيل: الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم
يجر لها ذكر، كقولهم: أصبحت باردة، يعنون الغداة (2). (إذا يغشها) أي: يغشى
الشمس فيظلم الآفاق ويلبسها سواده.
و " ما " في قوله: (وما بنها)، (وما طحها)، (وما سولها) موصولة،
والمعنى: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، والأرض والصانع العليم الذي
طحاها، ونفس والخالق الحكيم الذي سواها أي: عدل خلقها، وفي كلامهم:
سبحان ما سخركن لنا. (فألهمها فجورها وتقولها) أي: عرفها طريق الفجور
والتقوى، وأن أحدهما قبيح والآخر حسن، ومكنها من اختيار ما شاء منهما،

(1) قاله مجاهد والفراء. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 5 ص 235.
(2) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 266.
792

بدليل قوله: (قد أفلح من زكها وقد خاب من دسها) فجعله فاعل التزكية
والتدسية ومتوليهما. والتزكية: الإنماء والإعلاء بالتقوى، والتدسية: النقص
والإخفاء بالفجور، وأصل دسى: دسس، كما قيل: تقضى في " تقضض ".
ونكر قوله: (ونفس) لأنه أراد نفسا خاصة من بين النفوس، وهي نفس آدم،
كأنه قال: وواحدة من النفوس، أو: لأنه أراد كل نفس، فيكون من عكس كلامهم
الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه، كقول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرا أنامله (1)
فجاء بلفظ التقليل الذي يفهم منه معنى الكثرة، ومنه قوله تعالى: (ربما يود
الذين كفروا لو كانوا مسلمين) (2)، ومعناه معنى " كم " أو أبلغ منه.
وجواب القسم محذوف، وتقديره: ليدمدمن الله عليهم، أي: على أهل مكة
لتكذيبهم برسول الله كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا. وأما قوله: (قد أفلح
من زكها) فكلام تابع لقوله: (فألهمها فجورها وتقولها) على سبيل الاستطراد
وليس من جواب القسم في شىء.
والباء في (بطغواها) مثلها في: كتبت بالقلم، والطغوى من: الطغيان، فصلوا
بين الاسم والصفة في: " فعلى " من ثبات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم وتركوا
القلب في الصفة فقالوا: امرأة خزياء وصدياء، والمعنى: فعلت ثمود التكذيب
بطغيانها، كما تقول: ظلمني بجرأته على الله، وقيل: (كذبت) بما أوعدت به من
العذاب ذي الطغوى (3) كقوله: (فأهلكوا بالطاغية) (4). (إذ انبعث) ظرف

(1) وعجزه: كأن أثوابه مجت بفرصاد. لعبيد بن الأبرص الأسدي، وفيه يظهر مقام التمدح
بشجاعته. وقد تقدم شرح البيت في ج 1 ص 160.
(2) الحجر: 2.
(3) قاله ابن عباس وقتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 605.
(4) الحاقة: 5.
793

ل‍ (كذبت) أو: للطغوى، و (أشقها) قدار بن سالف، عاقر الناقة، وهو أشقى
الأولين على لسان نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
وعن عثمان بن صهيب عن أبيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): من
أشقى الأولين؟ قال: عاقر الناقة، قال: صدقت، فمن أشقى الآخرين؟ قال: لا أعلم
يا رسول الله، قال: الذي يضربك على هذه، وأشار إلى يافوخه (2).
ويجوز أن يكونوا جماعة، وإنما وحد لأن أفعل التفضيل يستوي فيه بين
الواحد والجمع في الإضافة، وكان يجوز أن يقال: أشقوها. (ناقة الله) نصب على
التحذير، كقولك: الأسد الأسد بإضمار: " احذر " أو: ذروا عقرها (وسقيها) فلا
تزووها عنها. (فكذبوه) فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا (فدمدم
عليهم) فأطبق عليهم العذاب، ودمر عليهم (بذنبهم) بسبب ذنبهم، وفيه إنذار
عظيم بعاقبة الذنب (فسوها) الضمير للدمدمة أي: فسوى الدمدمة بينهم لم يفلت
منها أحد منهم. (ولا يخاف عقبها) أي: عاقبتها وتبعتها كما يخاف ذلك من
يعاقب فيبقي بعض الإبقاء، وقرئ: " فلا يخاف " بالفاء (3)، وروي ذلك عن
الصادق (عليه السلام).

(1) أنظر شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2 ص 335 و 337 ح 1096 و 1099 وما بعده
من طرق عن علي (عليه السلام).
(2) أخرجه الحاكم الحسكاني في الشواهد: ج 2 ص 336 ح 1098 وفيه: " عمر بن صهيب
عن أبيه "، وابن عساكر في تاريخ دمشق: ج 3 ص 342 برقم 1389، وأبو يعلى الموصلي
في المسند: ج 1 ص 377 ح 225، وأبو نعيم في معرفة الصحابة: ص 21 ط. حجر، وابن
حجر في المطالب العالية: ج 4 ص 323 ح 4511، وابن أبي عاصم في الأحاد والمثاني: ص
15 (مخطوط)، والهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9 ص 136 وعزاه إلى الطبراني وأبي يعلى
وقال: رجاله ثقات.
(3) قرأه نافع وابن عامر وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. راجع كتاب السبعة في
القراءات: ص 689.
794

سورة الليل
مكية (1) إحدى وعشرون آية.
في حديث أبي: " من قرأها أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه من العسر، ويسر
له اليسر " (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والليل إذا يغشى (1) والنهار إذا تجلى (2) وما خلق الذكر
والأنثى (3) إن سعيكم لشتى (4) فأما من أعطى واتقى (5) وصدق
بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب
بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) ومآ يغنى عنه ماله إذا تردى (11) إن
علينا للهدى (12) وإن لنا للاخرة والاولى (13) فأنذرتكم نارا
تلظى (14) لا يصللهآ إلا الأشقى (15) الذي كذب وتولى (16)
وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتى ماله يتزكى (18) وما لأحد عنده من

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 362: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
إحدى وعشرون آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 761: مكية، وآياتها (21)، نزلت بعد الأعلى.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 765 مرسلا.
وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) في فضلها في حديثه عن فضل سورة الشمس.
795

نعمة تجزى (19) إلا ابتغآء وجه ربه الاعلى (20) ولسوف يرضى (21))
أقسم سبحانه ب‍ (الليل إذا يغشى) الشمس أو النهار، من قوله: (والليل إذا
يغشاها) (1) يغشى الليل النهار، أو: يغشى كل شيء، يواريه بظلامه. (تجلى)
ظهر بزوال ظلمة الليل وطلوع الشمس. (وما خلق) أي: والقادر الذي قدر على
خلق (الذكر والأنثى)، وقيل: هما خلق آدم وحواء (2)، وفي قراءة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3) وعلي (عليه السلام) وابن عباس: " والذكر والأنثى " (4). (إن سعيكم
لشتى) جواب القسم، أي: إن مساعيكم أشتات مختلفة، أو: شتى: جمع شتيت.
(فأما من أعطى) حق الله من ماله (واتقى) الله فلم يعصه. (وصدق)
بالخصلة (الحسنى) وهي الإيمان، أو: بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام، أو:
بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. (فسنيسره) أي: فسنهيئه (لليسرى) من: يسر
الفرس للركوب: إذا أسرجها وألجمها، ومنه قوله (عليه السلام): " كل ميسر لما خلق له " (5).
والمعنى: فسنوفقه حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه. (وأما من بخل
واستغنى) وزهد فيما عند الله كأنه مستغن عنه فلم يتقه، أو: استغنى بشهوات
الدنيا عن نعيم الجنة، لأنه في مقابلة (واتقى)، (فسنيسره للعسرى) أي:
فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه، من قوله: (ويجعل
صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) (6)، أو: سمى طريقة الخير باليسرى

(1) الشمس: 4.
(2) قاله مقاتل والكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 494.
(3) كذا في الكشاف أيضا، والمراد ورد ذلك في خبر، قال في مجمع البيان: " في الشواذ: قراءة
النبي (صلى الله عليه وآله) وقراءة علي بن أبي طالب... ".
(4) حكى القراءة عنهم ابن جني في المحتسب: ج 2 ص 364.
(5) أخرجه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 2041 ح 2649 عن عمران بن حصين.
(6) الأنعام: 125.
796

لأن عاقبتها اليسر، وطريقة الشر بالعسرى لأن عاقبتها العسر، أو: أراد بهما:
طريقي الجنة والنار، أي: فسنهديهما في الآخرة للطريقين.
(وما يغنى عنه ماله) نفي أو استفهام في معنى الإنكار (إذا تردى) تفعل
من الردى وهو الهلاك، يريد: إذا مات، أو: تردى في الحفرة إذا قبر، أو: تردى في
قعر جهنم.
قال الباقر (عليه السلام): (فأما من أعطى) ما آتاه الله (وصدق بالحسنى) أي: بأن
الله يعطي بالواحد عشرا إلى مائة ألف فما زاد. (فسنيسره لليسرى) لا يريد شيئا
من الخير إلا يسره الله له. (وأما من بخل) بما آتاه الله (وكذب بالحسنى) بأن
الله يعطي بالواحد عشرا إلى مائة ألف. (فسنيسره للعسرى) لا يريد شيئا من
الشر إلا يسره له، (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) قال: والله ما تردى من جبل
ولا في بئر، ولكن تردى في نار جهنم (1).
(إن علينا للهدى) إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان
الشرائع. (وإن لنا للاخرة والاولى) أي: ثواب الدارين للمهتدي، كقوله:
(وءاتيناه أجره في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصلحين) (2).
(نارا تلظى) أي: تتلهب وتتوقد. (لا يصلهآ إلا الأشقى) لا يختص
بصلاها إلا الكافر الذي هو أشقى الأشقياء، يريد: نارا مخصوصة من أعظم النيران.
وسيجنب النار (الأتقى) المبالغ في التقوى. (الذي) ينفق ماله في سبيل الله
(يتزكى) يطلب أن يكون عند الله زاكيا، أو: يتفعل من: " الزكاة ". (وما لأحد

(1) رواه الكليني في الكافي: ج 4 ص 46 ح 5 باسناده عن سعد بن طريف، وفيه بعد " من
جبل ": " ولا من حائط ".
(2) العنكبوت: 27.
797

عنده من نعمة تجزى) أي: ولم يفعل ما فعله لنعمة أسديت عليه (1) يكافأ عليها،
ولا ليد يتخذها عند أحد. (إلا ابتغآء وجه ربه) مستثنى من غير جنسه، وهو
النعمة، أي: ما أعطيت لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه، كقولك: ما في الدار أحد
إلا حمارا، ويجوز أن يكون مفعولا له، لأن المعنى: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء الثواب.
(ولسوف يرضى) بما يعطى من الثواب والخير.
* * *

(1) في نسخة: " إليه " بدل " عليه ".
798

سورة الضحى
مكية (1) إحدى عشرة آية بالإجماع.
في حديث أبي: " من قرأها كان ممن يرضى الله بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشفع له،
وله عشر حسنات بعدد كل يتيم وسائل " (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والضحى (1) والليل إذ آ سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3)
وللاخرة خير لك من الاولى (4) ولسوف يعطيك ربك فترضى (5) ألم
يجدك يتيما فاوى (6) ووجدك ضآلا فهدى (7) ووجدك عآئلا
فأغنى (8) فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السآئل فلا تنهر (10) وأما
بنعمة ربك فحدث (11))

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 367: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
إحدى عشرة آية بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 765: مكية، وآياتها (11)، نزلت بعد الفجر.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 769 مرسلا.
وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) في فضلها عند الحديث في فضل قراءة سورة الشمس
المتقدمة.
799

أقسم سبحانه بوقت (الضحى) وهو صدر النهار، وقيل: أريد بالضحى النهار
كله (1) كقوله: (أن يأتيهم بأسنا ضحى) (2) في مقابلة قوله: (بياتا) (3)،
(سجى) أي: سكن وركد ظلامه، وليلة ساجية: ساكنة الريح، وقيل: معناه: سكون
الناس والأصوات فيه (4). (ما ودعك) جواب القسم، أي: ما قطعك قطع المودع،
والتوديع مبالغة في الودع وهو الترك، لأن من ودعك فقد بالغ في تركك.
وروي: أن الوحي قد احتبس عنه أياما، فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه
وقلاه فنزلت (5).
وحذف الضمير من (قلى) كما حذف من (الذاكرت) (6)، ونحوه:
(فآوى)، (فهدى)، (فأغنى) وهو اختصار لفظي لأن المحذوف معلوم.
(وللاخرة خير لك من الاولى) وجه اتصاله بما قبله: أنه لما كان في ضمن نفي
التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، أخبره سبحانه أن
حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل، وهو السبق والتقدم على جميع الرسل
والأنبياء، وإعلاء المرتبة، وإعطاء الشفاعة والحوض وأنواع الكرامة.
وعن ابن الحنفية أنه قال: يا أهل العراق، تزعمون أن أرجى آية في كتاب
الله عز وجل: (قل يعبادى الذين أسرفوا...) (7) الآية، وإنا أهل البيت نقول:
أرجى آية في كتاب الله: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وهي والله الشفاعة،
ليعطينها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول: رب رضيت (8).

(1) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 599.
(2) الأعراف: 98.
(3) الأعراف: 97.
(4) قاله مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 622.
(5) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 623 عن ابن عباس.
(6) الأحزاب: 35.
(7) الزمر: 53.
(8) رواه القرطبي في تفسيره: ج 20 ص 96 عن علي (عليه السلام). وفي الدر المنثور: ج 8 ص 543
من طريق حرب بن شريح عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، وعزاه إلى ابن
المنذر وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية.
800

واللام في (ولسوف) لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ
محذوف، والتقدير: ولأنت سوف يعطيك، وليس بلام القسم لأنها لا تدخل على
المضارع إلا مع نون التوكيد. ثم عدد سبحانه عليه نعمه، وأنه لم يخله منها من
ابتداء أمره ليقيس المترقب على السالف: (ألم يجدك) من الوجود الذي بمعنى
العلم، والمنصوبان مفعولا " وجد "، والمعنى: ألم تكن يتيما؟ وذلك أن أباه مات
وهو جنين، أو: بعد ولادته بمدة قليلة على اختلاف الرواية فيه، وماتت أمه وهو
ابن سنتين فآواه الله بجده عبد المطلب أولا، وبعمه أبي طالب بعد وفاة
عبد المطلب، وحببه إليه حتى كان أحب إليه من جميع أولاده، فكفله ورباه، ولما
مات عبد المطلب كان ابن ثماني سنين.
(ووجدك ضآلا) عن علم الشرائع، كقوله: (ما كنت تدرى ما الكتب ولا
الايمن) (1). وقيل: إن حليمة ظئره أضلته عند باب مكة حين فطمته وجاءت به
لترده على عبد المطلب، فخرج عبد المطلب ودعا الله سبحانه فنودي وأشعر
بمكانه (2). وروي أيضا: أنه ضل في صباه في بعض شعاب مكة فرده أبو جهل إلى
عبد المطلب (3) (فهدى) أي: فعرفك القرآن والشرائع، أو: فأزال ضلالك عن
جدك. (ووجدك عآئلا) أي: فقيرا لا مال لك فأغناك بمال خديجة، أو: بما أفاء
عليك من الغنائم.
(فأما اليتيم فلا تقهر) أي: فلا تغلبه على حقه وماله لضعفه.

(1) الشورى: 52.
(2) رواه القرطبي في تفسيره: ج 20 ص 97 عن كعب.
(3) رواه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 499 عن ابن عباس.
801

وعنه (عليه السلام): " من مسح يده على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور
يوم القيامة " (1).
(وأما السائل فلا تنهر) أي: فلا ترده ولا تزجره، وقيل: هو طالب العلم إذا
جاءك فلا تنهره (2). والتحديث (بنعمة) الله: شكرها وإشاعتها وإظهارها.
* * *

(1) رواه الآلوسي في تفسيره: ج 30 ص 163 مرفوعا عن ابن مسعود.
(2) قاله الحسن. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 500.
802

سورة الشرح (1)
مكية (2)، ثماني آيات.
في حديث أبي: " ومن قرأها أعطي من الأجر كمن لقي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) مغتما
ففرج عنه " (3).
وروي عن أئمتنا (عليهم السلام): أن " الضحى "، و (ألم نشرح) سورة واحدة، وكذلك:
(ألم تر كيف) و (لإيلاف) سورة واحدة (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وزرك (2) الذي أنقض
ظهرك (3) ورفعنا لك ذكرك (4) فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر
يسرا (6) فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8))

(1) في بعض النسخ: " سورة ألم نشرح ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 371: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
ثمان آيات بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 770: مكية، وآياتها (8)، نزلت بعد الضحى.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 772 مرسلا.
(4) رواه العياشي عن الصادق (عليه السلام) كما في المجمع.
803

هذا استفهام عن انتفاء " الشرح " على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح
وإيجابه، فكأنه قال: " شرحنا لك صدرك " ولذلك عطف عليه (وضعنا) اعتبارا
للمعنى، ومعنى " شرحنا لك صدرك ": فسحناه حتى وسع دعوة الثقلين، أو:
فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم، وعن الحسن: ملئ حكمة وعلما (1).
والوزر (الذي أنقض ظهرك) أي: حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض
والانفكاك، مثل لما كان يثقل على رسول الله من تحمل أعباء النبوة، وما كان
يصيبه من أذى الكفار مع شدة حرصه على إسلامهم، ووضع ذلك عنه بأن أيده
بالمعجزات، وأنزل السكينة عليه، وعلمه الشرائع ومهده عذره بعد أن بلغ.
ورفع ذكره وهو أن قرن ذكره بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة
والتشهد والخطب وفي القرآن، وبأن ذكره في الكتب المتقدمة، وأخذ على الأنبياء
والأمم أن يؤمنوا به. والفائدة في زيادة (لك) وإن كان المعنى يستقل بدونه، هي
ما في طريقة الإبهام والإيضاح، فكأنه لما قال: (ألم نشرح لك) فهم أن ثم
مشروحا، ثم قال: (صدرك) فأوضح ما كان مبهما. وكذلك قوله: و (لك ذكرك)
و (عنك وزرك).
ولما ذكر سبحانه ما أنعم به على رسوله من جلائل النعم، وقد كان المشركون
عيروه بالفقر حتى ظن أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم عقب
ذلك بقوله: (فإن مع العسر يسرا) فكأنه قال: خولناك ما خولناك تفضلا وإنعاما
فلا تيأس من فضلنا، فإن مع العسر الذي أنت فيه يسرا. وقرب " اليسر " المترقب
بلفظة (مع) التي هي للصحبة، حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في تسليته
وتقوية لقلبه.

(1) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 426.
804

والجملة الثانية تكرير للجملة الأولى لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في
القلوب، وعلى هذا فيكون معنى ما روي في الحديث أنه (عليه السلام) خرج ذات يوم وهو
يضحك ويقول: " لن يغلب عسر يسرين " (1) أن يكون قوله: (فإن مع العسر يسرا
إن مع العسر يسرا) موعدا من الله سبحانه مكررا.
وينبغي أن يحمل وعده على أبلغ ما يحتمله اللفظ، وقد علمنا أن الجملة
الأولى عدة بأن العسر مردوف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر
متبوع بيسر، فهما يسران على تقدير الاستئناف، وإنما كان العسر واحدا؛ لأنه لا
يخلو: إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو لأن حكمه
حكم " زيد " في قولك: إن مع زيد مالا، إن مع زيد مالا، وإما أن يكون للجنس
الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا. وأما " اليسر " فمنكر متناول بعض الجنس، وإذا
كان الكلام الثاني مستأنفا غير مكرر فقد يتناول بعضها غير البعض الأول بغير
إشكال. ويجوز أن يراد باليسرين: يسر الدنيا ويسر الآخرة، والمعنى في التنكير:
التفخيم، كأنه قال: إن مع العسر يسرا عظيما وأي يسر!
(فإذا فرغت فانصب) هذا بعث له (عليه السلام) على الشكر، والاجتهاد في العبادة
والنصب فيها، وأن لا يخلو منها.
وعن ابن عباس: فإذا فرغت عن صلاتك فاجتهد في الدعاء وارغب إلى
ربك في المسألة (2)، وهو المروي عن الصادق (عليه السلام) (3).

(1) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 628 عن الحسن.
(2) تفسير ابن عباس: ص 514.
(3) رواه الحميري في قرب الإسناد: ص 7 ح 22 ط. آل البيت عن مسعدة بن صدقة عن أبي
عبد الله (عليه السلام) عن أبيه.
805

وعن الحسن: فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة (1).
وعن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك (2). وعن الشعبي أنه
رأى رجلا يشيل حجرا فقال: ليس بهذا أمر الفارغ (3).
ومعنى تقديم الظرف الذي هو (إلى ربك): أن المراد خصه بالرغبة: ولا
ترغب إلا إليه، ولا تعول إلا على فضله، ولا ترفع حوائجك إلا إليه.
* * *

(1) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 428.
(2) تفسير مجاهد: ص 736.
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 772.
806

سورة التين
مختلف فيها (1) ثماني آيات.
في حديث أبي: " من قرأها أعطاه الله خصلتين: العافية واليقين ما دام في دار
الدنيا، فإذا مات أعطاه الله بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ (والتين) في فرائضه ونوافله أعطي من الجنة
حيث يرضى " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد الأمين (3) لقد
خلقنا الانسن في أحسن تقويم (4) ثم رددنه أسفل سفلين (5)

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 375: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
ثمان آيات بلا خلاف.
وفي تفسيره الماوردي: ج 6 ص 300: مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر،
وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية.
وفي الكشاف: ج 4 ص 773: مكية، وآياتها (8)، نزلت بعد البروج.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 775 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 151، وزاد في آخره: " إن شاء الله ".
807

إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فلهم أجر غير ممنون (6) فما يكذبك
بعد بالدين (7) أليس الله بأحكم الحكمين (8))
أقسم سبحانه ب‍ (التين) الذي يؤكل (والزيتون) الذي يعصر منه الزيت،
لأنهما عجيبتان من بين أصناف الأشجار المثمرة.
وروي أنه أهدي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه:
" كلوا فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه هي، لأن فاكهة الجنة بلا عجم،
فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس " (1).
ومر معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبا واستاك به، وقال: سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " نعم السواك الزيتون، من الشجرة المباركة، يطيب الفم
ويذهب بالحفر "، وسمعته يقول: " هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي " (2).
وقيل: هما جبلان من الأرض المقدسة (3)، وأضيف " الطور " وهو الجبل إلى
(سينين) وهي البقعة، و " سينون " مثل " يبرون " في جواز الإعراب بالواو والياء،
والإقرار على الياء وتحريك النون بحركات الإعراب. و (البلد الأمين) مكة، قد
أمن فيه الخائف في الجاهلية والإسلام، يقال: أمن الرجل أمانة، فهو أمين وأمان،
فكأنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه.
(لقد خلقنا الانسن) جواب القسم (في أحسن تقويم) أي: في أحسن
تعديل لشكله وصورته، وتسوية لأعضائه، وإبانة له من غيره بنطقه وتميزه وعقله

(1) رواه في مكارم الإخلاق: ص 173، والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية: ج 2
ص 141 كلاهما عن أبي ذر.
(2) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء: ج 1 ص 441 و 535.
(3) قاله ابن عباس. راجع تفسير الرازي: ج 32 ص 9.
808

وتدبيره، (ثم رددنه) ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر النعمة في الخلقة القويمة
أن رددناه (أسفل) من سفل خلقا وتركيبا، يعني: أقبح من قبح صورة من خلقه،
وهم أصحاب النار. أو: ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في
الصورة حيث نكسناه في الخلق، يريد: حال الخرف والهرم وكلال السمع والبصر.
والاستثناء على المعنى الأول متصل، واتصاله ظاهر، وعلى الثاني منقطع
بمعنى: ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعاتهم
وصبرهم على مقاساة المشاق والقيام بالعبادة في حال عجزهم وتخاذل قواهم،
وعن ابن عباس: (إلا الذين ءامنوا) يعني: الذين قرأوا القرآن، وقال: من قرأ
القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وإن عمر طويلا (1).
(فما يكذبك) الخطاب للإنسان على طريقة الالتفات، أي: فما يجعلك كاذبا
بسبب (الدين) وإنكاره بعد هذا الدليل؟ يعني: أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء،
فإن كل مكذب بالحق كاذب لا محالة، والباء مثلها في قوله: (الذين هم به
مشركون) (2)، وقيل: الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (3). (أليس الله بأحكم
الحكمين) وعيد للكفار بأنه يحكم عليهم بما هم أهله.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان إذا ختم هذه السورة قال: " بلى، وأنا على ذلك من
الشاهدين " (4).
* * *

(1) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 505.
(2) النحل: 100.
(3) قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 642.
(4) أخرجه الترمذي في السنن: ج 5 ص 443 ح 3347 عن أبي هريرة موقوفا.
809

سورة العلق
مكية (1) تسع عشرة آية.
وفي حديث أبي: " ومن قرأها فكأنما قرأ المفصل كله " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها ثم مات في يومه أو ليلته مات شهيدا، وبعث
شهيدا، وكان كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الانسن من علق (2) اقرأ
وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الانسن ما لم يعلم (5) كلا إن
الانسن ليطغى (6) أن رءاه استغنى (7) إن إلى ربك الرجعى (8) أرءيت
الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرءيت إن كان على الهدى (11)
أو أمر بالتقوى (12) أرءيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 378: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
تسع عشرة آية في الكوفي والبصري، وعشرون في المدنيين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 775: مكية، وآياتها (19)، وهي أول ما نزل من القرآن.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 779 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 151، وفيه بعد " بعث شهيدا ": " وأحياه شهيدا ".
811

يرى (14) كلا لبن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كذبة خاطئة (16)
فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) كلا لا تطعه واسجد واقترب (19))
أكثر المفسرين على أنها أول سورة نزلت، وقيل: إن الفاتحة أول ما نزل (1)،
وقيل: (يأيها المدثر) (2) (باسم ربك) في محل الحال، أي: اقرأ مفتتحا باسم
ربك، قل: بسم الله، ثم اقرأ: (الذي خلق) أي: حصل منه الخلق واستأثر به، لا
خالق سواه، و (3) خلق جميع الأشياء، فيتناول كل مخلوق. ثم قال: (خلق
الانسن) خصص الإنسان بالذكر من بين سائر ما يتناوله الخلق لأنه أشرف ما
على الأرض (من علق) ولم يقل: من علقة لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله:
(إن الانسن لفي خسر) (4).
(وربك الأكرم) الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم، أنعم على
عباده بأن أخرجهم إلى الوجود من العدم، وأفاض عليهم ما لا يدخل تحت الحصر
من النعم، ويحلم عنهم في ركوبهم المناهي واطراحهم الأوامر، فلا يعاجلهم
بالنقم، فما لكرمه نهاية. (الذي علم بالقلم) أي: علم الخط بالقلم، أو: علم
الإنسان البيان بالقلم، أو: الكتابة. قيل: إن آدم أول من كتب (5)، وقيل: إدريس (6).
(علم الانسن ما لم يعلم) ونقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فجميع ما يعلمه
الإنسان من أمور الدين وأنواع العلم من جهته سبحانه: إما بأن اضطره إليه،

(1) قاله أبو ميسرة الهمداني. راجع تفسير القرطبي: ج 20 ص 117.
(2) قاله أبو سلمة وحكاه عن جابر بن عبد الله. راجع التبيان: ج 10 ص 171.
(3) في نسخة: " أي " بدل الواو، وفي الكشاف: " أو ".
(4) العصر: 2.
(5) قاله كعب الأحبار. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 305.
(6) قال الضحاك. راجع المصدر السابق.
812

وإما بأن نصب الدليل عليه في عقله، أو: بينه له على ألسنة ملائكته ورسله، فكل
العلوم (1) مضاف إليه مستفاد منه جل اسمه.
(كلا) ردع وتنبيه (2) لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة
الكلام عليه. (أن رءاه) وأن رأى نفسه، يقال في أفعال القلوب: رأيتني، وعلمتني،
وذلك من خصائصها، ولو كانت الرؤية بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين
الضميرين. و (استغنى) هو المفعول الثاني، أي: لأن رأى نفسه مستغنية عن ربه
بأمواله وعشيرته وقوته. وعن قتادة: إذا أصاب مالا زاد في مراكبه وثيابه وطعامه
وشرابه فلذلك طغيانه (3).
(إن إلى ربك الرجعى) واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تحذيرا له
من عاقبة الطغيان، و (الرجعى) مصدر كالبشرى، بمعنى الرجوع. وقيل: نزلت
في أبي جهل (4)، فروي أنه قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم،
قال: فوالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن عنقه، فجاءه ثم نكص على
عقبيه يتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار
وهولا وأجنحة، وقال (عليه السلام): " والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة
عضوا عضوا " فنزلت: (أرءيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) (5).
والمعنى: أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي
على طريقة شديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله (أو) كان (أمر بالتقوى)

(1) في نسخة: " المعلوم ".
(2) في بعض النسخ زيادة: " على الخطأ ".
(3) حكاه عنه عبد الرزاق في تفسيره: ج 2 ص 313.
(4) قاله الفراء. راجع معاني القرآن: ج 3 ص 278.
(5) رواه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 2154 ح 2797.
813

فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك (إن) كان على التكذيب للحق
والتولي عن الدين، كما نقول نحن (ألم يعلم بأن الله يرى) ويطلع على أحواله من
هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك، وهذا وعيد. وقيل: معناه: أرأيت إن كان
هذا الذي صلى على الهدى والطريقة المستقيمة، وأمر بأن تتقى معاصي الله، كيف
تكون حال من ينهاه عن الصلاة ويزجره عنها؟ (1)
فأما تقدير إعرابه، فإن (الذي ينهى) والجملة الشرطية هما في موضع
مفعولي (أرءيت)، وحذف جواب الشرط الأول، فكأنه قال: إن كان على الهدى
أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى. وجاز حذفه لدلالة ذكره في جواب الشرط
الثاني عليه، وصح الاستفهام في جواب الشرط كما تقول: إن أتيتك أتكرمني؟
و (أرءيت) الثانية زائدة مكررة توسطت بين مفعولي (أرءيت) الأولى للتوكيد.
(كلا) ردع لأبي جهل وخسأ عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة الأصنام
(لئن لم ينته) عما هو فيه " لنسفعن " لنأخذن بناصيته ولنسحبنه (2) بها إلى النار،
واكتفى في (الناصية) بلام العهد عن الإضافة لما علم أنها ناصية المذكور،
والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة، وكتب (لنسفعا) في المصحف بالألف
على حكم الوقف. (ناصية) بدل من (الناصية) أبدلت عن المعرفة وهي نكرة
لأنها وصفت فاستقلت بفائدة، ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي،
وهما في الحقيقة لصاحبها، وفي ذلك من الفصاحة والجزالة ما ليس في قولك:
ناصية كاذب خاطئ. والنادي: المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون.
والمراد: أهل النادي، كما قال زهير:

(1) قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 381.
(2) في بعض النسخ: " لنسجننه ".
814

وفيهم مقامات حسان وجوههم * وأندية ينتابها القول والفعل (1)
والمقامة: المجلس. وعن ابن عباس: أن أبا جهل أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو
يصلي، فقال له: ألم أنهك؟ فانتهره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أتنهرني يا محمد وأنا
أكثر أهل الوادي ناديا؟ فنزلت: (سندع الزبانية) (2) يعني: الملائكة الموكلين
بالنار، وهي في كلام العرب الشرط الواحد، زبنية من: " الزبن " وهو الدفع، كعفرية.
(كلا) ردع لأبي جهل (لا تطعه) يا محمد في النهي عن الصلاة، أي: اثبت
على ما أنت عليه من عصيانه (واسجد) ودم على سجودك، وقيل: (واسجد)
لله (واقترب) من الله (3).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا سجد " (4).
والسجود هنا من العزائم الأربع.
* * *

(1) البيت من قصيدة طويلة يمدح بها سنان بن أبي حارثة المري. أنظر ديوان زهير بن أبي
سلمى: ص 62.
(2) رواه عنه الواحدي في أسباب النزول: ص 396.
(3) قاله مجاهد في تفسيره: ص 738.
(4) أخرجه ابن عدي في الكامل: ج 2 ص 690 عن أبي هريرة، ورواه الصدوق في الفقيه: ج 1
ص 209 ح 23 عن الصادق (عليه السلام). والكليني في الكافي: ج 3 ص 265 ح 3 عن الرضا (عليه السلام).
815

سورة القدر
خمس آيات، مختلف فيها (1).
في حديث أبي: " من قرأها أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة
القدر " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ (إنا أنزلنه) في فريضة من الفرائض نادى
مناد: يا عبد الله قد غفر لك ما مضى، فاستأنف العمل " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنآ أنزلنه في ليلة القدر (1) ومآ أدراك ما ليلة القدر (2) ليلة

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 384: مدنية في قول الضحاك، وقال عطاء
الخراساني: هي مكية، وهي خمس آيات بلا خلاف.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 311: مكية في قول الأكثرين، ومدنية في قول الضحاك،
وذكر الواقدي: أنها أول سورة نزلت بالمدينة.
وفي الكشاف: ج 4 ص 780: مكية، وقيل: مدنية، وآياتها (5)، نزلت بعد عبس.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 781 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 152. وبنفس الإسناد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " من قرأها
فجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل الله عز وجل، ومن قرأها سرا كان كالمتشحط
بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرات محا الله عنه ألف ذنب من ذنوبه ".
817

القدر خير من ألف شهر (3) تنزل الملئكة والروح فيها بإذن ربهم من
كل أمر (4) سلم هى حتى مطلع الفجر (5))
الضمير في (أنزلنه) للقرآن، وعن ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة
في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزله جبرائيل (عليه السلام)
على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما في ثلاث وعشرين سنة (1). وعن الشعبي: إنا ابتدأنا
إنزاله (في ليلة القدر) (2).
وقد عظم الله عز اسمه القرآن هنا من ثلاثة أوجه: وهو إسناد إنزاله إليه،
والإتيان بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة، والرفع من قدر الوقت الذي
أنزله فيه وهو ليلة القدر.
واختلف فيها، والأظهر الأصح من الأقوال: أنها في شهر رمضان في العشر
الأواخر في أوتارها، ثم قيل: إنها ليلة إحدى وعشرين منه وهو اختيار
الشافعي (3). وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): رأيت هذه الليلة ثم
أنسيتها، ورأيتني أسجد في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها
في كل وتر، قال: فأبصرت عيناي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر
الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. أورده البخاري في الصحيح (4).
وقيل: إنها ليلة ثلاث وعشرين منه، وهي ليلة الجهني واسمه عبد الله بن أنيس
الأنصاري، قال: يا رسول الله، إن منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها،
فأمره بليلة ثلاث وعشرين (5). وعن ابن عمر في حديث آخر: فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

(1) رواه عنه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 311.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر نفسه.
(4) صحيح البخاري: ج 3 ص 60 - 61.
(5) رواه الصدوق في الفقيه: ج 2 ص 160 ح 2031 عن أحدهما (عليهما السلام) وعبد الرزاق الصنعاني
في المصنف: ج 4 ص 250 ح 7689 - 7692 بأسانيد متعددة.
818

" فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين " (1).
وسأل عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ليلة القدر فأكثروا
القول فيه، فقال ابن عباس: رأيت الله أكثر ذكر السبع في القرآن، وعدد ذلك، ثم
قال: فما أراها إلا ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين، فقال عمر: عجزتم أن تأتوا بما
جاء به هذا الغلام الذي لم يجتمع شؤون رأسه، وقال له: وافق رأيي رأيك (2).
وسئل الصادق (عليه السلام) فقال: هي ليلة إحدى وعشرين، أو ليلة ثلاث وعشرين،
فقال السائل: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب، فقال: ربما
ما رأينا الهلال وجاءنا من يخبرنا بخلافه في أرض أخرى؟ فقال: " ما أيسر أربع
ليال فيما تطلب (3).
وقيل: إنها ليلة سبع وعشرين، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأبي بن
كعب (4).
والفائدة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد الناس في العبادة، ويحيوا الليالي
الكثيرة طمعا في إدراكها، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه
الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة.
ومعنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها، من قوله: (فيها يفرق كل أمر
حكيم) (5)، أو: ليلة الشرف والخطر وعظم المقدار على سائر الليالي. (ومآ

(1) رواه عبد الرزاق في المصنف: ج 4 ص 249 ح 7688 باختلاف في اللفظ.
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 4 ص 313 عن عاصم بن كليب عن أبيه عن
ابن عباس، ومن طريق آخر عن عكرمة عنه.
(3) رواه الصدوق في الفقيه: ج 2 ص 159 صدر ح 2029 عن علي بن أبي حمزة.
(4) أنظر تفسير الماوردي: ج 6 ص 312.
(5) الدخان: 4.
819

أدرك ما ليلة القدر) يعني: ولم تبلغ درايتك غاية علو قدرها، ثم بين له ذلك
فقال: (ليلة القدر خير من ألف شهر) أي: قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف
شهر ليس فيها ليلة القدر. (تنزل الملئكة) إلى السماء الدنيا، وقيل: إلى
الأرض (1) (والروح) جبرائيل (عليه السلام)، وقيل: خلق من الملائكة لا يراهم الملائكة
إلا تلك الليلة (2) (من كل أمر) من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل
(سلم هى) أي: ما هي إلا سلامة، والمعنى: لا يقدر الله فيها إلا السلامة والخير،
ويقضي في غيرها البلاء والسلامة، أو: ما هي إلا سلام لكثرة سلامهم على أولياء
الله وأهل طاعته، وقرئ: (مطلع) بفتح اللام وكسرها (3).
* * *

(1) وهو قول أبي هريرة. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 313.
(2) حكاه القشيري. راجع تفسير القرطبي: ج 20 ص 133.
(3) وبالكسر قرأه الكسائي وأبو عمرو برواية عبيد عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 693.
820

سورة البينة (1)
مختلف فيها (2)، تسع آيات بصري، ثمان غيرهم، عد البصري: (مخلصين له
الدين) (3).
في حديث أبي: " من قرأها كان يوم القيامة مع خير البرية " (4).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأها كان بريئا من الشرك، وأدخل في دين
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعثه الله عز وجل مؤمنا، وحاسبه الله حسابا يسيرا " (5).
بسم الله الرحمن الرحيم
(لم يكن الذين كفروا من أهل الكتب وا لمشركين منفكين حتى

(1) في نسخة: " سورة لم يكن ".
(2) مدنية في قول ابن عباس والضحاك، وهي ثمان آيات في الكوفي والمدنيين، وتسع في
البصري.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 315: مكية في قول يحيى بن سلام، وعند الجمهور
مدنية وهو الصواب.
وفي الكشاف: ج 4 ص 781: مكية، وقيل: مدنية وآياتها (8)، نزلت بعد الطلاق.
(3) الآية: 5.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 783 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 152.
821

تأتيهم البينة (1) رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة (2) فيها كتب
قيمة (3) وما تفرق الذين أوتوا الكتب إلا من بعد ما جآءتهم البينة (4)
ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلوة
ويؤتوا الزكوة وذا لك دين القيمة (5) إن الذين كفروا من أهل الكتب
والمشركين في نار جهنم خلدين فيهآ أولئك هم شر البرية (6) إن
الذين ءامنوا وعملوا الصلحت أولئك هم خير البرية (7) جزآؤهم
عند ربهم جنت عدن تجرى من تحتها الانهر خلدين فيهآ أبدا رضى
الله عنهم ورضوا عنه ذا لك لمن خشى ربه (8))
كان (الذين كفروا من أهل الكتب) وعابدي الأوثان يقولون قبل مبعث
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا لا ننفك من ديننا الذي نحن عليه، ولا نتركه حتى يبعث النبي
الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحكى الله
سبحانه ما كانوا يقولونه. وانفكاك الشيء من الشيء: أن يزايله بعد التحامه به،
يعني: أنهم متشبثون بدينهم ولا يتركونه (حتى تأتيهم البينة) أي: الحجة
الواضحة. و (رسول من الله) بدل من (البينة)، (يتلوا صحفا مطهرة) من
الباطل. (فيها) في تلك الصحف (كتب) مكتوبات (قيمة) مستقيمة عادلة
ناطقة بالحق.
(وما تفرق الذين أوتوا الكتب) عن الحق، أو: ما تفرقوا فرقا: فمنهم آمن
بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنهم من أنكر وقال: ليس هو بذلك النبي الموعود، ومنهم من
عرف وعاند. يعني: أنهم كانوا يعدون الاجتماع واتفاق الكلمة على الحق إذا
جاءهم الرسول، وما فرقهم عن الحق إلا مجيء الرسول. (ومآ أمروا) في التوراة
822

والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، ولكنهم حرفوا وبدلوا (وذلك دين القيمة) أي:
دين الملة القيمة. والمعنى: (ومآ أمروا) بما في الكتابين (إلا) لأجل أن
(يعبدوا الله) على وجه الإخلاص (حنفآء) مائلين عن جميع الأديان إلى دين
الإسلام، مسلمين مؤمنين بالرسل كلهم، ويداوموا على إقامة (الصلوة) وإيتاء
(الزكوة).
و (البرية) فعيلة من: برأ الله الخلق، إلا أنه قد استمر فيه الاستعمال على
تخفيف الهمزة ورفض الأصل، و " النبي " كذلك، وقرئ: " البريئة " بالهمزة (1) على
الأصل.
وعن ابن عباس في قوله: (أولئك هم خير البرية) قال: نزلت في علي
وأهل بيته عليه وعليهم السلام (2).
* * *

(1) قرأه نافع وابن عامر برواية ذكوان عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 693.
(2) أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 366 ح 1146 و 1148، وأبو نعيم
الحافظ في ما نزل من القرآن في علي: ص 73، وفي خصائص الوحي المبين: ص 131،
والحافظ السروي في مناقب آل أبي طالب: ج 2 ص 266. وفي الباب أيضا عن جابر
وأبي برزة الأسلمي ويزيد بن شراحيل الأنصاري فيما تقدم من مصادر.
823

سورة الزلزلة (1)
مختلف فيها (2)، ثمان آيات كوفي، تسع غيرهم، لم يعد الكوفي
(أشتاتا) (3).
في حديث أبي: " من قرأها فكأنما قرأ البقرة، وأعطي من الأجر كمن قرأ ربع
القرآن " (4).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في نوافله لم يصبه الله بزلزلة أبدا، ولم يمت بها
ولا بصاعقة، ولا بآفة من آفات الدنيا، فإذا مات أمر به إلى الجنة فيقول الله
عز وجل: عبدي أبحتك جنتي فاسكن منها حيث شئت وهويت، لا ممنوعا ولا
مدفوعا " (5).

(1) في بعض النسخ: " سورة الزلزال ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 392: مدنية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
مكية. وهي ثمان آيات في الكوفي والمدني الأول، وتسع آيات في البصري والمدني
الأخير.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 318: مدنية في قول ابن عباس وقتادة وجابر.
وفي الكشاف: ج 4 ص 783: مدنية، وقيل: مكية، وآياتها (8)، نزلت بعد النساء.
(3) الآية: 6.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 785 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 152.
825

بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا زلزلت الأرض زلزالها (1) وأخرجت الأرض أثقالها (2) وقال
الانسن مالها (3) يومئذ تحدث أخبارها (4) بأن ربك أوحى لها (5)
يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعملهم (6) فمن يعمل مثقال ذرة خيرا
يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8))
الزلزلة والزلزال: شدة الاضطراب، ومعنى إضافتها إلى ضمير " الأرض ": أن
المعنى: (زلزالها) الذي يستوجبه في الحكمة ومشيئة الله، وهو الزلزال الشديد
خلاف المعهود، أو: زلزالها الذي يعم جميعها ولا يختص بعضها. (وأخرجت
الأرض أثقالها) أي: أخرجت موتاها المدفونة فيها أحياء للجزاء، وهو جمع
" ثقل ": متاع البيت. (وقال الانسن مالها) زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت
ما في بطنها؟ وذلك عند النفخة الثانية، وقيل: المراد بالإنسان: الكافر (1)، لأن
المؤمن يقول: (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) (2).
(يومئذ تحدث أخبارها) أي: تخبر الأرض بما عمل على ظهرها، وهو مجاز
عن إحداث الله فيها ما يقوم مقام التحديث باللسان حتى ينظر من يقول: (ما
لها) إلى تلك الأحوال فيعلم لم زلزلت، ولم لفظت الأموات. وقيل: ينطقها الله
على الحقيقة، وتخبر بما عمل عليها من خير وشر (3)، و (يومئذ) بدل من (إذا)،
وناصبهما (تحدث) والأصل: تحدث الخلق أخبارها، فحذف المفعول الأول
وتعلقت الباء ب‍ (تحدث) لأن المعنى: تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها

(1 و 3) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 516.
(2) يس: 52.
826

وأمره لها بالتحديث، أو: يكون: (بأن ربك) بدلا من: (أخبارها) كأنه قال:
تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا، و: حدثته بكذا.
و (أوحى لها) بمعنى: أوحى إليها، وهو مجاز كقوله: (أن يقول له كن
فيكون) (1). قال الراجز:
أوحى لها القرار فاستقرت * وشدها بالراسيات الثبت (2)
(يومئذ يصدر الناس) عن مخارجهم من القبور إلى موقف العرض
والحساب (أشتاتا) بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه خائفين، أو: يصدرون
عن الموقف أشتاتا يتفرق بهم طريقا الجنة والنار (ليروا) جزاء (أعملهم):
(فمن يعمل) زنة (ذرة) من الخير ير ثوابه وجزاءه، والذرة: النملة الصغيرة،
وقيل: الذرة: ما يرى في شعاع الشمس من الهباء (3). (ومن يعمل) زنة (ذرة)
من الشر (يره) في كتابه فيسوؤه، أو: ير المستحق عليه إن لم يعف الله عنه، لأن
الآية مخصوصة بلا خلاف، فإن التائب معفو عنه بالإجماع، وآيات العفو دالة على
جواز العفو عما دون الشرك، فجاز أن يشترط في المعصية التي يؤاخذ بها أن لا
تكون مما قد عفي عنه.
* * *

(1) يس: 82.
(2) للعجاج، من رجز يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه. راجع ديوان العجاج: ص 5.
(3) قاله أبو الليث السمرقندي في تفسيره: ج 3 ص 501.
827

سورة العاديات
مختلف فيها (1)، إحدى عشرة آية.
في حديث أبي: " من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات في
المزدلفة وشهد جمعا " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها وأدمن قراءتها بعثه الله مع أمير المؤمنين (عليه السلام)
يوم القيامة، وكان في حجره ورفقائه " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والعديت ضبحا (1) فالموريت قدحا (2) فالمغيرات صبحا (3)
فأثرن به ى نقعا (4) فوسطن به ى جمعا (5) إن الانسن لربهى لكنود (6) وإنه

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 395: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
هي مدنية. وهي إحدى عشرة آية بلا خلاف.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 323: مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن
وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس بن مالك وقتادة.
وفي الكشاف: ج 4 ص 786: مكية، وقيل: مدنية، وآياتها (11)، نزلت بعد العصر.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 789 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 152 وزاد بعد لفظة " القيامة ": " خاصة ".
829

على ذا لك لشهيد (7) وإنه لحب الخير لشديد (8) أفلا يعلم إذا بعثر ما
في القبور (9) وحصل ما في الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ
لخبير (11))
العاديات: الخيل تعدو في سبيل الله للغزو، والضبح: صوت أنفاسها إذا عدت،
قال عنترة:
والخيل تكدح حين تض‍بح * في حياض الموت ضبحا (1)
وانتصابه على: يضبحن ضبحا، أو ب‍ (العديت) كأنه قال: والضابحات،
لأن " الضبح " يكون مع العدو. (فالموريت) توري نار الحباحب، وهي ما
تنقدح من حوافرها (قدحا) صاكات بحوافرها الحجارة، والقدح: الصك،
والإيراء: إخراج النار، يقال: قدح فلان فأورى، وقدح فأصلد (2). وانتصب
(قدحا) بمثل ما انتصب به (ضبحا). (فالمغيرت) تغير بفرسانها على العدو
(صبحا) في وقت الصبح. (فأثرن به نقعا) فهيجن بذلك الوقت غبارا. (فوسطن
به) أي: بذلك الوقت، أو: بالنقع، أي: وسطن النقع الجمع، أي: (جمعا) من جموع
الأعداء. ويجوز أن يراد بالنقع الصياح، من قوله (عليه السلام): " ما لم يكن نقع ولا
لقلقة " (3)، وقول لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق (4)

(1) لم نعثر عليه في ديوانه المطبوع، وأنشده في الصحاح واللسان في مادة " ضبح " وفيهما:
" تعلم " بدل " تكدح "، ومعناه واضح.
(2) في الصحاح: صلد الزند: إذا صوت ولم يخرج نارا، وأصلد الرجل: أي صلد زنده.
(3) لم نجده مرفوعا، ورواه البخاري في الصحيح: ج 2 ص 174 من كتاب الجنائز عن عمر
موقوفا. وأورده الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 787، والرازي في تفسيره: ج 32 ص 66
مرسلا.
(4) وعجزه: يحلبوه ذات جرس وزجل. من قصيدة له طويلة يتحدث فيها عن مآثره ومواقفه.
راجع ديوان لبيد بن ربيعة: ص 146.
830

أي: فهيجن في الإغارة عليهم صياحا وجلبة. وعن ابن عباس: كنت جالسا
في الحجر فجاءني رجل فسألني عن (العديت ضبحا) ففسرتها بالخيل،
فذهب إلى علي (عليه السلام) وهو تحت سقاية زمزم فسأله فذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي،
فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به؟ والله إن كانت لأول
غزوة في الإسلام - بدر - فما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد
(والعديت ضبحا) الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى (1). فإن
صحت هذه الرواية فقد استعير " الضبح " للإبل، كما استعير " الباقر " للإنسان، و
" البقر " للثور وما أشبه ذلك. وقيل: الضبح بمعنى الضبع (2)، يقال: ضبحت الإبل
وضبعت: إذا مدت أضباعها في السير. و " جمع ": هو المزدلفة.
إنها (3) نزلت في غزوة ذات السلاسل لما أوقع علي (عليه السلام) بهم، وذلك بعد أن
بعث عليهم من لم يغن شيئا ورجع (4).
وعطف قوله: (فأثرن) على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأن
المعنى: واللاتي عدون فأورين فأغرن.
والكنود: الكفور، يعني: أن الإنسان كفور لنعمة ربه خصوصا شديد الكفران.
(وإنه على ذلك) أي: وإن الإنسان على كنوده (لشهيد) يشهد على نفسه
بالكفران والتفريط في شكر نعمة الله يوم القيامة، وقيل: معناه: وإن الله على كنوده

(1) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 666 عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وزاد: قال ابن
عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي.
(2) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 307.
(3) في نسخة: " الصادق (عليه السلام): إنها ".
(4) رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: ج 2 ص 434 - 439 عن أبي بصير.
831

لشاهد (1)، على سبيل الوعيد. وإن الإنسان (لحب الخير) أي: لأجل حب الخير
وهو المال، من قوله تعالى: (إن ترك خيرا) (2)، (لشديد) أي: بخيل ممسك،
يقال: فلان شديد ومتشدد، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي * عقيلة مال الفاحش المتشدد (3)
أو: أراد: وإنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنه شديد منقبض.
(بعثر) أي: بعث. (وحصل) أي: ظهر محصلا مجموعا، وقيل: ميز بين
خيره وشره (4). ومعنى خبره بهم يوم القيامة: مجازاته لهم على مقادير أعمالهم.
* * *

(1) قاله قتادة وسفيان. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 673.
(2) البقرة: 180.
(3) البيت من معلقته المشهورة. ويعتام: يختار، وعقيلة كل شيء: أنفسه وخياره. راجع ديوان
طرفة بن العبد: ص 36.
(4) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 517.
832

سورة القارعة
مكية (1)، إحدى عشرة آية كوفي، ثماني آيات بصري. عد الكوفي:
(القارعة) الأولى، و (ثقلت موزينه) (2) و (خفت موزينه) (3).
في حديث أبي: " من قرأها ثقل الله ميزانه يوم القيامة " (4). وعن الباقر (عليه السلام):
" من قرأها آمنه الله من فتنة الدجال ومن قيح جهنم " (5).
بسم الله الرحمن الرحيم
(القارعة (1) ما القارعة (2) ومآ أدراك ما القارعة (3) يوم يكون
الناس كالفراش المبثوث (4) وتكون الجبال كالعهن المنفوش (5) فأما
من ثقلت موازينه (6) فهو في عيشة راضية (7) وأما من خفت
موازينه (8) فأمه هاوية (9) ومآ أدراك ما هيه (10) نار حامية (11))

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 398: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
إحدى عشرة آية في الكوفي، وعشر في المدنيين، وثمان في البصري.
وفي الكشاف: ج 4 ص 786: مكية، وآياتها (11)، نزلت بعد قريش.
(2) الآية: 6.
(3) الآية: 8.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 791 مرسلا.
(5) ثواب الأعمال للصدوق: ص 153 وفيه بعد لفظة " الدجال ": " أن يؤمن به "، وزاد في آخره:
" إن شاء الله ".
833

(يوم يكون) نصب بمضمر دلت عليه (القارعة)، أي: تقرع القلوب بالفزع
(يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار
والضعف والمهانة والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش،
وفي أمثالهم: " أضعف من فراشة، وأذل، وأجهل " (1).
وشبه الجبال ب‍ (العهن) وهو الصوف المصبغ ألوانا، لأنها ألوان،
وب‍ (المنفوش) منه لتفرق أجزائها.
والموازين: جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، أو: جمع
ميزان، وثقلها: رجحانها. (فأمه هاوية) وهو من قولهم إذا دعوا على الرجل
بالهلكة: هوت أمه، لأنه إذا هوى - أي: سقط وهلك - فقد هوت أمه ثكلا وحزنا.
فكأنه قال: (وأما من خفت موزينه) فقد هلك، وقيل: (هاوية) من أسماء
النار (2)، وكأن النار العميقة يهوي أهل النار فيها مهوى بعيدا، أي: فمأواه النار،
وقيل: للمأوى: " أم " على التشبيه، لأن " الأم " مأوى الولد (3)، وعن ابن صالح:
فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوسا (4). (هيه) ضمير الداهية
التي دل عليها قوله: (فأمه هاوية) في التفسير الأول، أو: ضمير (هاوية)، والهاء
للسكت، فإذا وصل القارئ حذفها. (نار حامية) حارة شديدة الحرارة.
* * *

(1) أنظر مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 441.
(2) قاله قتادة وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 677.
(3) قاله ابن عباس. راجع المصدر المتقدم.
(4) حكاه عنه الطبري في تفسيره المتقدم.
834

سورة التكاثر
مكية (1)، ثماني آيات.
في حديث أبي: " من قرأها لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار
الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في فريضة كتب له ثواب مائة شهيد، ومن
قرأها في نافلة كان له ثواب خمسين شهيدا " (3) (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألهلكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر (2) كلا سوف تعلمون (3)
ثم كلا سوف تعلمون (4) كلا لو تعلمون علم اليقين (5) لترون

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 401: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
ثمان آيات بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 791: مكية، وآياتها (8)، نزلت بعد التكاثر.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 793 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 153 وزاد في آخره: " وصلى معه في فريضته أربعون صفا من
الملائكة إن شاء الله ".
(4) وفي نسخة زيادة هنا: " وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من قرأ ألهاكم
التكاثر عند النوم وقي من فتنة القبر ".
835

الجحيم (6) ثم لترونها عين اليقين (7) ثم لتسلن يومئذ عن النعيم (8))
(ألهكم) أي: شغلكم عن ذكر الآخرة التباري في كثرة المال، والتباهي بها،
والتفاخر. (حتى زرتم المقابر) أي: حتى أدرككم الموت على تلك الحال، وقيل:
معناه: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى المقابر
فتكاثرتم بالأموات (1). عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكما بهم.
(كلا) ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي أن تكون الدنيا جميع همة الإنسان حتى
لا يهتم بأمور دينه (سوف تعلمون) وعيد ليخافوا وليتنبهوا عن غفلتهم. والتكرير
تأكيد للردع والإنذار عليهم، وفي (ثم) دلالة على أن الإنذار الثاني أشد من
الأول، والمعنى: سوف تعلمون الخطأ في ما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من
هول المطلع. ثم كرر التنبيه أيضا وقال: (لو تعلمون) أي: لو تعلمون ما بين
أيديكم (علم) الأمر (اليقين) أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور، لفعلتم ما لا
يوصف، ولكنكم ضلال جهلة. فحذف جواب (لو).
(لترون الجحيم) جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وبيان ما
أوعدهم به وأنذرهم منه، ثم كرر ذلك تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل،
وقرئ: " لترون " على البناء للمفعول (2). (عين اليقين) الرؤية التي هي نفس
اليقين وخالصه، ويجوز أن يراد بالرؤية العلم والإبصار. (ثم لتسئلن يومئذ عن
النعيم) عن التنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن أمور الدين.
* * *

(1) قاله الكلبي. راجع تفسير السمرقندي: ج 3 ص 506.
(2) قرأه ابن عامر والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 695.
836

سورة العصر
مكية (1)، ثلاث آيات.
في حديث أبي: " من قرأها ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحق يوم
القيامة " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه،
ضاحكا سنه، قريرا عينه حتى يدخل الجنة " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(والعصر (1) إن الانسن لفي خسر (2) إلا الذين ءامنوا وعملوا
الصلحت وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3))
أقسم سبحانه بالدهر لأن فيه عبرة لأولي الأبصار، أو بالعشي لما في ذلك من

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 404: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
ثلاث آيات بلا خلاف في جملتها وإن اختلفوا في تفصيلها.
وفي تفسير الماوردي: ج 2 ص 333: مكية، وفي إحدى الروايتين عن ابن عباس
وقتادة: أنها مدنية.
وفي الكشاف: ج 4 ص 793: مكية، وآياتها (3) نزلت بعد الشرح.
(2) رواه الكفعمي في المصباح: ص 452.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 153.
837

دلائل القدرة بإدبار النهار وذهاب سلطان الشمس. (إن الانسن) وهو اسم
الجنس (لفي خسر) أي: خسران، ينقص عمره كل يوم وهو رأس ماله، فإذا
ذهب رأس ماله ولم يكتسب به الطاعة كان طول دهره (1) في نقصان. (إلا)
المؤمنين الصالحين فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وفازوا وسعدوا
(وتواصوا) أوصى بعضهم بعضا (بالحق) بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره،
وهو الخير كله من: توحيد الله وطاعته، واتباع أنبيائه وأوليائه، والزهد في الدنيا،
والرغبة في الآخرة، وأداء الواجبات، واجتناب المقبحات (وتواصوا بالصبر)
عن المعاصي، وعلى الطاعات والبليات.
* * *

(1) في نسخة: " عمره ".
838

سورة الهمزة
مكية (1)، تسع آيات.
في حديث أبي: " من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ
بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه نفت عنه الفقر، وجلبت عليه
الرزق، ودفعت عنه ميتة السوء " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ويل لكل همزة لمزة (1) الذي جمع مالا وعدده (2) يحسب أن ماله
أخلده (3) كلا لينبذن في الحطمة (4) ومآ أدراك ما الحطمة (5) نار الله
الموقدة (6) التى تطلع على الافدة (7) إنها عليهم مؤصدة (8) في عمد
ممددة (9))

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 406: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
تسع آيات بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 794: مكية، وآياتها (9)، نزلت بعد القيامة.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 796 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 154 وفيه بدل " نفت عنه الفقر ": " بعد الله عنه الفقر ".
839

الهمز: الكسر. قيل لأعرابي: أتهمز " الفارة "؟ فقال: السنور يهمزها (1).
واللمز: الطعن، " فالهمزة " الذي يكسر أعراض الناس بالغض (2) منهم واغتيابهم،
" واللمزة " الذي يطعن فيهم، وبناء " فعلة " يدل على أن ذلك عادة منه قد ضرى بها.
قال زياد الأعجم:
تدلي بودي إذ لاقيتني كذبا * وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه (3)
وهذا وعيد من الله لكل مغتاب، عياب، مشاء بالنميمة، مفرق بين الأحبة،
وعن الحسن: الهمزة الذي يطعن في الوجه بالعيب، واللمزة الذي يغتاب عند
الغيبة (4).
(الذي) بدل من (كل)، أو: نصب على الذم، وقرئ: (جمع) بالتشديد (5)
والتخفيف، والتشديد أوفق ل‍ (عدده)، وقيل: (عدده): جعله عدة لحوادث
الدهر (6).
و (أخلده) وخلده بمعنى، يعني: أن طول أمله ومناه الأماني البعيدة حتى
حسب أن المال يتركه خالدا في الدنيا لا يموت، أو: يكون المعنى: أنه يعمل من
تشييد البنيان وتوثيقها بالصخر والآجر عمل من يظن أن ماله أبقاه حيا، أو: هو
تعريض بأن العمل الصالح هو الذي يخلد في النعيم صاحبه دون المال.
(كلا) ردع له عن حسبانه (لينبذن) هو وماله، أي: ليقذفن ويطرحن

(1) أي: يأكلها. أنظر لسان العرب: مادة " همز ".
(2) في بعض النسخ: " بالعض ".
(3) أنظر ديوان زياد الأعجم: ص 148، وفيه: " وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه ".
(4) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 439.
(5) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 697.
(6) قاله مقاتل. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 524.
840

(في الحطمة) وهو اسم من أسماء جهنم، وعن مقاتل: تحطم العظام وتأكل
اللحوم حتى تهجم على القلوب (1). ويقال للرجل الأكول: حطمة. ثم فخم أمرها
بقوله: (ومآ أدرك ما الحطمة). ثم فسرها وأضافها إلى نفسه بقوله: (نار الله
الموقدة) أي: المؤججة. (التى تطلع على الأفئدة) وهي أوساط القلوب، ولا
شىء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تأذيا منه بأدنى أذى، فكيف إذا
اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه وعلته؟ (إنها عليهم مؤصدة) أي: مطبقة
(في عمد) قرئ بضمتين (2) وبفتحتين، وهذا تأكيد لليأس من الخروج، وإيذان
بحبس الأبد، أي: يوصد عليهم الأبواب، ويمدد على الأبواب العمد استيثاقا في
استيثاق. نعوذ بالله من غضبه وأليم عذابه.
* * *

(1) حكاه عنه الرازي في تفسيره: ج 32 ص 94.
(2) قرأه حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات:
ص 697.
841

سورة الفيل
مكية (1)، خمس آيات.
في حديث أبي: " من قرأها عافاه الله أيام حياته من القذف والمسخ " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه شهد له كل سهل وجبل يوم القيامة
أنه كان من المصلين وينادي له يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت
شهادتكم له وعليه، أدخلوه الجنة ولا تحاسبوه فإنه ممن أحبه وأحب عمله، وكان
من الآمنين " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحب الفيل (1) ألم يجعل كيدهم في
تضليل (2) وأرسل عليهم طيرا أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4)
فجعلهم كعصف مأكول (5))

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 406: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
تسع آيات بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 797: مكية، وآياتها (5)، نزلت بعد " الكافرون ".
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 800 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 154 وليس فيه لفظة " وكان من الآمنين ".
843

بنى أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن كنيسة بصنعاء، وأراد أن يصرف إليها
الحاج، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا، فأغضبه ذلك وأزمع أن يهدم الكعبة،
فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود، وكان قويا عظيما، وقيل: كان معه اثنا عشر
فيلا غيره، فلما بلغ المغمس (1) خرج إليه عبد المطلب وقد أخذ له مائتا بعير، وكان
رجلا جسيما وسيما، فقيل له: هذا سيد قريش، فأعظمه ونزل من سريره وجلس
على الأرض وأجلسه معه، ثم قال: ما حاجتك؟ قال: حاجتي مائتا بعير أصابتها
مقدمتك، فقال له: لقد سقطت من عيني، جئت لأهدم البيت الذي هو عزكم
وشرفكم ودينكم، فألهاك عنه ذود أخذ لك؟! فقال: أنا رب الإبل، وللبيت رب
سيمنعه، فراع ذلك أبرهة وأمر برد إبله عليه، ورجع وأتى إلى باب البيت فأخذ
بحلقته وهو يقول:
لا هم إن المرء يم‍... نع أهله * فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم * ومحالهم عدوا محالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا * فأمر ما بدا لك
[وقال أيضا:] (2):
يا رب لا أرجو لهم سواكا * يا رب فامنع منهم حماكا
فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن، فقال: والله إنها لطير غريبة، ما
هي ببحرية [بنجدية] ولا تهامية... (3)
(ألم تر) معناه: أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة الذين قصدوا تخريب
الكعبة (بأصحاب الفيل) وكان ذلك العام الذي ولد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(1) المغمس: موضع من مكة.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) روى قصة أصحاب الفيل بطولها ابن إسحاق في سيرته: ص 61 - 70.
844

و (كيف) في موضع نصب ب‍ (فعل ربك) لا ب‍ (ألم تر)؛ لما في " كيف " من
معنى الاستفهام.
(ألم يجعل كيدهم) وإرادتهم السوء في تخريب بيت الله وقتل أهله
واستباحتهم (في تضليل) في تضييع وإبطال، يقال: ضلل كيده: إذا جعله ضالا
ضائعا. (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) حزائق (1)، الواحدة: إبالة، وفي المثل:
" ضغث على إبالة " (2)، وهي الحزقة الكبيرة، شبهت الحزقة من الطير في تضامها
بالإبالة، وقيل: أبابيل مثل " عباديد " وشماطيط لا واحد لها (3). (ترميهم)
تقذفهم تلك الطير (بحجارة من سجيل) من جملة العذاب المكتوب المدون،
واشتقاقه من " الإسجال " وهو الإرسال، لأن العذاب موصوف بذلك، وقيل: من
طين مطبوخ كما يطبخ الآجر (4)، وقيل: هو معرب من سنك كل (5)، وقيل: كانت
طيرا بيضاء، مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة
وأصغر من الحمصة (6). وقيل: كانت طيرا خضراء لها مناقير صفر (7). وعن ابن
عباس: أنه رأى منها عند أم هاني نحو قفيز، مخططة بحمرة كالجزع الظفاري (8).

(1) الحزق والحزقة: الجماعة من الناس والطير والنخل وغيرها. (الصحاح).
(2) الضغت: قبضة من حشيش مختلطة الرطب واليابس، والابالة: الحزمة من الحطب، ومعنى
المثل: بلية على أخرى. راجع مجمع الأمثال للميداني: ج 2 ص 432.
(3) قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 292. والعباديد: الخيل المتفرقة في ذهابها ومجيئها،
والشماطيط: القطع المتفرقة، يقال: جاءت الخيل شماطيط أي: متفرقة إرسالا.
(4) قاله ابن عباس في تفسيره: ص 519.
(5) وهو قول ابن عباس برواية عكرمة عنه وعكرمة وجابر بن سابط. راجع تفسير الطبري:
ج 12 ص 693 - 694.
(6) قاله قتادة. راجع المصدر السابق: ص 694.
(7) قاله سعيد بن جبير. راجع المصدر نفسه: ص 693.
(8) أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 633 عن أبي صالح - أحد تلاميذه - وعزاه إلى
ابن مردويه وأبي نعيم. والقفيز: من المكاييل تتواضع الناس عليه، والجزع: خرز فيه بياض
وسواد تشبه به الأعين، تجلب من اليمين، وظفار: موضع في اليمن.
845

فكان الحجر يقع على رأس كل رجل فيخرج من دبره (فجعلهم كعصف مأكول)
شبههم بورق الزرع إذا أكل، أي: وقع فيه الأكال، وهو أن يأكله الدود، أو: بتبن أكلته
الدواب وراثته، ولكنه من كنايات القرآن اللطيفة.
وهذه السورة من قواصم الظهور للملاحدة والفلاسفة المنكرة للمعجزات
الخارقة للعادات، فإنه لا يمكن أن ينسب شيء من أمر أصحاب الفيل إلى طبع
وغيره (1)، وكيف يكون في أسرار (2) الطبيعة أن تأتي جماعات من الطير معها
أحجار معدة لإهلاك أقوام معينين فترميهم بها حتى تهلكهم بأعيانهم؟ ولا يمكن
أحد جحده والشك فيه؛ لأن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) تلاها على أهل مكة فلم ينكروه، بل أقروا
به مع شدة حرصهم على تكذيبه، وكيف وقد أرخوا بذلك كما أرخوا ببناء الكعبة
وغيره؟
* * *

(1) كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف وغيرها مما أهلك الله تعالى به الأمم الخالية إلى
ذلك.
(2) في بعض النسخ: " أسوار ".
846

سورة قريش (1)
مكية (2) أربع آيات.
في حديث أبي: " من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف
بالكعبة واعتكف بها " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " لا تجمع بين سورتين في ركعة إلا الضحى وألم نشرح،
وألم تر كيف ولإيلاف قريش " (4) (5).
وعن عمرو بن ميمون: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب فقرأ في
الأولى: (والتين والزيتون) وفي الثانية: (ألم تر كيف) و (لإيلاف قريش) (6).

(1) في نسخة: " سورة لايلاف ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 412: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
هي مدنية. وهي أربع آيات في الكوفي والبصري، وخمس في المدنيين.
وفي تفسيره الماوردي: ج 6 ص 345: مكية في قول الأكثرين، ومدنية في قول الضحاك.
وفي الكشاف: ج 4 ص 800: مكية، وآياتها (4)، نزلت بعد التين.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 803 مرسلا.
(4) رواه العياشي في تفسيره عن المفضل بن صالح عنه (عليه السلام)، كما في المجمع. ورواه السخاوي
في جمال القراء: ج 2 ص 182 عنه (عليه السلام) وعن أبي نهيك.
(5) في المجمع: عن أبي العباس عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (ألم تر كيف) و (لإيلاف قريش)
سورة واحدة.
(6) رواه الهذلي في الكامل: ج 2 ص 204، والقرطبي في تفسيره ج 20 ص 200.
847

(لإيلاف قريش (1) إىلفهم رحلة الشتآء والصيف (2) فليعبدوا رب
هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف (4))
تعلق اللام بقوله: (فليعبدوا)، أمرهم الله عز اسمه أن يعبدوه لأجل (إىلفهم
رحلة الشتآء والصيف) ويجعلوا عبادتهم إياه شكرا لهذه النعمة واعترافا بها،
وقيل: هو متعلق بما قبله أي: فجعلهم كعصف مأكول لايلاف قريش (1)، وهما
في مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل. والمعنى: أنه أهلك الحبشة الذين
قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيتهيبوهم زيادة تهيب، ويحترموهم حتى
ينتظم لهم الأمر في رحلتيهم، فلا يجترئ أحد عليهم، وكانت لقريش رحلتان:
يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيتجرون ويمتارون،
وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله، فلا يتعرض لهم ويتخطف غيرهم
من الناس.
والإيلاف من: ألفت المكان أولفه إيلافا: إذا ألفته، وقرئ: " ليلاف " مختلسة
الهمزة (2)، وقرئ: (إيلفهم) و " إلافهم " (3) و " إلفهم " (4) يقال: ألفته إلفا وإلافا،
وقد جمعهم الشاعر في قوله:

(1) قاله أبو عبيدة والأخفش. راجع مجاز القرآن: ج 2 ص 312، ومعاني القرآن للأخفش: ج 2
ص 743.
(2 و 3) قرأهما أبو جعفر المدني وابن فليح. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 529 والتبيان:
ج 10 ص 413.
(4) قرأ أبو جعفر عن أبي عمرو بكسر الفاء والهاء ورووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرأ عكرمة بفتحهما.
راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 180.
848

زعمتم أن إخوتكم قريش * لهم إلف وليس لكم إلاف (1)
وقريش: ولد النضر بن كنانة، وهي دابة عظيمة في البحر، لا تمر بشيء إلا
أكلته (2)، قال:
وقريش هي التي تسكن البح‍ر * بها سميت قريش قريشا (3)
وقيل: هو من القرش وهو الكسب (4)، لأنهم كانوا يكسبون الأموال
بتجاراتهم وضربهم في البلاد. أطلق أولا " الإيلاف " ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين
تفخيما لأمر الإيلاف، وتذكيرا بعظيم النعمة فيه.
و (رحلة) مفعول به ل‍ (إيلفهم) وأراد: رحلتي الشتاء والصيف فأفرد، لا
من الإلباس، كما قيل:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا (5)
والتنكير في (جوع) و (خوف) لشدتهما. يعني: أطعمهم بالرحلتين من
جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل،
أو: خوف التخطف في بلدهم ومسائرهم.
* * *

(1) لمساور بن هند بن قيس العبسي، من أبيات له يهجو بها بني أسد راجع خزانة الأدب
للبغدادي: ج 11 ص 420.
(2) وهو قول ابن عباس لما سأله عمرو بن العاص: بم سميت قريش؟ قال: بدابة في البحر
تسمى قريشا. انظر المصدر السابق: ج 1 ص 204.
(3) للمشمرج بن عمرو الحميري. راجع المصدر السابق نفسه.
(4) قاله الفراء. ذكره القرطبي في تفسيره: ج 20 ص 203.
(5) وعجزه: فإن زمانكم زمن خميص. تقدم شرح البيت في ص 243 و 470 فراجع.
849

سورة الماعون (1)
مكية (2)، وقيل: مدنية، سبع آيات.
في حديث أبي: " من قرأها غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا " (3).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه ونوافله قبل الله صلاته وصيامه، ولم
يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(أرءيت الذي يكذب بالدين (1) فذا لك الذي يدع اليتيم (2)

(1) في بعض النسخ: " سورة أرأيت ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 414: وتسمى سورة " أرأيت " مكية في قول
ابن عباس، وقال الضحاك: مدنية. وهي سبع آيات في الكوفي والبصري، وست في
المدنيين. عد أهل الكوفة والبصري (يرآءون) رأس آية.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 350: مكية في قول عطاء وجابر، ومدنية في قول ابن
عباس وقتادة.
وفي الكشاف: ج 4 ص 803: مكية ثلاث آيات الأول، مدنية البقية، وآياتها (7)، نزلت
بعد التكاثر.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 806 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 154 وفيه بعد لفظة " نوافله ": " كان فيمن ".
851

ولا يحض على طعام المسكين (3) فويل للمصلين (4) الذين هم عن
صلاتهم ساهون (5) الذين هم يرآءون (6) ويمنعون الماعون (7))
أي: هل عرفت (الذي يكذب) بالجزاء والحساب وينكر البعث؟ من هو، إن
لم تعرفه (فذلك) الذي يكذب بالجزاء هو (الذي يدع اليتيم) أي: يدفعه دفعا
عنيفا بجفوة وغلظة، ويرده ردا قبيحا بزجر وخشونة. (ولا يحض) ولا يبعث
أهله (على) بذل (طعام المسكين) فلا يطعمه ولا يأمر بإطعامه، جعل سبحانه
علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، يعني: أنه لو آمن
بالجزاء، وأيقن بالحساب، ورجا الثواب، وخاف العقاب لما أقدم على ذلك، فحين
اجترأ على ذلك علم أنه مكذب.
فما أشد هذا من كلام! وما أخوفه من مقام! وما أبلغه في التحذير من ارتكاب
المعاصي والآثام! وإنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان. ثم وصل به
قوله: (فويل للمصلين) كأنه قال: وإذا كان الأمر كذلك فويل للمصلين (الذين)
يسهون عن الصلاة قلة مبالاة بها حتى تفوتهم أو يخرج وقتها، أو: يستخفون
بأفعالها فلا يصلونها كما أمروا في تأدية أركانها والقيام بحدودها وحقوقها، ولكن
ينقرونها نقر الغراب من غير خشوع وإخبات واجتناب المكروهات من: العبث
بالشعر والثياب، وكثرة التثاؤب، والتمطي، والالتفات، الذين عادتهم الرياء
والسمعة بأعمالهم، ولا يقصدون به الإخلاص والتقرب إلى الله سبحانه على وجه
الاختصاص (ويمنعون) حقوق الله تعالى في أموالهم. والمعنى: أن هؤلاء هم
الأحقاء بأن يكونوا ساهين عن الصلاة التي هي عماد الدين، والفارق بين الإيمان
والكفر، وملتبسين بالرياء الذي هو شعبة من الشرك، ومانعين للزكاة التي هي
852

قنطرة الإسلام، وتكون صفاتهم هذه علما على أنهم مكذبون بالدين مفارقون
لليقين.
وعن أنس: الحمد لله على أن لم يقل: في صلاتهم (1).
والمراءاة: مفاعلة من الاراءة، لأن المرائي يري الناس عمله، وهم يرونه
الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان
فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله (عليه السلام): " ولا غمة في
فرائض الله " (2) لأنها شعائر الدين وأعلام الإسلام.
وقوله (عليه السلام): " من صلى صلاة الخمس جماعة فظنوا به كل خير " (3).
وقوله (عليه السلام) لأقوام لم يحضروا الجماعة: " لتحضرن المسجد أو لأحرقن عليكم
منازلكم " (4).
ولأن تاركها يستحق الذم والتوبيخ فوجب إماطة التهمة بالإظهار. وإن كان
تطوعا فالأولى فيه الإخفاء، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فيكون أبعد من
الرياء، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان حسنا، فإنما الرياء أن يقصد بإظهاره أن
يراه الناس فيثنوا عليه بالصلاح، على أن اجتناب الرياء أمر صعب إلا على
المخلصين، ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في

(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 805. والفرق بين " عن صلاتهم " و " في
صلاتهم ": أن معنى الأول هو: أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها، وذلك فعل
المنافقين والفسقة، ومعنى الثاني: أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان وذلك لا يخلو منه
مسلم.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 805 مرسلا.
(3) رواه الصدوق في الفقيه: ج 1 ص 376 ح 1093.
(4) رواه الصدوق أيضا في الفقيه: ح 1092، ونحوه مسلم في الصحيح: ج 1 ص 452 ح 252.
853

الليلة الظلماء على المسح الأسود " (1).
واختلف في (الماعون) فقيل: هو الزكاة المفروضة (2)، وهو المروي عن
علي (عليه السلام) وجماعة (3)، قال الراعي:
قوم على الإسلام لما يمنعوا * ماعونهم ويضيعوا التهليلا (4)
وعن ابن مسعود: هو ما يتعاوره الناس بينهم من الدلو والفأس والقدر، وما لا
يمنع كالماء والملح (5).
وعن الصادق (عليه السلام): " هو القرض تقرضه، والمعروف تصنعه، ومتاع البيت
تعيره، ومنه الزكاة " (6).
* * *

(1) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 805 مرسلا.
(2) قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وسعيد بن جبير. راجع تفسير الطبري:
ج 12 ص 710 - 711.
(3) كابن الحنفية وابن عمر. راجع المصدر السابق.
(4) للراعي واسمه عبيد بن حصين النميري، من قصيدة له طويلة في وصف قومه وإبله، راجع
جمهرة اشعار العرب: ص 432.
(5) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 712.
(6) رواه الكليني في الكافي: ج 3 ص 499 ضمن ح 9 عن أبي بصير عنه (عليه السلام).
854

سورة الكوثر
مختلف فيها (1)، ثلاث آيات.
في حديث أبي: " من قرأها سقاه الله من أنهار الجنة، وأعطي من الأجر بعدد
كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه ونوافله سقاه الله يوم القيامة من
الكوثر، وكان محدثه عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في أصل طوبى " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنآ أعطينك الكوثر (1) فصل لربك وانحر (2) إن شانئك هو
الأبتر (3))
(الكوثر) فوعل من الكثرة، وهو المفرط الكثرة.
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قرأها ثم قال: " أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر وعدنيه

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 417: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
مدنية. وهي ثلاث آيات بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 806: مكية، وآياتها (3)، نزلت بعد العاديات.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 808 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 155.
855

ربي، فيه خير كثير، هو حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته من فضة عدد نجوم
السماء، فيختلج القرن منهم فأقول: يا رب إنهم من أمتي، فيقال: إنك لا تدري
ما أحدثوا بعدك ". أورده مسلم في الصحيح (1).
وعن ابن عباس: أنه فسر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: فإن
ناسا يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير (2).
وقيل: هو كثرة النسل والذرية (3)، وقد ظهر ذلك في نسله من ولد
فاطمة (عليها السلام)، إذ لا ينحصر عددهم، ويتصل - بحمد الله - إلى آخر الدهر مددهم.
وهذا يطابق ما ورد في سبب نزول السورة: أن العاص بن وائل السهمي سماه
الأبتر لما توفي ابنه عبد الله (4). وقالت قريش: إن محمدا صنبور (5) (6). فيكون
تنفيسا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما وجده في نفسه الكبيرة من جهة مقالهم، وهدما
لمحالهم.
وقيل: هو الشفاعة (7). واللفظ محتمل للجميع، فقد أعطاه سبحانه ما لا غاية
لكثرته من خير الدارين.
وأما ما ذكره جار الله (8): أن الكوثر أولاده إلى يوم القيامة من أمته فليس

(1) صحيح مسلم: ج 1 ص 300 ح 400 عن أنس.
(2) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 718 و 720.
(3) حكاه الرازي في تفسيره: ج 32 ص 124.
(4) أورده الواحدي في أسباب النزول: ص 404 ح 934 - 936 عن ابن عباس ويزيد بن
رومان وعطاء.
(5) رجل صنبور: فرد ضعيف ذليل، لا أهل له ولا عقب ولا ناصر. (لسان العرب: مادة صنبر).
(6) أورده البغوي في تفسيره: ج 4 ص 534 عن عكرمة عن ابن عباس.
(7) حكاه الرازي في تفسيره: ج 32 ص 127.
(8) وهو الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 807.
856

بالوجه، لأنه لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة، وقد قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحسن والحسين (عليهما السلام): " ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا " (1). وقال
للحسن (عليه السلام): " إن ابني هذا سيد " (2). وفي التنزيل: (ما كان محمد أبآ أحد من
رجالكم) (3)، فكيف يحمل الكوثر على أولاد أمته الذين أبى الله أن يكون رسوله
أبا أحد منهم، ولا يحمل على أولاد ابنيه من ابنته الذين طبقوا البر والبحر وملاءوا
السهل والجبل بكثرتهم؟
والنحر: نحر البدن، أي: (فصل) صلاة الفجر بجمع (وانحر) البدن بمنى،
وقيل: صلاة الفرض (لربك) واستقبل القبلة بنحرك (4)، من قول العرب: منازلنا
تتناحر، أي: تتقابل. وأما ما رووه (5) عن علي (عليه السلام): معناه: " ضع يدك اليمنى على
اليسرى حذاء النحر " فمما لم يصح عنه، لأن عترته (عليه السلام) رووا عنه خلاف ذلك،
وهو أن معناه: ارفع يديك إلى النحر في الصلاة (6).
(إن شانئك) إن من أبغضك من قومك (هو الأبتر) لا أنت، والأبتر: الذي
لا عقب له.
فانظر في نظم هذه السورة الأنيق وترتيبه الرشيق مع قصرها ووجازتها،

(1) رواه الصدوق في علل الشرائع: ص 211 ح 2، والخزار القمي في كفاية الأثر: ص 36،
وتوفيق أبو علم في أهل البيت: ص 195 عنه إحقاق الحق: ج 19 ص 217.
(2) رواه أحمد بن حنبل في المسند: ج 5 ص 44، وأبو نعيم في الحلية: ج 2 ص 35، والخطيب
في تاريخ بغداد: ج 3 ص 215، والحمويني في فرائد السمطين: ج 2 ص 115 ح 418،
والعاملي في الفصول المهمة: ص 152، والحاكم في المستدرك: ج 3 ص 169.
(3) الأحزاب: 40.
(4) حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 534.
(5) رواه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 721 من طرق عنه (عليه السلام).
(6) رواه الشيخ في التهذيب: ج 2 ص 66 ح 537 باسناده عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام).
857

وتبصر كيف ضمنها الله النكت البديعة: حيث بنى الفعل في أولها على المبتدأ ليدل
على الخصوصية، وجمع ضمير المتكلم ليؤذن بكبريائه وعظمته، وصدر الجملة
بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم، وأتى بالكوثر المحذوف الموصوف ليكون
أدل على الشياع والتناول على طريق الاتساع، وعقب ذلك بفاء التعقيب ليكون
القيام بالشكر الأوفر مسببا عن الإنعام بالعطاء الأكثر.
وقوله: (لربك) تعريض بدين من تعرض له بالقول المؤذي من ابن وائل
وأشباهه ممن كان في عبادته ونحره لغير الله. وأشار بهاتين العبارتين إلى نوعي
العبادات: البدنية التي الصلاة إمامها، والمالية التي نحر البدن سنامها. وحذف اللام
الأخرى (1) إذ دلت عليه الأولى، ولمراعاة حق التسجيع الذي هو من جملة نظمه
البديع وأتى بكاف الخطاب على طريقة الالتفات إظهارا لعلو شأنه، وليعلم بذلك
أن من حق العبادة أن يقصد بها وجه الله خالصا، ثم قال: (إن شانئك)، فعلل ما
أمره به من الإقبال على شأنه في العبادة بذلك على سبيل الاستئناف، الذي هو
جنس من التعليل رائع. وإنما ذكره بصفته لا باسمه ليتناول كل من أتى بمثل حاله،
وعرف الخبر ليتم له البتر، وأقحم الفصل (2) لبيان أنه المعين لهذا النقص والعيب.
وذلك كله مع علو مطلعها، وتمام مقطعها، وكونها مشحونة بالنكت الجليلة،
مكتنزة بالمحاسن غير القليلة، مما يدل على أنه كلام رب العالمين الباهر لكلام
المتكلمين، فسبحان من لو لم ينزل إلا هذه السورة الموجزة لكفى بها آية معجزة،
ولو هم الثقلان أن يأتوا بمثلها لشاب الغراب وساب كالماء السراب قبل أن
يأتوا به.

(1) أي لم يقل: " وانحر لربك ".
(2) يعني به قوله: (هو).
858

وفيها أيضا دلالة على أنها معجزة وآية بينة من وجه آخر، وهو أنه إخبار
بالغيب: من حيث إنه أخبر عما جرى على ألسنة أعدائه فكان كما أخبر، ووافق
الخبر (1) الخبر أيضا في إعطائه الكوثر، إذ علت كلمته، وانتشرت في العالم ذريته،
وانبتر أمر شانئه الأبتر، وانقطع ذنبه وعقبه كما ذكر، وبالله التوفيق.
* * *

(1) في بعض النسخ: " المخبر ".
859

سورة الكافرون
مكية (1)، وقيل: مدنية، ست آيات.
في حديث أبي: " ومن قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت عنه مردة
الشيطان، وبرئ من الشرك، وتعافى من الفزع الأكبر " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ: (قل يأيها الكفرون)، و (قل هو الله أحد)
في فريضة من الفرائض غفر الله له ولوالديه وما ولد، وإن كان شقيا محي من
ديوان الأشقياء وكتب في ديوان السعداء، وأحياه الله سعيدا وأماته شهيدا " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل يأيها الكفرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2) ولا أنتم عبدون

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 419: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
مدنية. وهي ست آيات بلا خلاف.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 357: مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة،
ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك.
وفي الكشاف: ج 4 ص 808: مكية، وهي ست آيات، نزلت بعد الماعون. ويقال لها
ولسورة الإخلاص: المقشقشتان، أي: المبرئتان من النفاق.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 809.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 155، وفيه: " وما ولدا "، وزاد في آخره: " وبعثه شهيدا ".
861

مآ أعبد (3) ولا أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عبدون مآ أعبد (5) لكم
دينكم ولى دين (6))
نزلت في نفر من قريش قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك،
تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فقال: معاذ الله أن أشرك بالله غيره، قالوا: فاستلم
بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت، فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملا من
قريش، فقام على رؤوسهم فقرأها، فيئسوا (1).
(لا أعبد) في المستقبل (ما تعبدون) لأن " لا " لا تدخل إلا على مضارع
في معنى الاستقبال، كما أن " ما " لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال.
والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم. (ولا أنتم)
فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
(ولا أنا عابد ما عبدتم) أي: وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه،
يعني: لم يعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف يرجى مني في الإسلام؟
(ولا أنتم عبدون مآ أعبد) أي: وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته، ولم
يقل: " ما عبدت " كما قال: (ما عبدتم) لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث،
ولم يكن له العبادة مشروعة في ذلك الوقت (2)، وأتى بلفظة " ما " دون " من " لأن
المراد الصفة، كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق، وقيل: إن " ما "
مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي (3).

(1) أنظر أسباب النزول للواحدي: ص 405 ح 940.
(2) في هامش النسخة المطبوعة بالحجر كلام للمحقق: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعبدا بشريعة
نفسه قبل المبعث، لأنه كان نبيا من أول الأمر ثم صار مبعوثا للدعوة وتبليغ الرسالة ".
(3) قاله القيسي في مشكل إعراب القرآن: ص 849.
862

(لكم دينكم ولى دين) لكم شرككم ولي توحيدي، والمعنى: أني مبعوث
إليكم لأدعوكم إلى النجاة والحق، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فلا أقل من أن
أنجو منكم كفافا، وقيل: معناه: لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني (1).
وعن الصادق (عليه السلام): إذا قرأت (قل يأيها الكفرون) فقل: يا أيها الكافرون،
وإذا قرأت: (لا أعبد ما تعبدون) فقل: أعبد الله وحده، وإذا قلت: (لكم دينكم
ولى دين) فقل: ربي الله وديني الإسلام (2).
* * *

(1) قاله ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 358.
(2) أنظر تفسير القمي: ج 2 ص 446.
863

سورة النصر
مدنية (1)، وهي ثلاث آيات.
في حديث أبي: " ومن قرأها فكأنما شهد مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكة " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ: (إذا جآء نصر الله) في نافلة أو فريضة نصره
الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه الله من
جوف قبره، فيه أمان من حر جهنم، ومن النار، ومن زفير جهنم، يسمعه بأذنيه، فلا
يمر على شيء يوم القيامة إلا بشره وأخبره بكل خير حتى يدخل الجنة ويفتح له
في الدنيا من أسباب الخير ولم يخطر على قلبه (3) ".
بسم الله الرحمن الرحيم
(إذا جآء نصر الله وا لفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 424: مدنية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
ثلاث آيات بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 810: نزلت بمنى في حجة الوداع، فتعد مدنية، وهي آخر ما نزل
من السور، وآياتها (3)، نزلت بعد التوبة.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 813 مرسلا.
(3) ثواب الأعمال للصدوق: ص 155، وفيه " جسر جهنم " بدل " حر جهنم "، وزاد بعد قوله:
" أسباب الخير ": " ما لم يتمن ".
865

أفواجا (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3))
(إذا جآء) ك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (نصر الله) على من عاداك، وهم قريش
(والفتح) يعني: فتح مكة. و (إذا) ظرف لقوله: (فسبح) وهذا من المعجزات
والإخبار بالشيء قبل كونه. وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة
ثمان، ومع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف
العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوازن، وهي غزاة حنين، وحين
دخل مكة وقف على باب الكعبة ثم قال: " لا إله إلا الله وحده وحده، أنجز وعده،
ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مال ومأثرة ودم يدعى فهو تحت
قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إن
مكة محرمة بتحريم الله، لم تحل لأحد قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، وهي
محرمة إلى أن تقوم الساعة، لا يختلى خلالها ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها،
ولا يحل لقطتها إلا لمنشد ". وكان صناديد قريش قد دخلوا الكعبة وهم يظنون أن
السيف لا يرفع عنهم، فقال (عليه السلام) لهم: " ألا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم
وطردتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني، يا أهل مكة ما ترون
أني فاعل بكم "؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
فأعتقهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئا
فلذلك سموا الطلقاء، ثم بايعوه على الإسلام (1).
(ورأيت الناس يدخلون في دين الله) أي: ملة الإسلام (أفواجا) جماعات
كثيفة، كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحدا فواحدا،
واثنين اثنين.

(1) رواه ابن إسحاق في السيرة: ص 281.
866

وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم، فقيل له في ذلك فقال: سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " دخل الناس في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه
أفواجا " (1).
وقيل: أراد بالناس أهل اليمن (2). ولما نزلت قال (عليه السلام): " الله أكبر، جاء نصر
الله والفتح، وجاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه يمان،
والحكمة يمانية " (3) وقال: " أجد نفس ربكم من قبل اليمن " (4).
وعن الحسن: لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة، أقبلت العرب بعضها على بعض
وقالوا: أما إذا ظفر بأهل الحرم فليس لكم به يدان، وقد كان الله أجارهم من
أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير
قتال (5).
و (يدخلون) في محل نصب على الحال من (رأيت) إذا كان بمعنى:
أبصرت أو عرفت، وإن كان بمعنى: علمت فهو في موضع المفعول الثاني له.
(فسبح بحمد ربك) فقل: سبحان الله، حامدا لله، أي: فتعجب لتيسير (6) الله
تعالى لك ما لم يخطر ببال أحد، أو: فاذكره مسبحا حامدا زيادة في عبادته والثناء
عليه. والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين من الجمع
بين الطاعة والاحتراس من المعصية، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمته،

(1) أخرجه احمد بن حنبل في المسند: ج 3 ص 343.
(2) قاله عكرمة ومقاتل. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 541.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 730 عن عكرمة.
(4) رواه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 360 مرسلا، والبيهقي في الأسماء والصفات:
ص 462 عن سلمة بن نفيل.
(5) تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 443.
(6) في نسخة: " لتدبير ".
867

ولأن الاستغفار من التواضع لله تعالى وهضم النفس فهو عبادة في نفسه.
وعنه صلوات الله عليه: " إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة " (1).
وروي أنه لما قرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أصحابه استبشروا وبكى العباس،
فقال (عليه السلام): ما يبكيك يا عم؟ قال: نعيت إليك نفسك، قال: إنها لكما تقول، فعاش
بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكا مستبشرا (2).
وعن عبد الله بن مسعود: لما نزلت السورة كان (عليه السلام) يقول كثيرا: " سبحانك
اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم " (3). وفي رواية أخرى:
" أستغفرك وأتوب إليك " (4). وكانت تسمى سورة التوديع (5).
(كان توابا) أي: كان في الأزمنة الماضية توابا على المكلفين إذا استغفروا،
فعلى كل مستغفر أن يتوقع مثل ذلك.
* * *

(1) أخرجه أحمد في المسند: ج 5 ص 394.
(2) رواه السمرقندي في تفسيره: ج 3 ص 522 عن مقاتل.
(3) أخرجه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 732.
(4) أخرجه الطبري أيضا في تفسيره: ص 731 عن عائشة.
(5) كذا سماها ابن مسعود. راجع الكشاف: ج 4 ص 812.
868

سورة المسد (1)
مكية (2)، خمس آيات.
في حديث أبى: " من قرأها رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار
واحدة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " إذا قرأتم (تبت) فادعوا على أبي لهب، فإنه كان من
المكذبين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبما جاء به من عند الله تعالى " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
(تبت يدآ أبى لهب وتب (1) مآ أغنى عنه ماله وما كسب (2)
سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها حبل
من مسد (5))

(1) في بعض النسخ: " سورة أبي لهب ".
(2) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 426: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي
خمس آيات بلا خلاف.
وفي الكشاف: ج 4 ص 813: مكية، وآياتها (5)، نزلت بعد الفاتحة.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 817 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 155.
869

التباب: الخسران المؤدي إلى الهلاك، والمعنى: خسرت يداه وهلكت،
والمراد: هلاك جملته، مثل قوله: (ذلك بما قدمت يداك) (1)، ومعنى (وتب):
وكان ذلك وحصل، كقول الشاعر:
جزاني جزاه الله شر جزائه * جزاء الكلاب العاويات وقد فعل (2)
وقرئ: " أبي لهب " بسكون الهاء (3)، وهو من تغيير الأعلام، كما قيل:
شمس بن مالك بالضم، إنما كني لأنه كان مشهورا بالكنية دون الاسم، فلما أراد الله
سبحانه تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له ذكر الأشهر من علميه، ولأن اسمه
كان عبد العزى فعدل عنه إلى كنيته.
(مآ أغنى) استفهام في معنى الإنكار، ومحله نصب أو نفي (وما كسب)
مرفوع، و (ما) موصولة أو مصدرية بمعنى: " ومكسوبه " أو " وكسبه "، والمعنى:
لم ينفعه ماله وما كسب بماله، يعني: رأس المال والأرباح، أو: ماله الذي ورثه من
أبيه والذي كسبه بنفسه، وعن ابن عباس: (ما كسب) ولده (4). وعن الضحاك: ما
نفعه ماله وعمله الخبيث (5)، يعني: كيده في عداوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
(سيصلى) قرئ بفتح الياء وضمها (6). والسين للوعيد، أي: هو كائن
لا محالة وإن تراخى وقته. (وامرأته) هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان،

(1) الحج: 10.
(2) كذا في الكشاف أيضا، لكن يروي الشطر الأول منه: جزى ربه عني عدي بن حاتم. لأبي
الأسود الدؤلي يهجو به عدي بن حاتم الطائي. أنظر خزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 277
وما بعده.
(3) قرأه ابن كثير وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 700.
(4) حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 735.
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 815.
(6) وبضمها قرأ ابن أبي عبلة والحسن وابن أبي إسحاق. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 182.
870

وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: كانت تمشي بالنمائم (1). تقول العرب: فلان يحطب على
فلان: إذا كان يغري به، قال:
من البيض لم تصطد على ظهر لامة * ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب (2)
جعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر. ورفعت (امرأته)
عطفا على الضمير في (سيصلى) أي: سيصلى هو وامرأته. و (في جيدها) في
موضع نصب على الحال، و (امرأته) مبتدأ، و (في جيدها) الخبر، و (حمالة
الحطب) قرئ بالرفع (3) على الوصف، وبالنصب على الشتم.
والمسد: الحبل الذي فتل فتلا شديدا، ورجل ممسود الخلق: مجدوله،
والمعنى: في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك
وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون؛ تحقيرا لها، وتصويرا لها بصورة بعض
المواهن (4) الحطابات لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها، وهما في بيت الشرف
والثروة. ويحتمل أن يكون المعنى: أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي
كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك، فلا يزال على ظهرها حزمة من
حطب النار من الضريع والزقوم، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار، كما
يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.

(1) قاله الحسن والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 367.
(2) لم نعثر على قائله. والبيض والبياض: مجاز عن الخلوص من أسباب الذم، واللامة: اللؤم
وسببه، ووصف الحطب بالرطب لأن الرطب إذا أوقدت فيه النار كثر دخانه. راجع شرح
الشواهد: ص 260.
(3) وهي قراءة الجمهور إلا عاصما. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 700.
(4) مواهن: جمع ماهن وهي الخادم. (الصحاح: مادة مهن).
871

سورة الإخلاص
أربع آيات مكية (1)، وقيل: مدنية، وتسمى سورة التوحيد ونسبة الرب.
في حديث أبي: " من قرأها فكأنما قرأ ثلث القرآن، وأعطي من الأجر عشر
حسنات بعدد من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ".
وعن الصادق (عليه السلام): " من مضى به يوم واحد فصلى فيه خمس صلوات ولم
يقرأ فيها ب‍ (قل هو الله أحد) قيل له: يا عبد الله، لست من المصلين " (2) (3).

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 429: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك:
مدنية. وهي أربع آيات.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 369: مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء
وعكرمة وجابر، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي.
وفي الكشاف: ج 4 ص 817: مكية، وقيل: مدنية، وآياتها (4)، نزلت بعد الناس.
(2) ثواب الأعمال للصدوق: ص 155 - 156.
(3) في نسخة زيادة: " وبهذا الإسناد عن أبي عبد الله (عليه السلام): من أصابه شدة أو مرض، ولم يقرأ في
مرضه أو في تلك الشدة التي نزلت به ب‍ (قل هو الله أحد) ثم مات في مرضه أو في تلك
الشدة التي نزلت به فهو من أهل النار. وبهذا الإسناد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة ب‍ (قل هو الله أحد) فإنه من قرأها جمع
الله له خير الدنيا والآخرة، وغفر الله له ولوالديه وما ولدا. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من قرأ (قل هو الله أحد) حين يأخذ مضجعه مائة مرة غفر الله له ذنوب
خمسين سنة. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه صلى على سعد بن معاذ
فقال: لقد وافى من الملائكة تسعون ألف ملك وفيهم جبرئيل (عليه السلام) يصلون عليه، فقلت له:
يا جبرائيل بما استحق صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءة (قل هو الله أحد) قائما وقاعدا وراكبا
وماشيا وذاهبا وجائيا. وعن فضل بن عثمان قال: أخبرني رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): من آوى
إلى فراشه فقرأ (قل هو الله أحد) احدى عشرة مرة حفظ في داره وفي دور حوله. وبهذا
الإسناد عن عبد الله بن حجم عن أمير المؤمنين يقول: من قرأ (قل هو الله أحد) في دبر
الفجر لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب وأرغم أنف الشيطان. وعن أبي الحسن (عليه السلام): من قدم (قل
هو الله أحد) بينه وبين جبار منعه الله منها بقراءتها بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله،
فإذا جعل ذلك رزقه الله خيره ومنعه شره، وقال: إذا خفت أمرا فاقرأ مائة مرة آية من القرآن
من شئت ثم قل: اللهم اكشف عني البلاء ثلاث مرات. وعن حفص بن غياث عن
أبي عبد الله (عليه السلام) يقول لرجل: أتحب البقاء في الدنيا؟ قال: نعم قال: ولم؟ قال: لقراءة (قل هو
الله أحد)، فسكت عنه ثم قال لي بعد ساعة: يا حفص من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم
يحسن القرآن علمه في قبره ليرفع الله له درجته، فان درجات الجنة على قدر آيات القرآن،
فيقال لقارئ القرآن: إقرأ وارق ".
873

وفي الحديث: أنه كان يقال لسورتي (قل يأيها الكفرون) و (قل هو الله
أحد) المقشقشتان، أي: المبرئتان من الشرك والنفاق (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن
له كفوا أحد (4))
(هو) ضمير الشأن، و (الله أحد) هو الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، كأنه
قال: الشأن هذا، وهو: أن الله تعالى واحد لا ثاني له، وقيل: هو كناية عن الله (2)،
و (الله) بدل منه، و (أحد) خبر المبتدأ، أو: يكون (الله) خبر مبتدأ، و (أحد)
خبر ثان، أو على: هو أحد. وعن ابن عباس: قالت قريش: يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) صف
لنا ربك الذي تدعونا إليه، فنزلت (3). والمعنى: الذي سألتموني وصفه هو الله.

(1) حكاه الأصمعي. راجع تفسير القرطبي: ج 20 ص 225.
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 377.
(3) تفسير ابن عباس: ص 522.
874

و (أحد) أصله: وحد، وقرئ: " أحد الله "، بغير تنوين (1) أسقط لملاقاته لام
التعريف، ونحوه:
ولا ذاكر الله إلا قليلا (2)
والأحسن التنوين، وكسره لالتقاء الساكنين.
و (الصمد) فعل، بمعنى مفعول، من: صمد إليه في الحوائج أي: قصد،
والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرون أنه خالق السماوات والأرض وخالقكم،
وهو واحد متوحد بالإلهية لا يشاركه فيها غيره، وهو الذي يصمد إليه في الحوائج،
لا يستغني عنه أحد من المخلوقين، وهو الغني عن جميعهم.
(لم يلد) لأنه لا يجانس حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا، وقد دل
على هذا المعنى بقوله: (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) (3). (ولم
يولد) لأن كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أول لوجوده وليس بجسم.
(ولم يكن له كفوا) أي: شكلا ومثلا (أحد) أي: لم يكافئه أحد ولم يماثله،
ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح نفيا للصاحبة.
سألوه أن يصف لهم ربه، فنزلت السورة محتوية على صفاته عز اسمه، لأن
قوله: (هو الله) إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء ومنشئها، وفي ضمن ذلك
وصفه بأنه قادر عالم، لأن الخلق والإنشاء لا يكون إلا من عالم قادر لوقوعه على
غاية الإحكام والاتساق والانتظام، وفي ذلك وصفه بأنه حي موجود سميع بصير،
وقوله: (أحد) وصف له بالوحدانية ونفي الشركاء عنه، و (الصمد) وصف له

(1) وهي قراءة أبي عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 701.
(2) وصدره: فألفيته غير مستعتب. لأبي الأسود الدؤلي من أبيات يعاتب فيها امرأته، وكنى
بضمير المذكر عنها استحياء. راجع خزانة الأدب للبغدادي: ج 11 ص 374 وما بعده.
(3) الأنعام: 101.
875

بأنه ليس إلا محتاجا إليه، وإذا لم يكن إلا محتاجا إليه فهو غني، وفي كونه غنيا مع
كونه عالما أنه عدل غير فاعل للقبيح لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه، وقوله:
(لم يلد) نفي للتشبيه والمجانسة، وقوله: (ولم يولد) وصف بالأولية (1) والقدم،
وقوله: (ولم يكن له كفوا أحد)، تقرير لنفي التشبيه وقطع به، وإنما قدم سبحانه
(له) وهو غير مستقر لأن سياق هذا الكلام لنفي المكافأة عن ذات الباري، وهذا
المعنى مركزه هذا الظرف، فكان أهم شيء بالذكر، وأغناه وأحقه بالتقديم وأحراه.
وقرئ: (كفوا) بضم الكاف والفاء، وبسكون الفاء (2)، وبالهمزة وتخفيفه (3).
وفي عظم محل هذه السورة وكونها معادلة لثلث القرآن (4) على قصرها
وتقارب طرفيها، دلالة واضحة على أن علم التوحيد من الله بمكان، ولا غرو فإن
العلم تابع للمعلوم، يشرف بشرفه ويتضع بضعته، وإذا كان معلوم هذا العلم هو الله
جل جلاله، وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فما ظنك بشرف منزلته وعلو
شأنه وجلالة رتبته؟
وعن الباقر (عليه السلام): إذا فرغت من قراءة (قل هو الله أحد) فقل: كذلك الله ربي،
ثلاثا (5).
ويروى: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقف عند آخر كل آية من هذه السورة (6).

(1) في نسخة: " بالأزلية ".
(2) وهي قراءة حمزة وحده. راجع التيسير في القراءات للداني: ص 226.
(3) قرأ حمزة في الوصل وأبو عمرو برواية محبوب عنه ونافع برواية بالهمز خفيفة، وقرأ
ابن كثير وابن عامر والكسائي وأبو عمرو برواية اليزيدي وعبد الوارث وعاصم برواية
أبي بكر عنه بالهمز مثقلة، راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 701 - 702.
(4) أنظر التوحيد للصدوق: ص 95، والكافي: ج 2 ص 621 ح 7.
(5) أورده في عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص 133 ح 30.
(6) رواه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 432. وفي الكافي: ج 2 ص 616 ح 12 عن
أبي عبد الله (عليه السلام): يكره أن يقرأ (قل هو الله أحد) بنفس واحد.
876

سورة الفلق
مختلف فيها (1)، وهي خمس آيات.
وفي حديث أبي: " من قرأ (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس)
فكأنما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء " (2).
عن عقبة بن عامر، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " نزلت علي آيات لم ينزل مثلهن:
المعوذتان " (3).
وعن الباقر (عليه السلام): " من أوتر بالمعوذتين و (قل هو الله أحد) قيل له: أبشر
يا عبد الله فقد قبل الله وترك " (4).

(1) قال الشيخ في التبيان: ج 10 ص 432: مكية في قول ابن عباس، وقال الضحاك: هي
مدنية. وهي خمس آيات بلا خلاف.
وفي تفسير الماوردي: ج 6 ص 373: مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر،
ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة.
وفي الكشاف: ج 4 ص 820: مكية، وقيل: مدنية، وآياتها (5)، نزلت بعد الفيل.
(2) رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 822 مرسلا.
(3) أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 684 وعزاه إلى مسلم والترمذي والنسائي
وابن الضريس وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه.
(4) ثواب الأعمال للصدوق: ص 157.
877

بسم الله الرحمن الرحيم
(قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق (2) ومن شر غاسق إذا
وقب (3) ومن شر النفثت في العقد (4) ومن شر حاسد إذا حسد (5))
قالوا في المثل: " أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح " (1). وهو فعل بمعنى:
مفعول. والمعنى: (قل) أعتصم وأمتنع (برب) الصبح ومدبره ومطلعه، وقيل: هو
كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر،
والأرحام عن الأولاد (2). وقيل: هو جب في جهنم (3)، أي: واد فيها، كما قيل
للمطمئن من الأرض: فلق.
(من شر ما خلق) أي: من شر الأشياء التي خلقها الله تعالى من المكلفين
وأفعالهم، من المعاصي والمضار والظلم والبغي وغير ذلك، وغير المكلفين وما
يحصل منهم من الأكل والنهش واللدغ والعض، وما وضعه الله في غير الأحياء من
أنواع الضر، كالإحراق بالنار والقتل في السم.
(ومن شر غاسق) وهو الليل إذا اعتكر ظلامه، من قوله: (إلى غسق
الليل) (4)، ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء، يقال: وقبت الشمس إذا غابت.
وفي الحديث: لما رأى الشمس قد وقبت قال: " هذا حين حلها " (5) يعني: صلاة
المغرب. وخص الليل بذلك لأن انبثاث الشر فيه أكثر، والتحرز منه أصعب.

(1) أنظر مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 125.
(2) قاله الحسن البصري في تفسيره: ج 2 ص 445.
(3) قاله ابن عباس والسدي وكعب ورواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع تفسير الطبري:
ج 12 ص 746 - 747.
(4) الإسراء: 78.
(5) أخرجه الهروي في غريب الحديث: ج 2 ص 194 مرسلا.
878

وقالوا: " الليل أخفى للويل " (1).
و (النفثت) النساء، أو: النفوس، أو: الجماعات السواحر اللواتي يعقدن
عقدا في خيوط، وينفثن عليها ويرقين.
(ومن شر حاسد إذا حسد) أي: إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي
الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره لم يتعد منه ضرر وشر إلى من
حسده، بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره. وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر
ظالما أشبه بالمظلوم من الحاسد (2). وقيل معناه: من شر نفس الحاسد وعينيه (3)
فإنه ربما أصاب بهما وعاب وضر.
وعن أنس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من رأى شيئا يعجبه فقال: الله الله، ما شاء
الله، لا قوة إلا بالله، لم يضره شيئا " (4).
* * *

(1) انظر مجمع الأمثال: ج 2 ص 142.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 822.
(3) قاله قتادة وعطاء الخراساني. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 751.
(4) أخرجه الديلمي في الفردوس: ج 4 ص 497 ح 5696 وفيه: " لم تضره العين ".
879

سورة الناس
مختلف فيها (1) ست آيات.
عن الباقر (عليه السلام): " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشتكى فأتاه جبرائيل وميكائيل، فقعد
جبرائيل (عليه السلام) عند رأسه، وميكائيل (عليه السلام) عند رجليه، فعوذه جبرائيل ب‍ (قل أعوذ
برب الفلق)، وميكائيل ب‍ (قل أعوذ برب الناس) (2).
وروي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كثيرا ما يعوذ الحسن والحسين (عليهما السلام) بهاتين
السورتين " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس (3) من شر

(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 435: وهي ست آيات بلا خلاف.
وفي تفسير القرطبي: ج 20 ص 260: مثل الفلق لأنها إحدى المعوذتين.
وفي الكشاف: ج 4 ص 820: مكية، وقيل: مدنية، وآياتها (6)، نزلت بعد الفلق.
(2) وأخرج قريبا منه السيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 687 عن عائشة وعزاه إلى ابن
مردويه والبيهقي في الدلائل.
(3) رواه البخاري في الصحيح: ج 6 ص 293، وأبو داود في السنن: ج 4 ص 235 ح 4737،
والترمذي في السنن أيضا: ج 4 ص 396 ح 2060، وأحمد في المسند: ج 1 ص 226،
والحمويني في فرائد السمطين: ج 2 ص 112 ح 416، والحاكم في المستدرك: ج 3 ص
167 و 270 كلهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
881

الوسواس الخناس (4) الذي يوسوس في صدور الناس (5) من الجنة
والناس (6))
(برب الناس) بخالقهم ومنشئهم ومدبرهم. (ملك الناس) سيدهم والقادر
عليهم. (إله الناس) معبودهم الذي تحق العبادة له دون غيره. و (ملك الناس)
و (اله الناس) كلاهما عطف بيان ل‍ (رب الناس)، بين ب‍ (- ملك الناس) ثم
زيد بيانا ب‍ (- إله الناس) لأنه قد يقال لغيره " رب الناس "، ألا ترى إلى قوله:
(اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله) (1)، وقد يقال: " ملك الناس "،
فأما: " إله الناس " فخاص لا شركة فيه، فلذلك جعل غاية للبيان، وإنما أضيف
" رب " إلى " الناس " خاصة لأن الاستعاذة إنما وقعت (من شر) الموسوس (في
صدور الناس) فكأنه قال: أعوذ من شر الموسوس في صدور الناس، بربهم الذي
يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم. وإنما أظهر المضاف إليه الذي هو
(الناس) في الجميع، لأن عطف البيان إنما هو للكشف والبيان، فكان مظنة
للإظهار دون الإضمار، وقيل: إن المراد بالناس الأول: الأجنة، ولذلك قال: (برب
الناس) لأنه يربيهم، والمراد بالثاني: الأطفال، ولذلك قال: (ملك الناس) لأنه
يملكهم، والمراد بالثالث: البالغون المكلفون، ولذلك قال: (إله الناس) لأنهم
يعبدونه (2).
(من شر الوسواس) هو اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما
المصدر فوسواس - بالكسر - كزلزال، والمراد به الشيطان، سمي بالمصدر كأنه
وسوسة في نفسه لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه، أو: أريد: ذو الوسواس.

(1) التوبة: 31.
(2) في المجمع: ج 10 ص 570 نسبه إلى جامع العلوم النحوي.
882

والوسوسة: الصوت الخفي، و (الخناس) الذي عادته أن يخنس، وهو منسوب
إلى " الخنوس " وهو التأخر، ك‍ " - العواج " و " البتات " لما روى أنس بن مالك
عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإن
نسي التقم قلبه " (1).
(الذي يوسوس) يجوز في محله الجر على: صفة (الوسواس)، والنصب
والرفع على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على (الخناس)، ويبتدئ: (الذي
يوسوس) على أحد هذين الوجهين.
(من الجنة والناس) بيان ل‍ (الذي يوسوس) على أن يكون الشيطان
ضربين: جني وإنسي، كما قال: (شيطين الإنس والجن) (2)، وعن أبي ذر أنه
قال لرجل: هل تعوذت بالله من شيطان الإنس؟ ويجوز أن يكون (من) لابتداء
الغاية، وتعلق ب‍ (يوسوس) أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجن ومن جهة
الإنس.
وعن الصادق (عليه السلام): إذا قرأت (قل أعوذ برب الفلق) فقل في نفسك: أعوذ
برب الفلق، وإذا قرأت (قل أعوذ برب الناس)، فقل في نفسك: أعوذ برب الناس.
* * *

(1) أخرجه السيوطي في الدر: ج 8 ص 694 وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان وأبي
يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب.
(2) الأنعام: 112.
883

وهذا آخر الكتاب، ولله الحمد والشكر على تأييده وتسديده أولا وآخرا
متواليا متواترا، وكان ابتدائي بتأليفه سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة في يوم السبت
الثامن عشر من صفر، وفراغي منه بعون الله ومنه لست بقين من المحرم، الشهر
الثاني عشر في مدة شهور العام، وعدة نقباء موسى الأعلام بأرض الشام في سالف
الأيام، وخلفاء نبينا محمد عليه وعليهم السلام أئمة الإسلام وحجج المهيمن
السلام، فالله الكريم الجواد الرحيم أسأل، وبهم إليه أتوسل، أن يجعل كدي
وكدحي واجتهادي وجدي في تصنيفه وترصيفه، وتهليبه وتهذيبه، حتى جلا من
كنه فردا فذا في فنه، مندمجا على جواهر التفسير وزواهره، مكتنزا ببواطن علمه
وظواهره، عديم النظير في الكتب، جديرا أن يكتب بماء الذهب، في أوجز لفظ
وأبلغه وأكمل معنى وأسبغه، ترى جميع متضمناته موافقا لأصول الدين وفروعه،
مطابقا لمعقوله ومسموعه، فهو الحق القديم والدر اليتيم والصراط المستقيم،
تستنجح ببركاته الحاجات ويستدفع به الملمات، ويستفتح به الأغلاق ويستنزل
به الأرزاق، موجبا لرضوانه مؤديا إلى جنانه، وسببا لإحراز ذخائر الأجر
وادخار كرائم الذخر، ووصلة إلى شفاعة النبي المصطفى وأهل بيته النجوم
الزاهرة، الذين استضاءت بأضوائهم، وتفيأت بأفيائهم، واهتديت بمنارهم (1)،
واقتبست من أنوارهم.
اللهم إن كنت تعلم أني لم أطلب بذلك إلا وجهك ولم أعتمد به غيرك، فاصفح
عن جرمي، وتجاوز عن سيئاتي بشفاعتهم، وانضمني يوم القيامة في جملتهم،
وأفض علي سجال نعمك، واخصصني بلطائف كرمك، إنك أنت الكريم المنان،
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الأخيار، وحسبنا الله ونعم الوكيل،
وهو ربنا عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.

(1) في نسخة: " بمنازلهم ".
884