الكتاب: التوفيق الرباني في الرد على ابن تيمية الحراني
المؤلف: جماعة من العلماء
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: في أصل الكتاب لا يوجد معلومات هوية الكتاب

التوفيق الرباني
1

التوفيق الرباني
في الرد على ابن تيمية الحراني
لجماعة من العلماء
3

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين القرآن، فكشف
به ظلمات الجهل، وفتح به لنيل مآرب الدارين الباب، ووعد متبعه بالجنة
والثواب، وأوعد المعرضين عنه والمتتبعين المتشابه منه ابتغاء الفتنة النار
والعقاب.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله، الذي اصطفاه وجعله سيد ولد آدم أجمعين، وعلى آله وصحبه
الغر الميامين:
أما بعد: فإن الدافع لجمع هذا الكتاب أسباب منها:
أولا: كثرة الجهل والجهلاء، همج رعاع أتباع كل ناعق، غرتهم
الدنيا، ورنين وبريق الذهب الزائل، حتى باعوا دينهم بعرض من
الدنيا.
ثانيا: تحول الأحوال فكثير منهم يرون التلقي مشافهة من الأكابر
عادة القدماء، وهذا العصر يغنز عن الاستماع والإملاء، وانتشار الكتب
يوجز الوقت ويغني عن العلماء.
أقول: قال الشاعر:
وما كل من هز الحسام بضارب * ولا كل من أجرى اليراع بكاتب
5

فترى هؤلاء يهجمون على تفسير الآيات برأيهم، والأحاديث
بظنونهم، حتى قاسوا الخالق تعالى الله عن ذلك علوا
كبيرا.
ولما كان ابن تيمية عمدتهم، ورأس الفتنة قديما وحديثا، افتتن به
الاغرار، وبالعبارات الرنانة، (الشهيد، شيخ الإسلام)، وغيرها من
الكلمات الزائقة وعكفوا على كتبه ومؤلفاته وتركوا كتب ومؤلفات الأئمة
الأعلام، والجهابذة الأخيار، وردوا نصوص الكتاب، والسنة الثابتة
المطهرة، أجارنا الله من هذه الفتنة. فقياما بالواجب الذي علي رأيت أن
أجمع في هذا الكتاب رسائل الإمام المجتهد السبكي وغيره من
المعاصرين لابن تيمية، ووضعت له مقدمة في كشف حاله، فإن هذا ليس
أكلا للحوم العلماء - كما يدعي الجهلة - إنما هو نصرة لهذا الذين،
فانظروا كتب الجرح للعلماء تجدوها مليئة بالتحذير من الوضاعين
والكذابين ونحوهم، حتى قال الشافعي عن حرام بن عثمان: الرواية عن
حرام حرام، فانظر وتمعن، وقد قال رسولنا محمد الصادق صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت
أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم)، وقال الله تعالى:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
فإلى الجاهل العنيد، أقول لك: (ليس البيان كثرة الكلام إنما
البيان إصابة الحق)، وعند الله تجتمع الخصوم.
كتبه
ناصح شفوق.
6

بسم الله الرحمن الرحيم
من هو ابن تيمية؟
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي
الحنبلي ولد عاشر ربيع الأول سنة / 661 ه‍.
جمهور الأمة الإسلامية على تنزيه الله تعالى
عن مشابهة الحوادث
اتفق العقلاء من أهل السنة والجماعة الشافعية والحنفية والمالكية
وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منزه عن الجهة
والجسمية والحد والمكان والمشابهة لمخلوقاته.
كشف حال ابن تيمية
ذكر العلامة تقي الدين الحصني المتوفى سنة / 829 ه‍ في كتابه:
" دفع شبه من شبه وتمرد " كثيرا من مسائل ابن تيمية التي حاد فيها عن
طريق الحق. وإني أنقل للقراء مقدمة كلامه في ابن تيمية رقم مرسوم
السلطان ابن قلاوون ثم بعض شواذ ابن تيمية. قال رحمه الله: " فاعلم
أني نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ المتتبع ما
7

تشابه في الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة، وتبعه على ذلك خلق من العوام
وغيرهم ممن أراد الله عز وجل إهلاكه، فوجدت فيه ما لا أقدر على
النطق به، ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره، لما فيه من
تكذيب رب العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين، وكذا الازدراء
بأصفيائه المنتخبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموفقين، فعدلت عن
ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمة المتقون وما اتفقوا عليه من تبديعه وإخراجه
ببعضه من الدين، فمنه ما دون في المصنفات ومنه ما جاءت به المراسيم
العليا وأجمع عليه علماء عصره ممن يرجع إليهم في الأمور الملمات
والقضايا المهمات، وتضمنه الفتاوى الزكيات من دنس أهل الجهالات،
ولم يختلف عليه أحد كما اشتهر بالقراءة والمناداة على رؤوس الأشهاد في
المجامع الجامعة حتى شاع وذاع واتسع به الباع حتى في القلوب، فمن
ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني ناصر الدين والد محمد بن قلاوون
رحمه الله تعالى وقرئ على منبر جامع دمشق نهار الجمعة سنة خمسة
وسبعمائة.
صورة مرسوم ابن قلاوون في ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تنزه عن الشبيه والنظير
وتعالى عن المثل، فقال تعالى: (ليس كمثله شئ وهو السميع
البصير)، أحمده على ما ألهمنا من العمل بالسنة والكتاب، ورفع في
أيامنا أسباب الشك والارتياب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير، وينزه خالقه عن
التحيز في جهة لقوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون
بصير)، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة
لمن سلك سبيل مرضاته، وأمر بالتفكر في الآيات ونهى عن التفكر في
ذاته: صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان
8

وارتفع، وشيد الله بهم من قواعد الدين الحنيف ما شرع، وأخمد بهم
كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع.
وبعد فإن القواعد الشرعية، وقواعد الإسلام المرعية، وأركان
الإيمان العلمية، ومذاهب الدين المرضية، هي الأساس الذي يبنى
عليه، والموئل الذي يرجع كل أحد إليه، والطريق التي من سلكها فاز
فوزا عظيما، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما، ولهذا يجب أن
تنعقد أحكامها، ويؤكد دوامها، وتصان عقائد هذه الأمة عن الاختلاف،
وتزان بالرحمة والعطف والائتلاف، وتخمد ثوائر البدع، ويفرق من فرقها
ما اجتمع.
وكان ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه، ومد بجهله
عنان كلمه، وتحدث بمسائل الذات والصفات، ونص في كلامه الفاسد
على أمور منكرات، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما
اجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام،
وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكام.
وأشهر من فتاويه ما استخف به عقول العوام، وخالف في ذلك
فقهاء عصره، وأعلام علماء شامه ومصره، وبث به رسائله إلى كل
مكان، وسمى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، ولما اتصل بنا
ذلك وما سلك به هو ومريدوه، من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه، من
هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه، حتى اتصل بنا
أنهم صرحوا في حق الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم،
فقمنا في نصرة الله مشفقين من هذا النبأ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة،
وعز علينا أن تشيع عمن تضمه ممالكه هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به
المبطلون، وتلونا قوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما
يصفون)، فإنه سبحانه وتعالى تنزه في ذاته وصفاته عن العديل
والنظير (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)،
9

فتقدمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى أبوابنا حين سارت
فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا
وتلا قوله تعالى: (لقد جئت شيئا نكرا).
ولما وصل إلينا الجمع أولوا العقد والحل، وذوو التحقيق والنقل،
وحضر قضاة الإسلام، وحكام الأنام، وعلماء المسلمين، وأئمة الدنيا
والدين، وعقد له مجلس شرعي في ملأ من الأئمة وجمع، ومن له دراية
في مجال النظر ودفع، فثبت عندهم جميع، ما نسب إليه، بقول من
يعتمد ويعول عليه، وبمقتضى خط قلمه الدال على منكر ومعتقده،
وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون، وآخذوه بما شهد به
قلمه تالين: (ستكتب شهادتهم ويسألون)، وبلغنا أنه قد استتيب مرارا
فيما نقدم، وأخره الشرع الشريف لما تعرض لذلك وأقدم، ثم عاد بعد
منعه، ولم يدخل ذلك في سمعه.
ولما ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي حكم الشرع الشريف أن
يسجن هذا المذكور، ويمنع من التصرف والظهور، ويكتب مرسومنا هذا
بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن
التشبيه في اعتقاد مثل ذلك، أو يعود له في هذا القول متبعا، أو لهذه
الألفاظ مستمعا، أو يسري في التشبيه مسراه، أو يفوه بجهة العلو بما
فاه، أو يتحدث أحد بحرف أو صوت، أو يفوه بذلك إلى الموت، أو
ينطق بتجسيم، أو يحيد عن الطريق المستقيم، أو يخرج عن رأي
الأئمة، أو ينفرد به عن علماء الأمة، أو يحيز الله سبحانه وتعالى في جهة
أو يتعرض إلى حيث وكيف، فليس لمعتقد هذا إلا السيف.
فليقف كل واحد عند هذا الحد، ولله الأمر من قبل ومن بعد،
وليلزم كل واحد من الحنابلة بالرجوع عن كل ما أنكره الأئمة من هذه
العقيدة، والرجوع عن الشبهات الزائغة الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى
به، والتمسك بمسالك أهل الإيمان الحميدة، فإنه من خرج عن أمر الله
10

فقد ضل سواء السبيل، ومثل هذا ليس له إلا التنكيل، والسجن الطويل
مستقره ومقيله وبئس المقيل.
وقد رسمنا بأن ينادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية، وتلك
الجهات الدانية والقاصية، بالنهي الشديد، والتخويف والتهديد لمن اتبع
ابن تيمية في هذا الأمر الذي أوضحناه، ومن تابعه تركناه في مثل مكانه
وأحللناه، ووضعناه من عيون الأمة كما وضعناه، ومن أصر على الامتناع
وأبى إلا الدفاع، أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم، وأسقطناهم من
مراتبهم مع إهانتهم، وإن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا ولاية ولا
شهادة ولا إمامة بل ولا مرتبة ولا إقامة، فإنا أزلنا دعوة هذا المبتدع من
البلاد، وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضل بها كثيرا من العباد أو كاد، بل
كم أضل بها من خلق وعاثوا بها في الأرض الفساد، ولتثبت المحاضر
الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير المحاضر بعد إثباتها على
قضاة المالكية، وقد أعذرنا وحذرنا وأنصفنا حيث أنذرنا، وليقرأ مرسومنا
الشريف على المنابر، ليكون أبلغ واعظ وزاجر، لكل باد وحاضر،
والاعتماد على الخط الشريف أعلاه وكتب ثامن عشرين شهر رمضان سنة
خمس وسبعمائة إ ه‍. وهذه المراسيم الصادرة في حقه بعد محاكمته
أمام جماعة من كبار العلماء في عصره مسجلة في كتب التواريخ، وكتب
خاصة مثل عيون التواريخ، ونجم المهتدي، ودفع الشبه وغيرها.
وسأنقل الصورة الخطية لهذا المرسوم لاحقا إن شاء الله.
كلام ابن تيمية في الاستواء
ووثوب الناس عليه
فمن ذلك ما أخبر به أبو الحسن علي الدمشقي في صحن الجامع
الأموي عن أبيه قال: كنا جلوسا في مجلس ابن تيمية فذكر ووعظ
وتعرض لآيات الاستواء، ثم قال: (واستوى الله. على عرشه كاستوائي
11

هذا "، قال: فوثب الناس إليه وثبة واحدة، وأنزلوه من الكرسي وبادروا
إليه ضربا باللكم والنعال وغير ذلك، حتى أوصلوه إلى بعض الحكام،
واجتمع في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم.
ضحك العلماء منه لما طالبوه بالدليل
على ما صدر منه وتحققهم جهله
فقالوا: ما الدليل على ما صدر منك؟، قال قوله تعالى:
(الرحمن على العرش استوي)، فضحكوا منه وعرفوا أنه جاهل لا
يجري على قواعد العلم ثم نقلوه ليتحققوا أمره فقالوا ما تقول في قوله
تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)، فأجاب بأجوبة تحققوا أنه من
الجهلة على التحقيق، وأنه لا يدري ما يقول، وكان قد غره بنفسه ثناء
العوام عليه وكذا الجامدون من الفقهاء العارون عن العلوم التي بها يجتمع
شمل الأدلة على الوجه المرضي.
وقد رأيت في فتاويه ما يتعلق بمسألة الاستواء، وقد أطنب فيها
وذكر أمورا كلها تلبيسات خارجة عن قواعد أهل الحق، والناظر فيها إذا لم
يكن ذا علوم وفطنة وحسن روية ظن أنها على منوال مرضي، ومن جملة
ذلك بعد تقريره وتطويله (إن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة) كما
جمع الله بينهما في قوله تعالى: (هو الذي خلق السماوات والأرض في
ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها
وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون
بصير) فأخبر (أنه فوق العرش يعلم كل شئ وهو معنا أينما كنا)، هذه
عبارته بحروفها، فتأمل أرشدك الله تعالى هذا التهافت وهذه الجرأة
بالكذب على الله تعالى أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه فوق العرش
محتجا بلفظ الاستواء، وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقق به جهله
12

وفساد تصوره وبلادته، وكان بعضهم يسميه حاطب ليل، وبعضهم يسميه
الهدار المهذار.
تفرقته في جواز التوسل بالرسول " صلى الله عليه وسلم "
في حياته ومنع التوسل به بعد موته تلقاها عن شيخه
وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن علي بن
إسماعيل القونوي يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول، ويخبر
أنه أخذ مسألة التفرقة، (أي تفرقته بين جواز التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم في
حياته، ومنع التوسل به بعد موته)، عن شيخه الذي تلقاها عن أفراخ
السامرة واليهود الذين أظهروا التشرف بالإسلام، وهم من أعظم الناس
عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقتل علي رضي الله تعالى عنه واحدا منهم تكلم في
مجلسه كلمة فيها ازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقفت على المسألة، أعني
مسألة التفرقة التي أثارها اليهود ليزدروه بها وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة
من الاشتقاق وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء، فتصدى لهم
الجهابذة من العلماء وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والاستعمال الشرعي
والعرفي وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الأعناق، ولم يبق منهم إلا
الضعفاء في العلم، ودامت فيهم مسألة التفرقة حتى تلقاها ابن تيمية عن
شيخه. إه‍.
اتفاق الحذاق من جميع المذاهب في زمنه
على سوء فهمه وكثرة أخطائه وعدم إدراكه
للمأخذ الدقيقة
وكنت أظن أنه ابتكرها واتفق الحذاق في زمانه من جميع المذاهب
على سوء فهمه وكثرة أخطائه وعدم إدراكه للمأخذ الدقيقة وتصورها،
عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم.
13

ما ذكره ابن شاكر فيه في عيون التواريخ (1)
ولنرجع إلى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه قال: وفي سنة خمس
وسبعمائة في ثامن رجب عقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب
السلطنة بالقصر الأبلق، فسئل ابن تيمية عن عقيدته، فأملى شيئا منها ثم
أحضرت عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس ووقعت بحوث كثيرة وبقيت
مواضع أخرت إلى مجلس ثان ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب
وحضر المجلس صفي الدين الهندي وبحثوا ثم اتفقوا على أن كمال
الدين بن الزملكاني يحاقق ابن تيمية ورضوا كلهم بذلك.
إقحام كمال الدين بن الزملكاني، ابن تيمية
في المناظرة
وقد أقحم كمال الدين، ابن تيمية، وخاف ابن تيمية على نفسه
فأشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب ويعتقد ما يعتقده الإمام
الشافعي، فرضوا منه بذلك وانصرفوا، ثم إن أصحاب ابن تيمية أظهروا
أن الحق ظهر مع شيخهم وأن الحق معه، فأحضروا إلى مجلس القاضي
جلال الدين القزويني وأحضروا ابن تيمية وصفع ورسم بتعزيره فشفع
فيه، وكذلك فعل الحنفي باثنين من أصحاب ابن تيمية.

(1) مخطوط في مكتبة قرة جلبي زادة رقم / 694 ص / 33.
14

وصول ابن تيمية إلى القاهرة وعقد مجلس القضاة
والفقهاء والعلماء والأمراء له وادعاء شمس الدين بن عدنان الشافعي
عليه
ثم قال: ولما كان سلح رجب جمعوا القضاة والفقهاء وعقد مجلس
بالميدان أيضا، وحضر نائب السلطنة أيضا، وتباحثوا في أمر العقيدة،
وسلك معهم المسلك الأول، فلما كان بعد أيام ورد مرسوم السلطان
صحبة بريدي من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن
صصري وبابن تيمية، وفي الكتاب (تعرفونا ما وقع في سنة ثمان وتسعين
في عقيدة ابن تيمية) فطلبوا الناس وسألوهم عما جرى لابن تيمية في أيام
نقل عنه فيها كلام قاله وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة
التي كانت أحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين وتحدثوا مع ملك
الأمراء في أن يكاتب في هذا الأمر، فأجاب، فلما كان ثاني يوم وصل
مملوك ملك الأمراء على البريد من مصر وأخبر أن الطلب على ابن تيمية
كثير وأن القاضي المالكي قائم في قضيته قياما عظيما وأخبر بأشياء كثيرة
وقعت من الحنابلة في الديار المصرية وأن بعضهم صفع.
فلما سمع ملك الأمراء بذلك انحلت عزائمه عن المكاتبة وسير
شمس الدين بن محمد المهمندار إلى ابن تيمية، وقال له: قد رسم
مولانا ملك الأمراء بأن تسافر غدا، وكذلك راح إلى قاضي القضاة
فشرعوا في التجهيز، وسافر بصحبة ابن تيمية أخواه عبد الله و عبد الرحمن
وسافر معهم جماعة من أصحاب ابن تيمية.
شروع ابن تيمية في وعظ أهل المجلس
فقيل له إن الذي تقوله نحن نعرفه.
وفي سابع شوال وصل البريدي إلى دمشق وأخبر بوصولهم إلى
15

الديار المصرية، وأنه عقد لهم مجلس بقلعة القاهرة بحضرة القضاة
والفقهاء والعلماء والأمراء: فتكلم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي
وادعى على ابن تيمية في أمر العقيدة، فذكر منها فصولا فشرع ابن
تيمية، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وتكلم بما يقتضي الوعظ، فقيل
له: يا شيخ إن الذي تقوله نحن نعرفه وما لنا حاجة إلى وعظك، وقد
ادعى عليك بدعوى شرعية فأجب، فأراد أن يعيد التحميد فلم يمكنوه من
ذلك بل قيل له أجب، فتوقف وكرر عليه القول مرارا، فلم يزدهم على
ذلك شيئا وطال الأمر فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبس
أخويه معه فحبسوه في برج من أبراج القلعة، فتردد إليه جماعة من
الأمراء فسمع القاضي بذلك، فاجتمع بالأمراء وقال: يجب عليه التضييق
إذا لم يقتل وإلا فقد وجب قتله وثبت كفره فنقلوه إلى الجب بقلعة الجبل
ونقلوا أخويه معه بإهانة.
إرجاع نجم الدين بن صصري خصم ابن تيمية
إلى قضاء القضاة بالشام ومعه مرسوم السلطان
بالتشديد العظيم على الحنابلة
وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة
نجم الدين بن صصري، وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي،
وحضر القبراء والمنشدون وأنشدت التهاني وكان وصل معه كتب ولم
يعرضها على نائب السلطنة، فلما كان بعد أيام عرضها عليه، فرسم
ملك الأمراء بقراءتها، والعمل بما فيها امتثالا للمراسيم السلطانية، وكانوا
قد بيتوا على الحنابلة كلهم بأن يحضروا إلى مقصورة الخطابة بالجامع
الأموي بعد الصلاة. وحضر القضاة كلهم بالمقصورة، وحضر معهم
الأمير الكبير ركن الدين بيبرس العلائي، وأحضروا تقليد القضاء نجم
الدين بن صصري الذي حضر معه من مصر باستمراره على قضاء القضاة
16

وقضاء العسكر ونظر الأوقاف وزيادة المعلوم، وقرئ عقيبه الكتاب الذي
وصل على يديه، وفيه ما يتعلق بمخالفة ابن تيمية في عقيدته، وإلزام
الناس بذلك خصوصا الحنابلة، والوعيد الشديد عليهم والعزل من
المناصب والحبس وأخذ المال والروح لخروجهم بهذه العقيدة عن الملة
المحمدية ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدم وتولى قراءته شمس الدين
محمد بن شهاب الدين الموقع، وبلغ عنه الناس ابن صبح المؤذن وقرئ
بعده تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابة، وأحضروا بعد القراءة الحنابلة
مهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة
واعترفوا أنهم يعتقدون ما يعتقده محمد بن إدريس الشافعي رضي الله
تعالى عنه وهو قوله: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت
برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
وفي سلخ صفر سنة / 709 ه‍ سفروا ابن تيمية من القاهرة إلى الإسكندرية
ولم يمكن أحد من جماعته من السفر معه وحبس في برج شرقي البلد.
ورود مرسوم آخر من السلطان يمنع ابن تيمية
من الفتوى في الطلاق
وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة ورد مرسوم السلطان بالمنع
من الفتوى في مسألة الطلاق التي يفتي بها ابن تيمية، وقد أمر بعقد
مجلس له بدار السعادة، وذلك سنة 720 ه‍ اليوم الحادي عشر من
جمادى الأولى وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء، وحضر ابن تيمية
وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق وكونهم نهوه وما انتهى، ولا قبل
مرسوم السلطان ولا حكم الحكام بمنعه، فأنكر فحضر خمسة نفر فذكروا
عنه أنه أفتاهم بعد ذلك فأنكر وصمم على الانكار فحضر ابن طليس
وشهد أنه أفتى لحاما اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا،
17

فقيل لابن تيمية اكتب بخطك أنك لا تفتي بها ولا بغيرها، فكتب بخطه
أنه لا يفتي بها وما كتب بغيرها. فقال القاضي نجم الدين بن صصري
حكمت بحبسك واعتقالك فقال له: حكمك باطل لأنك عدوي فلم يقبل
منه وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق.
وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء أفرج عن ابن تيمية
من حبسه بقلعة دمشق وكانت مدة اعتقاله خمسة أشهر ونصفا.
في سنة / 726 / حبس ابن تيمية في قلعة دمشق
وفتوى الفقهاء من المذاهب الأربعة بتضليله
وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في سادس من شعبان قدم بريدي
من الديار المصرية، ومعه مرسوم شريف باعتقال ابن تيمية، فاعتقل في
قلعة دمشق، وكان السبب في اعتقاله وحبسه أنه قال: (لا تشد الرحال
إلا إلى ثلاثة مساجد وإن زيارة قبور الأنبياء لا تشد إليها الرواحل كغيرها
كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي صلى الله عليه وسلم).
ثم إن الفقهاء الشافعية والمالكية كتبوا فتيا أيضا في ابن تيمية لكونه
أول من أحدث هذه المسألة التي لا تصدر إلا ممن في قلبه ضغينة لسيد
الأولين والآخرين، فكتب عليها الإمام العلامة برهان الدين الفزاري نحو
أربعين سطرا بأشياء وآخر القول إنه أفتى بتكفيره، ووافقه على ذلك
الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي، وكتب تحت خطه كذلك
المالكي وكذلك كتب غيرهم، ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه
وزندقته.
ثم أراد النائب أن يعتقد لهم مجلسا ويجمع العلماء والقضاة، فرأي
أن الأمر يتسع فيه الكلام، ولا بد من إعلام السلطان بما وقع فأخذ
الفتوى وجعلها في مطالعه وسيرها، فجمع السلطان لها القضاة فلما قرئت
عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وكتب عليها: (القائل
18

بهذه المقالة ضال مبتدع) ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي فصار كفره
مجمعا عليه، ثم كتب كتاب إلى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة في
أمره.
مرسوم للسلطان أيضا باعتماد ما اتفق عليه
علماء القطرين
وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان، حضر كتاب السلطان إلى
نائب البلد وأمره أن يقرأه على السدة في يوم الجمعة فقرئ وكان قارئ
الكتاب بدر الدين بن الاعزازي الموقع، والمبلغ ابن النجيبي المؤذن،
ومضمون الكتاب بعد البسملة، أدام الله تعالى نعمه، ونوضح لعلمه
الكريم ورود مكاتبته التي جهزها بسبب ابن تيمية فوقفنا عليها، وعلمنا
مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم
الشريفة بمنعه حسبما حكم به القضاة وأكابر العلماء، وعقدنا بهذا السبب
مجلسا بين أيدينا الشريفة، ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء،
فذكروا جميعا من غير خلف أن الذي أفتى به ابن تيمية في ذلك خطأ
مردود عليه وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقا وكتبوا
خطوطهم بين أيدينا على ظاهر الفتوى المجهزة بنسخة ما كتبه ابن تيمية.
وقد جهزنا إلى الجانب العالي طي هذه المكاتبة فيقف على حكم
ما كتب به القضاة الأربعة، ويتقدم باعتقال المذكور في قلعة دمشق،
ويمنع من الفتوى مطلقا ويمنع الناس من الاجتماع به والتردد إليه،
وتضييقا عليه لجرأته على هذه الفتوى، فيحيط به علمك الكريم، ولكون
اعتماده بحسب ما حكم به الأئمة الأربعة.
وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه، فإنه في كل
وقت يحدث للناس شيئا منكرا وزندقة يشغل خواطر الناس بها، ويفسد
19

على العوام عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم فيمنع من ذلك وتسد
الذريعة منه.
فليكن عمله على هذا الحكم ويتقدم أمره به، وإذا اعتمد الجناب
الرفيع هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية، فيتقدم منع من
سلك مسالكه أو يفتي بهذه الفتوى أو يعمل بها في أمر الطلاق، وهذه
القضايا المستحدثة، وإذا اطلع على أحد عمل بذلك أو أفتى به فيعتبر
حاله، فإن كان من مشايخ العلماء فيعزر تعزير مثله، وإن كان من الشبان
الذين يقصدون الظهور - كما يقصده ابن تيمية - فيؤدبهم ويردعهم ردعا
بليغا، ويعتمد في أمره ما يحسم به مراد أمثاله لتستقيم أحوال الناس
وتمشي على السداد، ولا يعود أحد يتجاسر على الافتاء بما يخالف
الاجماع، ويبتدع في دين الله عز وجل من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه
أحد إليه، فالجناب العالي يعتمد هذه الأمور التي عرفناه إياها الآن وسد
الذرائع فيها.
وقد عجلنا بهذا الكتاب وبقية فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب
إن شاء الله تعالى.
صورة الفتوى من خط القضاة الأربعة
وكتب في سابع عشرين رجب سنة ست وعشرين وسبعمائة، صورة
الفتوى المنقولة من خط القضاة الأربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى:
الحمد لله هذا المنقول، باطنها جواب عن السؤال، عن قوله إن
زيارة الأنبياء والصالحين بدعة، وما ذكره من نحو ذلك، وأنه لا يرخص
بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود عليه، وهذا المفتي المذكور ينبغي أن
يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء ويمنع من الفتاوى
الغريبة، ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره، ليتحفظ الناس
20

من الاقتداء به وكتب محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي،
وكذلك يقول محمد بن الحريري الأنصاري الحنفي، لكن يحبس الآن
جزما مطلقا، وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي، ويبالغ في
زجره، حسبما تندفع به هذه المفسدة وغيرها من المفاسد.
وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي. ووجدوا صورة
فتوى أخرى، يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء معصية
بالإجماع مقطوع بها، وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكام، وشهد
بذلك القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني، فلما رأوا
خطه عليها تحققوا فتواه، فغاروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم غيرة عظيمة، وللمسلمين
الذين ندبوا إلى زيارته وللزائرين من أقطار الأرض، واتفقوا على تبديعه
وتضليله وزيغه، وأهانوه ووضعوه في السجن انتهى من كتاب ابن شاكر الكتبي.
قال أبو حيان:
قرأت في كتاب لابن تيمية
وذكر أبو حيان النحوي الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر في قوله
تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض) ما صورته: وقرأت في
كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرنا، وهو بخطه سماه كتاب
العرش: إن الله يجلس على الكرسي وقد أخلى منه مكانا يقعد معه فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحيل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق
البارنباري، وكان أظهر أنه داعية له حتى أخذه منه وقرأنا ذلك فيه (1).
إه‍. وكما ترى ذلك في النسخ المخطوطة من تفسير أبي حيان وليست
هذه الجملة بموجودة في تفسير البحر المطبوع وقد ذكر الكوثري: في

(1) وقد نقل ذلك أيضا صاحب (كشف الظنون) 2 / 1438.
21

تعليقه على السيف / 85 ما نصه: " وقد أخبرني مصحح طبعه بمطبعة
السعادة أنه استفظعها جدا فحذفها عند الطبع لئلا يستغلها أعداء الدين،
ورجاني أن أسجل ذلك هنا استدراكا لما كان منه ونصيحة للمسلمين ".
ورأيت في بعض فتاويه أن الكرسي موضع القدمين، وفي كتابه
المسمى بالتدمرية ما هذا لفظه بحروفه بعد أن قرر ما يتعلق بالصفات
المتعلقة بالخالق والمخلوق قال: ثم من المعلوم لما وصف نفسه بأنه حي
عليم قادر لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد، لأن المفهوم ذلك
في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه أنه خلق آدم
بيديه لم يوجب ذلك أن ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه مثل
مفهومه في حقنا.
هذه عبارته بحروفها وهي صريحة في التشبيه المساوي كما أنه جعل
الاستواء على العرش مثل قوله تعالى: (لتستوا على ظهوره) تعالى الله
وتقدس عن ذلك، وقال في الكلام على حديث النزول المشهور: إن
الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء وفي رجليه نعالان من
ذهب، هذه عبارته الزائغة الركيكة، وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة
في التشبيه حريصا على ظاهرها واعتقادها وإبطال ما نزه الله تعالى به نفسه
في أشرف كتبه وأمر به عموما وخصوصا، وذكره أخبارا عن الملأ الأعلى
والكون العلوي والسفلي.
ومن تأمل القرآن وجده مشحونا بذلك، وهذا الخبيث لا يعرج على
ما فيه التنزيه وإنما يتبع المتشابه، ويمعن الكلام فيه، وذلك من أقوى
الأدلة على أنه من أعظم الزائغين، ومن له أدنى بصيرة لا يتوقف فيما
قلته إذ القرائن لها اعتبار في الكتاب والسنة وتفيد القطع وتفيد ترتب
الأحكام الشرعية لا سيما في محل الشبه إه‍.
22

احتجاج ابن تيمية على إثبات الجهة لله تعالى
وقد احتج ابن تيمية على إثبات الجهة لله تعالى مقلدا سلفه
المجسمة بقوله تعالى حكاية عن فرعون: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي
أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا).
وقد نقل ذلك عنه عصريه الحافظ أحمد بن يحيى الكلابي في رسالته.
23

ذكره مسائل من شواذه
ثم ذكره التقي الحصني مسائل من شذوذه انتقدها العلماء وبرهن
على بطلانها منها.
1 - زعمه أن النار تفنى وأن الله تعالى جعل لها أمدا تنتهي إليه، وهي
من أقبح القبائح.
2 - قوله: (بحوادث لا أول لها).
وتكلم بكلام لبس فيه على العوام وغيرهم من سئ الأفهام
يقصد بذلك الازدراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والحط من قدره ورتبته، وما
فيه رفعة يسكت عنه، يفهم ذلك منه كل عالم امتلأ قلبه بتعظيمه
وتوقيره بما خصه الله تعالى من المواهب الإلهية التي لم ينلها
غيره صلى الله عليه وسلم، وهو حريص على حط رتبته والغض منه تارة يقع ذلك مكنه
قريبا من التصريح وتارة بالإشارة القريبة وتارة بالإشارة البعيد التي لا
يدركها إلا أهلها.
حال ابن تيمية في
فهرس الفهارس للكتاني
ذكر عبد الحي الكتاني في ترجمة ابن تيمية في فهرس
الفهارس 1: 201 - 202 ما نصه: " ومن أبشع وأشنع ما نقل عنه
قوله في حديث " ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل " كنزولي
هذا. وقال الرحالة ابن بطوطة في رحلته: " وشاهدته نزل درجة من
المنبر الذي كان يخطب عليه ". وقال القاضي أبو عبد الله المقري
29

الكبير في رحلته (نظم اللآلي في سلوك الأمالي) حين تعرض
لشيخيه ابني الإمام التلمساني ورحلتهما: ناظرا تقي الدين ابن تيمية
وظهرا عليه وكان ذلك من أسباب محنته. وكان له مقالات شنيعة من
أمرار حديث النزول على ظاهره، وقوله فيه كنزولي هذا، وقوله
فيمن سافر لا ينوي إلا زيارة القبر الكريم لا يقصر لحديث لا تشد
الرحال. ونقله عنه حفيده أبو العباس المقري في (أزهار
الرياض) وأقره. ومن أشنع ما نقل عن ابن تيمية أيضا قوله في حق
(شفاء القاضي عياض) " غلا هذا المغيربي " وقد قال في ذلك شيخ
الإسلام بإفريقيا الإمام العلم أبو عبد الله ابن عرفة التونسي:
شفاء عياض في كمال نبينا * كواصف ضوء الشمس ناظر قرصها
فلا غرو في تبليغه كنه وصفه * وفي عجزه عن وصفه كنه شخصها
وإن شئت تشبيها بذكر إمارة * بأصل ببرهان مبين لنقصها
وهذا بقول قيل عن (زائغ) غلا * عياض فتبت ذاته عن محيصها
ذكرهم له تلميذه البسيلي في تفسيره والمقري في (أزهار
الرياض) وفي حواشي البخاري لشيخ الجماعة بفاس أبي السعود
عبد القادر الفاسي ".. انتهى كلام الكتاني.
حال ابن تيمية عند الحافظ المجتهد السبكي
ذكر السبكي في مقدمة كتابه الدرة المضية في الرد على ابن تيمية
ما نصه:
أما بعد فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد
ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد بعد أن كان مستترا بتبعية
الكتاب والسنة مظهرا أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة فخرج عن الاتباع
إلى الابتداع وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الاجماع وقال بما يقتضي
30

الجسمية والتركيب في الذات المقدس وإن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال
وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى وإن القرآن محدث تكلم الله به
بعد أن لم يكن وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب
المخلوقات وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم والتزامه بالقول بأنه لا
أول للمخلوقات فقال بحوادث لا أول لها فأثبت الصفة القديمة حادثة
والمخلوق الحادث قديما ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل
ولا نحلة من النحل فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي
افترقت عليها الأمة ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة وكل ذلك وإن كان
كفرا شنيعا مما تقل جملته بالنسبة لما أحدث في الفروع. انتهى.
وأما ما وجد في بعض النسخ السقيمة في كتابه شفاء السقام عند
ذكر ابن تيمية " رحمه الله " فلا يدفع هنا النص الصريح في تكفيره
ولا سيما والحال أن من جملة ما اعتمد عليه في تكفيره قوله بحوادث لا
أول لها أي أزلية العالم فإنه ممن انعقد الاجماع على تكفير قائله فكيف
يصدر من السبكي بعد هذا بعد ذكر ابن تيمية " رحمه الله ".
وكيف يقول عنه رحمه الله ويقول عنه:
يرى حوادث لا مبدأ لأولها * في الله سبحانه عما يظن به
ويزيد ذلك تأييدا قول الحافظ ابن حجر في شرح
البخاري ما نصه: فقد حكى عياض وغيره الاجماع على تكفير من
يقول بقدم العالم وقال ابن دقيق العيد وقع هنا من يدعي الحزق في
المعقولات ويميل إلى الفلسفة وظن أن المخالف في حدوث العالم لا
يكفر لأنه من قبيل مخالفة الاجماع وتمسك بقولنا إن منكر الاجماع لا
يكفر على الاطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواترا عن صاحب الشرع.
قال: وهو تمسك ساقط أما عن عمي في البصيرة أو تعام لأن حدوث
العالم من قبيل ما اجتمع فيه الاجماع والتواتر بالنقل انتهى.
31

وذلك في صحيفة: 202 من الجزء الثاني عشر ونقل قبل ذلك عن
شيخه الحافظ العراقي أنه قال في شرح الترمذي: إن القول بحدوث العالم
مما علم وجوبه بالتواتر انتهى.
حال ابن تيمية عند الحافظ ولي الدين العراقي
وقوله بأن ابن تيمية خرق الاجماع بنحو ستين مسألة
قال الحافظ ولي الدين العراقي أيضا في جوابه
عن سؤال الحافظ ابن فهد المسمى بالأجوبة المرضية عن الأسئلة
المكية (1) ما نصه:
وأما الشيخ تقي الدين ابن تيمية... لكنه كما قيل فيه علمه أكثر من
عقله فأداه اجتهاده إلى خرق الاجماع في مسائل كثيرة قيل إنها تبلغ ستين
مسألة فأخذته الألسنة بسبب ذلك وتطرق إليه اللوم وامتحن بهذا السبب
وأسرع علماء عصره في الرد عليه وتخطئته وتبديعه ومات مسجونا بسبب
ذلك. والمنتصر له يجعله كغيره من الأئمة بأنه لا تضره المخالفة في
مسائل الفروع إذا كان ذلك عن اجتهاد لكن المخالف له يقول ليست
مسائله كلها في الفروع بل كثير منها في الأصول وما كان منها من الفروع
فما كان سوغ له المخالفة فيها بعد انعقاد الاجماع عليها. ولم يقع للأئمة
المتبوعين مخالفته في مسائل انعقد الاجماع عليها قبلهم بل ما يقع لأحد
منهم إلا وهو مسبوق به عن بعض السلف كما صرح به غير واحد من
الأئمة وما أبشع مسألتي ابن تيمية في الطلاق والزيارة وقد رد عليه فيهما
معا الشيخ الإمام تقي الدين السبكي وأفرد ذلك بالتصنيف فأجاد وأحسن.
انتهى كلام الحافظ ولي الدين.

(1) مخطوط في المكتبة الظاهرية
32

حال ابن تيمية في ا لدرر الكامنة
لابن حجر الحافظ
ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة ابن تيمية في الدرر الكامنة 1 /
144 انتقاد العلماء له، وإني أنقل بعض ما ذكره.
قال: أول ما أنكر وقام عليه العلماء سنة 698 بسبب المسألة
الحموية، ثم طلب إلى مصر سنة / 705 وحبس بها، ثم نقل منها سنة
709 إلى الإسكندرية، ثم أعيد إلى القاهرة، ثم أرجع إلى
الإسكندرية، ثم أفرج عنه سنة 712 ورجع إلى الشام.
وقد عقد له مجلس في التاريخ الأول سئل فيه عن عقيدته، فأملى
منها شيئا ثم أحضروا عقيدته الواسطية فقرئ شئ منها، وبحثوا في
مواضع منها، ثم اجتمعوا بعد أيام وقرروا الصفي الهندي لمناظرته ثم
أخروه، وقدموا الكمال الزملكاني، ثم انفصل الأمر، على أنه أشهد
على نفسه أنه شافعي المعتقد فأشاع أتباعه أنه انتصر فغضب خصومه،
ورفعوا واحدا منهم إلى القاضي جلال الدين القزويني فعزره، وكذلك
فعل القاضي الحنفي بإثنين من أتباعه، ثم قاموا عليه في سنة (719)
بسبب مسألة الطلاق، وأكد عليه المنع من الفتيا، ثم عقد له مجلس سنة
(720)، ثم حبس بقلعة دمشق ثم أخرج سنة (721)، ثم قاموا عليه
سنة (726)، بسبب مسألة الزيارة وحبس بالقلعة إلى أن مات سنة
(728)، ونسبوه إلى التجسيم. لما ذكره في عقيدته الحموية والواسطية
وغيرهما في ذلك، كقوله إن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله
تعالى، وإنه مستو على العرش بذاته، فقيل له يلزم من ذلك التحيز
والانقسام.
فقال: أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام، فألزم
بأنه يقول بالتحيز في ذات الله تعالى، وخطأ أمير المؤمنين عمر بن
33

الخطاب رضي الله عنه، وخطأ أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه في سبعة
عشر موضعا خالف نص الكتاب.
ونسبوه إلى النفاق لقوله هذا في علي كرم الله وجهه، ولقوله أيضا
فيه إنه كان مخذولا حيثما توجه وإنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها، وإنما
قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله أيضا إنه كان يحب الرياسة، ولقوله أيضا
فيه أبو بكر أسلم شيخا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيا والصبي لا
يصح إسلامه على قول، وبكلامه في خطبة علي رضي الله عنه بنت أبي
جهل، ومات وما نسيها.
وقال إن عثمان رضي الله تعالى إنه كان يحب المال؟ ونسبوه إلى
الزندقة لقوله إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغاث به، ونسبه قوم إلى السعي في
الإمامة الكبرى لأنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه، وكان إذا حوقق
وألزم يقول: لم أرد هذا، وإنما أردت كذا، فيذكر احتمالا بعيدا.
إ ه‍ = ملخصا من (الدرر الكامنة).
فقوله: (وقرروا الصفي الهندي لمناظرته ثم أخروه)، مجمل بينه
العلامة تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى في ترجمة الصفي الهندي
قال: ولما وقع لابن تيمية في المسألة الحموية ما وقع وعقد له المجلس
بدار السعادة بين يدي الأمير تنكيز، وجمعت العلماء، وأشاروا بأن
الشيخ الهندي يحضر فحضر، وكان الهندي طويل النفس في التقرير إذا
شرع في وجه يقرره لا يدع شبهة ولا اعتراضا إلا وقد أشار إليه في
التقرير، بحيث لا يتم التقرير إلا ويعز على المعترض مقاومته.
فلما شرع يقرر أخذ ابن تيمية يعجل عليه - على عادته - ويخرج من
شئ إلى شئ، فقال له الهندي: ما أراك يا ابن تيمية إلا كالعصفور،
كلما أردت قبضه من مكان فر إلى مكان آخر، وكان الهندي شيخ
الحاضرين كلهم، وكلهم صدر عن رأيه، وحبس ابن تيمية بسبب تلك
المسألة المتضمنة قوله بالجهة، ونودي عليه في البلد وعلى أصحابه
34

وعزلوا من وظائفهم إه‍.
وقوله: (ثم قاموا عليه سنة 726 بسبب مسألة الزيارة وحبس
بالقلعة إلى أن مات سنة 728)، أي علماء دمشق أيضا صحيح أيضا،
فقد أفتى بأن شد الرحال إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بدعة ومعصية لا يجوز قصر
الصلاة فيها، وقد رد عليه فيها علماء أعلام في مقدمتهم الإمام السبكي.
وقوله: (ونسبوه إلى التجسيم لما ذكره في عقيدته الحموية
والواسطية وغيرهما إلى قوله وخطأ عمر بن الخطاب) صحيح أيضا ولو لم
يدل على تجسيمه من كلامه إلا زعمه أن اليد والقدم والساق والوجه
صفات حقيقية لله تعالى، وأنه تعالى مستو على العرش بذاته لكفى ذلك
في تكفيره.
وفي لسان الميزان 6 / 319 في ترجمة يوسف الحلي يقول ابن حجر
ما نصه:
... ولابن تيمية رد عليه أي الرد واستيفاء أجوبة لكنا نذكر بقية
الأبيات في ما يعاب به ابن تيمية من العقيدة طالعت الرد المذكور فوجدته
كما قال السبكي في الاستيفاء لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد
الأحاديث التي يوردها ابن المطهر وإن كان معظم ذلك من الموضوعات
والواهيات لكنه رد في رده كثيرا من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر
حالة التصنيف مظانها لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره
والإنسان عامد للنسيان وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدته أحيانا
إلى تنقيص علي رضي الله عنه.
35

كلام التقي الحصني أيضا
وفي ابن تيمية
وقال العلامة تقي الدين الحصني في " دفع شبه من شبه وتمرد ":
ومن قواعده المقررة عنده، وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن، حقا
كان أو باطلا، ولو بالإيمان الفاجرة سواء كانت بالله عز وجل أم بغيره.
وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتة ولا يعتبره سواء كان
بالتصريح أم الكناية أم التعليق أم التنجيز وإشاعته هو وأتباعه أن الطلاق الثلاث
واحد خزعبلات ومكر، وإلا فهو لا يوقع طلاقا على حالف به ولو أتى به في
اليوم مائة مرة على أي وجه، سواء كان حثا أم منعا أم تحقيق خبر فاعرف ذلك
وأن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترا وخديعة، وقد وقفت على مصنف
له في ذلك وكان عند شخص شريف زينبي. وكان يرد الزوجة إلى زوجها
في كل واقعة بخمسة دراهم، وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم
فقلت له: يا هذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة بقول ابن
تيمية؟، فقال: اشهد علي إني تبت وظهر لي أنه كذب في ذلك،
ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتقية، فنسأل الله تعالى العافية من
المخادعة إنها صفة أهل الدرك الأسفل إه‍.
كلام السخاوي ورأي الذهبي في
ابن تيمية
ذكر الحافظ السخاوي في الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص /
77 بعد الكلام على الذهبي ما نصه: "... وقد رأيت - أي الذهبي - له
عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه
36

مفيدة (1)، وقال مرة فيه مع حلفه بأنه ما رمقت عينه أوسع منه علما ولا
أقوى ذكاء مع الزهد في المأكل والملبس والنساء ومع القيام في الحق
بكل ممكن أنه تعب في وزنه وتفتيشه سنين متطاولة فما وجد آخره بين
المصريين والشاميين ومقتته نفوسهم بسببه وازدروا به وكذبوه بل كفروه إلا
الكبر والعجب والدعاوى وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار
ومحبة الظهور بحيث قام عليه ناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم ولا
أزهد... إلى أن قال بنقله عن الذهبي الصحيفة / 78 من الاعلان:
"... وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحط عليه والهجر والتضليل
والتكفير والتكذيب بحق وبباطل فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة
منورا مضيئا على محياه سيما السلف ثم صار مظلما مكشوفا عليه قتمة
عند خلائق من الناس ودجالا أفاكا كافرا عند أعدائه... ".
قف على قوله: إنه كان مضيئا قبل أن يشتغل بالفلسفة ثم صار مظلما عليه
قتمة، وهذا كلام من؟ كلام تلميذه الذي كان يمدحه ثم بعد ذلك ذكر فيه ما
ذكر، وراجع كلامه في النصيحة التي أرسلها له ويقول له فيها: "...
يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة ومصنفاتهم مرات... "، " يا ليت
أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف
والاهدار، أو بالتأويل والإنكار ". هذا كلام الذهبي الذي قال لابن تيمية
" وأنا الشفوق المحب الواد " فراجع النصيحة بتمعن وتفكر.

(1) راجع " بيان زغل العلم والطلب للذهبي ".
37

فصل
وقد استتيب مرات في أمور خطرة وهو ينقض مواثيقه وعهوده في كل
مرة وأوردت هنا صورة من صيغ استتابته كما هي مسجلة في (نجم
المهتدي) لتكون عبرة للمعتبر وهي هذه:
(الحمد لله. الذي أعتقده أن في القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة
من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت وليس هو
حالا في مخلوق أصلا ولا ورق ولا حبر ولا غير ذلك، والذي أعتقده في قوله:
(الرحمن على العرش استوى) أنه على ما قال الجماعة الحاضرون
وليس على حقيقته وظاهره ولا أعلم كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا
الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء أقول فيه ما أقول فيه لا
أعرف كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا الله وليس على حقيقته وظاهره
كما قال الجماعة الحاضرون وكل ما يخالف هذا الاعتقاد فهو باطل وكل
ما في خطى أو لفظي مما يخالف ذلك فهو باطل وكل ما في ذلك مما فيه
إضلال الخلق أو نسبة ما لا يليق بالله إليه فأنا برئ منه فقد تبرأت منه
وتائب إلى الله من كل ما يخالفه. كتبه أحمد بن تيمية، وذلك يوم
الخميس سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة.
وكل ما كتبته وقلته في هذه الورقة فأنا مختار في ذلك غير مكره.
كتبه أحمد بن تيمية حسبنا الله ونعم الوكيل ".
وبأعلى ذلك بخط قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ما صورته:
اعترف عندي بكل ما كتبه بخطه في التاريخ المذكور. كتبه محمد بن
إبراهيم الشافعي وبحاشية الخط: اعترف بكل ما كتب بخطه. كتبه عبد
الغني بن محمد الحنبلي.
وبآخر خط ابن تيمية رسوم شهادات هذه صورتها: كتب المذكور
38

بخطه أعلاه بحضوري واعترف بمضمونه. كتبه أحمد بن الرفعة.
صورة خط آخر: أقر بذلك. كتبه عبد العزيز النمراوي.
صورة خط آخر: أقر بذلك كله بتاريخه. علي بن محمد بن
خطاب الباجي الشافعي.
صورة خط آخر: جرى ذلك بحضوري في تاريخه. كتبه الحسن
ابن أحمد بن محمد الحسيني
وبالحاشية أيضا ما مثاله: كتب المذكور أعلاه بخطه واعترف به.
كتبه عبد الله بن جماعة.
مثال خط أخر أقر بذلك وكتبه بحضوري محمد بن عثمان
البوريجبي. وكل هؤلاء من كبار أهل العلم في ذلك العصر، وابن الرفعة
وحده له (المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي) في أربعين مجلدا
وفي ذلك عبر. ولولا أن ابن تيمية كان يدعو العامة إلى اعتقاد ضد ما في
صيغة الاستتابة هذه بكل ما أوتي من حول وحيلة لما استتابه أهل العلم
بتلك الصيغة وما اقترحوا عليه أن يكتب بخطه ما يؤاخذ به إن لم يقف
عند شرطه، وبعد أن كتب تلك الصيغة بخطه توج خطه قاضي القضاة
البدر بن جماعة بالعلامة الشريفة وشهد على ذلك جماعة من العلماء كما
ذكرنا، وحفظت تلك الوثيقة بالخزانة الملكية الناصرية، لكن لم تمض
مدة على ذلك حتى نقض ابن تيمية عهوده ومواثيقه كما هو عادة أئمة
الضلال وعاد إلى دعوته الضالة ورجع إلى عادته القديمة في الاضلال وكم
له من فتن في مختلف التواريخ * في سني 798 و 705 و 718 و 721
و 722 و 726 وهي مدونة في كتب التواريخ وفي كتب خاصة، ومجرد
تصور شواذه التي ألممنا ببعضها في هذا الكتاب يدل المسترشد المنصف
على ما ينطوي عليه من الزيغ وإضلال الأمة.
والغريب أن أتباع هذا الرجل يسيرون وراءه ويشبهون به في إثارة القلاقل
39

والفتن بين الأمة بمواجهتها بالحكم على أفرادها بالشرك والزيغ والكفر
وعبادة الأوثان والطواغيت يعنون أحباب الله الأنبياء والأولياء يقولون إن من
يزورهم يكون عابد الأوثان والطواغيت ومن هذا الطراز في زمننا كثير
نراهم بأعيننا ونسمعهم بآذاننا طهر الله الأرض منهم وأراح العباد من
شرهم.
وسأظهر الصورة الخطية لاستتابته منقولة من كتاب " نجم المهتدي
ورجم المهتدي، وبالصورة الخطية لمرسوم ابن قلاورن في ابن تيمية، كما
وعدنا سابقا بإظهار هذا المرسوم كما أخذتها من كتاب (نجم المهتدي
ورجم المعتدي) للفخر بن المعلم القرشي. والأصل المخطوط محفوظ
بالمكتبة الأهلية بباريس تحت رقم / 638، كتب بخط مؤلفه.
40

صورة غلاف كتاب نجم المهتدي ورجم المعتدي لابن المعلم القرشي.
41

الصورة الخطية لاستتابته، انظر مكان السهم.
43

الصفحة الأخيرة وعليها صور لتوقيعات العلماء.
44

الصورة الخطية نمرسوم ابن قلاوون في ابن تيمية انظر السهم
45

دليل على جهله وانطوائه
على غرض سيئ
ويدل على جهله وانطوائه على غرض سيئ في مراوغته للعلماء
عند محاققتهم له بقوله: لم أرد هذا وإنما أردت كذا ويذكر احتمالا
بعيدا.
ما ذكره العلامة الحصني في (دفع شبه من شبه وتمرد) في آخر
صفحة 34 قال:
ثم شرع ينظر في كلام العلماء ويعلق في مسوداته حتى ظن أنه
صار له قوة في التصنيف والمناظرة وأخذ يدون ويذكر أنه جاءه استفتاء من
بلد كذا، وليس لذلك حقيقة فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا
ينتقد عليه وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد، إلا أنه يشير إليه على وجه
التلبيس بحيث لا يقف على مراده إلا حاذق عالم متفنن، فإذا ناظر أمكنه
أن يقطع مناظره إلا ذلك المتفنن الفطن إ ه‍.
وفي صفحة 36 منه قال: إنه يذكر في بعض مصنفاته كلام رجل
من أهل الحق ويدس في غضونه شيئا من معتقده الفاسد فيجري عليه
الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك، وقد هلك بسبب ذلك خلق كثير،
وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني
وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكد
قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان ويسمي شخصا بعيد
المسافة، كل ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه، ولا يحيق
المكر السئ إلا بأهله إ ه‍.
50

فائدة
في مسألة الطلاق وتبيان أن ابن تيمية
ليس من المجتهدين
روى مسلم في صحيحه في كتاب الطلاق عن عبد الله بن عباس أنه
قال: " كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة
عمر، طلاق الثلاث واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد
كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم " لا يجوز العمل
العمل بظاهره.
ثم الجواب عنه: إما أن يقال إنه ضعيف بالشذوذ كما حكم الإمام
أحمد بن حنبل عليه وقد ذكر ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي في رده
على من جعل الثلاث بلفظ واحد واحدا، وبمخالفته لما ثبت عن عبد الله
ابن عباس أنه أفتى فيمن طلق بالثلاث دفعة واحدة بأنه ثلاث وقد
تواتر ذلك عن ابن عباس، فقد ذكر البيهقي في السنن الكبرى بأسانيده
عن ثمانية من ثقات تلاميذه أنه أفتى بذلك. وأما أن يقال إنه مؤول بأن معنى
كان الطلاق طلاق الثلاث واحدا أن البتة كانت تستعمل للطلاق الواحد للتأكيد
ثم صار الناس يستعملونها في أثناء خلافة عمر بقصد الثلاث فأجرى عليهم عمر
الحكم على موجب قصدهم. وبيان ذلك أن قول الناس أنت طالق البتة
كانت تستعمل في أول الأمر بنية تأكيد الطلقة الواحدة ثم اشتهرت للطلاق
الثلاث لذلك اختلف فيها مذاهب الأئمة كان منهم من يجعل البتة
للثلاث، وكذلك أنت حرام علي وأنت بائن ومنهم من يجعلها على
حسب القصد ويدل لذلك أن في بعض نسخ مسلم عند المغاربة كانت
البتة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة كما
ذكر ذلك الحافظ أبو بكر بن العربي في كتابه القبس على موطأ مالك بن
أنس، وأما أن يعارض هذا الحديث بالإجماع المنعقد على أن الثلاث
بلفظ واحد ثلاث، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في آخر بحث له
واسع في هذه المسألة أي مسألة جمع الثلاث في شرحه على البخاري
51

فإن هذه المسألة ليس فيها خلاف معتد به عند أهل السنة،
ولم يثبت عن أحد من مجتهدي أهل السنة الخلاف في هذه
المسألة حتى أن ابن تيمية الذي أحيا هذا الخلاف كان
قد صرح قبل ذلك بأن هذه المسألة إجماع، وليس ابن تيمية من أهل
الاجتهاد، وخلافه هذا نظير خلافه في مسألة بقاء النار، بعد أن نقل في
كتابه منهاج السنة النبوية اتفاق المسلمين على بقاء الجنة والنار، وإنه لم
يخالف في ذلك إلا جهم بن صفوان ثم إنه نقض هذا الاجماع
فقال هو - إن نار جهنم تفنى ولذلك قوله على أن الطلاق المعلق على وجه
اليمين لا يقع بوقوع المعلق إليه وأنه ليس في ذلك إلا الكفارة حرف في
ذلك إجماع علماء الإسلام على أن الطلاق المعلق يقع إذا وقع المعلق
عليه إن كان على وجه اليمين أو على غير وجه اليمين. فهل يجوز أن
يعد مثل هذا إماما مجتهدا يأخذ بقوله الذي يجتهد به. ونحمد الله على
نبذ المحاكم السعودية لرأي ابن تيمية في الطلاق والسبب في عدم
موافقة القضاة في المحاكم السعودية لابن تيمية أنه
مخالف لأحمد في هذه المسألة التي ليس لأحمد فيها قول
مخالف بل جميع أصحاب أحمد متفقون على أن مذهبه أن الثلاث بلفظ
واحد ثلاثة. ثم إن من أخذ بظاهر هذا الحديث يكون خون عمر بن
الخطاب وابن عباس. أما تخوينهم لعمر فإنهم جعلوه حكم بتحريم
النساء المطلقات بالثلاث باللفظ الواحد على أزواجهن إلا بعد أن تنكحن
أزواجا آخرون وهو يعلم أن الرسول وأبا بكر حكمهما خلاف ذلك بل في
ذلك تكفير لعمر لأن من حرف حكما لرسول الله وهو يعلم محرم ما أحله
فهو كافر. وهذا بخلاف ما فعله عمر من ضرب شارب الخمر ثمانين بعد
أن كان يضرب في زمن الرسول وأبي بكر أربعين لأن ذلك ليس فيه ما في
هذا.
كما قال علي بن أبي طالب عن جلد أربعين أنه سنة وعن جلد
52

ثمانين إنه سنة كما رواه مسلم وغيره. فلا يجوز أن يجعل هذا نظير هذا
لأن ما فعله عمر في مسألة الجلد ليس فيه إبطال حكم وضعه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولأن فعل الرسول لذلك لا يتضمن أن ما سوى هذا العدد حرام.
وأما تخوينهم لابن عباس فمن قال منهم بأن ابن عباس أفتى بأن
الثلاث بلفظ واحد ثلاث مع علمه بأن حكم رسول الله خلاف ذلك فقد
نسبه لتحريف حكم رسول الله عمدا، ومن اعتبر ابن تيمية من المجتهدين
الذين يجب تقليدهم فقد بعد عن الصواب. كيف وهو القائل إن العالم
أزلي بجنسه، أي إن جنس العالم لم يتقدمه الله بالوجود وإنما تقدم
الأفراد المعينة، وقد اتفق المسلمون على تكفير من يقول بأن العالم أزلي
مع الله سواء جعله أزليا بنوعه أو بنوعه وتركيبه وأفراده المعينة (1) وقد نص
ابن تيمية على ما ذكرنا عنه في خمسة من كتبه.
منهاج السنة النبوية - والموافقة - وشرح حديث النزول - وشرح
حديث عمران بن الحصين - وكتاب نقد مراتب الاجماع. وسنظهر ذلك
تباعا إن شاء الله.

(1) كما نص على ذلك الزركشي وابن حزم.
53

لا تنافض عند أبي حيان في مدحه لابن تيمية
أولا وذمه له ثانيا
والمفتتنون بالحراني يسجلون على أبي حيان تناقضه، قالوا إنه مدح
إمامهم مدحا بليغا، ولما جهل إمام النحوين سيبويه نافره وذمه،
ويفتخرون بهذا الهذيان الذي صبه قدوتهم على عمرو بن بشر: (يفشر
سيبويه، وما كان نبي النحو، وأخطأ في الكتاب في ثمانين موضعا لا
تفهمها أنت).
ولا تناقض عند أبي حيان، أما مدحه له أولا فهو مبني على، تحسين
الظن وعلى الشهرة الكاذبة والدعاية التي جعلها لنفسه ونشرها له الغوغاء،
وأما ذمه بعد ذلك فلما انكشف له من عقيدته وعجرفته وغطرسته.
قول ابن حجر الهيتمي
في ابن تيمية
سئل في فتاواه الحديثية ص / 114 فأجاب بقوله:
ابن تيمية عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله وبذلك
صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه
بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة
الاجتهاد. أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة
وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية.
ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر
ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، والحاصل أن
لا يقام لكلامه وزن بل يرمى في كل وعر وحزن ويعتقد فيه أنه مبتدع
ضال ومضل جاهل غال، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته.
54

وأفاض في ذكر أعيان من الصوفية طعن فيهم ثم قال: ولا زال
يتتبع الأكابر حتى تمالأ عليه أهل عصره ففسقوه وبدعوه، بل كفره كثير
منهم، وقد كتب إليه بعض أجلاه أهل عصره علما ومعرفة سنة خمس
وسبعمائة.
من فلان إلى الشيخ الكبير العالم إمام أهل عصره - بزعمه - أما
بعد، فإنا أحببناك في الله زمانا، وأعرضنا عما يقال فيك إعراض الفضل
إحسانا، إلى أن ظهر لنا خلاف موجبات المحبة بحكم ما يقتضيه العقل
والحس، وهل يشك في الليل عاقل إذا غربت الشمس؟، وإنك أظهرت
إنك قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله تعالى أعلم بقصدك
ونيتك، ولكن الإخلاص مع العمل ينتج ظهور القبول، وما رأينا آل أمرك
إلا إلى هتك الأستار والأعراض باتباع من لا يوثق بقوله من أهل الأهواء
والأغراض، فهو سائر زمانه يسب الأوصاف والذوات ولم يقنع بسب
الأحياء حتى حكم بتكفير الأموات.
ولم يكفه التعرض على من تأخر من صالحي السلف حتى تعدى
إلى الصدر الأول ومن له أعلى المراتب في الفضل، فيا ويح من هؤلاء
خصماؤه يوم القيامة، وهيهات أن لا يناله غضب وأنى له بالسلامة.
وذكر سماعه منه تخطئة الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي
طالب، وقد تقدم، ثم قال: فيما ليت شعري من أين يحصل لك
الصواب إذا أخطأ علي بزعمك كرم الله وجهه وعمر بن الخطاب؟،
والآن قد بلغ هذا الحال إلى منتهاه والأمر إلى مقتضاه ولا ينفعني إلا
القيام في أمرك ودفع شرك، لأنك قد أفرطت في الغي ووصل أذاك إلى
كل ميت وحي، وتلزمني الغيرة شرعا لله تعالى ولرسوله ويلزم ذلك جميع
المؤمنين وسائر عباد الله المسلمين بحكم ما يقوله العلماء وهم أهل
الشرع، وأرباب السيف الذين بهم الوصل والقطع، إلى أن يحصل منك
الكف عن أعراض الصالحين رضي الله عنهم أجمعين إ ه‍.
55

وقال الهيتمي بعد هذا مباشرة: واعلم أنه خالف الناس في
مسائل نبه عليها التاج السبكي وغيره، فمما خرق فيه الاجماع قوله في
(علي الطلاق) إنه لا يقع عليه بل عليه كفارة يمين ولم يقل بالكفارة أحد
من المسلمين قبله، وأن طلاق الحائض لا يقع، كذا الطلاق في طهر
جامع فيه، وأن الصلاة إذا تركت عمدا لا يجب قضاؤها، وأن الحائض
يباح لها الطواف بالبيت ولا كفارة عليها، وأن الطلاق الثلاث يرد إلى
واحدة، وكان هو قبل ادعائه ذلك نقل إجماع المسلمين على خلافه،
وأن المكوس حلال لمن أقطعها، وأنها إذا أخذت من التجار أجزأتهم عن
الزكاة وإن لم تكن باسم الزكاة ولا على رسمها، وأن المائعات لا تنجس
بموت حيوان فيها كالفأرة، وأن الجنب يصلي تطوعه بالليل، ولا يؤخره
إلى أن يغتسل قبل الفجر إن كان بالبلد، وأن شرط الواقف غير معتبر بل
ولو وقف على الشافعية صرف إلى الحنفية وبالعكس وعلى القضاة صرف
إلى الصوفية في أمثال ذلك من مسائل الأصول، مسألة الحسن والقبح،
التزم كل ما يرد عليها، وأن مخالف الاجماع لا يكفر ولا يفسق، وأن
ربنا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا محل
الحوادث تعالى الله عن ذلك وتقدس، وأنه مركب تفتقر ذاته افتقار الكل
للجزء تعالى الله عن ذلك وتقدس، وأن القرآن محدث في ذات الله،
تعالى الله عن ذلك، وأن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوقا
دائما فجعله موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار تعالى الله عن ذلك.
وقوله بالجسمية والجهة والانتقال وإنه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر
تعالى الله عن هذا الافتراء الشنيع القبيح والكفر البراح الصريح وخذل
متبعيه وشتت شمل معتقديه.
وقال إن النار تفنى، وإن الأنبياء غير معصومين، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا جاه له ولا يتوسل به، وإن إنشاء السفر إليه بسبب الزيارة معصية لا
تقصر الصلاة فيه وسيحرم ذلك يوم الحاجة الماسة إلى شفاعته، وإن
56

التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما وإنما بدلت معانيهما إ ه‍.
نبذة من تشبيهه لله تعالى بخلقه وتجسيمه
(1) قال في منهاج السنة ج‍ (1) ص 216 و 217 ما نصه:
وأما قوله لأنه ليس في جهة، فيقال للناس في إطلاق لفظ الجهة
ثلاثة أقوال فطائفة تنفيها وطائفة تثبتها وطائفة تفصل، وهذا النزاع موجود
في المثبتة للصفات من أصحاب الأئمة الأربعة وأمثالهم، ونزاع أهل
الحديث والسنة الخاصة في نفي ذلك وإثباته نزاع لفظي ليس هو نزاعا
معنويا.
ولهذا كان طائفة من أصحاب أحمد كالتميميين والقاضي في أول
قوليه تنفيها، وطائفة أخرى أكثر منهم تثبتها وهو آخر قولي القاضي،
وذلك أن لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم.
ومن المعلوم أن لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة
أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به
شئ من المخلوقات، وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم
فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل إنه في جهة كان معنى الكلام أنه
هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه.
ثم قال: فالأشعري وقدماء أصحابه كانوا يقولون إنه بذاته فوق
العرش ومع ذلك ليس بجسم، و عبد الله بن كلاب والحارث المحاسبي
وأبو العباس القلانسي كانوا يقولون بذلك إ ه‍.
قوله: (وهذا النزاع موجود في المثبتة للصفات من أصحاب الأئمة
الأربعة وأمثالهم)، بهتان على أصحاب الأئمة الأربعة وعلى المجهولين
(أمثالهم)، ومن هؤلاء الأمثال، ألا سمى لنا ولو واحدا منهم إن كان
57

صادقا حتى ينظر فيه؟
وإني أتحدى كل من افتتن وأعجب بهذا الإنسان أن ينقل لنا تفصيله
هذا للجهة عن أي واحد من السلف المعتبرين الذين يلبس بهم على
الغوغاء ولا سبيل له إلى ذلك.
وقوله: (فالأشعري وقدماء أصحابه كانوا يقولون إلى آخر الهراء)،
بهتان على الأشعري وقدماء أصحابه.
وقد ذكر في فتاويه 5: 18 ما نصه: وأما قولهم الذي نطلب منه
أن يعتقده أن ينفي عن الله التحيز " فالجواب من وجوه: أحدها: إن هذا
اللفظ ومعناه الذي أرادوه ليس هو في شئ من كتب الله المنزلة من عنده
ولا هو مأثور عن أحد من أنبياء الله ورسله، لا خاتم المرسلين ولا غيره،
ولا هو أيضا محفوظا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها أصلا. إلى أن
قال: " إن هذا الكلام ليس من دين الله ولا من الإيمان ولا من سبيل
المؤمنين ". إ ه‍.
قوله بالجسمية
قال ابن تيمية في التأسيس في رد أساس التقديس المحفوظ في
ظاهرية دمشق في ضمن المجلد رقم 25 من الكواكب الدراري - وهذا
الكتاب مخبأة ووكر لكتبهم في التجسيم: " فمن المعلوم أن الكتاب
والسنة والإجماع لم ينطق بأن الأجسام كلها محدثة وأن الله ليس بجسم
ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين فليس في تركي لهذا القول خروج
عن الفطرة ولا عن الشريعة إ ه‍ ". وقال في موضع آخر منه: " قلتم
ليس هو بجسم، ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس
ولا يتميز منه شئ من شئ وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا
مركب وأنه لا حد له ولا غاية، تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له
58

حد وقدر أو يكون له قدر لا يتناهى... فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا
كتاب ولا سنة إ ه‍ ".
وانظر قوله: في التسعينية (ص 3): أما قول القائل، الذي
نطلب منه أن ينفي الجهة عن الله والتحيز فليس في كلامي إثبات لهذا
اللفظ لأن إطلاق هذا اللفظ نفيا وإثباتا. بدعة إ ه‍. وهذه مغالطة فإن في
قوله سبحانه: (ليس كمثله شئ) نص في نفي الجهة عنه تعالى إذ لو
لم تنف عنه الجهة لكانت له أمثال لا تحصى تعالى الله عن ذلك.
ثم انظر قوله في منهاجه (1 - 264): فثبت أنه في الجهة على
التقديرين إ ه‍) لتعلم كيف رماه الله بقلة الدين وقلة الحياء في آن
واحد.
قوله إن الله تبارك وتعالى
يشار إليه برفع الأيدي في الادعاء
(3) وفي ص 250 منه قال: (وإن قال يستلزم أن يكون الرب يشار إليه
برفع الأيدي في الدعاء وتعرج الملائكة والروح إليه ويعرج
محمد صلى الله عليه وسلم إليه وتنزل الملائكة من عنده وينزل منه القرآن، ونحو
ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها،
قيل له: لا نسلم انتفاء هذا اللازم، فإن قال ما استلزم هذه اللوازم
فهو جسم، قيل إن أردت أنه يسمى جسما في اللغة والشرع فهذا
باطل، لأن أردت أنه يكون جسما مركبا من المادة والصورة أو من
الجواهر المركبة فهذا أيضا ممنوع في العقل، فإن ما هو جسم
باتفاق العقلاء كالأجسام لا نسلم أنه مركب بهذا الاعتبار، كما قد
بسط في موضعه، فما الظن بغير ذلك؟، وتمام ذلك بمعرفة
البحث العقلي في تركيب الجسم الاصطلاحي من هذا وهذا، وقد
59

بسط في غير هذا الموضع إ ه‍).
وقال في كتابه الموافقة 2: 33 ما نصه: " وقد اتفقت الكلمة في
المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك، فانظر إلى هذا
الكلام الذي هو ظاهر في الفساد.
وذكر ابن تيمية في الرسالة الحموية: ص / 121 - 122 عن
العرش والكرسي: فقال: " ومن قول أهل السنة إن الكرسي بين يدي
العرش، وإنه موضع القدمين).
قوله بالحد لله تعالى
تقدس عن هذيانه هذا
(4) وفي ج‍ 2 من موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول ص 29
قال: والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن
يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن يؤمن بالحد ويكل علم ذلك إلى
الله تعالى، ولمكانه أيضا حد وهو على عرشه فوق سماواته هذان
حدان اثنان إ ه‍.
أما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح والمسلمون جميعا فهم
بريئون من هذا الافتراء.
وقوله: (وهو على عرشه) - أي جالس عليه على زعمه -.
ونحن معاشر أهل الحق لا نبالي بعداء مثله من المبطلين ولا تزال
تطن في آذان رواد الحقائق شواذ ابن تيمية السخيفة باطلاعهم عليها في
مؤلفاته نفسه وفيما رواه ثقات أهل العلم عنه وكلمته فيما رد به على
الرازي في المجلد رقم 25 من الكواكب الدراري بظاهرية دمشق حيث
قال: " لو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على
60

عرش عظيم " آية من آيات خرقه وحمقه. وأما التأسيس في رد أساس
التقديس فقد فضح ابن تيمية به نفسه وهو في ضمن الكواكب الدراري
لابن زكنون الحنبلي في المجلدات (رقم 24 و 25 و 26) بظاهرية
دمشق ولو طبع كتابه التأسيس لما بقي من أهل البسيطة أحد لم يعلم
دخائل ابن تيمية. وقد نقلت منه نصوصا على أن مبلغ زيغه ظاهر من
الكتابين المذكورين لمن ألقى السمع وهو شهيد، ويتبجح بهما هذا
الزائغ كتبجحه بالتأسيس، هكذا شأن مقلدة الزائغين يثنون على الزيغ
الخامسة قوله:
إن كل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية تعالى وتقدس عن إفكه هذا
(5) وهو في قوله في ص 30 منه: (وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من
الجهمية) أفاك جان على جمهور الأمة الإسلامية، ومراده بالجهمية
الأشاعرة وهذا إفك ثان ونبز لطائفة عظيمة من فحول علماء الإسلام
برأي جهم بن صفوان، وجهم هلك سنة ثمان وعشرين ومائة وأقبر
معه رأيه الفاسد ولم يكن له أتباع، كان أقل " وأذل من أن يكون له
ذلك، فما يوجد كثيرا في كلامه وفي كلام ابن القيم من النبز بهذا
اللفظ، فالمراد بهم الأشاعرة لأنهم أفحموه في المناظرة بدمشق
ولم يستطع حضور مجالسهم بالقاهرة فضلا عن مناظرتهم، فعدل
إلى أساليب ظن أنه يوهي بها جبالهم الشامخة، كالتكفير والنبز
بالجهمية والأقذاع وأنواع الشتم وإظهار التنسك واستمالة الأمراء
إليه، ولا تروج هذه الأساليب إلا في سوق الغوغاء وأشباههم،
والأمة الإسلامية كلها ما عدا مشايخه المجسمة، تنزه الله تبارك
وتعالى عن الحد والمكان، ونقول: العجز عن إدراكه تعالى إدراك
والبحث عن ذاته إشراك.
61

وقال ابن تيمية في " الحموية الكبرى: ص / 419: ليس في
كتاب الله، ولا في سنة رسول الله ولا عن أحد من سلف الأمة ولا من
الصحابة والتابعين، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف،
حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا. ولم يقل أحد منهم إن الله
ليس في السماء، ولا أنه ليمر على العرش، ولا أنه في كل مكان "
إ ه‍ نعوذ بالله العظيم من الفساد والمفسدين.
قوله إن القرآن والسنن المستفيضة المتواترة
وكلام السابقين والتابعين وسائر القرون الثلاثة
مملوء بما فيه إثبات العلى لا على عرشه
(6) - وفي ص 194 من رسالته صفات الله وعلوه على خلقه قال: إن
القرآن والسنن المستفيضة المتواترة وكلام السابقين والتابعين بل
وسائر القرون الثلاثة مملوء بما فيه إثبات العلو لله على عرشه بأنواع
من الدلالات إ ه‍.
أقول: في هذا الكلام تهويل وتلبيس ومآخذ. أما التهويل والتلبيس
فعلى العامة وأشباههم لأنهم إذا سمعوا القرآن والسنة المستفيضة و..
و.. إلى آخر هرائه يروعهم ذلك ويؤثر فيهم، وقد ظهر تلبيسه وإفساده
لعقائد العامة المساكين بهذا الكلام المرسل جزافا عليهما وعلى السابقين
والتابعين وعلى سائر القرون الثلاثة، ولو كان صادقا محققا لمثل لزعمه
بعلو الله تعالى على عرشه بثلاثة أمثلة من أنواع الدلالة الثلاثة من القرآن
الكريم وكذلك من السنة المستفيضة، ونقل كذلك عن السابقين - أي
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم - بأسانيد صحيحة ونقل عن التابعين مثل
ذلك.
62

ونقل عن أتباعهم كذلك لينظر في ذلك، ولكنه ملبس مفتر على
كتاب الله تعالى وعلى سنة رسول صلى الله عليه وسلم وعلى السلف الصالح وسائر
القرون، والخبط والتناقض في قوله (بأنواع من الدلالات) ظاهران.
63

زعم أن العقل الصريح موافق
للنقل في ذلك
(7) وفي ص 200 منها، زعم أن العقل الصريح موافق للنقل في
ذلك.
(8) وفي ص 202 منها، زعم أنه لا يتصور من الصحابة والتابعين أن
يعرضوا عن السؤال عن علوه على خلقه، وهم ليلا ونهارا يتوجهون
بقلوبهم إليه ويدعونه تضرعا وخفية إلى آخر ثرثرته.
(9) وفيها فسر كلام الإمام مالك في الاستواء على مقتضى هواه وافترى
على المالكية وخاصة قدماءهم، بأنهم حكوا إجماع أهل السنة
والجماعة على أن الله تبارك وتعالى فوق عرشه بذاته.
(10) وفي ص 213 منها: زعم اتفاق أهل السنة على ذلك.
(11) وفي ص 209 منها: نسب الحد لله تعالى لعبد الله بن المبارك،
وهو بهتان على الإمام ابن المبارك، وقال: وهو نظر صحيح ثابت
عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغير واحد من الأئمة إ ه‍.
فقوله، وهو نظر صحيح، أي عنده وعند مشايخه المجسمة
فقط، وقوله ثابت عن أحمد وابن راهويه، بهتان ثان على هذين
الإمامين وما كفاه البهتان الخاص على الأئمة الثلاثة حتى ترقى فيه
إلى العام على الأئمة بصيغة من صيغ العموم والتلبيس التي يلجأ
إلى أمثالها.
64

مزيد من افترائه
(12) وفي الجزء الأول من منهاج السنة ص 221 قال: إنه لم يزل
متكلما إذا شاء بكلام يقوم به، وهو متكلم بصوت يسمع، وأن نوع
الكلام قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما، وهو المأثور
عن أئمة الحديث والسنة إ ه‍.
13) وفي رأس ص 224 منه صرح أيضا بأن القرآن حادث الآحاد قديم
النوع " وزعم أنه قول أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب
الشافعي وأحمد وسائر الطوائف. قلت: هو مذهب الكرامية زخرفه
بهذا التعبير الشنيع - قديم النوع خ دث الآحاد - وهو بهتان على أئمة
أصحاب الحديث ومن عطف عليهم، ثم قال فيها بعد كلام التزم
فيه الجمع بين مذهب الأشاعرة القائلين بأنه قديم مع كونه مشتملا
على أمر ونهي، ومذهب المعتزلة القائلين بأنه حادث: فإن قلتم لنا
فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي
دل عليه الشرع والعقل إ ه‍، وهو بهتان على الشرع وجناية على
العقل، حمله ودله عليه الشيطان.
ثم قال فيها أيضا بعد ثرثرة: وقد أخذنا بما في قول كل من
الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل، من قول كل
منهما، فإذا قالوا لنا فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا:
ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن
ذلك مع صريح العقل؟، وهو قول لازم لجميع الطوائف إ ه‍.
65

زعمه أن الحروف في كتاب الله تعالى
وفي الكتب المنزلة ليست مخلوقة
(14) وفي ص 45 من رسالته مذهب السلف القويم، في تحقيق مسألة
كلام الكريم قال: وما تكلم الله به فهو قائم. به ليس مخلوقا منفصلا عنه
فلا تكون الحروف التي هي معاني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة
مخلوقة لأن الله تكلم بها إ ه‍.
يرد عليه أن الحروف مخلوقة حادثة، ولأن كلامه تعالى لو تركب
من الحروف والأصوات لكان حادثا وكل ما سبق وجوده عدم أو طرأ على
وجوده عدم فهو حادث، فالحروف والأصوات لا تكون إلا حادثة أبدا.
فكلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت، فيا أولي التشبيه
والتجسيم، الحاء في الرحمن قبل الميم ويلزمه ومشائخه الحنابلة
القائلين: كلام الله القديم القائم بذاته جل وعلا الغير المخلوق ولا
المنفصل عن ذاته هو المنتظم من الحروف المسموعة الموجود بين دفتي
المصحف وفي جميع الكتب السماوية المنزلة على أنبيائه "، لوازم كثيرة
فاسدة لا يمكنهم الجواب عنها، ومنها لا تعقل الحروف المتعاقبة إلا
حادثة مخلوقة، ومنها التلاوة والكتابة لا يعقلان إلا حادثتين مخلوقتين.
(15) وفي الجزء الأول من فتاواه ص 255 و 256 قال بعد ثرثرة
طويلة: ونحن لا نقول كلم موسى بكلام قديم ولا بكلام مخلوق،
بل هو سبحانه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما أنه سبحانه
وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على
العرش، وثرثر أيضا ثم قال: وما كان قائما بنفسه هو كلامه لا كلام
غيره والمخلوق لا يكون قائما بالخالق ولا يكون الرب محلا
للمخلوقات، بل هو سبحانه يقوم به ما شاء من كلماته وأفعاله وليس
من ذلك شئ مخلوقا، إنما المخلوق ما كان بائنا عنه، وكلام الله
66

من الله ليس ببائن منه إ ه‍.
فقوله: (ونحن لا نقول كلم موسى بكلام قديم ولا بكلام
مخلوق)، مجمل ملبس بينه سابقا في قوله إن كلام الله تعالى
(قديم النوع حادث الآحاد، وإن الحوادث تقوم به)، جل وعلا،
فشرع هذا الهراء على رأيه: نحن لا نقول كلم الله موسى بكلام
قديم على الاطلاق، ولا بكلام مخلوق على الاطلاق.
وقوله: (بل هو سبحانه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء)، تشبيه
صريح لربه بالمخلوقات ولا معنى للسكوت إلا انعدام الكلام، فإن
كان قبل وجود الكلام لزم سبق العدم عليه، وسبق العدم عليه نفي
لقدمه وإثبات لحدوثه، وإن كان بعد وجود الكلام فقد طرأ عليه
العدم، وطروء العدم عليه ينفي بقاءه، وإذا انتفى البقاء انتفى
القدم، لأن كل ما ثبت قدمه استحال عدمه، فالسكوت يستلزم عدم
الكلام السابق وتجدد الكلام اللاحق، فيكون اللاحق حادثا بغير
واسطة، والسابق حادثا بواسطة أن ما لحقه العدم لزم أن يسبقه
العدم، وإذا لزم من السكوت حدوث الكلام لزم منه حدوث الذات
الموصوف به، لأن قيام الحادث بشئ يوجب حدوث ذلك الشئ،
ودعوى الاتصاف بذلك لمن تنزه عن الحدوث في ذاته وجميع صفاته
سبحانه وتعالى، كفر لا محالة.
وقوله: (والمخلوق لا يكون قائما بالخالق ولا يكون الرب
محلا للمخلوقات)، صحيح مناقض لقوله سابقا (بقيام الحوادث
بذاته) جل وعلا، هكذا دأب هذا المفتون يقول الشئ في محل من
تآليفه وينقضه في محل آخر.
67

زعم أن ثم طائفة كثيرة تقول
إنه تعالى تقوم به الحوادث وتزول وإنه تعالى كلم موسى عليه الصلاة
والسلام بصوت وذلك الصوت عدم
(16) وفي ص 21 من كتابه الفرقان قال: (وثم طائفة كثيرة تقول إنه
تعالى تقوم به الحوادث وتزول وأنه تعالى كلم موسى عليه الصلاة
والسلام بصوت وذلك الصوت عدم، وهذا مذهب أئمة السنة
والحديث من السلف وغيرهم إ ه‍).
أقول: الطائفة الكثيرة التي قالت هذا الهراء هم مشايخه
الكرامية، وهم أقل من القليل التي بالنسبة للأمة الإسلامية التي لم
تقله، هكذا يضطرب هذا المفتون في عقيدته.
وقوله: (وهذا مذهب أئمة السنة والحديث من السلف وغيرهم)،
بهتان وإفك مبين على أئمة السنة والحديث من السلف وغيرهم.
وأرى من النصح للمسلمين أن أنقل هنا أجوبة الإمام العز بن عبد
السلام والإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن الحاجب المالكي،
والإمام علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي مؤلف " جمال
القراء وكمال الأقراء " حينما استفتوا في هذه المسألة. ومكانتهم السامية
في العلم معروفة.
ونص السؤال والأجوبة كما هو مدون في " نجم المهتدي ورجم
المعتدي " للفخر بن المعلم القرشي. كالآتي:
صورة السؤال:
ما يقول السادة الفقهاء رضي الله عنهم في كلام الله القديم القائم
68

بذاته؟ هل يجوز أن يقال إنه عين صوت القارئ وحروفه المقطعة،
وعين الإشكال التي يصورها الكاتب في المصحف؟ وهل يجوز أن يقال
إن كلام الله القديم القائم بذاته حروف وأصوات على المعنى الظاهر فيها
وإنه عين ما جعله الله معجزة لرسوله؟ وما الذي يجب على من اعتقد
جميع ذلك وأذاعه وغر به ضعفاء المسلمين وهل يحل للعلماء المعتبرين
إذا علموا أن ذلك قد شاع أن يسكتوا عن بيان الحق في ذلك وإظهاره
والرد على من أظهر ذلك واعتقده؟ أفتونا مأجورين.
صورة جواب الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله:
القرآن كلام الله صفة من صفاته قديم بقدمه، ليس بحروف ولا
أصوات ومن زعم أن الوصف القديم هو عين أصوات القارئين وكتابة
الكاتبين فقد ألحد في الدين وخالف إجماع المسلمين، بل إجماع
العقلاء من غير أهل الدين ولا يحل للعلماء كتمان الحق ولا ترك البدع
سارية في المسلمين، ويجب على ولاة الأمر إعانة العلماء المنزهين
الموحدين، وقمع المبتدعة المشبهين المجسمين، ومن زعم أن المعجزة
قديمة فقد جعل حقيقتها، ولا يحل لولاة الأمر تمكين أمثال هؤلاء من
إفساد عقائد المسلمين، ويجب عليهم أن يلزموهم بتصحيح عقائدهم
بمباحثة العلماء المعتبرين، فإن لم يفعلوا ألجئوا إلى ذلك بالحبس
والضرب والتعزير والله أعلم.
كتبه عبد العزيز بن عبد السلام
وصورة جواب الإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن الحاجب
المالكي:
من زعم أن أصوات القارئ وحروفه المتقطعة والأشكال التي
يصورها الكاتب في المصحف هي نفس كلام الله تعالى القديم فقد
69

ارتكب بدعة عظيمة وخالف الضرورة وسقطت مكالمته في ا لمناظرة فيه،
ولا يستقيم أن يقال إن كلام الله تعالى القديم القائم بذاته هو الذي جعله
الله معجزة لرسوله، فإن ذلك يعلم بأدنى نظر، وإذا شاع ذلك أو سئل
عنه العلماء وجب عليهم بيان الحق في ذلك وإظهاره ويجب على من له
الأمر وفقه الله أخذ من يعتقد ذلك ويغر به ضعفاء المسلمين وزجره وتأديبه
وحبسه عن مخالطة من يخاف منه إضلاله إلى أن يظهر توبته عن اعتقاد
مثل هذه الخرافات التي يأباها العقول السليمة والله أعلم.
كتب عثمان بن أبي بكر الحاجب
وصورة جواب الإمام علم الدين أبي الحسن علي السخاوي:
كلام الله عز وجل قديم صفة من صفاته ليس بمخلوق، وأصوات
القراء وحروف المصاحف أمر خارج عن ذلك ولهذا يقال صوت قبيح
وقراءة غير حسنة وخط قبيح غير جيد، ولو كان ذلك كلام الله لم يجز
ذمه على ما ذكر لأن أصوات القراء به تختلف باختلاف مخارجها والله
تعالى منزه عن ذلك، والقرآن عندنا مكتوب في المصاحف متلو في
المحاريب محفوظ في الصدور غير حال في شئ من ذلك والمصحف
عندنا معظم محترم لا يجوز للمحدث مسه، ومن استخف به أو ازدراه
فهو كافر مباح الدم، والصفة القديمة القائمة بذاته سبحانه وتعالى ليست
المعجزة، لأن المعجزة ما تحدى به الرسول صلى الله عليه وسلم وطالب بالإتيان بمثله
ومعلوم أنه لم يتحدهم بصفة الباري القديمة، ولا طالبهم بالإتيان
بمثلها، ومن اعتقد ذلك وصرح به أو دعا إليه فهو ضال مبتدع، بل
خارج عما عليه العقلاء إلى تخليط المجانين. والواجب على علماء
المسلمين إذا ظهرت هذه البدعة إخمادها وتبيين الحق والله أعلم.
علي السخاوي
70

انظر يا رعاك الله كيف كان العلماء يتكاتفون في قمع البدع وإحقاق
الحق على اختلاف مذاهبهم في تلك العصور الزاهرة بخلاف غالب أهل
العلم في زماننا هذا فإن لهم منازع وراء اختلاف المذاهب لا يهمهم ذيوع
الباطل وقد خانوا دينهم الذي أئتمنهم الله عليه، وبه يعيشون ويوم
الخائنين يوم رهيب. وكانت تلك الفتنة بالشام في النصف الأول من
القرن السابع الهجري، وقد وقع مثلها في النصف الأخير من القرن
السادس بمصر، وفتنة القاهرة معروفة بفتنة ابن مرزوق وابن الكيزاني
وكلاهما من حشوية الحنابلة، وظن التاج ابن السبكي ابن الكيزاني من
الشافعية فترجم له في طبقاته تبعا لابن خلكان، فلا بأس في الإشارة هنا
إلى فتاوى علماء ذلك العصر في حقهما.
وصورة الاستفتاء في شأنهما:
ما قولكم في الحشوية الذين على مذهب ابن مرزوق وابن الكيزاني
اللذين يعتقدان أن الله سبحانه يتكلم بحرف وصوت تعالى الله عن ذلك
وأن أفعال العباد قديمة هل تنفذ أحكامهم على جهل التوحيد وعامة
المسلمين وهل تقبل شهاداتهم على المسلمين أم لا؟.
جواب الإمام شهاب الدين أبي الفتح محمد بن محمود الطوسي
الشافعي (صاحب الوقائع مع ابن نجية الحنبلي) تقبل شهادة عدو لهم
على أصحابهم ولا تسمع شهاداتهم على أهل الحق من الموحدين ولا
ينفذ حكم قاضيهم على الموحدين فإنهم أعداء الحق والله أعلم.
كتبه محمد الطوسي
71

وجواب الإمام يوسف الأرموي:
ما نص عليهم أعلاه اقترفوا حوبة عظيمة يجب عليهم القفول عما
اعتقدوه وهم كفار وكيف يسوغ قبول أقوالهم؟.
ويجب على من إليه الأمر إحضارهم واستتابتهم عما هم عليه فإن تابوا
وإلا قتلوا، وحكمهم في الاستتابة حكم المرتد في إمهاله ثلاثة أيام ولا
يقتل في الحال.
كتبه يوسف الأرموي
وجواب الخطيب أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحموي:
من اعتقد أن أفعال العباد قديمة فقد قال قولا يلزم منه القول بقدم
العالم ومن قال بقدم العالم فهو كافر لا تصح ولايته ولا تقبل شهادته والله
أعلم.
كتبه محمد بن إبراهيم الحموي
واستفتاء آخر صورته:
ما قول الفقهاء الأئمة قادة علماء هذه الأمة أدام الله إرشادهم ووفق
إصدارهم وإيرادهم في الحشوية الذين على مذهب ابن مرزوق وابن
الكيزاني اللذين يعتقدان أن الله سبحانه متكلم بحرف وصوت، وأن
أفعال العباد قديمة هل تقبل شهاداتهم على أهل الحق الموحدين
الأشعرية، وهل تنفذ أحكام قضاتهم على الأشعرية أم لا؟
جواب الإمام أبي المنصور ظافر بن الحسين الأزدي المالكي:
لا تقبل شهادة من يقول إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت لأنهم
مرتكبون كبيرة هي أعظم من سائر المعاصي كالزنا وشرب الخمر لأنها
72

كبيرة تتعلق بأصل من أصول الدين.
وكتب ظافر بن حسين الأزدي
وجواب شارح المهذب أبي إسحاق إبراهيم العراقي:
جوابي كذلك.
كتبه إبراهيم العراقي
وجواب الخطيب محمد بن إبراهيم الحموي:
من قال إن الله متكلم بحرف وصوت فقد قال قولا يلزم منه أن الله
جسم ومن قال إنه جسم فقد قال بحدوثه ومن قال بحدوثه فقد كفر
والكافر لا تصح ولايته ولا تقبل شهادته والله أعلم.
كتبه محمد بن إبراهيم الحموي
وجواب الشيخ جمال الدين بن رشيق المالكي:
لا تقبل شهادتهم ولا يجوز أن يولوا الحكم ولا غيره من المناصب
الدينية لأنهم بين جاهل يصر على جهله بما يتعين عليه اعتقاده من صفات
الله سبحانه وبين عالم معاند للحق، ومن هذه صفته يتعين تأديبه وزجره
عما صار إليه بأبلغ الأدب، ومن جملته رد الشهادة وبالله التوفيق.
كتب حسين بن عتيق بن رشيق
وجواب الشيخ محي الدين محمد بن أبي بكر الفارسي؟
من قال إن الله سبحانه متكلم بالصوت والحرف فقد أثبت الجسمية
وصار بقوله مجسما والمجسم كافر ومن قال إن أفعال العباد قديمة فقد
73

كذب الله تعالى في قوله: (والله خلقكم وما تعملون " ومكذب الله
بصفة الاصرار كافر ولا تثبت عدالتهم ولا تقبل شهادتهم ولا تجوز الصلاة
خلفهم، ويجب على الإمام وعلى نوابه في الأقاليم استتابتهم فإن لم
يرجعوا عما هم فيه من الكفر يعاقبهم على كفرهم أو يقبل الجزية منهم
أذلاء لا كاليهود والنصارى بل كفرهم أشنع وأبشع من مقالة النصارى
واليهود أما اليهود فشبهوه بالحادث صفة، وأما النصارى فقالوا إنه جوهر
شريف والمجسمة يثبتون الجسم لله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا
كبيرا.
وكتب محمد الفارسي:
وفي تلك الفتاوى ما ينزجر به من يخاف مقام ربه من تلك البدع
الشنيعة.
إفتراؤه بأن جمهور أهل ألسنة يقولون:
إنه تبارك وتعالى ينزل ولا يخلو منه العرش
(17) وفي ج‍ 1 ص 262 من منهاج السنة قال: جمهور أهل السنة
يقولون إنه تبارك وتعالى ينزل ولا يخلو منه العرش، وزعم أن ذلك
منقول عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما، وعن الإمام
أحمد وهو مفتر أفاك على جمهور أهل السنة على إسحاق بن راهويه
وحماد بن زيد وعلى غيرهما وعلى الإمام أحمد.
قال القرطبي في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى:
(والمستغفرين بالأسحار)، بعد ذكره حديث النزول وما قيل فيه ما
نصه:
وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبي هريرة
74

وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا
فيقول هل من داع يستجاب له؟، هل من مستغفر يغفر له، هل من
سائل يعطى؟ " - صححه أبو محمد عبد الحق: وهو يرفع الإشكال
ويوضح كل احتمال، وإن الأول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك
ربنا فيقول إلخ... وقد روى ينزل بضم الياء وهو يبين ما ذكرنا إ ه‍.
وقال الحافظ ابن حجر في فتحه في كتاب (التهجد) ما نصه:
استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور لأن
القول بذلك يفضي إلى التحيز، تعالى الله عن ذلك، وقد اختلف في
معنى النزول على أقوال وأفاض في ذكرهما ثم قال وقد حكى أبو بكر بن
فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل
ملكا، ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد
رضي الله عنهما بلفظ: (إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر
مناديا يقول: هل من داع فيستجاب له؟ - الحديث -).
وفي حديث عثمان بن أبي العاص: (ينادي مناد هل من داع
يستجاب له؟ - الحديث -)، قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال إ ه‍.
زعم أن جمهور الخلف على أن الله تعالى
فوق العالم
(18) وفي آخر هذه الصحيفة زعم: (أن جمهور الخلف على أن الله
تعالى فوق العالم) وهو كذاب يفتري على الخلف، كما هو كذاب
على السلف فيما ينسبه إليهم من العقائد الزائفة.
75

قوله في بيان زعمه قيام الحوادث بذات الله تعالى:
قال ابن تيمية في كتابه منهاج السنة الجزء الأول ص / 224:
"... فإن قلتم لنا فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب قلنا لكم:
نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل....
وفي عبارة أخرى بنفس الصفة السابقة يقول:
فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به قلنا: ومن
أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك
مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ". إ ه‍.
وقد ذكر في كتابه المسمى شرح حديث عمران بن حصين ص /
193، ونصه: وإن قدر أن نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع
ولا عقل بل هي من كماله.
وانظر في كتابه نقد مراتب الاجماع ص / 168 بعد أن أورد ابن
حزم تحت عنوان: باب من الاجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع
قال ابن حزم: اتفقوا أن الله عز وجل وحده لا شريك له خالق كل شئ
غيره وأنه تعالى لم يزل وحده ولا شئ غيره معه ثم خلق الأشياء كلها
كما شاء...
فقال ابن تيمية عقيب هذا الكلام: واعجب من ذلك حكايته
الاجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شئ غيره معه.
قوله بحوادث لا أول لها
(19) قوله: بحوادث لا أول لها فهمه من رواية البخاري في كتاب
التوحيد: (كان الله ولم يكن شئ قبله)، قال الحافظ ابن حجر
في فتحه: تقدم في بدء الخلق بلفظ (ولم يكن شئ غيره.)،
76

وفي رواية أبي معاوية: (كان الله قبل كل شئ) وهو بمعنى:
(كان الله ولا شئ معه)، وهي أصرح في الرد على من أثبت (حوادث
لا أول لها) من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة
لابن تيمية إ ه‍. راجع فتح الباري 13 / 348.
هذه تسعة عشر مسألة بينت مواضعها دالة على جهله بأصول الدين
وفساد عقيدته فيه بالتشبيه والتجسيم وغيرهما، كافية في تبيين ضلاله لكل من
نور الله بصيرته، ومن عميت بصيرته فافتتن به كالسرمري، واليافعي
اللذين هجوا الإمام السبكي.
تنبيه
وقد ذكر ابن تيمية في الموافقة 1 - 249 ما نصه:
" قلت: هذا من نمط الذي قبله، فإن الأزلي اللازم هو نوع
الحادث لا عين الحادث ". وهذه من أعظم كفريات ابن تيمية.
وقد نقل المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في كتابه " تشنيف
المسامع " اتفاق المسلمين على تكفير من يقول بما قال به ابن تيمية،
وتكفير من يقول بما قال به ابن سينا من أن العالم بعينه ونوعه ومادته أزلي
حمانا الله من الضلالتين.
وقد ذكر الجلال الدواني في شرح العضدية ما نصه: " وقد رأيت
في بعض تصانيف ابن تيمية) القول بالقدم النوعي في العرش. إ ه‍.
وقال محمد عبده فيما علقه عليه: وذلك أن ابن تيمية كان من الحنابلة
الآخذين بظواهر الآيات والأحاديث القائلين بأن الله استوى على العرش
جلوسا "..
77

فقد أثبت قوله بأزلية العالم بنوعه الحافظ المجتهد تقي الدين
السبكي في رسالته " الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية "، والحافظ
أبو سعيد العلائي، كما نقل عنه الحافظ شمس الدين محمد بن طولون
الحنفي وهو محدث حافظ مؤرخ ذكر ذلك في كتابه " ذخائر القصر ".
وللحافظ السبكي قصيدة يصرح فيها بأن ابن تيمية يقول بأنه ما من حادث
إلا وقبله حادث وهكذا لا إلى أول.
وقد ذكر العلامة البياضي في كتابه إشارات المرام ص / 197 بعد
ذكر الأدلة على حدوث العالم ما نصه: فبطل ما ظنه ابن تيمية منهم
من قدم العرش كما في شرح العضدية،.
ما نقله الحافظ المحدث المؤرخ ابن طولون الحنفي
عن الحفاظ المعتبرين
فقد ذكر ابن طولون في كتابه " ذخائر القصر في تراجم نبلاء
العصر " (وهذا الكتاب مخطوط ومحفوظ في الخزانة التيمورية في القاهرة
تحت رقم / 1420 تاريخ) في أثناء ترجمة عبد النافع بن عراق
الدمشقي، فقال: " وقد كان أبوه أشغله حنبليا فتحول بعده شافعيا
خصوصا لما رأى ما قال الحافظ صلاح الدين العلائي في ذكر المسائل
الذي خالف فيها ابن تيمية الناس في الأصول والفروع ".
وسنذكره تباعا.
78

بسم الله الرحمن الرحيم
وهذا نص كلام الحافظ العلائي شيخ الحافظ زين الدين العراقي
وغيره من حفاظ الحديث منقول من مخطوطة كتاب ذخائر القصر في
تراجم نبلاء العصر لابن طولون من صحيفة 32 و 33 يذكر فيه ضلالات
ابن تيمية التي شذ فيها عن أهل الحق في أصول العقيدة والفروع فيقول:
ذكر المسائل التي خالف فيها ابن تيمية الناس في الأصول والفروع فمنها
ما خالف فيها الاجماع ومنها ما خالف فيها الراجح من المذاهب فمن
ذلك يمين الطلاق قال بأنه لا يقع عند وقوع المحلوف عليه بل عليه فيها
كفارة يمين ولم يقل قبله بالكفارة أحد من المسلمين البتة ودام إفتاؤه
بذلك زمانا طويلا وعظم الخطب ووقع في تقليده جم غفير من العوام وعم
البلاء. وإن طلاق الحائض لا يقع وكذلك الطلاق في طهر جامع فيه
زوجته وإن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة وكان قبل ذلك قد نقل إجماع
المسلمين في هذه المسألة على خلاف ذلك وإن من خالفه فقد كفر
ثم إنه أفتى بخلافه وأوقع خلقا كثيرا من الناس فيه. وإن الحائض
تطوف في البيت من غير كفارة وهو مباح لها. وإن المكوس
حلال لمن أقطعها وإذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم
تكن باسم الزكاة ولا على رسمها. وإن المائعات لا
تنجس بموت الفأرة ونحوها فيها وإن الجنب يصلي تطوعه
بالليل بالتيمم ولا يؤخره إلى أن يغتسل عند الفجر وإن كان
بالبلد وقد رأيت من يفعل ذلك ممن قلده فمنعته منه. سئل عن رجل قدم.
فراشا لأمير فتجنب بالليل في السفر ويخاف إن اغتسل عند الفجر أن
يتهمه أستاذه بغلمانه فأفتاه بصلاة الصبح بالتيمم وهو قادر على الغسل.
وسئل عن شرط الواقف فقال غير معتبر بالكلية بل الوقف على الشافعية
يصرف إلى الحنفية وعلى الفقهاء يصرف إلى الصوفية وبالعكس وكان
79

يفعل هكذا في مدرسته فيعطي منها الجند والعوام. ولا يحضر درسا على
اصطلاح الفقهاء وشرط الواقف بل يحضر فيها ميعادا يوم الثلاثاء ويحضره
العوام ويستغني بذلك عن الدرس. وسئل عن جواز بيع أمهات الأولاد
فرجحه وأفتى به ومن المسائل المنفرد بها في الأصول مسألة الحسن
والقبح التي يعول بها المعتزلة فقال بها ونصرها وصنف فيها وجعلها دين
الله بل ألزم كل ما يبنى عليه كالموازنة في الأعمال.
وأما مقالاته في أصول الدين فمنها قوله إن الله سبحانه محل
الحوادث تعالى الله عما يقول علوا كبيرا. وإنه مركب مفتقر إلى ذاته
افتقار الكل إلى الجزء. وإن القرآن محدث في ذاته تعالى وإن العالم
قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوق دائما فجعله موجبا بالذات لا فاعلا
بالاختيار سبحانه ما أحلمه. ومنها قوله بالجسمية والجهة والانتقال وهو
مردود.
وصرح في بعض تصانيفه بأن الله تعالى بقدر العرش لا أكبر منه
ولا أصغر تعالى الله عن ذلك وصنف جزء في أن علم الله لا يتعلق بما لا يتناهى كنعيم
أهل الجنة وأنه لا يحيط بالتناهي وهي التي زلق فيها الإمام ومنها أن الأنبياء
غير معصومين وأن نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام ليس له جاه ولا يتوسل به
أحد إلا ويكون مخطئا وصنف في ذلك عدة أوراق. وإن إنشاء السفر
لزيارة نبينا صلى الله عليه وسلم معصية لا يقصر فيها الصلاة وبالغ في ذلك ولم يقل به
أحد من المسلمين قبله. وإن عذاب أهل النار ينقطع ولا يتأبد حكاه.
بعض الفقهاء عن تصانيفه. ومن إفراده أيضا أن التوراة والإنجيل حم
تبدل ألفاظهما بل هي باقية على ما أنزلت وإنما وقع التحريف في تأويلها
وله فيه مصنف آخر ما رأيت، واستغفر الله من كتابة مثل هذا فضلا عن
اعتقاده إ ه‍.
80

صورة لغلاف كتاب القصر فز تراجم نبلاء العصر لابن طولون الحنفي
81

افتراؤه على الإمام علي
وقد مر أن الحافظ بن حجر ذكر في الدرر الكامنة أن ابن تيمية خطأ
أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه في سبعة عشر موضعا خالف نص
الكتاب، وإن العلماء نسبوه إلى النفاق لقوله هذا في علي كرم الله
وجهه، ولقوله أيضا فيه إنه كان مخذولا، وإنه قاتل للرياسة لا للديانة،
فمن شاء فليراجع قول ابن حجر في الدرر الكامنة 1: 114. وقد ذكر ابن
تيمية في حق علي في كتابه منهاج السنة 2: 203 ما نصه: " وليس علينا
أن نبايع عاجزا عن العدل علينا ولا تاركا له، فأئمة السنة يسلمون أنه ما
كان القتال مأمورا به لا واجبا ولا مستحبا ". وذكر في نفس المصدر
السابق 3: 156 بعد كلام ما نصه فلا رأي أعظم ذما من رأي أريق به دم
ألوف مؤلفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في
دينهم ولا في دنياهم بل نقص الخير كما كان وزاد الشر على ما
كان... " إ ه‍.
قوله: (إنه ما كان القتال مأمورا به لا واجبا ولا مستحبا) هذا غير
صحيح، وهو مخالف لما رواه النسائي بالإسناد الصحيح في الخصائص
عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أمرت بقتال الناكثين والقاسطين
والمارقين "، فالناكثين هم الذين قاتلوه في وقعة الجمل، والقاسطين هم
الذين قاتلوه في صفين، والمارقين وهم الخوارج، وهذا الحديث ليس
في إسناده كذاب ولا فاسق كما زعم ابن تيمية.
ثم إن عليا خليفة راشد واجب الطاعة على المؤمنين لقوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم).
وقد ذكر الإمام أبو القاسم الرافعي محرر المذهب الشافعي:
وثبت أن أهل الجمل وصفين والنهروان بغاة وقد أثبتها الحافظ ابن حجر في
85

تلخيص الحبير 4 / 44 فقال بعد إيرادها: هو كما قال. ويدل عليه:
أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.. رواه النسائي في
الخصائص والبزار والطبراني.. والقاسطين أهل الشام لأنهم جاروا عن
الحق في عدم مبايعته. ومثله ذكر الحافظ في فتحه 13 / 57 وقد ثبت أن
من قاتل عليا كانوا بغاة.
وأما قوله: (إنه لم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم
ولا في دنياهم) فهو باطل، روى الحاكم في المستدرك وابن حبان في
صحيحه والنسائي في الخصائص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن منكم من يقاتل
على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله
قال: لا، قال عمر: أنا يا رسول الله قال: لا ولكنه خاصف النعل -
(وكان علي يخصف النعل). فالرسول زكى قتال عليا في جميع الوقائع،
ومن قاتله كان عاصيا، ويؤيد هذا الحديث الذي رواه.
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير: " إنك لتقاتلنه وأنت ظالم له " فالزبير مع
جلالة قدره ظلم ولكنه ندم ورجع.
ثم يرد قوله هذا الحديث المتواتر الذي رواه البخاري: ويح عمار
تقتله الفئة الباغية يدعوهم للجنة ويدعونه إلى النار: فعمار الذي كان في
جيش علي كان داعيا إلى الجنة بقتاله مع علي، فعلي داع إلى الجنة
بطريق الأولى، وعمار ما نال هذا الفضل إلا بكونه مع علي، فهو وجيشه
دعاة إلى الجنة ومقاتلوهم دعاة إلى النار، فلو لم يكن إلا حديث
البخاري لكفى في تكذيب ابن تيمية. فكيف يقول إن القتال لا واجبا ولا
مستحبا والرسول زكى قتال علي في جميع الوقائع، وكيف يقول إنه لم
يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم، وعلي كان
داعيا إلى الجنة ومن قاتل معه فله أجر ومن خالفه فهو باغ ظالم.
فائدة في الثناء على علي في حروبه الثلاثة:
ذكر في كتاب الفرق بين الفرق ص / 350 - 351. ما نصه:
86

وقالوا بإمامة علي في وقته وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين
وبنهروان.
وقالوا بأن طلحة والزبير تابا ورجعا عن قتال علي لكن الزبير قتله
عمرو بن جرموز بوادي السباع بعد منصرفه من الحرب، وطلحة لما هم
بالانصراف رماه مروان بن الحكم - وكان مع أصحاب الجمل - بسهم
فقتله.
وقالوا: إن عائشة رضي الله عنها قصدت الاصلاح بين الفريقين فغلبها
بنو ضبة والأزد على رأيها وقاتلوا عليا دون إذنها حتى كان من الأمر ما
كان.
فائدة
ويح عمار بالجر على الإضافة وهو ابن ياسر تقتله الفئة الباغية قال
القاضي في شرح المصابيح يريد به معاوية وقومه انتهن. وهذا صريح في
نفي طائفة معاوية الذين قتلوا عمار رضي الله عنه في وقعة صفين وإن
الحق مع علي رضي الله عنه وهو من الإخبار بالمغيبات يدعوهم أي عمار
رضي الله عنه يدعو الفئة وهم أصحاب معاوية الذين قتلوا بوقعة صفين في
الزمان المستقبل إلى الجنة أي إلى سببها وهو طاعة الإمام الحق ويدعونه
إلى سبب النار ومقاتلته. قالوا وقد وقع ذلك في يوم صفين دعاهم فيه إلى الإمام
الحق ودعوه إلى النار وقتلوه فهو معجزة للمصطفى صلى الله عليه وسلم وعلم من أعلام
نبوته. وأما قول بعضهم المراد أهل مكة الذين عذبوه أول الإسلام فقد
تعقبوه بالرد قال القرطبي رحمه الله تعالى: وهذا الحديث من أثبت
الأحاديث وأصحها ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال: إنما قتله من
أخرجه، فأجابه علي كرم الله وجهه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة
حين أخرجه. قال ابن دحية وهذا من علي إلزام مفحم لا جواب عنه
87

وحجة لا اعتراض عليها. وقال الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتاب
الإمامة: أجمع علماء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك
والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين
والمسلمين أن عليا كرم الله وجهه مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو
مصيب في أهل الجمل وأن الذين قاتلوه بغاة ظالموا، له لكن لا يكفرون
ببغيهم. وقال الإمام أبو منصور في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السنة
أجمعوا أن عليا كرم الله وجهه كان مصيبا في قتال أهل الجمل طلحة
والزبير وعائشة بالبصرة وأهل صفين. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى 8 / 174
بالإسناد المتصل إلى عمار بن ياسر قال: لا تقولوا كفر أهل الشام ولكن
قولوا فسقوا أو ظلموا. وكذا رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 15 / 290
بروايات. وفي إحداها: ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق، فحق
علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه.
تنبيه
ليس من سب الصحابة القول إن مقاتلي علي منهم بغاة لأن هذا
مما صرح به الحديث بالنسبة لبعضهم وهم أهل صفين، وقد روى
البيهقي في كتاب الاعتقاد ص / 196 بإسناده المتصل إلى محمد بن
إسحاق وهو ابن خزيمة قال: "... وكل من نازع أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب في إمارته فهو باغ على هذا عهدت مشايخنا،. وبه قال ابن
إدريس يعني الشافعي رحمه الله " انتهت بحروفها، فلا يعد ذكر ما جاء
في حديث البخاري سبا للصحابة إلا ممن بعد عن التحقيق العلمي
فليتفطن لذلك. ثم هل نترك كلام عمار الذي ورد أن الجنة تشتاق
إليه، ونتبع كلام زائغ جاهل؟
وأما من يعارض هذا الحديث المتواتر بمثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
88

" إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " فهو بعيد من التحقيق بعدا كبيرا لأن هذا لم
يثبت، فكيف يحتج به في معارضة حديث ثابت متواتر فقد روى حديث
" ويح عمار " أربعة وعشرون صحابيا. ومرادنا من هذا الكلام تبين أن
عليا هو الخليفة الواجب الطاعة، وأن مخالفوه بغاة، فكيف يقول هذا
السخيف أنه ما كان القتال مأمورا به لا واجبا ولا مستحبا. وأنه لم
يحصل للمسلمين فيه مصلحة لا في دينهم ولا دنياهم. فهذا فيه مخالفة
للأحاديث التي أوردناها أليس هذا ذما بعلي.
وراجع كلام ابن تيمية في منهاجه ص 202 من الجزء الثاني يقول
فيها: وعلي رضي الله تعالى عنه كان عاجزا عن قهر الظلمة من
العسكرين ولم تكن أعوانه يوافقونه على ما يأمر به، وأعوان معاوية
يوافقونه، وكان يرى أن القتال يحصل به المطلوب فما حصل به إلا ضد
المطلوب... إلى أن قال: فائمة السنة يعلمون أنه ما كان القتال مأمورا
به لا واجبا ولا مستحبا ولكن يعذرون من اجتهد فأخطأ. إ ه‍.
وانظر الصحيفة 204 من الكتاب السابق يقول فيها: فإن قال الذاب
عن علي: هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة فقد ثبت في الصحيح أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار رضي الله عنه " تقتلك الفئة الباغية) وهم قتلوا
عمارا فههنا للناس أقوال: منهم من قدح في حديث عمار، ومنهم من
تأوله على أن الباغي الطالب وهو تأويل ضعيف، وأما السلف والأئمة
فيقول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم لم يوجد شرط قتال
الطائفة الباغية " إ ه‍.
أقول: السؤال في هذا الكلام صحيح منطبق على مذهب أهل
الحق، أما جوابه - أي ابن تيمية - عنه فههنا للناس أقوال إلى آخره فاسد
وكذب، فهل يسمي لنا القادحين في حديث عمار.
89

بعض العلماء الرادين على ابن تيمية والمناظرين له
أذكر بعض من رد عليه وناظره من العلماء المعاصرين له والمتأخرين
عنه.
فممن رد عليه من الشافعية ردا محكما ونقض رسالته الحموية في
الجهة العلامة:
(1) شهاب الدين أحمد بن يحيى الحلبي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين
وسبعمائة، وقد ذكرها السبكي في طبقاته في نحو ثلاثين ورقة،
فمن شاء فليراجع ذلك ألحقناها في هذا الكتاب للفائدة.
(2) وناظره العلامة محمد بن عمر بن مكي صدر الدين بن المرحل
المتوفى سنة ستة عشرة وسبعمائة.
قال التاج السبكي في طبقاته الكبرى 6 / 23: وله مع ابن تيمية
المناظرات الحسنة، وبه حصل عليه التعصب من أتباع ابن تيمية
وقيل فيه ما هو بعيد عنه، وكثر القائل فارتاب العاقل إ ه‍. وراجع الواقي
4 / 264.
(3) وناظره فأفحمه العلامة كمال الدين الزملكاني المتوفى سنة سبع
وعشرين وسبعمائة، ورد عليه برسالة في مسألة الطلاق وأخرى في
مسألة الزيارة.
(4) ورد عليه العلامة عز الدين بن جماعة وشنع عليه.
(5) والإمام المحقق أبو الحسن السبكي رد عليه بشفاء السقام في
زيارة خير الأنام، والدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية، ونقد
الاجتماع والافتراق في مسائل الإيمان والطلاق، والنظر المحقق
في الحلف بالطلاق المعلق، والاعتبار ببقاء الجنة والنار، وهي
الرسائل التي بين أيدينا.
90

(6) والعلامة الشريف تقي الدين الحصني الدمشقي المتوفى سنة تسع
وعشرين وثمانمائة ب‍: (دفع شبه من شبه وتمرد، ونسب ذلك إلى
السيد الجليل الإمام أحمد) وهو مطبوع.
(7) والعلامة ابن حجر الهيتمي المتوفى سنة أربع وسبعين وتسعمائة
ب‍: (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم) وهو مطبوع..
(8) ورد عليه من المالكية المعاصرين له في الزيارة العلامة عمر بن
أبي اليمن اللخمي الشهير بالتاج الفاكهاني المتوفى بالإسكندرية
سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ب‍ (التحفة المختارة في الرد على منكر
الزيارة).
(9) وقاضي القضاة العلامة محمد السعدي المصري الأخنائي المتوفى
سنة خمسين وسبعمائة برسالة محكمة سماها: (المقالة المرضية
في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية) وهي مطبوعة ضمن
البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة للعلامة الشيخ سلامة
العزامي الشافعي المتوفى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وألف.
(10) ورد عليه في مسألة الطلاق العلامة عيسى أبو الروح الزواوي
المتوفى بالقاهرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
(11) " تطهير الفؤاد من دنس الاعتقاد " لمفتي المسلمين بالديار
المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي وهو من أهل هذا العصر مطبوع.
ويذكر الحافظ ابن حجر في الدرر 3 / 102 في ترجمة الباجي
- أنه حاقق ابن تيمية على أربعة عشر موضعا فغير ما كان كتب به
" وقد ذكر الكتاني في فهرس الفهارس 1: 20 ما نصه:
(وقد تصدى للرد على ابن السبكي ابن عبد الهادي الحنبلي ولكنه
ينقل الجرح ويغفل عن التعديل وسلك سبيل العنف والتشديد وقد رد
91

عليه وانتصر للسبكي جماعة منهم:
(1) الإمام عالم الحجاز في القرن الحادي عشر، الشمس محمد علي
ابن علان الصديقي المكي له كتاب (المبرد المبكي في رد الصارم
المنكي).
(2) البرهان إبراهيم بن عثمان السمنودي المصري من أهل هذا العصر
(نصرة الإمام السبكي برد الصارم المنكي).
(3) الحافظ ابن حجر له (الإثارة بطرق حديث الزيارة) ونظر مبحثها
في فتح الباري، والمواهب اللدنية وشروحها ".
حال ابن تيمية عند الشيخ زروق
قال الشيخ زروق: " وهو مطعون عليه في العقائد، (أي ابن
تيمية) وذكر غيره أنه ظاهري يقول بالتجسيم) إ ه‍ انظر فهرس الفهارس
1: 202.
الرد على من قال لعلها دسا عليه
وقد يأتيك بعض الغلاة المتعصبين لابن تيمية فتراه يدافع في أول
الأمر عن ابن تيمية وينكر أن يكون قد قالها لأن هذا ضلال، فلما يرى
بعينه في كتبه تراه يراوغ ويتململ ويحاول أن يؤول له مع أنه قد سبق أن
اعترف أن هذا كفر صراح لا يقبل التأويل. ثم لما تقام عليه الحجة
يقول: " هذا دس على الشيخ، فلما تثبتونها في حق ابن تيمية،
وتبرؤون ابن العربي مع أن كتبه الموجودة مليئة بالكفر والحلول
والاتحاد؟ ".
نقول له: نحن نمنع من التسليم لما يرى في كتاب " الفتوحات
92

المكية " من العبارات التي هي صريحة في الكفر، ونرى في ذلك أنها
مدسوسة عليه لأمرين:
أحدهما: أن الحفاظ الثقات من أهل عصره والمتأخرين عنه قد
مدحوه وزكوه فقد قال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان 5: 314 في
ترجمة ابن عربي: " اعتد به حفاظ عصره كابن النجار وابن الدبيثي ".
وقد نقل إطراء بعضهم ومنهم ابن الزملكاني الذي قال عن ابن العربي:
" هو البحر الزاخر في المعارف الإلهية " إ ه‍. وانظر أيضا ما ذكر عنه
ابن العماد في " شذرات الذهب 5: 190، والكتبي في " فوات
الوفيات " 3: 438 فقال: وعلى الجملة فكان رجلا صالحا عظيما "
إ ه‍. فنرى من هنا أن الحفاظ من أهل عصره قد زكوه ومدحوه، أما
ذاك - ابن تيمية - فقد طعن فيه وجرحه الحفاظ من أهل عصره ونسبوا له
تلك الكلمات. وراجع كلام الذهبي فيه الذي هو محب له وشفوق
عليه. وعدا عن ذلك فإنه كما مر في هذا الكتاب توقيعه بأنه تراجع عن
هذه الأباطيل، ولكنه عاد إليها حتى حبس ومات في السجن. فيا ليت
شعري كيف يتراجع عن شئ لم يقله.
والثاني: أن الشعراني قال: إنه اطلع على النسخة الأصلية التي
هي بخط الشيخ فوجدها خالية من هذه الكفريات، وإن صاحب
(المعروضات المزبورة " أحد الفقهاء المشهورين من أهل المذهب
الحنفي قال: " تيقنا أن اليهود دسوا عليه في فصوص الحكم ". راجع
كتابه " لطائف المنن والأخلاق ".
ويؤيد ذلك أن في الفتوحات " المكية " عبارات صريحة في إبطال
القول بعقيدة الحلول والاتحاد. والتنزيه الصريح لله تعالى عما ينزهه أهل
الحق، ففيها الكثير من هذا والكثير من ذلك.
والكلمة الأخيرة في هذا الموضوع أن نقول لهذا المموه: (إذا
93

اعترفت أن هذا ضلال وابن تيمية لا يقول به، وإن هذا دس عليه، فلما
تصر على الاعتماد على هذه الكتب ". فارجع إلى الصواب والحق،
والزم العمل بالكتاب والسنة.
نصيحة
وأخيرا أوجه هذه الأسطر إلى كل من تشرب حب هذا الرجل في
قلبه، وعميت بصيرته عن قبول الحق أقول: ليس الحق يعرف بالرجال
ولكن الرجال يعرفون بالحق.
فنحن لسنا مبتكرين نسبة ذلك إلى ابن تيمية بل اتبعنا غيرنا من
الثقات فلا يكن عليك في هذا الأمر التباس ولا تصغ إلى هؤلاء
العصريين الذين لهم غرض دنيوي في تقديس هذا الرجل ومداهنة
أتباعه، ينفون الشئ الثابت للتعصب له ويثبتون الشئ الذي لا وجود
له في سبيل الدفاع عن هذا الرجل. وقد رأيت لمصري في عصرنا هذا
كلاما يفند فيه ما قاله الذهبي في ابن تيمية من تأنيب لابن تيمية. نفى
هذا المصري ثبوت هذا الشئ مع أنه نص في رسالة له سماها " بيان
زغل العلم والطلب " وهي مطبوعة على أن ابن تيمية متكبر ومزدر بالأكابر
حتى قال: " وما جرى عليه وعلى أتباعه إلا بعض ما يستحقون ".
ووصفه في هذه الرسالة بأنه خاض في الفلسفة فعاد مظلما مكسوفا.
وهذه الرسالة نقل منها الحافظ السخاوي في كتابه " الاعلان بالتوبيخ لمن
ذم التاريخ " في صحيفة 77. وهذا المصري جره مجرد هوى في الدفاع
عن ابن تيمية لأمر في نفسه من غير أن يكون له اطلاع على رسالة
الذهبي ولا على كتاب الحافظ السخاوي الذي نقل فيه كلام الذهبي في
هذه الرسالة في شأن ابن تيمية.
فارجع إلى صوابك وتفكر بعين التبصر بعيدا عن العصبية العمياء،
فإلى متى تبقى في جهلك وتقديسك لهذا الرجل، إلى متى تبقى مقلدا
94

أعمى، يقودك البريق الباهت إلى الحفر، أتبيع دينك بعرض من الدنيا.
أأنت أشد علما وحرصا وورعا من الحفاظ المعاصرين له، والفقهاء
الفحول، أتنتظر نزول ملائكة من السماء تقول لك فلان كذا وفلان كذا؟
ألم تسمع بالحديث الذي رواه البخاري: المؤمنون شهداء الله في الأرض
فإذا لم تقبل شهادة العدول الثقات فمن تقبل شهادتهم. فإن الحفاظ
الثقات من أهل عصره نقلوا عنه ما أوردنا في هذه الورقات. ويكفيك
كلام الحافظ السبكي الذي شبهه الصفدي بسفيان الثوري وكان - أي
الصفدي - تلميذا له ولابن تيمية، ثم إنه حبس بفتوى القضاة من
المذاهب الأربعة.
95

الرسالة الأولى
الدرة المضية في الرد على ابن تيمية
للحافظ المجتهد
تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي
المتوفى سنة 756 ه‍
97

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله ولو كره المشركون يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي نصر
دينه بالجلاد والجدال وتكفل لأمته أن لا يزالوا على الحق ظاهرين حتى
يقاتل آخرهم الدجال وعلى آله الطيبين وأصحابه الذين وصفهم بأنهم
أشداء على الكفار رحماء بينهم وألحق التابعين بإحسان في رضاه
بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد
ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد بعد أن كان مستترا بتبعية
الكتاب والسنة مظهرا أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة فخرج عن الاتباع
إلى الابتداع وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الاجماع وقال بما يقتضي
الجسمية والتركيب في الذات المقدس وإن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال
وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى وإن القرآن محدث تكلم الله به بعد
أن لم يكن وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب
المخلوقات وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم (والتزامه) بالقول بأنه
لا أول للمخلوقات فقال بحوادث لا أول لها فأثبت الصفة القديمة حادثة
99

والمخلوف الحادث قديما ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل
ولا نحلة من النحل فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي
افترقت عليها الأمة ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة، وكل ذلك وإن
كان كفرا شنيعا مما تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع فإن
متلقي الأصول عنه وفاهم ذلك منه هم الأقلون والداعي إليه من أصحابه
هم الأرذلون وإذا حوققوا في ذلك أنكروه وفروا منه كما يفرون من
المكروه، ونبهاء أصحابه ومتدينوهم لا يظهر لهم إلا مجرد التبعية للكتاب
والسنة والوقوف عندما دلت عليه من غير زيادة ولا تشبيه ولا تمثيل.
وأما ما أحدثه في الفروع فأمر قد عمت به البلوى وهو الافتاء في
تعليق الطلاق على وجه اليمين بالكفارة عند الحنث وقد استروح العامة
إلى قوله وتسارعوا إليه وخفت عليهم أحكام الطلاق وتعدى إلى القول بأن
الثلاث لا تقع مجموعة إذا أرسلها الزوج على الزوجة وكتب في المسألتين
كراريس مطولة ومختصرة أتى فيها بالعجب العجاب وفتح من الباطل كل
باب، وكان الله تعالى قد وفق لبيان خطئه وتهافت قوله ومخالفته لكتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وقد عرف ذلك خواص العلماء ومن
يفهم من عوام الفقهاء، ثم بلغني أنه بث دعاته في أقطار الأرض لنشر
دعوته الخبيثة وأضل بذلك جماعة من العوام ومن العرب والفلاحين وأهل
البلاد البرانية ولبس عليهم مسألة اليمين بالطلاق حتى أوهمهم دخولها في
قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) الآية وكذلك في قوله
تعالى (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فعسر عليهم الجواب وقالوا
هذا كتاب الله سبحانه وبقي في قلوبهم شبه من قوله حتى ذاكرني بذلك
بعض المشايخ ممن جمع علما وعملا وبلغ من المقامات الفاخرة الموصلة
إلى الآخرة أملا ورأيته متطلعا إلى الجواب عن هذه الشبهة وبيان الحق
في هذه المسألة على وجه مختصر يفهمه من لم يمارس كتب الفقه ولا
ناظر في الجدل فكتبت هذه الأوراق على وجه ينتفع به من نور الله قلبه
100

وأحب لزوم الجماعة وكره تبعية من شذ من الشياطين وبالله أستعين وعليه
توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل.
وقد رتبت الكلام على ثلاثة فصول: الفصل الأول في بيان حكم
هذه المسألة.
الفصل الثاني: في كلام إجمالي يدفع الاستدلال المذكور.
الفصل الثالث: في الجواب عن ذلك الاستدلال بخصوصه
تفصيلا.
الفصل الأول
اعلم أن الطلاق يقع على وجه محرم ويسمى طلاق البدعة كالطلاق
في الحيض، وعلى وجه غير محرم ويسمى الطلاق السني، وقد أجمعت
الأمة على نفوذ الطلاق البدعي كنفوذ السني إلا ما يحكى في جمع
الثلاث على قولنا إنه بدعي فإذا طلق امرأته على الوجه المنهي عنه وهذا
ليس فيه بين الأمة خلاف يعتبر إلا أن الظاهرية الذين يخالفون الاجماع
في مسائل من الطلاق وغيره خالفوا في هذه المسألة وهم محجوجون
بالإجماع والحديث فقد طلق ابن عمر رضي الله عنهما امرأته وهي حائض
فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى
تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس
فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وهو في الصحيحين وفي لفظ
قال ابن عمر فطلقها وحسبت لها التطليقة التي طلقها وهو في الصحيح مع
أن أهل الظاهر يقولون لو طلقها في الحيض ثلاثا نفذ وكذلك لو طلقها في
طهر مسها فيه، والقصد أن الطلاق في الحيض على وجه البدعة نافذ
على ما دل عليه الحديث المذكور، وما ورد في بعض روايات هذا
101

الحديث أن عبد الله بن عمر قال فردها علي ولم يرها شيئا متأول عند
العلماء ومحمول على معنى الرواية الأخرى وقد ثبت عن ابن عمر رضي
الله عنهما من غير وجه الاعتداد بتلك الطلقة وانفاذها عليه وقد قال الله
سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم النساء
فطلقوهن لعدتهن) يعني لقبل عدتهن وقد قرئ كذلك والمراد أن يوقع
الطلاق على وجه تستقبل المرأة العدة بعده وإذا وقع الطلاق في الحيض
لم تعتد المرأة بأيام بقية الحيض من عدتها فتطول عليها العدة وقبل ليطلق
في الطهر فربما كان الطلاق في الحيض لعدم حل الوطء فيه وقد جاء في
بعض ألفاظه هذا الحديث " فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء "
يعني في هذه الآية فقد دل الكتاب والسنة على أن الطلاق في الحيض
محرم ومع ذلك فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بنفوذه والاعتداد به وإن كان قد
خالف الوجه الذي شرع الطلاق فيه فرأينا الشرع أوقع بدعة الطلاق كما
أوقع سنته وما ذلك إلا لقوة الطلاق ونفوذه وكذلك إذا جمع الطلقات
الثلاث في كلمة فهو مخالف لوجه السنة في قول جماعة من السلف بل
أكثرهم ومع ذلك يلزمونه الثلاث، وقد أتى ابن العباس رجل فقال إن
عمي طلق امرأته ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه الله ولم يجعل له
مخرجا، وعن أنس قال كان عمر رضي الله عنه إذا أتى برجل طلق امرأته
ثلاثا في مجلس واحد أوجعه ضربا وفرق بينهما، وعن عمران بن حصين
رضي الله عنه أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس قال: أثم
وحرمت عليه امرأته، وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما قال من طلق
امرأته ثلاثا فقد عصى ربه وبانت منه امرأته. فهذه أقوال الصحابة في إثم
من جمع الطلقات الثلاث لمخالفته السنة ومع ذلك يوقعونها عليه وما ذلك
إلا لقرة الطلاق ونفوذه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد
النكاح والطلاق والرجعة " فجعل هزل الطلاق جدا ولم نعرف بين الأمة
خلافا في إيقاع طلاق الهازل وما ذلك إلا لأنه أطلق لفظ الطلاق مريدا
معناه ولكنه لم يقصد حل قيد نكاح امرأته بذلك ولا قصد إيقاع الطلاق
102

عليها بل هزل ولعب ومع ذلك فلم يعتبر الشارع قصده وإنما ألزمه موجب
لفظه الذي أطلقه وواخذه به وما ذلك إلا لقوة الطلاق ونفوذه.
ثم إن الطلاق يكون منجزا ويكون معلقا على شرط فالمنجز كقوله
أنت طالق والمعلق كقوله إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق وإن دخلت الدار
فأنت طالق، وقد أجمعت الأمة على وقوع المعلق كوقوع المنجز فإن
الطلاق مما يقبل التعليق، لم يظهر الخلاف في ذلك إلا عن طوائف من
الروافض، ولما حدث مذهب الظاهرية المخالفين لإجماع الأمة
المنكرين للقياس خالفوا في ذلك فلم يوقعوا الطلاق المعين ولكنهم قد
سبقهم إجماع الأمة فلم يكن قولهم معتبرا لأن من خالف الاجماع لم
يعتبر قوله وقد سبق إجماع الأمة على وقوع الطلاق المعلق قبل حدوث
الظاهرية، وإنما اختلف العلماء إذا علق الطلاق على أمر واقع أو مقصود
كقوله إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق هل يتنجز الطلاق من حين علق ولا
يتأخر إلى وقوع الشرط وهو مجئ رأس الشهر أو يتأخر إلى مجئ رأس
الشهر فيه قولان للعلماء مشهوران لأنه لما علق على شرط واقع فقد قصد
إيقاع الطلاق ورضي به فتنجز من وقته، وهذا ابن تيمية لم يخالف في
تعليق الطلاق وقد صرح بذلك فليس مذهبه كمذهب الظاهرية في منع
نفوذ الطلاق المعلق. ثم إن الطلاق المعلق منه ما يعلق على وجه اليمين
ومنه ما يعلق على غير وجه اليمين، فالطلاق المعلق على غير وجه اليمين
كقوله إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق أو أن أعطيتني ألفا فأنت طالق،
والذي على وجه اليمين كقوله إن كلمت فلانا فأنت طالق أو إن دخلت
الدار فأنت طالق وهو الذي يقصد به الحث أو المنع أو التصديق فإذا علق
الطلاق على هذا الوجه ثم وجد المعلق عليه وقع الطلاق وهذه المسألة
التي ابتدأ ابن تيمية بدعته وقصد التوصل بها إلى غيرها أن تمت له وقد
اجتمعت الأمة على وقوع الطلاق المعلق سواء كان على وجه اليمين أو لا
على وجه اليمين هذا مما لم يختلفوا فيه وإجماع الأمة معصوم من الخطأ
وكل من قال بهذا من العلماء لم يفرق بين المعلق على وجه اليمين أولا
103

على وجه اليمين بل قالوا الكل يقع وقد لبس ابن تيمية بوجود خلاف في
هذه المسألة وهو كذب وافتراء وجرأة منه على الإسلام وقد نقل إجماع
الأمة على ذلك أئمة لا يرتاب في قولهم ولا يتوقف في صحة نقلهم.
فممن نقل ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه وناهيك به فإنه الإمام
القرشي الذي يملأ طبق الأرض علما، وثناء إمام هذا المبتدع الذي
ينتسب إليه وهو برئ من بدعته - وهو الإمام أحمد رضي الله عنه -
على الشافعي معروف وتبعيته له ومشيه في ركابه وأخذه عنه مشهور، وممن
نقل الاجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد وهو من أئمة الاجتهاد
كالشافعي وأحمد وغيرهما وكذلك نقله أبو ثور وهو من الأئمة أيضا، وكذلك
نقل الاجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من
أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الاجماع الإمام
أبو بكر بن المنذر ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد
ابن نصر المروزي ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه
" التمهيد " و " الإستذكار " وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا
ونقل الاجماع الإمام ابن رشد في كتاب " المقدمات، له ونقله الإمام
الباجي في " المنتقى " وغير هؤلاء من الأئمة، وأما الشافعي وأبو حنيفة
ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة بل كلهم نصوا على وقوع
الطلاق وهذا مستقر بين الأمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها فإن نص
على وقوع الطلاق ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الإيمان
إلى تكفر ولا تدخل فيها الكفارة وذكر العتق وذكر الأثر الذي استدل به
ابن تيمية فيه وهو خبر ليلى بنت العجماء الذي بنى ابن تيمية حجته علية
وعلله ورده وأخذ بأثر آخر صح عنده وهو أثر عمان بن حاضر وفيه فتوى
ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر رضي الله عنهم بإيقاع العتق على
الحانث في اليمين به ولم يعمل بأثر ليلى بنت العجماء ولم يبق في
المسألة إلباسا رضي الله عنه بل كان قصده الحق، وإذا كانت الأمة
مجمعة على وقوع الطلاق لم يجز لأحد مخالفتهم فإن الاجماع من أقوى
104

الحجج الشرعية وقد عصم الله هذه الأمة عن أن تجتمع على الخطأ فإن
إجماعهم صواب، وقد أطلق كثير من العلماء القول بأن مخالف إجماع
الأمة كافر وشرط المفتي أن لا يفتي بقول يخالف أقوال العلماء المتقدمين
وإذا أفتى بذلك ردت فتواه ومنع من أخذ بقوله، ودل الكتاب والسنة على
أنه لا يجوز مخالفة الاجماع قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد
ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم
وساءت مصيرا) فقد توعد على مخالفة سبيل المؤمنين واتباع غير سبيلهم
بهذا الوعيد العظيم، ومخالف إجماع الأمة متبع غير سبيل المؤمنين
فكيف يعتبر قوله، وقال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا
شهداء على الناس) والوسط الخيار والشهداء على الناس العدول عليهم
فلا يجتمعون على الخطأ، وقال تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وهذا يدل على أن مجموعهم
يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر فلوا أجمعوا على الخطأ لأمروا
ببعض المنكر ونهوا عن بعض المعروف ومحال أن يتصفوا بذلك وقد
وصفهم الله بخلافه، وقد ورد في الأحاديث ما يدل مجموعه على عصمة
جماعتهم لهن عن الخطأ والضلال والمسألة مبسوطة مقررة في موضعها والقصد
هنا أن الأمة مجتمعة على وقوع هذا الطلاق فمن خالفهم فقد خالف
الجماعة وخالف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بلزوم الجماعة وكان الشيطان معه فإن
الشيطان مع الواحد.
ثم إن هذا المبتدع ابن تيمية ادعى أن هذا القول قال به طاوس
واعتمد على نقل شاذ وجده في كتاب ابن حزم الظاهري " عن مصنف
عبد الرزاق " ولم ينقل هذا القول عن أحد بخصوصه في الطلاق إلا عن
طاوس كما ذكر وعن أهل الظاهر، أما طاوس فقد صح النقل عنه بخلاف
ذلك وقد أفتى بوقوع الطلاق في هذه المسألة ونقل ذلك عنه بالسند
الصحيح في عدة مصنفات جليلة منها كتاب " السنن " لسعيد بن منصور
105

ومنها " مصنف عبد الرزاق " الذي ادعى المخالف أن النقل عنه بخلاف
ذلك وقد وضح كذبه في هذا النقل فإن المنقول في مصنف عبد الرزاق
طاوس إنما ذكره عبد الرزاق في طلاق للمكره فلبس ابن حزم الظاهري
النقل وتبعه هذا المبتدع، وعن كلام طاوس لو صح عنه أجوبة كثيرة غير
هذا مبينة في كتابنا (الرد على ابن تيمية) وأما أهل الظاهر فيقولون إن
الطلاق المعلق كله لا يقع ولم يقل ابن تيمية بذلك وهم مخالفون
للإجماع لا يعتبر قولهم، ويقولون إن الطلاق المعلق على وجه اليمين لا
كفارة فيه ولم يقل ابن تيمية بذلك فهو مخالف لهم في بدعته متمسك
بقولهم الذي لا يعتبر، وقد قال ابن حزم إن جميع المخالفين له لا
يختلفون في أن اليمين بالطلاق والعتق لا كفارة في حنثه بل إما الوفاء
بالمحلوف عليه أو باليمين.
وقال هذا المبتدع إن هذه المسألة لم يتكلم فيها الصحابة لأنه لم
يكن يحلف بالطلاق في زمانهم: ثم بعد هذا القول نسب إلى الصحابة
رضوان الله عليهم أنهم يقولون بقوله فكذب أولا وآخرا أما كذبه أولا
فلأنه قال إن الصحابة لم تتكلم في هذه المسألة وليس كذلك ففي
صحيح البخاري فتوى ابن عمر رضي الله عنهما بالإيقاع قال البخاري قال
نافع طلق رجل امرأته البتة إن خرجت فقال ابن عمر إن خرجت فقد بنت
منه وإن لم تخرج فليس بشئ وهذه فتوى ظاهرها في هذه المسألة بإيقاع
الطلاق البتة إن خرجت وهو وقوع المعلق عليه وبه يحصل الحنث فأوقع
ابن عمر الطلاق على الحالف به عند الحنث في يمينه، ومن مثل ابن
عمر رضي الله عنهما في دينه وعلمه وزهده وورعه وصحة فتاويه، ولا
يعرف أحد من الصحابة خالف ابن عمر في هذه الفتوى ولا أنكرها عليه،
وقد قضى علي رضي الله عنه في يمين بالطلاق بما يقتضي الايقاع فإنهم
رفعوا الحالف إليه ليفرقوا بينه وبين الزوجة بحنثه في اليمين فاعتبر القضية
106

فرأى فيها ما يقتضي الاكراه فرد الزوجة عليه لأجل الاكراه وهو ظاهر في
أنه يرى الايقاع لولا الاكراه، وفي " سنن البيهقي " بسند صحيح عن ابن
مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته إن فعلت كذا وكذا فهي طالق
ففعلته قال هي واحدة وهو أحق بها فأوقع الطلاق واحدة عند الحنث
بمقتضى اللفظ ولم يوجب كفارة، ومن مثل عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم (كنيف ملئ علما " وقال " من أراد أن يقرأ
القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد " ولم يخالفه أحد من
الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، وقول الصحابة حجة شرعية في قول
جمهور العلماء وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أنهم كالنجوم يهتدى بهم فلا هدي أتم
من هديهم، وأما كذبه ثانيا فلأنه قال لم يكن يحلف بالطلاق في عهد
الصحابة وهذه وقائع فيها الحلف بالطلاق ونقلت أيضا حكومة أخرى
وقعت عند علي رضي الله عنه في رجل حلف بالطلاق أنه لا يطأ امرأته
حتى يعظم ولده بل نقل عن بعض الصحابة أنه حلف بالطلاق وهو أبو ذر
رضي الله عنه لما سألته امرأته عن الساعة التي يستجاب الدعاء فيها يوم
الجمعة وأكثرت فقال لها زيغ الشمس يشير إلى ذراع فإن سألتني بعدها
فأنت طالق فحلف عليها بالطلاق أن لا تعاود المسألة، وفي ذلك آثار
كثيرة غير هذا مذكورة في المصنف المبسوط، وأما كذبه آخرا فلأنه نسب
إلى الصحابة رضوان الله عليهم القول بأن الطلاق لا يقع وأنه تجب
الكفارة مع اعترافه أن ذلك لم يقع في عهدهم وهذه مكابرة قبيحة وكذب
صريح وقد قالت عائشة رضي الله عنها كل يمين وأن عظمت ليس فيها
طلاق ولا عتاق ففيها كفارة يمين فاستثنت يمين الطلاق ويمين العتاق من
الكفارة، وهذا الأثر نقله ابن عبد البر في " التمهيد " وفي " الإستذكار "
بهذا اللفظ مسندا، ونقله هذا المبتدع فأسقط منه قولها ليس فيها طلاق
طلاق ولا عتاق ليوهم أن عائشة رضي الله عنها تقول بالكفارة في يمين
الطلاق والعتق فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون فهذا
عصر الصحابة لم ينقل فيه إلا الافتاء بالوقوع وأما التابعون رضي الله عنهم
107

فأئمة العلم منهم معدودون معروفون وهم الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم
ولم ينقل هذا المبتدع عن أحد منهم بعينه نصا في هذه المسألة غير ما
نسبه إلى طاوس مع أنه يدعي إجماعهم على قوله مكابرة كما فعل في
الصحابة، وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة " كجامع عبد الرزاق "
و " مصنف ابن أبي شيبة " و " سنن سعيد بن منصور " والسنن الكبرى
للبيهقي " وغيرها فتاوى التابعين أئمة الاجتهاد وكلهم بالأسانيد الصحيحة
أنهم أوقعوا الطلاق بالحنث في اليمين ولم يقضوا بالكفارة وهم: سعيد
بن المسيب أفضل التابعين والحسن البصري وعطاء والشعبي وشريح
وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وقتادة والزهرة وأبو مخلد والفقهاء السبعة
فقهاء المدينة وهم: عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر
وعبيد الله بن عبد الله بن عتبرة بن مسعود وخارجة بن زيد وأبو بكر بن
عبد الرحمن وسالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار، وهؤلاء إذا
أجمعوا على مسألة كان قولهم مقدما على غيرهم، وأصحاب ابن مسعود
السادات وهم: علقمة والأسود ومسروق وعبيدة السلماني وأبو وائل شقيق
بن سلمة وطارق ابن شهاب وزر بن حبيش وغير هؤلاء من التابعين مثل
ابن شبرمة وأبو عمرو الشيباني وأبو الأحوص وزيد بن وهب والحكم وعمر
بن عبد العزيز وخلاس بن عمرو كل هؤلاء نقلت فتاويهم بإيقاع الطلاق
لم يختلفوا في ذلك، ومن هم علماء التابعين غير هؤلاء، فهذا عصر
الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون بالإقاع ولم يقل أحد أن هذا مما
يجري به الكفارة، وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة
كلها تشهد بصحة هذا القول كأبي حنيفة وسفيان الثوري ومالك والشافعي
وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر وابن جرير الطبري وهذه
مذاهبهم منقولة بين أيدينا ولم يختلفوا في هذه المسألة فإذا كان الصدر
الأول وعصر الصحابة رضي الله عنهم وعصر التابعين لهم بإحسان بعدهم
وعصر تابعي التابعين لم ينقل عنهم خلاف في هذه المسألة، وهذا
المبتدع يسلم أن بعد هذه الأعصار الثلاثة لم يقل أمام مجتهد بخلاف
108

قولنا فكيف يسوغ مخالفة قول استقر من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الآن بقول
مبتدع يقصد نقض عرى الإسلام ومخالفة سلف الأمة، أكان الحق قد
خفي عن الأمة كلها في هذه الأعصار المتتابعة حتى ظهر هذا الزائغ بما
ظهر به هيهات هيهات وهذا واضح لذوي البصائر وأرباب القلوب المنورة
بنور اليقين أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل
للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ولكن قد عميت البصائر
والناس سراع إلى الفتنة راغبون في المحدثات وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل
محدثة ضلالة ".
الفصل الثاني
في كلام إجمالي يدفع الاستدلال المذكور
وذلك أن الناس على قسمين: عالم مجتهد متمكن من استخراج
الأحكام من الكتاب والسنة أو عامي مقلد لأهل العلم، ووظيفة المجتهد
إذا وقعت واقعة أن يستخرج الحكم فيها من الأدلة الشرعية ووظيفة العامية
أن يرجع إلى قول العلماء، وليس لغير المجتهد إذا سمع آية أو حديثا أن
يترك به أقوال العلماء فإنه إذا رآهم قد خالفوا ذلك مع علمهم به علم
أنهم إنما خالفوه لدليل دلهم على ذلك وقد قال الله تعالى (فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقال (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي
الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) وللمفسرين في الآية كلام ليس
هذا موضع ذكره والقصد أن غير العالم المجتهد ولا سيما العوام إذا
سمعوا آية فيها عموم أو إطلاق لم يكن لهم أن يأخذوا بذلك العموم أو
الاطلاق إلا بقول العلماء ولا يعمل بالعمومات والإطلاقات إلا من عرف
الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين
109

والحقيقة والمجاز فإذا سمع قوله تعالى (أو مما ملكت أيمانكم) وأخذ
بعمومه في الجمع بين الأختين المملوكتين كان مخطئا فإذا سمع معه قوله
تعالى (وأن تجمعوا بين الأختين) قال هذا يعم الأختين المملوكتين
والمنكوحتين فيتحير بأي العمومين يعمل فإذا سمع قول عثمان رضي الله
عنه: أحلتها آية وحرمتها آية والتحريم أولى علم أن العمل على دليل
التحريم وله ترجيحات أخر غير هذا يعرفها العلماء فيعلم العامي أنه لا
يمكنه الاستقلال بأخذ الحكم من الكتاب وكذلك إذا سمع الأدلة الدالة
على تحريم اللواط والتأكيد وسمع قوله تعالى (أو ما ملكت أيمانكم)
فقد يخطر له أن هذا يقتضي حل المملوك، وقد خطر ذلك لبعض
الجهال فإذا أخذ بهذا العموم ضل، وقد قال بعض أصحاب الشافعي
رضي الله عنه إن من تأول هذا التأويل سقط عنه الحد وأخطأ في هذا
القول خطأ عظيما، وكذلك إذا سمع أن قائلا قال يحل وطأ الزوجة في
الدبر مستندا إلى قوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى
شئتم) ظن ذلك صحيحا وأن القرآن دل على حل ذلك وهو مخطئ لأن
هذا القول شاذ يقال إنه رواية عن مالك ولم يصح والمالكية ينكرونه وصح
عن مالك تحريم ذلك والآية دالة على التحريم بخلاف ما يظن الجهال
فإن الحرث لا يكون إلا في موضع البذر، والحديث الصحيح في سبب
نزول الآية يوضح المعنى وهو أن اليهود كانوا يقولون أن الرجل إذا أتى
امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية (نساؤكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) أي كيف شئتم، وفي الحديث
الصحيح " في صمام واحد " وفي لفظ " غير أن لا تأتوا في غير المأتي "
فإذا لم يجمع الإنسان بين الأدلة وبين الكتاب والسنة ويعرف سبب نزول
الآية ومحملها لا ينبغي أن يأخذ بظاهر من فهمه لا يعرف ما وراءه، وإذا
سمع العامي الحديث " من شرب الخمر فاجلدوه " إلى أن قال في الرابعة " فإن
شربها فاقتلوه " فعمل به وقتل الشارب في الرابعة كان مخطئا لأن الأمة
أجمعت على ترك العمل بهذا الحديث وكذلك إذا سمع حديث ابن عباس
110

رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين
في المدينة من غير خوف ولا مطر وقد رواه مسلم من طرق عدة. فيقول
العامي بهذا الحديث ولا يعلم أن الأمة أجمعت على ترك العمل به، إلا
ما يروى عن ابن سيرين أنه يجوز الجمع في الحضر للحاجة، وقد روى
أبو العالية أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله
عنه: وأعلم أن جمع ما بين الصلاتين من الكبائر إلا من عذر، وقد
أخرج هذين الحديثين الترمذي وقال في آخر كتاب: ليس في كتابي هذا
حديث ترك العمل به بالإجماع سوى حديثين فذكر هذين الحديثين،
وكذلك حديث ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
وصدر من خلافة عمر الثلاث واحدة فلما رآهم عمر قد تتابعوا فيه قال
أجيزوهن عليهم، وهذا الحديث متروك الظاهر بالإجماع ومحمول عند
العلماء على معان صحيحة، وقد صحت الرواية عن ابن عباس بخلافه
من وجوه عدة فإذا سمعه العامي وحده وقف عنده ولم يعلم أنه معارض
بما يدفعه ومردود الظاهر بإجماع الأمة، وأحاديث المتعة صحيحة وقد
صح فعلها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصح النهي عنها فأبيحت مرتين ونسخت
مرتين فإذا سمع العامي الأحاديث الصحيحة بإباحتها ظن أنها مباحة ولم
يعلم أن ذلك نسخ، وقد وقع هذا للمأمون وهو خليفة فنادى بتحليل
المتعة فدخل، عليه القاضي يحيى ابن أكثم وقال له أحللت الزنا وعرفه
الحديث الصحيح في النسخ ولم يكن سمعه فنادى من وقته بتحريم
المتعة، وحديث قدامة بن مظعون رضي الله عنه صحيح وكان قد شرب
الخمر فرفع الأمر إلى عمر رضي الله عنه فاعترف وذكر أنه إنما شربها
متأولا قوله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فما
طعموا) فرد عليه عمر وقال أخطأت التأويل ألم يقل الله سبحانه (إذا ما
اتقوا وآمنوا) ولم يجعل تأويله موجبا لإسقاط الحد بل حده لأنه لم
يستنبط الحكم استنباطا صحيحا ولكنه أخذ بعموم نفي الجناح في كل
111

مطعوم وغفل عن القيد المخصص وهو قوله (إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا
الصالحات) إلى آخر الآية، وهذا يوضح أن العمل بالعموم بمجرده من
غير نظر في أدلة التخصيص والتقييد خطأ من العامل به، وأمثلة ذلك
كثيرة لا نطيل بذكرها، والآية التي احتج بها هذا المبتدع وهي قوله تعالى
(ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) إلى آخر الآية والآية
الأخرى وهي قوله تعالى (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) إذا سمعها
العامي يظن دخول يمين الطلاق في ذلك وقال هي يمين والله جعل في
كل يمين كفارة واعتقد صحة قول هذا المبتدع وتلبس عليه باطله فإذا
اعترف أنه لا ينبغي له أن يعمل بالعموم حتى يعرف هل له مخصص
ويعرف ما يعارضه من الأدلة فوض الأمر إلى أهله وعلم أن فوق كل ذي
علم عليم، وكذلك لا ينبغي أن يأخذ بأدلة الكتاب حتى يعلم ما في
السنة مما يبينه أو يخصصه أو يقيده قال الله تعالى (وأنزلنا إليك الكتاب
لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال صلى الله عليه وسلم " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته
يأتيه الأمر من أمري فيقول لا أدري ما سمعنا في كتاب الله اتبعناه "
الحديث، والحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له
ويطيعوا فأغضبوه في شئ فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا له ثم قال
أوقدوا لي نارا فأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول إليه صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي
وتطيعوا قالوا بلى قال فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار
فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لو دخلوها لم يخرجوا منها
أبدا " وقال: " لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف " ولم
يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأخذ بإطلاق قوله " اسمعوا له وأطيعوا " لما دلت
الأدلة على أن الطاعة إنما تكون فيما وافق الحق ولا طاعة في المعصية
مع أنهم قد لا يكونون ممن سمع لك الأدلة فإن الممتنعين من الدخول
فيها لم يأخذوا إلا بأنهم إنما أسلموا ليسلموا من النار فكيف يؤمرون
112

بالدخول فيها فقيدوا إطلاق الأمر بالسمع والطاعة بدليل قياسي ومع عدم
علمهم بتلك الأدلة لم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بل حكم باستمرارهم بالنار لو
دخلوها لتقصيرهم في البحث عن الأدلة في محل الإشكال فمن لم يعرف
الكتاب والسنة وأقوال الأئمة لم يكن له أن يقف عند دليل يسمعه من غير
إمام يرشده وقد نقل عن جماعة من الأئمة أنه ليس في القرآن عموم إلا
وقد دخله التخصيص إلا قوله تعالى (والله بكل شئ عليم) وقوله تعالى
(كل شئ هالك إلا وجهه) إذا أريد بالوجه الذات والصفات المقدسة
حتى قالوا في قوله (خالق كل شئ) ليس محمولا على عمومه بل هو
مخصوص فإن الله سبحانه شئ وليس مخلوقا تعالى عن ذلك، وفي هذا
ومثله كلام لا يليق بهذا الموضع فعلمنا من ذلك أن قوله تعالى (ولكن
يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) الآية وقوله (قد فرض الله لكم تحلة
أيمانكم) لا يعمل بعمومه حتى ننظر فيما يخصصه أو يعارضه من كتاب
أو سنة فإذا تحقق المراد منه وأي مخرج خرج نبين ما فيه من الدليل أو
عدمه، ولكن هذا المبتدع قصده الترويج على العوام ومن لا يعرف
شروط الأدلة وكيفية استخراج الحكم ويهول عليهم بقوله هذا نص القرآن
وهذا قول الله فتنخلع أفئدتهم لقوله ولا يعلمون ما وراء ذلك.
الفصل الثالث
في الجواب عن استدلاله بالآيتين المذكورتين
على وجه التفصيل
أما الآية الأولى وهي قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط
113

ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة
أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم
آياته لعلكم تشكرون) وإنما يتم الاستدلال بها إذا تبين دخول يمين
الطلاق في عموم قوله (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) ولم يكن لذلك
معارض يمنع دخولها فيه والكلام على هذه الآية يلتفت على الكلام على
الآية الأخرى في سورة البقرة قال الله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة
لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناص والله سميع عليم لا
يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله
غفور حليم) وللمفسرين في معنى قوله تعالى (ولا تجعلوا الله عرضة
لأيمانكم أن تبروا) قولان: أحدهما أن المراد لا تجعلوا اليمين بالله
تعالى متعرضة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فتحلفوا لا
تفعلوا ذلك فتبقى اليمين متعرضة بين الحالف وبين البر والتقوى فنهاهم
الله عن اليمين على ذلك ثم شرع لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع
ليكون طريقا لحالف إلى الرجوع إلى البر والتقوى والإصلاح، ولهذا قال
النبي صلى الله عليه وسلم (إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن
يمين وأتيت الذي هو خير " والقول الثاني: " إن المراد لا تجعلوا اسم
الله عرضة لأيمانكم فتبتذلوه بالحلف به في كل شئ وقوله (أن تبروا)
معناه إرادة أن تبروا يعني إذا لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على
البر، ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة
الاسم المعظم ولا شك أن اليمين بالله تعالى مراده في الآيتين هي اليمين
الشرعية وهي التي شرعت الكفارة فيها أصلا فالحالف يعقد اليمين بالله
على أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا فإذا قال: والله لا أفعل أو والله
لأفعلن فقد أكد عقده بهذا الاسم المعظم كأنه يقول: إن فعلت كذا فقد
خالفت، موجب تعظيم ما عقدت به اليمين من الاسم المعظم ولست
معظما له حق تعظيمه، هذا موضوع اليمين فإذا عقدها على الوجه ثم
خالف موجبها وحنث فقد لزمه ما ألزم نفسه من انتهاك حرمة الاسم
114

بالمخالفة فجعل الله سبحانه الكفارة جابرة لهذا الأمر الذي ألزمه نفسه
تعظيما لاسمه المستحق للتعظيم وهذا أمر لا يستحقه غير الله عز وجل فلا
يشاركه غيره فيه، ولهذا نهي عن الحلف بغير الله عز وجل، ونقل ابن
عبد البر إجماع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا
يجوز لأحد الحلف بها ومن ههنا قال أهل الظاهر: لا كفارة إلا في
اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته ولا تجب الكفارة في يمين غير ذلك،
وممن قال بهذا القول الشعبي والحكم والحارث العكلي وابن أبي ليلى
ومحمد بن الحسن نقله ابن عبد البر وقال هو الصواب عندنا والحمد لله.
وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيمان غيرها لكن على سبيل
الالحاق بها لوجود علة وجوب الكفارة عندهم، هذه أقوال المعتبرين من
العلماء، وقد شذ بعضهم بأقوال لا يعرج عليها ولا يتأتى بيان ذلك إلا
بتفصيل أنواع الأيمان وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى، هذا مع اتفاق
العلماء كلهم على أمرين، أحدهما أن يمين الطلاق لا كفارة فيها ولو قلنا
هي يمين، والثاني: أن عموم الآية مخصوص فلا تجب الكفارة في كل
ما يطلق عليه اسم اليمين. لغة، وإذا كانت الكفارة لا تجب في، كل ما
يسمى يمينا في اللغة لم تبق الآية الكريمة مجراة على عمومها، وحينئذ
فالآية إما محمولة على اليمين الشرعية أو على اليمين اللغوية والحمل على
الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء فإذا كان للفظ معنى
في اللغة ومعنى في الشرع أما يقاربه وأما يباينه ووجدنا ذلك اللفظ في
خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع فإن تعذر حملناه على معناه
في اللغة والعرف، وههنا في الآية زيادة وهي أن الحمل فيها على
الموضوع اللغوي يوجب تخصيص عمومها والحمل على المعنى الشرعي
قد لا يوجب ذلك وما سلم من التخصيص أو كان أقل تخصيصا كان أولى
فيتعين حمل الأيمان في الآية الكريمة على المعنى الشرعي، واليمين
الشرعية هي ما شرع الحلف به أو لم يكره شرعا ولم يحرم، وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " وهو في
115

الصحيحين، وفي لفظ لمسلم " من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله "
وكانت قريش تحلف بآبائها فقال (لا تحلفوا بآبائكم) وفي سنن النسائي
من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا
وأنتم صادقون " فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يمين بغير الله عز وجل وما نهى
عنه لم يكن شرعيا ولا فرق بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من
الأسماء الحسنى والصفات العليا والكل شرعي ينعقد فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
يحلف فيقول " لا ومقلب القلوب " وفي حديث صفة الجنة أن جبريل قال
وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ولما حلف الصحابة بالكعبة قال
لهم النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا ورب الكعبة " فكل هذه أيمان شرعية لأن المعنى
في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه
لا يليق بغير الله عز وجل فبأي اسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من
صفاته حلف لم يكن معظما لغير الله تعالى فإذا كانت اليمين الشرعية هي
اليمين بالله عز وجل وصفاته كانت الآية محمولة على ذلك فدلت الآية
على أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته يوجب
الكفارة عند الحنث لأن اللفظ شرعي فيحمل على المعنى الشرعي وتكون
الآية على عمومها في كل الأيمان الشرعية فلا تكون الآية دالة على
إيجاب الكفارة في شئ من الأيمان سوى الأيمان الشرعية وهي الأيمان
بالله وبأسمائه وصفاته، ولا تدخل اليمين بالطلاق ولا غيرها في ذلك.
ثم إن العلماء رأوا أن بعض الأيمان ملحق باليمين بالله تعالى في
إيجاب الكفارة فألحقوه بذلك لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لأجله
فيها وعند هذا اختلف نظرهم فمنهم من يلحق أنواع كثيرا ومنهم من
يلحق أقل من ذلك على اختلاف نظرهم واجتهادهم ويوجد هذا الاختلاف
للصحابة والتابعين ومن بعدهم فنتكلم فيما وعدنا به من تفصيل الأيمان
التي جوز فيها العلماء المعتبرون الكفارة ثم نتكلم على الطلاق والعتاق
فمنها النذر الذي يسمى نذر اللجاج والغضب والغلق وقد قيل فيه بالوفاء
116

وقيل بالكفارة على وجه التخيير فاعلم أن النذر في أصله قربة ووضعه
الأصلي أن يعلق التزام قربة على مطلوب يريده أما جلب نعمة أو دفع
نقمة كقوله: إن شفى الله مريضي فلله علي صوم شهر أو إن رد الله تعالى
الغائب فلله علي أن أتصدق بكذا، وهذا نذر شرعي ويسمى عند الفقهاء
نذر التبرر والوفاء اللازم فإذا حصل ما طلبه وهو المعلق عليه وجب عليه
الوفاء بما نذر ولا تجزئة في ذلك كفارة يمين، هذا أصل الباب ووضعه
في الشرع فإن التزم قربة على غير مطلوب كقوله: لله علي أن أصوم كذا
أو أن أتصدق بكذا فهل يسمى هذا نذرا فيه خلاف وأكثر العلماء على أنه
نذر يجب الوفاء به، ولكن أصل الباب هو التعليق، ثم إن الناس توسعوا
في ذلك فصاروا يعلقون لزوم القربة على ما يريدون الحث عليه أو المنع
منه كقول القائل: إن كلمت فلانا فعلي صوم شهر وإن لم أعط فلانا كذا
فعلي صدقة وما أشبه ذلك فهذا تعليق قربة على أمر يطالب وقوعه أو المنع
منه فهو تعليق قربة على مطلوب فمن هذا الوجه هو نذر يشبه نذر التبرر
لما فيه من صريح التعليق للقربة على مطلوب وفي معناه شبه اليمين من
جهة أنه لا على التزام القربة على وجه التقرب بل قصد حث نفسه أو
منعها بما علق من لزوم القربة التي إن خالف ولم يلتزمها عند وقوع
الشرط فقد ترك حق الله ولم يقم به ولم يعظمه حق تعظيمه فصار ذلك
في المعنى كقول القائل: والله لأفعلن أو والله لا أفعل فإن معنى كلامه
إني إن فعلت فقد خالفت ما عقدت به قولي من الاسم المعظم فلست
معظما له حق تعظيمه فصار في هذا النذر شبه من اليمين في المعنى وهو
بلفظ النذر لأجل الذي يجب الوفاء به، وقد مدح الله قوما على الوفاء
بالنذر فقال تعالى (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) وذم
النبي صلى الله عليه وسلم قوما على ترك الوفاء بالنذر فقال في حديث عمران بن حصين
وهو في الصحيح " خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال
عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن من بعدهم قوما
يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر
117

فيهم السمن " وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن
يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " وهو حديث صحيح
فأوجب أولا الوفاء وهذا قول مالك رضي الله عنه في المشهور عنه ومن
تبعه وقول ربيعة وإحدى الروايات عن أبي حنيفة وقد روي عن ابن عمر
رضي الله عنهما أنه قال بوجوب الوفاء روى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى
الهيثم بن سنان أنه سمع ابن عمر وسأله بعض أهله أنه كسى امرأته كسوة
فسخطتها فقالت إن لبستها في رتاج الكعبة قال ابن عمر لتجعل مالها في
رتاج الكعبة قال إنما مالها في الغنم والإبل قال ابن عمر: لتبع الغنم
والإبل في رتاج الكعبة، وروي عن أنس رضي الله عنه مثل ذلك عن
مالك بن دينار وأن امرأة أتته فقالت إن زوجها كساها كسوة وإنها غضبت
فجعلتها هدية إلى بيت الله إن لبستها قال فانطلقت إلى أنس فسألته فقال
أن لبستها فلتهدها وإسناد هذا الأثر أيضا جيد، ونقل هذا القول وهو
وجوب الوفاء عن إبراهيم النخعي.
وإنما سقت هذه الأقوال لأن هذا المبتدع قال إن القول بوجوب
الوفاء لم ينقل عن الصحابة ولا عن التابعين وقد صح ذلك عمن ذكرنا
وسيأتي أثر آخر فيه ابن عمر وابن عباس والزبير وجابر رضي الله عنهم إن
شاء الله تعالى، وقال طائفة أخرى: يكفر إن شاء ولا يلزمه الوفاء به
وهؤلاء أجروا هذا النذر مجرى اليمين لما ذكرنا من حصول المعنى الذي
شرعت الكفارة في اليمين لأجله وهو أنه عقد يمينه بما التزمه من طاعة
الله التي إن خالف عند لزومها فقد انتهك حرمة الحق فجبره بكفارة يمين
كما يجبر انتهاك حرمة الاسم المعظم إذا حنث بكفارة يمين وقد أفتى
بذلك جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وقد قال الشافعي
رضي الله عنه أن هذا قول عائشة رضي الله عنها وعدد من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الشافعي في ذلك يتخير بين الوفاء بما نذر وبين
كفارة يمين.
118

ومن العلماء من يفرق بين التزام الحج وغيره فيقول: إن التزم حجا
لزمه وإن التزم غيره كان له الخروج بكفارة يمين، ومنهم من فرق أن
يكون قد التزم صدقة ماله كله أو جعله في سبيل الله فقال يجزئه الثلث
من ماله لحديث أبي لبابة بن عبد المنذر فإنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أن من توبتي
أن انخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" يجزئ عنك الثلث " وفي الصحيحين في حديث كعب بن مالك أحد
الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عليهم أنه قال يا رسول الله إن من توبتي أن
انخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (امسك عليك
بعض مالك فهو خير لك " قال قلت إني أمسك سهمي بخيبر، ومنهم من
أوجب الصدقة بقدر الزكاة ويروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وسيأتي
الأثر بذلك إن شاء الله تعالى، والقول بأن يتخير بين الوفاء بما نذر وبين
كفارة يمين هو القول المرضي وهو قول كثير من الصحابة والتابعين ومن
بعدهم وسببه ما ذكرنا أن اللفظ لفظ نذر والمعنى معنى يمين فإن وفى فقد
أتى بموجب اللفظ وإن كفر فقد أتى بموجب المعنى فهذا النوع يلحق
بالأيمان الشرعية من هذا الوجه وليس يمينا في الحقيقة بما يعظم كالكعبة
والنبي فلا كفارة فيها، وفي مذهب أبي حنيفة قول إنه تجب الكفارة
بالحلف؟ بالنبي لأن حقه من حق الله عز وجل فأشبه اليمين بالله وهو
ضعيف وجمهور العلماء على خلافه، وأما الحلف بملة غير الإسلام
فليس من الأيمان الشرعية ولا ينبغي أن يعتقد دخوله في قوله تعالى (ذلك
كفارة أيمانكم " لأنها يمين محرمة والمحرم لا يكون شرعيا، وأكثر العلماء
على أن لا كفارة فيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين بملة غير
الإسلام كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما "
وفيه غير ذلك. وورد فيه أن كفارته قول لا إله إلا الله، وفي مذهب أبي
حنيفة إيجاب الكفارة وهذه اليمين لا تحتاج إلى ذكرها.
وأما الطلاق بمداره على إطلاق اللفظ للمعنى وإن لم يقصد به حل
119

قيد النكاح ولهذا اختلف العلماء في إيقاعه على المكره والسكران وقد قال
كثير من الصحابة والتابعين بوقوع طلاق السكران بل الأكثرون على ذلك
فلم يعتبروا فيه قصد حل قيد النكاح ولهذا يلزم الهازل ويقع عليه وما
ذلك إلا لإطلاق اللفظ، وإنما كفر الهازل بالكفر لأن كفره دل على
استهانته بالدين بقلبه فهو كافر بعقد القلب الذي دل عليه لفظه والمطلق
بالهزل مطلق اللفظ لا يعقد القلب على الطلاق فلا يقاس أحد البابين
على الآخر وأما إيجاب الكفارة في مذهب أبي حنيفة في يمين الكفر فلأنه
إذا قال إن فعلت كذا فأنا كافر كان قد علق يمينه بتعظيم حق الله عز وجل
على أن يكفر به فأشبه تعظيم اسم الله أن تنتهك حرمته إذا حلت به
فالحق باليمين بالله تعالى في إيجاب الكفارة فله وجه من القياس وإن كان
الأصح أن الكفارة لا تجب، وأما يمين العتق وهو ما إذا قال إن فعلت
كذا فعبدي حر فإن جمهور العلماء على لزوم العتق عند الحنث وأنه لا
تجزئ في ذلك كفارة يمين، هذا هو القول المشهور الذي استقرت عليه
المذاهب المتبوعة، حتى قال بعضهم إن الأمة مجمعة عليه وروي عن
أبي عبيد وأبي ثور أنهما قالا تجزئ فيه الكفارة، وأما الأئمة الأربعة أبو
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فقالوا بالعتق وهو مذهب عامة علماء
الأمصار، وما يروى من أثر ليلى بنت العجماء أنها حلفت بالهدي والعتاق
لتفرقن بين عبدها وأمتها فأفتاها ابن عمر وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهما
بالكفارة فهذا الأثر تختلف الألفاظ في روايته روي من عدة ومداره على
أبي رافع مولى ليلى بنت العجماء وبعضهم يذكر فيه العتق وبعضهم لا
يذكره، وقد ذكرنا عنه عدة أجوبة في الكتاب المطول ظاهرة وقد ذكر هذا
الأثر الإمام أحمد ولم يأخذ به بل قال بلزوم العتق وروى أثرا يعارضه عن
عثمان بن حاضر قال حلفت امرأة من ذي أصبح فقال: مالي في سبيل
الله وجاريتي حرة إن لم تفعل كذا وكذا لشئ ذكره زوجها إن تفعله فذكر
ذلك لابن عمر وابن عباس فقالا: أما الجارية فتعتق وأما قولها مالي في
سبيل الله فلتتصدق بزكاة مالها، وروي هذا الأثر من طرق وفيه أيضا
120

فتوى ابن الزبير وجابر بن عبد الله بذلك فهؤلاء أربعة من الصحابة
وعلمائهم أفتوا بالعتق وقد أخذ بهذا الأثر الإمام أحمد بن حنبل إمام هذا
المبتدع في غير بدعته ورد خبر ليلى بنت العجماء، وقال الشيخ موفق
الدين المقدسي الحنبلي أن أحمد رضي الله عنه قال في خبر ليلى بنت
العجماء أن الصحابة قالوا لها كفري يمينك واعتقي جاريتك وقال هذه
زيادة يجب قبولها فاتفق الخبران على لزوم العتق، وقول عائشة: كل
يمين ليس فيها طلاق ولا عتاق ففيها كفارة يمين. يدل على أنها لا ترى
في العتق كفارة، وقال الشافعي رضي الله عنه لما ذكر الكفارة في نذر
اللجاج والغضب إن هذا مذهب عائشة وعدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن
من قال هذا يقوله في كل ما يحنث فيه سوى العتق والطلاق. فالشافعي
قد نقل عن عائشة والصحابة القائلين بالكفارة في نذر اللجاج والغضب
إنهم لا يقولون بالكفارة في العتق والطلاق ثم إذا قلنا بالقول الشاذ
الضعيف في إيجاب الكفارة في العتق فسببه أن العتق قربة فإذا التزمه فقد
التزم قربة على تقدير المحلفة كما التزمها بالنذر الذي يخرج مخرج
اليمين تجزئة الكفارة لكونه قربة ملتزمة على تقدير الحنث فشبهوه باليمين
من هذا الوجه كما قدمنا لكونه التزم قربة لله إن خالف ترك تعظيم حق لله
فيها وهذا المعني موجود في التزام العتق فقالوا فيه بالكفارة هذا توجيه
المذهب الشاذ، ومن ههنا يخرج الفرق بينه وبين الطلاق فإن الطلاق يعلق
ويقع معلقا كما يقع منجزا بالإجماع فإذا علقه على وجه اليمين فهو لفظ
تعليق ولفظ التعليق في الطلاق نافذ وما عرض له من معنى اليمين لا يؤثر
في إيجاب الكفارة لأن الطلاق ليس قربة حتى يقال التزم قربة إن تركها
عند الحنث لم يعظم حق الله فيها كما أنه إذا حلف باسمه فخالف لم
يعظم حرمة اسمه فلما تجب الكفارة فيه لأنها شرعت هناك للجبر في حرمة
اسم الله وفي القربة إليه وليس كذلك في الطلاق فنفذ تعليقه على وجهه،
ومن وجه آخر إنا إذا أوجبنا الكفارة في باب القربة أمكننا أن نوجبها على
وجه التخيير فنقول قد لزمك ما التزمت من القربة فإن شئت أن تقوم به
121

فلك وإن شئت أن تخرج منه بكفارة يمين فلك وأما الطلاق فلا يقع مخيرا
إن شاء أمضاه بعد وقوعه وإن شاء دفعه بكفارة هذا لا يقوله عاقل ولا من
مارس الشريعة ولا من فهم مقاصدها فإن الطلاق حل قيد النكاح فإذا
انحل فليت شعري ماذا عقده بعد حله ولا سيما في يمين الثلاث وقد قال
الله تعالى (فإن طلقها فلا تحل به من بعد حتى تنكح زوجا غيره) فلو
فكر المسكين في منتهى قوله لاستحيا من الله ومن الناس ولكن غطى عليه
الهوى ومحبة الرياسة والطاعة وقبول الكلمة اللهم أعذنا من هذه البلوى
وقنا شر الهوى وحظوظ النفوس برحمتك.
ثم إنا نقول: قد أجمعت الأمة على أن يمين الطلاق ليست داخلة
في أيمان الكفارة فلا معدل عن الاجماع إذ لا يعارض الاجماع بدليل
غيره هذا أيضا لم يقله أحد من المسلمين ثم إن هذه الأيمان التي ذكرناها
هل تسمى أيمانا؟ فيه خلاف والأصح أنها لا تسمى أيمانا قال ابن عبد
البر: وأما الحلف بالطلاق والعتق فليس بيمين عند أهل التحصيل والنظر
وإنما هو طلاق بصفة أو عتق بصفة إذا أوقعه موقع وقع على حسب ما
يجب في ذلك عند العلماء كل على أصله، وقول المتقدمين الأيمان
بالطلاق والعتق إنما هو كلام خرج على الامتناع والمجاز والتقريب وأما
الحقيقة فإنما هو طلاق على وصف وعتق على وصف ما، ولا يمين في
الحقيقة إلا بالله عز وجل فقد تبين خروج يمين الطلاق من الآية
الكريمة.
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى (قد فرض الله لكم تحلة
أيمانكم) فإن هذا المبتدع تعلق بها بناء على أن الكفارة وجب في
التحريم خاصة وأن الله سبحانه وتعالى جعله يمينا وأجراه مجرى اليمين
في الكفارة. ونبه على دخوله في الآية المذكورة قبلها وهذا ليس كذلك فإن
هذه الواقعة قد قيل إنها في قصة مارية وقيل في قصة العسل ومن العلماء
من لم يذكر فيها يمينا بالله تعالى وجعل الكفارة للتحريم وعلى هذا القول
122

يخرج الجواب مما تقدم والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال له الله
سبحانه ما قال فلو كان الحرام يسمى يمينا حقيقة لعلم دخوله في الآية
الأولى فلما احتاج إلى إعلام الله إياه دل على أنه لم يدخل في اليمين إلا
في الحكم لا في الاسم الحقيقي، وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة
للعلماء وأكثرهم على أنه ليس بيمين على الاطلاق فلا يدخل في الآية
الكريمة إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي هذا على قول من يوجب
الكفارة لكونه تحريما وأما من لم يقل بذلك فيقول الكفارة ليمين بالله
تعالى اقترنت بالتحريم وقد قال هذا المبتدع: من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم
حلف مع الكفارة فقد قال ما لم يقله أحد وقد روى البيهقي بإسناده إلى
عائشة رضي الله عنها قالت آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم فجعل
الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة وروى أبو داود مرسلا عن قتادة
قال كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فدخلت فرأت معه فقالت في بيتي وفي
يومي فقال " اسكتي فوالله لا أقربها وهي علي حرام " وقد روى البيهقي
مرسلا أيضا عن مسروق أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة أن لا
يقرب أمته وقال " هي علي حرام " فنزلت الكفارة ليمينه وأمر أن لا يحرم
ما أحل الله له، وأما قصة العسل وهي أشهر في سبب نزول الآية فروى
البيهقي أن عبيد بن عمير قال سمعت عائشة تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يمكث عند زينت بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة
أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فليقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير
فدخل على إحداهما فقال ذلك له فقال بل شربت عسلا عند زينب ولن
أعود له فنزلت (لم تحرم ما أحل الله لك) إلى (أن تتوبا إلى الله) لعائشة
وحفصة وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا لقوله بل شربت عسلا قال
البيهقي رواه البخاري في الصحيح عن الحسن بن محمد ورواه مسلم عن
محمد بن حاتم كلاهما عن حجاج قال البخاري وقال إبراهيم بن موسى
عن هشام بن يوسف عن ابن جريح عن عطاء في هذا الحديث ولن أعود
له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا قال ابن عبد البر وقد روي عن ابن
123

عباس في تأويل قوله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)
والله لا أشرب العسل بعدها فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة
لليمين بالله، وهذا معنى قول عائشة فجعل الحلال حراما وجعل في
اليمين الكفارة فلم تكن الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى ولا يحتاج إلى
الجواب عن الآية والله أعلم.
فهذه لمعة إقناعية لمن نظرها بعين الإنصاف ووراء هذا من
الأبحاث العقلية والمنقولات الصحيحة والنظر الفقهي ما لا يسعه إلا كتاب
مطول، وقد ذكرنا في كتابنا في الرد عليه كثيرا منها ومن دقيقها طرد
الباب كله وجعل إيقاع الطلاق في اليمين بالطلاق نظير إيجاب الكفارة في
اليمين بالله تعالى عند الحنث ومقتضى قياسه فالعلة التي أوجبت ثبوت
الكفارة في اليمين بالله تعالى هي بعينها التي اقتضت إيقاع الطلاق وإيقاع
العتق عند الحنث، هذا ما لا يفهمه إلا الفقيه المحقق ولا يدركه من دأبه
التخبيط والهذر وهو في التحقيق على مفاوز أعاذنا الله من هوى يسد باب
الإنصاف ويصد عن جميل الأوصاف بمنه وكرمه.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم.
124

الرساة الثانية
نقد الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق
للمؤلف السابق
125

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى وبعد
فهذه مؤاخذات على التصنيف الصغير الذي عمله ابن تيمية في مسألة
الطلاق وسماه بالاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق، لأني
تكلمت على كلامه قبل ذلك ولكن أنبه على المواضع التي في هذا
التصنيف بحسب الاختصار والله الموفق. قوله إن صيغة قوله: الطلاق
يلزمني لأفعلن كذا يمين باتفاق أهل اللغة فإنها صيغة قسم. قلت كيف
يدعي اتفاق أهل اللغة على ذلك ولا تعرف هذه الصيغة وردت في كلام
أهل اللغة ولا سمعت من عربي لا في نظم ولا في نثر، وقوله: وهو
أيضا يمين في عرف الفقهاء ولم يتنازعوا في أنها تسمى يمينا. قلت: قد
تكلمنا عليه فيما مضى من كلامنا وبتقدير صحته لا يلزم حمل كلام
الشارع على عرف الفقهاء ما لم يعلم وجود في زمنه صلى الله عليه وسلم، وقوله إن منهم
من غلب جانب اليمين فلم يوقع به بل قال عليه كفارة يمين. قلت: هذا
القول لا أعرف أحدا صرح به من سلف ولا من خلف وأما اقتضاء كلام
ابن حزم في كتابه المصنف في الاجماع فقد تكلمت عليه فيما مضى من
الكتاب المسمى بالتحقيق في مسألة التعليق. التي ستكتب بعد هذا،
وقوله إن الحلف بالطلاق إنما عرف عن التابعين ومن بعدهم. فقد تكلمنا
عليه في التحقيق. وقوله إن التعليق الذي قصد صاحبه الحلف حكمه
127

حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء. أما أن يريد في كونه يسمى حلفا أو
في تساوي أحكامهما فإن أراد الأول فقد تكلمنا في التحقيق وإن أرد الثاني
فممنوع وسند المنع من وجوه: منها إنهم لم يختلفوا إن التعليق صريح
واختلفوا في " الطلاق يلزمني " هل هو صريح أو كناية، ومنها أنه لا يجد
أحدا من الفقهاء سوى بين الصيغتين بمعنى أنه يقول أما أن يقع الطلاق
فيهما أو لا يقع فيهما بل أكثرهم سوى بينهما في الوقوع ومنهم من
يفرق، والحكم بالوقوع فيهما الذي من لازمه التسوية فيه ليس حكما
بالتسوية بالتفسير المتقدم حتى يستنتج منه عدم الوقوع فيهما الذي هو
خلاف ما اتفق عليه الفقهاء، ومن أراد إشباع القول في ذلك فعليه
بالتحقيق مع اختصاره، وقوله: أنواع الأيمان ثلاثة، 1 - بالله، 2 - لله،
3 - أن يعقدها بغير الله أو لغير الله. قلت: الإقسام أربعة الأول بالله لله
كقوله: والله لأتصدقن، الثاني بالله لغير الله كقوله والله لأسرقن، الثالث
بغير الله لله: كقوله: والكعبة لأتصدقن، ويدخل في هذا: إن فعلت
كذا لأتصدقن أو فعلي الحج، الرابع بغير الله لغير الله كقوله: والكعبة
لأسرقن ولدخل في هذا القسم: (إن فعلت كذا لأسرقن أو فهو يهودي أو
نصراني فالقسمان الأولان منعقدان يجب فيهما الكفارة، والثالث فيه
مثالان: أحدهما القسم الصريح كقوله والكعبة لا ينعقد ولا يلزم به
شئ، والثاني: إن فعلت كذا فعلي الحج أو الحج يلزمن لأفعلن كان
القياس يقتضي أنه لا يلزم كالأول إذا كان القسم الصريح لا يلزم به شئ
لكنه لما لم يكن في الصيغة الثانية تعظيم لغير الله بل التزام مجرد فارق
قوله والكعبة وما أشبهه فإن فيها تعظيم غير الله فلذلك أبطل أثرها، وأما
الصيغة الثانية فليس فيها إلا التزام مجرد والشخص متمكن من إلزام نفسه
بدليل النذر المطلق ونذر التبرر والضمان فقد التزم شيئا ليس فيه تعظيم
غير الله وليس منهيا عنه وهذا المأخذ أعوص وأقرب وعليه أكثر السلف
أعني من اعتبار ذلك وأنه يترتب عليه حكم لكنهم اختلفوا في المترتب فمن
قائل وجوب الوفاء بما التزم لما أشرنا إليه من أنه التزم شيئا ليس فيه
128

تعظيم لغير الله فلا مانع من اعتباره كنذر التبرر، ومنهم من رأى أن
الملتزم لذلك لم يقصد التزامه تقربا إلى الله تعالى بل إنما قصد ذلك
ليمنع نفسه مما حلف عليه أو غيرها، والنذر الذي حكم الشرع بوجوبه
إنما هو فيما يقصد التقرب فلا يجب عليه هنا الوفاء ويتخلص منه بكفارة
يمين لأنه مشبه باليمين من حيث كونه منع نفسه بالتزام شئ ليس فيه
تعظيم غير الله، وأما قوله في آخرها: أنه حلف حقيقة على الحج مثلا.
فرده أن السلف والخلف يطلقون في مثل ذلك أنه حلف بالحج وحلف
بالعتاقة حلف بالصدقة فيمن قال: إن فعلت كذا فعلي حج أو عتاقة أو صدقة
ولو كان الأمر كما يقول لكانوا يقولون حلف أن يحج أو يتصدق أو يعتق
وهم لا يقولون إلا حلف على هذا الفعل بالحج وما أشبهه وذلك هو الذي
يفهمه الذين يحلفون فالفعل المقصود منه هو المحلوف عليه والحج مثلا
هو المحلوف به ويسمونه إذا فعل ذلك الفعل حانثا، ولو كان كما يقول
لم يكن حانثا إلا بترك الحج وما أشبهه فهو نادر حقيقة لكنه غير داخل في
قوله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه " لأن من نذر على وجه الحلف
ليس قصده الطاعة وإن كان قصده المشي على تقدير المخالفة لأنه قصد
المشي له جهتان: إحداهما أن يكون امتثالا للأمر وذلك هو الطاعة وهو
مفقود هنا والثاني: أن يكون لغرض آخر كما ههنا فإنه إنما قصده ليكون
مانعا له من الفعل فإذا لم يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله
فليطعه " فلا يجب وإن كان مقتضى كلامه أنه أوجبه على نفسه لأنه ليس
كل ما أوجبه الإنسان على نفسه يجب عليه إلا بإيجاب الله تعالى ففيما إذا
كان المقصود الطاعة أوجبه الله تعالى عليه فوجب وههنا ليس المقصود
الطاعة ودخل في قوله كفارة النذر كفارة يمين وفي قوله تعالى (يوفون
بالنذر " فإذا فعل ذلك الفعل فقد ترتب المنذور في ذمته ولا يجب عليه
وفاؤه عينا بل له أن يسقطه بالكفارة، وقد بسط ذلك أكثر من هذا في
التحقيق، وقوله إن من حلف بغير الله مثل أن يحلف بالطواغيت أو بأبيه
أو بالكعبة أو غير ذلك من المخلوقات إنها يمين غير محترمة فلا تنعقد ولا
129

كفارة فيها باتفاق العلماء. يرد عليه في إيجابه الكفارة في الطلاق والعتق
وأما حكمنا نحن بانعقادها فإنها ليست في معنى ما اتفقوا على عدم
انعقادها لأنه ليس فيها تعظيم غير الله بخلاف الحلف بالطواغيت وأبيه
والكعبة، وقوله في المعقودة لله: فيما إذا كان مقصوده التقرب لا الحلف
إلى آخره. يقتضي وجوب الكفارة في كل نذر وليس كذلك فإن نذر التبرر
لا خلاف فيه أنه لا يجب فيه الكفارة، وإدراكه الحلف بالطلاق والعتاق
في القسم الثاني من اليمين المعقودة لله أن الحلف بالطلاق يفين معقودة
لله وفيه نظر فإن قوله معقودة لله أن أريد بها التقرب لله فاليمين بالطلاق
ليس كذلك وإن أريد به إن التزم بها شيئا يجب لله تعالى كالحج والصدقة
فليس كذلك لأن الحالف بالطلاق ليس مقصوده أنه إذا حصل الحنث
يجب عليه الطلاق والعتاق فقالوا في الأول كفارة وفي الثاني يلزمه ما
حلف عليه، هذا وإن كان قول الجمهور ولكن لم يقولوه بهذه العبارة
وليس مأخذهم كون هذا تحريما وإيجابا ولو كان ذلك مأخذهم لزمهم أن
يقولوا به في كل تحريم كما قال: إن فعلت كذا فامرأتي أو أمتي حرام
وهذا الطعام علي حرام فيحرم إذا وجد الشرط، وهذا لم يقل به أحد بل
مأخذهم أن هذا وقوع وذلك التزام والأول مفوض إلى العبد نصب سببه
تنجيزا وتعليقا وحتى وجد سببه لا يتأخر عنه، والثاني ليس مفوضا إليه
مطلقا بل على وجه خاص وإذا وجد سببه وترتب في الذمة يمكن سقوطه
بخلاف الأول، واستدلاله بالآيات والأحاديث الدالة على تكفير الأيمان
ودعواه أنها شاملة لهذه اليمين ممنوعة، وقوله إن هذه داخلة في أيمان
المسلمين وأيمان البيعة ودعواه أنه لا يعلم فيها نزاعا فاعلم أن قولنا أيمان
المسلمين وأيمان البيعة إنما صارت يدخل فيها الطلاق والعتق من زمن
الحجاج فإنه زادها في أيمان البيعة وصار يحلف المسلمين بها واشتهرت
من ذلك الوقت فإذا نواها الحالف دخلت وإن لم ينوها لا تدخل ولولا
ذلك دخلت اليمين بالطلاق والعتاق فيها نوي أو لم ينو بالإيهام بكونها من
أيمان المسلمين لا يفيد ومما يبين ذلك أن قول القائل أيمان المسلمين إما
130

أن يراد بها ما شرع للمسلمين الحلف بها أو ما يتعارف المسلمون الحلف
به وجرت عادتهم به فإن أريد الأول فاليمين بالطلاق والعتاق لم يشرع
للمسلمين الحلف بها بل هي منهي عنها بقوله صلى الله عليه وسلم " من كان حالفا
فليحلف بالله أو ليصمت " وإن أريد به ما يتعارفه المسلمون وجرت
عادتهم بالحلف به فاليمين بالطلاق والعتاق لم تجر عادة المسلمين في
الصدر الأول ولا في زمنه صلى الله عليه وسلم بالحلف بهما وهو قد سلم فكيف يقول إنها
داخلة في أيمان المسلمين ويحتج بعرف طارئ بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من
سبعين سنة، ثم إن سياق الآيات الكريمة في معرض إيجاب الكفارة في
الأيمان لا في معرض تبيين ما يجب فيه الكفارة من الأيمان وأنها من
أيمان المسلمين دون أيمان غيرهم، وقد قال تعالى (ولكن يؤاخذكم بما
عقدتم الأيمان) وهي أعم وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين "
والخطاب وإن سلم أنه للمؤمنين خاصة فيدخل في حكمه كل مكلف
لعموم شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل أحد فكل مكلف بر أو فاجر يدخل في
حكم هذ الخطاب، ولكن تبين بدليل آخر أن الأيمان التي لا حرمة لها لا
يجب فيها كفارة فعلمنا خروجها من الآيات والحديث بالأدلة الخاصة،
وقد كان المسلمون يحلفون بآبائهم حتى نهوا وقد قال تعالى (والليل)
(والضحى) (والشمس) وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أفلح وأبيه إن صدق "
وهو سيد المسلمين، قوله: وأما من جهة المعنى فهو إن فرض الكفارة
لئلا يكون الأيمان موجبة أو محرمة لا مخرج منها فلو كان من الأيمان ما
لا كفارة فيه كانت هذه المفسدة موجودة قلنا: لا نسلم وجودها لأن تلك
المفسدة على تقدير مخالفة اليمين ارتكاب معصية الله من فعل محرم أو
ترك واجب وقد تدعو الضرورة إلى مخالفة اليمين فشرعت الكفارة لذلك
والمفسدة هنا وقوع الطلاق فليس فيه معصية وإن كان فيه مفسدة أخرى
لكن المعصية أشد عند المسلم من كل مفسدة دنيوية والمفسدة على تقدير
المحافظة على اليمين مشتركة لا نسلم إن هذه المفسدة وحدها هي
الملاحظة بل المجموع الذي هو موجود في اليمين بالطلاق والعتق فإن
131

قلت: ففي نذر اللجاج لم حلت الكفارة؟ قلت لأنه حصل فيه إيجاب
ويحصل بتركه المعصية فلو لم تشرع فيه الكفارة لكان بمنزلة اليمين قبل
شرع الكفارة لحصول العصيان على تقدير ترك ما التزمه فهو أشبه باليمين
من تعليق الطلاق والعتق الذي لا معصية فيه البتة. وقوله: إن الله نهاهم
أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم إلى آخره. قلت: الذي فهمته من كلام
السلف في قوله (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) أن المنهي عنه
الحلف لأجل هذا الغرض وعليه ينبغي أن يحمل ما ورد عنهم مما ظاهره
خلاف ذلك ذلك فكيف يجعل الحالف بالبقاء على اليمين جاعلا الله
عرضة ليمينه هذا مما ينبو الفهم عنه وكلام الصحابة والتابعين المعتمد
على تفسيرهم ليس فيه تصريح به بل يفهم منه ما قلته أولا والله أعلم،
وقوله في الايلاء إلى آخره قلنا لا نسلم دخول الحالف بالطلاق في لفظ
الآية بل في حكمها بالقياس ولو سلمنا وقوله تعالى (فإن فاءوا فإن الله
غفور رحيم " والله أعلم فيئة مقصودة للزوجة وهي متعذرة هنا وليس في
الآية إن كل مول يمكن أن يفئ هذه الفيئة الخاصة ولو سلمنا ذلك فالمرأة
إذا تحققت إنها متى وطئت يقع الطلاق عليها يكره صحبته وإن كانت
راغبة في الوطء فيحصل مقصودها وأما إن كانت غير راغبة في الوطء
وتكتفي بمجرد الصحبة فلا تطلبه، والفيئة إنما تكون بعد الطلب والتعرض
له، وقوله إنه على هذا التقدير فلا فائدة في التأجيل بل التعجيل
إليها. قلنا: التأجيل ليس لأجلها بل لأجله فيمهل هذه المدة التي لا
تضر بالمرأة ثم تطالب بعد المدة دفعا لضررها " وأما أن التأجيل شرع
لنفع المرأة فلا.
وما ذكره من فتوى الصحابة فيمن قال: إن فعلت كذا فعبيدي
أحرار قد حصل الكلام عليه في " التحقيق " وفيه كلام طويل لا يحتمل
ذكره هنا والإمام أحمد لم يثبته وتقريره أن هذه أيمان محضة وقد تقدم
التنبيه على شئ منه وقد ذكرت أنا قريبا منه في " التحقيق " قبل أن أقف
132

على كلامه فيه ولكن بينه وبين كلامه بعض المباينة وهو أنني إنما أجعله
بوجود الشرط في نذر اللجاج صار بمنزلة الحالف مثلا وصيرورته كذلك
ليس من مقتضى كلامه بل الشرع نزل منزلته، وأما مقتضى كلامه فالتزام
التزمه لا غير، وأما ابن تيمية فظاهر كلامه هذا أن يجعله مقتضى كلامه
الحلف لا النذر، وأما احتجاجه بقوله: إن فعلت كذا فهو يهودي وما
أشبه فقد أجبت عنه في " التحقيق " وكذلك قياسه على قوله: إن فعلت
كذا فعلي أن أطلق امرأتي وقوله إن المعلق للطلاق ملتزم لوقوعه وقوله
بعد ذلك إن من عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله ولهذا كان النذر
أبلغ من اليمين وقد بينا أن الحلف بالطلاق ليس عقد يمين لا بالله ولا لله
بل هو عقد يمين لغير الله وهو الطلاق على فعل قد يكون لله وقد يكون
لغيره وسلوكه به مسلك النذر هو أصل ما بني عليه وحصل له منه الاشتباه
وبينهما من الافتراق بون عظيم ولم يوجب له هذا الشغب الكثير إلا
تسويته بينهما ولا يستويان والله تعالى يلهمنا رشدنا بمحمد وآله، كتبت
ذلك مختصرا جدا بحسب الراغب فيه ولأنه قد تقدم الكلام بما يغني
وذلك بكرة نهار الأربعاء عشري شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبعمائة
نفعني الله بها والناظر فيها بمحمد وآله. كتب علي عبد الكافي السبكي
انتهى. نقل من خط من نقله من خطه.
133

الرسالة الثالثة
النظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلق
للمؤلف السابق
135

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى.
مسألة:
علق الرجل طلاق زوجته على شرط قاصدا لليمين إما لحث أو منع
أو تصديق ثم وجد ذلك الشرط وقع الطلاق وبيان ذلك أن مقتضى القضية
الشرطية الحكم بالمشروط على تقدير الشرط خبرية كانت أو إنشائية
والمعلق فيها هو نسبة أحد الجزئين إلى الآخر لا الحكم بتلك النسبة
الذي هو منقسم إلى الخبر والإنشاء لأن كلا منهما يستحيل تعليقه فالمعلق
في مسألتنا هو الطلاق وأما التطليق فهو فعل الزوج يوقعه منجزا أو معلقا،
ويوصف التعليق بكونه تطليقا عند وجود الشرط حقيقة فإن لم يجز التعليق
يخرج الذي حصل مقتضاه عن الشرط ويشهد لذلك أحكام الشريعة كلها
المعلقة بالشروط، ومن منع تعليق الطلاق بالصفات مطلقا فقد التبس
عليه التعليق بتعليق الانشاء فظن أن تعليق الطلاق من الثاني وإنما هو من
الأول، وقد علق الله إحلال امرأة لنبيه صلى الله عليه وسلم على يمينها نفسها له وإرادته
استنكاحها وإن خرج مخرج اليمين فالأمر كذلك لوجوه: أحدها أنه تعليق
خاص فيجب ثبوت حكم التعليق العام له، الثاني قوله تعالى (والخامسة
أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) وجه الاستدلال أن الملاعن يقصد
137

بهذا الثرط التصديق فهو خارج مخرج اليمين ومع ذلك فهو موجب اللعنة
والغضب على تقدير الكذب بدليل قوله إنها موجبة وبأنه لو كان المترتب
على ذلك الكفارة لكان الإتيان بالقسم أولى، الثالث: أن في القرآن
والسنة وأشعار العرب الفصحاء من التعليقات التي فيها الحث والمنع أو
التصديق ما لا يحصى مع القطع بحصول المشروط فيها عند الشرط،
الرابع: أن تسمية التعليق المذكور يمينا لا يعرفه العرب ولم يتفق عليه
الفقهاء ولم يرد به الشرع وإنما يسمى بذلك على وجه المجاز فلا يدخل
تحت النصوص الواردة في حكم الأيمان وأنها قابلة للتكفير الخامس: أن
هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود فيه على ذلك التقدير
ولذلك نصبه الزوج مانعا له من ذلك الفعل ولولا ذلك لما امتنع، ولا
استحالة في كون الطلاق غير مقصود للزوج في نفس الأمر ومقصودا له
على تقدير وإذا كان مقصودا ووجد الشرط وقع الطلاق على مقتضى تعليقه
وقصده، والسادس أنه عند الشرط يصح اسم التطليق اصا؟ تقدم فيندرج
تحت قوله تعالى (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا
غيره) السابع: أن التطليق مفوض إلى العبد بقوله تعالى (فطلقوهن
لعدتهن) وهو أعم من المنجز والمعلق فيندرج المعلق تحت الآية.
الثامن الاجماع نقله محمد بن نصر المروزي وأبو ثور وابن المنذر وغيرهم
فإن قلت: يرد عليك أمران: أحدهما طلب الفرق بين هذا وبين نذر
اللجاج عند من جعله يتخلص منه بكفارة يمين والثاني في دعواك
الاجماع، وقد نقل بعض الناس قولين آخرين: أحدهما أنه لا يلزمه به
شئ والثاني أنه لا يلزمه به كفارة قلت: أما الأول فالجواب عنه أن
الطلاق إسقاط حق لا يشترط فيه قصد القربة وفي اللجاج لم يوجد هذا
الشرط ولم يأذن الشرع فيه وليس للعبد إيجاب ولا تحريم إلا بإذن الله
وأيضا فإن الدليل قد قام على ما قلناه وهو على وفق الأصل فإن دل دليل
على خروج اللجاج عنه بقي ما عداه على الأصل، وأما أن يجعل اللجاج
المختلف له الخارج عن الأصل أصلا ويلحق به الجاري على وفق
138

الأصل فغبر سديد، وأما الثاني فإن القول بعدم الوقوع ما قاله أحد من
الصحابة ولا من التابعين إلا أن طاوسا نقل عن لفظ محتمل لذلك أولناه
ولا ممن بعدهم إلا الشيعة ومن وافقهم ممن لا يعتد بخلافه، وأما القول
بالكفارة في دلك فلم يثبت عن أحد من المسلمين قبل ابن تيمية وإن كان
مقتضى كلام ابن حزم في مراتب الاجماع نقل ذلك إلا أن ذلك مع إبهامه
وعدم تعيين قائله ليس فيه إنه في مسألة التعليق فيجوز أن يحمل على
غيرها من صور الحلف والله أعلم. كتبه مصنفه علي السبكي في ليلة
الأربعاء التاسع والعشرين من المحرم خمس وعشرين وسبعمائة.
139

الرسالة الرابعة
الاعتبار ببقاء الجنة والنار
للمؤلف السابق
رد به على ابن تيمية بما ألفه في نفي الخلود
في النار تبعا لجهم بن صفوان المبتدع المشهور.
141

في ظهر الأصل بخط الحافظ الشمس بن طولون:
(فائدة)
قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في فتاويه في أثناء مسألة " إذا
وقف على بنيه الثلاثة إلى آخرها ": وهذا الرجل يعني ابن تيمية كنت
رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي إنكاره
وقوع الطلاق إذا حلف به وحنث ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس
ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل بفهمه كما في هذه
المسألة ولا في بحث ينسبه لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحد
جدا، وهو كان مكثرا من الحفظ ولم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم
بل يأخذها بذهنه مع جسارة واتساع خيال وشغب كثير، ثم بلغني من
حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة وكان الناس في حياته
ابتلوا بالكلام معه للرد عليه وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك
ثم مات ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته لأن تلك أمة قد خلت ولكن
له أتباع ينعقون ولا يعون ونحن نتبرم بالكلام معهم ومع أمثالهم. وأطال
رحمه الله في الرد عليهم في فتاويه في الوقف فراجعه فإنه مهم ونسأل الله
حسن الاستقامة في القول والعمل بحق محمد وآله والحمد لله وحده.
143

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم.
وبعد فإن اعتقاد المسلمين أن الجنة والنار لا تفنيان وقد نقل أبو
محمد بن حزم الاجماع على ذلك وإن من خالفه كافر بإجماع، ولا شك
في ذلك فإنه معلوم من الدين بالضرورة وتواردت الأدلة عليه قال الله تعالى:
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقال
تعالى (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم
فيها خالدون) وقال تعالى (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك
عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم
العذاب ولا هم ينظرون) وقال تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت
وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار
هم فيها خالدون) وقال تعالى (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت
يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) وقال تعالى (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم
ينظرون إلا الذين تابوا) وقال تعالى (إن الذين كفروا لن تغني عنهم
أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) وقال تعالى (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا
خالدا فيها) وقال تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا
فيها) وقال تعالى (إن الذين كفروا وظلموا) إلى قوله (خالدين فيها
أبدا) وقال تعالى (النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) وقال تعالى
(والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها
144

خالدون) وقال تعالى (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار
جهنم خالدا فيها) وقال تعالى (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار
نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) وقال
تعالى (كلما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار
هم فيها خالدون) وقال تعالى (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير
وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) وقال
تعالى (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون) وقال تعالى (فادخلوا أبواب جهنم
خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) وقال تعالى (لو كان هؤلاء آلهة
ما وردوها وكل فيها خالدون) وقال تعالى (ومن خفت موازينه فأولئك
الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) وقال تعالى (وذوقوا عذاب
الخلد بما كنتم تعملون) وقال تعالى (يضاعف له يوم القيامة ويخلد فيه
مهانا) وقال تعالى (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها
أبدا) وقال تعالى (قل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى
المتكبرين) وقال تعالى (ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار
الخلد) وقال تعالى (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر
عنهم) وقال تعالى (كمن هو خالد في النار) وقال تعالى (لن تغني
عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون) وقال تعالى (فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها)
وقال تعالى (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين
فيها وبئس المصير) وقال تعالى (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار
جهنم خالدين فيها أبدا) وقال تعالى (إن الذين كفروا من أهل الكتاب
والمشركين في نار جهنم خالدين فيها) فهذه أربع وثلاثون آية فيها لفظ
الخلود وما اشتق منه أربع من التأبيد، والآيات التي فيها معناه كثيرة أيضا
كقوله تعالى (فلا يخفف عنهم العذاب) وقوله تعالى (لا يخفف عنهم
العذاب) وقوله تعالى (وما هم بخارجين من النار) وقوله تعالى (وما
145

له في الآخرة من خلاق " وقوله تعالى (وما لهم من ناصرين) وقوله
تعالى (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) وقوله تعالى (لا
يجدون عنها محيصا) وقوله تعالى (وما هم بخارجين منها ولهم عذاب
مقيم) وقوله تعالى (ليس مصروفا عنهم) وقوله تعالى (أولئك الذين
ليس لهم في الآخرة إلا النار) وقوله تعالى حكاية عنهم (ما لنا من
محيص " وقوله تعالى (جهنم يصلونها وبئس القرار) وقوله تعالى
(اخسؤا فيها ولا تكلمون " وقوله تعالى (أولئك يئسوا من رحمتي)
وقوله تعالى (فاليوم لا يخرجون منها) وقوله تعالى (كلما أرادوا أن
يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) وقوله تعالى (كلما أرادوا أن يخرجوا
منها أعيدوا فيها) وقوله تعالى (لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخنف
عنهم من عذابها) وقوله تعالى (مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم
سعيرا) وقوله تعالى (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون)
وقوله تعالى (ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب) إلى قوله (وما
دعاء الكافرين إلا في ضلال) وقوله تعالى (ألا إن الظالمين في عذاب
مقيم) وقوله تعالى (فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من
غسلين) وقال تعالى (فلن نزيدكم إلا عذابا) وقال تعالى (ثم لا
يموت فيها ولا يحيى) وقال تعالى (نار موصدة) وقال تعالى (وما
هم عنها بنائبين " وغيرها من الآيات كثير في هذا المعنى جدا وذلك
يمنع من احتمال التأويل ويوجب القطع بذلك، كما أن الآيات الدالة
على البعث الجسماني لكثرتها يمتنع تأويلها، ومن أولها حكمنا بكفره
بمقتضى العلم جملة وكذلك الأحاديث متظاهرة جدا على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم
(من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتواجأ بها في بطنه في نار جهنم
خالدا مخلدا فيها أبدا " ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار
جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " متفق عليه من حديث أبي سعيد وقوله صلى الله عليه وسلم
" أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون " صحيح
من حديث أبي سعيد وقوله عليه السلام " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة
146

وأهل النار إلى النار جئ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار فيذبح
فينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت " وفي رواية
صحيحة " فخلود فلا موت وفي الجنة مثل ذلك ". وقال تعالى (والذين
آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) وقال
تعالى (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله) وقال تعالى
(لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقال تعالى (لكن الذين اتقوا
ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله)
وقال تعالى (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) وقال تعالى (والذين آمنوا وعملوا
الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا
وعد الله حقا) وقال تعالى (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها) وقال تعالى (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم
جنات من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) وقال تعالى (أعد الله لهم
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) وقال تعالى (والسابقون
الأولون) إلى قوله (وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين
فيها) وقال تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) وقال تعالى (للذين أحسنوا
الحسنى وزيادة) إلى قوله (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)
وقال تعالى (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت
السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) وقال تعالى
(أكلها دائم وظلها) وقال تعالى (وادخل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم) وقال
تعالى (لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين) وقال تعالى
(وبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه
أبدا، وقال تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات
147

الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) وقال تعالى (جنات
عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) وقال
تعالى (وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) وقال تعالى (الذين يرثون
الفردوس هم فيها خالدون) وقال تعالى (أذلك خير أم جنة الخلد التي
وعد المتقون) وقال تعالى (خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما) وقال
تعالى (لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)
وقال تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين
فيها وعد الله حقا) وقال تعالى (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)
وقال تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون)
وقال تعالى (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون)
وقال تعالى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) إلى قوله (خالدين
فيها جزاء بما كانوا يعلمون) وقال تعالى (ليدخل المؤمنين والمؤمنات
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) وقال تعالى (ويطوف
عليهم ولدان مخلدون) وقال تعالى (بشراكم اليوم جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) وقال تعالى
(ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله
عنهم ورضوا عنه) وقال تعالى (ذلك يوم الخلود) وقال تعالى (ومن
يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) وقال تعالى (ومن يؤمن بالله
ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد
أحسن الله له رزقا) وقال تعالى (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
فلهم أجر غير ممنون) وقال تعالى (أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند
ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم
ورضوا عنه " فهذه الآيات التي استحضرناها في بقاء الجنة والنار وبدأنا
بالنار لأنا وقفنا على تصنيف لبعض أهل العصر في فنائها وقد ذكرنا نحو
مائة آية منها نحو من ستين في النار ونحو من أربعين في الجنة وقد ذكر
148

الخلد أو ما اشتق منه في أربع وثلاثين في النار وثمان وثلاثين في الجنة
وذكر التأبيد في أربع في النار مع الخلود وفي ثمان في الجنة منها سبع
مع الخلود وذكر التصريح بعدم الخروج أو معناه في أكثر من ثلاثين،
وتضافر هذه الآيات ونظائرها يفيد القطع بإرادة حقيقتها ومعناها وأن ذلك
ليس مما استعمل فيه الظاهر في غير المراد به ولذلك أجمع المسلمون
على اعتقاد ذلك وتلقوه خلفا عن سلف عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو مركوز في
فطرة المسلمين معلوم من الدين بالضرورة بل وسائر الملل غير المسلمين
يعتقدون ذلك ومن رد ذلك فهو كافر ومن تأوله فهو كمن تأول الآيات
الواردة في البعث الجسماني وهو كافر أيضا بمقتضى العلم.
وقد وقفت على التصنيف المذكور وذكر فيه ثلاثة أقوال في فناء
الجنة والنار: أحدها أنهما تفنيان وقال إنه لم يقل به أحد من السلف
والثاني أنهما لا تفنيان والثالث أن الجنة تبقى والنار تفنى ومال إلى هذا
واختاره وقال إنه قول السلف ومعاذ الله وأنا أبرئ السلف عن ذلك ولا
أعتقد أن أحدا منهم قاله وإنما روي عن بعضهم كلمات تتأول كما تتأول
المشكلات التي ترد وتحمل على غير ظاهرها فكما أن الآيات والأحاديث
يقع فيها ما يجب تأويله كذلك كلام العلماء يقع فيه ما يجب تأويله ومن
جاء إلى كلمات ترد عن السلف في ترغيب أو ترهيب أو غير ذلك فأخذ
بظاهرها وأثبتها أقوالا ضل وأضل وليس ذلك من دأب العلماء ودأب
العلماء التنقير عن معنى الكلام والمراد به وما انتهى إلينا عن قائله فإذا
تحققنا أن ذلك مذهبه واعتقاده نسبناه إليه وأما بدون ذلك فلا ولا سيما في
مثل هذه العقائد التي المسلمون مطبقون فيها على شئ كيف يعمد إلى
خلاف ما هم عليه ينسبه إلى جلة المسلمين وقدوة المؤمنين ويجعلها
مسألة خلاف كمسألة في باب الوضوء ما أبعد من صنع هذا عن العلم
والهدى وهذه بدعة من أنحس البدع وأقبحها أضل الله من قالها على علم
فإن قلت قد قال الله تعالى (لابثين فيها أحقابا) قلت: هو جمع منكر
149

يصدق على القليل والكثير وعلى ما لا نهاية له فإن قلت هو جمع قلة لأن
أفعالا من جموع القلة قلت قد تجمع القلة بجمع الكثرة وأيضا فالحقب
الزمان والزمان يصدق على القليل والكثير فإذا كان المفرد كذلك فما ظنك
بالجمع فإن قلت: قد قيل إن الحقب ثمانون سنة السنة ثلاثمائة وستون
يوما اليوم كألف سنة مما تعدون اليوم منها كالدنيا كلها. قلت: إذا صح
ذلك فغايته الإخبار بأنهم لابثون فيها ذلك ولا يدل على نفي الزيادة إلا
بالمفهوم والمنطوق يدل على التأبيد والمنطوق مقدم على المفهوم، هذا
إن جعلنا أحقابا آخر الكلام وقد جعله الزجاج وغيره موصوفا بقوله (لا
يذوقون فيها بردا ولا شرابا) وعلى هذا لا يبقى فيه متعلق البتة فإن
قلت: قد روي عن الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب
سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون. قلت: إن ثبت ذلك
عنه يرجع الجواب إلى بعض ما تقدم من الصفة أو إلغاء المفهوم أو أن
الذي لا يتناهى يقال إنه لا يدري أحد ما هو وإن كان يدري أنه لا يتناهى
فإن دراية عدم العدد يلزم منها عدم دراية العدد فإن قلت: قد قال هذا
المصنف أن قول الحسن لا يدري ما هي يقتضي أن لها عددا والله أعلم
به ولو كانت لا عدد لها لعلم كل أحد أنه لا عدد لها قلت إن قوله لا
يدري ما هي يقتضي أن لها عددا ليس بصحيح لأنه لم يقل لا يدري
عددها بل قال لا يدري ما هي وما هي أعم المطالب فيدخل فيه المتناهي
وغير المتناهي وقوله ولو كانت لا عدد لها لعلم كل أحد أنه لا عدد لها
عجب لأنه كيف يلزم من أنها لا عدد لها علم كل أحد بذلك فقد يعلمه
بعض الناس دون بعض، والحاصل أن الأحقاب قيل محدودة وهو قول
الزجاج القائل بأن " لا يذوقون صفة " وقيل غير محدودة وقيل الآية
منسوخة بقوله تعالى (فلن نزيدكم إلا عذابا) ولا يستبعد النسخ في
الأخبار ولا سيما مثل هذا فإن هذا مما يقبل التغيير وهو أمر مستقبل
والأكثرون على أنها غير محدودة وأن المراد كلما مضى حقب جاء حقب
فإن قلت: فما تقول فيما روي عن الحسن البصري أنه سئل عن هذه
150

الآية فقال الله أعلم بالأحقاب فليس فيها عدد إلا الخلود؟ قلت: قول
صحيح لا يخالف لما تقدم وتصريحه بالخلود بين مراده فإن قلت: فقد
قال هذا المصنف أن قول الحسن حق فإنهم خالدون فيها لا يخرجون منها
ما دامت باقية. قلت: قوله أن الحسن حق صحيح وأما فهمه إياه
وتفسيره الخلود بعدم الخروج منها ما دامت باقية فليس بصحيح وليس
ذلك بخلود فإنك إذا قلت فلان خالد في هذه الدار الفانية لا يصح
وحقيقة الخلود التأبيد وقد يستعمل في المكث الطويل مجازا وأما استعماله
في الخلود في مكان إلى حين فنائه فهذا معنى ثالث لم يسمع من العرب
فإن قلت: ما تقول في قول من قال إن الآية في عصاة المؤمنين قلت:
ضعيف لقوله (إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا) اللهم
إلا أن نجعلها عامة ويكون التعليل ليس للجميع بل لبعضهم وقد يجئ
في الكلام الفصيح مثل ذلك أو يراد بالطاغي الكفار فإنها مرصاد لهم
والعصاة فيها تبع لهم فجاء قوله (لابثين فيها أحقابا) للتابعين
والمتبوعين جميعا ثم جاء التعليل للمتبوعين لأنهم الأصل فإن قلت: قوله
تعالى في سورة الأنعام (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) إلى
قوله (مثواكم النار خالدين فيها إلا ما شاء الله) وأولياؤهم هم الكفار
لقوله (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) وقوله في سورة هود في
أهل الجنة وأهل النار (إلا ما شاء ربك) على ماذا يحمل إذا كانتا
باقيتين؟ قلت: قد تكلم الناس في ذلك وأكثروا وذكر أبو عمرو الداني
في تصنيف له في ذلك سبعة وعشرين قولا ليس فيها إن الكفار يخرجون
من النار وإنما أقوال أخر منها أنه استثناء المدة التي قبل دخولهم أو
الأزمنة التي يكون أهل النار فيها في الزمهرير ونحوه وأهل الجنة فيما هو
أعلى منها من رضوان الله وما لا يعلمه إلا هو أو أنه استثناء معلق بالمشيئة
وهو لا يشاء خروجهم فهو أبلغ في التأبيد أو أن إلا بمعنى الواو كقوله إلا
الفرقدان أو أنها بمعنى سوى حكاه الكوفيون كقوله (إلا ما قد سلف)
وقوله (لو كان فيهما آلهة إلا الله) أو أن الاستثناء لما بعد السماوات
151

والأرض كقوله لا تكسل حولا إلا ما شئت معناه الزيادة على الحول أو أنه
لعصاة المؤمنين والذي يدل على التأبيد قوله في الجنة (عطاء غير
مجذوذ) فلو لم يكن مؤبدا لكان مقطوعا فيتعين الجمع بين أول الآية
وآخرها فبقي يقينا الاستثناء على ظاهر هذا المجاز في قوله (عطاء غير
مجذوذ) وليس التجوز فيه بأولى من التجوز في الاستثناء ويرجح التجوز
في الاستثناء الأدلة الدالة على التخليد وقوله في النار (إن ربك فعال لما
يريد) يناسب الوعيد والزيادة في العذاب ولا يناسب الانقطاع، واعلم
أن (ما شاء ربك) ظاهره استثناء مدة زمانية من قوله (ما دامت
السماوات والأرض) ويحتمل أن يراد بها ظرف مكان ويكون الاستثناء من
الضمير في فيها ويراد به الطبقة العليا التي هي لعصاة المؤمنين فكأنه قال
إلا ما شاء ربك من أمكنة جهنم فإن قلت قد قال أبو نضرة: القرآن كله ينتهي
إلى هذه الآية (إن ربك فعال لما يريد) قلت: هذا كلام صحيح والله يفعل
ما يريد وليس في ذلك أنه يخرج الكفار من النار فإن قلت: قد قال أبو
سعيد الخدري رضي الله عنه وقتادة الله أعلم بتثنيته على ما وقعت. قلت
صحيح لأن تعيين كل واحد من الأقوال التي حكيناها ضعيف والله أعلم به وبغيره وليس
في كلام أبي سعيد وقتادة ما يحتمل خروج الكفار من النار فإن قلت: قد روى
الطبراني عن يونس عن ابن أبي ذئب عن ابن زيد في قوله (عطاء غير
مجذوذ) قال أخبرنا الذي شاء لأهل الجنة فقال (عطاء غير مجذوذ)
ولم يخبر بالذي شاء لأهل النار. قلت: هذا الذي يقتضي أن ابن زيد
يقول بعدم الانقطاع لأنه جعل (عطاء غير مجذوذ) هو الذي شاءه وهو
الذي بعد الاستثناء فكذا يكون في أهل النار أن الاستثناء لا يدل على
الانقطاع ولكنه لم يبين ما بعده بل قال تعالى (إن ربك فعال لما يريد)
فإن قلت: فقد قال السدي إنها يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج.
قلت: إن صح هذا عن السدي إنها يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج
فهو محمول على أنه حملها على العصاة لأن الطامعين هم المسلمون فإن
قلت: قد روى عبد بن حميد في تفسيره عن سليمان بن حرب نا حماد
152

ابن سلمة عن ثابت عن الحسن قال عمر رضي الله عنه لو لبث أهل النار
في النار بقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون. قلت:
الحسن لم يسمع من عمر وقد رأيت هذا الأثر في تفسير عبد في موضعين
في أحدهما يخرجون وفي الآخر يرجون لا تصريح فيه فقد يحصل لهم
رجاء ثم ييأسون ويخرجون يحتمل أن يكون من النار إلى الزمهرير
ويحتمل أن يكون ذلك في عصاة المؤمنين فلم يجئ في شئ من الآثار
إنه في الكفار فإن قلت: قد قال: هذا المصنف إنه يحتج على فناء النار
بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا
سنة ولا أقوال الصحابة رضي الله عنهم. قلت.: هذا الكتاب والسنة بين
أظهرنا بحمد الله وهما دالان على بقائهما. فإن قلت: قد ليس في
" مسند أحمد " حديث ذكر فيه أنه ينبت فيها الجرجير. قلت ليس في
" مسند أحمد " ولكنه في غيره وهو ضعيف ولو صح حمل على طبقة
العصاة. فإن قلت: قال حرب الكرماني: سألت إسحاق عن قول الله
تعالى (إلا ما شاء ربك) فقال أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن
وعن أبي نضرة عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تأتي على
القرآن كله حيث كان في القرآن (خالدين فيها) تأتي عليه. قلت: إن
صحت هذه الآثار حملت على العصاة لأن القرآن لم يرد فيه خروج
العصاة من النار صريحا إنما ورد في السنة بالشفاعة فالمراد بهذه الآثار
موافقة القرآن للسنة في ذلك فإن السلف كانوا شديدي الخوف ولم يجدوا
في القرآن خروج الموحدين من النار وكانوا يخافون الخلود كما تقوله
المعتزلة فإن قلت: قال ابن مسعود رضي الله عنه ليأتين على جهنم زمان
تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا. قلت إن صح
هذا عن ابن مسعود حمل على طبقة العصاة وقوله أحقابا يحمل على
أحقاب غير الأحقاب المذكورة في القرآن حتى يصح الحمل على
العصاة. فإن قلت: قال الشعبي جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما
خرابا. قلت أنا أعيذ الشعبي من ذلك فإنه يقتضي خراب الجنة. فإن
153

قلت: قد اعترض هذا المصنف على الاجماع لأنه غير معلوم فإن هذه
المسائل لا يقطع فيها بإجماع نعم قد يظن فيها الاجماع وذلك قبل أن
يعرف النزاع وقد عرف النزاع قديما وحديثا بل إلى الساعة. قلت:
الاجماع لا يعترض عليه بأنه غير معلوم بل يعترض بنقل خلاف صريح
ولم ينقله وإنما هو من تصرفه وفهمه وقوله إن هذه المسائل لا يقطع فيها
بإجماع دعوى مجردة. فإن قلت قد قال لم أعلم أحدا من الصحابة رضي
الله عنهم قال لا تفنى إنما المنقول عنهم ضد ذلك لكن التابعون نقل
عنهم هذا وهذا. قلت: هو مطالب بالنقل عن الصحابة رضي الله عنهم
والتابعين ولن يجده وغايته كما قلت لك أن يأخذه من كلمات وردت فهم
منها ذلك، ويجب تأويلها تحسينا للظن بهم. فإن قلت: قد قال إنه
ليس في القرآن ما يدل على أنها لا تفنى بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن
أنهم خالدون فيها أبدا وأنه يقتضي خلودهم فيها ما دامت باقية لا يخرجون
منها مع بقائها وبقاء عذابها كما يخرج أهل التوحيد. قلت: قد قلت لك إن
حقيقة الخلود في مكان يقتضي بقاء ذلك المكان وقد تأملت كلام
المصنف فلم أر فيه زيادة على ذلك بل اندفع في ذكر الآيات وأحاديث
الشفاعة ولم يبين ما يؤول إليه أمر الكفار بعد فناء النار. فإن قلت: قد
فرق بين بقاء الجنة والنار شرعا وعقلا أما شرعا فمن وجوه: أحدهما أن
الله تعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامها وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في
غير موضع من كتابه كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها، وأما النار
وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها. قلت:
قد أخبر في النار وأهلها إنهم في عذاب مقيم وإنهم لا يفتر عنهم ولا
يخفف عنهم فلو فنيت لكان إما أن يموتا فيها أو يخرجوا وكل منهما أخبر
في القرآن بنفيه. فإن قلت: قد ذكره من الوجوه الشرعية أن الجنة من
مقتضى رحمته والنار من عذابه فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من
لوازم ذاته فيجب دوامه بدوام معاني أسمائه وصفاته والعذاب من مخلوقاته
والمخلوق قد يكون له انتهاء لا سيما مخلوق خلق لحكمة تتعلق بغيره.
154

قلت: ومن أسمائه تعالى شديد العقاب والجبار والقهار والمذل والمنتقم
فيجب دوامه بدوام ذاته وأسمائه أيضا فنقول لهذا الرجل إن كانت هذه الأسماء
والصفات تقتضي دوام ما يقتضيه من الأفعال فيلزم قدم العالم وإن كانت لا
تقتضي فلا يلزم دوام الجنة فأحد الأمرين لازم لكلام هذا الرجل وكل من الأمرين
باطل فكلام هذا الرجل باطل فإن قلت: قد قال إنه خبر أن رحمته وسعت كل
شئ وسبقت رحمتي غضبي فإذا قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك
رحمة البتة. قلت: الآخرة داران دار رحمة لا يشوبها شئ وهي الجنة
ودار عذاب لا يشوبه شئ وهي النار وذلك دليل على القدرة والدنيا
مختلطة بهذا وبهذا فقوله إذا قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة
البتة إن أراد نفي الرحمة مطلقا فليس بصحيح لأن هناك كمال الرحمة في
الجنة وإن أراد لم يكن في النار قلنا مه؟ وإن قال إنها شئ والعقاب شئ
وقد قال تعالى (فسأكتبها للذين يتقون) فإن قلت قد ثبت أنه حكيم
رحيم والنفوس الشريرة التي لو ردت إلى الدنيا لعادت لا تصلح أن تسكن
دار السلام فإذا عذبوا عذابا تخلص نفوسهم من ذلك الشر كان هذا
معقولا في الحكمة أما خلق نفوس تعمل الشر في الدنيا وفي الآخرة لا
تكون إلا في العذاب فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة
ما لا يظهر في غيره، ولهذا كان جهم ينكر أن يكون الله تعالى أرحم
الراحمين بل يفعل ما يشاء والذين سلكوا طريقته كالأشعري وغيره ليس
عندهم في الحقيقة له حكمة ولا رحمة وإذا ثبت أنه حكيم رحيم وعلم
بطلان قول جهم تعين إثبات ما تقتضيه الحكمة والرحمة وما قاله المعتزلة
أيضا باطل فقول القدرية والمجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل ومن
أعظم غلطهم اعتقادهم تأبيد جهنم فإن ذلك مستلزم ما قالوه وقد أخبر
تعالى أن أهل الجنة والنار لا موتون فلا بد لهم من دار ومحال أن يعذبوا
بعد دخول الجنة فلم يبق إلا دار النعيم والحي لا يخلو من لذة أو ألم فإذا
انتفى الألم تعينت اللذة الدائمة قلت: قد صرح بما صرح به في آخر
كلامه فيقتضي أن إبليس وفرعون وهامان وسائر الكفار يصيرون إلى النعيم
155

المقيم واللذة الدائمة وهذا ما قال به مسلم ولا نصراني ولا يهودي ولا
مشرك ولا فيلسوف أما المسلمون فيعتقدون دوام الجنة والنار وأما المشرك
فيعتقد عدم البعث وأما الفيلسوف فيعتقد أن النفوس الشريرة في ألم فهذا
القول الذي قاله هذا الرجل ما نعرف أحدا قاله وهو خروج عن الإسلام
بمقتضى العلم إجمالا وسبحان الله إذا كان الله تعالى يقول (أولئك
الذين يئسوا من رحمتي) وكذلك قوله تعالى (كلما خبت زدناها
سعيرا) ونبيه صلى الله عليه وسلم يخبر بذبح الموت بين الجنة والنار ولا شك أن ذلك
إنما يفعل إشارة إلى يأسهم وتحققهم البقاء الدائم في العذاب فلو كانوا
ينتقلون إلى اللذة والنعيم لكان ذلك رجاء عظيما لهم وخيرا من الموت
ولم يحصل لهم اليأس فمن يصدق بهذه الآيات والأحاديث كيف يقول
هذا الكلام وما قاله من مخالفة الحكمة جهل وما ينسبه إلى الأشعري
رضي الله عنه افتراء عليه نعوذ بالله تعالى منه. فإن قلت: قد يقول إنه
تخلص نفوسهم من الشر بذلك العذاب فيسلمون. قالت: معاذ الله أما
إسلامهم في الآخرة فلا ينفعهم بإجماع المسلمين وبقوله تعالى (لا ينفع
نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) وأما خلوصهم من الشرط فباطل
لقوله تعالى (ختم الله على قلوبهم) و (طبع على قلوبهم) فهذا
يستحيل أن يخرج الشر من قلوبهم أو يدخل فيها خير. فإن قلت: ما في
خلق هؤلاء من الحكمة قلت إظهار القدرة واعتبار المؤمنين وفكرتهم في
عظمة الله تعالى القادر على أن يخلق الملائكة والبشر الصالحين والأنبياء
ومحمدا صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وعلى أن يخلق من الطرف الآخر فرعون وهامان
وأبا جهل وشياطين الجن والإنس وإبليس رأس الضلال والقادر على خلق
دارين متمحضة كل واحدة منهما هذه للنعيم المقيم وهذه للعذاب الأليم
ودار ثالثة وهي الدنيا ممتزجة من النوعين فسبحان من هذه قدرته وجلت
عظمته وكان الله سبحانه قادرا أن يخلق الناس كلهم مؤمنين طائعين ولكن
أراد سبحانه أن يبين الشئ وضده علمه من علمه وجهله من جهله،
والعلم منشأ السعادة كلها نشأ عنه الإيمان والطاعة، والجهل منشأ الشقاوة
156

كلها نشأ عنه الكفر والمعصية وما رأيت مفسدة من أمور الدنيا والآخرة
تنشأ إلا عن الجهل فهو أضر الأشياء. فإن قلت: قد نقل عن جهم
وأصحابه أنهم قالوا بفناء الجنة والنار وإن أئمة الإسلام كفروهم بذلك
لأربع آيات من القرآن قوله تعالى (أكلها دائم) و (ماله نفاد) (لا
مقطوعة ولا ممنوعة) (عطاء غير مجذوذ) ولما رواه الطبراني وابن
ماجة في التفسير. قلت: من قال بفناء الجنة والنار أو أحدهما فهو
كافر. فإن قلت: قد قال هذا المصنف إن هذا قاله جهم لأصله الذي
اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام
استدلوا به على حدوث الأجسام وحدوث ما لا يخلو من الحوادث قلت:
في هذا دسيسة يشبه أن يكون هذا المصنف قصد به التطرق إلى حلول
الحوادث بذات الباري تعالى وتنزه وقد أطال الكلام في ذلك وقال بعده
أنه اشتبه هذا على كثير من أهل الكلام هذا ما اعتقدوه حقا حتى بنوا
عليه حدوث ما لم يخل عن الحوادث ثم قال وعليه أيضا نفي الصفات
لأنها أعراض لا تقوم إلا بجسم هذا كلامه ويشبه أن يكون عمل هذا
التصنيف وسيلة إلى تقرير ذلك نسأل الله تعالى العافية والسلامة والحمد
لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وذريته
والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا..
قال مصنفها التقي السبكي صنفتها في ذي الحجة سنة ثمان
وأربعين وسبعمائة والحمد لله رب العالمين
157

الرسالة الخامسة
رسالة في نفي الجهة
تأليف
شهاب الدين أحمد بن يحيى بن جبريل الكلابي
المتوفى سنة 733 ه‍
159

بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله العظيم شأنه القوي سلطانه القاهر ملكوته الباهر جبروته
الغني عن كل شئ وكل شئ مفتقر إليه فلا معول لشئ من الكائنات
إلا عليه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالمحجة البيضاء والملة الزهراء، فأتى
بأوضح البراهين ونور محجة السالكين ووصف ربه تعالى بصفات
الجلال ونفى عنه ما لا يليق بالكبرياء والكمال فتعالى الله الكبير
المتعال عما يقوله أهل الغي والضلال، لا يحمله العرش بل العرش
وحملته محمولون بلطيف قدرته مقهورون في قبضته أحاط بكل شئ
علما وأحصى كل شئ عددا، مطلع على هواجس الضمائر وحركات
الخواطر، فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه يسأله من في السماوات
والأرض لافتقارهم إليه كل يوم هو في شأن لاقتداره عليه والصلاة
والسلام على سيدنا محمد خاتم أنبيائه ومبلغ أنبائه وعلى آله وصحبه
وسلم.
أما بعد فالذي دعا إلى تسطير هذه النبذة ما وقع في هذه المدة
مما علقه بعضهم في إثبات الجهة واغتر بها من لم يرسخ في التعليم
قدمه، ولم يتعلق بأذيال المعرفة ولا كبحه لجام الفهم ولا استبصر بنور
الحكمة، فأحببت أن أذكر عقيدة أهل السنة والجماعة ثم أبين فساد ما
ذكره مع أنه لم يدع دعوى إلا نقضها ولا اطرد قاعدة إلا هدمها، ثم

(1) راجع طبقات الشافعية 6 / 181 ترجمة أحمد بن يحيى بن إسماعيل الكلابي.
161

استدل على عقيدة أهل السنة وما يتعلق بذلك وها أنا أذكر قبل ذلك
مقدمة يستضاء بها في هذا المكان. فأقول وبالله المستعان: مذهب
الحشوية في إثبات الجهة مذهب واه ساقط يظهر فساده من مجرد
تصوره، حتى قالت الأئمة لولا اغترار العامة بهم لما صرف إليهم عنان
الفكر ولا خط القلم في الرد عليهم وهم فريقان فريق لا يتحاشى في
إظهار الحشو ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون، وفريق
يتستر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه أو هوى يجمع عليه
الطغام الجهلة والرعاع السفلة لعلمه أن إبليس ليس له دأب إلا خذلان
أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك لا يجمع قلوب العامة إلا على بدعة وضلالة يهدم
بها الدين ويفسد بها اليقين فلم يسمع في التواريخ أنه خزاه الله جمع غير
خوارج أو رافضة أو ملاحدة أو قرامطة وأما السنة والجماعة فلا تجتمع
إلا على كتاب الله المبين وحبله المتين * وفي هذا الفريق من يكذب
على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويزعم أنهم يقولون
بمقالته ولو أنفق ملء الأرض ذهبا ما استطاع أن يروج عليهم كلمة
تصدق دعواه، وتستر هذا الفريق بالسلف حفظا لرياسته والحطام الذي
يجتلبه يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهؤلاء يتحلون بالرياء
والتقشف فيجعلون الروث مفضضا والكنيف مبيضا ويزهدون في الذرة
ليحصلوا الدرة أظهروا للناس نسكا وعلى المنقوش داروا ومذهب
السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه والمبتدعة
تزعم أنها على مذهب السلف.
وكل يدعون وصال ليلى * وليلى لا تقر لهم بذاكا
وكيف يعتقد في السلف أنهم يعتقدون التشبيه أو يسكتون عند
ظهور أهل البدع وقد قال الله (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا
الحق وأنتم تعلمون) وقال الله تعالى (وإذ أخذنا ميثاق الذين أوتوا
الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقال الله تعالى (لتبين للناس ما نزل
162

إليهم " ولقد كانت الصحابة رضي الله عنهم لا يخوضون في شئ من
هذه الأشياء لعلمهم أن حفظ الدهماء أهم الأمور مع أن سيوف
حججهم مرهفة ورماحهم مشحونة ولذلك لما نبغت الخوارج راجعهم
حبر الأمة وعالمها وابنا عم رسولها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
وعبد الله بن عباس فاهتدى البعض بالمناظرة وأصر الباقون عنادا فتسلط
عليهم السيف.
ولكن حكم السيف فيكم مسلط * فترضى إذا ما أصبح السيف راضيا
وكذلك لما نبع القدر ونجم به معبد الجهمي قيض الله تعالى له
زاهد الأمة وابن فاروقها عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
ولو لم تنبع هذان البدعتان لما تكلمت الصحابة رضي الله عنهم في رد
هذا ولا إبطال هذا ولم يكن دأبهم إلا الحث على التقوى والغزو وأفعال
الخير، ولذلك لم ينقل عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه
رضي الله عنهم أنه جمع الناس في مجمع عام ثم أمرهم أن يعتقدوا
في الله تعالى كذا وكذا، وقد صدر ذلك في أحكام شتى وإنما نتكلم
فيها بما يفهمه الخاص ولا ينكره العام وبالله أقسم يمينا برة ما هي مرة
بل ألف ألف مرة أن سيد الرسل صلى الله عليه وسلم لم يقل أيها الناس اعتقدوا أن الله
تعالى في جهة العلو ولا قال ذلك الخلفاء الراشدون ولا أحد من
الصحابة بل تركوا الناس وأمر التعبدات والأحكام ولكن لما ظهرت
البدع قمعها السلف أما التحريك للعقائد والتشمير لإظهارها وإقامة
ثائرها فما فعلوا ذلك بل حسموا البدع عند ظهورها. ثم الحشوية إذا
بحثوا في مسائل أصول الدين مع المخالفين تكلموا بالعقول وتصرفوا
في المنقول فإذا وصلوا إلى الحشو تبلدوا وتأسوا فتراهم لا يفهمون
بالعربية ولا بالعجمية كلا والله والله لو فهموا لهاموا ولكن اعترضوا بحر
الهوى فشقوه وعاموا وأسمعوا كل ذي عقل ضعيف وذهن سخيف،
وخالفوا السلف في الكف عن ذلك مع العوام ولقد كان الحسن
163

البصري رضي الله عنه إذا تكلم في علم التوحيد أخرج غير أهله
وكانوا رحمهم الله تعالى لا يتكلمون فيه إلا مع أهل السنة منهم إذ هي
قاعدة أهل التحقيق وكانوا يضنون به على الأحداث، وقالوا: الأحداث
هم المستقلون الأمور المبتدؤون في الطريق فلم يجربوا الأمور ولم
يرسخ لهم فيها قدم وإن كانوا أبناء سبعين سنة، وقال سهل رضي الله
عنه: لا تطلعوا الأحداث على الأسرار قبل تمكنهم من اعتقاد أن الإله
واحد وأن الموجد فرد صمد منزه عن الكيفية والأينية لا تحيط به الأفكار
ولا تكيفه الألباب. وهذا الفريق لا يكتفي من إيمان الناس إلا باعتقاد
الجهة وكأنه لم يسمع الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث أفلا يكتفي بما اكتفى به
نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى أنه يأمر بالخوض في بحر لا ساحل
له ويأمرهم بالتفتيش عما لم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفتيش
عنه ولا أحد من أصحابه رضي الله عنهم ولا تنازل واكتفى
بما نقل عن إمامه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه
حيث قال: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والحديث، ونعلم أن ما وصف الله به
من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاج، بل معناه يعرف من حيث
يعرف مقصود المتكلم بكلامه وهو مع ذلك ليس كمثله شئ في نفسه
المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله فكان ينبغي أن الله
سبحانه له ذات حقيقية وأفعال حقيقية وكذلك له صفات حقيقية وهو
ليس كمثله شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وكل ما أوجب
نقصا أو حدوثا فإن الله عز وجل منزه عنه حقيقة فإنه سبحانه مستحق
للكمال الذي لا غاية فوقه وممتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه
واستلزام الحدوث سابقا لعدم وافتقار الحدث إلى المحدث وجوب
وجوده بنفسه سبحانه وتعالى هذا نص إمامه فهلا اكتفى به ولقد أتى
إمامه في هذا الكلام بجوامع الكلم وساق أدلة المتكلمين على ما يدعيه
164

هذا المارق بأحسن رد وأوضح معان مع أنه لم يأمر بما أمر به هذا
الفريق، وقد قال الشافعي رضي الله عنه.: سألت مالكا عن التوحيد
فقال: محال أن نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم
التوحيد وقد قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
الحديث فبين مالك رضي الله عنه أن المطلوب من الناس في التوحيد
هو ما اشتمل عليه هذا الحديث ولم يقل من التوحيد اعتقاد أن الله
تعالى في جهة العلو. وسئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن صفات
الله فقال حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحدوا
على الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى الضمائر أن تعمق
وعلى الخواطر أن تحيط إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن
تقصى وفتش وبحث وجد أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والصدر
الأول لم يكن دأبهم غير الامساك عن الخوض في هذه الأمور وترك
ذكرها في المشاهد ولم يكونوا يدسونها إلى العوام ولا يتكلمون بها
على المنابر ولا يوقعون في قلوب الناس منها هواجس كالحريق المشعل
وهذا معلوم بالضرورة من سيرهم وعلى ذلك بنينا عقيدتنا وأثبتنا نحلتنا
وسيظهر لك إن شاء الله تعالى موافقتنا للسلف ومخالفة المخالف
طريقتهم وإن ادعى الاتباع فما سالك غير الابتداع.
وقول المدعي إنهم أظهروا هذا ويقول علم النبي كل شئ حتى
الخرأة وما علم هذا المهم هذا التبهرج لا يمشي على الصيرفي النقاد
أو ما علم أن الخرأة يحتاج إليها كل واحد وربما تكررت الحاجة إليها
في اليوم مرات وأي حاجة بالعوام إلى الخوض في الصفات نعم الذي
يحتاجون إليه من التوحيد قد تبين في حديث أمرت أن أقاتل الناس ثم
هذا الكلام من المدعي يهدم بنيانه ويهد أركانه فإن النبي صلى الله عليه وسلم علم
الخرأة تصريحا وما علم الناس أن الله في جهة العلو وما ورد من
العرش والسماء في الاستواء قد بنى المدعي مبناه وأوثق عرى دعواه
على أن المراد بهما شئ واحد وهو جهة العلو، فما قاله هذا المدعي
165

لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وعلمهم الخرأة فعند المدعي يجب تعليم
العوام حديث الجهة وما علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما نحن فالذي نقوله
إنه لا يخاض في مثل هذا ولنسكت عنه كما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ويسعنا ما وسعهم ولذلك لم يوجد منا أحد يأمر العوام بشئ
من الخوض في الصفات والقوم قد جعلوا دأبهم الدخول فيها والأمر بها
فليت شعري من الأشبه بالسلف * وها نحن نذكر عقيدة أهل السنة
(فنقول): عقيدتنا أن الله قديم أزلي لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ ليس
له جهة ولا مكان ولا يحتوي عليه وقت ولا زمان ولا يقال له أين ولا
حيث يرى لا عن مقابلة ولا على مقابلة كان ولا مكان كون المكان ودبر
الزمان وهو الآن على ما عليه كان. هذا مذهب أهل السنة وعقيدة
مشايخ الطريق رضي الله عنهم قال الجنيد رضي الله عنه: متى يتصل
من لا شبيه ولا نظير له بمن له شبيه ونظير، وكما قيل ليحيى بن معاذ
الرازي أخبرنا عن الله عز وجل فقال: إله واحد، فقيل له: كيف هو؟
فقال: ملك قادر فقيل له أين هو فقال: بالمرصاد فقال السائل لم
أسألك عن هذا فقال: ما كان غير هذا كان صفة المخلوق فأما صفته فما
أخبرت عنه، وكما سأل ابن شاهين الجنيد رضي الله عنهما عن معنى
مع فقال مع علي معنيين مع الأنبياء بالنصرة والكلاءة قال الله تعالى
(إنني معكما أسمع وأرى) ومع العالم بالعلم والإحاطة قال الله تعالى
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) فقال ابن شاهين مثلك يصلح
دالا للأمة على الله، وسئل ذو النون المصري رضي الله عنه عن قوله
(الرحمن على العرش استوى) فقال أثبت ذاته ونفى مكانه فهو موجود
بذاته والأشياء بحكمته كما شاء، وسئل عنه الشبلي رضي الله عنه
فقال: الرحمن لم يزل والعرش محدث والعرش بالرحمن استوى،
وسئل عنها جعفر بن نصير فقال استوى علمه بكل شئ وليس شئ
أقرب إليه من شئ، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: من زعم أن الله
في شئ أو من شئ أو على شئ فقد أشرك إذ لو كان في شئ لكان
166

محصورا ولو كان على شئ لكان محمولا ولو كان من شئ لكان
محدثا، وقال محمد بن محبوب خادم أبي عثمان المغربي قال لي أبو
عثمان المغربي يوما يا محمد لو قال لك قائل أين معبودك أيش تقول؟
قلت: أقول حيث لم يزل. قال فإن قال فأين كان في الأزل أيش
تقول؟ قلت: حيث هو الآن يعني أنه كان ولا مكان فهو الآن كما كان
قال فارتضى ذلك مني ونزع قميصه وأعطانيه. وقال أبو عثمان المغربي
كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي
فكتبت إلى أصحابي بمكة أني أسلمت جديدا قال فرجع كل من كان
تابعه على ذلك فهذه كلمات أعلام أهل التوحيد وأئمة جمهور الأمة
سوى هذه الشرذمة الزائفة وكتبهم طافحة بذلك وردهم على هذه المنازعة
لا يكاد يحصر وليس غرضنا من ذلك تقليدهم لمنع ذلك في أصول
الديانات بل إنما ذكرت ذلك ليعلم أن مذهب أهل السنة ما قدمناه.
ثم إن في قولنا إن آيات الصفات وأخبارها على من يسمعها
وظائف التقديس والإيمان بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم على
مراد الله تعالى ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق والاعتراف بالعجز
والسكوت والإمساك عن التصرف في الألفاظ الواردة وكف الباطن عن
التفكر في ذلك واعتقاد أن ما خفي عليه منها لم يخف عن الله ولا عن
رسوله صلى الله عليه وسلم وسيأتي شرح هذه الوظائف إن شاء الله تعالى فليت شعري
في أي شئ نخالف السلف هل هو في قولنا كان ولا مكان أو في قولنا
إنه تعالى كون المكان أو في قولنا وهو الآن على ما عليه كان أو في قولنا
تقدس الحق عن الجسمية ومشابهتها أو في قولنا يجب تصديق ما قاله الله ورسوله
بالمعنى الذي أراد أو في قولنا يجب الاعتراف بالعجز أو في قولنا
نسكت عن السؤال والخوض فيما لا طاقة لنا به أو في قولنا يجب
إمساك اللسان عن تغيير الظواهر بالزيادة والنقصان، وليت شعري فيما ذا
وافقوا هم السلف هل في دعائهم إلى الخوض في هذا والحث على
البحث مع الأحداث المغترين والعوام الطغام الذين يعجزون عن غسل
167

محل النجو وإقامة دعائم الصلاة أو وافقوا السلف في تنزيه الباري
سبحانه وتعالى عن الجهة وهل سمعوا في كتاب الله أو أثارة من علم
عن السلف أنهم وصفوا الله تعالى بجهة العلو وإن كل ما لا يصفه به
فهو ضال مضل من فراخ الفلاسفة واليهود واليونان انظر كيف يفترون
على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ونحن الآن نبتدئ بإفساد ما ذكره
ثم بعد ذلك نقيم الحجة على نفي الجهة والتشبيه وعلى جميع ما
يدعيه وبالله المستعان.
(فأقول): ادعى أولا أنه يقول بما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ثم إنه قال ما لم يقله
الله ولا رسوله ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولا شيئا
منه. فأما الكتاب والسنة فسنبين مخالفته لهما، وأما السابقون الأولون
من المهاجرين والأنصار فذكره لهم في هذا الموضع استعاره للتهويل
وإلا فهو لم يورد من أقوالهم كلمة واحدة لا نفيا ولا إثباتا. وإذا
تصفحت كلامه عرفت ذلك اللهم إلا أن يكون مزاده بالسابقين الأولين
من المهاجرين والأنصار مشايخ عقيدته دون الصحابة وأخذ بعد هذه
الدعوى في مدحه صلى الله عليه وسلم وفي مدح دينه وأن أصحابه أعلم الناس بذلك
والأمر كما قاله وفوق ما قاله، وكيف المدائح تستوفي مناقبه ولكن
كلامه كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلمة حق
أريد بها باطل ثم أخذ بعد ذلك في ذم الأئمة وأعلام الأمة حيث
اعترفوا بالعجز عن إدراكه سبحانه وتعالى مع أن سيد الرسل صلى الله عليه وسلم قال:
لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وقال الصديق رضي
الله عنه العجز عن درك الادراك إدراك وتجاسر المدعي على دعوى
المعرفة وأن ابن الحيض قد عرف القديم على ما هو عليه ولا غرور ولا
جهل أعظم ممن يدعي ذلك فنعوذ بالله من الخذلان ثم أخذ بعد ذلك
في نسبة مذهب جمهور أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أنه مذهب فراخ الفلاسفة
وأتباع اليونان اليهود ستكتب شهادتهم ويسئلون ثم قال كتاب الله تعالى
168

من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام
الصحابة والتابعين ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر
في الله تعالى أنه فوق كل شئ وعلى كل شئ وأنه فوق العرش وأنه
فوق السماء وقال في أثناء كلامه وأواخر ما زعمه أنه فوق العرش حقيقة
وقاله في موضع آخر عن السلف فليت شعري أين هذا في كتاب الله
تعالى على هذه الصورة التي نقلها عن كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهل في
كتاب الله تعالى كلمة مما قاله حتى يقول إنه فيه نص والنص هو الذي
لا يحتمل التأويل البتة وهذا مراده فإنه جعله غير الظاهر لعطفه له عليه
وأي آية في كتاب الله تعالى نص بهذا الاعتبار فأول ما استدل به قوله
تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب) فليت شعري أي نص في الآية أو
ضاهر على أن الله تعالى في السماء أو على العرش ثم نهاية ما يتمسك
به أنه يدل على علو يفهم من الصعود وهيهات زل حمار العلم في
الطين فإن الصعود في الكلام كيف يكون حقيقة مع أن المفهوم في
الحقائق أن الصعود من صفات الأجسام فليس المراد إلا القبول ومع
هذا لا حد ولا مكان وأتبعها بقوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي)
وما أدري من أين استنبط من هذا الخبر أن الله تعالى فوق العرش من
هذه الآية هل ذلك بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام أو هو شئ
أخذه بطريق الكشف والنفث في الروع ولعله اعتقد أن الرفع إنما يكون
في العلو في الجهة، فإن كان كما خطر له فذاك أيضا لا يعقل إلا في
الجسمية والحدية وأنه لم يقل بهما فلا حقيقة فيما استدل به، وإن قال
بهما فلا حاجة إلى المغالطة، ولعله لم يسمع الرفع في المرتبة
والتقرب في المكانة مع استعمال العرب والعرف ولا فلان رفع الله شأنه
وأتبع ذلك بقوله (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض)
وخص هذا المستدل من بالله تعالى ولعله لم يجوز أن المراد به ملائكة
الله تعالى ولعله يقول إن الملائكة لا تفعل ذلك ولا أن جبريل عليه
السلام خسف بأهل سدوم فلذلك استدل بهذه الآية، ولعلها هي النص
169

الذي أشار إليه وأتبعه بقوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه)
والعروج والصعود شئ واحد ولا دلالة في الآية على أن العروج إلى
سماء ولا عرش ولا شئ من الأشياء التي ادعاها بوجه من الوجوه لأن
حقيقته المستعملة في لغة العرب في الانتقال في حق الأجسام إذ لا
تعرف العرب إلا ذلك فليته أظهره واستراح من كتمانه وأردفه بقوله
تعالى (يخافون ربهم من فوقهم) وتلك أيضا لا دلالة له فيها على سماء
ولا عرش ولا أنه في شئ من ذلك حقيقة.
ثم الفوقية ترد لمعنيين: (أحدهما) نسبة جسم إلى جسم بأن يكون
أحدهما أعلى والآخر أسفل بمعنى أن أسفل الأعلى من جانب رأس
الأسفل وهذا لا يقول به من لا يجسم وبتقدير أن يكون هو المراد وأنه
تعالى ليس بجسم فلم لا يجوز أن يكون من فوقهم صلة ليخافون
ويكون تقدير الكلام يخافون من فوقهم ربهم أي أن الخوف من جهة
العلو وأن العذاب يأتي من تلك الجهة.
وثانيهما: بمعنى المرتبة كما يقال الخليفة فوق السلطان والسلطان
فوق الأمير وكما يقال جلس فلان فوق فلان والعلم فوق العمل
والصباغة فوق الدباغة وقد وقع ذلك في قوله تعالى حيث قال (ورفعنا
بعضهم فوق بعض درجات) ولم يطلع أحدهم على أكتاف الآخر ومن
ذلك قوله تعالى (وإنا فوقهم قاهرون) وما ركبت القبط أكتاف بني
إسرائيل ولا ظهورهم. وأردف ذلك بقوله تعالى (الرحمن على العرش
استوى) وورد هذا في كتاب الله في ستة مواضع من كتابه وهي عمدة
المشبهة وأقوى معتمدهم حتى أنهم كتبوها على باب جامع همذان
فلنصرف العناية إلى إيضاحها.
(فنقول): إما أنهم يعزلون العقل بكل وجه وسبب ولا يلتفتون
إلى ما يسمى فهما وإدراكا فمرحبا بفعلهم وتقول الرحمن على العرش
استوى وإن تعدوا هذا وقالوا هذا يدل إنه مستو على العرش فلا حبا ولا
170

كرامة فإن الله تعالى ما قاله مع أن علماء البيان كالمتفقين على أن في
. اسم الفاعل من الثبوت ما لا يفهم من الفعل، وإن قالوا هذا يدل على
أنه فوقه فقد تركوا ما التزموه وبالغوا في التناقض والتشهي والجرأة،
وإن قالوا بل ننفي العقل ونفهم ما هو المراد فنقول لهم ما هو الاستواء
في كلام لعرب فإن قالوا الجلوس والاستقرار، قلنا: هذا ما تعرفه
العرب إلا في الجسم يقولوا يستوي جسم على العرش وإن قالوا جلوس
واستقرار نسبته إلى ذات الله تعالى كنسبة الجلوس إلى الجسم فالعرب
لا تعرف هذا حتى يكون هو الحقيقة ثم العرب تفهم استواء الفدح
الذي هو ضد الاعوجاج فوصفوه بذلك وتبرؤوا معه من التجسيم وسدوا
باب الحمل على غير الجلوس ولا يسدونه في قوله تعالى (وهو معكم
أين ما كنتم) وقوله تعالى (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ولا
تقولوا معهم في العلم وإن قلتم ذلك فلم تحلونه عاما وتحرمونه عاما
ومن أين لكم أن ليس الاستواء فعلا من أفعاله تعالى في العرش.
فإن قالوا: ليس هذا كلام العرب قلنا: ولا تعرف العرب استوى
بالمعنى الذي تقولونه بلا جسم ولقد رام المدعي التفلت من شرك
التجسيم بما زعمه من أن الله تعالى في جهة وأنه استوى على العرش
استواء يليق بجلاله فنقول له قد صرت الآن إلى قولنا في الاستواء.
وأما الجهة فلا تليق بالجلال. وأخذ على المتكلمين قولهم إن الله
تعالى لو كان في جهة فإما أن يكون أكبر أو أصغر أو مساويا وكل ذلك
محال قال فلم يفهموا من قول الله تعالى على العرش إلا ما يثبتون لأي
جسم كان على أي جسم كان قال وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم وأما
استواء يليق بجلال الله فلا يلزمه شئ من اللوازم فنقول له أتميميا مرة
وقيسيا أخرى إذا قلت استوى استواء يليق بجلال الله فهو مذهب
المتكلمين وإذا قلت استواء هو استقرار واختصاص بجهة دون أخرى لم
يجد ذلك تخلصا من الترديد المذكور والاستواء بمعنى الاستيلاء وأشهد
لله في هذه الآية أنها لم ترد قط إلا في إظهار العظمة والقدرة والسلطان
171

والملك والعرب تكنى بذلك عن الملك فيقولون فلان استوى على
كرسي المملكة وإن لم يكن جلس عليه مرة واحدة ويريدون بذلك
الملك.
وأما قولهم: فإن حملتم الاستواء على الاستيلاء؟ لم يبق لذكر
العرش فائدة فإن ذلك في حق كل المخلوقات فلا يختص بالعرش.
فالجواب عنه: أن كل الموجودات لما حواها العرش كان الاستيلاء عليه
استيلاء على جميعها ولا كذلك غيره وأيضا فكناية العرب السابقة
ترجحه وقد تقدم الكلام عن السلف في معنى الاستواء كجعفر الصادق
ومن تقدم وقولهم استوى بمعنى استولى إنما يكون فيما يدافع عليه،
قلنا واستوى بمعنى جلس أيضا إنما يكون في جسم وأنتم قد قلتم إنكم
لا تقولون به، ولو وصفوه تعالى بالاستواء على العرش لما أنكرنا
عليهم ذلك بل نعدهم إلى ما يشبه التشبيه أو هو التشبيه المحظور والله
الموفق.
واستدل بقوله تعالى حكاية عن فرعون (يا هامان ابن لي صرحا
لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى) فليت
شعري كيف فهم من كلام فرعون أن الله تعالى فوق
السماوات وفوق العرش يطلع إلى إله موسى أما إن إله موسى
في السماوات فما ذكره وعلى تقدير فهم ذلك من كلام فرعون فكيف
يستدل بظن فرعون وفهمه مع إخبار الله تعالى عنه أنه زين له سوء عمله
وأنه حاد عن سبيل الله عز وجل وأن كيده في ضلال مع أنه لما سأل
موسى عليه السلام وقال وما رب السماوات لم يتعرض موسى عليه
السلام للجهة بل لم يذكر إلا أخص الصفات وهي القدرة على
الاختراع، ولو كانت الجهة ثابتة لكان التعريف بها أولى لأن الإشارة
الحسية من أقوى المعرفات حسا وعرفا وفرعون سأل بلفظة ما فكان
الجواب بالتحيز أولى من الصفة وغاية ما فهمه من هذه الآية واستدل به
172

فهم فرعون فيكون عمدة هذه العقيدة كون فرعون ظنها فيكون هو
مشيدها فليت شعري لم لا ذكر النسبة إليه كما ذكر أن عقيدة سادات
أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين خالفوا اعتقاده في مسألة التحيز والجهة الذين
ألحقهم بالجهمية متلقاة من لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر
النبي صلى الله عليه وسلم وختم الآيات الكريمة بالاستدلال بقوله تنزيل من حكيم حميد
منزل من ربك بالحق وما في الآيتين لا عرش ولا كرسي ولا سماء ولا
أرض بل فيهما مجرد التنزيل، وما أدري من أي الدلالات استنبطها
المدعي فإن السماء لا تفهم من التنزيل فإن التنزيل قد يكون من
السماء وقد يكون من غيرها ولا تنزيل القرآن كيف يفهم منه النزول
الذي هو انتقال من فوق إلى أسفل فإن العرب لا تفهم ذلك في كلام
سواء كان من غرض أو غير غرض وكما تطلق العرب النزول على
الانتقال تطلقه على غيره كما جاء في كتابه العزيز (وأنزلنا الحديد فيه
بأس شديد) وقوله تعالى (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) ولم
ير أحد قطعة حديد نازلة من السماء في الهواء ولا جملا ينزل من
السماء إلى الأرض فكما جوزنا هنا أن النزول غير الانتقال من العلو
إلى السفل، فلنجوزه هناك هذا ما استدل به من الكتاب العزيز.
وقد ادعى أولا أنه يقول ما قاله الله وإن ما ذكره من الآيات دليل
على قوله إما نصا وإما ظاهرا وأنت إذا رأيت ما ادعاه وأمعنت النظر فيما
قلناه واستقريت هذه الآيات لم تجد فيها كلمة على وفق ما قاله أولا لا
نصا ولا ظاهرا البتة وكل أمر بعد كتاب الله تعالى والدعوى عليه خلل.
ثم استدل من السنة بحديث المعراج ولم يرد في حديث المعراج إن
الله فوق السماء أو فوق العرش حقيقة ولا كلمة واحدة من ذلك وهو لم
يسرد حديث المعراج ولا بين الدلالة منه حتى نجيب عنه، فإن بين
وجه الدلالة عرفناه كيف الجواب واستدل بنزول الملائكة من عند الله
تعالى. والجواب عن ذلك إن نزول الملائكة من السماء إنما كان لأن
173

السماء مقرهم والعندية لا تدل على أن الله في السماء لأنه يقال في
الرسل الآدميين إنهم من عند الله وإن لم يكونوا نزلوا من السماء على
أن العندية قد يراد بها الشرف والرتبة قال الله تعالى: (وإن له عندنا
لزلفى وحسن مآب) وتستعمل في غير ذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
حكاية عن ربه عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وذكر عروج الملائكة
وقد سبق، وربما شد فقار ظهره وقوى منه متنه بلفظة إلى ربهم وإن إلى
لانتهاء الغاية وإنها في قطع المسافة وإذا سكت عن هذا لم يتكلم
بكلام العرب فإن المسافة لا تفهم العرب منها إلا ما تنتقل فيه الأجسام
وهو يقول إنهم لا يقولون بذلك وقد قال الخليل صلى الله عليه وسلم إني ذاهب إلى
ربي وليس المراد بذلك الانتهاء الذي عناه المدعي بالاتفاق فلم
يجتري على ذلك في كتاب الله تعالى ولا يجاب به في خبر الواحد.
وذكر قوله صلى الله عليه وسلم ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر من
في السماء صباحا ومساء وليس المراد بمن هو الله تعالى ولا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك ولا خصه به ومن أين للمدعي أنه ليس المراد بمن الملائكة فإنهم
أكبر المخلوقات علما بالله تعالى وأشدهم اطلاعا على القرب وهم يعلمون
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين وهو عندهم في هذه الرتبة فليعلم المدعي أنه ليسن
في الحديث ما ينفي هذا ولا يثبت ما ادعاه، ثم ذكر حديث الرقية ربنا
الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رزقك
في السماء الحديث وهذا الحديث بتقدير ثبوته فالذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيه
ربنا الذي في السماء تقدس اسمك ما سكت النبي صلى الله عليه وسلم على في السماء
فلأي معنى نقف نحن عليه ونجعل تقدس اسمك كلاما مستأنفا هل فعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أو أمر به، وعند ذلك لا يجد المدعي مخلصا إلا أن
يقول الله تقدس اسمه في السماء والأرض فلم خصصت السماء بالذكر؟
فنقول له: ما معنى تقدس إن كان المراد به التنزيه من حيث هو تنزيه
فلذلك ليس في سماء ولا أرض إذ التنزيه نفي النقائص وذلك لا تعلق له
174

بجرباء ولا غبراء، فإن المراد أن المخلوقات تقدسه وتعرفه بالتنزيه فلا
شك أن أهل السماء مطبقون على تنزيهه تعالى كما أنه لا شك أن في
أهل الأرض من لم ينزه وجعل له ندا ووصفه بما لا يليق بجلاله فيكون
تخصيص السماء بذكر التقديس فيها لانفراد أهلها بالإطباق على التنزيه.
كما أنه سبحانه لما انفرد في الملك في يوم الدين عمن يتوهم ملكه
خصصه بقوله تعالى (ملك يوم الدين) وكما قال سبحانه وتعالى بعد
زمان من ادعى الملك والملك لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وأعاد
هذا المدعي على الحديث من أوله ووصل إلى أن قال فليقل ربنا الذي
في السماء، قال وذكره ووقف على قوله في السماء فليت شعري هل جوز
أحد من العلماء أن يفعل مثل هذا وهل هذا إلا مجرد إيهام أن سيد
المرسلين صلى الله عليه وسلم وعليهم قال ربنا الله الذي في السماء.
وأما حديث الأوعال وما فيه من قوله والعرش فوق ذلك كله والله
فوق ذلك كله فهذا الحديث قد كثر منهم إيهام العوام أنهم يقولون به
ويروجون به زخارفهم ولا يتركون دعوى من دعواتهم عاطلة من التحلي
بهذا الحديث ونحن نبين أنهم لم يقولوا بحرف واحد منه ولا استقر لهم
قدم بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة بل نقضوا ذلك وإيضاح ذلك بتقديم
ما أخر هذا المدعي، قال في آخر كلامه: ولا يظن الظان أن هذا يخالف
ظاهر قوله تعالى (وهو معكم أينما كنتم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قام أحدكم
إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه ونحو ذلك قال فإن هذا غلط ظاهر وذلك
أن الله تعالى معنا حقيقة فوق العرش حقيقة قال كما جمع الله بينهما في
قوله: (هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم
استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من
السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) قال
هذا المدعي بملء ماضغيه من غير تكتم ولا تلعثم فقد أخبر الله تعالى أنه
فوق العرش ويعلم كل! شئ وهو معنا أينما كنا كما قال صلى الله عليه وسلم في
175

حديث الأوعال والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه فقد فهمت أن هذا
المدعي ادعى أن الله فوق العرش حقيقة واستدل بقوله تعالى (ثم استوى
على العرش) وجعل أن ذلك من الله تعالى خبر إنه فوق العرش وقد علم
كل ذي ذهن قويم وفكر مستقيم أن لفظ استوى على العرش ليس إلا مراد
فاللفظ فوق العرش حقيقة وقد سبق منا الكلام عليه، ولا في الآية ما يدل
على الجمع الذي ادعاه ولا بين التقريب في الاستدلال بل سرد آية من
كتاب الله تعالى لا ندري هل حفظها أو نقلها من المصحف. ثم شبه
الآية في الدلالة على الجمع بحديث الأوعال كما قال صلى الله عليه وسلم فيه والله فوق
العرش وقد علمت أنه ليس في الحديث ما يدل على المعية بل لا مدخل
لمع، في الحديث قال وذلك أن مع إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا
المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة ولا محاذاة عن يمين أو شمال،
فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى فإنه
يقال ما زلنا نسير والقمر معنا والنجم معنا ويقال هذا المتاع معنا وهو
لمجامعته معك وإن كان فوق رأسك فإن الله مع خلقه حقيقة ثم هذه
المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال (يعلم ما يلج في
الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم
أينما كنتم والله بما تعملون بصير) دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه
المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم عالم بكم، قال وهذا معنى قول السلف
إنه معهم بعلمه قال وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته قال وكذلك في قوله
تعالى (ما يكون من نجوى ثلاثة) الآية وفي قوله تعالى (لا تحزن إن
الله معنا) (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (إنني معكما
أسمع وأرى) قال ويقول أبو الصبي الذي فوق السقف لا تخف أنا معك
تنبيها على المعية الموجبة لحكم الحال، فليفهم الناظر أدب هذا المدعي
في هذا المثل وحسن ألفاظه في استثمار مقاصده ثم قال ففرق بين المعية
وبين مقتضاها المفهوم من معناها الذي يختلف باختلاف المواضع فليفهم
الناظر هذه العبارة التي ليست بالعربية ولا بالعجمية فسبحان المسبح
176

باللغات المختلفة. قال فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في
مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر هذه
عبارته بحروفها، ثم قال: فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع أو تدل
على قدر مشترك بين جميع مواردها وإن امتاز كل موضع بخاصية فليفهم
تقسيم هذا المدعي وحسن تصرفه قال فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن
يكون ذات الرب مختلطة بالخلق حتى يقال صرفت عن ظاهرها، ثم قال
في موضع آخر: من علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع
المخلوقات كإضافة الربوبية مثلا وأن الاستواء على العرش ليس إلا العرش
وأن الله تعالى يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية ولا يوصف بالسفول ولا
بالتحتية قط لا حقيقة ولا مجازا علم أن القرآن على ما هو عليه من غير
تحريف فليفهم الناظر هذه المقدمات القطعية وهذه العبارات الرائقة
الجلية، وحصر الاستواء على الشئ في العرش مما لا يقوله عاقل فضلا
عن جاهل.
ثم قال من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه
فهو كاذب إن نقله عن غيره وضال إن اعتقده في ربه وما سمعنا أحدا يفهمه
من اللفظ ولا رأينا أحدا نقله عن أحد فليستفد الناظر أن الفهم يسمع
قال: ولو سئل سائر المسلمين هل يفهمون من قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إن الله
تعالى في السماء أنها تحويه لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول هذا شئ لعله لم
يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا
لا يفهمه الناس منه ثم يريد أن يتأوله قال بل عند المسلمين إن الله في السماء وهو
على العرش واحد إذ السماء إنما يراد بها العلو فالمعنى الله في العلو لا في
السفل هكذا قال هذا المدعي فليشد الناظر على هذه بالخناصر وليعض عليها
بالنواجذ، وليعلم أن القوم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.
قال: وقد علم المسلمون أن كرسيه تعالى وسع السماوات والأرض
وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن العرش خلق من
177

مخلوقات الله تعالى لا نسبة له إلا قدرة الله وعظمته وكيف يتوهم متوهم
بعد هذا إن خلقا يحصره ويحويه وقد قال تعالى (ولأصلبنكم في جذوع
النخل) وقال تعالى (فسيروا في الأرض) بمعنى على ونحو ذلك وهذا
كلام عربي حقيقة لا مجاز وهذا يعلمه من عرف حقائق معنى الحروف
وأنها متواطئة في الغالب هذا آخر متمسك به فنقول: أولا ما معنى قولك
إن مع في اللغة للمقارنة المطلقة من غير مماسة ولا محاذاة وما هي
المقارنة فإن لم يفهم من المقارنة غير صفة لازمة للجسمية حصل
المقصود وإن فهم غيره، فليتنبه حتى ينظر هل تفهم العرب من المقارنة
ذلك أو لا. ثم قوله فإذا قيد بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في
ذلك المعنى فنقول له ومن نحا ذلك في ذلك قوله إنها في هذه المواضع
كلها بمعنى العلم قلنا: من أين لك هذا؟ فإن قال من جهة قوله تعالى
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) الآية دل ذلك على المعية
بالعلم وأنه على سبيل الحقيقة فنقول له قد كلت بالصاع الوافي فكل لنا
بمثله. واعلم أن فوق كما يستعمل في العلو في الجهة كذلك يستعمل
في العلو في المرتبة والسلطنة والملك وكذلك الاستواء فيكونان متواطئين
كما ذكرته حرفا بحرف وقد قال الله تعالى (وهو القاهر فوق عباده)
وقال تعالى (وفوق كل ذي علم عليم) وقال الله تعالى (يد الله فوق
أيديهم) وقال تعالى حكاية عن قوم فرعون (وأنا فوقهم قاهرون) وقال
تعالى (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) ومعلوم أنه ليس المراد جهة
العلو فأعد البحث وقل فوق العرش بالاستيلاء وكذا في حديث الأوعال وما
فعلته في مع فافعله في فوق وخرج هذا كما خرجت ذلك وإلا اترك
الجميع.
ثم قوله ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع
المخلوقات وأن الاستواء على الشئ ليس إلا العرش، قلنا: حتى نبصر
لك رجلا استعملها يعلم ما تقوله من غير دليل فإنك إن لم تقم دلالة على
178

ذلك وإلا أبرزت لفظة تدل على تحتم فوق للاستواء في جهة العلو فليت
شعري من أين تعلم إن المعية بالعلم حقيقة وإن آية الاستواء على العرش
وحديث الأوعال دالان على صفة الربوبية بالفوقية الحقيقية، اللهم غفرا
هذا لا يكون إلا بالكشف وإلا فالأدلة التي نصبها الله تعالى لتعرف بها
ذاته وصفاته وشرائعه لم يورد هذا المدعي منها حرفا واحدا على وفق
دعوى ولا ثبت له قدم إلا في مهوى ثم قوله لا يوصف الله تعالى
بالسفول والتحتية لا حقيقة ولا مجازا ليت شعري من ادعى له هذه
الدعوى حتى يكلف الكلام فيها. ثم إن قوله بعد ذلك من توهم كون الله
تعالى في السماء بمعنى إن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله
عن غيره وضال إن اعتقده في ربه أيها المدعي قل ما تفهم وافهم ما تقول
وكلم الناس كلام عاقل لعاقل تفيد وتستفيد إذا طلبت أن تستنبط من لفظة
في الجهة وحملتها على حقيقتها هل يفهم منها غير الظرفية أو ما في
معناها، وإذا كان كذلك فهل يفهم عاقل أن الظرف ينفك عن إحاطته
ببعض أو جميع أو ما يلزم ذلك وهل جرى هذا على سمع وهل من
يخاطر إن في علي حقيقتها في جهة ولا يفهم منها احتواء ولا إحاطة
ببعض ولا كل فإن كان المراد أن يعزل الناس عقولهم وتتكلم أنت وهم
يقلدون ويصدقون، ثم تأمن أن بعض المسؤولين من المخالفين للمسألة
يأمرك بذلك أو يثبت الباطل عليك ثم قولك لو سئل سائر المسلمين هل
يفهمون من قول الله تعالى ورسوله إن الله في السماء تحويه لبادر كل
واحد منهم إلى أن يقول هذا شئ لعله لم يخطر ببالنا فنقول: ما الذي
أردت بذلك إن أردت أن هذا اللفظ لا يعطي هذا المعنى فإياك أن تسأل
عن هذا من هو عارف بكلام العرب فإنه لا يصدقك في أن هذا اللفظ لا
يعطي هذا مع كون في للظرفية وإنها على حقيقتها في الجهة، وإن أردت
أن العقول تأبى ذلك في حق الله تعالى فلسنا نحن معك إلا في تقرير
هذا ونفي كل ما يوهم نقصا في حق الله تعالى ثم قولك عند المسلمين
إن الله في السماء وهو على العرش واحد لا ينبغي أن تضيف هذا الكلام
179

إلا إلى نفسك أو إلى من تلقيت هذه الوصمة منه ولا تجعل المسلمين
يرتبكون في هذا الكلام الذي لا يعقل، ثم استدللت على أن كون الله
في السماء وعلى العرش واحد بأن السماء إنما يراد بها العلو فالمعني الله
في العلو لا في السفل قل لي هل قال الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين إن الله تعالى في
العلو لا في السفل، وكل ما قلت من أول المقدمة إلى آخرها لو سلم
لك لكان حاصله أن الله تعالى وصف نفسه بأنه استوى على العرش وأن
الله تعالى فوق العرش. وأما إن السماء المراد بها جهة العلو فما ظفرت
كفاك بنقله، ثم قولك قد علم المسلمون إن كرسيه تعالى وسع السماوات
والأرض وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة فليت شعري
إذا كان حديث الأوعال يدلك على أن الله فوق العرش فكيف يجمع بينه
وبين طلوع الملائكة إلى السماء التي فيها الله وكيف يكون مع ذلك في
السماء حقيقة ولعلك تقول إن المراد بها جهة العلو توفيقا فليت شعري
أيمكن أن تقول بعد هذا التوفيق العازي عن التوقيف، والتوفيق إن الله
في السماء حقيقة وعلى السماء حقيقة وفي العرش حقيقة وعلى العرش
حقيقة ثم حقيقة السماء هي هذه المشاهدة المحسوسة يطلق عليها هذا
الاسم من لم يخطر بباله السمو، وأما أصل الاشتقاق فذلك لا مزية لها
فيه على السقف والسحاب فتبارك الله خالق العقول ثم قولك بعد ذلك
العرش من مخلوقات الله تعالى لا نسبة له إلا قدرة الله وعظمته وقع إلينا
إلا قدرة الله فإن كانت بألف لام ألف كما وقع إلينا فقد نفيت العرش
وجعلت الجهة هي العظمة والقدرة وصار معنى كلامك جهة الله عظمته
وقدرته، والآن قلت ما لا يفهم ولا قاله أحد وإن كان كلامك بألف لام
ياء فقد صدقت وقلت الحق ومن قال خلاف ذلك لعمري ولعمري لقد
رممنا لك هذا المكان ولقناك إصلاحه.
ثم قلت كيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره أو يحويه قلنا: نعم ومن
180

أي شئ بلاؤنا إلا ممن يدعي الحصر أو يوهمه، ثم قلت وقد قال الله
تعالى (ولأصلبنكم في جذوع النخل) أوما علمت أن التمكن
والاستقرار حاصل في الجذع فإن تمكين المصلوب في الجذع كتمكين
الكائن في الظرف وكذلك الحكم في قوله تعالى (قل سيروا في
الأرض) وهذا الذي ذكرناه هو الجواب عن حديث الأوعال وحديث قبض
الروح وحديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وحديث أمية بن أبي
الصلت وما قال من قوله:
مجدوا الله فهو أهل لمجد * ربنا في السماء أمسى كبيرا
فيقال للمدعي: إن كنت ترويه في السماء فقط ولا تتبعها أمسى
كبيرا فربما يوهم ما تدعيه لكن لا يبقى شعرا ولا قافية، وإن كان قال ربنا
في السماء أمسى كبيرا فقل مثل ما قال أمية وعند ذلك لا يدري هل هو
كما قلت إن الله كبير في السماء. فإن قلت: وهو كبير في الأرض فلم
خصت السماء؟ قلنا: التخصيص بما أشرنا إليه من أن تعظيم أهل
السماوات أكثر من تعظيم أهل الأرض له فليس في الملائكة من ينحت
حجرا ويعبده ولا فيهم دهري ولا معطل ولا مشبه، وخطاب أمية لكفار
العرب الذين اتخذوا هبل ومنات واللات والعزى وغير ذلك من الأنداد وقد
علمت العرب أن أهل السماء أعلم منهم حتى كانوا يتمسكون بحديث
الكاهن الذي كان يتلقى من الجن الذي يسترق الكلمة من الملك
فيضيف إليها مائة كذبة فكيف اعتقادهم في الملائكة فلذلك احتج عليهم
أمية بالملائكة هذا ليس ببعيد ولا خلاف قطعي. ثم قال من المعلوم
بالضرورة أن الرسول المبلغ عن الله: ألقى إلى أمته المذعنين إن الله تعالى
على العرش وإنه فوق السماء، فنقول له هذا ليس بصحيح بالصريح بل
ألقى إليهم إن الله استوى على العرش هذا الذي تواتر من تبليغ هذا
الني صلى الله عليه وسلم وما ذكره المدعي من هذا الأخبار فأخبار آحاد لا يصدق عليها
جمع كثرة ولا حجة له فيها وذلك واضح لمن سمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ونزله
181

على استعمال العرب وإطلاقاتها ولم يدخل عليها غير لغتها ثم قلت كما
فطر الله جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام إلا من
اجتالته الشياطين عن فطرته هذا كلام من أوله إلى آخره معارض بالمثل
والترجيح معنا، ثم قلت عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمعت
لبلغت مائتين ألوفا فنقول إن أردت بالسلف عن السلف المشبهة كما
سيأتي في كلامك فربما قاربت وإن أردت سلف الأمة الصالحين فلا حرف
ولا شطر حرف وها نحن معك في مقام مقام ومضمار مضمار بحول الله
وقوته.
ثم قلت ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا عن أحد من
سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين حرف واحد يخالف ذلك لا
نص ولا ظاهر، قلنا: ولا عنهم كما ادعيت أنت ولا نص ولا ظاهر وقد
صدرت أولا أنك تقول ما قال الله ورسوله والسابقون الأولون من
المهاجرين والأنصار ثم دارت الدائرة على أن المراد بالسابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار مشايخ عقيدتك وعزات العشرة وأهل بدر والحديبية
عن السلف والتابعين عن المتابعة وتولى هؤلاء غير الله والله أعلم حيث
يجعل رسالاته، ثم قولك: لم يقل أحد منهم أنه ليس في غير السماء ولا
أنه ليس على العرش ولا أنه في كل مكان ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة
إليه سواء ولا أنه داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل. قلنا:
لقد عممت الدعوى فذكرت ما لم تحط به علما. وقد ذكرنا لك عن
جعفر الصادق والجنيد والشبلي وجعفر بن نصير وأبي عثمان المغربي
رضي الله عنهم ما فيه كفاية فإن طعنت في نقلنا أو في هذه السادة طعنا
في نقلك وفيمن أسندت إليه من أهل عقيدتك خاصة فلم يوافقك على من
ادعيته غيرهم، ثم إنك أنت الذي قد قلت ما لم يقله الله ولا رسوله ولا
السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولا من التابعين ولا من مشايخ
الأمة الذين لم يدركوا إلا هؤلاء فما نطق أحد منهم بحرف في أن الله
182

تعالى في جهة العلو. وقد قلت: وصرحت وبحثت وفهمت بأن ما ورد
من أنه في السماء وفوق السماء وفي العرش وفوق العرش المراد به جهة
العلو، فقل لنا: من قال هذا؟ هل قاله القه أو رسوله أو السابقون الأولون
من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان؟ فلم تهول علينا بالأمور
المغمضة وبالله المستعان.
ثم استدل على جواز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها بما
صح أنه صلى الله عليه وسلم في خطبة عرفات جعل يقول: ألا هل بلغت؟ فيقولون:
نعم فيرفع إصبعه إلى السماء وينكثها إليهم ويقول: اللهم اشهد غير
مرة، ومن أي دلالة يدل على هذا على جواز الإشارة إليه هل صدر منه
صلى الله عليه وسلم إلا أنه رفع أصبعه ثم نكثها إليهم هل في ذلك دلالة على أن رفعه
كان يشير به إلى جهة الله تعالى ولكن هذا من عظيم ما رسخ في ذهن
هذا المدعي من حديث الجهة حتى أنه لو سمع مسألة من عويص
الفرائض والوصايا وأحكام الحيض لقال هذه دالة على الجهة ثم أتى
بالطامة الكبرى والداهية الدهياء، وقال: فإن كان الحق ما يقوله هؤلاء
السابقون النافون من هذه العبارات ونحوها دون ما يفهم من الكتاب
والسنة إما نصا أو ظاهرا كيف يجوز على الله تعالى ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم
على حبر الأمة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق
ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط ولا يدلون عليه لا نصا ولا
ظاهرا حتى يجئ أنباء الفرس والروم وأفراخ اليهود يبينون للأمة العقيدة
الصحيحة التي يجب على كل مؤلف أو فاضل أن يعتقدها لئن كان ما
يقوله هؤلاء المتكلفون هو الاعتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا على
مجرد عقولهم، وأن يدفعوا المقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب
والسنة نصا أو ظاهرا. لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم
وأنفع على هذا التقدير بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في
أصول الدين، فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء أنكم يا معشر العباد
183

لا تطلبون معرفة الله تعالى وما يستحق من الصفات نفيا ولا إثباتا لا من
الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة، ولكن أنظروا أنتم فما
وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به سواء كان موجودا في الكتاب
والسنة أو لم يكن وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه بها.
ثم قال: هما فريقان أكثرهم يقول ما لم تثبته عقولكم فأبقوه ومنهم
من يقول بل توقفوا فيه وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون
ومضطربون اختلافا أكثر من جميع اختلاف على وجه الأرض فانفوه وإليه
عند الشارع فارجعوا فإنه الحق الذي تعبدتم به وما كان مذكورا في
الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبت ما لم تدركه عقولكم على
طريقة أكثرهم فاعلموا أنني امتحنتكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدي منه لكن
لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة ووحشي الألفاظ وغرائب الكلام أو
تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى هذا حقيقة الأمر على رأي المتكلمين هذا
ما قاله. وهو الموضح الذي صرح فيه وتخبطه الشيطان من المس.
فتقول له: ما تقول فيما ورد من ذكر العيون بصفة الجمع وذكر الجنب
وذكر الساق الواحد وذكر الأيدي؟ فإن أخذنا بظاهر هذا يلزمنا إثبات
شخص له وجه واحد عليه عيون كثيرة وله جنب واحد عليه أيد كثيرة وله
ساق واحد وأي شخص يكون في الدنيا أبشع من هذا وإن تصرفت في
هذا بجمع وتفريق بالتأويل فلم. لا ذكره الله ورسوله وسلف الأمة وقوله
تعالى في الكتاب العزيز (الله نور السماوات والأرض) فكل عالم يعلم
إن النور الذي على الحيطان والسقوف وفي الطرق والحشوش ليس هو الله
تعالى ولا قالت المجوس بذلك، فإن قلت بأنه هادي السماوات والأرض
ومنورها فلم لا قاله الله تعالى ولا رسوله ولا سلف الأمة وورد قوله
تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وذلك يقتضي أن يكون الله
داخل الرزمة فلم لا يبينه الله ولا رسوله ولا سلف الأمة وقال تعالى
(واسجد واقترب) ومعلوم أن التقرب في الجهة ليس إلا بالمسافة فلم
184

لا بينه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وقال تعالى (فأينما تولوا
فثم وجه الله) وقال تعالى (وجاء ربك) وقال تعالى (فأتى الله بنيانهم
من القواعد) وقال تعالى (وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) وقال
صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه عز وجل " من تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا ومن
تقرب إلى ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " وما صح
في الحديث " أجد نفس الرحمن من قبل اليمن) ومن قوله صلى الله عليه وسلم:
" الحجر الأسود يمين الله في الأرض " ومن قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه
سبحانه وتعالى " أنا جليس من ذكرني " وكل هذه هل تأمن من المجسم
أن يقول لك ظواهر هذه كثيرة تعدت الحصر أضعاف أحاديث الجهة فإن
كان الأمر كما يقولون في نفي الجسمية مع أنه لم يأت في شئ من هذه
ما بين خلاف ظواهرها لا عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن سلف
الأمة فحينئذ يكيل لك المجسم بصاعك ويقول لك لو كان الأمر كما قلت
لكان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم، وإن قلت إن العمومات
قد بينت خلاف ظواهر هذه لم نجد منها نافيا للجسمية إلا وهو ناف
للجهة ثم ما يؤمنك من تناسخي يفهم من قوله (في أي صورة ما شاء
ركبك) مذهبه ومن معطل يفهم من قوله تعالى مما تنبت الأرض مراده
فحينئذ لا تجد مساغا لما نقص به من ذلك إلا الأدلة الخارجة عن هذه
الألفاظ، ثم صار حاصل كلامك أن مقالة الشافعية والحنفية والمالكية
يلزمها أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم أفتراهم يكفرونك
بذلك أم لا. ثم جعلت أن مقتضى كلام المتكلمين أن الله تعالى ورسوله
وسلف الأمة تركوا العقيدة حتى بينها هؤلاء فقل لنا إن الله ورسوله وسلف
الأمة بينوها ثم نقل عنهم أنهم قالوا كما تقول إن الله تعالى في جهة العلو
لا في جهة السفل وإن الإشارة الحسية جائزة إليه فإذا لم تجد ذلك في
كتاب الله تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولا كلام أحد من العشرة ولا كلام
أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فعد
على نفسك باللائمة وقل: لقد ألزمت القوم بما لا يلزمهم ولو لزمهم
185

لكان عليك اللوم.
ثم قلت عن المتكلمين أنهم يقولون ما يكون على وفق قياس
العقول فقولوه وإلا فانفوه والقوم لم يقولوا ذلك بل قالوا صفة الكمال
يجب ثبوتها لله وصفة النقص يجب نفيها عنه كما قاله الإمام أحمد رضي
الله عنه قالوا وما ورد من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم فليعرض على لغة
العرب التي أرسل الله تعالى محمدا بلغتها كما قال تعالى (وما أرسلنا
من رسول إلا بلسان قومه) فما فهمت العرب فافهمه ومن جاءك بما
يخالفه فانبذ كلامه نبذ الحذاء المرقع واضرب بقوله حائط الحش ثم نعقد
فصلا إن شاء الله تعالى بعد إفساد ما نزع به في سبب ورود هذه الآيات
على هذا الوجه فإنه إنما تلقف ما نزع به في مخالفة الجماعة وأساء القول
على المسألة من حثالة الملاحدة الطاعنين في القرآن وسنبين إن شاء الله
تعالى ضلالهم ويعلم إذ ذاك من هو من فراخ الفلاسفة واليهود ثم لو
استحيى الغافل لعرف مقدار علماء الأمة رحمهم الله تعالى ثم هل رأى من
رد على الفلاسفة واليهود والروم والفرس غير هؤلاء الذين جعلهم فراخهم
وهل اتكلوا في الرد على هذه الطوائف على قوم لا عقل لهم ولا بصيرة
ولا إدراك ثم يدرونهم يستدلون على إثبات الله تعالى في الحجاب على
منكره بالنقل وعلى منكري النبوة بالنقل حتى يصير مضغة للماضغ وضحكة
للمستهزئ وشماتة للعدو وفرحا للحسود وفي قصة الحسن بن زياد
اللؤلؤي عبرة للمعتبر، ثم أخذ بعد هذا في أن الأمور العامة إذا
نفيت عنها إنما يكون دلالتها على سبيل الالغاز، قلنا: وكذلك المجسم
يقول لك دلالة الأمور العامة على نفي الجسمية الغاز ثم قال بعد هذا يا
سبحان الله كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ولا أحد من سلف
الأمة هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه فيقال له ما الذي
دلت عليه حتى يقولوا إنه لا يعتقد هذا تشنيع بحت، ثم يقول لك
المجسم يا سبحان الله لم لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من سلف الأمة
186

إن الله تعالى ليس بجسم ولا قالوا لا يعتقدون من الأحاديث الموهمة
للجسمية ظواهرها، ثم استدل بقوله صلى الله عليه وسلم في صفة الفرقة الناجية ومن كان
عليه " مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " قال المدعي فهلا قال
من تمسك بظاهر القرآن في آيات الاعتقاد فهو ضال وإنما أدى
رجوعكم إلى مقاييس عقولكم فليعلم الناظر أنه هاهنا باهت
وتزخرف وتشيع بما لم يعظه فإنه قد ثبت أن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم الكف عن ذلك فما نحن الآمرون به وأنه هو
ليس بساكت بل طريقة الكلام وأمر الدهماء بوصف الله تعالى بجهة العلو
وتجويز الإشارة الحسية إليه فليت شعري من الموافق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، ولكن صدق القائل رمتني بدائها وانسلت ثم المجسم يقول له
حذو النعل بالنعل ما قاله لنا ونقول له: لم لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناجية
من قال إن الله في جهة العلو وإن الإشارة الحسية إليه جائزة؟ فإن قال:
هذه طريقة السلف وطريقة الصحابة، قلنا: من أين لك هذا ثم لا تأمن
من كل مبتدع أن يدعي ذلك، ثم أفاد المدعي وأسند أن هذه المقالة
مأخوذة من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين قال: فإن أول من
حفظ عنه هذه المقالة الجعد بن درهم وأخذها عنه جهم بن صفوان
وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه والجعد أخذها عن أبان بن سمعان
وأخذها أبان من طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد
اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم قال وكان الجعد هذا فيما يقال من أهل
حران، فيقال له: أيها المدعي إن هذه المقالة مأخوذة من تلامذة اليهود
قد خالفت الضرورة في ذلك فإنه ما يخفى على جميع الخواص وكثير من
العوام أن اليهود مجسمة مشبهات فكيف يكون ضد التجسيم والتشبيه
مأخوذا عنهم. وأما المشركون فكانوا عباد أوثان وقد بينت الأئمة أن عبدة
الأصنام تلامذة المشبهة وأن أصل عبادة الصنم التشبيه فكيف يكون نفيه
مأخوذا عنهم، وأما الصابئة فبلدهم معروف وإقليمهم مشهور وهل نحن
187

منه أو خصومنا وأما كون الجعد بن درهم من أهل حران فالنسبة
صحيحة وترتيب هذا السند الذي ذكره سيسأله الله تعالى عنه والله من
ورائه بالمرصاد.
وليت لو اتبعه أن سند دعواه وعقيدته أن فرعون ظن أن إله موسى في
السماء ثم أضاف المقالة إلى بشر المزني وذكر أن هذه التأويلات هي
التي أبطلتها الأئمة ورد بها على بشر وأن ما ذكره الأستاذ أبو بكر بن فورك
والإمام فخر الدين الرازي قدس الله روحهما هو ما ذكره بشر وهذا بهرج لا
يثبت على محك النظر القويم ولا معيار الفكر المستقيم فإنه من المحال
أن تنكر الأئمة على بشر أن يقول ما تقوله العرب وهذان الإمامان ما قالا
إلا ما قالته العرب وما الانكار على بشر إلا فيما يخالف فيه لغة العرب
وأن يقول عنها ما لم تقله ثم أخذ بعد ذلك في تصديق عزوته إلى
المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وشرع في النقل عنهم فقال قال
الأوزاعي كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فرق عرشه فنقول
له أول ما بدأت به الأوزاعي وطبقته ومن بعدهم، فأين السابقون الأولون
من المهاجرين والأنصار؟ وأما قول الأوزاعي فأنت قد خالفته ولم تقل به
لأنك قلت إن الله ليس فوق عرشه لأنك قررت أن العرش والسماء ليس
المراد بهما إلا جهة العلو، وقلت المراد من فوق عرشه والسماء ذلك
فقد خالفت قول الأوزاعي صريحا، مع أنك لم تقل قط ما يفهم فإن
قررت أن السماء في العرش كحلقة ملقاة في فلاة فكيف تكون هي بعد
ثم من أين لك صحة هذا النقل عن الأوزاعي وبعد مسامحتك في كل
ذلك ما قال الأوزاعي الله فوق العرش حقيقة، فمن أين لك هذه الزيادة؟
ونقل عن مالك بن أنس والثوري والليث والأوزاعي أنهم قالوا في أحاديث
الصفات أمروها كما جاءت فيقال له لم لا أمسكت على ما أمرت به الأئمة
بل وصفت الله بجهة العلو ولم يرد بذلك خبر ولو بذلت قراب الأرض
ذهبا على أن تسمعها من عالم رباني لم تفرح بذلك بل تصرفت ونقلت
188

على ما خطر لك وما أمررت ولا أقررت ولا امتثلت ما نقلته عن الأئمة،
وروى قول ربيعة ومالك الاستواء غير مجهول فليت شعري من قال إنه
مجهول بل أنت زعمت أنه لمعنى عينته وأردت أن تعزوه إلى الإمامين
ونحن لا نسمح لك بذلك ثم نقل عن مالك أنه قال للسائل الإيمان به
واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به فأخرج فيقال له ليت
شعري من امتثل منا قول مالك هل امتثلناه نحن حيث أمرنا بالإمساك
وألجمنا العوام عن الخوض في ذلك أو الذي جعله دراسته يلقيه ويلفقه
ويلقنه وبكتبه ويدرسه ويأمر العوام بالخوض فيه وهل أنكر على المستفتي
في هذه المسألة بعينها وأخرجه كما فعل مالك رضي الله عنه فيها بعينها
وعند ذلك يعلم أن ما قاله عن مالك حجة عليه لا له ثم نقل عن
عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أنه قال وقد سئل عما
جحدت به الجهمية. أما بعد: فقد فهمت فيما سألت فيما تتابعت
الجهمية. ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف
والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحصرت العقول دون معرفة
قدرته ردت عظمته العقول فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة
وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير وإنما يقال كيف لمن لم يكن
مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا
يعلم كيف (1) هو إلا هو وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى
وكيف يكون لصفته لشئ منه حدا ومنتهى يعرفه عارف أو يحد قدره
واصف على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شئ أبين منه.
والدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر
خلقه فلا تكاد تراه صغيرا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر بل ما
يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه
وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادات وربهم، ثم
نقل عنه الأحاديث الواردة في الصفات وذكر قوله (والأرض جميعا قبضته

(1) لا يقال عن الله كيف قال أبو سليمان الخطابي: والكيفية منفية عن الله وعن صفاته.
189

يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) قال فوالله ما دلهم على عظيم ما
وصف من نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظرها منهم عندهم أن ذلك
الذي ألقى في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم فما وصف من نفسه
فسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه لم نتكلف منه صفة ما
سواه إلا هذا ولا هذا إلا بجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يتصف
وبسط الماجشون كلامه في تقرير هذا فنقول لهذا الحاكي نعم الحجة
أتيت بها ولكن لنا ونعم السلاح حملت ولكن للعدي أما كلام عبد العزيز
رضي الله عنه وما ذكر من كبرياء الله وعظمته وإنها تحير العقول وتشده
الفهوم فهذا قاله العلماء نظما ونثرا وأنت أزريت على سادات الأئمة
وأعلام الأمة في ثاني صفحة ترغب بها حيث اعترفوا بالعجز والتقصير
وتعيب على ذلك وعددته عليهم ذنبا وأنت معذور وهم معذورون وجعلت
قول عبد العزيز حجة. وقد ذكرنا في القضية ما يقوله المتكلمون في كل
موضع وأمر عبد العزيز أن يصف الرب بما وصف به نفسه وأن يسكت عما
وراء ذلك وذلك قولنا وفعلنا وعقيدتنا وأنت وصفته بجهة العلو وما وصف
به نفسه وجوزت الإشارة الحسية إليه وما ذكرها ونحن أقررنا الصفات كما
جاءت وأنت جمعت بين العرش والسماء بصفة العلو وقلت: في السماء
حقيقة، وفي العرش حقيقة فسبحان واهب العقول، ولكن كان ذلك في
الكتاب مسطورا.
ثم ذكر عن محمد بن الحسن اتفاق الفقهاء على وصف الرب بما
جاء في القرآن وأحاديث الصفات فنقول له: نحن لا نترك من هذا حرفا
وأنت قلت أصف الرب تعالى بجهة العلو وأجوز الإشارة الحسية إليه فأين
هذا في القرآن وأخبار الثقات ما أفدتنا في الفتيا من ذلك شيئا ونقل عن
أبي عبيد القاسم بن سلام رضي الله عنه أنه قال: إذا سئلنا عن تفسيرها
لا نفسرها وأنه قال ما أدركنا أحدا يفسرها فنقول له الحمد لله حصل
المقصود ليت شعري من فسر السماء والعرش وقال: معناهما جهة العلو
ومن ترك تفسيرهما وأمرهما كما جاء ثم نقل عن ابن المبارك رضي الله
190

عنه أنه قال يعرف ربنا بأنه فوق سمائه، على عرشه بائن من خلقه ولا
نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض، فنقول له: قد نص
عبد الله إنه فوق سمائه على عرشه فهل قال عبد الله إن السماء والعرش
واحد وهي جهة العلو، ونقل عن حماد بن زيد أنه قال هؤلاء الجهمية
إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شئ فنقول له: أيضا أنت قلت
بمقالتهم فإنك صرحت بأن السماء هي هي ذاتها بل المعنى الذي
اشتقت منه وهو السمو وفسرته بجهة العلو فالأولى لك أن تنعي على
نفسك ما نعاه حماد على الجهمية. ونقل عن ابن خزيمة أن من لم يقل
إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب
وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى به أهل القبلة وأهل الذمة
فيقال له: الجواب عن مثل هذا قد تقدم على أن ابن خزيمة قد علم
الخاص والعام حديثه في العقائد والكتاب الذي صنفه في التشبيه وسماه
بالتوحيد ورد الأئمة عليه أكثر من أن يذكر وقولهم فيه ما قالوه له هو في
غيره معروف * ونقل عن عباد الواسطي و عبد الرحمن بن مهدي وعاصم بن
علي بن عاصم نحوا مما نقله عن حماد وقد بيناه ثم ذكر بعد ذلك ما صح
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كانت زينب تفتخر على أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات
فنقول: ليس في هذا الحديث أن زينب قالت: إن الله فوق سبع سماوات،
بل إن تزويج الله إياها كان من فوق سبع سماوات * ثم نقل عن أبي
سليمان الخطابي ما نقله عن عبد العزيز الماجشون وقد بينا موافقتنا له
ومخالفته لذلك * وحكاه أيضا عن الخطيب وأبي بكر الإسماعيلي
ويحيى بن عمار وأبي إسماعيل الهروي وأبي عثمان الصابوني، وحكي
عن أبي نعيم الأصبهاني أن الأحاديث الثابتة في الاستواء يقولون بها
ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وهو مستو على عرشه في
سمائه دون أرضه * وحكاه عن معمر الأصبهاني وقد بينا لك غير ما مرة
أنه مخالف لهذا وأنه ما قال به طرفة عين إلا ونقضه لأن السماء عنده
191

ليست هي المعرفة وأن السماء والعرش لا معنى لهما إلا جهة العلو *
وحكي عن عبد القادر الجيلي أنه قال: الله بجهة العلو مستو على عرشه
فليت شعري لم احتج بكلامه وترك مثل جعفر الصادق والشبلي والجنيد
وذي النون المصري وجعفر بن أبي نصير وأضرابهم رضي الله عنهم * وأما
ما حكاه عن أبي عمر بن عبد البر فقد علم الخاص والعام مذهب الرجل
ومخالفة الناس له ونكير المالكية عليه أولا وآخرا مشهور ومخالفته الإمام
المغرب أبي الوليد الباجي معروفة حتى أن فضلاء المغرب يقولون: لم
يكن أحد بالمغرب يرى هذه المقالة غيره وغير ابن أبي زيد غير أن
العلماء منهم من قد اعتذر عن ابن أبي زيد بما هو موجود في كلام
القاضي الأجل أبي محمد عبد الوهاب البغدادي المالكي رحمه الله ثم إنه
قال: إن الله فوق في السماء على العرش من فوق سبع سماوات ولم يعقل
ما معنى في السماء على العرش من فوق سبع سماوات ولم إن ابن
عبد البر ما تأول هذا الكلام ولا قال بمقالة المدعي إن المراد بالعرش
والسماء جهة العلو * ثم نقل عن البيهقي رحمه الله ما لا تعلق له بالمسألة
وأعاد كلام من سبق ذكره ثم ذكر بعد ذلك شيخنا أبا الحسن علي بن
إسماعيل الأشعري وأنه يقول الرحمن على العرش استوى ولا نتقدم بين
يدي الله تعالى في القول بل نقول استوى بلا كيف * وهذا الذي نقله عن
شيخنا هو نحلتنا وعقيدتنا لكن نقله لكلامه ما أراد به إلا قصد الايهام بأن
الشيخ يقول بالجهة فإن كان كذلك فقد بالغ في البهت
وكلام الشيخ في هذا أنه قال كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي فلم
يحتج إلى مكان وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه وكلامه وكلام
أصحابه رحمهم الله يصعب حصره في إبطالها. ثم حكى ذلك عن
القاضي أبي بكر وإمام الحرمين ثم تمسك برفع الأيدي إلى السماء.
وذلك إنما كان لأجل أن السماء منزل البركات والخيرات لأن الأنوار إنما
تنزل منها والأمطار وإذا ألف الإنسان حصول الخيرات من جانب مال طبعه
إليه فهذا المعنى الذي أوجب رفع الأيدي إلى السماء. وقال الله تعالى
192

(وفي السماء رزقكم وما توعدون) ثم اكتفى بمثل هذه الدلالة في
مطالب أصول العقائد فما يؤمنه من مبتدع يقول الله تعالى في الكعبة لأن
كل مصل يوجه وجهه إليها ويقول وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض أو يقول الله في الأرض فإن الله تعالى قال (كلا لا تطعه واسجد
واقترب) والاقتراب بالسجود في المسافة إنما هو في الأرض وقال النبي
صلى الله عليه وسلم " أقرب ما يكون العبد في سجوده ".
ثم ذكر بعد ذلك ما أجبنا عند من حديث الأوعال، وذكر بعد ذلك
ما لا تعلق له بالمسألة وأخذ يقول إنه حكى عن السلف مثل مذهبه وإلى
الآن ما حكى مذهبه عن أحد لا من سلف ولا من خلف غير عبد القادر
الجيلي، وفي كلام ابن عبد البر بعضه، وأما العشرة وباقي الصحابة
رضي الله عنهم فما ثبت عنهم بحرف ثم أخذ بعد ذلك في مواعظ وأدعية
لا تعلق لها بهذا ثم أخذ في سب أهل الكلام ورجمهم وما ضر القمر من
قبحه وقد تبين بما ذكرناه أن هذا الخبر الحجة ترجم فتياه أنه يقول ما قاله
الله ورسوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولم ينقل مقالته عن
أحد من الصحابة وإذ قد أتينا على إفساد كلامه وإيضاح إيهامه وإزالة
إبهامه ونقض إبرامه وتنكيس أعلامه فلنأخذ بعد هذا فيما يتعلق بغرضنا
وإيضاح نحلتنا فنقول وبالله التوفيق. على سامع هذه الآيات والأخبار
المتعلقة بالصفات ما قررناه من الوظائف وهي التقديس والإيمان والتصديق
والاعتراف بالعجز والسكوت والإمساك عن التصرف في الألفاظ الواردة
وكف الباطن عن التفكر في ذلك واعتقاده أن ما خفي عنه لم يخف عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصديق ولا عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم
ولنأخذ الآن في إبراز اللطائف من خفيات هذه الوظائف فأقول وبالله
المستعان. أما التقديس فهو أن يعتقد في كل آية أو خبر معنى يليق
بجلال الله تعالى مثال ذلك إذا سمع قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله ينزل كل ليلة إلى
السماء الدنيا " وكان النزول يطلق على ما يفتقر إلى جسم عال وجسم
193

سافل وجسم منتقل. من العالي إلى السافل وإلى انتقال جسم من علو إلى
سفل ويطلق على معنى آخر لا يفتقر إلى انتقال ولا حركة جسم كما قال
تعالى (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) مع أن النعم لم تنزل من
السماء بل هي مخلوقة في الأرحام قطعا، فالنزول له معنى غير حركة
الجسم لا محالة وفهم ذلك من قول الإمام الشافعي رضي الله عنه دخلت
مصر فلم يفهموا كلامي فنزلت ثم نزلت ثم نزلت ولم يرد حينئذ الانتقال
من علو إلى سفل، فليتحقق السامع أن النزول ليس بالمعنى الأول في
حق الله تعالى فإن الجسم على الله محال وإن كان لا يفهم من النزول
الانتقال فيقال له من عجز عن فهم نزول البعير فهو عن فهم نزول الله عز
وجل أعجز فاعلم أن لهذا معنى يليق بجلاله وفي كلام عبد العزيز
الماجشون السابق إلى هذا مرامز، وكذلك لفظة فوق الواردة في القرآن
والخبر فليعلم أن فوق تارة تكون للجسمية وتارة للمرتبة كما سبق فليعلم
أن الجسمية على الله محال وبعد ذلك أن له معنى يليق بجلاله تعالى.
وأما الإيمان والتصديق به فهو أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق في وصف
الله تعالى بذلك وما قاله حق لا ريب فيه بالمعني الذي أراده والوجه الذي
أراده وإن كان لا يقف على حقيقته ولا يتخبطه الشيطان فيقول كيف
أصدق بأمر جمل لا أعرف عينه بل يخزي الشيطان ويقول كما إذا أخبرني
صادق أن حيوانا في دار فقد أدركت وجوده وإن لم أعرف عينه فكذلك
ههنا. ثم ليعلم أن سيد الرسل صلى الله عليه وسلم قد قال " لا أحصي ثناء عليك أنت
كما أثنيت على نفسك " وقال سيد الصديقين رضي الله عنه العجز عن درك
الادراك إدراك. وأما الاعتراف بالعجز فواجب على كل من لا يقف على
حقيقة هذه المعاني الاقرار بالعجز، فإن ادعى المعرفة فقد كلف وكل
عارف وإن عرف فما خفي عليه أكثر. وأما السكوت فواجب على العموم
لأنه بالسؤال يتعرض لما لا يطيقه فهو إن سأل جاهلا زاده جهلا وإن سأل
عالما لم يمكن العالم إفهامه كما لا يمكن البالغ تعليم الطفل لذة الجماع
وكذلك تعليمه مصلحة البيت وتدبيره بل يفهمه مصلحته في خروجه إلى
194

المكتب فالعامي إذا سأل عن مثل هذا يزجر ويردع ويقال له ليس هذا
بعشك فادرجي وقد أمر مالك بإخراج من سأله فقال ما أراك إلا رجل سوء
وعلاه الرحضاء، وكذلك فعل عمر رضي الله عنه بكل من سأل عن
الآيات المتشابهة، وقال صلى الله عليه وسلم " إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال "
وورد الأمر بالإمساك عن القدر فكيف الصفات.
وأما الامساك عن التصرف في هذه الأخبار والآيات فهو أن يقولها
كما قالها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتصرف فيها بتفسير ولا تأويل ولا
تصريف ولا تفريق ولا جمع، فأما التفسير فلا يبدل لفظ لغة بأخرى فإنه
قد لا يكون قائما مقامه فربما كانت الكلمة تستعار في لغة دون لغة وربما
كانت مشتركة في لغة دون لغة وحينئذ يعظم الخطب بترك الاستعارة
وباعتقاد أن أحد المعنيين هو المراد بالمشترك، وأما التأويل فهو أن
يصرف الظاهر ويتعلق بالمرجوح فإن كان عاميا فقد خاض بحرا لا ساحل
له وهو غير سابح وإن كان عالما لم يجز له ذلك إلا بشرائط التأويل ولا
يدخل مع العامي فيه لعجز العامي عن فهمه، وأما كف باطنه فلئلا يتوغل
في شئ يكون كفرا ولا يتمكن من صرفه عن نفسه ولا يمكن غيره
ذلك، وأما اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك فليعلمه ولا يقس نفسه به ولا
بأصحابه ولا بأكابر العلماء فالقلوب معادن وجواهر.
ثم الكلام بعد هذا في فصلين أحدهما في تنزيه الله تعالى عن
الجهة فنقول: الأول أن القوم إن بحثوا بالأخبار والآثار فقد عرفت ما فيها
وأنهم ما ظفروا بصحابي ولا تابعي يقول بمقالتهم على أن الحق في نفس
الأمر أن الرجال تعرف بالحق ولا يعرف الحق بالرجال وقد روى أبو داود
في سننه عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: " إقبلوا الحق من كل من جاء
به وإن كان كافرا أو قال فاجرا واحذروا زيغة الحكيم قالوا كيف نعلم أن
الكافر يقول الحق؟ قال: إن على الحق نورا، ولقد صدق رضي الله
عنه ولو تطوقت قلادة التقليد لم نأمن أن كافرا يأتينا بمن هو معظم في
ملته، ويقول: إعرفوا الحق بهذا وإذ قد علمت أن القوم لا مستروح لهم
في النقل فاعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يخاطب إلا أولي العقول
195

والألباب والبصائر والقرآن طافح بذلك والعقل هو المعرف بوجود الله تعالى
ووحدته ومبرهن رسالة أنبيائه إذ لا سبيل إلى معرفة إثبات ذلك بالنقل
والشرع قد عدل العقل وقبل شهادته، واستدل به في مواضع من كتابه
كالاستدلال بالإنشاء على الإعادة وقوله تعالى (وضرب لنا مثلا ونسي
خلقه) ولقد هدم الله تعالى بهذه الآية مباحث الفلاسفة في إنكار المعاد
الجسماني واستدل به على التوحيد فقال الله تعالى: (لو كان فيهما آلهة
إلا الله لفسدتا) وقال تعالى: (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله
بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) وقال تعالى: (أو لم ينظروا في
ملكوت السماوات والأرض) وقال تعالى: (أنظروا ماذا في السماوات
والأرض) وقال تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى
وفرادى ثم تتفكروا) وقال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي
أنفسهم) فيا خيبة من رد شاهدا قبله الله وأسقط دليلا نصبه الله فهم
يلقون مثل هذا ويرجعون إلى أقوال مشايخهم الذين لو سئل أحدهم عن
دينه لم يكن له قوة على إثباته وإذا ركض عليه في ميدان التحقيق جاء سكيتا،
وقال سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وفي صحيح البخاري في حديث
الكسوف ما يعرف به حديث هؤلاء في قبورهم وبعد ذلك يقول العقل
الذي هو مناط التكليف وحاسب الله تعالى الناس به وقبل شهادته في نصه
وأثبت به أصول دينه وقد شهد بخبث هذا المذهب وفساد هذه العقيدة
وإنها آلت إلى وصفه تعالى بالنقائص تعالى الله عما يقول الظالمون علوا
كبيرا، وقد نبهت مشايخ الطريق على ما شهد به العقل ونطق به القرآن
بأسلوب فهمته الخاصة ولم تنفر منه العامة وبيان ذلك بوجوه.
(البرهان الأول) وهو المقتبس من ذي الحسب الزكي والنسب العلي
سيد العلماء ووارث خير الأنبياء جعفر الصادق رضي الله عنه قال: لو كان
الله في شئ لكان محصورا، وتقرير هذه الدلالة أنه لو كان في جهة
لكان مشارا إليه بحسب الحس وهم يعلمون ذلك ويجوزون الإشارة
الحسية إليه وإذا كان في جهة مشارا إليه لزم تناهيه وذلك لأنه إذا كان في
196

هذه الجهة دون غيرها فقد حصل فيها دون غيرها ولا معنى لتناهيه إلا
ذلك، وكل متناه محدث لأن تخصيصه بهذا المقدار دون سائر المقادير لا
بد له من مخصص فقد ظهر بهذا البرهان الذي تبديه العقول أن القول
بالجهة يوجب كون الخالق مخلوقا والرب مربوبا وأن ذاته متصرف فيها
وتقبل الزيادة والنقصان تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(البرهان الثاني) المستفاد من كلام الشبلي رضي الله عنه شيخ
الطريق وعلم التحقيق في قوله الرحمن لم يزل والعرش محدث والعرش
بالرحمن استوى وتقريره أن الجهة التي يختص الله تعالى بها على قولهم
تعالى الله عنها وسموها العرش. أما أن تكون معدومة أو موجودة والقسم
الأول محال بالاتفاق، وأيضا فإنها تقبل الإشارة الحسية والإشارة الحسية
إلى العدم محال فهي موجودة وإذا كانت موجودة فإن كانت قديمة مع الله
فقد وجد قديم غير الله وغير صفاته، فحينئذ لا يدرى أيهما الإله وهذا
خبث هذه العقيدة وإن كانت حادثة فقد حدث التحيز بالله تعالى فيلزم أن
يكون الله قابلا لصفات نفسية حادثة تعالى الله عن ذلك.
(البرهان الثالث) المستفاد من لسان الطريقة وعلم الحقيقة وطبيب
القلوب والدليل على المحبوب أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه قال: متى
يتصل من لا شبيه له ولا نظير بمن له شبيه ونظير هيهات هيهات هذا ظن
عجيب، وتقرير هذا البرهان أنه لو كان في جهة. فإما أن يكون أكبر أو
مساويا أو أصغر والحصر ضروري فإذا كان أكبر كان القدر المساوي للقدر
منه للجهة مغايرا للقدر الفاضل منه فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض
وذلك محال، لأن كل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره وكل مركب
مفتقر إلى الغير وكل مفتقر إلى الغير لا يكون إلها وإن كان مساويا للجهة
في المقدار والجهة منقسمة لإمكان الإشارة الحسية إلى أبعاضها فالمساوي
لها في المقدار منقسم وإن كان أصغر منها تعالى الله عن ذلك علوا
كبيرا، فإن كان مساويا لجوهر فرد فقد رضوا لأنفسهم بأن إلههم قدر
جوهر فرد وهذا لا يقوله عاقل وإن كان مذهبهم لا يقوله عاقل لكن هذا
197

في بادئ الرأي يضحك منه جهلة الزنج وإن كان أكبر منه انقسم فانظروا
إلى هذه النحلة وما قد لزمها تعالى الله عنها.
(البرهان الرابع) المستفاد من جعفر بن نصير رحمه الله وهو أنه
سئل عن قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) فقال استوى علمه بكل
شئ فليس شئ أقرب إليه من شئ وتقرير هذا البرهان أن نسبة الجهات
إليه على السوية فيمتنع أن يكون في الجهة وبيان أن نسبتها إليه على
السوية أنه قد ثبت أن الجهة أمر وجودي فهي إن كانت قديمة مع الله لزم
وجود قديمين متميزين بذاتيهما لأنهما إن لم يتميزا بذاتيهما، فالجهة هي
الله تعالى والله هو الجهة تعالى الله عن ذلك وإن لم تكن قديمة
فاختصاصه بها إما أن يكون لأن ذاته اقتضت ذلك فيلزم كون الذات فاعلة
في الصفات النفسية أو غير ذاتية فنسبة الجهات إلى ذاته على السوية
فمرجح جهة على جهة أمر خارج عن ذاته فلزم افتقاره في اختصاصه
للجهة إلى غيره والاختصاص بالجهة هو عين التحيز والتحيز صفة قائمة
بذات المتحيز فلزم افتقاره في صفة ذاته إلى غيره وهو على الله تعالى محال.
ثم اعلم أن هذه البراهين التي سردناها وتلقيناها من مشايخ الطريق
فإنما استنبطناها من الكتاب العزيز ولكن ليس كل ما في الكتاب العزيز
يعرفه كل أحد وكل يغترف بقدر إنائه وما نقصت قطرة من مائه ولقد كان
السلف يستنبطون ما يقع من الحروب والغلبة من الكتاب العزيز ولقد
استنبط ابن برجان رحمه الله من الكتاب العزيز فتح القدس على يد
صلاح الدين في سنته واستنبط بعض المتأخرين من سورة الروم إشارة إلى
حدوث ما كان بعد ثلاث وسبعين وستمائة ولقد استنبط كعب الأخبار
رضي الله عنه من التوراة أن عبد الله بن قلابة يدخل إرم ذات العماد ولا
يدخلها غيره وكان يستنبط منها ما يجري من الصحابة رضي الله عنهم وما
يلاقيه أجناد الشام وذلك مشهور والله تعالى أنزل في كتابه ما يفهم أحد
الخلق منه الكثير ولا يفهم الآخر منه ذلك، وقد تختلف المراتب في
198

استنباط الأحكام من كلام الفقهاء والمعاني من قصائد الشعراء فإما ما ورد
في الكتاب العزيز مما ينفي الجهة فتعرفه الخاصة ولا تشمئز منه العامة
فمن ذلك قوله تعالى (ليس كمثله شئ) ولو حصرته جهة لكان مثلا
للمحصور في ذلك البعض وكذلك قوله تعالى: (هل تعلم له سميا)
قال ابن عباس رضي الله عنه: هل تعلم له مثلا، ويفهم ذلك من القيوم
وثناء المبالغة في أنه قائم بنفسه وما سواه قائم به فلو قام بالجهة لقام
بغيره ويفهم من قوله تعالى المصور لأنه لو كان في جهة لتصور فإما أن
يصور نفسه أو يصوره غيره وكلاهما محال ويفهم من قوله تعالى:
(ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) ولو كان على العرش حقيقة
لكان محمولا ويفهم من قوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه)
والعرش شئ يهلك فلو كان سبحانه وتعالى لا في جهة ثم صار في جهة
لوجد التغير وهو على الله محال والمدعي لما علم أن القرآن طافح بهذه
الأشياء وبهذه الإشارات قال هذه الأشياء دلالتها كالإلغاز أوما علم
المغرور أن أسرار العقائد التي لا تحملها عقول العوام لا تأتي إلا كذلك
وأين في القرآن ما ينفي الجسمية إلا على سبيل الإلغاز وهل تفتخر
الأذهان إلا في استنباط الخفيات كاستنباط الشافعي رضي الله عنه الاجماع
من قوله تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) وكاستنباط القياس من
قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وكاستنباط الشافعي خيار
المجلس من نهيه صلى الله عليه وسلم عن البيع على بيع أخيه وزبدة المسألة أن العقائد
لم يكلف النبي صلى الله عليه وسلم الجمهور منها إلا بلا إله إلا الله محمد رسول الله كما
أجاب مالك الشافعي رضي الله عنهما ووكل الباقي إلى الله وما سمع منه
ولا من أصحابه فيها شئ إلا كلمات معدودات فهذا الذي يخفي مثله
ويلغز في إفادته.
199

(الفصل الثاني)
في إبطال ما موه به المدعي من أن القرآن والخبر اشتملا على ما
يوهم ظاهره ما تنزه الله تعالى عنه على قول المتكلمين فنقول: قال الله
تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم
الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ) الآية دلت هذه الآية
على أن من القرآن محكم ومنه متشابه والمتشابه قد أمر العبد برد تأويله
إلى الله وإلى الراسخين في العلم فنقول بعد ذلك إنما لم تأت النبوة
بالنص ظاهرا على المتشابه لأن جل مقصود النبوة هداية عموم الناس فلما
كان الأكثر محكما وألجمت العامة عن الخوض في المتشابه حصل
المقصود لولا أن يقيض الله تعالى لهم شيطانا يستهويهم ويهلكهم ولو
أظهر المتشابه لضعفت عقول العالم عن إدراكه.
ومن فوائد المتشابه رفعة مراتب العلماء بعضهم على بعض كما قال
تعالى: (وفوق كل ذي علم عليم " وتحصيل زيادة الأجور بالسعي في
تفهمها وتفهيمها وتعلمها وتعليمها، وأيضا لو كان واضحا جليا مفهوما
بذاته لما تعلم سائر العلوم بل هجرت بالكلية ووضح الكتاب بذاته، ولما
احتيج إلى علم من العلوم المعينة على فهم كلامه تعالى ثم خوطب في
المتشابه بما هو عظيم بالنسبة إليهم وإن كان في الأمر أعظم منه كما نبه
عليه عبد العزيز الماجشون في القضية وكما قال تعالى في نعيم أهل
الجنة: (في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب)
الآية فهذا عظيم عندهم وإن كان في الجنة ما هو أعظم منه كما قال صلى الله عليه وسلم
حكاية عن الله عز وجل: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا
أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " نسأل الله العظيم أن يجعل فيها قرارنا
200

وأن ينور بصيرتنا وأبصارنا وأن يجعل ذلك لوجهه الكريم بمنه وكرمه ونحن
ننتظر ما يرد من تمويهه وفساده لنبين مدارج زيغه وعناده ونجاهد في الله
حق جهاده والحمد لله رب العالمين.
201

الرسالة السادسة
النصيحة الذهبية لابن تيمية
لشمس الدين محمد الذهبي المتوفى
سنة 748 ه‍
عن أصل منقول من نسخة البرهان بن جماعة التي كتبها من نسخة
الحافظ الصلاح العلائي المأخوذة
من خط الذهبي
203

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ذلتي يا رب ارحمني وأقلني عثرتي. واحفظ علي
إيماني. واحزناه على قلة حزني. وا أسفاه على السنة وذهاب أهلها.
واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء. واحزناه على فقد أناس
كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات. آه على وجود درهم
حلال وأخ مؤنس.
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وتبا لمن شغله عيوب الناس
عن عيبه، إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟
إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات
الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم لا تذكروا موتاكم إلا بخير فإنهم قد
أفضوا إلى ما قدموا بلى أعرف إنك تقول لي لتنصر نفسك: إنما
الوقيعة في هؤلاء الذين ما شموا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم وهو جهاد، بلى والله عرفوا خيرا مما إذا عمل به العبد
فاز وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم و: من حسن إسلام المرء تركه ما لا
يعنيه، يا رجل بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا
تنام، إياكم والأغلوطات في الدين، كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وفي
عن كثرة السؤال وقال (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم
اللسان) وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام
فكيف إذا كان في العبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي
القلوب؟ والله قد صرنا ضحكة في الوجود، فإلى كم تنبش دقائق
الكفريات الفلسفية لنرد عليها بعقولنا، يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة
ومصنفاتهم مرات، وبكثرة استعمال السموم يدمن عليها الجسم وتكمن
205

والله في البدن. واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر، وخشية بتذكر.
وصمت بتفكر، وآها لمجلس يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل
الرحمة، لا عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة، كان سيف
الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما بالله خلونا من ذكر بدعة
الخميس وأكل الحبوب، وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها رأسا من الضلال
قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر أو
حمار ومن لم يكفر فهو أكفر من فرعون، وتعد النصارى مثلنا، والله إن
في القلوب شكوك إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد يا خيبة من
اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال، ولا سيما إذا كان قليل العلم
والدين باطوليا شهوانيا لكنه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه وفي الباطن
عدو لك، بحاله وقلبه فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو
عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر، أو ناشف صالح
عديم الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل. يا مسلم أقدم
حمار شهوتك لمدح نفسك، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟ إلى كم
تصدقها وتزدري بالأبرار، إلى كم تعظمها وتصغر العباد، إلى متى
تخاللها وتمقت الزهاد، إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح بها والله
أحاديث الصحيحين، يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل
وقت تغير عليها بالتضعيف، والاهدار، أو بالتأويل والإنكار، أما آن لك
أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب، أما أنت في عشر السبعين وقد
قرب الرحيل. بلى والله ما أذكر أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر
الموت، فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي بل لك همة
كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال
تنتصر حتى أقوالك: والبتة سكت فإذا كان حالك عندي وأنا الشفوق
المحب الواد، فكيف يكون حالك عند أعدائك، وأعداؤك والله فيهم
صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة
206

وعور وبقر، قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرا (رحم
الله امرءا أهدى إلي عيوبي) فإني كثير العيوب غزير الذنوب، الويل لي
إن أنا لا أتوب ووافضيحتي من علام الغيوب ودوائي عفو الله ومسامحته
وتوفيقه وهدايته، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد
خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
207

سورة بخط ابن قاضي شهبة نقلا عن خط ابن جماعة نقلا عن خط العلائي
المنسوخ من خط الذهبي نفسه.
وهذه الصورة موجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم / 18823 ب
209