الكتاب: دفع الارتياب عن حديث الباب
المؤلف: علي بن محمد العلوي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: شرف - قم
الناشر: دار القرآن الكريم - قم
ردمك:
ملاحظات:

كتاب
دفع الارتياب عن حديث الباب
تأليف
العالم الجليل المحدث السيد علي بن محمد بن طاهر بن
يحيى العلوي
طبع على نفقة أولاد المؤلف
السيد حسن والسيد يحيى أبناء السيد علي بن محمد
بن طاهر بن يحيى العلوي
1

اسم الكتاب: دفع الارتياب عن حديث الباب
المؤلف: علي بن محمد بن طاهر العلوي
الناشر: دار القرآن الكريم
العدد: 2000 نسخة
المطبعة: شرف
ليتوكرافي: كرماني
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الرب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله والسابقين الأولين عن المهاجرين والأنصار
ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين
هذه نبذه في تصحيح حديث النبي (ص) انا دار الحكمة
وعلى بابها والرواية الثانية انا مدينه العلم وعلى بابها قد منها اختصارا لكتابي الكبير الواسع التحرير في هذه الحديث اقدمها للطبع والله الموقف
وأرجو أن ييسر الله لي اتمام الكتاب الذي
فيه البيان الواضح والشرح الكامل من الذي لا يبقى
معه توقف في صحته لكل منصف
والله اسال ان يوفقني للصواب وان يهديني
إلى سواء الحق وأن يجيبني تمر لات التعصب والاعتاق
3

بسم الله الرحمن الرحيم
4

مقدمة
بقلم تلميذ المؤلف
الأستاذ عبد الله محفوظ الحداد
نحمدك اللهم فلا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ونصلي على نبيك
محمد رسول الهداية وآله منابع الدراية، وأصحابه قواعد الرواية، وعلى
التابعين لهم بإحسان، من الأئمة المهتدين الجامعين بين الرواية والدراية.
وبعد،
فهذا محرر لشيخنا العلامة الغيور على دين الله وعلى أهل دينه العلماء،
لخصه من كتابه المسلك المبسوط في تحقيق حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها)
أقام فيه مسلك الانتصاف على قواعد علوم الحديث الشريف، بغية الحق
وتحقق الانصاف بالاتصاف، وسماه دفع الارتياب.
وقد كانت أمنيته رحمه الله أن يطبع وينشر في حياته، لولا أن المنية
عاجلته قبل إتحافه فانتقل إلى رحمة ربه في مساء يوم الأحد 18 ربيع الثاني
سنة 1409 ه‍. موافق 27 - 11 - 1988 م ودفن في مقبرة الشيخ يعقوب
بالمكلا حضرموت مساء يوم الاثنين، في جمع حاشد حضره من مختلف
البلدان..
رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه مع سلفه العظام من العلماء العاملين
الاعلام دار السلام، وأخلفنا بخير في ذويه الكرام.
ونحن وفاء لذكره وتحقيقا لرغبته كان أول عمل قمنا به هو تقديم هذا
5

التلخيص إلى الطبع، حتى ينتشر بين المريدين، وإفادة لطلاب الحق أجمعين،
والحمد لله رب العالمين.
التعريف بالمؤلف
هو السيد العلامة البحاثة ذو الباع الطويل في علوم الشريعة الاسلامية
والعلوم العربية، وقد تخصص في علم أصول الفقه وعلوم الحديث، ولقد
لازمناه واستفدنا منه ما لم نستفده من غيره من شيوخنا، إنه بحر لا ينزف
ومعين لا ينضب.
ولد رحمه الله في السويري - حضرموت، وتربى يتيما في حجر أمه
العظيمة. قال لي يوما إن السيد العلامة الفاضل عبد الباري بن شيخ العيدروس
كان يعتني به ويدعوه دائما إلى مائدته، ويتفقد أحواله، وله عناية خاصة في
تربيته وتعليمه، وقد كان جارا له فيعامله معاملة أولاده وزيادة.
دراسته
كانت دراساته الأولية في تريم ثم أخذ العلم عن شيوخها، ومن أجلهم
السيد العلامة محمد بن سالم السري، والعلامة الصالح عبد الله بن علي بن
شهاب الدين، والعلامة الصالح عبد الباري بن شيخ العيدروس، سالف
الذكر، والعلامة الفاضل شيخ الرباط عبد الله بن عمر الشاطري، الذي
وقف حياته على نشر العلم حتى تخرج به خلق كثير في محيط اليمن شطريه
6

والصومال وأفريقيا وغيرها.
وغيره من الشيوخ الذين تتلمذوا على العالمين السندين الحبيب أحمد بن
حسن العطاس، والحبيب علي بن محمد الحبشي، اللذين أخذا العلم من شيخهم
السند شيخ الوادي عيدروس بن عمر الحبشي، عن شيوخه الذين أوردهم في
ثبته المسمى (عقود اللآلي بإسناد رجالي) مطبوع.
وقال رحمه الله: وقد أجازني وألبسني عمته وألقمني بيده شيخي الحبيب
عمر بن محمد الحبشي، كما فعلوا به مشائخه وأجازني في كل ما استفاده وأجازوه
فيه، ومن أجلهم أبوه العلامة مفتي زنجبار أحمد بن أبي بكر الحبشي وأعظم
شيخين له هما الحبيب محمد بن حسن العطاس والحبيب علي بن محمد الحبشي
فيما أخذوه من إجازات مشائخهم وهم الكثير الطيب وأعظمهم شيخ الوادي
وسنده الحبيب عيدروس بن عمر الحبشي، فرجعت كل إجازات الشيوخ إليه
عن شيوخه في حضرموت واليمن والحجاز وغيرها كما سجله في ثبته.
رحلته إلى مصر
وفي عام 1240 ه‍ رحل إلى الديار المصرية للاخذ عن شيوخها واستكمال
ما فاته من العلوم، فأخذ عن شيوخ الأزهر وغيرهم من المتواجدين حينذاك،
واستمر ما يقرب من ستة عشر عاما في مصر، وقد وجدنا من بين أوراقه
إجازة له من شيخه الكبير المحقق المحدث الشيخ محمد زاهد الكوثري مفتي
الدولة العلية الاسلامية التركية سابقا، وقد كتبها له بخط يده، إجازة عامة في
كل كتبه ومروياته، وما أجازه فيه شيوخه.
ثم عاد من مصر في عام 1257 ه‍ حاملا الشهادة العالية من الأزهر بامتياز،
7

وكان على نية العودة إلى مصر فلم يحمل معه مكتبته، وشاء الله أن يستقر في
حضرموت ويتزوج وينجب الأولاد الصالحين، ليبقى ذكره بهم، مع علمه
الذي نشره (أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وبقي في تريم يشارك في
التعليم وإلقاء المحاضرات والفتوى، ثم شاء الله أن يرتحل إلى الساحل،
فكانت الحرب العالمية وحلت المجاعة وادي حضرموت، فارتحل مع من
ارتحل من أهلها إلى الساحل، وفي المكلا لقي الترحاب الكبير من المسؤولين
وغيرهم، وتعين مفتشا لمدارس الدولة في مادتي العربي والدين، ولم تطل
إقامته بالمكلا إذ تعين مدرسا في أول ثانوية النصفية في غيل أبي وزير لتخريج
المدرسين الابتدائيين، ثم درس بالمعهد الديني الجديد، ثم أصبح مديرا للمعهد
المذكور، وفيه بذل جهدا كبيرا ليصبح المعهد فرعا من فروع الأزهر الشريف،
ونجح في رحلته إلى مصر ثانية لتحقيق هذا الغرض، وأسعف من الأزهر
بالمدرسين والمناهج والكتب اللازمة.
مؤلفاته
له من المؤلفات والبحوث ما يلي:
1 - كتابه الكبير (وجوب التحول إلى حسن الظن بالمتوسل) ناقش فيه كل
من سبقه من المانعين له، وأتى من الأدلة الثابتة والشواهد المتواترة عن السلف
ما يقطع لسان كل متقول، وهو لا يزال مخطوطا ويحتاج إلى جهد في ترتيبه،
لان من طريقة المؤلف رحمه الله إعادة النظر فيما يكتب المرة تلو المرة، فيضيف
ويحذف ويشطب ويلحق، ومات رحمه الله قبل أن يعيد ترتيبه.
2 - (هداية المتخبطين) وهو مختصر صغير من كتابه المذكور أعلاه، رد فيه
8

على الأستاذ ناصر الدين الألباني على رسالته في المتوسل، وقد طبع عام 1985
م، 1405 ه‍. وهو يعتبر كمدخل لكتابه الكبير وجوب التحول.
3 - (كتاب تحقيق البدعة) حقق فيه معناها لغة وشرعا، وتناول بالبحث
والمناقشة الهادفة ما قاله الشيخ الشاطبي والشيخ ابن القيم، وفيمن نحا نحوهما،
وهو مقدم للطبع.
4 - (الفجر الصادق) في أن حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) حديث
صادق، حقق فيه صحة حديث ابن عباس أنا مدينة العلم وعلي بابها،
وحديث علي أنا دار الحكمة وعلي بابها، بما لم يسبق إليه على طريقة المحدثين
وقواعدهم.
5 - كتاب دفع الارتياب عن حديث الباب، وهو مختصر من كتابه المبسوط
المسمى الفجر الصادق.
6 - (الأدلة القاطعة على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم) رد فيه
على كتاب اتحاد الأديان للصافي.
وكم كانت أمنيته أن تطبع هذه الكتب في حياته، ولكن عاجلته المنية قبل
تحقيق الأمنية.
فتوفى رحمه الله عصر يوم الأحد 18 ربيع الثاني سنة 1409 ه‍ و 27 - 11 -
1988 م ودفن في مقبرة الشيخ يعقوب بالمكلا، بجوار القبة.
رحمه الله رحمة الأبرار، ونفعنا بعلومه في الدارين، آمين.
حرره
عبد الله محفوظ الحداد
المكلا - كليه التربية قسم اللغة العربية
الخميس 12 جمادى الآخرة 140 ه‍ و 19 - 1 - 1989 م
9

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله، والسابقين
الأولين من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. هذه
نبذة في تصحيح حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنا دار الحكمة
وعلي بابها) والرواية الثانية (أنا مدينة العلم وعلي بابها) قدمتها
اختصارا لكتابي الكبير الواسع التحرير في هذا الحديث، أقدمها
للطبع والله الموفق، وأرجو أن ييسر الله لي إتمام الكتاب
الأصل الذي فيه البيان الواضح والشرح الكامل الذي
لا يبقى معه توقف في صحته لكل منصف.
والله أسأل أن يوفقني للصواب،
وأن يهديني إلى سواء الحق، وأن
يجنبني مزلات التعصب
والاعتساف.
علي بن محمد بن طاهر
10

حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها
وفي رواية: أنا دار الحكمة وعلي بابها.
قوله (وعلي بابها) يفيد أن جميع ما في المدينة والدار من العلم والحكمة
يكون طريق خروجه من هذا الباب، ولهذا جاء بعده: فمن أراد العلم أو قال
الحكمة فليأت الباب.
وهذا فيه حصر ادعائي، وهو يفرض أن ما عدى المقصور عليه في حكم
المعدوم، وهو في الحقيقة ليس بمعدوم. وذلك إذا علم أن أحدا وصل في وصف
الغاية والذروة جاز أن يحصر هذا على وجه المبالغة، كأنه وحيد فيه، مع أن
الحقيقة غير ذلك، فيكون هذا الباب الذي يخرج منه علم المدينة أو الذي يخرج
منه حكمة الدار هو علي عليه السلام، مبالغة، مع أن غير علي يشارك عليا من
الاخذ عن طريق هذا الباب من علم المدينة أو حكمة الدار، لكن لما كان أكثر
علم هذا الباب يحمله علي عليه السلام، أطلق عليه أنه الباب، ويرجع ذلك
إلى أن عليا أعلم الصحابة.
والحصر الادعائي أي على أساس ما ادعاه المتكلم وأراده، لاعلى أساس
الحقيقة، إذ يراد به التعبير عن التعظيم لمن قيل فيه، كأن الصفة مقصورة عليه
ليست في غيره، للتنويه بأنه قد حاز قصب السبق والكمال فيها. والعرب لا
تصرف تدقيق ما تقوله على أساس أهل المنطق وإنما كلامهم تابع لمرادهم فإنهم
11

يرسلون العام ويريدون الخصوص، ويفهم هذا على حسب العادة أو العقل أو
بساط الكلام، كما تقول أمر الأمير الناس بكذا وأنت تريد من في أمارته فقط، ويقول التلميذ جئت إلى المدرسة أول الناس وهو يريد أول التلاميذ، وهكذا
ترى أن أساس كلامهم على مراد القائل، وكذلك خاطبهم الله على هذا
الأساس، فالله سبحانه وتعالى يقول (أعطى كل شي خلقه) أي ما هو لازم
لهم في إصلاح حياتهم.
ومثله قوله تعالى (وآتاكم من كل ما سألتموه) وقوله تعالى (وأوتيت من كل
شي).
وقال في آخر الانعام (وأنا أول المسلمين)، وإنما يريد النبي صلى الله عليه
وسلم وأنه أول أمته.
وكذلك قالت السحرة. وقد حكى الله ذلك عنهم في قوله عز وجل (إنا
نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين) وإنما أراد أول المؤمنين من
قوم فرعون.
وقال سبحانه (ولا تكونوا أول كافر به) يخاطب اليهود المعاصرين له في
الجزيرة، ولا شك أن مشركي العرب كفروا به قبلهم.
وقال تعالى شأنه في بني إسرائيل (وإني فضلتكم على العالمين) أي على
عالمي زمانهم، وقد فضل أمة سيد الرسل محمد بن عبد الله على جميع الأمم
بقوله (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
فعلى هذا الأساس أي ما يتفاهم به العرب جاء الحصر الإضافي، وهو أن
يحصر الوصف في موصوف أو موصوفا في وصف بالنسبة لأمر من الأمور
ولا يكون ذلك على سبيل الحقيقة، وهذا النوع من الحصر مشهور في كتاب
الله، كقوله تعالى (إنما الله إله واحد) أي إن لله صفة الألوهية والوحدانية،
12

ردا على المشركين الذين يجعلون الأصنام آلهة مع الله تعالى. ولا يمنع الحصر
الإضافي أن يكون لله صفات أخرى تساند صفة الألوهية والوحدانية.
وعلى أساس الحصر الادعائي قال النبي صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة)
وقال (الدعاء العبادة) ومن المعلوم أن أركان الحج وشؤونه كثيرة، ولكن أراد
النبي صلى الله عليه وسلم التنبيه بأن أهم أركانه إدراك الوقوف بعرفه، وبه
يدرك الحج، لان له وقتا محددا يفوت بفوته، فبولغ فيه بأنه كل الحج.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (الدعاء العبادة) فإن من المعلوم أن
العبادة أنواع كثيرة، ولكن لما كان الدعاء وقوف العبد لله سبحانه خاضعا
خاشعا معترفا بالضعف والعجز والحاجة، وذلك أهم وأقوى ما في العبادة، عبر
عنه بأنه كل العبادة.
وفي سيرة ابن هشام منسق سيرة ابن إسحاق قال: حدثني بعض أهل العلم
عن أبي نجيح قال نادى مناد لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. ومن المعلوم
أن السيوف غير ذي الفقار كثيرة، وإنما يريد تعظيم ذي الفقار بأنه أعظم
السيوف، وكذلك الفتيان غير علي كثيرون، وإنما يريد تعظيم علي وأن عليا
أعظم الفتيان.
وكذلك بولغ هنا فجعله باب علم المدينة مع أن غيره يشاركه في الاخذ من
علم هذه المدينة عن طريق هذا الباب.
ومثل هذا ما ورد أن عالم قريش يملا طبقات الأرض علما. فهذا إن صح
فهو أليق أن يكون في الإمام علي عليه السلام لأنه الذي انتشر علمه عند جميع
المسلمين على اختلاف مذاهبهم وأهوائهم، ومع ذلك فإن في قريش علماء كبار
من الصحابة ومن بعدهم، وإنما يريد تعظيمه وأنه أعلمهم.
والمراد في حديثنا علم الفهم في الكتاب والسنة لاعلم الرواية، وقد
13

صرحت بذلك رواية أنا دار الحكمة وعلي بابها.
قال ابن رجب في كتابه المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف تعليقا على
قوله تعالى (ويعلمه الكتاب والحكمة): الكتاب هو القرآن، والمراد تعليمه
وتلاوة ألفاظه، ويعني بالحكمة فهم معاني القرآن والعمل بما فيه، فالحكمة هي
العلم النافع الذي يتبعه العمل الصالح، وهو نور يقذف في القلب، يفهم به معنى
العلم المنزل من السماء ويحض على اتباعه والعمل به، والحكيم هو العالم المتيقظ
لدقائق العلم المنتفع بعلمه بالعمل به.
وقد أشاد النبي صلى الله عليه وسلم بما ناله علي عليه السلام من الحكمة، فيما
رواه عبد الله بن مسعود (رض) قال: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي
تسعة أجزائها والناس جزا واحدا، رجاله ثقات، وسيأتي إسناده عند ذكر
الآثار المعنوية لحديث الباب.
وقد أشار علي عليه السلام إلى ذلك الفهم الذي امتاز به عندما جاء جمع من
الصحابة والتابعين يسألونه هل عنده شي من القرآن والعلم خصه النبي صلى
الله عليه وسلم به فقال: لا إلا فهما يعطيه الله رجالا في القرآن.
فهؤلاء الذين هالهم ما رأوه من العلم الذي امتاز به، فهو في جوابه يدلل بأن
ما رأوه من ظهوره على غيره في العلم، ومن نضوجه وتفوقه في استخراج
المفاهيم من النصوص القرآنية وإدراك الأحكام الشرعية، إنما هو فهم اختصه
الله به على غرار تفوق نبي الله سليمان على أبيه نبي الله داود، مع وفور العلم
لكل منهما كما قال تعالى (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما).
قال الربيع بن خيثم التابعي المشهور المختص بابن مسعود، لما سئل عن
14

علي قال: ما رأيت أحدا محبه أشد حبا له ومبغضه أشد بغضا له من علي، وما
اختلفوا في أنه أوتي الحكمة (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) أخرجه
الحافظ عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة بإسناد صحيح، وسيأتي ذكر
إسناده عند ذكر الآثار المعنوية الشاهدة لحديث الباب.
قال العلامة القسطلاني في شرحه على البخاري، باب فكاك الأسير من
كتاب الجهاد، يعلق على قول علي عليه السلام لما سأله أبو جحيفة: هل عندكم
شي من الوحي إلا ما في كتاب الله.. إلى آخره، قال: فيه جواز استخراج
العالم من القرآن بفهمه ما ليس منقولا، قال: وهذا فيه تأييد لقول إمام الهجرة
مالك بن أنس رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور وفهم
يضعه الله في قلب من يشاء.
قال الامام الكبير ابن عبد السلام في قواعده الكبرى: إن من عاشر انسانا
من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يؤثره وما يكرهه في كل ورد وصدر، ثم
سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عهد
من طريقته وألف من عادته، أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة. وقد
تربى علي في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء الوحي، وكان
يعتني بتعليمه فكان من النبي صلى الله عليه وسلم كل الحرص والعناية بالعرض
للعلم والإفادة، وكان من علي كل الحرص على الاخذ والاستفادة، مع الذكاء
النادر، والسن المبكر. وقال هو منبئا عن نفسه وخصوصيته عندما ذكر
خصائص بعض الصحابة: كنت إذا سألته أجابني، وإذا سكت ابتدأني، إن الله
وهب لي قلبا عقولا، ولسانا سؤولا. وكان له كل ليلة مجلس من رسول الله
15

صلى الله عليه وسلم كما ورد في الأثر، وسيأتي بيانه بإسناده، وهذا يدل على
أنه صلى الله عليه وسلم يغره بالعلم كما قال معاوية، والفضل ما شهدت به
الأعداء. ولهذا تفرد من بين الصحابة بقوله: سلوني قبل أن تفقدوني. وقد دعا
له النبي صلى الله عليه وسلم بالتوفيق في معرفة القضاء. فكان يقول: ما
شككت في قضاء بين اثنين، وكان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعض
أقضيته فيستحسنها.
وفي مقدمة المسلك المبسوط لهذا الحديث ما شئت من بسط هذه الأمور
التي حازها دون غيره.
وقد جاء عن سلمان رضي الله عنه أن عليا عليه السلام أولهم سلما
وأكثرهم علما، مرفوعا وموقوفا. وعن معتل بن يسار وعائشة وأسماء بنت
عميس وبريدة وعلي وابن عباس وأبي هريرة، كلها مرفوعة، ومن مرسل
إسحاق وحديث علي، صححه الطبري والدولابي من طريقه في الذرية
الطاهرة. وكانت الصحابة تقر له بهذا الامتياز.
قال عمر: أقضانا علي.
وقال ابن مسعود كنا نتحدث بأن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب، وفي
رواية أنه أعلم أهل المدينة.
وكان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو الحسن، ويقول لولا علي لهلك
عمر، ولما أفتى في العزل أعجب به وقال له: أطال الله عمرك، وفي رواية
جزاك الله خيرا.
وكان ابن عباس يقول: إذا صح الامر عن علي فلا تتجاوزه.
16

وكان يستشار في الحوادث في عصر الراشدين، وتجيئه حوادث من الشام
معضلة فيفصل فيها.
قال سعيد بن عمرو بن العاص: قلت لعبد الله بن عياش: يا عم لم كان
صفو الناس إلى علي؟ قال يا بن أخي: إن عليا عليه السلام كان له ما شئت
من ضرس قاطع في العلم وكان له البسطة في العشيرة، والقدم في الاسلام،
والصهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفقه في السنة، والنجدة في
الحرب، والجود بالماعون.
وعبد الله هذا صحابي من مواليد الحبشة، وأبوه عياش من السابقين
الأولين، وقد أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات.
وسنذكر أسانيد هذا الأثر في فصل الشواهد المعنوية لحديث الباب.
ولما بويع أمير المؤمنين علي عليه السلام قال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين
وهو واقف بين يدي المنبر.
إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا به أبو حسن مما نخاف من الفتن
وجدناه أولى الناس بالناس إنه أطب قريش بالكتاب وبالسنن
وهذا الحسن السبط يوم بويع قال في خطبة ولاية العهد يذكر فضل أبيه:
لقد فارقكم رجل بالأمس لم يسبقه الأولون ولا الآخرون بعلم. ثم ذهب يعدد
مناقبه.
وقال معاوية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغر (1) عليا بالعلم، وقال

(1) قال في النهاية. وفي حديث معاوية كان النبي صلى الله عليه وسلم يغر عليا
بالعلم يلقحه إياه. يقال غر الطائر فرخه إذا زقه، ومنه حديث علي: من يطع الله
يغره كما يغر الطائر أي فرخه. ويغر بضم الوحدة.
17

الحجاج: قد علمنا أنه أقضاهم.
وقال سعيد بن المسيب: ما كان أحد أعلم من علي وقال: ما كان أحد من
الناس يقول سلوني غير علي.
وسئل عطاء: أكان أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم
من علي بن أبي طالب؟ قال: لا والله لا أعلمه.
وقال مغيرة: والله ما أخطأ علي في قضاء.
وكان علي عليه السلام يدل بالعلم الذي ورثه من أخيه صلوات الله وسلامه
عليه وعلى آله في أحاديث صحاح. وقال مرة وقد حمل المصحف على رأسه: قد
منعوني أن أحكم بهذا الكتاب، إذ أنه يود أن تسنح له الفرصة لبيان القرآن
والحكم به، ولكنهم شغلوه بالحروب والمضايقات في خلافته، وكان يشكو عدم
أخذ العلم عنه، كما في أثر كميل يقول: إن هاهنا لعلما جما، لو وجدت له حملة.
والكلام فيما يتصل بما يدل على بلوغ الامام في العلم شأوا لم يبلغه غيره
يطول، فمن له هذه المكانة كان أعلم خلق الله بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فكان حريا أن يكون باب مدينة علم الرسول صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله.
نقل الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم قول علي عليه السلام:
18

إذا المشكلات تصدين لي * كشفت حقائقها بالنظر
فإن برقت في مخيل الصواب * عمياء لا يجتليها البصر
مقفعة بغيوب الأمور * وضعت عليها صحيح الفكر
لسانا كشقشقة الأرحبي * أو كالحسام اليماني الذكر
وقلبا إذا استنطقته الفنون * أبر عليها بواه درر
ولست بإمعة في الرجال * يسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مذرب الأصغرين * أبين مع ما مضى ما غبر
وأسبق قومي إلى المكرمات * فجلاب خير ودفاع شر
وقد نسبها بعضهم إلى الإمام الشافعي، وإنما هو أنشدها فقط (2).
قال الإمام ابن قدامة صاحب المغني: ليس من شرط التواتر الذي يحصل
به اليقين أن يوجد التواتر في جز واحد، بل إذا نقلت أخبار كثيرة في معنى
يصدق بعضها بعضا، ولم يأت ما يكذبها، أو يقدح فيها حتى استقرت في
القلوب واستيقنتها، حصل التواتر وثبت القطع. ثم ذلك مثل بعدل عمر وعلم
علي وشجاعته.
وحينئذ فعلم علي ومعرفته بعلوم الدين معلوم بالتواتر، فحديث أنا مدينة
العلم وعلي بابها، أو أنا دار الحكمة وعلي بابها، هو على ما فسرناه مضمون هذه

(2) كانت الأبيات في الأصل لا تكاد تقرأ، فرجعنا إلى الأصل الذي أشار إليه
المؤلف جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، فصححناها منه، غير أن رقم (5)
لم يكن بالمخطوطة فأثبتناه تتميما للفائدة كما أن رقم (8) في المخطوطة وليس في
الجامع. أنظر ص 112 جز 2 جامع بيان العلم وفضله.
19

الأحاديث والآثار، فلا محل لما يتشاغل به المشاغبون.
كما أن ما يقوله المدعون: إن هذا الحديث يحصر الرواية عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في علي لا محل له، فالحديث لا يحصر الرواية عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في علي، بل هو كقوله صلى الله عليه وسلم (الحج
عرفة) بل هو ليس في باب الرواية، بل في فهم الدين كله، كما سمعته مما
حررناه.
20

الكلام على الحديث من حيث روايته
وهذا المسلك اختصرناه من كلامنا في المسلك المبسوط.
إن حديث ابن عباس وحديث علي كل واحد منهما صحيح، كما يأتي
شرحه باختصار. فالأول بلفظ (أنا مدينة العلم وعلي بابها). والثاني بلفظ (أنا
دار الحكمة وعلي بابها.
أما الأول فصحيح من رواية أبي معاوية، والدليل على صحة روايته أي
أبي معاوية له ما يأتي:
أولا
أن الحافظ الكبير درة العراق ابن نمير أخبر ابن معين الحافظ المتميز بين
علماء أهل الجرح والتعديل بالتقدم، بأن أبا معاوية كان يحدث بهذا الحديث
قديما، ثم كف عنه، وأنه حدث أبا الصلت به، فبرئ أبو الصلت من عهدته،
وصح أنه من حديث أبي معاوية.
وهذا أقوى دليل على أن أبا الصلت صادق في روايته. فإن ابن نمير درة
العراق كما قال أحمد، وهو قرين أحمد بالعراق، وكان اعتماد ابن معين وأحمد في
رجال أهل الكوفة عليه، وقد شهد لأكبر علماء زمانه في الجرح والتعديل
فكان من شهادتهما: أن أبا الصلت صحيح الرواية.
21

ثانيا
أن ابن معين وثق أبا الصلت وقواه بمتابعة محمد بن جعفر الفيدي وقال فيه:
إنه ثقة مأمون، وقد أخرج ذلك جماعة من أصحابه في تاريخ الخطيب
والمستدرك للحاكم، فقد أخرج الحاكم في المستدرك متابعة الفيدي بالاسناد
المعتبر، واحتج به وبتوثيق ابن معين له.
كما أسند الخطيب في تاريخه بالاسناد الصحيح، عن القاسم بن عبد الرحمن
الأنباري، أنه سأل ابن معين عن هذا الحديث فقال: صحيح.
ثالثا
كان ابن معين لا يصحح هذا الحديث، ثم بحث عنه فوجد أبا معاوية حدث
به أبا الصلت بقول أخيه ابن نمير، ووجد الفيدي حدث به عن أبي معاوية،
فصححه ودافع عنه.
فتحصل مما تقدم شهادة ابن نمير أنه من حديث أبي معاوية، كما أن الإمام أحمد
شهد أنه من حديثه بتصديق رواية عمرو بن إسماعيل بن أبان، وتصحيح
ابن معين، والحاكم، وتوثيق الفيدي منهما.
كما أن ابن حبان وثقه، وقد صرح ابن معين بأن هذا الحديث صحيح من
حديث أبي الصلت، وتبعه الحاكم والحافظ أبو محمد السمرقندي، صاحب بحر
الأسانيد في صحاح المسانيد.
رابعا
أن الحفاظ في عصر ابن معين لم تقع لهم متابعة الفيدي، وإنما ظفر بها ابن
معين ففاز بمقتضى التقديم، فمن حفظ حجة على من لم يحفظ.
22

خامسا
لم يصرح أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين بجرح الفيدي، بل وافق ابن
معين مع الحاكم ابن حبان، قال في الثقات: يروي عن يزيد بن هارون، وعن
فضيل، وحدثنا عنه محمد بن إسحاق بن سعيد وغيره من مشائخنا. فهو توثيق
قوي لا على أساس تساهله.
سادسا
جاء الحافظ الناقد بعد عصر الأئمة أبو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي
وعرف لأبي الصلت حقه من الأمانة والتوثيق، فأخرجه من طريق صالح بن
محمد المعروف بجزره عنه، في كتابه بحر الأسانيد في صحاح المسانيد، وهو
كتاب لم يصنف في الاسلام مثله، ضم من الأحاديث الصحاح مائة ألف
حديث، ولكلامه وزن، لأنه قد عرف كلام من تقدمه من الحفاظ المختلفين
فصححه، عن قناعة بأن ما قيل فيه من الجرح غير مقبول.
سابعا
رواية عبد السلام بن صالح أبي الصلت الهروي، وهو أول من عرف برواية
حديث الباب، وهو أولا قد بري من عهدته بشهادة الحافظ الكبير ابن نمير
قرين الإمام أحمد بن حنبل في العراق بأن أبا معاوية حدث به أبا الصلت، وهي
شهادة عظيمة لا يبقى معها شك في برأة أبي الصلت من عهدته، واعتذر عن
انفراده بأنه كان غنيا يكرم العلماء فيحدثونه. وبمتابعة محمد بن جعفر الفيدي
الثقة المأمون.
كما أن أبا الصلت عالم معروف بالرحلة في طلب العلم والحديث، وموصوف
23

بالصلاح والزهد والتأله، والغيرة على الدين والدفاع عنه، ترجمه الامام
الحافظ أحمد بن سيار المروزي في تاريخ مرو ترجمة حافلة، وصفه فيها بالعلم
وذكر حياته في عهد المأمون، وانتصاره للحق في مناظرة الجهمية والمرجئة
والزنادقة والقدرية، وكان له الغلبة عليهم، إلى أن أظهر المأمون فتنة خلق
القرآن ففارقه.
وناظره ابن سيار لاستخراج ما عنده فوجده معتدلا في تشيعه، يقدم أبا بكر
وعمر ويترحم على عثمان وعلي، إلى آخر ترجمته في المسلك المبسوط.
فهذا الحافظ ابن سيار باشر أحواله واحتك به فعرفه وعرفه للناس،
وكذلك الحافظ ابن نمير التصق به وعرف أنه غني يكرم العلماء والمشايخ
ويحدثونه، وأن أبا معاوية حدث أبا الصلت بحديث الباب.
وكذلك ابن معين لم يوثقه حتى بحث أحواله وعرف أنه مأمون ثقة، وقال
في بعض الروايات دفاعا عن الجرح الظالم له: ما تريدون من هذا المسكين فقد
حدث به ذاك الفيدي.
قال الحافظ المزني في تهذيبه: أبو الصلت سكن نيسابور، ورحل إلى
البصرة والكوفة والحجاز واليمن، وهو خادم علي الرضا، أديب فقيه عالم.
وذكره الذهبي في تاريخ الاسلام، وبعد أن ذكر من روى عنهم ورووا عنه
قال: وكان زاهدا يتأله ولم يذكر فيه جرحا، وقال في أول ترجمته من الميزان:
الرجل الصالح، وهذا تقييم منه. وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام،
أفرط العقيلي فقال كذاب.
24

وكذلك الإمام أحمد كان ينكره عن أبي معاوية، ثم رجع عن ذلك بقوله إن
عمرو بن إسماعيل عن أبي معاوية قد صدق.
وذكر ذلك ابنه عبد الله كما في تهذيب الحافظ وصار يوثق أبا الصلت ويأمر
ابنه عبد الله بالرواية عنه. وقد روى عنه حديث: الايمان تصديق بالقلب،
الحديث، من روايته وصححه.
كما في جز ابن ترتال أنه رواه بحضرة قائد المأمون عبد الله بن الحسين
الخزاعي مع وجود الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، ولم ينكراه عليه، كما ترى
هذه الروايات في الخطيب، وقد ذكرناها في المسلك المبسوط.
وذكر الأجزي عن أبي داود أنه ضابط رأيت ابن معين عنده.
وكان صالح بن محمد يروي حديث الباب عنه كما في بحر الأسانيد، ويجيب
من يسأله عنه بتوثيق ابن معين مع أنه قد يخالف ابن معين وهو في طبقة أبي
حاتم وأبي زرعة وبينهم وإياه مكاتبات.
وقد زاد من روى عنه من الحفاظ ما ينيف عن العشرين حافظا من حفاظ
الحديث دون غيرهم من الثقات والرواة، وقد بري من عهدة ما اتهم به،
فوجب أن يرجع إليه اعتباره.
والأصل في هذا الصنف أن يقبل حديثهم وأن لا يقبل جرمهم حتى يثبت،
وأما الذين تكلموا فيه فلم يكن لهم الخبرة بأحواله ولم يخالطوه كما هو حال
من وثقه فإنهم من طبقته أو طبقة الآخذين عنه دون الطاعنين فيه، فإنما حملوا
25

عليه لروايته حديث الباب وحديث الايمان، وقد قدمنا أنه بري من عهدة
حديث الباب، وكذلك حديث الايمان هو بري من عهدته لأنه قد رواه عنه
جماعة من الثقات وصححه الإمام أحمد من رواية أبي الصلت عن الرضا وقد
جاء من غير طريقه عن أبيه الكاظم أيضا وجده الصادق.
فقول هؤلاء المتحمسين في قولهم أنه الآفة منه وإن غيره سرقه منه، باطل
لا محل له بعد قيام الدليل أنه ليس هو الآفة، وأن هذين الحديثين صحيحان من
غير طريقه.
إذا علمت ذلك علمت أن جارحيه لم يتعلقوا عليه بشي يدينه ولا عبرة
بالظن البين خطؤه، وأن قول بعضهم إنه كذاب رافضي خبيث لم يدللوا عليه.
ومع ذلك فهو جرح بالمذهب وقد عرفنا بطلانه ببيان من عرفوه.
عود إلى الكلام على روايته عن أبي معاوية
فعلى التنازل بعدم الاعتماد على رواية أبي الصلت فقد علمنا أن أبا معاوية
حدث بحديث الباب وقد تفرد به وهو إمام من أركان الحديث، وهو مكثر فلا
يستغرب منه تفرده في بحر ما روى من مئات الأحاديث، كما قبلوا تفرد أمثاله
من الأئمة المكثرين. وغاية ما يقال إنه صحيح غريب من حديث أبي معاوية.
وفي البخاري أفراد ألف فيها الحافظ الضياء، وأول حديث في البخاري وهو
حديث النية فرد، وكذلك آخر حديث فيه.
ومن هنا عرف أن التشغيب فيه غير مسموع، فالحكم بالصحة فيه كبقية
26

الأحاديث التي صحت بتفرد الثقات بل بتفرد الحفاظ الذين ضمهم كتابا
الصحيحين وغيرهما من كتب الصحاح ومجاميع السنة، وهو أمر قامت عليه
القاعدة المتفق عليها أخيرا.
وحينئذ فالحديث صحيح لان أبا معاوية ثقة حجة، فإن الصحيح ما كانت
رجاله ثقات وليس فيه علة فادحة ولا انقطاع، فإذا جاءت روايات من
طريق الضعفاء فلا تضر روايته التي جاءت عنه من طريق ثقة، بل تكون
متابعة، ورواية الثقة هي المعمول بها كما هو مسجل في علم المصطلح. والاجماع
على أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، فالقول بصحته هو الحق الذي
لا معدل عنه.
قال الامام الحافظ ابن خزيمة: إن النفي لا يوجب علما وإن الاثبات هو
الذي يوجب العلم، وقد أجمع أهل العلم على القول: بأن من حفظ حجة على
من لم يحفظ: وهذا أكبر دفع وأبلغ حجة على من قصر أو احتج بالمقصرين.
وأما قول ابن نمير في كلامه السابق: كان أبو معاوية يرويه قديما ثم كف
عنه، فلا يضر ذلك بالكبار مثل أبي معاوية وأمثاله، فإنهم يعرفون أن رواية
فضائل علي عليه السلام مكروهة غير مقبولة عند طوائف من المحدثين،
يصمون روايتها بالرفض، وقد راجت عليهم دسيسة النواصب الذين
يخالطونهم بأن ظهورها وروايتها مخالف لقواعد أهل السنة، ودعوة للتشيع
وانتصار للروافض، وهذا هو الذي تظاهر به أهل الجرح والتعديل من المحدثين،
بينما خالفهم بعض المحدثين كالامام أحمد والبخاري ومسلم، وغالب جامعي
كتب السنة. فقد رووا الفضائل من ثقات الشيعة حيث جعلوا ذلك من
27

الخصائص التي جاءت لكثير من الصحابة وهي تثبت الفضل ولا تقتضي
الأفضلية.
ولهذا كان من حق فريق من الرواة تجنب ما يخدش كرامتهم بروايتهم شيئا
من هذه الأحاديث وليس عليهم لوم، ولم يعدموا من يأخذ عنهم ليتخلصوا
من الكتمان، وكانوا بهذا العمل محسنين في دينهم، ومحسنين إلى أنفسهم، فإن
الابتعاد من مواقف التهم أمر مشروع، ولهم أسوة بكتم كثير من الصحابة
والسلف ما هو حق في بعض المواقف ليذكروها في مواقف أخرى، كما سيأتي
شرح ذلك، وسيمر بك قريبا ما حصل لبعض الأئمة من الشماتة والأذى بسبب
روايتهم في هذه المجالس العامة، ولهذا كان أبو معاوية يبتعد بحديثه عن هذه
المواقف.
28

أغراض الرواة
في عدم رواية بعض الأحاديث
وهنا نذكر ما يلقاه من يروي فضائل علي وآل البيت التي هي من قبيل
الخصائص، فقد وردت في كثير من الصحابة فضائل وخصائص، ولكنها إذا
كانت في علي لا تقابل بالسكوت بل تكون دليلا على تشيع راويها ورفضه ومقته.
وقد كان عبد الله بن عمر مشكدانة وهو من رجال مسلم يمتحن كل من أراد
أن يروي عنه ليسبر غوره، ذكر ذلك الذهبي. وذلك أن جماعة من المحدثين
يشيعون أن هذه الأحاديث تشجع الرافضة وتدعو إلى التشيع وتخالف أصل أهل
السنة في نظام الفضل في الخلفاء الراشدين.
ولهذا فإنهم يكرهون روايتها ويهاجمون من رواتها، وينفرون منهم بوصمهم
بالرفض ومخالفة عقيدة أهل السنة، فإذا أراد الراوي أن يروي ما عنده على أساس
ما سمع لاعلى أساس ما يحبه الناس أوقع نفسه في ما لا تحمد عقباه، من التشويش
عليه في مجالس العلم، ورميه بالبدعة، كما حصل للحافظ ابن السقاء، والحافظ
ابن الضحاك، والأعمش، والنسائي، وغيرهم من الرواة الذين اضطهدوا،
وبعضهم أخملوا وترك حديثهم، وبعضهم تذبذبوا وأظهروا رجوعهم وتركهم لهذه
الأحاديث التي لا توافق أهواء هؤلاء الناس.
29

وأصل ذلك من النواصب الذين اندسوا بين المحدثين فانخدع بأقوالهم من ليس
منهم من أهل السنة البريئين من النصب فنفروهم من رواية هذه المناقب، مع أن
السني أصلا يوالي عليا فهو ضد الناصبي الذي يكره عليا.
ولهذا فليس على حفظة السنة وحملة لوائها أي مؤاخذة إذا انحازوا
بأحاديثهم إلى من يقبلها ويحترم من يرويها، وليس عليهم لوم إذا ابتعدوا عن
المواقف التي يطعن فيها بمن يرويها.
وليس خافيا على أحد ما كان يكابده من الأذى والوقيعة وأنواع الشر كل
من يحب عليا وأهل بيته، فقد كانت الجبابرة من الملوك ينكلون بكل من
يروي هذه الأحاديث كما هو معلوم طيلة عهد بني أمية وبني العباس، لا لسبب
إلا لأنهم يكرهون كذلك، اللهم إلا عهد عمر بن عبد العزيز.
روى الحافظ نصر بن علي الجهضمي، عن علي بن جعفر بن محمد يعني
العريضي، عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم (من أحبني وأحب هذين يعني
الحسن والحسين، وأباهما وأمهما، كان في رحبتي يوم القيامة) قال فأمر المتوكل
العباسي بضربه ألف ضربة!.
ثم انتقل ذلك إلى مستوى الناس فصاروا يمقتون من يروي فضلهم، فقد
روى الأعمش قول علي عليه السلام (أنا قسيم النار) فثار عليه أهل الحديث،
وقالوا: إن هذا مما يتقوى به الرافضة والشيعة والزيدية، وألزموه أن يكذب
نفسه.
ولما سئل الإمام أحمد بين أنهم أخطأوا لأنه كحديث مسلم أنه لا يبغضه إلا
منافق. وذكرنا القصة بنصها في المسلك المبسوط.
30

ولما روى الحافظ ابن السقا حديث الطير أقاموه وغسلوا مكانه.
وقعد الحافظ ابن الضحاك يحدث بفضائل أبي بكر ثم بفضائل عمر، ثم
قال: نبدأ بعثمان أو بعلي؟ فقالوا: رافضي، وقاموا عنه.
وصنف الامام النسائي أحد أصحاب السنن الأربع خصائص علي ودخل بها
دمشق، لعل الله يصلح بها عقيدتهم في علي، فعصروا خصيتيه ومات بسبب
ذلك.
وهذا الإمام الشافعي رموه بالرفض لحبه عليا وأهل البيت، وقد ردد ذلك
في أشعاره قال:
قالوا ترفضت قلت كلا ما الرفض ديني ولا اعتقادي
وقال:
إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
وقال:
برئت إلى المهيمن من أناس يرون الرفض حب الفاطمية
فلهذا كان عبد الرزاق، وأبو معاوية، وعبد الله مشكدانة، وطائفة من
الناس يتجنبون بعض المواقف بأحاديثهم، ويروونها لمن يقبلها إذا كانت من
هذا الصنف.
لكن فريقا من المحدثين كالامام أحمد والبخاري ومسلم وأكثر المصنفين
لمجاميع السنة لم يسايروا هؤلاء المتزمتين فرووها عن الشيعة على أساس أنها
من الخصائص التي وردت لكثير من الصحابة، وفسروها بأنها تقتضي الفضل
ولا تقتضي التفضيل.
31

وقد كتم عبد الله بن عمر مشكدانة، وعبد الرزاق، وأبو معاوية، بعض
أحاديثهم في بعض المواقف، وحدثوا بها في مواقف أخرى، ولا لوم عليهم،
فقد تركها من هو أعظم منهم من الصحابة والسلف الصالح في نحو هذه المواقف،
فهو عمل مستقيم وأمر محمود بشرطه.
وهؤلاء الرواة الذين نقموا عليهم رواية الحديث في بعض المواقف هم من
أساطين الرواية وحملة السنة النبوية، ولا يدفعون عن الأمانة والصدق
والديانة، فلا ينبغي أن يعتقد فيهم أنهم يجيزون ترويج الكذب عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولا إدخال ما ليس من أقواله في أقواله، وهم الذين
يعلمون ويروون قوله صلى الله عليه وسلم (من كذب علي متعمدا فليتبوأ
مقعده من النار) وقوله: صلى الله عليه وسلم (من حدث عني بحديث يرى أنه
كذب فهو أحد الكذابين) أخرجه مسلم.
ولهذا فليس من العدل إلصاق الكذب بهم، إن الذنب كل الذنب ليس على
هؤلاء الأئمة الذين هم من أركان الرواية، ومن قبلهم جماعة من الصحابة،
كزيد بن أرقم، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجماعة غيرهم، ومن
التابعين كسعيد بن جبير، والحسن البصري، وغيرهم.. ليس على هؤلاء
الذنب إذا استتروا ببعض رواياتهم، بل الذنب كل الذنب على الملوك الجبابرة
ومن انساق إلى صفوفهم ممن صنعوهم لمناصبة علي وأهل البيت، ومن قلدهم
وإن كانوا ليس منهم في أصل عقيدتهم.
ولنختم كلامنا هنا بنقل كلام الامام الشهيد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في
كتابه الاختلاف في اللفظ وهو كتاب مطبوع، وابن قتيبة هو ممن عاصر الأئمة،
32

وطبقته طبقة شيخه الامام إسحاق بن راهويه، أحد أئمة الحديث الكبار. قال
أحمد فيه: إسحاق لا يسأل عنه بل هو ممن يسأل عن الناس.
وابن قتيبة شاهد عيان وهو مؤرخ مشهور ومحدث أيضا، قال رحمه الله
ص 47
وتحامى كثير من المحدثين أن يحدثوا بفضائل علي أو أن يظهروا بحب له
وكل تلك الأحاديث لها مخارج صحاح.
ثم قال: وأهملوا من ذكره أو روى حديثا في فضله حتى تحامى كثير من
المحدثين أن يحدثوا بها.
ثم قال: وإذا ذكر ذاكر قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كنت مولاه فعلي
مولاه) و (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وأشباه ذلك، التمسوا لتلك
الأحاديث المخارج لينتقصوه ويبخسوه حقه بغضا للرافضة، وإلزاما لعلي ما لا
يلزمه.
وليكن على بالك قوله: بغضا للرافضة وإلزاما لعلي مالا يلزمه.
وفيما ذكره مما نقلناه وما استوفيناه في المسلك المبسوط شواهد على ما يلقاه
رواة مناقب علي من المشقة والعنت. وهذا هو الذي حمل عبد الرزاق أن يعدل
بهذا الحديث إلى أمثال أحمد بن عبد الله الحراني، وأحمد بن طاهر، وحرملة،
ممن ليسوا من مشاهير الرواة، فأحمد بن عبد الله روى له الحاكم فيما كان
شاهدا لحديث ابن عباس، ولكنه لم يكن من المعروفين بالرواية عن عبد
الرزاق.
وقد روى أبو الأزهر النيسابوري وهو حافظ معروف، حديثا عن عبد
33

الرزاق في فضل علي فأنكر ابن معين انفراده به وقال: كيف خصك به؟ ثم
عذره، لأنه أخبره بأنه خصه به لأنه سار معه إلى قريته.
ثم وجدت له متابعة صحيحة، فذكر الخطيب أن محمد بن حمدون
النيسابوري رواه عن محمد بن علي بن سفيان النجار، عن عبد الرزاق، قال
الخطيب: فبري أبو الأزهر من عهدته. وقد أخرجه الإمام أحمد في كتاب
المناقب.
أما أحمد بن عبد الله، فلما كان غير معروف بالرواية عن عبد الرزاق،
اتهمه ابن عدي والدارقطني بروايته هذا الحديث عن عبد الرزاق، ومع اعترافنا
بأن أحمد المذكور يدخل في قاعدة الرواة الذين لا يقبل انفرادهم برواية حديث
لم يروه أحد من المعروفين عن عبد الرزاق، وذلك على أساس قاعدتهم في
النكارة، كما حققه الأئمة وهو أيضا ليس معروفا بالأمانة والضبط ليتحمل
انفراده.
أما من حديث التفرد عمن له رواة مشهورون كعبد الرزاق، فقد استثنوا
من هذه القاعدة كل ما يجعل التفرد ميسورا قريبا ككون شيخه يجمع هذا النوع
من الحديث، أو بلزوم الراوي لشيخه بخدمة أو قرابة، أو يكون الراوي غنيا
يكرم المشائخ، أو نحو ذلك فيحدثونه.
وقد كان عبد الرزاق يجمع الأحاديث في فضل علي وأهل البيت.
وأما كون أحمد بن عبد الله هذا لا تحتمل روايته، لأنه لم يوثقه أحد، فهو
منتف برواية الحاكم عنه، كما نص عليه في كتابه المستدرك.
34

قال الحافظ ابن حجر في اللسان في آخر ترجمة الحاكم ما لفظه: قال في آخر
كتابه المستدرك: هؤلاء الذين ذكرتهم في كتابي ثبت عندي صدقهم، لأني لا
أستحل الجرح إلا مبينا، ولا أجيزه تقليدا. والذي أختاره لطالب العلم أن
يكتب حديث هؤلاء أصلا.
وبذلك فقد نص على أن من روى عنه في المستدرك مقبول، وحينئذ فأحمد
بن عبد الله الحراني بموجب هذا ثقة عنده يعتمد عليه في تصحيح هذا الحديث،
والحاكم إمام مجتهد كالترمذي، قد يخالفان غيرهما في قبول بعض الرواة.
وقد سئل أحمد عن غرائب عبد الرزاق قال: كان يحب أخبار الناس.
وقال المروزي كان عنده أحاديث المناقب، ودافع المروزي عمن روى عنه
بمثل ذلك.
وإذا كان أشد تهمته اتهم به هذا الحديث، وكانت الحملة عليه بسبب ذلك
فقد ضعفت التهمة.
فالحاكم يعلم أن هذا الحديث وما يشبهه مما يجمعه عبد الرزاق، وأنه إنما
عدل بروايته إلى أحمد بن عبد الله الحراني ليتم له رواية ما سمع، مجانبا المواقف
التي يخشى منها الرواة.
وقد علمت أن ابن عدي والدارقطني لم يحتملا روايته لهذا الحديث لعدم
شهرته بالرواية عن عبد الرزاق، مع إنكارهما لرواية أصل هذا الحديث عن
ابن عباس من طريق أبي الصلت ومتابعيه.
35

ولكن الحاكم قبل رواية أحمد بن عبد الله المذكور عن عبد الرزاق، لان
هذا المتن عنده صحيح من رواية ابن عباس، وروى هذا شاهدا.
كما أن الحفاظ لا يرفضون كل حديث الضعفاء بل يقبلون ما هو معروف
بشواهده ويتساهلون في الشواهد والمتابعات، حتى أن من التزموا الصحة في
كتبهم يجمعون مع الروايات الصحيحة أصلا ما يقبلونه من الروايات الضعيفة
المحتملة حسب تقييمهم في الشواهد والمتابعات، ولا يستثني منهم حتى
صاحبي الصحيحين.
وقد صحح بعض الحفاظ عددا من روايات كثير بن عبد الله المزني أحد
المشهورين بالضعف الشديد، ولم يمنع من ذلك شدة ضعفه، مما يدل على أنهم
يقبلون من أحاديث الضعفاء ما ينتخبونه مما يرون أنه سليم موافق لما رواه
الثقات، وتؤيده الشواهد التي تدل على أنه مما ضبطه الضعيف من حديثه.
على أنهم توسعوا في دائرة الصحيح فأوصل بعضهم مراتبه إلى ست فأكثر،
وأدخل جمع من الحفاظ الحسن في الصحيح، وأدخل آخرون في الحسن
الضعيف المتحمل.
وقد ذكر الحافظ بن تيمية في كتابه قاعدة جليلة أنهم يقسمون الحديث إلى
صحيح وحسن وضعيف أي ساقط لا يحتمل، ويدخلون الحسن في الصحيح،
ويدخلون الضعيف المتحمل في الحسن قال: وعلى هذا جرى الإمام أحمد في
مسنده.
وقد تركنا تفصيل الكلام في هذه الأمور إلى المسلك المبسوط.
36

قد يقال: إن هؤلاء إنما تستروا برواية فضائل علي رضي الله عنه لئلا
ينكشف زيفها ويظهر كذبها على يد حفاظ السنة اليقظين.
والجواب: إن الذين يقولون هذا القول هم فريق من المتطرفين، يسمون
أنفسهم بالمتصلبين في السنة، ومن تأثر بسمومهم، وهي دسيسة دخيلة على
أهل السنة، وقد استحوذوا على الجمهور ممن ليسوا على عقيدتهم في بغض علي
وآله، فراجت عليهم أقوالهم في رد مناقبهم دون غيرهم من الصحابة، تحت
تأثير قاعدة أن تركها وردها إرغام للروافض وقوة لأهل السنة، وبذلك
هاجموا كثيرا من أهل السنة المعتدلين كالامام الشافعي وابن جرير، والحاكم
صاحب المستدرك، وعبد الرزاق، وجماعة من المتأخرين، علاوة على كثير من
المتقدمين من شيعة الإمام علي عليه السلام الذين كانوا يناصرونه في عهده من
الداعين إلى الجنة على أساس قول النبي صلى الله عليه وسلم (ويح عمار تقتله
الفئة الباغية... الحديث).
ومن كان يعد عصره من المعتدلين الذين لم يعرف عنهم إلا التشيع لعلي
وحبه سموهم شيعة وروافض تعنتا وعدوانا، وردوا رواياتهم في مناقب علي
والعترة، بحجة أن هذه المناقب قوة للشيعة ولا يرويها إلا شيعي أو رافضي.
وقد راجت هذه الدسيسة واستغلت لضرب كل هذه المناقب، أما إذا
خرجت رواية المنقبة والفضيلة عن سيطرتهم وشاعت ولم تبق لهم حيلة
لدفعها فتراهم يقرون بها ويعملون الحيلة في تأويلها كما يشهد بذلك كلام ابن
قتيبة السابق.
37

إذا فليس على من تجنب بحديثه هذه المجالس إن كان من هذا الصنف
عيب أو سبة، فإن تجنب سوء القالة أمر مشروع والابتعاد عن مواقف التهم
محبوب في الدين.
ولهذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم طلب قتل من استحق القتل قائلا
(لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه).
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها (لولا قومك حديثوا عهد
بجاهلية لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم). فلم يبنها على قواعد إبراهيم
لذلك.
ولهؤلاء المتسترين أسوة حسنة بالصحابة والتابعين، فقد كان زيد بن أرقم
يمتحن من يسأله، فقد أخرج الإمام أحمد في سنده عنه أنه قد سأله رجل من
أهل العراق عن حديث غدير خم فامتنع عن إجابته وقال: إنكم يا أهل العراق
فيكم ما فيكم، فقال ليس عليك مني بأس فأجابه.
وهذا أبو هريرة يحدث بجرابين من العلم ويترك آخر ويقول: لو بثثته لقطع
مني هذا البلعوم، كما جاء في صحيح البخاري.
فهذا الصحابي المشهور أخفى جرابا من العلم لم يحدث به.
وكان سعيد بن جبير يتوقف في إجابة من يسأله في مناقب أهل البيت خوفا
على نفسه من ولاة السوء.
فقد أخرج الحاكم من طريق مالك بن دينار قال: سألت سعيد بن جبير
فقلت: يا أبا عبد الله من كان حامل راية النبي صلى الله عليه وسلم قال فنظر
38

إلي وقال: كأنك رضي البال! فغضبت وشكوته إلى إخوانه من القراء فقلت:
ألا تعجبون من سعيد، سألته من كان حامل راية النبي صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: إنك سألته وهو خائف من الحجاج وقد لاذ بالبيت، فسألته فقال: كان
يحملها علي بن أبي طالب، هكذا سمعته من عبد الله بن عباس.
وهو حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه، وله شاهد من حديث زنقل
العرفي فيه طول فلم أخرجه.
وسأل رجل ابن عمر عن فضل علي فأجابه، فقال له: لعل ذلك يسؤك؟
قال فلم؟ قال أرغم الله أنفك فاجهد علي جهدك.
وقد ذكر أن هذا مذهب معروف بوب له البخاري في صحيحه بباب من
خص قوما دون قوم مخافة أن لا يفهموا، وذكر فيه قول علي حدثوا الناس بما
يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله.
وذكر الحافظ أن الإمام أحمد كان يكره رواية الأحاديث التي تدل على
الخروج على الملوك.
والكلام في هذا يطول فنكتفي بما قدمناه، وبما حررنا في المسلك المبسوط.
وقد نقلنا هنا بعض ما قاله المؤرخ الكبير الامام عبد الله بن مسلم بن قتيبة،
وهو شاهد عدل، وكفى بها من شهادة.
واعلم أننا لم ننقم ولم نحاول الغض من أصل ما اعتبره الأئمة للمجالس
العامة من فضل ونفع ورفع عن الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه
39

وسلم وحراسة للدين، حيث أن هذه المجالس تردع الكذابين والمخلطين فلا
يجرؤون على دخول رحابها ليظهروا ما عندهم من زيف وروايات باطلة،
وإنما يحدث فيها من يعرف أن بضاعته التي يعرضها على أئمة الحديث جيدة
نزيهة، فإذا جازف أحد من الوضاعين ورواة المنكرات الباطلة وتشجع
لدخول هذه المجتمعات انكشف على يد هؤلاء الحفاظ.
لكن يقال ما من عام إلا خصص، فإن لكل ما يخرج من حكم العام أدلة
خاصة. وما قلناه من عذر من تكتم بروايته فضائل علي وآله أمر لا يخفى، فإنه
قد عرف الخاص والعام أن مناقب مولى المؤمنين علي بن أبي طالب مرت تحت
الحصار الشديد في عهد بني أمية الذين كانوا يلعنونه ويقتلون أولاده، وعهد بني
العباس أيضا لا سيما أوائلهم وعهد المتوكل، ثم خرجت من عهد الملوك إلى عهد
من خلفوهم من النواصب. وليس سرا ما وقع من المكروه والعنت، على نحو ما
قدمنا وفيما لم نقدمه.
وكان الحافظ إبراهيم السعدي الجوزجاني، شيخ أبي داوود، والنسائي،
حامل راية النصب والبغض لعلي، وكان في أواسط عصور الأئمة، وستري
كلامه في المسلك المبسوط في معاداة علي وإعلانه الحرب على مناقبه وفضائله.
وله كتاب في علوم الحديث له أثر واضح في كلام المتأخرين بعده، حتى أن
الحافظ السيوطي ذكر في كلامه في أسباب الوضع: أن يروي رافضي حديثا في
فضل أهل البيت، وقد علمت أن الرفض عندهم شامل لكل محب لعلي، ذكر
هذا في كتابه تدريب الراوي.
40

ولهذا قلنا أن مناقب علي وأهل البيت لا لوم على من يرويها خارج هذه
المجالس العامة، إذا كان ثقة معروفا بالعلم والأمانة، وشاهدنا أن الحافظ
السيوطي له كتاب في فضل أهل البيت، سماه (إحياء الميت في فضل أهل البيت)
فأشار إلى أن فضل أهل البيت قد أميت.
ومن المعلوم من علوم الحديث أن الرواة الذين يروون المتون المنكرة أو
الموضوعة الباطلة من قبلهم، لا محل لهم في كتب الصحاح، ويحكم على كل ما
يروونه بالوضع. وليس هذا من الخطاء والوهم الذي يغتفر للثقة في رفع موقوف
أو وصل مرسل. وحاشا هؤلاء الأئمة الثقات الذين حملوا تراث السنة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سوء هذا المآل.
وهذا أبو معاوية روى حديث الباب، وهو من أبرز الأئمة الثقات الذين
اعتمد عليهم علماء الرواية، وفي مقدمتهم صاحبا الصحيحين، وأوعبوا في
كتبهم من رواياته. وقد قبلوا ما تفرد به وما تفرد به الثقات لا سيما الحفاظ
منهم، على أساس قاعدة أن انفراد الثقة الثبت حديثه صحيح، وأن انفراد
الثقة الصدوق حديثه حسن. وهو أصل من أعظم أصول قواعد هذا الفن
الشريف.
والانقياد لهذه القواعد في بعض دون بعض تحكم موافق لمقتضى الهوى
والتشهي، ويدخل الوهن في القواعد التي يعتمد عليها علم الحديث، كما
يضعف الثقة بالسنة النبوية وهي الأصل الثاني بعد القرآن، اعتمد عليها
المسلمون في دينهم. إذ الأحاديث المتواترة لا تفي بحاجات الشريعة المطهرة.
41

وهنا في حديثنا انفرد أبو معاوية وهو ثقة حافظ، رواه عن شيخه الأعمش
وهو أثبت الناس فيه، ومع ذلك فهو ثقة مطلقا في جميع شيوخه، فحديثه يكون
هنا صحيحا.
ويمكن أن يعذر المتقدمون الذين اتهموا الرواة الذين لم يحتملوا لهم روايتهم
هذا الفن عن أبي معاوية، أما بعد ظهور ما ينهض بالحديث بما وفق لمعرفته ابن
نمير، وابن معين، واعتمد عليه الحاكم، الذي جاء بإسناد معتبر للمتابعة التي
ذكرها ابن معين، وحينئذ فلا عذر لمن عرفها إلا أن يحكم القواعد التي قام
عليها هذا العلم، لا سيما وقد صرح علماء المصطلح بقاعدة أن على الحفاظ
المتأخرين أن يعتمدوا على ما عليه الدليل من كلام المتقدمين، وليس لهم أن
يخالفوا هذه القاعدة.
ولسنا إذ نخالف جماعة من المتقدمين والمتأخرين وحيدين، وإنما نوافق
آخرين أعلى منهم ساروا على جادة هذه القواعد، فالحجة قائمة على
المتأخرين الذين جمدوا على ضعف الحديث تناسيا لما هو معلوم من وجوب
العمل بقول من حفظ، وتقديمه على المقصرين، تمشيا على القول المجمع عليه
من أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وهو الدليل الذي يجب أن يعتمد عليه.
وعلى هذا مشى الحافظ الناقد الصلاح العلائي، فقد حاول جمع أطراف
الموضوع، ووصل إلى نتيجة تشهد لها قواعد هذا الفن، فقد ذكر أقوال
المضعفين الذين وقفوا عندما علموا، ثم ذكر بعده كلام الحاكم الذي احتج بقول
ابن معين الذي تمكن بالحجة على من قصر، قال فبرئ أبو الصلت من عهدته.
42

قال: وأبو معاوية ثقة مأمون من كبار الشيوخ المتفق عليهم، فقد تفرد به
عن الأعمش، وكان ماذا؟ وأي استحالة أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم
هذا في حق علي؟
قال: ولم يأت من تكلم في هذا الحديث وجزم بوضعه بجواب عن هذه
الروايات الصحيحة عن ابن معين.
قال: ومع هذا فله شاهد رواه الترمذي في جامعه من طريق محمد بن عمر
الرومي، عن شريك بن عبد الله، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة،
عن الصنابحي عن علي مرفوعا (أنا دار الحكمة وعلي بابها). قال الترمذي بعد
إخراجه: هذا حديث غريب، رواه بعضهم عن شريك ولم يذكر الصنابحي.
ولا يعرف هذا عن أحد من الثقات غير شريك.
قال: فبري الراوي من عهدته من التفرد، ثم ذكر توثيق شريك عن
الأئمة.
وقال بعد ذلك: وعلى هذا يكون تفرده حسنا.
قال: فكيف إذا انضم إلى حديث أبي معاوية.
قال: ولا يرد عليه رواية صرف عن الصنابحي، لان سويد بن غفلة مخضرم
أدرك الخلفاء الأربعة وسمع منهم، فذكر الصنابحي من المزيد في متصل
الأسانيد، ولم يأت أبو الفرج ولا غيره بعلة فادحة في حديث شريك غير
دعوى الوضع دفعا بالصدر. انتهى كلام الحافظ العلائي باختصار.
قلت: كلام الحافظ العلائي مطابق لما قالوه في علم المصطلح بالنسبة للحفاظ
المتأخرين من أنهم يلزمهم الاخذ بما فيه الدليل من كلام المتقدمين المختلفين.
43

قال السخاوي في شرحه لمنظومة العراقي في مصطلح الحديث ما حاصله: أن
القاعدة أنه يلزم الحفاظ المتأخرين أن يعتمدوا على من بيده الدليل فيما اختلف
فيه الحفاظ المتقدمون.
وقول الحافظ العلائي في كلامه السابق في الرد على ابن الجوزي والذهبي،
يشير إلى هذه القاعدة المقررة المعتمد عليها في علوم الحديث.
وقول العلائي في رواية إسقاط الصنابحي، إنما هو على التنازل في اعتبار هذه
الرواية، وإلا فإنها ساقطة بقول الترمذي: إن الرواية المتصلة التي صدر بها
الباب هي من حديث شريك.
والبعض نكرة من كل الوجوه اسما وذاتا وحالا فلا حكم لها، ولا يعتبرون
من قيل فيه حدثنا الثقة، فكيف هذا الابهام المطبق، وبالنسبة لها ولرواية
حذف سويد بن غفلة التي جاءت من رواية سويد بن سعيد فإن الزائدة هي
المعتمدة في محل عن، لان ذلك مقتضى الجمع بين المتعارضين كما حققه الحافظ
في مقدمة الفتح.
وهي هاهنا الرواية المتصلة التي اعتمدها الترمذي وعليها صحح الحافظ ابن
جرير الطبري في صحيحه تهذيب الآثار، وجاء تزكية لها متابعة الثقة الثبت
محمد بن عبد الله الرقاشي الرومي عن شريك بهذه الرواية المتصلة، فتم بحمد
الله اعتماد الرواية المتصلة.
فليس الحديث من باب المزيد في متصل الأسانيد، وسيأتي الكلام مستوفيا
عند ذكرنا لحديث علي عند الترمذي.
44

ما قاله مضعفو هذا الحديث
قد انتصب لذكر جميع أقوالهم الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه
الموضوعات واعتمد على كلامهم على أساس قاعدة تقديم الجرح على
التعديل، من غير أن يعمل هو شيئا إلا النقل. وتقاعد أو تغافل وتغاضى
عن ذكر أقوال الصحيحين، كما هي عادته في الاقتصار على ذكر الجرح دون
التعديل.
فأما من نقل عنهم الحافظ المذكور من الحفاظ الذين وقفوا عندما عرفوا
فلم يحتملوا لمن لم يعرفوهم من الرواة النهوض بقبول حديث الباب فضعفوه،
فهم معذورون، كالدارقطني، وابن عدي، ومن اتبعهم، فقد جعل علماء الأثر
بعدهم محملا وهو أن قولهم يكون ضعفا نسبيا، وهم تكلموا حسب علمهم
واجتهادهم وما تحصل لديهم من الروايات، ولا يكلفون إلا ذلك، فهم
محسنون ولم يخالفوا القواعد.
وأما من جمد على كلامهم فهو يجمد قواعد الفن ويرفع ثقة الناس بها، كما
يفعل الحافظ ابن الجوزي، والسراج القزويني، اللذان اعتمدا على قاعدة
تقديم الجرح، وقد أخطأ خطأ فاحشا، فإن تقديم الجرح محله في الرواة لا في
المروي، إذ ما من حديث صحيح إلا وله رواة من الضعفاء بل ومن الوضاعين
45

غالبا، حتى الأحاديث المتواترة، وهم لم يذكروا كلام المصححين، بل قلدوا
كلام المكذبين بأن أبا الصلت وضعه، وأن كل من رواه غيره فقد سرقه منه،
وهي دعوى عموم بالتوهم والتظنن، ترجع إلى الشهادة بعدم العلم، ثم أثموا
بإعلان الوضع لمتن الحديث.
على أن قاعدة تقديم الجرح على التعديل فيها تحفظات، تعرفها من كلامنا
في المبسوط إن شاء الله.
وأما الذهبي رحمه الله فقد غطى تعصبه عينيه عن إدراك الحق، كما شرحنا
ذلك في الرد عليه في المسلك المبسوط، فهو ينفي ويعتصم بالنفي وكفى.
فمن ركب ظهر الهول كالحافظ المذكور وشيخه الحافظ ابن تيمية، فلا حيلة
فيهما إلا التنكب عن طريقهما، وتركهما وما يهويان.
على أن الحافظ ابن تيمية رحمه الله قال في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم:
إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي لا في الاثبات، لان إحاطة الانسان بما يثبته أيسر
من إحاطته بما ينفيه، وهذا كلام مستقيم نقدمه أولا للحافظين المذكورين أعني
ابن تيمية والذهبي.
فأما الموافق للقواعد هو أن يأخذ الحفاظ المتأخرون بقول من وفقه الله من
الحفاظ لحيازة المتابعة أو المتابعات من طريق الثقات، فالاعتماد على الثقة أو
الثقات في المتابعات وبقية المتابعات من الضعفاء والمضعفين معتضد بها، فإن
كانت واهية فتسقط، ويستقيم الحديث صحيحا برواية الثقات.
فمن يتعصب ويخالف القواعد فقد كان خليقا أن لا يثق الناس بكلامه.
46

هذا ما سجلته قواعد الفن.
وعلى هذا الأساس تقدم متابعة محمد بن جعفر الفيدي ليكون الحديث بها
صحيحا، وكيف لا وقد تصدى لها محتجا بها ابن معين القوي المعتمد عليه في
علم الجرح والتعديل.
وابن معين هو ابن معين فقد نقل الذهبي عن ابن عدي في ترجمة عبد الرحمن
الغافقي أن ابن معين قال فيه وفي عبد الرحمن ابن آدم: لا أعرفهما، قال ابن عدي:
وإذا كان مثل ابن معين قال لا أعرفهما، فمثل هذين مجهولان، وإن عرفهما غيره
لا يعتمد على معرفته، فإن ابن معين تستر بابه الرجال.
وقد صحح الحفاظ المتأخرون عشرات الأحاديث على هذا الأساس المجمع
عليه عندهم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وعلى هذا الأساس صحح
الحاكم والحافظ العلائي هذا الحديث كما يأتي.
فقد طعن ابن معين في سويد بن سعيد لروايته عن أبي معاوية، عن
الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الحسن
والحسين سيدا شباب أهل الجنة).
قال أبو الحسن الدارقطني: فلم نزل أن هذا كما قال يحيى وأن سويدا أتى
أمرا عظيما في روايته هذا الحديث حتى دخلنا مصر سنة سبع وخمسين، فوجدت
هذا الحديث في مسند أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي المعروف
بالمنجنيقي، وكان ثقة روى عن أبي كريب عن أبي معاوية، كما قال سويد سواء
بسواء!.
وتخلص سويد وصح الحديث عن أبي معاوية. وقد حدث أبو عبد الرحمن
النسائي عن إسحاق بن إبراهيم ومات أبو عبد الرحمن قبله. انظر المقاصد
الحسنة.
47

وهنا يقال في حديث الباب مثله.
وانظر إلى الحافظ رحمه الله رادا على ابن الجوزي في الأحاديث التي حكم
بوضعها في فضل عرفة، فرد عليه ودافع عنها وذكر ما اعتمد عليه ابن
الجوزي، فقال: وأما عبد الرحيم بن هارون ويحيى بن عنبسة فخرجهما ثابت،
لكن الاعتماد على غيرهما، وكأن حديثهما لم يكن.
وسنذكر في المسلك المبسوط أعدادا أخرى من أعمال الأئمة في الاستدراك
على من اغتر بالعمومات التي تخالف ما صح من الأسانيد.
ويقال على رسم كلام الحافظ في رده في أحاديث فضل عرفة: لو سلمنا هنا
في حديث الباب جرح أبي الصلت ومن تبعه ممن ادعوا فيهم سرقة حديثه،
فإن الحديث اعتمد على محمد بن جعفر الفيدي، الذي قال فيه ابن معين: ثقة
مأمون. وصحة رواية أبي معاوية له كما قاله ابن نمير، فكأن حديث هؤلاء
المجروحين لم يكن، إذ لا يضرنا جرحهم بعد ثبوته بغيرهم.
وللأحاديث الضعيفة طريقة مسلوكة للحفاظ، وهي الحكم عليها بالضعف
النسبي، فيكون الحديث بها ضعيفا ضعفا نسبيا، كما يكون الحديث بما صحت
طريقه صحيحا.
كما نصوا على أن الحديث يكون صحيحا إذا نص على صحته أحد من
الحفاظ. وحديث ابن عباس نص على صحته ابن معين والحاكم وهما من
الحفاظ المعتبرين، لا سيما ابن معين، فهو أبرز علماء هذا الفن.
فإن قلت: إن تصحيحهم يعارضه التضعيف في كلام المضعفين.
48

قلت: الطريق التي صححوا بها الحديث هنا لم يعارض فيها أحد من
الحفاظ، فهو تصحيح لم يعارضه تضعيف.
أما المتابعات الصالحة فأحسنها ثلاث:
المتابعة الأولى: أبي الصلت الهروي عبد السلام، وهي إن كانت هي الأصل
في هذا الحديث أعني الحديث أعني حديث ابن عباس، لكن بالنظر إلى أن
الحديث استقام على رواية الفيدي، فإن رواية أبي الصلت لها قدرها.
لأنه أولا:
برئ من عهدة هذا الحديث لصحة رواية أبي معاوية له، ولهذا صحح هذا
الحديث بروايته بمفردها الامام الناقد أبو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي،
فأخرجه من طريقه في بحر الأسانيد في صحاح المسانيد.
ثانيا: إن الحافظ الكبير قرين أحمد بالعراق ابن نمير، شهد بأن أبا معاوية
حدث بهذا الحديث أبا الصلت، وشهد بذلك لابن معين، فهما يعلمان أن أبا
الصلت صادق.
ثالثا: إن ابن معين صححه من روايته فيما رواه القاسم الأنباري، وقد دافع
عنه فيما رواه الحاكم والخطيب، عن جمع من أصحابه، وصدقه وأثبت له
المتابعة الصحيحة، فبري من عهدته،
49

رابعا: إن أئمة كبارا وثقوه، وهم: ابن معين، وأحمد، وابن نمير، وابن
سيار، وأبو داوود، وعبد الله بن أحمد، وأبو محمد السمرقندي، وأصحاب ابن
معين.
خامسا: إن حديثه عن ابن عباس له شاهد صحيح عن علي.
وفي جميع ذلك ما يدل على صدقه وأن روايته تساند رواية الفيدي.
المتابعة الثانية: متابعة محفوظ بن بحر، وقد روى عنه من أهل بلده ثقات
كما تراه في المسلك المبسوط، وقد روى هذا الحديث عن أبي معاوية، وهو كما
قال ابن حبان ثقة مستقيم الحديث، ولم يجد له ابن عدي خطأ، ولم يجد له متنا
منكرا، فهو يصلح للمتابعة.
المتابعة الثالثة: متابعة عمر بن إسماعيل بن أبان، وهو راو اعتمد الترمذي
عليه واحتج به مصححا لأحاديثه، وروى عنه الجماهير كما تراه في كتب
التراجم. قال الإمام أحمد في روايته لهذا الحديث عن أبي معاوية إنه صادق،
روى ذلك عنه ابنه عبد الله، فروايته رواية صالحة.
المتابعات الباقية: رواية جعفر بن محمد الفقيه، ورجاء بن سلمة، وإبراهيم
بن موسى الرازي، وهؤلاء الثلاثة لم يعرفوا إلا برواية هذا الحديث عن أبي
معاوية، ولم يتقدم لهم ذكر في غيره. والرواة عن هؤلاء في روايتهم هذا
الحديث ثقات، فالأول رواه عنه مطين وهو حافظ كبير، والراوي عن رجاء
بن سلمه محمد بن بريد بن سليم، وثقه الخطيب، والثالث وهو إبراهيم بن
موسى الرازي روى عنه الحافظ ابن جرير الطبري في صحيحه تهذيب الآثار
50

شاهدا لحديث ابن عباس برواية أبي الصلت، وقال: لم أعرفه ولم أرو عنه إلا
هذا الحديث.
وقد روى حديث ابن عباس برواية أبي الصلت شاهدا لحديث علي الذي
صححه.
فهؤلاء ثقات على قاعدة ابن خزيمة وابن حبان، إذ لم يعلم لهم رواية
منكرة، ولم يجرحوا من أحد ورووا عن ثقة وروى عنهم ثقات، فإن اعتبرناهم
مجاهيل على مذهب الجمهور، فالجهالة المطلقة تفيد في المتابعات، كما صرح بذلك
الحافظ بن تيمية، والحافظ العسقلاني.
ثم جاءت روايات كثيره عن أبي معاوية وعن شيخه الأعمش من الرواة
المعروفين بالضعف والاتهام بغير هذا الحديث، إلا أنها كثيرة قد تكون بمجموعها
قوة، وإن كان أفرادها ضعفاء ومتهمين، لا سيما والحديث قد صح عن غيرهم.
51

الكلام عن حديث علي
وبعد، فقد أنهينا الكلام على حديث ابن عباس، وقدمنا الأدلة على أنه
صحيح لا سبيل للحياد عن القول بصحته، وفيما يلي نذكر حديث علي، وهو إن
لم يشتهر كحديث ابن عباس، إلا أنه ورد من ثلاث طرق أو طريقين صحيحة،
وطرق أخرى عن علي ضعيفة، لكنها مختلفة المخارج، فليس فردا كحديث ابن
عباس.
الطريق الأولى: رواية الصنابحي عن علي عليه السلام، فقد أخرج الحافظ
الامام عبد الله بن الإمام أحمد في زياداته على كتاب مناقب علي لأبيه فقال:
حدثنا إبراهيم بن عبد الله الكجي، وهو إمام ثقة حافظ صاحب السنن، عن
محمد بن عبد الله الرقاشي، وهو ثقة حجة ومن رجال الصحيحين قال، حدثنا
شريك بن عبد الله، عن سلمه بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي
عن علي مرفوعا (أنا دار الحكمة وعلي بابها) وهذا إسناد متصل، ورجاله أئمة
ثقات، وشريك إمام حافظ.
وبهذا الاسناد المتصل يسقط جميع ما جاء من روايات الضعفاء والمضعفين،
مما يخدش في الرواية المتصلة في إسناد شريك، في رواية الرومي عنه.
وأما الترمذي فرواه من حديث الرومي محمد بن عمر، عن شريك، عن
52

سلمة، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي عن علي مرفوعا (أنا دار الحكمة
وعلي بابها) وقال: هذا حديث غريب، ولا يعرف عن أحد من الثقات غير
شريك. فهذا الحديث حسن غريب، كما في نسخة لجامع الترمذي إذ هي
النسخة الموافقة لكلامه هنا، والموافقة أيضا لطريقته لمن سبرها في جامعه في
حديث شريك، فإنه إذا انفرد يصحح حديثه أو يحسنه، ولم نجد في غير هذا
الموضع أي حديث لشريك لم يحسنه أو يصححه، اللهم إلا أن خالفه سفيان أو
شعبه.
كما أن شريكا عند الترمذي وغيره إلا من شذ، حافظ كثير الحديث، له
عند إسحاق الأزرق تسعة آلاف حديث، وكان ابن المبارك ووكيع وابن معين
يقدمونه على سفيان في حديثه عن الكوفيين، كما في هذا الباب، فإن سلمه بن
كهيل شيخه فيه كوفي، ووثقه الأئمة إلا القطان والجوزجاني، والقطان متشدد
وهو على الشيعة أشد، وأما الجوزجاني فلا يقبل كلامه في أهل الكوفة،
والحافظ العسقلاني يرد جرمه فيهم لغلوه في النصب.
قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحة: ليس كل الصحيح عند مالك وشعبه
وسفيان، فيحتاج أن ننزل إلى من دونهم.
فمنهم من يرفع شريكا إلى الدرجة الأولى أو الثانية، ومنهم من يجعله في
الدرجة الثالثة، وعلى القول الأول يكون حديثه صحيحا، وعلى الثاني حسنه
الترمذي.
ولا يضر الحديث قول الترمذي رواه بعضهم بحذف الصنابحي، لأننا دللنا في
المسلك المبسوط على أن الترمذي يلحق الحديث الذي يصححه أو يحسنه بما
53

يعلقه مما يقع في الحديث من إرسال أو وقف من غير أن يصل الحديث بذلك،
ولهذا يعلقه ولا يسنده، وهذا الحديث المتصل صدر به الباب وقال: إنه من
حديث شريك، وعلق كونه بحذف الصنابحي. كما أن الأسانيد المعلقة لا محل
لهن علميا عند أهل الحديث. هذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن الأحاديث التي يختلف فيها بالاتصال والارسال يرجح
فيها الاتصال، ففي نيل الأوطار للشوكاني في فضل ساعة يوم الجمعة، قال: إن
الحديث في صحيح مسلم، ورجح الدارقطني أنه ليس بمرفوع، فنقل عن الامام
النووي قوله:
هذا الذي استدركه الدارقطني بناء على القاعدة المعروفة لأكثر المحدثين من
أنه إذا تعارض في رواية الحديث رفع ووقف وإرسال واتصال حكموا بالوقف
والارسال، وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة. قال: والصحيح طريقة الأصوليين
والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين، أنه يحكم بالرفع والاتصال لأنها
زيادة ثقة. ا ه‍.
وعلى هذا نرى ما رواه الترمذي من الاتصال هو الأرجح.
الوجه الثالث: أن خاتمة الحفاظ ابن حجر قال في مقدمة فتح الباري: إن
الزايدة في محل عن هي المعتمدة، إذ لا تعارض بين الرواية المحذوف فيها
الراوي مع الرواية الزائدة المذكور فيها.
وهنا جاء من رواية سويد بن سعيد حذف سويد بن غفله. فقال في
روايته سلمة بن كهيل عن الصنابحي، وفي رواية الترمذي بزيادة سويد بن غفلة
عن سلمة والصنابحي، فرواية الترمذي هي الزائدة المعتمدة.
54

وبما قدمناه ترى أن حديث الترمذي المتصل قوي معتمد، ولهذا صححه
من هذه الطريق الحافظ ابن جرير الطبري في كتابه تهذيب الآثار.
فإذا أضفنا إلى روايتهما رواية الامام الحافظ عبد الله بن أحمد الذي تابع فيها
محمد بن عبد الله الرقاشي، الرومي عن شريك، عن سلمه بن كهيل، عن سويد
بن غفلة عن الصنابحي، عن علي مرفوعا، فبهذه لم يبق لاحد توقف في حديث
الصنابحي عن علي.
ونرى فيما يأتي للصنابحي شاهدا صحيحا عن علي وهو الشعبي، رواه عن
علي، وكذا عبيد الله بن رافع، ثم فيه روايات أخرى ضعيفة، وفيما يأتي نذكر
شاهد الشعبي:
روى ابن مردويه كما قاله أبو الفرج، من طريق محمد بن قيس، عن الشعبي
عن علي مرفوعا. قال أبو الفرج: إن محمد بن قيس مجهول، وتبعه السيوطي في
اللآلي فقال إنه مجهول، وقد أخطأ فإن محمد بن قيس هو الأسدي الوالبي، وهو
مشهور بالرواية عن الشعبي، أثبت روايته عنه ابن حبان في ثقاته وقال: إنه كان
متقنا وكذلك جميع الذين ترجموا له، وكلهم ذكروا أنه معروف الرواية عن
الشعبي، كالمزني في تهذيبه، والحافظ في تهذيب التهذيب، وغيرهما.
وذكر المزني رمزا أن حديثه عنه في سنن النسائي، وهو ثقة كبير، روى عن
أئمة كبار، وروى عنه أئمة كبار، وهو من رجال مسلم، وثقه الأئمة كما في
التهذيب، وتهذيب التهذيب وغيرهما من كتب الأئمة.
فلم يبق حاجة إلا الكلام في رواية الشعبي عن علي.
55

ومن المعلوم أن الشعبي حضر من حياة الإمام علي ثلاثة وعشرين عاما،
وهو من أهل الكوفة ومن شيعة علي، وثبت لقاؤه وروايته له في صحيح
البخاري في رجم علي لشراحة الهمدانية. وقد اعتمد على روايته عن علي الإمام أحمد
وابن حزم وغيرهما.
وغير معقول أنه في عهد علي هذه المدة ولم يسمع منه إلا حديث شراحة
الذي قاله الدارقطني، فهذا القول لا يقبل إلا إذا دلل عليه برواية عن الشعبي
نفسه، أو عن أهل عصره أنه لم يسمع منه غير ذلك. وقد ذكرنا في المسلك
المبسوط من أقوال علماء الحديث التي تعتمد في مثل هذه الأحوال، ما يوافق قولنا.
ولهذا، فهذه الرواية عن الشعبي تحمل على الاتصال عن علي لاعلى
الارسال على الأرجح. وعلى الفرض البعيد تكون مرسلة ويكون قد أخذها
عمن سمعها من ثقات أصحاب علي، لأنه كان شديدا في الرواية. وهو من
جامعي علم علي، كسعيد بن المسيب في علم عمر، وإبراهيم في علم ابن
مسعود.
ومراسيل الشعبي صحاح عند العلماء، لم يجدوا من مرسلاته غير صحيح،
وبذلك تكون روايته هذا الحديث شاهدا قويا لحديث الصنابحي عن علي.
قال الحافظ العلامة بن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول
صفحة 60، بعد ذكر حديث رواه الشعبي عن علي في سنن أبي داود: إنه من
جملة ما استدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله. ثم قال: هذا الحديث جيد
فإن الشعبي رأى عليا وروى عنه حديث شريحة الهمدانية، وكان على عهد علي
56

وقد ناهز العشرين سنة، وهو كوفي، وقد ثبت لقاؤه، فيكون الحديث متصلا.
ثم إن كان فيه إرسال لان الشعبي يبعد سماعه عن علي، فهو حجة وفاقا،
لأنه عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له مرسلا غير صحيح، ثم هو من أعلم
الناس بحديث علي وأعلم الناس بثقات أصحابه، وله شاهد من حديث ابن
عباس، ومثل هذه المراسيل لا يتردد الفقهاء في الاحتجاج بها.
ومعلوم ما قاله العلماء في مطلق المرسلات، وهنا بحمد الله حديث الشعبي
مرسل قوي على أقل الأحوال، وهو من مرسلات كبار التابعين، وهي عند
مالك وأبي حنيفة يحتج بها.
وقد رواه عن علي عليه السلام عبيد الله بن رافع كاتب علي، رواه عنه علي
بن الحسين، ورواه عنه ابنه زيد بن علي الشهيد، ورواه عنه زيد بن الحسن
السبط، ورواه عنه ابنه الحسن بن زيد، أخرجه الامام السيد محمد بن علي
الحسني في كتاب من روى عن زيد بن علي الشهيد من التابعين، والسيد محمد
بن علي الحسني أثنى عليه الحافظ الذهبي في كتابه أعلام النبلاء.
وجاء في أسانيد ضعيفة عن علي من رواية أبنائه الحسن والحسين،
والحارث، وعاصم الأصبغ، وقد علمت أن مرسلات الشعبي أصح
المرسلات، ولها قوة أعلى من بقية المرسلات، كما قد علمت أن حديث
الشعبي هنا متصل على الأرجح كما تقدم شرحه.
وعلمت مما تقدم أن كلام المتقدمين والمتأخرين إنما هو باعتبار ما وقع لهم
من روايات هذا الحديث. ولهذا، فما وقع من متابعة الرقاشي للرومي عن
57

شريك يسقط كل ما روي مما يخالف رواية الترمذي المتصلة.
على أن هذه الروايات الضعيفة أو المضعفة لم تنل من حديث الترمذي شيئا
على حسب ما قدمناه سابقا من بيان، كما أنهم لم ينظروا لرواية الشعبي على
أنها قوة لحديث علي، فإن ابن الجوزي قال: إن الراوي عن الشعبي مجهول،
ولكن ما قاله خطأ شنيع، فالراوي عن الشعبي ثقة وفوق الثقة، فيجب أن
ينظر إليه ويكون فيه تأييد لصحة حديث علي.
والآن وبعد أن عرفنا صحة الحديث عن ابن عباس وعن علي، نذكر
حديثا آخر شاهدا لحديث الباب أخرجه الحاكم شاهدا لحديث ابن عباس،
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا:
قال الحاكم: حدثنا أبو بكر محمد بن علي الفقيه الشامشي القفال البخاري،
وأنا سألته، حدثني النعمان بن هارون الميلدي من أصل كتابه، حدثنا أحمد بن
عبد الله بن يزيد الحراني قال: أنبأنا عبد الرزاق قال: أنبأنا سفيان، عن عبد
الله بن عثمان بن خيثم، عن عبد الرحمن بن بهمان التميمي، سمعت جابر بن عبد
الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أنا مدينة العلم وعلي
بابها) هذا حديث صحيح وعبد الرزاق ومن فوقه ثقات، والراوي عن عبد
الرزاق أحمد بن عبد الله الحراني المكثب، وهو أبو جعفر السامري، ذكره في لسان
الميزان، روى عن أبي معاوية وإسماعيل بن أبان الغنوي، وروى عنه أبو الطيب
محمد بن عبد الصمد الدقاق البافندي، وأبو عبد الله الحليمي، وأنكر عليه
الدارقطني وابن عدي هذا الحديث عن عبد الرزاق، وقال الخطيب: هو أنكر
ما روى، وقال الأزدي: تفرد به عبد الرزاق.
58

وعبد الرزاق يعرف بهذه الأحاديث، يهرب بها من المجالس العامة خوفا
من بعض المحدثين المتعنتين الذين يعترضون على من روى مناقب علي رضي
الله عنه، ولم ينفرد بروايته عن عبد الرزاق، بل رواه عنه أحمد بن طاهر
حرملة أيضا، وله شاهد آخر عن جابر وكلاهما ضعيف.
وسوف نفصل ذلك في المسلك المبسوط. وقد ذكرنا شيئا مما يلقاه من يروي
فضائل علي وآل البيت من العنت والمشقة، فلا نعيده.
59

كلام الحفاظ المتأخرين
فأولهم حافظ العصر خاتمة المحققين في الحديث ابن حجر العسقلاني، ومع
اعترافنا له بالباع الطويل في الحديث والحفظ الكبير وتجويد الكلام في الأبحاث
التي يتعرض لها، فإننا رأيناه في هذا الموضوع - حديث الباب - لم يسر على
طريقته المعروفة عنه من فذلكة الأسانيد وتمحيص الرواة، والحكم على ما
اختلف فيه المتقدمون في حديث الباب، على مقتضى القواعد التي هي الفصل
في هذا الفن، على عادته المعروفة.
وإنما اقتضب الكلام بنظرة عجلى خاطفة، أخذ الوسط من قول الحافظ أبي
الفرج بن الجوزي بالوضع للحديث، ومن قول الحاكم أبي عبد الله بتصحيح
الحديث، وحكم بالوسط من قوليهما أي حكم بالحسن للحديث لا بوضعه ولا
صحته، واقتصر على حديث ابن عباس، ولم يذكر بل لم يشر إلى حديث
علي عليه السلام.
كما لم يلتفت إلى أن ابن الجوزي نفى صحة الحديث من الطرق التي ضعفه
الحفاظ منها، وأن الحاكم أثبت صحته من طرق أخرى، فلم يتورد النفي
والاثبات على مورد واحد.
فابن الجوزي اعتمد على الروايات الضعيفة، وعلى كليات مبنية على
60

التوهم والتظنن، كقولهم آفته أبو الصلت، وكل من رواه فقد سرقه منه، وهو
استقراء ناقص، ونفي غير محصور، ودعوى عموم من غير دليل، وستعلم أن
القاعدة إنما يعمل بها عند عدم دليل يكذبها، وسنعقد فصلا في المسلك
المبسوط يبين ذلك.
والحاكم اعتمد في تصحيح الحديث على متابعة ثابتة اعتمد عليها ابن معين
ولم يطعن فيها أحد ممن ضعف الحديث، ولم يكن الحاكم وحيدا في تصحيح
الحديث، بل معه مزكي الرواة ابن معين الذي اعتمد على متابعة محمد بن جعفر
الفيدي، وقال فيه: إنه ثقة مأمون. ووثقه أيضا الحاكم كما وثقه ابن حبان في
الثقات، وقال يروي عن هارون وفضيل، وحدثنا عنه محمد بن إسحاق بن
سعيد وغيره من مشائخنا، فهو توثيق قوي لا على أساس تساهله، وأسند
الحاكم هذه المتابعة بإسناده المعتبر.
وقد قوى الحافظ الكبير محمد بن عبد الله بن نمير هذا الاسناد عن أبي
معاوية، وهو قرين أحمد بالعراق، وعليه اعتماد أحمد وابن معين في رواة
الكوفة، بأن الحديث هذا من حديث أبي معاوية، قال: قد حدث به أبا
الصلت، وأخبر بذلك ابن معين.
فالحاكم هنا عنده الاثبات المقابل لنفي غير محصور، والاثبات يقدم على
هذا النفي، فإن مورد الاثبات غير مورد النفي.
قال الحافظ الإمام محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد وهو جزء من صحيحه:
قد علمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علما، وأن الاثبات هو الذي
61

يوجب العلم، وقد أجمع أهل العلم على أن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
وزيادة على ذلك، إن من قواعد هذا الفن أن الحفاظ المتأخرين يلزمهم أن
يرجحوا من عنده الدليل من المختلفين قبلهم، وهم هنا ابن معين وابن نمير
والحاكم. وإن من القواعد أن تفرد الثقة الثبت مقبول، وقد اعتمد هؤلاء على
تفرد أبي معاوية، فلو أن الحاكم اقتصر على توثيق أبي الصلت، ونقل عن ابن
معين توثيقه فقط من غير أن ينقل عن ابن معين متابعة الفيدي وتوثيقه، لكان
لكلامه وجه في أخذ الوسط، ولكنه لم يقتصر، بل نقل المتابعة واعتماد ابن
معين عليها واعتمدها لذلك، فلا يتم الاخذ بالوسط.
لهذا قلنا: إن كلام الحافظ رحمه الله غير واف وإنه تقصير منه غير
مقصود. لقد سبق إلى ذهنه بدون رواية الوسط فقاله، ولم يسق فيه أي
استدلال، ونعتقد أنه لو أمعن النظر لما تساهل بأخذ الوسط ولحرر الكلام على
طريقته المعروفة كما تعودنا منه ذلك.
قد يقال: إن أبا عبد الله الحاكم معروف بالتساهل في التصحيح، وإن أبا
الفرج ابن الجوزي أيضا معروف بالتساهل في الحكم بالوضع، فالمفروض فيما كان
كذلك أن لا نحكم بقول واحد منهما بل نحكم بالوسط من قولهما، وهو تحسين
الحديث، لئلا نهدر شيئا من قولهما كحافظين.
قلت: جمع إجمالي وليس استدلالي، ولا يشفي من يطلب الحق من قول كل
واحد منهما، والقول بأن لا نحكم بقول واحد منهما صحيح، ولكن الأحق من
ذلك أن نبحث الموضوع كله، وأن نمحص الروايات كلها، وما قيل فيها من
كلام الحفاظ المختلفين، وما حفظ فيه من غيرهم، وأن نحكم في الموضوع بما
62

تتوفر فيه الأدلة وهو الذي تنص عليه قواعد هذا الفن.
ففي كلام الحافظ المقتضب نقاط ضعف نجملها فيما يأتي:
أولا: ما قدمناه من أن كلام الحافظين إثبات ونفي، مع أن مورد الاثبات
غير مورد النفي، ومعلوم أن المقدم والمعمول به هو الاثبات، اللهم إلا إذا رد بما
ينفيه.
ثانيا: إن من المعلوم من قواعد علم المصطلح أن الحفاظ المتأخرين يلزمهم
أن يرجحوا من كلام الحفاظ المتقدمين من بيده الدليل، وهذا لا يكون بأخذ
الوسط.
ثالثا: إن الحافظ لم يذكر حديث علي، وهو شاهد لحديث ابن عباس، وقد
تأكد عدم استحضاره له، لأنه ذكر حديث جابر الشاهد لحديث ابن عباس،
فإن حديث علي أقوى من حديث جابر، بل أقوى من حديث ابن عباس،
لأنه روي عن علي من وجوه، بخلاف حديث ابن عباس فإنه فرد.
رابعا: لم يستحضر الحافظ رحمه الله في محمد بن جعفر الفيدي إلا توثيق ابن
حبان فقط، لأنه ذكره في ترجمته في تهذيب التهذيب، فلم يذكر إلا توثيق ابن
حبان ولم يذكر غيره، وترك توثيق ابن معين والحاكم، وهو تقصير واضح.
وعلى تقييمه هذا جرى قوله فيه في التقريب بقوله فيه إنه مقبول، ولا يقال
هذا فيمن وثقه ثلاثة من الحفاظ الكبار، مع أن الحافظ نفسه قد سجل في
تهذيب التهذيب في ترجمة أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي توثيق ابن
معين له عن عدد من أصحابه، ونسبه هنا، ووثقه أيضا الحاكم، وتوثيق ابن
63

حبان له توثيق قوي لا على أساس تساهله، وذكرنا نص ترجمته قريبا فلا
حاجة لإعادتها.
خامسا: ذكر الحافظ في لسان الميزان محفوظ بن بحر الأنطاكي ورد كلام
الذهبي فيه أنه الآفة في حديث ابن عباس، وفات الحافظ في ترجمته أن محفوظا
وثقه ابن حبان، وقال إنه مستقيم الحديث يروي عن وكيع والعراقيين، حدثنا
عنه ابن حمزه بن صالح، وله يذكر الحافظ هذا التوثيق في ترجمته، ولم ينكر
عليه ابن عدي إلا الخطأ في رفع موقوف أو وصل مرسل، ولم يجد له متنا منكرا.
ومثل هذا يصلح للمتابعة.
وكلام أبي عروبة جرح غير مفسر، وقد تعرض العلامة الشوكاني في
موضوعاته لبيان ما اقتضبه الحافظ رحمه الله فقال: هذا هو الصواب لان يحيى
بن معين والحاكم خولفا في توثيق أبي الصلت، فلا يكون مع هذا الخلاف
صحيحا، بل حسنا لغيره لكثرة طرقه.
وهذا إذا كان أراده الحافظ فهو نظر استعجل فيه ولم ينعم النظر، فإن
الخلاف إنما كان في أبي الصلت ومن تابعه ممن سرقه منه حسب ما قاله الحفاظ
المضعفون لأبي الصلت في هذا الحديث.
وأما المتابعة التي حازها ابن معين واعتمدها، واعتمدها من بعده الحاكم،
وهي متابعة محمد بن جعفر الفيدي، فلم يقع فيها اختلاف، ولم تقع لمخالفي ابن
معين، فهي تدفع مخالفي ابن معين والحاكم، لأنها متابعة صحيحة ولو وقعت
لمخالفيها لوافقوهما.
64

والحافظ ابن حجر نفسه قال في حديث حكم ابن الجوزي بوضعه قال:
حكم بوضع الحديث بمجرد ما جاء عن إمامه، ولو عرضت هذه الطرق على
إمامه لاعترف بأن للحديث أصلا، ولكنها لم تقع له. وعلى هذا النظر لو وقعت
متابعة الفيدي والرقاشي وشاهد شعبة عن علي لهؤلاء المخالفين في تصحيح
حديث الباب، لاعترفوا بصحة الحديث، ولكنها لم تقع لهم. اه‍.
ثانيهم: الحافظ السخاوي في المقاصد والحافظ السيوطي في اللآلي المصنوعة،
فلم يزيدا على ما قاله ابن حجر، فقد قلدا الحافظ ولم يفعلا شيئا.
ثالثهم: الحافظ السيوطي قال في كتابه الجامع الكبير: إنه لما اطلع على
تصحيح الحافظ ابن جرير لحديث علي، رقى بذلك أصل الحديث إلى درجة
الصحة، بانضمام تحسين الحافظ إلى تصحيح ابن جرير.
رابعهم: الحافظ العلائي فإنه أيد تصحيح حديث ابن عباس، بما ثبت من
تصحيح ابن معين له، بما ثبت عنده من المتابعة الصحيحة، وقال: فبرئ أبو
الصلت، وأبو معاوية ثقة مأمون من كبار الشيوخ المتفق عليهم، وقد تفرد به
عن الأعمش فكان ماذا؟
وحسن حديث علي وقال: ولم يأت أبو الفرج ولاغيره بعلة فادحة في
حديث شريك غير دعوى الوضع دفعا بالصدر. وعلى هذا يكون حديث
65

الباب بضم حديث علي الحسن إلى حديث ابن عباس الذي اعتمد فيه كلام
الحاكم، يكون صحيحا بالاسنادين.
على أنه لو وقع لهؤلاء الحفاظ متابعة محمد بن عبد الله الرقاشي في حديث
الصنابحي عن علي، وانضم إلى ذلك شاهد الشعبي عن علي، بعد أن عرفنا أن
الراوي عنه ثقة كبير - لو وقع لهم كل ما ذكر - لصعدوا القول في صحة حديث
الباب.
خامسهم: الحافظ الكبير أبو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي، صاحب بحر
الأسانيد لصحاح المسانيد، فقد صحح رواية أبي الصلت بمفردها في كتابه وهو
كتاب نفيس لم يقع في الاسلام مثله، فقد صححه وأسنده من طريق صالح بن
محمد جزره عن أبي الصلت. وهذا الحافظ السمرقندي متأخر قد عرف كلام من
تقدمه جرحا وتعديلا، وفي المسلك المبسوط تجد ترجمته.
66

تلخيص لأقوال الحفاظ المتأخرين
ويستطيع القاري أن يقسم الحفاظ المتأخرين الذين جاؤوا بعد عصر الأئمة
إلى ثلاثة أقسام في نظرهم إلى حديث الباب:
القسم الأول: حفاظ قنعوا بما قدمه لهم الحفاظ المتقدمون من الذين ضعفوا
الحديث عن طريق ما عرفوا من الرواة الضعفاء، ولم يحتملوا لهم هذا المتن
بطريق أبي الصلت، فضعفوه به وحكموا بأن كل من رواه إنما سرقه من أبي
الصلت. فما كان من هؤلاء المتأخرين إلا أن قلدوا من قبلهم وزادوا بأن
الحديث موضوع من غير جهد ولا تمحيص، وهؤلاء هم أبو الفرج ابن الجوزي
وآخرون، آخرهم ابن تيمية والذهبي الذي تتبع الحديث في المستدرك
بالتضعيف، وترك الأدلة التي تثبته أمام عينيه تعصبا، وتتبع حديث علي في
الميزان بالتضعيف. وقد بينا في المسلك المبسوط ما اشتمل عليه كلامه عن
التعصب الممقوت.
القسم الثاني: حفاظ سلكوا فيما اختلف فيه الحفاظ من قبلهم تحقيق المقام
وجمع أطراف الروايات وتمحيصها، والعمل باتباع ما تدل عليه الأدلة، وهؤلاء
يمثلهم الحاكم والحافظ العلائي.
67

القسم الثالث: حفاظ اكتفوا بأن يحافظوا على الجمع بين أقوال المتقدمين
المختلفين، وأن يأخذوا الوسط، من غير أن يحاولوا البحث للوصول إلى
ما يرجحه الدليل، بل أخذوا بالوسط من الأقوال المتخالفة، وهو في حديث
الباب تحسين الحديث.
وهذا ما اكتفى به الحافظ ابن حجر ومن قلده من أتباعه رحمهم الله جميعا،
وهذا ما ظهر لهم لان هؤلاء العلماء لا يقولون شيئا بشهوة أنفسهم، وإنما بما
يظهر لهم.
وقد علمت أن كلام المتقدمين والمتأخرين إنما هو باعتبار ما وقع لهم
واطلعوا عليه من روايات هذا الحديث، لهذا وقع التفاوت في أقوالهم على
حسب ما وقع لهم مما اطلعوا عليه من روايات، وقد وقع لبعضهم ما رواه
الامام الحافظ عبد الله بن أحمد من رواية محمد بن عبد الله الرقاشي عن شريك
تابع فيه الرومي، وهي تجعل حديث الصنابحي قويا متصلا برواية الثقات إلى
علي عليه السلام، بحيث لا يؤثر فيها ما وقع من بعضهم من النكرات ما يخالف
ما اعتمده الترمذي أو ما رواه، من: إسقاط سويد بن غفله.
ولم تنل هذه الروايات شيئا على حسب ما حررناه في حديث الترمذي
سابقا، وأما بعد رواية الرقاشي متابعا للرومي عن شريك، فقد صارت هذه
الروايات الضعيفة في حكم العدم.
ثم إذا عرفت رواية الشعبي عن علي بأنها مسندة صحيحة على الأرجح، أو
مرسلة لها حكم المتصلة، وهذا بمعرفة الراوي عن الشعبي وأنه معروف الرواية
عنه وأنه ثقة فوق الثقة.
68

كما أنه جاء عن علي بروايات كثيرة خيرها رواية عبيد الله بن أبي رافع
كاتب علي، وغيرها منه روايات أبنائه وأصحابه، وهي وإن كانت ضعيفة،
فهي كثيرة مختلفة المخارج. فإذا أضيف إليه حديث ابن عباس صار متن
الحديث في أعلى درجات الصحة.
وبعد فقد قمنا بالكلام على هذا الحديث واعتمدنا في الاحتجاج على صحته
طبقا لقواعد أئمة الحديث، فجاء كلامنا مدعما بالأدلة الكافية لصحته فنحمد
الله الموفق لذلك، وخلاصة كلامنا:
أولا: ما احتججنا على تصحيحه على أساس القواعد التي قام عليها علم
مصطلح الحديث في حديث ابن عباس وحديث علي، فإنه في الأول تفرد به
إمام ثقة وهو أبو معاوية فكان صحيحا، وفي الثاني تفرد به شريك في حديث
الصنابحي عن علي فكان حسنا، ثم جاءت رواية عن الشعبي عن علي كانت
مغمورة فظن ابن الجوزي أنها غير صحيحة عن الشعبي لان الراوي مجهول،
ولكنه بان وتحقق أنه معروف الرواية عن الشعبي وهو ثقة وفوق الثقة، فكانت
شاهدا لحديث الصنابحي الحسن فكان بها صحيحا.
ثانيا: على أساس قبول تفرد الثقة صحح حديث ابن عباس أئمة كبار
يعدون من مؤسسي هذا الفن، مثل مزكي الرواة الامام الحافظ يحيى بن معين،
والامام الحافظ ريحانة العراق محمد بن عبد الله بن نمير، ومعهما الحافظ الحاكم أبو
عبد الله، ومن المتأخرين الناقد الصلاح العلائي القائل بقوة الحديث وقبوله
69

لأنه صوب كلام الحاكم ودافع عنه، وفي حديث علي صححه الحافظ ابن جرير
وحسنه الترمذي في النسخة الموافقة لاعتماده على شريك، والموافقة لمنهجه في
جامعه بتصحيح حديث شريك أو تحسينه إذا صح الاسناد إليه ولم يخالف
شعبه أو سفيان، كما في هذا الحديث.
ثالثا: إنهم وصفوا حديث أبي معاوية عن الأعمش أنه أقوى أحاديثه،
وحديث الباب عن ابن عباس من رواية أبي معاوية عن الأعمش. ووصفوا
شريكا بأنه أعرف الناس بحديث الكوفيين، وحديث الباب عن علي من طريق
شريك عن الكوفيين.
رابعا: وجدنا من أعتمد على أبي الصلت في هذا الحديث بمفرده على أساس
أنه ثقة مقبول تفرده، لان الطعن فيه على أساس التوهم والتظنن، واعتمد على
توثيق ابن معين وغيره من الأئمة، وهذا ما ذهب إليه الحافظ السمرقندي، وقد
صححه من رواية أبي الصلت وأدخله في كتابه بحر الأسانيد في صحاح المسانيد.
70

وفيما بعد نذكر أمورا تتعلق بهذا الحديث وتنبيهات:
التنبيه الأول: لا يهولنك قولنا: إن هذا الحديث في أعلى درجات الصحة
ويفضل على كثير مما حوته كتب الصحاح، فإنه يصدقه الواقع من تفوق علي
عليه السلام في علوم الدين، وكان من أول علومه هو معرفة الله والايمان
القوي الذي ساقه إلى افتداء رسوله الكريم، فتدثر بغطائه ونام على فراشه ليلة
هاجر، وله كلام منقول عنه في وصف آلاء الله وآياته، وهو قد أوتي الحكمة
التي هي نور يقذف في القلب ينير له فهم القرآن ظهرا وبطنا، كما تم له البصر
بالقضاء الذي لابد فيه أولا من الدراية بالعلم ثم التيقظ لحيل الخصوم
وتمويهاتهم، وذلك بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له.
ومع طرد العوارض والعوابر في سبيل هذا الحديث وأمثاله التي لم يكن
مسموحا بروايتها رسميا سواء بالنسبة للعصور الأولى التي يهاجم فيها بالصلب،
والضرب، وحلق اللحى، وصنوف التعزيرات، أو بعد تلك العصور التي يمقتون
فيها رواتها ويصفونهم بالابتداع والرفض والخارجية، ومع كل ذلك فقد وصلنا
بهذه الطرق الصحيحة، ثم بما يؤازرها من كثرة الطرق المختلفة المخارج. على
أن أصحاب الصحاح رووا أحاديث اعترض علماء الفن أنفسهم عليها.
وحديث الباب مما تواردت على روايته الثقات، مع كثرة المتابعات، عن
أبي معاوية في حديث ابن عباس، وكثرة الروايات عن شريك في حديث
الصنابحي، وكثرة الروايات في حديث علي، شواهد على صحته من رواية
71

الشعبي، وعبيد الله بن أبي رافع كاتب علي، وأولاد علي وأصحابه.
فهل يعقل أن تتفق كل هذه الروايات مع عدم التشاور فيها واختلاف
مخارجها على ما لا يكون صحيحا. خاصة مع الشواهد المعنوية كحديث أنه
(عيبة علمي، وباب علمي، وأعلم أصحابي) وما جاء من إقرار النبي صلى الله
عليه وسلم له والتابعين، حتى صار يضرب به المثل في العلم والحكمة.
إن كثيرا من الأحاديث التي صححها الأئمة لم تحظ بمثل هذه الشواهد
والمتابعات والشواهد المعنوية التي تؤيد صحة الأحاديث.
التنبيه الثاني: قاعدة سرقة الحديث تكون على ضربين:
الأول: أن تتحقق سرقته كما قالوا في بجي الحماني أنه كان يسرق الحديث،
ودللوا على ذلك.
الثاني: ما يقوله الحفاظ المتأخرون، ويكثر ذلك من الحافظ ابن عدي في
كتابه الكامل، وهو اجتهاد منهم بحسب سبرهم ونظرهم وقد عرفوا في جمع
من الضعفاء أنهم يغتنمون الفرصة فيروون عمن عرف بحديث ما يرويه عن
شيخه، من دون أن يسمعوه منه، فلهذا كان الحفاظ يعملون بهذه القاعدة
بالنسبة للرواة الضعفاء ويتهمونهم بسرقة الحديث ممن اتهم قبلهم، ويفعلون
ذلك احتياطا وتثبتا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي طريقه
اجتهادية ظنية قد يثبت خطؤها، فقد يرجع الحافظ نفسه عنها إذا عرف أن
الراوي الذي اتهم ثبتت برأته من الحديث، وقد يثبت خطؤه لغيره من
الحفاظ. وستري أمثلة من ذلك في المسلك المبسوط.
72

التنبيه الثالث: قاعدة المتابعات والشواهد: قد أجمع العلماء من الحفاظ
على أن المتابعات والشواهد بشرطها ينهضان بالحديث الأصل الذي حكم عليه
بالضعف أو الوضع ويدفعان عنهما هذا الحكم، على حسب قوة المتابعات
والشواهد، فكم من حديث حكم عليه بالضعف أو الوضع، ثم لم يصح له
ذلك الحكم بسبب وجود المتابعات أو الشواهد الصالحة التي خفيت على الذين
حكموا على الحديث بالوضع أو الضعف، وصار بتلك المتابعات أو الشواهد
صحيحا أو حسنا أو دون ذلك قليلا وارتفع عنه حكم الوضع، وأمثلة ذلك
كثيرة سنفيض في ذكرها في المسلك المبسوط.
وقد ينفي بعض الأئمة الكبار كأحمد وأمثاله حديثا فيتعقبه من بعده من
الحفاظ فلا يكون في ذلك أي حزازة إذا كان التعقب صحيحا، فيكون مذهبا لمن
بعده من الحفاظ، على أساس من حفظ حجة على من لم يحفظ، ويصير
الحديث المنفي بعد ذلك ثابتا، وإن كان النافي إماما كبيرا.
التنبيه الرابع: الحديث النبوي يعتمد على الاسناد، وهو الطريق إلى إثبات
سنة النبي صلى الله عليه وسلم ووصولها إلينا، وهو من خصائص هذه الأمة
الشريفة، ولهذا فلا تثبت السنة إلا إذا اطمأن المسلمون إلى صحتها، فإذا كان
الاسناد ضعيفا لم تثبت به السنة، فلهذا كان عناية الحفاظ بالرواة.
73

التنبيه الخامس: قدمنا فيما سبق وجوب اعتماد رواية الثقة إذا انفرد، وأن
عدم قبوله من غير إبداء دليل يدفعه يؤدي إلى إسقاط السنة، فإن أكثرها مما
انفردت به الثقات، لان المتواتر من السنة قليل، والسنة هي الأصل الثاني بعد
القرآن، اعتمد عليه المسلمون.
قد يقال: إن قولك هذا في حديث واحد، وكيف يسقط بإنكاره الأحاديث
الأخرى التي قبلها الأئمة في صحاحهم.
قلت: المراد بإسقاطها إسقاط الثقة بها، فإن قول الثقة هو المعتمد عليه
عقلا وشرعا، وقد قرره الأئمة في علوم الحديث، وعلم أصول الفقه، في نقل
حديث السنة، فإن في ترك ذلك ولو في حديث واحد يدخل الوهن به في كل
حديث غيره مثله، ولا دخل للهوى والتشهي في العلم المنقول عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
التنبيه السادس: إعلم أن هؤلاء الأئمة الذين قبلوا تفرد الثقات وأدخلوا
روايتها في صحاحهم وصرحوا بالاعتماد عليها، لم يفعلوا ذلك إلا على أساس
قواعدهم التي حرروها في علوم الحديث فالتزموا بها، وعملوا في اختيار
أحاديثهم على أساسها، وهي علوم حية تدرس وتسمى علم مصطلح
الحديث، وما زال الحفاظ قديما وحديثا يسيرون على أصولها وهديها، فكلما
74

افتأت أحد على أصولها وقواعدها أخذته أقلام الحفاظ بالنقد والتفنيد.
هذا ما كتبناه اختصارا من المسلك المبسوط، ومن أراد التحقيق والبسط
الكامل فليراجع ما بسطناه في الأصل مما يحسن الوقوف عليه، والحمد لله رب
العالمين.
75

مناقشة هادئة لابن الجوزي
لقوله: إن حديث علي وحديث ابن عباس موضوعان
ذكر ابن الجوزي في موضوعاته أن حديث ابن عباس وضعه أبو الصلت
الهروي على أبي معاوية وسرقه منه جماعة. وقال في حديث علي إنه موضوع
لان الرومي لا يجوز الاحتجاج به، ونقل عن الدارقطني أن حديث علي
مضطرب، رواه سويد بن سعيد، عن سلمة عن الصنابحي، عن علي، وسلمة لم
يسمع من الصنابحي.
تمسك ابن الجوزي بكلام من اتهم أبا الصلت به، وأنه تفرد به عن أبي
معاوية ولم يروه غيره، إلا من سرقه منه. ولم يعرج على قول من وثقه وبرأه
من عهدته، وأوضح أنه رواه عن أبي معاوية غير أبي الصلت، كما ذكر ذلك من
وثقه أيضا أنه من قديم حديث أبي معاوية، وأن أبا معاوية حدث به أبا الصلت.
فقد أخذ الحافظ أبو الفرج بقول الجارحين وغفل أو تغافل عن أقوال من
تعقبهم ممن صح الحديث، وهذا من أبي الفرج شنشة فيه فعابها عليه الأئمة.
وليس من المعقول أن يقدم قول من اتهمه على قول من أبطل تهمته بالدليل
وإنما المعقول هو العكس، بأن يحكم بالدليل، لأنه يقضي على التهمة ويبرئ
76

المتهم منها، اللهم أن يجي الأول بما يبطل دليل البراءة ويثبت أنه لا زال متهما
ولم يفعل الجارحون ذلك ولم يدعه أحد لهم.
وقد قدمنا بيان المتابعات فلا نطيل بإعادتها، وفيها ما يبطل اتهام أبا
الصلت، كما ثبت الحديث من طريق غيره، وجاء توثيق أبي الصلت من
جماعة من الحفاظ تقدم ذكرهم، كما سبق ذكر تصحيح حديثه هذا من ابن
معين من رواية القاسم الأنباري، والحاكم، وأبي محمد السمرقندي.
ونشير هنا إلى نقاط:
الأولى: أن المصححين اعتمدوا على أن الحديث تحققت رواية أبي معاوية
له، وهو ثقة حافظ.
الثانية: أن ابن معين أشهر علماء هذا الفن، وهو رأس هؤلاء المصححين
له، وكفى به لو لم يصححه غيره.
الثالثة: لم يأت من خالفه بحجة، أما الطاعنون المتمسكون بجمود على
اتهامه فقال بعضهم إنه كذاب خبيث، وعن بعضهم أنه رافضي، وقد برئ من
كل هذا كما سبق بيانه، ولنفرض أنه غير موجود بالكلية فعندنا رواية الفيدي
عن أبي معاوية وهو ثقة، وثقه ابن معين، والحاكم، وابن حبان وذكر رواية
جماعة من مشائخه عنه.
وابن الجوزي إما أن يكون قد اطلع على هذه الروايات الصحيحة عن ابن
معين فتصامم عنها، وإما أن يكون غفل عنها، فهو على كل حال ملام حيث
77

حكم بوضع المتن لحديث ابن عباس، وكان الواجب أن يكون حكمه على
الاسناد، لا سيما وقد جاء متنه عن علي وجابر، وقد انتقد عليه الحفاظ تسرعه
في الحكم بالوضع بمجرد وجود الضعيف أو الوضاع في الاسناد، فيحكم على
المتن بالوضع، وسنشير إليه قريبا في كلامنا هنا.
وأيضا حكم ابن الجوزي على حديث علي بالوضع، لان فيه الرومي قال
لان الرومي لا يجوز الاحتجاج به. وقوله ذلك فيه لا يجوز له أن يحكم بالوضع
فإن الذي نقله هو عدم الاحتجاج به، أي عدم ثبوت الحديث به (1) حيث لم
يكن فيه الصلاحية لقبول حديثه، وهذا يطلب له ما يشهد له بأن يتابعه راو
ولو مثله فيكون به حسنا، كما صرحوا به في علوم الحديث، لان ما يحذر من
عدم ضبطه للحديث يزول إذا تابعه مثله، وبالأولى إذا تابعه ثقة كما هنا
وعلمنا بذلك أنه قد حفظ حديثه.
وقد وجدنا أن الرومي تابعه في هذا الحديث ثقة متقن هو محمد بن عبد الله
الرقاشي. راجع ترجمته في كتب هذا الفن.
فليس هذا الحديث عن علي موضوعا بأي حال، لان الموضوع ما انفرد به
الكذاب وكان مخالفا للقواعد المعلومة. والرومي لم يرمه أحد بالكذب بل ولم

(1) نقل عن الزركشي في نكته علي ابن الصلاح: فرق بين قولنا لم يصح وبين
قولنا موضوع وأن بينهما بونا كبيرا، فإن الموضوع إثبات للكذب والاختلاق، وقولنا
لم يصح لا يلزم منه إثبات العدم، وإنما هو إخبار عن عدم الثبوت. وفرق بين
الامرين. نقله السيوطي عنه في كتاب التوحيد من اللآلي.
78

يتهمه غير ابن الجوزي. وأما في هذا الحديث فقد توبع فلا محل لما قاله ابن
الجوزي مطلقا بحال.
على أن الرومي وثقه الأكثرون وقبلوه، ولينه أبو زرعة وضعفه أبو داوود،
ولم يتهمه أحد قبل ابن الجوزي، فلو كان الحديث لا متابع له فيه لكان ضعيفا
لا موضوعا على قول من ضعفه، وحسنا على أساس قول من وثقه، وقد
صححه بذلك الطبري في تهذيب الآثار، واعتمد روايته الترمذي في سننه بقوله
ولم يروه أحد من الثقات غير شريك. فمقتضاه قبول حديثه، ولهذا جاء في
نسخة من سننه أنه حسن غريب، وذكر تأييدا لذلك شاهدا عن ابن عباس، فما
الذي انحط به عند ابن الجوزي إلى أن يكون حديثه موضوعا، اللهم إلا التسرع
الذي نعاه عليه الأئمة، ولم يسبقه أحد في حديث علي بذلك.
وأما قول الدارقطني أنه مضطرب فقد قدمنا رده، وقد ذكر الدارقطني رواية
سويد بن سعيد وفيها حذف سويد بن غفلة، فجعله بذلك مضطربا، ولم تقع له
رواية الرقاشي وبها يبطل الاضطراب.
وفي كلامنا في المسلك المبسوط رد قول بعضهم أن الجرح يقدم على التعديل
فليرجع إليه.
وليس هو مضطربا كما حققناه في المسلك الثاني، لان القول فيه قول الثقات
الذين رووه وقد أشرنا إلى رده هنا، ومع ذلك فليس الحديث المضطرب
موضوعا.
فليس لابن الجوزي سلف في قوله بوضع حديث علي.
79

على أن هذا كله بالنسبة إلى تفرد الراوي، وقد علمت أنه قد تابعه الرقاشي
عن شريك وجاء شاهد الشعبي عن علي قوة له، وجاء من وجوه عن علي
عليه السلام، فلم ينفرد به الرومي ولا شريك، فلا محل للاضطراب الذي يدعيه
الدارقطني.
وبعد استحضارنا جميع ما ذكرنا في حديث علي أصبح كلام ابن الجوزي
ساقطا باطلا. والعتب الأكبر على من ظاهره بعد معرفة ما سجله الأئمة عليه
من بالغ الانتقاد.
وليعلم هنا أن ابن الجوزي يسلك مسلك الأئمة المحققين، ولكنه لم يذهب
مذهبهم في تحقيق كل حديث بماله وعليه، وبذلك خالف الآيتين في سورة
النساء والحجرات (2) وسأذكر بعض كلام الأئمة ومضمون الآيتين على أن
تكون الإطالة في المسلك الثاني.
وهاك كلام بعض الأئمة وهو نموذج لكلام غيرهم ممن نؤخر كلامه إلى
المسلك الثاني المبسوط.
قال السراج البلقيني في محاسن الاصطلاح: إذا رأيت حديثا بإسناد ضعيف
فقل هو ضعيف بهذا الاسناد، ولا تقل هو ضعيف المتن بمجرد ضعف السند، إلا

(2) الآية في النساء: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، إلى قوله:
فنسوا. وفي الحجرات إن جأكم فاسق بنبأ فتبينوا. ففي الآيتين الامر بالتبين وهو
التثبت، لا التسرع بالرد.
80

أن يقول إمام إنه لم يرد من وجه صحيح، أو إنه ضعيف وفسر ضعفه. اه‍.
وقال الحافظ العراقي في شرحه على الألفية له: إذا وجدت حديثا بإسناد
ضعيف فليس لك أن تقول هذا ضعيف، بل يقف جواز ضعفه على حكم إمام
من أئمة الحديث بأنه ليس له إسناد يثبت به، مع وصف ذلك الامام لبيان
الضعف مفسرا. اه‍. وأصله لابن الصلاح في المقدمة والنووي في التقريب.
وقد انتقدوا على ابن الجوزي تسرعه في الحكم بالوضع وهو توسع خطير
الضرر كبير الأثر، ينشأ عنه الحكم على ما ليس بموضوع بأنه موضوع!.
قال الحافظ ابن حجر في اللآلي المنثورة: إن النافي للحديث الثابت كمن نفى
أصلا من أصول الدين، ولا ريب أن توهين الحديث الثابت لا يقل خطرا عن
الاغترار بالحديث الموضوع.
وقال السخاوي: والموقع له يعني ابن الجوزي استناده غالبا إلى ضعف رواية
الذي رمي بالكذب مثلا غافلا عن مجيئه من وجه آخر، وربما يكون اعتماده في
التفرد قول غيره ممن يكون كلامه محمولا على النسب، مع أن تفرد الكذاب بل
الوضاع ولو كان بعد الاستقصاء من حافظ متبحر تام الاستقراء، غير مستلزم
بذلك. اه‍.
وقد قال الله تعالى في سورة النساء (يا أيها الذين آمنوا إذا خرجتم في
سبيل الله فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون
81

عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم،
فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا).
وقال في سورة الحجرات (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا
أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)
ومعنى التبين في الآيتين هو التثبت والتحقق من وجه الحق. وتتضمن آية
النساء أن الأصل اعتبار كلام المسلم، لا سيما وفيه حقن دمه وصون ماله كما هو
في الآية، فالاعتبار بالظاهر ويقبل من ظهرت علامة إسلامه، لان الاحتياط في
التريث في قبول كلامه سنة كما في رواية المسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فالواجب التوقف حياطة للسنة عن أن يدخل فيها ما ليس منها.
فإذا روى مسلم حديثا ولم يكن عندنا معرفة بحاله وأخبر بما لا يعرف إلا
منه، فقد وجدت الريبة في خبره، لأنه أخبر بما لا يتابع عليه فيما حقه أن يتابع
فيه، فهذه ريبة تحتاج للاحتياط كما في آية الحجرات، وهو التبين والتثبت،
وهما موجودان في التوقف لا في الحكم بالوضع (3).

(3) هذا حكم الاتهام إن كان غير مفسر، إذا الجرح غير المفسر لا يقبل، ولكنه
يوجب التوقف في الراوي لمن بعده، فإن وجد من وثقه قبل في هذه الحالة، فإن
صرح المتهم بما اتهمه به ولم يتعقبه من بعده بما يبطل اتهامه وكان الحديث مخالفا
للقواعد المعلومة سقط به، وكان حديث هذا وغيره مما انفرد به متروكا، وإن تعقب
وبري مما اتهم به بطل اتهامه، وقد بينا ذلك بشواهده في المسلك الثاني.
82

ولا يكون الحكم بالوضع في محله إلا بعد وجود القرائن الكافية بأن الحديث
مختلق، فعندئذ يجوز الحكم عليه بالوضع، وهو حكم ظني، كما أن الحكم
بالتصحيح حكم ظني، فمن هو كمن ذكرنا لم يتابع على حديثه فيما حقه أن
يتابع فيه كان هو ذلك السبب في اتهامه بالحديث، فقد يصرح الحافظ بالاتهام
وقد لا يصرح بالاتهام، بل يقول روى مالا يتابع عليه، وهي أليق وأخف من
الاتهام.
وقد قال الدارقطني فيمن قيل فيه ذلك أنه يعتبر به (4) والحق في كل هو
التوقف عن الحكم بالوضع، حتى يحصل التحقق بالبحث والاستقصاء
والاستقراء، للتحقق من تفرده مع كونه مما يخالف القواعد المعلومة، وحينئذ
يحكم بوضعه.
ففي سورة الحجرات أمر الله بالتثبت في خبر الفاسق مع كونه ممن يرتاب في
خبره، كما أن خبره فيه إهدار لدماء وأموال معصومة، ومع ذلك لم يأمر
برفض خبره بالكلية وإنما أمر بالبحث والنظر والتحقق، فإن وجدت على
صدقه قرائن تثبت صدقه قبل خبره بمعونة القرائن، وإن لم توجد قرائن على
صدقه لم يقبل خبره لعدم وجود ما يثبت صدقه.
وهذا يؤيد ما قالوه في علوم الحديث مما ذكرناه عن الأئمة من أنه لا يجوز
الحكم بالوضع إلا بعد البحث والاستقصاء والتحقق من تفرد الوضاع، إلى آخر
ما ذكرناه سابقا.
وقد انزلق أبو الفرج ابن الجوزي بذكر حديث الباب في موضوعاته اغترارا
بمن تكلم في أبي الصلت في حديث ابن عباس، وبمن تكلم في الرومي في حديث

(4) انظر ترجمة سوار بن داود من ميزان الذهبي.
83

علي، ولم يجهد نفسه البحث والاستقصاء، وهذا تهور يؤاخذ عليه.
على أن الراوي في حديث ابن عباس وهو أبو الصلت والراوي في حديث
علي وهو الرومي لا يبلغ حديثهما باتهامهما حد الوضع، لما حققناه فكان خطؤه
واضحا على أساس تفردهما، فضلا عن كونه أخطأ أيضا خطأ أكبر لعدم بحثه
عن المتابعات وهي موجودة بكون الحديث بها صحيحا من حديث علي ومن
حديث ابن عباس.
وقد نقل السيوطي في التدريب عن ابن المبارك أنه قال:
العلم هو الذي يجيئك من هاهنا وهاهنا أي المشهور، رواه البيهقي في المدخل.
وروى عن الزهري قال: حدثت علي بن الحسين زين العابدين بحديث فلما
فرغت قال: أحسنت بارك الله فيك هكذا حدثنا. قلت ما أراني إلا حدثتك
بحديث أنت أعلم به، قال (لا تقل ذلك، ليس من العلم ما لا يعرف، إنما العلم
ما عرف وتواطأت عليه الألسن).
وقد ذكر علماء الأثر ان اختلاف الطرق مع تبيانها ولو من الضعفاء ممن لا
يحتملون لهم التفرد إذا كثروا، يؤذن بقوة المروي.
وذكر الحافظ بعد إيراده طرقا فيها مجاهيل قال: إن فيها من لا يعرف، وإن
كثرة الطرق إن اختلفت المخارج تزيد المتن قوة. بل إنه قال: حتى الضعيف
بالكذب والفسق يرتقي بمجموع طرقه من كونه منكرا أو لا أصل له. قال: بل
ربما كثرة الطرق أوصلته إلى درجة المستور والسيئ الحفظ حيث، إذا وجدت
له طرق أخرى فيها ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن.
84

وصرح الحافظ في الضعيف القريب إذا ورد عن مثله متابعا كان بمجموع
الاثنين حسنا.
وإنما كتب هذا مع أن حديث الباب غني برواياته الصحيحة سواء في حديث
ابن عباس أو حديث علي، إلا لان ابن الجوزي قد علم من كثرة الروايات
المختلفة المخارج التي وقعت له أن هذا الحديث ليس مما يختلق ويحكم عليه
بالوضع.
هذا بالنسبة لما ذكره هو من الرواة، فضلا عما تركه من الرواة الثقات التي
تغافل عنها، لكيلا تفسد عليه حكمه بالوضع، لأنه كان قاسيا في حكمه على
أحاديث مناقب علي عليه السلام وأهل البيت، نفحة بقيت فيه من النواصب
الذين سجل عليهم بعد وصمهم بالتشبيه تعصبهم ليزيد وآله، فقد جمع من
كتاب الموضوعات وكتابه الاخر له أقل نكاية منه، كثرة وافرة من مناقب
العترة، لا تصلح أن تكون كما قال، لأنها صحيحة وبعضها متواتر.
هذا ما ذكرناه من المناقشة للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله.
وفي كلامنا في المسلك الثاني المبسوط بعض ما اختصرناه هنا.
والحمد لله رب العالمين.
85