الكتاب: تفسير القرآن الكريم
المؤلف: السيد مصطفى الخميني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٩٨
المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثاني ١٤١٨ - ١٣٧٦ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

تفسير القرآن الكريم
مفتاح أحسن الخزائن الإلهية
تأليف
العلامة المحقق آية الله المجاهد الشهيد السعيد
السيد مصطفى الخميني قدس سره
الجزء الثاني
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني قدس سره
1

بمناسبة الذكرى السنوية العشرين
لشهادة العلامة المجاهد آية الله
السيد مصطفى الخميني (قدس سره)
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: تفسير القرآن الكريم (ج 2) *
* المؤلف: السيد مصطفى الخميني (قدس سره) *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: آبان 1376 - جمادى الثاني 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 13500 ريال *
جميع الحقوق محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم

1 - الصحاح 6: 2545.
2 - راجع لسان العرب 1: 284.
3

الناحية السادسة حول قوله تعالى
* (إياك نعبد وإياك نستعين) *
1

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " إياك "
" إيا " - بالكسر مع التشديد، وعليه اقتصر الجوهري (1). والفتح رواه
قطرب عن بعضهم (2)، ومنه قراءة الفضل الرقاشي، على ما يأتي في محله
على ما نقله الصنعاني، وتبدل الهمزة هاء مفتوحة، فيقولون: " هياك " - اسم
مبهم تتصل به جميع المضمرات المتصلة التي للنصب، تقول: إياك وإياه
وإياي وإيانا، وجعلت الحروف بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من
الغائب، ولا موضع لها من الإعراب، فهي كالكاف في ذلك، فتكون " إيا "
الاسم وما بعدها للخطاب، وقد صارا كالشئ الواحد، لأن المعارف
والمكنيات بها لا تضاف.
وقال بعض النحويين: إن " إيا " مضاف إلى ما بعده، واستدل على ذلك
3

بقولهم: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب " فأضافوها إلى
" الشواب " وخفضوها (1). انتهى ما هو المعروف والمشهور عن اللغويين
والنحويين.
واختلفوا أيضا في أصل " إيا " ووزنه، فهل هو إفعل وأصله " إأوو " أو
" إأوي "، أو فعيل فأصله " أويو " أو " أويي "، أو فعول، أو فعلى (2)، وأنت خبير
بخبط تلك الأقاويل.
وهنا شبهة عقلية وهو: أن لنا أن نسأل عن كلمة " إيا "، هل لها الوضع
النوعي، أم لها الوضع الشخصي؟ لا سبيل إلى الثاني، لأنه معناه هو
جزء الكلمة، وتكون " إياك " موضوعة للخطاب أو المخاطب، وعلى
الأول فتكون هي موضوعة مستقلة، وهذا محال، لأن الواضع لابد وأن
يلاحظ الجامع بين أفراد الموضوع له، وبذلك يتمكن من جعل اللفظ
مقابله، ولا يتصور هنا جامع بين الحاضر والغائب والمتكلم.
هذا، مع أن تصوير الجامع بين المعاني الحرفية محل المناقشة،
واستحاله جماعة من المحققين (3). فعلى هذا يسقط ما توهمه جمهور
النحاة واللغويين، فيدور الأمر بين أمرين: إما الالتزام بالوضع الشخصي،
فتكون جزء الكلمة، وهذا يستلزم كون ضمير الهاء والكاف وغيرهما -
أيضا - ذا وضع شخصي في هذه الكلمة، وهو خلاف الظاهر.

1 - راجع الصحاح 6: 2545، ولسان العرب 1: 284.
2 - البحر المحيط 1: 23.
3 - راجع تحريرات في الأصول 1: 98 وما بعدها.
4

فيتعين الأمر الثاني، وهو ما أفاده ابن كيسان، ولنعم ما قال وهو: أن
الكاف والهاء والياء والنون هي الأسماء، و " إيا " عماد لها، لأنها لا تقوم
بأنفسها، كالكاف والهاء والياء في التأخير في يضربك ويضربه ويضربني،
فلما قدمت الكاف والهاء والياء عمدت ب‍ " إيا "، فصار كله كالشئ
الواحد (1). انتهى ما أردنا نقله.
وأيضا يظهر هذا من الراغب حيث قال: و " إيا " لفظ موضوع، ليتوصل
به إلى الضمير المنصوب إذا انقطع عما يتصل به (2). انتهى.
فبالجملة: هذا ما كان يخطر ببالي القاصر، ولنعم الوفاق. وهنا بعض
نكات اخر لا خير في الغور فيها.
تذنيب
ربما يظهر: أن في " إياك " لغات اخر، بالتخفيف وبكسر الهمزة وفتحها
وتبديلها هاء وواوا.
وقيل: لا أدري أن هذا من اللغة، أو من القراء واختلاف القراءات (3).
وهذا أمر قبيح من المفسر الماهر، حيث توهم: أن القراءة يمكن أن
تكون خارجة عن اللغة، بل اختلاف القراءات يكشف عن أصل اللغة،
وإن كانت كتب اللغة خالية عنه وغير مستوعبة إياها.

1 - الصحاح 6: 2546.
2 - المفردات في غريب القرآن: 34.
3 - راجع روح المعاني 1: 81.
5

ثم إن اختلاف هذه الحركات والحروف، من الشواهد على أن
المقصود هو الاعتماد على كلمة " إيا " قبل تلك الحروف والضمائر، كما
عرفت تحقيقه.
المسألة الثانية
حول كون " إياك " اسما أم حرفا
ظاهر كلمات جماعة: أنها كلمة موضوعة للمخاطب وغيره (1)،
وصريح آخرين: أنها ليست اسما ظاهرا (2) وإن كان مقصودهم من نفي
الاسمية إثبات أنها ضمير ويقولون: إن الضمائر موضوعات لمراجعها،
وتكون هي معرفة، ويبتدأ بها ويخبر عنها، وكل ذلك شواهد على أنهم يعتقدون
أن الضمائر أسماء، خلافا لابن السراج، فإنه صرح بأن الكاف هنا حرف
خطاب (3)، كما يأتي.
والذي هو التحقيق: أن الضمائر حروف الخطاب والإشارة والإيماء
إلى الغائب والحاضر والمتكلم، وليست أسماء أصلا، فما اختلفوا فيه لا
يرجع إلى محصل، كما تحرر منا في الأصول (4).

1 - الصحاح 6: 2545، لسان العرب 1: 284، أقرب الموارد 1: 26.
2 - لسان العرب 1: 284.
3 - راجع تفسير التبيان 1: 37.
4 - راجع تحريرات في الأصول 1: 130.
6

فعلى هذا كلمة " إياك " موضوعة للخطاب وآلة يخاطب بها، وليست
موضوعة لنفس المخاطب جدا، فتكون هي حرف الخطاب كسائر
الحروف.
ومما يؤيد ما سلكناه في المسألة السابقة: أن هذه الكلمة لا يؤتى
بها إلا في موضع لا يمكن الإتيان بالمتصل - مثلا - يقال: * (إياك نعبد) * ولا
يقال: نعبد إياك، لإمكان قولهم: نعبدك، فمنه يعلم أن ما هو الضمير هو
الكاف، وكلمة " إيا " ليست إلا للعماد والاعتماد، فليتدبر جيدا.
المسألة الثالثة
معنى " نعبد "
العبدية والعبودية والعبودة - بضمها - والعبادة - بالكسر -:
الطاعة.
وقال بعض أئمة الاشتقاق: أصل العبودية الذل والخضوع، وقال
آخرون: العبودة: الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب.
وقيل: الأول أقوى، فلهذا قيل: تسقط العبادة في الآخرة، لا العبودة، لأن
العبودة أن لا يرى متصرفا في الدارين - في الحقيقة - إلا الله.
قال بعض المشايخ: هذا ملحظ صوفي لا دخل للأوضاع اللغوية
فيه. انتهى ما أردنا نقله من " تاج العروس " (1).

1 - تاج العروس 2: 410.
7

وعن " اللسان ": عبد عبادة ومعبدا ومعبدة: تأله له (1). انتهى.
وفي الأخر: عبادة وعبودة وعبودية: طاع له وخضع وذل وخدمه
والتزم شرائع دينه ووحده (2). انتهى.
وقد اشتهر بين أبناء العصر: أن العبادة مرادف كلمة " پرستش " في
الفارسية، وهذا - حسب مراجعة اللغة وموارد الاستعمال - غلط، فإن في
الأخبار الواردة عن طرق أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - استعمال
هذه الكلمة فيما لا يناسب ذلك، مثل أن التفكر عبادة (3)، أو أن الله تعالى ما
عبد بشئ أكثر من البداء (4)، حسب النقل بالمعنى وغير ذلك.
فيعلم: أن العبادة معناها الأعم من التذلل في القوى الباطنية
والروحية والفكرية، ومن التخضع والتذلل البدني وفي القوى
الظاهرة، وكلما كانت الذلة والتخشع أكثر وأشد كانت العبودية كذلك.
فبحسب اللغة وإطلاق العابد على عبدة الأوثان والأصنام وعلى عبدة
الإنسان، نستكشف أن حقيقة المعنى اللغوي كان نفس الخضوع، وإن
صارت اللغة منصرفة إلى الخضوع الخاص والخشوع المعين، ولا
يقال لكل خضوع وذل: عبادة عندنا، فليتأمل.

1 - لسان العرب 9: 11.
2 - راجع أقرب الموارد 2: 736.
3 - انظر الكافي 2: 45 / 3 و 4، وفيه " أفضل العبادة ادمان التفكر في أمر الله عز وجل "
و " إنما العبادة التفكر في أمر الله "، وغرر الحكم ودرر الكلم: 56 / 531، فيه
" الفكر عبادة ".
4 - الكافي 1: 113 / 1، التوحيد: 332 / 1.
8

نقل مقال وتوضيح حال
زعم بعض المفسرين تبعا لآخر: أن العبادة - بحسب اللغة
والاستعمال - موضوعة للخضوع الخاص، وقال: إن العبادة ما يرونه
مشعرا بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلها، ليوفيه بذلك ما يراه له من حق
الامتياز بالإلهية (1). انتهى.
ويقرب منه قول الآخر: تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي
الصراح، أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن
استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأ لها، واعتقاد بسلطة لا يدرك
كنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق
إدراكه (2). انتهى.
أقول: - مضافا إلى ما عرفت من صريح كلمات اللغويين، مثل ما
يقال: طريق معبد، أي مذلل، وفرس معبد، أي مذلل للركوب -: إن الكتاب
العزيز قد استوعب استعمال هذه الكلمة في الموارد المختلفة، فمنها:
قوله تعالى: * (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) * (3)، وقوله
تعالى: * (وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت) * (4)، وحملهما على

1 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 57.
2 - تفسير المنار 1: 56 - 57.
3 - المؤمنون (23): 47.
4 - المائدة (5): 60.
9

المجازية خلاف الأصل.
نعم لا ننكر كثرة استعمالاتها في التذلل الخاص والخضوع
والخشوع بعنوان مخصوص، من غير تمامية القيود المزبورة في كلماتهما،
فإنه لا يعتبر في تحقق ماهية العبادة، إلا الخضوع بعنوان إظهار المبدئية
أو المدخلية في الأمور الخارجة عن اختيار البشر عادة ومتعارفا،
كالاستشفاع ونحوه، ولكن لا يرجع ذلك إلى أنه من أصل اللغة، بل هذا من
كثرة الاستعمال، فاغتنم.
وبالجملة: ما عن الجمهور من: أنها بمعنى مطلق الخضوع، يمكن أن
يجتمع مع ما عن بعضهم من: أنها الخضوع الخاص وحصة من الذلة
والخشوع، فإن الأول ناظر إلى أصل اللغة والوضع التعييني، والثاني
ناظر إلى الوضع التعيني الحاصل من كثرة الاستعمال، وبذلك نجمع بين
المقالتين.
وغير خفي: أن جميع مشتقات العبادة لا يستعمل في الخضوع
الخاص، بل الثلاثي المجرد منه يكون ظاهرا فيه، كما أن ابن السكيت
قال: العبادة معناها التجريد (1)، وهو غير راجع إلى محصل.
وأيضا غير خفي: أن تعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف نحو
عبدت الرجل: ذللته، وعبدت الله: ذللت له.
ومما يخطر بالبال: أن العبادة تتعدى بنفسها، كقوله تعالى: * (إياك
نعبد) * وغير ذلك من الاستعمالات الكثيرة، فلو كانت - بحسب المعنى - هي

1 - البحر المحيط 1: 23.
10

الذلة والخضوع والخشوع، فلا معنى لأن تتعدى هذه المواد بالحروف،
لأن اللزوم والتعدي من طوارئ المعاني، لا الألفاظ بالضرورة، فيعلم من
ذلك عدم الترادف بينهما رأسا.
اللهم إلا أن يقال: إن العبادة ليست متعدية، لجواز أن يقال: عبدت
لك. هذا، مع أن العبودية ليست فعلا صادرا من الفاعل، ومتجاوزا عنه،
وقائما بالغير وبالمعبود، فتفسير اللغويين في غير محله، فليتدبر جيدا.
المسألة الرابعة
معنى " نستعين "
العون: الظهير على الأمر، واستعنته واستعنت به، فأعانني إعانة، أي
طلب منه الاستعانة وأجابه. والاستعانة لا تتعدى بنفسها، وما في كتب
اللغة من إتيانها متعدية بنفسها، غفلة عن حقيقة المعنى، وكأن نظرهم
إلى جواز حذف حرف التعدية، كما في قولهم: جاءني زيد * (وجاؤوا أباهم
عشاء يبكون) * (1)، فإن حرف الجر محذوف في الجملتين بالضرورة، فقوله
تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، في قوة معنى نستعين بك، أو بك أستعين،
فيكون حرف الجر محذوفا، ويشهد لذلك قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر
والصلاة) * (2)، * (استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) * (3)، * (قال

1 - يوسف (12): 16.
2 - البقرة (2): 45.
3 - البقرة (2): 153.
11

موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا) * (4).
وغير خفي: أن الاستفعال يجئ على معان ربما تبلغ أربعة عشر، ومنها
ما ليس فيه الطلب، كالاستعظام والاستحسان، وبناء على هذا لا يتعين أن
يطلب العبد هنا إعانة الرب، بل ربما يكون في مقام عد الرب عونا وعده
ظهيرا، فإذا قال: إياك أستعظم وأستحسن، فلا يريد إلا أنه يعده عظيما،
ويحسبه حسنا في الذات والصفات والأفعال، وإذا قال: إياك نستعين يريد
أنه يحسبه عونا في الأمور، ولا يطلب منه الإعانة، ولعل ذلك أبلغ، كما
لا يخفى.
ثم إن الأصل في " نستعين " نستعون، لأنه من العون والمعونة، فقلبت
الواو ياء، لثقل الكسرة عليها، فنقلت كسرتها إلى العين قبلها، فصارت
الياء ساكنة، لأنه من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضا، وفي المقام بعض
تفاصيل خارج عن الفن. والأمر سهل.

4 - الأعراف (7): 113.
12

النحو والإعراب
مقتضى ما تحرر في الكتب النحوية
إن " إياك " نصب بوقوع الفعل عليه، وموضع الكاف في " إياك "
الخفض بإضافة " إيا " إليها، و " إيا " اسم الضمير المنصوب.
وقال الأخفش: لا موضع للكاف من الإعراب، لأنها حرف الخطاب،
وهو قول ابن السراج (1)، وقال ابن حيان " إياك " مفعول مقدم (2).
والذي تبين لنا: أن " إياك " في حكم الكاف الذي هو حرف الخطاب،
ولا يضاف " إيا " إلى ما بعده، كما مر، بل هي كلمة اعتماد. وأما كونه مفعولا،
فإن أريد منه أنه مفعول به ومفعول بلا واسطة، فهو ممنوع في جملة * (إياك
نستعين) * إذا قلنا بأن الاستعانة معناها الطلب، وفي كونه مفعولا بلا واسطة
في جملة * (إياك نعبد) * إشكال مضى سبيله.
فعلى كل تقدير هو معمول الفعل المتأخر، أو المحذوف المتقدم

1 - انظر تفسير التبيان 1: 37.
2 - البحر المحيط 1: 24.
13

الدال عليه الفعل المتأخر، على خلاف فيه محرر في النحو.
والذي هو الحق هو الثاني، وإلا يلزم لغوية التقديم، مع أن المتكلم
بصدد بيان خصوصية في تقديمها عليه.
ثم إن قوله: " نعبد " و " نستعين " مرفوع - حسب مصطلحات النحو -
لوقوعهما موقعا يصلح للاسم، وتحريره في محله، وأيضا إن الواو عاطفة
لجملة على جملة.
وهذا عندي محل مناقشة، بل الواوات الواقعة بين الجمل حروف
الفصل. وقيل: الواو هنا حالية (1)، وهو قريب بحسب المعنى، وبعيد بحسب
المتبادر والمتفاهم، كما لا يخفى.

1 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 9.
14

القراءة
1 - قرأ الجمهور بكسر الهمزة وتشديد الياء.
2 - وقرأ الفضل الرقاشي بفتح الهمزة وتشديد الياء.
3 - وعن عمرو بن فائد، عن أبي، أنه قرأ بكسر الهمزة وتخفيف الياء.
4 - وعن ابن السوار الغنوي إبدال الهمزة المكسورة هاء أو
المفتوحة.
5 - وعن قائل، تبديل الهمزة واوا.
6 - قرأ الحسن وأبو مجاز وأبو المتوكل " إياك يعبد " بالياء مبنيا
للمفعول.
7 - وعن بعض أهل مكة، " نعبد " بإسكان الدال.
8 - وقرأ زيد بن علي ويحيى بن وثاب وعبيد بن عمير الليثي " نعبد "
بكسر النون، وقال الطوسي: لغة هذيل، فإنهم يكسرون أوائل هذه
الحروف كلها (1).

1 - تفسير التبيان 1: 37.
15

9 - وقرأ الجمهور: " نستعين " بالفتح، وهي لغة الحجاز.
10 - وقرأ عبيد بن عمرو الليثي وزر بن حبيش ويحيى بن وثاب
والنخعي والأعمش: بكسرها، وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة، وكذلك
حكم حرف المضارع في هذا الفعل وما أشبهه (1).
وأنت خبير: بأن التجاوز من الكتاب الموجود بين أيدينا إلى سائر
القراءات غير جائز، حسب ما تحرر منا في * (مالك يوم الدين) *، فهذه
القراءات - مضافا إلى قربها من الأضحوكة - غير جائز اتباعها. ومن
اللطيف الالتفات في الجملة الواحدة، وهو من الخطاب ب‍ " إياك " إلى
الغيبة بقوله: " يعبد ".

1 - راجع البحر المحيط 1: 23.
16

البلاغة والمعاني
وهنا أمور:
الأمر الأول
في نكتة تأخير الثناء بإظهار العبودية، عن سائر الأثنية
وقد أشرنا إليها سابقا وإجمالها هو: أن العبادة في المتعارف
تقع لجهات:
الأولى: أن العابد يجد معبوده مستحقا ذاتيا لها، لما أنه موجود
جامع لجميع أنحاء الكمالات، حتى يعد كله الكمال وكمالا كله، وكله
الجمال وجمالا كله، فإذا يقوم بعبادته بعد ما يترنم بقوله: الحمد لله.
الثانية: أنه يجده موجودا كامل الأوصاف، رحمانا ورحيما بالخلائق،
ومنعما متفضلا كريما جوادا بالنسبة إلى كافة الموجودات، من غير انتظار
منهم لجزاء فإذا يقوم لعبادته بعد ما يبرز ويتفوه بقوله: * (الحمد لله رب
العالمين * الرحمن الرحيم) * فلأجل تلك الذات الجامعة، وهذه الصفات
الجمالية، تصح عبادته، وتجب طاعته والخضوع والخشوع له.
17

الثالثة: أنه يجده صاحب الأسماء الجلالية، وأنه الموجود الكامل
والمنتقم المالك، أشد المعاقبين في موضع الانتقام والنقمة، وأرفع
المتكبرين في محل الكبرياء والعظمة، يعذب من يشاء، فيجد في قلبه
منه الخشية والرهب، ويتواضع له قهرا وطبعا لقهره وغضبه، ويترنم
بقوله: * (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) *.
ومن هنا يتوجه السالك إلى أن العبادة إما تكون لأجل الاستحقاق
الذاتي، فتلك عبادة الأحرار، أو تكون لأجل النعم الظاهرية والباطنية،
فتلك عبادة الاجراء، وإما تكون لأجل الخوف من النار والعقوبة، فتلك
عبادة العبيد، وإلى هذه المراحل الثلاثة يشير ما عن أمير المؤمنين
عليه صلوات المصلين (1).
وغير خفي: أن للعبادة أسبابا دقيقة أخرى، ربما تأتي الإشارة إليها في
المقام المناسب، ولا تنحصر بهذه الجهات الثلاث، مثلا: ربما لا يكون
العبد خائفا من عذابه ولا طامعا في نعمه ولا مدركا لاستحقاقه الذاتي، بل
يعبد لطلبه منه العبادة وأمره استحياء منه جل وعلا، فلولا أمره وتوجيه
الخطاب إليه وطلبه منه لما قام لعبادته.
ثم إن معنى * (مالك يوم الدين) *: إن كان أنه مالك العذاب والعقوبة،
فهو يكون من الأسماء الجلالية، وإرعابا للخلق وإرهابا منه سبحانه، وأما
إذا كان معناه الأعم من الجزاء بالجنة والنار، فلا يتم ما أفيد من النكتة
المزبورة في نوع كتب التفسير، أخذا بعضهم من بعض، ولعل أول من أشار

1 - نهج البلاغة، صبحي صالح: 702، حكمة 237.
18

إليها الفخر (1).
وبعبارة أخرى: ربما يرجع مالكيته يوم الدين إلى نفي سلطة الأشرار
على الأمور في الآخرة، قبال سلطتهم عليها في الدنيا، فتكون الآية الشريفة
بصدد توجيه الناس إلى أنهم في الآخرة يستريحون من تلك الهموم
والغموم، ومن هذه الاغتشاشات والهرج والمرج المترائي في بلاط
السلاطين الجائرين، فتطمئن بذلك نفوس المسلمين والمؤمنين، فتكون
الآية الشريفة من أسماء الجمال ومن تبعات الرحمات الرحمانية
والرحيمية معنى، كما هي كذلك نزولا.
فعلى هذا تسقط تلك النكتة المتوهمة في المقام، آخذين الخلف
عن السلف عمياءا. والله يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم.
الأمر الثاني
في وجه الالتفات من الغائب إلى الحاضر
ومن الثناء بالجمل الغائبة إلى الجمل الحاضرة
لا شبهة في أن الالتفات من المحسنات المعنوية، وفيه تطربة
نشاط تحصل للمستمع من الافتنان، وقد تعارف في الأشعار والأنثار، ففي
قوله تعالى: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * (2) ثم قال: * (إن هذا كان لكم

1 - التفسير الكبير 1: 236.
2 - الدهر (76): 21.
19

جزاء) * (1)، وقوله تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) * (2).
ولكن في المقام يستحسن الالتفات من الغيبة - بإظهار محاسن
المحبوب والمقصود على نعت الكلي وذكر الاسم - إلى الحضور، بأن
تلك الأثنية الكثيرة ليست لمن كان هو الغائب واقعا وغير حاضر ولا
سامع، ففي هذا الالتفات بيان الكمال الآخر للمحبوب والمطلوب الحقيقي،
وهو شهوده وحضوره الكلي على كل شئ.
هذا، مع أن المفاهيم الكلية الاسمية لا تخرج من الكلية بالتطبيق
على مصاديقها، ولذلك لا يكون لها الأثر الجزئي والخاص، بخلاف
المفاهيم الحرفية، فإذا قيل: نعبد الله ونستعينه، فإنه مفهوم كلي لا يقع
عبادة حقيقة، بخلاف ما إذا قال: إياك نعبد، ونعبدك اللهم، فإن ذلك حقيقة
العبادة.
وبالجملة: الحضور والخطاب وإن كان لا يستحسن أحيانا لما فيه
من سوء الأدب، ولكنه في مقام التذلل والتخشع والعبودية يستحسن،
لتوغلها فيها بذلك، كما هو الظاهر.
وبعبارة أخرى: إظهار العبودية بالخطاب عبادة عملية، وإظهارها
بالغيبة عبادة قولية، والأول أرجح بالضرورة.
وإن شئت قلت: بعد وصول السالك إلى قوله: * (إياك نعبد) * من غير
تعرض لما هو المعبود، يريد أن يشعر بأن المعبود هو الذي وصفناه، ويظهر

1 - الدهر (76): 22.
2 - يونس (10): 22.
20

أنه في مقام إفادة أنه تعالى على كل شئ شهيد وحاضر، وعلى كل أمر
محيط، فتقع هذه العبادة وهذا الخطاب له قهرا وطبعا.
الأمر الثالث
في وجه تقديم الضمير
فعن جمع أنه يفيد الحصر، فيكون العبد في مقام اختصاص المتأخر
بالمتقدم، فهو لا يقدم على العامل إلا للتخصيص.
وفيه مناقشة وهو: أن الاهتمام يكفي للتقديم.
وقيل: سب أعرابي آخر، فأعرض عنه، وقال: إياك أعني، فقال له:
وعنك اعرض. فقدما الأهم والذي هو مورد اعتنائهما من غير نظر إلى
الحصر (1).
وربما يستدل على الحصر بما أفاده ابن عباس في معناه وهو: أنه
لا نعبد غيرك (2)، وغير خفي ما في الاستدلال.
وبناء على هذا يسقط البحث الآتي، وهو كيفية العلاج بين حصر
الاستعانة فيه تعالى وجواز الاستعانة بغيره تعالى، كما لا يخفى.
وهنا وجوه إبداعية ونكت اختراعية حول سبب التقديم وسر
التأخير:

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 145، البحر المحيط 1: 24.
2 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 9، روح المعاني 1: 82.
21

1 - تقديم ما هو مقدم في الوجود، فإنه تعالى مقدم على العابد
والعبادة ذاتا، فقدم وضعا، ليوافق الوضع الطبع.
2 - تنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله تعالى الحق،
فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا.
3 - الاهتمام، فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال، ولا سيما حال
العبادة، لأنها محل وساوس الشيطان من الغفلة والكسل والبطالة.
4 - التصريح من أول وهلة، بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في
التوحيد، وأبعد عن احتمال الشرك، فإنه لو أخر فقبل أن يذكر المفعول
يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى.
5 - الإشارة إلى حال العارف، وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى
المعبود أولا وبالذات، وإلى العبادة من حيث إنها وصلة إليه وراحلة يفد
بها عليه، فيبقى مستغرقا في مشاهدة أنوار جلاله، مستقرا في فردوس أنوار
جماله، وكم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين: * (أذكروني أذكركم) * (1)،
وبين قوله للإسرائيليين: * (أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * (2) وغير ذلك
مما توهموه، وقد جمع ذلك كله بعضهم آخذا نوعها من تفسير الفخر (3).
ومن الممكن دعوى: أن النظر إلى مراعاة السجع، وإلى اقتضاء
البلاغة والفصاحة في الكلام ذلك، من غير نظر إلى المعاني، أو إلى

1 - البقرة (2): 152.
2 - البقرة (2): 40.
3 - التفسير الكبير 1: 246 - 247، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 82 - 83،
روح المعاني 1: 82.
22

دعوى الانحصار من غير كونه انحصارا واقعا، أي لا يدل الأسلوب حسب
القواعد العربية على الانحصار، ولكن على السالك المترنم بتلك الأثنية
البليغة، وهذه المحامد الكثيرة، أن يدعي حصر عبادته فيه تعالى، وهكذا
حصر الاستعانة.
نعم في الجملة الأولى هو هكذا واقعا، وفي الثانية هو الادعاء ولا
واقعية له، لصحة الاستعانة بالغير، ولو قلنا: إن العبادة هي التذلل
المطلق - كما مر تحقيقها - فيجوز ذلك لغيره أيضا، ولكن على العبد
السالك يجب - بحسب عشقه له تعالى - انحصارهما فيه وإن لم يكن الأمر
كذلك واقعا.
الأمر الرابع
في وجه الإتيان بضمير الجمع في قوله: " نعبد "
فهل هو لأجل التأدب عن عد نفسه لائقا لمقام العبودية، أو لأجل
أن العبودية صفة مشتركة في جميع ما سواه، فلا وجه للانفراد
والاختصاص، أو لأجل التشرف بضم عبادته إلى عبادة غيره من
الصالحين، واستعطافا بذكرهم مع نفسه، واحترازا عن الدعوى الكاذبة
بطريق تغليب عبادات المخلصين على عبادته في دعوى الإخلاص، فيكون
صادقا في تلك الدعوى، لأجل صدقهم؟
وبعبارة أخرى: لأجل الإرشاد إلى ملاحظة القارئ دخول الحفظة،
23

أو حضار صلاة الجماعة، أو جميع حواسه وقواه الظاهرة والباطنة، أو
جميع أجزائه الملكية والمادية، أو جميع ما حواه الإمكان واتسم بسمة
الكون والوجود * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) * (1).
وإن شئت قلت: إن من باع أمتعة مختلفة صفقة واحدة، فكان بعضها
معيبا، فإن المشتري لا يصح له - على ما قيل - أن يقبل الصحيح ويرد
المعيب، بل إما يقبل الجميع أو يرد الجميع.
فكأن العابد أراد أن يحتال لقبول عبادته، ويتوسل إلى نجاح
حاجته، فأدرج عبادته الناقصة في عبادة غيره من الأولياء والمقربين،
وعرض الجميع - فضولة عرضة واحدة - على حضرة ذي الجود والإفضال،
والحقيق بالعبودية والإجلال، وذلك لأن الفقيه يحتال حتى لا يعيد صلاته،
ويظن ويعتقد أن الحضرة الأحدية عز وجل، أجل من أن يرد المعيب ويقبل
الصحيح، وقد نهى - كما قيل - عباده عن تبعض الصفقة، ولا يليق بكرمه رد
الجميع، فيقبل الكل - إن شاء الله تعالى -.
والذي يظهر من تاريخ النزول: أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام
اجتماعا ويستعينون بها معا، فإذا توجهوا إلى التوحيد العبادي، ورجعوا
إلى الخلوص في الدين والتعبد، وخضعوا له تعالى خاصا، نادوا بالنداء
الاجتماعي وبصوت واحد جمعي: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، فلا يجوز في
هذه الحالة إتيان الضمير المفرد، كما ترى الأمر في مشابهات هذا المقام
ونظائره، فكأنهم بلسان واحد ندموا عما كانوا يصنعون، فاعتذروا بتوجيه

1 - الإسراء (17): 44.
24

عباداتهم واستعانتهم إلى خالقهم ومعبودهم، فترنموا بنداء واحد ظاهر غالب
* (إياك نعبد وإياك نستعين) *، فنزلت السورة والآية الشريفة ملاحظة حال
هؤلاء الأولين وتاركة خصوصيات أحوال الآخرين.
نعم يجوز للسالك الماهر أن يلاحظ - حال صلاته وقراءته - جميع
ما مر من الخصوصيات والنكت، فيلاحظ صلاة العارفين، أو يردف عبادة
الصامتين إلى عبادته، أو غير ذلك، بناء على جوازه شرعا حال القراءة كما
مر تفصيله، فعند ذلك يبرز ويظهر ثناءه البليغ العبادي بقوله: إياك نعبد أنا
وجميع أجزائي وأوصالي وأحوالي وآرائي أنا وجميع الناس، أنا وجميع
الأشياء، أنا وجميع العقول والملائكة المقربين، وغير ذلك مما يخطر
بقلبه، حال نشاطه الروحي وسروره القلبي وبهجته النفسانية، ولكن أنى
ذلك بمعنى الآية الشريفة؟!
الأمر الخامس
في سر تقديم العبادة على الاستعانة
وقد ذكروا وجوها ربما تزداد على العشرة (1)، وتلك الوجوه تكشف
عن اشتياق المفسرين إلى تزيين الكتاب السماوي بأنواع التزيين،
وترمز إلى نهاية عشقهم بأن الكتاب الإلهي مشتمل على جميع المخترعات
الوهمية الذوقية:

1 - انظر روح المعاني 1: 83.
25

1 - فمنها: أن العبادة هي الأمانة المذكورة في الآية الشريفة: * (إنا
عرضنا الأمانة) * (1)، فاهتم السالك بأدائها.
2 - ومنها: أن السالك لما نسب العبادة إلى نفسه، فكأنه توجه
إلى أنانيته، فأراد كسر تلك الأنانية بذل السؤال عن العون والإعانة.
3 - ومنها: أنه لما نسبها إلى نفسه أراد أن يشير إلى كذب النسبة،
وأن القوة والحول من الرب القادر.
4 - أن نهاية شوقه إلى القرب أوقعه في ذلك، فإن العبادة سبب
تقربه، والاستعانة ليست هكذا.
5 - أن في العبادة خلوصا صرفا، لما لا ينتظر الإجابة، بخلاف
الاستعانة، فإنه ينتظر معها الاستجابة، فكأنه دعاه تعالى لأجل الأمر الآخر
وراء ذاته تعالى وتقدس، فلابد وأن يتقدم هذا وأن يتأخر ذاك.
6 - وغير ذلك مما يطلبه الفاحص عن الكتب المفصلة.
ولو كان التنزيل بعكس ذلك، كان لنا أن نخترع وجوها وأسرارا
لتقديم الاستعانة على العبادة:
1 - فمنها: أن العروج من النقص إلى الكمال يقتضي تقديم
الاستعانة على العبادة، لأنها الغاية القصوى.
2 - ومنها: أن الخوف من السقوط والوقوع في التهلكة يوجب
ذلك، ضرورة أن بدون إعانته الواقعية لا يتمكن من العبادة.
3 - ومنها: أن الدنيا مزرعة الآخرة، فلابد من التوجه إلى جميع

1 - الأحزاب (33): 72.
26

النشآت، وإلى الأمر الجامع، وهو طلب الاستعانة والإعانة.
4 - ومنها: أن في تأخير العبادة ذكرا للخاص بعد العام، دون عكسه،
والأول صحيح، دون الثاني، كما لا يخفى.
فبالجملة: للإنسان المكار الحيال اختراع الوجوه لجهات مختلفة
من الكلام، فلا ينبغي الاقتصار على هذه الأمور في هذه المواقف.
والذي هو الأظهر: أن المشركين كان من دأبهم أن يتشبثوا بالأصنام
ويتخذونها وسائط ويعبدونها ويستمدون منها وكأنهم يقفون حذاءها ويقولون:
إياك نعبد وإياك نستعين، فجاء الإسلام ومنعهم عن ذلك ونهاهم، وأمرهم بأن
يعبدوا الله الواحد القهار، من غير حاجة إلى تلك الوسائط وهذه
الوسائل الدنيوية الضعيفة في الوجود والكمال، وأدبهم بكيفية
العبادة، فقالوا: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *.
وبعبارة أخرى: يعلم من الفاتحة ومن هذه السور ما كانوا يصنعون في
عهد الجاهلية من الأفعال السيئة، فهي نسخة دوائهم، ونموذج يشير إلى
دائهم الذي ابتلوا به في تلك الأعصار.
وعلى هذا لا نظر في التقديم والتأخير بعد ذلك، نعم اقتضاء أسلوب
الكلام والسجع هو تقديم مادة العبادة على مادة الاستعانة، لأن الكتاب
العزيز دقيق النظر في هذا الميدان، ويلاحظ المحسنات اللفظية أكثر من
أن تحصى.
27

الأمر السادس
في سبب تكرار حرف الخطاب
قيل: إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة.
وقيل: إن التكرار للإشعار بأن حيثية تعلق العبادة به تعالى، غير
حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه، ولو قال: إياك نعبد ونستعين،
لتوهم أن الحيثية واحدة، والشأن ليس كذلك، إذ لابد في طلب الإعانة
من توسط صفة، وليس كذلك في العبادة (1).
وقيل: للتنصيص على طلب العون منه تعالى (2). وقيل: لدفع توهم
الإخبار (3). وقيل: للتأكيد (4).
وأنت خبير: بأن الالتزام بالجمع ممكن، فلا تكون القضية منفصلة
حقيقية.
والذي يظهر: أن مع النظر إلى ما مر والتدبر فيما اسلف، يعلم أن
التكرار لأجل رفع توهم أن المستعان هي الأصنام والأوثان فلابد حينئذ من
تكرار الأسماء الخاصة والأوصاف المخصوصة والضمائر حتى يقع

1 - راجع روح المعاني 1: 85.
2 - راجع البحر المحيط 1: 25.
3 - نفس المصدر.
4 - تفسير التبيان 1: 39.
28

المطلوب الأصلي في القلب، وتسجل النفس إياه، ويصير ملكة في الأرواح
وركيزة في الذهن، ودفعا لأوهام الباقين في الشرك والضلال.
هذا، مع أن العاشق لا يتكاسل من ذكر المحبوب والمعشوق، بل كلما
ازداد ذكرا ازداد شوقا وحبا حتى يتخلى عن جلبابه.
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره * هو المسك ما كررته يتضوع
ومن الجائز توهم توقف ابتهاج الإصغاء ولطف الكلام على الإطالة
والإطناب دون الإيجاز، والله العالم بأساليب كلامه ولطائفه.
الأمر السابع
في ذكر وجه الإتيان بالجمع في " نستعين "
اعلم أن أرباب التعرض للوجوه، لم يأتوا بشئ في المقام ولا يوجد
في كلماتهم ما يفي بالمرام، وحيث قد عرفت منا الوجه الواحد الحق في
الإتيان بالجمع في " نعبد "، فهو الوجه في هذا المقام أيضا، ومن هنا يعلم أن
الوجه المزبور حقيق بالتصديق.
وغير خفي: أن صنعة الابتكار وقدرة الاختراع والإبداع، ليست قاصرة
في المقام عن تعديد وجوه الكلام لقوله تعالى: * (نستعين) *:
فمنها: أن العبد أدرج نفسه في زمرة الآخرين، استحياء من
المخاطبة المستقلة.
ومنها: أنه لطمع الاستجابة وعدم وقوع القبيح من الله العزيز، شفع
29

دعاء الآخرين بدعائه، حتى لا يلزم التفكيك ولا يرد الكل، فتجاب دعوته.
ومنها: أنه قد ورد الأمر أن ندعو للغير، لأنه بلسان لم يعص به (1)،
فهو أقرب إلى الاستجابة، فيلزم إجابة الدعاء بالنسبة إليه أيضا.
ومنها: أن السالك يعلم أن كل ممكن محفوف بالوجوبين، فكيف
يستغني عن إعانة الواجب الحقيقي، فيرى حاجته وحاجة غيره من
أجزائه العنصرية ومراتبه المادية والمعنوية وسائر الآحاد والأفراد
الملكية والملكوتية إلى إعانته، فطلبها منه تعالى وتقدس.
وغير ذلك مما يقف عليه أهل الذوق والفكر، وللمتقرب السالك
سبيل ربه أن ينوي جميع هذه النكت والخصائص، رجاء الوصول
والبلوغ إلى الغاية المقصودة، وله أن يخطر بقلبه بعين الشهود
والعيان جميع الحقائق المرتكزة في الآيات، بأمل أن ينسلك في زمرة
الأولياء.
الأمر الثامن
في أن حذف المستعان فيه دليل العموم
وربما يقال: إن الحذف دليل العموم، إذا لم يكن الكلام شاملا للقيد
السابق، وهو هنا العبادة، ولا خفاء في هذا التقييد، ويجوز ويصح الاتكال
عليه.

1 - عدة الداعي: 183.
30

ومن العجب توهم " الكشاف " الاختصاص، وقال: " الأحسن أن يراد
منه الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة " (1). انتهى.
ولعله حذرا عن الإشكال الآتي في محله من: أن الحصر يستلزم
ممنوعية الاستعانة بالغير، وهو غير صحيح، وقع في هذه المهلكة، غفلة
عن إمكان الفرار منه من طريق آخر وهو إنكار إفادتها الحصر، مع أنك
سترى كيفية حل المعضلة في المقام المناسب له - إن شاء الله تعالى -.
والذي علمت منا: أن المشركين كانوا يعبدون آلهتهم والأصنام
ويستمدون منها من غير اختصاص، وكانوا في مشاكلهم ومعضلاتهم يراجعون
أوثانهم، ولا يخصون ذلك بالعبادة أو بحالها. نزلت السورة الشريفة في هذا
الموقف، فيقيد العموم، كما سيأتي في مقام آخر، أن جملة * (إياك نعبد) *
ربما تدل على حصر حقيقة العبادة بما إذا كان المعبود هو الله تعالى، دون
العناوين الأخر، كالفرار من النار والفوز بالجنة، فإنه في هذه الحالات
ليس هو تعالى معبودا حقيقة.
فبالجملة: دعوى ظهور الجملة - مع قطع النظر عن اللوازم
والملزومات - في العموم، قريبة جدا، حتى على القول بأن الواو حالية،
فإنه لا يستلزم اختصاص المستعان فيه بالعبادة، كما لا يخفى.

1 - الكشاف 1: 15.
31

الحكمة والفلسفة
وهنا مباحث:
المبحث الأول
حول حصر العبادة فيه تعالى
ربما تدل الآية الكريمة الشريفة على أن العبادة لا تقع - بحسب
التكوين وفي الأعيان والخارج - إلا لله تعالى، وذلك إما لأجل أن الظاهر
إرادة حصر العبادة فيه أينما تحققت، فنعبده ولا نعبد غيره، لا على وجه
الاختيار، بل سواء كان بالاختيار أو كان لا بالاختيار، وسواء كان بحسب
الظاهر معبوده غيره، أو كان هو تعالى اسمه، أو لأجل أن السالك كلما تميز
شيئا للعبادة فهو غيره تعالى، ومع ذلك تكون العبادة له تعالى، فيعلم من ذلك
أن جميع العبادات تقع له تعالى، أي أن السالك يتصور حال الخطاب ما
ليس هو هو، ومع ذلك يعد فعله عبادته تعالى، أو لأجل أن ضمير الجمع
للاستيعاب، أي إياك نعبد أنا وجميع العابدين، فتكون الآية الشريفة دليلا
على أنه تعالى كل الخيرات، وأن بسيط الحقيقة كل الأشياء وإن كان ليس
32

بشئ من حدودها الناقصة الراجعة إلى أنفسها، وإلى ذلك يشير ما عن
ابن عباس: أن القضاء في قوله تعالى: * (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) *
تكويني (1).
اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست * يقين كردى كه دين در بت پرستى است
والله العالم.
وإن شئت قلت: كأن الآية الشريفة توجه الناس إلى أن يعلموا أن ما
كانوا يعبدون - من الأصنام والأوثان، ومن الأشجار والطلسمات، ومن الأحجار
والممثلات - لا يرجع إلى غير الله تبارك وتعالى، فكأن كفرهم كان في التحديد
والتقييد، ولو كان النظر إلى كل شئ بالعبرة وبجعله اسما من أسمائه، لما
كان يلزم منه الكفر، إلا الكفر المشترك فيه جميع الناس، مؤمنا كان أو
مشركا، وسيجئ زيادة توضيح في مقامه الأنسب، فإلى ربك فارغب.
المبحث الثاني
حول حصر الاستعانة فيه تعالى
ربما تدل الآية الكريمة الشريفة على أن الاستعانة لا يمكن إلا
من الله تعالى، وذلك لأن حصر الاستعانة فيه لا معنى له إلا برجوعه إلى
حصر الإعانة واقعا وتكوينا فيه تبارك وتعالى.

1 - انظر التفسير الكبير 20: 184 والدر المنثور 4: 170.
33

وبعبارة أخرى: قد أمر الكتاب العزيز بالتعاون، فقال: * (وتعاونوا على
البر والتقوى) * (1)، وهذا لا يناسب حصر الاستعانة فيه، إلا برجوع الحصر
إلى أن حقيقة المعاونة من الله والإعانة من الله وإرادة العبد من الخلق
المتوسطة وبهذا يثبت التوحيد الأفعالي، ويستكشف نفوذ إرادته تعالى في
جميع الأشياء، وأن كل فعل صادر من العباد وغيرهم، أنه تعالى ذو مدخلية
فيه، على الوجه المقرر في الكتب العقلية (2) وفي قواعدنا الحكمية،
فإن درك كيفية الدخالة صعب جدا.
وبهذا التقريب تنحل معضلة المعارضة بين الآيتين، فإن الآية
الأولى تدل على أن فيض الإعانة من ناحية المقدسة، والآية الثانية تدل
على أن إرادة العبد ممر ذلك الفيض، وأنها رشح من تلك الإرادة الأزلية.
ولو قيل: الآية ليست بصدد المسائل التكوينية، بل هي بصدد تفهيم
كيفية عبادته تعالى، وكيفية التكلم معه في مقام المخاطبة، فلا تنافي بين
أن يقول العبد في مقام إبراز الذلة والخضوع وفي موقف إظهار عظمة
الرب: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، ومع ذلك يستعين بالآخرين.
قلنا: كلا، لأنه في مقام تعليمه، وأنه لابد وأن ينسلك في هذه
السلسلة من الداعين الصادقين في دعواهم، وليس ما يترنم به مجرد
لقلقة اللسان، كما هو المتعارف الآن بين الخواص والعوام.

1 - المائدة (5): 2.
2 - الأسفار 6: 369 - 379، شرح المنظومة: 178 - 181.
34

المبحث الثالث
حول رد القول بالجبر والتفويض
قد استدل بها: على أن مقالة الأشعريين بالجبر فاسدة وباطلة (1)،
ضرورة أن قيام العباد بالعبادة وإسناد الفعل إليهم وقيامهم بالاستعانة بالله،
لا معنى له إلا كون الأفعال أفعالهم، وأنه تعالى يعينهم على الأفعال الصادرة
عنهم، ففعل العبادة التي استعان فيها به تعالى، يصدر عنه بإرادته وبإعانته
تعالى.
فيبطل المذهب الآخر، وهو التفويض، ويعلم أن العابد يتصدى
بنفسه للعبادة، وهو تعالى يعينه عليها، فلا يكون يتمكن من غير إعانته
عليها، فلا يستقل في الإرادة وغيرها.
وهذا هو الأمر بين الأمرين والمذهب الفحل واللبن السائغ
للشاربين، فلا جبر ولا تفويض ولست أشعريا ولا معتزليا، بل حنيفا مسلما
متوسطا على صراط مستقيم لا إعوجاج فيه ولا انحراف، والله المستعان.
وإن شئت قلت: نفس طلب الاستعانة يكفي لرفع غائلة الجبر
والتفويض.
اللهم إلا أن يقال: بأن ترخيص المولى بالطلب وإسناد الفعل إلى

1 - التفسير الكبير 1: 253، كشف المراد: 313، شرح المواقف 8: 158، نقد المحصل:
331، المطالب العالية 9: 294.
35

النفس ليس إلا في الأفق الأدنى ومطابق لذوق العرف والعقلاء، وهذه
المسائل عقلية نظرية لا تستكشف بالآيات، وتلك الانتسابات والنسب
المجازية كثيرة، فلا يبطل بذلك الجبر.
وأما طلب الإعانة، فهو من قبيل استعانة العبيد بالموالي العرفية
في أمور تلك الموالي وفيما يرتبط بهم وبنظامهم، أو يكون لصفاء النفس
هذا النحو من الخطاب والتكلم مفيدا، فأمره تعالى بذلك، فشقاوة العبد
وسعادته بيده تعالى، ولا مدخلية لإرادته ولا قدرته في ذلك، أو لا إرادة له
ولا قدرة له رأسا حتى تكون ذات مدخلية في حاله من الشقاوة
والسعادة، فاستنتاج نفي الجبر والتفويض - كما أفاده كثير من المفسرين -
محل المناقشة والخداش، بل محل المنع والنقاش، لما أشير إليه، ولأن
من الممكن أن يقال: إذا قال السالك: إياك نعبد، فهو دال على استقلاله في
إرادة العبادة، وإذا قال: إياك نستعين، فهو يطلب منه أن لا يحدث مانع عن
البقاء على تلك الحالة، فإن إعانته تعالى عليها برفع الموانع وسدها، لا
بإيجاد المقتضيات، فتدل على استقلال العبد، فتأمل.
ثم إن هنا رواية عن الصادق (عليه السلام) في رده على القدري: أنه أمره
بقراءة الحمد فقرأها حتى بلغ * (إياك نعبد وإياك نستعين) * قال له: " وما
حاجتك إلى المعونة، إن الأمر إليك، فبهت الذي كفر " (1) الخبر.
وهو - مضافا إلى عدم ثبوت صدوره - قابل لأن يحمل على الجدال
بالتي هي أحسن، ضرورة أن مقالة القدرية ليس معناها: أنه لا يجوز لهم

1 - تفسير العياشي 1: 23 - 24 / 24، تفسير البرهان 1: 52 / 33.
36

الاستعانة بالغير أفلا يستعين الإنسان بغيره في أموره، مع أنه لا يكون معتقدا
بنفوذ إرادته في أموره ولا باستيلائه على شؤونه.
فلا مانع - مثلا - من كون إله العالم الخالق لكل شئ، مفوض الأمور
إلى الخلائق، ويستعين الخلائق في أمورهم به، لدفع المضادات
الوجودية والممانعات الممكنة، بل بوجه آخر، ولكنه ليس دائم
التصرف، خلافا للحق الذي انجلى لك في محله فلا تغفل.
فعلى هذا - كما هو الكثير في استدلالات المعصومين عليهم صلوات
المصلين - يحمل الحديث على الاحتجاج وإرادة الاهتداء.
المبحث الرابع
حول مسألة سبق القدرة على الفعل
ربما يمكن للمستدل أن يتوهم: أن هذه الآية الكريمة تدل على
مقالة الأشعريين في بحث حقيقة القدرة، وأنها ليست قوة سابقة على
الفعل، بل لها المعية (1)، خلافا للحق الذي لا ريب فيه، وهو تقدمها
عليه، وذلك لأنه لا معنى لطلب المعونة منه تعالى، لأنه قد خلقها فيهم
قبله.
وبعبارة أخرى وكلمة وضحى: أن هذا الطلب بعد صدور العبادة منه
لغو، ونفس هذا الطلب كاشف عن سبق إعانته عليه بإعطائه القدرة،

1 - تفسير البيان 1: 38.
37

فيكون الدعاء مستجابا قبله، وهذا ضروري الفساد، فإن الاستجابة بعد
الدعاء.
أقول: أولا: إن القواعد العقلية الواضحة لا تفسد ولا تبطل بالظواهر
ولا بالنصوص.
وثانيا: إنه يكون طالبا للمعونة بالنسبة إلى غير هذا الفعل، أو غير
ما صدر منه بالضرورة، لأنه بعد وقوع الفعل لا معنى لطلب الإعانة، فيكون
على هذا طلبه متوجها إلى ما يصدر منه، أو متوجها إلى إبقاء القدرة
السابقة حتى يتمكن من الأفعال والأقوال.
وثالثا: إن إعطاء القدرة من العلل الواقعة في سلسلة المقتضيات
الأصلية، وأما طلب الإعانة فهو يرجع إلى دفع المضادات الوجودية، أو
الإعانة على إيجاد المقتضيات غير الأصلية، مثل إعطاء العصا لضرب
العدو.
وأما مسألة استجابة الدعوات قبل الدعاء، فهي صحيحة لا مانع من
الالتزام بها، لأن الأدعية تقع على الألسنة المختلفة، ومنها دعاء الذات، مع
أن الكريم كل الكريم أن يسبق إلى الإجابة إذا كان يعلم بالدعاء المتأخر.
38

علم الأسماء والعرفان
وهنا دقائق:
الدقيقة الأولى
حول ما يرتسم في الذهن عند مخاطبته
إن العبد السالك: تارة يقرأ ويقول: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * من
غير نظر إلى المخاطبة، وأخرى يخاطب الله تبارك وتعالى بقوله.
فعلى الأول: فلا شئ عليه ولا يحصل له منه شئ إلا سقوط الأمر
والتأدب في القراءة.
وعلى الثاني: فما يخطر بباله في خطابه؟! وكيف يعقل أن يخاطب
والخطاب متقوم بالمخاطب، ولا يرتسم في ذهنه ونفسه أو قلبه شئ؟! أما
عدم الارتسام فهو غير ممكن، وأما إذا ارتسم فهو غيره تعالى، فتكون العبادة
باطلة ومحرمة، ويصير مشركا، وحاله من الأول أسوأ، فهل هذا يدل على
عدم جواز المخاطبة، أو ينحصر الجواز بمن يتمكن من مخاطبة الله
بالمشاهدة الحضورية، بحيث لا يتوسط بينه وبين مخاطبه شئ، أو الآية
39

- بعد جواز المخاطبة - تدل على التوحيد الذاتي المستتبع للتوحيد
الصفاتي والأفعالي، فيكون ما اشتهر: أن ليس في الدار غيره ديار، صادقا،
فلا يقع الخطاب إلا عليه تعالى وتقدس برفض الحد والأخذ بالمحدود؟
جلوه أي كرد كه بيند بجهان صورت خويش * خيمه در آب وگل مزرعه ء آدم زد (1)
* (الله نور السماوات والأرض) * (2)، * (وهو معكم أينما كنتم) * (3)، * (ما
يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) * (4).
أم هنا وجه آخر سيأتي في بحث الفقه، وهو أن المخاطبة لا تعقل
إلا بالترسيم، ولكن الرسم: تارة يلاحظ بمعناه الاسمي وينظر فيه، ويؤخذ
للعبادة، وأخرى يلاحظ مشيرا إلى الخارج وبمعناه الحرفي والآلي وينظر
إليه، فإن الأول هو الباطل، والثاني هو وجه الله، فيسري الخطاب منه
إليه، ويكون هو المرآة، وعند ذلك يلزم جواز كل شئ اسما له
تعالى ووجها، بل المعلول التكويني العيني أولى بذلك من الألفاظ
الموضوعة، فاغتنم.

1 - لاحظ ديوان حافظ شيرازي، مطلعه:
در أزل پرتو حسنت ز تجلى دم زد * عشق پيدا شد وآتش به همه عالم زد
2 - النور (24): 35.
3 - الحديد (57): 4.
4 - المجادلة (58): 7.
40

الدقيقة الثانية
حول تذكر النبي حال العبادة
قد نسب إلى طائفة من الصوفية ترسيم الشيخ وعبادة صورته،
وجعل صنمه في قلوبهم، وإحضار طلسمه حذاء نفوسهم، حال العبادة
والقيام بالوظيفة، وربما تعد هذه الطائفة من الملاحدة والأرذلين أعمالا،
لخروجهم عن ربقة التوحيد وحقيقة التجريد والتفريد، وانسلاكهم في
زمرة عابدي الأوثان والأصنام وعاشقي الأقشار والأزلام، عليهم لعائن الله
الملك العلام.
وربما يتمسك لتوجيه مسلكهم وتنظيف مرامهم (1): بأن في بعض من
الأخبار الرضوية قد ورد الأمر بذلك بقولهم: " اجعل أحد الأئمة نصب
عينيك " (2)، وفي آخر: أن الصادق (عليه السلام) كان يتذكر رسول الله قبل صلاته (3).
ويتوجه عليه: أن تذكره (عليه السلام) ما كان بمعنى الارتسام بصورة الشيخ،
بل هو المذكور في الأدعية بعد الأذان، وهو أن المؤذن بعده وقبل الإقامة
يقول: " اللهم اجعل قلبي بارا، وعيشي قارا، ورزقي دارا، واجعل لي عند قبر

1 - بيان السعادة 1: 33.
2 - انظر الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السلام): 105، وبحار الأنوار 81: 207 / 3.
3 - انظر المصدر السابق.
41

نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم) قرارا ومستقرا " (1).
وأما الخبر الأول، فهو غير مذكور في الجوامع المعتبرة، وما رأيته إلا
في بعض تفاسير منسوبة إلى تلك الطائفة (2).
نعم هنا توجيه لطيف أشير إليه وهو: أن عبادة كل أحد لا يمكن إلا
بتصوير شئ حاك عنه ومرآة له، ويشير إليه، ويكون وجها من وجوهه،
وهو إما يكون من المفاهيم الكلية الاختراعية التي لا موطن لها إلا
الذهن، أو من قبيل الألفاظ الموضوعة لتلك الذات المقدسة، والذي
هو الأوفق بالاعتبار إذا أمكن العبور عنه وإذا لم يسكن سفينة السالك
لديه، أن يلاحظ ما هو أحسن الوجوه وأكشف الوجوه وأرسمها وأزينها
وأحكي منها، ولا ريب أنه هو الحقيقة المحمدية والرقيقة العلوية،
فلا يرجع ذلك إلى عبادة غيره تعالى، بل هذا في الحقيقة عبادة الله تعالى،
كما لا يخفى على أهل البصائر والدرجات.
الدقيقة الثالثة
حول الاستعانة بالغير
إذا ترنم السالك بقوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * فلابد من أن يكون

1 - الكافي 3: 308 / 32، وسائل الشيعة 4: 634 كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة،
الباب 12.
2 - يريد به تفسير بيان السعادة 1: 33.
42

صاحب التوحيد الذاتي، حتى لا يقع استعانته عن غيره - في الصورة
والظاهر - استعانة عن غيره، بل تكون هي الاستعانة منه عز وجل.
وبذلك ينقدح لديه: أن الأمر بالتعاون بعضهم مع بعض، والأمر
بالاستعانة بالصبر والصلاة، لا ينافي حصر الاستعانة فيه ومنع ذلك عن
غيره، وذلك لأن المقرر في محله والمحرر عند أهله: أن الواجب
الوجود ليس هو الوجود الخاص، كما زعم أبناء الحكمة، وله الوجود
اللابشرط القسمي، بل هو الوجود اللابشرط المقسمي (1)، وهذا هو
الظاهر من الكتاب العزيز من إثبات المعية القيومية لنفس الذات،
دون ضيائه وأنواره (2).
أي آنكه ترا بهر مقام نامى * وى آنكه بهر گمشده أي پيغامى
كس نيست كه نيست بهره مند از تو ولى * اندر خور خود بجرعه أي يا جامى
فعلى ما تقرر وتحرر واستبان وبان: لا يكون الاستعانة من الغير إلا
عند ضعفاء العقول وعميان القلوب، وإذا ورد في الكتاب والسنة ما يكون
ظاهرا في غير ما بسطناه، فهو لأجل أن نوع المخاطبين والقارئين من هذه
الزمرة، وأما الثلة الثالثة وهم أصحاب اليمين، فلهم مشاهدات جلية من
غير حاجة إلى الترسيم والتجسيم، ولنعم ما قيل: " لا يصلي أحد إلا وقد

1 - مصباح الأنس: 52.
2 - الحديد (57) 4 (وهو معكم).
43

كفر بعد ما آمن وآمن بعد ما كفر "، وسر هذا الأمر المستتر: هو أنه عندما
يصل إلى قوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * يتزعم غيره ويعبد، وبزعمه
يكفر، ولكنه ليس بكافر واقعا، ويخرج عن الكفر في الركوع والسجود
شرعا وظاهرا، والله هو الولي، وبه نستعين، وعليه التوكل والتكلان.
الدقيقة الرابعة
حول مسألة " وحدة الوجود "
ربما تكون الآية الشريفة رادعة عن مقالة نسبت إلى ظواهر
كلمات جمع من الصوفية، وطائفة من القائلين بوحدة الوجود والموجود،
فلو كانت تلك المقالة حقا لما كان وجه للأمر بالعبادة، ولقوله: * (إياك
نعبد وإياك نستعين) *، للزوم اتحاد العابد والمعبود، وللزوم استكمال الذات
الأحدية بالعباد. ولهذا وأمثاله قيل: إن القائلين بوحدة الوجود لو التزموا
بلوازم مقالاتهم يندرجون في الفرق الضالة، ويجب الاجتناب عنهم،
وينسلكون في أهل الضلال، فلا يجوز معاشرتهم، وهكذا (1).
وإني لست في موقف تحرير تلك الوحدة، وأن الالتزام بوحدة
الوجود يلازم الالتزام بوحدة الموجود، وأن ذلك لا يستلزم تلك اللوازم،
ولكن نؤمي إلى المسألة بالمثال - تو خود حديث مفصل بخوان از أين
مجمل -:

1 - العروة الوثقى، الطهارة، في النجاسات، الكافر، المسألة 2.
44

اعلم: أن الماء في عالم الأرض متكثر حسب الظروف المختلفة، من
البحار والأنهار إلى مياه الظروف، وتلك الكثرة تضمحل وتفنى بزوال تلك
الظروف والأواني، وبفناء تلك الحوائل والحواجز، ولا شبهة في أن كل
واحد من المياه المحدودة ناقص، ويكون النقص من قبل الأواني
والظروف، وإلا فلا نقص حقيقة في نفس المياه، كما لا كثرة فيها كذلك، فإذا
يجب رفض هذه القشور والجلابيب عن كل واحد من تلك المياه بالجد
والاجتهاد، حتى يحصل لهم الوحدة الكاملة، ويرجعون إلى أصلهم،
بطرح الثياب السود وطرد الحدود والقيود، فمن يتوهم الوحدة الذاتية
للوجود يعتبر العناوين أسباب الكثرة، ويلزم على المحدود مع حفظ
الحدود للعبادة والثناء، حتى يتخلص من تلك القشور والثياب السيئة
المحدودة، فيكون الأمر من الأصل محمولا على ذلك.
وغير خفي: أن المثال مقرب من جهة مبعد من جهات، ولا ينال قلب
الأوحدي من هذه التنظيرات إلا لبها ومخها، وقلب الفاسق يتوجه من هذه
التمثيلات إلى قشرها ومواضع المناقشة فيها، والله يهدي إلى دار الثواب
ومحل الرشاد.
فعبادته تعالى والاستعانة منه تبارك وتقدس، لا تنافي تلك المقالة.
عصمنا الله من الزلل، وآمننا من الفتن، وطهرنا من الدنس. اللهم أذهب عنا
الرجس وطهرنا تطهيرا.
وأيضا غير خفي: أن الكثرة السارية إلى طبيعة الماء، حصلت من
الحواجز والظروف التي تكون طبيعة الماء فيها، ككون الشئ في
المحل، وأما الكثرة الجارية في طبيعة الوجود وحقيقته، فهي ليست
45

مستندة إلى ما يعد محلا لها بحسب الأعيان والخارج، بل هي تستند إلى ما
يعرضها - من وتو عارض ذات وجوديم - فكيف يعقل حصول الكثرة
الحقيقية لها بتلك المكثرات العارضة؟!
نعم هذه الكثرة وهمية غير فكية - كما تقرر في العلم الطبيعي -
مثل اللون المختلط الوارد على الجسم الواحد، فإنه يورث انقسام
الجسم إلى الكثير، ولكنه ليس بانقسام حقيقي وبكثرة واقعية بل هي
وهمية غير فكية، ومثل الظل والفئ فلا تغتر بما في صحف الآخرين.
ثم اعلم: أن في رواياتنا ما نسب إلى صادق آل محمد - صلوات الله
تعالى عليهم -: " أنه (عليه السلام) كان يصلي في بعض الأيام فخر مغشيا عليه في
أثناء الصلاة، فسئل بعدها عن غشيته؟ فقال (عليه السلام): ما زلت أردد هذه الآية
حتى سمعتها من قائلها " (1).
وتوهم بعض العارفين: أنه يشير إلى أن لسان الصادق (عليه السلام) صار
كشجرة الطور عند قول: * (إني أنا الله) * (2).
ويمكن أن يتوهم متوهم آخر: أنه يريد أن يدعي المكاشفة، فسمع من
الله العزيز، أو من جبرئيل.
وهنا دقيقة أخرى ربما ينتقل إليها أفكار القارئين، بعدما سمعوا منا هذه
الأساطير، قلم اينجا رسيد وسر بشكست.

1 - فلاح السائل: 365، المحجة البيضاء 1: 352.
2 - المحجة البيضاء 1: 352.
46

من گنگ خواب ديده وعالم تمام كر * من عاجزم ز گفتن وخلق از شنيدنش
ولتلميذه الكبير:
هم دعا از تو أجابت هم ز تو * ايمنى از تو اهابت هم ز تو (1)
الدقيقة الخامسة
تقدم الاستجابة على الدعاء
للسالك بعين البصيرة أن يتنبه ويتوجه - من هذه الآيات الشاملة
لأنواع الأثنية - إلى إن الاستجابة قبل الدعاء، وأن الإفاضة القديرية
القديمية قبل الاستفاضة الحادثة الواقعة عن الاستعمال، كيف لا، وقد
دعوا الله مخلصين بالاستعانة وطلب الإعانة، وأجيبوا قبل ذلك بالاقتدار على
تلك التضرعات والاهتداء إلى تلك العبادات والثناءات، فهل يعقل أن
يتمكن الممكن من إصدار فعل من غير إعانته تعالى؟! فإذا لابد من الإقرار
بأن الإجابة قبل الاستجابة، لا معه ولا بعده.
تحت هر الله تو لبيك ما است * أين همه گفت وشنودت پيك ماست
وإلى مثله يرجع سر التقديم والتأخير.

1 - مثنوى معنوي، دفتر دوم، بيت 692.
47

وإن شئت قلت: إن شرط الاستجابة هو الدعاء، ولكن الشروط
ثلاثة، منها الشرط المتأخر، وقد فرغنا عن تصويره وتصحيحه في
الأصول (1).
أو قلت: إن الطلب على أقسام، ومنها الطلب الذاتي، كما في طلب
الماهيات وقافلتها للوجود والظهور ولكمال الوجود، فيكون الاستجابة
في الرتبة المتأخرة جوابا عن السؤال في الرتبة المتقدمة، أي الأعيان
الثابتة اللازمة للذات، طلبت منه كل شئ تستحقه في تلك المنزلة
الرفيعة، فأنعم الله عليهم، وحيث تكون تلك الأعيان أيضا من الحق الأول
ورد في الدعاء: " يا مبتدئا بالنعم قبل استحقاقها " (2).
الدقيقة السادسة
حول الأسفار الأربعة المعنوية
اعلم أن للإنسان غير هذه السفرة المادية، سفرة معنوية، وهذه
السفرة في لحاظ واعتبار تنقسم إلى أربعة:
الأولى: من الخلق إلى الحق، وبدايته من النفس إلى الوصول
إلى الأفق المبين، وهو نهاية مقام القلب ومبدأ التجليات الأسمائية.
الثانية: هو السير في الله - بالاتصاف بصفاته والتحقق بأسمائه -

1 - تحريرات في الأصول 3: 43 وما بعدها.
2 - راجع جمال الأسبوع، السيد: 275.
48

إلى الأفق الأعلى ونهاية الحضرة الواحدية.
الثالثة: هو الترقي والسير إلى عالم الجمع والحضرة الأحدية،
وهو مقام " قاب قوسين "، فلا تبقى الاثنينية، فإذا يطلع مقام " أو أدنى "، وهي
نهاية الولاية.
الرابعة: هو السير بالله من الله إلى الخلق للتكميل، وهو مقام
البقاء بعد الفناء والفرق بعد الجمع. إنتهى ما قيل. ولنا تفصيل في هذه
الأسفار، مسطورة في كتابنا " القواعد الحكمية "، ربما تأتي المناسبة
الأقوى فنذكرها، وهو غير هذا.
وبالجملة: الغرض بيان: أن السالك - بعد السفرات الثلاث، تحت
الأسماء الإلهية، وهي " الرب والرحمن والرحيم ومالك يوم الدين " -
شرع في السفرة الأخيرة، وهو الحضور والإشعار به، والرجوع إلى
الكثرة بعد اضمحلالها، والعدول إلى الخلق بعد الفناء في الحق، وهي
السفرة الرابعة، وفي تلك السفرة يدعو الله مخلصا، ويريد منه أن يبقيه
على حاله، وهو الصراط المستقيم وصراط المنعمين.
ثم ينفي سائر الطرق الثلاثة: المغضوب عليهم والضالين والفانين
الغير الراجعين إلى الصحو بعد المحو، وسنزيد بيان ذلك بعونه وقدرته
في أخيرة هذه السورة، حتى يعلم أن هذه السورة نموذج تلك السفرات،
وسير الكاملين والصديقين.
49

المسائل الفقهية
المسألة الأولى
حكم العبادة غير الخالصة
ربما يستشم من هذه الآية: أن عبادة غير الله باطلة، وعبادة الله
للأغراض الاخر - كالجنة والنار - أيضا باطلة، لأنه لا ترجع إلى عبادته،
بل هي العبادة المعللة، ويكون الغرض الأعلى هو المقصود بالأصالة،
فكأنه يعبد تلك الأغراض والأمراض.
وما قيل هنا: بأن الواجب العبادة الخالصة (1)، غير مرتبط بهذه
الآية، فإنها لو كانت تدل على بطلان غير الخالص لله، فلابد من أن يستند
إلى التقريب المزبور.
وأسوأ حالا من ذلك استدلال هذا القائل - وهو الفاضل المعاصر -

1 - تفسير الميزان 1: 26.
50

بقوله تعالى: * (فاعبد الله مخلصا له الدين) * (1)، قائلا بورود النهي عن تلك
العبادات (2).
ولست أدري ماذا يقول هذا المفسر المعروف في عصرنا؟! فأي
ارتباط بين الآية الشريفة والنهي؟! وكيف تدل الآية على بطلان غير
الخالص؟! فإن العبادة إذا كانت ذات مراتب، فلا مانع من كون النظر في هذه
الآية ونظائرها إلى الدرجة العليا منها.
فبالجملة: يتم القول ببطلان العبادة المزبورة مستندا إلى الكريمة
الشريفة، بدعوى أن غيرها ليس عبادة حقيقة، والحصر يفيد البطلان.
وأنت قد أحطت خبرا بأن تقديم ما حقه التأخير، لا يفيد الحصر،
فضلا عن تقديم ما يمكن تأخيره.
ثم إن مقتضى بعض النصوص والفتاوي صحة عبادة العبيد
والاجراء (3)، فلو دلت الآية على البطلان فلا يقاومها غيره، إلا إذا كانت
دلالتها عليه لأجل الإطلاق، فإنه عند ذلك لنا التمسك بالأحاديث
لتصحيح مثل تلك العبادات.
ثم إن عموم الناس يعبدون الله خوفا من النار وطمعا في دار القرار،
فكيف يمكن الالتزام ببطلانها؟! فيكفي لصحة العبادة كون النظر في
الحلقة الأولى إلى الله، وأما الدواعي الاخر في سائر الحلقات من وجود

1 - الزمر (39): 2.
2 - تفسير الميزان 1: 26.
3 - راجع وسائل الشيعة 1: 45 - 46 و 59 - 61 كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات،
الباب 9 و 18.
51

تلك العبادات، فهي لا تضر بالصحة، لأن العبادة تقع في الحقيقة له تعالى،
وتلك الأغراض علل ووسائط في الثبوت، من غير كون الواسطة مورد
العبادة، ولذلك ورد التوبيخ والتثريب بالنسبة إلى عبدة الأصنام والأوثان،
مع أنهم كانوا ناظرين في عباداتهم إلى التقرب من الله تعالى * (والذين
اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم
بينهم فيما هم فيه يختلفون) * (1)، فلو كان الغرض مورد العبادة حقيقة، لما
كان وجه لزجرهم عن تلك العبادة، فيعلم من هنا أن الأغراض والعلل
ليست حقيقة مورد العبادة، نعم هي الدواعي الشيطانية والدنيوية
الباعثة نحو العبادة ونحو الخضوع والخشوع لله تبارك وتعالى.
وبالجملة: عبادة غير الله لأجل التوصل به إلى الله تعالى ليس
جائزا، بدعوى: أن هذا هو في الحقيقة عبادة الله تعالى، كما لا يخفى
على أهله.
ومما يشهد لذلك: أن الأمر بالمعروف واجب، ومن موارده الأمر بالصلاة،
فلو كان تارك الصلاة لأجل الأمر بالمعروف والخوف من الأمر يصلي
ويصوم، فيلزم كون ذلك من الأمر بالمنكر إذا كانت عبادته باطلة، مع أن
الضرورة تنفيه، فيعلم أن المناط في صحة العبادة شرعا وفقها، كون
إرادة العبد في عبادته متوجهة إلى الله تعالى، فيعبد الله، وإن كانت تلك
الإرادة لا توجد في نفسه بداع من الدواعي الإلهية، وبغرض يرجع إليه
تعالى وتقدس.

1 - الزمر (39): 3.
52

من الممكن إرجاع تلك الدواعي إلى الدواعي الإلهية، لأنه تابع
لأمر الشرع ونهيه، فإذا ورد في الشرع الأمر بتحصيل الجنة والفوز بها
والنهي بالاستبعاد من النار فهو ينظر - في عبادته وتلك الدواعي - إلى
الله تعالى وأوامره ونواهيه، فلا يكون غير الله في جميع الحلقات، كما ينظر
المستأجر على العبادة إلى وجوب تحصيل العيش لأهله، فيعبد الله وفي
ذلك امتثال أمره الآخر، وهو تحصيل المعيشة لأهله ونفسه، مع أنه ينظر
إلى امتثال الأمر الإيجاري الذي يجب الوفاء به شرعا أيضا، فافهم واغتنم،
وكن من الشاكرين.
المسألة الثانية
حكم الاستعانة بغير الله تعالى
هل يجوز الاستعانة بغير الله تعالى مطلقا، أم لا يجوز مطلقا، أو يفصل،
فيجوز في الأمور العادية والمادية والمعنوية الدنيوية، ولا يجوز في
الأمور الأخروية، وفيما يرجع إلى اتخاذ المستعان مألوها.
وغير خفي: أن ذيل هذه المسألة ينجر إلى مسألة الشفاعة، وهي
مسألة طويلة الأذيال، تأتي بحوثها الهامة في المقامات المناسبة.
والذي هو مورد النظر هنا: هو أن قضية حصر الاستعانة بالله تعالى
عدم جواز الاستعانة بغيره، من غير نظر إلى سائر العناوين، فيكون النظر
هنا إلى مسألة الاستعانة وعنوانها الذاتي وحكمها الفقهي.
53

فمن الممكن دعوى ممنوعية الاستعانة بالغير للحصر المستفاد من
الآية الكريمة أولا، ولما روي عن ابن عباس " إذا استعنت فاستعن بالله "
ثانيا، ولأن من استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها، فقد استسمن ذا ورم،
ونفخ في غير ضرم، أفلا يستعان به وهو الغني الكبير! أم كيف يطلب من
غيره والكل إليه فقير؟! وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه
من رأيه وضلة من عقله، فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا،
وراموا الثروة من سواه فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فلا يستعان إلا به
تعالى وتقدس، ولا عون إلا منه تبارك وتعالى (1).
وأما ما ورد من الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة في سورة البقرة -
آية 45، فهو ليس من الاستعانة بغير الله بعد ما كان هو بأمر الله تعالى أولا.
وإن الاستعانة بالله ليس لها مصداق إلا الصبر والاشتغال بمناجاة
الله وعبادته ثانيا.
وأما ما ورد من الأمر بالتعاون في (السورة الخامسة آية 2) فهو لا
يستلزم جواز الاستعانة بالغير، فإن المنحصر فيه تعالى هو الاستعانة، دون
الإعانة والتعاون، فله أن يستعين به تعالى واستجابة دعائه بإعانة الغير
إياه في أمره وحاجته، فلا تنافي بين الآيتين حتى نحتاج إلى الجمع.
وأما ما ورد في السورة الثامنة عشر - آية 95: * (قال ما مكني فيه
ربي خير فأعينوني بقوة) * فهو لا يدل على جواز الاستعانة بغيره، لما أنه
حكاية عن قول ذي القرنين، ولا برهان على أن جميع أقوالها وأفعاله كانت

1 - روح المعاني 1: 85.
54

صحيحة، مع أن ممنوعية الاستعانة بغيره تعالى من خصائص هذه الأمة
المرحومة إمكانا.
ومن العجيب توهم بعض المعاصرين: أن المقصود هي الاستعانة
فيما يرتبط بالعبادة، فإنها مقصورة عليه تعالى، لا في سائر الأمور والأفعال (1)،
وقد فرغنا عن عموم المسألة سابقا، مع أن جواز الاستعانة بالغير للاقتدار
على العبادة وللاهتداء إلى كيفيتها من الضروريات عندنا، بل ربما يجب ذلك
إذا كان جاهلا بكيفية العبادة، فإنه يجوز له أن يستعين بغيره في الاطلاع
على تلك الكيفية وفي الاقتدار عليها.
والذي تقرر منا: أن الضرورة قاضية بجواز الاستعانة بالغير، وعليها
معاش العباد في البلاد، وعليها السيرة القطعية من المسلمين وغيرهم،
فعلى هذا: إما أن يراد من الآية الشريفة معنى غير الحصر، كما هو غير بعيد
جدا، وقد مضى أن أبا حيان صرح بذلك (2).
أو يقال: بأن التمسك بالغير في طائفة من الأمور غير جائز،
والاستعانة فيما يرتبط بشؤون الألوهية وبالمسائل الأخروية والمعنوية
غير صحيحة.
أو ينحصر فيما كانوا يستعينون بالأوثان قبل الإسلام وفي عهد الشرك
والظلام، كطلب ازدياد الأرزاق، وكمسألة الأولاد، والسعادة والشقاوة،
وغير ذلك.

1 - تفسير الميزان 1: 26.
2 - البحر المحيط 1: 24.
55

أو ينحصر جواز الاستعانة بالغير في المسائل الراجعة إلى
المشافهة والمخاطبة مع المستعان والمقابلة معه في الخارج، كما إذا
استعان زيد بعمرو في عمل، وأما إذا انقطع من عمرو ويرى أنه لا يتمكن من
مأموله ومقصوده، فلا يجوز أن يرفع يده إلى غير الله من الأموات أو الأحياء
الغائبين، عند المعتقد استماعه لدعائه، أو غير ذلك من الوجوه
العرفانية والعقلية التي شرحناها في محلها، من أنه لا تقع الاستعانة
- حسب التكوين - بغير الله تعالى وغير ذلك، فافهم وتدبر جيدا.
المسألة الثالثة
حكم أخذ الواسطة في العبادة
قد عرفت منا فيما سبق جواز الإنشاء بالقراءة وفي الصلاة، وأن
السالك له أن يحمد الله ويمدحه، ويخاطبه ويبرز ما في ضميره، ويظهر ما
في قلبه ودركه بتلك الجمل الشريفة الإلهية القرآنية.
وأيضا قد سبق أن أشرنا: إلى أن المخاطبة بمعناها الحرفي، وهو
إيجاد الخطاب إلى الغير يستتبع تصوير المخاطب، ولا يعقل خلاف ذلك،
لا في الشعر ولا في النثر، لا في النوم ولا في اليقظة، فجميع الخطابات
تستعقب المخاطبات المرسومة في النفوس.
فعند ذلك فهل تتعلق العبادة والاستعانة بذلك، أم تكون تلك الصورة
فانية في الخارج، ويؤخذ اسما وحاكيا ومرآة لما فيه، ومسلكا وسبيلا
56

وطريقا إليه من غير كونها منظورا فيه؟ فإذا صح أن نرسل عبادتنا بالواسطة
إلى الخارج، ويقع الخارج موردها حقيقة ومعبودنا واقعا، فتلك الواسطة
كما يمكن أن تكون الصور الوهمية والمفاهيم الذهنية الحاكية
الفانية، فهل يصح أن تكون غيرها، فيجوز رسمها في النفس حكاية من
الخارج ومن المعبود الحقيقي، أم لا يصح؟ وجهان.
والحق أن النفوس الضعيفة لا تتمكن من إمرار عملها إلى خارجها
وإلى محاكاتها في العين، أي تقصر عن الأخذ بها وسيلة وواسطة وفانية،
فلابد من منعها عنها. نعم إذا تمكنت نفس من هذه الرقيقة، بحيث يكون عنده
كلمة " الله " وصورة موجود خارجي واحدة في الاسمية، أو تكون الصورة
العينية أقوى من تلك الكلمة، فلا دليل شرعا على منعها، ولعل الأمر بجعل
أحد الأئمة نصب العين - كما قيل (1) - محمول على هذه المواقف، وناظر
إلى تلك الآحاد والأفراد، والمسألة مع ذلك كله عندي مشكلة جدا،
لاستيحاش الناس من مثله، والله هو المحيط.

1 - انظر الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السلام): 105.
57

الموعظة والأخلاق والنصيحة
اعلم يا أخا الحقيقة ويا قرة عيني العزيز: أنك إذا تأملت بعين الإنصاف
وحسن البصيرة، أن الذي تصدى لتربيتك والذي خلقك وأحسن خلقك،
وأرسل إليك الأسباب الباطنية والظاهرية، لإخراجك من الظلمات إلى
النور ومن الأدناس التخلق بأخلاقه، إنه هو الرحمن الرحيم بجميع
الخلائق والعوالم، وإنه رب العالمين، الغيب والشهود، وإنه مالك يوم
الدين في الدنيا والآخرة، وإن بيده كل شئ، وإليه يرجع كل شئ، وإنه
كل الكمال وكله الكمال، وكل الجمال وكله الجمال، ولا كمال ولا جمال
إلا كماله وجماله.
فعندما تيقنت بذلك، وبلغت إلى شهوده في تلك المراحل والمنازل،
فهلا تقول: إياك نعبد كذبا وافتراء، ولتكن في حذر من ذلك، فعليك الاجتهاد
والجد في الوصول إلى غاية المأمول لأصحاب العقول والإيقان،
ولأرباب الشهود والعرفان، وهو أن تقول: إياك نعبد خالصا، ولا شئ وراءه
في هذه العبادة والطاعة في جميع الحلقات المحيطة بها، ولا تخطر في
قلبك من أحد شيئا، ولا تخاف من غير العزيز الجبار، المنطوي في جبروته
58

مالكية غيره وقاهرية سواه، فبعد الإقرار والاعتراف بتلك الحقائق
والرقائق، وبعد الإذعان بأن رب السماوات العلى والأرضين السفلى، هو
الحميد الغني، وهو المالك وهو الرحمن الرحيم، فلا يجوز في شرع
الحقيقة والعرفان اشتراك الغير في عبادته بأي وجه كانت الشركة،
وهكذا الاستعانة بالغير، بل يرى في هذا الموقف أنه لا يتمكن الفقير من
إعانة الفقير، والممكن من إعانة الممكن.
فإذا وصل القارئ السالك إلى هذا المقام، وهو مقام الجمع بين
الغيب والشهود، ومقام الانس مع الرب الودود، فيترنم بقوله: * (إياك نعبد
وإياك نستعين) * حاصرا ذلك فيه، وإن لم يكن التقديم للحصر، ولكنه
يجب عليه إرادة الحصر وقصد الانحصار، بل العبد السالك الفاني عن
تعينات المادة وحدود الشهوات والمدة، لابد وأن يسعى في المقامات
الاخر الخاصة بالعارفين بالله، والكاملين في ذات الله، والمخلصين في
توحيد الله، وكل ذلك رشح من رشحات معرفته بالله في التوحيدات
الثلاثة، التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي، فإن التوحيد في العبادة
ظل هذه التوحيدات وصورة تلك الوحدات، وعليك بالتجريد والتفريد أولا
وبالشهود والعرفان ثانيا، حتى يتمكن العبد من توحيده في العبادة على
الوجه اللائق به، وإن حكي عن سيد البشر (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنت كما أثنيت على
نفسك، ما عبدناك حق عبوديتك، وما عرفناك حق معرفتك " (1).

1 - راجع مسند أحمد 1: 96 و 118 و 150، سنن ابن ماجة 2: 1263 / 3841، سنن
الترمذي 5: 187 / 3562 و 3563، بحار الأنوار 68: 23 / 1، مرآة العقول 8: 146 / 1.
59

فإذا وصلت إلى هذا المقام، يظهر لك أن للعبودية ظهورا في جميع
العوالم وفي مختلف نشأت العبد، من نشأة العقل والروح إلى القلب
والطبع، ومن رأسه إلى قدمه، وفي جميع حركاته وسكناته. ولعل إلى
بعض هذه الدرجات أشير في حديث عنوان البصري وقال " وهو أن لا يرى
العبد لنفسه فيما خوله الله ملكا، لأن العبيد لا يكون لهم ملك، بل يرون
المال مال الله يضعونه حيث أمر الله، وأن لا يدبر لنفسه تدبيرا، وأن يكون
جملة اشتغاله بما أمره الله تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه
فيما خوله الله تعالى ملكا، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق
فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه إلى مدبره، هان عليه مصائب الدنيا، وإذا
اشتغل العبد فيما أمره الله تعالى ونهاه، لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة
مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هان عليه الدنيا والرئاسة
والخلق، ولا يطلب الدنيا تفاخرا وتكاثرا، ولا يطلب ما عند الناس عزا
وعلوا، ولا يدع أيامه باطلا، فهذا أول درجة المتقين " (1) الحديث.
فبالجملة: أن يرى العبد نفسه وجميع العالمين من جميع الجهات،
فقراء إلى الله الغني عن الكل من كل الجهات، فإذا يوجه خطابه إلى
الذات، ويرى أن هذا الخطاب من الإمدادات الغيبية ومن التوفيقات
الإلهية ومن الإعانات الربانية، فعند ذلك كيف يرتضي بالتشريك في العبادة
وبالرياء والسمعة وغير ذلك من الأمراض النوعية القلبية؟! أعاذنا الله
تعالى من شرورها بمحمد وآله الطاهرين.

1 - بحار الأنوار 1: 224 - 225.
60

التفسير على اختلاف
المسالك والمشارب
فعلى المشرب الأخباري
* (إياك نعبد) * رغبة وتقرب إلى الله تعالى ذكره، وإخلاص له بالعمل
دون غيره، * (وإياك نستعين) * استزادة من توفيقه وعبادته واستدامة لما أنعم
عليه ونصره، هكذا عن " الفقيه " من " العلل " (1).
وعن بعضهم: " قال الله تعالى: قولوا أيها الخلق المنعم عليهم، إياك نعبد
أيها المنعم علينا، نطيعك مخلصين مع التذلل والخضوع بلا رياء ولا سمعة،
وإياك نستعين، منك نسأل المعونة على طاعتك لنؤديها كما أمرت، ونتقي من
دنيانا ما عنه نهيت " (2). الحديث.
وروي عن الحسن بن علي عن أبيه أمير المؤمنين (عليهما السلام) قال: " قال

1 - الفقيه 1: 203 - 204 / 12.
2 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 39.
61

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز وجل: قولوا: إياك نستعين على طاعتك
وعبادتك، وعلى دفع شرور أعدائك ورد مكائدهم، والمقام على ما
أمرت به " (1).
وعن العياشي: " إياك نعبد إخلاص العبادة، وإياك نستعين أفضل ما
طلب به العباد حوائجهم " (2).
وعن الصادق (عليه السلام): " يعني لا نريد منك غيرك، ولا نعبدك بالعوض
والبدل، كما يعبدك الجاهلون " (3).
وعن " العيون " مسندا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: " إذا قال العبد: * (إياك
نعبد) *، قال الله عز وجل: صدق عبدي إياي يعبد، أشهدكم لأثيبنه على عبادته
ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: * (وإياك نستعين) *، قال الله
عز وجل: بي استعان عبدي وإلي التجأ، أشهدكم لأعيننه على أمره ولأغيثنه يوم
شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه " (4).
وعن الكسائي تقديره: قالوا: * (إياك نعبد) *، أو قل يا محمد هذا (5).
انتهى.
وقريب منه: أنه تعالى قد أمرنا في هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه،
لأنه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغي أن يشاركه في العبادة سواه، ولا أن يعظم

1 - المصدر السابق: 41 / 18.
2 - راجع تفسير العياشي 1: 22 / 17.
3 - تفسير الصافي 1: 20.
4 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 301 / 59.
5 - مجمع البيان 1: 103.
62

تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا أن لا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة -
المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة - إلا منه فيما وراء
الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها، وأما فيها فنحن نحضر - مثلا - الدواء
لشفاء المرضى، ونجلب السلاح والكراع ونكثر الجند لغلب العدو،
ونضع في الأرض السماد ونرويها، ونقتلع منها الحشائش الضارة بالخصب
وتكثير الغلة، وفيما وراء ذلك مما حجبه الله عنا من الأسباب يجب أن
نفوض أمره إلى الله تعالى، فنستعين - حينئذ - به وحده، ونفزع إليه في
شفاء مريضنا، ونصرنا على عدونا، ودفع الموانع السماوية والأرضية عن
مزارعنا.
وعلى مسلك الفقيه
قولوا: * (إياك نعبد) *، ونريد عبادتك ولا نريد عبادة غيرك، وإن تكن
الإرادة لأجل الغير من الأمور الأخروية أو الدنيوية الراجحة، وفي تلك
العبادة نستعين بك، ولا نستعين بغيرك.
وقريب منه: * (إياك نعبد) * خالصا، ولا نريد غيرك، ولا داعي إلا أنت،
وأنت المستعان في كل الأمور، * (وإياك نستعين) * في جميع الأقوال والأفعال،
إلا ما أجاز ورخص * (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والذين
هم يراؤون ويمنعون الماعون) * (1)، فإن تعقيب الصلاة بالتحذير عن الرياء
ومنع المعاونة، شاهد على عدم اختصاص في البين، وبطلان الصلاة إذا

1 - الماعون (106): 4 - 7.
63

كانت بسائر الدواعي غير الإلهية، ولا يكون مفادهما الحصر الاصطلاحي
ولا الإضافي، بل التقديم للأهمية والاهتمام.
وقريب منه: أنه غير مصدر بالأمر بل ينشأ العبادة والتضرع وغيرها
ويبرزها له تعالى، ولا يكتفي بمجرد لقلقة اللسان الخالي عن المعاني
والأحوال.
وليس من قبيل قوله تعالى: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم
عند ربهم ربنا أبصرنا) * (1) أي يقولون: ربنا أبصرنا وغير ذلك مما يكثر في
الكتاب العزيز.
ففي الخبر المذكور عن " العيون " مسندا: " يقول الله بعد ما قرأ
الحمد: قد حمدني عبدي وذكرني " (2)، ولو كان يقرأ السورة حكاية وقراءة
كقراءة العوام الجاهلين بالمعنى كلا، فلا معنى لذلك التوصيف البليغ،
ولذلك اختار بعض فقهائنا أن الاحتياط في ترك الاقتصار على مجرد
الحكاية والقراءة.
وعلى مسلك الحكيم
* (إياك نعبد) * ولا يمكن أن نعبد ونخضع ونخشع لغيره، * (وإياك
نستعين) * ولا تقع الاستعانة من غيره إلا به عز وجل. وهذا من متفرعات
الاعتراف والإقرار بأن الحمد كله لله، فإذا كان هكذا فكيف تقع العبادة لغير

1 - السجدة (32): 12.
2 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 300 / 59.
64

الله مع أن العابد يعبد على ثنائه وكماله؟! وإذا اعترف وأقر بأن جميع
المحامد والكمالات له تعالى، فكيف يتمكن من الغفلة عن التوحيد
الأفعالي حتى تكون استعانته بغيره، فإذا كانت إعانة الغير بإمداد إلهي
وغيبي وإفاضة ربانية دائمية، فلا تقع الاستعانة من الغير إلا برجوعها إلى
الاستعانة بالله تبارك وتعالى.
وعلى مشرب العرفان
* (إياك نعبد) * مخاطبا إياه بكل جلوة وجاعلا كل شئ وجهة نظره،
فانيا فيه، بل لو استجلى قلبه بجلوة التوحيد الذاتي، وأن ليس في الدار
غيره ديار، فلا يتوسط بين المعبود الصوري والمعبود الحقيقي شئ حتى
نتوسل إلى وسيلة الإرجاع.
والأمر هنا صعب مستصعب لا يتمكن العارف من الصحو به، ولا من
السهو عنه، * (وإياك نستعين) * ولا تكون الاستعانة في كل موقف إلا به جل
وعلا، من غير حاجة إلى التوسيط وجعل الفيض وسطا، ولا إلى
التوحيد الأفعالي. والله العالم بحقائق الأمور.
وعلى مسلك المنصف الخبير البصير
أن كل آية قابلة لأن يشاهد السالك محبوبه فيها، ويعاين القارئ
العزيز مطلوبه عليها، فإذا كان من العوام ومن حولهم من سائر العقلاء
فيخاطب الله حسب ما يدرك ويفهم، وإذا بلغ إلى مرتبة العالمين بالله
65

بالعلوم الكلية القشرية، فيتجاوز عن حد الظلام، ويكسر جبل الأوهام،
فيخاطب الله على ما يدركه من الإحاطة القيومية، ومن السلطنة
الحقيقية، ومن الحضور بحضور فيضان ذاته، وإذا خلع جلباب البشرية
وأدرك الآية الشريفة * (هو الظاهر) *، وتوجه إلى مقامات العارفين
توجها خاصا لا يشار إليه ولا يرمز، فيحصل له أن الخطاب والمخاطب
والمخاطب تختلف ولا تتخلف، وأيضا يناجي ربه ويقول: * (إياك نعبد) *
بأنحاء العبادات القلبية والقالبية المعنوية والصورية، الباطنية
والظاهرية، السرية والخفية والإخفائية، فيراعي جانبها في جميع نشأت
وجوده، ويلاحظ أحكامها في شراشر مراتب حقيقته، فيضع جبهته على
التراب، وهذه عبادة الأبدان، ويجعل عليه صورته، وهذه عبادة الأعيان
البرزخية، ويخضع في قلبه بالتوجه التام، فهي عبادة رقيقة، ويخشع في
مقامه الروحاني بروحه التجردي، فهي عبادة العقل الجزئي، وهكذا إلى
أن لا يرى في عبادته العبادة ولا العابد، وهي عبادة الصديقين، الذين إذا
يؤخذ من رجلهم الشوكة، لا يحس ولا يدرك الوجع ولا الألم، وهو أمير
المؤمنين - عليه أفضل صلوات المصلين - فإذا قال: * (إياك نعبد) * مخلصا
وخالصا ومخلصا لا غيرك في سلسلة العلل الطولية، ولو كان فيهم
الواجب الوجود الآخر، الكامل في جميع الجهات، والجميل من كل
الحيثيات، فإنه لا يعبد إلا أنت وحدك، ولا يعبد من كان في سلسلة
المعاليل ولا ما كان فيها، ولو انتهى إلى نار الجحيم الشديد الأليم، فلا يعبد
في السلسلتين الفاعلية والغائية إلا أنت وحدك، وهذا هو مولى المتقين
الذي روي عنه: " ومنهم من يعبدك لما يجدك أهلا للعبادة، لا خوفا من النار،
66

ولا طمعا في الجنة " (1)، فإنه معناه: أن العبد يصل إلى مقام يعبدك ولو كان
يخلد في النار لأجل العبادة ولا يخاف عقابها، ولا يترك عبادتك ولو كان فيه
خلود الجنة، فلا يتبع هواها، بل يتبع هواك أفيضل ويشقى؟! كلا، إنها تسعى
إلى سدرة المنتهى، وتموت وتحيى وتعبد وتخشع وتذلل، حتى إلى ربها
الرجعي، فتخلد وتبقى بإذن الله الملك العلام العزيز ذي الانتقام. وأيضا
* (إياك نعبد) * بالعبادات الشرعية والعرفية والحقيقية، وبالعبادات
التنزيلية، ففي الخبر: " ما عبد الله عز وجل بشئ مثل البداء " (2) ونحوه كثير.

1 - نهج البلاغة، صبحي صالح: 702، حكمة 237، تحف العقول: 279 / 5.
2 - الكافي 1: 113 / 1، التوحيد: 332 / 1.
67

الناحية السابعة حول قوله تعالى
* (إهدنا الصراط المستقيم) *
69

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول معنى الهداية
هداه، يهديه، هدى وهديا وهداية وهدية - واوي - فهدى هو، أي
أرشده فاسترشد، ضد الضلال - لازم ومتعد - أو هي الرشاد والدلالة بلطف
إلى ما يوصل إلى المطلوب (1). وهي مؤنثة، وقد تذكر، كما في
" الصحاح " (2). وعن ابن جني، قال اللحياني: الهدى مذكر، قال: وقال
الكسائي: بعض بني أسد تؤنثه (3).
وفي الكتاب تارة استعملت لازمة: * (ويزيد الله الذين اهتدوا

1 - أقرب الموارد 2: 1380.
2 - الصحاح 4: 2533.
3 - لسان العرب 15: 353.
71

هدى) * (1)، وأخرى جاءت متعدية بمفعول واحد: * (فاهدوهم إلى صراط
الجحيم) * (2)، وثالثة إلى مفعول ثان: * (أولم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم
سبيلا) * (3)، وربما يتعدى بالحرف إلى ثالث: * (ويهديهم إليه صراطا
مستقيما) * (4).
وعن الجوهري: هداه الطريق، لغة الحجاز (5). قال ابن بري: فيعدى
إلى مفعولين (6).
والذي يظهر لي هنا أمران:
أحدهما: أن الهداية ليست في الاستعمالات إلا متعدية، ولا تجئ
لازمة، خلافا لما في كتب اللغة، لأن تلك الكتب قاصرة عن الاستدلال،
وما استدل به في " تاج العروس " من قوله تعالى: * (ويزيد الله) *، وفي
موضع آخر: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (7)، (8) غير مستقيم، لأن من
الممكن أن يجئ المصدر بمعنى اسم المصدر، أي كثيرا ما يطلق المصدر
ويراد منه المعنى الحاصل منه، المعروف باسم المصدر.

1 - مريم (19): 76.
2 - الصافات (37): 34.
3 - الأعراف (7): 148.
4 - النساء (4): 175.
5 - الصحاح 4: 2533.
6 - لسان العرب 15: 355.
7 - محمد (47): 17.
8 - تاج العروس 10: 406 - 407.
72

وأما قوله تعالى: * (أفمن يهدي إلى الحق) * (1)، فالمفعول هناك
محذوف، لأن النظر إلى المهدي إليه دون المهدي، وإلا فلا يعقل أن
يهدي الرجل إلى الحق إلا مع وجود المهدي.
وتوهم: أن المقصود معناه اللازم فاسد جدا، لما في ذيله: * (أحق أن
يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى) *. هذا، مع أن الالتزام بتعدد المعنى يستلزم تعدد
الوضع، وهو خلاف الأصل، فعلى هذا الهداية متعدية إلى المفعول الأول بنفسها.
ثانيهما: قد تقرر منا مرارا أن اللزوم والتعدية من طوارئ المعاني،
وليست من عوارض الألفاظ، فمجرد الإتيان بالمفعول الثاني بدون وساطة
الحروف، لا يكفي لكون اللفظ من المتعدي إلى المفعولين، ففي قولهم:
" هداه الله الطريق " حذف الجار، كما هو كثير في الاستعمالات والأساليب
* (وجاؤوا أباهم عشاء يبكون) * (2) والضرورة قاضية بأن المجئ لازم،
فقوله تعالى: * (يهديك صراطا مستقيما) * (3) محمول على تعدية الهداية
بغير اللام و " إلى "، لأن معناه: أنه تعالى يهديهم إلى فضله ورحمته، أو
إلى نفسه وذاته بالصراط المستقيم.
ومن الممكن أن يقال: إن قوله: * (صراطا مستقيما) * بدل أو عطف
بيان، أي يهديهم إليه بهدايتهم إلى الصراط المستقيم، والله العالم.
ثم إن المعروف تقسيم الهداية إلى الهداية بمعنى إراءة الطريق،

1 - يونس (10): 35.
2 - يوسف (12): 16.
3 - الفتح (48): 2.
73

والهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب، ولكنه ليس من قبيل المعنيين
للفظ الواحد، بل هذا تقسيم للمعنى الواحد، ولذلك ينقسم الهداية إلى
أكثر من هذا.
قال الراغب: " هداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه " (1)،
ولكنك ستطلع في أثناء المباحث الآتية على أن هداية الله تعالى غير
متناهية الأقسام، فليتدبر جيدا.
المسألة الثانية
حول الهداية إلى الخير
الهداية هي الدلالة بلطف والتدليل بلين، وليس مطلق إراءة
الطريق، بل الظاهر أن الهداية هي إراءة الطريق إلى الخير والنعم، دون
الشر والنقم، فإذا قيل: * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) *، فيحمل على
الاستهزاء والتهكم، كما في قوله تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (2)، وفي
قوله: * (وظل من يحموم) * (3)، (4).

1 - المفردات في غريب القرآن: 538.
2 - لقمان (31): 7.
3 - الواقعة (56): 43.
4 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 9، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 98، روح
المعاني 1: 86، المفردات في غريب القرآن: 538.
74

أقول: وفي كليهما نظر:
أما في الأول: فلخلو كتب اللغة عن القيد المزبور، ولا يوجد فيها إلا
تفسير الهداية بالإرشاد والدلالة، وأما لزوم كونها مقرونة باللطف،
ومشفوعة بالتدلي والتطول، فهو مسكوت عنه. نعم في " تاج العروس " (1)
فسر كلام " القاموس " (2) بذلك، وعلى الباحث النظر والتأمل فيه، وكأنه
خارج عن اللغة، ولا يساعد عليه التبادر، ولا موارد الاستعمال.
وأما في الثاني: فلأن كتب اللغة مشحونة في تفسيرها بأنها الإرشاد
إلى السبيل والطريق، ولا يستفاد منها كون حقيقة الهداية هي الإراءة
إلى الخيرات والحسنات. نعم في الاستعمالات الشرعية وفي الأساليب
يكثر ذلك إلا أنه لا يبلغ بعد إلى حد مهجورية المعنى الحقيقي واكتساء
المعنى الآخر، ولذلك قيل: الهداية في الاستعمال الشرعي الدلالة إلى
الحق والدعاء إليه وإراءة طريقه والإرشاد إليه والأمر به.
وأما توهم: أن بعضا منها فسر بالإرشاد والاسترشاد، قائلا: إنها ضد
الضلال، وهو ظاهر في أنها موضوعة للمعنى الأخص، فهو في غير محله،
لأن الإرشاد أيضا ليس معناه إلا الدلالة، وضدية الضلال ليست تستلزم
كونها موضوعة للإرشاد إلى الخير الواقعي والحسنات، فلو سأل
السارق عن البيت الذي يريد أن يسرق منه، فأشير إليه، يقال: هداه،
وهي ضد الضلال، وضلاله هنا أن يشير إلى غير ذلك البيت، ولذلك ورد

1 - تاج العروس 10: 406.
2 - القاموس المحيط 4: 405.
75

تقييد الهداية في الأدعية والكتاب الإلهي - عند السؤال عنها - بالصراط
المستقيم، فعلى هذا لا وجه لما قيل: إن قوله تعالى: * (فاهدوهم إلى صراط
الجحيم) * (1) تهكم واستهزاء، لأنه خلاف الأصل.
تذنيب: حول باقي المعاني المذكورة للهداية
ربما يتخيل: أن الهداية من معانيها اللزوم والتوفيق، توهما أن ذلك
مفاد بعض الأخبار (2)، غافلين عن أن تلك الأخبار ليست بصدد توضيح
المعاني الكنائية، كما يأتي تحقيقه. وأيضا أن الهداية هي الميل
والتمايل * (إنا هدنا إليك) * (3)، أي ملنا، وفي الحديث: " خرج (عليه السلام) في
مرضه يتهادى بين اثنين " (4)، أي يتمايل، ومنه " الهدية "، أي تمال من ملك
إلى ملك، ومنه " الهدي " للحيوان الذي يساق إلى الحرم.
وعلى هذا إن قلنا: إن هذا المعنى الدلالة والرشاد واحد وله في
الهداية تمايل إلى المهدي إليه فهو، وإلا فربما يمكن اختلاف الآيات من
تلك الجهة، أي كما يمكن أن يكون * (إهدنا الصراط المستقيم) * طلب
الرشاد والدلالة، يمكن أن يراد منه طلب الإمالة إلى الصراط
المستقيم.

1 - الصافات (37): 24.
2 - هذا التخيل مذكور في مجمع البيان وآلاء الرحمن في ذيل الآية.
3 - الأعراف (7): 156.
4 - الجامع لأحكام القرآن 1: 147.
76

وغير خفي: إن " هدى " الثلاثي ليست بمعنى الإمالة، وما هو بمعنى
الإمالة والتمايل هي " هادي " على وزن فاعل.
نعم، ربما يمكن أن يستخرج هذا المعنى من الثلاثي، بدعوى: أن
هيئات المزيد عليه ليست تغير معاني المادة، للزوم كون الوضع مشخصا
لتلك الهيئة والمادة، مع أن وزنها نوعي، كما تحرر في الأصول (1).
وأما " هدى هداء العروس إلى بعلها " بمعنى زفها، فهو أيضا بمعنى
الرشاد والدلالة، ولكنه يكنى بها عن الزفاف، قضاء لحق رجوع كثير من
معاني اللغات إلى معنى واحد ومفهوم فارد.
المسألة الثالثة
حول معنى " الصراط "
الصراط: هو السبيل والطريق. وحكى النقاش: أنه بمعنى الطريق
بلغة الروم (2).
ويمكن أن يقال: إن " السراط " عربي، لأنه من " سرط "، و " الصراط "
غير عربي، لأنه لا يوجد منه فعل، فلاحظ.
وقد اشتهر: أن كل كلمة اشتملت على الراء والطاء والظاء إلى
سبعة أحرف، يجوز فيه الصاد والسين، أي إذا كان أصله الصاد، فيصح

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 110 - 361.
2 - الجامع لأحكام القرآن 1: 147.
77

أن يقرأ بالسين، وفي كون ذلك قانونا كليا إشكال، بل لابد وأن يكون متخذا عن
موارد الاستعمال، وإذا كان السراط بمعنى الصراط فيجوز، وإلا فلا، ولقد
صرح في كتب اللغة بذلك، وأن السراط هو الصراط، وهكذا بالنسبة إلى
الزراط والزراد، وهذه الكلمات كثيرة، ومنها الازدراد، فإنها - حسب
الحروف المختلفة المتقاربة في المخارج - جاءت بمعنى واحد، وهو
الابتلاع، كالاضطراد والازدراط... وهكذا، ومثل البزاق والبذاق والبصاق
والبساق، ومثل الملاذ والملاز، وكان جماعة - كبني القين - يقولون:
أصدق وازدق، والأزد والأسد، ولسق به ولصق به... وهكذا.
وأما جواز تبديل الحرف كلا، فهو محل المنع، ومن الممكن أن
تقارب المخارج أوقع اللغويين في هذا الاشتباه.
ثم إن تفسير الصراط في كتب الأحاديث والأخبار بغير السبيل
والطريق، فهو على التأويل والادعاء، أو على أن الموضوع له عام كما
أفاده أرباب العرفان، ولقد فرغنا عن عدم تمامية ذلك في أفق اللغة والأدب
من غير حاجة إليه، لما تحرر منا في محله من: عدم لزوم المجازية
في تفسير الصراط بغير معناه اللغوي، لأن الادعاء والملاعبة في المعاني،
لا تورث استعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما يأتي تفصيله.
فإذا ورد في الروايات: أن الصراط هو دين الله، أو الولاية، أو
الأئمة المعصومين - عليهم صلوات الله المصلين - أو هو علي (عليه السلام)، أو هو
القائم منهم - عجل الله تعالى فرجه الشريف وسهل مخرجه المنيف (1) -

1 - راجع معاني الأخبار: 32 - 36، وتفسير البرهان 1: 50 - 52.
78

فهو من التأويل الذي لا يعرفه إلا من خوطب به، وليس مفادها قصر المعنى
في ذلك، بل مفادها أن ما هو بالحمل الشائع صراط إلى الله هو كذا وكذا.
وأما تفسيره بالجسر الممدود على الجحيم - كما في " القاموس " (1)
وغيره - فهو غلط، لأنه ليس معنى آخر وراء السبيل والطريق، فلا يكون
الصراط ذا وضعين: معنوي وشرعي، كما توهم.
ثم إن المعروف والمشهور عنهم: أن أصل الصراط هو السراط، وهو
بمعنى اللقم والبلع، وكأنه يبتلع صاحبه أو كأن صاحبه يبلعه (2). انتهى.
وهل هذا إلا الجزاف؟! وما الداعي إلى هذا الانحراف عن الجادة
السوية والصراط المستقيم؟! بل كل واحد - لغة - بمعنى واحد، من غير
كون أحدهما الأصل والآخر فرعا، وكأنهم غفلوا عما تقرر منا في الأصول في
كيفية حصول اللغات المترادفة (3)، مع أن التوجه إليها يعطي أن اختلاف
تلك الحروف والكلمات لاختلاف القرى والقصبات، وبعد التمدن
والاجتماع والتعايش المدني والاختلاط، تبادلت اللغات، فتوهم: أن في
لغات كثيرة بمعنى واحد، مع أن الأمر ليس كما تخيلوه بالضرورة والوجدان.
تذنيب
اختلفوا في أن الهداية هي إراءة الطريق، أو هي الإيصال إلى

1 - القاموس المحيط: 871.
2 - روح المعاني 1: 86.
3 - تحريرات في الأصول 1: 357.
79

المطلوب أو هي الإراءة الموصلة، أو ما كانت تتعدى بنفسها إلى المفعول
الثاني فهي الإيصال، وإن تعدت إليه باللام أو ب‍ " إلى " كانت بمعنى الإراءة،
وقد أشير فيما سبق، أن حقيقة الهداية ليست إلا الدلالة والإرشاد، وإن
كان بينهما فرق يخرجهما من الترادف، ولكن المقصود هو الإيماء إلى أن
الأقوال المذكورة ساقطة والاختلاف المزبور غير صحيح، لأن كل ذلك من
الإرشاد، إلا أن مصاديق الإرشاد مختلفة لا مفهومه، ومصاديق الهداية
متفاوتة لا مفهومها، فهذا التشتت ليس في أمر لغوي، بل هو لابد وأن
يكون في معنى آخر وجهة أخرى خارجة عن مبحوثنا الفعلي، فما ترى في
بعض كتب التفسير من توهم الأصالة لهذا النزاع والتشاح، محمول على
الغفلة عن حقيقة الحال.
وما يؤيد بل يدل على ما سلكناه في هذا المضمار من أعمية معنى
الهداية، قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على
الهدى) * (1).
ومما يشهد على أن الهداية بمعنى واحد - سواء تعدت باللام أو بغيره
أو بنفسها - لزوم تعدد الوضع، وهو خلاف الارتكاز والوجدان، مع أنك أحطت
خبرا فيما سلف بأن التعدية بنفسها إلى الثاني لا معنى لها، فليتدبر جيدا.

1 - فصلت (41): 17.
80

القراءة واختلافها
1 - لا شبهة في جواز إظهار الهمزة وإسقاطها في الكلام بوصل
الجملة إلى الجملة السابقة، لأنها همزة الوصل، وإذا أظهرها
يكسرها، لأنه الأمر على وزن اضرب، فيقول: * (إهدنا) *، وفي جواز إظهارها
- بعدما أظهر إعراب النون من قوله: * (نستعين) * - وعدمه وجهان،
المعروف هو الثاني.
2 - الظاهر عدم جواز إظهار الياء، وأما إمالة الكسرة إلى جانب
الياء فهو غير بعيد جوازه، ولم يظهر لي بعد تعرضهم لذلك ولو كان إظهارها
غير مناف لآداب العربية بعد ما لم يكن مضرا بالمقصود، فجوازه قريب، إلا
أن ما تعارف من القراءة هو المتواتر منها وجواز العدول عنه إلى غيره
يحتاج إلى الدليل، لأنه معناه الخروج عن التنزيل والوحي.
3 - والجمهور على قراءة " الصراط " بالصاد، وهي لغة قريش (1).

1 - راجع في هذه الأقوال واختلاف القراءات إلى البحر المحيط 1: 25، وروح
المعاني 1: 86.
81

4 - وعن ابن كثير عن يعقوب قراءته بالسين.
5 - وعن حمزة إشمام الصاد زاء.
6 - وروي عن أبي عمرو: أنه قرأ " إهدنا الزراط المستقيم " بالزاء
الخالصة.
7 - وقيل: روى الكسائي عن حمزة بالزاء، وسائر الرواة رووا عن أبي
عمرو " الصراط " وقال ابن مجاهد، قرأ ابن كثير بالصاد، واختلف عنه، وقيل:
قرأ يعقوب الحضرمي بالسين، هكذا في " اللسان " (1).
وفي العباب: وقرأ حمزة بن حبيب في رواية الفراء عنه، وعن
الكسائي في رواية ابن ذكوان عنه، وعن عاصم في رواية مجالد بن سعيد
عنه: * (إهدنا) * بالزاء الخالصة الصافية من غير إشمام.
فعلى هذا يلزم - حسب مذهب بعض فقهائنا - جواز كل هذه القراءات،
لعدم الاحتياج إلى التواتر في جوازها، ويكفي عدم الإخلال بالمعنى مع
الموافقة للقواعد لجوازها.
وأنت قد عرفت سابقا ممنوعية التجاوز عما في أيدينا، وإلا يلزم جواز
تبديل " الصراط " بالسبيل والطريق، لأن قراءة كل أحد إذا كانت كافية
لكانت قراءتنا أيضا كافية، فتبديل الصراط بالسراط كتبديله بالسبيل حسب
ما تحرر.
7 - في جواز الوقف على * (إهدنا) * بإظهار همزة " الصراط " وعدمه،

1 - راجع لسان العرب 7: 340.
82

وهكذا إظهار همزة " ألمستقيم " وعدمه، وجهان، بل قولان من: أنه خروج
عن المتعارف في القراءات ولحن عرفا، ومن أنه لا يضر بالمعنى، وليس من
موارد الممنوعية وقفا.
وهنا ثالث الأقوال وهو: أنه لا يجوز ذلك ابتداء، فيقرأ هكذا: " إهدنا -
الصراط - ألمستقيم "، ولكنه إذا فرغ من القراءة ثم توجه إلى أنه أخل
بحرف في الكلمة الأخيرة، فيجوز له أن يعيدها من غير إعادة الموصوف،
أو احتمل الإخلال بالموصوف، فأعاده مع وصفه من غير إعادة الجملة
السابقة، وهي * (إهدنا) *.
بل جاء في بعض المتون الفقهية: إذا انقطع نفسه في مثل * (الصراط
المستقيم) * بعد الوصل بالألف واللام وحذف الألف، هل يجب إعادة الألف
واللام، بأن يقول: " ألمستقيم "، أو يكفي قوله: مستقيم؟ الأحوط الأول،
وأحوط منه إعادة " الصراط " أيضا، وكذا إذا صار مدخول الألف واللام غلطا،
كأن صار " مستقيم " غلطا، فإذا أراد أن يعيده فالأحوط أن يعيد الألف واللام
أيضا، بأن يقوله: " ألمستقيم "، ولا يكفي قوله: " مستقيم " (1). انتهى.
8 - حكي عن زيد بن علي والحسن والضحاك قراءته هكذا: " إهدنا
صراطا مستقيما ".
9 - ونسب إلى الصادق (عليه السلام) " صراط المستقيم " بالإضافة (2).
وفي النسبة تأمل جدا، بل ممنوع قطعا، ومجرد كونه في بعض

1 - راجع العروة الوثقى 1: 502.
2 - البحر المحيط 1: 27، روح المعاني 1: 88.
83

الأخبار غير كاف لصحتها، فكم من خبر سقيم نسب إلى أهل بيت
النبوة (عليهم السلام) ظنا أن ذلك إسقاط لحقهم وحط لقدرهم. والله وليهم الحق.
10 - وعن ثابت النباتي: " بصرنا الصراط "، هكذا حكاه أبو حيان (1)،
ولعله خلط بين تفسير " إهدنا " والقراءة. والله العالم.

1 - البحر المحيط 1: 27.
84

النحو والإعراب
اعلم أن الآية الشريفة تدل على جواز حذف حرف الجر، ضرورة
أن " الصراط المستقيم " مفعول مع الواسطة، وليس هو المفعول الثاني،
لأن ميزان المفعول الثاني عن المفعول مع الواسطة، جواز حمل الثاني
على الأول، كقولهم: علم زيد عمرا جالسا، فإن الجالس يحمل على عمرو،
بخلاف " الصراط المستقيم "، فإنه لا يحمل على الضمير وإن كان بارزا، أو
كان هو الاسم الظاهر، فما يظهر من أرباب الأدب والتفسير خال عن
التحصيل، كما أشير إليه، ومر تفصيله.
ثم إن " إهدنا " في موضع رفع ونصب وجر، وضميره المتصل في موضع
النصب، لأنه المفعول الأول، والمراد من قول أبي حيان: إنه في المواضع
الثلاثة (1)، أي إنه تابع للجملة السابقة، وقد مر: أن * (مالك يوم الدين) *،
يجوز أن يقرأ على ثلاثة أوجه، وهكذا السابقة عليها.
وإني بعد لم يظهر لي معنى كون مثلها في موضع الإعراب، بل التحقيق

1 - البحر المحيط 1: 25.
85

أن الإعراب من أحوال الكلمات بما هي واقعة في الجمل التصديقية،
وليست الجمل ذات إعراب، ولا في وضع ذوات الإعراب، سواء كانت مسبوقة
بالجمل أو غير مسبوقة، وسواء كانت مرتبطة بالجملة الأولى أو غير مرتبطة.
نعم الجمل الناقصة الواقعة صفة أو غيرها تقع في موضع
الإعراب، فما أفاده القوم وبينه ابن هشام - في الباب الثاني وغيره من
الأبواب - حول موضع إعراب الجمل (1)، خال عن التحقيق.
ومما يؤيد ما ذكرناه: أنهم قالوا في تفسير علم النحو: إنه العلم بأواخر
الكلمات إعرابا وبناء، مقابل الصرف، فإنه العلم بها صحة واعتلالا.
مسألة: حول تذكير الصراط
حكي عن أهل الحجاز: أنهم يؤنثون الصراط، كالطريق والسبيل
والزقاق والسوق، وبنو تميم يذكرون (2) هذا كله. وقيل: تذكيره هو الأكثر (3)،
فهل الآية الشريفة تدل على أن الصراط مذكر لتوصيفه بالمستقيم، أم هي
لا تدل عليه، لأجل إمكان كون التذكير لمراعاة القافية والسجع، ولو لم
يجز ذلك مراعاة لها فهو في التأنيث الحقيقي دون مثله؟
أقول: الظاهر أن النسبة المزبورة غير صحيحة، لأن الكتاب
العزيز - مع اشتماله على الصراط كثيرا - لا يوجد حتى في مورد تعامل

1 - راجع مغني اللبيب: 210 - 220.
2 - تفسير التبيان 1: 42.
3 - راجع البحر المحيط 1: 25.
86

معه معاملة المؤنث. فبالجملة: يستفاد من هذه الآية وأمثالها أنه مذكر،
وأنه في منطقة الوحي والتنزيل كان يذكر، فلا تخلط.
تنبيه: حول وزن الآية
قوله: * (إهدنا الصراط المستقيم) * من صاحبات الأوزان والبحور،
ويجوز أخذه مصراعا لبيت. ومن العجيب أنه يقرأ على كيفيتين: إحداهما
صاحبة الوزن، والأخرى ليست كذلك، وقد اشتهرت القصيدة السحرية
ذات الوضعين والبحرين، باختلاف القراءتين، أي باختلاف كيفية أداء
الحروف وكيفية الحركات والسكنات، فليتدبر حتى تعرف المقصود،
وتلتفت إلى المأمول.
إيقاظ: حول منتهى الصراط
طلب الهداية إلى الصراط المستقيم من الكناية إلى أنه يريد
طلب الخيرات والسعادات بهدايته إلى طريقها المستقيم وإلا فليس النظر
مقصورا في الهداية إلى نفس الصراط المستقيم. فهناك محذوف، وهو
متعلق بالصراط المستقيم، أي اهدنا الصراط المستقيم الذي هو إلى
السعادة المطلقة، وإلى الكمال والجمال المطلق، وإلى الحسنات
والخيرات الدنيوية والأخروية الكلية والجزئية.
وسيأتي في بعض المباحث الآتية احتمال كون السعادة نفس ذلك الصراط
المستقيم والعدالة المتوسطة بين الإفراط والتفريط، ولا شئ وراءه.
87

أصول الفقه
قد اشتهر: أن هيئات الأمر تأتي لمعان كثيرة: الطلب، والطلب
الوجوبي، أو الندبي، والاستهزاء، والتعجيز، والاستدعاء، والإلحاح، ونحو
ذلك مما فصلناه في موسوعتنا الأصولية (1).
ومما يشهد عليه: أن الهيئة الداعية نحو الصلاة في قوله تعالى:
* (أقم الصلاة) * (2) مثلا، لا يعقل أن تكون كالهيئة الداعية نحو الهداية إلى
الصراط المستقيم، فإن الأول أمر من العالي المستعلي، والثاني استدعاء
وإلحاح من الفقير العاجز الداني، فكيف يمكن إرجاع تلك المعاني
المختلفة إلى المعنى الواحد؟! وكيف يمكن تصوير الجامع الواحد بين
تلك الهيئات المتشتتة في المعاني؟! ولعل لأجل ذلك أمرنا بقراءة
الفاتحة في الصلاة من غير إنشاء المعنى فيها، للزوم الخروج عن مأدبة
الأدب والاستدعاء.

1 - راجع تحريرات في الأصول 2: 77.
2 - هود (11): 114، الإسراء (17): 78، لقمان (31): 17.
88

أقول: أما اعتبار العلو والاستعلاء في الأمر فهو غير صحيح، لا في
مادته ولا في هيئته، لا هما مجموعا، ولا الاستعلاء أو العلو، ولا على سبيل
الخلو، وقد تحرر منا إنكار ذلك، ولا سيما في الهيئة، وقد كشفنا نقاب
الشبهة عن هذه المشكلة بذكر الشواهد والقرائن (1).
وأما المعاني التي ذكرناها وذكروها لهيئة الأمر، فهي ليست معانيها
الموضوع لها الهيئة، بل الهيئة في عالم الاعتبار، أقيمت مقام التحريك
التكويني في الخارج نحو الشئ، مع سكوتها عن سائر الخصوصيات
الموجودة في نفس المحرك حال التحريك، فكما إذا أراد الإنسان شيئا من
الأصم، يأخذه فيحركه نحو مريدا بذلك إغراءه وبعثه، كذلك بالهيئة يصنع
ذلك في الاعتبار وعالم الوضع والألفاظ. وأما سائر المعاني الاخر
الموجودة في النفس، فهي الدواعي المختلفة المستدعية لذلك
التحريك ومن العلل السابقة عليه، من غير كون الهيئة موضوعة لها،
مثلا: إذا كان يريد تعجيز المخاطب، يبعثه ويحركه نحو الإتيان بسورة من
مثله، قاصدا بذلك التحريك تعجيزه، لا أن الهيئة موضوعة للتعجيز،
وهكذا، فقولنا: " إهدنا "، أمر وتحريك، ولكنه من الفقير العاجز بداعي
توجيه المخاطب وتلطيفه، فافهم واغتنم.
إيقاظ علمي: حول طلب الهداية
اعلم أن المحرر في الأصول لدينا: أن الهيئة موضوعة للتحريك

1 - راجع تحريرات في الأصول 2: 11.
89

الاعتباري (1)، فليس التحريك والبعث من الدواعي، بل الدواعي تكون
خارجة عن الموضوع له، فإذا قال: * (إهدنا الصراط المستقيم) * فهو
بالنسبة إلى حدوث الهداية وإحداثها بعث، وأما بالنسبة إلى إدامة
الهداية وإبقائها فلا يكون بعثا، بل هو من الدواعي، كداعي التعجيز إذا بعث
بقوله: * (فأتوا بسورة من مثله) * (2) إلى الإتيان بها، فإنه بعث إلى المادة
بداعي التعجيز، ولا يكون هذا البعث واقعيا، أي موافقا للجد، وإلا فهو موافق
للاستعمال، أي للإرادة الاستعمالية، ولا يلزم المجازية.
فعلى هذا لا يلزم أن يكتفي القارئ - في طلب الهداية - أن يبعث
مولاه إلى إحداثها أو إدامتها، فإذا كان من الضالين والمضلين فطلب
الهداية حقيقي، وإذا كان من المهتدين فطلبها بالنسبة إلى المرتبة
الموجودة له غير حقيقي، ويكون بداعي إبقائها.
بل له أن يلاحظ الأمرين: أصل الهداية وكمالها، فيطلب ويبعث مولاه
نحو أصل الهداية من الضلالة ونحو إبقائها، من غير لزوم كون الهيئة
مستعملة في الأكثر من واحد.
وربما يمكن توهم امتناع ذلك، لأنه لا معنى لاعتبار البقاء والدوام إلا
بعد حدوثها، فلابد وأن تحدث الهداية أولا ولو إنشاء، ثم يعتبر بقائها. ولكنه
مغبون عند التحقيق، لأن الاعتبار خفيف المؤونة، فلاحظ وتدبر جيدا.

1 - راجع تحريرات في الأصول 2: 77 وما بعدها.
2 - البقرة (2): 23.
90

المعاني والبلاغة
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول طلب الهداية من الأفراد المختلفة
لابد من الالتزام بالمجازية في طلب الهداية، لأنها هي الحاصلة إن
كانت هو الإسلام والإيمان، ولا أقل من الالتزام باختلاف المستعملين، فمن
يريد بها الهداية إلى سائر الأمور لكونها في الضلالة، فهي حقيقة، ومن
كان مثل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمثاله كالأئمة المعصومين - عليهم
صلوات المصلين - ويدعو بها فيقول: * (إهدنا الصراط المستقيم) *، فهي مجاز،
لأن معناه هو الاستدعاء للبقاء على الهداية الموجودة وملازمتها، ولعل
لأجله ورد عن الصادق (عليه السلام) في المعاني والتفسير: " أي أرشدنا للزوم
الطريق المؤدي إلى محبتك " (1)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أي أدم لنا

1 - التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 44 / 20، معاني الأخبار: 33 / 4.
91

توفيقك " (1) وإلى ذلك يرجع كلمات جل أرباب التفسير، غافلين عن حقيقة
الأمر الآتية من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
أقول: قد عرفت منا أن الهيئة ليست إلا للتحريك الاعتباري، ولا
تدل على معنى اسمي كلي بالوضع، بل هي نقشة التكوين وخريطة
الخارج، فإذا قال العبد: " إهدنا "، فهو بعث المولى إلى الهداية، وإذا كانت
الهداية المبعوث إليها هي هداية الجمع، فيكفي للخروج عن
المجازية كون طائفة من المجتمع في الضلالة، سواء كانت في الضلالة
عن الإسلام والدين، أو الإيمان ومظاهره، أو سائر أنحاء الضلالات الآتية
بتفصيل إن شاء الله تعالى.
ولعل ذلك كان لأجل الإيماء إلى أن في الدعاء لابد وأن يلاحظ حال
المضلين والضالين والمغضوب عليهم، لأنهم أحوج إلى الدعاء من غيره،
كما في الحديث: " فالناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في
الخلق " (2) فمقتضى كونك مظهر الرحمة الرحيمية والرحمانية أن تدعو
للكل وتهتم بجميع الخلق.
وقد يقال: إن كل أحد - من الصدر إلى الذيل - في نحو من
الضلالة، كما يأتي تحقيقه، فيكون الدعاء على الحقيقة بالنسبة إلى
جميع الآحاد والأفراد (3).

1 - نفس المصدر.
2 - نهج البلاغة: كتاب 53.
3 - التفسير الكبير 1: 255 - 256، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 93.
92

وأيضا إن الهيئة بعث نحو المادة ومتعلقها، والبعث نحو الهداية
كما يمكن أن يكون بداعي إيجادها، يمكن أن يكون بداعي إبقائها وإدامتها وأن
يكون بداعي اشتدادها وتقويها، فإذا كان العبد الضال يدعوه لها، فهو ظاهر
في أن ذلك بداعي إحداثها، وإذا كان الهادي يقول: " إهدنا "، فهو مثل قولك
لمن هو مشغول بالأكل: " كل "، فإنه ليس مجازا، بل بداعي الاستدامة، أو
للقارئ: " اقرأ "، أو للماشي: " امش "، وهكذا، من غير كون الهيئة ذات
وضعين مستقلين، كما لا يخفى.
فبالجملة: الهداية بما هي من الطبائع متعلق الأمر، وبما أنها من
حيث هي هي ليست مقصودة بالذات، فتكون الهيئة ذات داع اقتضى تعلقها
بها حسب ما تقرر في الأصول من: أن الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد (1)،
وإذا كان الداعي مثل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فالهيئة استعملت في البعث نحوها، إلا
أن ذلك باعتبار الاشتداد في الهداية الموجودة، وغير خفي أن الاشتداد في
الكمالات اللائقة به (صلى الله عليه وآله وسلم) عين الاشتداد في الهداية، كما يأتي في
البحوث الآتية.
وقد تعرض بعض الكتب التفسيرية للجواب عن هذه الشبهة بما
لا يرجع إلى محصل، مثل: أن المقصود هو الالتجاء والدعاء، دون الطلب
الواقعي (2)، وكأنهم ظنوا أنه في هذه الصورة تكون الهيئة مهملة وغير
مستعملة، أو مستعملة طبعا في معناها الواقعي من غير استشعار، وهذا

1 - راجع كفاية الأصول: 138، وتحريرات في الأصول 2: 225.
2 - راجع تفسير التبيان 1: 41.
93

واضح المنع، بل الهيئات في جميع تلك المواقف - حتى في مواقف
الاستهزاء والهزل - تستعمل في معانيها الواقعية، بل وفي الأوامر العذرية
والامتحانية، حسب ما تقرر في أصولنا (1)، فراجع.
فعلى هذا تكون الروايات المشار إليها - على فرض صحة إسنادها -
في مقام إفادة المعاني الكنائية، والإيماء إلى الدواعي الخارجة عن
حدود الاستعمالات اللغوية، من غير كونها تفسيرا للمعاني اللغوية، بل
ليست الأحاديث شأنها ذلك، كما هو واضح.
المسألة الثانية
استعمال الصراط في الطرق المعنوية
حسب ما تحرر وأشير إليه إن الصراط بمعنى الطريق والسبيل
والجادة، والظاهر من كتب اللغة هي الجادة الخارجية الموجودة بين
البلاد والقصبات وبين الشوارع والبيوت، فاستعماله في الطرق
المعنوية والسبل الروحية من المجاز، كما يتخيل في أمثال المقام،
ولأجل الفرار عن المجازية، أو لأجل بعض الأمور الأخر، اشتهر بين أرباب
العلوم الروحية والعرفانية: أن الألفاظ موضوعة للمعاني العامة، ولا
تكون مقصورة على المعاني الخاصة.
وأنت - فيما سبق منا - أحطت خبرا: بأن هذه المقالة خارجة عن

1 - تحريرات في الأصول 2: 77 وما بعدها.
94

حدود وضع اللغات والألفاظ، ولا ينبغي لهم التدخل فيها، لأنه يورث
الضلالة، ويستتبع الغي عن سبيل الحق، ضرورة أن الألفاظ في حدود
الوضع تابعة لمقدار حدود إرادة الواضع أو المستعملين العرفيين فيما إذا
كان الوضع يحصل بالاستعمال.
نعم لا يلزم على هذا المجاز اللغوي المشهور بين أبناء الأدب، من
كون اللفظ مستعملا في غير المعنى الموضوع له، بل الحق أن الألفاظ في
جميع المجازات تستعمل في معانيها اللغوية حسب الإرادة الاستعمالية،
وإنما تختلف الدواعي والمرادات الجدية: فتارة يريد المولى من اللفظ
بالإرادة الجدية نفس المراد بالإرادة الاستعمالية، وأخرى لا يكون الأمر
كذلك، بل يريد انتقال المخاطب والسامع إلى المعنى المقصود بالذات،
فإذا قيل: فاسألوا القرية فلا يكون هناك استعمال أو ربط مجازي بحسب الإرادة
الاستعمالية، وإن كان المراد الحقيقي أمرا آخر.
وهناك في الكلمات البليغة وأشعار البلغاء والأدباء - وفي خصوص
الاستعمالات القرآنية - وجه آخر وهو: الحقيقة الادعائية، بمعنى أن
المتكلم يتخيل المعاني والحقائق العرفانية العقلية ذات الأبعاد، ويتخيل
بين الإنسان وتلك الروحانيات الجواد والطرق، فيدعي أنه السبيل،
فيستعمل فيه الصراط، فلا يكون مجازا رأسا، أي استعمل اللفظ فيما هو
الموضوع له، بدعوى: أن هذا من الموضوع له، أي من مصاديق ذلك
الكلي. وغير خفي أن استعمال اللفظ الموضوع للكلي في الفرد الخاص
منه - ولو كان فردا حقيقيا - مجاز، بل اللفظ يستعمل في الكلي، وهو ينطبق
عليه طبعا، فلا تخلط.
95

المسألة الثالثة
حول عدم ذكر متعلق الآية
قد سبق أن ذكرنا حذف جملة متعلقة بقوله: * (إهدنا الصراط
المستقيم) *، لأن المقصود ليس الهداية إلى الصراط وهو الطريق، بل
المأمول وغاية المؤول هو النيل بذي الطريق والسبيل، أي اهدنا
الصراط المستقيم إلى البلاد والممالك والقرى والقصبات، وحيث إن
الحذف - ولا سيما في أمثال المقام - دليل العموم، فيكون المطلوب أعم،
والمقصود بالذات أشمل، وكل ما في حيطة هداية الله وإرشاده وتحت
سلطان قدرته وإرادته، هو مورد نظر القارئ الملتفت إلى أطراف
المسألة وحدود القضية.
ولما كان القراء الكرام مختلفي الآفاق ومتشتتة الأفهام والمدارج،
يكون المقصود من ذي الطريق وذي الصراط المستقيم، تابعا لحدود
وجوده وإمكانياته واستعداده، فإذا قرأنا الآية فلا نريد منها ما يريد منها
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي المعظم قطعا وطبعا.
وبالجملة: لا داعي إلى دعوى أنه استدعاء الهداية إلى جهة
خاصة، ومملكة معينة من ممالك الوجود، بل هي لطلب الهداية إلى
الصراط المستقيم المنتهي إلى أنحاء الخيرات وأنواع السعادات وأقسام
الكمالات، والمنتهي إلى رب الراقصات، وإلى المطلوب المطلق
96

والعشق الأول.
ويؤيد ذلك: أن المتكلم لا يريد أن يهتدي إلى ما هو في الطريق،
ويدعو ربه الهداية إلى الصراط المستقيم بالألسنة المختلفة، بل هو
يتمايل ويعشق ويشتهي ويريد - حسب الفطرة واستعدادها - الهداية إلى
مالا وراءه شئ ولا بلدة ولا قصبة، فيكون طلبه الهداية إلى " عبادان "،
فإنه ليس وراء " عبادان " قرية.
ومن هنا يظهر: أن تفسير الصراط المستقيم بالرسول - كما في
أحاديث العامة والخاصة (1) - وبالولي وبالأمير وبالإسلام وبغير ذلك (2)، كل
ذلك لأجل أنها الطرق إلى الله، والطرق إليه بعدد نفوس الخلائق، وما
هو أحسن الطرق مختلف حسب آراء القراء، فيكون هو الإسلام، وهو
الإيمان، وهو المؤمن، وغير ذلك، وحيث إن أحسن الطرق هو الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والإنسان الكامل والولي المعظم، فكأنه قيل: اهدنا إلى
الإنسان الكامل، المؤدي إلى أصل الوجود ومنبع الخير والشهود، الذي
لا يسأل الهداية، بل بهداه اهتدوا، ولا يأمل الثبات عليها، بل بحفظه حفظوا.
والله العالم.

1 - معاني الأخبار: 36 / 7، الدر المنثور 1: 15، تفسير البرهان 1: 52 / 39.
2 - راجع معاني الأخبار: 32 / 2 و 3 و 7 و 8، وتفسير البرهان 1: 51 - 52.
97

المسألة الرابعة
حول عمومية الصراط
لا شبهة في أن الطرق إلى الشئ كثيرة، مستقيمة ومعوجة، قريبة
وبعيدة، وأن الاستقامة تكون حقيقية وإضافية. وعلى هذا فهل الألف واللام
الواردين على الجنس يفيدان الاستغراق، أي اهدنا جميع أنحاء الصرط
المستقيمة الحقيقية والإضافية، في مقابل مالا يكون طريقا رأسا ولا
سبيلا إلى المطلوب الذاتي والمأمول الأصلي؟ أم الألف واللام لا يدلان
عليه، ولكن مقدمات الحكمة تدل على أن المطلوب هي الهداية إلى
طبيعة الصراط ولا يخص ذلك بصراط خاص، كما إذا قال: أكرم العالم، فإن
تلك المقدمات تفيد - حسب ما تحرر في الأصول - أن موضوع الطلب
والحكم نفس طبيعة إكرام العالم، من غير نظر إلى خصوصية في الإكرام
أو العالم؟ وهذا هو التحقيق في محله.
فإذا وصف الصراط بالاستقامة فلابد وأن يراد منه الاستقامة
الحقيقية وإلا يكفي طلب الصراط، لأن المستقيم وغير المستقيم - أي
المستقيم الحقيقي وغير الحقيقي - مشترك في كونهما صراطا إلى
المطلوب الأصلي، فيعلم من هنا: أن النظر في هذا التقييد إلى إخراج
الصرط الغير المستقيمة والإضافية عن دائرة الطلب، وحصر المطلوب
في الصرط المستقيمة الحقيقية، حذرا عن لزوم كون القيد غير
98

احترازي، كما لا يخفى.
فتحصل: أن حسب الصناعة العلمية أن الصراط جنس والاستقامة
قيد احترازي، وتكون حقيقية، لا أعم منها ومن الإضافية.
إن قلت: اعوجاج الطرق في السفر المعنوي إلى مملكة الوجود
والحب، غير اعوجاجها في الأسفار المادية إلى الممالك الملكية، فإن
الاعوجاج الثاني لا ينافي الوصول في منتهى السير إلى غاية المأمول
ونهاية المسؤول، بخلاف الاعوجاج الأول، فإنه يساوق سقوط الطريق عن
الطريقية والصراط عن الهداية رأسا وكلا، فعلى كل تقدير التقييد
المزبور ليس احترازيا، لأن إراءة الطريق الغير المستقيم ليس بهداية،
فإذا كان المطلوب هي الهداية إلى الصراط فلابد وأن يكون ذلك مستقيما.
قلت: نعم إلا أن الاعوجاج في الطرق المعنوية والأسفار الروحية،
لا يلازم سقوط الطريق عن الطريقية، مثلا: الطائفة الأخبارية،
والطائفة الأصولية، والطائفة الثالثة من أرباب الفلسفة، أو أصحاب
العرفان والإيقان، وغيرهم من سائر الفرق المشتغلين في تحصيل
الكمالات المختلفة، كل تؤدي إلى الحق وإلى الجنة الحقيقية مثلا،
إلا أن أحقية إحداهما من الأخرى غير واضحة، فتلك الصرط والطرق وإن
تنتهي في آخر السفر إلى محل واحد ومكان فارد، ولكنها مختلفة في
القرب والبعد وفي الصحة والسقم، وإن كان الكل مشترك الوصول
إلى غاية المأمول ونهاية المسؤول. نعم الاعوجاج عن أصول الطرق -
كالاعوجاج عن الإسلام والإيمان - يساوق سقوط الطريق عن الطريقية،
ويستلزم الخروج عن طبيعة الهداية المطلوبة، فعلى هذا لا يكون
99

التقييد المزبور خلاف الأصل في القيود، وهو الاحتراز.
ذنابة
زعم الفخر: أن الإتيان بالصراط بدلا عن السبيل والطريق، للإيماء
والتذكرة بصراط الجحيم والنار (1).
وأنت خبير: بأن هذه التذكرة تحصل لأجل استعمال الصراط في
الجسر الممدود (2) على النار بعد ظهور الإسلام وبعد طلوعه، وما كان هذا
معهودا في الجاهلية، ولذلك اشتهر في الكتب اللغوية: أن الصراط عند
المسلمين هو الجسر الممدود، وأمثال هذه النكات الباردة كثيرة في
كلماته وكلمات الآخرين، ولا ينبغي صرف العمر في تحصيل تلك النكات
الغير المعلومة إرادتها حين الاستعمال، مع إمكان تحصيلها في قصيدة كل
شاعر بليغ، بل لابد من إمعان النظر في مفادات الكتاب وإفاداته، ومن
توجيه الفكرة إلى الحقائق المرموز بها فيه، الخفية على أهل الظاهر
والغافلين عن الأسرار والدقائق. والله يهدي إلى دار الثواب، ويرشد إلى
رب الأرباب بمحكمات الخطاب من الكتاب.

1 - راجع التفسير الكبير 1: 257.
2 - راجع أقرب الموارد 1: 643.
100

المسألة الخامسة
حول الإتيان بضمير الجمع
قد أشرنا فيما سبق منا إلى نكتة الإتيان بضمير الجمع، وكانت هي:
أن من المحتمل إمكان الخروج عن المجاز إلى الحقيقة بذلك، فإنه إذا
قال الهادي: اهدنا، وكان في الجماعة من الضالين المنحرفين
والمعوجين، يصح طلب الهداية، ويكون المقصود اهتداء الناس مثلا،
ولكن قد مضى بعض الوجوه الأخر الكافية عن التوصل بمثله للفرار عن
المجازية.
فبقي سر الإتيان بالجمع، وقد سبق في وجه الإتيان به في جملة
* (إياك نعبد وإياك نستعين) *، ونبهنا هناك إلى أن الناس والمشركين كانوا
يعبدون الأصنام مجتمعين، ويستعينون بها في ذلك الاجتماع الحاصل منهم في
الحرم، فبعد التوجه إلى الإسلام وترك الأصنام بالانصراف إلى الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أخذوا في الترنم، وقالوا بلسان واحد: * (إياك نعبد وإياك
نستعين) *، دون الأصنام والشياطين، وعلى هذه الهداية اهدنا الصراط
المستقيم (1).
وغير خفي: أن جميع الوجوه التخيلية السابقة، واللطائف
المزبورة فيما مضى، تأتي هنا، ولا نطيل الكلام بإعادتها.

1 - راجع الفاتحة: الآية 5، البلاغة والمعاني، الأمر الرابع.
101

تذنيب
" إهدنا " بعث إلى هداية القارئ ومن يقصده من الناس، فإذا كان
غيره مثله في الحاجة إلى الهداية، فيكون البعث بداعي تحقق ذلك، وإذا
كان غيره لا يماثله فيها، فيكون هذا البعث الواحد منحلا إلى بعوث، أو
يكون البعث الواحد بدواع مختلفة ومتشتتة، مثلا: إذا كان القارئ يدعو
ربه للهداية التكوينية إلى الكمالات الخاصة، ويكون غيره مثله في
ذلك، فالبعث واحد بداعي ذلك، ولو كان القارئ يدعوه لهدايته التكوينية،
وغيره محتاج إلى أصل الهداية إلى الشرائع، فيختلف الدواعي باختلاف
ذلك، من غير لزوم استعمال الهيئة في أكثر من معنى واحد، بل الهيئة: إما
تستعمل في معنى واحد بدواع شتى، أو تنحل إلى الكثير، والأول هو الأوفق
بالاعتبار، فكما لا يلزم المجازية في إرادة النوع الخاص أو الأنواع
المختلفة من المادة، وهي الهداية، لا تلزم في ما إذا كانت الدواعي كثيرة
مختلفة النوع، فلا تخلط.
المسألة السادسة
حول الربط بين هذه الآية والسابقة
هناك سؤال عن الربط بين هذه الجملة * (إهدنا الصراط المستقيم) *
والجمل السابقة مع حذف حرف الربط المشعر بنهاية العلقة
102

والارتباط بينها.
وربما يقال: إن القارئ الطالب - بعد المدح البليغ والثناء الجميل
- توجه إلى توجيه عبادته إليه بقوله: * (إياك نعبد) *، وحصر استعانته
فيه بقوله: * (إياك نستعين) *، ثم تنبه إلى أن هذه هي الهداية، فلابد من
المحافظة عليها، فقال: * (إهدنا الصراط المستقيم) * بداعي أن يحافظ عليها،
لا أن يهديه من الضلالة - مثلا - أو أن حصر الاستعانة فيه - جل وعلا -
قولا وادعاء غير حسن، فلابد من إشفاع العمل بذلك القول والادعاء،
فاستعان به استعانة بالحمل الشائع بقوله: " اهدنا "، ولذلك يحصل بين
الجملتين كمال الارتباط، فإن إحداهما حصر الاستعانة بمفهومها الأولي فيه
تعالى، والثانية ذكر مصداقها بالحمل الشائع الصناعي، وحيث إن حرف
العطف يورث نوعا من المغايرة حذف إيماء إلى نهاية الملاءمة بينهما.
وغير خفي: أن النظر ليس إلى حصر طلب الهداية في البقاء على
الهداية الموجودة، وهي العبادة وغيرها، بل هذا الطلب - أيضا - كلي،
يستدعي الهداية الكلية بالنسبة إلى جميع أنحاء الضلالات -
التكوينية والتشريعية - بالدواعي المختلفة الكثيرة، المنتهية إلى بقاء
الموجود وإحداث المعدوم، وحيث ذلك كله استعانة بالحق الجليل، جئ
محذوفا حرف الربط، ومشفوعا بتلك الجملة، وكأنه يريد أن يترنم لصدق
مقالته التي ادعاها بقوله: * (إياك نستعين) *، بقوله: * (إهدنا الصراط
المستقيم) *.
103

الحكمة والفلسفة
وهنا بحوث:
البحث الأول
حول الهداية والدعاء
إن الأمر بطلب الهداية واستدامتها، والأمر باستدعاء الرشاد
والإرشاد، يومي إلى أن تلك الهداية لا تحصل إلا به، وهذا يوجب كون
المطلوب منه: إما جاهلا بذلك، أو عاجزا عنه، ويصير قادرا بنفس الطلب
منه، أو بخيلا محتاجا إلى هداية الناس إلى طلبهم، وهكذا. وهذا كله مما
تفر منه العقول، وتكذبه القواعد المحررة في العلوم الإلهية، وحمل ذلك
على المزاح وعدم الجد أسوأ حالا من ذلك، مع أنه خلاف الظاهر.
وبالجملة: من أول الفاتحة إلى هنا كان العبد يتذاكر محامد الله
بالجمل الإخبارية، وكان يوجه إليه خطاباته التخضعية والتخشعية،
ولكنه بقوله: " إهدنا " مع علمه بحاله ويكفي علمه عن سؤله، ابتلي بتلك
البلايا، واعترف ضمنا بالنواقص العجيبة بالنسبة إلى من يخاطبه، ولذلك
104

قيل: إذا قال أمين الوحي لإبراهيم (عليه السلام): ما حاجتك؟ فقال: أما إليك فلا. قال:
فاسأل ربك. قال: علمه بحالي كاف عن سؤالي (1).
من گروهى ميشناسم ز أولياء * كه دهانشان بسته بأشد از دعاء
وما ذلك إلا لتلك التبعات المدهشة واللوازم الفاسدة.
أقول: هذه المسألة ومعضلة الدعاء، تأتيان بتفصيل في ذيل الآية
الآمرة بالدعاء، ولا ينبغي لنا أن نخرج عما وضعنا عليه كتابنا، من البحث
حول الآية حسب الدلالات، من غير الغور في المباحث الأجنبية أو
المباحث الغريبة، القابلة للارتباط بأي شئ من الكتاب العزيز، ومن
القصيدة لابن فلان. وهذا مما لا يكاد ينقضي تعجبي من أرباب التفسير - ولا
سيما مثل الفخر وغيره - من ذكر ما هو غير مرتبط بالآية، إلا نحو ارتباط
يمكن إحداثه بينه وبين القصائد الشعرية، من مثل ابن فارض وأمثاله.
وإجمال البحث: أن الدعاء هو الاستعجال عند العوام، والإعداد عند
الحكماء، والعبادة عند العرفاء، وبذلك الأخير وردت مآثيرنا (2).
ثم من العجيب: أن الداعي لابد وأن يكون مهتديا حتى يسأل ربه
الهداية، فذلك الدعاء كان مستجابا من غير حاجة إلى السؤال، ولكنه
بعدما يدرك الحاجة إلى ذلك، ويدرك أن من الدعاء والتضرع يحصل
اشتداد في الهداية، يدعو ربه ويبعثه نحوها.

1 - التفسير الكبير 1: 254 وراجع تفسير القمي 2: 73، والدر المنثور 4: 323، وعلل
الشرائع 1: 36 / 6.
2 - راجع الكافي 2: 238 / 1 و 2 و 5 - 8، وعدة الداعي: 39 - 43.
105

وبعبارة أخرى: الهداية التكوينية كانت حاصلة، وبعد ذلك يقول:
" اهدنا "، وليس هذا إلا لأجل أن هذا هو المعد إلى اشتداد هدايته وتقويتها،
وتزداد كلما دعا، لأن في ذلك تذكر الهداية والتوجه إلى مبدئها.
وبالجملة: لا شبهة في رجحان الدعاء، وفي ورود الأمر به في
الكتاب والسنة، ولابد من الدفاع عنه وحل معضلاته:
ومن أهم تلك المعاضل: أن الدعاء الواقعي يستتبع حدوث الداعي
في المدعو منه، ويستلزم حدوث الإرادة وتغييرا في تلك الصفة
المستتبعة للتغيير في الذات، وهذا من الواضحات مفاسده ومن
المستبين أمره وبطلانه.
وإن شئت قلت: الدعاء يورث انقلاب الحال، وهو يلازم الإمكان
الاستعدادي الملازم للمادة، فيلزم شر التراكيب في حق المسؤول
والمدعو منه، وكل ذلك سيئة من سيئات النفس والعلم، لابد من حلها
وبيانها في المقام المناسب لها إن شاء الله تعالى.
ومن العجيب: أن صدر المتألهين وصاحب " الحكمة المتعالية "
التزم: بأن هناك ملكا تصدى لذلك، والالتزام بالبداء في حقه وبالتغير في
حاله من الممكن (1)، ضرورة أن الملك الروحاني غير حامل للمادة
الحاملة للإمكان، القابل للانقلاب والاستحالة.
وكان ينبغي أن يشير إلى أن من يستجيب الدعوات هي القدرة
الإلهية، الملازمة مع المادة الدائمة، وهو الولي المطلق، المحتاج

1 - راجع الأسفار 6: 397 - 398.
106

إليه في جميع الخروجات من القوة إلى الفعلية، وبه تنحل هذه
المعضلات، وهذا وأمثاله أسرار وجوده، أي لابد في التكوين من قدرة كلية
وعلوم كلية إلهية، مصاحبة مع المادة قابلة للانفعال والفعل، مؤثرة في
هذه العوالم المسانخة معها مادة ومدة، فانتظر واغتنم.
البحث الثاني
حول الهداية التكوينية والتشريعية
إن الهداية: إما تكوينية أو تشريعية، وعلى التقدير الأول: إما إلى
أصل الوجود أو إلى كمال الوجود وجماله، وعلى كل تقدير يكون الكل
من الهداية والخروج عن الضلالة، ويشترك الكل في هذا المفهوم
الواسع، وإنما الاختلاف في مصاديقها وكيفياتها:
أما الهداية التشريعية: فهي الهداية التي تجئ من قبل إنزال
الكتب وإرسال الرسل والأنبياء، وتبليغ المبلغين والعلماء في كل
عصر ومصر.
وأما الهداية التكوينية إلى أصل الوجود: فهي الهداية
المطلوبة بلسان الذات، فإن الأعيان الثابتة والماهيات، يطلبون بلسان
ذواتهم الهداية من ضلالة العدم - التي هي أشد الضلالات - إلى دار
الوجود والنور، ويريدون منه تعالى الخروج من الظلمات الذاتية
إلى النور.
107

وأما الهداية التكوينية إلى كمال الوجود وجماله: فهي في نظر
حاصلة لكل أحد، وفي نظر حاصلة لطائفة خاصة:
وأما النظر الأول: فهو أن كل موجود في النظام الأتم الإلهي - بالقياس
إلى ذلك النظام - مهتد إلى ما هو لازم النظام الكلي، فلا ضلالة في هذه
المرحلة وهذه النظرة.
وأما النظر الثاني: فهو أن الأشياء - بحسب الحالات الفردية
والشخصية - مختلفة الأفق ومتفاوتة الدرجات والسبل، ومتشتتة
المسالك والطرق، فمنها ما يصل إلى الغاية المقصودة، فهو المهتدي
إليها، ومنها مالا يصل إليها، فهو الضال عنها. وهذا أمر عمومي كلي داخل
في عمومه جميع الحقائق الوجودية من قذها إلى قذيذها مما يترقب له
الكمال بعد النقص، دون الموجودات الأمرية التي لا ترقب لها ولا ترقي
فيها، ولا خروج لها من الظلمات إلى النور.
فعلى هذا فهل المطلوب في قولنا: * (إهدنا الصراط المستقيم) * هي
الهداية التشريعية إلى الإسلام والإيمان بالإقرار باللسان مثلا، أو هي
الهداية التكوينية بالوصول إلى غاية المأمول ونهاية المسؤول،
والدخول في دار الله الموجب للبقاء ببقاء الله، المورث للالتذاذات
الروحانية وللتكيفات المعنوية التي لا تدركه العقول البشرية، أم هي
جميع أنحاء الهدايات، حتى يكون الصراط المستقيم بناء على ذلك - أيضا -
مختلفا بحسب المصاديق، ضرورة أن الصراط المستقيم في الهداية
التشريعية غيره في الهداية التكوينية.
إذا عرفت وأحطت إجمالا بما في هذه السطور تأتي الشبهة: وهي أن من
108

الواجب الدعاء بالنسبة إلى ما يمكن تحققه ويصح ترقبه، ومن البديهي
أن الضلالة التكوينية، وعدم الوصول إلى الغايات الطبيعية في هذه
النشأة الملكية الناسوتية، من الأمر الواضح اللازم لتلك الطبيعة، ولا
يعقل التفكيك، لأن دار الطبيعة ومنزل المادة، دار الاصطدام والمزاحمة،
ولو كان يمكن عقلا هذا التفكيك لكانت هذه النشأة من النشآت الإلهية
المجردة، فأخيرة التجليات - وهي التجلي الفعلي في المواد
والماديات - تستتبع هذه التبعات طبعا وقهرا، فكيف يعقل طلب الهداية
بمعناها الواقعي والحقيقي؟ فلابد وأن ينحصر الطلب بالهداية التشريعية.
أقول: الهداية التشريعية في نظر تشريعي، ولكن الاهتداء بتلك
الهداية تكويني، لأنه ليس مجرد الاعتبار والتخيل كالأمور الاعتبارية،
فعلى هذا يلزم سقوط الدعاء بالنسبة إليها. وغير خفي أن هذا الدعاء غير
الدعاء بالنسبة إلى حاجة من الحوائج الاخر، كإعطاء درهم لسد
الجوع، ضرورة أن النظر من الهداية هو استطراق طريق الوصول إلى
غاية الطبيعة ومقتضياتها، أي استدعاء الشجرة هو البلوغ إلى أن تثمر
ثمراتها الممكنة لها طبعا، واستدعاء الحيوان هو الوصول إلى الكمال
المترقب الحيواني، وهكذا الإنسان، وحيث إن فطرة الإنسان فطرة التوحيد
وفطرة العشق للكمال المطلق، فهدايته هو إبلاغه إلى ذلك العشق، وهذا
غير ممكن بالإمكان الاستعدادي لا الذاتي والوقوعي، بل وغير ممكن
بالإمكان الوقوعي، للزوم الخلف، وهو كون هذه النشأة مادية غير
مزاحمة، فتدبر.
فعلى ما تقرر وتحرر: يشكل طلب الهداية بمعناها الواسع التكويني
109

المطلق، فلابد من أن يقال: إن النظر في هذا الطلب إلى الهداية
التكوينية النسبية، بتحصيل المعدات والمقدمات الإعدادية اللازمة،
حتى ينال الحقائق ويصل إلى المرتبة الأخرى، لما فيه من كمال
الوجود، ضرورة أن الوصول إلى أصل الوجود ومنبع الغيب والشهود،
يحتاج إلى الأمهات الشامخة والأصلاب المطهرة، وأما الوصول إلى
غاية طبيعة الإنسان وسيره العلمي والعملي، البالغ إليه النبي
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي المعظم، فهو من الآمال، ولا يخرج منها.
دست ما كوتاه وخرما بر نخيل * پاى ما لنگ است منزل بس دراز
وغير خفي: أن الترنم بهذا الدعاء، واستدعاء ذلك لكل أحد - مع قطع
النظر عن الآخر - بإظهار الاشتياق الشديد إلى تلك المنزلة، وإبراز
الحب الأكيد للوصول إلى تلك الغاية، يستلزم انفتاح أبواب الخيرات،
وربما يتفق - لحصول نار العشق في وجوده - الإعداد والاستعداد
للخيرات الإلهية الإطلاقية، وللحركة الطبيعية الشوقية إلى دار
الجنة والمنزل الأرفع.
فما ذكرناه فهو بالقياس إلى كلي ما في النظام الكياني التابع للنظام
الرباني والإلهي، وقد أشرنا إلى أن ذلك لا يستتبع امتناع الوصول ذاتا، وإن
كنا نعلم إجمالا بأن الطريق مسدود، والأبواب بالنظر إلى حالات الأشخاص
مسدودة بالانسداد الجائي من قبلهم.
وإن شئت قلت: الهداية التشريعية أمر يحصل من إنزال الكتب
وإرسال الأنبياء والرسل، وبالإقرار بذلك اهتدى الرجل.
ولكن الهداية التكوينية ليست من الأمور الجائية من الغيب
110

دفعة وفي مائدة حتى نبتلعها، بل هي تحصل من الجد والاجتهاد ومن
سلوك الطرق الصعبة جدا، المعضلة والمشكلة واقعا، وهذا مما لا
يحصل بدوا وابتداعا، بل لابد وأن يكون من قبل المعشوق على الإطلاق نظر
واستدعاء.
تا كه از جانب معشوق نباشد كششى * كوشش عاشق بيچاره بجايى نرسد
البحث الثالث
حول منتهى الصراط
اعلم أن اعتبار الصراط تقوم باعتبارين: أحدهما المبدأ، والآخر هو
المنتهى، مثلا: إذا قيل: هذه الجادة صراط الشام، أي تنتهي إلى الشام ولها
مبدأ، وهو الكوفة، فعليه يبدو سؤال وهو: أن الصراط المستقيم
المطلوب في هذه الآية، وإن لم يكن من الصرط الخارجية والجواد
المادية، ويكون من الصرط المعنوية أو الاعتبارية، ولكنها مثلها في
الحاجة إلى المبدأ والمنتهى، فما هو مبدأ هذا الصراط؟
فإذا قيل: الإسلام هو الصراط المستقيم، أي من الضلالة إلى
الهداية، وهكذا الإيمان أو غير ذلك من الشرائع، وإذا قيل: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
هو الصراط، أو الأمير (عليه السلام) هو الصراط المستقيم، أي إن الإنسان الكامل
هو الطريق من النقص إلى الكمال، فهنا نقص وكمال، وهذا هو قوس
الصعود المتحرك فيه الأشياء من الدرجة السفلى إلى الدرجة العليا،
111

والسائر فيه الصور الكمالية من النازلة إلى العالية، ومن المادة
والنطفة إلى الصور والصورة الكلية الإنسانية، الجامعة لجميع
الشتات والكمالات.
فمن اعتبار الصراط يثبت التدرج من النقص إلى الكمال ومن
الضلالة إلى الهداية. نعم إذا كانت الهداية تشريعية، فيكون المراد
التدرج والخروج من اللاديني واللامسلكي إلى الديانة، وهي الإقرار
بالشرائع والعمل بالأركان، وإذا كانت هي التكوينية، فيكون السير تكوينيا
والصراط خارجيا من الأعيان، كسائر الصرط الخارجية، ولكنها خارجية
مادية، وهذا الصراط والطريق مختلف الأحوال، لأنه طريق مستقيم ممتد
من الهيولي إلى الوجود المطلق، ففي ابتداء السير يكون ماديا، ثم يصير
برزخيا، ثم يصير معنويا صرفا... وهكذا.
وهذا الطريق الممتد من المادة إلى السعادة المطلقة، وإلى
القيامة العظمى وإلى الحشر الكلي التام وإلى لقاء الله والباقي ببقاء
الله، هو الطريق المستقيم إلى الكمالات المتوسطة غير الخارجة عن
حدي الإفراط والتفريط، ويكون واحدا حقيقيا ممتدا إلى الملكوت الأعلى
والسماوات العلى، وعلى كل موجود الحفاظ على هذا الخط الممدود
المستقيم، بأن لا يخرج عن حدوده، ولا يتجاوز عن تطرقه وتسلكه
بالانحرافات الممكنة الحصول له في أثناء الطريق في كل آن ولحظة،
بالمواظبة على الحدود الإلهية والشرائع الحقة وباتباع الإنسان الكامل،
الذي يكون مطلعا على تلك الحدود، وسالكا ذلك السبيل، وعارفا بجميع
أسواقه وأزقته وخصوصياته وانحرافاته، حتى لا يقع في الضلال، ولا
112

يتجاوز عن الصراط واستقامته، وبمثله كلف العباد، ولأجله ارسل الرسل
والكتب.
وأما سائر الصرط التي يمشي عليها الموجودات، ليس شئ منها
هذا الصراط المختص بأهل الله، لأن كلا منها ينتهي إلى غاية أخرى غير
لقاء الله، والى منزل آخر غير جوار الله وغير دار الجنان ومنزل الرضوان،
كطبقات الجحيم ودركات النيران، فالقوس الصعودية لا تصل إليه تعالى
إلا بسلوك الإنسان الكامل عليها * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح
يرفعه) * (1)، والانحراف عنه يوجب السقوط عن الفطرة والهوي في
درك الجحيم والهبوط في جهنم التي قيل لها: هل امتلئت، وتقول: هل
من مزيد (2).
ومن هنا يعلم سر توصيفه في بعض الأخبار: بأنه أدق من الشعر
وأحد من السيف (3)، لأن كمال الإنسان منوط باستعمال قوتيه:
أما القوة النظرية: فلإصابة الحق ونور اليقين في سلوك الأنظار
الدقيقة التي هي في الدقة واللطافة أدق من الشعر.
وأما القوة العملية: فبتعديل القوى الثلاث - التي هي الشهوية،
والغضبية، والشيطانية الفكرية الوهمية - في أعمالها لتحصل للنفس
حالة اعتدالية، متوسطة بين الإفراط والتفريط غاية التوسط ونهاية

1 - فاطر (35): 10.
2 - راجع السورة ق (50): 30.
3 - راجع تفسير القمي 1: 29، والأمالي، الصدوق: 177 / 4.
113

التعديل، ضرورة أن الأطراف كلها مذمومة توجب السقوط في الجحيم،
وهي منزل الأشقياء المردودين.
وقد تحرر: أن المنزل المتوسط الحقيقي بين الأطراف المتضادة
بمنزلة الخلو عنها، والخلو عن هذه الأطراف - المسمى بالعدالة - منشأ
الخلاص عن الجحيم، وهي أحد من السيف، فإذن الصراط أدق من
الشعر، والوقوف عليه يوجب القطع والانحراف، فهو أحد من السيف.
فلا تتوهم: أن كمال الإنسان هو البلوغ إلى هذا الصراط، فإنه لو
بلغ ووقف شق وقطع وسقط منه في النار، والله يعصمنا منه إن شاء الله.
فذلكة الكلام في المقام
إن الصراط المستقيم لابد وأن ينتهي إلى موقف يتم سير السالك
إليه، وينتهي حركته المعنوية لديه، لما عرفت أن المطلوب هو
التطرق بتلك الطريق وبذلك الصراط المستقيم، وحيث إن أقصر الطرق
هو الخط الحماري، وهو الأقرب إلى المقصود، فيكون هذا الصراط في
نهاية القرب من سائر الصرط والطرق. فبقي البحث حول أن منتهى هذه
السفرة وهذا الصراط، هل هو الإسلام والإيمان، أو هما صراطان، أم هو
الوصول إلى الأحكام القلبية بظهور نور الوحدة، وبالوصول إلى حقيقة
الولاية، أم هو أيضا صراط وطريق، أو هو الجنة البرزخية والراحة
في القيامة، أم هما أيضا صراطان، أم هو جنة الذات والأفعال، والصفات
زائدة على الجنة الخارجية الإلهية، أم هي من الطرق والسبل؟
114

ولا يقف اشتهاء المرء المؤمن، ولا يسكن مقتضى الفطرة السليمة
عنده، لأنها مفطورة على عشق الكمال المطلق والجمال الساري في
الخلق من الحق، فما هو نهاية هذا الصراط الدقيق القاطع، وقد تبين أن
مبدأه وابتداءه من هذه النشأة الناسوتية الملكية، ومن هذه الفطرة
المخمورة السافلة التي رددناها أسفل سافلين، والتي كانت - حسب
الظاهر في وجه - في أعلى عليين، ففي القوس النزولي بطي الصراط
وصل إلى المادة السفلى، فلابد من طي هذا الطريق في القوس
الصعودي، والطريقان مختلفان، حتى لا يلزم التكرار في التجلي، كما
برهناه في محله، ويأتي في مقامه المناسب له.
فهذا الجسر الممدود على الدنيا والبرزخ والآخرة، من سنخ هذه
النشآت، أولها الدنيوي ووسطها البرزخي وآخرها الروحاني، وفي
القيامة العظمى من سنخ تلك النشأة، وهكذا إلى أن ينتهي إلى الذات
الأحدية الغيبية والواحدية الجمعية، فمن المتحرك السالك الواصل
إلى المنتهى؟ فسيأتي عند قوله: * (الذين أنعمت عليهم) * إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الصراط إذا انحفظت استقامته في الهداية التشريعية،
فينهي سالكه إلى المقصود، وهو النجاة من النار والفوز بالجنة، وإذا
انحفظت استقامته التكوينية في هذه النشأة، فربما يصل سالكه في أواسط
السير أو أواخره إلى منتهاه، كالبرق اللامع، والمهم هو المحافظة على
الاستقامة في هذه النشأة.
115

البحث الرابع
حول فعلية الصراط وإمام الزمان (عليه السلام)
ظاهر الآية الشريفة: أن الصراط المستقيم إلى الحق موجود
بالفعل، ومنعوت بالاستقامة الفعلية، فهو الآن موجود ومستقيم، كالصراط
الموجود بين البلدين المستقيم، فيلزم علينا الفحص عن هذا الصراط
الموجود بالفعل، فإن كان هو الشرائع والإسلام والإيمان بكلياتها، فيصح أن
يقال: الإسلام طريق النجاة وصراط الهداية، وهو الآن موجود، وهكذا كل ما
يكون من قبيله من الهدايات التشريعية المضبوطة من قبل الأنبياء
والعلماء، والقرآن صراط مستقيم، أي هو بالفعل وفي الاعتبار، صراط
مستقيم بالفعل وطريق مستقيم إلى الجنة، والانحراف عنه بالأديان الاخر
ضد الهداية ومن الضلالة.
ولكنك أحطت خبرا: بأن الصراط المستقيم تكويني وتشريعي، ويؤيد
أن منه التكويني قوله تعالى: * (إن ربي على صراط مستقيم) * (1). اللهم إلا
أن يقال: هو في ذيل الآية الشريفة: * (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن
ربي على صراط مستقيم) *، فإنه هو التكويني، وأما هذا الذي يخص به
الإنسان - مثلا - فهو التشريعي، لعدم إمكان تصور الصراط التكويني
الموجود بالفعل الموصوف بالاستقامة فيه، لأن الناس السالكين في

1 - هود (11): 56.
116

السبل والصرط التكوينية، ليست الجادة بالنسبة لهم موجودة بالفعل،
بل الجادة توجد تدريجيا وآنا فآنا، حسب الحركة الكمالية الطبيعية
الثابتة لهم، فيكون الخط والصراط موهوما امتداديا، لا واقعيا وحقيقيا،
وهذا خلاف الظاهر من الآية الكريمة.
أقول: قد تقرر منا في " قواعدنا الحكمية "، وأشرنا إليه هنا في
البحث الماضي: أن في كل عصر وزمان من الأزمنة المادية، وفي كل آن
من الآنات في هذه النشآت، لابد من وجود الإنسان الأعظم الكامل الواصل
إلى منتهى السير، المخرج للطبائع الظلمانية من الظلمات إلى النور،
والمحرك للحقائق المشفوعة بالمواد من النقص إلى الكمال اللائق
بها، وهذا هو الموجود المعروف في شريعتنا بإمام الزمان والمنتظر
المهدي - عجل الله تعالى فرجه - فهو إمام الزمان، لا زمان خاص، وهو
المهدي على الإطلاق، أي الواصل إلى منتهى السير، البالغ نهاية
الكمال، الباقي ببقاء الله تعالى بعد الفناء في الله، وهو الصراط المستقيم
الموجود بالفعل التكويني، وهو من الذين أنعم الله عليهم بمثل ذلك، أي
بهدايتهم التكوينية الكلية المطلقة، ويجعلهم الصراط التكويني، الذي
هو الجسر الممدود على الطبائع الدنيوية والبرزخية والعقبوية.
وهذا الموجود وهذا الصراط لا يعقل أن يتكثر، لأن المنتهى واحد
شخصي، والمبدأ واحد شخصي، فالصراط واحد شخصي، أما شخصية منتهى
السير - وهو الله تعالى - فهي ذاتية واحدة، وأما شخصية مبدئه - وهي
117

الهيولي - فهو المبرهن في محله (1)، وأن تكثرها بصور حالة فيها، ولازم ذلك
بعد التوصيف بالاستقامة كونه واحدا بالشخص.
ولأجل ذلك لم يجمع " الصراط " على " الصرط " في الكتاب الإلهي،
ولا يستفاد منه أن الصراط كثير وأما السبل فهي كثيرة حسب ما في
الكتاب، كما سيظهر تحقيقه.
وبعبارة أخرى: الجادة الأصلية الكلية واحدة، والسبل والطرق
المتفرعة على تلك الجادة كثيرة، ولكنها تنتهي إليها، وإلى جميع هذه
الدقائق والرقائق يشير الكتاب الإلهي في (سورة المائدة: آية 16) * (قد
جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) *.
فبالجملة: مقتضى إطلاق الكتاب، أن الصراط أعم من التكويني
والتشريعي، ومقتضى ظهوره أن الصراط المستقيم موجود بالفعل، ونتيجة
ذلك: وجود الصراط المستقيم التكويني بالفعل، ومقتضى أن الصراط لابد
وأن ينتهي إلى أمر، أن المطلوب هو الصراط المستقيم المنتهي إلى شئ
آخر وراءه، فيثبت بذلك وجود الموجود الكامل بالفعل، المقارن للمادة
المشفوع بأحكامها، المخرج من النقص إلى الكمال ومن الظلمة إلى
النور في جميع أطوار الوجود، وفي أنحاء الطرق الفرعية والسبل
الجزئية، فكل شريعة اعترفت بمثله، فهي الشريعة الغراء والدين

1 - راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 331، وشرح الإشارات 2: 147 - 252، والأسفار 5:
70 - 77.
118

الكامل الإلهي الواصل من الغيب، وإلا فلا، وحيث قد عرفت وحدة
الصراط تبين وحدة الإنسان الكامل الواصل، وإذ تبين أن هذه الجادة
التكوينية واحدة، فالصراط التشريعي واحد أيضا.
وإذا تأملت فيما أسمعناك وأسلفنا لك، فمن كانت طبيعته المخمورة
تحت نظارة الإنسان الكامل، المربي لجميع الطبائع، والمتصدي من قبل
الحق لتربية جميع السلاك، والمتطريقين، وكان تحت عناية يد الله
المبسوطة على كل شئ، مع المحافظة على جميع أنواع الزاد والراحلة
المعتبرة في هذا التطرق والسلوك، من الأنظار والأفكار السليمة، ومن
الأخلاق والصفات الحسنة ومن الأفعال والأقوال الشرعية الممدوحة،
وعلى جميع شرائطه الكمالية بالرياضات النفسانية والمحاسبات
العقلانية، في مأكله ومشربه ومشيه وملبسه ومعاشراته الانفرادية
والاجتماعية، وأن يتعظ من الله تعالى: * (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله
مثنى وفرادى) * (1)، فإذا تحصلت في سفرته هذه اللوازم السفرية، وتلك
الزادات الأخروية، وطلعت عليه شمس الحقيقة، ونبتت بذورها
المزروعة وفطرته المخمورة تصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا
معلقة بعز قدسه.
فالصراط المستقيم الحقيقي هو الطريق المشفوع بالشرائع وشرائطه
الكمالية، وهو التكوين المقارن مع الشرع والباطن المحافظ عليه
الظاهر، فإنه إذا حافظ على الفعلين الباطني والظاهري، يتمكن من

1 - سبأ (34): 46.
119

الالتذاذ بالخطاب الإلهي حتى يسمع أنه وصل، وعليه خلع جناحي العلم
والعمل وخلع الوسائط، لأن البراق والرفرف غير لازمين في السفر بعد
الوصول إلى المقصد ونيل المطلب.
وأما طرح الظاهر والأخذ بالأحكام القلبية - كما عن طائفة من
الصوفية - فهو خروج عن الحد الوسط والطريق المعتدل: * (وكذلك
جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء) * (1)، وتضييع لتلك الأحكام القلبية، فضلا
عن الأحكام الشرعية القالبية.
ومثله طرح الأحكام القلبية والأخذ بالأحكام القالبية والجمود
عليها، كما عليه طائفة من المتشرعة، فإنه أيضا اعوجاج وانحراف عن
الحق، وخروج عن هداية الله، وتضييع لروح الإسلام والشرائع، ولباطن
الأحكام ورقائقها، وقد وردت في شريعتنا الآثار الكثيرة الدالة على
الطرفين، وعلى لزوم الأخذ بالحد الوسط الذي فسر به الصراط
المستقيم في سورة الفاتحة، كما يأتي من ذي قبل إن شاء الله تعالى.
البحث الخامس
حول عمومية الدعاء
ربما يمكن أن يستظهر من قوله تعالى: * (إهدنا) * بصيغة الجمع، أنه
ظاهر في العام المجموعي، وأنه شامل لجميع عائلة البشر، فمن كونه

1 - البقرة (2): 143.
120

بنحو العام المجموعي يستكشف - أيضا - وحدة الطريق والصراط
المستقيم، وأن المطلوب هي هداية البشر إلى الصراط المستقيم، ومن
كونه طلبا - إما على سبيل العام الاستغراقي، أو على سبيل العام
المجموعي - للهداية إلى الصراط المستقيم، الممدود من مبدأ المادة
والهيولي إلى المبدأ الأعلى والوجود، يستكشف أن جميع أفراد هذا
النوع، قابل للسير وللاستكمال وللوصول إلى الغاية القصوى، فيعلم منه
وجود تلك القابلية في كل واحد منهم، وأن الاستعداد لا يموت، وإلا يلزم
طلب المحال والمستحيل، وهو غير صحيح ولو كان محاله بالغير.
فعلى هذا كل إنسان وإن احتجب بالحجب الطبيعية والإرادية، وكل
فرد منه إذا خرج من الفطرة السليمة والمخمورة، ودخل في الظلمة
والفطرة المحجوبة، لا يمتنع عليه الوصول امتناعا بالغير أيضا، بل فيه
أيضا استعداد الوصول إلى نهاية المأمول موجود * (فطرة الله التي فطر
الناس عليها) * (1)، فإنه معناه ثبوت هذه القابلية فيهم كلا.
وأما قوله: " كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه، يهودانه أو
ينصرانه " (2) فهو إما ناظر إلى أن البطلان يجئ من قبل الغير الفاسد، أو أن
حجاب الفطرة من قبل الأبوين، ولكنها محفوظة الذات تحت ذلك
الحجاب.

1 - الروم (30): 30.
2 - الدر المنثور 5: 155 - 156، عوالي اللآلي 1: 35، مسند أحمد 2: 233 - 275 و 282
و 393 و 410 و 481، صحيح البخاري 6: 480 / 1199.
121

البحث السادس
حول الآية والقول بالتفويض
قيل: هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم
يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، إطاعة كانت أو
معصية، لأن الإنسان خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى
ربه، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية، إذ سألوه الهداية إلى الصراط
المستقيم، فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم - دون ربهم - لما سألوه ذلك،
ولا كرروا السؤال في كل يوم مرات (1). انتهى.
أقول: أمثال هذه الأقاويل كثيرة في كتب التفاسير، ولا سيما تفاسير
إخواننا الإسلامية. وأنت خبير - من غير حاجة إلى أن تكون فيلسوفا - بما
في هذه الأساطير من: عدم التهافت بين القول بالتفويض، وأن الله خالق
الخلق، والخلق خالق أفعالهم، وا لقول بأن الله تعالى لا يمتنع عليه
التصرف في الأمور، والتدخل في أسباب السعادة بإيصال وسائل الخيرات
والمبرات.
هذا، والإمامية - وأنا منهم بحمد الله وله الشكر - بريؤون من القول
بالقدر والتفويض، لأن أئمتهم هدوهم - بعون الله - إلى الصراط المستقيم
والاعتقادات الواقعية الصحيحة، التي توافق أدق البراهين العقلية

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 149.
122

والمشاهدات العرفانية، ولقد أقر بأن الأمر بين الأمرين صاحب " تفسير
روح المعاني " (1)، وأن إرادة المخلوق ليست مستقلة في الفاعلية، وذلك
لما كان يلاحظ كتب الإمامية فيما أتى به، ولا سيما كتاب صدر المتألهين (قدس سره)
وقد أخذ منه كثيرا من الحقائق، فراجع.
نعم هذه الآية تشهد على أن الإنسان، يحتاج إلى الإمداد الغيبي
والإعداد الإلهي والاستعانة والإعانة الربانية.

1 - روح المعاني 1: 82.
123

علم الأسماء والعرفان
اعلم أنه قد اشتملت الفاتحة الشريفة على كيفية سلوك أصحاب
الإيقان وأرباب الانس والعرفان، وقد أشير سابقا إلى أنها تضمنت الأسفار
الأربعة وإلى قوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * تم السفر من الخلق إلى
الحق، لأن السالك قد ترقى من التجليات الأفعالية إلى الصفاتية
والذاتية، وخرج من الحجب الظلمانية والنورانية، ودخل في مقام
الحضور ومشاهدة النور، ونال مالا يناله غيره، فإذا حصل له الفناء
الذاتي والاستهلاك التام بغروب أفق العبودية وطلوع سلطنة المالكية
مترنما ب‍ * (مالك يوم الدين) *، وبعد تلك الحالة الخاصة المحوية
استشعر الحالة الطارئة الصحوية، فأدرك الإنية، واستقر هنيئة، إلا أن
هذا الإدراك تبع إدراك الحق، لأنه راجع من الحق إلى الخلق، بخلافه في
مبدأ السير، فإنه من الخلق إلى الحق، فكان التوحيد تبعا لدرك الكثرة
والأنانية.
وإن شئت قلت: في السفر إلى الله كان يرى الحق في حجاب
الخلق، وفي الرجوع من هذه السفرة يرى الخلق في حجاب الحق،
124

ولأجل تعينه بتلك الصفة يترنم بقوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، وحيث
يجد بعد ذلك لزوم ثباته وحرمة عثاره، فيريد منه تعالى - في حال الصحو
بعد المحو - بقاء تلك الحالة بقوله: * (إهدنا الصراط المستقيم) *.
وغير خفي: أن هذا السير المعنوي يخص به الأكملين من أصحاب
العرفان واليقين، الذين يحتجبون من الخلق بالحق في رجوعهم من
الحق، وفي مقام البرزخية الكبرى، التي هي المقام الذي لا يحجب
فيه الحق من الخلق ولا الخلق من الحق، وهذا في مقابل المحجوبين
الضعفاء الذين احتجبوا من الحق بالخلق، وفي مقابل الكاملين من
العرفاء الذين احتجبوا بالحق من الخلق.
فالصراط المستقيم هي تلك الحالة البرزخية الكبرى،
المتوسطة بين المحو المطلق والصحو الكلي التام، وسيأتي أن من
الممكن انطباق " غير المغضوب عليهم " على الحالة الثانية، و " لا
الضالين " على الحالة الأولى الذين ضاعوا في الله وضلوا فيه، والمنعمين
على المتوسطين بينهما. والله العالم.
ونومئ إلى أن سعادة البشر والوصول إلى نيل الكمالات، ليست
تحت اختياره بنحو كلي، أي إذا أراد كل إنسان أن يصير سعيدا يصير سعيدا،
بخلاف الشقاوة، فإنها تحت اختياره وقدرته، لأن الشقاوة تحصل بالإخلال
بشرط من شروط السعادة، وهو تحت إرادته وقدرته، بخلاف السعادة،
فإنها لا توجد إلا عند استجماع الشرائط الكثيرة، التي ربما لا يكون بعض
منها تحت الاختيار، فالبلوغ إلى السعادة المطلقة غير ممكن، إلا بالجد
والاجتهاد من قبل العبد، مع التوفيق الرباني ومساعدات الشرائط والعلل
125

الكثيرة.
نعم تحصيل السعادة النسبية ممكن لكل أحد بالضرورة، فلذلك
يسقط ما هو مورد البحث بين جماعة من الأكابر والأعلام وهو: أن
الحسنات والخيرات مستندة إلى همة الإنسان وإرادته أو إلى دور
الفلك وسير الملك، فإن الحق أن الإمكان بالقياس - حسب ما قررناه في
" قواعدنا الحكمية " - منتف بين معاليل العلة الواحدة، وذلك لأن الحكم
بأن زيدا ممكن وجوده، سواء كان عمرو ممكنا أو غير ممكن، غير صحيح،
لثبوت الارتباط والتجاذب بين تلك المعاليل، فحركات الأفلاك وسكنات
السماوات وجميع الأشياء، دخيلة في بقاء الاخريات، والكل بالنسبة إلى
الآخر من العلل الإعدادية، فلا يكون السعادة مستندة إلى الإنسان محضا،
ولا إلى الفلك محضا، بل هي معلول العلل الكثيرة الفاعلية والقابلية
من المبدأ الأعلى - الذي هو علة العلل - وغيره من الوسائط المعنوية
المجردة والمادية إلى سائر المقارنات الزمانية وغيرها، فقوله: * (إهدنا
الصراط المستقيم) * في محله، للزوم استجماع الشرائط، ومنها إراءة
الطريق المستقيم الحاصلة من الرب العظيم الكريم.
بحث عرفاني وإفاضة إشراقية
اعلم أن من المحرر في محله: أن لكل موجود في جميع الآفاق والأزمان
ظاهرا وباطنا، ظاهره المظهرية للاسم الإلهي، وباطنه إسراؤه من ذلك
126

الظاهر إلى الله تعالى حسب مقتضيات الأسماء، فكل شئ اسم من أسماء
الله، وله الصراط الخاص الموصل إلى ما قدر له حسب الاستعدادات
الذاتية، وحسب الفيوضات المخصوصة به المقدرة له بفيضه الأقدس،
فلا يكون الصراط واحدا، بل كل شئ ذو صراط وذو طريق، إلا أن الأشياء
مختلفة، فمنها ما هي في سلوكه وسفره من الظاهر إلى باطن اسمه واصل
إليه ونائل إياه، ومنها مالا يوصل إلى مقصوده ومنتهاه، وأيضا منها ما هي
مظهر للأسماء الكلية الرئيسة، ومنها ما هي المظهر للأسماء الخاصة
المرؤوسة، ويعرف اختلاف تلك الأسماء باختلاف الخلائق، فإن الطرق
إلى الله بعدد نفوس الخلائق، ومن بين الأسماء ما هو الاسم الجامع،
ومظهره الكون الجامع، وهو الله تعالى، وذاك الإنسان الكامل - وهو النبي
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) - فإنه الطريق إلى الله، وهو أصل جميع الجواد والسبل
بالذات، وسائر الأولياء المعصومين (عليهم السلام) متطرقون إليه بالتبع في مقام
الكثرة، وأما في الباطن فكل واحد وحقيقتهم فاردة.
فبالجملة: لكل موجود صراط مستقيم إلى الله تعالى كرها وطوعا،
وفي هذه النظرة كل صراط مستقيم في الأفق الأعلى وفي الفيض الأقدس،
إلا أن اختلاف تلك الطرق والصرط لاختلاف مقتضيات الأسماء، واختلاف
تلك الأسماء في المقتضيات لأجل أمر آخر، وكل ذلك يستدعي سالكه
للسير من الاسم الخاص به الجزئي إلى الاسم العام المحيط، ومن ذلك
الاسم المحيط - كالأسماء السبعة الأمهاتية - إلى الاسم الجامع،
والتبدل في تلك المظاهر ممكن حسب الفطرة وفي حيطة اختيار السالك،
127

فهناك طريق رئيسي هو مظهر اسم الله، وطرق كبيرة وصغيرة مظاهر الأسماء
الاخر المحيطة والمحاطة، إلا أن كل هذه الطرق تنتهي إلى ذلك
الصراط الوحيد المستقيم.
كشف ملكوتي وشهود سرمدي
الهداية إلى الصراط والوصول إلى الغاية ومعرفة الإمام
لا شبهة في أن الظاهر من الآية الشريفة: أن المطلوب هي
الهداية إلى الصراط المستقيم، وأن نفس هذه الهداية هي المطلوب في
هذه الآية، وأما كون المطلوب الأعلى هي الهداية إلى الصراط
المستقيم المنتهي إلى الحق الأول وإلى النور الأبدي والأزلي، فهو
خروج عن المنساق من الآية الكريمة، ولا منع من ذلك، إلا أنها تفيد أن ما
هو المطلوب ليس إلا الهداية إلى الصراط المستقيم، وكأنه إذا كانت
الهداية إلى الصراط المستقيم متحققة، كان الوصول إلى غاية
المأمول ونهاية المسؤول أمرا قهريا ومطلبا طبيعيا، بل اللازم هو الجد
والاجتهاد للوصول إلى ذلك الطريق وتلك الجادة.
فعلى هذا ربما يمكن توهم: أن الناس مختلفو الاستعداد، فمنهم - وهم
الأكثر - غاية حركتهم الفطرية وسلوكهم الطبيعي الغريزي هو الوصول
إلى هذا الصراط السوي، والاهتداء إلى هذا الصراط المستقيم.
ومنهم - وهم الأقلون الكمل جدا - غاية حركتهم الذاتية وتقلباتهم
128

الجوهرية نيل الحق والوصول إلى دار الانس، والعبور على هذا
الصراط إلى المطلوب الأعلى والمحبوب الأحلى، والفناء فيه والبقاء
ببقائه، والرجوع إلى الخلق في حجاب الحق، ومع المحافظة على
مقامه الشامخ وهي البرزخية الكبرى والوسطية العليا، فيكون في
القوسين - الصعودي والنزولي - على الصراط المستقيم، وفي الحقيقة
لهؤلاء ثلاث طرق مستقيمة:
الطريق الأول وهو: التنزل إلى مقام أسفل سافلين من أعلى عليين،
وكونهم من تلك الدار العليا أورث أن يرد فيهم * (ثم رددناه أسفل
سافلين) * (1).
الطريق الثاني: هو السير إلى الله على الصراط المستقيم.
والطريق الثالث: هو الرجوع من الله، وهو السفر الرابع
المخصوص به الرسل وأرباب الكتب على الصراط المستقيم أيضا،
فجميع حركاتهم مستقيمة، وحقيقتهم القويمة نفس الاستقامة.
فإذا تبين: أن الناس متوجهون نوعا إلى هذه الآحاد الخاصة
والأناسي الكاملة ويطلبونهم، وهذه الآية الشريفة كأنها منساقة لحال
النوع والعرف، لظهورها في أن المطلوب هي الهداية إلى الصراط
المستقيم، المفسر في الأخبار بالأئمة الهداة وبأمير المؤمنين (عليه السلام) (2)،
ولأجل مثله توهم أرباب الانحرافات: أن المعبود في الآية الشريفة

1 - التين (95): 5.
2 - راجع معاني الأخبار: 32 / 2 و 3 و 7 و 8.
129

* (فاعبدوا ربكم) * (1) هو هؤلاء المعصومون (عليهم السلام) الكمل، لا يجوز لمتوطن
في دار الوحشة والظلمة أن يتوجه إلا مع الواسطة، فلابد وأن يعرف
الإمام والإمامة، والصراط المستقيم الذي به يتمكن بعد ذلك أن يصل
إلى دار الحقيقة، كما فسر في بعض الأخبار بأنه الإمام ومعرفته (2).
فعلى هذا إذا كان يستدعي السالك العابد من الله تعالى الهداية إلى
معرفة الإمام وإلى الصراط المستقيم الذي هو الإمام بوجوده الواقعي،
فيتمثل في نفسه في الابتداء صورته، ويحصل في قلب السالك دقيقته، وقد
مر منا سابقا (3): أن أشرنا إلى أن المخاطب في قوله: * (إياك نعبد) *، لا
يكون إلا العناوين الفانية في الذات والمفاهيم المشيرة إلى الخارج،
وتلك الحقائق أولى بجعلها فانية ورسما، لأنهم في الإعراب عن تلك
الحقيقة البيضاء أقوى وأتم بالبداهية والضرورة، فيكون قوله بعد ذلك:
* (إهدنا الصراط المستقيم) * بداعي البعث إلى البقاء على تلك الحالة
الثابتة له، التي هي الصراط المستقيم حسب ظرفية وجوده واقتضاء
استعداده، ولعل ما ورد في بعض الكتب بعنوان الرواية: " واجعل واحدا من
المعصومين (عليهم السلام) نصب عينيك " (4) يشير إلى هذه الومضة. وهذا غير ما
تخيله أرباب الصوفية الباطلون من تمثيل صورة الشيخ الفاسد العاطل.

1 - البقرة (2): 21، الحج (22): 77.
2 - معاني الأخبار: 33 / 3.
3 - راجع الفاتحة: الآية 5، المسائل الفقهية، المسألة الثالثة.
4 - الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السلام): 105، تفسير بيان السعادة 1: 23.
130

فما في بعض الكتب: بأن المراد أن السالك ينبغي أن يجلو مرآة قلبه
بالذكر والأعمال المأخوذة من شيخه، فإذا اجتلى الذهن وقوي الذكر،
وخلا القلب من الأعيان، ظهر الشيخ بمثاله على السالك، فإن الذكر
المأخوذ منه نازلة وجوده، فإذا قوي تمثل بصورته، وإذا ظهر الشيخ
بمثاله رفع كلفة التكليف عنه، والتذ بحضوره عند محبوبه (1). انتهى،
انحراف عن الصراط المستقيم وتضييع للعائلة البشرية.
دليل عرفاني وتنبيه إيماني
إشارة الآية إلى برهان الصديقين
من الممكن أن تكون الآية معناها طلب إراءة الطريق، أو طلب
الإراءة والتوفيق على تطرقه وتوصله بالوصول إليه، وعلى كل ذلك يكون
مطلوبا بالغير ومقصودا غيريا.
ومن الممكن أن تكون الآية في مقام إفادة أن المطلوب النفسي هو
الصراط المستقيم، وليس شئ آخر وراءه مطلوبا بهذه الآية، وإن كان له
مطلوب آخر، وهو ما يوصل إليه هذا الصراط والسبيل المستقيم.
وهنا سر آخر غير الأسرار الماضية وهو: أن الآية ربما تشير إلى برهان
الصديقين ودليل أرباب الكشف واليقين، وهو أسد البراهين وأقوم الطرق

1 - راجع تفسير بيان السعادة 1: 33.
131

وأشرفها، وهو الذي يكون الوسط في البرهان هو في الحقيقة، ويكون
الطريق إلى المقصود، وهو عين المقصود، فما هو مطلوب السالك هي
الهداية إلى الطريق والصراط المستقيم، الذي لا شئ وراءه، حتى
يكون هو ذا الصراط، ويكون السبيل والطريق موصلا إليه، بل هو نفس
الطريق والصراط * (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) * (1).
وهذه الطريقة لا نسميها البرهان - لا لميا ولا إنيا - كما حررناه في
تعاليقنا على الأسفار الأربعة (2)، لأنها من مشاهدة أربابها ومن كشفيات
أصحابها، فلا تمكن من تقريبها، ولو أمكن ذلك فهو من البرهان، مع أنه لا يعد
برهانا إلا تسامحا.
فحذف متعلق الصراط المستقيم ربما كان لأجل إفادة أنه ليس وراء
الهداية إليه هداية أخرى، بل هي تمامها وكمالها. وللمقام تفصيل لا يسعه
الكلام، وعنده مزلة الأقدام والأقلام.

1 - فصلت (41): 53.
2 - راجع تعليقات على الحكمة المتعالية ذيل 6: 13، برهان الصديقين.
132

وميض
حول الاسم " الهادي "
اعلم: أن اسم " الهادي " حسب تقسيم الشيخ العربي من أسماء
الأفعال (1)، وحسب ما هو الحق من أسماء الذات في اعتبار، لأنه من
الصفات الكمالية التي تعرضها، فإنه تعالى بذاته الهادي، وهو بذاته
المهدي، لا باعتبار الأمر الزائد عليها، كما هو العالم بذاته ومعلوم بذاته
لذاته، وباعتبار آخر من أسماء الأفعال، لأنه بهدايته يهدي الخلق من
الضلالة، حسب أنحاء الهدايات وأنواع الضلالات، وسيأتي تحقيق بليغ -
إن شاء الله تعالى - حول ملاك أسماء الذات وأسماء الصفات والأفعال في
سورة البقرة، وقد سبق أن أجملنا الكلام حوله.
ثم إن هذا الاسم من الأسماء المحاطة تحت اسم " الرحمن "
و " الرحيم "، فإن الهداية تترشح من الرحمة بالخلق، ومظهره الأتم في
النشآت الثلاث، هو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذات والأصالة، والأئمة
المعصومون - صلوات الله تعالى عليهم أجمعين - بالتبع، وحيث إن الهداية
في النشأة العينية ظل الهداية في النشأة العلمية * (ومن كان في هذه
أعمى فهو في الآخرة أعمى) * (2)، ويقول خواجة عبد الله الأنصاري: " همه از

1 - راجع إنشاء الدوائر: 28.
2 - الإسراء (17): 72.
133

آخر كار ميترسند من از أول " (1)، فالهداية في الآخرة وهذه الدنيا تبع
الهداية في النشأة الأولى والدار العليا، فهو تعالى يهدي بفيضه الأقدس
ثم بفيضه المقدس. فالأعيان الثابتة العلمية يترنمون بألسنة ذواتهم:
* (إهدنا الصراط المستقيم) *، وهذه الرنمة محفوظة في القوس النزولي
إلى أن يصل السالك في قوسه الصعودي وعند معراجه الروحاني، فيقول
حال عروجه: * (إهدنا الصراط المستقيم) * بلسان المقال، وألسنة
المتوسطة لسان الحال.

1 - انظر " مجموعه ء مناجاتها ومقالات خواجة عبد الله الأنصاري "، المكالمة الأولى.
134

النصيحة والأخلاق
يا أيها القارئ الكريم، ويا أيها السالك المفتاق إلى الرب
الرحيم: إذا علمت هذه الرقائق العرفانية، وتلك الحقائق الحكمية،
والدقائق الإيمانية، وأحطت خبرا: بأن الآيات القرآنية والسور الإلهية
الرحمانية، مشتملة على جميع المراتب الإمكانية، وتمام الكمالات
الإنسانية، وحصلت كل ذلك من تلك المباحث العالية وهذه المسائل
الراقية، فعليك تنفيذها، وإياك وأن تقنع منها بالصور العلمية والمفاهيم
الكاسدة الوهمية، ولابد من الجهد والاجتهاد في التطرق وسلوك هذا
الصراط المستقيم، والوصول إلى دار الخلد ونعيم الأزل، بالسير في
الدرجات المختلفة من الهداية والفوز بالدرجة العليا منها، ورفض
الهدايات الحيوانية والبهيمية والبدوية، وكسب الهداية التامة
العادلة، بالقيام بالوظائف الشرعية في مقام الظاهر، والاجتهاد في
الرياضات النفسانية في مقام الباطن، فيحافظ على الأحكام القلبية
والقالبية في مقام العمل، ولا يكتفي بهذه العناوين والوهميات
والذوقيات، فإن وراء ذلك كله الخير، وإلا فتلك هي الشرور التي تلزمك
135

وتحشر معك، وتعانقك في البرازخ إلى القيامة الكبرى والعظمى، فنعوذ
بالله الجميل من هذه الصور المؤذية وتلك المقارنات الغير الملائمة.
فيا أيها الأخ العزيز، لا تتوهم أن كاتب هذه الحروف تجاوز عن حد
الحيوانية إلى الإنسانية، فضلا عن السير في مراتبها العالية، ولا تغتر بما
في هذه الصحف، والغرور من مكايد إبليس، بل عليك الاغترار - إذا جاز - إذا
تجاوزت عن المكائد النفسانية، بل والقيود القلبية، ورأيت الشاهد
الحقيقي على صراط الإنسانية المستقيم، وما ذلك إلا بأن تكون في جميع
الحالات مقيدا بقيود الديانة والشرع، وأن تواظب في جميع الأحوال
والأزمان على الأحكام الجائية من قبل خير الأنام - عليه وآله الصلاة
والسلام - وتكون قواك الظاهرية والباطنية في القيام والخدمة لرب
العالمين، فلئن صبرت على هذه المصائب وتلك المعضلات والموانع
الموجودة في الطريق، وقلعت باب الحق للوصول إلى آخر السفرة، فهو
المطلوب والمقصود، وهو المأمول والمسؤول، وإلا فستبقى في جحيم
الطبيعة والطبقة الدنية، وتحشر يوم القيامة في زمرة الحيوانات
والبهيمة، وتنشر بحكم * (إذا الوحوش حشرت) * أعاذنا الله تعالى من شر ذلك
اليوم، ووقانا حسابه.
فيا إلهي ويا سيدي، إهدنا الصراط المستقيم إلى حقيقتك ونفسك،
فاهدنا سواء السبيل إلى رحمتك ورأفتك ثبتنا على الطريقة الموصلة
إليك وإلى انسك ولقائك، فإني وإن أكن صفر اليد، وفي الأغلال والسجون
الظلمانية الغضبية والشهوية والشيطانية، ولكنني أحب التخلص منها،
وأعشق الوصول إلى حضرتك بربوبيتك من غير جد واجتهاد، تخيلا أن
136

رحمتك ورأفتك تأخذني، وظنا بك وبحسن عشرتك بنا وللخلق أجمعين، فإن
من وظائف العبودية حسن الظن بالله العظيم، فإن اهتدينا بهدايتك فهو، وإلا
فنحن إلى الهاوية، وهي أهون من لقاء أمثال معاوية في تلك الباقية
الخالدة، فمن جانب محروم من الانس بك وبأوليائك، ومن ناحية معذبون
بأنواع تعذيبك، ومن الثالثة - وهي أشد من الأوليين - الحشر مع أعدائك
والخبثاء من خلقك، فيا الله خذ بناصيتنا واهدنا الصراط السوي لقولك:
* (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) * (1).
ثم اعلم: أن الهداية من جنود العقل، والضلالة من جنود إبليس
والجهل، وقد سكت في الرواية المعدة لتلك الجنود وأضدادها عن
عدهما منها (2)، لأجل أن بعض العناوين الكلية يشملهما، وسيأتي بعض
بحوث اخر حول الهداية، عند البحث عن ذي الضلالة وكيفية استنادها
إليه تعالى من ذي قبل إن شاء الله.

1 - هود (11): 56.
2 - راجع الكافي 1: 15 - 17 / 14، وتحف العقول: 468 فيما وصى الصادق (عليه السلام) لهشام.
137

التفسير والتأويل
على اختلاف المسالك والمشارب
أما على مسلك الأخباري
* (إهدنا الصراط المستقيم) * وثبتنا، وأدم لنا توفيقك الذي به أطعناك
في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا، وأرشدنا للزوم
الطريق المؤدي إلى صحبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع
أهواءنا فنعطب، وأن نأخذ بآرائنا فنهلك (1).
أي * (إهدنا الصراط) * والطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان:
صراط في الدنيا وصراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو
المفروض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه، مر على الصراط
الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن

1 - معاني الأخبار: 33 / 4 وراجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 21.
138

الصراط، فتردى في نار جهنم (1).
وقريب من ذلك كله: * (إهدنا الصراط المستقيم) *، وهو أمير المؤمنين
ومعرفته في أم الكتاب، * (إنه في أم الكتاب لعلي حكيم) * (2) أو إنه ليس
بين الله وبين حجته حجاب، فلا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله، ونحن
* (الصراط المستقيم) * (3).
وقريب منه: * (إهدنا الصراط المستقيم) * أرشدنا حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأهل بيته (عليهم السلام)، وهو صراط محمد وآله (عليهم السلام) (4)، وهذا * (الصراط
المستقيم) * قد وصف بنعوت في الأخبار والمآثير العامة والخاصة (5).
وأنت بعد ما أحطت خبرا بما أسمعناك، تجد أن هذه العبائر شتى، وكل
إلى ذلك الجمال والمعنى الواحد يشير من غير وجود الاختلاف بينها،
ضرورة أن * (الصراط المستقيم) * في الآية صراط معنوي تكويني وتشريعي،
والأخبار تعرضت لتعيين مصاديقها التكوينية والتشريعية، والهيئة في
قولنا: " اهدنا " بعث إلى الهداية، وذلك يكون بدواع شتى من غير لزوم
المجاز أو الاشتراك، واختلاف الدواعي باختلاف الداعين، فمنهم من يريد
الخروج من الضلالة، ومنهم من يريد البقاء على الهداية.

1 - معاني الأخبار: 32 / 1.
2 - معاني الأخبار: 33 / 3.
3 - معاني الأخبار: 35 / 5.
4 - مناقب آل أبي طالب 3: 73.
5 - راجع معاني الأخبار: 32، وأمالي، الصدوق: المجلس الثالث والثلاثون، وعلم اليقين،
الفيض الكاشاني: 2: 965 - 975، والدر المنثور 1: 14 - 15.
139

وعلى مسلك الفقيه والعالم النبيه
* (إهدنا) * ووجهنا نحو الهداية إلى * (الصراط المستقيم) * وطريق
النجاة وسبيل الجنة، وهو الإسلام والإيمان بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وبخلفائه المعصومين (عليهم السلام)، وأما سائر الأمور فهي خارجة عن المطلوب
بهذه الآية الكريمة، فالمقصود على ما يظهر هي الهداية إلى الاعتقادات
الصحيحة، التي هي أصل كل شئ، وأما الهداية إلى الأخلاق الحسنة
أو الأفعال الصحيحة، فهو مطلب آخر، ضرورة أن الطريق المستقيم
المنتهي إلى الجنة منحصر بذلك، ولا منافاة بين هذه الهداية - أي
الهداية إلى التوحيد الذاتي والعبادي، والهداية إلى الأصول
الاعتقادية الناجية - وبين الابتلاءات في الطريق وتحمل التبعات في
السبيل.
وقريب منه: أن المطلوب بهذه الآية الكريمة هو نفس الاهتداء إلى
* (الصراط المستقيم) *، وأما الانتهاء بعد تلك الهداية إلى منتهى الصراط،
وهو النجاة من النار والفوز بالجنة، حتى يكون المطلوب هي المقدمة
الموصلة، فهو غير معلوم، بل المطلوب بها هي المقدمة المطلقة، لا
الموصلة، ولا حال الإيصال، حسب ما تحرر في الأصول (1)، بل لو قلنا
بامتناع إيجاب المقدمة الموصلة أو المقدمة حال الإيصال يلزم امتناع
طلب ذلك، لأن سر امتناعها غير خفي على أهله، وهو مشترك بين كون البعث

1 - تحريرات في الأصول 3: 206.
140

إلى الهداية بعثا من العالي إلى الداني أو كان من الداني إلى العالي،
ولا بين كون البعث إيجابيا أو كان إرشاديا، فعليه يتوقف طلب القارئ
الكريم بعد وصوله إلى * (الصراط المستقيم) *، ويكون من قبيل إراءة
الطريق، لا الإيصال إلى المطلوب.
وقريب منه: أن معنى * (إهدنا الصراط المستقيم) * ينحل إلى البعث
إلى الهداية من الضلالة، وإلى إدامة الهداية، ولا يكون - حتى
بالنسبة إلى الشخص الواحد - بعثا إلى الهداية من الضلالة، فعند ذلك
بعث واحد بداعيين: أحدهما السوق إلى الهداية، والآخر الإبقاء عليها،
وهذا ليس من استعمال الهيئة في المعنيين حتى يتوهم امتناعه، أو يتخيل
استبعاده واستهجانه، كما مر تفصيله.
وعلى مسلك الحكيم
* (إهدنا) *: أي مجموع عائلة البشر إلى * (الصراط) * الوحيد، وهو
السبيل * (المستقيم) * الإنساني، أي اهدنا إلى الصراط الكامل الواحد
المنتهي إلى فناء الله بالفناء في الله.
وقريب منه: * (إهدنا) * إلى * (الصراط) * الموجود بالفعل
* (المستقيم) *، الممدود من مبدأ الطبيعة إلى منتهى السير التكاملي في
الحركات التكميلية الطبيعية الجوهرية والكيفية والكمية
والبرزخية والتجردية العقلية إلى آخر مراتبها، وهذا الصراط
الموجود بالفعل الممدود من مبدأ الهيولي إلى مبدأ الوجود، مورد
141

الطلب في الآية، وهو مطلوب المجموع، وبذلك ينكشف وجود الاستعداد
الذاتي لجميع عائلة البشر للسير في هذا الصراط إلى تلك الحقيقة
النورية، وإلى ذلك الأصل الكامل والخير التام، وإلا فلا معنى لطلب
المحال والمستحيل، كما عرفت تحريره وتقريره.
أو هو مطلوب بنحو العموم الاستغراقي، أي إهدني واهد غيري وكل
فرد، سواء كان أخي في ديني، أو نظيري في خلقي، فإذا انحل هذا الطلب إلى
الكثير، فيكون المعنى: إهد الضال إلى الهداية واهد الهادي إلى
الدرجة العليا منها، واهد الواقف على الدرجة العليا بأن لا يرجع إلى
الضلالة، ويكون بداعي الإبقاء عليها.
وعلى مسلك العارف
* (إهدنا الصراط المستقيم) * الثابت لكل أحد إلى مبدئه، فاهد كل
أحد إلى صراطه المستقيم المخصوص به، فإن كل مسمى سائر في اسمه
من الظاهر إلى الباطن، كما أنه في قوس النزول تنزل تحت ذلك الاسم.
وبعبارة أخرى: إن اقتضاء اسم " الهادي " هو إسراء كل موجود إلى
معراجه المحرر له والمقرر بفيضه الأقدس، وهذا هو حقيقة هداية الله
تعالى إلى * (الصراط المستقيم) *.
وقريب منه: * (إهدنا الصراط المستقيم) * المنتهي إلى الاسم الجامع،
وهو الله، فيكون المقصود هي الهداية من الصراط الخاص - حسب
الاسم المخصوص به في الذات - إلى الأسماء الرئيسة والمحيطة،
142

ومن تلك الأسماء إلى الاسم الأعظم وإلى المسمى في بعض اعتباراته، وإلا
فبعض منها غير مرسوم برسم ولا موسوم باسم، لا تناله يد الأنبياء والرسل،
ولا تدركه عقول الملائكة ولا الروح الأعظم، وهو مقام اللااسمي
واللارسمي، كما قيل بالفارسية:
عنقا شكار كس نشود دام بازگير * كانجا هزار باد بدست است دام را (1)
وغير خفي: أن الناس مختلفون في التكوين وفي الإدراك من التشريع
والإسلام والإيمان والدين، وحسب اختلاف ذلك يختلفون في * (الصراط) *
وسلوكه، ويختلفون في ما يريدون منه، وكل - بحسب نشأته العينية -
موافق لما هو مقصوده من الآية ومن طلب الهداية ومسانخ معه، فيجوز أن
يقرأ تارة ويريد شيئا، ويقرأ أخرى ويدعوه لأمر آخر... وهكذا * (هذا القرآن
يهدي للتي هي أقوم) * (2)، وإن به يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا وجه
لحصر الآية في أحد المسالك، بل الكل صحيح حسب اختلاف مظاهر
الوجود، وتشتت مظاهر الكتاب والخطاب، فلأحد يتوهم أن الآية تشير
إلى طلب الهداية إلى * (الصراط المستقيم) *، وأنه هو المطلوب
النفسي، وليس * (الصراط المستقيم) * مطلوبا غيريا، وهو مثال الشيخ
وصورة الإنسان الكامل الظاهرة على السالك في حال سلوكه، فإن بعضا
من الناس لا يريد الله منه إلا لقاء الإنسان الكامل، فيكون غاية سيره

1 - ديوان حافظ شيرازي، مطلعه:
صوفي بيا كه آينه صافيست
جام را * تا بنگرى صفاى مى لعل فأم را
2 - الإسراء (17): 9.
143

ذلك، ومطلوبه الأعلى هو الوصول إلى * (الصراط المستقيم) *.
نعم إن ارتقى وتجاوز عن حد النفس والروح والقلب، واضمحلت
صورة الشيخ عنده، فله طلب الهداية بالوجه الآخر، فتدبر.
وعلى مسلك الخبير البصير
* (إهدنا) * وأخرجنا من ظلمات الضلالة إلى * (الصراط المستقيم) *
ونور الهداية، وهذا مختلف بحسب النشآت المادية والمعنوية
الظاهرية والباطنية، وحذف متعلق * (الصراط المستقيم) * دليل العموم،
ف‍ * (إهدنا الصراط المستقيم) * في أسفارنا المتعارفة في البلاد وضواحيها
ونواحيها، وفي أسفارنا المعنوية، وفي مداركنا العقلية، وفي المتخيلات
والمتوهمات والمحسوسات، وفي الغرائز والغضب والشهوة، وفي جميع
السكنات والحركات، و * (إهدنا الصراط المستقيم) * المنتهي إلى ما هو
السبيل والصراط المستقيم، فإن الوصول إلى * (الصراط المستقيم) * -
أيضا - يحتاج إلى الهداية والدلالة والإراءة والإرشاد بالضرورة.
وتوهم: أن الاختلاف في معنى * (الصراط) * بلا وجه، لما فسر في
نفس السورة الشريفة وفي الآية الأخرى: * (أولئك الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) * (1)، فإن
* (الصراط المستقيم) * صراط هؤلاء الناس من الأماجد والعظماء والأفاخم

1 - النساء (4): 69.
144

والشرفاء (1)، غير صحيح، فإنك تعلم أن الكلي في سورة الفاتحة لا ينحصر
بما في الآية الشريفة، ومجرد الاشتراك في الإنعام لا يورث الحصر، بل
النظر إلى المعنى الكلي الموافق لجميع النشآت، فيكون المطلوب
عاما، ويريد الإنسان * (الصراط المستقيم) * إلى دار صديقه، وإلى البلد
والمحلة، وإلى كل شئ هو مطلوبه القاصي ومأموله العالي، من البلاد
والمدن في البرازخ، إلى الممالك والعواصم في الجبروت الأعلى، حتى
يصل إلى مملكة الوجود وعاصمة الذات بالشهود الرباني والمعاينة
العرفانية، ثم الهداية إلى الصراط والجادة المستقيمة، معناه الهداية
إلى تلك النشأة الفاني وجوده فيها، والرجوع عنها وعن ذلك * (الصراط
المستقيم) * أيضا، لئلا يكون من المغضوب عليهم المفرطين، ولا من
الضالين المفرطين، فيحذو حذو المنعم عليهم من الصديقين والشهداء
الصالحين إن شاء الله تعالى.
ولعل إلى جميع هذه التفاصيل يشير قوله تعالى: * (ولكن جعلناه نورا
نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله
الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) * (2).
تذنيب: حول عدم تعارض الأقوال عند تعيين المصاديق
وبعد التدبر فيما أسلفناه، وأن ما ورد عن أئمتنا محمول على

1 - راجع التفسير الكبير 1: 256 - 257، والجامع لأحكام القرآن 1: 149.
2 - الشورى (42): 52 - 53.
145

التأويلات وذكر المصاديق بالخصوصيات، من غير إفادة الانحصار أو تعيين
حدود المراد، يظهر: أن اختلاف الأمة الإسلامية في غير محله، وقد بلغت
أقوالهم وآراؤهم إلى ما يقرب من العشرة، بل هم يزيدون، ولا سيما مع
ملاحظة اختلاف نظرياتهم في مفاد * (إهدنا) * من أنه بمعنى: أرشدنا، أو وفقنا،
أو قدمنا، أو ألهمنا، أو بين لنا، أو ثبتنا (1).
وقيل: الأول من ابن عباس، وقد مضى حكم الأخير المأثور عن الأمير
- عليه الصلاة والسلام - فإنه يصير أكثر، فعن ابن عباس: أن * (الصراط) *
هو القرآن، وعن المهدوي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كتاب الله أو
الإيمان وتوابعه، أو الإسلام وشرائعه، أو السبيل المعتدل، أو طريق
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض آخر قاله أبو العالية والحسن، أو طريق الحج قاله
فضيل ابن عياض، أو السنن قاله عثمان، أو طريق الجنة قاله ابن جبير، أو
طريق السنة قاله القشيري، أو طريق الخوف والرجاء قاله الترمذي،
أو جسر جهنم قاله عمرو بن عبيد، أو غير ذلك (2)، فإن الكل صحيح أخذا
بالمحدود، وباطل أخذا بالحد.
وعن جماعة من المتصوفة في معنى * (إهدنا الصراط المستقيم) *:
الغيبوبة عن الصراط، لئلا يكون مربوطا به.
وعن الجنيد: أن سؤال الهداية عند الحيرة من شهود الصفات
الأزلية، فاسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية، لئلا يستغرقوا في تلك

1 - راجع البحر المحيط 1: 27.
2 - انظر البحر المحيط 1: 27.
146

الصفات (1).
وفي تفسير ابن العربي: ما يقرب من المسلك، أي ثبتنا على الهداية،
ومكنا بالاستقامة في طريق الوحدة، التي هي صراط المنعم عليهم بأنعم
الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة والمحبة (2). انتهى.

1 - البحر المحيط 1: 27.
2 - تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين العربي 1: 11.
147

الناحية الثامنة: حول الآية الشريفة
* (صراط الذين أنعمت عليهم
غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *
149

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول كلمة " أنعمت "
النعمة: المال، كما عن الصحاح، يقال: فلان واسع النعمة، أي
واسع المال (1).
قال الرازي: النعمة: المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى
الغير. قال: فخرج بالمنفعة المضرة المخفية والمنفعة المفعولة لا على
جهة الإحسان إلى الغير، بأن قصد الفاعل نفسه، كمن أحسن إلى جارية
ليربح فيها (2). انتهى.
وقال الراغب: الإنعام: إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان

1 - الصحاح 5: 2041.
2 - التفسير الكبير 1: 258.
151

الموصل إليه من جنس الناطقين، فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه (1). انتهى.
وفي المنجد: أنعم الله النعمة عليه، وأنعمه بالنعمة، أوصلها
إليه (2). انتهى.
وفي الأقرب: أنعم، أفضل وزاد، والقوم: أتاهم متنعما على قدميه حافيا
على غير دابة، وصديقه: شيعه حافيا، وفي الأمر: بالغ كأمعن (3). انتهى.
والذي يحصل من مجموع ما في كتب اللغة: أن النعمة: إما أعم من
المال، ويشهد له الإنعام بمعنى التشييع حافيا أو هيئة باب الإفعال لا تدل
على بذل النعمة، بمعنى المال، بل هي بمعنى التفضيل والازدياد، فإذا قيل:
أنعم علي، أي بلا ذكر متعلقه، فهو ليس ظاهرا في طلب المال أو العلم أو
شئ آخر، بل هي من هذه الجهة مبهمة تحتاج إلى مبين، وليس مفاد
الهيئة لأجل كون المادة النعمة، وهي بمعنى المال، أي أعطني المال،
كما عرفت في مطاوي كلماتهم المحكية بألفاظها.
وقضية الموارد الواردة في الكتاب الإلهي بكثرتها، أنها كثيرا ما
أطلقت على غير المال من الأمور الأخر الدنيوية والأخروية.
والذي يستظهر: أن النعمة أعم من المال، لما نجد صحة إطلاقها
على العقل والعلم والعمل وغير ذلك، ويشهد له قوله تعالى: * (واذكروا
نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب) * (4)، * (واذكروا نعمة الله عليكم

1 - المفردات في غريب القرآن: 499.
2 - المنجد: 820.
3 - أقرب الموارد 2: 1321.
4 - البقرة (2): 231.
152

إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم) * (1) وغير ذلك من الآيات الكثيرة، ولا سيما
في مورد إطلاق النعمة مقابل الضر، كما في قوله تعالى: * (وما بكم من
نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) * (2)، والضر هو المشقة
والحرج، ومثله النعماء والضراء.
وأما توهم: أن الإنعام هو الإعطاء أو الازدياد والتفضيل، لقوله تعالى:
* (أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * (3) فإن تكرار المادة شاهد على أن
" أنعمت " بمعنى أعطيت، فهو من الغفلة عن حسن الاستعمالات، ولقد ورد
في الأدعية والاستعمالات الصحيحة: " كل ذنب أذنبته وكل خطيئة
أخطأتها " (4) فإن التجريد من المحسنات في الأساليب المشهورة، ومن ذلك:
" كل جرم أجرمته " وغيره، فقوله تعالى: * (ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة
أنعمها على قوم) * (5)، من هذا القبيل.
وأما ما في " مفردات الراغب " (6) فهو غير مبرهن، فإن النعمة إذا كانت
من مصاديقها المال، فيمكن اختصاص المال بالحيوان، ويكون هو له نعمة
بالضرورة، فلا يشترط كون المنعم عليه من الناطقين.
نعم، النعمة وإن كانت معناها الأعم، ولكن الظاهر أنها الأموال أو

1 - آل عمران (3): 103.
2 - النحل (16): 53.
3 - البقرة (2): 40 و 47 و 122.
4 - راجع دعاء كميل بن زياد عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
5 - الأنفال (8): 53.
6 - المفردات في غريب القرآن: 499.
153

غيرها مما يحصل مجانا، وبلا عوض مطلقا حتى العوض المعنوي، بل لا
يبعد كونها مخصوصة بما إذا حصلت من غير سؤال واستيجاب، وحيث إن
الكتاب محفوف باستعمالها مضافا إليه تعالى، يمكن استكشاف أنها بالنسبة
إلى غيره تعالى غير ممكنة، لأن غيره يريد الجزاء أو يعطي بعدما يسأل،
ولعل إلى ذلك يشير قوله تعالى: * (وما لاحد عنده من نعمة تجزى) * (1)،
فليتأمل جيدا.
ودعوى: أن النعمة هي المال فاستعيرت لغيرها (2)، غير مسموعة،
لأنه خلاف الأصل، ولا يعول على قول لغوي مع قلة اطلاعهم على حقيقة
المعنى وسعته وضيقه.
وعلى كل تقدير: لا يتبادر من قولنا: اهدنا صراط من أنعمت عليه، أي
صراط من بذلت لهم المال والنعمة قطعا.
المسألة الثانية
حول مفعول " أنعمت "
حسب استعمالات الكتاب، وحسب ما في كتب اللغة: أن الإنعام
متعد إلى المفعول الأول بلا واسطة، وإلى الثاني معها، قال الله تعالى:

1 - الليل (92): 19.
2 - انظر لسان العرب 12: 579، والقاموس المحيط: 1500.
154

* (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم) * (1)، فالقوم منعم عليهم،
وهو تعالى المنعم، وبناء على هذا تلزم الشبهة، وهي: أن القوم مفعول أول،
والنعمة هي نفس الفعل الصادر من الفاعل، فكيف يعقل أن تكون مفعولا
به، فلا يكون الإنعام متعديا، وهو خلاف ظاهر الكتاب واللغة، بل وصريح
ابن حيان في التفسير.
فبالجملة: حيث قال: النعمة لين العيش وخفضه، ولذلك قيل
للجنوب: النعامى للين هبوبها... إلى أن قال: وأنعم عليه بالغ في التفضل
عليه، أي الهمزة في أنعم يجعل الشئ صاحب ما صيغ منه، إلا أنه ضمن
معنى التفضل فعدي بعلى، وأصله التعدية بنفسه، أنعمته، أي جعلته
صاحب نعمة، وهذا أحد المعاني التي لأفعل، وهي أربعة وعشرون
معنى (2). انتهى.
وأنت خبير: بما في تفسيره لمعنى النعمة، حيث عرفت فيما سبق
معناها، ولكن ينبغي الشكر حيث توجه هو إلى مشكلة المسألة لغة،
ولكنه لم يأت في حلها بشئ.
والذي هو التحقيق: أن هيئة باب الإفعال: تارة تؤخذ من الجوامد، كما
في الأمثلة التي مرت في المسألة الأولى، كقولهم: " كل جرم أجرمته، أو
كل ذنب أذنبته " وإن كان بينهما الفرق في جهة كما لا يخفى، وحيث إن
النعمة هي المال أو أعم منه ويكون من الأسماء الموضوعة للذوات،

1 - الأنفال (8): 53.
2 - راجع البحر المحيط 1: 26.
155

وهي غير النعمة التي هي المصدر من نعم، كما توهمه أبو حيان وغيره،
فلا بأس بأن يؤخذ منها الفعل والمشتق، كقوله تعالى: * (والقناطير
المقنطرة) * (1)، ومثل " الجنود المجندة " (2)، فمعنى " أنعمت النعمة عليهم "
بوجه: أعطيتهم النعمة أو جعلتهم صاحب النعمة أو بذلتم وغير ذلك.
وبعبارة أخرى: لا يمكن ترجمته على الوجه المطابق له، ولكن
المقصود معلوم، فإذا قيل: أنعمت عليكم، ليس هنا شئ محذوف، كما أن
النعمة في قولنا: أنعمت النعمة، ليس مفعولا به، بل هو نفس الفعل جئ
به للتأكيد أو لغرض آخر، فليتدبر.
المسألة الثالثة
حول كلمة " غضب "
غضب عليه - الغضبة - للانتقام منه مع حبه، ويقال: غضب لفلان
وعلى فلان، أي على غيره من أجله إذا كان حيا وبه إذا كان ميتا، والغضب
ثوران دم القلب إرادة الانتقام، هكذا في " المفردات " (3).
وأنت خبير: بأن من الحيوانات من لا دم له ويغضب.

1 - آل عمران (3): 14.
2 - راجع بحار الأنوار 58: 63 / 50.
3 - المفردات في غريب القرآن: 361 - 362.
156

وفي " القاموس ": هو ضد الرضا (1)، وهو غير مرضي، لأن ضد الرضا
في حديث جنود العقل والجهل هو الرحمة (2)، وحسب ما يتبادر منه
استعمالا هي الكراهة.
ويؤيد الأول قوله تعالى: * (والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا
ما غضبوا هم يغفرون) * (3)، فإن المغفرة نوع من الرحمة الكلية العامة.
ويؤيد الثاني قوله تعالى: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض) * (4)، فإنه
مقابل التجارة عن كراهة وإكراه. هكذا تحرر.
وقيل: الألم على كل شئ يمكن فيه غضب، وعلى ما لا يمكن فيه
أسف. وقيل: هو يجمع الشر كله، لأنه ينشأ عن الكبر. وقيل: الغضب معه
طمع في الوصول إلى الانتقام والغم معه يأس من ذلك (5). انتهى.
وقال ابن حيان: الغضب تغير الطبع لمكروه، وقد يطلق على
الإعراض لأنه من ثمرته (6). انتهى. والسخط هو الغضب الشديد
المقتضي للعقوبة. هكذا في " المفردات " (7).
والذي يظهر لي بعد التدبر في سائر أنحاء اشتقاقاته: أن الغضب

1 - القاموس المحيط: 154.
2 - الكافي 1: 16 / 14.
3 - الشورى (42): 37.
4 - النساء (4): 29.
5 - تاج العروس 1: 412.
6 - البحر المحيط 1: 28.
7 - المفردات في غريب القرآن: 227.
157

والغضب هي شدة الحمرة، وأن أصل اللغة موضوع للحمرة التي تظهر
على الوجه، ثم اطلق على سبب هذه الحمرة نوعا، فاستعمل في الحالة
التي تنتهي إلى الحمرة، من غير كونها مقيدة بالانتهاء إليها في الموضوع
له، وتلك الحالة في الحق بوجه آخر، وحمرته تعالى هي النار التي
وعد الكافرين.
ثم إن " غضب " لازم، ويتعدى ب‍ " على " نوعا وباللام بعضا، وسيظهر في
الآيات الآتية - إن شاء الله تعالى - البحث حول صحة استناد هذه الأوصاف
إليه تعالى، وقد مضى شطر من البحث حول كيفية انتساب الرحمة إليه
تعالى.
المسألة الرابعة
حول كلمة " الضلال "
الضلال والضلل - محركة - ضد الهدى والرشاد قاله
" القاموس " (1).
وقال ابن الكمال: الضلال: فقد ما يوصل إلى المطلوب، وقيل:
سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب (2).
وفي الراغب: هو العدول عن الطريق المستقيم وتضاده الهداية،

1 - القاموس المحيط: 1324.
2 - تاج العروس 7: 410.
158

قال الله تعالى: * (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها) *،
ويقال " الضلال " لكل عدول عن الحق، ولذا صح أن يستعمل لفظه فيمن
يكون فيه خطأ ما، ولذلك نسب إلى الأنبياء وإلى الكفار، وإن كان بين
الضلالين بون بعيد: * (ووجدك ضالا فهدى) * * (إنك لفي ضلالك القديم) *
وغير ذلك (1). انتهى، مع تصرف يسير. وعلى هذا المنوال نسج الآخرون في
هذه الورطة.
والذي يظهر لكاتب هذا الرقيم ولمحرر هذه الحروف: أن معنى هذه
المادة أوسع من ذلك، وهو الغيبوبة والاختفاء، ومنه الضياع إذا اطلق
وأريد منه، لأن الضياع اختفاء اللقطة، وإذا اطلق الضالة على الحيوان
فهو أيضا لأجل ذلك، فراجع أنواع الاشتقاقات المذكورة في المفصلات (2).
قال ابن حيان: والضلال الهلاك والخفاء وضل اللبن في الماء.
وقيل: أصله الغيبوبة * (في كتاب لا يضل ربي) *، وضللت الشئ، جعلت
مكانه، وأضللت الشئ، ضيعته، * (وأضل أعمالهم) *، وضل غفل نسي (3).
انتهى موضع من كلامه، مع ما فيه من الخلل الكثير.
وفي الأقرب: ضل اللبن في الماء، خفي وغاب. ضل الناسي: غاب
عنه حفظ الشئ. وفلان فلانا: نسيه. أضله، دفنه وغيبه، كقوله:
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها

1 - المفردات في غريب القرآن: 297 - 298.
2 - راجع الصحاح 3: 1748، ولسان العرب 11: 390، والقاموس المحيط: 1324،
وأقرب الموارد 1: 688 - 689.
3 - البحر المحيط 1: 28.
159

أي دفنته (1). انتهى.
وبالجملة: الضلال ليس - بحسب اللغة - من الأوصاف الرذيلة
ومن النواقص البشرية، وإن كانت الصفة الرذيلة إحدى مصاديقه،
لاشتراكها في الغيبوبة والاختفاء، وإلا فإن الخارج عن الطريق المستقيم
اختفى وغاب عنه، فيحتاج إلى الهداية، أي إلى أن يظهر على الطريق
المذكور، والضالة هي المختفية والغائبة، والضال هو الغائب، إلا أنه
تارة يراد منه النوع الخاص للقرينة، فتأمل جيدا.

1 - أقرب الموارد 1: 688 - 689.
160

القراءات وأنحاؤها
1 - اختلفوا في قراءة " عليهم " اختلافا ناشئا عن التشتت في اللغات،
وأكثر الاختلافات في الكتاب الإلهي ربما يرجع إلى هذا الأصل، وليس هذا
من الاختلاف في القراءة، لأنهم يقرؤون سائر الآثار والأشعار مختلفة، وما
هو المخصوص بالذكر تحت هذا العنوان هو الاختلافات المخصوصة
بالكتاب والقرآن، مثل قراءة " من أنعمت عليهم " في مقابل قراءة * (الذين
أنعمت عليهم) *.
وبالجملة: قد بلغت عادة العرب في قراءة هذه الكلمة - حسب
الشعوب والقبائل - إلى عشرة، كما عن ابن حيان (1).
والعجب من الآلوسي، حيث استفاد من كتب الغير، وحكاها بألفاظها،
وسكت عن النسبة (2)، فإن في ذلك نوع استراق مذموم.
وأعجب من ذلك: تصدي الطبرسي (قدس سره) للحجج المذكورة في كتب

1 - البحر المحيط 1: 26.
2 - راجع روح المعاني 1: 88.
161

القراءة، وبسط الكلام حول هذه المسألة الرديئة جدا (1)، وقد امتلأت
كتبهم من هذه المسائل، ذاهلين عن حقيقة الكتاب وسائر المسائل
المستخرجة منه، وعن أساس مقصود صاحبه وهو إرشاد الخلق إلى
الآخرة لكسب الحسنات والكمالات، ورفض السيئات والنواقص.
وإجمال تلك الاختلافات، كما قيل: ضم الهاء مع سكون الميم، أو
ضمها مع إشباع، أو دونه، أو كسرها بإشباع، أو دونه، وكسر الهاء مع سكون
الميم، أو كسرها بإشباع، أو دونه، أو ضمها بإشباع، أو دونه (2). انتهى. ولا
يخفى ما فيه من المناقشة.
2 - عن عمر، وابن مسعود، وعمرو بن عبد الله الزبيري، وزيد بن علي،
وابن الزبير (3)، وفي رواية عن أهل البيت (عليهم السلام) قراءة " من أنعمت عليهم "،
وهي ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره، قال: وحدثني أبي، عن حماد، عن
حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أنه قرأ: إهدنا الصراط المستقيم * صراط من
أنعمت عليهم وغير المغضوب عليهم ولا الضالين " (4)، وسنذكر ما يتعلق بها.
3 - وفي تلك الرواية، زيادة الواو، فهي قراءة أخرى مقابل الجمهور
" صراط من أنعمت عليهم وغير... "، وما وجدت بعد الفحص رواية أخرى،
تتضمن هذه القراءة، وفي بعض النسخ الحاكية عنه بدون الواو. والله
العالم.

1 - راجع مجمع البيان 1: 28 - 29.
2 - روح المعاني 1: 88 وراجع البحر المحيط 1: 27.
3 - راجع البحر المحيط 1: 28.
4 - تفسير القمي 1: 29.
162

4 - عن ابن الخطاب وأبي بن كعب: " غير المغضوب عليهم وغير
الضالين " (1) وفي كتب الأخبار ما عن أهل البيت (عليهم السلام) يشتمل عليها،
وأصحها ما في تفسير ابن إبراهيم القمي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن
أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: " غير المغضوب عليهم وغير
الضالين " (2) الحديث.
وفي " تفسير العياشي " عن محمد بن مسلم، قال: " سألت أبا
عبد الله (عليه السلام)... إلى أن قال: * (إهدنا الصراط المستقيم) * صراط الأنبياء وهم
الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم (اليهود) وغير الضالين
(النصارى) " (3).
وفيه أيضا عن رجل، عن ابن أبي عمير رفعه، في قوله: " غير
المغضوب عليهم وغير الضالين " (4) الحديث. وفي " المجمع " حكاية عن
" تفسير العياشي "، ما يخالفه في المتن، فإن فيه: * (غير المغضوب عليهم
ولا الضالين) * (5)، فراجع.
5 - قراءة الجمهور، وهي التي عليها التعويل، حسب ما تحرر منا في
محله، وأشرنا إليه حول قراءة * (ملك يوم الدين) *.

1 - انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 150، والبحر المحيط 1: 29، وروح المعاني 1: 90.
2 - تفسير القمي 1: 29.
3 - تفسير العياشي 1: 22 / 17.
4 - تفسير العياشي 1: 24 / 28.
5 - مجمع البيان 1: 31.
163

6 - عن ابن الخطاب: " غير المغضوب عليهم " منصوبا (1)، وعن أيوب
السختياني: " ولا الضألين " بالهمزة، فرارا من التقاء الساكنين، وهو بمثابة
ما روي عن عمرو بن عبيد، أنه كان يقرأ: * (لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) *
بالهمزة (2).
وفساد ذلك واضح، ومن ضرب بعض هذه القراءات في بعض تحصل
القراءات الاخر، ولست في مقام إحصائها، لعدم الاطلاع على خصوصيات
القراءات، كما لا يخفى.
أقول: هذه المسألة من صغريات بحوث تحريف الكتاب، وتكون
خارجة عن حد الاختلاف في القراءة، فإن اختلاف القراءات يخص بما إذا
لا تتغير الكلمات كلا، بل يكون الخلاف في الحركات والسكنات وبعض
الصيغ والهيئات، وحيث قد تحرر منا في محله: أن دعوى الاطمئنان إلى
عدم التحريف زيادة ونقيصة، من الدعاوي الممكنة، وقريبة جدا، فهذا
النحو من الاختلاف المزبور ممنوع جدا، وغير صحيح حسب ما يؤدي
إليه النظر اجتهادا، ثم إنه في خصوص هذه المسألة تكون روايات تشعر
بقراءة الجمهور، وهي كثيرة:
1 - منها: ما رواه في " الفقيه " عن الرضا (عليه السلام)، في حديث طويل،
وفيه: " * (صراط الذين أنعمت عليهم) *، تأكيد في السؤال والرغبة... - إلى
أن قال -: * (غير المغضوب عليهم) *، استعاذة من أن يكون من المعاندين

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 150، البحر المحيط 1: 29.
2 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 151، والبحر المحيط 1: 30، وروح المعاني 1: 90.
164

الكافرين... - إلى أن قال -: * (ولا الضالين) *، اعتصام " (1) الحديث.
2 - ومنها: عنه قال: حدثنا حنان بن سدير، عن جعفر بن محمد (عليه السلام)
قال: " قول الله عز وجل في الحمد: * (صراط الذين أنعمت عليهم) * " (2)
الحديث.
3 - ومنها: عنه بسند طويل - يشكل الاعتماد عليه - عن محمد بن
الحسين، عن جده (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قول الله عز وجل:
* (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * " (3)
الحديث.
4 - ومنها: ما في " العياشي " عن معاوية بن وهب، قال: " سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * " (4)
الحديث.
5 - ومنها: ما سمعت من " العياشي " عن محمد بن مسلم، الظاهر في
أنه صراط الذين، لا صراط من أنعمت (5).
6 - ومنها: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في " تفسير البرهان ": مثل ما مر
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (6).

1 - الفقيه 1: 204 / 12.
2 - معاني الأخبار: 36 / 7.
3 - معاني الأخبار: 36 / 8.
4 - تفسير العياشي 1: 24 / 27.
5 - تفسير العياشي 1: 27 / 17.
6 - تفسير البرهان 1: 51 / 27.
165

7 - ومنها: ما في " التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) " (1).
8 - وعن " معاني الأخبار ": مثل ما عن " العياشي " عن ابن وهب (2).
9 - وعن " المعاني ": مسندا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قول الله عز وجل:
* (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * (3)
الحديث.
وغير ذلك مما يطلع عليه المتضلع الخبير والمتتبع البصير، وعلى
هذا تسقط تلك الأخبار، ونرجع إلى الشهرة، مع أن الشهرة المعرضة
كاسرة، وتصبح تلك الأخبار قاصرة سندا، مع أن من المحتمل كون النظر
إلى ذكر القرآن بالمعنى لا بألفاظه، مع اضطراب في متنه، كما أشير إليه.
هذا، وقد تحرر: أن دواعي نسبة التحريف بأنحائه إلى أئمة الحق
كانت متوفرة، وقد دسوا في أخبارهم دسائس كثيرة. والله المستعان.

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 47 - 50.
2 - انظر تفسير البرهان 1: 52 / 36.
3 - معاني الأخبار: 36 / 8.
166

رسم الخط
قواعد رسم الخط تقتضي أن تكتب " الذين " هكذا: " اللذيين "، وذلك
لأن مفردة " الذي "، فإذا ثني فيكتب هكذا: " اللذان "، وإذا جمع بالواو والنون
فيكتب هكذا: " اللذيون "، فعليه لابد وأن يكتب في جمعه بالياء والنون
" اللذيين "، لأن أحد اليائين ياء الأصل، والآخر ياء الجمع، وأما " الذون "
فلا يكتب بالياء فهو أيضا خلافها.
ومن الممكن دعوى أن " الذين " جمع " اللذ "، لا " الذي "، وقد ذكر
في كتب اللغة ل‍ " الذي " خمس لغات، ومنها " اللذ " (1)، ولكنه مخالف
لظواهر كلماتهم من: أن " الذين " جمع لجميع تلك اللغات الخمس،
ولصريح ابن مالك حيث يقول:
جمع الذي اولي الذين مطلقا * وبعضهم بالواو رفعا نطقا (2)

1 - راجع القاموس المحيط: 1715، ولسان العرب 15: 245، وتاج العروس 10: 325،
وأقرب الموارد 2: 1139.
2 - الألفية، ابن مالك: مبحث الموصول، البيت 4.
167

ولأجل تلك الشبهة قيل: إن في كلمات العرب كلمتين تكتبان على
غير القياس: إحداهما " الليل " حيث يكتب " اليل " هكذا في كثير من مواضع
الكتاب العزيز أيضا في نوع نسخه، فراجع، والثانية " الذين ".
والحق: أن ما قيل واشتهر غير موافق للحق، وذلك لأن في القرآن
اختصاصات تعد غلطا حسب رسم الخط، لا يمكن تصحيحه حسب قواعده،
وقد بلغت إلى أكثر من خمسين موردا ولعل منشأه عدم اطلاع الكتاب في
صدر الإسلام على آداب الخط، فاحتفظوا على تلك الأغلاط لشدة اهتمام
المسلمين المتأخرين بعدم تصرفهم فيه حتى مثل هذا النحو من
التصرفات، حذرا من الاتهامات المتوجهة إليهم - من قبل أعدائهم - في
مسألة تحريف الكتاب العزيز وتحريف سائر الكتب السماوية.
فعلى هذا لا يمكن استكشاف قاعدة الرسم من كيفية كتابة الكتاب
العزيز، فلا يجوز أن يكتب " الليل " إلا باللامين، كما هو هكذا في مواضع من
الكتاب العزيز. هذا حكم رسم خط " الليل ".
وأما " الذين " فهو لا يجوز إلا أن يكتب هكذا، لأنه جمع " الذي "
و " الذي " مفرد معرفة فلا يدخل عليه اللام أصلا، فيجمع على " الذين "،
وأما حذف الياء فلعدم الاحتياج إليه، وهو كثير التكرر في الكتابات
ورسومها، فلا يكتب جمع " رامي " إلا " رامين "، مع أنه " الراميين " وهكذا.
نعم بناؤهم في التثنية على كتابة اللامين على خلاف القاعدة، وإلا
فالحق فيه أيضا أن يكتب هكذا " الذين "، ولكنه حذرا من الاشتباه ومن
الخلط بنوا على ذلك، مع أن هذا الخلط يكثر في المواضع الاخر بين
التثنية والجمع، كما لا يخفى.
168

وأما توهم: أن " الذي " مركب من " ال " التعريف و " ذي "، ويكون
الموصول في الحقيقة هو " ذي "، وهو مثل " من " نكرة حسب ما هو
التحقيق عندنا (1) فهو غير صحيح، لأن هذه التجزئة بلا دليل، وتخالفها
ظواهر كتب اللغة والنحو، مع أن " ذي " من أسماء الإشارة، حسب ما نص
عليه ابن مالك:
بذا لمفرد مذكر أشر * وذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر (2)
فلو كان في الأصل هكذا، ولكنه صار لغة واحدة موضوعة للمعنى
المعروف، ويكون من الموصلات المعرفة.
وغير خفي: أن منشأ اشتباه من زعم أن كتابة " الذين " غير صحيح، أما
كيفية كتابة " الذين " في حال التثنية، أو كيفية كتابة " اللذون " في
حالة الجمع بالواو، ولكنك أحطت خبرا بما هو الحق، ومن الممكن بناء
الكاتب في هذا المقام على إظهار اللام المدغم في الكتابة، مع أنه
خلاف قواعدها قطعا، ولأمر بعد ذلك كله سهل لا تثريب عليه.

1 - الصحاح 4: 2481، لسان العرب 15: 245، تاج العروس 10: 325.
2 - الألفية، ابن مالك: مبحث اسم الإشارة، البيت 1.
169

النحو والإعراب
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول إعراب " الصراط " في الآية
اشتهر بدلية الصراط الثاني من الأول، بدل الكل عن الكل، ويسمى
بدل الموافق أو المطابق في موقف خاص، ويكون من قبيل تبديل المعرفة
عن المعرفة، فيفيد فائدة عطف البيان، ويجوز أن ينعكس، فيكون حسب
التركيب عطف بيان، وعلى كل تقدير لا تخرج العبارة عن أسلوب العربية،
وعلى قراءة الصراط الأول نكرة - كما مر - هو إلى التوصيف أقرب من
البدل، وقيل: يجوز تبديل المعرفة من النكرة، ولا سيما إذا كانت
مخصوصة، كما فيما نحن فيه.
والإنصاف: أن مع تكرار لفظة " الصراط " لا يناسب الكلام الحمل
على التوصيف ولا البدلية، بل التكرار يعين كون الثاني عطف بيان جئ
به لتوضيح المعطوف عليه، كما إذا قيل: جاءني زيد، زيد العالم، وليس هو
170

من قبيل بدل الغلط حتى يتوهم: أن المتكلم انصرف من طلب الهداية إلى
الصراط المستقيم، إلى صراط الذين أنعمت عليهم، توهما: أن الاستقامة
حسب التشخيصات مختلفة، كما لا يخفى، وحيث إن الإنعام غير معلوم
الوجه، اختلفت كلماتهم في المراد من الصراط المستقيم، كما مر تفصيله
وتحقيقه.
فما قد يتوهم: أن الاختلاف في المراد من الصراط المستقيم غير
صحيح، لما أن السورة الشريفة قد تكفلت بيانه، ساقط جدا.
ومن الممكن أن يقال: إن المراد من الإنعام إذا كان شيئا خاصا - مثل
الإسلام والإيمان أو التوحيد والقرآن أو غير ذلك - فيكون الصراط الثاني
بدل البعض من الكل، أو عطف بيان للمصداق الأهم والفرد الأكمل، ولا
يستلزم الحصر وانحصار الصراط الأول في الثاني.
وربما ينسب في تفاسير العامة - كتفسير ابن حيان وغيره ممن يأخذ
عنه كثيرا - إلى صادق أهل البيت (عليهم السلام)، أنه قال: " إن الصراط الثاني غير
الأول " (1) من غير تدقيق في صحة النسبة وعدمها، وقد توهموا أن ذلك من
تبعات القول بأن الصراط الثاني معطوف على الأول بالواو المحذوف.
وإني بعد ما تفحصت مصادرنا ما وجدت فيها، حتى الرواية الضعيفة
الحاكية لقوله (عليه السلام)، فما بال هؤلاء الجهلة السقطة؟! وما عليهم إلا وزر
ما نسبوه إليه عليه الصلاة والسلام، مع أن من الممكن أن يكون النظر
إلى أن الصراط الأول هي الهداية إلى الإسلام والإيمان، والصراط

1 - راجع البحر المحيط 1: 27، وروح المعاني 1: 88.
171

الثاني هي الهداية إلى معرفة الله والتفهم منه لنيل الصراط الأول،
فالثاني مقدم طبعا ومؤخر لفظا، والأمر - بعد ما عرفت - واضح لا غبار عليه،
ولا شبهة تعتريه.
إيقاظ
بناء على قراءة الجمهور يكون العام استغراقيا والعموم أصوليا، أي
صراط كل إنسان أنعمت عليه، أو كل ذي عقل أنعمت عليه، أو كل موجود
أنعمت عليه، وبناء على قراءة النادر الشاذ يشكل الأمر، وذلك لأن " من " من
الموصولات، ويكون عمومه بدليا، فكيف يمكن إرجاع ضمير الجمع
الاستغراقي إلى الجمع البدلي، إلا على سبيل الغلط والمجاز، فقوله:
" عليهم " يشمل الأفراد عرضا، مع أن كلمة " من " الموصول يشمل الأفراد
طولا، ولذلك يصح أن يقال: كل من في الوجود يطلب صيدا، ولا يصح إضافة
" كل " إلى " الذين " مع صحة إضافته إلى " الذي ":
وكل الذي دون الفراق قليل
فعلى هذا يتعين قراءة " الذين "، ولا يجوز في هذه المواقف قراءة " من ".
اللهم إلا أن يقال: بأنه - مضافا إلى إرجاع ضمير الجمع إلى " من "
الموصول في بعض الآيات وعليك الفحص عنها - أن كلمة " من "
الموصول من ألفاظ العام البدلي، ولكنه إذا صح إطلاقه على البدل على
كل أحد في الاستعمال الواحد، فلابد وأن يحضر في النفس من تلك
الكلمة الأفراد الكثيرة الإجمالية متعاقبة، وعند ذلك يجوز إرجاع ضمير
172

الجمع إلى المدلول عليه، لا الدال، ولا حين الدلالة، فافهم وكن على
بصيرة من أمرك، ولا تكن من الغافلين المبعدين.
المسألة الثانية
حول إعراب " غير "
قد اشتهر في علم الأدب والنحو: أن " غير " يأتي لمعان:
أحدها: النفي المجرد ويكون وصفا، نحو مررت برجل غير فاسق،
ومنه قوله تعالى: * (وهو في الخصام غير مبين) * (1).
ثانيها: حرف الاستثناء ولا يكون له محل من الإعراب عندنا، فلا يقع
وصفا، خلافا لهم، نحو * (مالكم من إله غيره) * (2)، ونحو * (هل من خالق غير
الله) * (3)، وعند ذلك إما يتخير في حركة الراء، أو يتبع لما قبله، ولا معنى
لتوصيف جملة المستثنى منه بجملة المستثنى بل، ولا يعقل، كما لا يخفى.
ثالثها: لنفي الصورة عن مادتها، ومنه قوله تعالى: * (كلما نضجت
جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * (4).
رابعها: أن يكون متناولا لذات، نحو * (أتقولون على الله غير

1 - الزخرف (43): 18.
2 - الأعراف (7): 59.
3 - فاطر (35): 3.
4 - النساء (4): 56.
173

الحق) * (1)، * (أغير الله أبغي ربا) * (2) وغير ذلك.
أقول: والذي هو الأصل أن " غير " لا تأتي إلا لمعنى واحد، وهو
النفي على أن يكون وصفا لما سبقه، وفي قوله تعالى: * (جلودا غيرها) * لا
يفيد إلا ذلك، بل قضية القواعد العقلية أن لا مادة هناك حتى يتبادل عليها
الصور، مع أن للآية معنى آخر، كما يأتي في محله، وهكذا في الآيات
المزبورة أخيرا، فإن الموصوف محذوف، ولابد منه، أي أتقولون على الله
شيئا غير الحق، وأشياء غير الله أبغي ربا... وهكذا.
وأما في مورد الاستثناء وإن كان قريبا لقيام سائر حروف الاستثناء
مقامه، ولكنه بعيد، لأن الالتزام بأنه حرف الاستثناء، ويستثنى من أحكام
الحروف، غريب، مع أن تعدد المعنى خلاف الأصل الأولي، وإلا فربما يمكن
أن يختلف معنى الآية الشريفة في المقام بناء على احتمال كونه للاستثناء
هنا، لأن " المغضوب عليهم والضالين " جملة استثنيت من المنعم عليهم،
فيكون المقصود طلب الهداية المستقرة الدائمة، فلا يغضب عليه ولا
يضل بعد الاهتداء، فلا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة.
وقد مر في المباحث السابقة (3): أن هذه الآيات تؤيد أن كلمة الله
موضوعة للمعنى الكلي المنطبق على الواحد فقط، أي هل من خالق
موصوف بغير الله، ولو كان موضوعا للجزئي الحقيقي لصح أن يقال: مررت

1 - الأنعام (6): 93.
2 - الأنعام (6): 164.
3 - راجع الفاتحة: الآية 1، اللغة والصرف، المسألة الخامسة.
174

برجل غير زيد توصيفا، مع أنه واضح البطلان، فتأمل.
فعلى هذا " غير " اسم مفرد مذكر، ويوصف به المؤنث ولا يستثنى به،
خلافا لصريح أبي حيان (1)، ولا يكون متوغلا في النكرة، خلافا لما اشتهر
عنهم، لأنه إذا وقع بين ضدين لا ثالث لهما يوصف به المعرفة، بل يوصف
به المعرفة مطلقا إذا كانت مخصصة بالإضافة، وهي دائمة الإضافة لفظا
أو تقديرا، ويحذف المضاف إليه بعد كلمة " ليس " فقط، واشتهر في
الاستعمالات حذفه بعد كلمة " لا "، ولكنه عند الخواص يعد غلطا، كما أن
إدخال الألف واللام عليه من الغلط عندهم، ولكن الذوق يساعده، والمتبع
هو الثاني دون ميول الجامدين، وله أحكام اخر محررة في محله.
ومما حصلناه ظهر: أن * (غير المغضوب عليهم) * وإن كان ذا وجوه،
ولكن الأقرب كونه وصفا للموصول.
وقيل: هو بدل من ضمير الجمع من " عليهم " (2)، وقيل: هو بدل من
" الذين " (3).
وأنت خبير: بأن البدلية من الضمير تستلزم فقدان العائد للموصول
فلا يتم.
وأما البدلية عن الموصول فتستلزم فقد المعنى الرابط، ويحتاج
إلى تكرار الموصول، أي صراط غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين

1 - البحر المحيط 1: 28.
2 - مجمع البيان 1: 29، الجامع لأحكام القرآن 1: 151.
3 - الكشاف 1: 16، مجمع البيان 1: 29، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 10.
175

أنعمت عليهم، فينقلب ويتكرر الموصول، وبدونه لا تتم الجملة، فيتعين
كونها وصفا.
وأما ما حكي عن الزجاج والسراج وابن عيسى الرماني من
التشبثات الباردة، متوهمين أن " غير " هنا معرفة، أو أن الموصول هنا في
حكم النكرة، فهو من الساقط جدا، ولا ينبغي لاولي الفضل أن يحوموا
حوله، مع أن ما أفادوه غير صحيح في حد نفسه، ولا يمكن إتمامه جدا،
فراجع " مجمع البيان " وأمثاله وتفسير " المحيط " لأبي حيان وأنداده (1).
تذنيب: حول قراءة " غير " منصوبا
قد سبق في أنحاء القراءات قراءة " غير " منصوبا، وهو بحسب الأدب
وإن يمكن، لإمكان كونه حالا عن الضمير في " عليهم "، أو منصوبا على
الاستثناء، أو على تقدير الفعل، ولكن الثاني لا يرجع إلى محصل، لأن
مجرد الاستثناء المنقطع لا يقتضي ذلك، والتقدير خلاف الأصل، وإلا للزم
تصحيح جميع الأغلاط الأدبية والنحوية، وأما الحال فلابد من كونها نكرة،
وهي نكرة مخصصة، ومقتضى ما عرفت منا: أن من الممكن دعوى أن إعراب
الغير اختياري، لأنه حرف، فيجوز فيه الحركات الثلاث، ولذلك لا
يدخله التنوين، ولكن قد مضى عدولنا عن هذه المقالة، لظهور الأساليب
في وصفيته في الجمل للأسماء المعارف والنكرات.

1 - راجع مجمع البيان 1: 29، والبحر المحيط 1: 29، وروح المعاني 1: 89.
176

تنبيه: مرجع ضمير " عليهم "
المغضوب عليهم حسب الأدب هو " المغضوبون عليهم "، واستغني
بضمير الجمع عن جمع " المغضوب " هكذا في الصرف، ولكن الإشكال في
مرجع هذا الضمير، فإنه مفرد، وهو إما نفس المغضوب، أو الألف واللام
الموصول، وعلى كل لا يرجع ضمير الجمع إلى المفرد.
والعجب أن الأصحاب وأرباب التفسير غفلوا عن كثير مما يخطر
بالبال مع طول عهدهم بالكتب التفسيرية. وأما كون الألف واللام موصولا،
فقد فرغنا عنه فيما سبق منا حول مباحث * (الحمد لله رب العالمين) *
وأنكرنا ذلك جدا (1)، والذات المبهمة المأخوذة في المشتق يمكن أن
تكون مرجعا لضمير الواحد دون الجمع، وكونها قابلة للصدق بدليا، غير
كاف لإرجاع ضمير الجمع بنحو العام الاستغراقي إليها، كما أشير إليه فيما
مر آنفا. اللهم إلا على الوجه الذي ذكرناه وأبدعناه حول قراءة " من
أنعمت ".
ويمكن أن يقال في المقام: إن هذا الضمير لا مرجع له، بل جئ به
لتكثير ما سبقه، وهو المغضوب، أي هو من قبيل الواو والنون، ومعنى
المغضوب عليهم هو المغضوبون، بل هو عينه، إلا أن كيفية جمع أسماء
المفعول المصوغة من الأفعال اللازمة، تكون هكذا، فإن من الفعل
المتعدي يصاغ على وزن المفعول، ومن الفعل اللازم يصاغ على وزنه مع

1 - راجع الفاتحة: الآية 2، اللغة والصرف، الفائدة الأولى.
177

الإتيان بحرف التعدية، فيقال: ميسور به ومذهوب به، وكان الضمير من
قبيل ضمير الاعتماد جئ به لأن يعتمد عليه الحرف مع الإشارة إلى
التثنية والجمع، فلاحظ وتدبر جيدا.
وهنا وجه آخر وهو: أن الآية بحسب الواقع هكذا: صراط الذين أنعمت
عليهم غير المغضوب عليهم، وهذا النحو من الحذف جائز لقيام الدليل
عليه، ولكنه غير محتاج إليه، فكونه وصف " الذين " أولى من كونه
وصف الصراط، بل متعين.
المسألة الثالثة
حول إعراب " لا "
اختلفوا في " لا " فقيل: هي زائدة، وهو عن الطبري (1)، توهما أنها زائدة
في قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد) * (2).
والحق: أنها هناك غير زائدة، لأن معنى الآية هكذا: " ما منعك عن
السجدة فلا سجدت إذ أمرتك "، فلا تكون كلمة " لا " زائدة، بل هذه الجملة
في حكم الجواب لقوله: " إذ أمرتك "، وقرينة على حذف كلمة السجدة
التي هي الممنوعة في الجملة الاستفهامية، فالالتزام بالزيادة من

1 - راجع جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1: 81.
2 - الأعراف (7): 12.
178

الأغلاط التي لا يليق بلغة، فضلا عن لغة العرب، ولا سيما في المقام.
وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم: أن " الضالين " معطوف على
" الذين "، حكاه المهدوي والمكي (1).
ولا يخفى ما في تعليله، لعدم وجه للاحتمال المزبور، بعد مراعاة
سياق الآيات.
وربما يشكل عطف " لا " على " غير " إلا أن يكون بمعنى " غير "، لأن
معنى " غير " هو النفي ومعني " لا " هو الجحد.
وفيه مالا يخفى من البرودة، فإن عطف الجحد على النفي في
الأفعال غير جائز، مع أنه أيضا ممنوع.
والحق: أنها جئ بها لدفع التوهم أو في مورد الوهم، بأن يريد
المتكلم نفي المجموع، أي صراط الذين أنعم عليهم، المنعوت بنعت عدم
كونهم مورد الغضب والضلالة معا، مع أنه ما يريد إلا نفي كل واحد ونفي
المجموع، فإذا قيل: ما جاء زيد ولا عمرو، فليس " لا " تأكيدا، ولا زائدة، بل
هو لإفادة معنى لولاها لما أمكن استفادته من الجملة، بداهة أن مع
حذف " لا " يحتمل أن يكون المخبر عنه، عدم مجيئهما معا، وهو
خلاف الفرض.
والعجب من الكوفيين مع توجههم إلى هذه النكتة، توهموا: أن
" لا " جئ بها للتأكيد (2)، مع أن معنى التأكيد ما لا يترتب عليه فائدة إلا

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 151.
2 - راجع مجمع البيان 1: 30، وروح المعاني 1: 90.
179

التأكيد وتقوية ما سلف.
فتحصل: أن " لا " بمعناها، ولا تكون زائدة، ولا تأكيدا، وغير خفي أن
جملة * (ولا الضالين) * ليست وصفا، بل هي معطوفة، أو تكون في حكم
الوصف معنى ومعطوفة ظاهرا، ويمكن اعتبار كونه من المعدولة محمولا،
كما يقال: زيد لا قائم، فتدبر.
180

البلاغة والمعاني
وهنا مطالب:
المطلب الأول
النكات في ذكر الأوصاف الثلاثة
تعقيب الصراط المستقيم بالجمل الثلاثة المتأخرة، خروج عن
المساواة والإيجاز، وتجاوز إلى الإطناب الممل، وقد حكي عن بعض
المتعصبين المعاندين من النصرانيين: أن سورة الفاتحة لا تكون بليغة
مستدلا بمثل ذلك، وقد لخصها على نهج تخيله وتشيطنه، وقال: لو قال:
" الحمد للرحمن، رب الأكوان، الملك الديان، لك العبادة وبك
المستعان، اهدنا صراط الإيمان " لكان أوجز، وجمع كل المعنى وتخلص من
ضعف التأليف (1). انتهى.
وأنت لا تحتاج إلى التفكر والتأمل في جوابه، ولا سيما بعدما
أحطت في هذا الكتاب بالمسائل الكثيرة، التي استخرجناها من

1 - تفسير المنار 1: 79.
181

الخصوصيات المركوزة في الآيات ومطاويها، ومن النكات والدقائق
الكامنة تحت أستارها، وأما ذكر الآيات المفسرة أو المبينة لبعض
مصاديق الصراط المستقيم، فسيأتي المحاسن المستنبطة منها، والمعاني
الممكن استخراجها من جوانبها.
ومنها: أنه بدونها لا نجد إلا الصراط الطبيعي والانتقال منه إلى
الطرق المعنوية والسبل الروحانية، يحتاج إلى مزيد عناية يستغني
عنها بتلك الآيات.
ثم إن المقام ليس مقام الإيجاز والاختصار، ولا موقف الرمز
والاقتصار، لأنه بعد ما حمد الله تعالى وأثنى عليه بتلك المحامد والأثنية،
وذكره بتلك الأوصاف الجمالية والجلالية، ثم عبده بالعبادات القلبية
والقالبية، فوصلت نوبة الأجر والجزاء، واستعانه على تلك التذللات
والتوسلات، وطلب منه الهداية، ولابد من الإلمام في الطلب بذكر
خصوصيات المطلوب، لأنه دأب الطالبين، ولو كان ما قيل صحيحا لكان
ينبغي أن يختصر على كلمة واحدة، وهي " بسم الله " لما فيها من كل الأشياء،
فلا تغتر بما يقوله الظالمون.
المطلب الثاني
إضافة " صراط " إلى " الذين "
من إضافة " الصراط " إلى " الذين " يعلم: أن المراد من " المستقيم "
هو المراد منهم، ويكون الاستقامة هو الإنسان الكامل، وهذه أيضا من
182

ثمرات هذه الآية المذكورة بعد الآية السابقة، وهذا مما لا يهمنا بحثه هنا،
وما هو مقصودنا هو أن الجمع المزبور استغراقي أو مجموعي، أي صراط
الذين أنعمت عليهم صراط واحد، لأن الذين أنعم عليهم لوحظوا بوصف
الوحدة، أم هو كثير بالكثرة الأفرادية، أي صراط كل واحد من الذين أنعمت
عليهم، فيطلب السبل الكثيرة والصرط المتعددة.
والذي يظهر للمتدبر: أن الثاني لا وجه له، ضرورة أن الإنسان لا
يتمكن إلا من أن يسلك سبيلا واحدا، فكيف يسأل ربه أن يهديه السبل
الكثيرة، وإن كانت كلها مستقيمة ومن المنعم عليهم؟!
ومن الممكن أن يقال: إنه سأل الكثير حتى يعطى واحدا، وذلك
إحدى طرق التكدي والالتماس والدعاء والاستجداء، وإني بعد ما وجدت
في كتب التفاسير من كشف النقاب عن هذه المعضلة، ولكنك أحطت فيما
سلف: بأن المسالك في وحدة الصراط وكثرته مختلفة، والنظر هنا فيما هو
الظاهر من الآية الكريمة.
ولا يبعد كونه العام المجموعي، أي صراط هؤلاء الناس هو
الصراط المستقيم، من غير نظر إلى كون الأشخاص الكملين نفس
الصراط، وعلى هذا لا يبقى احتمال كون * (غير المغضوب عليهم) * استثناء من
* (الذين أنعمت عليهم) *، لأن الاستثناء يحسن من العام الاستغراقي.
183

المطلب الثالث
حول عمومية النعم
مقتضى إطلاق قوله تعالى: * (أنعمت عليهم) * - من غير تعيين أصل
النعمة وكيفيتها وكميتها - عمومها، وهو صراط من أنعم الله عليه بأنواع
النعم وأنحائها: الدنيوية والأخروية، والجسمية والروحانية،
والمادية والمعنوية، والجزئية والكلية.
أو المراد هو العموم الأفرادي، أي صراط كل أحد أنعمت عليه أية
نعمة كانت، ولو كانت قليلة دنيوية، ويسيرة غايتها، وحقيرة نهايتها، فيكون
" المغضوب عليهم " و " الضالين " غير متنعمين بأية نعمة.
أم الظاهر أن " المغضوب عليهم " و " الضالين " ربما كانوا من المنعم
عليهم بأنحاء النعماء الدنيوية، وربما كانت نعمتهم أكثر من غيرهم، فعلى
هذا ينحصر أن يكون الحذف دليلا على أن النعمة المقصودة في المقام
هي النعم الربانية الإلهية والروحانية المعنوية المنجية من بلايا
الآخرة وعواقبها ومن تبعات الدنيا وطوارقها.
وقد حكي عن الشيخ البهائي: أن نعمه تعالى وإن جلت أن يحيط بها
نطاق الحصر، كما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *، لكنها
ثمانية أنواع، لأنها: إما دنيوية، أو أخروية، وكل منهما: إما موهبي، أو كسبي،
وكل منهما: إما روحاني، أو جسماني. وهذا تفصيلها:
184

دنيوي موهبي: إما روحاني، كإفاضة العقل والفهم، أو جسماني،
كخلق الأعضاء.
دنيوي كسبي: إما روحاني، كتحلية النفس بالأخلاق الزكية، أو
جسماني، كتزيين البدن بالهيئات المتنوعة.
أخروي موهبي: إما روحاني، كغفران ذنوبنا من غير سبق توبة، أو
جسماني، كالأنهار من اللبن والعسل في الجنة.
أخروي كسبي: إما روحاني، كغفران الذنوب بعد التوبة، أو جسماني،
كاللذات الجسمانية المستجلية بفعل الطاعات (1).
والمراد هنا هي الأربعة الأخيرة، وما يكون وسيلة إلى نيلها من
الأربعة الأول.
وقال الوالد المحقق مد ظله: إن تقسيم الشيخ وإن كان لطيفا، إلا أن أهم
النعم الإلهية، وأشرف مقاصد الكتاب الشريف، قد سقط من قلمه
المنيف، وقد اكتفى بذكر نعم الناقصين أو المتوسطين، وإنه (قدس سره) وإن ذكر
النعم الروحانية واللذة المعنوية، إلا أنه أراد منها اللذة الحاصلة من
فعل الطاعات، التي هي حظ المتوسطين إن لم نقل: هي من حظوظ
الناقصين.
وبالجملة: غير تلك النعم هناك نعم اخر ولذات أخرى، عمدها ترجع
إلى ثلاثة:

1 - العروة الوثقى، ضمن كتاب حبل المتين للشيخ البهائي: 408، آداب الصلاة، الإمام
الخميني (قدس سره): 295 - 296.
185

أحدها: نعمة معرفة الله ومعرفة الذات، وعرفان السلوك إليه
تعالى، المستتبع لجنة الذات وجنة اللقاء.
وغير خفي: أن السالك لابد وأن لا ينظر في حال سلوكه إلى الثمرات
والنتائج، وإلا فهو في السلوك قاصر، ويرجع إلى السلوك إلى نفسه
وإلى عبادة شخصه وإحياء إنيته وأنانيته، ولا يكون فيه رفض الكثرات
والتوجه التام إلى التوحيد الذاتي، وهو في غاية الضلالة والغضب.
ثانيها: نعمة معرفة الأسماء والصفات والعرفان بها حقه، وهذه
النعمة لها الأنواع الكلية من الأسماء الإلهية، وإذا لوحظت بحسب
أفرادها وأشخاصها تكون نعمة، وإن تعدوها لا تحصوها. وفي هذا المقام
يحصل للسالك التوحيد الأسمائي بمعرفة الاسم الأعظم الإلهي، ويتجلي
بمقام الأحدية الجمعية الأسمائية.
ثالثها: معرفة النعم الأفعالية التي تتكثر وتتشعب بشعب غير
متناهية، ويتجلي السالك في هذه المرحلة بمقام الأحدية الجمعية
الفعلية، التي هي مقام الفيض المقدس والولاية المطلقة.
والجنة التي تلازمه في الثانية هي جنة الصفات، وفي الثالثة
هي جنة الأفعال. رزقنا الله تعالى وإياه.
فعلى هذا تبين: أن صراط المنعم عليهم في السلوك إلى الله تعالى،
هو السلوك إلى ذاته تعالى، والنعمة التي ينالها السالك في ذلك المقام،
هو التجلي الذاتي، وصراطهم في المقام الثاني هو السلوك بأسماء الله،
وما هي النعمة في هذه المرحلة هي التجلي الأسمائي، وصراطهم في
المقام الثالث هو السلوك إلى فعله تعالى وما يرزقه الله تعالى في هذه
186

الورطة هو التجلي بفعله تعالى، والسالك المتوجه إلى هذه
المقامات، لا ينظر إلى جنة أفعال الطاعات وأعمال القاصرين، روحانية
كانت أو جسمانية، وقد أشير في بعض مآثيرنا إلى هذه المقامات لطائفة
من المؤمنين، الذين لا يتوجهون إلى الجنة زمرا (1). انتهى بتصرف منا.
المطلب الرابع
حول كون " غير " استثناء حقيقة
اعلم أن الناس على أصناف: الصنف الأول هم المنعم عليهم،
والصنف الثاني هم المغضوب عليهم، فخرجوا عن الصراط المستقيم،
والصنف الثالث هم الضالون المتحيرون، الذين يمكن أن ينالهم الهداية،
والصنف الرابع الذين هم كانوا من المنعم عليهم، ثم صاروا من المغضوب
عليهم أو الضالين. وهناك أقسام اخر لسنا بصدد إحصائها.
والذي هو مورد النظر: هو أن الآية الشريفة، هل هي ظاهرة في أن
المطلوب صراط الذين هم الآن من المنعم عليهم، ويكون قوله: * (غير
المغضوب عليهم ولا الضالين) * استثناء عن المنعم عليهم، أي اهدنا
صراط الذين أنعمت عليهم، لا مطلق من أنعمت عليهم، بل استثني منهم
المنعم عليه الذي صار مورد الغضب والمنعم عليه الذي ضل، أم هي
ظاهرة في أن المطلوب هو صراط الصنف الأول، وتكون الجمل

1 - آداب الصلاة، الإمام الخميني (قدس سره): 295 - 296.
187

المتأخرة قرينة على المراد.
والذي هو الأنسب بالبلاغة والفصاحة: أن توصيف " الذين " بغير
المغضوب عليهم غير لائق بالكتاب العزيز، وغير مساعد عليه في الذوق
السليم، ولذلك ترى في تراجم القرآن باللغة الفارسية، أن الجملة تفسر
بصورة الاستثناء، ويشكل التخصيص، وهذه الجملة وإن كانت وصفا نحويا،
ولكنها في حكم الاستثناء حسب الأدب العالي والبلاغة الكاملة، ولكن
لنا الالتزام بأنه من قبيل الاستثناء المنقطع، ولا يكون له المستثنى منه.
وإن شئت قلت: ترجع الآية الشريفة إلى هذا: " اهدنا صراط الذين
أنعمت عليهم، لا صراط المغضوب عليهم ولا الضالين "، ولو كانت جملة
" غير المغضوب عليهم " وصفا واقعا، للزم كون هذه الجملة حملية،
وجملة " ولا الضالين " سلبية، كما أشرنا إليه في البحوث الماضية،
وهذا التفكيك لا تساعد عليه البلاغة ووحدة الأسلوب، فالإتيان بكلمة
" غير " إيماء إلى هذه النكتة، وهو إفادة: أن المطلوب هو الصراط
المستقيم الراسخ غير المتزلزل بطرو الغضب عليه والضلال.
المطلب الخامس
حول استناد النعمة إليه تعالى دون غيرها
من الأمور الملحوظة في هذه الآيات الشاهدة على نهاية بلاغة
الكلام: أن النعمة استندت إليه تعالى وأن المنعم عليهم لا تكون النعمة
188

من قبلهم، بخلاف الغضب والضلال، فإنهما نسبا إليهما من غير استناد إليه
تبارك وتعالى، فيكون أسباب الغضب والضلال في أنفسهم، ومن سوء أفعالهم
وعقائدهم. وسيظهر بعض المسائل العقلية حول هذه الدقيقة.
تقابل الأوصاف الثلاثة
ثم إن من المحاسن التي تزيد في فصاحة السورة وبلاغتها: أن
الأوصاف المأخوذة في هذه الجمل متقابلة، ولا يزاد عليها شئ، وذلك لأن
الإنسان لا يخلو - بحسب الحال - من إحدى هذه الحالات الثلاثة: إما
يكون من لمنعم عليهم ومورد الرحمة والإنعام بالهداية إلى تلك النعمة
والوصول إليها، أو يكون من الذين أيسوا من هدايته وانخلعت قابلية
مادته عن الوصول إلى نور الهداية، فيكون في ظلمات بعضها فوق بعض،
أو يكون من المستضعفين، لا بالغا إلى الهداية ولا مغضوبا عليه بغضب
الظلمة والذلة، بل هو متحير وفي الطريق متردد، ويمكن أن تناله يد
الغيب ونور الهداية. ولكل واحد منهم مراتب كثيرة ربما تكون غير متناهية.
غاية الهداية كون الإنسان المنعم عليه
ومن المحاسن المستخرجة من ذكر هذه الجملة عقيب قوله
تعالى: * (إهدنا الصراط المستقيم) *: أن المطلوب هي الهداية المنتهية
إلى كون الإنسان من المنعم عليهم، فالهداية وإن كانت هي النعمة، إلا أن
المراد - لعدم لزوم التكرار - هي الهداية التي تكون مطلوبة للوصول
189

إلى المنعم عليهم، وإلا فيلزم كون مفاد الآية هكذا: " اهدنا الصراط
المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم نعمة الهداية، أي صراط
المهتدين "، وهذا خلاف البلاغة جدا، فالبلاغة تقتضي أن تكون الآية
الكريمة الشريفة بصدد المعنى الآخر، وهو هكذا: " اهدنا الصراط
المستقيم هداية إلى المطلوب الأعلى، صراط الذين أنعمت عليهم
وأتممت نعمة الهداية في حقهم ". والله العالم بحقائق آياته.
وإن شئت قلت: الهداية على أصناف وأقسام ربما تبلغ إلى عشرة:
1 - الهداية بنور الفطرة المخمورة برفض الحجب النورانية
والظلمانية في السلوك إلى الله تعالى، وعدم الابتلاء بالمعاصي والذنوب
القالبية والقلبية، ولا بحجاب الكثرات الأفعالية والأسمائية.
2 - الهداية بنور الشريعة والاهتداء بأصل التشريع الإلهي
والرسالة الإلهية.
3 - الهداية بنور الإسلام والإقرار به لسانا وقلبا.
4 - الهداية بنور القرآن، والاعتقاد بأنه تبيان كل شئ لا يتوقف
فيه على ظواهره برفض حقائقه، ولا يدخل بالتخيلات الشيطانية في
الآيات القرآنية، بالتأويلات الباردة والتفسيرات المضحكة المحرمة،
بل يأخذ القرآن كتاب التفكر والتدبر، ويجده كتاب الهداية والاستكمال،
ويرقى به إلى آخر منازل السير والسلوك بقدم المعرفة والإيمان، فلا
يكون من المفرطين ولا من المفرطين، لا من الذين لعبوا بآياته حسب
شهواتهم، ولا من الجامدين المنكرين لجواز النظر فيه والتدبر في
محكماته، بل يهتدي بهداية القرآن، ويأخذ حد العدالة والطريقة
190

الوسطى.
5 - الهداية بنور الإيمان وإبراق القلب: برسوخ الحقائق الإدراكية
في قلبه، وصيرورتها ملكة فيه حتى يبلغ أن يصير عرش الرحمن، فإن قلب
المؤمن عرش الرحمن (1).
6 - الهداية بنور اليقين في جميع نشأته.
7 - الهداية بنور العرفان.
8 - الهداية بنور العشق والمحبة.
9 - الهداية بنور الولاية.
10 - الهداية بنور التجريد والتفريد والتوحيد.
ولكل واحد من هذه الأنحاء - مضافا إلى المراتب - حد إفراط وتفريط.
فعلى هذا تكون الهداية المطلوبة في قوله: * (إهدنا الصراط
المستقيم) * الهدايات الابتدائية، والنعمة التي أنعم الله تعالى عليهم هي
الهداية الحقيقية، والهدايات التي تكون في أخريات السلوك.
المطلب السادس
في عدم استناد الغضب والضلال إليه تعالى
من النكات الملحوظة في هذه الآيات المؤدبة للإنسان: أن
الأفعال المستندة إليه تعالى في القرآن، كالضلال أو الغضب أحيانا،

1 - انظر بحار الأنوار 55: 39 / 61.
191

والمنتسبة إليه عز وجل في لسانه، لا تنتسب في لسان المخلوقين
إليه تعالى في مقام الإنشاء وإبراز العبودية والخضوع، فلو فرض أن
الأسلوب كان يقتضي عدم الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في هذه
المرحلة، ولكن الالتفات لأجل هذه النكتة ربما كان لازما، فإذا عظم الله
تعالى العبد السالك بقوله: * (أنعمت عليهم) * فلا يناسب أن يتفوه بقوله:
" غير الذين غضبت عليهم وغير من أضللتهم " بصورة الخطاب.
وبعبارة أخرى: إسناد هذه الأمور إليه تعالى وإن كان صحيحا حسب ما
يتراءى، ولكن ذلك الأدب في الكلام حين المخاطبة أولى بالمراعاة، مع ما
سيمر عليك: أن الإتيان بصيغة المجهول والمفعول وبالاشتقاق، شاهد على
أن الضلال منشؤه الضال، وأن المغضوبية نشأت من سوء سريرة العبد،
ولا يستفاد من هذه الآية أن الغاضب عليهم هو الله تعالى أو هم بأنفسهم، وإن
كانت صورة الغضب والضلال - بما أنهما من الصور الوجودية - مستندة
في النظام الكلي إليه تعالى، بناء على كونهما من الموجودات، وإلا
فالأعدام ليست مجعولة لأحد حتى تستند إلا مجازا وتوسعا.
المطلب السابع
حول ما يقال في وجه تقديم " المغضوب عليهم "
قد يقال في وجه تقديم " المغضوب عليهم " على " الضالين " وجوه:
أحدها: أن زمان المغضوب عليهم مقدم على زمان الضالين، لتقدم
192

عصر اليهود على النصارى.
ثانيها: أن الإنعام يقابل بالانتقام، ولا يقابل بالضلال.
ثالثها: أن اليهود أشد في الكفر والعناد، وأعظم في الخبث
والفساد، وأشد عداوة للذين آمنوا، ولا ضرب عليهم الذلة والمسكنة،
وفي الحديث: " من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود ".
رابعها: أن رعاية رؤوس الآي اقتضت تقديمه على " الضالين " (1).
وأنت قد عرفت فيما سبق منا: أن هذه التخيلات الباردة تعارض
بالتخيلات الباردة الأخرى نوعا، فلنا أن نقول: كان ينبغي تقديم " الضالين "
على " المغضوب عليهم " لوجوه:
أحدها: أن الضلال سبب الغضب، وإلا فلا معنى لأن يصيروا مغضوبا عليهم.
ثانيها: أن الضلال هو الحد المتوسط بين الغضب والإنعام، فينبغي
أن يوافق الوضع الطبع.
ثالثها: قيل: إن النصارى أسوأ حالا من اليهود، لقولهم بالتثليث (2)،
وهذا لا يقاوم قول اليهود: بأن * (يد الله مغلولة) * (3)، فإنه قول المفوضة
من المسلمين، ولا قولهم: * (إن الله فقير ونحن أغنياء) * (4) وقد ذهب من
المسلمين إلى أنه تعالى ظالم، ولا يعتبر عدالته، ولا قولهم: * (عزير ابن

1 - راجع روح المعاني 1: 90 - 91.
2 - روح المعاني 1: 90 - 91.
3 - المائدة (5): 64.
4 - آل عمران (3): 181.
193

الله) * (1) وإن جمعا من المسلمين يقولون بتجسمه تعالى.
وإني لست في موقف تصديق هذه الوجوه أو تلك، بل مقصودنا الإيماء
إلى أن هذه اللطائف الوهمية غير واقعية.
نعم الوجه الرابع - حيث إن الكتاب كتاب البلاغة والفصاحة -
قوي جدا، ولا داعي إلى ابتكار الوجوه واختلاق المحسنات.

1 - البراءة (9): 30.
194

الفقه والآداب
مسألة: حول بطلان الصلاة بالإخلال بالقراءة
قد سبق أن بسطنا القول حول جواز الاقتداء بالقراء وعدمه، وقربنا
الثاني، وقلنا: إن القراءات السبع غير ثابت جوازها، فضلا عن الشواذ
والنوادر، ولو كان يجوز، فيجوز كل وجه لا يخل بالعربية وإن لم يكن
قرأه أحد.
ومما يجب التنبيه عليه هنا: هو أن المحكي عن الحافظ ابن كثير في
تفسيره: الصحيح من مذهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد
والظاء، لقرب مخرجيهما، وذلك لأن الضاد... إلى أن قال: فلهذا كله اغتفر
استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك. والله أعلم.
وأما حديث " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له (1). انتهى.
وفي بعض التفاسير الحديثة: أن أكثر أهل الأمصار العربية قد
أرادوا الفرار من جعل الضاد ظاء - كما يفعل الترك وغيرهم من الأعاجم -

1 - راجع تفسير ابن كثير 1: 30، وتفسير المنار 1: 100.
195

فجعلوها أقرب إلى الظاء منها إلى الضاد حتى القراء المجودون منهم إلا
أهل العراق وأهل تونس - على ما نعلم - أفصح أهل الأمصار نطقا بالضاد،
وإننا نجد أعراب الشام وما حولها ينطقون بالضاد، فيحسبها السامع ظاء
لشدة قربها منها وشبهها بها، وهذا هو المحفوظ من فصحاء العرب الأولين
حتى اشتبه نقلة العربية عنهم في مفردات كثيرة، قالوا: إنها سمعت
بالحرفين، وجمعها بعضهم في مصنف مستقل، والأشبه أنه قد اشتبه عليهم
أداؤها منهم، فلم يفرقوا (1).
أقول: اختلاف أشكال الحروف كتبا لأجل اختلاف الحروف صوتا
وموجا وحقيقة، واختلاف تلك الأصوات والأمواج لاختلاف أسبابها ومبادئها
الوجودية، ولو كان الصوت الحاصل من أصل حافة اللسان وما يليها من
الأضراس من يمين اللسان ويساره، عين الصوت الحاصل من طرف
اللسان وأصول الثنايا العليا، لما كان وجه لتعدد أشكالها الكتبية وللزم
اللغوية، ولما كان وجه للاقتصار على الشكلين، بل كان ينبغي تكثير
الحروف الكتبية أكثر من هذا.
فانحصار وجوداتها الكتبية لأجل انحصار وجوداتها السمعية
الصوتية، واختلافها كتبا لأجل اختلافها حقيقة وسماعا، فمن يتوهم ذلك
فهو لأجل قلة الباع وعدم العثور والاطلاع على جوانب القضايا وشتى
مسائلها.
ومن المحرر في محله: أن الأغلاط الإملائية تنشأ من اختلاف الألسنة،

1 - تفسير المنار 1: 100.
196

وإلا فلا معنى لأن يغلط في كتابة الحروف العربية، كما لا يغلط الإنسان في
سماع الفاء والقاف، كذلك لا يقع في الغلط الإملائي في سماع الظاء
والضاد والذال والزاء، لأن لكل منها مخرجا يخصه وصوتا ممتازا عن
الآخر ثبوتا وواقعا. نعم ربما لا يتميز لقرب المخارج والأصوات، كما ربما لا
يتميز بين الحروف المتميزة إثباتا، لبعد المسافة وضعف قوة السامعة،
ولكن لا هذا ولا ذاك له مدخلية في واقعية الأمر.
وغير خفي: أن الإنسان ربما يقتدر على إخراج الأصوات المشابهة من
المخارج الكثيرة، أو الأصوات المضادة من المخرج الواحد، ولكنه
خروج عن طبع المتكلم وأسلوب المخاطبات.
وأما ما في بعض التفاسير الحديثة من الاستشهاد على اختلافها: بأن
قوله تعالى: * (وما هو على الغيب بضنين) * (1) قد قرئ بكل من الضاد
والظاء، والضنين هو البخيل، والظنين المتهم، ولو استوى الحرفان لما
ثبت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان (2).
فهو قريب إلا أنه ليس من البرهان اللم، بل هو من قبيل الإن القابل
للمناقشة، بأنه منشأ التوهم.
وبعبارة أخرى: يمكن أن يتوهم أحد اتحادهما ثبوتا، ويدعي أن
اختلافهما في القراءة ناشئ عن الغفلة عن حقيقة الحال.
والظاهر أن المسألة عند فقهائنا إجماعية، وأن الإخلال بالضاد من

1 - التكوير (81): 24.
2 - راجع تفسير المنار 1: 100.
197

" المغضوب عليهم " بإتيان الظاء يورث البطلان، إلا أن هنا اختلافا في أن
الكلمة تبطل، أو الصلاة - مثلا - تصير باطلة، فظاهر الأكثر هو بطلان
الصلاة، لأنه من الزيادة العمدية، وهي منهي عنها وموجبة للبطلان (1).
ومن الممكن توهم: انصراف أدلة الزيادة العمدية عن مثله، لأنه
يعد من قراءة القرآن غلطا، وهو لا يورث فساد أصل الصلاة.
وفيه مالا يخفى، فإن القرآن لا يوصف بالغلط والصحيح، بل هو
موضوع لما نزل به جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أمر مضبوط
وواحد من عند الواحد، ووجوده الكتبي مرآة ذلك الوجود الوحداني
النوراني. وللمسألة موقف آخر يطلب منه.

1 - راجع جواهر الكلام 9: 286.
198

الكلام وعلم الاعتقادات
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
حول النعمة على الكافر
اختلفوا في أن لله تعالى نعمة على الكافر أم لا؟ فقال بعض العامة:
ليس لله تعالى على الكافر نعمة، وقالت المعتزلة: لله على الكافر نعمة
دينية ونعمة دنيوية.
واحتجوا على المقالة الأولى بقوله تعالى: * (صراط الذين أنعمت
عليهم) *، ضرورة أنه لو كان الكافر متنعما بنعمته تعالى، لا ندرج تحت هذه
الآية، ويلزم كون طلب الهداية إلى الصراط المستقيم طلبا إلى صراط
الكفار، وهو باطل بالضرورة.
وتوهم: أن الصراط الأول غير الصراط الثاني، مدفوع: بما تقرر من
البدلية (1).

1 - راجع التفسير الكبير 1: 259، والبحر المحيط 1: 28.
199

أقول: لا شبهة في وفور نعم الله تعالى على الكفار من نعمة الوجود
وكمالاته الدنيوية، ولا شبهة في اتصافهم بالكمالات الحقيقية المعنوية
الأخروية إذا كانوا غير معاندين، بل ورد أن مثل حاتم في النار وعليه حلقة
تمنع أن تمس جسمه وهي حلقة السخاوة، فما توهمه هؤلاء الفضلاء فهو
لعدم غورهم في المسائل الحقيقية ولعدم اطلاعهم على حقائق النعم
الإلهية في الدار الآخرة، فظنوا أن نعم الدنيا شئ لا ينبغي للكافر، أو
لا يعطيهم الله - تعالى عن ذلك - غفلة عن التوحيد الأفعالي، فإن كل موجود
وجوده من الله، وكمال وجوده منه تعالى * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (1)،
* (وما أصابك من حسنة فمن الله) * (2)، * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة
لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون
ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة
الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) * (3)، * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم
خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * (4).
فيعلم من هذه الآيات أن النعم النازلة على الكفار هي من قبل الله
تعالى، وفي بعض رواياتنا: أنه لولا المخافة على إيمان المؤمنين لجعلنا
ميزابهم من الذهب (5).

1 - النحل (16): 53.
2 - النساء (4): 79.
3 - الزخرف (43): 35.
4 - آل عمران (3): 178.
5 - لم نعثر عليها في هذه العجالة، انظر تفسير البرهان 4: 141.
200

فبالجملة: لا بخل في حضرته تعالى، فإذا كانت هناك قابلية لأية
نعمة فهي تفاض من ناحيته المقدسة، لعدم عجزه عن ذلك، ولا يخص
أحد بشئ إلا لخصوصية اكتسابية حسب ما تحرر في محله.
المسألة الثانية
تناسب الآية للإمامة
قال الفخر: قوله تعالى: * (إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين
أنعمت عليهم) * يدل على إمامة أبي بكر، لأنا ذكرنا أن تقدير الآية هكذا:
اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، والله تعالى قد بين في آية أخرى: أن
الذين أنعم عليهم من هم فقال: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين) *، ولا شبهة في أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر،
ولو كان أبو بكر ظالما لما جاز الاقتداء به (1). انتهى بتلخيص منا.
ومن العجيب - وإن كان ليس من مثله بعجيب - أن حب الشئ
يعمي ويصم، فأنت ترى أنه كيف أدخل مقدمة خارجية مفروغة عنده في
إتمام الاستدلال بالآية الشريفة، وسيظهر للقارئين الكرام في ذيل بعض
الآيات المناسبة أن مسألة الولاية كمسألة النبوة من المسائل الكلية
العقلية، ولا يمكن بناء الاعتقادات الجازمة على الأدلة اللفظية

1 - راجع التفسير الكبير 1: 260.
201

السمعية. نعم هذه الأدلة تؤيد البراهين العقلية، إذا كانت الأدلة
اللفظية الصريحة موقفها التأييد، فكيف بمثل هذه الأراجيف والأباطيل؟!
ولعمري إنه لو أسقط مثل هذا الاستدلال كان أولى وأحسن، لما
يستظهر منه أن مبنى اعتقاداتهم على هذه الدلائل الواهية والبراهين
الفاسدة، ولو صح هذا النحو من الاستدلال لصح الاستدلال بجميع الآيات
والكبريات الكلية على خلافة كل موجود، لأن من انضمام اعتقاد
المستدل إلى صغريات تلك الكبريات يتم الاستدلال.
مثلا: من يعتقد بأن يزيد بن معاوية من الأنبياء، يستدل بهذه الآية: إن
المسؤول عنه بقوله: " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم " هو صراط يزيد
بن معاوية لأنه من النبيين قطعا... وهكذا.
فعلى هذا فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا على الدليل والمستدل.
المسألة الثالثة
حول مسألة الجبر
قالت المعتزلة: إن خالق الإيمان هو العبد لا غيره (1)، وهذه الآية تدل
على أن الإيمان من إنعام الله تعالى، ضرورة أن الإيمان إما هو القدر المتيقن
من قوله تعالى: * (أنعمت عليهم) *، أو هو المقصود لا غيره، أو هو أيضا داخل

1 - راجع شرح المقاصد 4: 223 وما بعدها، وشرح المواقف 8: 146 وما بعدها.
202

في الآية، بل قد ورد في أخبارنا ما يؤيد الأول (1)، وقد مر طائفة منها فيما
سبق حول المراد من الصراط المستقيم (2)، وهذا هو المستظهر من قوله:
* (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *، فإن النعمة المقابلة للغضب
والضلالة هي نعمة الإيمان والاعتقادات الصحيحة.
إن قلت: بناء على هذا يلزم الجبر، فإن خالق الإيمان إذا كان هو الله
تعالى، فخالق الكفر أيضا هو تعالى.
قلت: ليس معنى خلق الله الإيمان والكفر: أنه تعالى جزافا يريد
الإيمان في أحد والكفر في الآخر، بل الكفر والإيمان من كمالات الوجود،
ومثل سائر الصور الحالة في محالها ويتقوم بالإمكانات الخاصة
الاستعدادية والصور السابقة، إلا أن الإيمان من الكمالات الحقيقية
والكفر من الكمالات الوهمية.
فبالجملة: لا شبهة حسب البراهين المقررة في محله، وسيوافيك في
بعض البحوث المناسبة: أن إرادته تعالى نافذة، وقدرته تعالى عامة
شاملة لكل شئ (3)، وأن إرادة العبد وقدرته رشحة من تلك الإرادة
الأزلية الكلية السعية، ولها الدخالة في حصول الإيمان والكفر، من
غير كونها علة تامة، فالإيمان والكفر من الأمور التي تكون تحت الاختيار
والإرادة بمبادئها وإن لا يتعلق بها الإرادة والاختيار ابتداء.

1 - راجع معاني الأخبار: 36 - 37 / 9.
2 - راجع الفاتحة: الآية 6، التفسير والتأويل على اختلاف المسالك والمشارب.
3 - راجع الأسفار 6: 369.
203

فما يتوهمه المعتزلة من: أن الإيمان مخلوق الإنسان من أجزاء
مقالتهم الكلية بالتفويض، كما أن من يتوهم: أنه مخلوق الله من غير دخالة
إرادة العبد، هو أيضا من أجزاء مقالته الكلية بالجبر، وخير الأمور أوسطها،
كما تحرر وتقرر.
204

الحكمة والفلسفة
المسألة الأولى
حول استحقاق النعمة
مقتضى إسناد النعمة إليه تعالى بقوله: * (أنعمت عليهم) * أن فاعل
النعمة هو الله تعالى، ومقتضى ما عرفت فيما سبق: أن المراد من هذه
النعمة، ما يقابل النعم التي يشترك فيه المغضوب عليهم والضالون،
فتلك النعمة هي التي يستحق العبد بها الجنة وينجي بها من النار،
فيكون بسط هذه النعمة من رحمته، وقبضها عن المغضوب عليهم
والضالين أيضا من ناحيته المقدسة.
وعند ذلك يلزم الإشكال العقلي وهو: أن الأمور في هذه النشأة وغيرها
باختياره تعالى إعطاء ومنعا، فما معنى استحقاقهم الجنة والنار؟
وبعبارة أخرى: المنعم عليهم بإنعامه تعالى صاروا مهتدين وناجين،
وسائر الطوائف بعدم إنعامه عليهم صاروا في الضلالة والغضب، وكل ذلك
205

لقوله تعالى: * (أنعمت عليهم) *.
ويمكن تقريب الإشكال بشكل آخر وهو: أن ظاهر الآية أنها في مقام
إفادة أن هذه النعمة - التي أنعمها الله تعالى عليهم - ليس من الواجب
عليه، بل هو إنعام من غير استحقاق حتى يصح أن يذكر، وإلا فلو كان عن
استحقاق فلا يصح التذكير به، وإذا كان لا عن استحقاق، فيكون لمجرد ميل
المولى وانعطاف النظر، فإذن يصعب الأمر جدا، ويكون الإشكال المزبور
أقوى وأغمض، ضرورة إمكان حل الإشكال على التقريب الأول، باستحقاقهم
الإنعام دون الكفار والضالين، ولا يمكن حله على التقريب الأخير
المبتني على عدم استحقاقهم شيئا.
أقول: أولا: نمنع ظهور الآية في أن الابتداء بالنعمة المقصودة في هذه
الآية، لم يكن عن استحقاق، بمعنى وجود القابلية لنزول تلك النعمة،
ضرورة أن الاستحقاق بمعنى كون العبد ذا حق عليه تعالى، ويكون هو تعالى
مورد دينه وحقه حتى يجب عليه أداء الحق، بحيث يعد عند المخالفة
ظالما وغاصبا، وأما بمعنى ثبوت القابلية والاستعداد الاكتسابي المقرون
بالموهبة، فهو ثابت ولازم في اختصاص الفيض وكمال الوجود بطائفة دون
أخرى وإلا يلزم الترجيح بلا مرجح والتخصيص بلا مخصص، وهو الممتنع
في شريعة العقل، ويلزم تعلق الإرادة جزافا، ويلزم البخل أو الجهل أو
العجز بالنسبة إلى غير مورد الفيض وإلى الطائفة الثانية.
وثانيا: لو سلمنا أن هذه الآيات بأسلوبها تدل على أن الإنعام المزبور
يصدر عن استحقاق، ولكن ذلك يؤيد عموم قدرته ونفوذ إرادته ورحمته
ووسعة آلائه، والذي يصير محروما من هذا الفيض العام، ولا يتناول من
206

تلك النعمة الوازعة والرحمة الواسعة، وتلك الآلاء الجميلة
والنعماء المبسوطة، فهو لأجل الانحراف عن جادة الاعتدال وعن الصراط
المستقيم، فالفطرة المخمورة المفطورة بالاستعدادات الذاتية والقوى
والإمكانات الاستعدادية - للسير في جميع الكمالات المادية والمعنوية -
إذا لم تكن محجوبة بالذنوب والمعاصي، ولم تصر مغطاة بغطاء الظلمة
وحجاب المادة، تنالها تلك الرحمات الإلهية والعنايات الربانية.
ولأجل الإشارة إلى تلك البارقة الملكوتية، وهذه المائدة
الإلهية، قال في المقام الأول: * (أنعمت عليهم) * بإسناده النعمة إليه
تعالى، وفي المقام الثاني والثالث لم يسند إليه تعالى وجئ به بشكل
آخر وهو: " المغضوب عليهم " و " الضالين " حتى يعلم ويتوجه الفطن
العارف إلى أن الضلالة تنشأ من أعمال العبد المنحرف، والفاسق
الكافر والملحد المنكر، وأن المغضوبية تكون من قبل غير الله تعالى،
فإنه لا يغضب على أحد ظلما وعدوانا، فهم المغضوب عليهم بأيديهم، * (ما
ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون) * (1) فهم الضالون المتحيرون لدم
الاعتناء بشأن الاهتداء، وهم المغضوب عليهم لتوغلهم في أحكام المادة،
وانغمارهم في الشهوات النفسانية، فلا حد في ذاته تعالى، ولا في صفته،
ولا في فعل من أفعاله. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

1 - آل عمران (3): 117.
207

المسألة الثانية
حول استناد الشرور إليه تعالى
يستظهر من هذه الآية الشريفة أن الكمالات الأولية والثانوية
تستند إليه تعالى، والشرور والنواقص تستند إلى الفواعل الاخر
المتوسطة، فما عن جماعة من استناد الخيرات إليها، وعن أخرى من
استناد الشرور إليه تعالى، مدخول ومرفوض، ضرورة أن النعمة - بأية
معنى أريدت - من الكمالات، سواء أريد منها نعمة الوجود، أو أريد منها
نعمة كمال الوجود دنيويا أو أخرويا، ماديا أو معنويا، اكتسابيا أو موهبيا،
وقد استندت إليه تعالى بقوله: * (أنعمت عليهم) *.
ولو كان المراد هنا النعمة الخاصة - كما هو المتعين قطعا وسبق
تقريره ولا تشمل نعمة الوجود وكمالاته الوهمية، لاشتراك الكل فيها،
كما يشتركون في الاهتداء إلى الصراط المستقيم بالحركة الجبلية
الطبيعية إلى ربهم، فإن ربك على صراط مستقيم - ولكن من الالتفات
المرعي في الآية بعدم استناد الغضب والضلالة إليه تعالى، يستكشف أن
الشرور مطلقا مستندة إلى أنفسهم، والمناسب على هذا - بحسب الحدس
- كون النعم - ولو كانت وهمية - مستندة إليه تعالى.
ويؤيده بعض الآيات الأخر: * (وما بكم من نعمة فمن الله) * (1) بناء على

1 - النحل (16): 53.
208

كون المخاطب أعم من المؤمنين، * (وما أصابك من حسنة فمن الله وما
أصابك من سيئة فمن نفسك) * (1).
اللهم إلا أن يقال: إن هذه الآية تشهد على مقالة المعتزلي كما سبق،
لأجل أن ما يستند إليه تعالى هي النعم وكمالات الوجود الحقيقية، دون
الوهمية، فالكمالات الوهمية تستند إلى أنفسهم الكافرة والملحدة
والضالة، فليتدبر.
ولكن الشرور التي رأسها الضلالة - التي تكون سببا للغضب
وتوغل الطبيعة في الظلمات - مستندة إلى غيره تعالى بالذات، لأن الخير
المطلق لا يصدر منه إلا الخير المطلق، وإنما الشرور من النسب
الملازمة للمادة ولواحقها، ولذلك لا تزاحم بين المجردات، كما تحرر وبلغ
نصاب التحقيق في " قواعدنا الحكمية ".
وقال في " الفصوص " في " فص الحكمة السبوحية في كلمة
نوحية ": اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين
التحديد والتقييد.
وقال الشارح: اعلم أن التنزيه: إما أن يكون من النقائص الإمكانية
فقط، أو منها ومن الكمالات الإنسانية أيضا، وكل منهما - عند أهل الكشف
والشهود - تحديد للجناب الإلهي وتقييد له، لأنه يميز الحق عن جميع
الموجودات، ويجعل ظهوره في بعض مراتبه، وهو ما يقتضي التنزيه دون
البعض، وهو ما يقتضي التشبيه كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع

1 - النساء (4): 79.
209

والبصر وغير ذلك، وليس الأمر كذلك، فإن الموجودات - بذواتهم ووجوداتهم
وكمالاتهم - كلها مظاهر للحق، وهو ظاهر فيهم ومتجل لهم، وهو معهم أينما
كانوا، فيه ذواتهم ووجودهم وبقائهم وجميع صفاتهم، بل هو الذي ظهر بهذه
الصور كلها، فهي للحق بالأصالة، وللخلق بالتبعية (1). انتهى ما أردنا نقله.
وربما يتوجه على أرباب هذه المقالات، وفيهم صاحب " الحكمة
المتعالية "، وهو صريح الوالد العارف المحقق - على ما ببالي في
حواشيه على الفصوص (2) -: أن التسبيح إن كان بنحو القضية المعدولة
فالحق كما أفيد، وأما إذا كانت بنحو السالبة المحصلة، فلا يستلزم
التحديد، ولا إخراج شئ عن حكومته وسلطانه، لأن السالبة المحصلة
صادقة عند انتفاء الموضوع.
أقول: ربما يستشعر من قوله تعالى: * (قل كل من عند الله فما لهؤلاء
القوم لا يكادون يفقهون حديثا) * (3) أن الحسنات مستندة بالذات والسيئات
بالعرض، لأنها أعدام، ولا شبهة في أنها ليست أعداما مطلقة، بل هي الأعدام
المرسومة من لواحق الوجودات.
وبعبارة أخرى: لا يعتبر النقص إلا عند الكمال، فإذا لم يكن كمال في
العالم، فلا معنى لأن يحمل على شئ عنوان الناقص ولو كان حملا بالعرض،
فإذا كان الكمال مستندا إليه تعالى، فلابد أن تحصل هذه النسبة

1 - شرح القيصري على فصوص الحكم: 128.
2 - راجع تعليقات على شرح الفصوص، الإمام الخميني (قدس سره): 86.
3 - النساء (4): 78.
210

العرضية القهرية العقلية أو الوهمية.
ولذلك ترى في الكتاب الإلهي من نسبة الإضلال إليه تعالى، وهكذا
سائر الأوصاف الناقصة كالإذلال ونحوه، مع أنه تعالى منزه عن ذلك، كما أن
النواقص لا تقبل الجعل، لأنها من العدميات اللاحقة قهرا بالوجود
النازل في مراتبه. والله الهادي إلى دار الصواب وإلى جنة اللقاء،
وإليه المشتكى، ومنه نرجو أن يوفقنا لأن نتمم ما أردناه بعنوان المفتاح
لأحسن الخزائن الإلهية.
211

علم الأسماء والعرفان
قد تحرر في محله: أن غير هذا السفر الظاهري والحركة
المتوسطة بين المبدأ والمعاد، سفرا معنويا ينقسم إلى غير النهاية،
حسب السير في المعاني والروحانيات، وحسب الحركة في الحسنات
الأخلاقية والفضائل الإنسانية، بالخروج من الحجب الظلمانية وبترك الغرائز
الرذيلة، إلا أن المعروف منهم (1) - ومن تحريراتنا في " القواعد الحكمية "
لبعض المناسبات العرفانية - أن عمده أربعة، وقد ذكرناها في بعض البحوث
السابقة، ونشير إليها حتى يتوجه السالك العارف إلى أن هذه السورة
قد اشتملت - حسب الذوقيات الإدراكية - على تلك الأسفار غير مرة.
اعلم: أن السفر الأول هو السير من الخلق إلى الحق المخلوق
به والحق الثاني، برفض الكثرات والخروج عن تلك البيوت والدور،
والوصول إلى مرتبة القلب بشهود الوحدة الظلية المستجمعة لجميع

1 - راجع رسالة في تحقيق الأسفار الأربعة، محمد رضا القمشه اي، ضمن شرح الهداية
الأثيرية: 394.
212

الأوصاف والكمالات الكلية، وتلك الوحدة مظهر الوحدة الأصلية، ولعل
إلى هذه السفرة الصعبة يشير المولوي:
جمله دانسته كه أين هستى فخ است * ذكر وفكر اختياري دوزخ است (1)
والسفرة الثانية من الحق المخلوق به إلى الحق الأول،
بخروجه عن تلك الوحدة الوهمية، ووصوله إلى مقام الواحدية،
بمشاهدة الأوصاف والصفات الإلهية، وملاحظة أحكام الروح بعد
الخروج عن بيت القلب وقبل الوصل إلى مقام السر.
والثالثة من الحق الأول - ومن الحضرة الواحدية الجمعية -
إلى الحق المتجلي بتجلي الأحدية الغيبية الذاتية، بخروجه من
المرتبة السابقة ووصوله إلى هذه الحضرة. وهناك سفرة أخرى غير
ممكنة وقد استأثرها لنفسه لا ينالها الأوحدي.
عنقا شكار كس نشود دام بازگير (2)
ويصل في هذه الورطة إلى مقام الخفاء بل والأخفى، وهنا
الضلالة الحقيقية لما لا يبقى منه الأثر، ويبقى ببقاء الله، فإذا كان ممن
شملته العناية الإلهية والرحمة الرحيمية، يشرع في السفرة الأخيرة
من الحق الأول إلى الخلق، واجدا لمقام البرزخية الكبرى، متنعما
بأنواع النعمة، وفي هذه السفرة يأتي بالتشريع والقانون. وقد اختلفت

1 - مثنوى معنوي، دفتر ششم، بيت 226.
2 - ديوان حافظ شيرازي وتمامه:
كانجا هزار باد بدست است دام را
213

أحكام الراجعين إلى الحق حسب اختلاف حالاتهم في هذه الأسفار،
واختلفت الشرائع الإلهية لاختلاف مقاماتهم:
فمن سافر من بيت النفس المظلمة بالمرة، وجاهد في الله حق
جهاده، وتوجه إليه توجها تاما بجميع شؤونه وأحكام وجوده، هو النبي
الإسلامي الخاتم، محمد بن عبد الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) روحي وروح العالمين
لتراب قدمه الفداء، وقد صاحبه في هذه السفرة الأنوار الاخر والأئمة
الاثنا عشر بوحدة نورانية، حشرنا الله تعالى معهم، ورزقنا الله شفاعتهم.
فإذا طلع لك هذه الحقائق وظهر عليك تلك الرقائق المبرهنة في
مقاماتها والمشفوعة بالمشاهدات العرفانية عند أهلها، فإليك الآيات
الأخيرة من هذه السورة الجامعة: فإن المنعم عليهم هم الذين رجعوا عن
السفرة الثالثة إلى الشهود، ومن الفناء الذاتي والصفاتي والأفعالي
إلى البقاء ببقاء الله، ومن الباطن والغيب المطلق إلى الظاهر والشهادة
المطلقة، فهم المهتدون الحقيقيون الذين يطلب السالك أن يهتدي بهداهم
ويقتدي بهم.
والمغضوب عليهم هم الذين لم يخرجوا من سجن الطبيعة، ولم
يتحركوا إلى دار العزة والاهتداء، وانغمروا في الشهوات والرذائل،
وانغمسوا في الخبائث والمادة، ولم يدركوا من الغيب شيئا ولا من الحقيقة
أمرا، ولم يذوقوا من أطعمة الآخرة، ولا من لذائذ القيامة، حتى ماتوا
كالأنعام، بل هم أضل سبيلا.
وأما الضالون المتحيرون الباقون في السفرة الثانية والثالثة، ولم
تدركهم العناية الإلهية بالخروج من جلباب الحجب النورانية، فلم
214

يصبحوا في الآفاق المطلوبة، بالرجوع من تلك الوحدات، فلم يتمكنوا من
حفظ مقام الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة، فضلوا - كما أن
الحكمة ضالة المؤمنين - وقد تبين لك أن الضلال أصله الهلاك،
فهلكوا. والله هو المؤيد، وعليه التكلان.
إفاضة وإنارة: في اعتبارات " المنعم "
اعلم أن - حسب التقسيم المعروف في الأسماء الإلهية - " المنعم "
من أسماء الأفعال، وحسب ما تحرر: أن جميع هذه الأسماء - في اعتبار - من
أسماء الذات، وفي اعتبار آخر تنقسم إلى الأسماء الثلاثة: الذات
والصفة والفعل، وربما يعد الاسم الواحد - باعتبار اختلاف الآثار في
مختلف النشآت - من الأسماء الثلاثة أو الأخيرتين منها (1)، ومن تلك
الأسماء - حسب ما يأتي منا تفصيله في أوائل سورة البقرة إن شاء الله
تعالى - اسم " المنعم "، فإن من ظهوره يتجلى الأعيان الثابتة في النشأة
العلمية، ويتقدر الأشياء بقدرها، ومن تجليه الآخر تظهر الأشياء في النشأة
العينية، فهو تعالى منعم بالإنعامين: الإنعام بفيضه الأقدس والإنعام بفيضه
المقدس، والإنعام الثاني ظهور الإنعام الأول، وتجل عيني لتجل علمي.
وفي اعتبار أن " المنعم " من اعتبارات الذات في المرتبة
الواحدية، كعلم الذات بالأسماء والصفات، ضرورة أن وصف الإنعام
الذاتي وإن لا ينتزع من الذات بما هي هي، ولكنه ينتزع منها باعتبار
التجلي الأول بصدور الفيض الأقدس، فهو منعم في تلك المرحلة وذلك

1 - راجع شرح القيصري على فصوص الحكم: 14، مصباح الانس: 113.
215

المقام، وحيث إن " المنعم " من توابع اسم " القدير " الذي هو من الأمهات
الأسمائية، فلا يكون بنفسه من الأوصاف الكمالية الذاتية، بل هو من
الأوصاف الانتزاعية القهرية من غير لزوم نقص في الذات، ثم استكمال
لها بذلك الوصف، وللمسألة طور آخر يطلب من محاله.
ولأجل أن النعمة عامة وخاصة - كنعمة الوجود وكمالاته
الوهمية، وكنعمة المعرفة وكمالاتها الحقيقية - يكون هذا الاسم من
الأسماء الرئيسة، بل في اعتبار جامعا للاسمين " الرحمن والرحيم "،
ولكن قد عرفت عموم كل واحد منهما من قبل الذات المقدسة، وهكذا
إنعامه بالكمالات الحقيقية عام من ناحية الذات الأحدية، وإنما
الاختلاف في كيفية الاستعدادات والقوابل، * (أنزل من السماء ماء فسالت
أودية بقدرها) * (1).
نقل وتحقيق: في إشارة السورة إلى الأسفار الأربعة
قد اختلفوا في كيفية سير السالكين وسفر العارفين على تعابير
مختلفة ومشاهدات متفاوتة. والذي مر منا هو الذي أفاض الله تعالى على
قلب عبده في سالف الأزمنة - خلافا لزمرة أرباب التأليف ولما قيل في
المقام - أن هذه السورة بأجمعها تشير إلى تلك السفرات المعنوية
والأسفار الروحانية، وذلك لأن:
الاستعاذة إشارة إلى السفر من الخلق إلى الحق، لأن هذا السفر
فرار من الكثرات ومظاهر الشيطان إلى عالم التوحيد ومظاهر الحق

1 - الرعد (13): 17.
216

تعالى، والاستعاذة القولية إخبار بهذا الالتجاء، والاستعاذة الفعلية نفس ذلك
الالتجاء والفرار.
والتسمية إلى قوله: * (مالك يوم الدين) * إشارة إلى السفر من
الحق إلى الحق، فإن التسمية إخبار بالاتصاف بصفاته تعالى، وما بعده
إلى * (مالك يوم الدين) * إعلام بحركة السالك في صفات الحق تعالى إلى
ظهور مالكيته وفناء العبد في ذاته، وهذا السفر حركة في صفات الحق
تعالى إلى فناء العبد.
وقوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * إشارة إلى السفر بالحق في
الحق، لأن مالكيته تعالى لا تظهر إلا إذا صار العبد فانيا من فعله ووصفه
وذاته، وبفناء ذاته يتم عبوديته، وبعد كمال عبوديته لا يكون سيره إلا إلى
الحق المطلق، ولا يكون إلا بالحق لعدم ذات له.
وقوله تعالى: * (إهدنا الصراط المستقيم) * إشارة إلى السفر بالحق في
الخلق، وهذا هو الرجعة الاختيارية في العالم الصغير، والبقاء بعد الفناء
والصحو بعد المحو، وينبغي أن يكون هذا السفر بحفظ الوحدة في الكثرات،
والصراط المستقيم في هذا السفر هو محفوظية الوحدة في الكثرة،
بحيث لاتغلب إحداهما على الأخرى، ولا تختفي إحداهما تحت الأخرى.
وهذه الأحوال قد تطرأ على السلاك، سواء استشعروا بها أم لم
يستشعروا. أذاقنا الله وجميع المؤمنين منها ومكننا فيها، والحمد لله أولا
وآخرا وظاهرا وباطنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1).

1 - القائل هو سلطان محمد الجنابادي في تفسير بيان السعادة 1: 36.
217

في الأخلاق والموعظة
اعلم أن الغضب من الصفات الممدوحة، ومن الكمالات
الموهومة اللازمة في هذه النشأة لتقوم المحافظة على البقاء به، كما
تحرر في الكتب الأخلاقية، ومن الرذائل والخبائث في نظر آخر إذا كان
خارجا عن حيطة العقل وسلطان الاعتدال، وحيث إن البحث عن ذلك وعن
الضلالة يأتي في المواقف الأنسب، وأنهما من جنود الشيطان والجهل،
وأن لا يوجد في رواية العقل والجهل وجنودهما من الضلالة أثر، ولكنها
من المندرجات في بعض الكليات المذكورة فيها، مثل الباطل والشر (1).
وإني في جميع بحوث هذا السفر القيم، لاحظت الاختصار وعدم
الخروج عن المناسبات الأولية وعن حدود الدلالات اللفظية بالنسبة
إلى الآيات الكريمة، وإلا " مثنوي هفتاد من كاغذ شود ".
وبالجملة: سيأتي - إن شاء الله تعالى - ما هو حقيقة الغضب وماهيته،
وكيفية وجوده، وكيفية اتصافه تعالى به، وما هو من الأسباب المنتهية
إليه وما هو علاج هذا المرض والبلية، وكيفية كونه من الصفات

1 - راجع الكافي 1: 16 - 17 / 14.
218

اللازمة في النظام الحيواني مع كونه من الرذائل الإنسانية.
ثم اعلم أيها الأخ الكريم والقارئ العزيز: أن النعم الإلهية
المتناهية نوعا وصنفا، وغير المتناهية شخصا، التي استولت عليك من
الجوانب الشتى ومن النواحي والضواحي المختلفة، والعنايات
الربانية التي شملتك من الابتداء إلى منتهى السير - في جهات كثيرة:
معنوية ومادية، روحية وجسمانية - تقتضي أن تقوم لله وفي الله، وأن
تجيب إلى طاعته وعبادته بعدم إبطال تلك النعم، وبعدم الانحراف عنها،
فعليك يا أيها المحبوب المكرم أن لا تغتر بما في هذه الصحف من
الإنعامات الغيبية، فإنها مفاهيم قالبية، وما دام العبد لا يخرج من تلك
المعاني التخيلية إلى الحقائق الغيبية، لا يصير كاملا ولا يعد عبدا.
فعليك بتهذيب النفس عن جميع الرذائل والشرور، والتحلي بحلية
الفضائل والخيرات، وبمحاسن الأخلاق الكريمة والمحسنات العقلية،
وعليك بالمجاهدة والرياضات بترك لذات الدنيا مهما أمكن، وملازمة أهل
الخير والتقوى في كل مكان ميسر لك، فإن من أشرف الأمور وألذ الأشياء
عند أهل السداد والعرفان، المسافرة في مختلف البلاد لدرك أرباب
الكشف والإيمان، وأصحاب القلوب والقرآن، وقد كان دأب السلف
وديدن الخلف على هذه الطريقة المثلى وتلك الروية العليا.
فيا إلهي وسيدي قد أفنيت عمري في شرة السهو عنك، وأبليت شبابي
في سكرة التباعد منك، فيا إلهي ومولاي أسألك أن توفقني لأن أنال من
الخير ما يليق بجنابك، وأن أختطف من البر ما في سعة رحمتك.
وأسألك اللهم أن توفقني لدرك ما في كتابك العزيز القرآن
الشريف، من مخازن علومك وخزائن معارفك. وأسألك اللهم أن لا تحجب
219

بيني وبينها الذنوب والسيئات، ولا تحرمني منها بالمعاصي والآفات.
فيارب ويا عزيزي وأملي وسيدي ومولاي إليك نبتهل ومنك نسأل يا ذا
الجود والكرامة أن نقوم بالأعمال الصالحة، وأن تملأ قلوبنا من أنوار هذه
السورة المباركة، وأن تعيننا على طاعتك بالمواظبة على أحكامها ومراعاة
آدابها، وأن لا نكون من الذين يقرؤون القرآن وينقرونه كنقر الغراب، ولا
من الذين يلعنه الكتاب، ولا من المحجوبين عن حقائقها ودقائقها، ولا من
المسجونين عن شؤونها وأطوارها، فإنه قد ورد: " رب تال القرآن والقرآن
يلعنه " (1) فرب مفسر للكتاب ومن أفنى عمره في توضيح مقاصده والقرآن
ينزجر منه، ونعوذ بالله تعالى أن نكون منهم.
يا خير المسؤولين ويا خير المعطين اشف به صدورنا، وأذهب به
غيظ قلوبنا، واهدنا به لما اختلف فيه بإذنك يا رحيم ويا كريم.

1 - راجع بحار الأنوار 89: 184 / 19.
220

التفسير والتأويل
على المسالك المختلفة والمشارب الكثيرة
فعلى مسلك الأخباريين
* (صراط الذين أنعمت عليهم) * " شيعة علي (عليه السلام) بولاية
أميرا لمؤمنين، لم يغضب عليهم ولم يضلوا " (1)، وعن الصادق (عليه السلام): " يعني
محمدا صلى الله عليه وآله وذريته " (2).
وفي سند معتبر مضى عن معاوية بن وهب قال: " قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): أقول: آمين إذا قال الإمام: * (غير المغضوب عليهم ولا
الضالين) *؟ قال: هم اليهود والنصارى، ولم يجب في هذا " (3).
وفي ذيل رواية أخرى: أنه قال في * (المغضوب عليهم) *: هم اليهود
الذين قال الله فيهم: * (من لعنه الله وغضب عليه) *، وفي * (الضالين) * قال: هم

1 - معاني الأخبار: 36 / 8.
2 - معاني الأخبار: 36 / 7.
3 - وسائل الشيعة 4: 752 كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 17، الحديث 2.
221

النصارى الذين قال الله فيهم: * (قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا) * (1).
وفي تفسير الإمام: ثم قال أمير المؤمنين: " كل من كفر بالله فهو
مغضوب عليه، وضال عن سبيل الله عز وجل " (2).
وفي رواية أخرى بسند معتبر عن القمي، قال: " * (المغضوب عليهم) *
النصاب، و * (الضالين) * اليهود والنصارى " (3)، وبسند آخر عنه (عليه السلام) قال:
" * (المغضوب عليهم) * النصاب، و * (الضالين) * الشكاك الذين لا يعرفون
الإمام " (4).
وأنت قد أحطت خبرا - مما اطلعت عليه سرا وعلانية - أن اختلاف
لسان الأخبار المأثورة عن أئمتنا الصديقين - صلوات الله تعالى عليهم
أجمعين - في موقف إفادة المقصد الأعلى في ثوب التقية ولباس الإخفاء.
فإن رواياتهم نطقت: بأن * (المغضوب عليهم) * اليهود، و * (الضالين) *
النصارى (5)، وفي أخبارنا ما يؤيدهم، ويومي إلى أن الكتاب العزيز لا
ينحصر مفاهيمه الكلية بالأصناف الخاصة، بل * (المغضوب عليهم) *
معنى كلي ينطبق على كل إنسان محجوب بالحجب المادية عن المعنويات
والروحانيات، و * (الضالين) * أيضا عام ينطبق على كل متحير غير واصل إلى
الحق وغير متوغل في الباطل، ويكون في السبيل والفحص وفي حال

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 50 / 23.
2 - نفس المصدر.
3 - تفسير القمي 1: 29.
4 - نفس المصدر.
5 - راجع الدر المنثور 1: 16.
222

السلوك، ولا يكون بعد من المهتدين، وتفسيرها بالنصارى للإيماء إلى
أسوئية حال اليهود منهم، كما هو الظاهر من الكتاب وعند كل ذي شعور.
ومما نبهنا عليه يظهر: أن اختلاف العامة في المراد من * (المغضوب
عليهم) * ناشئ من عدم ركونهم إلى باب العلم وفناء المدينة، فقال ابن
مسعود وابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد: إنهم اليهود، و * (الضالين) *
هم النصارى، وقد روى ذلك أحمد في مسنده (1) وحسنة ابن حبان في
صحيحه مرفوعا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس
وابن مسعود، وحكي عن ابن أبي حاتم، لا أعلم فيه خلافا للمفسرين، ولكنه
خالفهم في ذلك وأخذ بالعموم (2)، وأنكر عليه الآلوسي أشد الإنكار، قائلا: إن
ذلك طرح للأخبار الصريحة الصحيحة، وقد تجاسر في تفسير
الكتاب (3)، ولكنه بمعزل عن التحقيق، كما عرفت وجهه.
فبالجملة: اختلافهم الشديد في غير محله، وهذا النوع من الاختلاف
الباطل العاطل كثير في تفسير المعاني القرآنية.
وعلى مسلك الحكيم المتأله
* (صراط) * الطائفة * (الذين) * هديتهم، و * (أنعمت عليهم) * بالوصول
إلى الغاية المقصودة والنتيجة المطلوبة، و * (أنعمت عليهم) * بالاهتداء

1 - مسند أحمد بن حنبل 5: 77.
2 - الدر المنثور 1: 16، روح المعاني 1: 90.
3 - راجع روح المعاني 1: 90.
223

إلى الصراط التكويني والطبيعي، بانطباق حركتهم مع حركة الإنسان
الكامل، وباستجماع الاستعدادات اللازمة والقابليات والإمكانات
الاستعدادية، لنيل تلك الأخيرة والغاية المأمولة، دون من غضب عليه
باحتراق الإمكانات وشرائط الوصول إلى الخيرات، ودون من ضل ولا
يتمكن من الوصول إلى أنوار الهداية، والأسباب المخرجة من القوة
إلى الفعلية.
وقريب منه: * (صراط الذين أنعمت عليهم) * بخروج جميع القوى
الطبيعية والمعنوية إلى فعلياتهما الدنيوية والأخروية، لا * (المغضوب
عليهم) * الذين خرجوا إلى ما دون الطبيعة، فضاعت قواهم المودعة في
وجودهم، فشرعوا في الحركة التضعيفية حتى وصلوا إلى باطن الدنيا
والطبيعة، ولا * (الضالين) * الذين صادفوا الموانع عن حركتهم الجبلية
الغريزية، فلم تدركهم العناية الربانية، فأصبحوا متحيرين وهالكين غير
واصلين إلى الغاية الملحوظة لهم.
وعلى مسلك العارف
* (صراط) * كل موجود * (أنعمت) * عليه بسلوكه في مسيره المهيأ
له، حسب الاسم المخصوص به في الذات في المرتبة الواحدية،
وبانتهاء سفره المعنوي إلى السفرة الثالثة ثم الرابعة، فبلغوا إلى مقام
الصحو بعد المحو، وإلى مقام البرزخية الكبرى بالجمع بين أحكام
الوحدة والكثرة، دون * (المغضوب عليهم) *، الذين لم يخرجوا من بيت
224

النفس المظلم ولا من سجن الطبيعة، فتوغلوا في أحكامها، وانغمروا في
المادة ولواحقها، ودون * (الضالين) * الذين تحيروا في الطرق وفي الأسفار،
فلم تدركهم العناية الإلهية بالرجوع من الوحدة إلى الكثرة، وهكذا لم
يتمكنوا من السفر إلى المراحل المتقدمة على تلك الوحدة، فإنهم وإن
لا يكونوا من * (المغضوب عليهم) *، لكنهم لا يعدون من المنعم عليهم أيضا،
فمن سافر في السفرة الأولى والثانية والثالثة يعد من * (الضالين) *، ومن
لا يسافر ولا يتمكن من هذا السير المعنوي مغضوب عليه، ومن شرع في
السفرة الأخيرة بالرجوع إلى الكثرة من غير حجاب الوحدة، فهو من
المنعم عليهم.
وعلى مسلك بعض المتصوفة
* (صراط الذين أنعمت عليهم) * بعدم التوجه إلى ذواتهم وصفاتهم
وأفعالهم وآداب القراءة، دون من كان متوجها إليها وغير مؤدب بتلك الآداب،
ودون * (الضالين) * الذين يتوجهون إلى شؤونهم ومؤدبون بالآداب القلبية
والقالبية.
وفي تعبير آخر: * (صراط الذين أنعمت عليهم) * بالولاية المخرجة
له إلى فعلياتها الإنسانية، والفعليات الإنسانية من مراتب الولاية،
والآثار الصادرة واللازمة من فعلياتها الإنسانية من التوسط في الأمور
المذكورة، وهكذا الأعمال المعينة على الخروج المذكور، إنما هي نعمة
باعتبار اتصالها بالنعمة التي هي الولاية، ولما كان المنعم عليهم بالولاية،
225

هم المتوسطين بين التفريط في ترك الولاية، والإفراط المخرج عن حد
الولاية، وصراطهم كان متوسطا بين التفريط والإفراط في جملة الأمور،
وصفهم بقوله: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *، فلا يكون من
المفرطين المقصرين، ولا من المفرطين المتجاوزين حد الولاية،
فالطريق الوسط هي الولاية لا غير.
وقريب منه: * (صراط الذين أنعمت عليهم) * بنعمة الوحدة، والنعمة
الخاصة الرحيمية، التي هي المعرفة والتوحيد والمحبة والهداية
الحقة الذاتية، من النبيين والشهداء والصديقين والأولياء، الذين
شاهدوه أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي
عن وجود الظل الفاني.
* (غير المغضوب عليهم) * الذين وقفوا مع الظواهر، واحتجبوا بالنعمة
الرحمانية والنعيم الجسماني والذوق الحسي عن الحقائق الروحانية
والنعيم القلبي والذوق العقلي، كاليهود إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر
والجنان والحور والقصور، فغضب عليهم، لأن الغضب يستلزم الطرد
والبعد، والوقوف مع الظواهر التي هي الحجب الظلمانية، غاية البعد
والطرد والوقوف.
* (ولا الضالين) * الذين وقفوا مع البواطن التي هي الحجب
النورانية، واحتجبوا بالنعمة الرحيمية عن الرحمانية، وغفلوا عن
ظاهرية الحق، وضلوا عن سواء السبيل، فحرموا شهود جمال المحبوب
في الكل، كالنصارى إذ كانت دعوتهم إلى البواطن وأنوار عالم القدس،
وأما دعوة المحمديين فإلى الكل والجمع بين صحبة جمال الذات
226

وحسن الصفات.
وعلى مسلك الخبير البصير
لا تختلف هذه التعابير ولا تشتت تلك العبائر، بل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير
فإن القرآن بما أنه من الغيب إلى عالم الشهادة، وبما أنه تنزل من
المطلق إلى المراتب النازلة وإلى أدنى مراحل التقييد، فطبعا هو
المتحرك في السفر الرابع من المبدأ - في القوس النزولي - إلى
المنتهى حتى صار عرضا مسموعا وخطا مكتوبا، فيما أنه كذلك مستجمع
للكل مع وحدته الجمعية، ف‍ * (صراط الذين أنعمت عليهم) * لا يتأبى من أن
يراد به واحد من هذه المعاني الرقيقة أو كلها، وهكذا * (غير المغضوب
عليهم ولا الضالين) * وهو تابع قصد القارئ، فله أن يقصد به المعين أو
الكل في مقام القراءة. ومن هنا يتجلى لك أن مراتب المعاني ربما كانت
أكثر من ذلك، فلا يمكن الإحاطة بما هو مرام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين
القراءة، ولكن ما يقصده حين القراءة داخل في هذا المفهوم العام اللغوي
بالضرورة.
وإن شئت قلت: إن المراد من * (أنعمت عليهم) *، إن كان المنعم عليه
بنعمة التوحيد، ف‍ * (المغضوب عليهم) * والضالون هما المنكرون
والمترددون، وإن كان المراد منه من أنعم عليه نعمة الإقرار بالأسماء
والصفات والأفعال، المناسبة لمقام وجوب الوجود، فهما مقابلاه على
227

الوجه المزبور، وإن كان المراد منه نعمة الإقرار بالشريعة فهكذا، وإن
كان المراد منه نعمة الإقرار بالإسلام فهكذا... إلى أن تصل النوبة إلى
أن يكون المراد منها نعمة العود من السفر الثالث المعنوي، فيكون أكثر
الموحدين والمسلمين والمؤمنين من * (المغضوب عليهم) * و * (الضالين) *،
فإن من كان همه الوصول إلى نعمة الآخرة، بدخول الجنة والفرار من
النار، فهو مغضوب عليه، لأنه قد أفنى في ذاته استعداده الذاتي والفطرة
التي توجهه إلى المراتب العالية، التي لا ينظر بالوصول إليها إلى
الجنة والنار، ويكون خليا عنهما، ومشتاقا إلى جنة الذات متنفرا من
حجبها.
ومن لم يتمكن من إحياء تلك الغريزة وإخراجها من القوة إلى
الفعلية - بالتردد في أثناء الطريق - يكون من الضالين.
ف‍ * (المغضوب عليهم) * والضالون يقاسون إلى المنعم عليهم وإلى
النعمة المخصوصة بهم، وحيث إن الآية الشريفة لا تأبى عن شمول كل
المعاني، وتكون النعمة عامة وقابلة لشمول جميع أنحائها، فلا يختص
المراد منها بإحدى الاحتمالات المذكورة، بل جميعها مندرج تحتها بعون الله
وقدرته.
228

خاتمة تشتمل على رموز ونكت
النكتة الأولى
حول عدد السبع
قد سبق أن آيات هذه السورة المباركة سبعة، وفاقا لما عليه
الكتب المخطوطة وغير المخطوطة القديمة والحديثة.
واعلم أن عدد السبع من الأعداد...
جاءت وسارت في العالم الكبير والصغير، وفي الكون الجامع،
وفي المعجون الملكوتي الذي اكتشف بالكشف التام الأحدي الأحمدي
المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالعوالم الكلية سبعة: عالم اللاهوت، والجبروت، والملكوت
العليا، والملكوت السفلى، وعالم النفوس الكلية المعلقة، والنفس
الجزئية، وعالم الناسوت.
وعوالم الإنسان الصغير سبعة: عالم الطبع، وعالم النفس، والقلب،
229

والروح، والسر، والخفي، والأخفى.
والأعضاء الرئيسة في الأبدان سبعة: الرأس، والصدر، والبطن،
واليدان، والرجلان.
والقوى المجردة سبعة: العقل، والنفس، والباصرة، والسامعة،
والذائقة، والشامة واللامسة.
وتكبيرات الافتتاحية سبعة، وأعمال الصلاة الواجبة بالاتفاق
سبعة: النية، وتكبيرة الافتتاح، والقراءة، والركوع، والقيام المتصل
بالركوع والسجود، والتشهد.
ومراتب خلقة الإنسان سبعة، وأطوارها سبع، كما قال الله تعالى:
* (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم
خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام
لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين) * (1)، ولذلك ولأجل
ذاك قيل: نور آيات الفاتحة يسري من ألفاظه المسموعة إلى أعمال
السبعة الظاهرة، ومنها إلى المراتب السبع الإنسانية المعبر عنها
باللطائف السبعة (2).
هفت شهر عشق را عطار گشت * ما هنوز اندر خم يك كوچه أيم
وتكون تلك السبع الروحية المتأخرة انعكاس السبعة المادية
المتقدمة، والأخيرة تستكمل بتلك السبعة الأعمالية.

1 - المؤمنون (23): 12 - 14.
2 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 164.
230

وبالجملة: السماوات سبعة، والسيارات المرئية بالباصرة سبعة،
وطبقات الأرض سبعة، والأرضون سبعة، والأقاليم سبعة، والألوان سبعة،
وبنات النعش سبع، وما يرى في الثريا بالباصرة سبع، وحجب الباصرة سبع:
صلبية، مشيمية، وشبكية، وعنكبوتية، وعنبية، وقرنية وملتحمة. والقراء
سبعة، وأصحاب الكهف وهم: يمليخا، ومكشلينيا، ومشلينيا، ومرنوش،
وديرنوش، وشاذنوش، ومرطونش سبعة. والأخيار سبعة: قطب، وغوث،
وأخيار، وأوتاد، وأبدال، ونقباء، ونجباء وفي بعض العلوم: الأجساد سبعة:
الحديد، والمس، وروح توتيا، والسرب، والطلا، والقلعى، والفضة.
والحروف المائية سبعة: الجيم، والزاي، والكاف، والسين، والقاف،
والثاء، والظاء. والحروف النارية سبعة: الألف، والهاء، والطاء،
والميم، والفاء، والشين، والذال. والحروف الترابية سبعة: الدال،
والحاء، واللام، والعين، والراء، والخاء، والغين. والحروف الهوائية
سبعة: الباء، والواو، والياء، والنون، والصاد، والتاء، والضاد.
والحروف الاستعلائية سبعة: الخاء، والصاد، والضاد، والغين، والطاء،
والقاف، والظاء. وأعضاء البطن سبعة: المعدة، والطحال، والكبد،
والرئة، والقلب، والمرارة، والكلية. والخطوط في جام جم سبعة: خط
جور، وخط بغداد، وخط البصرة، وخط أزرق، وخط العبرة، وخط صانع
الكأس، وخط فرودينة. ومواضع السجود سبعة، ومواضع الزينة سبعة،
وأيام الأسبوع سبعة، وأفعال القلوب سبعة: حسبت، وظننت، وخلت،
وعلمت، ورأيت، ووجدت وزعمت. وأنواع الخط سبعة: الثلث، والمحقق،
والتوقيع، والربجان، والرقاع، والنسخ، والتعليق. ووجوه الصرف سبعة:
231

الصحيح، والمثال، والمضاعف، واللفيف، والناقص، والمهموز،
والأجوف. وسواقط الفاتحة - أي الحروف التي لم تذكر فيها - سبعة: ز،
ث، ف، ظ، ج، خ، ش. وسيأتي مزيد تحقيق حول هذه الأخيرة.
وإمكان المناقشة في بعض غير مسدود، ولكن الذي يحصل من
المجموع تطبيق في كتاب التدوين على التكوين، وانطباق التشريع على
الطباع، والطباق الكلي بين الكتب الصغيرة والكبيرة والقانونية.
ومن هنا ربما يستخرج كيفية اشتمال الفاتحة على الكل، كما
يستظهر اتحاد العترة والكتاب من أن عدد الأئمة الاثني عشر الذين هم
يسمون بمحمد وعلي سبعة، وسيأتي في مقام آخر كيفية الاتحاد على نعت
الحقيقة إن شاء الله تعالى.
النكتة الثانية
حول انفتاح أبواب الجنة الثمانية عند القراءة
أن أبواب الجنة ثمانية، ينفتح كل باب منه عند القراءة، فإذا وصل
السالك إلى الاستعاذة، بعد ما دخل في حريم الله تعالى بافتتاح التكبيرات
السبع الافتتاحية، وبعد ما ترنم بتوجيه القلب إليه تعالى تبعا لإبراهيم
الخليل، وقال: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض عالم الغيب
والشهادة " ينفتح له الباب الأول، وهو باب المعرفة برفض جنود إبليس
والحجب النورانية، وبالتحلي بحلية التوحيد الفعلي، لقطع آثار القوة
232

الوهمية الباطلة والخيالية الراسمة وإذا قال * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * ينفتح له باب الذكر، وبقوله * (الحمد لله رب العالمين) * ينفتح له
باب الشكر، وبقوله: * (الرحمن الرحيم) * ينفتح له باب الرجاء، وبقوله
* (مالك يوم الدين) * ينفتح له باب الخوف، وبقوله: * (إياك نعبد وإياك
نستعين) * ينفتح له باب الإخلاص والعبودة الكاملة المتفرعة على تلك
الانفتاحات، وبقوله: * (إهدنا الصراط المستقيم) * ينفتح له باب الدعاء
والتضرع والعمل بقوله: * (ادعوني أستجب لكم) *، وإذا وصل إلى قوله
تعالى: * (صراط الذين...) * إلى آخره، ينفتح له باب الاقتداء بالأرواح
الكلية الإلهية الطيبة وبالأكوان الجامعة العرفانية والاهتداء إلى
أنوارهم الصافية الخالصة، فيتم معراجه الروحاني بحمد الله وله
الشكر (1).
النكتة الثالثة
حول تناسب الصلاة والفاتحة
أعمال الصلاة غير القراءة والأذكار سبعة: القيام، والركوع،
والانتصاب منه، والسجود الأول، والسجود الثاني، والقعدة بينهما،
وبعدهما. فهذه الأعمال في حكم الشخص، والفاتحة في حكم الروح،

1 - راجع التفسير الكبير 1: 277 - 278، وتفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 165
- 166.
233

ويحصل الكمال الحقيقي عند الاتصال بينهما.
قوله: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * بإزاء القيام، لأنه أول الأعمال،
ولأن الأشياء ب‍ " بسم الله " قامت.
وقوله: * (الحمد لله رب العالمين) * بإزاء الركوع، لأن كليهما من
الحالات المتوسطة، ضرورة أن التحميد على الوجه المزبور -
بملاحظة الربوبية والمخلوقين - تحميد متوسط، وله الدرجة الأخرى
هي الأعلى منه.
و * (الرحمن الرحيم) * يناسب الانتصاب، لأن الانحناء من الركوع نقص،
والعدول عنه إلى الاستقامة كمال، يحتاج إلى تذكره بالرحمة
الرحمانية والرحيمية.
و * (مالك يوم الدين) * يناسب السجدة الأولى، لأنها غاية الخضوع،
وهي تحصل من الخوف البارز في القلب من قراءته.
و * (إياك نعبد وإياك نستعين) * يناسب القعدة الأولى، لأن الجملة
الأولى إخبار عن عبوديته، والثانية استعانة للتوفيق على السجدة
الثانية.
وقوله: * (إهدنا الصراط المستقيم) * يناسب السجدة الأخيرة، لأن
غاية مقصوده من التعبد هو الاهتداء إلى الصراط المستقيم، فإذا كانت في
منتهى سيره النزولي في العبادة، فلابد وأن يطلب منتهى الآمال والأماني.
و * (صراط الذين أنعمت عليهم...) * إلى آخره يناسب القعدة
الثانية، لأنه بعد العود إلى الكثرة من التوجه التام والفناء الأخير،
لابد وأن يتوجه إلى تكثير خصوصيات المسؤول عنه، بأن يكون صراط
234

المنعم عليهم، لا صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين.
هذا ما في بعض الكتب (1) بتقريب منا، حتى يخلو عن المناقشات
الكثيرة، ولا ينبغي أن يكون النظر إلى هذه الأمور نظرا علميا برهانيا، بل
هذه الذوقيات الباردة نشأت من أرباب الخيال والشعر، ومع ذلك كله فهو
مما لا بأس به في الجملة.
النكتة الرابعة
المناسبة بين السورة وآخر سورة البقرة
ربما يقال: كمال حال الرسول الأعظم البشري (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يظهر في
الدعوة إلى الله تعالى، وتلك الدعوة تستكمل بأمور سبعة ذكرها الله تعالى
في آخر سورة البقرة بقوله: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) * (2) وهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ
والربوبية، ثم بعد ذلك معرفته بالعبودية، وهي مبتنية على أمرين: الأول
المبدأ، والثاني كماله، فما بحذاء المبدأ قوله تعالى بعد تلك الأربعة:
* (وقالوا سمعنا وأطعنا) * والمراد من الكمال، هو التوكل عليه المتضمن
للإقرار به على نعت الكمال الإطلاقي، وبإزائه: * (غفرانك ربنا) *، وبذلك
ينقطع نظر السالك العارف عن الأعمال البشرية والطاعات التوهمية،

1 - راجع التفسير الكبير 1: 274، وتفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 167 - 168.
2 - البقرة (2): 284.
235

ويحصل له الالتجاء إليه، فإذا استكملت الربوبية والعبودية في ذاته،
واستولت عليه صفاته الحميدة، وخرجت قواه الاستعدادية إلى الفعليات
النورية، يحصل له التوجه التام بالانقطاع الكلي إليه، بخلع جلباب
البشرية ورفض صيصية الإنسانية، فيترنم بقوله: * (وإليك المصير) *.
فما هو مراتب الإنسان المبدأ والأوساط والمعاد، فإذا كان العبد في
سلوكه الإنساني متوجها إلى ربه الأعلى، فيكون قارئا في الآيات السبع
القرآنية ما يستوفي به تلك المراتب السبع الإنسانية، وهو بالتضرع
والتخشع في مراتب سبع:
فأولها: من البقرة * (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * (1) فال ينسى
ويتذكر أول آية من سورة الفاتحة * (بسم الله الرحمن الرحيم) *.
وثانيها: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) *،
فيقول: * (الحمد لله رب العالمين) * على هذه المنة المخصوصة بنا.
وثالثها: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * فيترنم ب‍ * (الرحمن
الرحيم) * لما فيه كمال رأفته ونهاية شفقته بالنسبة إليهم.
ورابعها: * (واعف عنا) *، فيقول: * (مالك يوم الدين) * فإن طلب العفو
لأجل ظهور الخشية والإقرار بالملكية والحكومة المطلقة.
وخامسها: * (واغفر لنا) * فيناديه: * (إياك نعبد وإياك نستعين) *، فيطلب
الغفران لأجل عبادته والاستعانة منه.
وسادسها: * (وارحمنا) *، وذلك لأجل قوله: * (إهدنا الصراط

1 - البقرة (2): 285.
236

المستقيم) *.
وسابعها: * (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) * حتى لا أكون من
المغضوب عليهم ولا الضالين (1).
النكتة الخامسة
تحصيل العدالة بقراءة السورة
اعلم أن العدالة من أمهات الفضائل الأخلاقية، وهي الحد الوسط
بين الإفراط والتفريط، بل العدالة تمام الفضائل الباطنية والظاهرية
والروحية والقلبية والنفسية، وذلك لأن العدل المطلق هي الاستقامة
المطلقة في جميع الجهات والجوانب، من غير فرق بين مقام المظهرية
للأسماء والصفات، والتحقق بها الذي هو المخصوص بالإنسان الكامل،
ويكون ربه - عندئذ - حضرة الاسم الأعظم " الله " الذي هو على الصراط
المستقيم من الحضرات الأسمائية، وإليه الإشارة إمكانا بقوله: * (ما من
دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) * (2).
وبين مقام التجلي بالمعارف الإلهية، فإن معنى العدالة في هذه
المرحلة عدم الاحتجاب من الحق بالخلق، فيتجلى العدالة في قلبه من
غير احتجاب بالحق من الخلق، فيرى الوحدة في الكثرة والكثرة في

1 - التفسير الكبير 1: 264 - 266.
2 - هود (11): 56.
237

الوحدة، ومعنى الإفراط والتفريط في هذا المقام، هو الاحتجاب من الخلق
بالحق وبالعكس.
وبين مقام التخلق بالأخلاق النفسانية، فإن العدالة هنا هو تعديل
القوى الثلاثة الشهوية والغضبية والشيطانية، وهذه القوى الثلاثة
أمهات الرذائل والأخلاق الفاسدة، فإن القوة الوهمية الشيطانية هي
الأهواء النفسانية، والقوة الغضبية هي السبعية الحيوانية، والقوة
الشهوية هي البهيمية الحيوانية، وتلك القوى تشتد وتضعف حسب
الرياضات النفسانية والمعاصي والتخلف عن الشرائع الإلهية، وإذا
كانت الثلاثة بين يدي العقل في الحد الوسط، فهو الكمال اللازم في
هذه النشأة وأن لا يكون واحدة منها غالبة على الأخرى.
وربما تغلب إحداها على الأخرى، فعندئذ تحصل الأصول الممسوخة
الملكوتية البالغة إلى السبعة:
أحدها: الصورة البهيمية، فإنها إذا غلبت على الأخريين يصير الباطن
متصورا بصورتها، ويحشر حسب علم المعاد على إحدى صور البهائم
كالحمار ونحوه، وذلك لأن ميزان الصور في النشأة الآخرة على الأخلاق
والباطن، كما ورد في الأحاديث ما يومي إلى هذه التجسمات الأخلاقية.
ثانيها: الصورة السبعية، فإنها إذا استكملت النفس في تلك القوة،
وتصورت بتلك الصورة ويحشر عليها، فيكون بشكل إحدى السباع في
السلوك وفي البرازخ، وأحيانا إلى يوم القيامة، فأعاذنا الله تعالى من هذه
التبعات ووفقنا على هدم بنيانها في هذه النشأة إن شاء الله تعالى.
ثالثها: الصورة الشيطانية، فالنفس إذا استكملت فيها القوة
238

الوهمية، وكانت أخيرة كمالاتها الفعلية التخلق بهذه الرذيلة العجيبة،
تحشر يوم القيامة في صورة ملكوتية شيطانية، التي تحسن عندها القردة
والخنازير، وهكذا في البرازخ.
فهذه الثلاثة هي أصول المسوخ الملكوتية البسيطة، وربما
يحصل من النكاح بينها والازدواج المسوخ الملكوتية المركبة المتولدة
من تلك البسائط، وهي أربعة صور: ثلاثة منها ثنائية، لأنها تتكون من
الشيطانية والغضبية تارة، ومن الشيطانية والبهيمية أخرى، ومن
البهيمية والغضبية ثالثة، فيحشر يوم القيامة على شكل مزدوج من
الثلاثة، ويكون خارق العادة وغير مأنوس حتى لأهل العذاب، والرابعة
منها هي المركبة من الثلاثة ويصير " اشتر گاو پلنگ " كما في اللغة
الفارسية، وتحسن عندها سائر الصور، فضلا عن القردة والخنازير.
وهذه المسوخات الملكوتية موافقة للبراهين العلمية
وللمكاشفات القطعية، ولا يختص التصور بهذه الصور مجال المفارقة
والانتقال من هذه النشأة، بل الآن كاتب هذه السطور في باطنه الرذائل
الجمة، بحيث يتمكن أرباب الكشف والشهود وأصحاب الانس والقلوب
من مشاهدتها. فيا رب يا الله! نعوذ بك من الشيطان الرجيم، الذي هو أس
هذه الانحرافات والضلالات من العدالة والاعتدال إلى الإفراط والتفريط،
لذلك يترنم القارئ أولا بالاستعاذة لرجوع جميع الخبائث إليه، ثم يقرأ
الآيات السبع من الفاتحة، فيكون كل واحد منها بإزاء واحدة منها، وليتحرز
من مجموع تلك الرذائل السبعة بتلك السبعة الفاضلة، وليتجنب من
الصور الباطلة الملكوتية الممسوخة بحصول الصور السبع
239

الملكوتية الروحانية، فإن النفس مادة قابلة لما يرد عليها من
المحاسن والمفاسد، فإذا قاوم الإنسان الملتفت والمتوجه هذه الصور
بإيراد مضاداتها، وأدمن في ذلك، فربما تشمله العناية الربانية وحكمته
الإلهية، فيخرج من المهالك والظلمات إلى المنجيات والأنوار. والله ولي
التوفيق، وعليه التكلان.
النكتة السادسة
في نظم هذه السورة
وهو على ما أفاده بعض أهل التحقيق (1) - وإن كان في وجهه الوجوه
الكثيرة -: أن للإنسان أياما ثلاثة: الأمس، والبحث عنه يسمى بمعرفة
المبدأ. واليوم الحاضر، والبحث عنه يسمى بالوسيط، وبتعبير منا العلوم
الطبيعية. والغد، والبحث عنه يسمى بعلم المعاد.
والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاث، وتعليم هذه
المعارف الثلاثة التي كمال النفس الإنسانية منوط بمعرفتها، ونفس
الأعمال البدنية إنما تراد لأجلها، لأن غايتها تصفية مرآة القلب من
الغواشي البدنية والظلمات الدنيوية، لأن يستعد لحصول هذه الأنوار
العقلية، وإلا فنفس هذه الأعمال الحسنة ليست إلا من باب الحركات
والمتاعب، ونفس التصفية المترتبة عليها، ليست إلا أمرا عدميا لو لم

1 - تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 162 - 163.
240

يكن معها استنارة صفحة القلب بأنوار الهداية، وتصورها بصورة المطالب
الحقة الإلهية. والقرآن متضمن لها، وهي العروة الوثقى فيه لما ذكرنا،
ولما كانت هذه السورة مع وجازتها، متضمنة لمعظم ما في الكتب
السماوية من المسائل الحقة، والمقاصد اليقينية المتعلقة بتكميل
الإنسان وسياقته إلى جوار الرحمن، فلابد وأن يتحقق فيها جميع ما يحتاج
الإنسان إليه منها، فنقول: هي هكذا:
أما اشتمالها على علم المبدأ، فقوله تعالى بعد التشرف بمقام الذكر
والتسمية: * (الحمد لله رب العالمين) *، فإنه يومي إلى العلم بوجود
الحق الأول، وأنه مبدأ سلسلة الوجودات، وموجد كل العوالم
والمخلوقات، وقوله: * (الرحمن الرحيم) * إلى العلم بصفاته الجمالية
وأسمائه الحسنى، وقوله: * (مالك يوم الدين) * إلى إثبات أنه غاية
وسبب نهاني للمخلوقات، مع الإشارة إلى أسمائه الجلالية. ويشير إلى
العلم الوسط قوله: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * وهو العلم بالأعمال
والأحوال التي يجب معرفتها ما دام في هذه النشأة وهذه الحياة، وهي بدنية
وقلبية:
فالبدني: تهذيب المظاهر عن الأنجاس وتربيته بالصلاة والصيام
والحج وغيرها.
والقلبي: تهذيب الباطن عن الغشاوات وخبائث الملكات.
وإلى هذه الأسرار يشير أيضا قوله: * (إهدنا الصراط المستقيم) *.
وأما اشتمالها على علم المعاد، وهو العلم بأحكام النفس بعد الفراق
وخصوصياتها، فلقوله: * (صراط الذين أنعمت...) * إلى آخره، فإنه صراط
241

الله العزيز الحميد، وباب الله الآتي منه إلى الحق، فإنه حقيقة المنعم
عليهم لا تصير معلومة إلا بمفارقة جلباب الأبدان وصياصي الأجسام.
النكتة السابعة
حول الأسماء الخمسة المذكورة في السورة
قد اشتملت هذه السورة على الأسماء الخمسة " الله، الرحمن،
الرحيم، الرب، المالك "، وهي ربما تحاذي الصفات الخمسة المذكورة
فيها: وهي العبودية، والاستعانة، وطلب الهداية، وطلب الاستقامة، وطلب
النعمة الخاصة.
وقال الفخر: كأنه قيل: إياك نعبد، لأنك أنت الله، وإياك نستعين، لأنك
أنت الرب، واهدنا الصراط المستقيم، لأنك أنت الرحمن، وارزقنا
الاستقامة، لأنك أنت الرحيم، وأفض علينا سجال نعمك وكرمك، لأنك مالك
يوم الدين (1).
وقيل: الإنسان مركب من الأشياء الخمسة: البدن، ونفسه
الشيطانية، ونفسه الشهوانية، ونفسه الغضبية، وجوهره الملكي
العقلي، فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة (2).
وقيل: إن مراتب أحوال الخلق خمسة: أولها الخلق، ثانيها التربية

1 - التفسير الكبير 1: 285.
2 - التفسير الكبير 1: 286.
242

في مصالح الدنيا، وثالثها التربية في تعريف المبدأ، ورابعها التربية في
تعريف المعاد، وخامسها نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد،
فاسم الله منبع الخلق والايجاد والتكوين والإبداع، واسم " الرب " يدل على
التربية بوجوه الفضل والإحسان والإنعام، واسم " الرحمن " يدل عليها في
معرفة المبدأ، واسم " الرحيم " في معرفة المعاد، حتى يحترز عما لا
ينبغي، ويقدم على ما ينبغي، واسم " الملك " يدل على أنه ينقلهم من دار
الدنيا إلى دار الآخرة والجزاء.
فإذا انتفع العبد من هذه الأسماء الخمسة في تلك المقامات
الخمسة، يحصل له كمال القرب، فيخاطبه ويناجيه بقوله: * (إياك نعبد
وإياك نستعين) * (1).
وهنا النكات والذوقيات الاخر، إلا أن الكلام إذا لم يكن مشفوعا
بالبراهين العقلية، أو لم يكن مقرونا بالمكاشفات العرفانية، لا متانة فيه،
لأن تلك الذوقيات تخيلات باردة واختراعات، تختلف حسب الأزمان
والأفكار والأحوال والأفراد.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
وقد تم بعونه وتوفيقه ما يتعلق بهذه السورة الشريفة في أوائل
الليلة السابعة من ذي القعدة الحرام عام 1390 ه‍، وكاتب هذه السطور
ابن واحد وأربعين، جزاه الله خيرا، وغفر الله ذنوبه، وأسكنه بحبوحة رضوانه.
اللهم ارفع عنا البلاء المبرم من السماء، إنك على كل شئ قدير، يا رحيم!

1 - التفسير الكبير 1: 289.
243

النكتة الثامنة
جدول السورة على حساب الحروف
قد تصدى بعض أرباب العلوم الغريبة لاستخراج جميع الحوادث
الكونية والزمانية، وتواريخ القضايا الآتية على حساب الحروف
والأعداد من سورة الفاتحة، وإنا لسنا في ذلك الموقف، ولكن أردنا
الإشارة إلى جدول هذه السورة، حتى تكون منافعها أكثر، ومن شاء تفصيله
فليراجع مواضعها (1).

1 - راجع شمس المعارف الكبرى 1: 69 - 78، والصورة هكذا:
244

ثم إن الحروف الساقطة - أي غير المذكورة في هذه السورة -
سبعة: ج، ز، ظ، ش، ف، خ، ث، وقد تصدى أربابهم لتحصيل الطلسمات
المخصوصة بها، ونحن نشير لواحدة منها، ليكون من أرادها وأراد الاطلاع
على أسمائها في راحة:
أما أسماؤها: فحرف الزاء زكي، وحرف الجيم جبار، وحرف الظاء
ظهير، وحرف الشين شهيد، وحرف الفاء فرد، وحرف الخاء خبير، وحرف
الثاء ثابت.
وأما أو فاقها فلا نذكر إلا واحدا منها، وتكون من المسبعات، ولها
الخاصة، وكل واحد من السبعة مرتبط بواحد من أيام الأسبوع وبواحد من
السيارات السبع (1).

1 - راجع شمس المعارف الكبرى 1: 105 - 106 وقد ذكر فيه الجداول. والمصنف (قدس سره)
جعل موضعا لواحد منها، فمثلا:
حرف الشين للمريخ وله يوم الثلاثاء
ش - ف - خ - ث - ج - ز - ظ
ز - ظ - ش - ف - خ - ث - ج
ث - ج - ز - ظ - ش - ف - خ
ف - خ - ث - ج - ز - ظ - ش
ظ - ش - ف - خ - ث - ج - ز
ج - ز - ظ - ش - ف - خ - ث
خ - ث - ج - ز - ظ - ش - ف
245

سورة البقرة
ويقع الكلام فيها في مقامين:
247

المقام الأول
البحوث الراجعة إلى مجموع هذه السورة
كالبحث عن فضلها، وعدد آياتها، وعن نزولها، وتاريخ النزول،
وكيفيته، وعن ارتباطها مع ما قبلها، وغير ذلك.
فهناك مباحث شريفة:
المبحث الأول
في اسمها
فالمعروف والمشهور أنه سورة البقرة، فتكون الإضافة بيانية،
حسب ما تخيلوه (1).
ولكنه بمعزل عن التحقيق: لأن في البيانية يحمل المضاف إليه على
المضاف، لمكان التوصيف والاتحاد، وهنا لا يصح حمل " البقرة " على

1 - راجع روح المعاني 1: 92.
249

" السورة "، ولا توصيف السورة بالبقرة، ويشبه أن هذا إنسان زيد، فإنه
حسب الأسلوب العربي غير صحيح، ومجرد إمكان التصحيح لا يكفي
للصحة، كما لا يخفى.
ويؤيد ما ذكرناه: أن في أحاديثنا الموجودة بين أيدينا، اطلق على هذه
السورة البقرة من غير إضافة، كما تشاهدها عند نقلها في بحث فضلها، وما
في التفسير المنسوب إلى الإمام (1) غير حجة، لأنه حسب ما حققه
المحققون من بعض أهل الذوق، مع ما فيه من الانحطاط إجمالا.
ويؤيد ذلك: أنه حسب المحكي عنه، قال في أول السورة هكذا:
السورة التي يذكر فيها البقرة، وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" تعلموا سورة البقرة وآل عمران " (2) ولعله من غلط النساخ، والأمر سهل.
أيضا يؤيد ما ذكرناه: ما روي من المنع عن التعبير المزبور في
أحاديث العامة وفيها أنه يتعين أن يقال: " السورة التي تذكر فيها البقرة "،
وكذا في سور القرآن كله (3).
ويستظهر من بعضهم: أن وجه المنع كان كراهة إطلاق البقرة عليها (4)،
وهو غريب، بل الوجه ما عرفت، وإلا كان قبلها يسمى بعض من السور بالفيل.
فبالجملة: إضافة السورة إلى البقرة غير مأنوس في الإضافات،
وتكون من قبيل قولهم: أيام البيض، أي أيام لياليها البيض، مع أنه تفسير

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 60.
2 - نفس المصدر.
3 - الدر المنثور 1: 18، الإتقان في علوم القرآن 1: 187.
4 - نفس المصدر.
250

غلط، لأن اليوم يطلق أحيانا على مطلق الوقت، وأريد هنا أن مطلق ساعات
اليوم هي بيض، فلا تغفل.
وعن خالد بن معدان تسميتها ب‍ " فسطاط القرآن "، وفي حديث: أنها
الفردوس لما فيها من العظمة، وفي حديث " المستدرك " تسميتها ب‍ " سنام
القرآن " فإن سنام كل شي أعلاه (1).
وأما ما في روايات العامة من إضافة السورة إلى البقرة (2)، فهو -
مضافا إلى معارضتها بما مر - محمول على غلط الرواة جمعا بينها.
المبحث الثاني
في فضلها
1 - العياشي، عن سعد الإسكاف، قال: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعطيت الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان
الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل سبع وستين
سورة " (3).
وغير خفي: أن الفاتحة خارجة عنها، لاشتمالها على الكل حسب
النصوص، وإلى هذا ربما يشير ما أخرجه العامة في أسانيد صحيحة

1 - الإتقان في علوم القرآن 1: 191.
2 - راجع الدر المنثور 1: 18.
3 - تفسير العياشي 1: 25 / 1.
251

عندهم عن أبي بن كعب: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له، أتحب أعلمك سورة لم
ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها؟ قال:
نعم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف تقرأ إذا قمت إلى الصلاة؟ فقرأ
بأم القرآن، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل
ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها " (1) الحديث.
2 - العياشي وابن بابويه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من قرأ البقرة
وآل عمران جاءتا يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل غمامتين أو غيابتين " (2).
والتخيير ليس منشؤه الترديد، بل يفيد الحالات المختلفة من التظليل.
3 - العياشي عن عمرو بن جميع، رفعه إلى علي (عليه السلام)، قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين
بعدها وثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه وأهله وماله شيئا يكرهه، ولا
يقربه الشيطان، ولم ينس القرآن " (3).
وفي أخبار أهل الجماعة ما يورث فضلها (4)، وقد ذكرها الطبرسي،
ومن العجيب أنه نقلها أولا، ثم في ذيلها ذكر قول الصادق - عليه الصلاة
والسلام - (5): " وكفى بذلك وهنا ".
وبالجملة في الرواية الأولى وجوه واحتمالات، يشكل الاعتماد على

1 - الدر المنثور 1: 4.
2 - تفسير العياشي 1: 25 / 2.
3 - تفسير العياشي 1: 25 / 3.
4 - راجع الدر المنثور 1: 18 - 22.
5 - راجع مجمع البيان 1: 32.
252

واحد منها، بحيث تنحل الرواية صدرا وذيلا، والأقرب ما عن الكاشاني (قدس سره):
أن الطول - كصرد - هي السبع الأول بعد الفاتحة على أن يعد الأنفال
واحدة واحدة، لنزولهما جميعا في المغازي، وتسميتها بالمئين من بني
إسرائيل إلى سبع سور سميت بها، لأن كلا منها على نحو مائة آية (1)،
والمفصل من سورة محمد إلى آخر القرآن، سميت به لكثرة الفواصل
بينها، والمثاني بقية السور، وهي التي تقصر عن المئين وتزيد على
المفصل (2). انتهى.
هذا، والرواية مرسلة، وسعد الإسكاف لم يوثق (3)، إلا أن الأقرب
اعتباره، وغير خفي أن ما هو في فضلها هي الثانية فقط.
المبحث الثالث
في عدد آياتها
لا شبهة في أنها مدنية، وخروج آية لا يضر بها، كما لا يخفى، وذلك
قوله تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * (281)، فإنها حسب ما
اشتهر - آخر آية نزلت من السماء يوم النحر في حجة الوداع بمنى (4).

1 - إلى هنا يوجد في الوافي، فيض الكاشاني 5: 1772.
2 - قد نقل كلام الفيض إلى هنا في هامش تفسير العياشي 1: 25.
3 - تنقيح المقال 2: 15.
4 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 101 - 102، والدر المنثور 1: 369 - 370.
253

وقيل: آيات الربا من أواخر ما نزل من القرآن (1)، وعن المقريزي:
سورة البقرة تعتبر أول قرآن نزل بالمدينة، وتحتوي على آيات نزلت في
فترات مختلفة، فالآيات (135 - 131) نزلت في الشهر السابع عشر بعد
الهجرة على قول، والآيات (188 - 182) نزلت في الشهر الثاني عشر بعد
الهجرة، والآيات (197 - 196) نزلت بعد ست سنين منها، والآيات (195 -
194) نزلت بعد سبع سنين على قول، والآيات (208 - 204) نزلت بعد ثلاث
سنين، والآية (217) نزلت بعد (17) شهرا.
فعلى هذا سورة البقرة ذات ترتيب واحد منذ بدء وحيها، ولكن تكونت
في أدوار مختلفة أثناء ترتيبها الأخير.
والمشهور - على ما تفحصت - أن آياتها تبلغ (286)، وهذا هو
المشاهد في تفاسير الخاصة والعامة، وهو العدد الكوفي المروي عن
أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما في " مجمع البيان " مع خلو كتب الأحاديث عنه (2).
وقال الآلوسي: إنها (287) على المشهور، وقيل: (286) (3). انتهى.
وهو عجيب، فإنه عدد بصري، وقيل: في الحجازي خمس، وفي
الشامي أربع (4).
وتوهم: أن هذا النزاع بلا ثمرة، مدفوع بما مر تفصيله في سورة

1 - الإتقان في علوم القرآن 1: 101، الجامع لأحكام القرآن 1: 152.
2 - مجمع البيان 1: 32.
3 - روح المعاني 1: 92.
4 - راجع مجمع البيان 1: 32.
254

الفاتحة عند البحث عن أن البسملة آية (1).
والذي يظهر لي: أن الرجوع إلى النسخ القرآنية القديمة -
والموجودة بين أيدينا في المتاحف وغيرها - يؤكد أن عدد الآية من كل
سورة موافق لما هو المتداول اليوم، ضرورة أن هذه الموافقة تكشف عن
النسخ السابقة عليها، وهكذا إلى عصر الوحي وزمان النزول، فإن دأب
المسلمين وديدنهم على التحفظ بجميع خصوصيات الكتاب بعد جمعه
ونشره بين أبناء الإسلام، وكيف لا، وقد حافظوا على الأغلاط الإملائية منه
التي كانت النسخ الأولية مشتملة عليها، ولهذا يعد القول بالتحريف من
الرأي الفاسد والمذهب الكاسد. نعم ربما يوجد بعض النسخ مختلفة مع
النسخ المشهورة في عدد الآيات، إلا أنها في نهاية القلة، ولا يعتنى بها.
والله ولي التوفيق وإليه أنيب.
المبحث الرابع
في سبب نزولها
بعد الفحص والتدبر الكامل تبين لنا: أن هذه السورة نزلت من غير
سبب لنزولها، ومن الممكن قريبا وجود سبب متعارف، إلا أنه لعدم توجه
السلف إلى هذه الأمور قد خفي على المتأخرين، مع أن كثيرا ما يختلف فهم
الناس للآيات، بعد ملاحظة موردها وسبب نزولها. ومن أنها - حسب ما هو

1 - راجع الفاتحة: الآية 1، المبحث الثاني (حول البسملة) المسألة الرابعة، الحكم الثالث.
255

في بعض كتب التفاسير - نزلت نجوما (1)، وكان أكثر آياتها نازلة في أول
الهجرة، يمكن حدس سبب النزول من الآيات الأولى من هذه السورة، فإن
الناس عموما والمدنيين منهم كانوا على أصناف ثلاثة: فطائفة منهم آمنوا
بالرسول، وطائفة لم يؤمنوا، ولكن كانوا من المنافقين، وكأنهم بنوا على
إظهار الإيمان حتى يتبين لهم أمر الإسلام تقدما وتأخرا، ويظهر لهم حدود
نفوذ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة في جزيرة العرب، فجاءت هذه
السورة لتوبيخ هؤلاء الجماعة وتلك الثلة ولتثريب تلك الطائفة على
هذه النية الفاسدة، وفي ضمن ذلك يوجه المسلمين والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
وجود هذه الطائفة بينهم، حتى يكونوا على حذر منهم، وأن لا يأتمنوا كل من
يظهر الإسلام.
وأما الطائفة الثالثة، فهم الكفار الذين آمنوا في السنين
المتأخرة أو ماتوا على كفرهم.
فبالجملة: هذه السورة أطول سور القرآن، وفيها أطول الآيات
القرآنية، وتشتمل - على ما في " أحكام القرآن " لابن العربي - على ألف
أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر (2)، ولكنه غير مصدق بعد.
وقيل: - كما مر - إن آيات الربا نزلت في أواخر الهجرة، كما أن أحكام
الصيام مفصلة نزلت في السنة الثانية من الهجرة (3).

1 - راجع تفسير الميزان 1: 43.
2 - راجع أحكام القرآن، ابن العربي 1: 8، والجامع لأحكام القرآن 1: 252.
3 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 252.
256

وربما يخطر بالبال أن يقال: إن تركيز الإعجاز وتثبيته في قلوب
المدنيين كان يقتضي أن تأتي هذه السورة في أول الهجرة، دفعا لما قد
يتوهم من: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتمكن من الإتيان بالسور الطوال، ويقتصر على
السور المكية القصيرة، والله الهادي إلى الصواب.
المبحث الخامس
في نزول القرآن بحسب الترتيب المدون
ربما يستظهر من بعض الآيات والأحاديث ومن بعض الكتب
التفسيرية: أن القرآن نزل على الوجه المدون، فيكون أول ما نزل هي
سورة الفاتحة، ثم البقرة، وهكذا.
وهذا على خلاف الضرورة القاضية بمكية السور القصيرة
الواقعة في آخر القرآن المدون.
فأجيب: بأن النزول ما كان ينحصر بواحد، بل الكتاب العزيز نزل
كرارا، وقالوا: إن التنزيل هو النزول الإجمالي، والنزول هو التنزيل
التفصيلي، فبذلك تندفع الشبهة، ويعلم أن هذا النحو من التدوين كان على
حسب التنزيل دون النزول، أو ولو كان نزول البقرة قبل الآيات المكية،
ولكن كانت السياسية التبليغية تقتضي تأخيرها في الإظهار وفي إبلاغها
إلى الناس.
وأيضا يعلم أن هذا النحو من التدوين كان على رأي الرسول الأعظم
والولي المعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولأجل هذه الكلية غير الثابتة عندي، تصدى
257

بعضهم لإيجاد الارتباط بين السور السابقة واللاحقة، وهذا أيضا يظهر من
بعض مفسري الشيعة، كمجمع البيان وغيره.
وقيل في وجه الربط بين الفاتحة والبقرة: إن الفاتحة مشتملة
على بيان الربوبية أولا، والعبودية ثانيا، وطلب الهداية في المقاصد
الدينية والمطالب اليقينية ثالثا، وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان
معرفة الرب أولا، كما في * (يؤمنون بالغيب) * وأمثاله، وعلى العبادات وما
يتعلق بها ثانيا، وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا، وأيضا
في آخر الفاتحة طلب الهداية، وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله:
* (هدى للمتقين) *، ولما افتتح سبحانه الفاتحة بالأمر الظاهر، وكان وراء
كل ظاهر باطن، افتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي إلا على ما شاء تعالى
أمره، فقال سبحانه وتعالى: * (بسم الله الرحمن الرحيم) *.
وأنت خبير بما فيه من البرودة الواضحة والسقطات البينة.
ويقول المثل الفارسي: چرا شعر ميگوئى كه در قافيه اش بازمانى.
وبالجملة: لا تحتاج المسألة إلى مزيد التأمل.
المبحث السادس
في تاريخ نزولها
وهو على ما في كتاب " نظم الدرر وتناسق الآيات والسور "، وفي
بعض الكتب الاخر القديمة والحديثة، وفي تاريخ القرآن لبعض
المستشرقين، أنها أول سورة نزلت في المدينة، وبعدها الأنفال، وقبلها -
258

على ما يظهر من بعض - هود والسماء والطارق، والأمر سهل.
ثم إنها على ترتيب مصحف علي عليه الصلاة والسلام تكون أول
السور وقد علمت أن مصحف علي (عليه السلام) كان ذا أجزاء سبعة حسب ما
ضبطوه (1) ورووه، وقالوا في حقه: إنه جلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع
القرآن، وهو أول بيت جمع فيه القرآن من قلبه، وكان المصحف عند أهل
جعفر (2)، وقد أشار إلى هذه النسخة من الكتاب الإلهي، اليعقوبي في
الجزء الثاني من تاريخه ص 154.
وعلى ترتيب مصحف أبي بن كعب - المتوفى سنة 20 - تكون
الثانية، والأولى الفاتحة، والثالثة النساء (3). فعن ابن النديم: قال
الفضل بن شاذان: أخبرنا الثقة من أصحابنا، قال: كان تأليف السور في
قراءة أبي بن كعب بالبصرة في قرية يقال لها: قرية الأنصار على رأس
فرسخين، عند محمد بن عبد الملك الأنصاري، أخرج إلينا مصحفا وقال: هو
مصحف أبي رويناه عن آبائنا، فنظرت فيه، واستخرجت أوائل السور وخواتيم
الرسل وهذه الأسماء (4). انتهى ما عن " الإصابة ".
وعلى ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود - المتوفى 32 أو 33 - تكون
هي الأولى والنساء الثانية (5). وهذا هو أيضا مروي في المجلد الثالث،

1 - راجع تاريخ اليعقوبي 2: 92.
2 - راجع الفهرست، ابن النديم: 30.
3 - راجع الفهرست، ابن النديم: 29، والإتقان في علوم القرآن 1: 222.
4 - الفهرست، ابن النديم: 29.
5 - راجع الفهرست، ابن النديم: 29، والإتقان في علوم القرآن 1: 224.
259

صفحة 139، من " الإصابة "، عن ابن النديم، عن ابن شاذان أنه قال: وجدت
في مصحف عبد الله بن مسعود، تأليف سور القرآن على هذا الترتيب (1).
وعلى ترتيب مصحف عبد الله بن عباس - المتوفى 68 - تكون هي
الرابعة والثمانين، وقبلها المطففون، وبعدها الأنفال، والفاتحة في مصحف
ابن مسعود غير مذكورة، وفي هذا المصحف تكون السادسة.
وقد نقل هذا المصحف الشهرستاني عبد الكريم في مقدمة تفسيره
غير المطبوع، وذكر محمد بن عمر الرازي في كتاب " الأربعين " أن ابن عباس
رئيس المفسرين، كان تلميذ علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2)، وعن ابن طاووسنا في
كتاب " سعد السعود ": أنه اشتهر بين أهل الإسلام: أن ابن عباس كان تلميذ
علي (عليه السلام) (3). انتهى. فما يذكر عنه له المزية الخاصة والشأن
الكبير، فتأمل.
وعلى ترتيب مصحف أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) - على
ما نقله الشهرستاني في مقدمة تفسيره - تكون هي السادسة والثمانين،
وقبلها المطففون، وبعدها الأنفال، ولا يوجد فيه الفاتحة (4).
أقول: هذه المصاحف لا تعتبر عندنا، لأنها ليست متواترة، بل ولا
محكية بالخبر الواحد الحجة، وقد أشرنا إليها لأجل اطلاع القارئين

1 - راجع الفهرست، ابن النديم: 29.
2 - راجع الأربعين، الفخر الرازي: 468.
3 - سعد السعود، سيد بن طاووس: 296.
4 - راجع تاريخ القرآن، أبو عبد الله الزنجاني: 79 حكاه عن الشهرستاني في مقدمة
تفسيره الذي غير مطبوع بعد.
260

على أن هذا المصحف الذي هو بين أيدينا اليوم هو المأخوذ ترتيبا عن
المعصومين (عليهم السلام)، وقد شاهده أئمة الحق أعواما طويلة وسنين متعاقبة من
غير إغماز فيه، ولا إيماء إلى سوء تأليفه. فما أفاده أبو عبد الله الزنجاني
من: أن اختلاف هذه المصاحف في الترتيب يشير إلى أن ترتيبها كان
باجتهاد الصحابة (1)، في غير محله.
فالقرآن بهذه الكيفية كان من بدو الأمر، وكان مورد تصديق
المسلمين، ويؤيد ذلك اشتهاره من الابتداء، وعليها النسخ القديمة
الموجودة في المخازن.

1 - راجع تاريخ القرآن، أبو عبد الله الزنجاني: 79.
261

المقام الثاني
البحوث الراجعة إلى آياتها
قوله تعالى: * (ألم) *
والكلام حوله يقع في جهات، وتلك الجهات
والمباحث لا تختص به، بل يشترك فيه سائر
الحروف المقطعة المفتتح بها السور.
263

الجهة الأولى
في أنها من القرآن والوحي
حكي عنه طه حسين - عليه ما عليه -: أنه أنكر ذلك، وقال: إنها
لصقت بالسور على مرور الزمان.
وقد أخذ هذا الرأي الفاسد من المستشرق " رودويل " (1) حيث ظن
أن هذه الحروف المختلفة رموز إلى جامعي القرآن، مثلا: " كهيعص " رمز
إلى مصحف ابن مسعود، و " حم عسق " رمز لمصحف ابن عباس، و " طس "
رمز لمصحف ابن عمر، وهلم جرا، ثم ألحقها مرور الأزمان بالقرآن، ولا ننتظر
من المستشرق إلا مثل هذه الأقاويل، ولا من طه حسين إلا الافتتان بالغرب،
وكأنه كان يرى أن هذه الطريقة حديثة، ولا معنى محصل لها، فتكون من
الزيادات والتحريفات.
وهذا أمر قبيح من العاقل، فإن عدم إمكان الاطلاع على بعض الرموز

1 - راجع القرآن الكريم المترجم إلى الانگليزية: 32، الهامش.
265

والحقائق لا يدل على انتفاء كونه من الواقعيات، ويكفي ردا عليه: أن
الرجوع إلى النسخ القديمة، وإلى التفاسير الموجودة من القرون
الأولى وأواسط القرن الثالث، تثبت خلاف مذهبه، ولو كان مرور الدهور
كافيا لكان بعد مضي القرون الكثيرة ينبغي أن تزاد الأشياء الاخر، ولا سيما
ما يكون مثلها، فاشتمال النسخ القديمة عليها، وكونها مورد البحث في
الكتب التي تكون بين أيدينا من أوائل القرن الثالث، أصدق شاهد على
أنها كانت في الابتداء تكتب في القرآن، وليس من الأمور الحادثة
المتخيلة.
وقيل: إن خلو الكتاب الإلهي عن إفادة شئ يرجع إليها، وخلو
السنة الصحيحة عن إبانة مغزاها ومعناها، يومي إلى الزيادة المذكورة.
وأجيب عنه: بأن المفسرين أكثرهم قد رأوا أن القرآن لم يشر إليها
إشارة صريحة، غير أننا نرى أنه أشار إليها في قوله تعالى: * (ولقد آتيناك
سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * (1).
وكذلك في قوله: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر
منه جلود الذين يخشون ربهم) * (2).
ودليلنا على ذلك ما يلي:
أولا: أن الحديث الوارد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الله تعالى قال: يا محمد * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن

1 - الحجر (15): 87.
2 - الزمر (39): 23.
266

العظيم) *، فأفرد بالامتنان علي بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن " (1)، ولو
كان هذا الحديث مقطوع السند ومعلوم الصحة، لما كان هناك وجه
لاختلاف المفسرين فيها بل لسلموا قطعا بأنها الفاتحة، وهذا مما لم
يتسالموا عليه، كما مر تفصيله في أوائل هذا الكتاب.
وبالجملة: إن لهجة الآية تدل على الفخر والاعتزاز والإنعام، ولا
نجد هناك وجها ومجالا للامتنان بالفاتحة، ووضعها في كفة ووضع القرآن
العظيم في كفة أخرى.
وثانيا: يدل منطوق كلمة " مثاني " - الواردة مرة ثانية في سورة الزمر
- على أنها هنا تشير إلى السور المبتدأة بالحروف المقطعة، وخاصة
المكررة منها من أمثال " حم " و " ألم " و " ألر " و " طس "، وتشير آية الحجر
إلى وحدة الحواميم، وعدها سبعا، وينطبق عليها وصف القرآن
بكونه * (مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) * بصورة قوية، ذلك لأن
الحواميم هي أكثر سور القرآن احتواء للوعد والوعيد والعذاب والنار،
وذلك بخلاف فاتحة الكتاب التي تشعر آياتها بالضراعة والهداية
والسكينة، هذا فضلا عن أن مجموع آيات الحواميم السبع - وجميعها
مكية - كانت تعادل - في دور من أدوار الوحي - جزءا كبيرا مما كان قد
نزل من القرآن في ذلك الدور، يبرر وضعها في كفة وما نزل - وقتئذ - في
كفة أخرى.
إذا تبين ذلك فانطباق كلمة " مثاني " على السور المبتدأة بالحروف

1 - راجع تفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 29.
267

المقطعة، يجعلها وحيا قطعا لا يمكن نفيه، ويدل بالصراحة على أنها لم
تلصق بالسور على مرور الزمن.
أقول: هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام، وللمناقشة فيه مجال
واسع من نواح شتى لسنا في مقام كشف الستر عنها.
ويكفي ردا عليه: أن وحدة المراد من كلمة " المثاني " في الآية
الأولى والآية الثانية غير واضحة، مع أن عظمة الفاتحة اقتضت جعلها
في كفة تقابل كفة القرآن الموصوف بالعظم، واختلاف المفسرين في
الحديث أو في أمر مما كثر في جميع العلوم الإسلامية، مع استدلال كل
خصم على خصمه بالآية والرواية، فلا يلزم من وجود الحديث
الواحد اتفاق الصحابة وأرباب الرأي على مفاده، مع أنه صحيح حسب
الصناعة، فما هو الدليل الوحيد اشتمال الكتاب من الأول عليه، وإلا
فيمكن المناقشة في كل واحد واحد من هذه الكلمات، كما لا يخفى على
الفطن العارف.
الجهة الثانية
في كيفية قراءتها وكتابتها
فما هو المتعارف اختلاف الكتابة والقراءة، فإنها تكتب على نسق
كتب الحروف البسيطة، وتقرأ على أسمائها، فتكتب: ألم وتقرأ: ألف، لام،
ميم، وهذا خلاف الأصل اللازم رعايته في الأساليب (الأدبية)، لما تقرر: أن
268

الوجود الكتبي تابع للوجود اللفظي، وإلا يلزم الإخلال بالغرض،
فالمطابقة بين الوجودين لازم حتى يكون القارئون على حذر من الخطأ
والغلط، وكما لا يجوز زيادة الكتابة على اللفظ، كذلك لا يجوز نقصانها
منه، وقد مضى شطر من هذا البحث في بحوث البسملة وكلمة " الرحمن ".
فكمال الخط انطباق المقروء عليه حذو النعل بالنعل، فعلى هذا إما
يقرأ الحروف كما كتبت، أو تكتب بصورة الأسماء، وهي هكذا: ألف، لام، ميم،
وحيث لا سبيل إلى الأول بالضرورة يتعين الثاني، لاتفاق القراء على هذه
الكيفية في القراءة، مع أن مقتضى الفصاحة إبرازها بأسمائها، فإن الطبع
لا يقبل غيره، كما ترى.
فالتخلف عن الأصل المزبور ربما كان لأجل أن يحصل التفاوت بين
هذه الحروف المقطعة، وبين ما وقع في أول سورة الفيل، وهو قوله تعالى:
* (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) *، وفي سورة الانشراح: * (ألم نشرح
لك صدرك) *، أو كان لأجل أن كتابتها بأسمائها ربما يؤدي إلى الإطالة غير
اللازمة، كما في * (كهيعص) *، وإن كان ينبغي أن تكتب بأسمائها المقروءة،
حتى لا يمكن إحداث الشبهة في بعض السور الاخر، مثل سورة الدهر:
* (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) *، فإن من الممكن توهم: أن " هل "
من الحروف المقطعة، ولكن يكذبها اتفاق القراء والسيرة القراءتية
عليه.
ويمكن أن يعد هذا أيضا من الأغلاط الإملائية في الكتاب العزيز،
فإنها كثيرة، والمتأخرون تحفظا على خصوصيات الكتاب لم يغيروها، أفما
ترى أنهم اتفقوا على كتابة " أيها " في قوله تعالى: * (سنفرغ لكم أيه
269

الثقلان) * (1) " أيه " بدون ألف، وهكذا في مورد آخر وأكثر (2)، ولك دعوى أن
ذلك من الرمز في الكتابة، وهو في الجملة متداول في بعض أنواع
الخطوط.
ثم إن من المحرر في الكتب: أن الألف غير الهمزة، وهو لا يقبل
الحركة، بخلاف الهمزة، فعليه لابد وأن نقرأ في أمثال المقام " همزة، لام،
ميم " دون ألف، وهذا أيضا نوع اشتباه آخر في أوائل السور.
ويؤيد ذلك: أن في اللغة العربية والفارسية، أو في اللغات
الشرقية إلا طائفة منها، تكون الحروف واقعة في أوائل أسمائها، فكون
" ف " واقعا في أول اسمه وهو الفاء، و " ق " واقعا في أول اسمه، وهو القاف،
فيكون أول الألف هي الهمزة، فالألف موضوع للهمزة لا غير. نعم لابد في
إفادة الألف من الاعتماد على كلمة يبتدأ بها، واختاروا اللام لذلك، فقالوا:
" لا "، وذلك لأن قلب اللام ألف، وقلب الألف لام.
وأنت خبير: بأن هذه القواعد الأدبية قابلة للتخصيص، فلا منع لما
تداول عقلا.
الجهة الثالثة
في إعراب تلك الحروف
فقيل: هي غير معربة لا لفظا ولا محلا:

1 - الرحمن (55): 31.
2 - النور (24): 31، الزخرف (43): 49.
270

أما الأول فهو واضح.
وأما محلا فلا تعرب، لأنها من المفردات كأسماء الأعداد التي توردها
لمجرد العد من غير نظر إلى إفادة المعنى التصديقي، وأما السكون عليها
فلابد منها، فإنه فرق بين السكون المبتني على الوقف أو البناء، وبين هذا
النحو من السكون، ولأجل هذه النكتة إظهار الحركة عليها لا يورث
كونها معربة، ولا تكون في الجملة المركبة، كما لا يخفى. وهذا القول
منسوب إلى الخليل وسيبويه (1).
وعن الأكثر: أن لها محلا إذا أخبرت عنها، وعطفتها ولو بحذف الحرف
العاطف، للزوم التأسي بالقراء وبالسيرة القرآنية. ويمكن أن يكون محلها
الرفع على الابتداء، أو على إضمار المبتدأ، والنصب بإضمار فعل، والجر
على إضمار حرف القسم (2). وقال ابن كيسان النحوي: " ألم " في موضع
النصب، كما تقول: إقرأ " ألم " أو عليك " ألم " (3).
وغير خفي: أن اختلاف الاحتمالات ناشئ من اختلاف المباني في
معانيها، فمن جعلها قسما التزم بخفض محلها، ومن اعتقد أنها أسماء السور
تصور إعراب محلها، وهكذا، ومن أنكر تمكنها جعلها من الكلمة المفردة.
والذي هو الحق: أنه على جميع التقادير تكون: إما من أركان الجملة
المحذوف ركنها الآخر، أو من متعلقات تلك الجمل، ولا معنى لكونها مفردة،

1 - الجامع لأحكام القرآن 1: 156.
2 - البحر المحيط 1: 35 / السطر 19.
3 - الجامع لأحكام القرآن 1: 157.
271

للزوم اندراجها تحت اللغو المستحيل في الكتاب الإلهي، ومقتضى ذلك
كونها في محل الإعراب والتمكن. فما عن الخليل وسيبويه ساقط جدا.
وأما تعديد الأعداد فهو أيضا كذلك، فإن العاد آخر ما يريد من
التعديد، إعلام الطرف بأنه يتمكن من ذلك ويعلمه، فيكون في موضع
النصب على المفعولية.
نعم إيجاد المفرد لغرض الأمر الطبيعي ممكن، كما إذا كان يقول
بصوت رفيع: " إسحاق "، ويريد أن يفرج عن حلقومه، ولكنه هنا غير صحيح،
فعلى جميع المسالك تكون من الأسماء المتمكنة.
إن قلت: هذه حروف لا معنى لكونها في محل الإعراب.
قلت: كيف وإذا قال: " أب ت ث من الحروف "، تكون في موضع الرفع
على الابتداء. هذا، مع أن الحاكي من الأسماء، وما هو في محل الإعراب
والبناء هي الجمل الحاكية، لا المكتوبة المحكية، مع أن اللازم اتحاد
الحاكية مع المحكية في هذه الجهة، كما هو الظاهر، فتأمل.
تذنيب
قيل في إعراب هذه الحروف وجوه ومحتملات بملاحظة ما هو
المقدر، وما هو المذكور بعدها، وربما تبلغ تلك إلى أحد عشر ألف ألف ألف
ألف وأربعمائة وأربعة وثمانون ألف ألف ألف ومائتان وخمسة آلاف ألف
وسبعمائة وسبعون ألفا ومائتان وأربعون وجها وهذه أرقامه:
(11484205770240)، ونشير إلى ابتدائها، وأنت تقف على تفصيلها إلى
272

انتهائها وهو:
أنها إن كانت حروف الاسم الأعظم: فإما يكون له محل من الإعراب
أولا، فإن كان ذا محل من الإعراب، فإما أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أو
خبرا محذوف المبتدأ، أو مفعولا لمحذوف، مثل " أذكر " أو " ادع " أو الف مما
يناسب المقام، أو هو مقسم به منصوب بفعل القسم، أو مبتدأ لما بعده، أو
خبر لما بعده، أو منادى بتقدير حروف النداء، فهذه ثمانية أوجه تجري
بأعيانها أو أمثالها في جميع الوجوه المحتملة في " ألم " التي هي تقرب من
ثلاثين على ما حكيناه، ومن اثني عشر على ما هو المعروف بينهم، وتحصل
من الضرب في اثني عشر ستة وتسعون وجها، ويجري في كل وجوه عديدة
من الإعراب بحسب تركيبه مع ما بعده.
مثلا: إذا كان " ألم " مأخوذا من حروف الاسم الأعظم، وكان مبتدأ
محذوف الخبر تقديره حروف " ألم " الاسم الأعظم، وذلك بدل له، أو عطف
بيان، والكتاب صفة لذلك، أو بدل منه، و " لا ريب " على قراءة الفتح
والرفع " لا " فيه لنفي الجنس، أو عاملة عمل " ليس " أو ملغاة من العمل،
فهذه اثنا عشر، والجملة حال أو مستأنفة، فتلك أربعة وعشرون، وخبر " لا "
محذوف، و " فيه " صفة لريب، أو حال عنه، أو حال عن " ألم "، فتلك اثنان
وسبعون و " هدى " حال من الريب أو من " ألم "، أو صفة للريب، أو خبر
مبتدأ محذوف، أو مفعول فعل محذوف، أو تمييز، فتلك ستة عشر وجها
مضروبة في الاثنين والسبعين، فيحصل (1152)، وهكذا في " المتقين " (1)،

1 - راجع تفسير بيان السعادة 1: 39.
273

وقيل: تلك الوجوه المحتملات هي الشائعات التي لا شذوذ لها ولا ندور
ولا غلق فيها، وأما الوجوه الضعيفة فتبلغ أضعاف ذلك، حسب اختلاف
المرادات من " ألم " (1)، فلا تخلط، وكن على بصيرة من إعجاز الكتاب الإلهي.
الجهة الرابعة
الحروف المقطعة في كلام العرب
ربما يشكل الأمر على الشباب، لأجل أن الكتاب الإلهي كتاب
القانون، وكتاب الهداية والإرشاد، وكتاب عرف نفسه: بأنه تبيان كل شئ،
وعرف نفسه: بأنه عربي مبين، ولا يشتمل على العجمة والإجمال وعلى
الإرماز والإهمال، فكيف يمكن الالتزام بأنه في افتتاحه ابتدأ بمثلها، وهو
على خلاف الأسلوب المألوف في التآليف والتصانيف، مع خلو سائر
الكتب السماوية منها؟! فهذا يؤيد خلو هذا الكتاب العزيز منها،
والتحاقها به في مر الأزمان ومضي القرون.
أقول: أولا: تكلمت العرب بالحروف المقطعة - نظما ونثرا - بدل
الكلمات التي تكون الحروف منها، كقوله:
فقلت لها: قفي فقالت: قاف (2)

1 - نفس المصدر: 45.
2 - انظر مجمع البيان 1: 34 ونسبه في هامشه إلى الوليد بن عقبة على ما في الأغاني 5:
131.
274

وأراد قالت: وقفت.
وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرا فا * ولا أريد الشر إلا أن تا
وأراد: وإن شرا فشر، وأراد إلا أن تشاء، وعن آخر:
نادوهم أن ألجموا ألا تا * قالوا: جميعا كلهم ألا فا
وأراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا.
وفي الحديث: " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة... " قال شقيق: هو
أن يقول في " اقتل ": اق، كما عنه (عليه السلام): " كفى بالسيف شا " معناه: شافيا (1).
وثانيا: هذا اليسير من الإجمال في الكتاب العزيز، لا يضر بذلك
الكثير من القوانين الواضحة والآداب والأحكام البينة الظاهرة، ولا
سيما بعد صراحة الكتاب بوجود المتشابهات، بناء على كون معناها
التشابه بحسب المعنى والمقصود، لا بالمعنى الآخر المقرر في محله،
فانتظر.
وثالثا: كثيرا ما تكون الكتب العلمية والفنية وسائر الكتب
السماوية، مشتملة على نقاط مبهمة وتراكيب غير واضحة، ولأجل
هذا وذاك احتاجت إلى التوضيحات والتحشية، مع الاختلاف الشديد فيها
وفي مراد قائلها، حتى ألفاظ القوانين العرفية، فإن المحامين تختلف
أنظارهم في مفاد الدستور، وما ذلك بعزيز جدا.
وأما أمثال الفراء والمبرد والقطرب والزمخشري وغيرهم، فقد

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 156.
275

أفرطوا في جعل حكمتها الإشارة إلى إعجاز القرآن، ولقد أطال في المقال
" الكشاف " والبيضاوي، فليراجع (1).
الجهة الخامسة
حول أن * (ألم) * آية
اختلفت آراؤهم وهوساتهم في أنها آية من الكتاب، فقال الكوفيون:
* (ألم) * آية، وهي آية في أول كل سورة ذكرت فيها، وكذلك * (المص) *
و * (طسم) * وأخواتها و * (طه) * و * (يس) * و * (حم) * وأخواتها إلا * (حم عسق) *،
فإنها آيتان، و * (كهيعص) * آية، وأما * (المر) * وأخواتها فليست آية وكذلك
* (طس) * و * (ص) * و * (ق) * و * (ن) *، فإنها حروف دل كل حرف منها على
كلمة، وجعلوا الكلمة آية، كما عدوا * (الرحمن) * و * (مدهامتان) * آيتين.
وقال البصريون وغيرهم: ليس كل شئ من ذلك آية (2).
وعن المرشد: أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من
غير تفرقة، وليس بشئ، كقول بعضهم: إن " ألف لام ميم " من آل عمران
خصوصا ليس بآية (3).

1 - راجع الكشاف 1: 19 - 31، والجامع لأحكام القرآن 1: 155، وأنوار التنزيل وأسرار
التأويل 1: 12 - 15.
2 - البحر المحيط 1: 35.
3 - روح المعاني 1: 98.
276

أقول: سيأتي في محله مناط كون الشئ آية، والذي هو مفادها
لغة: أنها هي العلامة، ولو كانت هي غير ذات معان واقعية فعدها علامة
وآية في غير محله.
وأما إذا كانت ذات معان واقعية ولو كانت من الرموز، فلا بأس بعدها
آية، وحيث إن آيات الكتاب الإلهي تختلف طولا وقصرا، وربما تكون آية
أطول من سور عديدة مجموعا، كآية الدين (1)، وربما تكون جملة ناقصة،
كقوله تعالى: * (كغلي الحميم) * (2)، وقوله تعالى: * (مدهامتان) * (3)، فلا سبيل
إلى تحديدها، فلابد من النظر إلى كيفية نسخ الكتاب العزيز القديمة،
حيث إن سائر الآيات تستفاد منها، ولا سبيل شرعي إلى حدودها.
وإني بعد الرجوع إلى تلك النسخ، وإلى ما في نسخ القرآن
المكتوبة في التفاسير الموجودة طبعا، وجدت أنها تكون مكتوبة على
مثال سائر الآيات بالفصل الخاص المتعارف بينها، وربما يأتيك بعض
المنبهات الأخر في مقامات أنسب إن شاء الله تعالى.
ومن الممكن أن يقال: إن هذه الحروف وإن كانت لها معان واقعية،
ولكنها لمكان اختفائها على عموم الناس لا تعد آية وعلامة، فتأمل جيدا.

1 - البقرة (2): 82.
2 - الدخان (44): 46.
3 - الرحمن (55): 64.
277

الجهة السادسة
في السور المشتملة عليها وحدود المركب والبسيط منها
اعلم أن هذه الحروف قد تكررت في تسع وعشرين سورة، افتتح
بعضها بحرف واحد، وهي: * (ص) *، * (ق) *، * (ن) * وبعضها بحرفين، وهي سورة
طه، طس، يس، حم، ومن المحتمل كون الياء من * (يس) * حرف نداء،
والسين يكون من تلك الحروف، لقوله: * (إنك لمن المرسلين) *، وبعضها
بثلاثة أحرف كما في سور هي: " ألم "، " الر "، " طسم " (1)، وبعضها بأربعة
أحرف، كما في سورتي " المص " و " المر " (2)، وبعضها بخمسة أحرف، كما في
سورتي " كهيعص " و " حم عسق " (3).
ثم إنه يختلف هذه الحروف أيضا من حيث إن بعضها لم يقع إلا في
موضع واحد مثل " ن "، وبعضها واقعة في مفتتح عدة من السور، مثل " ألم "
و " الر " و " طس " و " حم " (4).

1 - ألم في مفتتح سور: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، والسجدة، الر في مفتتح
سور: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، والحجر، طسم في مفتتح سورتي: الشعراء،
والقصص.
2 - المص في مفتتح سورة الأعراف والمر في مفتتح سورة الرعد.
3 - كهيعص في مفتتح سورة مريم وحم عسق في مفتتح سورة الشورى.
4 - حم في مفتتح سور: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف. وأما ألم والر
وطسم فمرت.
278

وغير خفي: أن البسائط والمركبات في الكلمات العربية، كبسائط
هذه الحروف ومركباتها، في أن المركب في الأسماء العربية لا يزيد على
خمس حروف - على ما قيل - ولعله حكم غالبي.
هذا، وفي كون * (حم عسق) * من المركب إشكال، لأنهما عدا آيتين في
المصاحف الموجودة، فيكون هنا أمر آخر، وهو أن من السور تكون الآية
الأولى منها من الحروف المقطعة (1)، ومنها ما تكون الآيتان منها (2)، ومن
السور ما لا يكون مصدرا بها (3)، ومن السور ما تكون مصدرة بها، ولكنها لا
تعد آية (4) حسب ما مر تفصيله.
ثم إن مجموع الحروف المفتتح بها يبلغ إلى ثمان وسبعين حرفا.
الجهة السابعة
حول ما ورد من الأخبار والمآثير
ونحن نذكر طائفة منها، لعدم إمكان استقصاء مجموعها، ونشير إلى ما
هو الأهم:

1 - وهي تسع عشر سورة: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، الأعراف،
مريم، طه، الشعراء، القصص، يس، غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الأحقاف والشورى.
2 - وهي سورة الشورى فقط.
3 - وهي خمس وثمانون سورة.
4 - وهي عشر سور: يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النمل، ص، ق، ن والقلم.
279

1 - عن " المعاني " عن الصادق (عليه السلام): " ألم هو حرف من حروف اسم
الله الأعظم المقطع في القرآن، الذي يؤلفه النبي أو الإمام، فإذا دعا به
أجيب " (1).
2 - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفاسير العامة والخاصة أنه قال:
" لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي " (2).
3 - وعن تفسير ينسب إلى الإمام (عليه السلام): " إن معنى * (ألم) * ذلك الكتاب
الذي أنزلته هي الحروف المقطعة التي منها: ألف، لام، ميم، وهو بلغتكم
وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين " (3).
4 - وعن العياشي، عن أبي لبيد المخزومي، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام):
" يا أبا لبيد إنه يملك من ولد العباس إثنا عشر يقتل بعد الثامن منهم أربعة،
فتصيب أحدهم الذبحة فتذبحه، هم فئة قصيرة أعمارهم، قليلة مدتهم خبيثة
سيرتهم، منهم الفويسق الملقب بالهادي والناطق والغاوي، يا أبا لبيد إن في
حروف القرآن المقطعة لعلما جما، إن الله تبارك وتعالى أنزل * (ألم ذلك
الكتاب) *، فقام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ظهر نوره وثبتت كلمته، وولد يوم ولد وقد
مضى من الألف السابع مائة سنة وثلاث سنين. ثم قال: وتبيانه في كتاب الله
في الحروف المقطعة إذا عددتها من غير تكرار، وليس من حروف مقطعة
حرف ينقضي أيام إلا وقام من بني هاشم عند انقضائه. ثم قال: الألف واحد،

1 - معاني الأخبار: 23 / 2.
2 - راجع من تفاسير الخاصة إلى مجمع البيان 1: 32 والعامة إلى التفسير الكبير 2: 3.
3 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 62.
280

واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون. فذلك مائة وإحدى وستون، ثم
كان بدو خروج الحسين بن علي (عليهما السلام) * (ألم الله) *، فلما بلغت مدته قام قائم
ولد العباس عند " المص "، ويقوم قائمنا عند انقضائها ب‍ " ألم " فافهم ذلك وعه
واكتمه " (1).
وعن " المعاني " عنه (عليه السلام) في حديث: " وأما " ألم " في آل عمران
فمعناه: أنا الله المجيد "، وعنه (عليه السلام) و " المص معناه: أنا الله المقتدر
الصادق " (2).
وبهذا المضمون قد انتسب إلى أهل البيت أخبار كثيرة، ولكن نوعها
مرسلات جدا.
وعن " تفسير القمي " باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله
* (كهيعص) * قال: " هذه أسماء الله مقطعة " (3).
وعن " الإكمال " في حديث " أنه سئل - أي القائم عجل الله تعالى
فرجه الشريف - عن تأويلها؟ قال: هذه الحروف من أنباء الغيب أطلع الله
عبده زكريا عليها، ثم قصها على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (4) وعن " المناقب " مثله (5).
وعن " المعاني " عن الصادق (عليه السلام): " وأما طه فاسم من أسماء

1 - تفسير العياشي 2: 3 / 3.
2 - معاني الأخبار: 22 / 1.
3 - تفسير القمي 2: 48.
4 - كمال الدين 2: 461 / 21 نقله عن سعد بن عبد الله القمي (رحمه الله) فيما سأله حضورا عن
الحجة عجل الله فرجه.
5 - مناقب آل أبي طالب 4: 84 نقله عن إسحاق الأحمر فيما سأله عن الحجة عجل الله فرجه.
281

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعناه يا طالب الحق الهادي إليه " (1).
وعن " المجمع " عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لما أنزلت * (طسم) * قال: الطاء:
طور سيناء، والسين: إسكندرية، والميم: مكة ". وقال: " الطاء: شجرة طوبى،
والسين: سدرة المنتهى، والميم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (2).
وعن " الخصال " عن الباقر (عليه السلام) قال: " إن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة
أسماء: خمسة في القرآن، وخمسة ليست في القرآن، فأما التي في القرآن:
فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحمد وعبد الله ويس ون " (3).
وعن " المجمع " عن الصادق (عليه السلام): " أن صاد اسم من أسماء الله تعالى
أقسم به " (4).
وعن " العلل " عن الكاظم (عليه السلام) في حديث: " أنه سئل وما صاد الذي
أمر أن يغسل منه - يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أسري به - فقال: عين تنفجر من
ركن من أركان العرش يقال له: ماء الحياة، وهو ما قال الله عز وجل: * (ص
والقرآن ذي الذكر) * " (5) وعن " المجمع " ما يقرب منه.
وعن القمي عن الباقر (عليه السلام): " عسق أعداد سني القائم، وقاف جبل
محيط بالدنيا من زمردة خضراء، فخضرة السماء من ذلك الجبل، وعلم كل

1 - معاني الأخبار: 22 / 1.
2 - مجمع البيان 7: 184.
3 - الخصال 2: 495.
4 - مجمع البيان 8: 465.
5 - علل الشرائع 2: 335 / 1.
282

شئ في عسق " (1).
وعن " المعاني " عن الصادق: " وأما * (ن) * فهو نهر في الجنة " (2).
وقريب منه روايات أخر مختلفة المضامين متفقة في هذا المعنى (3).
وعن ابن بابويه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل، قال في ذيله:
" فذكر أبو جعفر (عليه السلام): أن هذه الآيات أنزلت فيهم * (منه آيات محكمات هن أم
الكتاب واخر متشابهات) *. قال: وهي تجري في وجه آخر غير تأويل حيي
وأبي ياسر وأصحابهما " (4).
وقريب منه بعض الروايات الأخر، وقد مضى شطر منها في ابتداء
سورة الفاتحة، وقد فصلنا الكلام هناك، وحكينا الأخبار المشتملة على
الحروف البسيطة والأدوات المفردة وآثارها وخواصها، ونقلنا هناك
الرواية المفصلة الدالة على أن حروف التهجي أسماء للأعيان
الخارجية الأخروية أو الدنيوية (5)، وسيظهر بعض الروايات الأخر الآتي
إن شاء الله تعالى.
وغير خفي: أن من تجمد على تصحيح أسنادها حسب المصطلحات
الأخيرة، وحسب ما هو الحق في تحسين الإسناد، فربما يشكل الاعتماد على
أكثر هذه الطوائف من الروايات، إلا أن اشتمال كتب المشايخ الثلاثة على

1 - تفسير القمي 2: 268.
2 - معاني الأخبار: 23 / 1.
3 - راجع معاني الأخبار: 22 - 29.
4 - راجع معاني الأخبار: 24 / 3.
5 - راجع سورة الفاتحة: الناحية الأولى، علم الحروف والأعداد.
283

طائفة منها - ولا سيما كتب الصدوق عليه الرحمة - يورث التواتر
الإجمالي والوثوق بصدور بعض منها من أئمة الحق عليهم الصلاة
والسلام.
ولا يخفى أن الروايات في هذه المسألة - وهي تفسير المراد من
الحروف المقطعة - كثير من طرقها عامية، وقد ضبطها الطبري في تفسيره
الكبير (1) بالأسناد المختلفة، ولكل رأي في المسألة على ما يأتي تفصيله
رواية أو روايات، وربما يتمكن الخبير البصير بعد النظر فيما يأتي منا من
الجمع بينها، لأن هذه الطريقة - وهي طريقة الجواب عن السؤال بقدر
فهم السائل عن حقيقة واحدة بعبائر مختلفة - كانت متداولة في العصور
الماضية وفي هذا العصر أيضا، وإلى هذا يرجع كثير من اختلافات الأخبار.
وبالتدبر في تأويل الكتاب العزيز الذي هو عين التفسير، يظهر
اتحاد تلك الأخبار حسب الحقيقة والواقعية، ولأجل الغفلة عن الأصل
المحرر في محله، وهو أن المعاني تختلف حسب الهويات الوجودية
بالنسبة إلى من يتصورها، فإن ما نتصوره من المعنى هو المفهوم الذي
واقعيته عين الذهنية والنفسانية، وما يتصوره الله تعالى هو عين
الخارجية والعينية، فكل في كونه معنى مشترك، واللفظ الحاكي
للمعنى المتصور لنا، يصح أن يحكي عن ذلك المعنى الشامخ وإن لم
يكن على نعت الحقيقة، لأن المجازات في جميع الألسنة كثيرة، ولا سيما
في هذا اللسان مع نهاية سعته، ولأجل الغفلة وقعوا في حيص بيص،

1 - راجع تفسير الطبري 1: 87 - 88.
284

توهموا اختلاف الروايات وتشتت الآثار. والله ولي الجمع والاتفاق.
الجهة الثامنة
حول الآراء المحكية في هذه المسألة
وقد بلغت إلى عشرين قولا أو أكثر، ونحن لمزيد الاطلاع نشير
إليها إجمالا:
1 - عن قتادة: أنها اسم من أسماء القرآن، ولعل نظره إلى أن كل
الحروف المفتتح بها السورة تكون كذلك، وهو المحكي عن مجاهد
والشعبي وابن جريح (1).
2 - وأيضا عن مجاهد: هي فواتح يفتتح بها الله القرآن. ومما يشهد
على عموم دعواه، ما عن سفيان، عن مجاهد قال: * (ألم) * و * (حم) * و * (المص) *
و * (ص) *، فواتح افتتح الله بها (2). والأمر سهل.
3 - وعن أبي: إنما هي أسماء للسور (3).
4 - وعن ابن عباس: أنها اسم الله الأعظم، ويظهر منه دعوى اختصاص
بعضها بذلك (4).

1 - راجع تفسير الطبري 1: 87، وتفسير التبيان 1: 47، والتفسير الكبير 2: 6.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 87، وتفسير التبيان 1: 47.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 87، وتفسير التبيان 1: 47، والتفسير الكبير 2: 5.
4 - راجع تفسير الطبري 1: 87، والبحر المحيط 1: 34.
285

5 - وأيضا عن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله،
وهو المحكي عن عكرمة (1).
6 - وأيضا عن ابن عباس: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل
حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر، ف‍ * (ألم) * أنا الله أعلم، وهو
المحكي عن سعيد بن جبير (2).
وعن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال: أما * (ألم) *
فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه، وهكذا عن ابن عباس
في قوله: * (ألم) * و * (حم) * و * (ن) *، قال: اسم مقطع (3).
7 - وأيضا عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها - * (ق) * و * (ص) *
و * (حم) * و * (طسم) * و * (الر) *، وغير ذلك - هجاء موضوع (4).
8 - وعن الربيع بن أنس: هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان
شتى مختلفة، وقول الله: * (ألم) * هي الأحرف من التسعة والعشرين حرفا
دارت فيها الألسن كلها، ليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه،
وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو مدة
قوم وآجالهم (5).

1 - راجع تفسير الطبري 1: 87، وتفسير البيان 1: 47.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 88، والتفسير الكبير 2: 6.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 88.
4 - راجع تفسير الطبري 1: 88، وتفسير التبيان 1: 48.
5 - راجع تفسير الطبري 1: 88، والبحر المحيط 1: 34.
286

9 - وعنه أيضا: هي حروف حساب الجمل (1).
10 - وعن بعض: أن لكل كتاب سرا وسر القرآن فواتحه (2).
11 - هي حروف من حروف المعجم، استغني بذكر ما ذكر منها في
أوائل السور عن ذكر بواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين، وإن ذلك
هو المتعارف، كما قد يتعارف أن يتخذ في أثنائها ولا يبتدأ بأوائلها، ولذلك
رفع الكتاب، لأن معنى الكلام يصير هكذا: الألف واللام والميم وهكذا
البواقي، ذلك الكتاب الذي انزل إليك مجموعا (3).
12 - وقال جماعة ابتدأت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه
أسماع المشركين، إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن، فإذا أصغوا إليه
واستمعوا له تلي عليهم الكتاب المؤلف منها (4).
13 - هي الحروف التي استفتح الله بها كلامه، إعلاما بتمامية
الكلام الأول واختتامه، وإبلاغا بشروعه في الكلام المستأنف (5).
14 - وعن قطرب وغيره: أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم
عن معارضته، من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم (6).
15 - إنها أسماء الله تعالى بمعنى أن الناس لو كانوا يعلمون لألفوا منها

1 - راجع تفسير الطبري 1: 88.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 88، والبحر المحيط 1: 34، وروح المعاني 1: 94.
3 - راجع تفسير الطبري 1: 89، وتفسير التبيان 1: 48.
4 - راجع تفسير الطبري 1: 89، والتفسير الكبير 2: 6.
5 - راجع تفسير الطبري 1: 89، والتفسير الكبير 2: 7.
6 - راجع مجمع البيان 1: 33، والبحر المحيط 1: 34.
287

تلك الأسماء واسم الله الأعظم، مثل " الر " و " حم " و " ن "، فإنها تكون
" الرحمن "، وهذا أيضا محكي عن ابن جبير (1).
16 - وعن بعضهم، وهو مختار الطبري: أن الجمع مهما أمكن أولى من
الطرح، وإذا كانت القضايا كثيرة، والإشارة إليها غير ممكنة، فلابد من
الإيماء إليها بلفظة واحدة، فتكون الألف فيها جميع هذه الآراء والأقوال.
وأما قول من يدعي أنها لتلك الأغراض التي أشرنا إليها أخيرا، فهو
غير مسموع ومضروب به على الجدار، لأنه خلاف السنة والآثار (2).
وقد مضى قول: بأنها ليست من القرآن، وزيدت عليه في مرور الأزمان (3).
وما أشد الفرق بينه وبين من يدعي أنه من القرآن، وفيه جميع
الآثار والأخبار والأسماء والأوراد والأذكار، حسب علم الحروف والأوفاق
والأعداد (4)، وهكذا بين من يقول: بأنها من العلوم المستورة، ومن المتشابه
الذي استأثر الله بعلمه، ومن الأسرار المحجوبة (5)، وبين قول جماعة من
المتكلمين: أنها ليست كذلك، بل لابد من كونها كسائر الآيات مورد الفهم
والتفهيم، مستدلين بالآيات والسنن والخطب والعقل (6)، والكل لا يرجع
إلى محصل، لأن جميع ما يثبت للقرآن لا ينافيه خروج بعض يسير منه،

1 - راجع التفسير الكبير 2: 6، والبحر المحيط 1: 34.
2 - راجع تفسير الطبري 1: 90 وما بعدها.
3 - تقدم عن طه حسين ذيل الجهة الأولى.
4 - انظر شمس المعارف الكبرى 1: 61 - 66، والبحر المحيط 1: 35.
5 - التفسير الكبير 2: 3.
6 - راجع التفسير الكبير 2: 3 - 4.
288

فإنه تبيان كل شئ، وأنه بلسان عربي مبين... وهكذا، ولكن لا تنافي بينه
وبين ذاك بالضرورة، ولا سيما إذا نطقت الآثار الصحيحة: بأنها من الأسرار
الإلهية.
ومما يؤيد ذلك - وإن استدل به الخصم على مذهبه -: ما روي عن
أمير المؤمنين (عليه السلام): " عليكم بكتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم،
وحكم ما بينكم، هو الفصل وليس بالهزل " (1) انتهى. فإنه يشهد على اشتماله
على الأسرار الغير القابلة للكشف بحسب الظاهر، وقوله (عليه السلام): " عليكم
بكتاب الله " لا ينافيه وجود بعض يسير منه غير قابل لفهم كل أحد، بل هو
في مقام تعظيم الكتاب وحدود سعته الوجودية، ولعله إيماء إلى إرجاع
الناس إلى أهله، وهم أهل البيت (عليهم السلام).
17 - وعن عبد العزيز بن يحيى: إن الله تعالى ذكرها لأن يتعلموها
مفردة، ثم يتعلموها مركبة، كما هو المتداول في تعليم الصبيان (2).
18 - وعن آخر: أن التكلم بهذه الحروف معتاد، ويعرفها كل أحد،
ولكن التكلم بأسمائها لا يمكن إلا للعالم بها، فإخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلك الأسماء،
مع أنه لا يعرف الكتابة، ولا يعلم شيئا من هذه الكلمات، يكون من
المعجزة، فأول ما يسمع من الكتاب العزيز إعجاز، فضلا عما يأتي من
الآيات الباهرات والسور الواضحات (3).

1 - التفسير الكبير 2: 4، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين، وانظر نهج البلاغة، صبحي
الصالح: حكمة 313 " وفي القرآن نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ".
2 - التفسير الكبير 2: 6.
3 - التفسير الكبير 2: 7.
289

19 - وعن أبي بكر التبريزي أن في ذلك ردا على قول من يتوهم أن
القرآن قديم وفي ذلك إعجاز وإخبار عن الغيب أيضا بأن جماعة من
المسلمين يتخيلون ذلك بالنسبة إلى الكتاب العزيز (1).
20 - وعن القاضي الماوردي: أن * (ألم ذلك الكتاب) *، معناه: أنه
ألم بكم ذلك الكتاب، أي نزل عليكم، والإلمام الزيارة، وإنما قال الله تعالى
ذلك، لأن جبرئيل (عليه السلام) نزل به نزول الزائر (2).
21 - وعن ابن عطية: هي تنبيهات كما في النداء (3).
وقال الجزيني: وهذا جيد، لأن القرآن كلام عزيز، وفوائده عزيزة،
فينبغي أن يرد على مسمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في
بعض الأوقات كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عالم البشر مشغولا، فأمر جبرئيل بأن
يقول عند نزوله: * (ألم) * و * (الر) * و * (حم) *، ليسمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صوت
جبرئيل (عليه السلام)، فيقبل عليه ويصغي إليه، وإنما أبدع في التنبيه بتلك
الحروف، لتكون أبلغ في قرع سمعه.
22 - وعن بعض: العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله
تعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم منه سببا لاستماعهم
إلى ما بعده، فترق القلوب وتلين الأفئدة.
23 - وعن آخر: أن المقصود بها الإعلام بالحروف التي يتركب منها

1 - التفسير الكبير 2: 7.
2 - راجع التفسير الكبير 2: 7.
3 - البحر المحيط 1: 34.
290

الكلام، فذكر منها أربعة عشر حرفا، وهي نصف جميع الحروف، وذكر من
كل جنس نصفه، فمن حروف الحلق الحاء والعين والهاء، ومن التي
فوقها القاف والكاف، ومن الحرفين الشفهين الميم، ومن المهموسة
السين والحاء والكاف والصاد والهاء، ومن الشديدة الهمزة والطاء
والقاف والكاف، ومن المطبقة الطاء والصاد، ومن المجهورة الهمزة
والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون، ومن
المستعلية القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة الهمزة واللام
والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون،
ومن حروف القلقلة القاف والطاء (1).
24 - وعن بعض المستشرقين، وتبعه صاحب كتاب " النثر الفني "
الدكتور مبارك: أنها بيانات وإشارات موسيقية يتبعها المرتلون، وقد كانت
الموسيقية القديمة بسيطة يشار إلى ألحانها بحرف أو حرفين أو ثلاثة،
وكان ذلك كافيا لتوجيه المغني أو المرتل إلى الصوت المقصود، وفي
الكنيسة المسيحية في أوروبا حيث لا تزال تحفظ تقاليد الغناء
الفريفوري، وفي اتيوبيا - مثلا - يوجد اصطلاح موسيقي مشابه لذلك، فإن
رئيس المرتلين يبدأ الصوت بالحروف التي تذكر ب‍ " ألم " في القرآن أو
(I - O - A) في نشيد " رولان "، واستظهر الدكتور تأييدا لذلك: أن " ألم "
تقرأ هكذا: الف، لام، ميم، فهي ليست رموزا ولكنها رموز صوتية.
25 - وعن مستشرق آخر ما مر في بعض الجهات السابقة، وقد أخذ

1 - راجع الكشاف 1: 29 - 30.
291

بها طه حسين، وهو أنها زيدت على القرآن بمرور الأزمان، وتكون رمزا إلى
النسخ المختلفة السالفة، كنسخة ابن مسعود وابن عباس... وهكذا.
26 - أن تكون للامتحان والافتتان وهو: أنها ليس لها معنى أصلا،
ولا مقصودا رأسا، بل أريد بذلك أن يعلم العبد المنقاد المطيع من غيره،
كبعض أفعال الحج، فإن العبد مع توجهه إلى أن المأمور به لا فائدة فيه
يمتثل أمره، أقرب من العبد الذي لا يكون كذلك.
تذنيب: حول الأخبار الواردة في معناها
اختلفت الآثار والأخبار وتشتت الآراء والأقوال في ما أرمز وأشير
إليه بهذه الحروف، من الأسماء الإلهية والأفعال الربانية:
1 - * (ألم) * معناه: أنا الله أعلم، أي أعلم من كل شئ، أو هو يعلم
لا غير (1).
2 - الألف من الله، واللام من جبرئيل، والميم من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي
القرآن نزل من الله على لسان جبرئيل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
3 - الألف دل على قولك: الله، واللام على قولك: الملك العظيم
القاهر للخلق أجمعين، والميم على أنه المجيد المحمود في كل
فعاله (3).

1 - التفسير الكبير 2: 6.
2 - نفس المصدر.
3 - راجع معاني الأخبار: 25 / 4.
292

4 - * (كهيعص) *: الكاف من الكافي، والهاء من الهادي، والياء من
الحكيم، والعين من العليم، والصاد من الصادق (1).
5 - الكاف كربلاء، والهاء الهلاك، والياء يزيد، والعين العطش،
والصاد الصبر (2).
6 - الألف إشارة إلى أنه أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إلى
أنه لطيف، والميم إلى أنه مجيد، ملك، منان (3).
7 - الألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده (4).
8 - الألف أنا، واللام لي، والميم مني (5).
9 - الألف إشارة إلى ما لابد منه من الاستقامة في الشريعة في أول
الأمر * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *، واللام إشارة إلى الحاصل
عند المجاهدة ورعاية الطريقة * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) *،
والميم إشارة إلى صيرورة العبد في مقام المحبة، كالدائرة التي تكون
نهايتها عن بدايتها، وهو مقام الفناء في الله * (قل الله ثم ذرهم في خوضهم
يلعبون) * (6).

1 - معاني الأخبار: 22 و 28 / 1 و 6، التفسير الكبير 2: 6.
2 - كمال الدين 2: 461 / 21 نقله عن سعد بن عبد الله القمي فيما سأله حضورا عن
الحجة (عجل الله فرجه)، مناقب آل أبي طالب 4: 84 نقله عن إسحاق الأحمر فيما
سأله عن الحجة (عجل الله فرجه).
3 - التفسير الكبير 2: 6.
4 - التفسير الكبير 2: 6.
5 - نفس المصدر.
6 - التفسير الكبير 2: 7 - 8.
293

10 - الألف من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان، والميم من
الشفة، أي أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله * (ففروا إلى
الله) * (1).
11 - * (الر) *: أنا الله أرى (2).
12 - وعن " تفسير الثعلبي " مسندا عن الرضا - عليه آلاف التحية
والثناء - قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن قوله: * (ألم) * فقال: " في الألف ست
صفات من صفات الله عز وجل: الابتداء، فإن الله ابتدأ جميع الخلق، والألف
ابتدأ الحروف، والاستواء، فهو عادل غير جائر، والألف مستو في ذاته،
والانفراد، فالله فرد، والألف فرد، واتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق،
وكلهم يحتاجون إلى الله، والله غني عنهم، والألف كذلك لا يتصل بالحروف،
والحروف متصلة به، وهو منقطع عن غيره، والله تعالى بائن بجميع صفاته من
خلقه، ومعناه من الألفة، فكما أن الله عز وجل سبب الفة الخلق، فكذلك الألف
عليه تألفت الحروف، وهو سبب ألفتها " (3).
وغير خفي: أن مع انضمام هذه الأقوال إلى تلك الآراء، تصير الوجوه
ستا وثلاثين، وتزداد بما سيأتي توضيحه.

1 - التفسير الكبير 2: 8.
2 - التفسير الكبير 2: 6.
3 - راجع نور الثقلين 1: 30 - 31.
294

إيقاظ وإرشاد
اعلم: أن استقصاء الاحتمالات والوجوه غير ممكن، لأن الكلام إذا لم
يكن على مبنى العقل أو النقل، لا ينتهي إلى حد ولا ينقطع، وأنت إذا تأملت
في هذه الآراء والأقوال التي لا نور لها ولا مستند ولا سند، تجد إمكان تكثير
الوجوه إلى مالا يحصيه إلا الله تعالى، لإمكان جعل الحروف المزبورة
رمزا وإشارة إلى هذه المسائل، وإلى المسائل الاخر المشابهة معها في
الاسم واللفظ، وحيث لا يثبت لنا من طريق الوحي وجه معلوم، فلا نتمكن
من تعيين أحد هذه الوجوه، ولو كانت في حد نفسها نقية من الأوهام
والشبهات.
وإني تارك طول الكلام في المقام على بعض الوجوه المسطورة في
المفصلات، ونذكر - إن شاء الله تعالى - بعض الوجوه الأخر، لئلا يخلو
الكتاب من الإفادة والاستفادة، من غير إمكان الاطمئنان والوثوق بالمقصود،
ضرورة أن نيل مقاصد المولى لا يمكن إلا من طريق الألفاظ الموضوعة، أو
من طريق الكشف والشهود، ولا سبيل لنا إلى الأول كما ترى، ولا إلى
الثاني، كما نجد ونرى في أنفسنا، رزقنا الله تعالى ذلك.
ونستعرض بعض الوجوه الجامعة لشتات الأخبار ولمختلف الآثار،
بل به يمكن استجماع الأقوال والآراء، والله الهادي إلى سبيل الرشاد
وإلى الصراط السوي وإلى من اهتدى.
ولعل إلى هذه المقالة يشير بعض الأخبار السابقة، الظاهرة في
295

أنها من الأسرار الإلهية والعلوم الربانية المستورة. وقد اشتهر: أن روايات
أهل البيت تدل على ذلك. ولكنك علمت أن فيها ما تصدت لبيان بعض
حدوده، وتضمنت توضيح بعض مقاصده.
الجهة التاسعة
حول الوجوه المفصلة المذكورة
وما هو التحقيق في المسألة القريب إلى أفق الواقع
وهي كثيرة:
أحدها: قال الشيخ في " الفتوحات ": اعلم أن مبادئ السور
المجهولة لا يعرف حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة...، فجعلها تبارك
وتعالى تسعا وعشرين سورة، وهو كمال الصورة، * (والقمر قدرناه منازل) *
والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك، وهو علة وجوده، وهو
سورة آل عمران * (ألم الله) *، ولولا ذلك لما ثبتت الثمانية والعشرون،
وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا، فالثمانية حقيقة
البضع، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإيمان بضع وسبعون "، وهذه الحروف ثمانية وسبعون
حرفا، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في
سورها...، كما أنه إذا علمها من غير تكرار، علم تنبيه الله فيها على حقيقة
الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية، فأرسلها في قرآنه
أربعة عشر حرفا مفردة مبهمة، فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع
الصفات، وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة، فجاءت اثنتي عشرة موجودة،
296

وهذا هو الإنسان من هذا الفلك، ومن فلك آخر يتركب من أحد عشر ومن
عشرة ومن تسعة وثمانية، حتى يصل إلى فلك الاثنين، ولا يتحلل إلى
الأحدية أبدا، فإنها مما انفرد به الحق سبحانه.
ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ، وآخرها
النون، فالألف رمز لوجود الذات على كمالها، لأنها غير مفتقرة إلى حركة،
والنون رمز لوجود الشطر من العالم، وهو عالم التركيب، وذلك نصف
الدائرة الظاهرة لنا من الفلك، والنصف الآخر النون المعقولة عليها،
التي لو ظهرت للحس وانتقلت إلى عالم الأرواح، لكانت دائرة محيطة،
ولكن أخفيت هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود، وجعلت نقطة
النون المحسوسة دالة عليها، فالألف كاملة من جميع وجوهها، والنون
ناقصة، فالشمس كاملة، والقمر ناقص، لأنه محو، فصفة ضوئه معارة،
وهي الأمانة التي حملها، وعلى قدر محوه وسره إثباته وظهورة ثلاثة
لثلاثة، فثلاثة لغروب القمر القلبي الإلهي في الحضرة الأحدية، وثلاثة
طلوع القمر القلبي الإلهي في الحضرة الربانية، وما بينهما في الخروج
والرجوع قدما بقدم لا يختل أبدا.
ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب: منها موصول،
ومنها مقطوع، ومنها مفرد، ومنها مثنى ومجموع، ثم نبه أن في كل وصل قطعا،
وليس في كل قطع وصل يدل على فصل، وليس كل فصل يدل على وصل،
فالوصل والفصل في الجمع وغير الجمع، والفصل وحده في عين الفرق،
فما أفرده من هذه فإشارة إلى فناء رسم العبد أزلا، وما أثبته فإشارة إلى
وجود رسم العبودية حالا، وما جمعه فإشارة إلى الأبد... إلى أن قال مالا
297

يرجع إلى محصل في القول، مع اندماج في الكلام بما لا يسعه المقام (1).
وفي موضع من محكي كلامه ما يشير إلى أحكام الحروف ودقائق
الأعداد، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنان وثلاثون، وأول التفصيل من
نوح إلى إشراق يوح، ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة
والروح، فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحا وتضعه، يبدو لك
تمام الشريعة حتى إلى انخرام الطبيعة (2).
ومما يستأنس لذلك ما رواه العز بن عبد السلام: إن عليا - عليه
أفضل الصلاة والسلام - استخرج وقعة معاوية من * (حم عسق) *.
واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره، فتح بيت
المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى: * (ألم غلبت الروم
في أدنى الأرض) * (3).
وقد ذكر الشيخ لاستخراجه طريقا آخر وهو: أن تأخذ عدد * (ألم) *
بالجزم الصغير، فيكون ثمانية، وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية،
فتكون ستة عشر، فتنزل الواحد الذي للألف للاس، فتبقى خمسة عشر،
فتمسكها عندك، ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير، وهو الجزم،
فتضرب ثمانية البضع في أحد وسبعين، واجعل ذلك كله سنين، يخرج لك
في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة، فتضيف إليها الخمسة عشر،

1 - الفتوحات المكية 1: 59 - 60.
2 - راجع روح المعاني 1: 96، والإسرا إلى مقام الأسرى، ضمن رسائل ابن العربي: 77.
3 - راجع روح المعاني 1: 96.
298

فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة، وهو زمان فتح البيت المقدس على قراءة
" غلبت " بفتح الغين واللام و " سيغلبون " بضم الياء وفتح اللام (1). انتهى،
والله العالم بخفيات كلامه وبأسرار آياته.
وقال في تفسيره: أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كل الوجود من
حيث هو كل، لأن " الألف " إشارة إلى ذات هو أول الوجود على ما مر،
و " اللام " إشارة إلى العقل الفعال المسمى بجبرئيل، وهو أوسط الوجود
الذي يستفيض منه المبدأ، ويفيض إلى المنتهى، و " الميم " إلى
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو آخر الوجود تتم به دائرته، وتتصل بأولها (2).
وعن بعض السلف: أن " ل " ركبت من ألفين، أي وضعت بإزاء الذات
مع صفة العلم، اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي
أشرنا إليها، فهو اسم من أسماء الله تعالى، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع
صفة ما، وأما " م " فهو إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال، التي
احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله الأعظم، بحيث لا
يعرفها إلا من يعرفها ألا تدري أن " م " التي هي صورة الذات كيف احتجب
فيها، فإن الميم فيها الياء، وفي الياء ألف.
والسر في وضع حروف التهجي: هو أن لا حرف إلا وفيه ألف، فمعنى
الآية: ألم ذلك الكتاب الموعود، أي صورة الكل المومى إليها بكتاب الجفر
والجامعة، المشتملة على كل شئ، الموعود بأنه يكون مع المهدي (عليه السلام)

1 - الفتوحات المكية 1: 60.
2 - راجع تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى محيي الدين العربي 1: 13.
299

في آخر الزمان، لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو، والجفر لوح القضاء
الذي هو عقل الكل، والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكل، فمعنى
كتاب الجفر والجامعة الحاويين على كل ما كان ويكون، كقولك: سورة
البقرة والنمل.
ثانيها (1): أن الإنسان الذي هو خلاصة جملة الموجودات، له
مراتب كمراتب العالم، وكل مرتبة منه حقيقة أو رقيقة لما سواها، فكلما
يجري على لسان بشريته رقيقة وتنزل وظهور لما يجري على لسان
مرتبة مثاله، وما يجري على لسان مثاله رقيقة لما يجري على لسان
قلبه... وهكذا، وكل تلك الرقائق رقائق لما ثبت في المشية، وفضل
الإنسان بمقدار الاستشعار بتلك المراتب والاتصال بها، ومن لا يدرك من
الإنسان سوى البشرية فقدره قدر البهيمة، وقد غفل أكثر الناس عن أكثر
هذه المراتب، لا يدركون منه سوى ما في ظواهره، والمستشعر بتلك
المراتب والمتحقق بها إذا تكلم هو أو غيره بكلمة، يستشعر بحقائق تلك
الكلمة وصور حروفها في المراتب العالية أو يتحقق بها.
وما قيل: إن كل حرف من القرآن في الألواح العالية أعظم من جبل
أحد، صحيح عند هذه المرتبة من الاستشعار أو التحقق.
وقد يتحقق الإنسان بالمراتب العالية أو يستشعر بها أولا، ثم ينزل من
تلك المنازل والمراتب على بشريته الكلمات التي هي رقائق ما يظهر
عليه من الحقائق في تلك المراتب.

1 - انظر تفسير بيان السعادة 1: 38.
300

وقد حكي عن بعض: أنه كان إذا سمع كلمة دالة على المعاني العالية
يأخذه الغشي، وينسلخ عن بشريته، وربما كان يتكلم حين الغشي بالحقائق
الإلهية، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأخذه حالة شبيهة بذلك حين نزول
الوحي، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يظهر عليه الحقائق - حينئذ - في تلك المراتب بنحو
التفصيل، وتنزل على بشريته أيضا بنحو التفصيل، وتسمى النازلة بكلام
الله وبالحديث القدسي.
وقد يظهر الحقائق بنحو الإجمال والبساطة وتنزل على بشريته
كذلك، فيعبر عنها بطريق الإجمال وبالحروف المقطعة، مثل فواتح السور.
وتأويل القرآن: عبارة عن إرجاع ألفاظه إلى حقائقها الثابتة في
تلك المراتب.
وبطون القرآن: عبارة عن تلك الحقائق في تلك المراتب، ولكون
المراتب باعتبار كلياتها سبعا، وباعتبار جزئياتها ترتقي إلى سبعمائة ألف،
اختلف الأخبار والآثار في تحديد البطون. ولعدم إمكان التعبير عن تلك
الحقائق للراقدين في مراقد الطبع إلا بالأمثال - كما أنها تظهر للنائمين
بالأمثال - اختلفت الروايات في المراد من فواتح السور، فلا يمكن
الإحاطة بها، بل لابد من الإرماز والإجمال والتشابه.
ثالثها (1): اعلم أن الحروف المفردة اللفظية أصل للكلمات
المركبة منها، والمفهوم من المركبة أمور غير بسيطة بحسب الاستقراء في
الغالب أو الكل، فالظاهر أن تكون تلك الحروف بإزاء أصول العالم

1 - انظر تفسير الكمپاني: 178 - 184.
301

التي هي بسائط بالقياس إلى أجزاء العالم، كما أن النفس الإنسانية أول ما
يحصل فيها الحروف على حسب مراتبها، فتكون النفس الرحمانية أيضا
محصلة لبسائط هي الأصول للعوالم المقيدة المركبة، ويكون كل حرف
من الحروف الصادرة من الإنسان، بإزاء حقيقة من تلك الحقائق
البسيطة، حتى تطابق الآية - التي هي الإنسان - ذا الآية، ويحصل الطباق
بين مقام اللفظ والمعنى، حتى يصلح للمرآتية.
وإذا لاحظت بعقلك نسبة البسيط إلى المركب المفروض وجوده،
فاحدس أنه لم يتحقق المركب في الأعيان إلا وقد سبقه فيها البسائط،
التي هي أصول تلك المركبات، فيشبه أن يتقدم خلق البسائط على خلق
المركبات، حسب اقتضاء النظام الأكمل حتى تكون بمنزلة الخزائن
للحصص التي عرضها التركيب في عالم المركبات، ولعل إليها ينظر قوله
تعالى: * (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (1).
والذي يناسب تلك البسائط والأصول في عالم الوضع والدلالات -
ولا سيما إذا كانت الدلالة ذاتية، كما عن الصيمري وابن عباد - هي
الحروف المفردة، فيشبه أن تكون تلك الحروف دالة على تلك الحقائق
بالذات أو الوضع.
وأما الحقائق المستورة هي الأسماء الإلهية، التي ملأت أركان كل
شئ بأشعتها وآثارها، وتدل تلك الحروف المفردة على تلك الحقائق بأن
يكون كل واحد بإزاء كل واحد، وإلى مثله يشير ما مر من: " أن الله تعالى

1 - الحجر (15): 21.
302

خلق في الابتداء حروف المعجم " (1)، وقدر رواه ابن بابويه في التوحيد عن
الرضا - عليه السلام والثناء - ويومي قوله: " مامن حرف إلا وهو اسم من
أسماء الله " (2).
ومر منا تفاصيل معاني الحروف وإن كان بعضها مما يتراءى منه أنه
ليس باسم له سبحانه، ولكن إذا لاحظته منتسبا إلى الرب سبحانه، فربما
يظهر لك المشتق الذي يصح أن يوصف به الحق، ولا يلزم أن يكون
مدلول تلك الأخبار والآثار، أن تكون الحروف المفردة دالة على المركبات،
كما ربما سبق إلى الوهم، هل صح أن يكون كل من الطائفتين دالة على
تلك الحقائق العينية وعلى الله سبحانه باعتبارها؟!
وربما يدل على ذلك ما سبق من: " أن صفوة هذا الكتاب حروف
التهجي " (3)، وكثير مما مر وسبق في بيان فواتح السور المفسرة لها بأسماء
الله سبحانه، أو بما يستشم منه ذلك كتفسير نون بالمداد من النور الذي
كتب به ما كان وما يكون (4)، فإن الظاهر منه أنه من البسائط الأولية، ولا
ينافيه كونه نهرا في الجنة (5)، فإن الجنة خلق روحاني وجسماني، فهو
نهر في المعاني الروحانية، وفي مقام الأسماء الإلهية، أو إنه عند التنزل

1 - راجع التوحيد: 232 / 1، ومعاني الأخبار: 43 / 1.
2 - راجع التوحيد: 235 / 2، ومعاني الأخبار: 44 / 2.
3 - راجع من تفاسير الخاصة إلى مجمع البيان 1: 32، ومن تفاسير العامة إلى التفسير
الكبير 2: 3.
4 - راجع معاني الأخبار: 23 / 1.
5 - انظر نفس المصدر.
303

إلى الجنة المادية والمقدارية يصير نهرا، فإن النهر والنور والنون
متناسبات في الألفاظ، فتكون هكذا في المعاني.
وبالجملة: يؤيد ذلك وصفه بالتوراة، وبأنه ملك، فإن تلك الحقائق
ربما يصح أن يطلق عليها لفظ الملك، أو يستعار لها اسم الملك الموكل
عليها الواقع تحتها، كما يصح أن يطلق لفظ الجنة مستعملا في الجنة وفي
مبدئها وأصلها الذي بتنزلها ظهرت الجنة، وما في ذيل خبر ابن إبراهيم
القمي (1) ربما يؤيد ذلك فلاحظه.
وما ورد في صاد: أنه عين أو ماء عند العرش (2)، فهو أيضا مثل ما مر
في نون، وعلى مثله يحمل أيضا ما ورد من: تفسير بعض الفواتح
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وطور سيناء (3) وغيرها، أو يفسر
بالأمير (عليه السلام) بعض الآيات (4)، التي حكي عن ابن شهرآشوب أن عدد تلك
الآيات تبلغ إلى ثلاثمائة، فإن حقيقة التأويل كون تلك الحقائق معاني
لتلك القوالب، والألفاظ مظاهر لها، ضرورة أن السافلات حاكيات عن
العاليات، وهي هي تنزلا، وذاك ذاك ترقيا وعلوا، فإن المعلول حد ناقص
للعلة، والعلة حد تام للمعلول.
وقريب منه الكلام في تفسير قاف بالجبل (5)، فإن لحقيقة القاف في

1 - راجع تفسير القمي 2: 380.
2 - راجع معاني الأخبار: 22 / 1، وعلل الشرائع 2: 335.
3 - مجمع البيان 7: 184.
4 - بحار الأنوار 35: 183 وما بعدها.
5 - راجع معاني الأخبار: 22 - 23 / 1، وتفسير القمي 2: 323.
304

عالم البسائط ما إذا تنزل يعد جبلا في عالم الألفاظ، وتكون جبلا محيطا
بالعالم كله أو مجموعة من العوالم.
ومن هنا يظهر سائر التفاسير الواردة في الحروف المقطعة
المركبة أو المفردة، فإن المركبات منها منقطعات بشهادة قراءتها مفردة.
ثم اعلم: أن ظهور آثار هذه الحقائق في هذا العالم مختلفة حسب
الدهور والأزمان، فتارة يقوى ظهور بعضها ظهورا بينا، ويخفى مقابله،
وأخرى ينعكس، وثالثة يتوسط، فيكون لهما الظهور ولدولة كل منها
واستيلائه زمان معين وعصر خاص محدود على حسب ما به حكم الله
سبحانه، وإذا جاء أجله كان الملك والسلطنة لأهل ذلك الاسم، وإذا
انقضى ارتفعت عنهم، وذلك كالشمس إذا طلعت ظهر آثار طلوعها، من الإضاءة
والتسخين وغيرها في العالم، وكلما ارتفعت ازدادت الآثار إلى نصف النهار
على عكس حال الظلمة والبرودة والرطوبة، فإنها تضعف كذلك، وعند
وسط السماء يبتدئ النزول والانتقاص إلى غروب الشمس، فحينئذ
يستولي الظلمة، والرطوبة متزايدة إلى نصف الليل، ثم تنقص بحسب
المقتضي إلى طلوع الشمس، وهكذا الأمر في أكثر وجودات هذا العالم،
فإنها تبتدئ وتأخذ في الكمال إلى حين تقف، وترجع متناقصة إلى ما
يماثل الحال الأول، فالإنسان يوجد ابتداء ضعيفا من كل وجه، ويأخذ في
القوة والاستكمال إلى حد الشباب.
وبالجملة: لكل موجود طلوع وغروب، بل لكل صنف ونوع ظهور
وبطون، تابعان لظهور اسمه وبطونه وطلوعه وغروبه، ومن هنا يظهر أن
لكل طائفة خاصة زمانا لطلوع سلطنتها وظهور استيلائها وشوكتها، هو زمان
305

طلوع ذلك الاسم المنتسبة إليه، فإن الناس على دين ملوكهم.
ومما يقتضيه الاعتبار: كون مدة تلك السلطنة موافقة لعدد حروف
ذلك الاسم طبعا وذاتا، إذن الحرف هناك قالب المعنى، والأصل يطابقه في
صفات المعنى، وحينئذ يصح أن يقال: كل فاتحة من فواتح السور تدل على
استيلاء مظهر تلك الفاتحة وملكه في المدة المدلول عليها بحروف تلك
الفاتحة.
وغير خفي: أن فواتح السور المتعلقة بهذه المسألة مختلفة
وكثيرة، فمنها ما يتعلق بقيام بني العباس وانقضاء دولة بني أمية ك‍ * (المص) *
على ما سبق (1)، ومنها ما يتعلق بانقراض الأديان والأحزاب ومدة حياتهم...
وهكذا، كما ترى إلى بعض الأخبار السابقة (2).
وأما ما ورد من أن * (عسق) * عدد سني القائم - عجل الله تعالى
فرجه (3) - فهو موافق لكون علم كل شئ في * (عسق) *، إذ تلك السنين هو
زمان ظهور العلم والمعرفة والحقيقة واضمحلال الباطل والجهل، ولما
ورد من ترجمته بالعالم السميع القادر القوي (4)، إذ فيها يظهر حكم العلم
والسمع مجتمعين مع القوة والقدرة مؤتلفين معهما، إذ القوة والقدرة بيد
مظهر العلم السميع.
ويؤيد ذلك كله: أن لقراءة هذه الحروف - أعني حم عسق - تأثيرا

1 - تفسير العياشي 2: 3 / 3.
2 - راجع معاني الأخبار: 23 / 3 و 4.
3 - تفسير القمي 2: 268.
4 - معاني الأخبار: 22 / 1.
306

عظيما في انكشاف العلوم والمعارف، بل في ظهور دولة الحق في العالم
الصغير، على ما هو الظاهر مما جربه المجربون، وقد ورد هذا اللفظ
* (كهيعص) * في الدعاء مكررا إما مقسما بهما أو جعلها مدخولي حرف
النداء (1)، والظاهر أن لهما شأنا ومكانا لمن كان من أهله. وهذا مما يؤيد
كون مدلولهما من حقائق الأسماء العينية الإلهية.
ومما أشرنا إليه في * (عسق) * - من اجتماع القدرة والعلم - يمكن
استخراج وجه آخر لدلالة فواتح السور على زمان الملك في الجملة
وهو: أن كل موضع كان فيه بعض الحروف دالة على الملك والقدرة أو القوة
أو ما شاكلها، فهو يقتضي ظهور معانيها في مظاهر باقي الحروف المجتمعة
معه، فها هنا يدل على ملكية العالم السميع، وفي سائرها على هذا
القياس.
ثم إن الظاهر: أن ما ذكرناه من كون حروف التهجي دالة على حقائق
الأسماء الإلهية، أساس علم الحروف وأحكامه وآثاره المرتبة عليها،
وتلك الأسماء الإلهية تنقسم إلى اسم أعظم هو بمنزلة الكل في وحدة،
وإلى أسماء جمال وجلال، وإلى أسماء كلية وجزئية كما يشهد لذلك ما
سبق في تفسير آحاد حروف التهجي.
ومن ذلك يظهر وجه ما روي: " أن فواتح السور حروف اسم الله

1 - انظر مجمع البيان 6: 502، وبحار الأنوار 84: 251 / 59 و 88: 50 و 189 / 1
و 11 و 91: 329 / 1.
307

الأعظم " (1)، فإن الظاهر منها أن الفواتح تدل على ما عداه من الأسماء
المذكورة، فتلك المفردات إذا اخذت مستجمعات تدل على ذلك الاسم
الأعظم، والله العالم بالأسرار والخفيات.
التحقيق في المسألة: القريب إلى أفق الواقع
رابعها: في المصاحف - كمصحف الجلالين وغيره - ذكر مكي السورة
ومدنيها، وعدد آياتها المكية والمدنية، وكذلك لاحظت أن كثيرا من
السور لم تنزل دفعة واحدة. وهذا واضح في سور كثيرة، فالمعروف أن سورة
العلق أول ما نزل خمس آيات، أي إلى قوله تعالى: * (ما لم يعلم) *. راجع
" إمتاع الأسماع " للمقريزي.
وأما سورة البقرة فنزلت مختلفة - كما عرفت فيما سبق بتفصيل - وهذا
يشعر بأن سورة البقرة لم تكن ذات طول واحد أو ترتيب واحد منذ بدء
وحيها، ولكن تألفت في الأدوار المختلفة حتى أصبحت في ترتيبها الأخير
التوفيقي، ولو أردنا أن نتبع نزول الآيات في سورها وتاريخها لإثبات ما تقدم،
فالمجال واسع جدا، إذ لا تكاد تخلو سورة كبيرة منه.
وإنما نتعرض للعهد المكي قبل غيره فيما لم يكن القرآن قد رتب ترتيبا
أخيرا، ولكن كثيرا من سوره كان مرتبا ترتيبا أوليا وكذلك لأول العهد المدني.
ويؤيد ما سبق في سورة البقرة ما روي عن أبي بن كعب في حديث
إسماعيل ابن جعفر، عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النجود، عن

1 - راجع معاني الأخبار: 23 / 2.
308

زر بن حبيش، قال لي أبي بن كعب: كأين تعد سورة الأحزاب؟ قلت اثنتين
وسبعين أو ثلاثا وسبعين آية. قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا
لنقرأ آية الرجم فيها. راجع " الإتقان " (1).
فإن في ظاهر قوله طعما شهيا يتصيد به المتصيدون من أعداء
الإسلام، لأن سورة البقرة في وضعها الحاضر تحوي (286) آية، وهناك
مجال لأن يسأل: فأين ذهبت (213) آية من الأحزاب؟
وهناك رأي آخر نقله السيوطي في " الإتقان " عن مالك، يقول: بأنه
قد ثبت بأن سورتي البراءة والبقرة كانتا من طول واحد (2)، فإذا علمنا أن،
براءة تحتوي (130) آية، والبقرة تحوي (286) آية، فإن هناك مجالا
للتسائل من قبل السطحيين من أعداء الإسلام وحتى من المسلمين عن
مصير هذا الفرق وهو (156) آية، والقولان سيثبت بأنهما صحيحان ولا
غبار عليهما.
اعلم أن سورة البقرة هي أول السور المدنية، والأحزاب هي رابعة
السور المدنية في النزول، أي من أوائلها، ولا يبعد أنهما كانتا تعدلان
بعضهما البعض في الدور الأول من العهد المدني، ولقد لفت نظري أن
بداية سورة البقرة * (ألم) * يساوي بحساب الجمل (71)، والأحزاب على
قول (72) أو (73) آية، فهما في هذه الحالة تعدلان بعضهما البعض، لأن
كلمة " تعدل " صادقة مع التقارب، وهذا يدلنا إذا تطابقت هذه الطريقة على
سور أخرى، أن سورة الأحزاب والبقرة كانتا في دور من أدوار الوحي من

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 3: 82.
2 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 226.
309

طول واحد تقريبا، أي كانتا تتعادلان، فقول أبي - على هذا الأساس - صحيح،
وسوف لا يكون هناك مجال بعد ذلك لأن يتسائل إنسان: أين ذهبت (213)
آية من الأحزاب أو (156) آية من البراءة؟ فأنت ترى من هذه الخدمة
الجليلة التي يؤديها الرمز * (ألم) * هنا في دفع شك كبير قد يتطرق إلى
الباحث عند مطالعة البحث المشوش عن جمع القرآن في " الإتقان "
وغيره، وفي تأييد قول الصحابي كأبي بن كعب ونحوه.
ومما تقدم يظهر: أن سورة الأحزاب لم تضم إليها آيات جديدة بعد أن
وصلت الآية الثالثة والسبعين، بعكس سورة البقرة، فإنها طالت بما ضم
إليها من آيات جديدة، فكانت في دورها الثاني في طول (براءة تقريبا)،
وبراءة لم تزد بعد الآية (130) بعكس البقرة فإنها ختمت في (286)، وهي
نهايتها، فلا تناقض بين الأقوال التي وردت عن تعادل الأحزاب والبقرة، ثم
عن تعادل براءة والبقرة، بل كلها صحيحة.
ولقد شجعتني هذه النتيجة على الاستمرار بالبحث، وظهرت لي
الحقائق التالية:
سورة الأعراف: * (المص) * مجموع هذه الحروف (161) عدد آياتها
(205) يلفت النظر أن هذه السورة مكية حتى الآية (161)، أما بقية
السورة فمدنية.
ويؤيد ذلك: أن السيوطي يذكر: أن من المراجع ما يشير إلى أن آية
(163) إلى (174) فهو مدني (الإتقان) (1)، وأما آية (174) وما بعدها * (واتل

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 57.
310

عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) * فعن عبد الله بن عمر وسعيد بن
المسيب وزيد بن أسلم وأبي روق: أن هذه الآيات نزلت في أمية بن أبي
الصلت وقد مر على قتلى بدر، فقال لو كان نبيا ما قتل أقرباءه... إلى
آخره (1). ومن هذا يظهر أن الآيات مدنيات: آية (186) * (يسألونك عن
الساعة) * فعن ابن عباس أنها مدنية (2)، وهكذا آية (203) فعن الزهري
والسيوطي أنها مدنية (3)، فمما سبق يظهر للقارئ بوضوح أن * (المص) *
تشير إلى آيات السورة المكيات، ولما كانت هذه السورة من أوائل السور
المكية - الثامنة والثلاثون في النزول - فإن الرمز هنا كان يشير بالضبط
إلى عدد آياتها في العهد المكي قبل أن تضاف إليها آيات مدنيات في
العهد المدني.
سورة هود: * (الر) * مجموع حروفها (231) عدد آياتها (123) آية ما
عدا الآيات (12، 17، 114) فإنها مدنيات (4)، وعلى هذه الحال، فإنها تحوي
(120) آية مكية في الدور المكي، ويبدو لأول وهلة أن الحساب هنا لا
ينطبق، ولكن مهلا أيها القارئ الكريم، وتأمل ترتيب سورة هود في القرآن،
فإنها قبل سورة يوسف، وهما بحساب ابن عباس متتابعان في النزول (5)،
ويلفت النظر أن سورة يوسف مبتدأة ب‍ * (الر) *، فهل هذه البداية تشير إلى

1 - راجع مجمع البيان 4: 499.
2 - راجع مجمع البيان 4: 505.
3 - الدر المنثور 1: 156.
4 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 58 - 59.
5 - راجع تاريخ القرآن، أبي عبد الله الزنجاني: 77.
311

أنها تابعة لوحدة هود التي نزلت قبلها، وأن مجموع آياتهما هو مجموع
حروف رمزهما المشترك؟
قد مر: أن سورة هود تحوي (120) آية مكية وعدد آياتها في الدور
المكي (120)، وسورة يوسف (111) آية مكية، بإضافتها إلى آيات هود
ينتج (231) آية بالضبط، وهو مجموع آيات هذه الوحدة، ويثبت أن هذه
السور ليس فيها دخيل عليها أو نقص، وأن ما أورده السابقون في مدنية
الآيات ومناسبات التنزيل صحيح، وهذا البحث يؤيده، ويورث الطمأنينة
في كتاب الله، ويدفع عنه الشك في ناحية هامة من حيث جمعه وعدد
آياته وضياع شئ منه أو دخول شئ عليه، ويلاحظ بأنه لو كانت في
هذه السور زيادات أو نقص لما ضبط الحساب بهذا الشكل الدقيق،
فيسقط قول حكاه السيوطي وغيره ك‍ " المجمع ": بأن ثلاث آية من أول
سورة يوسف مدنية، فاغتنم (1).
سورة الرعد: * (المر) * مجموع هذه الحروف (271) عدد آياتها (47)
آية بحسب الشامي (2).
إننا نرى بأن سورة هود ويوسف والرعد كانت وحدة متتابعة في دور
من أدوار جمع القرآن، بدأت بسورتي هود ويوسف، وكان مجموعهما (231)،
ثم نزلت وحدة جديدة مكية من القرآن عدد آياتها (40) رمز إليها بالحرف
" م " في * (المر) *، فأصبحت الحروف المقطعة " المر "، فكانت في ترتيبها
سورة يوسف مباشرة، كما رتبها زيد بن ثابت، فأصبح مجموع هذه الوحدة

1 - راجع مجمع البيان 5: 206، والإتقان في علوم القرآن 1: 59.
2 - راجع مجمع البيان 6: 273.
312

(271)، وهو يرمز إليه ب‍ * (المر) * فاتحة سورة الرعد، فهل هذا هو الواقع؟
نعم، إن عدد آيات سورة الرعد (47) بحسب الشامي، كلها مكية، ما
عدا الآيات من (8 - 13) * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى...) * إلى * (شديد
المحال) * فهي مدنية (1)، وكذلك آخر آية منها * (ومن عنده علم الكتاب) *
مدنية (2). فيكون مجموع الآيات المدنيات (7)، والمكيات (40) بالضبط،
فبإضافة آيات الرعد إلى وحدة هود ويوسف، ينتج وحدة جامعة كاملة
لتلك السور الثلاث، ومجموعها (271) مكية تطابق مجموع حروف
* (المر) *، كما لا يخفى، فليتدبر جيدا.
وغير خفي: أن هذا برهان جديد على أن هذه الرموز، كانت تعين عدد
الآيات المكيات في السورة والوحدة القرآنية بالضبط، وما مر في الأربع
سور من مدني آياتها ومكيها كان صحيحا.
فيظهر لنا: أن هذه السور الرمزية - وهي (29) سورة - كل قرآنها
المجيد محفوظ لم تضع منه آية واحدة، وإننا لتلك النكتة وهذه
الطريفة، نستطيع أن نصحح كثيرا من الأقوال المشوشة الواردة في
المصادر في مكي السور أو مدنيتها، وهكذا في الخلاف على عدد آياتها.
ثم اعلم: أن ما سبق إحدى الوحدات القرآنية المبتدأة ب‍ * (الر) *
و * (المر) *، وهناك وحدة أخرى من * (الر) *، وهي تشمل سور يونس وإبراهيم
والحجر، وكلها تبدأ ب‍ * (الر) *، وليس منها سورة واحدة تعادل مجموع * (الر) *،
ولكن إذا ضمت بعضها لبعض مع فصل الآيات المدنيات من بينها يستقيم

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 48.
2 - راجع مجمع البيان 6: 273، والإتقان في علوم القرآن 1: 48.
313

الحساب، كما نرى.
سورة يونس: السورة مكية ما عدا ثلاث آيات عن ابن عباس، وهي
الآيات (94 و 95 و 96) فهي مدنية (1).
ويبدو لنا أن السورة مكية حتى نهاية الآية (93)، ولا يستقيم المعنى
إذا اعتبرنا الآيات المستثنيات السابقة مدنيات، لأن ما بعدها متصل بها
مباشرة، فإذا كانت مدنيات حقا، فإن الآيات (97) وما بعدها يجب أن تكون
مدنية أيضا، حتى يستقيم معنى الوحدة التي تبدأ من الآية (95)، وعلى هذا
تصبح سورة يونس - بحسب التحقيق - تحوي (93) آية مكية في دور من
أدوار الوحي.
وبعبارة وضحى: يلفت النظر اختلاف الرأي في سورة يونس، فالسيوطي
يقول في " الإتقان ": المشهور أنها مكية، وعن ابن عباس روايتان أنها مدنية (2).
ونتيجة الاختلاف: أن الآيات المنسجمة (93)، فإذا أضيف إليها
آيات سورة إبراهيم، وهي (52) آية مكية وآيتان مدنيتان، كما عن جمع، مثل
ابن عباس وقتادة والحسن (3)، ثم أضيف إليها آيات سورة الحجر، وهي
(86) آية مكية أيضا يصير المجموع بالضبط (231) وهي مجموع * (الر) *.
ويدل ما سبق على أن هذه السور كانت في الغالب في دور من أدوار
الوحي مرتبة بجانب بعضها البعض، أي متتابعة وأن * (الر) * المبتدأة بها
كانت إشارة إلى أنها جميعها من وحدة واحدة.

1 - مجمع البيان 5: 87.
2 - الإتقان في علوم القرآن 1: 47.
3 - راجع مجمع البيان 6: 301، والإتقان في علوم القرآن 1: 59.
314

وغير خفي: أن سورة الحجر مكية بحساب قتادة ومجاهد، وقال
الحسن: إلا قوله: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) * وقوله:
* (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين) * (1)، ويضع ابن
إسحاق هذه الآية الأخيرة في أوائل ما نزل من القرآن في مكة (2)، وهذا
مخالف لما نسب إلى الحسن، وتدل مناسبة التنزيل على أنها مكية.
وبالجملة: إننا نلاحظ أن من قوله تعالى: * (ولقد آتيناك...) * إلى آخر
السورة تبدو قد ضمت إلى السورة في فترة أو فترات، فالآية 87 - مثلا -
مدنية (3)، والآيات (90) إلى (93) مكيات نزلت في السنة الرابعة
للبعثة (4)، والآية (95) وما بعدها مكية نزلت بعد الإسراء، مجموع هذه
الآيات - كما هو واضح من فترة غير أو فترات غير فترة مجموعة السورة في
مكة كانت تنتهي في الآية (86) فبهذا تنتهي النهاية الجميلة * (فاصفح
الصفح الجميل) * وكن من اللاحظين.
الحواميم
سورة السجدة حم: عدد آياتها (54) كوفي، (53) حجازي، (52) شامي
وبصري (5)، يلاحظ اختلاف في أسلوبها ابتداء من الآية (38) * (ومن آياته

1 - راجع مجمع البيان 6: 326.
2 - راجع السيرة النبوية، ابن هشام 1: 290.
3 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 59.
4 - راجع السيرة النبوية، ابن هشام 1: 290.
5 - راجع مجمع البيان 9: 3.
315

أنك ترى الأرض خاشعة) * إلى نهاية السورة، فإنه من أسلوب صدر
الشورى، ولذلك تعتبر السجدة بأسرها - وهي (38) آية فقط - وحدة واحدة
نزلت في فترة واحدة.
سورة الزخرف حم: عدد آياتها (89) يخرج منها * (حم) * وإن حسبت
آية، وكذلك الآية (45) فمدنية كما في " الجلالين " و " الإتقان " و " مجمع
البيان " (1) فيبقى منها (87) آية.
سورة الدخان حم: عدد آياتها (59) يخرج منها * (حم) * وإن حسبت آية،
فيبقى منها (58) آية.
سورة الجاثية حم: آياتها (35) بحسب الشامي والحجازي والبصري،
يخرج منها * (حم) * وإن حسبت آية، والآيات (6 و 7 و 8 و 9) فهي وحدة
مختلفة، ولعلها نزلت في فترة أخرى غير فترة السورة، وأرى أنها نزلت في
السنة الثالثة للبعثة - كما في ابن هشام (2) - ومنه يعلم أنها نزلت
بمناسبة قصة في النضر بن الحارث بن علقمة، والغالب أنها ليست مما
نزل والسورة دفعة واحدة. ويخرج منها كذلك الآية المدنية (13) * (قل
للذين آمنوا يغفروا) * (3) الآية فيبقى 29 آية.
سورة الأحقاف حم: عدد آياتها (34) آية (4)، يخرج منها * (حم) *
وقد حسبت آية، وأربع آيات مدنيات: * (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا...) *

1 - تفسير الجلالين: 646، مجمع البيان 9: 38، الإتقان في علوم القرآن 1: 64.
2 - السيرة النبوية، ابن هشام 1: 384.
3 - مجمع البيان 9: 70، الإتقان في علوم القرآن 1: 64.
4 - مجمع البيان 9: 81.
316

إلى قوله: * (خاسرين) * (15) إلى (18) (1)، ويخرج منها أيضا * (أرأيتم إن
كان من عند الله) *، فإنها مدنية (2)، فيكون الباقي (28) آية بحسب الأكثرين.
خلاصة هذه الحواميم الخمس
عدد آياتها في دور من أدوار الوحي:
اسم السورة عدد الآية اسم الرمز
السجدة 38 حم 48
الزخرف 87 حم 48
الدخان 58 حم 48
الجاثية 29 حم 48
الأحقاف 28 حم 48
-
المجموع 240240
ومن ذلك يتضح أيضا: قوة كون هذه المقطعات رمزا إلى الآيات
وعددها الخاص من المكية أو المدنية.
الشورى * (حم عسق) *: تشبه الشورى في وضعها وضع سورة الرعد
* (الر) * بعد وحدة هود ويوسف المبتدأة ب‍ * (الر) *، وهي هناك تكملة لوحدة
مكونة من خمس وحدات من الحواميم، مجموعها بأسرها بما فيه الشورى

1 - الإتقان في علوم القرآن 1: 65.
2 - مجمع البيان 9: 81.
317

يعادل مجموع حروف * (حم عسق) * وهو (278) آية، فإذا اعتبرنا مجموع
الوحدات الخمس التي سبقتها (48 × 5 = 240) آية، ولقد مر ذلك، فيجب
أن يكون مجموع آيات الشورى (278 = 240 + 38) آية، فهل هذا هو
الواقع؟ فإليك ذلك:
إن عدد آيات الشورى في المصحف (50) آية بحسب الأكثرين،
يخرج منها * (حم عسق) * وقد حسبت آيتين، فيبقى (48) آية، ويخرج منها
أيضا الآيات (23 و 24 و 25 و 26 و 27) فهي مدنية (1)، ويخرج أيضا الآية
(28) (2)، والآيات (38 و 39 و 40) (3)، والآية 41 (4)، فيكون مجموع الآيات
التي تخرج (12) آية تطرح من (50) آية مجموعها الحالي، فيبقى (38)
آية بالضبط، وهو مجموع عدد آيات وحدتها في دور من أدوار الوحي، وإذا
أضيفت آيات هذه السورة إلى ما تقدمها من الحواميم الخمس، كان
مجموعها (278) بالضبط وهو مجموع * (حم عسق) *.
سورة المؤمن " غافر " حم: عدد آياتها (85) كوفي وشامي، و (84)
حجازي و (82) بصري (5)، وهي في نظرنا تحوي وحدتين الأولى تنتهي في
الآية (55)، والثانية تبدأ من الآية (56) حتى نهايتها، والظاهر أن الرمز
هنا * (حم) * كان يرصد (48) آية من أولها، كما سيمر في سورة طه.

1 - مجمع البيان 9: 20.
2 - الإتقان في علوم القرآن 1: 64.
3 - مجمع البيان 9: 20.
4 - الإتقان في علوم القرآن 1: 64.
5 - مجمع البيان 8: 512.
318

وحدة سورتي مريم وطه * (كهيعص) * و * (طه) *: ابتدأت سورة مريم
بالحروف المقطعات كهيعص وسورة طه بالحرفين طه ويعادل مجموع هذه
الحروف معا 195 لكهيعص و 14 لطه فيكون المجموع 209 آيات.
ثم اعلم: أن عدد آيات سورة مريم (99) وطه (140) آية بحسب
الشامي، فيكون مجموع السورتين (234)، وإن هاتين السورتين متعاقبتان
في النزول بحسب ابن النديم (1) وابن عباس " تاريخ القرآن للزنجاني " (2)،
وهما مترتبتان في المصحف متتابعتان أيضا، ولذلك فإننا اعتبرناهما في وحدة
واحدة، ويجوز أن يكون ذلك قبل تفريقهما في سورتين مستقلتين.
واعلم أيضا: أنه قد ورد في ترجمة " رودويل " المستشرق للقرآن
الحكيم: أن الآيات الأربع عشرة الأولى من سورة طه أغرت عمر على
الإسلام، ويؤيد هذا السيرة الحلبية (3)، وإذا قارنا هذا القول بمجموع
الحرفين المقطعين * (طه) * - وهو أربعة عشر - وجدنا أنه ينطبق عليه
تماما، فهل كانت الآيات المكتوبة على الصحيفة - التي وجدها عمر بن
الخطاب عند أخته في قصة إسلامه - (14) آية فقط، وكان مرموزا إليها
ب‍ * (طه) * دلالة على عدد الآيات المكتوبة في اللوح، فإن هذا الظن له
الوجاهة الخاصة، ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن القرآن في أول
نزوله كان ينزل في أعداد قليلة، وكان يحفظ في أعداد قليلة من الآيات

1 - الفهرست، ابن النديم: 28.
2 - تاريخ القرآن، أبو عبد الله الزنجاني: 77.
3 - ذكره أصحاب السير والتأريخ.
319

أيضا تسهيلا للحفظ.
واعلم أيضا: أنه يلفت النظر في سورة مريم اختلاف أسلوبها ابتداء من
آية (75) * (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) * إلى آخر
السورة، وهي وحدة واحدة، ونزلت في فترة غير فترة نزول السورة، وكذلك
تخصم هذه الوحدة - وهي (25) آية - من عدد آيات سورة مريم، فيكون
الحساب كما يلي: سورة مريم في دور من أدوار الوحي كانت (74) آية،
ويخرج من سورة مريم الآيات (58 و 71) فإنها مدنية، فيبقى منها (72) آية،
ويخرج من سورة طه ثلاث آيات: وهي * (طه) * وقد حسبت آية - ونحن لا
نحسبها آية - والآيتان (130 و 131) * (فاصبر على ما يقولون) * و * (ولا تمدن
عينيك) * الآية، فيبقى من سورة طه 137 آية.
فيكون حساب الأخير هكذا:
سورة مريم 72 آية * (كهيعص) * 195
سورة طه 137 آية * (طه) * 14
المجموع 209209
بالضبط، ومن ذلك يشتد الوثوق بالاستخراج المزبور. والله العالم.
سورة الشعراء طسم: يعادل مجموع هذه الحروف (109)، يبدو للناظر
من هذه السورة أن نهاية الآية (110) قد يكون هو نهاية الوحدة الأولى
من تكوينها، فيكون ما بعدها نزل في فترة أخرى، ثم ضم إليها في دور من
أدوار الوحي.
وليس لدينا دليل على ذلك، ولكنه ظن يقودنا إليه سياق البحث،
وفي هذه الحالة تخصم * (طسم) * لأنها اعتبرت آية، فيبقى (109) آيات.
320

والغالب أنها - أي * (طسم) * كانت ترمز إلى عدد آيات الوحدة
الأولى من هذه السورة.
سورة النمل طس: يعادل مجموعها (69) آية.
سورة القصص طسم: يعادل مجموعها (109) آيات، فالمجموع (178)
عدد آيات سورة النمل (95) آية حجازي، القصص (88) آية حجازي،
المجموع (183).
إذا لاحظت ذلك فاعلم: أنه تعتبر هاتان السورتان متعاقبتين في
النزول بحسب ابن النديم (1) وابن عباس، وكذلك رتبتا في القرآن الكريم
متعاقبتين (تاريخ القرآن للزنجاني) (2).
وقد استثنى " الإتقان " من سورة القصص أربع آيات مدنيات (52، 53،
54، 55) (3).
ونحن نستثني * (طسم) * أيضا، فيكون مجموع الآيات المستثنيات
خمس آيات، فإذا طرحناها من العدد الحالي (183)، فيبقى (178) بالضبط
تساوي " طس " و " طسم "، فتأمل جيدا.
يوجد في القرآن الحكيم عدد من سورة تبدأ ب‍ * (ألم) *: وهي البقرة،
وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، وقد مر الرأي في
* (ألم) * البقرة، وسيظهر فيما يلي ما يتعلق بالسور الأخرى.

1 - الفهرست، ابن النديم: 28.
2 - تاريخ القرآن، أبو عبد الله الزنجاني: 77.
3 - الإتقان في علوم القرآن 1: 62.
321

سورة آل عمران: روي عن ابن إسحاق: أن الله أنزل في أقوال وفد نجران
والكفار واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية (1).
وهذا القول يقربنا كثيرا من عدد الحروف وهو (71)، فلنتفحص عن
أقوال أخرى، ولعله يوجد بين هذا الصدر آيات لم تنزل معه في نفس
الفترة، وقد يكون ابن إسحاق قد أخطأ في قوله: " بضع وثمانين آية "، فيكون
اجتهادا منه، لأن الآيات المتعلقة بوفد نجران تنتهي في الآية (71) بالضبط،
واعتبارا من الآية (72) حتى (74) فإن أسباب نزولها معروفة، وخارجة عن
نطاق مناسبة زيارة وفد نجران للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واختلافهم عنده (2).
فيكون ما بعد الآية (71) ضم إلى السورة بعد نهاية الوحدة الأولى،
وعددها يطابق بالضبط مجموع حروفها المقطعة.
سور العنكبوت والروم ولقمان والسجدة ألم: يبدو لنا أن هذه السور نزل
أغلبها متتابعا، وكانت في دور من أدوار الوحي في وضع غير تام الترتيب.
ويؤيد ذلك: أن صدر سورة العنكبوت - المؤلف من عشر آيات -
مدني وبقيتها مكية، فكيف كانت تقرأ هذه السورة في دور من أدوار الوحي؟
والجواب: أنه يبتدئ القسم المكي هكذا: * (وليعلمن الله الذين
آمنوا وليعلمن المنافقين * وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا
ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون) * (3)،

1 - السيرة النبوية، ابن هشام 2: 225.
2 - مجمع البيان 2: 460.
3 - العنكبوت (29): 10 - 12.
322

وليست هذه بداية سورة، كما هو واضح، بل يدل سياقها على أنها كانت
مربوطة بغيرها طيلة العهد المكي، ثم فصلت في سورة خاصة بعد أن
أضيف إليها صدرها المدني، وذلك في دور من أدوار الوحي لا يمكن تحديده.
ويدل هذا أيضا على أن سورة لقمان والروم والسجدة والعنكبوت،
كانت في الغالب مشمولة في ثلاث وحدات من * (ألم) * مجموع آياتها (71 ×
3 = 213) آية، وأن ألم العنكبوت كانت للدلالة على تابعيتها لوحدات
* (ألم) * التي تجاورها، ويشيد هذا ما مر في سور هود ويوسف والرعد،
والظاهر أنه هناك أيضا وحدة قرآنية تكمل مجموع آيات هذه الوحدات،
أو تكمل إحداها، وكانت سورة مستقلة منذ بدايتها، وكانت تتبعها في النزول،
وفي نظرنا سورة الطور ولو أنها غير مرموز لها بحروف مقطعة، ولذلك فإننا
نضمها إلى هذه الوحدات، لاعتقادنا فقط بأنها متتابعة وإياها في التنزيل،
ويؤيد ذلك ما يلي:
السورة بحسب ابن النديم ابن عباس بعض آخر المستشرق " رودويل "
لقمان 54 - 54 - 56 - 82
العنكبوت 83 - 82 - 84 - 81
الروم 82 - 81 - 83 - 74
السجدة 73 - 101 - 74 - 70
الطور 74 - 73 - 75 - 44
ويفهم مما تقدم: أن سورتي العنكبوت والروم متتابعتان في النزول
323

بحسب ابن عباس وابن النديم (1) وبعض آخر، وأن السجدة والطور
متتابعتان بحسب ابن النديم (2) وبعض آخر، ويلاحظ أيضا بأن العنكبوت
ترتيبها (81) بحسب " رودويل " (3)، ولقمان (82) بحسبه أيضا، والروم (83)
بحسب بعض، ويلاحظ عكس ذلك، فالروم ترتيبها (81) بحسب ابن عباس،
ولقمان (82) بحسب " رودويل "، والعنكبوت (83) بحسب ابن النديم، وهذان
القولان يرجحان كون هذه السور متعاقبة.
ومهما يكن من الأمر فإن أمامنا من المعلومات ما يرينا: بأن مرتبي
نزول السورة قد يكونون أصابوا في كثير مما ذهبوا إليه، وأخطؤوا في غيره.
أما نواحي صوابهم فهي في الغالب حيث يتفقون واتفاقهم الواضح
أمامنا يقربنا جدا من الصحيح، ويشعرنا بشئ من الاطمئنان والوثوق إن
نحن اعتبرنا نزول هذه السور بأسرها متعاقبا، وأن زيد بن ثابت حينما رتبها
متتابعة لم يفعل ذلك عبثا، وخاصة وأن محاولة ترتيب السور يتعاقب
حسب نزولها، واضحة في الحواميم والطواسين وغيرها، وجميعها متعاقبة
في النزول تقريبا.
ننتقل من هذا إلى سورة الروم والسجدة والطور، لأنه يلاحظ أيضا
أن هذه الثلاث متتابعة، إذ هي في ترتيبها كما يلي: سورة السجدة والطور
(متعاقبتان) في النزول بحسب ابن النديم (4)، وهذا يرينا أن سورة الطور

1 - راجع تاريخ القرآن، أبو عبد الله الزنجاني: 77.
2 - الفهرست، ابن النديم: 28، وانظر إلى المصدر فيما يأتي من ذي قبل.
3 - راجع القرآن الكريم المترجم إلى الإنگليزية: 261، الهامش.
4 - الفهرست، ابن النديم: 28.
324

كانت في الغالب مكملة لوحدة السجدة، أثناء تسجيل القرآن في بداية
الدور المكي، ونلاحظ أيضا أن سور الروم والسجدة والطور تبدو
متعاقبة بحسب المستشرق " رودويل " (1) وابن النديم (73، 74، 75) (2)،
ولأجله نعود ونقول: إن الذي هو الأرجح أن هذه السور كانت في دور من
أدوار الوحي، متعاقبة في النزول وفي الترتيب، وأنها كانت في مجموعة
في ثلاث وحدات من * (ألم) *.
والغالب أن لقمان والعنكبوت والروم كانت في وحدتين، والسجدة
والطور كانتا في وحدة واحدة، وعلى ذلك كان مجموع هذه الوحدات
الثلاث (71 × 3 = 213) آية، فهل هذا هو الواقع؟ نعم.

1 - لم نقف على هذا الترتيب في القرآن المترجم من قبل " رودويل ".
2 - الفهرست، ابن النديم: 28.
325

التحقيق
السورة عدد آياتها ما يستثنى منها الباقي المرجع
العنكبوت 69 الآيات 1 - 5811 إتقان ج 1 ص 16 (1)
العنكبوت 69 الآية 5751 لباب النقول ص 170
العنكبوت 69 الآية 5660 إتقان ج 1 ص 16
الروم 59 مكي الآية 5817 مصحف الجلالين (2)
الروم 59 مكي الآية 1 - ألم 57 قد عرفت أنها
لا تعتبر آية لأنها رمز
لقمان 33 حجازي الآيات 27، 28، 3029 مصحف الجلالين (3)
الآية 1 - ألم 29 لا نعتبرها آية لأنها
رمز عددي
مجموع هذه السور الثلاث (142) آية، وهذا يعادل وحدتين من
* (ألم) * (71 × 2 = 142) بالضبط.
السجدة 29 بصري الآيات 16 إلى 2520 مصحف الجلالين (4)
الآية 1 - ألم 24
الطور 4747
المجموع (71) بالضبط، وهي تعادل وحدة من * (ألم) *.

1 - الإتقان في علوم القرآن 1: 62.
2 - تفسير الجلالين: 534.
3 - تفسير الجلالين: 542.
4 - تفسير الجلالين: 548.
326

فلو أمكن المناقشة في بعض هذه الاستخراجات، ولكن من هذه
المقارنات والضوابط يتمكن من أن يحصل الطريق إلى فهم هذه الحروف
المقطعات. والله الهادي إلى سواء السبيل.
سورة يس: مجموع الحرفين المقطعين (70) يلفت النظر في هذه
السورة أن الآية (70) ختام لوحدة تبدو كلها تامة، ولا تحتاج المزيد، وقد
يكون ما بعدها ضم إلى السورة في فترة أخرى من فترات الوحي.
ويذكر ابن إسحاق في " السيرة النبوية ": أنه اعتبارا من الآية (77)
إلى آخر السورة، فإنه نزل في أبي بن خلف (1)، ويؤيد ذلك " مجمع
البيان " (2)، فالرمز هنا كأنه يشير إلى الوحدة الأولى من السورة.
سورة ص: مجموع الحرف المقطع (90)، عدد آياتها (88) لا ينطبق
مجموعها على مجموع الحرف، ولكنه قريب جدا منه، ولا تستبعد أن تكون
الآيتان الناقصتان موجودتين في السورة وموجودتين في الآيتين (24، 26)،
فإن الذي يبدو لنا أن نسقهما أطول من كافة آيات هذه السورة.
سورة القلم، ن: مجموع هذا الحرف المقطع (50) آية بينما مجموع
آيات السورة (52) آية بالإجماع (3)، ويلاحظ أن مجموع هذه السورة قد
تكونت في فترات مختلفة، وهي من أول سور القرآن، ويعتقد أنها الثانية
في النزول، وفي هذه السورة أقوال منها ما يفهم من محكي السيوطي في

1 - السيرة النبوية، ابن هشام 1: 387 - 388.
2 - راجع مجمع البيان 8: 434.
3 - راجع مجمع البيان 10: 330.
327

" الإتقان ": أن الوحدة الأولى من السورة - وهي (16) آية - مكية، أما
اعتبارا من الآية (17 إلى 34)، فإنه مدني، وحكاه السخاوي في " جمال
القراء "، ومن الآية (48) إلى آخر (50) فإنه مدني أيضا عن نفس المصدر (1).
إن هذه الأقوال تعطينا فكرة عن تكوين السورة ففيها وحدة من (16)
آية مكية في أولها، يتلوها وحدة مدنية كبيرة أضيفت بعد نزولها في
المدينة، ولو رفعنا هذه الوحدة المدنية، وأعدنا اتصال القسم المكي
معا، فإننا نجده لا ينسجم، وكذلك إن رفعنا الآيات المدنيات الأربع (48 إلى
51) من بين القرآن المكي، فالذي يبدو لنا أن المعنى غير متصل وهذا
يرينا أن تكوين السورة في حالتها الحاضرة لم يكن وليد دور واحد، بل في
الغالب كان في أواخر أدوار ترتيب القرآن، غير أن الحرف المقطع * (ن) *
نزل في الغالب مع السورة، ولابد أن الآيات المكيات في أول العهد المكي
- أي قبل أن يكون هناك سور - كانت مسجلة في صحف بعضها إلى جانب
بعض، وتشمل كل صحيفة منها آيات وحدة، وكان مجموعها جميعا 50 آية.
فهل نجد في أقوال مؤرخي السيرة ما يلقي ضوءا على ذلك؟
اعلم أنه يوجد في هذه السورة (16) آية منسجمة يدل سياقها على
اتصالها بعضها بالبعض.
ويذكر ابن إسحاق في " السيرة النبوية ": أن الآيات (213 - 221) في
سورة الشعراء، كانت من أوائل ما نزل من القرآن (2)، وهي في موضعها

1 - الإتقان في علوم القرآن 1: 66.
2 - السيرة النبوية، ابن هشام 1: 281.
328

الحاضر يبدو أنها ألحقت بسورة الشعراء، لاعتبارها من نفس فاصلتها
وأسلوبها، مع أنها من أسلوب وفاصلة سورة القلم أيضا.
ويذكر نفس المرجع: أن الآيات (90 - 94) من سورة الحجر كذلك
من أوائل ما نزل من القرآن، وهي من أسلوب وفاصلة سورة القلم أيضا.
ثم إننا نرى أن سورة الحجر - وهي من سور أواسط الفترة المكية -
لا يبعد أنها كانت تنتهي في دور من أدوار الوحي في الآية (86) * (إن ربك
هو الخلاق العليم) * وهي نهاية واضحة لما قبلها وجميلة جدا لأن الآية
(87) * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * مدنية (1).
ويغلب على الظن أن الوحدة المبتدأة من الآية (90 - 94) إلى
نهاية السورة وحدة واحدة يبلغ عدد آياتها عشر آيات، وهي التي أشار ابن
إسحاق على أنها من أوائل القرآن المكي (2) فإذا حاولنا ضم آيات الحجر
والشعراء المشار إليها، وهي من أوائل المكي، ويدل سياقها على أنها
ليست افتتاحيات أو نهايات لسور، ولكنها نزلت متفرقة، وقد تكون بقيت
متفرقة، ولكنها سجلت على صفحات أو ألواح متجاورة، وكذلك إذا رفعنا
الآيات المدنيات من سورة القلم، وهي ثانية سور القرآن نزولا، فإننا نجد
أنفسنا أمام الوضع التالي:
يوجد لدينا (16) آية مكية، وهي صدر سورة القلم يضاف إليها (8)
آيات من نهاية الشعراء، وهي الآيات (213 إلى 221)، ثم يضاف إليها

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 1: 59.
2 - السيرة النبوية، ابن هشام 1: 290.
329

(10) آيات من نهاية الحجر، وهي الآيات (90 إلى 99) ثم يضاف إليها
(14) آية مكية من سورة القلم، وهي المكملة للقسم المكي بعد فصل
الآيات المدنيات، وهي تبدأ من الآية (34)، وتنتهي في (47)، ثم يضاف
إليها آيتان مكيتان من سورة القلم، وهما (51 و 52)، فيكون المجموع (50)
آية بالضبط، وهو مجموع الرمز * (ن) *.
ولنا إلفات النظر إلى عدة آيات: سورة القلم (52) آية، وهو قريب
جدا من عدد الحرف * (ن) *، وهو (50)، ولعل الحادس يطلع على أن
الاختلاف يكون في جانب عدد الآيات. والله العالم.
سورة قاف: مجموع الحرف المقطع (100) عدد آياتها (45)، وهذا
الرمز لا ينطبق على السورة.
والذي نراه أن بقية الآيات مشمولة في سورة أخرى، لابد أنها كانت
مسجلة بجانبها والأغلب أنها نزلت بعدها، فالحرف يشير إلى مجموع
الوحدة، ولعلها سورة سبأ لأنها بشكل قوي وأسلوب ظاهر من أسلوب قاف،
وهي تعتبر الثالثة والثلاثين في النزول، بينما هي الرابعة والثلاثون
بحسب " رودويل "، أي يغلب على الظن أنهما متتابعتان، وهل إذا ضمتا إلى
بعضهما البعض ينتج منها مجموع الرمز قاف؟ إن عدد آيات سورة قاف
الحالي (45) آية، وعدد آيات سورة سبأ (55) بحسب الشامي، فالمجموع
(100) وهذا يعادله بالضبط. فتأمل جيدا.
ويؤيد ما سبق: أن ترتيب زيد بن ثابت لسورة سبأ في مصحف عثمان،
يعتبرها الرابعة والثلاثين، بينما يعتبر ابن النديم سورة قاف الثالثة
330

والثلاثين (1)، وهذا يؤيد أن الاجتهاد كان في محله. والله العالم الواقف
على رموز كتابه، وإليه يشتكى من الجهالة.
خامسها: قد تبين في الكتب الكلامية وبلغ إلى نصاب التحقيق
وميقات البرهان والتدقيق، ويكون مشفوعا بالكشف واليقين، وبالمشاهدات
العرفانية والمعاينات الإيمانية: أن أصول العقائد الحقة وأركان
الهداية الحقيقية ثلاثة: أصل التوحيد، وأصل الرسالة، وأصل
الولاية المطلقة.
وأيضا قد اتضح بالكتاب عند أهله وبالسنة القطعية والتواريخ
وبالأدلة القطعية: أن الله تبارك وتعالى هو الله العالم، وأن محمد بن عبد الله
هو الرسول الأعظم، وأن علي ابن أبي طالب هو الولي المعظم وأبناءه
المعصومين فروعه المتدلية به، والكل متدل بالرسول، والكل متدلي
الذات، ومفتقر الصفات إلى الله الغني الحميد.
ومن المحرر في محله والمقرر في مقامه: أن القرآن نسخة العالم
بأجمعه، وجامع شتاتها بأكتعها، وهو إجمال لذلك التفصيل، ورقيقة لتلك
الحقيقة، ومتحد معه، فأصل العالم وأصل العترة وأصل الكتاب واحد،
وإنما الاختلاف في المجالي والمظاهر والأسماء والعناوين * (إن هي إلا
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) * (2)، فتلك الأصول
الثلاثة أيضا مرجعها واحد، وحيث اقتضت السياسة الإسلامية والتقية

1 - لم نعثر على اختيار هذا الترتيب في فهرسته.
2 - النجم (53): 23.
331

الإلهية كتمان أمر الولي المطلق بالاسم الصريح في الكتاب الإلهي، حتى
يكمل الكتاب التدويني بالتطابق مع الكتاب التكويني، ويعلم الأصل
الثالث لكافة أبناء الهداية وأفراد البشر، فكأنه تكفل ببيانه وتوضيحه
على الوجه الآخر الأحسن، رعاية لجميع الجهات والجوانب، ومحافظة
على أصل الإسلام من أعدائه، وصيانة للكتاب الإلهي عن الانحراف
والتحريف والتوهين والتكذيب، ومع ذلك كان يجب أن لا يكون خاليا عن
الحق الواضح والصراط السوي والهداية الكاملة، بل وعن الصورة
الأخيرة التي بها شيئية الأشياء، ضرورة أن شيئية كل شئ بصورته الأخيرة
وبكماله اللائق به، كما تقرر في مظانه.
فإذا تصدى لإبانة تلك الصورة القويمة على نعت الرمز والإجمال،
وعلى وجه الكناية والإبهام، حتى يهتدي من يريد الله أن يهديه ويشرح
صدره وقلبه للإسلام والإيمان * (فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي
من يشاء) * (1)، وإذا كانت الهداية من البوارق الملكوتية ومن الموائد
الإلهية، فلا فرق بين كون المهتدى به مرموزا عليه أو مشروحا لديه.
وبالجملة: كما أن الناس ينقسمون بحسب أصل التوحيد إلى صنفين،
والأكثر على الضلالة، وبحسب أصل الرسالة أيضا على طائفتين، وأكثرهم
لا يعقلون، كذلك هم - حسب أصل الولاية - على قسمين، والغالب في
الضلالة، فلا ثمرة في إفادة الأصل المزبور بالآيات البينات وبالسور
الواضحات، بل كان يترتب عليه المفاسد الكثيرة، وهو اضمحلال الأصل

1 - القصص (28): 56.
332

الثاني بالمرة، وينسحب ذيله إلى إفناء الأصل الأول، فإن التوحيد
الحقيقي هو توحيد الإسلام، ولا توحيد في سائر الأديان والشرائع، كما اتضح
لدى أهله وعند أصحابه وأربابه.
إذا تبين ذلك فاعلم: أن في الكتاب الإلهي ربما أشير إلى هذه
الدقيقة الإلهية والنكتة الربانية بأنحاء الإشارات والرموز، كما سيظهر
في هذا السفر - إن شاء الله تعالى - ونرجوه أن يوفقنا لإتمامه على أحسن ما
يمكن وأدق ما يراه، والله المستعان.
مثلا: أشار إلى تلك الأصالة والولاية - حسب ما يؤدي إليه نظر
أربابه وكشف أصحابه - بقوله: * (كل شئ هالك إلا وجهه) * (1) وبقوله:
* (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) * (2)، وهكذا في سورة الروم
والليل (3)، فإن " وجه " حسب حروف الجمل (14)، وعدد المعصومين
عندنا أربعة عشر، وقد تبين في محله اتحاد الكل بحسب الروحانية والأصل،
واختلافهم بحسب الجلوات في النشأة الظاهرية والمادية (4)، ومن الأماكن
التي أشير فيها إلى تلك الحقيقة والمواطن التي تصدى الكتاب لإظهار
هذه الرقيقة والحقيقة، الحروف المقطعة المفتتح بها السور:
فإنها إذا لاحظناها بعد حذف السور المكررة فيها تلك الحروف،
تكون (14) سورة: 1 - ألم، البقرة 2 - المص، الأعراف 3 - الر، يونس 4 - المر،

1 - القصص (28): 88.
2 - الرحمن (55): 27.
3 - الروم (30): 39، الليل (92): 20.
4 - راجع الكافي 1: 216، وبصائر الدرجات: 500.
333

الرعد 5 - كهيعص، مريم 6 - طه 7 - طسم، الشعراء 8 - طس، النمل
9 - يس، يس 10 - ص، ص 11 - حم، المؤمن 12 - حم عسق، الشورى
13 - ق، ق 14 - ن، القلم.
وأيضا إن المذكور فيها نصف أسامي حروف المعجم: وهي الألف
واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء
والسين والحاء والقاف والنون، وهي الأربعة عشر حرفا.
وأيضا إذا حذف المكرر من هذه الحروف يصاغ مما بقي وينسجم
منه الجملة الدالة على حقانية مذهب التشيع والأصل الثالث من الأصول
الثلاثة، وهو " صراط علي حق نمسكه ".
ومن العجيب ما في تفسير بعض أبناء العامة من: أن بعض الشيعة
صنعوا ذلك، وقابلوها بجمل أخرى مثلها تنقض ذلك، ولكنه لم يأت بتلك
الجمل ولا بواحد منها.
وفي تفسير ابن كثير: أن الحروف المذكورة يجمعها قولك: " نص حكيم
قاطع له سر ".
ومن كان له قلب ونور يهتدي إلى لب المقصود وهو: أن المطلوب
ليس انحصار الجملة الممكن نسجها في تلك الكلمة الشريفة، ضرورة
إمكان تنسيق الجمل الكثيرة منها جدا.
بل النظر إلى أنها حروف تشير إلى الأصل الثالث، ولا يمكن نسج ما
يكون مشيرا إلى خلافها منها.
ومن العجيب - وإن لا يكون عجيبا منهم - أنهم قالوا: ولك أيها السني
أن تستأنس بها لما أنت عليه، فإنه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج
334

منه ما يكون خطابا للشيعي، وتذكيرا له بما ورد في حق الأصحاب، وهو
" طرق سمعك النصيحة "، وهذا مثل ما ذكروه حرفا بحرف، وإن شئت قلت:
" صح طريقك مع السنة "، ولعله أولى وألطف. انتهى.
وغير خفي: أن الرجل ما أبرد في كلامه وفي نسجه بإظهار مرامه،
ولا سيما الجملة الأولى، مع أن كونه خطابا لأبنائهم أمر خارج عنه، فلعله
خطاب لأبناء الشيعة، فإنهم يقولون بالسنة، وطريقهم طريق الاخذ
والتمسك بسنن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أدى (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسنن الكثيرة
مسألة خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإمارته ووصايته، من ابتداء نشوء
الإسلام إلى العام الأخير في حجة الوداع بأساليب مختلفة وعبائر
متشتتة، كلها مسطورة في كتبهم ومستورة في قلوبهم.
فما أجهل هذا المفسر حيث توهم: أن اصطلاح " السنة والشيعة "
في العصر المتأخر من ملامح هذه الحروف المقطعة.
ولو قيل: إن أبناء العامة يعتقدون بأن صراط علي (عليه السلام) حق إلا أنهم
يعتقدون أحقية صراط الثلاثة الأول، كاعتقاد الشيعة بأحقية صراط
سائر الأئمة (عليهم السلام).
قلنا: أما اعترافهم بأحقية الثلاثة الأول، فهو بلا دليل من السنة
والكتاب، وهذا يكفينا، ولا نحتاج إلى إثبات عدم الأحقية، بل عدم ثبوت
حق لهم كاف كما هو واضح.
وأما الاعتراف بسائر الأئمة (عليهم السلام)، فللأخبار والأحاديث النبوية
والعلوية - من طرق العامة والخاصة - الصريحة في عددهم وأسمائهم
صلوات الله تعالى عليهم أجمعين.
335

الآية الثانية من سورة البقرة
قوله تعالى: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) *
337

اللغة والصرف
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
في معنى " ذلك "
" ذا " اسم يشار به إلى المفرد القريب المذكر، وتدخله هاء
التنبيه فيقال: " هذا "، و " ذاك " اسم يشار به إلى المتوسط، والكاف
للخطاب، وتدخله هاء التنبيه قليلا، فيقال: " هذاك " و " ذلك "، اسم يشار به
إلى البعيد، واللام للبعد والكاف للخطاب، والكاف اللاحقة بهذه
الأسماء حرف: إما للتنبيه على مطلق الخطاب، فتكون مجردة مفتوحة
على كل حال. تقول: كيف ذاك الرجل يا امرأة، وإما للتنبيه على حالة
المخاطب، من الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، فتلحقها
علامات الفروع.
وقيل: " ذا " اسم إشارة ثنائي الوضع لفظا وثلاثي الأصل، وليس
أحادي الوضع، حتى تكون ألفه زائدة، خلافا للكوفيين والسهيلي، بل
339

ألفه منقلبة عن ياء، ولام فعله، خلافا لبعض البصريين، فزعم أنها منقلبة
من واو من باب " طويت "، وهو مبني، ويقال فيها: ذا وذائه (1).
وعن بعض النحويين: أن المشار إليه ينقسم إلى قريب وبعيد، ولا
حد متوسط بينهما، فمتى كان مجردا عن اللام والكاف، فهو للقريب، وإلا
فهو للبعيد (2).
وعن جماعة من أهل العربية - كالأخفش وأبي عبيدة - إنكار كون
" ذلك " للبعيد وضعا وإن كان في البعيد أكثر استعمالا (3)، وقال الفخر: لا
نسلم أن لفظة " ذلك " لا يشار بها إلا إلى البعيد، فإنه و " هذا " حرفا إشارة،
وأصلهما ذا لأنه حرف للإشارة. ومعنى ها للتنبيه، فإذا قرب الشئ أشير
إليه، فقيل: " هذا "، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر
لك بحيث تراه.
وقد تدخل الكاف على " ذا " للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة،
فقيل: ذلك. وهذا يشهد على أن لفظة " ذلك " لا تفيد البعد في أصل
الوضع (4). انتهى.
أقول: مقتضى ما تحرر في محله: أن أسماء الإشارة لا أصل لها، بل
هي - بحسب المصداق والخارج - معان حرفية (5)، وإذا لم يكن بين

1 - راجع البحر المحيط 1: 32.
2 - انظر البحر المحيط 1: 32.
3 - تفسير التبيان 1: 52.
4 - التفسير الكبير 2: 13.
5 - تحريرات في الأصول 1: 130.
340

المعاني الحرفية جامع ذاتي، فلا يعقل كون " ذا " موضوعا لمطلق الإشارة
الأعم من القريب والبعيد، ولو سلمنا ذلك، ولكن المتبادر من اللغة
والعرف، أن كل واحد من هذه الكلمات ذات وضع شخصي لا نوعي، فيكون
" هذا " موضوعا بوضع على حدة، و " ذاك " بوضع ثان، و " ذلك " بوضع ثالث ولو
بالوضع الشخصي التعيني دون التعييني، وحصل بالاستعمالات العربية
هذه الأوضاع لتلك الألفاظ والقوالب، فكون " ذلك " للبعيد مقابل الحاضر
مما لا يكاد ينكر بالضرورة، وأما أنها للبعيد مقابل المتوسط الغائب فهو أمر
غير ثابت.
وما هو الأظهر: أن حروف الإشارة بين ما تختص بالحاضر وما تختص
بالغائب، ولا يكون فيها ما هو المشترك بينهما، كما لا يوجد مثل ذلك في
الضمائر أيضا، وهذا من الشواهد على عدم وجود الجامع بين هذه المعاني،
أو عدم لحاظ الواضع ذلك الجامع لوضع لفظة له.
ومن العجيب: أن الفخر - رجما بالغيب - يقول: إن اللام في " ذلك "
للتأكيد (1)، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، ولا داعي إلى هذا الخرص.
فعلى ما تقرر تبين: أن كون الهاء للتنبيه أيضا مما لا أصل له، بل
" ذا " و " هذا " للإشارة، كما أن " تا " و " تي " و " ذي " أيضا للإشارة إلى
المؤنث، قال ابن مالك:
بذا لمفرد مذكر أشر * بذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر (2)

1 - التفسير الكبير 2: 13.
2 - الألفية، ابن مالك: بحث اسم الإشارة، البيت 1.
341

نعم، قد تحرر منا في مباحثنا الأصولية: أن في كافات الخطاب
ما يلتحق بحروف الإشارة (1)، كقوله تعالى: * (قالت فذلكن الذي لمتنني
فيه) * (2)، وهذا كثير في الكتاب العزيز، ولكن ليس كاف " ذاك " و " ذلك " من
هذا القبيل، فإن بلحوقهما ب‍ " ذا " يختلف كيفية الإشارة، لا كيفية المشار
إليه، فافهم واغتنم.
إن قلت: إذا قيل: " ذلكم الرجل الذي فيه تمترون " يكون " كم " جمع
" ك "، فلا يبقى إلا " ذا "، وهي للإشارة.
قلت: بل يبقى معها اللام، ولا يقول أحد بأن " ذال " للإشارة إلى
البعيد، فيعلم منه أن إحدى الكافين حذفت، أو يجوز الإدغام فيقرأ مشددا،
فلا يمكن من هذا الطريق استكشاف أن الكاف في " ذلك " للخطاب وللإعلام
بكيفية المخاطب إفرادا وتذكيرا.
المسألة الثانية
في معنى " الكتاب "
" الكتاب " ما يكتب فيه، وهو المصدر غير المقيس، وقيل: هو اسم
كاللباس عن اللحياني (3)، وقيل: أصله المصدر، ثم استعمل في المعاني

1 - راجع تحررات في الأصول 1: 132 - 136.
2 - يوسف (12): 32.
3 - تاج العروس 1: 444.
342

المختلفة (1)، كالصحيفة والفرض والحكم وغير ذلك، ويجمع على كتب
وكتب، ومصدر قياسي ل‍ " كاتب يكاتب كتابا "، ولعل أهل اللغة اشتبه عليهم
الأمر، وتوهموا: أن الكتاب مصدر " كتب " غافلين عن أنه مصدر " كاتب "،
والمكاتبة وإن كانت مفاعلة، ولكنها ليست كالمضاربة، بل هي كالمقاتلة
من * (قاتلهم الله أنى يؤفكون) *، فيكون من طرف واحد، وهذا هو الكثير في
هيئة باب المفاعلة حتى أنكر بعض أصحابنا ذلك في تلك الهيئة، فالكتاب
مصدر " كاتب " بمعنى " كتب " قياسا.
ثم إن ظاهرهم أنه بمعنى المكتوب، ولكنه بمعزل عن التحقيق بل
هو اسم مصدر، وقد تداول وتعارف في عرف العرب استعمال المصادر مكان
اسم المصدر، بحيث عد اسما من غير مجازية.
وأما إرادة ما يكتب فيه من الكتاب: فهو إما مجاز، أو من الاشتراك
اللفظي، ضرورة أن ما يكتب فيه هو الموجود الخارجي ومن الأعيان،
والكتاب والكتب حدث حال فيه.
ولعل تفسيره بما يكتب فيه أيضا من اشتباه اللغويين (2) المورث
لغلط المفسرين، ومنشأ هذا الاشتباه هو تفسير الكتاب بالمكتوب ثم تفسير
المكتوب بالصحيفة، وهي التي تقع فيها الكتابة، فلاحظ واغتنم جدا.
ثم إن حقيقة الكتابة - كما في " الراغب " - ضم أديم إلى أديم
بالخياطة يقال: كتبت السقاء، وكتبت البغلة جمعت بين شفريها بحلقة،

1 - نفس المصدر.
2 - راجع تاج العروس 1: 444.
343

وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وقد يقال ذلك
للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ، فالأصل في الكتابة النظم بالخط، ولكن
يستعار كل واحد للآخر، ولهذا سمي كلام الله تعالى - وإن لم يكتب - كتابا (1).
انتهى.
ومن هنا ينتبه العاقل واللبيب: إلى أن إطلاق الكتاب على النفس
وعلى الفلك وعلى العالم وأمثال ذلك، ليس من المجاز حسب اللغة، فإن
العالم كله كتاب الله.
وقيل بالفارسية:
بنزد آنكه جانش در تجلى است * همه عالم كتاب حق تعالى است
عرض اعراب وجوهر چون حروف است * مراتب همچو آيات وقوف است
از أو هر عالمي چون سوره خاص * يكى زان فاتحه وآن ديگر اخلاص (2)
وإلى هذا يرجع قوله تعالى: * (إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك
حسيبا) * (3) وغيره من الموارد الكثيرة في الكتاب العزيز، وهكذا ما نسب
إلى مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين:

1 - المفردات في غريب القرآن: 423.
2 - گلشن راز، شبسترى.
3 - الإسراء (17): 14.
344

وأنت الكتاب المبين الذي * بأحرفه يظهر المضمر (1)
وهكذا عن مولانا الصادق (عليه السلام): " الصورة الإنسانية هي أكبر حجة الله
على خلقه، وهي الكتاب الذي كتبه الله بيده " (2).
لا يقال: مقتضى ما أفاده الراغب ويستظهر من الآخرين أن الكتابة
هي ضم بعض أجزاء الشئ إلى بعض، وهذا لا ينطبق على مثل الصورة
الإنسانية والعقل والنفوس الكلية التي هي بسائط.
لأنا نقول: هذه الأمور أجزاء العالم الكلي والعالم الكلي مركب،
وإطلاق الكتاب على العالم بهذا الاعتبار، وأما وجه إطلاقه على هذه
الأمور بحذاء الإنسان الكل والكبير، فهو لأجل كونها في وحدتها كل
القوى، وفيها الصور العلمية بالإجمال والتفصيل، وفيها نقوش جميع
الخلائق والأعمال والأفعال، بنحو الاندماج في عين التفصيل والكشف،
فكل كتاب، ويصح إطلاق الكتاب على كل واحد منها، لأجل أنه جزء من
العالم الكبير، وهذا من خواص المركبات الاعتبارية، فليتدبر.
ومن العجيب: أن أبا حيان وبعضا آخر ك‍ " تاج العروس " وغيره
توهموا: أن الكتاب يطلق بإزاء معان:
1 - العقد المعروف بين العبد وسيده على مال مؤجل منجم للعتق
* (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) *.
2 - وعلى الفرض * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) *.

1 - الديوان المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 103.
2 - المجلي، الإحسائي: 169، 259، الصافي 1: 78.
345

3 - وعلى الحكم، قاله الجوهري، كما في قوله: " لأقضين بينكما
بكتاب الله كتاب الله أحق ".
4 - على قدر الله.
5 - وعلى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب (1). انتهى.
وأنت خبير بما فيه من الاختلاط، فإن الكل مصاديق المعنى
الواحد ولا يعد مثله من اختلاف المعاني لكلمة واحدة، كما هو الظاهر.
المسألة الثالثة
في معنى " لا "
" لا " كما عرفت فيما مضى عند قوله تعالى: * (ولا الضالين) * لمعان
منها النفي، وربما يطلق في مقام النهي، فيكون نفيا حسب الإرادة
الاستعمالية، ونهيا حسب الإرادة الجدية قال تعالى: * (لا رفث ولا فسوق
ولا جدال في الحج) * (2) فإنها نفي صيغ لإفادة النهي، أو لإفادة المعنى
المستلزم للنهي.

1 - راجع البحر المحيط 1: 32، وتاج العروس 1: 444، وأقرب الموارد 2: 1063.
2 - البقرة (2): 197.
346

المسألة الرابعة
في معنى " ريب "
" الريب ": الحاجة والظن والشك والتهمة، كالريبة - بالكسر -
وريب المنون: صروف الدهر، والريبة في الأصل قلق النفس واضطرابها
جمعها ريب، وفي الحديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " (1) بالفتح والضم.
وقيل عن الأول للثاني: عليك بالرائب من الأمور، وإياك والرائب منها،
والأول هو الرائب من الألبان، وهو الصافي منها، والثاني الأمر الذي فيه
الشك والشبهة.
وفي " الراغب ": يقال: رابني كذا، وأرابني، فالريب أن تتوهم بالشئ
أمرا ما فينكشف عما تتوهمه (2). انتهى.
وقد استعمل القرآن العزيز هذه اللفظة باشتقاقاتها في كثير من
الآيات، والحاصل من التدبر فيها أحد الأمرين: إما الالتزام بأنه مشترك
لفظي بين الشك والظن والتهمة، أو الشك مع التهمة، كما صرح به
ابن الأثير (3).

1 - عوالي اللآلي 3: 33 / 214 وراجع وسائل الشيعة 18: 122 كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 12، الحديث 38، ومسند أحمد 3: 153.
2 - المفردات في غريب القرآن: 205.
3 - النهاية، ابن الأثير 2: 286.
347

وأما الالتزام بأن معناه واحد، وهو ضد اليقين وخلاف العلم، سواء كان
شكا متساوي النسبة - حسب الاصطلاح - أو ظنا، وسواء كان مقارنا مع
التهمة أو غير مقارن، فإذا قيل: " دع ما يريبك " فمعناه: أنه اطرح ما لا يقين
فيه، وما يورث وقوعك في ما لا علم به.
والذي يظهر من التفتازاني، أنه من الأضداد، لقوله بالفارسية:
ده لفظ از نوادر ألفاظ برشمر * هر لفظ را دو معنى آن ضد يكدگر
وقد عد منها كلمة " الريب "، وما هو الأقوى والأرجح من اللغة
وموارد استعماله هو الثاني، بل كونه بمعنى الحاجة خلاف التحقيق وإن
صرح به " القاموس " وغيره (1).
وما في الحديث: " إن اليهود مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال بعضهم:
سلوه، وقال بعضهم: ما رابكم إليه " (2)، فمعناه: ما أقلقكم إليه وأوقعكم في
الشك بالنسبة إلى نبوته، فإن في السؤال عنه تلميح إلى الريب في
رسالته.
والعجب: أن أصحاب اللغة غفلوا عن معنى الحديث، وظنوا أنه
بمعنى الحاجة (3) هنا، فإذا قيل: لا ريب في كذا، فلا نحتاج في نفي الشك
والظن والاتهام إلى التمسك بذيل استعمال اللفظ الواحد في الأكثر من
معنى واحد، ولا إلى أن المراد منه الشك فغيره منفي بالأولوية القطعية،

1 - القاموس المحيط 1: 80، أقرب الموارد 1: 449.
2 - لسان العرب 5: 386، تاج العروس 1: 283.
3 - النهاية، ابن الأثير 2: 287، لسان العرب 1: 443.
348

بل المنفي كل ما كان خلاف اليقين والعلم. والله الهادي.
المسألة الخامسة
في معنى " هدى "
" الهدى "، قد مر ما يتعلق بمعناه عند قوله تعالى: * (إهدنا الصراط
المستقيم) *، والذي هو مورد النظر هنا، هو أن " الهدى " على وزن " فعل "
قليل في المصادر، وعن أبي علي: يجوز أن يكون " فعل " مصدر اختص به
المعتل (1)، وهو - حسب ما يتراءى - غير بعيد، لأن منه السرى والبكى.
وزعم بعض أكابر نحاتنا: أنه لم يجئ من " فعل " مصدرا سوى هذه
الثلاثة (2)، وهو في محل المنع. وقد حكي عن الشيخ اللغوي رضي
الدين الشاطبي: أن العرب قالت: لقيته لقى، وأنشد بعضهم:
وقد زعموا حلما لقاك ولم أزد... إلى آخره (3).
وفي " القاموس " وشرحه: أتقيه تقى كهدى (4).
وفعل يكون جمعا معدولا وغير معدول، ومفردا وعلما معدولا وغير
معدول، وغير ذلك، مثل جمع وغرف وعمر وادد ونفز وفسق وحطم.

1 - مجمع البيان 1: 35.
2 - البحر المحيط 1: 33، روح المعاني 1: 100.
3 - راجع البحر المحيط 1: 33، وروح المعاني 1: 100.
4 - القاموس المحيط 1731، تاج العروس 10: 396.
349

واختلفوا في تذكيره وتأنيثه، والأشبه هو الأول - وقال الفراء: إن بني
أسد يؤنثونه، يقولون: هذه هدى حسنة - وهو مختار اللحياني (1).
ويكفي ردا عليهم: أنها استعملها القرآن مذكرا في المواضع غير
العزيزة: * (قل إن هدى الله هو الهدى) * (2)، * (ذلك هدى الله يهدي به من
يشاء من عباده) * (3)، وفي كونه حالا للمذكر أو خبرا له أيضا شهادة على
تذكيره، فراجع. نعم يجوز لنا اختيار الوجهين فيه جمعا بين الشواهد،
فتأمل.
قال ابن سيده: الهدى اسم من أسماء النهار، لأن الناس يهتدون فيه
لمعايشهم وجمع مأربهم، ومنه قول ابن مقبل:
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة * يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا (4)
وقيل: هذا البيت ساقط في جميع الأصول والزيادة، من " اللسان " في
مادة " هدى "، ومن " البحر المحيط " لأبي حيان في المقام. والأمر واضح،
فإن إطلاق " الهدى " على النهار كإطلاقه على القرآن أو التوراة والإنجيل،
وكإطلاق النور عليها، ونظير إطلاقه على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعلى الإنسان
الكامل، فإنه لا يوجب كون اللفظ ذا معان كثيرة، وأما كونه حقيقة أو نوع
مجاز، ففيه خلاف مضى تفصيله في البحوث السابقة.

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 160، والبحر المحيط 1: 33، وروح المعاني 1:
100.
2 - البقرة (2): 120، الأنعام (6): 71.
3 - الأنعام (6): 88.
4 - البحر المحيط 1: 33، لسان العرب 15: 355، تاج العروس 10: 406.
350

المسألة السادسة
في معنى " المتقين "
" المتقين ": وقاه يقيه وقيا ووقاية وواقية - يائي: ستره من الأذى،
وحماه وحفظه وصانه، فهو واق، ومنه قوله تعالى: * (ما لهم من الله من
واق) * (1) وتوقى، توقيا، واتقاه اتقاء، حذره وخافه، وأصل اتقى اوتقى، قلبت
الواو تاء وأدغمت، فلما كثر استعماله على لفظ الانتقال، توهموا أن التاء من
نفس الحرف، فجعلوه اتقى يتقي بفتح التاء فيهما، ثم لم يجدوا له مثالا في
كلامهم يلحقونه به، فقالوا: تقى يتقي مثل قضى يقضي - تقى وتقية وتقاء،
والاسم التقوى، وتقول في الأمر: تق، وللمرأة تقي، كقوله:
تق الله فينا والكتاب الذي تتلو
بني الأمر على التخفيف، واستغني عن الألف فيه بحركة الحرف
الثاني في المستقبل، وقد قالوا: ما أتقاه لله، أي أخشاه، كقوله: ومن يتق فإن
الله معه، فإنما ادخل جزم على جزم، للضرورة، هكذا عن " الصحاح " في
" تاج العروس " مع زيادة في " الأقرب " (2).
وقال ابن بري - عند قوله: مثل قضى يقضي -: أدخل همزة الوصل
على " تقى " والتاء متحركة، لأن أصلها السكون، والمشهور تقى يتقي من

1 - الرعد (13): 34.
2 - الصحاح 4: 2526 - 2527، تاج العروس 10: 396، أقرب الموارد 2: 1479.
351

غير همزة وصل لتحرك التاء (1).
وقد أنكر أبو سعيد تقى يتقي تقيا، وقال: يلزم في الأمر اتق (2)، غافلا عما
التزموا به، كما عرفت من " الصحاح ".
قال عبد الله بن همام السلولي:
زيادتنا نعمان لا تنسينها * تق الله فينا والكتاب الذي تتلو (3)
وأنشد القالي:
تق الله فيه أم عمرو ونولي * مودته لا يطلبنك طالب (4)
وفي الشهادة إشكال، لجواز حذف همزة الأمر عند الضرورة.
وقال في " التهذيب ": اتقى كان في الأصل اوتقى، والتاء فيها تاء
الافتعال، فأدغمت الواو في التاء وشددت، فقيل: اتقى، ثم حذفوا الف
الوصل والواو التي انقلبت تاء، فقيل: تقى يتقي، بمعنى استقبل الشئ
وتوقاه (5). انتهى.
ويؤيد هذا المعنى ما تعارف في الحرب، ويقال - كما في الحديث -:
" كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " أي جعلناه وقاية من العدو،
واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه وقاية (6).

1 - راجع تاج العروس 10: 396.
2 - نفس المصدر.
3 - نفس المصدر.
4 - راجع تاج العروس 10: 396.
5 - نفس المصدر.
6 - نفس المصدر.
352

ومؤلف " التهذيب " ظن أنه هذب اللغة بالتفصيل المزبور غفلة عن
الحال جدا، ويأتي زيادة تحقيق حول كلمة " التقوى " في محله إن شاء الله
تعالى.
وعلى كل تقدير: المتقين جمع المتقي، وهو المفتعل، والموتقيين
باليائين المفتعلين، ومن الحذف والإدغام وسقوط إحدى اليائين صار
المتقي والمتقين، والمعنى حسب اللغة واضح.
وربما يتخيل له حقيقة شرعية وظهور ثان في الاتقاء عما حرم الله
واحتمل حرمته، وهو في غير محله.
والافتعال هنا: إما بمعنى الاتخاذ، أو بمجرد الفعل، فيكون كابتسم، وهو
من المعاني الاثني عشر التي جاءت لها افتعل: وهي الاتخاذ، والتسبب،
وفعل الفاعل بنفسه، والتحير، والخطفة، ومطاوعه افعل وفعل، وموافقه
تفاعل وتفعل واستفعل، والمجرد والإغناء عنه، ومثال الكل: أطبخ، واعتقل،
واضطرب، وانتخب واستلب، وانتصف مطاوع أنصف، واغتم مطاوع غممته،
واجتور وابتسم واعتصم واقتدر واستلم الحجر (1). انتهى ما أفاده أبو حيان.
ولنا فيه أنظار لا يسعها المقام، وإجماله: أن كثيرا من هذه المعاني
ترجع إلى معنى واحد، واختلاف الدواعي وخصوصيات موارد الاستعمال
لحقت بالموضوع له، فتوهموا أن الموضوع له كثير، وهو ممنوع جدا.
ومن العجب أنه لم يتعرض لافتعل المبالغة كاكتسب، ومن القوي
كون المتقين هنا للمبالغة.

1 - البحر المحيط 1: 34.
353

القراءة واختلافها
1 - عن الكشاف: قرأ عبد الله * (ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه) * (1).
2 - وعن سليم أبي الشعثاء، لا ريب - بالرفع والتنوين - وهو المحكي
عن قراءة زيد بن علي، فيكون اسما ل‍ " لا " التي عملت عمل " ليس " (2).
3 - وعن ابن كثير: فيهي هدى، بوصل الهاء بالياء في اللفظ (3).
وغير خفي: أن مثل ذلك لا يعد من اختلاف القراءات، لأنه يرجع إلى
كيفية إعمال التجويد في مقام تحسين القراءة، واختلاف آراء علماء
التجويد ليس من قبيل الاختلاف في هذه المسألة.
والعجب أن " مجمع البيان " توهم ذلك وأطنب كرارا في ذكرها وبيان
حججها، ولم يشر إلى سائر الاختلافات المحكية في القراءة، كما في هذه
الآية الشريفة (4).

1 - الكشاف 1: 33.
2 - الكشاف 1: 35، البحر المحيط 1: 36، روح المعاني 1: 100.
3 - مجمع البيان 1: 34، البحر المحيط 1: 33، روح المعاني 1: 100.
4 - مجمع البيان 1: 34.
354

وأيضا غير خفي: أن الاختلاف الأول مرمي بدعوى التحريف في
الكتاب الإلهي، وذلك لأن الاختلاف في المواد والكلمات ليس من
الاختلاف في القراءة التي هي ترجع إلى الهيئات أو المواد الراجعة
إلى الهيئة، مثلا: إذا قرأ: * (لا ريب فيه) * بالرفع فهو من الاختلاف في
الهيئة، ويكون داخلا في هذه المسألة أو إذا قرأ " يعلمون " بالتاء في مورد -
مثلا - فهو من الاختلاف في المادة الراجعة إلى الهيئة، فإن الياء والتاء
من هيئة يفعل للمضارع وهيئته، وأما تعويض " ذلك " بكلمة " تنزيل " فهو
من التحريف في الكلمة الذي لا يمكن المساعدة عليه، كما لا مساعدة
على اختلاف القراءة الراجع إلى التحريف في الحرف، كما إذا قرأ:
" هدى المتقين " بحذف اللام، فإنه عندنا ساقط جدا، ولا يعد من الاختلاف
في القراءة.
وأما وجه هذه الاختلافات وتركيب هذه الآية، فقد مضى شطر من
الكلام في ما يمكن أن يحوم حوله الأقلام، عند بيان إعراب فواتح السور،
وقد أنهينا الاحتمالات في إعراب هذه الآية - حسب الاحتمالات المذكورة
في معاني تلك الحروف - إلى الآلاف والملايين، فلا نعيدها في المقام
حذرا من الإطالة والإطناب، واتقاء من الخروج عن وضع الكتاب.
4 - والوقف على " فيه " هو المشهور (1)، وعليه يكون الكتاب نفسه هدى.
وعن نافع وعاصم الوقف على " لا ريب " (2) ولا ريب حينئذ في حذف

1 - راجع التفسير الكبير 2: 19، وروح المعاني 1: 100.
2 - التفسير الكبير 2: 19، روح المعاني 1: 100.
355

الخبر، وحيث حكي عن الزجاج جعل " لا ريب " بمعنى " حقا " (1)، فالوقف
عليه تام، أي ذلك الكتاب لا ريب، فيكون خبرا بعد خبر، أو يكون الكتاب
بيانا للمشار إليه، و " لا ريب " خبر، وكلمة " فيه " خبر مقدم، و " هدى
للمتقين " مبتدأ مؤخر.
ولست أدري ما ألجأهم إلى هذا الاعوجاج في فهم الكتاب الإلهي
وقراءته، ولعلهم كانوا يرون أن الكتاب ليس هدى، بل هو ما به الاهتداء
وفيه الهداية، وليس نفسه ذلك إلا مجازا، فالفرار من هذه البدائع
واللطائف أوقعهم فيما وقعوا فيه.
5 - قرأ الزهري وابن محيصن ومسلم بن جندب وعبيد بن عمير " فيه "
بضم الهاء، وكذلك " إليه " و " عليه " و " به " ونصله ونوله، وما أشبه ذلك، حيث
وقع على الأصل (2).
6 - قرأ ابن أبي إسحاق: " فيهو " بضم الهاء ووصلها بواو (3).
7 - وحكي إدغام الباء من " لا ريب " في فاء " فيه " عن أبي عمرو،
ولكن رواية اليزيدي عنه هو الإظهار (4).

1 - راجع روح المعاني 1: 100.
2 - راجع البحر المحيط 1: 37، وروح المعاني 1: 100.
3 - راجع البحر المحيط 1: 37.
4 - راجع البحر المحيط 1: 37.
356

المعاني والبلاغة
وفيها بحوث:
البحث الأول
وجه الإتيان بكلمة " ذلك "
قد اشتهر - كما تقرر - أن كلمة ذلك للبعيد وضعا، فيتوجه السؤال
عن وجه الإتيان بها مع أن المشار إليه حاضر.
والجواب من وجوه عديدة وطرق كثيرة لا بأس بالإشارة إليها:
1 - عن الأصم: أن الله - تبارك وتعالى - أنزل الكتاب بعضه بعد بعض،
فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وقوله: " ذلك " إشارة إليها، ولا بأس
بتسمية بعض القرآن قرآنا (1).
وفيه: أن إمكان التصحيح غير كون الكلام صحيحا بليغا، مشتملا على
الأسرار والنكات البلاغية، فالسؤال بعد باق، وتلك السور لابد وأن يشار
إليها بكلمة " تلك " فإنها للمؤنث، فتأمل، وإطلاق القرآن على بعض منه

1 - راجع التفسير الكبير 2: 12.
357

أجنبي عن هذه المسألة.
2 - أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه
الماحي، وهو (عليه السلام) أخبر أمته بذلك، وروت الأمة ذلك عنه، ويشير إليه
قوله: * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) *، وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت
في ابتداء المبعث (1).
وفيه - مضافا إلى ما عرفت - أنه لابد وأن ينزل عليه هكذا، ذلك
القول لا ريب فيه، كما هو غير خفي.
3 - أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وقد كان
بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى - على نبينا وآله وعليهم السلام -: أن
الله يرسل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وينزل عليه كتابا (2).
وفيه ما أشير إليه.
4 - أنه تعالى لما أخبر عن القرآن: بأنه في اللوح المحفوظ
بقوله: * (وإنه في أم الكتاب لدينا) *، فكان قد أخبر عنه ب‍ " ذلك " هنا (3).
وفيه ما عرفت، مع أن ما أخبر به تمام الكتاب، ولا معنى للإشارة
إليه ب‍ " ذلك "، للزوم كون المشير والمشار إليه واحدا.
5 - أن الإشارة ب‍ " ذلك " إلى * (ألم) *، ولأجل انقضائه فهو في حكم
المتباعد (4).

1 - التفسير الكبير 2: 12 - 13، روح المعاني 1: 98.
2 - التفسير الكبير 2: 13.
3 - نفس المصدر.
4 - راجع نفس المصدر.
358

وفيه: أن " ذلك " للغائب سواء كان بعيدا أو قريبا، هذا مع عدم انحلال
الإعضال والإشكال للإشارة بذلك إلى ما فيه كل الريب حسب أفهام عموم
الناس، فتدبر.
6 - أن القرآن لما اشتمل على حكم كثيرة وعلوم عظيمة يتعسر
الاطلاع عليها بأسرها، فهو وإن كان حاضرا بصورته، ولكنه غائب عن
الصور البشرية بسيرته وأسراره، فجاز أن يشار إليه ب‍ " ذلك " (1).
وإن شئت قلت: إن الإنسان حين الانسلاخ من هذا البنيان، يشاهد أو
يتحقق بمراتب العالم التي هي بوجه حقائق القرآن، وبوجه مراتب
الإنسان، ويظهر من تلك الحقائق بحكم اتباع الداني للعالي، واقتضائه من
حظوظ العالي، وإفاضة العالي على الداني صورا مناسبة لتلك الحقائق،
كما عرفت في معاني الفواتح، فيسهل عليك معرفة أن قوله تعالى: * (ذلك
الكتاب) * إشارة إليها، ولمكان تعظيم تلك الحقائق، وبعدها غاية البعد عن
إدراك الأبصار والبصائر، أتى باسم الإشارة للبعيد، بل هذا الاسم من لوازم
ذلك البعد المعنوي في النشأة الظاهرة.
والذي هو الحق: أن هناك ادعاء لإفادة الغيبوبة والبعد بإتيان ألفاظها،
وذلك الادعاء هو أن الكتاب الذي هو بحقيقته مورد الإشارة لا بلفظه،
ضرورة أن لفظه حاضر، وهكذا في جميع مواضع استعمال تلك الألفاظ، فإذا
قيل: ذلك الرجل جاءني، فلا يكون اللفظ غائبا، بل المعنى غائب وبعيد،
وما هو مورد الإشارة هو معنى الرجل، فما هو مورد الإشارة والإيماء هو معنى

1 - نفس المصدر.
359

الكتاب وهو غائب، ولا يكون قابلا للإشارة إليه بألفاظها الموضوعة
للإشارة إلى الحاضر، وهذا ليس إلا مجرد دعوى، وإلا فلا غائب عن
محضره الربوبي، فإن العالم بقضه وقضيضه أشد حضورا لديه من
حضوره عند نفسه، كما تقرر في العلوم العالية، فجميع الألفاظ المستعملة
في الغائب والبعيد، يكون مشتملا على نوع مجاز ادعاء، لأن مناط الحضور
والغيبة حال التكلم، لا المخاطب والمستمع.
نعم لابد من مصحح هذه الدعوى كما في سائر الموارد، وما هو
المصحح ليس إلا إفادة أن تلك الحقيقة بعيدة عن الأنظار، غائبة عن
النفوس البشرية، وبهذا ترفع شبهة اتحاد المشير والمشار إليه إذا كان
المشار إليه القرآن، كما ورد في المحكي عن الإمام (عليه السلام) أنه قال: " هو
القرآن الذي افتتح ب‍ " ألم " هو ذلك الكتاب الذي أخبر به موسى ومن بعده من
الأنبياء (عليهم السلام)، وهم أخبروا بني إسرائيل: أني سأنزله عليك يا محمد... " (1) إلى
آخره. وهذا الخبر يشير إلى أن " ذلك الكتاب " خبر ل‍ " ألم ".
وغير خفي: أن لتلك الحقيقة مراتب، مرتبة منها ذاته الأزلية
السرمدية، ومرتبة منها العترة الطاهرة التي لا تفارقه حتى يردا
عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحوض، فاختبر.

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 62 / 32، ومعاني الأخبار: 24 - 25 / 4.
360

البحث الثاني
وجه تعريف " الكتاب "
لا يبعد حسب بعض الأنظار كون الكتاب خبرا ومسندا في هذه الآية
الشريفة، وعلى هذا يتوجه السؤال عن وجه تعريف المسند وظهوره في
الحصر، حسب ما اعترف به أرباب الفن (1)، وإن كان يحتمل كونه تأكيدا في
مفاد الجملة.
وبالجملة: على التقدير المزبور فلابد هنا من أحد أمرين: إما دعوى
أن سائر الكتب ليست حقيقة كتابا، لزواله واضمحلاله وفنائه بمرور
الدهور ومضي الأيام والعصور، وما هو الثابت والمحرر الباقي هو هذا
الكتاب دون غيره، وأما أن تلك الحقائق حقيقة الكتاب الذي كتبه
الرحمن بالأقلام الإلهية على الألواح السماوية أو الأرضية، وسائر
الكتب المدونة الإلهية وغير الإلهية صور شؤون ذلك الكتاب، ومرتبة
نازلة منه، لكن الكتب الحقة بأنواعها صور شؤون تلك الحقائق التي
تتراءى في المرائي المستقيمة الصافية، والكتب غير الحقة بأنواعها
وفنونها وشؤونها المترائية في المرايا المعوجة الكدرة التي لا ترى
الصور فيها إلا على خلاف ما هي عليه (2).

1 - راجع تفسير بيان السعادة 1: 45.
2 - راجع الكشاف 1: 33.
361

ويمكن دعوى: أن وجه حصر الكتاب بهذا الكتاب ما في نفس
الكتاب، وهو كونه بلا ريب بنحو الحقيقة والواقعية، أو لأجل بيان
الشرافة والعظمة، فكأنه يرى أن ما فيه الريب والشك والاتهام والظن
ليس من الكتاب، فعند ذلك ادعى انحصار الكتاب بهذا الكتاب، النازل من
تلك الحقائق الراجعة إلى الحقيقة الواحدة الواجبية.
وبناء على هذا يكون جملة * (لا ريب فيه) * بمنزلة العلة للجملة
الأولى، ولم يذكر في جملة الاحتمالات السابقة هذا الاحتمال وبعض آخر أيضا،
إذا أضيف إليها يصير الاحتمالات في كيفيته إعراب الآية الشريفة أكثر.
تذنيب
من كان من المتدبرين وأهل العلم، يجد أن اختلاف القوم في المراد
من الكتاب ناشئ عن عدم عثورهم على وجه الإتيان ب‍ " ذلك " مع أنه
للبعيد، وتشتتوا في هذه المسألة غاية التشتت ونهاية الاختلاف، فقالوا:
المشار إليه ما نزل بمكة من القرآن، قاله ابن كيسان وغيره، أو التوراة
والإنجيل، قاله عكرمة، أو ما في اللوح المحفوظ، قاله ابن حبيب، أو ما
وعد به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنه ينزل إليه كتابا لا يمحوه الماء، ولا يخلق على
كثرة الرد، قاله ابن عباس، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق، قاله
عطاء بن السائب، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل، قاله ابن
رئاب، أو الذي لم ينزل من القرآن، أو الحروف المقطعة (1).

1 - انظر حول هذه الاختلافات إلى البحر المحيط 1: 36.
362

وقال أبو حيان: سمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم شيخنا يقول: " ذلك "
إشارة إلى " الصراط " في قوله: * (إهدنا الصراط المستقيم) *، كأنهم لما
سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم، قيل لهم: ذلك الصراط الذي
سألتم الهداية إليه هو الكتاب، وبهذا البيان يتبين وجه الارتباط بين
سورتي البقرة والفاتحة. وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شئ سبق
ذكره (1). انتهى.
وأنت قد اطلعت على أن الغياب والبعد لا معنى لهما حقيقة في
ناحيته الإلهية، وفي حضرته الربوبية، ولا يعقل القرب والبعد ولا
الغيبة والحضور على نعت التقابل بين الأشياء بالنسبة إلى ذلك المقام
الشامخ، فلابد من كونه من الادعاء كما سبق، ولو كان ما أفاده أخيرا صحيحا
لكان المشار إليه تلك الحروف، لما سبق ذكره.
إن قلت: لا نسلم كون المناط في استعمال ألفاظ القريب والبعيد، من
حروف الإشارة إلى المتكلم وصاحب الكلام، بل المناط يمكن أن يكون
حال المرسل إليه والمرسل له، فإذا يمكن أن يكون ذلك في الاستعمال
القرآني حقيقة لغوية، وإذا أمكن ذلك، فلاتصل النوبة إلى الحقيقة
الادعائية والمجاز.
قلت: نعم يصح ذلك بالنسبة إلى المتكلم، الذي يمكن أن يعتبر له
الغيبة والحضور بالنسبة إلى الأشياء، بمجرد انعطاف النظر والتوجه
إلى الغير، كما يصح أن يشير أحد إلى مخاطبه بكلمة ذلك عند عطف

1 - البحر المحيط 1: 36.
363

التوجه عن المشار إليه والالتفات إلى المخاطب، وأما بالنسبة إليه
تعالى وتقدس فلا يعقل ذلك، فلابد من كون جميع أمثال هذه الألفاظ على نعت
الادعاء والحقيقة الثانوية، فتبصر تعرف.
البحث الثالث
حول إطلاق " الريب "
قضية ما تحرر في الأصول وفي علم البلاغة: أن كلمة لا النافية
الداخلة على الألفاظ الموضوعة للأجناس، تفيد العموم، والمراد منه
أن المنفي هو الجنس، وبانتفائه ينتفي جميع مصاديقه ومراتبه المتصورة
والممكنة، وإلا فلا عموم اصطلاحي في قوله تعالى: * (ذلك الكتاب لا ريب
فيه) * نعم قضية الإطلاق - بعد كون المتكلم في مقام إفادة نفي الريب كلا -
هو أن جميع مراحل الريب في جميع النشآت، عن جميع مراتب الكتاب
ومعانيه منتفية، وحيث قد عرفت أن الريب ضد اليقين، فكل شئ يعد
خلافه، فهو منفي بالنسبة إلى الكتاب الإلهي، ظنا كان أو وهما أو شكا
وتخيلا، بل الظنون الخاصة أيضا منتفية، لأنها خلاف اليقين والعلم.
ثم إنه يثبت العموم من جهة أخرى وهو: أن قضية حذف المتعلق
أن المنفي هو الريب في أية جهة كانت، فلا ريب فيه من أنه إعجاز،
ولا ريب فيه من أنه من عند الله، ولا ريب فيه من أنه محفوظ، ولا ريب فيه
من صحته، وغير ذلك مما يمكن توجيه الارتياب إليه من النواحي
364

المختلفة والجهات المتنوعة، فكل كمال يمكن إثباته للكتاب ويعد
كمال الكتاب، فهو ثابت له، لنفي الريب بنحو الإطلاق عن ذلك الكتاب
بلا ارتياب، فهو شفاء بلا ريب، وهداية بلا ريب، وبلاغ وبشير ونذير وفرقان
وقرآن وبصائر وروح وفصل بلا ريب ولا ارتياب، وهي النعمة والبرهان
والنور والدين القيم والحق والعزيز والكريم والعظيم، بلا مرية ولا
شك وبلا ظن ولا تهمة، وغير ذلك من الأوصاف المذكورة في الكتاب
الإلهي لهذا السفر القيم، من التنزيل، والذكر، والحكم، والحكمة،
والحكيم، والمحكم، والحبل، والصراط المستقيم، والبيان، والتبيان،
والمبين، والنجوم، والمثاني، والهادي... وهكذا.
ثم إن العموم المذكور لا يثبت على قراءة الرفع، لأجل أن قولنا:
ليس رجل في الدار، لا ينافي قولنا: ولكن رجلان فيها، وذلك لظهور التنوين
في التنكير، فيدل على الوحدة.
ودعوى: أن التنوين على أقسام ربما تبلغ إلى عشرة ولو كانت
مسموعة، ولكن الظهور التصديقي والتبادر العرفي منه، هو إفادة أمر زائد
على الطبيعة، وتصير نكرة بذلك.
وتوهم: أن لا النافية للجنس تتكرر، في محله، ولكنه أمر غالبي،
ولا برهان عليه، فالمتعين أنه اللا النافية للجنس، وليست مشبهة
ب‍ " ليس ". نعم ربما يقال: إنها جملة خبرية صدرت في مقام الإنشاء، ككثير
من الجمل الخبرية، مثلا: إذا قيل: * (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في
الحج) *، فهو في مقام النهي عن هذه الأمور، وليست للنفي حسب الإرادة
365

الجدية (1).
وفيما نحن فيه - بعد وجود الارتيابات المختلفة من الأبناء والأمم
الكثيرة في هذا الكتاب أصلا وفرعا - تكون الجملة ناهية بحسب الجد،
ويصير مفادها: أن هذا الكتاب لا يجوز أن يرتاب فيه، أو ذلك الكتاب
لا يرتاب فيه تعبدا وادعاء لا واقعا. وهذه الدعوى غير مقبولة بعد وجود تلك
الارتيابات الكثيرة من نواح شتى، لأن الدعوى تصح بالمصححات
العقلائية، فإذا قيل: أسد علي، فهو في مورد يتجلى منه آثار الشهامة
والشجاعة، ولا يجوز في موقف خلافها، بل ولا في مورد ضعفها ونقصانها،
فينحصر بكون الجملة إخبارية استعمالا، وإنشائية حسب الجد والواقع،
لا حقيقة ولا ادعائية.
وإلى هذا يرجع ما عن بعض الملاحدة: بأنه إن عنى أنه لاشك فيه
عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لاشك فيه عنده، فلا فائدة فيه (2).
أقول: هنا أمر آخر قد غفل عنه الأصحاب، وهو أن من كان - بحسب
نفس الأمر والواقع - عالما بعدم الهرج والمرج في منطقة من مناطق
العالم، وكان الناس - لعدم اطلاعهم على الواقع ولجهلهم به جهلا مركبا -
معتقدين بذلك فيها، فيرون فيه تمام الاختلال والهرج والمرج، فهل يجوز
أن يخبر العالم بانتفاء ذلك فيها بخلاف ما كان يعلم، أم عليه الإخبار والإنباء

1 - راجع مجمع البيان 1: 36، وتفسير البيان 1: 53، والجامع لأحكام القرآن 1: 159،
وروح المعاني 1: 100.
2 - التفسير الكبير 2: 19.
366

بما يراه ويعلم؟ لا كلام ولا شبهة في تعين الأمر الثاني حسب الفطرة
والعقل، فعلى هذا تنحل المعضلة، وتصير النتيجة: لزوم الإخبار بأنه
لا ريب فيه، لما يرى أنه لا يشتمل على أدنى مرية، فيكون الظهور الثابت
باقيا على حاله، ويتعين الأخذ به.
وتوهم: أن الظهور في الجملة الإخبارية ممنوع، فاسد جدا، ولا سيما
بعد الإخبار بأنه هدى للمتقين، كما لا يخفى، ولو قلنا بأن كلمة " لا ريب "
خبر، وتكون القضية موجبة معدولة لا سالبة محصلة، فيكون أوقع في
نفي الريب، لظهور الآية في الحمل الأولي، ويصير مفهوم الكتاب ومفهوم
اللاريب واحدا، فافهم واغتنم.
البحث الرابع
حول اتصاف الكتاب بالهدى
مقتضى ما تحرر في بحث القراءة: أن الآية ظاهرة في أن الكتاب
نفسه الهدى ضد الضلالة، لا أنه فيه الهدى، ومن هذا الحمل المواطاة
يستفاد أن المقصود إفادة الاتحاد: إما بنحو الحقيقة الأولية، أو الحقيقة
الثانوية المعبر عنها بالمجاز والادعاء، وحيث لا سبيل إلى الأول يتعين
الثاني، وقد مر أن الدعوى لا تصح إلا بالمصححات العقلائية، ولكنها هنا
واضحة، أو يكفي لذلك كون المتكلم في مقام إفادة المبالغة، وأن الاهتداء
بهذا الكتاب يبلغ إلى حد يصح أن يقال: هذا الكتاب هو الهدى. وهذا من
367

أحسن موارد البلاغة في المبالغة، وقد تعارف بين كلمات البلغاء أمثاله.
وربما يتخيل: أن الأقرب أن يقرأ: * (فيه هدى) *، ويكون خبر " لا "
محذوفا، لأن في دوران الأمر بين الحذف في الكلمة والمجاز في الإسناد
يكون الثاني أغرب.
وأنت خبير: بما فيه من الانحراف عن جادة الاعتدال، ولا سيما في مثل
هذا الكتاب المشحون بالاستعارات والمجازات.
وإن شئت قلت: إنه الهدى حقيقة لا مجازا، وذلك لأن هداية الإنسان
بعد التصفية الكاملة والتحقق بحقيقة التقوى، تكون بالمعارف والعلوم
المخزونة في نفسه وبالكلمات الإلهية والكتب السماوية، وحيث إن
الكتاب الإلهي والكلام الرباني، واحد بحسب الحقيقة ومختلف بحسب
الاعتبار، كما ربما نشير إليه في بعض البحوث الآتية، فما من القرآن في
النفس الإنسانية هو الهدى، لأنه به المهتدى.
وبعبارة أخرى: الهداية حقيقة اهتداء البشر نحو الخير، واهتداؤه
لا يتحقق إلا بتحقق ما به الاهتداء في النفوس البشرية، فما هو المهتدي
هو الإنسان، وما هو الهدى هو الضياء والنور الحاصل له، ولأجل ذاك
وذلك يقال: القرآن نور وضياء، لأن المتنور والمستضئ لا يتحقق استنارته
إلا بالقرآن، فيكون القرآن نورا حقيقة، وهداية وضياء واقعا، فما ترى في
كتب التفسير هنا وفي سائر المباحث، كله ناشئ من قله الباع وعدم
الاطلاع على مغزى المرام واس المطالب. والله الهادي.
368

البحث الخامس
حول كون الهداية للمتقين
لا شبهة عند أهله في إفادة الجمع المحلى بالألف واللام للعموم
الاستغراقي، فهو هداية لعموم المتقين.
ولو استشكلنا في هذه المسألة، كما قررناه في الأصول، وذكرنا هناك
احتياج العمومات في الإفادة المزبورة إلى مقدمات الإطلاق (1)، ولكنه هنا
يثبت العموم لتمامية تلك المقدمات، فلا تختص الهداية بطائفة من
المتقين. هذا مما لا كلام حوله.
وهكذا قد فرغنا عن مسألة الهداية المتعدية بنفسها أو
المتعدية باللام وغيره، وتعرضنا لحدود المسألة، وذكرنا أن الهداية
في جميع أقسامها وأنواعها بمعنى واحد (2) وإذا قيل: هو هدى للمتقين، فتلك
المعاني بمجموعها مورد الإرادة والنظر ولا يختص ببعض دون بعض، فهذا
الكتاب يهدي إلى المطلوب بالإراءة والإعلام، ويهدي إليه بالإيصال
حقيقة وواقعا.
نعم هنا سؤال عن وجه كونه هداية للمتقين، مع أنه هدى
الضالين والمضلين.

1 - تحريرات في الأصول 5: 197.
2 - راجع الفاتحة: الآية 6، اللغة والصرف، المسألة الأولى.
369

وبعبارة وضحى وكلمة أخرى: لا معنى لذلك إلا أن يراد منه أنه
الهدى بعد الاهتداء، فيكون هناك مراتب، وهذا الكتاب بعد الاهتداء،
والخروج من ظلمات الكفر والإلحاد والجهل والنفاق، يهدي إلى
المراتب العالية.
أقول: أولا: إن الالتزام بذلك مما لا بأس به، ضرورة أن القرآن يشتمل
على جميع أسباب الهداية، وقد أعلن ذلك في مواقف مختلفة.
ففي مورد يقول: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضل به إلا
الفاسقين) * (1)، وهذا ربما يكون أول مرتبة الهداية، وهي الإخراج من
الظلمات وسجون الطبيعة المظلمة إلى النور.
وفي مورد آخر يقول: * (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به
الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور) * (2)،
وهذه هي أقصى مراتب الهداية، ومن المراتب العالية التي تتحير فيها
العقول، وترتعد عندها القلوب والأرواح، وما بينهما المتوسطات.
وثانيا: إن في قوله تعالى هنا وفي غير هذه الآية ترغيبا وتحريضا على
التقوى، ودعوة إلى الاجتناب عن المحرمات والمشتبهات مثلا، وذلك لأن
يتوجه الناس إلى أن هذا القرآن يهدي من هو أهلها، وتكون بينه وبين
الكتاب سنخية ومشاكلة، ومن يريد أن يهتدي بهداه فليتق الله، فهو - مضافا
إلى دلالته على هدايته من أول درجاتها إلى آخرها - تدل على أن التقوى

1 - البقرة (2): 26.
2 - المائدة (5): 15 - 16.
370

والاتقاء لازم ومطلوب.
وإن شئت قلت: إن القرآن يهدي على نعت القضية الطبيعية، أي
طبعه على الهداية، وهو غير كاف، بل لابد من العزم والإرادة والبناء
العملي والقلبي على الاهتداء بأنواره وأشعته.
إن قلت: كيف يصح أن يقال: إن ذلك الكتاب هدى، ولا يهتدي به
أكثر الناس، ويعانده الملل المختلفة في الأدوار المتعاقبة وفي
الأعصار والأمصار؟
قلت: أولا: هذه الشبهة تتوجه على الوجه الأول، وهو كونه هدى
على نعت الادعاء والمجاز، وأما على القول بأنه مبالغة تقتضيه البلاغة،
أو واقعية كشف عنها الكتاب، كما حررناه، فلا شبهة ولا مرية.
وثانيا: لا يتقوم صحة الدعوى وحسن الادعاء باتفاق الناس أو
الأكثرية، بل تصح حسب المحيط والمنطقة الدعاوى الكثيرة، وهي
لا تصح حسب المحيط الآخر، وإذا كان بين الناس أمة يعتقدون بذلك،
ويرون أنه كتاب الهداية على نعت الاقتضاء، فيكون هذا الادعاء صحيحا
جدا، فكيف وقد اهتدى به الملة التي تبلغ اليوم - وهو الثالث من صفر
المظفر عام (1391 ه‍) - إلى ما بين سبعمائة مليون وثمانمائة، وهو ثلث
البشر في الحال تقريبا.
فإلى هنا - مضافا إلى ما تبين أخيرا من الإشكال وجوابه - تبين: أن
ما ارتكز لدى المفسرين من أن المتقين في هذه الآية هم الذين سمت
نفوسهم، فأصابت ضرما من الهداية واستعدادا لتلقي نور الحق، والسعي
في مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم، ويبلغ إليه اجتهادهم، غير
371

موافق للتحقيق.
بل كونه هداية للمتقين لا ينافي دلالته على هدايته الأولية، لأن في
تعليق الحكم على الوصف إشعارا بالترغيب في الاكتساء به، وإغراء
بالتلبس بلباس التقوى، فيكون هداية بالنسبة إلى غير المتقين أيضا.
هذا، مع أن التقوى والاتقاء، لا حقيقة شرعية له حسب ما تبين في
البحوث السابقة، فيكون الكافر والفاسق والمؤمن مشتركين في وصف
الاتقاء، فمن اتقى عبادة الأصنام - وإن لم يكن مؤمنا - فهو من المتقين،
وهكذا سائر الطبقات.
وما ورد من طرقنا: بأن المتقين هم شيعة علي (عليه السلام)، كما عن " إكمال
الدين " مسندا عن الصادق (عليه السلام) (1)، ومن طرق العامة: بأنهم المؤمنون (2)،
فهو لا يفيد الحصر، كما تحرر وتقرر، بل الأخبار والأحاديث تتكفل بيان
المصاديق الخاصة، ولا تتكفل إفادة حدود المراد من الكتاب. والله
العالم بالصواب.
ومن هنا يظهر ضعف ما قيل: بأن المتقين هنا مقابل الكفار والمنافقين
في الآيات الآتية، التي هي تسع عشرة آية: متكفلة لحالات المتقين
ثلاث آيات، ولحال الكافرين ثلاث، ولحال المنافقين ثلاث عشرة آية،
وذلك بدعوى أن هذه الآيات الثلاث تشتمل على أن المؤمن والمتقي يكون
متصفا بخمس صفات: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، والإيمان بما

1 - راجع كمال الدين 2: 340 / 20.
2 - راجع الدر المنثور 1: 24.
372

أنزله الله، والإيقان بالآخرة، ويكون هؤلاء على هدى من ربهم، فدل هؤلاء
على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة وبهداية منه تعالى، حيث يقول:
* (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * ثم وصف الكتاب
بأنه هدى بهداية المتقين بقوله: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى
للمتقين) *، فيعلم من ذلك أن المتقين محفوفون بهدايتين، والهداية الثانية
مرادة من قوله تعالى: * (هدى للمتقين) *، كما أن الآيات الآتية تفيد: أن
الكفار والمنافقين بين الضلالين والعمايتين، حيث يقول: * (ختم الله على
قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) *، ويقول: * (في قلوبهم مرض
فزادهم الله مرضا) * (1).
أقول: والإنصاف: أنه خلاف التحقيق، كما عرفت منا، فإن توضيح
أوصاف المتقين بإقامة الصلاة والإيقان بالآخرة لا ينافي كون الآية ترغيبا
في رفض الكفر والنفاق، والاندراج في سلك المتقين، وتوضيح الكتاب
أوصاف المتقين لا يضر بالاستخراج المذكور. وهذا نظير ما إذا قيل: هذه
الدناير للعلماء، فإن في ذلك تحريكا إلى كسب العلم والاندراج في
مسلكهم بنحو أبلغ وأحسن.

1 - راجع تفسير الميزان 1: 43 - 44.
373

الحكمة والفلسفة
البحث الأول
المراد من الكتاب
إن الكتاب الذي لا ريب فيه هو التأليف الإلهي والكتاب الرباني،
لا مطلق الكتاب، بل ولا الكتاب الإلهي في جميع مراحله، بل المرحلة
الغائبة المشار إليها بذلك، فلا يشمل المرتبة المادية التي من عالم
الخلق، وحيث ينتهي البحث هنا إلى كيفية انتساب هذا الكتاب إلى الله
تعالى، وأنه كيف يكون كتابه؟ وإلى البحث عن الفرق والفروق بين
الكتاب والكلام، فالأولى إيكال الأمر إلى سورة الجاثية عند قوله تعالى:
* (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) * (1) ونرجو منه تعالى أن يوفقنا للبسط حول
ذلك في تلك السورة إن شاء الله تعالى.

1 - الجاثية (45): 29.
374

البحث الثاني
حول كون القرآن وحيا أو نازلا
ربما تشعر هذه الآية الشريفة بمسألة عقلية: وهي أن الإنسان
والنبي الأعظم الإلهي، بعد الاتصال بالغيب في الأسفار المعنوية، وبعد
العود من السفر الثالث والتحقق بالسفر الرابع - حسب ما تقرر في سورة
الفاتحة كيفية تلك الأسفار (1) - يكون القرآن بحسب الحقيقة والرقيقة
نازلا عليه بتوسط الأمين الإلهي، وحيث هو (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك اللحظة
والحالة، تختلف نسبته إلى الأشياء حضورا وغيابا، يصح أن يترنم بقوله:
* (ذلك الكتاب) * بنحو الغيبة، إذ لا يعقل الغيبة والحضور بالنسبة إلى
الحضرة الربوبية، ولكنه بالنسبة إليه في تلك النشأة الملكوتية
ممكنة، فتلك الألفاظ والتراكيب المسماة بالكتاب والقرآن نازلة تلك
الحقائق ومتحددة ومحدودة بتلك التراكيب بتوسط الحقيقة الأحمدية في
مرتبة من مراتب بشريته. فيكون ما اشتهر من أن هذه التراكيب وحي وإيحاء
في غير محله، بل ما هو الوحي أمر، وما هو نازل هذا الوحي في أفق الإنسان
والإمكان أمر آخر، والله الواقف على أسرار آياته.
وبالجملة: من استعمال أمثال هذه الكلمات، يمكن - بنحو الكلي -
استكشاف هذه المسألة العويصة العلمية، والله الهادي إلى الصواب.

1 - راجع الفاتحة: الآية 6 و 7، علم الأسماء والعرفان.
375

البحث الثالث
حول كون الكتاب هو الهدى
ربما يشعر حمل الهدى على الكتاب ودعوى أن الكتاب هو الهدى
بأن هداية كل شئ بالكتاب، وهداية الكتاب بنفس ذاته، وأن عنوان
الهداية ينتزع من الكتاب، ويكون خارج المحمول له، لا المحمول
بالضميمة، ويكون بينهما التساوق لا الترادف، فكما يصح حمل الوجود
على الوحدة، والنور على الكتاب، كذلك يصح حمل الهداية، لأنها هو
حقيقة وإن اختلفا مفهوما وعنوانا، وهذا لأجل أن كل ما بالعرض لابد وأن
ينتهي إلى ما بالذات، وإلا لتسلسل، فما هو به هداية الأشياء هو الكتاب،
ولكن الكتاب هداية بنفس ذاته، فيصح الحمل الهوهو، حسب ما
اصطلحوا عليه في الكتب العقلية.
ومن هنا يتجه أن يقال: إن ما هو الهداية بالذات لو كان نفس هذه
الخطوط والنقوش - المسطورة على صفحات من القراطيس - لما كان
الحمل المزبور في محله إلا عند طائفة خاصة، كما أشرنا إليه في
البحوث السابقة.
فما هو الكتاب الذي هو نفس الهداية، ويصح نفي الريب المطلق
عنه، لابد وأن يكون طورا آخر من الكتاب، وكثيرا ما يستكشف خصوصية
الموضوع من الأحكام الخاصة المترتبة عليه، فما هو مورد نفي الريب
376

على الإطلاق، ومورد حمل الهداية عليه أمر آخر وراء هذه المكتوبات
المسطورة والمرسومات بالأقلام.
وإلى ذلك الأمر يشير بعض رواياتنا، مثل ما في تفسير القمي بإسناده
عن جابر، عن الباقر (عليه السلام)، قلت: " قوله تعالى: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه) *؟
قال: الكتاب أمير المؤمنين - صلوات الله وسلامه عليه - لاشك فيه أنه
إمام "، وعنه مسندا عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام): " الكتاب علي لاشك فيه
هدى للمتقين... " (1) الحديث.
انظر كيف يجمع بين هذا وبين ما ورد عن أهل البيت في قوله تعالى:
* (إن علينا للهدى) * هو أنه كان " إن عليا للهدى " (2)، وعن " الكنز " مسندا عن
جابر، عن الصادق في حديث: " وأما قوله: * (إن علينا للهدى) * (3) يعني إن
عليا هو الهدى " (4).
وإن شئت قلت: إن علينا للهدى، بإضافة " علي " إلى الضمير، كما في
قولك: مررت بأحمدكم، وكونه صلوات الله تعالى عليه الكتاب، نظير كون
عيسى - على نبينا وآله وعليه السلام - كلمة الله، كما صرح به الكتاب
في سورة النساء (5).

1 - راجع تفسير القمي 1: 30.
2 - راجع تفسير فرات الكوفي: 214.
3 - الليل (92): 12.
4 - بحار الأنوار 24: 398 / 120، وقد نقل عن " كنز " وهو رمز لتأويل الآيات الظاهرة
أيضا: 781.
5 - النساء (4): 171.
377

إذا تبين لك هذا الأمر، وتبين من قبل أن المراد من المتقين هو العموم
الأفرادي الاستغراقي، وأن التقوى لا تختص بطائفة دون طائفة، فإن
المجردات الأمرية أيضا من المتقين، وهم أهل التقوى من أن ينظروا إلى
أنانيتهم ووجودهم مقابل الوجود الحقيقي، فهم منزهون ومتقون عن الظهور
والتجلي زائدا على تجلياته تعالى.
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
فيجتنبون عن مثل هذا الذنب العظيم، ويتقون ويهتدون بهداية الله،
الذي هو في القوس الصعودي علي (عليه السلام) والإنسان الكامل، الذي هو
باطن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فمن هذه الآية يستفاد لزوم كون الإنسان الكامل في القوس
الصعودي وفي الحركة المعنوية، بالغا إلى مبدأ القوس النزولي حتى
تتم دائرة الوجود، ولا يلزم التكرار في التجلي على حسب ما تقرر في
محله من: أن الموجودات المتحركة بالحركات الذاتية لا تنتهي حركتها
إلا بعد الوصول إلى عز القدس، وإلى التلبس باكتساء اللباس الوجوبي
الباقي ببقائه تعالى (1).
وبالجملة: تحصل أن الآية الشريفة وإن كانت - حسب الآيات الأخر
- ناظرة إلى المتقين في هذه النشأة، ولكن بحسب النظر الدقيق ربما
ينتهي معناها إلى ما أفدناه، مع أن مفاد الآيات الأخر لا يقصر عن شمول
الموجودات الأمرية، ولو كان يفسر القرآن بعضه بعضا، فيكون المتقون

1 - راجع الأسفار 2: 267 - 285 و 7: 148 - 168 و 9: 243 - 273.
378

هم المؤمنون بالغيب... إلى آخر الآيات، ولكن عموم الآية الأولى لا يفسر
بها، كما لا يخفى.
إن قلت: ليس التقوى إلا الاجتناب عما حرم الله تعالى أو يعد مورد
الشبهة، وهذا هو المقصود منه في الشرائع.
قلت: كلا، فإن التقوى: تارة تنسب إليه تعالى، ويقال: * (هو أهل
التقوى وأهل المغفرة) *، فيكون المراد منه أنه يليق بأن يتقى منه دون
غيره، وله تفسير آخر ربما يأتي - إن شاء الله تعالى - في محله.
وأخرى تنسب إلى الخلق من الله تعالى أو من سخطه بالنسبة إلى
المحرمات والمشتبهات، فالمراد منه التحفظ عما ينافي أو يضر بحصول
الكمالات أو بالكمالات الحاصلة الإنسانية، ولها عند هذا الإطلاق مراتب
عديدة، بعضها قبل الإسلام، وبعضها بعد الإسلام وقبل الإيمان، وبعضها بعد
الإيمان بمراتبها المنتهية إلى الفناء التام الذاتي.
فأولى مراتبها: الانزجار عن مساوئ النفس ودواعيها النافية
للعاقلة، وهي مقام الاستغفار.
وثانيتها: الانصراف عنها وطلب الخلاص منها بالفرار، وهي مقام التوبة.
وثالثتها: الرجوع إلى الهداية الحقيقية والإنسان الكامل الذي
هو خليفة الله تعالى، وهي مقام الإنابة.
وهذه الثلاثة مقدمة على الإسلام، ولعل إليها يشير الكتاب العزيز
بقوله: * (يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * (1)، ويقول في موضع آخر:

1 - هود (11): 52.
379

* (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) * (1).
فإذا أسلم الإنسان على يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو خليفته، وقبل منه
أحكامه القالبية من أوامره ونواهيه، حصل له مرتبة رابعة من التقوى،
التي هي التحفظ عن مخالفة قوله بامتثال أوامره ونواهيه.
والخامسة: الانزجار عن الوقوف على ظواهر الشرائع بطلب البواطن
وروحها، وطلب من يدله على تلك البواطن، وهاتان بعد الإسلام وقبل الإيمان.
وهذه التقوى هي تقوى العوام، وتنقسم باعتبار إلى تقوى العوام من
الحرام، وتقوى الخواص من الشبهات، وتقوى الأخصين من المباحات.
وإذا وجد الطالب من يدله على روح الأعمال، وتاب على يده توبة
خاصة، وآمن بالبيعة الخاصة الولوية، واستبصر بباطنه من الرذائل
والخصال، حصل له المرتبة الأخرى من التقوى، وهي التحفظ من
الرذائل باستكمال الخصال، وإذا تطهر قلبه من الرذائل وتحلى بحلية
الفضائل، فربما تجلى له الشيطان، فيرى أن تلك الأفعال والأعمال
المنتهية إلى هذه الفضائل والخصال، حصلت من نفسه لنفسه وتكون
هي حاصلة من قبل جده واجتهاده.
وعند ذلك فلابد من المرتبة الأخرى من التقوى، وهي التحفظ من
الشرك الأفعالي والصفاتي، إلى أن تنتهي التقوى إلى المرتبة الأخيرة،
وهي التحفظ من الشرك الذاتي، فافهم وتدرس، وكن على بصيرة من أمرك.

1 - الزمر (39): 54.
380

البحث الرابع
حول كون الكتاب هدى للمتقين
ربما تشعر هذه الآية الكريمة بقوله: * (هدى للمتقين) * باعتبار
السنخية بين الهادي والمهتدي، فإنه إذا كان الإنسان من المتقين واقعا،
وكان متصورا بصورة نازلة من التقوى بالدرجة الدنيا منها، فهو من
الهداية طبعا ويعد من المهتدين، فلابد وأن تحمل الآية الشريفة على أن
ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه هدى بالنسبة إلى المهتدين، فيخرجهم من
النورانية الضعيفة إلى النورانية الأقوى، وهو خلاف التحقيق من أنه
نور من الضلالة في جميع مراتبها، مع أن في ذلك نوع شبهة تخطر ببال
الناقصين، كما لا يخفى.
وإذا إما يكون هدى للضالين فهو أيضا غير مطلوب، لصراحته في
خلافه، بل لا يعقل كونه هداية للضالين المتصورين بصورة الضلالة
الآبية عن قبول الهداية، * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * (1).
فعلى هذا يبقى الطائفة الثالثة الذين استعدوا للاهتداء والاتقاء
والتصور بصورة التقوى والهداية، فهم بما أنهم جامعون للشرائط اللازمة
وطاردون للموانع والعوائق الموجودة برفض الخبائث والرذائل يعدون
من المتقين، ويكون الكتاب هداية لهم، فهذه الآية الكريمة كأنها تشير

1 - الأعراف (7): 179.
381

إلى اعتبار السنخية بين من يهتدي بهدى الكتاب، وبين الهداية الجائية
من قبله، ولا تشمل العناية الإلهية الخاصة إلا الطائفة الخاصة.
وبالجملة: القوى والاستعدادات الموجودة في الطبائع: إما تصورت
بالصور الشيطانية والسبعية والبهيمية، فهي خارجة عن إمكان الاهتداء
بهدى الكتاب، وإما تكون باقية قابلة لأن يعد من المتقين، فهو من
المهتدين بهدى الكتاب المبين إن شاء الله تعالى.
382

علم الأسماء والعرفان
اعلم قد مضى شطر من الكلام ذيل قوله تعالى: * (إهدنا الصراط
المستقيم) *، وفي كون صفة الهداية من الأوصاف الذاتية أو الصفاتية أو
الأفعالية، أي هو من أسماء الذات أو الصفات أو الأفعال.
والذي هو مورد النظر هنا: هو أن قضية هذه الآية أن الكتاب بنفسه
هداية، وتكون الهداية للكتاب خارج المحمول - حسب الاصطلاح -
وذاتي باب البرهان، فإذا كيف يصح توصيفه تعالى بالهداية، فهل هذا شاهد
على أن الآية في موقف المبالغة والمجاز والادعاء، أم هنا أمر آخر وراء ما
يفهمه العوام؟
وهو أن الهداية من الصفات الكمالية للوجود بما هو الوجود،
كسائر أوصافه، فإن الوجود هو الهادي بنفس ذاته، والحق المتعال
ليس بضال بالضرورة الذاتية الأزلية، فهو الهادي، ولتلك الصفة ظهور
في جميع النشآت حسب ما تقرر، وذلك الظهور واحد في ذاته، ومتكثر
حسب اختلاف الأوعية والآفاق، وظهور الهداية ليس أمرا وراء نفس
طبيعة الهداية، ولا يعقل أن يكون الظاهر من الهداية أمرا آخر غيرها، فما
383

هو الظاهر في المظاهر والمجالي للهداية، وهو نفس الهداية الجامعة
الشاملة الواسعة لكل شئ، وتلك الهداية الذاتية قبل الظهور نفس
الوجود المطلق في عين الإجمال، وإذا ليس هو الكتاب، بخلاف ما إذا
تجلت الصفة في المظاهر المتأخرة والدانية، فإنها في النشأة الثانية
الظاهرة عين الكتاب الإلهي التكويني، وتلك الصفة إذا تجلت بصورة
الكتاب التدويني تعد القرآن العظيم والمثاني التي تقشعر منه الجلود،
فيكون ذلك الكتاب لا ريب فيه طبعا، وهو نفس الهداية في جميع المراتب
في المرتبة الذاتية الأزلية، وفي المرتبة الثانية " اللايزالية "، وفي
هذه النشأة الكائنة الدائرة الزائلة، فهو تعالى هدى للمتقين، وذلك
الكتاب هدى للمتقين، وهذا الكتاب هدى للمتقين، والكل على نعت
الحمل الذاتي.
والحمد لله على ما ألهمنا من أمثاله، والصلاة على نبيه محمد وآله.
384

الأخلاق والموعظة
اعلم يا أخي في الله ويا عزيزي السالك: أن ذلك الكتاب لا ريب فيه،
فإذا اجتهدت في تعلمه وفي التعين بحقيقته وفي التشخص بشخصية
مثله، وكنت في النشأة العلمية عين تلك البارقة الإلهية والحقيقة
الملكوتية، فلا يكون لديك ريب أيضا، فلماذا لا تحب أن تكتسي لباسه؟!
ولماذا لا تشتاق إلى أن تسلك سبيله، حتى ينتفي الريب كله عن ذاتك؟!
أفما كان أمير المؤمنين - عليه أفضل صلاة المصلين - وأولاده المعصومين
من هذه النشأة؟! أفما كانوا وما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكائنات الواقعة في
الزمان والملازمات لهذه المادة والمدة؟! فإذا كانوا كذلك فكيف ارتقوا
إلى تلك المقامات، وتعينوا بتلك الصفات حتى نفي عنهم الريب؟! فكن
بعين الله على بصيرة من أمرك، فتلحق بالصالحين، وتحشر في زمرة المتقين،
وإذا تعينت بعين الكتاب في النشأة العلمية، وتصورت بتلك الصورة
البهية الناضرة، فلا يكون الصادر منك إلا ما يسانخك في الوجود، فإنه
لا يصدر من الحسن كله إلا الحسن كله.
فيا أيها المسلم المؤمن لا تيأس من روح الله، فإن السالك في الله يعشق
385

الله، فإما يصل إلى عشقه ومناه، أو يموت في طريق عشقه وأمنيته، وعلى
كل حال هو الفائز بالدرجة العليا، والنائل لأعلى عليين في الدار الآخرة
والعقبى. والله المعين على ما يصفون.
ثم اعلم يا صديقي ويا نور عيني: أن ذلك الكتاب فيه هدى، فعليك
الجد والاجتهاد في أن تكون هدى، ولا تكتفي بكونك هاديا، ولا تقنع بأن
يهتدي بهديك الآخرون، فضلا عن القناعة بأن يكون الإنسان خارجا عن
زمرة الضالين والمضلين، فاسع سعيك وجد جدك في طريقك المثلى ونهجك
المقرر حتى تصل إلى هذه المرتبة العليا، ولا يكون ذلك، ولا يناله أحد،
وما ناله الأصفياء إلا بالارتياضات النفسانية والتدبر والتفكر، والاقتداء
بالصالحين، وباتباع الأولياء المقربين المنتشرين في البلاد والقرى، فسيروا
في الأرض فانظروا إلى آثار رحمة الله، فإن لله في أيام دهركم نفحات ألا
فتعرضوا لها (1)، فهذا الكتاب الإلهي جاء لأن يعلم الناس ما يصيرون به
مثالا له، فلا يكون فيه ريب، ويكون هدى من الضلالات في جميع النشآت،
فتخلقوا بأخلاق الله حتى يتمشى لكم ما تمشى له من المشية المطلقة،
فإن الإنسان هو الصورة الجامعة الإلهية، كما عرفت في الحديث
الشريف، وحتى يصح فيكم أنه * (لا ريب فيه هدى للمتقين) * من الضلالات
بأقسام الهدايات وأنواعها الممكنة.
ثم يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر فأوف لنا الكيل، ويا أيها الحجة
الباقية القائمة أعنا على ذلك كله حتى ندرج في زمرة المتقين،

1 - بحار الأنوار 68: 221 / 30 و 80: 352 / 4 و 84: 267 / 64 و 87: 95 / 10.
386

ونستضئ بأنوار الحق واليقين، فإن الكتاب الإلهي قد حث على ذلك
بأنحاء كثيرة، ومن أحسنها هذه الآية الكريمة، فإنها تومئ إلى اعتبار
السنخية بين المهتدين بالقرآن العظيم، وبين الكتاب الذي لا ريب فيه،
فإنه لا يعقل هداية الضال، لأنه مع فرض كونه ضالا لا يعقل هدايته، فإن
صورة الضلالة هي الصورة الآبية عن قبول الهداية، فلابد وأن لا يكون
متصورا بتلك الصورة حتى يكون قابلا للاهتداء بمثل ذلك الكتاب، فعليك
أمر، وعلى الله تعالى أمور: أما الذي عليك فهو الاجتهاد في سبيل الخروج
عن التعين بتلك الصورة المتعصية والرادعة المانعة، فإذا كنت خارجا
عنها برفض الشهوات والبليات وأهواء النفس وأحكام المادة والشيطنة،
تنالك - بحمد الله وإن شاء الله - المشية الإلهية الظاهرة في نشأة الغيب
والشهود، ويخرجك من الظلمات إلى النور، فإن مجرد الخروج عن بيت
ظلمة الطبيعة ليس من الهداية وصورتها النوعية، فإنها حركة نحو
الوجود المطلق الإلهي، التي لا تحصل إلا بعد اكتساب الزاد والراحلة،
فكما لا يكون الزاد والراحلة من السفر والحركة المعنوية، بل هي
استعداد، كذلك الخروج عن ظلمات النفس وغشاوات الطبيعة، لا يعد من
السفر المعنوي حقيقة.
وعلى كل حال يا أيها المفسر قم ورغب الناس في السير في
المفاهيم والتراكيب والنكات والخصوصيات، وبشرهم بالسفر في حقيقة
الكتاب وروحه، وفي دقيقة هذا النموذج الإلهي وشؤونه، حتى ينال
العبد ما جاء لأجله الكتاب. والله الهادي إلى دار الحقيقة والصواب.
387

التفسير والتأويل
على اختلاف المسالك والمشارب
فعلى مشرب الأخباريين
* (ذلك الكتاب) * الذي أخبر به موسى ومن بعده من الأنبياء،
* (لا ريب فيه) * ولا شك يعتريه، و * (هدى) * وبيان من الضلالة * (للمتقين) *،
الذين يتقون الموبقات ويتقون تسليط السفيه على أنفسهم، حتى إذا علموا
ما يجب عليهم علمه، عملوا بما يوجب لهم رضاء ربهم (1).
أو * (ذلك الكتاب) * أمير المؤمنين - صلوات الله وسلامه عليه -
لاشك فيه إنه إمام * (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) * (2)، فلا يحق تفسير
المتقين بغير ما في الآيات التالية، فإن القرآن يفسر بعضه بعضا.
أو * (هدى للمتقين) * في قوله تعالى: * (ولكن البر من آمن بالله

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 62 - 63 / 32، ومعاني الأخبار: 25 / 4.
2 - تفسير القمي 1: 30، تفسير العياشي 1: 25 - 26.
388

واليوم الآخر والملائكة والكتاب...) * إلى أن يقول الله تبارك وتعالى:
* (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك
هم المتقون) * (1).
أو * (هدى للمتقين) * * (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم
المتقون) * (2).
ومن هذه الآيات يتبين أن النظر ليس إلى حصر المفهوم في
المصداق، بل النظر إلى بيان مرتبة من تلك الحقيقة المشككة.
وفي أخبار العامة
* (ذلك الكتاب) *، أي هذا الكتاب لا شك فيه * (هدى) * من الضلالة
* (للمتقين) *، الذين اتقوا ما حرم الله عليهم، وأدوا ما افترض عليهم، أو
الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى،
ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به، أو غير ذلك من الأحاديث المختلفة
في شتى كتبهم الأخبارية وتفاسيرهم القشرية (3).
وقريب مما سلف: " المتقون شيعتنا الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، ومما علمناهم ينبئون، وما علمناهم من القرآن

1 - البقرة (2): 177.
2 - الزمر (39): 33.
3 - راجع الدر المنثور 1: 24.
389

يتلون " (1)، وتلك الأخبار بين مراسيل وضعاف، فلا يعتمد عليها، ولقد دسوا -
خذلهم الله تعالى - في أخبارنا، وغشوا - لعنهم الله تعالى - فخلطوا بين
اللباب والقشور، كما وقع الخلط المزبور بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، عصمنا الله
من الثبور.
وعلى مسلك أرباب التفسير
أن * (ذلك الكتاب) * هو الكتاب الموعود به (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى:
* (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) *، أو الكتاب المصطلح عليه في القرآن في
آيات كثيرة بقوله: * (يا أهل الكتاب) * وغيره، أو هذا القرآن تعظيما بتنزيل
البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي، كما في قوله تعالى: * (فذلكن الذي
لمتنني فيه) * (2) وغير ذلك مما مر بك في البحوث السابقة.
* (لا ريب فيه) * ولا ظن يعتريه أو لا ترتابوا فيه، أو لاشك، ولا يجوز
فيه الارتياب، وفيه * (هدى) * ونور * (للمتقين) *، الذين يتقون ويصيرون أهل
التقوى بتلك الهداية، أو الذين كانوا من المتقين، فضلوا وأضلوا، فإنهم
بذلك الكتاب يندرجون في سلك الأتقياء أيضا، أو الذين هم المتقون فعلا،
فيخرجون من الظلمات إلى النور بمثل الكتاب الذي لا ريب فيه، أو لا
يرتاب فيه، أو لا ريب فيه فلا ترتابوا فيه، فنفس عدم الارتياب فيه من
مظاهر الهداية الحاصلة من الكتاب، فيكون طبعا من المتقين عن

1 - راجع تفسير القمي 1: 30، وتفسير العياشي 1: 26، ومعاني الأخبار: 23 / 2.
2 - يوسف (12): 32.
390

الارتياب والشك الذي هو نفس الضلالة والظلمة.
وقريب منه: أن * (ذلك) * الصراط المستقيم الذي أنعمه الله تعالى
عليهم، هو * (الكتاب) * الذي * (لا ريب فيه) *.
أو أن ذلك الألف واللام والميم هو * (الكتاب) * الذي * (لا ريب فيه) *،
أو لا يجوز الشك والوهم أن يعتريه، وهو الهداية لأرباب التقوى، وهم
أصحاب الخاص، لا مطلق الناس، فيكون المراد من المتقين الذين أنعم
الله عليهم بمعرفة فواتح السور، وتكون هدايته بالنسبة إليهم قطعية،
لتمامية شرائط تأثير الفاعل وشرائط انفعال القابل، ولأجل ذلك صح أن
يقال: * (لا ريب فيه) * واقعا لا ادعاء، أو هو بنفسه الهدى لهم ونور في
جبينهم، من غير ارتياب في هذه الجهة أيضا.
وهناك وجوه واحتمالات اخر تظهر مما سلف في بحوث الآية
ومسائلها، فتدبر.
وعلى مسلك الحكيم
أن * (ذلك الكتاب) * المحفوظ في اللوح، وتلك الحقائق
الموجودة في الكتاب التكويني، والمرسومة في الأعيان، * (لا ريب فيه) *،
ويكون * (هدى للمتقين) * في جميع مراحل الوجود، من غير فرق بين
الموجودات الأمرية والخلقية، وذلك الكتاب الذي لا ريب فيه أنحاء
الريب، ومستجمع لجميع الكمالات اللائقة بالكتاب، هو الكتاب
المتحقق بالوجود الحقيقي في الأعيان، وهو حقيقة الإنسان الكامل في
391

القوس الصعودي، لأنه به تحصل هداية المتقين في النشآت الغيبية
والشهودية، فيكون هداية من جميع الضلالات التي أهمها توهم البقاء
الذاتي، ويكون هاديا للمتقين من جميع ما ينبغي الاتقاء منه، ومن أهمها
الاتقاء من رؤية ذاته حذاء الواجب المطلق الكامل على الإطلاق.
فما هو شأنه مثل هذه الهداية، وما هو خاصته إيصال الضالين
بإخراجهم من ظلمات الجهالات الكلية والجزئية، وإدخالهم في الأنوار
الكلية الإلهية، الملازمة للفناء الذاتي برؤية استيلاء المحبوب على
جميع شراشر وجوده، استيلاء خارجيا موجبا لاندكاك المستولي عليه على
وجه لا يبقى لصفة الاستيلاء معنى واقعي متقوم بالمستولى عليه، وهو عين
الضلالة والكفر.
وإلى جملة من هذه الدقائق أشارت أخبارنا وأحاديثنا، لأنها صدرت
من مبادئ العلوم الكلية، فلابد من اشتمالها على جميع الحقائق على
اختلاف مراتب الناس، كما عرفت فيما سبق.
فما هو شأنه ذلك هو الكتاب الكلي السعي، الشامل لجميع
الكتب التدوينية والتشريعية والكتب الضالة وغير الضالة، لأن
الكتب الضالة ضالة من حيث وهادية من حيث، فلا ريب فيه من جميع
الحيثيات بالضرورة الذاتية اللايزالية.
وقريب منه: أن * (ذلك) * المشار إليه بالألف واللام والميم،
والمرموز إليه بتلك الحروف، وهي البسائط الأولية للمركبات الثانوية
هو * (الكتاب) * الذي * (لا ريب فيه) *، ولا يناله يد المحو والإثبات، وهو أم
الكتاب، بخلاف كتاب المحو والإثبات، فإن فيه الريب، كما ترى.
392

وعلى مسلك العارف
أن * (ذلك الكتاب) * مقول قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر الرابع، وهو
السفر من الحق إلى الخلق بالحق، أي بوجود جامع للبرزخية الكبرى،
فلا يشغله الكثرة عن الوحدة، ولا الوحدة عن الكثرة، ولكنه لمكان
غلبة أحكام المادة - حسب المنطقة والحيطة - وأحكام القالبية -
حسب الصيصية والبشرية - يصح أن يغلبه أحيانا غشية خاصة،
موجبة لصدور كلمة " ذلك " إشارة إلى الغيب، مع أنه جامع الغيب
والشهود، ولا يتصور في حقه القرب والبعد والغيب والشهود، حتى
يتمكن من استعمال تلك الكلمة، ولكن مع ذلك كله لمكان تلك النكتة
صحت في حقه كلمة " ذلك "، ويكون ما هو حقيقة المشار إليه هو الغيب
المطلق والوجود البحت، فإنه حقيقة كل شئ، وهو الذي ينبغي أن يقال
فيه: * (لا ريب فيه) *، وهو الهدى * (للمتقين) * لأعم من الأسماء والصفات،
ومن مظاهرها في العوالم الكلية والجزئية، وفي جميع النشآت
الباطنية والظاهرية.
فهو الكتاب لا غير، لأن غيره المكتوب، لا بالحلول بل بالاتحاد
والصدور، فلا يتقوم كون الكتاب كتابا بأن تحل فيه النقوش والرسوم، بل
النقوش والرسوم الصادرة من الغيب توجب كونه الكتاب، فإن النفس
كتاب مع صدور الصور العلمية منها، وتقوم بها قيام صدور، ومتحدة معها
اتحادا واقعيا بحسب المبدأ والأصل.
393

ف‍ * (ذلك الكتاب) * هو الذي يؤمن به المؤمن، وهو الغيب الذي
آمن به المؤمنون والمتقون، المشار إليه بقوله تعالى: * (الذين يؤمنون
بالغيب...) * إلى قوله: * (وبالآخرة هم يوقنون) *، وذلك هو * (الكتاب) * الذي
* (لا ريب فيه) *، ولا يشوبه العدم الذي هو منشأ الريب، وهو الذي يبقى
بالبقاء الذاتي، ولا يضمحل بظهور صفة القاهرية عليه، بخلاف غيره من
الكتب حتى أم الكتاب، فإنه يطرؤه الريب لاحتفافه بالعدمين، ويندك
جبل أنانيته بظهور الصفة المزبورة، فعليه كيف يصح نفي الريب عنه؟!
فما لا ريب فيه هو ذاك، رزقني الله وإياك.
وذلك الكتاب الذي لا ريب فيه حقيقة، ولا يرتاب فيه بوجه، نفس
الهداية وحقيقتها، وليست الهداية زائدة على ذاته، وبتلك الهداية
المتحدة مع الكتاب الحقيقي يهتدي المتقون، وهي الأشياء كلها، فإن كل
موجود - بحسب ما تقرر في محله - من ذوي العقول والإدراك (1)، فيكون من
المتقين، قال الله تعالى: * (إن من شي ء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون
تسبيحهم) * (2)، ولا يختص الاهتداء بذلك الكتاب بطائفة دون طائفة وبثلة
دون ثلة، بل جميع الحقائق تعتدل في السير إلى المبدأ المسانخ معه
بالهداية الذاتية الثابتة للكتاب الحقيقي، ومن تلك الحقائق الأسماء
الإلهية والصفات الربانية، فإنها من الأوصاف العادلة غير المتجاوزة من
حد الإفراط إلى حد التفريط، بل كلها سوية مستوية الذات لأجل تلك

1 - راجع الأسفار 7: 148 - 158.
2 - الإسراء (17): 44.
394

الهداية، وإذا اهتدت الأسماء الإلهية بتلك الهداية الربوبية، يكون
مظاهرها مهتدية تبعا للظاهر، الذي هو المهتدي بالكتاب في الأزل حسب
التحقق والوجود، فيكون الكل من المتقين.
وعلى المشرب اللطيف ومسلك الخبير البصير
أن هذه المشارب تختلف حسب الآفاق والمنازل، وتتشتت حسب
المقتضيات والمواد، وحسب المناكحات في الأسماء والصفات، ولكنها
ترجع إلى الأصل الواحد، كما ترجع أرباب المسالك إلى الرب الوحيد
والفريد، وقد تقرر منا مرارا: أن الكتاب الإلهي النازل لا يناله بحقيقته إلا
الرب المنزل إياه على عبده (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا نمنع أن يكون - في جميع آياته
وحروفه - كل الحقائق، بنحو الإيماء والإرماز وبنحو اللف والإجمال، وكيف
لا يكون الأمر هكذا؟! وقد صرح بقوله تعالى: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء
ورحمة) * (1)، فإن القرآن مخزن يتنزل منه هذه النازلات في الأوراق
والأسماع، فتكون هي مجالي ومرائي لتلك المخازن الغيبية، فلا يخص
بأحد المعاني المزبورة، بل يتسع وجوده - حتى بحسب الألفاظ - لجميع
تلك الإشعارات والإيحاءات. والله هو العاصم، وله الشكر والحمد،
ونرجوه أن يوفقنا لخير من ذلك، وهو الموفق والمؤيد.

1 - الإسراء (17): 82.
395

الآية الثالثة من سورة البقرة
قوله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب
ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) *
397

اللغة والصرف
هنا مسائل:
المسألة الأولى
قد مر في سورة الفاتحة بحوث حول كلمة " الذين " حسب الهيئة،
وبعض مسائل الكتابة ورسم الخط، فراجعوا هناك (1).
المسألة الثانية
حول معنى هيئة الفعل المضارع
هيئة المضارع والاستقبال - حسب ما يتبادر من كلمات أهل الأدب -
سيقت لإفادة صدور الفعل في الزمان المستقبل.
ولكن الذي هو الحق: أن هيئة المضارع تفيد - حسب التبادر - معنى
مقابل الماضي، وأما أنها للاستقبال، فهو ممنوع، بل هي للأعم منه ومن

1 - راجع الفاتحة: الآية 6، مبحث رسم الخط.
399

الحال، ولأجله قال أهل الأدب: يتوغل في الاستقبال بدخول حروف
التسويف عليه، ويتمحض في الحال بدخول اللام عليه، فيكون لمعنى
مشترك بينهما.
وربما يقال: إن الهيئات خالية عن الأزمان، وتلتحق بها لخصوصيات
زائدة على أصل الوضع، ولأجله عبر النحاة: بأن دلالتها تكون على صفة
الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة، وهو أعم من كونها بالوضع، أو لأجل
القرائن والخصوصيات.
والإنصاف: أن التبادر يضاده، بل الهيئة في الماضي موضوعة
للدلالة على صدور الفعل في الزمان الماضي إلا مع قيام القرينة، كما في
بعض المواد مثل علم وفهم، مع أن من الممكن دعوى دلالتها على أن
التلبس بالمادة في الزمن الماضي، وأما زوال المادة أو بقاؤها فهو خارج
عن حدود دلالتها، وتفصيله في أصولنا المحررة (1).
نعم الهيئة في الفعل المضارع لا تدل إلا على التلبس بالمادة مقابل
الماضي، كما عرفت.
وغير خفي: أن استعمال الأفعال الماضية في الماضي الإضافي،
والأفعال الاستقبالية في الاستقبال الإضافي، لا يدل على أن الموضوع له
فارغ عن خصوصيات الأزمنة.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 363 - 368.
400

المسألة الثالثة
حول معنى " الإيمان "
الإيمان التصديق مطلقا ونقيض الكفر (1)، والإيمان يستعمل تارة اسما
للشريعة الإسلامية، وأخرى في سبيل المدح، ويراد به إذعان النفس
للحق على سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء: تحقيق بالقلب،
وإقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح. ويقال لكل واحد، من الاعتقاد
والقول الصدق والعمل الصالح: إيمان (2).
والإيمان: الثقة، آمن يؤمن إيمانا: أمنه وجعل له الأمن، ومنه
توصيفه تعالى بالمؤمن (3). وآمن به: صدقه ووثق به، وآمن له:
خضع وانقاد (4).
وقيل: يتعدى لاثنين في باب الأفعال، كما حكي عن " الكشاف "
و " المصباح " وغيره (5)، وقيل: إنه بالهمزة يتعدى لواحد، كما نقله عبد

1 - راجع أقرب الموارد 1: 20.
2 - راجع المفردات في غريب القرآن: 26.
3 - نفس المصدر.
4 - راجع أقرب الموارد 1: 20.
5 - راجع الكشاف 1: 38، والمصباح المنير 1: 24، والتفسير الكبير 2: 23، وتاج
العروس 9: 125.
401

الحكيم في " حاشية القاضي " (1)، وفي " حاشية المطول ": آمن يتعدى
ولا يتعدى (2).
وعن بعض الفضلاء: الإيمان يتعدى بنفسه ك‍ " صدق "، وباللام باعتبار
معنى الإذعان، وبالباء باعتبار معنى الاعتراف، إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر
بدون اعتراف (3).
وقيل: أصل الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها،
فإن اعتقد التصديق بقلبه كما صدق بلسانه، فقد أدى الأمانة (4).
وقيل: الأصل طمأنينة النفس وزوال الخوف (5).
وقيل: الإيمان تمكن الاعتقاد في القلب، وهو مأخوذ من الأمن، فكأن
المؤمن يعطى لما آمن به الأمن من الريب والشك، وهو آفة الاعتقاد.
أقول: هذه جملة من كلمات اللغويين وغيرهم في المقام، والذي
لابد من الإشارة إليه: هو أن الخلط بين المعاني اللغوية الأولية، وبين
الخصوصيات الطارئة عليها حسب كثرة الاستعمالات، أوقعهم في
اشتباهات كثيرة، حتى توهموا: أن من معاني الإيمان هو التصديق بالقلب
والإقرار باللسان والعمل بالأركان (6)، غافلين عن تلك النكتة المشار إليها.

1 - انظر تاج العروس 9: 125.
2 - نفس المصدر.
3 - نفس المصدر.
4 - تاج العروس 9: 125.
5 - المفردات في غريب القرآن: 25.
6 - المفردات في غريب القرآن: 26.
402

وما هو معنى هذه المادة - بعد مراجعة الكتاب واستعمالاته وكتب
أهل اللغة - وحقيقته اللغوية هو التصديق وعقد القلب، من غير
خصوصية في متعلقه من الحق أو الباطل، ويشهد لذلك قوله تعالى:
* (الذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) * (1)، والصديق مبالغة من
التصديق، بمعنى النسبة إلى الصدق، فيكون الإيمان هي النسبة إلى
الأمن، فإذا قيل يؤمن بالله، أو يؤمن بالشيطان، أو يؤمن بكذا، أي يكون ما آمن
به في آمن منه.
ومن الممكن دعوى: أن الإيمان المتعدي بالحرف نفس العلقة
القلبية والاعتقاد بذلك الشئ والاطمئنان به، فيصح - حينئذ - أن يوصف
به سائر الحيوانات.
فما اشتهر: أنه نقيض الكفر، غير موافق للتحصيل بحسب اللغة
والوضع، فكونه مدحا فبلحاظ متعلقه، فلا يعد من الصفات الكمالية
بحسب المفهوم اللغوي.
وغير خفي: أن العلم بالشئ غير الإيمان به، فإن المتفاهم بل
المتبادر من الإيمان بالشئ، هو العلم به مع الالتزام بآثاره ولوازمه، وربما
يمكن توسعته في ناحية عدم اعتبار العلم به، بل يجتمع مع الإيمان
العقلائي، فلا يلزم القطع البرهاني به والعلم الوجداني بصدقه، بل
الإيمان معنى أعم من ذلك من هذه الجهة.

1 - الحديد (57): 19.
403

المسألة الرابعة
حول كلمة " الغيب "
" الغيب " مصدر كل ما غاب عنك، وفي " المغرب ": ما غاب عن
العيون وإن كان محصلا في القلوب، يقال: سمعت صوتا من وراء الغيب، أي
من موضع لا أراه (1).
وقيل: استعمل في كل غائب عن الحاسة وعما يغيب عن علم الإنسان،
قال الله تعالى: * (أم كان من الغائبين) * (2).
وقيل: مالا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداهة العقول، وإنما يعلم
بخبر الأنبياء (عليهم السلام) (3).
وفي " القاموس ": " الغيب الشك " (4)، وفيه خلاف، لاحتمال كون
الغيب مشكوكا عند جماعة. يقال هو بمعنى الشك.
وقيل: كل ما غاب عنهم، فما أنبأهم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو غيب، سواء
تقع عليه الحاسة أم لا تقع عليه. وهذا محكي عن ابن الأعرابي. جمعه

1 - راجع لسان العرب 10: 151، وتاج العروس 1: 416، وأقرب الموارد 2: 894.
2 - راجع المفردات في غريب القرآن: 366.
3 - نفس المصدر.
4 - القاموس المحيط 1: 116.
404

غيوب وغياب (1).
أقول: الخلط بين المراد من لفظة " الغيب " في الكتاب والسنة
وبين المعنى الموضوع له غير جائز، وقد وقعوا فيه كثيرا، ضرورة أن هذه
اللغة مما يستعملها على نعت الحقيقة جميع الملاحدة والمنكرين لغير
المحسوسات، بل الغيب والاغتياب والغيبة من المادة الواحدة وضعا
ومعنى، ولا شك في أن المتبادر من الغائب هو المحسوس غير الحاضر في
المجلس، فلا يقال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غائب عنا، ولكنه يقال: إنه - عجل الله
تعالى فرجه - غائب، كما ترى. ولأجل ذلك حرمة غيبة الأموات محل
مناقشة عند الأحياء والأعلام.
وإن أبيت عن ذلك فلا منع من دعوى الأعمية، إلا أنه يستلزم كون
الغائب مما لا يدرك بالحاسة، فاللغة بحسب معناها أجنبية عما توهمه
جمع من المفسرين.
ومن العجيب أن بعضا من اللغوين يدسون بين الآراء التفسيرية وبين
المعاني اللغوية ما لا ينبغي جدا، كما أنه قد انعكس الأمر عند أبناء
التفسير وفضلاء التأويل، والكل واقع في غير محله.

1 - أحكام القرآن، ابن العربي 1: 8 و 11.
405

المسألة الخامسة
حول كلمة * (يقيمون) *
قام يقوم بالأمر: تولده، قام عليه: راقبه، قام على غريمه: طالبه، قام
في الصلاة: شرع فيها، قام على الأمر: دام وثبت، قام الحق: ظهر. أقام
بالمكان: دام فيه. وأقام الشئ: أدامه. أقام الشرع: أظهره. أقام الصلاة:
أدام فعلها (1).
أقول: المستفاد من اللغة أن إقامة الصلاة ليست بمعنى الإتيان بها،
وفرق بين ما إذا قيل: الرجل يصلي، وبين قوله: الرجل يقيم الصلاة، وإذا
قيل: " أقام الصلاة " فربما يتراءى منه أنه أزال عوجها وأحكمها، كما يستفاد
من اللغة. قال في الأقرب: أقام الشئ أزال عوجه (2). انتهى. وإزالة
الاعوجاج تستلزم التحكيم واستقامة الشئ طبعا.
والمستفاد من استعمالات الكتاب: أن المراد من إقامة الصلاة هو
الإتيان بها، وقد بلغت إلى قريب من الثلاثين، وفي أكثرها القريب من
الاتفاق، قد عطف عليه قوله: * (يؤتون الزكاة) * وما يشبهه، وقوله تعالى:
* (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (3) أيضا يكون في موقف إيجاب الصلاة، لا

1 - أقرب الموارد 2: 1053 - 1054.
2 - نفس المصدر.
3 - الإسراء (17): 78.
406

إيجاب الإقامة وعنوانها.
فعلى هذا يتوجه إشكال: بأن اللغة تكذب الكتاب استعمالا، فلابد
من الالتزام بالمجازية من غير مصحح ومبرر للاستعمال ظاهرا.
اللهم إلا أن يقال: إن قوله تعالى: * (أقم الصلاة) * وسائر مشتقاته، كناية
عن الإتيان بها وإيجادها، أو إشارة إلى لزوم كونها - بعد مفروضية وجوبها
ولزوم إتيانها - مستقيمة وصحيحة وخالية عن الاعوجاج.
وربما يخطر بالبال أن يقال: إن الأفعال المشتقة من الصلاة ليست
نصا في الصلاة المخصوص بها شرع الإسلام، والتي هي من المخترعات
التشريعية الإسلامية أو غير الإسلامية.
والذي هو الظاهر أو كالنص فيها هو هذا النحو من التعبير الرائج
في الكتاب، مثلا هناك آيات مشتملة على تلك الأفعال، وتكون ظاهرة في
المعنى الأعم منها:
1 - * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) * (1).
2 - * (وصل عليهم) * (2).
3 - * (فصل لربك وانحر) * (3)... وهكذا.
وإذا استعملت فعل الصلاة متعديا ب‍ " على " فهو بمعنى الدعاء ظاهرا،
وقلما يتفق أن يكون كلمة " صل " مستعملة في الصلاة المخترعة الإلهية

1 - التوبة (9): 84.
2 - التوبة (9): 103.
3 - الكوثر (108): 2.
407

التي أولها التكبير، وآخرها التسليم، مثل قوله تعالى: * (ولتأت طائفة أخرى
لم يصلوا) * (1).
فعلى هذا يمكن أن يكون اختيار هذا النحو وتلك الكيفية لإفادة
المعنى المخصوص، وأن يستأنس بتلك الطبيعة الاختراعية نفوس
المسلمين وأرواح المتشرعة. والله العالم برموز كتابه ولطائف صنعه.
وهنا كلام آخر وهو: أن الصلاة - كما يأتي تحقيقها - موضوعة لمعنى
أعم من الصحيح والفاسد، فإذا قيل: " الذين يصلون " فهو لا يفيد - حسب
اللغة - إلا الإتيان بالصلاة اللغوية، وأما قوله: * (الذين يقيمون الصلاة) *
فهو يفيد الإتيان بها صحيحة خالية عن الاعوجاج والانحراف، قضاء لحق
مفهوم الإقامة الملازم للاستقامة، فتدبر.
المسألة السادسة
حول كلمة " الصلاة "
الصلاة - بحسب أصل اللغة - الدعاء والتبريك والثناء، وقد غلب
استعمالها في الصورة المعروفة حتى صارت حقيقة فيها بالوضع التعيني،
واكتست تلك الحقيقة، ورفضت معناها الأصلي، بحيث لا يتبادر منه ذلك إلا
عند قيام القرينة.

1 - النساء (4): 102.
408

وقد قال أبو حيان: إن الأمر بالعكس (1). وهو غير واضح سبيله، وسيأتي
في بحث رسم الخط ما يتعلق بالمقام.
ثم إنه قد تقرر منا في الأصول تفصيلا: أن هذا النقل والانتقال كان قبل
الإسلام، والإسلام طلع وتلك الصورة معهودة بين المشركين وفي شبه
جزيرة العرب، وهذا المخترع الديني كان من بدو أديان المعروفة (2)، ويعرب
عن ذلك بعض الآيات الشريفة:
1 - * (رب اجعلني مقيم الصلاة) * (3).
2 - * (ربنا ليقيموا الصلاة) * (4).
3 - * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * (5).
4 - * (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف) * (6).
5 - * (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك) * (7).
6 - * (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) * (8)... إلى غير ذلك.
ضرورة شهادتها على سبق هذه المائدة السماوية والمعجون
الملكوتي على الإسلام قطعا، وكانت لفظة الصلاة تطلق عليها أيضا قبل

1 - البحر المحيط 1: 38.
2 - راجع تحريرات في الأصول 1: 183 - 186.
3 - إبراهيم (14): 40.
4 - إبراهيم (14): 37.
5 - مريم (19): 31.
6 - لقمان (31): 17.
7 - هود (11): 87.
8 - الأنفال (8): 35.
409

الإسلام، فهذه اللفظة كسائر الألفاظ وضعا، فكما أن الأصل كون الموضوع
له - في جميع الألفاظ - معنى عاما شاملا لجميع الأفراد، كذلك لفظة
" الصلاة ".
فما اشتهر بين جمع من الأصوليين: بأن الصلاة موضوعة للفرد
الكامل التام الأجزاء والشرائط، كما عن الشيخ الأنصاري (قدس سره) في تقريرات
جدي العلامة الكلانتر رحمه الله تعالى (1). أو عن جمع آخر: بأن
الموضوع له هو الصحيح المسقط للأمر، واختلاف الأجزاء بعد اختلاف
الحالات لا يضر بذلك. أو ما قيل: بأن الموضوع له هو الصحيح الجامع
للأجزاء والشرائط. فكله في غير محله، وتفصيله في الأصول (2).
وما هو الحجر الأساسي لحل هذه المشكلة: أن الرجوع إلى ألفاظ
المخترعات اليومية الصناعية، وإلى ألفاظ الأجناس والمركبات
الطبعية، وإلى ألفاظ المركبات التأليفية كالدار والبيت، وإلى جميع
الألفاظ الموضوعة للمعاني والحقائق المؤتلفة يفيد أن ألفاظ
المخترعات الإسلامية والمشروعات الشرعية - ولو كانت قبل الإسلام -
كلها موضوعة للجامع بين الأفراد المتفاوتة كمالا ونقصا والمختلفة
مراتب.
وأما السؤال عن ذلك الجامع، فهو بحث طويل الذيل دقيق النظر
خارج عن وضع الكتاب، وقد حررنا في محله: أن من الممكن اختلاف هذه

1 - راجع مطارح الأنظار: 7 / السطر 10.
2 - راجع تحريرات في الأصول 1: 195 وما بعدها.
410

الأمور في جوامعها، والذي هو الغالب في الجامعية هي الهيئات الفانية
فيها الأجزاء (1)، فصلاة كل مكلف وإن اختلفت - لأجل اختلاف حالاتهم -
بحسب الأجزاء والشرائط صلاة حقيقة، إلا مثل صلاة الغرقى، بل وصلاة
الميت، فافهم واغتنم.
المسألة السابعة
حول كلمة " الرزق "
رزقه الله رزقا: أوصل إليه رزقا. الرزق: ما ينتفع به، وما يخرج
للجندي رأس كل شهر (2).
وفي " الأقرب ": الرزق: المطر، وفي القرآن: * (ما أنزل الله من
السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) * (3) جمعه أرزاق (4). انتهى.
وفي " مفردات الراغب ": الرزق: يقال للعطاء الجاري تارة - دنيويا
كان أو أخرويا - وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة،
يقال: رزقت علما (5). انتهى.

1 - راجع تحريرات في الأصول 1: 224 وما بعدها.
2 - أقرب الموارد 1: 402.
3 - الجاثية (45): 4.
4 - أقرب الموارد 1: 402.
5 - المفردات في غريب القرآن: 194.
411

وعن ابن السكيت: أن الرزق بلغة " أزد " الشكر، ومنه قوله تعالى:
* (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (1).
والذي يظهر للمتتبع: أن الكل بمعنى واحد، وهو المعنى الأعم لما
يتبادر منه من الأمور المادية دنيوية كانت أو أخروية، بل له العرض
العريض، فيشمل الجاه والمال والولد والعلم وسائر الأشياء، حتى يمكن
أن يقال: هو تعالى رازق ورزاق، وأريد به أنه يعطي الوجود، ولو كان أخص
من هذه الجهة، ولكنه لا شبهة في أعميته من جهات أخر، كإعطائه
المال والجاه والعلم والأولاد، وغير ذلك من الكمالات الحقيقية
والوهمية.
ومن تلك الجهات: أنه أعم من كونه رزقا حسنا وطيبا أو غير حسن،
فإنه أيضا رزق، كما يستظهر من الآية الكريمة * (كلوا من طيبات
ما رزقناكم) * (2).
وغير خفي: أن المستفاد من اللغة أن كل شئ ينتفع به، فهو من
الرزق، ولكن المتبادر منه خلافه، لأن الرزق ما هيئ لأن ينتفع به
المرتزق، وإلا فمجرد الانتفاع به لا يورث كونه رزقا، فإذا ثبت أن الأشياء
كلها خلقت لأجل بني آدم فهي كلها رزق من السماء وإلا فلا، فتأمل جيدا.
ومن العجيب أن أبا حيان توهم معاني كثيرة لهيئة " فعل "، خالطا بين

1 - الواقعة (56): 81.
2 - البقرة (2): 57.
412

معاني المادة وتلك الهيئة (1)، وهذا من هؤلاء القشريين ليس بعجيب،
لوقوعهم في أمثال هذه المعارك كثيرا.
المسألة الثامنة
حول كلمة " ينفقون "
" أنفق " لازم ومتعد يقال: أنفق إذا افتقر وذهب ماله وفني ونفد، ومنه
قوله تعالى: * (إذا لأمسكتم خشية الانفاق) * أي خشية النفاد والفناء، وأنفق
ماله: أنفده وأفناه (2). انتهى ما عليه أهل اللغة.
وقيل: أصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب، ومنه النافق
والنافقاء (3). انتهى.
أقول: الكلام هنا في مفاد " الإنفاق " مادة وهيئة:
أما بحسب المادة: فهو إفناء المال وإنفاده في محل ينبغي ويليق، وفي
مورد يستحسن عرفا، وليس مساوقا لقوله: ضيعه وبذره تبذيرا.
فما في كتب اللغة خلاف ما هو المتبادر منه جدا، فلا يقال لمن ألقى
ماله في البحر: أنه أنفقه مع صدق قولهم: أنفده وأفناه، ولا يلزم أن يكون
المورد مما يستحسنه الشرع، لشهادة قوله تعالى: * (الذين ينفقون أموالهم

1 - انظر البحر المحيط 1: 39.
2 - راجع الصحاح 4: 1560، وتاج العروس 7: 79، وأقرب الموارد 2: 1331.
3 - البحر المحيط 1: 39.
413

رئاء الناس) * (1).
وأما بحسب الهيئة: فما يتراءى من كلماتهم أنها بين اللازم
والمتعدي بالهمزة، ولا يتعدى بغيرها، ولا يصح قولنا: ينفق من ماله، فلا يصح
" مما رزقناهم ينفقون " حسب اللغة وما يستظهر منها، فراجع وتدبر.
ولو كان " الإنفاق " من " نفق " بمعنى خرج، ومنه قولهم: نفق البيع، أي
خرج من يد البائع ودخل في يد المشتري، فهو أيضا متعد بالهمزة، ولا يكون
الإنفاق لازما حتى يتعدى ب‍ " من " في المقام.
نعم هنا كلام وهو: أن كلمة " من " ليست للتعدية، بل هي
للتبعيض، فإذا قيل: أنفق من ماله، فمعناه أنفق بعض ذلك، وغير خفي أن
مفهوم المال ليس داخلا في حقيقة اللغة، حتى يكون مجازا إذا قيل: أنفق
مما علمناه شيئا.
وقد صرح بعض أرباب اللغة: بأن ذكر هذه الأمور عند تفسير
اللغة لإبانة المعنى وإفهامه، ولا يتقيد به مفهوم اللغة ومعناها،
فلا تغفل ولا تخلط.

1 - النساء (4): 38.
414

القراءة وأنحاؤها
1 - المحكي عن عاصم - في رواية الأعشى، عن أبي بكر - " يؤمنون "
بترك الهمزة الساكنة فيها وفي نظائرها.
وعن أبي عمر ترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة
للجزم، مثل " ننسئها "، وروي عنه الهمزة أيضا في الساكنة.
وعن نافع ترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء من الفعل نحو
" يؤمنون " (1).
2 - في جواز حذف همزة " الذين " في القراءة - بترك الوقف على
المتقين - وعدم جوازه، وجهان، ربما يتخيل أن هذه المسألة تنبيه على أن
الجملة الأولى من الآية الثالثة نعت للمتقين، أو جملة ابتدائية
واستئنافية، فعلى الأول يجوز الوقف ويجوز الوصل، وعلى الثاني لا يجوز
الوصل، للزوم الإيهام الباطل.
وفيه: أن الإيهام المزبور لا يورث منع الوصل، لأن جوازه وعدم

1 - راجع مجمع البيان 1: 37، وروح المعاني 1: 108.
415

جوازه لا يدوران مدار ذلك حسب ما تقرر في محله، بل كل همزة بين ما هي
وصل أو قطع، وعلى الأول يجوز حذفها، ولا يلزم الإيهام إلا لمن لا يهتم بشأنه
من الجاهلين.
3 - قد مر: أن الكسائي زعم هنا قراءة خاصة، وهي هكذا " ومنا
رزقناهم ينفقون " (1).
وهو بالأضحوكة أشبه.
تنبيه
ربما يوجد في بعض التفاسير وفي بعض النسخ المطبوعة من
القرآن: أن الآية الثالثة ختمت بقوله تعالى: * (يقيمون الصلاة) *، والآية
الرابعة شرعت من قوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) *.
وأنت خبير بما فيه - مضافا إلى الضعف وخلاف الاتفاق - من قصور
الشعور وانحطاط الذوق والسليقة، والانحراف عن جادة الاعتدال.

1 - راجع البحر المحيط 1: 38.
416

رسم الخط والكتابة
وهنا مسائل:
المسألة الأولى
كلمة " الذين "
إن كتابة " الذين " مورد البحث قد مضى تفصيله في سورة
الفاتحة (1) بحمد الله وله الشكر.
المسألة الثانية
كلمة " يؤمنون "
قضية ما تحرر منا - في بحوث البسملة وكتابة اللغات - لزوم
انطباق الوجود اللفظي على الوجود الكتبي، ويكون ما يلفظ به ويقرأ

1 - راجع الفاتحة: الآية 6، رسم الخط.
417

يكتب، حتى لا يلزم الاختلال في فهم المقاصد (1).
فعلى هذا الأصل الأصيل لابد وأن يكتب كلمة " يؤمنون " بدون الواو
وإلا يلزم الاشتباه في القراءة، لأن الواو بعد الياء وقبل الهمزة توجب
الإشباع، أي يلزم الجمع بين إظهار الواو والهمزة، وهو غير لازم بالضرورة.
أقول: المعروف في رسم خط الهمزة وكتابتها: أنها إذا كانت متوسطة
ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها، نحو بأس وبؤس وبئس، إلا إذا كانت
مقلوبة بعد همزة الوصل، ثم ردت إلى أصلها في أثناء الكلام، فترسم
بصورة الحرف الذي قلبت إليه، لانتقالها منه، فتكتب بالياء في نحو
" يا رجل ائذن " وبالواو في نحو " هذا الذي اؤتمنت عليه ".
ثم إن اظهار الواو ربما يؤيد لزوم الإشباع في موارده، كما سيأتي عند
تفصيل البحث في القراءات.
بقي كلام وهو: أن الهمزة كما تكتب على رأس الواو " يؤمنون "، يمكن
أن تكتب متصلة بالحرف المتأخر " يوئمنون "، والمعروف هو الأول.
المسألة الثالثة
كلمة " مما "
المشهور في كتابة " من ما " مما بالتشديد، ولم يظهر لي من كتبه غير
مدغم، ولو كانت القراءة على الإدغام واجبة، كانت تلك الكتابة على

1 - راجع الفاتحة: الآية 1، مبحث الخط من الناحية الأولى والثانية.
418

الأصل الذي أسلفناكم، وإلا فلا، وحيث إن الظاهر عدم تعينه - كما يأتي -
فلا يبعد جواز كتابتهما بغير إدغام، ولو صح إدغام المتأخر في المتقدم، فيكتب
هكذا: " ومنا رزقناهم ينفقون "، وحمل ما عن الكسائي - من أنه هكذا: " ومنا
رزقناهم ينفقون " (1) - على ما احتملناه أولى مما تأوله ابن جني: من أنه فعل
من منى يمني، بمعنى قدر (2).
المسألة الرابعة
كلمة " الصلاة "
اختلفت كتابة الصلاة حسب العصور، فكانت تكتب في العصور
الأولى إلى ما يقرب من العصر المتأخر في هذه الأمصار بالواو، ثم بنى
المتأخرون تبعا لبعض الأجيال في الأمصار النائية على كتابتها بالألف.
وبالجملة: كانت الشهرة على الأول ثم انقلبت.
والذي ربما يتراءى: أن هذه المسألة من متفرعات ما هو أصل
الصلاة حسب اللغة، لأن من المحتمل كونها مأخوذة من مادة صلا يصلو
صلوا، فيكون واويا، فتكتب بالواو إيماء إلى أنها منها، وربما كانت الأمة
السابقة لأجل اعتقادهم بذلك يكتبونها بالواو.
وقواه " الكشاف " واعتقد أن الصلاة من تحريك الصلوان، وهما ما

1 - راجع البحر المحيط 1: 38.
2 - راجع البحر المحيط 1: 39.
419

يكون عن يمين الذنب وشماله، ولاشتمالهما عليهما في حال الركوع
والسجود سميت بها (1).
وغير خفي: أنه مع نهاية ابتكاره في المسائل القشرية والأدبية
ابتلي بما لا يبتلى به الأصاغر، ولا تمس الحاجة إلى إبداع الجديد حتى
يقع فيما لا يعني، والقول الفحل ما عرفت.
ومن المحتمل كونها من الصلاة بمعنى الدعاء وما شابهه، ولا يكون
واويا، فلا تكتب بالواو، وحيث إن المتأخرين بناؤهم على الأخير يكتبونها
بالألف، ويعدون الواو غلطا.
أقول: حيث لا يظهر للمتأمل المتدبر في أصول اللغات، أن الصلاة
بمعنى الدعاء واوي أو يائي، لأن كلا الاحتمالين ممكن، ضرورة أن احتمال
كونه من صلى يصلي - أي من الفعل المتعدي بهمزة باب التفعيل - ممكن،
وأصل هذا الفعل المتعدي بتلك الهمزة هو صلا يصلو، ثم بعد الانتقال إلى
الباب المزبور اكتسب المعنى الآخر، وقلبت الواو ياء.
والاحتمال الآخر أيضا ممكن، وهو كونه اسما من صلى يصلي، وهو
يائي، ولا مجرد له. فعلى هذا يجوز الكتابة بالوجهين، ولا برهان على تعين
أحدهما إلا الأصل المزبور، وهو تطابق الوجود اللفظي والكتبي، فتدبر
جيدا.

1 - الكشاف 1: 40.
420

ذنابة
قيل: إن الصلاة من " صليت العصا " إذا قومتها بالصلى، فالمصلي كأنه
يسعى في تعديل ظاهره وباطنه، مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على
النار (1)، وهي " فعلة " بفتح العين على المشهور، وجوز بعضهم سكون
العين، فتكون حركة العين منقولة من اللام.
وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكاة ونجوة
ومنوة وأمثالها كالصلاة والزكاة والحياة.
وفي بعض المصاحف الاخر العثمانية رسم المجموع منها بالواو
على اللفظ.
وعن ابن قتيبة: بعض العرب يميلون الألف إلى الواو، فيكون في
الكتابة بالواو نظر خاص في كيفية القراءة.
وعن الحميري: وجه الكتابة بالواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة
عنه واو، وهو اتباع للتفخيم (2). انتهى.
وما أفاده إنما يصح في غير " الصلاة "، ولا سيما على القول بأن
" مشكاة " ليست عربية، مع أن " الزكاة " من اليائي، فليتأمل.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 29.
2 - راجع أدب الكاتب، ابن قتيبة الدينوري: 89.
421

النحو والإعراب
" الذين " في موضع الخفض على الأصح والأظهر، نعتا للمتقين،
ولكنه بين كونه نعتا مخصصا ونعتا مادحا. وبعبارة أخرى: يحتمل كونه قيدا
احترازيا وقيدا توضيحيا.
ومن الممكن كونه في موضع الرفع على الابتداء أو الانقطاع، فإن كان
على الأول فتكون أجنبية عن الآية الأولى، وعلى الثاني تكون شارحة
أيضا بأحد النحوين المزبورين آنفا.
ومن المحتمل كونه في موضع النصب، ولكنه غير مناسب، مع أن
الأصل عدم الحذف، ولأجله لا يكون في موضع الرفع على الابتداء أيضا.
وربما يتخيل: تعين مفاد المتقين في الذين يؤمنون، بناء على
التوصيف، ولكنه ساقط كما مر تفصيله، فلا داعي لإفادة الآية العموم من
الالتزام بكونها في موضع الرفع على الاستئناف.
ثم إن الظاهر عطف الجملتين على الأولى بتكرار الموصول، ومن
الممكن دعوى كون الواو حالية بحذف المبتدأ. وتظهر الثمرة في أن على
العطف لزوم اجتماع الأوصاف الثلاثة غير واضح، وعلى الحالية يحصل
422

التقييد ويلزم اجتماعها في كونها توضحية للمتقين ونعتا لها.
وأما " من " فهي كما مر للتبعيض، فيكون متعلقا بالمتأخر، واحتمال
كونها زائدة ولو أمكن، ولكنه بعيد عن منساق الآية، ولا سيما بعد اختلاف
مفادها، فما هو الظاهر هي للتبعيض، ويترتب عليه الأحكام والآثار
الخاصة الآتية إن شاء الله تعالى.
وأما الباء في كلمة " بالغيب " فيحتمل كونها للملابسة، فيكون
الغيب مورد الإيمان والمؤمن به، ويحتمل كونه من قبيل قوله تعالى:
* (يخشون ربهم بالغيب) * (1)، فيكون المعنى: الذين يؤمنون وهم الغائبون
في عصر الآية، ويأتون بعد ذلك، فيؤمنون بالله ورسوله وأوليائه، ولا يرون
الرسول الشاهد عليه تعالى ولا أهل بيته الدالين عليهما، أو هم يؤمنون
بظهر الغيب، بخلاف المنافقين، فإنهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
ثم إن " ما " في قوله تعالى: * (ومما) * موصولة، واحتمال كونها
موصوفة أو مصدرية، لا يصح حسب المتفاهم من كلام الله تعالى، الذي هو
أحسن الكلام.

1 - الأنبياء (21): 49.
423

البلاغة والمعاني
وهنا نقاط:
النقطة الأولى
حول اتصاف المتقين بما في الآية
قضية ما تحرر في مقامه: أن الأصل في القيود هي الاحترازية،
وعلى هذا يكون المتقون على طائفتين: الأولى الذين ينسلكون في سلك
المؤمنين بالغيب. الثانية من لا ينسلك في سلكهم وإن كانوا من المتقين.
أقول: التوصيف على نحوين:
أحدهما: ما يكون النعت من الأوصاف الاشتقاقية، كزيد العالم، أو ما
يشبه ذلك.
ثانيهما: ما تكون الجملة مصدرة بالألفاظ المشتملة على نوع إشارة
إلى الموصوف، مثل قولنا: زيد الذي هو عالم كذا، فما كان من قبيل الأول
يكون النعت احترازا ومقسما للموصوف، وما كان من قبيل الثاني فهو إشارة
إلى ذات الموصوف بزيادة البيان وتوضيح الحال، وعندئذ لا معنى لكونه
424

احترازا، ف‍ " المتقين " موضوع لتوضيح الجملة الثانية وكشف حالها به.
ولكن الإنصاف عدم تمامية هذا البيان أيضا كما ترى.
فالمراد من المتقين بالإرادة الاستعمالية معنى أعم، ويحصل التقييد
بالتوصيف، فلا تكون الجملة الثانية إلا احترازا، وقد عرفت منا في محله
أعمية المتقين وشموله لجميع الأصناف حتى الكفار، فليراجع.
النقطة الثانية
حول عمومية " الذين يؤمنون "
لا شبهة في العموم الأفرادي، وأما العموم الأحوالي بالنسبة إلى
مراتب الإيمان فهو ممنوع جدا، فلا تكون إلا في موقف أن الكتاب هدى
للمؤمنين، البالغين المرتبة الراقية من الإيمان، بل هو أعم من ذلك. فمن
اتصف بصرف وجود الإيمان ونفس الطبيعة، فهو مشمول الآية الكريمة،
ولا معنى لإطالة الكلام هنا حول مراتب الإيمان وخصوصياته، فإنه خارج
عن ديدننا في هذا الكتاب، ولا يجوز التوغل لأجل المناسبات الضعيفة
في المطالب الخارجة عن مداليل الكتاب جدا.
وأما الشبهة والخلاف في عمومه الأفرادي فهو بلا دليل. وربما يقال
باختصاص هاتين الآيتين بطائفة، وهي العرب المؤمنون، واستدلوا على
ذلك بالآية الآتية: * (والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك) *،
ضرورة أنه لم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل
عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) تدين بتصديقه والإقرار والعمل به، وإنما كان الكتاب لأهل
425

الكتابين غيرها.
وغير خفي: أن الآية الثانية لا تفيد حصر مفاد المتقين في الذين
يؤمنون بالغيب، وهكذا الآية الثالثة لا توجب حصر الثانية في الذين
يؤمنون بما انزل إليك، لأن هداية الكتاب عامة، والطوائف المهتدون به
مختلفة، والآيات تضمنت شرح هؤلاء الطوائف.
وهكذا الشبهة والخلاف في هاتين الآيتين مع ما بعدهما من الآيتين
الآتيتين في أنها نزلت بأربعها في مؤمني أهل الكتاب، لأنه ذكرهم في بعضها،
وقال الآخرون: إنها نزلت في المؤمنين كافة، وهو مورد تصديق أرباب
التفسير من العامة والخاصة.
وأنت قد أحطت خبرا بأن هذه الآيات ليست إخبارية صرفة، بل
إخبار في موقف الترغيب والإرشاد إلى الاندراج في مسلكهم، فيكون مفادها
ناظرا إلى كافة البشر ودعوتهم إلى أن يكونوا من المتقين، حتى يهتدوا
بالكتاب، فيكونوا مؤمنين بالغيب بهداية الكتاب، ومن مقيمي الصلاة ومؤتي
الزكاة وهكذا، ولعل النظر إلى تلك الدعوة بهذه الطريقة أقوى من
الجهات الأخر.
النقطة الثالثة
حول عمومية " الغيب "
ربما يتراءى من كلمات بعض منهم، لا سيما من صريح " التبيان ": أن
الغيب له العموم، فلا يختص بالقرآن، كما عن زر بن حبيش، ولا بما جاء من
عند الله، كما عن ابن عباس، ولا بما رواه أصحابنا من زمان الغيبة وقت
426

خروج القائم (عليه السلام)، قال: والأولى أن تحمل الآية على عمومها في جميع من
يؤمن بالغيب، فالغيب ما غاب عن العباد علمه من الجنة والنار والأرزاق
والأعمال وغير ذلك.
وما ذكره البلخي: أنه كل ما يدرك بالدلائل والآيات مما تلزم
معرفته (1).
أقول: لم يظهر لي وجه لإفادة المفرد المعرف باللام العموم،
ولا يقول به من كان متوجها إلى المراد من العمومات.
وأما الإطلاق في المقام فهو لا يفيد إلا كفاية الإيمان بصرف الغيب
وبغيب من الغيوب، من غير لزوم استيعاب الإيمان بجميع الغيوب وبكل ما
غاب عن الحس، فمن كان يؤمن بالله ولا يؤمن بشئ آخر، فهو من المؤمنين
بالغيب، لأن عنوان الغيب من عناوين الطبائع الكلية، والألف واللام
الداخل عليه يعد عندهم بالألف ولام الجنس، فلا يمكن الجمع بين الأقوال
هنا إلا ببعض الوجوه الخاصة:
الوجه الأول: أن الإيمان بغيب ما وببعض الغيب من صفات جميع آحاد
البشر وجميع الناس، لأن الغيب اللغوي مورد تصديق كل ذي شعور
ابتدائي، فعليه لابد من المحافظة على موقف الآية، وهو كونها في مقام مدح
المتقين ومدح الذين يتمكنون من الاهتداء بالكتاب، فلابد من كونه زائدا
على أصل الجنس والطبيعة، وحيث لا سبيل إلى تعيين الحد فيتعين
العموم.

1 - مجمع البيان 1: 38، تفسير التبيان 1: 56.
427

الوجه الثاني: أن الألف واللام للتعريف، ولا يعقل التعريف إلا
باستيعاب اللفظ جميع أفراد الغيب، كما تحرر في * (الحمد لله رب
العالمين) *.
الوجه الثالث: أن مقدمات الإطلاق، كما تفيد فائدة العموم الأفرادي في
ناحية الجملة النافية، مثل قوله: لا تشرب الخمر، وما رأيت أحدا، كذلك
هي تفيد فائدة العموم الأفرادي في ناحية الإثبات والجملة المثبتة، مثل
قوله: أكرم العالم ورأيت أحدا، لأن ما هو موضوع الحكم هو نفس
الطبيعة، وهي لمكان تكثرها حسب المنضمات الخارجية، تكون
صادقة على جميع الأفراد، وحيث إن الموضوع هو نفس الطبيعة فلابد من
تكثر الحكم بتلك الكثرة، فقوله تعالى: * (يؤمنون بالغيب) * إذا كان الجنة
من الغيب فهو مؤمن بها، وإذا كان النار منه فكذلك، فتأمل.
الوجه الرابع: بما أن القرآن كسائر كتب التأليف والتصنيف، يشتمل
على مصطلحات خاصة يطلع عليها أهل الفكر والتدبر، وسيمر عليك في
بعض المواقف ما يؤيد هذه الكلية، بذكر الشواهد القطعية على أن كلمة
الغيب في الكتاب الإلهي اصطلاح في قبال الشهادة، وأن العالم بين الغيب
والشهادة، وذلك يظهر بمراجعة موارد استعمالها:
1 - * (عالم الغيب والشهادة) * (1)، وهذا كثير جدا.
2 - * (غيب السماوات والأرض) * (2)، وهذا أيضا كثير الورود.

1 - الأنعام (6): 73، الزمر (39): 46.
2 - هود (11): 123، النحل (16): 77، الكهف (18): 26.
428

3 - * (فقل إنما الغيب لله) * (1)، فإنه أريد به الغيب الخاص، لا معناه
اللغوي قطعا.
4 - * (ولا أعلم الغيب) * (2)، فلو كان معناه اللغوي والأخبار الماضية
لما كان وجه للنفي، لإمكان الاطلاع على القصص الخالية.
5 - * (تلك من أنباء الغيب) * (3)، والمراد القضايا الآتية لما عرفت
وغير ذلك.
واستعماله في المعنى اللغوي أحيانا، لا يضر بكونه اصطلاحا لمعنى
خاص، حتى يرجع إليه عند الشك والشبهة، كما في هذه الآيات:
1 - * (صالحات قانتات حافظات للغيب) * (4).
2 - * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * (5).
3 - * (وما كنا للغيب حافظين) * (6).
فعلى ما تحصل: أن الآية هنا في مقام إفادة إيمانهم بكل ما كان غائبا في
مقابل الشهادة، فإن عالم الشهادة مورد إيمان كل أحد، وعالم الغيب ليس
إلا مورد إيمان المتقين، وأما الإيمان بمطلق الغيب مقابل الشهادة، فلابد من
استفادته من أحد الوجوه السابقة.

1 - يونس (10): 20.
2 - هود (11): 31.
3 - هود (11): 49.
4 - النساء (4): 34.
5 - يوسف (12): 52.
6 - يوسف (12): 81.
429

والذي هو الأقرب إلى أفق التحقيق بعد هذا البسط البسيط: أن الآية
الشريفة ليست إلا في مقام أصل الإيمان بالغيب، ولو كان غيابا، ولا نظر لها
إلى مصاديقه ومراتبه، من الغيب المضاف، والغيب المطلق، وغيب
الغيوب، فلا وجه لإدراج جميع الأقوال في مفادها، فإن ثبت بدليل متقن
شرعي أن الغيب هنا هو المصداق الخاص منه فهو، وإلا فلا معين له
حسب الآداب وشؤون البلاغة.
إن قلت: قال أبو مسلم الأصفهاني: إن المراد من * (يؤمنون بالغيب) * هو
أنهم حال الغيب يكونون مؤمنين، ومتعلق الإيمان محذوف، لأن النظر إلى
إثبات أصل الإيمان حال الغيب، في مقابل المنافقين الذين إذا لقوا الذين
آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، ونظيره قوله تعالى:
* (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) *.
ثم استشهد لإثبات دعواه: بأن الإيمان بالغيب يلازم العلم به، وهو
منفي عنهم، * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) *، وأن الغيب يطلق على ما
يصلح للحضور، فلا يطلق عليه تعالى وأحكام المبدأ والمعاد، وأن قوله
تعالى: * (الذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك) * هو الإيمان بالغيب،
فلو كان مفاد الثالثة ما ذهب إليه جمهور المفسرين يلزم التكرار (1).
قلت: بناء على ما أفاده لا يلزم كون الجار والمجرور في مقام
الجملة الحالية وصفة للمؤمنين، بل يتعين أن يقال: إن مقتضى الظاهر
هو كون الغيب مورد الإيمان، وأنه ليس من الأمور الراجعة إلى المبدأ

1 - راجع التفسير الكبير 2: 27 - 28، وروح المعاني 1: 107.
430

والمعاد، ولا يكون مما انزل إليه حين نزول هذه السورة، وإن كان نزل
إليه بعدها، وهذا هو الموجود الذي يصح في حقه الحضور والغياب،
كما أشرنا إليه في بحوث اللغة والصرف، ويكون حين طلوع الإسلام
وبعده غائبا، ويصح عليه الحضور في الزمان المتأخر، وهو القائم من آل
محمد عجل الله تعالى فرجهم.
وقد ورد في بعض أحاديثنا ما يؤيد ذلك: فعن " إكمال الدين " عن داود
بن كثير الرقي، عن الصادق (عليه السلام): " في قوله تعالى: * (يؤمنون بالغيب) * من
أقر بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق " (1).
وعنه مسندا عن يحيى بن أبي القاسم، عن الصادق (عليه السلام): " والغيب
هو الحجة الغائب * (ويقولون، لولا انزل عليه آية من ربه قل إنما الغيب لله
فانتظروا إني معكم من المنتظرين) * " (2).
إيقاظ
وربما يدل على أن المراد من الإيمان بالغيب، هو العمل الجارحي
والإقرار بأحد أركان الدين وأصول المذهب، أن هذه الآية في حكم
التفسير للآية السابقة، ولا معنى للتقوى حسب الأفهام العرفية إلا
الاتقاء في مقام العمل والفعل، كما يشهد له قوله: * (يقيمون الصلاة...) *
إلى آخر الآية.

1 - كمال الدين 2: 340 / 19.
2 - راجع كمال الدين 2: 340 / 20.
431

النقطة الرابعة
حول تقديم الصفات وتأخيرها
تقديم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة، وهي على الإنفاق من
الرزق، ربما يكون لبعض الوجوه، فإن الإيمان فعل القلب وعمل مجرد
يحصل للنفس في ملكوته السفلى، وأما الصلاة والإنفاق فمن الأفعال
القالبية ومتعلقات الأبدان ومن الأعمال الملكية، ولا سيما الإيمان بالغيب
بناء على شموله لغيب السماوات والأرض، فإنه لأجل تلك الإضافة يرجع
إلى الأعمال الخاصة الحاصلة لطائفة من المؤمنين والمتقين.
وأما تقديم الصلاة فلأشرفيتها على الإنفاق، كما قدمت نوعا أو كلا
عليه وعلى الزكاة، ولأن التحلي بالصور الكمالية علة صدور الأفعال
الحسنة، والإنفاق لا يمكن إلا بعد الاستكمال بتلك الصورة الإلهية، برفض
القوى الشيطانية وغيرها.
ولو كان المراد من إقامة الصلاة تعديلها أو الأمر بها وتوجيه الناس
إليها، فلا شبهة في أولويتها عليه، بل يكون من ذكر العام بعد الخاص.
432

النقطة الخامسة
حول * (يقيمون الصلاة) *
ما كان يرجع إلى العموم الأفرادي في قوله تعالى: * (يؤمنون
بالغيب) * نفيا وإثباتا، يأتي في قوله تعالى: * (يقيمون الصلاة) * وفي قوله:
* (ينفقون) *، وقد عرفت أن الأدلة قاصرة عن حصر هذه الطائفة بالمؤمنين
من العرب أو المؤمنين من أهل الكتاب.
وإنما الكلام حول أن في إفادة الإتيان بالصلاة بقوله: * (يقيمون الصلاة) *
نكتة أم لا؟ وقد مضى شطر من البحث حوله في بحث اللغة والصرف.
والذي يظهر للمتتبع الخبير البصير: أن إقامة الصلاة إشعار بالإتيان
بالصلاة على مستوى القوانين الشرعية الواردة في تعيين حدودها من
ناحية ماهية الصلاة وكيفيتها وأجزائها وترتيبها، ومن ناحية شروطها
وخصوصياتها، ومن ناحية موانعها وقواطعها، ومن النواحي الراجعة إلى
أحكامها القلبية زائدا على الأحكام القالبية، بحضور القلب وإخلاص
النية والتوجه التام إلى أنه في محضر رب العالمين، وهي المأدبة
التي دعي إليها من تلك الناحية المقدسة فليلاحظ جميع الكمالات
اللائقة للحضور ورفض النواقض المنافية للتشرف بساحة القدس
والوصول إلى فناء الرب المأمول، فإن في ذلك إقامة الصلاة، وفيه
صيانتها عن الاعوجاج والانحراف. وسيمر عليك - إن شاء الله تعالى - عند
433

المناسبات الملحوظة في هذا الكتاب خصوصيات هذه المائدة الإلهية
والمعجون الملكوتي.
النقطة السادسة
بعض النكات حول * (ومما رزقناهم ينفقون) *
تقديم الظرف في قوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) * إما لأجل الاهتمام
به، أو لأجل مراعاة رؤوس الآي، أو لأجل إفادة الحصر، فلا ينفقون مما رزقنا
غيرهم، إن كان الرزق للمعنى الأعم، وإلا فلو كان معنى الرزق الواصل
إلى المرزوق، فلا يمكن إنفاق ما رزقناهم وما رزقنا غيرهم، فإذا لزم
المجازية، فلا منع من الالتزام بالمعنى العام، فليتأمل.
ومن العجيب توهم: أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، لأن غيرها
مما لا يلزم إنفاقه (1)، وسيظهر أنها لا تفيد إلا المدح على الإنفاق.
ثم إن الإنفاق المتعدي بنفسه أو بغير " من " إذا تعدى ب‍ " من "، فهو
ليس إلا لإفادة التبعيض، ففي الإتيان بالجار إفادة لعدم لزوم التقتير على
أنفسهم، * (ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) * (2) بل أبسطها على
حد محدود وقدر خاص.
ثم إن حقيقة الرزق - حسب ما عرفت - أعم من الأرزاق المادية

1 - راجع الإتقان في علوم القرآن 3: 71، والدر المنثور 1: 27.
2 - الإسراء (17): 29.
434

الراجعة إلى المأكل والمشرب والمنكح والملبس، بل يعم الأرزاق
المعنوية والروحانية، فينفقون من علومهم الدراسية والتجريبية، ومن
المعارف والمكاشفات القرآنية والعرفانية، وأيضا هو الأعم من المال
والولد، فينفقون في سبيل الله أموالهم وأولادهم وعلومهم ومعارفهم وهممهم
وأفكارهم وغير ذلك، ويصح - على تعبير - إنفاق أنفسهم، لأن الوجود من
الرزق ومن النعم الإلهية.
فما عن ابن عباس: بأنه الزكاة المفروضة (1)، وعن ابن مسعود: أنها
نفقة الرجل على أهله، لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة (2)، وعن
الضحاك: هو التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى (3)، فكله خال عن
التحصيل، لعدم الدليل. فعلى ما تقرر ثبت عموم الآية من جهات شتى:
الأولى: من جهة أن المؤمن بالغيب والمقيم للصلاة والمنفق أعم،
ويشمل الصبيان والمميزين والمراهقين.
الثانية: أن الرزق أعم من الأرزاق المادية.
الثالثة: الإنفاق يكون أعم من كونه بنحو المباشرة والتوكيل
والإيصاء، ولعل قوله تعالى: * (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم
الموت) * (4) ناظر إلى الوصية بالإنفاق.
الرابعة: أن المنفق عليه أعم من الجهات والأشخاص والمؤمنين

1 - راجع مجمع البيان 1: 39، والدر المنثور 1: 27.
2 - نفس المصدر.
3 - نفس المصدر.
4 - المنافقون (63): 10.
435

والكفار، وأعم من التمليك والإيقاف.
النقطة السابعة
حول عمومية الصلاة والإنفاق من الواجب والمندوب
هذه الكريمة الشريفة جملة إخبارية، ولكنها تشير وتومئ إلى
الترغيب بالإيمان بالغيب والحث والإغراء بالصلاة والإنفاق.
وربما يتوهم الإشكال: في أن الأعمية من الصلوات الواجبة
والمندوبة، ومن الإنفاقات المفروضة كالزكوات المفروضة
والمستحبة، غير ممكن، لأن الجمع بين الواجب والمستحب، لا يمكن إلا
بعد إمكان الجمع بين المعاني الحرفية، على ما تقرر في الأصول.
وفيه: أن البعث الواحد إلى الواجب والمستحب ولو كان غير
معقول، ولكن إفادة المطلوبية المطلقة والمحبوبية الذاتية معقول
بالجملة الواحدة، وعلى هذا يقال: إن قوله تعالى: * (يقيمون الصلاة ومما
رزقناهم ينفقون) *، ليس في موقف إيجاب الإقامة أو الإنفاق ولا في مقام
الاستحباب، بل هو في موقف الإخبار الملازم أحيانا للترغيب نحو هذه
الأمور، فإن الوجوب والاستحباب يستفاد من القرائن الوجودية أو
العدمية الحافة بالكلام، فلا مانع عقلا من كون الآية الشريفة مشتملة
على إفادة المعنى الإنشائي، ويكون بالنسبة إلى الصلوات الواجبة إنشاء
إيجابيا، وبالنسبة إلى المندوبات استحبابيا، كما لا يخفى.
436

فبالجملة: تحصل أن ما زعمه بعض المفسرين من أرباب الحديث:
بأن المراد من الصلاة هي الواجبة ومن الزكاة هي المفروضة (1)، في
غير محله، بل المراد معنى أعم من الواجب والمندوب، لأن قوام الإسلام
بالصلاة من غير نظر إلى وجهها من الوجوب والندب، وأساس الإسلام
الزكاة، وهي قنطرة الإسلام، وتلك عمود الدين، من غير فرق بين الندب
والوجوب، لأنهما من العناوين الوهمية، لا تختلف بهما الحقائق
المقصودة من التشريع الأصلي والأغراض العالية من الأمر بهما، بل النظر
هنا إلى الواجبات العقلية القلبية، والمفروضات العقلية القالبية
البدنية والمالية، التي بها قوام النظام الفردي والاجتماعي، والتي بها
بناء الحكومات والسياسات الملكوتية والملكية.
النقطة الثامنة
في إتيان الجمل الثلاثة في هذه الآية بصيغة المضارع - الدال
على التجدد والاستمرار - إشعار ودفع توهم اختصاص الآية بالموجودين في
عهد النزول، كما توهموه.

1 - راجع تفسير الطبري 1: 104.
437

الفقه وبعض مسائله
المسألة الأولى
مشروعية عبادة الصبي
اختلفوا في مشروعية عبادة الصبي على وجوه وأقوال.
والحق هي المشروعية من غير حاجة إلى الأدلة الخاصة،
كإثبات مسألة أصولية: وهي أن الأمر بالأمر بالشئ أمر بذلك الشئ،
وحيث ورد الأمر من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): بأن الموالي والأولياء يأمرون
الأولاد والأطفال بالصلاة (1)، فيكون من ناحيته المقدسة أمرا متوجها إليهم،
فتصح صلاتهم، ومن غير حاجة إلى التمسك ببعض الأدلة والوجوه
الاخر، بل تكفينا الأدلة العامة وإطلاقاتها والعمومات من الكتاب
والسنة، وقد تقرر في محله: أن حديث " رفع القلم عن الصبي حتى

1 - وسائل الشيعة 3: 11 - 13 كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، الباب 3.
438

يحتلم " (1) لا يلازم رفع التكليف بالمرة، بل يمكن الالتزام برفع الوجوب
حسب الوجه الصحيح المعقول، وهو أن هذا الحديث في حكم القرينة
على الترخيص بالترك بالنسبة إليهم، ولا نريد من رفع الوجوب إلا ذلك.
وأما رفع الوجوب الاعتباري، أو رفع شدة الإرادة البسيطة، فهو ولو
أمكن في الاعتبار بلحاظ الآثار، ولكنه لا تمس إليه الحاجة جدا، فقوله
تعالى: * (يقيمون الصلاة) * بعد ثبوت عمومه الأفرادي، يشهد على مطلوبية
إقامة الصلاة من كل أحد، ولا سيما إذا كان مراهقا مميزا ومؤمنا بالأدلة
العقلية بالغيب، فإنه أقوى اندراجا تحت الآية من نوع المكلفين
الجاهلين بها.
وقد فرغنا عن أعمية " المتقين " فيما سلف، فلا يتوجه على الآية
الشريفة بعض التوهمات الناشئة عن قلة الباع وعدم الاطلاع.
نعم ربما يختلج بالبال صحة دعوى عدم ثبوت الإطلاق للآية
الشريفة بالنظر إلى الصلاة وأنواعها وأنحائها، لأنها في مقام إفادة الإيمان
بالغيب إجمالا وإقامة الصلاة، وأما أن هذه الصلاة هي المفروضة أو
المندوبة، فلا نظر لها إليها، فاستفادة المطلوبية الذاتية المطلقة
لطبيعة الصلاة بما هي هي من هذه الآية الكريمة، لا تخلو عن نوع
غموضة، وعلى تقدير ثبوته يصح التمسك بمثل هذه الآية وأشباهها في كل
مورد يحتاج الفقيه إلى التمسك بإطلاق المادة، لإثبات شئ، أو نفي
دخالة أمر في المحبوبية.

1 - راجع وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، الباب 4، الحديث 11.
439

المسألة الثانية
حول استحباب مطلق الإنفاق
قضية العمومات والإطلاقات المذكورة في البحوث السابقة لقوله
تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) * استحباب مطلق الإنفاق، لا إلى حد التقتير.
وفي تفسير الفخر أخذا عن غيره: أدخل " من " التبعيضية صيانة لهم
وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه (1). انتهى.
وهو عجيب، فإنه يمنع من إنفاق كل ما تيسر له وجميع أمواله
وأرزاقه، من غير ارتباطه بالإسراف والتبذير، وقد عرفت أنه ناظر إلى
قوله تعالى: * (ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) * (2)، ويصح
التمسك بها لإثبات استحباب الزكاة على الصبيان، وأن الإنفاق من كل أحد
مقبول ومطلوب إلا ما خرج بالدليل.
ويشهد على استحباب التعليم والإرشاد، وغير ذلك من أنواع الإنفاقات
المختلفة، الحاصل اختلافها من أنحاء الرزق وأقسام الرازق والمنفق
وغير ذلك.
ويدل على أن الإنفاق على غير المسلم جائز حسب العموم المستفاد
من الحذف، فيصح إعطاء الزكاة لغير المسلم والمؤمن إلا إذا قام الدليل
على خلافه.

1 - راجع التفسير الكبير 2: 31.
2 - الإسراء (17): 29.
440

ولأحد إنكار الإطلاق في الآية من هذه الجهة وبعض الجهات
المشار إليها، مدعيا أن الآية الكريمة في موقف آخر، وهو مطلوبية أصل
الإنفاق في الجملة، وأما مطلق الإنفاق - حتى على الحيوانات والكفار -
فلا يثبت مطلوبيته.
فبالجملة: استخراج الفروع الكثيرة من هذه الآية الكريمة وسابقتها
ممكن، والطريق ما أشير إليه، وسبيل الإشكال ما أومأنا إليه أيضا.
وأما دلالتها على جواز إعطاء الزكاة احتسابا، كما عن ابن عباس (1)
فهي واضحة المنع، ولا مأثور من الشرع حتى يستدل به عليها، وقد عرفت
أن قضية هذه الآية - على احتمال - جواز بذل الأولاد للجهاد في سبيل الله
والدفاع عن حرم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن إنفاق الولد - الذي هو رزق الله
قطعا - في هذا الخير المشروع، من أعظم أقسام الإنفاق، بل قد عرفت إمكان
استفادة بذل النفس في ذلك، فتأمل (2).
المسألة الثالثة
حول دلالة الآية على وجوب تكرار الصلاة
قضية ما تحرر في الأصول: أن الأمر المتعلق بالطبيعة لا يقتضي إلا
الامتثال مرة واحدة، ووجوب التكرار يحتاج إلى الدليل (3)، ولأجله

1 - راجع الدر المنثور 1: 27.
2 - راجع بحث البلاغة والمعاني، النقطة الثالثة.
3 - انظر تحريرات في الأصول 2: 199 وما بعدها.
441

لا يجب الحج في طول العمر إلا مرة واحدة، لأن مفاد الآية لا يزداد عليه،
كما يؤيده بعض المآثير والروايات.
وعلى هذا يتوجه السؤال إلى الفقيه من: أن الكتاب هل يدل على
وجوب الصلوات المفروضة - مثلا - في كل يوم مرة، أم الدليل عليه
ينحصر بالسنة والسيرة؟
ويشكل الجواب حسب ما عرفت، لأن قوله تعالى: * (أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * (1) لا يدعو إلا إلى الطبيعة، فإذا قام
المكلف وأتى بها في يوم على الكيفية الواصلة يكفي، ولا شاهد من
الكتاب على لزوم التكرار والإدامة.
وتوهم: أن ذكر بعض القيود في متعلق الهيئة والأمر المتكررة
بالطبع، دليل على لزوم التكرار.
غير مقبول، مثلا: إذا قال المولى: أكرم زيدا يوم الجمعة، فإن تكرار
يوم الجمعة لا يورث لزوم تكرار الإكرام، فقوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك
الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر) * لا يشعر بلزوم الإقامة عند كل دلوك،
فليتدبر.
فعلى هذا هل لنا دعوى: أن هذه الآية الشريفة * (الذين يؤمنون
بالغيب ويقيمون الصلاة) * تدل على الأزيد من أصل الإتيان بالصلاة، وهي
إدامة الصلاة بناء على ما عرفت في بحوث اللغة: أن من معاني الإقامة هي
الإدامة.

1 - الإسراء (17): 78.
442

وإن شئت قلت: إن الصلاة كانت مفروضة قبل نزول الآية الشريفة
المشار إليها في سورة الإسراء، فقوله: * (أقم الصلاة) * يفيد لزوم الإدامة
عند كل دلوك.
والإنصاف: أن معنى الإقامة - حسب المتبادر منها - ليست هي
الإدامة، وإن كانت بمعناها لغة، بل الإقامة متخذة من القيام، واستعيرت
للصلاة، لما فيها من القيام، لقول المصلي في الإقامة: " قد قامت الصلاة "
، وتكون حسب المفهوم منها - كما عرفت تفصيله - هي التعديل والإتيان بها
على صفة العدالة والاستواء والاستقامة، وكأن الصلاة هي الصراط
المأمور بالاستقامة عليه وإقامته وتعديله الذي مر في قوله تعالى:
* (إهدنا الصراط المستقيم) *.
ثم من العجيب توهم بعض المفسرين: بأن المراد من إقامة الصلاة هي
الإتيان بالإقامة المصطلحة للصلاة، ثم شرع في أحكام الإقامة والصلاة
وآدابهما بما لا يرجع إلى محصل (1). هذا، مع أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة
والإنفاق مما رزقناهم من باب واحد قطعا، نعم هناك خصوصية في التعبير
عن الإتيان بالصلاة بقوله * (يقيمون الصلاة) * وقد عرفت حالها.
ثم إنه لو سلمنا وتنزلنا عن ذلك، وقلنا: إن الإقامة هي الإدامة، فلنا
دعوى دلالتها على لزوم أو رجحان إدامة الصلاة التي اشتغل بها، دون
الإدامة المقصودة، وهي تكرارها في كل يوم.
وعلى هذا يسقط الاستدلال بقوله تعالى: * (الذين هم على صلاتهم

1 - راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 164.
443

دائمون) * (1) هذا، مع أن وجوب الإدامة لا يستفاد من الآية الكريمة.
وتوهم: أن المقصود من الصلاة هي الفرائض، ومن الإنفاق هي
الزكاة الواجبة، وأن الإيمان بالغيب لازم، فيعلم أن الإدامة واجبة.
في غير محله، لما عرفت من أعمية الآية، ومن أن الاختصاص
المزبور لا يورث لزوم الإدامة.
فبالجملة: لا تدل الآية الكريمة على أزيد من مطلوبية الصلاة
ومطلوبية تعديلها، بحسب الصورة الظاهرة وبحسب الآداب الباطنية.
المسألة الرابعة
حول دلالة الآية على جواز تمليك البضع
قد تقرر أن قضية عموم الآية جواز إنفاق العبيد والإماء، فإنها من
الأرزاق قطعا، بخلاف مثل العلوم والمعارف، فإن في كونها رزقا خلافا لما
لا تنفد، والإنفاق هو الإنفاد كما مر. وعلى هذا تدل الآية الشريفة على جواز
تمليك البضع وهبته، من غير خصوصية معتبرة في ذلك - حسب الإطلاق -
إلا إذا قام الدليل المقيد.
وتوهم قصورها عن إثبات مثل هذا النحو من الإنفاق، في غير موقعه.
والله العالم بحقائق أحكامه.

1 - المعارج (70): 23.
444

المسألة الخامسة
حول الإنفاق من مال الغير
لا يجوز الإنفاق من مال الغير بالضرورة، ولو كانت الآية شاملة
لجواز ذلك فهي مخصصة عقلا، ومنصرفة إلى ما هو المعلوم عرفا، وسيظهر
زيادة توضيح حولها من هذه الجهة في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى.
445

الكلام وبعض بحوثه
البحث الأول
حول كون الرزق مختصا بالحلال
قالت الأشاعرة: إن الرزق ما ساقه الله عز وجل إلى الحيوان، فانتفع
به حلالا كان أو حراما.
وقالت المعتزلة: الحرام ليس رزقا، واستدلوا بآيات: منها قوله
تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) *، فقد مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله
تعالى، فلو كان الحرام رزقا لجاز، ولوجب أن يستحققوا المدح إذا أنفقوا من
الحرام، وذلك باطل بالاتفاق (1).
أقول: يتوجه أولا سؤال إلى أرباب الحل والعقد: بأن الرزق إن كان
هو الشئ المقسوم المخصوص به المرتزق، فلا يعقل إنفاقه، وإن كان

1 - راجع التفسير الكبير 2: 30، وكشف المراد: 341، وشرح المقاصد 4: 318 - 319،
وشرح المواقف 8: 172.
446

أعم منه ومن المملوكات العرفية فيلزم اتحاد معنى قوله: رزقناهم، وقوله:
أعطيناهم وبذلنا لهم، وهذا خلاف الأصل وخلاف المتبادر منه، فالرزق
حسب الظاهر هي الحصة الخاصة من الأشياء التي ينتفع منها، وتلك
الحصة هي التي تختص بالمرزوق، فيلزم كون الآية مجازا.
اللهم إلا أن يقال: بأن الرزق هو الشئ الخاص، الذي يكون مورد
التمكن والاختيار والإعطاء والبذل، فهو أعم من هذه الجهة.
ومما يؤيد كونه هي الحصة الخاصة قوله تعالى: * (وما من دابة
في الأرض إلا على الله رزقها) * (1)، فالرزق كأنه ما ينتفع به من كل شئ،
انتفاعا يعيش به ويديم حياته، لا مطلق الانتفاع حتى يعد الإنفاق من أنحاء
الانتفاعات.
ومن هنا تنحل معضلة المتكلمين ثانيا، وهو أن يقال: إن حقيقة
الرزق إذا كانت ما قررناه، فقوله تعالى: * (ومما رزقناهم) * يكون معناه: أي
ومما مكناهم من أن ينتفعوا به ويستفيدوا منه ينفقون، أي إن ما بحسب
الصورة يكون مختصا بهم، وبحسب خيالهم خاصا لهم. ينفقون في سبيل الله
ولو كان بهم خصاصة، فإذا أنفقوا ما هو بظاهره رزقهم في سبيل الله - مثلا -
فهو رزق غيرهم حقيقة وواقعا.
أو يقال: إن الرزق إذا كان أعم لا تدل الآية على أخصيته، لأنها لأجل
كونها في مقام المدح منصرفة إلى الرزق الحلال، فلا تخلط.
وإن شئت قلت: لو كان الرزق أعم من الحلال حسب اللغة، ولكن

1 - هود (11): 6.
447

هنا لأجل إضافته إلى الرازق الذي هو ذو القانون في تنظيم العباد
والبلاد، وصاحب الشريعة المحافظة على النظام من الاختلال والفساد،
يكون متعينا في الحلال حسب تلك القوانين التشريعية والإرادات
القانونية، دون الإرادات التكوينية الكلية الإلهية، فإذا قال الله تعالى:
* (ومما رزقناهم ينفقون) * فلابد وأن يكون من الحلال، لأنه هو الذي رزقه
الله تعالى، وأما الحرام في محيط التشريع والقانون فلا يكون مما رزقه الله
تعالى، وإن كان من أرزاقه تعالى حسب النظام التكويني، وحسب نفوذ
إرادته في كل مكان وزمان، وفي كل مكاني وزماني، فتأمل تعرف.
فتحصل إلى الآن: أن ما اشتهر في كتب التفسير من أن الرزق هو
الحظ والنصيب - مستدلين بقوله تعالى: * (وتجعلون رزقكم أنكم
تكذبون) * (1) - غير بعيد حسب المتفاهم البدوي، إلا أنه يلازم المجازية
فيما نحن فيه، وهي خلاف الأصل، ويلازم كون الحرام رزقا، لأنه ربما يكون
حظا ونصيبا، وهو خلاف الأدب والحرمة.
إيقاظ
اعلم أن اختلاف الأشاعرة والمعتزلة في هذه المسألة ناشئ من
الشقاق الكلي الحاصل بينهم في مسألة الجبر والتفويض، وحيث إن
الأشاعرة اختاروا الجبر فلامنع من قبلهم من إسناد الرزق الحرام إلى الله
تعالى، والمعتزلة لما اختاروا التفويض منعوا عن ذلك، وأنه كيف يمنع

1 - الواقعة (56): 82.
448

قانونا عن الحرام ويحتسب الحرام رزقا للعباد؟!
والذي هو الحق ما أشير إليه وهو: أن النظر هنا إلى المراد من الرزق
الذي مدح الله المتقين والمؤمنين على إنفاقه، وهو محصور طبعا في
الحلال، لأجل القرائن، ومنها تقديم الظرف الظاهر في الحصر، مشيرا
إلى أن المؤمن لا ينفق إلا مما اختص به، ويكون تحت سلطانه حسب
القوانين الإلهية.
البحث الثاني
دلالة الآية على وجود صاحب الزمان - عجل الله فرجه -
اختلفت كلمات المتكلمين من الشيعة وغيرهم في الإمام الثاني
عشر - عجل الله تعالى فرجه - فذهبت الطائفة الحقة إلى أنه ابن
الحسن العسكري (عليه السلام)، وقد غاب غيبتين: صغرى وكبرى، وهو الآن في
الغيبة الكبرى، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم
حتى يأتي ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا (1).
وسائر الفرق الإسلامية اختلفت عقائدهم به بين مؤمن به وبين كافر
بوجوده، أو ببقائه، أو بظهوره.
وتفصيل المسألة يأتي في ذيل بعض الآيات الأخر المستدل بها
عليه وعلى ظهوره - إن شاء الله تعالى - جعلنا من المستشهدين بين يديه.

1 - الحديث مشهور، انظر عوالي اللآلي 4: 91 وما علق عليه محققه الآقا مجتبى العراقي.
449

والذي هو مورد النظر الإشارة إلى دلالة هذه الكريمة - على
بعض الوجوه المسطورة - على وجوده المقدس - عجل الله تعالى فرجه -
وقد مر تفصيله في البحوث المتعلقة بالبلاغة والمعاني.
وإجماله: أن الله تعالى خالق الغيب، وعنده خزائن الغيب، وعالم
الغيب والشهادة، فلا يوصف بالغيب، ولا يعبر عنه بالغيب وإن كان ذلك فهو
لقرينة تقتضيه.
ثم إن الظاهر عند الفقهاء جواز اغتياب الميت، وذلك لعدم اتصافه
بالغائب عرفا، فإن الغائب ما من شأنه أن يحضر ويمكن حضوره، فما هو
الغائب عن الحواس على الإطلاق، أو كان حاضرا على الإطلاق، لا يوصف
به، فلا يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا ما جاء به الإسلام من الأحكام والإخبار عن
المعاد والمبدأ من الغيب، فما هو الغائب حقيقة ينحصر بالمهدي من هذه
الأمة، الذي يظهر بعون الله، ويكشف عنهم الغمة، فقوله تعالى: * (يؤمنون
بالغيب) * يناسب المذهب المنصور.
ويؤيد ذلك: قوله تعالى في سورة يونس: * (فقل إنما الغيب لله فانتظروا
إني معكم من المنتظرين) * (1) ولو كان المراد أن الغيب من خصائصه تعالى،
لما كان وجه لقوله تعالى: * (هو الأول والاخر والظاهر والباطن) * (2)، فهو
تعالى أظهر من كل شئ، فكيف يكون هو الغائب حتى يؤمنوا به؟!

1 - يونس (10): 20.
2 - الحديد (57): 3.
450

الحكمة والفلسفة
وهنا بحوث:
البحث الأول
حول دلالة الآية على وجود الأمور غير المحسوسة
اعلم أن بعضا من المفسرين استدل بالكريمة الشريفة على وجود
الأمور غير المحسوسة، حذاء الذين ينكرون ذلك من الغربيين
والماديين، وذلك لأن قوله تعالى: * (يؤمنون بالغيب) * شاهد على وجود
الغيب والغائب عن الحواس الظاهرة (1).
ولك أن تقول: إن الآية تشهد على خلاف ما ذهب إليه بعض
المحدثين من الإسلاميين والطائفة الحقة، وهو أن التجرد من النعوت
الخاصة بالله العلي العظيم، ولا مجرد وراءه تعالى، فإذا تكون الآية دالة
على عدم الاختصاص.
والإنصاف: أن الكريمة الشريفة لا تدل على مقالة الإلهيين، وعلى
وجود المدركات غير المحسوسة، إلا على بعض التفاسير المذكورة ذيل

1 - تفسير الميزان 1: 45 - 52.
451

الآية الشريفة، وذلك لأن قوله تعالى: * (يؤمنون بالغيب) * ربما كان ناظرا
إلى ما جاء به الإسلام ورسوله، أو يكون ناظرا إلى أن الذين يأتون بعد
ذلك يؤمنون بالغيب، وهو وجود الرسول الأعظم وما شابه ذلك، فلا تدل على
وجود الأمور غير المحسوسة، الغائبة عن الأبصار والأسماع المادية،
واعتقادنا بأعمية الغيب لا يكفي لإبطال مرامهم.
وتوهم: أن الإيمان لا يكون إلا الاعتقاد، وهو لا يتحقق إلا بالتجرد (1)، فهو
كلام متين، ولكنه خارج عن حدود الآية دلالة، وإني قد كررت في الكتاب
أن المفسرين خلطوا وأدخلوا المسائل الكثيرة في كتبهم التفسيرية،
لمناسبات بعيدة وخارجة عن نطاق الآية ودلالتها، ضرورة إمكان تفسير
بعض العقائد العربية والعجمية على وجه يذكر ذيلها جميع الحقائق
والمعارف والأحكام وغيرها وسيظهر في محاله ما تدل من الآيات الشريفة
على وجود العوالم المجردة التي هي أوسع من العوالم المادية بما
لا يقاس ولا يحاسب إن شاء الله تعالى.
البحث الثاني
حول الإيمان الثابت وعمومية الحركة
هذه الكريمة الشريفة في موقف مدح المتقين، ولا يكون الإيمان
بالغيب مدحا إلا إذا كان باقيا ثابتا، والإيمان الحادث آنا ما، والزائل بعد ذلك

1 - راجع تفسير الميزان 1: 45 - 52.
452

لا يعد من النعوت الحسنة، بل هو مذموم، ويكون من الإيمان المستودع أو
أسوأ حالا منه، فتكون الآية مشعرة بأن الإيمان والاعتقاد الجازم
والتصديق بالغيب والعلم به وعقد القلب عليه، من الأمور القابلة للبقاء
وتصلح لأن تبقى، مع أن قضية عموم التبدل والتغير والحركة يضاد ذلك
ويمانعه. والدليل على عموم الحركة والتبدلات موكول إلى محله (1).
وإجماله: أن الأشياء المادية والصور المنطبعة في المواد دائمة
التدرج إلى الكمال ودائمة الخروج من النقص والقوة إلى الفعلية،
والعلم إن كان ماديا - كما عليه الماديون - فهو من جملة العالم الخارج
على الدوام من الهيولي إلى الصورة، وإن كان من المجرد فهو ليس من
المجردات المفارقة المحضة، بل هو من المتعلقات بالمادة والصورة
المنطبعة، فتسري إليها الحركة، ويكون مقتضى برهان الحركة
الجوهرية، خروج كل شئ من هذه الأمور - إما بالذات أو بالتبع - من القوة
إلى الفعلية، ومن الأشياء المتدرجة إلى الكمال هي النفوس
المتعلقة بالأبدان، فإنها دائمة الحركة، وحركاتها طبعية ذاتية، ويتبعها
في الحركة سائر أوصافها وكمالاتها من الصور العلمية وغيرها.
فالإيمان بالغيب - وهو العلم به علما راسخا في القلب - دائم
التحرك والتبدل، فكيف هو يبقى حتى يصح المدح عليه؟!
أقول: البحث بالتفصيل حول هذه المسائل يأتي في المواضع الاخر -
إن شاء الله تعالى - والذي هو اللازم الإشارة إليه هو أن النفس وأوصافها

1 - راجع الأسفار 3: 61 - 67 و 104 - 114.
453

من المجردات، وأن الحركة الذاتية الطبعية الاستكمالية، توجب
اشتداد الإيمان والعلم من غير انثلام وحدة النفس وتوابعها، فكما أنها بذاتها
متحركة وباقية، كذلك توابعها، فالمدح عليه صحيح. نعم يثبت بذلك درجات
الإيمان ومراتبه، وأن الإيمان ذو حصص كثيرة غير متناهية بالقوة تبعا لحصص
الحركة، وسيظهر في محله توضيح مراتبه الأصلية إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث
دلالة الآية على الرزق القابل للتغيير
يستفاد من قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) * أن الرزق على
نحوين ونوعين: رزق مقسوم بالقسمة القطعية، وهو الذي يصل إلى العبد
مثلا، ويعيش به وينتفع منه، وهذا هو الرزق الذي لا يعقل إنفاقه، وهو في
الكتاب الأول وفي أم الكتاب، ورزق مقسوم قابل لأن يتبدل ويتغير، فهو
واصل إلى العبد، ويكون تحت اختياره تشريعا وتكوينا، ولكنه يصلح لأن
يطرأ عليه الاستبدال، ويكون لغيره، وهو المقسوم في الكتاب الثاني، وهو
كتاب المحو والإثبات، وهذا هو الذي يمكن إنفاقه، ويصلح المدح عليه
والأمر به، فمن قوله تعالى: * (رزقناهم) * يعلم أن الرزق مخصوص بهم، ومن
قوله تعالى: * (ينفقون) * يعلم أن الاختصاص لا يكون على وجه لا يمكن
تغييره وتبديله، فالآية الشريفة تشهد على ما تقرر في محال اخر من أن
الخصوصية الثابتة من الغيب ومن ناحية المبدأ الأعلى، ليست غير
454

قابلة للتبديل والتغيير، وتدل على أن هناك خصوصيتين: إحداهما ما تكون
كذلك، والثانية ما لا سبيل إلى التصرف فيها.
ومن هنا يعلم أن الرزق هو الأمر المقسوم والمخصوص بالشئ،
سواء كان من الحيوان أو الإنسان، أو غيرهما من السماويات والأرضيات
والخلقيات والأمريات، كما أنه بناء على ما ذكرناه لا يختص المتقون
بالطائفة من الإنسان أو الجن بل الآية - حسب الصناعة - تشمل جميع
الموجودات الأمرية أيضا، وإيمانهم بالغيب أيضا صحيح ونسبي، لأن هناك
غيب آخر، وهو غيب الغيوب، وإقامتهم الصلاة أيضا صحيحة، فإن الله
وملائكته يصلون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنفاقهم مما رزقهم الله تعالى أيضا
صحيح، ولكنه بوجه آخر، لأن رزقهم شئ آخر، وقد مضى عمومية الرزق
وعمومية الإنفاق وعمومية كيفية الإنفاق... وهكذا.
البحث الرابع
حول الآية والقول بالأمر بين الأمرين
من المقرر في محله والمحرر في مقامه: أن الحق في المقام هو
الأمر بين الأمرين (1)، فلا تكون الأفعال مستندة إلى الله تعالى بلا واسطة، ولا
إلى العبد بتفويض الأمر إليه، خلافا للأشعري والمعتزلي (2)، وتفصيل

1 - راجع الأسفار 6: 369 - 395.
2 - راجع شرح المقاصد 4: 219 - 264، وشرح المواقف 8: 145 - 159.
455

المسألة يأتي في بعض المواقف الأخر إن شاء الله تعالى.
وإجماله: أن الأشعري يدعي أن كل شئ أو كل فعل مستند إليه تعالى،
فلا اختيار للعبد ولسائر العلل المتوسطة، ولا علية لغيره تعالى،
والمعتزلي يدعي عكسه، ويقول: إن الله خلق الخلق وفوض أمرهم إليهم،
من غير دخالة له في أمورهم نفيا أو إثباتا.
والإمامي على حسب الآيات والأخبار (1)، وعلى مقتضى البراهين
العقلية والدلائل اليقينية، يقول بالأمر بين الأمرين، فلا يكون العبد فاعلا
مستقلا ولا غير مداخل في فعله، بل هو فاعل غير مستقل، والحق تعالى أيضا
لا يكون مصدرا قريبا وتهيئيا ولا منعزلا، بل إرادته وقدرته نافذة في كل
شئ، وإلى هذه المائدة الملكوتية والحقيقة الإيمانية يشير قوله تعالى:
* (ومما رزقناهم ينفقون) * فإنه تعالى نسب إلى نفسه ما يكتسبونه بأياديهم،
ونسب إليهم الإنفاق، وحيث لا تفصيل بين الأفعال، ولا يقول أحد: بأن بعضا
من الأفعال مستند إليه تعالى محضا، وبعض منها إلى العبد محضا، فلابد
من أن يتعين الأمر بين الأمرين حتى يصح الاستناد إلى الله تعالى حقيقة
وإلى العباد واقعا، فما جمعوه من الأموال قد رزقهم الله تعالى، وما أنفقوه منها
فهو بإرادته وقدرته الأزلية الأبدية البتة.

1 - راجع في بيان الآيات إلى كشف المراد: 311، وفي بيان الأخبار إلى الكافي 1: 119 -
122 والتوحيد: 359 - 364.
456

علم العرفان والأسماء
حول الغيب
اعلم أن الإيمان بالغيب كما لا يختص به طائفة من المؤمنين،
أو جماعة من الأعراب، أو ثلة من عائلة البشر أو الجن، كذلك لا يختص
به الموجودات الأمرية، بل قضية ما تحرر عموم الشعور والإدراك لكافة
الحيوانات وللذرات قاطبة (1)، كما نطق به الكتاب الإلهي والبرهان
العلمي والشواهد الإلهامية والمكاشفات العرفانية، فهم كلهم من
المؤمنين بالغيب، أو فيهم المؤمنون به والكافرون أيضا.
ثم إن العالم باعتبار كله الظهور والشهود، ولا غيب فيه حتى يؤمن
به أحد، وباعتبار كله الغيب ولا شهود، لأن الغيبوبة والشهود إضافيان
حسب نشأت الحشر ومراتب الكشف، فرب موجود سفلي لا يغيب منه
شئ، ورب موجود علوي متفان في الإلهية، ومهيمن في الذات الأحدية، لا
شهود له رأسا وكلا.

1 - راجع الأسفار 2: 267 - 285 و 7: 148 - 168 و 9: 243 - 273.
457

وأما تقسيم العالم إلى الغيب والشهود فهو بلحاظ حال العابد
والمعبود، فإذا لاحظنا العبادة والعابدية والمعبودية يحصل لنا الغيب،
وهو عالم المعبود والشهادة، وهو عالم العابد، وهذا رأي الأخسرين أعمالا
الذين ضلوا وأضلوا.
واعلم أيضا أن الغيب المطلق - حسب مصطلحات أهل الفن - مقام
العماء (1)، وقد ورد في الحديث: " إن ربي كان في العماء " (2) ومقام العمائية
مقام لا يناله أحد.
عنقا شكار كس نشود دام بازگير * كانجا هزار باد بدست است دام را (3)
وهو تعالى في هذه المرتبة لا ظهور له ولا مظهر يخصه، بل هو كان
في الغيب، وهو الآن في الغيب، ويكون إلى الأبد في الغيب، وهو الغيب
المطلق، فإن الغيب لله تعالى، ويخص به دون غيره، فإن الأغيار كلها
مشهودة وعاريات ظاهرة يدركها الخواص والعوام، وما هو في الأفق الأعلى
ولا يشار إليه حتى بكلمة " الله "، هو الحق المتعال عن الشهود
والظهور، ولا يدركه ولا يناله الأنبياء ولا الأولياء ولا الملائكة المقربون.
رفتم فراز آسمان تا يابم از يارم نشان * آمد ندا از قدسيان آن يار كو آن يار كو؟

1 - راجع شرح القيصري على فصوص الحكم: 11، ومصباح الأنس: 74.
2 - راجع عوالي اللآلي 1: 54 / 79، ومسند أحمد 4: 12.
3 - ديوان حافظ شيرازي: مر مطلعه.
458

إشراق عرفاني: حول خاصة الإيمان
إذا تحقق الإيمان، وبلغ إلى نصاب الإيقان وميقات العرفان، يستتبعه
الخاصتان:
الخاصة الأولى: هو القيام الفرداني والعمل الوحداني، لأجل تكميل
هذا الأمر القلبي، وإن لكل شئ يحصل هذه الخاصة على اختلاف مراتبهم
ومراتب إيمانهم، فإقامة الصلاة والإتيان بالعبادة الاستكمالية عن شعور
وتدبر على وجهه المحرر، لا يمكن لكل أحد إلا إذا اتصلت روحه
القدسية بعالم الغيب والوحي، وهذا مما لا يتمكن منه كل أحد، فلابد من
وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب الوحي، حتى يأتي بذلك المعجون المناسب
لطبيعة الإنسان، ولمزاج الجن والإنس، ولكل مزاج يكون مبعوثا إليه.
وأما الموجودات الاخر العلوية والسفلية فهي أيضا في حركتهم
الاستكمالية يحتاجون إلى الرسول والنبي حتى يخبرهم بما يعالجون به
أمزجتهم، ويعدلون به روحهم وقويهم، ويأتي لهم بصلاة رافعة نفوسهم من
الأسفلين أعمالا إلى الأعلين، ومن الأرذلين صفات إلى الأكملين ذاتا، وهكذا
فكل موجود بما أنهم يقيمون الصلاة ويؤدون النفقات، يحتاجون إلى أحد
الأمرين - على سبيل منع الخلو -: إما الإشعار الذاتي بما يليق بحضرة
المولى، أو الشعور الاستكمالي بواسطة الأنبياء والأولياء.
الخاصة الثانية: هو القيام بالأعمال الاجتماعية بالتدبر والإنفاق
والتقدير والإعطاء والإنفاد، فيقوم بالمحافظة على غيره عن الانحرافات
459

وصيانة الكل عن الخرافات، فينفق ما عنده من الرزق المالي والروحي،
والمعنوي والمادي، والظاهري والباطني، وكل شئ يتقوم به
الموجودات، فإنه لابد وأن يبذل الخير كله في طريق الخير كله، حتى
يقي غيره من الشر كله، فكما أن الجملة الأخيرة عامة شاملة، كذلك
الإيمان بالغيب فيه المعنى الشامل، وإقامة الصلاة أيضا كذلك، ويستشم
منه أن حقيقة الإيمان هو كونه مضافا إلى الغيب، وحقيقة العبادة هي
الصلاة، كما أن حقيقة الإنفاق هو القيام بأمر الغير في إيصال الخير إليه
بأي نحو أمكن. والله العالم بحقائق آياته الشريفة.
تنبيه علمي وتوضيح عياني: حول الاسم " المؤمن " و " الرازق " و " المنفق "
إن من أسماء الجلالة " المؤمن "، ففي سورة الحشر * (لا إله إلا هو
الملك القدوس السلام المؤمن) * (1)، ومن الصفات الكمالية " المقيم "
و " المديم "، ومن الأسماء الجمالية " الرازق " و " المنفق "، ففي سورة
المائدة * (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) * (2)، من غير أن يلزم من إنفاقه
نقصان في سلطانه، فهذه الآية الكريمة تمثل المثال الأعلى للرب
المتعال، وأن العبد المهتدي بهداية القرآن يكون مظهرا لجميع الصفات
الجمالية والجلالية، ويتجلي فيه الأوصاف الكمالية، فيشارك ربه في
الإيمان والإقامة والإدامة والإنفاق، التي كلها من خصوصيات الواجب

1 - الحشر (59): 22.
2 - المائدة (5): 64.
460

بالذات، ومن توابع الوجود الصرف القائم والمقوم للهويات، فيكون مؤمنا
بالغيب، أي محصلا للأمن لأجل تجلي الغيب فيه ومعاينة الحقائق
الغيبية، أو لأجل أنه تعالى هو المؤمن والمصدق، فإنه تعالى من صفاته
التصديق: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) * (1)، فيكون " المؤمن " من
الأسماء الجمالية، والأول - بحسب اعتبار عرفاني - أقوى، ضرورة أن العبد
لابد وأن يحصل في سلوكه الجلوات الجلالية، وأن يتحقق لقيام التسبيح
والتنزيه ورفض النواقص والشرور، ثم يتحلى بحلية الكمالات
والتجليات الأسمائية.
ثم إن الحقيقة تكون حاصلة من القلب ثم إلى البدن، ثم تنتهي
إلى الأعمال الربوبية، وهو الإنفاق، فإن الإيمان من الأسماء الذاتية،
والإقامة والإدامة من الأسماء الصفاتية، والإنفاق من الأسماء الأفعالية،
فالعبد السالك بالحق في الحق يصل إلى مقام يماثل الحق، فيكون في
الابتداء مؤمنا، ثم في الرتبة الثانية مقيما، وفي الثالثة فاعلا بإنفاق
التجليات الذاتية والأسمائية، فإنه أحسن التجليات فائدة وأثرا، ومعلول
تلك التحليات التي هي تتقوى بتلك التجليات، فإن الذوات الإمكانية
ترتقي بإمداد الأفعال والأعمال. والله تعالى هو الموفق والمؤيد.

1 - الفتح (48): 27.
461

الأخلاق والآداب وبعض بحوث اجتماعية
اعلم يا أخي ويا قرة عيني أن اللازم على السالك في سبل الخيرات،
والمسافر إلى الله بعين الحقيقة للتعين بالأسماء والصفات، أن يلاحظ
الآيات بعين التدبر والتفكر، ويقرؤها على قلبه في نهاية الدقة والتأمل
حتى يتوجه إلى مقاصد الكتاب، ويهتدي بهداه. وأن الأخذ في تبويب
المسائل العلمية والشروع في ترتيب البحوث الفنية، ربما يكون من
الأعمال الشيطانية ومن القوى النفسانية، الراجعة إلى الدنيا
وكدورتها وإلى الطبيعة وباطنها، فيصير السالك فيها والمغامر في أبحارها
هالكا وباقيا في العمى، * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) * (1)،
فلا تغتر بما في هذه الوريقات من الدقائق العلمية والحقائق العرفانية،
فإن راقمها من القاطنين في سجون الطبيعة المظلمة، وكاتبها من
المنغمرين في الشهوات الرذيلة اليونانية والشاماتية، بل تدبر في
الكتاب الإلهي حتى تصير مظهرا له ومصاحبه، وتتجلى فيك صفاته

1 - الإسراء (17): 72.
462

وخصوصياته، حتى تنجو من المهالك الآتية، والعقبات التي تنتظرك من
قريب وإن تظنها - نعوذن بالله - بعيدة. وتفكر في آياته، وانظر كيف يهديك في
نهاية اللطف، وكيف يقوم بهدايتك في غاية الإعزاز والتكريم، فيقول في
صورة الأدب * (يؤمنون بالغيب) *، أي هم إذا استشعروا يتوجهون إلى لزوم
ذلك، من غير احتياجهم إلى الأمر فيؤمنون بالغيب، ويهذبون ذواتهم وفطرتهم
المخمورة بالإيمان بالغيب، وبعقد القلب على تركيز الغيب في قلوبهم، ثم
يقومون لترسيخ ذلك بإقامة الصلاة والأعمال البدنية، وتهذيب البدن
ومزاجه الطبيعي بالصلاة، التي هي الحركات المعتدلة المناسبة
للمحافظة على مزاجه وعلى صحته، فإن الصلاة مرقاة أهل القلوب، وميدان
أرباب الصراع، فهي أس كل شئ إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردت رد ما سواها.
ثم بعد الفراغ من التهذيبين - التهذيب الروحاني القلبي والتهذيب
المادي البدني - يشرع في تهذيب غيره بإنفاق ما عنده، فإن رحى الاجتماع
تدور عليهم، ومسؤولية عائلة البشر متوجهة إلى هؤلاء السالكين
المهذبين، فعليهم تنظيم الأمور بمقدار الميسور، فينفقون ما عندهم حتى
يتمكنوا من أن يعيشوا في ظل ذلك الإنفاق والإعطاء.
فالأمر بالإنفاق من غير نظر إلى خصوصية في كيفية من كيفياته،
ليس إلا لأجل أن الإنفاق - من كل شئ على كل شخص في كل حال وزمان -
من الأمور الحياتية ومن المصالح الاجتماعية، التي بمراعاتها تبقى
الحياة الفردية، ويحصل التهذيب الفرداني، ويتمكن الإنسان من القيام
بالعيش الوحداني، فما ترى من العمومات والإطلاقات المختصة بهذه
الكريمة - أي بقوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) * - ليس إلا لأجل
463

أهمية الإنفاق في أساس الاجتماع.
وإنا إذا راجعنا وجداننا نجد أن الزكاة لا تختص بالأموال، كما تومئ
إليه الأخبار والآثار، بل لكل شئ زكاة، فلابد من صرفه وإيصاله إلى
محاله، حتى يبقى أصل الحياة وأساس التنميات، فهذه الآية الكريمة
الشريفة تدعوك إلى رفض رذيلة البخل، وتناديك إلى الاتصاف بصفة
السخاوة، والإعطاء في كل جانب من الجوانب الممكنة، فرب عالم يبخل
في تعليم الناس، ورب سالك يبخل في هداية المتقين، ورب تاجر يبخل في
إخراج حق الفقراء... وهكذا، غافلين عن أن ذلك المنع والامتناع يرجع إلى
منع أنفسهم من الاستمتاعات المعنوية وحرمان نفوسهم من اللذائذ المادية
والمعنوية، وذاهلين عن أن حقيقة السلوك والعلم هو القيام بالتجلي
الفعلي الإلهي، فإن في تلك الجلوة جلوة الذات والصفات، كما تحرر.
فعليك أيها الإنسان الكبير أن تبذل جهدك في عدم الاقتناع بالمفاهيم
والفنون، وتجتهد في أن تعبر قنطرة المجاز إلى دار الحقيقة والشهود،
وما يتيسر ذلك إلا بأن تصير مجلي لهذه الآية الكريمة، الجامعة لأنحاء
السعادات الدنيوية والأخروية.
بحث وإرشاد: حول الإيمان والتصديق
اعلم أن في رواياتنا ما يشتمل على بيان جنود العقل والجهل، وقد عد
من جنود العقل الإيمان وضده الكفر، والتصديق وضده الجحود (1)، ولو

1 - راجع الكافي 1: 16 / 14.
464

كان الإيمان هو التصديق للزم التكرار، مع أن مقتضى ما تقرر فيما سلف هو
أن الإيمان هو التصديق.
أقول: الإيمان هو التصديق القلبي والتصديق هو الاعتقاد العقلي
حسب الإدراك العلمي والبرهاني، وبينهما الفرق الواضح، فإن القلب
مركز ظهور التصديقات العقلية البرهانية، ومهبط آثار الاعتقادات
العلمية، فكم من عالم معتقد بمسائل كثيرة في العلوم، ولا يذوق قلبه منها
شيئا، ولا يكون قلبه مهبطا ومنزلا لتلك الكليات المفهومية الإدراكية، بل
امتلأ قلبه بالكفر والإلحاد والزندقة والشرور.
فعلى ما تحصل تبين: أن من جنود العقل هو التصديق والاعتقاد، قبال
الإنكار وعدم انشراح صدره للتوحيد والإسلام والولاية، ومن جنوده
الإيمان بظهور انشراح الصدر للإسلام فيه، وإذا كان الأمر قلبيا يكون
المؤمن فاعل الخيرات طبعا، ويفر من الشرور قهرا، وعليه يحمل تفسير
الإيمان بالعمل بالأركان، فإن هذا العمل لازم ذلك الإيمان بالضرورة
والوجدان، وإلى هذا يشير قوله تعالى في سورة الأنفال: * (إنما المؤمنون
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى
ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم
المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم) * (1)، فإنه يستشم منه: أن الإيمان من
الأعمال القلبية، ومن آثاره الازدياد إيمانا باستماع الآيات، ومن آثاره إقامة
الصلاة والإنفاق، كما في هذه الآية الثالثة من البقرة.

1 - الأنفال (8): 2 - 4.
465

ويستشم منه أيضا: أن الأعمال البدنية من الإيمان إلا أن النظر إلى
أنها من آثاره، ولا يكون من مقومات الماهية كما توهموه (1).
ويستشم: أن للإيمان مراتب بين ما هو الحق في نظر القرآن وما هو
الباطل والمجاز، ويكون ذلك هو الإيمان البدوي المستودع، الذي لم
يرتكز بعد في القلب، وهذا الإيمان هو التصديق المقابل للجحود.
وأما الإيمان المقابل للكفر فهو الإيمان القلبي الراسخ في النفس،
بحيث لا يتبدل بالأيادي الشيطانية، ولا يزول ولا يتغير بالأرياح الخريفية.
تنبيه: حول عد الصلاة من جنود العقل
قد عدت الصلاة من جنود العقل في الرواية المعروفة، والإضاعة
من جنود الوهم والجهل.
وربما يشكل الأمر: لأجل أن الصلاة من الأفعال، والحديث في موقف
تعديد الصفات والخصوصيات الذاتية والنعوت الجمالية والجلالية،
ولو كانت هي من جنوده لكان كل فعل من الخيرات من جنوده.
اللهم إلا أن يقال: إن الصلاة والصوم من رؤوس الأفعال الخيرة، وإنها
إن قبلت قبل ما سواها، ولا منع من اعتبار كون فعل من الأفعال جندا من العقل،
ضرورة أن أحسن شئ يتقوى به العقل هي الصلاة، بل لابد من اعتبار
الأفعال من جنود العقل، لأن ازدياد العقل لا يعقل إلا بتراكم آثار الفعل في

1 - راجع مجمع البيان 1: 38 - 39، والتفسير الكبير 2: 24 - 25، وأنوار التنزيل وأسرار
التأويل 1: 16.
466

القلب، فإنه به يتقوى العقل جدا، ويدرك كل الخيرات طبعا.
وغير خفي: أن في عد الصلاة من جنود العقل - بعد عد الإيمان من
جنوده - شهادة على أن العمل بالأركان ليس داخلا في ماهية الإيمان ولا
من مراتبه، بل الصلاة من الآثار الحاصلة به، وتختلف قوة وكشفا باختلاف
مراتب الإيمان.
فإذا تبين لك يا أخي ويا صديقي هذه الأمور العلمية، وتلك المفاهيم
الفنية والبرهانية، فاعلم أن من أصدق شعر قاله المولوي المعنوي ما قاله:
پاى استدلاليان چوبين بود * پاى چوبين سخت بي تمكين بود (1)
فإن الإنسان يرى بعين البرهان الحقائق الحكمية، ولا يذوق بعين
الحقيقة منها شيئا، ولا يمس قلبه منها أثر، وهذا هو العلم المذموم، وهو
العلم الذي يظهر على عالمه بصورة خبيثة، فإن الشيطان من العلماء
جدا، بل هو أعلم العلماء، ولأجل عدم رسوخ العلم في قلبه بلغ إلى ما بلغ،
فعليك بالجد والاجتهاد في تحصيل السداد بتوجيه المعارف إلى قلبك،
وتركيز الحقائق في صدرك، حتى لا تكون ممن نسي الله فأنساهم أنفسهم،
ولا تكون من المخذولين الضالين.
إلهي وسيدي أرجوك ولا أرجو غيرك، وأطلب منك ولا أطلب من
سواك، فامنن علي بأن تهديني إلى صراطك العزيز المستقيم.

1 - مثنوى معنوي، دفتر أول، بيت 2128.
467

التفسير والتأويل
على مختلف المسالك والمشارب
فعلى مسلك الأخباريين
* (يؤمنون بالغيب) *، ويصدقون بالبعث والنشور والوعيد والحساب
والجنة والنار وتوحيد الله تعالى (1).
وقريب منه: أنهم * (يؤمنون) * بالحجة وينتظرون قيام القائم - عجل
الله تعالى فرجه - ويؤمنون بذلك أنه حق (2) * (ويقيمون الصلاة) * بإتمام
ركوعها وسجودها، وحفظ مواقيتها وحدودها، وصيانتها عما يفسدها
وينقضها (3).

1 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 67.
2 - راجع تفسير البرهان 1: 53 / 4 و 5.
3 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 73.
468

وفي حديث الكراجكي: " نحن الصلاة " (1)، ويأتي في بعض المواقف الأخر
حول كيفية كون الإنسان الكامل هي الصلاة والزكاة، كما في بعض
الأخبار الأخر (2): * (ومما رزقناهم ينفقون) *، ومما علمناهم ينبئون، ومما
علمناهم من القرآن يتلون، ومما علمناهم يبثون (3).
وقريب منه: * (ومما رزقناهم) * - من الأموال والقوى في الأبدان
والجاه والمقدار - * (ينفقون) * (4).
وقد مضى أن مفاد هذه الأخبار لا يورث قصورا في حدود دلالات
الآيات، بل ربما تقيد عمومها، فإن جلا من مفسري العامة، توهموا اختصاص
الغيب بشئ خاص، أو اختصاص الإنفاق بالأموال، وهذه المآثير تدل على
الأعمية، وتفتح باب التوسعة في الدلالة.
ثم إن في أخبار المخالفين ما يرجع إلى اختلاف المفسرين منهم في
ذلك، كما مضى في ضمن البحوث السابقة، وأن الاختصاص بالقرآن أو بما
جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو غير ذلك، بلا وجه.
وأسوأ حالا من ذلك كله توهم: أن قوله تعالى: * (ومما رزقناهم
ينفقون) * منسوخ بما جاء في سورة براءة لما يذكر فيها الصدقات (5)، بداهة

1 - راجع بحار الأنوار 24: 302 عن " كنز " وهذا رمز لكنز الفوائد للكراجكي وتأويل
الآيات الظاهرة والحديث فيه: 21، لا في الكنز.
2 - راجع تفسير البرهان 1: 53.
3 - راجع تفسير القمي 1: 30، وتفسير العياشي 1: 26، ومعاني الأخبار: 23 / 2.
4 - راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 75، وتفسير الصافي: 21.
5 - راجع الإتقان في علوم القرآن 3: 71، والدر المنثور 1: 27.
469

أن مفاد هذه الآية ليس الوجوب حتى يخصص أو ينسخ، بل هي تفيد أصل
المطلوبية، وهو باق بعد، وفي اشتمال الكتاب الإلهي على النسخ كلام يأتي
في محاله إن شاء الله تعالى.
وغير خفي: أن أقوال المفسرين - كابن عباس وغيره - لا تقاوم رواياتنا
الصادرة عن أئمتنا المعصومين (عليهم السلام)، لأنهم أهل البيت، وهم أدرى بما فيه.
وعلى مسلك الفقيه الأصولي
إنهم * (يؤمنون) * إيمانا ما بغيب ما، ويأتون بالصلاة إجمالا، * (ومما
رزقناهم ينفقون) *.
وبعبارة أخرى: هذه الآية في مقابل الكافر والمنافق، فإنهما لا يؤمنون
بالغيب ولا يصلون ولا ينفقون، ولا يعطون الزكاة أو سائر حقوق الفقراء.
وأما المتقون فهم المؤمنون بالغيب ويصلون ويعطون الزكاة، من غير
كونها في مقام الإطلاق والعموم.
نعم بناء على كون العمومات غير محتاجة إلى مقدمات الحكمة،
يثبت العموم الأفرادي، وهو غير بعيد، وأما الإطلاق من سائر الجهات
فلا يثبت بمثلها، ومن أجل الأخذ بالقدر المتيقن واقتضاء السياق لا يبعد
دعوى تعين الجملة الأخيرة في الزكاة، لأن الآية - مضافا إلى عدم ثبوت
الإطلاق - لها كأنها في موقف الإجمال، ولا شبهة في أن المنافقين والكفار
ينفقون، ولا ينفقون الزكاة، فيكشف بذلك أن المقصود هي الزكاة. والله
العالم.
470

وإن شئت قلت: قد تضمنت سورة البقرة أحوال المؤمنين والكافرين
والمنافقين في عدة آيات، وهذه الآيات ناظرة إلى حال المؤمنين في حذاء
الكفار والمنافقين، فكما لا عموم في الآيات الآتية، وتكون قضايا طبيعية،
وفي حكم المهملة، كذلك الأمر في هذه الآيات.
وعلى مسلك جمهور المفسرين المتأخرين
كالطبري (1) وغيره: أن الآية لها عموم ولا اختصاص لها بشئ خاص
من المذكورات في كلمات القدماء منهم، كابن عباس وغيره مما مر في
المباحث السابقة.
وقريب منه: أنهم * (يؤمنون) * في غيابهم وحضورهم، أو يؤمنون
ويتخذون الغيب والاعتقاد به أمنا ومأمنا، أي يصيرون في أمن لأجل الغيب
أمنا من العقبات الآتية، ومن العقوبات في البرازخ والقيامة، * (ويقيمون
الصلاة) * واجبة كانت أو مستحبة، ويديمونها ويداومون عليها، أو يعدلونها
بتعديلات الشرع والعقل، ويواظبون عليها ويحافظون على أوقاتها، على
اختلاف تعابيرهم في كتبهم التفسيرية.
* (ومما رزقناهم ينفقون) *، زكاة كانت، أو نفقة العيال، واجبة كانت أو
مستحبة أو غير ذلك، خلافا لبعض منهم ممن توهم الاختصاص هنا وفي
ناحية الصلاة، كما مر.

1 - راجع تفسير الطبري 1: 105.
471

وعلى مسلك الحكيم
* (يؤمنون بالغيب) * المطلق، جميع الملائكة والروحانيين وجميع
الموجودات الأمرية، وجميع المؤمنين والمتقين من الجن والإنس، فإن
ما هو الغيب على الإطلاق هي الذات الأحدية بالنسبة إلى كل أحد،
بخلاف غيره تعالى، فإنه الغيب الإضافي والنسبي، وإيمان كل شئ بحسبه،
فإن من الموجودات ما يكون الإيمان زائدا على ذاته، ومنهم ما هو الإيمان
عين حقيقته الجوهرية النفسية أو الجوهرية العقلية، فيكون بتمام
هويته مؤمنا بالغيب، ويكون هو الإيمان بالحمل الشائع، كما هو النور
والعلم والقدرة، حسب ما تقرر في محاله.
وإن شئت قلت: إن صفة الإيمان بالغيب حقيقة لهؤلاء الطائفة من
الموجودات الأمرية، وقد مدح الكتاب العزيز المتقين على أن يكونوا
أمثالهم، فيرغبهم في الاتصاف بصفتهم والتمثل بمثلاتهم العليا وخصوصيتهم
الراقية، * (ويقيمون الصلاة) * على حسب إمكاناتهم واستعداداتهم، فإن
الصلاة والعبودية من اللوازم العقلية لجميع الطوائف الشاعرة،
* (ويقيمون الصلاة) * بالإتيان بها أو بالأمر بالإتيان بها، فإن من إقامة الصلاة
إلزام الغير بها، فتكون الأمريات والموجودات الأمرية يأمرون بالصلاة،
والموجودات الخلقية يأتون بها ويواظبون عليها، على حسب اطلاعهم على
حدودها العقلية والشرعية.
* (ومما رزقناهم) * - كمالا أوليا كان أو كمالا ثانويا - * (ينفقون) *،
472

فيعطون الوجود للماهيات النازلة والوجودات المتأخرة عنهم رتبة،
ويحفظونهم عن الهلكة والفناء بأمر الله وإذنه، وينفقون العلم والمال
والجاه في استكمال استعداداتهم، وفي إخراجهم من القوة إلى الفعلية
ومن النقص إلى الكمال، ويحركونهم بالحركات الطبعية والغريزية
والذاتية والعرضية إلى جانب الآخرة، وإلى أفقهم المتهيئ لهم حسب
التعيين الإلهي.
وإن شئت قلت: إن المؤمنين بالغيب حقيقة هي الموجودات الأمرية،
وإن على الناس - وعلى الموجودات المقترنة بالمواد والمصاحبة
للهيولى والحركات - التشبه بهم والاهتداء بهديهم حتى يصلوا إليهم، ويقفوا
عندهم، أو يعرجوا ويسافروا حتى ينزلوا في فناء الله تعالى.
وعلى مسلك العارف ومشرب الكاشف
* (الذين يؤمنون بالغيب) * ويقرون به بالألسنة الخمسة، ولا ينكرون
سريان الحقيقة الغيبية في جميع المراحل والمراتب وجريان الوجود
الغيبي في الأعيان الثابتة والماهيات الإمكانية، فلا يؤمنون بموجودية
الغيب على نحو الإجمال والإهمال، بل يؤمنون بالغيب وبموجوديته
الكلية، السارية في جميع النشآت الملكية والملكوتية والناسوتية
والجبروتية، ويؤمنون بأن جميع الحركات الظاهرة والسكنات
المشاهدة، مستندة إلى الغيب ومتدربة من ناحية الغيب، ويؤمنون بأن
جميع الأشياء الكلية والجزئية، متقدرة بتقادير غيبية ومحكومة بقضاء
473

غيبي، فيؤمنون بالغيب إيمانا ذاتيا وجوهريا وإيمانا قلبيا وصدريا، ويؤمنون
بالإيمان الفعلي، فجميع الألسنة تقر وتؤمن بالغيب الكذائي، وتترنم:
ما عدم هائيم هستى ها نما * تو وجود مطلق وفانى نما (1)
فهو غيب حسب التخيلات في اعتبار، وهو الغيب الحقيقي حسب
المرتبة الخاصة، التي لا تنالها القلوب ولا الإدراك البشري، كما تحرر وتقرر.
* (ويقيمون الصلاة) * جميع الموجودات وكل الذرات، لأن الحق أن
كل موجود يشعر - بالإشعار المركب - بربه ويسبحه ويقدسه ويصلي له،
فكل يؤمن بالغيب، وكل يعتقد بالاعتقادات العامة والخاصة، ويقر بالإقرار
الذاتي والصفاتي والأفعالي.
نطق آب ونطق خاك ونطق گل * هست محسوس حواس أهل دل (2)
وقد نطقت بذلك الآيات والروايات، ولا سيما في طائفة من أخبارنا
تعيين السبحة المخصوصة لبعض الطيور (3)، ف‍ * (يقيمون الصلاة) *، وإنها
الطريقة العامة في القيام بالعبودية لكل أحد، ولا يخص به الإنسان
والجن أو الملائكة، * (وإن من شي ء إلا يسبح بحمد ربه ولكن لا تفقهون
تسبيحهم) * (4)، * (كل قد علم صلاته وتسبيحه) * (5)، و * (إن الله وملائكته

1 - مثنوى معنوي، دفتر أول، بيت 602.
2 - مثنوى معنوي، دفتر أول، بيت 3279.
3 - راجع بحار الأنوار 61: 1، كتاب السماء والعالم، باب عموم أحوال الحيوان وأصنافها.
4 - الإسراء (17): 44.
5 - النور (24): 41.
474

يصلون على النبي) * (1).
* (ومما رزقناهم ينفقون) * ويعطون ويتصدون لتربية ما دونهم، فجميع
الأسماء الإلهية الكلية والجزئية أولى بذلك، فينفقون ما يحتاج مظاهرهم
في وصولهم إلى أربابهم وأسمائهم الخاصة بهم، ويأخذون بأيديهم
ويحركونهم بالحركة العشقية الشوقية إلى أنفسهم، وذلك لما تحرر
وتقرر: أن جميع الموجودات الأمرية والخلقية مظاهر الأسماء الإلهية،
ولكل واحد من تلك الأشياء والأعيان الظاهرة اسم خاص في المملكة
الربوبية، ويتربى كل ذي اسم نحو اسمه في تلك المملكة حتى يصل
بعونه وقدرته إليه، ويحشر معه حسب الاقتضاءات المقررة الإلهية،
فلا يختص الإنفاق بطائفة دون أخرى، بل الإنفاق عام وكل موجود مشغول
بالإنفاق في سبيل هداية الغير.
وربما يصل الإنفاق في ذلك السبيل إلى إنفاق وجوده، صيانة لوجود
غيره في التكوين والتشريع، فينفق وجوده في الجهاد حفاظا على الأعراض
ونفوس الناس، وهكذا في بقاء حياة المجتمع أو الفرد كلاءة له، كما في
الموجودات الذرية، فإنها بإعدام أنفسها وبقاء ذواتها تبقى الذوات الاخر
حية، ولعل إلى مثل هذه الخاصة العامة الشاملة يشير قوله تعالى: * (خلق
الموت والحياة) * (2)، فإن بالموت والإنفاق تبقى الحياة، وتعيش الممكنات،
ولمزيد بيان حول هذه المائدة الملكوتية موقف آخر يأتي لمناسبات اخر

1 - الأحزاب (33): 56.
2 - الملك (67): 2.
475

إن شاء الله تعالى.
وعلى مسلك الخبير ومشرب البصير
أنه لا اختلاف بين هذه المسالك التأويلية والمشارب التفسيرية،
لأن الآيات القرآنية والكلمات الفرقانية لأجل انتهائها إلى الحقيقة
الصمدية، تكون مصمودة ومملوة من الحقائق الغيبية والرقائق
العرفانية والدقائق الحكمية والإيمانية، وتجمعها تحت مفهوم واحد،
وتشملها باستعمال فارد من غير مجاز وتوسع، ومن غير لزوم استعمال
الواحد في الكثير، بل تلك الرقائق والحقائق لما كانت من أصل واحد ذي
مراتب كلية وجزئية، مندرجة في المعنى الوحداني والمفهوم الفرداني،
يمكن أن يراد بالاستعمال الواحد الإلهي الصمداني.
وإنما الاختلاف والتشتت من ناحية القوابل الإمكانية والمجالي
الظلمانية، فكل يسلك سبيله ويهتدي بهداه حسب حاله واستعداده.
هذا آخر ما تيسر لي ولكاتب هذه الرقوم والسطور الذي هو الأضل
أعمالا، وضل سعيه وهو من الخاسرين. نعوذن بالله العلي العظيم.
476